رفع النقاب عن تنقيح الشهاب
الرجراجي، الحسين بن علي
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق أَحْمَد بن محمَّد السراح المُقَدِمَة إعداد: د. أَحْمَد بن محمَّد السراح - د. عَبد الرّحمن بن عَبد الله الجبرين مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 2241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5632575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863532
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3)، أما بعد (¬4). ¬
فقد وقع اختيارنا على كتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب وقمنا بتحقيقه لنيل درجة الماجستير في أصول الفقه - في كلية الشريعة بالرياض - وذلك لأسباب منها: 1 - المساهمة في إخراج كنوز التراث الإسلامي المخطوطة. 2 - أهمية الكتاب في بابه؛ حيث إنه يشرح متنًا من أهم متون أصول الفقه الإسلامي، الذي هو تنقيح الفصول للقرافي. 3 - جودة عرض المؤلف لمسائل الكتاب، وإحاطته بكثير من جوانب الأصول. 4 - اهتمام المؤلف بالأمثلة والتطبيقات الفقهية. 5 - قلة الكتب المحققة في أصول فقه المالكية. 6 - أن هذا الكتاب يعتبر موسوعة فى أصول المالكية؛ حيث تجد فيه كثرة الأقوال والنقول عن علماء المالكية. وقد جعلنا لهذا الكتاب مقدمة للتعريف بالمؤلف والكتاب وتشتمل على ثلاثة فصول هي على النحو الآتي: الفصل الأول: التعريف بالمؤلف، ويشتمل هذا الفصل على ستة مباحث هي: المبحث الأول: الحالة السياسية لعصر المؤلف. المبحث الثاني: اسمه ونسبه. ¬
المبحث الثالث: ولادته ونشأته. المبحث الرابع: طلبه للعلم وأقرانه. المبحث الخامس: جلوسه للتدريس - تلاميذه. المبحث السادس: وفاته وثناء العلماء عليه. الفصل الثاني: نظرة علمية إلى المؤلف، ويشتمل هذا الفصل على أربعة مباحث: المبحث الأول: عقيدته. المبحث الثاني: مذهبه الفقهي. المبحث الثالث: منزلته بين علماء عصره. المبحث الرابع: آثاره العلمية. الفصل الثالث: التعريف بالكتاب، ويشتمل هذا الفصل على ثمانية مباحث هي: المبحث الأول: نسبة الكتاب للمؤلف. المبحث الثاني: مصادر الكتاب. المبحث الثالث: منهج المؤلف في الكتاب. المبحث الرابع: قيمة الكتاب العلمية وبيان وجوه الحسن والإجادة. المبحث الخامس: التعريف بشروح التنقيح. المبحث السادس: مقارنة بين هذا الكتاب وشرح التنقيح للقرافي.
المبحث السابع: استدراكات المؤلف على القرافي. المبحث الثامن: منهج تحقيق هذا الكتاب ووصف النسخ. ***
الفصل الأول: التعريف بالمؤلف
الفصل الأول: التعريف بالمؤلف المبحث الأول: الحالة السياسية لعصر المؤلف الشوشاوي من علماء القرن التاسع، وكانت أهم الدول التي تحكم في ذلك العصر: 1 - دولة المماليك في مصر والشام والحجاز. 2 - الدولة العثمانية في تركيا. 3 - الدولة الزيانية بالمغرب الأوسط. 4 - الدولة الحفصية بتونس. 5 - الدولة المرينية والوطاسية بالمغرب. وسنقتصر في هذا المبحث على الكلام عن الدولة المرينية والوطاسية بالمغرب. أولاً: الدولة المرينية: تولى في هذه الفترة اثنان من ملوك الدولة المرينية؛ فقد تولى أبو سعيد عثمان الحكم سنة 800 هـ إلى سنة 823 هـ، وفي عهده ضعفت الدولة المرينية وقويت الدولة الحفصية بتونس؛ حيث إن أبا فارس وهو من أعظم ملوك الدولة الحفصية قد تمكن من احتلال تلمسان والزحف إلى فاس، فطلب أبو سعيد عقد
الصلح معه، ثم خطب له على منابر المغرب (¬1)، وهكذا صارت الدولة المرينية تخطب للملوك الحفصيين وترهب جانبهم. وفي عهده أيضًا بدأ الغزو الأجنبي على المدن والشواطئ المغربية، فقد قام الأسبان بالهجوم على مدينة تطوان سنة (803 هـ) وخربوها، وبقيت خربة نحو تسعين سنة (¬2). وقام البرتغال بالهجوم على سبتة واحتلالها سنة 818 هـ (¬3)، وكان البرتغال قد اهتموا بتقوية أساطيلهم البحرية بجانب أن الدولة المرينية في المغرب ضعف اهتمامها بالأساطيل البحرية. واحتلال سبتة بموقعها الاستراتيجي الهام قد زاد في ضعف الدولة المرينية، فبدلاً من أن تكون سبتة قلعة حصينة شامخة تشرف على مواقع الأعداء أصبحت بداية خطر يهدد الدولة في أي وقت، هذا بالإضافة إلى الخسارة العلمية؛ حيث فقد المسلمون اثنتين وستين خزانة علمية مملوءة بالكتب. وفي سنة (823 هـ) توفي أبو سعيد (¬4)، وتولى الحكم في السنة نفسها ابنه عبد الحق بن أبي سعيد بن أحمد بن أبي الحسن بن أبي سعيد بن يعقوب بن عبد الحق المريني (823 - 869 هـ)، وهو آخر ملوك بني مرين وأطولهم عهدًا؛ إذ تولى العهد وهو صبي، وبذلك بدأ النفوذ الوطاسي وذلك بالوصاية على العرش، وسقطت الدولة المرينية بقتل آخر ملوكها وهو عبد الحق المريني ¬
ثانيا: دولة الوطاسيين
سنة 869 هـ. والوطاسيون هم الوزراء وممن برز منهم في عهد عبد الحق أبو زكريا يحيى الوطاسي (¬1)، وعلي بن يوسف الوطاسي (¬2)، ويحيى بن يحيى بن عمر الوطاسي (¬3). ثانيًا: دولة الوطاسيين: لم يتول الوطاسيون الحكم بعد مقتل آخر ملوك بني مرين سنة 869 هـ مباشرة بل كانت هناك فترة بين الدولتين من 869 هـ إلى 875 هـ. فقد تولى الحكم في هذه الفترة أبو عبد الله الحفيد نقيب الشرفاء، واسمه محمد بن علي الجوطي الإدريسي العمراني، وهو من أسرة تولت نقابة الشرفاء مدة طويلة، وكان بنو مرين يُجِلُّونهم ويتوددون إليهم (¬4)، وقد بايعه ¬
أهل فاس بالخلافة بعدما خلعوا طاعة المرينيين في ثورتهم التي كانت بقيادة خطيب القرويين عبد العزيز الورياغلي، وذلك في سنة 869 هـ وهي السنة التي قتل فيها عبد الحق، وقد اضطربت أحوال المغرب في عهده غاية الاضطراب، فتمردت القبائل الشاوية وهددت كلاً من مكناس وفاس في زحفها شمالاً (¬1). وانتهت فترة حكمه بخلعه سنة 876 هـ. وبعد خلع أبي عبد الله الحفيد انتقل الحكم إلى محمد بن الشيخ الوطاسي (876 - 910 هـ). وقصة توليه الحكم أنه نجا من بطش عبد الحق بن أبي سعيد المريني سنة 863 هـ، ومعه محمد الحلو من بني وطاس، وكان محمد الشيخ قد وجه همه منذ البداية إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاحتلال الأجنبي، فاستولى على مدينة أصيلا التي كان البرتغال يطلعون إلى الاستيلاء عليها، ثم خرج من أصيلا زاحفًا نحو فاس سنة 872 هـ، فالتقت به جيوش أبي عبد الله الحفيد وهزمته، ثم عاد مرة أخرى وضرب الحصار على مدينة فاس مدة سنتين إلى أن دخلها ظافرًا سنة 876 هـ, واستمر حكمه إلى أن توفي سنة 910 هـ. (¬2) ولقد وقع في عهد محمد الشيخ الوطاسي عدة حوادث أهمها ما يلي: 1 - احتلال البرتغال لمدينة أصيلا سنة 876 هـ، فبينما محمد الشيخ يحاصر فاسًا ولم تقم الدولة الوطاسية على قدميها بعد، احتل البرتغال أصيلا بأسطول يتكون من (308) باخرة وثلاثين ألف مقاتل، وفور احتلالهم ¬
لأصيلا حولوا مسجدها الأعظم إلى كنيسة (¬1). 2 - ثورة عمرو بن سليمان السياف (¬2) ببلاد سوس، وهذه الثورة من الحوادث والفتن التي حدثت في عهد محمد الشيخ وعاصرها الشوشاوي؛ حيث إنها وقعت في زمنه وفي بلده سوس وتمس الفقهاء. وقصة هذه الفتنة أنه لما قتل الشيخ محمد بن سليمان الجزولي (¬3) سنة 870 هـ، وقيل: إنه مات مسمومًا على يد بعض الفقهاء، وكان عمرو السياف أحد تلامذته، فلما سمع بمقتله قام يطالب بثأره ممن سمه من الفقهاء، فانتقم منهم ثم أخذ يدعو إلى الصلاة ويقاتل عليها، ولم يقف عند هذا الحد، بل دعا إلى نفسه وادعى علم الغيب، وربما ادعى النبوة وقاتل كل من ينكر عليه ذلك، وسمى أتباعه بالمريدين ومخالفيه بالجاحدين، واستمرت ثورته هذه عشرين سنة من حين قتل شيخه محمد الجزولي سنة 870 هـ إلى أن قتل هو سنة 890 هـ، فاستراح الناس من شره. ¬
ولم يظهر أثر لتدخل محمد الشيخ الوطاسي في هذه الفتنة بالرغم من قوتها وخطورتها (¬1). حالة سوس السياسية: كانت سوس في آخر العهد المريني وفي العهد الوطاسي تعيش حالة من الفوضى والاضطراب السياسي والإداري؛ حيث إنها لم تكن خاضعة للحكم المريني والوطاسي مباشرة، بل أخذت نوعًا من الاستقلال الذاتي، وكان يحكمها مباشرة الأشراف والوجهاء ورؤساء القبائل والقضاة والفقهاء، وقامت في سوس بعض الحروب بين القبائل البربرية والعربية. ومن أبرز من أعطى صورة للحالة السياسية لسوس الرحالة والمؤرخ حسن الوزان (¬2) الذي كان سفيرًا للدولة الوطاسية في سوس، وسنذكر نماذج لوصفه. يقول الحسن الوزان عن بلاد حاحه: لا يوجد في هذه البلاد أي مظهر من مظاهر القضاء ولا سيما في الجبل؛ حيث لا يوجد أمير ولا موظف، ويتمكن ¬
النبلاء الوجهاء من الاحتفاظ بشبه سلطة في داخل المدن، وهذه المدن نادرة (¬1). ويقول عن مدينة تاكوليت إحدى مدن حاحه: وفي الزمن الذي قصدت فيه هذه البلاد كان يقوم فيها وجيه منزلته كمنزلة رئيس الوزارة، وكان يقوم بجميع مهام الإدارة (¬2). ويقول عن مدينة تارودانت: ويحكم تارودانت وجهاؤها؛ إذ يتسلم أربعة منهم سويًا السلطة التي لا يحتفظون بها أكثر من ستة أشهر (¬3). وأما وصفه للحروب الأهلية القائمة بين قبائل سوس فيقول عن بلاد حاحه: بأن سكانها في حالة حرب لا تهدأ، ولكنها حرب أهلية لا تحمل أي أذى للأجانب (¬4). ويقول عن مدينة تيوت من بلاد السوس: إنهم يعيشون باستمرار في حالة حرب فيما بينهم، ومن النادر أن يقيموا في سلام (¬5). هذه النماذج لوصف حسن الوزان لبعض مدن سوس تعطي صورة عن الحالة السياسية والإدارية لسوس، وأنها تتمتع بشبه استقلال عن الحكومة المرينية والوطاسية في فاس، لكنه استقلال اتسم بالفوضى الإدارية؛ حيث لا يوجد حاكم موحد يسيطر على البلاد وينظم شؤونها ويخمد الفتن والحروب القائمة بين الأهالي. ¬
ومن العوامل التي ساعدت على وجود هذا الوضع لسوس ما يلي: 1 - ضعف الدولتين المرينية والوطاسية وانشغالهما بالاعتداءات الخارجية من الأسبان والبرتغال عن تنظيم الوضع الداخلي للبلاد. 2 - بُعد منطقة سوس عن عاصمة الدولة فاس، وهذا الوضع لسوس هيأ ومهد لقيام الدولة السعدية في هذه المنطقة، بالإضافة إلى شعور الأهالي بضرورة تغيير الأوضاع وضرورة حمل السلاح لتحرير الأراضي التي سقطت في أيدي المحتلين النصارى، وقد اتخذ السعديون تارودانت عاصمة لهم، وبدأ نفوذهم في سوس مع وجود الدولة الوطاسية في فاس (¬1). ... ¬
المبحث الثاني: اسمه ونسبه
المبحث الثاني: اسمه ونسبه أما اسمه فهو: حسين بن علي بن طلحة الرجراجي، الشوشاوي، وكنيته: أبو علي. وقد اتفقت أغلب مراجع ترجمته على اسمه هذا، وكنيته، ولقبه (¬1). وبعض المراجع ورد فيها أن اسمه حسن (¬2)، وبعضها كناه بأبي عبد الله (¬3)، والبعض الآخر زاد في لقبه: الوصيلي (¬4). ¬
وأما نسبه فيقتضي بيان نسبه إلى رجراجة، ونسبه إلى شيشاوة. فأما الرجراجي: فنسبة إلى قبيلة رجراجة، وهي من قبائل المصامدة، والمصامدة هم: أقحاح البربر الذين لم يختلطوا بسواهم إلا نادرًا، وأهل المغرب الأقصى الأولون المختصون بسكنى جباله منذ الأحقاب المتطاولة (¬1). والمصامدة كما قال ابن خلدون (¬2): هم من ولد مصمود بن يونس من شعوب البربر والبرانس، وهم أكثر قبائل البربر (¬3). وذكر ابن خلدون أن رجراجة من المصامدة. يقول ابن خلدون: إن من قبائل المصامدة هزميرة (¬4) ورجراجة وكلاوة (¬5) (¬6). ¬
وذكر المختار السوسي (¬1) أن الرجراجيين فخذ من أفخاذ البربر (¬2). فتبين بهذا أن المؤلف بربري النسب، ولكن أين مواطن رجراجة؟ رجراجة مواطنهم على عدوة وادي "تانسيفت" في جنوب المغرب (¬3). وبيّن لنا المختار السوسي مواطنهم فقال: ومواطنهم الأصلية ما بين "شيشاوة" إلى "أحمر" و"الشياظمة"؛ حيث أضرحة أسلافهم، ثم امتدت فروع منهم إلى سوس (¬4). ولكن هل بقي الرجراجيون في مواطنهم أو تفرقوا؟ بيّن لنا عبد الوهاب بن منصور (¬5) ذلك فقال: وكانت مواطنهم على عدوتي وادي نسيفة "تانسيفت" عند مصبه في البحر، ثم تلاشوا في القبائل، فبعضهم بسوس، وبعضهم بالسراغنة، وبعض آخر في جهات أخرى، ولم يبق منهم في مواطنهم الأولى إلا قبيلة صغيرة مندمجة في شعب الشياظمة (¬6). والبيت الرجراجي من أغنى البيوت رجالاً، كانت لهم سابقة في الدعوة ¬
إلى الإسلام، والجهاد في سبيل الله، ومحاربة الكفر والضلال، فقد عرفوا بمقاومة البرغواطيين الذين أتوا بديانة جديدة ودعوا إليها. يقول ابن خلدون: وكان لهؤلاء المصامدة، صدر الإسلام بهذه الجبال، عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم (¬1). وذكر المختار السوسي أن الرجراجيين من أوائل المعتنقين للإسلام في جنوب المغرب وعرفوا بمقاومة البرغواطيين (¬2). والبيت الرجراجي من أغنى البيوت رجالاً؛ فهم بالإضافة إلى جهادهم ونضالهم فقد نبغ منهم علماء، وقد ذكر العبدي بعضهم في كتابه آسفي وما إليه. وفصل القول في كتابه الياقوتة الوهاجة في مفاخر رجراجة، وقال إنه ذكر فيه من تراجم البيت الرجراجي مائة وخمسين ترجمة فأكثر (¬3). والشوشاوي: ¬
نسبة إلى "شيشاوة" وتقال بالياء، وبالواو "شوشاوة"، واشتهرت نسبة المؤلف إليها بالواو وهي بلدة في جنوب المغرب تبعد عن مراكش حوالي اثنين وسبعين كيلوا مترًا في اتجاه الصويرة، ومنها يفترق الطريق إلى أغادير. وهي من مواطن الرجراجيين الأصلية الواقعة جنوب وادي "تانسيفت". يقول المختار السوسي في حديثه عن الرجراجيين: ومواطنهم ما بين "شيشاوة" إلى "أحمر" والشياظمة (¬1)؛ حيث أضرحة أسلافهم، ثم امتدت فروع منهم إلى سوس (¬2). ¬
المبحث الثالث: ولادته
المبحث الثالث: ولادته ونشأته ولادته: لم تذكر المراجع التي ترجمت للشوشاوي السنة التي ولد فيها، واتفقت على أنه عاش في القرن التاسع، وحددت وفاته في آخر القرن (¬1)، فنستنتج من هذا أن ولادته في الغالب تكون في أول القرن التاسع؛ وذلك أن أول تأليف له هو كتاب الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة، فرغ من تصنيفه سنة 841 هـ (¬2). نشأته: نشأ وترعرع منذ أيام طفولته في بادية رجراجة الواسعة الهادئة؛ حيث يسكن والده، وبعد ذلك انتقل إلى شيشاوة وإليها نسب. ومما يؤكد انتقاله إلى شيشاوة ما ورد في مشجر نسبه الذي لخصه المختار السوسي، وفيه: ¬
وكان سيدي حسين انتقل من المحل الذي يسكن فيه والده إلى "شيشاوة" (1). إذًا الشوشاوي نشأ في بيت من بيوت العلم وهو البيت الرجراجي الذي أنجب عشرات الأعلام في مختلف ميادين المعرفة، واستمر في هذا البيت العلم والصلاح قرونًا طويلة، واستقر به المقام في أول حياته ونشأته في "شيشاوة" وهي من أهم مواطن رجراجة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلماء "شيشاوة" يهتمون بعلم القراءات ووالد المؤلف كان ممن اهتم بهذا العلم. يقول المختار السوسي: وأبوه علي بن طلحة مشهور في "شيشاوة" وله مؤلف في القراءات (¬2). وهذا الاهتمام من علماء شيشاوة بالقراءات، وبالأخص والد المؤلف، له أثر على المؤلف في تكوينه العلمي واهتماماته العلمية، ويلاحظ هذا الأثر في أن أغلب مؤلفاته في علم القراءات. وشيشاوة قريبة من مراكش، ومراكش تعتبر معقلاً من معاقل العلم في تلك الفترة. وصفها العبدي الكانوني فقال: هي المدينة الغنية عن التعريف بعظمتها التاريخية وآثارها العالية الشهيرة بما حوته من حضارة وعلوم وفنون، كانت مهد الحضارة وعاصمة الدولة اللمتونية والوحدية والسعدية، وبعض ملوك العلوية. وقد تسربت إليها الحضارة الأندلسية في الدولتين الأوليين حتى صارت ¬
مركز العلوم والفنون، وأشرقت بأفقها شمس الحكمة والمعارف وشيدت بها المعاهد الدينية الكبرى والمدارس العلمية والمصانع والقصور والبساتين والرياض الأنيقة (¬1). ¬
المبحث الرابع: طلبه للعلم وأقرانه
المبحث الرابع: طلبه للعلم وأقرانه استقر الشوشاوي في بداية حياته في شيشاوة وطلب العلم فيها وليس ببعيد أن يكون قد رحل إلى مراكش بدليل وروده ضمن المترجم لهم في كتاب الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (¬1). ومن شيشاوة انتقل إلى إيفسفاس في بلاد السوس. وقد جاء في المشجر الذي لخصه المختار السوسي ما يلي: وكان سيدي حسين انتقل من المحل الذي يسكن به والده إلى شيشاوة ثم إلى "إيفسفاس"؛ حيث بنى زاوية ثم بنى الأخرى بأولاد برحيل (¬2). وما ورد في هذا المشجر في بيان تنقلاته فيه اختصار شديد، وقد استدرك عزوزي إدريس في مقدمته لتحقيق كتاب الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة للشوشاوي، هذا النقص، وبين أماكن أخرى انتقل إليها الشوشاوي فتكون تنقلاته كالآتي: رحل من "شيشاوة" إلى "تيديلي" بآيت وزكيت قيادة "أغرم". ومن "تيديلي" إلى وادي قبيلة "تفنوت" قيادة "إسكاون". ¬
أقرانه
ومن "تفنوت" إلى دوار "إيفسفاس" قيادة تفنكولت. ومن "إيفسفاس" إلى أولاد برحيل (¬1). وسوس كانت في تلك الفترة مزدهرة بالعلوم قد تضاهي مدينتي مراكش وفاس. بين لنا المختار السوسي مكانة سوس فقال: سوس دائمًا تسير في قافلة المغرب العلمي بعد القرون الأولى إلى التاسع، فإن لم تتقدم قط فإنها ما تأخرت قط، بحسب ما توتاه من جهد المستطاع، فيجتهد سوس أن يتمشى على خطا المشيخة في فاس وأن يكون خير تلميذ لأفضل أستاذ (¬2). وذكر المختار السوسي أيضًا أن سوس امتازت بالاستقلال في العلوم. يقول المختار السوسي: إن هذه العلوم تبلغ من التمكن في سوس أحيانًا حتى تتخذ لها وجهة مستقلة وحتى تهيئ لها في الشعب قوة يمكن بها الاستمرار والاستقرار، ثم الاستقلال في الفهم (¬3). أقرانه: لم تذكر لنا مراجع ترجمته شيوخه، وإنما أشارت بعض المراجع إلى اثنين من أقرانه ربما أنه قد استفاد منهما واستفادا منه وهما: الأول: وهو: عبد الواحد بن حسين الرجراجي، أبو مالك شيخ وادي ¬
"نون" تصدر للإقراء، له شرح على المدونة، وألف في ظاءات القرآن وطاءاته ودالاته، توفي سنة 900 هـ، ودفن في وادي "نون" (¬1). وذكره عبد العزيز بن عبد الله في كتابه معجم المحدثين والمفسرين والقراء بالمغرب الأقصى، وأن له أرجوزة في الرسم القرآني (¬2). ونسب المختار السوسي هذه الأرجوزة له وذكر أنها تبلغ مائتي بيت، وأنها معروفة عند القراء السوسيين (¬3). وقد وردت رفقة عبد الواحد الرجراجي بالشوشاوي في درة الحجال (¬4) وفي نيل الابتهاج (¬5) ولعل تخصص كل منهما بعلم القراءات هو سبب هذه الرفقة. يقول عبد الله كنون معقبًا على كلام ابن القاضي في إثبات هذه الرفقة: فأرى أن رفيقه هذا كان من طبقة القراء وهو اختصاص يشاركه فيه المترجم وذلك مما جمع بينهما وقوى رفقتهما (¬6). الثاني: هو: يحيى بن مخلوف السوسي، الفقيه بمدينة فاس ونزيلها الأستاذ النحوي، رحل إلى فاس وأخذ عن الونشريسي، وعن أصحاب ¬
السنوسي، توفي سنة 927 هـ (¬1). وقد أثبت هذه الرفقة المختار السوسي فقال: ومن أقران الشوشاوي، وإن كان هذا أكبر منه، العلامة يحيى بن مخلوف السوسي (¬2). ... ¬
المبحث الخامس: جلوسه للتدريس وتلاميذه
المبحث الخامس: جلوسه للتدريس وتلاميذه قبل الحديث عن مدرسة الشوشاوي وتدريسه نحب أن نذكر نبذة عن: تاريخ المدارس بسوس: اهتم المرينيون ببناء المدارس، وكان القصد من بناء هذه المدارس إيواء الطلبة، وللمدرسة مسجد في داخلها، وله إمام راتب من الطلبة أو غيرهم، ويتولى الإشراف على المدرسة مشرف يخضع لمراقبة القاضي بعد أن يختاره الطلبة، وكان عليه أن يجمع بين مهام المقتصد والمؤذن والبواب والخادم (¬1). وكانت الهدايا والتبرعات من المحسنين تصل هذه المدارس، وكان للطلبة مؤونة يومية، كما تقام على شرف الطلبة مآدب داخل المدرسة بمناسبة احتفال عائلي أو عيد، فكان الطلبة يحظون بعطف سكان الحي، ويقوم بالتدريس في هذه المدارس علماء أجلاء، ولكل مدرسة خزانة علمية. وقد ازدهرت المدارس وكثرت في عهد بني مرين الذين أنشأوا مدارس (¬2) ¬
كبيرة مشهورة وأغلبها في فاس والمدن الكبيرة. هذا عن المدارس في العهد المريني، أما في العهد الوطاسي فلم يكن هناك اهتمام من الدولة في بناء الدارس، بل إن بناءها قائم على يد العلماء والأغنياء المحسنين وأغلبها في سوس. يقول إبراهيم حركات: عرف هذا العهد انتشار المدارس بسوس خاصة، على يد عدد من العلماء والأغنياء المحسنين. أما الدولة الوطاسية فلم يكن لها نشاط ملموس في بناء المدارس التي كانت في العاصمة قد بلغت الكفاية منذ عهد المرينيين، ولم تكن مدارس سوس ذات بناء نموذجي، وإنما كان انتشارها يدل على مدى الإقبال على العلم بهذه الناحية التي ازداد نشاطها الثقافي (¬1). وفي القرن التاسع أزدهرت الحركة العلمية بسوس، وقد وصف هذا الازدهار العلمي المختار السوسي بقوله: فقد جاء التاسع بفاتحة خير وطلع بفجر منير وسفر عن وجه يقطر بشاشة وبشرًا، حقًا كان القرن التاسع قرنًا مجيدًا في سوس، ففيه ابتدأت النهضة العلمية العجيبة التي رأينا آثارها في التدريس والتأليف وكثرة تداول الفنون (¬2). ولقد انتشرت المدارس بسوس انتشارًا واسعًا وهي مدارس أهلية متواضعة لا تتلقى إعانات من الحكومة. ¬
يقول المختار السوسي في وصفها: وهي مدارس شعبية يقوم بها الشعب بجهوده الخاصة، ولم تعرف قط إعانة حكومية، وكثيرًا ما تكون في كل قبيلة مدرسة أو مدارس متعددة، وإن كانت القبيلة كثيرة الأفخاذ، فتبني كل فخذ مدرستها على حدة، وهذه المدارس تسمى مدارس علمية ليكون فرق بينها وبين كتاتيب القرآن التي لا تخلو منها كل قرية وإن صغرت (¬1). وبيَّن السوسي موارد هذه المدارس المالية فقال: وأما المدارس التي تقرأ فيها القراءات السبع أو فنون العلوم، فإن لها نظامًا؛ إذ تشارط القبيلة الأستاذ الفقيه على أجرة معلومة من محصولهم: حبوبًا وإدامًا: زيتًا أو سمنًا أو هما معًا. ومؤونة الطلبة تكون من مخزن المدرسة الذي يجمع فيه ثلث الأعشار من أصحاب المدرسة (¬2). وكان لأستاذ المدرسة منزلة كبيرة في المدرسة والمجتمع. يقول المختار السوسي: أما إدارة المدرسة والتكلم في شئون الطلبة فإنها في يد الأستاذ الذي يحترم احترامًا كبيرًا، وهو مفتي القبيلة وقاضيها الطبيعي (¬3). ويدرس بهذه المدارس القراءات والحديث والتفسير والفقه والنحو وغير ذلك من الفنون، ولكن مدارس سوس اشتهرت بالقراءات. يقول المختار السوسي: وفن القراءات وإتقانه والقيام عليه من الفنون ¬
السوسية التي سايرت عصرهم العلمي من قديم، وهو فن شريف مؤسس على قواعد علمية (¬1). ثم ذكر المؤلفات المعتمدة في هذا الفن (¬2) ومؤلفات السوسيين (¬3) وأبرز العلماء السوسيين (¬4) المبرزين في هذا الفن (¬5). وسبب اهتمام سوس بعلم القراءات واشتهارها به: اعتناء أهالي سوس بحفظ القرآن وتربية أولادهم على ذلك، وعنايتهم بالمساجد وجعلها هي المقر لتحفيظ القرآن. يقول المختار السوسي: للقرآن من نواحي فنونه الشتى اعتناء متفاوت من السوسيين وما سبب ذلك إلا لقيامهم بمساجد القرى أتم قيام بنظام خاص محافظ عليه. ثم نجد كثيرًا في كل القرى من يحرص على أن يحفظ ولده القرآن بكل ما أمكن فيبذل جهده في ذلك إما بالرضا وإما بالرغم، وهذا هو السبب الباعث على تلك السيول الجرارة المتموجة من حفظة القرآن، وقلما نجد قرية في غالب نواحي سوس إلا وكان ربع سكانها أو ما يقرب من ذلك من حفظة ¬
أ - مدرسة الشوشاوي البرحيلية
القرآن، وقد كانت مساجد للقرى مواضع حفظ القرآن وفي كبرياتها مواضع لإتقان رسمه المصحفي يرتحل إليها، ثم هناك مدارس كثيرة للمرتبة الثالثة وهي تعاطي فن القراءات السبع (¬1). أ - مدرسة الشوشاوي البرحيلية: بعد تنقلاته ورحلاته العلمية، وبعد أن استكمل علومه، استقر به المقام في أولاد برحيل، وأسس مدرسته البرحيلية المشهورة، وأمضى بهذه المدرسة حياته يدرس ويفتي ويؤلف، وقد ذكرها السوسي ضمن المدارس العتيقة بسوس. يقول المختار السوسي: المدرسة البرحيلية تقع هذه المدرسة بقرية أولاد برحيل من قبيلة المنابهة (¬2) بضاحية تارودانت (¬3)، وفيها أمضى العلامة الأصولي حسين الشوشاوي حياته، وهو صاحب المؤلفات المفيدة في الأصول والتفسير والقراءات والطب (¬4). وذكرها إبراهيم حركات ضمن المدارس التي لمع اسمها في العصر الوطاسي، وقال عنها: المدرسة البرحيلية قريبًا من تارودانت بأولاد برحيل (وهم عرب) ومن أوائل علمائها: حسين الشوشاوي العالم الأصولي (¬5). ويبدو أن الشوشاوي كان يدرس الفنون التي ألف فيها وهي: الأصول ¬
والفقه والقراءات، وفي مقدمة هذه الفنون علم القراءات، وذلك لاهتمام أهل سوس بهذا الفن. يقول المختار السوسي: وللسوسيين مؤلفات في الموضوع ونعرف من أساطين هذا الفن كثيرين في الحياة العلمية السوسية منهم: حسين الشوشاوي (¬1). واستمر التدريس بهذه المدرسة البرحيلية حتى أول القرن الثالث عشر الهجري. يقول المختار أيضًا: ثم تتابعت الدراسة في المدرسة فمر فيها العلامة عبد الله الطاطائي (¬2) من أهل أوائل القرن الثالث عشر (¬3). وذكر المختار أن أستاذًا شابًا درس بها في القرن الرابع عشر الهجري، ولكن لم يبق معه سوى ثلاثة من الطلاب فقط (¬4). وهكذا أدت هذه المدرسة رسالتها العلمية طيلة خمسة قرون، كانت في البداية قوية شامخة إلى أن بدأ بها النقص في الكم والكيف شيئًا فشيئًا فآل أمرها إلى التلاشي نهائيًا (¬5). ¬
ب - تلاميذه
يقول المختار في وصفها: وبقرية أولاد برحيل مسجد نقي نظيف واسع حسن البناء إلا أن المدرسة العلمية القديمة إزاءه متلاشية من بناء قديم (¬1). ب - تلاميذه: أمضى الشوشاوي حياته في مدرسته البرحيلية يدرس فيها مختلف الفنون وخصوصًا فن القراءات، وهذا أكبر دليل على أنه قد تخرج على يديه عدد لا يستهان به من التلاميذ، ولكن مراجع ترجمته لم تذكر لنا مِنْ هؤلاء التلاميذ سوى تلميذ واحد تفقه به وأخذ عنه علومه وهو داود بن محمد بن عبد الحق التملي. يقول الحضيكي في طبقاته: وممن أخذ عنه وتفقه على يده رضي الله عنه داود بن محمد بن عبد الحق التملي صاحب أمهات الوثائق (¬2). ويقول في ترجمة داود: أخذ رضي الله عنه عن العالم الجليل سيدي حسين الشوشاوي وبه تفقه (¬3). ويقول المختار السوسي في المعسول: الفقيه العالم المتفنن سيدي داود بن محمد بن علي التملي فقيه عصره تفقه بالفقيه سيدي حسين الشوشاوي (¬4). ويقول في موضع آخر بعد ذكره لترجمته: وشيخه حسين الشوشاوي العلامة الأصولي رجراجي النسب (¬5). ¬
وقد كان داود بن محمد بن عبد الحق التملي فقيهًا عالمًا عاملاً ورعًا صالحًا أخذ عن الشوشاوي وعن عبد الواحد الرجراجي (¬1) وغيرهما، وتخرج على يده جماعة منهم: حسين بن داود الرسموكي (¬2)، توفي رحمه الله سنة 899 هـ (¬3). من أشهر مصنفاته: أمهات الوثائق (¬4) ولشهرة كتابه هذا يقال في ترجمته صاحب أمهات الوثائق، وله كتاب أجوبة لتلميذه حسين الرسموكي (¬5)، وكتاب وسيلة النشأة (¬6) شرح أرجوزة عبد الواحد الرجراجي في القراءات (¬7)، ¬
وله فتاوى (¬1). ... ¬
المبحث السادس: وفاته
المبحث السادس: وفاته وثناء العلماء عليه وفاته: اتفقت كتب التراجم على أن الشوشاوي - رحمه الله تعالى - توفي في آخر القرن التاسع (¬1)، وبعضها جزم بأنه توفي سنة 899 هـ (¬2). وقيل: إن سبب موته سقوط كتبه عليه. يقول المختار السوسي: وقد شاع أن سبب موته سقوط كتبه عليه (¬3). وهذا دليل على ملازمة الشوشاوي لكتبه للمذاكرة والتأليف حتى آخر لحظة من حياته، حتى كانت سببًا في وفاته - رحمه الله -، وقد دفن بأولاد برحيل وقبره مشهور هناك. ¬
ثناء العلماء عليه
يقول المختار السوسي: حسين بن علي الشوشاوي دفين أولاد برحيل (¬1). ويقول الحضيكي: وقبره - رضي الله عنه - مشهور برأس وادي سوس (¬2). وأكثر مراجع ترجمته ذكرت أنه توفي بتارودانت؛ وذلك أن بعضها نقل من بعض. يقول المختار: والحقيقة أنه بعيد القبر من تارودانت (¬3). وقبره موجود الآن في أولاد برحيل (¬4). يقول المختار السوسي: مشهد سيدي حسين الشوشاوي من علماء التاسع، ويقرب مكانه من دار حيدة بأولاد برحيل وقد بنى عليه القائد الحاج حماد بن حيدة (¬5) قبة (¬6). ثناء العلماء عليه: الشوشاوي هو العالم الأصولي المقرئ المفسر الطبيب الزاهد الورع، آثاره تدل على علمه وتقواه - رحمه الله -، وقد أثنى عليه أكثر من ترجم له أو نظر في كتبه. ¬
وممن أثنى عليه الحضيكي (¬1) في طبقاته؛ حيث قال: كان رضي الله عنه من أولياء الله الصالحين وعباده المتقين والمشهورين بالعلم والدين والمتبعين لسنة سيد المرسلين (¬2). وأثنى عليه المختار السوسي وقال في معرض حديثه عن مدرسته: وفيها أمضى العلامة الأصولي حسين الشوشاوي حياته وهو صاحب المؤلفات في الأصول والتفسير والقراءات والطب (¬3). وقد أثنى عليه محمد بن أحمد العبدي الكانوني فقال: الإمام الأستاذ المقرئ النظار أبو علي حسين بن علي بن طلحة الرجراجي (¬4). وأثنى عليه عزوزي إدريس وبرهن على أن الشوشاوي نظار بقوله: والواقع أن الناظر في كتبه يلمس هذه الحقيقة وخاصة الكتاب الذي بين أيدينا الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة؛ فهو ينهج فيه طريقة السؤال والجواب بحيث يورد سؤالاً حول مسألة ثم يتولى الجواب عنه، فتراه يعلل ويناقش ويعترض، ويورد آراء العلماء، فمن تأمل طريقة تأليفه يدرك أنه من النظار الأولين، ومما يدلنا دلالة قاطعة على أنه كان نظارًا البابان اللذان عقدهما في ¬
آخر الكتاب الفوائد الجميلة فإنه عنون الأول بقوله: في السور التي تلقى على العلماء في المناظرات، وعنون الثاني بقوله: في الآيات التي تلقى في المناظرات (¬1). وأثنى عليه عبد الله كنون حينما ترجم له في جريدة الميثاق فقال: وقد كان فقيهًا مفسرًا ضليعًا في العلوم العربية والإسلامية، إلى عبادة وتقوى ومتانة دين وتمسك بالسنة، انتفع به الناس وقصدوه لما يقصد في أمثاله من مسائل الدين والدنيا (¬2). ... ¬
الفصل الثاني: نظرة علمية إلى المؤلف
الفصل الثاني: نظرة علمية إلى المؤلف المبحث الأول: عقيدته المذهب الأشعري هو المنتشر في المغرب في العصر الذي عاش فيه المؤلف. يقول محمد المنوني: كانت المذاهب الغالبة على المغرب في الفترة المرينية هي: المذهب الأشعري في المعتقدات، والمذهب المالكي في الفقهيات، والصوفية السنية (¬1). ويقول في موضع آخر: أما الاعتقادات فكانت على مذهب أبي الحسن الأشعري على طريقة المتقدمين من أتباعه بما فيهم إمام الحرمين، ومن شواهد هذا أن أبا الحسن (¬2) كان يقرأ بين يديه كتاب الإرشاد للإمام الآنف الذكر، وكان يصغي لما يلقى من أدلة أهل السنة وبيان مذاهبهم - يعني الأشاعرة - حتى إذا عرضت المذاهب المناهضة لأهل السنة يقول: دعوا هذا (¬3). ¬
والذي ظهر لنا أن الشوشاوي أشعري في العقيدة، وقد لمسنا هذا منه من خلال موقفه في بعض المسائل المتعلقة بالعقيدة، ونكتفي بذكر بعض نماذج لهذه المسائل؛ فهي كافية لبيان مذهبه: النموذج الأول: ذكرالشوشاوي تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير. ثم ذكر من محترزات التعريف (خطاب الله تعالى القديم) احترازًا من خطاب الله تعالى الحادث، وذلك أن كلام الله تعالى يقال للمعنى القائم بذات الله تعالى، ويقال أيضًا للفظ الدال على المعنى القائم بذات الله تعالى. وهذا التقسيم الذي ذكره الشوشاوي إنما هو على مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله حقيقة في النفساني مجاز في اللساني، ويترتب على مذهبهم هذا أن الآيات ليست كلام الله، بل هي عبارة عن كلام الله أي: هي اللفظ الدال على المعنى القائم بذات الله. يقول الشوشاوي: وإنما قلنا في الآيات القرآنية المعبر بها عن الأحكام الشرعية: حادثة؛ لأنها صفات المخلوقات؛ لأنها تكلم بها جبريل عليه السلام، ثم النبي عليه السلام، ثم حملة القرآن، فهي حادثة؛ لأن كلام الحادث حادث، وأما المعنى القائم بالنفس فهو قديم؛ لأنه صفة القديم جل وعلا، فتبين بما قررناه أن كلام الله تعالى يقال على الشيئين وهما الدليل ومدلوله، أحدهما قديم وهو المدلول، والآخر حادث وهو الدال (¬1). النموذج الثاني: مذهب الأشاعرة في الصفات: تأويل بعض الصفات ¬
إلى معانٍ أخرى تصرفها عن ظاهرها. يقول الشوشاوي في كتابه قرة الأبصار على الثلاثة الأذكار: واختلفوا في معنى الرحمة قيل: إرادة الإنعام والإحسان. وقيل: نفس الإنعام والإحسان. وتظهر ثمرة الخلاف في قول القائل في الدنيا: اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، وهل يجوز هذا الدعاء أو لا؟ فمن فسر الرحمة بالإرادة أو الإنعام قال: لا يجوز؛ لأن إرادة الله تعالى صفة قديمة أزلية، ومن فسر الرحمة بنفس الإنعام قال: يجوز الدعاء المذكور؛ لأن نفس الإنعام هي الجنة (¬1) اهـ. وهذان التفسيران للرحمة فيهما تأويل للرحمة بالإنعام والإحسان أو إرادتهما، وهذا على مذهب الأشاعرة، وأما مذهب السلف فهو إثبات صفة الرحمة كما جاءت في القرآن والسنة بدون تأويل. ... ¬
المبحث الثاني: مذهبه الفقهي
المبحث الثاني: مذهبه الفقهي مذهب الشوشاوي الفقهي هو المذهب المالكي وذلك للأمور الآتية: 1 - أن المذهب المالكي هو المذهب المنتشر في المغرب على الصعيد الرسمي والشعبي قبل الدولة المرينية وبعدها. يقول محمد بن شقرون: وفي مقدمة هذه العلوم نرى مذهب مالك في الفقه يأخذ المكانة الأولى، بل ينفرد بالميدان ويهيمن على البيئة المغربية منذ قيام دولة المرابطين إلى أن استولى بنو مرين على الأمر فازداد المذهب عمقًا، وتركز في جميع القطر المغربي على الصعيد الرسمي والشعبي، فانتصر المذهب المالكي وانتصر أصحابه. ولم يكن غريبًا أن تبذل المجهودات الجبارة والعناية الخاصة لوقايته ولرعياته وللإلمام بأصوله وفروعه، فكان الأمر كذلك في الواقع؛ إذ أصبحت الدولة، والأوساط العلمية، وطبقات الشعب المختلفة لا تفكر في سواه، ولا تقتبس معلوماتها إلا منه باذلة أقصى الجهود لتفهم نصوصه وأحكامه، مطبقة بالحرف ما جاء في أصوله وفروعه، فكثر عدد الفقهاء وضخم إنتاجهم، حتى أصبح من العسير إحصاؤهم بالضبط، كما أصبحت مؤلفاتهم تقدر بالكميات الوافرة التي لا يمكن الإتيان على ذكرها وجمعها في قائمة محصورة (¬1). ¬
2 - أن الشوشاوي صرح بانتسابه للمالكية في أكثر من موضع في كتابه هذا منها: قوله: أي ومذهبنا نحن المالكية وهو قول جمهور العلماء جواز الواجب الموسع المحدود (¬1). وقوله: وهذا المذهب الذي هو مذهبنا نحن المالكية وهو ثبوت الواجب الموسع (¬2). وقوله: هذا قول ثانٍ، وهو قول الفقهاء، أن الوجوب عندنا نحن المالكية وعند بقية أهل السنة وهم الشافعية والحنفية والحنبلية متعلق بفرد واحد من حيث هو واحد أي تعلق الوجوب بخصلة واحدة من تلك الخصال من حيث هي خصلة (¬3). 3 - وجود ترجمة الشوشاوي في الكتب الخاصة بتراجم المالكية (¬4). 4 - اهتمام الشوشاوي بآراء الإمام مالك وأصحابه (¬5). 5 - اعتماده كثيرًا على كتب أصول فقه المالكية؛ حيث ينقل من كتب ابن القصار، وملخص القاضي عبد الوهاب وإحكام الفصول للباجي (¬6). ¬
6 - إكثاره في الأمثلة الفقهية من الاستشهاد بنصوص كتب الفقه المالكي ككتب ابن أبي زيد وابن رشد وابن الحاجب (¬1). ... ¬
المبحث الثالث: منزلته بين علماء عصره
المبحث الثالث: منزلته بين علماء عصره الشوشاوي له منزلة عظيمة بين علماء عصره وخصوصًا علماء سوس، ويمكن معرفة منزلته بأمرين: الأمر الأول: مقارنته مع أقرانه الذين عاصروه ونافسوه في العلم، وخصوصًا قرينه يحيى بن مخلوف السوسي الذي يعتبر من أشهر علماء سوس في تلك الفترة، بل إنه شيخ لبعض علماء فاس؛ لأنه رحل إليها. وحينما قارن المختار السوسي بين الشوشاوي والسوسي قدم الشوشاوي عليه. يقول المختار السوسي: ومن أقران الشوشاوي وإن كان هذا أكبر منه العلامة يحيى بن مخلوف السوسي المتوفى عام 927 هـ، ولعله لم يدرك مقام الشوشاوي العلامة الكبير (¬1). الأمر الثاني: تقديمه على علماء عصره السوسيين. الشوشاوي برز في عدد من الفنون، والمختار السوسي حينما يذكر هذه الفنون وأشهر العلماء الذين ألفوا فيها يذكر في مقدمتهم الشوشاوي. وحينما تكلم المختار عن القراءات جعل الشوشاوي في مقدمة العلماء المشهورين بهذا الفن. ¬
يقول المختار: وللسوسيين أيضًا مؤلفات في الموضوع ونعرف من أساطين هذا الفن كثيرين في الحياة العلمية السوسية منهم حسين الشوشاوي شارح مورد الظمآن (¬1). وحينما تكلم عن فن التفسير جعل الشوشاوي في مقدمة الذين ألفوا في هذا الفن (¬2). وحينما تكلم عن أصول الفقه ذكر في مقدمة العلماء السوسيين الشوشاوي (¬3). وحينما تكلم عن فن الطب جعل الشوشاوي في مقدمة العلماء السوسيين في هذا الفن. يقول المختار: لا تزخر (¬4) دراسة هذا الفن بطبيعة الحال - قبل العصر الحديث - إلا في الحواضر وفي أثناء أذيال المدنية التي تحتاج إليه غالبًا، وأما في البادية حيث الجو صقيل والهواء صحيح، والأجسام مستقيمة والأمزجة معتدلة فأنى يكثر الالتفات إليه إلا عند أفراد، وهذا هو الذي وقع في سوس، فإننا لم نعتده ذا انتشار في التأليف أو في التدريس إلا قليلاً، فأول من عرفنا له فيه مؤلفًا حسين الشوشاوي (¬5). وما قدمه المختار إلا حينما عرف منزلته حق المعرفة ووجده يستحق التقديم ¬
على غيره من العلماء السوسيين في عصره خصوصًا الذين اشتهروا بالفنون التي اشتهر بها الشوشاوي. ***
المبحث الرابع: آثاره العلمية
المبحث الرابع: آثاره العلمية يعتبر بعض العلماء (¬1) آثار الشوشاوي وكتبه العديدة دليلاً قويًا على مكانة هذا العالم والمستوى الرفيع الذي وصل إليه؛ إذ إن كتب التراجم لم توف هذا الرجل ما يستحقه ولم تكتب عنه إلا أسطرًا قليلة لا تتجاوز ذكر اسمه، وآثاره العلمية، وبعض كلمات الثناء التي اعتاد بعض المترجمين إطلاقها على كل أحد، وهذا الأمر يجعل لكتب الشوشاوي دورًا فعالاً في التعريف به، والكشف عن شخصيته. ولقد استطعنا بعد تتبع ترجمة الشوشاوي في كثير من الكتب، ومراجعة كثير من فهارس المكتبات، معرفة ثمانية كتب من كتب الشوشاوي (¬2) وسنعرّف بكل منها تعريفًا موجزاً، ونبدأ بكتب الشوشاوي في علوم القرآن والقراءات لبروزه في هذا الفن وإكثاره من التأليف فيه. أولاً: كتب الشوشاوي في علوم القرآن: 1 - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة (¬3): يعتبر هذا الكتاب أبرز كتب الشوشاوي وأهمها، وذلك راجع لأمرين: ¬
1 - أن هذا الكتاب ألفه الشوشاوي ابتداء، فليس شرحًا على كتاب آخر، فلذا تبرز فيه شخصية الشوشاوي كثيرًا. 2 - أن موضوعه (علوم القرآن) وهو من الموضوعات الجديدة في بلاد المؤلف، فلا نعرف من سبقه في المغرب إلى مثله، ويعتبر كتاب البرهان للزركشي (¬1) أبرز من سبقه في المشرق من حيث الإحاطة بأنواع هذا العلم. ولأهمية هذا الكتاب يحسن أن نعرض أبوابه ليحصل التصور لقيمة هذا الكتاب، فلقد قسمه الشوشاوي إلى عشرين بابًا هي: 1 - ما يتعلق بنزول القرآن. 2 - ما يتعلق بكتابته. 3 - ما يتعلق بقراءته. 4 - ما يتعلق ببعض مشكلاته في التفسير. 5 - ما يتعلق بأحوال حامل القرآن. 6 - في أحكام المعلم وما يتعلق به. 7 - ما يتعلق بفضائله. 8 - فيما يتعلق بختمه. 9 - في وعيده. 10 - في حقه. 11 - في أسمائه. 12 - في أصنافه. 13 - في عدد آياته وما يتعلق بذلك. ¬
14 - هل القرآن مخلوق أم لا؟ 15 - في تعظيمه بالحلف به أو ما في معناه. 16 - هل يجوز تفضيل بعض القرآن على بعض أم لا؟ 17 - ما السور التي تلقى في المناظرات؟ 18 - ما الآيات التي تلقى في المناظرات؟ 19 - في فضل كل سورة على الاختصار. 20 - ما السور المنزلة في المدينة والمنزلة في مكة؟ هذه أبواب هذا الكتاب، وكما رأيت فقد استوعب الشوشاوي كثيرًا من الأنواع المتعلقة بعلوم القرآن، إلا أنه في أثناء الحديث يميل إلى الاختصار؛ فهو يطرح في صدر كل باب عددًا من الأسئلة تقل أو تكثر بحسب كثرة المادة العلمية وقلتها، وبعد أن يستكمل طرح الأسئلة يشرع في الإجابة عليها واحدًا بعد الآخر بالترتيب الذي طرحها به، ويكون جوابه - غالبًا - حاسمًا ومختصرًا إلا إذا كانت المسألة خلافية فإنه يشير إلى ما فيها من أقوال ويعرض أدلة كل قول ثم يرجح ما يراه (¬1). نسخ الكتاب: انتشرت نسخ هذا الكتاب انتشارًا كبيرًا في مكتبات المغرب ¬
2 - تنبيه العطشان على مورد الظمآن
وغيره (¬1)، وقد قام بتحقيقه الأستاذ عزوزي إدريس لنيل درجة الدبلوم من دار الحديث الحسنية بالرباط، سنة (1398 هـ) ووضع قسمًا دراسيًا عرف فيه بالمؤلف وكتابه الفوائد الجميلة. 2 - تنبيه العطشان على مورد الظمآن (¬2): شرح الشوشاوي بهذا الكتاب كتاب أبي عبد الله الخراز (¬3) المسمى: مورد الظمآن في رسم القرآن، وهو أرجوزة في رسم القرآن جمع فيها الخراز أربعة كتب وبين ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وقد تتبع الشوشاوي أبيات المنظومة شارحًا وناقدًا، ولم يسلك طريقة الأسئلة التي سلكها في الكتاب السابق. وقدم الشوشاوي هذا الكتاب بمقدمة طويلة تتعلق بعلوم القرآن. وهذا الكتاب له نسخ عديدة بمكتبات المغرب (¬4). ¬
3 - حلة الأعيان على عمدة البيان
3 - حلة الأعيان على عمدة البيان (¬1): هذا الكتاب شرح به الشوشاوي عمدة البيان للخراز وهي منظومة في أحكام ضبط القرآن. وقد تبع الشوشاوي الخراز في تقسيم الكتاب إلى ثمانية أبواب، غير أنه وضع لهذا الشرح مقدمة تناول فيها أحكام نقط المصحف وعدد الآي ونحوها من المباحث، ثم شرع في شرح المنظومة بيتًا بيتًا يورد على كل بيت أو مقطع يريد شرحه أسئلة ثم يجيب عنها. ويوجد لهذا الكتاب نسختان: إحداهما في الخزانة العامة بالرباط (¬2)، والأخرى بالخزانة الحسنية بالرباط (¬3). 4 - الأنوار السواطع على الدرر اللوامع: لم يذكر أحد ممن ترجم للشوشاوي هذا الكتاب ضمن كتبه، غير أن الأستاذ عزوزي وجده في الخزانة العامة بالرباط (¬4) فعده ضمن كتبه (¬5)، وقد وجدنا له نسخة أخرى في خزانة ابن يوسف بمراكش (¬6)، وهذا الكتاب شرح به الشوشاوي منظومة ابن بري (¬7) في القراءات المسماة: الدرر اللوامع في ¬
ثانيا: كتب الشوشاوي الأخرى
قراءة نافع (¬1). وطريقة الشوشاوي في هذا الكتاب هي: أن يورد البيت أو المقطع المراد شرحه ثم يتلوه بتفسير معناه، ذاكرًا ما يتعلق به من خلاف أو فوائد أو غيرها. ثانيًا: كتب الشوشاوي الأخرى: 1 - رفع النقاب عن تنقيح الشهاب: وهو شرحه على تنقيح القرافي وسنستوفي الكلام عليه في الفصل الثالث من هذه المقدمة إن شاء الله. 2 - قرة الأبصار على الثلاثة الأذكار (¬2): كتاب صغير الحجم، غزير العلم، نادر المثال، تعرض فيه الشوشاوي لتفصيل الكلام على معاني ثلاثة أذكار مشهورة هي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. وقد عقد للكلام على كل ذكر منها بابًا رتبه على أسئلة وأجوبة، واستوفى فيه ما يتعلق بكل ذكر من قواعد وفوائد. وللكتاب عدة نسخ في مكتبات المغرب وغيرها (¬3). ¬
3 - مجموعة في الطب
3 - مجموعة في الطب (¬1): كتاب صغير لا تتجاوز أوراقه (12) ورقة، ذكر فيه الشوشاوي عددًا من الأمراض وعلاجاتها، وقد أحصينا فيه أكثر من مائة وخمسين علاجًا، يذكر المرض ثم يذكر بعده صفة العلاج باختصار دون أن يلتزم ترتيبًا معينًا، وقد ختمه بفصول ذكر فيها عددًا من التمائم والجداول والطلاسم. يوجد للكتاب نسخة مخطوطة في الخزانة الحسنية بالرباط (¬2). 4 - نوازل فقهية: ذكر هذا الاسم عدد ممن ترجم للشوشاوي (¬3)، ولم نجد له كتابًا يحمل هذا الاسم، وقد سبقنا علامة سوس (المختار السوسي) إلى البحث عنه فلم يجده، فقال في كتابه خلال جزولة: "وأما نوازله الفقهية إن كان المعني بها مؤلفاً خاصاً فإني لم أقف عليها قط، وإنما رأيت له فتاوى متفرقة" اهـ (¬4). والأرجح أنه لا يوجد للشوشاوي كتاب بهذا الاسم، وإنما له كما ذكر السوسي نوازل وفتاوى متفرقة. ولعل الوهم في جعل هذا كتاباً مستقلاً جاء مما ذكره ابن القاضي (¬5) في ¬
درة الحجال (¬1)؛ إذ هو أول من عرف ممن ترجم للشوشاوي، وقد ذكر أن له نوازل في الفقه، فلعله أراد هذه الفتاوى، وحمل كلامه من نقل عنه على أنها كتاب مستقل، والله أعلم. ... ¬
الفصل الثالث: التعريف بالكتاب
الفصل الثالث: التعريف بالكتاب المبحث الأول: نسبة الكتاب للمؤلف يمكن معرفة اسم الكتاب ونسبته للمؤلف من طريقين: الطريق الأول: من خلال كتب التراجم التي ورد فيها نسبة الكتاب للمؤلف وذكر اسمه. الطريق الثاني: من خلال نسخ الكتاب التي ذكر في أولها وآخرها نسبة الكتاب للمؤلف وتحديد اسمه. أما الطريق الأول وهو كتب التراجم، فإن مراجع ترجمته بعضها ورد فيها تسمية الكتاب بشرح التنقيح منسوباً للشوشاوي، وبعضها ورد فيها تسميته برفع النقاب عن تنقيح الشهاب منسوباً للشوشاوي. أولاً: المراجع التي ورد فيها تسمية الكتاب بشرح التنقيح منسوباً للشوشاوي، منها: 1 - درة الحجال في أسماء الرجال؛ حيث جاء فيه: الحسين بن علي الرجراجي الشوشاوي، رفيق عبد الواحد الرجراجي، له شرح على مورد
الظمآن، وله نوازل في الفقه المالكي، وشرح تنقيح القرافي (¬1). 2 - نيل الابتهاج؛ حيث جاء فيه: حسن بن علي الرجراجي الشوشاوي، رفيق عبد الواحد الرجراجي، له شرح على مورد الظمآن، ونوازل في الفقه، وشرح تنقيح القرافي (¬2). 3 - كفاية المحتاج، حيث جاء فيه: حسين بن علي الرجراجي شوشاوي، له نوازل في الفقه، وشرح مورد الظمآن وتنقيح القرافي (¬3). 4 - طبقات الحضيكي؛ حيث ذكره باسم شرح التنقيح (¬4). 5 - الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام؛ حيث جاء فيه: حسن الشوشاوي، الفقيه الأصولي، له شرح على تنقيح القرافي (¬5). 6 - المعسول؛ حيث جاء فيه: حسين الشوشاوي، العلامة الأصولي، رجراجي النسب، ونعرف له خمسة مؤلفات، منها شرحه لتنقيح القرافي (¬6). 7 - النبوغ المغربي في الأدب العربي؛ حيث ذكر من كتب الأصول المؤلفة في العصر المريني شرح تنقيح القرافي للشوشاوي (¬7). 8 - معجم المؤلفين؛ حيث جاء فيه بعد ترجمته: من آثاره شرح على مورد ¬
ثانيا: المراجع التي ذكرت نسبة الكتاب للشوشاوي وذكرته باسم رفع النقاب عن تنقيح الشهاب
الظمآن وشرح تنقيح القرافي (¬1). ثانياً: المراجع التي ذكرت نسبة الكتاب للشوشاوي وذكرته باسم رفع النقاب عن تنقيح الشهاب منها: 1 - كتاب سوس العالمة؛ حيث جاء فيه: حسين بن علي الشوشاوي، دفين أولاد برحيل بقبيلة المنابهة، له رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (¬2). 2 - كتاب آسفي وما إليه؛ حيث جاء فيه: الإمام الأصولي المقرئ أَبو علي حسين بن طلحة الرجراجي الشوشاوي، ذو التآليف النافعة منها: كتاب الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة في علوم القرآن، وتنبيه العطشان على مورد الظمآن في رسم القرآن، ورفع النقاب عن تنقيح الشهاب يعني تنقيح القرافي (¬3). 3 - جريدة الميثاق؛ حيث كتب عبد الله كنون ترجمة للشوشاوي وقال: تقوم شهرة المترجم على جملة من الكتب التي ألفها في العلوم التي كان يتعاطاها وتلقاها الناس بعده بالقبول وهي شرح التنقيح للقرافي في الأصول سماه رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (¬4). ومقدمة تحقيق الفوائد الجميلة حيث جاء فيها: رفع النقاب عن تنقيح الشهاب، شرح الشوشاوي هذا وضعه على تنقيح الفصول في الأصول (¬5). ¬
وأما الطريق الثاني وهو معرفة اسم الكتاب ونسبته للمؤلف من خلال نسخ الكتاب الثلاث. فالنسخة الأولى وهي الأصل لا يوجد في أولها اسم الكتاب؛ لأنه قد سقط منها ورقتان، لكن في آخرها وردت نسبة الكتاب بدون ذكر اسمه؛ حيث جاء في آخرها ما نصه: قال واضع هذا الشرح رحمه الله وعفا عنه أَبو علي حسين بن علي الشوشاوي. والنسختان اللتان رمزنا لهما برمز (ز) و (ط) فقد ورد في أولهما وآخرهما نسبة الكتاب للمؤلف وأن اسمه رفع النقاب عن تنقيح الشهاب. ففي أول نسخة (ز) في صفحة العنوان ما نصه: هذا كتاب فيه رفع النقاب عن تنقيح الشهاب مما عني بجمعه الفقيه الجليل حسين بن علي بن طلحة الرجراجي، وفي خاتمتها ما نصه: هذا تمام رفع النقاب عن تنقيح الشهاب مما جمعه الضعيف المذنب الخاطئ يرجو عفو ربه وغفرانه لجميع ذنوبه بمنه وفضله حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي. وفي أول نسخة (ط) في صفحة العنوان بعد التسمية والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد ما نصه: رفع النقاب عن تنقيح الشهاب مما جمعه العبد العاصي يرجو عفو ربه وغفرانه لجميع ذنوبه بمنه وفضله الحسن بن علي بن طلحة الرجراجي البويصيلي نسباً الشوشاوي رحمه الله تعالى. وفي خاتمتها جاء ما نصه: هذا تمام رفع النقاب عن تنقيح الشهاب مما جمعه العبد العاصي المذنب الخاطئ يرجو عفو ربه وغفرانه لجميع ذنوبه بمنه وفضله حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي.
فهذه النصوص الأربعة التي وردت في النسختين لا تدع مجالاً للشك في نسبة الكتاب للشوشاوي، وبأن اسمه رفع النقاب عن تنقيح الشهاب، بالإضافة إلى المراجع التي ذكرت أن اسم الكتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب والتي سبق ذكرها. ولا تعارض بين ما ورد في بعض المراجع التي ذكرت أن اسم الكتاب شرح تنقيح القرافي، وبين ما ورد في بعض المراجع والنسخ الخطية بأن اسمه رفع النقاب عن تنقيح الشهاب؛ حيث إن بينهما إطلاقاً وتقييداً. شرح عنوان الكتاب: في ختام هذا المبحث يحسن أن نذكر شرح عنوان هذا الكتاب: رفع النقاب عن تنقيح الشهاب. قوله: (رفع) الرفع ضد الوضع، وفي اللسان: يقال: ارتفع الشيء ارتفاعاً بنفسه إذا علا، والرفع تقريبك الشيء من الشيء، ورفع لي الشيء أبصرته من بعد (¬1). قوله: (النقاب) مصدر نقب والنقب: الثقب، والنقاب: الرجل العلامة، وما تنتقب به المرأة كما جاء في القاموس المحيط (¬2) فالنقاب هو الحجاب. قوله: (تنقيح) التنقيح: التهذيب، وفي اللسان: "نقح النخل: أصلحه وقشره، وتنقيح الشعر: تهذيبه ... ¬
ونقح الكلام فتشه وأحسن النظر فيه، وقيل: أصلحه وأزال عيوبه، والمنقح الكلام الذي فعل به ذلك ... ونقح الكلام إذا هذبه وأحسن أوصافه" (¬1). ومراد الشوشاوي بالتنقيح: تنقيح الفصول. قوله: (الشهاب) أي: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي. وعلى هذا يكون المعنى العام لعنوان الكتاب: رفع وإزالة الحجاب الذي يحول دون الاستفادة من كتاب تنقيح الفصول المنسوب لشهاب الدين القرافي، فكأن التنقيح عليه حجاب وغطاء يحول دون فهمه والاستفادة منه وذلك لكونه مختصراً، ومشتملاً على كثير من المسائل والأقوال التي تحتاج إلى توضيح وشرح. ... ¬
المبحث الثاني: مصادر الكتاب
المبحث الثاني: مصادر الكتاب قبل تعداد المصادر التي اعتمد عليها الشوشاوي في كتابه، نحب أن ننبه إلى أمرين: الأول: يمكن تقسيم مصادر كتاب الشوشاوي من حيث اعتماده عليها إلى قسمين: مصادر أصلية ومصادر مساعدة. ونعني بالمصادر الأصلية: تلك الكتب التي أكثر النقل عنها، وجعلها أصلاً في بناء مسائل الكتاب. وأهم هذه الكتب في علم الأصول: شرح التنقيح للقرافي، وشرح التنقيح للمسطاسي، وشرح المحصول للقرافي، والملخص للقاضي عبد الوهاب، وإحكام الفصول للباجي، والمحصول لفخر الدين الرازي. أما في الفقه: فكان اعتماده على مختصر ابن الحاجب الفرعي المسمى: جامع الأمهات، والتلقين للقاضي عبد الوهاب، ورسالة ابن أبي زيد، والفروق للقرافي. وفي النحو كان اعتماده على مقدمة أبي موسى الجزولي، المعروفة باسم القانون. هذه أبرز مصادر الشوشاوي، وأما ما عداها مما سنذكره بعد قليل، فيعتبر
أولا: مصادره في فن التفسير وعلوم القرآن هي ما يلي
مراجع مساعدة، أي: إنه لم يرجع إليها إلا قليلاً. الثاني: قد يصرح الشوشاوي عند نقله من الكتاب باسمه واسم مؤلفه، وقد يذكر أحدهما، وربما لا يذكر واحداً منهما، وينسب إلى مجهول، كقوله: قال بعضهم، أو قال بعض الأشياخ. وقد لا يذكر مما تقدم شيئاً، وإنما يقتبس من غير إشارة إلى أحد، وفي هذا القسم لا نجعل الكتاب من مصادره، إلا إذا قطعنا بالنقل، كأن تكون العبارة المنقولة من العبارات غير المتداولة في الكتب. ومصادر هذا الكتاب شملت الفنون الآتية: التفسير وعلوم القرآن، والسنة وعلومها، وأصول الفقه، والفقه، واللغة والنحو، وغير ذلك (¬1)، وتفصيل هذه المصادر كما يأتي: أولاً: مصادره في فن التفسير وعلوم القرآن هي ما يلي: 1 - أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المتوفى سنة 543 هـ. 2 - التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـ. 3 - الكشاف لأبي القاسم جار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ. 4 - التحصيل لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي المتوفى سنة 440 هـ (¬2). 5 - تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة ¬
ثانيا: مصادره في السنة النبوية
276 هـ. 6 - مشكل إعراب القرآن لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ. 7 - معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفى سنة (207 هـ). 8 - كتاب الغريبين: غريبي القرآن والحديث لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة 401 هـ (¬1). 9 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن غالب الأندلسي المتوفى سنة 541 هـ. 10 - غريب القرآن لأبي عبد الله محمد بن محمد المجاصي (¬2). 11 - قانون التأويل لأبي بكر محمد بن عبد الله المعافري المعروف بابن العربي المتوفى سنة 543 هـ (¬3). ثانياً: مصادره في السنة النبوية: 1 - موطأ الإمام مالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة 179 هـ. 2 - القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي (¬4). ¬
ثالثا: مصادره في أصول الفقه
3 - المعلم بشرح فوائد صحيح مسلم لأبي عبد الله محمد بن علي المازري المتوفى سنة 536 هـ (¬1). 4 - إكمال المعلم للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المتوفى سنة 544 هـ (¬2). 5 - معرفة علوم الحديث للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ. ثالثاً: مصادره في أصول الفقه: أ - المصادر المالكية: 1 - شرح التنقيح لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي. 2 - شرح التنقيح (3) لأبي زكريا يحيى بن أبي بكر المسطاسي (¬3). 3 - نفائس الأصول (4) في شرح المحصول لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (¬4). ¬
4 - الإفادة للقاضي عبد الوهاب البغدادي المتوفى سنة 422 هـ (¬1). 5 - الملخص للقاضي عبد الوهاب البغدادي (¬2). 6 - كلام ابن القصار في الأصول أو مقدمة ابن القصار علي بن عمر البغدادي المتوفى سنة 398 هـ (¬3). 7 - إحكام الفصول في أحكام الأصول (¬4) لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ. 8 - الإشارة لأبي الوليد الباجي (¬5). 9 - مختصر المنتهى لأبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ. 10 - شرح البرهان لأبي عبد الله محمد بن علي المازري (¬6). 11 - شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب الأصولي لأبي عبد الله محمد ابن هارون التونسي التوفى سنة 750 هـ. 12 - شرح البرهان لأبي الحسن علي بن إسماعيل الإبياري المتوفى سنة 616 هـ (¬7). ¬
ب - المصادر الشافعية
ب - المصادر الشافعية: 1 - الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ. 2 - المحصول للإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـ. 3 - البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني المتوفى سنة 478 هـ. 4 - المستصفى لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي. 5 - المعالم للإمام فخر الدين الرازي (¬1). 6 - الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي ابن محمد الآمدي المتوفى سنة 631 هـ. 7 - منتهى السول في علم الأصول لسيف الدين الآمدي. 8 - اللمع في أصول الفقه لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. 9 - فك الرموز في نشر الكنوز، وهو شرح كتاب ابن الحاجب (¬2) لقطب الدين الشيرازي المتوفى سنة 710 هـ. 10 - الإملاء على معالم أصول الفقه لشرف الدين عبد الله بن محمد الفهري التلمساني المتوفى سنة 644 هـ (¬3). ¬
رابعا: مصادره الفقهية وجميعها في الفقه المالكي
11 - تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه (¬1) للمظفر بن أبي الخير التبريزي المتوفى سنة 621 هـ. 12 - التلخيص لإمام الحرمين الجويني. 13 - المنخول لأبي حامد الغزالي. 14 - الحاصل من المحصول لتاج الدين محمد بن الحسين الأرموي المتوفى سنة 653 هـ. رابعاً: مصادره الفقهية وجميعها في الفقه المالكي: 1 - الفروق لشهاب الدين القرافي، يذكره الشوشاوي باسم القواعد السنية. 2 - المختصر الفقهي المسمى "جامع الأمهات" لأبي عمرو عثمان بن الحاجب (¬2). 3 - التلقين للقاضي عبد الوهاب البغدادي (¬3). 4 - المعونة للقاضي عبد الوهاب البغدادي (¬4). 5 - الرسالة لابن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 389 هـ. ¬
6 - الذخيرة لشهاب الدين القرافي (¬1). 7 - المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 520 هـ. 8 - البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل (¬2) لأبي الوليد ابن رشد، وذكره الشوشاوي باسم جامع البيان. 9 - التنبيه على مبادئ التوجيه (¬3)، وهو شرح على المدونة لأبي الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير التنوخي. 10 - تنبيه الطالب لفهم كلام ابن الحاجب (¬4)، وهو شرح لمختصر ابن الحاجب الفرعي تأليف محمد بن عبد السلام التونسي المتوفى سنة 746 هـ. 11 - شرح التلقين (¬5) لأبي عبد الله محمد بن علي المازري المتوفى سنة 536 هـ. 12 - حلل المقالة (¬6) في شرح كتاب الرسالة لأبي عمران موسى بن أبي علي الزناتي المتوفى سنة 702 هـ. ¬
13 - التعليقة (¬1) لأبي إسحاق إبراهيم بن حسن بن إسحاق التونسي المتوفى سنة 443 هـ. 14 - النكت (¬2) والفروق لمسائل المدونة لعبد الحق بن محمد السهمي القرشي المتوفى سنة 466 هـ. 15 - الأمنية في إدراك النية، للقرافي. 16 - مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل على كشف أسرار المدونة، لأبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي، من علماء القرن السابع (¬3). 17 - النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني (¬4). 18 - المدخل في الفقه، لابن طلحة الأندلسي. لم نعثر عليه، وقد نقل عنه الونشريسي في المعيار (¬5). 19 - التبصرة لأبي الحسن علي بن محمد الربعي اللخمي المتوفى سنة ¬
خامسا: مصادره في اللغة العربية هي
478 هـ (¬1). 20 - الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لأبي محمد عبد الله بن نجم ابن شاس الجذامي المتوفى سنة 610 هـ (¬2). 21 - الجامع لأبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي المتوفى سنة 451 هـ (¬3). 22 - التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة للقاضي عياض (¬4). خامساً: مصادره في اللغة العربية هي: 1 - العين للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175 هـ. 2 - مختصر العين (¬5) لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي المتوفى سنة 379 هـ. 3 - إصلاح المنطق لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت المتوفى سنة 244 هـ. ¬
سادسا: مصادره في النحو هي
4 - تثقيف اللسان تأليف عمر الصقلي المتوفى سنة 501 هـ. 5 - الفصيح لأبي العباس أحمد بن يحيى النحوي الشيباني المعروف بثعلب المتوفى سنة 291 هـ. 6 - شرح الفصيح (¬1) لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن هشام اللخمي المتوفى سنة 570 هـ. 7 - كتاب الأفعال لأبي بكر محمد بن عمر الإشبيلي المعروف بابن القوطية المتوفى سنة 367 هـ. 8 - سر الصناعة لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ. 9 - فقه اللغة لأبي منصور عبد الملك الثعالبي المتوفى سنة 430 هـ. 10 - درة الغواص للقاسم الحريري. 11 - المصباح في اختصار المفتاح في المعاني والبديع لأبي عبد الله، بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك المتوفى سنة 686 هـ. 12 - الأمالي لأبي علي القالي البغدادي المتوفى سنة 356 هـ. 13 - المحكم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المتوفى سنة 458 هـ. سادساً: مصادره في النحو هي: 1 - الكتاب لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المعروف بسيبويه المتوفى سنة 180 هـ. ¬
2 - المفصل في علم العربية لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ. 3 - المذكر والمؤنث لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار المعروف بابن الأنباري المتوفى سنة 328 هـ. 4 - الجمل لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي المتوفى سنة 337 هـ. 5 - الإيضاح لأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفى سنة 377 هـ. 6 - المقدمة في النحو المعروفة "بالقانون" لأبي موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي المتوفى سنة 616 هـ (¬1). 7 - الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني الأزدي المتوفى سنة 392 هـ. 8 - الألفية لابن مالك وهو: جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي المتوفى سنة 672 هـ. 9 - شرح جمل الزجاجي لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن عصفور المتوفى سنة 669 هـ. 10 - شرح التسهيل لابن مالك (¬2). 11 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لأبي محمد عبد الله بن هشام المتوفى سنة 761 هـ. ¬
سابعا: مصادره في السيرة النبوية الشريفة
12 - شرح الفصل تأليف يعيش بن علي بن يعيش المتوفى سنة 643 هـ. 13 - شرح الإيضاح تأليف عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ. 14 - المشكاة والنبراس شرح كتاب الكراس (¬1) للجزولي تأليف إبراهيم بن عبد السلام أَبو إسحاق العطار المتوفى سنة 677 هـ. 15 - شرح الألفية للحسن بن قاسم المرادي المتوفى سنة 749 هـ. 16 - الاستغناء في أحكام الاستثناء للقرافي. سابعاً: مصادره في السيرة النبوية الشريفة: 1 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض. 2 - الشفا في شرف النبي المصطفى لابن سبع (¬2). ثامناً: مصادره في العقيدة: 1 - الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة للقرافي. 2 - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة. 3 - الإرشاد لأبي المعالي الجويني. 4 - المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى لأبي حامد الغزالي. 5 - العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية للجويني. ¬
تاسعا: مصادره في المنطق
تاسعاً: مصادره في المنطق: 1 - الجمل لأبي عبد الله محمد بن ناماور الخونجي المتوفى سنة 646 هـ. 2 - الملخص للإمام فخر الدين الرازي (¬1). 3 - شرح عيون الحكمة للإمام فخر الدين الرازي. عاشراً: مصادره في السلوك والأخلاق والمعارف العامة: 1 - سراج المريدين لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي (¬2). 2 - معراج السالكين لأبي حامد الغزالي. 3 - إحياء علوم الدين للغزالي. 4 - المعارف لأبي محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ. 5 - جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر القرطبي المتوفى سنة 463 هـ. ... ¬
المبحث الثالث: منهج المؤلف العام في هذا الكتاب
المبحث الثالث: منهج المؤلف العام في هذا الكتاب اعتاد المؤلفون تصدير كتبهم بمقدمة، يبينون فيها: أسباب تأليفهم للكتاب، وبعض معالم منهجهم فيه، ومصادرهم، إلى غير ذلك مما يهم القراء معرفته. غير أن الشوشاوي في كتابه هذا، خالف عادة المؤلفين، وشرع في شرح كلام القرافي من غير مقدمة. ولم يكن أمامنا لمعرفة منهج الشوشاوي في هذا الكتاب سوى استعراض الكتاب، واستقراء منهج المؤلف من خلاله، ولا ريب أن مثل هذا العمل يعطي صورة تقريبية للمنهج؛ لأن الشوشاوي - ككثير من المؤلفين السابقين - لم يلتزم منهجاً واحداً في معالجة جميع موضوعات الكتاب، وإنما يخضع ذلك لحاجة الموضوع وطبيعته. وسنتبين ملامح منهجه من خلال النقاط الآتية: أولاً: التبويب والترتيب: تبع الشوشاوي القرافي في ترتيب أبواب وفصول الكتاب، وهذا يحتمه كونه شرحاً لكتاب القرافي، ومع هذا، فقد كان ينقده، ويعترض عليه في الترتيب، ويقترح التقديم أو التأخير أو الدمج، كما تميز بترتيب المسائل وحسن
ثانيا: الأسلوب
عرضها داخل الفصل. ثانياً: الأسلوب: أسلوب الشوشاوي في معظم الكتاب متوسط، وإن كان يغلب عليه البسط والإطناب، مما يدعوه أحياناً إلى التكلف. ثالثاً: منهج الشوشاوي في شرح كلام القرافي: استخدم الشوشاوي في هذا الكتاب طريقة الشرح بالقول؛ حيث يورد فيها قطعة من المتن مصدرة بكلمة: قوله، ويعقب هذه القطعة بحرف: (ش) علامة الشرح، ثم بعد ذلك يجزئ هذه القطعة من المتن إلى جمل، ويبدأ بشرحها وترتيبها حسب نوعية الموضوع. وقد يكتفي الشوشاوي بعد إيراد القطعة من المتن بالتمثيل أو الاستدلال؛ لوضوح النص، لكن هذا الصنيع نادر، ومن الصفات التي يمكن أن نلمسها لشرح الشوشاوي كلام القرافي ما يأتي: 1 - التمهيد، وأكثر ما يفعله في بداية الأبواب والفصول، وأحياناً المسائل. وغالب تمهيداته تكون بشرح معنى الباب أو الفصل. أو بالربط بينه وبين ما قبله. أو بمقدمات للباب أو الفصل أو المسألة يتوقف عليها فهم غيرها. أو غير هذه الأمور، وأحياناً يترك التمهيد، كما فعله في باب التعارض والترجيح ومواضع أخرى.
رابعا: التعريفات اللغوية
2 - حصر وعد المباحث المتعلقة بالفصل في أوله، وفي بعض الأحيان، يستعرض هذه المباحث ويذكرها. 3 - إعادة صياغة كلام القرافي - قبل الشروع في شرحه - بأسلوب يساعد على فهمه، كأسلوب التقسيم، أو غيره. 4 - ربط كلام القرافي في المواضع الأخرى بكلامه في المسألة المراد بحثها، وبيان موافقته لها، أو تناقضه معها. 5 - الاستدراك على القرافي بإضافة أقوال، أو أدلة، أو أقسام، أو غيرها، والاعتراض على ما أورده من معلومات، أو ما ساقه من أدلة، إن كان عليها اعتراض، مع الاعتذار عنه أحياناً. 6 - العناية باختلاف نسخ المتن، وتوجيهها، والاستدلال بها. 7 - شرح الكلمات الغريبة وتفسيرها، سواء كانت من المتن أو غيره. 8 - التوسع، وأحياناً الإطناب في الشرح، والإكثار من الاستطرادات المختلفة، خاصة في علم التفسير، وعلم النحو. 9 - استخدام التنبيهات، والفروع، والتوجيهات، ونحوها. رابعاً: التعريفات اللغوية: يعرف الشوشاوي - غالباً - موضوعات الأبواب، كما عرف الاستثناء، والمجمل، والمبين، والنسخ، والإجماع، والقياس، والاجتهاد. وقد يترك التعريف اللغوي لموضوع الباب، كما فعل في باب الخبر، وباب التعارض والترجيح.
خامسا: الحدود الاصطلاحية
وقد يعرف ما يتطرق له البحث، سواء كان من موضوعات الفصول أو غيرها، كما عرف المؤول، والتأسي، والمتواتر، والسبر، والتقليد، والاستفتاء، والاستصحاب، والعادة، والذريعة، ولكنه غالباً لا يفعل ذلك إلا في موضوعات الأبواب. خامساً: الحدود الاصطلاحية: يكتفي الشوشاوي في الحدود - غالباً - بحد القرافي في المتن، ويشرحه شرحاً وافياً، وقد يبين محترزاته، وما عليه من اعتراضات، وجوابها. وفي أحيان قليلة يورد حدوداً أخرى، وقد يختارها ويفضلها على حد القرافي في متنه، كما اختار حد ابن الحاجب في باب النسخ. وقد لا يتعرض الشوشاوي للحد، تبعاً للقرافي، كما في الإطلاق والتقييد، والتعارض والترجيح. سادساً: المسائل الخلافية: يبحث الشوشاوي المسائل التي أوردها القرافي في المتن، وقد يزيد بعض المسائل التي لم يتعرض لها، وسنبين منهجه في بحث المسائل الخلافية من خلال النقاط الآتية: 1 - يحرر الشوشاوي محل النزاع في كثير من المسائل. 2 - يبين سبب الخلاف، ومرجعه، في كثير من المسائل. 3 - يحرص على التمثيل للمسألة قبل الشروع فيها، ولا شك أن هذا يساعد على تصور المسألة.
4 - يعرض في جميع مسائل الكتاب الأقوال في المسألة، ويختلف منهجه في هذا أيضاً تبعاً للمسائل. فقد يكتفي بما عرض القرافي في المتن، ويشرع هو في التمثيل أو الاستدلال أو غيرهما. وقد يعيد صياغة ما في المتن بشكل أكثر وضوحاً. وقد يعيدها وينسب ما لم ينسب منها إلى قائله. وقد يعيدها ويزيد عليها أقوالاً لم يأت بها القرافي. وبالرغم من اختلاف منهجه، إلا أنه يهتم غالباً ببيان مذهب المالكية. 5 - يستدل في جميع المسائل التي يبحثها، لكن الأدلة تقل وتكثر تبعاً لأهمية المسألة، ويمكن أن نلحظ منهجه في الاستدلال من خلال الملامح الآتية: أ - تنوع أدلة الشوشاوي، فهو يستدل ويستشهد بالآيات، والأحاديث، وآثار الصحابة (¬1)، وأقوال العلماء (¬2)، وكلام العرب، والقواعد النحوية، والشعر (¬3)، وحتى القصص والحكايات. ب - تقديمه - غالباً - عند سرد الأدلة: الآيات، فالأحاديث، فالآثار، فالإجماع، فالقياس، فكلام العرب. جـ - ذكره - في الغالب - وجه الاستشهاد من الدليل. وأما طريقة عرضه للأدلة، فإن أغلب ما سار عليه في هذا الكتاب هو ¬
سابعا: النقول والإحالات
تقديم حجة القول الراجح، ثم يتلوها بحجج الأقوال الأخرى، قارناً الإجابة عن حجة كل فريق بأدلته. وقد يجيب عن جميع الأدلة، سواء كانت للقول الراجح أو غيره. وقد يسرد الأدلة لجميع الأقوال دون إجابات. وقد يجيب عن بعض الأدلة ويترك بعضها. وقد يكتفي بدليل القول الراجح. لكن أغلب ما سار عليه في هذا الكتاب هو الطريقة الأولى، وهي الاستدلال للقول الراجح، ثم سرد أدلة الأقوال الأخرى، والإجابة عن حجة كل فريق منها بعد أدلته. 6 - تصريح الشوشاوي بالترجيح في هذا الكتاب قليل، ولكن هناك قرائن قد تدل على ترجيحه أو اختياره بعض الأقوال. وأقوى هذه القرائن أن يصفه بأنه المشهور، أو قول الجمهور، أو الذي عليه العمل. ومن القرائن أيضاً: تقديمه للراجح، ومنها: عدم الرد على أدلته، فهذه القرائن قد يفهم منها ميل الشوشاوي أو اختياره لما صحبته هذه القرائن أو بعضها. 7 - يذكر الشوشاوي أحياناً ثمرة الخلاف في المسألة، وقد يذكر ما يخرج على المسألة من فروع. سابعاً: النقول والإِحالات: زخر كتاب الشوشاوي بعدد ليس قليلاً من النقول، وقد تنوعت نقوله،
فتجده ينقل عن الأصوليين، والفقهاء، والمفسرين، والنحاة، وغيرهم (¬1)، وكانت أكثر نقوله وبخاصة الفقهية والأصولية عن المالكية، كما نقل كثيراً عن القرافي، سواء في شرحه للتنقيح، أو شرح المحصول، أو القواعد، أو غيرها (¬2). كما أكثر من النقل عن المسطاسي في كتابه شرح التنقيح (¬3). ونقل عن شروح أخرى لم نطلع عليها. والشوشاوي - في الغالب - يعزو النقل إلى صاحبه، وقد يعزوه إلى الكتاب، وفي بعض الأحيان يحدد مكان النقل من الكتاب، كما يفعله في نقله عن الحاجب والقرافي (¬4) غالباً. وغالب نقوله بالمعنى؛ حيث يتصرف في الكلام المنقول، بزيادة، أو نقص، أو تغيير، لكن ذلك لا يخل بالمعنى - غالباً -. وإلى جانب النقول، تعددت إحالات الشوشاوي على أبواب ومسائل كتابه، وهو في إحالاته يحدد الباب والفصل والمسألة والنص، وقد يخل بهذه القاعدة في حالات نادرة جداً. هذه ملامح مجملة، تعطي صورة تقريبية عن طريقة الشوشاوي في هذا ¬
الكتاب، وإن كنا ذكرنا في أول هذا المبحث أن الشوشاوي لم يلتزم طريقة واحدة في كل الكتاب، وإنما كان ينوع ذلك بحسب حاجة الموضوع المطروق، والله الموفق. ***
المبحث الرابع: قيمة الكتاب العلمية وبيان وجوه الحسن والإجادة
المبحث الرابع: قيمة الكتاب العلمية وبيان وجوه الحسن والإجادة إن قيمة أي كتاب علمية تعتمد على مؤلفه، وموضوعه، ومادته العلمية، ومصادره، فإذا كان المؤلف قديراً، والموضوع مهماً، والمادة غزيرة، والمصادر أصيلة، علت قيمة الكتاب، وكثرت الاستفادة منه. ولقد تجمعت هذه العناصر الأربعة في كتاب الشوشاوي، إضافة إلى أمور أخرى مساعدة، مما يجعل كتاب الشوشاوي يزاحم غيره من الكتب في المكتبة الأصولية، وسنعرض فيما يلي أهم النقاط التي تتضح من خلالها القيمة العلمية لكتاب الشوشاوي ونبين وجوه الحسن والإجادة: 1 - إن هذا الكتاب شرح لتنقيح الفصول للقرافي، وقد علم القارئ قيمة هذا المختصر العلمية، الذي جمع لباب أصول فقه المالكية، وبالإضافة إلى محصول الرازي، وبالتالي ندرك قيمة هذا الشرح، الذي تناول مسائل المختصر بالتفصيل والبيان. 2 - إن الكتاب يعتبر موسوعة لأصول فقه المالكية؛ حيث يحرص مؤلفه على بيان موقف المذهب المالكي من كل مسألة. فهو يعتني بآراء مالك وأصحابه المتقدمين، كما يعتني بمن جاء بعدهم من رجال المذهب المالكي، فتجد آراء أبي الفرج، والقاضي إسماعيل،
والأبهري، وأمثالهم. كما تجد اهتماماً بآراء المبرزين في علم الأصول من المالكية، كالقاضي الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي، والباجي، والمازري، وابن الحاجب وغيرهم. وتجد أيضاً النقول العديدة عن كتب الأصول المالكية، كالملخص للقاضي عبد الوهاب، وإحكام الفصول للباجي، وشرح المحصول للقرافي، وشرح البرهان للمازري، وشرح البرهان للإبياري، ومختصر ابن الحاجب، وشروح التنقيح، وغيرها. 3 - مع جمع الكتاب لآراء المالكية، واهتمامه بها، إلا أنه أيضاً محتوٍ على آراء المذاهب الأخرى في كل مسألة مع عرض الحجج والمناقشات. 4 - اعتمد الشوشاوي - رحمه الله - في كتابه هذا على شرح القرافي، وشرح المسطاسي لكتاب التنقيح، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إنه قد حوى ما فيهما، وبالإضافة إليهما نقل عن بعض الشراح ممن لم يسمهم، وهذا بلا شك يزيد قيمة هذا الشرح؛ إذ فيه عصارة أفكار من سبقه إلى شرح التنقيح. 5 - بسط الشرح، وطول نفس الشوشاوي في عرض المسائل، أثرى مادة الكتاب بكثير من المسائل والفوائد. ولقد اشتمل على عدد من المعارف التي تتصل بمواطن البحث، يجدها القارئ مبثوثة في ثنايا الكتاب. ومع أن هذا قد يعتبر من الاستطراد المخرج عن الموضوع، إلا أن رد كل علم إلى المتخصصين فيه شأن ذوي الألباب، فإذا طالعت باب أقل الجمع، أو
الاستثناء، أو حروف المعاني فكأنك تطالع كتاباً في النحو. وإذا طالعت باب الأخبار تظن أنك تقلب كتاباً في المصطلح، وقد تقلب الصفحات في تفسير آية، أو تصريف كلمة. 6 - استخدام الشوشاوي للتمهيد في أغلب الأبواب والفصول، وعنايته في أغلب تمهيداته بشرح معنى الباب أو الفصل. 7 - حصر أو عرض المسائل المراد بحثها في الفصل قبل الشروع فيها. 8 - حسن ترتيب المسائل داخل الفصل، وحسن عرض المسألة؛ حيث يبدأ غالباً بالأقوال، فمحل النزاع أو سبب الخلاف، ثم التمثيل للمسألة، ثم الحجاج والإجابة عنها. 9 - الربط بين كلام القرافي في المواضع الأخرى من الكتاب وكلامه في المسألة. 10 - العناية باختلاف نسخ المتن وتوجيه اختلافها. 11 - نسبة النقول - في الغالب - إلى أصحابها. 12 - تحديد مكان النقل والإحالة - أحياناً - من الكتاب المنقول عنه. 13 - استيفاء الأقوال في المسألة ونسبتها إلى أصحابها. 14 - وفرة وتنوع أدلة الشوشاوي. 15 - ذكر وجه الاستدلال من الدليل - غالباً -. 16 - وفرة الأمثلة في الكتاب حتى لا تكاد تخلو مسألة ولو كانت فرعية من مثال أو أكثر.
17 - ذكره - في مواضع كثيرة - لمحل النزاع وسبب الخلاف في المسألة. 18 - اهتمامه بثمرة الخلاف في المسألة والفروع الفقهية التطبيقية. 19 - اهتمامه بشرح الكلمات الغريبة التي ترد في أثناء الشرح. 20 - عنايته بالتوجيهات والفوائد العلمية المتنوعة. 21 - إنصافه في بحث المسائل؛ حيث لا تجد منه ميلاً إلى نصرة مذهبه، بل أحياناً يصرح بترجيح غيره. 22 - كثرة استدراكاته على القرافي. إما بزيادة أقوال في المسألة، أو بزيادة أدلة، أو بزيادة أقسام ونحوها. وإما بالاعتراض عليه فيما يورده من أدلة وآراء، أو بيان تناقض أقوال المؤلف في مواضع أخرى، مع الموضع الذي يجري بحثه. وقد يزيد الشوشاوي مسائل برأسها لم يتعرض لها القرافي. 23 - وأخيراً مما يدل على قيمة هذا الكتاب العلمية واهتمام علماء المالكية به، أنه كان يدرس في المغرب، وخصوصاً في سوس. يقول المختار السوسي في ترجمته للمؤلف: حسين بن علي الشوشاوي دفين أولاد برحيل بقبيلة المنابهة، له رفع النقاب عن تنقيح الشهاب يعني تنقيح القرافي، وهو يدرس به في سوس (¬1). ¬
ومن أشهر العلماء السوسيين الذين كانوا يدرسون الكتاب، الفقيه الأصولي أَبو فارس الأدوزي (¬1)، الذي كان لا يدرس الأصول إلا بشرح الشوشاوي، ذكر ذلك المختار السوسي حينما تكلم عن فن أصول الفقه في بلاد السوس وأنه بدأ الاهتمام به وتدريسه من بداية القرن التاسع وذكر من أشهر المؤلفين الشوشاوي. يقول المختار السوسي: وكأبي فارس الأدوزي المولع بتدريس التنقيح شرح الشوشاوي (¬2). والمدرسة التي درس بها أَبو فارس هي المدرسة البوعبدلية قرب تزنيت، وصفها المختار فقال: هذه المدرسة من كبريات مدارس سوس (¬3)، وذكر أنها لم تعد مدرسة علمية نشيطة إلا بعد عام 1240 هـ (¬4)، وقال: إنها لا تزال تقوم بالواجب إلى الآن على يد أستاذها سيدي الحاج إبراهيم (¬5). وكان المختار السوسي رحمه الله قد قام بزيارة لهذه المدرسة عام 1363 هـ (¬6). ... ¬
المبحث الخامس: التعريف بالقرافي وشروح التنقيح
المبحث الخامس: التعريف بالقرافي وشروح التنقيح أولاً: التعريف بمؤلف التنقيح: هو شهاب الدين أَبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن ابن عبد الله القرافي الصنهاجي: نسبة إلى قبيلة صنهاجة. والقرافي: نسبة إلى قرافة محلة بمصر القديمة، ولد القرافي في قرية من قرى بوش (¬1) سنة 626 هـ (¬2)، وفي هذه القرية الصغيرة نشأ القرافي وتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن. أخذ عن مشاهير العلماء، وممن أخذ عنهم: 1 - سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. 2 - وجمال الدين عثمان بن عمر بن الحاجب. 3 - وشمس الدين الخسروشاهي. ¬
مكانته العلمية وتلاميذه
وغيرهم. مكانته العلمية وتلاميذه: كان القرافي - رحمه الله - عالماً إماماً مجتهداً، انتهت إليه رئاسة المالكية، وكان بارعاً في الفقه، والأصول، والتفسير، والحديث، والنحو، يقصده العلماء من الآفاق البعيدة للأخذ عنه. وممن أخذ عنه: أَبو عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري (¬1). وعبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي (¬2). وشهاب الدين المرداوي (¬3). ¬
وفاته
ومحمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي (¬1). وفاته: توفي القرافي - رحمه الله - بدير الطين بمصر القديمة سنة أربع وثمانين وستمائة (684 هـ) (¬2). مصنفاته في أصول الفقه: 1 - تنقيح الفصول في اختصار المحصول. 2 - شرح تنقيح الفصول. 3 - نفائس الأصول في شرح المحصول (¬3). 4 - العقد المنظوم في الخصوص والعموم (¬4). 5 - التعليقات على المنتخب (¬5). ¬
ثانيا: التعريف بشروح التنقيح
ثانياً: التعريف بشروح التنقيح: أ - الشروح الموجودة: 1 - شرح تنقيح الفصول لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، وهو مؤلف التنقيح المتوفى سنة 684 هـ. وهذا الشرح من أهم الشروح؛ لأن الشارح هو مؤلف المتن وهو أعرف من غيره بخفايا المتن، ولاعتماد الشراح الذين جاءوا من بعده عليه، وقد وضح القرافي أهمية الشرح؛ حيث قال: "فلما كثر المشتغلون به رأيت أن أضع لهم شرحاً يكون لهم عوناً على فهمه وتحصيله وأبين فيه مقاصد لا تكاد تعلم إلا من جهتي؛ لأني لم أنقلها عن غيري وفيها غموض. وأوضح ذلك إن شاء الله تعالى بقواعد جليلة وفوائد جميلة ابتغاء ثواب الله عز وجل" (¬1). وقد فرغ القرافي من تأليفه سنة 677 هـ (¬2). 2 - رفع النقاب عن تنقيح الشهاب لحسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي، وهو الكتاب الذي حققناه، وهذه مقدمة تحقيقه. 3 - شرح التنقيح لأبي زكريا يحيى بن أبي بكر المسطاسي الفاسي الدار، ¬
وهو عبارة عن تلخيص لشرح التنقيح للقرافي، وأضاف عليه المسطاسي إضافات من شرح المحصول للقرافي وكتاب الإحكام لسيف الدين الآمدي وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي. وقد جاء وصفه في إحدى نسخه بما نصه: "لخص فيه أَبو زكريا شرح القرافي على تنقيحه تلخيصاً جامعاً عليه فوائد جليلة وتنبيهات حسنة أكثرها من كلام القرافي في شرح المحصول وزاد على ذلك من كتاب سيف الدين وكتاب الباجي المترجم بالفصول، وهذا التقييد يغني عن شرح القرافي ولا يغني هو عنه" (¬1). والمسطاسي يهتم في شرحه هذا بذكر الأقوال والأدلة والاعتراضات، وهذا الكتاب من أهم مصادر الشوشاوي في الأصول؛ حيث إنه اعتمد عليه في كثير من المسائل والأقوال ونقل عنه كثيراً. نسخ الكتاب: وجدنا لهذا الكتاب نسختين في مكتبة الجامع الكبير بمكناس. النسخة الأولى: برقم (352): وهي تامة عدا ما سقط من أولها في المقدمة قد أكلت الأرضة أطرافها خصوصاً الطرف العلوي في أغلب الصفحات؛ حيث إن بعض الصفحات ينقص منها خمسة أسطر وهذا النقص عائق عن الاستفادة من الكتاب استفادة تامة. ¬
عدد صفحاتها (259) صفحة مختلة في ترتيب بعض الصفحات، والصفحات من الحجم الكبير بمقاس 24 × 20. وعدد الأسطر في كل صفحة 39 سطراً. وعدد الكلمات في كل سطر 18 كلمة. ناسخها: إسحاق بن علي الجزولي، تاريخ النسخ: شهر ذي الحجة عام 743 هـ. النسخة الثانية: برقم (314): وهي ناقصة الأول؛ حيث قد سقط منها سبعة أبواب ولم تبدأ إلا من الفصل الأول من الباب الثامن في الاستثناء، وناسخها يختصر في كثير من المسائل ولا يمكن الاستفادة من هذه النسخة بدون النسخة الأولى، ولا يوجد عليها اسم ناسخ ولا تاريخ نسخ، عدد صفحاتها (228 صفحة)، وعدد الأسطر في كل صفحة 28 سطراً. 4 - التوضيح في شرح التنقيح. تأليف: أحمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عبد الحق اليزليتي المعروف بحلولو، نزيل القيروان بتونس المتوفى سنة 898 هـ، وشرحه هذا ليس مطولاً بل إنه في بعض الأحيان أخصر من شرح التنقيح للقرافي يهتم شارحه بحصر الأقوال في المسألة ويكثر من الأقوال أحياناً، وينسبها لأصحابها في أغلب الأحيان ولا يذكر أدلة الأقوال إلا نادراً، ويعتني بالنقل عن علماء المالكية. يتعرض لما أشكل في الكتاب دون غيره؛ بحيث إنه لا يشرح كل ألفاظ
ب - الشروح التي لم نجدها، ولكن ورد ذكرها في بعض كتب التراجم وهي
الكتاب، وله تنبيهات واستدراكات قيِّمة (¬1). 5 - حاشية منهج التوضيح والتصحيح لحل غوامض التنقيح (¬2). تأليف: محمد بن حمودة بن أحمد بن جعيط المتوفى سنة 1337 هـ (¬3). ب - الشروح التي لم نجدها، ولكن ورد ذكرها في بعض كتب التراجم وهي: 1 - شرح التنقيح لأبي العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي المعروف بابن البنا العدوي المتوفى سنة 721 هـ (¬4). وردت نسبة شرح التنقيح له في: نيل الابتهاج (¬5) وجذوة الاقتباس (¬6) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (¬7). 2 - التوضيح شرح التنقيح لأبي القاسم محمد بن محمد بن علي النويري المتوفى سنة 857 هـ. وردت نسبته له في نيل الابتهاج (¬8). 3 - شرح التنقيح لداود بن علي بن محمد الفلتاوي الأزهري المتوفى سنة ¬
902 هـ، وردت نسبته له في نيل الابتهاج (¬1). 4 - شرح التنقيح لأبي فارس عبد العزيز الأدوزي المتوفى سنة 336 هـ، وهو الذي سبق ذكره بأنه يدرس كتاب رفع النقاب للشوشاوي. وقد وردت نسبة هذا الكتاب له في خلال جزولة (¬2) وسوس العالمة (¬3)، ولكنه غير تام. يقول المختار السوسي في ذكر مصنفاته: "شرح له على التنقيح للقرافي غير تام وفي الوجود منه 120 صفحة، وهو شرح وسط بخط المؤلف جمعه حين كان مكبًا على تدريس الكتاب للتلاميذ" (¬4). ... ¬
المبحث السادس: مقارنة بين هذا الكتاب وشرح التنقيح للقرافي
المبحث السادس: مقارنة بين هذا الكتاب وشرح التنقيح للقرافي يعتبر شرح القرافي أول وأشهر وأهم شروح التنقيح، وذلك راجع إلى أن مؤلفه هو مؤلف المتن، وبالإضافة إلى ذلك فإنه هو الشرح المنتشر بين القراء في زماننا؛ ولذا فإن عقد مقارنة بين هذا الشرح وشرح الشوشاوي تظهر للقارئ مستوى وقيمة شرح الشوشاوي. ولن نتعرض في هذه المقارنة للتفريعات والمسائل؛ لأن هذه قد تتبعناها في أثناء التحقيق، وبينا ما أخذه الشوشاوي عن القرافي، وما لم يأخذه. وإنما سنقتصر في المقارنة بينهما على الملامح الرئيسة، والمنهج العام، ثم نبين ما يتميز به كل من الشرحين عن الآخر. أولاً: المقارنة بين شرح الشوشاوي وشرح القرافي في الملامح الرئيسة والمنهج العام: 1 - التقسيم والترتيب: يتفق الكتابان في تقسيم المعلومات الأصولية إلى أبواب وفصول، كما يتفقان في ترتيب هذه الأبواب والفصول، وذلك راجع لكون الكتابين يشرحان متنًا واحدًا، فهما بلا شك سيتابعان هذا المتن في ترتيبه. وينفرد الشوشاوي هنا بتقسيم بعض الأبواب والفصول إلى مسائل أو
2 - شرح المتن
مطالب ثم يعرضها على التوالي، وهذا يساعد القارئ على الاستيَعاب والمتابعة، وبخاصة أن الشوشاوي يبين - غالبًا - في صدر الباب أو الفصل عدد هذه المسائل أو الطالب، كما سبق أن عرفت ذلك في أثناء الكلام عن منهجه. 2 - شرح المتن: بيّنا في منهج الشوشاوي لشرح المتن، أنه يورد القطعة من المتن سواء كانت حدًا أو مسألة أو غيرهما، ثم يقوم بتقسيمها إلى جمل، ويتتبع هذه الجمل بالشرح والبيان؛ ولذا فإنه لا يترك من المتن شيئًا لا يتعرض لشرحه. أما القرافي، فإن شرحه أقرب للتعليقات والفوائد منه إلى الشرح، حيث إنه يورد القطعة من المتن تطول أو تقصر، ثم يتبعها بشرح ما يراه مشكلاً أو محتاجًا إلى شرح، وقد يتبعها بالأدلة (¬1)، أو بالأمثلة (¬2). فنجده أحيانًا يعلق على الصفحة من المتن ببضعة أسطر (¬3)، وأحيانًا يعلق على القطعة الواحدة بعدة صفحات (¬4). 3 - عرض المسائل: سبق البيان أن القرافي لا يتعرض إلا لشرح ما أشكل، أو ما يحتاج إلى إضافة، وكذلك كان يفعل في المسائل. فنجده أحيانًا لا يعلق على المسألة بشيء، وأحيانًا يستوفي كل ما يتعلق بها، وأحيانًا يقتصر على بعض أجزاء المسألة، كتفصيل الأقوال، أو عرض ¬
4 - المادة العلمية
الأدلة، أو بيان محل النزاع، ونحو ذلك. أما الشوشاوي فقد عرفنا أن من منهجه استيفاء كل ما يتعلق بالمسائل - غالبًا - من تحرير محل النزاع، إلى ثمرة الخلاف، والفروع الفقهية. 4 - المادة العلمية: عرفنا في أثناء الحديث عن قيمة كتاب الشوشاوي أنه عبارة عن خلاصة للشروح التي سبقته، وعلى رأسها شرح القرافي، فقد أفاد كثيرًا من كتاب القرافي، ونقل عنه في مواضع عديدة بعزو وبدون عزو. أما زيادة الشوشاوي على شرح القرافي في مادته العلمية فينبئك عنها حجم الكتابين؛ حيث يبلغ حجم كتاب الشوشاوي أكثر من ثلاث مرات من حجم كتاب القرافي، وقد تمثلت المادة العلمية التي زادها الشوشاوى على ما في شرح القرافي في مباحث مستقلة أو أمور فرعية، ولكي تتضح الصورة سنعرض أهم زياداته في القسمين المذكورين: أ - المباحث المستقلة: انفرد الشوشاوي بمباحث مستقلة لم يبحثها القرافي، وقد تكون هذه المباحث مسائل برأسها؛ كمسألة جواز الاستثناء المنقطع، ومسألة مفهوم الغاية، ومسألة اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمان ومكان فعله، ومسألة حد النسخ لغة. وقد تكون هذه المباحث مسائل أشار إليها القرافي، لكن الشوشاوي أكملها، ومنها: مقدمات الاستثناء، وأقسام الاستثناء، وأقسام البيان، وشروط الرواية بالمعنى، والأشياء التي انفرد بها مذهب المالكية.
ب - الأمور الفرعية
ب - الأمور الفرعية: كان للشوشاوي زيادة في أمور فرعية كثيرة، فقد جاء بحجج وأدلة كثيرة لم يأت بها القرافي، كما زاد إجابات عن بعض الأدلة التي جاء بها القرافي. وبالإضافة إلى ذلك زخر كتابه بنقول عديدة، أصولية وفقهية، لم يوردها القرافي في شرحه. هذا كله بالإضافة إلى الاستطرادات العديدة، في مباحث وفنون شتى أشرنا إلى أكثرها في أثناء الكلام على منهج الشوشاوي (¬1). 5 - الأسلوب: يفارق الشوشاوي القرافي في أسلوبه مفارقة واضحة؛ فالقرافي يميل في شرحه إلى الإيجاز والعمق، بينما يميل الشوشاوي إلى الوضوح والبسط، كما أن القرافي لا يعتني بترتيب المعلومات المعروضة، فشرحه - كما ذكرنا قبل - أشبه بتعليقات أو فوائد، أما الشوشاوي فيعتني عناية كبيرة بترتيب المعلومات المعروضة. 6 - الأقوال والمذاهب: يقتصر القرافي - غالبًا - على ما أورده في المتن من أقوال ومذاهب في المسألة، أما الشوشاوي فإنه يعيد المذاهب - غالبًا - بأسلوب آخر، وينسب منها ما لم ينسب، وقد يأتي بأقوال أخرى لم يوردها القرافي في متنه، ولم ¬
7 - الأدلة
يتعرض لها في شرحه. 7 - الأدلة: يفترق الكتابان في الاستدلال على المسائل في ناحيتين: أ - أن الأدلة في كتاب الشوشاوي أكثر مما في كتاب القرافي. ب - في طريقة عرض الأدلة: يتميز الشوشاوي بحسن عرضها وترتيبها مع العناية بالإجابة عنها، بينما يركز القرافي في عرضه للأدلة على تقرير الدليل وإيضاحه، ولا يجيب - غالبًا - عن الأدلة المرجوحة، ولا يعتني بتقسيم الأدلة وترتيبها، بل قد يجمع عددًا من الأدلة في سياق واحد، تحت عنوان: حجة الجواز أو حجة النع، ونحو ذلك. ثانيًا: ما يتميز به شرح القرافي عن شرح الشوشاوي: عرفنا فيما سبق أن الشوشاوي اعتمد في شرحه كثيرًا على شرح القرافي؛ ولذا فإن الباحث والقارئ لا يكاد يجد شيئًا ينفرد به شرح القرافي عن شرح الشوشاوي، سوى ميزتين معنويتين. أولاهما: الفرق بين المؤلفين، من حيث المقدرة العلمية، والمستوى الفكري؛ حيث يتفوق القرافي على الشوشاوي كثيرًا، وهذا بلا شك يعطي الكتاب مزيدًا من الثقة لدى القراء، ويجعله عميق الأفكار، غزير الفوائد. والثانية: أن مؤلفه - أعني القرافي - هو مؤلف المتن، فلذلك سيكون أعلم بمقاصده في متنه، وأعرف بخفايا متنه من غيره. وهاتان الميزتان هما اللتان جعلتا كتاب القرافي يسلم من الأوهام العلمية، والخطأ في فهم مراد الماتن، وعدم الاستطراد في تفسير كلام الماتن
ثالثا: ما يتميز به كتاب الشوشاوي
واحتمالاته، وهي الأشياء التي وجد شيء منها في كتاب الشوشاوي. ثالثًا: ما يتميز به كتاب الشوشاوي: من أهم ما يتميز به شرح الشوشاوي كونه خلاصة أو بالأحرى موسوعة لشروح التنقيح؛ حيث اعتمد في شرحه على عدد من شروح التنقيح عرفنا منها: شرح القرافي، وشرح المسطاسي، وهناك شروح أخرى لم نعرفها، لعدم تصريحه بأسماء أصحابها، وعدم وجودها لنقارن ما نقله منها بما فيها. كما تميز الشوشاوي في شرحه بحرصه على التمهيد للأبواب والفصول والمسائل واعتنائه اعتناءً كبيرًا بالأمثلة والتطبيقات الفقهية، إضافة إلى هذا فهو يهتم بتحرير محل النزاع، وبيان سبب الخلاف، وثمرته، والعناية بالتعريفات اللغوية، وشرح الغريب، بل التوسع والاستطراد في ذلك أحيانًا. ***
المبحث السابع: بعض استدراكات المؤلف على القرافي
المبحث السابع: بعض استدراكات المؤلف على القرافي الشوشاوي حينما شرح تنقيح الفصول للقرافي لم يكن مجرد ناقل وشارح، بل ظهرت شخصيته العلمية من خلال استدراكاته على القرافي، وفيما يلي بعض الأمثلة لهذه الاستدراكات: المثال الأول: في الفصل السادس من الباب الأول: عرّف القرافي العام بأنه: هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في محاله نحو: اقتلوا المشركين. وذكر الشوشاوي اعتراضين على هذا التعريف فقال: واعترض هذا الحد بأن قيل: هذا الحد لا يتناول من المحدود شيئًا؛ لأن تعليق الحكم على معنى كلي بقيد تتبعه في محاله هو حقيقة العلة، لا حقيقة العام؛ لأن المعنى الكلي إذا علق عليه حكم وجرى معه في جميع موارده نفيًا وإثباتًا فهو علة مطردة منعكسة، ولا معنى لتتبع المعنى الكلي بالحكم في محاله إلا اطراده وانعكاسه فهو حد لعموم المعاني، وإنما وضع الحد المذكور لعموم الألفاظ، فالحد إذًا لا يتناول المحدود. الثاني: أن كلامه هذا مناقض لكلامه في باب العمومات؛ لأن ظاهر
المثال الثاني: في الفصل السابع من الباب الأول
كلامه ها هنا: أن مدلول العموم كلي لقوله: هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي، وظاهر كلامه في باب العمومات: أن مدلول العموم كلية؛ لأنه قال في باب العمومات في الفصل الثاني في مدلوله: وهو كل واحد واحد لا الكل من حيث هو كل فهو كلية لا كل وإلا لتعذر الاستدلال به حالة النفي والنهي. انتهى نصه (¬1). فالمراد بالمدلول والموضوع واحد وهو المسمى؛ لأن هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة على معنى واحد، فما ذكره المؤلف في باب العموم هو الصحيح؛ لأن مدلول العام هو الكلية لا الكل ولا الكلي (¬2). المثال الثاني: في الفصل السابع من الباب الأول: مثّل القرافي في الشرح للنقل الذي هو بدون علاقة بلفظ الذات والجوهر عند المتكلمين (¬3). وذكر الشوشاوي اعتراضًا على هذا التمثيل وذلك أن القرافي كلامه في المتن وفي الشرح متناقض. يقول الشوشاوي: واعترض على المؤلف تمثيله في الشرح النقل الذي يكون بغير علاقة بالجوهر عند المتكلمين؛ لأنه قال في الشرح: لا علاقة بين النفيس والمتحيز الذي لا يقبل القسمة (¬4). ¬
المثال الثالث: في الفصل التاسع من الباب الأول
وهذا مخالف لتمثيله في أقسام المجاز؛ لأنه قال: وخاص كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس (¬1). فبيّن في أقسام المجاز أن الجوهر عند المتكلمين مجاز، وذلك مخالف لما ذكره في الشرح في التمثيل للنقل بالجوهر فكلامه في الموضعين متناقض، فظاهر كلامه أولاً أن الجوهر عند المتكلمين مجاز، وظاهر كلامه في الشرح في هذا الموضع أن الجوهر عند المتكلمين نقل لا مجاز، فانظره (¬2). المثال الثالث: في الفصل التاسع من الباب الأول: نسب القرافي للقاضيين: القاضي عبد الوهاب، والقاضي أبي الوليد الباجي أنهما ذكرا في لحن الخطاب ثلاثة أقوال: قيل: هو دلالة الاقتضاء، وقيل: هو مفهوم الموافقة، وقيل: هو مفهوم المخالفة. ولكن الشوشاوي استدرك على القرافي هذه النسبة وقال: وليس الأمر كذلك؛ لأن القاضيين المذكورين لم يذكرا الخلاف في لحن الخطاب بل نصا على أن لحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء خاصة، ولم يذكرا أنه يقال لمفهوم الموافقة ولا لمفهوم المخالفة، نعم ذكر القاضي عبد الوهاب في الخلاف في تسمية دلالة الاقتضاء: هل تسمى لحن الخطاب أو تسمى فحوى الخطاب؟ قولين. ذكر ذلك في كتاب الإفادة ونصه: لحن الخطاب: قيل: هو دلالة الاقتضاء، وقيل: بل الذي يطلق على دلالة الاقتضاء فحوى الخطاب؛ لأن اللغة تقتضي الاصطلاحين. انتهى نصه. ¬
المثال الرابع: في الفصل الرابع عشر من الباب الأول
وما نسبه المؤلف إلى القاضي عبد الوهاب وهم؛ لأن قوله: وقال القاضي عبد الوهاب: واللغة تقتضي الاصطلاحين، يقتضي أن القاضي ذكر ذلك في لحن الخطاب، وليس الأمر كذلك، إنما ذكر القاضي عبد الوهاب ذلك في تسمية دلالة الاقتضاء: هل تسمى لحن الخطاب أو تسمى فحوى الخطاب؟ وما نسبه المؤلف أيضًا إلى القاضي أبي الوليد الباجي بقوله: وقال الباجي: هو دليل الخطاب، وهم أيضًا؛ لأن الباجي لم يذكر في كتبه الثلاثة؛ الفصول والإشارة والمنهاج، في لحن الخطاب إلا دلالة الاقتضاء خاصة (¬1). المثال الرابع: في الفصل الرابع عشر من الباب الأول: يقول القرافي في التنقيح: تنبيه: لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب، بل تقدم سببه عند الإمام والمازري وغيرهما من المحققين خلافًا للقاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء، فإن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمن الحيض (¬2). ويقول في الشرح: قولي: خلافًا للقاضي عبد الوهاب، معناه أنه قال: إن الحيض يمنع من صحة الصوم دون وجوبه، فاشترط في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب مع السبب ولم يجعل ذلك شرطًا عامًا (¬3). وقد استدرك الشوشاوي على القرافي واعترض عليه تخصيصه هذا الخلاف بالحائض؛ حيث قال: "وظاهر هذا أن هذا الخلاف خاص بالحائض وهو ظاهر كلام المؤلف في الشرح أيضًا وليس كذلك، بل وقع الاختلاف بين ¬
المثال الخامس: في الفصل الثاني من الباب السادس
الأصوليين في الحائض وغيرها من المسافر والمريض، فذكر المازري فيهم أربعة أقوال: قيل: يخاطب الجميع؛ لأن القضاء واجب عليهم، والقضاء حقيقة في ترك الواجب. وقيل: بعدم خطابهم، قاله الكرخي؛ لأن جواز التأخير أو وجوب التأخير ينافي الوجوب. وقيل: بخطاب المسافر والمريض؛ لأنهما لو صاما لبرئت ذمتهما بخلاف الحائض فلا يجب عليها؛ إذ لا يجتمع الوجوب والتحريم. وقيل: بخطاب المسافر دون المريض والحائض؛ لأن المريض في حكم العاجز، والعاجز لا يكلف، وأما المسافر فيجوز له التأخير ولم يسقط عنه التكليف" (¬1). المثال الخامس: في الفصل الثاني من الباب السادس: يقول القرافي في اندراج المخاطب: "وكذلك يندرج المخاطب في العموم الذي يتناوله؛ لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك" (¬2). وقد استدرك الشوشاوي على القرافي في كلامه هذا، واعترض عليه بأنه مناقض لكلام له آخر. يقول الشوشاوي: انظر قوله ها هنا: "وكذلك يندرج المخاطب عندنا" مع ¬
قوله في الفصل الرابع (¬1): "وكونه مخاطبًا لا يخصص العام إن كان خبرًا وإن كان أمرًا جعل جزاء" (¬2). هما مسألة واحدة كررها المؤلف في كلامه مناقضة؛ لأن ظاهر كلامه في هذا الفصل يقتضي أن لا فرق بين الخبر والأمر، وظاهر كلامه في الفصل الرابع الفرق بين الخبر والأمر فيحتمل أن يكون تكلم ها هنا على القول بعدم التفصيل بين الخبر والأمر، وتكلم في الفصل الرابع على القول في الفرق بين الخبر والأمر (¬3). هذه بعض الأمثلة لما استدركه المؤلف على القرافي، والحاصل أن هذه الاستدراكات لا تخلو إما أن تكون زيادة أقوال في مسألة أو زيادة أدلة، وإما بالاعتراض عليه فيما يورده من أدلة وآراء، أو في بيان تناقض المؤلف في مواضع أخرى مع الموضع الذي يجري بحثه. ... ¬
المبحث الثامن: وصف نسخ الكتاب، وبيان منهجنا في التحقيق
المبحث الثامن: وصف نسخ الكتاب، وبيان منهجنا في التحقيق أولاً: وصف نسخ الكتاب: حينما قمنا بتسجيل هذا الكتاب لنيل درجة الماجستير في أصول الفقه، كان لا يوجد بين يدينا إلا نسخة واحدة وهي نسخة الأصل، ثم قمنا برحلة علمية إلى المغرب وبعد بحث متقصٍ في مكتبات المغرب العامة والخاصة عثرنا - ولله الحمد - على نسختين للكتاب، وبهذا يكون للكتاب ثلاث نسخ ووصفها كما يلي: النسخة الأولى: نسخة خطية موجودة في قسم المخطوطات بجامعة الملك عبد العزيز بجدة برقم (102)، واصطلحنا على تسميتها بالأصل؛ لأنها أقدم النسخ وأتمها وأصحها، وهي قليلة السقط سليمة العبارة نادرة الأخطاء، وقد نسخت في حياة المؤلف ومن مبيضته المكتوبة بخط يده. وقد سقط من أولها ورقتان تقريبًا فيهما شرح قول القرافي في خطبة التنقيح: الحمد لله ذي الجلال الذي لا تدركه الغايات، والجواد الذي لا تلحقه النهايات، الذي أنزل الرسالة المشتملة على الخيرات الدنيويات، والأخرويات. ويوجد على هذه النسخة بعض التعليقات القليلة من الناسخ، كما يوجد
النسخة الثانية
في آخرها أثر رطوبة اختفت بسببها بعض الكلمات. تاريخ نسخها: نسخت هذه المخطوطة في حياة المؤلف، وذلك سنة 875 هـ عن مبيضة المؤلف المكتوبة بخط يده. ناسخها: علي بن داود الجزولي. نوع الخط: مغربي مقروء. عدد صفحاتها: 372 صفحة حسب ترقيم النسخة. ولكن عند مراجعتنا للأرقام وجدنا خللاً في الترقيم، حيث حصل تقديم وتأخير في الصفحات الأولى، وحصل تكرار لترقيم عشرين صفحة في وسط الكتاب، فاضطررنا لإعادة الترقيم، وذلك إلى ص 200 تقريبًا، وما بعد ذلك فهو بنفس ترقيم المخطوطة. عدد الأسطر: في كل صفحة يتراوح عدد الأسطر ما بين 35 سطرًا إلى 37 سطرًا. عدد الكلمات: في كل سطر عشرون كلمة تقريبًا. الحجم والمقاس: حجم الكتاب من القطع الكبير؛ حيث يبلغ مقاس الصفحة (26 × 18 سم). النسخة الثانية: نسخة أبي فارس عبد العزيز الأدوزي الذي كان يدرس الكتاب كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، وقد عثرنا على هذه النسخة بعد بحث طويل وجولة في بلد المؤلف سوس، وسؤال أهل العلم فيها، وقد أرشدنا إلى هذه النسخة الشيخ الحاج محمد هرماس، والشيخ السيد الطيب الصرغيني،
وصف المجلد الأول
وهما من علماء تارودانت، ووجدناها عند الشيخ طاهرعطفاي وهو من علماء تارودانت وقد سمح لنا - جزاه الله خيرًا - بأخذ صورة للجزء الأول، وهذه النسخة قد استعارها من حفيد أبي فارس الأدوزي، فمالك النسخة هو أحمد بن محمد بن عبد العزيز الأدوزي عميد مدرسة سيدي بوعبدل العتيقة، وتقع هذه المدرسة بآيات إبرايم إحدى قرى عمالة تزنيت جنوب بلاد السوس. وهذا هو المجلد الأول من النسخة. أما المجلد الثاني فهو موجود لدى الشيخ أحمد بن محمد بن عبد العزيز الأدوزي سالف الذكر، وقد سمح لنا بأخذ صورة للمجلد الثاني - نسأل الله أن يجزل مثوبته - وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف "ز", وتقع هذه النسخة في مجلدين: وصف المجلد الأول: عدد الأوراق: هذا المجلد لم يرقم، وبعد ترقيمه بلغت أوراقه (256) لوحة، وهو يبتدئ من أول الكتاب إلى أول الفصل الثالث من باب المجمل والمبين. التعليقات على النسخة: يوجد في هامش هذه النسخة تعليقات يبدو أنها من تعليق أبي فارس الأدوزي، حيث أكد لنا ذلك حفيده. تاريخ نسخها: لا يوجد عليها تاريخ نسخ، ولكن يبدو لنا أن تاريخها في أول القرن الرابع عشر الهجري؛ وذلك لأن الأدوزي توفي سنة 1333 هـ. ناسخها: أول الكتاب نسخه عبد العزيز الأدوزي، وقد أكد لنا ذلك حفيده، وبقية الكتاب يبدو أنه من نسخ تلاميذه؛ حيث يوجد عليه تعليقات بخط الأدوزي. نوع الخط: مغربي جيد مختلف الخطوط.
وصف المجلد الثاني
عدد الأسطر والكلمات: في كل صفحة يتراوح عدد الأسطر ما بين (23 - 30) في كل سطر (12) كلمة. الحجم والمقاس: حجم الكتاب من القطع المتوسط؛ حيث يبلغ مقاس الصفحة (18 × 13 سم)، وأحيانًا (15 × 11 سم). وصف المجلد الثاني: يبدأ هذا المجلد من منتصف الفصل الثاني من باب الشروط إلى آخر الكتاب، وفيه خرم طويل يبدأ من أثناء الفصل الرابع من باب المجمل والمبين وينتهي عند آخر الفصل الثالث من باب النسخ، وهذا المجلد كثير الأخطاء والتصحيف، ولا يوجد عليه تاريخ نسخ. الناسخ: محمد بلقاسم بن أحمد السملالي. عدد الأوراق: 194 لوحة. عدد الأسطر والكلمات: في كل صفحة يتراوح عدد الأسطر ما بين (20 - 25) في كل سطر عشر كلمات. الحجم والمقاس: حجم الكتاب من القطع المتوسط يبلغ مقاس الصفحة (18 × 13 سم). النسخة الثالثة: مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط، وقد رمزنا لها بحرف "ط" وتوجد هذه النسخة في قسم المخطوطات بالخزانة الحسنية برقم (8435). وهذه النسخة غير تامة؛ حيث يوجد فيها خرم في وسط الكتاب يبدأ من منتصف الفصل الأول من باب الاستثناء وهو الباب الثامن وينتهي عند آخر الفصل التاسع من باب الخبر.
الوصف العام للنسخة
الوصف العام للنسخة: هذه النسخة مجلدة، ولكن مقص المجلد قطع السطر الأول من بعض الصفحات، كما يوجد في هذه النسخة أثر للأرضة أذهب بعض الكلمات وخاصة في أول المخطوطة وآخرها، وهي كثيرة الأخطاء والتصحيفات. تاريخ نسخها: سنة (1144 هـ). ناسخها: أحمد بن إبراهيم الكنسوسي. نوع الخط: مغربي رديء. عدد صفحاتها: 286 صفحة. عدد الأسطر والكلمات: في كل صفحة يتراوح عدد الأسطر ما بين (42 - 47) في كل سطر (17) كلمة. الحجم والمقاس: حجم هذا الكتاب من القطع الكبير؛ حيث يبلغ مقاس الصفحة (27 × 17 سم). وصف نسخ تنقيح الفصول للقرافي: حرصًا منا على ضبط متن التنقيح فقد قمنا باختيار ثلاث نسخ له لمقابلة المتن عليها، وهذه النسخ هي ما يلي: النسخة الأولى: نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الموجودة في قسم المخطوطات بالجامعة برقم (6079 ف) وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف (أ) وهي نسخة تامة. تاريخ نسخها: كتبت هذه النسخة في حياة القرافي سنة (666 هـ). ناسخها: أبو بكر بن صارم.
عدد أوراقها: 173 لوحة. عدد الأسطر: في كل صفحة (14) سطرًا في كل سطر (8) كلمات. الحجم والمقاس: حجم الكتاب صغير؛ حيث يبلغ مقاسه (16 × 9 سم). نوع الخط: مشرقي متوسط. النسخة الثانية: متن التنقيح المطبوع مع كتاب الذخيرة للقرافي وهو المقدمة الثانية للكتاب ويبدأ من آخر صفحة (50) إلى آخر صفحة (153) ورمزنا لهذه النسخة بحرف "خ"، وقد اعتمدنا على طبعة وزارة الأوقاف بالكويت، الصورة عن طبعة كلية الشريعة بالأزهر سنة (1381 هـ). وقد أشرف على هذه الطبعة كل من عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد السميع أحمد إمام. وقد حققت على نسخة واحدة يوجد المجلد الأول منها الذي يضم المقدمة في دار الكتب المصرية برقم (34 فقه مالكي)، وهي نسخة تامة قليلة الأخطاء. تاريخ نسخها: 858 هـ. ناسخها: محمد بن أبي بكر السخاوي. النسخة الثالثة: متن التنقيح المطبوع ضمن شرح القرافي، وقد رمزنا لهذا المتن برمز (ش). وقد اعتمدنا في هذه النسخة على الطبعة المطبوعة عام 1393 هـ بعناية طه عبد الرؤوف سعد. وفيما يلي يجد القارئ نماذج للورقة الأولى والأخيرة من كل نسخة خطية لكتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب:
نماذج من النسخ الخطية
نموذج للصفحة الأولى من نسخة الأصل
نموذج للصفحة الأخيرة من نسخة الأصل
نموذج للصفحة الأولى من المجلد الأول من نسخة ز
نموذج للوحة الأخيرة من المجلد الأول من نسخة ز
نموذج للصفحة الأولى من المجلد الثاني من نسخة ز
نموذج للوحة الأخيرة من المجلد الثاني من نسخة ز
نموذج للصفحة الأولى من نسخة ط
نموذج للصفحة الأخيرة من نسخة ط
ثانيا: بيان منهجنا في تحقيق هذا الكتاب
ثانيا: بيان منهجنا في تحقيق هذا الكتاب يتلخص عملنا في هذا الكتاب بالأمور الآتية: أولاً: تحقيق النص: حرصنا على أن يخرج النص قريبًا من الصورة التي وضعه المؤلف عليها ولذلك قمنا بما يلي: 1 - نسخنا المخطوط بخط اليد من نسخة الأصل، واستعملنا في رسم الكتاب الرسم المشرقي، واتبعنا في ذلك القواعد الإملائية المتعارف عليها الآن، ولم نشر إلى الأخطاء الإملائية التي كثيرًا ما يقع فيها النساخ. وجعلنا متن التنقيح بين قوسين لكي يتميز عن الشرح. 2 - قابلنا النص على نسخة الأصل ونسختي ز وط، وسبق وصف هذه النسخ. 3 - نظرًا لكون الكتاب شارحًا لتنقيح القرافي، وزيادة في ضبط نص التنقيح قمنا بمقابلة من التنقيح على ثلاث نسخ وهي: (أ) و (خ) و (ش)، وسبق وصفها، وأثبتنا الفروق بين هذه النسخ عند سياق الشوشاوي للقطعة من المتن دون تكرار هذه الفروق عند إعادة الشارح للمتن. 4 - اتبعنا طريقة النص المختار مع ترجيح الأصل، وعلى هذا كان منهجنا في الفروق بين النسخ كالآتي:
أ - إذا ورد في إحدى النسختين (ز)، و (ط) زيادة لم ترد في الأصل فإننا نثبتها ونجعلها بين معقوفتين، ونبين ذلك في الهامش؛ حيثما نقول: المثبت بين المعقوفتين من (ز) و (ط) ولم يرد في الأصل، أو من (ز) ولم يرد في الأصل، أو من (ط) ولم يرد في الأصل. ب - إذا اختلفت النسخ وكان الصواب في إحداها أثبتناه وأشرنا إلى ذلك في الهامش فنقول مثلاً: المثبت من (ز)، وفي الأصل كذا أو في (ط) وفي الأصل كذا، وأما إذا كانت الألفاظ الواردة في النسخ صحيحة أو بعضها صحيح أبقينا الأصل على حالته وأشرنا إلى الفروق في الهامش، وإذا اتفقت النسخ الثلاث على خطأ أثبتنا الصواب بين معقوفتين وأشرنا إلى ذلك في الهامش ونضع الرقم في آخر الكلمة أو الجملة التي يقع فيها الاختلاف. جـ - إذا سقطت عبارة من نسختي (ز) أو (ط)، فإن كانت قصيرة (كلمة أو كلمتين) جعلناها في الهامش بين قوسين، وقلنا مثلاً: ساقطة من (ز) أو (ط)، ولم نجعل القوسين في الصلب خشية كثرة الأقواس، ويلاحظ أن نسخة (ط) قد ذهب من بعض صفحاتها السطر الأول بسبب قطع مقص المجلد له، ولم ننبه إلى ذلك في أثناء التحقيق اكتفاءً بهذا التنبيه، وإذا أهملنا ذكر (ط) في الفروق فهو بسبب هذا السطر الذي أشرنا إليه، أما إذا كان السقط سطرًا فأكثر جعلناه بين معقوفتين وأشرنا إلى ذلك في الهامش وقلنا: ما بين المعقوفتين ساقط من (ز) و (ط)، فإن كان السقط طويلاً أو متداخلاً أشرنا إلى بدايته ونهايته. د - لا نثبت التكرار في الصلب ولا نشير إليه في الهامش. هـ - إذا وقع اختلاف بين النسخ في التقديم والتأخير أثبتنا ما في الأصل وأشرنا إلى ما يخالفه في الهامش بدون ذكره، بل نقول: ما بين المعقوفتين أو
ثانيا: التوثيقات
هذه الأمثلة وقع فيها تقديم أو تأخير في نسخة (ز) أو (ط)، إلا إذا كان الذي في الأصل يخل بالترتيب الموضوعي فإننا نختار ترتيب إحدى النسخ ونشير إلى ذلك في الهامش. 5 - لربط التحقيق بالمخطوطات بينا نهاية صفحاتها. 6 - التعليقات التي في هوامش النسخ أثبتنا منها في الهامش ما هو مفيد فقط. ثانيًا: التوثيقات: 1 - قمنا بتوثيق النقول التي صرح بها المؤلف من الكتب التي نقل عنها سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة، فإذا لم نجد الكتاب الذي نقل عنه فإننا نوثق النقل من بعض المراجع التي يحتمل أن المؤلف أفاد منها، فإذا لم نجد النقل مطلقًا فإننا لا نشير إلى ذلك غالبًا، إلا إذا وجدنا الكتاب ولم نهتد إلى موضع النقل. 2 - حرصنا على بيان وجوه الاختلاف بين هذا الكتاب وكتاب شرح التنقيح للقرافي، وذلك بتوثيق النقول التي صرح بها المؤلف، وكذلك أحلنا كثيرًا من المسائل والنقول والأقوال التي أفادها المؤلف، ولكنه لم يصرح بالنقل عن القرافي، ونكتفي بقول: انظر شرح التنقيح للقرافي، أما ما لا يوجد في شرح القرافي فلا ننبه إلى ذلك، وكذلك ربطنا الكتاب بالشروح الأخرى الموجودة، ومن أهمها شرح التنقيح للمسطاسي؛ حيث وثقنا النقول التي صرح بها المؤلف، والنقول التي لم يصرح بها وأحلنا عليه كثيرًا؛ لأنه من مصادر المؤلف الأساسية.
ثالثا: التخريجات
3 - بينا مواضع بعض الإحالات التي ذكرها المؤلف في كتابه إما من الكتاب نفسه أو من شرح القرافي. 4 - قمنا بالتوثيق الموضوعي لأغلب المسائل وذلك بذكر مواطن بحث المسألة في كتب الأصول، والإشارة أحيانًا لبعض آراء الأصوليين فيها. ثالثًا: التخريجات: 1 - رقمنا الآيات وذلك بذكر السورة ورقم الآية، ولم نشر إلى اختلاف النسخ عند الخطأ في الآية، وإذا كانت الآية في مواضع متعددة اكتفينا بذكر موضع واحد منها غالبًا. 2 - خرجنا الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب، وإذا وجدنا الحديث في الصحيحين أو في كتب السنن اقتصرنا على تخريج الحديث منها، وربما نذكر كلام أهل العلم في الحديث عند الحاجة إلى ذلك. 3 - عزونا الأشعار لقائليها، ووثقنا ذلك من الدواوين وكتب اللغة والأدب غالبًا. 4 - وضحنا بعض المفردات الصعبة والغامضة من كتب اللغة وغيرها. رابعًا: التراجم: قمنا بترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في الكتاب عند ورود العلم لأول مرة غالبًا ولم نترجم للأنبياء والخلفاء الراشدين. خامسًا: الفهارس: جعلنا في نهاية الكتاب فهارس واكتفينا بالمهم منها، وهي منحصرة في
الفهارس الآتية: 1 - فهرس الآيات مرتبة على سور القرآن. 2 - فهرس الأحاديث والآثار مرتبة على الموضوعات. 3 - فهرس الأشعار مرتبة على القوافي. 4 - فهرس الأعلام مرتبة على حروف المعجم. 5 - فهرس الكتب مرتبة على حروف المعجم. 6 - فهرس الموضوعات. وفي ختام هذه المقدمة نشكر المشرف على هاتين الرسالتين؛ فضيلة الدكتور يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين على ما قام به من جهد، ونشكر المسؤولين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ما قدموه لنا من تسهيلات، ونشكر كل من قدم لنا مساعدة ومشورة، ونحمد الله سبحانه أن يسر لنا طبع هذا الكتاب بعد مضي وقت ليس بالقصير على تحقيقه، وها هو الآن يرى النور في طبعته الأولى. نسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب قارئه والمطالع فيه، وأن يأجر عليه مؤلفه وناسخه ومن حققه إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. المحققان د. أحمد بن محمد السراح د. عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحمد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد الأوّل مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
النص المحقق
[مقدمة المؤلف]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا. هذا كتاب فيه "رفع النقاب عن تنقيح الشهاب". مما عني بجمعه الفقيه الجليل: حسين بن علي بن طلحة، الرجراجي نسبًا الشوشاوي (¬1) لقبًا، عفا الله عنه، وغفر الله لنا وله، وعفا عنا وعنه، وعن والدينا، ووالديه، بفضله وإحسانه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا) (¬2). (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين) (¬3). نص: (الحمد لله ذي الجلال الذي لا تدركه الغايات، والجواد الذي لا تلحقه النهايات، الذي أنزل الرسالة المشتملة على الخيرات الدنيويات، والأخرويات، وأيدها بالمعجزات الباهرات، وجعلنا أهلاً لشرف ذلك الاقتضاء، وجميل تلك المناجاة، وفضلنا بها وفيها على سائر الفرق والعصابات، وصلواته الطيبات الزاكيات، على أفضل المخلوقات، محمد ¬
المبعوث بأفضل المناهج والبينات، صلى الله عليه وعلى آله، وعترته، وأصحابه، وأزواجه، ومحبيه، صلاة تُبَلِّغهُم أفضل الدرجات ونحوز بها أفضل المقامات، في الحياة وبعد الممات" (¬1). شرح: وفي هذا الصدر (¬2) عشرة مطالب: لم خطب؟ ولم لم يشرع (¬3) في مقصوده من غير خطبة؟ ولم خصت الخطبة بالحمد دون غيره من الأذكار؛ كالشكر، والمدح، والرضى، ونحوها (¬4) من الأذكار الجميلة؟ وما معنى الحمد؟ وما الفرق بينه وبين الشكر؟ وما الفرق بينه وبين المدح؟ وما معنى الألف واللام في الحمد؟ ولم عدل (¬5) عن التعبير بالتنكير إلى التعبير بالتعريف، مع أن التعبير بالتنكير أصل، والتعبير بالتعريف فرع؟ ولم عدل عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالاسم؟ ولم عدل عن التعبير بالإضافة إلى التعبير بالألف واللام (¬6)؟ ولم أضاف الحمد إلى الله دون سائر أسمائه؟ فأما ابتداؤه (¬7) بالخطبة؛ فلجريان العادة به في أول كل مهم مما للناس فيه خوض وعليه منهم إقبال. وأما اختصاصه بالحمد (¬8) دون غيره من سائر (¬9) الأذكار (¬10) كالشكر، ¬
والمدح وغيرهما؛ فللاقتداء بكتاب الله عز وجل وسائر الكتب المنزلة؛ إذ ما من كتاب من كتب الله تعالى (¬1) إلا وفي أوله الحمد لله، وللاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبه، ومواعظه، ورسائله - صلى الله عليه وسلم -. وأما معناه (¬2). فقيل (¬3): الثناء. وقيل: معناه إشاعة الجميل وإظهاره بالقول (¬4). وقيل: ذكر مجيد مطرب عند سماعه صادر عن رضي النفس وصفاء القلب. وقيل: غير ذلك. واعترض بعضهم تفسير الحمد بالثناء بأن قال: هذا الحد غير جامع ولا مانع، أما كونه غير جامع: فلخروج الحمد غير المكرر منه؛ (لأن الثناء مأخوذ من قولك: ثنيت الشيء إذا عطفت بعضه على بعض، وأما كونه غير مانع: فلدخول الثناء بالشر فيه) (¬5)؛ لأن الثناء يكون بالشر كما يكون بالخير. دليل ذلك قوله عليه السلام: "من أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار" (¬6). ¬
أجيب عن قوله: غير جامع بخروج الحمد (¬1) غير المكرر منه بأن أرباب اللغة (¬2) نصوا على أن الثناء هو الحمد (¬3) [ولم يستفصلوا بين المكرر وغيره] (¬4). قال صاحب العين (¬5): يقال (¬6): أثنيت على الرجل إذا مدحته والاسم الثناء (¬7). وقال صاحب الأفعال (¬8): أثنيت على الرجل إذا ذكرته بما فيه من ¬
خصال (¬1) (¬2). وأجيب عن قوله: غير مانع لدخول الثناء بالشر فيه: بأن أرباب اللغة (¬3) نصوا على أن الثناء مخصوص (¬4) بالخير دون الشر. قال صاحب تثقيف اللسان (¬5): الثناء بتقديم الثاء المثلثة (¬6) والمد في الخير خاصة، والنثي بتقديم النون والقصر في الخير والشر (¬7). وأما الجواب عن قوله عليه السلام: "من أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار": فقال القاضي أبو الفضل عياض (¬8) في الإكمال: إنما ذكر النبي عليه السلام ¬
الثناء في الشر [في الكلام الثاني] (¬1) لِذكره في [الكلام] (¬2) الأول على طريق المقابلة والمجانسة كقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (¬3)، {وَمَكَرُوا (¬4) وَمَكَرَ اللَّهُ} (¬5). لأن الثناء بتقديم الثاء والمد خاص بالخير (¬6). وأما الفرق بين الحمد والشكر ففيه خمسة أقوال: قيل: هما مترادفان، فكل حمد شكر وكل شكر حمد. وقيل: هما متباينان، فالحمد هو: الثناء على المحمود بما فيه من الخصال ¬
الجميلة كالعلم، والشجاعة (¬1)، والشكر هو: الثناء على المشكور بما فيه [من الإحسان. وحرر بعضهم الفرق بينهما بأن قال: الحمد هو الثناء على المحمود بما فيه من المدح، والشكر هو الثناء على المشكور بما] (¬2) أولاك من المِنح، فالحمد على هذا من صفات الذات، والشكر من صفات الفعل. وقيل: الحمد أعم من الشكر؛ لأن الحمد يقع على السراء والضراء، ويقع على مقابل النعمة، وعلى غير مقابل النعية، والشكر لا يقع إلا على السراء، ولا يقع على الضراء، لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬3). ولا يقع (¬4) إلا على مقابل النعمة، ولا يقع على غير مقابل النعمة. وقيل: الشكر أعم من الحمد، والحمد أخص من الشكر؛ لأن الحمد لا يكون إلا بشيء واحد وهو: القول، كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ} (¬5) الآية، وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬6)، [وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬7)] (¬8) وغير ذلك. ¬
وأما الشكر فيكون بثلاثة أشياء وهي (¬1): القول، والفعل، والاعتقاد. مثال كونه بالقول: قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬2)، وقوله عليه السلام: "التحدث بالنعم شكر" (¬3). ومثال كونه بالفعل قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (¬4) أي عملاً صالحًا، وقوله (¬5): {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬6) أي تمتثلون. وقوله عليه السلام: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! " (¬7). أي: ممتثلاً. ¬
ومنه قول الشيخ أبي محمد (¬1) في الرسالة: "ويشكر فضله عليه بالأعمال بفرائضه" (¬2). ومثال كون الشكر بالاعتقاد: قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3). وقد جمع الشاعر بين هذه الثلاثة - أعني: القول، والفعل، والاعتقاد (¬4) في قوله: أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا (¬5) ¬
القول الخامس: أن كل واحد من الشكر والحمد (¬1) أعم من وجه وأخص من وجه. بيان العموم في الحمد (¬2): أنه يكون في (¬3) السراء والضراء، ويكون في (¬4) مقابل النعمة وفي غير مقابل النعمة، وأما الشكر فلا يكون إلا في السراء ولا يكون إلا في مقابل النعمة. وبيان الخصوص في الحمد: أنه لا يكون إلا بالقول، وأما الشكر فيكون بالثلاثة المتقدمة: القول والفعل والاعتقاد. وبيان العموم في الشكر: أنه يكون بهذه الثلاثة المذكورة (¬5): الفعل، والقول (¬6) والاعتقاد، وأما الحمد فلا يكون إلا بالقول. وبيان الخصوص في الشكر: أنه لا يكون إلا في السراء ولا يكون إلا في مقابل (¬7) النعمة. وأما الفرق بين الحمد والمدح ففيه قولان: [قيل] (¬8): هما مترادفان ولا فرق بينهما إلا تقديم بعض الحروف ¬
وتأخيرها، نحو: الجبد والجدب. وقيل: المدح أعم من الحمد؛ لأن المدح يكون بأوصاف موجودة وبأوصاف معدومة (¬1)، وأما الحمد فلا يكون إلا بأوصاف موجودة (¬2). دليل هذا القول: قوله عليه السلام: "احثوا التراب في وجوه المداحين" (¬3) معناه: خيبوهم من العطاء؛ لأنهم إلى الكذب أقرب، ولم يُروَ عنه قط أنه حثا التراب في وجوه المداحين (¬4)؛ لأن أوصافه متحققة موجودة بخلاف غيره، فإن أوصافه متوهمة معدومة. وها هنا ثلاثة ألفاظ، الحمد، والمدح، والمده، ولا خلاف في (¬5) أن المده بالهاء مرادف للمدح بالحاء؛ لأن الهاء مبدلة من الحاء، وإنما الخلاف فيما ¬
بينهما وبين الحمد، وقد تقدم في ذلك قولان. وأما معنى الألف واللام في الحمد: فقيل: للعهد، أي الحمد المعهود المتعارف بين الناس. وقيل: لتعريف الجنس. وقيل: لاستغراق الجنس. وأما عدوله عن التنكير (¬1) إلى التعريف فقال: الحمد (¬2) ولم يقل: حمد الله، مع أن التعبير بالأصل أولى من التعبير بالفرع، وإنما (¬3) فعل ذلك لوجهين: أحدهما: الاقتداء بكتاب الله تعالى (¬4). والثاني: أن التعريف عام والتنكير خاص فللأعم مزية على الأخص. وأما عدوله عن التعريف بالإضافة إلى التعريف بالألف واللام فإنما فعل ذلك لوجهين أيضاً (¬5): أحدهما: الاقتداء بكتاب الله عز وجل. والثاني: أن التعريف بالألف واللام أقوى من التعريف بالإضافة؛ لأن التعريف بالألف واللام يقتضي (¬6) العموم والشمول ¬
والاستغراق (¬1) لجميع صور الحمد [ووجوهه إذ لا تُحصَّل مدائحه] (¬2) جل وعلا، وفي الألف واللام (¬3) إشارة إلى عدد الحامدين على اختلاف أماكنهم (¬4) وتباين (¬5) خلقهم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬6) فيؤجر الإنسان إذا سرت (¬7) إليه النية، وانبعثت إليه الهمة؛ إذ نية المؤمن أبلغ (¬8) من عمله (¬9). وأما عدوله عن الفعل إلى الاسم فقال: الحمد لله، ولم يقل: أحمد الله [أو: نحمد الله، فإنما فعل] (¬10) ذلك لثلاثة أوجه: أحدها: الاقتداء بكتاب الله عز وجل. والثاني: أن الفعل يقتضي تخصيص الحمد بالزمان، بخلاف الاسم فإنه لا يقتضي ذلك، بل هو [مطلق] (¬11) في كل زمان. والوجه الثالث: أن الفعل يقتضي تخصيص الحمد بالمتكلم (¬12) به (¬13) دون غيره، بخلاف الاسم فإنه يقتضي الحمد مطلقًا على كل حال من الحامد وغيره. ¬
وأما إضافة الحمد إلى الله دون سائر أسمائه: فقيل: لأن هذا الاسم معروف (¬1) عند الملائكة قبل خلق (¬2) آدم وذريته. وقيل: لأن هذا الاسم معروف (¬3) عند جميع الخلائق. وقيل: لأنه الاسم الذي (¬4) إذا رفع من الأرض قامت الساعة؛ لقوله عليه السلام: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله" (¬5). وقيل: لأنه الاسم الذي وقع به الإعجاز (¬6)؛ لأنه لا يقدر أحد من الجبابرة أن يتسمى به، لقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬7) أي: هل تعلم أحدًا (¬8) يتسمى باسمه أي: هل تعلم لهذا الاسم مسمى غير الله؟ وقيل: غير ذلك، وبالله التوفيق. قوله: (الحمد لله) أي: الحمد ثابت، أو مستقر (¬9)، أو كائن ¬
أو واجب لله عز وجل، واللام في (الله) يحتمل: التخصيص، والاستحقاق والملك. و (¬1) قوله: (لله) تقديره: على معنى التخصيص: الحمد مختص بالله عز وجل، وتقديره على معنى الاستحقاق: الحمد مستحق لله عز وجل، وتقديره على معنى الملك: الحمد مملوك لله عز وجل؛ إذ هو المالك لجميع الأشياء. و (¬2) قوله: (ذي الجلال) أي، صاحب الجلال، وذو يؤتى به (¬3) وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس، وهو لازم الإضافة إلى الاسم (¬4) الظاهر لفظًا ومعنى، ولا يضاف إلى مضمر وإنما يضاف إلى اسم جنس ظاهر، كقوله (¬5): رجل ذو مال، ورجلان ذوا مال، ورجال (¬6) ذووا مال. قوله: (الجلال) يقال: جل يجل جلالاً وجلالة إذا عظم قدره. وقوله: (الجلال) هذه الصفة هي من الصفات الجامعة لجميع صفات الباري جل وعلا. قال شهاب الدين في القواعد السنيّة: من صفات الله تبارك وتعالى صفات جامعة لجميع صفات (¬7) الله تعالى وهي: عزة الله، وجلاله وعلاؤه، ¬
وعظمته وكبرياؤه، ونحو ذلك، وذلك أنه يقال: جل الله بكذا، وجل الله عن كذا، فقولك: جل الله بكذا يندرج فيه جميع الصفات الثبوتية، وقولك: جل الله عن كذا يندرج فيه جميع الصفات السلبية، فيقال مثلاً: جل الله بعلمه، وقدرته، وإرادته، وغير ذلك من صفاته القديمة، ويقال أيضًا. جل الله ببدائع مصنوعاته، وغرائب مخترعاته وغير ذلك من الصفات الحادثة، و (¬1) قولك: جل الله عن الشريك، والصاحبة، والولد، والزمان، والمكان، وغير ذلك من صفات النقصان (¬2) و (¬3) قوله: (ذي الجلال) أي الله عز وجل الذي (¬4) ثبتت له صفات الجلال، ونعوت الكمال على الإطلاق والإجمال، من صفاته الثبوتية، والسلبية، القديمة، والحادثة عمومًا وشمولاً، سبحانه عز وجل. قوله: (الذي) هو اسم مبهم يؤتى به وصلة إلى اسم المعارف بالجمل؛ لأن الجمل في حكم النكرات لجريها (¬5) نعتًا على النكرات كقولك: رأيت رجلاً يضر أخاه, تقديره: ضاربًا أخاه. قوله (لا تدركه الغايات) يقال: الإدراك هو اللحوق والوصول إلى الشيء؛ لأنك تقول: أدرك فلانًا حاجته إذا لحقها ووصل إليها، ويقال: ¬
الإدراك بمعنى الإحاطة، ومنه قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬1) و (¬2) معناه: لا تحيط بحقيقته الأبصار. والغايات (¬3): جمع غاية، وغاية الشيء حده وطرفه الذي ينتهي إليه ويقف (¬4) عنده، والضمير في قوله: لا تدركه الغايات عائد على الإجلال في المعنى وهو الرابط بين الصلة والموصول. فقوله (¬5): (لا تدركه الغايات) تقديره على تفسير الإدراك باللحوق والوصول: جلاله (¬6) لا تلحقه ولا تصل إليه الغايات، وتقديره على تفسير الإدراك بالإحاطة: جلاله لا تحيط به الغايات (¬7). وقوله (¬8): (لا تدركه الغايات) أي (¬9): ليس [لجلاله تعالى حد] (¬10) فيلحق أو يحاط به، فإسناد الإدراك إلى الغايات مجاز في الإسناد، من إسناد المسبب إلى السبب (¬11)؛ لأن الغاية هي سبب الإدراك، فإذا انتفت الغاية انتفى ¬
الإدراك، ويحتمل أن يعود الضمير في قوله: لا تدركه الغايات [على الله تعالى؛ لأن النظر] (¬1) في ذات الله تبارك وتعالى غاية لا تدرك؛ إذ لا يَعْرِفُ كيف هو إلا هو. [قال في الرسالة:] (¬2) "لا يبلغ كنه صفته الواصفون" (¬3). فالمراد بالصفة هنا: الذات [أي: لا يبلغ حقيقة ذاته] (¬4) الواصفون. قوله: (والجواد الذي لا تلحقه النهايات) [يثبت في بعض النسخ بالألف بعد الواو] (¬5) المفتوحة الخفيفة على أنه اسم من أسماء الله (¬6) [ومعناه: الكثير العطاء] (¬7)، ذكره ابن العربي (¬8) في أحكام القرآن في ¬
سورة (¬1) الأعراف (¬2). وذكره أيضًا في سراج المريدين، وقال: ورد في الأحاديث الحسان وصف الله تعالى بأنه جواد لكثرة عطائه، وهو من صفات الفعل، وفي بعض الأحاديث: "إن الله جواد (¬3) يحب الجود" (¬4) (¬5). ¬
وذكره الغزالي (¬1) في المقصد (¬2) الأسنى (¬3)، وفي [الفصل الثالث من] (¬4) معراج (¬5) السالكين (¬6). وذكره الزجاج (¬7) في تفسير (¬8) سورة الحشر (¬9). ¬
وذكره إمام الحرمين (¬1) في الإرشاد (¬2). فالجواد بفتح الجيم وتخفيف (¬3) الواو هو: الثابت في اللغة والحديث، وأما بتشديد الواو فيصح [والله أعلم] (¬4) على قول [القاضي أبي بكر (¬5)] (¬6) بأن ¬
أسماء الله تعالى اشتقاقية، فيسمى [الله تعالى] (¬1) به مبالغة [في وصفه بالجود] (¬2). ويثبت في بعض النسخ بضم الجيم من غير ألف بعد الواو على أنه مصدر. والجود في اللغة معناه: السيلان، يقال: جاد المطر يجود جودًا (¬3). قال صاحب العين: يقال: أجاد (¬4) الرجل وجود، وجاد جودًا، فهو جواد (¬5). وقال أبو العباس ثعلب (¬6) في باب المصادر: رجل جواد بيِّن ¬
الجود (¬1). وقال ابن هشام (¬2): الجود: الكرم (¬3). ونسخة المصدر أولى من نسخة الاسم، ليتوافق (¬4) التعبير في الجملتين بالمصدر، وأيضًا التعبير بالمصدر أولى من التعبير بالاسم؛ لأن المصدر جنس. و (¬5) قوله: (والجواد الذي لا تلحقه النهايات) (¬6) هذه الجملة (¬7) مكررة للتي قبلها للتأكيد؛ لأن الإدراك هو: اللحوق، والغايات هو: النهايات. قوله: (لا تلحقه) الضمير المنصوب عائد على "الذي" وهو: الرابط بين الصلة والموصول، و"الذي" نعت للجود أو للجواد على النسختين ¬
المذكورتين. قال صاحب الأفعال: يقال: لحقت الشيء لحوقًا ولِحَاقًا وألحقته (¬1) إذا أدركته (¬2). قوله (¬3): (الذي (¬4) أنزل الرسالة) أي: الذي (¬5) أنزل القرآن العظيم، وهو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه. وورد (¬6) في القرآن أنزل ونزّل (¬7) بالهمزة والتضعيف (¬8)، قال الله عز وجل (¬9): {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬10)، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬11)، وقال أيضًا (¬12): {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (¬13)، وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬14). ¬
واختلف العلماء في أنزل ونزل (¬1). قيل: بالترادف. وقيل: معنى أنزل: ما كان دفعة واحدة، ومعنى نزل: ما كان منجمًا مقسطًا؛ وذلك أن الله تعالى أنزله (¬2) في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزله بعد ذلك [على النبي عليه السلام] (¬3) منجمًا مقسطًا على قدر (¬4) الحاجة (¬5) وقوله (¬6): (أنزل (¬7) الرسالة) المراد بالإنزال الإدراك والإفهام، وليس المراد به الانتقال من علو إلى سفل؛ لأن نقل ذات الكلام محال لا (¬8) في الكلام القديم ولا في الكلام الحادث؛ لأن الكلام القديم صفة الله تبارك وتعالى، وصفاته (¬9) لا تفارق ذاته، ولا يتصور النقل في الكلام الحادث، أيضًا: لأنه عرض من الأعراض، والأعراض لا يصح عليها الانتقال؛ لأن ¬
الانتقال من خواص الأجسام. قال أبو المعالي في الإرشاد: المعنى بالإنزال أن جبريل عليه السلام أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل (¬1) إلى الأرض وأفهم الرسل ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام (¬2)، فإذا قال القائل: نزلت رسالة الملك من القصر لم يرد بذلك انتقال أصواته وانتقال كلامه القائم (¬3) بنفسه. انتهى (¬4). ¬
قوله (¬1): (المشتملة) (¬2) أي: المحتوية على الخيرات، أي: على المصالح والمنافع العاجلة والآجلة، فمثال مصالح الدنيا: المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمنكوحات، وسائر المتمولات، ومثال مصالح الآخرة: كالصلاة، والزكاة، والصدقات، والدعوات، وسائر القربات. قوله: (الخيرات) مفرده: خيرة، وأصله: خيورة (¬3) بتقديم الياء (¬4) على الواو نحو ميت وهين. قاله مكي (¬5) في قوله تعالى (¬6): {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} (¬7) [وأصله] (¬8): ¬
خيّرات على وزن فيعلات (¬1) فخفف (¬2) (¬3). وقوله (¬4): (الدنيويات والأخرويات) هي: [جمع دنيا وأخرى. وفي] (¬5) كيفية (¬6) هذا النسب ثلاثة أوجه: إما قلب ألف التأنيث (¬7) واوًا وهو: [المختار. وإما قلب الألف أيضًا] (¬8) واوًا مع (¬9) زيادة الألف قبل الواو. وإما حذف ألف التأنيث [وتباشر الكلمة ياء النسب] (¬10). قوله: (وأيدها بالمعجزات الباهرات) التأييد معناه: التقوية والنصر (¬11)، والضمير (¬12) عائد على الرسالة، قال تبارك وتعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ¬
الْقُدُسِ} (¬1)، وقال: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (¬2) أي: قويته (¬3) وقويتك. وقوله (¬4): (بالمعجزات) جمع (¬5) معجزة (¬6)، وهو اسم فاعل من أعجز إعجازًا فهو: معجز، والمعجزات والآيات بمعنى واحد. وحقيقة المعجزة: عبارة عن الفعل الحادث الخارق للعادة الظاهر على يد مدعي النبوة الدال على صدق مدعيها (¬7)، وسميت معجزة؛ لأنها أعجزت الخلق عن الإتيان بمثلها. [وقوله: (بالمعجزات)، أراد] (¬8) بالمعجزات (¬9): المتصلة والمنفصلة، فالمتصلة ما في نفس القرآن من وجوه الإعجاز، والمنفصلة [هي: التي انفصلت] (¬10) عن الرسالة (¬11) كانشقاق القمر (¬12)، ¬
ونطق (¬1) العجماء (¬2) وتكثير القليل (¬3) ونبع الماء (¬4) من بين أصابعه عليه السلام، وغير ذلك. ¬
وقوله: (بالمعجزات)، أي: بالآيات والأفعال التي تعجز (¬1) البشر عن المعارضة والإتيان بمثلها، ونسبة الإعجاز إلى الآيات والأفعال مجاز؛ لأن المعجز (¬2) هو الله تبارك وتعالى؛ لأنه فاعل المعجزات وخالقها (¬3). وقوله (¬4): (الباهرات)، أي: الغالبات القاهرات للكفار؛ لأنهم مغلوبون بها عن معارضتها والإتيان بمثلها، يقال: بهره ويبهره (¬5) إذا غلبه، يقال (¬6): بهر ضوء القمر (¬7) ضوء الكواكب أي: غلبه (¬8). وقوله (¬9): (وأيدها) (¬10) بالمعجزات الباهرات)، تقديره: وقوى الله تبارك (¬11) وتعالى الرسالة التي (¬12) هي القرآن العظيم بالآيات الغالبات للكفار، كانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، [وتكليم الذراع له عليه ¬
السلام] (¬1) وغير ذلك. وقوله: (المعجزات (¬2) الباهرات)، يقتضي ظاهره (¬3): أن هناك (¬4) معجزات (¬5) غير باهرة (¬6)، وليس كذلك، بل كل معجزة غالبة؛ ولأجل ذلك سميت معجزة؛ لأجل إعجازها وغلبها، فيحتمل أن يكون وصف المعجزات بالباهرات: وصف تأكيد لا وصف تقييد، فلا مفهوم له على هذا، ويحتمل: أن ينبه بقوله: (الباهرات): على أن معجزات (¬7) النبي عليه السلام أبهر وأغلب من سائر معجزات الأنبياء عليهم السلام؛ لكثرة معجزات محمد عليه السلام (¬8)، وبقاء بعضها إلى يوم القيامة وهو القرآن العظيم؛ إذ معجزات (¬9) محمد عليه السلام أكثر من سائر معجزات الأنبياء عليهم السلام (¬10)، والقرآن العظيم من معجزاته، وهو لا يندرس إلى يوم ¬
القيامة (¬1)، وأما معجزات سائر (¬2) الأنبياء عليهم السلام فقد اندرست بموتهم. قوله (¬3): (الباهرات) على هذا الألف واللام (¬4) فيه من العهدية التي يشار بها إلى معنى (¬5) مهم (¬6) اختص به المذكور، كقول العرب: لقيت اليوم الخيل، ورأيت الرجال، يريدون أحق الخيل بان تسمى خيلاً، وأحق الرجال بأن يسموا رجالاً، فالاسم في حقهم حقيقي، وفي غيرهم مجازي (¬7)، فمعجزات محمد (¬8) عليه السلام على هذا: هي (¬9) أحق بأن تسمى باهرات، [وهي: أولى من أن تسمى غالبات] (¬10). [وأيد هذه المسألة قول بعضهم: المعجزات المنفصلة لم تثبت (¬11) بالتواتر، والقرآن ثابت بالتواتر، فهي (¬12) أضعف من القرآن فلا يقوي الأضعف الأقوى. ¬
فهذا لا نسلمه, أما كونه لم تثبت بالتواتر والقرآن ثابت بالتواتر فهو أضعف من القرآن فلا يقوي الأضعف الأقوى فهذا لا نسلمه، أما كونه (¬1) لم تثبت (¬2) بالتواتر، فإنها ثبتت بالتواتر المعنوي، وأما قوله: لا يقوي الأضعف الأقوى فلا نسلمه (¬3). فقد قال شهاب الدين - في شرح المحصول -: قولهم: الأضعف لا يقوي الأقوى غير متجه، بل يقوي الظن الحاصل، فالأقوى كما لو شهد أربعة ثم شهد خامس فإن الظن يقوى ويتأكد بالضرورة (¬4)] (¬5). قوله (¬6): (وجعلنا أهلاً لشرف ذلك الاقتضاء). [قوله: وجعلنا] (¬7) هذه الجملة معطوفة على قوله: (أنزل الرسالة) (¬8)، ومعنى (¬9) (جعلنا): صيرنا. قوله (¬10). (أهلاً) أي: مستحقين (¬11). ¬
وقوله: (لشرف) أي: لعلو ورفعة ذلك الاقتضاء، أي: ذلك الطلب؛ لأن الاقتضاء افتعال (¬1) من الطلب؛ لأن الله تعالى طالبنا (¬2) من هذه الرسالة بأمرين (¬3): بتلاوتها (¬4)، والعمل بمقتضاها. وقوله: (أهلاً) يقال: أهّلك الله للخير أي جعلك له أهلاً أي مستحقًا (¬5). قوله (¬6): (لشرف) الشرف (¬7) معناه: العلو والرفعة، يقال: شرف الرجل شرفًا (¬8) إذا علا في دين أو دنيا (¬9). وقوله (¬10): (ذلك) الإشارة (¬11) تعود في المعنى على الرسالة. وقوله: (الاقتضاء) (¬12) هو: نعت "لذلك" (¬13) أو بدل منه، أو عطف ¬
بيان عليه. قوله (¬1): (لشرف ذلك الاقتضاء) هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، تقديره: وجعلنا أهلاً لذلك الاقتضاء الشريف، فالشرف: صفة للاقتضاء (¬2)، والاقتضاء: موصوف. ومثال إضافة الصفة إلى موصوفها (¬3) قول الشاعر: إنّا محيوكِ يا سلمى فحيينا ... وإن سَقيتِ كِرامَ القومِ فاسْقِينَا (¬4) تقديره: وإن سقيت القوم الكرام. قوله (¬5): (وجعلنا أهلاً لشرف ذلك الاقتضاء) (¬6) سبكه: وجعلنا الله ¬
مستحقين (¬1) للعمل بمقتضى ذلك الطلب الشريف، أي: بمقتضى الرسالة، أي: بمقتضى (¬2) القرآن العظيم. و (¬3) قوله: (وجميل تلك المناجاة): قال صاحب الأفعال: جمل (¬4) الشيء جمالاً أي تم حسنه (¬5). والمناجاة لغة هي: المساررة. قال صاحب الأفعال: يقال: نجوتُ الرجل نجوًا (¬6) أي (¬7): ساررته (¬8). ومنه قوله تعالى (¬9): {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} (¬10)، وقوله (¬11): {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬12)، وقال (¬13): ¬
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} (¬1). فحقيقة المناجاة لغة هي: المساررة، وهي: مكالمة الرجل أخاه بما يُسِره عن غيره. وحقيقة المناجاة شرعًا: إخلاص القلب، وتفريغ السر لذكر الله تعالى، وتلاوة كتابه في الصلاة، قاله عياض في الإكمال (¬2). وقيل: حقيقة المناجاة شرعًا: هي القرب من الله تعالى (¬3) قرب قبول ورضى ومحبة، لا قرب مسافة وجهة. وها هنا ثلاثة ألفاظ هي (¬4): المناجاة، والتناجي، والنجوى. فالمناجاة معناها: المساررة بين اثنين فأكثر من غير تراجع. والتناجي معناه (¬5): المساررة بين اثنين فأكثر مع التراجع (¬6) ¬
والنجوى معناها (¬1) المساررة (¬2) بين اثنين فأكثر بتراجع أو بغير تراجع. فالنجوى أعم من [المناجاة والتناجي. قوله (¬3): (وجميل تلك المناجاة) هي (¬4) أيضًا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها كما تقدم في الجملة] (¬5) التي قبلها، تقديره: وجعلنا أهلاً لتلك المناجاة الجميلة (¬6). وقوله: (المناجاة) نعت لـ "تلك" أو بدل، أو عطف بيان، كم تقدم في الجملة التي قبلها. وقوله: (¬7) (المناجاة) المراد هنا بالمناجاة: تلاوة (¬8) القرآن (¬9)، أي: وجعلنا أهلاً لتلك التلاوة أو القراءة (¬10) الجميلة. انظر تقديم جملة الاقتضاء على جملة المناجاة، يحتمل أن يكون المصنف فعل ذلك: تقديمًا للمقصد على الوسيلة؛ لأن التلاوة وسيلة إلى الفهم، والفهم وسيلة إلى العمل بمقتضى الخطاب. ¬
[قوله (¬1): (وفضلنا بها وفيها على سائر الفرق والعصابات): معنى قوله: (وفضلنا بها) أي: وفضلنا بخطاب (¬2) الرسالة، أي: بالمخاطبة بها، أي: بالمطالبة بالعمل بما فيها. وقوله (¬3): (وفيها) أي: وفضلنا أيضًا فيها، أي: في الرسالة، أي: ذكر الله تعالى تفضيلنا في الرسالة، وذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4) فنص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة على تفضيلنا على سائر الأمم. قال المؤلف في الشرح (¬5): فلو (¬6) لم ينزل الله تبارك (¬7) وتعالى هذه الآية في القرآن لكنا مفضلين بها لا فيها (¬8)] (¬9). قوله (¬10): (وفضلنا بها وفيها) (¬11) هو (¬12): تكرار في المعنى ¬
لقوله: (وجعلنا أهلاً لشرف ذلك الاقتضاء). وقوله (¬1): (فيها) إشارة إلى قوله (¬2) تعالى (¬3): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4) هذا على القول بأن المراد بالأمة في الآية: جميع أمة محمد عليه السلام، وأما القول بأن المراد بالأمة: أمة معينة، وهم: الصحابة رضوان الله عليهم فلا يتجه الاستدلال (¬5). فإذا قلنا: المراد (¬6) بالأمة جميع (¬7) أمة محمد عليه السلام (¬8)، فاختلف في "كان" مِنْ (¬9) قوله: {كُنْتُمْ}: قيل: المراد بها كان التي تقتضي الدوام، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬10) أي: لم يزل الله غفورًا رحيمًا. وقيل: المراد بها أصلها الذي هو: اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي، معناه: كنتم في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ خيرَ الأمم. قوله (¬11): (على سائر الفرق والعصابات) (¬12) يحتمل أن يريد ¬
بالسائر (¬1): الباقي، وهو: مأخوذ من السؤر الذي هو بقية الشيء (¬2)، ويحتمل أن يريد به: الجميع مأخوذ من سور المدينة (¬3)، وهو أنسب لهذا (¬4) الموضع. تقديره على المعنى الأول: وفضلنا بها وفيها على باقي الفرق والعصابات (¬5)، وتقديره على الثاني: وفضلنا بها وفيها على جميع الفرق والعصابات. قوله (¬6): (الفرق) (¬7) جمع فرقة. وقوله: (العصابات) (¬8) جمع عصابة. والفرقة أكثر من العصابة، كأنه يقول: وفضلنا بها (¬9) على الأمم الكثيرة، والأمم (¬10) القليلة. ¬
قال [أبو عبد الله الزبيدي (¬1)] (¬2) - فى مختصر العين -: العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين, وكذلك العصابة. انتهى (¬3). وقال صاحب فقه اللغة في ترتيب جماعات (¬4) الناس وتدريجها من القلة إلى الكثرة: نفر، ورهط, ولُمّة، وشرذمة، ثم جيل (¬5) , وعصبة، وطائفة ثم ثبة، وثُلّة، وفوج، وفرقة. انتهى (¬6). فالفرقة إذًا أكثر من العصبة (¬7) ومن الطائفة، فمن فسر الفرقة في كلام المؤلف بالطائفة فقد أخطأ الحقيقة، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (¬8) فالفرقة أكثر من الطائفة. ¬
وقوله (¬1): (وصلواته (¬2) الطيبات الزاكيات على أفضل المخلوقات): لما ذكر المؤلف الثناء على الله تبارك وتعالى شكرًا منه على إنعامه، أردف ذلك بالصلاة على محمد عليه السلام؛ لأن شأن الخطب (¬3) أن يبدأ فيها بالثناء على الله تعالى (¬4)، ثم يثنى فيها بالصلاة على محمد عليه السلام. والصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬5) ها هنا فيها (¬6) خمسة مطالب: ما حكمها؟ و (¬7) ما الأصل فيها؟ وما أقسامها؟ وما موضع استحبابها؟ وكراهيتها؟ ومن (¬8) الذي يصلى عليه (¬9)؟ أما حكمها ففيها (¬10) أربعة مذاهب: قال مالك (¬11): واجبة مرة في العمر، وهي سنة في الصلاة. ¬
وقال الشافعي (¬1)، وابن المواز (¬2) من أصحاب المذهب (¬3): واجبة في كل صلاة. ¬
وقال أبو حنيفة (¬1): واجبة عند كل سماع ذكره، هذه المذاهب الثلاثة مشهورة (¬2). المذهب الرابع: يجب الإكثار من الصلاة عليه من غير تحديد، ما لم تبلغه المشقة في ذلك، [هذه المذاهب ذكرها القاضي عياض في الشفا (¬3)] (¬4). وأما الأصل فيها: فالكتاب والسنة والإجماع. فالكتاب: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬5). والأمر ها هنا محمول (¬6) على الوجوب باتفاق. ¬
ودليل السنة: قوله عليه السلام: "البخيل ثم البخيل من ذكرت عنده فلم (¬1) يصل عليّ"، وفي بعضها: "البخيل ثم البخيل (¬2) من سمع بذكري ولم يصل عليّ" (¬3). وقوله عليه السلام (¬4): "رغم أنف رجل ذكرت (¬5) عنده فلم يصل عليّ" (¬6). [ومنه قوله عليه السلام (¬7): "لا صلاة لمن لم يصلِّ عليّ (¬8) " (¬9). ¬
وقوله عليه السلام (¬1): "كل صلاة لم يصل عليّ فيها فهي غير مقبولة" (¬2)] (¬3). ومنه قوله عليه السلام (¬4): "أيما مجلس اجتمع (فيه) (¬5) قوم ولم يصلوا عليّ إلا كان عليهم حسرة وندامة يوم القيامة" (¬6). وفي بعضها: "إلا كان ذلك ¬
المجلس أنتن من جيفة" (¬1). والإجماع منعقد على مشروعية الصلاة على محمد عليه الصلاة والسلام (¬2). وأما أقسامها فهي ثلاثة أقسام: الصلاة من الله، والصلاة من الملائكة، والصلاة من العباد. فالصلاة من الله (¬3) على من صلى عليه معناها: الرحمة. والصلاة من الملائكة على من صلوا عليه معناها: الدعاء والاستغفار. والصلاة من العباد (¬4) على محمد عليه السلام (¬5): عبادة (¬6). ¬
ومنهم من جعل الصلاة ها هنا على أربعة أقسام: الصلاة من الله على محمد عليه السلام (¬1)، والصلاة من الله على غير محمد عليه السلام (¬2)، والصلاة من الملائكة، والصلاة من العباد. فالصلاة من الله على محمد عليه السلام تشريف وزيادة (¬3) تكرمه. والصلاة من الله على غير محمد عليه السلام: رحمة (¬4). ¬
والصلاة من الملائكة على من صلوا عليه: دعاء واستغفار. والصلاة من العباد على من صلوا عليه (¬1) عبادة. وأما موضع استحباب الصلاة على محمد عليه السلام (¬2): فقال القاضي (¬3) عياض: تستحب الصلاة على النبي عليه السلام في ثمانية مواضع: في أول الدعاء، وفي آخره (¬4)، وبعد البسملة، وآخر (¬5) الآذان، وعند دخول المسجد، وعند ابتداء الكتاب، وعند تمامه، وفي يوم الجمعة (¬6). وقال القاضي عياض أيضًا: وتكره الصلاة على النبي عليه السلام في ثمانية مواضع: عند الذبح، وعند التعجب، وعند العثار، وعند إبراز السلع للبيع، وعند الجماع، وعند العطاس، [وعند قضاء الحاجة] (¬7)، وعند إشهار السلاح (¬8). ¬
وأما الذي يصلى عليه ففيه أربعة أقوال: أحدها: النبي عليه السلام (¬1) خاصة (¬2)، قاله ابن عباس (¬3) رضي الله عنه، دليله قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬4). القول الثاني: الأنبياء كلهم خاصة، قاله سفيان (¬5) رضي الله عنه. ¬
القول الثالث: تجوز الصلاة على كل أحد، قاله يحيى بن يحيى (¬1). دليله قوله (¬2): {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬3) (¬4). وقوله عليه السلام (¬5): "اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬6). القول الرابع: بالتفصيل بين الابتداء والاتباع، فتجوز في الاتباع ولا تجوز في الابتداء، فتجوز [الصلاة على هذا القول على غير النبي إذا كان تابعًا في الكلام للنبي، ولا تجوز على غير النبي (¬7) ابتداء، وهو مذهب مالك والحنفيين (¬8). ¬
فنقول] (¬1) على هذا القول: اللهم صل على محمد وعلى آله (¬2)، ولا يجوز (¬3) أن نقول: اللهم صل على آل محمد أو صل على فلان أو على آل فلان. دليله قوله عليه السلام: "اللهم صل على محمد وعلى آل (¬4) محمد" (¬5) ولم يقل: اللهم صل على آل محمد ابتداء (¬6) [من غير اتباع. وقال بعضهم: لا خلاف في جوازها على غير الأنبياء إذا كانت على وجه الاتباع، وإنما الخلاف في جوازها على الانفراد. قال القاضي أبو الفضل عياض] (¬7): الصحيح أن الصلاة خاصة بالأنبياء دون غيرهم تشريفًا لهم وتعظيمًا لهم على غيرهم، كما خُص الله بالتسبيح، وأما غير الأنبياء فليلتمس لهم (¬8) الأقوال الحسنة من الرضى، والغفران، وغير ذلك (¬9) واختلف هل يدعى له (¬10) عليه السلام بالرحمة أم لا؟ ¬
فمنعه (¬1) أبو عمر بن عبد البر (¬2). وأجازه ابن أبي زيد؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث: "وارحم محمدًا". [قال القاضي عياض: لم يأت ذلك في حديث صحيح (¬3). قوله] (¬4): (وصلواته (¬5) الطيبات الزاكيات) إنما صور (6) المصنف (¬6) - رحمه الله - هذه الألفاظ بصورة الجمع دون صورة المفرد: مبالغة في معناها؛ لأن الجمع أبلغ في المعنى من المفرد. وقوله: (الطيبات الزاكيات) مترادفات (¬7)؛ لقوله تعالى (¬8): {سَلَامٌ ¬
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} (¬1). قال الفراء (¬2): معناه (¬3): زكوتم (¬4). ففسر الطيب بالزاكي، والزكاة في اللغة هي: الزيادة والنمو (¬5)، يقال: زكا الشيء إذا زاد ونما. فقوله على هذا: (وصلواته الطيبات الزاكيات) معناه: وصلوات الله التي تزيد أجورها وثوابها، على أفضل المخلوقات، ويحتمل أن يكونا متباينين؛ فتكون الطيبات بمعنى الصالحات، لقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (¬6) ¬
أي: الصالح (¬1)، وتكون (¬2) الزاكيات [بمعنى الزيادات (¬3) الناميات، فالزاكيات على هذا أبلغ من الطيبات. وقوله: الطيبات الزاكيات (¬4)] (¬5) من باب الأوصاف التأكيدية، وليست (¬6) من الأوصاف التقييدية، وإنما فعل ذلك مبالغة في تأكيد الصلاة على محمد عليه السلام (¬7). وقوله (¬8): (على أفضل المخلوقات) أي: على أجمل وأكمل وأحسن المخلوقات قولاً وفعلاً، خُلُقًا وخَلْقًا. وقوله (¬9): (المخلوقات) يقتضي العموم؛ لأنه جمع محلى بالألف واللام، فيقتضي أنه عليه السلام أفضل من جميع المخلوقات، من الملائكة والأنبياء. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: إن الله عز وجل فضل نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أهل السماء (¬10) وعلى (¬11) الأنبياء صلوات الله عليهم. ¬
وقوله: (محمد) سُمي محمدًا، لأجل المبالغة فى حمده، إما لكثرة حمده لله تعالى، وإما لكثرة حمد الناس له، وإما لكثرة حمد الملائكة له (¬1)، وإما لكثرة محامده الحسنة، لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2)، وإما لاجتماع (¬3) ذلك كله، فهو عليه السلام أحمد الحامدين وأحمد المحمودين. وقوله: (المبعوث) أي: المرسل؛ لأن البعث هو الإرسال، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} (¬4). وقوله (¬5): (بأفضل المناهج والبينات) أي: بعثه الله عز وجل مصحوبًا بأفضل وأكمل وأجمل وأحسن المناهج والبينات. والباء (¬6) في قوله: (بأفضل) للمصاحبة، كالباء في قوله تعالى (¬7). {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} (¬8)، وفي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} (¬9) أي. مصحوبًا بالهدى (¬10). وقوله: (المناهج) جمع مفرده: منهاج أو منهج (¬11) , يقال للطريق ¬
الواضح (¬1) البين الظاهر: مِنْهَاجٌ ومَنْهَجٌ، ونَهْجٌ ومَهْيَعٌ، وكلها مترادفة بمعنى واحد، وهي صفات (¬2) للطَريق الواضح الظاهر، وليس كل طريق كذلك؛ إذ لا يُسَمّى الطريق كذلك (¬3) إلا إذا كان واضحًا ظاهرًا مستمرًا، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬4)؛ فالشرعة والشريعة هي: الطريقة (¬5) الموصلة إلى النجاة (¬6) من النار (¬7). والمنهاج: هو الطريق المستمر الظاهر، قال (¬8) حسان (¬9) بن ثابت (¬10) ¬
[الأنصاري رضي الله عنه] (¬1): إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى يصاب بها طريق (¬2) المهيع وإذا اصطنعت (¬3) صنيعة فاقصد بها ... الله أو في (¬4) ذي القرابة (¬5) أودع (¬6) قال صاحب العين: نهج الأمر وأنهج إذا: وضح (¬7). قوله: (بأفضل المناهج) أراد بالمناهج: الشرائع (¬8). وقوله (¬9): (البينات) أراد بها (¬10) الآيات لقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ} (¬11). ¬
قال الهروي (¬1): أي: بالآيات (¬2) الفاصلة بين الحق والباطل (¬3). وقال المهدوي (¬4): معنى البينات (¬5) أي: البراهين (¬6) [البينات على حذف المصوف: أي: بالبراهين الواضحات (¬7). وقوله: البراهين معناها (¬8): المعجزات. ومعنى قوله الزبر: الكتب وهو جمع زبور (¬9) ويقال: زبرت أي: ¬
كتبت] (¬1). وقوله (¬2): (- صلى الله عليه وسلم -) أعاد الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - مبالغة في التأكيد للصلاة عليه، عليه السلام. وقوله: (على (¬3) عترته) العترة (¬4) بالتاء (¬5) المهملة: أقرباؤه (¬6). قال (¬7) في مختصر العين في باب التاء (¬8) المهملة: "عترة الرجل أقرباؤه" (¬9) (¬10)، وقيل: عترته عليه السلام: بنو عبد المطلب. وقيل: بنو هاشم. وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه: ¬
"نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيضته تَفَقْأت (¬1) عنه (¬2) " قوله (¬3): (وأصحابه) جمع مفرده: صاحب. واختلف في معنى أصحابه عليه السلام على ثمانية أقوال: قيل: كل من ولد في زمانه. وقيل: من ولد في زمانه وبلغ في زمانه. وقيل: من رآه ولو مرة واحدة. وقيل: من روى عنه ولو حديثًا واحدًا. وقيل: من رآه وطالت صحبته معه. [وقيل: من رآه وروى عنه وطالت صحبته معه (¬4)] (¬5). وقيل: كل من غزا معه غزوة (¬6) أو غزوتين، أو قعد معه سنة أو سنتين (¬7) ¬
قاله سعيد بن المسيب (¬1) رضي الله عنه. وقيل: أصحابه هم الملازمون له (¬2) المهتدون بهديه حتى فاضت عليهم أنواره، وظهرت عليهم بركته (¬3) وأسراره - صلى الله عليه وسلم -، قاله شهاب الدين (¬4). قوله (¬5): (وأزواجه) جمع (¬6)، مفرده: زوج أو زوجة (¬7)، ولكن الأفصح: زوج بإسقاط التاء، وهو الوارد في القرآن، قال الله تعالى (¬8): {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬9)، وقال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (¬10). ¬
قوله (¬1): (ومحبيه) (¬2) هذا عام يندرج فيه كل ما تقدم من عترته، وأصحابه، وأزواجه، وغيرهم، وهو من باب الإتيان بالعام بعد الخاص (¬3)، ويسمى عند أرباب البديع بالتعميم. ومحبته - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل أحد (¬4)؛ لقوله عليه السلام: "لا يؤمن (¬5) أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬6). وعلامة محبته - صلى الله عليه وسلم -: الاقتداء به (¬7)، واستعمال سنته قولاً وفعلاً، والتأدب بآدابه، قال الله عز وجل (¬8): {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬9). قوله: (¬10) (صلاة (¬11) تبلغهم أفضل الدرجات) أي: صلاة توصلهم إلى أرفع الدرجات. ¬
والدرجات (¬1) هي: الطبقات النفيسة، والمنازل الشريفة في الجنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجنة مائة درجة أعلاها الفردوس، منها تتفجر (¬2) أنهار الجنة وعليها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس" (¬3). قال (¬4) ابن رشد (¬5) في جامع البيان: ¬
الاختيار (¬1) للداعي إذا دعا الله عز وجل أن يسأله أرفع المنازل؛ لأن الله جل جلاله جواد كريم. وهكذا فعل المؤلف ها هنا. قوله (¬2): (ونحوز بها أفضل المقامات في الحياة وبعد الممات) أي: وننال ببركتها أفضل الحالات في الحياة، وأفضل الحالات في الممات، أي: وننال ببركتها (¬3) أفضل الحالات في الدنيا والآخرة (¬4). وأفضل (¬5) الحالات في الدنيا: ملازمة التقوى، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬6). وأفضل الحالات في الآخرة هي: الدرجات العُلى في الجنة، نسأل الله تعالى أن يجود علينا بالدرجات العُلى (¬7) في حياتنا ومماتنا (¬8) بمنه وفضله. قوله (¬9): (أما بعد): لما أثنى المؤلف (¬10) رحمه الله (¬11) على الله ¬
تعالى (¬1) بما هو أهله، وصلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأراد الشروع في مقصوده، أتى بكلمة تقتضي الاستئناف، وهي: أما بعد، وكان النبي عليه السلام يستعملها في خطبه، ومواعظه، وكذلك الخطباء قبله وبعده (¬2). وها هنا خمسة مطالب، وهي: ما معنى: أما بعد؟ وما العامل في هذا الظرف؟ ولِمَ بني؟ ولم بني على الحركة؟ ولم اختص بتلك الحركة؟ فأما معناها: فهي كلمة موضوعة للفصل بين الكلام المضاد (¬3) والخوض في المراد (¬4). قيل: أول من نطق بها: داود عليه السلام، قالوا: وهو المراد بقوله تعالى: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (¬5). وقيل: أول من نطق بها: سحبان (¬6) وائل، الذي تنسب إليه الفصاحة، ¬
ويضرب به المثل في البلاغة، وهو القائل: لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها (¬1) وقيل: أول من قالها: قس بن ساعدة الإيادي (¬2). وهو: أول من كتب من فلان إلى فلان، وهو: أول من خطب بعصا، وهو أول من أقر (¬3) بالبعث من غير (¬4) سماع، وكان يضرب به المثل في ذكاء ¬
العقل وكان في الفترة التي بين (¬1) عيسى ومحمد عليهما السلام (¬2). وفيه قال النبي (¬3) عليه السلام: "يبعث يوم القيامة أمة وحده" (¬4). وذكر ابن سبع (¬5) في كتاب الشفا في شرف النبي المصطفى (¬6): ¬
أنه عاش سبع مائة سنة (¬1). وقد رآه النبي عليه السلام قبل (¬2) بعثه بسوق عكاظ على جمل أورق وهو يعظ الناس وهو (¬3) يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا من عاش مات (¬4)، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحور (¬5) تهور (¬6)، أما بعد: فإن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا [مالي] (¬7) أرى الناس يموتون ولا يرجعون (¬8)، أرضوا بالإقامة فأقاموا (¬9)؟ أم تركوا كما هم فناموا؟ أقسم بالله قس، قسمًا لا يخاف فيه حنثًا ولا إثمًا، أن لله دينًا أرضى من دينكم (¬10). وأما العامل في هذا الظرف الذي هو "بعد" فهو محذوف، وهو: صفة مبتدأ محذوف تقديره: أما القول المقول بعد ما تقدم ذكره: (فإِن هذا كتاب)، وخبر هذا المبتدأ المحذوف هو: جواب "أما" الذي في قوله: (فإِن هذا ¬
كتاب)؛ لأن الجواب يغني عن الخبر لقيامه مقامه. وأما لِمَ بُني؟ فقيل: لقطعه عن الإضافة التي هي أصل الظروف. وقيل: لخروجه عن النظائر في قطعه عن الإضافة. وقيل: لتضمنه معنى الحرف (¬1) وهو لام الإضافة. وأما لِمَ بُني على الحركة؟ فقيل: لالتقاء الساكنين. وقيل: لأن بناءه عارض (¬2) وليس بلازم؛ إذ (¬3) إعرابه أكثر من بنائه؛ لأنه يعرب في ثلاثة مواضع ويبنى في موضع واحد (¬4). فالثلاثة التي يعرب فيها: أحدها: إذا صُرح بالمضاف إليه. الثاني: إذا لم يصرح بالمضاف إليه [ونُوي (¬5) لفظه ومعناه. الثالث: إذا لم يُصرح بالمضاف إليه، ولم ينو أصلًا لا لفظه ولا معناه. ¬
والموضع (¬1) الذي بُني فيه: إذا لم يصرح بالمضاف إليه] (¬2) ونوى معناه، فهذا هو (¬3) الذي بني (¬4) على الضم، كما فعل المؤلف ها هنا في قوله: (أما بعد)، فبناه على الضم؛ لأنه قطعه عن المضاف إليه (¬5) ونوى معناه: لأن تقديره: أما بعد الحمد لله والصلاة على محمَّد عليه السلام. وأما لم اختص بتلك الحركة؟ فقيل (¬6): لأنها (¬7) حركة لا تكون للكلمة في حال إعرابها. وقيل: لتخالف حركة بنائه حركتي إعرابه. وقوله (¬8): (فإِن هذا (¬9) كتاب (¬10)) الإشارة في قوله: (هذا) تعود على هذا الكتاب المسمى بالتنقيح. وهذه الإشارة تقتضي أن المصنف - رحمه الله تعالى - وضع هذه الخطبة بعد الفراغ من التأليف، وذلك أن المصنف - رحمه الله - جعل هذا الكتاب المصنف في الأصول مقدمة كتاب الذخيرة المؤلَّف في الفروع، ليخرِّج بذلك الفروع على الأصول؛ إذ كل فرع لم يخرّج على أصل فليس بشيء، ولم يذكر ¬
المصنف (¬1) رحمه الله (¬2) لهذه المقدمة في الذخيرة خطبة خاصة بها. قال المصنف (¬3) في الشرح: لما رأيت جماعة رغبوا في إفراد هذا الكتاب عن (¬4) الذخيرة واشتغلوا به، فلما رأيت كثرة المشتغلين (¬5) به، رأيت أن أضع لهم شرحًا يكون عونًا لهم على فهمه وتحصيله، وأبين فيه مقاصد لا تكاد (¬6) تعلم إلا من جهتي؛ لأني لم أنقلها عن غيري، وفيها غموض، وأوشح (¬7) ذلك (¬8) إن شاء الله بقواعد جليلة [وفوائد جميلة (¬9). قوله] (¬10): (فإِن (¬11) هذا كتاب جمعت فيه مسائل المحصول) (¬12): معناه: فإن هذا الكتاب المفروغ منه المسمى بالتنقيح: كتاب مجموع فيه المسائل المذكورة في الكتاب (¬13) المسمى بالمحصول، وهو تصنيف: الإمام فخر الدين، ¬
واسمه: محمَّد بن عمر الرازي (¬1)، وله تفسير للقرآن العظيم (¬2) في خمسين سفرًا. قوله (¬3): (وأضفت (¬4) إِليه مسائل كتاب (¬5) الإِفادة للقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب المالكي): الضمير (¬6) في قوله: (إليه) عائد إلى (¬7) المحصول، أي: فأضفت (¬8) إلى (¬9) ¬
ما جمعت من المحصول المذكور مسائل الكتاب المسمى بكتاب "الإفادة" (¬1)، تصنيف القاضي (¬2) عبد الوهاب البغدادي (¬3) المالكي (¬4) رضي الله عنه. قوله (¬5): (وهو مجلدان) أي: وهذا الكتاب المسمى بكتاب "الإفادة" (¬6) هو: مجلدان (¬7)، أي: سفران، وفي بعض النسخ (¬8) وهما (¬9): مجلدان، بتثنية الضمير باعتبار (¬10) السفرين (¬11). قوله: (وكتاب الإِشارة للباجي) أي: وأضفت إليه أيضًا (¬12): كتاب ¬
الإشارة (¬1) أي: الكتاب المسمى بكتاب الإشارة (¬2)، تصنيف (¬3) الشيخ (¬4) أبي الوليد الباجي (¬5)، وهو كتاب صغير صنفه لابنه - رضي الله عنه -. قوله: (وكلام ابن القصار [في الأصول). أي: وأضفت إليه كلام القاضي أبي الحسن (¬6) بن القصّار في الأصول. وإنما قال المؤلف: كلام ابن القصّار في الأصول (¬7)] (¬8)، ولم يقل: ¬
كتاب ابن القصار؛ لأنه ليس له كتاب في الأصول، وإنما ذكر علم الأصول في مقدمة كتابه المسمى بـ "عيون المسائل" (¬1). قوله: (وبينت مذهب مالك رحمه الله في الأصول لينتفع بذلك (¬2) المالكية خصوصًا وغيرهم عمومًا (¬3)): أي: بيّنت وشرحت، وأوضحت مذهب مالك في الأصول؛ لينتفع بذلك [المالكية خصوصًا وغيرهم عمومًا، أي: بيّنت وأوضحت مذهب مالك في الأصول. لينتفع بذلك] (¬4) الإشارة تعود على كتاب "التنقيح"؛ أي: لينتفع بهذا الكتاب المالكية خصوصًا، ووجه انتفاعهم به واختصاصهم به: أنه (¬5) عيَّن فيه مذهب إمامهم، وعين فيه دليله، ووجه انتفاع غيرهم بهذا الكتاب على العموم: أن (¬6) المؤلف قرر فيه (¬7) الأدلة وأوضحها فيه، والدليل إذا قرر (¬8) لا يختص به أحد عن أحد. قوله: (ولم أترك من هذه الكتب الأربعة إِلا التقاسيم، ويسيرًا من المسائل والمباحث التي لا يحتاج إِليها الفقيه). ¬
نبه في هذا الكلام (¬1) على أنه لم يتعرض لجميع ما ذكر في الكتب المذكورة المصنف منها هذا التأليف (¬2)، وأنه (¬3) إنما ساق منها المسائل المهمات، والأمور المعتمدات التي لا بد منها، دون التقاسيم والمباحث (¬4) التي لا يحتاج إليها الفقيه في تنزيل الفروع عليها. قوله (¬5): (الكتب (¬6) الأربعة) جعلها ها هنا أربعة وهي في التحقيق ثلاثة كتب وهي: "المحصول"، و"الإشارة"، و"الإفادة"، وأما كلام ابن القصار فليس بكتاب، وإنما جعلها أربعة تغليبًا للأكثر. قوله (¬7): (إِلا التقاسيم) أي: إلا التفاصيل، وهي الوسائل (¬8) التي يعلم منها الشيء المقسّم [المقصود بالتقسيم، فالمقصد إذًا هو: المقسم] (¬9) وأما التقسيم فهو (¬10): وسيلة، فإذا حصل المقصد فلا عبرة بالوسيلة. قوله (¬11): (ويسيرًا (¬12) من المسائل) أي. قليلًا من المسائل (¬13) المخصوصة بعلم الأصول دون علم الفروع. ¬
قوله: (و (¬1) المباحث) البحث لغة معناه: الطلب المتأكد (¬2). وهي: المدارك التي تبنى عليها (¬3) الأصول، فإن المؤلف إنما تعرض في هذا الكتاب للمدارك التي تبنى عليها (¬4) الفروع، ولم يتعرض للمدارك التي تبنى عليها (¬5) الأصول. لأن المؤلف قال في مقدمة الذخيرة: ولم أتعرض فيها لمدارك الأصول، فإن ذلك من وظائف الأصولي لا من وظائف الفقيه، فإن مقدمات كل علم تؤخذ (¬6) فيه مسلمة، فمن أراد ذلك فعليه بكتبه (¬7). قوله (¬8): (التي (¬9) لا يحتاج إِليها الفقيه). هذه (¬10) الجملة راجعة إلى الثلاثة الأشياء المذكورة (¬11) وهي: التقاسيم، والمسائل، والمباحث، تقديره: إلا التقاسيم التي لا يحتاج إليها الفقيه، والمسائل التي لا يحتاج إليها الفقيه، والمباحث التي لا يحتاج إليها الفقيه. ¬
قوله: (مع أني زدت كثيرًا من القواعد والتلخيصات، والتحرير, والتنبيه، والقيود في الحدود). العامل في الظرف الذي هو: "مع" فعل محذوف دل عليه سياق الكلام، تقديره: فعلت ذلك مع أني زدت كثيرًا، أي: تركت ما لا يحتاج إليه من الكتب (¬1) المذكورة (¬2) مع زيادتي عليها ما يحتاج إليه. وذكر ها هنا أنه زاد على ما جمع من تلك الكتب الأربعة خمسة أصناف: أحدها: القواعد، وهي: القوانين والضوابط، مفرد القواعد: قاعدة. وهي: صورة كلية (¬3) تتبين بها جميع جزئياتها. وهي ست قواعد: واحدة في باب الأوامر (¬4)، وثانية في باب الاجتهاد، وأربع في باب جميع (¬5) أدلة المجتهدين وتصرفات المتكلفين (¬6) في الأعيان. ¬
الصنف الثاني: التلخيصات، التلخيص (¬1) في اللغة معناه (¬2): التبيين. قال صاحب العين: "لخصت الشيء: بيّنته (¬3) " (¬4). ومعناه (¬5) ها هنا: جمع ما افترق وضم ما انتشر، ولكن إن تأملت هذا الصنف فليس بزيادة في المعنى. قوله (¬6): (والتحرير) هو: الصنف الثالث، والمراد به: تقرير الأدلة وبسطها. قوله (¬7): (والتنبيه) هو: الصنف الرابع، ومعناه: إيقاظ من غفلة، وهو: ذكر ما سكت عنه القدماء. وهو خمسة تنبيهات: واحدة في الفصل الثالث عشر في: الحكم وأقسامه (¬8)، وثانية في الفصل الرابع عشر: في أوصاف العبادات (¬9)، وثالثة (¬10) في باب الاجتهاد، ¬
ورابعة، وخامسة (¬1) في: باب جميع (¬2) أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين (¬3) في الأعيان. قوله (¬4): (والقيود في الحدود) وهو الصنف الخامس والمراد بها التحرزات (¬5) المذكورة في بعض الحدود. مثاله: زيادة القديم في حد الحكم الشرعي؛ لأن المؤلف زاده هنالك (¬6) في الفصل الثالث عشر من الباب الأول؛ لأنه قال فيه: الحكم الشرعي هو: خطاب الله تعالى القديم (¬7). قوله (¬8): (وبحيث (¬9) يستعان بهذا الكتاب على شرح تلك الكتب) (¬10). الباء في قوله: (بحيث) متعلق بقوله: (زدت)؛ أي: زدت (¬11) هذه الأشياء على ما جمعت من تلك الكتب، كي يستعان بهذا الكتاب على شرح ¬
وبيان ما أشكل من تلك الكتب (¬1). قوله: (ولخصت جميع ذلك [في مائة فصل وفصلين في عشرين بابًا): قوله: (ولخصت) (¬2) أي: وبيّنت وجمعت ورتبت جميع ذلك] (¬3)، أي: جميع ما جمعت من الكتب وما زدت عليها في مائة فصل وفصلين. [قوله: (وفصلين)] (¬4) فإذا عددت فصول الكتاب فلا تجد فيها زيادة على المائة إلا فصلًا واحدًا مع أن المؤلف قال هنا: فصلين (¬5)؟ أجيب عنه بأن قيل: الفصل المتمم لهذا العدد المراد هو الفصل الأول في حقيقة الاجتهاد في الباب التاسع عشر (¬6)؛ لأن المؤلف أسقط لفظ الفصل هنالك مع أنه مراد في المعنى, لأنه عادته في سائر (¬7) الأبواب أنه (¬8) يقدم فصل الحقيقة. قوله (¬9): (وفصلين) يريد باعتبار الفصل المتروك لفظه في أول باب (¬10) الاجتهاد؛ لأنه قال هنالك (¬11): الباب التاسع عشر في الاجتهاد وهو استفراغ ¬
الوِسع [في المطلوب لغة (¬1)، واستفراغ الوسع] (¬2) في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحًا (¬3). ثم قال: وفيه تسعة فصول: كان (¬4) حقه أن يقول: فيه (¬5) عشرة فصول؛ لأن الذي (¬6) قدمه في حقيقته هذا (¬7) هو فصل مستقل بنفسه. قوله (¬8): (في عشرين (¬9) بابًا) هذا الكلام يوهم (¬10): أن كل باب فيه: فصول، وليس الأمر كذلك؛ لأن هنالك خمسة أبواب ليس فيها فصل أصلًا، وهي (¬11): الباب الثاني في معاني حروف (¬12)، والباب الثالث في ¬
تعارض مقتضيات الألفاظ (¬1)، والباب السابع في أقل الجمع، والباب العاشر في المطلق والمقيد، والباب الحادي عشر في دليل الخطاب، فهذه الأبواب الخمسة: لا فصل فيها أصلًا. قوله (¬2): (في مائة فصل وفصلين في عشرين (¬3) بابًا). فإن قيل: لم قدم الفصول على الأبواب، مع أن الباب أعم من الفصل لاشتمال الباب على الفصل، وكان (¬4) حقه أن يقول: و (¬5) لخصت جميع ذلك في عشرين بابًا مشتملة على مائة فصل وفصلين؟ (قلنا) (¬6): إنما قدم المؤلف (¬7) الفصول في الذكر على الأبواب؛ لأنه (¬8) من باب تقديم الوسيلة على المقصد؛ إذ الفصول (¬9) وسيلة (¬10) إلى ما ¬
تضمنه (¬1) من (¬2) المقاصد، وأخر الأبواب؛ لأنها وسيلة إلى الفصول، فالأبواب إذًا وسيلة الوسيلة [فهي أضعف من الفصول؛ إذ الفصول وسيلة إلى المقصد (¬3)، فهي أقوى من الأبواب التي هي: وسيلة الوسيلة] (¬4) وللأقوى مزية على الأضعف، فالباب وسيلة إلى الفصل، والفصل وسيلة إلى المعنى المقصود، فالوسيلة بالمباشرة (¬5) أقوى من الوسيلة بالوسيلة (¬6)، ولهذا قدم الفصول على الأبواب، والله أعلم (¬7). قوله (¬8): (وسميته بتنقيح (¬9) الفصول في علم الأصول). نبه المؤلف ها هنا على اسم كتابه هذا، وسماه في الشرح: تنقيح الأصول في اختصار المحصول، فله إذًا اسمان (¬10). قوله (¬11): (تنقيح (¬12) الفصول) تنقيح الشيء: إصلاحه وتصفيته وإزالة ¬
ما لا يصلح عما يصلح (¬1) (¬2) فالاسم مطابق للمسمى. ولقد أحسن من قال: علم أصول (¬3) الفقه من أجلّ العلوم وأفضلها، وأشرفها منفعة، وأكملها، لاشتماله على المعقول والمنقول، وجمعه بين الرواية والدراية (¬4)، فهو قد جمع بين (¬5) الشيئين، واستوى على الطرفين، من جهله من الفقهاء: فتحصيله أجَاج، ومن سلب ضوابطه: عدم عند دعاويه الحجاج، فهو (¬6) جدير بأن يتنافس فيه، ويشتغل بأفضل الكتب المؤلفة فيه. وهذا التأليف من أجلّ التأليفات وأفضل المختصرات، لاشتماله على قواعد الأصول ومبانيها، واحتوائه على ما لا بد للفقيه منه. وقد طعن قوم من الفقهاء في علم الأصول فقالوا: إنما يتعلم للجدال والرياء، وذلك باطل حقًا حقًا (¬7)؛ لأنه لولا علم الأصول لما علم حكم من الأحكام الشرعية، فإن كل حكم شرعي لا بد له من دليله، وذلك الدليل إنما ¬
يعلم من علم الأصول، فلو جهل ذلك الدليل: لكان ذلك إثبات الحكم (¬1) بغير دليل، وهو: اتباع الهوى وذلك: حرام بإجماع، وأيضًا من شروط المجتهد أن يكون عارفًا بالأصول. وعلم الأصول (¬2) من مناقب الشافعي - رضي الله عنه - (¬3) التي يمدح بها، وهو (¬4) أول من ألّف تأليفًا في علم الأصول. قال الشاعر: ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... ألا يرى ضوءها (¬5) من ليس (¬6) ذا بصر (¬7) وقال آخر: وليس يصح في المعقول شيء (¬8) ... إذا احتاج النهار إلى دليل (¬9) ¬
وبالله التوفيق (¬1). ... ¬
الباب الأول في الاصطلاحات
الباب الأول في الاصطلاحات وفيه عشرون فصلًا: الفصل الأول: في الحد. الفصل الثاني: في تفسير أصول الفقه. الفصل الثالث: في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل. الفصل الرابع: في الدلالة وأقسامها. الفصل الخامس: في الفرق بين الكلي والجزئي. الفصل السادس: في أسماء الألفاظ. الفصل السابع: الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما. الفصل الثامن: في التخصيص. الفصل التاسع: في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه. الفصل العاشر: في الحصر. الفصل الحادي عشر: خمس حقائق لا تتعلق بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم. الفصل الثاني عشر: حكم العقل بأمر على أمر. الفصل الثالث عشر: في الحكم وأقسامه. الفصل الرابع عشر: أوصاف العبادة. الفصل الخامس عشر: فيما تتوقف عليه الأحكام. الفصل السادس عشر: في الرخصة والعزيمة. الفصل السابع عشر: في الحسن والقبح. الفصل الثامن عشر: في بيان الحقوق. الفصل التاسع عشر: في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها. الفصل العشرون: في المعلومات.
الباب الأول: في الاصطلاحات قال المؤلف في الشرح: "الاصطلاحات هي الألفاظ الموضوعة للحقائق" (¬1)، و (¬2) معنى كلامه: أن الاصطلاحات عبارة عن الألفاظ الموضوعة عند الأصوليين لتعريف المعاني، كالعام والخاص، والمطلق، والمقيد، والظاهر، والمجمل، والمبين، والمتواطئ، والمشكك (¬3)، وغير ذلك. قوله (¬4): (الاصطلاحات) جمع: اصطلاح، ومعنى الاصطلاح هو: التوافق على أمر ما، إما قول وإما فعل، فالألفاظ الموضوعة على الحقائق (¬5) هي: مصطلح عليها، أي: هي (¬6) متفق عليها، وليست الألفاظ نفس الاصطلاحات، فإطلاق الاصطلاحات على الألفاظ: مجاز، وهو من باب إطلاق المصدر على الاسم (¬7) المفعول، كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي: مضروب الأمير، ومنسوج اليمن. فقوله: (في الاصطلاحات) تقديره: في الألفاظ المصطلح عليها عند ¬
الأصوليين. قول: (الباب الأول في الاصطلاحات) إنما قدم المؤلف رحمه الله باب الاصطلاحات على سائر الأبواب؛ لأن الاصطلاحات هي: الألفاظ الموضوعة للحقائق أي: المفردة (¬1) للمعاني، فالمفيد مقدم (¬2) على المفاد طبعًا، فوجب أن يتقدم (¬3) وضعًا. قوله (¬4): (وفيه عشرون فصلًا) أي: وفي هذا الباب عشرون فصلًا (¬5). قوله (¬6) أيضًا (¬7): (وفيه عشرون فصلًا) ظاهره يقتضي: أن مقتضى هذه الفصول كلها اصطلاحات، وليس الأمرك كذلك؛ لأن الفصل الحادي عشر لليس فيه اصطلاح أصلًا (¬8) لا عام (¬9) ولا خاص. ... ¬
الفصل الأول في الحد
قوله (¬1): الفصل الأول في الحد أي: الفصل الأول موضوع في بيان حقيقة الحد عند الأصوليين. ذكر المؤلف في هذا الفصل أربعة مطالب: أحدها: حقيقة الحد. وثانيها: هل الحد والمحدود شيء واحد أو شيئان؟ وثالثها: شروط الحد. ورابعها: أقسام الحد. ومعنى الحد في اللغة: المنع (¬2)، ومنه تسمية (¬3) السجان: حداد؛ لأنه يمنع المعتقل من الخروج من السجن، ومنه تسمية حدود الشريعة حدودًا؛ لأنها تمنع الجناة من العود إلى الجنايات، ومنه تسمية امتناع المعتدة من الوفاة بالإحداد لامتناعها من الزينة، ومنه تسمية الحديد؛ لأن الإنسان يمتنع به ممن (¬4) يريده بالإذابة، هذا معناه لغة (¬5). وأما معناه في الاصطلاح (¬6): فقد بيّنه المؤلف بقوله: (وهو شرح ما دل ¬
عليه اللفظ بطريق الإِجمال). وهو المطلب الأول من المطالب الأربعة المذكورة. وإنما قدم المؤلف فصل الحد على سائر فصول الباب ليوافق الترتيب الوضعي الترتيب الطبيعي، وذلك أن العلم على قسمين (¬1): علم التصور. وعلم التصديق. فعلم التصور يكتسب بالحد، وعلم التصديق يكتسب بالبرهان، فالتصور مقدم على التصديق؛ لأن التصور: علم المفردات، والتصديق: لتصور (¬2) علم المركبات، وعلم الإفراد (¬3) مقدم على علم التركيب، فالحد في الطبع مقدم على التصور؛ إذ بالحد يكتسب التصور، والتصور مقدم على التصديق؛ إذ لا تركيب إلا بعد الإفراد، فلما كان الحد مقدمًا على الجميع طبعًا، وجب تقديمه وضعًا (¬4). قوله (¬5): (وهو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإِجمال) الشرح لغة معناه: البيان والإيضاح. قال صاحب العين: شرحت الأمر (¬6) بيّنته (¬7). ¬
و (¬1) قوله (¬2): (شرح ما دل عليه اللفظ). قال المؤلف في الشرح: "أعني باللفظ: لفظ السائل". انتهى (¬3) (¬4). ومعنى كلامه: أن حقيقة الحد عندهم بيان الشيء الذي دل عليه لفظ السائل. قوله (¬5): (بطريق (¬6) الإجمال) أي: دل عليه لفظ السائل بحالة الإجمال، أي: دلالة إجمالية لا دلالة تفصيلية. مثال هذا: إذا سأل سائل (¬7) عن حقيقة الإنسان؟ فنقول له: الحيوان الناطق، فإن الحيوان الناطق الذي عرفنا به الإنسان للسائل، يدل عليه لفظ الإنسان لكن دل عليه (¬8) دلالة إجمالية لا تفصيلية، وإنما قلنا: يدل الإنسان على الحيوان الناطق؛ لأن الإنسان موضوع (¬9) لغة للحيوان الناطق، فالحيوان الناطق هو: مدلول لفظ الإنسان لغة. ومثاله أيضًا: إذا سأل سائل عن حققية المداد (¬10)؟ فتقول له: مجموع ¬
العفص (¬1)، والزاج (¬2)، والماء. فإن لفظ السائل الذي هو: المداد يدل على مجموع هذه الأشياء الثلاثة، لكن دلالته (¬3) عليها دلالة إجمالية، لا تفصيلية، إنما قلنا: دل لفظ المداد على مجموع الأشياء الثلاثة؛ لأن ذلك المجموع موضوع (¬4) المداد. قوله (¬5): (شرح (¬6) ما دل عليه اللفظ) أطلق المؤلف الشرح على الشارح؛ لأنه صفة للقول الشارح، تقديره: القول الشارح لما دل عليه لفظ السائل، وهو: من باب إطلاق المصدر على اسم الفاعل نحو: رجل عدل وخصم، أي: عادل وخاصم. [فإن قلت (¬7): ما فائدة الحد؟ فإن قولنا: حد (¬8) الإنسان مثلًا هو: الحيوان الناطق، فلا يخلو السائل من: أن يكون عالمًا بالحيوان الناطق أو جاهلًا به، ¬
وأيًا مَّا (¬1) كان فباطل؛ لأنه إن كان عالمًا به فلا يفيد؛ لأنه تحصيل الحاصل، وإن كان جاهلًا: فلا يفيد (¬2)؛ إذ لا يعرَّف (¬3) مجهول بمجهول. قلنا: إنما يفيد الحد معرفة نسبة اللفظ إلى الحقيقة لمن هو عارف بالحقيقة إلا أنه جاهل يكون اللفظ موضوعًا لها، فإذا كان السائل عن الإنسان عالمًا بالحيوان الناطق إلا أنه جاهل يكون الإنسان موضوعًا له، فإذا سأل عن الإنسان فقيل له: هو الحيوان الناطق: فقد حصل مطلوبه] (¬4). قوله (¬5): (وهو غير الحدود، إِنْ أُريد به اللفظ، ونفسه (¬6) إِنْ أُريد به (¬7) المعنى). هذا هو المطلب الثاني من المطالب الأربعة التي احتوى عليها هذا الفصل، وهو قولنا: هل الحد والمحدود شيء واحد أو شيئان؟ فاعلم أن العلماء اختلفوا في حد الحد: فمنهم من قال: حد الشيء نفسه وذاته. ومنهم من قال: القول الشارح لمعناه (¬8) على وجه يجمع ويمنع. ¬
فمن قال: "حد الشيء نفسه وذاته" قال: الحد والمحدود: شيء واحد. ومن قال: "حد الشيء هو القول الشارح لمعناه (¬1) على وجه يجمع ويمنع" قال: الحد والمحدود: شيئان؛ لأن الحد هو القول الشارح، أي المبين للشيء المشروح، والمبيِّن خلاف المبيَّن، والشارح خلاف المشروح. قال أبو حامد (¬2) الغزالي - رضي الله عنه (¬3) - في مقدمة المستصفى (¬4): هذا الخلاف الواقع بين العلماء في الحد والمحدود أهما شيء (¬5)؟ أو شيئان؟ لا يصح؛ إذ لا خلاف في المسألة؛ إذ لم يتوارد القولان على شيء واحد؛ لأن كل واحد من القائلين حد خلاف مما حده الآخر (¬6). وبيان ذلك: أن الحد لفظ (¬7) مشترك بين ذات الشيء، وبين اللفظ الدال على ذاته، فمن قال: حد الشيء نفسه وذاته فقد حد أحد معنيي الحد وهو مدلول اللفظ، ومن قال: حد الشيء القول (¬8) الشارح لمعناه (¬9) على وجه يجمع ويمنع: فقد حد المعنى الآخر من معنيي الحد، وهو: اللفظ الدال على الذات. ¬
فظهر من هذا التقرير: أن هذين القولين لم يتواردا على محل واحد؛ إذ أحد (¬1) القائلين حد الدال، والآخر حد المدلول، فلا خلاف إذًا بين القولين المذكورين في حد الحد، لعدم التوارد على محل واحد؛ إذ من (¬2) شرط الخلاف التوارد على محل واحد. وإلى هذا التقرير (¬3) أشار المؤلف بقوله: (وهو غير المحدود إِن أريد به اللفظ، ونفسه إِن أُريد به المعنى). معناه: و (¬4) الحد خلاف المحدود إن أريد بالحد (¬5): اللفظ الدال على المعنى، أي: اللفظ الدال على ذات الشيء. قوله (¬6): (ونفسه إِن أريد به المعنى) أي: والحد نفسه المحدود وعينه إن أريد بالحد المعنى، أي إن أريد به ذات الشيء. فظهر من هذا (¬7): أن قولهم: وقع الخلاف (¬8) في حد الحد لا يصح ذلك؛ إذ لا خلاف بينهم في ذلك؛ إذ ذلك ليس بخلاف (¬9) مقال، إنما (¬10) هو اختلاف حال - كما تقدم تقريره -. ¬
قال أبو حامد (¬1) الغزالي - رضي الله عنه (¬2) - في مقدمة المستصفى: الشيء له في الوجود أربع رتب: الأولى: حقيقته في نفسه. الثانية: ثبوت مثاله في الذهن، ويعبر عنه بالعلم التصويري (¬3). الثالثة: تأليف أصوات بحروف (¬4) تدل عليه، وهي: العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابعة: تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر، وهي الكتابة الدالة على اللفظ، فالكتابة تدل على العبارة اللفظية، والعبارة اللفظية تدل على الحقيقة الذهنية، والحقيقة الذهنية تدل على الحقيقة الخارجية (¬5). و (¬6) قال بعض العلماء - في هذه الأشياء الأربعة -: الشيء له في الوجود (¬7) أربع وجودات: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في البيان، ووجود في البنان (¬8). ¬
هذه (¬1) العبارة مع عبارة الغزالي في المعنى واحدة، وإن اختلف اللفظ. فإن قوله: (وجود في الأعيان) هو: حقيقة الشيء في نفسه. وقوله: (وجود في الأذهان) هو: ثبوت مثاله في الذهن. وقوله: (وجود في البيان) هو: تأليف ألفاظ تدل على ما في الذهن. وقوله: (وجود في البنان) هو: تأليف رقوم تدل على اللفظ، والبنان هي (¬2) الأصابع لقوله (¬3) تعالى: {أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬6). فهذه الأشياء الأربعة (¬7) ينبغي أن يطلق الحد على كل واحدة (¬8) منها؛ لأنها كلها جامعة مانعة؛ وذلك (¬9) أن الحقيقة الخارجية جامعة لنفسها، مانعة لغيرها، والحقيقة الذهنية كذلك أيضًا؛ لأنها مطابقة للحقيقة الخارجية، ¬
[والعبارة اللفظية كذلك أيضًا؛ لأنها مطابقة للحقيقة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية] (¬1)، فالمطابق للمطابق مطابق، والكتابة كذلك أيضًا (¬2)؛ لأنها مطابقة للعبارة المطابقة للحقيقة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية، فالمطابق لمطابق المطابق مطابق، فهذه الأشياء الأربعة إذًا متطابقة (¬3) متوازنة (¬4). فينبغي لهذا أن يطلق الحد على كل واحدة من هذه الأربعة، لوجود الجمع والمنع في كل واحد منها، ولكن لم تجر عادة العلماء بإطلاق الحد على الكتابة، وعلى (¬5) الصورة الذهنية، واسم الحد عندهم مشترك (¬6) بين الحقيقة الخارجية، وبين اللفظ الدال عليها، فمن حد الحقيقة الخارجية قال: حد الشيء حقيقته وذاته، ومن حد اللفظ الدال عليها قال: حد الشيء القول الشارح لمعناه على وجه يجمع ويمنع. فقوله (¬7): (وهو غير المحدود إِن أريد به اللفظ) إشارة إلى تحديد الدال. وقوله (¬8): (ونفسه إِن أريد به المعنى) إشارة إلى تحديد المدلول. ¬
فجرى المؤلف على عادتهم من تخصيص اسم (¬1) الحد بهذين الأمرين، وهما: اللفظ الدال، والمعنى الخارجي، وبالله التوفيق بمنه (¬2). قوله (¬3): (وشرطه أن يكون جامعًا لجملة (¬4) أفراد (¬5) المحدود مانعًا من دخول غيره معه). هذا هو المطلب الثالث في شروط الحد، أي (¬6): ويشترط في الحد أن يكون شاملًا لجميع الأجزاء التي تركب (¬7) منها ذات المحدود. ويشترط فيه أيضًا أن يكون مانعًا من دخول غير المحدود في الحد. ومثال ذلك (¬8) قولنا: في حد الإنسان هو (¬9) الحيوان الناطق؛ لأن قولنا: الإنسان هو الحيوان (¬10) شامل لجميع أفراد الإنسان؛ إذ ما من إنسان إلا وهو: حيوان. وقولنا: الناطق: يخرج به ما ليس بإنسان من سائر أجناس الحيوان، فتخلص الحد للمحدود لجمعه (¬11) ومنعه. ¬
قوله (¬1): (جامعًا (¬2) لجملة أفراد المحدود مانعًا من دخول غيره معه (¬3)). هذا الكلام يستدعي أربعة أقسام في الحد باعتبار الجمع والمنع: أحدها: جامع مانع. الثاني: لا جامع ولا مانع. الثالث: جامع لا مانع. الرابع: مانع لا جامع. مثال الجامع المانع: قولنا في حد الإنسان: الحيوان الناطق؛ إذ ما من إنسان إلا وهو حيوان ناطق. ومثال ما لا جامع ولا مانع: قولنا في حد الإنسان: الحيوان الأبيض، فهو غير جامع لخروج السودان منه، وهو غير مانع لدخول البيض من البهائم فيه (¬4). ومثال الجامع غير المانع: قولنا في حد الإنسان: هو الحيوان، فهو جامع؛ إذ ما من إنسان إلا وهو: حيوان (¬5)، وهو غير مانع لدخول البهائم فيه (¬6)؛ لأنها حيوان. ¬
ومثال المانع غير الجامع: قولنا في حد الإنسان: الحيوان (¬1) الرجل، فإنه مانع من دخول غير الإنسان فيه، وهو غير جامع لخروج النساء والصبيان (¬2) منه. والصحيح من هذه الأقسام الأربعة (¬3) هو: الأول، وهو: الجامع المانع، وأما الثلاثة الباقية فهي باطلة، إما لعدم الجمع خاصة، أو لعدم المنع خاصة، أو لعدمهما معًا (¬4). وهذا الشرط الذي هو الجمع والمنع (¬5) مشروط في الحد الحقيقي، والرسمي، واللفظي. قال (¬6) المؤلف في الشرح (¬7): "قولنا: "جامع" معناه: مطرد، وقولنا: "مانع" معناه: منعكس، فالجامع المانع هو: المطرد المنعكس". انتهى (¬8). وقال غيره بعكس هذا: وأن المطرد هو المانع، والمنعكس هو الجامع، فالمطرد المنعكس هو: المانع الجامع. قال: هذا هو الراجح في النظر؛ لأن معنى الطرد: اقتران (¬9) الوجود ¬
بالوجود بحيث يلزم من وجود الحد وجود المحدود، وأما إذا وجد الحد ولم يوجد المحدود، كتحديد الإنسان بأنه الحيوان (¬1) فهو: حد غير مطرد؛ لأنه أعم من المحدد فهو غير مانع. ومعنى العكس: اقتران العدم بالعلم بحيث يلزم من عدم الحد عدم المحدود، فأما إذا عدم (¬2) الحد ولم يعدم المحدود كتحديد الإنسان بأنه الحيوان الرجل فهو حد غير منعكس على المحدود؛ لأنه أخص من المحدود فهو غير جامع. وقيل: الاطراد هو أنه متى وجد الحد وجد المحدود، ومتى وجد المحدود وجد الحد. قال بعضهم: هذا وهم؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لكان التعرض لذكر الانعكاس مستغنى عنه؛ لاستلزام (¬3) اشتراط وجود الحد عند وجود المحدود؛ اشتراط (¬4) عدم المحدود عند عدم الحد، ومثال هذا الوهم يجري في الانعكاس، ويرد عليه ما ورد على الطرد، والله أعلم. فهذان قولان في معنى (¬5) الطرد (¬6) والعكس. ¬
وذكر بعضهم أيضًا (¬1) في معنى الطرد والعكس (¬2) ثلاثة أقوال أخرى: أحدها: أن الطرد: أن يصدق اسم الحد على المحدود، والعكس (¬3): أن يصدق اسم المحدود على الحد، كقولك (¬4): الحيوان الناطق هو: الإنسان، والإنسان هو: الحيوان الناطق. [القول الثاني: أن الطرد أن يصدق اسم الحد على المحدود إثباتًا، والعكس: أن ينتفي اسم الحد عن المحدود، كقولك: الإنسان هو: الحيوان الناطق، وما ليس بحيوان ناطق: فليس بإنسان] (¬5). والقول الثالث: أن الطرد هو: أن يصدق كل واحد من الحد والمحدود على الآخر إثباتًا، والعكس: أن ينتفي كل واحد منهما عند انتفاء الآخر، كقولك: الإنسان هو: الحيوان الناطق، والحيوان الناطق هو: الإنسان، وما ليس بحيوان: فليس بإنسان، فليس بحيوان ناطق، [وما ليس بإنسان فليس بحيوان ناطق، وما ليس بحيوان ناطق فليس بإنسان. وسبب هذا الخلاف هو الاصطلاح] (¬6). ¬
قوله (¬1): (ويحترز فيه من التحديد (¬2) بالمساوي، والأخفى، وما لا يعرف إِلا بعد معرفة المحدود، والإِجمال في اللفظ). هذه أربعة شروط أيضًا؛ لأن هذا الكلام معطوف على قوله: وشرطه أن يكون جامعًا [لجملة أفراد المحدود، مانعًا (¬3) من دخول غيره معه] (¬4) تقديره (¬5): وشرطه أن يكون جامعًا مانعًا محترزًا فيه من التحديد بالمساوي، والأخفى، وما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود، والإجمال في اللفظ. فقوله على هذا: (ويحترز فيه) منصوب لعطفه (¬6) على المنصوب الذي هو (¬7) قوله: (أن يكون) تقديره: وشرطه أن يكون وأن يحترز فيه. ويجوز فيه الرفع أيضًا: فيكون كلامًا مستأنفًا، نبه فيه المؤلف على الأشياء التي تؤثر الخلل في الحدود فيكون من باب عطف الجمل. قوله (¬8): (ويحترز فيه) (¬9) أي: ويحترز (¬10) في الحد من الإتيان فيه ¬
بالشيء المماثل للمحدود في الجهالة (¬1) عند السائل. مثال ذلك: إذا قيل: ما الإنسان؟ فيقال (¬2): منتصب القامة، فإنهما متساويان في الجهالة (¬3) عند السائل [والتعريف بالمجهول لا يحصل معلومًا] (¬4). ومثاله أيضًا: إذا قال قائل (¬5): ما الزوج؟ فتقول (¬6) له (¬7): عدد يزيد على المفرد (¬8) بواحد، هذا إذا لم يعرف السائل واحدًا منهما. ومثاله أيضًا: إذا قال قائل: ما المفرد (¬9)؟ فتقول له (¬10): عدد يزيد على الزوج بواحد، هذا (¬11) إذا لم يعرف السائل معنى الفرد والزوج معًا، أما (¬12) إذا عرف أحدهما: فإن التعريف يحصل له بالمعروف عنده. ومثال التعريف بالمساوي في الجهالة (¬13) أيضًا: إذا قال (¬14): ما الفرفخ (¬15)؟ ¬
فتقول: الفرفخين. فهذا التعريف (¬1) أيضًا باطل؛ لأنه (¬2) تعريف مجهول بمجهول، والمراد بهذين الاسمين العشبة التي يقال لها: البقلة الحمقاء، وهي التي يقال لها: الرجلة، وهي العشبة التي جرت العادة عند الأطباء يصفون (¬3) بزرها لتسكين العطش (¬4). وقوله (¬5): (والأخفى). مثال التعريف بالأخفى في الجهالة (¬6) من الحدود إذا قال (¬7): ما الإنسان؟ فتقول: العالم الأصغر؛ لأن معرفة العالم الأصغر أخفى من معرفة الإنسان. ومثاله أيضًا: إذا قال (¬8): ما الأسد؟ فتقول (¬9): الغضنفر أو الضيغم، أو الضرغام (¬10)؛ لأن معرفة هذه الألفاظ الثلاثة أخفى من معرفة الأسد. ومثال التعريف بالأخفى أيضًا: إذا قيل (¬11): ما البقلة الحمقاء؟ فتقول: ¬
الفرفخ، أو الفرفخين. ومثاله أيضًا: إذا قيل: ما الخمر؟ فيقال: العقار؛ لأن معرفة العقار أخفى من معرفة الخمر. وقوله (¬1): (والأخفى) يستغنى عنه بقوله: (المساوي)؛ لأنه إذا منع التعريف بالمساوي، فأولى وأحرى (¬2) أن يمنع التعريف بالأخفى. قالوا: ومثال التحديد بالمساوي أو الأخفى (¬3): التزكية عند القاضي، فإذا طلب القاضي تزكية شاهد لا يعرفه قط، وزكاه رجل لا يعرفه القاضي أيضًا قط (¬4) فهذه التزكية: باطلة؛ لأنها (¬5) من باب التعريف بالمساوي في الجهالة؛ إذ المُعرِّف والمعرَّف مجهولان عند القاضي. وإذا طلب القاضي تزكية شاهد عرفه القاضي معرفة العين (¬6)، ولا يدري حاله، وزكاه رجل لا يعرفه القاضي ولا رآه أصلاً، فهذه التزكية أيضًا: باطلة؛ لأنها (¬7) من باب التعريف بالأخفى؛ لأن معرفة المعرِّف أخفى عند القاضي من معرفة المعرَّف. قوله (¬8): (وما لا يعرف إِلا بعد معرفة المحدود) معناه: ويحترز (¬9) في ¬
الحد من التعريف بما تتوقف معرفته على معرفة المحدود. وهذا التوقف تارة يكون بمرتبة واحدة، وتارة يكون بمراتب: مثاله بمرتبة واحدة: إذا قيل: ما الشمس؟ فتقول (¬1): كوكب نهاري، فإنه لا تعرف الشمس إلا بعد معرفة النهار، ولا يعرف النهار إلا بعد معرفة الشمس، فتوقف معرفة (¬2) كل واحد (¬3) منهما على معرفة الآخر، فهذا (¬4): باطل؛ لأنه يلزم منه الدور. ومثاله أيضًا: إذا قيل: ما الأب؟ فيقال: من له ابن، فكل واحد منهما متوقف (¬5) على معرفة الآخر. ومثاله أيضًا: إذا قيل: ما الابن؟ فيقال: من له أب، فكل واحد منهما متوقف (¬6) على الآخر؛ لأنهما متضايفان. ومثاله (¬7) أيضًا: قولك (¬8) في حد العلم: معرفة المعلوم على ما هو به؛ لأن العلم لا يعرف إلا بعد معرفة المعلوم؛ لأنه قد أخذ في حده، ولا يعرف المعلوم أيضًا إلا بعد معرفة العلم؛ لأن المعلوم مشتق من العلم، ولا يعرف ¬
المشتق إلا بعد معرفة المشتق منه. ومثاله أيضًا: قولك (¬1) في حد الأمر: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به، فإن المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فكل واحد من المعرِّف والمعرَّف متوقف على معرفة الآخر. ومثال التوقف بمراتب: إذا قيل: مال الزوج؟ فيقال: الاثنان، فيقال: وما الاثنان؟ فيقال: المنقسم بمتساويين، فيقال: وما المنقسم بمتساويين؟ فيقال: الزوج، فقد عرف الزوج بما لا يعرف إلا بعد معرفته بمراتب فهو (¬2): أشد فسادًا من القسم الأول (¬3). [قال الخسروشاهي (¬4): قولهم: ما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود فيه دور، نحو قولنا في حد العلم: هو معرفة المعلوم على ما هو به لا يصح فيه الدور؛ لأن المقصود إنما هو (¬5) نسبة اللفظ إلى الحقيقة، وذلك أن يكون السائل عارفًا بالمعلوم، ولكن لم يعلم كون العلم موضوعًا للمعلوم، فإذا أخبر بذلك ¬
حصل مطلوبه من غير دور، فإن المقصود بالحد هو نسبة الحد إلى المحدود لمن هو عارف بالمحدود فلا دور] (¬1). وقوله (¬2): (والإِجمال في اللفظ) ومعنى المجمل هو: اللفظ (¬3) الذي لا تتضح دلالته للسامع (¬4). مثاله: التحديد باللفظ المشترك كما (¬5) إذا قيل: ما العسجد؟ فيقال: العين، فإن العين لفظ مشترك بين الذهب، وعين الماء، وعين الميزان، وعين الشمس، والحدقة، وغير ذلك، مما يطلق عليه لفظ العين (¬6). فتعريف العسجد بالعين: باطل؛ إذ هو تعريف بالمجهول، والمجهول لا يحصل به بيان، فالذي ينبغي أن يقال في تعريف العسجد هو: الذهب (¬7). ولكن (¬8) هذا كله إنما يمنع (¬9) التعريف باللفظ المجمل إذا لم يكن هنالك قرينة حالية أو مقالية تدل على المراد به، أما إذا كانت هنالك قرينة تدل على المراد: فيجوز إيقاع اللفظ المشترك في الحدود. مثال ذلك: إذا قلنا: العدد إما زوج أو فرد (¬10)، وكذلك قولنا (¬11): ¬
العالم: إما حيوان، أو جماد، أو نبات، وكذلك قولنا (¬1): الحيوان، إما ماشٍ، أو سابح، أو طائر. فهذا كله كلام صحيح محصل للمراد للسامع، وإن وقع فيه لفظ مشترك وهو أو؛ لأن (أو) لفظ مشترك بين التنويع، والتخيير، والإباحة، والشك، والإبهام، ولكن دل السياق في هذه الأمثلة على أن (¬2) المراد به التنويع دون غيره من محامله، فإذا وقع مثل هذا في الحدود فإنه لا يجوز؛ إذ المقصود حصول البيان والمقصود، وإنما المحذور (¬3) فوات المقصود والمراد. وها هنا ثلاثة ألفاظ اختلف الأصوليون في استعمالها في الحدود وهي: المشترك والمجازي، واللفظ الغريب في اللغة. ثالثها: المشهور (¬4): إذا كانت هناك (¬5) قرينة حالية أو مقالية تدل على المقصود والبيان: فإنه يجوز استعمالها وإلا فلا. فقوله (¬6): (والإِجمال في اللفظ) يريد: إذا لم يكن فيه ما يدل على المراد. قوله (¬7): (ويحترز (¬8) فيه من التحديد بالمساوي، والأخفى، وما لا ¬
يعرف إِلا بعد معرفة المحدود، والإِجمال في اللفظ) (¬1) هذه (¬2) الأربعة الأشياء من الأشياء التي يقع بها الخلل والفساد في الحدود. واعلم أن الفساد في الحد (¬3) يكون من جهة الجنس، وتارة يكون من جهة الفصل، وتارة يكون من أمر مشترك بينهما. فأما الذي يكون من جهة الجنس فهو أشياء: أحدها: أن يجعل (¬4) الفصل بدل (¬5) الجنس. مثاله: إذا قيل: ما الإنسان؟ فيقال: الناطق الحيوان، فالحيوان هو الجنس المشترك بين الإنسان وغيره، والناطق هو الفصل المبين (¬6) للإنسان من غيره، صوابه: أن يقدم الجنس (¬7) على الفصل، فيقال: الحيوان الناطق. ومثاله أيضًا: إذا قيل: ما العشق؟ فيقال: إفراط المحبة، فالمحبة جنس، والإفراط فصل، صوابه: المحبة المفرطة؛ لأن صورة الحد تقديم (¬8) الجنس على الفصل. ¬
الثاني: أن يجعل النوع بدل الجنس. مثاله: أن يقال: ما الشر؟ فيقال: ظلم الناس، فإن ظلم الناس نوع من الشر. الثالث: أن يجعل الجزء بدل الجنس. مثاله أن يقال: ما العشرة؟ فيقال: خمسة وخمسة؛ لأن الخمسة جزء من العشرة وليست بجنس، وإنما يقال في حده (¬1): عدد زوج مركب من خمسة وخمسة. الرابع: أن يجعل الماضي بدل الجنس. مثاله: إذا قيل: ما الولد؟ [فيقال] (¬2): نطفة مستحيلة. ومثاله أيضًا: إذا قيل: ما الرماد؟ فيقال: خشب محترق (¬3). و (¬4) الخامس: أن يجعل المحل بدل الجنس. مثاله: أن يقال: ما الكرسي؟ فيقال: خشب يجلس عليه (¬5) فإن الخشب محل الصورة لا جنس. ومثاله: إذا قيل: ما السيف؟ فيقال: حديدة يقطع بها، فإن الحديدة هي (¬6) ¬
المحل الذي تصنع (¬1) منه هذه (¬2) الصورة لا جنس، فإنما (¬3) يقال: آلة صناعية من حديد طولها كذا، [وعرضها كذا] (¬4) يقطع بها كذا فالآلة جنس (¬5). السادس: أن يجعل الوصف (¬6) العرضي (¬7) العام بدل الجنس. مثاله: إذا قيل: ما الإنسان؟ فيقال: الموجود الناطق، لأن الموجود عرضي عام. السابع: أن تجعل (¬8) القدرة مكان المقدور. مثاله: إذا قيل: ما العفيف؟ فيقال (¬9): هو الذي (¬10) يقدر على اجتناب اللذات الشهوانية، صوابه أن يقال: هو الذي يترك اللذات الشهوانية؛ لأن الفاسق يقدر على تركها أيضًا، هذا بيان الخلل من جهة الجنس (¬11). ¬
وأما الخلل الكائن (¬1) من جهة الفصل: فمثاله: أن يجعل اللوازم (¬2) والعرضيات بدل الذاتيات، كما إذا قيل في حد الإنسان: هو الحيوان الضاحك أو الكاتب، وكذلك إذا ترك بعض الفصول (¬3) كمثل إذا (¬4) قيل: ما الحيوان؟ فيقال: الجسم الحساس، ويترك المتحرك بالإرادة، فإنه من جملة الفصول التي تميز الحيوان من النبات. وأما الخلل الكائن من أمر مشترك بين الجنس والفصل فهذا (¬5) بينه المؤلف بقوله: وشرطه أن يكون جامعًا [لجملة أفراد المحدود] (¬6) إلى قوله: والإجمال (¬7) في اللفظ (¬8). قوله (¬9): (والمعرفة خمسة: الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه عند السامع). ¬
هذا هو المطلب الرابع، وهو المطلب الآخر من المطالب الأربعة التي احتوى عليها الفصل، وهو أقسام الحد، فذكر المؤلف رحمه الله أن أقسام الحد خمسة: قسمان في الحد: تام وناقص (¬1). وقسمان في الرسم: تام (¬2) وناقص. والقسم الخامس: تبديل لفظ بلفظ. والدليل على انحصار القسمة في هذه الأقسام الخمسة: أن تعريف الماهية إما (¬3) أن يكون بالداخل فيها، أو بالخارج (¬4) عنها، أو بالداخل والخارج معًا. فإن كان بالداخل: فإما أن يكون بجميع أجزائها أو ببعضها، فإن كان بجميع أجزائها سمي: حدًا تامًا، وإن كان ببعض أجزائها؛ فإن كان جزءًا مميزًا سمي: حدًا ناقصًا، وإن لم يكن مميزًا فلا يكون معرفًا. وإن كان بالخارج (¬5) عن الماهية، فإن كان صفة قائمة بها سمي: رسمًا ناقصًا. وإن كان غير قائم بها، وهو تبديل لفظ بلفظ أشهر منه سمي: حدًا لفظيًا. وإن كان التعريف بالداخل والخارج معًا؛ فإن كان الداخل هو القدر المشترك، والخارج هو القدر المميز سمي: رسمًا تامًا، وهو الذي يكون مركبًا ¬
من الجنس والخاصة، وإن كان بخلاف ذلك (¬1) فلا تسميه الحكماء باسم معين. قوله (¬2): (والمعرفات خمسة) (¬3) هذه صفة محذوفة الموصوف. قيل: الموصوف بها: الحدود، تقديره: والحدود المعرفات خمسة. وقيل: الموصوف بهذه الصفة هو: الأشياء، تقديره: والأشياء المعرفات (¬4). وسبب هذا الاختلاف: الخلاف الواقع بينهم في الحد؛ هل هو اسم حقيقة فى كل واحد من هذه الأقسام الخمسة؟ أو هو حقيقة في الحد التام خاصة وهو مجاز في الأقسام الأربعة الباقية؟ وظاهر كلام ابن الحاجب (¬5) أنه يطلق على جميعها لأنه قال: "والحد حقيقي، ورسمي، [ولفظي] " (¬6). ¬
فإذا قلنا: حقيقة في جميع الأقسام (¬1) الخمسة: فقيل: هو لفظ مشترك. وقيل: هو لفظ مشكك. ذكر الغزالي في مقدمة المستصفى هذين القولين (¬2) والأرجح من القولين بالتشكيك، فتكون الأولية على حسب قوتها (¬3) في التعريف. قوله (¬4): (والمعرفات خمسة) (¬5) تقديره: والحدود، أو الأشياء (¬6) المحصلات لصورة الشيء وحقيقته في الذهن: خمسة حدود، أو خمسة (¬7) أشياء. قوله (¬8): (الحد (¬9) التام) سمي بالحد التام؛ لاشتماله على التعريف بجميع أجزاء الماهية. ¬
وقوله (¬1): (والحد الناقص) سمي بالناقص؛ لنقصان بعض أجزاء الماهية منه. وقوله (¬2): (والرسم التام) سمي هذا بالرسم؛ لأنه علامة على الذات؛ لأن الرسم هو: العلامة، وسمي تامًا؛ لاشتماله على شيئين وهما: الجنس، والخاصة. وقوله (¬3): (والرسم الناقص) سمي هذا بالناقص، لاشتماله على: شيء [واحد] (¬4) وهو: الخاصة. وقوله (¬5): (وتبديل لفظ بلفظ [مرادف له أشهر (¬6) منه عند السامع] (¬7)). قال المؤلف في الشرح: إنما اشترطنا (¬8) هنا (¬9) المرادفة في تبديل لفظ بلفظ احترازًا (¬10) من الحد الناقص، والرسم الناقص؛ لأن كل واحد منهما فيه تبديل لفظ بلفظ، لكن ليس مرادفًا (¬11) له (¬12). ¬
وقوله (¬1): (أشهر منه عند السامع) معناه: أن يكون اللفظ (¬2) المعرِّف أشهر وأظهر في التعريف عند السامع من اللفظ المعرَّف، كقولنا: ما العقار؟ فنقول: الخمر، وما الضرغام؟ فنقول: الأسد. وقوله (¬3): (أشهر) احترازًا من المساوي والأخفى (¬4) كقولنا في اللفظ المساوي: ما الضرغام؟ فنقول: الضيغم، وما الفرفخ؟ فنقول: الفرفخين [وقولنا في اللفظ الأخفى: ما الخمر؟ فنقول: العقار، وما الأسد؟ فنقول: الضرغام] (¬5). قوله: (عند السامع)؛ لأن السامع هو المقصود بالبيان. قال المؤلف في الشرح: إنما قلت (¬6): أشهر منه (¬7) عند السامع؛ لأن الشهرة قد تنعكس. مثال ذلك: الفول والباقلاء، فالفول هو المشهور عند أهل مصر، والباقلاء هو المشهور عند أهل الشام، فإذا قال المصري للشامي (¬8): ما الباقلاء؟ فجوابه أن يقول له (¬9): [هو الفول؛ لأن الفول هو اللفظ الذي يعرفه المصري، وإذا قال الشامي للمصري: ما الفول؟ فجوابه أن يقول ¬
له] (¬1): هو الباقلاء؛ لأن الباقلاء هو اللفظ الذي (¬2) يعرفه الشامي، ولا يجاوب السائل إلا بما هو أشهر عنده، وإلا فلم يحصل البيان (¬3). قوله (¬4): (فالأول التعريف بجملة الأجزاء) أي القسم الأول الذي هو: الحد التام، هو: التعريف بجميع الأجزاء الذاتيات التي تركب (¬5) منها الماهية. و (¬6) قوله: (الأجزاء) يعني: الذاتية (¬7) في الكلام حذف الصفة، ومعنى قولنا: الذاتية (¬8) أي: التي تركبت منها الذات، وهي: الأوصاف الداخلة في الماهية، احترازًا من الأوصاف العرضية وهي: الأوصاف الخارجة عن الماهية. و (¬9) قوله: (نحو: قولنا: الإِنسان هو: الحيوان الناطق) هذا مثال الحد التام، الذي هو التعريف بجميع أجزاء الماهية؛ وذلك أن حقيقة الإنسان مركبة من الحياة والنطق، وهذا هو الحد الحقيقي، وهو الذي فيه التعريف بجميع الأجزاء الذي (¬10) تركبت منه الماهية. ¬
وقوله (¬1): (نحو قولنا: الإِنسان هو الحيوان الناطق). فيه تنبيه على كيفية صورة الحد (¬2)، وهي (¬3): أن يؤتى أولاً بالجنس المشترك بين الماهية وغيرها، ثم يؤتى بعده بالفصل المميز للماهية عن (¬4) غيرها (¬5). فقولنا في هذا (¬6) المثال: الحيوان هو: الجزء الذي هو مشترك (¬7) بين ماهية الإنسان وغيرها من سائر ما له روح، وقولنا: الناطق هو الجزء المميز ماهية الإنسان عن الشركة، ويسمى الجزء الأول عندهم (¬8) بالجنس، ويسمى الجزء (¬9) الثاني بالفصل، ولكن يشترط في الجزء الأول الذي هو الجنس أن يكون قريبًا للماهية، احترازًا من الجنس البعيد. مثال القريب: تعريف الإنسان بالحيوان الناطق كما قال المؤلف. ومثال الجنس البعيد: تعريف الإنسان بالجسم الناطق؛ [لأن الجسم بعيد؛ لأنه أعلى من الحيوان (¬10)؛ لأنه يحتوي على الحيوان وعلى الجماد. ¬
ولأجل هذا قال ابن] (¬1) الحاجب: وصورة الحد الجنس الأقرب ثم الفصل (¬2). وقوله (¬3): (ونحو قولنا: الإِنسان هو الحيوان الناطق). فيه تنبيه أيضًا (¬4): على أن الحد الحقيقي هو ما تركب من الأجزاء الذاتية (¬5)؛ لأن (¬6) مثاله يقتضي (¬7) ذلك، وأما إذا وقع التعريف بغير ذلك فلا يسمى حدًا حقيقيًا، وإنما يسمى رسمًا. والفرق بين الذاتي، والعرضي: أن الذاتي: ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه، والعرضي: ما يتصور فهم الذات قبل فهمه. قال ابن الحاجب: والذاتي ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه كاللونية للسواد والجسمية للإنسان. انتهى (¬8). يعني: أن الوصف الذي هو اللونية هو وصف ذاتي للسواد؛ إذ لا يمكن تصور السواد بدون اللونية؛ لأن السواد قابض للبصر، وكذلك لا يمكن تصور ¬
ذات (¬1) الإنسان قبل تصور الجسمية؛ لأن (¬2) الإنسان جسم نام لاستحالة تصور الكل بدون تصور (¬3) الجزء، و (¬4) هذا بيان الذاتي. وأما العرضي فهو: ما يتصور فهم الذات قبل فهمه كما قدمنا، وهو على قسمين: أحدهما: لازم. والآخر: عارض. فاللازم ما لا يتصور مفارقته للماهية كالفردية للثلاثة، والزوجية للأربعة. والعارض: ما تتصور (¬5) مفارقته للماهية (¬6)، وهو على قسمين: ما يزول. وما لا يزول. فمثال ما يزول: حمرة الخجل وصفرة الوجل (¬7). ومثال ما لا يزول: سواد الغراب وسواد الزنجي. ¬
وقوله (¬1): (نحو قولنا: الإِنسان هو الحيوان الناطق) اعترض على هذا الحد بأن قيل (¬2): غير جامع ولا مانع، وإنما قيل (¬3): غير جامع؛ لخروج الأبكم منه؛ لأنه إنسان غير ناطق، وإنما قيل: غير مانع؛ لدخول الببغاء فيه؛ لأنه حيوان ناطق. أجيب عنه: بأن قيل (¬4): المراد بالناطق: العاقل، فيدخل الأبكم وتخرج (¬5) الببغاء؛ لأنها غير عاقلة. والببغاء هو (¬6): طير (¬7) أكبر من اليمامة بيسير، وذكر عنها أنها أهرقت محبرة [لرجل فنتف رأسها] (¬8)، فدخل عليها رجل آخر فوجدها منتوفة الرأس، فقالت له: أهرقت المحبرة (¬9)، فهذا كلام عربي فصيح، لكن لا (¬10) يعقل المتكلم به. فقوله (¬11): (الإِنسان هو الحيوان الناطق) معناه: العاقل احترازًا من الببغاء، لأنه (¬12) حيوان غير عاقل. ¬
ثم اعترض على هذا أيضًا بأن قيل أيضًا: هذا غير جامع ولا مانع؛ لأن قولنا: معناه الحيوان العاقل، يخرج منه فاقد العقل من الناس، ويدخل فيه الجن والملائكة؛ لأنهم حيوان عاقل. أجيب (¬1) عنه: بأن حقيقة العقل سجية تنشأت (¬2) عن الأمزجة البشرية فلا يدخل الجن والملائكة، وهذه السجية حاصلة (¬3) لكل إنسان كان رضيعًا أو فطيمًا، كان عاقلاً أو فاقد عقل، كان يقظان أو نائمًا. فهذه السجية هي في كل إنسان إلا أنها قد يمنع ظهورها (¬4) في بعضهم مانع كالطفل، والمجنون، والسكران، والمغمى عليه، والنائم (¬5)، غير أنها في الطفل ضعيفة لم تبلغ فعلها بمنزلة رجل الطفل بالنسبة إلى المشي، وكالنار القليلة (¬6) لم تبلغ أن تحرق الجذوع (¬7)، وهي في المجنون والسكران كالعين الحولا، وهي في المغمى (¬8) كالعين التي عليها (¬9) غشاوة من بخار يرقى إليها، وهي في النائم كالعين المغمضة. [وقوله: (في الحد التام نحو قولنا: الإِنسان هو الحيوان الناطق فعرفه ¬
باجتماع الجنس والفصل). يريد: وكذلك أيضًا ما اجتمع فيه حد الجنس مع الفصل، نحو قولنا في حد الإنسان: الجسم النامي الحساس الناطق، فقولنا: الجسم النامي الحساس هو: حد الحيوان، وقولنا: الناطق هو: الفصل المميز للإنسان عن غيره من أنواع الحيوان، فلا فرق إذًا في حد الإنسان بين قولك: الحيوان الناطق وبين قولك: الجسم النامي الحساس الناطق] (¬1). وقوله (¬2): (والثاني: التعريف بالفصل وحده، وهو: الناطق). يعني أن الحد الناقص هو: التعريف بالفصل وحده، أي: دون الجنس القريب، وأراد بالفصل: الجزء الذي يميز الماهية (¬3) عن (¬4) غيرها (¬5)، أي: يميز حقيقة الإنسان من سائر الحيوانات في هذا المثال. قوله (¬6): (بالفصل (¬7) وحده) يريد: وكذلك التعريف بالفصل مع الجنس البعيد فإنه حد ناقص، نص عليه الخونجي (¬8) في "الجمل" كقولك في حد ¬
الإنسان: الجسم الناطق (¬1). و (¬2) قوله (¬3): (والثالث التعريف بالجنس والخاصة كقولنا: هو (¬4) الحيوان الضاحك) يعني أن الرسم التام هو التعريف بالجنس القريب مع الخاصة (¬5). ومعنى الخاصة هو: الوصف الخارج عن (¬6) الماهية الخاص بها دون غيرها نحو: الضاحك، والكاتب، والخياط، وغيرها من الأوصاف الخاصة بالإنسان. قال المؤلف (¬7) في الشرح: المراد بالضاحك ونحوه (¬8) من خصائص الإنسان هو: الضاحك بالقوة دون الفعل (¬9)؛ لأن الضاحك بالقوة هو ¬
الموجود في جميع أفراد (¬1) الإنسان، فيكون جامعًا مانعًا. وأما الضاحك بالفعل فقد يعرى عنه كثير من أفراد الإنسان، ويكون عبوسًا فلا يكون جامعًا، بل المراد القوة التي هي (¬2) القابلية، دون الفعل الذي هو الوجود والوقوع، وقس عليه غيره، انتهى (¬3) نصه (¬4). قوله (¬5): (والرابع وبالخاصة وحدها نحو قولنا: هو الضاحك) يعني: أن الرسم الناقص هو التعريف بالخاصة وحدها، أي: دون الجنس القريب، نحو قولنا في حد الإنسان: هو الضاحك. وقوله (¬6): (بالخاصة وحدها) يريد: وكذلك إن كان التعريف بالخاصة وبالجنس البعيد فهو رسم ناقص؛ لأن الجنس البعيد بمنزلة العدم فكما أن الجنس البعيد مع الفصل هو: حد ناقص، فكذلك الجنس البعيد مع الخاصة هو: رسم ناقص، كقولنا في حد الإنسان هو: الجسم الضاحك، أو هو: الجسم الكاتب، أو هو: الجسم الخياط. انظر ذَكَرَ المؤلف أربعة أنواع وهي (¬7): اجتماع الجنس مع الفصل وهو: الحد التام، وذكر اجتماع الجنس مع الخاصة وهو: الرسم التام، وذكر انفراد الفصل وهو: الحد الناقص، وذكر انفراد الخاصة وهو: الرسم الناقص. ¬
وسكت عن اجتماع الفصل مع الخاصة (¬1) نحو قولنا في حد الإنسان هو: الناطق الضاحك، مع أنه جامع مانع محصل للمقصود (¬2) أكثر من الجنس والخاصة لذكر المميز، وهو الفصل مع الخاصة بالماهية. وقد ذكر فيه المؤلف (¬3) في الشرح قولين: قيل: هو (¬4) رسم تام؛ لأن الرسم التام ما اجتمع فيه الداخل والخارج كيف كان (¬5). وقيل: الرسم التام ما اجتمع فيه الجنس والخاصة. وأما اجتماع الفصل مع الخاصة فليس له اسم يخصه، وعلى هذا القول: الأكثر، قاله المؤلف في الشرح (¬6). انظر (¬7) أيضًا سكت المؤلف (¬8) عن اجتماع الثلاثة: الجنس، والفصل، والخاصة، نحو قولنا في حد الإنسان هو: الحيوان الناطق الضاحك (¬9)، فيجري فيه أيضًا القولان المذكوران آنفًا في اجتماع الفصل مع الخاصة: ¬
فعلى قول الأكثر منهم نقول (¬1): ليس له اسم معين يخصه. ونقول (¬2) على القول القائل بأن الرسم (¬3) التام هو: ما اجتمع فيه الداخل والخارج كيف (¬4) كان: إن (¬5) هذا رسم [تام] (¬6)؛ لاجتماع الداخل والخارج فيه (¬7). وينبغي أن نذكر ها هنا الكليات [الخمس] (¬8) وهي: النوع، والجنس، والفصل، والخاصة، و (¬9) العرض العام (¬10). فمثال النوع: الإنسان. ومثال الجنس: الحيوان. ومثال الفصل: الناطق. ومثال الخاصة: الضاحك. ومثال العرض العام: الماشي. ¬
فحقيقة النوع هو: الكلي المقول على أفراد متفقة الحقيقة والصورة كالإنسان، فإن أفراد الإنسان ذكورًا وإناثًا (¬1) متفقة في الحقيقة الإنسانية؛ لأنك (¬2) تقول: زيد إنسان، وعمرو إنسان، وهند (¬3) إنسان، ودعد إنسان، حتى تأتي على جميع أفراد الإنسان، وأفراد الإنسان أيضًا كلها (¬4) متفقة في صورة الإنسان، وهي امتداد (¬5) القامة. وحقيقة الجنس هو (¬6): الكلي المقول على أفراد متفقة الحقيقة دون الصورة كالحيوان، فإن أفراد الحيوان [كالإنسان (¬7)، والفرس، والحمار، والطير، وغيرها، من سائر الحيوان] (¬8) متفقة في (¬9) الحقيقة الحيوانية؛ لأنك تقول: الإنسان حيوان، والفرس حيوان، والحمار حيوان، والطير حيوان، حتى تأتي على جميع أفراد الحيوان، وأما صورها (¬10) فهي مختلفة؛ إذ صورة (¬11) الإنسان مخالفة (¬12) لصورة الفرس، والحمار، والطير، وغيرها (¬13)، ¬
وكل واحد أيضًا تخالف صورته صورة الآخر. وحقيقة الفصل هو (¬1): الكلي الداخل في الذات المميز للذات عن (¬2) غير الذات كالناطق في حد الإنسان، فإنه يفصل بين الإنسان وغيره. وحقيقة الخاصة هو: الكلي الخارج عن الذات الخاص بها دون غيرها كالضاحك بالنسبة إلى الإنسان، أو الكاتب (¬3) أو الخياط (¬4)، والمراد بذلك الضحك (¬5) بالقوة، وكذلك الكتابة والخياطة (¬6)، وما في معناها من خصائص الإنسان، وليس المراد به الفعل الذي هو الوجود والوقوع، فإن كثيرًا من أفراد الإنسان قد يعرى عن ذلك، وإنما المراد القوة؛ لأن ذلك هو العام لأفراد الإنسان. وحقيقة العرض العام هو: الكلي الخارج عن الذات المشترك بينها وبين غيرها كالماشي في قولك: ما الإنسان؟ فتقول: الماشي، فإن الماشي (¬7) غير خاص بالإنسان بل هو موجود في غيره من الحيوانات (¬8). قوله (¬9): (والخامس وضع أحد المترادفين موضع الآخر نحو قولنا (¬10): ما ¬
البُر؟ فتقول: القمح) (¬1). هذا هو الحد اللفظي؛ لأن الحد ثلاثة أقسام: حقيقي. ورسمي. ولفظي. بيّن المؤلف الحقيقي والرسمي، وكلامه (¬2) ها هنا (¬3) في اللفظي، وهو: تفسير اللفظ (¬4) بلفظ مرادف له أشهر منه (¬5)، كما نبه عليه أولاً في قوله: وتبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه عند السامع، وقد تقدم بيانه. مثّله المؤلف بقوله: ما البر؟ فنقول: القمح؛ لأن القمح مرادف للبر، وهو أشهر منه في الاستعمال. ومثاله أيضًا (¬6): ما الحنطة؟ فنقول (¬7): القمح. ومثاله أيضًا: ما العقار؟ فنقول (¬8): الخمر. ¬
ومثاله أيضًا (¬1): ما الغضنفر؟ فنقول: الأسد، وغير ذلك من الألفاظ المرادفة المشهورة، وبالله التوفيق (¬2). ... ¬
الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه
الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان أصول الفقه (¬1)، وإنما قدم هذا الفصل على ما بعده من الفصول؛ لأنه لما أراد الشروع في علم (¬2) الأصول نظر إلى أن تصور معنى (¬3) هذا العلم أسبق بالتعريف من الشروع في أحكامه؛ لأن الكلام على الشيء ثان عن تصوره. و (¬4) اعلم أن قولهم: أصول الفقه له تفسيران: تفسير (¬5) باعتبار الإفراد. وتفسير باعتبار التركيب. ¬
ففسره المؤلف ها هنا باعتبار الإفراد؛ لأنه فسر الأصول على حدتها [وفسر الفقه على حدته] (¬1)، وفسره غيره باعتبار التركيب، أي باعتبار كونه اسمًا علمًا على فن معلوم. وفسره ابن الحاجب بالاعتبارين معًا؛ لأنه فسره أولاً (¬2) باعتبار التركيب، وفسره ثانيًا باعتبار الإفراد (¬3)، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قوله (¬4): (فأصل الشيء ما منه الشيء لغة، ورجحانه ودليله (¬5) اصطلاحًا (¬6)). ذكر المؤلف ها هنا للأصل ثلاثة معان: واحد لغوي، واثنان اصطلاحيان (¬7). فقوله (¬8): (فأصل (¬9) الشيء: ما منه الشيء) (¬10) الألف واللام في الشيء ¬
الثاني (¬1) للحوالة على الشيء الأول، وهو من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬2). وقوله (¬3): (ما منه) (¬4) "ما" موصولة بمعنى: الذي، ومن لابتداء الغاية معناه: أصل الشيء هو: الشيء (¬5) الذي ينشأ (¬6) منه (¬7). مثاله (¬8): أصل السنبلة البرة؛ لأن السنبلة أصل نشأتها البرة. ومثاله أيضًا: أصل النخلة النواة؛ لأن النخلة إنما تنشأت (¬9) من النواة. ومثاله أيضًا: أصل الإنسان النطفة؛ لأن الإنسان أصل نشأته النطفة. و (¬10) قوله (¬11) (ما منه) هذا المجرور متعلق بمحذوف تقديره: ما تنشأ (¬12) منه، أو ما تكون منه، أو ما تولد منه. وقوله (¬13): (لغة) مصدر مؤكد لغيره رافع للإبهام (¬14) الذي في الأصل؛ ¬
لأن الأصل دائر بين اللغوي، والاصطلاحي. وقد اعترض المؤلف في الشرح هذا الحد بوجهين: أحدهما: أن لفظتي (¬1): "ما" و"من" مشتركة بين معان، والمشترك مما يجتنب [و] (¬2) يمنع (¬3) في الحدود. والثاني: أن (¬4) معاني "من" ها هنا متعذرة (¬5)؛ إذ لا يصلح (¬6) أن تكون هنا (¬7) للتبعيض، ولا لابتداء (¬8) الغاية، ولا (¬9) لبيان الجنس، وإنما قلنا: لا تكون للتبعيض؛ لأن النخلة مثلاً ليست بعض النواة (¬10)، بل هي أضعافها، وإنما قلنا: لا تكون لابتداء الغاية؛ إذ شأن المُغيَّا أن يتكرر قبل الغاية، والنخلة لم تتكرر، وإنما قلنا: لا تكون لبيان الجنس؛ لأن النخلة ليست أعم من النواة حتى تتبين بالنواة (¬11). وأجاب (¬12) عن الأول: وهو الاشتراك: أن المشترك دل السياق على المراد ¬
به ها هنا، فإن المراد بـ "ما" (¬1) ها هنا الموصولة (¬2)، والمراد بـ "من" ها هنا: "مجاز ابتداء الغاية"؛ لأن النخلة مثلاً في قولك: أصل النخلة النواة أي: ابتداء نشأتها من النواة، كقولك: سرت من النيل إلى مكة أي: ابتدأت (¬3) السير من النيل، فلما كان ابتداء النخلة في الأصل من النواة شبيهًا بابتداء الغاية في السير سمي بمجاز (¬4) ابتداء الغاية؛ لأجل هذا الشبه، أو تقول: المراد بـ "من" "مجاز التبعيض" لا حقيقته، فإن النخلة بعضها من النواة لا كلها (¬5). قال المؤلف: فجعلنا النخلة جزءًا من النواة توسعًا (¬6) من باب إطلاق لفظ الجزء على الكل (¬7). قال المؤلف في الشرح: ولأجل هذه الاعتراضات اختار سيف الدين حدًا آخر فقال: أصل الشيء ما يستند (¬8) وجوده إليه من غير تأثير (¬9): احترازًا من استناد الممكن للصانع المؤثر (¬10). أي: احترازًا من إسناد (¬11) الممكنات إلى واجب الوجود سبحانه؛ إذ لا ¬
يقال: هو أصل لها، وإنما يقال: هو خالقها، وذلك (¬1) أن إسناد الشيء إلى (¬2) أصله ليس على وجه التأثير؛ إذ لا تأثير إلا للقدرة القديمة. وقوله (¬3): (ورجحانه ودليله اصطلاحًا) (¬4). يعني: أن الأصل في الاصطلاح له معنيان: أحدهما: الراجح. والآخر: الدليل. فمثال الأصل الذي يراد به الراجح قولهم: الأصل براءة الذمة، أي: الراجح عند العقل (¬5) براءة الذمة (¬6)، والمرجوح عمارتها؛ لأن الإنسان ولد بريئًا من الحقوق كلها. ومثال الأصل (¬7): الذي معناه الراجح أيضًا قولهم: الأصل عدم المجاز أي: الراجح عند السامع للفظ عدم حمله على المجاز (¬8)، أي: الراجح حمله على الحقيقة والمرجوح حمله على المجاز (¬9). وكذلك مثاله أيضًا: قولهم: الأصل عدم الاشتراك في الألفاظ، ¬
والمرجوح الاشتراك، أي: الراجح حمل اللفظ على الإفراد دون الاشتراك. وكذلك مثاله أيضًا قولهم (¬1): الأصل التباين دون الترادف، أي الراجح (¬2) في الألفاظ الحمل على التباين دون الترادف. ومثاله أيضًا: قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان. قوله (¬3): (فمن الأول: أصل السنبلة البرة) أي: فمن أمثلة المعنى الأول [الذي هو الأصل في اللغة قولهم] (¬4): أصل السنبلة البرة. وقوله (¬5): (ومن الثاني) أي: ومن أمثلة المعنى الثاني الذي هو الرجحان قولهم: الأصل براءة الذمة. وقولهم أيضًا: الأصل عدم المجاز. وقولهم أيضًا: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أي الراجح بقاء ما كان في الزمان الثاني على ما كان عليه في الزمان الأول لم يتغير عن حاله. وهذه الأشياء الثلاثة (¬6) يجمعها الاستصحاب؛ لأن الأول: استصحاب البراءة، والثاني: استصحاب الوضع الأول، والثالث: استصحاب الحال. ¬
و (¬1) قوله: (ومن الثالث أصول الفقه أي: أدلته) أي: ومن أمثلة المعنى الثالث وهو الأصل الذي يراد به (¬2) الدليل قولهم: أصول الفقه أي: أدلة الفقه. ومثاله أيضًا: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. ومثاله أيضًا: الأصل في هذه المسألة قول مالك: كذا، أي: و (¬3) الدليل فيها الكتاب أو السنة (¬4) أو قول (¬5) مالك. فذكر المؤلف للأصل ثلاثة معان: واحد لغوي واثنان اصطلاحيان. وذكر في شرح المحصول معنىً رابعًا وهو ما يقاس عليه (¬6)؛ لأن الشيء الذي يقاس عليه يسمى أيضًا في الاصطلاح أصلاً كقياس الأرز على الحنطة (¬7) في تحريم الربا (¬8). هذا بيان الأصول (¬9) لغة واصطلاحًا وهو اللفظ المضاف. وأما بيان الفقه لغة واصطلاحًا وهو اللفظ المضاف إليه فقد بينه بقوله: ¬
(والفقه هو: الفهم، والعلم، والشعر، والطب: لغة ... إِلي آخره). قوله: (والفقه هو: الفهم، والعلم (¬1)، والشعر، والطب: لغة) تقديره: ومعنى الفقه في اللغة هو: الفهم، والعلم، والشعر، والطب، فذكر المؤلف أن هذه الألفاظ الخمسة مترادفة (¬2) [في اللغة. وذكر المازري (¬3) في شرح البرهان أيضًا أن هذه الألفاظ الخمسة مترادفه (¬4)] (¬5) كما قال المؤلف. والدليل على ترادفها (¬6) الكتاب، والسنة، وكلام العرب. ¬
فمن الكتاب قوله تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} (¬1) أي: لا نفهم وقولى (¬2): {لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬3) أي: لا تفهمون. ومن السنة: قوله عليه السلام: "رب حامل (¬4) فقه إلى من هو (¬5) أفقه منه" (¬6) [أي: أفهم منه] (¬7). ومن كلام العرب، قولهم: رجل (¬8) طب أي: عالم. ومنه قول الشاعر وهو علقمة (¬9): ¬
فإن سألتموني (¬1) بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب (¬2) أي: عارف عالم، ويقال: شعر بكذا إذا (¬3) فهمه. قال الزبيدي في مختصر العين: يقال: شعرت بكذا شعرًا أو شعورًا قال الله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬4) (¬5). قوله: (وإِنما اختصت (¬6) بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب ¬
العرف). يعني أن (¬1) ثلاثة ألفاظ من هذه الألفاظ خصها (¬2) العرف ببعض العلوم، والمراد بهذه الثلاثة المخصوصة: الفقه، والطب، والشعر؛ لأن الفقه في العرف مخصوص بعلم الأديان، والطب في العرف مخصوص بعلم الأبدان، والشعر في العرف مخصوص بعلم الأوزان، وهذا من باب تخصيص العرف لما (¬3) عمته اللغة. قال المؤلف في الشرح: قال أبو إسحاق الشيرازي (¬4): الفقه في اللغة إدراك الأشياء الخفية، فلذلك تقول (¬5): فقهت كلامك، ولا تقول (¬6): فقهت السماء والأرض (¬7). ¬
وعلى هذا لا يكون لفظ الفقه مرادفًا لهذه الألفاظ، وعلى نقل المازري يكون مرادفًا (¬1)، والثاني هو الذي يظهر لي (¬2)، ولذلك خصص الفقهاء اسم الفقه بالعلوم النظرية وأخرجت شعائر الإسلام من لفظ الفقه وحده. انتهى نصه (¬3). انظر قوله: "الثاني هو الذي يظهر لي"، هو عين (¬4) ما تقدم من التخصيص العرفي، ومراده بالثاني هو: تفسير الشيرازي. قوله (¬5): (والفقه في الاصطلاح هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال). لما بين المؤلف رحمه الله تعالى (¬6) معنى الفقه في اللغة أراد أن يبين معناه في الاصطلاح. فقال: الفقه (¬7) في الاصطلاح، أي ومعنى الفقه (¬8) في العرف هو: "العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال" فذكر في هذا الحد جنسًا وأربعة قيود. قوله: (العلم) احترازًا من الظن، والشك، والوهم؛ لأن العلم ها هنا ¬
معناه: الاعتقاد الجازم الذي لا يحتمل النقيض بوجه. وقوله: (بالأحكام) هو جمع حكم، ومعنى الحكم: كل معقول لا تعرف نسبته إلا بإضافته (¬1) إلى المحكوم عليه. وقوله: (بالأحكام) احترازًا من العلم بالذوات، والصفات، والمعاني؛ لأن العلم بذلك لا يكون (¬2) فقهًا في الاصطلاح. وقولنا (¬3): "بالذوات" كالعلم بسائر الأجسام؛ كالأحجار، والأشجار, وسائر الجمادات، والنباتات (¬4)، وأشخاص الحيوانات. وقولنا: "الصفات" كسائر الألوان من السواد، والبياض، والاحمرار، والاصفرار، وغير ذلك. [وقولنا: والمعاني؛ كسائر الطعوم، والروائح، كحلاوة العسل، ومرارة الحنظل، والروائح الطيبة، والخبيثة وغير ذلك] (¬5). وقوله: (الشرعية) احترازًا من العقلية (¬6) كعلم الحساب، والهندسة, والموسيقا (¬7)، وهو: علم الألحان، وغير ذلك من الفنون التي هي: ليست شرعية (¬8). ¬
وقوله: (العملية) احترازًا من أصول الفقه التي هي: الأدلة التي يبنى عليها الفقه، واحترازًا أيضًا من الاعتقادية بأصول الدين وهي: ما يجب في حق الله وما يجوز وما يستحيل؛ لأنها أحكام شرعية اعتقادية، لا عملية (¬1)؛ لأن العلم بذلك لا يسمى فقهًا في الاصطلاح. وقوله: (بالاستدلال) أي: يحصل (¬2) علم ذلك بالاستدلال احترازًا من التقليد، والضرورة؛ لأن ما حصل للمقلد لا يسمى فقهًا في الاصطلاح، وكذلك ما حصل من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، والزكاة والصيام (¬3) مما هو معلوم من الدين بالضرورة، لا (¬4) يسمى العلم بذلك فقهًا في الاصطلاح، لحصوله للعوام، والنساء، و (¬5) البله؛ لأن ذلك لم يحصل بالدليل. وقد اعترض المؤلف على نفسه هذا الحد بأربعة أوجه؛ لأن كل واحد من ألفاظ الحد معترض إلا لفظًا واحدًا منها فهو سالم من الاعتراض وهو قوله: (الشرعية) وأما الألفاظ الأربعة الباقية فهي معترضة (¬6). ¬
أما قوله: (العلم) فاعترض (¬1) بأن قيل: هو غير جامع للأحكام الشرعية؛ لأن أكثر فروع الفقه إنما تثبت (¬2) بالظن لا بالعلم؛ لأنه (¬3) مستنبط من القياسات والعمومات، وأخبار الآحاد وذلك كله ظن لا علم. أجيب عن هذا: بأن الأحكام الشرعية كلها معلومة وليست بمظنونة، والدليل على أنها معلومة شيئان: الإجماع، والقطع. أما دليل الإجماع: فبيانه أن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع، وكل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم ينتج لك: كل علم (¬4) شرعي معلوم. وإنما قلنا: كل حكم شرعي ثابت بالإجماع؛ لأن الأحكام الشرعية على قسمين: متفق عليه، ومختلف فيه، فالمتفق عليه (¬5) ثابت بالإجماع ولا كلام فيه (¬6)، والمختلف فيه هو أيضًا ثابت بالإجماع، وإنما قلنا: الحكم المختلف فيه ثابت أيضًا بالإجماع؛ لأنه انعقد الإجماع على (¬7) أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكم شرعي فهو حكم الله في حقه وفي حق (¬8) من قلده إذا حصل له سببه، فصارت الأحكام في مواضع الخلاف ثابتة (¬9) بالإجماع عند الظنون، ¬
فصار كل حكم (¬1) شرعي معلومًا لثبوته بالإجماع؛ لأن كل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم بناء على أن الإجماع معصوم، كما سيأتي في باب الإجماع إن شاء الله، هذا بيان دليل الإجماع على أن كل حكم شرعي معلوم لا مظنون. وأما دليل القطع: فلأن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين. وبيان ذلك: أن نفرض الكلام في حكم من الأحكام ونقرر (¬2) فيه تقريرًا (¬3) نجزم باطراده في جميع الأحكام، فنقول مثلاً: وجوب الدلك مظنون لمالك قطعًا عملاً بالوجدان، وكل ما ظنه مالك فهو حكم الله قطعًا عملاً بالإجماع، فينتج لك، التدلك (¬4) حكم الله قطعًا عملاً بالإجماع، وهذا التقرير (¬5) يطّرد في جميع صور الخلاف، فتكون الأحكام الشرعية كلها (¬6) معلومة؛ لأنها ثابتة بمقدمتين قطعيتين، فالنتيجة تابعة للمقدمات، فتابع القطعي قطعي، وتابع العلمي علمي. فثبت بدليل الإجماع وبدليل العقل أن كل حكم شرعي معلوم لا مظنون (¬7) ¬
و (¬1) قال المؤلف في شرح المحصول: وهذا المسلك هو الذي سلكه (¬2) القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين، وسيف الدين (¬3)، والغزالي، والمازري، وابن برهان (¬4) وجمهور العلماء. قال ابن برهان: مثال ذلك: إذا (¬5) شهدت بينة عند الحاكم، وغلب على ظنه صدقها فإنه يقطع بوجوب (¬6) الحكم عند ذلك (¬7) الظن بالإجماع، فلو ¬
استحل عدم الحكم بها كفر، لكون (¬1) ذلك الحكم مقطوعًا به (¬2). [فإن قيل: قولكم كل حكم شرعي ثابت بالإجماع، هذا لا يصح إلا على القول بأن: كل مجتهد مصيب؛ ولا يصح على القول الصحيح الذي قال: هو أن المصيب (¬3) واحد؛ لأن ما عداه (¬4) خطأ، والخطأ لا يكون حكم الله إجماعًا، بل هو معفو عنه فقط. قلنا: بل هو صحيح سواء قلنا: كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؛ لأن المقصود إنما هو ما يظهر على ألسنة المجتهدين في ظنونهم، لا في (¬5) نفس الأمر كالقبلة فإنها معينة للصلاة في نفس الأمر بإجماع (¬6)، فإذا اختلف فيها ¬
جماعة من المجتهدين فصلى كل واحد إلى غير الجهة التي صلى إليها صاحبه: فإن حكم الله تعالى في حق كل واحد منهم ما غلب على ظنه، وكذلك نقول (¬1) في الثياب والأواني] (¬2). فأما (¬3) قوله: (بالأحكام) فاعترضن بأن قيل: هل المراد بالأحكام جميع الأحكام؟ أو المراد بعض الأحكام؟ والأمران باطلان. وذلك أنه إن قدرنا أن المراد جميع الأحكام: فيكون الحد غير جامع؛ لأنه يخرج منه (¬4) كثير من الفقهاء لعدم (¬5) إحاطتهم (¬6) بجميع الأحكام الشرعية، وقد اتفقوا على أن مالكًا رضي الله عنه فقيه، بل هو أفقه الفقهاء، مع أنه لا يعلم جميع الأحكام؛ لأنه سئل في (¬7) أربعين مسألة فأجاب أربع (¬8) مسائل، وقال في ست وثلاثين: لا أدري، فلو كان المراد بالأحكام (¬9) جميع الأحكام لاقتضى ذلك ألا يسمى فقيهًا حتى يعلم جميع الأحكام. ¬
وإن قدرنا أن المراد ها هنا بالأحكام (¬1): بعض (¬2) الأحكام: فيكون الحد غير مانع؛ لأن الإنسان قد يكون عالمًا ببعض (¬3) الأحكام فيقتضي ذلك (¬4) أن يسمى المقلد فقيهًا [مع أنه لا يسمى فقيهًا] (¬5) في العرف. أجيب بأن قيل: نلتزم كل واحد من الأمرين فيصح الحد، فإن قدرنا أن المراد جميع الأحكام، فالمراد بعلم جميع الأحكام: تهيؤ العالم واستعداده للعلم بجميع الأحكام: فيكون الحد جامعًا، وإن قدرنا أن المراد بعض الأحكام فلا يدخل فيه المقلد؛ لأنه يخرج بقوله بالاستدلال؛ إذ ليس عنده دليل معتبر في تسمية الفقيه بالفقيه، وهو الدليل (¬6) التفصيلي كما سيأتي فيكون الحد مانعًا. وقولنا: بعض الأحكام على هذا التقدير المراد به ثلاثة أحكام فما فوقها، وأما من لم يعلم غير حكم (¬7) واحد أو حكمين بالاستدلال فلا يسمى فقيهًا في العرف. وأما قوله: (العملية) (¬8) فاعترض بأن قيل: هل المراد بالعملية أعمال الجوارح الظاهرة (¬9) دون الباطنة؟ أو المراد (¬10) أعمال الجوارح مطلقًا الظاهرة والباطنة؟ وكلا الأمرين باطلان. ¬
وذلك إن قدرنا أن المراد أعمال الجوارح الظاهرة خاصة: فيكون الحد غير جامع؛ لأنه يخرج عنه أحكام القلب كالنية، والإخلاص، وتحريم الرياء، والحسد، والكبر، والعجب (¬1) وغير ذلك (¬2) من المحرمات (¬3)؛ لأن ذلك أحكام شرعية. وإن [قدرنا أن] (¬4) المراد الأعمال مطلقًا: فيكون الحد غير مانع؛ لأنه يدخل فيه أصول الديانات (¬5) وهي: الاعتقادات. قال المؤلف في الشرح: هذا الاعتراض لازم، والحق: ما قاله (¬6) سيف الدين الآمدي؛ لأنه قال: العلم بالأحكام الشرعية الفروعية (¬7)، فيجعل الفروعية عوض العملية؛ لأن الفروعية تشمل ما يتعلق به الفقه كان في الجوارح أو في القلب (¬8). وأما قوله: ([بالاستدلال] (¬9)) فاعترض بأن قيل: غير مانع؛ لدخول ¬
المقلد فيه؛ لأن العلم الحاصل للمقلد هو أيضًا حاصل له بالدليل، كما حصل العلم للفقيه بالدليل، ودليل المقلد هو: القياس، وهو قوله: هذا ما أفتاني به المفتي عملاً (¬1) بالسماع، وكل ما أفتاني (¬2) به المفتي فهو: حكم الله في حقي عملاً بالإجماع، فينتج هذا: حكم الله عملاً (¬3) بالإجماع، وهذا الدليل يطرد للمقلد في جميع صور التقليد. فدليل المقلد هو (¬4) دليل واحد في جميع موارد التقليد، وأما دليل الفقيه فهو: متعدد بتعديد (¬5) المسائل، ودليل الصلاة غير دليل الصيام، ودليل الزكاة غير دليل الجهاد، ودليل البيع غير دليل النكاح، إلى غير ذلك، فتارة يكون دليل الفقيه من الكتاب (¬6)، وتارة من السنة، وتارة بالقياس، وتارة بالإجماع، فكل فرع بدليله، فدليل التقليد تجميلي، ودليل الفقه تفصيلي. الاعتراض قد التزمه (¬7) المؤلف في الشرح فقال: ينبغي أن يزاد في الحد بأدلة خاصة بالأنواع (¬8). انتهى. فسبك الحد إذًا أن نقول: والفقه في الاصطلاح [هو العلم با لأحكام الشرعية الفروعية بالاستدلال بأدلة خاصة بالأنواع، هكذا قال المؤلف في ¬
الشرح (¬1). ولك أن تقول في اختصار الحد] (¬2): هو: "العلم بالأحكام الشرعية الفروعية بالاستدلال (¬3) التفصيلي". فقولنا: بالاستدلال: يخرج به (¬4) ما يحصل بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة. وقولنا: التفصيلي: يخرج به (¬5) المقلد؛ لأن دليله إجمالي، لا تفصيلي. وقوله: (ويقال: فقِه بكسر القاف: إِذا فهم، وبفتحها: إِذا سبق غيره إِلى الفهم (¬6)، وبضمها: إِذا صار الفقه له (¬7) سجية). قال المؤلف في الشرح: هكذا نقله ابن عطية (¬8) في تفسيره (¬9)، فاسم ¬
الفاعل من الأولين فاقه، واسم الفاعل من الآخر فقيه؛ لأن القاعدة العربية أن اسم (¬1) الفاعل من فعُل بضم العين هو على فعيل؛ نحو شرُف فهو شريف، وظرُف فهو ظريف (¬2). وقوله: (سجية) أي: طبيعة (¬3)؛ لأن الطبيعة (¬4)، والسجية، والغريزة، والجبلة، والخليقة، والسليقة: ألفاظ مترادفة بمعنى (¬5) واحد. [فالفعل الثاني أبلغ من الأول؛ لأن له على الأول مزية السبقية إلى الفهم، والفعل الثالث أبلغ من الثاني لتطبعه بالفهم (¬6)] (¬7). وقد تقدم لنا (¬8) أن أصول الفقه له تفسيران: أحدهما باعتبار الإفراد، والآخر باعتبار التركيب. وبيّن المؤلف - رحمه الله - تفسيره باعتبار الإفراد، وسكت عن تفسيره باعتبار التركيب. فإن قلت: بينه المؤلف بقوله: أصول الفقه أي: أدلته (¬9). ¬
قلنا (¬1): أصول الفقه الذي هو اسم علم على هذا الفن، ليس هو (¬2) عبارة عن أدلة الفقه، وإنما هو عبارة عن العلم بأدلة الفقه على وجه خاص. وحده (¬3) ابن الحاجب فقال: أما حده لقبًا (¬4): فالعلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفروعية (¬5) من (¬6) أدلتها التفصيلية (¬7). قوله: (القواعد) يعني بها: الأدلة الشرعية التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس (¬8)، والاجتهاد، والترجيح. وإنما جمع القواعد ولم يقل: العلم بالقاعدة التي يتوصل بها ... إلى آخره (¬9)؛ لأن العلم بقاعدة واحدة (¬10) منها لا يكون أصل فقه (¬11). وقوله: (إِلى استنباط) أي: استخراج (¬12). ¬
وقوله: (الأحكام) احترازًا من العلم بالقواعد (¬1) التي يتوصل بها إلى استنباط غير تلك (¬2) الأحكام؛ كقواعد الهندسة، وقواعد الطب، فإن قواعد الهندسة يتوصل بها إلى استنباط الصنائع كالنجارة (¬3)، والحياكة، وغيرهما، وقواعد الطب يتوصل بها إلى استخراج (¬4) تركيب (¬5) المعاجن (¬6). وقوله: (الشرعية) [احترازًا من القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام العقلية كقواعد المنطق. وقوله: (الفرعية)] (¬7) احترازًا (¬8) من [القواعد التي يتوصل بها إلى] (¬9) استنباط الأحكام الشرعية الأصلية، وهي: الاعتقادية، وهي: قواعد علم (¬10) الكلام. وقوله: (من (¬11) أدلتها التفصيلية) احترازًا (¬12) من العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من (¬13) أدلتها الإجمالية، ¬
كقولهم: يجب بالمقتضى ولا يجب بالنافي، فإن هذا الدليل يعم جميع الأحكام الشرعية بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل. ***
الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل فإنها تلتبس على كثير من الناس
الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل فإنها تلتبس على كثير من الناس تعرض المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬1) في هذا الفصل لبيان الفرق بين ثلاث حقائق، وهي: حقيقة الوضع، وحقيقة الاستعمال، وحقيقة الحمل. وإنما تعرض رحمه الله (¬2) للفرق بينها؛ لأجل التباس حقائقها على كثير من الناس كما قال. وإنما وقع الالتباس بين هذه الحقائق الثلاث (¬3)؛ لأنها (¬4) ترد (¬5) على المعنى الواحد لكن باعتبارات متغايرات (¬6)، فلما رأى المؤلف - رحمه الله - التباسها فرّق بينها بذكر حقائقها، ورتبها في الذكر على حسب ترتيبها في الوجود، فقدم الوضع؛ لأنه السابق في الوجود، ثم ثنا بالاستعمال؛ لأنه في الوجود ¬
بعد الوضع، ثم ثلث بالحمل؛ لأنه في الوجود بعد الاستعمال. فإذا تقرر هذا فاعلم أن المؤلف ذكر في هذا الفصل ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في الوضع. المطلب الثاني: في الاستعمال. المطلب الثالث: في الحمل. فأما المطلب الأول وهو (¬1): الوضع، ففيه خمسة مطالب: ما حقيقة الوضع؟ وما فائدته؟ وهل من شرطه الاستعمال أم لا؟ وما أقسامه؟ وما الوضع؟ أما حقيقة (¬2) الوضع (¬3) فله حقيقتان؛ لأنه لفظ مشترك بين حقيقتين: إحداهما (¬4): عبارة عن جعل اللفظ دليلاً على المعنى. الحقيقة الثانية: عبارة عن غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه (¬5) من غيره. وقد ذكر المؤلف هاتين الحقيقتين كما سنبين ذلك مع حروف الكتاب إن شاء الله (¬6). وأما فائدة الوضع: ففي ذلك قولان: ¬
قيل: فائدة الوضع هي: الاستعمال. وقيل: التمكن من الاستعمال. وأما هل من شرط (¬1) الوضع الاستعمال أو ليس من شرطه الاستعمال؟ ففيه قولان. وسبب هذا الخلاف هو: الخلاف المذكور في فائدة الوضع: فمن قال: فائدة وضع اللفظ استعماله، قال: من شرط الوضع الاستعمال. ومن قال: فائدة (¬2) الوضع هي تمكنه من استعماله، قال: ليس من شرط الوضع الاستعمال. وأما أقسام الوضع: فهي (¬3) أربعة أقسام وهي: اللغوي، والشرعي، والعرفي العام، والعرفي الخاص، كما سنبين (¬4) ذلك (¬5) مع حروف الكتاب إن شاء الله (¬6). وأما الواضع: ففيه خلاف (¬7): ¬
قيل: واضع اللغة هو الله عز وجل (¬1). وقيل: هو الناس (¬2). وقيل: وضع الله عز وجل بعضها، ووضع الناس بعضًا (¬3). فعلى القول الأول يكون الوضع: توقيفيًا. وعلى القول الثاني يكون الوضع: اصطلاحيًا. وعلى القول الثالث يكون بعض الوضع توقيفيًا، ويكون بعضه اصطلاحيًا. انظر بيانه في المطولات من كتب الأصول (¬4). ¬
قوله: (فالوضع يقال بالاشتراك). أي: يقال حالة كونه مشتركًا، والباء في قوله: (بالاشتراك) للمصاحبة، والمجرور في موضع الحال، وصاحب الحال هو: الضمير المستكن في: يقال، والعامل في الحال هو: يقال؛ لأنه العامل في ذي الحال، تقدير الكلام: فالوضع يقال حالة كونه مصحوبًا بالاشتراك في الاصطلاح. ثم بيّن المؤلف هذا الاشتراك بمعنيين: أحدهما: جعل اللفظ دليلاً على المعنى. والثاني: غلبة استعمال اللفظ في المعنى. وقوله: (جعل) (¬1) أي: نصب. وقوله: (اللفظ) أي: الملفوظ وهو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (¬2)، وقولهم: هذا ضرب الأمير، وهذا نسج اليمن، تقديره: مخلوق الله، ومضروب الأمير، ومنسوج اليمن. فاللفظ إذًا بمعنى الملفوظ؛ لأن الإنسان يلفظه أي: يرميه، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬3). ¬
وقوله: (دليلاً) (¬1)، أي: علامة على المعنى، أي على المقصود به؛ لأن العناية (¬2) في اللغة معناها (¬3): القصد؛ لأنك تقول: عنيت كذا إذا قصدته. وقوله: (المعنى) اسم مصدر؛ لأنك تقول: عنيت كذا أعنيه عناية ومعنى: إذا اعتنيت (¬4) به (¬5) وقصدته. وقوله: (المعنى)، أطلق المؤلف المعنى ها هنا على ما هو أعم من المعنى الحقيقي والمجازي، فالمعنى الحقيقي: هو المعنى القائم بالذات كالعلم والجهل، والمعنى المجازي، [هو] (¬6) الذات. فقوله: (دليلاً على المعنى) سواء (¬7) كان ذلك الموضوع له اللفظ معنى أو عينًا؛ لأن الأسماء توضع للأعيان وتوضع للمعاني، أي: توضع للذوات (¬8) وتوضع للصفات. قوله: (جعل اللفظ دليلاً على المعنى). يحتمل أن يريد اللفظ المفرد والمعنى المفرد، بدليل تمثيله بالمفرد في قوله: كتسمية الولد بزيد [بناء على أن العرب لم تضع إلا المفرد ولم تضع المركب، وهو: مذهب الإمام فخر الدين] (¬9). ¬
[ويحتمل أن يريد (¬1) اللفظ مطلقًا مفردًا ومركبًا (¬2)] (¬3)، [بناء على أن العرب وضعت المفرد والمركب فيكون كلامه على هذا التأويل: شاملاً للفظ المفرد واللفظ المركب. وإنما مثل بخصوصية المفرد لأنه الأصل والأكثر، فالتمثيل (¬4) به أولى، فتقدير الكلام على التأويل الأول بأن المراد باللفظ هو المفرد: فالوضع جعل اللفظ المفرد دليلاً على المعنى المفرد، كتسمية الولد بزيد] (¬5). وتقدير الكلام على التأويل الآخر (¬6) بأن المراد باللفظ المفرد والمركب (¬7): فالوضع جعل اللفظ مطلقًا مفرداً أو مركبًا (¬8) دليلاً على المعنى مطلقًا (¬9) مفردًا ومركبًا (¬10). وقوله: (كتسمية الولد بزيد) (¬11): مثال اللفظ المفرد مع المعنى المفرد. ومثال اللفظ المركب مع المعنى المركب: زيد يصلي في المسجد؛ لأن (¬12) ¬
أجزاء اللفظ دالة على أجزاء (¬1) المعنى، فيكون مجموع اللفظ مطابقًا لمجموع المعنى. قوله: (كتسمية الولد بزيد) هذا اللفظ (¬2) يستدعي أربعة ألفاظ متلازمة متباينة، وهي (¬3): المسمي، والمسمى، والاسم، والتسمية. فالمسمي: هو واضع الاسم. والمسمى: هو (¬4) الموضوع له الاسم من عين أو معنى. والاسم: هو اللفظ الموضوع. والتسمية: هو وضع الاسم على المسمى، وهو فعل الواضع الذي هو المسمي. وهذه الأربعة (¬5) المعاني هي مجتمعة في قوله تعالى: {إِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} (¬6). فالتاء هو: المسمي، [والهاء هو: المسمّى] (¬7)، ولفظ مريم هو: الاسم، والتسمية هو: قوله تعالى (¬8): {سَمَّيْتُهَا}؛ لأن الفعل يدل على مصدره. قوله: (وهذا هو الوضع اللغوي)، معناه: وجعل اللفظ دليلاً على ¬
المعنى هو: الوضع الذي وضعه أهل اللغة، واحترز بذلك من المنقولات (¬1) الثلاث التي بينها بعد هذا. وقوله: (وهذا هو الوضع اللغوي)، هذا أحد الأقسام الأربعة التي قسم عليها الوضع. وقوله: (وعلى غلبة استعمال (¬2) اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره) هذا هو المعنى الثاني من معنيي الوضع، وهو معطوف على قوله: على جعل اللفظ دليلاً [على المعنى] (¬3) تقديره: يطلق (¬4) الوضع (¬5) على جعل اللفظ دليلاً على المعنى، ويطلق (¬6) على (¬7) غلبة استعمال اللفظ في المعنى. وقوله: (حتى يصير أشهر فيه من غيره) هذا بيان للغلبة المذكورة، وهي (¬8): أن يصير المعنى الثاني أشهر من المعنى (¬9) الأول. وقوله: (حتى يصير أشهر فيه من غيره) معناه: بحيث يصير اللفظ أشهر في المعنى الثاني من غيره، أي: من المعنى الأول الذي وضع له اللفظ في اللغة ابتداء. ¬
قال المؤلف في الشرح (¬1): أريد بصيرورته (¬2) أشهر من غيره: أن يصير هو المتبادر (¬3)، ولا يحمل على غيره إلا بقرينة كحال الحقيقة اللغوية مع (¬4) المجاز (¬5). واعترض قوله: (وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى)، بأن قيل: ظاهره أنه ليس فيه جعل اللفظ دليلاً على المعنى؛ لمقابلته للأول مع (¬6) أن كل واحد من المعنيين فيه جعل اللفظ دليلاً على المعنى. أجيب: بأن الأول فيه القصد إلى الوضع، وأما الثاني وهو: غلبة الاستعمال فهو أمر اتفاقي (¬7)، فالوضع الأول سابق، والوضع (¬8) الثاني لاحق، فإن الوضع في المنقولات الثلاث (¬9) طار على الوضع الأول. و (¬10) قوله: (وهذا وضع المنقولات الثلاث (¬11))، معناه: وهذا المعنى الثاني الذي هو غلبة الاستعمال هو المراد بالمنقولات الثلاث (¬12). أي: يشمل الحقائق الثلاث التي هي الشرعية، والعرفية العامة، والعرفية الخاصة. ¬
وقوله: (المنقولات) صفة حذف موصوفها، تقديره: الحقائق الثلاث، فالموصوف مؤنث، ولذلك أسقط المؤلف التاء من الثلاث؛ لأن العدد يذكر فيه المؤنث ويؤنث فيه المذكر. وقال بعضهم: بل الموصوف المحذوف هو الأشياء أو الأمور، تقديره: الأشياء أو الأمور المنقولات، وهذا أولى بدليل تذكير أوصافها الثلاث (¬1)، التي هي: الشرعي، والعرفي العام، والعرفي الخاص؛ لأنه لو أراد الحقائق لقال: الشرعية والعرفية (¬2). فقوله على هذا: (المنقولات) (¬3)، هو: جمع (¬4) منقول (¬5)، وليس بجمع (¬6) منقولة بالتاء، فيلزم على هذا أن تثبت التاء التي هي للتأنيث (¬7) في قوله: "الثلاثة". وقوله: (الشرعي نحو: الصلاة، والعرفي العام نحو: الدابة للحمار (¬8)، والعرفي الخاص نحو (¬9): الجوهر والعرض عند المتكلمين). هذا بيان المنقولات الثلاث. إحداها: الحقيقة الشرعية، مثلها المؤلف بالصلاة؛ لأن لفظ الصلاة في اللغة موضوع للدعاء، ثم نقل في عرف الشرع إلى الأفعال المخصوصة، ¬
وهي: ذات الركوع والسجود (¬1). ومثالها أيضًا: الزكاة، فإن معناها في اللغة الزيادة والنماء (¬2)، ثم نقل في عرف الشرع إلى: أخذ جزء مقدر من مال معلوم (¬3). ومثاله (¬4) أيضًا: الصيام، فإن معناه في اللغة: الإمساك (¬5) ثم نقل في عرف الشرع إلى: إمساك مخصوص (¬6). ومثاله أيضًا: الحج، فإن معناه في اللغة: القصد (¬7)، ثم نقل في عرف الشرع إلى قصد مخصوص (¬8). ومثاله أيضًا: الترتيب والموالاة، فإن هذين المعنيين في اللغة: لمطلق الترتيب بين الأشياء ومطلق الموالاة بين الأشياء، ثم نقل في عرف الشرع إلى: ترتيب وموالاة مخصوصة (¬9) بالطهارة للصلاة. ¬
وإلى هذه الحقيقة الشرعية أشار المؤلف بقوله: (الشرعي نحو الصلاة). وقوله: (والعرفي العام نحو: الدابة للحمار). أي: الحقيقة الثانية وهي: العرفية العامة، مثلها المؤلف بالدابة لخصوصية الحمار عند أهل مصر (¬1)؛ وذلك أن لفظ الدابة في عرف اللغة موضوع لكل ما اتصف بالدبيب (¬2) وهو: الحركة، ثم نقل في العرف عند أهل مصر إلى خصوصية الحمار، ونقل في عرف أهل العراق إلى خصوصية الفرس، فإذا سمع لفظ الدابة [عند أهل مصر فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا خصوصية الحمار، وكذلك إذا سمع لفظ الدابة] (¬3) عند أهل العراق فلا يفهم إلا خصوصية الفرس عندهم ولا يفهم غير ذلك (¬4) إلا بقرينة. وقوله: (العرفي العام) يعني (¬5) أن يكون ذلك العرف، أي: ذلك الاصطلاح عامًا لأهل البقعة كلهم، ولا يشترط فيه (¬6) أن يكون عامًا لأهل الإقليم كلهم. ومثال العرف العام أيضًا: لفظ الدابة عند أهل المغرب؛ [لأنه مخصوص عندهم (¬7) بثلاث دواب وهي] (¬8): الخيل (¬9) والبغال والحمير، فإذا ¬
سمع (¬1) لفظ الدابة عند أهل المغرب (¬2) فلا يفهم عندهم إلا أحد هذه الثلاث (¬3) دون غيرها إلا بقرينة. وقوله (¬4): (والعرفي الخاص (¬5) نحو: الجوهر والعرض عند المتكلمين)، أي: الحقيقة الثالثة (¬6) وهي العرفية الخاصة، مثلها المؤلف بالجوهر والعرض عند المتكلمين؛ وذلك أن لفظ الجوهر في اللغة موضوع للنفيس من كل شيء ثم نقل في عرف المتكلمين إلى الشيء الذي لا يقبل القسمة، والعرض في اللغة موضوع لكل ما يؤول إلى الفناء وإن دام ما دام (¬7)، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (¬8)، أي: تريدون (¬9) ما يزول والله يريد ما لا يزول؛ لأن قوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فيه حذف مضاف، تقديره: والله يريد دوام (¬10) الآخرة، ثم نقل العرض عند المتكلمين (¬11) إلى: المعنى القائم بالذات. و (¬12) قوله: (العرفي الخاص) و (¬13) سمي خاصًا؛ لأجل اختصاصه ¬
بطائفة من العلماء وهم أرباب علم الكلام، بخلاف العرف العام فإنه يعمهم (¬1) مع غيرهم؛ لأنه يشمل العلماء والعوام. قال المؤلف في الشرح: وبقي من الوضع (¬2) قسم ثالث وهو ما يذكره (¬3) جماعة من العلماء في قولهم: هل من شرط المجاز الوضع، أو ليس من شرطه؟ قولان. ويريدون بالوضع ها هنا مطلق الاستعمال ولو مرة يسمع من العرب استعمال (¬4) ذلك النوع من المجاز فيحصل الشرط، فصار الوضع: جعل اللفظ دليلاً على المعنى أو غلبة (¬5) الاستعمال، وأصل الاستعمال (¬6). فأقسام الوضع على هذا التفصيل (¬7) خمسة: لغوي، وشرعي، وعرفي عام، وعرفي خاص، ومطلق الاستعمال. انتهى نصه (¬8). ومعنى كلامه: أن أهل الأصول اختلفوا في المجاز، هي يشترط سماعه عن (¬9) العرب في كل صورة، أو يكتفى بظهور العلاقة المعتبرة في التجوز؟ ¬
قولان في ذلك (¬1): فمن اشترط الوضع قال: لا بد من النقل عن العرب. ومن لم يشترط قال: يكتفى بظهور القرينة (¬2) المعتبرة، وهذا هو الراجح عندهم (¬3). حجة من قال باشتراطه وجهان: أحدهما: أنه لو لم يشترط لجاز تسمية الطويل من الناس نخلة (¬4) لوجود العلاقة بينهما [وهي الطول، ولجاز تسمية ثمرة الشجرة شجرة، لوجود الملابسة بينهما] (¬5). ولجاز تسمية ظل (¬6) الحائط (¬7) حائطًا لوجود الملازمة بينهما وذلك كله (¬8): ¬
ممنوع. الوجه الثاني: أنه لو لم يشترط الوضع في المجاز بل ظهور العلاقة خاصة لكان ذلك إثبات اللغة بالقياس، وذلك: ممنوع. أجيب عن الأول: أن الأصل الجواز مع وجود العلاقة ما لم يمنع منه مانع، وهو منع أرباب اللغة من ذلك (¬1)؛ لأن الصور المذكورة منع أرباب اللغة من استعمال المجاز المذكور فيها، قاله سيف الدين (¬2). أجيب عن الوجه الثاني: أنه لا نسلم أنه قياس في اللغة، بل هو استقراء عام فهم منه (¬3) جواز الإطلاق كرفع الفاعل ونصب المفعول. قوله: (والاستعمال إِطلاق اللفظ وإِرادة عين (¬4) مسماه بالحكم وهو: الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو: المجاز). شرع المؤلف ها هنا في المطلب الثاني من المطالب الثلاثة التي احتوى عليها الفصل [وهو: حقيقة الاستعمال. فقوله: (والاستعمال)، السين والتاء للطلب، أي: طلب عمل اللفظ، ¬
وعمل اللفظ] (¬1) هو: إفادة (¬2) مدلوله. وقوله: (إِطلاق اللفظ)، أي ذكر اللفظ. وقوله: (وإِرادة عين مسماة بالحكم) [أي: مع إرادة عين مسماه] (¬3). أي مع قصد ذات مسماه، أي ذكر اللفظ مع قصد الشيء الذي وضع له اللفظ، أي: لم يقصد بذلك اللفظ غير ما وضع له. وقوله: (عين مسماه) أي ذات مسماه. وقوله: (مسماه) يعني: مسماه في عرف التخاطب فتندرج (¬4) فيه الحقائق الأربع التي هي: اللغوية، والشرعية، والعرفية العامة، والعرفية الخاصة. قوله (¬5): (بالحكم) أي بالكلام، أي: بأنواع الكلام مطلقًا لا فرق بين الخبر والطلب، ولا فرق بين الثبوت والنفي (¬6)، ولا فرق بين الاستفهام وغيره. مثال ذلك، قولك: رأيت أسدًا، فإن أردت بالرؤية (¬7) الحيوان المفترس فذلك حقيقة، وإن أردت الرجل الشجاع فذلك مجاز، فالحكم في هذا المثال ¬
وهو (¬1) الرؤية: خبر، وكذلك إذا (¬2) قلت: ما رأيت أسدًا، وإذا قلت: اضرب الأسد، أو لا تضرب الأسد، فالحكم في هذين المثالين: طلب، وإذا قلت: هل رأيت الأسد؟ فالحكم في هذا المثال: استفهام، وغير ذلك من أنواع الكلام. وقوله: (أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو: المجاز). هذا هو المعنى الثاني من معنيي الاستعمال وهو: استعمال اللفظ في غير مسماه. [قوله: أو غير مسماه، معطوف على قوله: عين مسماه، أي: إرادة عين مسماه، أو إرادة غير مسماه] (¬3). قوله (¬4): (أو غير مسماه) يعني في عرف التخاطب، فيندرج فيه (¬5) المجازات الأربعة (¬6). وقوله: (لعلاقة بينهما وهو: المجاز) أي: لأجل مشابهة بينهما، أي (¬7): بين عين المسمى (¬8) وغير المسمى، وإنما شرط العلاقة في المجاز: احترازًا من النقل وهو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له من غير علاقة بينهما، كاستعمال ¬
لفظ (¬1) جعفر في الولد، لأن لفظ (¬2) جعفر في عرف اللغة اسم للنهر (¬3) الصغير (¬4) ثم نقل إلى تسمية الولد من غير علاقة بين النهر الصغير والولد. قوله (¬5): (العلاقة)، يعني: معتبرة، فحذف (¬6) الصفة؛ إذ ليس كل علاقة تعتبر في المجاز كما سيأتي بيانه في الفصل السابع (¬7) في الفرق بين الحقيقة والمجاز إن شاء الله (¬8). وقوله: (لعلاقة بينهما) يقتضي أن الاستعمال له ثلاثة معان: أحدها: استعمال اللفظ في الحقيقة. الثاني: استعماله في المجاز. الثالث: استعماله في غيرهما وهو: النقل (¬9). قوله: [(والاستعمال إِطلاق اللفظ على مسماه فهو: الحقيقة، أو على غير مسماه لعلاقة بينهما (¬10) فهو: المجاز)] (¬11). ¬
يؤخذ منه أن اللفظ بعد الوضع وقبل الاستعمال (¬1): ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأنه لا يعلم أنه حقيقة أو مجاز إلا بعد استعماله، فإن استعمل في موضوعه (¬2) فهو: الحقيقة، وإن استعمل في غير ذلك فهو: المجاز. قوله: (والحمل اعتقاد (¬3) السامع مراد المتكلم من لفظه، أو ما اشتمل (¬4) على مراده (¬5)). هذا بيان المطلب الثالث من المطالب الثلاثة التي احتوى عليها الفصل، وهو: حقيقة الحمل في اصطلاحهم، ومعنى كلامه: أن حقيقة الحمل: أن يعتقد سامع لفظ المتكلم أن مراده بلفظه كذا، هذا معنى قوله (¬6): (اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه، أو يعتقد منه ما اشتمل على مراده (¬7)). وأتى المؤلف في هذا الحد (¬8) بـ "أو" مع أنه لفظ مشترك، ولكن تعين ها هنا أن يكون (¬9) للتنويع، كقولك: العدد إما زوج أو فرد، وإنما أتى بقوله: (أو ما اشتمل على مراده) ليندرج (¬10) مذهب الشافعي (¬11) تحت الحد. ¬
قوله: (فالمراد كاعتقاد المالكي أن الله سبحانه (¬1) أراد بالقرء: الطهر والحنفي يقول: إِن الله سبحانه (¬2) أراد (¬3) الحيض). وذلك أن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4)، اختلف مالك، وأبو حنيفة في مراد (¬5) الله تعالى (¬6) بالقرء. قال مالك: مراده بها الأطهار. و (¬7) قال أبو حنيفة: مراده بها الحيض. وإنما اختلفوا في القرء؛ لأنه لفظ مشترك بين الطهر والحيض. ودليل كل واحد منهما (¬8) سيأتي في الباب الثاني في معاني الحروف إن شاء الله تعالى (¬9) (¬10). قوله (¬11): (فالمراد كاعتقاد المالكي ... إِلى آخره) أي: فمثال اعتقاد ¬
السامع (¬1) مراد المتكلم من لفظه كاعتقاد المالكي أن المراد بالقرء: الطهر، وكاعتقاد الحنفي أن المراد به: الحيض. قال أبو زكريا المسطاسي (¬2): اختلف في القرء على خمسة أقوال: قيل: حقيقة في الطهر مجاز في الحيض. [وقيل: بالعكس] (¬3). وقيل: حقيقة فيهما فيكون مشتركًا. وقيل: موضوع للقدر المشترك بينهما فيكون متواطئًا. وقيل: موضوع لمجموعهما، كلفظ العجين؛ لأنه (¬4) موضوع لمجموع الدقيق والماء، وكلفظ الخبز، فإنه موضوع لمجموع الدقيق والماء والطبخ (¬5) (¬6). وكلفظ المداد، لمجموع العفص والزاج والماء. ولأجل هذا القول الخامس، قال الزهري (¬7): القرء: طهر ¬
وحيض (¬1) معًا - والزهري (¬2) هو من أكابر العلماء و (¬3) من العرب الفصحاء - فالقرء على هذا (¬4) اسم لمجموعهما (¬5). قوله: (والمشتمل (¬6) نحو: حمل الشافعي - رضي الله عنه - اللفظ المشترك على جملة معانيه عند تجرده عن القرائن؛ لاشتماله على مراد المتكلم احتياطًا). معناه: ومثال اعتقاد السامع ما اشتمل على مراد المتكلم وإن (¬7) علم أنه لم يرد جميعها: حمل الشافعي اللفظ المشترك على جميع (¬8) معانيه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على مراد المتكلم، وإنما حمله الشافعي على جميع معانيه ¬
احتياطًا لمراد المتكلم؛ لأنه إذا حمل على جميع (¬1) معانيه فلا يشك أنه مشتمل على مراد المتكلم. والضمير في قوله: (لاشتماله) يعود على الحمل تقديره: وإنما حمله على جميع معانيه لاشتمال حمله على جميع معانيه على مراد المتكلم. مثال ذلك إذا قال المتكلم: انظر إلى (¬2) العين، فإن العين لفظ مشترك (¬3) يطلق على المقلة، وعين الركبة، وعين الركية، وعين الميزان، وعين الشمس، ونفس الشيء، وخيار الشيء، وعين الرحى، وغير ذلك (¬4). فإذا قال المتكلم: انظر إلى العين فلا يعرف مراده؛ لأن (¬5) اللفظ مجمل: فقال الجمهور من العلماء (¬6): يجب التوقف حتى يرد البيان فلا يتصرف فيه إلا بدليل يعين أحد مسمياته. وقال الشافعي: يجب حمله على جميع معانيه (¬7)، فإنه في المثال المذكور ¬
إذا نظر إلى جميع المعاني التي يطلق عليها اللفظ المشترك فقد حصل (¬1) مراد المتكلم بلا شك. وقال الجمهور من العلماء: دليل الشافعي الذي هو الاحتياط للمراد ضعيف؛ لأنه قد يحصل أيضًا غير المراد؛ لأنه (¬2) إذا قال له مثلاً (¬3): انظر إلى العين، فنظر إلى عين زوجته أو إلى ذهبه فربما لا يريد النظر إلى ذلك؛ لأنه قد يسوؤه ذلك ويحزنه. فإن الشافعي (¬4) رضي الله عنه راعى جهة من الاحتياط ولم يراعِ (¬5) جهة أخرى من الاحتياط، بل الاحتياط التوقف حتى يرد البيان. فالحاصل مما ذكرنا: أن الوضع: سابق، والحمل: لاحق، والاستعمال: ¬
متوسط بينهما (¬1). قال بعض الشراح: هذا الفصل انفرد المؤلف بتلخيصه [ولم يقع] (¬2) في شيء من كتب الأصوليين (¬3). وقال بعض الشراح: ليس في هذا الفصل معنى مستقل بنفسه (¬4)؛ لأن الوضع والاستعمال من [عوارض الحقيقة] (¬5) والمجاز، ولهما فصل خاص بهما، وهو الفصل السابع من الباب الأول. وأما الحمل الذي هو اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه على مذهب مالك وأبي حنيفة فهو: من باب التأويل، وله باب يذكر فيه وهو الباب الثاني عشر في المجمل والمبين؛ لأنه ذكر هنالك المؤول. وأما الحمل الذي هو اعتقاد السامع ما اشتمل على مراد المتكلم على مذهب الشافعي في اللفظ المشترك، هو: من باب العموم وموضعه باب العموم، فالصواب: الاستغناء عن هذا الفصل، والله أعلم وبالله حسن التوفيق (¬6). ... ¬
الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها
الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها (¬1) الدلالة بكسر الدال وفتحها، معناها في اللغة: الإرشاد؛ لأنك (¬2) تقول: دل فلان فلانًا على كذا إذا أرشده إليه (¬3). ومعنى الدلالة في الاصطلاح هي: الإرشاد إلى علم ما لم يعلم من الأحكام (¬4). واعلم أن الدلالة على أربعة أقسام (¬5): ¬
عقلية، وطبيعية (¬1)، وعادية، ووضعية. فمثال العقلية: دلالة (¬2) اللفظ على وجود اللافظ وإن لم يشاهد، كما إذا سمعت كلامًا من وراء الجدار فإنك تعلم بعقلك أن اللافظ هنالك؛ لاستحالة وجود الفعل بدون الفاعل. ومثال العقلية أيضًا: دلالة البرهان على النتيجة (¬3)، كقولنا: العالم متعير، وكل متغير حادث، فالنتيجة: العالم حادث. ومثال الطبيعية (¬4): دلالة "أح" بالحاء المهملة على الوجع، وكذلك (¬5) "أخ" بالخاء المعجمة على داء الصدر. ومثال العادية: دلالة الصياح على الخوف. ومثال الوضعية: دلالة اللفظ على مسماه، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، وكدلالة الأسد على الحيوان الذي يفترس، وكدلالة الفرس على الحيوان الذي يصهل، وغير ذلك من دلالة الأسماء على مسمياتها. وهذه الدلالات (¬6) الأربع المذكورات لم يتعرض المؤلف منها إلا للدلالة (¬7) الوضعية خاصة، وهي: دلالة اللفظ على مسماه. ¬
و (¬1) قوله: (في الدلالة) فيه حذف الصفة، تقديره: في الدلالة الوضعية، أي: في بيان أو حقيقة الدلالة الوضعية. و (¬2) قوله: (وأقسامها)، يعنى تجميلاً وتفصيلاً؛ لأن المؤلف قسم الدلالة بالنسبة إلى التجميل إلى قسمين: أحدهما: دلالة اللفظ. والثاني: هو الدلالة باللفظ. وقسم أيضًا الدلالة بالنسبة إلى التفصيل إلى (¬3): خمسة أقسام. لأنه قسم دلالة اللفظ إلى ثلاثة أقسام (¬4) وهي: المطابقة، والتضمن، والالتزام. وقسم الدلالة باللفظ إلى قسمين وهما: الحقيقة، والمجاز. كما سيأتي بيان (¬5) جميع ذلك مع حروف الكتاب [إن شاء الله تعالى (¬6)] (¬7). فإذا تقرر (¬8) هذا فاعلم أن هذا الفصل يحتوي على ثلاثة مطالب: ¬
الأول: في دلالة اللفظ. والثاني: في الدلالة باللفظ. والثالث: في الفرق (¬1) بين الدلالتين. فقوله: (فدلالة (¬2) اللفظ: فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى، أو جزءه أو لازمه). هذا حقيقة دلالة اللفظ الذي هو المطلب الأول، يعني أن معنى دلالة اللفظ: أن يفهم السامع من اللفظ جميع المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ، أو يفهم من اللفظ جزءًا من أجزاء (¬3) المعنى الذي وضع (¬4) له ذلك (¬5) اللفظ، أو يفهم من اللفظ معنى آخر لازمًا للمعنى الذي وضع له ذلك اللفظ. قوله: (كمال المسمى أو جزءه أو لازمه). تقديره: فهم السامع من كلام المتكلم جميع أجزاء المسمى، أو فهم السامع (¬6) جزءًا من أجزاء المسمى، أو فهم السامع من كلام المتكلم أمرًا خارجًا من (¬7) المسمى لازمًا للمسمى، فهذه ثلاثة (¬8) مفهومات. ¬
و (¬1) مثال ذلك: لفظ (¬2) الإنسان، فإذا فهم منه مجموع الحياة والنطق فهو: كمال مسماه، وإذا فهم منه الحياة دون النطق أو فهم منه النطق دون الحياة فهو: جزء مسماه، وإذا فهم منه قبوله للكتابة، أو قبوله للضحك فهو: لازم مسماه. ومثال ذلك أيضًا: لفظ الأسد، إذا فهم منه مجموع الحياة والافتراس فهو: كمال مسماه، وإن (¬3) فهم منه أحدهما خاصة فهو: جزء مسماه، وإن فهم منه الشجاعة فهو: لازم مسماه. ومثال ذلك أيضًا: لفظ الفرس، فإن فهم منه (¬4) مجموع الحياة والصهولية (¬5) فهو: كمال المسمى، وإن فهم منه أحدهما خاصة فهو: جزء مسماه، وإن فهم منه سرعة الجري فهو: لازم مسماه. قوله: (فدلالة اللفظ فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى أو جزءه أو لازمه). هذا حقيقة دلالة اللفظ على قول. ¬
وقيل: حقيقتها كون اللفظ بحيث (¬1) إذا أطلق دل. وهذان القولان ذكرهما ابن سيناء (¬2). حجة القول الأول: أن اللفظ (¬3) إذا حصل منه فهم السامع قيل: هو لفظ دال، وإن لم يحصل منه فهم السامع قيل: هو لفظ لم يدل، فدار إطلاق لفظ الدلالة مع الفهم وجودًا وعدمًا، فيقتضي ذلك: أن الفهم هو: مسمى الدلالة، كدوران لفظ الإنسان مع الحيوان الناطق، وسائر الأسماء مع مسمياتها (¬4). وحجة القول الثاني: أن الدلالة صفة للفظ؛ لأنك تقول: لفظ دال، ¬
والفهم: هو صفة للسامع (¬1) لا للفظ، فيقتضي ذلك: ألا تفسر الدلالة بفهم السامع (¬2). واعترض كل واحد من القولين: أما الأول: فقد اعترض عليه بأن قيل: الدلالة صفة للفظ؛ لأنك تقول: لفظ دال، والفهم صفة للسامع (¬3)، فأين أحدهما من الآخر؟ وأما القول الثاني: فقد اعترض عليه بأن قيل: فيه تسمية الشيء بما هو قابل له، وذلك مجاز، والحقيقة أولى من المجاز. وذكر (¬4) المؤلف في الشرح هذين القولين، وذكر الاعتراضين (¬5)، فلما تخيل له الاعتراض عليهما (¬6) رجع إلى قول آخر، فقال: والذي أختاره أن دلالة اللفظ إفهام السامع لا فهم (¬7) السامع، فيسلم من المجاز، ومن كون صفة الشيء في غيره. انتهى (¬8). واعترض بعضهم هذا القول الثالث الذي اختاره المؤلف بأن قال: قوله: (دلالة اللفظ إِفهام السامع لا فهم السامع)، يقتضي ذلك: أنه لا فرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ؛ لأن إفهام السامع هو صفة للمتكلم كما كان ذلك في حقيقة الدلالة باللفظ (¬9). ¬
قال بعضهم: الأولى من هذه الأقوال الثلاثة المذكورة في حقيقة دلالة اللفظ: هو القول الأول الذي هو: فهم السامع ... إلى آخره. والجواب عن الاعتراض عليه بتفسيره بصفة الشيء في غيره: أن صفة (¬1) الشيء في غيره لا يضره ذلك، والدليل على ذلك: أن الدلالة بمنزلة الصناعة كالنجارة، والخياطة، والصياغة، ونحوها، بجامع الفعالة بكسر الفاء، فكما يقال للناجر: ناجر، مع أن النجارة في الخشب، ويقالَ للخائط (¬2): خائط، مع أن الخياطة في الثوب، ويقال للصائغ: صائغ، مع أن الصياغة في المصوغ، فكذلك يقال للفظ: دال، مع أن (¬3) الدلالة في السامع (¬4). وقال بعضهم: لا يصح أن يكون هذا صفة الشيء في غيره؛ وذلك أن فهم السامع هو أثر الصفة، لا أنه نفس الصفة، فالدلالة صفة للفظ، ولكن أثرها في السامع، كما أن النجارة، والخياطة، والصياغة في الفاعل الذي هو: الناجر (¬5)، أو الخائط (¬6)، أو الصائغ (¬7)، ولكن أثر هذه المعاني ظاهر في المفعول الذي هو: الخشب أو الثوب أو المصوغ (¬8). وأما هذه المعاني التي هي النجارة، والخياطة، والصياغة، فهي أعراض ¬
فانية من ساعتها؛ لأن (¬1) العرض لا يبقى زمانين، والذي تراه في المفعول هو أثرها لا عينها (¬2). قوله: (ولها ثلاثة أنواع: دلالة المطابقة وهي: فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى، ودلالة التضمن وهي: فهم السامع من كلام المتكلم جزء المسمى، ودلالة الالتزام وهي: فهم السامع من كلام المتكلم لازم المسمى البين، وهو: اللازم في (¬3) الذهن). ش: ذكر في هذا الكلام انقسام دلالة اللفظ إلى ثلاثة أقسام. وهي التي ذكرها بالتجميل (¬4) في حدها، وأتى بهذا (¬5) الكلام ليبين فيه (¬6) أسماء تلك الأقسام، فسمي فهم كمال (¬7) المسمى: بدلالة المطابقة، لمطابقة (¬8) اللفظ معناه وسمي فهم الجزء من المسمى: بدلالة التضمن؛ لأن فهم الجزء يتضمن (¬9) فهم الكل (¬10)، وسمي فهم اللازم: بدلالة الالتزام؛ لأن اللازم ¬
يستلزمه الملزوم (¬1). قوله: (ولها ثلاثة أنواع). ش: والدليل على حصر دلالة اللفظ في هذه الثلاثة: أن مدلول اللفظ إن كان نفس ما وضع له كان مدلولاً عليه بالمطابقة، وإن كان جزءًا مما (¬2) وضع له كان مدلولاً عليه بالتضمن، وإن (¬3) كان أمرًا لازمًا لما وضع له كان مدلولاً عليه بالالتزام. واعلم أن دلالة المطابقة هي وضعية باتفاق. وأما دلالة التضمن ودلالة الالتزام ففيهما ثلاثة أقوال: قيل: هما وضعيتان. وقيل: هما عقليتان. وقيل: دلالة التضمن وضعية، ودلالة الالتزام عقلية (¬4). وإنما كانت دلالة المطابقة وضعية باتفاق؛ لأنها لم تتوقف (¬5) إلا على مقدمة واحدة وضعية، وهي قولنا: كلما أطلق اللفظ فهم مسماه. ¬
وإنما وقع الخلاف في دلالتي (¬1) التضمن والالتزام؛ لأن كل واحدة (¬2) منهما متوقفة على مقدمتين (¬3): وضعية، وعقلية. فالوضعية: قولنا (¬4): كلما أطلق اللفظ: فهم مسماه. والعقلية: هي قولنا: وكلما فهم المسمى (¬5): فهم لازمه (¬6). فمن غلب المقدمة الأولى في الدلالتين قال: هما وضعيتان. ومن غلب فيهما (¬7) المقدمة الثانية قال: هما عقليتان. ومن قال: دلالة التضمن وضعية، ودلالة الالتزام عقلية قال: لأن الدلالة على جزء الشيء كالدلالة على الشيء؛ لأن الجزء داخل في المسمى، بخلاف اللازم فإنه خارج عن المسمى. وقال بعضهم: حجة القول بأنهما وضعيتان: لأنهما (¬8) تفهمان بواسطة اللفظ. ¬
وحجة القول بأنهما عقليتان: لأن (¬1) اللفظ لم يوضع لهما. وحجة القول بالتفصيل: لأن (¬2) جزء المسمى داخل في المسمى، ولازم المسمى خارج عن المسمى (¬3). قوله: (في دلالة الالتزام لازم المسمى: البين). قوله (¬4): (البين) نعت (للازم) (¬5) أي: اللازم البين (¬6) أي: القريب للفهم وهو اللازم الذي لا يحصل ملزومه في الذهن إلا وهو حاصل معه. وسبب اشتراط اللزوم في الذهن: أن اللفظ إذا استلزم مسماه (لازمه) (¬7) في الذهن كان حضور ذلك اللازم في الذهن منسوبًا لذلك اللفظ، فيقال: اللفظ دل عليه (¬8) بالالتزام، وأما إذا لم يستلزم (¬9) مسمى اللفظ ذلك اللازم في الذهن كان حضور ذلك اللازم منسوبًا لسبب (¬10) آخر [لا للفظ، فلا ¬
يقال] (¬1): دل عليه اللفظ. [وقوله: (اللازم البين)] (¬2) فسره المؤلف بقوله: و (¬3) هو اللازم في الذهن، بالذال المعجمة هو العقل: احترازًا من اللازم غير البين، وهو اللازم في الخارج دون الذهن. ويظهر لك بالمثال (¬4) الذي ذكره المؤلف: وذلك أن (¬5) المؤلف ذكر في الشرح أن الحقائق بالنسبة إلى الملازمة (¬6) على أربعة أقسام. أحدها (¬7): المتلازمان في الذهن والخارج (¬8)، كالسرير مع الارتفاع؛ لأنه لا يتصور السرير في الذهن، ولا يوجد أيضًا في الخارج، إلا مع الارتفاع. والثاني: غير المتلازمين في الذهن والخارج، كالسرير مع زيد، فإن السرير يتصور في الذهن دون تصور زيد؛ وكذلك في الخارج؛ لأنه يوجد السرير بدون زيد، إذ لا ملازمة بينهما. ¬
والثالث: المتلازمان في الذهن دون الخارج (¬1)، كالسرير مع زيد (¬2) بقيد (¬3) كونه نجار السرير. الرابع (¬4): المتلازمان في الخارج دون الذهن، كالسرير مع المكان، فإن السرير لا يوجد في الخارج إلا مع المكان، وأما في الذهن فلا يلزمه؛ لأنه قد يتصور السرير ويذهل (¬5) عن المكان (¬6). فقوله (¬7): (اللازم في الذهن) يندرج فيه قسمان، ويخرج عنه قسمان: فالمندرجان: هما المتلازمان ذهنًا وخاراجًا، والمتلازمان ذهنًا دون خارج. والخارجان: غير المتلازمين ذهنًا وخارخًا، والمتلازمان خارجًا دون ذهن، فالمعتبر إذًا هو: اللازم ذهنًا وافقه الخارج أم لا. قوله: (فالأول: كفهم مجموع الخمستين هن لفظ العشرة، والثاني: ¬
كفهم الخمسة وحدها من اللفظ، والثالث: كفهم الزوجية (¬1) من اللفظ). ش: قوله: (فالأول) (¬2)، أي: النوع الأول، وهو دلالة المطابقة. مثاله: فهم السامع من لفظ العشرة مجموع خمسة وخمسة؛ لأن مجموعهما موضوع العشرة (¬3). وقوله: (والثاني) أي: ومثال النوع الثاني، وهو: دلالة التضمن: فهم السامع من لفظ العشرة خمسة واحدة؛ لأن الخمسة الواحدة جزء العشرة (¬4). وقوله: (والثالث)، أي: ومثال النوع الثالث، وهو دلالة الالتزام: فهم السامع من لفظ العشرة الزوجية؛ لأن الزوجية أمر لازم للعشرة. واعترض قوله: (الخمستين) بأن قيل: هذه التثنية لحن؛ لأنه لا يثنى من أسماء (¬5) العدد إلا المائة والألف. أجيب: بأن المؤلف لم يقصد بالخمستين التعبير عن لفظ العشرة الزوجية (¬6) وإنما مقصوده أن خمسة وخمسة (¬7) جزءان تركب (¬8) منهما مسمى العشرة، كما تركب مسمى الإنسان من الحيوان والناطق، ففهم مجموع ¬
خمسة وخمسة من لفظ العشرة كفهم مجموع الحيوان والناطق (¬1) من لفظ الإنسان، ولما اتفق جزءا العشرة اللذان (¬2) هما خمسة وخمسة في اللفظ والمعنى: ثناهما المؤلف رحمه الله. والدليل على ذلك قول المؤلف - رحمه الله (¬3) - في الشرح: الجزء ما تركب منه ومن غيره كل كالخمسة مع العشرة (¬4). ولو أراد المؤلف التعبير بذلك عن لفظ العشرة (¬5) لقال: خمسة وخمسة كما قال الشاعر: أقمت بها يومًا ويومًا وثالثًا ... ويومًا له يوم الترحل خامس (¬6) قوله: (فالأول كفهم مجموع الخمستين من لفظ العشرة) إلى آخره. مثل المؤلف رحمه الله (¬7) الدلالات (¬8) الثلاث ها هنا بلفظ العشرة. ¬
ومثاله أيضًا: لفظ السقف، فإنه (¬1) موضوع للجسم الكثيف المركب من الخشب والقصب والتراب، فدلالة (¬2) السقف على مجموع الخشب والقصب والتراب: دلالة مطابقة، ودلالته على بعضها: دلالة تضمن، ودلالته على الارتفاع (¬3) عن الأرض: دلالة التزام (¬4)، وكذلك دلالة السقف على الجدار هي (¬5): دلالة التزام (¬6)؛ لأن ذلك أمر لازم للسقف (¬7) (¬8). [قوله: (ولها ثلاثة أنواع: المطابقة، والتضمن، والالتزام). حصر المؤلف دلالة اللفظ الوضعية في هذه الثلاثة، مع أن هناك دلالة رابعة وليست بواحدة من هذه الثلاثة، وهي: دلالة العموم على فرد (¬9) من أفراده، كدلالة المشركين (¬10) على زيد الكافر، فإنه يدل عليه اللفظ بالوضع وليس (¬11) بالمطابقة؛ لأن زيدًا ليس كمال المسمى، وليست بالتضمن؛ لأن ¬
زيدًا ليس جزء المسمى؛ لأن الجزء إنما يقابله الكل ومسمى العموم كلية لا كل، والذي يقابل الكلية هو: الجزئية (¬1) وليست أيضًا بالالتزام؛ لأن هذا الفرد الذي هو زيد إن كان لازمًا لزم أن يكون كل فرد لازمًا (¬2)، فأين (¬3) المسمى الذي هو الملزوم حينئذ؟ فبطلت (¬4) الدلالات (¬5) الثلاث (¬6) مع أن الصيغة (¬7) تدل بالوضع فما انحصرت دلالات الوضع في الثلاث، هكذا في شرح المؤلف (¬8). وهو الظاهر، فلم تنحصر دلالة اللفظ إذن في الثلاثة المذكورة. قال المؤلف في الشرح: هذا سؤال صعب وقد أوردته في شرح المحصول، وأجبت عنه بشيء (¬9)، وفي النفس منه شيء (¬10). والجواب المشار إليه أن لفظ العموم هو (¬11): موضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في جميع الأفراد، وقيد التتبع في الكل جزء (¬12) التتبع في البعض، ¬
والتضمن أيضًا إنما هو باعتبار جزء هذا الجزء لا باعتبار جزء المسمى (¬1)] (¬2). قوله: (والدلالة باللفظ هي (¬3): استعمال اللفظ إِما (¬4) في موضوعه (¬5) وهو (¬6): الحقيقة، أو في غير موضوعه لعلاقة بينهما (¬7) وهو: المجاز). ش: هذا هو المطلب الثاني من المطالب الثلاثة (¬8) التي اشتمل هذا الفصل عليها، وهو: بيان الدلالة باللفظ. قوله: (والدلالة باللفظ): قال المؤلف في الشرح: الباء في قوله: (باللفظ) للاستعانة؛ لأن المتكلم يستعين بنطقه على إفهام السامع ما في نفسه، كالباء في: كتبت بالقلم، ونجرت بالقدّوم، انتهى (¬9). [يعني: أن معنى الدلالة باللفظ هو: أن يدلك المخاطب باللفظ الذي تكلم به على أنه استعمله في حقيقته أو مجازه، ولما لم يكن له طريق إلى تعريفك مراده إلا بواسطة اللفظ، كانت الباء في قوله باللفظ للاستعانة] (¬10). ¬
تقدير كلامه: وحقيقة الدلالة باللفظ هي (¬1): استعمال اللفظ إما في موضوعه، أي: في مسماه الذي وضع له في اللغة، وهو: الحقيقة، أي (¬2): وهو الاستعمال الحقيقي. وأما استعماله في غير مسماه الذي وضع له في اللغة وهو المجاز، بشرط ثبوت العلاقة بين الموضوع الأول وغيره، وهو الاستعمال المجازي. قال المؤلف في الشرح: قولي: أو في غير موضوعه وهو المجاز، يتعين أن يزاد فيه: لعلاقة بينهما، فإن بدونها لا (¬3) مجاز يعني: إن (¬4) لم تكن علاقة فهو نقل لا مجاز. انتهى (¬5). [قوله: (لعلاقة بينهما)، أي لمشابهة بين المعنيين، وفي كلامه حذف صفة تقديره: لعلاقة معتبرة؛ إذ ليس كل علاقة معتبرة، كما سيأتي بيانه في الفصل السابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز (¬6). قوله] (¬7): [(استعمال اللفظ ...) إلى آخره. مثال ذلك: لفظ الأسد فإن أريد به الحيوان المفترس فذلك: حقيقة وضعه، وإن أريد به الرجل الشجاع فذلك: مجاز، والعلاقة بينهما ظاهرة ¬
وهي: الشجاعة] (¬1). قوله: (والدلالة باللفظ هي: استعمال اللفظ إِما في موضوعه، وهو: الحقيقة، أو في غير موضوعه لعلاقة بينهما وهو: المجاز). هذا التعريف الذي عرف به الدلالة باللفظ: [هو بعينه التعريف الذي عرف به الاستعمال في الفصل الثالث؛ لأنه قال فيه: والاستعمال: إطلاق اللفظ وإرادة عين مسماه بالحكم، وهو: الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو: المجاز (¬2) فاقتضى ذلك أن الدلالة باللفظ] (¬3) والاستعمال: حقيقة واحدة. قوله: (والفرق بينهما: أن هذه صفة (¬4) للمتكلم (¬5)، وألفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وتلك صفة للسامع (¬6)، وعلم أو ظن قائم بالقلب (¬7)، ولهذه نوعان وهما: الحقيقة، والمجاز (¬8)، لا يعرضان لتلك، وأنواع تلك الدلالة (¬9) ثلاثة لا تعرض لهذه). ش: هذا هو المطلب الثالث وهو بيان الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة ¬
باللفظ. فذكر المؤلف في الفرق بينهما (¬1) ثلاثة فروق: أحدها: أن هذه - يعني الدلالة باللفظ -: صفة للمتكلم؛ لأنها استعمال المتكلم اللفظ (¬2)، وأما دلالة اللفظ فهو (¬3): صفة للسامع؛ لأنها فهم السامع من كلام المتكلم. وإلى هذا الفرق أشار المؤلف بقوله: إن هذه صفة للمتكلم وتلك صفة للسامع. الفرق (¬4) الثاني: أن الدلالة باللفظ هي: ألفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، أي: عروق الرئة؛ لأنها استعمال اللسان. وأما دلالة اللفظ فهي (¬5): علم أو ظن قائم بالقلب، فالدلالة باللفظ لفظية، ودلالة اللفظ اعتقادية. وإلى هذا الفرق (¬6) أشار المؤلف بقوله: وألفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وعلم أو ظن قائم بالقلب. ¬
وقوله: (وعلم أو ظن) (¬1) أي: وشك (¬2)، وإنما قال: وعلم (¬3) أو ظن؛ لأن الإنسان إذا سمع شيئًا فقد يقطع به وقد يظنه. و (¬4) قوله: (وألفاظ قائمة باللسان، وقصبة الرئة) هذا إشارة إلى أن النطق أصله الرئة مع اللسان؛ لأن الصوت يحدث من الرئة ثم يقطعه اللسان في المخارج فتحدث (¬5) الحروف (¬6). قال بعض العلماء: كل حيوان له رئة يصوت برئته، وكل حيوان له جناح يصوت بجناحه بتحريك الهواء بسرعة وخفة، كالنحل والجراد والزنبور، وكل حيوان لا رئة له ولا جناح فهو: أخرس كالسمك ونحوه. قال علي بن أبي طالب (¬7) رضي الله عنه: الدماغ محل العقل، والكبد محل الضحك، والطحال محل الرحمة، والرئة محل الصوت (¬8). [وقد روي عن المؤلف رضي الله عنه أنه أخبره من يوثق به أنه سمع هنا ¬
من رخام أحمر يتكلم ويقول في كلامه: هاتان مدينتان (¬1) لشداد بن عاد، وقد صار إلى التراب، من ذا (¬2) يبقي على الحدثان، وذلك أن ذلك الصنم مغطى كله في الرمال (¬3) إلى (¬4) رأسه، وفي رأسه (¬5) ووسطه ثقب (¬6)، فيخرج منها الريح خروجًا شديدًا، فإذا سدت تلك الثقبة بالإصبع انحصر فيها (¬7) الريح حتى يمتلئ جوفه بالريح، فإذا رفع الإصبع عن (¬8) الثقبة فجعل الريح يخرج وجعل الصنم يقول: هاتان مدينتان ... إلخ فطول في الحدثان (¬9) حتى أفرغ (¬10) الريح من جوف الصنم فسكت] (¬11). الفرق الثالث: أن أنواع كل واحدة من الدلالتين تختص بها ولا توجد في الدلالة الأخرى، وذلك أن أنواع الدلالة باللفظ وهي الحقيقة والمجاز لا توجد في دلالة اللفظ؛ إذ لا توصف دلالة اللفظ بالحقيقة ولا بالمجاز؛ لأن ¬
معناها عبارة عن كون اللفظ إذا سمع فهم معناه؛ إذ من شرط الحقيقة والمجاز إرادة الاستعمال في موضوعه، أو في غير موضوعه لعلاقة بينهما وذلك منتف في دلالة اللفظ، فلا توصف بالحقيقة ولا بالمجاز، وأنواع دلالة اللفظ التي هي المطابقة والتضمن والالتزام لا توجد أيضًا في الدلالة باللفظ. وإلى هذا الفرق الثالث أشار (¬1) المؤلف بقوله: ولهذه (¬2) نوعان: وهما الحقيقة والمجاز ... إلى آخره. و (¬3) قوله: (لا يعرضان)، بكسر (¬4) الراء في المستقبل وفتحها في الماضي، نحو ضرب يضرب. قال الهروي: يقال: عرض لي الشيء (¬5) وأعرض وتعرض واعترض بمعنى واحد (¬6). قال المؤلف في الشرح: و (¬7) الفرق بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من مهمات مباحث الألفاظ، وقد بينت ها هنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه، ¬
وذكرت في شرح المحصول خمسة عشر وجهًا (¬1)، وهذه الثلاثة تكفي في هذا المختصر. انتهى (¬2). قال (¬3) بعضهم: بل ذكر المؤلف ها هنا أربعة فروق وهي: هذه الفروق الثلاثة المذكورة ها هنا، والفرق الرابع هو: الفرق بينهما بالحقيقة؛ لأن حقيقة كل واحدة من الدلالتين مخالفة لحقيقة الأخرى؛ لأن المؤلف بين حقيقة كل (¬4) واحدة منهما (¬5). قوله: (والفرق بينهما: أن هذه صفة للمتكلم وألفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وتلك: صفة للسامع وعلم أو ظن قائم بالقلب). ش: استعمل المؤلف رحمه الله في هذه الجملة المقابلة، وهي من أنواع (¬6) البديع، وهي من الفصاحة اللفظية. قال صاحب المصباح (¬7): ومعنى المقابلة: أن تأتي في الكلام ¬
بجزئين (¬1) فصاعدًا، ثم تعطف على ذلك أضدادها أو شبه (¬2) أضدادها على الترتيب، وأقل المقابلة: مقابلة اثنين باثنين، وأكثرها: مقابلة خمسة بخمسة. مثال (¬3) مقابلة اثنين باثنين: قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (¬4). ومثال مقابلة ثلاثة بثلاثة قول الشاعر: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل (¬5) ومثال مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) ¬
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬1) قوله: استغنى (¬2)، أي: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة فلم يتق. ومثال مقابلة خمسة بخمسة قول المتنبي (¬3): أزورها وسواد الليل يشهد (¬4) لي ... وأنْثَنِي وبياض الصبح يغري بي (¬5) ¬
قالوا: هذا (¬1) البيت أفضل بيت في المقابلة؛ لأنه لا حشو فيه (¬2). بخلاف كلام المؤلف فيه حشو للضرورة؛ لأجل البيان، وبيان المقابلة في كلام المؤلف: أنه قابل أربعة ألفاظ بأربعة ألفاظ؛ لأنه قابل هذه بتلك، وقابل صفة المتكلم بصفة السامع، وقابل الألفاظ بالعلم والظن (¬3)، وقابل اللسان بالقلب. هذه (¬4) أربعة ألفاظ متقابلة، فالأول والثاني من الأضداد، والثالث والرابع من شبه الأضداد، والله أعلم. وقال بعضهم: هذا الذي استعمله المؤلف ها هنا هو التلفيف وهي (¬5): من الفصاحة المعنوية. ¬
ومعنى التلفيف: أن تلف (¬1) شيئين في الذكر ثم تومئ بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع (¬2) يرد كل (¬3) تفسير إلى اللائق به. مثاله: قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4) الأول للأول، الثاني للثاني (¬5) ومنه قول امرئ القيس: كأنَ قلوبَ الطيرِ رطْبًا ويابسًا ... لدا وَكْرِهَا العنَّاب والحشفُ البالي (¬6) ¬
وقال (¬1) آخر: فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه (¬2) [وقال آخر: ليل وبدر وغصن ... شعر (¬3) ووجه وقد خمر و (¬4) در وورد ... ريق وثغر، وخد (¬5)] (¬6) وبالله التوفيق (¬7). ... ¬
الفصل الخامس في الفرق بين الكلي والجزئي
الفصل الخامس في الفرق بين الكلي والجزئي (¬1) شرع المؤلف رحمه الله في هذا الفصل في بيان الكلي والجزئي. [اعلم أن الكلي والجزئي من عوارض المعاني لا من عوارض الألفاظ، فقوله في الفرق بين الكلي والجزئي] (¬2)، تقديره: في الفرق بين اللفظ الذي معناه كلي، ويبن اللفظ الذي معناه جزئي، فهذا من باب تقسيم المفرد (¬3) باعتبار معناه. وفي هذا الفصل ثلاثة مطالب: أحدها: في (¬4) حقيقة الكلي. الثاني: في أقسامه. الثالث: في حقيقة الجزئي. قوله: (فالكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع (¬5) الشركة فيه). ¬
ش: [هذا هو المطلب الأول وهو حقيقة الكلي] (¬1) يعني: أن (¬2) معنى الكلي عندهم هو: اللفظ (¬3) الذي لا يمنع تصور معناه من وجود الشركة فيه، يعني أن كل ما يمكن (¬4) للعقل أن يتصور منه أفرادًا كثيرة فهو المعبر عنه بالكلي. مثاله: الحيوان فإن العقل يتصور منه أفرادًا كثيرة؛ لأنه يصدق على الماشي، والسابح، والطائر. وكذلك الإنسان فإن العقل يتصور (¬5) منه أفرادًا كثيرة كزيد، وعمرو، وبكر، ونصر (¬6) وغيرهم كهند، ودعد، وفاطمة، وعائشة (¬7) وغيرهن. وكذلك الرجل فإنه كلي؛ لأنه يصدق على جميع أشخاص الرجال. وكذلك المرأة فإنه كلي؛ لأنه يصدق على جميع أشخاص النساء. وكذلك العبد فإنه كلي؛ لأنه يصدق (¬8) على جميع أشخاص العبيد [من ميمون، ومسعود، ومرزوق، ومبارك، ورابح، وناجح، ونافع، وغيرهم ¬
من أشخاص العبيد] (¬1). فكل ما يمكن للعقل أن يتصور (¬2) منه أفرادًا كثيرة فهو المعبر عنه بالكلي. قوله (¬3): (و (¬4) سواء امتنع وجوده كالمستحيل، أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق، أو وجد ولم يتعدد كالشمس، أو تعدد كالإِنسان، وقد تركت قسمين: أحدهما: محال، والثاني: أدب). ش: هذا هو المطلب الثاني، وهو أقسام الكلي، وأقسام الكلي (¬5) عند المؤلف ستة أقسام. وبيانها أن تقول: الكلي: إما معدوم، وإما موجود (¬6)، والمعدوم: إما مستحيل الوجود، وإما ممكن الوجود، والموجود: إما متحد، وإما متعدد، والمتحد: إما واجب الاتحاد، وإما ممكن الاتحاد، والمتعدد: إما متناه وإما غير متناه. فمثال مستحيل الوجود: كالجمع بين الضدين؛ كالجمع بين الحركة والسكون، والجمع بين القيام والقعود، والجمع بين البياض والسواد (¬7) وغير ذلك، فإن منع (¬8) الجمع بين الضدين يصدق على مجموع كثيرة [بين أضداد ¬
الأصل] كثيرة] (¬1). ولكن أفراد هذا الكلي مستحيلة في الوجود الخارجي. وإلى هذا القسم (¬2) أشار المؤلف بقوله (¬3): وسواء امتنع وجوده كالمستحيل. و (¬4) قوله: (امتنع وجوده) يعني في الخارج. و (¬5) مثال ممكن الوجود: كبحر من زئبق، وجبل من ياقوت، فإن العقل (¬6) يتصور (¬7) بحورًا كثيرة من زئبق، وكذلك يتصور (¬8) جبالاً كثيرة من الياقوت في الذهن، ولم يوجد شيء من أفراد ذلك في الخارج. وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق. قوله: (زئبق) هو بكسر الزاي وهمز الياء بالهمزة الساكنة ويجوز إبدالها بالياء الساكنة، وبكسر الباء. قال في مختصر العين: الزئبق هو الزواق، والزنبق هو: دهن ¬
الياسمين (¬1). ومثال واجب الاتحاد: لفظ الإله بالنسبة إلى الله جل جلاله، فإن العقل يمكن أن (¬2) يتصور آلهة كثيرة، ولكن قامت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة: أن للعالم إلهًا واحدًا جل وعلا. وذلك أن أرباب علم المنطق يقولون: من أقسام الكلي واجب الوجود سبحانه، فإن مجرد تصوره لا يمنع من الشركة في الذهن بما هو تصور، وهو مع ذلك يستحيل عليه (¬3) الشركة في نفس الأمر. قال المؤلف في الشرح: إطلاق لفظ الكلي على واجب الوجود سبحانه وتعالى، فيه إيهام تمنع من إطلاقه الشريعة، فلذلك قلت: تركته أدبًا انتهى (¬4). وهذا القسم هو أحد القسمين اللذين تركهما المؤلف كما أشار إليه بقوله: وقد تركت قسمين: أحدهما: محال. والثاني: أدب. وهذا الذي ذكرناه هنا (¬5) هو الذي تركه المؤلف تأدبًا مع الله تبارك (¬6) ¬
وتعالى؛ لأن إطلاق (¬1) الكلي على واجب الوجود جل وعلا فيه (¬2) من إيهام الجسمية (¬3) فالأدب مع الله واجب. ومثال الكلي الذي هو ممكن الاتحاد: كالشمس والقمر، فإن العقل يمكن (¬4) أن يتصور شموسًا كثيرة، وكذلك يمكن (¬5) أيضًا أن يتصور أقمارًا كثيرة، ولكن لم (¬6) يوجد في الخارج عن الأفهام غير شمس واحدة (¬7) وقمر واحد. وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: (أو وجد (¬8) ولم يتعدد كالشمس). ومثال المتعدد المتناهي: كالأفلاك والكواكب (¬9) فإنها محصورة متناهية [وكذلك الإنسان: هو أيضًا كلي متعدد متناه. وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: أو تعدد كالإنسان؛ لأن أفراد الإنسان محصورة متناهية] (¬10)؛ إذ لا بد من الموت لجميع أفراد الإنسان (¬11)، فالموت نهاية أفراد ذرية آدم وحواء. ¬
و (¬1) قوله: (أو تعدد) (¬2) يعني: وتناهى. ومثال المتعدد غير المتناهي: نعم الله تبارك وتعالى، وأنفاس أهل الجنة؛ إذ لا نهاية لها لبقائها ودوامها. وقوله: (أحدهما محال) يعني به (¬3): المتعدد غير المتناهي، ولكن إنما يصح كونه محالاً على تمثيله بالإنسان على مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم، فإن أفراد الإنسان عندهم غير متناهية، بل هي عندهم باقية (¬4) دائمة (¬5)، وأما على مذهب أهل الحق القائلين: بأن أفراد الإنسان متناهية (¬6): فلا محال في تمثيله بالإنسان. و (¬7) قوله: (أحدهما محال) يعني به (¬8): المتعدد غير المتناهي إذا مثلناه بالإنسان، وأما إذا مثلناه بنعم الله تعالى (¬9) وأنفاس أهل الجنة فلا يصح أن يكون محالاً. قال بعضهم: الفرق بين المستحيل والمحال: أن المستحيل: ما اتفق عليه، ¬
والمحال: ما اختلف فيه؛ ولأجل (¬1) ذلك (¬2) عبر المؤلف بالمستحيل في ممتنع الوجود، كالجمع بين الضدين في قوله: (وسواء امتنع وجوده كالمستحيل)؛ لأنه موضع الاتفاق، وعبر بالمحال في المتعدد الذي لا يتناهى على تمثيله بالإنسان؛ لأنه موضع الخلاف بين أهل الحق وأهل (¬3) الفلسفة (¬4). قوله: (والثاني: أدب) يعني به ما تقدم من إطلاق الكلي على واجب الوجود جل وعلا، ولكن هذا أيضًا (¬5) على تمثيل الكلي الواجب الاتحاد بالإله على ما تقدم. قال في رموز الكنوز: مثاله: مسمى العالم فإنه عبارة عن كل موجود سوى الله تبارك وتعالى وصفات ذاته، فإن العالم واحد في الوجود مع امتناع غيره (¬6). ¬
وليس في تمثيله بهذا ما يوهم (¬1) ما يجتنب في الشريعة. فتحصل مما ذكرنا (¬2) أن القسمين اللذين تركهما (¬3) المؤلف إنما يصح له تركهما على تمثيلها عند الفلاسفة (¬4)، وأما على تمثيل أهل الحق فليس في القسمين ما يوجب تركهما، فأقسام الكلي عند المؤلف ستة أقسام، وهي طريقة المتأخرين. وأما القدماء من المنطقيين فأقسام الكلي عندهم ثلاثة (¬5): معدوم، ومتحد، ومتعدد، فجعل المتأخرون كل واحد من هذه الثلاثة قسمين. فقالوا: المعدوم: إما ممكن كبحر من زئبق، وإما غير ممكن كالجمع بين الضدين. والمتحد: إما ممتنع الزيادة عليه وهو الله عز وجل (¬6)، وهو الذي تركه المؤلف أدبًا مع الله عز وجل، وإما غير ممتنع الزيادة عليه كالشمس. والمتعدد: إما محصور كالأفلاك السبعة، وإما غير محصور كالإنسان؛ بناء من المتأخرين على قدم العالم، وهو الذي تركه (¬7) المؤلف محالاً. ¬
قوله (¬1): (والجزئي هو الذي يمنع تصوره من وقوع (¬2) الشركة فيه). ش: هذا هو المطلب الثالث، وهو حقيقة الجزئي عندهم (¬3)، وهو مقابل الكلي (¬4). قوله: (هو (¬5): الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه)، أي حقيقة الجزئي: هو اللفظ (¬6) الذي يمنع تصور معناه من وجود الشركة فيه، يعني: أن كل ما لا يمكن للعقل أن يتصور منه أفرادًا كثيرة فهو المعبر عنه بالجزئي عندهم. مثاله: جميع المتشخصات (¬7) كزيد، وعمرو، وهند، ودعد؛ فإن زيدًا المتعين (¬8) لا يمكن للعقل أن يتصور منه أفرادًا كثيرة لتشخصه وتعينه (¬9)، وهذا الذي ذكر (¬10) المؤلف هو الجزئي الحقيقي. واعلم أن الجزئي له ثلاثة أقسام: جزئي حقيقي كزيد، و (¬11) هو الذي ذكره المؤلف، وهو ما يمنع (¬12) تصوره ¬
من وقوع الشركة فيه. والثاني: جزئي إضافي، كالإنسان، فإنه جزئي بالنسبة إلى الحيوان، وكالحيوان فإنه جزئي بالإضافة إلى الجسم، فالإنسان والحيوان ليس شيء منهما جزئيًا حقيقيًا؛ لأن كل واحد منهما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. القسم الثالث: جزئي حقيقي و (¬1) إضافي معًا، كزيد بالنسبة إلى الإنسان، فإن زيدًا في نفسه (¬2) [جزئي حقيقي؛ لأنه (¬3)] (¬4) يمنع (¬5) تصوره من وقوع الشركة فيه، وهو: جزء (¬6) إضافي بالنسبة إلى الإنسان لاندراجه تحته؛ و (¬7) لأنه (¬8) يقال: الجزئي؛ لكل مندرج تحت الكلي، سواء كان في نفسه حقيقيًا أو لا (¬9)؟ فالجزئي الحقيقي أخص من الجزئي الإضافي، فكل جزئي حقيقي هو جزء (¬10) إضافي، وليس كل جزئي إضافي جزءًا (¬11) حقيقيًا، فيلزم من وجود ¬
زيد وجود الإنسان ولا يلزم من وجود الإنسان وجود زيد؛ لأن زيدًا أخص من الإنسان، والإنسان أعم، فيلزم من وجود الأخص وجود الأعم ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص. قال المؤلف في شرح المحصول: مسمى شمس (¬1) كلي، بخلاف مسمى زيد؛ لأنه لو طلعت شموس كثيرة سمينا كل واحدة منها شمسًا من غير احتياج لوضع جديد بل بالوضع الأول، ولو رأينا أمثالاً لزيد (¬2) لم نسم واحدًا منهم زيدًا (¬3) إلا بوضع جديد، وذلك دليل على أن لفظ زيد لم يوضع لكلي (¬4) (¬5). قال المؤلف في الشرح: إذا ظهر الفرق بين الكلي والجزئي، فينبغي أيضًا أن يعلم (¬6) الفرق بين الكلية والكل، والجزئية (¬7) والجزء. فالكلية هي (¬8): الحكم على فرد (¬9) فرد بحيث لا يبقى فرد، كقولنا: كل ¬
رجل يشبعه رغيفان غالبًا، فهذا الحكم صادق باعتبار الكلية دون الكل. والكل هو: الحكم على المجموع من حيث هو مجموع، كقولنا: كل رجل يشيل الصخرة العظيمة، فهذا الحكم صادق باعتبار الكل دون الكلية. والجزئية هي (¬1): الحكم على بعض [أفراد الحقيقة من غير تعيين، كقولنا] (¬2): بعض الحيوان إنسان. والجزئي هو (¬3): الشخص من كل حقيقة كلية. والجزء: ما تركب منه ومن غيره كل (¬4) كالخمسة مع العشرة. وجميع هذه الحقائق لها موضوعات في اللغة، فصيغة العموم للكلية، وأسماء العدد للكل، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي [وقولنا: بعض الحيوان إنسان، وبعض العدد زوج: للجزئية، وقولنا: جزء موضوع للجزء] (¬5) وهذه الحقائق يحتاج إليها (¬6) كثيرًا [في] (¬7) أصول الفقه فينبغي أن تعلم (¬8)، انتهى نصه وقال بعضهم: الفرق بين الجزئية والجزء والجزئي مع [اشتراكها] (¬9) في ¬
البعضية (¬1): أن الجزئية هي: بعض الشيء الموضوع للمعلوم (¬2)، كقولنا: بعض الحيوان إنسان. والجزء هو (¬3): بعض الشيء الموضوع للمجموع، كقولنا: بعض العشرة خمسة (¬4). والجزئي هو: بعض متعين (¬5) من الشيء الموضوع [للشيوع] (¬6) كقولنا: بعض الإنسان زيد (¬7). وقال بعضهم: الفرق بين الكلي والكل من سبعة أوجه: أحدها: أن الكلي له أبعاض يتحقق وجوده بوجود بعضها، والكل له أبعاض لا يتحقق وجوده إلا بوجود جميعها. الثاني: أن (¬8) الكلي وجوده في الأذهان، والكل وجوده في (¬9) الأعيان (¬10)؛ لأن الكلي لا وجود له في الأعيان، وإنما وجوده في الأذهان، ¬
فإذا حصل الجزئي حصل الكلي. الثالث: أن الكلي غير مركب من الجزئيات، والكل مركب من الأجزاء. الرابع: أن الكلي يحمل على جزئياته، والكل لا يحمل على أجزائه. الخامس (¬1): أن الكلي لا يسلب عن جزئياته، والكل يسلب. السادس (¬2): أن جزئيات الكلي غير متناهية، وأجزاء الكل متناهية. السابع (¬3): أن جزئيات الكلي تشترك في طبيعة واحدة، [وأجزاء الكل لا تشترك في طبيعة واحدة (¬4)] (¬5). [وأخصر وأوجز من هذا أن تقول: الكلي وجوده في الأذهان، ويوجد بعض جزئياته، ولا يتركب من الجزئيات، ويحمل على جزئياته، ولا يسلب عن جزئياته، ولا تتناهى جزئياته وتشترك جزئياته في طبيعة واحدة بخلاف الكل في جميع ذلك] (¬6). ... ¬
الفصل السادس في أسماء الألفاظ
الفصل السادس في أسماء الألفاظ ذكر المؤلف (¬1) في الفصل الذي فرغ منه [قسمة اللفظ] (¬2) باعتبار معناه، وهو (¬3) قسمته (¬4) إلى: الكلي والجزئي؛ لأنه تقدم لنا أن الكلي والجزئي من عوارض المعاني. وشرع (¬5) في هذا الفصل في قسمة المعنى باعتبار لفظه، وذكر في هذا الفصل تسعة عشر لفظًا بحقائقها، منها عشرة ألفاظ ليس لها أبواب تحصرها، ومنها تسعة ألفاظ لها أبواب تحصرها. فالعشرة التي لا تحصرها الأبواب هي (¬6): المشترك، والمتواطئ، والمشكك، والمترادفة، والمتباينة، والمرتجل، والعلم، والمضمر، والنص، والاستفهام. والتسعة التي تحصرها أبوابها هي (¬7): الظاهر، والمجمل، والمبين، ¬
والعام، والمطلق، والمقيد، والأمر، والنهي، والخبر. و (¬1) قوله: (في أسماء الألفاظ) اعترض هذا الكلام مضافًا ومضافًا إليه. أما بيان الاعتراض [على] (¬2) المضاف: فلأن المؤلف إنما تعرض لبيان مسمى الألفاظ، لا لبيان أسماء الألفاظ؛ لأن المشترك مثلاً اسم بين المؤلف مسماه: بأنه الموضوع لكل واحد لمعنيين (¬3) فأكثر، وكذلك سائر الألفاظ المذكورة في هذا الفصل، فإن المؤلف إنما تعرض لبيان المسميات لا لبيان الأسماء. أجيب (¬4) عن هذا بأن قيل: أطلق المؤلف الأسماء على المسميات، تقديره: في مسميات [الألفاظ. وأما بيان الاعتراض على المضاف إليه: فإن الألف واللام في الألفاظ لا يصح أن تكون للعهد؛ إذ لا معهود ها هنا، ولا يصح أن تكون للعموم؛ لأن المؤلف لم يتعرض لجميع الألفاظ. أجيب عن هذا: بأن قيل: حذفت ها هنا الصفة تقديره] (¬5): الألفاظ (¬6) التي يأتي ذكرها. فقوله (¬7): في أسماء الألفاظ، تقديره: في مسميات الألفاظ التي يأتي ذكرها. ¬
قوله: (المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر، كالعين، وقولنا: لكل (¬1) واحد: احترازًا من أسماء (¬2) العدد (¬3)، فإِنها لمجموع المعاني لا لكل واحد، ولا حاجة لقولنا: مختلفين، فإِن الوضع يستحيل (¬4) أن يكون (¬5) لمثلين (¬6) فإِن التعيين إِن اعتبر في التسمية كانا مختلفين، وإِن لم يعتبر كانا واحدًا، والواحد ليس بمثلين). ش: و (¬7) في هذا الفصل تسعة عشر مطلبًا (¬8) على عدد الألفاظ المذكورة فيه: المطلب الأول: في حقيقة اللفظ المشترك (¬9). ¬
قوله: (المشترك) (¬1)، سمي اللفظ المشترك بالمشترك (¬2): مأخوذ من الشركة لاشتراك المعاني فيه، كما سميت (¬3) الدار المشتركة بين الشركاء [مشتركة (¬4)؛ لاشتراك] (¬5) الشركاء فيها. وقوله: (الموضوع) جنس يحتوي (¬6) على الموضوع لمعنى واحد، والموضوع لمعان متعددة، والموضوع لمجموع (¬7) المعاني. وقوله: (لكل واحد من معنيين) أخرج به (¬8) الموضوع لمعنى واحد، وأخرج به أيضًا (¬9) الموضوع لمجموع المعاني وهو: أسماء الأعداد؛ لأن اسم العدد موضوع [لمجموع المعاني، وليس موضوعًا لكل واحد من المعدود، كمثل لفظ (¬10) العشرة مثلاً فإنه (¬11) موضوع (¬12) لمجموع] (¬13) عشر (¬14) وحدات، ¬
لا أنه (¬1) موضوع (¬2) لكل وحدة (¬3) من تلك (¬4) الوحدات، فلفظ العشرة موضوع لمجموع المعدودات، وليس موضوعًا [لأشخاص] (¬5) المعدودات. مثال ما وضع لمعنيين: لفظ القرء؛ لأنه موضوع للحيض والطهر (¬6)، وكذلك لفظ (¬7) الجون (¬8)، للأسود والأبيض (¬9)، وكذلك الناهل للعطشان ¬
والريان (¬1)، وكذلك المختار للفاعل والمفعول (¬2)، وكذلك المشتري، للعاقد والكوكب (¬3)، وغير ذلك. ومثال ما وضع لأكثر من معنيين: لفظ العين للباصرة، والفوارة، وعين ¬
الركبة، وعين الميزان، وعين الشمس، وعين السحاب، وعين الرحى، وذات الشيء، وخيار الشيء (¬1). قال (¬2) المؤلف في الشرح: جرت عادة المصنفين أن يقولوا: المشترك (¬3) هو؛ اللفظ الموضوع لمعنيين مختلفين، فيندرج في لفظهم أسماء الأعداد، فإن لفظ اثنين (¬4) يصدق عليه أنه وضع لمعنيين، وهما: الوحدتان اللتان يتركب (¬5) منهما مفهوم (¬6) الاثنين، ولفظ الثلاثة: يصدق عليه أنه وضع لأكثر من معنيين، وكذلك بقية أسماء الأعداد (¬7) مع أنها كلها غير مشتركة، فيكون الحد غير مانع، فقلت أنا: "لكل واحد" لتخرج أسماء الأعداد؛ لأنها (¬8) للمجموعات لا لكل واحد. انتهى نصه (¬9). و (¬10) قوله: (ولا حاجة لقولنا: مختلفين) يعني أنه لا يحتاج إلى زيادة قولنا: مختلفين، على قولنا: من معنيين، كما زاده (¬11) غيره من ¬
المصنفين؛ لأنهم يقولون (¬1): المشترك هو اللفظ الموضوع لمعنيين مختلفين (¬2)، ويحترزون بقولهم: مختلفين، من اللفظ المتواطئ؛ [لأن اللفظ المتواطئ يصدق عليه] (¬3) أنه (¬4) موضوع لمعنيين (¬5) متماثلين لا مختلفين، كلفظ (¬6) الإنسان مثلاً، فإنه (¬7) يتناول جميع الأناسي (¬8)، وهي متماثلة من حيث إنها أناسي (¬9)، [مع أن اللفظ غير مشترك] (¬10)، فأخرجوا المتواطئ بقولهم: مختلفين؛ لأن المتواطئ معانيه متماثلة لا مختلفة. قال المؤلف في الشرح: وهذا (¬11) لا يحتاج إليه فإن لفظ الإنسان وغيره من أسماء الأنواع والأجناس، إنما وضع للقدر المشترك بينها (¬12) [لا لها] (¬13)، والقدر المشترك بينها هو (¬14) مفهوم واحد (¬15) فما وضع اللفظ إلا لواحد، فقد ¬
خرج هذا (¬1) بقولي: "من معنيين" فلا حاجة إلى إخراجه بقيد آخر؛ لأنه (¬2) حشو في الحد بغير فائدة، والوضع للمتماثلات (¬3): مستحيل؛ لما ذكرته من البرهان في الأصل. انتهى نصه (¬4). قوله: (فإِن الوضع يستحيل أن يكون للمثلين، فإِن التعيين إِن اعتبر في التسمية كانا مختلفين، وإِن لم يعتبر كانا واحدًا، والواحد ليس بمثلين). هذا دليل على استحالة الوضع [للمتماثلات (¬5)، كما اعتقدوه في زيادة قولهم: مختلفين على قولهم: لمعنيين (¬6). و (¬7) بيان ذلك: أن الواضع حين وضع] (¬8) لفظ (¬9) الإنسان وغيره من اللفظ المتواطئ، إما (¬10) أن يعتبر تعيين الأفراد وأشخاصها حين التسمية، أولا يعتبر ذلك، فإن اعتبر تشخص الأفراد وتعينها فقد وضع لمختلفين (¬11) لا لمثلين؛ لأن المثل (¬12) بقيد التعيين مخالف للمثل الآخر بالضرورة، وإن لم ¬
يعتبر التشخص والتعين حين التسمية فقد وضع اللفظ لمعنى واحد [وهو القدر المشترك بين معانيه، والواحد ليس (¬1) بمثلين] (¬2)، فلم يوضع (¬3) اللفظ المتواطئ إذًا لمثلين (¬4)، [إذ الوضع للمثلين] (¬5): مستحيل، والمستحيل لا يحترز (¬6) منه. وبيان ذلك: أن المتواطئ (¬7) كالإنسان، إما أن يكون وضعه باعتبار الأشخاص، أو باعتبار القدر المشترك بين الأشخاص (¬8)، فلا يصح أن يكون باعتبار الأشخاص؛ لأنها (¬9) مختلفة، فإن الموضوع للمختلفات مشترك، والمتواطئ ليس بمشترك، فتبين أن وضع (¬10) المتواطئ (¬11) باعتبار (¬12) القدر المشترك وهو متحد: فاستحال الوضع للمتماثلات. واعترض بعضهم هذا (¬13) الحد الذي حد به المؤلف اللفظ المشترك، بالمنقول والمجاز، على القول بأن من شرطه الوضع؛ لأن كل واحد من المنقول ¬
والمجاز يصدق عليه أنه موضوع لكل واحد من معنيين. مثال المنقول: جعفر؛ لأنه وضع للنهر الصغير وللمولود (¬1). ومثال المجاز: الأسد للحيوان المفترس، والرجل الشجاع (¬2). أجيب عن النقل (¬3): بأنه (¬4) لا يدخل في الحد، لأن الوضع الأول في المعنى الأول باطل بالوضع الثاني، فلا عبرة فيه بالوضع الأول لإبطاله. كما قال (¬5) المؤلف في الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ، لأنه قال فيه (¬6): والنقل يحتاج إلى (¬7) اتفاق على إبطال وإنشاء وضع بعد وضع (¬8). وأجيب عن المجاز على القول بأن من شرطه الوضع: أن (¬9) الوضع المعتبر هو: جعل اللفظ دليلاً على المعنى، أو (¬10) غلبة الاستعمال، ولا حظَّ ¬
فيهما لوضع (¬1) المجاز؛ لأنه مطلق الاستعمال. قال المؤلف في الشرح: ينبغي أن يفرق بين اللفظ المشترك، وبين اللفظ الموضوع للمشترك، فإن اللفظ الأول: مشترك، والثاني: لمعنى واحد مشترك، واللفظ ليس مشتركًا (¬2)، فالأول: مجمل، والثاني: ليس بمجمل؛ لاتحاد مسماه. انتهى نصه (¬3). فالفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأول مشترك، والثاني ليس بمشترك. وثانيها: أن (¬4) الأول: مجمل، والثاني: ليس بمجمل. وثالثها: أن الأول مسماه متعدد، والثاني مسماه متحد. قوله: (والمتواطئ: هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستوٍ في محاله كالرجل). ش: هذا هو المطلب الثاني، وهو حقيقة اللفظ المتواطئ (¬5). قوله: (الموضوع لمعنى): احترازًا من المشترك؛ لأنه موضوع لمعنيين فأكثر. ¬
و (¬1) قوله: (كلي): احترازًا من العَلَم؛ لأنه موضوع لمعنى جزئي كما سيأتي في حقيقة (¬2) العلم (¬3). و (¬4) قوله: (مستوٍ في محاله) أي: متفق في أفراده وأشخاصه: احترازًا من المشكك، فإنه موضوع لمعنى كلي مختلف في محاله، كما سيأتي في حقيقة المشكك (¬5). وقوله: (كالرجل)؛ لأن لفظ الرجل موضوع للقدر المشترك بين أشخاص الرجال، فجميع أشخاص الرجال مستوية في معنى الرجولية. وكذلك لفظ الحيوان هو: متواطئ (¬6)، لأن لفظ الحيوان موضوع للقدر المشترك بين أفراد الحيوان، فجميع أفراد الحيوان مستوية في مفهوم الحيوانية. وكذلك لفظ الإنسان موضوع (¬7) للقدر المشترك بين أشخاص بني آدم، فجميع أشخاص بني آدم مستوية (¬8) في معقول الإنسانية. وإنما سمي المتواطئ (¬9) متواطئًا؛ [لأنه] (¬10) مأخوذ من التواطؤ الذي هو التوافق والتساوي، يقال: تواطأ القوم على الأمر: إذا اتفقوا عليه واستووا ¬
فيه؛ وذلك أنه لما توافقت (¬1) محال (¬2) مسمى هذا اللفظ (¬3) سمي متواطئًا لذلك. ومنه قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (¬4) أي ليوافقوا العدد الذي حرم الله من الشهور. قوله: (والمشكك هو: اللفظ (¬5) الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله، إِما بالكثرة والقلة (¬6) كالنور بالنسبة إِلى: السراج والشمس، أو بإِمكان التغير واستحالته كالوجود (¬7) بالنسبة إلى: الواجب والممكن، أو بالاستغناء والافتقار كالوجود (¬8) بالنسبة إِلى: الجوهر والعرض). ش: هذا هو المطلب الثالث وهو حقيقة اللفظ المشكك (¬9). ¬
قوله: (والمشكك) مأخوذ من الشك (¬1)، يقال: بكسر الكاف المشددة (¬2) على أنه (¬3) اسم فاعل (¬4)، ويقال: بفتح الكاف المشددة (¬5) على اسم المفعول. [وإنما سمي المشكك مشككًا] (¬6)؛ لأنه يشكك الناظر فيه هل هو مشترك أو متواطئ؟ فإنه إن (¬7) نظر إلى إطلاقه على المختلفات قال: هو مشترك، وإن نظر إلى أن مسماه واحد، قال: هو متواطئ (¬8) [هذا معناه إذا قلنا: إنه اسم فاعل] (¬9). وأما معناه (¬10) على أنه اسم مفعول (¬11) فلأن (¬12) العلماء جعلوه مشككًا، ¬
قالوا (¬1): وأول من (¬2) سماه مشككًا هو (¬3) ابن سيناء. [قوله: (الموضوع لمعنى): احترازًا من المشترك؛ لأنه موضوع (¬4) لمعنيين فأكثر. و (¬5) قوله: (كلي): احترازًا من العلم؛ لأنه موضوع لمعنى جزئي] (¬6). و (¬7) قوله: (مختلف في محاله) أي: متفاوت (¬8) في أفراده وأشخاصه: احترزًا من المتواطئ؛ لأنه مستوٍ في محاله كما (¬9) تقدم (¬10). ولا فرق بين المتواطئ والمشكك إلا الاتفاق والاختلاف، فكل واحد منهما موضوع للقدر المشترك بين محاله (¬11)، إلا أن أفراد المتواطئ متفقة في معناه، وأفراد المشكك مختلفة في معناه. مثل (¬12) المؤلف رحمه الله المشكك بثلاثة أمثلة: ¬
أحدها: لفظ النور بالنسبة إلى نور الشمس ونور السراج وهو: القنديل، فإن لفظ النور [موضوع للقدر المشترك بين ذوات الأنوار، ولكن أفراد النور مختلفة ومتفاوتة في محالها، فأفراد النور] (¬1) في الشمس كثيرة، وأفراد النور في السراج قليلة. وإلى هذا المثال الأول (¬2) أشار المؤلف بقوله: إما بالكثرة والقلة (¬3) كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس. و (¬4) قوله: (إِما بالكثرة (¬5) والقلة) أي: إما أن يكون الاختلاف بين المحال بسبب الكثرة والقلة، أي: بسبب كثرة أفراد (¬6) ذلك المعنى في بعض المسمى، وقلة أفراد (¬7) ذلك المعنى (¬8) في بعض المسمى (¬9). المثال الثاني: لفظ الوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن، أي: بالنسبة إلى الوجود الواجب والممكن (¬10)، فإن لفظ الوجود موضوع للقدر المشترك بين الوجودين (¬11)، ولكن وضع الاختلاف والتفاوت بين الوجودين بسبب ¬
إمكان التغير [واستحالة التغير] (¬1)؛ لأن الوجود الواجب يستحيل عليه التغير والفناء (¬2)، وأما الوجود الممكن فيمكن فيه (¬3) التغير (¬4) والفناء والزوال. قوله: (أو بإِمكان التغير (¬5) واستحالته) أي: يمكن (¬6) الاختلاف والتفاوت بجواز إجازة (¬7) التغير (¬8) في بعض المسمى (¬9) وعدم إجازة (¬10) التغير في بعض المسمى (¬11). وإلى هذا المثال الثاني أشار المؤلف بقوله: (أو بإمكان التغير (¬12) واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن)؛ فاستحالة (¬13) التغير (¬14) في الوجود الواجب بمنزلة الكثرة في الشمس، وقبول ذلك (¬15) بمنزلة القلة في السراج. ¬
المثال الثالث: لفظ الوجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فإن لفظ (¬1) الوجود موضوع للقدر المشترك بين الوجودين، وجود الجوهر ووجود العرض. فمعنى الجوهر عند أرباب علم (¬2) الكلام: هو المتحيز الذي لا يقبل القسمة. ومعنى العرض عندهم: هو المعنى القائم بالجوهر. فكل واحد من الجوهر والعرض موجود، ولكن وجود الجوهر مستغن عن محل يقوم به، وأما العرض فلا يستغني عن محل يقوم به؛ لأن العرض لا يقوم بنفسه، فإنه يفتقر إلى محل يكون فيه كسائر المعاني التي لا تقوم بنفسها؛ كالعلم والجهل والشجاعة والجبن والسخاء والبخل، وغير ذلك (¬3). و (¬4) قوله: (أو بالاستغناء والافتقار) أي: ويكون الاختلاف والتفاوت بين المحال بسبب استغناء أحد المحلين وافتقار الآخر، كالوجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فالاستغناء (¬5) بمنزلة النور في الشمس، والافتقار بمنزلة القلة في السراج (¬6). ¬
قال المؤلف في الشرح: أسباب التشكيك ثلاثة، وأصلها الأول وهو: الكثرة والقلة (¬1). وهذه الأمثلة الثلاثة (¬2) استعمل فيها المؤلف - رحمه الله - اللف والنشر، إلا أنه رتب بعضها وعكس بعضها. فنقول في المثال الأول و (¬3) في المثال الثاني: الأول للثاني والثاني للأول ومنه قول الشاعر: كيف أسلو وأنت حِقْفٌ وغصن ... وغزال لحظًا وقدًا وردفًا (¬4) ونقول في المثال الثالث: الأول للأول، والثاني للثاني، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬5) الأول للأول، والثاني للثاني. ¬
فإن قيل: ما الفرق بين المتواطئ والمشكك؟ مع أن كل واحد منهما موضوع للقدر المشترك، وكل واحد منهما أيضًا تختلف أفراده وأشخاصه؟ وذلك أن النور الذي هو: مثال للمشكك (¬1) مثلاً تختلف أفراده بالكثرة والقلة، وكذلك المتواطئ (¬2) تختلف أفراده، فالشجاعة (¬3) من (¬4) الأوصاف التي يتفاوت (¬5) بها الرجال (¬6)؛ لأنه يعد [الرجل] (¬7) الواحد بألف رجل. قال الشاعر: ولم أر [أمثال] (¬8) الرجال تعاونوا (¬9) ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد (¬10) ¬
[و (¬1) أيضًا بالطول (¬2) والقصر] (¬3)، والعلم والجهل، والشجاعة والجبن، والسخاء والبخل، وغير ذلك. أجيب عن هذا: بأن (¬4) الاصطلاح فرق بينهما: بأن ما وضع فيه (¬5) الاختلاف والتفاوت بجنسه (¬6) يسمى: مشككًا، وما وقع فيه (¬7) الاختلاف بغير جنسه يسمى: متواطئًا، وذلك أن (¬8) زيادة النور: نور، فالزيادة من جنس النور، بخلاف الطول والقصر (¬9)، والعلم والجهل، والشجاعة (¬10) وغير ذلك (¬11)، فإنها أجناس أخر مباينة (¬12) للرجولية، وليست من معنى الرجولية (¬13). قال المؤلف في الشرح: فيتعين (¬14) أن يزاد في حد المشكك [بجنسه ليخرج ¬
المتواطئ من الحد، فتقول (¬1) إذًا في حد المشكك] (¬2) هو: اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله بجنسه (¬3). قوله: (والمترادفة هي: الألفاظ (¬4) الكثيرة لمعنى واحد كالقمح والبر والحنطة). ش: هذا هو المطلب الرابع وهو حقيقة الألفاظ المترادفة (¬5). والمترادف (¬6) مأخوذ من الردف، شبّه اجتماع اللفظين (¬7) على (¬8) معنى (¬9) واحد باجتماع الراكبين على ردف الدابة (¬10) وظهرها (¬11). ¬
و (¬1) قوله: (الألفاظ الكثيرة) ظاهره: أن اللفظين لا يترادفان؛ لأنه عبر بالألفاظ الكثيرة، وأقل الألفاظ الكثيرة: ثلاثة، كما مثل (¬2) بها (¬3) في قوله: كالقمح والبر والحنطة (¬4). صوابه أن يقول: المترادفة (¬5) هي: اللفظان أو الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد أو يسقط [لفظ] (¬6) الكثيرة، فيقول: الألفاظ (¬7) الموضوعة لمعنى واحد، فيندرج اللفظان؛ لأن أقل الجمع اثنان عند مالك (¬8) (¬9). و (¬10) قوله: (كالقمح والبر والحنطة) هذا مثال الألفاظ الكثيرة. ومثاله أيضًا: السبع (¬11) والليث، والضيغم، والضرغام، والغضنفر. ومثاله أيضًا في اللفظين: الجلوس والقعود، وكذلك القيام والوقوف، وغير ذلك. ¬
و (¬1) قوله: (لمعنى واحد) احترازًا من المتباينة؛ لأنها (¬2) موضوعة (¬3) لمعان متعددة. وقوله: (المترادفة هي: الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد). اعترض هذا الحد (¬4) بأنه غير مانع؛ إذ (¬5) يندرج (¬6) فيه اللفظ وتأكيده اللفظي، نحو: جاء زيد زيد. ويندرج فيه اللفظ وتأكيده المعنوي نحو: جاء زيد نفسه. ويندرج فيه اللفظ وحده نحو: الإنسان مع الحيوان الناطق. ويندرج فيه اللفظ وتابعه كقولهم: عطشان نطشان (¬7)، وقولهم (¬8): شيطان ليطان، وقولهم: قبيح شقيح، وقولهم: حسن بسن (¬9)، وقولهم: أصفر فاقع (¬10)، [أسود حالك (¬11)، أحمر قان (¬12)] (¬13)، أبيض ¬
يقق (¬1)، أخضر مدهام، [ومنه قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} (¬2) أي: سوداوان من شدة الخضرة والري] (¬3)، فهذه (¬4) الألفاظ تندرج في حد المؤلف؛ لأنها لمعنى واحد. أجيب عن اللفظ وتأكيده: بأنهما متباينان لا مترادفان، فإن المؤكِّد خلاف المؤكَّد؛ لأن لفظ التأكيد إنما وضع للتقوية والمبالغة، وذلك معنى آخر لم يفده المؤكد قبل اتصاله بلفظ التأكيد، فألفاظ التوكيد (¬5) إذًا هي متباينة لا مترادفة، لا فرق في ذلك بين التأكيد اللفظي والتأكيد المعنوي. وأجيب عن الاسم مع حده كالإنسان مع الحيوان الناطق: بأنهما (¬6) متباينان لا مترادفان على الأصح؛ لأن الإنسان يدل بالتجميل (¬7)، والحيوان الناطق يدل بالتفصيل، فيدل الإنسان على مجموع الأجزاء، ويدل الحيوان الناطق على أفراد الأجزاء، فلفظ الحد إذًا أفاد خلاف ما أفاده لفظ المحدود، ¬
فاللفظان (¬1) متباينان. وقيل: بأن الاسم مع حده مترادفان؛ لأنهما لمعنى (¬2) واحد. والأصح أنهما متباينان. وأجيب عن اللفظ وتابعه: بأنهما متباينان؛ لأن التابع لا يستعمل مفردًا، فلا يقال: نطشان (¬3) حتى يتقدم (¬4) له عطشان، وكذلك لا يقال: ليطان حتى يتقدم (¬5) شيطان، وكذلك تقول (¬6) في سائر الأمثلة المذكورة، بخلاف سائر الأسماء المترادفة، فإن كل واحد منها يفرد عن الآخر، كالقمح، والبر، والحنطة، فإن كل واحد منها يفرد بالذكر دون الآخر، فلفظ المتبوع والتابع إذًا متباينان لا مترادفان. قوله: (والمتباينة هي: الألفاظ (¬7) الموضوعة (¬8) كل واحد منها لمعنى كالإِنسان والفرس والطير، ولو كانت للذات والصفة وصفة الصفة نحو: زيد متكلم فصيح). ¬
ش: هذا هو المطلب الخامس وهو: حقيقة الألفاظ المتباينة (¬1)، وسميت الألفاظ المتباينة بالمتباينة مأخوذة (¬2) من البين (¬3) الذي هو: الافتراق (¬4) والبعد؛ وذلك أنه شبه افتراق المسميات في حقائقها بافتراق الحقائق في بقاعها. قوله (¬5): (الألفاظ الموضوعة) وأقل الألفاظ: لفظان ولا حد لأكثرها. مثال اللفظين المتباينين: رجل وامرأة، وكذلك سماء وأرض، وكذلك ليل ونهار، وغير ذلك. ومثال أكثر من اللفظين: الإنسان والفرس والطير، كما قال المؤلف. واعلم أن التباين قد يكون بين الذوات كالأمثلة المتقدمة؛ لأن ذواتها مختلفة (¬6)، وقد يكون التباين (¬7) في ذات (¬8) واحدة ولكن باعتبار أوصافها كقولك: زيد عالم، فهذان اللفظان متباينان وإن كانا في ذات واحدة؛ لأن زيدًا يدل على الذات، وعالم يدل على العلم، فهما لفظان متباينان [وإن ¬
كانا في ذات واحدة] (¬1). وكذلك قولك: سيف صارم فهما: متباينان (¬2)؛ لأن أحد الاسمين بحسب الذات (¬3)، والاسم الآخر بحسب الصفة، ويكون الآخر بحسب صفة الصفة التي هي الصرامة والقطع (¬4). وقد يكون الاسم بحسب الذات ويكون الآخر بحسب الصفة كقولك (¬5): زيد متكلم فصيح - كما قال المؤلف - فزيد اسم للذات (¬6) ومتكلم بحسب الصفة التي هي الكلام، وفصيح بحسب صفة الصفة؛ لأن الفصاحة (¬7) هي: صفة للكلام (¬8) فهذه الألفاظ كلها متباينة لا مترادفة؛ لأن كل واحد منها دل (¬9) على خلاف ما يدل عليه الآخر. ¬
وضابط هذا أن تقول: متى اختلفت (¬1) المفهومات (¬2) في الذهن فاللفظان (¬3) متباينان سواء كانا في الخارج متحدين كاللون والسواد، أو متعددين (¬4) كالإنسان والفرس، ومتى اتفق المفهومان في الذهن فهما: مترادفان كالأسد والسبع، وذلك أن التباين يقع بين الألفاظ إذا اختلفت المفهومات، سواء تفاصلت أو تواصلت، أي: سواء (¬5) كان ذلك بين الذوات المختلفة (¬6) نحو: رجل وامرأة أو بين الصفات [مع اتحاد الذات] (¬7) نحو: متكلم فصيح، [أو بين الصفات وصفة الصفات، نحو متكلم فصيح] (¬8). قوله: (والمرتجل هو: اللفظ الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر). ش: هذا هو المطلب السادس، وهو: حقيقة اللفظ المرتجل. قوله: (الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر) يعني: أن العلم الذي لم يتقدم له استعمال في غير العلمية فهو (¬9) المعبر عنه بالمرتجل، وأما إن تقدم له استعمال في غير العلمية فهو المعبر عنه بالمنقول، وسكت عنه المؤلف وكان حقه أن يذكره، وذلك أن العلم بالنسبة إلى الارتجال والنقل على قسمين: ¬
منقول ومرتجل، فذكر (¬1) المؤلف أحد القسمين وهو: المرتجل وسكت عن الآخر وهو: المنقول. وذكر (¬2) بعضهم قسمًا (¬3) ثالثًا وهو (¬4): العلم الذي ليس بمنقول ولا بمرتجل (¬5)، وهو العلم بالغلبة، ذكره المرادي (¬6) في شرح الألفية (¬7). فعلى هذا أقسام العلم باعتبار الارتجال والنقل ثلاثة (¬8) أقسام: مرتجل، ومنقول، وما ليس منقولاً ولا مرتجلاً. مثال المرتجل: سعاد (¬9) اسم امرأة، وأُدَد علم رجل (¬10)، ومريم ومدين، ¬
ومزيد، ومكوزة (¬1)، وحيوة، وغيرها من سائر الأعلام التي ليس لها أصل في النكرات (¬2). [ومثال المنقول: فضل (¬3)، وأسد (¬4)، وحارث، وخالد، وعباس، وضحاك، وغيرها من سائر الأعلام (¬5) التي لها أصل في النكرات] (¬6). واعلم أن النقل يكون من ذات، نحو: أسد وثور (¬7). ويكون من مصدر نحو: فضل وسعد. ويكون من اسم فاعل نحو: حارث وخالد. ويكون من صفة مشبهة نحو: حسن وصعب. ويكون من اسم مفعول نحو: مسعود ومرزوق. ¬
ويكون من فعل ماضي: نحو: شمر: علم لفرس بعينه، وبدر (¬1): علم لماء بعينه. ويكون من فعل مضارع نحو: يزيد ويشكر (¬2). ويكون من مركب تركيب الإضافة (¬3) نحو: عبد الله وعبد العزيز. ويكون من مركب تركيب الإسناد (¬4) نحو: برق نحره (¬5)، وتأبط شرًا (¬6)، وشاب قرناها (¬7) وذراحبا (¬8) (¬9). ويكون من (¬10) مركب تركيب المزج (¬11) نحو: بعلبك وحضرموت، ومعدي كرب (¬12). ويكون من المثنى (¬13) نحو: البحرين لمدينة (¬14)، وأبانان (¬15) علم ¬
لجبلين (¬1) بأعيانهما. ويكون من (¬2) جمع السلامة (¬3) نحو: زيدون وفلسطون، وعرفات (¬4). [وإعراب المنقول في التثنية كإعراب ما لا ينصرف مع التزام الألف مطلقًا نحو: عمران. وقيل في جمع السلامة في الذكور كإعرابه (¬5) قبل التسمية على المشهور في جميعها. وقيل: في المثنى كإعراب ما لا ينصرف مع التزام الواو مطلقًا نحو عمران. وقيل: في جمع السلامة في الذكور كإعراب هارون (¬6). وقيل: كإعراب المنصرف مع التزام الياء مطلقًا كإعراب عليين (¬7). ¬
وقيل: بالتزام الواو وفتح (¬1) النون مطلقًا. وقيل: في جمع المؤنث السالم كإعرابه قبل التسمية إلا إنه من غير تنوين. وقيل: كإعراب ما لا ينصرف] (¬2). و (¬3) قال بعضهم: و (¬4) قد يكون النقل من صوت (¬5)، وعنى (¬6) بذلك "ببه" وهو: لقب لعبد الله (¬7) بن الحارث بن نوفل (¬8) بن عبد المطلب (¬9)، وهو منقول من الصوت الذي كانت أمه ترقصه به وذلك قولها هذا الرجز: لأنكَحن ببه * جارية خدبة (¬10) * مُكْرَمة محبة * تحب أهل الكعبة (¬11). ¬
قوله (¬1): تحب أهل الكعبة جعله بعضهم بضم (¬2) التاء وكسر الحاء المهملة (¬3) وهو بين، وجعله بعضهم بفتح التاء وكسر الجيم المعجمة ومعناه تغلبهم حسنًا، يقال: فلان جب القوم، إذا غلبهم. قاله المرادي في شرح الألفية (¬4). ومثال القسم الثالث، وهو العلم الذي ليس بمنقول ولا مرتجل: ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن القاسم، وابن وهب، وابن كنانة، وابن عبد الحكم، وكذلك النجم للثريا، وكذلك المدينة ليثرب، وغير ذلك من سائر الأعلام التي غلب (¬5) عليها الاستعمال. وإلى هذا أشار أبو موسى الجزولي (¬6) فقال: وقد يكون العلم بالغلبة ¬
فيلزمه أحد الأمرين: إما الألف واللام كالثريا والدبران، وإما الإضافة كابن عمر (¬1) انتهى. فالحاصل مما ذكرنا أن الأعلام منها ما هو مرتجل، ومنها ما هو منقول، ومنها ما ليس بمنقول ولا مرتجل كما تقدم. وقيل (¬2): الأعلام كلها مرتجلة (¬3). وقيل: كلها منقولة (¬4). فهي إذًا أربعة أقوال. ثالثها: بعضها مرتجلة وبعضها منقولة (¬5). ورابعها: منها ما ليس بمنقول ولا بمرتجل (¬6) وهو العلم بغلبة الاستعمال (¬7). والمشهور من هذه الأقوال أن فيها منقولاً ومرتجلاً كما قاله (¬8) أبو موسى ¬
وابن مالك. قال أبو موسى: وينقسم أيضًا إلى منقول ومرتجل (¬1). وقال ابن مالك (¬2): ومنه منقول كفضل وأسد ... وذو ارتجال كسعادى وأدد (¬3) فإذا ثبت (¬4) هذا فلنرجع (¬5) إلى كلام المؤلف. فقوله: (المرتجل). قال المؤلف في الشرح: المرتجل مأخوذ من الرجل، ومنه قولهم: أنشد ارتجالاً، أي: أنشد من غير روية ولا فكرة، وذلك أن شأن الواقف على رجل واحدة أن يشتغل بسقوطه عن فكرته (¬6) فشبه الذي لم يسبق بوضع آخر بالذي ¬
لم يسبق بفكرة، [فإن] (¬1) جعفر في النهر الصغير: مرتجل وهو في المولود: علم ليس بمرتجل؛ لتقدم وضعه للنهر الصغير، قال: وكذلك زيد مرتجل (¬2) بالنسبة إلى المصدر؛ لأنك تقول: زاد يزيد زيدًا، وهو غير مرتجل بالنسبة إلى الشخص لجعله علمًا على شخص معين (¬3). قوله: (الموضوع لمعنى) يشمل (¬4): المرتجل والمنقول. وقوله: (لم يسبق بوضع آخر) قيد أخرج به المنقول؛ لأن المنقول مسبوق بوضع آخر. و (¬5) قوله: (لم يسبق بوضع آخر) يحتمل أن يكون [المركب له هذا الفعل] (¬6) هو: اللفظ، ويحتمل أن يكون هو (¬7): المعنى، فتقديره على أنه اللفظ (¬8): لم يسبق ذلك اللفظ بوضعه لمعنى آخر، وتقديره على أنه المعنى: لم يسبق ذلك المعنى بوضع ذلك اللفظ (¬9) لمعنى آخر، والمعنيان متقاربان. و (¬10) قوله: (والعلم هو اللفظ الموضوع لجزئي (¬11) كزيد). ¬
ش: هذا هو المطلب السابع، وهو حقيقة العلم الشخصي، صوابه: أن يقدم حقيقة العلم على حقيقة المرتجل؛ لأن المرتجل نوع من العلم؛ لأن العلم على قسمين: مرتجل ومنقول. [قوله: (العلم) فيه حذف صفة تقديره: العلم الشخصي، ولم يتعرض للعلم الجنسي، و (¬1) العلم مأخوذ من العلامة؛ لأن اللفظ جعل علامة على الحقيقة لتعرف به (¬2)] (¬3). وقوله (¬4): (الموضوع لجزئي) احترازًا من الموضوع لكلي كالمتواطئ والمشكك. وقوله: (لجزئي) (¬5) فيه حذف صفة تقديره: جزئي حقيقي لا إضافي (¬6)؛ لأنه لم يتعرض للجزئي الإضافي (¬7)، وقد تقدم معناه في الفرق بين الكلي والجزئي. واعلم أن العلم على قسمين. شخصي وجنسي (¬8)، فالعلم الشخصي هو الاسم الموضوع لتعيين الشخص بانفراده من (¬9) غير قرينة (¬10). ¬
وقولنا (¬1): لتعيين الشخص بانفراده (¬2): احترازًا من العلم الجنسي؛ لأن معناه هو: الاسم الموضوع لتعيين الجنس بجملته من غير تخصيص فرد من أفراده. وقولنا: من غير (¬3) قرينة: احترازًا من سائر المعارف؛ لأنها تعين مسماها بقرينة؛ إما لفظية كالألف واللام، وإما معنوية كالحضور والغيبة في المضمرات، والحضور في اسم الإشارة، والإضافة في المضاف، والصلة في الموصول، وأما العلم الشخصي فإنه يعين مسماه بقصد الواضع (¬4) لا بقرينة، وأما العلم الجنسي فهو: الاسم الموضوع لتعيين الجنس لا لتعيين الشخص. وفائدة (¬5) العلم الشخصي: تمييز بعض الأشخاص من بعض (¬6). [وفائدة (¬7) العلم الجنسي: تمييز بعض الأجناس من بعضها (¬8)] (¬9). [وأما الفرق بين العلم الجنسي والعلم الشخصي (¬10) فاعلم (¬11) أن الكلام ¬
في العلم على (¬1) خمسة مطالب: ما أقسامه بالنسبة إلى الارتجال (¬2)؟ وما أقسامه بالنسبة إلى الشخص والجنس؟ وما فائدة كل قسم من أقسامه؟ وما الفرق بين العلم الشخصي والعلم الجنسي؟ وما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس؟ فأما أقسامه بالنسبة إلى النقل والارتجال فقد تقدمت. وأما أقسامه بالنسبة إلى الشخصي والجنسي؛ فاعلم أن العلم الشخصي إنما يوضع للأشخاص التي يحتاج إلى تمييز (¬3) بعضها من بعض. وأما العلم الجنسي فإنه (¬4) يوضع للأجناس التي يحتاج إلى تمييز بعضها من بعض؛ إذ لا غرض في معرفة أشخاصها، وإنما الغرض في معرفة أجناسها ليتميز بعض الأجناس من بعضها] (¬5)، وذلك: كأجناس الحيوان التي لا تخالط الناس ولا تألفهم من الوحوش (¬6) والطيور، والخشاش. مثاله: أسامه (¬7) للأسد، وثعالة للثعلب، وأبو جعدة للذئب، وأبو زاجر للغراب، وأم مهدي (¬8) للحمامة، وأم سرياح للجرادة، وأم عريط (¬9) ¬
للعقرب (¬1)، وأم حفصان (¬2) للحية، وغير ذلك، وهو موقوف على السماع، [هذا هو الغالب، وربما وضع العلم الجنسي لبعض المألوفات كقولهم: أبو المضاء (¬3) لجنس الفرس، وأبو أيوب للجمل، وأم جعفر للدجاجة] (¬4). وأما العلم الشخصي فإنما (¬5) يوضع للأشخاص التي يحتاج إلى تمييز بعضها من بعض كأشخاص الأناسي (¬6) وما يألفونه من قبائلهم وبلدانهم ودوابهم وبهائمهم. مثاله في الأناسي (¬7): زيد، وعمرو، وهند، ودعد. ومثاله في القبائل: سدوس (¬8)، وسلول (¬9)، ومجوس، ويهود، ¬
وجذام (¬1)، ومراد (¬2)، وقرن (¬3)، وإليه ينسب أويس القرني (¬4) رضي الله عنه. ومثاله [في البلدان] (¬5): مكة (¬6)، وبغداد (¬7)، وواسط (¬8)، ودابق (¬9)، ¬
وهجر (¬1)، وحجر (¬2)، وفلج (¬3)، وعمان (¬4)، ونُباء (¬5)، وعدن (¬6)، وهو بلد باليمن. [ومن أسماء الجبال: يذبل، ويدمدم، وشمام, وتبير (¬7) , وأبو قبيس, وأحد, وحراء] (¬8). ومثاله في الدواب: لاحق لفرس مشهور عند العرب (¬9)، وكذلك داحس للفرس أيضًا بعينه (¬10). ¬
ومثاله في البهائم: شدقم (¬1) للجمل بعينه، وهيلة (¬2) للشاة بعينها، وواشق للكلب بعينه. وقد أشار ابن مالك في الألفية إلى هذه (¬3) الأنواع (¬4) فقال: اسم يعين المسمى مطلقًا ... علمه كجعفر وخرنقًا ¬
وقرن وعدن ولاحق ... وشدقم وهيلة وواشق (¬1) وكذلك (¬2) يكون العلم الشخصي أيضًا (¬3) في الملائكة كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل. ويكون (¬4) في سور القرآن: كالبقرة، وآل عمران. ويكون في الكواكب: كالثريا والدبران. ويكون في الكتب: كالمدونة (¬5) والعتبية (¬6). وبالجملة: فكل ما يحتاج إلى تعيين أفراده: يوضع له العلم الشخصي، وكل ما لا يحتاج إلى تعيين أفراده وإنما يحتاج إلى تعيين جنسه: يوضع له العلم الجنسي. ¬
وإلى هذا أشار أبو موسى الجزولي فقال: العلم ضربان: ضرب (¬1) منه (¬2) للفرق بين الأشخاص، وضرب منه (¬3) للفرق بين الأجناس. فالأول فيما يعني الإنسان التفرقة بين أشخاصه. والثاني فيما لا يعنيه إلا معرفة جنسه. انتهى (¬4). واعلم أن العلم الجنسي موقوف (¬5) على السماع ولاحظ فيه للقياس، فلنذكر ها هنا جملة من ذلك: فمن ذلك قولهم: أبو الحارث وأسامة للأسد (¬6)، وأبو الحصين (¬7) وثعالة للثعلب، وأبو جعدة (¬8) للذئب، وأبو زاجر للغراب (¬9)، وأبو عقبة للخنزير (¬10)، وأبو وثّاب للظبي (¬11)، وأبو غزوان (¬12) للهر (¬13)، ¬
وأبو الربيع للهدهد (¬1)، وأبو المنذر للديك (¬2)، وأبو أيوب للجمل (¬3)، وأبو نعيم (¬4) وجابر بن حبة للخبز (¬5)، وأبو عمران للجوع، وأبو يحيى (¬6) للموت، وأبو ثقيف للخل (¬7)، وأبو عون للملح (¬8)، وأبو جعران (¬9) للخنفساء الذكر، وأم سالم للخنفساء الأنثى (¬10)، وأم (¬11) عريط (¬12) وأم سامر (¬13) للعقرب، وأم حفصان للحية، وأم العوام للسلحفاة، وأم عقبة للنملة (¬14)، وأم مهدي ¬
للحمامة (¬1)، وأم فحص (¬2) وأم جعفر للدجاجة (¬3)، وأم عدي للنحلة، وأم سرياح (¬4) للجرادة، وأم شنبل (¬5) للقملة (¬6)، وأم عزم (¬7) وأم سويد (¬8) للأست، وأم جندب (¬9) للظلم (¬10)، وابن ذكاء [للصبح، وذكاء] (¬11) للشمس (¬12). ويكون العلم الجنسي (¬13) في المصادر كما يكون في الذوات (¬14). ¬
مثاله في المصادر (¬1): برة للمبرور (¬2) وهو الطاعة، وفجار للفجور، ويسار للميسرة وهو: اليسر، ومماس (¬3) للماسة (¬4) وغير ذلك من المسموع، وموضع ذلك كتب اللغويين والنحويين (¬5). فإذا ظهر لك الفرق بين علم الشخص وعلم الجنس فلننظر (¬6) فما الفرق (¬7) بين علم الجنس واسم الجنس؟ فإن لفظ أسامة ولفظ أسد كل واحد منهما يدل على أمر شائع بين جميع الأسود (¬8) فكل واحد من اللفظين يصدق في المعنى على ما يصدق عليه الآخر، فما الفرق بينهما؟ فالفرق بينهما من وجهين: أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر من جهة المعنى. فالفرق الذي هو من جهة اللفظ: أن علم الجنس [تجري] (¬9) عليه أحكام العلم الشخصي من كونه لا تدخل عليه الألف واللام، وأنه لا ينعت بالنكرة، ¬
وأنه تنتصب (¬1) النكرة بعده على الحال، وأنه لا ينصرف إذا كانت فيه علامة أخرى زائدة (¬2) على العلمية. فبيان ذلك أنك تقول: أسامة، ولا تقول: الأسامة بالألف واللام، بخلاف الأسد فإنه تدخل عليه الألف واللام. وتقول: هذا أسامة مقبلاً، فتنصب النكرة بعده على الحال. ولا تنعته بالنكرة كما تقول: هذا زيد مقبلاً، بخلاف الأسد فإنك تنعته بالنكرة فتقول: هذا أسد مقبل. وتقول: هذا أسامة بغير تنوين؛ لأنه لا ينصرف للعلمية (¬3) والتأنيث بخلاف الأسد فإنه ينصرف. وأما الفرق الذي هو من جهة المعنى فهو: أن علم الجنس هو الموضوع للحقيقة الذهنية [بقيد الشخص الذهني، وأما اسم الجنس فهو: موضوع (¬4) للحقيقة (¬5) الذهنية] (¬6) من حيث هي هي، لا باعتبار قيد معها [أصلاً] (¬7). ¬
قال المؤلف في شرحه: وتحرير الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص، وبن علم الجنس واسم الجنس من نفائس المباحث، ومشكلات المطالب. وكان الخسروشاهي يقرره، وكان يقول: ليس في البلاد المصرية من يعرفه وهو: أن الوضع فرع التصور، فإذا استحضر الواضع صورة الأسد مثلاً (¬1) ليضع لها فتلك الصورة الكائنة في ذهنه جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، [فإن هذه الصورة واقعة في هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر، و (¬2) في ذهن شخص آخر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد] (¬3) فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو: علم جنس (¬4) [وإن وضع لها] (¬5) من (¬6) حيث عمومها فهو (¬7): اسم الجنس. وهي من حيث عمومها وخصوصها تنطبق على كل أسد في العالم، بسبب أنّا إذا (¬8) أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصات (¬9): ¬
فتنطبق (¬1) على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد ولفظ أسامة على جميع الأسود؛ لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية. والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص: أن علم الشخص موضوع للحقيقة بقيد الشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية (¬2) بقيد الشخص الذهني. انتهى نصه (¬3). فالفرق (¬4) بين الثلاثة: أن (¬5) علم الشخص: الوضع فيه للشخص الخارجي، وعلم الجنس: الوضع فيه للشخص الذهني، واسم الجنس الوضع فيه للكلي الذهني. و (¬6) قال بعض الشراح - في تفريق المؤلف بين علم الجنس واسم الجنس بخصوص الصورة الذهنية -: فيه نظر؛ لأن مسمى (¬7) كل واحد منهما كلي، والكلي متعين متشخص (¬8) في الذهن وهو قدر مشترك بينهما. قال الإمام فخر الدين في "الملخص"، وفي "شرح عيون ¬
الحكمة": الموجود من الكلي في الذهن صورة شخصية في نفس متشخصة. انتهى (¬1). فإذا تبين (¬2) أن المتصور في الذهن صورة شخصية وهي: القدر المشترك بين أفراد الحقيقة سواء وضعت لعلم الجنس، أو لاسم الجنس، فلا فرق بينهما إذًا من جهة المعنى، وإنما الفرق الظاهر بينهما هو: الفرق (¬3) من جهة اللفظ، وقد تقدم أولاً (¬4). قوله: (والمضمر هو: اللفظ المحتاج في تفسيره إِلى لفظ منفصل عنه إِن كان غائبًا، أو قرينة تكلم أو خطاب، فقولنا: إِلى لفظ، احترازًا من ألفاظ الإِشارات (¬5)، وقولنا: منفصل عنه، احترازًا من الموصولات، وقولنا: قرينة تكلم أو خطاب؛ ليندرج (¬6) ضمير المتكلم والمخاطب (¬7)). ¬
ش: هذا هو المطلب الثامن في حقيقة (¬1) المضمر (¬2). [يقال: فيه المضمر والضمير] (¬3)، وسمي المضمر بالمضمر، إما (¬4) أنه (¬5) مأخوذ من الضمور الذي هو: القلة، لأنه قليل الحروف بالنسبة إلى الظاهر (¬6)، ومنه قولهم (¬7). فرس ضامر، ومنه (¬8) قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬9). وإما أنه مأخوذ من الضمير؛ لأنه كناية عما في الضمير (¬10) وهو: الاسم ¬
الظاهر (¬1). و (¬2) قوله: (اللفظ (¬3) المحتاج) احترازًا من اللفظ غير المحتاج وهو: الاسم الظاهر (¬4)؛ لأن (¬5) [الإسم الظاهر] (¬6) يدل بظاهره على المعنى المراد به (¬7). وقوله: (إِن كان غائبًا) يندرج فيه جميع ضمائر الغيبة نحو قولك: هو، وهي، وهم، وهن. وقوله: (أو قرينة (¬8) تكلم) يندرج فيه جميع (¬9) ضمائر المتكلم نحو قولك: أنا، ونحن، وقلت، وقلنا، ولي، ولنا. وقوله: (أو خطاب) يندرج [فيه] (¬10) جميع ضمائر الخطاب (¬11) نحو قولك: أنْتَ وأنْتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتنّ، وإياكَ، وإياكِ، وإياكما، وإياكم، وإياكن، وقلتَ، وقلتِ، وقلتما، وقلتم، وقلتن. قوله: (فقولنا: إِلى لفظ، احترازًا من ألفاظ الإِشارات (¬12)) وذلك أن اسم ¬
الإشارة لفظ يحتاج في تفسيره إلى فعل كالإشارة باليد أو بالعين أو بغيرهما (¬1) من الأفعال؛ فتفسيره (¬2) بالفعل، وأما الضمير فإن تفسيره (¬3) باللفظ لا بالفعل. وقوله: (ألفاظ الإِشارات) (¬4) يندرج فيه جميع ألفاظ الإشارة (¬5) نحو: هذا، وذاك، وذلك، وهؤلاء، وأولاك، وأولئك، وغير ذلك. وقوله (¬6): (منفصل عنه، احترازًا من الوصولات) وذلك أن مفسر (¬7) الموصولات [هي (¬8) لفظ متصل بها؛ لأن الصلة التي هي: مفسر الموصولات] (¬9) لا بد من اتصالها (¬10) بالموصولات، وأما مفسر الضمير فإنه منفصل عنه. وقوله: (الموصولات) يندرج فيه جميع الموصولات الاسمية، والحرفية، نحو: الذي، والتي، واللذان، واللتان، والذين، واللواتي، وغير ذلك. وقوله: (أو قرينة تكلم أو خطاب) (¬11) هو معطوف على قوله: إلى لفظ، تقديره: المحتاج إلى لفظ، أو قرينة تكلم، أو خطاب (¬12). ¬
قوله (¬1): (ليندرج ضمير المتكلم والمخاطب) وذلك أنه لو اقتصر في الحد على قوله: المحتاج في تفسيره إلى لفظ [منفصل عنه، لخرج (¬2) منه] (¬3) ضمير المتكلم والمخاطب؛ إذ لا يفسرهما اللفظ، فزاد المؤلف قرينة التكلم والخطاب (¬4) ليندرج ضمير المتكلم، والمخاطب في الحد (¬5)؛ لأن قرينة التكلم (¬6) تفسر، وتبين أن المراد بالضمير (¬7) هو: المتكلم به. و (¬8) قوله: (والمفسر هو: اللفظ (¬9) المحتاج ... إِلى آخر كلامه) فيه أربعة إيرادات (¬10): أحدها: قوله: (المضمر هو: اللفظ) يقتضي أن المضمر الذي لم يلفظ به، وهو: الضمير المستتر نحو: أقوم وتقوم (¬11): غير داخل في الحد، فيكون الحد غير جامع، صوابه (¬12) أن يقول (¬13): هو اللفظ أو ما يقوم مقامه ليندرج ¬
الضمير المستتر، [وقرينة الخطاب تفسر وتبين أن المراد بالضمير هو: المخاطب، فإن المتكلم يعرف المخاطب والمخاطب يعرف المتكلم] (¬1)، فالقرينة تبين كلاً منهما (¬2) فلا يحتاجان إلى لفظ يفسرهما. [وذلك أنه إذا قيل: "أنا" فإنك تعرفه وإن لم تعرف اسمه، وكذلك إذا قيل: "أنت" فإنه يعرفك وإن لم يعرف اسمك، فقول المؤلف: "المحتاج في تفسيره" يندرج فيه ثلاثة أشياء وهي: المضمرات، وأسماء الإشارات (¬3)، والموصولات، فأخرج أسماء الإشارة (¬4) بقوله: إلى لفظ، وأخرج الموصولات بقوله: منفصل عنه] (¬5). أجيب عنه: بأن قيل: الضمير (¬6) المستتر هو في حكم الملفوظ به؛ لأنه يسند إليه ويؤكد ويعطف (¬7) عليه، وما ذلك إلا لأنه كالموجود الملفوظ به. الثاني: قوله: (إِلى لفظ) يقتضي: أن مفسر الضمير الذي لم يلفظ به غير داخل في الحد كالتفسير (¬8) الذي يفهم من سياق الكلام كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬9)؛ لأن هذا الضمير يعود على القرآن، وإن لم ¬
يتقدم له ذكر في السورة، و (¬1) لكن يدل عليه سياق الكلام [أي: يدل عليه الكلام] (¬2) بجملته وليس له لفظ معين يفسره، وإنما يدل عليه جملة الكلام. وذلك [أن] (¬3) مفسر ضمير الغائب قد يكون مصرحًا بلفظه كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، وقد يكون غير مصرح بلفظه؛ إما لحضور مدلوله حسًا، وإما لحضور مدلوله (¬5) معنى، وإما لذكر لفظ يدل عليه. مثال ما حذف لحضور مدلوله حسًا: قوله تعالى: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} (¬6)، لأن زليخا حاضرة (¬7)، وكذلك قوله تعالى: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} (¬8)؛ لأن موسى عليه السلام حاضر. ومثال ما حذف لحضور (¬9) مدوله علمًا (¬10): قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ¬
لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬1)، وقوله تعالى: {كلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬2)، وقوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (¬4) [يعني الأرض] (¬5)، وقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬6) يعني: الشمس؛ لأن مفسر الضمير [في هذا كله] (¬7) معلوم من سياق الكلام. [مثال (¬8) ما حذف] (¬9) لذكر لفظ يدل عليه: قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬10) قوله (¬11): هو (¬12) عائد للعدل؛ لأن اعدلوا يدل على العدل؛ إذ الفعل يدل على مصدره. وقوله تعالى (¬13): {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (¬14) يعود على (¬15) الشكر (¬16)؛ لأن تشكروا يدل عليه. ¬
وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬1) قوله: هو عائد (¬2) على البخل (¬3) يدل عليه يبخلون. وقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (¬4) [قوله: منه يعود على المقسوم (¬5) لأن القسمة تدل عليه، لأن المصدر يدل على اسم المفعول؛ لأنه مشتق منه. ومنه (¬6)] (¬7) قولهم (¬8): من صدق (¬9) كان خيرًا له، ومن كذب كان شرًا له؛ لأن صدق وكذب يدلان على مصدرهما، فاسم كان هو ضمير يعود على الصدق في الكلام الأول، ويعود على الكذب في الكلام الثاني، ومن هذا قول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف (¬10) ¬
يعني (¬1) بقوله (¬2): جرى إليه أي: جرى إلى السفه؛ لأن اسم الفاعل يدل على المصدر؛ فالسفيه (¬3) يدل على السفه. فقول المؤلف: (إِلى لفظ)، صوابه: إلى لفظ أو ما يقوم مقامه. أجيب عن هذا الإيراد (¬4): بأن كل محذوف من مفسرات الضمائر لا بد من دليل يدل عليها (¬5) فكأنه (¬6) ملفوظ بها (¬7)؛ لأن تقدم الدال كذكر المدلول. الثالث قوله: (منفصل عنه) يقتضي: خروج الضمير المتصل (¬8) من الحد فيكون الحد غير جامع، نحو قولك: ربه رجلاً؛ لأن ضمير رب لا بد من اتصاله بمفسره (¬9). أجيب عنه: بأن هذا نادر والنادر (¬10) لا يعترض به على الكليات. الرابع: قوله: (أو قرينة تكلم أو خطاب) (¬11) فإنه تطويل في (¬12) الحد، ¬
صوابه: أو قرينة حضور، فيشمل (¬1): حضور (¬2) المتكلم (¬3)، والمخاطب (¬4)؛ لأن المتكلم حاضر (¬5) وكذلك المخاطب حاضر (¬6). أجيب عنه: بأنه لو عبر بالحضور لدخل عليه المشار إليه؛ لأنه حاضر؛ لأن الحاضر إما متكلم وإما مخاطب، وإما لا متكلم ولا مخاطب، وهو المشار إليه. قال المؤلف في شرحه: اختلف الفضلاء في مسمى لفظ الضمير هل هو جزئي أو كلي؟ فذهب الأكثرون إلى أن [مسماه جزئي، وذهب الأقلون إلى أن مسماه كلي. واستدل القائلون بأنه جزئي: بقاعدتين: إحداهما (¬7): إجماع النحاة على (¬8) أن الضمير معرفة بل هو أعرف المعارف، فلو كان مسماه كليًا لكان نكرة؛ لأن] (¬9) مسمى النكرة كلي وهو قدر مشترك بين الأفراد لا يختص به واحد دون الآخر، والضمير يخص ¬
مدلوله؛ [لأن مدلوله] (¬1) غير شائع؛ لأن المتكلم إذا قال: أنا، تعين أن المراد بالضمير هو: المتكلم به، وكذلك إذا قلت للمخاطب: أنت، تعين أن المراد بهذا الضمير هو (¬2): المخاطب به (¬3)، وإذا قلت: زيد ضربته، تعين أن المراد (¬4) بهذا الضمير هو: زيد الغائب. القاعدة الثانية: إجماع العقلاء على أن اللفظ الدال على الأعم لا (¬5) يدل على الأخص، وهي: قاعدة عقلية، فإذا قلت: في الدار إنسان، فلا يدل على خصوصية زيد، ولا عمرو، ولا هند، ولا دعد، فلو كان الضمير مسماه كليًا لما تعين [من قولك: "أنا" متكلم مخصوص، ولا تعين] (¬6) من قولك: "أنت" مخاطب مخصوص، ولا تعين من قولك: "هو" غائب مخصوص، مع أن الضمائر المذكورة مخصوصة (¬7) بمدلولاتها (¬8) (¬9). فالأولى من هاتين القاعدتين نحوية (¬10)، والثانية أصولية] (¬11). ¬
واستدل القائلون بأن مسماه كلي: قال المؤلف: و (¬1) هو المذهب الصحيح الذي أجزم بصحته: أنه لو كان مسماه جزئيًا لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر كالأعلام، فإن العلم لما كان مسماه جزئيًا لا يصدق على غيره إلا بوضع ثان، فإن زيدًا الذي هو اسم علم على شخص معين لا يصدق على شخص آخر إلا بوضع مستأنف، فلو كان مسمى الضمير جزئيًا لما صدق قولك: "أنا" إلا على متكلم مخصوص، ولا صدق قولك: "أنت" إلا على مخاطب مخصوص، ولا صدق قولك: "هو" إلا على غائب مخصوص متعين (¬2)، وليس الأمر كذلك فإن لفظة "أنا" صادقة على جميع المتكلمين؛ إذ هي قدر مشترك بين أفراد المتكلمين، وكذلك لفظة "أنت" قدر مشترك بين أفراد المخاطبين، وكذلك لفظة "هو" مثلًا قدر مشترك بين أفراد الغائبين، فتبين بذلك: أن مسماه كلي لا جزئي، ولكن إذا حصل الجزئي حصل الكلي، فحاصل الدليل على أنه جزئي: أنه لو كان كليًا لكان شائعًا كالنكرة، وحاصل الدليل أنه (¬3) كلي: أنه لو كان جزئيًا لكان مختصًا بمعين كالعلم. وأجيب عما استدل به القائلون بأنه جزئي أن كونه كليًا يقتضي أنه لا يختص به فرد من الأفراد، فإن (¬4) اللفظ قد يوضع لمعنى عام، ويدل الواضع ¬
على أن مسمى اللفظ محصور في شخص معين فيدل اللفظ عليه (¬1)؛ لانحصار مسماه فيه لا لأجل (¬2) وضعه له. مثاله: قولك: رأيت قاضي المدينة، فإن المفهوم من هذا الكلام هو (¬3): القاضي المتولي في هذا الوقت دون غيره، فإن لفظ القاضي موضوع لقدر مشترك بين أفراد القضاة، ولكن دل الواضع ها هنا على حصر مسماه في شخص معين، وهكذا نقول في المضمرات؛ وذلك أن العرب وضعت لفظة "أنا" مثلًا للقدر المشترك بين أفراد المتكلمين، وهو: مفهوم المتكلم بها كائنًا من كان (¬4)، فإذا قال القائل (¬5): "أنا" فهم أن الواضع (¬6) لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو؛ لأجل انحصار المسمى فيه لا لأجل وضع اللفظ له (¬7). وقال بعض الشراح: هذا الخلاف الواقع بين الفريقين في مسمى المضمر هل هو جزئي أو كلي هو: لفظي لا قولي؛ لأن من قال: هو كلي، إنما اعتبر مسماه، ومن قال: هو جزئي إنما اعتبر معناه، والفرق بين مسمى اللفظ ومعناه: أن مسماه هو المعنى الذي وضع له اللفظ، وأما معناه فهو: المعنى الذي يعنيه اللافظ بلفظه، فقد يعني به ما وضع له وهو الحقيقة، وقد يعني به ¬
غير ما وضع له: وهو المجاز، فالأول من باب الوضع، والثاني من باب الاستعمال. فإذا علمت هذا ظهر لك أن اللفظ قد يوضع لمعنى عام (¬1) ثم يعرض له عند الاستعمال ما يشخصه، كقولك: الرجل (¬2) فإنه موضوع في اللغة للقدر المشترك بين أفراد الرجال، فإذا أريد به شخص معين ودخلت عليه الألف واللام للعهد، فذلك أمر عرض للمسمى بعد وضع اللفظ. وبيان ذلك في: المضمرات، وأسماء الإشارات (¬3): أن "أنا" مثلًا وضع للمتكلم أي متكلم كان، و"أنت" موضوع (¬4) للمخاطب، أي مخاطب كان، و"ذا" موضوع للمشار إليه القريب، أي مشار (¬5) كان، و"ذلك" موضوع للمشار إليه البعيد، أي مشار (¬6) كان، فمسماها (¬7) في الوضع هو أمر كلي لم يعرض (¬8) لها في الاستعمال ما يعينها ويشخصها، فيصح أن يقال في المضمر والمشار إليه: معناهما جزئي، ولا يصح أن يقال: مسماهما جزئي؛ لما عرفت من الفرق بين المعنى والمسمى فافهمه. ¬
قوله: (والنص فيه ثلاثة (¬1) اصطلاحات قيل: هو (¬2) ما دل على معنى قطعًا ولا يحتمل غيره قطعًا؛ كأسماء الأعداد، وقيل: [هو] (¬3) ما دل على معنى قطعًا، وإِن احتمل غيره، كصيغ الجموع في العموم؛ فإِنها تدل على أقل الجمع قطعًا، وتحتمل الاستغراق، وقيل: [هو] (¬4) ما دل على معنى كيف كان (¬5)، وهو غالب استعمال الفقهاء). ش: هذا هو المطلب التاسع وهو حقيقة النص، فذكر فيه المؤلف ثلاثة أقوال في الاصطلاح (¬6). وأما معناه في اللغة: فهو: وصول الشيء إلى غايته، ومنه قوله في (¬7) الحديث: حين دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفات سار العنق فإذا وجد فرجة (¬8) نص (¬9). ¬
العنق: ضرب من السير. وقوله: فإذا (¬1) وجد فرجة (¬2) نص: أي فإذا وجد فسحة وسعة نص، أي دفع السير إلى غايته. ومنه منصة العروس وهي: الكرسي الذي تجلس (¬3) عليه؛ لأنها ترفع إلى (¬4) غايتها اللائقة بالعروس. ومنه نصت الظبية جيدها إذا رفعته، ومنه قول (¬5) امرئ القيس (¬6): ¬
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا (¬1) هي نصته ولا بمعطل (¬2) أي: ولا بخال من الحلي. قوله: (قيل: هو: ما دل على معنى قطعًا ولا يحتمل غيره قطعًا). [قوله: قطعًا] (¬3) أي: جزمًا [مقطوعًا بعدم احتماله لغير ذلك المعنى، ¬
فيدل بالقطع على معنى] (¬1) بدلالته عليه؛ لأن الجزم لغة: هو القطع (¬2)، ولا يحتمل غير ذلك: [المعنى (¬3) أي: مقطوعًا بعدم احتماله لغير ذلك المعنى، فيدل بالقطع من الجهتين. واحترز بقوله: (ما دل على معنى قطعًا): مما دل] (¬4) على معنى لا بالقطع بل مع الاحتمال كما في الاصطلاح الثالث. واحترز بقوله: (ولا يحتمل غيره قطعًا): مما دل على معنى قطعًا واحتمل غيره كما في الاصطلاح الثاني. مثال هذا القسم (¬5) الأول: أسماء الأعداد؛ لأنها نصوصات في مدلولاتها؛ إذ تدل عليها قطعًا ولا تحتمل غيرها (¬6) قطعًا؛ كقوله تعالى في كفارة التمتع: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬7). وقوله تعالى في كفارة اليمين بالله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬8). وقوله تعالى في كفارة القتل وكفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ¬
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬1). وهذا القول الأول (¬2) هو اصطلاح (¬3) الأصوليين. و (¬4) قوله: (وقيل: ما دل على معنى قطعًا (¬5) وإِن احتمل غيره). هذا القول (¬6) الثاني هو (¬7): اصطلاح الفقهاء. مثاله: العمومات والمطلقات، مثله (¬8) المؤلف (¬9) بصيغ الجموع في العموم، فإنها تدل بالقطع على أقل الجمع، وهو اثنان على قول، وثلاثة (¬10) على قول، وتحتمل أكثر من ذلك، فدلالة صيغة (¬11) العموم (¬12) على أقل الجمع بالقطع، ودلالتها على أكثر من ذلك بالظن. مثاله: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬13) يدل على (¬14) قتل أقل ¬
الجمع قطعًا ويدل على قتل أكثر من ذلك ظنًا؛ لأن صيغ العموم نص في أقل الجمع وظاهر في الاستغراق. وقوله: (تدل (¬1) على أقل الجمع قطعًا وتحتمل الاستغراق). هذا على مذهب القفال (¬2) القائل بجواز تخصيص العموم إلى أقل الجمع (¬3). خلافًا للجماعة القائلين بجواز (¬4) التخصيص (¬5) إلى الواحد كما [بينه] (¬6) المؤلف في الباب السادس في العمومات في الفصل الخامس منه [فيما يجوز ¬
التخصيص إليه؛ لأنه قال: ويجوز عندنا إلى الواحد ثم قال: وقال القفال: يجب إلى (¬1) أقل الجمع في الجموع المعرفة (¬2). وسبب الخلاف الألف واللام إذا دخلت على الجمع هل تبطل حقيقة الجمع أم لا؟ والصحيح أنها تبطل حقيقة (¬3) الجمع وإلا تعذر (¬4) الاستدلال به حالة النفي أو النهي لكل (¬5) فرد من أفراده. فإذا قال عليه السلام: "لا تقتلوا الصبيان". فإنه يقتضي النهي عن قتل أفراد الجموع دون الآحاد فكأنه يقول: لا تقتلوا جماعة الصبيان (¬6)، وأما الصبي الواحد فيجوز قتله؛ لأنه (¬7) ليس (¬8) بجمع وليس هذا من شأن العموم؛ لأن العموم يقتضي (¬9) ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده، و (¬10) لكن لما دخلت الألف واللام على الجمع أبطلت (¬11) ¬
حقيقة الجمع فيثبت الحكم (¬1) لكل فرد من أفراده] (¬2). و (¬3) قوله: (قيل: هو (¬4) ما دل على معنى كيف كان، وهو غالب استعمال الفقهاء). [وهذا هو (¬5) الاصطلاح الثالث الذي هو الجاري غالبًا على ألسنة الفقهاء] (¬6)؛ لأنهم يقولون: نص مالك على هذه المسألة. ويقولون: لنا في هذه المسألة (¬7) النص والمعنى. ويقولون أيضًا: نصوص الشريعة متظافرة بكذا. وسبب الاختلاف (¬8) بين هذه الأقوال الثلاثة: أن النص له ثلاث مراتب: العليا، والدنيا (¬9)، والوسطى، فمن لاحظ العليا قال بالقول الأول وفي: أقوى الدلالات (¬10)، ومن لاحظ الدنيا (¬11) قال بالقول الثالث؛ لأنه راعى ¬
مطلق الارتفاع (¬1) والظهور، ومن لاحظ الوسطى (¬2) قال بالقول الثاني (¬3). قوله: (والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر وهو (¬4) في أحدهما أرجح). ش: هذا هو المطلب العاشر في حقيقة الظاهر (¬5). والظاهر لغة معناه: الواضح الراجح. وسمي الظاهر في الاصطلاح بالظاهر مأخوذ (¬6) من الظهور الذي هو الوضوح والرجحان؛ لأنه متى كان اللفظ راجحًا في احتمال من الاحتمالات ¬
سمي ظاهرًا بالنسبة إلى ذلك المعنى. مثاله: رجحان الحقيقة على المجاز، ورجحان العموم على الخصوص، ورجحان المطلق على المقيد. وغير ذلك مما يذكر في باب تعارض مقتضيات الألفاظ في قوله (¬1): يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، وعلى العموم دون الخصوص، وعلى الإفراد دون الاشتراك، وعلى الاستقلال دون الإضمار، وعلى الإطلاق دون التقييد إلى آخر الكلام (¬2). قوله: (المتردد) (¬3) معناه: المحتمل، وهو: جنس أخرج به النص على الأقوال الثلاثة المذكورة فيه. أما القول (¬4) الأول والثاني فظاهران؛ إذ لا تردد فيهما لاشتراط القطع في دلالتهما. وأما القول الثالث الذي هو غالب استعمال الفقهاء، فإن الدلالة فيه لم تتعين للقطع ولا للظن؛ لأن دلالته قد تكون قطعية، وقد تكون ظنية، فلما لم (¬5) تتعين فيه الدلالة الظنية [على الخصوص] (¬6) امتاز بذلك عن الظاهر. ¬
و (¬1) قوله: (بين (¬2) احتمالين فأكثر) يندرج فيه: الظاهر، والمؤول، والمجمل. و (¬3) قوله: (وهو في أحدهما أرجح) أخرج به المجمل؛ لأن احتمالاته (¬4) متساوية. فقوله: (أرجح) احترازًا من احتمال (¬5) المساوي وهو: المجمل. قوله: (وهو في أحدهما أرجح). انظر ما وجه تثنية هذا الضمير، فقال أحدهما بالتثنية ولم يقل (¬6) في أحدها (¬7)، مع أن التردد قد يكون بين احتمالين وبين أكثر من احتمالين - كما قال المؤلف: [بين احتمالين فأكثر]- (¬8)؟ وإنما ثنى الضمير لتوقف حقيقة التردد على احتمالين؛ إذ لا وجود لها بدونهما، فلما كان فوات الزائد على احتمالين لا يخل بحقيقة اللفظ، وفوات أحد احتمالين (¬9) يخل بها أعاد الضمير مثنى، والله أعلم. ¬
قوله: (والظاهر هو المتردد بين احتمالين فاكثر، وهو في أحدهما أرجح). اعترض عليه: بأنه غير مانع لاندراج المؤول فيه؛ لأنه متردد راجح في أحد احتمالاته، فينبغي أن يزاد في الحد فيقال: الظاهر هو: المتردد بين احتمالين فأكثر، وهو في أحدهما أرجح [بالوضع أو العرف؛ لأن حقيقة المؤول هو (¬1): المتردد بين احتمالين فأكثر وهو في أحدهما أرجح] (¬2) بالقرينة. مثاله: رجحان المجاز في قولك: رأيت أسدًا يلعب (¬3). قوله: (والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء). ش: هذا هو المطلب الحادي عشر [في حقيقة المجمل (¬4)] (¬5). واللفظ (¬6) المجمل (¬7) مأخوذ: من الجمل الذي هو الخلط، ومنه قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا ¬
أثمانها" (¬1) أي خلطوها بالسبك (¬2). ومنه قولهم: العلم الإجمالي وهو الذي اختلط فيه المعلوم بالمجهول، وسمي المجمل مجملًا؛ لأنه اختلط فيه المراد بغير المراد (¬3). ¬
قوله: (التردد) أخرج به النص؛ إذ لا تردد فيه. قوله: (المتردد (¬1) بين احتمالين فأكثر على السواء) أي: هو اللفظ الدائر (¬2) بين معنيين فصاعدًا على السواء، أي: من غير ترجيح أحد الاحتمالات على غيرها بل تساوت الاحتمالات فيه. و (¬3) قوله: (على السواء) أخرج به الظاهر؛ لأن الظاهر لم تتساو فيه لاحتمالات؛ لأن أحد احتمالاته (¬4) أرجح من غيره كما تقدم في حقيقة الظاهر. قوله: (ثم التردد (¬5) قد يكون من جهة الوضع كالمشترك، وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إِلى أشخاص مسماه، كقوله (¬6) تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬7) فهو ظاهر بالنسبة إِلى الحق مجمل بالنسبة إِلى مقاديره). ش: ذكر المؤلف ها هنا أن التردد المذكور له سببان: أحدهما: الوضع اللغوي. والثاني: التجويز العقلي. ¬
مثال التردد الذي سببه الوضع: اللفظ (¬1) المشترك بين معنيين أو بين معان. فمثال (¬2) اللفظ المشترك بين معنيين: لفظ القرء، فإنه مشترك بين الطهر والحيض، فقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3) مجمل لا يدرى على (¬4) ماذا يحمل (¬5) القرء من معنييه، هذا مثال المجمل المتردد بين احتمالين. ومثال اللفظ المشترك بين معان: لفظ العين؛ فإنه مشترك بين العين الباصرة، والفوارة (¬6)، وعين الركبة، وعين الميزان، وعين الشمس، وعين الرحى، وذات الشيء، وخيار الشيء، وغير ذلك (¬7)، هذا مثال المجمل المتردد بين أكثر من احتمالين، هذا بيان السبب الذي هو من جهة الوضع. ومثال السبب الثاني الذي هو التردد (¬8) من جهة التجويز العقلي: لفظ الرجل، فإذا قلت: رأيت رجلًا، فإنه يصدق على زيد، أو عمرو (¬9) أو بكر، أو نصر (¬10)، أو خالد، أو عامر، أو ناصر، أو على (¬11) غيرهم (¬12) من سائر ¬
أفراد الرجال على البدلية، فإن معقول الرجل قدر مشترك بين كل متصف بالرجولية، ولا يختص به واحد دون آخر إلا بدليل، فإن لفظ الرجل موضوع في اللغة لمعنى واحد وهو معنى الرجولية وليس في الوضع اللغوي إجمال، وإنما التردد فيه من جهة العقل [يجوز أن يكون ذلك الرجل زيدًا أو عمرًا، أو بكرًا، أو نصرًا، أو غيرهم، فالتردد في لفظ الرجل وغيره من سائر الألفاظ (¬1) المتواطئات والنكرات (¬2) إنما جاء من جهة العقل] (¬3) لا من جهة الوضع هذا بيان السبب الذي هو من جهة العقل. وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماه وقد تقدم معنى المتواطئ (¬4). فتحصل مما ذكرناه (¬5) أن سبب التردد شيئان (¬6): الاشتراك اللفظي أو الاشتراك (¬7) المعنوي. قوله: (نحو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬8) فهو ظاهر بالنسبة إِلى الحق، مجمل بالنسبة إِلى مقاديره). ش: لما ذكر المؤلف حقيقة الظاهر والمجمل أولًا ذكر ها هنا (¬9) مثالهما، ¬
فمثلهما (¬1) معًا بقوله تعالى (¬2): {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}. فقوله (¬3): (فهو ظاهر بالنسبة إِلى الحق) أي: هذا الدليل ظاهر بالنسبة إلى ثبوت الحق؛ لأن الحق ثابت فيه بلا شك وهو مجمل بالنسبة إلى مقادير الحق، هل النصف أو الربع أو الثلث أو غير ذلك؟ وقيل: معنى قوله: (ظاهر بالنسبة إلى الحق) أي: هذا الدليل ظاهر بالنسبة إلى حمل الحق على الوجوب؛ لأن لفظ الحق يحتمل الوجوب، ويحتمل الندب، فحمله على الوجوب ظاهر راجح، وحمله على الندب (¬4) مرجوح (¬5). مثاله في الوجوب: قوله تعالى (¬6): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬7). ومثاله في الندب: قوله تعالى في المتعة: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (¬8)؛ لأن ¬
المتعة مستحبة لعدم تقديرها و (¬1) لتعليقها بالإحسان؛ إذ لو كانت واجبة لأطلقها على كل أحد (¬2) من المحسنين وغيرهم (¬3). [فالحق إذًا يستعمل في الوجوب والندب (¬4). و (¬5) يحتمل أن يكون معنى الكلام، هذا الدليل ظاهر بالنسبة إلى حمل الأمر بالحق على الوجوب؛ لأن الأمر يستعمل في الوجوب كقوله (¬6) تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬7) ويستعمل في الندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬8)، فالأمر (¬9) في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ ¬
حَصَادِهِ} (¬1) يحتمل حمله على الوجوب، ويحتمل حمله على الندب، وحمله على الوجوب ظاهر أرجح، وحمله على الندب (¬2) مرجوح. فالاحتمال في التأويل الأول في نفس الحق (¬3)، هل يراد به الوجوب؟ أو يراد به الندب؟ والاحتمال في التأويل الآخر راجع إلى مدلول الأمر هل (¬4) يراد به الوجوب أو الندب؟ تقدير الكلام على التأويل الأول فهو ظاهر بالنسبة إلى مدلول الحق، وتقديره على التأويل الآخر فهو ظاهر بالنسبة إلى مدلول الأمر بالحق، أي: ظاهر بالنسبة إلى وجوب الحق؛ لأن الأمر ظاهر في حمله على الوجوب. فقوله إذًا: (فهو ظاهر بالنسبة إِلى الحق) فيه [ثلاثة] (¬5) تأويلات: قيل: معناه ظاهر بالنسبة إلى (¬6) ثبوت الحق. وقيل: معناه ظاهر بالنسبة إلى معنى الحق. وقيل: معناه ظاهر بالنسبة إلى معنى الأمر بالحق. وأقربها التأويل الأول، والله أعلم] (¬7). و (¬8) قوله: (مجمل بالنسبة إِلى مقاديره). ¬
هذا مثال المجمل [أي هذا الدليل مجمل بالنسبة إلى مقادير الحق] (¬1)؛ لأن هذا اللفظ الذي هو الحق يصدق على العشر، وعلى التسع، وعلى الثمن، وعلى السبع، وعلى السدس، وعلى (¬2) غيرها من سائر الأجزاء، فهذا الإجمال إنما تطرق إلى هذا اللفظ من طريق العقل لا من طريق الوضع اللغوي، وهذا الإجمال الكائن في هذه الآية قد زال بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء (¬3) العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر" (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قوله: (والمبين (¬1) هو: ما أفاد معناه إِما (¬2) بسبب الوضع أو بضميمة بيان (¬3) إِليه). ش: هذا هو المطلب الثاني عشر في حقيقة (¬4) المبين (¬5) وهو مأخوذ من: البيان وهو: الوضوح، والظهور (¬6)، يقال: المبين والمفسر كما يقال في مصدريهما (¬7): البيان والتفسير. قوله (¬8): (والمبين هو ما أفاد معناه) أي: ومعنى اللفظ المبين هو: اللفظ الذي أفاد للسامع (¬9) المراد به (¬10)، واحترز بذلك من المشترك والمجمل؛ لأن كل واحد منها لا يفيد لسامعه (¬11) المراد به. ¬
و (¬1) قوله: (إِما بسبب الوضع أو بضميمة بيان (¬2) إِليه). ذكر في هذه الجملة أن البيان يحصل للسامع بشيئين: أحدهما: وضع اللفظ. والثاني: ما يضم إلى ذلك اللفظ الذي أريد بيانه. مثال المبين بسبب وضعه: قولك (¬3): له عندي عشرة. وقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬4) فإن (¬5) أسماء الأعداد إذًا (¬6) أفادت معانيها بنفس وضعها؛ إذ هي نصوص معانيها (¬7)؛ إذ لا تتحمل أكثرها ولا أقلها (¬8). ومثال المبين بما يضم إليه: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر"، فهو: بيان لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬9). ومثاله أيضًا: فعله عليه السلام لمناسك الحج، فإن فعله ذلك بيان لقوله ¬
تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬1). وغير ذلك من سائر أنواع البيان، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في الباب الثاني عشر في المجمل (¬2) والمبين. [فالحق المأمور به في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ} مبين بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر". والحج المأمور به في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬3) مبين بفعله عليه السلام، وبقوله أيضًا، لأنه قال: "خذوا عنّي مناسككم" (¬4). وكذلك الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬5) مبينة (¬6) ¬
بفعله عليه السلام، وبقوله أيضًا؛ لأنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1) وغير ذلك من الأدلة الواردة مجملة، ثم بينت بعد إجمالها] (¬2). قوله: (والعام هو: اللفظ (¬3) الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في محاله (¬4) نحو: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}). ش: هذا هو المطلب الثالث عشر في حقيقة العام (¬5). قوله: (الموضوع) يقتضي أن العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني. ¬
و (¬1) قوله: (لمعنى) أخرج به: المشترك؛ لأنه موضوع لمعنيين فأكثر. وقوله: (كلي) أخرج به: العلم؛ لأنه موضوع لمعنى جزئي. وقوله: (بقيد تتبعه في محاله) أخرج به: المطلق؛ لأنه موضوع لمعنى كلي بقيد البدلية لا بقيد التتبع لأفراده نحو: رجل صالح (¬2). قوله: (بقيد تتبعه) أي: بشرط تتبع ذلك المعنى واستقصائه بالحكم في محاله، أي: في جميع أفراده وأشخاصه، والباء في قوله: (بقيد) للمصاحبة تقديره (¬3): والعام هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي [مصحوبًا بقيد تتبعه أي: بشرط تتبع ذلك المعنى (¬4) بالحكم في جميع الأفراد والأشخاص سواء كان ذلك الحكم أمرًا، أو نهيًا، أو خبرًا] (¬5) أو كيف ما كان (¬6). مثَّله (¬7) المؤلف بقوله تعالى (¬8): {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬9). فالحكم في هذا المثال هو الأمر بالقتل، والمعنى المتتبع هو: الشرك، ومحال هذا المعنى هو أشخاص المشركين. واعترض هذا الحد: بأن قيل (¬10): هذا الحد لا يتناول من المحدود شيئًا؛ ¬
لأن تعليق الحكم على معنى كلي بقيد تتبعه في محاله هو حقيقة (¬1) العلة لا حقيقة (¬2) العام؛ لأن المعنى الكلي إذا علق عليه (¬3) وجرى معه في جميع موارده نفيًا وإثباتًا فهو: علة مطردة منعكسة، ولا معنى لتتبع المعنى (¬4) الكلي بالحكم في محاله إلا اطراده وانعكاسه، فهذا (¬5) حد لعموم المعاني، وإنما وضع الحد المذكور لعموم الألفاظ، فالحد إذًا لا يتناول المحدود. الثاني (¬6): أن كلامه هنا (¬7) مناقض (¬8) لكلامه في باب العمومات؛ لأن ظاهر كلامه ها هنا أن مدلول العموم: كلي، لقوله: هو اللفظ [الموضوع لمعنى كلي] (¬9)، وظاهر كلامه في باب العمومات: أن مدلول العموم كلية؛ لأنه قال في باب العمومات في الفصل الثاني في مدلوله: وهو كل واحد واحد (¬10) لا الكل من حيث هو كل فهو كلية لا كل وإلا لتعذر الاستدلال به حالة النفي والنهي (¬11). انتهى نصه (¬12). ¬
فالمراد بالمدلول والموضوع واحد وهو: المسمي؛ لأن (¬1) هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة على معنى واحد، فما ذكره المؤلف في باب العموم هو (¬2): الصحيح؛ لأن مدلول العام هو: الكلية لا الكل، ولا الكلي. وقد تقدم لنا في الفصل الخامس معاني هذه الحقائق الثلاث: فالكلية هي: الحكم على كل فرد فرد بحيث لا يبقى فرد، وهي (¬3): مدلول العام. والكل هو: الحكم على المجموع من حيث هو: مجموع، وهو: مدلول أسماء الأعداد. والكلي هو: الحكم على فرد واحد من غير تعيين، وهو: مدلول النكرات. فالكلية تتناول جميع (¬4) الأفراد نفيًا وإثباتًا، والكل يتناول جميع الأفراد إثباتًا ولا يتناولها نفيًا، والكلي يتناول جميع الأفراد نفيًا ولا يتناولها إثباتًا؛ لأنه أعم ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص دون العكس. مثال الكلية التي هي الحكم على كل فرد فرد بحيث لا يبقى فرد: قولك في الإثبات: أكرم المسلمين، فإنه أمر بإكرام جميع أفراد (¬5) المسلمين. ¬
[ومثاله (¬1) في النفي: ما رأيت المسلمين، فإنه نفي لجميع أفراد المسلمين] (¬2). وكذلك قولك (¬3): لا تضرب المسلمين، فإنه نهي عين ضرب جميع أفراد المسلمين. فتبين من هذه الأمثلة أن الكلية تتناول الخصوصات (¬4) في الإثبات والنفي. ومثال الكل الذي هو الحكم على المجموع من حيث هو مجموع: قولك في الإثبات: أكرم عشرة، فإنه أمر بإكرام جميع أفراد العشرة. ومثاله في النفي: ما رأيت عشرة فإنه إخبار بأنه ما رأى مجموع العشرة، وليس فيه ما يدل (¬5) على نفي رؤية أفراد العشرة؛ لأنه يجوز أن يرى تسعة، أو ثمانية، أو غيرها من أفراد العشرة. ومثاله في النهي: لا تكرم عشرة، فإنه نهي عن إكرام مجموع العشرة، وليس فيه ما يدل على النهي عين إكرام أقل من مجموع العشرة، فيجوز له أن يكرم تسعة أو ثمانية أو غيرها من أفراد العشرة، فإنه لم ينهه (¬6) إلا عن إكرام المجموع من حيث هو مجموع. ¬
فتبين من هذه الأمثلة: أن الكل يتناول جميع الأفراد في الإثبات ولا يتناولها في النفي (¬1). ومثال الكلي الذي هو الحكم على القدر المشترك من غير تعيين أفراده، قولك في الإثبات: [أكرم رجلًا، فإنه أمر بإكرام رجل من غير تعيين لفرد من أفراد الرجال، فإنه لا يتناول خصوص الأفراد في الإثبات. وكذلك قولك] (¬2): رأيت رجلًا، فإنه إخبار برؤية رجل من غير تعيين فرد من أفراد الرجال؛ لأنه لا يتناول إلا القدر المشترك فلا يتناول خصوص الأفراد في الإثبات. ومثاله في النهي: قولك: لا تكرم رجلًا، فإنه نهي عن إكرام جميع الأفراد، وكذلك قولك في النفي: ما رأيت رجلًا، فإنه نفي لرؤية جميع أفراد الرجال. [فتبين من هذه الأمثلة أن: الكلي يتناول الأفراد في النهي والنفي ولا يتناولها في الإثبات] (¬3)، فلو كان مدلول اللفظ العام [كلًا] (¬4)، لتعذر ¬
الاستدلال بالعموم (¬1) في حالة النفي والنهي كما يتعذر بالكل، فإذا قال الشارع مثلًا: لا تقتلوا صبيان الكفار، وقلنا: مدلوله الكل، يقتضي (¬2) ذلك النهي عن قتل مجموع الصبيان، وليس فيه نهي عن قتل صبي واحد أو صبيين، وليس هذا (¬3) شأن العموم، فلا يصح إذًا أن يكون مدلول العموم (¬4) كلًا. ولو كان مدلول اللفظ العام أيضًا كليًا: لتعذر الاستدلال بالعموم (¬5) أيضًا (¬6) في حال الثبوت (¬7) كما يتعذر بالكلي، فإذا قال الشارع مثلًا: اقتلوا المشركين، وقلنا: مدلوله الكلي، فيقتضي (¬8) ذلك الأمر قتل (¬9) جماعة "ما" من المشركين، وليس فيه أمر بقتل مشرك واحد أو مشركين، وليس هذا شأن (¬10) العموم (¬11)؛ لأن شأن العموم (¬12) تتبع الأفراد بالحكم مطلقًا نفيًا وإثباتًا. ¬
فتلخص مما ذكرنا: أن العام مدلوله الكلية (¬1)، لا كل، ولا كلي؛ لأن الكلية تدل على جميع الأفراد نفيًا وإثباتًا. قوله: (العام هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في محاله). ش: هذا الحد أحسن منه ما قاله في باب العموم في قوله في (¬2) الفصل الثاني في مدلوله: وهو كل واحد واحد لا الكل من حيث هو (¬3) كل، فهو كلية لا كل، وإلا لتعذر الاستدلال به حالة النفي والنهي. انتهى نصه (¬4). فنقول على مقتضى كلامه في باب العموم: حد اللفظ العام هو: اللفظ المقتضي ثبوت الحكم لكل فرد فرد، بحيث لا يبقى فرد، وبالله التوفيق (¬5). قوله: (والمطلق هو اللفظ (¬6) الموضوع لمعنى كلي نحو: رجل (¬7)). ش: هذا هو المطلب الرابع عشر في حقيقة اللفظ المطلق (¬8). قوله: (الموضوع لمعنى)، أخرج به المشترك؛ لأنه موضوع لأكثر من معنى. وقوله: (كلي) أخرج به: العلم؛ لأنه موضوع لمعني جزئي، وأخرج به ¬
أيضًا (¬1) العام؛ لأنه موضوع لمعنى كلية (¬2). وقوله: (لمعنى كلي) سواء (¬3) كان مستويًا في محاله، أو مختلفًا في محاله، فيندرج فيه: المتواطئ، والمشكك. قوله: (نحو رجل)؛ لأن (¬4) لفظ رجل موضوع لمعنى واحد، وهو: الرجولية، وكذلك لفظ الإنسان موضوع لمعنى واحد وهو: الإنسانية، وكذلك لفظ الحيوان موضوع لمعنى (¬5) واحد وهو: الحيوانية. قوله: (والمقيد هو: اللفظ الذي أضيف إِلى مسماه معنى زائد عليه نحو رجل صالح). ش: هذا هو المطلب الخامس عشر في حقيقة اللفظ المقيد (¬6) وهو: ضد المطلق. مثاله: رجل صالح، أو (¬7) عالم، أو جاهل، فإن الصلاح والعلم والجهل معان زائدة على الرجولية. و (¬8) قوله (¬9): (معنى) يريد: أو أكثر من معنى واحد، نحو: ¬
زيد (¬1) عالم صالح شجاع سخي، أو غير ذلك. قال المؤلف في الشرح: التقييد والإطلاق أمران إضافيان، فرب مطلق مقيد بنسبة (¬2)، ورب مقيد مطلق بنسبة (¬3)، فإذا قلت: حيوان ناطق، فهذا مقيد، وإذا عبرت عنه بإنسان صار مطلقًا، وإذا قلت: إنسان ذكر، كان مقيدًا، وإذا عبرت عنه برجل (¬4) صار مطلقًا، وكذلك ما من مطلق إلا و (¬5) يمكن جعله مقيدًا بتفصيل (¬6) مسماه، والتعبير عن الجزئين بلفظين، وما من مقيد إلا و (¬7) يمكن أن (¬8) يعبر عنه [بلفظ واحد] (¬9) فيصير مطلقًا، إلا ما يندر جدًا كالبسائط (¬10). انتهى نصه (¬11). وضابط ذلك: أن كل حقيقة إن (¬12) اعتبرت من حيث هي هي فهي مطلقة، وإن اعتبرت مضافة إلى غيرها فهي: مقيدة. قوله: (والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلبًا (¬13) جازمًا (¬14) على ¬
سبيل الاستعلاء نحو: قم). ش: هذا هو المطلب السادس عشر في حقيقة الأمر (¬1). قوله: (اللفظ) (¬2) هذا بناء (¬3) على القول بأن الأمر حقيقة في اللساني مجاز في النفساني، وهو مذهب الأصوليين. وقيل: بالعكس وهو مذهب المتكلمين. وقيل: حقيقة فيهما، وسيأتي (¬4) بيانه في باب (¬5) الأوامر (¬6) إن شاء الله تعالى (¬7) (¬8). قوله: (اللفظ الموضوع) احترازًا من اللفظ المهمل، نحو: مقلوب زيد (¬9)، فإن قولك: ديز، وقول: لجر (¬10) لفظ مهمل (¬11) أي غير موضوع، ¬
أي غير مستعمل (¬1). و (¬2) قوله: (لطلب)، احترازًا من الخبر، والتنبيه، والتمني (¬3)، والترجي، والتعجب، والنداء، والإنشاء. وقوله: (الفعل)، احترازًا من النهي؛ لأنه طلب الترك لا الفعل واحترازًا من الاستفهام أيضًا؛ لأنه طلب الحقيقة [لا طلب الفعل] (¬4). وقوله: (طلبًا جازمًا) أي: طلبًا (¬5) لا فسحة فيه للمكلف، احترازًا من المندوب فإنه طلب غير جازم، أى فيه فسحة للمكلف؛ إذ لا يجب فعله على المكلف (¬6). قوله: (طلبًا جازمًا)، هذا جار (¬7) على القول بأن المندوب (¬8) غير مأمور به. والصحيح أن المندوب مأمور به؛ لأن (¬9) العلماء يقولون: الأمر على قسمين: [أمر إيجاب أو أمر ندب] (¬10). ¬
وقوله: (على سبيل الاستعلاء)، احترازًا من الدعاء والالتماس. وقوله: (على سبيل الاستعلاء) أي: يشترط (¬1) أن يكون في لفظ الأمر ما يدل على الغلبة والقهر؛ لأن الاستعلاء معناه: الغلبة والقهر، ومنه (¬2) قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (¬3)، أي: غلب وقهر. [وقوله: (على سبيل الاستعلاء) هذا على القول بشرط الاستعلاء في الأمر] (¬4). وقوله: (على سبيل (¬5) الاستعلاء) ظاهره أيضًا: أن العلو لا يشترط (¬6) في الأمر؛ لأنه ذكر الاستعلاء ولم يذكر العلو. ومعنى العلو: أن يكون الآمر أعلى (¬7) رتبة من المأمور، كأمر الله جل وعلا (¬8) لعباده، وكأمر الملك لرعيته (¬9)، وكأمر السيد لعبده، وكأمر الوالد لولده، وكأمر الزوج لزوجته. وهذه المسألة اختلف فيها على ثلاثة مذاهب: ¬
قيل: يشترط العلو دون الاستعلاء. وقيل: يشترط الاستعلاء دون العلو. وقيل: لا يشترط واحد منهما. وهذه الأقوال المذكورة نص عليها (¬1) المؤلف في باب الأوامر في قوله: ولا يشترط فيه علو الآمر خلافًا للمعتزلة، واختار الباجي من المالكية وأبو الحسين (¬2) والإمام فخر الدين، الاستعلاء، ولم يشترط غيرهم الاستعلاء ولا العلو. والاستعلاء: هيئة في الأمر من الترفع وإظهار القهر (¬3). والعلو: يرجع إلى هيئة الآمر من (¬4) شرفه وعلو منزلته بالنسبة إلى المأمور. انتهى نصه (¬5). ¬
فذكر أن (¬1) الاستعلاء: صفة في الكلام وهو الأمر، وأن (¬2) العلو: صفة للمتكلم (¬3) وهو الآمر. وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: اشتراط العلو هو القول الذي عليه جمهور العلماء (¬4) واللغويين (¬5). والدليل على ذلك أن أرباب اللغة فرقوا بين الأمر والسؤال والالتماس [بعلو الرتبة] (¬6) فقالوا: إذا كان الطلب من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر، وإذا (¬7) كان من الأدنى إلى الأعلى فهو سؤال، وإذا كان من المساوي إلى مساويه فهو التماس. وسيأتي بيان ذلك في باب (¬8) الأوامر (¬9) إن شاء الله تعالى (¬10). وأورد (¬11) على (¬12) قوله: (لطلب الفعل): أنه غير جامع؛ لأنه ¬
خرج (¬1) طلب القول والاعتقاد؛ لأنه يؤمر بالقول والاعتقاد كما يؤمر بالفعل كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬2)، وقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا} (¬3)، وقوله تعالى في الأمر بالاعتقاد: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (¬4)، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬5)، وغير ذلك. أجيب (¬6) عن ذلك: بأن المراد بالفعل إيجاد الشيء [وإدخاله في الوجود، فمعنى قوله: (لطلب الفعل) (¬7)، أي لطلب (¬8) إيجاد الشيء فيندرج في كلامه الفعل والاعتقاد] (¬9) (¬10)؛ لأن إيجاد الشيء أعم من الفعل (¬11)، أو (¬12) القول والاعتقاد (¬13) ولك أن تقول: أطلق المؤلف الفعل على العمل الذي هو أعم من عمل الجوارح وعمل اللسان وعمل القلب؛ لأن تحريك اللسان والقلب عمل (¬14). ¬
وأورد أيضًا على قوله: (لطلب الفعل): بأنه غير مانع؛ لأنه يدخل عليه النهي، لأن قوله: (لطلب الفعل) فالفعل (¬1) لفظ مطلق يصدق على الفعل الذي ليس بكف وهو: متعلق الأمر، ويصدق أيضًا على الفعل الذي هو كف وهو: متعلق النهي؛ لأن المؤلف قال في باب النواهي: ومتعلقه فعل ضد المنهي عنه؛ لأن العدم غير مقدور، وعند (¬2) أبي هاشم عدم المنهي عنه (¬3). انتهى نصه. فإذا كان متعلق النهي فعل الضد (¬4) فإنه مندرج ها هنا في حكم (¬5) الأمر، فيكون الحد غير مانع، وإنما يصح هذا الحد (¬6) على مذهب أبي هاشم (¬7) القائل: بأن متعلق النهي عدم المنهي عنه؛ لأن العدم ليس فعلًا (¬8)، وأما على ¬
مذهب الجماعة القائلين: بأن متعلق النهي فعل، فالحد غير مانع لاندراج النهي فيه. أجيب (¬1) بأن قيل: خرج النهي (¬2) من الحد بقوله: الموضوع؛ لأن دلالة النهي على فعل ضد المنهي عنه دلالة التزامية؛ لأن ذلك توسلًا إلى ترك المنهي عنه، ودلالة الالتزام ليست وضعية، وأما دلالة الأمر على الفعل فهي (¬3) دلالة وضعية؛ لأن تعلق الأمر بالفعل وصف ذاتي، فخرج المنهي (¬4) بقوله الموضوع والله أعلم. قوله: (والنهي: هو اللفظ (¬5) الموضوع لطلب الترك طلبًا جازمًا) (¬6). ش: هذا هو المطلب السابع عشر في حقيقة النهي (¬7) وهو: [مقابل (¬8) الأمر] (¬9). ¬
قوله: (الموضوع) احترازًا من المهمل. وقوله: (لطلب) احترازًا من الخبر والتنبيه. و (¬1) قوله: (الترك) احترازًا من الأمر والاستفهام؛ لأن الأمر طلب الفعل، والاستفهام طلب الحقيقة. و (¬2) قوله: (طلبًا جازمًا) احترازًا من المَكروه؛ لأنه مطلوب الترك، لكن في تركه (¬3) طلبه فسحة. ولم يذكر المؤلف الاستعلاء ها هنا (¬4) في النهي (¬5) كما ذكره في الأمر، مع أن الأشياخ (¬6) نصوا على اشتراط العلو أو الاستعلاء معًا في النهي من غير خلاف. قال المؤلف في الشرح: ولم أر لهم خلافًا في اشتراط العلو والاستعلاء في النهي فتركته (¬7)، ويلزمهم التسوية بين البابين (¬8). انتهى (¬9). وأورد على قوله: (لطلب الترك): بأن متعلق النهي عدم المنهي عنه، وليس ذلك بمذهب الجماعة القائلين بأن متعلقه فعل ضد المنهي عنه، وإنما هذا ¬
على مذهب أبي هاشم القائل بأن متعلقه عدم المنهي عنه. أجيب عنه بأن قيل: الترك فعل (¬1) لا عدم؛ لأن العدم غير مقدور للمكلف، وأما الترك فهو مقدور له. قوله: (والاستفهام هو: طلب حقيقة (¬2) الشيء (¬3)) (¬4). ش: هذا هو المطلب الثامن عشر في حقيقة الاستفهام. قوله: (طلب) (¬5) أي: هو: اللفظ الموضوع لطلب حقيقة الشيء. قوله: (طلب) احترازًا من الخبر والتنبيه. وقوله: (حقيقة الشيء) احترازًا من الأمر والنهي؛ لأن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك؛ وذلك أن الأمر والنهي والاستفهام هذه الأشياء الثلاثة مشتركة في مطلق الطلب، وامتاز الأمر بطلب الفعل، وامتاز النهي بطلب الترك، وامتاز الاستفهام بطلب حقيقة (¬6) الشيء (¬7). مثال الاستفهام: قولك: ما الإنسان؟، أي ما حقيقة الإنسان؟ فيقال: هو الحيوان الناطق. ومثاله أيضًا: ما الحبر؟ أي ما حقيقة الحبر؟ وهو المداد، فيقال: ¬
هو (¬1) مجموع عفص (¬2) وزاج وماء. ومثاله أيضًا: قولك: ما المَلَك؟ [أي ما حقيقة المَلَك؟] (¬3). فيقال: هو (¬4) جسم لطيف شفاف، مخلوق من نور، معصوم من الرذائل، مطبوع على الطهارة والطاعة. قوله: (والاستفهام طلب (¬5) حقيقة الشيء) معناه: طلب حصول العلم بحقيقة الشيء [بماهية (¬6) الشيء] (¬7)؛ لأن الحقيقة والماهية واحد. واعترض هذا الحد بأن قيل: هو (¬8) غير جامع؛ لأنه (¬9) لا يتناول (¬10) من أدوات (¬11) الاستفهام (¬12) إلا "ما"؛ لأنها هي التي يسأل بها عن الحقيقة (¬13). ¬
[وأما غير "ما" فيسأل (¬1) بها عن شيء آخر غير الحقيقة] (¬2). وذلك أن "مَنْ" مثلا (¬3) يسأل بها عما التبس من الذوات، و"أي" يسأل بها عما التبس من المشتركات، و"كيف" يسأل بها عما التبس من الأحوال، و"كم" يسأل بها عما التبس من المعدود (¬4)، و"متى" يسأل بها عما التبس من الأزمنة، و"أين" يسأل بها عما التبس من الأمكنة، و"هل" و"الهمزة" (¬5) يسأل بها عما التبس من الموجود (¬6). وقال بعضهم: بل (¬7) كلام المؤلف صادق على الجميع، قال أرباب علم البيان: الاستفهام (¬8) طلب ما في الخارج أن يحصل في الذهن [من تصور أو تصديق، فقول المؤلف: طلب حقيقة الشيء، أي طلب حقيقة الشيء الموجود في الخارج أن يحصل في الذهن] (¬9) وذلك أعم من أن يكون الموجود في الخارج (¬10) تصورًا أو تصديقًا، والله أعلم. فكلامه صادق على جميع أدوات الاستفهام وهي [ثلاث عشرة] (¬11) وهي: ¬
الهمزة، وهل، وأم المنقطعة، وأم المتصلة، ومن، وما، وأي (¬1)، وكيف، ومتى، وأين، وأيان، وأنى. فأما الهمزة - وهي (¬2) الأصل في هذا (¬3) الباب - فيستفهم بها عن التصور وعن (¬4) التصديق. وأما هل فيستفهم بها عن التصديق خاصة، وكذلك أم المنقطعة. وأما المتصلة فيستفهم بها عن التصور خاصة، وكذلك ما بقي من الحروف. مثال الهمزة في التصور: ألَبن في الإناء أم عسل؟ فالمسئول عنه (¬5) في هذا المثال هو: المظروف. ومثاله أيضًا قولك (¬6): أعسل في الخابية أم في الزق؟ فالمسئول عنه (¬7) في هذا المثال هو: الظرف. ومثاله أيضًا (¬8) قولك: أضربت زيدًا؟ فالمسئول عنه في هذا المثال هو: الفعل. ¬
ومثاله أيضًا قولك: أأنت ضربت زيدًا؟ فالمسئول عنه في هذا المثال (¬1) هو: الفاعل. ومثاله أيضًا: أزيدًا ضربته (¬2) فالمسئول عنه في هذا المثال هو: المفعول. و (¬3) مثال الهمزة في التصديق قولك: أزيد قائم (¬4)؟، ومثاله أيضًا: أقام زيد (¬5)؟ ومثال هل في التصديق قولك: هل قام زيد؟ ومثاله أيضًا: هل زيد قائم؟ ومثاله أيضًا (¬6): هل عمرو قاعد؟ ولا يستعمل هل في التصور، فلا يجوز أن تقول: هل زيد قام أم عمرو. وأما "ما" فيسأل بها عن شرح الاسم، أو عن (¬7) شرح المسمى، أي يسأل بها عن شرح الاسم لمن هو عارف بالمسمى، إلا أنه جاهل بدلالة الاسم عليه، كمن علم حقيقة الإنسان وسمع لفظ البشر، ولم يعلم موضوعه (¬8)، فإذا قال: ما (¬9) البشر؟ أي ما المراد بالبشر؟ ¬
فيقال له: الإنسان، أو الحيوان الناطق، هذا بيان شرح الاسم. وأما شرح المسمى فهو لمن هو عارف بدلالة الاسم عليه، إلا أنه جاهل بالمسمى. وأما "من" فيسأل بها عن الشخص، كقولك: من في الدار؟ وأما "أي" فيسأل بها عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما، كقولك: أي ما هو الإنسان من أنواع الحيوان؟ فيقال: الناطق [ومنه قوله تعالى: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (¬1) أي أنحن أم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؟] (¬2). وأما "كم" فيسأل بها عن العدد، كقولك: كم عبدًا عندك؟، ومنه قوله تعالى: {كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (¬3). وأما "كيف" فيسأل بها عن الحال، كقولك: كيف حال زيد؟ وأما "أين" فيسأل بها عن المكان [كقولك: أين دارك؟] (¬4). وأما متى فيسأل بها عن الزمان كقولك: متى سفرك؟ وأما "أيان" فيسأل بها (¬5) عن الزمان المستقبل كقولك: أيان يخرج السلطان؟، ومنه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (¬6). ¬
وأما "أنى": فتارة تكون بمعنى كيف، نحو قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) أي كيف شئتم. وتارة تكون بمعنى "أين"، كقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (¬2)، أي: من أين لك هذا؟ قوله (¬3): (والخبر (¬4) هو: اللفظ (¬5) الموضوع للفظين فأكثر، أسند مسمى أحدهما إِلى مسمى (¬6) الآخر إِسنادًا يقبل الصدق والكذب (¬7) لذاته، نحو: زيد قائم). ش: واعلم أن الخبر (¬8) لغة يطلق على: الإشارة، ويطلق على: كلام الحال، ويطلق على: كلام النفس، ويطلق على: كلام اللسان. مثال إطلاقه على الإشارة: أخبرتني (¬9) عيناك بكذا، ومنه قول الشاعر: ¬
تخبرك العينان ما القلب كاتمه ومثال إطلاقه على (¬1) كلام الحال قول النابغة (¬2): زعم الغداف بأن رحلتنا غدًا ... وبذاك خبرنا الغداف الأسود (¬3) ¬
ومعنى الغداف: هو الغراب السابغ الريش، ومنه قولهم: أغدفت المرأة القناع، إذا أرخته على وجهها (¬1). ومنه أيضًا (¬2) قول الكميت (¬3) يمدح رجلاً: أخبرت عن فعاله الأرض ... واستنطق منها اليباب والمعمور (¬4) أراد أنه حفر فيها الأنهار وغرس الأشجار وأثّر الآثار، فلما تبينت للأبصار صارت (¬5) كذات الأخبار. ومثال إطلاقه على كلام النفس قولك (¬6): أخبرتني نفسي بكذا. ومثال إطلاقه على كلام اللسان: قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} (¬7)، وقولك: أخبرني فلان بكذا. ¬
فهذه أربعة معان يطلق عليها (¬1) الخبر وهي الإشارة وكلام الحال، وكلام النفس وكلام اللسان (¬2)، أما الأولان وهما الإشارة، وكلام الحال، فإطلاق الخبر عليهما مجاز. وأما الآخران (¬3) وهما النفس وكلام اللسان، فاختلف العلماء في إطلاق الخبر عليهما على ثلاثة أقوال: قيل: هو حقيقة في اللساني والنفساني معًا (¬4)، فهو لفظ مشترك بينهما. قال المؤلف في الشرح: و (¬5) هذا القول هو المشهور، وقاله إمام الحرمين والإمام فخر الدين (¬6) لوروده فيهما معًا، والأصل الحقيقة. وقيل: هو حقيقة في اللساني، مجاز في النفساني (¬7)؛ لأن اللسان هو المتبادر إلى الذهن في العرف، والتبادر (¬8) إلى الفهم دليل الحقيقة. وقيل: هو حقيقة في النفساني، مجاز في اللساني، وإليه ذهب (¬9) الشيخ ¬
أبو الحسن الأشعري (¬1)، دليله (¬2) قول الأخطل (¬3): إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلًا (¬4) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
لأن (¬1) الخبر (¬2) كلام؛ لأنه من أنواع الكلام. وهذا الخلاف المذكور هو (¬3) جار في الكلام وفي جميع أنواعه؛ لأنهم اختلفوا في الكلام وأنواعه، هل هو حقيقة في اللساني والنفساني؟ أو هو (¬4) حقيقة في اللساني مجاز في النفساني؟ أو هو (¬5) حقيقة في النفساني مجاز في اللساني؟ ثلاثة أقوال تقدمت. قوله: (هو اللفظ) أخرج به الإشارة، وكلام الحال، وكلام النفس؛ لأن ذلك ليس بلفظ بناء على القول: بأنه حقيقة في اللساني مجاز في غيره. أو تقول (¬6): هذا على القول: بأنه حقيقة في اللساني والنفساني معًا؛ ليأتي كلامه على المشهور. ¬
وحد المؤلف أحد معنيي اللفظ المشترك، وسكت عن المعنى الآخر، ولا يضره ذلك. وقوله: (الموضوع) أخرج به اللفظ المهمل. وقوله: (اللفظين) (¬1)، كقول: زيد قائم، أو زيد مسافر. و (¬2) قوله: (فأكثر)، كقول: زيد قائم راكب مسافر؛ وذلك أن أقل مراتب الخبر لفظان، وأكثره غير محدود، ولذلك ذكر المؤلف أقله، وهو قوله: (للفظين)، ولم يذكر أكثره، لأنه غير محدود؛ لأن الخبر قد يكون بألفاظ كثيرة، كقولك مثلاً: ضربت ضربًا اليوم أمامك زيدًا أدبًا (¬3) له (¬4) والسارية، هذا الكلام كله خبر واحد، وقد جمعت فيه المفاعيل الستة، وهي: المفعول المطلق والمفعول فيه زمانًا، والمفعول فيه مكانًا، والمفعول به، والمفعول له، والمفعول معه. و (¬5) قوله: (أسند مسمى أحدهما إِلى مسمى الآخر). الإسناد معناه: ضم أحد اللفظين إلى الآخر على جهة الاستقلال بالفائدة. فالمسمى الأول في كلام المؤلف يصدق على الاسم والفعل. ¬
وأما المسمى الآخر فلا يصدق إلا على الاسم، ولا يصدق على الفعل. ويبان ذلك أن الاسم يسند ويسند إليه، وأما الفعل فإنه يسند ولا يسند إليه. مثال إسناد الاسم إلى الاسم: زيد قائم كما مثله المؤلف. ومثال إسناد الفعل إلى الاسم: قام زيد. وقوله: (أسند مسمى أحدهما إِلى مسمى الآخر) احترازًا من لفظين أو أكثر إذا لم يسند أحدهما إلى الآخر (¬1)، كقولك: زيد عمرو؛ إذ لا ربط (¬2) بينهما، وقولك (¬3): زيد عمرو بكر. و (¬4) قوله: (إِسنادًا يقبل الصدق والكذب) احترازًا من الإسناد الذي لا يقبلهما وهو الإسناد بالإضافة أو بالصفة. مثال الإسناد بالإضافة: غلام زيد. ومثال الإسناد بالصف: رجل صالح (¬5). وقوله: (الصدق والكذب)، وها هنا أربعة ألفاظ وهي: الصدق، والكذب، والتصديق، والتكذيب. قال المؤلف في الشرح في باب الخبر: الصدق عبارة عن مطابقة الخبر ¬
للمخبر عنه، و (¬1) الكذب عبارة عن مخالفة الخبر للمخبر عنه، والتصديق عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقًا، والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر كذبًا، فالصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه، وهما عديمتان لا وجود لهما في الأعيان، وإنما وجودهما في الأذهان. والتصديق والتكذيب خبران وجوديان في الأعيان مسموعان (¬2). فظهر الفرق بين الصدق والتصديق، وبين الكذب والتكذيب. قوله: (لذاته) أي: لأجل ذات الإسناد أي لنفس الإسناد، فالضمير (¬3) في قوله: (لذاته) عائد على الإسناد، ويحتمل أن يعود على الخبر، وهما واحد في المعنى، يعني أن الخبر يقبل الصدق والكذب، لذاته لا (¬4) لعارض (¬5)؛ لأن الخبر من حيث هو خبر يقبل الصدق والكذب مع قطع النظر عما يعرض له من جهة المخبر به، أو من جهة المخبر عنه، وذلك أن خبر المعصوم كخبر الله، وخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وخبر مجموع الأمة لا يقبل إلا الصدق، ولا يقبل الكذب، وكذلك (¬7) الخبر على وفق الضرورة لا يقبل إلا الصدق، ولا يقبل الكذب. كقولك: الواحد نصف الاثنين، ولكن ذلك بالنظر إلى جهة المخبر؛ لأنه ¬
إنما جاء امتناع القبول للكذب (¬1) في هذه الأمثلة من جهة المخبر والمخبر عنه. وقولك: الواحد نصف العشرة لا يقبل إلا الكذب؛ لأنه خبر على خلاف الضرورة، فلا يقبل الصدق، ولكن ذلك من جهة المخبر عنه، لا من جهة الخبر (¬2) بنفسه (¬3)، وذلك أن جهة المخبر والمخبر عنه أمر عارض للخبر، وليس بوصف ذاتي له، ولا تنافي بين اقتضاء الشيء بالذات، وبين تخلفه (¬4) لعارض، كالعالم فإنه من حيث ذاته جائز، ومن حيث تعلق علم الله تعالى وإرادته بإيجاده واجب. قوله: (والخبر هو اللفظ الموضوع ...) إلى آخره. اعترض هذا الحد بأن قيل: الصدق والكذب ضدان لا يجتمعان في محل واحد، فكيف يجتمع قبولهما في الخبر؟ فالأولى (¬5) أن (¬6) يأتي بأو، فيقول: يقبل (¬7) الصدق أو الكذب. أجيب عن هذا بأن قيل: لا يلزم من التنافي بين المقبولين التنافي بين القبولين، وذلك أن كل جسم قابل جميع الأضداد، فاجتمعت له القبولات كلها، ولا تجتمع له المقبولات (¬8)، وانما تتعاقب عليه على سبيل البدل. مثال ذلك: العَالَم ممكن قابل للوجود والعدم لذاته، مع أن الوجود ¬
والعدم نقيضان متنافيان، ولا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين، [وإن امتنع اجتماع المقبولين] (¬1) فيتعين العطف بالواو لا بأو. تنبيه: قال المؤلف في القواعد: اعتقد جماعة من الفقهاء: أن الخبر يحتمل الصدق والكذب بالوضع، وليس كذلك؛ لأن العرب لم تضع إلا الصدق، واحتمال الكذب إنما جاء من جهة الاستعمال. والدليل على ذلك: إطباق أرباب اللسان على أن من قال: قام زيد، إنما أراد أن القيام صدر من زيد. وفي هذا نظر؛ لإطباق أرباب اللسان على (¬2) أن العرب كما وضعت صيغًا (¬3) لإثبات الخبر، كذلك وضعت أيضًا صيغًا (¬4) لنفي الخبر. والدليل على ذلك: أن "لَمْ" وضعوه لنفي قول من قال: قام زيد وتكذيبه (¬5) ووضعوا "لِمَا" لنفي قول من قال: قد (¬6) قام زيد وتكذيبه، فلو صدق القيام من زيد في هذا الخبر لما صح نفيه ولا وضع له ما ينفيه، والله أعلم [وبالله التوفيق] (¬7). ... ¬
الفصل السابع في الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما
الفصل السابع في (¬1) الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما (¬2) تعرض المؤلف - رحمه الله - في هذا الفصل لبيان الحقيقة والمجاز (¬3) وفي هذا الفصل سبعة مطالب: الأول: في حقيقة الحقيقة. الثاني: في أقسامها. الثالث: في حقية المجاز. الرابع: في أقسامه. الخامس: في الفرق بين النقل والمجاز الراجح. السادس: في الشيء الذي يوجبه المعنى القائم بالمحل (¬4). السابع: في الاشتقاق الذي يعرف به الحقيقة والمجاز. قوله: (في (¬5) الفرق بين الحقيقة والمجاز)، قال بعضهم: ترجم ¬
المؤلف للفرق بينهما ولم يأت به، فالأولى أن لو قال: الفصل السابع في تفسير الحقيقة والمجاز، ولكن هذا لا نسلمه؛ لأن المؤلف فرق بين الحقيقة والمجاز بذكر حقيقتهما فقد فرق بينهما بالحقيقة؛ لأنه ذكر حقيقة كل واحد منهما. قوله: [(وأقسامهما)، أي] (¬1) وذكر أقسام الحقيقة وأقسام المجاز. قوله: (فالحقيقة استعمال اللفظ (¬2) فيما (¬3) وضع له (¬4) في العرف الذي وقع به التخاطب). ش: هذا هو المطلب الأول: وهو حقيقة الحقيقة فيها (¬5) أربعة أبحاث: الأول: في اشتقاقها. والثاني: في وزنها. والثالث: في معنى التاء اللاحقة [بها] (¬6). والرابع: في إطلاقها على معناها عرفًا هل هو حقيقة أو مجاز. أما اشتقاق الحقيقة: فهي مشتقة من الحق وهو الثابت (¬7) الموجود؛ لأنه يقابل به الباطل المعدوم فالثابت مرادف للموجود (¬8). ¬
وأما وزنها: فهو فعيلة، إما بمعنى اسم الفاعل، فيكون معناها ثابتة، وإما معنى (¬1) اسم المفعول فيكون معناها مثبتة (¬2) لأن فعيلًا في كلام العرب تارة يكون بمعنى اسم الفاعل نحو: قدير وعليم، أي: قادر وعالم، وتارة يكون بمعنى اسم المفعول نحو: قتيل وجريح، أي مقتول ومجروح (¬3). وأما التاء اللاحقة لهذه الكلمة: فهي لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية أي (¬4) لغلبة الإسمية على الوصفية. واعلم أن فعيلًا إذا وصف به مؤنث فإن صرح بموصوفه حذفت منه التاء اكتفاء [بتأنيث] (¬5) الموصوف نحو امرأة قتيل، وشاة نطيح، وكف خضيب (¬6)، وعين كحيل، ولحية دهين [هذا في الغالب] (¬7)، وقد تثبت (¬8) فيه التاء قليلًا نحو: خصلة حميدة وصفة ذميمة، وإن حذفوا (¬9) الموصوف أثبتوا التاء لنفي اللبس نحو: رأيت قتيلة بني فلان، ورأيت نطيحة بني فلان. وأما إطلاق الحقيقة على معناها في العرف هل هو حقيقة أو مجاز فهو ¬
حقيقة عرفية، مجاز لغوي. قوله: (فالحقيقة استعمال اللفظ) أي فحقيقة (¬1) الحقيقة (¬2) استعمال اللفظ فيما وضع له؛ أي هي إطلاق اللفظ في المسمى (¬3) الذي وضع له ذلك اللفظ احترازًا من استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وهو المجاز إن كانت فيه (¬4) علاقة، أو النقل إن لم تكن فيه علاقة كما سيأتي في بيان الفرق بين المجاز والنقل (¬5). وقوله (¬6): (في العرف الذي وقع به التخاطب) أي: في الاصطلاح (¬7) الذي وقع به التخاطب بين أربابه. والعرف المذكور ها هنا يندرج فيه الأعراف الأربعة (¬8) وهي الحقائق الأربع؛ لأن كل واحد من الأعراف الأربعة يقع به التخاطب بين أربابه؛ لأن العرف اللغوي يحصل به التخاطب بين أهل الشرع، والعرف العام يحصل به التخاطب بين أهله، والعرف الخاص يحصل به التخاطب بين أهله. ¬
قال المؤلف في الشرح: قولي في العرف الذي وقع به التخاطب، يشمل الحقائق الأربع: اللغوية، والشرعية، والعرفية العامة، والعرفية الخاصة، ولو اقتصرت على قول استعمال اللفظ فيما وضع له لكان الحد لا يتناول إلا الحقيقة اللغوية خاصة (¬1). وقال غيره: الحقيقة هي اللفظ المستعمل (¬2) في موضوعه (¬3) الأول (¬4). فعلى (¬5) هذا القول تكون: الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة، والأسماء (¬6) العرفية العامة (¬7) كالدابة للحمار، والأسماء (¬8) الخاصة كالجوهر للمتحيز [الذي لا يقبل القسمة] (¬9): مجازات راجحة لا حقائق، وأما على قول المؤلف فتكون حقائق (¬10). قوله: (استعمال اللفظ) صوابه: المستعمل (¬11)؛ لأن الحقيقة (¬12) هي الموصوفة باللفظ المستعمل، فالمحكوم عليه بأنه حقيقة أو مجاز هو اللفظ ¬
الموصوف بالاستعمال (¬1) لا نفس الاستعمال، قاله (¬2) المؤلف (¬3). وهذه الحقيقة التي حدها المؤلف هي أحد معنيي الحقيقة في العرف؛ لأنها (¬4) تطلق الحقيقة على ذات الشيء، وعلى اللفظ المستعمل في موضوعه، فحد المؤلف المعنى المقابل للمجاز؛ إذ (¬5) كلامه في هذا الفصل في الحقيقة المقابلة للمجاز. قوله: (وهي أربعة: لغوية كاستعمال لفظ (¬6) الإِنسان في الحيوان الناطق، وشرعية كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة، وعرفية عامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار، وخاصة (¬7) كا (¬8) ستعمال [لفظ] (¬9) الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة). ش: هذا هو المطلب الثاني (¬10) في أقسام الحقيقة. قوله: (وهي (¬11) أربعة) أي (¬12) و (¬13) الحقيقة المذكورة أربعة أقسام، ¬
[و] (¬1) هذه الحقائق الأربع هي تفسير للعرف الذي (¬2) وقع به التخاطب. وبيان انحصار العرف المذكور في هذه الأربع: أن الواضع إما أن يتعين أو لا يتعين، فإن تعين (¬3) فإن كان واضع اللغة: فهي حقيقة لغوية، وإن كان واضع الشرع: فهي حقيقة شرعية، وإن لم يتعين الواضع: فهي عرفية عامة أو خاصة. قوله (¬4): (وهي أربعة) أي وأقسام العرف المذكور أربعة. وقوله: (لغوية) أي أحد الأقسام حقيقة لغوية، أو نقول أي (¬5) من الأقسام الأربعة حقيقة لغوية مثلها بقوله: كاستعمال الإنسان (¬6) في الحيوان الناطق (¬7)؛ لأنه موضوعه لغة (¬8). ومثاله أيضًا: استعمال لفظ الفرس في: الحيوان الصاهل, واستعمال لفظ الحمار في: الحيوان الناهق، واستعمال لفظ الكلب في: الحيوان النابح, وغير ذلك من سائر الأسماء المستعملة في مسمياتها اللغوية. قوله: (وشرعية) كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة (¬9). ¬
وذلك أن لفظ الصلاة لغة (¬1): موضوع للدعاء، ثم (¬2) استعمله الشارع في ذات الركوع والسجود، وهي العبادة المعروفة (¬3) المحتوية على القيام والقعود والركوع والسجود وما معها من الأذكار الجميلة. ومثالها أيضًا: لفظ الزكاة والصيام (¬4) ولفظ الحج ولفظ الجهاد، فإن لفظ الزكاة لغة موضوع للزيادة، ثم استعمل في الشرع لأخذ جزء معلوم (¬5) من مال معلوم، ولفظ الصيام لغة موضوع (¬6) لمطلق الإمساك، ثم استعمل في الشرع لإمساك مخصوص على وجه مخصوص. ولفظ الحج لغة (¬7) موضوع لمطلق القصد، ثم استعمل في الشرع لقصد مكان مخصوص على وجه مخصوص. ولفظ الجهاد لغة موضوع لمطلق التعب، ثم استعمل في الشرع في إتعاب نفس في وجه مخصوص، وغير ذلك من سائر الألفاظ و (¬8) الحقائق الشرعية. ¬
قوله: (شرعية) (¬1) هل معناه أن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبادات؟، أو معناه أن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة (¬2) في الأفعال المخصوصة حتى لا يفهم منه إلا هذه العبادة (¬3) المخصوصة؟ كلامه محتمل. وذلك أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: أحدها: وهو مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني: أن صاحب (¬4) الشرع لم يضع شيئًا وإنما استعمل الألفاظ في موضوعاتها اللغوية، ودلت الأدلة الشرعية على أن تلك المسميات اللغوية لا بد لها من قيود زائدة حتى تصير شرعية. القول الثاني للمعتزلة: أن صاحب (¬5) الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبادات وجدد الوضع لهذه العبادات كمولود جديد يتجدد فلا بد له من لفظ يدل عليه (¬6). القول الثالث: وهو مذهب فخر الدين وجمهور الفقهاء، أن صاحب (¬7) الشرع استعمل الألفاظ في هذه العبادات على سبيل المجاز لاشتمالها على (¬8) ¬
المسمى اللغوي؛ لأن الدعاء الذي هو الصلاة لغة موجود في الفاتحة (¬1)، والإمساك مثلًا موجود في الصوم، والنماء موجود في الزكاة، والقصد موجود في الحج، والتعب موجود في الجهاد، إلى غير ذلك، فهذا (¬2) من باب تسمية الشيء بما اشتمل عليه فغلب استعمال الناس لهذه الألفاظ في هذه (¬3) العبادات المخصوصة حتى صار مجازًا راجحًا. فهذه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الشرع أبقاها. وثانيها: أنه نقلها. وثالثها: أنه تجوز بها أي (¬4) أبقاها في موضوعها (¬5) ولا نقلها عنه ولكن تجوز بها. وقال القاضي أبو بكر: فتح هذا الباب وهو كون الشرع نقل هذه الألفاظ يحصل (¬6) غرض الشيعة من الطعن في الصحابة - رضي الله عنهم -، فإنهم يكفرون الصحابة ويقولون: كفروا، فإذا قيل لهم: قد آمنوا والله تعالى وعد المؤمنين بالجنة، فيقولون: الإيمان الذي هو التصديق صدر منهم ولكن الشرع نقل هذا اللفظ إلى فعل الطاعة (¬7) وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر ¬
الخلافة (¬1). فإذا قلنا: إن الشرع [لم ينقل] (¬2) انسد هذا الباب الرديء. والدليل على (¬3) أن الشرع لم ينقل هذه الألفاظ: وجودها في القرآن, والقرآن كله عربي (¬4) فلو كانت هذه الألفاظ منقولة عن مسمياتها (¬5) لغة لما كان (¬6) القرآن كله (¬7) عربيًا. واختلف هل في القرآن لغة عجمية (¬8)، [أم لا؟ قولان. حجة] (¬9) من قال بوجودها في القرآن: المشكاة (¬10)، والسندس (¬11)، ¬
والإستبرق (¬1)، والسجين (¬2)؛ لأنها ألفاظ أعجمية، وكذلك بعض أسماء الملائكة (¬3) نحو جبريل وميكائيل، وكذلك أسماء بعض الأنبياء نحو إبراهيم وإسماعيل، وكذلك أسماء (¬4) بعض الفراعنة (¬5) نحو فرعون وهامان وقارون. حجة (¬6) من قال بعدم وجودها (¬7): قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬8)، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬9)، وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا ...} الآية (¬10) وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ...} (¬11) الآية (¬12)، وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬13) الآية (¬14) , ¬
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (¬1). وقال بعضهم: هذا الخلاف هو اختلاف حال (¬2)؛ وذلك أن (¬3) من قال بأن (¬4) القرآن كله عربي: يعني باعتبار التركيب، ومن قال بأن (¬5) بعضه أعجمي (¬6): يعني باعتبار المفردات. وقوله (¬7): (وعرفية عامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار). ش: أي وثالث الأقسام الأربعة حقيقة عرفية عامة، وسميت عامة؛ لأنها عمت العامة والخاصة من أهل لغتها (¬8). مثلها المؤلف: باستعمال لفظ الدابة في الحمار يعني في إقليم مصر، وذلك أن لفظ الدابة لغة موضوع لجنس ما دب في الأرض، ثم غلب استعمال الناس له في مصر على خصوص الحمار حتى لا يفهم من هذا اللفظ عندهم إلا الحمار. [ومثاله أيضًا: لفظ الدابة في خصوص الفرس عند أهل العراق] (¬9). ¬
ومثاله أيضًا: لفظ الدابة في خصوص الخيل (¬1) والبغال والحمير عند أهل المغرب (¬2)، فإن لفظ الدابة في إقليم المغرب قدر مشترك بين هذه الأجناس الثلاثة فلا يفهم عندهم من لفظ الدابة غير هذه الثلاثة. ومثالها (¬3) أيضًا لفظ العذرة (¬4): فإنه موضوع لغة لفناء الدار الذي تقضى فيه حاجة الإنسان، ثم غلب عليه (¬5) الاستعمال (¬6) في الفضلة المستقذرة. وكذلك لفظ الغائط، هو (¬7) موضوع لغة: للمكان المنخفض من الأرض، ثم غلب عليه (¬8) الاستعمال في الفضلة المستقذرة (¬9). وكذلك لفظ الراوية فإنه موضوع لغة: للجمل، ثم غلب عليه (¬10) الاستعمال (¬11) في المزادة (¬12). وهذا النقل المذكور على قسمين: تارة يكون النقل لبعض أفراد الحقيقة ¬
اللغوية كالدابة (¬1)، فهذا (¬2) قصر العام على بعض مسمياته (¬3)، وتارة يكون النقل لأجنبي (¬4) عن الحقيقة اللغوية كالراوية والنجو (¬5). وقوله (¬6): (كاستعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة). ش: أي ورابع الأقسام حقيقة عرفية خاصة، وسميت خاصة لاختصاصها ببعض الطوائف. مثلها المؤلف: بلفظ الجوهر؛ وذلك أن لفظ الجوهر لغة موضوع للنفيس من كلما شيء, ثم نقل في عرف أرباب علم الكلام إلى الشيء الذي لا يقبل القسمة, كرأس الشعرة مثلًا. ومثاله أيضًا: لفظ العرض (¬7) فإنه موضوع لغة لكل ما يؤول إلى الفناء، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (¬8) أي تريدون ما يفنى والله يريد ما لا يفنى؛ لأن قوله: والله يريد الآخرة فيه حذف مضاف ¬
تقديره: والله يريد دائم الآخرة. ثم نقل في عرف المتكلمين إلى المعنى القائم بالجوهر كالعلم والجهل والحياء والصبر، وغير (¬1) ذلك من سائر المعاني. ومثال العرفية الخاصة ببعض الطوائف أيضًا: الجمع (¬2) والفرق (¬3) والنقض والكسر عند الفقهاء، وكذلك الفاعل والمفعول عند النحاة، وكذلك الموضوع والمحمول (¬4) عند المنطقيين، وكذلك السبب والوتد عند العروضيين (¬5)، وكذلك الظاهر والمجمل عند الأصوليين (¬6)، وغير ذلك من سائر الاصطلاحات الخاصة بطوائف (¬7) العلماء. قوله: (والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينهما في العرف الذي وقع به التخاطب) (¬8). ش: هذا هو المطلب الثالث في حقيقة المجاز وفيه ثلاث (¬9) أبحاث: ¬
الأول: في اشتقاقه. والثاني: في وزنه. والثالث: في إطلاقه على معناه هل هو حقيقة أو مجاز؟. فأما اشتقاق المجاز (¬1) فهو مشتق من الجواز الذي هو العبور، والتعدي؛ لأنك (¬2) تقول: جزت كذا وجزت الوادي أي عبرته. وسمي المجاز مجازًا؛ لأنه تجوز به (¬3) عن موضوعه (¬4). وأما وزنه (¬5): فهو مفعَل بفتح العين، فأصله مجوز، ثم نقلت فتحة العين إلى الفاء، فيقال: تحرك حرف العلة في الأصل وانفتح ما قبله في الحال فقلب (¬6) ألفًا فصار مجازًا. وأما إطلاقه على معناه عرفًا، هل هو حقيقة أو مجاز؟ فهو حقيقة عرفية مجاز لغوي فإنه (¬7) في اللغة اسم لزمان العبور أو مكانه أو مصدره، [ثم نقلوه من محل الوضع إلى محل التجوز. فتبين بهذا أنه مجاز لغوي من وجهين: ¬
أحدهما: أن الجواز إنما يستعمل حقيقة في الأجسام واستعماله في الألفاظ مجاز. الوجه الثاني: أن المجاز حقيقة في زمان العبور أو مكانه أو مصدره] (¬1) واستعماله في غير هذه الثلاثة مجاز لغوي، فتبين بما ذكرنا أن المجاز حقيقة عرفية مجاز لغوي. قوله: (والمجاز استعمال اللفظ) صوابه: اللفظ المستعمل؛ لأن المحكوم عليه بأنه مجاز هو اللفظ الموصوف بالاستعمال لا نفس الاستعمال (¬2) كما قلناه في الحقيقة (¬3). قوله: (في غير مما وضع له) احترازًا من الحقيقة. وقوله: (في العرف الذي وقع به التخاطب) أي: في الاصطلاح الذي يحصل به التخاطب بين أهله. وهذا العرف المذكور ها هنا يندرج فيه المجازات الأربعة، وهي: المجاز اللغوي، والمجاز الشرعي، والمجاز العرفي العام، والمجاز العرفي الخاص، فلو سكت (¬4) المؤلف عن قوله في العرف الذي وقع به التخاطب، [لما اندرج في حده، إلا المجاز اللغوي خاصة؛ ولأجل هذا زاد عليه في العرف الذي ¬
وقع به التخاطب] (¬1) كما تقدم لنا في حد الحقيقة. وقوله: (لعلاقة بينهما) (¬2) أي لأجل نسبة ومشابهة، بين المحلين: محل الحقيقة ومحل المجاز. و (¬3) قوله: (لعلاقة بينهما) احترازًا من النقل؛ لأنه وضع اللفظ في غير ما وضع له من غير علاقة بينهما. مثاله: لفظ جعفر, فإنه موضوع في اللغة للنهر الصغير ثم نقل إلى تسمية المولود به من غير علاقة (¬4) بين النهر الصغير والولد. قوله (¬5): (لعلاقة بينهما (¬6)) فيه حذف صفة تقديره: لعلاقة ظاهرة؛ إذ ليس كل علاقة تعتبر في المجاز، فلا يعتبر إلا العلاقة الظاهرة ولا تعتبر (¬7) الخفية؛ ولأجل هذا لا يسمى أبخر الفم: بالأسد مع اشتراكهما في البخر؛ لأن هذه العلاقة خفية غير ظاهرة في الأسد. قال المؤلف في الشرح: يشترط في العلاقة أن يكون لها اختصاص وشهرة ولا يكتفى بمجرد الارتباط كيف كان، ولو فتح هذا الباب لصح التجوز بكل شيء إلى كل شيء، وقد نصوا على منعه، فلا يصلح استعمال لفظ السماء ¬
في الأرض، ولا بالعكس تجوزًا مع أنها تلازمها وتقابلها، والملازمة أحد أقسام العلاقة لكن المعتبر الملازمة الخاصة كملازمة الراوية (¬1) للجمل الحامل. انتهى نصه (¬2) (¬3). قال أبو القاسم الشيرازي (¬4) في فك (¬5) الرموز في نشر الكنوز على شرح كتاب ابن الحاجب (¬6): اعلم أن العلماء قد حصروا العلاقة بالاستقراء في خمسة وعشرين نوعًا: النوع الأول: إطلاق السبب على المسبب. والثاني: عكسه. والثالث: إطلاق اللازم على الملزوم. والرابع: عكسه. والخامس: إطلاق الحال على المحل. ¬
والسادس: عكسه. والسابع: إطلاق الكل على الجزء. والثامن: عكسه. والتاسع: إطلاق العام على الخاص. والعاشر: عكسه. والحادي عشر: إطلاق المطلق على المقيد. والثاني عشر: عكسه. والثالث عشر: إطلاق المعرف على المنكر. والرابع عشر: عكسه. والخامس عشر: الزيادة. والسادس عشر: عكسه. والسابع عشر: تسمية الشيء باعتبار المستقبل. والثامن عشر: عكسه. والتاسع عشر: حذف المضاف. والموفى عشرين: عكسه. والحادي والعشرون (¬1): إطلاق الشيء على مشابهه. والثاني والعشرون: إطلاق الشيء على ضده. ¬
والثالث والعشرون: إطلاق الشيء على بدله. والرابع والعشرون: إطلاق آلة الشيء عليه. والخامس والعشرون: التقديم والتأخير (¬1). فأما إطلاق السبب على المسبب فمثاله: قوله عليه الصلاة (¬2) والسلام: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" (¬3) فإن البلل سبب الوصل؛ لأن ¬
العرب (¬1) لما رأت بعض الأشياء إنما تتصل بسبب البلل استعارت البل (¬2) للوصل. وأما عكسه, وهو إطلاق المسبب على (¬3) السبب, فمثاله: قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقولِ (¬4) لأن الخمر سبب الإثم، فأطلق اسم (¬5) المسبب (¬6) على مسببه (¬7) وهو الخمر ومنه تسمية العطية بالمن (¬8)؛ لأن العطية سبب المن، لأن (¬9) من أعطى فقد منَّ. ¬
وأما إطلاق اللازم على الملزوم: فمثاله قول الشاعر: قوم إذا حاربوا (¬1) شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت (¬2) بأطهار (¬3) (¬4) فأطلق (¬5) شد المئزر على الاعتزال عن النساء؛ لأن شد المئزر لازم للاعتزال. وأما عكسه وهو إطلاق الملزوم على اللازم فمثاله: قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (¬6). ¬
أطلق الكلام على الدلالة؛ لأن الدلالة من لوازم الكلام، أي (¬1) أنزلنا عليهم برهانًا فهو يدلهم (¬2) بما كانوا به يشركون (¬3)، ومنه قول الحكماء: كل صامت ناطق (¬4). وأما إطلاق اسم الحال على المحل فمثاله: قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5). أطلق (¬6) الرحمة على الجنة لأنها محل الرحمة. وأما عكسه (¬7)، وهو إطلاق المحل على الحال فمثاله: قوله عليه السلام للنابغة الجعدي (¬8): "لا يفضض (¬9) الله فاك". ¬
أطلق الفم على الأسنان؛ لأنه محل الأسنان (¬1)، ومنه قولهم أيضًا: جرى الميزاب، أطلق الميزاب على الماء؛ لأنه محل الماء. وأما إطلاق اسم الكل على الجزء فمثاله قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} (¬2) أي: أناملهم، فأطلق الأصابع (¬3) على الأنامل، وهي (¬4) جزء من الأصابع. وأما عكسه وهو إطلاق الجزء على الكل، فمثاله: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬5) أي: إلا ذاته؛ إذ الوجه جزء من الذات. ¬
وأما إطلاق العام على الخاص، فمثاله: قوله تعالى حكاية عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ} (¬2) لم يرد به العموم؛ لأن الأنبياء قبلهما (¬3) كانوا مسلمين ومؤمنين. ¬
وأما عكسه وهو إطلاق الخاص على العام، فمثاله: قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬1) أي رفقاء. وأما إطلاق المطلق على المقيد، فمثاله: قول الشاعر: فيا ليتنا نحيا جميعًا وليتنا ... إذا نحن متنا ضمنا كفنان ويا ليت كل اثنين بينهما هوى ... من الناس قبل اليوم يلتقيان (¬2) أى قبل يوم القيامة. وأما عكسه, وهو إطلاق المقيد على المطلق فمثاله: قول شريح (¬3) القاضي: أصبحت ونصف الناس (¬4) عليّ غضاب، أراد بنصف (¬5) الناس: المحكوم عليه مطلقًا ولو قيده بالنصف. ونظيره قول الشاعر: ¬
إذا مت كان الناس صنفان (¬1) شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع (¬2) وأما إطلاق المعروف (¬3) على المنكر، فمثاله: قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (¬4). وأما عكسه، وهو إطلاق المنكر على المعروف، فمثاله: قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (¬5) أي علمت كل نفس ما قدمت وأخرت (¬6). ومنه قولهم: دع (¬7) امرأً وما اختار (¬8)، [أي: دع كل امرئ وما ¬
اختاره] (¬1). وأما الزيادة فمثالها (¬2): قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬3) [أى ليس مثله شيء] (¬4). قال أبو حامد الغزالي - رضي (¬5) الله عنه - في المستصفى: فإن الكاف وضع للإفادة، فإذا استعمل على وجه لا يفيد، كان على خلاف الوضع. وأما عكسه وهو النقصان: فمثاله قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (¬6) أي لئلا تضلوا (¬7). وأما تسمية الشيء باعتبار المستقبل، وهو ما يؤول إليه فمثاله قوله تعالى ¬
حكاية عن صاحب يوسف عليه السلام (¬1) -: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (¬2) أي: عنبًا (¬3). وأما عكسه، وهو تسمية الشيء باعتبار الماضي، وهو ما كان عليه في الزمان الماضي فمثاله: قولك: هذا عبدي المعتق؛ لأنه عبده (¬4) قبل عتقه. وأما حذف المضاف سواء (¬5) أقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب أو بقي على إعراب نفسه: فمثال حذف المضاف الذي أقيم المضاف إليه مقامه في إعرابه (¬6): قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (¬7) أي أهل القرية (¬8). ¬
ومثال حذف المضاف (¬1) الباقي (¬2) على إعرابه قول الشاعر: أكل امرئ تحسبين (¬3) امرأً ... ونار توقد (¬4) بالليل نارًا (¬5) [قولة: ونار، أي: وكل نار] (¬6). ومنه قولهم: ما كل سوداء تمرة (¬7)، ولا بيضاء شحمة؛ أي: ولا كل ¬
بيضاء شحمة (¬1). وأما عكسه، وهو حذف المضاف إليه، فمثاله: "قولهم قطع الله يد ورجل من قالها" (¬2)، تقديره: يد من قالها، فحذف (¬3) من قالها الذي أضيف إليه اليد لدلالة الثاني عليه، وهو من قالها الذي أضيف إليه الرجل. ¬
ومنه أيضًا (¬1) قول الشاعر: سقى الأرضين الغيث سهل وحزنها ... فنيطت عرا الآمال (¬2) بالزرع والضرع (¬3) أي: سهلها. وأما إطلاق الشيء على شبهه فمثاله: إطلاق الأسد على الرجل الشجاع لتشابههما (¬4) في الشجاعة. ومثاله أيضًا: إطلاق لفظ (¬5) الإنسان على الصورة المنقوشة في الثوب، أو في (¬6) الجدار مثلًا لشبهها بالإنسان. وأما إطلاق الشيء على ضده فمثاله: قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ¬
مِثْلُهَا} (¬1) فالسيئة الأولى هي السيئة، وأما الثانية فهي حسنة وليست بسيئة (¬2). ومنه قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬3). ومنه قوله تعالى أيضًا (¬4): {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} (¬5) ومنه قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (¬6). ¬
ومنه قوله تعالى أيضًا (¬1): {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (¬2) فإطلاق اللفظ الثاني في جميع ذلك مجاز من باب مقابلة أحد الضدين بالآخر. ومثاله أيضًا: قولهم (¬3): قاتله (¬4) الله ما أحسن ما (¬5) قال، أطلق الدعاء عليه على الدعاء له. وأما إطلاق الشيء على بدله فمثاله: قولهم: فلان أكل الدم إذا أكل الدية، فأطلق الدم على الدية لأنها بدل الدم. وأما إطلاق آلة الشيء عليه، فمثاله: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ¬
عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1) أي: ذكرًا حسنًا، فأطلق اللسان على الذكر لأن اللسان آلة الذكر. وأما التقديم والتأخير فمثاله: قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (¬2) [تقديره: والذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاءً] (¬3). وهذه (¬4) الأنواع المذكورة هي الحاصرة (¬5) لأنواع المجاز ولكن في بعضها تداخل كحذف المضاف (¬6) أو المضاف إليه، فإنهما داخلان في النقصان؛ لأن النقصان أو الحذف يعم ذلك فتأمل ذلك. هذا ما يتعلق بقول (¬7) المؤلف (¬8): [لعلاقة بينهما]. وقال بعضهم (¬9): حاصل (¬10) المجاز أربعة أقسام: ¬
الزيادة، والنقصان، والتقديم والتأخير، والاستعارة. مثال (¬1) الزيادة: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2) , وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬3)، لأن ما زائدة. ومثال (¬4) النقصان: قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬5). ومثال التقديم والتأخير: قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} (¬6). ومثال الاستعارة: الأسد للرجل الشجاع، [والحمار للرجل البليد (¬7). وهذا الحصر أقرب من الأوّل] (¬8). ومنه: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬9)؛ لأن ¬
الصلاة لا تنهى في الحقيقة. وقوله تعالى: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1)؛ لأن الإيمان لا يأمر في الحقيقة. وقوله تعالى: {جَنَاحَ الذُّلِّ} (¬2)؛ لأن الذل لا جناح له في الحقيقة. وقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} (¬3)؛ لأن الإرادة لا تصح من الجدار (¬4) في الحقيقة. وهو كثير في القرآن (¬5). ¬
وقوله: (وهو منقسم (¬1) بحسب الوضع (¬2) إِلى أربعة: مجاز (¬3) لغوي كاستعمال (¬4) الأسد في الرجل الشجاع، وشرعي كاستعمال لفظ الصلاة في الدعاء، وعرفي عام (¬5) كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما اتصف (¬6) بالدبيب، وخاصي (¬7) كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس). ش: هذا هو المطلب الرابع: في أقسام المجاز. فاعلم أن المؤلف - رحمه الله - قسم المجاز باعتبارات ثلاثة: قسمه أولًا: باعتبار [الوضع] (¬8). ثم قسمه ثانيًا: باعتبار الموضوع له. ثم قسمه ثالثًا: باعتبار هيئته. قوله: (وهو ينقسم بحسب [الوضع] (¬9) إِلى أربعة) ومراده ¬
ها هنا (¬1) [بالوضع] (¬2): اللغة، والشرع، والعرف العام، والعرف الخاص، [فالوضع] (¬3) إذًا أربعة أشياء (¬4). وإنما كان أقسام المجاز أربعة؛ لأنها مقابلة لأقسام الحقيقة، وذلك أن لفظ الصلاة مثلًا: إذا استعمل في الدعاء كان حقيقة لغوية مجازًا شرعيًا؛ لأنه استعمل في غير ما وضع له باعتبار الوضع الشرعي وإن استعمل في الأفعال المخصوصة، كان حقيقة شرعية مجازًا لغويًا. ولفظ الدابة إذا استعمل في مطلق ما اتصف بالدبيب كان حقيقة لغوية مجازًا عرفيًا، وإذا استعمل في الحمار كان حقيقة عرفية مجازًا لغويًا؛ لأنه استعمل في غير ما وضع له لغة، وكذلك تقول في (¬5) لفظ الجوهر وفي كل ما يعرض في الباب (¬6). قوله: (كاستعمال الأسد (¬7) في الرجل الشجاع)، هذا مثال المجاز اللغوي، والعلاقة بين الحيوان المفترس والرجل الشجاع، هي (¬8): الشجاعة. وقوله: (كاستعمال لفظ الصلاة في الدعاء) هذا مثال (¬9) المجاز الشرعي ¬
والعلاقة بينهما هو (¬1): الدعاء؛ لأن الفاتحة فيها الدعاء. وقوله: (كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما اتصف بالدبيب) هذا مثال المجاز العرفي العام، والعلاقة بينهما هو (¬2): الدبيب. وقوله: (كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس). قال ابن هشام في شرح الفصيح: يقال: نَفَسَ (¬3) الشيء، ونَفُسَ: صار نفيسًا، كما يقال: أنتن الشيء، ونتن إذا صار منتنًا. والنفيس: هو الرفيع الشريف الكريم الذي يتنافس فيه، انتهى نصه (¬4). وقوله (¬5): (كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس)، هذا مثال (¬6) الجاز العرفي الخاص، والعلاقة بين النفيس وبين الشيء الذي لا يقبل القسمة هي (¬7) مطلق الغاية؛ لأن هذا في غاية من التعظيم، وهذا في غاية من التحقير. قوله: (وبحسب الموضوع له إِلى مفرد نحو قولنا: أسد للرجل الشجاع، وإِلى مركب كقولهم (¬8): أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي ¬
فالمفردات (¬1) حقيقية (¬2)، وإِسناد الإِشابة والإِفناء (¬3) إِلى الكر والمر مجاز في التركيب، وإِلى: مفرد ومركب كقولهم (¬4): أحياني اكتحالي بطلعتك، فاستعمال الإِحياء والاكتحال في السرور والرؤية مجاز في الإِفراد وإِضافة الإِحياء إِلى الاكتحال مجاز في التركيب، فإِنه مضاف إِلى الله تعالى). ش: هذا هو التقسيم (¬5) الثاني للمجاز باعتبار الموضوع له. قوله: (وبحسب الموضوع له) أي: وينقسم المجاز أيضًا باعتبار المعنى الذي وضع له المجاز إلى ثلاثة أقسام (¬6): أحدها: مفرد. والثاني: مركب (¬7). ¬
والثالث: مفرد ومركب معًا. يعني أن المجاز بالنسبة إلى موضوعه (¬1) تارة يكون مجازًا مفردًا خاصة، وتارة يكون مجازًا مركبًا خاصة، وتارة يكون مجازًا مفردًا ومركبًا معًا (¬2). ومعنى قوله: (المجاز المفرد) أي ينقل اسم مفرد عن معنى مفرد (¬3) إلى معنى مفرد، أو (¬4) إلى أكثر من معنى مفرد. مثال هذا (¬5) المجاز المفرد قولك: أسد لشجاع (¬6) من الرجال، فإن الأسد اسم مفرد منقول عن معنى مفرد، وهو الحيوان المفترس إلى معنى مفرد وهو الرجل الشجاع. وقولنا: "أو أكثر (¬7) من مفرد" مثاله: إطلاق اللفظ المشترك على معنييه، وكذلك إطلاق اللفظ على مجازيه، وكذلك إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه معًا. مثال إطلاق المشترك على معنييه: إطلاق لفظ القرء على الطهر، والحيض، وإطلاق لفظ الجون (¬8) على الأبيض والأسود. ¬
[ومثال إطلاق اللفظ على مجازيه: إطلاق لفظ البحر على العالم والسخي] (¬1). ومثال إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه: [إطلاق لفظ الغزالة على الحيوان المعروف، والمرأة الجميلة. وهذا كله إذا نطق (¬2) به متكلم واحد في وقت واحد، وأراد باللفظ مجموع المعاني، وهذا التمثيل كله إنما هو على القول بجواز إطلاق اللفظ على حقيقته أو على مجازيه أو على حقيقته ومجازه] (¬3) معًا وهو مذهب مالك والشافعي، وطائفة من العلماء رضي الله عنهم. كما بينه المؤلف رحمه الله في باب التعارض والترجيح (¬4)؛ لأنه قال هنالك (¬5): يجوز عند المالكية (¬6) والشافعي، وجماعة من أصحابه (¬7) استعمال اللفظ في حقائقه إن كان مشتركًا، أو مجازاته، أو مجازه (¬8) وحقيقته، خلافًا لقوم. انتهى (¬9). قوله: (نحو قولنا: أسد للرجل الشجاع) هذا مثال المجاز المفرد كما ¬
تقدم. ومثاله أيضًا: الحمار للرجل البليد (¬1)، [وكذلك الثور للرجل البليد] (¬2) وكذلك التيس للأبله (¬3)، وكذلك البحر لكثير العلم، وكذلك البحر أيضًا (¬4) لكثير السخاء، وكذلك البحر أيضًا للفرس الجواد، وكذلك الغزالة (¬5) للمرأة الجميلة، وكذلك الشمس للمرأة الجميلة، وكذلك القمر للمرأة الجميلة، وكذلك البدر للمرأة الجميلة، وكذلك الجبل للرجل الثقيل، فهذا كله مثال للمجاز المفرد، وهو نقل اسم مفرد عن معنى مفرد إلى معنى مفرد أو أكثر من مفرد. فهذا بيان المجاز المفرد وهو القسم الأول من الثلاثة، وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: (إِلى مفرد نحو قولنا: أسد للرجل الشجاع). وقوله: (وإِلى مركب كقولهم: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومرّ العشي فالمفردات حقيقة وإِسناد الإِشابه والإِفناء إِلى الكر والمر مجاز في التركيب). ش: هذا هو القسم الثاني من الأقسام الثلاثة: وهو المجاز المركب. ومعنى المجاز المركب: أن يكون اللفظ موضوعًا ليركب مع لفظ معنى، ¬
ثم يركب مع لفظ معنى آخر (¬1) مثله المؤلف بقول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر (¬2) الغداة ومر العشي (¬3) هذا من باب اللف والنشر، الأول للأول، والثاني للثاني، تقديره: أشاب الصغير كر الغداة وأفنى الكبير مر العشي، والمراد بالكر والمر ها هنا (¬4) طول العمر. ¬
قوله: (فالمفردات حقيقة) أراد [بالمفردات] (¬1) أربعة (¬2) أشياء: وهي الإشابة، والإفناء، والكر، والمر؛ لأن كل واحد من هذه الألفاظ الأربعة باق على المعنى الذي وضع له، لم ينقل عنه في هذا المثال. وهو معنى قوله: (فالمفردات حقيقة) وليس يريد بالمفردات: جميع الألفاظ الثمانية؛ لأن الصغير في قوله: أشاب الصغير مجاز؛ لأنه سماه صغيرًا باعتبار ما كان عليه في الماضي؛ إذ الصغير لا يشيب وإنما الذي (¬3) يشيب هو الكبير، قاله المؤلف في النفائس (¬4). وهذا كقولك: تحرك الساكن، أو سكن (¬5) المتحرك؛ فإنما يصدق (¬6) باعتبار الماضي والإلزام الجمع بين الضدين، وهو محال. قوله: (وإسناد الإِشابة والإِفناء إِلى الكر والمر مجاز في التركيب (¬7)). ش: يعني أن إضافة (¬8) الإشابة إلى (¬9) الكر مجاز في التركيب، وكذلك إضافة الإفناء إلى (¬10) المر مجاز في التركيب؛ لأن الإشابة والإفناء إنما يضافان ¬
[إلى الله تعالى] (¬1) بالحقيقة (¬2)، وأما إضافتهما (¬3) إلى غير الله تعالى، فهو مجاز في التركيب؛ وذلك أن معنى المجاز المركب قد حصل في هذا المثال؛ لأن اللفظ لم يركب مع لفظ المعنى الذي وضع لأن يركب معه. ومثال هذا البيت أيضًا قول الشاعر: والمرء يبليه بلاء السربال ... كر الليالي وانتقال الحال (¬4) ¬
ومثال المجاز المركب أيضًا قولهم: هزم الأمير الجند، وقتل (¬1) الأمير فلانًا، أو ضربه، أو علقه، أو سجنه، أو أطلقه؛ فالفاعل لذلك كله حقيقة المباشر (¬2) للفعل (¬3)، فنسبة ذلك إلى الأمير مجاز في التركيب. ومثاله أيضًا: قولك: شربت الطعام وأكلت الماء، فهو مجاز؛ لأن (¬4) لفظ الشرب إنما يركب مع لفظ الماء، ولا يركب مع لفظ الطعام، وكذلك لفظ الأكل إنما يركب مع لفظ الطعام، ولا يركب (¬5) مع لفظ الماء. ومثاله أيضًا: قولك: غرق فلان في العلم؛ لأن لفظ غرق إنما يركب مع الماء، فتركيبه مع لفظ العلم مجاز (¬6). ومثاله أيضًا: قولك: علفت الدابة ماء؛ لأن لفظ العلف إنما يركب مع لفظ الشعير أو (¬7) التبن؛ لأن الماء لا يعلف وإنما يعلف الشعير والتبن. ومثاله في القرآن: قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬8)؛ لأن لفظ (¬9) السؤال إنما وضع في اللغة ليركب مع لفظ من تصح منه الإجابة، فتركيبه مع لفظ القرية مجاز في التركيب. ¬
ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَإِذَا تلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬1)؛ لأن الذي يزيد ذلك هو الله تعالى (¬2). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (¬3)؛ لأن الذي يخرجها هو الله تعالى (¬4) (¬5). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمِّهَاتُكمْ وَبَنَاتُكُمْ ...} (¬6) الآية؛ لأن لفظ التحريم إنما وضع ليركب مع الأفعال دون الذوات (¬7)، فتركيبه ¬
مع الذوات مجاز في التركيب؛ لأن التكليف إنما يتعلق بأفعال المكلفين التي هي من كسبهم ولا يتعلق بذواتهم؛ لأنها ليست من كسبهم. هذا بيان المجاز المركب. وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: (وإِلى مركب كقولهم: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي ...) إلى آخره (¬1). قوله: (وإِلى مفرد ومركب كقولهم: أحياني اكتحالي بطلعتك، فاستعمال الإِحياء والاكتحال في السرور والرؤية: مجاز في الإِفراد، وإِضافة الإِحياء إِلى الاكتحال: مجاز في التركيب؛ فإِنه مضاف إِلى الله تعالى). ش: هذا هو القسم الثالث من الأقسام الثلاثة: وهو المجاز الذي هو مفرد مركب معًا، ومعناه: أن يكون المجاز في إفراده، وفي إسناده. مثله المؤلف (¬2) بقوله (¬3): أحياني اكتحالي بطلعتك: ومعنى هذا (¬4) الكلام: يسرني (¬5) رؤية صورتك، فإطلاق الإحياء على السرور: مجاز في الإفراد، وإطلاق الاكتحال على الرؤية: مجاز في الإفراد أيضًا، وإضافة الإحياء إلى الاكتحال: مجاز في التركيب؛ [فإن لفظ الإحياء إنما وضع لغة لأن يركب مع لفظ الله تعالى، فإضافة الإحياء إلى الاكتحال مجاز في ¬
التركيب] (¬1)؛ إذ لا يركب الإحياء مع لفظ الاكتحال حقيقة، فلا يقال: أحياه الكحل حقيقة (¬2). قال المؤلف في الشرح: "فلو كان إضافة الإحياء إلى الاكتحال حقيقة، لكان من مات يوضع الكحل في عينيه فيعيش، فإذا قلت (¬3): أحياه الله: كان حقيقة في التركيب؛ لأن اللفظ ركب مع اللفظ الذي وضع لأن يركب معه، ولا فرق في هذا الموضع بين الفاعل، والمفعول، والمضاف، وغيرها، فسرج الدار: مجاز في التركيب إلا أن يراد به مطلق الإضافة؛ لأن الدار ليس لها سرج تركب به؛ فإنه قد يقال: سرج الدار باعتبار أنه موضوع فيها، فيكون حقيقة في التركيب". انتهى نصه (¬4). قوله: (أحياني اكتحالي بطلعتك). قال المؤلف في الشرح (¬5): "إطلاق الإحياء على السرور من مجاز التشبيه؛ لأن الحياة توجب ظهور آثار محلها وبهجته وكذلك المسرة، فأطلق لفظ الحياة على المسرة للمشابهة. وكذلك إطلاق لفظ (¬6) الاكتحال على الرؤية من مجاز التشبيه؛ لأن العين ¬
تشتمل على الكحل والاكتحال كما تشتمل (¬1) على المرئي، فلما تشابها (¬2) أطلق لفظ أحدهما على الآخر مجازًا" انتهى نصه (¬3). فقد تبين لك أن قوله: أحياني اكتحالي بطلعتك فيه مجاز من وجهين: جهة الإفراد، وجهة [الإسناد؛ ولأجل ذلك سماه المؤلف بالمفرد والمركب معًا. ومثال المجاز في الإفراد (¬4) والإسناد معًا قولهم: نار الحرب] (¬5). ومثاله أيضًا: قولهم: قامت الحرب على ساق. ومثاله أيضًا (¬6): شابت لمة الليل، اللمة (¬7) بكسر اللام في الحقيقة هي (¬8): الوفرة من الشعر، والمراد بها ها هنا ظلمة الليل مجازًا؛ وإنما يقال: شابت لمة الليل إذا تعقبها البياض (¬9). ومثال (¬10) المجاز أيضًا من القرآن: قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَن ¬
يَنقَضَّ} (¬1)، وقوله تعالى (¬2): {جَنَاحَ الذُّلِّ} (¬3)، وقوله (¬4): {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (¬5)، وقوله تعالى (¬6): {تُؤْتِي أُكلَهَا كلَّ حِينٍ} (¬7). هذا بيان المجاز (¬8) المفرد والمركب معًا، والى هذا القسم أشار المؤلف (¬9) بقوله: (وإِلى مفرد ومركب كقولهم: أحياني اكتحالي بطلعتك ...) إلى آخره. واعلم أن المجاز في التركيب من حيث الجملة على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون طرفاه حقيقتين (¬10)، مثاله: أنبت الربيع البقل. الثاني: أن يكون طرفاه مجازين (¬11)، مثاله: أحيا الأرض شباب الزمن. الثالث: أن يكون الطرف الأول حقيقيًا والآخر (¬12) مجازيًا، مثاله: أنبت البقل شباب الزمان. ¬
الرابع: أن يكون الطرف الأول مجازيًا، والآخر حقيقيًا، مثاله: أحيا الأرض الربيع. قال بعض الشراح: هذا المجاز الذي ذكره المؤلف (¬1) في الإسناد بقسميه غير معروف عند الأصوليين (¬2). قال الإمام فخر الدين في المحصول (¬3): المجاز الإسنادي لا يعرفه الأصوليون، وإنما لخصه الشيخ عبد القاهر الجرجاني (¬4). انتهى نصه. وإلى هذا أشار ابن الحاجب بقوله: والحق أن المجاز في الإفراد (¬5)، ولا ¬
مجاز في التركيب، وقول عبد القاهر في نحو: أحياني اكتحالي بطلعتك، أن المجاز في الإسناد بعيد لاتحاد جهته (¬1). انتهى نصه. يعني أن المجاز إنما هو في جهة الإفراد خاصة، دون جهة الإسناد. وتقرير ذلك أن يقال: المفردات إما تستعمل في موضوعاتها أم لا فإن استعملت في موضوعاتها بطل المجاز في المفردات، وإن استعملت في غير موضوعاتها حصل المجاز في المفردات، وبطل مجاز التركيب لملاحظة المعنى في الأصل، فإنه يقول: سرني (¬2) رؤيتك، وهذا لا مجاز فيه من حيث التركيب، فيلزم أحد الأمرين: إما عدم المجاز في المفردات، وإما عدم المجاز في المركبات. قال المؤلف في شرح المحصول: هذا سؤال فيه مغالطة؛ لأن المدعى (¬3) تركيب لفظ الإحياء مع الاكتحال، وهو مجاز في التركيب، والسائل إنما أتى بتركيب لفظ السرور مع الرؤية، وليس هو (¬4) محل النزاع فلا يتجه السؤال (¬5) لأنه لم يمس محل النزاع (¬6). وما ذكره المؤلف من المجاز في التركيب، إنما هو على مذهب عبد القاهر ¬
النحوي الجرجاني، وهو مذهب النحاة، وليس بمذهب الأصوليين، كما قاله (¬1) الإمام (¬2) فخر الدين في المحصول (¬3). قوله: (وبحسب هيئته إِلى: الخفي كالأسد للرجل الشجاع، والجلي الراجح كالدابة للحمار). ش: هذا هو التقسيم الثالث للمجاز وهو تقسيمه باعتبار هيئته؛ لأنه قسمه أولًا باعتبار واضعه (¬4)، ثم قسمه ثانيًا باعتبار موضوعه، ثم قسمه ثالثًا باعتبار هيئته، وهو هذا. قوله: (وبحسب هيئته) أي: وينقسم المجاز باعتبار صفته بالنسبة إلى استعماله إلى قسمين: وهما: المجاز الخفي، والمجاز الراجح (¬5). فإن كان المجاز لا يفهم عند إطلاقه إلا بقرينة، فإنه يسمى: مجازًا خفيًا؛ لأنه باق على أصله من الخفاء والمرجوحية لرجحان الحقيقة عليه. وإن كان المجاز (¬6) عند إطلاقه يتبادر إلى الفهم دون الحقيقة فإنه يسمى: مجازًا راجحًا لرجحانه على الحقيقة. ¬
مثال المجاز الخفي: الأسد للرجل الشجاع؛ لأنك إذا قلت مثلًا: رأيت أسدًا، وأردت به الرجل الشجاع، فلا يفهم من إطلاقك أنك أردت (¬1) به (¬2) الرجل الشجاع إلا إذا اتصلت (¬3) به (¬4) قرينة تدل على أن المراد به الرجل الشجاع، كقولك مثلا: رأيت أسدًا يلعب بسيفه (¬5). ومثاله أيضًا: كقولك (¬6): رأيت البحر وأردت به العالم، فلا يفهم المجاز (¬7) منه إلا بالقرينة (¬8) كقولك مثلًا (¬9): [رأيت] (¬10) البحر يسرد العلم. ومثاله أيضًا قولك (¬11): رأيت البحر، وأردت به الرجل السخي، فلا يفهم المجاز منه إلا بالقرينة (¬12)، كقولك مثلًا (¬13): رأيت البحر يكرم الناس. وإلى المجاز الخفي أشار المؤلف بقوله: "إلى (¬14) الخفي [(¬15) كالأسد ¬
للرجل الشجاع". ومثال المجاز الجلي: لفظ الدابة لخصوصية (¬1) الحمار عند أهل مصر، وكذلك الدابة لخصوصية الفرس عند أهل العراق، وكذلك لفظ الدابة لخصوص (¬2) الخيل والبغال والحمير عند أهل المغرب، وكذلك لفظ الصلاة على ذات الركوع والسجود، وكذلك لفظ الجوهر والعرض عند أرباب علم الكلام، وكذلك لفظ المتكلم عند أرباب علم الكلام فإنه لا يفهم من إطلاق لفظ المتكلم عندهم إلا خصوص المتكلم في فن علم الكلام دون غيره من سائر المتكلمين والمتلفظين، وغير ذلك من الحقائق الشرعية والعرفية لأنها مجاز باعتبار، حقيقة باعتبار. وإلى المجاز الراجح أشار المؤلف بقوله: "والجلي الراجح كالدابة للحمار] (¬3) ". قوله: (وها هنا دقيقة وهي أن كل مجاز راجح منقول، وليس كل منقول مجازًا راجحًا، فالمنقول أعم مطلقًا والمجاز الراجح أخص مطلقًا). ش: هذا هو المطلب الخامس في الفرق بين النقل والمجاز الراجح. قال بعض الشراح: ذكر المؤلف في غير (¬4) الشرح أن الفرق بين المجاز ¬
الراجح والمنقول يشكل (¬1) على كثير من الناس ولذلك سماه: دقيقة، والله أعلم. ومعنى الدقيقة (¬2): هي المعنى الذي يدق (¬3) في فهمه (¬4) النظر؛ أي: يصعب ويعسر (¬5) في فهمه (¬6) النظر. ومراد المؤلف بالنقل ها هنا غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره كما قاله في الشرح (¬7). وهو أحد موضوعي (¬8) الوضع كما تقدم في فصل الوضع، وليس مراده بالنقل ها هنا جعل اللفظ اسمًا لمعنى بعد أن كان اسمًا لغيره، كمثل جعفر اسمًا للولد (¬9) بعد أن كان اسمًا للنهر الصغير، وهو أحد (¬10) معنيي النقل؛ لأن النقل له معنيان: أحدهما: جعل اللفظ اسمًا لمعنى بعد أن كان اسمًا لغيره نحو: جعفر كما قلنا. والمعنى الثاني: غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من ¬
غيره. وهذا المعنى الثاني الذي هو غلبة الاستعمال هو مراد المؤلف ها هنا. فقوله (¬1): (أن كل مجاز راجح منقول) تقديره: أن كل مجاز راجح غلب استعماله، وليس كل منقول لم يغلب (¬2) استعماله يكون مجازًا راجحًا. وقوله: (فالمنقول أعم مطلقًا والمجاز الراجح أخص مطلقًا). تقديره: فاللفظ (¬3) الذي لم (¬4) يغلب استعماله أعم من كل وجه من المجاز الراجح، واللفظ الذي هو المجاز الراجح أخص من كل وجه من المنقول. وقوله: (مطلقًا) احترازًا من الأعم (¬5) من وجه والأخص من وجه، وهو الذي يوجد كل واحد (¬6) مع الآخر وبدونه، كما بيّنه المؤلف في الفصل التاسع عشر في بيان العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها (¬7). قوله: (فالمنقول أعم مطلقًا والمجاز الراجح أخص مطلقًا) بيان العموم في ¬
المنقول: أن النقل يوجد مع العلاقة ويوجد بدون العلاقة. وبيان الخصوص في المجاز الراجح: أنه لا يوجد إلا مع العلاقة؛ لأن العلاقة تشترط (¬1) في كل مجاز. فمثال وجود النقل مع العلاقة: لفظ الدابة في خصوصية [الحمار عند] (¬2) أهل مصر، ولفظ الصلاة في ذات الركوع والسجود. ومثال وجود النقل بدون العلاقة: لفظ الذات (¬3) في عرف المتكلمين؛ لأن لفظ [الذات] (¬4) موضوع في اللغة للمصاحبة؛ لأنك تقول مثلًا: امرأة ذات جمال (¬5) [أي صاحبة جمال] (¬6) ونقل في عرف المتكلمين إلى ذات الشيء وألغيت المصاحبة بالكلية، فلا علاقة بين ذات الشيء والمصاحبة (¬7). فتبين من هذا التقرير (¬8): أن المنقول يجتمع مع (¬9) المجاز الراجح في لفظ الدابة ولفظ الصلاة، وانفرد النقل بدون المجاز الراجح في لفظ الذات ¬
عند المتكلمين. وقوله: (فالمنقول أعم مطلقًا والمجاز الراجح أخص مطلقًا) هذا العموم والخصوص المطلق (¬1) إنما ذلك إذا قيدنا المجاز بالرجحان، وقيدنا النقل بغلبة الاستعمال (¬2). وأما إذا أخذنا مطلق المجاز ومطلق النقل فيكون كل واحد من المجاز والنقل أعم من وجه وأخص من وجه، أي: يوجد كل واحد منهما بدون الآخر (¬3)، ويوجد أيضًا (¬4) كل واحد منهما مع الآخر، أي: ينفرد المجاز في صورة، وينفرد النقل (¬5) في صورة، ويجتمعان في صورة. مثال انفراد المجاز: لفظ الأسد في الرجل الشجاع. ومثال انفراد النقل: لفظ الذات عند المتكلمين. ومثال اجتماع النقل مع المجاز: لفظ الدابة والصلاة (¬6) وقد مثل المؤلف في شرحه النقل الذي هو بدون العلاقة بلفظ الذات والجوهر عند ¬
المتكلمين (¬1). واعترض على المؤلف (¬2) تمثيله في الشرح النقل الذي يكون بغير علاقة بالجوهر عند المتكلمين؛ لأنه قال في الشرح: لا علاقة بين النفيس والمتحيز الذي لا يقبل القسمة (¬3). وهذا (¬4) مخالف لتمثيله في أقسام المجاز؛ لأنه قال: "وخاصي كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس (¬5) ". فبيّن (¬6) في أقسام المجاز أن (¬7) الجوهر عند المتكلمين مجاز وقد بيّنا العلاقة بينهما هنالك، وذلك مخالف لما ذكره في الشرح في التمثيل للنقل بالجوهر (¬8) فكلامه في الموضعين متناقض، فظاهر (¬9) كلامه أولًا (¬10) أن الجوهر عند ¬
المتكلمين مجاز، وظاهر كلامه في الشرح في هذا الموضع: أن الجوهر عند المتكلمين نقل لا مجاز، فانظره (¬1). قوله (¬2): (كل محل قام به معنى وجب أن يشتق له من لفظ ذلك (¬3) المعنى لفظ، ويمتنع الاشتقاق لغيره خلافًا للمعتزلة في الأمرين). ش: هذا هو المطلب السادس في الشيء الذي يوجبه المعنى القائم لمحل، مراده بالمحل: الذات، ومراده بالمعنى: الصفة. يعني أن كل ذات اتصفت بصفة ما يوجب ذلك المعنى [لتلك الذات شيئين: أحدهما: أن يشتق لتلك الذات لفظ من لفظ ذلك المعنى. والثاني: أنه لا يجوز أن يشتق لفظ من لفظ ذلك المعنى] (¬4) لغير تلك الذات. فهذان أمران: أحدهما: وجوب (¬5) الاشتقاق. والآخر: امتناع الاشتقاق. مثال ذلك: [أن] (¬6) من قام به العلم (¬7) أي: من اتصف بالعلم يجب أن ¬
يسمى: عالمًا، ومن اتصف بالقدرة وجب (¬1) أن يسمى: قادرًا، ومن قام به البياض يجب (¬2) أن يسمى: أبيض، ومن قام به السواد يجب (¬3) أن يسمى: أسود، ومن قام به الكلام يجب (¬4) أن يسمى: متكلمًا، ومن قامت (¬5) به الحياة يجب (¬6) أن يسمى: حيًا، إلى غير ذلك. [ولا يجوز أن يسمى المحل الذي لم يقم به العلم: عالمًا، وكذلك لا يجوز أن يسمى المحل الذي لم تقم به القدرة قادرًا، وكذلك لا يجوز أن يسمى المحل الذي لم يقم به البياض: أبيض، وكذلك لا يجوز أن يسمى المحل الذي لم يقم به السواد: أسود، وكذلك لا يجوز أن يسمى المحل الذي لم تقم به الحياة: حيًا، وكذلك لا يجوز أن يسمى المحل الذي لم يقم به الكلام متكلمًا] (¬7). وهذا الذي حررناه (¬8) هو معنى قول المؤلف في الشرح: قيام المعاني بمحالها (¬9) يوجب أحكامها لمحالها واستحقاق ألفاظ تلك الأحكام (¬10). ¬
وقوله (¬1): (خلافًا للمعتزلة في الأمرين). ش: [يعني بالأمرين: وجوب الاشتقاق للذات (¬2) التي (¬3) قام بها (¬4) المعنى، ومنع (¬5) الاشتقاق للذات التي لم يقم بها المعنى، ولكن خلاف المعتزلة (¬6) في هذين الأمرين] (¬7) مخصوص بصفات (¬8) الله [تبارك وتعالى] (¬9). فإن المعتزلة قالوا: كلم (¬10) الله عز وجل نبيه موسى بن عمران بكلام خلقه في الشجرة فسمعه منها، فقد قام الكلام بالشجرة، ومع ذلك لم تسم متكلمة، وقالوا: لم يقم الكلام بذات (¬11) الله (¬12) عز وجل ومع ذلك سمي متكلمًا لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسَى تَكْلِيمًا} (¬13)، ولم يقل: وكلمت الشجرة موسى (¬14) وهكذا (¬15) يقولون، تعالى الله عن قولهم في جميع صفات ¬
الباري جل وعلا؛ لأنهم أنكروا جميع صفات الله [تبارك وتعالى] (¬1)، وقالوا: لم تقم به صفة البتة، وقالوا: سمي الله جل جلاله بعالم وقادر ومريد ومتكلم وغير ذلك من غير علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام قائم به (¬2). قال المؤلف في الشرح: فهذا موطن الخلاف، وأمّا ما في العالم من الألوان والطعوم وغيرها فلم أر لهم (¬3) خلافًا وما (¬4) أخالهم يخالفون فيه (¬5). قوله: (الألوان) مثاله (¬6): الأسود والأبيض لمحل قائم به السواد أو البياض (¬7). وقوله (¬8): (الطعوم) مثاله: الحلو والمر لمحل قام به الحلاوة والمرارة (¬9). و (¬10) قوله: (وغيرهما) مثاله: ضارب وقاتل لمن قام به الضرب أو القتل. واستدل المعتزلة على مذهبهم: بأنه اشتق ضارب وقاتل للفاعل، مع أن الضرب والقتل قائمان بغيرهما وهو المضروب والمقتول. ¬
وأجيب عن ذلك: بأن الضرب والقتل هو التأثير وهو قائم بالفاعل، وأما الذي قام بالمفعول فهو الأثر. قوله: (فإِن كان الاشتقاق باعتبار قيامه في الاستقبال فهو مجاز إِجماعًا، نحو: تسمية العنب خمرًا (¬1) [أو باعتبار قيامه (¬2)] (¬3) في الحال فهو حقيقة إِجماعًا نحو: تسمية الخمر خمرًا، أو باعتبار قيامه (¬4) في (¬5) الماضي، ففي (¬6) كونه حقيقة أو مجاز مذهبان (¬7): أصحهما (¬8) المجاز (¬9)، و (¬10) هذا إذا كان محكومًا به، و (¬11) أما إِذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقًا نحو: اقتلوا المشركين). ش: هذا هو المطلب السابع في الاشتقاق الذي يعرف به المجاز والحقيقة (¬12). وحقيقة الاشتقاق (¬13): تصوير بُنْية من بُنْية لتدل الثانية على ما دلت عليه ¬
الأولى وزيادة (¬1). قال المؤلف في الشرح: المراد بالاشتقاق باعتبار قيام المعنى في أحد الأزمنة الثلاثة، إنما هو الاشتقاق من المصادر، كاسم الفاعل نحو: ضارب، واسم المفعول نحو: مضروب، وأفعل التفضيل، نحو: زيد أكرم من عمرو، واسم الزمان أو المكان (¬2)، نحو: مضرب، ومقتل، ومخرج، واسم الآلة نحو: المروحة، والمدهن، والمسعط، واسم الهيئة نحو: الجلسة والعمة، وأما الفعل الماضي فإنه مشتق وهو حقيقة في الماضي دون غيره، وكذلك لفظ الأمر والنهي فإنه حقيقة في المستقبل دون غيره، وليس في هذه الأمثلة (¬3) خلاف؛ بل (¬4) ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ. انتهى نصه (¬5). قوله: (فإِن كان الاشتقاق (¬6) باعتبار قيامه في الاستقبال). معناه: فإن كان الاشتقاق بالنسبة إلى قيام المعنى بالمحل في زمان (¬7) مستقبل (¬8) فإن ذلك مجاز إجماعًا؛ لأن المعنى لا وجود له في هذا المحل ¬
أصلًا لا في الماضي ولا في الحال، فلذلك وقع عليه الإجماع؛ لأنه معنى سيقوم بالمحل. مثله المؤلف بتسمية العنب (¬1) خمرًا، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعصِرُ خَمْرًا} (¬2) أي: عنبًا، ومثاله أيضًا: تسمية الحي ميتًا؛ لأنه سيموت، ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (¬3). قوله (¬4): (أو باعتبار قيامه في الحال فهو حقيقة إِجماعًا). أي: إذا كان اشتقاق اللفظ من المعنى القائم بالمحل بالنسبة إلى قيامه في زمان الحال فهو حقيقة إجماعَا؛ لأنه وصف موجود بالموصوف في الحال؛ لأجل (¬5) ذلك وقع عليه الإجماع أيضًا. مثله المؤلف: بتسمية الخمر خمرًا، ومثاله أيضًا: تسمية الحي حيًا، وتسمية الميت ميتًا. وقوله: (أو باعتبار قيامه في الماضي ففي كونه حقيقة أو مجازًا مذهبان: أصحهما المجاز). أي: إذا كان اشتقاق اللفظ (¬6) من المعنى القائم بالمحل في الزمان الماضي ¬
وهو معدوم في زمان الاشتقاق ففي هذا قولان. وسبب الخلاف في هذا: هل (¬1) يشترط بقاء المعنى المشتق منه أو لا يشترط بقاؤه؟ فمن اشترط (¬2) بقاءه قال: هو مجاز لعدم بقائه في الحال وهو مذهب الجمهور. ومن (¬3) لم يشترط بقاءه قال: هو حقيقة لوجوده قبل، وهو مذهب ابن سيناء (¬4) من الفلاسفة، وأبي هاشم، وأبيه (¬5) من (¬6) المعتزلة. ومثال هذا: تسمية الخمر عنبًا، ومثاله أيضًا: تسمية الإنسان نطفة. وقوله: (أصحهما المجاز). دليل الأصح: صحة النفي؛ لأن النفي من خواص المجاز؛ لأنك (¬7) ¬
تقول لمن وقع منه الضرب في الماضي: هذا ليس بضارب في الحال (¬1). ودليل من قال بأنه حقيقة إجماع أهل العربية على صحة هذا: أضارب أمس، والأصل الحقيقة. وأجيب عنه: بأن إطلاق الضارب عليه مجازًا كما يقال: هذا ضارب غدًا بإجماع. قوله: (وهذا إِذا كان محكومًا به، وأما إِذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقًا). ش: المراد بهذا الكلام تلخيص محل النزاع والتفصيل المذكور (¬2)، فذكر في هذا الكلام: أن المعنى المذكور الذي فيه التفصيل بين الأزمنة الثلاثة، إنما هو في المعنى الذي هو محكوم به على الشيء (¬3) نحو قولك: زيد سارق، أو زيد زان، أو زيد مرتد، أو زيد قاتل، أو زيد مشرك (¬4) وغير ذلك؛ لأن الزنا والسرقة والارتداد (¬5) والقتل والشرك هي أوصاف محكوم بها على زيد في هذه الأمثلة المذكورة، ففي هذا يكون التفصيل المتقدم في الاشتقاق باعتبار الأزمنة الثلاثة. [وهذا معنى قول المؤلف: وهذا إذا كان محكومًا به؛ أي: وهذا التفصيل ¬
المذكور بين الأزمنة الثلاثة إنما هو فيما إذا كان المعنى المشتق منه محكومًا به على الشيء (¬1)] (¬2). قوله: (وأما إِذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقًا نحو: اقتلوا المشركين). ش: يعني أن المعنى المشتق منه لو كان (¬3) متعلَّق الحكم - بفتح اللام في (¬4) المتعلق - أي: علة الحكم أي بدوران (¬5) الحكم معه وجودًا وعدمًا، فهو حقيقة مطلقًا أي إطلاقًا في الأزمنة الثلاثة، فلا يوصف بالمجاز لا في الماضي ولا في المستقبل ولا في الحال. مثله المؤلف بقوله تعالى: {فَاقْتلُوا الْمُشْرِكينَ} (¬6) وذلك أن الشرك في هذا المثال هو علة الحكم وليس بمحكوم له وإنما المحكوم به هو القتل. ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬7)، وقوله تعالى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬8). فالمحكوم به في هاتين (¬9) الآيتين هو القطع والجلد، وأما السرقة والزنا ¬
فهما علتا الحكم وليسا (¬1) بمحكوم بهما (¬2)؛ إذ لم يحكم الله تعالى بشرك أحد في آية الشرك، ولا بسرقة أحد في آية السرقة، ولا بزنا أحد في آية الزنا (¬3). قوله: (هذا (¬4) إِذا كان محكومًا به ...) إلى آخره. ولولا هذا التفصيل الذي ذكره المؤلف في المعنى القائم بالمحل بين أن يكون محكومًا به وبين أن يكون علة الحكم، لتعذر الاستدلال بكثير من الآيات والأحاديث (¬5) [على الأحكام] (¬6) بالنسبة إلى زماننا هذا (¬7)؛ لأن زماننا مستقبل بالنسبة إلى زمان الخطاب. فيجب حينئذ (¬8) أن تكون جميع الصفات الواقعة في زماننا مجازًا، فيكون قوله تعالى (¬9): {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} (¬10)، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (¬11)، وقوله (¬12): {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} (¬13)، لا يتناول إلا من وجد في زمان ¬
القرآن (¬1) ولا يتناول من سيأتي إلا بطريق (¬2) المجاز، والأصل عدم المجاز فيتعذر الاستدلال بهذه الآيات (¬3) وأمثالها (¬4) على ثبوت أحكامها في زماننا؛ إذ للمخالف أن يقول: الأصل عدم التجوز (¬5)، وذلك خلاف الإجماع؛ فإن العلماء يستدلون (¬6) على ثبوت (¬7) الأحكام في كل (¬8) زمان بهذه الآيات (¬9) وغيرها، فهي حقيقة لا مجاز؛ لأن هذه المعاني علة صلة الحكم وليست محكومًا بها (¬10). ... ¬
الفصل الثامن في التخصيص
الفصل الثامن في التخصيص شرع المؤلف [رحمه الله تعالى] (¬1) في بيان حقيقة التخصيص. وهو مشتق من الاختصاص بالشيء وهو الانفراد به، وذلك أن الدليل المخصص يختص بالأفراد المخرجة من لفظ العموم (¬2) دون غيرها؛ فلأجل ذلك سمي (¬3) تخصيصًا. قوله: (الفصل الثامن في (¬4) التخصيص) تقديره: الفصل الثامن في بيان حقيقة التخصيص (¬5). قوله: (وهو إِخراج بعض يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه بدليل منفصل في (¬6) الزمان إِن كان المخصص لفظيًا، أو بالجنس إِن كان عقليًا قبل ¬
تقرر حكمه) (¬1). ش: قوله: (إِخراج) (¬2) [هذا (¬3) جنس يتناول (¬4)] (¬5) عند المؤلف ثلاثة أشياء وهي: التخصيص، والاستثناء، والنسخ، فلا بد من قيود تخرج الاستثناء والنسخ، وقد ذكرها المؤلف. وقوله: (بعض يتناوله اللفظ العام) احترازًا من إخراج الكل فإنه بعض وجوه النسخ، ولما كان التخصيص إخراج البعض من الكل قال الأصوليون: لا يستقيم التخصيص إلا فيما يستقيم توكيده بكل، وهو ما له أجزاء يصح افتراقها حسًا أو حكمًا، وهذا موجود في اللفظ العام؛ لأن له شمولًا. وقوله: (أو ما يقوم مقامه) يعني أن التخصيص أيضًا إخراج بعض ما يتناوله ما يقوم مقام اللفظ العام في إفادة العموم. وقوله: (أو ما يقوم مقامه) ما موصولة بمعنى الذي، وهي واقعة على المعنى، وهي معطوفة على اللفظ العام الذي هو فاعل، فقوله: "يتناوله" تقديره: التخصيص هو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام، أو يتناوله المعنى ¬
الذي يقوم مقام اللفظ العام في إفادة العموم، وأراد بهذا المعنى الذي يقوم مقام اللفظ العام مفهوم المخالفة؛ لأن مفهوم المخالفة يقتضي سلب الحكم عن جميع المسكوت عنه، كما أن المنطوق يقتضي ثبوت الحكم لجميع المنطوق به. مثال ذلك قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" (¬1) هذا هو المنطوق به، معناه: إنما يجب الغسل بالماء من (¬2) وجود الماء الذي هو المني. ¬
مفهومه: أنه لا يلزم (¬1) الغسل من القبلة، ولا من المباشرة، ولا من الملامسة، ولا من الجسة (¬2)، ولا من النظر، ولا من التفكير (¬3)، ولا من التكلم، ولا من إيلاج الحشفة، فهذا المفهوم يعم جميع المسكوت عنه. ثم خصص عموم هذا المفهوم بقوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان وجب الغسل" (¬4). قال المؤلف في الشرح: فإن السلب في المفهوم كعموم الثبوت في المنطوق، إلا أنه لا يسمى عمومًا (¬5) في الاصطلاح فلذلك قلت: أو ما يقوم ¬
مقامه (¬1). قوله (¬2): (بدليل منفصل (¬3) في الزمان) هذا المجرور في قوله: "بدليل" (¬4) متعلق بالإخراج، أي: يكون الإخراج بدليل منفصل، يعني: أن يكون الدليل المخصص واردًا بعد ورود (¬5) العام بحيث تكون الفترة بينهما كقوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان" (¬6)؛ لأنه (¬7) ورد بعد ¬
نزول قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1) بزمان طويل. وقوله: (بدليل منفصل) احترازًا من الإخراج بدليل متصل وهو الاستثناء؛ لأن الاستثناء (¬2) يجب اتصاله بالمستثنى منه على القول الصحيح، كما قاله (¬3) المؤلف في باب الاستثناء في قوله: ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة، خلافًا لابن عباس رضي الله عنه (¬4). قال الإمام: إن صح عنه (¬5) النقل يحمل على (¬6) ما إذا نوى عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك. انتهى نصه (¬7). وقوله: (إِن كان المخصص لفظيًا) [معناه: أن اشتراط (¬8) انفصال المخَصِص عن المُخصَص في الزمان مشروط بأن يكون (¬9) المخصص لفظيًا] (¬10). وأما (¬11) إن كان المخصص غير لفظي وهو العقلي فلا يشترط فيه أن يكون ¬
منفصلًا في الزمان؛ [لأن المخصص العقلي متصل في المعنى ولكنه منفصل في الجنس؛ لأن جنس العقلي (¬1) مخالف لجنس اللفظي (¬2) فالمخصص العقلي وإن كان متصلًا في الزمان] (¬3) فهو منفصل في الجنس، فالمخصص اللفظي من جنس الألفاظ، والمخصص العقلي من جنس المعاني. فذكر (¬4) المؤلف أن الدليل المخصص يشترط فيه الانفصال، إلا أن الانفصال يكون بشيئين: تارة يكون بالزمان، وتارة يكون بالجنس. فإن كان المخصص لفظيًا (¬5) فالانفصال فيه بالزمان، وإن كان المخصص عقليًا (¬6) فالانفصال فيه بالجنس. وإلى هذين الشيئين اللذين يكون بهما الانفصال أشار المؤلف بقوله: (بدليل منفصل (¬7) في الزمان إِن كان المخصص لفظيًا، أو بالجنس إِن كان عقليًا). فمثال المخصص اللفظي تقدم، وهو: قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل ¬
النساء والصبيان" تخصيصًا لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1). ومثال التخصيص بالعقل (¬2): قوله تعالى: {خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} (¬3)؛ لأن قوله (¬4): "خالق كل شيء" عام (¬5) يندرج فيه كل شيء؛ لأن لفظ الشَيء يتناول ذات الله تعالى (¬6) وصفاته، لقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَر شَهَادَةً قُلِ الله} (¬7)، ولكن خصص العقل ذات الله تعالى (¬8) وصفاته العلى (¬9). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬10) خصص العقل ذات الله تعالى (¬11) وصفاته العلى (¬12)، فإنه لا يقدر (¬13) على ذاته وصفاته القديمة؛ لأن القدرة لا تتعلق إلا بالجائز، ولا تتعلق بالواجب ولا ¬
بالمستحيل، فالله تعالى (¬1) هو (¬2) واجب الوجود، فقد خصص العقل ذات الله تعالى (¬3) وصفاته العلى (¬4) من هذا العموم. قوله: (قبل تقرر حكمه) هذا متعلق بقوله: "إخراج (¬5) بعض"؛ تقديره: بشرط (¬6) أن يكون ذلك الإخراج قبل تقرر حكم العام بالعمل به، أي: قبل ثبوت العمل بحكم العام؛ لأن التخصيص لا يكون إلا قبل العمل بالعام؛ لأن المراد به البيان ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. ويحتمل أن يعود الضمير في قوله: حكمه على البعض، في قوله: "إخراج بعض"، تقديره (¬7): قبل تقرر حكم ذلك البعض المخرج. وقوله: (قبل تقرر حكمه) أي: قبل العمل بالعام، احترازًا من النسخ؛ فإن الإخراج فيه يكون بعد العمل بالعام، وهذا أحد الفروق التي يفوق بها بين التخصيص والنسخ، كما بينه المؤلف في الفصل السابع من باب العموم والخصوص في قوله: الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء (¬8)، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى (¬9). ¬
قوله: (فقولنا: أو ما يقوم مقامه احترازًا من المفهوم (¬1) فإِنه يدخله التخصيص). ش: هذا بيان قوله في الحد: "أو ما يقوم مقامه" وقد تقدم بيانه. واعترض قوله: (احترازًا من المفهوم) بأن قيل: إنما يحترز (¬2) مما يراد خروجه ولا يحترز مما يراد دخوله، فإن المفهوم إنما يراد دخوله في الحد فكيف يحترز منه؟ (¬3). أجيب (¬4) عنه بأن في الكلام حذف المضاف (¬5) تقديره: احترازًا من خروج المفهوم [أي: احترازًا من خروج المفهوم] (¬6) من الحد. واعترض قوله أيضًا: (احترازًا من الاستثناء) (¬7): فإنه يقتضي أن الاستثناء ليس من المخصصات مع أنه عده في باب العموم من المخصصات، قال في باب العموم (¬8): وعندنا (¬9) يخص الشرط والاستثناء العموم مطلقًا (¬10). أجيب (¬11) عنه: بأن قيل: ذكر المؤلف ها هنا قولًا وذكر في باب العموم ¬
قولًا آخر، وذلك انهم اختلفوا في الاستثناء هل هو (¬1) هو المخصصات أو ليس من المخصصات؟ فيه قولان: معنى [ذلك] (¬2): هل يسمى في الاصطلاح مخصصًا (¬3)، أو لا يسمى ذلك؟ فيه (¬4) قولان. وسبب الخلاف بينهم في ذلك: هل حرف الاستثناء قرينة (¬5) تبين أن المراد بالكلام هو الباقي بعد الاستثناء؟ أو أن مجموع (¬6) المستثنى (¬7) والمستثنى منه في مقابلة الباقي بعد الاستثناء كاسمين جعلا اسمًا واحدًا، أحدهما: مفرد والآخر: مركب؟ [مثال ذلك قولك مثلًا: عشرة إلا ثلاثة. فعلى القول الأول وهو قول الجمهور: أن المراد بالكلام سبعة، وأن "إلا" هي قرينة تبين ذلك فيكون الاستثناء مخصصًا كسائر المخصصات. وعلى القول الآخر: وهو قول القاضي الباقلاني: أن الاستثناء ليس مخصصًا، فإن مجموع عشرة إلا ثلاثة بإزاء سبعة، بمنزلة اسمين جعلا اسمًا واحدًا: أحدهما: مفرد، والآخر: مركب] (¬8). ¬
واعترض (¬1) قوله أيضًا: [بدليل منفصل] (¬2): بأنه يقتضي أن الصفة والغاية والشرط لا تكون مخصصات (¬3)، وليس الأمر كذلك؛ لأنه ذكر في باب العموم أنها من المخصصات؛ لأنه قال هناك (¬4): وعندنا يخصص الشرط والاستثناء العموم مطلقًا، ونص الإمام على الصفة والغاية (¬5)، انتهى نصه (¬6). مثال التخصيص بالصفة قولك: أكرم قريشًا الطوال (¬7). ومثال التخصيص بالغاية قولك: أكرم قريشًا حتى يدخلوا (¬8) الدار (¬9). ومثال التخصيص بالشرط قولك: أكرم قريشًا إن دخلوا الدار (¬10). وهذا الاعتراض لازم (¬11)؛ لأن المؤلف قد أورده في الشرح والتزمه (¬12). ¬
قال في شرحه (¬1): فينبغي أن يؤتى بعبارة تجمع هذه النقوض (¬2) وتخرج الاستثناء وفيها عسر (¬3). وأجيب عن هذا (¬4) الاعتراض بأن قيل: هذا الاعتراض لا يلزم؛ لأن هذه الأشياء أعني: الصفة، والغاية، والشرط، كلها منفصلة بالزمان (¬5) من حيث إنها لا توجد إلا بعد وجود اللفظ العام، أعني: أنه لا يحصل التلفظ بهذه الأشياء إلا بعد التلفظ بلفظ (¬6) العام، وهو المُخَصَّص بالفتح، وكذلك تقول في الاستثناء؛ إذ لا يحصل النطق بلفظ المستثنى إلا بعد حصول النطق بلفظ المستثنى منه، فقد حصل الانفصال في جميع هذه الأشياء بالزمان (¬7) بين المخصِّص و (¬8) المخصَّص، فلا يلزم الاعتراض بها على المؤلف وإن التزمه. وقد رد هذا الجواب بأن قيل: هذا وهم؛ وذلك أن المراد بالانفصال هو (¬9) أن تكون بين المخصِّص والمخصَّص فترة من الزمان وانقطاع بينهما، وأما تقدم أحد اللفظين على الآخر في زمان واحد فليس ذلك ¬
بانفصال، بل ذلك أمر ضروري وهو الترتيب بالحقيقة الزمانية؛ لأن اجتماع حروف (¬1) أو (¬2) حرفين في زمان واحد محال، فقولك مثلًا: زيد، فالزاء متقدم ثم الياء ثم الدال، وهذا الترتيب بالحقيقة الزمانية أمر ضروري (¬3)؛ لأن الكلام من المصادر السيالة فلا يوجد من الكلام حالة النطق إلا حرف واحد، ولا يقال: بين هذه الحروف انفصال بالزمان. واعترض قوله أيضًا: (إِن كان المخصص لفظيًا) بأن قيل: هذا التعريف يلزم فيه الدور؛ لأن المخصص مشتق من التخصيص فتعريف التخصيص بما أخذ منه: تعريفًا بما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود. أجيب (¬4) عن هذا: بأن المعرف بالحد هو نسبة الحد إلى المحدود لمن هو عارف [بالمحدود] (¬5) فلا دور، هذا على مذهب المؤلف. وأما على مذهب الجمهور فجوابه أن تقول، المخصص المأخوذ في الحد مأخوذ من التخصيص اللغوي، و (¬6) المحدود هو (¬7) التخصيص الاصطلاحي فلا دور. واعترض قوله أيضًا: "إن كان المخصص لفظيًا أو بالجنس إن كان عقليًا"؛ فإنه يقتضي أن التخصيص محصور في شيئين وهما: اللفظي، والعقلي، ¬
وليس الأمر كذلك؛ لأن التخصيص (¬1) يكون (¬2) أيضًا بشيئين (¬3) آخرين وهما: الفعل، والتقرير، نص عليه (¬4) المؤلف في باب العموم؛ لأنه قال فيه: وعندنا يخصص فعله عليه السلام وإقراره الكتاب والسنة (¬5). انتهى (¬6) نصه. مثال التخصيص بالفعل: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬7) خصصه فعله عليه السلام برجم ماعز (¬8) ¬
والعامرية (¬1). ومثال التخصيص بالفعل أيضًا: نهيه عليه السلام عن الوصال ثم واصل، فقالوا له: نهيت عن الوصال ونراك تواصل، فقال: "إني لست كهيئتكم أظل يطعمني ربي ويسقيني" (¬2). ¬
ومثال التخصيص بالفعل أيضًا قوله عليه السلام: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول (¬1) ولا لغائط (¬2) ولكن شرقوا أو غربوا" (¬3). ¬
ثم رآه ابن عمر (¬1) مستقبلًا بيت المقدس (¬2)، مستدبرًا للكعبة [فخصص ما بين البنيان] (¬3). ¬
ومثال التخصيص بالفعل أيضًا: نهيه عليه السلام عن كشف العورة ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر، فلما رأى عثمان ستر فخذه، فعجبوا منه، فقال: "ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء؟! " (¬1). ¬
ومثال التخصيص بالتقرير (¬1): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2) خصصه (¬3) كونه عليه السلام وجد عبد الرحمن (¬4) بن عوف في الصلاة فأحرم (¬5) عليه السلام وراءه فأقره عليه السلام على ¬
الإمامة (¬1)، مع أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكون إمامًا للنبي عليه السلام. ومثال التخصيص بالإقرار أيضًا (¬2): كونه عليه السلام رأى (¬3) رجلًا يصلي ركعتي الفجر بعد الصبح فأقره (¬4) عليه ¬
السلام (¬1)، فيخص (¬2) به نهيه عليه السلام عن الصلاة بعد الصبح؛ لأنه قال: "لا صلاة نافلة بعد الفجر إلا ركعتي (¬3) الفجر" (¬4)؛ إذ لا يجوز أن يرى عليه ¬
السلام (¬1) منكرًا فيقر عليه، فلما أقره دل على جوازه. ومثال التخصيص بالإقرار أيضًا: كونه عليه السلام أقر أهل المدينة على أكل الخضر وبيعها من غير زكاة (¬2)، وذلك تخصيص لقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو بدالية (¬3) نصف العشر". واعترض (¬4) قوله أيضًا: (أو بالجنس (¬5) إِن كان عقليًا)؛ فإنه (¬6) يقتضي ¬
أن الانفصال بالجنس محصور في المخصص العقلي، وليس الأمر كذلك؛ لأن المخصص الذي هو خلاف اللفظي يكون بخمسة أشياء وهي: العقل، والحس، والواقع، والعادة، وقرائن الأحوال. مثال التخصيص بالعقل: تقدم. ومثال التخصيص بالحس: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬1) فإن الحس شاهد السموات (¬2) والأرض والجبال (¬3) لم تدمرها. قال بعضهم: [قوله تعالى] (¬4): تدمر كل شيء، هذا من باب حذف النعت تقديره تدمر كل شيء أمرت بتدميره. ومثال التخصيص بالواقع: قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (¬5) فإن الواقع (¬6) أنها لم تؤت النبوة ولا ملك سليمان، ومثله (¬7) قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُكِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (¬8) فإنه لم يؤت أسباب السموات، وقوله تعالى (¬9): ¬
{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1). فإن الحرم لم يجب (¬2) إليه [جميع] (¬3) ثمرات الدنيا. ومثال التخصيص بالعادة قولك: رأيت الناس فما رأيت أحسن من زيد، فإن العادة تقتضي (¬4) أنه لم ير جميع الناس. ومثال التخصيص بقرائن الأحوال: قول السيد لعبده: ائتني بمن يحدثني، فإن ذلك يختص بمن يحدثه في مثل حاله خاصة. أجيب عن هذا بأن قيل: هذه الأشياء كلها مندرجة في العقل؛ لأن العقل تارة يستقل بدلالته، وتارة يستند (¬5) إلى الحس، أو الواقع (¬6) أو العادة، أو القرينة. [و] (¬7) جملة ما يقع به التخصيص ثمانية أشياء: القول، والفعل، والإقرار، والعقل، والحس، والواقع، والعادة، وقرائن الأحوال (¬8). [و] (¬9) قال بعضهم: ولو قال: التخصيص إخراج بعص ما يتناوله اللفظ ¬
العام أو ما يقوم مقامه قبل تقرر حكمه، ويترك غير ذلك لكان أصوب والله أعلم (¬1). قال (¬2) بعضهم: التخصيص لفظ مشترك بين هذه المعاني الثمانية، فحد المؤلف بعض معاني اللفظ المشترك ولم يحد الباقي، ولا يضره ذلك؛ وذلك أنه [حد] (¬3) معنيين من الثمانية وهما التخصيص بالقول المنفصل والتخصيص بالعقل. ... ¬
الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه
الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه (¬1) ش: تعرض المؤلف رحمه الله في هذا الفصل [لبيان] (¬2) المراد عند الأصوليين بهذه الألفاظ المذكورة في الترجمة في الاصطلاح، فذكر ستة ألفاظ وهي: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، وتنبيه الخطاب، واقتضاء الخطاب، ومفهوم الخطاب. وذكر (¬3) المؤلف أن هذه الأسماء الستة موضوعة في الاصطلاح لثلاثة معان وهي: دلالة الاقتضاء، ومفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة، فهي إذًا ستة أسماء لثلاثة مسميات. وهذه الأسماء الستة المذكورة في الترجمة بالنسبة إلى المسميات ¬
الثلاثة (¬1) على ثلاثة أقسام: قسم خاص، وقسم مشترك، وقسم مختلف فيه. [فالقسم] (¬2) الخاص إما خاص بدلالة الاقتضاء، وإما خاص بمفهوم الموافقة، وإما خاص بمفهوم المخالفة. فالخاص بدلالة الاقتضاء هو: اسم واحد وهو اقتضاء الخطاب. والقسم الخاص بمفهوم الموافقة هو اسمان، وهما: فحوى الخطاب، وتنبيه الخطاب. والقسم الخاص بمفهوم المخالفة هو اسم واحد وهو دليل الخطاب، هذا (¬3) بيان المختص بأقسامه الثلاثة. وأما القسم (¬4) المشترك: فهو اسم واحد وهو مفهوم الخطاب، فهو (¬5) مشترك (¬6) بين المفهومين، أعني مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة (¬7). وأما القسم المختلف فيه فهو اسم واحد وهو: لحن الخطاب. ففيه على مقتضى كلام المؤلف ثلاثة أقوال: قيل: هو اسم لدلالة الاقتضاء. ¬
وقيل: اسم (¬1) لمفهوم الموافقة. قيل: اسم لمفهوم المخالفة (¬2). هذا بيان ما ذكره المؤلف في تقسيم الأسماء الستة على مسمياتها الثلاثة ¬
حسبما يأتي ذلك في أثناء الفصل. قوله: (فلحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء) هذا أحد الأقوال الثلاثة المذكورة في لحن الخطاب. فذكر المؤلف ها هنا أن لحن الخطاب هو اسم لدلالة الاقتضاء، وهو قول الباجي في كتبه (¬1) الثلاثة: الفصول (¬2) والإشارة (¬3)، والمنهاج، وهو (¬4) قول الشيرازي في اللمع (¬5) وسيأتي القولان الآخران. قوله: (لحن الخطاب) معناه في اللغة: إفهام الشيء من غير تصريح به (¬6) يقال: لحنت له لحنًا إذا قلت قولًا يفهمه ويخفى على غيره (¬7)، ولحنه عني لحنًا إذا فهمه، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬8) أي في فلتات الكلام من غير تصريح بالنفاق. ولذلك قال الأمير (¬9) المأمون (¬10) بن هارون الرشيد في بعض كلامه: ¬
أيها الناس لا تضمروا لنا بغضًا، فإنه والله من يضمر لنا بغضًا ندركه (¬1) من فلتات كلامه، وصفحات وجهه، ولمحات عينيه (¬2)، ومن هذا المعنى قول الشاعر: وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنًا منطق صائب وتلحن أحيانًا ... وأحلى الحديث ما كان لحنًا (¬3) ¬
هذه الأبيات (¬1) من بحر الخفيف وهو مسدس الدائرة مبني من فاعلاتن مستفعلن، فاعلاتن، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن. قوله: منطق صائب معناه: قاصد للصواب. قوله: وتلحن أحيانًا، معناه (¬2): تصيب وتفطن. وقوله: وأحلى الحديث ما كان لحنًا: أي ما كان إصابة وفطنة، أي وأحلى الحديث ما كان تعريضًا وتشويقًا من غير تصريح. وقال ابن دريد (¬3): اللحن هو الفطنة (¬4) ومنه قوله عليه السلام: "ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" (¬5). ¬
أي (¬1): أصوب وأفطن لها (¬2). وقال ابن يونس (¬3): ذكر أهل اللغة أن اللحن بإسكان الحاء هو الخطأ ¬
وبفتح الحاء هو الصواب. وقال عبد الحق (¬1) في النكت: اللحن من أسماء الأضداد كالصواب والخطأ (¬2) ولأجل هذا قال ابن الحاجب: وفيها ولو حلق (¬3) رأسه أو قلم أظفاره (¬4) لم يعد. قال عبد العزيز (¬5): هذا من لحن الفقه، والظاهر هو (¬6) الصواب بفتح ¬
الحاء، وحكي عن عبد العزيز أنه يعيد (¬1). وقال البغدادى (¬2) في الأمالي: قال ابن الأعرابي (¬3): يقال: قد لحن الرجل يلحن لحنًا فهو لاحن إذا أخطأ (¬4)، ولحن يلحن لحنًا فهو لحن إذا أصاب ¬
وفطن، فاللحْن بإسكان الحاء: الخطأ، وبفتحها: الصواب (¬1). [قال أبو زكريا المسطاسي: واختلف في اللحن بالسكون وبالفتح (¬2) على ثلاثة أقوال: قيل: يقالان معًا في الخطأ والصواب على السواء. وقيل: يقالان معًا في الخطأ والصواب إلا أن الأشهر في الخطأ السكون (¬3)، والأشهر في الصواب الفتح. وقيل: السكون خاص بالخطأ، والفتح خاص بالصواب (¬4)] (¬5). قوله: (وهي (¬6) دلالة اللفظ التزامًا علي ما لا (¬7) يستقل الحكم إِلا به وإِن كان اللفظ لا يقتضيه وضعًا) هذا تفسير دلالة الاقتضاء. قوله: (دلالة اللفظ) تقدم لنا معنى دلالة اللفظ في الفصل الرابع (¬8). واحترز بقوله: "دلالة اللفظ" من الدلالة باللفظ. واحترز بقوله: "التزامًا" من دلالة المطابقة ودلالة التضمن. وقوله: (على ما لا يستقل الحكم إِلا به) أي: دلالة اللفظ على ¬
محذوف لا يستقيم معنى الكلام إلا بذلك المحذوف، فالمراد بالحكم في كلام المؤلف هو: المعنى. قوله: (وإِن كان اللفظ لا يقتضيه وضعًا) [أي: وإن كان الكلام لا يقتضي ذلك المحذوف في الوضع، ويؤخذ من قوله: "وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعًا"] (¬1) أن دلالة الالتزام عقلية (¬2)، وقد تقدم فيها (¬3) الخلاف (¬4) في الفصل الرابع. وقوله: (لا يقتضيه) (¬5) الضمير المنصوب [في قوله] (¬6) يقتضي (¬7) يعود (¬8) على ما في قوله: "على ما لا يستقل الحكم إلا به" (¬9). تقديره: وإن كان اللفظ لا يقتضي ذلك المحذوف وضعًا؛ أي: لم يوضع اللفظ لذلك المحذوف. واحترز بقوله: "وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعًا" من مفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، فإن اللفظ فيهما يقتضي ذلك المعنى بمفهومه، وأما دلالة الاقتضاء فإن المعنى هو الذي يقتضيها، ولا يقتضيها اللفظ لا بمنطوقه (¬10) ولا ¬
بمفهومه، بل المعنى فقط (¬1). ولأجل هذا قال جماعة من أهل الأصول في معنى دلالة الاقتضاء هي (¬2): دلالة اللفظ على ما يتوقف عليه (¬3) صدق المتكلم. قوله: [نحو قوله تعالى: {فَأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} تقديره: فضرب فانفلق، وقوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} إلى قوله تعالى (¬4): {قَالَ أَلَمْ نرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} تقديره: فأتياه] (¬5). مثال دلالة الاقتضاء: قوله تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} (¬6)، تقديره: فضرب موسى (¬7) البحر (¬8) فانفلق؛ لأن الانفلاق لا يحصل إلا بالضرب. ومثالها (¬9) أيضًا: قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬10) إلى قوله: {قَالَ أَلَمْ نرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} تقديره: فأتَيَاه فقالا له ¬
ذلك، قال (¬1) فرعون لموسى عليه السلام (¬2): {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}. ومثالها (¬3) قوله تعالى: {وَإِنِي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} (¬4) تقديره: فأرسلت رسولًا فلما جاء سليمان؛ لأن مجيء الرسول فرع عن إرسالها (¬5). [ومثالها أيضًا: قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (¬6) تقديره: فضرب (¬7) موسى (¬8) الحجر فانفجرت (¬9) منه اثنتا عشرة عينًا (¬10)] (¬11). [ومثالها (¬12) أيضًا: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (¬13) تقديره: ¬
فضرب موسى الحجر فانبجست (¬1)] (¬2). ومثالها (¬3) أيضًا: قوله تعالى: {وَمَن كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَه} (¬4) تقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر أي: فعليه صيام عدة من أيام أخر، فلا بد من هذا (¬5) الإضمار أيضًا؛ لأن وجوب (¬6) الصيام ثان عن الإفطار؛ إذ لا يجب الصوم بنفس المرض والسفر. ومثالها (¬7) أيضًا: قوله (¬8) تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفتُمْ} (¬9) تقديره: إذا حلفتم فحنثتم؛ لأن الكفارة إنما (¬10) تجب بعد الحنث لا قبله. ومثالها (¬11) أيضًا: قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬12)، تقديره: واسأل أهل القرية فلا بد من هذا الإضمار أيضًا ليصح الملفوظ به. ومثالها (¬13) أيضًا: قوله تعالى: {وَأشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكفرِهِمْ} (¬14) ¬
أي: حب العجل، فلا بد من هذا الإضمار أيضًا ليصح الملفوظ به. ومثالها (¬1) أيضًا: قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" (¬2)، فلا بد فيه من إضمار حكم يمكن نفيه ليصح صدق المتكلم؛ إذ لا يمكن حمل ¬
هذا الكلام على حقيقته؛ لأن رفع الخطأ والنسيان محال لتحقق وقوعهما في أمته عليه السلام؛ إذ رفع الواقع محال، فلا بد من إضمار ما يصح رفعه، وهو: العقاب مثلًا؛ أي: رفع عن أمتي عقاب الخطأ والنسيان. قوله: (فلحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء ...) إلى آخره، هذا المعنى الذي فسر به المؤلف ها هنا (¬1) لحن الخطاب، هو كما فسره به (¬2) ابن رشد في أول المقدمات؛ لأنه قال فيه (¬3): لحن الخطاب هو الضمير (¬4) الذي (¬5) لا يتم الكلام إلا به، نحو قوله تعالى: {فَمَن كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬6) معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر. وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬7) معناه: فحنثتم، وهو ¬
يجري مجرى النص عند الجميع. وكذلك فحوى الخطاب مثل (¬1) قوله تعالى: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} (¬2) يفهم منه المنع (¬3) من (¬4) الضرب، والشتم (¬5) وهو يجري مجرى النص عند (¬6) الجميع. انتهى نصه (¬7). قوله: (وقيل: هو فحوى الخطاب). ش: هذا هو القول الثاني: في (¬8) لحن الخطاب، وهو قول سيف الدين الآمدي (¬9). وجمال الدين ابن الحاجب (¬10) (¬11). وسمي مفهوم الموافقة: فحوى الخطاب، ولحن الخطاب. ¬
فقوله (¬1): (وقل: هو فحوى الخطاب) وهذا (¬2) الكلام معطوف على قوله أولًا: "فلحن الخطاب هو دلالة الاقتضاء". [وقيل: هو فحوى الخطاب] (¬3)، وحال (¬4) المؤلف بين المعطوف عليه والمعطوف بتفسير دلالة الاقتضاء وتمثيلها (¬5). و (¬6) قوله: (هو فحوى الخطاب) الضمير يعود على لحن الخطاب، تقديره: وقيل: لحن الخطاب هو: فحوى الخطاب، وفحوى الخطاب هو: مفهوم الموافقة، ومعنى فحوى الخطاب: مفهومه؛ لأنك تقول: فهمت من فحوى كلامك كذا، أي من (¬7) مفهوم كلامك (¬8). قوله: (والخلاف (¬9) لفظي). ش: يعني أن هذا الخلاف إنما هو في التسمية خاصة ولا يتعلق هذا الخلاف بالمعنى أصلًا، [وإنما الخلاف] (¬10) هل لحن الخطاب اسم لدلالة ¬
الاقتضاء؟ أو (¬1) هو اسم لفحوى الخطاب الذي هو مفهوم الموافقة؟ قوله: (قال (¬2) القاضي عبد الوهاب: واللغة تقتضي الاصطلاحين) يعني: أن اللغة تساعد كل واحد من القولين؛ لأن كل واحد من دلالة الاقتضاء، ومفهوم الموافقة فيه إفهام الشيء من غير تصريح؛ لأن لحن الخطاب معناه: إفهام الشيء من غير تصريح. قوله (¬3): (وقال (¬4) الباجي: هو دليل الخطاب). ش: هذا هو القول الثالث في لحن الخطاب، تقديره: وقال الباجي: لحن الخطاب هو دليل الخطاب الذي هو مفهوم (¬5) المخالفة. قال المؤلف في الشرح (¬6): [الذي وضعه على] (¬7) المحصول: لحن الخطاب هو (¬8) إفهام الشيء من غير تصريح فوضعه العلماء في الاصطلاح لنوع من ذلك، واختلف في ذلك النوع: فقيل: هو دلالة الاقتضاء، وقيل: هو مفهوم الموافقة، وقيل: هو مفهوم المخالفة، حكاه القاضي (¬9) عبد الوهاب، وأبو الوليد الباجي (¬10)؛ لأن الثلاثة ¬
فيها إشعار من غير تصريح فحسن فيها لفظ اللحن. انتهى نصه (¬1). وهذا (¬2) الذي نقله المؤلف في شرح المحصول موافق لما قاله في الأصل. واعترض المؤلف - رحمه الله - (¬3) في هذا الخلاف الذي ذكره في لحن الخطاب، وفي نسبة ما ذكر إلى القاضيين: القاضي (¬4) عبد الوهاب, والقاضي أبي الوليد الباجي. وبيان ذلك: أن المؤلف - رحمه الله- (¬5) ذكر في لحن الخطاب ثلاثة أقوال: قيل: هو دلالة الاقتضاء. وقيل: هو (¬6) مفهوم الموافقة. وقيل: هو (¬7) مفهوم المخالفة. وليس الأمر كذلك؛ لأن القاضيين المذكورين لم يذكرا الخلاف في لحن الخطاب، بل نصا على أن (¬8) لحن الخطاب هو: دلالة الاقتضاء خاصة، ولم يذكرا أنه يقال لمفهوم الموافقة، ولا لمفهوم المخالفة. نعم ذكر القاضي عبد الوهاب [الخلاف] (¬9) في تسمية دلالة الاقتضاء، ¬
هل تسمى لحن الخطاب؟ أو تسمى فحوى الخطاب؟ قولين، ذكر ذلك في كتاب الإفادة، ونصه: لحن الخطاب، قيل: هو دلالة الاقتضاء، وقيل: بل الذي (¬1) يطلق على دلالة الاقتضاء فحوى الخطاب؛ لأن اللغة تقتضي الاصطلاحين. انتهى نصه. وما نسبه (¬2) المؤلف إلى القاضي عبد الوهاب: وهم (¬3)؛ لأن قوله: وقال القاضي عبد الوهاب: واللغة تقتضي الاصطلاحين: [يقتضي أن القاضي ذكر ذلك في لحن الخطاب وليس الأمر كذلك] (¬4)، إنما ذكر القاضي عبد الوهاب ذلك في تسمية دلالة الاقتضاء، هل تسمى لحن الخطاب؟ أو تسمى فحوى الخطاب؟ وظاهر كلام المؤلف أن القاضي عبد الوهاب إنما ذكر ذلك في لحن الخطاب، هل هو دلالة الاقتضاء؟ أو هو مفهوم الموافقة؟؛ إذ مفهوم الموافقة هو المراد بفحوى الخطاب (¬5). وما نسبه المؤلف أيضًا إلى القاضي أبي الوليد الباجي [بقوله: "وقال الباجي: هو دليل الخطاب" وهم أيضًا] (¬6)؛ لأن الباجي لم يذكر في كتبه الثلاثة: "الفصول" (¬7)، و"الإشارة" (¬8)، و"المنهاج" في لحن الخطاب إلا دلالة ¬
الاقتضاء خاصة. وكذلك أبو القاسم الشيرازي (¬1) لم يذكر في "اللمع" في لحن الخطاب إِلا دلالة (¬2) الاقتضاء خاصة (¬3) [مثل ما ذكر الباجي، فكل واحد منهما نص على أن لحن الخطاب هو: دلالة الاقتضاء] (¬4) وأن فحوى الخطاب، وتنبيه الخطاب هما: مفهوم الموافقة، وأن دليل الخطاب هو: مفهوم المخالفة، وبالله حسن التوفيق. قوله: (وقال الباجي هو: دليل الخطاب، وهو: مفهوم المخالفة وهو: إِثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه). بيّن المؤلف ها هنا معنى دليل الخطاب (¬5)، وفسره بأنه: مفهوم المخالفة، ثم بيّن حقيقة مفهوم المخالفة، فقال (¬6): "وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به (¬7) ¬
للمسكوت عنه" يعني: أن معنى قولهم: مفهوم المخالفة: [أن يثبت للشيء المسكوت عنه نقيض الحكم الذي ثبت للشيء المنطوق به (¬1)؛ ولأجل ذلك سمي بمفهوم (¬2) المخالفة] (¬3)؛ إذ (¬4) حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به. وسيأتي بيان ذلك في تفصيل أقسامه العشرة مع حروف الكتاب إن شاء الله (¬5). قال المؤلف في الشرح: وقولي في (¬6) مفهوم المخالفة: إنه (¬7) إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه: احترازًا مما توهمه الشيخ ابن أبي زيد، وغيره من الاستدلال على وجوب الصلاة على أموات المسلمين بقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهم مَّاتَ أَبَدًا} (¬8)، فقالوا (¬9): مفهوم التحريم على المنافقين هو: الوجوب في حق المسلمين. وليس كما زعموا؛ فإن الوجوب هو: ضد التحريم لا نقيضه، والحاصل في (¬10) المفهوم هو (¬11): النقيض، وهو سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق، ¬
وهو عدم التحريم، وعدم التحريم أعم من الوجوب (¬1) فقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} مقتضاه: تحريم الصلاة على المنافقين، مفهومه: لا تحرم على المسلمين، وقولنا: لا تحرم [أعم من الوجوب والندب، والإباحة، فإن النقيض أعم من الضد؛ لأن عدم التحريم الذي هو النقيض] (¬2) أعم من الوجوب الذي هو الضد، والدال على الأعم غير دال على الأخص. هذا معنى كلام المؤلف في الشرح، وكذلك اللخمي (¬3)، والمازري، وابن العربي، وغيرهم نكثوا على ابن أبي (¬4) زيد في الاستدلال بالآية المذكورة على وجوب الصلاة على (¬5) المسلمين. فقالوا: قول ابن أبي زيد بوجوب الصلاة على المسلمين بتحريمها على المنافقين؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده، هذا الاستدلال بعيد؛ لأن النهي عن الشيء إنما يكون أمرًا بضده إذا (¬6) كان له ضد واحد، وأما إذا كان له أضداد فلا يكون أمرًا بضده على التعيين؛ لأن التحريم له أضداد، وهي (¬7): ¬
الوجوب، والندب، والإباحة، فلا يتعين الوجوب من غيره إلا بدليل آخر، كقوله عليه السلام: "صلوا على موتاكم" (¬1)، وقوله عليه السلام: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" (¬2). وقال ابن العربي في كتاب (¬3) القبس (¬4): استدل بعض علمائنا على وجوب الصلاة على الميت بتحريمها على الكفار؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده، قال (¬5): وهذا (¬6) لا يصح؛ لأن الصلاة على المنافقين ليست بضد للصلاة (¬7) على المؤمنين لا فعلًا ولا تركًا، ولو تفطن لهذا التحقيق لما سقط في ¬
هذه المهواة، وهذه عثرة وددت أن تمحى (¬1) من كتبنا، ولو بماء المقلة (¬2) (¬3). قال (¬4) أبو الطاهر بن بشير (¬5): تجب الصلاة على المسلمين بتحريمها على الكفار، كما قال ابن أبي زيد؛ لأن النهي [عن] (¬6) الشيء أمر بضده؛ لأن ضد النهي هو الأمر [فإن كان النهي مقتضيًا للتحريم؛ كان الأمر مقتضيًا لضده، وضد التحريم: الوجوب] (¬7)، وإن (¬8) كان النهي مقتضيًا للكراهية (¬9): كان الأمر مقتضيًا للندب، فالنهي في الآية المذكورة مقتضٍ (¬10) للتحريم (¬11)، ¬
فيكون ضده: الوجوب؛ لأن النهي على (¬1) التحريم، ضده الحقيقي (¬2): الأمر على الوجوب، فالنهي عن الشيء أمر بضده، فالضد (¬3) ها هنا منحصر في شيء واحد، وهو: الوجوب (¬4). وقال (¬5) بعض الأشياخ (¬6): تجب الصلاة علي المسلمين بتحريمها على الكفار كما قال ابن أبي زيد؛ لأن قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهم} (¬7) مفهومه: صل على كل (¬8) أحد من (¬9) المسلمين. [وقولنا (¬10): صل على المسلمين] (¬11) صيغة (¬12) أمر، والأمر ¬
محمول (¬1) على الوجوب كما قال المؤلف في باب الأوامر [في قوله] (¬2): وأما اللفظ (¬3) الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك (¬4)، وعند أصحابه للوجوب (¬5) (¬6). قوله: (وهو (¬7) عشرة أنواع: مفهوم العلة نحو: ما أسكر فهو (¬8) حرام). ش: هذا أول الأنواع، وهو مفهوم العلة، سمي بمفهوم العلة؛ لأنه (¬9) معلق بعلة، فقوله عليه السلام: "ما أسكر فهو حرام" (¬10) علق التحريم ¬
بالإسكار، مفهومه: أن ما لم يسكر فليس بحرام. و (¬1) قوله: [(ومفهوم الصفة نحو قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" (¬2)). ¬
وهذا هو النوع الثاني، وهو مفهوم الصفة سمي بمفهوم الصفة؛ لأنه (¬1) تعلق (¬2) بصفة، فقوله (¬3) عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة": علق وجوب الزكاة فيه بالسوم، مفهومه: أن غير السائمة وهي (¬4): المعلوفة لا تجب فيه الزكاة؛ لأن السائمة] (¬5) هي: الراعية، وهي التي ترعى؛ لأن السوم معناه: الرعي. ومثال مفهوم الصفة أيضًا: قوله عليه السلام: "الثيِّب أحق بنفسها" (¬6)، ¬
أي: المرأة الثيب أحق بنفسها. مفهوم التقييد (¬1) بالثيوبة: أن البكر (¬2) لا تكون أحق بنفسها. وقال التبريزي (¬3): إذا ذكر الصفة دون الموصوف سمي بمفهوم الصفة [كقوله عليه السلام: "الثيب أحق بنفسها"، وإذا ذكر الصفة مع الموصوف سمي بمفهوم التقيد بالصفة] (¬4) كقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة". وقال (¬5) أيضًا (¬6): مفهوم التقييد (¬7) بالصفة أقوى من مفهوم الصفة؛ لأن ¬
مفهوم التقييد قد تعين (¬1) بذكره، ومفهوم الصفة متردد بين موصوفات عديدة (¬2). وظاهر كلام المؤلف لا فرق بين المثالين؛ لأن التصريح بالموصوف وعدمه سواء؛ لأن الصفة تقيد (¬3) الموصوف (¬4) سواء صرح به أم لا. و (¬5) قوله: (والفرق بينهما: أن العلة في الثاني: الغنى، والسوم مكمل له، وفي الأول: العلة عين المذكور). ش: هذا جواب عن سؤال مقدر مستشعر (¬6) مدبر (¬7)، استشعر المؤلف - رحمه الله - قائلاً يقول له (¬8): ما الفرق بين النوعين حتى سميت أحدهما بالعلة وسميت الآخر بالصفة مع أن كل واحد منهما صفة؛ لأن الإسكار صفة والسوم صفة؟ فقال: الفرق بين النوعين: أن العلة في مفهوم الصفة هي الغنى لا ¬
السوم، والعلة في مفهوم العلة هي: الإسكار؛ وذلك أن الصفة أعم من العلة؛ لأن الصفة تارة تكون علة، وتارة تكون متممة للعلة، فإن الزكاة لم تجب في السائمة لكونها تسوم أي ترعى، ولو كان الأمر كذلك لوجبت الزكاة في الوحش وليس فليس، وانما وجبت (¬1) لنعمة الملك وهي في السوم أتم منها مع العلف (¬2)؛ لأن السوم يشعر بخفة المؤونة، ودرور (¬3) المنافع، واستمرار (¬4) صحة المواشي بهواء الصحاري. قوله: (ومفهوم الشرط نحو (¬5): من تطهر صحت صلاته). ش: هذا هو النوع الثالث وهو مفهوم الشرط، سمي بمفهوم الشرط؛ لأن الحكم فيه متعلق (¬6) بشرط. مثاله: من تطهر صحت صلاته، مفهومه: أن من (¬7) لم يتطهر لم (¬8) تصح صلاته. ومثاله (¬9) أيضًا: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} (¬10) مفهومه: أن غير الحوامل لا يجب الإنفاق عليهن. ¬
وقوله (¬1): (ومفهوم الاستثناء نحو: قام القوم إِلا زيدًا). ش: هذا هو النوع الرابع وهو مفهوم الاستثناء، [سمي بمفهوم الاستثناء] (¬2)؛ لأن الحكم فيه متعلق (¬3) بالاستثناء. مثاله: قولك: قام القوم إلا زيدًا مفهومه (¬4): أن زيدًا لم يقم. وقوله: "مفهوم (¬5) الاستثناء" يريد به الاستثناء من الإثبات نحو: قام القوم إلا زيدًا. وأما الاستثناء من النفي نحو: ما قام إلا زيد، فليس من مفهوم الاستثناء، وإنما هو من (¬6) مفهوم الحصر كما سيأتي في النوع السادس (¬7). وقوله (¬8): "ومفهوم الاستثناء" عد (¬9) هذا من المفهومات، إنما هو على قول الجمهور القائلين: بأن حرف الاستثناء قرينة تبين أن المراد بالكلام هو الباقي بعد الاستثناء. ¬
وأما على قول القاضي الباقلاني القائل (¬1): بأن مجموع المستثنى والمستثنى منه (¬2) موضوع بإزاء الباقي بعد الاستثناء: فليس هناك مفهوم المستثنى (¬3) [بل دل] (¬4) الكلام بمنطوقه على المستثنى (¬5) و (¬6) المستثنى منه. وقد تقدم تقرير [الدلالة في الاستثناء] (¬7) في الفصل الثامن في التخصيص وهو الفصل الذي قبل هذا الفصل (¬8). قال المؤلف في الشرح: وكون الاستثناء من باب المفهوم فيه (¬9) إشكال من جهة أن "إلا" (¬10) وضعت لإخراج المستثنى من المنطوق، فيلزم أن يكون حكم المستثنى مدلولاً عليه بالمطابقة فيسقط المفهوم (¬11). وبيان ذلك: أن (¬12) قولك مثلاً: قام القوم إلا زيدًا، يقتضي اتصاف زيد بعدم القيام؛ لأن "إلا" تقتضي إخراجه من القيام ودخوله في عدم القيام، فيكون مدلولاً عليه بالمطابقة، فلا مفهوم هناك إذًا؛ لأن المفهوم من دلالة ¬
الالتزام لا من دلالة المطابقة. وجوابه: أن إلا وضع للإخراج من حكم المنطوق به، ولم يوضع للدخول (¬1) بعد الإخراج، فدخول زيد في عدم القيام في قولك: قام القوم إلا زيدًا إنما هو بالعقل لا باللفظ، أي: دخول زيد في المثال المذكور في عدم القيام، إنما هو بدلالة العقل التي هي دلالة الالتزام، لا بدلالة اللفظ التي هي دلالة المطابقة، وإنما قلنا: بدخول زيد في عدم القيام؛ [إذ لا واسطة في هذا المثال بين النقيضين وهما القيام وعدمه؛ لأن العقل يقتضي أن من خرج من القيام دخل في عدم القيام] (¬2)؛ إذ لا واسطة بينهما، اللهم لو فرض العقل أن يكون هنالك قسم ثالث بين القيام وعدمه لما لزم الدخول في العدم؛ بل في ذلك [الثالث] (¬3) أو في العدم فلا يتعين الدخول في العدم. فيتبين (¬4) لك (¬5): أن الاتصاف بالعدم مستفاد من العقل لا من اللفظ، فالاتصاف بالعدم مدلول عليه [بالالتزام لا بالمطابقة، فإن المدلول عليه بالمطابقة هو الإخراج (¬6)، وأما الإدخال (¬7) في النقيض فهو مدلول عليه] (¬8) ¬
بالالتزام العقلي، و (¬1) هكذا القول (¬2) في مفهوم الغاية (¬3). قوله: (ومفهوم الغاية نحو: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}). ش: هذا هو النوع الخامس وهو مفهوم الغاية، وسمي بمفهوم الغاية؛ لأن الحكم فيه مقيد بالغاية والنهاية. مثاله: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬4) مفهومه أنه (¬5) لا يجب الصيام في الليل. ومثاله أيضًا: قوله تعالى (¬6): {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬7) مفهومه: أنها إذا نكحت زوجًا (¬8) غيره حلت له. انظر هذا (¬9) المثال [فإنه] (¬10) يقتضي أن المبتوتة (¬11) تحل بنفس نكاح زوج آخر وذلك خلاف الإجماع، بل لا تحل حتى يفارقها الناكح، بل لا تحل حتى تنقضي عدتها، بل لا تحل حتى يعقد عليها، فإذا كان الأمر كذلك بطل المفهوم ¬
في هذه الآية. وجوابه: أنها (¬1) تحل له من موانع الطلاق الثلاث، وبقي غير ذلك من الموانع الباقية. قوله: (ومفهوم الحصر نحو: قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء"). ش: هذا هو النوع السادس وهو مفهوم الحصر، سمي بمفهوم الحصر؛ لأن الحكم محصور فيه (¬2) في شيء دون غيره. مثاله: قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" أي: إنما يجب الغسل بالماء من وجود الماء الذي هو المني، مفهومه أن الغسل لا يجب من (¬3) غير الإنزال. و (¬4) قوله: (ومفهوم الحصر) عده المؤلف ها هنا من المفهومات، واستفصل فيه في الشرح، فذكر أن الراجح عنده في الحصر بإنما أو بالنفي قبلَ إلا أنه منطوق لا مفهوم، وذكر أن الراجح عنده في تقديم المعمولات وفي المبتدأ أو (¬5) الخبر أنه مفهوم لا منطوق، فذكر أن اثنين بالمنطوق واثنين (¬6) بالمفهوم (¬7). وسيأتي بيان ذلك (¬8) في فصل الحصر وهو الفصل العاشر (¬9) الذي يلي هذا ¬
الفصل. قوله: (ومفهوم الزمان نحو: سافرت يوم الجمعة). ش: هذا هو النوع السابع وهو مفهوم الزمان، سمي بمفهوم الزمان؛ لأن الحكم فيه معلق (¬1) بزمان. مثاله: سافرت يوم الجمعة، مفهومه أنه لم يسافر يوم الخميس ولا غيره؛ لأن سفره مقيد بزمان مخصوص استقر فيه. قوله: (ومفهوم المكان نحو: جلست أمام زيد). ش: هذا هو النوع الثامن وهو مفهوم المكان، سمي بمفهوم المكان؛ لأن الحكم فيه مقيد بمكان [مثاله: جلست أمام زيد، مفهومه أنه لم يجلس وراء زيد ولا يمينه ولا شماله؛ لأن جلوسه مقيد بمكان مخصوص] (¬2) واستقر فيه (¬3). قوله: (ومفهوم العدد نحو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}). ش: [هذا هو النوع التاسع، وهو مفهوم العدد، سمي بمفهوم العدد؛ لأن الحكم فيه مقيد بالعدد. مثاله: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬4) مفهومه: أنهم لا يجلدون أكثر من ثمانين جلدة (¬5)] (¬6). ¬
قوله: (ومفهوم اللقب وهو (¬1): تعليق الحكم على مجرد أسماء الذوات نحو: في الغنم الزكاة، وهو أضعفها). ش: هذا هو النوع العاشر وهو مفهوم اللقب، وسمي بمفهوم اللقب؛ لأن الحكم فيه مقيد باللقب، ومعنى اللقب: اسم علم واسم جنس (¬2). مثاله في اسم علم قولك: زيد قائم، مفهومه أن غير زيد لم يقم. ومثاله في اسم الجنس: قوله عليه السلام: "في الغنم الزكاة"، مفهومه: لا زكاة في غير الغنم، من الإبل، والبقر، وغير (¬3) ذلك من الأجناس. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر (¬4) بالتمر، والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء" (¬5) ¬
[مفهومه: لا ربا في غيرها من سائر الأجناس] (¬1). [ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ" (¬2) مفهومه: لا وضوء من مس الفرج والدبر] (¬3). ¬
[ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وترابها طهورًا" (¬1) مفهومه: لا يتيمم بالحجر] (¬2). وقوله (¬3): (وهو تعليق الحكم على مجرد أسماء الذوات). ش: أي تعليق الحكم على مفهوم الاسم الجامد، يعني: أن يعلق الحكم على الأسماء الجوامد التي لا اشتقاق فيها ولا مناسبة؛ لأن الاسم الجامد (¬4) ليس فيه رائحة التعليل، فإن أسماء الأعلام وأسماء الأجناس لا إشعار (¬5) لها ¬
بالعلية (¬1)؛ لعدم المناسبة فيها (¬2). وأما مفهوم الصفة، ومفهوم الشرط، ومفهوم الحصر، ونحوها: ففيها (¬3) رائحة التعليل (¬4)، فإذا أشعر المفهوم (¬5) بالتعليل فيلزم في المسكوت (¬6) عنه عدم [حكم] (¬7) المنطوق به لعدم علة الثبوت؛ إذ الأصل أن (¬8) عدم العلة، علة لعدم المعلول. وأما الأعلام، والأجناس: فلا يكون عدمها علة لشيء؛ إذ ليس فيها إشعار بالعلية (¬9). قوله: (وهو أضعفها) أي: هذا المفهوم الذي هو مفهوم اللقب أضعف (¬10) في الاحتجاج به (¬11) من سائر أنواع المفهومات؛ ولأجل ضعفه لم يقل (¬12) به إلا شذوذ. ¬
وهو قول (¬1): أبي بكر الدقاق (¬2) من الشافعية، وبعض الحنابلة (¬3). وقد أشار المؤلف إلى هذا في الباب الحادي عشر في دليل الخطاب فقال فيه: وحكى الإمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إلا الدقاق (¬4)، انتهى نصه. حجة المشهور: عدم إشعار اللقب (¬5) بالعلة لجموده. وحجة الشاذ: أن تخصيص المذكور بالحكم لا يكون إلا لفائدة وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، ولا فائدة إلا نفي الحكم عن غير المذكور (¬6). وأجيب عن هذا: بأن الفائدة قد تكون في الإخبار عن المذكور دون غيره؛ فلأجل ذلك خص بالذكر. فينبغي أن يتفطن لهذا المفهوم؛ لأنه وقع فيه كثير ممن لم يقل به، فإن الشافعي - رضي الله عنه - قد وقع فيه، مع إنه ممن لا يقول به؛ لأنه قال: لا يجوز التيمم بغير التراب. ¬
واستدل على ذلك بقوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وترابها طهورًا". قال (¬1): مفهوم التراب أن غير التراب لا يجوز التيمم به. وهذا الاستدلال لا يصح؛ لأنه مفهوم لقب؛ لأن التراب اسم جنس، فلا رائحة فيه (¬2) للعلية (¬3)، فوقع - رضي الله عنه - في مفهوم اللقب، وهو لا يقول به (¬4). قوله: (وتنبيه الخطاب هو (¬5) الموافقة عند القاضي عبد الوهاب، وكلاهما (¬6) فحوى الخطاب عند الباجي، فيترادف تنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة وفحواه لمعنى واحد (¬7)). ش: تكلم [المؤلف] (¬8) ها هنا على بيان مفهوم (¬9) الموافقة وذكر أن القاضي عبد الوهاب نص على أن تنبيه الخطاب هو مفهوم الموافقة [وأن الباجي نص على أن تنبيه الخطاب، ومفهوم الموافقة معناهما فحوى الخطاب، ¬
فتبين بذلك أن هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة على معنى واحد. قوله: وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه] (¬1) [بطريق الأولى. هذا بيان مفهوم الموافقة المذكور] (¬2) [وهو: أن يثبت الحكم الذي ثبت للمنطوق (¬3) بعينه للمسكوت عنه] (¬4)، وسمي هذا المعنى بمفهوم الموافقة؛ لأن حكم (¬5) المسكوت عنه موافق لحكم المنطوق به. وسمي بتنبيه (¬6) الخطاب؛ لأن المنطوق به قد (¬7) نبه على حكم المسكوت عنه؛ لأن فيه التنبيه، إما (¬8) بالأدنى على الأعلى، أو بالأعلى على الأدنى كما سيأتي في أمثلته. وسمي بفحوى (¬9) الخطاب؛ لأن فحوى الخطاب (¬10) معناه: ما يفهم من الكلام على سبيل القطع؛ [لأنك تقول: فهمت من فحوى كلامك كذا، إذا فهمت منه على سبيل القطع] (¬11). ¬
[قوله: (كما ترادف (¬1) مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه). ش: ذكر في هذه الجملة أن هذه الألفاظ أيضًا مترادفة] (¬2). واعترض المؤلف في الشرح قوله ها هنا: (وتنبيهه). قال في الشرح: قولي: "وتنبيهه" صوابه تركه والاقتصار على الأولين؛ لأنه لم يتقدم له ذكر في مفهوم المخالفة. انتهى نصه (¬3). قال بعض الشراح: قوله: "وتنبيهه" ابتداء كلام (¬4)، وليس (¬5) بمعطوف على ما قبله كما تخيل للمؤلف رحمه الله (¬6). فقوله (¬7): "كما ترادف (¬8) مفهوم المخالفة، ودليل الخطاب" هذا (¬9) محل الوقف. [وقوله] (¬10): وتنبيهه، ومفهوم الموافقة، ابتداء كلام آخر خبره فيما بعده، فكلام المؤلف مستقيم. ¬
والدليل على هذا التأويل: أن (¬1) تنبيه الخطاب هو مفهوم الموافقة باتفاق. قوله: (ومفهوم الموافقة نوعان: أحدهما: إِثباته في الأكثر نحو: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬2)؛ فإِنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى. وثانيهما: إِثباته في الأقل نحو: قوله تعالى (¬3): {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (¬4)؛ فإِنه يقتضي ثبوت الأمانة (¬5) في (¬6) الدرهم بطريق الأولى). ش: وإنما نوع إلى نوعين؛ لأن الدلالة فيه لا تخرج عن أحد التنبيهين؛ إما التنبيه بالأدنى على الأعلى، وإما التنبيه بالأعلى على الأدنى، كما قرره (¬7) المؤلف. مثال التنبيه بالأدنى على الأعلى: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، فإن تحريم التأفيف الذي هو أدنى مراتب العقوق يقتضي: تحريم (¬8) الضرب ¬
بطريق الأولى والأحرى (¬1)، والضمير في قوله: "إثباته" عائد على المفهوم. وقوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أي: لا تقل لهما كلمة ضجر؛ لأن أف هي: كلمة تستعمل في الضجر، وفيها ست (¬2) لغات: وهي الحركات الثلاث مع التنوين (¬3) والحركات الثلاث من غير تنوين، فهذه ست (¬4) لغات، واللغة السابعة هي: تشديد (¬5) الفاء المفتوحة مع الألف (¬6) الممالة بعدها. ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (¬7) أي: يرى جزاءه وثوابه. ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (¬8) فإذا كان لا يظلم بمقدار ذرة، فأولى وأحرى ألا يظلم بما فوق ذلك. ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬9)، وقوله تعالى (¬10): ¬
{وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا} (¬1)، وقوله تعالى (¬2): {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬3)، [وقوله (¬4): {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬5) أي: يرى جزاءه، وعقابه (¬6)، فإذا كان الإنسان يرى جزاء مقدار (¬7) حبة (¬8) فأولى وأحرى أن يرى جزاء ما فوق ذلك المقدار (¬9)] (¬10). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك} (¬11) فإذا كان لا يؤدي الدينار، فأولى وأحرى ألا يؤدي أكثر من ذلك (¬12)، هذا كله مثال التنبيه بالأدنى على الأعلى. [ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين ¬
يذكرها" (¬1) إذا كان يقضيها في النوم والنسيان مع سقوط الإثم فيها، فأولى وأحرى أن يقضيها في العمد لثبوت الإثم فيه] (¬2). ومثال التنبيه (¬3) بالأعلى على الأدنى: قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (¬4) فإذا كان يؤدي القنطار فأولى وأحرى أَن يؤدي الدينار والدرهم. ومثال ذلك من الكلام: قول السيد لعبده: لا تعط لزيد حبة، يقتضي (¬5) [أنه نهاه عن أن يعطي لزيد] (¬6) أكثر من الحبةَ بطريق الأولى، وكذلك إذا قال لعبده: لا تقل لزيد أف (¬7)، فإنه يقتضي تحريم شتمه، وضربه بأولى، وأحرى. ولكن اختلف الأصوليون في الدلالة على مفهوم الموافقة؛ هل هي لفظية أو عقلية؟ على قولين. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في الفصل الثالث من باب النسخ (¬8) ¬
في قول المؤلف فيه (¬1): ويجوز النسخ به وفافًا، لفظية كانت دلالته أو عقلية (¬2) على الخلاف (¬3)، وبالله حسن التوفيق (¬4). ... ¬
الفصل العاشر في الحصر
الفصل العاشر في الحصر شرع المؤلف في [هذا الفصل في بيان] (¬1) مفهوم الحصر (¬2)، وهو أحد أنواع مفهوم المخالفة؛ لأن المؤلف ذكر في الفصل المفروغ منه قبل هذا الفصل: أن أنواع مفهوم المخالفة عشرة، وذكر من جملتها مفهوم الحصر، فذكره في الفصل المفروغ منه على طريق التجميل، وذكره في هذا الفصل على طريق التفصيل؛ لأنه (¬3) يحتاج إلى فصل ينفرد به. قوله: (الفصل العاشر في الحصر) (¬4) تقديره (¬5): الفصل العاشر مفروض في بيان مفهوم الحصر، يقال: الحصر، والقصر، ومعناهما واحد وهو المنع (¬6). ذكر المؤلف في هذا الفصل ثلاثة مطالب: ¬
الأول: في حقيقة الحصر. الثاني (¬1): في أدواته. الثالث (¬2): في أقسامه. أما المطلب الأول: وهو حقيقته فهو: قوله: (وهو: إِثبات نقيض حكم (¬3) المنطوق به (¬4) للمسكوت عنه، بصيغة إِنما ونحوها). وقد (¬5) تقدم لنا معنى قوله: (إِثبات (¬6) نقيض (¬7) حكم المنطوق به، للمسكوت عنه) في الفصل الذي فرغ منه. وقوله: (إِثبات نقيض) أخرج به مفهوم الموافقة؛ لأنه إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى. وقوله: (بصيغة إِنما ونحوها) هو (¬8) فصل أخرج به المؤلف جميع التسعة الأنواع المذكورة في مفهوم المخالفة، وبقي العاشر منها (¬9) وهو مفهوم ¬
الحصر. وقوله: "بصيغة إنما ونحوها" [أي: بكلمة إنما ونحوها] (¬1) مما (¬2) يفيد الحصر كما سيأتي (¬3). واعترض قوله: "وهو (¬4): إثبات نقيض حكم االمنطوق به" (¬5) بأن قيل: هذا حد لمفهوم الحصر، وليس بحد للحصر، والمؤلف إنما ترجم في الفصل للحصو لا لمفهومه. أجيب (¬6) عنه: بأن في الترجمة حذف مضاف تقديره: الفصل العاشر في مفهوم الحصر، وهو: إثبات نقيض (¬7) حكم المنطوق به، للمسكوت (¬8) عنه. واعترض المؤلف قوله: "لصيغة إنما ونحوها": بأن هذا تعريف بالمجهول؛ لأن الجاهل بالحصر كيف يعلم ما يفيده (¬9). أجاب عنه المؤلف: بأن ذكره لأدوات الحصر المذكورة بعد هذا يزيل هذا الإجمال؛ لأنه قال: وأدواته أربعة (¬10). ¬
واعترض هذا الحد أيضًا بأن قيل: فيه تعريف [بما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود؛ وذلك أن تصور الأدوات ثان عن تصور ما هي له أدوات (¬1)، فهو تعريف] (¬2) دوري. وأجيب (¬3) عنه: بأن الأدوات مفيدة لما هي له أدوات (¬4)؛ لأن المفيد قبل المفاد. وقوله: (وأدواته أربعة: إِنما (¬5)، نحو: "إنما الماء من الماء"). ش: هذا هو المطلب الثاني: وهو أدوات الحصر فذكر أنها (¬6) أربعة أشياء: أحدها: لفظة إنما، نحو قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء" مقتضاه حصر وجوب الغسل في وجود الإنزال. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" (¬7) حصر قبول ¬
الأعمال بالنية (¬1). ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬2) حصر الولاء في المعتق. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "إنما الشفعة في المشاع" (¬3) حصر الأخذ بالشفعة في المشاع دون المقسوم. ¬
ومثاله أيضًا: قولك (¬1): إنما زيد قائم، وغير ذلك. وقوله (¬2): (إِنما) اختلف الأصوليون، هل تفيد الحصر، أو لا تفيده؟ على ثلاثة أقوال: قيل: لا تفيده. وقيل: تفيده بالمنطوق، وهو قول الجمهور. وقيل: تفيده بالمفهوم. حجة القول بعدم إفادتها (¬3) للحصر (¬4) وهو قول الحنفية، وغيرهم ممن أنكر دليل الخطاب أن قولك: إنما زيد قائم، مع قولك: إن زيدًا قائم: لا فرق بينهما في المعنى إلا زيادة لفظة "ما" وهي: كالعدم بالنسبة إلى إفادة الحصر، ولا معنى لها إلا التأكيد (¬5) في إثبات القيام (¬6). وأجيب عن هذا: بمنع اتحاد المعنيين؛ لأن علماء العربية فرقوا بين المعنيين فقالوا: إنما زيد قائم، إخبار عن قيام زيد مع اختصاصه بالقيام، بخلاف قولك (¬7): إن زيدًا قائم؛ لأنه لا يقتضي الاختصاص. وحجة القول بأنه يفيد الحصر بمنطوقه: أن معنى قولك: إنما إلهكم الله، ¬
مع قول: ما إلهكم إلا الله [معنى واحد؛ فإن الكلام الثاني الذي هو قولك: ما إلهكم إلا الله] (¬1) يفيد الحصر بمنطوقه، فكذلك الكلام الأول وهو قولك: إنما إلهكم الله. وحجة (¬2) الثاني أيضًا (¬3): أنه (¬4) يفيد الحصر بمنطوقه: أن أئمة النحاة نصوا على أن (¬5) "إنما" للإثبات والنفي؛ وذلك أنّ "إنّ" لإثبات الحكم للمنطوق (¬6) به و"ما" لنفي الحكم عن المسكوت عنه؛ لأن أصل "إنّ" قبل تركيبها (¬7) مع "ما" أن تقتضي الإثبات، وأصل "ما" قبل التركيب أن تقتضي النفي، والأصل عند التركيب عدم التغيير، فتبقيان (¬8) في التركيب على حالهما في الإفراد؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، فمقتضى ذلك: أن "إنما" مفيدة للحصر بمنطوقها لا بمفهومها. وحجة القول الثالث (¬9): بأنه (¬10) يفيد الحصر بمفهومه: أن "إن" و"ما" ¬
حرفا تأكيد (¬1)، وهو: تأكيد على تأكيد فذلك (¬2) يقتضي: أن يتضمن (¬3) الكلام معنى الحصر بمفهومه. وسبب الخلاف في كونها هل (¬4) تفيد الحصر بالمنطوق (¬5)، أو بالمفهوم هو (¬6): اختلافهم (¬7) في "ما" مع "إنّ"، هل هي نافية؟ قاله أبو علي (¬8) في المسائل (¬9) الشيرازية (¬10)، أو هي زائدة، قاله غيره. ¬
قوله: (وتقدُّم النفي قبل "إِلا"، نحو: قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة إلا (¬1) بطهور"). ش: هذا هو ثاني الأدوات، وهو تقدم النفي قبل إلا. مثاله: قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور" (¬2). قال المؤلف في الشرح: وقولي تقدم النفي قبل إلا: يعم جميع أنواع النفي نحو: ما قام إلا زيد، ولم يقم إلا زيد، وليس يقوم إلا زيد، ولما يقم إلا زيد، وكيفما (¬3) تقلب النفي (¬4). وقوله: (لا يقبل الله صلاة إِلا بطهور) هو حصر المفعول في (¬5) المجرور. ومثاله أيضًا: ما اخترت رفيقًا إلا منكم. ¬
ومثال عكسه: وهو حصر المجرور في المفعول: ما اخترت (¬1) منكم إلا رفيقًا. ومثال حصر الفاعل في (¬2) المفعول: ما ضرب زيدٌ إلا عمرًا. [ومثال حصر المفعول في الفاعل: ما ضرب عمرًا إلا زيدٌ بتأخير المحصور فيه، وقد يتقدم (¬3) نحو: ما ضرب إلا زيدٌ عمرًا] (¬4) وهو قليل. ومثال حصر ذي الحال في الحال: ما جاء زيدٌ إلا راكبًا، ومثال حصر الحال في ذي الحال: ما جاء (¬5) راكبًا إلا زيدٌ. قوله: (والمبتدأ مع الخبر نحو: قوله عليه السلام (¬6): "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم (¬7) " (¬8) فالتحريم محصور في التكبير، والتحليل محصور في ¬
التسليم، وكذلك (¬1): "ذكاة الجنين ذكاة أمه" (¬2)). ش: هذا هو ثالث الأدوات، وهو حصر المبتدأ في الخبر، [والمراد بالمبتدأ ها هنا: المبتدأ المجرد من إنما. وتقدم النفي قبل "إلا" يدل على تمثيله، وأما المبتدأ إذا تقدم عليه "إنما" نحو: إنما زيدٌ قائم، والمبتدأ إذا تقدم فيه النفي قبل "إلا" نحو: ما زيدٌ إلا قائم، فقد تقدم الكلام عليه. ومثال حصر المبتدأ في الخبر] (¬3): قوله (¬4) عليه السلام: "تحريمها ¬
التكبير" حصر الدخول في حرمة الصلاة في التكبير، ولا (¬1) يدخل في حرمتها بغير التكبير (¬2). وقوله عليه السلام: "تحليلها التسليم" هذا مثال آخر حصر (¬3) أيضًا الخروج من حرمة الصلاة إلى حلها في التسليم، ولا يخرج من حرمتها إلا بالتسليم. قال المؤلف في الشرح: المبتدأ يكون محصورًا في الخبر مطلقًا كان الخبر معرفة، أو نكرة، وعلى كل تقدير يفيد الحصر (¬4). مثال التنكير (¬5): زيدٌ قائم. ومثال التعريف: زيدٌ القائم [وعلى كل تقدير يفيد الحصر] (¬6)، إلا أن حصره (¬7) يختلف، فإذا كان الخبر نكرة: فإن الحصر يقع في الخبر فيمتنع النقيض (¬8) والضد، ولا يمتنع الخلاف. وإذا كان الخبر معرفة: فيقع الحصر في الخبر فيمتنع الجميع: النقيض، والضد، والخلاف. ¬
فإذا قلت: ريدٌ قائم امتنع نقيض القيام، وهو عدم القيام، وامتنع ضده أيضًا كالجلوس أو الاضطجاع، أو الركوع، أو السجود، ولا يمتنع الخلاف نحو: كونه فقيهًا أو شجاعًا (¬1) أو سخيًا؛ لأن هذه الأمور لا تناقض القيام ولا تضاده. وإذا قلت: زيدٌ القائم، امتنع النقيض، والضد، والخلاف؛ لأن الصيغة التعريفية تقتضي بوضعها ألا يتصف إلا بتلك الصفة خاصة، فإن وقعت له صفة غير هذه الصفة فذلك تخصيص لعموم الحصر. فإذا علمت (¬2) هذا تبين لك أن قوله عليه السلام: "تحريمها التكبير" يقتضي أن المصلي لا يدخل في حرمة الصلاة إلا بالتكبير دون غيرها من النقائض، والأضداد، والخلافات من جميع (¬3) الأمور المتوهمة؛ لأن الخبر ها هنا معرفة. وهكذا قوله عليه السلام: "تحليلها التسليم" يقتضي أنه لا يخرج من حرمة الصلاة إلا بالتسليم دون جميع الأمور المتوهمة (¬4). قال المؤلف في الشرح: وإنما قلنا: إن المبتدأ المحصور (¬5) في الخبر مطلقًا؛ ¬
لأن المبتدأ يجب (¬1) أن يكون أخص من الخبر أو مساويًا له (¬2)، ولا يجوز أن يكون (¬3) أعم منه (¬4). فلا يجوز أن تقول: الحيوان إنسان، ولا الزوج (¬5) عشرة، بل تقول: الإنسان حيوان، والعشرة زوج؛ فحينئذ يصدق الكلام، والعرب لم تضع الكذب، ولم تضع إلا الصدق فيجب أن يكون المساوي محصورًا في مساويه، والأخص محصورًا في أعمه، وإلا لم يكن أخص ولا مساويًا. فهذا برهان على ثبوت الحصر مطلقًا كيف كان المبتدأ (¬6) أو خبره (¬7) فلا بد (¬8) إذًا أن يكون المبتدأ أخص من الخبر، أو (¬9) مساويًا له. مثال الأخص: الإنسان حيوان. ومثال المساوي: الإنسان ناطق أو ضاحك. فإن (¬10) كان المبتدأ أعم: كقولك: الحيوان إنسان، أو قولك: الإنسان ¬
أبيض، فلا يصح؛ لأنه (¬1) كذب، والعرب لا (¬2) تضع (¬3) الكذب. قوله: (وكذلك: ذكاة الجنين ذكاة أمه). ش: هذا مثال آخر لحصر المبتدأ في خبره. ومعنى قوله عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" أي: ذكاة الجنين محصورة في ذكاة أمه، أي: يستغنى بذكاة أمه عن ذكاته، فلا يحتاج إلى ذكاة ينفرد بها. وروي هذا الحديث بروايتين: رفع الذكاة الثانية، ونصبها. تمسك (¬4) المالكية (¬5) والشافعية (¬6) برواية الرفع، فمعناه عندهم: ذكاة الجنين هي بنفسها ذكاة أمه. وتمسك الحنفية برواية النصب فقالوا: لا يؤكل إلا بذكاة نفسه (¬7)، فمعنى الحديث عندهم: أن يذكى الجنين كما تذكى أمه. فتقدير النصب عندهم: ذكاة الجنين أن (¬8) يذكى ذكاة مثل ذكاة أمه، ثم حذف المصدر وصفته (¬9) التي هي [مثل] (¬10) وأقيم المضاف ¬
إليه مقامها (¬1)، وأعرب (¬2) بإعرابها (¬3). وأجيب: بأن التقدير في رواية النصب: وذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه، ثم حذف الخبر الذي هو "داخلة" مع حرف الجر الذي هو "في" فانتصب لحذف (¬4) حرف (¬5) الجر. وهذا التقدير في النصب أولى من تقدير الحنفية لوجهين: أحدهما: كونه أقل حذفًا. والثاني: كونه فيه جمع بين الحديثين. والجمع بين (¬6) الحديثين أولى من اطراح أحدهما (¬7). واعلم أن العلماء اختلفوا في ذكاة الأم، هل تعمل في الجنين، أو لا تعمل (¬8) فيه؟ ¬
قال الشافعي: تعمل فيه مطلقًا (¬1). وقال الحنفي: لا تعمل فيه مطلقًا، فلا بد أن يذكى. وقال مالك: تعمل فيه بشرط تمام الخلقة، ونبات الشعر، ولا تعمل فيه إذا لم يتم خلقه، ولم ينبت شعره. وسبب الخلاف: هل الجنين (¬2) جزء من أمه مطلقًا؟ أو ليس بجزء من أمه مطلقًا؟ أو هو (¬3) جزء من أمه إذا تم خلقه ونبت شعره، وليس بجزء منها (¬4) إذا لم يحصل له (¬5) ذلك؟ من (¬6) جعله كالعضو من أعضائها قال: لا يذكى؛ لأن العضو الواحد لا يذكى مرتين. ومن جعله بهيمة أخرى قال: يذكى. ومن جعله كعضو من أعضائها إذا تم خلقه، ونبت شعره قال: لا يذكى، وإذا لم يتم خلقه، ولم ينبت شعره: فليس كعضو من أعضائها فيذكى. وهذا كله إذا خرج ميتًا بعد ذبح أمه (¬7)، وأما إذا خرج حيًا [بعد ذبح ¬
أمه] (¬1): فله حكم نفسه، وكذلك إذا خرج قبل ذبح أمه، فله حكم نفسه. وقال ابن العربي (¬2): والصحيح عندي أنه إن خرج حيًا ذكي، وإن خرج ميتًا لا يذكى؛ لأن ذكاته (¬3) لا تفيد شيئًا (¬4) (¬5). قوله (¬6): (وتقديم المعمولات نحو: قوله تعالى (¬7): {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬8)، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬9) أي: لا نعبد إِلا إِياك (¬10) ولا يعملون (¬11) إِلا بأمره). ش: هذا رابع الأدوات، وهو تقديم المعمولات على عاملها وهو مذهب الزمخشري (¬12) وجماعة. ¬
وذهب آخرون (¬1) إلى عدم (¬2) الحصر. ودليل كونه يفيد الحصر: قول العرب: "إياك أعني، واسمعي يا جارة" (¬3)؛ فإنه يقتضى أنه لا يعني غيرها. وما روي عن الأصمعي (¬4) أنه مر مع رفيقه ببعض أحياء العرب فشتمت ¬
امرأة رفيقه، ولم يعرفا أيهما شتمت، فالتفت إليها رفيقه (¬1)، فقالت له (¬2): إياك أعني. فقال للأصمعي (¬3): انظر كيف حصرت (¬4) الشتم فيّ (¬5). قوله: (وتقديم المعمولات) يريد: المعمولات التي يجوز تقديمها على عاملها، وأما المعمولات التي يجب تقديمها على عاملها، فلا يفيد تقديمها (¬6) الحصر، وذلك إذا تضمن المعمول ما له صدر الكلام نحو: أسماء الشرط (¬7)، وأسماء الاستفهام. مثال اسم الشرط: قولك: أي رجل يضرب زيدٌ اضربه (¬8). ومثال اسم الاستفهام قولك: أي رجل يضرب زيدًا يا هذا؟ وقوله (¬9): "نحو قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬10)، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ ¬
يَعْمَلُونَ} (¬1) " قدم (¬2) في المثال الأول: المفعول، وهو: إياك، وقدم في المثال الثاني المجرور، وهو (¬3): {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬4). قوله: "وتقديم المعمولات" يعني: أن الثاني هو المحصور في الأول، بخلاف الحصور الثلاثة المتقدمة؛ فإن الأول فيها هو المحصور في (¬5) الثاني. قوله: "وتقديم المعمولات" ورد عليه إشكال عظيم، وهو قوله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬6)، فيلزم على قاعدة الحصر: أن الله جل (¬7) وعلا عالم بالأعمال دون غيرها؛ وذلك باطل بإجماع. أجيب (¬8) عن هذا: بأن هذا المفهوم قد عارضه صريح، فيقدم الصريح عليه (¬9)، وهو قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬10)، وقوله تعالى: {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬11)، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (¬12)، [وقوله ¬
تعالى: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (¬1)] (¬2). قوله: "وتقديم المعمولات" هذا (¬3) تمام الأدوات الأربع. وزاد المؤلف في الشرح (¬4) خامسًا: وهو: حصر الخبر في المبتدأ؛ لأن المؤلف ذكر في الأصل حصر المبتدأ في الخبر، ولم يذكر فيه حصر الخبر في المبتدأ فذكره في الشرح، وذلك إذا كانت لام التعريف في الخبر. قال المؤلف في الشرح: زاد الإمام فخر الدين في كتاب (¬5) الإعجاز له (¬6)، لام التعريف في الخبر، وقال (¬7): هي تقتضي حصر الخبر في المبتدأ عكس الحصور كلها، فإن الأول هو الذي يحصر في الثاني، إلا هذا؛ فإن الثاني فيه يكون محصورًا في الأول. مثاله قولك: أبو بكر الصديق (¬8) الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: لا يكون غيره خليفة. ومثاله أيضًا: زيدٌ المحدث في هذه القضية، أي (¬9) لا يحدث فيها أحد ¬
غيره، وهو كثير. انتهى نصه (¬1). وقال بعض الشراح (¬2): انظر هذا الذي قال فخر الدين: إن أراد أن هذا مطرد في جميع الصور، فهو مخالف لما تقدم من حصر المبتدأ في الخبر، في قوله عليه السلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وإن أراد أن هذا مختص ببعض الصور فما ضابط ذلك؟ انتهى (¬3). وقال بعضهم: هذا الذي قال الإمام فخر الدين ظاهر غير خفي. وأصله: قول أرباب علم البيان أن معنى (¬4) خبر المبتدأ إذا كان نكرة مخالف لمعناه إذا كان معرفة. فإذا قلت: زيد منطلق: كان كلامك مع من لم يعرف انطلاقًا لا من زيد، ولا من غيره، ولم يعرف وقوع انطلاق أصلاً، فأنت تعرّفه ذلك. وإذا قلت: زيد المنطلق: كان (¬5) كلامك مع (¬6) من عرف وقوع الانطلاق، ولكن لم يعرف المنطلق، فأنت تعرفه أنه من زيد دون (¬7) غيره. ¬
ثم إذا أرادوا توكيد هذا الوقوع أدخلوا الضمير المسمى فصلاً، فقالوا: إن (¬1) زيدًا هو (¬2) المنطلق. قوله: (وهو ينقسم إِلى حصر الموصوفات في الصفات، نحو: إِنما زيد عالم، وإلى: حصر الصفات في الموصوفات نحو: إِنما العالم زيد) (¬3). ش: هذا هو المطلب الثالث، وهو أقسام الحصر، فقسمه المؤلف باعتبارين: إما باعتبار الموصوف والصفة، وإما باعتبار العموم والخصوص. فقوله: (وهو ينقسم إِلى: حصر الموصوفات) [في الصفات نحو: إِنما زيد عالم، وإِلى حصر الصفات في الموصوفات نحو: إِنما العالم زيد] (¬4). هذا تقسيم الحصر بجملته باعتبار الموصوف والصفة فذكر في هذا التقسيم قسمين: أحدهما: حصر الموصوف في الصفة (¬5). مثاله: إنما زيد عالم، أي: زيد محصور في هذه الصفة، وهي: اتصافه بالعلم إذا أريد أنه لا يتصف بغير تلك (¬6) الصفة، فلا يكاد يوجد لتعذر الإحاطة بصفات الشيء. ¬
ومثاله أيضًا: إنما زيد في الدار. والقسم الثاني: حصر الصفة في موصوفها. مثاله: إنما العالم زيد، أي: العلم محصور في زيد. ومثاله أيضًا قولك: إنما الشجاع علي. ومثاله أيضًا: إنما الكريم حاتم. ومثاله أيضًا: إنما الجميل يوسف، وقولك (¬1): إنما الفقيه مالك، وغير ذلك، وهو كثير. والفرق بين الحصرين المذكورين: أن (¬2) الموصوف في القسم الأول ليس له إلا تلك الصفة، ولا يمتنع أن يشاركه فيها غيره. وأما الموصوف في القسم الثاني فلا يمتنع أن يوصف بغير تلك الصفة, ويمتنع أن يشاركه فيها غيره (¬3). قوله: (وعلى التقديرين (¬4) فقد (¬5) يكون عامًا في المتعلق نحو ما تقدم، وقد يكون خاصًا، نحو: قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} (¬6) أي: باعتبار من ¬
لا يؤمن فإِن (¬1) حظه منه الإِنذار ليس إِلا، فهو محصور في إِنذاره، ولا وصف له غير الإِنذار باعتبار هذه الطائفة، وإِلا فهذه الصيغة تقتضي حصره في النذارة، فلا يوصف بالبشارة، ولا بالعلم، ولا بالشجاعة، ولا بصفة أخرى). ش: هذا تقسيم الحصر باعتبار عمومه، وخصوصه، ذكر المؤلف في هذا التقسيم قسمين أيضًا: أحدهما: عام. والآخر: خاص. وقوله: (عامًا) أي عامًا لجميع الطوائف. وقوله: (خاصًا) [أي: خاصًا] (¬2) ببعض الطوائف. قوله: (وعلى التقديرين) أراد بالتقديرين: القسمين المذكورين وهما: حصر الموصوف في الصفة، وحصر الصفة في الموصوف، تقدير الكلام: إذا (¬3) فرعنا على التقديرين: فقد يكون الحصر في التقديرين عامًا وقد يكون في التقديرين خاصًا. قوله: (فقد يكون عامًا في المتعلق) أي: قد يكون الحصر عامًا في ¬
متعلقه (¬1) نحو: ما تقدم الأمثلة المذكورة في الحصر، نحو: "إنما الماء من الماء" (¬2)، وقوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة بغير (¬3) طهور"، وقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وقوله عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬5). وإلى هذه الأمثلة المذكورة أشار المؤلف (¬6) بقوله: نحو ما تقدم؛ لأن هذه الأمثلة كلها تعم متعلقها ولا (¬7) تخصه. ويحتمل أن يكون قوله: (نحو ما تقدم) من الأمثلة في (¬8) حصر الموصوف في الصفة (¬9) وعكسه، وهو قوله: "إنما زيدٌ عالم، وإنما العالم زيد" تقديره على هذا: قد (¬10) يكون الحصر عامًا في تعلقه (¬11) بما (¬12) دخل عليه من ¬
موصوف أو صفة، وقد يكون خاصًا في تعلقه (¬1) بما دخل عليه من موصوف أو صفة. قوله: (وقد يكون خاصًا) أي: وقد يكون الحصر خاصًا ببعض ما تعلق (¬2) به، ولا يعم جميع متعلقه. مثاله: قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (¬3)؛ لأن هذه الآية االكريمة تقتضي حصره عليه السلام في صفة واحدة، وهي (¬4) الإنذار خاصة مع أنه عليه السلام موصوف بغير هذه الصفة من البشارة، والشجاعة، والعلم، والحلم، والصبر، والجود، والكرم، والزهد، والورع، وغير ذلك من سائر الأوصاف الجميلة. لكن نقول (¬5): هذا الحصر المذكور في هذه الآية خاص في تعلقه (¬6)؛ لأنه مخصوص بطائفة الكفار دون غيرهم، فحصره عليه السلام في الإنذار إنما ذلك باعتبار الكفار دون غيرهم، فإن حظ الكفار منه عليه السلام إنما هو الإنذار ليس إلا، ولا يوصف بغير الإنذار باعتبار الكفار لقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (¬7). ¬
قوله: (وإِلا فهذه الصفة (¬1) تقتضي حصره في النذارة فلا يوصف بالبشارة ولا بالعلم، ولا بالشجاعة، ولا بصفة أخرى) أي: وإن لم يحمل (¬2) الحصر (¬3) في (¬4) الآية المذكورة على الخصوص بالكفار، فيلزم من ذلك ألا يتصف النبي عليه السلام بالبشارة، ولا بالعلم، ولا بالشجاعة، ولا بالجود، ولا بالزهد، ولا بالعلم (¬5)، ولا بالصبر، ولا بغير ذلك من الأوصاف الجميلة، وذلك مخالف للإجماع، فوجب حمل الآية على الخصوص، وهو (¬6) المقصود. ومثال الحصر الخاص أيضًا: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (¬7). فحصر الله تبارك وتعالى الدنيا في اللعب واللهو، مع أنها مزرعة للآخرة (¬8)؛ إذ منها تكتسب جميع الخيرات، وكل (¬9) ما يكتسب في (¬10) الآخرة من المراتب الشريفة، والدرجات (¬11) الرفيعة فهو (¬12) من الحياة الدنيا ¬
فكيف تحصر في اللعب واللهو؟ لكن نقول: هذا الحصر مخصوص بمن آثر الدنيا على الآخرة؛ فإنها في حقه لعب، ولهو صرفًا؛ لأن تلك الفضائل لا ينال منها في الآخرة شيئًا (¬1). ومثال الحصر الخاص أيضًا: قوله عليه السلام: "إنما أنا بشر مثلكم وإنكم (¬2) تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه, فإنما (¬3) أقطع له قطعة من نار" (¬4). فقوله عليه السلام: "إنما أنا بشر مثلكم" يقتضي حصره عليه السلام في البشرية (¬5) دون غيرها من سائر الأوصاف الجميلة من النبوة والرسالة وغيرهما، مع أنه عليه السلام متصف بسائر الأوصاف الجميلة، فكيف يحصر عليه السلام في البشرية (¬6) دون غيرها؟ لكن نقول: هذا الحصر مخصوص بالاطلاع على بواطن (¬7) الخصوم، فلا صفة له عليه السلام باعتبار هذا المقام إلا البشرية، وأما غير ذلك من سائر الأوصاف الجميلة، فلا مدخل له (¬8) في الاطلاع على ¬
بواطن (¬1) الخصوم (¬2). وغير ذلك من أمثلة الحصر الخاص. قال المؤلف في الشرح: وقد ذكرت منها (¬3) جملاً كثيرة في كتاب: الاستغناء في أحكام الاستثناء (¬4). قوله: (ومن هذا الباب قولهم (¬5): زيد صديقي، وصديقي زيد، فالأول يقتضي حصر زيد في صداقتك فلا يصادق غيرك (¬6)، وأنت يجوز أن تصادق غيره، والثاني يقتضي حصر صداقتك (¬7) فيه (¬8) وهو غير منحصر (¬9) في صداقتك، بل يجوز أن يصادق غيرك على عكس الأول). ش: هذا بيان لحصر (¬10) الموصوف في صفته، وحصر الصفة في ¬
موصوفها. قوله: (ومن هذا الباب) أي: من باب حصر الموصوف في الصفة، وحصر الصفة في الموصوف. ومعنى الكلام: ومن أمثلة باب حصر الموصوف (¬1) في الصفة، وحصر الصفة في الموصوف قولهم (¬2): زيد صديقي، هذا مثال حصر الموصوف في صفته؛ لأنه (¬3) حصر زيد في صداقتك فلا يصادق غيرك، وأنت يجوز أن تصادق غيره؛ لأنك غير محصور في صداقته. وقوله: (صديقي (¬4) زيد) هذا مثال حصر الصفة في موصوفها؛ لأنه حُصِرتْ صداقتك في زيد فلا تصادق غيره، وهو يجوز أن يصادق غيرك؛ لأنه غير منحصر في صداقتك، على عكس الأول الذي هو حصر الموصوف في الصفة (¬5). ومن باب حصر الصفة [في الموصوف] (¬6): قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬7) يقتضي: حصر خشية الله تعالى (¬8) في العلماء ¬
فلا يخشاه (¬1) غيرهم، ويجوز أن يخشوا غيره تعالى (¬2) بمقتضى (¬3) دلالة هذا اللفظ. ولو عكس فقيل: إنما يخشى العلماء الله، بتقديم الفاعل لانعكس المعنى، فيقتضي أن العلماء محصورون في خشية الله تعالى (¬4) فلا يخشون غيره، ويجوز أن يخشاه غيرهم بمقتضى دلالة هذا اللفظ (¬5). فيكون على هذا التقدير من باب حصر الموصوف في الصفة على (¬6) عكس الآية. قال المؤلف في الشرح (¬7): ذكرت قسمين: حصر الموصوف في الصفة، وحصر الصفة في الموصوف، وبقي على ثالث، وهو حصر الصفة في الصفة نحو (¬8) قوله عليه السلام: "النزاهة (¬9) القناعه" (¬10) و"الدين ¬
الورع" (¬1) و"التدبير العيش" (¬2) و"البر حسن الخلق" (¬3) وهو كثير. انتهى ¬
نصه (¬1). قسم المؤلف - رحمه (¬2) الله -، الحصر في هذا الكتاب باعتبار الموصوف والصفة، وباعتبار العموم والخصوص، وذكر في شرحه تقسيمًا ثالثًا: باعتبار حصر الأول في الثاني، وعكسه. فقال: يكون الثاني محصورًا في الأول في شيئين، وهما: تقديم المعمولات، ودخول لام التعريف في الخبر كما (¬3) قاله الإمام فخر الدين، ويكون الأول محصورًا في الثاني فيما سوى ذلك (¬4). وبالله التوفيق (¬5). ... ¬
الفصل الحادي عشر: خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم
الفصل الحادي عشر: خمس (¬1) حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم (وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والشرط، وجزاؤه) (¬2). ش: تعرض المؤلف - رحمه الله -[في هذا الفصل] (¬3) لبيان الحقائق التي لا تتعلق إلا بالزمان المستقبل. قال المؤلف في الشرح: "وينبني عليها (¬4) فوائد كثيرة نبهت على بعضها في شرح المحصول (¬5) " (¬6). قال المؤلف في الشرح (¬7): صوابه: بالمعدوم المستقبل فقولنا: بالمعدوم احترازًا من الحال، وقولنا: بالمستقبل احترازًا من الماضي، ولو قلت: ¬
بالمستقبل لأجزأ، لكن (¬1) التصريح أحسن؛ لأنه (¬2) أنص (¬3) على اعتبار المعدوم في ذلك (¬4). [قوله (¬5): (وهي: الأمر، والنهي، والدعاء، والشرط، وجزاؤه)] (¬6) ووجه اختصاصها بالمستقبل: أما الأمر، والنهي، والدعاء؛ فلأن معناها طلب، وطلب الماضي محال، وكذلك الحاضر؛ لأنه (¬7) تحصيل الحاصل فتعين المستقبل. وأما الشرط، وجزاؤه؛ فلأن معناهما توقيف دخول أمر (¬8) في الوجود على دخول أمر آخر، والتوقيف في الوجود إنما يكون في المستقبل، فإذا قلت: أنت طالق إن دخلت الدار، فلا يمكن أن يكون الشرط دخلة مضت، ولا يمكن أن يكون المشروط طلقة مضت، بل دخلة مستأنفة (¬9) وطلقة مستقبلة (¬10). أما الأمر فمثاله: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬11) , وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ ¬
مُؤْمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} (¬2)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} (¬3)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ} (¬4)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} (¬5) وغير ذلك، وهو كثير. وسواء كان الأمر بصيغة الأمر كما تقدم، أو كان بصيغة المضارع؛ نحو: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ} (¬6)، لأن تقديره: ليرضعن أولادهن. وسواء كان مطلوبه حصول ما لم يحصل أو دوام ما حصل. فمثال حصول ما لم يحصل: جميع ما تقدم من الأمثلة. ومثال دوام ما حصل: قوله تعالى (¬7): {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (¬8). وسواء كان أمر إيجاب نحو ما تقدم (¬9) من الأمثلة، أو كان أمر ندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬10) وغير ذلك. ¬
وأما النهي فمثاله: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} (¬2)، وقوله تعالى (¬3): {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4)، وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (¬5) وغير ذلك وهو كثير. وسواء كان ذلك (¬6) نهي تحريم، أو كراهة (¬7). مثال التحريم: جميع ما تقدم من الأمثلة (¬8). ومثال الكراهة: قوله عليه السلام لعائشة (¬9): "لا تتوضئي بالماء المشمس" (¬10). ¬
وأما الدعاء فمثاله (¬1) قوله (¬2) تعالى: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (¬3)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (¬5)، وقوله تعالى (¬6): {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ ¬
مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1) وغير ذلك وهو كثير. وسواء كان بصيغة الأمر نحو ما تقدم، أوكان بصيغة النهي نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬2). أو كان بلفظ (¬3) الماضي، كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (¬4)، وكقولك (¬5): عفا الله عنا وغفر (¬6) لنا ولك (¬7) وغير ذلك. وأما الشرط وجزاؤه، وهما (¬8) جملتان مرتبطتان (¬9) تسمى الأولى منهما شرطًا، وتسمى الثانية جوابًا وجزاء. فقد يكون الشرط والجزاء بفعلين (¬10) مضارعين. وقد يكونان بماضيين (¬11). ¬
وقد يكون الشرط بماض (¬1)، ويكون (¬2) الجزاء بمضارع (¬3). وقد يكون الشرط بمضارع (¬4)، ويكون (¬5) الجزاء بماض (¬6) وهذا قليل في الكلام. مثال كونهما بمضارعين (¬7): قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬8)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬9)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬10) وغير ذلك وهو كثير. ومثال كونهما بماضيين (¬11) قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (¬12)، وقوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} (¬13)، [وقوله تعالى] (¬14): {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ ¬
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬1)، وغير ذلك. ومثال كون الشرط بالماضي والجزاء بالمضارع (¬2): قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (¬3)، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (¬4). ومنه قول زهير (¬5) في مدح هرم (¬6) بن سنان: ¬
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم (¬1) قوله: خليل معناه: ذو خلة، والخلة هي: الحاجة والفاقة (¬2)، يقال: اختل الرجل إذا افتقر، واحتاج. [وقوله: لا غائب: مبتدأ] (¬3). ¬
وقوله: مالي: فاعل سد مسد الخبر. وقوله: ولا حرم: أي لا ممنوع من العطاء. ومثال كون الشرط بالمضارع (¬1) والجزاء بالماضي (¬2) وهو القسم القليل في الكلام، وفي الشعر أيضًا قول الشاعر: من يكدني (¬3) بسيئ كنت منه ... كالشجا بين حلقه والوريد (¬4) والشجا: عظم (¬5) أو عود يعترض (¬6) في الحلق يقال: شجي يشجَى شجىً (¬7) إذا غص (¬8)؛ لأن الشجا معناه: الغصص وهو من ذوات الياء. ¬
وأما الشجو بالواو فمعناه (¬1): الحزن (¬2). فهذا (¬3) بيان الحقائق الخمس المذكورة. قال المؤلف في شرحه: وبعد وضع هذا الكتاب ألحقت بهذه الخمسة خمسة أخرى فصارت عشرة، وهي: الوعد، والوعيد، والتمني، والترجي، والإباحة (¬4). ووجه اختصاصها بالمستقبل: أما الوعد والوعيد فإنه (¬5) حث على مستقبل أو زجر عن (¬6) مستقبل، مما توقعت النفس من خير في الوعد، وشرفي الوعيد، والتوقع - وهو (¬7) انتظار الوقوع - لا يكون إلا (¬8) في المستقبل (¬9)، وكذلك التمني، والترجي؛ لأنه توقع المتمنى (¬10) والمترجى (¬11). وأما الإباحة؛ فلأنه تخيير بين الفعل والترك، والتخيير إنما يكون في المستقبل (¬12). ¬
أما الوعد، والوعيد فمثالهما: قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1)، فالآية الأولى مثال للوعد، والآية الثانية مثال للوعيد. وكذلك قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} (¬2) فالأولى مثال للوعيد (¬3)، والثانية مثال للوعد (¬4) على عكس الآيتين الأوليين. وكذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (¬5) فالأولى مثال للوعد، والثانية مثال للوعيد، وغير ذلك من الأمثلة الواردة في الوعد، والوعيد. والفرق بين الوعد، والوعيد: أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، فالوعد يستعمل في المحمودات، والوعيد يستعمل في المذمومات، يقال في اللغة: وعدته خيرًا، وواعدته شرًا. وقد ورد المعنيان في القرآن فمن الأول قوله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} (¬6). ومن الثاني: قوله (¬7) تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ ¬
الْمَصِيرُ} (¬1). أما (¬2) أوعدته بالهمزة (¬3) فلا يقال (¬4) إلا في الشر خاصة فتقول: أوعدته بالشر ولا تقول: أوعدته بالخير، ومنه قول الشاعر: أوعدني (¬5) بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم (¬6) ¬
وأنشد أبو عمرو بن العلاء: وإني (¬1) إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (¬2) وأما التمني فمثاله: قوله تعالى: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3)، وقوله تعالى: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (¬4)، وقوله تعالى: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} (¬5)، وغير ذلك. وأما (¬6) الترجي فمثاله: قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬7)، وقوله تعالى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬8)، وقوله تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} (¬9) وغير ذلك. والفرق بين التمني والترجي: ¬
أن التمني: يكون في الممكن وغير (¬1) الممكن. وأما الترجي: فلا يكون إلا في الممكن ولا يكون في غير الممكن. فإنك تقول في التمني: ليت هذا الجبل ذهب (¬2) [ولا تقول: أرجو أن يكون هذا الجبل ذهبًا؛ لأن ذلك محال عادة. وتقول في التمني: ليت زيدًا الميت حي] (¬3)، ولا تقول: أرجو أن يكون زيد الميت حيًا. وتقول في التمني: ليت الشباب يعود لي، ولا تقول: لعل الشباب يعود لي، وأرجو الشباب يعود لي. فإذا ثبت هذا علمت أن التمني يكون في الممكن، وفي غير الممكن، وأما الترجي فلا يكون إلا فيما يمكن وقوعه. وأما الإباحة فمثالها: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬4)، وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬5). ومثالها (¬6) أيضًا: قولك (¬7): جالس الحسن أو ابن (¬8) سيرين. ¬
وهذا تمام الخمسة التي زادها المؤلف في شرحه. وقال (¬1) بعض الشراح: وها هنا خمسة أخرى تزاد على العشرة المذكورة فتكون خمسة عشر، وهي (¬2): الندب، والكراهة، والعرض، والتحضيض، والاستفهام؛ لأن هذه الخمسة أيضًا مختصة (¬3) بالمستقبل، وكان حق المؤلف أن يذكرها كما ذكر العشرة المتقدمة (¬4). أجيب (¬5) عن هذا: بأن هذه الخمسة مندرجة في العشرة المتقدمة. وذلك أن الندب مندرج في الأمر؛ لأنهما (¬6) طلب فعل، وأن الكراهة مندرجة في النهي؛ لأنهما طلب ترك، وأن العرض والتحضيض مندرجان في التمني؛ لأنك إذا قلت: ألا فعلت، أو هلا فعلت فمعناه: ليتك فعلت، والاستفهام يغني عنه الأمر، والنهي، والدعاء؛ لأن الاستفهام مشارك لهذه الثلاثة في مطلق الطلب. قال المؤلف في القواعد: [يتخرج على] (¬7) هذا الفصل سؤال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على ¬
محمد، وعلى آل محمد كما باركت [على إبراهيم] (¬1) وعلى آل إبراهيم (¬2) في العالمين إنك حميد مجيد". فيقال: كيف وقع التشبيه يبن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة على إبراهيم عليه الصلاة (¬3) والسلام، مع أن الصلاة (¬4) من الله تعالى عطيته وإحسانه، وعطية الله تعالى (¬5) لرسوله (¬6) محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت أعظم من عطية الله لإبراهيم عليه السلام، والتشبيه يقتضي أن يكون المشبه أدنى رتبة من المشبه به أو مساويًا، فكيف وقع هذا التشبيه؟ فاختلفت الأجوبة في ذلك، وكلها ضعيفة. وأصحها: أن التشبيه وقع بين عطية تحصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن حصلت قبل الدعاء؛ لأن الدعاء إنما يتعلق بالمعدوم المستقبل (¬7): وحينئذ يكون الذي حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد (¬8) الدعاء يدخل (¬9) في التشبيه، ¬
وهو (¬1) الذي فضل به (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) إبراهيم عليه الصلاة (¬4) والسلام، فهما صلوات الله عليهما كرجلين أعطي لأحدهما ألف، والآخر ألفان، ثم طلب صاحب الألفين مثل ما أعطي لصاحب (¬5) الألف فيحصل له ثلاثة آلاف، وللآخر ألف فقط فاندفع الإشكال، وبالله التوفيق بمنه (¬6). وهذا الجواب الذي قرره في القواعد هو الحق؛ لأن الدعاء من الحقائق التي لا تتعلق إلا بالزمان المستقبل (¬7). و (¬8) أما قول بعضهم: سأل النبي عليه السلام هذا [قبل] (¬9) أن يعرف بشرف (¬10) منزلته. وقول بعضهم: إنما سأل لأهل بيته. وقول بعضهم: إنما سأل لأمته. وقول بعضهم: إنما قال هذا تأدبًا (¬11) منه عليه السلام. ¬
وقول بعضهم: هذا (¬1) تشبيه الأصل بالأصل، لا تشبيه القدر بالقدر. وقول بعضهم: إنما وقع التشبيه على آله (¬2) لا عليه، وغير ذلك. كل ذلك أجوبة ضعيفة، والله الموفق للصواب (¬3). ... ¬
الفصل الثاني عشر: [حكم العقل بأمر على أمر]
الفصل الثاني عشر: [حكم العقل بأمر على (¬1) أمر] (¬2) لما أراد المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬3) الشروع في بيان الحكم الشرعي نظر إلى أنه يحتاج إلى الدليل، والدليل (¬4) قد يفيد العلم، وقد يفيد الظن، وقد يعرض فيه شك، وقد يعرض فيه وهم، وقد يجهل الحكم الشرعي، وقد يتلقى (¬5) بالتقليد، فأراد أن يبين هذه الحقائق المذكورة وهي: العلم، والظن، والشك، والوهم، والجهل، والتقليد. وقسّم المؤلف العلم بالنسبة إلى مستنده [سبعة] (¬6) أقسام وهي: الضروري، [والنظري] (¬7)، والحسي، والتواتري، [والتجريبي] (¬8)، والحدسي، والوجداني. ¬
فجملة الحقائق المذكورة في هذا الفصل اثنا عشر نوعًا: سبعة في العلم، وخمسة في غيره (¬1). وأصل هذه الأنواع الاثني عشر ستة وهي: العلم، والظن، والشك، والوهم، والجهل، والتقليد، وهذه الستة الأصول على قسمين: جازم، ومتردد. فالجازم ثلاثة وهي: العلم، والجهل، والتقليد. والمتردد ثلاثة وهي (¬2): الظن، والشك، والوهم. وسيأتي بيان جميع هذه الأنواع الاثني عشر مع حروف الكتاب. قوله: (حكم العقل بأمر على أمر). ش: قوله: (حكم العقل) احترازًا من حكم الشرع، فإنه سيأتي في الفصل الذي يلي (¬3) هذا الفصل. وقوله: (العقل) اختلف أرباب العلم في العقل، هل يحد أو لا يحد؟ ¬
قيل (¬1): لا يحد، وقيل: يحد (¬2). فإذا قلنا: لا يحد: فقيل: لعسره؛ لأن العبارة المنقولة (¬3) لا تفي بالحقائق المعلومة. وقيل: إنما لا يحد؛ لأنه ضروري. وإذا قلنا: يحد؛ فاختلف في حده (¬4): فقيل: قوة طبيعية، يفصل بها بين حقائق المعلومات (¬5). وقيل: غريزة يتأتى بها درك العلوم (¬6) (¬7). وقيل: غريزة (¬8) يتوصل بها إلى إدراك العلوم (¬9). ¬
وقيل: جوهر بسيط يفصل به بين حقائق المعلومات (¬1) وهذا يفيد أن (¬2) العقل عرض وليس بجوهر؛ إذ لو كان جوهرًا لقام بنفسه (¬3). وقيل: [علم ضروري] (¬4) بوجوب الواجبات وجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، قاله (¬5) القاضي أبو بكر (¬6). وهو الأقرب؛ لأن الحكم العقلي لا يعدو ثلاثة أنواع: الوجوب، والجواز، والاستحالة. وقيل: العلوم الضرورية (¬7). وقيل: بعض العلوم الضرورية (¬8) وهذا البعض هو وجوب الواجبات، وجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات (¬9). ولا يصح تحديده بجميع العلوم الضرورية؛ لأن الوجدانيات (¬10) كالجوع ¬
والعطش واللذة والألم (¬1) يتصف بها من لا عقل له: كالأطفال، والمجانين، والبهائم (¬2). قوله: (حكم العقل) اختلف العلماء في محل العقل (¬3) على ثلاثة أقوال: قيل: محله القلب؛ لقوله (¬4) تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (¬5) [قاله مالك (¬6) وجمهور الفقهاء. ¬
ولقوله (¬1) تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬2). ولقوله (¬3) عليه السلام: "إن (¬4) في الجسد مضغة (¬5) إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب، ألا وهي القلب، ألا وهي القلب" (¬6) وذلك (¬7) يدل على أن محله القلب؛ لأن العقل هو أصل (¬8) الصلاح] (¬9). وقيل: محله الدماغ؛ لأنه يضرب الإنسان على دماغه، فيذهب عقله، ¬
قاله أبو حنيفة وجمهور الأطباء (¬1). وقيل: محله ما (¬2) بين القلب والدماغ. وأجيب عن ذهاب العقل بسبب ضرب الدماغ: أن الدماغ خادم للعقل، ومن شأن الرئيس أن يختل باختلال خادمه (¬3). قوله: (بأمر على أمر). ش: الأمر لفظ يقال على الأمر الذي ضد النهي؛ كقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4). ويقال على الفعل؛ كقولنا (¬5): كنا في أمر عظيم، إذا كنا في الصلاة. ويقال على الشيء؛ نحو قولنا (¬6): إئتني (¬7) بأمر ما، أي: بشيء ما. ويقال على (¬8) الشأن؛ نحو قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (¬9) معناه: وما شأننا في إيجادنا إلا ترتيب مقدورنا على ¬
قدرتنا وإرادتنا (¬1) من غير تأخير كلمح بالبصر. ويقال: الأمر (¬2) على الصفة؛ ومنه قول الشاعر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسوّد من يسوّد (¬3) أي: لصفة ما يسود من يسود. والمراد (¬4) في كلام المؤلف بالأمر: هو (¬5) الشيء، تقدير (¬6) كلامه (¬7): حكم ¬
العقل بشيء على شيء. فالأمر (¬1) الأول هو: الشيء المحكوم به إما إثبات، وإما نفي، مثالهما: زيد قائم، وزيد ليس بقائم، والمراد بالأمر الثاني هو: المحكوم عليه بإثبات أو نفي. قوله: (إِما غير جازم أو جازم) (¬2) أي: إما أن يكون ذلك الحكم مترددًا، وإما أن يكون (¬3) قاطعًا، فالجزم (¬4) لغة معناه: القطع. والمراد بغير الجازم: هو الحكم المتردد بين النفي والإثبات، أي المحتمل لهما. وإنما قدم المؤلف غير الجازم (¬5)، وأخر الجازم مع أن الجازم أشرف من المتردد؛ لأن الثبوت أشرف من النفي، فإنما فعل ذلك؛ لأن المتردد أقل أقسامًا من الجازم، وقد جرت العادة عند المصنفين بالبداية بقليل الأقسام ليتفرغ (¬6) العقل إلى كثير الأقسام. وقوله (¬7): (والاحتمالات إِما مستوية فهو الشك أو (¬8) بعضها راجح، ¬
فالراجح (¬1) هو: الظن، والمرجوح: وهم). ش: الألف واللام في الاحتمالات للعهد المتضمن (¬2) في قوله: غير جازم؛ لأن (¬3) معنى غير الجازم (¬4): هو المحتمل، وإنما جمع المؤلف الاحتمالات؛ لأن التردد (¬5) قد يكون بين أكثر من أمرين (¬6). وجعل المؤلف غير الجازم (¬7) وهو المتردد ثلاثة أقسام وهي: الشك، والظن، والوهم. فالشك معناه: المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء أي: من غير ترجيح أحد (¬8) الطرفين على الآخر (¬9). ومعنى الظن: هو الطرف الراجح من المتردد بين احتمالين فأكثر (¬10). ومعنى الوهم: هو الطرف المرجوح من المتردد بين احتمالين (¬11) فأكثر. ¬
فتبين بهذا (¬1) أن مسمى الشك مركب، ومسمى الظن والوهم بسيط. وإنما قدم المؤلف الشك على الظن مع أن الظن أقوى من الشك؛ لوجود الرجحان فيه، وعدم الرجحان في الشك فإنما فعل ذلك؛ لأن الشك قسم منفرد بنفسه (¬2)، وأما الظن، والوهم فهما مشتركان في عدم التسوية (¬3)؛ وإنما قدم الظن على الوهم؛ لأن الظن أقوى من الوهم لرجحانه. قوله: (إِما مستوية فهو (¬4) الشك). ش: مثاله: إذا رأى الإنسان الغيم في زمان الصيف وشك هل يكون منه مطر، أو لا؟ فهذا: شك، إذ ليس عنده ما يقوى به أحد الاحتمالين على الآخر. وكذلك إذا أخبرك مخبر غير ثقة بخبر، ولم تدر أهو (¬5) صادق أو كاذب؟ فهذا شك؛ إذ ليس عندك ما يقوى (¬6) به أحد الاحتمالين على الآخر. وإلى هذا أشار بقوله: إما مستوية فهو الشك. قوله: (أو بعضها راجح، فالراجح هو: الظن، والمرجوح: وهم). ش: جمع ها هنا حقيقتين: ¬
حقيقة الظن، وحقيقة الوهم. مثال ذلك: إذا رأى الإنسان الغيم التخيم (¬1) المتراكم (¬2) في زمان الشتاء، ولم يعلم هل يكون منه المطر أو لا؟ (¬3) ولكن احتمال كون المطر منه (¬4) أقوى وأرجح؛ إذ الزمان زمان المطر، مع تراكم الغيم، فنزول المطر منه هو: الظن، وعدم نزول المطر منه هو: الوهم. وكذلك إذا أخبرك رجل ثقة بخبر، ولم تعلم أهو صادق، أو كاذب؟ ولكن احتمال الصدق أقوى لثقته فصدقه هو: الظن، وكذبه هو: الوهم. وإلى هذين القسمين أشار المؤلف بقوله: "أو بعضها راجح" (¬5)؛ فالراجح هو: الظن، والمرجوح: وهم. واعترض كلام المؤلف ها هنا: بكونه جعل الشك والوهم من أقسام حكم العقل، مع أن الشك والوهم لا حكم فيهما أصلاً، فكيف يصدق عليهما حكم العقل، وشرط القسمة صدق المقسوم على الأقسام؟ ولا يصح ها هنا أن نقول (¬6): الشك، أو الوهم حكم؛ إذ لا حكم فيها (¬7). أجيب (¬8) عنه: بأن قيل: هذا جار على أحد القولين: في كون الشك ¬
والوهم حكمًا فلا يعارض مذهب بمذهب. قوله: (والجازم إِما (¬1) غير مطابق، وهو: الجهل المركب، أو مطابق). ش: فلما بين أقسام المتردد شرع هنا في أقسام الجازم، فذكر أن الحكم الجازم: إما أن يكون مطابقًا للواقع (¬2)، [وإما ألا يكون مطابقًا للواقع] (¬3). ومعنى الجازم: هو: الذي لا يحتمل النقيض عند الحاكم سواء احتمله في نفس الأمر، أو لا (¬4). قوله: (والجازم: إِما غير مطابق وهو: الجهل المركب) أي: إذا جزم العقل بالحكم على شيء، وقطع بذلك الحكم من غير تردد فيه، وكان ذلك الحكم المجزوم به مخالفًا لما في نفس الأمر، فذلك الحكم هو المسمى عندهم بالجهل المركب، ويقال له أيضًا: الاعتقاد الفاسد. مثال ذلك: اعتقاد أرباب البدع والأهواء، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وجهلوا (¬5) أنهم جهلوه؛ لأنهم إذا قيل لهم: هل أنتم جاهلون أو عالمون؟ قالوا: نحن عالمون لا جاهلون، فاجتمع لهم جهلان (¬6)؛ ولأجل هذا سمي بالجهل المركب؛ لأن جهلهم تركب من جهلين. ¬
ومثاله أيضًا: من اعتقد في رجل أنه صالح وهو في نفس (¬1) الأمر طالح (¬2)، أو اعتقد في رجل أنه طالح (¬3) وهو في نفس الأمر صالح، وكذلك كل من اعتقد شيئًا على خلاف ما هو عليه (¬4) فإن ذلك كله جهل مركب؛ لأنه جهل الحق في نفس الأمر، وجهل أنه جهله، ففيه جهلان. وقد يقع الجهل مركبًا من ثلاث جهالات، ومنه قول المتنبي رحمه الله: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل (¬5) وأورد على هذا الكلام: بأن ظاهره يقتضي: بأن الجهل المركب لا يكون إلا في التصديقات دون التصورات (¬6)، مع أنه قد يقع أيضًا في التصورات، ¬
نحو: تصور الحقائق على خلاف ما هي عليه، كتصور الإنسان بأنه الحيوان (¬1) فقط، وكتصور (¬2) الحيوان أنه (¬3) الإنسان فقط. أجيب (¬4) عنه: بأنه لم يتعرض إلا للتصديق؛ لأنه قال: حكم العقل بأمر على أمر، وذلك: تصديق لا تصور. قوله: (وهو الجهل المركب) [احترازًا من الجهل غير المركب وهو: الجهل البسيط. ومعنى البسيط: هو المفرد؛ أي: ليس فيه إلا جهل واحد] (¬5)؛ لأن الجهل المركب يقابله الجهل (¬6) البسيط. فالجهل على قسمين: مركب. وبسيط. فالمركب هو المذموم. وأما الجهل البسيط فليس بمذموم؛ إذ لا يعرى منه بشر. مثاله: جهل الإنسان بعدد شعرات رأسه، وكذلك جهله بعدد نجوم ¬
السماء، وكذلك جهله بعدد بني آدم وغير ذلك، فإن مثل هذا الجهل لا يخلو منه بشر، فإذا قيل لإنسان: هل تعلم عدد شعرات رأسك؟ فيقول: لا أعلم ذلك بل أجهله، وإذا قيل له: هل تعلم أنك جاهل بذلك أم لا؟ فيقول: أعلم أني جاهل بذلك، فجهله إذًا بسيط لا مركب (¬1). وإنما لم يذكر المؤلف الجهل البسيط؛ لأنه ليس من أحكام العقل، وهو أصل في الإنسان؛ لأنه متقدم في الوجود على العقل، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬2)؛ ولأجل هذا لم يندرج في التقسيم المذكور، ولم (¬3) يحتج إلى تحديد. قوله: (إِما غير مطابق وهو: الجهل المركب، أو مطابق) إنما قدم المؤلف غير المطابق وهو الاعتقاد الفاسد على المطابق وهو الاعتقاد الصحيح، مع أن المطابق أولى بالتقدم (¬4) لصحته، فإنما (¬5) فعل ذلك؛ لأن البداية بالقليل أولى من البداية بالكثير ليتفرغ العقل إلى تبيين الكثير. قوله: (أو مطابق وهو (¬6): إِما لغير موجب وهو: التقليد، أو لموجب). ش: قسم المؤلف ها هنا الحكم المطابق أي: الموافق للواقع على قسمين: أحدهما: المستند لموجب. ¬
والآخر: غير المستند لموجب. والمراد بالموجب هو: الدليل، فذكر أن الحكم المطابق لغير موجب يسمى بالتقليد (¬1). ومعنى التقليد عندهم: أخذ القول عن قائله بغير (¬2) دليل (¬3)، والتقليد مأخوذ من قولك: قلدته بالقلادة إذا جعلتها (¬4) في (¬5) عنقه. قال ابن العربي: و (¬6) معنى التقليد: قبول قول العالم من غير معرفة بدليله؛ ولذلك منع العلماء أن يقال: إنا (¬7) نقلد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬8)؛ لأنّا إنما قبلنا قوله بدليل (¬9) ظاهر مقطوع به، وهو: المعجزة (¬10) الدالة على صدقه. انتهى نصه. مثال التقليد: اعتقاد عوام المسلمين قواعد عقائدهم عن أئمتهم، فإنهم ¬
يعتقدون صحة ذلك بالجزم من غير تردد ولا يعلمون أدلة ذلك (¬1). قوله: (وهو إِما لغير موجب وهو: التقليد، أو لموجب) إنما قدم ما لا موجب له على ماله موجب، مع أن ماله موجب أولى بالتقديم لقوته، فإنما فعل ذلك؛ لأن ما لا موجب له قليل بالنسبة إلى ماله موجب؛ لكثرته بأقسامه، فقدم القليل ليتفرغ العقل إلى (¬2) الكثير. واعترض كلامه: بأن ظاهره يقتضي أن التقليد لا يكون إلا (¬3) مطابقًا؛ لأنه جعله من أقسام المطابقة، وليس الأمر كذلك؛ لأن التقليد على قسمين: مطابق، وغير مطابق. فمثال المطابق: كما (¬4) تقدم في اعتقاد عوام المسلمين. ومثال التقليد غير المطابق: اعتقاد عوام الكفار وأهل الضلال ما يتلقونه من أحبارهم (¬5) ورؤسائهم (¬6). أجيب (¬7) عن هذا: بأن التقليد غير (¬8) المطابق قد اندرج في الجهل المركب، وقد (¬9) تقدم. ¬
قوله: (أو لموجب وهو: إِما عقل (¬1) وحده، فإِن استغنى عن الكسب (¬2) فهو: البديهي، وإِلا فهو: النظري، أو (¬3) حسي وحده، وهو: المحسوسات الخمس، أو مركب منهما وهو: المتواترات، والتجريبيات، والحدسيات). ش: قسم المؤلف ها هنا موجب الحكم على ثلاثة [أقسام] (¬4) وهي: عقلي خاصة. وحسي خاصة. وعقلي وحسي معًا. أشار المؤلف إلى الدليل العقلي خاصة بقوله: (إِما عقل (¬5) وحده). وأشار إلى الدليل الحسي خاصة بقوله: (أو حسي (¬6) وحده). وأشار إلى الدليل المركب من العقل والحس بقوله: (أو مركب منهما) أي: مركب من دليل العقل ومن دليل الحس. ثم حصر المؤلف الدليل العقلي خاصة في قسمين وهما: الضروري، والنظري. ¬
وهو معنى قوله: (فإِن استغنى عن الكسب (¬1) فهو البديهي، وإِلا فهو النظري). قوله: (وهو: إِما عقل (¬2) وحده ... إِلى آخره). إنما قدم المؤلف العقلي والحسي على المركب منهما تقديمًا للأصل على الفرع؛ [لأن التركيب ثان للإفراد (¬3)، وإنما قدم الضروري على النظري تقديمًا للأصل على الفرع (¬4)] (¬5)؛ لأن ما لا يفتقر إلى نظر (¬6): أصل، وما يفتقر إلى نظر (¬7): فرع، وإنما قدم العقلي على الحسي؛ لأن العقل (¬8) يفيد العلم اتفاقًا. وأما الحواس: فقيل: تفيد العلم، قاله الأشعري. وقيل: لا تفيده، قاله: غيره (¬9). واختلف في الحواس أيضًا: هل هي كلها في درجة واحدة في ¬
الإدراك؟ وهو: المشهور. وقيل: السمع والبصر أقوى من غيرهما. واختلف أيضًا في السمع والبصر أيهما أقوى من الآخر؟ قوله: (فإِن استغنى عن الكسب (¬1)) معناه فإن استبد العقل في إفادة الحكم بنفسه عن الكسب، أي: عن النظر والفكر فهو البديهي، أي: فهو العلم البديهي، وهو: العلم الذي يحصل ببدهية العقل [أي بمجرد العقل] (¬2)؛ إذ لا يحتاج إلى نظر ولا فكر. مثاله: علم الإنسان بوجود نفسه، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد، وعلمه بأن المائة أكثر من العشرة، وعلمه بأن الألف أكثر من المائة، وكعلمه بأن النقيضين لا يجتمعان، كوجود شخص وعدمه في وقت واحد، وكعلمه بأن الشيء لا يكون متحركًا وساكنًا في وقت واحد، وكعلمه بأن الشيء لا يكون ثابتًا منفيًا في حالة واحدة (¬3)، وكعلمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديمًا وحادثًا في حالة واحدة، وغير ذلك من الأوليات التي يفيدها العقل بمجرده من غير استعانة بحس، فإن هذه القضايا تصادف مترسمة في العقل منذ وجوده، حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالمًا بها ولا يدرى متى حصلت له. فهذا النوع (¬4) الأولي يقال له: البديهي، والأولي، والفطري، ¬
والضروري، والغريزي، والجبلّي، والطبيعي، والخليقي، وغير الكسبي، وغير المطلوب. قوله: (وإِلا (¬1) فهو النظري) معناه: فإن لم يستبد العقل بمجرده في إفادة الحكم بل يحتاج إلى نظر وفكر، فهو العلم الذي يقال له: العلم النظري وهو العلم الذي يحصل بالنظر والاستدلال. مثاله: كالعلم [بحدوث] (¬2) العالم، وكالعلم بقدم الصانع، وكالعلم بأن الواحد سدس عشر الستين، وكالعلم بأن الواحد نصف عشر العشرين، وكالعلم بصدق الرسل عليهم السلام، وكالعلم بوجوب الصلاة وأعدادها، وكالعلم بوجوب الزكاة ونصبها، وغير ذلك من الأمور التي يحتاج العقل فيها إلى النظر والاستدلال، فهذا النوع النظري يقال له: الكسبي والمطلوب، وغير البديهي وغير الفطري، وغير الأولي، وغير الضروري وغير ذلك من أسمائه في الاصطلاح. قوله: (أو حسي (¬3) وحده وهو المحسوسات الخمس). هذا هو القسم الثاني من الأقسام الثلاثة وهو الدليل الحسي خاصة، فسره المؤلف بقوله: وهو: المحسوسات أي: هو ما يحصل بالمحسوسات، أي: ما يحصل بالحواس (¬4) الخمس وهي: حاسة الذوق، وحاسة الشم، وحاسة ¬
السمع، وحاسة البصر، وحاسة اللمس. وهذه الحواس الخمس: أربع (¬1) منها خاصة بالرأس وهي: الذوق، والشم، والسمع، والبصر، وواحدة عامة للرأس وغيره من الجسد وهي: اللمس، ولكن باطن الكف أقوى إدراكًا من غيره في اللمس (¬2). قوله: (وهو المحسوسات الخمس) معناه: وهو: العلم المستفاد من الحواس الخمس، كالعلم (¬3) بالحلاوة والمرارة بحاسة: الذوق، وكالعلم بالطيب والخبيث بحاسة الشم، وكالعلم بالأصوات الجهيرة، والخفية، بحاسة: السمع، وكالعلم بالألوان البياضية، والسوادية [وغيرها من الألوان] (¬4) بحاسة: البصر، وكالعلم بالليونة والحروشة بحاسة: اللمس، وغير ذلك من سائر العلوم المستفادة من الحواس. وهذا النوع هو المعبر عنه بالعلم المحسوسي (¬5)، ويقال له أيضًا: العلم الحسي. [قوله: (المحسوسات الخمس). قال بعضهم: هذا معنى قول العرب: ضربت أخماسي في أسداسي، أي: فكرت بحواسي الخمس في جهاتي (¬6) الست؛ لأن الجهات ست وهي: ¬
فوق، وتحت، وقدام، ووراء، ويمنة، ويسرة. وقد جمعها الحريري (¬1) في بيت واحد فقال: ثم الجهات الست فوق وورا (¬2) ... ويمنة وعكسها بلا مرا (¬3) فذكر ثلاث جهات وسكت عن أضدادها (¬4)؛ لأن الضد ينبه على ضده] (¬5). وقوله (¬6): (أو مركب منهما وهو: المتواترات (¬7)، والتجريبيات، والحدسيات). ش: شرع المؤلف ها هنا في القسم الثالث، وهو الدليل المركب من دليل العقل، ودليل الحس. وفسره المؤلف بثلاثة أشياء وهي: ¬
العلوم المتواترة (¬1). والعلوم التجريبية. والعلوم الحدسية. فمعنى المتواترات (¬2) هي: العلوم التي تحصل (¬3) بالأخبار المتواترة (¬4)، كالعلم بأحوال الأمم الماضية، والعلم بوجود البلاد النائية كبغداد ومكة، وكالعلم بشجاعة علي، وكالعلم بسخاء حاتم (¬5)، وكالعلم بجمال يوسف عليه السلام (¬6)، وكالعلم بصبر أيوب عليه السلام (¬7)، وغير ذلك من العلوم الحاصلة (¬8) بتواتر الأخبار. وقوله (¬9): (والتجريبيات) وهي: العلوم التي تحصل بالعادة وتكرر المشاهدات (¬10)، كعلمك بأن النار تحرق، وكعلمك بأن الطعام يشبع، وكعلمك بأن الماء يروي، وكعلمك بأن الخمر يسكر، [وكعلمك بأن ¬
السقريضاء (¬1) تسهل الصفراء] (¬2) (¬3)، وكعلمك بحلاوة العسل، وكعلمك بحموضة الليمون، ومرارة الحنظل، وغير ذلك من العلوم التي تحصل بالتجريب. وقوله (¬4): (والحدسيات). ش: وهي: العلوم التي تحصل بالحدس: أي: بالتخمين (¬5) والتحزير (¬6) وهو: الأخذ بالظن، كالعلم لجودة الفضة ورداءتها، وكالعلم بجودة الذهب ورداءته، وكالعلم بنضج الفاكهة وعدم نضجها (¬7) وكالعلم بشجاعة فلان وجبنه، وغير ذلك من العلوم التى تحصل بحدس وتخمين. وهذه الأنواع الثلاثة التي هي: المتواترات (¬8) والتجريبيات، والحدسيات، مشتركة في الحس والعقل. ¬
أما المتواترات (¬1) فبيان ذلك فيها: [أنه لا بد (¬2) فيها] (¬3) من سماع أخبار متواترة هذا حظ (¬4) الحس فيها، ثم بعد ذلك [إذا] (¬5) قال العقل: هؤلاء الجماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل العلم، فهذا (¬6) حظ (¬7) العقل فيها. وأما المجربات فبيان ذلك فيها: أن الليمون أو (¬8) الثمر مثلاً لا بد أن يباشر الحس ذلك أول مرة، فيجده (¬9) حلوًا أو حامضًا فيشك العقل في ذلك، فيقول: لعل هذا الفرد من هذا الجنس أصابه عارض أوجب له ذلك كما توجد المرارة في بعض أفراد الفقوس والخيار، مع كون الجنس في نفسه ليس كذلك، وهذا حظ الحس فيها، ثم بعد ذلك إذا كثر ذلك في أفراد عديدة وتكرر ذلك في أشخاص كثيرة من ذلك الجنس يقول العقل (¬10): كل ليمونة حامضة وكل ثمرة حلوة، فيحصل العلم بذلك وهذا حظ (¬11) العقل فيها. وأما الحدسيات فبيان ذلك فيها: أن الدرهم مثلاً يراه البصر أول مرة فلا ¬
يعرفه أهو رديء أم جيد (¬1) فهذا حظ (¬2) الحس فيها، ثم يقال (¬3) له: هو رديء فيتأمله، ويتكرر ذلك كثيرًا حتى يحصل عند العقل قرائن لا يمكن التعبير عنها، فيقول العقل لأجلها: كل ما كان من الدراهم هكذا فهو درهم رديء، فهذا حظ (¬4) العقل فيها. فالحاصل مما قررناه: أن الأصناف - أعني: المتواترات، والمجربات، والحدسيات - اشتركت في الحس والعقل، واشتركت أيضًا في أن (¬5) أول مرة يحصل الشك، وعند التكرار يحصل الظن، وعند طول التكرير (¬6) يحصل العلم. فإذا ظهر الاشتراك (¬7) بينها فالفرق (¬8) بينها (¬9) (¬10): أن المتواترات تختص بالأخبار، والحدسيات تحتاج إلى النظر حالة الحكم على الجزئيات (¬11)، ¬
والمجربات (¬1) لا تحتاج إلى النظر حالة الحكم على الجزئيات (¬2). فإذا قال لك قائل (¬3) مثلاً: معي درهم، هل هو جيد أو رديء؟ فلا بد أن تقول: حتى أنظر إليه؛ لأن هذا من الحدسيات. وإذا قال لك القائل: معي (¬4) ليمونة هل هي حامضة أم لا؟ فإنك تقول: هي حامضة، ولا تحتاج إلى النظر في الجزئيات (¬5)؛ لأن هذا من المجربات. قوله: (وهو: المتواترات والتجريبيات والحدسيات). هذه الأصناف الثلاثة رتبها المؤلف على حسب تفاوتها في الفائدة. فالمتواترات (¬6) أشرفها، ولذلك يترجح (¬7) للخبر (¬8) المتواتر (¬9) ولا يترجح (¬10) للمجربات (¬11) والحدسيات، وقدم المجربات على الحدسيات؛ لأنها أشرف من الحدسيات؛ لأن مدركاتها كليات (¬12) ومدركات الحدسيات جزئيات. ¬
قوله: (والوجدانيات أشبه بالمحسوسات فتندرج معها في الحكم (¬1)). ش: هذا هو النوع [السابع] (¬2) من الأنواع السبعة التي هي أقسام العلم وهو علم الوجدانيات (¬3). ومعنى الوجدانيات (¬4): هي: المشاهدات الباطنة التي يجدها الإنسان في نفسه وباطنه (¬5) ولا تحتاج إلى: عقل ولا حس، كالجوع، والعطش، واللذة، والألم، والفرح، والغضب، والنشاط (¬6)، والكسل، والصحة، والمرض، وكذلك (¬7) إذا علم الإنسان ذلك من غيره. وهذه المشاهدات الباطنة (¬8) [ليست] (¬9) من قبيل المحسوسات ولا من قبيل العقليات. وإنما قلنا: ليست من المحسوسات؛ لأنها يدركها من لا حواس له كالأصم الأعمى الذي سلب (¬10) ذوقه وشمه، فإنه يجد الجوع والعطش مثلاً ¬
في نفسه، وإنما قلنا أيضًا (¬1): ليست من العقليات؛ لأنها يدركها من لا عقل له كالبهيمة [والمجنون ومن لا عقل له من الصبيان. وها هنا تنبيه وهو: أن ظاهر كلام الأصوليين هنا أن البهائم لا عقل لها، لأثهم يقولون: علم الوجدانيات (¬2) تدركها (¬3) البهائم مع أنها لا عقل لها، وكذلك هو ظاهر كلام النحاة أيضًا؛ لأنهم يقولون: يشترط العقل في جمع (¬4) المذكر السالم احترازًا من غير العاقل كالبهائم، فظاهر كلام الأصوليين والنحويين أن البهائم لا عقل لها. وقال ابن العربي: لا خلاف عندي (¬5) أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول، وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير، ذكره في أحكام القرآن (¬6) في سورة النمل (¬7) فانظره] (¬8). قوله: (والوجدانيات أشبه بالمحسوسات). يعني: أن الوجدنيات (¬9) شبيهة بالمحسوسات، ووجه الشبه بينهما: أن كل واحد منهما لا يدرك إلا الجزئيات؛ لأن الحس لا يدرك إلا الجزئيات، ¬
وكذلك الوجداني لا يدرك إلا الجزئيات، [بخلاف العقل فإنه المدرك للكليات. وإنما قلنا: إن الحس لا يدرك إلا الجزئيات] (¬1)؛ لأن الإنسان لا يذوق كل طعام ولا يشم كل طيب، ولا يسمع كل صوت، ولا يبصر كل شيء، ولا يلمس (¬2) كل شيء، فمدركات الحس أبدًا جزئية، وكذلك الوجدانيات فإنها أمور جزئيات فإنه لا يقوم بالإنسان كل جوع، ولا كل عطش، ولا كل وجع مثلاً، بل يقوم به فرد واحد (¬3) من أفراد ذلك الجنس فمدركه جزئية (¬4) [كالحس] (¬5)، بخلاف العقل فإن مدركاته الكليات؛ لأن العقل هو الذي يقول مثلاً: كل ليمونة حامضة، وكل تمرة حلوة، وكل حنظلة مرة وغير ذلك، فلذلك ألحق العلماء الوجدانيات بالمحسوسات في الحكم دون العقليات، والوجدانيات (¬6) قبيل قائم بنفسه (¬7). قوله: (والوجدانيات أشبه بالمحسوسات). انظر لأي شيء أخر الوجدانيات؟ مع أن المصنفين يقدمونها على غيرها، فإن ترتيبها عندهم: الوجدانيات ثم الأوليات، ثم الحسيات، ثم المتواترات، ¬
ثم التجريبيات، ثم الحدسيات. وإنما (¬1) أخر المؤلف الوجدانيات؛ لأنها أجنبية عن مورد التقسيم؛ إذ لا حكم فيها للعقل ولا للحس [وإنما ذكرها تتميمًا للضروريات] (¬2). وقوله (¬3): (المحسوسات). اعترض (¬4) بعضهم (¬5) هذه العبارة بأن قال: هذا لحن؛ لأن الفعل المأخوذ من الحواس رباعي لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} (¬6) فاسم المفعول منه محس، فالجاري في جمعه على هذا محسات لا محسوسات. وأما حس الثلاثي فله ثلاثة (¬7) معان أخر (¬8): يقال: حسه: إذا قتله، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (¬9)، وحسه: إذا مسحه ومنه حس الفرس، وحسه: إذا ألقى عليه الحجارة المحماة لينضج، فاسم المفعول (¬10) من ¬
هذه الثلاثة محسوس، وفي الجمع محسوسات. أجيب عنه (¬1) بأن قيل: هذا لا يصح؛ لأنه يقال: أحسّ وحسّ رباعيًا وثلاثيًا بمعنى واحد. قال الزبيدي في المختصر: حسست من فلان خبرًا أو (¬2) أحسست (¬3). وقال في الأفعال: أحسست الشيء رأيته (¬4)، أو سمعت حركته وحسست به حسًا (¬5). وها هنا فرع [ذكره] (¬6) المؤلف في الشرح قال: اختلف العلماء في الحواس مع العقل: فقيل: الحواس بمنزلة [الحجاب] (¬7) للملك (¬8). وقيل: الحواس هي (¬9) بمنزلة الطاقات ينظر منها الملك. فعلى القول بأنها كالحجاب: فإن الحواس هي التي تدرك تلك (¬10) الأمور ¬
الجزئيات ثم تؤديها للملك فيحكم عليها ويقول: كل ما كان كذا فهو كذا. وعلى القول الآخر بأن الحواس كالطاقات (¬1): فإن العقل هو الذي يدرك تلك الأمور، فإن العقل على هذا كالأمير في بيت له خمس طاقات قبالة كل طاقة مشاهدة ليست قبالة الأخرى. ودليل القول بأن الحواس هي التي تدرك الأمور وتؤديها للعقل: [أن البهائم لا عقل لها، ومع ذلك تدرك الأمور بحواسها، فدل ذلك على أن الحواس مستقلة بالإدراك] (¬2) دون العقل. ودليل القول بأن العقل هو الذي يدرك وأن (¬3) الحواس بمنزلة الطاقات: أن الإنسان إذا نام وفتحت (¬4) عيناه فلا يدرك شيئًا حتى يستيقظ فيأتي شيء للبصر ولجميع الحواس، فحينئذ يحصل الإدراك (¬5) وبالله التوفيق (¬6). ... ¬
الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه
الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه ش: تعرض المؤلف [رحمه الله] (¬1) في هذا الفصل لبيان الحكم الشرعي (¬2) ولبيان أقسامه، وفي هذا الفصل أربعة مطالب: الأول: في بيان حقيقة الحكم الشرعي. والمطلب الثاني: في حصر أقسامه. والمطلب الثالث: في تفسير أقسامه. المطلب (¬3) الرابع: في التنبيه الذي ختم به الفصل. قوله: (الحكم الشرعي (¬4): وهو خطاب الله تعالى القديم (¬5) المتعلق ¬
بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو (¬1) التخيير) (¬2). ش: هذا هو المطلب الأول: وهو حقيقة الحكم في اصطلاح (¬3) المتشرعة، وهذا الحد ركبه المؤلف رحمه الله (¬4) من جنس وخمسة قيود: فالجنس: هو قوله: [خطاب الله تعالى] (¬5). والقيد الأول هو: قوله: "القديم". والقيد الثاني هو: قوله: "المتعلق". و (¬6) القيد الثالث هو قوله: "بأفعال" (¬7). والقيد الرابع هو قوله: "المكلفين". والقيد الخامس هو قوله: " (بالاقتضاء (¬8) أو التخيير". قوله: (خطاب الله تعالى) (¬9) أي: كلام الله تعالى (¬10)، فخطاب الله تعالى (¬11) ¬
هو كلام الله تعالى (¬1). وقوله: (القديم) احترازًا من كلام الله تعالى (¬2) الحادث (¬3) وهو: آيات القرآن التي هي مقتضية للأحكام الشرعية التي هي: الوجوب (¬4)، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬5)، وقوله تعالى (¬6): {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬7)، وقوله تعالى (¬8): {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (¬9)، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬10)، وغير ذلك من سائر الآيات الدالة على أحكام الله تبارك (¬11) وتعالى، فإن تلك الآيات ليست حكمًا شرعيًا (¬12)، وإنما هي (¬13) دليل على (¬14) الحكم الشرعي الذي هو المعنى القائم بذات الله عز وجل (¬15). ¬
فقوله (¬1): (خطاب الله تعالى (¬2) القديم) احترازًا من خطاب الله تعالى (¬3) الحادث؛ وذلك أن كلام الله تعالى (¬4) يقال للمعنى القائم بذات الله تعالى (¬5)، ويقال أيضًا للفظ الدال على المعنى القائم بذات الله تعالى (¬6)، وذلك اللفظ الدال على [المعنى] (¬7) المذكور هو حادث، ومنه احترز المؤلف بقوله: القديم؛ لأن ذلك اللفظ الذي يدل على المعنى القائم بالذات حادث (¬8)؛ [لأنه حادث بعد أن لم يكن] (¬9). وأما المعنى القائم بذات الله تعالى فهو قديم؛ لأنه صفة ذات الله تعالى (¬10)، وصفاته (¬11) قديمة لا تفارق ذاته (¬12) جل وعلا. وإنما قلنا في الآيات القرآنيات المعبر بها عن الأحكام الشرعية حادثة؛ لأنها صفات المخلوقات؛ لأنها تكلم بها (¬13) جبريل عليه السلام، ثم النبي ¬
عليه السلام، ثم حملة القرآن، فهي حادثة؛ لأن كلام الحادث حادث (¬1) وأما المعنى القائم بالنفس فهو قديم؛ لأنه (¬2) صفة القديم جل وعلا. فتبين بما قررناه أن كلام الله تعالى يقال على الشيئين وهما: الدليل، ومدلوله: أحدهما: قديم وهو المدلول. والآخر: حادث وهو الدال. واختلف الأصوليون في إطلاق كلام الله تعالى (¬3) على هذين الأمرين، هل هو حقيقة فيهما؟ فيكون (¬4) اللفظ مشتركًا لوروده فيهما والأصل الحقيقة، ¬
وهو القول (¬1) المشهور. أو هو (¬2) حقيقة في المعنى القائم بالذات ومجاز في اللفظ الدال عليه، وهو قول: أبي الحسن الأشعري. أو هو (¬3) حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى القائم بالذات، وهو قول: المعتزلة بناء منهم على إنكار الكلام النفساني. وهذا الذي بيّناه (¬4) هو المحترز منه بقوله: "القديم". وقوله: (المتعلق) احترازًا من كلام الله تعالى (¬5) غير المتعلق كعلم الله تبارلى وتعالى (¬6) بذاته، وصفاته، وغير ذلك. وقوله: (بأفعال المكلفين) احترازًا (¬7) من كلام الله تعالى (¬8) المتعلق ¬
بذواتهم، وصفاتهم، وأحوالهم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1)، وكقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (¬2)، وكقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ...} (¬3) الآية، وغير ذلك مما تعلق بالذوات، والصفات، والأحوال؛ لأن ذلك كله لا يقال له: حكم شرعي. وقوله: (المكلفين): احترازًا من كلام الله تعالى (¬4) المتعلق بأفعال (¬5) غير المكلفين كقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (¬6) , وقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (¬7)، وقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} (¬8)، وقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬9)، وقوله تعالى (¬10): {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ ¬
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} (¬1)، وغير ذلك مما تعلق بأفعال غير المكلفين. وقوله: (بالاقتضاء) معناه: بالطلب. وذلك يشمل (¬2) أربعة أحكام وهي: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة. لأن الطلب إما طلب فعل وإما طلب ترك، وعلى التقديرين إما أن يكون الطلب مع الجزم، وإما أن يكون مع (¬3) غير الجزم، وذلك أن طلب الفعل إن كان مع الجزم فهو: الوجوب، وإن كان من (¬4) غير جزم فهو: الندب، وكذلك طلب الترك، لأنه إن كان مع الجزم فهو: التحريم، وإن كان من غير جزم فهو: الكراهة. فقوله إذًا: (بالاقتضاء) تندرج (¬5) فيه أربعة أحكام من الأحكام الخمسة. وقوله: (أو التخيير) يندرج فيه الإباحة وهو الحكم الخامس (¬6) الباقي من أحكام الشرع. ¬
وقوله: (بالاقتضاء أو التخيير) معناه المتعلق بالمكلفين على وجه الطلب أو على وجه التخيير، أي على وجه طلبهم بفعله أو تركه، أو تخييرهم بين فعله وتركه. واحترز بقوله: (بالاقتضاء أو التخيير) من كلام الله تعالى (¬1) المتعلق بأفعال المكلفين من غير اقتضاء ولا تخيير وهو: الخبر كقوله تعالى (¬2): {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬3)، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ} (¬6). لأن هذا خبر عن تكليف تقدم وغير ذلك مما يتعلق (¬7) بأفعال المكلفين من غير طلبهم بفعله ولا بتركه ولا بتخييرهم (¬8) فيه (¬9) بين فعله وتركه، هذا بيان حد الحكم الشرعي. قوله: (فالقديم: احترازًا من نصوص أدلة الحكم؛ فإِنها خطاب الله تعالى (¬10) وليست حكمًا، وإِلا اتحد الدليل والمدلول وهي محدثة). ش: هذا بيان المحترز منه بقوله: "القديم". ¬
قال المؤلف في الشرح: إني اتبعت في هذا الحد الإمام فخر الدين رحمه الله (¬1)، إلا أني زدت فيه: القديم (¬2). وإنما زاد المؤلف القديم؛ لأن حد الإمام فخر الدين (¬3) ليس بمانع؛ لأنه يدخل عليه (¬4) خطاب (¬5) الله تعالى الحادث وهي: الآيات التي هي نصوص أدلة الحكم، فإنها يقال لها: خطاب الله تعالى (¬6) ومع ذلك ليست حكمًا أي: لا يقال لها: حكم شرعي. وقوله: (وإِلا اتحد الدليل والمدلول) معناه: لو كانت النصوص حكمًا، والمقدر أنها أدلة على الأحكام لكان الدليل والمدلول شيئًا واحدًا، وذلك محال؛ لأن تغايرهما أمر معلوم بالضرورة. وقوله: (وهي محدثة) أي: هذه النصوص الدالة على الحكم هي محدثة لأنها أصوات وألفاظ القارئين. وقوله: (والمكلفين: احترازًا من التعلق بالجماد وغيره) (¬7). ش: هذا (¬8) بيان المحترز منه بقوله: "المكلفين"، واحترز بذلك من المتعلق ¬
بالجماد وغيره (¬1). مثاله في الجماد: قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬2). ومثاله (¬3) في غير الجماد قوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} (¬4)، وغير ذلك مما تقدم. ومثل المؤلف في الشرح (¬5) الجماد (¬6): بقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (¬7). وهو غير (¬8) مطابق؛ لأن السير نسبهُ الله تعالى (¬9) إلى نفسه لا إلى الجبل (¬10)، ولكن يحتمل أن يكون المؤلف أراد بالتمثيل: القراءة الشاذة، وهي: قراءة من قرأها (¬11) بالتاء المفتوحة وكسر السين ورفع الجبال على الفاعلية (¬12)، وهي ¬
قراءة ابن محيصن (¬1) وعيسى الثقفي (¬2). واعلم أن هذا اللفظ فيه ثلاث قراءات: أحدها: {تُسَيَّر (¬3) الْجِبَالُ} بتركيب الفاعل (¬4) وهي: قراءة ابن كثير (¬5)، ¬
وأبي عمرو (¬1) وابن عامر (¬2). ¬
القراءة (¬1) الثانية: {نُسَيِّرُ (¬2) الْجِبَالَ} (¬3) بالنون مع بسط الفعل وهي قراءة الباقين من السبعة. والقراءة الثالثة: {تَسِيرُ الْجِبَال} (¬4) بالتاء المفتوحة وكسر السين وهي قراءة ابن محيصن، وعيسى الثقفي. وقوله: (والاقتضاء) يعني به: الطلب، واحترز به من الخبر. وقوله: (أو التخيير) يعني به: الإباحة، فـ "أو" للتنويع، أي: الحكم الشرعي متنوع لهذين (¬5) النوعين. قال المؤلف في الشرح: هذا حكم بالترديد لا ترديد في الحكم (¬6) معناه: أنه حكم على الحكم الشرعي بأنه متردد بين هذين جزمًا بلا شك. ¬
وقوله (¬1): (بالاقتصاء أو التخيير) احترز به (¬2) من خطاب الله تعالى (¬3) المتعلق بأفعال المكلفين من غير طلب ولا تخيير، كقوله تعالى (¬4): {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬5)، وكقوله تعالى (¬6): {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬7). فإذا تقرر هذا فاعلم أن هذا الحد معترض من (¬8) سبعة أوجه: أحدها: أن قوله: خطاب (¬9) الله تعالى (¬10)، غير جامع للحكم الشرعي؛ لخروج فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإقراره، والإجماع من (¬11) الحد، مع أن جميع ذلك حكم شرعي. أجيب عن هذا بأن قيل: ذلك كله (¬12) يندرج (¬13) في (¬14) خطاب الله تعالى (¬15)، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ ¬
يُوحَى} (¬1) والإجماع مستند إلى ذلك. الثاني: أن لفظ الخطاب إنما يكون لغة بين اثنين وهو حادث، وحكم الله تعالى (¬2) قديم فلا (¬3) يصح فيه الخطاب. قال المؤلف في شرحه (¬4): فالصحيح أن (¬5) يقال: كلام الله تعالى القديم. أجيب عن هذا بأن قيل: هذا جار على أحد القولين في الخطاب؛ إذ فيه خلاف: قيل: يقال: الخطاب في كلام الله (¬6). وقيل: لا يقال له (¬7): الخطاب. وقد أشار ابن الحاجب إلى هذا الخلاف فقال: "وفي تسمية الكلام في الأزل خطابًا خلاف" (¬8). وسبب هذا الخلاف: اختلافهم في معنى الخطاب. قيل: معناه الكلام الذي قصد به إفهام الغير في الحال. ¬
وقيل (¬1): معناه (¬2): الكلام الذي قصد به إفهام الغير في الحال والاستقبال. فعلى الأول لا يسمى خطابًا، وعلى الثاني يسمى (¬3): خطابًا. الثالث: أن قوله: (القديم) كيف يفسر به الحكم الشرعي؟ مع أن الحكم الشرعي يوصف به فعل العبد؛ لأنك تقول: فعل واجب وفعل حرام وصفة الحادث حادثة (¬4)؟ أجاب المؤلف عن هذا: بأن الشيء قد يوصف بما ليس قائم به (¬5) كقولنا: قيام الساعة مذكور معلوم بذكر قام (¬6) بنا (¬7)، ووصف الفعل بالأحكام من هذا القبيل (¬8). فمعنى قولنا (¬9): "فعل واجب أو فعل حرام" معناه: بوجوب قائم بذات الله تعالى (¬10) وتحريم قائم بذات الله تعالى، وإنما يلزم الحدوث من ¬
الصفة في (¬1) الموصوف: إذا كانت قائمة به كالسواد والبياض، وأما الأقوال المتعلقة بالأفعال فلا تكون صفات لها ولا هي (¬2) قائمة بها، فإذا قال السيد لعبده: أسرج الدابة، فقد أوجب عليه الإسراج بإيجاب قام بالسيد دون الإسراج الذي هو فعل العبد (¬3). الرابع: أن قوله: (القديم) كيف يفسر به الحكم الشرعي؟ [مع أن الحكم الشرعي] (¬4) يعلل بالحوادث، فإنك تقول مثلاً: حلت المرأة بالعقد، وحرمت بالطلاق، فالمعلل بالحادث حادث؟ (¬5). أجاب المؤلف عن هذا: بأن العلل الشرعية معرفات (¬6) لا مؤثرات، فالمعرِّف (¬7) ¬
يجوز أن يتأخر عن المعرَّف كما عرف الله (¬1) بصفته (¬2). الخامس: أن قوله: (القديم) كيف يفسر به الحكم الشرعي؟ مع أن الحكم الشرعي يوصف بأنه مسبوق بالعدم، لأنك تقول: حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالاً، والمسبوق بالعدم حادث؛ إذ البعدية تشعر بالحدوث؟ (¬3). أجاب المؤلف عن هذا: بأن الحالة التي يتعلق بها الحكم الشرعي في الأزل إنما هي (¬4) حالة اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فقولنا: حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالاً؛ لأن (¬5) وجود الحالة التي بها يتعلق الحل في الأزل، هي: حالة اجتماع الشروط وانتفاء الموانع (¬6)، فإن المتعلق في الأزل إنما كان (¬7) متعلقًا بهذه الحالة، فالحدوث إنما هو في المتعلَّق - بفتح اللام -، لا في المتعلِّق - بكسر اللام -، ولا في التعلق (¬8) خلافًا [لمن قال: التعلق حادث، بل التعلق قديم، فإن الذي يحيل حصول علم في الأزل بلا] (¬9) معلوم، فيحيل (¬10) ¬
حصول أمر في الأزل بلا مأمور (¬1). كما سيأتي بيانه (¬2) إن شاء الله تعالى في باب الأوامر في قول المؤلف: ولا يشترط (¬3) مقارنته للمأمور بل يتعلق في الأزل بالشخص الحادث خلافًا لسائر الفرق (¬4). والسادس (¬5): أن قوله: (المتعلق بأفعال المكلفين) غير جامع للحكم الشرعي لخروج ما تعلق بأفعال الصبيان والمجانين من الزكوات (¬6) والغرامات، فإن الضمان والزكاة (¬7) واجب في أموالهم (¬8). أجاب المؤلف عن هذا: بأن الوجوب إنما هو على الأولياء ولا وجوب على المحجورين ولا حكم (¬9). السابع: أن هذا الحد أيضًا غير جامع؛ لأنه لا يتناول إلا خطاب ¬
التكليف، ولا يتناول خطاب الوضع: كنصب الأسباب، والشروط، والموانع، كنصب الزوال لوجوب الظهر، ونصب الحول شرطًا لوجوب الزكاة، ونصب الحيض مانعًا للصلاة (¬1) وغير ذلك من أحكام الوضع التي بينها المؤلف في الفصل الخامس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام (¬2) الشرعية (¬3)، فإن هذه الأشياء خارجة من (¬4) حد المؤلف؛ إذ ليس في هذه الأشياء طلب ولا تخيير. فهذا الاعتراض قد التزمه المؤلف في الشرح وقال: "هذا الحد لا يتناول إلا أحد نوعي الخطاب، وهو: خطاب التكليف خاصة، ولا يتناول خطاب الوضع". قال: فالحق أن تقول في الحد الحكم الشرعي هو: كلام الله تعالى (¬5) القديم، المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير، [(¬6) أو ما يوجب ثبوت الحكم أو انتفاءه، فما يوجب ثبوت الحكم هو: السبب، وما يوجب انتفاءه هو: الشرط بعدمه أو (¬7) المانع بوجوده، فيجتمع في الحد "أو" (¬8) ¬
ثلاث (¬1) مرات (¬2)؛ فحينئذ يستقيم الحد ويجمع جميع الأحكام الشرعية، وهذا هو (¬3) الذي أختاره (¬4). انتهى. ومنهم من أجاب عن ذلك: بأن خطاب الوضع لا يلزم الاعتراض به على الحد المذكور؛ لأنه مندرج في خطاب التكليف (¬5)؛ لأن الأحكام التكليفية (¬6) تستلزم (¬7) أسبابها وشروطها ودلائلها، فيندرج خطاب الوضع في خطاب التكليف، فالحد المذكور على هذا يعم الخطابين معًا (¬8). ومنهم من أجاب عن ذلك بأن قال: لا يلزم الاعتراض بخطاب الوضع؛ لأن خطاب الوضع ليس من الحكم (¬9) الشرعي؛ لأنه لم يكلف به المكلف؛ لأن الإنسان لم يكلف (¬10) بتحصيل الأسباب والشروط، وإنما يكلف (¬11) بالحكم الشرعي بعد حصول أسباب الحكم وشروطه (¬12)، وبالله التوفيق (¬13). ¬
قوله: (اختلف (¬1) في أقسامه فقيل: خمسة: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإِباحة، وقيل: أربعة، والإِباحة (¬2) ليست من الشرع، وقيل: اثنان: التحريم، والإِباحة). ش: هذا هو (¬3) المطلب الثاني، وهو حصر أقسام الحكم الشرعي، فذكر المؤلف في هذا التقسيم ثلاثة أقوال: أحدها وهو المشهور الذي أجمع عليه المتأخرون: أنها خمسة أقسام وهي: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة. والدليل على هذا القول: أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل، وإما (¬4) أن يرد باقتضاء الترك، وإما (¬5) أن يرد بالتخيير بين الفعل والترك، فإن ورد باقتضاء الفعل فإن أشعر بالعقاب على الترك فهو: الواجب، وإن لم يشعر بالعقاب على الترك فهو: المندوب، وإن ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فهو: المحظور، وإن لم يشعر بالعقاب على الفعل فهو: المكروه، وإن ورد بالتخيير بين الفعل والترك فهو: المباح، فتبين بهذا أن أقسام الحكم الشرعي خمسة (¬6). القول الثاني: أنها أربعة وهي: الوجوب، والتحريم، والندب، ¬
والكراهة، وأما الإباحة فليست (¬1) من أحكام الشرع وهذا قول بعض المعتزلة. وسبب الخلاف هو الخلاف في تفسير الإباحة، فمن فسرها بنفي الحرج قال: ليست من أحكام الشرع؛ لأن نفي الحرج (¬2) ثابت قبل الشرع بالبراءة الأصلية؛ لأن البراءة الأصلية حكم عقلي لا شرعي، ومن فسرها بالإعلام بنفي الحرج قال: هي من أحكام الشرع؛ لأن الإعلام بنفي الحرج لا يعلم إلا من جهة الشرع (¬3). القول الثالث: أن أحكام الشرع منحصرة في قسمين خاصة، وهما (¬4): التحريم، والإباحة. وهو قول المتقدمين؛ لأن معنى الإباحة] (¬5) عندهم: نفي الحرج مطلقًا، ونفي الحرج أعم من الوجوب، والندب، والكراهة، والإباحة المستوية الطرفين، ومعنى الإباحة عند المتأخرين: استواء الطرفين (¬6). قوله: (وفسرت بجواز الإِقدام الذي يشمل الوجوب والندب والكراهة والإِباحة) (¬7). ¬
ش: وإنما يشمل نفي الحرج هذه الأحكام الأربعة؛ إذ لا حرج على فاعلها. قوله: (وعلى هذا المذهب (¬1) يتخرج قوله عليه السلام: "أبغض المباح إلى الله تعالى (¬2) الطلاق" (¬3)). ش: يعني أن قوله عليه السلام: "أبغض المباح إلى الله (¬4) الطلاق" إنما تأويله أن يجري على هذا القول [ولا يجري على القول] (¬5) الأول (¬6) المشهور، وإنما قلنا لا يجري هذا الحديث على القول الأول الذي هو تفسير الإباحة باستواء الطرفين؛ لأنه لو حملنا المباح (¬7) في (¬8) هذا الحديث على مستوى الطرفين للزم منه المحال، وهو اجتماع الرجحان مع التساوي. وبيان ذلك: أن تقدير الحديث على هذا: أبغض المباح الذي استوى طرفاه هو الطلاق، فإن قوله: أبغض يقتضي ترجيح أحد الطرفين. وقوله: (المباح)، يقتضي استواء الطرفين فكأنه يقول في المعنى: ¬
الطلاق هو (¬1) راجح أحد الطرفين وهو مستوي الطرفين، فترجيح (¬2) أحد طرفيه مع استوائهما جمع بين ضدين والجمع بين الضدين محال. قوله: (فإِن البغضة تقتضي رجحان طرف (¬3) الترك (¬4)، والرجحان مع التساوي (¬5) محال). ش: هذا تقرير (¬6) الدليل على أن الحديث المذكور لا يجري على القول الأول الذي يفسر فيه المباح بمستوي الطرفين، فإن البغضة تقتضي رجحان طرف الترك على طرف الفعل، والإباحة تقتضي استواء طرفي الفعل والترك، والجمع بين الرجحان والتساوي محال. فتبين بهذا أن (¬7) الحديث إنما يجري على القول بأن أقسام الشرع قسمان خاصة وهما: التحريم، والإباحة التي معناها جواز الإقدام، وإنما قلنا بهذا المقتضى؛ لأن أفعل في كلام العرب إنما يضاف إلى جنسه، ولا يضاف إلى غير جنسه، فإنك (¬8) تقول: زيد أفضل الناس ولا تقول: زيد أفضل الحمير (¬9)، فقوله: أبغض، صيغة تفضيل، وقد أضيفت إلى المباح المستوي الطرفين. ¬
فيقتضي ذلك أن يكون المباح المستوي الطرفين غير مستوي الطرفين، وذلك أمر غير معقول؛ لأنه محال (¬1). فإذا تبين [استحالة] (¬2) حمل الحديث المذكور على القول الأول: تبين لك حمله على القول الآخر الذي هو: تفسير الإباحة بجواز الإقدام على الفعل، فتقدير الحديث إذًا: أبغض ما يجوز الإقدام عليه هو الطلاق. واعترض على هذا (¬3) بأن قيل: يلزم على تأويل الحديث بهذا أن تكون أنواع هذا الجنس كلها (¬4) مبغوضة، أعني بهذه الأنواع (¬5): الوجوب، والندب، والكراهية، والإباحة، فيلزم (¬6) أن تكون هذه الأحكام (¬7) الأربعة: مكروهة، وإنما قلنا بهذا؛ لأن صيغة أفعل تقتضي الاشتراك في معنى واحد، إلا أن أبغض الأشياء له مزية على غيره، وذلك باطل ها هنا (¬8)؛ إذ لا بغض في الواجب ولا في المندوب ولا في المباح (¬9). أجيب عن هذا: بأن قولك: أفضل الرجال زيد، لا يقتضي ثبوت الفضل لكل رجل، بل معناه أفضل رجل قيس فضله بفضل زيدٍ ¬
زيدٌ (¬1)، فلا بد من المشاركة في الوصف الذي وقع فيه التفضيل، فمعنى الحديث إذًا: أبغض مباح قيس بغضه ببغض الطلاقِ إلى الله الطلاقُ، فيتعين أن يكون هذا المباح راجح الترك وهو: المكروه، فيخرج (¬2) الوجوب، والندب، والإباحة المستوية في (¬3) الطرفين. وهذا الحديث المذكور خرجه أَبو داود (¬4). ومثل (¬5) هذا الحديث قوله عليه السلام: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" خرجه (¬6) مسلم (¬7). ¬
قوله: (فالواجب ما ذم تاركه شرعًا). هذا هو المطلب الثالث في تفسير أقسام الحكم الشرعي، شرع المؤلف ها هنا في تفسير متعلقات الأحكام الخمسة المذكورة ولم يتعرض لتفسير تلك الأحكام التي هي (¬1): الوجوب (¬2)، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة، وإنما تعرض ها هنا (¬3) لتفسير متعلقات تلك الأحكام وهي (¬4): الواجب (¬5)، والمحرم، والمندوب، والمكروه، والمباح؛ لأنه تعرض لتفسير الواجب ولم يتعرض لتفسير الوجوب، وكذلك تعرض لتفسير المحرم، ولم يتعرض لتفسير التحريم، وكذلك تعرض لتفسير المندوب [ولم يتعرض لتفسير] (¬6) الندب (¬7) وكذلك تعرض لتفسير المكروه دون الكراهة، وكذلك تعرض لتفسير المباح دون الإباحة. ¬
قال المؤلف في النفائس: حكم الله تعالى هو الوجوب لا الواجب، فالواجب هو فعل العبد وهو متعلق الحكم الذي هو الوجوب، فالوجوب (¬1) هو الحكم ومتعلقه هو الواجب. فالوجوب صفة لله تعالى، والواجب صفة العبد؛ إذ هو فعله (¬2). فالوجوب هو الطلب، والواجب هو: المطلوب، أي (¬3) هو الفعل المطلوب من المكلف، وهكذا تقول في التوالي (¬4) البواقي من المتعلقات، فإن المؤلف إنما تعرض لتفسير المتعلَّق بفتح اللام، ولم يتعرض لتفسير المتعلِّق بكسر اللام، وإنما فعل ذلك تبعًا للإمام فخر الدين في المحصول. والوجوب في اللغة يراد به: الثبوت، ويراد (¬5) به: السقوط. فمثال الثبوت: قوله عليه السلام: "إذا وجب المريض فلا تبكين باكية" (6)، معناه: إذا ثبت (¬6) واستقر وزال عنه التزلزل والاضطراب. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومثال السقوط: قولهم: وجب الحائط (¬1)، إذا سقط، ووجبت الشمس، إذا سقطت. ومنه: قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (¬2) أي: سقطت (¬3). قوله: (فالواجب ما ذم تاركه شرعًا) (¬4). ش: ركب المؤلف - رحمه الله - هذا الحد من جنس وثلاثة قيود. فالجنس هو: "ما"، وهي موصولة بمعنى الذى. والقيد الأول: ذم. والقيد الثاني: تاركه. ¬
والقيد الثالث: شرعًا. ومعنى الذم (¬1) بالذال المعجمة: هو اللوم (¬2). قال الزبيدي في المختصر: يقال: ذممته ذمًا، أي لمته في إساءته (¬3). واحترز بقوله: (ما ذم) مما لا ذم فيه، وهو: المندوب، والمكروه، والمباح. واحترز بقوله: (تاركه) من المحرم؛ لأنه لا يذم تاركه. واحترز بقوله: (شرعًا) مما ذم تاركه عرفًا، أي عادة. مثال ما ذم (¬4) تاركه عرفًا: الأضحية (¬5) والعقيقة، وكذلك من يلبس خلاف لباس أهل بلده؛ لأن من خالف عادة أهل بلده حتى في زيهم ولباسهم يذمونه (¬6). قوله: (والمحرم (¬7) ما ذم فاعله شرعًا). ش: واحترز (¬8) بقوله: (ما ذم) مما لا ذم فيه، وهو: المندوب، والمكروه، ¬
والمباح. واحترز بقوله: (فاعله)، من الواجب؛ لأنه لا يذم فاعله. واحترز بقوله: (شرعًا)، مما يذم فاعله عرفًا؛ لأن من خالف عادة أهل بلده يذم عندهم. مثال ما يذم فاعله عرفًا: طلب العلم عند العامة في زماننا هذا (¬1)؛ لأن من طلب العلم في زماننا يذمه (¬2) العامة (¬3). قوله: (وقيد الشرع) احترازًا من العرف، راجع إلى (¬4) الرسمين معًا: رسم الواجب ورسم المحرم. قال المؤلف في الشرح: قولهم: ما ذم فاعله، فيه إشكال من جهة أنه قد لا يفعل فلا يوجد فاعله، ولا الذم المترتب عليه. وكذلك قولهم: ما ذم تاركه، قد لا يوجد تاركه، بأن يفعل الواجب وهو كثير، فتخرج هذه الصور كلها من الحد، فلا يكون جامعًا (¬5) يعني: أن من الواجبات ما لا يمكن تركه (¬6) ومن المحرمات ما لا يمكن فعله. ¬
قال: وجوابه: أن التحديد قد يقع بذوات الأوصاف، أي: بنفس الوصف (¬1)، كقوله في المندوب: ما رجح فعله على تركه. وقد يقع بحيثيات الأوصاف نحو هذا، ومعناه: هو الذي يكون بحيث إذا ترك ترتب عليه الذم، وهذه الحيثية ثابتة له، فعل أو ترك. فتنبه لهذه القاعدة فهي: غريبة، وقد بسطتها (¬2) في شرح المحصول (¬3). انتهى نصه (¬4). فمعنى قوله إذًا: (ما ذم تاركه) في الواجب، أي: ما لو ترك لذم، ومعنى قوله في المحرم: (ما ذم فاعله) أي: ما لو فعل لذم. واعترض (¬5) تحديد الواجب والمحرم بما ذم تاركه، وما ذم فاعله: بأنه إما أن يراد أن الشارع هو الذي يذم، وإما أن يراد الشرع نفسه، وإما أن يراد أهل الشرع، وأيًا ما كان فباطل: فإن كان الذي يذم هو الشارع فلا يصح؛ لأن الشارع ما نص على لوم كل ¬
تارك لواجب، ولا نص على لوم كل صنف من الواجب. وإن قلنا: إن الذي يذم هو الشرع فلا يصح أيضًا؛ لأن (¬1) الشرع (¬2) ليس حيًا ناطقًا؛ لأنه معنى (¬3) من المعاني، فلا يوصف بذم ولا مدح. وإن قلنا: إن الذي يذم أهل (¬4) الشرع فلا يصح أيضًا؛ لأن أهل الشرع لا يذمون تارك الواجب إلا إذا علموا أنه تركه، فلا بد من معرفتهم للواجب قبل أن يذموا على تركه، فهو تعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفة ذلك الشيء، فهو تعريف دوري. أجيب عنه: بأن الشارع هو الذي يذم؛ لأنه نص على ذم كل تارك لواجب بصيغة العموم، كقوله تعالى بعد ذكر المعصية: {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬5)، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬6)، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬7). ونحو (¬8) هذا (¬9) من الآيات الدالة على اتضاع (¬10) حال تارك المأمور به؛ ¬
لأن (¬1) صيغة العموم تتناول (¬2) كل فرد بعمومها (¬3) (¬4). قوله: (والمندوب ما رجح فعله على تركه شرعًا من غير ذم). ش: المندوب لغة: هو المدعو، مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم، ومنه قول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا (¬5) وأما معناه في الاصطلاح: فهو ما رجح فعله على (¬6) تركه، إلى آخر ما قال المؤلف. قوله: (مما رجح فعله) أخرج ثلاثة أشياء وهي: المحرم، والمكروه، والمباح. وقوله (¬7): (من غير ذم) أخرج به الواجب؛ لأن الواجب رجح فعله على ¬
تركه مع الذم على تركه. واختلف (¬1) الأصوليون في المندوب هل هو مأمور به؟ وهو مذهب الجماهرة (¬2) من الأصوليين. وذهب الكرخي (¬3) والرازي (¬4) من الحنفية: إلى أنه غير ¬
مأمور (¬1) به. حجة الجمهور: أن المندوب (¬2) يسمى (¬3) طاعة بإجماع، وتسميته طاعة يستلزم امتثال الأمر، فإن أمتثال الأمر طاعة (¬4) بإجماع (¬5). وحجة الكرخي والرازي: أن المندوب (¬6) لو كان مأمورًا (¬7) به لكان تركه (¬8) معصية؛ لأن المعصية عبارة عن مخالفة الأمر (¬9). ¬
أجيب عن هذ: بأن المعصية مختصة بمخالفة [أمر الإيجاب] (¬1) لا مطلق الأمر (¬2). وحد بعض الفقهاء المندوب (¬3) فقال: ما في فعله ثواب، وليس في تركه عقاب (¬4). واعترض: بما (¬5) إذا تلبس بمحرم عند ترك المندوب، فإنه يستحق العقاب ها هنا (¬6). فلأجل هذا زاد بعضهم على هذا الحد: من حيث [هو ترك له] (¬7). ¬
قوله: (والمكروه: ما رجح تركه على فعله شرعًا من غير ذم). ش: المكروه لغة: ضد المحبوب وهو مأخوذ من الكراهية (¬1)، وقيل: من الكريهة، وهي (¬2) الشدة في الحرب (¬3). ويطلق في الشرع (¬4) على (¬5) الحرام. ويطلق على ترك المندوبات، وهو ما تركه أولى. ويطلق على نهي نزاهة كالصلاة في الأوقات والأماكن المنهي عنها. ويطلق على ما فيه شبهة وتردد بين العلماء كالنهي عن أكل السبع، وقليل (¬6) النبيذ. وهذا الأخير فيه نظر؛ لأن (¬7) من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو في حقه حرام، ومن أداه اجتهاده إلى تحليله فلا معنى للكراهة في حقه إلا إذا وقعت حزازة في قلبه فلا يقبح إطلاق لفظ (¬8) الكراهة عليه، [وقد قال عليه السلام: "الإثم حزّاز (¬9) ¬
القلوب" (¬1). وإنما قلنا: لا يقبح إطلاق لفظ الكراهة عليه] (¬2): [لما يتوقع فيه (¬3) من خوف التحريم، وإن كان غالب الظن الحل، ولكن إنما يتجه هذا على القول بأن المصيب واحد، وأما من صوب كل مجتهد: فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل] (¬4)، قاله الغزالي في المستصفى (¬5). قوله: (والمكروه ما رجح تركه على فعله شرعًا من غير ذم). ش: هذا (¬6) حد المكروه على جهة التنزيه وما تركه أولى. واحترز بقوله: (ما رجح تركه) من الواجب، والمندوب، والمباح؛ لأنها كلها راجحة الفعل، والمباح ليس فيه راجح ¬
واحترز بقوله: (من غير ذم) من المحرم (¬1)؛ لأن فعله (¬2) فيه ذم. واختلف في المكروه هل هو مكلف (¬3) به أو لا (¬4)؟ كما تقدم لنا في المندوب (¬5): مذهب الجمهور: هو (¬6) مكلف به. ومذهب الكرخي والرازي: هو (¬7) غير مكلف به. حجة الجمهور: أن تركه يسمى طاعة بإجماع (¬8)، وتسميته طاعة يستلزم امتثال (¬9) الأمر، فإن امتثال الأمر طاعة بإجماع. وحجة الكرخي والرازي: أن المكروه لو كان مكلفًا به لكان [نهي التحريم] (¬10) ففعله (¬11) معصية؛ لأن المعصية عبارة عن مخالفة الأمر. ¬
أجيب عن هذا: بأن المعصية مختصة بمخالفة مطلق (¬1) النهي. وحد بعض الفقهاء المكروه فقال: ما في تركه ثواب وليس في فعله عقاب. واعترض: بما (¬2) إذا تلبس (¬3) بمحرم عند تركه (¬4)؛ [لأنه لا يثاب بل] (¬5) يستحق (¬6) العقاب. فلأجل هذا زاد بعضهم على هذا الحد: من حيث هو ترك (¬7) له. فسبك الحد إذًا: المكروه ما (¬8) في تركه ثواب وليس في فعله عقاب من حيث هو ترك له. فقوله: (من حيث هو ترك (¬9) له) راجع إلى قوله ما في تركه ثواب [تقديره: ما في تركه ثواب] (¬10) من حيث هو ترك له (¬11)، أي: لا من حيث التلبس بالمحرم. ¬
قوله: (والمباح ما استوى طرفاه في نظر الشرع). ش: المباح (¬1) لغة (¬2): مأخوذ من الإباحة التي هي الإعلان والإظهار، وإما من الإباحة التي هي الإذن والإطلاق. فمن الإباحة بمعنى الإعلان والإظهار قولهم: أباح بسره وباح به (¬3)، أي. أعلنه (¬4) وأظهره وأفشاه. ومن الإباحة بمعنى الإذن (¬5) والإطلاق قولهم (¬6): أبحت كذا، أي: أذنت [فيه وأطلقته] (¬7). وأما معناه في الاصطلاح: فهو "ما استوى طرفاه في نظر الشرع" (¬8) يعني بالطرفين الفعل والترك. واختلفوا في المباح هل هو مأمور به أم لا (¬9)؟ ¬
مذهب الجمهور: أنه غير مأمور به. وذهب الكعبي (¬1) من المعتزلة (¬2) وجماعة: إلى أنه مأمور به. حجة الجمهور: أن الأمر يستلزم الترجيح، ولا ترجيح في المباح، فلا يكون مأمورًا به (¬3). حجة الكعبي أن كل مباح في التلبس به ترك حرام، وترك الحرام واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو (¬4) واجب (¬5). أجيب عن هذا: بأن التوسل إلى ترك الحرام بفعل المباح أمر عقلي لا شرعي؛ لأنه توسل بفعل الضد إلى ترك الضد. [وحدّ بعض الفقهاء المباح فقال: المباح ما ليس في فعله ولا في تركه ¬
ثواب ولا عقاب. واعترض: بما إذا تلبس بمحرم عند تركه فإنه يستحق العقاب. فلأجل هذا زيد في هذا الحد من حيث هو ترك له كما تقدم في الندب والمكروه] (¬1). قوله: (تنبيه: ليس كل واجب يثاب على فعله، ولا كل محرم يثاب على تركه). ش: هذا هو المطلب الرابع الذي ختم به الفصل. ومعنى التنبيه (¬2): إيقاظ (¬3) من غفلة الوهم، وتقدير كلامه: هذا تنبيه على وهم. وأتى المؤلف بهذا التنبيه؛ إشعارًا ببطلان قول من قال في حد الواجب: ما يذم (¬4) تاركه ويثاب فاعله، وبطلان قول من قال في حد المحرم: ما يذم فاعله ويثاب تاركه، وإلى بطلان قول من قال في حد الواجب (¬5): ما في فعله ثواب وفي تركه (¬6) عقاب، وفي حد المحرم (¬7): ما في تركه ثواب وفي فعله (¬8) ¬
عقاب، أن في الواجب ما لا يثاب فاعله، وفي المحرم ما لا يثاب تاركه، فإن الحد غير جامع في الأمرين. قوله: (ليس (¬1) كل واجب يثاب على فعله، ولا كل محرم يثاب على تركه) يعني: بل يثاب على [فعل] (¬2) بعض الواجب، ويثاب على ترك بعض المحرم؛ لأن (¬3) قوله (¬4): "ليس كل" جزئية سالبة، يدل بالمطابقة على سلب الحكم عن الكل بما هو كل (¬5)، ويدل بالالتزام على سلب الحكم عن البعض. قوله: (أما الأول فكنفقات الزوجات، والأقارب، والدواب، ورد المغصوب (¬6)، والودائع، والديون، والعواري (¬7) فإِنها واجبة، فإِذا (¬8) فعلها الإِنسان غافلاً عن امتثال أمر الله تعالى فيها: وقعت (¬9) واجبة مجزئة مبرئة للذمة ولا يثاب) (¬10). ش: هذه الجملة بيّن فيها المؤلف قوله: (ليس كل واجب يثاب على فعله) فإن هذه الأمور السبعة إذا فعلها الإنسان ولم ينو فيها امتثال الأمر فلا يثاب على فعله، مع أن هذا واجب، وإنما لا يثاب لعدم القصد إلى الامتثال، ¬
أي: لعدم القصد والنية لطاعة (¬1) الله تعالى (¬2)، وإنما تجزئه وتبرئ ذمته مع عدم النية؛ لأنها لا تفتقر إلى النية، [وإنما لا تفتقر إلى النية] (¬3)؛ لأن مصلحتها تحصل (¬4) بحصول صورتها، وهي إيصال الحق إلى مستحقه، فإن هذه الأمور أغراض دنيوية ليس فيها شائبة التعبد. قوله: (غافلاً عن امتثال أمر الله تعالى (¬5)) أي: غير قاصد إلى امتثال الأمر، بل لو (¬6) لم يشعر بوجوبها عليه كبعض العوام والأجلاف (¬7): فإنها (¬8) مجزئة مبرئة (¬9) أيضًا مع عدم الشعور بالوجوب. قوله: (وأما الثاني فلأن المحرمات يخرج الإِنسان عن عهدتها بمجرد (¬10) تركها وإِن لم يشعر بها، فضلاً عن القصد إِليها، حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها (¬11) فلا ثواب (¬12) حينئذ). هذه الجملة بيّن فيها (¬13) قوله: (ولا كل محرم يثاب على تركه)؛ وذلك ¬
أن سائر المحرمات كالزنا والخمر والقذف وغيرها يخرج الإنسان عن عهدتها؛ أي (¬1): عن المطالبة بها بمجرد تركها (¬2)، وإن لم يعلم بها [أي: وإن لم تقع (¬3) في عقله في حين تركها. وإنما قلنا: يخرج الإنسان من عهدتها بمجرد تركها وإن لم يعلم بها] (¬4)؛ لأن المطلوب من المحرمات حاصل، وهو: تركها. وقوله: (حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى (¬5) فيها فلا ثواب (¬6) حينئذ) فيه تقديم وتأخير، تقديره: فلا ثواب (¬7) حينئذ حتى ينوي امتثال أمر الله [تعالى فيها، أي في تركها] (¬8). وقال بعضهم: ليس في الكلام تقديم وتأخير، بل الكلام مرتب، فقوله (¬9): (وإِن لم يشعر بها) فيه حذف مضاف تقديره: وإن لم يشعر بتحريمها فضلاً عن القصد إلى تركها حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى (¬10) ¬
فيها، فلا ثواب (¬1) حينئذ لانتفاء طاعة الله تعالى (¬2) بعدم الشعور بالتكليف. فكلام المؤلف مرتب لا مقدم ولا (¬3) مؤخر؛ لأن مراده نفي القصد إلى الامتثال مع عدم الشعور با لإيجاب، والله أعلم (¬4). قوله: (نعم (¬5) متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب). ش: اعلم أن نعم تأتي لثلاثة (¬6) معان: إما لتصديق (¬7) مخبر. وإما لإعلام مستخبر. وإما لوعد طالب. والمراد بها في كلام المؤلف: إعلام مستخبر؛ وذلك أن المؤلف قدر سائلاً (¬8) يقول له: فإذا قصد الإنسان امتثال أمر الله تعالى [في الجميع (¬9)، هل يحصل الثواب أم لا؟ فقال في الجواب: نعم، متى اقترن قصد الامتثال] (¬10) في جميع الواجبات والمحرمات حصل الثواب. ¬
قال بعضهم: ولما كان الكلام السابق كالمورد ففحواه للسؤال تنزل ذلك (¬1) منزلة الواقع؛ ولذلك استأنف الكلام الثاني جوابًا لذلك السؤال فقطعه دون حرف العطف، ومنه قول الشاعر: زعم العواذل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي (¬2) وإنما لم يعطف صدقوا على زعم العواذل؛ لأنه حين (¬3) أبدل الشكاية بقوله: زعم العواذل أنني (¬4) في غمرة، كان ذلك مما يحرك السامع عادة ليسأل هل صدقوا في ذلك أم (¬5) كذبوا؟ وهذا يقال له: الفصل والوصف من علم المعاني، وهو ترك العطف بين الجمل التي لا موضع لها من الإعراب، وبالله التوفيق بمنه. ... ¬
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحْمَد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد الثّاني مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 3241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5633575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863533
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادات
الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادات وهي خمسة
الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادات (¬1) وهي خمسة شرع المؤلف رحمه الله تعالى (¬2) في هذا الفصل في بيان أوصاف العبادات فحصرها في خمسة وهي: الأداء، والقضاء، والإعادة، والصحة، والإجزاء. وفي هذا الفصل ستة مطالب: الأول: في الأداء. والثاني: في القضاء. والثالث: في التنبيه الذي أورده المؤلف على القضاء. والرابع: في الإعادة. والخامس: في الصحة. والسادس: في الإجزاء. قوله: (وهي خمسة). ¬
اعترض (¬1) بعضهم بأن قال: بقيت على المؤلف (¬2) خمسة أخرى وهي: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإباحة، فإنها أوصاف العبادات (¬3) أيضًا؛ لأنها أوصاف أفعال (¬4) المكلفين (¬5)؛ لأنك تقول: هذا فعل واجب، أو حرام، أو مندوب، أو مكروه، أو مباح (¬6). أجيب عن هذا: بأن هذه الأشياء الخمسة هي أقسام الحكم الشرعي وليست بأوصاف العبادات. قوله: (الأول: الأداء، وهو: إِيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت). ش: هذا هو المطلب الأول في حد الأداء (¬7)، وهذا الحد ركبه المؤلف من ¬
جنس وخمسة قيود. فالجنس هو قوله: (إِيقاع). والقيد الأول: هو قوله: (العبادة) (¬1). والقيد الثاني: هو قوله: (في وقتها). والقيد الثالث: هو قوله: (المعين لها). والقيد الرابع: هو قوله: (شرعًا). والقيد الخامس: هو قوله: (لمصلحة اشتمل عليها الوقت). حد الأداء عند القدماء: إيقاع العبادة في وقتها، فزاد المؤلف ثلاثة قيود تحريرًا للحد. قوله: (إِيقاع العبادة) (¬2) أي: فعل الطاعة في وقتها، أي: فعل المأمور به في وقته. واحترز (¬3) بقوله: (العبادة) مما ليس بطاعة؛ لأن ما ليس بطاعة لله تعالى لا يسمى (¬4) بالأداء كسائر الأفعال التي ليست بطاعة كالحرث، والحصاد، والغرس (¬5) وسائر الصناعات. ¬
وقوله: (¬1) (في وقتها) احترز به من القضاء؛ لأن القضاء إيقاع العبادة خارج وقتها كما سيأتي في حد القضاء (¬2). وقوله: (المعين لها) معناه المحدود للعبادة بطرفيه، أي: بأوله وآخره كتعيين أوقات الصلوات (¬3) الخمس دون سائر الأوقات، وتعيين شهر رمضان للصوم دون سائر الشهور، واحترز به من العبادات (¬4) التي لم يعين (¬5) لها وقت محدود بطرفيه، أي: بأوله وآخره كالحج؛ فإنه وظيفة العمر. وقول: الفقهاء حجة الأداء، وحجة القضاء: مجاز لا حقيقة (¬6). وقوله (¬7): (شرعًا) احترازًا من فعل العبادة في وقتها المعين لها عرفًا، كالترويحات في رمضان، قاله بعضهم، فإن تعيين الزمان لها (¬8) بالعرف. وقال بعضهم: مثال ما عينه العرف كأمر السيد لعبده أن يفعل فعلاً في وقت محدود معين له؛ لأن هذا أفضل (¬9) العبادة في وقتها المعين لها عرفًا؛ لأن طاعة العبد لسيده عبادة وهذا والله أعلم أولى؛ لأن الترويحات سنها (¬10) ¬
عمر (¬1) رضي الله عنه (¬2) وفعل عمر أمر شرعي لا عرفي. قوله: (فقولنا: في وقتها احترازًا من القضاء، وقولنا: شرعًا احتراز من العرف). ش: بيّن المؤلف بهذا الكلام الشيء الذي احترز منه بقوله: (في وقتها) والشيء الذي احترز منه بقوله: (شرعًا)، وأما الشيء الذي احترز منه بقوله: (العبادة) فلم يذكره، وكذلك الشيء الذي احترز منه بقوله: (المعين لها) (¬3)، وقد بيّناه [قبل هذا] (¬4). وقوله (¬5): (لمصلحة (¬6) اشتمل عليها الوقت احترازًا من تعيين الوقت ¬
لمصلحة المأمور به لا لمصلحة في الوقت، كما إِذا قلنا: الأمر للفور، فإِنه يتعين الزمان (¬1) الذي يلي ورود الأمر، إِلا أنه (¬2) لا يوصف بكونه (¬3) أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته، كمن (¬4) بادر لإِزالة منكر أو إِنقاذ (¬5) غريق، فإِن المصلحة ها هنا في الإِنقاذ (¬6) سواء كان في هذا الزمان أو غيره) (¬7). ش: ذكر (¬8) في هذا الكلام الشيء الذي احترز منه بقوله: لمصلحة اشتمل عليها الوقت، واحترز بذلك من تعيين الوقت لمصلحة اشتمل عليها الفعل المأمور به ولا يشتمل عليها الوقت. وذلك أن تعيين الوقت للعبادة على ضربين: تارة يشتمل (¬9) الوقت على المصلحة (¬10) أي: تكون المصلحة في نفس الوقت [كتعيين أوقات الصلوات الخمس، وشهر رمضان. وتارة تكون المصلحة في الفعل المأمور به، أي: لا تكون المصلحة في نفس الوقت] (¬11)، بل الأوقات كلها متساوية في هذا الضرب، كسائر العبادات ¬
الفوريات كرد الغصوب، والودائع، والديون، والعواري إذا طلبت، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك أقضية الحكام إذا ثبتت الحجج واجبة (¬1) على الفور، وكذلك إنقاذ الغريق في الماء، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجوعان، وإكساء العريان، والتوبة من الذنوب، وكذلك الحج على القول بأنه على الفور، وما في معنى ذلك من سائر الفوريات. فإن هذه العبادات الفوريات عيّن لها الشرع أوقاتها، فأول (¬2) وقتها أول أزمنة الإمكان، وآخر وقتها الفراغ منها على حسب ما تحتاج إليه من طول وقصر (¬3)، ولكن تعيين الوقت لهذه الفوريات ليس لمصلحة في نفس الوقت، وإنما هو لمصلحة في الفعل المأمور به، فإن هذه العبادات الفوريات تابعة لأسبابها، وإذا (¬4) وقعت أسبابها وقعت، ولا فرق فيها بين سائر الأوقات من ليل أو نهار، فإنها تابعة للأسباب وليست بتابعة للأوقات بخلاف العبادات الوقتيات كالصلوات الخمس، وشهر رمضان، فإنها تابعة للأوقات وليست بتابعة للأسباب. فتبيّن بما قررناه (¬5): أن العبادة إذا كان وقتها مشتملاً على المصلحة في نفسه فإنها توصف بالأداء والقضاء، أي: توصف بالأداء إذا فعلت في ذلك ¬
الوقت المعين (¬1)، وتوصف بالقضاء إذا فعلت خارج ذلك الوقت المعين لها، وإذا كان وقتها غير مشتمل على المصلحة في نفسه فلا توصف بالأداء ولا بالقضاء، أي: لا توصف بالأداء إذا فعلت في أول أزمنة الإمكان، ولا توصف بالقضاء إذا فعلت بعد ذلك، هذا (¬2) هو الفرق بين ما يوصف بالأداء والقضاء وبين ما لا يوصف بهما. وهنا الذي قررناه (¬3) هو معنى قول المؤلف: وقولنا: لمصلحة اشتمل عليها الوقت احترازًا من تعيين الوقت لمصلحة المأمور به، لا لمصلحة في الوقت. وقوله: (كما إِذا قلنا: الأمر للفور فإِنه يتعين الزمان الذي يلي ورود الأمر ...) إلى آخره. ذكر المؤلف ها هنا مثالين للفوريات (¬4) التي لا يشتمل فيها الوقت على المصلحة، أحد المثالين كلي، والآخر جزئي. فالمثال الكلي: هو قوله: (كما إِذا قلنا: الأمر للفور). والمثال الجزئي: هو قوله: (كمن بادر إِلى إِزالة منكر و (¬5) إِنقاذ غريق)، ولكن المثال الكلي إنما يتبين لك بالمثال (¬6) الجزئي. ¬
قوله: (كما إِذا قلنا: الأمر للفور) مثال (¬1) ذلك: إذا فرعنا على الأمر (¬2) المطلق المجرد يحمل على الفور. ومعنى الفور هو: المبادرة إلى الامتثال في أول أزمنة الإمكان؛ وذلك أن الأمر المجرد عن قرينة تحمله على إرادة الفور، وإرادة (¬3) التأخير هل يحمل على الفور أو على التأخير؟ ذكر فيه المؤلف ثلاثة أقوال في باب الأوامر، فقال فيه: وهو (¬4) عنده أيضًا للفور، وعند الحنفية خلافًا لأصحابنا المغاربة، والشافعية، وقيل: بالوقف (¬5)، كما سيأتي بيانه (¬6) إن شاء الله تعالى. قوله: (فإِنه يتعين الزمان الذي يلي ورود الأمر) يعني: أن الأمر إذا ورد بفعل شيء في الحين، فإن الزمان الذي يلي زمان سماع لفظ الأمر متعين لفعل المأمور به قال المؤلف في الشرح: قولي: يتعين الزمان الذي يلي ورود الأمر ليس الأمر (¬7) كذلك، بل قال القاضي أبو بكر رحمه الله: لا بد من زمان إسماع ¬
الصيغة، وزمان فهم معناها، وفي الزمان الثالث (¬1) يقع الامتثال وهو متجه لا تتأتى المخالفة فيه. انتهى نصه (¬2). قوله: (فإِنه يتعين الزمان الذي يلي ورود الأمر) ليس بصحيح كما قال في شرحه، فالأولى إذًا أن يقال: فإنه يتعين الزمان الذي يلي [الزمان الذي يلي زمان] (¬3) ورود الأمر؛ لأن الأزمنة ها هنا ثلاثة: زمان ورود الأمر، [وزمان فهم معنى الأمر] (¬4)، وزمان فعل المأمور به (¬5). قوله: (إِلا أنه لا يوصف بكونه أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته) وإنما قال: لا يوصف بالأداء والقضاء؛ لأنه لم يتعلق (¬6) بوقت مشتمل (¬7) على المصلحة في نفسه. وقوله (¬8): (كمن بادر لإِزالة أو إِنقاذ غريق). هذا هو المثال الجزئي، وبه يظهر لك المثال الكلي؛ لأن هذا المثال مندرج ¬
في المثال الأول؛ لأنه من جزئياته، فإن إزالة منكر أو إنقاذ (¬1) غريق في الماء، فإن المصلحة في هذا في إزالة المنكر وفي إنقاذ الغريق أي: وقت اتفق فيه ذلك، ولا فرق بين سائر أوقات الليل والنهار؛ لأن المصلحة في المأمور به ولا مصلحة في وقت معين؛ لأن هذا تابع لسببه لا لوقت معين. قوله: (أما (¬2) تعيين أوقات العبادات فنحن نعتقد أنها لمصالح (¬3) في نفس الأمر اشتملت عليها (¬4) هذه الأوقات، وإِن كنا لا نعلمها، وهكذا كل تعبد (¬5) فمعناه (¬6): أنا لا نعلم مصلحته (¬7)، لا أنه (¬8) ليس فيه مصلحة، طردًا لقاعدة الشرع في عادته في (¬9) رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل). ش: لما بيّن المؤلف ما شرع لمصلحة في المأمور به بيّن ها هنا ما شرع لمصلحة في وقته، كأوقات الصلوات الخمس، وشهر رمضان، فإن الشرع لم يعيّن هذه الأوقات للعبادات (¬10) إلا لمصلحة للعباد علمها الله تبارك وتعالى في خصوص هذه الأوقات دون غيرها من سائر الأوقات، وهكذا نقول في ¬
كل (¬1) ما تعبدنا الله له مما لا نعلم مصلحته (¬2)، فكل (¬3) ما تعبدنا الله به من الأوامر والنواهي، فإن ذلك لأجل مصلحة علمها الله تبارك وتعالى فيما أمرنا به، أو لأجل مفسدة علمها الله تبارك وتعالى فيما نهانا عنه؛ إذ لا يأمر الله تبارك وتعالى إلا بما فيه مصلحة لعباده، ولا ينهى إلا عن (¬4) ما (¬5) فيه مضرة لعباده (¬6). قوله: (طردًا لقاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد) [هذا دليل على أن كل حكم معلل؛ إذ لا تعرى أحكام الله عن فائدة وحكمة. ومعنى قوله: (طردًا لقاعدة الشرع في (¬7) عادته (¬8)): أنا قد] (¬9) استقرينا الشرائع ووجدنا أكثرها مصالح، إذ لا يأمر الله إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، ووجدنا فيها أشياء قليلة بالنسبة إلى ما علمناه، كتعيين أوقات الصلوات (¬10) الخمس، وشهر رمضان، ونصب الزكاة، وتحديد الحدود، والكفارات وغيرها، ولم تعلم (¬11) مصلحة ذلك (¬12). ¬
فنقول: هذه الأشياء القليلة التي لم نعلم مصالحها فيها مصالح، وإن كنا لا نعلمها قياسًا للقليل على الكثير لتطرد قاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد. قوله: (طردًا (¬1) لقاعدة (¬2) الشرع) أي: تعميمًا لقاعدة الشرع. قال المؤلف في الشرح: ومثال ما ذكرته: أن ملكًا إذا كانت عادته أنه لا يخلع اللباس الأخضر إلا على الفقهاء، فرأيناه خلع الأخضر على رجل لم نعرفه، فإنّا نعتقد أن ذلك الرجل فقيه لأجل قاعدة ذلك الملك (¬3). قوله: (في عادته في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل) هذا إجماع أهل السنة. خلافًا لأهل الاعتزال القائلين: بأن الله عز وجل (¬4) يراعي مصالح العباد على سبيل الوجوب العقلي (¬5)، ومعنى ذلك عندهم: أنه يستحيل عليه تعالى ¬
خلاف ذلك؛ لأنه حكيم، والحكيم لا يفعل المفسدة، وأما أهل السنة فالله تعالى عندهم له أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد. قوله: (فقد تلخص أن التعيين في الفوريات لتكميل مصلحة المأمور به وفي العبادات (¬1) لمصالح (¬2) في الأوقات (¬3) فظهر الفرق). ش: أي ظهر الفرق بين ما يوصف بالأداء والقضاء وبين ما لا يوصف بهما (¬4) مع اشتراكهما في تعيين الوقت. قوله: [الأداء إِيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت] (¬5). ش: هذا (¬6) الحد حرز به المؤلف حد الأداء، وعدل المؤلف عن الحد الذي حد به القدماء الأداء والقضاء، وهو قولهم: الأداء: إيقاع الواجب في وقته، والقضاء: إيقاع الواجب خارج وقته، وذلك أنه رأى حد (¬7) القدماء ليس بجامع ولا مانع. ¬
[وإنما قلنا: ليس بجامع] (¬1) لخروج النفل المؤقت (¬2) بوقت (¬3)، كالوتر والعيد، لأن (¬4) ذلك يوصف بالأداء كما نص عليه المؤلف بقوله بعد هذا (¬5): وقد يوصف (¬6) بالأداء وحده كالجمعة والعيد (¬7) بزوالهما (¬8). [وإنما] (¬9) قلنا: ليس بمانع لدخول الفوريات فيه مع أنها لا توصف (¬10) بالأداء. قوله: (الأداء إِيقاع العبادة (¬11) إِلى آخر هذا الحد (¬12)) ولو ركبه المؤلف هذا التركيب، فهو: معترض، فإنه غير مانع لدخول ما ليس بمحدود في الحد، وذلك أن قوله: (إِيقاع العبادة) يصدق على الإعادة، ويصدق أيضًا على قضاء رمضان؛ لأن وقت قضائه ما بين رمضان ورمضان وهو وقت معين، فينبغي أن يزاد في الحد فيقال: الأداء (¬13): إيقاع العبادة أولاً في وقتها ¬
المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها بالأمر (¬1) الأول (¬2). فقولنا أولاً: احترازًا من الإعادة. وقلنا (¬3): بالأمر الأول: احترازًا من قضاء رمضان؛ فإنه بالأمر الثاني لا بالأمر الأول على مذهب المحققين. وسيأتي بيانه في باب الأوامر في قول المؤلف: لا يوجب القضاء عند اختلال المأمور به عملاً بالأصل، بل القضاء بأمر جديد خلافًا لأبي بكر الرازي (¬4). قوله: (الثاني: القضاء وهو (¬5): إِيقاع العبادة خارج وقتها الذي عيّنه الشرع لمصلحة فيه). ش: هذا هو المطلب الثاني في بيان حقيقة القضاء (¬6) أي ¬
الواجب (¬1) من أوصاف العبادة (¬2) هو القضاء. وهذا الحد ركبه المؤلف من جنس وخمسة قيود، كما تقدم في حد الأداء: القيد الأول: هو قوله: (العبادة) احترز به من غير العبادة. والقيد الثاني: هو قوله: (خارج وقتها) احترز به من الأداء، إلا أن قوله: (خارج وقتها) أراد به بعد وقتها، وإن كان قوله: (خارج [وقتها] (¬3)) يصدق على قبل العبادة (¬4) وبعدها. والقيد الثالث: هو قوله: (الذي عينه) احترز به من حجة القضاء؛ لأن الحج وظيفة العمر، كما تقدم في الأداء؛ لأنه ليس بالقضاء الذي حده المؤلف ها هنا وسيأتي التنبيه عليه. والقيد الرابع: هو قوله: (عينه الشرع) احترز (¬5) به مما عينه العرف كأمر السيد لعبده بفعل في وقت عينه له ثم فعله بعد ذلك الوقت فلا يسمى قضاء؛ لأن الشرع لم يعين ذلك الوقت. ¬
والقيد الخامس: هو قوله: (لمصلحة فيه) احترز به من الفوريات إذا فعلت بعد مضي الزمان الفوري (¬1) فلا يسمى قضاء (¬2)، كما لا يسمى إذا فعل في الزمان الفوري أداء. واعترض هذا الحد بأن قيل: ليس بجامع؛ لأنه خرج منه قضاء رمضان؛ لأن زمان قضائه عينه الشرع كما عين زمان أدائه، فإن زمان قضائه هو السنة التي تلي شهر الأداء أجيب عنه بأن قيل: يزاد في الحد أولاً، أي الذي عينه الشرع أولاً لمصلحة فيه، وهو أيضًا غير جامع؛ لأن القضاء يقال في الاصطلاح على فعل العبادة بعد تعينها بالشروع فيها كحجة القضاء، ويقال القضاء أيضًا لما يفعله المدرك على غير نظامه. أجيب عنه بأن قيل: القضاء في الاصطلاح لفظ (¬3) مشترك بين ثلاثة معان: يقال على إيقاع العبادة خارج وقتها. ويقال على إيقاع العبادة بعد تعينها بالشروع فيها. ويقال على ما فعل على غير نظامه (¬4) من حيث تقديم السر على الجهر. ¬
والمعنى الذي حده المؤلف من هذه (¬1) المعاني الثلاثة هو الأول منها، فإن من حد معنى واحدًا من معاني (¬2) اللفظ المشترك فلا يرد عليه الباقي نقضًا؛ لأن من حد العين الباصرة فلا يرد عليه الذهب وغيره مما يسمى عينًا لاختلاف الحقائق (¬3)، [فلا تجمع الحقائق] (¬4) المختلفة بحد واحد؛ لأن الحقائق المختلفة يجب أن تكون حدودها مختلفة. واعترض بعضهم هذا الحد بأن قال: هذا الحد غير جامع لكل ما يقال ¬
له (¬1): القضاء؛ لأنه (¬2) يقال على عشرة معان: يقال على الفراغ: كقوله تعالى (¬3): {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (¬6). ويقال على التمام: كقوله تعالى: [{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} (¬7). ويقال على الفصل: كقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬8). ويقال على وجوب العذاب: كقوله تعالى] (¬9): {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (¬10). ويقال على الحتم: كقوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} (¬11). ويقال على الإخبار والإعلام: كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (¬12). ¬
ويقال على الحكم والأمر (¬1): كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} (¬2). ويقال على الفعل: كقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (¬3)، ومنه قول الشاعر: وعليهما (¬4) مبرودَتان (¬5) قضاهما (¬6) ... داود أو صَنْعُ (¬7) السَّوابغ تبَّعُ (¬8) ¬
وبمعنى الخلق: كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬1). ويقال على الموت: كقوله تعالى (¬2): {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (¬3). وهذه المعاني (¬4) يطلق القضاء عليها (¬5) جميعًا (¬6) ولم يتناولها حد المؤلف. أجيب عن هذا بأن قيل: الاعتراض بهذا لا يلزم المؤلف؛ لأن المؤلف إنما حد المعنى الاصطلاحي، وأما المعنى اللغوي فلم يتعرض له المؤلف، فإن هذه المعاني كلها لغوية. قوله: (تنبيه: لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه عند الإمام والمازري وغيرهما من المحققين خلافًا للقاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء؛ لأن (¬7) الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمان (¬8) الحيض، والحرام لا يتصف بالوجوب، وبسط ذلك (¬9) في كتاب الطهارة في ¬
موانع الحيض مذكور (¬1)). ش: هذا هو المطلب الثالث وهو: التنبيه على ضعف القول باشتراط تقدم الوجوب في القضاء، ومعنى التنبيه: إيقاظ من غفلة الوهم، تقدير كلامه هذا تنبيه على وهم. واعلم أن الواجب إذا لم يفعل في وقته المقدر له أن فعله بعد ذلك قضاء حقيقة (¬2) باتفاق، وإن لم ينعقد سبب وجوبه في الوقت المقدر له أن فعله بعد ذلك ليس بقضاء لا حقيقة ولا مجاز باتفاق، كفوات الصلاة في زمان الصبا. واختلفوا فيما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع كالصوم في حق الحائض، والمريض، والمسافر، وكالصلاة في حق النائم (¬3): فذهب (¬4) جمهور العلماء: إلى أن فعله بعد وقته قضاء حقيقة، وبه قال الإمام فخر الدين (¬5)، والإمام المازري. وذهب جماعة من العلماء: إلى أن فعله بعد وقته ليس بقضاء، وإنما هو أداء؛ لأنه واجب بأمر جديد لا (¬6) بأمر قديم، وإطلاق القضاء عليه مجاز لا ¬
حقيقة، وبه قال الباجي (¬1) والغزالي (¬2). وسبب الخلاف في هذا: اختلافهم في فائدة القضاء: فقيل: فائدة القضاء استدراك لمصلحة تقدم سبب الوجوب. وقيل: فائدة القضاء استدراك لمصلحة تقدم الوجوب. فمن قال: فائدته استدراك لمصلحة تقدم سبب الوجوب، قال: القضاء بعد ذلك حقيقة؛ لأنه استدراك لما فات. ومن قال: فائدته استدراك لمصلحة تقدم (¬3) الوجوب قال: القضاء بعد (¬4) ذلك (¬5) مجاز لا حقيقة لعدم تقدم الوجوب. وقال القاضي عبد الوهاب: بل القضاء حقيقة لتقدم الوجوب، فإن الحائض يجب عليها الصوم في زمان حيضها، ولكن منع مانع الحيض. وذلك أن القائلين بأن فائدة القضاء هي (¬6) استدراك لمصلحة تقدم الوجوب قد اختلفوا على قولين: منهم من قال: لا يجب الصوم (¬7) على الحائض في زمان حيضها، ¬
وهو مذهب المحققين، منهم الباجي (¬1) في المنتقى (¬2)، والغزالي (¬3). ومنهم من قال: يجب عليها الصوم ولكن منعه الحيض شرعًا؛ فالقضاء في حقها حقيقة. قوله (¬4): (لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه). ش: أي: لا يشترط في كون القضاء قضاء حقيقة أن يتقدم وجوب الفعل، بل المشترط (¬5) هو تقدم سبب الوجوب كمثل رؤية الهلال [فإن رؤية الهلال] (¬6) سبب لوجوب الصوم، هذا مذهب الإمامين: الإمام فخر الدين (¬7)، والإمام المازري، وجماهير المحققين. وقال القاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء: بل يشترط في القضاء أن يتقدم الوجوب مع السبب (¬8). وقوله: (خلافًا للقاضي عبد الوهاب). ¬
قال المؤلف في الشرح: معنى هذا أن القاضي عبد الوهاب قال: الحيض يمنع صحة الصوم دون وجوبه، فاشترط في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب مع السبب، ولم يجعل ذلك شرطًا عامًا، ووافقه الحنفية على وجوب الصوم عليها، إلا أنهم قالوا: يجب عليها وجوبًا موسعًا. انتهى نصه (¬1). فتحصل مما ذكرنا بأن (¬2) الحائض في زمان حيضها فيها ثلاثة أقوال: قيل: لا يجب عليها الصوم، كما قاله (¬3) المازري. وقيل: يجب عليها، كما قاله القاضي عبد الوهاب. وقيل: يجب عليها وجوبًا موسعًا، كما قاله الحنفية. واحتج القائلون بعدم الوجوب عليها بالدليل العقلي القطعي، وهو اجتماع النقيضين، وذلك أنه لا يجوز أن يكلف الإنسان بأمرين متناقضين (¬4) في حالة واحدة؛ لأن الوجوب والحرام متناقضان، فكيف يجب الصوم عليها ويحرم عليها في حالة واحدة، فإن الواجب (¬5) راجح الفعل والحرام راجح الترك، والجمع بين الفعل والترك محال لتناقضهما، فكيف يقال للإنسان (¬6): ¬
هذا واجب عليك فإن تركته عوقبت عليه؟ وهو أيضًا حرام عليك (¬1) فإن فعلته عوقبت عليه؟ فمقتضى ذلك أنه يعاقب مطلقًا فعله أو تركه، وهذا شيء لا (¬2) يتعاهد في الشريعة. فهذا معنى قول المؤلف: لأن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمان الحيض؛ والحرام لا يتصف بالوجوب، فهذا دليل ضروري قاطع على أن الحائض لا يجب عليها الصوم في زمان حيضها. ورد هذا الدليل: بأن تحريم الفعل لا يدل على عدم وجوبه، بدليل المحدث؛ فإن الصلاة تحرم عليه في حال (¬3) الحدث وهي واجبة عليه إجماعًا. وأجيب عنه: بأن المحدث (¬4) متمكن من إزالة المانع بخلاف الحائض. واحتج القائلون بالوجوب بثلاثة أدلة: أحدها: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬5). وهي قد شهدت الشهر فيجب عليها الصوم. الثاني: أنها تنوي بصومها قضاء رمضان، فلولا تقدم الوجوب لما احتاجت إلى إضافته لرمضان (¬6). الثالث: أنها تقضي مقدار (¬7) ما فات لها فيقدر القضاء بمقدار الأداء بمنزلة ¬
القيم مع المتلفات، فكما أن القيمة تقوم مقام المتقوم (¬1) المتقدم (¬2) فكذلك يكون هذا الصوم، يقوم مقام الوجوب المتقدم. وأجيب عن الدليل الأول: وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3): بأنه (¬4) يعارضه الدليل القطعي الذي قررناه، وهو أنه يؤدي إلى اجتماع النقيضين وهما: الوجوب والتحريم، وإذا تعارض الظاهر والنص القطعي [فإن القطعي] (¬5) مقدم على الظاهر. وأجيب عن الدليل الثاني: وهو كونها تنوي بصومها قضاء رمضان: أنها إنما تنوي رمضان لتمييز هذا الصوم عن غيره من أنواع الصوم؛ لأن العبادة لا بد لها من نية تميزها عن غيرها فتضيف صومها إلى رمضان لتمييز هذا الصوم من سائر أنواع الصوم، أي ليس هذا الصوم تطوعًا، ولا نذرًا، ولا كفارة، ولا صومًا (¬6) مبتدأ [الآن، وإنما سببه الترك المتقدم لا تقدم الوجوب] (¬7). وأجيب عن الدليل الثالث: وهو كونها تقضي مقدار ما فات لها: أن الله تعالى جعل التقدير في رمضان سببًا لوجوب مثله بعد رمضان، أي: ¬
جعل الله تعالى (¬1) كل يوم من (¬2) رمضان سببًا لوجوب صوم يوم بعد رمضان فيقدر القضاء بقدر المتروك لا لتقدم الوجوب (¬3). وأما الحنفية القائلون بأن الصوم يجب على الحائض وجوبًا موسعًا فقالوا: لا يلزمنا الاجتماع بين الوجوب والحرام؛ لأن وقت الوجوب موسع؛ إذ لا تصوم هذا الواجب إلا بعد (¬4) رمضان. قال المؤلف في القواعد: هذا المذهب باطل؛ لأن الواجب الموسع يجوز فعله في أول أزمنة التوسعة باتفاق، ولا يجوز للحائض أن تصوم في جميع زمان الحيض باتفاق، ولو صح ما قالوه [من الواجب الموسع] (¬5) لصح أن يقال: الظهر تجب (¬6) من طلوع الشمس وجوبًا موسعًا [فإنها تفعل يعد الزوال كما يفعل بالصوم بعد رمضان، ويصح أيضًا أن يقال: إن رمضان يجب من رجب وجوبًا موسعًا] (¬7) ويفعل بعد انسلاخ شعبان، كما يفعل الصوم بعد زوال العذر، وذلك (¬8) كله خلاف الإجماع، فلا يصح ما قالوه من الواجب ¬
الموسع. انتهى (¬1) نصه. وقال الإمام المازري: فإن أردت الاعتذار عن القاضي عبد الوهاب وإلحاقه بالجمهور في هذه المسألة، وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع، فيكون معنى قوله: الحيض (¬2) يمنع الصوم دون وجوبه، أنه لا يمنع الوجوب منعًا كليًا؛ لأن الصوم يجب (¬3) عليها بعد انقضاء الحيض بخلاف الصلاة، فإن الحيض يمنعها منعًا كليًا. قوله: (لأن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمان الحيض). هذا دليل الجمهور. وظاهر هذا أن هذا (¬4) الخلاف خاص بالحائض، وهو ظاهر كلام المؤلف في الشرح أيضًا؛ لأنه قال في الشرح: اشترط القاضي عبد الوهاب في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب مع السبب، ولم يجعل ذلك شرطًا عامًا. انتهى (¬5). وليس كذلك، بل وقع الاختلاف بين الأصوليين في الحائض وغيرها من ¬
المسافر، والمريض، فذكر المازري فيهم (¬1) أربعة أقوال: قيل: يخاطب الجميع؛ لأن القضاء واجب عليهم والقضاء حقيقة في ترك الواجب. وقيل: بعدم خطابهم، قاله الكرخي؛ لأن جواز التأخير أو وجوب التأخير ينافي الوجوب. وقيل: بخطاب المسافر والمريض؛ لأنهما لو صاما لبرئت ذمتهما، بخلاف الحائض فلا يجب عليها؛ إذ لا يجتمع الوجوب والتحريم. وقيل: بخطاب المسافر دون المريض والحائض؛ لأن المريض في حكم العاجز، والعاجز لا يكلف، وأما المسافر فيجوز له التأخير، ولم يسقط عنه التكليف. قوله: (وبسط ذلك في كتاب الطهارة في موانع الحيض مذكور) معناه: وبيان الحجج وأجوبتها مذكور في كتاب الطهارة من الذخيرة (¬2) قاله المؤلف في الشرح (¬3). قوله: (ثم تقدم السبب قد يكون مع الإِثم كالمتعمد التمكن وقد لا يكون كالنائم والحائض). ش: الألف واللام في قوله: السبب للعهد المتقدم في (¬4) قوله: ¬
لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه. قوله: (ثم تقدم السبب) أي: تقدم سبب (¬1) وجوب القضاء كدخول الوقت مثلاً. قسم المؤلف ذلك السبب قسمين: قسم يؤثم المكلف معه. وقسم لا يؤثم المكلف معه. فالذي يؤثم المكلف معه هو: ترك العبادة في وقتها [عمدًا] (¬2) اختيارًا. وقولنا: (عمدًا) احترازًا [من الناسى؛ إذ لا إثم على الناسي لقوله (¬3) عليه السلام: "رفع القلم عن الناسي حتى يذكر" (¬4) ¬
وقولنا: اختيارًا، احترازًا] (¬1) من العاجز؛ فإن (¬2) العاجز معذور ولا إثم عليه، وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: (كالمتعمد المتمكن). واحترز (¬3) بـ (المتعمد) لترك العبادة في الوقت من غير المتعمد. واحترز بـ (المتمكن) من فعل العبادة في غير وقتها من غير المتمكن، وهو العاجز عن فعلها في وقتها، وإنما يؤثم المتعمد (¬4) المتمكن لتمكنه من الفعل. والقسم الذي لا يؤثم المكلف معه هو ترك العبادة في وقتها لعذر عقلي أو شرعي. ¬
مثال العذر العقلي: النوم. ومثال الشرعي: الحيض. وإلى هذا القسم أشار المؤلف بقوله: [وقد لا يكون (¬1) كالنائم والحائض] معناه: وقد لا يكون تقدم السبب مع الإثم كالنائم والحائض؛ إذ لا إثم عليهما، قال عليه السلام: "رفع القلم عن النائم حتى ينتبه" (¬2)، وإنما لا يؤثم في (¬3) هذا القسم لعدم التمكن من الفعل. قوله: (والمزيل للإِثم قد يكون من جهة العبد كالسفر وقد لا يكون كالحيض). ش: لما ذكر أن السبب قد يكون مع الإثم أراد (¬4) أن يبين ها هنا السبب الذي يزول به ذلك الإثم، فذكر ها هنا أن الذي (¬5) يزول به ذلك الإثم قسمان: ¬
أحدهما: ما يكون من جهة العبد كالسفر؛ فإن المسافر لا إثم عليه إذا أفطر في رمضان. والقسم الآخر: ما (¬1) يكون من غير جهة العبد كالحيض؛ فإن الحائض لا إثم عليها في ترك الصوم. قوله: (والمزيل (¬2) قد (¬3) يصح معه الأداء كالمرض وقد لا يصح، إِما شرعًا كالحيض وإِما (¬4) عقلاً كالنوم). ش: لما بيّن المؤلف السبب الذي يكون معه الإثم والذي لا يكون معه الإثم، وبيّن السبب الذي يزيل الإثم، أراد أن يبين ها هنا السبب الذي يصح معه الأداء، والسبب الذي لا يصح معه الأداء. فمثل (¬5) السبب الذي يصح معه أداء (¬6) العبادة في وقتها بالمرض. ومثل (¬7) السبب الذي لا يصح معه فعل العبادة في وقتها بالحيض، والنوم، فإن الحيض يمنع من فعل العبادة باعتبار الشرع، وأما العقل فلا يمنع ذلك؛ لأن ذلك أمر جائز عقلاً، وأما النوم فإنه يمنع العبادة عقلاً وشرعًا؛ لأن النائم غير مكلف في حال نومه حتى ينتبه. ¬
قوله: (قد (¬1) يصح معه الأداء كالمرض) هذا (¬2) إذا كان المرض لا يفضي إلى هلاك عضو أو نفس [فإن هذا القسم يصح معه الأداء باتفاق] (¬3). وأما إذا كان المرض (¬4) يفضي (¬5) إلى هلاك عضو أو نفس فلا يجوز (¬6) معه الأداء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬7). ثم إذا وقع ونزل وفعل العبادة مع هذه الحالة الممنوعة فهل تجزئه تلك العبادة أم لا؟ ذكر فيه الغزالي احتمالين (¬8): قال: يحتمل أن يقال: لا يجزئه ذلك؛ لأنه حرام، والحرام لا يجزئ عن الواجب. ويحتمل أن يقال: يجزئه ذلك، تخريجًا على الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن الصلاة فيها تصح، فإن كل واحد منهما مطيع لله (¬9) تعالى (¬10) في فعل العبادة، وهو عاصٍ من جهة أخرى (¬11)؛ لأن المريض الصائم جنى على ¬
نفسه بالفساد كما جنى الغاصب على منافع المغصوب، فكل واحد منهما مطيع لله تعالى (¬1) بفعل (¬2) العبادة، وكل واحد منهما جائر، أحدهما: جائر على نفسه [وهو المريض] (¬3) والآخر جائر على غيره [وهو غاصب الدار] (¬4). قوله: (فائدة: العبادة قد توصف بالأداء والقضاء (¬5) كالصلوات الخمس، وقد لا توصف بهما كالنوافل، وقد توصف (¬6) بالأداء وحده كالجمعة والعيدين). ش: قال المؤلف في الشرح: تمثيلي بالعيدين إنما هو على مذهب مالك (¬7) رحمه الله (¬8). وأما الشافعي فإنها عنده توصف (¬9) بالأداء والقضاء (¬10)؛ لأنه يقول (¬11) ¬
بالقضاء في كل نافلة لها سبب (¬1). قوله: (كالجمعة). قال المؤلف في الشرح: فيه إشكال من جهة أن العرب لا تصف الشيء بصفة إلا إذا كان قابلاً لضدها [فلا يقولون للحائط أعمى وإن كان لا يبصر؛ لأنه لا يقبل البصر، وكذلك لا يقال أصم، وإن كان لا يسمع؛ لأنه لا يقبل السماع (¬2)] (¬3)، فيلزم على هذا ألا توصف صلاة الجمعة بالأداء؛ لأنها لا تقبل القضاء (¬4). أجيب عن هذا: بأن الشيء (¬5) لا يوصف بصفة إلا إذا كان قابلاً لضدها، إنما ذلك باعتبار العقل والعادة، وأما باعتبار الشرع (¬6) [فلا] (¬7)؛ لأن الشرع هو الذي منع صلاة الجمعة من قبول القضاء، [وأما العقل والعادة فلا يمنعان ذلك] (¬8). قوله: (الثالث الإِعادة، وهي: إِيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إِيقاعها ¬
على نوع من (¬1) الخلل في الإِجزاء (¬2)). ش: شرع ها هنا في بيان الوصف الثالث من أوصاف العبادات (¬3) [وهو: الإعادة (¬4)] (¬5). واحترز بقوله: (العبادة) من غير العبادة وهو: العادة (¬6). واحترز بقوله: في (وقتها) من القضاء. واحترز بقوله: (بعد تقدم إِيقاعها) من الأداء؛ لأنه فعل أولاً. وقوله: (على نوع من الخلل) أي على ضرب كالنقص (¬7). وقوله (¬8): (الإِجزاء) (¬9) بكسر الهمزة أراد به الصحة، يريد أو في الكمال؛ بدليل تفسيره [لمحل] (¬10) [الخلل] (¬11). ¬
وقوله: (في الإِجزاء) في الكلام حذف المعطوف تقديره: على نوع من الخلل في الإجزاء أو في الكمال. ويدل على هذا أنه قال في النفائس (¬1): "يريد الإمام بالخلل ما هو أعم من الإجزاء والكمال" (¬2). قوله: (في الإِجزاء). قال أبو زكريا المسطاسي: يتعين ضبطه بكسر الهمزة وهو الصحة، فمن ضبطه بفتح الهمزة فلقد غلط؛ لأن المؤلف جعل الكمال قسيمه في قوله، ثم الخلل قد يكون في الصحة، وقد يكون في الكمال، والمراد بالصحة: الإجزاء بكسر الهمزة، ولا يصح كون الكمال قسيمه إلا إذا كان بكسر الهمزة؛ لأن الصلاة بدون الطهارة لا خلل فى جزء من أجزائها؛ لأن الطهارة ليست من أجزاء الصلاة، وكذلك صلاة المنفرد لا خلل أيضًا في جزء (¬3) من أجزائها (¬4). وقوله (¬5): (الإِعادة إِيقاع العبادة في وقتها) معترض من جهة أن الإعادة عند مالك رحمه الله [تكون] (¬6) في الوقت وبعد الوقت؛ لأنها تكون في ¬
الوقت لاستدراك المندوبات، وتكون (¬1) بعد الوقت لاستدراك الواجبات (¬2). أجيب عنه: بأنه تبع في ذلك لفظ الإمام في المحصول (¬3)، ولكن زاد المؤلف على حد الإمام قوله: (في الإِجزاء)؛ لأن حد الإمام تمامه قوله على (¬4) نوع من (¬5) الخلل وليس فيه في الإجزاء، والأولى إسقاط قوله: (في وقتها) لئلا يكون مناقضًا لآخر كلامه؛ [لأن الإنسان] (¬6) إذا أخل بشرط أو ركن يعيد أبدًا، والأولى أيضًا: إسقاط قوله: (في الإِجزاء)، لئلا يكون مناقضًا لآخر كلامه؛ لأن الخلل يكون في الإجزاء ويكون في الكمال. قوله: (ثم الخلل قد يكون في الصحة، كمن صلى بدون شرط أو ركن، وقد يكون في الكمال كمن صلى منفردًا (¬7)). ش: وفي بعض النسخ كالمنفرد (¬8) بالصلاة ومعناهما واحد، فالإعادة في حق من صلى بدون شرط أو ركن: خلل في الإجزاء أي: في الصحة، ¬
والإعادة في حق من صلى وحده وأعادها في جماعة: خلل في الكمال. [مثال الشرط: الطهارة] (¬1) ومثال الركن: تكبير الإحرام. قوله: (الرابع: الصحة وهي عند المتكلمين بها وافق الأمر، وعند الفقهاء ما أسقط القضاء، والبطلان يتخرج على المذهبين). ش: شرع المؤلف - رحمه الله تعالى - ها هنا في بيان الوصف الرابع من أوصاف العبادات وهو الصحة. الصحة لغة: تقال على مقابلة المرض (¬2)، وتقال على الثابت؛ كقولنا: صح قول فلان إذا ثبت. وأما بالنسبة إلى الشرع: فتارة تطلق على العبادات، وتارة تطلق على عقود المعاملات. فذكر المؤلف - رحمه الله - أن الصحة باعتبار العبادات في معناها قولان (¬3): قول المتكلمين. ¬
وقول الفقهاء. فمعناها عند المتكلمين: عبارة عن موافقة الأمر الشرعي سواء وجب القضاء أو لم يجب. ومعناها عند الفقهاء: عبارة عن كون الفعل مسقطًا للقضاء (¬1). قوله: (والبطلان يتخرج على المذهبين). يعني: أن معنى البطلان في العبادات يتخرج (¬2) على هذين القولين المذكورين في معنى الصحة. فمعنى البطلان على مذهب المتكلمين ما خالف (¬3) الأمر. ومعنى البطلان على مذهب الفقهاء: ما أمكن أن يترتب فيه القضاء (¬4). قوله: (فصلاة من ظن الطهارة وهو محدث صحيحة عند المتكلمين؛ لأن الله تعالى أمره أن يصلي صلاة تغلب (¬5) على ظنه طهارتها (¬6) وقد ¬
فعل (¬1) وهو موافق للأمر (¬2)، وباطلة عند الفقهاء؛ لكونها لم تمنع من ترتب القضاء). ش: قال المؤلف في الشرح: لا خلاف بين الفريقين في المعنى؛ لأنهم اتفقوا على جميع الأحكام؛ لأنهم اتفقوا على أنه موافق لأمر الله تعالى (¬3)، وأنه مثاب، وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على الحدث؛ وأنه لا (¬4) يجب عليه القضاء إذا لم يطلع على الحدث. وإنما الخلاف في التسمية خاصة هل يقال: لفظ الصحة لما وافق الأمر سواء وجب القضاء أو لم يجب، أو لا (¬5) يقال: لفظ الصحة إلا لما (¬6) لا يمكن أن يتعقبه القضاء (¬7). قال المؤلف في الشرح: مذهب الفقهاء أنسب إلى اللغة؛ فإن العرب لا تسمي [الإناء] (¬8) صحيحًا إلا إذا كان صحيحًا من جميع الجهات، وأما إذا كان فيه كسر ولو من جهة واحدة فلا تسميه (¬9) صحيحًا، وهذه الصلاة (¬10) مختلة (¬11) على ¬
تقدير ذكر الحدث (¬1) فلا تسمى صحيحة بمنزلة الإِناء المكسور من (¬2) بعض الجهات (¬3). قوله: (فصلاة من ظن الطهارة وهو محدث) أطلق الظن على الاعتقاد، أي: اعتقد أنه على (¬4) طهارة ثم ظهر له بعد الصلاة (¬5) أنه على حدث. وقوله: (عند المتكلمين) يعني جمهور المتكلمين؛ لأن بعض المتكلمين قالوا بمثل قول الفقهاء. واعترض قوله: (ما أسقط القضاء) بأن قيل: هذا تحديد الشيء بما هو أخص منه؛ فإن الصحة أعم من سقوط القضاء؛ فإن سقوط القضاء إنما (¬6) يقال في الفرض (¬7) خاصة ولا يقال في النفل، وأما الصحة فتقال في الفرض وفي النفل، فقد عرف الشيء بما هو أخص منه؛ كتفسير الحيوان بالإنسان (¬8). أجيب عنه: بأن القضاء قد يوجد في النوافل على مذهب الشافعي، وقد روي عن مالك (¬9) أن ركعتي الفجر تقضى بعد طلوع الشمس (¬10)، وكذلك ما ¬
شرع فيه من التطوعات وأبطله، قاله (¬1) مالك أيضًا (¬2) وأبو حنيفة. قوله: (وأما فساد العقود: فهو خلل يوجب عدم ترتب (¬3) آثارها عليها إِلا أن تلحق بها عوارض على أصولنا يأتي تفصيلها في كتاب البيوع وغيرها إِن شاء الله) (¬4). ش: لما ذكر المؤلف معنى الفساد والصحة في العبادات أراد أن يبين ها هنا معناهما في العادات (¬5)، وهي: العقود كعقد البيع، وعقد القراض (¬6) وعقد النكاح، وغير ذلك، نذكر أن معنى الفساد بالنسبة إلى العقود هو خلل يوجب عدم ترتب آثارها عليها، الضمير في قوله: (آثارها)، وفي قوله: (عليها) عائد (¬7) على العقود. والمراد بالآثار هي (¬8): الفوائد المطلوبة (¬9) من العقود. ¬
والمراد بالترتب (¬1): هو التمكن (¬2) من تلك الفوائد، فتقدير (¬3) كلامه: فهو خلل يوجب عدم تمكن الفوائد على العقود. وتلك الفوائد تختلف باختلاف العقود: ففائدة البيع مثلاً الأكل، والبيع (¬4)، والهبة، والصدقة، والوقف، وغير ذلك. وفائدة الإجارة: التمكن من المنافع. وفائدة القراض: استحقاق الربح، وعدم الضمان. وفائدة النكاح: التمكن من أنواع الاستمتاع، والتمكن من الطلاق وغير ذلك. وإنما سكت المؤلف عن تعريف الصحة في العقود اكتفاء عنها بتعريف الفساد؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها، فإن معنى الصحة يفهم من معنى الفساد، فلما كان الفساد (¬5) خللاً (¬6) يوجب عدم ترتب آثارها عليها يكون معنى الصحة ترتب آثارها عليها. وإنما سكت المؤلف عن الفساد في العبادات؛ لأنه ذكر فيها البطلان في قوله: (والبطلان يتخرج على المذهبين). ¬
وسكت عن البطلان في العادات (¬1)؛ لأنه ذكر فيها (¬2) الفساد دون البطلان، فإنما فعل ذلك؛ إذ لا فرق بين الفساد والبطلان، فإنهما مترادفان عندنا وعند الشافعية. وأما الحنفية فقد فرقوا بين الباطل والفاسد فقالوا: الباطل ما نهي عنه لذاته كالخمر والخنزير، والفاسد: ما نهي عنه لوصفه كالربا (¬3). قوله: (إِلا أن تلحق به عوارض على أصولنا) يعني: أن النهي يدل على فساد المنهي عنه فيجب فسخه إلا أن تلحق بها عوارض أي: إلا أن تتصل بالعقود المنهي عنها لواحق وحوادث، فيقرر (¬4) حينئذ ويمضي بالقيمة، والمراد ¬
بالعوارض التي تقرر البيع الفاسد أربعة أشياء وهي: حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها. ولكن تقرير العقد الفاسد إذا اتصل به أحد هذه الأشياء يحتاج إلى تفصيل، بيّنه المؤلف في كتاب البيوع وغيره في الذخيرة (¬1). وإلى هذا أشار بقوله: يأتي تفصيلها في كتاب البيوع وغيره إن شاء الله. وقوله: (على أصولنا) أي: هذا على مذهبنا وقواعدنا نحن المالكية. وذلك أن فقهاء الأمصار اختلفوا في النهي: هل يدل على فساد المنهي عنه أو لا؟ ذهبت (¬2) الشافعية: إلى أنه يدل على الفساد مطلقًا (¬3) فلا يجوز الانتفاع ولو بيع ألف مرة، فيجب نقضه فطردوا أصلهم (¬4). وذهبت الحنفية إلى أنه يدل على الصحة مطلقًا (¬5) فيجوز الانتفاع به، وقالوا: إذا اشترى أمة شراءً فاسدًا يجوز له وطؤها، وكذلك جميع العقود الفاسدة فطردوا أيضًا أصلهم. ¬
وذهبت المالكية إلى التفصيل في ذلك فقالوا: يدل على الفساد، إلا إذا (¬1) اتصل به أحد أربعة أشياء المذكورة فيمضي بالقيمة؛ لأن البيع الفاسد يفيد شبهة الملك (¬2)، فلم يطرد (¬3) المالكية مذهبهم (¬4) وراعوا الخلاف؛ لأن مراعاة الخلاف أصل من أصول المالكية. وها هنا مسائل من النهي اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على صحتها وهي: الصلاة في الدار المغصوبة، والصلاة في الثوب المغصوب، والطهارة بالماء المغصوب، والمسح على الخف المغصوب، والحج بالمال الحرام. اتفقوا كلهم على صحة (¬5) هذه المسائل وخالفهم في ذلك أحمد بن حنبل (¬6) - رضي الله عنه - فقال: ¬
يمنع (¬1) ذلك كله (¬2). انظر: القواعد السنية للمؤلف في الفرق السبعين بين قاعدة اقتضاء النهي الفساد (¬3) في نفس الماهية، وبين اقتضاء النهي الفساد (¬4) في أمر خارج عن الماهية (¬5). قوله: ([الخامس] (¬6) الإِجزاء وهو كون الفعل كافيًا في الخروج عن عهدة التكليف (¬7) وقيل: ما أسقط القضاء). ش: شرع المؤلف (¬8) ها هنا في بيان الوصف الخامس من أوصاف العبادات وهو الإجزاء (¬9) يعني: أن الإتيان (¬10) بالفعل يكفي (¬11) في سقوط التعبد به، ¬
وإنما يكون كذلك إذا أتى به مستجمعًا لجميع الأمور (¬1) المعتبرة فيه من حيث وقع التعبد له. قوله: (ما أسقط القضاء) هذا قول الفقهاء المتقدم في الصحة. وقوله (¬2): (كون الفعل كافيًا في الخروج عن عهدة التكليف) هو معنى قوله في الصحة: ما وافق الأمر على قول المتكلمين. قال المؤلف في الشرح: فيلزم على هذا أن يكونا مسألة واحدة فلم [جعلوهما (¬3) مسألتين (¬4)؟ يعني أن الصحة والإجزاء يلزم على هذا (¬5) التقرير أن يكونا مترادفين. أجاب المؤلف في الشرح عن هذا فقال: العقود توصف بالصحة ولا توصف بالإجزاء، وكذلك النوافل من العبادات توصف بالصحة دون الإجزاء، وإنما يوصف بالإجزاء ما هو (¬6) واجب. ¬
ولذلك استدل جماعة من العلماء على وجوب الأضحية بقوله عليه السلام لأبي بردة بن [نيار] (¬1): "تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك" (¬2)، فحينئذ الصحة أعم من الإجزاء بكثير، فهما حقيقتان متباينتان فأمكن جعلهما مسألتين (¬3). قال المؤلف في الشرح: قولهم: الإجزاء ما أسقط القضاء، [غير متجه من جهة أن الذي يسقط القضاء هو المجزئ لا الإجزاء، فالأولى لصاحب هذا المذهب أن يقول: فالإجزاء] (¬4) هو كون الفعل مسقطًا للقضاء، فيجعله ¬
صفة للفعل لا لنفس الفعل. وحكى الإمام فخر الدين (¬1) أنه قيل: هو سقوط القضاء فجعله (¬2) صاحب هذا المذهب نفس (¬3) السقوط، فيلزمه حيث وجد سقوط القضاء يوجد الإجزاء. وليس كذلك، بل من مات وسط الوقت ولم يصل، أو صلى (¬4) صلاة فاسدة فإنه وجد في حقه سقوط القضاء، ولم يوجد الإجزاء، فإن القضاء إنما يتوجه بعد خروج الوقت وبقاء أهلية التكليف، والميت ليس أهلاً للتكليف، ولأنّا نعلل (¬5) سقوط (¬6) القضاء بالإجزاء والعلة مغايرة للمعلول فلا يكون الإجزاء نفس سقوط القضاء. انتهى (¬7) نصه. أجاب بعضهم عن هذين الإلزامين اللذين ألزمهما المؤلف لمن فسر الإجزاء بسقوط القضاء، أجاب عن الإلزام الأول الذي هو قوله: يوجد سقوط القضاء دون الإجزاء في حق من مات في وسط الوقت ولم يصل، أو صلى صلاة فاسدة: أن المراد بسقوط (¬8) القضاء إنما هو في حق من يمكن في حقه وجوب القضاء وهو الحي دون الميت. ¬
وأجاب عن الإلزام الثاني الذي هو قوله: يعلل (¬1) سقوط (¬2) القضاء بالإجزاء والعلة مغايرة للمعلول: أن العلة في سقوط القضاء هي (¬3) الإتيان بالمأمور به [على الوجه الذي أمر به لا نفس الإجزاء] (¬4). قال بعضهم: سكت المؤلف عن القبول مع أنه من أوصاف العبادات، إنما سكت عنه؛ لأنه من أصول الفقه، قاله في النفائس؛ وذلك أن القبول أمر غائب عنا لا تدركه (¬5) أحكامنا (¬6). وذكر المؤلف في القواعد (¬7) في الفرق الخامس والستين بين قاعدة ما يثاب عليه من الواجبات وبين (¬8) ما لا يثاب عليه، فذكر أن القبول مخالف للصحة والإجزاء: فإن الفعل قد يكون صحيحًا مجزئًا مبرئًا لذمة العبد، ومع ذلك لا يقبل ولا يثاب عليه، والدليل على ذلك: الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى في قصة ابني آدم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ ¬
الْمُتَّقِينَ} (¬1). لأنه تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر مع أن كل واحد منهما جاء على وفق الأمر (¬2). ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). فسؤالهما الله عز وجل القبول مع صحة فعلهما وإجزائه دليل على أن القبول مغاير للصحة والإجزاء. ومن السنة قوله عليه السلام في الأضحية: "اللهم تقبل من محمد وآل محمد" (¬4) ¬
فسؤاله عليه السلام القبول مع صحة فعله وإجزائه دليل على أن القبول خلاف الصحة والإجزاء. ومنه (¬1) قوله عليه السلام في الحديث الصحيح خرّجه مسلم: "من أحسن (¬2) في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام" (¬3). فاشترط الإحسان وهو التقوى في حصول الجزاء، فدل ذلك على أن القبول خلاف الصحة والإجزاء (¬4). وانعقد الإجماع على ذلك - نسأل الله (¬5) أن يتقبل منا أعمالنا بفضله وإحسانه - (¬6). فالقبول معناه: حصول الثواب. ¬
والصحة والإجزاء [معناهما: عدم العقاب. فيلزم من حصول الثواب عدم العقاب، ولا يلزم من عدم العقاب حصول الثواب. والقبول (¬1) أخص، والصحة (¬2) والإجزاء] (¬3) أعم، فكل مقبول مجزئ وليس كل مجزئ مقبول (¬4) (¬5). ... ¬
الفصل الخامس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام
الفصل الخامس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام (¬1) ش: الألف واللام في الأحكام للحوالة (¬2) المتقدمة في فصل الحكم الشرعي في قوله: (واختلف في أقسامه فقيل: خمسة: الوجوب، والتحريم، والندب، والكراهة، والإِباحة). وإلى تلك الأحكام الخمسة أشار بالألف (¬3) واللام، وهي الأحكام التكليفية قوله: (وهو ثلاثة: السبب، والشرط، وانتفاء المانع). قال المؤلف في الشرح: لا يوجد متوقف عليه وهو كمال ما يتوقف عليه [إلا أحد هذه الثلاثة، والعقليات والشرطيات (¬4) والعاديات، وقولي: وهو كمال ما يتوقف عليه] (¬5) احترازًا من جزء السبب، وجزء الشرط بخلاف جزء المانع لا يتوقف على انتفائه؛ بل يكفي انتفاء تلك الحقيقة، ويكفي في انتفائها ¬
جزء من أجزائها؛ إذ لو كان الجزء أيضًا مانعًا لكان ذلك موانع لا مانعًا (¬1) (¬2). [مثال جزء السبب: بعض النصاب في الزكاة. ومثال جزء الشرط: بعض الحول في الزكاة أيضًا] (¬3). قوله: (وهو (¬4) ثلاثة) يعني: كاملة، وإلا فهي خمسة باعتبار الجزئين (¬5) المذكورين. قوله: (وهو (¬6) ثلاثة) حصر المتوقف (¬7) في الثلاثة إنما هو من حيث الكمال لا من حيث الجزئية، وذلك أن الحكم يتوقف أيضًا (¬8) على جزء سببه وعلى جزء شرطه، كما (¬9) يتوقف على كمال السبب والشرط، بخلاف جزء المانع، فإن الحكم لا يتوقف (¬10) [على انتفائه، فلو توقف] (¬11) على انتفائه لزم أن يكون الباقي مانعًا مستقلاً. مثاله: القتل العمد العدوان مانعًا من الميراث، فإذا عدم الوصفان أو عدم أحدهما ثبت الميراث. ¬
وسبب ذلك أن توقف الحكم على السبب والشرط، إنما هو من حيث الوجود، فلا توجد الحقيقة (¬1) إلا (¬2) بوجود جميع أجزائها، وتوقف الحكم على المانع إنما هو من حيث العلم، وعدم الحقيقة يصدق بعدم جزء واحد من أجزائها، يعني: أن الحكم التكليفي يتوقف على الحكم الوضعي، فالمتوقف هو: الأحكام التكليفية والمتوقف [عليه] (¬3) هو الأحكام الوضعية؛ لأن كل حكم تكليفي لا بد له من سبب وشرط وانتفاء مانع، فإذا وجدت الأسباب والشروط وانتفت الموانع: وجب وقوع الحكم لدلالة تلك الأدلة على وقوعه، وإذا عدمت الشروط أو وجدت (¬4) الموانع: سقط وقوع الحكم لدلالة تلك الأدلة على سقوطه، وإن عدمت (¬5) الأسباب: سقط وقوع الحكم لعدم الدليل على وقوعه. ومثال ذلك: أن تقول (¬6) مثلاً: الزوال سبب لوجوب الظهر، والبلوغ شرط فيه، والحيض مانع منه، فإذا وجد الزوال والبلوغ وانتفى الحيض وجبت (¬7) صلاة الظهر، وإن عدم البلوغ أو (¬8) وجد الحيض: سقط وجوب ¬
صلاة الظهر، وإن عدم الزوال سقط وجوب الظهر أَيضًا. ومثال آخر (¬1): أن تقول (¬2) أيضًا (¬3): رؤية الهلال سبب لوجوب صوم شهر رمضان، والإقامة والقدرة شرط، والحيض مانع، فإذا وجدت الرؤية، والإقامة، والقدرة، وعدم الحيض: وجب الصوم، وإذا عدم الإقامة بسفر، وعدمت (¬4) القدرة بمرض أو وجد الحيض: سقط وجوب الصوم، وإن عدمت الرؤية: سقط الوجوب. ومثال آخر أيضًا: أن تقول (¬5): وجود (¬6) النصاب سبب لوجوب الزكاة، ودوران الحول شرط في وجوبها، والدين مانع لوجوبها، فإذا وجد النصاب ودوران الحول وعدم الدين وجبت الزكاة، وإذا عدم دوران الحول أو وجد الدين سقطت الزكاة، وكذلك إذا عدم النصاب قوله: (فإِن الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها (¬7) أسبابًا وشروطًا وموانع). ش: يعني بالأحكام ها هنا: الأحكام (¬8) [التكليفية] (¬9) الخمسة. ¬
قوله: (وشرع لها) أي: شرع لوقوعها في الوجود أسبابًا وشروطًا وموانع. قال أبو حامد الغزالي في المستصفى: لما انقطع الوحي وعسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال أظهر الله تعالى (¬1) خطابه [بنصب الأسباب (¬2)] (¬3). قوله: (وورود خطابه على قسمين: خطاب تكليف يشترط فيه علم المكلف، وقدرته، وغير ذلك كالعبادات). ش: هذا تفصيل الحكم الشرعي الذي حده المؤلف بخطاب الله تعالى (¬4) القديم في الفصل الثالث عشر، فذكر ها هنا أن ورود خطاب الله تعالى (¬5) في الشريعة منحصر (¬6) في (¬7) قسمين وهما (¬8): خطاب التكليف. وخطاب الوضع. ¬
فمعنى خطاب التكليف: ما كلف الله تبارك (¬1) وتعالى به عباده. ومعنى خطاب الوضع ما وضعه الله تبارك وتعالى دليلاً وعلامة لوقوع الأحكام الشرعية ولم يكلف به عباده. وخطاب التكليف محصور في خمسة أشياء وهي: الوجوب، والتحريم والندب، والكراهية، والإباحة. وخطاب الوضع محصور في خمسة أشياء أيضًا وهي: الأسباب، والشروط، والموانع، والتقادير الشرعية، والحجج عند القضاة. وسيأتي بيان جميع ذلك مع حروف (¬2) الكتاب [وزاد سيف الدين ثلاثة وهي: الصحة، والبطلان، والرخصة، فخطاب الوضع إذًا ثمانية] (¬3). قوله: (خطاب تكليف) [سمي] (¬4) هذا الخطاب بخطاب (¬5) التكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة، وهي توقع العقوبة الربانية، ولكن لا يوجد ذلك إلا في ترك الواجب وفعل المحرم، ولا يوجد ذلك في الأحكام الثلاثة الباقية، وهي: الندب، والكراهة، والإباحة؛ ولأجل ذلك نقول: الصبي غير مكلف وإن كان مندوبًا إلى الصلاة والحج على الأصح. وإنما أطلق خطاب التكليف على الجميع تجوزًا وتوسعًا، فغلب البعض ¬
على البعض على جهة التوسع، قاله المؤلف في الشرح (¬1). وهذا على (¬2) القول المشهور: أن الأحكام الثلاثة التي هي (¬3): الندب والكراهة، والإباحة لا تكليف فيها، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني (¬4): إن هذه الأحكام (¬5) الثلاثة تكليفية (¬6). قالوا: هذا الخلاف لفظي، وذلك [أنه إن أريد] (¬7) بالتكليف: ما لا يتخير (¬8) فيه بين الفعل والترك (¬9) فالأحكام (¬10) الثلاثة لا تكليف فيها كما قال الجمهور، وإن أريد (¬11) بالتكليف: وجوب اعتقاد كون المندوب مندوبًا، وكون ¬
المكروه مكروهًا، وكون المباح مباحًا فالأحكام الثلاثة تكليفية كما قاله (¬1) أبو إسحاق الإسفراييني. فالخلاف إذًا في اللفظ لا في المعنى؛ إذ لا خلاف بين القولين في المعنى. قوله: (يشترط فيه علم المكلف وقدرته وغير ذلك كالعبادات). ش: يعني أن خطاب التكليف الذي كلف الله به عباده يشترط فيه: أن يكون المكلف عالمًا (¬2) بأنه كلف (¬3)، أما إذا لم يعلم أنه كلف به فإنه معذور. فإن من (¬4) فعل محرمًا غير عالم بتحريمه أو ترك واجبًا غير عالم بوجوبه فلا إثم عليه، [ومن وطئ امرأة يظن أنها زوجته، أو شرب خمرًا يظن أنه خل فلا إثم عليه] (¬5) بالإجماع (¬6)؛ لعدم العلم؛ إذ العلم شرط في التكليف. والدليل على أن العلم شرط في التكليف: قوله تبارك وتعالى (¬7): {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬8)، نفى التعذيب حتى يحصل العلم بالتبليغ. ¬
وقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬1). فهذا يدل على أن الحجة تكون للخلق من جهة الجهل [بعدم] (¬2) التبليغ (¬3). وقوله: (وقدرته) يعني: أن المكلف يشترط أيضًا أن يكون قادرًا على ما كلف به (¬4)؛ إذ العاجز غير مكلف إجماعًا. والدليل على ذلك قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬5). فهذه الآية تدل على اشتراط (¬6) العلم والقدرة (¬7) في التكليف، فلو كلف الإنسان بما لا يعلمه، أو كلف بما لا يقدر عليه لكان تكليفًا بغير الوسع، والله (¬8) تعالى لا يكلف بغير [الوسع] (¬9) وهو المقدور عليه (¬10). وقوله: (وغير ذلك) الإشارة [تعود] (¬11) على الاثنين وهما: العلم ¬
والقدرة على حد قوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬1)، والمراد بهذا الغير: سائر الشروط التي تختص بكل عبادة؛ لأن كل عبادة لها شروط تختص بها. مثال ذلك: اشتراط الزوال في وجوب الظهر، واشتراط الإقامة في وجوب الجمعة ووجوب الصوم، واشتراط دوران الحول في وجوب الزكاة، واشتراط الاستطاعة في وجوب الحج وغير ذلك، وذلك كثير (¬2) مبسوط في كتب الفقه (¬3). وقوله (¬4): (كالعبادات) هذا (¬5) مثال لخطاب التكليف، وتقدير الكلام: خطاب تكليف كالعبادات يشترط فيه (¬6) علم المكلف وقدرته وغير ذلك. قوله: (كالعبادات) نحو: الصلاة والصيام والزكاة (¬7) والحج والجهاد. قوله: (وخطاب وضع لا يشترط فيه شيء من ذلك). ش: يقال له (¬8): خطاب وضع وخطاب (¬9) إخبار، سمي بخطاب ¬
وضع (¬1)؛ لأن الله تعالى (¬2) وضعه علامة لخطاب التكليف (¬3)، وسمي بخطاب إخبار؛ [لأنه لا طلب] (¬4) فيه؛ لأن الله تعالى (¬5) لم يأمر به أحدًا (¬6). قوله: (لا يشترط فيه شيء من ذلك) الإشارة تعود على الثلاثة المذكورة وهي: العلم، والقدرة، والغير. لما بين القسم الأول الذي هو خطاب التكليف، تعرض ها هنا لبيان مقابله الذي هو خطاب الوضع، فذكر أنه لا يشترط فيه علم المكلف، ولا قدرته ولا غيرهما، وإنما لا تشترط هذه الشروط المذكورة في خطاب الوضع؛ لأن المكلف لم يكلف بهذا حتى يحتاج إلى العلم والقدرة أو غيرهما؛ لأن (¬7) معنى (¬8) خطاب الوضع أن يقول الشارع مثلاً: إذا رأيتم كذا فاعلموا أني حكمت بكذا. قوله: (لا يشترط فيه) يعني في حله (¬9) على حذف مضاف، ويدل على هذا المحذوف، [قوله] (¬10): وهو الخطاب بكثير من الأسباب والشروط ... إلى آخره. ¬
قوله: (وهو الخطاب بكثير من الأسباب، والشروط، والموانع، وليس ذلك عامًا فيها). ش: أي: ليس عدم اشتراط العلم والقدرة عامًا في جميع الأسباب والشروط؛ بل يشترط العلم والقدرة وغيرهما في بعض الأسباب، وقد بيّن ذلك بقوله بعد: وقد يشترط في السبب العلم كما سيأتي بيانه (¬1). قوله: (وهو الخطاب بكثير من الأسباب إِلى آخره). مثال الأسباب: نصب الزوال وقتًا للظهر. ومثال الشروط: نصب الحول للزكاة (¬2). ومثال الموانع: نصب الحيض مانعًا للصلاة والصوم، ونصب القتل والرق والكفر مانعًا من الميراث وغير ذلك. والباء في قوله: (بكثير) بمعنى (¬3) مع؛ إذ لا يخاطب الإنسان بتحصيل الأسباب والشروط وانتفاء (¬4) الموانع وإنما يخاطب بالحكم عند حصولها. قوله: (فلذلك (¬5) نوجب الضمان على المجانين والغافلين بسبب الإِتلاف). [الإشارة تعود على قوله: لا يشترط شيء (¬6) من ذلك، أي: ولأجل عدم ¬
اشتراط العلم والقدرة في خطاب الوضع نوجب الضمان على المجانين والغافين] (¬1) [بسبب الإتلاف] (¬2)؛ [لأن المجنون أو الغافل (¬3)] (¬4) أو النائم (¬5) إذا أتلف شيئًا: وجب عليه غرمه، وإن لم يكن عالمًا بما أتلفه (¬6) ولا قادرًا على التحرز من إتلافه (¬7). قوله: (لكونه من باب الوضع الذي معناه أن الله تعالى (¬8) قال: إِذا وقع هذا في الوجود فاعلموا أني حكمت بكذا). ش: هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه يقول: إنما قلنا بثبوت الضمان على المجانين والغافلين من غير علمهم ولا قدرتهم على التحرز من (¬9) الإتلاف لكون هذا من خطاب الوضع الذي معناه في الشرع أن الله تعالى (¬10) يقول [لعباده] (¬11): إذا وقع هذا الإتلاف [مثلاً] (¬12) فاعلموا أني حكمت ¬
بالضمان. [قوله: (إِذا وقع هذا في الوجود)، تقديره: إذا وقع السبب فاعلموا أني حكمت بالحكم، وإذا عدم الشرط (¬1) فاعلموا أني حكمت بعدم الحكم، وإذا وقع المانع فاعلموا أني حكمت بعدم الحكم] (¬2). قوله: (ومن ذلك الطلاق بالإِضرار والإِعسار، والتوريث بالأنساب). ش: يعني: ومن خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه العلم والقدرة: الطلاق بسبب الإضرار بالزوجة، والطلاق بسبب الإعسار (¬3) بنفقة الزوجة، فإنه يقضى [على الزوج] (¬4) بالطلاق بسبب الإضرار، أو بسبب (¬5) الإعسار بالإنفاق وإن كان الزوج مجنونًا غير عالم ولا قادر، أي (¬6): وإن كان زمنًا عاجزًا عن النفقة. وكذلك التوريث بالأنساب فيقضى بالتوريث للوارث وإن لم يعلم الوارث بموت الموروث (¬7)، فإن الإنسان إذا مات له قريب (¬8) دخلت التركة في ملكه بنفس موت قريبه، وإن لم (¬9) يعلم الوارث، ولا كان (¬10) ذلك ¬
بقدرته (¬1)، حتى لو كان في التركة من يعتق عليه لعتق (¬2). قوله: (وقد يشترط في السبب العلم كإِيجاب الزنا للحد والقتل للقصاص). ش: هذا بيان خطاب الوضع الذي يشترط فيه علم المكلف، وهو القسم القليل المقابل للقسم الكثير المشار إليه بقوله (¬3): وهو الخطاب بكثير من الأسباب، مفهومه أن هناك قسمًا قليلاً من خطاب الوضع يشترط فيه (¬4) [علم المكلف وقدرته] (¬5). مثله المؤلف بقوله: كإيجاب الزنا للحد، والقتل للقصاص، فإن من (¬6) وطئ أجنبية يظنها (¬7) زوجته لا حد عليه (¬8)؛ لعدم علمه وإن وجب عليه الصداق. وكذلك من قتل رجلاً خطأ لا قصاص عليه، وإن وجبت عليه الدية ¬
لعدم علمه وهذا الخطاب الذي يشترط فيه علم المكلف وقدرته من خطاب الوضع مطرد في نوعين: أحدهما: أسباب العقوبات. الثاني (¬1): أسباب انتقال الأملاك. أما أسباب العقوبات وهي الجنايات التي توجب العقوبة (¬2) كالزنا والقتل وشرب الخمر، فلا بد فيها من العلم والقدرة، فإن من (¬3) وطئ أجنبية يظنها زوجته فلا حد عليه - كما تقدم - لعدم (¬4) العلم، وكذلك من قتل رجلاً خطأ فلا قصاص عليه؛ لعدم العلم، وكذلك من شرب خمرًا يظنه خلاً فلا حد عليه؛ لعدم العلم، وكذلك المكره (¬5) على الزنا لا حد عليه؛ لعدم (¬6) القدرة، وكذلك جميع الجنايات التي هي أسباب العقوبة يشترط فيها العلم والقدرة. وإنما اشترطوا العلم والقدرة في هذا النوع؛ لأن القاعدة الشرعية تقتضي ألا يعاقب من لم يقصد المفسدة ولم يشعر بها (¬7) أو وقعت بغير كسبه؛ فلأجل ذلك اشترط العلم والقدرة في الجنايات التي توجب العقوبة (¬8)، بخلاف ¬
الجنايات (¬1) التي لا توجب العقوبة وإنما توجب الغرامة وهي الإتلافات، فإن من أتلف شيئًا يجب عليه غرمه، ولا يشترط فيه علمه ولا قدرته على التحرز من إتلافه، ولا فرق (¬2) بين العمد والنسيان والعلم والجهل؛ إذ العمد والخطأ في أموال الناس سواء. والفرق بين الجنايات التي توجب العقوبة، والجنايات التي توجب الغرامة: أن العقوبة زاجرة، والغرامة جابرة، فأين إحداهما (¬3) من الأخرى (¬4)، فإن العقوبات (¬5) من باب الزواجر، والغرامات (¬6) من باب الجوابر، وشرعت الزواجر لدرء المفاسد المتوقعة، وشرعت الجوابر لاستدراك المصالح الفائتة، هذا بيان أحد (¬7) القسمين اللذين يشترط فيهما علم المكلف وقدرته، وهو أسباب العقوبات. وأما القسم الثاني: وهو أسباب انتقال الأملاك في الأعيان والمنافع (¬8) ¬
والأبضاع (¬1) كالبيع، والإجارة، والقراض، والمساقاة، والجعالة (¬2)، والعارية، والهبة، والصدقة، والوقف (¬3) والوصية، وغير ذلك، مما هو سبب انتقال الأملاك، فلا بد في هذا القسم من العلم والقدرة والإرادة. فمن باع مثلاً وهو لا يعلم أن هذا اللفظ، أو (¬4) هذا التصرف مثلاً يوجب انتقال الملك (¬5) لكونه أعجميًا أو طارئًا على بلاد الإسلام فلا يلزمه البيع، وكذلك سائر العقود، وكذلك من أكره على البيع فباع بغير اختياره، وقدرته الناشئة عن داعية الطبيعة لا يلزمه البيع، وكذلك ما ذكر معه من العقود المذكورة. وإنما اشترطوا العلم والقدرة في هذا النوع لقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬6)، ولا يحصل الرضى إلا مع الشعور ¬
والإرادة والتمكن من التصرف. فتحصل مما ذكرنا أن قوله: (وقد يشترط في السبب العلم) أن ذلك السبب يطرد في نوعين: أسباب العقوبات (¬1). وأسباب الانتقالات. قال بعض الشراح: هذه (¬2) الأسباب المستثناة من خطاب الوضع، أعني: أسباب العقوبات وأسباب انتقال الأملاك هي في (¬3) التحقيق خطاب تكليف وليست بخطاب وضع؛ لأنها متعلقة بأفعال المكلفين؛ لأن حدود الجنايات لا تلزم إلا المكلفين خاصة، وكذلك عقود انتقال الأملاك لا تنعقد إلا على المكلفين خاصة؛ ولذلك اشترط فيها علم المكلف وقدرته (¬4). قال المؤلف في القواعد (¬5): قد يجتمع خطاب الوضع مع خطاب التكليف، وقد ينفرد كل واحد منهما بنفسه. فمثال اجتماعهما: أسباب العقوبات: كالزنا والسرقة، فمن حيث إنها ¬
حرام: خطاب تكليف، ومن حيث إنها سبب للعقوبة: خطاب وضع. وكذلك أسباب انتقال الأملاك: كالبيع والصدقة، فمن (¬1) حيث إنها مباحة أو مندوبة (¬2): خطاب تكليف، ومن حيث إنها سبب انتقال الملك (¬3) خطاب وضع (¬4). وقال غيره: و (¬5) من أمثلة اجتماع الخطابين أيضًا: النكاح، والطلاق، والرجعة، والظهار (¬6)، والإيلاء، واللعان، والخلع، والرضاع، والعتاق، والطهارة، والستارة في الصلاة وغير ذلك (¬7). وهذه الأشياء كلها يشترط فيها العلم والقدرة (7). ¬
قال المؤلف في القواعد (¬1): مثال (¬2) انفراد خطاب الوضع كالزوال أو طلوع (¬3) الهلال، ودوران الحول ونحوها، فإنها خطاب الوضع؛ إذ ليس فيها أمر ولا نهي (¬4) ولا إذن من حيث هي كذلك. ومثال انفراد خطاب التكليف كأداء الواجبات، واجتناب المحرمات: كإيقاع الصلاة (¬5)، وترك المنكرات (¬6). فإن الشرع لم يجعل هذه الأشياء سببًا لفعل آخر نؤمر به وننهى (¬7) عنه، وإن (¬8) كان الشرع قد جعلها سببًا لبراءة الذمة وترتيب الثواب ودرء العقاب؛ لأن هذه الأمور ليست أفعالاً للمكلف، ونحن لا نعني بكون (¬9) الشيء سببًا إلا كونه وضع بسبب (¬10) الفعل من قبل المكلف (¬11). وهذا الذي ذكره المؤلف في القواعد من انفراد خطاب التكليف مخالف لما ذكره في الشرح؛ لأنه (¬12) قال في الشرح: لا يتصور انفراد التكليف؛ إذ لا ¬
تكليف إلا له سبب أو شرط أو مانع، وأبعد الأمور عن ذلك: الإيمان بالله تعالى (¬1) وهو سبب لعصمة الدم والمال، والكفر سبب لإباحتهما (¬2). انتهى (¬3). قال بعض الشراح: هذا المعنى أجنبي عن المسألة؛ لأن البحث إنما هو في (¬4) كون الشيء في نفسه خطاب تكليف أو خطاب (¬5) وضع لا أنه متوقف على خطاب (¬6) الوضع، فما قال (¬7) في القواعد هو الصواب والله أعلم. وقد تقدم لنا أن خطاب الوضع محصور في خمسة أشياء وهي: الأسباب، والشروط، والموانع، والتقادير الشرعية، والحجج عند القضاة (¬8). أما الأسباب والشروط والموانع فقد تقدم بيانها. وأما التقارير الشرعية (¬9) فهي محصورة في ستة أشياء: وهي: ¬
تقريب البعيد، وتبعيد القريب، وإيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، وتوحيد المتعدد، وتعديد المتحد (¬1). فمثال تقريب البعيد: كالبصاق؛ فإنه بعَّده الطبع ولكن قرَّبه الشرع. ومثال تبعيد القريب: كالخمر؛ فإنه قرَّبه الطبع وبعَّده الشرع. ومثال إيجاد المعدوم: كالحمل في الميراث. ومثاله أيضًا: تقدير ملك الدية للمقتول خطأ قبل موته ليصح فيها الإرث، وكذلك تقدير ملك (¬2) العبد لمن قال لغيره: أعتق عبدك عني لتثبت (¬3) له الكفارة والولاء. ومثال إعدام الموجود: كقاتل مورثه. ومثاله أيضًا: تعذر استعمال الماء للطهارة (¬4) مع وجوده، وكذلك تقدير النجاسة المعفو عنها في حكم العدم كالدم القليل ودم البراغيث، وموضع الحدث في المخرجين وغير ذلك. ومثال توحيد المتعدد: كشهادة النساء في الأموال. قال الشيخ أبو محمد - رحمه الله - (¬5) في الرسالة: ولا تجوز شهادة النساء إلا في الأموال ومائة امرأة كامرأتين، وذلك كرجل واحد يقضي ¬
[بذلك] (¬1) مع رجل أو مع اليمين فيما يجوز فيه شاهد ويمين (¬2). ومثال تعديد المتحد: كالإمام الراتب. قال أبو محمد في الرسالة: والإمام الراتب يقوم مقام الجماعة (¬3). قال المؤلف في القواعد: ولا يكاد باب من أبواب الفقه ينفك عن التقدير الشرعي، وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية في إدراك النية فطالعه (¬4). وأما الحجج عند القضاة: فإنه (¬5) إذا (¬6) ثبت الحق بالإقرار، أو بالشهادة، أو بالشهادة واليمين، أو بغير ذلك وجب الحكم. قوله: (فإِذا (¬7) تقرر هذا فنقول: السبب ما يلزم من وجوده الوجود ¬
ومن عدمه العلم لذاته). ش: الإشارة بقوله: (هذا) تعود على المذكور كله، تقدير الكلام: فإذا تقرر توقف الخطاب الشرعي على الأسباب والشروط والموانع، وتقرر انحصار الخطاب في التكليفي والوضعي، وتقرر اشتراط العلم والقدرة في الخطاب التكليفي دون الوضعي فنقول: السبب ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته. السبب لغة (¬1): عبارة عما يتوصل به إلى مقصود ما، ومنه سمي الحبل سببًا (¬2). ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (¬3) أي: بحبل إلى السقف وكذلك الطريق يسمى سببًا، ومنه قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (¬4) أي: طريقًا بين الشرق (¬5) والغرب (¬6). وأما معناه في الاصطلاح (¬7): فهو كما قرره المؤلف. ¬
ويقال له في الاصطلاح: سبب وعلة وموجب، ومقتضى، [ومعرف، ومؤثر عند المعتزلة] (¬1). فقوله: (ما يلزم من وجوده الوجود ...) إلى آخره هذا الرسم ركبه المؤلف من جنس وثلاثة فصول: ¬
فالجنس هو: "ما"، وهي واقعة على الوصف، أي: الوصف الذي يلزم من وجوب وجود الحكم الشرعي. الفصل الأول من الفصول الثلاثة: هو قوله: (يلزم من وجوده (¬1) الوجود). والفصل الثاني: هو قوله: (ومن (¬2) عدمه العدم) أي: يلزم (¬3) من عدمه عدم الحكم الشرعي والفصل الثالث: هو قوله: (لذاته) أي: لذات السبب، أي: لنفس السبب لا لأمر آخر خارج عن ذات السبب. قوله: (فالأول، احترازًا من الشرط، والثاني: احترازًا من المانع، والثالث: احترازًا من مقارنته فقدان الشرط أو وجود المانع فلا يلزم من وجوده الوجود، أو إِخلافه بسبب (¬4) آخر فلا يلزم من عدمه العلم). ش: أراد بالأول قوله: ما يلزم من وجوده (¬5) الوجود [أي: يلزم من وجود السبب وجود الحكم] (¬6) كالنصاب يلزم من وجوده وجود (¬7) وجوب الزكاة. ¬
واحترز بذلك من الشرط؛ [لأن الشرط] (¬1) لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كدوران الحول، فإن دوران الحول لا يلزم من وجوده وجود وجوب الزكاة ولا عدمه (¬2). قوله (¬3): (والثاني احترازًا من المانع) أراد بالثاني قوله: (ومن عدمه العدم)، واحترز بذلك: من المانع؛ فإن المانع (¬4) لا يلزم منه شيء لا وجود ولا عدم، كالدين مانع (¬5) للزكاة (¬6)، فمن لا دين عليه [قد لا] (¬7) تجب عليه الزكاة لعدم النصاب، وقد تجب لوجود [نصاب] (¬8) حال عليه الحول. وقوله (¬9): (والثاني: احترازًا من المانع) ولم يقل احترازًا من الشرط؛ لأن هذا الوصف شارك فيه الشرط السبب، والشرط (¬10) يلزم من عدمه العدم كالسبب (¬11) دون المانع. [قوله: (والثالث) أراد به] (¬12) قوله لذاته واحترز به (¬13) من ثلاثة عوارض ¬
وهي: مقارنته فقدان الشرط، أو وجود (¬1) المانع، أو خلافه (¬2) بسبب آخر، عارضان لوجوده، وعارض لعدمه. وهذا القيد الثالث: مركب (¬3) من نقيض القيد الأول، ومن نقيض القيد الثاني، فهو تتميم (¬4) لهما معًا. وبيان ذلك: أن قوله يلزم من وجوده الوجود يعني: بالنظر (¬5) إلى ذات السبب ما لم يعرض له أمر خارجي عنه. مثال ذلك العارض الخارج عن ذات السبب مقارنة السبب فقدان الشرط كنصاب (¬6) لم يحل عليه الحول، فلا يلزم من وجود هذا السبب وجود (¬7) وجوب (¬8) الزكاة (¬9)، ولكن ذلك لفقدان شرط الزكاة لا لنفس السبب. وكذلك إذا قارن السبب وجود المانع، كالدين، فلا يلزم من وجود السبب ها هنا وجوب الزكاة لوجود المانع الذي هو الدين لا لذات السبب. وإلى هذين المثالين أشار المؤلف (¬10) بقوله: (والثالث: احترازًا من ¬
مقارنته فقدان الشرط أو وجود المانع فلا يلزم من وجوده الوجود) يعني: في الصورتين وهما: عدم الشرط، أو وجود المانع. قوله (¬1): (احترازًا من مقارنته فقدان الشرط أو وجود المانع) هذا راجع إلى قوله: يلزم من وجوده الوجود. قوله: (أو إِخلافه بسبب آخر فلا يلزم من عدمه العدم). ش: هذا راجع إلى قوله في السبب: ويلزم من عدمه العدم، يعني: أن سبب الحكم إذا عدم وأخلفه بسبب (¬2) آخر [فلا يلزم من عدم ذلك السبب المعدوم عدم الحكم؛ لأن السبب الآخر] (¬3) قام مقام المعدوم في وجود الحكم، كما إذا عدم الزنا مثلاً ووجد (¬4) القذف، فلا يلزم من عدم الزنا عدم الحد؛ لأن القذف أخلفه في وجود الحد. وكذلك إذا عدمت الردة ووجد موجب القتل، كقتل (¬5) العمد العدوان، فإن القتل يجب وإن عدمت الردة؛ لأن القتل الموصوف أخلف الردة في وجوب القتل. وكذلك إذا عدم القتل الموصوف ووجد ترك الصلاة عمدًا فإن القتل يجب، وكذلك إذا عدم البول ووجد (¬6) الريح وجب الوضوء، ولا يلزم من ¬
عدم البول عدم الوضوء؛ لأن وجود الريح أخلف البول في وجوب الوضوء، لأن الأسباب الشرعية يخلف بعضها بعضًا، ولا تنافي بين اقتضاء الشيء بالذات وبين تخلفه للعوارض (¬1)، كقولنا (¬2): العالم جائز بالنسبة إلى ذاته. [وواجب] (¬3) بالنسبة إلى تعلق علم الله تعالى (¬4) وإرادته بإيجاده [وقد يكون السبب تعبديًا كالزوال سببًا للظهر، وقد يكون معقول (¬5) المعنى كالإسكار سببًا لتحريم الخمر] (¬6). قوله: (والشرط (¬7) ما يلزم من عدمه العلم ولا يلزم من وجوده وجود ¬
ولا عدم لذاته). ش: هذا الرسم ركبه المؤلف من جنس وثلاثة فصول: فالجنس قوله (¬1): "ما". والقيد الأول: هو قوله: (يلزم من عدمه العدم). والقيد الثاني: قوله (¬2): (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم). والقيد الثالث: هو قوله: (لذاته) أي: لنفس الشرط. قوله: (ما يلزم) أي: هو الوصف الذي يلزم من عدمه عدم الحكم الشرعي. و (¬3) قوله: (يلزم من عدمه العدم) هذا القيد شارك فيه الشرط السبب؛ لأن كل واحد منهما يلزم من عدمه العدم، واحترز بذلك من المانع؛ لأن المانع لا يلزم من عدمه شيء. وقوله: (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم) احترز به (¬4) من شيئين وهما: السبب والمانع؛ لأن السبب يلزم من وجوده الوجود، والمانع يلزم من وجوده العلم، فالأول للأول، والثاني للثاني. ¬
فقوله: (احترازًا من السبب) (¬1) راجع إلى قوله: (ولا يلزم من وجوده وجود). وقوله: (احترازًا من المانع) (¬2) راجع إلى قوله: ولا عدم، أي: ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ولا عدمه احترازًا من المانع؛ لأنه يلزم من وجوده (¬3) عدم المشروط. وهذا الذي قررناه هو: معنى قوله: (فالأول احترازًا من المانع، والثاني احترازًا من السبب والمانع أيضًا). قوله: (والثالث احترازًا من مقارنته لوجود السبب، فيلزم الوجود عند وجوده قيام المانع فيقارن العدم) (¬4). ش: المراد بالثالث: هو قوله: لذاته، واحترز بذلك من عارضين. أحدهما: مقارنة الشرط لوجود السبب. والعارض الآخر: مقارنة الشرط لوجود المانع. فإذا قارن الشرط وجود السبب فيلزم الحكم بوجود الشرط، لكن ذلك لعارض (¬5) وهو مقارنته للسبب (¬6). ¬
مثال ذلك: الحول في الزكاة إذا قارنه وجود النصاب فإنه يلزم وجوب الزكاة، لكن لا لذات الشرط الذي هو وجود الحول، بل (¬1) لذات (¬2) وجود السبب (¬3) [الذي هو النصاب] (¬4). وإلى هذا العارض أشار بقوله: (احترازًا) (¬5) من مقارنته لوجود السبب فيلزم الوجود عند وجوده (¬6). وإذا قارن الحول في الزكاة وجود الدين الذي هو المانع، فلا تجب الزكاة، ولكن ذلك لعارض وهو: وجود المانع لا لذات الشرط؛ لأن الشرط بالنظر إلى نفسه لا يلزم من وجوده شيء لا وجود ولا عدم، وإنما يأتي اللزوم من أمور خارجة عن ذات الشرط، ولا تنافي بين عدم اللزوم بالنظر (¬7) إلى الذات وبين اللزوم بالنظر إلى الأمور الخارجية (¬8) كما تقدم في السبب. قوله: (والمانع: ما يلزم من وجوده العدم (¬9)، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته) (¬10). ¬
ش: هذا الرسم مركب من جنس وثلاثة فصول وهي: القيود: فالجنس "ما" وهي: واقعة على الوصف الوجودي الظاهر. فالقيد الأول: هو قوله: (يلزم من وجوده العدم (¬1)). والقيد الثاني: هو قوله (¬2): (ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم). والقيد الثالث: هو قوله: (لذاته). قوله: (فالأول احترازًا من السبب، والثاني: احترازًا من الشرط، والثالث: احترازًا من مقارنة عدمه لوجود السبب). ش: أراد بالأول قوله: (يلزم من وجوده العلم)، واحترز بذلك من السبب؛ لأنه يلزم (¬3) من وجوده الوجود لا العدم. وأراد بالثاني قوله: (ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم) واحترز بذلك من الشرط؛ لأنه يلزم من عدمه العدم. وأراد بالثالث قوله: (لذاته) أي: لذات المانع، واحترز بذلك من عارض واحد وهو: مقارنة عدم المانع (¬4) وجود السبب. مثال ذلك: إذا عدم الدين في الزكاة، وقارن ذلك وجود النصاب ¬
ودوران الحول، فيلزم هنا (¬1) من عدم المانع: وجود الحكم الذي هو: وجوب (¬2) الزكاة، وإنما يلزم من عدم المانع ها هنا وجود الحكم لأمر عارض خارجي عن ذات المانع لا بالنظر إلى ذاته، ولا تنافي بين عدم اللزوم بالنظر إلى الذات وبين اللزوم بالنظر إلى أمر خارجي كما تقدم. و (¬3) قوله: (احترازًا من مقارنة عدمه لوجود السبب) فهذا راجع إلى قوله: (ولا يلزم من عدمه وجود) أي: إلا إذا قارن عدمه وجود السبب. انظر قوله: (فالأول: احترازًا من السبب) ظاهره: أن السبب هو: الذي خرج بهذا القيد دون الشرط، مع أن الشرط خرج به (¬4) أيضًا؛ لأنه لا يلزم من وجوده شيء. وكذلك قوله: (والثاني: احترازًا من الشرط) ظاهره: أن الشرط هو الخارج بهذا القيد دون السبب مع أن السبب خرج به أيضًا (¬5)؛ لأنه يلزم من عدمه العدم. قوله: (فالمعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده ¬
وعدمه). ش: هذا بيان جهات تأثير كل واحد من الثلاثة، فذكر أن المعتبر من المانع: وجوده لا عبرة بعدمه؛ لأن تأثير المانع في وجوده. وأن المعتبر من الشرط: عدمه لا وجوده ولا عبرة بوجوده؛ لأن (¬1) تأثير الشرط في عدمه. وأن المعتبر من السبب: وجوده وعدمه معًا؛ لأن تأثير (¬2) السبب في وجوده وعدمه. قوله: (فالمعتبر من المانع وجوده ...) إلى آخره تقديره: فالذي يؤثر من المانع وجوده خاصة، والذي يؤثر من الشرط عدمه خاصة، والذي يؤثر من السبب وجوده وعدمه جميعًا. فتأثير المانع في الوجود (¬3)، وتأثير الشرط في العدم، وتأثير السبب في الوجود والعدم معًا. قال بعض الأشياخ (¬4): المانع مانعان: مانع الحكم، ومانع السبب، والشرط شرطان: شرط الحكم، وشرط السبب. وبيان ذلك في المانع: أن وجود المانع إن كان مستلزمًا لحكمة تقتضي ¬
نقيض حكم (¬1) السبب (¬2) مع بقاء حكمة السبب فهو: مانع الحكم. مثاله: الأبوَّة في باب القصاص، فإنها تمنع القصاص مع وجود السبب الذي هو القتل العمد العدوان؛ لأن الأبوة تستلزم حكمة تقتضي عدم القصاص، وهي: الجناية الطبيعية، فامتنع العدم ها هنا وهو القصاص لمانع (¬3) الأبوة مع بقاء حكمة السبب وهو (¬4) الزجر. وإن كان وجود المانع يخل بحكمة السبب فهو: مانع السبب. مثاله (¬5): الدَّين في الزكاة فإنه يمنع الزكاة مع وجود النصاب؛ لأنه يخل بالمعنى الموجب (¬6) للزكاة وهو: الغنى فهو مانع السبب، والأول مانع الحكم. وبيان ذلك في الشرط: أن عدم الشرط إن كان مستلزمًا لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب فهو: شرط الحكم (¬7). مثاله: الطهارة في الصلاة؛ فإن عدم الطهارة يقتضي (¬8): عدم الثواب مع وجود سببه الذي هو الإتيان بالصلاة؛ لأن عدم الطهارة يستلزم عدم (¬9) ¬
الثواب [الذي هو: نقيض الحكم] (¬1) [الذي هو الثواب] (¬2) مع بقاء حكمة السبب (¬3) وهو التوجه إلى الله تعالى بالصلاة، فهذا شرط في الحكم. وإن كان عدم الشرط مستلزمًا لعدم حكمة السبب أي: مخلاً بحكمة السبب فهو: شرط السبب. مثاله: القدرة على التسليم في باب البيع (¬4) فإنها شرط صحة البيع الذي [هو] (¬5) سبب ثبوت الملك؛ لأن حكمة البيع هو: الانتفاع بالمبيع، فعدم القدرة على التسليم مستلزم لعدم الانتفاع بالمبيع الذي هو (¬6) حكمة السبب. فتحصل مما ذكرنا أن شرط الحكم ما اقتضى عدمه نقيض حكم السبب [مع بقاء حكمة السبب] (¬7) كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسماها. وشرط السبب ما أخلّ عدمه بحكمة السبب، كعدم القدرة على التسليم في البيع. ومانع الحكم بيانه (¬8): ما اقتضى وجوب نقيض حكم السبب مع بقاء ¬
حكمة السبب كالأبوة في القصاص. ومانع السبب: ما أخل وجوده بحكمة السبب كالدين في الزكاة فإنه يخل بحكمة ملك النصاب فأشبه الفقير. قوله: (فوائد خمس: الأولى: الشرط وجزاء (¬1) العلة كلاهما يلزم من عدمهما (¬2) العدم، ولا يلزم من وجودهما وجود (¬3) ولا عدم فهما يلتبسان، والفرق بينهما: أن جزء العلة مناسب في (¬4) ذاته (¬5)، والشرط مناسب في غيره، كجزء النصاب فإِنه مشتمل على بعض الغنى في ذاته، ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى، وإِنما هو مكمل للغنى الكائن في النصاب). ش: هذه الفوائد ناشئة ومتفرعة عن الفصل المتضمن لتوقف الأحكام على موجباتها من الأسباب والشروط (¬6) والموانع، فذكر في هذه الفائدة الأولى: الفرق بين الشرط وجزء العلة بعد الجمع بينهما؛ فإن كل واحد منهما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود (¬7) ولا عدم. وبيان ذلك: أن بعض نصاب الزكاة يلزم من عدمه عدم الزكاة كما يلزم من عدم جميع النصاب، وكذلك دوران الحول يلزم من عدمه عدم الزكاة. ¬
فذكر المؤلف أن الفرق بين جزء السبب وهو المراد بجزء العلة مناسب في ذاته أي: في نفسه، أي: مقصود في ذاته، أي: متضمن (¬1) لحكمة التعليل في نفسه، وأما الشرط فهو مشتمل على حكمة التعليل في (¬2) غيره، والمراد بالمناسب هو المتضمن للحكمة، أي: المقتضي لحكمة الحكم، والمراد بالعلة السبب ويقال: الأمارة، والداعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمعرّف، والمؤثر، فهذه اثنا عشر لقبًا. قوله: (كجزء (¬3) النصاب) فإن بعض النصاب مشتمل على الحكمة بنفسه (¬4)، والحكمة (¬5) هي: الغنى؛ لأن (¬6) الغنى (¬7) هو: سبب مشروعيتها - أعني: مشروعية الزكاة -، وأما الحول فليس فيه شيء من الغنى وإنما هو مكمل ومتمم ومكثر للحكمة الكائنة في النصاب. فتبين أن الفرق بينهما: أن جزء السبب مشتمل على الحكمة في ذاته، والشرط مشتمل على الحكمة في غيره، فإن جزء السبب مشتمل على الحكمة الكائنة في ذاته، والشرط مشتمل على الحكمة الكائنة في غيره أي: الكائنة في سببه لا في نفسه. ¬
قوله: (الثانية: إِذا اجتمعت أجزاء العلة ترتب الحكم (¬1)، وإِذا اجتمعت العلل المستقلة ترتب الحكم (¬2)، فما الفرق بين الوصف الذي هو جزء علة (¬3)، وبين (¬4) الذي هو علة مستقلة؟ والفرق أن الذي هو: جزء (¬5) العلة إِذا انفرد لا يترتب (¬6) معه الحكم كأحد أوصاف القتل العمد العدوان، فإِن المجموع سبب (¬7) للقصاص (¬8) وإِذا انفرد جزء (¬9) العلة (¬10) لا يترتب (¬11) عليه قصاص (¬12)، والوصف الذي هو علة مستقلة إِذا اجتمع مع غيره ترتب الحكم، وإِذا انفرد ترتب معه (¬13) أيضًا، كإِيجاب الوضوء على من لامس وبال ونام، وإِذا انفرد أحدها وجب الوضوء (¬14)). ¬
ش: واعلم أن تلخيص (¬1) ما ذكره المؤلف ها هنا: أن الحكم إذا رتبه الشرع على أوصاف وناطه بها؛ فإما أن تكون تلك الأوصاف كلها مناسبة ليستقل الحكم بكل (¬2) واحدة (¬3) منها، وإما أن تكون كلها مناسبة لا يستقل الحكم بكل واحد منها وإنما يستقل بمجموعها، وإما أن يكون بعضها مناسبًا وبعضها غير مناسب، فهذه ثلاثة أقسام (¬4). فإن كانت كلها مناسبة استقل الحكم بكل واحد منها فهي علل مستقلة، أي: علل مجتمعة كإيجاب الوضوء من البول، واللمس، والنوم. وإن كانت كلها مناسبة لا يستقل الحكم إلا بمجموعها فهي أجزاء علة، كإيجاب القصاص من القتل العمد العدوان فهي أجزاء علة، إذ مجموعها هو العلة. وأما القسم الثالث: وهو أن يكون بعض الأوصاف مناسبًا ويكون البعض غير مناسب، فالمناسب إما علة مستقلة (¬5) أو جزء علة، وغير المناسب إما شرط تام وإما جزء شرط، والمراد بالمناسب ما تضمن تحصيله مصلحة أو درء مفسدة، فالمناسب أبدًا هو: السبب، وغير المناسب هو: الشرط، وإنما جعل شرطًا لتوقف الحكم عليه. ¬
قوله: (الثالثة: الحكم كما يتوقف على وجود سببه يتوقف على (¬1) وجود شرطه فيم (¬2) يعلم كل واحد منهما يعلم (¬3) بأن السبب مناسب في ذاته، والشرط مناسبته (¬4) في غيره كالنصاب؛ فإِنه (¬5) مشتمل على الغنى في ذاته، ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى، وإِنما هو مكمل (¬6) لحكمة الغنى (¬7) في النصاب بالتمكن من التنمية) (¬8). ش: ذكر في هذه الفائدة الجمع والفرق بين السبب والشرط، ففرق بينهما بالمناسبة وعدمها وذلك بيّن (¬9). قوله: (الرابعة: الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، ومنها ما يمنع ابتداءه فقط، ومنها ما اختلف فيه؛ هل ¬
يلحق بالأول أو بالثاني. فالأول: كالرضاع يمنع ابتداء (¬1) النكاح واستمراره إِذا طرأ عليه. والثاني: كالاستبراء يمنع ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إِذا طرأ عليه. والثالث: كالإِحرام (¬2) بالنسبة إِلى وضع اليد على الصيد فإِنه يمنع من وضع اليد على الصيد ابتداء، فإِن طرأ على الصيد فهل تجب (¬3) إِزالة (¬4) اليد (¬5) عنه (¬6) أم لا (¬7)؟ فيه خلاف بين العلماء. وكالطول يمنع من نكاح الأمة ابتداء، فإِن طرأ عليه فهل يبطله أم لا (¬8)؟ فيه (¬9) خلاف (¬10). و (¬11) كوجود الماء يمنع التيمم ابتداء، فإِن (¬12) طرأ عليه (¬13) فهل يبطله أم ¬
لا؟ (¬1) فيه (¬2) خلاف (¬3)). ش: ذكر في هذه الفائدة الرابعة تنويع المانع وتقسيمه، فنوعه ثلاثة أنواع، فمثل النوع الأول وهو: المانع من الابتداء والاستمرار: بالرضاع؛ لأن رضيعة الإنسان لا يجوز له أن يتزوجها (¬4) ابتداء، وكذلك إذا طرأ الرضاع على النكاح كإذا تزوج بنتًا (¬5) فترضعها أمه فتصير أخته فتحرم عليه (¬6). وكذلك إذا تزوج بنتًا فترضعها امرأته فإن دخل بتلك المرضعة الكبيرة حرمتا الكبيرة عليه معًا الكبيرة والصغيرة، وإنما تحرم عليه الكبيرة؛ لأنها أم امرأته وقد دخل بها، وإنما تحرم عليه الصغيرة لأنها بنته (¬7) بلبنه (¬8)، فإن لم يدخل بالكبيرة المرضعة حرمت الكبيرة خاصة؛ لأنها أم امرأته ولا تحرم الصغيرة (¬9). ¬
ومثّل المؤلف النوع الثاني وهو المانع للابتداء خاصة دون الاستمرار بالاستبراء، فإن المعتدة لا يجوز عقد النكاح عليها صونًا لماء الغير من الاختلاط، فإن طرأ الاستبراء على النكاح مثل: أن توطأ امرأة متزوجة بغصب أو بزنًا أو بشبهة، فإنها تستبرأ من هذا الماء الفاسد (¬1)، ليتبين هل يكون منه (¬2) ولد فيلحق بالغير في وطء الشبهة، أو تلاعن منه في الزنا ولا يبطل النكاح بهذا الاستبراء فقد قوي الاستبراء على منع المبادي [وما قوي] (¬3) على قطع التمادي (¬4). ومثّل المؤلف النوع الثالث وهو المانع المختلف فيه بثلاثة أمثلة: المثال الأول: الإحرام؛ فإنه يمنع من وضع اليد على الصيد ابتداء، فإن طرأ الإحرام على الصيد كأن يحرم وعنده صيد صاده قبل الإحرام، فهل يجب (¬5) عليه إزالة اليد عنه وإطلاقه؟ فيه خلاف بين العلماء. ¬
المثال الثاني: في وجود الطول؛ فإنه يمنع من نكاح الأمة ابتداء، فإن تزوجها وهو غير واجد للطول [ثم حدث الطول] (¬1) عنده، فهل يبطل نكاح الأمة أم لا (¬2)؟ فيه خلاف. المثال الثالث: وجود الماء؛ فإنه يمنع من التيمم ابتداء، فإن طرأ وجود الماء بعد التيمم فهل يبطل التيمم أم لا؟ فيه خلاف (¬3). قوله: (الخامسة: الشروط اللغوية أسباب، لأنها (¬4) يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصلاة، والعادية كالغذاء مع الحياة في بعض الحيوانات (¬5)). ش: ذكر المؤلف [في هذه الفائدة تنويع الشروط، وقسمه على أربعة أقسام (¬6): لغوي، وعقلي، وشرعي، وعادي. وفي] (¬7) هذه (¬8) الفائدة تنبيه على أن الشرط الذي حده أولاً إنما هو غير ¬
الشرط اللغوي، وأما الشرط اللغوي [وهو الذي بصيغة إن وأخواتها] (¬1) فلا يتناوله الحد المذكور في حقيقة الشرط، وإنما يتناوله الحد الذي ذكره في السبب؛ لأن الشرط اللغوي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم كالسبب. فإذا قلت: إن دخلت الدار فأنت حر، فهذا شرط لغوي يلزم من وجود الدخول وجود الحرية (¬2) [ومن عدم الدخول عدم الحرية] (¬3) وذلك شأن السبب، بخلاف الشروط العقلية، والشرعية والعادية، فلا يلزم من وجودها الوجود كشرطية الحياة مع العلم؛ إذ لا يلزم من وجود الحياة وجود العلم؛ لأن الإنسان قد يحيى جاهلاً، وكشرطية (¬4) الطهارة مع الصلاة؛ إذ لا يلزم من وجود الطهارة وجود صحة الصلاة لاحتمال عدم الصلاة بالكلية أو يصليها بغير شرط أو ركن، وكشرطية الحياة مع الغذاء، إذ لا يلزم من وجود الحياة وجود الغذاء. قال المؤلف في الشرح: وقولي: في بعض الحيوانات احترازًا مما يحكى عن الحيات أنها تمكث تحت الأرض في الشتاء بغير غذاء، وقيل: تتغذى بالتراب فلا يحترز عنها حينئذ. انتهى نصه (¬5). ¬
وقال (¬1) بعضهم: احترز بقوله: (في بعض الحيوانات) من الحيات في الشتاء، والحلزوني (¬2) في الصيف. وقال بعضهم: احترز به من بعض أولياء الله (¬3)؛ فإنهم يمكثون [أزمانًا] (¬4) عديدة من غير طعام ولا شراب (¬5). وبالله التوفيق. ... ¬
الفصل السادس عشر [في الرخصة والعزيمة]
الفصل السادس عشر [في الرخصة والعزيمة] (¬1) [قوله] (¬2): (الرخصة: جواز الإِقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعًا). ش: هذا الفصل (¬3) مناسب لما قبله؛ لأن الرخصة من جملة الأحكام الوضعية. ذكر المؤلف في هذا الفصل أربعة مطالب: أحدها (¬4): حقيقة الرخصة. والثاني: حقيقة العزيمة. والثالث: أقسام الرخصة. والرابع: أقسام أسبابها (¬5). أما حقيقة الرخصة لغة: فهي التيسير والتسهيل، يقال: رخص السعر إذا ¬
تيسر وسهل (¬1). وأما حقيقتها في الاصطلاح (¬2) فكما قال المؤلف. وإنما أتى المؤلف بهذا الحد؛ لأن الإمام فخر الدين قال في المحصول: الرخصة جواز الإقدام مع قيام المانع (¬3)، ثم رأى المؤلف أن هذا الحد غير مانع؛ لأنه يتناول جميع الواجبات من الصلوات (¬4) الخمس، والصيام، والجهاد، والحج، والحدود، والتعزيرات وغيرها؛ لأن في جميعها جواز الإقدام مع قيام المانع منها. [والمانع منها] (¬5) هو (¬6): الظواهر المقتضية لمنع وجوبها؛ كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬7). ¬
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬2). وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} (¬3). وقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). ¬
وتلك الظواهر كلها تقتضي منع وجوب هذه الواجبات علينا؛ إذ في ذلك ¬
حرج وعسر وضرر وإهانة للصورة الإنسانية المكرمة، المقومة (¬1)، المعظمة، وذلك يقتضي ألا يكلف الإنسان المشاق والمضار، ولكن في (¬2) هذه الواجبات من المصالح العاجلة والمثوبات الآجلة [ما لا ينبغي أن يترك في مقابلة راحة الإنسان العاجلة، وهذه المثوبات الآجلة] (¬3) هي العوارض التي لأجلها خولفت ظواهر هذه النصوص المذكورة (¬4). فلما رأى المؤلف اندراج الواجبات المذكورة في حد الإمام عدل عنه إلى قوله: (جواز الإِقدام على الفعل مع اشتهار المانع) (¬5) فقيد المانع بالشهرة ¬
ولم (¬1) يطلق المانع كما أطلقه الإمام فخر الدين ليخرج به الأمور المذكورة الواردة على حد الإمام. قال المؤلف في الشرح: وأريد باشتهار المانع الشرعي نفور الطبع الجيد السليم عند سماع قولنا: أكل فلان الميتة للجوع، أو شرب (¬2) الخمر للغصة، أو أكل في رمضان لمرض أو سفر أو نحو ذلك، ولا ينفر أحد عند سماع قولنا: صلى فلان أو صام فلان أو أقيم الحد على فلان أو (¬3) نحو ذلك (¬4). فقوله: (جواز الإِقدام على الفعل مع اشتهار المانع) تقديره: جواز الإقدام على الفعل مع نفور الطبع السليم عن (¬5) ذلك. قال المؤلف في الشرح: هذا الحد فاسد؛ لأنه غير جامع لخروج رخص عديدة منه، ولم ألتهم (¬6) إليها حين ذكري لهذا الحد كالإجارة، والقراض، والمساقاة، والسلم، فإن الإجارة رخصة من بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه، والقراض والمساقاة رخصة من أجرة مجهولة، والسلم رخصة من ¬
الغرر بالنسبة إلى المرئي، [وأكل الصيد رخصة (¬1) من منع أكل الحيوان المشتمل (¬2) على (¬3) دمائه فيكفي فيه الجرح والخدش] (¬4). وهذه الأمور غير مندرجة تحت (¬5) الحد؛ إذ لا ينفر أحد إذا ذكر له ملابسة هذه الأمور (¬6). قال المؤلف في الشرح: والذي استقر عليه حالي أني عاجز عن ضبط الرخصة بحد جامع مانع (¬7). واعترض بعضهم هذا الحد (¬8) [الذي حد به المؤلف الرخصة ها هنا] (¬9) بالمناقض (¬10)؛ لأن جواز (¬11) الإقدام على الفعل يقتضي جواز الإقدام، وقوله: (مع اشتهار المانع منه) أي: من الإقدام على الفعل يقتضي منع الإقدام وذلك أمر متناقض. قال: وأحسن ما قيل في حد الرخصة قول جمال الدين أبي عمرو بن ¬
الحاجب قال في حدها: "المشروع لعذر مع قيام المحرم لولا العذر" (¬1). قوله: (المشروع) يندرج فيه الفعل والترك؛ لأن الرخصة تكون بالترك كما تكون بالفعل كترك بعض الصلاة في حق المسافر. وقوله: (لعذر) احترازًا من المشروع لا لعذر وهو كثير. وقوله: (مع قيام المحرم) أي: المحرم للفعل أو الترك احترازًا من المشروع لعذر مع عدم قيام المحرم، كالإطعام عند فقد الرقبة مي الظهار لاستحالة التكليف بإعتاق الرقبة عند عدمها، بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة، ولوجوب الإطعام في حالة أخرى (¬2). قال الغزالي - رحمه الله تعالى (¬3) -: التيمم لفقد الماء ليس برخصة (¬4) لاستحالة التكليف باستعمال الماء عند عدمه، بخلاف أكل الميتة للمضطر وشرب الخمر عند الإكراه (¬5)، وأما التيمم مع وجود الماء لعدم القدرة على الاستعمال فإنه رخصة (¬6). وقوله: (لولا العذر) أي: المحرم إنما (¬7) يحرم عند عدم العذر (¬8)، وأما ¬
مع وجود العذر فلا يحرم، فالعذر (¬1) رافع (¬2) للتحريم، فلم يجمع المشروعية مع التحريم. قوله: (والعزيمة طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي). ش: هذا هو المطلب الثاني وهو حقيقة العزيمة وهي ضد الرخصة. العزيمة: [مأخوذة] (¬3) من العزم وهو: الطلب المؤكد (¬4) فيه، ومنه قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬5)، وقوله تعالى: {أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (¬6) لتأكد طلبهم الحق، هذا معناها لغة. وأما في الاصطلاح (¬7): فقال الإمام في المحصول: هي جواز الإقدام مع عدم المانع (¬8). قال المؤلف في الشرح: هذا الحد غير مانع؛ لأنه يندرج (¬9) فيه أكل ¬
الطيبات ولبس الليِّنات، لجواز الإقدام عليها، وليس فيها مانع مع أنها ليست من العزائم؛ إذ لا طلب فيها؛ لأن العزيمة مأخوذة من العزم، وهو: الطلب المؤكد فيه. ولذلك (¬1) زدت في حدي: طلب الفعل مع عدم اشتهار المانع [الشرعي، فقيد الطلب يخرج أكل الطيبات ونحوها. وقيد اشتهار المانع] (¬2) يخرج (¬3) الرخصة إذا طلبت (¬4) كأكل المضطر الميتة (¬5)؛ [لأن أكل المضطر الميتة] (¬6) [فيه] (¬7) طلب الفعل مع اشتهار المانع الشرعي، وقصدت أصل الطلب. ولم أعين الوجوب لأن المالكية قالوا: إن السجدات المندوبة للسجود عند (¬8) تلاوتها عزائم، [قالوا: عزائم] (¬9) القرآن إحدى عشرة سجدة، فذكرت الطلب ليندرج المندوب والواجب. انتهى نصه (¬10). ¬
قال الغزالي [رحمه الله تعالى] (¬1): العزيمة (¬2) هي ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى (¬3) كالعبادات الخمس ونحوها. فعلى هذا التفسير لا تكون العزيمة إلا في الواجبات دون المندوبات، وعلى تفسير المؤلف تكون في الواجب والمندوبات (¬4)؛ لأن الطلب أعم منها (¬5) (¬6). ¬
قوله: (ثم الرخصة قد تنتهي إِلى الوجوب (¬1) كأكل المضطر الميتة (¬2) وقد لا تنتهي كإِفطار المسافرين (¬3)). ش: هذا هو المطلب الثالث في أقسام الرخصة، فلها ثلاثة أقسام: واجبة. ومندوبة. ومباحة. فالواجبة نحو أكل المضطر [الميتة إذا خاف على نفسه الهلاك، وكذلك إفطار الصائم] (¬4) إذا خاف على نفسه الهلاك من شدة العطش، أو الجوع (¬5). والمندوبة (¬6): كالقصر في السفر. والمباحة: كالفطر في السفر (¬7). ¬
قوله: (وقد لا تنتهي) يعني: إلى الوجوب، فيندرج فيه القسمان وهما: المندوبة والمباحة. قوله: (كإِفطار المسافر (¬1)) (¬2) وفي نسخة أخرى: كإفطار الصائم، كإذا طرأ على الصائم عذر (¬3) يشق معه الصيام، أو إذا (¬4) أراد التقوي على جهاد العدو. واعترض قوله: (الرخصة تنتهي إِلى الوجوب)؛ لأنها إذا انتهت إلى الوجوب فهي عزيمة لا رخصة. أجيب عنه: بأن الوجوب في هذه الحالة أمر عارض، والأصل إنما هو جواز الإقدام مع قيام المانع، فلم تخرج الرخصة عن أصلها بهذا الاعتبار. قوله: (وقد يباح سببه (¬5) كالسفر، وقد لا يباح كالغصة لشرب (¬6) الخمر). ش: هذا هو المطلب الرابع في تقسيم أسباب الرخصة، فذكر المؤلف أن سبب الرخصة قسمان: مباح. وغير مباح. ¬
فمثال المباح: السفر الجائز، فإنه مبيح للفطر بإجماع، وإنما الخلاف في الأفضل هل الصوم أو الفطر (¬1)، فيجوز للإنسان إنشاء السفر طلبًا للترخص بالفطر (¬2). ومثال غير المباح: الاغتصاص لشرب الخمر. قال المؤلف في الشرح (¬3): وقولي: وقد لا يباح سببها كالغصة لشرب الخمر إن (¬4) أريد به أنه لا يباح لأحد أن يغص نفسه حتى يشرب الخمر، ولا لغير شرب الخمر، بل الغصة حرام مطلقًا. انتهى نصه (¬5). [لأن ذلك يؤدي إلى الهلاك، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬6)] (¬7). قال ابن القصار في عيون المجالس (¬8): من اضطر إلى شرب الخمر فلا يشربها ولا يتداوى بها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز له ذلك. ¬
انظر: ابن عبد السلام (¬1) في جناية الشرب (¬2). ... ¬
الفصل السابع عشر في الحسن والقبح
الفصل السابع عشر في الحُسن والقُبح (¬1) ش: مقصود المؤلف بهذا الفصل أن يبين أن العقل لا مجال له في إدراك شيء من أحكام الله تعالى لا بتحسين ولا بتقبيح. قال جمال الدين ابن الحاجب: لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى (¬2). وفي هذا الفصل مطلبان: أحدهما: تلخيص محل النزاع بين أهل السنة وأهل الاعتزال في هذا الفصل. والثاني: بيان حكم الأشياء قبل ورود الشرائع. ¬
أما تلخيص محل النزاع: فقد ذكر المؤلف أن الحسن والقبح له ثلاثة استعمالات وهي: قوله: (حسن الشيء وقبحه يراد به (¬1): ما يلائم الطبع (¬2) وينافره كإِنقاذ الغرقى، وإِيلام (¬3) الأبرياء، وكونهما (¬4) صفة كمال أو نقص نحو: العلم حسن، والجهل قبيح، وكونهما (¬5) موجبين (¬6) للمدح أو الذم (¬7) الشرعيين، فالأولان (¬8) عقليان إِجماعًا، والثالث شرعي عندنا لا يعلم ولا يثبت إِلا بالشرع، فالقبيح ما نهى الله (¬9) عنه، والحسن ما لم ينه عنه، وعند المعتزلة: هو (¬10) عقلي لا يفتقر إِلى ورود الشرائع، بل العقل يستبد (¬11) بثبوته (¬12) قبل الرسل). ش: فذكر المؤلف في هذا الكلام أن الحسن والقبح له ثلاثة (¬13) ¬
استعمالات أحدها: موافقة الطبع ومخالفته. وهو معنى قوله: (ما يلائم الطبع وينافره) (¬1)، فالملاءمة هي الموافقة، والمنافرة: هي المخالفة. مثله المؤلف بـ (إِنقاذ الغرقى، وإِيلام الأبرياء)، فإن إنقاذ الغريق من البحر يوافقه الطبع؛ لأنه ينشرح له ويفرح به، وإيلام البريء من الجناية أي عقاب البريء من الجناية يخالفه الطبع، لأنه يتألم منه الاستعمال الثاني: كونهما صفة كمال أو نقص، مثّله المؤلف بقوله: (العلم حسن، والجهل قبيح)، وكذلك قولك: الإيمان حسن، والكفر قبيح، وكذلك قولك: الجود حسن، والبخل قبيح وغير ذلك. الاستعمال الثالث: كونهما موجبين للمدح والذم الشرعيين (¬2) كإيجاب الإيمان الجنة، وايجاب الكفر النار، فهذه ثلاثة استعمالات. قوله: (فالأولان: عقليان إِجماعًا) يعني: أن القسمين الأولين من هذه الثلاثة وقع الإجماع والاتفاق بين أهل السنة وأهل الاعتزال على أن العقل يستقل بإدراكها من غير ورود الشرائع، فيدرك العقل أن الحسن موافق للطبع، وأن القبيح مخالف للطبع، وأن العلم كمال، وأن الجهل نقصان. ¬
قوله: (والثالث: شرعي عندنا). يعني: أن القسم الثالث هو محل النزاع، وهو: كون الفعل يوجب الندم (¬1) أو الذم الشرعيين، فهو عند أهل السنة شرعي أي: لا يعلم ولا يثبت إلا بالشرع، وهو عند أهل الاعتزال عقلي، أي: يعلم بالعقل، ولا يفتقر إلى ورود الشرائع (¬2). ¬
وبيان ذلك: أن من أنقذ غريقًا ففي فعله أمران: أحدهما: كون الطبع السليم ينشرح له، وهذا عقلي باتفاق. والأمر الثاني: كونه يثيبه (¬1) الله على ذلك [في الآخرة] (¬2) وهذا محل النزاع. وكذلك من غرق إنسانًا ظلمًا فيه أيضًا أمران: أحدهما: كون الطبع السليم يتألم منه، وهذا عقلي اتفاق (¬3) أيضًا. ¬
والأمر الثاني: كونه يعاقبه الله (¬1) تعالى (¬2). وهذا محل النزاع: قال أهل السنة: لا يعلم بالعقل ولا يعلم إلا بالرسل، فإن الثواب والعقاب والأحكام الشرعية وأحوال يوم القيامة لا يعلم شيء من ذلك إلا بالرسل. وقال أهل الاعتزال: يعلم ذلك بالعقل، فيوجبون بالعقل خلود الكفار (¬3) وأصحاب الكبائر في النار (¬4) (¬5)، ويوجبون دخول المؤمنين الجنة، وخلودهم فيها، وغير ذلك مما أوجبوه بالعقل؛ إذ هو عندهم من باب العدل؛ لأن العقل عندهم يستبد بثبوته قبل الرسل. ومستندهم في هذه المسألة أن الله تعالى حكيم، والحكيم يستحيل عليه إهمال المصالح والمفاسد، أي: يستحيل عليه إهمال المفاسد فلا يحرمها، وإهمال المصالح فلا يأمر بها، فيكون كل ما ثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله؛ لأنه لو لم يثبت قبله لوقع (¬6) إهمال المفاسد والمصالح (¬7)، وهذا معنى قوله: (بل العقل يستبد بثبوته قبل الرسل)، ومعنى هذا الاستقلال عندهم: أن ¬
العقل أدرك أن الله تعالى (¬1) حكم (¬2) بتحريم المفاسد، وإيجاب المصالح وليس العقل هو الموجب والمحرم، بل الموجب والمحرم هو الله تعالى وذلك عندهم يجب له لذاته لكونه حكيمًا، كما يجب له لذاته لكونه (¬3) عليمًا (¬4). وأهل السنة يقولون: معنى كونه حكيمًا كونه متصفًا بصفات الكمال من العلم العام التعلق والقدرة العامة، التأثير والإرادة النافذة، أي العامة النفوذ لا بمعنى أنه يراعي المفاسد والمصالح، بل له تعالى أن يضل الخلق أجمعين وله أن يهديهم أجمعين، وله أن يهدي البعض، ويضل البعض، وله أن يفعل في ملكه ما يشاء [ويحكم ما يريد، فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، والخلائق دائرون بين فضله وعدله (¬5). قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬6)] (¬7). وقال تعالى (¬8): {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬9). ¬
قوله: (فالقبح (¬1) ما نهى الله عنه، والحسن ما لم ينه عنه (¬2)). ش: هذا تفسير القبيح والحسن عند أهل السنة. وقيل: القبيح ما نهى الله عنه (¬3) والحسن ما أمر الله به (¬4). وقيل: القبيح ما أمرنا بذم فاعله، والحسن ما أمرنا بمدح فاعله. وقالت المعتزلة: القبيح ما اشتمل على صفة لأجلها يستحق فاعلها الذم، والحسن ما ليس كذلك. والمراد بالصفة عندهم هي (¬5) المفسدة، فقول المؤلف: الحسن ما لم ينه عنه هو: قول المعتزلة: [الحسن ما ليس كذلك] (¬6). فالحسن على هذا تندرج (¬7) فيه أفعال الله تعالى؛ لأنها لم ينه عنها، وكذلك أفعال غير المكلفين، والساهي (¬8) والغافل، والنائم، والمجنون، والصبي، والبهيمة؛ لأنها لم ينه عنها، وتندرج (¬9) في الحسن جميع الواجبات، والمندوبات، والمباحات. [واعترض على من قال: الحسن ما أمر به: فإنه غير جامع لخروج ¬
المباحات وأفعال الله تعالى (¬1) منه، وأفعال غير المكلفين؛ لأنها غير مأمور بها (¬2)] (¬3). واعترض على من قال: الحسن ما أمرنا بمدح (¬4) فاعله: بأنه غير جامع؛ لخروج المباح منه (¬5)، وفعل غير المكلف، وحد المؤلف أولى؛ لأنه يعم (¬6) الجميع. قوله: (وإِنما الضرائع مؤكدة لحكم العقل فيما علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، أو نظرًا كحسن الصدق (¬7) الضار، وقبح الكذب النافع (¬8)، أو مظهرة لما لم يعلمه (¬9) العقل ضرورة ولا نظرًا، كوجوب (¬10) صوم (¬11) آخر يوم من رمضان وتحريم صوم (¬12) أول يوم من شوال). ش: لما ذكر المؤلف أن المعتزلة [قالوا (¬13): يستبد العقل بثبوت الأحكام ¬
قبل ورود الرسل استشعر (¬1) [سؤال] (¬2) قائل يقول: ما (¬3) فائدة الشرائع عندهم إذًا؛ حيث استقل العقل بإدراك ما جاءت به الشرائع؟ فقال: وإنما الشرائع مؤكدة (¬4) لحكم العقل ... إلى آخره. فذكر المؤلف أن الفعل على مذهب المعتزلة ينقسم على ثلاثة أقسام: منه ما يدركه العقل بضرورته. ومنه ما يدركه العقل بنظره. ومنه ما لا يدركه العقل لا بضرورته ولا بنظره، وإنما يدرك بالسمع. وبيان ذلك: أن ما علمت مصلحته، ولم تقابله مفسدة علم حسنه ضرورة، كحسن الصدق النافع؛ لأن كونه صدقًا جهة حسن (¬5)، و (¬6) كونه نفعًا جهة حسن أيضًا، وما علمت مفسدته ولم تقابله مصلحة علم قبحه ضرورة كقبح الكذب الضار؛ لأن كونه كذبًا جهة قبح، وكونه ضرر (¬7) جهة قبح أيضًا [ولا مدخل للنظر في هذين القسمين عندهم لاتحاد جهة الحسن واتحاد (¬8) جهة القبح] (¬9). ¬
وما تعارضت فيه المصلحة والمفسدة فهو: محل النظر والتفكر (¬1) والتدبر، والتأمل، والاجتهاد [كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع (¬2)، وإنما يحتاج العقل ها هنا إلى النظر] (¬3) والاجتهاد لاحتمال ترجيح المصلحة على المَفسدة فيقضى بالحسن، أو ترجيح (¬4) المفسدة على المصلحة فيقضى بالقبح، أو تستوي (¬5) الحالتان فيجب التوقف، فلا بد من النظر في كل صورة حتى يقضي بحسنها، أو بقبحها، أو يتوقف (¬6) فيها. قوله: (كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار) (¬7). مثال ذلك: إذا سألك رجل عمن طلبه بحق، وأنت تعلم موضعه فإن صدقت في إخبارك بموضعه كان صدقًا نافعًا، وإن كذبت كان كذبًا ضارًا. ومثال الصدق (¬8) الضار، وقبح الكذب النافع: إذا سألك الرجل عمن طلبه بظلم فإن صدقت في إخبارك بموضعه كان صدقًا ضارًا، وإن كذبت كان كذبًا نافعًا، فهذا محل النظر عند العقل لتردده بين أصلين، [فهذا بيان القسمين] (¬9) الضروري والنظري. ¬
وأما القسم الثالث الذي لا يدرك بالعقل، وإنما يدرك بالسمع كوجوب صوم آخر يوم من رمضان، وتحريم أول يوم (¬1) من شوال، وكذلك جميع العبادات، فلا يقدر العقل على إدراك الفرق بين الأوقات المعينة للعبادات، وبين غيرها من سائر الأوقات، ولا يدرك ذلك إلا بالشرع، فالشرائع عندهم مظهرة في هذا القسم للحكم الثابت بالعقل، [قبل] (¬2) ورود الشرع، والشرائع مؤكدة في القسمين المعلومين للعقل بضرورته (¬3) أو بنظره (¬4). قوله: (وعندنا الشرع الوارد منشئ (¬5) للجميع). ش: يعني: أن مذهب أهل السنة أن الشرائع هي المنشئة، أي المبتدئة لجميع الأحكام الثلاثة، ولا مجال فيها للعقل، لا فرق بين ما علمه ضرورة أو نظرًا، ولا فيما لم (¬6) يعلمه لا ضرورة ولا نظرًا. قوله: (وعندنا (¬7) الشرع الوارد منشئ للجميع) هو تكرار لقوله: (والثالث شرعي عندنا لا يعلم، ولا يثبت إِلا بالشرع)، وإنما كرره ليركب (¬8) ¬
عليه [المسألة الثانية؛ لأنها لازمة عنه] (¬1) وهي (¬2) قوله: (فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشرع). قوله: (فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشرع). ش: أي لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع عندنا. قوله: (خلافًا للمعتزلة في قولهم أن كل ما ثبت (¬3) بعد الشرع فهو ثابت قبله). ش: يعني: أن المعتزلة قالوا: الأفعال (¬4) التي يقضي العقل بها (¬5) بحسن أو قبح، وهي: الواجب، والمحظور، والمندوب، والمكروه، والإباحة (¬6) وهي ثابتة قبل ورود الشرع. وأما الأفعال التي لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح فقد اختلفوا فيها على أربعة أقوال: الوجوب (¬7)، والتحريم، والإباحة، والوقف، ذكرها سيف الدين الآمدي (¬8). ¬
ولم يذكر المؤلف فيها إلا قولين: الحظر والإباحة خاصة. قوله: (وخلافًا للأبهري (¬1) من أصحابنا القائل بالحظر مطلقًا، وأبي الفرج (¬2) القائل بالإِباحة مطلقًا). ش: هذا هو المطلب الثاني في حكم الأفعال (¬3) قبل ورود الشرع، فذكر المؤلف فيها لأهل السنة ثلاثة أقوال: أحدها التوقف، أي: لا حكم فيها حتى يرد الشرع، وهو قوله: (فعلى رأينا لا يثبت حكم (¬4) قبل الشرع) وهذا قول الجمهور. ¬
القول الثاني: أنها على الحظر مطلقًا أي: لا فرق بين ما اطلع العقل، وما لم يطلع عليه، وهو قوله: (خلافًا للأبهري من أصحابنا القائل بالحظر مطلقًا). القول الثالث: أنها على الإباحة مطلقًا ولا فرق (¬1) بين ما اطلع العقل عليه، وما لم يطلع عليه، وهو قوله: (وأبي الفرج القائل بالإِباحة مطلقًا). قوله: (وكذلك قال بقولهما جماعة من المعتزلة فيما لم يطلع العقل على حاله (¬2) كآخر يوم من رمضان). ش: يعني أن جماعة من المعتزلة قالوا بالحظر كما قال الأبهري وقال جماعة من المعتزلة أيضًا (¬3) بالإباحة كما قال أبو الفرج المالكي ولكن إنما قالت بالحظر وإلإباحة في الأفعال (¬4) التي لم يطلع العقل على حالها، أي: على مصلحتها، أى: لم يطلع على حسنها، ولا قبحها كوجوب صوم آخر يوم من رمضان، وتحريم صوم (¬5) أول (¬6) يوم من شوال وغير ذلك من العبادات وأما ما اطلع العقل على حسنه وقبحه فقد انقسم عندهم إلى الأقسام الخمسة، وذلك أن ما حسنه العقل فإن استوى فعله وتركه في النفع والضر ¬
فهو مباح، فإن ترجح فعله على تركه ولحق الذم (¬1) بتركه فهو واجب، وإن لم يلحق الذم على تركه فهو مندوب، وما قبحه العقل إن (¬2) ترجح تركه على فعله والتحق الذم بفعله فهو حرام، وإن لم يلحق الذم على فعله فهو مكروه، كما تقدمت (¬3) الإشارة [إليه] (¬4) بقوله: خلافًا للمعتزلة في قولهم أن كل ما ثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله (¬5). قوله: (وكذلك قال بقولهما جماعة من المعتزلة فيما لم يطلع العقل على حاله كآخر يوم من رمضان (¬6)) (¬7). مفهومه أن ما اطلع العقل على حاله ليس كذلك، وهو كذلك؛ لأن ما اطلع العقل على مصلحته من حسن أو قبح، يحكمون فيه بمقتضى العقل عندهم كإنقاذ الغريق، وعقاب البريء، وإطعام الجوعان (¬8)، وإكساء العريان، وإرواء العطشان، وإغاثة الملهوف، وإنما هذا الخلاف المذكور ¬
للمعتزلة بالحظر والإباحة مخصوص عندهم بما لم يطلع العقل على مصلحته. ودليل من قال من المعتزلة بالحظر (¬1) فيما لم يطلع العقل على حاله: أن الإقدام على ذلك تصرف في ملك الغير بغير إذنه فلا يجوز عقلاً وعرفًا كما في الشاهد في أخذ مال الغير. وأجيب عنه: بأن عدم جواز التصرف في ملك الغير مبني على السمع، والسمع معدوم. ودليل القائلين من المعتزلة بالإباحة (¬2) فيما لم يطلع العقل على حاله: أن الله تعالى خلق الأشياء وخلق العباد لينتفعوا بها، فدل ذلك على الإباحة بمنزلة تقديم الطعام بين يدي إنسان. وأجيب عنه: بأنه لا نسلم أن الله تعالى خلق الأشياء للانتفاع لجواز أن يكون خلقها ليصبر (¬3) عنها. وأما دليل الأبهري من أصحابنا القائل بالحظر مطلقًا؛ فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} (¬4). مفهومه أن المتقدم قبل التحليل هو التحريم. ¬
وكذلك قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (¬1) مفهومه أنها كانت قبل ذلك محرمة، فدل ذلك على أن الأشياء قبل الشرع على الحظر. أجيب (¬2) عن الاستدلال بالآيتين: أن الثابت في دليل الخطاب إنما هو النقيض لا الضد، ونقيض الحلية عدم الحلية، وعدم الحلية أعم من التحريم، فالدال على الأعم غير دال على الأخص (¬3). وأما دليل أبي الفرج المالكي القائل بالإباحة مطلقًا: فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬4)، وقوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬5). وذلك يدل على الإذن في الجميع. وأجيب عن الاستدلال بالآيتين بأنه يحتمل أن يكون خلقها للاعتبار لا للتصرف فيها (¬6)، أي: ليعتبر بها (¬7) ويستدل (¬8) بها على وجود الخالق، ووحدانيته، وقدمه، وبقائه، وصفاته جل وعلا لا ليتصرف فيها. قال المؤلف في الشرح: من قال من أهل السنة بأن الأشياء قبل الشرع ¬
على الحظر أو على الإباحة غير موافق من قال [من المعتزلة] (¬1) بالحظر أو الإباحة؛ لأن مدرك أهل السنة الدليل السمعي، ومدرك أهل الاعتزال الدليل العقلي، فلو لم ترد الأدلة المذكورة لأهل السنة قالوا (¬2): لا علم لنا بتحريم، ولا تحليل، وأما أهل الاعتزال فإنهم يقولون: دليل العقل هو مدركنا فلا يضرنا عدم ورود الشرائع (¬3). قوله: (لنا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬4) نفى التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه وهو الحكم). ش: هذا دليل أهل السنة على إبطال (¬5) الحسن والقبح العقليين، وهو الاستدلال بنفي اللزوم على نفي الملزوم (¬6). وتقرير هذا الدليل أن يقال: لو ثبت التكليف قبل بعثة الرسل لثبت لازمه وهو: التعذيب؛ لأن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوِت اللازم، لكن التعذيب منتفٍ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬7)، فإذا انتفى اللازم الذي هو التعذيب انتفى الملزوم الذي هو: الحكم وهو: التكليف؛ لأن نفي اللازم يقتضي انتفاء الملزوم فيقتضي ذلك ألاَّ حكم قبل البعثة (¬8). ¬
قال المؤلف في الشرح: الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لا يتم إلا بمقدمتين، فإنه لا يلزم من نفي التعذيب نفي (¬1) التكليف لاحتمال أن يكون المكلف أطاع فلا تعذيب، مع أن التكليف واقع، أو يكون المكلف عصى، ولكن وقع العفو عنه بفضل الله، أو بالشفاعة، فلا بد من مقدمتين لينتهض (¬2) الاستدلال بالآية: المقدمة الأولى: قولنا: لو كلفوا قبل البعثة لعصوا (¬3) عملاً بالغالب، فإن الغالب على العالم العصيان، لقوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5). المقدمة الثانية: قولنا: لو عصوا (¬6) لعذبوا عملاً بالأصل؛ لأن الأصل ترتب المسبب على سببه، فالعصيان (¬7) سبب التعذيب، فترتيب القياس إذًا: لو كلفوا لعصوا، ولو عصوا لعذبوا، فالعذاب لازم لازم التكليف، ولازم اللازم لازم، فانتفاء اللازم الآخر (¬8) يقتضي: انتفاء الملزوم الأول، فيلزم من انتفاء العذاب قبل البعثة انتفاء التكليف قبل البعثة، وهذا معنى قولي: نفي ¬
التعذيب قبل البعثة، فينتفي ملزومه وهو الحكم. انتهى (¬1). قوله: (فينتفي ملزومه) أي: ملزوم التعذيب بواسطة العصيان؛ لأنه يلزم من انتفاء لازم اللازم انتفاء الملزوم الأول. كما يقال: يلزم من انتفاء شرط الشرط انتفاء المشروط الأول، كما إذا (¬2) قلنا: الخطبة شرط في صلاة الجمعة، والطهارة شرط في الخطبة، يلزم (¬3) من انتفاء الطهارة في الخطبة انتفاء الصلاة. قوله: (احتجوا بأنا نعلم بالضرورة حسن الإِحسان، وقبح الإِساءة). ش: هذا دليل المعتزلة القائلين: بأن العقل يعرف الحسن والقبيح، ولا يفتقر إلى ورود الشرع؛ لأن كل عاقل يعلم بضرورة عقله حسن الإحسان، وقبح الإساءة، وذلك أمر ذاتي للعقل من غير نظر [إلى شرع] (¬4) ولا عرف، ولو لم يكن ذلك أمرًا ذاتيًا للعقل لما كان الأمر كذلك. قوله: (قلنا: محل الضرورة مورد الطباع، وليس محل النزاع). ش: هذا جواب المؤلف عن دليل المعتزلة. قال المؤلف في الشرح: ومعنى ذلك: أن العقل إنما أدرك حسن الإحسان من جهة أنه ملائم للطبع لا (¬5) من جهة أنه يثاب عليه، وقبح الإساءة من جهة منافرتها للطبع، لا من جهة أنه يعاف عليها، والضرورة حينئذ إنما هي في ¬
مورد الطباع (¬1) الذي هو الملائمة والمنافرة، لا في صورة النزاع الذي هو الثواب والعقاب، فدليل المعتزلة إذًا لا يمس محل النزاع (¬2) [وبالله التوفيق بمنّه] (¬3). ... ¬
الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق
الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق (فحق الله تعالى أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه) (¬1). ش: لما جرت عادة العلماء بأن يقولوا: هذا حق الله، وهذا حق العبد، أراد المؤلف أن يبين ذلك. هذا الفصل فيه مطلبان: أحدهما: في تفسير الحقوق. والثاني: في أقسامها. أما تفسير الحقوق: فمعنى قولهم: هذا حق الله معناه: هذا أمر الله، وهذا نهي الله، أي: هذا شيء (¬2) أمر الله به أو نهى عنه. فإذا قالوا: الصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو الجهاد، أو الزكاة؛ هي حق الله تعالى، فمعناه: أمر الله بها وأوجبها على عباده. وإذا قالوا: ترك الزنا، أو شرب الخمر، أو السرقة، أو الغصب؛ حق الله تعالى، ¬
فمعناه: نهى الله تعالى عنها. قوله: (فحق الله أمره ونهيه) أي: أوامره ونواهيه. قوله: (وحق (¬1) العبد مصالحه) أي: مصالحه ومنافعه التي منّ الله تعالى بها عليه كديونه، وعواريه، وودائعه، وأروش (¬2) جنايته، ودياته. قوله: (والتكليف (¬3) على ثلاثة أقسام: حق الله تعالى (¬4) فقط كالإِيمان، وحق العبد (¬5) فقط كالديون، والأثمان، وقسم اختلف فيه، هل يغلب فيه حق الله تعالى، أو حق العبد كحد القذف؟). ش: هذا هو المطلب الثاني، وهو أقسام الحقوق؛ لأن تقسيم التكليف بالنسبة إلى الحقوق هو (¬6): تقسيم الحقوق في المعنى. فمثال (¬7) حق الله تعالى (¬8) وحده (¬9) دون العبد: وجوب الإيمان، وتحريم الكفر، وكذلك سائر العبادات كالصلاة، والصيام، والزكاة, والحج، والجهاد، وغير ذلك، ومثال حق العبد فقط: قضاء الديون، وقبض أثمان السلع، وقبض العواري، والودائع، وغير ذلك. ¬
ومثال القسم المختلف فيه: حد القذف (¬1): قيل (¬2): هو حق العبد؛ لأنه جناية على عرضه. وقيل: هو حق الله تعالى؛ إن ليس للعبد أن يأذن في أخذ عرضه، كما ليس له أن يأذن في قطع أعضائه. والقول الثالث: بالتفصيل بين أن يصل إلى الإمام فنغلَّب (¬3) فيه حق الله لوصوله إلى نائبه فلا يصح إسقاطه؛ لأنه قد بلغ محله، وإن لم يصل إلى الإمام فيغلب فيه حق العبد فيصح إسقاطه (¬4). واختلف فقهاء الأمصار في حد القذف: قال (¬5) الشافعي: هو حق الآدمي فيجوز العفو عنه. [وقال أبو حنيفة: هو حق الله فلا يجوز العفو عنه] (¬6). وروي القولان عن مالك. ¬
وروي عنه التفصيل، وهو المشهور عنه: فإن بلغ الإمام فلا يجوز العفو للمقذوف إلا أن يريد الستر على نفسه، وإن لم يبلغ الإمام جاز له العفو مطلقًا (¬1). وقال أبو إسحاق التونسي (¬2) في تعليقه: فإذا بلغ الشُّرَطْ أو الحرس فلا يجوز العفو بمنزلة ما إذا بلغ الإمام وكذلك حكاه القاضي أبو الوليد (¬3). قال أبو عمرو بن الحاجب: وحدّ القذف من حقوق الآدميين على الأصح، ولذلك يورث ويسقط بالعفو، وعليها لزم (¬4) العفو قبل بلوغ الإمام وتحليفه عليه، فأما بعده فأجازه مرة ثم رجع عنه (¬5). وقيل: يجوز إن أراد سترًا على نفسه (¬6). ¬
قوله: (ونعني بحق (¬1) العبد المحض أنه لو (¬2) أسقطه لسقط وإلا فما من حق للعبد (¬3) إِلا وفيه (¬4) حق الله تعالى وهو أمره (¬5) بإِيصال ذلك الحق الى مستحقه). ش: هذا جواب عن تقدير سؤال هو: أن يقال: لا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى، وهو: أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، ويوجد حق الله تعالى بدون حق العبد فبماذا يعرف حق العمد المحض من حق الله تعالى؟ فأجاب بأن قال: إنما يعرف لصحة الإسقاط؛ فكل ما للعبد إسقاطه فهو: الذي نعني (¬6) بحق العبد، وكل ما ليس للعبد إسقاطه فهو: الذي نعني بحق الله تعالى (¬7)، وإن كان فيه حق العمد كعقود الربا، والجهالات (¬8)، والغرر؛ فإن الله تعالى حرمهما صونًا لمال العبد عن الضياع، وإذ رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يعتبر رضاه؛ وذلك أن الله عز وجل بلطفه ورحمته حجر على عبده في ماله، ونفسه، ونسبه (¬9)، ودينه، وعقله، وعرضه. وقولنا: حجو عليه في ماله معناه: لا يجوز له تضييع ماله (¬10)، [فإن أراد ¬
مثلاً أن يلقي ماله في البحر من غير مصلحة فلا يعتبر رضاه. وقولنا: حجر عليه في نفسه معناه: لا يجوز له تضييع نفسه] (¬1) فإن أراد مثلاً أن يقطع عضوًا من أعضائه من غير مصلحة، أو يقتل نفسه فلا يمكن من رضاه بذلك. وقولنا: حجر على نسبه (¬2) معناه: لا يجوز تضييع نسبه، فإن أراد مثلاً أن يمكّن غيره من وطء سريته (¬3) قبل استبرائها، فلا يجوز، وإن رضي بذلك. وقولنا: حجر عليه في دينه معناه: لا (¬4) يجوز له أن (¬5) يضيع (¬6) دينه، فإن أراد مثلاً أن ينتقل من دين الإسلام إلى غيره فلا يمكن من ذلك ولا يعتبر رضاه. وقولنا: حجر عليه في عقله معناه: لا يجوز له تضييع عقله، فإن أراد مثلاً أن يشرب ما يزول به عقله، فلا يجوز له ذلك، ولا فرق في ذلك بين المرقد، والمسكر، والمفسد. فالمرقد: تغيب منه الحواس الخمس: السمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس (¬7). ¬
والمسكر: يكون منه سرور، وشجاعة، وسخاء؛ كالخمر (¬1) والمزر وهو: المعمول من القمح (¬2)، والبتع (¬3)، وهو: المعمول من العسل، والسكركة (¬4) وهو: المعمول من الذرة. والمفسد (¬5): يكون منه بكاء، وغم، وصمات (¬6) كالسيكران، والبنج (¬7)، والأفيون (8)، والحشيشة (¬8). قال المؤلف في القواعد في الفرق الأربعين: تنفرد المسكرات عن المفسدات (¬9) والمرقدات بثلاثة أحكام: الحد، والتنجيس، وتحريم اليسير، وأما المفسدات والمرقدات فلا حد فيها، ولا تنجيس ولا تحريم اليسير (¬10) منها، وليس فيها إلا التعزير (¬11). ¬
وقولنا: حجر عليه في عرضه معناه: لا يجوز للعبد أن يبيح عرضه للقيل والقال من الغيبة والنميمة والقذف، فإن الله حرم ذلك. واختلف في عرض الإنسان: فقيل: ذاته ونفسه، دليله قوله عليه السلام: "ليُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه" (¬1). وقيل: عرضه هو حسبه، وشرفه، دليله قول الشاعر: رب مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب (¬2) قوله: (وإِلا فما من حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى وهو أمره بإِيصال ذلك الحق إِلى مستحقه). ¬
ش: معناه وإن لم يتميز (¬1) حق العبد المحض بالإسقاط، وقع اللبس بين حق العبد المحض، وحق الله تعالى؛ لأنه ما من حق للعبد إلا وفيه حق الله تعالى. تنبيه: قال المؤلف في الشرح وفي القواعد على (¬2) تفسير حق الله تعالى بأمره، ونهيه: يشكل بالحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله تعالى (¬3) إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم" (¬4). ففسر عليه السلام حق الله بفعلهم لا بأمره تعالى بذلك الفعل؛ لأنه قال: "حق الله أن يعبدوه" فيحتمل في ذلك ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: أن يكون عليه السلام عبّر بالعبادة عن الأمر من حيث إنها (¬1) عبادة تتوقف على امتثال الأمر، وهو الظاهر؛ لأن (¬2) العبادة لا بد أن يقصد بها امتثال أمر الله تعالى (¬3)، وإن لم يقصد بها ذلك لم تكن عبادة. الوجه الثاني: أن يكون عليه السلام عبّر بالعبادة عن الأمر المتعلق بها مجازًا لما بينهما من الملازمة والارتباط، فهو من باب التعبير بالمتعلق عن المتعلق. الوجه الثالث: أن يكون عليه السلام حذف الأمر مع [إرادته] (¬4) تقديره: حق الله تعالى أمره بأن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا. انتهى نصه (¬5). ففي الكلام على هذا (¬6) حذف، تقديره: حق الله أمره بأن يعبدوه. انظر قوله عليه السلام في الحديث المذكور: "حق العباد على الله تعالى (¬7) ¬
إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم"، مع أن الله عز وجل لا يجب عليه لأحد حق. قال الإمام المازري [رحمه الله تعالى (¬1)] (¬2) في المعلم: معنى حق العباد (¬3) على الله تعالى يحتمل وجهين: أحدهما: أنه سماه حقًا؛ لأجل وعده به وعد الصدق فسمي حقًا من هذه الجهة (¬4). الوجه الثاني: أن يكون ذلك على (¬5) جهة المقابلة (¬6) منه للفظ الأول، [فاللفظ الأول] (¬7) حقيقة، واللفظ الثاني: إطلاق الحق عليه مجاز؛ لأجل المقابلة بين اللفظين كقوله تعالى (¬8): {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬9)، ¬
وبالله التوفيق بمنه (¬1). ... ¬
الفصل التاسع عشر في بيان العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها
الفصل التاسع عشر في بيان العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها (¬1) ش: تعرض المؤلف في هذا الفصل لبيان موارد العموم والخصوص، وموارد المساواة، وموارد المباينة الضدية، أو النقيضية، وبيان أحكام هذه الأشياء والمراد بأحكامها: الاستدلال ببعضها (¬2) على بعض، فتعرض المؤلف في هذا الفصل لأمرين: أحدهما: في (¬3) معاني هذه الألفاظ. والثاني: في أحكامها من حيث الاستدلال ببعضها على بعض (¬4). فالعموم هو: الشمول (¬5)، ومنه قولهم: عمهم المطر، أو العدل، وقولهم: عادة عامة وقاعدة عامة. ¬
والخصوص هو: الانفراد بشيء (¬1). والمساواة هي: المماثلة (¬2). والمباينة هي: المباعدة مأخوذ من البين, وهو: البعد (¬3). قوله: (الحقائق كلها على (¬4) أربعة أقسام). ش: والمراد بهذه الأقسام الأربعة: المساواة، والمباينة، والعموم مع الخصوص من كل وجه، والعموم من وجه مع الخصوص من وجه، فكل أمرين من الأمور المعقولة فلا بد بينهما من أحد هذه الأمور الأربعة. قال المؤلف في الشرح: دليل حصر الحقائق في هذه الأقسام الأربعة أن المعلومين إما أن يجتمعا، أو لا، الثاني: هما المتباينان، والأول: لا يخلو إما أن يصدق [على] (¬5) كل واحد منهما في جميع موارد الآخر [أو لا، والأول: هما المتساويان، والثاني: أن يصدق أحدهما في جميع موارد الآخر] (¬6) من غير عكس فهو الأعم مطلقًا، والأخص مطلقًا، وإلا فهو الأعم من وجه، والأخص من وجه (¬7). قوله: (إِما متساويان (¬8) وهما اللذان يلزم من وجود كل واحد منهما ¬
وجود الآخر ومن عدمه عدمه؛ كالرجم وزنا المحصن). ش: واعلم أن هذا الفصل يحتوي على خمسة مطالب: أحدها: المتساويان، وهذا الذي فسره المؤلف مثاله: الرجم مع زنا المحصن، فهما متلازمان في الوجود، والعدم. قال المؤلف في الشرح: تمثيلي المتساويين بالرجم وزنا المحصن إنما يجري على مذهب الشافعي (¬1) القائل بأن اللائط لا يرجم. وأما على مذهب من قال برجمه (¬2): فالرجم أعم من زنا المحصن مطلقًا (¬3)، وزنا المحصن أخص مطلقًا، فنقول إذًا على تساوي المعنيين: كل (¬4) مرجوم زان محصن، وكل زان محصن مرجوم، فهما متلازمان، وجودًا أو عدمًا (¬5)، هذا مثال المتساويين في الفقهيات. ومثالهما في العقليات: الإنسان مع الضاحك بالقوة، فلا إنسان إلا وهو ضاحك بالقوة، ولا ضاحك بالقوة (¬6) [إلا وهو إنسان، والمراد ¬
بالقوة] (¬1) كونه قابلاً له وإن لم يقع، بخلاف الضاحك بالفعل وهو المباشر للضحك (¬2)، وإنما سميا متساويين لتساويهما في الدلالة على الملازمة من جهة (¬3) الوجود والعدم. قوله: (وإِما متباينان وهما: اللذان لا يجتمعان (¬4) في محل (¬5)؛ كالإِسلام والجزية). ش: هذا هو المطلب الثاني، وهما المتباينان. مثالهما: الإسلام والجزية، هذا مثالهما في الفقهيات. ومثالهما في العقليات: الإنسان مع الفرس، فلا شيء من الإنسان بفرس، ولا شيء من الفرس بإنسان (¬6). ¬
قوله: (وإِما أعم مطلقًا وأخص مطلقًا وهما: اللذان وجد أحدهما مع وجود كل أفراد الآخر من غير عكس؛ كالغسل، والإِنزال المعتبر، فإِن الغسل أعم مطلقًا، والإِنزال أخص مطلقًا). ش: هذا هو المطلب الثالث: ومعناهما: اللذان يصدق أحدهما في جميع موارد الآخر، ولا يصدق الآخر إلا في بعض موارد الآخر. مثالهما في الفقهيات: الغسل مع الإنزال المعتبر. ومعنى المعتبر: المقرون باللذة المعتادة. [وقولنا: المقرون باللذة المعتادة (¬1):] (¬2) احترازًا من العاري من اللذة، كالملدوغ، والمضروب إذا أمنى من ذلك. وقولنا: اللذة المعتادة: احترازًا من اللذة النادرة؛ كمن حك لجرب أو صب عليه الماء (¬3) السخون (¬4) أو بشر ببشارة، أو حكم له القاضي، أو سبق في ميدان الاستباق. ولكن هذا الاحتراز كله إنما هو على القول بعدم وجوب الغسل من هذه الصور (¬5) المذكورة، وأما إذا قلنا بوجوب الغسل من الإنزال مطلقًا فلا حاجة إلى قوله: الإنزال المعتبر؛ وذلك أن العلماء اختلفوا في وجوب الغسل في ¬
هذه الأمثلة المذكورة على قولين (¬1). ثم إذا قلنا بعدم الوجوب فهل يجب الوضوء أم لا؟ قولان أيضًا. قال أبو عمرو بن الحاجب: فإن أمنى بغير لذة أو بلذة غير معتادة كمن حك لجرب، أو لدغته عقرب، أو ضرب فأمنى: فقولان (¬2)، وعلى النفي ¬
ففي الوضوء قولان. سبب [الخلاف بين] (¬1) هذين القولين في الوضوء، هل هو بمنزلة الودي (¬2)؟ أو بمنزلة السلس (¬3)؟ فيلزم من وجود الإنزال المعتبر وجود الغسل، ولا يلزم من وجود الغسل وجود الإنزال؛ لأنه قد يجب من دم الحيض، أو دم النفاس أو الإيلاج وغير ¬
ذلك من أسباب الغسل. قوله: (كالغسل والإِنزال المعتبر) هذا مثالهما في الفقهيات. ومثالهما في العقليات: الإنسان مع الحيوان. فالحيوان أعم مطلقًا؛ لأنه يصدق في جميع أفراد الإنسان، والإنسان أخص مطلقًا، لأنه لا يصدق إلا في بعض أفراد الحيوان. قوله: (وإِما كل واحد منهما أعم من وجه، وأخص من وجه، وهما: اللذان يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه؛ كحل النكاح مع ملك اليمين، يوجد (¬1) حل (¬2) النكاح بدون الملك (¬3) في الحرائر، ويوجد الملك بدون حل النكاح في موطوءات الآباء من الإِماء، ويجتمعان معًا في الأمة التي ليس فيها مانع شرعي) (¬4). ش: هذا هو المطلب الرابع، وهو كون كل واحد منهما أعم، وأخص، مثالهما: حل النكاح الذي هو الوطء مع ملك اليمين. وضابطهما: أنهما يجتمعان في سورة، وينفرد (¬5) كل واحد منهما بصورته (¬6) هذا مثالهما في الفقهيات. ¬
ومثالهما في العقليات: الحيوان والأبيض (¬1)، يوجد الحيوان بدون الأبيض في السودان، ويوجد الأبيض بدون الحيوان في الثلج واللبن، ويجتمعان في الحيوان الأبيض. قوله: (فيستدل بوجود المساوي على وجود مساويه، وبعدمه على عدمه وبوجود الأخص على وجود الأعم، وبنفي الأعم على نفي (¬2) الأخص، وبوجود المباين على عدم (¬3) مباينته (¬4) ولا دلالة (¬5) في الأعم من وجه مطلقًا، ولا في عدم الأخص، ولا في (¬6) وجود الأعم) ش: هذا هو المطلب الخامس وهو المراد بالأحكام المذكورة في الترجمة، فذكر المؤلف خمسة أنواع من الاستدلال: أحدها: الاستدلال بوجود المساوي على وجود مساويه. الثاني: الاستدلال بعدم المساوي على عدم مساويه. الثالث: الاستدلال بوجود الأخص على وجود الأعم. الرابع: الاستدلال بعدم الأعم على عدم الأخص. الخامس: الاستدلال بوجود المباين على عدم مباينه. ¬
فالاستدلال بالمساوي من جهتين (¬1): من جهة الوجود، ومن جهة العدم، والاستدلال بوجود الأخص من جهة واحدة وهي: جهة الوجود خاصة، والاستدلال بعدم الأعم من جهة واحدة وهي: جهة العدم خاصة، والاستدلال بوجود المباين هو أيضًا من جهة واحدة، وهي: جهة الوجود. قوله: (وبوجود المباين على عدم ماينه) يقتضي: أن دلالة المباين من جهة الوجود خاصة دون جهة العلم، وهذا صحيح في المباين الضد، نحو الجسم: إما جماد وإما حيوان؛ إذ لا دلالة في عدم أحدهما على وجود الآخر ولا على (¬2) عدمه؛ لأن الجسم قد يكون نباتًا. وكذلك قولك: اللون إما أسود، وإما أبيض، ولا دلالة في عدم أحدهما على [وجود] (¬3) الآخر ولا على عدمه؛ لأن اللون قد (¬4) يكون أحمر (¬5). وأما إما كان المباين نقيضًا فيدل من جهتي الوجود والعدم نحو: العدد إما زوج وإما فرد، فيستدل بوجوده على العدم وبعدمه على الوجود. وذكر المؤلف ثلاثة أنواع لا دلالة فيها وهي: الاستدلال بوجود الأعم من وجه مطلقًا، أي: لا دلالة فيه مطلقًا لا على الوجود ولا على العدم. النوع الثاني: الاستدلال بعدم الأخص: لا دلالة فيه مطلقًا، لا على الوجود ولا على العدم. ¬
النوع الثالث: الاستدلال بوجود الأعم، لا دلالة فيه مطلقًا لا على الوجود ولا على العدم. وإلى هذه الثلاثة المسلوبة الدلالة أشار المؤلف بقوله: (ولا دلالة في الأعم من وجه مطلقًا ...) إلى آخره أي: لا دلالة في الأعم من وجه مطلقًا كقولك: في الدار حيوان، لا يلزم أن يكون: أبيض أو غير أبيض. ولا دلالة في عدم الأخص، كقولك: ليس في الدار إنسان لا يلزم أن يكون فيها غير إنسان من الحيوان، أو لا يكون فيها. ولا دلالة في وجود الأعم كقولك: في الدار حيوان، لا يلزم أن يكون إنسانًا أو (¬1) غير إنسان، وبالله التوفيق. ... ¬
الفصل العشرون في المعلومات
الفصل العشرون في المعلومات (¬1) (المعلومات كلها أربعة أقسام). ش: مقصود المؤلف بهذا الفصل، والفصل الذي قبله بيان الاستدلال بالملازمة (¬2)، وهذه الأقسام الأربعة المذكورة في هذا الفصل هي المطالب التي احتوى عليها هذا الفصل وهي: النقيضان، والخلافان، والضدان، والمثلان. قوله: (المعلومات) أي: الحقائق المعلومات منحصرة في هذه الأقسام الأربعة: قال المؤلف في الشرح: دليل الحصر في هذه الأقسام الأربعة: أن المعلومين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا؟ فإن أمكن اجتماعهما فهما: الخلافان، وإن لم يمكن اجتماعهما، فإما أن يمكن ارتفاعهما أو لا؟ الثاني: النقيضان، والأول: إما أن يختلفا في الحقيقة أو لا؟ والأول: الضدان، والثاني: المثلان (¬3). ¬
قوله: (نقيضان، وهما: اللذان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، كوجود زيد وعدمه). هذا هو المطلب الأول، أخرج بقوله: (لا يجتمعان) الخلافين، وأخرج بقوله: (ولا يرتفعان) الضدين. قوله (¬1): (كوجود زيد وعدمه) أي: في وقت واحد؛ إذ لا يمكن اجتماع وجوده (¬2) مع عدمه ولا يمكن عدم وجوده مع عدمه؛ لأن النقيضين لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر. قالوا (¬3): التناقض له (¬4) عشرة شروط، أشار إليها (¬5) ابن الحاجب بقوله: فيتحد الجزءان بالذات والإضافة، والجزء، والكل، والقوة، والفعل، والزمان، والمكان، والشرط (¬6). ¬
قوله: (فيتحد الجزءان بالذات) فيه شرطان من العشرة، وهما: اتحاد الموضوع واتحاد المحمول، أي: الاتحاد في ذات الموضوع، والاتحاد في ذات المحمول. قوله: (وخلافان، وهما: اللذان يجتمعان، ويرتفعان؛ كالحركة، واللون). ش: هذا هو المطلب الثاني. قوله: (يجتمعان) أخرج به النقيضين والضدين والمثلين (¬1). وقوله: (ويرتفعان) حشو، أما اجتماعهما فظاهر، وأما ارتفاعهما عن الجسم فكيف ذلك (¬2)؟ إذ الجوهر لا يفارقه اللون (¬3) فكيف يصح ارتفاع اللون؟ ¬
وأما ارتفاع الحركة فظاهر؛ لأن الحركة قد ترتفع، ويخلفها السكون. وها هنا تأويلان: قيل: هذا في الجواهر التي لا لون لها كالماء. واختلف في الماء: هل له لون أم لا (¬1)؟ قيل: لا (¬2) لون له، وعلى هذا القول يجري هذا (¬3) التأويل. وقيل: له لون. ثم اختلف في لونه على هذا القول: قيل: أبيض؛ لأنه إذا جعلته في يدك يظهر أنه أبيض. وقيل: لونه أسود؛ لأنه إذا نظرت إليه في محله [يظهر أنه أسود] (¬4). التأويل الثاني: أن المراد باللون في قوله: كالحركة، واللون هو: اللون المخصوص، وأما مطلق اللون فلا يفارق الجواهر، وعلى هذا التأويل كثير من الناس. قوله: (كالحركة واللون) أي: كالحركة ولون البياض مثلاً، فإذا ارتفعت الحركة مثلاً (¬5) يخلفها السكون، وإذا ارتفع البياض مثلاً (¬6) يخلفه السواد، أو غيره من الألوان. ¬
قال المؤلف في شرحه: الخلافان قد يتعذر ارتفاعهما، كالعشرة مع الزوجية والخمسة مع الفردية، والجوهر مع الكون وهو كثير، ولا تنافي بين إمكان الارتفاع بالنسبة إلى الذات وتعذر الارتفاع بالنسبة إلى أمر خارج عنها (¬1). قوله: (وضدان، وهما: اللذان لا يجتمعان ريمكن ارتفاعهما مع اختلاف الحقيقة (2) كالسواد، والبياض). ش: هذا هو المطلب الثالث. قوله: (لا يجتمعان) أخرج له الخلافين؛ لأنهما يجتمعان كما تقدم. وقوله: (ويمكن ارتفاعهما) أخرج له النقيضين؛ إذ لا يمكن ارتفاعهما. وقوله: (مع اختلاف الحقيقة) (¬2) أخرج به المثلين، مثل المؤلف الضدين بالسواد والبياض، فلا يجتمع السواد والبياض على جسم واحد، ويمكن ارتفاعهما في جسم آخر، ويخلفهما الاحمرار والاصفرار مثلاً، وهذا معنى قوله: (مع اختلاف الحقيقة أي: مع اختلاف المحل الموصوف بالسواد والبياض). واعترض بعضهم قوله: (مع اختلاف الحقيقة) بأن قال: هذا خارج عما كنا فيه؛ لأن كلامنا في الضدين بالنسبة إلى حقيقة واحدة، أي (¬3): إلى محل واحد، فقوله: (ويمكن ارتفاعهما) يريد إن كان بينهما وسط كالسواد ¬
والبياض فإن بينهما وسطًا، وهو سائر الألوان غيرهما (¬1) كالاحمرار، والاصفرار، والاخضرار. ومثالهما أيضًا: الأكبر والأصغر، فهما: ضدان وبينهما الوسط، وهو: المساوي، وأما الضدان اللذان لا واسطة بينهما فلا يرتفعان معًا عن المحل المتصف بهما كالحركة والسكون، والحياة والموت، والعلم والجهل، وغير ذلك، فإن هذه المعاني لا تجتمع (¬2) على المحل الواحد (¬3) ولا ترتفع (¬4) عنه. وهذا القسم مندرج في قوله أولاً (¬5): (نقيضان، وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كوجود زيد وعدمه). فقوله إذًا: (ضدان) أراد بهما: إن كان (¬6) [بينهما] (¬7) وسط، وأما إن (¬8) لم يكن بينهما وسط (¬9) فهما النقيضان. قال المؤلف في الشرح: كيف يقال في حد الضدين: يمكن ارتفاعهما مع أن الضدين كالحركة والسكون لا يمكن ارتفاعهما عن الجسم؟ وكذلك (¬10) الحياة والموت، لا يمكن ارتفاعهما عن الحيوان؟ وكذلك العلم والجهل لا يمكن ارتفاعهما عن الحي؟ قال: جوابه: أن إمكان الارتفاع أَعم من إمكان ¬
الارتفاع مع بقاء المحل، فنحن نقول: يمكن ارتفاعهما من حيث الجملة؛ لأنهما يمكن ارتفاعهما مع ارتفاع المحل فنقول: العالم قبل وجوده لا متحرك ولا ساكن، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، فيصح الحد (¬1). ولكن هذا الذي قال المؤلف - رحمه الله - لا يحتاج إليه مع ما قدمنا، والله أعلم؛ لأنه قد قدمنا (¬2) أن قوله: ويمكن ارتفاعهما يعني: إذا كان بينهما واسطة. قوله: (ومثلان وهما: اللذان لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما مع تساوي (¬3) الحقيقة: كالبياض والبياض). ش: هذا هو المطلب الرابع. قوله: (لا يجتمعان) أخرج به الخلافين. وقوله: (ويمكن ارتفاعهما) أخرج به النقيضين. وقوله: (مع تساوي الحقيقة) أخرج به الضدين. فائدة: حصر المعلومات كلها في الأقسام المذكورة لا يخرج منها (¬4) شيء إلا ذات (¬5) الله تعالى، وصفاته (¬6)؛ لاستحالة (¬7) العلم على واجب الوجود، فالله سبحانه مع العالم ليسا بنقيضين، ولا بضدين لوجودهما معًا، وليسا ¬
بخلافين لاستحالة العدم في حق الله تعالى، وليسا بمثلين لعدم المماثلة لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، فالله عز وجل لا يوصف بأنه نقيض، ولا ضد ولا خلاف، ولا مثل، سبحانه لا إله إلا هو (¬2)، وبالله (¬3) التوفيق بمنّه. ... ¬
الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه
الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه
الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه هذا الباب موضوع في بيان معاني الحروف التي (¬1) يحتاج إليها الفقيه في (¬2) الاستدلال والاستنباط، الضمير في قوله: (إِليها) يعود إلى المعاني، أي: يحتاج الفقيه إلى معرفة معانيها. وفي هذا الباب خمسة عشر مطلبًا: الأول: في الواو. والثاني: في الفاء. والثالث: في ثم. والرابع: في حتى وإلى. والخامس: في "في". والسادس: في اللام. والسابع: في الباء. ¬
والثامن في: "أو" و"إما". والتاسع: في أن وما يتضمن (¬1) معناها. والعاشر: في لو. والحادي عشر: في لولا. والثاني عشر: في بل. والثالث عشر: في لا والرابع عشر: في لكن. والخامس عشر: في التاء التي يفرق بها في (¬2) العدد (¬3) بين المذكر (¬4) والمؤنث. وهذه الحروف المذكورة في هذا الباب تدور كثيرًا في الكتاب والسنة، فدعت الحاجة إلى معرفتها في الاستدلال على الأحكام وفي استنباطها. قوله: (الواو لمطلق الجمع في الحكم (¬5) دون الترتيب في الزمان). ش: هذا هو المطلب الأول (¬6) يعني: أن الواو موضوعة لمطلق الجمع بين ¬
المعطوف، والمعطوف عليه، ولا تدل على تقدم المعطوف عليه على المعطوف، ولا تدل على تأخير المعطوف عن المعطوف عليه، ولا تدل على اجتماعهما في وقت واحد، ولا تدل إلا على مطلق الجمع في الحكم، وليس فيها (¬1) إشعار بمسابقة، ولا إشعار بملاحقة، ولا إشعار بمصاحبة في الزمان، فهي مشعرة بالجمع المطلق، الذي هو أعم من هذه المعاني الثلاثة. فإذا قلت: قام زيد وعمرو؛ يحتمل (¬2) ثلاثة أوجه وهي: قيام زيد قبل قيام عمرو، ويحتمل عكسه وهو (¬3) قيام عمرو قبل قيام زيد، ويحتمل قيامهما في حالة واحدة، فالدال على الأعم غير دال على الأخص على التعيين، هذا هو القول المشهور عند النحاة (¬4) ومذهب (¬5) المحققين. قال أبو عمر بن الحاجب: مسألة: "الواو" للجمع المطلق لا ترتيب (¬6) ولا معية عند المحققين. انتهى (¬7). ¬
وذهب (¬1) طائفة من الكوفيين: إلى أنها للترتيب (¬2). ودليل القائلين أنها (¬3) لا تقتصي الترتيب أوجه: أحدها: قوله تعالى في البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬4) مع قوله تعالى في الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (¬5). ولو كانت الواو للترتيب (¬6) لوقع التناقض في الكلام، والتناقض في كلام الله تعالى (¬7) محال، وإنما قلنا: يقع التناقض؛ لأن القصة واحدة أمرًا ومأمورًا وزمانًا. الوجه الثاني: قوله تعالى حكاية عن كفار العرب المنكرين للبعث: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (¬8). [فعطف الحياة على الموت] (¬9)، فلو كانت الواو للترتيب لكانوا مقرين (¬10) بالبعث بعد الموت، وليسوا كذلك؛ لأنهم أنكروا البعث. ¬
واختلف (¬1) المفسرون في معنى (¬2) قوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا}: قيل: معناه: نحن موتى قبل وجودنا ثم نحيا بوجودنا. وقيل: معناه: نموت حين (¬3) نحن (¬4) نطف (¬5) ودم (¬6) ثم نحيا بالأرواح فينا (¬7)، وهذا القول قريب من الأول. وقيل: معناه: يموت كبارنا ويولد صغارنا فنحيا أي: يموت بعضنا، ويحيا بعضنا (¬8). وعلى هذه (¬9) التأويلات لا دليل في الآية على عدم الترتيب في الواو، ولكن هذه التأويلات كلها ضعيفة؛ والظاهر أن المراد بالموت في الآية هو الموت المعهود، وهو خروج الروح من الجسد فيكون في الآية [تقديم] (¬10) وتأخير تقديره: نحيا، ونموت (¬11). ¬
الوجه الثالث: قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} (¬1). لأن الوحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام (¬2) إنما كان بعد الوحي إلى الأنبياء قبله عليهم السلام (¬3)، فدل ذلك على أن الواو لا ترتيب فيها. الوجه الرابع، أن الواو تدخل فيما لا يصح فيه الترتيب وهو: كل (¬4) ما لا يستغنى فيه عن المعطوف، وهو: باب (¬5) التفاعل، والافتعال، والبينية كقولك: تخاصم زيد وعمرو، وقولك (¬6): اختصم زيد وعمرو. ومثال البينية: جلست بين زيد وعمرو. الوجه الخامس: [أن الواو لو كانت للترتيب لوقع التكرار في قوله: قام زيد وعمرو بعده؛ وذلك أن الواو تقتضي البعدية على] (¬7) تقدير كونها (¬8) تقتضي الترتيب، وقوله: بعده يقتضي البعدية أيضًا هو: تكرار إذًا، والتكرار خلاف الأصل. الوجه السادس: أن الواو لو كانت تقتضي الترتيب لوقع التناقض في ¬
قولك (¬1): قام زيد وعمرو قبله؛ [وذلك أن الواو على تقدير الترتيب تقتضي البعدية فيقتضي ذلك: أن قيام عمرو بعد قيام زيد، وقولك: قبله] (¬2) يقتضي (¬3) القبلية، فيقتضي: أن قيام عمرو قبل قيام زيد، وذلك تناقض؛ مع أن هذا الكلام (¬4) [هو كلام] (¬5) جائز فصيح (¬6). الوجه السابع: أن جمهور الأدباء (¬7) نصوا على أن الواو لا ترتيب فيها نص على ذلك أبو علي الفارسي، والجوهري (¬8)، والسيرافي (¬9)، ¬
والسهيلي (¬1) وغيرهم (¬2). ¬
وقال سيبويه (¬1): ولو قلت: مررت برجل وحمار لم تجعل للرجل منزلة (¬2) بتقديمك إياه يكون بها أولى من الحمار، كأنك قلت: مررت بهما (¬3). و (¬4) قال صاحب (¬5) المغني (¬6): الواو تنفرد عن سائر حروف العطف ¬
بخمسة عشر حكمًا: أحدها: احتمال معطوفها للمعاني الثلاثة: السابقة (¬1)، واللاحقة (¬2) والمصاحبة. الثاني: اقترانها بإما نحو: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬3). الثالث: اقترانها بلا نحو: ما قام زيد ولا عمرو. الرابع: اقترانها بـ "لكن" نحو قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} (¬4). الخامس: عطف السببي (¬5) على الأجنبي نحو: زيد قام عمرو وغلامه (¬6). السادس: عطف العقد (¬7) على [النيف] (¬8) نحو: أحدٌ (¬9) وعشرون. السابع: عطف النعوت المعرفة مع جمع (¬10) منعوتها (¬11)، نحو: مررت ¬
برجلين: كريم، وبخيل. الثامن: عطف ما حقّه التثنية والجمع (¬1) نحو: قول الشاعر: أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا ... ويومًا له يوم الترحل خامس وهذا البيت يتساءل فيه أهل الأدب، فيقال: كم أقاموا؟ فجوابه: ثمانية أيام (¬2). التاسع: عطف ما لا يستغنى عنه نحو: اختصم زيد وعمرو، واشترك زيد وعمرو (¬3)، وجلست بين زيد وعمرو. العاشر: عطف الخاص على العام نحو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (¬4). الحادي عشر: عطف العام على الخاص، نحو: قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬5). الثاني عشر: عطف عامل محذوف بقي (¬6) معموله على عامل آخر ¬
يجمعهما معنى واحد، نحو: قول الشاعر: ...................... وزججن الحواجب والعيونا (¬1) أي: وكحلن العيونا، والجامع (¬2) بين العاملين: التحسين. الثالث عشر: عطف الشيء على مرادفه، نحو: قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} (¬3)، وقوله تعالى أيضًا (¬4): {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (¬5)، وقوله تعالى أيضًا: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا ¬
أمتًا} (¬1). وقوله عليه السلام: "ليلني منكم أولو الأحلام (¬2) والنُّهى" (¬3). الرابع عشر: عطف المقدم على متبوعه، نحو قول الشاعر: ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام (¬4) ¬
الخامس عشر: عطف المخفوض على الجوار، نحو: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن} (¬1) على قراءة الخفض (¬2). قوله: (الواو لمطلق الجمع) يريد به الواو العاطفة، ولم يتكلم المؤلف على غير العاطفة. قال الباجي: الواو لها عشرة معاني. تكون عاطفة نحو: رأيت زيدًا وعمرًا. وتكون بمعنى "أو" نحو: قوله تعالى: {مثنَى وَثلاثَ وَربَاعَ} (¬3)، ومنه قول الشاعر: ومن يسأل الركبان عن كل (¬4) غائب ... فلا بد أن يلقى بشيرًا وناعيًا (¬5) وتكون للحال نحو: قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ ¬
أَنْفُسُهُمْ} (¬1) [معناه: إذ طائفة] (¬2). وتكون صلة: كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ} (¬3). وتكون للاستئناف: كقولك: رأيت زيدًا، وعمرًا منطلق. وتكون للجواب كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬4) وتكون للقسم كقولك (¬5): والله لأفعلن كذا. وتكون بمعنى رب كقول الشاعر: وبلدة ليس بها (¬6) أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس (¬7) وتكون بمعنى مع (¬8) كقولك: تركت الناقة وفصيلها، أي: مع فصيلها. ¬
وتكون بمعنى الباء، كقولك: ما زلت (¬1) وعبد الله حتى فعل كذا، أي: ما زلت (¬2) بعبد الله (¬3) حتى فعل كذا (¬4). وأما دليل القائلين بأن الواو تقتضي الترتيب فهي أوجه: [أحدها] (¬5) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬6). فقدّم الركوع على السجود واستفيد ذلك من الواو. و (¬7) أجيب عن هذا: بأن تقديم الركوع على السجود، إنما استفيد من قوله عليه السلام: "صلّوا كما رأيتموني أصلي" لا من الواو. و (¬8) الوجه الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬9)، لما نزل قال الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بم نبدأ يا رسول الله؟ قال: "ابدؤوا بما بدأ الله به" (¬10). ¬
ولولا أن الواو تقتضي (¬1) الترتيب لما كان ذلك. أجيب عن هذا: بأن الواو لو كانت للترتيب لما احتاجوا إلى السؤال (¬2)؛ لأنهم أهل اللسان، بل سؤالهم يدل على أنهم فهموا منها عدم الترتيب. الوجه الثالث: "أن رجلاً (¬3) قام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب (¬4)، ¬
وقال (¬1): من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" (¬3)، ولو كان الواو لمطلق الجمع لما وقع الفرق بين العبارتين. أجيب عن هذا: بأنه عليه السلام إنما رد ذلك على الخطيب، لإخلاله بالترتيب الزماني لا لإخلاله (¬4) بالترتيب الحرفي، فإنه عليه السلام أمره أن يرتب الحقيقة الزمانية، وهي (¬5) أن ينطق باسم الله تعالى (¬6) أولاً ثم (¬7) يذكر رسوله (¬8) ثانيًا: اهتمامًا وتعظيمًا لاسم الله عز وجل. وبيان هذا الجواب: أن الترتيب له سببان وهما: أداة (¬9) لفظية، وحقيقة زمانية. ¬
فالأداة (¬1) اللفظية نحو: الفاء وثم. والحقيقة الزمانية هي: أن أجزاء الزمان مترتبة (¬2) بذاتها، فالماضي قبل الحال، والحال قبل الاستقبال (¬3)، فلا يقع الحال قبل الماضي ولا يقع المستقبل قبل الحال، واجتماع الأزمان محال عقلاً، فإذا كانت أجزاء الزمان مترتبة فالأفعال والأقوال الواقعة فيها مترتبة (¬4)، فالواقع في المرتب مرتب، والواقع في السابق سابق على الواقع في اللاحق، فالمنطوق به أولاً متقدم لتقدم زمانه، والمنطوق به آخرًا متأخر لتأخر (¬5) زمانه؛ ولأجل ذلك يقدم المفعول على الفاعل تشريفًا له (¬6) بالحقيقة الزمانية فقط. كقولنا (¬7): أنشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت، وليس ها هنا لفظ مرتب بالأدوات (¬8) اللفظية بل الزمان فقط. فتبين بهذا (¬9) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما عتب الخطيب لترك الترتيب (¬10) ¬
بالحقيقة الزمانية لا لترك (¬1) الترتيب (¬2) بالأداة (¬3) اللفظية، فحمل كلامه عليه السلام على هذا أولى من حمله (¬4) على ذلك؛ لأن حمله على ما قلنا مجمع عليه، وما ذكروه مختلف فيه، فإضافة كلام الشارع إلى المتفق عليه أولى من حمله على المختلف فيه؛ لأن الترتيب الزماني متفق عليه، والترتيب اللفظي مختلف فيه (¬5). قال المؤلف في الشرح: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" (¬6) فقد جمع بينهما في الضمير كما جمع الخطيب بينهما، فما الفرق بين الكلامين؟ أجيب عنه: بأن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة، وإيقاع الظاهر موقع ¬
المضمر (¬1) في الجملة الواحدة: قبيح، وكلام الخطيب جملتان: إحداهما: مدح، والأخرى: ذم، وإيقاع الظاهر موقع المضمر (¬2) في الجملة حسن (¬3) (¬4). الوجه الرابع: من الأوجه الدالة على أن الواو تقتضي الترتيب: قول الرجل لزوجته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وطالق، وطالق (¬5)، يلزمه (¬6): طلقة واحدة، وما (¬7) ذلك إلا لأجل أن الواو تقتضي الترتيب، فلو كانت الواو للجمع المطلق لطلقت ثلاثًا كما في قولك: أنت طالق ثلاثًا. أجيب عن هذا: بأن البينونة إنما وقعت بالطلقة الواحدة؛ لأجل الترتيب الزماني أي: بالحقيقة الزمانية لا بالأداة (¬8) اللفظية - كما تقدم -؛ لأن النطق بالأولى متقدم (¬9) على النطق بالثانية، فتبِينُ بالأولى ولم تصادف الثانية ¬
محلاً. و (¬1) أيضًا قوله: تلزم طلقة واحدة في قولك أنت طالق، وطالق، وطالق، هو محل (¬2) الخلاف: قال الشافعي: يلزم (¬3) واحدة. وقال غيره: تلزم ثلاث. قال أبو عمرو بن الحاجب: وفي (¬4) النسق بالواو إشكال، قال ابن القاسم (¬5): ورأيت (¬6) الأغلب عليه أنها مثل "ثم" و (¬7) لا ينوى وهو رأيي. الوجه الخامس من الأوجه الدالة على أن الواو تقتضي الترتيب: قول عمر رضي الله عنه [للشاعر القائل] (¬8): ¬
........ كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا (¬1) فقال له عمر: لو قدّمت الإسلام لأجزتك، فلولا أن الواو تقتضي الترتيب لما قال له عمر (¬2) ذلك (¬3). أجيب عنه: بأنه إنما حرمه من الجائزة (¬4) لإخلاله (¬5) بالترتيب الزماني لا لإخلاله (¬6) بالترتيب الحرفي - كما (¬7) تقدم في مسألة الخطيب (¬8) -. ¬
قوله: (والفاء للتعقيب والترتيب والتسبيب نحو: سهى فسجد). ش: هذا هو المطلب الثاني (¬1) فذكر أن الفاء له ثلاثة معان: التعقيب، والترتيب، والتسبيب، ومعنى التعقيب: عدم التراخي، واحترز بالتعقيب من ثمّ كما سيأتي، واحترز بالترتيب من الواو، فلو قدم الترتيب على التعقيب لكان أحسن؛ لأن التعقيب يستلزم الترتيب دون العكس (¬2). قال بعضهم: إنما قدم التعقيب؛ لأنه متفق عليه، وأما الترتيب فهو مختلف فيه، وتقديم المتفق عليه أولى (¬3) من تقديم المختلف فيه. قوله: (والفاء للتعقيب والترتيب). قال المؤلف (¬4): التعقيب يكون بحسب الإمكان في العادة، احترازًا ¬
من قولهم مثلاً (¬1): دخلت (¬2) الكوفة فالبصرة؛ إذ لا يشترط في دخول البصرة أن يلي دخول الكوفة بالزمان الفرد، بل إن كان بينهما ثلاثة أيام فدخل بعد الثلاثة، فذلك تعقيب عادة، وإن دخل بعد أربعة أيام أو أكثر فليس بتعقيب عادة، ولا يشترط في دخول البصرة أن يلي دخول الكوفة بالزمان الفرد؛ لأن ذلك محال عادة والعرب لم تضع المحال (¬3). قوله: (والفاء للتعقيب) يريد بها العاطفة، وأما الفاء (¬4) التي هي الجواب (¬5) فلا تقتضي التعقيب، كقولك: إذا دخلت مكة فاشتر لي عبدًا، ومنه قوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} (¬6) معناه: فيستأصلكم بعذاب، فقد حصل الافتراء منهم، ولم يحصل الاستئصال في الحين. قوله: (للتعقيب [والترتيب] (¬7)): مثاله قولك: قام زيد فعمرو، فالفاء (¬8) ها هنا يفيد أمرين. أحدهما: أن (¬9) قيام عمرو بعد قيام [زيد. ¬
والثاني: أن قيام] (¬1) عمرو، وقع عقيب قيام زيد من غير تراخ. قوله: (للتعقيب) وذكر ابن مالك في التسهيل أنها تكون بمعنى ثم (¬2) فيقتضي التراخي، وهو: المهلة، نحو: قوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} (¬3) قوله: (والترتيب) و (¬4) ذكر الفراء أنها تكون لغير الترتيب كالواو، نحو قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (¬5) قال: المعنى ثم تدلى فدنا (¬6). وقال (¬7) أبو إسحاق العطار (¬8) في شرح الجزولية: وهذا جائز في كل فعلين معناهما واحد نحو قوله (¬9): دنا فقرب، يجوز أن تقول (¬10): دنا فقرب، ويجوز (¬11) أن تقول: قرب فدنا، وكقولك: شتمني فأساء، ¬
وأساء (¬1) فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة، واحد (¬2) في المعنى (¬3). قوله: (والتسبيب نحو قولنا: سهى فسجد). ش: [ومثاله أيضًا] (¬4) قولك (¬5): سرق فقطع، وقولك (¬6): زنا فجلد، أو زنا فرجم، وقولك: شرب الخمر فحد (¬7)، فإن الفاء في هذه الأمثلة تقتضي السببية والعلية (¬8)؛ لأن ما قبلها سبب لما بعدها. ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} (¬9). ومنه قوله تعالى أيضًا (¬10): {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُم} (¬11). وقوله (¬12) تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه} (¬13). ¬
وقوله تعالى (¬1): {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} (¬2)، وغير ذلك وهو كثير. قوله: (والترتيب) هذا هو المشهور (¬3) عند النحاة. وذهب بعض الكوفيين إلى أنها لا تقتضي الترتيب. وحجتهم: أن الفاء قد تكون في موضع لا يصح (¬4) فيه الترتيب. ومنه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (¬5) فلا يمكن الترتيب ها هنا؛ لأن النداء والقول راجعان إلى معنى واحد، والشيء الواحد لا يرتب (¬6) على نفسه. وكذلك قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل (¬7) ¬
الدخول (¬1) وحومل (¬2) هما: بلدان، فلا يمكن الترتيب ها هنا أيضًا. ومن كلامهم أيضًا (¬3): نزل المطر موضع كذا فكذا، وهو (¬4) لا يمكن الترتيب فيه أيضًا. قال المرادي في شرح الألفية: الصحيح أن الفاء تفيد الترتيب، والتعقيب وكل ما أوهم خلاف ذلك (¬5) يؤول (¬6)، وهو مذهب الجمهور (¬7). قال المؤلف في الشرح: والدليل على (¬8) أن الفاء للترتيب، وجوب دخولها في جواب الشرط إذا كان جملة اسمية نحو (¬9) قولك (¬10): من دخل ¬
داري فله درهم. قال النحاة: لو لم يقل: "فله"، بل (¬1) قال: "له" بغير فاء لكان إقرارًا بالدرهم، ويكون الشرط المتقدم بقي لغوًا بغير جواب. وكذلك قولك: إن دخلت الدار فأنت طالق، وقولك (¬2): إن دخلتَ الدار فأنت حر (¬3) لو حذف الفاء لوقع الطلاق، والعتق في الحال من غير توقف على دخول الدار؛ لأن الموجب لتعليق الطلاق والعتق على دخول الدار إنما هو (¬4) الفاء في الجملة الاسمية، فإذا عدمت (¬5) الفاء انقطع الكلام عما قبله فصار إنشاء لا (¬6) تعليقًا من جهة دلالة اللفظ لا من جهة الإرادة والفتيا، فإذا كانت الفاء هي التي ترتب دل على أنها للترتيب (¬7). قوله: (وثم للتراخي). ش: هذا هو المطلب الثالث (¬8). ¬
وفي هذا الحرف أربع (¬1) لغات ذكرها المرادي في شرح الألفية، وهي: ثم، فم، ثُمَتَ، ثُمَتْ (¬2). أعني إبدال الفاء بالفاء، أو إلحاق تاء التأنيث مفتوحة، أو إلحاق تاء التأنيث ساكنة (¬3). فذكر المؤلف أن ثم يقتضي التراخي، وهو. المهلة في الزمان نحو قولك: قام زيد ثم عمرو، يقتضي هذا الحرف الذي هو ثم، أن قيام عمرو بعد قيام زيد بزمان. وقوله (¬4): (التراخي) احترازًا من الفاء؛ إذ لا تراخى فيها، واحترازًا أيضًا (¬5) من الواو؛ إن هي لمطلق الجمع. قوله (¬6): (وثم للتراخي) هذا مذهب الجمهور، وكل ما أوهم خلافه تؤول، قاله المرادي في شرح الألفية (¬7). قال المرادي (¬8): ذكر (¬9) ابن مالك في التسهيل أنها تقع موقع ¬
الفاء (¬1) قال الأستاذ ابن عصفور (¬2): ذهب الكوفيون إلى أنها لا تقتضي الترتيب بمنزلة الواو. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (¬3)؛ لأن السجود لآدم إنما كان قبل خلقنا، فدل (¬4) على عدم الترتيب. وبقوله تعالى أيضًا: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (¬5) إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬6) لأن كان قبل الإعتاق والإطعام، فدل على عدم الترتيب. ¬
و (¬1) بقول (¬2) الشاعر: قل (¬3) لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد (¬4) ساد بعد ذلك جده (¬5) لأن سؤدد جده كان قبل سؤدد أبيه، وسؤدد أبيه كان قبل سؤدد نفسه, فدل أيضًا على عدم الترتيب كالواو. أجيب عن الآية الأولى: بأن في الكلام حذف مضاف تقديره: ولقد خلقنا أصلكم (¬6) الذي هو آدم ثم صورنا أصلكم (¬7) الذي هو آدم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتبقى (¬8) "ثم" على أصلها (¬9) في الترتيب. ¬
وأجيب عن (¬1) الآية الثانية: بأن "ثم" فيها لترتيب (¬2) الرتب وتراخيها لا لترتيب الأزمان وتراخيها. قال أبو القاسم الزمخشري: إنما جيء بثمّ لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة (¬3) والفضيلة على العتق والصدقة لا في الوقت؛ لأن الإيمان هو: السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به (¬4)، وهذا أيضًا هو الجواب عن البيت المتقدم، أعني (¬5) أن المقصود التنبيه على تراخي الرتب، فالممدوح (¬6) كان أبوه أعظم رتبة منه، وجده كان أعظم رتبة من أبيه. ومنهم من قال: البيت محمول على ظاهره من سؤدد الممدوح أولاً، ثم سؤدد أبيه بعده، ثم سؤدد الجد بعده (¬7)، كمثل قول الشاعر: وكم أب قد علا بابن ذرى حسب ... كما علت برسول الله عدنان (¬8) ¬
فبقيت "ثم" (¬1) على بابها من الترتيب. قوله: (وثم للتراخي) قال الباجي: وقد (¬2) تكون بمعنى الواو (¬3) كقوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬5). قوله: (وحتى وإِلى للغاية). ش: هذا هو المطلب الرابع، ذكر هذين (¬6) الحرفين للغاية، وغاية الشيء هي نهايته، وطرفه، وآخره. مثال حتى: قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬7). ومثال إلى: قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬8). ولنتكلم على كل واحد من هذين الحرفين (¬9) على حدته: أما "حتى" فاعل (¬10) أنها (¬11) تأتي على أربعة معان (¬12) وهي: ابتدائية، ¬
وعاطفة، وجارة، وناصبة [ولا تفارقها الغاية في جميع الأوجه المذكورة (¬1)] (¬2). فأما الابتدائية فهي التي تدخل على مبتدأ، أو على ماض، أو على مضارع مرفوع. مثال الداخلة على المبتدأ قولك: قام الناس حتى زيد قائم، ومنه قول الشاعر: فيا عجبًا حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع (¬3) ¬
نهشل (¬1) ومجاشع: قبيلتان. ومثال الداخلة على الماضي قولك: قام الناس حتى قام زيد، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا} (¬2). ومثال الداخلة على المضارع المرفوع: قولك: سألت عنه حتى لا أحتاج إلى سؤال (¬3). وقولك: مرض حتى لا يرجونه. وقولهم (¬4): شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه. ومنه قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬5) على قراءة نافع (¬6) بالرفع. ¬
وذلك أن النحاة يقولون: المضارع الواقع بعد حتى إذا كان حالاً، أو مؤولاً بالحال فحكمه: الرفع، وإذا كان مستقبلاً أو مؤولاً بالمستقبل فحكمه: النصب. فمثال الحال قولك: سألت عنه حتى لا أحتاج إلى السؤال [أي: لا أحتاج الآن إلى (¬1) السؤال] (¬2). وكذلك قولك: مرض حتى لا (¬3) يرجونه، [يعني لا يرجونه] (¬4) الآن. وكذلك قولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه، أي: حتى يجيء الآن في الحال. ومثال المؤول بالحال قول تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬5) على قراءة الرفع (¬6) ومعنى المؤول بالحال: أن يكون الفعل قد مضى ولكن تقدر (¬7) التلبس به في الحال (¬8). وبيان ذلك في هذه الآية: أن يكون الزلزال قد مضى، والقول لم يمض، ¬
والمعنى: وزلزلوا فيما مضى حتى أن الرسول الآن [يقول الآن (¬1)] (¬2): متى نصر الله، فحكيت (¬3) الحال التي كانوا عليها. ويصح في الرفع وجه آخر وهو: أن يقدر الزلزال، وقول الرسول بكونهما قد مضيا معًا، تقديره: وزلزلوا حتى قال (¬4) الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله، فهي (¬5) حكاية عن الحال التي كان عليها الرسول فيما مضى. وهذه المواضع التي (¬6) تكون فيها حتى ابتدائية وهي: إذا دخلت على مبتدأ، أو على ماض أو على مضارع مرفوع، ولا تتوهم أنها لا يقال لها: حرف ابتداء، إلا إذا دخلت على مبتدأ، أو خبر، بل يقال لها: حرف ابتداء وإن دخلت على ماض أو (¬7) مضارع مرفوع على جهة الاصطلاح؛ لأن الابتدائية هي: التي تدخل على جملة مضمونها غاية لشيء (¬8) قبلها، قاله (¬9) المرادي في شرح الألفية (¬10). ¬
وأما العاطفة فهي: التي تعطف اسمًا مفردًا ولا تعطف فعلاً، ولا جملة، ويشترط في معطوفها أن يكون جزءًا مما قبلها وغاية لما قبلها. وقولنا: "جزءًا مما قبلها" (¬1) [أي] (¬2) وأما إذا لم يكن ما بعدها جزءًا مما قبلها فلا يجوز ذلك في الكلام، نحو قولك: أضمن هؤلاء الرجال حتى يوم (¬3) الأربعاء، لا يجوز (¬4)؛ لأن يوم الأربعاء ليس جزءًا من الرجال، وكذلك قولك: صمت رمضان حتى يوم الفطر: لا يجوز (¬5)؛ لأن يوم الفطر لا يكون فيه الصوم، وكذلك قولك: اعتكفت العشر الأواخر حتى يوم الفطر، لا يجوز أيضًا؛ لأن يوم الفطر لا يكون فيه الاعتكاف، فالمعطوف بحتى في هذه الأمثلة ليس جزءًا مما قبل حتى. وقولنا: "أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها" أعني: أن يكون غاية له في التعظيم، أو في التحقير، أو في القوة، أو في الضعف. مثال التعظيم: خرج الناس حتى السلطان، وقولك: مات الناس حتى الأنبياء. ومثال التحقير: خرج الناس حتى العبيد، وقولك: أحصى الله كل شيء (¬6) حتى مثاقيل الذر. ¬
ومثال القوة: خرج الناس حتى الفرسان، وقولك: هرب الناس حتى الأبطال. ومثال الضعف: خرج الناس حتى المرضى، وقولك: قدم الحجاج حتى المشاة. قال أبو موسى الجزولي: و (¬1) حتى تنفرد بأن ما بعدها (¬2) لا يكون إلا جزءًا مما قبلها (¬3)، وفائدتها أن ما بعدها عظيم أو حقيرٌ أو ضعيف أو قوي (¬4). انتهى (¬5). وقد (¬6) نص النحاة على أن المعطوف بحتى يشترط فيه: أن يكون جزءًا مما قبلها كما تقدمت مثوله، فإن ورد خلاف ذلك فإنه يرد (¬7) بالتأويل إلى ذلك. مثاله: قولهم: أعجبتني الجارية حديثها، فإن حديثها ليس جزءًا من الجارية، ولكن هو شبيه بجزء منها؛ لأن حديثها معنى من معانيها، قاله المرادي (¬8). وكذلك قول الشاعر: ¬
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها (¬1) فعطف النعل بحتى مع أن النعل [ليس جزءًا مما قبلها؛ لأنه] (¬2) ليس جزءًا من الزاد ولا من الصحيفة، ولكن يرد (¬3) بالتأويل إلى ذلك؛ لأن معنى الكلام: ألقى ما يثقله حتى نعله. وقوله: حتى نعله روي بثلاثة أوجه: النصب، والخفض، والرفع. فالنصب على العطف تقديره (¬4): حتى ألقى نعله (¬5)، والخفض على أن ¬
تكون (¬1) حتى بمعنى إلى (¬2)، والرفع على الابتداء (¬3)، وخبر (¬4) المبتدأ: ألقاها. وقوله: ألقاها على رواية النصب والخفض تأكيد لإلقاء الصحيفة. ونظير هذا في الأوجه الثلاثة: النصب، والخفض، والرفع: ضربت (¬5) القوم حتى زيد ضربته، فالخفض (¬6) على الغاية بمعنى إلى، والنصب على إضمار فعل تقديره: حتى ضربت زيدًا، والرفع على الابتداء، وخبره ضربته، وقولك (¬7): ضربته على وجهي النصب والخفض (¬8) تأكيد لقوله: ضربت. واعلم أن "حتى" العاطفة يجوز الجر في معطوفها نحو: قام القوم حتى زيد، يجوز فيه وجهان: الرفع على العطف. والجر على معنى إلى. ¬
واعلم أن حتى العاطفة أيضًا لا تقتضي الترتيب بمنزلة الواو، بهذا (¬1) هو مذهب الجمهور من النحاة خلافًا للزمخشري وغيره، قاله المرادي (¬2). والدليل على أن حتى لا تقتضي الترتيب: كونها تأتي في موضع لا يمكن فيه الترتيب، كقوله عليه السلام [في الحديث] (¬3): "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس" (¬4). فإن القضاء والقدر لا ترتيب فيهما، وإنما الترتيب في ظهور المقتضيات، والمقدرات (¬5). وأما حتى الجارة فهي: [التي تجر] (¬6) آخر الجزء، ومتصلاً (¬7) بآخر الجزء. ¬
مثال الجزء قولك: أكلت السمكة حتى رأسها، [فإن الرأس] (¬1) جزء من السمكة. ومثال المتصل بآخر الجزء قولك: زرعت الأرض حتى النهر، فالنهر ليس بآخر جزء (¬2) ولكنه متصل بآخر جزء، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الفجْرِ} (¬3)؛ لأن طلوع الفجر متصل بآخر جزء من الليل (¬4) [فلو قلت (¬5): سرت النهار حتى نصفه لم يجز (¬6)؛ لأن نصفه ليس بآخر جزء من النهار] (¬7) وإنما (¬8) الجائز مثلاً: سرت النهار حتى آخره. وأَما حتى الناصبة فهي: التي تنصب الفعل المستقبل [أو المؤول بالمستقبل] (¬9). مثال المستقبل الحقيقي: قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} (¬10). ¬
وقوله تعالى (¬1): {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬2). ومثال المؤول بالمستقبل: قوله تعالى (¬3): {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (¬4) بالنصب على قراءة غير نافع (¬5). ومعنى تأويله بالمستقبل: أن يقدر اتصاف الفاعل بالعزم على الفعل فيصير كالمستقبل؛ إن لا يعزم إلا على المستقبل (¬6)، تقديره في هذه الآية: وزلزلوا إلى أن (¬7) قال (¬8) الرسول، وجعل قول (¬9) الرسول غاية لخوف أصحابه، والفعلان قد مضيا. فقولك (¬10) مثلاً: سرت حتى أدخل المدينة؛ يجوز فيه الرفع والنصب. قال صاحب الجمل: فللرفع: وجهان، وللنصب: وجهان. أحد وجهي الرفع: أن يكون السير والدخول قد مضيا معًا، كأنك قلت: سرت فدخلت المدينة، فكل موضع صلح فيه التقدير بالماضي والفاء جميعًا فارفعه. ¬
والوجه الثاني: أن يكون السير قد مضى وأنت تقول: إنك الآن تدخل، كأنك قلت: سرت حتى أدخلها الآن لا أمنع. وأحد وجهي النصب: أن تجعل دخولك غاية لسيرك كأنك قلت: سرت إلى أن أدخل المدينة. والوجه الثاني: أن تكون حتى بمعنى: كي، كأنك قلت: سرت كي أدخل المدينة (¬1). واعلم أن الفعل الذي بعد "حتى" يجب نصبه في موضعين: أحدهما: إذا لم يكن واجبًا نحو قولك: ما سرت حتى أدخل المدينة، لا يجوز فيه إلا النصب؛ لأنك (¬2) لم تثبت فعلاً. الموضع الثاني: إذا لم يكن الفعل الذي قبلها سببًا لما بعدها نحو قولك: سرت حتى تطلع الشمس، أو حتى يؤذن المؤذن، قاله (¬3) صاحب الجمل (¬4). واعلم أن حتى إذا نصب الفعل بعدها تارة تكون بمعنى إلى، وتارة تكون بمعنى كي. فمثال كونها بمعنى إلى: لأسيرنّ حتى تغرب الشمس. ¬
ومثال الثاني: لأتوبن حتى يغفر الله لي. فإذا كانت بمعنى إلى فما بعدها غاية لما قبلها، وإذا كانت بمعنى كي كان ما قبلها سببًا لما بعدها. واعلم أن حتى التي ينتصب (¬1) الفعل بعدها أصلها الجارة؛ لأنها لا تنصب بنفسها وإنما تنصب بإضمار أن بعدها؛ لأن الفعل المنصوب بعدها يقدر باسم مجرور، فقولك: سرت حتى أدخل المدينة، تقديره: سرت إلى دخول المدينة، فيقدر أن مع الفعل بمصدر ذلك الفعل، هذا مذهب البصريين خلافًا للكوفيين القائلين بأن حتى تنصب بنفسها. قال بعضهم: ضابط حتى إذا دخلت على (¬2) الفعل المضارع أنها تنصبه (¬3) في وجهين، وترفعه (¬4) في وجهين أحد وجهي النصب: إذا كان ما بعدها غاية لما قبلها، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} (¬5)، وقوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬6)، وقولك (¬7): أسير حتى أدخل المدينة، أو حتى تطلع الشمس، فمعنى حتى في هذا الوجه: إلى أن ¬
الوجه الثاني من وجهي النصب: إذا كان ما بعدها (¬1) سببًا لما قبلها (¬2) كقولك: كلمته حتى يأمر (¬3) في شيء (¬4)، وقولك: صمت حتى أدخل الجنة، ومعنى حتى في هذه (¬5) الوجوه (¬6): كي. وأما أحد وجهي الرفع: فهو: إذا كان ما قبلها سببًا لما بعدها، وكان ما بعدها ماضيًا، كقولك: سرت حتى أدخل المدينة، إذا قصدت به حكاية حالة ماضية تقديره: سرت فدخلت المدينة. الوجه الثاني: من وجهي الرفع: إذا كان ما قبلها سببًا لما بعدها، وكان ما بعدها حاضرًا، كقولك: ضربته حتى لا يستطيع أن يتكلم، ومنه قولهم: مرض حتى لا يرجونه. وقولهم: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه، والمراد بهذه الأفعال كلها، إنما (¬7) هو الحاضر. وعلى هذا يجري الخلاف بين القراء في قوله تعال: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬8). ¬
فمن قال: الزلزلة سبب للقول (¬1)، قال بالرفع. ومن قال: القول غاية للزلزلة وليست الزلزلة سببًا، قال بالنصب، وهي قراءة غير (¬2) نافع، وبالله التوفيق بمنّه (¬3). وأما إلى (¬4) فلا تكون إلا حرف جر (¬5) ولا تكون إلا للغاية (¬6) عند سيبويه وقال الفراء: قد تكون بمعنى مع. قال أبو موسى الجزولي: إلى (¬7) تكون لانتهاء الغاية وقد يدخلها معنى: "مع". انتهى (¬8). مثال كونها لانتهاء الغاية: خرجت إلى المسجد أو خرجت إلى السوق أو خرجت إلى الحجاز. ومثال كونها بمعنى مع، قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬9)، ¬
وقوله تعالى: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬1). ومنه قولهم: الدرهم إلى الدرهم مال، وقولهم: الذود إلى الذود إبل. قوله: ("حتى" (¬2)، و"إِلى" للغاية). ذكر المؤلف أن هذين الحرفين مشتركان في الغاية. واعلم أن حتى وإلى وقع الفرق بينهما من وجوه (¬3): أحدها: أن حتى تكون حرف ابتداء بخلاف إلى. الثاني (¬4): أن حتى تكون عاطفة بخلاف إلى. الثالث: أن حتى تكون ناصبة بخلاف إلى. الرابع: أن إلى تكون بمعنى مع بخلاف حتى. الخامس: أن إلى تجر الظاهر والمضمر بخلاف حتى؛ لأنها (¬5) لا تجر المضمر. قال سيبويه: استغنوا (¬6) بإليه عن حتاه (¬7). السادس: أن إلى تجر الكل والجزء لخلاف حتى؛ فإنها لا تجر إلا آخر ¬
جزء، أو متصلاً (¬1) بآخر جزء (¬2)؛ لأنك تقول: سرت النهار إلى نصفه ولا يجوز أن تقول: سرت النهار حتى نصفه، قاله المرادي. ولأجل هذا يقول النحاة: إلى أمكن في الغاية من حتى، فإن حتى لا تجر إلا آخر جزء أو متصلاً بآخر جزء بخلاف إلى؛ فإنها تجر مطلقًا. قال المؤلف في الشرح: واختلف العلماء في الغاية: هل تدخل في المغيا أم لا؟ على أربعة أقوال: ثالثها: تدخل إن كانت من جنس المغيا، وإلا فلا تدخل. مثال ما هو من جنسه: بعتك الرمان من هذه الرمانة إلى هذه الرمانة. ومثال غير الجنس: بعتك الرمان من هذه الزيتونة إلى هذه الزيتونة. القول الرابع: بالتفصيل: بيّن أن يفصل بينهما أمر حسي فلا يندرج كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيلِ} (¬3)؛ لأن الليل متميز عن النهار بالبصر، وإن (¬4) لم يكن بينهما أَمر حسي فتندرج (¬5) كما في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬6). قال المؤلف في الشرح: هذه الأقوال الأربعة أنقلها في انتهاء الغاية، وأما ابتداؤها فلا أنقل فيه إلا قولين (¬7)، يعني: المتقابلين (¬8). ¬
وذكر المؤلف في شرحه (¬1) أن إطلاق العلماء الخلاف في انتهاء (¬2) الغاية ينبغي أن يكون الخلاف مخصوصًا بإلى، أما انتهاؤها في حتى فإنه يندرج فيما قبله ليس إلا (¬3). وذكر المرادي في شرح الألفية في (¬4) المجرور بحتى إذا لم تكن قرينة تدل على الدخول أو الخروج أربعة أقوال: ثالثها: يدخل إن كان جزءًا ولا يدخل إن كان غير جزء نحو: إنه لينام (¬5) الليل حتى الصباح. رابعها: تارة يدخل وتارة لا يدخل، فيجوز الأمران. ثم قال: واختلف أيضًا في المجرور بإلى، والذي عليه أكثر المحققين أنه لا يدخل (¬6). قال المؤلف في الشرح: "المغيا لا بد أن يتكرر قبل الغاية بعد ثبوته، فإذا قلت: سرت إلى مكة، فلا بد أن تثبت حقيقة السير قبل مكة، [وتتكرر] (¬7) قبلها. أما ما لا يتكرر فلا يتصور فيه الغاية، فلذلك قال (¬8) بعض الحنفية: إن (¬9) ¬
العامل في قوله تعالى (¬1): {إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2) ليس هو (اغسلوا أيديكم)؛ فإن غسل اليد لا يثبت إلا بعد غسل المرفق، لأن اليد اسم للعضو من الإبط إلى الأصابع، وغسل هذا لا يثبت قبل المرافق فضلاً عن تكرره، بل الثابت قبل المرفق بعض اليد، فيكون تقدير الآية: اغسلوا أيديكم واتركوا من آباطكم إلى المرافق، فإلى المرافق غاية الترك لا للغسل، لأن الترك ثبت قبل المرفق وتكرر إلى المرفق، فيكون (¬3) هذا على القول بأن الغاية لا تدخل في المغيا فلا تدخل المرافق في المتروك بل تغسل مع المغسول، قال المؤلف: "وهذا (¬4) بحث حسن" (¬5). وهذا الذي نقله المؤلف عن بعض الحنفية قد نص عليه القاضي عبد الوهاب في الإشراف فقال: قوله تعالى (¬6): {إِلَى الْمَرَافِقِ} حد للمتروك من اليدين لا للمغسول منهما، ولذلك تدخل المرافق في الغسل. انتهى (¬7). ¬
وقال ابن العربي في القبس: اختلف الناس في دخول المرافق في التحديد وأطالوا فيه الكلام، وما فهم أحد (¬1) حقيقة ذلك إلا القاضي عبد الوهاب، فإنه قال: قوله: (إلى المرافق) حد للمتروك لا للمغسول. انتهى (¬2). قال في التلقين: وأما اليدان ففرض غسلهما إلى استيفاء المرفقين (¬3). قال بعضهم: هذا التقدير المذكور في الآية [أن تقديرها] (¬4) واتركوا من آباطكم، لا نسلمه، بل نقول: أطلق اليد في الآية على بعض اليد مجازًا، كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5) والمجاز أولى من الإضمار؛ لأن المجاز أكثر (¬6). وها هنا فرع مخرج على الخلاف المذكور في اندراج الغاية في المغيا، وهو مسألة من الإقرار، وهو إذا قال له: عليّ من درهم إلى عشرة: قال سحنون (¬7): مرة عليه عشرة، وقال: مرة عليه تسعة، وقال: مرة عليه ثمانية، ¬
فالقول بالعشرة [بناء] (¬1) على اندراج الابتداء والانتهاء، والقول بالثمانية بناء على عدم اندراج الابتداء والانتهاء، والقول بالتسعة بناء على اندراج أحدهما [دون الآخر] (¬2). قوله: (وفي للظرفية والسببية (¬3) نحو: قوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من (¬4) الإبل" (¬5)). ش: هذا هو المطلب الخامس (¬6)، ذكر (¬7) لـ (في) معنيين: أحدهما: الظرفية بالظاء المعجمة وهي (¬8) الوعائية. ¬
مثالها: زيد في الدار، أو في المسجد، أو في السوق، وقولك: الدراهم في الكيس، واللص في الحبس ومنه قوله تعالى: {واذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2) هذا (¬3) مثال الظرفية الحقيقية. ومثال الظرفية المجازية، قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬4)، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (¬5)، وقولك: زيد ينظر في العلم، وقولك: أنا في حاجتك (¬6). ومثال السببية: قوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل". قال المؤلف في الشرح: كونها للسببية أنكره جماعة من الأدباء، والصحيح: ثبوته؛ فإن النفس ليس ظرفًا للإبل (¬7). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء: "فرأيت في النار امرأة حميرية عجل بروحها إلي النار؛ لأنها حبست هرة حتى ماتت جوعًا وعطشًا فدخلت النار فيها" (¬8)، معناها: بسببها. ¬
ومنه أحب في الله، وأبغض في الله، أي: أحب بسبب طاعة الله، وأبغض بسبب معصية الله. انتهى (¬1) نصه. ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2)، وقوله تعالى {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (¬3). ذكر (¬4) المؤلف لـ (في) معنيين: الظرفية والسببية، وزاد (¬5) غيره ثالثًا وهو: الاستعلاء (¬6). ¬
كقوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬1) أي عليها. ومنه قول الشاعر: وقفت فيها أصيلانًا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد (¬2) أي: وقفت عليها. قوله: (واللام للتمليك نحو: المال لزيد (¬3)، والاختصاص نحو: هذا ابن لزيد (¬4)، والاستحقاق نحو: هذا السرج للدابة، والتعليق نحو: هذه العقوبة للتأديب، والتأكيد (¬5) نحو: إِن زيدًا لقائم، وللقسم نحو قوله تعالى: ¬
{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬1)) (¬2). ش: هذا هو المطلب السادس، ذكر المؤلف (¬3) للام ستة معان: قال (¬4): تكون للتمليك نحو: المال لزيد، [ومثاله أيضًا] (¬5): الدار (¬6) لزيد، أو الدابة لزيد، أو العبد لزيد، وتعرف لام التمليك بإضافة ما يقبل الملك لمن يقبل الملك، ومنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬7). قال بعضهم: لم يفرق المؤلف بين لام الملك، ولام التمليك، فإن الملك خلاف التمليك، مثال الملك قولك: المال لزيد، ومثال التمليك قولك (¬8): وهبت المال لزيد. المعنى الثاني: الاختصاص نحو: هذا ابن لزيد، أو هذا أخ لزيد، أو هذا صاحب لزيد، ومنه قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (¬9)، وتعرف لام ¬
لاختصاص بإضافة ما لا يقبل (¬1) الملك لمن يقبل الملك. المعنى الثالث: الاستحقاق نحو: هذا السرج للدابة، أو السرج (¬2) للفرس، أَو البردعة (¬3) للحمار، أو المنبر (¬4) للخطيب، أو المجلس (¬5) للقاضي ومنه قولنا: الجنة للمؤمنين والنار للكافرين، أي: استحقت الجنة للمؤمنين واستحقت النار للكافرين. ومنه قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬6). وتعرف لام الاستحقاق بشهادة العادة، كما شهدت العادة للفرس بالسرج، وللحمار بالبردعة (¬7). انظر ما الفرق بين الاستحقاق والاختصاص؟ مع أن كل من استحق شيئًا فقد اختص به؟ قال المؤلف في الشرح: الفرق بين الاستحقاق والاختصاص: أن الاستحقاق أخص؛ فإن ضابطه ما شهدت العادة به كما شهدت للفرس بالسرج، وللحمار بالبردعة، بخلاف الاختصاص، فإن الشيء قد يختص بالشيء من غير شهادة عادة، كقولنا، هذا ابن لزيد؛ فإنه ليس من لوازم البشر ¬
أن يكون له ولد (¬1). قوله: (واللام للتمليك والاختصاص والاستحقاق) ظاهره (¬2): أن هذه المعاني منفردة، بحيث ينفرد كل واحد منهما عن الآخر، وليس كذلك، بل الاختصاص يلازم (¬3) التمليك ويلازم الاستحقاق أيضًا، ولا (¬4) يوجد ملك ولا استحقاق إلا ومعه اختصاص، قاله أبو إسحاق العطار في شرح كراسة أبي موسى الجزولي (¬5). وأما الاختصاص فإنه ينفرد بنفسه عن الملك، والاستحقاق كقولنا: هذا أخ لزيد، فإن هذا المثال ليس فيه ملك، ولا استحقاق، وليس فيه إلا مجرد التخصيص. ولأجل هذا قال أبو موسى: واللام تكون للملك ولمجرد التخصيص والاستحقاق. انتهى (¬6). فتبين (¬7) بما ذكرنا أن الاختصاص أعم من الملك والاستحقاق، وأما الاستحقاق مع الملك فالاستحقاق أعم من الملك؛ لأن من (¬8) ملك شيئًا فقد ¬
استحقه، وقد يستحق الشيء شيئًا من غير أن يملكه، كما تقول (¬1): السرج للفرس. فنقول: إذًا الاختصاص أعم من كل واحد، والملك أخص من كل واحد، والاستحقاق أعم من الملك، وأخص من الاختصاص. قوله: (واللام للتمليك) يعني: الملك الحقيقي والمجازي. مثال الحقيقي: المال لزيد. ومثال المجازي: [نحو قولك] (¬2): كن لي أكن لك. وقولك: دُم (¬3) لي أدُم (¬4) لك، يعني: في الحوائج. قوله: (واللام للتمليك) نحو: المال لزيد. قال المؤلف في الشرح: ضابط التمليك: [أنها فيما يقبل الملك لمن يقبل الملك] (¬5)؛ ولأجل ذلك قلنا: إن العبد يملك؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع" (¬6) (¬7). ¬
فيؤخذ من إضافة المال إلى العبد أنه يملك، وهو مذهب مالك رضي الله عنه. خلافًا للشافعي (¬1)، والحنفي (¬2) القائلين بأن العبد لا يملك. ودليل (¬3) مالك (¬4) الكتاب والسنة والقياس. فالكتاب: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬5). فوصفهم بالفقر والغناء يدل على أنهم يملكون. ¬
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (¬1). فإن الضمير في قوله: (لهم)، وفي قوله: (فهم)، يعود على جميع العماد من الأحرار والعبيد، فأخبر عنهم بأنهم (مالكون)، فدل ذلك على أن العبد يملك. ومن السنة: قوله عليه السلام في الحديث المتقدم: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع" (¬2). يدل على أن العبد يملك؛ لأنه أضاف (¬3) المال (¬4) إليه. وأما دليل القياس: فهو أن العبد يجوز له أن يطأ (¬5) أمته باتفاق، فلو لم يملك أمته لما جاز له الوطء؛ لأن الوطء لا يجوز إلا يأمرين: إما بنكاح، وإما بمِلك وليس ها هنا نكاح، فتعين المِلك، فيدل ذلك على أن العبد يملك. ودليل القائلين بأن (¬6) العبد (¬7) لا يملك؛ إذ هو كالبهيمة، الكتاب والفقه. فالكتاب قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} (¬8). فسلب منه (¬9) القدرة، فيكون بمنزلة البهيمة فلا يملك. ¬
أجيب عن هذا بأن قيل: لا يلزم (¬1) من سلب القدرة على التصرف أن يكون مسلوب الملك بدليل: الصغير، والسفيه، والمديون (¬2) , والمريض وذات الزوج، فإنهم ممنوعون التصرف، وهم (¬3) غير ممنوعين عن الملك؛ إذ هم مالكون. وأما دليل الفقه فهو مسألتان: إحداهما: من حلف ألا يركب دابته فركب دابة عبده فإنه يحنث، فلو كان العبد مالكًا لدابته لما حنث السيد بركوب دابة عبده (¬4). أجيب عن هذا: بأنه إنما يحنث في هذه المسألة؛ لأن الحنث يقع بأقل الأشياء؛ لأن العلماء يقولون: يقع الحنث بأقل الأشياء، ويقع البر بأغيا (¬5) الأشياء (¬6). المسألة الثانية: إذا اشترى العبد من يعتق على سيده، وأجاز السيد الشراء فإنه يعتق على السيد، فلو كان العبد (¬7) مالكًا لذلك المشتري لما عتق على السيد؛ إذ لا يعتق على السيد إلا من يملكه (¬8). أجيب عن هذا لأن المشتري إنما يعتق على السيد؛ لأنه ملك انتزاعه من ¬
عبده؛ فإن من ملك أي ملك يعد مالكًا؛ ولأجل هذا قال المالكية: العبد يملك ملكًا ناقصًا؛ لأن السيد يملك عليه الانتزاع، فلو لم يملك الانتزاع: لكان ملك العبد تامًا كالحر. قوله: (واللام للتمليك) ذكر المؤلف في الشرح (¬1): أن ها هنا ثلاثة أقسام: قسم لا يفيد الملك باتفاق. وقسم يفيد الملك باتفاق. وقسم مختلف فيه. فالذي لا يفيد الملك باتفاق: إذا أضيف ما يقبل الملك لما لا يقبل الملك، نحو: المال للجمل والفرس. والذي يفيد الملك باتفاق: إذا أضيف ما يقبل الملك لمن يقبل الملك، وهو معين أو محصور، كقولنا (¬2): المال لزيد أو المال (¬3) لبني فلان؛ لأن (¬4) بني (¬5) فلان محصورون. والقسم المختلف فيه: إذا أضيف ما يقبل الملك لمن يقبل الملك، وهو غير معين، ولا محصور، ففيه خلاف بين العلماء، نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا ¬
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬1) الآية. واختلف (¬2) العلماء في اللام في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ}؛ قال (¬3) مالك: هي لام المصرف (¬4) والاختصاص (¬5). وقال المخالف: هي لام الملك. [فمن قال باشتراط التعيين في المضاف إليه وهو مالك (¬6) قال: بأن اللام لام المصرف والاختصاص وليست بلام الملك] (¬7)، لعدم التعيين والحصر؛ إذ (¬8) تملك غير المحصور لا يتصور. ومن قال بعدم اشتراط التعيين فيمن يضاف إليه، وهو الشافعي (¬9) قال: بأن اللام لام الملك. وفائدة الخلاف: أن من قال: هي لام المصرف (¬10) قال: للإمام النظر في تفريق الزكاة، له أن يخص (¬11) لها من يشاء من الأصناف الثمانية (¬12) بحسب ¬
المصلحة. ومن قال: هي لام الملك: فليس للإمام أن يخص بها صنفًا عن صنف، بل يشترك فيها جميع الأصناف الحاضرين هنالك (¬1). قوله: (وللتعليل نحو: هذه العقوبة للتأديب). ش: هذا هو المعنى الرابع: وهو التعليل، والسببية، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬2). وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3). وقوله: (والتأكيد نحو: إِن زيدًا لقائم)، ومنه قوله تعالى (¬4): {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬5)، وقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} (¬6). وقوله: (وللقسم نحو: قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬7). وقوله تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} (¬8)، وقوله تعالى: ¬
{لَتُبْلَوُنَّ} (¬1)، وقوله (¬2): {لَتَرَوُنَّ} (¬3)، وقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ} (¬4)، وقوله (¬5): {لَيُنْبَذَنَّ} (¬6)، وقوله: {لَتَجِدَنَّ} (¬7). وذكر (¬8) المؤلف من معاني اللام ستة معان، ولها معان (¬9) أخر غير ما ذكر المؤلف: منها: أنها تكون للغاية، ومنه قوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} (¬10)، أي: إلى بلد ميِّت، فمعناها: معنى إلى. وقوله (¬11) تعالى: {لأَجَلٍ مسَمًّى} (¬12) أي: إلى أجل مسمى. ¬
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (¬1). وقوله تعالى (¬2): {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (¬3) [أي أوحى إليها] (¬4). وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬5) أي: إلى هذا. وتكون بمعنى "أن" كقوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬6) , وقوله تعالى (¬7): {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (¬8). وتكون بمعنى "إلا" كقوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬9) , وقوله تعالى (¬10): {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬11). ومنه قول الشاعر: ثكلتك أمك إن قتلت لمسلمًا ... حلّت عليك عقوبة المتعمد (¬12) ¬
وتكون بمعنى "على" كقوله (¬1): {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَان} (¬2). وقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬3) أي: فعليها. ومنه قولهم: سقط فلان لوجهه، أي: على وجهه. [وتكون بمعنى "بعد" كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬4) أي: بعد دلوك الشمس] (¬5). وتكون بمعنى: "في": كقوله تعالى (¬6): {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا ¬
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر} (¬1) أي: في أول الحشر، وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} (¬2)، وقوله تعالى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (¬3) أي: في حياتي. [وقوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} (¬4) أي: فيه عوجًا] (¬5). وتكون بمعنى "عند" كقوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} (¬6). وتكون بمعنى "قد" كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (¬7). وتكون بمعنى الفاء كقولك: أحسنت إلى زيد ليكفر نعمتك أي: فكفر (¬8) نعمتك. ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} (¬9) أي: فيضلوا (¬10). ¬
وقوله (¬1) تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كلِّ قَريَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيمكروا فِيهَا} (¬2) أي: فيمكروا (¬3) فيها. وقوله (¬4) تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُم عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬5)، أي: فكان لهم عدوًا وحزنًا. ومنهم من قدّر اللام (¬6) في هذه المواضع بحتى (¬7). [ومثالها أيضًا قول الشاعر: وهم سمنوا كلبًا ليأكل بعضهم ... ولو علموا ما سمنوا ذلك الكلبا (¬8) معناها: فأكل بعضهم، على تقديرها بالفاء، أو حتى أكل بعضهم، على تقديرها بحتى] (¬9). وتسمى (¬10) هذه اللام أيضًا لام الصيرورة، ولام العاقبة. ومثال لام العاقبة والصيرورة أيضًا قول الشاعر: ¬
له ملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب (¬1) وتكون أيضًا جواب الاستفهام، كقوله تعالى: {أَئذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًا} (¬2). وتكون جواب "لولا" كقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3)، وقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ ¬
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (¬1) لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2)، وقوله (¬3): {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمنَاكَ} (¬4). وتكون جواب "لو" الظاهرة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرَا لَّهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬5). وتكون جواب "لو" المضمرة كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُم عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} (¬6)، فقوله: (لسلطهم) هو جواب "لو" الظاهرة، وقوله: (فلقاتلوكم) جواب (¬7) "لو" المضمرة، تقديره: فلو سلطهم عليكم فلقاتلوكم (¬8). ومثله (¬9) قوله تعالى أيضًا (¬10): {وَإِذًا لاَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُم صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (¬11) تقديره: لو (¬12) فعلوا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا. ومثله (¬13) قوله تعالى أيضًا: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم ¬
مَّا يَلْبِسُونَ} (¬1) تقديره: ولو جعلناه رجلاً للبسنا عليهم ما يلبسون. ومثله (¬2) أيضًا (¬3) قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (¬4) تقديره: لو ركنت (¬5) إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. [ومثله أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (¬6)، تقديره (¬7): لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق] (¬8). ومثله (¬9) أيضًا قوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْره وَإِذًا لاَّتَّخَذوكَ خَلِيلاً} (¬10) [تقديره: لو فعلت لاتخذوك خليلاً] (¬11). وتكون اللام أيضًا لام الابتداء كقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُّشْرِكٍ} (¬12)، وقوله: {ولأَمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ من مُّشْرِكةٍ} (¬13)، وقوله: {لَيُوسُفُ ¬
وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} (¬1)، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (¬2) وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬3)، وقوله: {لَمَا آتَيْتُكُم (¬4) مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} (¬5). وتكون للتعريف نحو: الرجل والمرأة. وتكون للشرط كقوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذهبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (¬6) اللام (¬7) الأولى: لام الشرط، والثانية (¬8): لام جواب الشرط. ومثاله (¬9) قوله تعالى (¬10): {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬11). ومنها: لام الجحود، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (¬12)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬13) وقوله تعالى: ¬
{فَمَا (¬1) كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ} (¬2)، وقوله (¬3): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وَأَنتَ فِيهم} (¬4)، وقوله: {وَمَا كنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬5). ومنها لام "كي" كقوله تعالى: [{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬6) وهي في الحقيقة لام التعليل. ومنها: لام التعدية، كقوله تعالى: {فَهَبْ (¬7) لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} (¬8)، وقوله (¬9): {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (¬10). ومنها: لام الأمر كقوله تعالى] (¬11): {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} (¬12)، وكقوله (¬13) تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (¬14)، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬15). ¬
[ومنها: لام الفعل (¬1) كقوله تعالى: {يدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} (¬2) تقديره: يدعو من ضره أقرب من نفعه] (¬3). ومنها: لام المدح كقولك: يا لك رجلاً صالحًا. ومنها: لام الذم كقولك: يا له رجلاً جاهلاً. ومنها: لام الاستغاثة كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعنه العلج (¬4): يالله ويا للمسلمين (¬5)، فاللام الأولى لام المستغاث به، واللام الثانية لام المستغاث من أجله. وقد تكون اللام زائدة لتقوية العامل إذا ضعف بالتأخير أو ضعف بالفرعية (¬6). مثال العامل الضعيف بالتأخير: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (¬7). ومثال العامل الضعيف بالفرعية: قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬8)، وقوله: {فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ} (¬9)؛ لأن اسم الفاعل فرع عن (¬10) ¬
الفعل، والفرع ليس له قوة الأصل، فجاز (¬1) تقويته باللام. وقد تزاد اللام لمجرد (¬2) التأكيد: كقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (¬3)، فاللام (¬4) زائدة؛ لأن ردف يتعدى بنفسه، يقال: ردف فلان فلانًا إذا تبعه (¬5). ومن زيادة اللام للتأكيد أيضًا (¬6): قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْت} (¬7)؛ لأن بوّأ يتعدى بنفسه إلى مفعولين؛ لأنه يقال: بوّأت زيدًا منزلاً. ومنه قول الشاعر (¬8): فلا والله لا (¬9) يلفى لما بي ... ولا للما بهم (¬10) أبدا دواء (¬11) ¬
تقديره: لما بهم (¬1) فزاد اللام الثانية لتأكيد الإضافة. وتكون [اللام أيضًا] (¬2) للتعجب كقولك (¬3): لله درّك لله أنت يا فلان، هذا في غير القسم. وقد تكون للتعجب في القسم، ولكن لا يقسم بها إلا (¬4) إذا قصد التعجب كقولك: لله إنك لسخي، لله إنك لفاضل، لله لا يبقى على الأرض أحد، إذا حلفت (¬5) على فناء جميع الخلق. قال أبو موسى الجزولي: يلزمها (¬6) معنى التعجب في باب القسم (¬7). يعني أنها (¬8) تكون للتعجب في القسم، وغير القسم، ولكن لا يقسم بها إلا إذا أريد التعجب. ¬
ومنها: لام (¬1) العماد، وهي التي تأتي بعد الكيد، كقوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} (¬2) , {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} (¬3)، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} (¬4). "إن" في هذه الآيات (¬5) عند البصريين مخففة من الثقيلة (¬6)، واللام لام التأكيد (¬7). و"إن" [هذه هي] (¬8) عند الكوفيين نافية بمعنى "ما"، واللام بمعنى "إلا". ومنها لام الوعيد، كقولك لمن تهدده (¬9): لتفعل ما تحب (¬10) فإنك تأتي إلى يدي. ومنه قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (¬11) , وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬12). ¬
ومنها: لام الوعد كقوله (¬1) تعالى (¬2): {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ} (¬3). ومنها: لام الأصل نحو: لحم ولبن، ولوح، ولون، وليل. ومنها: لام الفصاحة وهي: التي تكون في أسماء الإشارة، نحو: ذلك، وتلك، ويقال لها أيضًا: لام التأكيد. ومنها: لام الإلحاق، وهي: التي تأتي بعد كل كقوله تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِن كلٌّ لمَّا جَمِيعٌ لدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (¬5)، وقوله تعالى: {إِن كلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (¬6). من قرأ "لما" بالتخفيف (¬7) [جعل "إن" المخففة من الثقيلة، واختلف فيها: قيل: زائدة، وقيل: نكرة. وقوله: (متاع) و (جميع) بدل من ما] (¬8). ومن قرأ "لمَّا" بالتشديد جعلها ¬
بمعنى "إلا" وجعل "إن" نافية بمعنى "ما" (¬1) تقديره: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وما كل إلا جميع لدينا محضرون، ما (¬2) كل نفس إلا عليها حافظ. والدليل على أن "لمّا" تكون بمعنى "إلا": أنه حكى سيبويه رحمه الله: نشدتك بالله لما فعلت، أي: ألا فعلت. ومنها: لام الترجي (¬3) كقولنا: لعل، لعلنا، لعلكم. ومنها: لام التمنى نحو: يا ليتنا يا ليتني. ومنها: لام البشارة كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬4). ومنها لام الشفاعة كقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (¬5). فهذه (¬6) نيف وأربعون معنى للام. انظر (¬7): كتاب اللامات للبغدادي (¬8)، وأبي محمد مكي (¬9) ¬
والزجاجي (¬1). قوله: (والباء للإِلصاق نحو: مررت بزيد، والاستعانة نحو: كتبت بالقلم، والتعليل نحو: سعدت بطاعة الله تعالى (¬2)، والتبعيض عند ¬
بعضهم، وهو منكر عند بعض (¬1) أئمة اللغة، [وللظرف (¬2) نحو: زيد بالبصرة] (¬3)). ش: هذا هو المطلب السابع، ذكر المؤلف للباء خمسة معان (¬4): أحدها: للإلصاق (¬5) وهو: الاختلاط، وهو الأصل في معانيها ولم يذكر سيبويه (¬6) غيره. ومعنى الإلصاق بها (¬7): إلصاق فعلها بمجرورها، والإلصاق على ضربين: حقيقي ومجازي. فالحقيقي نحو: مسحت يدي بالمنديل؛ لأنك ألصقت يدك بالمنديل. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬8) فهو أيضًا حقيقي؛ لأنك ¬
تلصق يدك برأسك من غير حائل بينهما. ومثال المجازي: قولك: مررت بزيد؛ لأنك لم تلصق مرورك بجثة زيد، إنما معناه (¬1): مررت بموضع يقرب من زيد. قوله: (والاستعانة) هذا معنى ثان، [وباء الاستعانة] (¬2) هي: الباء التي تدخل على الآلة نحو: كتبت بالقلم، ونجرت بالقدوم، وضربت بالسيف، وطعنت بالرمح. قوله: (والتعليل) هذا معنى ثالث، يقال (¬3) لها أيضًا (¬4): باء السببية، وهي: التي يحسن في موضعها اللام نحو قولك (¬5): سعدت بطاعة الله، أي: بسبب طاعة الله. ومنه قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (¬6)، وقوله تعالى (¬7): {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬8). قوله: (والتبعيض عند بعضهم) هذا معنى رابع، وهو مذهب الشافعي؛ ولأجل ذلك قال في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬9): الباء للتبعيض؛ ¬
فيجوز الاقتصار على مسح بعض (¬1) الرأس (¬2). واستدل على كون الباء للتبعيض يقول العرب: أخذت بثوب زيد، معناه: أخذت ببعض ثوب زيد؛ إذ من (¬3) العلوم عادة أنه لم يحط يده بجميع الثوب. أجيب عن هذا: بأن (¬4) الباء إنما أفادت (¬5) إلصاق الأخذ (¬6) بالثوب خاصة، وإنما استفيدت (¬7) التبعيض من المعنى لا من الباء، ومعلوم (¬8) أن اليد لا تحيط (¬9) بجميع الثوب. واستدلوا أيضًا بقول الشاعر: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج (¬10) خضر لهن نئيج (¬11) ¬
قوله: "شربن" يعني: السحاب، ومعنى النئيج: هو: المر السريع. قالوا (¬1): فالباء في قوله: بماء البحر للتبعيض؛ [إذ معلوم أنهن لم يشربن جميع ماء البحر. أجيب عنه أيضًا بالجواب الذي قبله، هو: أن التبعيض] (¬2) إنما يستفاد من المعنى لا من الحرف؛ إن لا يقال: إن الحرف يفيد المعنى إلا إذا كان المعنى لا يفهم إلا من الحرف. وأجاب بعضهم (¬3) عن هذا البيت بأن قال: الماء فيه بمعنى "من"، أي: من ماء البحر. وأجاب بعضهم (¬4) بأن (¬5) قال: هذا من باب تشريب (¬6) الأفعال، فمعنى ¬
شربن: روين، فتكون الماء على هذا للتعدية؛ لأن روى لا يتعدى بنفسه. واستدلوا أيضًا (¬1) على كون الباء للتبعيض بقول العرب: مسحت رأسي ومسحت برأسي، ولا فرق بين اللفظين إلا التبعيض؛ لأن مسح يتعدى بنفسه فلا يحتاج إلى الباء إلا لأجل إرادة التبعيض. أجيب (¬2) عن هذا: بأن القاعدة العربية أن (مَسَح) يتعدى إلى مفعولين؛ يتعدى (¬3) إلى أحدهما بنفسه، ويتعدى إلى الآخر بحرف الجر، وهما الممسوح والممسوح به (¬4)، وقد عينت العرب الباء للممسوح به، وهو الآلة، فتكون الباء في الآية للتعدية لا للتبعيض؛ إذ لا تدخل الباء إلا على الآلة في هذا المعنى. فإذا قلت: مسحت يدي بالحائط، فالممسوح هو: ما على اليد، وهو: الرطوبة والبلل الكائن على اليد، والحائط هو: الآلة المزال بها ذلك البلل، وإذا قلت: مسحت الحائط بيدي فالممسوح هو ما على الحائط، واليد هي (¬5): الآلة المزال بها ما على الحائط. فقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬6) على هذا الباب (¬7) داخلة على ¬
آلة المسح، وهي (¬1) الرأس، فالممسوح هو بلل الأيدي، والممسوح به هو الرأس؛ إذ القاعدة العربية أن الباء في هذا المعنى إنما تدخل على الآلة، تقدير (¬2) الآية: وامسحوا [بلل] (¬3) أيديكم برؤوسكم. قال المؤلف في الشرح: والدليل على هذا إجماع العلماء على أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن (¬4) رؤوسنا ولا عن جميع أعضائنا، بل أوجب (¬5) علينا أن تنقل رطوبة أيدينا إلى رؤوسنا وجميع أعضاء وضوئنا، فتبين بهذا أن الرأس هو مزال به لا مزال عنه. فتعين أن الباء في الآية للتعدية لا للتبعيض (¬6)؛ لأن الفعل الذي هو (مَسَحَ) لا يتعدى إلى الآلة إلا بالباء، وذلك أن الباء لا تكون (¬7) للتبعيض (¬8) عند من زعم كونه للتبعيض إلا في (¬9) الفعل المتعدي بنفسه، نحو قولك: ¬
أخذت بثوب زيد، وهذا الفعل الذي هو (مسح) لا يتعدى إلى الآلة بنفسه، فلا يصح كون (¬1) الباء (¬2) للتبعيض إذًا، هذا معنى ما ذكره المؤلف في الشرح، فتحصل من ذلك: أن الممسوح هو الأيدي، وأن الممسوح به هو الرأس. و (¬3) قال أبو عبد الله (¬4) محمد بن هارون التونسي (¬5) - في شرح ابن الحاجب -: قال بعضهم: الرأس آلة، والممسوح هو الأيدي، فيجب مسح بلل الأيدي بالرأس. وهذا بعيد، يلزم عليه إلزامان: أحدهما: أن يكون في اليد فرضان: المسح، والغسل. الثاني (¬6) أنه يلزم عليه ألا يعد (¬7) الرأس من الفروض؛ لأنه آلة، والآلة لا ¬
يعد (¬1) التصرف بها فرضًا مستقلًا (¬2) بنفسه. قال: بل الباء في الآية للاستعانة الداخلة على الآلة، وهي: الأيدي، تقديره: وامسحوا بأيديكم رؤوسَكم، فدخلت الباء على الآلة التي هي الأيدي، [ثم حذفت الأيدي] (¬3) وبقيت الباء تدل عليها فاتصلت الباء بالمفعول الذي هو: الرؤوس (¬4). وهذا الذي ذكره ابن هارون هو عكس ما ذكره المؤلف في شرحه (¬5). وقال المسطاسي: "تقديره: وامسحوا بالماء رؤوسكم، فحذف الماء واتصلت الماء برؤوسكم [فدلت] (¬6) الباء على الحذف (¬7) " (¬8). وهذا التأويل قريب من تأويل ابن هارون. قوله: (وأنكره بعض الأدباء) (¬9) أي: أنكر بعض الأدباء كون الباء للتبعيض، وهو أبو الفتح ابن جني (¬10). ¬
قال في سر الصناعة ما نصه (¬1): "فأما ما يحكيه أصحاب الشافعي من أن الباء للتبعيض فشيء لا يعرفه أصحابنا ولا ورد به ثبت" انتهى (¬2). قوله: (وللظرف (¬3) نحو: زيد بالبصرة). هذا معنى خامس، وهو: الظرف بالظاء المعجمة، نحو: زيد بمكة، أو بالمدينة (¬4)، أو بالدار، أو بالسوق، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬5) أى: وفي الليل. ذكر (¬6) المؤلف للباء خمسة معان، وذكر غيره خمسة عشر معنى (¬7) و (¬8) ¬
منها هذه الخمسة المذكورة. المعنى السادس: التعدية (¬1). مثاله: خرجت بزيد ودخلت بزيد وذهبت بزيد. ومعنى التعدية: تعدية (¬2) الفعل القاصر إلى المفعول به. فمعنى قولك: خرجت بزيد، وشبهه، أنك تجعله يخرج لا أنك خرجت معه؛ لأنك إذا أردت بقولك: خرجت بزيد، أنك خرجت معه، فالباء للمصاحبة لا للتعدية. والفرق بين (¬3) باء التعدية وباء المصاحبة وجود الاشتراك وعدم الاشتراك، فباء المصاحبة: معها الاشتراك، وباء التعدية: ليس معها الاشتراك؛ لأنها عوض عن همزة التعدية كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (¬4) فهي باء التعدية ولا يجوز الذهاب على الله تعالى. فقوله تعالى: {تُنْبِتُ بِالدُّهْنِ} (¬5) على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء (¬6). قيل: الباء زائدة. ¬
وقيل: للمصاحبة، تقديره: تنبت جناها (¬1) وفيها الدهن. وعلى قراءة الجماعة بفتح التاء وضم الباء (¬2) فالباء للتعدية، وقيل: للمصاحبة. وعلى قراءة الشاذة (¬3) بالتركيب فالباء للمصاحبة. والمعنى السابع: الزيادة، كقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬4) أي: وكفى الله شهيدًا، فالباء (¬5) زائدة في الفاعل. وتزاد أيضًا في المفعول، نحو: قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكم إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬6). ومنه قول الشاعر: فكفى بنا فضلاً على من (¬7) غيرنا ... حب النبي محمد إيانا (¬8) ¬
تقديره: فكفانا حب النبي محمد إيانا فضلاً على من غيرنا. وتزاد أيضًا في المبتدأ كقولك: بحسبك درهم، وقولك أيضًا: بحسبك أن تفعل كذا وكذا. تقديره: حسبك درهم أي: كافيك (¬1)، أو كافيك فعلك كذا وكذا في المثال الثاني. وتزاد في الخبر أيضًا، كقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} (¬2)، وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (¬3) وقوله: {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {ألَسْتُ بِرَبِّكُم} (¬6) وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ ¬
عَبْدهُ} (¬1). وقد تزاد في الخبر المثبت كقولك: زيد بحسبك، أي: زيد حسبك، أي: كافيك (¬2). والمعنى الثامن: المصاحبة (¬3)، وهي: التي (¬4) يحسن في موضعها "مع"، وتقدر مع مجرورها بالحال (¬5). مثالها: خرج زيد بثيابه، أو بسلاحه (¬6)، أو بفرسه (¬7)، أو بسيفه (¬8)، أو بغلامه، أو بأولاده، أو بإخوانه. ومنه قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬9) أي: مع الحق (¬10). أو تقدر (¬11) مع مجرورها بالحال، فتقول: تقديره: جاءكم (¬12) الرسول ¬
مصدقًا، وقوله: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} (¬1) أي: مع حمدك (¬2). والمعنى التاسع: العوض، وباء العوض هي الداخلة في الأعواض والأثمان، ويقال لها أيضًا: باء المقابلة. مثالها: اشتريتها (¬3) بألف، وكفيت (¬4) الإحسان بضعف، وقولك: اشتريت كذا بكذا، وقولك: بعت (¬5) كذا بكذا. ومنه قوله عليه السلام: "ما يسرني بها (¬6) حمر النعم" (¬7)، أي: [ما يسرني] (¬8) عوضها أو بدلها (¬9) [حمر النعم] (¬10). ¬
ومنه قول الشاعر: فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانًا (¬1) تقديره: فليت لي بدلاً (¬2) بهم، وهذا البيت من أبيات الحماسة. والمعنى العاشر: التعجب، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (¬3). والمعنى الحادي عشر: القسم، كقولك (¬4): بالله لأفعلن كذا وكذا. والمعنى الثاني عشر: الطلب كقولك (¬5): سألتك بالله أن تعطيني كذا وكذا. والمعنى (¬6) الثالث عشر: أن تكون (¬7) بمعنى [عن] (¬8) كقوله تعالى: {وَيَوْمَ ¬
تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بالْغَمَامِ} (¬1)، وقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعِ (1) لِلْكَافِرِينَ} (¬2)، وقوله تعالى: {فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬3). [المعنى (¬4) الرابع عشر: أن تكون بمعنى "من" التي للتبعيض، كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (¬5) أي: يشرب (¬6) منها] (¬7). والفرق بين كون (¬8) الباء (¬9) التي للتبعيض نحو: أخذت بثوب زيد، وبين الباء التي بمعنى "من" التبعيضية (¬10): أن الباء في المعنى الأول أفادت التبعيض بنفسها وذاتها، بخلاف المعنى الثاني؛ لأنها إنما أفادت التبعيض بواسطة "من". والمعنى الخامس عشر: أن تكون بمعنى "على" مثالها (¬11): قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} (¬12)، وقوله: {إِن تَأمَنْهُ ¬
بِدِينَارٍ} (¬1)، تقديره: على قنطار أو على دينار. ومنه قوله الشاعر وهو زهير: وقفت بها من بعد عشرين حجة (¬2) ... . . . . . . . . . . . . . . . أي: وقفت [عليها، أي] (¬3) على الدار من بعد عشرين (¬4) سنة. [وهذا (¬5) تمام ما يتعلق (¬6) بمعاني الباء] (¬7). قوله: (و"أو" و"إِما" (¬8) للتخيير، نحو قوله تعالى: "فتحرير رقبة مؤمنة أو إِطعام ستين مسكينًا" (¬9) وللإِباحة نحو: اصحب (¬10) العلماء (¬11) أو ¬
الزهاد، فله (¬1) الجمع بينهما، بخلاف الأول، و (¬2) للشك نحو: جاء (¬3) زيد أو عمرو، وللإِبهام (¬4) نحو: جاء (¬5) زيد أو عمرو، وأنت (¬6) عالم بالآتي منهما، وإِنما أردت التلبيس على السامع بخلاف الشك، و (¬7) التنويع نحو (¬8) العدد إِما زوج، وإِما (¬9) فرد، أي: (¬10) هو متنوع (¬11) إِلى هذين النوعين). ش: هذا هو المطلب الثامن، ذكر المؤلف لهذين الحرفين (¬12) خمسة ¬
معان: أحدها: التخيير كقولك (¬1): خذ الثوب أو الدينار، أي: خذ بأيهما (¬2) شئت [وليس لك إلا أحدهما] (¬3). وقولك (¬4) أيضًا: تزوج هندًا أو أختها، أي: أنت مخيّر في تزويج أيتهما شئت؛ إذ ليس لك (¬5) الجمع بينهما. وكقولك (¬6) أيضًا: كُل سمكًا (¬7) أو اشرب لبنًا (¬8)، أي: افعل أيهما شئت، وليس لك الجمع بينهما. ومنه قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬9). وأما تمثيل المؤلف (¬10) بقوله: (فتحرير رقبة مؤمنة أو إطعام ستين مسكينًا) فهو منه سهو وغفلة رحمه الله؛ لأن هذا ليس بنص القرآن. وقوله: (وللإِباحة) هذا معنى ثان. ¬
مثاله: اصحب (¬1) العلماء أو الزهاد، وقولك (¬2): جالس الحسن (¬3) أو ابن سيرين (¬4). ومنه قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} إلى قوله: {أَوِ الطِّفْلِ} (¬5). والفرق بين التي للإباحة والتي للتخيير شيئان: أحدهما: جواز الجمع في الإباحة، ومنع (¬6) الجمع (¬7) في التخيير. ¬
و (¬1) الفرق الثاني: أن (¬2) التي للإباحة يحسن (¬3) وقوع الواو موضعها بخلاف التي للتخيير لا يحسن وقوع الواو موضعها (¬4). وقوله: (للشك (¬5) نحو جاء زيدٌ أو عمرو). ومنه قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (¬6). وقوله: (للإِبهام (¬7) نحو: جاء زيد أو عمرو وأنت عالم بالآتي منهما، وإنما أردت التلبيس على السامع بخلاف الشك). ومن الإبهام (¬8) قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬9)، فقد (¬10) علم أنه على هدى وأنهم على ضلال، ولو صرّح لهم بدْلك لسبوا واعتدوا. ومن الإبهام أيضًا قوله تعالى: {وَأَرسَلْنَاة إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬11). وقيل: للشك (¬12) في حقنا، أي: وأرسلناه إلى أمة لو رأيتموها لقلتم: ¬
هي مائة ألف أو يزيدون. وقيل: هي للإضراب، معناه: بل يزيدون (¬1)، قاله الفراء. والفرق بين الشك والإبهام: أن الشك راجع إلى المتكلم، والإبهام راجع إلى السامع كما قال المؤلف. ويقال للإبهام (¬2): بالباء، والإيهام بالياء أعني بنقطة (¬3) واحدة تحت الحرف، أو بنقطتين (¬4) تحت الحرف، ومعناهما واحد وهو: التلبيس على السامع (¬5). قوله: (وللتنويع نحو: العدد إِما زوج وإِما فرد) أي: هو (¬6) متنوع إلى هذين النوعين، هذا معنى خامس وهو التنويع، ويقال (¬7) أيضًا: التفصيل والتقسيم (¬8). ومثاله أيضًا: العالم إما جماد أو نبات أو حيوان. وقولك أيضًا: الكلمة اسم أو فعل أو حرف. ¬
ومنه قوله تعالى: {لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (¬1)، وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (¬2). فاعلم (¬3) أن التخيير والإباحة لا يكونان إلا في الطلب، والثلاثة الباقية لا تكون إلا في الخبر، وذكر (¬4) المؤلف خمسة معان، وزاد غيره معنيين آخرين: أحدهما (¬5): الإضراب (¬6) وهو: كونها بمعنى بل، كقوله تعالى: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬7). قال الفراء: معناه (¬8): بل يزيدون (¬9). وكذلك قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (¬10) [أي: بل أشد قسوة] (¬11). ومنه قول الشاعر: ¬
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح (¬1) وكونها للإضراب هو (¬2) مذهب الكوفيين، وأبي علي من البصريين. المعنى (¬3) الثاني: أن تكون بمعنى الواو، كقوله [تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬4)، وقوله تعالى] (¬5): {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬6). ومنه قولهم: [خذه بما عَزَّ أو هان، أي: خذه بالعزيز والهين، أي: لا يفوتك على كل حال] (¬7). ومنه قول الشاعر: ¬
وقد (¬1) زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها (¬2) فجورها (¬3) وقال آخر (¬4): نال الخلافة أو كانت له قدرًا ... كما أتى ربه موسى على قدر (¬5) ¬
قوله: (و"أو" و"إِما" للتخيير (¬1)). ذكر المؤلف أن هذين الحرفين مشتركان (¬2) ومجتمعان في المعاني الخمسة المذكورة، وهي: التخيير والإباحة والشك والإبهام والتنويع، ولم يذكر الفرق بين الحرفين. وذكر غيره الفرق بينهما (¬3) من أربعة أوجه: أحدها: أن الكلام مع "إما" مبني من أوله على ما يجيء (¬4) بها (¬5) لأجله، بخلاف "أو"، فإنها قد يبنى (¬6) الكلام معها على اليقين، ثم يحدث الشك بعد ذلك. الثاني: أن "إما" لا بد من تكرارها بخلاف "أو"، فتقول: قام إما زيد، وإما (¬7) عمرو [فتكرر "إما" ولكن هذا هو الغالب. وقد يستغنى عن "إما" الأولى، ومنه قول الفرزدق (¬8): ¬
تهاض بدار قد تقادم عهدها ... وإما بأموات ألمّ خيالها (¬1) تقديره: تهاض (¬2) إما بدار. وقد يستغنى أيضًا (¬3) عن "إما" الثانية بـ "أو"، كقولك: قام إما (¬4) زيد أو عمرو] (¬5). وقد يُستغنى أيضًا (¬6) عن "إما" الثانية بـ "إلا"، كقول الشاعر: فإما أن تكون أخي بحق (¬7) ... فأعرف منك غثي من سميني وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوًا أتقيك وتتقيني (¬8) ¬
[تقديره: وإما فاطرحني] (¬1). الوجه الثالث: أن "إما" الثانية لا بد من اقترانها بالواو ولا تحذف (¬2) الواو معها إلا ضرورة، كقول الشاعر: يا ليتما أمُّنا (¬3) شالت نعامتها ... إما إلى جنة إما (¬4) إلى نار (¬5) ¬
الرابع: أن "إما" تكون شرطية، وتكون نافية. مثال الشرطية: قوله (¬1): {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (¬2). وَمثال النافية: إما (¬3) زيد قائم، معناه (¬4): ما زيد قائم، قاله الكسائي (¬5)، ¬
و"ما" (¬1) في هذين المعنيين (¬2) زائدة (¬3) على "إن". وأما "أو" فلا تكون شرطية ولا نافية، و"أو" تكون بمعنى "بل"، وبمعنى "الواو" كما تقدم. وها هنا ثلاثة فروع: أحدها: ما لغات "إما"؟ الثاني: هل هي مركبة أو بسيطة؟ الثالث: هل هي من حروف العطف أم لا؟ أما لغاتها: فهي أربع لغات (¬4): أفصحها: كسر الهمزة مع تشديد الميم (¬5). الثانية: كسر الهمزة مع إبدال الميم الأولى ياء ساكنة (¬6). الثالثة: فتح الهمزة مع تشديد الميم (¬7). الرابعة (¬8): فتح الهمزة مع إبدال الميم الأولى ياء ساكنة (¬9). ¬
فهذه أربع لغات: لغتان في كسر الهمزة، ولغتان في فتحها. وأما (¬1) هل هي مركبة أو بسيطة؟ فقيل: مركبة (¬2) من "إن" و"ما" وهو مذهب سيبويه (¬3). وقيل: بسيطة (¬4). والدليل على أنها مركبة: اقتصارهم (¬5) على "إن" دون "ما" في الضرورة، ومنه قول الشاعر: ........................... فإن جزعًا وإن إجمال (¬6) صبر (¬7) ¬
وأما هل هي من حروف العطف أم لا (¬1)؟ فقيل: إنها عاطفة، وهو مذهب الأكثرين (¬2). وقيل: ليست بعاطفة، وإنما العاطفة هي الواو (¬3). وقيل: كل واحدة منهما عاطفة إلا أن العطف يختلف (¬4)؛ فالواو عطفت "إما" الثانية على "إما" (¬5) الأولى، و"إما" الثانية عطفت ما بعدها على ما بعد الأولى. ودليل القائلين (¬6) بأن "إما" [عاطفة دون الواو: أن إما] (¬7) هي: التي تفيد المعاني التي تأتي لها دون الواو، وأما الواو فلا تفيد (¬8) إلا مطلق الجمع (¬9). ودليل القائل بأنها ليست بعاطفة: دخول الواو عليها؛ إذ لا يدخل حرف عطف على حرف عطف. وهذا الخلاف إنما هو في "إما" الثانية، وأما الأولى فليست بعاطفة ¬
اتفاقًا (¬1). قوله: (و"إِن" وكل ما تضمن معناها للشرط، نحو: إِن جاء زيد جاء عمرو، ومن دخل داري فله درهم، وما تصنع أصنع مثله (¬2)، وأي شيء تفعل أفعل (¬3)، ومتى أطعت الله سعدت، وأين تجلس أجلس). ش: هذا هو المطلب التاسع، ذكر المؤلف (¬4) أنَّ "إنْ" موضوع للشرط وكذلك "كل (¬5) ما تضمن معنى إنْ" يعني: أن كل ما تضمن معنى "إنْ" يفيد الشرط كما يفيده إن، ومعنى ذلك: أنه (¬6) يفيد تعليق شيء على شيء، وهذا الذي قصده المؤلف بهذا (¬7) الكلام، وهو (¬8) جميع أدوات الشرط، وهي: كلمات موضوعة لتعليق جملة بجملة، تكون الأولى سببًا والثانية مسببًا، وهذا التعليق على قسمين: تعليق مستقبل على مستقبل. وتعليق ماض [على ماض] (¬9). وهذا القسم الثاني له حرفان (¬10): ¬
لو، ولولا. وأما القسم الأول: وهو: الذي بدأ به المؤلف ها هنا فله على مذهب سيبويه اثنتا عشرة أداة (¬1). وهي: حروف، وأسماء، وظروف زمان، وظروف مكان، ومتردد. فالحروف حرفان وهما (¬2): "إن" (¬3)، و"إذ ما" (¬4). فجعل سيبويه (¬5) "إذ ما" حرفًا، وجعله غيره اسمًا (¬6). دليل سيبويه على حرفيته: أنه لما سلب الدلالة على الزمان الماضي باقترانه بما دخله معنى الحرف الذي هو: "إن" فكان معناه معنى "إن" (¬7). ودليل القائل بأنه اسم زمان: مصاحبته أصله قبل دخول "ما" عليه. واتفقوا على أن "إذ" لا يكون (¬8) من أدوات (¬9) الشرط إلا إذا اقترن ¬
بما (¬1) ومنه قول الشاعر: إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقًا عليك إذا اطمأن المجلس (¬2) وأما الأسماء فهي ثلاثة وهي: "مَنْ" (¬3) و"ما" (¬4) و"مهما" (¬5). والدليل على اسمية "مهما" عود الضمير عليها (¬6) في قوله تعالى: ¬
{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} (¬1)؛ إذ الضمائر (¬2) لا تعود (¬3) إلا على الأسماء. واختلف في "مهما" بالبسط والتركيب (¬4) [على: قولين] (¬5). واختلف أيضًا على القول بالبسط على ثلاثة أقوال (¬6): قيل: وزنه (فَعْلَ) وألفه ألف (¬7) التأنيث. وقيل: ألف الإلحاق سقط (¬8) منه التنوين للبناء. وقيل: وزنه (مَفْعَل) (¬9). واختلف أيضًا على القول بالتركيب على قولين: قيل: أصله: "ما ما" زيدت "ما" الثانية على الشرطية للتأكيد (¬10) ثم أبدل "ما" الشرطية (¬11) [هاء] (¬12) كراهة التكرار (¬13). ¬
وقيل: أصله مه بمعنى اسكت، فزيدت عليها "ما" الشرطية (¬1). وأما ظروف الزمان فهي ثلاثة وهي: "متى"، و"أيان"، و"إذا". فأما "متى" (¬2) و"أيان" فهما موضوعان لتعميم الأزمنة. وقال بعضهم (¬3): إنما يستعمل "أيان" لتعميم الأزمنة التي فيها الأمور العظام، وقد تكسر همزته في بعض اللغات (¬4). وأما إذا (¬5) فهو موضوع (¬6) للزمان المستقبل، ولا يجازى به إلا في الشعر عند البصريين (¬7). وقال الكوفيون: يجازى به مطلقًا، فيجوز عندهم: إذا تقم (¬8) أقم. ¬
ولا يجازى به عند البصريين إلا في الشعر (¬1) [كقول الشاعر] (¬2): إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب (¬3) فقوله (¬4): "فنضارب" معطوف على موضع كان؛ [لأن موضع كان] (¬5) مجزوم على جواب إذا؛ لأن تقديره (¬6): إذا تقصر (¬7) أسيافنا يكن وصلها، وإنما كسرت الباء في قوله: فنضارب لالتقاء (¬8) سكونها وسكون ياء الوصل. وأما ظروف المكان فهي ثلاثة أيضًا وهي: ¬
"أين"، و"أني" و"حيثما"، وهي: موضوعة لتعميم الأمكنة. وقال بعضهم: "أنى" لتعميم الأحوال (¬1) (¬2). ولا تكون (حيث) من أدوات الشرط إلا إذا اقترنت (¬3) بـ "ما" (¬4)، كما تقدم لنا في "إن ما"؛ لأن "ما" حين اتصلت بها قطعتها (¬5) عن الإضافة التي هي أصلها، وخرجت لها إلى باب الشرط، فتكون "ما" عوضًا من إضافتها، ومهيئة لوقوع الفعل بعدها [كما تقول في "ربما"؛ لأن أصل ربما أن تدخل على الاسم، ولكن لما دخلت عليها "ما" صارت مهيئة لوقوع الفعل بعدها] (¬6). وأما المتردد بين الثلاثة فهو (¬7) "أي" (¬8)؛ لأنه بحسب ما يضاف (¬9) إليه، ¬
فإن أضيف إلى ظرف زمان [كان ظرف زمان] (¬1) وإن (¬2) أضيف إلى ظرف مكان كان ظرف مكان، وإن (¬3) أضيف إلى غيرهما (¬4) كان اسمًا غير ظرف، وإن لم يضف أصلًا كان اسمًا غير ظرف أيضًا، كقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬5). وهذه الكلمات المذكورات هي: أدوات (¬6) الشرط؛ ثلاثة اسمية، وثلاثة زمانية، وثلاثة مكانية، واحد متردد بين الثلاثة، وحرفان وهما: "إن"، و"إذ ما". واختلف النحاة في "كيف" هل هي من ذوات (¬7) الجزاء أم لا (¬8)؟ قال البصريون: ليست من ذوات (¬9) الجزاء (¬10) ولا يجازى (¬11) بها إلا حيث سمع ذلك. ¬
وقال الكوفيون (¬1): هي من ذوات (¬2) الجزاء، يجوز (¬3) الجزاء بها (¬4) قياسًا (¬5)، فيجوز على قول الكوفيين [أن تقول] (¬6): كيف تكن أكن. واختلف العلماء (¬7) في "كيف"؛ هل هو (¬8) اسم أو ظرف؟ قال سيبويه: اسم (¬9). وقال الأخفش (¬10): ظرف (¬11). ¬
والصحيح: مذهب سيبويه. والدليل على مذهب سيبويه أنها اسم (¬1): أنه يبدل منها الاسم، فتقول: كيف زيد أصحيح أم سقيم؟ ولو كان ظرفًا لأبدل منه الظرف، كما يبدل الظرف من الظرف في نحو: أين ومتى؛ لأنك تقول: من أين جئت (¬2) أمن الشام أم (¬3) العراق؟ وتقول: متى جئت، أيوم الخميس أو (¬4) يوم الجمعة؟ فلو كان (كيف) ظرفًا لما أبدل (¬5) منه الاسم. ودليل الأخفش القائل بأنه (¬6) ظرف (¬7) أنه يقدر [بالجر والمجرور؛ لأن قولك: كيف زيد؟ معناه: على أي حالة هو، فيقدر بحرف الجر فهو ظرف لأن الظرف يقدر] (¬8) بحرف الجر. ورد هذا الدليل: بأن حرف الجر يقدر به ما ليس بظرف كما تقول: في المضاف إليه؛ لأنك تقول في غلام زيد مثلًا: يقدر باللام تقديره، غلام لزيد، وكذلك قولك (¬9): ثوب خز: يقدر بمن، تقديره: ثوب من خز، فلا دليل إذًا ¬
[فيما] (¬1) استدل به؛ إذ لا يختص دليله (¬2) بالظرفية. قوله: (وإِن وكل ما تضمن معناها للشرط). وقد ذكرنا جميع ما تضمن معنى "إن"، ومن جملة ذلك "إذا"، فينبغي أن يذكر (¬3) الفرق بين "إن" و"إذا", فالفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: الأصالة؛ وذلك [أن "إن" أصلها الشرطية و"إذا" أصلها الظرفية. الوجه الثاني: الدلالة، وذلك أن "إن" تدل على الزمان بالالتزام و"إذا" تدل على الزمان بالمطابقة. الوجه الثالث (¬4): عموم التعليق وخصوصه؛ وذلك أن "إن" لا يعلق (¬5) عليها إلا المشكوك (¬6) وإذا يعلق (¬7) عليها المشكوك والمعلوم. وبيان هذه الأوجه الثلاثة] (¬8): أن "إن" تدل (¬9) على الشرط بالمطابقة؛ إذ هي موضوعة له، وتدل على الزمان بالالتزام؛ إن لا بد للفعل الواقع بعدها من ¬
زمان يقع فيها، كقولك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن الدخول (¬1) لا بد له من زمان (¬2) يقع فيه. وأما "إذا" فتدل على الزمان بالمطابقة؛ لأنها موضوعة له. وقد يكون معها الشرط نحو: قوله (¬3) تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬4) وقوله (¬5): {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬6). وقد لا يكون [معها الشرط فتكون] (¬7) ظرفًا محضًا (¬8) مجردًا عن الشروط (¬9) كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (¬10) تقديره: أقسم بالليل حالة غشيانه، وبالنهار حالة تجليه، فإذا ظرف محض (¬11) وهو: موضع النصب على الحال، فتبين بهذا التقدير (¬12) أن "إن" و"إذا" ¬
متعاكسان فيما ذكرنا من الدلالة. الوجه الثالث من الفرق بينهما: أن "إن" لا يعلق (¬1) عليها إلا المشكوك، وأما "إذا" فيعلق (¬2) عليها المعلوم والمشكوك (¬3). فتقول (¬4): إن جاء زيد فأكرمه؛ [لأن مجيء زيد مشكوك فيه، ولا تقول: إن طلعت الشمس فأتني, لأن طلوع الشمس معلوم الوقوع، وتقول: إذا جاء زيد فأكرمه] (¬5) وتقول أيضًا (¬6): إذا طلعت الشمس فأتني. فإذا تبين لك أن "إن" تختص بالمشكوك (¬7) الوقوع دون المعلوم الوقوع: فانظر ما معنى (¬8) "إن" الواقعة في القرآن في كثير من الآيات؟ (¬9) فكيف يقال: هي للشك مع أن الله تعالى [عالم بجميع الأشياء دون شك؟ كقوله تعالى مثلاً: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (¬10) , فإن هذا خطاب مع ¬
الكفار، فالله (¬1) عز وجل] (¬2) [يعلم أنهم في ريب، وهم يعلمون] (¬3) أنهم في ريب ومع ذلك فالتعليق (¬4) ها هنا بـ "إن" (¬5) حسن؟ والجواب عن هذا: أن كل ما شأنه أن يكون مشكوكًا فيه على تقدير أن لو نطق به عربي (¬6) فإنه يحسن تعليقه بـ "إن" سواء كان من قبل الله تعالى أو من قبل غيره، سواء أكان (¬7) معلومًا للسامع أم للمتكلم، أو مشكوكًا لهما (¬8)؛ لأن (¬9) الله تبارك (¬10) وتعالى أنزل القرآن باللغة العربية، فكل ما هو حسن في اللغة العربية أنزل في القرآن، وكل ما هو قبيح في اللغة العربية لم ينزل في القرآن. قوله: (و"لو" مثل هذه الكلمات في الشرط نحو: لو جاء زيد لأكرمنه (¬11) وهي: تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره (¬12)، فمتى دخلت ¬
على ثبوتين (¬1) فهما: منفيان (¬2)، ومتى دخلت على منفيين (¬3) فهما: ثبوتان، ومتى دخلت على نفي وثبوت، فالثابت: منفي، والمنفي: ثابت). ش: هذا هو المطلب العاشر، وهذا هو القسم الثاني من أدوات (¬4) الشرط؛ لأنه قدم (¬5) لنا أن أدوات (¬6) الشرط على قسمين: أحدهما: تعليق مستقبل [على مستقبل] (¬7) وله [اثنتا عشرة] (¬8) أداة (¬9) وقد فرغ منه المؤلف. والقسم الثاني: تعليق ماض على ماض، وهو الذي شرع المؤلف فيه (¬10) ها هنا، وله حرفان وهما (¬11): لو، ولولا، فبدأ (¬12) بمعنى الحرف الأول من ¬
الحرفين وهو "لو" (¬1). فقوله: ("ولو" مثل هذ الكلمات في الشرط). اختلف الناس في "لو" هل هي حرف شرط حقيقة أو مجازًا؟ فظاهر (¬2) كلام (¬3) الزمخشري في المفصل (¬4) أنها حقيقة (¬5)؛ لأنه قال: من حروف الشرط لو. وقال (¬6) غيره (¬7): مجاز (¬8). سبب (¬9) الخلاف: من نظر إلى كونها تربط (¬10) جملة بجملة، قال: هي ¬
حرف شرط حقيقة. ومن نظر إلى كونها تدخل على الماضي قال: ليست من حروف الشرط حقيقة، وإطلاق (¬1) الشرط عليها (¬2) محازًا؛ لأن حرف الشرط لا يدخل إلا على المستقبل، وإن دخل على الماضي فإنه (¬3) يؤول بالمستقبل. ولهذا قال ابن السراج (¬4) في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (¬5) تقديره: إن شئت (¬6) في المستقبل (¬7) أي قلته (¬8) في الماضي. [قوله: (و"لو" مثل هذه الكلمات في الشرط)] (¬9) يعني: أن هذا الحرف الذي هو "لو" مثل الأدوات (¬10) المتقدمة في إفادة الشرط، أي: في ¬
إفادة تعليق جملة بجملة أولاهما (¬1) سبب والثانية مسبب. قال المؤلف في الشرح: من خصائص الشرط أن يدخل على المستقبل ليس إلا فينبغي ألا تكون (¬2) "لو" للشرط؛ لأنها تدخل على الماضي نحو قولك: لو زرتني أمس زرتك اليوم، لكن لما كانت تربط (¬3) جملة بجملة أشبهت الشرط، فقيل لها: حرف شرط (¬4). قوله (¬5): (وهي: تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره). معناه (¬6): تدل على انتفاء جوابها لانتفاء مصحوبها؛ ولأجل هذا يقال فيها (¬7): حرف امتناع الشيء لامتناع غيره، نحو: لو جاء زيد لأكرمته أي: امتنع الإكرام الذي هو جوابها لامتناع المجيء الذي هو مصحوبها. قوله: (فمتى دخلت على ثبوتين فهما: منفيان ...) إلى آخره، ذكر المؤلف ها هنا أربعة أحكام: أحدها: إذا دخلت على ثبوتين نحو قولك: لو (¬8) جاء زيد لأكرمته، ¬
فالمعنيان منفيان، تقديره: لكنه (¬1) ما (¬2) جاء (¬3) ولا أكرمته (¬4). الحكم الثاني (¬5): إذا دخلت على منفيين (¬6) نحو قولك: لو لم (¬7) يجئ (¬8) زيد لما أكرمته، فالمعنيان (¬9) ثابتان تقديره: لكنه جاء فأكرمته. الحكم الثالث: إذا دخلت على ثبوت و (¬10) نفي، نحو قولك: لو جاء زيد لما عاتبته، فالمعنى الأول الذي هو المجيء منفي، والمعنى الثاني الذي هو العتب ثابت. تقديره: لكنه ما جاء فعاتبته. و (¬11) الحكم الرابع: إذا دخلت على نفي وثبوت نحو قولك: لو لم يجئ زيد لعاتبته، فالمعنى الأول الذي هو المجيء: ثابت (¬12)، والمعنى الثاني الذي هو العتب: منفي. تقديره: لكنه جاء فلم أعتبه (¬13). ¬
فالحاصل من هذا التقرير (¬1) أن "لو" ما أثبتته لفظًا تنفيه معنى، وما نفته لفظًا تثبته (¬2) معنى، وهذه قاعدة "لو". وقد أورد المؤلف في الشرح الاعتراض على هذه القاعدة، قال (¬3): وهذه القاعدة مشكلة بقوله عليه السلام: "نعم العبد صهيب (¬4) لو لم يخف الله لم يعصه" (¬5). ¬
لأنه يقتضي أنه خافه فعصاه (¬1) وذلك ذم، والحديث إنما سيق للمدح لا للذم (¬2)، فاختلف العلماء في الجواب عن هذا الإشكال: فقال ابن عصفور: "لو" ها هنا بمعنى إن الشرطية (¬3)؛ لأنها إذا دخلت على منفيين فلا يلزم ثبوتهما. وقال الخسروشاهي (¬4): إن "لو" إنما وضعت لمطلق الربط خاصة، وأما انقلاب الثبوت إلى النفي (¬5)، أو بالعكس (¬6) إنما (¬7) ذلك من جهة العرف لا من جهة اللغة، والحديث المذكور إنما جاء بقاعدة اللغة لا بقاعدة (¬8) العرف. وقال عز الدين بن عبد السلام: إن (¬9) "لو" تقتضي الثبوت إذا دخلت على النفي إذا كان للفعل سبب واحد، وأما إذا كان للشيء سببان فلا ينتفي بانتفاء ¬
أحد سببيه، بل يثبت إلحاق (¬1) السبب الآخر، وذلك أن صهيبًا رضي الله عنه اجتمع في حقه سببان: الخوف والإجلال، فسبب طاعة الله عز وجل (¬2) في حقه شيئان: خوف الله تعالى وإجلاله، فلو انتفى الخوف لم تنصدر (¬3) منه المعصية؛ لأجل الإجلال (¬4) فلو لم يخف الله لم يعصه، وهذا (¬5) غاية المدح (¬6) في حقه رضي الله عنه. بخلاف كثير من الناس فإن سبب طاعة الله في حقهم سبب واحد وهو الخوف، فإذا لم يخافوه عصوه، ولم يطيعوه (¬7). انتهى (¬8). وقال بعضهم: إن لو تقتضي الثبوت إذا دخلت على النفي أو بالعكس (¬9) إنما ذلك إذا لم تكن قرينة تدل على الثبوت والنفي (¬10)، وأما إذا كان هناك قرينة تدل على المراد فلا يقال فيها ذلك، وإنما يعتمد في ذلك القرينة كقوله عليه السلام في الحديث المتقدم: "نعم العبد صهيبٌ, لو لم يخف الله لم ¬
يعصه"؛ لأنه علم أن المقصود بهذا الكلام هو (¬1): مدحه فإذا كان لا يعصي الله مع انتفاء الخوف، فأولى وأحرى ألا يعصيه مع الخوف. ومثاله أيضًا قولك [في المدح] (¬2): نعم الرجل زيد؛ لو أحرجته (¬3) لم يغضب، علم (¬4) أن المراد بهذا الكلام هو المدح، فإذا كان لا يغضب مع الإحراج فأولى (¬5) وأحرى (¬6) [ألا يغضب] (¬7) مع عدم الإحراج. ومثاله أيضًا قولك: نعم الرجل زيد لو أسأت إليه أحسن إليك؛ لأنه علم (¬8) أن المراد بهذا الكلام أيضًا (¬9) هو (¬10) المدح، فإذا كان يحسن مع الإساءة فأولى وأحرى أن يحسن مع (¬11) عدم الإساءة. ومن هذا المعنى قول الشاعر (¬12): ¬
فلو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد به (¬1) فليتق الله سائله (¬2) فإذا كان يجود بروحه إذا لم يكن في يده شيء، فأولى وأحرى أن يجود إذا كان في يده شيء، هذا كله من باب المدح. ومثال هذا أيضًا في باب الذم قولك: بئس الرجل زيد، لو كان غنيًا لم يجد، فإذا كان لا يجود مع الغنى فأولى وأحرى ألا يجود مع الفقر. ومثله (¬3) قوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬4) يعني: الكفار، فإذا (¬5) كانوا (¬6) يعرضون مع الإسماع، فأولى وأحرى أن يعرضوا مع عدم الإسماع. قوله: (و"لو" مثل هذه الكلمات في الشرط). يريد به (¬7) لو الشرطية؛ لأن "لو" لها ثلاثة (¬8) أضرب: ¬
شرطية (¬1)، وتمنية (¬2)، ومصدرية (¬3). فالشرطية هي المرادة ها هنا: نحو قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (¬4). ومثال التمنية: قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5)، وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} (¬6)، وقوله تعالى (¬7): {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬8). وقد أثبتها كثير من النحاة، ومن نفاها تأولها بالامتناعية، أشربت معنى التمني فهي (¬9) إذًا شرطية، فقوله (¬10) تعالى مثلًا (¬11): {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ ¬
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) تقديرها (¬2): لو كانت لنا كرة لكنا (¬3) مؤمنين (¬4)، ولأجل إشرابها (¬5) معنى التمني ينصب الفعل بعد الفاء في جوابها، كما ينصب في جواب البيت كقوله تعالى: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} (¬6). ومثال المصدرية (¬7): قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلفَ سَنَةٍ} (¬8) تقديرها: أن يعمر ألف سنة، فتقدر مع الفعل بتأويل المصدر، وقد نفاها جمهور النحاة وتأولوا (¬9) الآية ونحوها، بحذف مفعول الفعل، وحذف جواب لو، تقدير الآية: يود أحدهم طول العمر لو عمر (¬10) ألف سنة لسر بذلك (¬11)، فهي على هذا امتناعية وهي: الشرطية. وقوله (¬12): (و"لو" مثل هذه (¬13) الكلمات في الشرط). ¬
وهذه (¬1) "لو" المذكورة لا تدخل إلا على الأفعال، فإن (¬2) دخلت علي غيرها فيقدر الفعل بعدها، نحوِ قوله (¬3) تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} (¬4)، وقوله تعالى: {ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} (¬5) وقوله تعالى (¬6): {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬7)، تقدير ذلك كله: ولو ثبت أنهم. وقال سيبويه: إذا وقع (¬8) أن (¬9) بعدها فهو مبتدأ (¬10). واختلف في الخبر لهذا المبتدأ: قيل: محذوف (¬11). وقيل: لا يحتاج إلى خبر لانتظام الأكبر والمخبر عنه بعد "أن" (¬12). ¬
وإن دخلت على الاسم فيقدر الفعل بعدها، يفسره الفعل الذي بعد الاسم، كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ (¬1)} (¬2) تقديره: لو تملكون (¬3) خزائن رحمة ربي، فلما حذف الفعل انفصل الضمير (¬4) فصار أنتم، فقوله تعالى: {أَنتُمْ} فاعل بذلك الفعل المضمر (¬5). ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي عبيدة (¬6): لو غيرك قالها يا أبا عبيدة [نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله (¬7)] (¬8). ¬
تقديره: لو قالها غيرك، فيكون من باب الاشتغال. قوله: (و"لولا" تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، لأجل أن "لا" نفت النفي الكائن مع "لو" فصار ثبوتًا، وإِلا فحكم "لو" لم ينتقض (¬1)، فقوله عليه السلام (¬2): "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك لكل صلاة (¬3) " (¬4) يدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة المترتبة على تقدير (¬5) ورود (¬6) الأمر). ش: هذا هو المطلب الحادي عشر، تكلم ها هنا على "لولا" (¬7)، وهو ¬
الحرف الثاني من الحرفين اللذين يفيدان تعليق ماض على ماض. قوله: (تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره) يعني: أن معنى (¬1) "لولا" حرف امتناع الشيء الذي هو جوابها، لأجل وجود غيره الذي هو اسمها، وأراد بذلك "لولا" الامتناعية (¬2)، كقوله تعالى: {ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} (¬3)، وقوله (¬4): {لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (¬5)، وقوله: {فَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6). ولا يريد "لولا" التحضيضية، كقوله تعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} (¬7)، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} (¬8). قوله: (لأجل أن "لا" نفت (¬9) النفي الكائن مع لو فصار ثبوتًا). هذا جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل له (¬10): و (¬11) لأي شيء تدل على ¬
امتناع الشيء لوجود غيره؟ وما الفرق بينهما (¬1) وبين "لو" المتقدمة؟ فقال: لأجل أن "لا" نفت النفي الكائن مع "لو" فصار ثبوتًا، [وذلك أن "لو" إذا دخلت على ثابت يكون معناه: نفيًا كما تقدم، فإذا دخلت "لا" عليه (¬2) صار ثبوتًا؛ لأن النفي إذا دخل على النفي يصير النفي ثبوتًا] (¬3) فيبقى (¬4) اسم "لولا" ثابتًا، ويبقى جوابها على ما كان عليه من النفي حين كان جوابًا للو قبل دخول حرف النفي على "لو". قوله (¬5): (وإِلا فحكم "لو" لم ينتقض) معناه: وإن لم نقل بصيرورة النفي ها هنا ثبوتًا، فإن حكم اسم (¬6) "لو" لم ينتقض، أي: لم ينتف مع أنه متفق (¬7) يالإجماع من النحاة على انتفائه؛ فإنهم يقولون: "لولا" حرف امتناع الشيء لوجود غيره، فدل ذلك على ثبوت اسم "لولا"، فتبين بذلك: أن حكم "لو" انتقض في الاسم لدخول "لا" عليها، ولم ينتقض في الجواب لبقائه على حاله مع "لو". قوله: (فقوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي ... " إِلى آخره (¬8) وفي بعض النسخ: كقوله بالكاف). ¬
قال (¬1) المؤلف في الشرح: قولي على تقدير ورود الأمر، قصدت به التنبيه على أن قول النحاة: لوجود غيره ليس المراد وجوده بالفعل خاصة، بل المراد به ما هو أعم من ذلك، أي: سواء كان وجوده بالوقوع أو بالتقدير، مثال الموجود (¬2) بالوقوع (¬3): قول عمر رضي الله عنه: "لولا (¬4) علي لهلك عمر" (¬5) فإن عليًا موجود حقيقة. ومثال الموجود (¬6) بالتقدير: قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك لكل صلاة" (¬7)؛ فإن المشقة غير موجودة [فعلاً، أي: ليست موجودة بالوقوع، فإنها لم تقع ولا تقع، وإنما هي موجودة بالتقدير، أي: هي موجودة] (¬8) على تقدير ورود الأمر بالسواك (¬9). فقولهم إذًا: [لولا] (¬10) حرف امتناع الشيء لوجود غيره، معناه: لوجود غيره تحقيقًا أو تقديرًا. قوله: (و"بل" لإِبطال الحكم عن الأول وإِثباته (¬11) للثاني (¬12) نحو: جاء ¬
زيد بل عمرو). ش: هذا هو المطلب الثاني عشر، ذكر المؤلف أن "بل" (¬1) يبطل الحكم عن الأول وهو: المعطوف عليه، ويثبت الحكم للثاني (¬2) وهو: المعطوف. مثال ذلك: قولك: قام زيد بل عمرو، معناه (¬3): إبطال القيام عن زيد حتى (¬4) كأنه مسكوت عنه، وإثبات القيام لعمرو. ومثاله (¬5) أيضًا: اضرب زيدًا بل عمرًا، معناه: إبطال الأمر بضرب زيد وإثبات الأمر بضرب عمرو. قوله: (و"بل" لإِبطال الحكم عن الأول، وإِثباته للثاني). يريد إذا عطفت (¬6) بها في الخبر والأمر دون النفي والنهي. مثال الخبر: قام زيد بل عمرو، فإنك أبطلت القيام عن زيد (¬7) [وأثبته] (¬8) لعمرو. ¬
ومثال الأمر: اضرب زيدًا بل عمرًا، فإنك أبطلت الأمر بضرب زيد وأثبت الأمر بضرب عمرو، ففي هذين الوجهين يصح كلام المؤلف، وهما: الخبر والأمر، وأما إذا عطفت (¬1) بـ "بل" في النفي أو النهي (¬2) فلا يصح فيه إبطال الحكم عن الأول وإثباته للثاني. قال المرادي في شرح الألفية: وإنما هي (¬3) لتقرير حكم الأول وجعل ضده للثاني. مثال [النفي] (¬4): ما قام زيد بل عمرو، فإنك تقرر نفي (¬5) القيام عن زيد [وتثبت (¬6) القيام لعمرو] (¬7)؛ [لأنك لم تبطل الحكم الأول الذي هو نفي القيام عن زيد] (¬8) [فإنما قررته؛ لأنك أثبت (¬9) ضده الذي هو ثبوت القيام لعمرو] (¬10). ومثال النهي: لا تضرب زيدًا بل عمرًا، فإنك تقرر النهي عن ضرب زيد، وتثبت (¬11) ضد ذلك النهي لعمرو وهو: الأمر بضرب عمرو (¬12). ¬
فتبين بما ذكرنا أن قوله: (بل لإِبطال الحكم عن الأول وإِثباته للثاني) إنما ذلك في الخبر والأمر دون النفي والنهي، قال ابن مالك [في الألفية] (¬1): وبل كلاكن بعد مصحوبيها ... كم أكن في مربع بل تيها وانقل بها للثاني (¬2) حكم الأولِ ... في الخبر المثبت والأمر الجلي (¬3) أراد (¬4) بقوله: مصحوبيها: النفي والنهي. وقوله: مربع (¬5) هي: الأرض التي (¬6) يربع فيها، أي يقام فيها، في زمان الربيع (¬7). وقوله: تيها (¬8) هي الأرض التي يتاه فيها ولا (¬9) يهتدى فيها. أسقط المؤلف همزته، وقصره للضرورة، ولا ينصرف وهو على وزن صحراء. قوله (¬10): (وبل لإِبطال الحكم عن الأول وإِثباته للثاني). ¬
إنما يطرد ذلك في عطف المفرد في الخبر والأمر - كما تقدم - ولا يطرد ذلك في عطف الجمل؛ فإنه قد يكون للإبطال (¬1) كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّة بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ} (¬2). وقد يكون لغير إبطال (¬3) كقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} (¬4). وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} (¬5). فإن (¬6) "بل" في هاتين الآيتين للإضراب (¬7) عن الخبر الأول دون الإبطال، فإن الله تعالى لم يبطل شيئًا مما أخبر عنه في هاتين الآيتين. قوله: (وعكسها: "لا"، نحو: جاء زيد لا عمرو). ش: هذا هو المطلب الثالث عشر: يعني: أن حرف (¬8) "لا" (¬9) على ¬
عكس حكم "بل"، أي: معنى "لا": إبطال الحكم عن الثاني وإثباته للأول. قال أبو موسى الجزولي في حروف العطف: ومنها "لا" وهي: لنفي حكم الأول عن الثاني، ولا يعطف بها إلا في الأمر والإيجاب. انتهى نصه (¬1). مثال الأمر: اضرب زيدًا لا عمرًا. ومثال الإيجاب (¬2): قام زيد لا عمرو. وفي معنى الأمر: الدعاء، والتحضيض. مثال الدعاء: غفر الله لزيد ولا لعمرو، أو غفر الله للمسلمين لا للمشركين. ومثال التحضيض: هلا ضربت زيدًا لا عمرًا، وقولك: هلا قلت خيرًا لا شرًا. وإنما قالوا: لا يعطف بها إلا في الأمر والإيجاب؛ لأنها لا تكون إلا لنفي، أو منع، ولا يصح (¬3) النفي إلا في الإثبات، كما لا يصح (¬4) المنع إلا في الأمر. قوله: (ولكن (¬5) للاستدراك بعد النفي (¬6) نحو: ما جاء زيد لكن عمرو، ¬
ولا بد أن (¬1) يتقدمها نفي (¬2) في المفردات، أو يحصل التناقض (¬3) بين المركبات). ش: هذا هو المطلب الرابع عشر: ذكر أن "لكن" (¬4) معناها: الاستدراك، وهي على قسمين: عاطفة، وابتدائية، وهي: المخففة من الثقيلة، فالعاطفة هي: التي تدخل على المفرد، والمخففة من الثقيلة هي: التي تدخل على الجملة. مثال العاطفة: ما قام زيد لكن عمرو. هذا (¬5) مثالها في النفي (¬6). ومثالها في النهي: لا تضرب زيدًا لكن عمرًا. ولا يعطف فيها (¬7) إلا بعد النفي، أو النهي؛ لأنها نقيضة "لا"، فكما أن "لا" لا يعطف بها إلا في الأمر والإيجاب - كما تقدم - فكذلك (¬8) ¬
لا (¬1) يعطف بـ "لكن" إلا في النفي، والنهي، ولا يعطف بها في الأمر والإيجاب (¬2)، فإن "لا" تختص بالإيجاب، و"لكن" تختص بالجحد. وأما المخففة من الثقيلة، وهي: حرف ابتداء (¬3)، فتدخل في جميع أنواع الكلام إلا في الاستفهام (¬4)، وإنما لا تدخل في الاستفهام؛ لأن الاستدراك الذي هو معناها مخالف للاستفهام، فتدخل في الإيجاب، والنفي، والأمر، والنهي. مثالها في الإيجاب: قام زيد لكن عمرو لم يقم. ومثالها في النفي: ما قام زيد لكن عمرو قام. ومثالها في الأمر: اضرب زيدًا لكن عمرًا لا تضربه. ومثالها في النهي: لا تضرب زيدًا لكن عمرًا اضربه. قال الله تعالى (¬5): {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬6). ¬
وقال تعالى: {مَا كَان مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ} (¬1). فإن "لكن" في هاتين الآيتين مخففة من الثقيلة وليست بعاطفة لدخول الواو عليها؛ إذ لا يدخل حرف عطف على حرف، عطف، فهي داخلة على جملة تقديره: ولكن كان تصديق الذي بين يديه، ولكن كان رسول الله في الآية الأخرى. واعلم أنه يجب "لكن" العاطفة أن يكون ما قبلها مخالفًا لما بعدها في اللفظ (¬2) والمعنى، كقولك: ما قام زيد لكن عمرو، أو لا تضرب زيدًا لكن عمرًا. ويجب في "لكن" المخففة أيضًا أن يكون ما قبلها مخالفًا لما بعدها في اللفظ والمعنى، أو مخالفًا له في المعنى دون اللفظ. ومثال المخالفة (¬3) بينهما (¬4) في اللفظ والمعنى (¬5): ما قام زيد لكن عمرو قائم. وقولك: قام زيد لكن عمرو لم يقم. وقولك: اضرب زيدًا لكن عمرًا لا تضربه. وقولك: لا تضرب زيدًا لكن عمرًا اضربه. ¬
ومثال المخالفة بينهما في المعنى خاصة دون اللفظ قولك: قام زيد لكن عمرو قعد، فلا مخالفة بين ما قبلها وما بعدها في اللفظ لاتفاق اللفظين في الإثبات، وإنما وقعت المخالفة بينهما في المعنى؛ لأن القيام مضاد للقعود. ومثال المخالفة [بينهما] (¬1) [في] (¬2) المعنى دون اللفظ أيضًا في النفي (¬3): قولك: لم يجلس معنا (¬4) زيد، ولكن عمرو لم يخرج، فما قبل لكن، وما بعدها متفقان في النفي فلا مخالفة بينهما في اللفظ لاتفاق اللفظين في النفي، وإنما وقعت المخالفة بينهما في المعنى؛ لأن الجلوس مضاد للخروج. قوله: (ولا بد أن يتقدمها نفي (¬5) في المفردات). هذا إشارة إلى العاطفة، وهي التي تدخل على المفرد، والمراد بالنفي ما هو أعم، ويندرج فيه النفي، والنهي كما تقدم تمثيله. و (¬6) قوله: (أو يحصل تناقض بين المركبات) هذا (¬7) إشارة إلى المخففة من الثقيلة نحو قولك: قام زيد لكن عمرو لم يقم. وقولك: قام زيد لكن عمرو قاعد. فالمثال الأول: للمخالفة لفظًا ومعنى. ¬
والمثال الثاني: للمخالفة في المعنى دون اللفظ. قوله: (بين المركبات) يعني بها الجمل؛ لأن "لكن" المخففة من الثقيلة هي: التي تدخل على الجمل. قال المؤلف في الشرح: فلو قلت (¬1): سافر زيد لكن عمرو فقيه؛ لم يجز لعدم التناقض بين السفر والفقه (¬2). قوله: (أو يحصل تناقض بين المركبات) [المراد بالتناقض] (¬3) هي (¬4): المخالفة، والمراد بالمركبات: هو (¬5): الجمل (¬6)، وإنما اشترط (¬7) بين الجمل؛ لأن التناقض بين المركبات يقوم مقام حرف النفي في المفردات. قوله: (والعدد يذكر فيه المؤنث (¬8)، ويؤنث فيه المذكر؛ ولذلك قلنا: إِن المراد بقوله تعالى: {وَالْمطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (¬9) الأطهار دون الحيض (¬10)؛ لأن الطهر مذكر، والحيض (¬11) مؤنث، وقد ورد ¬
النص (¬1) بصيغة التأنيث، فيكون المعدد (¬2) مذكرًا لا مؤنثًا). ش: هذا هو المطلب الخامس عشر (¬3): ذكر المؤلف [رحمه الله تعالى] (¬4) أن التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث تثبت في عدد المذكر، وتسقط في عدد (¬5) المؤنث على عكس حالها في غير (¬6) العدد (¬7)؛ لأنها في غير العدد تثبت مع المؤنث، وتسقط مع المذكر، نحو: قائم وقاعد، في المذكر، وقائمة، وقاعدة في المؤنث، وأما في العدد فإنها تسقط في المؤنث، وتثبت في المذكر فتقول: خمسة رجال (¬8)، وخمس نسوة. قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} (¬9)؛ لأن الليلة (¬10) مؤنثة (¬11)، واليوم مذكر، فذلك حالها في العدد من ثلاثة إلى عشرة ¬
[ومن ثلاثة عشر] (¬1) إلى تسعة عشر، كما هو معروف عند النحاة (¬2). وإنما تسقط التاء من عدد المؤنث؛ لئلا يجتمع تأنيثان، إحداهما (¬3): في العدد، والأخرى (¬4) في المعدود. وإنما أثبتوا التاء في المذكر؛ لضرورة الفرق بين المذكر والمؤنث. وقيل: إنما تثبت (¬5) الهاء في عدد المذكر لئلا يتوهم لو سقطت الهاء أن العدد إنما اكتسب التذكير من المعدود الذي أضيف إليه؛ لأن المضاف المؤنث (¬6) قد (¬7) يكتسب التذكير من المضاف إليه، وكذلك المضاف المذكر قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه. مثال المؤنث المكتسب تذكيرًا مما أضيف إليه: قول الشاعر: رؤية الفكر ما يؤول له الأمر ... معين على اجتناب النواهي (¬8) [فذكر خبر رؤية وهو: معين (¬9)؛ لإضافة رؤية إلى مذكر وهو: ¬
الفكر] (¬1). ومثال المذكر المكتسب تأنيثًا مما أضيف إليه: قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع (¬2) فأنث السور لإضافته إلى المؤنث (¬3). فتبين (¬4) مما قررناه: أن الهاء إنما تثبت (¬5) في عدد المذكر؛ لئلا يتوهم أنه (¬6) [اكتسب] (¬7) التذكير الذي هو (¬8): سقوط الهاء من المضاف إليه الذي هو: العدد (¬9) المذكر نحو قولك: خمسة رجال، ولا يتوهم ذلك في عدد المؤنث؛ لأن المضاف إليه مؤنث فلا يحتاج فيه إلى التاء نحو قولك: خمس نسوة، ¬
وذلك أن الأصل (¬1) في (¬2) العدد أن يكون بالتاء لأنه في المعنى جماعة، والجماعة مؤنثة، فما كان من العدد بعلامة التأنيث فهو بمنزلة المؤنث الذي فيه علامة التأنيث نحو: فاطمة وعائشة، وما كان من العدد بغير علامة فهو بمنزلة المؤنث الذي (¬3) ليس فيه علامة نحو: زينب، وهند، ودعد (¬4). وقال أبو موسى - إشارة إلى هذا القول الذي قررناه -: وإثبات الهاء في عدد المذكر رفع لما يوهمه (¬5) ما يضاف (¬6) إليه العدد (¬7) من التذكير، ولا يحتاج إليها في المؤنث لعدم الموهم. انتهى (¬8). وقيل: إنما ثبتت الهاء في عدد المذكر، وسقطت من عدد المؤنث للمقابلة والمشاكلة أي: ليقابل الأصل بالأصل والفرع بالفرع. وبيان ذلك: أن الأصل في العدد أن يكون بالتاء وعدم التاء [فرع] (¬9)، والأصل التذكير، والتأنيث فرع (¬10)، فأعطي الأصل الذي هو: التاء [للأصل] (¬11) الذي هو: المذكر، وأعطي الفرع الذي هو: ¬
سقوط (¬1) التاء للفرع الذي هو: المؤنث، فوقعت (¬2) المطابقة في الكلام. وقال أبو موسى - مشيرًا إلى هذا القول -: وإن شئت قلت: لأن أول العدد مؤنث، والمذكر [أول: فطوبق بين الكلام. انتهى (¬3). فالمراد (¬4) بالأول، هو: الأصل] (¬5). قوله: (ولذلك قلنا: إِن المراد بقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُروءٍ} (¬6) الأطهار (¬7) ...) إلى آخره. استدل المؤلف رحمه الله تعالى (¬8): بهذه القاعدة النحوية على أن المراد بالأقراء: الأطهار. وذلك أن العلماء اختلفوا في المراد بالأقراء (¬9) المذكور (¬10) في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}: قال (¬11) أبو حنيفة: المراد بها (¬12): الحيض. ¬
وقال مالك المراد بها: الأطهار. واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الأقراء هي الحيض بقوله عليه السلام في الحديث الصحيح المشهور: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض" (¬1). فظهر منه أن براءة الرحم إنما تكون بالحيض لا بالطهر (¬2). واستدل مالك - رضي الله عنه - بخمسة أوجه: أحدها: التاء (¬3) في قوله تعالى (¬4): {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} كما تقدم بيانه (¬5). [ولكن هذا الاستدلال فيه نظر؛ لأنه يحتمل أَن يراعى لفظ القرء دون معناه وهو (¬6): الحيض؛ لأن العرب تارة تراعي اللفظ، وتارة تراعي المعنى. ¬
فمثال (¬1) مراعاة اللفظ: قولهم: ثلاثة شخوص بإلحاق التاء، وإن كان المراد بها (¬2) النساء، قاله أبو علي في الإيضاح. ومثال مراعاة المعنى قولهم: عشر (¬3) أبطن (¬4) بسقوط التاء؛ إذ المراد به القبائل (¬5) قاله أبو علي أيضًا، فإذا احتمل واحتمل: سقط الاستدلال] (¬6). الثاني: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروءٍ} (¬7) لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر (¬8) بالتربص، والأمر يقتضي الفور، ولا يصح فوره إلا إذا أريد به الطهر دون الحيض (¬9). الثالث: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬10) وهذا أمر أيضًا، واللام بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (¬11) أي: في ¬
حياتي، فقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) أي: في وقت يصح فيه اعتدادهن، وذلك زمان الطهر لا زمان الحيض. الرابع: أن الأحكام يجب أن ترتبط (¬2) بأسبابها، وسبب العدة هو الطلاق، فيجب أن تقترن العدة بزمان الطلاق، وزمان الطلاق هو: الطهر (¬3). الخامس: أن الأحكام إنما تتعلق (¬4) بأوائل الأسماء دون أواخرها، كما تقول في الشفقين (¬5)، فإن (¬6) وجوب الصلاة تعلق (¬7) بالأول وهو الأحمر دون الثاني وهو الأبيض (¬8). وسبب الخلاف في القرء (¬9): أن القرء يطلق (¬10) لغة (¬11) على الطهر والحيض (¬12) وهو مأخوذ من الجمع. ¬
ومنه قولهم: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته (¬1) فيه، وقرأت الناقة لبنها في الضرع. وقيل: مأخوذ من الوقت (¬2) ومنه قولهم: رجع (¬3) فلان لقرئه إذا رجع في وقته الذي يرجع فيه. والدليل على إطلاق القرء على الطهر والحيض: قوله عليه السلام لفاطمة (¬4) - رضي الله عنها-: "إذا أتاك قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك فتطهري (¬5)، ثم صلي (¬6) ما بين القرء إلى القرء" (¬7) يقال: القرء بضم ¬
القاف وفتحها. ... ¬
الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ
الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ
الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ (¬1) ش: في هذا الباب مطلبان: الأول: [في (¬2) بيان] (¬3) ما يحمل عليه اللفظ إذا تعارضت محامله. والمطلب الثاني: في بيان الفروع المركبة على التعارض. قوله: (في تعارض مقتضيات الألفاظ) معناه: في بيان حكم تقابل وتعادل مدلولات الألفاظ، يعني: إذا كان مثلًا للفظ (¬4) احتمالان متضادان، على ماذا يحمل منهما (¬5). قوله: (تعارض) التعارض هو: التقابل، ولا تقابل إلا مع التساوي، ولا ¬
تساوي مع الرجحان، وهذه الحقائق التي ذكر (¬1) المؤلف كلها راجحة (¬2) بالنسبة إلى أضدادها، ومع ثبوت الرجحان فلا تعارض. أجيب عن هذا: بأن إطلاق التعارض ها هنا مجاز؛ لأنه باعتبار ما يؤول إليه الأمر (¬3) في الاستقبال (¬4)؛ وذلك أن الاحتمال المرجوح قد يعضده دليل فيعارض حينئذ الاحتمال الراجح فيحتاج إلى الترجيح، والله أعلم. قوله: (في تعارض مقتضيات الألفاظ) يعني: مع (¬5) ترجيح بعضها على بعض (¬6). قوله: (يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز). ش: ذكر المؤلف إحدى عشرة حقيقة هي كلها راجحة على أضدادها: الحقيقة الأولى (¬7) هي: حمل اللفظ [على حقيقته دون مجازه (¬8)؛ لأن موضوع اللفظ] (¬9) أولى به لأنه الأصل، والمجاز فرع طارئ عليه، والأصل ¬
مقدم على الفرع. قوله أيضًا (¬1): (يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز). مثاله: الأسد حقيقة في الحيوان المفترس، مجاز في الرجل الشجاع. وكذلك قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬2) اللمس حقيقة في المس باليد فينقض الوضوء، وهو مجاز في الجماع. فإذا حملنا الملامسة في الآية على الملامسة باليد فيستدل (¬3) بالآية على كون الملامسة تنقض الوضوء، وهو مذهب مالك، والشافعي، وجمهور العلماء. وإذا حملناه على الوطء (¬4) فلا يجب الوضوء منها وهو مذهب أبي حنيفة وغيره (¬5). قوله: (وعلى العموم دون الخصوص (¬6)). ش: هذا حقيقة ثانية (¬7)، إنما يحمل على العموم؛ لأن البعض داخل في الكل، ففي حمله على الكل حمله على البعض. ¬
مثاله: قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (¬1) عام (¬2) في الأختين مطلقًا حرتين أو مملوكتين، فلا يجوز الجمع بينهما مطلقًا، وهو مذهب مالك، والشافعي، [وجمهور العلماء] (¬3) خلافًا لمن قال: مخصوص بالحرتين (¬4). وقال ابن عباس (¬5) - رضي الله عنه (¬6) -: حرمتهما آية وحللتهما (¬7) آية؛ فالآية المحرمة قوله تعالى (¬8): {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (¬9)، والآية المحللة هي قوله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬10). ¬
قوله: (وعلى (¬1) الإِفراد دون الاشتراك). ش: هذه (¬2) حقيقة ثالثة (¬3). مثاله: [قوله] (¬4) تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬5). فالنكاح ها هنا المراد به معنى واحد وهو: الوطء في الفرج فهو الذي يحل المبتوتة. ¬
وقال ابن المسيب - رضي الله عنه -: يحلها العقد ويحلها الوطء (¬1)؛ لأن النكاح عنده مشترك بين الوطء والعقد. ولكن مذهب الجمهور أولى؛ لأن الإفراد أولى من الاشتراك؛ لأن الاشتراك مجمل حالة عدم (¬2) القرينة (¬3) الدالة على المراد بالمشترك؛ وذلك يؤدي إلى تعطيل [الحكم الشرعي] (¬4) فحمل النكاح على معنى واحد وهو: الوطء أولى من حمله على معنيين و (¬5) هما العقد والوطء. قوله: (وعلى (¬6) الاستقلال دون الإِضمار). ش: هذه (¬7) حقيقة رابعة (¬8)، مثاله قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬9). ¬
قال مالك (¬1): لا إضمار (¬2) في الكلام، بل الكلام مستقل. وقال الشافعي (¬3): في الكلام إضمار، وتقديره: أن يُقتلوا إن قَتلوا، وقوله: {أَوْ يُصَلَّبُوا} (¬4) يعني: إن قتلوا (¬5) وأخذوا المال (¬6)، وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خلافٍ} يعني: إن أخذوا المال، وقوله: {أَوْ يُنفَوْا مِن الأَرْضِ} يعني: إن أخافوا السبيل، كما قرره ابن العربي في أحكام القرآن (¬7)، ولكن حمل الكلام على الاستقلال أولى من حمله على [الإضمار؛ لأن الإضمار يحتاج إلى مبين، والاستقلال لا يحتاج إلى ذلك] (¬8). وكذلك قوله عليه السلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" فعلى رواية الرفع، فالكلام مستقل لا إضمار فيه، معناه: ذكاة الجنين هي ذكاة أمه. وعلى رواية النصب فيه إضمار تقديره: ذكاة الجنين أن يذكى مثل (¬9) ذكاة أمه. ¬
قوله: (وعلى الإِطلاق دون التقييد). ش: هذه (¬1) حقيقة خامسة (¬2). مثاله قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3). قال مالك: مطلق الشرك محبط للعمل (¬4) بدليل قوله تعالى [: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬5). وقال الشافعي: يقيد بالوفاة على الكفر (¬6) بدليل قوله تعالى] (¬7): {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكمْ عَن دِينهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النًّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬8)، فيحمل (¬9) المطلق على المقيد. وقال مالك (¬10): ليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد، وإنما هو من باب ترتيب مشروطين على شرطين، فالمشروطان هما: [الحبوط والخلود، والشرطان هما] (¬11): الردة، والموت عليها، فالأول للأول، والثاني للثاني، ¬
فالحبوط للردة، والخلود للموت عليها، ولكن الإطلاق أولى؛ إذ الأصل (¬1) عدم التقييد (¬2). قوله: (وعلى التأصيل دون الزيادة). ش: هذه (¬3) حقيقة سادسة (¬4). مثاله قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} (¬5). قيل: "لا" زائدة (¬6) وأصل الكلام: أقسم بهذا البلد. وقيل (¬7): ليست بزائدة (¬8)، وتقدير الكلام: لا أقسم بهذا البلد (¬9) وأنت ¬
لست فيه، بل لا يعظم ولا يصلح للقسم إلا إذا كنت (¬1) فيه (¬2). قوله: (وعلى الترتيب دون التقديم والتأخير). ش: هذه (¬3) حقيقة سابعة (¬4). [مثاله] (¬5) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬6) مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (¬7). فظاهر الآية: أن الكفارة لا تجب إلا بالوصفين (¬8) المذكورين قبلها وهما: الظهار والعودة. وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا، أي: لما كانوا عليه قبل الظهار سالمين (¬9) من الإثم بسبب فعل الكفارة، فعلى هذا لا يكون العود شرطًا في كفارة (¬10) ¬
الظهار، بل تجب الكفارة على هذا القول بنفس (¬1) الظهار، هكذا قدره (¬2) المؤلف في الشرح (¬3). وقدر (¬4) المكي في مشكل الإعراب هذا القول فقال: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا، أي: لما نطقوا به من الظهار، أي للفظهم بالظهار ثم يعودون يعني للوطء، فاللام على هذا القول في قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلقة بقوله: {فَتَحْرِيرُ} (¬5). وقوله تعالى (¬6): {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (¬7) على القول الأول، اللام متعلقة بقوله: {يَعُودُونَ} (¬8). وقوله: {لِمَا قَالُوا} "ما" والفعل مصدر تقديره: ثم يعودون لقولهم، ¬
وهذا المصدر الذي هو القول، هو (¬1) في موضع المفعول كقولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، معناه: مضروب (¬2) الأمير، فتقدير الآية: ثم يعودون للمقول فيهن الظهار، وهو (¬3): الزوجات، أي ثم يعودون لوطء المقول فيه (¬4) الظهار. واختلف أصحاب مالك في المراد بالعود المذكور في الآية: قيل (¬5): العزم على الوطء. وقيل: العزم على الإمساك. وقيل: العزم عليهما معًا، أي: على الوطء وعلى الإمساك. قال ابن الحاجب: والعود في الموطأ العزم على الوطء والإمساك معًا، وفي المدونة: على الوطء خاصة، وروي على الإمساك خاصة (¬6). قوله: (وعلى التأسيس (¬7) دون التأكيد). ش: هذه (¬8) حقيقة ثامنة (¬9). ¬
مثاله: قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬1). قيل: هذه الألفاظ (¬2) الثلاثة (¬3) مترادفة، والمراد (¬4) جميعها (¬5): الكفر، والفسوق (¬6) والعصيان مؤكدان (¬7) للكفر. وقيل: الفسوق ما دون الكفر من الكبائر، والعصيان هو: الصغائر، فكل واحد منها (¬8) مؤسس لمعنى غير الذي أسسه الآخر, فيقدم التأسيس على التأكيد؛ [لأن التأسيس يفيد زيادة معنى، والأصل في الخطاب الإفادة، وإفادة التأسيس تزيد على إفادة التأكيد] (¬9). ومثال (¬10) هذا (¬11) أيضًا: قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من أول السورة إلى آخرها. قال المؤلف في الشرح: هو تأسيس لا تأكيد، قال. وإنما قلنا: هو تأسيس لا تأكيد؛ لأن العرب لا تزيد (¬12) في التأكيد على (¬13) أكثر من ¬
ثلاث (¬1) مرات، فلا تأكيد (¬2) في السورة ألبتة؛ فإن قوله تبارك وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكمَا تُكَذِّبَانِ} يحمل في كل موضع على الذي يليه من قبله، ويكون التكذيب ذكر باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة، فلا تكرار في السورة أصلًا، فقوله تعالى (¬3) مثلًا: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (¬4) المراد بالآلاء ها هنا: خروج اللؤلؤ والمرجان خاصة، وهكذا تقول في كل موضع من أول السورة إلى آخرها. انتهى (¬5). قال ابن قتيبة (¬6) في كتاب تأويل المشكل: ومثال هذا: قولك للرجل وقد أحسنت إليه دهرك وتابعت عليه نعماءك وهو في ذلك ينكرك (¬7) ويكفرك: ¬
ألم أبوئك منزلاً وأنت طريد، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راجل، أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وأنت صرورة (¬1)؟ أفتنكر هذا؟ انتهى (¬2). قال المؤلف في الشرح: وكذلك القول في سورة {والمرسلات}، فقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذّبِينَ} يرجع كل لفظ من ذلك إلى الذي يليه من قبله خاصة، فيكون الجميع تأسيسًا لا تأكيدًا (¬3). قوله: (وعلى البقاء دون النسخ). ش: هذه (¬4) حقيقة تاسعة (¬5)، وإنما قدم (¬6) البقاء على النسخ؛ لأن ما ثبت وجوده يجب استصحابه فلا يرفع بالنسخ إلا بدليل. مثاله: قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلًّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬7). فحصر المحرم في هذه الأربعة يقتضي إباحة ما عداها، ومن جملة ما ¬
عداها السباع، وقد ورد النهي عنها في (¬1) قوله عليه السلام: "نهيت عن أكل كل (¬2) ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطيور" (¬3). فاختلف العلماء في ذلك: فمنهم (¬4) من قال: هذا الحديث (¬5) ناسخ للإباحة المضمنة (¬6) في الآية المذكورة. ومنهم من قال: ليس بناسخ، فقوله في الحديث: "نهيت (¬7) عن أكل كل (¬8) ذي ناب من السباع"، الأكل مصدر أضيف إلى الفاعل دون المفعول، ¬
وهو الأصل في إضافة المصدر بنصر (¬1) النحاة، فيكون الخبر (¬2) مثل: قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} (¬3)، فيكون حكمها (¬4) واحدًا، هكذا (¬5) قال المؤلف في الشرح (¬6). ولكن هذا الذي قاله (¬7) ضعيف في العربية؛ لأن المصدر كما يضاف إلى فاعله ويحذف مفعوله، كذلك يضاف إلى مفعوله ويحذف فاعله. مثال إضافته إلى فاعله مع حذف مفعوله: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} (¬8). ومثال إضافته إلى مفعوله مع (¬9) حذف فاعله: قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ} (¬10) فلا ترجيح لأحد الوجهين على الآخر، وإنما محل الترجيح بين (¬11) إضافته إلى الفاعل أو المفعول (¬12)، فهو إذا ذكر الفاعل والمفعول معًا فها هنا ترجيح (¬13) إضافته إلى الفاعل؛ لأن رتبة (¬14) الفاعل ¬
التقديم. مثال إضافته إلى الفاعل: قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ (¬1) اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (¬2). ومثال إضافته إلى المفعول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (¬3). ومنهم من قال: لا دليل في هذه الآية؛ لاحتمال أن تكون "من" بدلًا من الناس. ومثاله (¬4) مضافًا إلى المفعول قول الشاعر: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير تنقاد الصياريف (¬5) وزعم بعضهم: أن هذا القسم مخصوص بضرورة الشعر. ¬
قال المرادي: الصحيح جوازه في السعة (¬1)، ولكن هو قليل (¬2). واعلم أن المصدر المضاف له خمسة أوجه: أحدها: أن يضاف إلى الفاعل ويحذف المفعول، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} (¬3). والثاني: أن يضاف إلى المفعول ويحذف الفاعل، كقوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} (¬4). الثالث (¬5): أن يضاف إلى الفاعل وينصب مفعوله، كقوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ (¬6) اللَّهِ النَّاسَ} (¬7). الرابع (¬8): أن يضاف إلى مفعوله ويرفع فاعله، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (¬9). الخامس (¬10): أن يضاف إلى الظرف، ويرفع فاعله، وينصب مفعوله، ¬
كقولك: عجبت من انتظار يوم الجمعة زيد عمرًا. قوله: (وعلى الشرعي دون العقلي). هذه (¬1) حقيقة عاشرة (¬2). مثاله: قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" (¬3). فإن حملناه على أنه (¬4) حصل لهما الاجتماع فذلك معلوم بالعقل، وإن حملناه على أنهما حصل لهما فضيلة (¬5) الجماعة فذلك معلوم بالشرع، فهو: حكم شرعي وهو: أولى؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث لبيان الشرعيات لا لبيان العقليات؛ لأنه (¬6) يستبد العقل بإدراكها. قوله: (وعلى العرفي دون اللغوي). ¬
ش: هذه (¬1) الحقيقة الحادية عشرة (¬2). إنما يقدم (¬3) العرف على اللغة؛ لأن العرف ناسخ للغة، فالناسخ مقدم على المنسوخ، والعرف على ضربين: عرف شرعي، وعرف عامي. مثال الشرعي (¬4): قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة بغير (¬5) طهور" فإن حملناه على اللغوي، الذي هو: الدعاء لزم منه توقف قبول الدعاء على الطهارة ولا قائل به، فيحمل على الصلاة في عرف الشرع، وهي: العبادة المخصوصة بركوع وسجود، فيستقيم المعنى (¬6)؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف موضوعات اللغة. وركبوا على هذا المبنى (¬7) [فروعًا (8) وهي] (¬8): من حلف ليطأن جاريته (¬9) فوطئها حائضًا ففي حنثه قولان: من حمل الوطء على الشرعي قال: هو حانث؛ لأنه لم يأت بالوطء ¬
الشرعي (¬1) عاص بهذا الوطء. ومن حمل على الوطء اللغوي، قال: هو غير حانث؛ لأنه أتى بالوطء اللغوي. وكذلك عكس هذا الفرع: وهو إذا حلف ليطأن جاريته فوجدها حائضًا ولم يطأها ففيها (¬2) قولان أيضًا (¬3): قيل: لا يحنث لعدم إمكان الوطء الشرعي (¬4). وقيل: يحنث لإمكان الوطء اللغوي، وهو لم يفعله. و (¬5) قال ابن الحاجب: ولو حلف ليطأنها فوجدها حائضًا: فقولان (¬6). ولو وطئها (¬7) ففيه (¬8) قولان (¬9) [أيضًا: قيل: لا يحنث لعدم إمكان الوطء الشرعي. وقيل: يحنث لإمكان الوطء اللغوي (¬10)] (¬11). ¬
ومثال العرف العامي (¬1): إذا قال واحد من العوام لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار بفتح همزة "أن"، فهو في عرف العامة: [تعليق] (¬2)، فلا ينجز الطلاق [بدون الدخول؛ إذ لا فرق عند العوام بين فتح الهمزة وكسرها؛ لأنهم لا يلتزمون موضوعات اللغة] (¬3). وأما في عرف اللغة: فينجز الطلاق عليه؛ لأن "أنْ" بفتح (¬4) الهمزة لا تعليق فيها، وإنما هو علة حصلت، ولو نطق بهذا الكلام نحوي لكان من أهل اللغة، فيحمل كلامه على المقتضى (¬5) اللغوي؛ لأنه خرج عن العرف. قوله: (إِلا أن يدل دليل (¬6) على خلاف ذلك؛ لأن جميع ما ادعينا (¬7) تقديمه (¬8) ترجح عند العقل احتمال وقوعه على ما يقابله، والعمل بالراجح متعين). ش: يعني أن تقديم الحقائق المتقدمة كلها على مقابلاتها [إنما ذلك إذا لم توجد قرينة حالية، أو مقالية تدل على (¬9) مقابلاتها] (¬10)، أما (¬11) إن كانت ¬
هنالك قرينة تدل على تقديم مقابلاتها؛ فإنها تقدم على الحقائق المحكوم عليها أولاً (¬1) بالتقديم. كقولك مثلًا: رأيت أسدًا يلعب بسيفه، [فيقدم المجاز على الحقيقة في هذا الكلام؛ لوجود قرينة ترجحه (¬2) على الحقيقة، والقرينة هي: قولك: يلعب بسيفه] (¬3). قوله: (إِلا أن يدل دليل على خلاف ذلك) الإشارة عائدة (¬4) إلى جميع الحقائق المقدمات (¬5) على غيرها. قوله: (والعمل بالراجح متعين). يعني: أن العمل بالراجح لازم شرعًا وعقلاً وطبعًا. أما قولنا: شرعًا فدليله: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكم مِّن رَبِكُم} (¬6). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬7)، فالأحسن هو (¬8) الأقوى (¬9) والأرجح في ¬
الاعتبار. وأما قولنا: عقلاً فدليله (¬1): أنا نجد ذلك من أنفسنا (¬2) مركوزًا في فطرنا (¬3). وأما قولنا: طبعًا، فدليله: أن البهائم التي لا تعقل إذا رأت ما هو مضر لها فرّت منه (¬4)؛ لأن فرارها مظنة السلامة منه وثبوتها مظنة [الضرر] (¬5)، ومظنة السلامة أرجح فعملت بالراجح، وبالله التوفيق بمنه. قوله: (فروع أربعة: الأول يجوز عند المالكية والشافعي (¬6)، وجماعة من أصحابه: استعمال اللفظ في حقائقه إِن كان مشتركًا، أو مجازاته، أو مجازه (¬7) وحقيقته (¬8)، ويشترط فيه دليل يدل على وقوعه). ش: هذا هو المطلب الثاني من مطلبي الباب. قال المؤلف في الشرح: أريد بقولي: وجماعة من أصحابه: أصحاب (¬9) ¬
مالك، وسبق (¬1) القلم إلى المالكية، وصوابه: يجوز عند مالك والشافعي وجماعة من أصحاب مالك (¬2). ذكر المؤلف (¬3) [ثلاث] (¬4) مسائل بالجواز عند مالك، والشافعي، وجماعة من أصحاب مالك: المسألة الأولى: استعمال اللفظ المشترك في مجموع معانيه نحو: القرء في الطهر والحيض، والجون في الأسود والأبيض (¬5)، ولفظ العين للباصرة (¬6) والفوارة (¬7)، وإلى هذه المسألة أشار المؤلف بقوله: (استعمال (¬8) اللفظ في حقائقه إِن كان مشتركًا). المسألة الثانية: استعمال اللفظ في مجموع مجازاته، نحو: استعمال لفظ البحر في العالم والسخي، وإلى هذه المسألة أشار المؤلف بقوله: (أو مجازاته). المسألة الثالثة: استعمال اللفظ في مجموع حقيقته ومجازه، نحو: استعمال لفظ الغزالة في مجموع الحيوان المعلوم والمرأة الجميلة، وإلى ¬
هذه المسألة الثالثة أشار المؤلف بقوله (¬1): (أو مجازه وحقيقته). قوله: (خلافًا لقوم) راجع إلى المسائل [الثلاث] (¬2)، وذلك أن العلماء اختلفوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه الحقيقيين (¬3)، أو مجازيه أو في (¬4) حقيقته ومجازه معًا: فقيل: بالجواز. وقيل: بالمنع. فإذا قلنا بجوازه، هل ذلك الاستعمال مجاز؟ وهو الذي نقله المؤلف هنا (¬5) عن مالك، والشافعي (¬6)، وجماعة من أصحاب مالك. أو ذلك (¬7) الاستعمال حقيقة، وهو مذهب القاضي الباقلاني (¬8)، وجماعة ¬
من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار (¬1)، وغيره. وإذا قلنا بمنع استعماله: فقيل: يمنع ولا يستعمل حقيقة (¬2) ولا مجازًا، ويجوز (¬3) إرادة، أي: يجوز (¬4) استعماله بالنظر إلى إرادة المتكلم لا بالنظر إلى اللغة؛ لأن لكل (¬5) متكلم أن يريد (¬6) بلفظه ما شاء، قاله الغزالي (¬7) وأبو الحسن (¬8) البصري (¬9). وقيل: لا يجوز استعماله أصلاً لا حقيقة، ولا مجازًا، ولا إرادة، قاله ¬
جماعة من المالكية، وجماعة من المعتزلة. قوله: (يجوز استعمال اللفظ في حقائقه). قال سيف الدين (¬1): يشترط في هذا الاستعمال الذي هو (¬2) محل الخلاف شروط: أن يكون اللفظ من متكلم واحد في وقت واحد. وأن (¬3) يمكن الجمع بين المعنيين وإن (¬4) لم تكن الفائدة فيهما واحدة (¬5). فقولنا (¬6) في القيد الأول: أن يكون المتكلم واحدًا: احترازًا من المتكلمين؛ فإنه يجوز لأحدهما أن يستعمل المشترك في أحد معنييه (¬7)، ويستعمله الآخر في المعنى الآخر بإجماع. وقولنا: في وقت واحد (¬8): احترازًا [مما] (¬9) إذا (¬10) استعمل (¬11) المتكلم ¬
اللفظ المشترك في أحد معنييه (¬1) في وقت، ثم استعمله (¬2) في وقت آخر في معنى آخر فإنه يجوز بإجماع (¬3). قال المؤلف في الشرح: وبهذا يظهر لك بطلان استدلال الحنفية على أن المراد بقوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4): الحيض بقوله عليه السلام: "اتركي (¬5) الصلاة أيام أقرائك"؛ إذ معناه: أيام حيضك (¬6) باتفاق (¬7). ولا دليل لهم في هذا على أن (¬8) المراد بالآية (¬9) المذكورة: الحيض (¬10)؛ لعدم ¬
اتحاد (¬1) المتكلم ولعدم اتحاد الوقت، لأن المتكلم بالآية هو: الله تعالى، والمتكلم بالحديث المذكور هو: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أيضًا ورد في وقتين، وإنما قلنا: لا دليل لهم على تفسير الآية بالحديث المذكور؛ لأن المتكلم الأول قد يريد الطهر، والمتكلم الثاني قد (¬2) يريد الحيض (¬3) [ولم تكن الفائدة فيهما واحدة] (¬4). [وقولنا: في القيد الثالث (¬5): يمكن الجمع بينهما، احترازًا من استعمال المشترك مثلاً في معاني لا يمكن الجمع بينها، كاستعمال لفظ الأمر نحو: افعل، في الإيجاب والندب معًا، لا يجوز (¬6) إجماعًا؛ لأنه جمع (¬7) بين الضدين. مثال ما يمكن الجمع بين معنييه: كما إذا حمل النكاح المذكور في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬8) على عقد الأب ووطئه معًا. وقولنا في القيد الرابع: ولم تكن الفائدة فيهما واحدة احترازًا من اللفظ المشترك إذا أريد به أمر مشترك بين معنييه. ¬
مثاله: إذا أريد بلفظ: "القرء" معنى الجمع، أو الوقت، أو الانتقال، دون غيره فإنه جائز إجماعًا، وإنما الخلاف فيما (¬1) إذا أريد خصوص كل واحد من المعنيين (¬2)] (¬3). قوله: (ويشترط فيه دليل يدل على وقوعه). ش: أي: لا بد في هذا الاستعمال من دليل من (¬4) اللغة يدل على وجود هذا الاستعمال في اللغة، وهذا الدليل ذكره المؤلف في قوله: [لنا قوله] (¬5) تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬6). قوله: (وهذا الفرع مبني على قاعدة، وهي: أن المجاز على (¬7) ثلاثة أقسام: جائز (¬8) إِجماعًا وهو: ما اتحد محمله وقربت علاقته, وممتنع إِجماعًا، وهو: مجاز التعقيد, وهو: ما افتقر إِلى علاقات كثيرة نحو قول القائل: تزوجت بنت الأمير، ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد الأنكحة بالمدينة، معتمدًا على أن النكاح (¬9) ملازم للعقد الذي هو ملازم للعاقد الذي هو ملازم لأبيه، ومجاز مختلف فيه وهو الجمع بين حقيقتين أو مجازين، أو ¬
مجاز وحقيقة, فإِن الجمع بين حقيقتين مجاز وكذلك الباقي (¬1)؛ لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو مجاز فيه، فنحن والشافعي (¬2) نقول بهذا المجاز وغيرنا لا يقول به). ش: قوله: (وهذا الفرع مبني على قاعدة) معناه: وهذا الفرع الذي هو محل الخلاف يظهر من هذه القاعدة التي هي تنويع المجاز إلى ثلاثة أقسام وهي: جائز باتفاق. وممنوع باتفاق. ومختلف فيه. فالمجاز الذي هو جائز باتفاق فسره المؤلف بقوله: (وهو ما اتحد محمله وقربت علاقته (¬3)). قوله: (ما اتحد محمله) أي: اتحد مدلوله، أي لم يتعدد مدلوله؛ كالأسد للرجل الشجاع، احترازًا من القسم الثالث؛ لأن مدلوله متعدد لا متحد، وهو: استعمال اللفظ في حقائقه, أو في (¬4) مجازاته أو في حقيقته ومجازه، وهو: القسم (¬5) الثالث المختلف فيه. ¬
ومعنى (¬1) قوله: (وقربت علاقته) أي: قرب فهم علاقته، أي (¬2) فهمت (¬3) ملازمته ومناسبته، احترازًا من القسم الثاني؛ لأن علاقته بعدت عن الفهم. مثال هذا القسم: الأسد للرجل الشجاع؛ لأن مدلوله واحد (¬4) وهو الرجل الشجاع، وعلاقته مفهومة (¬5) فلا خلاف في جواز هذا القسم. قوله: (وممتنع إِجماعًا) هذا (¬6) القسم الثاني يسمى عندهم بمجاز التعقيد [لكثرة عقداته وعلاقاته (¬7)، وهو ما تعدد محمله وبعدت علاقاته (¬8)، وسمي بمجاز التعقيد] (¬9)، مأخوذ من العقد، وهو الربط؛ لأنه يصعب فهمه كما يصعب حل (¬10) المعقود (¬11) و (¬12) المربوط في المحسوسات. وفسره المؤلف بقوله: (وهو ما افتقر إِلى علاقات كثيرة نحو قول ¬
القائل: تزوجت بنت الأمير). ش: معناه: رأيت والد العاقد للأنكحة، فأطلق التزويج على الرؤية، وأطلق البنت على الوالد، وأطلق الأمير على العاقد، فالعلاقة بين التزويج والرؤية: الملابسة، لأن الزوج لا بد أن يلابس الزوجة كما أن الرائي (¬1) يلابس المرئي، والعلاقة بين البنت والوالد: الولادة، والعلاقة بين الأمير والعاقد: الولاية، فهذه ثلاث (¬2) علاقات أي ثلاث (¬3) ملازمات كلها بعيدة عن الفهم وليست بقريبة. قوله: (ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد الأنكحة بالمدينة) أي: يفسر (¬4) معنى تزويجه لبنت الأمير برؤيته واجتماعه مع والد المقدم من جهة الأمير، كالقاضي مثلاً على عقد الأنكحة بالمدينة. قوله: (معتمدًا على أن النكاح (¬5) ملازم للعقد الذي هو ملازم للعاقد الذي هو ملازم لأبيه). معناه: معتمدًا في إطلاق هذا المجاز على أن نكاح بنت الأمير ملازم للعقد؛ إذ العقد من لوازم (¬6) النكاح؛ لأنه [سببه] (¬7) المبيح له، والعقد ملازم ¬
للعاقد (¬1)؛ لأن العقد من لوازم العاقد؛ لأنه فاعله، والعاقد ملازم لأبيه؛ لأن أباه مولده (¬2)، فقد رأى الأب واجتمع معه، فقد تجوز هذا الناطق بهذا الكلام بإطلاق التزويج على الرؤية، واعتمد في هذا التجوز (¬3) على نسبة مركبة من ثلاث علاقات، والعرب لا تجيز (¬4) مثل هذا، وإنما منع (¬5) هذا (¬6) لبُعد (¬7) علاقته؛ إذ من شرط العلاقة: [أن يكون لها] (¬8) اختصاص وشهرة، ولا يكفي (¬9) فيها مجرد (¬10) الارتباط كيفما كان؛ ولأجل ذلك قال المؤلف: هو (¬11) ممتنع إجماعًا. قوله: (ومجاز مختلف فيه) هذا هو القسم الثالث وهو: ما تعدد محمله وقربت علاقته. قوله: (وهو: الجمع بين حقيقتين, أو مجازين، أو مجاز وحقيقة، فإِن الجمع بين حقيقتين مجاز، وكذلك الباقي؛ لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو: مجاز فيه). ¬
يعني بقوله: (الجمع بين حقيقتين) أن يجمع اللفظ بين المعنيين في الإرادة. وأراد بقوله: (وكذلك الباقي): الجمع بين المجازين، والجمع بين مجاز وحقيقة في الإرادة. قوله: (لأن اللفظ لم يوضع للمجموع)، هذا دليل على أن استعمال اللفظ في المسائل الثلاث (¬1) مجاز؛ وذلك (¬2) أن اللفظ لم تضعه العرب للمجموع، أي: لم تضعه (¬3) لمجموع المعاني، فإذا استعمل اللفظ في المجموع الذي لم يوضع له فهو: مجاز؛ لأنه لفظ مستعمل في غير ما وضع له. قوله: (فهو مجاز فيه) أي: فهو مجاز في المجموع. قوله: (لأن اللفظ لم يوضع للمجموع): أما بالنسبة إلى الحقيقتين فلم يوضع لمجموعهما، وإنما وضع لكل واحد (¬4) منهما على البدلية دون الاجتماعية، وأما بالنسبة إلى المجازين فلم يوضع لمجموعهما أيضًا، ولا وضع لأحدهما، بل وضع لغيرهما. وأما بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز فلم يوضع لمجموعهما أيضًا، وإنما وضع للحقيقة دون المجاز. قوله: (فنحن والشافعي نقول بهذا المجاز وغيرنا لا يقول به). ¬
هذا تكرار لقوله: (أو لا يجوز (¬1) عند المالكية (¬2)، والشافعي، وجماعة من أصحابه استعمال اللفظ في حقائقه ...) إلى آخره. إنما (¬3) كرره المؤلف ليركب عليه الدليل على جوازه وهو قوله: (لنا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬4)) (¬5) فقد استعمل لفظ الصلاة في هذه الآية الكريمة في مجموع المعنيين: وهما الدعاء والإحسان. قال بعضهم: لا دليل على ذلك في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يكون في الكلام إضمار تقديره: إن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون عليه (¬6)، فيكون هذا من باب حذف الأوائل لدلالة الأواخر (¬7). ويحتمل وجه آخر في الآية وهو: أن يكون المراد بالصلاة في الآية أمرًا يشترك (¬8) فيه المعنيان اللذان هما الدعاء والإحسان (¬9) وهو العناية بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬10)، وإظهار شأنه، وشرفه، فيكون لفظ الصلاة على هذا متواطئًا ¬
لا مشتركًا. قال المؤلف: عادة جماعة تفسير الصلاة من الله بالرحمة وذلك مستحيل؛ لأن (¬1) الرحمة رقة في الطبع، وذلك مستحيل في حق الله تعالى (¬2)، فلذلك فسرتها بالإحسان؛ لأنه ممكن في حق الله تعالى (¬3). قال بعضهم: هذا وهم من المؤلف - رحمه الله تعالى (¬4) -؛ لأنه ورد الإذن في تسمية الله تعالى (¬5) بالرحمن الرحيم (¬6). وأيضًا الرقة في الطبع إنما تلحق من له الطبع، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك. ولنا دليل (¬7) آخر على جواز الاستعمال المذكور وهو: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (¬8)، فاستعمل لفظ السجود في وضع الجبهة على الأرض وهو حقيقة ¬
و (¬1) في الخضوع وهو مجاز (¬2). وقال بعضهم: لا دليل في هذه الآية أيضًا على جواز ذلك الاستعمال؛ لأن الآية تحتمل الإضمار تقديره: ويسجد كثير من الناس (¬3). ولنا دليل آخر على جواز الاستعمال المذكور وهو: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬4)، فمحاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) حقيقة ومحاربة الله تعالى مجاز (¬6). وقال بعضهم أيضًا: لا دليل في هذه الآية على ذلك (¬7)؛ لأن الآية (¬8) تحتمل الإضمار تقديره: يحاربون (¬9) أولياء الله، وهذه الآيات الثلاث (¬10) لا دليل فيها لوجهين: أحدهما: احتمال الإضمار كما تقدم. والثاني (¬11): إرادة القدر المشترك؛ فالمراد بالصلاة في الآية الأولى: مطلق الإحسان، والمراد بالسجود في الآية الثانية: مطلق الخضوع، والمراد ¬
بالمحاربة في الآية الثالثة: مطلق المخالفة (¬1). ذكر المؤلف دليلين لمسألتين: [أحدهما: دليل على جواز الاستعمال وهو هذه الآية المذكورة، والدليل الآخر دليل على أن (¬2) ذلك الاستعمال مجاز لا حقيقة] (¬3)، وهو قوله: (لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو مجاز فيه)، ولكن لو قدم دليل الجواز [وأخر دليل المجاز (¬4)] (¬5) لكان أحسن؛ لأن المجاز ثان عن (¬6) الجواز. قوله: (احتجوا بأنه يمتنع (¬7) استعماله حقيقةً لعدم الوضع ومجازًا؛ لأن العرب (¬8) لم تجزه (¬9)). ش: هذه (¬10) حجة المانعين من استعمال اللفظ في حقيقتيه، أو مجازيه، أو حقيقته ومجازه. بيان (¬11) هذه الحجة أن ذلك الاستعمال لا يخلو من أن يكون حقيقة، أو ¬
مجازًا، وأيًا ما كان: فباطل، أما كونه لا يصح أن يكون حقيقة؛ فلأن اللفظ [لم يوضع] (¬1) للمجموع - كما تقدم -، وأما كونه لا يصح أن يكون مجازًا؛ فلأن العرب لم تجزه. قوله: (والجواب منع الثاني). ش: هذا جواب عن دليل المانعين المذكور (¬2)، معناه: أن قولكم (¬3): لم تجز (¬4) العرب هذا المجاز لم يصح (¬5)، بل جوزت العرب هذا المجاز. دليله: الآية المتقدمة وهي: قوله تعالى (¬6): {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (¬7)، وقوله تعالى (¬8): {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (¬9)؛ لأن السجود في هذه الآية الكريمة قد (¬10) استعمل في وضع الجبهة على الأرض بالنسبة إلى الناس، وفي الانقياد بالنسبة إلى غيرهم (¬11)؛ لأن السجود في حق الناس مخالف ¬
لسجود غير الناس. وكذلك يدل على الجواز قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬1). قوله: (الثاني (¬2): إِذا تجرد المشترك عن القرائن كان مجملاً لا يتصرف فيه إِلا بدليل يعين أحد مسمياته (¬3)، وقال الشافعي: أحمله (¬4) على الجميع احتياطًا). ش: هذا هو الفرع الثاني من الفروع الأربعة المذكورة (¬5)، وهذا الفرع مبني ومركب على الفرع الأول، ومعنى ذلك: أن اللفظ المشترك إذا جاز استعماله في جميع معانيه، فهل يجب حمله على جميع معانيه عند تجرده عن القرائن أم لا؟ فالفرع الأول من باب الاستعمال، والفرع الثاني من باب الحمل. قوله: (كان مجملاً لا يتصرف فيه إِلا بدليل). مثال ذلك: إذا قال القائل للمخاطب: انظر إلى العين، فالعين لفظ مشترك يطلق على الباصرة والفوارة، وعين الميزان، وعين الشمس، وعين الرحى، وعين الركبة، ونفس الشيء، وخيار الشيء، وغير ذلك، فإذا لم يكن (¬6) هنالك قرينة تبين مراد المتكلم، فيجب التوقف حتى يرد البيان كسائر ¬
المجملات. وقال الشافعي (¬1) وكذلك القاضي الباقلاني (¬2): يجب حمله على جميع معانيه، فهو من باب العمومات لا من باب المجملات، وإنما حمله على جميع معانيه احتياطًا لمراد المتكلم؛ فإنه إذا قال (¬3): انظر إلى العين فنظر (¬4) إلى جميع معانيه لا يشك (¬5) في حصول مراد المتكلم، وأما إذا نظر إلى بعض المعاني دون البعض فربما (¬6) لا يكون البعض المنظور إليه مراد المتكلم (¬7). ولكن قالوا: هذا الدليل الذي هو الاحتياط ضعيف؛ لأنه (¬8) كما يحصل مراد المتكلم بتحصيل جميع معانيه قد يحصل بذلك أيضًا غير مراده، كما إذا قال (¬9): انظر إلى العين فنظر إلى عين امرأته (¬10)، أو نظر إلى ذهبه (¬11) فربما لا ¬
يريد النظر إلى ذلك؛ لأنه قد يسوؤه ذلك ويحزنه، فراعى الشافعي - رحمه الله - جهة الاحتياط (¬1)، ولم يراع جهة أخرى، فالأولى التوقف حتى يرد البيان (¬2) كما قاله (¬3) الجمهور, فالاحتياط هو التوقف لئلا يقع الإقدام (¬4) في غير المراد (¬5). قوله: (الثالث (¬6): إِذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح كلفظ الدابة (¬7) حقيقة مرجوحة في مطلق ما دب (¬8) مجاز راجح في الحمار، يحمل (¬9) على الحقيقة عند أبي حنيفة ترجيحًا للحقيقة على المجاز، وعلى المجاز الراجح عند أبي يوسف نظرًا إِلى الرجحان (¬10)، وتوقف الإِمام فخر الدين (¬11) نظرًا إِلى التعارض، (¬12) والأظهر (¬13) مذهب أبي يوسف؛ ¬
لأن (¬1) كل شيء قدم من الألفاظ، إِنما قدم لرجحانه، والتقدير: رجحان (¬2) المجاز فيجب المصير إِليه). ش: مثال هذا الفرع قولك: أنت طالق إن لم تكن الدابة في الدار، من حمل الدابة على الحقيقة قال: لا تطلق إلا مع عدم كل ما اتصف بالدبيب، ومن حمله على المجاز الراجح، قال: لا تطلق إلا مع عدم الحمار خاصة. قال المؤلف في الشرح: هذه المسألة مرجعها (¬3) إلى الحنفية، وقد سألتهم عنها ورأيتها مسطورة في كتبهم على ما أصف لك، قالوا: المجاز مع الحقيقة لا يخلو من أربعة أقسام: إما أن يكون المجاز مرجوحًا لا يفهم إلا بقرينة. مثاله: الأسد في الرجل الشجاع، و [كالحمار] (¬4) في الرجل البليد، فإن الحقيقة تقدم ها هنا إجماعًا. القسم الثاني: أن يساوي المجاز الحقيقة في الاستعمال ولا راجح ولا مرجوح، فإن الحقيقة ها هنا (¬5) مقدمة أيضًا اتفاقًا بين أبي يوسف (¬6) وأبي ¬
حنيفة؛ لأن الأصل (¬1) تقديم الحقيقة. مثاله: لو حلف رجل لأنكح، فالنكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فيحنث بالعقد المجازي؛ لمساواته الحقيقة، هكذا قال المؤلف في الشرح (¬2). ولكن الجاري على قوله تقدم الحقيقة ألا يحنث بالوطء؛ لأنه الحقيقة، فكلامه متناقض، أوله يقتضي: أنه يحنث (¬3) بالحقيقة وهو: الوطء، وآخر كلامه (¬4) يقتضي: أنه يحنث بالمجاز وهو: العقد (¬5). و (¬6) أجيب عنه: بأن قوله: تقدم الحقيقة اتفاقًا (¬7)، يعني: عند الحنفية ¬
دون غيرهم، بدليل قوله (¬1) في آخر كلامه: قول الحنفية تقدم الحقيقة على المجاز المساوي غير متجه، بل الحق إنما هو الوقف لأصل (¬2) الإجمال. القسم الثالث: أن يكون المجاز راجحًا وتكون الحقيقة مماتة بالكلية؛ [فإن المجاز الراجح مقدم (¬3) ها هنا اتفاقًا، ويرجع أبو حنيفة إلى قول أبي يوسف ها هنا. مثاله: لو حلف رجل ليأكل (¬4) من هذه النخلة، فاللفظ حقيقي في] (¬5) خشبتها (¬6)، مجاز راجح في ثمرتها (¬7)، وقد أميتت هذه الحقيقة؛ إذ لا يؤكل (¬8) خشبها (¬9) فلا يحنث عندهما إلا بالثمر (¬10). القسم الرابع: أن يكون المجاز راجحًا وتكون الحقيقة متعاهدة في بعض الأوقات، فهذا محل (¬11) الخلاف، وهي (¬12): المراد بقول المؤلف ها هنا: ¬
الحقيقة المرجوحة: [يعني الحقيقة] (¬1) التي تتعاهد (¬2) في بعض الأوقات وهي: الحقيقة التي قلّ استعمالها. مثاله: إذا حلف رجل: ليشربن (¬3) من النهر، فالشرب بفيه من النهر حقيقة، والشرب من الأداة: مجاز راجح؛ لأنه إذا غرف بالكوز وشرب (¬4)، فقد شرب من الكوز لا من النهر، لكن (¬5) المجاز الراجح المتبادر إلى الذهن، والحقيقة التي هي الشرب بفيه قد تراجع في بعض الأوقات، فإن بعض الرعاة وبعض أفراد الناس قد يكرع من النهر بفيه من غير أداة، فلا يبرأ من الحنث عند أبي حنيفة حتى (¬6) يشرب (¬7) بفيه (¬8) من غير أداة، تقديمًا للحقيقة على المجاز، ولا يبرأ (¬9) عند أبي يوسف [من الحنث] (¬10) حتى يشرب (¬11) من الأداة (¬12)، تقديمًا للمجاز الراجح، ولا يبرأ عنده إذا كرع بفيه (¬13). ¬
قال المؤلف في الشرح: فهذه (¬1) صورة المسألة، قال: وأما بيان وجه الحق فيها (¬2): فالرجحان هو: الموجب للتقديم (¬3)، وأما إذا تساوى الحقيقة مع المجاز فلا تقديم لعدم الرجحان، فقول الحنفية: تقدم الحقيقة على المجاز المساوي: باطل، بل يجب التوقف لأجل الإجمال؛ لأنه لما ذهب الرجحان بالتساوي بطل تقديم الحقيقة، وذلك أن الحقيقة إنما تقدم من (¬4) حيث تقدم، لكونها أسبق إلى الذهن، وهو معنى قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي: الراجح في الكلام الحقيقة، فإذا ذهب الرجحان بالتساوي بطل تقديم الحقيقة وتعين الإجمال والتوقف (¬5) حينئذ. هذا (¬6) هو الحق، فقول الحنفية: تقدم الحقيقة على المجاز المساوي لها غير متجه (¬7). قوله: (وتوقف الإِمام فخر الدين نظرًا للتعارض (¬8)). قال الإمام فخر الدين في بيان هذا التعارض: "إن كون (¬9) اللفظ حقيقة ¬
يوجب القوة، وكونه مرجوحًا (¬1) يوجب الضعف، وكون المجاز راجحًا يوجب القوة، وكونه مرجوحًا يوجب الضعف، فيحصل التعارض لهذا (¬2) بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح، فلا يتعين لأحدهما (¬3) إلا بالنية" (¬4). واعترض هذا (¬5) التعارض بأن قيل: لا معنى (¬6) لكونه قويًا إلا أنه يحمل على معناه من غير قرينة، ولا معنى لكونه ضعيفًا إلا أنه لا يحمل على معناه إلا بقرينة فلا يصح وصف الحقيقة في هذه المسألة بالقوة، ولا وصف المجاز بالضعف، بل المجاز راجح والعمل بالراجح متعين، وهذا معنى قوله: (فإِن كل شيء قدم من الألفاظ إِنما قدم لرجحانه) والتقدير: رجحان المجاز (¬7) فيجب المصير إليه. قوله: (فإِن كل شيء قدم من الألفاظ) يعني: بالألفاظ الألفاظ المذكورة أول الباب في قوله: (يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، والعموم (¬8) دون الخصوص إِلى آخرها (¬9)) يعني: وكذلك ما قدم من الأدلة ¬
والبينات وجميع موارد الشريعة، إنما قدم جميع ذلك لرجحانه على غيره (¬1). و (¬2) قوله: (والتقدير) (¬3) أي: والفرض ها هنا رجحان المجاز على الحقيقة، فيجب تقديمه على الحقيقة. قال المؤلف في الشرح: فإهمال الرجحان (¬4) ها هنا ليس بجيد (¬5). قوله: (وها هنا دقيقة، وهي: أن الكلام إِذا (¬6) كان في سياق النفي، والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة كالدابة، والطلاق يكون (¬7) الكلام نصًا في نفي المجاز الراجح بالضرورة، فلا يتأتى توقف الإِمام وإِن كان في سياق الإِثبات، والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة فهو نص في إِثبات الحقيقة (¬8) بالضرورة فلا يتأتى توقف الإِمام، وإِنما يتأتى له ذلك إِن سلم له في نفي الحقيقة والكلام في سياق النفي، أو في (¬9) إِثبات المجاز، والكلام في سياق الإِثبات، أو يكون (¬10) المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة كالرواية والنجو). ¬
ش: قوله: (وها هنا دقيقة) معنى الدقيقة (¬1): الذي (¬2) يدق في فهمه النظر. ومقصود المؤلف بهذه الدقيقة أن يقيد ما أطلقه الإمام فخر الدين في تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح؛ لأن الإمام توقف في أيهما يقدم على الآخر - كما تقدم - (¬3)، ولكن إطلاقه التوقف في جميع الوجوه لا يصح بل يصح التوقف في بعض الوجوه، ولا يصح في بعض (¬4) الوجوه (¬5). وبيان ذلك: أن ها هنا خمسة أوجه: وجهان منهما: لا يصح فيهما التوقف، وثلاثة أوجه: يصح فيها التوقف. فأحد الوجهين اللذين لا يصح التوقف فيهما: إذا كان الكلام في سياق النفي، والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة كالدابة والطلاق؛ وذلك أن لفظ الدابة حقيقة مرجوحة (¬6) في مطلق ما اتصف بالدبيب، وهو: مجاز راجح في الحمار. وكذلك الطلاق (¬7) هو: حقيقة مرجوحة في مطلق الانحلال؛ كالانحلال ¬
من الوثائق (¬1) وغيره، وهو: مجاز راجح في انحلال (¬2) العصمة. مثال ذلك: في الدابة قولك: ليس في الدار دابة، فإن أراد المتكلم بالدابة المجاز الراجح الذي هو: الحمار: فقد انتفى هذا المجاز بالمطابقة، وإن أراد الحقيقة التي هي: كل ما اتصف بالدبيب: فقد انتفى المجاز الراجح أيضًا بالالتزام؛ إذ يلزم من انتفاء الأعم انتفاء الأخص، فلا يمكن توقف الإمام في هذا الوجه على التقديرين (¬3) سواء (¬4) قصد نفيه، أو قصد نفي الحقيقة. ومثال ذلك: في لفظ الطلاق قولك: ليست فلانة بمطلقة، فإن أراد المتكلم بهذا المجاز الراجح الذي هو: انحلال (¬5) العصمة: فقد انتفى هذا المجاز بالمطابقة، وإن أراد الحقيقة التي هي الانحلال (¬6): فقد انتفى هذا المجاز أيضًا بالالتزام؛ إذ يلزم من نفي الأعم نفي الأخص، فلا يتأتى توقف الإمام في هذا أيضًا على التقديرين (¬7) سواء قصد نفيه، أو نفي الحقيقة. وهذا الوجه الذي قررناه هو معنى قول المؤلف: وهي أن الكلام، إذا كان في سياق النفي، والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة كالدابة، والطلاق و (¬8) يكون ¬
الكلام نصًا في نفي المجاز (¬1) الراجح بالضرورة فلا يتأتى توقف الإمام (¬2). قوله: (وإِن كان في سياق الإِثبات والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة فهو: نص في إِثبات الحقيقة بالضرورة، فلا يتأتى توقف الإِمام). هذا هو الوجه الثاني من الوجهين اللذين لا يمكن فيهما توقف الإمام، وهو إذا كان الكلام في سياق الإثبات مع كون المجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة. مثاله: قولك: في الدار دابة، فإن أراد المتكلم بالدابة الحقيقة: فقد ثبتت (¬3) الحقيقة بالمطابقة، وإن أراد المجاز الراجح: كان نصًا في إثبات الحقيقة بالالتزام؛ لأنه يلزم من وجود الأخص (¬4) وجود الأعم، فلا يصح توقف الإمام في هذا الوجه أيضًا؛ فإن الحقيقة ثابتة على التقديرين (¬5) سواء قصد إثباتها (¬6)، أو قصد إثبات المجاز الراجح (¬7). قوله: (وإِنما يتأتى ذلك (¬8) إِن سلم له في نفي الحقيقة والكلام في سياق النفي، أو في إِثبات المجاز والكلام في سياق الإِثبات، أو يكون المجاز ¬
الراجح: ليس بعض أفراد الحقيقة كالرواية، والنجو). ذكر المؤلف [رحمه الله] (¬1) ها هنا الثلاثة الأوجه (¬2) التي يمكن فيها توقف الإمام: أحد الأوجه: نفي الحقيقة مع كون الكلام في سياق النفي. مثاله قولك: ليس في الدار دابة، فإن أراد المتكلم نفي المجاز الراجح: فلا يلزم من نفي (¬3) المجاز الراجح نفي الحقيقة؛ إذ لا يلزم (¬4) من نفي (¬5) الأخص نفي الأعم، الذي هو: الحقيقة، فيكون الأعم إذًا يحتمل نفيه، ويحتمل ثبوته، فيمكن توقف الإمام إن سلم له التوقف، وأما إن لم يسلم له التوقف فيقال له: لا يصح التوقف لأجل رجحان المجاز. وإلى هذا الوجه أشار المؤلف بقوله: (وإِنما يتأتى له (¬6) ذلك إِن سلم له في نفي الحقيقة، والكلام في سياق النفي). قوله: (أو في إِثبات المجاز والكلام في سياق الإِثبات)، هذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة التي يمكن فيها التوقف، وهو: ثبوت المجاز مع كون الكلام في سياق الإثبات. مثاله: قولك: في الدار دابة، فإن أراد المتكلم مطلق الدابة الذي هو: ¬
الحقيقة فلا يلزم من ثبوت مطلق الدابة ثبوت المجاز الراجح، الذي هو: الحمار (¬1)؛ إذ لا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص، فيصح فيه توقف الإمام، فيكون المجاز الراجح إذًا يحتمل ثبوته، ويحتمل نفيه. وإلى هذا الوجه الثاني أشار المؤلف بقوله: (أو في إِثبات المجاز، والكلام في سياق الإِثبات). قوله: (أو يكون (¬2) المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة كالرواية والنجو). هذا هو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة التي يمكن توقف الإمام (¬3) فيها، وهو: إذا كان المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة. مثاله قولك: في الدار راوية (¬4)، أو ليس في الدار راوية, أو في الدار نجو أو ليس في الدار نجو، فالراوية حقيقة هو (¬5): الجمل، أو الناقة، وسميت (¬6) بذلك؛ لأنها تروي القوم بلبنها وبولها ومائها. ويسمى الدلو راوية (¬7) مجازًا راجحًا، من باب تسمية الشيء بما يلازمه، ¬
فإذا سمع لفظ الراوية فهل يحمل على الناقة، أو على الدلو، فهو (¬1) محتمل، فيمكن (¬2) توقف الإمام فيه؛ إذ لا يلزم من وجود الناقة وجود الدلو، ولا يلزم من عدمها عدمه؛ لأن المجاز أجنبي عن الحقيقة، فليس الدلو ببعض أفراد الحقيقة (¬3)، فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه (¬4). وهكذا تقول (¬5) في النجو، فالنجو حقيقة هو: المكان المرتفع (¬6)، وهو مجاز راجح في فضلات الغذاء (¬7). فإذا سمع لفظ النجو فهل يحمل على الحقيقة؟ أو على المجاز (¬8) الراجح؟ فهو (¬9) محتمل يمكن فيه توقف (¬10) الإمام؛ إذ لا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من عدمه عدمه؛ لأن الفضلات المستقذرة (¬11) ليست ببعض المكان المرتفع، وإنما سميت الفضلات المستقذرات نجوًا مجازًا راجحًا (¬12) من باب ¬
تسمية الحال باسم المحل. قوله: (الرابع (¬1) إِذا دار اللفظ بين احتمالين مرجوحين: فيقدم التخصيص، والمجاز والإِضمار، والنقل، والاشتراك على النسخ، والأربعة الأولى على الاشتراك، والثلاثة الأولى على النقل، والأولان على الإِضمار، والأول على الثاني؛ لأن النسخ يحتاط فيه أكثر لكونه يصير اللفظ باطلاً (¬2) فتكون مقدماته (¬3) أكثر، فيكون مرجوحًا فتقدم لرجحانه عليه، والاشتراك مجمل حالة عدم (¬4) القرينة بخلاف الأربعة، والنقل يحتاج إِلى اتفاق على إِبطال وإِنشاء وضع بعد وضع، والثلاثة يكفي (¬5) فيها مجرد القرينة فتقدم عليه (¬6)، ولأن الإِضمار أقل فيكون مرجوحًا، ولأن (¬7) التخصيص في (¬8) بعض الحقيقة بخلاف المجاز). ش: هذه الأمور الستة (¬9) المذكورة في هذا الفرع هي مرجوحة ¬
بالنسبة (¬1) إلى أضدادها المتقدمة في أول الباب (¬2) في قوله: يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، وعلى العموم دون التخصيص (¬3) إلى آخره، إلا أنه لم يذكر ضد النقل [فيما تقدم ولكن] (¬4) وإن (¬5) لم يذكره فهو فرع مرجوح بالنسبة إلى عدم النقل؛ إذ الأصل (¬6) عدم النقل. فتكلم المؤلف - رحمه الله - ها هنا على هذه الأمور الستة المرجوحة فيما بينها (¬7)؛ إذ فقد (¬8) الراجح من أضدادها المذكورة أول الباب، فإن انفرد واحد من هذه المرجوحات الستة: يحمل (¬9) اللفظ عليه، وإن اجتمع منها اثنان فأكثر ولم (¬10) يتعذر الجمع: حمل اللفظ عليها إن دل على الجمع (¬11) قرينة، وإلا اقتصر على واحد منها تقليلاً (¬12) للمخالفة (¬13) بحسب الإمكان، فالأولى ¬
بالتقديم من هذه الأمور هو: التخصيص ثم المجاز ثم الإضمار ثم النقل ثم الاشتراك ثم النسخ (¬1). وأسباب الترجيح بين (¬2) هذه الأمور الستة ذكرها المؤلف بقوله: (لأن (¬3) النسخ يحتاط فيه أكثر) (¬4). هذا سبب تقدم الخمسة الأولى على السادس الذي هو: النسخ، وذلك (¬5) أن النسخ يحتاج إلى شروط كثيرة بخلاف الخمسة المذكورة، أي: لأن النسخ يحتاط فيه أكثر من غيره، لكونه يصير الحكم باطلاً (¬6) بعد إرادته فتكون مقدماته أي شروطه أكثر من شروط غيره؛ لأنه يشترط في النسخ أن يكون الناسخ (¬7) مساويًا للمنسوخ في السند أو أقوى منه، بخلاف التخصيص وغيره (¬8) كما سيأتي تفصيله في باب النسخ إن شاء الله تعالى. ¬
وسبب تقدم الأربعة التي هي: التخصيص، والمجاز، والإضمار، والنقل، على الاشتراك بينه المؤلف بقوله: (والاشتراك مجمل حالة عدم القرينة) معناه: إن فقدت القرينة بقي اللفظ معطلاً بخلاف الأربعة، فإن اللفظ معها لا يعطل؛ ولأجل هذا كان الاشتراك مرجوحًا بالنسبة إلى الأربعة. وسبب تقديم الثلاثة التي هي: التخصيص، والمجاز، والإضمار على النقل: بينه المؤلف بقوله: (والنقل يحتاج إِلى اتفاق على إِبطال وإِنشاء وضع بعد وضع) يعني: أن النقل لا يحصل إلا بعد اتفاق الكل على إبطال الوضع الأول، وإنشاء وضع آخر، وذلك متعذر (¬1) أو متعسر بخلاف الثلاثة التي هي التخصيص، والمجاز، والإضمار، فإنها يكتفى فيها بمجرد القرينة، فلأجل هذا تقدم هذه الثلاثة على النقل. وسبب تقديم الأولين اللذين هما: التخصيص، والمجاز على الإضمار: بينه (¬2) المؤلف بقوله: (ولأن الإِضمار أقل فيكون مرجوحًا). يعني: أن الإضمار أقل في كلام العرب من التخصيص والمجاز، فالأكثر راجح، والأقل مرجوح، فيقدمان على الإضمار، فنص (¬3) المؤلف ها هنا على (¬4) أن المجاز يقدم على الإضمار، هو (¬5): نص الإمام فخر الدين في المعالم (¬6). ¬
ونص الإمام فخر الدين في المحصول أن المجاز والإضمار سواء؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرينة (¬1). فاختلف كلامه في كتابيه. وسبب تقديم التخصيص على المجاز: بيّنه المؤلف بقوله: (ولأن التخصيص في بعض الحقيقة بخلاف المجاز) يعني: أن التخصيص يخرج به (¬2) بعض أفراد الحقيقة ويبقى اللفظ في البعض الآخر، كلفظ المشركين (¬3) مثلاً إذا خصص بغير (¬4) الحربيين بقي اللفظ في الحربيين وهم: بعض المشركين (¬5) فهو: مجاز أقرب إلى الحقيقة، وبقي اللفظ مع ذلك مستصحبًا في الباقي، فلا يحتاج إلى قرينة، وهذا لا يوجد في غير التخصيص؛ فلأجل هذا يقدم التخصيص على غيره. فإذا تقرر هذا فاعلم أن التعارض فيما بين هذه الأمور الستة يحتاج إلى ¬
خمسة عشر مثالًا (¬1)، ولكن (¬2) لم يذكر المؤلف في الشرح إلا عشرة أمثلة، ولم يذكر مثالاً لمعارضة الخمسة الأول للسادس الذي هو: النسخ، وذلك (¬3) خمسة أمثلة، فأنا أذكر العشرة الأمثلة التي ذكرها (¬4) المؤلف فأقول بحول الله وقوته: مثال تعارض التخصيص والمجاز: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّه} (¬5): يقول الشافعي: هذا أمر [بوجوب] (¬6) الحج والعمرة ابتداء، فتكون العمرة واجبة (¬7)، ولكن يلزمه المجاز، وهو: استعمال الإتمام في الابتداء. ويقول المالكي: هذا النص مخصوص بالحج والعمرة المشروع فيهما (¬8) (¬9)، بدليل قوله: {أَتِمُّوا}؛ لأن الإتمام إنما [يستعمل] (¬10) في شيء مشروع فيه؛ إذ لا تجب العمرة عند مالك ابتداءً (¬11)، ولكن يلزمه التخصيص بالمشروع فيه، والتخصيص أولى من المجاز. ¬
ومثال تعارض التخصيص، والإضمار: قوله عليه السلام: "الإسلام (¬1) يجبُّ ما قبله" (¬2). يقول المالكي: لا يقضي المرتد الصلاة إذا أسلم (¬3) بدليل هذا الحديث، ولكن يلزمه التخصيص بالديون إجماعًا. ويقول المخالف: في الكلام إضمار صونًا له عن التخصيص، تقديره: الإسلام يجبُّ إثم ما قبله، فلا تسقط الصلاة عنه (¬4)، والتخصيص أولى من الإضمار (¬5). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬6): يقول المالكي: فم (¬7) الكلب طاهر فلا يجب غسله، ولكن يلزمه ¬
التخصيص مما (¬1) أمسكه الكلب بعد القدرة على ذكاته (¬2). ويقول (¬3) الشافعي: في الكلام إضمار تقديره: فكلوا من حلال ما أمسكن عليكم (¬4). ومثال تعارض التخصيص والنقل: قوله تعالى: {وَالَّذيِنَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ} (¬5): يقول المالكي: يلزم الظهار من الأمة وأم الولد؛ لأنهما من النساء (¬6)، ولكن يلزمه (¬7): التخصيص بذوات المحارم فإنهن من (¬8) النساء (¬9)، ولا يلزم فيهن ظهار (¬10). ويقول الشافعي: لفظ النساء صار منقولاً في العرف للحرائر فوجب ألا ¬
يتناول محل النزاع فيلزمه النقل، ولكن التخصيص أولى من النقل (¬1). ومثال تعارض التخصيص والاشتراك قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (¬2): يقول المالكي: يجوز للعبد أن يتزوج أربعًا؛ لأن الطيب معناه: ميل النفس، وقد تميل نفسه إلى أربع نسوة، ولكن يلزمه: التخصيص بالنساء المحرمات (¬3) كزوجة الغير (¬4) مع أنها محرمة إجماعًا مع أنها قد (¬5) تميل إليها نفسه. ويقول (¬6) الشافعي: بل المراد بالطيب الحلال. ويقول المالكي: الطيب حقيقة في ميل النفس؛ لأنه المتبادر إلى الفهم، فلو كان حقيقة أيضًا في غيره للزم الاشتراك، والتخصيص أولى من الاشتراك (¬7). ومثال تعارض المجاز والإضمار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬8): ¬
يقول المالكي والشافعي: في الكلام إضمار لولاه لوجب الأمر بالطهارة بعد الصلاة تقدير هذا الإضمار: إذا قمتم محدثين (¬1). ويقول المخالف (¬2): يزول هذا المحذور بأن يجعل القيام في الآية مجازًا عبر به عن إرادته (¬3)، من باب إطلاق المسبب على السبب (¬4) تقديره: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وقد اختلف في المجاز مع الإضمار: قيل: المجاز أولى كما قال المؤلف (¬5)؛ لأنه أكثر منه في لسان العرب. وقيل: الإضمار أولى (¬6)؛ لأن قرينته لا تزايله. وقيل: هما سواء لتوقفهما على القرينة مع إمكان حقائقها (¬7). ومثال تعارض المجاز والنقل: قوله عليه السلام: "بين العبد والكفر ترك الصلاة" (¬8). ¬
يقول الحنبلي (¬1): تارك الصلاة المعترف بوجوبها كافر بدليل هذا الحديث؛ لأن الصلاة منقولة في عرف الشرع إلى هذه العبادة المخصوصة بالركوع والسجود، فمن تركها فهو كافر. ويقول المالكي والشافعي (¬2): الصلاة ها هنا معناها الدعاء والطلب؛ لأن ذلك هو معناها لغة, فمن أعرض (¬3) عن طلب الله، واستغنى عنه فهو كافر، واستعمل (¬4) لفظ الصلاة في هذه العبادة المخصوصة بالركوع والسجود على سبيل المجاز؛ لأجل اشتمالها على الدعاء، والمجاز أولى من النقل (¬5). ومثال تعارض المجاز والاشتراك: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬6): يقول المالكي: لا تحل المبتوتة (¬7) إلا بالوطء؛ لأن النكاح حقيقة في الوطء ¬
مجاز في العقد، والأصل عدم المجاز (¬1). ويقول سعيد بن المسيب: لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد؛ لأنه مستعمل فيها، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون مجملاً فيسقط الاستدلال به (¬2). ولكن المجاز أولى من الاشتراك. ومثال تعارض الإضمار والنقل: قوله عليه السلام: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" (¬3): يقول الشافعي: يجوز لصائم التطوع إبطال صومه لغير عذر؛ لأنه عليه السلام وكله إلى مشيئته فلا يحرم عليه فطره، فالصوم منقول من معناه اللغوي وهو: مطلق الإمساك إلى الإمساك المخصوص؛ لأنه المتبادر إلى الفهم (¬4). ويقول المالكي: لا نقول: إنه منقول من مسماه اللغوي، بل هو مستعمل في مسماه (¬5) اللغوي، وفي الكلام إضمار، ومعنى الكلام: الممسك الذي من (¬6) شأنه أن يتطوع أمير نفسه في كل يوم، وسماه متطوعًا (¬7) باعتبار ما يؤول ¬
إليه، وهذا الإضمار أولى من النقل (¬1). ومثال تعارض الإضمار والاشتراك: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬2): يقول الشافعي: يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس؛ لأن الباء مشترك بين الإلصاق في الفعل القاصر، وبين التبعيض في الفعل المتعدي، فيكون (¬3) ها هنا للتبعيض؛ لأنه فعل متعد، فلو قال: امسحوا (¬4) رؤوسكم (¬5) صح (¬6). ويقول المالكي: ها هنا مضمر تقديره: وامسحوا بلل أيديكم برؤوسكم، فالرأس ممسوح به، والفعل لا يتعدى إلى الآلة بغير باء فيكون الباء للتعدية (¬7). ومثال تعارض النقل والاشتراك: قوله عليه السلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا" (¬8): ¬
يقول الشافعي: الطهارة في عرف الشرع منقولة إلى إزالة الحدث، والخبث ولا حدث (¬1) فيتعين الخبث (¬2). ويقول المالكي: الطهارة لفظ مشترك في عرف اللغة بين إزالة الأقذار (¬3)، والغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى؛ لأنه مستعمل فيهما حقيقة إجماعًا، والأصل عدم التغيير (¬4)، والمشترك (¬5) مجمل فيسقط الاستدلال به حتى يبين الخصم الرجحان. يقول الخصم: جعله منقولاً إلى العبادة المخصوصة أولى من الاشتراك. وهذه عشرة أمثله فيها بيان (¬6) المعاني الخمسة الأولى، ذكرها المؤلف في ¬
الشرح ولم يذكر أمثلة هذه الخمسة (¬1) فيما بينها وبين النسخ وهي: خمسة أمثلة، ذكر (¬2) بعض الشراح مثالاً واحدًا من هذه الأمثلة (¬3) الباقية وهو (¬4) مثال التخصيص مع النسخ. وقال: مثال تعارض التخصيص مع النسخ: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬5) سواء كانت الزوجة حاملاً، أو حائلاً: فقيل: هذه الآية منسوخة (¬6) بقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬7). وقيل: ذلك تخصيص، والتخصيص أولى من النسخ. ... ¬
الباب الرابع في الأوامر
الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول: الفصل الأول: في مسماه ما هو. الفصل الثاني: ورود الأمر بعد الحظر. الفصل الثالث: في عوارضه. الفصل الرابع: جواز تكليف ما لا يطاق. الفصل الخامس: فيما ليس من مقتضاه. الفصل السادس: في متعلقه. الفصل السابع: في وسيلته. الفصل الثامن: في خطاب الكفار.
[الباب الرابع في الأوامر, وفيه ثمانية فصول] (¬1) قوله: (الأوامر) جمع أمر، وهو: مصدر، وإنما جمعه مع أن المصادر لا تثنى ولا تجمع اعتبارًا بأنواع الأمر؛ لأنه تارة يراد به الوجوب، وتارة يراد به الندب، وتارة يراد به الإباحة وتارة يراد به التهديد، وتارة يراد به غير ذلك كما سيأتي بعد هذا في ذكر موارد الأمر، فجمعه بهذا الاعتبار؛ إذ المصادر يجوز جمعها إذا قصد أنواعها، كقولهم: أحلام، وأشغال وإنما لا (¬2) يثنى المصدر، ولا يجمع؛ لأنه يصدق على القليل والكثير من جنسه؛ فلأجل ذلك استغني عن تثنيته وجمعه. وقوله: (الأوامر) هذا الجمع غير معروف عند أرباب العربية (¬3)، وذلك أن وزن أوامر: فواعل (¬4)، والمفرد الذي يجمع على فواعل محصور عند ¬
النحاة في سبعة أوزان: أحدها: فوعل نحو: جوهر وجواهر. الثاني: فوعلة نحو صومعة، وصوامع. الثالث: فاعِلاء نحو: قاصعاء وقواصع، وهو باب من أبواب جحر اليربوع (¬1). الرابع: فاعَل بفتح العين، نحو: طابع، وطوابع، وقالب، وقوالب. الخامس: فاعلة نحو: فاطمة، وفواطم، وضاربة، وضوارب، ولا فرق في هذا بين كونه اسمًا أو صفة (¬2). السادس: فاعل بكسر العين للمؤنث (¬3) نحو: حائض، وحوائض، وطامث، وطوامثَ (¬4). السابع: فاعل بكسر العين إذا لم يكن صفة لمذكر عاقل نحو: كاهل، وكواهل، صاهل (¬5) وصواهل، وأما إذا كان صفة لمذكر عاقل فلا يجمع على فواعل إلا شذوذًا نحو: فارس وفوارس، ناكس (¬6) ونواكس [ناسك ¬
ونواسك] (¬1)، هالك وهوالك، شاهد وشواهد، غائب وغوائب. فهذه الأوزان السبعة هي التي تجمع على فواعل (¬2)، وأما فَعْل فلا يجمع على فواعل. فتبين بما قررناه: أن الأمر لا يجمع على أوامر، واختلف في الجواب عن هذا الجمع (¬3)، فقيل (¬4): هو جمع آمر (¬5) على وزن "اسم الفاعل"، والمراد به المصدر؛ لأن المصدر قد يجيء على بناء فاعل، نحو قولهم: قام قائمًا، وخرج خارجًا، تقديره: قام قيامًا، وخرج خروجًا [وقعد قاعدًا (¬6) أي: قعودًا (¬7). قال أبو موسى الجزولي في باب مصادر (¬8) الثلاثي: ويجيء على فاعل، وعلى بناء اسم المفعول، وعلى التفعال (¬9) والفعيلا، إذا أريد به التكثير (¬10) والمبالغة. انتهى نصه (¬11). ¬
وهكذا تقول في النواهي جمع (¬1) ناهٍ على وزن فاعل الذي هو مصدر] (¬2). [وقيل: هو: جمع آمرة على وزن "فاعلة", والمراد به المصدر أيضًا؛ لأن فاعلة قد يكون مصدرًا نحو: العافية والطاغية، يقال: عافانا الله عافية] (¬3). وقيل: هو جمع آمر على وزن "فاعل" أيضًا، ولكن المراد به اسم الفاعل الذي هو: اللفظ؛ فإن اللفظ قد يسمى آمرًا مجازًا، [فمعنى الأوامر على هذا أي: الألفاظ التي تأمر] (¬4). [وقيل: هو جمع آمرة على وزن "فاعلة"، والمراد به الصيغة؛ إذ الصيغة (¬5) تسمى (¬6) آمرة مجازًا] (¬7)؛ لأن الأمر يقع بها (¬8) فمعنى الأوامر على هذا أي: الصيغ التي (¬9) تأمر، وكذلك (¬10) تقول (¬11) في النواهي: هي (¬12) جمع ناهية، أو جمع ناه أي: الألفاظ أو الصيغ التي تنهي. ¬
وقيل (¬1) [أيضًا في هذا الجمع: إنه] (¬2) جمع (¬3) الجمع، فهو: جمع أفعل لا أنه (¬4) جمع فعل، فقولك: أمر، جمعه أأمر على وزن أفعل، وجمع أأمر، أوامر على وزن أفاعل (¬5)، كقولك: كلب، وأكلب، وأكاليب، فهو جمع الجمع (¬6)، فوزنه على هذا أفاعل؛ لأنه (¬7) فواعل، وقلبت فيه (¬8) الهمزة الثانية واوًا فصار أوامر. ولكن يعترض على هذا الجواب بالنواهي (¬9)؛ إذ لا يصح فيها (¬10) هذا إلا ¬
أن يقال: هذا من باب التغليب (¬1) [كقولهم: غداياء (¬2) وعشاياء (¬3)] (¬4). ... ¬
الفصل الأول في مسماه ما هو
الفصل الأول في مسماه ما هو (¬1) قوله: (أما لفظ الأمر؛ فالصحيح أنه اسم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات؛ لأنه المتبادر إِلى الذهن (¬2)، هذا مذهب الجمهور وعند بعض (¬3) [الفقهاء: مشترك بين] (¬4) القول والفعل، وعند أبي الحسين: مشترك (¬5) بينهما (¬6) وبين الشيء والشأن (¬7) والصفة. وقيل: موضوع (¬8) للكلام النفساني (¬9). وقيل: مشترك (¬10) بينهما). ¬
ش: و (¬1) في هذا الفصل ثمانية مطالب: ما موضوع الأمر؟ وما موضوع موضوعه؟ وهل يدل على الفور أم لا؟ وهل يدل على التكرار أم لا؟ وهل يدل على الإجزاء أم لا؟ وهل يدل على النهي أم لا؟ وهل يشترط فيه العلو والاستعلاء أم لا؟ وهل تشترط فيه الإرادة أم لا (¬2)؟ قوله: (في مسماه) أي: في بيان موضوع لفظ (¬3) الأمر. وقوله: (ما هو) أي: أي شيء هو مسمى الأمر؟ واعلم أن ما هو (¬4) يطلب به أحد أمرين: إما شرح الاسم، وإما شرح المسمى. وقولنا (¬5): شرح الاسم، أي: شرح الاسم لمن هو عارف بالمسمى، لكنه جاهل بدلالة لفظ الاسم على المسمى. ¬
وقولنا: شرح المسمى أي: شرح المسمى لمن هو عارف بدلالة لفظ الاسم على المسمى لكنه جاهل بالمسمى. ومقصود المؤلف في هذه الترجمة أن يبين شرح المسمى، أي: أن يبين شرح مسمى لفظ (¬1) الأمر لمن هو عالم بدلالة لفظ الأمر على المسمى وضعًا، لكنه جاهل بالمسمى. قوله: (أما لفظ الأمر فالصحيح: أنه اسم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات). هذا هو المطلب الأول وهو: موضوع الأمر (¬2) أي: مسمى الأمر، فالموضوع والمسمى مترادفان. واعلم أن العلماء قد اختلفوا في الكلام وجميع أنواعه: من الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والتنبيه، والدعاء، وغير ذلك على ثلاثة مذاهب (¬3). ¬
قيل: حقيقة في اللساني مجاز في النفساني، وهو مذهب الأصوليين. وقيل: حقيقة في النفساني مجاز في اللساني، وهو مذهب المتكلمين. وإليه أشار المؤلف بقوله: (وقيل (¬1): هو موضوع للكلام النفساني دون اللساني). وقيل: هو حقيقة فيهما معًا، أي: حقيقة في اللساني والنفساني معًا، فيكون لفظًا مشتركًا بينهما، أي: بين اللساني والنفساني، وإليه أشار المؤلف بقوله: (وقيل: مشترك (¬2) بينهما). ¬
قال المؤلف في الشرح: والاشتراك هو المشهور (¬1)، [وإن كان] (¬2) المؤلف لم يذكر (¬3) هذا الخلاف إلا في خصوصية (¬4) الأمر، فهو عام في جميع أنواع الكلام. [وقيل: للقدر المشترك بين اللساني والنفساني، وهو: قول رابع] (¬5). حجة القول بأنه حقيقة في اللساني خاصة: التبادر إلى الفهم؛ لأنك إذا سمعت أمر فلان بكذا فلا يتبادر إلى فهمك إلا خصوصية اللفظ دون غيره، والتبادر إلى الفهم دليل الحقيقة. ورد هذا: بالمجاز (¬6) الراجح. حجة القول بأنه حقيقة في النفساني خاصة: بيت الأخطل وهو قوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان (¬7) على الفؤاد دليلاً (¬8) ¬
وقال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (¬1). حجة القول بأنه حقيقة فيهما: وروده واستعماله في اللساني والنفساني، والأصل في الاستعمال الحقيقة دون المجاز. [حجة القول بأنه للقدر المشترك بين اللساني والنفساني: وروده مستعملاً فيهما] (¬2). [والأصل عدم المجاز وعدم الاشتراك فوجب أن يكون مستعملاً في القدر المشترك بينهما] (¬3). [وحجة أخرى: أن فيه الجمع بين الأدلة؛ إذ الجمع بينهما أولى من اطراح أحدهما (¬4)] (¬5). ثم إذا فرعنا على القول الذي هو حقيقة في اللساني خاصة وهو قول الأصوليين كما تقدم، فاختلفوا في حصر صفة (¬6) الأمر على ثلاثة أقوال (¬7): ¬
قيل: حقيقية في القول مجاز في غيره، هذا مذهب (¬1) الجمهور، وإليه أشار المؤلف بقوله: والصحيح (¬2): أنه اسم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات، هذا هو (¬3) مذهب الجمهور (¬4). وقيل: مشترك (¬5): بين شيئين، أي (¬6): بين القول والفعل، وهو مذهب الباجي (¬7) وغيره. وإليه أشار المؤلف بقوله: (وعند بعض (¬8) الفقهاء مشترك بين القول والفعل). حجته: أنه استعمل (¬9) فيهما (¬10) معًا (¬11)، والأصل الحقيقة. ورد هذا: بأن الأصل عدم الاشتراك. القول الثالث: أنه لفظ مشترك (¬12) بين خمسة أشياء: القول، والفعل، ¬
والشيء، والشأن، والصفة (¬1). [وإليه أشار المؤلف بقوله: وعند أبي الحسين مشترك بينهما وبين الشيء والشأن والصفة] (¬2). فيكون مشتركًا بين هذه الأشياء الخمسة لورود استعمال لفظ الأمر في جميعها، والأصل الحقيقة (¬3). ورد (¬4): بأن الأصل عدم الاشتراك. مثال القول: قوله تعالى (¬5): {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (¬6). ومثال الفعل: قوله تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬7). [أي: من فعل الله] (¬8). وقولنا: كنا في أمر عظيم إذا كنا في الصلاة. ¬
ومثال الشيء قولك: ائتني بأمر ما، أي: بشيء ما، ومنه قولهم في المثل السائر: لأمر ما جدع قصير أنفَه (¬1). ومثال الشأن: قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (¬2). قال المؤلف في الشرح: معناه: وما شأننا في إيجادنا إلا ترتيب مقدورنا على قدرتنا وإرادتنا، من غير تأخير كلمح بالبصر (¬3)، أي: كخطفة (¬4) البصر (¬5). ومثال الصفة قول الشاعر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود أي: لصفة ما يسود من يسود. قوله: (اسم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب (¬6)) المراد بالصيغة: اللفظ، أي: هو اسم لمطلق اللفظ الدال على الطلب، أي: هو اسم لمطلق اللفظ الذي ¬
هو قدر مشترك بين جميع صيغ الأمر، يعني لفظ الأمر الذي هو: مجموع الهمزة والميم والراء، هو: اسم الصيغة (¬1) "افعل"، أي: [هو اسم] (¬2) للفظ افعل، عبّر المؤلف أولاً باللفظ في قوله: (أما لفظ الأمر)، وعبّر ثانيًا بالصيغة في قوله: (لمطلق الصيغة) كراهة إعادة اللفظ بعينه. فقولك إذًا: أمر موضوع في اللغة العربية لقولك: افعل. قوله: (لمطلق الصيغة) أي: لمطلق القول الدال على الطلب خلافًا للمتكلمين [القائلين] (¬3) بأنه الموضوع [للطلب] (¬4) القائم بالنفس وهو المعنى القائم بذات الأمر، وهو: مدلول اللفظ. و (¬5) قوله: (الدالة) احترازًا من الصيغة المهملة (¬6). وقوله: (على الطلب) الألف واللام للحوالة على قوله أولاً في حقيقة الأمر في الفصل السادس (¬7) في أسماء الألفاظ: "والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلبًا جازمًا على سبيل الاستعلاء نحو: "قم" أي: على طلب الفعل طلبًا جازمًا على سبيل الاستعلاء، والمراد بالطلب: إيجاد الشيء وإدخاله في الوجود، فيندرج فيه طلب الفعل، وطلب القول، وطلب الاعتقاد، وقد تقدم ذلك في حقيقة الأمر في الفصل السادس (¬8). ¬
قوله: (من سائر اللغات) يعني: من جميع اللغات، فيندرج في هذا الحد جميع الألفاظ الدالة على الطلب بأي لغة (¬1) كانت؛ لأن حقيقة الأمر لا تختلف باختلاف اللغات؛ فإن التركي مثلاً يأمر وينهى كما يأمر العربي وينهى. قوله: (وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر، فهو: موضوع عند مالك - رحمه الله - وعند (¬2) أصحابه للوجوب، وعند أبي هاشم للندب، وللقدر المشترك بينهما عند قوم (¬3)، وعند آخرين (¬4) لا يعلم حاله). ش: هذا هو المطلب الثاني، و (¬5) هو: بيان موضوع الأمر، فلما بيّن المؤلف - رحمه الله - موضوع الأمر الذي هو صيغة "افعل" أراد أن يبين موضوع صيغة (¬6) "افعل" يعني الصيغة المجردة عن القرائن. قوله: (وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر). ش: معناه: وأما اللفظ الذي هو موضوع الأمر ومسماه، فالموضوع والمسمى والمدلول ها هنا عند المؤلف مترادفة (¬7)، عبّر المؤلف أولاً بالمسمى وعبر ها هنا بالمدلول وهما واحد، وعبّر بالصيغة أولاً، وعبر ها هنا ¬
باللفظ والصيغة واللفظ أيضًا واحد. قوله: (وأما اللفظ الذي هو مدلول (¬1) الأمر) أي: أما (¬2) الصيغة التي هي موضوع الأمر فهي موضوعة عند مالك - رحمه الله - وعند أصحابه للوجوب، ذكر المؤلف ها هنا أربعة أقوال (¬3) في موضوع صيغة افعل: أحدها: الوجوب وهو مذهب مالك (¬4) والشافعي (¬5)، وجماعة من المتكلمين (¬6)، وجماعة من المعتزلة (¬7). ¬
قوله: (وعند أصحابه) يعني: جمهور (¬1) أصحاب مالك؛ [إذ من أصحاب مالك] (¬2) من قال: بأن موضوعه الندب. القول الثاني: أنه موضوع حقيقة للندب، وهو مذهب أبي هاشم (¬3)، وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين (¬4)، وبعض المالكية (¬5). القول الثالث: أنه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، أي: هو موضوع (¬6) للطلب المشترك بينهما وهو رجحان الفعل على الترك؛ لأن الوجوب والندب مشتركان في مطلق الطلب، ولا دلالة له على منع الترك ولا على الإذن في الترك؛ لأن الوجوب قد امتاز (¬7) بمنع (¬8) ترك [الفعل، وامتاز الندب بالإذن في ترك] (¬9) الفعل، وإلى هذا القول الثالث أشار المؤلف بقوله: (وللقدر المشترك بينهما عند قوم). القول الرابع: أنه حقيقة في أحدهما [من] (¬10) غير تعيين وجوب ولا ندب، [ولا يدرى بعينه فيجزم بوضعه لأحدهما ويتوقف (¬11) في تعيينه، هذا ¬
ظاهر كلام المؤلف في شرحه (¬1). وظاهر كلام الإمام في المحصول أن هذا القول معناه: أنه حقيقة] (¬2) في واحد من ثلاثة أمور: إما الوجوب، أو الندب، أو حقيقة (¬3) فيهما معًا، فيكون لفظًا (¬4) مشتركًا بينهما فهو حقيقة في واحد من هذه الثلاثة، ولكن لا يدرى تعيين موضوعه من هذه الثلاثة (¬5). وهو مذهب الأشعري، والباقلاني, والغزالي (¬6). وإلى هذا القول الرابع أشار المؤلف بقوله: وعند الآخرين لا يعلم حاله. ¬
هذه أربعة أقوال ذكرها المؤلف ها هنا، وذكر المؤلف في الشرح سبعة مذاهب ونصه: في الأمر سبعة مذاهب: للوجوب, وللندب، للقدر المشترك بينهما، مشترك بينهما, لأحدهما (¬1) لا يعلم حاله, للإباحة, الوقف في ذلك كله, ذكر (¬2) الإمام فخر الدين في المحصول (¬3) والمعالم (¬4) بعضها ها هنا وبعضها ها هنا. انتهى نصه (¬5). وذكر قطب الدين الشيرازي قولاً ثامنًا بأنه: موضوع [بالاشتراك اللفظي بين ثلاثة أشياء: الوجوب, والندب, والإباحة. وذكر أيضًا قولاً تاسعًا بأنه موضوع] (¬6) بالاشتراك المعنوي وهو: القدر المشترك، وهو مطلق الإذن بين الوجوب, والندب، والإباحة. [وذكر قولاً عاشرًا: بالاشتراك اللفظي بين أربعة أشياء وهي: الوجوب, والندب، والإباحة] (¬7) والتهديد، وهو مذهب الشيعة (¬8). فهذه عشرة أقوال (¬9) ذكر المؤلف منها ها هنا أربعة أقوال وهي: الوجوب، ¬
والندب، والقدر المشترك، والوضع لأحدهما لا بعينه. حجة القول بالوجوب: القرآن، والحديث، واللغة: فالقرآن: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬1). ذمه على مخالفة أمره إياه بالسجود لآدم (¬2). وقوله تعالى أيضًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} (¬3). فذمهم على مخالفة الأمر، والذم على المخالفة دليل على وجوبه. وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (¬4) الآية ولا يعذب إلا في ترك الواجب (¬5). وقوله تعالى: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (¬6). ¬
والحديث (¬1) قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬2). وليس هناك ما ينفي إلا الوجوب لثبوت الندب إلى السواك فلا (¬3) يصح نفيه مع ثبوته. ودليل (¬4) اللغة: أن السيد إذا أمر عبده (¬5) بفعل (¬6) فلم (¬7) يفعل استحق الذم والتوبيخ، فدل على الوجوب. وحجة القول بالندب: قوله عليه السلام: "إذا نهيتكم عن شيء فانتهوا، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬8). ¬
ففوض فيه الأمر إلى مشيئتنا، وذلك دليل الندب. أجيب (¬1) عن هذا الدليل: بأنه لم يرده (¬2) إلى مشيئتنا [وإنما رده (¬3) إلى استطاعتنا، فلو رده (¬4) إلى المشيئة لقال: فأتوا منه ما شئتم] (¬5)، والرد إلى الاستطاعة (¬6) ليس من خواص المندوب؛ لأن كل واجب مردود إلى الاستطاعة (¬7) لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬8). وحجة القول بأنه للقدر المشترك بين الوجوب والندب أن الأمر ورد مستعملاً في الوجوب (¬9)، ومستعملاً في الندب (¬10)، والأصل عدم ¬
الاشتراك، والأصل عدم المجاز، فوجب جعله للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب (¬1) بالفعل (¬2). وحجة القول بأنه [لواحد من] (¬3) الوجوب أو الندب (¬4) من غير تعيين: أنه ورد مستعملاً في الوجوب ومستعملاً في الندب، والأصل عدم الاشتراك، ولم يدل دليل على تعيين أحدهما فيجزم بالوضع [له] (¬5) ويتوقف في التعيين. وحجة القول بالإباحة: أن الوجوب، والندب، والإباحة، هذه الأقسام الثلاثة كلها مشتركة في معنى واحد وهو: جواز الإقدام على الفعل، فوجب حمله (¬6) على ذلك (¬7) المعنى، والأصل عدم اعتبار الخصوصية (¬8) (¬9). ¬
وحجة القول بأنه مشترك بين الوجوب والندب: أنه ورد مستعملاً في كل واحد منهما والأصل الحقيقة، والأصل عدم المجاز، فوجب جعله حقيقة في كل واحد من الثلاثة (¬1) فيكون لفظًا مشتركًا. [وحجة القول بأنه مشترك بين الثلاثة: الوجوب، والندب، والإباحة بالاشتراك اللفظي: أنه مستعمل في الثلاثة، والأصل الحقيقة وعدم المجاز: فوجب جعله حقيقة (¬2) في كل واحد من الثلاثة، فيكون لفظًا مشتركًا] (¬3). وحجة القول بأنه للقدر المشترك (¬4) بين الثلاثة: الوجوب، والندب، والإباحة، والمراد بالقدر المشترك بينهما مطلق (¬5) الإذن: أن (¬6) هذه الأقسام الثلاثة مشتركة بالاشتراك المعنوي في معنى واحد، وهو: مطلق الإذن فوجب جعله لذلك المعنى. وحجة القول بأنه مشترك بالاشتراك اللفظي بين أربعة أشياء: الوجوب، والندب، والإباحة, والتهديد: أنه ورد استعمال الأمر في كل واحد من الأربعة، والأصل عدم المجاز، فوجب جعله لفظًا (¬7) مشتركًا بين المعاني الأربعة. قوله: (وهو عنده أيضًا للفور وعند الحنفية، خلافًا لأصحابنا (¬8) المغاربة ¬
والشافعية، وقيل: بالوقف". ش: هذا هو المطلب الثالث وهو قولنا: هل يدل الأمر على الفور أم لا (¬1)؟ ومعنى هذا: هل يجب تعجيل [الفعل] (¬2) المأمور به في أول أزمنة الإمكان أم لا؟ ذكر المؤلف رحمه الله تعالى (¬3) في ذلك ثلاثة أقوال (¬4): ¬
الأول: وجوب المبادرة إلى الفعل أول (¬1) أوقات إمكانه، وإليه أشار المؤلف - رحمه الله تعالى - بقوله: (وهو عنده أيضًا للفور وعند الحنفية) أي: ومدلول صيغة افعل عند مالك والحنفية (¬2) [عند عدم القرينة] (¬3) موضوع للفور (¬4)، أي: مقتضٍ للفور، أي: مقتض للتعجيل والمبادرة دون تراخ (¬5)، ¬
وهو مذهب البغداديين (¬1) من أصحاب مالك. قال (¬2) القاضي عبد الوهاب في الملخص: الذي (¬3) ينصره أصحابنا أنه على الفور، وأخذوا ذلك (¬4) من أمر مالك بتعجيل الحج، ومنعه من تفرقة الوضوء، وغير ذلك من عدة مسائل في مذهبه (¬5). القول الثاني: أنه يقتضي التراخي، وهو: جواز التأخير، لا وجوب التأخير، أي: يقتضي الأمر المطلق [المجرد من القرائن] (¬6) جواز التأخير (¬7) للفعل المأمور به، ولا يقتضي الفور، أي: ولا يقتضي تعجيل الفعل المأمور به. ¬
وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: (خلافًا لأصحابنا المغاربة والشافعية) يعني: القائلين بالتراخي، وهو مذهب القاضي (¬1) الباجي (¬2) والقاضي أبي بكر (¬3) الباقلاني (¬4). القول (¬5) الثالث: أنه لا يتعين له وقت لا بتقديم ولا بتأخير، أي: لا يقتضي الفور ولا التراخي. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: وهو مذهب قوم من أصحابنا المتكلمين. وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: (وقيل بالوقف). وهذا الخلاف كله إنما هو على القول: بأن الأمر لا يقتضي التكرار ولا يقتصي إلا مرة واحدة، وأما على القول بأن الأمر يقتضي التكرار فإنه يقتضي الفور باتفاق؛ لأن تعجيل المأمور به (¬6) في أول أزمنة الإمكان مع تكراره (¬7) يقتضي استقرار جميع الأزمنة حتى الزمان الفوري، ومسألة الفور هي من فروع مسألة التكرار, فينبغي أن تقدم مسألة التكرار (¬8) على مسألة الفور؛ إذ ¬
الفرع يؤخر أصله، ولكن قدم المؤلف - رحمه الله - مسألة الفور لاجتماعها مع مسألة حمل الأمر على الوجوب في الدليل الواحد كما سيأتي بيان (¬1) دليلها. حجة القول بأنه على الفور: قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬2) فلو لم يكن الأمر للفور لكان من حجة إبليس أن يقول: أمرتني بالسجود ولم توجب عليّ تعجيله. وردّ بعضهم هذا الدليل بأن قال: الاستدلال لا يمس محل النزاع؛ لأن محل النزاع هو الأمر المجرد عن القرائن، وأما هذا (¬3) الدليل فقد اقترنت به قرينة لفظية تصرفه إلى الفور وهي (¬4) قوله (¬5): {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬6)؛ لأن الله تعالى رتّب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب، فهو يقتضي السجود عقيبها على الفور من غير تراخ (¬7). ¬
وحجة القول بجواز التراخي: أن الذي يقتضيه الأمر هو وجوب الفعل، وليس في صيغته ما يدل على الوقت لا بتقديم ولا بتأخير، فوجب ألا يحمل على الفور إلا بدليل منفصل. حجة (¬1) القول بالوقف: تعارض الأدلة. قوله: (وهو عنده (¬2) للتكرار، قاله ابن القصار من استقراء كلامه، وخالفه أصحابه (¬3)، وقيل بالوقف). ش: هذا هو المطلب الرابع وهو قولنا: هل يدل على التكرار أم لا؟ معناه: هل يدل الأمر (¬4) على تكرار الفعل المأمور به أو لا يدل إلا على المرة الواحدة؟ [وهذا أيضًا إذا تجرد عن القرينة] (¬5). ذكر المؤلف - رحمه الله - (¬6) في ذلك ثلاثة أقوال (¬7): ¬
أحدها: أنه يدل على التكرار، وهو مذهب مالك، وجماعة من الفقهاء, والمتكلمين (¬1). وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: (وهو عنده للتكرار) أي: عند مالك. القول الثاني: أنه للمرة الواحدة. قال عبد الوهاب في الملخص (¬2) وفي الإفادة أيضًا: إنه مذهب أصحاب مالك (¬3). وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: (وخالفه أصحابه). القول الثالث: أنه لا يقتضي شيئًا، أي (¬4): لا يقتضي (¬5) المرة الواحدة ولا التكرار على التعيين. وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: وقيل بالوقف. وذهب إمام الحرمين (¬6) والإمام فخر الدين (¬7) وغيرهم (¬8) من ¬
المحققين (¬1) إلى أن الأمر إنما يفيد طلب الماهية من (¬2) غير إشعار بالوحدة أو التكرار (¬3)، ولكن لا بد من الوحدة لتحصيل مقتضى الصيغة، وهو: إدخال ماهية المأمور به في الوجود. هذه (¬4) أربعة أقوال ذكر المؤلف منها ثلاثة وسكت عن الرابع. واحتج القائلون بأنه (¬5) للتكرار بأربعة أوجه: أحدها (¬6): أن الصديق رضي الله عنه استدل على وجوب تكرار الزكاة على أهل الردة بقوله تعالى: {وآتُوْا الْزَّكَاةَ} (¬7) بمحضر الصحابة - رضي الله عنهم -، ولم ينكر عليه، فكان إجماعًا سكوتيًا على أن الأمر للتكرار. الثاني: قياس الأمر على النهي لاشتراكهما في مطلق الطلب، وإن كان الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك، وهو ضده؛ لأن العرب تحمل الشيء على ضده كما تحمله على مثله، كما نصبوا بـ "لا" قياسًا على "إن" مع أنهما ¬
متضادان؛ لأن "لا" لتأكيد (¬1) النفي، و"إن" لتأكيد (¬2) الإيجاب، فحمل أحدهما على الآخر لاشتراكهما في مطلق التأكيد، كما قرره النحاة. قال ابن مالك في الألفية: عمل إن اجعل للا في نكرة ... مفردة جاءتك أو مكررة فانصب بها مضافًا أو مضارعه ... وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه (¬3) مثال المضاف: لا طالب (¬4) علم محروم (¬5). ومثال مشابه المضاف: لا طالعًا جبلاً ظاهر (¬6). الوجه الثالث: أن الأمر لو كان يقتضي المرة الواحدة ولا يقتضي التكرار (¬7) لامتنع ورود النسخ (¬8) بعد فعله مرة واحدة؛ لأنه إذا فعل مرة واحدة خرج المكلف به عن عهدة التكليف، ولم يبق هناك ما ينسخ؛ لأن ورود النسخ بعد المرة الواحدة يدل على البداء (¬9)، مع أن النسخ يجوز وروده على الأمر عند ¬
الجميع. [الوجه الرابع: أن الأمر لو كان يقتضي المرة الواحدة، ولا يقتضي التكرار لامتنع (¬1) ورود الاستثناء] (¬2) [عليه مع أن الاستثناء يجوز ورود الأمر عليه عند الجميع] (¬3). فلو قلنا (¬4): لا يقتضي التكرار، لصار الاستثناء (¬5) بعد (¬6) المرة الواحدة نقضًا. أجيب عن الأول، وهو استدلال الصدِّيق (¬7) بآية الزكاة على تكرار الزكاة على أهل الردة: بأن التكرار يحتمل أن يكون مستفادًا من القرائن لا من لفظ الآية. وأجيب عن الثاني: وهو قياس الأمر على النهي: بأنه قياس في اللغة، وهو ضعيف على ما يأتي في باب القياس (¬8) إن شاء الله. وأجيب عن الثالث: وهو (¬9) قولنا: لو لم يقتض (¬10) التكرار لامتنع ورود ¬
النسخ عليه بعد فعله: بأن النسخ إذا ورد عليه صار ذلك قرينة تدل على أن المراد به التكرار دون المرة الواحدة. وأجيب عن الرابع: وهو قولنا: لو لم يقتض (¬1) التكرار لامتنع ورود الاستثناء عليه: بأن الاستثناء إذا ورد عليه [ففائدته] (¬2): المنع من إيقاع الفعل في بعض الأوقات التي كان المكلف مخيرًا بين إيقاع الفعل [فيه] (¬3) وفي غيره من الأوقات. واحتج القائلون بأنه للمرة الواحدة: أن السيد إذا أمر عبده (¬4) بفعل ففعله مرة واحدة (¬5) فإنهم يسمونه ممتثلاً وفاعلاً لما أمر به لغة، فدل ذلك على أنه موضوع للمرة الواحدة. [أجيب عن هذا الدليل بأنه إنما سمي ممتثلاً؛ لأنه فعل ما (¬6) أمر به لإتيانه بالمرة الواحدة] (¬7). [واحتج القائلون بأن الأمر إنما يفيد] (¬8) المأمور به لاستحالة دخول حقيقة ¬
الفعل المأمور به في الوجود بدون المرة الواحدة. واحتج القائلون بأن الأمر إنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بالوحدة والتكرار: بأن مدلول صيغة الأمر طلب حقيقة الفعل، والمرة الواحدة والتكرار أمران خارجان عن حقيقة الفعل، فلا دلالة للصيغة (¬1) عليهما، فلو أمر السيد عبده أن يتصدق على فقير لخرج عن العهدة بفعل المأمور به، فلو زاد على المرة الواحدة استحق اللوم. واحتج القائلون بالوقف: بتعارض الأدلة. قوله (¬2): (لنا: قوله تعالى لإِبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬3) رتّب الذم على ترك الأمور به في الحال؛ وذلك دليل الوجوب والفور، وأما التكرار فلصحة الاستثناء في (¬4) كل زمان عن (¬5) الفعل). ذكر المؤلف - رحمه الله - أن الأمر عند مالك - رحمه الله - يدل على الوجوب، والفور، والتكرار، أراد أن يقرر الدليل على هذه الثلاثة (¬6) فقال: لنا قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬7). ¬
معناه: لنا نحن المالكية في الاستدلال على دلالة الأمر المطلق على الوجوب، و (¬1) على الفور هذه الآية الكريمة؛ وذلك أن الله تبارك (¬2) وتعالى رتب ذم إبليس على تركه السجود، وعلى ترك مبادرته به في الحال، فإن الذم على ترك المأمور به دليل الوجوب، والذم على ترك المبادرة به دليل الفور. قوله: (وأما التكرار فلصحة الاستثناء في كل زمان عن الفعل). هذا دليل كون الأمر المطلق يفيد التكرار، ومعنى هذا: أن أوقات الفعل المأمور به يصح أن يستثنى [منها] (¬3) بعض الأوقات، فتقول مثلاً: صلّ إلا عند الزوال، وصلّ إلا عند الغروب، أو افعل كذا إلا في وقت كذا فلا تفعل فيه، فإذا صح الاستثناء لبعض الأوقات، دلّ ذلك الاستثناء على التكرار؛ إذ لا يصح الاستثناء إلا مما يمكن تكراره. قوله: (وأما التكرار) فمعناه (¬4): وأما دليل التكرار فحذف المضاف. قوله: (في كل زمان عن الفعل) أي: عن إيقاع الفعل؛ ففيه حذف (¬5) المضاف لدلالة السياق عليه. قوله (¬6): (فإِن علق على الشرط (¬7) فهو عنده وعند جمهور أصحابه والشافعية للتكرار، خلافًا للحنفية). ¬
ش: هذا الفرع من تمام المطلب الذي قبله، وذلك أنه ذكر أولاً الخلاف في الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار أم لا؟ فذكر ها هنا الخلاف في خصوصية الأمر المعلق (¬1) على شرط (¬2)، ولكن هذا الخلاف إنما هو على القول: بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار (¬3)، وأما على القول بأن الأمر المطلق يفيد التكرار، فأولى وأحرى أن يفيد التكرار عند تعلقه بشرط؛ لأن الشروط اللغوية أسباب، والحكم يتكرر بتكرر أسبابه (¬4)، فيجتمع حينئذ موجبان للتكرار وهما: الوضع، والسببية. وأما من قال: الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فاختلفوا عند تعليقه. ¬
فمنهم من خالف أصله؛ لأجل السببية الناشئة عن التعليق وقال بإفادة التكرار. ومنهم: من طرد أصله وقال بعدم التكرار. قوله: (فإِن علق على شرط) يريد: أو صفة؛ إذ الحكم فيهما واحد. مثال الشرط قولك: صلّ إذا زالت الشمس، أو صم إذا استهلّ الشهر. ومثال الصفة قوله تعالى: {وَالسَّارِق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1). وقوله تعالى (¬2): {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (¬3). قوله: (فهو عنده) أي: عند مالك رحمه الله. قوله: (والشافعية) أي: وجمهور الشافعية. قوله: (خلافًا للحنفية) أي: القائلين بعدم التكرار. حجة القول بالتكرار: [أن التكرار] (¬4) ثبت في أوامر الشرع المتعلقة بشرط أو صفة، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم} (¬5) , وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُبُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬6)، وقوله تعالى (¬7): {فَإِذَا لَقِيتُمُ ¬
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬1)، وقوله تعالى (¬2): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4)، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (¬5)، فلما ثبت التكرار في الأوامر الشرعية المعلقة دل ذلك على أن الأمر المعلق على شرط أو صفة يدل على التكرار. حجة القول بعدم التكرار: أن اللفظ لم يدل إلا على التعليق بالشرط، أو الصفة، والمفهوم من تعليق شيء على شيء أعم من كونه بوصف الدوام، أو المرة الواحدة، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فتبين بذلك: أن التعليق لا دلالة فيه على التكرار؛ لأنه ليس فيه إلا مجرد الربط (¬6). قال المؤلف في الشرح: حجة التكرار: أن الشرط والصفة يجريان مجرى العلة [والحكم يتكرر بتكرر علته (¬7). انتهى. وهذا الاستدلال (¬8) بمحل النزاع؛ لأن الخصم يقول: لا نسلم أن الشرط والصفة يجريان مجرى العلة] (¬9). ¬
هذا كله إذا اتحد لفظ الأمر، فذكر فيه المؤلف أربعة أقوال. ثالثها: يقتضي التكرار إن علق بشرط أو صفة. ورابعها: الوقف. [وأما إن تعدد لفظ الأمر فهو (¬1) مسألة أخرى، فاعلم أنه (¬2)] (¬3) إذا تكرر الأمر فلا يخلو: إما أن يكون (¬4) الثاني خلاف الأول. وإما أن يكون الثاني مثل الأول. فإن كان الثاني خلاف الأول نحو قولك: صلّ ركعتين، صم يوم الخميس، فلا خلاف أن الثاني يحمل على التأسيس ولا يحمل على التأكيد. وإن كان الثاني مثل الأول: فإما أن تكون هناك قرينة تمنع من التأسيس أم لا: فإن كان هناك قرينة تمنع من التأسيس، فإنه يحمل على التأكيد باتفاق أيضًا، كقولك: أعط زيدًا درهمًا، أعط زيدًا الدرهم، فإن الدرهم الثاني هو الأول؛ لأن التعريف في الثاني (¬5) قرينة دالة على إحالة الثاني على الأول، كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬6)، فالرسول الثاني هو الأول. ¬
وكذلك قول السيد لعبده: اسقني ماء اسقني ماء، فإن القرينة العادية تبين بأن (¬1) المراد بالثاني هو المراد بالأول (¬2). وإن لم يكن هناك قرينة فهو محل الخلاف، كقولك: صل ركعتين [صل ركعتين] (¬3) ففيه (¬4) ثلاثة أقوال (¬5): قيل: يحمل الثاني على التأسيس، فيلزمه الإتيان بأربع ركعات. قال الباجي: وهو الظاهر من مذهب مالك (¬6). وقيل: الثاني يحمل على التأكيد للأول، وهو مذهب الصيرفي (¬7)، فلا ¬
يلزمه إلا الإتيان (¬1) بركعتين (¬2). وقيل: بالوقف وهو مذهب أبي الحسن (¬3) البصري (¬4). حجة القول بالتأسيس (¬5): أن حمل الأمر الثاني على مقتضاه يفيد التأسيس، وحمله على مقتضى الأمر الأول يفيد التأكيد، والتأكيد فرع، والتأسيس أصل، والأصل أولى من الفرع. حجة القول بالتأكيد: أن الأصل براءة الذمة، وحمله على التأسيس (¬6) عمارة (¬7) الذمة، وعمارة الذمة فرع، وبراءة الذمة أصل (¬8)، والأصل أولى من الفرع. حجة القول بالوقف: تعارض الأدلة. وهذا كله إذا كان الأمر الثاني مجردًا عن حرف العطف، وأما إذا (¬9) كان الأمر الثاني معطوفًا على الأول, نحو قولك (¬10): صلّ ركعتين وصلّ ركعتين ¬
[أو صل الركعتين وصل الركعتين] (¬1). فإن كان هناك قرينة تبين التأسيس أو التأكيد، فيعتمد (¬2) على القرينة. وإن لم يكن (¬3) هنالك قرينة فمحل الخلاف، فهل يحمل على التأسيس لأن العطف (¬4) يدل على المغايرة بين المتعاطفين؛ ولأن التأسيس [هو الأصل؟ أو يحمل على التأكيد لكثرة التأكيد في كلام العرب، فقولك مثلاً: صل ركعتين وصل الركعتين (¬5) في هذا المثال أمران موجبان (¬6): التأسيس] (¬7) وهو (¬8) واو العطف، وموجب التأكيد وهو لام العهد: فقيل: يترجح التأسيس. وقيل: يترجح التأكيد. وقيل بالوقف. قال الإمام فخر الدين: يحمل على التغاير؛ لأن لام الجنس كما تستعمل للعهد تستعمل لبيان حقيقة الجنس (¬9)، كقول السيد لعبده: اشتر لنا الخبز، أو اشتر لنا اللحم. ¬
قوله (¬1): (وهو (¬2): يدل على الإِجزاء عند أصحابه (¬3)، خلافًا لأبي هاشم). ش: هذا هو المطلب الخامس وهو قوله (¬4): (هل يدل على الإِجزاء أم لا؟)، الضمير في قوله: (هو) يعود على الأمر، والضمير في قوله: (أصحابه) يعود على مالك رضي الله عنه. ذكر المؤلف في دلالة الأمر على الإجزاء قولين (¬5): أحدهما: أنه يدل على إجزاء الفعل (¬6) المأمور به إذا فعله المكلف، وهو قول أصحاب مالك وجمهور الفقهاء (¬7). القول الثاني: أنه لا يدل على الإجزاء، وهو قول أبي هاشم وجمهور الأصوليين (¬8). ¬
قوله (¬1): (لأنه لو بقيت الذمة مشغولة بعد (¬2) الفعل لم يكن (¬3) أتى بما أمر به، والمقدر خلافه، هذا (¬4) خلف). ش: هذا دليل أصحاب مالك على دلالة الأمر على إجزاء (¬5) فعل المأمور به. وبيانه: أن من أتى بما أمر به على الوجه (¬6) المأمور به برئت ذمته. والدليل على براءة ذمته: أنه لو بقيت ذمته عامرة (¬7) بالتكليف بعدما فعل ما أمر به لم يكن حينئذ أتى بما أمر به. (والمقدر خلافه) أي: والمفروض أنه أتى بما أمر له. (هذا (¬8) خَلْف) أي: هذا (¬9) تناقض، بيان التناقض في كلام الخصم: أن الإتيان بالمأمور له يقتضي براءة الذمة, وشغل الذمة يقتضي عدم الإتيان بالمأمور به، فهذا تناقض، ومعنى التناقض ها هنا هو (¬10): قول رديء. قال ابن السكيت (¬11): الخَلْفُ بفتح الخاء: الرديء من القول، يقال: ¬
سكت ألفًا ونطق خلفًا، أي: سكت عن ألف كلمة، ثم تكلم بخطأ (¬1). قال بعض الشراح: هذا الاستدلال لا يمس محل النزاع؛ إذ لا خلاف أن من فعل ما أمر به على الوجه المأمور به، فقد حصل له الإجزاء، وإنما الخلاف: من أين استفيد الإجزاء، هل من امتثال الأمر؟ قاله الجمهور. أو هو مستفاد من البراءة الأصلية؟ قاله أبو هاشم وكثير من الأصوليين (¬2). وحجة أبي هاشم: أن من صلى معتقدًا للطهارة، ثم تبين له أنه صلى بغير طهارة فإنه لا يحصل له الإجزاء، بل يجب عليه القضاء مع أنه أتى بالفعل المأمور به على الوجه المأمور به، فتبين بهذا: أن امتثال الأمر لا يستلزم ¬
الإجزاء؛ لأنه وجد ها هنا امتثال الأمر دون الإجزاء (¬1). وحجة ثانية: أن من أفسد (¬2) حجه أو صومه يجب عليه التمادي فيهما، ويجب عليه قضاؤهما (¬3)، مع أنه أتى بما أمر به على الوجه المأمور به، فدل ذلك أيضًا على أن امتثال الأمر لا يدل على الإجزاء (¬4). وحجة ثالثة: قياس الأمر على النهي لاشتراكهما (¬5) في الطلب، فكما أن النهي لا يدل على الفساد فكذلك الأمر لا يدل على الإجزاء (¬6). أجيب عن الأول: بأن الكلام إنما هو في الفعل المستجمع للشروط (¬7) في نفس الأمر لا في نفس (¬8) المكلف (¬9) فقط (¬10). أجيب عن الثاني: بأن (¬11) القضاء (¬12) إنما وجب استدراكًا لمصلحة ما أمر به أولاً من الحج، أو الصوم العاري (¬13) عن الفساد، وما يفعله في تماديه إنما هو ¬
مجزئ عن الأمر الوارد بالتمادي (¬1). أجيب عن قياس الأمر على النهي: بأنه قياس [في] (¬2) اللغة وهو: ضعيف (¬3)، وإن سلّمنا صحته فنمنع كون النهي لا يدل على الفساد بل يدل عليه. قوله (¬4): (وعلى النهي عن أضداد (¬5) المأمور به عند أكثر أصحابه (¬6) من المعنى لا من اللفظ، خلافًا لجمهور المعتزلة وكثير من أهل (¬7) السنة). ش: هذا هو المطلب السادس, وهو قولنا: هل يدل الأمر على النهي عن أضداد المأمور به أم لا؟ ذكر المؤلف فيه (¬8) قولين (¬9): ¬
قيل: صيغة "افعل" تدل على إيجاد الفعل المأمور به، وتدل أيضًا على ترك كل ما يضاد الفعل المأمور به، وهو مذهب أكثر (¬1) أصحاب مالك. وإليه أشار المؤلف بقوله: (عند أكثر (¬2) أصحابه) أي: أصحاب مالك. وقيل: لفظ الأمر لا يدل إلا على إيجاب الفعل، ولا يدل على المنع من أضداده. وإليه أشار المؤلف بقوله: خلافًا لجمهور المعتزلة وكثير من أهل السنة. وفيه قول ثالث بالتفصيل (¬3) بين أمر الوجوب (¬4) وأمر (¬5) الندب، فأمر ¬
الوجوب يدل على النهي عن أضداده؛ [لأن أضداده] (¬1) مانعة من فعل الواجب، بخلاف أمر الندب فلا يدل على النهي عن أضداده. حجة القائلين بأن الأمر يقتضي النهي: قول (¬2) المؤلف في الشرح: لأن الأمر بالشيء يدل على الوجوب، ومن لوازم الوجوب ترك جميع أضداده، والدال على الشيء دال على لوازمه، فالأمر يدل بالالتزام على ترك جميع الأضداد (¬3). وحجة القائلين بأن الأمر لا يقتضي النهي: [قول (¬4) المؤلف في الشرح] (¬5): لأن الآمر بالشيء قد يكون غافلاً عن ضده، والغافل عن الشيء لا ينهى عنه (¬6). قال المؤلف في الشرح: الجواب عن هذا: أن القصد إنما يشترط (¬7) في الدلالة باللفظ، وأما في دلالة اللفظ [فلا، وهذا من دلالة اللفظ] (¬8) (¬9). ¬
قوله: (من المعنى لا من اللفظ) معناه: أنه (¬1) يدل على النهي من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، أي: يدل على النهي بالالتزام لا (¬2) بالمطابقة؛ لأن لفظ الأمر إنما وضع لطلب الفعل لا لطلب الترك، ولكن يدل لفظ الأمر على طلب الترك بدلالة الالتزام، وهي: المراد بقوله: (من المعنى لا من اللفظ) (¬3). قال المؤلف في الشرح: ومن محاسن العبارة في هذه المسألة أن يقال: الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، فإذا قال له: اجلس في البيت، فقد نهاه عن الجلوس في السوق، والحمام، والمسجد، والطريق، وجميع المواضع، وإذا قال له: لا تجلس في البيت، فقد أمره بأحد (¬4) المواضع، ولم يأمره بالجلوس في كلها. انتهى نصه (¬5). وإنما يكون الأمر بالشيء نهيًا عن جميع الأضداد؛ لأنه لا يمكن الإتيان بالفعل المأمور به إلا بترك جميع أضداده. وإنما يكون النهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده؛ لأنه لا يمكن ترك المحرم إلا بالتلبس بضد من أضداده. قوله: (وعلى النهي عن أضداد المأمور به (¬6) ... المسألة). ¬
هذا الذي قرره المؤلف إنما هو (¬1) تفريع على الكلام اللساني؛ لأن مسمى الأمر عنده هو صيغة "افعل" كما تقدم أول الفصل، وأما باعتبار الكلام النفساني فاختلف العلماء في الأمر الذي هو الطلب القائم بالنفس، هل هو نهي عن أضداده أم لا؟ على ثلاثة أقوال: قيل: الأمر بالشيء هو بعينه نهي عن أضداده، معناه: أن طلب الفعل هو بعينه طلب (¬2) الترك لأضداده، وهو مذهب القاضي أبي بكر (¬3) في أول أقواله. وقيل: الأمر بالشيء نهي عن أضداده؛ بمعنى أنه يستلزم عقلاً النهي عن أضداده، لا أنه عين النهي عن أضداده (¬4)، وهو اختيار أبي بكر (¬5) في آخر أقواله. وقيل: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن أضداده، ولا مستلزمًا للنهي عن أضداده وهو اختيار الغزالي (¬6)، وإمام الحرمين (¬7). قوله (¬8): (ولا يشترط فيه علو الآمر، خلافًا للمعتزلة، واختار الباجي ¬
من المالكية، وأبو الحسين والإِمام فخر الدين (¬1) الاستعلاء، ولم يشترط غيرهم الاستعلاء ولا العلو. والاستعلاء: هيئة (¬2) في الأمر من الترفع وإِظهار القهر. والعلو: يرجع إِلى هيئة الآمر من شرفه (¬3) وعلو منزلته بالنسبة إِلى المأمور). ش: هذا هو المطلب السابع (¬4) وهو قولنا: هل يشترط فيه العلو والاستعلاء أم لا؟ ذكر المؤلف في هذا الفرع ثلاثة أقوال: أحدها: اشتراط العلو خاصة دون الاستعلاء (¬5). القول الثاني: عكسه، وهو اشتراط الاستعلاء خاصة دون العلو (¬6). القول الثالث: لا يشترط واحد منهما، لا علو ولا استعلاء (¬7). ¬
ومعنى العلو: أن يكون (¬1) الآمر أعلى رتبة من المأمور، كأمر الله (¬2) تعالى (¬3) عز وجل لعباده، وأمر النبي عليه السلام لأمته، وأمر الملك لرعيته، وأمر السيد لعبده، وأمر الزوج لزوجته. ومعنى الاستعلاء: أن يكون في لفظ الأمر ما (¬4) يدل على الغلبة، والقهر؛ لأن الاستعلاء معناه الغلبة والقهر، ومنه قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} (¬5) أي: غلب (¬6) وقهر. و (¬7) أما القول باشتراط العلو فهو (¬8) مختار القاضي عبد الوهاب في الملخص. ¬
قال (¬1) في الملخص: وهو القول (¬2) الذي عليه أهل اللغة وجمهور أهل العلم (¬3). فحجة (¬4) هذا القول: أن أرباب اللغة فرقوا بين الأمر والسؤال والالتماس بعلو المرتبة، فقالوا: إذا كان الطلب من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر، وإن كان الطلب من الأدنى إلى الأعلى فهو سؤال، وإن كان الطلب من المساوي إلى مساويه فهو التماس. قال أبو عبد الله الخونجي في الجمل (¬5): واللفظ المركب إن دل بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرًا، ومع الخضوع سؤالاً، ومع التساوي التماسًا، وإلا كان تنبيهًا إن لم يحتمل الصدق والكذب، وإن احتملهما كان خبرًا وقضية. انتهى نصه (¬6). فتبين بهذا التقرير (¬7): أن علو المرتبة يشترط في الأمر. واعترض هذا القول: بأنه ورد الطلب (¬8) من الأدنى إلى الأعلى وسمي أمرًا، كقوله تعالى حكاية عن فرعون: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (¬9)، مع أن رتبة ¬
قومه أخفض من رتبة فرعون، فسمي خطابهم إياه (¬1) أمرًا. وكذلك قول عمرو بن العاص (¬2) لمعاوية (¬3) رضي الله عنهما: أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل (¬4) ابن هاشم (¬5) ¬
مع أن رتبة عمرو بن العاص أخفض من رتبة معاوية، فدل ذلك على عدم اشتراط العلو. أجيب عن هذا: أن هذا من باب المشورة، فالمستشير يعتقد أن رتبة المستشار في صواب الرأي أعلى من رتبته. وأما القول باشتراط الاستعلاء فحجته: أن من قال لغيره: "افعل" على جهة التضرع [لا يقال (¬1) له: أمره، وإن كان أعلى رتبة منه، وإذا قال له: افعل، على سبيل الاستعلاء في اللفظ] (¬2) يقال له: أمره، وإن كان الآمر أخفض رتبة من المأمور، ولأجل ذلك يصفون من فعل ذلك بالجهل والحمق، ويقولون للعبد: أتأمر سيدك (¬3)، إذا استعلى في لفظه، وأما إذا لم يستعل في لفظه فلا يقولون له ذلك، فدل على أن الاستعلاء شرط في الأمر. واعترض (¬4): بأنه ورد في كتاب الله عز وجل الطلب من الله عز وجل عباده بالامتثال (¬5) لما أوجبه عليهم وخاطبهم بأحسن خطاب، وألين خطاب ¬
من غير (¬1) استعلاء في الكلام، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬2) وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (¬3)، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، وغير ذلك من التذكير بجميل نعمه وجزيل إحسانه، ومعلوم أن هذا [ضد] (¬5) الاستعلاء، مع أن ذلك كله يسمى أمرًا إجماعًا، فدل هذا على أن الاستعلاء لا يشترط في الأمر. أجيب عن هذا: بأن قيل: أوامر الله تبارك وتعالى تقتضي (¬6) التخويف وإن كانت (¬7) بأحسن خطاب، ولا معنى للاستعلاء إلا ذلك. وأما القول بعدم اشتراط العلو والاستعلاء، قال فخر الدين: وهذا القول هو الذي عليه المتكلمون (¬8). فحجته: أن صيغة افعل موضوعة لمعنى، فتصح مع العلو والاستعلاء وأضدادهما، كالخبر، والاستفهام، والترجي، والتمني، فإنها تصدق مع العلو، والدنو، والاستعلاء، والتواضع، ولا يختلف الحال بحسب اختلاف ¬
المتكلمين (¬1) (¬2). واعترض هذا القول بأن قيل: قولهم: وضع لمعنى محل النزاع، لأنا نقول: لا دلالة له على ذلك المعنى إلا مع العلو والاستعلاء، والله أعلم. وأيضًا (¬3) قولهم: كالخبر والاستفهام، والترجي، والتمني، هو (¬4): قياس في اللغة، ونحن (¬5) نمنعه. قوله: (والاستعلاء هيئة في الأمر) أي: صفة في لفظ الأمر، أي: صفة في نفس اللفظ. قوله: (من الترفع وإِظهار القهر) هذا بيان تلك الصفة، وهي: إظهار ترفع الآمر على المأمور في لفظه، وإظهار قهر الآمر للمأمور، فالترفع وإظهار القهر بمعنى واحد. مثاله: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (¬6). قوله: (والعلو يرجع إِلى هيئة الآمر من شرفه (¬7) وعلو منزلته بالنسبة إِلى المأمور). ¬
فالفرق بين العلو والاستعلاء على هذا: أن الاستعلاء صفة قائمة باللفظ، والعلو صفة قائمة باللافظ (¬1) وهو الآمر. قوله (¬2): (ولا يشترط فيه إِرادة المأمور به، ولا إِرادة الطلب، خلافًا لأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة). ش: هذا هو المطلب الثامن وهو قولنا: هل تشترط الإرادة في الأمر أم لا؟ ذكر المؤلف - رحمه الله - ها هنا مسألتين، اختلف فيهما أهل السنة, وأهل الاعتزال: المسألة (¬3) الأولى: هل يشترط في صيغة الأمر إرادة الفعل المأمور به أو لا تشترط (¬4) إرادته: قالت المعتزلة: الإرادة شرط. وقال أهل السنة: الإرادة غير مشروطة (¬5). ¬
فسبب (¬1) الخلاف بين الفريقين: [هل بين] (¬2) الأمر والإرادة ملازمة، أو لا ملازمة بينهما؟ قالت المعتزلة: بين الأمر والإرادة ملازمة أي: ربط عقلي. قالوا: وذلك أن العقل يقتضي ارتباط الأمر بالإرادة وارتباط النهي بعدم الإرادة. فاستدلوا بالعقل. قالوا (¬3): وذلك أن الله تعالى أمر بالطاعة؛ لأنه أرادها، ولو لم يردها ما أمر بها، ونهى عن المعصية؛ لأنه لم يردها، ولو أرادها لما نهى عنها (¬4). وقال أهل السنة (¬5): ليس بين الأمر والإرادة ملازمة، أي: ليس بين الأمر والإرادة ربط عقلي؛ لأنه قد يوجد الأمر بدون الإرادة، فإن الله تعالى يأمر بما يريد ويأمر بما لا يريد، فيأمر بما يريد في حق الطائع، ويأمر بما لا يريد في حق العاصي. والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر إبليس بالسجود لآدم مع أنه لم يرد منه السجود؛ إذ لو أراد منه السجود لسجد؛ إذ خلاف مراد الله تعالى لا يقع ¬
في ملكه (¬1). وكذلك أيضًا (¬2): أمر الله تعالى الكافر بالإيمان، مع أنه لم يرد منه الإيمان؛ إذ لو أراد منه الإيمان لآمن؛ إذ خلاف مراد الله تعالى لا يقع، فتبين بما قررناه: عدم الملازمة بين الأمر والإرادة، وهكذا أيضًا نقول في النهي؛ أي لا ملازمة (¬3) بين النهي والإرادة، فإن الله تعالى ينهى عن شيء وهو (¬4) يريد وقوعه. والدليل على ذلك: أن الله تعالى نهى آدم عليه السلام عن أكل الشجرة مع أن الله تعالى أراد منه الأكل؛ إذ لو لم يرد منه الأكل لما أكل منها؛ إذ خلاف مراد الله تعالي (¬5) لا يقع، وكذلك أيضًا نهي الله تعالى العاصي عن المعصية، مع أن الله أراد منه المعصية [إذ لو لم يرد منه المعصية] (¬6) لما عصى، إذ خلاف مراد الله تعالى لا يقع (¬7). ¬
فتبين بهذا التقرير (¬1): عدم الملازمة أيضًا (¬2) بين النهي والإرادة، هذا بيان المسألة الأولى، وإليها أشار المؤلف بقوله: (ولا يشترط فيه إِرادة المأمور به). وأما المسألة الثانية وهي قوله: (ولا إِرادة (¬3) الطلب)؛ وذلك (¬4) أن الخلاف واقع (¬5) بين أهل السنة والمعتزلة، هل يشترط في صيغة الأمر إرادة الطلب به (¬6) أم لا؟ معناه: هل يشترط إرادة استعمال لفظ الأمر للوجوب أم لا؟ قال أهل السنة: صيغة الأمر موضوعة للطلب، فتدل (¬7) على الطلب بمجرد الوضع فلا يحتاج (¬8) إلى إرادة (¬9) أخرى كسائر الألفاظ المفيدة لمعانيها ¬
بمجرد وضعها، فلا تحتاج في إفادتها لمعناها إلى النية، وإنما المحتاج إلى النية هو المجاز. وقال أهل الاعتزال: صيغة الأمر تستعمل لعشرين معنى، فلا تنصرف إلى الطلب إلا بالإرادة. وبيان ذلك: أن (¬1) الأمر يكون للوجوب، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). ويكون للندب، كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (¬3). ويكون للإرشاد، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬4). ويكون للإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬5). ويكون للامتنان، كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا} (¬6). ويكون للإكرام، كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} (¬7). ويكون للإهانة، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (¬8). ¬
ويكون للتهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1). ويكون للتعجيز، كقوله تعالى: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (¬2). ويكون للتكوين، كقوله تعالى: {كُن فَيكُونُ} (¬3)، وقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬4). ويكون للدعاء، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (¬5). ويكون للإنذار، كقوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} (¬6). والفرق بين التهديد والإنذار: أن التهديد يكون بفعل (¬7) المهدِّد نفسه، والإنذار قد يكون بفعل الغير، فإن الرسول عليه السلام منذر بعقاب الله تعالى (¬8)، ولا يقال له: مهدِّد. ويكون للتعجب، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} (¬9) , ومنه قولهم (¬10): أكرم بزيد. ¬
ويكون للتخيير بين شيئين (¬1)، كقولك: كُل السمك أو اشرب (¬2) اللبن. والفرق بين التخيير والإباحة: أن لك (¬3) الجمع في الإباحة دون التخيير. ويكون للتفويض، كقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} (¬4). ويكون بمعنى الخبر، كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬5). ومنه (¬6) قوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (¬7) أي: ويحمل (¬8) خطاياكم، وقوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} (¬9)، تقديره: إن تنفقوا، فمعناه: الشرط والجزاء. ويكون بمعنى النهي، كقوله عليه السلام: "وثق (¬10) بالناس رويدًا" (¬11) أي: لا تثق (¬12) بالناس إلا بعد مهلة. ¬
[ويكون للتسوية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} (¬1). ويكون للتأديب، كقوله عليه السلام لابن عباس رضي الله عنه: "كُل ممّا يليك" (¬2). والفرق بين التأديب والندب: أن التأديب مخصص (¬3) بإصلاح الأخلاق النفسية، فهو أخص من الندب؛ لأن الندب يكون في غير (¬4) ذلك؛ كالأمر ¬
بالنافلة، كقوله في الحديث: "من دخل المسجد فليصل ركعتين" (¬1)] (¬2). ويكون للتمني، كقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح (¬3) فيك (¬4) بأمثل (¬5) هذه (¬6) عشرون معنى (¬7). ¬
قالت المعتزلة: فلا ينصرف الأمر إلى معنى الطلب إلا بالإرادة؛ لاستعماله مترددًا (¬1) بين هذه المعاني المذكورة، فيحتاج إلى الإرادة في معنى الطلب. وأجيب عن هذا: بأن صيغة الأمر حقيقة في معنى الطلب مجاز في غيره، فتحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على صرفها إلى غير الحقيقة. قوله: (لنا: أنها معنى خفي يتوقف العلم بها (¬2) على اللفظ، فلو توقف اللفظ عليها للزم (¬3) الدور). ش: هذا دليل على أن الإرادة [غير مشروطة في صيغة الأمر، وذلك أن الإرادة] (¬4) معنى خفي، أي: أمر باطن لا يعلم إلا باللفظ، أي: لا يعلم إلا بصيغة الأمر، فيتوقف (¬5) العلم بها، أي: بالإرادة على اللفظ، أي: على سماع اللفظ من الأمر. فلو قلنا: تشترط الإرادة في صيغة الأمر, لكانت صيغة الأمر متوقفة على الإرادة، فذلك دور لتوقف كل واحد من الأمرين على الآخر, والتعريف الدوري تعريف جهلي. ... ¬
الفصل الثاني: ورود الأمر بعد الحظر
الفصل الثاني: ورود الأمر بعد الحظر (¬1) (إِذا ورد بعد الحظر اقتضى الوجوب عند الباجي ومتقدمي أصحاب (¬2) الشافعي، والإِمام فخر الدين، خلافًا لبعض أصحابنا، وأصحاب الشافعي، والإِمام (¬3) في قولهم بالإِباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬4) بعد قوله (¬5): {لا تَقْتُلُواْ الَصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬6)؛ لأن الأصل استعمال الصيغة في مسماها). ش: ذكر المؤلف في هذا الفصل الخلاف في محمل (¬7) الأمر إذا ورد بعد الحظر (¬8)، ¬
هل يحمل على الوجوب، أو يحمل (¬1) على الإباحة، ذكر المؤلف فيه: القولين بالوجوب، والإباحة، وفيه قول ثالث بالوقف، وهو مذهب إمام الحرمين. وفيه قول رابع: بالتفصيل: فإن كان (¬2) الحظر (¬3) غير معلق بسبب، فإن ¬
الأمر يقتضي الوجوب، وإن كان الحظر (¬1) معلق بسبب فإن الأمر يقتضي الإباحة؛ لارتفاع التحريم بارتفاع ذلك السبب، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬2)، ارتفع تحريم الاصطياد بارتفاع الإحرام، وهذا القول مختار (¬3) القاضي عبد الوهاب في الملخص، وقال: هو مذهب مالك وأصحابه (¬4). وهذا الخلاف الذي ذكر (¬5) المؤلف إنما هو تفريع على القول بأن الأمر (¬6) ابتداء يحمل على الوجوب، ثم إذا ورد بعد تقدم (¬7) الحظر (¬8) هل يبقى الأمر على الوجوب الذي كان عليه قبل ورود الحظر، أو يكون تقدم (¬9) الحظر عليه قرينة تصرفه إلى الإباحة. قوله: (إِذا ورد بعد الحظر) معناه (¬10): إذا ورد الأمر بالفعل بعد المنع من ذلك الفعل. ¬
قوله: (اقتضى الوجوب) أي: تضمن الوجوب عند الباجي (¬1) [أي: من (¬2) متأخرى أصحاب مالك. قوله: (ومتقدمي أصحاب مالك) أي: وعند القدماء من أصحاب مالك] (¬3) قوله: (وأصحاب الشافعي) أي: وعند القدماء من أصحاب الشافعي. قوله: (والإِمام فخر الدين) أي: من متأخري أصحاب الشافعي. قوله: (خلافًا لبعض أصحابنا) أى: من متأخري أصحاب مالك كأبي الفرج (¬4) وغيره (¬5). قوله: (وأصحاب الشافعي) أي: من متأخري أصحاب الشافعي في قولهم بالإباحة. قوله: (كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}) هذا مثال لورود (¬6) الأمر بعد الحظر؛ لأنه ورد نهي المحرم عن (¬7) الاصطياد، ثم ورد بعده: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬8). ¬
ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} (¬1) بعد المنع من ذلك بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). [ومثاله أيضًا] (¬3): قوله تعالى (¬4): {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬5) بعد المنع بقوله (¬6): {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬7). ومثاله (¬8) من الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت (¬9) نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث (¬10) من أجل (¬11) الدافة التي دفت عليكم، فكلوا وتصدقوا وادخروا" (¬12). ¬
أي: من أجل جماعة الأضياف التي ترد عليكم. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرًا" (¬1). ¬
ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام" (¬1). قوله: (بعد قوله تعالى (¬2): {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}). ش: انظر (¬3) ما المراد بهذه البعدية (¬4) [في قول المؤلف] (¬5)؟ فإن أراد البعدية (¬6) في ترتيب التلاوة: فلا يصح ذلك؛ لأن قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬7) قبل قوله تعالى (¬8): {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬9) (¬10). وإن أراد البعدية في النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم - فممكن (¬11)، ولكن من أين يعلم أن قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} نزل بعد قوله (¬12): {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ¬
وَأَنتُمْ حرُمٌ}. قال بعضهم: المراد بقوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}: معناه لا لفظه؛ وذلك إشارة إلى الآية التي قبل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} هي (¬1) قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬2)؛ لأن معناها: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (¬3)، وهذا من باب نقل الحديث بالمعنى. قوله: (اقتضى الوجوب عند الباجي) يعني: أنه يقتضي الوجوب كما كان يقتضيه دون تقدم الحظر عليه، وليس مراده: أن الحظر قرينة تصرفه إلى الوجوب، وإنما مراده: أن الحظر لا يخرجه عن الوجوب، بل المراد أنه (¬4) يبقى على حاله قبل تقدم الحظر عليه (¬5). قوله: (لأن الأصل استعمال الصيغة في مسماها). هذا دليل المؤلف على أن (¬6) الأمر بعد الحظر يفيد الوجوب؛ إذ الأصل أي: إذ الراجح استعمال صيغة الأمر في موضوعها الذي هو: الوجوب، ولا يصرف إلى غيره إلا بدليل [والأصل عدم الدليل] (¬7)، هذا تفريع على القول ¬
المشهور بأن مسمى الأمر هو الوجوب، كما تقدم في قوله: (وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك رحمه الله وعند أصحابه للوجوب)، وذلك أن كل من قال (¬1) بأن الحظر (¬2) لا يكون قرينة تخرجه عن مسماه، قال: يبقى على مسماه قبل تقدم الحظر عليه، فمن قال: مسماه الوجوب قبل الحظر قال: هو على (¬3) الوجوب (¬4) بعد الحظر، [ومن قال: مسماه الندب قبل الحظر قال: مسماه الندب بعد الحظر، ومن قال بالوقوف (¬5) قبل الحظر قال: بالوقف (¬6) بعد الحظر] (¬7) ومن قال: وروده بعد الحظر قرينة تصرفه عن مسماه قال: بالإباحة. و (¬8) حجة القول بالإباحة: غلبة استعمال لفظ الأمر بعد الحظر في الإباحة نحو الآيات الثلاث (¬9) المذكورة (¬10)، والأحاديث الثلاثة (¬11) المذكورة؛ فإنها كلها للإباحة اتفاقًا، وقد ورد استعمال الأمر بعد الحظر في الوجوب، ولكن قليل، كقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬12) بعد ¬
المنع من قتلهم في الأشهر الحرم؛ لأن قتل المشركين واجب؛ إذ الجهاد فرض كفاية، ولكن الحمل على الكثير الذي هو الإباحة، أولى من الحمل على القليل الذي هو الوجوب، فدل ذلك على أن المفهوم من الأمر بعد الحظر هو (¬1): الإباحة لا الوجوب (¬2). وأجيب عن هذا: بأن الدعوى عامة، والدليل خاص، وذلك مما يبطل الدليل: كقولك (¬3) مثلاً: كل عدد زوج؛ لأن العشرة زوج، فكون (¬4) الأمر بعد الحظر الذي (¬5) يغلب استعماله في الإباحة لا يقتضي ذلك كونه للإباحة في كل موضع؛ لأنه قد يرد للوجوب كقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمِّ} (¬6) الآية. ... ¬
الفصل الثالث في عوارضه
الفصل الثالث في عوارضه تعرض المؤلف - رحمه الله تعالى (¬1) - في هذا الفصل للأشياء التي تعرض للأمر أي: تطرأ عليه، وعارض الشيء هو أمر أجنبي عن (¬2) حقيقته، وليس (¬3) بذاتي، أي لم يوضع له لفظ الأمر، وهذه العوارض المذكورة على قسمين: أحدها: عارض لحكم الأمر، وهو النسخ. والآخر عارض للفظ الأمر، وهو الخبر. ذكر المؤلف في هذا (¬4) الفصل مطلبين: أحدهما: هل يستدل بالنسخ على الجواز أم لا؟ والثاني: هل يصح ورود الأمر بمعنى الخبر أم لا (¬5)؟ و (¬6) بالعكس أم لا؟ قوله: (مذهب الباجي وجماعة من أصحابنا والإِمام فخر الدين: ¬
أنه إِذا نسخ احتج (¬1) به على الجواز؛ لأنه من لوازمه, ومنع من ذلك بعض الشافعية, وبعض أصحابنا). ش: ذكر المؤلف ها هنا العارض الأول، وهو: العارض لحكم الأمر. فذكر أن الأمر المنسوخ يجوز الاحتجاج به على جوازه, عند الباجي, ومن ذكر معه. ولا يجوز الاحتجاج به على الجواز عند بعض الشافعية: كالغزالي، وغيره من الشافعية، وعند بعض أصحابنا كالقاضي عبد الوهاب، والقاضي الباقلاني (¬2). ¬
قوله (¬1): (إِذا نسخ) يعني: وجوب الأمر. وقوله: (يحتج به على الجواز) (¬2) يستدل بذلك الأمر المنسوخ على جواز الفعل المنسوخ، وصورة ذلك: أن يرد (¬3) الأمر بالوجوب ثم يقول الآمر بعد ذلك: رفعت عنكم الوجوب. قوله: (إِذا نسخ) يعني: إذا نسخ بغير التحريم، مثل أن يقول الآمر: رفعت الوجوب عنكم. وأما إن نسخ الأمر بالتحريم فلا يستدل به على الجواز؛ لثبوت تحريمه. مثل أن يقول الآمر بعد الأمر بالشيء: حرمت عليكم ذلكم (¬4) الشيء، فإنه (¬5) لا يستدل بذلك الأمر (¬6) على جوازه. قوله: (إِذا نسخ يحتج به على الجواز). مثاله قوله تعالى: {عِشْرُونَ صَابِرُون يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬7)، نسخ (¬8) ¬
بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} (¬1). وكذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (¬2). نسخ بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" (¬3). فقوله (¬4): (يستدل به على الجواز)، الجواز له تفسيران: ¬
أحدهما: جواز الإقدام الذي هو أعم من الوجوب، والندب، والإباحة [وهو المباح في اصطلاح المتقدمين] (¬1). والتفسير الآخر: استواء الطرفين، وهو: المباح في اصطلاح المتأخرين، فالمراد (¬2) من الأمرين عند المؤلف (¬3) هو: المعنى الأول، وهو: جواز الإقدام؛ لأن جواز الإقدام هو: اللازم للوجوب، وأما مستوى الطرفين: فليس بلازم للوجوب، بل هو ضده. فقوله: (لأنه من لوازمه) هذا دليل القول بأنه يدل على الجواز. وتقرير هذا الدليل: أن الوجوب ماهية مركبة من جواز الفعل، ومن المنع من الترك، فإذا ارتفع المنع من الترك بالنسخ: بقي الجواز، فإن الماهية المركبة من أجزاء ترتفع بارتفاع (¬4) أحد أجزائها، فلما ارتفع أحد جزئي الوجوب بالنسخ: ارتفع الوجوب، فلما ارتفع الوجوب: بقي الجواز، وهو أعم من الإباحة، أو الندب. حجة القول بأنه لا يقتضي الجواز: أن معنى الجواز مناقض لمعنى الوجوب، فاستحال أن يكون أحدهما من مقتضى الأمر (¬5)؛ لأن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل، والترك (¬6) على السواء، وذلك منفي عن الوجوب. ¬
قوله: (ويجوز أن يرد خبر لا طلب فيه، كقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬1). وأن (¬2) يرد (¬3) الخبر بمعناه، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وهو كثير). ش: [هذا هو المطلب الثاني] (¬4). قال فخر الدين: التعبير (¬5) بالأمر عن الخبر أو بالعكس مجاز، وسبب ذلك (¬6): [أن] (¬7) كل واحد منهما يدل على وجود الفعل، فلما اشتبها من هذا الوجه صح التجوز بأحدهما عن الآخر (¬8). قوله: (وهو كثير) أي: التعبير بالخبر عن الأمر وبالعكس كثير. مثال الخبر بمعنى الأمر: قوله (¬9) تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} (¬10) أي: ليرضعن أولادهن. ¬
وقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬2). وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3). وقوله: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬5) أي: انتهوا. وقوله: {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬6) أي: اصبروا. وقوله: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} (¬7) أي: استمعوا، وقوله: {أَلا تَتَّقُونَ} (¬8) أي: اتقوا. وقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ} (¬9) أي: ازرعوا. ¬
وقوله (¬1): {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا} (¬2) أي: ارجعوها، يعني: الروح. ومنه قوله عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" (¬3). تقديره: فيحمل (¬4). [وإذا أردت أن تعرف هل الخبر على بابه، أو بمعنى الأمر فانظر: فإن صح ¬
وقوعه على خلاف مخبره فهو: أمر، وإلا فهو: خبر, كقوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (¬1) , وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} (¬2) كل هذا لا يصح، أي: يصح بخلاف مخبره. وهذا القانون خاص بما جاء من ذلك في كتاب الله تعالى، أو حديث نبيه عليه السلام، والقانون العام أن تنظر إلى الخبر فما كان معناه الطلب فهو أمر، وإلا فهو على بابه من الخبر] (¬3). ومثال لفظ الأمر بمعنى الخبر: قوله تعالى: {مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬4) أي: مد له، وقوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} (¬5) أى: ونحمل خطاياكم. [وقوله عليه السلام: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" (¬6) أي: صنعت ما ¬
شئت. وقيل: هو أمر على بابه، معناه: فاصنع ما شئت إذا علمت أن ذلك الفعل لا تستحي منه إذا اطلع عليك غيرك، وإلا فلا تصنعه، ولكن هذا مخصوص بمن (¬1) يستحى من القبائح] (¬2). [وهذان التأويلان تعارض فيهما المجاز مع التخصيص، فيقدم التخصيص على المجاز، قال الشاعر في هذا المعنى: إذا لم تصن عرضًا ولم تخش خالقًا ... وتستحي مخلوقًا فما شئت فاصنع (¬3)] (¬4) [وقال المؤلف في الشرح: إن فائدة وجود الخبر بمعنى الأمر هو: أن الأمر لا يكون إلا بما فيه داعية للآمر وسبب له، فإذا عبر عنه بلفظ الأمر أشعر بالداعية. وإن فائدة ورود الأمر بمعنى الخبر: أن الخبر مستلزم ثبوت مخبره ووقوعه بخلاف مخبره، فإذا عبر عن الأمر بلفظ الخبر كان آكد في اقتضاء الوقوع، حتى كأنه واقع (¬5). ¬
وهذا الذي ذكره المؤلف لا تعلق له بهذا الفن، وإنما هو من علم البيان، وقد ذكر أهل هذا الفن لوقوع كل واحد منهما بمعنى الآخر، فوائد كثيرة، انظرها في كتبهم] (¬1). ... ¬
الفصل الرابع: جواز تكليف ما لا يطاق
الفصل الرابع: جواز تكليف ما لا يطاق (¬1) [قوله] (¬2): (يجوز تكليف ما لا يطاق، خلافًا للمعتزلة، والغزالي، وإِن كان لم يقع في الشرع خلافًا للإِمام فخر الدين). ش: ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى (¬3) - في هذا (¬4) الفصل ثلاثة مطالب: الأول: هل يجوز التكليف بما لا يطاق أم لا؟ الثاني: إذا قلنا بجوازه، هل هو واقع في الشرع أم لا؟ الثالث: بيان محل النزاع ما هو؟. أما المطلب الأول وهو قولنا: هل يجوز التكليف بما لا يطاق أم لا؟ فقد (¬5) ذكر فيه المؤلف قولين (¬6): ¬
بالجواز: وهو مذهب جمهور (¬1) الأشعرية. والقول الثاني: بمنع (¬2) الجواز، وهو مذهب المعتزلة، والغزالي (¬3). مثاله: كالجمع بين السواد والبياض في محل واحد. وكالجمع بين الحركة والسكون في محل واحد، وكجعل الجسد الواحد في مكانين في وقت واحد (¬4). وسبب الخلاف: هل من شرط الفعل المكلف به أن يكون ممكن الوقوع عادة أو ليس من شرطه؟ فمن قال: من شرطه إمكان وقوعه عادة قال: لا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم شرطه الذي هو إمكان وقوعه. ¬
ومن قال: ليس من شرطه إمكان وقوعه (¬1) عادة، قال: يجوز التكليف به. قوله: (وإِن كان لم يقع في الشرع خلافًا للإِمام فخر الدين). ش: هذا هو المطلب الثاني وهو قولنا: إذا قلنا بجوازه هل هو (¬2) واقع في الشرع أو لا (¬3)، ذكر المؤلف أيضًا (¬4) فيه قولين: مذهب الجمهور أنه غير واقع. ومذهب فخر الدين أنه واقع. قوله: (لنا: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬5)، فسؤال دفعه يدل على جوازه) (¬6). ش: هذا حجة القول بجواز التكليف بما لا يطاق. ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة (¬7): أن الدعاء بما لا يجوز حرام، فلو كان التكليف بما لا يطاق ممنوعًا لما جاز الدعاء به، فلما وجدنا الصحابة رضي الله ¬
عنهم دعوا به ها هنا، دل ذلك على أن التكليف به جائز. قال المؤلف في الشرح: ووجه الاستدلال بالآية: أن الدعاء بمتعذر الوقوع حرام؛ فلا يجوز: اللهم اجمع بين الضدين، ولا: اللهم اغفر للكافرين (¬1)، ولا غير ذلك من الممتنعات عقلاً، أو شرعًا، أو عادة، فلما سألوا دفعه، وذكر الله تعالى ذلك (¬2) في سياق المدح لهم دل (¬3) على أنهم لم يعصوا في دعائهم، فيكون دعاء بما يجوز، وهو المطلوب. انتهى نصه (¬4). قوله: (لنا قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}). قال بعضهم: الاستدلال بهذه الآية ضعيف؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد بهذه الآية العقوبات لا التكليفات؛ لئلا تكون الآية تكرارًا للآية (¬5) التي قبلها، وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (¬6)؛ إذ الآية الأولى طلبوا فيها عدم التكليفات الشاقة (¬7)، والآية الثانية طلبوا عدم (¬8) العقوبات النازلة بمن قبلهم على تفريطهم في المحافظة على التكاليف التي كلفوها. ¬
وقوله (¬1): (وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬2) يدل على عدم وقوعه). ش: هذا دليل الجماعة على عدم وقوع (¬3) التكليف بما لا يطاق (¬4) في الشرع، وكذلك يدل عليه أيضًا (¬5): {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا} (¬6). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬7). قال المؤلف (¬8) في الشرح: وأما قول الإمام: إنه واقع، فاعتمد في ذلك على أن جميع التكاليف إما معلومة الوجود: فتكون واجبة الوقوع، وإما معلومة العدم فتكون ممتنعة الوقوع، والتكليف بالواجب الوقوع، أو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق. وهذا إنما يقتضي وقوع (¬9) تكليف ما لا يطاق عقلاً لا عادة، فإن امتناع خلاف المعلوم إنما هو عقلي (¬10)، والنزاع ليس فيه، بل النزاع في المحال العادي فقط، فلا يحصل مطلوب الإمام. انتهى نصه (¬11). ¬
قوله: (وها هنا دقيقة، وهي: أن كلما (¬1) لا يطاق قد يكون عاديًا فقط نحو (¬2): الطيران في الهواء، أو عقلاً (¬3) فقط كإِيمان الكافر الذي علم الله (¬4) أنه لا يؤمن، أو عاديًا وعقليًا (¬5) كالجمع بين الضدين، فالأول (¬6)، والثالث، هما المرادان (¬7) دون الثاني (¬8)). ش: هذا بيان (¬9) المطلب الثالث، وهو بيان محل النزاع المذكور. قوله: (دقيقة) الدقيقة عبارة عن المعنى الذي يدق في فهمه النظر، تقدير الكلام: وها هنا قاعدة دقيقة المعنى (¬10)، والفهم. فذكر المؤلف: أن محل النزاع المذكور إنما هو فيما لا يطاق عادة نحو: الطيران في الهواء، وفيما لا يطاق عادة وعقلاً (¬11) نحو: الجمع (¬12) بين الضدين، كالجمع بين الحركة والسكون في وقت واحد؛ وذلك أن الطيران في ¬
الهواء تحيله (¬1) العادة، وأما العقل فيجيزه، فهذا المحال عادي فقط. أما (¬2) الجمع بين الضدين فهو محال عادة وعقلاً معًا، فإن العادة تحيله، وكذلك (¬3) العقل يحيله أيضًا، فهذا المحال عادي، وعقلي. فهذان القسمان هما محل النزاع بيننا وبين المعتزلة، فنحن نجيزه، والمعتزلة تمنعه. وأما القسم الذي هو محل الاتفاق بيننا وبين المعتزلة، وهو المشار إليه بقول المؤلف: (دون الثاني) فهو المحال عقلاً خاصة، أي دون العادة، نحو: إيمان الكافر الذي علم الله أنه (¬4) لا يؤمن، فلا خلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز التكليف به، وفي وقوعه، فإن الله تعالى كلفه (¬5) بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، وخلاف (¬6) معلوم الله تعالى لا يقع، فهذا (¬7) المحال هو عقلي لا عادي؛ لأن العقل هو الذي يحيله دون العادة، فإن أهل العادة إذا سئلوا عنه جوزوه، فهو: عقلي فقط. وإنما ذكر المؤلف هذه الدقيقة ليبين أن قول الإمام فخر الدين: "تكليف ما ¬
لا يطاق واقع" (¬1) في الشرع (¬2) خارج عن محل النزاع؛ لأن الذي وقع في الشرع هو القسم المحال عقلاً لا عادة، وليس محل النزاع، بل يجوز التكليف به اتفاقًا. قال بعضهم: يلزم الإمام فخر الدين أن جميع التكاليف تكليف بما لا يطاق، وذلك باطل بالإجماع. ... ¬
الفصل الخامس فيما ليس من مقتضاه
الفصل الخامس فيما ليس من (¬1) مقتضاه (¬2) ش: ترجم المؤلف - رحمه الله - ها هنا للأشياء (¬3) التي لا يقتضيها الأمر، أي: لا يدل عليها الأمر (¬4). [اعترض هذا بأن قيل: ما لا يقتضيه الأمر لا تعلق له بالأمر، فلا معنى لذكره في مسائل الأمر] (¬5)؛ لعدم تعلقه به، وأيضًا ما لا تعلق له بالأمر غير محصور، وكل ما تشتمل عليه هذه الترجمة محصور، فهذا تناقض، كأنه ترجم لغير محصور وهو محصور. أجيب عن ذلك: بأن المسائل الخمس التي ذكر المؤلف في هذا الفصل قد اختلف فيها كلها، هل هي من مقتضيات (¬6) الأمر أم لا؟ فلما كان الصحيح عند المؤلف أن الأمر لا (¬7) يقتضيها لصحة مستندها عنده، كان مستند من زعم ¬
أن الأمر يقتضيها وهمًا، فتقدير الترجمة إذًا: الفصل الخامس: فيما يتوهم أنه من مقتضى الأمر وليس من مقتضاه. ونظير هذه الترجمة قوله في باب النسخ: الفصل الرابع: فيما يتوهم أنه ناسخ (¬1) يعني وليس بناسخ. ونظيره أيضًا: قوله في باب العمومات: الفصل الرابع: فيما ليس من المخصصات للعموم (¬2). فتبين بهذا: أن المؤلف لم يترجم ها هنا إلا لمتعلق بالأمر محصور، وفي هذا الفصل خمسة مطالب: المطلب الأول: هو قوله: (لا يوجب القضاء عند اختلال المأمور به عملاً بالأصل، بل القضاء بأمر جديد خلافًا لأبي بكر الرازي). ش: ومعنى هذه المسألة: أن الأمر إذا ورد بعبادة في وقت معين، ولم تفعل (¬3) في ذلك الوقت لعذر أو لغير عذر (¬4)، أو فعلت مع اختلال بعض أركانها، فهل يجب قضاء (¬5) بعد ذلك الوقت بالأمر الأول؟ قاله أبو بكر الرازي من الحنفية (¬6) وهو مذهب الحنابلة. ¬
أو لا يجب قضاؤها إلا بأمر آخر مجدد، قاله القاضي أبو بكر، وهو مذهب المحققين من الشافعية والمعتزلة وغيرهم (¬1). وهكذا الحكم في الأمر بالعبادة من غير تعيين وقت بل ورد الأمر مطلقًا من غير تقييد بوقت معين (¬2)، وقلنا: الأمر للفور، فلم تفعل تلك العبادة في أول أوقات الإمكان، أو فعلت على نوع من الخلل، فهل يجب قضاؤها بذلك الأمر الأول؟ أو لا يجب إلا بأمر جديد (¬3)؟ وهذا القسم داخل في القسم الأول: فالحكم (¬4) فيهما (¬5) واحد؛ لأن أول أوقات الإمكان على القول بالفور هو (¬6) وقت معين للعبادة أيضًا، فكلام المؤلف يتناول القسمين معًا، أعني: سواء كان الوقت معينًا أو فوريًا. قوله: (عند اختلال المأمور به) يعني: عند وقوع الفساد في الفعل المأمور ¬
به (¬1) إما بفوات وقته وإما بفساد بعض أركانه. قوله: (عملاً بالأصل) هذا حجة القول بأن الأمر الأول لا يوجب القضاء (¬2)؛ لأن الأصل عدم دلالة الأمر على القضاء، فتقدير الكلام على هذا: وإنما قلنا: لا يوجب الأمر الأول القضاء عملاً بالأصل (¬3)، عدم دلالة الأمر على القضاء، ويحتمل أن يريد بالأصل: براءة الذمة. [فتقدير الكلام على هذا التأويل] (¬4): وإنما قلنا: لا يوجب الأمر الأول القضاء عملاً بأن الأصل براءة الذمة، ولكن هذا التأويل فيه نظر؛ لأن (¬5) للمخالف أن (¬6) يقول: ارتفع براءة الذمة بدلالة الأمر على القضاء. قوله: (بل القضاء بأمر جديد) أي: يجب القضاء بأمر آخر مجدد كقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" (¬7)، فهذا أمر ثان بقضائها، والأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد؛ ¬
وذلك (¬1) يدل على وجوب القضاء بالأمر الثاني دون الأول. و (¬2) حجة القول بأن القضاء بالأمر الأول: أن القضاء لو كان بأمر جديد (¬3) لما كان لتسميته قضاء فائدة؛ لأنه أداء كما هو في الأمر الأول. أجيب عنه: بأنه إنما سمي قضاء؛ لأنه وجب استدراكًا لما فات من مصلحة الأداء، فذلك هو المعني بالقضاء. قال المؤلف في الشرح: هذه المسألة مبنية على قاعدتين: القاعدة الأولى: أن الأمر بالفعل في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت. القاعدة الثانية: أن الأمر (¬4) بالمركب أمر (¬5) بمفرداته. فمن لاحظ القاعدة الأولى قال: الأوقات لا (¬6) تتساوى (¬7)، ولا تتقارب ¬
في المصالح إلا (¬1) بدليل، فلا قضاء إلا بأمر جديد (¬2) يدل على أن الوقت الثاني فيه مصلحة لفعل (¬3) المأمور به كالوقت الأول، ومن لاحظ القاعدة الثانية قال: الأمر بالفعل في الوقت المعين يقتضي الأمر بشيئين وهما (¬4): إيقاع الفعل، وبكونه في ذلك الوقت، فهذا أمر بمركب (¬5)، فإذا تعذر أحد الجزئين وهو الوقت، بقي الجزء الآخر (¬6) وهو الفعل، فيوقعه في أي وقت شاء، فيكون القضاء بالأمر الأول (¬7). قوله: (وإِذا تعلق بحقيقة كلية لا يكون متعلقًا (¬8) بشيء من جزئياتها (¬9)؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص). ش: هذه (¬10) مسألة ثانية، فهذه قاعدة عظيمة (¬11) تبنى عليها فروع كثيرة من أحكام الفقه. وبيان هذه القاعدة: أنك إذا قلت مثلاً: في الدار جسم فلا يدل على أنه حيوان؛ لأن الجسم أعم من الحيوان؛ لأن الجسم يصدق على الحيوان، ¬
والجماد, فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص، وإذا قلت: في الدار حيوان فلا يدل على أنه إنسان، وإذا قلت: في الدار إنسان، فلا يدل على أنه رجل، وإذا (¬1) قلت: في الدار رجل، فلا يدل على أنه زيد (¬2)، فقوله تعالى مثلاً: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) يدل على وجود الصلاة ولا يدل على زمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، ولا هيئة مخصوصة (¬4). [قال] (¬5) المؤلف في الشرح: ولأجل هذه القاعدة قلنا: إن الوكيل بالبيع لا يملك البيع بثمن المثل بمقتضى اللفظ، وإنما يملكه بمقتضى العادة، فإذا قيل له: بع (¬6) سلعتي، حمل على ثمن المثل بالعادة، لا باللفظ، فلولا تقييد إطلاق الكلام بالعادة لكان للوكيل أن يبيع بثمن المثل، أو أقل منه، أو أكثر منه؛ لأن البيع حقيقة كلية مشتركة بين ثمن المثل، والزائد والناقص. انتهى نصه (¬7). وبيان ذلك: أن الوكيل أمر بمطلق البيع, ومطلق البيع أعم من مثل الثمن (¬8)، وأقل وأكثر (¬9) , والخالص والمغشوش، والعين، والعرض (¬10)، فالدال على الأعم غير دال على الأخص، وإنما تعين ثمن المثل بدليل منفصل ¬
وهو العرف. ولأجل هذه القاعدة قال مالك والشافعي - رضي الله عنهما -: ليس للوكيل بالبيع أن يبيع بأقل من ثمن المثل وهو الغبن [الفاحش] (¬1)؛ لأنه غير مأذون له فيه؛ إذ لفظ (¬2) الموكل لا يدل عليه. وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: للوكيل أن يبيع بأقل من المثل (¬3) وهو الغبن الفاحش. وسبب الخلاف بين الفقهاء هو الخلاف بين الأصوليين في (¬4) المطلوب من الأمر بالفعل المطلق، كقول الموكل لوكيله: بع هذا الثوب. فقال (¬5) الإمام فخر الدين: المطلوب به الماهية أي: ماهية البيع فلا يتناول الأمر جزئياتها (¬6). وقال سيف الدين الآمدي، وجمال الدين بن الحاجب: المطلوب به هو الجزئي، أي جزئي من جزئيات الماهية، فالأمر إنما يتعلق بجزئي (¬7) الماهية لا بالماهية (¬8). ¬
حجة الفخر القائل: يتعلق الأمر بالماهية: أن الماهية أمر كلي، وهو قدر مشترك بين جزئياتها (¬1)، فلا يدل القدر المشترك على الجزئيات؛ إذ لا يدل الأعم على الأخص، فلا يدل البيع على خصوصياته من ثمن المثل، أو أقل أو أكثر، فثبت بذلك (¬2): أن الوكيل بالبيع غير مأذون له في البيع بأقل من ثمن المثل، وهو الغبن الفاحش (¬3) وحجة سيف الدين القائل: يتعلق الأمر بجزئي الماهية، لا بالماهية: أن (¬4) الماهية أمر كلي، والكلي (¬5) يستحيل وجوده في الأعيان، وإنما يوجد في الذهن، وإنما قلنا: يستحيل وجود الماهية الكلية في الأعيان؛ [لأن الماهية الموجودة في الأعيان] (¬6) يلزم تشخصها، فلو (¬7) وجدت الماهية الكلية في الأعيان لكانت جزئية، والمفروض أنها كلية هذا محال، فإذا لم يمكن وجود الماهية الكلية في الأعيان لم تكن مطلوبة من الأمر، وإلا لكان ذلك تكليفًا بما لا يمكن وهو: محال (¬8). ¬
فتعين بذلك: أن المطلوب من الأمر أحد الجزئيات المطابقة للماهية، فيدل البيع إذًا على جزئيات الثمن من المثل (¬1) أو أقل، أو أكثر، فثبت بذلك: أن الوكيل بالبيع مأذون له في البيع بثمن المثل، أو الأكثر، أو الأقل (¬2)، وهو الغبن الفاحش؛ وذلك أن البيع لا يدخل في الوجود إلا في بعض جزئياته، وليس في اللفظ ما يبين (¬3) بعض (¬4) جزئياته، فتكون نسبة اللفظ إلى جميع الجزئيات نسبة واحدة، فأي جزئي باع به الوكيل فهو مأذون له (¬5) فيه، سواء باع بغبن فاحش أو بغيره (¬6). فالحاصل مما قررناه: أن فخر الدين نظر إلى الحقيقة الكلية من حيث هي، فلا دلالة لها على شيء من جزئياتها، ونظر سيف الدين إليها من حيث هي متعلق الطلب، فطلب المحال ممتنع. قوله: (ولا تشترط (¬7) مقارنته للمأمور، بل يتعلق (¬8) في الأزل بالشخص الحادث [خلافًا لسائر الفرق (¬9) , ولكنه لا يصير مأمورًا إِلا حالة الملابسة] (¬10) ¬
خلافًا للمعتزلة، والحاصل قبل ذلك إِعلام بأنه سيصير مأمورًا؛ لأن (¬1) كلام الله تعالى قديم، والأمر متعلق لذاته (¬2)، فلا يوجد غير متعلق، والأمر بالشيء حالة عدمه محال للجمع بين النقيضين، وحالة بقائه (¬3) محال لتحصيل الحاصل، فيتعين زمان (¬4) الحدوث). ش: هذه مسألة ثالثة. قوله: (ولا يشترط (¬5) مقارنته للمأمور) هذه المسألة وقع فيها (¬6) الخلاف بين أهل السنة وأهل الاعتزال، وهي أمر المعدوم هل يجوز عقلاً أو لا يجوز (¬7)؟ ¬
ذهب أرباب السنة إلى جوازه، وإليه أشار المؤلف بقوله: (ولا تشترط مقارنته للمأمور) أي (¬1): ولا يشترط في صحة الأمر وجود المأمور، أي: ولا يشترط في تعلق الأمر بالمأمور مقارنة وجوده لوجود المأمور. قوله: (بل يتعلق في الأزل بالشخص الحادث) عطف المؤلف (¬2) بحرف (بل) ها هنا تنبيهًا على انتهاء غرض واستئناف غيره؛ وذلك أنه حين انتفت شرطية مقارنة وجود الأمر لوجود المأمور: جاز تقديم الأمر على المأمور، فيتعلق الأمر في الأزل بالمأمور المعدوم الذي علم الله أنه سيوجد. قوله: (في الأزل) أي: في القدم الذي ليس له ابتداء، الأزل (¬3): لفظة قديمة معربة دخيلة في لغة العرب (¬4). قوله: (بل يتعلق في الأزل) يعني: يتعلق الأمر بالمأمور في الأزل تعلقًا عقليًا، وهو: كون المأمور المعدوم مأمورًا على تقدير وجوده واستجماع شروط (¬5) شرائط التكليف، وليس المراد بذلك التعلق تعلق تنجيز التكليف، وهو كون المأمور المعدوم مكلفًا بالإتيان بالفعل في حالة عدمه لاستحالة ¬
ذلك، فالتعلق المراد هنا هو: التعلق العقلي لا التعلق (¬1) الوجودي في الخارج. قوله: (بالشخص الحادث) أي: المكلف الذي علم الله تعالى أنه سيحدث أي: سيوجد في الدنيا، فيتعلق الأمر بذلك الشخص، وهو في طي العدم (¬2) على تقدير وجوده (¬3) واستجماع شرائط التكليف، وذلك أن الله تبارك (¬4) وتعالى أوجب الصلاة مثلاً على فلان على تقدير وجوده ووجود أسباب الوجوب (¬5)، وشروط انتفاء (¬6) موانعه (¬7)، وكذلك تقول فيما حرمه الله عليه، وإنما قال أرباب السنة: يتعلق الأمر بالمأمور بناء منهم على ثبوت الكلام النفساني (¬8)، والأمر نوع من أنواع الكلام. قوله: (خلافًا لسائر الفرق) أي: خلافًا (¬9) لسائر الطوائف من أهل الاعتزال القائلين: بأن الأمر لا يتعلق بالمعدوم ولا يتعلق إلا بالموجود (¬10) بناء منهم (¬11) على الكلام اللساني؛ لأنهم أنكروا الكلام النفساني. ¬
لأنهم قالوا (¬1): كلام الله حادث، تعالى الله عن قولهم [علوًا كبيرًا] (¬2). وأما أهل السنة والحق: فكلام الله عندهم قديم؛ لأنه صفة من صفات ذاته جل وعلا (¬3). والدليل على جواز تقدم (¬4) الأمر على المأمور: أنا مأمورون بأوامر النبي عليه السلام ونحن (¬5) في زمانه [عليه السلام ونحن (¬6)] (¬7) في طي العدم. وإنما قال المؤلف: (خلافًا لسائر الفرق)؛ لأنه لم يقل بالكلام النفساني إلا نحن أهل السنة، ولذلك يتصور على مذهبنا تعلقه في الأزل، وأما طوائف المعتزلة القائلين بالكلام اللساني فلا يتصور ذلك على مذهبهم. ¬
قوله: (ولكنه لا يصير مأمورًا إِلا حالة الملابسة) إلى قوله (¬1): (زمان الحدوث). قال المؤلف في الشرح (¬2): هذه (¬3) المسألة لعلها أغمض مسألة في أصول الفقه، والعبارة عنها عسيرة الفهم (¬4). قوله (¬5): [(ولكنه لا يصير مأمورًا إِلا حالة الملابسة)] (¬6) أي: لا يكون المأمور (¬7) مأمورًا إلا في حالة إمكان الملابسة، وهو: القدرة على العمل. قوله: (ولكنه لا يصير مأمورًا إِلا (¬8) حالة الملابسة). قال المؤلف في الشرح: مقصودنا بهذا: بيان صفة التعلق، وليس مقصودنا (¬9) به أن الملابسة شرط في التعلق، وإلا تعذر وجود العصيان أبدًا؛ لأن الإنسان يقول: الملابسة شرط لكوني مأمورًا، وأنا لا أتلبس (¬10) فلست مأمورًا فلا أكون عاصيًا، ومعنى قولنا: يصير مأمورًا حالة الملابسة، أي: تلك الحالة هي: الحالة التي تعلق (¬11) بها الأمر، ¬
وتعلقه (¬1) متقدم عليها بالفعل فيها (¬2). قوله: (خلافًا للمعتزلة) القائلين بأنه يكون مأمورًا قبل إمكان الملابسة، وعند حدوثه. قوله: (والحاصل قبل ذلك) [أي: الأمر (¬3) المتقدم (¬4) قبل إمكان الملابسة، إعلام بأنه سيكون مأمورًا عند الملابسة. قوله: (لأن كلام الله تعالى قديم). هذا دليل أهل السنة القائلين: بأن الأمر يتعلق بالمأمور في الأزل، أي: لأن كلام الله تعالى قديم، والأمر نوع من أنواع الكلام، فالأمر إذًا قديم أزلي، وكذلك النهي وجميع الأحكام. قوله: (والأمر متعلق (¬5) لذاته (¬6)) أي (¬7): من ضرورة الأمر تعلقه بالمأمور (¬8)؛ لأن الأمر طلب والطلب يستدعي مطلوبًا عقلاً، فلا يوجد الأمر غير متعلق بالمأمور، وذلك المأمور لا يخلو من أن يكون موجودًا، أو معدومًا، فلا مأمور موجود في الأزل، فتعين تعلقه بالمأمور المعدوم، على تقدير وجوده واستجماع شرائط التكليف. ¬
وبيان ذلك: أن الله تعالى حرم امرأة مثلاً (¬1) على زيد على تقدير وجود أسباب التحريم، وشرائطه، وانتفاء موانعه، فإذا وجدت هذه الأشياء كلها فقد وجد التقدير الذي تعلق الحكم فيه بالشخص الحادث، وكذلك في سائر (¬2) أحكام الله تعالى من الأمر، والنهي، والإباحة، فإن الحكم الشرعي هو كلام الله تعالى القديم، ومن جملة كلامه: الأمر، فالأمر قديم وتعلقه بالمأمور قديم، فإنه يستحيل وجود أمر بلا مأمور ووجود نهي بلا منهي (¬3)، ووجود إباحة (¬4) بلا مباح، فالمتعلق الذي هو الأمر قديم، وتعلقه الذي هو نسبه (¬5) بينه وبين المأمور قديم أيضًا. وأما المتعلَّق بفتح اللام الذي هو المأمور فهو حادث، قاله المؤلف في الشرح (¬6). قوله: (والأمر بالشيء حالة عدمه محال) هذا دليل لقوله: (لا يصير مأمورًا إِلا حالة الملابسة). يعني: أن الأمر بالفعل حالة عدم إمكان الفعل من المأمور، وهو قول المعتزلة يكون مأمورًا قبل إمكان في الفعل يدل على وجود (¬7) إمكان ¬
الفعل، وكونه لم يكن (¬1) منه الفعل يدل على عدم الإمكان، وذلك جمع بين النقيضين وهما: الوجود والعدم. قوله: (وحالة بقائه) [أي: والأمر بالفعل في حالة بقائه، أي: في حالة فراغه وتمامه، وفي بعض النسخ: حالة وجوده، أي: حالة استمرار وجوده ومعناهما واحد] (¬2)، أي: ذلك محال (¬3)؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، أي: طلب فعل المفعول. قوله: (فيتعين زمان الحدوث) أي: فيتعين (¬4) زمان إمكان حدوث الفعل وهو دخول الوقت. قوله: (والأمر بالأمر (¬5) بالشيء لا يكون أمرًا بذلك الشيء إِلا أن ينص الآمر على ذلك، كقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة لسبع (¬6)، واضربوهم عليها (¬7) لعشر" (¬8)). ¬
ش: معناه (¬1) إذا أمر الآمر فلانًا أن يأمر غيره بأن يفعل كذا، فإن ذلك الأمر لا يكون أمرًا لذلك الغير، فإذا قلت: يا زيد قل لعمرو أن يفعل كذا، فلا يكون ذلك أمرًا لعمرو (¬2). قوله: (والأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمرًا بذلك الشيء) تقديره: والأمر للثاني بالأمر بالشيء لا يكون أمرًا بذلك الشيء للثالث. قال المؤلف في الشرح (¬3): من أمر غيره أن يأمر شخصًا فهو كمن أمر زيدًا أن يصيح على الدابة، فإنه لا يصدق عليه أمر للدابة (¬4) (¬5). قوله: (إِلا أن ينص الآمر على ذلك) معناه: إلا إذا نص الآمر [على ذلك، أي: إلا أن ينص الآمر] (¬6) على أن أمره أمر للثالث. مثاله: أن يقول السيد لعبده: كل ما أمرت به زيدًا فأنت مأمور به، ثم يقول لزيد (¬7): مر عبدي أن يفعل كذا. [قوله: (إِلا أن ينص الآمر على ذلك) أي: إلا أن ينص الآمر على أن ¬
الأمر للثاني هو (¬1) أمر للثالث] (¬2). قوله: (إِلا أن ينص الآمر على ذلك) يريد: أو يفهم ذلك من القرائن كقوله عليه السلام لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث ابنه عبد الله لما طلق في الحيض: "مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (¬3) " (¬4). لأنه فهم من قوله: "مره" أنه أمر (¬5) لابن عمر، بدليل قوله: "فليراجعها". قال المؤلف في الشرح: ومتى علم أن الآمر قصد بذلك الأمر التبليغ، كان ذلك أمرًا للثالث، كقوله عليه السلام لعمر بن الخطاب (¬6) في حق ابنه لما ¬
طلق في الحيض: "مره فليراجعها" الحديث المتقدم. ومقتضى القاعدة المتقدمة أن ابن عمر - رضي الله عنه - لا تجب (¬1) عليه المراجعة؛ إذ الأمر بالأمر لا يكون أمرًا، ولكن علم من الشريعة أن كل (¬2) من أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر غيره، إنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار (¬3) الثالث مأمورًا إجماعًا. انتهى نصه (¬4). قوله: (والأمر بالشيء لا يكون أمرًا بذلك الشيء). هذا مذهب الجمهور. وقيل: يكون أمرًا، وهو مذهب الشذوذ. ودليل الجمهور: أن السيد يجوز أن يقول لعبده سالم (¬5): مر غانمًا بكذا مع نهيه غانمًا عن طاعة سالم، ولا يُحْدِثُ (¬6) ذلك تناقضًا، فلو كان ذلك أمرًا لغانم لكان تناقضًا (¬7). ودليل القائلين بأنه أمر: أنه فهم من أمر الله تعالى (¬8) رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأمرنا كوننا مأمورين. ¬
وكذلك يفهم من قول الملك لوزيره: قل لفلان: افعل كذا، كون فلان مأمورًا. أجيب عن الأول: بأن كوننا مأمورين لم يفهم ذلك من مجرد الصيغة، وإنما فهم ذلك من دليل آخر وهو قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). وأجيب عن الثاني: بأن فهم الأمر (¬2) من قول الملك لوزيره [إنما هو بحصول (¬3) العلم بأنه مبلغ لأمر (¬4) الملك للرعية، وقد تقدم ما يراد (¬5) به] (¬6) إنما هو (¬7) التبليغ فهو أمر بإجماع. قوله: (كقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر"). هذا مثال الأمر بالأمر (¬8)؛ لأنه عليه السلام أمر أولياء الصبيان بأن يأمروهم بالصلاة لسبع سنين، فلا يكون هذا الحديث أمرًا للصبيان بالصلاة، لأن الأمر بالأمر لا يكون أمرًا، وإنما فهم أمر الصبيان بالمندوبات من حديث آخر وهو حديث الخثعمية؛ لأنها أخذت بضَبْعي (¬9) صبي فقالت: ألهذا ¬
حج يا رسول لله؟ قال: "نعم، ولك أجر" (¬1). واختلف أرباب العلم في عبادة الصبيان، هل يحصل بها الأجر أم لا؟ على ثمانية مذاهب: قيل: لا يحصل بها أجر، بل أمرهم بذلك على سبيل الاستصلاح؛ كاستصلاح البهائم عن النفار والشِّمَاس (¬2)، لا أن لها أجورًا. هذا القول نقله المؤلف في شرحه (¬3). وقيل: إنما يحصل الأجر للأب خاصة. وقيل: يحصل (¬4) الأجر للأم خاصة. وقيل: يحصل للأب والأم معًا أنصافًا؛ لأنهما أصلان لوجوده وسببان لوجوده. ¬
ويدل عليه أن رجلاً قال لمالك (¬1) - رضي الله عنه -: أرسل إليّ أبي من السودان أن آتيه ومنعتني أمي، فقال له (¬2): أطع (¬3) أباك ولا تعص أمك. وقيل: يحصل الأجر للأب والأم أثلاثًا، أي (¬4): ثلث للأب وثلثان للأم. وقيل: يحصل لهما الأجر (¬5) أرباعًا، أي ربع للأب وثلاثة أرباع للأم. دليل (¬6) هذين القولين: أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له (¬7): من أبر من والديَّ (¬8) يا رسول الله؟ فقال (¬9) له: "أمك"، ثم (¬10) قال له: ثم من؟ قال: "أمك"، ثم قال له في الثالثة أو في الرابعة: "ثم أباك" (¬11). وقيل: يحصل للأم من الأجر أكثر ما يحصل للأب من غير تحديد، وهذا ¬
القول هو الذي صححه المؤلف في القواعد السنية (¬1). وقيل: إنما يحصل الأجر للصبيان، قال صاحب الحلل (¬2): هذا قول المحققين (¬3). والدليل عليه: أن الصبيان يتفاوتون في درجات الجنة كما يتفاوتون في الأعمال الصالحة في الدنيا، كما يتفاوت الكبار في درجات الجنة و (¬4) في الأعمال الصالحة في الدنيا. وأما الأقوال المتقدمة فهي ضعيفة (¬5) - والله أعلم -، وإنما تصح تلك الأقوال لو قدر (¬6) عدم الولد في الآخرة، وأما مع وجوده واحتياجه إلى ما يحتاج إليه الكبير فلا. ¬
ويدل عليه حديث الخثعمية؛ لأنها أخذت (¬1) بضبعي صبي (¬2) فقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ فقال: "نعم، ولك أجر" (¬3). ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬4). فإذا قلنا بأن ما يحصل للأم (¬5) من الأجر أكثر مما يحصل للأب فما سبب ذلك؟ قالوا (¬6): سبب ذلك التفاوت: أن قيام الأم بالولد أكثر من قيام الأب به؛ لأن الأم اختصت بثلاثة أشياء: الحمل، والرضاع، والتربية. وقد روي (¬7) أن أبا الأسود الدؤلي (¬8) - رضي الله عنه - أراد أن ¬
ينتزع (¬1) ولده من زوجته، فدعته زوجته إلى زياد بن أبي سفيان (¬2) والي (¬3) البصرة، فقالت له: يا أمير المؤمنين بطني له وعاء، و (¬4) ثديي له سقاء، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، صبرت على ذلك سبعة أعوام، فلما كمل فصاله، وتم فعاله، أرجو نفعه، وأطلب دفعه، أراد نزعه مني، فقال أبو الأسود: يا أمير المؤمنين (¬5) حملته قبلها (¬6)، ووضعته مثلها، فقالت: يا أمير المؤمنين، حمله خفيفًا (¬7)، ووضعه بشهوة (¬8)، وحملته ثقيلاً ووضعته بمشقة، فقال أمير ¬
المؤمنين: دعها من سجعك وأعطها ولدها. قوله: (وليس من شرطه (¬1) تحقق العقاب على الترك (¬2) عند القاضي أبي بكر، والإِمام (¬3) , خلافًا للغزالي، لقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬4)). ش: وهذه (¬5) مسألة خامسة أي: وليس من شرط تمييز الأمر بالوجوب عن الأمر بالندب استحقاق العقاب على الترك، أي: على ترك المأمور (¬6) عند القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني (¬7) , وعند الإمام فخر الدين (¬8). خلافًا لأبي حامد الغزالي القائل: باشتراط استحقاق [العقاب في أمر الوجوب، قال: إذ بذلك يتميز (¬9) أمر الوجوب وأمر (¬10) الندب (¬11). ¬
قوله: (وليس من شرطه تحقيق العقاب على الترك) (¬1). أي: ولا يشترط في حقيقة الأمر استحقاق] (¬2) العقاب على تركه، بل قد يوجد الأمر بدون العقاب على تركه (¬3)، لقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬4). ولأجل هذا قالوا: مَن حدّ الواجب لقوله: ما يعاقب على تركه، فحدّه باطل؛ لأنه غير جامع؛ لأنه قد يوجد الواجب بدون العقوبة على تركه، [ولا يخرجه ذلك عن كونه واجبًا. فمذهب القاضي والإمام: أن الأمر لا يقتضي إلا الطلب الجازم، ولا يقتضي العقاب على الترك] (¬5)، والذي يقتضي العقاب على الترك هو: دليل آخر لا مجرد الأمر. ومذهب الإمام (¬6) الغزالي: أن الأمر يقتضي (¬7) الطلب الجازم، واستحقاق العقاب على الترك، قال: إذ بذلك يمتاز أمر الوجوب عن أمر ¬
الندب (¬1). قال ابن العربي (¬2) في أحكام القرآن في سورة التوبة في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬3): إن الأمر إذا ورد لا يقتضي أكثر من اقتضاء الفعل، فأما العقاب عند الترك، فلا يؤخذ من نفس الأمر ولا يقتضيه (¬4) الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، وهو قوله (¬5): إن لم تفعل كذا عذبتك (¬6) كما ورد في هذه الآية (¬7). قوله: (وليس من شرطه تحقق العقاب ...) إلى آخره. ظاهر الكلام يقتضي أن الخلاف في إنفاذ العقاب على ترك (¬8) المأمور به، هل ينفذ فيه العقاب أم لا؟ ¬
وليس الأمر كذلك؛ إذ لا خلاف بين أرباب السنة والإسلام، أنه لا يشترط في الأمر إنفاذ العقاب في تاركه، لقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬1). والذين يقولون: لا بد من إنفاذ (¬2) الوعيد هم المعتزلة (¬3) الضُلال (¬4). وقد مر أبو عمرو بن العلاء رضى الله عنه برجل من أهل (¬5) البصرة يتكلم في الوعيد وأنه لا بد من إنفاذه من الله تعالى, فقال له أبو عمرو بن العلاء: من العجمة (¬6) أوتيتم، أما علمتم (¬7) أن الكريم إذا وعد وفا، وإذا توعد (¬8) عفا، ثم أنشد يقول (¬9): وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ¬
قوله: (وليس من شرطه تحقق العقاب (¬1)) إلى آخره. قال المؤلف في الشرح: هذ المسألة ليست على هذه الصورة في أصول الفقه، ولا قال القاضي بهذه العبارة، ولا الغزالي أيضًا، بل المنقول في كتاب القاضي أنه قال: إذا أوجب (¬2) الله علينا شيئًا وجب، ولا يشترط في تحقيق الوجوب استحقاق العقاب على الترك، بل يكفي في (¬3) الوجوب الطلب الجازم. وقال غيره: الوجوب والندب اشتركا في رجحان الفعل، ولم يتميز الوجوب إلا باستحقاق العقاب, فإذا أسقطناه عن الاعتبار لم يبق فرق ألبتة، والحق ما قاله القاضي، [فإنا إذا] (¬4) دعونا وقلنا: اللهم توفنا مسلمين، فإنا نجد أنفسنا جازمة بهذا الطلب من غير رخصة في تركه، وإذا قلنا: اللهم أعطنا عشرة آلاف دينار، فإنا نجد رخصة في أنها لو كانت خمسة لم نتألم لذلك، فالطلب ها هنا غير جازم بخلاف الأول، وقد تصورنا الطلب (¬5) هنا في حق الله جازمًا، وغير جازم مع استحالة استحقاق الذم ونحوه، فإذا تصورنا الطلب الجازم بدون استحقاق الذم: صح ما قاله القاضي. والغزالي لم (¬6) يخاف في لزوم العقاب، بل الغزالي وكل مُنْتَمٍ إلى ¬
شريعة الإسلام يقول بجواز العفو ولو بعد التوبة، لأن عدم (¬1) الغفران مطلقًا (¬2) لم (¬3) يقل به أحد. انتهى نصه (¬4). ولا يقول الغزالي - رضي الله عنه (¬5) - ولا كل مسلم بتحقق العقاب ولزومه؛ لجواز العفو, فعبارة الإمام في هذا غير سديدة. والصواب: أن يقول: وليس من شرطه تحقق (¬6) استحقاق العقاب على الترك فإن الاستحقاق معناه: الأهلية، أي هو أهل لذلك, وأما التحقق (¬7) فمعناه: اللزوم والثبوت، أي: لا انفكاك عنه (¬8)، فالاستحقاق خلاف التحقق (¬9). ... ¬
الفصل السادس في متعلقه
الفصل السادس في متعلقه ش: شرع المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬1) في هذا الفصل في بيان متعلق الوجوب (¬2)، فالضمير في قوله: متعلقه يعود على الوجوب، يريد في متعلق الوجوب بالنسبة إلى الواجب فيه، والواجب نفسه، والواجب عليه. فالواجب فيه هو: الواجب الموسع، والواجب نفسه هو: الواجب المخير، والواجب عليه هو: الواجب على الكفاية. وذلك أن الوجوب (¬3) ينقسم بحسب وقته إلى: موسع، ومضيق، وينقسم بحسب المأمور به إلى: معين، ومخير، وينقسم بحسب المأمور إلى: عين، وكفاية. قوله: (في متعلقه). قال بعضهم: يعود الضمير على الأمر، فمتعلقه ثلاثة وهي: المأمور، ¬
والمأمور به، والمأمور فيه، فالمأمور هو: المكلف، والمأمور به هو: الفعل، والمأمور فيه هو: الوقت، وفي كل واحد قسمان: [فالمأمور ينقسم إلى: عين وكفاية] (¬1)، والمأمور به ينقسم (¬2) إلى: معين (¬3)، ومخير, والمأمور (¬4) ينقسم إلى: موسع، ومضيق (¬5)، فهذه ستة أقسام. و (¬6) التأويلان المذكوران في معود (¬7) الضمير راجعان إلى معنى واحد. فمثال الواجب الموسع: وقت الظهر مثلاً وغيرها من الأوقات المتوسعة (¬8) للعبادة. ومثال الواجب الضيق: وقت المغرب. ومثال الواجب المعين: التوجه إلى الكعبة المعظمة. ومثال الواجب المخير: أحد الخصال الثلاث في كفارة اليمين بالله عز وجل. ومثال الواجب على العين: الصلوات الخمس. ومثال الواجب على الكفاية: جهاد الكفار، وطلب العلم. ¬
فالحاصل مما ذكرنا أن متعلق الوجوب ثلاثة وهي (¬1): المأمور, والمأمور به، والمأمور فيه. فالمأمور هو: المكلف, وفيه قسمان: وهما (¬2): إما عين، وإما كفاية. والمأمور به هو: الفعل، وفيه قسمان: إما معين، وإما مخير. والمأمور فيه: هو: الوقت، وفيه قسمان: وهما (¬3): إما موسع، وإما مضيق. فهي ستة أقسام، وهي التي تعرض المؤلف لبيانها في هذا الفصل. قال شهاب الدين في القواعد السنية (¬4): إن (¬5) الواجب الكلي مخصوص (¬6) في عشرة أصناف وهي: الواجب نفسه، والواجب فيه، والواجب به سببًا، والواجب به أداة، والواجب عليه، والواجب عنه، والواجب عنده, والواجب منه، والواجب إليه، والواجب مثله. فالواجب نفسه: هو: الواجب المخير, مثاله: أحد الخصال الثلاث (¬7) في ¬
كفارة اليمين بالله عز وجل. والواجب فيه مثاله: الواجب الموسع؛ كالقامة في الظهر. والواجب به سببًا: مثاله السبب؛ كالزوال سببًا لوجوب الظهر (¬1) وكالإتلاف سببًا لوجوب الضمان، وكالنصاب سببًا لوجوب الزكاة. والواجب به (¬2) أداة: مثاله (¬3): الماء الذي يتطهر (¬4) به؛ لأنه ليس سببًا للوجوب، بل هو أداة يفعل بها الفعل (¬5)، وسبب الطهارة إنما هو الحدث، وكذلك التراب في التيمم، هو: أداة وليس بسبب، وكذلك الثوب للسترة في الصلاة هو: أداة وليس بسبب. والواجب عليه: هو: المكلف في فرض الكفاية. والواجب عنه: مثاله: الإنسان الذي تخرج عنه زكاة الفطر كالعبد والزوجة. والواجب عنده مثاله: الشرط كالحول بالنسبة إلى وجوب الزكاة، فإن النصاب هو الذي تجب به الزكاة، وأما دوران الحول فلا تجب به، وإما تجب عنده. وكذلك عدم المانع كعدم الدين في الزكاة، وعدم (¬6) الحيض في الصلاة، ¬
فإن الزكاة لا تجب بعدم الدين، وإنما (¬1) تجب عنده لا به، [وكذلك الصلاة لا تجب بعدم الحيض، وإنما تجب عنده لا به؛ لأنها إنما تجب بدخول الوقت] (¬2). وكذلك عدم الماء يجب عنده التيمم؛ لأن سبب الوجوب إنما هو الحدث لا عدم الماء. والواجب منه: مثاله: الأجناس التي تخرج منها الزكاة من بهيمة الأنعام، والنقود، والحبوب، والثمار، والكفارات. والواجب إليه مثاله: الغايات التي ينتهي إليها الحكم الشرعي؛ كغروب الشمس بالنسبة إلى صيام اليوم، وكشهر شوال بالنسبة إلى صوم شهر رمضان. وكذلك (¬3) أوقات العدد، والاستبراء، والإحداد. والواجب مثله مثاله: جزاء الصيد في الحج، فإنه يجب إخراج مثل الصيد المقتول. وكذلك إتلاف المثليات من المكيلات والموزونات، يجب إخراج مثلها كما هو المعروف في كتب الفقه. فهذه عشرة أشياء تعلق الوجوب في جميعها بالقول (¬4) المشترك، وهي ¬
كلها متعلق الوجوب (¬1). ولكن لم يتعرض المؤلف ها هنا إلا لثلاثة منها، وهي: الواجب فيه، والواجب نفسه، والواجب عليه. فإذا تقرر هذا ففي هذا الفصل تسعة مطالب: أحدها: في (¬2) الواجب الموسع. والثاني: الواجب المخير. والثالث: الواجب على الكفاية. والرابع: الفرق بين هذه الثلاثة. والخامس: هل المشترط في فرض الكفاية اليقين أو الظن؟ والسادس: في السبب الذي من أجله سقط فرض الكفاية عن (¬3) تاركه بفعل فاعله. والسابع: ما الحكمة في جعل بعض الأحكام على الأعيان وجعل بعضها على الكفاية؟ والثامن: في الفوائد الثلاث (¬4) التي ذكرها المؤلف. ¬
والتاسع: في الأمر المعلق على الاسم الذي له مراتب، هل يتعلق (¬1) بأولها أو بآخرها؟ قوله: (فالواجب الموسع هو (¬2): أن يكون زمان الفعل يسع أكثر منه). ش: هذا هو المطلب الأول، وهو الواجب الموسع، ذكر المؤلف معناه، وأقسامه، وحكمه. أما معناه فهو: كون زمان الفعل المأمور به يسع أكثر من الفعل المأمور به. واعلم أن الوقت بالنسبة إلى الفعل على ثلاثة أضرب: تارة يكون الوقت مساويًا للفعل؛ كوقت المغرب وصوم يوم. وتارة يكون الوقت أقل من الفعل؛ كما إذا (¬3) بقي من الوقت مقدار ركعة واحدة، ففي هذا ثلاثة أقوال: قيل: الجميع أداء. وقيل: الجميع قضاء. وقيل: ما وقع (¬4) في الوقت أداء، وما وقع خارج الوقت قضاء. وتارة يكون الوقت أكثر من الفعل؛ كوقت الظهر والعصر، والعشاء والصبح، وهذا الضرب هو المعبر عنه (¬5) بالواجب الموسع، وهو: أن يكون ¬
يكون الوقت أكثر من الفعل المأمور به كما قال المؤلف. قوله: (وقد لا يكون محدودًا، بل مغيا بالعمر (¬1)، وقد يكون محدودًا كأوقات الصلاة (¬2)). ش: وهذا أقسام الواجب الموسع، قسمه (¬3) المؤلف إلى قسمين: أحدهما: أن يكون وقته غير محدود. [والثاني: أن يكون وقته محدودًا] (¬4). مثال ما وقته غير محدود: كالحج على القول بتأخيره (¬5)، والعمرة، والنذر، والكفارة, وقضاء الصلوات (¬6) الفائتة. ومثال ما وقته محدود: كوقت الظهر، والعصر، والعشاء, والصبح. قوله: (وقد لا (¬7) يكون محدودًا كأوقات الصلوات). ش: هذا القسم هو محل الخلاف بين العلماء. قوله: (وهذا يعزى للشافعية منعه). ش: الإشارة عائدة على (¬8) الواجب الموسع المحدود. ¬
و (¬1) قوله: (يعزى) معناه: ينسب؛ لأنك تقول: عزوت كذا إلى كذا إذا نسبته إليه. وقوله: (منعه) أي: منع الواجب الموسع المحدود، أي: منع التوسع؛ ذلك أن الواجب الموسع المحدود اختلف فيه أرباب العلم. ذكر فيه المؤلف في القواعد السنية (¬2) سبعة أقوال: قولان في جوازه، وخمسة أقوال في منعه (¬3). ¬
فإذا قلنا بجوازه فهل يجب العزم على الإتيان بالفعل آخر الوقت إذا أخره أو لا يجب عليه ذلك؟ قولان. [فهذان قولان] (¬1) في جوازه. أما الأقوال الخمسة الكائنة في منعه فأحدها: منع التوسعة على الإطلاق. وقالوا: لا يمكن أن يكون الوقت أزيد من الفعل، فالوجوب (¬2) متعلق بأول الوقت، فإن فعل الفعل آخر الوقت فذلك قضاء يسد مسد الأداء، أي: يقوم مقام الأداء في سقوط الإثم (¬3). وإلى هذا القول (¬4) أشار المؤلف بقوله: (هذا (¬5) يعزى للشافعية (¬6) منعه، ¬
بناء على تعلق (¬1) الوجوب بأول (¬2) الوقت، والواقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء). قال المؤلف في الشرح: الشافعية اليوم تنكر هذا المذهب، غير أنه منقول في كتب كثيرة من كتب الأصول (¬3). ومستند (¬4) هذا القول: أن الأصل [ترتب المسببات على أسبابها، فوجوب الظهر مثلاً متعلق بأول الوقت وهو الزوال؛ إذ الأصل (¬5)] (¬6) ترتب المسبب عقيب سببه، وأيضًا الجمع بين التوسع والوجوب محال؛ لأنهما متناقضان؛ لأن التوسع يقتضي جواز الترك والوجوب يقتضي منع الترك وهما منتفيان (¬7) (¬8). أجيب عن هذا: بأن جواز الترك في زمان خاص لا ينافي (¬9) [الوجوب، وإنما الذي ينافي] (¬10) الوجوب هو: جواز الترك في جميع الأزمنة، ويرد على ¬
هذا المذهب: أن الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء لغير عذر غير معلوم في الشريعة، وقد اتفق العلماء على جواز التأخير في الصلاة وجواز التعجيل، وأما الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء لعذر فهو معلوم في الشريعة؛ كتفويت الأداء في حق المسافر فيصوم قضاء, فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه (¬1). قوله: (وللحنفية (¬2) منعه بناء على تعلق الوجوب بآخر الوقت والواقع قبله نفل يسد مسد الواجب). ش: هذا هو القول الثاني، وهو قول جمهور الحنفية أن الوجوب متعلق بآخر الوقت. ومستند (¬3) هذا القول: أن الإثم إنما تعلق (¬4) بآخر الوقت على تقدير ترك الفعل، ولا يتعلق الإثم بأول الوقت؛ لأنه لو كان الوجوب متعلقًا بأول الوقت لكان مأثومًا بالتأخير عن أول الوقت؛ لأنه ترك واجبًا من (¬5) غير عذر ولا قائل بالتأثيم إذا أخر الفعل عن أول الوقت؛ لأن خاصية الوجوب الإثم، فإذا انتفى الإثم انتفى الوجوب؛ لأن انتفاء (¬6) خاصية الشيء يقتضي انتفاؤه (¬7)، ¬
وثبوت خاصية الشيء يقتضي ثبوته (¬1). وهذا معنى قوله: (وللحنفية منعه) [أي: منع التوسع بناء على تعلق الوجوب بآخر الوقت، أي: ويعزى للحنفية منعه] (¬2) (والواقع (¬3) قبله) أي: قبل آخر الوقت، (نفل يسد مسد الواجب) أي: يقوم مقام الواجب في سقوط الإثم. أجيب عن هذا: بأن ترتيب الإثم؛ لأجل تعطيل القدر المشترك، لا لأجل تعلق الوجوب (¬4) بآخر الوقت (¬5). ويرد (¬6) على هذا المذهب: أن إجزاء غير الواجب عن الواجب خلاف الأصول والقواعد, هذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه (¬7). قوله: (وللكرخي (¬8) منعه؛ بناء (¬9) على أن الواقع من الفعل موقوف، فإِن كان الفاعل (¬10) في آخر الوقت من المكلفين فالواقع فرض، وإِلا فهو (¬11) ¬
نفل). ش: أي: ويعزى للكرخي (¬1) من الحنفية منع التوسع؛ بناء على أن فعل الفاعل في أول الوقت أو وسطه. (موقوف) أي: غير موصوف بالفرض ولا بالنفل، فإن كان الفاعل من المكلفين في آخر الوقت (¬2) فالفعل الذي فعله أولاً هو فرض، وإن لم يكن من المكلفين في آخر الوقت فالفعل الذي فعله أولاً هو نفل. ومستند هذا القول: أن الواجب هو الذي يجزي عن الواجب، والأداء هو الذي يجزي عن الأداء بخلاف القولين الأولين؛ إذ في أحدهما إجزاء النفل عن الواجب، وفي الآخر إجزاء (¬3) القضاء عن الأداء، وكلاهما خلاف الأصول والقواعد. [ويرد على هذا المذهب: أن صلاة تقع في الوجود لا توصف بكونها فرضًا ولا نفلاً خلاف الأصول والقواعد] (¬4). وأيضًا: انعقد الإجماع على أن من صلى أول الوقت فمات، فهو مؤد لفرضه إجماعًا، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه (¬5). ¬
فهذه الأقوال (¬1) المذكورة في منع التوسع ذكرها (¬2) المؤلف ها هنا. القول الرابع للحنفية أيضًا: ذكره المؤلف في الشرح، وفي القواعد: أن الوجوب متعلق بوقت الإيقاع، أي وقت كان: أوله، أو وسطه أو آخره (¬3). ومستند هذا القول: الفرار من الإشكالات الواردة على الأقوال الثلاثة المقدمة (¬4)، إذ لا يلزمه شيء من الإلزامات المتقدمة. ويرد على هذا المذهب: أن المعروف في الشريعة تعيين الوقت قبل الفعل، أما (¬5) تعيين الوقت بالفعل فهو غير مقصود (¬6) في الشريعة، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه (¬7). القول الخامس للحنفية أيضًا ذكره المؤلف في الشرح وفي القواعد: أن المكلف إن عجل الفعل منع تعجيله من تعلق الوجوب بآخر الوقت، فلا ¬
يجزي نفل عن فرض، ولا يكون موقوفًا، بل هو غاية (¬1) النفل، وإن لم يعجله كان آخر الوقت واجبًا موصوفًا بصفة الوجوب، فلا يرد عليه ما ورد على الكرخي (¬2). ويرد على هذا المذهب: أن الرسول (¬3) - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ما صلّوا فرضًا قط؛ لأنهم كانوا يصلون أول الوقت، ولا يؤخرون إلى آخر الوقت فيفوت لهم على هذا القول أجر (¬4) الواجب (¬5)، وذلك في غاية البعد (¬6). ولكن هذا القول لم يظهر لي؛ لأن قولهم: تعجيل الفعل يمنع من تعلق الوجوب بآخر الوقت، ما صفة هذا التعجيل هل النفل أو الفرض أو الإبهام؟ فإن كان نفلًا فهو: قول الحنفية القائلة: بأن الفعل أول الوقت نفل، وإن كان فرضًا فهو: قول الشافعية القائلة: بأن الفعل أول الوقت فرض، وإن كان أمرًا مبهمًا (¬7) فلا معنى له، والله أعلم. فهذه مدارك (¬8) هذه المذاهب وما يرد عليها من الإشكالات. ¬
قوله: (ومذهبنا جوازه (¬1)). ش: أي: ومذهبنا نحن المالكية وهو قول جمهور العلماء جواز الواجب الموسع المحدود. قوله: (والخطاب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين الحدين). ش: معناه: والتكليف عندنا متعلق بالقدر المشترك الذي هو: مفهوم جزء الزمان وهو أمر كلي لا جزئي، وهو: معنى شائع بين أجزاء الوقت كلها لا يتعين لجزئي أولي، ولا لجزئي آخري، ولا لجزئي وسطي (¬2)؛ لصدقه على كل جزء على البدلية. ومدرك هذا المذهب الجمهوري: أن قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬3) عام لجميع أجزاء الوقت؛ لأنه يصلح (¬4) لكل جزء من أجزاء الوقت للظهر، فتعيين (¬5) جزء منها لإيقاع الفعل فيه تحكم، فللمكلف أن يوقع الفعل في أي جزء أراده، فالواجب الموسع في التحقيق كالواجب (¬6) المخير؛ لأن للمكلف أن يخص بفعله ما شاء منها. ¬
والمراد (8) بالحدين في قوله: (الكائنة بين الحدين) (¬1) أول الوقت وآخره. قوله: (فلا جرم (¬2)). قال المهدوي في التحصيل في قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (¬3): معنى لا جرم عند الخليل وسيبويه: حق، فـ "لا"، و"جرم" (¬4) كلمة واحدة بنيتا على الفتح. وعن الخليل أيضًا: أن معناها لا بد ولا محالة. الكسائي معناها: لا صد ولا منع. وقيل: معناها: لا قطع عن: {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} وأصل جرم من (¬5) معنى القطع. وقيل: المعنى: لا قطع قاطع عن ذلك، فحذف الفاعل (¬6) حين كثر استعماله فصار كالمثل. وذهب الزجّاج إلى أن لا رد لما (¬7) قالوا (¬8)، وجرم بمعنى (¬9) كسب، أي: ¬
كسب ذلك الفعل لهم الخسران. انتهى نصه (¬1). قوله: (فلا جرم: صح أول الوقت لوجود المشترك ولم يأثم بالتأخير؛ لبقاء (¬2) المشترك [في آخره ويأثم إِذا (¬3) فوت جملة الوقت لتعطيل المشترك] (¬4) الذي هو: متعلق الوجوب). ش: أي (¬5): لا ريب ولا محالة. [صح أول الوقت أي] (¬6): صح إيقاع الفعل في أول الوقت لوجود المشترك الذي هو: مسمى الجزء، خلافًا لمن يقول: الوجوب متعلق بآخر (¬7) الوقت، ولم يأثم بالتأخير لبقاء القدر المشترك الذي هو مفهوم الجزء الصالح لإيقاع الفعل فيه، خلافًا لمن يقول: الوجوب متعلق بأول الوقت، ويأثم إذا فوّت جملة الوقت لتعطيل (¬8) القدر المشترك، وهو (¬9): مسمى الجزء الشائع بين أجزاء العامة مثلًا بالنسبة إلى الظهر إلى آخر القامة. ¬
ويرد (¬1) على مذهبنا أن قالوا: التوسعة والوجوب لا يمكن اجتماعهما؛ لأن التوسعة يقتضي جواز الترك، والوجوب يقتضي منع الترك. والجواب عنه: أنّا لا نقول بجواز الترك [مطلقًا، بل نقول بجواز الترك] (¬2) إلى غاية، وهي (¬3) قوله: (ويأثم إِذا فوّت جملة الوقت). قوله: (فلا يرد علينا مخالفة قاعدة ألبتة، بخلاف غيرنا). ش: لأن من قال بتعيين أول الوقت وما بعده قضاء يسد (¬4) مسد الأداء: يلزمه مخالفة القواعد (¬5) وهو كون القضاء كالأداء، ومن قال بتعيين آخر الوقت [وما قبله] (¬6) نفل يسد مسد (¬7) الواجب: يلزمه مخالفة القواعد وهو كون النفل كالواجب. ومن قال بأن الفعل موقوف: يلزمه مخالفة القواعد وهو [كون الفعل لا يوجد موصوفًا بالواجب ولا بالنفل. ومن قال بأن الفعل موقوف بإيقاع الفعل: فيلزمه (¬8) مخالفة القواعد وهو] (¬9): تعيين (¬10) الوقت بالفعل - كما تقدم ذلك -، وإلى هذا أشار المؤلف ¬
بقوله: (فلا يرد علينا مخالفة قاعدة ألبتة) أي: قطعًا؛ لأن ألبتة لغة معناه: القطع (¬1). وهذا المذهب الذي هو مذهبنا (¬2) نحن المالكية، وهو ثبوت الواجب الموسع اختلف (¬3) هل يشترط فيه العزم (¬4) على الفعل بعد أول الوقت؟ قولان (¬5): قيل: يشترط فيه العزم وهو المشهور في المذهب؛ لأن من لم يفعل ولا عزم على الفعل يعد معرضًا (¬6) عن الأمر. وقيل: ليس بشرط؛ لأن اللفظ لم يدل مثلًا إلا على الصلاة، ولم يدل على العزم. وفيه قول ثالث: اختاره الغزالي - رضي الله عنه - (¬7)، ذكره المؤلف [في القواعد وهو: الفرق بين الغافل والذاكر: فمن غفل عن الفعل والترك فلا يجب عليه العزم] (¬8). ¬
وأما الذاكر وهو: الذي خطر (¬1) بباله الفعل والترك فهذا إن لم يعزم على الفعل عزم على الترك لغير ضرورة، فيجب عليه العزم على الفعل، وهي (¬2): طريقة حسنة، قاله المؤلف في القواعد (¬3). ها هنا فرع مرتب على القول بالتوسعة، هل يشترط سلامة العاقبة مع التأخير؟ فإذ مات قبل الفعل فقد أخّر مختارًا فيأثم, وهو قول الشافعية. أو لا يأثم؛ لأن الشارع قد أذن له في التأخير، ومن فعل ما أذن له فيه فلا إثم عليه مع أن الأصل عدم اشتراط سلامة العاقبة وهو مذهب المالكية، وهو الصحيح من جهة النظر. انتهى (¬4). فالواجب الموسع إذا أخره الإنسان فإن غلب على ظنه أنه يموت قبل فعله في وقته: فإنه مأثوم بالتأخير. ثم إن (¬5) لم يمت ففعله في وقته هل ذلك أداء؟ قاله الغزالي والجمهور. أو هو (¬6) قضاء؟ قاله أبو بكر (¬7). وإن غلب على ظنه أنه لا يموت قبل فعله في وقته فأخّره: فهو غير مأثوم في الموسع المحدود كالظهر (¬8) مثلًا، وهو مأثوم في الموسع غير المحدود ¬
كالحج (¬1). قال ابن الحاجب في كتاب (¬2) الأصول: مسألة [من أخر] (¬3) مع ظن الموت قبل الفعل عصى اتفاقًا. فإن لم يمت ثم فعله في وقته: فالجمهور أداء. وقال القاضي: قضاء. فإن أراد وجوب نية القضاء فبعيد، ويلزمه لو اعتقد انقضاء الوقت قبل الموت (¬4) فيعصي بالتأخير. ومن أخر مع ظن السلامة فمات فجأة، فالتحقيق: لا يعصي، بخلاف ما وقته العمر (¬5). انتهى نصّه (¬6). قوله: (وكذلك الواجب المخير). ¬
ش: هذا هو المطلب الثاني وهو الواجب المخير، وهو الواجب نفسه. والإشارة بقوله (¬1): (وكذلك) راجعة إلى الواجب الموسع (¬2) والتشبيه راجع إلى القدر المشترك، تقديره على هذا (¬3): والواجب المخير كالواجب الموسع [في تعلقه بالقدر المشترك، ولكن يكون تكرارًا لقوله: بعد: والمخير عندنا كالموسع. ويحتمل أن يكون التشبيه في مطلق الخلاف، تقديره: على هذا والواجب المخير (¬4) كالواجب الموسع] (¬5) في كونه مختلفًا فيه، ولكن ليس الخلاف كالخلاف لا (¬6) في عدده ولا في كيفيته؛ لأن عدد الخلاف في الواجب الموسع أربعة أقوال، وعدد (¬7) الخلاف في الواجب المخير ثلاثة أقوال، وكيفية الخلاف في الواجب الموسع مخالفة لكيفيته في الواجب المخير. ومعنى الواجب المخير هو: الأمر بواحد من أحد (¬8) الخصال على التخيير من غير تعيين. مثاله: قوله تعالى في كفارة اليمين بالله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ ¬
مَسَاكِينَ} (¬1) الآية. لأن الله تعالى خيّر المكلف بين هذه الخصال الثلاث (¬2) وهي: الإطعام، والكسوة، والإعتاق، من غير تعيين (¬3) واحدة منها، فاختلف العلماء في ذلك على (¬4) ثلاثة أقوال (¬5). قوله: (قالت المعتزلة: الوجوب (¬6) متعلق بجملة الخصال). ش: هذا أحد الأقوال وهو قول المعتزلة، معناه: أن المعتزلة يقولون ¬
بوجوب الجميع على التخيير، أي: لا يجوز الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان (¬1) بجميعها. قال المؤلف في الشرح: وقول المعتزلة أنه متعلق (¬2) بالجميع معناه: بالجميع على وجه تبرأ ذمته بفعل البعض فلا يكون خلافًا للمذهب الآخر. وعند التحقيق (¬3) تستوي (¬4) المذاهب في هذه المسألة، وتبقى لا خلاف فيها (¬5)، فإن المذهب الآخر ينكرونه. انتهى نصه (¬6). قوله: (وعندنا وعند بقية (¬7) أهل السنة بواحد لا بعينه). ش: هذا قول ثان، وهو قول الفقهاء: أن (¬8) الوجوب عندنا نحن المالكية، وعند بقية أهل السنة وهم، الشافعية، والحنفية، والحنبلية (¬9)، متعلق بفرد واحد من حيث هو واحد، أي. تعلق الوجوب بخصلة واحدة من تلك الخصال من حيث هي: خصلة ولا يتعلق بخصوصية الخصلة (¬10). وانظر هذا الخلاف المذكور بين المعتزلة والفقهاء ما ثمرته؟ قالوا: الخلاف بين الفريقين لفظي لا معنوي؛ لأن الفريقين قد اتفقوا على ¬
أنه لا يجوز ترك جميع الخصال, ولا يجب فعل جميع الخصال (¬1). [واتفقوا على أنه إذا فعل خصلة واحدة أجزأه. واتفقوا على أن للمكلف أن يختار (¬2) أي خصلة من الخصال شاء] (¬3). فلا خلاف إذًا بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في اللفظ؛ لأن المعتزلة يقولون بوجوب الجميع على التخيير، والفقهاء يقولون بوجوب واحد من حيث هو أحدها. والمعتزلة أيضًا (¬4) يطلقون (¬5) الواجب على كل فرد بالحقيقة، ويطلقونه على القدر المشترك بالمجاز (¬6). [والفقهاء يقولون بعكس ذلك؛ لأنهم يطلقون الواجب على القدر المشترك بالحقيقة ويطلقونه على كل فرد بالمجاز (¬7)] (¬8). ¬
قوله: (ويحكى عن المعتزلة أيضًا: أنه متعلق بواحد معين عند الله تعالى، وهو ما علم أن المكلف سيوقعه، وهم ينقلون أيضًا هذا المذهب عنا). ش: [هذا قول ثالث وهو (¬1): أن الوجوب بواحد (¬2) معلوم عند الله تعالى، وهو مجهول عندنا، وذلك الواحد الذي تعلق به الواجب هو الذي علم الله تعالى في أزله أن المكلف سيفعله] (¬3). وهذا القول ينقله (¬4) أهل السنة عن المعتزلة، وينقله المعتزلة (¬5) عن أهل السنة، فكل واحد من الفريقين ينسبه إلى الآخر (¬6)، واتفق الفريقان على بطلانه؛ لأن هذا القول يستلزم التخيير بين الواجب المعين، وما ليس بواجب، وذلك (¬7) محال؛ لأن التخيير يستلزم جواز ترك كل واحد منها على ¬
الخصوص، والتعيين يستلزم عدم جواز ترك المعين مع أن التخيير ثابت فيقتضي (¬1) التعيين (¬2). قوله: (والمخير عندنا كالموسع). ش: يعني: أن الواجب المخير عندنا نحن المالكية بمنزلة الواجب الموسع [في كونه متعلقًا بالقدر المشترك؛ لأن الواجب الموسع] (¬3) كالقامة في الظهر مثلًا (¬4) تعلق الوجوب فيها بجزء شائع بين أجزاء الوقت من غير تعيين جزء من الأجزاء، وكذلك الواجب المخير تعلق الوجوب فيها (¬5) بخصلة (¬6) شائعة بين الخصال من غير تعيين خصلة من الخصال. قوله: (والوجوب (¬7) فيه متعلق بمفهوم أحد (¬8) الخصال الذي هو (¬9) قدر مشترك بينها وخصوصيتها (¬10) متعلق التخيير (¬11)، فما هو واجب لا تخيير فيه، وما هو مخير لا وجوب (¬12) فيه). ¬
ش: يعني: أن الوجوب في الواجب المخير متعلق بالقدر المشترك بين الخصال، وهو: أحدها من حيث هو أحدها، فالواجب هو: أحد الخصال وهو القدر المشترك بينها (¬1) لصدقه (¬2) على كل واحد منها، والصادق على أشياء هو مشترك (¬3) بينها (¬4)، فالواجب إذًا هو القدر المشترك. وأما الخصوصيات التي هي: الإطعام، والكسوة، والإعتاق: فلا تجب؛ إذ هي متعلق التخيير، فالمشترك هو متعلق الوجوب من غير تخيير [والخصوصيات هي: متعلق التخيير من غير إيجاب] (¬5). قوله: (فما هو واجب لا تخيير (¬6) فيه، وما هو مخير لا وجوب فيه) معناه: فالقدر (¬7) المشترك الذي هو: واجب لا تخيير فيه للمكلف لامتناع (¬8) تركه، والخصوصيات التي هي: محل التخيير لا وجوب فيها (¬9)؛ لعدم تعيين الشارع كل واحدة (¬10) منها بالوجوب، فالواجب واجب من غير تخيير، والمخير فيه (¬11) مخير فيه غير وجوب. ¬
وذلك: أن الله تعالى لم يخير المكلف بين فعل أحد الخصال، وبين ترك هذا إلا حد (¬1) المفهوم، فإن ترك هذا المفهوم إنما هو بترك جميعها، وإنما خيره (¬2) بين الخصوصيات، أعني: الإطعام، والكسوة، والإعتاق (¬3). فإن قلت، قولكم: الواجب المخير، يقتضي أن الواجب هو (¬4): المخير، وأن المخير هو: الواجب، وذلك ممنوع؛ لأنه (¬5) يقتضي: اجتماع (¬6) الوجوب والتخيير وهما متناقضان (¬7)؛ لأن الوجوب يقتضي منع الترك، والتخيير يقتضي جواز الترك، والجمع بينهما محال. قلنا: معناه: الواجب (¬8) الذي خير المكلف في أفراده؛ لأن المشترك الذي هو الواجب لا تخيير فيه لامتناع تركه، والمخير فيه الذي [هو الخصوصيات لا تجب لعدم تعيينها بالوجوب. فإن قلت: قولكم: الواجب أحد الخصال، ممنوع؛ لأنه يؤدي إلى التخيير بين الواجب وغير الواجب، فذلك] (¬9) يؤدي إلى ترك الواجب إذا اختار مكلف غير الواجب وهو خلاف الإجماع. قلنا: جوابه ما ذكر المؤلف وهو: أن محل الوجوب غير محل التخيير. ¬
قوله: (فلا جرم يجزيه كل معين منها) لتضمنه القدر المشترك وفاعل الأخص فاعل الأعم، ولا يأثم بترك بعضها إذا فعل البعض؛ لأنه تارك للخصوص (¬1) المباح فاعل للمشترك الواجب، ويأثم بترك الجميع لتعطيله المشترك بينها. قوله: (فلا جرم يجزيه كل معين منها) أي: فلا ريب ولا محالة أن كلما عينه المكلف من الخصال بفعله (¬2) أجزأه؛ لأجل تضمن المفعول منها القدر المشترك؛ لأن القدر المشترك الذي هو أحد الخصال يصدق على كل واحد (¬3) من الخصال، وهو أعم منها؛ إذ هو أعم من كل واحدة من الخصال، وكل واحدة من الخصال أخص من القدر المشترك الذي هو: مفهوم (¬4) أحد الخصال، فإذا عين المكلف واحدة من الخصال ففعلها أجزأه؛ لأنه فعل الأخص، فمن فعل الأخص فقد فعل الأعم؛ لأنه يلزم من وجود [الأخص وجود] (¬5) الأعم (¬6)؛ لأن الأخص جزئي والأعم كلي. قوله: (ولا يأثم بترك بعضها إِذا فعل البعض) (¬7)؛ لأن خصوصيات ¬
الخصال لا مدخل فيها في الوجوب؛ لأن الشارع لم يوجب علينا أن نكفر بعين خصلة مخصوصة، ومن ترك غير الواجب فلا إثم عليه، فمن (¬1) ترك الإطعام وأعتق مثلًا فلا إثم عليه؛ لأنه (¬2) تارك للخصوص المباح، فاعل للمشترك الواجب، وإنما يلزمه الإثم إذا ترك جميع الخصال؛ لأجل تعطيله (¬3) فعل القدر المشترك لا لأجل ترك الخصوصات (¬4). قال المؤلف في الشرح: القدر المشترك بين الخصال المخير بينها متعلق بخمسة (¬5) أحكام: الوجوب, والثواب، والعقاب، وبراءة الذمة، [والنية، فلا يجب] (¬6) إلا القدر (¬7) المشترك ولا يثاب إلا على القدر المشترك [إذا فعل، ولا يعاقب إلا على القدر المشترك إذا ترك، ولا تبرأ الذمة إلا بالقدر المشترك إذا فعل، ولا ينوي أداء الواجب إلا بالقدر المشترك (¬8)] (¬9). قال المؤلف في القواعد: فإن قيل: القدر المشترك كلي، والكلي لا يقع في الخارج، وما لا يقع في الخارج لا يجب فعله في الخارج، وما لا يجب فعله لا يتعلق به (¬10) وجوب (¬11)، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا براءة ذمة، ولا نية، ¬
فكيف تتعلق هذه الأحكام الخمسة المذكورة بالقدر المشترك بين الخصال؟ إذ الكلي لا وجود له في الأعيان، وإنما وجوده في الأذهان، والذي يحصل في الخارج هو الجزئي لا الكلي؟ قلنا: إن الكلي في ضمن الجزئي، فإذا حصل الجزئي حصل الكلي بالضرورة، فمن أعتق رقبة معينة فقد أعتق مطلق الرقبة، وكذلك من أخرج شاة معينة في الزكاة فقد أخرج مطلق الشاة، وكذلك من أعطى دينارًا معينًا في الزكاة فقد أعطى مطلق الدينار (¬1). ومعنى قولهم: الكلي لا يقع في الخارج، معناه: لا يقع في الخارج مجردًا عن شخص متعين (¬2). فإن قلت: يلزم ما تقدم (¬3): أن تكون الشاة المأخوذة في الزكاة من أربعين واجبًا مخيرًا، وكذلك الدينار المأخوذ من عشرين، ولا قائل بأنه يسمى واجبًا مخيرًا، مع أن الله تعالى لم يوجب علينا خصوص شاة، ولا خصوص دينار، بل (¬4) أوجب علينا مفهوم الشاة، ومفهوم الدينار (¬5) من غير تعيين. قلنا: الجواب عنه: أن القدر المشترك على قسمين: تارة يكون بين أجناس ¬
مختلفة الحقائق كالعتق (¬1)، والإطعام، والكسوة، وتارة يكون بين (¬2) أفراد جنس متحد الحقيقة، فاصطلح العلماء على تسمية الأول: بالواجب المخير دون الثاني (¬3). قال المؤلف في الشرح: تعلق الخطاب بالقدر المشترك: تارة يكون بين أجناس مختلفة بالحقيقة (¬4) كالإطعام، والكسوة، والإعتاق، وتارة يكون بين أفراد جنس متحد الحقيقة كالشاة، والدينار في الزكاة، فاصطلح العلماء على أن الأول يسمى واجبًا مخيرًا دون الثاني (¬5). قوله: (وكذلك فرض (¬6) الكفاية). ش: هذا هو المطلب الثالث، و (¬7) هو: الواجب على الكفاية، وهو: الواجب عليه، يسمى (¬8) فرض الكفاية؛ لأن البعض يكفي في القيام به. ولأجل ذلك يقال في معناه: هو الواجب الذي يسقط عن المكلف بفعل (¬9) غيره، وسمي فرض العين بفرض (¬10) العين لتعلقه بكل عين ولا يكفي ¬
يكفي فيه البعض عن البعض. قوله (¬1): (وكذلك فرض الكفاية) الإشارة تعود على الواجب الموسع (¬2)، أو الواجب المخير (¬3). والتشبيه يحتمل أن يكون في التعلق بالقدر المشترك تقديره [على هذا: كما تعلق (¬4) الواجب الموسع أو الواجب المخير بالقدر المشترك، كذلك] (¬5) فرض الكفاية (¬6) هو (¬7): متعلق بالقدر المشترك. ويحتمل: أن يكون التشبيه في مطلق الخلاف تقديره على هذا: اختلف في متعلق فرض الكفاية، كما اختلف في متعلق الواجب المخير، أو الواجب الموسع، ولكن ليس الخلاف كالخلاف. واختلف الأصوليون في متعلق خطاب (¬8) الكفاية (¬9): ¬
قيل: واجب على جميع المكلفين، ولكن سقط (¬1) بفعل البعض، وهو مذهب المحققين. وقيل: واجب على طائفة غير متعينة (¬2). قال ابن العربي: تعينهم السعادة (¬3) والمبادرة (¬4). حجة القول بوجوبه على الجميع: أنهم يأثمون كلهم إذا تركوه، ولا يأثم المكلف إلا على (¬5) ترك ما وجب عليه. حجة القول بوجوبه على البعض: أنه يسقط بفعل البعض، فلو كان واجبًا على الجميع لما سقط عن (¬6) البعض؛ إذ لا يسقط عن (¬7) المكلف ما وجب ¬
عليه بفعل غيره. أجيب عن هذا: أنه إنما سقط (¬1) بفعل البعض وإن كان واجبًا على الجميع لاستلزام فعل البعض انتفاء علة الوجوب على الجميع. قوله: (المقصود بالطلب لغة (¬2): إِنما هو أحد الطوائف التي هي (¬3) قدر مشترك بينها). ش: يعني أن المعني بالطلب في فرض الكفاية في عرف اللغة هو: مطلق الطائفة الذي هو قدر مشترك بين الطوائف. قال المؤلف في الشرح: إنما قلت: إن الخطاب يتعلق في الكفاية بالمشترك؛ لأن المطلوب فعل إحدى (¬4) الطوائف، ومفهوم إحدى (¬5) الطوائف قدر مشترك بينها (¬6) لصدقه على كل طائفة، والصادق على أشياء مشترك بينها كصدق الحيوان على جميع أنواعه. واللغة لم تقتض (¬7) إلا ذلك في النصوص الواردة بفرض الكفاية، كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ¬
الْمُنكَرِ} (¬1)، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬2)، ونحو هذه النصوص، إنما مقتضى اللغة فيها غير [معين، وهو مشترك بين الطوائف. انتهى (¬3). يعني: أن مقتضى العرف اللغوي يقتضي أن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير] (¬4) معينة، ولكن خالف الشرع مقتضى اللغة فعلق خطاب الكفاية على جميع المكلفين، وإنما خالف الشرع ها هنا عرف اللغة لتعذر (¬5) خطاب المجهول كما قرره المؤلف. قوله: (المقصود بالطلب لغة) احترازًا من المقصود بالطلب شرعًا؛ لأن الشرع أوجب في فرض الكفاية خلاف ما أوجبه مقتضى اللغة. قوله: (غير أن الخطاب يتعلق بالجميع أول الأمر (¬6) لتعذر خطاب المجهول). ش: يعني أن الشرع علق الخطاب في فرض الكفاية على جميع المكلفين، ولم يعلقه على بعض غير معين كما هو مقتضى اللغة لتعذر خطاب المجهول، وهو: غير المعين؛ لأنه لو علق الخطاب بغير معين لأدى ذلك إلى تعذر الامتثال فيضيع الواجب حينئذ؛ إذ لكل واحد من المكلفين أن يقول: ¬
إني (¬1) لم أتعين لذلك، فيضيع الواجب (¬2)، فإذا أوجب (¬3) ابتداءً على الجميع، فإن كل واحد يبعث (¬4) إلى فعله ليخلص من العقاب. قوله: (أول الأمر) احترازًا من آخر الأمر، وهو بعد فعله؛ لأن فرض الكفاية بعد فعله من البعض غير متعلق بالجميع. قوله: (لتعذر خطاب المجهول) يعني: أن خطاب المجهول ممتنع بخلاف الخطاب بالمجهول كالخطاب المخير (¬5) في خصال الكفارة في اليمين بالله تعالى فإنه جائز شرعًا؛ لأن المكلف متمكن من إيقاعه في المعين فلا يتعذر؛ كتحرير رقبة غير معينة، وكذلك شاة من أربعين، ودينار من عشرين في الزكاة، وكذلك الخطاب في المجهول فهو (¬6) جائز أيضًا كصلاة الظهر في أجزاء الإقامة؛ إذ المكلف متمكن من إيقاع هذا الواجب في المعين (¬7) أيضًا. فهذه ثلاثة أشياء: خطاب المجهول، والخطاب بالمجهول، والخطاب في المجهول، فالأول ممنوع والآخران جائزان. قوله: (فلا جرم سقط الوجوب بفعل طائفة معينة من الطوائف لوجود المشترك فيها). ¬
ش: أي: فلا ريب ولا محالة ولا خلاف: أن الوجوب ساقط عن جميع الطوائف إذا فعلت (¬1) طائفة واحدة من الطوائف. قوله: (لوجود المشترك (¬2) فيها) أي: إنما سقط الوجوب عن الجميع بفعل البعض لحصول القدر المشترك وهو فعل إحدى الطوائف. واعترض قوله: (لوجود المشترك فيها) بالتناقض، وذلك أن ظاهر قوله ها هنا يقتضي أن سبب سقوطه عن غير الفاعل وجود القدر المشترك، وظاهر قوله بعد هذا أنه إنما سقط لتعذر [تحصيل مصلحة الوجوب؛ لأنه قال بعد هذا: فسبب سقوطه عن الفاعل فعله وعن غير الفاعل تعذر] (¬3) تحصيل (¬4) تلك المصلحة التي (¬5) لأجلها وجب الفعل، فانتفى الوجوب لتعذر حكمته. أجاب بعضهم (¬6) بأن قال (¬7): لما كان فعل البعض سببًا لانتفاء علة الوجوب نسب السقوط إليه تجوزًا. واعترض أيضًا: بأن ما تعلق بالجميع، أي: بكل واحد ابتداء فلا يكون ¬
متعلقًا بالقدر المشترك. صوابه أن يقول: فلا جرم سقط (¬1) الوجوب بفعل طائفة معينة من الطوائف؛ لانتفاء علة الوجوب من حيث حصول المقصود، فيكون حينئذ موافقًا لما قال بعد هذا. قوله: (ولا تأثم (¬2) طائفة معينة إِذا غلب على الظن فعل غيرها؛ لتحقق (¬3) الفعل من المشترك بينها ظنًا، ويأثم الجميع إِذا تواطئوا على الترك لتحقق تعطيل المشترك بينها (¬4)) ش: إنما سقط (¬5) الإثم عن (¬6) التاركة بظن فعل الفاعلة؛ لأن التكليف في الكفاية موقوف على حصول الظن الغالب. قوله: (لتحقق الفعل) أطلق المؤلف التحقق (¬7) [بظن الفاعلة؛ لأن التكليف في الكفاية موقوف] (¬8) على الظن مجازًا ليقابل به تحقق التعطيل، وتقول (¬9): في الكلام حذف مضاف تقديره: لظن تحقيق (¬10) الفعل. ¬
واعترض قوله: (لتحقق الفعل) من المشترك بينها (¬1) كالاعتراض المتقدم، صوابه أن يقول: الانتفاء علة الوجوب. واعترض قوله: (لتحقق تعطيل (¬2) المشترك بينها) كما تقدم في العلة التي قبلها في قوله: (لوجود المشترك فيها)، صوابه أن يقول - والله أعلم -: ويأثم الجميع إذا تواطئوا على الترك؛ لعدم حصول المقصود. قوله: (إِذا تقرر (¬3) تعلق الخطاب في الأبواب الثلاثة بالقدر المشترك فالفرق بينها: أن المشترك في الموسع هو: الواجب فيه، وفي الكفاية (¬4): الواجب عليه، وفي المخير (¬5): الواجب نفسه). ش: هذا هو المطلب الرابع، وهو بيان الفرق بين الواجبات الثلاثة (¬6)، المراد بالأبواب الثلاثة: الواجب الموسع، والواجب على الكفاية، والواجب المخير، فالألف واللام في الأبواب للحوالة (¬7). فالمشترك في الموسع هو: الواجب فيه، أي: الزمان (¬8) الذي يجب فيه الفعل. والواجب في الكفاية هو: المكلف الذي يجب عليه الفعل. ¬
والواجب في (¬1) المخير هو: الشيء الذي يجب، أي: هو الفعل الواجب نفسه، أي: الفعل المأمور به. قوله (¬2): (وفي الكفاية الواجب عليه) فيه نظر كما تقدم؛ لأن متعلق الوجوب في الكفاية هو (¬3) كل واحد لا القدر المشترك؛ لأن الخطاب إذا دار بين أفراد جنس على (¬4) البدلية يكون متعلقًا بالقدر المشترك بين تلك الأفراد، وليس الواجب على الكفاية كذلك؛ لأنه متعلق بالجميع على القول الصحيح. قوله: (فائدة: لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل؛ بل ظنه، فإِذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت سقط عن هذه، وإِذا غلب على ظن تلك الطائفة أن هذه فعلته (¬5) سقط عنها، وإِذا غلب على ظن الطائفتين فعل كل واحدة منهما سقط عنهما). ش: هذا هو المطلب الخامس وهو قولنا: هل يشترط (¬6) في فرض الكفاية اليقين أو الظن؟ قوله: (لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل). ¬
معناه: لا يشترط في سقوط فرض الكفاية عنك (¬1) تحقق صدور الفعل من غيرك، بل المشترط في سقوطه ظن صدور الفعل. قال فخر الدين في المحصول: التكليف في الكفاية موقوف على حصول الظن الغالب (¬2)؛ لأن تحصيل العلم بأن غيري هل فعل (¬3) هذا أم لا؟ غير ممكن، إنما الممكن تحصيل الظن. قوله: (فإِذا غلب على ظن هذه الطائفة) إلى آخره يعني: أن هذه الحالات الثلاث كلها مبنية على الظن دون اليقين. قال المؤلف في الشرح: أصل التكليف ألا يكون إلا بالعلم [في أكثر الصور أقام الشرع الظن مقامه] (¬4) لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬5). وقوله تعالى (¬6): {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬7)، ولكن لما تعذر حصول (¬8) العلم في أكثر الصور (¬9) أقام الشرع الظن (¬10) مقامه؛ لغلبة صوابه، ¬
وندرة خطئه (¬1)، فنيطت به التكاليف. انتهى (¬2). قوله: (فنيطت به التكاليف) يعني: أن التكليف يقع بالظن ويسقط بالظن. قال الفهري (¬3) في المعالم (¬4): هذا ضعيف؛ لأنه يؤدي إلى تضييع الواجب، فلا بد في هذا المسقط من التفصيل، فما يتأتى العلم بحصوله، فلا يسقط إلا بالعلم، ولا يسقط بالظن، كميت حاضر بين أيدينا، فإنا خوطبنا (¬5) بتغسيله، وتكفينه، ودفنه، وما يتعذر العلم بحصوله يكفي الظن في سقوطه كما في قيام طائفة بالجهاد (¬6). قال المؤلف في الشرح: فمن غلب على ظنه أن هذه امرأته جاز له وطؤها، أو غلب على ظنه أن هذه غير امرأته حرم عليه وطؤها، أو غلب على ¬
ظنه أن هذا الخمر خل جاز له شربه، أو غلب (¬1) على ظنه أن هذا الخل خمر حرم عليه شربه، أو غلب على ظنه أنه متطهر وهو محدث (¬2) أجزأته صلاته، أو غلب على ظنه أنه محدث لم تجز (¬3) صلاته، وغير ذلك من نظائره مما تعظم (¬4) مشقته، فأسقطه (¬5) الشارع عن الخلق (¬6). قوله: (سؤال: إِذا تقرر الوجوب في فرض الكفاية على جملة الطوائف (¬7) فكيف يسقط عمن لم يفعل بفعل غيره (¬8)؟ مع أن الفعل البدني كصلاة الجنائز (¬9)، والجهاد مثلًا لا يجزئ فيه أحد عن أحد، فكيف (¬10) يسوي الشرع بين من (¬11) فعل، وبين (¬12) من لم يفعل؟). ش: هذا هو المطلب السادس في السبب الذي من أجله سقط فرض الكفاية عن (¬13) تاركه بفعل غيره. ¬
ومعنى كلامه في تقرير (¬1) هذا السؤال أنا إذا قلنا: إن فرض الكفاية واجب على كل واحد ابتداء على القول الصحيح، فإذا فعله البعض سقط عن الغير، فكيف يسقط الوجوب عن التارك بسبب فعل الفاعل؟ مع (¬2) أن القاعدة: أن الفعل البدني لا يجزئ فيه أحد عن أحد، وصلاة (¬3) الجنازة والجهاد من أفعال البدن، وكذلك غيرها (¬4) من فروض الكفاية كغسل الميت، وتكفينه، ودفنه، فالجاري على القواعد ألا يجزئ (¬5) فيه أحد عن أحد، فكيف يسوي الشرع بين من فعل ومن لم يفعل في السقوط؟ فالجاري على القواعد: أن يسقط الوجوب عن الفاعل [دون التارك. قوله: (جوابه: أن الفاعل يساوي غير الفاعل في سقوط التكليف، واختلف (¬6) السبب، فسبب سقوطه عن الفاعل] (¬7): فعله، وعن غير الفاعل: تعذر تحصيل تلك المصلحة التي لأجلها وجب الفعل، فانتفى الوجوب لتعذر حكمته). ش: يعني: أن الفعل مساوٍ للتارك في سقوط الوجوب لا في الثواب؛ إذ لا يثاب إلا الفاعل، ولا يثاب التارك. ¬
ولكن اختلف سبب سقوط (¬1) الوجوب (¬2) فسبب سقوط الوجوب عن الفاعل: فعله، وسبب سقوط الوجوب عن التارك: تعذر تحصيل تلك المصلحة التي لأجلها وجب الفعل فانتفى الوجوب لتعذر حكمته. فالسقوط في حق التارك ليس بفعل الفاعل كما ذكره السائل، وإنما السقوط من وجه آخر وهو: عدم حكمة الوجوب؛ وذلك أن الغريق في البحر مثلًا إذا شيل من البحر انتفى التكليف بعد ذلك، فنزول البحر بعد ذلك لا فائدة فيه لعدم [حكمة الوجوب. فتحصل مما قررناه (¬3): أن التساوي حاصل بين الفاعل والتارك في أصل السقوط، ولا يلزم من] (¬4) حصول التساوي في أصل السقوط حصول التساوي مطلقًا في الثواب وغيره، بل يمتاز الفاعل بالثواب على (¬5) فعله أن فعله تقربًا، وأما غير الفاعل، فإن نوى الفعل ثم سبقه (¬6) إليه غيره، فله ثواب نيته. يدل (¬7) على ذلك: قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (¬8)، يؤخذ منه أن ¬
أولي الضرر يساوونهم. ويدل عليه أيضًا قوله عليه السلام: "إذا شغل العبد عن عمل كان يعمله بمرض ابتلاه الله به، كتب له أجر ذلك العمل ما دام في وثاق (¬1) مرضه" (¬2). ودليله أيضًا: قوله عليه السلام [في] (¬3) الحديث الصحيح ذكره (¬4) البخاري (¬5) عن أنس بن مالك (¬6) قال: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ¬
فقال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم (¬1) العذر" (¬2). قال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن في سورة التوبة في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} (¬3): أعطى الله تعالى للمعذور ما أعطى للقوي العامل بفضله. قال (¬4): وقال بعض الناس: إنما يكون له الأجر غير مضاعف (¬5)، ويضاعف للعامل المباشر، وهذا تحكم على الله تعالى، وتضييق (¬6) لسعة رحمته (¬7). ¬
قوله: (قاعدة: الفعل على قسمين: منه ما تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات (¬1) الخمس؛ فإن مصلحتها الخضوع لذي الجلال، وهو متكرر بتكرر الصلاة (¬2)، ومنه ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كإِنقاذ الغريق، فإِنه إِذا شيل (¬3) من البحر فالنازل بعد ذلك إِلى البحر لا يحصل شيئًا من المصلحة، وكذلك إِطعام الجيعان (¬4) وإِكساء (¬5) العريان، وقتل الكفار (¬6)، فالقسم الأول: جعله الشرع على الأعيان تكثيرًا للمصلحة، والقسم الثاني على الكفاية لعدم الفائدة في (¬7) الأعيان). ش: هذا هو المطلب السابع، وهو قولنا: ما الحكمة في جعل بعض الأحكام على الأعيان, وجعل بعضها على الكفاية؟ قوله: (قاعدة) هذه (¬8) أول القواعد الست (¬9) التي أشار إليها (¬10) في مقدمة الكتاب في قوله: (مع (¬11) أني زدت كثيرًا من القواعد) والمراد (¬12) بالقواعد: القوانين والضوابط. ¬
ومعنى القاعدة: صورة (¬1) كلية تتبين لها جميع جزئياتها. قال المؤلف في الشرح: هذه القاعدة هي: سر (¬2) ما يشرع على الكفاية، وما يشرع في الأعيان، وهو تكرار (¬3) المصلحة وعدم تكررها، فمن علم ذلك علم ما هو على الكفاية (¬4) وما هو على الأعيان في الشريعة، غير أنه يشكل على هذه القاعدة صلاة الجنازة؛ فإنها ينبغي ألا تكون على الكفاية وأن تشرع إعادتها وتكررها كما قاله الشافعي (¬5) - رضي الله عنه - فإن مصلحتها المغفرة للميت ولم يعلم حصولها، فينبغي أن يصلى عليه أبدًا وتكون على الأعيان، مع أنهم جعلوها على الكفاية، بخلاف إنقاذ الغريق وشبهه، فإن مصلحته قد حصلت فلا فائدة في تكريره. والجواب: أن مصلحة صلاة الجنازة: حصول المغفرة ظنًا، وقد حصلت المغفرة ظنًا بالطائفة الأولى؛ لأن الدعاء مظنة الإجابة، لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬6). و (¬7) لأن العلم بحصول المغفرة متعذر؛ فيتعين (¬8) الظن (¬9)، فاندرجت ¬
صلاة (¬1) الجنازة في فرض الكفاية، وامتنعت الإعادة كما قاله (¬2) مالك - رضي الله عنه -. وسبب الخلاف بين مالك والشافعي في تكرير (¬3) الصلاة على الجنازة حصول المصلحة، وعدم حصولها: فمالك قال: حصلت المصلحة وهي: المغفرة اعتمادًا على الظن فلا تكرر الصلاة على الجنازة. والشافعي قال: لم تحصل المصلحة وهي: المغفرة اعتمادًا على العلم فتكرر الصلاة على الجنازة. قال بعض الشراح (¬4): [مصلحة صلاة الجنازة هي: الاستغفار، وهو: طلب المغفرة لا نفس المغفرة، فهذه المصلحة] (¬5) قد حصلت قطعًا لا ظنًا كما زعمه الشهاب (¬6). وهذا الذي قاله هذا الشارح ضعيف؛ لأن الاستغفار الذي هو: طلب الدعاء وسيلة، والمقصود هو: حصول المغفرة نفسها لا طلبها، وإنما الخلاف: هل المطلوب ظن حصولها كما قال مالك؟ أو علم حصولها كما قاله ¬
الشافعي - رضي الله عنهما - (¬1). فإذا قلنا: المطلوب ظن حصول المغفرة: فقد (¬2) حصل ظنها بالمرة الأولى فلا تعاد. وإذا قلنا: المطلوب علم حصولها: فلم يحصل علمها فتعاد. قوله (¬3): (فوائد (¬4) [ثلاث] (¬5): الأولى: الكفاية والأعيان (¬6) كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات، كالأذان، والإِقامة (¬7)، والتسليم، والتشميت، وما يفعل بالأموات من المندوبات، فهذه (¬8) على الكفاية، وعلى الأعيان: كالوتر، والفجر، وصيام الأيام الفاضلة، وصلاة العيدين (¬9)، والطواف (¬10) في غير النسك، والصدقات). ش: هذا هو المطلب الثامن، وهو الفوائد الثلاث التي ذكرها المؤلف. قوله: (الأولى: الكفاية والأعيان) إلى آخره. ومقصود المؤلف بهذه الفائدة التنبيه: على أن الندب يوصف بالكفاية ¬
والأعيان (¬1) كما يوصف به الفرض؛ لأن أكثر الناس إنما يتخيلون ذلك في الفرض خاصة دون النفل (¬2). قوله: (كالأذان) أي (¬3): إذا كان سنة، وهو إذا لم يقصد به إظهار شعائر الإِسلام، وإنما قصد به الإعلام بدخول الوقت؛ لأنه إذا قصد به إظهار الإِسلام يكون (¬4) فرضًا، وإذا قصد به الإعلام بدخول الوقت (¬5) كان (¬6) سنة (¬7). ¬
قوله: (والإِقامة) أي: إقامة الصلاة. يعني: إقامة الصلاة في حق الجماعة، وأما إقامة الصلاة في حق المنفرد فهي سنة على الأعيان. قوله: (والتسليم) أي: التحية بين الناس، وهو (¬1) السلام عليكم، أو سلام عليكم، يعني الابتداء به؛ [لأن الابتداء بالسلام سنة على الكفاية على المشهور. وقيل: فرض كفاية] (¬2). وأما رده (¬3) فهو: فرض كفاية على المشهور. وقيل: هو (¬4) فرض عين. [وقال ابن أبي زيد في رسالته: ورد السلام واجب، والابتداء به سنة مرغّب فيها، وقال: و (¬5) إذا سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، وكذلك إن ¬
رد واحد منهم (¬1)] (¬2). قوله: (والتشميت) أي: تشميت (¬3) العاطس، وهو: أن يقول له من سمع حمده (¬4): يرحمك الله. ويقال: تشميت العاطس، وتسميت العاطس بالشين المعجمة، وبالسين (¬5) المهملة. ومعناه بالمعجمة (¬6): أبعد الله عنك الشماتة وجنّبك ما [يشمت به عليك (¬7)، والعرب تقول] (¬8): شمت به شماتة إذا سر ببلاء نزل به (¬9). وفي الحديث: "لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك" (¬10). ¬
ومعناه بالمهملة: جعلك الله على سمة حسنة. وهي: الرجوع إلى حالته التي كان عليها قبل العطاس (¬1). قوله: (والتشميت) أي: على القول بسنيته (¬2)؛ إذ فيه قولان: سنة، وفرض. وفي كل واحد من (¬3) هذين القولين قولان (¬4): قيل: على الأعيان. وقيل: على الكفاية (¬5). ¬
قوله: (وما يفعل بالأموات من المندوبات) كتلقين المحتضر، وتوجيهه إلى القبلة (¬1) وإغماضه، وتحنيطه، وأما غسله، وكفنه، وحمله ودفنه (¬2) فذلك كله واجب. قوله: (فهذه على الكفاية) أي: هذه الأمور الخمسة كلها مندوب إليها على الكفاية، أي: يكفي فيها من قام بها. قوله: (وعلى الأعيان) أي (¬3): وأما المندوبات على الأعيان كالوتر، والفجر، وصيام الأيام الفاضلة. قال بعضهم: الأيام الفاضلة هي سبعة أيام في السنة. وقال بعضهم: هي عشرة أيام. وقال بعضهم: هي ثلاثة عشر يومًا. من قال: هي سبعة أيام جمعت (¬4) في هذه الأبيات، وهي هذه (¬5): والجيم والياء من المحرم ... جيم رجب أيضًا وزك تفهم ويه بشعبان وهك بالقعدة ... سابعها التاسع من ذي الحجة ¬
صيامها ما دمت (¬1) بالحياة ... بادر وحاذ منهج الثقات (¬2) ومن قال: هي عشرة أيام، أو ثلاثة عشر، فهي مجموعة في هذه الأبيات، وهي هذه: وثالث وعاشر المحرم ... جيم وزك من رجب المعظم والخامس عشر من شعبان ... ثم هك من قعدة الأمان وأول وسابع وثامن ... وتاسع من حجة يا فاطن والصوم في الثلاثة الأيام ... من كل شهر كصيام العام فهذه الأيام بالصيام ... تخص (¬3) عند فقها الأنام (¬4) قوله: (والطواف في غير النسك) أي: في غير الحج والعمرة الواجبين، معناه: الطواف غير الواجب، وكذلك صلاة الاستسقاء، وصلاة (¬5) الكسوف (¬6)، والخسوف (¬7)، وتحية المسجد، وصلاة الضحى (¬8)، ¬
وقيام الليل، وغير ذلك، فهذه المندوبات كلها على الأعيان. قوله: (الثانية: نقل صاحب الطراز وغيره: أن اللاحق بالمجاهدين وقد كان سقط عنه الفرض (¬1): يقع فعله فرضًا بعدما لم يكن واجبًا عليه، وطرده (¬2) غيره من العلماء في سائر فروض الكفاية، كمن يلتحق بمجهز (¬3) الأموات من الأحياء أو (¬4) بالساعين (¬5) في تحصيل العلم من العلماء، فإِن ذلك الطالب للعلم يقع فعله واجبًا معللًا لذلك؛ فإِن (¬6) مصلحة الوجوب لم تتحقق (¬7) بعد (¬8) ولم تحصل إِلا بفعل الجميع، فوجب (¬9): أن يكون فعل الجميع واجبًا ويختلف ثوابهم بحسب (¬10) مساعيهم). ش: قوله: (وطرده بعضهم) أي: عممه. قوله: (مجهز (¬11) الأموات) أي: فيما هو فرض من التجهيز؛ كالغسل والتكفين (¬12) والصلاة، والدفن. ¬
قوله: (فإِن ذلك الطالب (¬1)) يعني به: اللاحق. قوله: (معللًا) أي: محتجًا، وهو حال من الغير أو من صاحب الطراز (¬2). قوله: (لذلك الحكم) أي (¬3): الذي هو مساواة اللاحق والسابق (¬4). قوله: (لم تتحقق بعد) أي: لم تحصل بعد وصول اللاحق. قوله: (بفعل الجميع) يعني: اللاحق والسابق. قال المؤلف في الشرح: الوجوب يتبع المصلحة، فإذا لم تحصل المصلحة بقي الخطاب بالوجوب، فمن أوقع مصلحة الوجوب استحق ثواب الواجب، والجميع موقع لمصلحة الوجوب [فوجب اشتراكهم في ثواب الواجب، والكلام حيث لم تتحقق المصلحة] (¬5)، أما من جاء بعد تحقيقها (¬6) فلا. ¬
انتهى نصّه (¬1). قال المؤلف في القواعد: يرد على حد الواجب: بأن هذا اللاحق بالمجاهدين أو بغيرهم (¬2) كان له الترك إجماعًا من غير ذم، ومع ذلك فقد وصف فعله بالوجوب، وعدم الذم على تركه، وذلك مناقض لحد الواجب. والجواب: أن الوجوب في هذه الصورة مشروط بالاتصال، [والاجتماع مع الفاعلين، فإن ترك مع الاجتماع أثم، والترك (¬3)] (¬4) مع الاجتماع لا يتصور إلا بترك الجميع، والعقاب حينئذ متحقق، والقاعدة: أن الوجوب المشروط بشرط ينتفي (¬5) عند انتفاء ذلك الشرط، فإذا كان منفردًا عنهم (¬6) فشرط الوجوب مفقود: فينتفي الوجوب (¬7). قوله: (الثالثة: الأشياء المأمور بها على الترتيب، أو على البدل قد يحرم الجمع بينها (¬8)؛ كالمباح، والميتة من المرتبات، وتزويج المرأة من أحد (¬9) الكفأين من المشروع على سبيل البدل، وقد يباح كالوضوء، والتيمم ¬
من المرتبات، والسترة من (¬1) أحد الثوبين من باب البدل، وقد يستحب (¬2) كخصال الكفارة في الظهار (¬3) من المرتبات (¬4)، وخصال كفارة الحنث (¬5) مما شرع (¬6) على البدل). ش: ذكر المؤلف في هذه الفائدة الثالثة (¬7): أحكام المأمورات المرتبات، والمخيرات. ومعنى المرتبات: هي الأشياء التي لا يجوز فعل الثاني منها إلا عند تعذر الأول، حسًا، أو شرعًا. ومعنى المخيرات: هي الأشياء التي يتخير المكلف بينها. فذكر المؤلف أن هذه المأمورات بجملتها (¬8)، أعني: ذوات الترتيب، وذوات التخيير - لها ثلاثة أحكام بالنسبة إلى جمعها، وهي: تحريم جمعها، وإباحة جمعها، واستحباب جمعها. مثال تحريم جمعها في المرتبات: كأكل المباح، وأكل الميتة؛ فلا يجوز الجمع بينهما؛ إذ لا يجوز الإقدام على أكل الميتة إلا عند تعذر أكل المباح. ¬
وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: (كالمباح والميتة من المرتب) (¬1). ومثال تحريم جمعها في المخيرات (¬2): تزويج المرأة من أحد الكفأين؛ فإن الولي يتخير في تزويج وليته ممن شاء من الكفأين، ولا يجوز أن يزوجها (¬3) منهما معًا؛ إذ لا يجوز في الشريعة المحمدية أن يتزوج رجلان امرأة واحدة. وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: (وتزويج المرأة (¬4) من أحد الكفأين من المشروع على سبيل البدل)، أي: على سبيل التخيير، أي: يتخير في (¬5) أيهما شاء. ومثال إباحة الجمع بينهما في المرتبات: الوضوء والتيمم؛ [فيجوز الجمع بين الوضوء والتيمم] (¬6). قال المؤلف في الشرح: إباحة التيمم مع الوضوء معناه: صورة التيمم، أما التيمم الشرعي المبيح للصلاة فلا تتصور حقيقته (¬7) مع الوضوء؛ لأنه حينئذ غير مشروع طهارة، وإن أبيحت صورته (¬8). ¬
فإباحة التيمم في (¬1) الوضوء إذًا إنما هو من حيث الصورة لا من حيث المشروعية (¬2). وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: وقد يباح، يعني: الجمع كالوضوء والتيمم من المرتبات. ومثال إباحة الجمع في المخيرات: التستر (¬3) بأحد الثوبين الطاهرين في الصلاة، فإن المصلي يباح له أن يجمع بين الثوبين فيصلي بهما معًا، كما يجوز له أن يصلي بواحد منهما. وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: والسترة (¬4) بأحد الثوبين من باب البدل، أي: من باب التخيير. ومثال استحباب الجمع [بينها] (¬5) في المرتبات: خصال الكفارة في الظهار؛ فإن المظاهر إن كان موسرًا ففرضه العتق، وإن كان (¬6) معسرًا (¬7) ففرضه الصيام، وإن كان عاجزًا ففرضه الإطعام، فإن المظاهر يستحب له أن يجمع بين الخصال الثلاثة (¬8). وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: وقد يستحب لخصال الكفارة في الظهار من ¬
المرتبات، وإنما يستحب له الجمع بينها؛ لأنها كلها مصالح وقربات. قال أبو إسحاق الشيرازي - في مختصره في الأصول -: فإن جمع (¬1) من فرضه العتق بين الجميع (¬2): سقط الفرض عنه بالعتق، وما عداه تطوع، وإن جمع من فرضه الصيام بين الجميع: ففرضه أحد (¬3) الأمرين من العتق، أو الصيام، والإطعام، تطوع، وإذ جمع من فرضه الإطعام بين الجميع: ففرضه واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة (¬4). ومثال استحباب الجمع بينها في المخيرات (¬5): خصال كفارة الحنث في اليمين بالله تعالى؛ لأن كفارة اليمين مخيرة، فيتخير الحانث فيها بين العتق، والكسوة، والإطعام. وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: وخصال كفارة الحنث مما شرع [على البدل أي] (¬6): على التخيير بين تلك الأشياء. قال القاضي (¬7) أبو الوليد الباجي - في الفصول -: إن فعل المكلف واحدًا من خصال كفارة اليمين: كان هو الواجب، وإن فعلها كلها، فإن نوى بأداء فرضه واحدًا منها: كان هو الواجب دون غيره (¬8)، وإن نوى جميعها: كان ¬
الواجب أعلاها وأكثرها ثوابًا، وأما إذا لم يفعل منها شيئًا (¬1): فقيل: إن العقاب يكون على ترك أدناها؛ لأنه لو فعله لبرئت (¬2) الذمة (¬3). قال المؤلف في الشرح: كفارة الظهار مرتبة، وكفارة اليمين بالله تعالى (¬4) مخيرة، والكل يستحب الجمع (¬5) بين خصالها من العتق، والكسوة، والطعام، والصيام؛ لأنها مصالح وقربات تكثر وتجتمع (¬6)، وإن كان بعضها إذا انفرد لا يجزئ في المرتبات (¬7). قوله: (فرع: اختار القاضي عبد الوهاب: أن (¬8) الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إِما مندوب، أو (¬9) ساقط). ش: هذا هو المطلب التاسع في الأمر المعلق على الاسم الذي له مراتب، هل يتعلق (¬10) بأولها (¬11) أو بآخرها؟ ¬
هذه المسألة مشهورة بالأخذ (¬1) بأوائل الأسماء، أو بأواخرها (¬2) , ففي ذلك قولان للعلماء. ومعنى هذه المسألة: أن الحكم إذا علق على معنى كلي له محال كثيرة، وجزئيات متباينة في العلو، والسفل، والكثرة، والقلة (¬3)، هل يقتصر (¬4) بذلك الحكم على أدنى المراتب لتحقق المسمى بجملته فيه؟ أو يسلك (¬5) به طريق الاحتياط فيقصد في ذلك المعنى الكلي أعلى المراتب؟ ففي ذلك قولان: والمختار عند القاضي عبد الوهاب في كتابه الملخص: أن يقتصر به على أقل مراتبه (¬6). مثال ذلك قوله عليه السلام: "إذا ركعت فاطمئن راكعًا" (¬7). ¬
فهذا أمر بالطمأنينة، فهل يكتفى بأدنى رتبة تصدق فيه الطمأنينة؟ أو يقصد أعلاها؟ قولان للعلماء. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "خللوا الشعر وأنقوا البشر (¬1)، فإن تحت كل شعرة جنابة" (¬2). فهذا أمر بالتدلك فهل يقصر على أدنى رتبة التدلك؟ أو يقصد أعلاها (¬3)؟ قولان للعلماء. ¬
قوله: (والزائد على ذلك إِما مندوب، أو ساقط). فالمندوب كزيادة الطمأنينة، والساقط (¬1) كزيادة التدلك، فإن الشرع لم يندب لزيادة التدلك كما ندب لزيادة الطمأنينة (¬2). [فرع (¬3): الطمأنينة. والتدلك. وحكاية الأذان. والتفرقة في الأم وولدها. وحضانة الولد. والحلف بالحرام. قيل: الطلاق الثلاث. وقيل: الطلقة الواحدة. وكذلك الشك في عدد الطلاق. ومن ذلك: الرشد في اليتامى. قيل: الرشد في المال خاصة، قاله مالك. وقيل: الرشد في المال والدين، قاله الشافعي. ¬
ومن أمثلة هذه القاعدة أيضًا: الأمة المتواضعة للاستبراء: قيل: يعد الاستبراء بأول دخولها في الحيض. وقيل: بخروجها من الحيضة. ومنه أيضًا: من اشترى نخلًا فأثمرت عنده، ثم ردت النخلة بعيب أو استحقاق، أو شفعة، أو فساد البيع، أو بغير ذلك، ففي كل ذلك قولان: قيل: الغلة للمشتري بالطيب. وقيل: بالجذاذ. وقال بعض المدنيين: الغلة للمشتري بالأبار. قوله: (والزائد على ذلك)] (¬1). قال المؤلف في الشرح: [ووجه الاقتصار على أول المراتب (¬2) جمعًا بين الدال على الوجوب، وأن الأصل براءة الذمة، كما أنه لو وجب (¬3) عتق رقبة واقتصرنا على مسمى الرقبة أجزأ، وإن كانت أدنى الرقاب (¬4). ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "إذا سمعتم المؤذن (¬5) فقولوا مثل ما يقول المؤذن (¬6) " (¬7). ¬
فإن المثلية تصدق في اللغة بأي وصف كان من غير شمول لجميع الأوصاف، كقولنا (¬1) مثلًا (¬2): زيد مثل الأسد، يكتفى في ذلك (¬3) بالشجاعة دون سائر الأوصاف، فالمثل (¬4) المذكور في الحديث إن حمل على أعلى (¬5) المراتب فيحكى إلى (¬6) آخر الأذان، وإن حمل على أدنى المراتب فيحكى إلى آخر التشهدين (¬7) وهو مشهور المذهب المالكي (¬8). ¬
ومثاله أيضًا قوله عليه السلام في التفرقة (¬1) بين الأمة (¬2) وولدها: "لا توله والدة (¬3) عن (¬4) ولدها" (¬5). فإن هذا عام في أشخاص الولد (¬6)، والقاعدة: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فهو إذًا مطلق في أحوال الولد، فإذا كان مطلقًا في الأحوال فيتناول أمرًا كليًا، فيصدق في رتبة دنيا، وهي: الإثغار (¬7)، ويصدق في رتبة (¬8) عليا وهي: البلوغ، فهل يقصد بهذا أعلى الرتب (¬9) وهو (¬10) البلوغ؟ أو يقتصر (¬11) به على أدنى الرتب، وهو الإثغار؟ ¬
وهذا هو المشهور في المذهب (¬1) المالكي. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام في الحضانة: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (¬2). وهذه الأحقية (¬3) أدنى مراتبها: الإثغار (¬4)، وأعلاها: البلوغ، و (¬5) المشهور هو (¬6): البلوغ في المذهب المالكي. [ومثاله أيضًا: قوله أنت عليّ حرام، فهل (¬7) يحمل على أعلى مراتب (¬8) التحريم؟ وهو: الثلاث، أو يحمل على أدناها (¬9) وهو الطلقة الواحدة؟] (¬10). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬11): ¬
فقيل: يحمل على أدنى مراتب الرشد، وهو: الرشد في المال خاصة، وهو مذهب مالك رحمه الله (¬1). أو يحمل على أعلى (¬2) مراتب الرشد، وهو: الرشد في المال والدين، وهو مذهب الشافعي (¬3) رحمه الله تعالى (¬4). [ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬5). فهل يحمل على أدنى المراتب؟ وهو مطلق ما يسمى صعيدًا، ترابًا كان أو غيره من أنواع الأرض، وهو: مذهب مالك رضي الله عنه (¬6). أو يحمل على أعلى (¬7) مراتب الصعيد، وهو: التراب، وهو مذهب الشافعي (¬8) رضي الله عنه] (¬9). قوله: (الأمر المعلق (¬10) على الاسم). يريد الاسم الكلي ولا يريد الاسم الكل، فالكلي يقابله الجزئي، والكل يقابله الجزء، وقد تقدم لنا في الفصل الخامس من الباب الأول بيان ذلك (¬11). ¬
فالكلي هو الذي لا (¬1) يمنع تصوره من الشركة (¬2) فيه؛ كالإنسان مثلًا؛ فإنه يصدق على جميع أشخاص الأناسي (¬3). والجزئي هو الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه (¬4) كسائر أشخاص الإنسان؛ كزيد، وعمرو، وهند، ودعد. ومعنى الكل هو: الحكم على المجموع من حيث هو مجموع كأسماء الأعداد كالعشرة (¬5) مثلًا. ومعنى الجزء: ما تركب مثله ومن غيره كل (¬6) كالخمسة مع العشرة، فمحل الخلاف الذي ذكر المؤلف - رحمه الله - هو: المعنى الكلي (¬7) دون المعنى (¬8) الكل، فإن الكلي إذا علق عليه الحكم فاختلف فيه هل يحمل على جميع جزئياته؟ أو يحمل على أدنى جزئياته؟ قولان كما تقدم في الطمأنينة وفي التدلك وغيرهما. وإنما قلنا: موضع هذا الخلاف هو: المعنى الكلي دون معنى الكل؛ لأن الكلي لا يدل على جزئياته بخلاف الكل (¬9)، فإنه يدل على جزئياته (¬10). ¬
وإنما قلنا: الكلي لا يدل على جزئياته؛ لأنك إذا قلت: في الدار جسم، لا يدل على (¬1) أنه حيوان، وإذا قلت: فيها حيوان لا يدل على (¬2) أنه إنسان، وإذا قلت: فيها إنسان لا يدل على أنه رجل، وإذا (¬3) قلت: فيها رجل، لا يدل على أنه زيد فظهر لك بهذا: أن الكلي لا يدل على تعيين جزء (¬4) من جزئياته. وإنما قلنا: الكل يدل على أجزائه؛ لأنك إذا قلت: عندي عشرة، فإنه يدل (¬5) على خمسة، وعلى ستة، وعلى جميع أجزائه التي هي: الوحدات (¬6) التي تركب منها العشرة، وإذا قلت: عندي نصاب وهو عشرون دينارًا، فإنه يدل على أن عنده (¬7) عشرة دنانير، وغيرها من سائر الأجزاء التي تركب منها العشرون. فقولنا: الكلي (¬8) لا يدل على جزئياته، هذه القاعدة مطردة لا تفصيل فيها؛ لأن الكلي دال على الأعم، فالدال على الأعم غير دال على الأخص. ¬
وقولنا: الكل (¬1) يدل على أجزائه (¬2)، هذه القاعدة مطردة في الإيجاب دون السلب، وإنما قلنا (¬3): مطردة في الإيجاب؛ لأنك إذا قلت: عندي عشرة، فإنه يدل على أن عندك خمسة، وجميع الأجزاء التي تركب منها العشرة، وكذلك إذا قلت: عندي نصاب، فإنه يدل على أن عندك عشرة وخمسة وجميع الأجزاء التي تركب منها النصاب الذي هو العشرون (¬4). وإنما قلنا: لا تطرد في السلب؛ لأنك إذا قلت: ليس عنده عشرة لا يلزم ألا يكون عنده خمسة أو تسعة، وكذلك إذا قلت: ليس عنده نصاب لا يلزم ألا يكون عنده عشرة أو تسعة عشر (¬5). وإنما قلنا: دلالة الكل على أجزائه مطردة في الثبوت دون النفي؛ لأن الحقيقة لا تثبت إلا لجميع (¬6) أجزائها، وتنعدم الحقيقة بعدم جزء واحد (¬7) من أجزائها، فلا يثبت النصاب مثلًا إلا بجميع ثبوت (¬8) العشرين دينارًا، وينعدم النصاب بعدم دينار واحد من العشرين. فإذا تقرر هذا تبين لك: أن محل الخلاف الذي ذكره المؤلف إنما هو الكلي لا الكل، فإذا قال الله تعالى مثلًا: صوموا رمضان، فهذا أمر بالكل، وهو ¬
مجموع أيام شهر رمضان، فلو حملنا الأمر على أدنى أجزائه فصمنا يومًا واحدًا مثلًا ففيه مخالفة للفظ صاحب الشرع، [ومخالفة لفظ صاحب الشرع] (¬1) لا تجوز، بخلاف ما إذا قال الله تعالى: اعتقوا رقبة، فعتقنا رقبة تساوي عشرة، وتركنا رقبة تساوي ألفًا، فليس هذا (¬2) مخالفة للفظ صاحب الشرع (¬3). فقوله (¬4): (الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله)، يعني بالاسم (¬5): الكلي دون الاسم الكل. قال المؤلف في الشرح: وكثير من الفقهاء غلط في تصوير هذه المسألة حتى خرج عليها (¬6) ما ليس من فروعها ظنًا أنها من فروعها. فقال أبو الطاهر وغيره: التيمم إلى الكوعين، أو إلى المرفقين، أو إلى الإبطين، ثلاثة أقوال، أن ذلك يتخرج على هذه القاعدة، هل يؤخذ بأوائل الأسماء فيقتصر على الكوع (¬7)؟ أو بأواخرها فيصل إلى الإبطين؟ ويجعلون كل (¬8) ما هو من هذا (¬9) الباب مخرجًا على هذه القاعدة وهذا باطل ¬
إجماعًا. ومنشأ الغلط: إجراء أحكام [الجزئيات على الأجزاء] (¬1) والتسوية بينهما، ولا خلاف أن الحكم في الكل لا يقتصر به على جزئه، فلا تجزئ (¬2) ركعة عن (¬3) ركعتين في الصبح، ولا يوم عن شهر رمضان في الصوم (¬4)، ونظائره كثيرة. انتهى نصه (¬5). [فقول المؤلف: (يقتضي الاقتصار على أوله)، أي: على أول جزئياته لا أول أجزائه. والفرق بين الجزئي والجزء: أن الجزئي يستلزم الكلي، ولا يستلزم الجزء الكل؛ فلأجل ذلك أجزأ الجزئي عن الكلي، ولا يجزئ الجزء عن الكل؛ لأن أدنى رتبة الطمأنينة: طمأنينة (¬6)، وأدنى رتبة (¬7) التدلك: تدلك، وليست (¬8) الركعة ركعتين، ولا يوم (¬9) من الشهر شهرًا في الصوم. وسبب الخلاف في الحقيقة في (¬10) منتهى التيمم من اليد، هل الكوع، أو المرفق، أو الإبط، هو: الخلاف في المطلق إذا دار بين مقيدين، هل يحمل ¬
على أقيسهما أو يبقى على إطلاقه؟ فمنهم من حمل آية التيمم على آية القطع؛ لأن آية القطع قيدتها (¬1) السنة بالكوع فيتيمم إلى الكوعين؛ لأنه عضو أطلق النص فيه (¬2) فيختص بالكوعين قياسًا على القطع في السرقة. ومنهم من حملها على آية الوضوء؛ لأن القرآن قيدها (¬3) بالمرفق، وهذا أقيس لاشتراك التيمم والوضوء (¬4) (¬5) في جنس الطهارة، فحمل الشيء على جنسة أولى من حمله على غير جنسه. ومنهم من أبقاها على إطلاقها؛ إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، فقال: يتيمم إلى الإبط؛ لأنه مسمى اليد لغة، فلذلك لما نزلت آية التيمم تيمم الصحابة إلى الإبط] (¬6). قال المؤلف في القواعد: وبهذا يظهر بطلان من (¬7) يخرج الخلاف في غسل الذكر من المذي، هل يقتصر فيه على الحشفة؟ أم (¬8) لا بد من جملته على ¬
هذه القاعدة؛ لأن هذا (¬1) اقتصار على جزء لا على (¬2) جزئي، فهذا بمنزلة الاقتصار على يوم من رمضان، فلا يصح. انتهى نصه (¬3). قوله: (الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله) هذا الخلاف ليس بمطلق في جميع فروع هذه (¬4) القاعدة، بل فروعها ثلاثة أقسام: قسم يجب الحمل فيه (¬5) على أعلى (¬6) المراتب بالإجماع، و (¬7) هو: الأمر بالتوحيد، والتعظيم، والإجلال في ذات الله تعالى وصفاته (¬8). وقسم يجب فيه الحمل على أدنى المراتب وهو: الأقارير (¬9)، كقول المقر له: عندي دنانير؛ فإنه يحمل على أدنى المراتب في الجميع (¬10)، وهو أقل الجمع بالإجماع، فيقبل تفسيره بأقل المراتب (¬11) وهو ثلاثة، وإن كان لفظه يصدق على الألف؛ لأن الأصل براءة الذمة. ¬
وليس الأصل في القسم الأول إهمال (¬1) جانب الربوبية، بل الأصل تعظيمها والمبالغة في إجلال الله تعالى بكل ما يمكن للعبد، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} (¬2)، وقال مع ذلك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (¬3). وقسم مختلف فيه، وهو: ما عدا هذين القسمين (¬4) كما تقدم من أمثلته، انظر: القواعد السنية في الفرق الحادي (¬5) والعشرين بين قاعدة الحمل على أول جزئيات المعنى، وقاعدة الحمل على أول أجزائه (¬6)، وبالله التوفيق (¬7). ... ¬
الفصل السابع في وسيلته
الفصل السابع في وسيلته (¬1) ش: وفي هذا الفصل مطلبان: أحدهما: في حكم الوسيلة. والثاني: في أقسامها. ومعنى الوسيلة: عبارة عن المقدمة التي يتوقف عليها تحصيل الشيء. والضمير في قوله: (وسيلته) يعود على الواجب (¬2). [قال بعضهم: ظاهر الترجمة يقتضي: عود الضمير على الأمر لقرينة الباب، وباطن الترجمة يقتضي: عوده على الواجب] (¬3) يدل عليه (¬4) قوله (¬5): ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، ويحتمل عوده على الأمر. وإنما أعاده المؤلف على الأمر، وإن كان عائدًا على الواجب في الحقيقة ¬
للملازمة (¬1) بين الأمر والواجب، تقدير (¬2) الكلام: في حكم وسيلة الواجب على حذف المضاف، ومعنى ذلك: هل تجب وسيلة الواجب بالأمر الأول الذي وجب به الواجب أم لا؟ وبسط الكلام: هل تجب وسيلة الفعل المأمور به بالأمر الأول الذي وجب به الفعل المأمور به أم لا؟ قوله: (وعندنا وجمهور العلماء (¬3) ما لا يتم الواجب المطلق إِلا به، وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه). ش: ذكر المؤلف - رحمه الله - ها هنا أن وسيلة الواجب تكون واجبة (¬4) بشرطين: أحدهما: أن يكون الواجب مطلقًا لا مقيدًا. والشرط الثاني: أن تكون تلك الوسيلة مقدورًا للمكلف؛ أي: يمكن تحصيلها للمكلف احترازًا من المعجوز عنها. قوله: (الواجب المطلق) أي (¬5): الواجب الذي أطلق إيجابه أي: لم يقيد إيجابه بسبب، ولا شرط (¬6)، ولا مانع. ¬
قوله: (فالقيد الأول) يعني به: قوله: (المطلق) احترازًا من الواجب المقيد بأسباب الوجوب، وشروطه، وانتفاء موانعه؛ فإنها لا تجب إجماعًا مع توقف الوجوب عليها. مثاله قوله عليه السلام: "في عشرين دينارًا نصف دينار" (¬1) فالنصاب سبب، والدين مانع، فلا يجب على المكلف السعي في تحصيل النصاب (¬2) لتجب عليه الزكاة، ولا السعي (¬3) في نفي الدين لتجب عليه الزكاة. [ومثال الشرط: الإقامة شرط في وجوب الجمعة والصوم، فلا يجب على المكلف تحصيل الإقامة لتجب عليه الجمعة أو (¬4) الصوم] (¬5) وإن كان الوجوب (¬6) متوقفًا على ذلك. قال المؤلف في الشرح: أجمع المسلمون أن (¬7) ما يتوقف الوجوب عليه (¬8) من سبب، أو شرط، أو انتفاء مانع لا يجب تحصيله؛ كالنصاب في وجوب ¬
الزكاة، فلا يجب تحصيله إجماعًا، وكالإقامة في وجوب الصيام، فلا يجب تحصيلها لذلك (¬1) إجماعًا، وكالدين في منع وجوب الزكاة، فلا يجب دفعه لتجب الزكاة إجماعًا. وإنما النزاع فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تحقق الوجوب: فقيل: يجب؛ لتوقف الواجب عليه. وقيل: لا يجب؛ لأن الأمر ما اقتضى إلا تحصيل المقصد، أما الوسيلة فلا؛ ولأنه إذا ترك المقصد كصلاة الجمعة، أو الحج مثلًا، فإنما (¬2) يعاقب على ترك الجمعة والحج (¬3)، أما المشي (¬4) إلى الجمعة أو الحج فلم يدل دليل على أنه يعاقب عليه، فإذا انتفى استحقاق العقاب انتفى الوجوب؛ لأن استحقاق العقاب من خصائص الوجوب. انتهى نصه (¬5). قوله: (الواجب المطلق) يقتضي شيئين: واجب مطلق، وواجب مقيد. مثال المطلق: قول السيد لعبده: اصعد السطح، هذا محل الخلاف، هل يجب على العبد تحصيل آلة الصعود، أم لا. ومثال المقيد: قول السيد لعبده (¬6): إذا نصب السلم (¬7) فاصعد السطع، ¬
فلا يجب على العبد في هذا تحصيل السلم (¬1) إجماعًا. قوله: (فالقيد (¬2) الأول: احترازًا من أسباب الوجوب وشروطه (¬3)، فإنها لا تجب إِجماعًا مع التوقف (¬4)). أشار بهذا الكلام إلى شروط الوجوب، وهي: الأشياء التي يتوقف عليها الوجوب، فلا يجب على المكلف تحصيلها إجماعًا كالجماعة والإمام والاستطانة لصلاة الجمعة. [قوله: (و (¬5) إِنما الخلاف فيما تتوقف (¬6) عليه الصحة بعد الوجوب) أشار بهذا الكلام إلى شروط الأداء، وهي: الأشياء التي تجب على المكلف بعد ورود الواجب؛ كالطهارة للصلاة، والسعي إلى الجمعة، والحج، وغير (¬7) ذلك, فشروط (¬8) الأداء إذًا هي محل الخلاف] (¬9). قوله: (والقيد الثاني: احترازًا (¬10) من توقف فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم الله تعالى، وإِرادته وقدرته بإِيجاده، ولا يجب على المكلف ¬
تحصيل ذلك إِجماعًا). ش: أراد بالقيد الثاني قوله (¬1): وهو مقدور للمكلف، [أي: يمكن تحصيله للمكلف] (¬2): احترازًا مما لا يمكن تحصيله للمكلف. قال المؤلف في الشرح: قولي مقدور للمكلف: احترازًا من المعجوز عنه؛ فإنه لا يجب بناء على (¬3) نفي (¬4) التكليف بما لا يطاق وإن كنا نجوّزه (¬5). الباء الجارة في قوله: (بإِيجاده) متعلقة بتعلق. والضمير في قوله: (بإِيجاده) يعود على فعل العبد؛ لأن كل فعل وقع (¬6) في الوجوب لا بد أن يتعلق بهذه الصفات الثلاث: علم الله تعالى لإيجاده، وإرادته تعالى لإيجاده، وقدرته تعالى بإيجاده. [فإن العبد من المحال أن يصلي مثلًا حتى يقدر الله تعالى له أن يصلي، ويعلم الله تعالى أنه يصلي، ويخلق الله تعالى له حركات الصلاة وسكناتها، فتعلق هذه الصفات شرط في إيقاع الواجب، ولا يمكن إيجابها على العبد لعجزه عن التصرف في صفات (¬7) الله تعالى] (¬8). قوله: (وقالت الواقفية: إِن كانت الوسيلة سبب المأمور به وجبت وإِلا ¬
فلا). ش: هذا قول ثالث بالتفصيل بين السبب وغيره، من شرط (¬1) وانتفاء مانع. ووجه هذا القول: أن المسبب (¬2) لا وجود له عند انتفاء سببه (¬3)، فالأمر بالمسبب أمر بالسبب؛ لأن السبب (¬4) يلزم من وجوده الوجوب، ومن عدمه العدم بخلاف الشرط؛ لأنه لا يلزم من وجود (¬5) الشرط وجود المشروط فلا يكون الأمر بالمشروط أمرًا بالشرط. مثال ذلك في السبب: أمر السيد لعبده بإشباع زيد، فإنه أمر بإطعامه؛ لأن الإطعام سبب الإشباع أي: علته. [ومثاله في الشرط: أمرالشارع بالصلاة، فلا يكون أمرًا بالطهارة إلا بدليل آخر يدل على وجوب الطهارة] (¬6). ومثال ذلك أيضًا: الأمر بالإِيلام (¬7)، فإن ذلك الأمر أمر (¬8) بالضرب؛ لأن الضرب سبب للإيلام، بخلاف آلة (¬9) الضرب، فلا يكون ذلك الأمر ¬
أمرًا بتحصيل آلة الضرب؛ لأن ذلك شرط لا سبب. وهناك قول رابع: بين الشرعي (¬1) فيجب دون العقلي، والعادي فلا يجبان، هذا (¬2) القول مختار (¬3) ابن الحاجب. فهي إذًا أربعة أقوال: يجب، لا يجب، يجب السبب دون غيره، يجب الشرعي دون غيره (¬4). ¬
قوله: (ثم الوسيلة إِما (¬1) أن يتوقف عليها القصد في ذاته أو لا يتوقف). ش: هذا هو المطلب الثاني في أقسام الوسيلة، قسمها المؤلف أولًا على قسمين، ثم قسمها آخرًا على: خمسة أقسام. وذلك (¬2) أنه قسم الوسيلة التي يتوقف (¬3) عليها المقصد في ذاته على ثلاثة أقسام وهي: الشرعي، والعرفي، والعقلي. وقسم الوسيلة التي يتوقف عليها بواسطة (¬4) على قسمين: وسيلة بسبب الاشتباه. ووسيلة بسبب تيقن الاستيفاء (¬5). قوله: (إِما أن يتوقف عليها المقصد في ذاته). ش: أي أحد القسمين وسيلة يتوقف عليها المقصد، في ذات المقصد أي: في نفس المقصد لا (¬6) لأمر خارج عن ذات المقصد (¬7)، أي: يتوقف عليها المقصد (¬8) بالنظر إلى ذاته لا بالنظر إلى خارج (¬9) عن ذات المقصد (8). ¬
وقوله: (أو لا يتوقف) أي: والقسم الآخر: وسيلة لا يتوقف عليها المقصد في (¬1) ذاته (¬2)، بل يتوقف عليها المقصد (¬3) لأمر آخر خارج عن ذات المقصد (¬4). قوله: (فالأول (¬5): إِما شرعي كالصلاة على الطهارة). أي: تتوقف صحة الصلاة على حصول (¬6) الطهارة شرعًا، لقوله (¬7) عليه السلام: "لا صلاة (¬8) إلا بطهور (¬9) " هذا توقف شرعي. قال المؤلف في الشرح: أريد بهذا التوقف الشرعي كما قاله إمام الحرمين (¬10): أنه إذا تقرر: أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، ثم ورد الأمر بعد ذلك بصلاة ركعتين، فإنه تجب (¬11) الطهارة، أما من غير هذا الوجه فلا، ¬
فلو قال الله تعالى: صلوا ابتداء، صلينا بغير وضوء، حتى يدل دليل على اشتراط الطهارة. انتهى نصه (¬1). قوله: (أو عرفي؛ كنصب السلم لصعود السطح). هذا مثال الوسيلة التي يتوقف عليها المقصد في العرف والعادة (¬2)؛ لأن صعود السطح لا يمكن إلا بوجود السلم بمقتضى العادة والعرف، و (¬3) هذا توقف عرفي. قوله: (أو عقلي؛ كترك الاستدبار لفعل الاستقبال). هذا مثال الوسيلة التي يتوقف عليها المقصد في العقل؛ لأن فعل استقبال القبلة لا يمكن في العقل إلا بفعل الاستدبار؛ لأجل المضادة بين الاستقبال والاستدبار؛ لأنه لا يمكن فعل ضد إلا بترك ضده عقلًا، هذا توقف عقلي. قوله: (والثاني: جعله (¬4) وسيلة إِما بسبب الاشتباه نحو: إِيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية (¬5)، وكاختلاط (¬6) النجس بالطاهر، والمذكاة بالميتة، والمنكوحة بالأجنبية (¬7)، أو لتيقن الاستيفاء؛ كغسل ¬
جزء من الرأس مع الوجه، أو إِمساك جزء من (¬1) الليل مع نهار الصوم). ش: هذا بيان القسم الثاني من أول الكلام وهو: الوسيلة التي لا يتوقف عليها المقصد في ذاته، بل يتوقف المقصد عليها (¬2) بواسطة. والواسطة شيئان: واسطة الاشتباه. وواسطة تيقن الاستيفاء. أما الوسيلة بواسطة الاشتباه فقد مثّله المؤلف بأربعة أمثلة. ومعنى الاشتباه هو (¬3): الالتباس، والاختلاط، تقول: اشتبه الأمر، إذا التبس واختلط. وقوله: (نحو إِيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية). وذلك: أن من نسي صلاة ولم يدر عينها: فإنه يجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس ليتوصل بذلك [إلى] (¬4) تحصيل الصلاة المجهولة العين، [فالصلاة المجهولة العين] (¬5)، لا تتوقف في ذاتها على الأربع الصلوات التي تضاف إليها، بل تتوقف عليها بعلة الاشتباه وطلب اليقين. قال ابن الحاجب في مختصر (¬6) الجواهر: ويعتبر في الفوائت يقين براءة ¬
الذمة، فإن شك، أوقع أعدادًا تحيط بجهات الشكوك، فلو نسي صلاة لا (¬1) بعينها: صلى خمسًا (¬2). قوله: (نحو: إِيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية) فالمقصد (¬3) ها هنا تحصيل صلاة واحدة وهي: المنسية، والوسيلة: تحصيل (¬4) أربع صلوات غيرها، فيتوقف المقصد على الوسيلة بواسطة الالتباس، والاختلاط. قوله: (وكاختلاط (¬5) النجس بالطاهر). هذا مثال ثان للوسيلة التي توقف (¬6) المقصد عليها بواسطة الالتباس، والاختلاط، يعني: إذا كان هناك إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس ولم يعلم الطاهر منهما فالمقصد ها هنا (¬7): ترك النجس، والوسيلة: ترك الطاهر، فيتوقف ترك النجس على ترك الطاهر بواسطة (¬8) الاختلاط، والالتباس أيضًا. قوله: (أو كاختلاط النجس بالطاهر). ¬
[يحتمل أن يريد الإناء] (¬1)، و (¬2) يحتمل أن يريد الثوب، ولكن هذا التمثيل في الاحتمالين إنما يجري على القول بترك (¬3) الجميع، وأما على القول باستعمال الجميع، أو باستعمال (¬4) البعض بالتحري فلا يجري عليه (¬5)؛ وذلك أن اختلاط الإناء الطاهر بالإناء النجس، وكذلك اختلاط الثوب الطاهر بالثوب النجس مختلف في ذلك كله. قال الشيخ ابن الحاجب: وإذا اشتبهت الأواني: قال سحنون: يتيمم ويتركها. وقال مع ابن الماجشون: يتوضأ ويصلي حتى تفرغ. وزاد ابن مسلمة (¬6): ويغسل أعضاءه مما قبله (¬7). ابن المواز وابن سحنون: يتحرى كالقبلة. ¬
ابن القصار: مثلهما إن كثر، ومثل ابن مسلمة إن قلّت (¬1). فإن تغير اجتهاده بعلم عمل عليه، وبظن: قولان كالقبلة. وإذا اختلف اجتهاد رجلين في ذلك: لم يجز أن يؤم أحدهما الآخر ويتحرى في الثياب. وقال ابن الماجشون: يصلي بعدد النجس وزيادة ثوب (¬2). انتهى نصه (¬3). ذكر (¬4) ابن الحاجب في الأواني المشتبهة (¬5) خمسة أقوال، وسكت عن قول سادس، وهو: التطهر بعدد النجس وزيادة إناء، كما قيل في الثياب المشتبهة (¬6). قال ابن عبد السلام: وهذا القول هو الأولى؛ لأنه يمكن التوصل به (¬7) إلى يقين الطهارة (¬8). قوله: (والمذكاة بالميتة). هذا مثال ثالث للوسيلة التي توقف (¬9) المقصد عليها بواسطة الالتباس ¬
والاختلاط، فالمقصد ها هنا: ترك الميتة، والوسيلة: ترك المذكاة (¬1)، فيتوقف ترك الميتة على ترك المذكاة بواسطة الالتباس والاختلاط أيضًا. قوله: (والمنكوحة بالأجنبية). هذا مثال رابع للوسيلة التي توقف (¬2) المقصد عليها بواسطة الالتباس والاختلاط، فالمقصد ها هنا: ترك الأجنبية (¬3)، والوسيلة ترك: المنكوحة، وهي (¬4): الزوجة، فتوقف (¬5) ترك الأجنبية على ترك المنكوحة بواسطة الالتباس والاختلاط أيضًا. قال الإمام فخر الدين: ذهب قوم (¬6) إلى أن المنكوحة حلال، والأجنبية هي: الحرام. قال: وهذا باطل؛ لأن المراد بالحل (¬7) رفع الحرج، والجمع بينه وبين التحريم متناقض. قال: فالحق أنهما حرامان: إحداهما بعلة كونها أجنبية، والأخرى بعلة الاشتباه بالأجنبية (¬8). ¬
قوله: (أو تيقن (¬1) الاستيفاء؛ كغسل جزء من الرأس مع الوجه، أو إِمساك جزء من الليل مع نهار الصوم). هذا بيان الوسيلة التي توقف (¬2) عليها المقصد بواسطة تيقن الاستيفاء، مثله المؤلف بمثالين: أحدهما: غسل جزء من الرأس مع غسل الوجه؛ فالمقصد (¬3) ها هنا هو (¬4): غسل الوجه، والوسيلة هي: غسل جزء من الرأس، فيتوقف غسل (¬5) الوجه على غسل جزء من الرأس بواسطة الاستيفاء. قال الغزالي في المستصفى: وهذا الجزء (¬6) غير مقدر، ويكفي منه أقل ما ينطلق (¬7) عليه الاسم (¬8). ومثال ذلك أيضًا: مسح جزء من الوجه مع مسح الرأس؛ لأنه لا يتوصل ¬
إلى مسح جميع الرأس إلا بأخذ جزء من الوجه، وكذلك إمساك جزء من الليل مع نهار الصوم، فالمقصد (¬1) إنما (¬2) هو: إمساك النهار، والوسيلة: إمساك جزء من الليل؛ وذلك قبل طلوع الفجر وبعد غروب الشمس، فيتوقف صوم النهار على صوم جزء من الليل بواسطة الاستيفاء، وهو: استيفاء الواجب، وبالله التوفيق (¬3). ... ¬
الفصل الثامن في خطاب الكفار
الفصل الثامن في خطاب الكفار (¬1) ش: وفي هذا الفصل مطلبان: أحدهما: محل الخلاف. والثاني (¬2): فائدة الخلاف. قوله: (أجمعت (¬3) الأمة على أنهم مخاطبون بالإِيمان، واختلفوا في خطابهم بالفروع). ش: هذا هو المطلب (¬4) الأول وهو: أن محل الخلاف هو الفروع دون الأصول، وهي: الإيمان. قوله: (مخاطبون بالإِيمان) (¬5) أي: مخاطبون بالتصديق بالله وبالرسل (¬6) ¬
وبما جاءت به الرسل؛ وذلك أن الله عز وجل أوجب توحيده على كل مكلف، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} (¬1) أي: ليوحدوني؛ وذلك يقتضي التصديق بالله عز وجل وبرسله (¬2) وبما جاءت به رسله عليهم السلام. قوله: (واختلفوا في خطابهم بالفروع). ش: المراد بالفروع: ما عدا الأصول، فالأصول هي (¬3): وظيفة القلوب، والفروع هي (¬4): وظيفة الجوارح؛ كالصلاة والصيام (¬5) وغير ذلك. وسبب الخلاف (¬6) في خطابهم بالفروع: هل يتوقف الخطاب بالفروع على حصول الإيمان؛ لأن الإيمان شرط في صحة الفروع؟ أو لا (¬7) يتوقف الخطاب بالفروع على حصول الإيمان؟ فمن قال: لا يتوقف الخطاب بالفروع على حصول الإيمان، قال: هم مخاطبون بالفروع؛ لأن (¬8) معنى الخطاب بها إزالة الكفر بالإيمان وإيقاع العبادة. ¬
ومن قال: يتوقف الخطاب بالفروع على حصول الإيمان قال: هم غير مخاطبين بالفروع لعدم شرط صحتها، وهو: حصول الإيمان. قوله: (قال الباجي: وظاهر مذهب مالك خطابهم بها خلافًا لجمهور الحنفية، وأبي حامد الإِسفراني (¬1)، لقوله تعالى حكاية عنهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬2)، ولأن العمومات تتناولهم، وقيل: مخاطبون (¬3) بالنواهي دون الأوامر (¬4)). ش: قوله (¬5): (قال الباجي: وظاهر مذهب مالك خطابهم بها) قاله الباجي في الفصول (¬6). وهو (¬7) أيضًا: مذهب جمهور الشافعية، وجمهور المعتزلة. [قال المؤلف في شرح المحصول (¬8): وإليه ذهب جمهور المالكية ¬
والشافعية والحنابلة (¬1)) (¬2). وقوله (¬3): (خلافًا لجمهور الحنفية وأبي حامد الإِسفراني). يعني: من الشافعية، وإليه ذهب ابن خويز منداد (¬4) من المالكية. فهذان قولان متقابلان. القول الثالث (¬5) الفرق بين النواهي فيخاطبون بها، وبين الأوامر فلا ¬
يخاطبون بها (¬1). وهناك قول رابع ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص بالتفصيل بين المرتد فيخاطب بالفروع دون الكافر الأصلي فلا يخاطب بها (¬2). فجملة الأقوال إذًا أربعة أقوال: اثنان متقابلان في الخطاب (¬3) وعدمه، واثنان متقابلان في التفصيل فصَّل أحدهما في الخطاب، وفصَّل الآخر في الكفر. ونقل المؤلف في الشرح قولًا خامسًا وهو: الخطاب بغير الجهاد لعدم ¬
حصول مصلحته من الكافر (¬1). قال (¬2) في الشرح: وقد مرّ بي في بعض الكتب - لست أذكره الآن - أن الجهاد خاص بالمؤمنين، ولم يخاطب الله (¬3) بوجوب الجهاد كافرًا، وهو متجه لعدم حصول مصلحته (¬4) من الكافر (¬5) (¬6). أجيب عن دليله بعدم حصول مصلحته من الكافر (¬7): بأنا لا نكلفه بالجهاد وهو كافر، بل كلف بأن يسلم ثم يجاهد (¬8)، كالتكليف بالصلاة حالة الحدث (¬9). قوله: (لقوله (¬10) تعالى حكاية عنهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬11) و (¬12) لأن العمومات تتناولهم). ¬
ش: هذا دليل القول (¬1) بالخطاب لأن قولهم: لم نك من المصلين، يدل على أنهم يعاقبون على ترك الصلاة. وكذلك قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬2) يدل على أنهم يعاقبون على ترك الزكاة. وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3). فقوله: (ومن يفعل ذلك) يتناول جميع ما تقدم فيعاقبون على القتل، والزنا، كما يعاقبون على دعوى الإله (¬4) مع الله تعالى: قوله: (ولأن العمومات تتناولهم). كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (¬5). وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (¬6). وقوله تعالى (¬7): {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬8). ¬
لأن هذا عام يتناول (¬1) الأمر بالحج الكافر، فإذا تناوله الأمر تناوله النهي؛ لأن كل من قال بالأمر قال بالنهي بخلاف العكس. وحجة القول بعدم الخطاب: أن الكافر لو أمر بالفروع لأمر بها: إما حالة الكفر، وإما بعد الكفر، وكلا الأمرين خلاف الإجماع. وذلك: أنه إذا قلنا: هو (¬2) مأمور بالفروع في (¬3) حالة كفره فذلك خلاف الإجماع؛ لأن الأمة مجمعة (¬4) على أنه لا يقال: صل، وأنت كافر. وإذا قلنا: مأمور بها بعد الكفر (¬5) فهو خلاف الإجماع أيضًا، لقوله عليه السلام: "الإِسلام يجبّ ما قبله" (¬6) وأجمعت الأمة على ذلك أيضًا (¬7). أجيب عن هذا: بأنه أُمر حالة الكفر بأن يسلم ويفعل العبادات (¬8) كما خوطب المحدث حالة الحدث بالصلاة، فمعنى ذلك: أنه يؤمر بأن يتطهر ويصلي، فزمان الكفر ظرف للتكليف لا لوقوع الفعل المكلف، كما أن زمان الحدث ظرف للمخاطب (¬9) بالصلاة؛ لأنه (¬10) ظرف لوقوع الصلاة، فلا ¬
تقول (¬1) له: صل وأنت محدث، بل تقول له: يجب عليك أن تزيل (¬2) الحدث وتصلي فأنت الآن مكلف بذلك، فكذلك نقول للكافر: أنت (¬3) الآن مكلف بإزالة الكفر وإيقاع الفروع، لا أنك مكلف بإيقاع الفروع (¬4) في زمان الكفر (¬5)، فهذا الجواب يرد ما قالوا (¬6) من أنه لا يصح (¬7) خطاب الكافر في حال كفره. وأما قولهم: لا يصح خطاب الكافر بعد كفره لقوله عليه السلام: "الإِسلام يجبّ ما قبله". فيستدل على بطلانه بهذا الحديث بعينه، وذلك: أن الجبّ معناه: القطع، وإنما يقطع ما هو متصل فيدل هذا الحديث على أن الخطاب بالتكليف قد اتصل، فلولا القاطع (¬8) لاتصل التكليف وبقي مستمرًا. وحجة الخطاب بالنواهي دون الأوامر: أن النواهي يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يقصد إليها، وأما الأمر فلا يخرج من عهدته (¬9) حتى يعتقد وجوبه، وذلك: أن المأمور به يتوقف على النية والاعتقاد، وذلك ¬
لا يصح من الكافر، فلا يؤمر بما لا يصح منه، وأما المنهي (¬1) عنه فيخرج الإنسان عن عهدته بدون نية واعتقاد (¬2). [ورد هذا: بأنه يلزمه أن يخاطب بالمأمور الذي لا يحتاج إلى نية كزوال النجاسة] (¬3). حجة خطاب المرتد دون الأصلي: أن المرتد قد تقدمت له (¬4) حالة (¬5) التكليف فوجب استصحابها بخلاف الأصلي؛ لأن الأصل استصحاب الحال (¬6). قوله: (وفائدة الخلاف: ترجع إِلى مضاعفة العذاب (¬7) في الآخرة، وعينه الإِمام، أو إِلى (¬8) غير ذلك، وبسطه في (¬9) غير هذا الكتاب). ش: هذا هو المطلب الثاني: وهو ثمرة الخلاف. قال الإمام فخر الدين في المحصول: لا فائدة للتكليف (¬10) إلا مضاعفة ¬
العذاب في الآخرة (¬1) ولا تأثير لهذا الاختلاف (¬2) في الأحكام المتعلقة بالدنيا، وإنما تأثير هذا الاختلاف في أحكام (¬3) الآخرة؛ لأن الكافر إذا مات على كفره فلا شك أنه يعاقب على كفره، وهل يعاقب مع ذلك على ترك الصلاة والزكاة وغيرها أم لا؟ فلا معنى لقولنا: إنه مخاطب بهذه العبارات إلا أنه يعاقب على تركها كما يعاقب (¬4) على ترك الإيمان (¬5). قوله: (وعينه الإِمام) أي: عين الإمام تضعيف العذاب في الآخرة، أي: لا معنى لهذا الخلاف عنده إلا تضعيف العذاب، أي: تكثير العذاب في الآخرة، أو تقول: عيَّن الإمام هذا الوجه (¬6) المذكور وهو مضاعفة العذاب، وهما (¬7) بمعنى واحد. قوله: (أو إِلى غير ذلك) أي: أو ترجع فائدة الخلاف إلى غير ذلك (¬8)، أي: إلى (¬9) غير هذا الوجه المذكور. ذكر (¬10) المؤلف في شرح المحصول في ذلك وجوهًا (¬11): ¬
[ومنها: تيسير الإسلام، وذلك أنه إذا قلنا: إن الكافر مخاطب بالفروع، وكان طيب النفس بالخيرات والصدقات (¬1) وأنواع الإحسان، فقد يكون ذلك سببًا لتيسير إسلامه استنباطًا من قوله عليه السلام: "إن المؤمن ليختم (¬2) له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه" (¬3)، فيؤخذ منها (¬4) أن الكافر قد يختم له بالإيمان بسبب (¬5) كثرة حسناته، وإن وقع الإجماع على أنه لا يثاب عليها في الآخرة، ولكن ورد الحديث (¬6) الصحيح أنه يعطى بها في الدنيا (¬7)] (¬8). و (¬9) منها تضعيف العذاب في الآخرة كما ذكر ها هنا في الأصل. ومنها: الكافر إذا أسلم في أثناء النهار (¬10) في رمضان هل يجب عليه إمساك بقية اليوم أم لا؟ قولان. ومنها: المسافر يقدم في أثناء النهار (¬11) في رمضان، هل يجوز له أن يطأ ¬
امرأته (¬1) الكتابية أم لا (¬2)؟ ومنها: الكافر إذا أسلم في آخر الوقت هل يقدر له ما يحتاج إليه من الطهارة (¬3)، وستر العورة، أو يقدر له من حين إسلامه (¬4)؟ سبب الخلاف في الجميع الخطاب وعدمه. انظر (¬5) تمام المسألة في: شرح (¬6) المحصول للمؤلف (¬7). ... ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحْمَد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد الثّالِث مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 2241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5632575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863532
رفع النقاب عن تنقيح الشهاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب الخامس في النواهي
الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: فى مسماه. الفصل الثاني: في أقسامه. الفصل الثالث: في لازمه.
الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول: ش: النواهي جمع، مفرده (¬1): نهي، وهو مصدر، وإنما جمعه مع أن المصادر (¬2) لا تثنى ولا تجمع (¬3)، من حيث دلالتها على القليل والكثير من جنسها اعتبارًا بأنواع النهي؛ لأنه تارة يراد به التحريم، وتارة يراد به الكراهة. وذلك أن النهي له سبعة موارد وهي: التحريم: كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬4). والكراهة: كقوله (¬5) تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬6)، وقوله عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها -: "لا تتوضئي بالماء المشمس" (¬7). ¬
والدعاء: كقوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (¬1). والإرشاد: كقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬2). والإهانة: كقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬3). والتحقير: كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} (¬4). ولبيان العاقبة: كقوله تعالى (¬5): {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (¬6). فجمع المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬7) المصدر - الذي هو النهي ها هنا - اعتبارًا بأنواعه؛ لأنه يجوز جمع المصدر إذا اعتبرت (¬8) أنواعه كقولهم: أحلام (¬9) وأشغال. قوله: (النواهي). ¬
جمع، وزنه: فواعل، ومفرده (¬1): نهي، على وزن: "فَعْل" وكَوْز (¬2)، [فجمع على فواعل، ووزن] (¬3) فعل على فواعل غير معروف عند أرباب العربية، واختلف في الجواب عنه على أربعة أقوال: فقيل (¬4): هو جمع ناه على وزن "اسم الفاعل" الذي يراد به المصدر؛ لأن فاعلاً يراد به المصدر كقولهم: قام قائمًا، وخرج خارجًا، معناه قام (¬5) قيامًا، وخرج خروجًا (¬6). وقيل: هو جمع ناهية على وزن "فاعلة" الذي يراد به المصدر أيضًا؛ لأن فاعلة قد يراد به المصدر كقولهم: العافية؛ لأنك تقول: عافانا الله عافية. وقيل: هو جمع ناه على وزن "فاعل" والمراد به اسم الفاعل الذي هو اللفظ قد يسمى ناهيًا مجازًا (¬7)، فمعنى النواهي على هذا القول: الألفاظ (¬8) التي تنتهي (¬9)، وإنما سمي اللفظ ناهيًا مجازًا؛ لأن النهي يقع به. وقيل: هو جمع ناهية على وزن "فاعلة" والمراد به الصيغة، أو اللفظ (¬10)؛ لأن الصيغة قد تسمى ناهية مجازًا؛ لأن النهي يقع بها، فمعنى النواهي على ¬
هذا: الصيغ (¬1) التي تنهى. وقد تقدم مثل هذا اعتراضًا وجوابًا في جمع الأوامر في قول المؤلف: الباب الرابع في الأوامر (¬2). ... ¬
الفصل الأول في مسماه
الفصل الأول في مسماه (¬1) قوله: (الفصل الأول: في مسماه وهو عندنا للتحريم، وفيه من الخلاف ما سبق في الأوامر) (¬2). ش: [وفي هذا الفصل أربعة مطالب: ما مسماه؟ وهل يقتضي التكرار (¬3)؟ وهل يقتضي الفور أم (¬4) لا؟ وما متعلقه (¬5)؟] (¬6). قوله: (في مسماه) هذا هو المطلب الأول. قوله: (مسماه) يعني: مسمى مسماه، وأما مسماه وهو: لا تفعل فلم ¬
يتعرض له المؤلف، وإنما تعرض (¬1) لمسمى مسماه وهو: التحريم، ففي الكلام حذف مضاف تقديره: في مسمى مسماه. وبيان ذلك: أن مسمى النهي: لا تفعل، ومسمى لا تفعل: التحريم، كما أن مسمى الأمر "افعل"، ومسمى أفعل "الوجوب" كما تقدم في الباب الرابع في قوله: أما لفظ الأمر فالصحيح (¬2): أنه اسم مطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات. وقال بعد ذلك: وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر فهو: موضوع عند مالك - رحمه الله تعالى - (¬3) وعند أصحابه للوجوب (¬4). فنقول على هذا: مسمى النهي: مطلق الصيغة الدالة على الترك من سائر اللغات، ومسمى هذه الصيغة الدالة على الترك هو: التحريم. قوله: (في مسماه) المراد بالمسمى (¬5) هو: الموضوع، تقديره: الفصل الأول في بيان موضوع موضوع النهي، على حذف المضاف، كما تقدم فيكون على هذا من باب حذف المضاف. أو تقول: أطلق المؤلف ها هنا (¬6) مسماه على مدلول مسماه مجازًا؛ لما بينهما من الملازمة والارتباط، وإنما لم يتعرض المؤلف ها هنا لبيان مسمى ¬
النهي اكتفاءً بما تقدم له في مسمى الأمر؛ لأن النهي مقابل الأمر (¬1)، والأشياء تعرف بمقابلاتها وأضدادها، ولم يتعرض المؤلف ها هنا إلا لمسمى مسماه كما قلنا، والمراد بمسمى المسمى هو: الحكم؛ أعني: حكم النهي، تقديره: الفصل الأول: في حكم مسماه على حذف المضاف. قوله: (وهو عندنا للتحريم، وفيه من الخلاف ما سبق في الأوامر). ش: قوله: (وهو عندنا للتحريم) معناه: وحكم مسماه عندنا للتحريم. قوله: (عندنا) أي (¬2): نحن المالكية، ولا خلاف أن النهي مجاز في غير التحريم والكراهة، وإنما الخلاف في ظهوره في (¬3) أحدهما على سبعة مذاهب. قوله: (وفيه من الخلاف ما سبق في (¬4) الأوامر) أي: في حكم مسمى النهي من الخلاف ما سبق (¬5) ذكره في باب الأوامر؛ وذلك أنه ذكر في الأوامر سبعة مذاهب ذكر منها أربعة في الأصل، وذكر ثلاثة أخرى في الشرح. لأنه قال في الشرح: و (¬6) في الأمر سبعة مذاهب: للوجوب، للندب، للقدر المشترك بينهما، مشترك بينهما (¬7)، لأحدهما لا يعلم حاله، للإباحة، ¬
الوقف في ذلك كله، ذكرها (¬1) الإمام فخر الدين في المحصول (¬2) والمعالم (¬3) [بعضها ها هنا وبعضها ها هنا (¬4). انتهى نصه (¬5). قال المؤلف في الشرح: نظير تلك المذاهب السبعة ها هنا] (¬6) في النهي أن نقول (¬7): إنه موضوع للتحريم. للكراهة. للقدر المشترك بينهما، وهو مطلق الترك. اللفظ مشترك بينهما. موضوع لأحدهما لا يعلم بعينه. هو (¬8) موضوع للإباحة. الوقف. فهذه سبعة مذاهب في الأمر والنهي. قال المؤلف في الشرح: وحكى القاضي عبد الوهاب في الملخص قولاً ¬
ثامنًا (¬1): بالفرق بين الأمر والنهي [فيحمل النهي على التحريم، ويحمل الأمر على الندب؛ لأن عناية العقلاء وصاحب الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بالمصالح. والنهي يعتمد المفاسد، والأمر يعتمد المصالح فنقول إذًا: في حكم كل واحد من الأمر والنهي سبعة مذاهب. فإذا جمعت بين الأمر (¬2) والنهي قلت: ثمانية أقوال: ثامنها: الفرق بين الأمر والنهي (¬3)] (¬4). والمشهور من هذ الأقوال الثمانية (¬5) هو: التحريم. حجة (¬6) [القول بتقوية هذا المذهب الذي هو التحريم] (¬7): أن السيد إذا قال لعبده: لا تفعل كذا، فإن فعله (¬8) استحق الذم والتوبيخ فدل ذلك على التحريم. قوله: (واختلف العلماء في إِفادته للتكرار (¬9) وهو المشهور من ¬
مذهب (¬1) العلماء). ش: هذا هو المطلب الثاني وهو قولنا: هل يقتضي النهي التكرار والدوام؟ أو لا (¬2) يقتضي إلا المرة الواحدة؟. فذكر المؤلف أن المشهور عند العلماء أنه يقتضي التكرار (¬3) والدوام، معناه: تكرار الترك ودوامه، ومعنى ذلك: انسحاب (¬4) حكم النهي على جميع الأزمنة. والقول الآخر: أن النهي لا يدل على الدوام، ولا يدل إلا على مجرد الترك. حجة القول بالتكرار: أن قولنا (¬5) في النهي: لا تضرب زيدًا، يقتضي المنع من إدخال ماهية الضرب في الوجود، ولا يتحقق ذلك إلا إذا امتنع منها دائمًا، ولأن النهي [إنما يعتمد (¬6) المفاسد، واجتناب المفسدة إنما يحصل ¬
إذا اجتنبها دائمًا] (¬1) كما إذا قلت لولدك: لا تقرب الأسد، فمقصودك (¬2) لا يحصل إلا بالاجتناب (¬3) دائمًا (¬4). وحجة القول بعدم التكرار: أن النهي: تارة يرد (¬5) للتكرار (¬6) كالنهي عن السرقة، والزنا، ونحوها، وتارة يرد لعدم التكرار كقول الطبيب لمريض: لا تأكل اللحم، أو لا تفصد، و (¬7) كقول المنجم: لا تسافر؛ يعني في هذا الزمان، ولا يريد جميع الأزمنة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل فلا يكون حقيقة في أحدهما ولا فيهما، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، وهو: مطلق الترك، ومعنى مطلق الترك: ترك المنهي عنه ولو مرة (¬8) واحدة؛ لأن مطلق الترك يصدق بترك ما في زمان ما (¬9). وأجيب عن هذا: بأن جعل اللفظ للقدر المشترك بين أمرين يؤدي إلى رفع الاشتراك والتجوز بالكلية، بحيث لا يوجد لفظ مشترك ولا مجاز أبدًا؛ لأن ذلك لا يتعذر نظمه في كل لفظين؛ إذ ما من معنيين إلا وبينهما قدر مشترك. وقول الخصم: يرد النهي للتكرار كالسرقة، والزنا، ويرد لعدم التكرار ¬
كنهي الطبيب - لا دليل في ذلك؛ لأن النهي عن السرقة والزنا نهي شرعي، دل الدليل المنفصل على (¬1) تكراره على الدوام؛ لأن نواهي الشرع دائمة ونهي الطبيب المريض عن اللحم أو غيره (¬2) هو (¬3) نهي عرفي، دلت (¬4) قرينة عرفية على أنه لا يقتضي الدوام. فلا نزاع في الأمرين - أعني النهي الشرعي والنهي العرفي - وإنما النزاع في النهي اللغوي المجرد عن القرائن هل يقتضي التكرار؟ أو لا يقتضي التكرار؟ وقد أورد المؤلف في الشرح على القول بعدم التكرار إشكالاً فقال: يلزم القائل بعدم تكرار النهي ألا يوجد عاصٍ البتَّة بمنهي عنه؛ لأن النهي عنده (¬5) يقتضي مطلق الترك، فيخرج الإنسان عن عهدته بمطلق الترك في زمان ما، وأشد الناس عصيانًا وفسوقًا لا بد أن يترك تلك المعصية في زمان ما، ولو لضرورة الحياة من النوم والاعتداء وغير ذلك، فإذا (¬6) كان الأمر كذلك فلا يوجد عاصٍ أبدًا (¬7). أورد المؤلف هذا السؤال في مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام (¬8) ¬
رحمه الله - فأجاب الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن هذا السؤال بقاعدة التعليق. وذلك أنه قد يعلق (¬1) عامّ على عامّ، ومطلق (¬2) على مطلق، أو عامّ على مطلق، أو مطلق على عام. مثال العامّ على العامّ قولك (¬3): أكرم (¬4) الناس كلهم في كل يوم (¬5). ومثال المطلق على المطلق قولك: أكرم رجلاً في يوم. [ومثال العامّ على المطلق قولك: أكرم الناس كلهم في يوم. ومثال المطلق على العامّ: قولك أكرم رجلاً] (¬6) في كل يوم. ¬
فعلى مقتضى هذه القاعدة أن القائل بالتكرار في النهي يقول: هذا تعليق عامّ على عامّ؛ لأنه مأمور بجميع المتروك (¬1) في جميع الأزمنة، والقائل بعدم التكرار في النهي يقول: هذا تعليق مطلق على عامّ؛ لأنه مأمور بترك واحد في جميع الأزمنة (¬2). فالمطلوب (¬3) في النهي على هذا ترك واحد في جميع الأزمان، فلا يجوز أن يلابس المنهي عنه أصلاً، فمتى لابسه تحقق العصيان (¬4). وهذا الجواب فيه نظر؛ لأنه يقتضي ألا فرق بين القولين؛ لأن القائل بالتكرار والقائل بعدم التكرار كل واحد منهما يمنع ملابسة المنهيّ عنه على الدوام. قال بعضهم: هذا السؤال الذي أورده (¬5) الشهاب - رحمه الله -[لا يرد؛ لأن البحث في التكرار وعدمه إنما هو في مقتضى اللغة، وأما نواهي الشرع فلا نزاع أنها (¬6) تقتضي الدوام والتكرار، فلما رد الشهاب رحمه الله] (¬7) البحث اللغوي إلى القضية الشرعية تعرض له الإشكال، والله أعلم. قوله: (وعلى القول (¬8) بعدم إفادته وهو مذهب الإِمام فخر الدين لا يفيد الفور عنده). ¬
ش: هذا هو المطلب الثالث: وهو قولنا: هل يقتضي الفور أم لا؟ ومعنى الفور: تعجيل (¬1) الانتهاء عن المنهي (¬2) عنه. ذكر (¬3) المؤلف في الشرح: أنّا إذا فرعنا على القول بالتكرار (¬4) فإنه يقتضي الفور قطعًا؛ لأن الزمان الحاضر مندرج في التكرار، وإن فرعنا على عدم التكرار ففيه قولان: قيل: يتعيّن الترك لذلك المعنى في الزمان الحاضر. وقيل: لا يتعين له إلا بدليل منفصل (¬5). حجة القول بالفور: حملاً على الأمر بأولى (¬6) وأحرى. وحجة عدم الفور: أن النهي إنما يدل على مطلق الترك، ومطلق الترك أعم من الزمان الحاضر، والزمان المستقبل، فالدال على الأعم غير دال على الأخص (¬7). قوله: (ومتعلقه: فعل ضد المنهي عنه؛ لأن العدم غير مقدور، وعند (¬8) أبي هاشم: عدم المنهي عنه (¬9)). ¬
ش: هذا هو المطلب الرابع، وهو متعلق النهي، المتعلَّق (¬1) بفتح اللام هو: المطلوب بالنهي. قوله: (ومتعلَّقه) أي: ومتعلَّق النهي، أي: ومطلوب النهي، معناه: والمطلوب بالنهي هو (¬2) فعل ضد المنهي عنه، وهو الشيء المحرم. مثاله: قولك: لا تتحرك فكأنك قلت له: اسكن؛ لأن السكون ضد الحركة. وقولك: لا تتكلم كأنك قلت: اسكت؛ لأن السكوت ضد الكلام. وقولك: لا تصم يوم العيد، كأنك قلت: أفطِر يوم العيد. فالمطلوب بالنهي على هذا هو (¬3) فعل ضد المنهي عنه. هذا معنى قوله: "ومتعلقه (¬4) فعل ضد المنهي (¬5) عنه". بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده، وهو مذهب المؤلف. وقيل: متعلق النهي أي: المطلوب بالنهي هو: كف النفس عن المنهي عنه، أي: كف النفس عن المحرم (¬6)، وكف النفس فعل أيضًا بناء على أن النهي عن الشيء لمس أمرًا بضده. ¬
فاتفق هذان القولان على أن المطلوب في النهي هو الفعل، واختلفا في تعيين ذلك الفعل: فقيل: فعل ضد (¬1) المنهي عنه. وقيل: هو كفّ النفس عن المنهي عنه. ولم يذكر المؤلف هذا القول، وهو مختار ابن الحاجب؛ لأنه قال في كتابه في (¬2) الأصول: مسألة لا تكليف إلا بفعل، فالمكلف به (¬3) في النهي كف النفس عن المنهي عنه (¬4). انتهى نصه (¬5). وسبب الخلاف بين هذين القولين هو: النهي عن الشيء هل هو أمر بضده أم لا؟ قولان (¬6). وقال أَبو هاشم وكثير من المتكلمين: إن المطلوب بالنهي (¬7) عدم (¬8) الفعل المنهي عنه (¬9) أي: نفى الفعل المنهيِّ عنه (¬10)، وهو معنى قوله: (وعند أبي هاشم ¬
عدم النهي عنه) أي: المطلوب في المنهي عنه، أي: المطلوب في النهي عند أبي هاشم نفس لا تفعل، مع قطع النظر عن فعل الضد وعن الكف. فتحصل مما ذكرنا: أن المطلوب بالنهي عند الجماعة هو: الفعل، والمطلوب به عند أبي هاشم هو: العدم، أي: عدم الفعل. فقولك: لا تتحرك على (¬1) قول الجماعة أمر بالسكون، وعلى قول أبي هاشم أمر بعدم الحركة. ومنشأ هذا الخلاف: هل النظر إلى اللفظ؟ أو النظر إلى المعنى؟. فمن لاحظ صورة اللفظ وهو: أَبو هاشم، قال: متعلقه العدم؛ إذ ليس في صورة اللفظ إلا عدم الفعل، فإذا قال: لا تتحرك، فليس في هذا اللفظ إلا عدم الحركة، وكذلك إذا قال له: لا تتكلم، فليس في هذا اللفظ إلا عدم الكلام. ومن لاحظ المعنى وهو: الجماعة، قال: متعلقه الفعل لا العدم؛ لأن معنى النهي إنما هو طلب الفعل؛ لأن النهي من أنواع الطلب فإذا قال له (¬2): ¬
لا تتحرك، فمعناه: اسكن، أو اكفف عن الحركة، وإذا (¬1) قال له (¬2): لا (¬3) تتكلم فمعناه: اسكت، أو اكفف عن الكلام. وإنما (¬4) قلنا: إن معنى النهي هو: طلب الفعل؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الإنسان لا يكلف (¬5) إلا بما هو مقدوره، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬6) ففعله هو مقدوره (¬7)، وأما العدم فليس بمقدوره (¬8)، فلا يكلف (¬9) به. وإنما قلنا: العدم ليس مقدورًا للإنسان (¬10)؛ لأن العدم ليس بشيء، [وما ليس بشيء] (¬11) لا (¬12) تتعلق له القدرة، وما لا تتعلق به القدرة لا يكون مقدورًا، وما لا يكون مقدورًا لا يتعلق به التكليف؛ لأن القدرة إنما تؤثر في الوجود، ولا تؤثر في العدم، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: (لأن العدم غير (¬13) مقدور). ¬
قوله: (لأن العدم غير مقدور) وذلك: أن العدم كان قبل الفعل واستمر ذلك العدم إلى خلق قدرة المكلف، والقدرة تقتضي أثرًا عقليًا، والعدم المستمر ليس أثرًا للقدرة؛ لثبوته قبل خلق القدرة فلا يكون أثرًا (¬1) لها بعد خلقها. واحتج أَبو هاشم: بأن العقلاء يمدحون من لم يزن على عدم الزنا، وإن لم يخطر (¬2) ببالهم فعل الضد. وأجيب (¬3) عن هذا: بأنهم يمدحونه (¬4) بما هو من صنعه، والعدم ليس من صنعه، وإنما يمدحونه على فعله، وهو الامتناع من ذلك الفعل، والامتناع هو أمر وجودي وهو: إما فعل الضد، وإما كف النفس. قال المؤلف في الشرح: سؤال: ما (¬5) الفرق بين قولهم: متعلق النهي فعل ضد المنهي عنه، وبين قولهم: النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأن قولهم: النهي عن الشيء أمر بضده هو معنى قولهم: متعلق (¬6) النهي فعل ضد المنهي عنه؟. قال: جوابه: أن الأمر والنهي متعلِّقان بكسر اللام، والمنهي عنه وضده ¬
متعلَّقان بفتح اللام، فإذا قلنا: النهي عن الشيء أمر بضده فهو: بحث في (¬1) المتعلِّقات - بكسر اللام - هل هو ذلك أو غيره؟ ثم إذا تقرر (¬2) بيننا شيء في المتعلِّقات (¬3) - بكسر اللام - من اتحاد أو تعداد أمكننا بعد ذلك أن نختلف في المتعلَّقات (¬4) - بفتح اللام - هل المتعلق نفس العدم أو الضد؟ فهذه مسألة أخرى وليس عين المسألة الأولى. انتهى نصه (¬5). يعني: أن البحث في إحدى المسألتين في المتعلِّق بالكسر، والبحث في الأخرى (¬6) في المتعلَّق بالفتح. ... ¬
الفصل الثاني في أقسامه
الفصل الثاني في أقسامه (¬1) ش: يعني: أقسام (¬2) النهي باعتبار متعلقاته، وفي هذا الفصل أربعة أقسام: النهي المعلق (¬3) على الجميع. والمعلق (¬4) على الجمع. [والمعلق على البدل المقيد] (¬5). والمعلق على البدل المطلق. قوله: (وإِذا تعلق بالأشياء (¬6) فإِما على الجميع (¬7) نحو: الخمر والخنزير). ¬
ش: هذا هو القسم الأول، وهو: المعلق على الجميع في النهي، أي: متعلق النهي كل واحد منها. مثاله: أن يقول: لا تفعل هذا ولا هذا. قوله: (نحو الخمر والخنزير) كأن يقول: لا تشرب الخمر، ولا تأكل الخنزير. قوله: (وأما على (¬1) الجمع (¬2)، نحو: الجمع بين الأختين (¬3)). ش: هذا هو القسم الثاني وهو النهي المعلق على الجمع، يعني: أن متعلق النهي هو الجمع بينهما، وكل واحد في نفسه ليس منهيًا عنه. مثاله: قولك: لا تجمع بين كذا وكذا نحو الجمع بين الأختين، كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬4). فإن كل واحدة في نفسها ليست (¬5) محرمة، بل المحرم هو الجمع بينهما فقط، بخلاف القسم الأول المعلق فيه النهي (¬6) على الجميع؛ لأنه تعلق فيه بالجميع (¬7) أي: بالانفراد (¬8) والاجتماع، وأما هذا القسم الثاني فلا يحرم (¬9) فيه ¬
إلا حالة واحدة وهي: حالة الاجتماع، ولا تحرم (¬1) حالة الانفراد، فالنهي في القسم الأول تعلق بالجميع، والنهي في القسم الثاني تعلق بالجمع خاصة. قال المؤلف في الشرح: ونظير هذين قول (¬2) النحاة: تقول العرب: لا تأكل السمك، وتشرب اللبن، فيه ثلاثة أوجه: الجزم، والنصب، والرفع. فإن جزمنا الفعلين: كان كل واحد منهما متعلق النهي سواء انفردا أو اجتمعا. وإن نصبنا الثاني وجزمنا الأول: كان متعلق النهي هو (¬3) الجمع بينهما فقط، وكل واحد منهما غير منهي عنه في نفسه. وإن جزمنا الأول ورفعنا الثاني: كان الأول هو مطلق النهي فقط في حالة ملابسة الثاني، معناه: لا تأكل السمك في حالة شرب اللبن، والحال ليس منهيًا عنه، فإذا قلت: لا تسافر والبحر هائج، ولا تصلِّ والشمس طالعة، فلست (¬4) تنهى عن هيجان البحر، ولا عن طلوع الشمس، بل عن الأول فقط. كذلك (¬5) ها هنا (¬6)، فتختلف المعاني باختلاف رفع الثاني ونصبه وجزمه، ¬
والفعل الأول في الأحوال الثلاثة مجزوم (¬1). قوله (¬2): (وعلى البدل مثل: إِن فعلت كذا (¬3) فلا تفعل كذا (¬4)، كنكاح الأم بعد بنتها (¬5)). ش: هذا هو القسم الثالث وهو المنهي (¬6) المتعلق (¬7) على البدل المقيد. مثاله: قولك: إن فعلت هذا فلا تفعل ذاك، وإن (¬8) فعلت ذلك فلا تفعل هذا؛ لأنه نهي عن فعل شيء بقيد فعل غيره؛ لأن تحريم (¬9) نكاح البنت إنما هو (¬10) بشرط نكاح أمها، وكذلك أيضًا نكاح الأم إنما يحرم بقيد نكاح البنت كما هو المعروف عند الفقهاء؛ لأن (¬11) الفقهاء يقولون: العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات (¬12) يحرم البنات. قال المؤلف في الشرح: و (¬13) النهي عن البدل يرجع إلى النهي عن ¬
الجمع، فإن معنى قولنا: إن فعلت كذا فلا تفعل ذلك أن الجمع بينها محرم. انتهى (¬1). قال بعضهم: الفرق بينهما: أن الأول باعتبار الزمان، وهذا باعتبار الفعل (¬2). قوله: (أو على (¬3) البدل كجعل الصلاة بدلاً من الصوم). ش: [هذا هو القسم الرابع وهو: النهي المعلق على البدل (¬4) كجعل الصلاة بدلاً من الصوم] (¬5) فإن جعل أحدهما عوضًا من الآخر لا يصح، ولا يجوز من غير تقييد بشيء. قال المؤلف في الشرح: والنهي عن البدل له صورتان: أن يجعل غير الواجب بدلاً عن الواجب (¬6) كالتصدق بدرهم بدلاً عن الصلاة. وأن يجعل بعض (¬7) الواجب بدلاً عن كله، كجعل ركعة بدلاً من ركعتين (¬8). ... ¬
الفصل الثالث في لازمه
الفصل الثالث في لازمه (¬1) هذا الفصل (¬2) تعرض فيه المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬3) لأثر النهي، وأثر الشيء هو: لازمه، فذكر في هذا الفصل مطلبين: أحدهما: هل يقتضي النهي الفساد في المنهي عنه أم لا؟ والمطلب الثاني: هل يقتضي النهي الأمر بضد المنهي عنه أم لا؟ قوله: (و (¬4) هو عندنا يقتضي الفساد خلافًا لأكثر الشافعية، والقاضي (¬5) أبي بكر منا، وفرق أَبو الحسين البصري (¬6) والإمام بين العبادات: فيقتضي، وبين المعاملات: فلا يقتضي). ش: هذا هو المطلب الأول وهو قولنا: هل يقتضي النهي فساد المنهي أم لا؟ ¬
ذكر المؤلف فيه ها هنا ثلاثة (¬1) أقوال: أحدها: أنه يقتضي الفساد مطلقًا (¬2)، أي (¬3): لا فرق بين العبادات والمعاملات، وإلى هذا [القول (¬4) أشار (¬5) بقوله: وهو عندنا يقتضي الفساد. و (¬6) القول الثاني: أنه لا يقتضي الفساد مطلقًا، أي: لا فرق بين العبادات والمعاملات، وإلى هذا القول] (¬7) أشار بقوله (¬8): خلافًا لأكثر الشافعية (¬9)، والقاضي أبي بكر منا (¬10). ¬
القول الثالث: أنه يقتضي الفساد في العبادات ولا يقتضي الفساد في المعاملات (¬1)، وإلى هذا القول (¬2) أشار المؤلف بقوله: "وفرق أَبو الحسين البصري (¬3) والإمام (¬4) بين العبادات: فيقتضي، وبين المعاملات: فلا يقتضي". قوله: (وهو عندنا يقتضي الفساد) يعني: وعندنا (¬5) نحن المالكية. وهل يقتضي الفساد من جهة اللغة (¬6) أو من جهة الشرع؟ قولان. و (¬7) قوله: (خلافًا لأكثر الشافعية) يعني: كالقفال (¬8)، والغزالي (¬9)، وغيرهما القائلين: بأنه لا يقتضي الفساد. وهل يقتضي مع ذلك الصحة، أو لا يقتضي الصحة؟ قولان. أما حجة [القائلين] (¬10) بأن النهي يقتضي الفساد مطلقًا. ¬
فأما في العبادات: فلأنه أمر بالإتيان بالمأمور به ولم يأت به؛ بل أتى بالمنهي عنه، ومن لم يأت بما أمر به فهو باق في عهدة التكليف. وهذا معنى قولنا: النهي يدل على الفساد في العبادات (¬1). وأما في المعاملات: فلأن النهي إنما ورد لدفع (¬2) المفسدة [الكائنة في المنهي عنه، فلو قلنا بثبوت الملك والإذن في التصرف: لكان ذلك تقريرًا (¬3) لتلك المفسدة] (¬4)، والمفسدة لا يجوز تقريرها (¬5). وأما حجة القائلين بعدم اقتضائه الفساد مطلقًا: فأما في العبادات: فلأنه لا تنافي بين قول الشارع: [صلِّ وتوضأ، وصلِّ ¬
بثوب طاهر، وحج بمال حلال، وبين قوله] (¬1): نهيتك عن الصلاة في الدار المغصوبة، وعن (¬2) الوضوء بالماء المغصوب، والصلاة بالثوب المغصوب، والحج بالمال (¬3) المغصوب، وأداء الزكاة [بالمكيال المغصوب] (¬4)، وإذا (¬5) أتيت بهذه العبادات جعلتها (¬6) سببًا لبراءة ذمتك. قال (¬7) المؤلف في الشرح: يعني: أن الشارع إذا قال: لا تفعل كذا فإذا فعلته كان سببًا لبراءة ذمتك، فإن كلامه صحيح غير متناقض؛ لأن معتمد البراءة حصول المصلحة لا عدم المفسدة. مثال (¬8) ذلك: إذا أعطى الإنسان لصاحب الدين دينه وضربه، أو شتمه فإن ذمته تبرأ من الدين، ولا يقدح في ذلك ما قارنه من مفسدة الضرب (¬9) والشتم (¬10). وهذا معنى قولنا: لا يدل النهي على الفساد في العبادات. ¬
وأما في المعاملات: فلأن (¬1) السبب الشرعي ليس من شرط (¬2) إفادته للحكم: أن يكون مشروعًا، ولا مساويًا لمسببه في الحكم؛ [أعني: أن السبب الشرعي ليس من شرطه: أن يكون مشروعًا في نفسه ولا أن يكون مساويًا لسببه في الحكم] (¬3). فقولنا: لا يشترط في إفادة السبب للحكم (¬4) أن يكون مشروعًا، فإن أسباب العقوبات غير مشروعة بل هي محرمة، ومع ذلك هي موجبة لأحكامها، فإن الزنا - مثلاً - محرم وهو مع ذلك موجب للجلد أو الرجم، والقتل محرم وهو مع ذلك موجب للقصاص، والقذف محرم وهو مع ذلك موجب للجلد، والسرقة محرمة، وهي مع ذلك موجبة للقطع والغُرْم، وكذلك الحرابة محرمة (¬5) وهي مع ذلك موجبة (¬6) للقتل، أو الصلب، أو القطع أو غير ذلك. كالطلاق (¬7) في زمان الحيض حرام، وهو موجب لزوال العصمة. وكذلك النكاح قد يكون واجبًا، أو مندوبًا (¬8) أو مكروهًا، أو مباحًا، على حسب عوارضه، ويكون مع ذلك موجبًا لوجوب النفقة والكسوة. ¬
وكذلك الإعتاق قد (¬1) يكون واجبًا، وقد يكون مندوبًا، وهو مع ذلك موجب (¬2) للولاء (¬3). فقد ظهر بما قررناه (¬4): أن السبب ليس من شرط إفادته الحكم (¬5): أن يكون مشروعًا، بل يكون السبب حرامًا - مثلاً - ويترتب عليه الواجب. وقلنا (¬6): لا يُشترط قي السبب أن يكون مساويًا لمسببه في الحكم؛ وذلك أن السبب قد يكون حكمه مخالفًا لحكم مسببه؛ فإن السبب قد يكون حرامًا ويكون (¬7) مسببه (¬8) واجبًا - كما تقدم -. وقد يكون السبب واجبًا، أو مباحًا، أو مندوبًا، ويترتب عليه الواجب كما تقدم أيضًا في النكاح (¬9) والعتق. قال المؤلف في الشرح: فقواعد الشريعة تشهد أنه ليس من شرط السبب: أن يكون مشروعًا ولا مساويًا لمسببه في الحكم، وبهذا يظهر بُطلان التشنيع على المالكية حيث جعلوا ترك السنة في الصلاة سببًا لوجوب السجود. فقيل لهم: كيف يكون ترك المندوب سبب الوجوب؟ وكيف يكون الفرع ¬
أقوى من أصله؟ (¬1). و (¬2) جوابه: ما (¬3) تقدم. انتهى نصه (¬4). وأما (¬5) حجة القائلين بأن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون العادات: فلأن (¬6) الإنسان أمر بالإتيان بالعبادة (¬7) المأمور بها فأتى بالمنهي عنه ولم يأت بالمأمور به، [ومن لم يأت بالمأمور به] (¬8) فهو باقٍ في عهدة التكليف، وهذا معنى قولنا: يقتضي الفساد في العبادات (¬9). وأما المعاملات: فإنها أسباب، والسبب ليس من شرطه أن يكون مأمورًا به (¬10) - كما تقدم -. ¬
قوله: (لنا: أن النهي إِنما يكون لدرء المفاسد (¬1) الكائنة في المنهي عنه، والمتضمن (¬2) للمفسدة (¬3) فاسد). ش: هذا دليل عقلي يدل على اقتضاء النهي الفساد مطلقًا لا في العبادات ولا في العادات (¬4). وبيانه أن تقول (¬5) بالقياس الجلي: المنهي عنه متضمن للمفسدة، وكل ما تضمن مفسدة فهو فاسد، ينتج (¬6) لك: المنهي عنه فاسد، حذف المؤلف المقدمة الصغرى لظهورها. قوله: (ومعنى الفساد (¬7) في العبادات: وقوعها على نوع من الخلل يوجب (¬8) بقاء الذمة مشغولة بها، وفي المعاملات: عدم ترتب آثارها عليها إِلا أن يتصل بها ما يقرر آثارها من التصرفات، على تفصيل يأتي (¬9) على أصولنا في البيع وغيره). ش: لما ذكر المؤلف أن النهي يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات أراد ¬
ها هنا أن يبين معنى ذلك الفساد (¬1)؛ إذ المراد بالفساد في العبادات مخالف للمراد بالفساد في المعاملات؛ لأن الفساد في العبادات معناه: وقوع الإخلال ببعض أركانها، أو ببعض (¬2) شروطها، فإن ذلك يوجب شَغل الذمة بتلك العبادات. قوله: (وفي المعاملات: عدم ترتب آثارها عليها) أي: ومعنى الفساد في المعاملات، أي في عقود المعاملات: كعقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد القراض، وعقد النكاح، وغير ذلك من عقود المعاملات. والمراد بالترتب (¬3) هو: التمكن، والمراد بآثارها (¬4) هو: الفوائد المطلوبة من العقود. والضمير في قوله: (آثارها) (¬5)، وفي قوله: (عليها) يعود على المعاملات، وتقدير الكلام: ومعنى الفساد في عقود المعاملات هو: خلل يوجب عدم تمكن الفوائد على المعاملات، أي: على عقود المعاملات الفاسدات (¬6). وتلك الفوائد المطلوبة من عقود المعاملات تختلف باختلاف العقود. ففائدة عقد البيع مثلاً: التمكن من الأكل، والبيع، والهبة، والصدقة، ¬
والوقف، وغير ذلك. وفائدة الإجارة: التمكن من المنافع. وفائدة القراض: التمكن من استحقاق الربح وعدم الضمان. وفائدة النكاح: التمكن من أنواع الاستمتاع، وغير ذلك. قوله: (إِلا أن يتصل بها ما يقرر آثارها من التصرفات (¬1) على تفصيل يأتي على أصولنا في البيع، وغيره) يعني أن النهي يدل على فساد المنهي عنه، فيجب فسخه إلا أن (¬2) يتصل بتلك العقود المنهي عنها: التصرفات (¬3) التي تقرر آثارها؛ أي التصرفات (¬4) التي تثبت (¬5) فوائدها؛ أي فوائد العقود. والمراد بتلك (¬6) التصرفات التي تثبت العقود الفاسدة (¬7) أربعة أشياء وهي: حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها (¬8). فإن العقد الفاسد إذا اتصل به (¬9) أحد هذه العوارض الأربعة ¬
يمضي (¬1) بالقيمة، ولكن إمضاؤه إذا اتصل به ذلك يحتاج إلى تفصيل بينه المؤلف في كتاب البيوع وغيره، من كتاب (¬2) الذخيرة. قوله: (على أصولنا) أي: هذا على مذهبنا وقواعدنا نحن المالكية، خلافًا لغيرنا؛ وذلك أن فقهاء الأمصار اختلفوا في النهي، هل يدل على فساد المنهي عنه أو لا؟ (¬3): ذهبت الشافعية: إلى أنه يدل على الفساد مطلقًا فلا يجوز الانتفاع به، فيجب فسخه ولو بِيع ألف بَيْع، فطردوا أصلهم (¬4). ¬
وذهبت الحنفية: إلى أنه يدل على الصحة مطلقًا فلا يفسخ. وقالوا: إذا اشترى أمة شراء فاسدًا جاز له وطؤها، وكذلك جميع العقود الفاسدة، فطردوا أيضًا (¬1) أصلهم (¬2). وذهبت المالكية إلى التفصيل في ذلك فقالوا: يدل على الفساد، إلا إذا اتصل به أحد الأربعة المذكورة فيمضي بالقيمة؛ لأن البيع الفاسد عندهم يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فلم يطرد المالكية مذهبهم (¬3)، بل قالوا بالتفصيل مراعاة للخلاف؛ لأن مراعاة الخلاف أصل من أصول المالكية. قوله: (وقال أَبو حنيفة ومحمد بن الحسن (¬4): لا يدل على الفساد ¬
مطلقًا (¬1)، ويدل على الصحة، لاستحالة النهي عن المستحيل). ش: ذكر المؤلف ها هنا: أن النهي لا يدل على الفساد وهو تكرار لقوله أولاً: "خلافًا لأكثر الشافعية (¬2) والقاضي أبي بكر منا". يحتمل أن يكون كرره ليركب عليه (¬3) دليله، وهو قوله: "لاستحالة النهي عن المستحيل (¬4) ". وبيان هذا الاستدلال: أن أبا حنيفة - رحمه الله (¬5) - يقول (¬6): الدليل على صحة العقد الفاسد (¬7) بعد وقوعه: أن الشيء لا ينهى عنه إلا إذا صح وقوعه، فلا ينهى الأعمى عن النظر، ولا ينهى الزَّمِن (¬8) عن القيام، فلا تقل للأعمى: لا تنظر؛ إذ لا يصح منه النظر المنهي عنه، ولا تقل للزمن: لا تقم؛ إذ لا يصح منه القيام المنهي عنه، فلو كانت الصحة معدومة من المنهي عنه لامتنع ¬
ورود النهي عنه، وقد ورد النهي فدل ذلك على أن النهي يدل على صحة المنهي عنه بعد وقوعه. قوله: (لاستحالة النهي عن المستحيل). أي: لامتناع ورود النهي عن الشيء الممتنع، فيتعين (¬1): أن يكون النهي دالاً على الثبوت والصحة، والمراد بالصحة هو: الإذن في التصرف والتمكن منه؛ إذ لو كانت الصحة معدومة لامتنع النهي عنها؛ لأن العدم غير مقدور للمكلف، والنهي عما ليس بمقدور لا يصح. والجواب عن هذا الاستدلال: أن محل النزاع مع الحنفية هو (¬2): الصحة الشرعية، وهي: جواز الإقدام على الفعل شرعًا، والإذن الشرعي في التصرف، وأما الصحة العادية فليست بمحل النزاع فإن (¬3) حديث الأعمى، والزَّمِن الذي استدلت به الحنفية إنما يوجب ذلك اشتراط (¬4) الصحة العادية، و (¬5) لَيست محل النزاع، فإنها مجمع عليها؛ لأنه وقع الإجماع على أنه ليس في الشريعة منهي عنه، ولا مأمور به، ولا مشروع على الإطلاق إلا وفيه الصحة العادية (¬6). قال المؤلف في القواعد السنية - في الفرق السبعين بين قاعدة اقتضاء النهي ¬
الفساد (¬1) في نفس الماهية، وبين قاعدة اقتضاء النهي الفساد (¬2) في أمر خارج عن الماهية -: بالغ أبو حنيفة في إثبات هذا الفرق، حتى أثبت عقود الربا وإفادتها (¬3) الملك في أصل المال الربوي، ورد الزائد على الأصل؛ وذلك أنه إذا باع (¬4) درهمًا بدرهمين، فإن العقد قد أوجب درهمًا واحدًا من الدرهمين، ويرد الدرهم الزائد، وكذلك جميع الربويات. وبالغ أيضًا أحمد بن حنبل في إلغاء هذا الفرق، حتى أبطل الصلاة في الدار المغصوبة، والصلاة بالثوب المغصوب، والوضوء بالماء المغصوب، والحج بالمال المغصوب، والذبح بالسكين المغصوب (¬5)، وما في معنى ذلك، فسوى بين جميع موارد النهي (¬6). وأما مالك (¬7) على المشهور من مذهبه والشافعي: فقد توسطا بين المذهبين فأوجبا الفساد في بعض الفروع دون البعض؛ وذلك أنهما قالا بالفساد في العقود الربويات، وقالا بالصحة في الصلاة (¬8) في الدار المغصوبة، وما ذكر معها من (¬9) الصلاة بالثوب الحرام، أو الوضوء بالماء الحرام، أو الحج بالمال ¬
الحرام، أو الذبح بالسكين الحرام، أو الصلاة (¬1) بالخف المغصوب إذا مسح عليه، وما في معنى ذلك. وهذه الفروع كلها صحيحة عند المالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنفية (¬4)، خلافًا للحنابلة (¬5)، وابن حبيب (¬6) من المالكية. وحجة الجمهور القائلين بالصحة في هذه الفروع: أن متعلق الأمر قد وجد فيها بكماله، فالصلاة من حيث هي صلاة حاصلة، غير أن المصلي قد جنى على حق صاحب الدار مثلاً، فالنهي إنما هو في المجاور للماهية لا في نفس الماهية. وبهذه القاعدة: يظهر لك الفرق بين غاصب الخف إذا مسح عليه فتصح صلاته، وبين المحرم إذا مسح على الخف فلا تصح صلاته؛ لأن حقيقة المأمور ¬
به حاصلة بكمالها في حق غاصب الخف، بخلاف المحرم فلم تحصل حقيقة المأمور به بكمالها في حقه، فإنه مأمور بطهارته (¬1) بالغسل ولم يأت به. وحجة الحنابلة القائلين بالفساد في الجميع: الاحتياط للمفسدة، فإن النهي يعتمد المفاسد، فمهما ورد النهي بطل العقد من كل جهة؛ فإن المعدوم شرعًا كالمعدوم حسًا؛ إذ المغصوب (¬2) معدوم (¬3) شرعًا، وإن كان موجودًا حسًا. انظر: الفرق السبعين من القواعد السنية (¬4). فإن قلت: ما الفرق بين الصلاة في الدار المغصوبة (¬5) والصوم في أيام الأعياد (¬6)، [فإن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة بخلاف الصوم في أيام الأعياد] (¬7)؟ قلنا: الفرق بينهما: ورود النهي في الصوم في أيام الأعياد، ولم يرد النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. انظر الفرق الثالث والمائة من (¬8) القواعد (¬9). ¬
قوله: (ويقتضي (¬1) الأمر بضد من أضداد المنهي عنه (¬2)). ش: يعني أن المحرم لا يمكن تركه إلا بالتلبس بضد من أضداده. قال المؤلف في الشرح: النهي عن الشيء أمر بأحد الأضداد، والأمر بالشيء نهي عن جميع الأضداد (¬3)، فإذا قلت: اجلس في البيت فإنه نهي عن الجلوس (¬4) في السوق، والحمام، وجميع (¬5) البقاع المضادة للبيت، وإذا قلت: لا تجلس في البيت: فإنه أمر بالجلوس في أحد المواضع المضادة للبيت (¬6). [قوله: (ويقتضي الأمر بضد من أضداد (¬7) المنهي عنه) ما الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: أولاً؟ ومتعلقه فعل ضد المنهي عنه (¬8)؟ فالفرق بينهما: أن البحث في إحدى المسألتين (¬9) في ¬
المتعلِّق (¬1) بكسر اللام، والبحث في الأخرى في المتعلَّق بفتح اللام، فقولنا (¬2): النهي عن الشيء أمر بضده بحث في المتعلِّق بكسر اللام، وقولنا: يقتضي الأمر بضد من أضداد المنهي عنه (¬3) في المتعلَّق بفتح اللام] (¬4). ... ¬
الباب السادس في العمومات
الباب السادس في العمومات وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: في أدوات العموم. الفصل الثاني: في مدلوله. الفصل الثالث: في مخصصاته. الفصل الرابع: فيما ليس من مخصصاته. الفصل الخامس: قيما يجوز التخصيص إليه. الفصل السادس: في حكمه بعد التخصيص. الفصل السابع: في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء.
الباب السادس في العمومات وفيه سبعة فصول. ش: شرع المؤلف - رحمه الله - (¬1) ها هنا في العموم. والعموم لغة معناه: الشمول، والاستغراق، والإحاطة بالشيء، و (¬2) منه قولهم: عمهم (¬3) المطر أو العدل: إذا شملهم (¬4) ومنه تسمية العامة لاشتمالها على الخاصة (¬5). ¬
وجمعه المؤلف أنه مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع لصدقه على القليل، والكثير من جنسه، فاستغني (¬1) بذلك عن تثنيته وجمعه، وإنما (¬2) جمعه اعتبارًا بأدواته ومدلوله وأحكامه. واعلم (¬3) أن العموم من عوارض الألفاظ باتفاق، حقيقة فيها، ومعنى ذلك: أن كل لفظ تصح شركة الكثيرين (¬4) في معناه يسمى عامًا حقيقة، فعروض العموم للفظ إنما هو باعتبار معناه. واختلفوا في عروض العموم للمعاني على ثلاثة أقوال: قيل: ليس من عوارضها، وهو شاذ. [وقيل: من عوارضها (¬5) مجازًا] (¬6). وقيل: هو (¬7) من عوارضها حقيقة، كالألفاظ، وهو الصحيح (¬8)؛ لأنه ¬
شاع وفشا (¬1) عند أرباب اللغة. دليله: قولهم: رحمة (¬2) عامة، وعادة عامة، وقاعدة عامة. وقولهم: عم الملك الناس بالعطاء، وعم المطر الناس، وعم الخصب البلاد، ونحو هذا (¬3). وهذه الأمور كلها في المعاني لا في الألفاظ، والأصل في الإطلاق الحقيقة دون المجاز، ولكن المشهور عندهم: أن العموم حقيقة في الألفاظ مجاز في المعاني. قال بعضهم: عموم الألفاظ يقال فيه: عام وخاص، وأما عموم المعاني فلا يقال فيه إلا أعم وأخص، بصيغة أفعل التفضيل؛ لأن المعاني (¬4) أفضل من الألفاظ؛ لأن المعاني هي (¬5) المقصودة (¬6). ... ¬
الفصل الأول في أدوات العموم
الفصل الأول في أدوات العموم (¬1) ش: تعرض المؤلف ها هنا لبيان الصيغ التي تفيد العموم وفاقًا وخلافًا، مختارًا، أو مزيفًا (¬2). قوله: (أدوات العموم)، أدوات، جمع أداة، وهي: الآلة التي يتوصل بها إلى المطلوب. قوله: (وأدوات العموم) أي: بالوضع (¬3)، هذا قول الجمهور القائلين بأن العموم له صيغة موضوعة له تدل عليه. خلافًا للقاضي أبي بكر، وغيره كما (¬4) بينه المؤلف في قوله آخر هذا الفصل: خالف (¬5) القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ، وقال بالوقف مع (¬6) الواقفية (¬7). ¬
قوله: (وهي: نحو من (¬1) عشرين صيغة). ش: صرح المؤلف بثماني عشرة صيغة، وسنذكرها واحدة بعد واحدة. قوله: (قال الإِمام: وهي: إِما أن تكون موضوعة للعموم بذاتها نحو: كل، أو بلفظ يضاف إِليها كالنفي، ولام التعريف، والإِضافة، وفيه نظر). ش: يعني: أن الإمام فخر الدين نوع أدوات العموم نوعين: أحد النوعين يفيد العموم بنفسه، أي: من غير إضافة شيء إليه، نحو: "كل"، و"جميع"، و"من"، و"ما". والنوع الآخر: إنما يفيد العموم بإضافة شيء إليه (¬2) أي يفيد العموم بضميمة شيء إليه كحرف النفي، وحرف التعريف، والإضافة. فقولك في النفي: لا رجل في الدار يفيد العموم، فلولا حرف النفي لما أفاد العموم؛ لأنه لو سقط (¬3) منه حرف النفي لم يفد العموم؛ لأنه لم يبق إلا مطلق النكرة، وهو لا يفيد العموم. وقولك (¬4) في حرف التعريف: اقتلوا المشركين، يفيد العموم، فلو سقط منه حرف التعريف لم يفد العموم؛ لأنه لم يبق حينئذ إلا الجمع المنكّر وهو لا يفيد العموم. وقولك في الإضافة: عبيدي أحرار يفيد العموم بسبب الإضافة، فلو ¬
سقطت (¬1) منه الإضافة لم يفد العموم، ولم يعم العتق جميع عبيده؛ لأنه لا يلزمه حينئذ إلا عتق ثلاثة أعبد فقط. قوله: (وفيه نظر). هذا كلام المؤلف، يعني: أن كلام الإمام (¬2) فخر الدين الذي نوع أدوات العموم إلى ما يفيد العموم بنفسه، وما لا يفيده إلا (¬3) بضميمة إليه - فيه نظر وبحث؛ أي: في هذا التفصيل نظر وبحث؛ لوجود الإضافة والانضمام [في جميع صيغ العموم. قال المؤلف في الشرح: معنى هذا (¬4) النظر: أن "من" و"ما" أيضًا لا يفيدان العموم إلا بإضافة لفظ آخر يضاف] (¬5) إليها، وهي: الصلة في الخبرية نحو: رأيت من في الدار. أو لفظ هو (¬6) شرط في الشرطية نحو: من دخل داري فله درهم. أو لفظ مستفهم عنه (¬7) نحو: من عندك؟ فلو نطقنا بمن وما وحدهما لم يحصل عموم، بل يكون (¬8) كل واحد ¬
منهما نكرة موصوفة أو غير ذلك. وكذلك "كل" و"جميع" لا بد من إضافة كل واحد منهما للفظ آخر؛ حتى يحصل العموم فيه نحو: كل رجل إنسان، أو جميع العالم ممكن. فتخصيص الإمام المحتاج للفظ آخر بتلك الثلاثة لا يتجه. انتهى نصه (¬1). قال بعضهم: قول (¬2) المؤلف: تفصيل الإمام لا يتجه، بل هو متجه لاختلاف جهتي الاحتياج. أما النكرة المجردة عن النفي، والجمع المنكر المجرد عن اللام (¬3) والإضافة، كل واحد منها لا دلالة له على العموم ابتداءً، وإنما يفيد معناه الموضوع (¬4) له خاصة دون العموم، فإذا اقترنت النكرة بالنفي، واقترن الجمع المنكّر باللام، أو الإضافة أفادت (¬5) معنى آخر لم توضع له أولاً، وهو: العموم. وأما "كل" و"جميع" و"من" و"ما" في الخبر والشرط والاستفهام فقد وضعت ابتداءً للعموم، وافتقارها إلى ما يضَم إليها لا يفيد فيها معنى آخر لم توضع له في الابتداء، فافترق (¬6) النوعان كما قال الإمام (¬7)، فالنظر إذًا في كلام المؤلف لا في كلام الإمام؛ لأن الإمام فرق بين ما يفيد العموم بالذات ¬
وبين ما يفيده بالقرينة (¬1). قوله: (فمنها: كل، وجميع، ومن، وما، والمعرف باللام مفردًا وجمعًا (¬2)، والذي، والتي، وتثنيتهما، وجمعهما، وأي، ومتى في الزمان، وأين وحيث في المكان، قاله عبد الوهاب (¬3)، واسم الجنس إِذا أضيف، والنكرة في سياق النفي، فهذه عندنا للعموم). ش: قوله: كل، وجميع (¬4) يعني: أن كل واحد منهما يعم فيما أضيف إليه، نحو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} (¬5). وقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬6). وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬7). وقوله تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} (¬8) لأنه مضاف معنى. ¬
وقوله عليه السلام: "كل امرئ حسيب نفسه" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ما هو آت قريب" (¬2). وقوله: "كل عين زانية" (¬3). ¬
وقوله (¬1): "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" (¬2). وقوله: "كل صاحب علم غرثان (¬3) إلى علم" (¬4). وقوله: "لكل (¬5) شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه" (¬6). ¬
وقوله: "كل مسكر حرام" (¬1). وقوله: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته" (¬2). ¬
وقوله: "لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته" (¬1). وقوله: "كلٌ ميسَّر (¬2) لما خلق له" (¬3). و (¬4) قوله: (وجميع) نحو قولنا: جميع الخلائق مقهورون بقدرة الله تعالى. ¬
و (¬1) قوله: (ومن وما) (¬2) يعني: إذا كانتا (¬3) شرطًا أو استفهامًا أو خبرًا. مثالهما (¬4) في الشرط: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬5). وقوله تعالى (¬6): {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬7). وقوله تعالى (¬8): {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ} (¬9). وقوله تعالى (¬10): {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} (¬11). وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (¬12). ¬
وقوله تعالى (¬1): {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬2). وقوله تعالى (¬3): {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (¬4). ومثالها (¬5) في الخبر (¬6): قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ...} (¬7) إلى آخره. وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} (¬8). وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬9). وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬10). وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ...} (¬11) إلى آخره. ¬
وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬1). وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬2). ومثالهما في (¬3) الاستفهام: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬4). وقوله تعالى (¬5): {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} (¬6). وقولنا: يشترط في "من" و"ما" أن تكونا شرطًا، أو استفهامًا، أو خبرًا؛ احترازًا مما إذا كانت نكرة موصوفة، أو نكرة غير موصوفة، أو وصفًا. مثال النكرة الموصوفة: مررت بمن معجب لك، أي: بإنسان معجب لك، أو مررت بما معجب لك، أي: بشيء معجب لك، ومنه ما أنشد (¬7) سيبويه رضي الله عنه (¬8): ربما تكره النفوس من الأمر ... له فَرجة كحل العقال (¬9) ¬
فـ "ما" (¬1): نكرة موصوفة بدليل دخول رب عليها، وهي أيضًا اسم بدليل تفسيرها (¬2) بقوله: من الأمر، وبدليل رد الضمير عليها في قوله: فرجة (¬3). وقوله: (¬4) (أو نكرة غير موصوفة) وهي "ما" (¬5) التي تكون في التعجب وفي نعم، وفي بئس، مثالها في التعجب: ما أحسن زيدًا. قال أَبو موسى الجزولي: و"ما" مع "ما أفعله" (¬6) غير موصولة (¬7) بل نكرة غير موصوفة على رأي، وهي مبتدأة باتفاق (¬8) (¬9). وساغ الابتداء بالنكرة؛ لأنها في تقدير المخصَّصة. تقديره: شيء عظيم أحسن زيدًا، أي: جعله حسنًا؛ يعني: على رأي ¬
سيبويه خلافًا للأخفش القائل بأنها موصولة (¬1)، أو نكرة موصوفة. ففي (¬2) "ما" ثلاثة أقوال: "ما" في قولك: ما أحسن زيدًا: مبتدأ والجملة بعد (¬3) "ما" خبر "ما" (¬4) هذا مذهب سيبويه (¬5). وأما على مذهب الأخفش: فما موصولة (¬6) مبتدأة (¬7)، والجملة بعدها صلتها، وخبر "ما" (¬8) محذوف تقديره: الذي أحسن زيدًا شيء عظيم. [وتقديره على أنها نكرة موصوفة: شيء أحسن زيد عظيم، فحذف الخبر (¬9)] (¬10)، وهذا ضعيف (¬11)؛ لأن الكلام على هذا التقدير ناقص لأجل حذف الخبر منه (¬12)، وأما على مذهب سيبويه فالكلام تام ولا حاجة فيه إلى الحذف (¬13). ¬
ومثالها في نعم وبئس: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (¬1)، وقوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} (¬2). قال أَبو موسى: ومما يفسر به المضمر (¬3) فيهما "ما" النكرة غير الموصوفة (¬4). فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} تقديره على مذهب سيبويه - وهو كونها نكرة غير موصوفة -: نعم شيئًا (¬5). وقال الفراء: "ما" ها هنا فاعل، وهي: معرفة تامة، تقديره على هذا: فنعم (¬6) الشيء هي، أي: فنعم الشيء الصدقة. وقوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}. فقيل: "ما" نكرة موصوفة في موضع النصب، تقديره: بئس (¬7) شيئًا أشتروا (¬8) أنفسهم كفرهم. [وقيل: "ما" نكرة غير موصوفة، والفعل الذي بعدها صفة لمخصوص ¬
محذوف (¬1) تقديره: بئس شيئًا شيء (¬2) اشتروا به أنفسهم] (¬3). وقيل: "ما" نكرة غير موصوفة، والفعل الذي بعدها صفة (¬4) لموصوف محذوف وهي: ما أخرى، وهي المخصوص، تقديره: بئس شيئًا الشيء الذي اشتروا له أنفسهم. هذه (¬5) ثلاثة أقوال، على القول بأن "ما" في موضع النصب على التمييز، وأما على القول بأنها في موضع الرفع على أنها فاعل: فقيل: هي نكرة موصوفة بالفعل الذي بعد (¬6) "ما" تقديره (¬7): بئس شيء اشتروا (¬8) أنفسهم كفرهم. وقيل: هي موصولة، والفعل الذي بعده صلة تقديره: بئس الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم. وقيل: هي اسم تام معرفة فلا (¬9) يحتاج إلى صلة، والفعل الذي بعد "ما" (¬10) صفة للمخصوص المحذوف، تقديره: بئس الشيء شيء اشتروا به أنفسهم. ¬
فهذه أيضًا ثلاثة أقوال على القول بأنها في موضع الرفع على الفاعلية. وذلك أن النحاة اختلفوا في "ما" المتصلة بنعم، وبئس هل (¬1) هي (¬2) في موضع النصب على التمييز [أو في موضع رفع على الفاعلية؟ قولان في ذلك. ثم إذا قلنا: بأنها في موضع النصب على التمييز] (¬3) فهل هي نكرة موصوفة، أو نكرة غير موصوفة؟ كما تقدم. [وإذا قلنا: بأنها في موضع الرفع على الفاعلية، فهل هي نكرة، أو موصولة (¬4)، أو اسم تام معرفة؟ كما تقدم] (¬5). وقد أشار ابن مالك في الألفية إلى ذلك فقال: وما مميز وقيل فاعل ... في نحو نعم ما يقول الفاضل (¬6) قوله: (ومن وما) يريد: في الاستفهام، والشرط، والخبر كما تقدم. قال المؤلف: قول الأصوليين: من وما في الاستفهام للعموم يرد عليه أنّا إذا قلنا: من في الدار؟ حسن الجواب بقولنا: زيد، والعموم كيف ينطبق (¬7) عليه زيد؟ ¬
والجواب: أن العموم باعتبار الاستفهام لا باعتبار الوقوع والكون في الدار، فلو قال: ليس فيها أحد، لكان جوابًا (¬1) مطابقًا، [يعني: المستفهِم يسأل عن: هل يتصور أن يكون في الدار أو لا يكون؟ ولذلك يحسن الجواب بقولك: ما فيها أحد] (¬2). قوله: (والمعرف باللام مفردًا وجمعًا) يريد: تعريف الجنس، لا تعريف العهد، فإن تعريف العهد لا يقتضي العموم، لقوله (¬3) تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬4)؛ لأن (¬5) المراد به رسول بعينه، وهو (¬6) نبي الله موسى بن عمران - صلوات الله عليه - (¬7). وكذلك تعريف (¬8) الحقيقة لا يقتضي العموم، كقول السيد لعبده: اشتر الخبز واللحم من السوق، فالمراد به حقيقة الجنس، وهو: مطلق الخبز واللحم، ولا يريد (¬9) استغراق الجنس بأن يأتي بجميع أفراد الجنس، ولا يريد به (¬10) أيضًا المعهود؛ لأنه لا معهود هناك (¬11) بينهما. ¬
و (¬1) ذكر المؤلف في القواعد (¬2) - في الفرق الثالث والسبعين - (¬3): أن الطلاق يستثنى منه، فإذا قال: الطلاق يلزمني، فلا يلزمه إلا طلقة واحدة إذا عدمت النية، مع أن مقتضى اللغة أن يلزمه ثلاث تطليقات، ولكن قاعدة العرف ناسخة لقاعدة اللغة (¬4). [فقوله (¬5): (والمعرف باللام مفردًا) يريد (¬6): إلا الطلاق فإنه لا يعم أفراده؛ وذلك أن لام التعريف تدخل بثلاثة (¬7) معان: تعميم الجنس، أو معهود الجنس، أو معقول الجنس، وهو: حقيقة الجنس، فتعم في الأول خاصة؛ ولا تعم في الثاني لتعيينه، ولا تعم في الثالث أيضًا؛ إذ المراد (¬8) تحصيل الحقيقة، وهي: تصدق بفرد واحد من أفرادها] (¬9). قوله: (مفردًا) يعني به: اسم الجنس المعرف باللام (¬10) كقوله تعالى: ¬
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1)، قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2)، وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬3)، وقوله تعالى (¬4): {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬5)، وقوله تعالى (¬6): {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} (¬7). وقوله عليه السلام: "البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح (¬8) ربا". قوله: (الجمع) (¬9) يعني (¬10) به: الجمع المعرف باللام (¬11) تعريف الجنس ¬
كما قلنا، كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1). ومنه قوله عليه السلام: "الأئمة من قريش" (¬2). وقوله عليه السلام: "نحن - معاشر الأنبياء - لا نورث" (¬3). ¬
قوله أيضًا (¬1): (مفردًا أو جمعًا) (¬2) يريد: أو تثنية، كقولك مثلاً: اقتلوا المشركين. قوله: (والمعرف باللام مفردًا وجمعًا) احترازًا من المنكّر مفردًا أو جمعًا (¬3)، كقولك: أكرم رجالاً وأكرم رجلاً؛ فإنه لا يقتضي العموم؛ لأن الجمع المنكّر، والمفرد المنكر لا عموم له. قوله: (والمعرف) يعني تعريف الجنس لا تعريف العهد (¬4) كما قلنا، وأما تعريف العهد فلا عموم له كقولك: أكرم الرجل، أو أكرم الرجال إذا أردت (¬5) بذلك المعهودين (¬6). ¬
قوله (¬1): (والمعرف باللام) يريد: إلا أن يتميز (¬2) بعلامة التأنيث، نحو: النخلة، أو الثمرة (¬3)، أو البرة (¬4) صدقه فلا يعم، قاله الغزالي (¬5). قوله: (والمعرف باللام مفردًا أو جمعًا). فقد أورد المؤلف في الشرح اعتراضًا على الجمع المعرف باللام: من حيث إن لام التعريف تعم أفراد ما دخلت عليه، فإن دخلت على المفرد فتعم أفراد أشخاصه، وإن (¬6) دخلت على الجمع فتعم أفراد جموعه (¬7)، فينبغي على هذا إذا دخلت على الجمع أن تعم (¬8) أفراد الجموع، ولا تعم الآحاد فيتعذر الاستدلال به حينئذ على الآحاد أمرًا، أو نهيًا (¬9)، ثبوتًا، ونفيًا، فإذا قيل مثلاً: اقتلوا المشركين، فلا يتناول الأمر إلا قتل أفراد المجموع، وأما قتل كافر واحد فلا يتناوله (¬10). وكذلك إذا قيل مثلاً: لا تقتلوا الصبيان، فإنه لا يتناول النهي إلا أفراد المجموع، معناه: لا تقتلوا جماعات الصبيان، فذلك [يقتضي جواز قتل ¬
صبي واحد، فإن النهي إنما يقتضي أفراد الجموع، والواحد ليس بجمع، وهذا خلاف المعهود من] (¬1) صيغة العموم من كونها تقتضي ثبوت حكمها لكل فرد من أفرادها، أمرًا ونهيًا، ثبوتًا ونفيًا، فلا يختلف حالها في شيء من مواردها (¬2). وأجاب المؤلف عن هذا الإشكال: بأن لام التعريف إذا دخلت على الجمع أبطلت (¬3) حقيقة الجمعية، ويصير الجمع حينئذ كالمفرد، فيكون الحكم فيهما (¬4) ثابتًا لكل فرد من الأفراد، سواء كانت الصيغة مفردًا، أو جمعًا أو تثنية (¬5). قوله: (والذي، والتي، وتثنيتهما، وجمعهما) (¬6). ش: يعني على حسب اختلاف اللغات في ذلك كما هو (¬7) مبين في كتب النحاة. قال أبو موسى: الذيَّ، والذي، والذِ، والذْ: لغات في الذي، والتثنية: اللذان رفعًا، واللذين نصبًا، وجرًا، وتحَذف (¬8) النون فيقال: اللذا لطول ¬
الاسم بالصلة، واللغات في التي مثلها في الذي، وفي جمع الذي الذين رفعًا، ونصبًا، وجرًا، وربما قيل: الذون رفعًا، وتحذف النون للطول فيقال: الذي في الذين، وفي جمع التي: اللاي، واللايْ، واللاء (¬1)، واللائي، واللات، واللاتي، واللواتي، انتهى نصه (¬2). قوله: (وأي) (¬3) يعني: في الاستفهام والشرط، نص عليه سيف الدين (¬4). مثاله فى الاستفهام: أي شيء عندك. ومثاله في الشرط: أيهم جاءك (¬5) فأكرمه، وكقولك: أي رجل جاءني فأكرمته (¬6). وقولك: أي شيء تصنع أصنع مثله، ومنه قوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬7). ¬
قوله: (ومتى في الزمان وأين وحيث في المكان) (¬1) يعني: أن "متى" تعُمّ الأزمنة (¬2)، وأن "أين"، و"حيث" تعم الأمكنة (¬3) فإذا قلت: متى جئتني أكرمتك، فإنه يعم جميع الأزمنة، فإذا (¬4) قلت: أين وجدتك أكرمتك، أو حيث وجدتك أكرمتك، فإنه (¬5) يعم جميع الأمكنة. وأورد المؤلف في الشرح اعتراضًا على هذه القاعدة فقال: إذا كانت هذه الظروف تقتضي العموم فيلزم (¬6) إذا قال القائل: متى دخلت الدار فأنتِ طالق، فدخلت مرارًا: أن تطلق ثلاث تطليقات عملاً بالعموم، وليس الأمر كذلك؛ إذ لا يلزمه إلا طلقة واحدة وإن دخلت مرارًا. وكذلك إذا قال: أين وجدتك فأنتِ طالق، أو قال: حيث وجدتك فأنتِ طالق، فوجدها مرارًا لا تطلق إلا واحدة (¬7). فإذا كان لا يلزمه إلا طلقة واحدة فليست إذًا للعموم (¬8) مع أنهم نصوا ¬
على أنها للعموم، ونصوا أيضًا على أنه لا يلزمه إلا طلقة واحدة، فهذا وجه الإشكال. وأجاب المؤلف عن هذا الإشكال: بأن الظرف المعلق عليه عام وهو: "متى"، و"أين"، و"حيث"، والمعلق مطلق، وهو: مطلق الطلاق، فلا يلزمه إلا مطلق في جميع الأزمنة [في "متى"، أو في (¬1) جميع البقاع في "أين" و"حيث"، فإذا لزمه طلقة واحدة فقد وقع ما التزمه من مطلق الطلاق] (¬2) فلا تلزمه طلقة أخرى، بل تنحل اليمين بالطلقة الواحدة؛ إذ لا يلزم من عموم الظرف عموم المظروف، كما لو قال: أنت طالق في جميع الأيام طلقة، فالظرف عامّ والمظروف مطلق، فكذلك ها هَنا، فالمعلق عليه عام، والمعلق مطلق فاندفع الإشكال (¬3). قال المؤلف - في الشرح - في الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه: فائدة: التعليق ينقسم أربعة (¬4) أقسام: مطلق على مطلق نحو: إن جاء زيد فأكرمه، فعلق الإكرام على مطلق ¬
مجيء زيد. وعام على عام نحو: كلما دخلت فكل عبد لي (¬1) حر، فكل دخلة (¬2) معلق (¬3) عليها عتق كل عبد. وعام على مطلق نحو: إن دخلت الدار فكل عبد لي (¬4) حر. ومطلق على عام نحو: متى دخلت الدار فأنت حر، علقت حريته على كل فرد من أفراد الأزمنة التي يقع الدخول فيها. قال المؤلف: وينشأ (¬5) من هذه القاعدة فوائد عظيمة جليلة (¬6): منها: أن اليمين تنحل (¬7) بالمرة الواحدة في قولنا: متى دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرارًا، فإنها لا تطلق إلا طلقة واحدة؛ لأن المعلق مطلق وإن كان المعلق عليه عامًا. ومنها: الفرق بين قول الفقهاء: كلما دخلت الدار فعليّ درهم، وبين قولهم: إن دخلت الدار، [ومتى (¬8) دخلت الدار] (¬9) فعليَّ درهم: أن لزوم ¬
الدراهم يتكرر (¬1) في الأول دون الثاني، بسبب أن (¬2) في الأول علق عام على عام فيتكرر (¬3)، وفي الثاني علق مطلق على عام فلم (¬4) يتكرر. وكذلك يتكرر عليه الطلاق في "كلما" دون "متى"، و"إن"، و"إذا". انتهى نصه (¬5). فتأمل ذلك، انظر تفرقة المؤلف بين: كلما دخلت الدار فعليَّ درهم، وبين: متى دخلت الدار فعليَّ درهم. والظاهر: أنه في الصورتين تعليق مطلق على عام فلا يتكرر (¬6) الدراهم في الصورتين. والله أعلم. قال المؤلف في الشرح: فهذه قاعدة شريفة (¬7) تعلم منها مباحث (¬8) كثيرة في الأصول والفروع، فينبغي أن تضبط (¬9). قوله: (ومتى في الزمان) يعني: الزمان المبهم؛ لأنها وضعت للسؤال عن الزمان المبهم. فتقول: متى دخلتِ الدار فأنتِ طالق، [ولا تقل متى طلعت الشمس، ¬
أو متى زالت، أو متى غربت؛ لأن "متى" بمنزلة "إن"، فلا تدخل إلا على المشكوك بخلاف "إذا" فإنها تدخل عليهما] (¬1). قوله: (ومتى في الزمان، وأين وحيث في المكان). انظر: سكت المؤلف عن ظرفين آخرين، وهما: "أيان" من ظروف الزمان، و"أنى" من ظروف المكان، مع أن النحاة (¬2) نصوا على أنهما (¬3) للعموم، "فأيان" عام في الأزمنة، و"أنَّى" عام في الأمكنة، نص عليه المرادي في شرح الألفية، فذكر (¬4) أن "أيان" كـ "متى" في تعميم الأزمنة. وقيل: لتعميم الأزمنة التي فيها (¬5) الأمور العظام. وذكر أن (¬6) "أنى" كأين في تعميم الأمكنة. وقيل: لتعميم الأحوال (¬7). قوله: (واسم الجنس إِذا أضيف) (¬8). ¬
ومعنى قولهم: اسم الجنس هو: الاسم الموضوع للحقيقة من حيث هي (¬1)، ملغي فيه اعتبار الآحاد، وهو غالب فيما يفرق فيه (¬2) بينه وبين واحده بالتاء، أو بياء النسب. مثاله في التاء: ثمرة، وثمر، وبُرة، وبُر، ونخلة، ونخل، فالثمر والبر والنخل (¬3): اسم جنس. ومثاله في ياء النسب: عربي وعرب، وعجمي وعجم، فالعرب والعجم: اسم جنس. قوله: (اسم جنس) (¬4). قال في الشرح (¬5): سواء كان مفردًا، أو مثنى، أو مجموعًا (¬6). مثال المفرد: قوله عليه السلام: "الطهور ماؤه والحِل ميتته" (¬7) فعم جميع ¬
أفراد الماء وأفراد الميتة (¬1). ومثال المثنى قول (¬2) الأعرابي المفسد لصومه لرسول الله: "ما بين لابتَيْها أحوج مني إليها" (¬3). ¬
واللابة هي: الحجارة السود، فعم ذلك جميع الحجارة (¬1) السود التي هنالك (¬2). ومثال الجمع قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬3). قوله: (واسم الجنس) يريد: اسم الجنس الذي يصدق على القليل والكثير، نحو: ماء، ومال، وذهب، وفضة؛ لأن الماء يصدق على ما قلّ وكثر (¬4) من جنس الماء، وكذلك المال، والذهب، والفضة، فهذا هو الذي يعم. وأما اسم الجنس الذي يصدق على القليل دون الكثير، أي: لا يصدق إلا على الواحد، نحو: دينار، ودرهم، ورجل، وعبد؛ إذ لا يصدق على ¬
جماعة الدراهم أنها درهم، ولا يصدق على جماعة الدنانير أنها دينار، ولا يصدق على جماعة الرجال أنها رجل، ولا يصدق على جماعة العبيد أنها عبد، فهذا النوع الذي لا يصدق على الكثير ينبغي ألا يعم إذا أضيف؛ ولأجل ذلك إذا قال: عبدي حر، أو امرأتي (¬1) طالق، أو ديناري أو درهمي صدقة، فلا يعم من حيث اللفظ، بخلاف قوله: عبيدي أحرار، أو نسائي (¬2) طوالق (¬3) أو دنانيري، أو دراهمي صدقة. قال المؤلف في الشرح: ينبغي أن يفصل (¬4) بين النوعين في اسم الجنس إذا أضيف، ويدعى العموم في أحدهما دون الآخر، لكني لم أره منقولاً، والاستعمالات العربية والعرفية تقتضيه. قال: وكذلك فرق الغزالي بين الفرد (¬5) الذي فيه هاء التأنيث يمتاز بها عن الجنس، نحو: برة، وبر، وبين ما ليس كذلك، فجعل لام التعريف تعم في الثاني دون الأول، فتعم في البر دون البرة، و (¬6) في الثمر دون الثمرة (¬7). قال المؤلف في الشرح (¬8): وهو تفصيل حسن، وهو يعضد هذا (¬9) ¬
الموضع أيضًا في اسم الجنس إذا أضيف (¬1). قوله: (واسم الجنس إِذا أضيف) يريد: ما لم يتميز بعلامة التأنيث نحو: برتي، أو ثمرتي، أو نخلتي صدقة، أو لا يصدق إلا على القليل دون الكثير نحو عبدي، أو ديناري، أو درهمي صدقة، فلا يعم في هذين النوعين. قوله: (والنكرة في سياق النفي) (¬2). مثالها (¬3): قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} (¬4)، وقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} (¬5)، وقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} (¬6). وقوله عليه السلام: "لا عقد في الإسلام" (¬7). ¬
و"لا صرورة (¬1) في الإسلام" (¬2). و"لا هجرة بعد الفتح" (¬3). ¬
"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (¬1). "لا رقية إلا من عين أو حمة" (¬2). ¬
و"لا هجرة فوق ثلاث (¬1) " (¬2). "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار" (¬3). ¬
و"لا همَّ إلا همَّ الدين، ولا وجع إلا وجع العين (¬1) " (¬2) وهو كثير. قوله: (في سياق النفي (¬3)). أي: إذا وقعت النكرة بعد النفي، احترازًا من النكرة في سياق الثبوت، كقولك، في الدار رجل أو رجال، فلا تعم باتفاق. واعلم أن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم في قسمين: مقيس، ومسموع. فالمقيس إذا بنيت مع لا، أو كانت مجرورة بمن (¬4). مثال المبنية مع لا: لا رجل في الدار. ¬
ومثال المجرورة بمن: ما جاءني (¬1) من رجل، فإن "من" ها هنا هي التي تفيد العموم، فلو قلت: ما جاءني رجل لم يحصل العموم. نص عليه الجرجاني (¬2) في أول شرح الإيضاح (¬3). قال (¬4) المؤلف في الشرح: وكذلك أبو القاسم الزمخشري، وغيره: قالوا (¬5): في قوله تعالى: {مَا لَكم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬6) لو قال: ما لكم إله، بحذف "من" لم يحصل العموم (¬7). وكذلك قالوا في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (¬8) لو قال: ما تأتيهم (¬9) آية، بحذف "من" لم يحصل العموم. ومثال النكرة إذا كانت لفظًا عامًا قولك (¬10): ما جاءني أحد، أو (¬11) ما رأيت شيئًا، فإنه يقتضي العموم، فلو قلت: ما جاءني من ¬
أحد، أو (¬1) ما رأيت من شيء بإثبات "من" كانت مؤكدة للعموم لا منشئة للعموم (¬2). يعني: إذا دخلت (¬3) "من" على الأسماء الموضوعة للعموم فهي لتأكيد العموم، كقوله تعالى: {مَا سَبَقَكم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {فَمَا مِنكم مِّنْ أَحَد عَنهُ حَاجِزِينَ} (¬6). وإذا دخلت "من" على أسماء الأجناس [التي] (¬7) لم توضع للعموم، فهي: للعموم كرجل، وغلام، وفرس، كقوله تعالى: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} (¬8)، وقوله تعالى (¬9): {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (¬10). قال المؤلف في الشرح: هكذا (¬11) نقله النحاة، والمفسرون (¬12)، فهذه الأنواع الثلاثة هي القسم المقيس. فأما القسم المسموع: فهي: الألفاظ التي لا تستعمل إلا في النفي. ¬
وذكرها (¬1) صاحب إصلاح المنطق (¬2) وغيره من اللغويين (¬3): فهي (¬4) قولهم: ما بها أحد، ولا وابر (¬5)، ولا صافر، ولا عريب، ولا كتيع، ولا دبِّي، ولا دبيج، ولا نافخ ضَرَمة، ولا ديَّار، ولا طُوري، ولا دوري، ولا طوئي، ولا تُؤْمُري، ولا لا عي قَرْوٍ (¬6)، ولا أرم، ولا داعٍ، ولا مجيب، ولا مُعْرب، ولا أنيس، ولا ناخر، ولا نابح، ولا ثاغ، ولا راغ (¬7)، ولا دعوي، ولا شفر، ولا صوات، ولا زابن، ولا رايم، ولا تأمور، ولا عين، ولا عاين، وما لي عنه بد (¬8). فهذه اثنان وثلاثون لفظًا. قال المؤلف في شرح المحصول: "ينبغي أن يلحق بها: شيء، وموجود (¬9)، ومعلوم" (¬10). فتكون خمسة وثلاثين لفظًا. فهذه الألفاظ وضعت للعموم في النفي، وما عداها لا يقتضي العموم إلا ¬
بواسطة "من"؛ أعني الظاهرة، أو المضمرة، قاله (¬1) المؤلف في الشرح (¬2). ذكر المؤلف هذه الألفاظ في الشرح تجميلًا وتفصيلًا، أما التجميل فقد ذكرنا جملتها. وأما تفصيلها فقال (¬3) المؤلف: "أحد" الذي يستعمل في الثبوت غير "أحد" الذي يستعمل [في النفي] (¬4)، فالذي يستعمل في الثبوت معناه: واحد متوحد، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (¬5). والذي يستعمل في النفي معناه: إنسان، كقولك (¬6): ما في الدار أحد، أي: إنسان (¬7)، وألفه أصلية بخلاف الأول (¬8) فإن ألفه (¬9) فيه بدل من الواو. وقول أبي علي في الإيضاح: أحد وواحد بمعنى واحد (¬10)، يريد: الذي (¬11) ألفه بدل من الواو، قاله المسطاسي (¬12). ¬
ومعنى وابر: أي (¬1): صاحب وبر. ومعنى صافر: هو من الصفير، وهو الصوت الخاص (¬2). ومعنى عريب: من الإعراب الذي هو: البيان، ومنه الثيّب تعرب عن نفسها، أي: ما بها مبين، ويحتمل أن يكون معناه (¬3): ما فيها من نسب (¬4) إلى يعرب بن قحطان (¬5). ومعنى كتيع: من التكتع (¬6) وهو: التجمع، يقال: تكتع الجلد، إذا ألقي في النار فاجتمع، ومنه قولهم: أكتعون أبصعون. ¬
[ومعنى دبي: من دببت] (¬1). ومعنى دبيج: متلون. والضرمة هي: النار. وديَّار منسوب إلى الدار، والطوري منسوب إلى الطور وهو: جبل (¬2)، والدوري منسوب إلى الدور جمع دار، أي: ليس فيها (¬3) صاحب نار، ولا دار, ولا جبل. والطوئي من الطي أي ما هنالك أحد يطوي. والتؤمري التأمور، وهو (¬4): دم القلب. ولاعي القرو (¬5): قال الجوهري: معناه: لاحس عسل من قدح (¬6). ومعنى (¬7) الأرم (¬8): الساكن، ويطلق على البالي الدارس. والداعي والمجيب من: الدعاء والإجابة. ومعنى (¬9) معرب مثل عريب. والناخر: من النخير. ¬
والنابح: الكلب. والثغاء: صوت الغنم. والرغاء (¬1): صوت الأبل. والدعوي: من الدعوة وهي: وليمة الطعام. والشفر: من الشفير: وهو: الحافة. وزابن: من الزبن. ورايم: من الأرم. والتأمور: القلب. وعين وعاين: من العين. والبد: الانفكاك (¬2)، أي: ما لي عنه انفكاك. انتهى كلامه (¬3). قوله: (النكرة في سياق النفي) يريد: إذا كانت مبنية مع لا، أو كانت مجرورة بمن، أو كانت لفظًا عامًا (¬4) وقد تقدم جميع (¬5) ذلك. قوله: (والنكرة في سياق النفي) [يريد أو في سياق النهي] (¬6)، أو ¬
الاستفهام. نص على ذلك أبو موسى في حروف الجر فقال في حرف "من": وتزاد لاستغراق الجنس في الفاعل، والمفعول به (¬1)، في النهي فيهما (¬2)، وفي المبتدأ في النفي والاستفهام. انتهى نصه (¬3). مثال النهي: لا تضرب من رجل. [ومثال الاستفهام: هل عندك من رجل] (¬4). [قال المسطاسي (¬5): قال الإمام فخر الدين: النكرة إذا كانت في سياق الإثبات الذي معناه النفي: تعم (¬6)، كقولك: أنت حر إن كلمت رجلًا؛ لأن معناه النفي، تقديره: لا كلمت رجلًا. وإذا كانت النكرة في سياق النفي الذي معناه الإثبات فإنها لا تعم، كقولك: أنت حر إن لم أكلم رجلًا؛ لأن معناه الإثبات، تقديره: لأكلمن رجلًا. ¬
فضابط هذا: أن الكلام إذا قصد به النفي فيعم، ولو كان اللفظ مثبتًا، وإذا قصد به الإثبات فلا يعم، ولو كان اللفظ منفيًا (¬1)، فقول المؤلف: في سياق النفي يريد: في سياق النفي لفظًا ومعنى، أو معنى دون لفظ] (¬2). قوله: (فهذه عندنا للعموم) يعني: أن هذه الصيغ المذكورة هي: التي تفيد عندنا - نحن المالكية - العموم. قوله: (واختلف في الفعل في سياق النفي نحو قوله: والله لا آكل). ش: لما ذكر أن الاسم النكرة في سياق النفي يعم، ذكر هنا أن الفعل إذا أورد (¬3) في سياق النفي مختَلف فيه، هل يقتضي العموم أو لا يقتضيه (¬4)؟ قوله: (في الفعل في سياق النفي) احترازًا من الفعل في سياق الإثبات فإنه لا يعم كقول الراوي: "صلى عليه السلام (¬5) داخل الكعبة" (¬6). ¬
فلا يعم الفرض والنفل معًا، وإنما هو محتمل لأحدهما. وقوله أيضًا: "صلى العشاء بعد غيبوبة الشفق" (¬1). فلا يعم الحمرة والبياض معًا؛ أي (¬2): فلا يقال: صلى العشاء بعد غيبوبة ¬
الشفقين (¬1) معًا، وإنما هو محتمل (¬2) لأحدهما على البدلية؛ [لأن الأصوليين يقولون: الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه] (¬3). قوله: (واختلف في الفعل) يعني: الفعل المتعدي، وأما القاصر فيعم، كقولك (¬4): لا أقوم، أو لا أقعد (¬5) فإن نفي الفعل نفي لمصدره، فكأنه قال (¬6): لا قيام ولا قعود فهو عام، ومنه قوله تعالى: {ثُمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} (¬7) أي: لا موت، ولا حياة (¬8). قوله: (واختلف في الفعل في سياق النفي) المراد به هو: الفعل (¬9) المتعدي المجرد عن المفاعيل، أعني: الفعل الذي لم يصرح معه (¬10) بذكر المصدر ولا بالمفعول به، ولا بالمفعول فيه (¬11) زمانًا أو مكانًا - وهذا هو محل الخلاف - إذا ورد (¬12) في سياق النفي نحو قولك: والله لا آكل. فقيل: يعم مفاعيله، قاله الشافعي. ¬
وقال: لا يعم مفاعيله، أبو حنيفة (¬1). قوله: (فعند الشافعي للعموم في المآكل (¬2) فله تخصيصه بنيته (¬3) في بعضها، وهذا هو الظاهر من مذهبنا، وقال أبو حنيفة: لا يصح). ش: ذكر المؤلف قول الشافعي: بأنه يقتضي العموم (¬4). وقول الحنفي بأنه لا يقتضي العموم (¬5). وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا قال: والله لا آكل، ونوى مأكولًا معينًا، هل يحنث بغيره، أو لا يحنث بغيره؟ قال الشافعي: لا يحنث بغيره، بناء على عموم لفظه، وقد خصصه ببعض مدلولاته. قوله: (فعند الشافعي للعموم في المآكل). أي: في المأكولات وهو: جمع مأكول (¬6) وهو المفعول به. ¬
قوله: (فله تخصيصه بنيته (¬1) في بعضها) أي: في بعض المأكولات. قوله: (وقال أبو حنيفة: لا يصح) أي: لا يصح (¬2) تخصيصه بنيته في بعض المأكولات، فإذا نوى مأكولًا بعينه فلا يقبل ذلك منه، وإنما لا (¬3) يقبل منه تخصيصه؛ لأن التخصيص ثانٍ عن العموم، فلا عموم هنا، فلا تخصيص. قوله: (لأن الفعل يدل على المصدر وهو لا واحد ولا كثير، فلا تعميم ولا تخصيص (¬4)). ش: هذه حجة أبي حنيفة وبيانها: أن الفعل نحو لا آكل يدل على المصدر وهو الأكل، والمصدر لا واحد أي لا إشعار له بالوحدة المصححة (¬5) لنية التعيين؛ لأنه جنس، ولا كثير أي لا إشعار له بالكثرة والتعدد المصححة (¬6) لنية التخصيص؛ لصدقه على القليل والكثير فلا (¬7) تعميم فيه إذًا ولا (¬8) تخصيص، أي: فلا يتحقق فيه العموم ولا (¬9) يتحقق فيه التخصيص، أي: المصدر ليس مختصًا (¬10) بواحد من الأحداث، وليس موضوعًا لاقتضاء العموم، فلا تنفع فيه نية التقييد، ولا نية التخصيص. ¬
قوله: (واتفق الإِمامان على قوله: لا أكلت (¬1) أكلًا، أنه عام يصح تخصيصه). ش: هذه حجة الشافعية على أبي حنيفة، وبيانها: أن الفعل إذا أكد بالمصدر، نحو: لا آكل أكلًا، فاتفق الإمامان: الشافعي والحنفي على أنه عام يصح تخصيصه بالنية، فإنه إذا قال: والله لا آكل أكلًا، وقال: نويت خبزًا، فله نيته باتفاق الإمامين، فيلزم من ذلك: أن يكون الفعل المجرد من المصدر عامًا أيضًا، نحو: لا (¬2) آكل؛ إذ لا فرق بين المؤكد والمجرد عن التأكيد بالنسبة إلى التخصيص؛ لأن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الفعل إنما هو لتأكيد الفعل، والتأكيد لا ينشئ حكمًا آخر، بل الحكم الثابت مع ذكر المصدر هو ثابت أيضًا مع السكوت عن المصدر؛ لأن المصدر وإن لم يصرح به فهو في حكم المصرَّح (¬3) به؛ لأنه يدل عليه الفعل بالتضمن، فهو كالملفوظ به؛ لأن (¬4) دلالة التضمن لفظية، فيلزم أبا حنيفة على هذا أن يقول بالتخصيص بالنية في نحو: لا آكل، كما قاله الشافعي. قوله: (وعلى عدم تخصيص الأول ببعض الأزمنة والبقاع (¬5)). ش: هذه حجة الحنفية على الشافعية، وبيانها: أن الفعل الأول وهو الفعل الذي لم يذكر معه المصدر، نحو: لا آكل قد اتفق الإمامان الشافعي والحنفي: على أنه لا عموم له بالنسبة إلى المفعول فيه، وهو: ظرف الزمان ¬
وظرف المكان، فإذا قال: والله لا آكل (¬1)، ونوى زمانًا معينًا [أو نوى مكانًا معينًا] (¬2) فلا يقبل منه ذلك، أي: فلا تنفعه نيته (¬3)، فإذا كان لا يقبل التخصيص بالمفعول فيه زمانًا ومكانًا (¬4)، فيلزم من ذلك: ألا يقبل (¬5) التخصيص بالمفعول به؛ لأن حقيقة الأكل لا تتم (¬6) بدون الزمان والمكان كما لا تتم (¬7) بدون المفعول به؛ فإن المفعول فيه كالمفعول به في هذا المعنى، فيلزم الشافعي أن يقول بعدم التخصيص في: لا آكل، كما قاله أبو حنيفة. وأجيب: بالفرق بين المفعول به والمفعول فيه (¬8): أن الفعل المتعدي لا يعقل إلا بالمفعول به، ولا يوجد إلا معه؛ لأن المفعول به من لوازم ماهية الفعل في الذهن، بخلاف المفعول فيه - وهو الزمان والمكان - فإنهما ليسا من لوازم الفعل في الذهن؛ ولدْلك ينفك فعل الباري جل وعلا عن الزمان والمكان، بخلاف المفعول به، فإن لفظ الفعل يدل بالوضع على المفعول به دون المفعول فيه؛ لكون المفعول به لازمًا لماهية الفعل، وأما المفعول فيه فهو ¬
لازم اتفاقي؛ فلأجل هذا يقبل لفظ (¬1) الأكل التخصيص بالمفعول به دون المفعول فيه؛ لأن التخصيص عبارة عن حمل اللفظ على بعض مدلولاته لا على غير مدلولاته. وقال بعضهم: الفرق بين المفعول به، والمفعول فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن المفعول (¬2) به أقوى تعلُّقًا من المفعول فيه؛ لاجتماع النحاة على أن المفعول به إذا وجد مع الظرف [في] (¬3) باب ما لم يسمّ فاعله، فإن المفعول به هو الذي يقام (¬4) مقام الفعل. الوجه الثاني: أن المفعول به هو: موضوع (¬5) قصد الفاعل؛ لأن من أكرم زيدًا أو أهانه (¬6) إنما قصده (¬7) حصول الإكرام أو الإهانة به، دون زمان ذلك أو مكانه. الوجه الثالث: أن المفعول به أخص بالفعل المتعدي، بخلاف الظرف فإن الفعل يتعدى إليه متعديًا كان أو قاصرًا، فذلك يقتضي خصوص (¬8) المفعول به بالمتعدي، فالاقتضاء الخاص مقدم على الاقتضاء العام في جميع الموارد؛ ولأجل ذلك قدم تحريم النجس على الحرير في الصلاة؛ لأن تحريم النجس ¬
خاص بالصلاة، وكذلك (¬1) تقديم تحريم الصيد على الميتة في حق المحرم؛ لأن (¬2) تحريم الصيد خاص بالمحرم (¬3)، فكان أولى بالاعتبار. قال المؤلف في الشرح (¬4): أما إلزامهم (¬5) لنا عدم جواز التخصيص بالزمان والمكان، وقياسهم (¬6) المفعول به على المفعول فيه، فنحن لا نساعدهم ولا الشافعية على الحكم في الظرفين، بل إذا قال: والله لا أكلت ونوى يومًا معينًا أو مكانًا معينًا، لم يحنث بغيره، فيلزمهم ما ألزمناهم ولا يلزمنا ما ألزمونا (¬7). قوله: (لنا: أنه (¬8) إِن كان عامًا صح التخصيص، وإِلا فمطلق (¬9) يصح تقييده (¬10) ببعض محاله وهو المطلوب). ش: هذا دليل المالكية على أن (¬11) قوله مثلًا: لا آكل تنفع فيه النية مطلقًا في المفعول له، والمفعول فيه زمانًا، والمفعول فيه مكانًا. ¬
بيان (¬1) ذلك: أن قوله: لا آكل يدل على نفي المصدر مطابقة، وعلى نفي المفعول التزامًا؛ إذ (¬2) من لوازم الفعل: أن له مفعولًا، فهذا اللازم إن كان عامًا دخله التخصيص، وإن لم يكن عامًا، وهو (¬3) مطلق، دخله التقييد؛ لأن المطْلَقات (¬4) تقيد، كقولك: والله لا كلمت رجلًا، ونويت تقييده بزيد فلا تحنث (¬5) بغير زيد، فكذلك ها هنا إذا (¬6) قلت: والله لا آكل (¬7)، ونويت زمانًا معينًا، أو مكانًا معينًا فلا تحنث بغير ذلك. قوله: (ببعض محاله) أي: ببعض مفعولاته (¬8): من مفعول به، ومفعول فيه زمانًا، ومفعول فيه مكانًا. [قوله: (وهو المطلوب)، أي: وهو المقصود من مذهبنا نحن المالكية] (¬9). قوله: (قال (¬10) الشافعي - رحمه الله -: ترك الاستفصال في حكاية (¬11) ¬
الأحوال يقوم (¬1) مقام العموم (¬2) بالمقال (¬3)) (¬4). ش: يعني أن الشارع إذا أطلق الجواب في واقعة محتملة لوجوه، ولم يسأل الشارع عن تلك الوجوه المحتملة، فإن عدم السؤال عنها يقوم مقام العموم بالمقال فيها؛ فإن ترك الاستفصال كالتعميم بالمقال. قوله: (نحو قوله عليه السلام (¬5) لغيلان (¬6) حين أسلم على عشر نسوة: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" (¬7) من غير كشف عن تقدم ¬
عقودهن (¬1)، أو تأخيرها (¬2)، أو اتحادها، أو تعددها (¬3)). ش: هذا مثال القاعدة المتقدمة في العموم؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4) لم يستفصل (¬5) غيلان الثقفي (¬6) ولم يسأله عن كيفية عقده على نسائه في الترتيب، أي: لم يسأله عن متقدم من العقود ومتأخر منها، وهذا معنى قوله: (عن تقدم عقودهن (¬7) أو تأخيرها). ولم يسأله أيضًا عن اجتماع العقود أو افتراقها، وهذا معنى قوله: (أو اتحادها أو تعددها) أي: لم يسأله هل عقد عليهن عقدًا واحدًا في مرة (¬8) واحدة (¬9)، أو عقد عليهن عقودًا متعددة في أوقات مختلفة. فترك النبي عليه السلام (¬10) السؤال عن هذه الأحوال المحتملة (¬11)، يدل على تعميم الجواب لجميع (¬12) هذه الأحوال، فلا فرق بين غيلان الثقفي ¬
وغيره، ولا فرق بين هذه الأحوال، فكل (¬1) من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة فله أن يختار الأوائل، وله أن يختار الأواخر، وله أن يختار الأواسط، وله أن يختار الأربع من أي جهة شاء، هذا مذهب مالك، والشافعي (¬2) رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: إن عقد عليهن عقودًا مترتبة (¬3)، أي: عقدًا بعد عقد، فلا يجوز له أن يختار من المتأخرات بعد الأربع لفساد عقودهن، فإن عقد الخامسة ومن بعدها فاسد وباطل (¬4)، والخيار في الباطل باطل. وأما إن عقد عليهن عقدًا واحدًا فيجوز له أن يختار ما شاء منهن من غير تفصيل بين المتقدمات، والمتأخرات؛ لعدم التفاوت بينهن فلا (¬5) يتعين الباطل من الصحيح؛ فلأجل ذلك يختار من أي جهة شاء. وأما نحن - المالكية والشافعية - فنقول (¬6): أنكحة الكفار كلها باطلة، وإنما ¬
الإسلام يصححها فإذا كانت أنكحتهم باطلة فلا نقرر أربعًا ويكون من عداهن يبطل عقده، مع أن الحديث لم يفصل في هذه الأحوال، فلولا تعميم الاختيار لهذه الأحوال لما أطلق الشارع القول فيها (¬1). ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام للمفطر (¬2) عمدًا في رمضان: "أعتق رقبة" (¬3)؛ لأن الرقبة تحتمل الذكر والأنثى، والصغيرة والكبيرة، والطويلة والقصيرة، والبيضاء والسوداء، فترك الاستفصال في تلك الأحوال كالعموم في المقال. ومثاله أيضًا (¬4): قوله عليه السلام: "إذا شهد عدلان فصوموا، وأفطروا، وأنسكوا (¬5) " (¬6)؛ لأن العدلين يحتمل الشيخين والكهلين، والعربيين والعجميين، والأبيضين والأسودين، وغير ذلك، فيعم الحكم جميع ذلك؛ لأن ترك السؤال عن الأحوال كالعموم بالمقال. ¬
ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1). لأن الموضع الذي يرجع إليه [يحتمل] (¬2): شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا (¬3)، ومدينة (¬4) وبرية، فيعم الحكم جميع ذلك؛ إذ القاعدة عند المالكية والشافعية: أن ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال يقوم مقام العموم بالمقال. هذا بيان القاعدة المتقدمة وهي قولنا: ترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع (¬5) الاحتمال يقوم مقام العموم بالمقال، وهذه القاعدة منقولة عن الشافعي رضي الله عنه (¬6). ونقل عنه قاعدة أخرى وهي قوله: حكاية الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال (¬7). وظاهر هذه القاعدة مخالف لظاهر القاعدة الأولى، فاختلف العلماء في ذلك: ¬
فقال بعضهم: هذان (¬1) قولان مرويان للشافعي. قول بأنَّه عام يستدل (¬2) به. وقول (¬3) بأنه مجمل فلا يستدل به. قال المؤلف في شرحه (¬4)، وفي (¬5) قواعده في الفرق الحادي والسبعين (¬6): إن كل واحدة من القاعدتين لها محل خلاف محل الأخرى، أي: إحداهما في دليل الحكم، والأخرى في محل الحكم، فإذا كان الاحتمال في دليل الحكم سقط به الاستدلال، وإلى هذا أشار بقوله: "حكاية الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال". وإذا كان الاحتمال في محل الحكم فلا يسقط (¬7) به الاستدلال بل يعم الدليل سائر الأحوال، وإلى هذا أشار (¬8) بقوله: "ترك الاستفصال في حكاية (¬9) الأحوال مع قيام الاحتمال يقوم مقام العموم بالمقال". مثال ما إذا كان الاحتمال في الدليل: قوله عليه السلام في المحرم الذي أوقصته (¬10) ناقته: "لا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبَّيًا" (¬11). ¬
فهذا الدليل فيه احتمال في نفسه؛ لأنه يحتمل أن يراد به رجل بعينه، ويحتمل أن يعمه مع غيره من سائر المحرمين، فالإجمال ها هنا في الدليل، وأما الحكم وهو عدم مسه بالطيب فلا إجمال فيه، فيسقط الاستدلال بهذا الدليل. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام في الحج: "الخير كله بيدك والشر ليس إليك" (¬1). ¬
استدل المعتزلة على (¬1) أن الشر من العبد لا من الله عز وجل بهذا الحديث، فقالوا: معنى قوله: والشر ليس إليك، أي، والشر ليس منسوبًا إليك. ونحن نقول: هذا الجارّ يحتمل تعلقه بمحذوف آخر تقديره: والشر ليس قربة إليك. فالمعتزلة يعلقونه بالأول، ونحن نعلقه بالثاني، فقد حصل الاحتمال في الدليل؛ لأنه يحتمل ما قاله المعتزلة، ويحتمل ما قلناه، فإذا احتمل واحتمل سقط الاستدلال به، فبطل استدلال (¬2) المعتزلة به على أن الشر (¬3) من العبد للإجمال (¬4) فيه. ومثاله أيضًا: "نهيه عليه السلام عن الركعة البتراء" (¬5). ¬
يحتمل أن يراد بها الركعة التي لم يتقدم لها شيء، فلا يؤتى بركعة الوتر من غير تقدم الشفع قبلها، قاله مالك. ويحتمل أن يراد بالركعة البتراء: الركعة المنفردة عما قبلها، أي: المقطوعة عما قبلها بسلام، فلا يفصل بين ثلاث ركعات الوتر بسلام، قاله أبو حنيفة. لأنه قال: لا يجوز أن توتر (¬1) بركعة واحدة، بل بثلاثٍ بتسليمة (¬2) واحدة. فالبتراء (¬3) يحتمل أن يراد بها: ركعة [ليس قبلها شيء. ¬
ويحتمل أن يراد بها ركعة] (¬1) منفردة عما قبلها، فالأبتر في اللغة هو: الذي لا ذنب له أو لا عقب له، ومنه قوله تعالى لنبيه عليه السلام: {إِنَّ شَانِئكَ هُوَ الأَبْتَر} (¬2) أي: هو الذي لا عقب له (¬3). فاستدلال الحنفية على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة ساقط؛ لأجل الإحمال (¬4) في الدليل. فهذه الأمثلة الثلاثة (¬5) وقع الإجمال فيها (¬6) في نفس الدليل؛ فلأجل ذلك قلنا: سقط (¬7) بها الاستدلال، بخلاف الأمثلة المتقدمة أولًا، فإن الإجمال إنما وقع فيها في (¬8) محل الحكم، ولا إجمال (¬9) في الدليل. فقوله عليه السلام لغيلان الثقفي: "أمسك أربعًا"، فإن الدليل الذي هو الإذن في اختيار (¬10) الأربع لا إجمال فيه، وإنما الإجمال في محل الحكم وهو عقود النساء، فيصح الاستدلال به لعدم الإجمال في الدليل؛ إذ الإجمال في محل الدليل لا في (¬11) نفس الدليل. ¬
وقولنا: حكاية الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال، المراد بهذا الاحتمال: إنما هو الاحتمال المساوي؛ لأنه هو الذي يوجب الإجمال في الدليل كما تقدم من أمثلته (¬1)، وأما الاحتمال (¬2) المرجوح فلا يقدح في الدليل، أي: لا يسقط به الاستدلال؛ لأن جميع الأدلة السمعية يتطرق (¬3) إليها الاحتمال من التخصيص، والتقييد، والمجاز، والاشتراك، والنقل، والإضمار، وغير ذلك كما تقدم في الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ (¬4)، ومع ذلك فلا تؤثر تلك الاحتمالات المرجوحة في الاستدلال (¬5) بالدليل. فالمراد إذًا بهذه القاعدة التي يسقط بها الاستدلال: إنما هو إذا كان الاحتمال مساويًا للاحتمال (¬6) الآخر، وأما إذا كان أحد الاحتمالين (¬7) مرجوحًا فلا يقدح في الدليل. قوله: (وخطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعد إِلا بدليل). ش: معنى (¬8) هذه المسألة: أن الخطاب الوارد في زمان النبي عليه السلام مشافهة، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} (¬9)، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ¬
آمَنُوا} (¬1)، وقوله تعالى (¬2): {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3)، وغير ذلك من خطابات (¬4) المواجهة هل يخص (¬5) الموجودين (¬6) في زمانه عليه السلام دون غيرهم؟ أو هو عامّ لهم ومن (¬7) سيحدث بعدهم؟ اختُلف (¬8) في ذلك: فذهب جمهور العلماء من المالكية (¬9)، والشافعية (¬10)، والحنفية (¬11) وغيرهم: إلى اختصاصه بالموجودين في وقت الخطاب، ولا يثبت الحكم في حق من يحدث بعدهم إلا بدليل من نص، أو قياس، أو إجماع. ¬
وذهبت (¬1) الحنابلة (¬2) وطائفة من السلف إلى تعميمه للموجودين والغائبين. ولا خلاف أن خطاب المشافهة مسترسل (¬3) على الموجودين وعلى من يحدث بعدهم إلى يوم القيامة، وإنما النزاع بينهم في مستند (¬4) ثبوته في حق من يحدث بعد (¬5)، هل ثبت الحكم بخطاب المشافهة؟ أو إنما ثبت بدليل آخر؟ كقوله عليه السلام: "حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة" (¬6) (¬7). ¬
وقوله تعالى (¬1): {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (¬2) أي: و (¬3) لأنذر به من بلغه القرآن. وقيل معناه (¬4): ولأنذر به من بلغ الحلم (¬5). قوله: (لأن الخطاب موضوع (¬6) في اللغة للمشافهة). ش: هذا دليل الجمهور وبيانه: أن الخطاب - لغةً - معناه: مراجعة الكلام، والمراجعة لا تكون إلا مع الموجود الحاضر (¬7) وهو معنى المشافهة. قال صاحب العين: شافهت الرجل إذا كلمته من فيّ إلى فيه، فلا تقول العرب: أمرتكم ونهيتكم (¬8)، أو قوموا (¬9) أو اقعدوا، أو افعلوا أو اتركوا، إلا لمن هو موجود (¬10)، فإذا كان الخطاب موضوعًا في أصل الوضع للمشافهة، فلا يعدل عن الأصل إلى غيره إلا بنص أو قياس أو إجماع. حجة الحنابلة (¬11) القائلين بالتعميم: أنه لو لم يتناول خطاب الشفاه من ¬
سيوجد لما صح الاستدلال بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1)، أو (¬2) {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} (¬3)، أو غير (¬4) ذلك من الأوامر والنواهي في حق من سيوجد إلى يوم القيامة، مع وقوع الإجماع على الاستدلال بذلك. أجيب عن هذا: أنه إنما صح الاستدلال بخطاب المشافهة في حق المعدومين؛ لثبوت الإجماع على أن أوامر الشارع ونواهيه عامة [على الخلق] (¬5) إلى يوم القيامة جمعًا بين الأدلة. قوله: (وقول الصحابي: "نهى عليه السلام عن بيع الغرر" (¬6)، أو "قضى بالشفعة" (¬7)، ¬
أو "حكم بالشاهد واليمين" (¬1)، قال الإِمام (¬2) فخر الدين: لا عموم له). ش: هذه الأمثلة التي ذكر (¬3) المؤلف يريد: وما في معناها من قضايا الأعيان، كقول الصحابي: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) بالكفارة في الإفطار" (¬5). ¬
مذهب الأكثرين: أنه غير عام (¬1) كما قاله (¬2) الإمام فخر الدين (¬3). وذهب الأقلون: إلى أنه عام (¬4) وهو: الصحيح. وإنما قال فخر الدين: لا عموم له، وإن كان لفظ الراوي صيغة عامة؛ إذ لفظه مفرد معرف باللام، لأجل الاحتمال (¬5) [لأنه يحتمل] (¬6) أنه عليه السلام نهى عن غرر مخصوص، وقضى بالشفعة لجار مخصوص، وحكم بالشاهد واليمين في شيء مخصوص. ويحتمل: أن يكون الراوي سمع صيغة خاصة فتوهم أنها عامة، فإذا وقع الاحتمال في الدليل سقط الاستدلال له. ¬
فلا يستدل على هذا بقول الراوي: [نهى عليه السلام عن بيع الغرر، على منع كل بيع فيه غرر، يسير أو كثير (¬1)، ولا يستدل على هذا بقول الراوي] (¬2): قضى عليه السلام بالشفعة (¬3) للجار (¬4)، على ثبوت الشفعة لكل جار شريك، أو غير شريك. ولا يستدل على هذا بقول الراوي: حكم عليه السلام بالشاهد واليمين، [على ثبوت الحكم بالشاهد واليمين] (¬5) في جميع الحقوق من الأموال، والدماء، والبضع وغيرها. وحجة القائلين بالعموم: أن الراوي عدل عارف بالعربية، فالظاهر: أنه لم ينقل صيغة العموم إلا وقد سمع صيغة لا يشك في عمومها، أو يغلب ¬
على ظنه عمومها، فإذا ظن صدق الراوي فيما ينقله (¬1) عن النبي عليه السلام وجب اتباعه بالاتفاق (¬2). قوله: (لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية). ش: هذه (¬3) حجة القائلين بعدم العموم، معناه: وإنما قلنا: لا عموم له أي: لا عموم لقول الراوي؛ لأنه لم (¬4) ينقل كلام (¬5) النبي عليه السلام، والحجة الشرعية (¬6): إنما تكون في الكلام المحكي، وهو كلام النبي عليه السلام، ولا تكون الحجة في الحكاية (¬7) وهي (¬8) كلام الراوي إلا إذا طابق كلام الراوي كلام النبي عليه السلام، ولكن المطابقة بينهما غير معلومة للاحتمال المذكور (¬9). ¬
قوله: (لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية). قد استشكله المؤلف في الشرح، فقال: هذا الموضع مشكل؛ لأن العلماء اختلفوا في نقل الحديث بالمعنى، فإن منعناه: امتنع هذا الفصل؛ لأن قول الراوي: نهى عليه السلام، أو قضى أو حكم، ليس بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [وإن قلنا: يجوز نقل الحديث بالمعنى، فمن شرطه ألا يزيد (¬1) لفظ الراوي في (¬2) معناه على لفظه عليه السلام] (¬3)، وألا ينقص وألا يكون أجلى منه ولا أخفى منه (¬4). كما قرره المؤلف في الباب السادس عشر في الخبر في الفصل العاشر منه في قوله: ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين، والشافعي، وأبي حنيفة جائز؛ خلافًا لابن سيرين، وبعض المحدثين بثلاثة شروط: ألا تزيد الترجمة. ولا تنقص. وألا تكون (¬5) أخفى. لأن المقصود (¬6) إنما هو إيصال المعاني فلا يضر فوات غيرها (¬7). ¬
فإذا روى العدل مع هذه الشروط بصيغة (¬1) العموم، كقوله: "نهى عليه السلام (¬2) عن بيع الغرر" مثلًا، تعين (¬3) أن يكون لفظ (¬4) المحكي عامًا، وإلا كان ذلك قدحًا في عدالته، حيث روي بصيغة العموم ما ليس عامًا، والمقدر أنه عدل مقبول القول، هذا خلف، فلا يتجه قولنا: الحجة في المحكي لا في الحكاية، بل الحجة في الحكاية؛ لأجل قاعدة الرواية (¬5) بالمعنى (¬6). قوله: (أو قضى بالشفعة أو حكم بالشاهد واليمين). ذكر المؤلف في الشرح أن تصرفه عليه السلام ها هنا، أعني: تصرفه بالقضاء بالشفعة و (¬7) بالحكم بالشاهد واليمين، يحتمل هذا التصرف أن يكون من باب التصرف بالقضاء وتنفيذ (¬8) الحكم بين الخصمين، فيكون معنى: قضى بالشفعة، أي: نفذ (¬9) الحكم بين الخصمين، كقولك: قضى القاضي بين ¬
الخصمين، أي: نفَّذ (¬1) الحكم بينهما. ويحتمل أن يكون من باب التصرف بالفتيا والتبليغ (¬2). فإذا احتمل واحتمل سقط الاستدلال (¬3). فإذا قلنا: المراد به تنفيذ (¬4) الحكم فلا يصح فيه العموم؛ لأنه (¬5) عليه السلام لم يقضِ بالشفعة بين الخصمين إلى يوم القيامة، ولا حكم بالشاهد واليمين في جميع الأشياء إلى يوم القيامة. وإذا قلنا: المراد به الفتيا والتبليغ فيكون عامًا، انظره (¬6). وهذا هو سبب الخلاف فيمن اتصل بمال رجل له عليه حق، هل يجوز له أن يأخذ منه حقه بغير إذن قاضٍ، أو لا بد من إذن (¬7) القاضي؟ والأصل في هذا قوله عليه السلام لهند (¬8) بنت عتبة، امرأة أبي ¬
سفيان (¬1) حين قالت له (¬2) عليه السلام: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي (¬3) ما يكفيني، فقال لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬4). ¬
فاختلف (¬1) العلماء في هذا التصرف منه عليه السلام: هل هو من باب القضاء فلا يجوز لمن ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه (¬2) إلا بقضاء قاضٍ (¬3)؟ أو هو من باب الفُتيا فيجوز له أن يأخذه بغير علم صاحبه؟ قال ابن الحاجب في كتاب الوديعة: وإذا استودعه من ظلمه بمثلها (¬4): فثالثها: الكراهية (¬5). ورابعها: الاستحباب (¬6). وقال الباجي: والأظهر الإباحة لحديث هند (¬7). انظر: القواعد السنية في الفرق السادس والثلاثين بين تصرفه عليه السلام بالقضاء، وبين تصرفه بالفتيا (¬8). قوله: ([وكذلك قوله: كان يفعل كذا] (¬9)، وقيل: يفيده عرفًا). ش: يعني: أن قول الراوي: "كان عليه السلام يفعل كذا" لا يقتضي العموم (¬10). ¬
كقول الراوي: "كان عليه السلام يجمع بين الصلاتين في السفر" (¬1) فلا ¬
يعم وقتي الصلاتين (¬1)، وهو محتمل لوقوع الجمع في وقت الأولى، ولوقوعه في وقت الثانية؛ لأن الفعل إنما يدل على وقوع الجمع في أحد الوقتين، ولا يقتضي تعيين الوقت. هذا (¬2) معنى قول الأصوليين: الفعل المثبت لا يكون عامًا في أقسامه، وإنما قال بأن (¬3) "كان" لا تدل على العموم؛ لأنها موضوعة لمطلق وقوع الفعل في الزمان الماضي كسائر الأفعال، وذلك أعم من كون الفعل تكرر بعد ذلك، أو لم يتكرر، انقطع بعد ذلك أو لم ينقطع. قال أبو موسى الجزولي: فكان لاقتران (¬4) [مضمون] (¬5) الجملة بالزمان الماضي (¬6). قوله: (وقيل: يفيده (¬7) عرفًا). أي: وقال بعضهم: يفيد العموم من جهة العرف والعادة، لا من جهة اللغة؛ لأنه إذا قيل: كان فلان يتهجد (¬8) بالليل لا يحسن ذلك إلا إذا كان ¬
متكررًا منه، وهذا معنى قوله: وقيل: يفيده عرفًا؛ أي: يفيد العموم عرفًا لا لغة. ولكن المراد بالعموم ها هنا التكرار، [وإطلاق العموم (¬1) على التكرر (¬2) مجاز، فإن الذي يفيده "كان" في العرف هو التكرار في الزمان الماضي، كقولهم: كان حاتم يكرم الضيف، وكقولك (¬3): كان زيد يفعل كذا، وقولك: كنا نفعل كذا إنما يفيد (¬4) التكرار ولا يفيد العموم، فإطلاق العموم على التكرار] (¬5) مجاز، فلو كان يفيد العموم الحقيقي لكان حاتم في قولنا: كان حاتم يكرم الضيف، يكرم جميع أضياف الدنيا، وليس كذلك. وهذا كله إذا (¬6) نسب إلى الله تعالى (¬7) كقوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬8)، {وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (¬9)، {وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬10)، {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (¬11)، فدلت قرينة عقلية (¬12) أن (¬13) ¬
الله تعالى (¬1) موصوف بذلك دائمًا في الماضي، والحال، والمستقبل؛ لأن هذه الصفات واجبة له تعالى، فما كان واجبًا (¬2) امتنع عدمه وذلك من دليل العقل لا من لفظ "كان". قوله: (قال القاضي عبد الوهاب: إِن سائر ليست للعموم فإِن معناها: باقي الشيء لا جملته (¬3)، وقال صاحب الصحاح وغيره من الأدباء: إِنها بمعنى (¬4) جملة الشيء، وهي مأخوذة (¬5) من سور المدينة المحيط بها (¬6)، لا من (¬7) السؤر الذي هو البقية، فعلى هذا (¬8) تكون (¬9) للعموم، والأول عليه الجمهور والاستعمال (¬10)). ش: ذكر المؤلف لفظين (¬11) في هذه اللفظة وهي سائر. قيل: هي من صيغ العموم، وهو مذهب صاحب الصحاح (¬12) - وهو ¬
إسماعيل بن أحمد صاحب تاج اللغة - وقال به طائفة من الأدباء. واستدلوا على ذلك: بأنه (¬1) مأخوذ من السور الذي هو الحائط، فيقتضي هذا الاشتقاق العموم، فكما أن الحائط يعم ما أحاط به، فكذلك هذا اللفظ الذي أخذ منه. ومن هذا قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} (¬2) وهذا السور هو المراد بقوله (¬3) تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} (¬4). فالسور هو: الحجاب (¬5) ومنه قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وأصل السور غير المهموز: الارتفاع، مأخوذة (¬6) من قولهم: سار يسور سورًا إذا علا وارتفع، يقال لفلان سورة في المجد أي: علو وارتفاع، وسميت سورة القرآن سورة لعلوها وارتفاعها (¬7). ومنه قول النابغة: ¬
ألم تر أنَّ الله أعطاك سورة ... ترى كلَّ ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكب (¬1) وقيل: ليس (¬2) من صيغ العموم، وهو مذهب القاضي عبد الوهاب وجمهور الأصوليين (¬3). والدليل على ذلك (¬4) قوله عليه السلام لغيلان: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" أي: باقيهن. وقوله عليه السلام: "إذا أكلتم (¬5) فاستفضلوا" (¬6) و"إذا شربتم فاستسئروا" (¬7) أي: إذا شربتم فأبقوا بقية من الشراب في الإناء. ¬
ومنه قول ابن دريد في المقصورة: حاش لما (¬1) أسأره (¬2) في الحجا ... والحلم أن اتبع رواد الخَنَا (¬3) أي: أبقاه الحجا والحلم في، والحجا هو: العقل، والخنا هو: الفحش من الكلام، والرواد جمع رائد، والرائد هو: المتقدم أمام القوم (¬4). ومنه أيضًا ما أنشده سيبويه رحمه الله تعالى (¬5): ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره بادٍ إلى الشمس أجمع (¬6) قوله: وسائره أي: باقيه (¬7). ¬
وقوله: مدخل الظل رأسه: هذا من باب قلب الكلام، وهو من فصيح الكلام (¬1)، تقديره (¬2): مدخل رأسه الظل، كما يقال: أدخلت الخاتم في أصبعي، وأدخلت القلنسوة رأسي (¬3)، وأدخلت الخف رجلي (¬4). ومنه قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} (¬5) أي: قد (¬6) بلغت الكبر. ومنه قوله عليه السلام: "زينوا القرآن بأصواتكم" (¬7) أي: زينوا أصواتكم بالقرآن. ¬
ومنه قول العرب: إذا طلعت الشعرى (¬1) استوى العود على الحرباء؛ أي إذا طلعت الشعرى استوى الحرباء على العود. وقال صاحب درة الغواص: استعمال سائر بمعنى الجميع من لحن الخواص، وإنما هو في كلام العرب بمعنى الباقي. واختلف هل يستعمل في الباقي مطلقًا (¬2) قلّ أو كثر؟ قولان: قيل (¬3): لا يستمعل إلا في الباقي القليل. فالصحيح (¬4) أنه يستعمل في الباقي مطلقًا لا فرق بين الباقي القليل، والباقي الكثير. بدليل: إجماع أهل اللغة على معنى قوله عليه السلام: "إذا شربتم فاستسئروا" أي: أبقوا في الإناء بقية ماء. ويدل عليه أيضًا قوله عليه السلام في حديث غيلان: "وفارق سائرهن"؛ لأن الباقي أكثر من الأربع. ويدل عليه أيضًا (¬5) بيت سيبويه المتقدم وهو قوله: ............................ وسائره باد إلى الشمس أجمع ¬
لأن الباقي من الثور أكثر من رأسه. وهذا كله يقتضي: أن سائر يستعمل في كل باقٍ كان (¬1) قليلًا أو كثيرًا. انظر: درة الغواص (¬2). قوله: (وقال (¬3) الجبائي: الجمع المنكَّر للعموم، خلافًا للجميع في حملهم له (¬4) على أقل الجمع). ش: ذكر قولين في الجمع المنكر: مذهب الجمهور: أنه لا يقتضي العموم. ومذهب الجبائي، ومن معه: أنه يقتضي العموم (¬5). قوله: (الجمع) احترازًا من المفرد معرفًا ومنكرًا (¬6). ¬
وقوله: (المنكر) احترازًا من الجمع المعرَّف؛ وذلك أن ها هنا أربعة أشياء: المفرد المعرف، والمفرد المنكر، فالمعرف يقتضي العموم دون المنكر، كما أشار إليه المؤلف بقوله أولًا: والمعرف باللام مفردًا، والثالث والرابع: الجمع المعرف، والجمع المنكر. أما الجمع المعرف: فهو الذي يفيد العموم، كما أشار إليه المؤلف أيضًا بقوله (¬1): (والمعرف باللام جمعًا). وأما الجمع المنكر: هو (¬2) الذي (¬3) تكلم عليه ها هنا: ذكر (¬4) أن المشهور فيه عند الأصوليين أنه لا يفيد العموم. وقال الجبائي وجماعة (¬5): يفيد العموم. مثاله: قولك: أكرم رجالا (¬6) فلا يفيد العموم على مذهب الجماعة، فإذا أكرم ثلاثة رجال فقد خرج عن عهدة التكليف. وقال الجبائي: لا بد أن يكون جميع الرجال. ودليل الجمهور: أنه نكرة في سياق الإثبات فلا يعم حتى تدخل عليه أداة التعريف، وهي اللام أو الإضافة (¬7). ¬
ودليل آخر: اتفاق العلماء على باب الإقرار، وباب النذر، وباب الوصية، وباب الصدقة: بأنه (¬1) إذا أقر بدراهم، أو نذر (¬2) دراهم، أو أوصى بدراهم، أو تصدق بدراهم، فلا يلزمه إلا أقل الجمع في جميع هذه الأبواب، وهو: ثلاثة دراهم، ولا يعم أكثر من ذلك. ودليل آخر: حمل الجمع المنكر على المفرد المنكر، فكما أن رجلًا حقيقة في كل فرد من أفراد الرجال على طريق البدل، كذلك رجال حقيقة في كل جمع من أفراد الجموع على طريق البدل، فهو: للقدر المشترك بين الجموع. ودليل آخر: أنه لو استغرق الجمع (¬3) لم يكن نكرة والمقدر (¬4) أنه نكرة، فهذا (¬5) خُلف. وحجة الجبائي: أن حمله على العموم حمل له على جميع حقائقه، فيكون أولى؛ لأن حمل اللفظ على جميع حقائقه أولى من حمله على بعض حقائقه (¬6). وأجيب عن هذا: بأن حقيقته واحدة، وهي القدر المشترك بين الجموع (¬7) كزيد وعمرو، فهي محل حقيقته لا أنها حقائقه، فقوله: جميع حقائقه، كلام ¬
باطل (¬1). وأيضًا: يلزمه أن يحمل رجلًا على جميع أفراد الرجال ولا قائل به. قوله: (والجمع المنكَّر للعموم ...) (¬2) المسألة، المراد بهذا الجمع هو: جمع الكثرة، وأما جمع القلة فلا يتصور فيه الخلاف؛ لأنه ظاهر في العشرة فما دونها فلا عموم له (¬3). قوله: (والعطف على العام لا (¬4) يقتضي العموم، نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يتَرَبَّصْنَ بِأَنفسِهِنَّ ثَلاثَةَ قرُوءٍ} (¬5)، ثم قال: {وَبُعُولَتهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬6) فهذا الضمير لا يلزم أن يكون [عامًا في جميع (¬7) ما تقدم؛ لأن العطف مقتضاه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله فقط). ش: ومعنى هذه المسألة: أنه إذا عطف] (¬8) خاص (¬9) على عام (¬10) فلا ¬
يحكم بعموم المعطوف عليه على المعطوف (¬1)، تقديره: وعطف الخاص على العام لا يقتضي عموم ذلك الخاص حملًا له (¬2) على ذلك العام. نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3)، ثم قال بعد ذلك: {وَبعُولَتهُنَّ أَحَقّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬4). فالمعطوف عليه هو قوله (¬5): {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} (¬6) فهو (¬7) عام؛ لأنه جمع معرف بلام التعريف (¬8)، فهو عام للبائنات، والرجعيات؛ لأن الجميع يؤمرن بالتربص ثلاثة قروء. وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬9). ¬
فهذا (¬1) الضمير المذكور في المعطوف هو خاص بالرجعيات دون البائنات؛ إذ لا رجعة في البائنات. قوله: (لأن العطف مقتضاه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله فقط). ش: هذا (¬2) توجيه عدم العموم، بيانه (¬3): أنه لا يلزم التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، إلا في الحكم الذي سيق الكلام لأجله، والحكم الذي سيق الكلام لأجله ها هنا هو: الأمر بالتربص (¬4)، ولا يلزم الاشتراك بين المتعاطفين في غير ذلك من عوارض الكلام من (¬5) عموم وخصوص وظروف وأحوال وغير ذلك. فإذا قلت: أكرمت زيدًا أو عمرًا (¬6) وقع الاشتراك بين المتعاطفين في الإكرم. وإذا قلت: أكرمت زيدًا في الدار وعمرًا، فلا يلزم الاشتراك إلا في الإكرام دون مكانه الذي هو الدار. وإذا (¬7) قلت: أكرمت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا، فلا يلزم الاشتراك إلا في ¬
الإكرام، وإذا قلت: أكرمت زيدًا قائمًا وعمرًا، فلا يلزم الاشتراك إلا في الإكرام، ولا يلزم الاشتراك في حال الإكرام، وهو: القيام، فإنه يقتضي إكرام عمرو سواء كان قائمًا أو قاعدًا، بخلاف زيد فإنه يقتضي إكرامه في حال قيامه خاصة دون غيره (¬1). قال الباجي في الفصول: قد يرد (¬2) أول اللفظ عامًا وآخره خاصًا، وقد يرد (¬3) أوله خاصًا وآخره عامًا، [ويحمل] (¬4) كل واحد منهما على ما يقتضيه لفظه من خصوص أو عموم (¬5). انتهى نصه (¬6). فهاتان مسألتان: إحداهما: أن يكون الأول عامًا، والثاني خاصًا. والثانية: عكسها، وهو: أن يكون الأول خاصًا، والثاني عامًا. تكلم المؤلف ها هنا على إحدى المسألتين، وهو (¬7) كون الأول عامًا والثاني خاصًا، فذكر أنه لا يحكم بحكم الأول على الثاني. وتكلم في الفصل الرابع على أنه لا يحكم بحكم الثاني على الأول في قوله: "والضمير الخاص [لا يخصص] (¬8) عموم ظاهره، كقوله تعالى: ¬
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} (¬1) هذا عام، ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِردِّهِنَّ} (¬2) فهذا (¬3) خاص بالرجعيات، نقله الباجي منا خلافًا للشافعي والمزني" (¬4) (¬5)، وسيأتي بيانه هنالك (¬6) إن شاء الله تعالى (¬7). قوله: (وقال الغزالي: المفهوم لا عموم له، قال الإِمام: إِن عنى به (¬8) أنه لا يسمى عامًا لفظيًا فقريب (¬9)، وإِن عنى به أنه (¬10) لا يفيد عموم ¬
انتفاء الحكم فدليل كون المفهوم حجة ينفيه (¬1)). ش: المراد بالمفهوم ها هنا هو (¬2): مفهوم المخالفة، ذكر المؤلف في الباب الأول في الفصل الثامن في التخصيص: أن المفهوم يقتضي العموم في قوله [في حقيقة التخصيص: إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه (¬3). فقوله: أو ما] (¬4) يقوم مقامه، المراد (¬5) به: المفهوم (¬6). وذكر ها هنا أن الغزالي - وهو (¬7) محمد بن محمد الطوسي -: [قال] (¬8) إن المفهوم لا عموم له (¬9). ¬
وهذا الخلاف إنما هو لفظي لا معنوي؛ إذ الخلاف في التسمية خاصة دون المعنى؛ وذلك أن الغزالي إنما قال: لا عموم له أي: لا يسمى عامًا؛ لأنه من قبيل المسكوت عنه، والعموم من قبيل (¬1) الملفوظ به (¬2). بيَّن الإمام فخر الدين هذا فقال: إن عنى الغزالي بقوله: لا عموم للمفهوم (¬3): أنه لا يسمَّى عامًا (¬4) لفظيًا، وإنما هو عام معنوي، فذلك قريب، أي: فذلك ممكن أن يريده، أي: فقريب مكانه. وإن عنى الغزالي بقوله: لا عموم للمفهوم: أنه لا يفيد عموم عدم الحكم في المسكوت عنه، فالقول بكون المفهوم حجة (¬5) يكذِّب ما قاله الغزالي من عدم إفادة المفهوم للعموم، فإن الغزالي رحمه الله ممن قال (¬6) بأن المفهوم حجة؛ لأنه قال بمفهوم (¬7) النفي في المسكوت (¬8) عنه، فقول الغزالي: المفهوم لا عموم (¬9) له، يعني: من حيث اللفظ لا من حيث المعنى؛ ليكون (¬10) ذلك موافقًا لمذهبه؛ لأنه يقول بمفهوم المخالفة (¬11). ¬
قوله: (وخالف القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ، وقال بالوقف مع الواقفية، وقال أكثر الواقفية: إِن الصيغ مشترك (¬1) بين العموم والخصوص، وقيل: يحمل على أقل الجمع، وخالف أبو هاشم مع الواقفية في الجمع المعرف باللام، وخالف الإِمام فخر الدين مع الواقفية في المفرد (¬2) المعرف باللام (¬3)). ش: اختلف العلماء في العموم هل له صيغة تخصه في لسان العرب أم لا؟ فقالت المرجئة (¬4): لا صيغة للعموم في لسان العرب (¬5). وقال جمهور العلماء: له صيغة تخصه (¬6). ¬
وهو القول الذي صدر به المؤلف في أول الفصل في قوله: (الفصل الأول (¬1) في أدوات العموم وهي نحو من عشرين صيغة (¬2))، فأثبت المؤلف بذلك (¬3) للعموم صيغة تخصه كما قال الجمهور. القول الثالث: بالوقف، وهو قول القاضي أبي بكر مع الواقفية (¬4). وإليه أشار المؤلف بقوله ها هنا: (وخالف القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ وقال بالوقف مع الواقفية) (¬5) والمراد بقوله: هذه الصيغ: جميع ¬
[الصيغ] (¬1) المفيدة للعموم المذكور في هذا الفصل من أوله إلى ها هنا. القول الرابع: بالاشتراك بين العموم والخصوص (¬2) وإليه أشار المؤلف بقوله: (وقال أكثر الواقفية: إِن الصيغ مشترك بين العموم والخصوص). القول الخامس: أن صيغة العموم تحمل على الخصوص (¬3). وإليه أشار المؤلف (¬4) بقوله: (وقيل: يحمل على أقل الجمع). القول السادس: الوقف في الجمع المعرف باللام خاصة (¬5). ¬
[وإليه أشار المؤلف (¬1) بقوله: وخالف أبو هاشم مع الواقفية في الجمع المعرف باللام (¬2) القول السابع: الوقف في المفرد المعرف باللام (¬3)] (¬4). وإليه أشار المؤلف بقوله: (وخالف الإِمام فخر الدين (¬5) في المفرد المعرف باللام). فتلخص مما (¬6) ذكرنا سبعة أقوال. أما حجة القول الذي عليه الجمهور وهو كون العموم له صيغة تخصه فقد ¬
بينها المؤلف بعد هذا بقوله: لنا (¬1) أن العموم هو المتبادر فيكون مسمى اللفظ كسائر الألفاظ كما سيأتي. وحجة الواقفية مع القاضي بالوقف: قال المؤلف في الشرح: سبب توقف القاضي في الجميع: أن أكثر صيغ العموم مستعملة في الخصوص، حتى قيل (¬2): ما من عام إلا وقد خص إلا قوله تعالى: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) ولما تعارضت (¬4) الأدلة عنده من جهة أن الأصل عدم التخصيص، وعدم المجاز، وعدم الاشتراك حصل له التوقف. وقال: مستند (¬5) هذا (¬6) التوقف: أنه لو علم مسمَّى هذه الصيغ من كونه للعموم [والخصوص] (¬7) معًا، أو لأحدهما لَعُلِم: إما بالعقل، وهو باطل لعدم استقلال العقل بدرك (¬8) اللغات. أو بالنقل، وهو: إما متواتر، وهو: باطل، وإلا (¬9) لعلمه الكل؛ لأن التواتر مفيد للعلم. ¬
أو آحاد، وهو: باطل؛ لأن الآحاد لا يفيد إلا الظن، والمسألة علمية، وهذا المستند طرده القاضي في الأوامر، والعمومات، وجميع الألفاظ التي حصل له (¬1) فيها التوقف (¬2). وجوابه: أنه علم بالاستقراء التام من اللغة على سبيل القطع: أن تلك الصيغ للعموم، ولا يلزم أن يعلم ذلك كل واحد (¬3) لعدم الاشتراك في هذا الاستقراء التام (¬4)، فرب قضية تتواتر (¬5) عند قوم، ولا تتواتر عند آخرين. وحجة الاشتراك: أن هذه الصيغ تستعمل تارة في العموم، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (¬6)، وتستعمل تارة في الخصوص، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬7)؛ إذ المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬8)، والأصل في الاستعمال الحقيقة، والأصل عدم المجاز. وأجيب عن هذا: لأن الأصل عدم الاشتراك فيكون اللفظ مجازًا في الخصوص، والمجاز أولى من الاشتراك (¬9) كما (¬10) تقدم في معارضة المجاز ¬
مع الاشتراك (¬1) في الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ (¬2). وحجة الخصوص وهو حمله على أقل الجمع؛ لأن أقل الجمع هو المتيقن، وأما العموم فهو مشكوك فيه، وحمل اللفظ على المتيقن أولى من حمله على المشكوك فيه، وإنما قلنا: أقل الجمع متيقن لثبوته على تقدير العموم وتقدير الخصوص، وأما تناوله للعموم فيحتمل لثبوته على تقدير العموم خاصة، ولا يثبت على تقدير الخصوص، فما هو ثابت على كل حال أولى مما يثبت في حالة واحدة. وأجيب: بأن العموم أحوط لمراد المتكلم؛ لأن المتكلم على تقدير أن يكون مراده العموم فلو حمل على الخصوص لم يحصل مراد المتكلم (¬3). وحجة أبي هاشم: أن الجمع المعرف باللام تارة تكون اللام للعموم، وتارة تكون للعهد، وتارة تكون لبيان حقيقة (¬4) الجنس، كقول السيد لعبده: اذهب إلى السوق فاشتر لنا الخبز واللحم، مراده: المعقول من هذين الجنسين، فإذا كانت اللام تصلح للعموم وغيره فلا يتعين العموم فيجب ¬
التوقف فيه (¬1). وحجة الإمام فخر الدين في المفرد المعرف باللام هي هذه الحجة المذكورة في الجمع المعرف باللام، غير (¬2) أنه فرق بين المفرد والجمع بأن قال: لو كان المفرد المعرف باللام للعموم لصح نعته بالجمع وتأكيده، فنقول: جاء الفقيه الفضلاء، وجاء الفقيه أجمعون (¬3)، مع أن ذلك ممنوع؛ إذ لا ينعت المفرد بالجمع ولا يؤكد به، فإذا كان المفرد المعرف باللام لا ينعت بما يفيد العموم، ولا يؤكد بما يفيد العموم، فلا يصح أن يكون للعموم (¬4). وجوابه: أنه يشترط (¬5) في النعت، والتأكيد، مع المساواة في المعنى: المناسبة اللفظية، فلا ينعت المفرد إلا بالمفرد، ولا التثنية إلا بالتثنية، ولا الجمع إلا بالجمع (¬6). قوله: (وخالف أبو هاشم مع الواقفية في الجمع المعرف باللام). وقوله: (وخالف الإِمام فخر الدين مع الواقفية في المفرد المعرف باللام). ¬
اعترضه بعض الشراح فقال: ظاهره يقتضي أن أبا هاشم، والإمام فخر الدين قالا ها هنا بالوقف، كما قالت به الواقفية، وليس الأمر كذلك، بل قال أبو هاشم بعدم العموم في الجمع المعرف باللام، ولم يقل بالوقف كما قالت (¬1) به الواقفية. وكذلك الإمام فخر الدين إنما (¬2) قال أيضًا بعدم العموم في المفرد المعرف باللام، ولم يتوقف فيه كما توقفت فيه الواقفية. ونص (¬3) الإمام في المحصول: الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم. وأجاب عنه بأن قال: موافقة أبي هاشم وفخر الدين للواقفية إنما هي في مطلق مخالفة الجمهور، أي: اتفق الفريقان في (¬4) مطلق المخالفة، واختلفا (¬5) في تعيين المخالفة؛ وذلك: أن (¬6) الواقفية قالوا في هذا المعرف بالوقف خلافًا للجمهور، وقال أبو هاشم (¬7) وفخر الدين بعدم العموم، خلافًا للجمهور القائلين بالعموم فيه. قوله: (لنا أن العموم هو المتبادر فيكون مسمى اللفظ (¬8) كسائر ¬
الألفاظ). ش: هذا دليل الجمهور (¬1) على أن الصيغ [المذكورة من قوله: فمنها: كل وجميع ... إلى آخرها، هي موضوعة للعموم؛ لأن هذه الصيغ] (¬2) إذا أطلقت فالمتبادر عند سماعها إلى فهم السامع هو، العموم والاستغراق، فيكون العموم مسماها حقيقة كسائر الألفاظ التي يتبادر معناها إلى الفهم عند سماعها؛ إذ المبادرة دليل الحقيقة. مثال تلك الألفاظ: كالألفاظ المذكورة في الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ في قوله: يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز وعلى العموم دون الخصوص، وعلى الإفراد دون الاشتراك، وعلى الاستقلال دون الإضمار إلى آخرها (¬3). وكذلك صيغ الأمر والنهي، كقولك: افعل، فالمتبادر إلى الفهم هو الوجوب، وقولك (¬4): لا تفعل، فالمتبادر إلى الفهم هو الحظر. واعترض هذا الاستدلال بالمجاز الراجح؛ إذ المتبادر إلى الفهم عند ¬
سماعه هو المجاز لا الحقيقة. قوله: (و (¬1) لصحة الاستثناء في كل فرد وما صح استثناؤه وجب اندراجه). ش: وهذا دليل القياس الحملي (¬2)، ترتيبه أن نقول (¬3): كل فرد من أفراد مدلول تلك الصيغ يصح استثناؤه، وكل ما يصح استثناؤه وجب اندراجه [فينتج: كل فرد فرد (¬4) من أفراد مدلول تلك الصيغ وجب (¬5) اندراجه] (¬6). وإنما قلنا: وكل ما يصح استثناؤه وجب اندراجه بناء على إجماع أهل العربية: أن (¬7) حقيقة الاستثناء إخراج (¬8) ما لولاه لوجب دخوله قطعًا أو ظنًا. مثال القطع: قولك (¬9): عندي عشرة إلا اثنين، ومثال الظن نحو (¬10) قولك: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، أو اقتلوا المشركين إلا زيدًا، وأما استثناء ما لولاه لجاز دخوله فهو مجاز لا حقيقة، كقولك: أكرم رجالًا إلا زيدًا وعمرًا (¬11). ¬
قوله: (تنبيه (¬1): النكرة في سياق النفي يستثنى منها صورتان: إِحداهما: لا رجل في الدار بالرفع، فإِن المنقول عن العلماء أنها لا تعم، وهي تبطل على الحنفية ما ادعوه من أن النكرة إِنما عمت لضرورة نفي المشترك، وعند غيرهم (¬2) عمت؛ لأنها موضوعة لغة لإِثبات السلب لكل واحد من أفرادها (¬3)). ش: التنبيه: إيقاظ من غفلة الوهم كأنه يقول: هذا تنبيه على وهم. وقال بعضهم: معنى التنبيه: إيقاظ الغافل وتذكير الناسي، كأنه قال: نقول (¬4) هذا إيقاظ للغافل وتذكير للناسي. وإنما أتى المؤلف بهذا التنبيه؛ لأن العلماء يطلقون العبارة فيقولون (¬5): النكرة في سياق النفي تعم، ولا يفصلون فيها، فأراد المؤلف أن يبين (¬6) أن إطلاقهم يحتاج إلى تقييده، فذكر ها هنا أن هناك صورتين لا تعم النكرة في سياق النفي فيهما: إحداهما: قولهم: لا رجل في الدار برفع رجل (¬7)، فإن المنقول عن ¬
العلماء - يعني علماء العربية، مثل: سيبويه وابن السيد (¬1) وغيرهما - أنها لا تعم؛ وذلك أن النكرة المرفوعة بعد [لا كقولك] (¬2): لا رجل بالرفع (¬3) يخالف معناها معنى النكرة المبنية مع لا؛ لأن معناها في الرفع نفي مفهوم الرجولية بوصف الوحدة؛ لأن العرب تقول: لا رجل في الدار (¬4) بل اثنان أو أكثر (¬5) (¬6)، أعني: برفع رجل، فإذا كان معناها في الرفع نفي الرجولية بوصف الوحدة، ووصف الوحدة أخص من مطلق الرجولية فلا تعم؛ إذ لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم. ومعنى النكرة المبنية مع لا (¬7): نفي مفهوم الرجولية [مطلقًا، فقولك: لا ¬
رجل في الدار بالبناء مع لا، معناه: ليس في الدار من اتصف بالرجولية مطلقًا لا مقيدًا بوحدة، ولا تثنية، ولا جمعية] (¬1)، بل ينتفي مفهوم الرجولية على الإطلاق، إلا أن العلماء اختلفوا في نفي النكرة المبنية مع "لا" بماذا يقع هذا النفي؟: هل بالالتزام؟ قاله الحنفية. أو بالمطابقة؟ قاله الجمهور. ومعنى ذلك عند الحنفية: أن النكرة المذكورة وضعتها العرب لنفي القدر المشترك بين أفراد الجنس، فالمشترك بين أفراد (¬2) هو أعم من كل واحد منها، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص بالضرورة؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص بالضرورة (¬3). فقولك: لا رجل في الدار إذا (¬4) بنيت النكرة، معناه: نفي مسمَّى الرجولية، ومسمى الرجولية أعم من أفراد الرجال، والأفراد هي أخص (¬5) من ذلك الأعم، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص بالضرورة، أي: بدلالة الالتزام، هذا مذهب الحنفية، وهو معنى قول المؤلف: إنها (¬6) عمت لضرورة نفي المشترك. وأما عند (¬7) الجمهور فإن النكرة المذكورة إنما انتفت بدلالة المطابقة؛ بناء ¬
على أن العرب إنما وضعتها لإثبات النفي لكل واحد من أفرادها بحيث لا يبقى فرد. قال المؤلف في الشرح: ويدل على مذهبنا قول النحاة: إن ذلك جواب لقول القائل: هل من رجل في الدار؟ فكأن الأصل أن يكون الجواب: لا من رجل في الدار، بإثبات "من"؛ لأن الجواب يطابق السؤال، إلا أن العرب حذفتها تخفيفًا وأبقت معناها، وهو سبب البناء؛ لأجل تضمن (¬1) الكلام معنى المبني وهو: "من"، فإذًا تقرر أن "من" هي في أصل الكلام، وهي سبب البناء و"من" لا تدخل ها هنا إلا للتبعيض (¬2) والتبعيض لا يتأتى في ذلك القدر المشترك لأنه أمر كلي، وإنما يتأتى التبعيض في الأفراد، فيكون النافي إنما نفى الأفراد وهو المطلوب. انتهى نصه (¬3). فإذا كان النفي متسلطًا على الأفراد فدلالته على نفي الأفراد مطابقة، بخلاف مذهب الحنفية، فإن النفي عندهم إنما تسلط على القدر المشترك بين الأفراد، وهو معنى الرجولية ولم يسلط (¬4) عندهم على الأفراد، وإنما انتفت الأفراد بدلالة الالتزام عندهم (¬5)، وأما عندنا فقد انتفت (¬6) الأفراد بالمطابقة. قوله: (لضرورة نفي المشترك) معناه: إنما عمت الأفراد بالنفي لأجل (¬7) ¬
انتفاء القدر المشترك بينها (¬1)؛ لأنه يلزم من نفي المشترك نفي أفراده بضرورة العقل؛ إذ لا يلزم (¬2) من نفي الأعم نفي الأخص. قال المؤلف في الشرح: وأما ما ذكرته من أن النكرة المرفوعة تبطل مذهب الحنفية فليس كذلك؛ لأن قولنا: لا رجل في الدار بالرفع، معناه: نفي مفهوم الرجولية بوصف الوحدة، فالنفي لم يدخل على المشترك من حيث هو مشترك، وإنما دخل على ما هو أخص منه، وهو المشترك المقيد بالوحدة، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فلم ينتف ها هنا المشترك الذي هو أعم، فإذا لم ينتف الأعم لم تنتف (¬3) الأفراد. وإنما يلزم السؤال لو كان هذا الكلام - وهو لا رجل في الدار بالرفع - نفيًا للمشترك من حيث هو مشترك ولم تنتف (¬4) الأفراد، فحينئذ يلزمهم (¬5) هذا السؤال، فإن نفي المشترك يلزم منه (¬6) نفي الأفراد قطعًا. انتهى نصه (¬7). فقوله (¬8): (وهي تبطل على الحنفية ما ادعوه) غير صحيح؛ فلا خلاف بين الحنفية وغيرهم: أن (¬9) النكرة في سياق النفي تعم الأفراد بالنفي. ¬
وإنما الخلاف فيما به (¬1) تنتفي الأفراد، هل تنتفي (¬2) بدلالة الالتزام، وهي (¬3) نفي القدر المشترك بين الأفراد؟ قاله الحنفية. أو إنما تنتفي (¬4) الأفراد بدلالة المطابقة، وهي (¬5) وضع النكرة المذكورة لنفي (¬6) الأفراد؟ قاله الجمهور. قوله: (وثانيهما (¬7): سلب الحكم عن العمومات، نحو: ليس (¬8) كل بيع حلالًا، فإِنه وإِن كان (¬9) نكرة في سياق (¬10) النفي فلا يعم (¬11)؛ لأنه سلب للحكم (¬12) عن العموم لا حكم بالسلب عن (¬13) العموم). ش: هذه هي الصورة الثانية التي لا (¬14) تعم النكرة فيها، وإن وقعت [في ¬
سياق النفي] (¬1) وهي: سلب الحكم عن العمومات (¬2). فقولك: ليس كل بيع حلالًا، لا (¬3) عموم له؛ لأنه ليس فيه حكم بسلب الحلية عن كل فرد من أفراد البيوع، وإنما المقصود به: إبطال قول من قال: كل بيع حلال، فقيل له: ليس كل بيع حلالًا، أي: ليست الكلية صادقة، بل بعض البيع ليس كذلك، فهو سلب الحكم عن العموم، لا أنه حكم بالسلب على العموم؛ لأنه لم يحكم على العموم بالسلب، فهو إذًا سلب الحكم عن بعض الأفراد، لا سلب الحكم عن جميع (¬4) الأفراد، فلو كان معناه سلب الحكم عن جميع أفراد البيوع لما كان في البيوع (¬5) حلال، وذلك باطل. ومثال ذلك أيضًا: قولك: ليس كل عدد زوجًا، وقولك (¬6): ليس كل حيوان إنسانًا، وغير ذلك، فإن هذا (¬7) سلب الحكم عن العموم، لا حكم بالسلب على (¬8) العموم، كأنه يقول: ليس هذا العموم صادقًا في جميع أفراده، بل هو صادق في بعض الأفراد دون البعض. قوله: (فائدة: النكرة في سياق النفي تعم، سواء دخل النفي عليها، نحو: لا رجل في الدار، أو دخل على ما هو متعلق بها، نحو قولك: ما جاءني ¬
من أحد (¬1)). ش: أي (¬2): لا فرق بين أن يكون مباشرًا (¬3) للنكرة، أو يدخل على ما تعلق بها، فقولك: ما جاءني من أحد، دخل النفي ها هنا على الفعل المستند إلى النكرة. قوله: (النكرة في سياق النفي تعم (¬4)) ظاهره: أنها تعم جميع متعلقات الفعل المنفي، وليس كذلك، بل لا تعم إلا في الفاعل والمفعول (¬5)، كقولك: ما جاءني أحد، وما (¬6) رأيت أحدًا، وأما ما زاد علي ذلك من ظرف زمان، أو ظرف (¬7) مكان (¬8)، وما (¬9) أشبه ذلك فلا تعم فيه، فإذا قلت: ما جاءني أحد اليوم، أو ما جاءني أحد في الدار، أو ما جاءني أحد ضاحكًا، فليس ذلك نفيًا للظرفين ولا للحال. قال المؤلف في الشرح: وهل يعم ذلك متعلقات الفعل المنفي أم لا؟ قال: الذي يظهر لي: أنه إنما (¬10) يعم في الفاعل والمفعول إذا كانا متعلقي ¬
الفعل، أما ما زاد على ذلك فلا، نحو قولنا: ليس في الدار أحد، أو (¬1) لم يأتني اليوم أحد، فإن ذلك ليس نفيًا للظرفين المذكورين، وكذلك قولك: ما جاءني أحد ضاحكًا، أو إلا (¬2) ضاحكًا، ليس نفيًا للأحوال (¬3)، وبالله التوفيق (¬4). ... ¬
الفصل الثاني في مدلوله
الفصل الثاني في مدلوله (¬1) ش: شرع المؤلف ها هنا في بيان مدلول العموم. المدلول، والموضوع، والمسمى بمعنى (¬2) واحد، وفي هذا الفصل خمسة مطالب: الأول: في موضوع العموم. قوله (¬3): (وهو كل واحد واحد، لا الكل من حيث هو كل، فهو كلية لا كل، وإِلا لتعذر (¬4) الاستدلال به حالة النفي والنهي (¬5)). ش: قد تقدم لنا في الباب الأول في الفصل الخامس معنى الكلية، والكل، والكلِّي (¬6). ¬
فالكلية هي: الحكم على كل فرد فرد، حيث (¬1) لا يبقى فرد، وهي: مدلول صيغة العموم (¬2). والكل هو: الحكم على المجموع من حيث هو مجموع، وهو: مدلول أسماء الأعداد. والكلي هو: الحكم على القدر المشترك بين الأفراد من غير تعيين فرد من الأفراد، وهو مدلول النكرات. فالكلية (¬3) تتناول جميع الأفراد [إثباتًا ونفيًا، والكل يتناول جميع الأفراد إثباتًا، ولا يتناولها نفيًا، والكلي عكسه، وهو: أنه يتناول جميع الأفراد] (¬4) نفيًا، ولا يتناولها إثباتًا؛ لأنه أعم، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص دون العكس. فلما كان العام يتناول جميع أفراده إثباتًا ونفيًا كان مدلوله كليةً، لا كل ولا كلي، فلو كان مدلوله الكل لتعذر (¬5) الاستدلال به في حالة النفي والنهي (¬6)؛ لأن الكل يتعذر الاستدلال به على أفراده في حالة النفي والنهي، فإذا قلت: ¬
ليس عندي عشرة، فلا يلزم ألا يكون عنده تسعة، أو أقل، فإنه إنما نفى المجموع خاصة، وليس فيه نفي أفراده، هذا في النفي، وتقول في النهي: لا تكرم عشرة، فإنه نهي عن إكرام مجموع العشرة، وليس فيه نهي عن إكرام أقل من عشرة، فيجوز له أن يكرم تسعة، أو ثمانية، أو غيرها من أفراد العشرة. فظهر بهذا التقرير (¬1): أن الكل يتناول أفراده في الإثبات، ولا يتناولها في النفي، والإثبات (¬2) أعم من النفي والنهي. فلو قلنا: العموم مدلوله الكل، لتعذر الاستدلال بالعموم في حالة النفي والنهي كما يتعذر بالكل، فإذا قال الشارع مثلًا: لا تقتلوا صبيان الكفار، وقلنا: مدلوله الكل، فيقتضي النهي عن قتل مجموع الصبيان؛ لأن المفروض أن مدلوله (¬3) الكل، وهو: المجموع من حيث هو مجموع، وليس فيه نهي عن قتل صبي واحد أو صبيين؛ لأنه إنما نهى عن قتل المجموع، وليس هذا شأن العموم، فإن العموم يتناول الأفراد مطلقًا في الثبوت والنفي، فإن مقتضى العموم في قولنا: لا تقتلوا صبيان الكفار هو: النهي عن قتلهم مطلقًا، لا فرق بين اتحادهم وتعددهم؛ لأن مقتضى العموم هو (¬4): تتبع أفراده للحكم (¬5) حتى لا يبقى فرد. وتقول في النفي: إني لا أحب الكافرين، فهذا عام، فلو قلنا: مدلوله ¬
الكل من حيث هو كل، وهو المجموع من حيث هو (¬1) مجموع، لكان ذلك إخبارًا (¬2) منك أنك لا تحب مجموع الكافرين، وليس فيه ما يدل على أنك لم تحب (¬3) كافرًا واحدًا؛ لأن هذا العموم قدرنا أن مدلوله الكل، وهذا ليس من شأن العموم، فإن العموم يستدل به على الأفراد مطلقًا في الثبوت والنفي. فقد تبين لك من جميع ما ذكرنا: أن العموم ليس مدلوله الكل، وكذلك تقول أيضًا (¬4): لا يصح أن يكون (¬5) مدلوله الكلي؛ لأن الكلي معناه: الحكم على القدر المشترك من غير تعيين أفراده، فإنه يتناول أفراده في النفي، ولا يتناولها (¬6) في الإثبات. فإذا قلت في الإثبات: أكرم رجلًا فإنه أمر بإكرام رجل واحد (¬7) من غير تعيين (¬8) فرد من أفراد الرجال، فإنه كلي، والكلي لا يتناول خصوص أفراده في الإثبات، فإذا قال الشارع مثلًا: اقتلوا المشركين، وهذا عام وقدرنا أن مدلوله (¬9) الكلي، فإن مقتضى هذا الأمر على هذا التقدير هو الأمر بقتل ¬
جماعة ما من المشركين من غير تعيين (¬1)، كما هو مقتضى الكلي، وليس فيه أمر بقتل مشرك واحد أو مشركين (¬2)، وليس هذا شأن (¬3) العموم، فإن العموم يقتضي تتبع أفراده بالحكم؛ حتى لا يبقى فرد لا في الإثبات ولا في النفي. فلو قدرنا أن مدلوله الكلي لتعذر (¬4) الاستدلال بالعموم في حالة الثبوت؛ لأن الكلي (¬5) لا يتناول خصوص الأفراد (¬6) في حالة الثبوت، وإنما يتناول أفراده في حالة النفي كقولك: ما رأيت رجلًا فإنه يقتضي سلب الرؤية عن كل متصف بالرجولية، وكذلك قولك في النهي: لا تكرم (¬7) رجلًا، فإنه يقتضي النهي عن إكرام [كل] (¬8) متصف بالرجولية، فلو قلنا: مدلول العموم هو: الكلي لتعذر الاستدلال به في (¬9) حالة الثبوت؛ لأن الكلي يصدق بفرد (¬10) واحد، فإن قولك مثلًا: في الدار رجل، يصدق بفرد واحد من أفراد الرجال، وكذلك قولك (¬11): أكرم رجلًا. فتبين بما قررناه: أن العموم لا يصح أن يكون مدلوله كلًا ولا كليًا؛ لأنه ¬
إن جعلناه كلًا تعذر الاستدلال به في [حالة] (¬1) النفي والنهي، وإن جعلناه كليًا تعذر الاستدلال به حالة (¬2) الثبوت، فمدلوله إذًا (¬3) هو: الكلية، وهي (¬4): الحكم على كل فرد فرد بحيث لا يبقى فرد. وقد تقدم بيان هذا أيضًا في الباب الأول في الفصل السادس في أسماء الألفاظ في ذكر حقيقة العام، انظره (¬5). قوله: (ويندرج (¬6) العبيد عندنا وعند الشافعية (¬7) في صيغة الناس والذين آمنوا) ش: هذا هو المطلب الثاني حجة الجمهور: أن العبيد يصدق عليهم الاسم؛ لأنهم من الناس، وأنهم مؤمنون، فوجب اندراجهم في عموم الخطاب من حيث وضع اللسان (¬8). ¬
حجة القول بعدم اندراجهم، وقال به (¬1) ابن خويز منداد (¬2) من المالكية، وأبو بكر الرازي (¬3) من الحنفية، وغيرهم: انعقاد الإجماع على خروج العبيد من كثير من عمومات القرآن: كخطاب الجمعة، والحج (¬4) وغيرها (¬5)؛ [فإن قوله تعالى في آية الجمعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬6) الآية، لا يدخل فيها العبيد (¬7). وكذلك الحج (¬8) في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬9). وكذلك (¬10) آية الجهاد، وهو (¬11) قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (¬12). وكذلك آية الطلاق في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬13) ¬
لا تندرج الأمة فيها (¬1)] (¬2). أجيب: بأن خروج العبيد من هذه الخطابات إنما هو بدليل خاص، كما خرج المسافر، والمريض من العمومات الواردة بالصوم بدليل خاص. قوله: (ويندرج النبي عليه السلام (¬3) في العموم عندنا، وعند الشافعي (¬4)، وقيل: علو منصبه يأبى ذلك، وقال الصيرفي: إِن صدر الخطاب (¬5) بالأمر بالتبليغ لم يتناوله، وإِلا تناوله (¬6). ش: هذا مطلب ثالث (¬7) وهو: العموم الوارد في القرآن، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬8)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (¬9)، وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (¬10)، وغير ذلك هل يندرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم (¬11) لا؟ فيه ثلاثة أقوال: ¬
حجة القول بالاندراج، وهو قول الجمهور (¬1): أنه عليه السلام يصدق عليه الاسم؛ لأنه من الناس، ومن المؤمنين، ومن العباد، فهو عليه السلام سيد الناس، وسيد المؤمنين، وسيد العباد، ولا تخرجه (¬2) النبوة عن إطلاق (¬3) هذه الأسماء عليه (¬4)، فهو مندرج في هذه العمومات، فلو لم يندرج في الخطاب العام لزم وجود الاسم بدون المسمَّى، وذلك (¬5) خلاف الأصل. حجة القول بعدم الاندراج، وهو قول طائفة من الفقهاء (¬6)، والمتكلمين: أن علو قدره عليه السلام يمنع اندراجه مع الأمة في الخطاب الواحد (¬7)، بل يخص (¬8) بخطابه؛ لأنه (¬9) عليه السلام قد خص بأحكام كوجوب ركعتي الفجر والضحى، والأضحى، وتحريم الزكاة، وإباحة النكاح بغير ولي ولا ¬
شهود، ولا مهر، وغير ذلك، فهذا يدل على علو مرتبته، وانفراده عن الأمة بالأحكام التكليفية، فلا يندرج في الخطاب المتناول للأمة. وأجيب عن هذا: بأن اختصاصه (¬1) عليه السلام ببعض الأحكام لا يخرجه عن عمومات الخطاب، كالمريض والمسافر، فإنه لا يخرجهما اختصاصهما ببعض الأحكام عن عمومات الخطاب. حجة أبي بكر الصيرفي (¬2) من الشافعية القائل بالتفصيل: لأن الظاهر في الخطاب الذي أمر فيه أن يبلغه لغيره أنه لا يندرج فيه لغة، كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (¬3) وقوله تعالى (¬4): {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬5)، وقوله تعالى (¬6): {قلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬7)، وقوله تعالى (¬8): {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكمْ} (¬9) ¬
وغير ذلك. وأما (¬1) إن لم يكن أمر بالتبليغ في الخطاب: فإنه يندرج فيه (¬2)، كقوله تعالى (¬3): {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ} (¬4)، وقوله تعالى (¬5): {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬6)، وقوله تعالى (¬7): {وَجَاهِدُوا في الله حَقَّ جِهَادِهِ} (¬8) وغير ذلك (¬9). قوله: (إِن صدر الخطاب) هو مركب للمفعول، أي: إن بدئ صدر الخطاب بالأمر بالتبليغ، أي: إن بدئ (¬10) أول الخطاب (¬11) بالأمر بالتبليغ [لم يتناوله، وإلا تناوله] (¬12). قوله: (وكذلك يندرج المخاطب عندنا (¬13) في العموم الذي يتناوله؛ لأن ¬
شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك). ش: هذا مطلب رابع، المراد ها هنا بالمخاطِب، المخاطِب بكسر الطاء، وهو: فاعل الخطاب، وهو: المتكلم. فاختلف العلماء في المخاطِب لكسر الطاء: هل يندرج في متعلق خطابه، أو لا (¬1) يندرج فيه (¬2)، أو يندرج فيه (¬3) إن كان خبرًا، ولا يندرج فيه إن كان أمرًا؟ فمذهب الجمهور: اندراجه مطلقًا، كان خبرًا، أو أمرًا، أو نهيًا (¬4). مثال الخبر: من كلمك (¬5) فأنت طالق، هل تطلق إذا كلمها هو أم لا؟ ومثاله أيضًا: من دخل داري فهو سارق السلعة، فإذا قلنا باندراجه: فيحكم عليه بأنه سارق (¬6) السلعة [إذا دخل داره] (¬7)، فيكون ذلك ¬
إقرارًا (¬1) على نفسه بالسرقة، وإذا (¬2) قلنا بعدم اندراجه (¬3): فلا يحكم عليه بأنه سارق السلعة. ومثاله أيضًا: من دخل داري فامرأته طالق وعبده (¬4) حر، فإذا قلنا باندراجه: فتطلق (¬5) امرأته ويعتق عبده، وإذا قلنا بعدم اندراجه (¬6): فلا طلاق ولا عتق عليه (¬7). ومثال الأمر: قول السيد لعبده: من دخل داري فأعطه درهمًا، فإذا قلنا بالاندراج: وجب على العبد إعطاء السيد الدرهم (¬8) إذا دخل الدار، وإذا قلنا بعدم الاندراج: فلا يجب على العبد إعطاء الدرهم للسيد إذا دخل الدار. ومثال النهي: قول السيد لعبده: من دخل داري فلا تطعمه (¬9)، هل يندرج السيد أم لا؟ مذهب الجمهور: اندراجه كما تقدم، حجة القول الذي عليه الجمهور ¬
بالاندراج: أن مقتضى اللفظ يعم (¬1) المخاطِب بالكسر، كما يعم المخاطب بالفتح، والأصل عدم التخصيص بين المخاطب بالكسر وغيره، والأصل عدم التخصيص في ذلك بين (¬2) الخبر، والأمر والنهي. ويدل على اندراجه أيضًا: قوله تعالى: {وَاللَّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3)؛ لأنه تعالى عالم بذاته، وصفاته، وعالم بكل شيء. وحجة القول بعدم الاندراج (¬4): قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬5)؛ لأنه لو قلنا (¬6) باندراجه للزم منه أنه تعالى (¬7) خالق لذاته جل وعلا (¬8)، وذلك خلاف الإجماع (¬9). وإنما قلنا بلزوم ذلك؛ لأنه تعالى شيء من الأشياء [أي موجود من ¬
الموجودات] (¬1)، وإنما قلنا: هو شيء؛ لقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ} (¬2). أجيب عن هذا، بأن العقل خصص (¬3) ذات الله تعالى (¬4) وصفاته من عموم قوله: {خَالِق كلِّ شَيءٍ}، ولا منافاة بين (¬5) دخوله تعالى في عموم اللفظ، وبين خروجه عنه بالتخصيص. وحجة القول باندراجه في الخبر، وعدم اندراجه في الأمر، وهو مذهب الباجي (¬6): قال الباجي: لا يدخل الآمر في أمره؛ لأن الأمر استدعاء للفعل، فلا يدخل المستدعي فيه؛ ولأن الإنسان لا يأمر نفسه، ولا يأمر لنفسه بدرهم من ماله؛ إذ لا يتوجه عليه اللوم إذا لم يفعل ذلك (¬7). انظر قوله ها هنا (¬8): وكذلك (¬9) يندرج المخاطب عندنا، مع قوله ¬
في (¬1) الفصل الرابع: وكونه مخاطبًا لا يخصص العام (¬2) إن كان خبرًا، وإن كان (¬3) أمرًا جعل (¬4) جزاء (¬5)، هما مسألة واحدة كررها المؤلف في كلامه مناقضة؛ لأن ظاهر كلامه في هذا الفصل يقتضي: أن لا فرق بين الخبر والأمر، وظاهر كلامه في الفصل الرابع الفرق بين الخبر والأمر (¬6): فيحتمل أن يكون (¬7) تكلم ها هنا على القول بعدم التفصيل بين الخبر والأمر، وتكلم في الفصل الرابع على القول في الفرق (¬8) بين الخبر والأمر. قوله: (لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك): الإشارة راجعة إلى المسائل الثلاث (¬9)، وهي (¬10): مسألة العبد، ومسألة النبي عليه السلام، ومسألة المخاطب. قوله: (شمول اللفظ): أي: عموم اللفظ، يقال: شملهم الأمر إذا عمهم، يقال: شملهم الأمر بكسر العين في الماضي وبفتحه (¬11)، ويقال في ¬
مستقبله: يشملهم (¬1) بفتح العين وضمه، قاله ابن هشام (¬2) في شرح (¬3) الفصيح (¬4). قوله: (والصحيح عندنا: اندراج النساء في خطاب التذكير، قاله القاضي عبد الوهاب، وقال الإِمام فخر الدين (¬5): [إِن] (¬6) اختص الجمع بالذكور فلا (¬7) يتناول الإِناث، وبالعكس كشواكر وشكر، وإِن لم يختص كصيغة "من" و"ما" (¬8): يتناولهما، وقيل (¬9): لا يتناولهما وإِن لم يكن مختصًا، وإن (¬10) كان متميزًا (¬11) بعلامة (¬12) الإِناث فلا (¬13) يتناول الذكور كمسلمات (¬14)، وإِن تميز بعلامة الذكور (¬15) كمسلمين (¬16) ¬
فلا (¬1) يتناول الإِناث، وقيل: يتناولهن). ش: هذا مطلب خامس (¬2). وسبب الخلاف (¬3) في اندراج النساء في خطاب التذكير: هل النظر إلى القاعدة الشرعية (¬4)، أو النظر إلى القاعدة اللغوية؟. فنظر القاضي عبد الوهاب القائل بالاندراج إلى القاعدة الشرعية، وهي: أن النساء مثل الرجال في الأحكام الشرعية إلا ما خصه (¬5) الدليل، ونظر الإمام فخر الدين القائل بالتفصيل إلى القاعدة اللغوية، وهي أن العرب فرقوا [بذلك] (¬6) بين الصيغ. قال المؤلف في الشرح: والتحقيق ما قاله الإمام: بأن (¬7) البحث في المتناول (¬8) إنما هو بحسب اللغة، فينبغي أن يؤخذ ذلك من اللغة، لا من ¬
الشريعة (¬1) (¬2). قوله: (وقال الإمام فخر الدين: إِن اختص الجمع بالذكور فلا يتناول الإِناث ...) إلى آخره. حاصل كلام الإمام: أن الخطاب على ثلاثة أقسام: إما مختص، وإما متميز بعلامة، وإما غير مختص ولا متميز بعلامة (¬3). فالقسم الأول، الذي هو المختص، فلا يخلو: إما أن يختص بالذكور (¬4)، وإما أن يختص بالإناث، فالمختص بالذكور لا يتناول الإناث، والمختص بالإناث لا يتناول الذكور (¬5). وإلى هذا القسم الأول، الذي هو المختص أشار المؤلف بقوله: "إن اختص الجمع بالذكور فلا يتناول الإناث، وبالعكس". ومعنى قوله: (وبالعكس): أي: إن اختص بالإناث (¬6) فلا يتناول الذكور. قوله: (كشواكر وشكر) هذان مثلان للمختص: أحدهما: مثال للمختص بالمؤنث [وهو: شواكر] (¬7). ¬
والآخر: مثال للمختص بالمذكر، وهو: شكر بضم الشين والكاف. قوله: (شواكر (¬1)) يعني: أن هذا الجمع، الذي هو فواعل (¬2)، الذي هو: جمع فاعل، وفاعلة (¬3) مخصوص بالمؤنث مطرد فيها (¬4) اسمًا وصفة (¬5)، نحو: فاطمة وفواطم، وعائشة وعوائش، وحائض وحوائض، وطاهر وطواهر، وطامث وطوامث، [وكافرة وكوافر، وصاحبة وصواحب. ومنه قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} (¬6). ومنه قوله عليه السلام لعائشة وحفصة (¬7): "إنكن لأنتُنَّ صواحب ¬
يوسف" (¬1)] (¬2). ولا يستعمل في المذكر العاقل إلا شذوذًا، وذلك في ألفاظ معلومة، وهي: فارس وفوارس، و (¬3) هالك وهوالك، و (¬4) ناكس و (¬5) نواكس، وناسك (¬6) ¬
[ونواسك] (¬1)، و (¬2) شاهد وشواهد، و (¬3) غائب وغوائب (¬4). قوله: (وشكر) يعني: أن هذا الجمع الذي هو فعل، بضم الفاء والعين، أعني: فعل الذي هو جمع فعول، نحو: شكور، وصبور، وغفور، ورسول (¬5) مخصوص بالمذكر فلا يتناول الإناث. قال المؤلف في الشرح: فلا يتناول فواعل الذكور، ولا يتناول فُعُل الإناث (¬6). قوله: (وإن لم يختص كصيغة "من" و"ما" يتناولهما (¬7)، وقيل: لا يتناولهما، وإِن لم يكن مختصًا). هذا (¬8) هو القسم الذي ليس بمختص، ولا متميز (¬9) بعلامة. فقوله: (وإِن لم يختص) يعني (¬10): ولم يتميز بعلامة؛ لأن تمثيله بـ "من" ¬
و"ما" يبين مراده بهذا القسم، فذكر المؤلف في هذا القسم قولين: قيل (¬1): بالتناول. وقيل: بعدم التناول (¬2). قوله: (وإن لم يكن مختصًا) تأكيد وإغياء. قوله: (وإِن لم يختص) الفاعل ليختص هو: الجمع المتقدم في قوله: (إن اختص الجمع بالذكور) صوابه: إن اختص الخطاب؛ لأن الخطاب أعم من الجمع (¬3)، وإنما قلنا هذا ليصدق كلامه على "من"، و"ما"؛ لأن "من" و"ما" لفظان مفردان (¬4). ومثال هذا القسم الذي هو غير مختص ولا متميز (¬5) بعلامة (¬6): فعائل؛ فإن هذا الجمع لا يختص بمذكر ولا بمؤنث، فإنه يكون في المذكر (¬7) والمؤنث. قال المؤلف في الشرح (¬8): مثاله في المؤنث: قبيلة وقبائل، ومثاله في المذكر: مقتل ومقاتل (¬9). ¬
وفي كلامه في الشرح نظر من وجهين: أحدهما: أنه (¬1) يقتضي: أن فعائل غير مخصوص، مع أن النحاة نصوا على أنه مخصوص بالمؤنث (¬2)، سواء كانت فيه تاء التأنيث أم لا، ولا فرق في حركات فائه، ولا فرق أيضًا في مفرده بين الألف، والياء، والواو (¬3)، وإلى ذلك أشار ابن مالك في ألفيته (¬4)، فقال: وبفعائل اجمعن فعاله ... وشبهه ذا تاء أو مزاله (¬5) قال المرادي: هذا الجمع الذي هو: فعائل، هو لكل رباعي مؤنث بمدة قبل آخره، مختومًا بالتاء (¬6) أو مجردًا منها. قال: فاندرج في ذلك خمسة أوزان بالتاء، وخمسة أوزان بلا تاء. فالتي [بالتاء] (¬7): "فَعالة" نحو: سحابة وسحائب، وفِعالة نحو رسالة ورسائل، وفُعالة نحو ذؤابة وذوائب، وفعولة نحو حمولة وحمائل، وفعيلة نحو: صحيفة وصحائف، والتي بلا تاء: "فعال" نحو: شمال وشمائل، وفعال نحو: عقاب وعقائب وفعول نحو: عجوز وعجائز، وفعيل ¬
نحو: سعيد وسعائد، علم امرأة (¬1). ثم قال: يشترط (¬2) في هذه المثل المجردة (¬3) من التاء: أن تكون (¬4) مؤنثة، فلو كانت مذكرة لم تجمع على فعائل إلا نادرًا، كقولهم: جزور وجزائر، وصيد ووصائد (¬5)، انتهى كلام المرادي (¬6). فتبين بهذا: أن فعائل مخصوص بالمؤنث، وقول (¬7) المؤلف في الشرح (¬8): إن فعائل غير مختص (¬9)، فيه نظر. الوجه الثاني: أن تمثيل فعائل بمقتل ومقاتل فيه نظر أيضًا؛ لأن مقاتل وزنه مفاعل؛ لأن مفرده مقتل على وزن "مفعل". قوله: (وإِن لم يختص كصيغة "من" و"ما": يتناولهما، وقيل: لا يتناولهما). حجة القول بالمتناول للمذكر والمؤنث هي (¬10): الاتفاق على أن من قال: من دخل داري من أرقَّائي (¬11) فهو حر، فإنه لا يختص بالذكور ¬
اتفاقًا (¬1). و (¬2) حجة القول لعدم تناوله للمؤنث: بأن (¬3) العرب إنما وضعت "من" و"ما" في الأصل للتذكير (¬4). قوله: (وإِن (¬5) كان متميزًا (¬6) بعلامة الإِناث فلا (¬7) يتناول الذكور كمسلمات). ش: هذا (¬8) هو القسم الذي هو متميز بعلامة، وهو على نوعين: أحدهما: متميز بعلامة التأنيث. والآخر: متميز بعلامة التذكير. قوله: (كمسلمات (¬9)) يريد: وشبه ذلك مما فيه علامة تختص بالتأنيث، نحو قولنا: خرجن أو أخرجن (¬10). قال المؤلف في شرحه: وأما جمع السلامة بالألف والتاء فتختص بالمؤنث، نحو: هندات، ومسلمات، وعرفات (¬11)، فلا يتناول المذكر؛ لأن ¬
التاء (¬1) فيه علامة التأنيث؛ ولذلك حذفت التاء الكائنة في مفرده؛ لئلا يجتمع علامتا (¬2) تأنيث، هذا نقل النحاة. انتهي نصه (¬3). قول (¬4) المؤلف: الجمع بالألف والتاء مختص (¬5) بالمؤنث: غير صحيح؛ لأنه يكون أيضًا في المذكر، نحو: طلحة وحمزة. واعلم أن الجمع بالألف والتاء مطرد (¬6) في كل اسم فيه تاء التأنيث، سواء كان لمذكر (¬7) نحو: طلحة وحمزة. أو لمؤنث (¬8) نحو مسلمة وفاطمة. أو لهما (¬9) معًا، نحو: راوية، وعلامة، ونسابة، ولحانة، وفروقة، وملولة، وحمولة، وصرورة، وهذرة (¬10)، وهمزة، ولمزة. ومعنى الراوية: الرجل الكثير الرواية. ومعنى العلامة: الكثير (¬11) العلم. ومعنى النسَّابة: الكثير العلم بالأنساب. ¬
ومعنى اللحَّانة: هو كثير اللحن. ومعنى الفروقة: هو كثير الفرَق، وهو: الفزع من كل شيء. ومعنى الملولة هو: كثير الملل (¬1). ومعنى الحمولة: هو كثير الحمل. ومعنى الصرورة: هو الذي لم يحج قط (¬2). ومعنى الهَذرة (¬3) هو: الكثير (¬4) الكلام فيما لا يعنيه. ومعنى الهُمزة واللمزة: قيل: الهمز (¬5) في الحضرة، واللمز في (¬6) الغيبة. وقيل: بالعكس. وقيل: الهمز (¬7) بما سوى اللسان من العين أو اليد، أو غيرهما من الجوارح، واللمز (¬8) باللسان خاصة. وقيل: هما مترادفان. ¬
وإلى هذا القول بالترادف أشار أبو عبد الله المجاصي في غريب القرآن فقال: همزة لمزة عيّاب ... ويل له جزاؤه العذاب (¬1) قوله: (وإِن تميز بعلامة الذكور كمسلمين فلا (¬2) يتناول الإِناث (¬3)، و (¬4) قيل: يتناولهن). قال المؤلف في شرحه (¬5): جمع السلامة بالواو والنون، أو بالياء والنون، نحو: المسلمون والمسلمين (¬6) خاص بالمذكر؛ لأن الواو فيه علامة الرفع، والجمع، والتذكير، [فلا يتناول المؤنث. انتهى نصه (¬7). وذلك: أن النحاة يقولون في الواو في جمع المذكر السالم (¬8): ست علامات: الجمع، والتذكير] (¬9)، والسلامة، والعقل، وعلامة الرفع، وحرف الإعراب، وكذلك الياء إلا أنك (¬10) تعوض فيه علامة الرفع بعلامة النصب والجر (¬11). ¬
ويقولون في الألف في التثنية: ثلاث علامات: التثنية، وعلامة الرفع، وحرف الإعراب، [ويقولون في الياء في التثنية: ثلاث علامات: التثنية، وعلامة النصب والخفض (¬1)، وحرف الإعراب] (¬2). قوله (¬3): (كمسلمين) يريد: وشبه ذلك مما فيه علامة تختص بالتذكير نحو: خرجوا أو أخرجوا. قوله (¬4): (فلا يتناول الإِناث) هذا قول الجمهور (¬5). و (¬6) قوله: (وقيل: يتناولهن (¬7)) هذا قول الآخرين (¬8). حجة القول بعدم تناول الإناث: إجماع أهل العربية على أنه: جمع المذكر، فلو تناول الإناث لكان خلاف الإجماع. ¬
ويدل على ذلك أيضًا: حديث أم سلمة (¬1) قالت: "يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن الله عز وجل يذكر الرجال، ولا يذكر النساء"، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} (¬2) الآية. حجة القول الشاذ، وهو تناول (¬3) الإناث بأن: قاعدة العرب إذا قصدوا ¬
الجمع بين المذكر والمؤنث جمعوا بينهما بلفظ التذكير، تغليبًا للمذكر علي المؤنث؛ لأنهم يقولون: زيد والهندات خرجوا (¬1)، ومنه قوله تعالى في جزاء (¬2) آدم وحواء، وإبليس: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} (¬3). أجيب عن هذا: بأن هذا ليس بمحل النزاع؛ لأن هذا من باب القصد والإرادة، وكلامنا إنما هو في أصل الوضع اللغوي، لا في قصد المتكلم وإرادته (¬4). واعلم: أن التغليب، أي: تغليب أحد الاسمين على الآخر، هو (¬5) من باب السماع الذي لا يقاس به (¬6)، ومنه قولهم: الأبوان، في الأب والأم، ومنه قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُس} (¬7). وقولهم: القمران: في القمر، والشمس. وقولهم: العمران: في أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. وهذا كلّه من باب تغليب أحد الاسمين على الآخر، وليس من باب الوضع، فهو إذا مجاز (¬8)؛ لأن (¬9) الأب لم يوضع للأم، ولا وضع لفظ عمر ¬
لأبي بكر، ولا وضع لفظ القمر للشمس. وقد تقدم لنا أن حاصل كلام المؤلف ثلاثة أقسام: مختص. ومتميز (¬1) بعلامة. وغير مختص، ولا (¬2) متميز بعلامة، وهو تأويل المسطاسي (¬3). وقال غيره: كلام [المؤلف] (¬4) يحتوي على قسمين: جمع تكسير، وجمع سلامة. ثم قسم جمع التكسير على ثلاثة أقسام: مختص بالذكور (¬5). ومختص بالإناث. وغير مختص بواحد منهما. ومعنى قوله - على هذا التأويل -: (وإِن لم يختص كصيغة "من" و"ما") أي: وإن لم يختص جمع التكسير (¬6) بذكر ولا بأنثى: تناولهما (¬7) كما ¬
يتناولهما "من" و"ما". وقوله: (وقيل: لا يتناولهما) هو (¬1) قول ثانٍ. وقوله - على هذا التأويل -: (كصيغة من وما): تنظير، لا تمثيل. وقوله: (وإن لم يكن مختصًا): تأكيد وإغياء. وقوله: (وإِن كان (¬2) متميزًا بعلامة الإِناث) أي: وإن كان جمع السلامة؛ لأن ما تقدم جمع التكسير، وهذا جمع السلامة، ولكن التأويل الأول أعم؛ لأن التأويل الآخر خاص بجمعَي (¬3) التكسير والسلامة، ولم يدخل فيه غيرهما من ذوات الضمائر، نحو: خرجوا أو أخرجوا (¬4)، أو خرجن (¬5)، وأخرجن، وحمل الكلام على العموم أولى من حمله على الخصوص؛ لأن العموم أكثر فائدة من الخصوص. قال الإمام فخر الدين - في تفسيره (¬6) الكبير -: النساء غير مخلوقة للعبادة والتكليف، وإنما خلقن إنعامًا وإكرامًا للرجال، وتكليفهن إنما هو من تمام النعمة علينا، لا (¬7) لتوجه التكليف نحوهن مثل توجهه إلينا. قال: والدليل على ذلك ثلاثة أشياء: النقل، والحكم، والمعنى. ¬
وأما (¬1) دليل النقل: فهو قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (¬2). قال: في هذه الآية دليل على أن النساء خلقن لنا كخلق الدواب والنبات لنا، وهذا يقتضي أن النساء غير مخلوقة للعبادة والتكليف. وأما دليل الحكم: فلأن (¬3) المرأة لم [تكلف] (¬4) بكثير من التكليفات (¬5) التي كلف بها الرجل، كالجمعة والجهاد. وأما دليل المعنى: فلأن المرأة (¬6) ضعيفة الخلق، سخيفة العقل، فأشبهت الصبي، فحالها تقتضي ألا تكلف، كما لا يكلف الصبي، ولكن إنما كلفت المرأة؛ لأن النعمة لا تتم على الرجل (¬7) إلا بتكليف المرأة؛ لتخاف من العذاب فتنقاد (¬8) لطاعة الزوج، وتمتنع (¬9) من المحرم (¬10). وقال في المحصول أيضًا: لم (¬11) يوجب الله تعالى على النساء فَهْم ¬
الكتاب، بل أوجب (¬1) عليهن استفتاء العلماء (¬2)، فهذا تصريح منه بأن المرأة مخالفة للرجل في الحكم (¬3). قال المسطاسي: وهذا كله باطل، بل المرأة والرجل سواء في الحكم بالتكليف الشرعي (¬4)، والدليل على استوائهما (¬5) الكتاب، والسنة، والإحماع: فالكتاب: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (¬6). معناه: إلا لأمرهم بعبادتي؛ لأن لفظ الإنسان (¬7) موضوع للذكر والأنثى. وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬8)، ولا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى. ومن السنة [قوله عليه السلام: "حكمي على الواحد منكم (¬9) حكمي على الجماعة"] (¬10). ¬
و (¬1) قوله عليه السلام: "النساء شقائق (¬2) الرجال" (¬3)، يعني: أن الخلقة فيهم واحدة، وأن الحكم عليهم بالشريعة سواء. وأما الإجماع: فقد انعقد الإجماع قبل الإمام فخر الدين وبعده على أن (¬4) النساء والرجال سواء في [التكاليف] (¬5) الشرعية، إلا ما دل عليه الدليل (¬6). وأما دليل النقل الذي استدل به: وهو قوله تعالى: {ومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفسِكُمْ أَزوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (¬7) فلا دليل فيه؛ لأن كون النساء مخلوقة ¬
لسكون الرجال إليهن (¬1) لا يقتضي عدم تكليفهن؛ إذ لا منافاة بين الأمرين. وأما دليل الحكم الذي استدل به وهو: أن المرأة لم تكلف بكثير من التكاليف التي كلف بها الرجل: فلا دليل فيه (¬2) أيضًا، بدليل العبد، والمريض، والمسافر، فإن العبد لم يكلف بكثير من التكاليف [التي كلف بها الحر، وكذلك المريض لم يكلف بكثير من التكاليف] (¬3) التي (¬4) كلف بها الصحيح، وكذلك المسافر لم يكلف بكثير من التكاليف التي كلف بها الحاضر، مع أن الجميع مكلفون باتفاق وإجماع (¬5) من العلماء. وأما دليل المعنى الذي استدل به وهو: أن المرأة ضعيفة الخلق، سخيفة العقل فأشبهت الصبي: فلا دليل فيه؛ لأن الرجال متفاوتون في مراتب العقل، فكذلك (¬6) النساء أيضًا متفاوتة في مراتب العقل، فرب رجل يكون أضعف عقلاً من كثير من النساء، ومع ذلك هو مكلف بإجماع، ورب امرأة تكون أكثر عقلاً من كثير من الرجال. وقد قال عليه السلام في عائشة - رضي الله عنها -: "خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء" (¬7)، وكانت - رضي الله عنها - من سادات العلماء رضي الله عنها. ¬
وقال عليه السلام: "نِعْم النساء نساء الأنصار، لم (¬1) يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" (¬2). فقول (¬3) الإمام: إن تكليف النساء بما كلفن به إنما هو من تمام النعمة على الرجال، لا لتوجه التكليف نحوهن كتوجهه إلينا: ¬
إما أن يريد: أن تكليفهن بما كلفن به (¬1) لمجرد مصلحة الرجال من غير ثواب ولا عقاب في الآخرة. أو يريد: أنهن يُثَبْن، ويعاقبن في الآخرة. فإن أراد الأول: فقد خالف (¬2) الإجماع، وخالف (¬3) نص القرآن. وإن أراد الثاني: فقد استوى الفريقان في الحكم، وهو المطلوب الحق (¬4). فتبين بما قررناه: أن النساء مساوية للرجال في التكليف بالأحكام الشرعية؛ لأن حقيقة العقل التي (¬5) هي مناط التكليف حاصلة (¬6) للنساء، كما هي حاصلة (¬7) للرجال. [وهو] (¬8): علم ضروري بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات (¬9)، كما قاله القاضي (¬10) أبو بكر وإمام الحرمين (¬11) في حقيقة العقل (¬12). ¬
وقيل: حقيقته (¬1): قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق المعلومات (¬2). وقيل: جوهر (¬3) لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات (¬4). وقد تقدم التنبيه على ذلك في الفصل الثاني عشر (¬5)، في حكم العقل بأمر على أمر (¬6)، وبالله حسن التوفيق (¬7). قال المؤلف في الشرح: صيغ العموم وإن كانت عامة (¬8) في الأشخاص، فهي مطلقة في الأزمنة، والبقاع، والأحوال، والمتعلقات، فهذه الأربعة لا عموم فيها من جهة ثبوت العموم في غيرها، حتى يوجد لفظ (¬9) يقتضي العموم فيها، نحو: لأصومن الأيام (¬10)، ولأصلين في البقاع، ولأطيعن الله ¬
في جميع الأحوال، ولأشتغلن بتحصيل المعلومات (¬1). فإذا قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬2) فهذا عام في جميع أفراد المشركين، وهو مطلق في الأزمنة، والبقاع، والأحوال، والمتعلقات، فيقتضي النص قتل (¬3) كل مشرك في زمان "ما"، في مكان "ما"، في حالة "ما"، وقد أشرك بشيء "ما"، ولا يدل اللفظ على خصوص يوم السبت، ولا مدينة معينة من مدائن المشركين، ولا أن ذلك المشرك طويل أو قصير، ولا أن شركه وقع بالصنم، أو بالكوكب، بل اللفظ مطلق في هذه الأربعة. انتهى نصه (¬4). قال بعض الشراح: هذا الذي قاله الشهاب فيه نظر؛ لأن اللفظ العام كما لا دلالة له على تعيين الزمان، والمكان (¬5)، والحال، والمتعلق (¬6)، كذلك لا دلالة له على خصوص الشخص، بل ولا على وجوده، وأيضًا يصح الاستثناء من كل واحد من هذه الأربعة، وما يصح (¬7) استثناؤه وجب اندراجه. وقد قال ابن عبد السلام [في قول ابن الحاجب] (¬8) - في كتاب الأيمان -: ¬
"ولو حلف ما كلمه (¬1) حنث أبدًا"؛ يعني: أن اليمين (¬2) تتناول سائر الأزمنة المستقبلة، فلو كلَّمه في أي زمان منها فإنه يحنث، سواء كان بقرب يمينه، أو على بعد منها، ولا أعلم في ذلك خلافًا، وهو مما يضعف قول من قال (¬3): إن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة، والبقاع، والأحوال، والمتعلقات، والله أعلم. انتهى (¬4). فالحاصل من هذا: أن العام في الأشخاص عام أيضًا في الأزمنة، والبقاع، والأحوال، والمتعلقات؛ فإن التعميم في الأشخاص يلزم منه التعميم في هذه الأشياء المذكورة، وعدم التعميم في هذه الأشياء المذكورة يلزم عنه عدم التعميم في الأشخاص، فإن قتل المشركين في زمان "ما"، ومكان "ما" لا (¬5) يلزم منه قتل جميع (¬6) المشركين في الأزمنة (¬7)، والأمكنة الباقية. ... ¬
الفصل الثالث في مخصصاته
الفصل الثالث في مخصصاته (¬1) ش: الضمير في مخصصاته عائد على العموم. ذكر المؤلف - رحمه الله - في هذا الفصل: عدد المخصصات، وشروط المخصصات. أما عددها [فهي قوله: خمسة عشر (¬2). وأما شروطها] (¬3) فهي: قوله في آخر الفصل: لنا في سائر (¬4) صور النزاع أن ما يدعى أنه مخصص، لا بد أن يكون منافيًا، وأخص من المخصص. قوله: (و (¬5) هي خمس عشرة) هذا على القول المختار عنده، وإلا فقد وجد الخلاف في أكثرها، وجملتها: العقل، والإجماع، والقياس، ¬
والكتاب، والسنة المتواترة، وخبر الآحاد، وفعله عليه السلام، وإقراره، والعوائد، والشرط، والاستثناء، والصفة، و (¬1) الغاية، والحس، والمفهوم (¬2)، فهذه خمسة عشر. [واعلم: أن] (¬3) هذه المخصصات الخمسة عشر ترجع إلى ستة، وهي: اللفظ، والعقل، والحس، والواقع، والعادة، وقرائن الأحوال، [وسيأتي بيان جميعها إن شاء الله تعالى] (¬4). اعلم (¬5): أن التخصيص على أربعة أقسام وهي: تخصيص المقطوع بالمقطوع. وتخصيص المظنون بالمظنون. وتخصيص المقطوع بالمظنون. وتخصيص المظنون بالمقطوع. مثال المقطوع بالمقطوع: تخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة، [وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة] (¬6)، وتخصيص ¬
الكتاب بالإجماع أو بالعقل، وتخصيص السنة بالإجماع أو بالعقل (¬1). ومثال تخصيص المظنون بالمظنون: تخصيص الآحاد بالآحاد، أو بالقياس. ومثال تخصيص المقطوع بالمظنون: تخصيص الكتاب، أو السنة (¬2) المتواترة بالآحاد، وبالقياس. ومثال المظنون (¬3) بالمقطوع: تخصيص الآحاد بالكتاب، والسنة (¬4) المتواترة، أو بالإجماع (¬5)، أو بالعقل (¬6). قوله: (ويجوز (¬7) عند مالك - رحمه الله -، وعند أصحابه (¬8) تخصيصه بالعقل، خلافًا لقوم، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} (¬9)، خصص (¬10) العقل ذات الله تعالى وصفاته). ش: هذا أول المخصصات، وذلك أن قوله تعالى: {خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} يعم جميع الأشياء من حيث الوضع، فتندرج (¬11) ذات الله تعالى وصفاته ¬
العلى (¬1) في ذلك؛ لأن الله تعالى من الأشياء، لقوله تعالى: {قلْ أَيُ شَيْءٍ أَكبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} (¬2) ولكن خصص العقل ذات الله تعالى وصفاته من متعلق هذا العموم؛ لأنه ليس بخالق لذاته وصفاته؛ لأن القدرة لا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل، ولا تتعلق إلا بالجائز؛ لأن ذات الله (¬3) وصفاته واجبة، وليست بجائزة، ولا مستحيلة. وذلك أن أحكام العقل ثلاثة: واجب، وجائز، ومستحيل (¬4). ولا تعلُّق للقدرة (¬5) بالواجب ولا بالمستحيل، بل تعلق القدرة خاص بالجائز خاصة، ولفظ الشيء يتناول كل موجود كان واجبًا، أو جائزًا، أو مستحيلاً، فقد (¬6) تناول لفظ الشيء ذات الله تعالى وصفاته، من جهة وضع اللغة، ولكن أخرج العقل ذلك من عموم اللفظ بعد دخوله في عموم اللفظ، هذا مذهب الجمهور (¬7). ¬
وذهبت طائفة قليلة من المتكلمين إلى عدم دخول الذات القديمة في هذا (¬1) اللفظ (¬2)، وقالوا: دخول (¬3) خلاف المعقول تحت اللفظ لا يجوز، فإذا عدم دخوله عدم تخصيصه؛ إذ لا يختص (¬4) إلا ما يمكن دخوله، فلا دخول (¬5) ولا تخصيص. أجيب: بأن ما به (¬6) دخوله خلاف ما به خروجه؛ لأنه داخل من حيث الوضع، وخارج من حيث العقل. قوله: (يجوز تخصيصه بالعقل) يعني: تخصيصه بضرورة العقل وبنظره (¬7). مثال ضرورته: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬8)، وقوله تعالى (¬9): {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬10). ومثال تخصيصه بنظر العقل، قوله تعالى (¬11): {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ¬
الْبَيْتِ} (¬1) الآية. خرج من عموم (¬2) اللفظ (¬3): من لا يفهم، كالصبي، والمجنون؛ لأن العقل دل على استحالة تكليف من (¬4) لا يفهم، قاله (¬5) الغزالي (¬6). قال المؤلف في الشرح (¬7): الخلاف في هذه المسألة راجع إلى التسمية (¬8)، فإن خروج هذه الأمور من هذا (¬9) العموم لا ينازع (¬10) فيه مسلم. وإنما الخلاف: هل يسمى تخصيصًا (¬11)؟، وأما بقاء (¬12) العموم على عمومه فلا يقوله مسلم (¬13). وهذا الذي قاله المؤلف من كون الخلاف في التسمية، قاله أيضًا ¬
القاضي عبد الوهاب في "الملخص" (¬1). وقاله أيضًا أبو المعالي في "التلخيص" (¬2). وقاله أبو جعفر الطبري (¬3) في "تنقيح الأدلة" (¬4). قوله: (وبالإِجماع). ش: هذا مخصص ثانٍ، أي: يجوز تخصيص العموم بالإجماع (¬5). قال سيف الدين: لا أعلم خلافًا في التخصيص (¬6) به؛ لأنه إذا جاز ¬
تخصيصه بالظواهر فجواز (¬1) تخصيصه بالإجماع أولى. مثال التخصيص بالإجماع: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُم} (¬2) خرج (¬3) منه الأخت من الرضاعة، وغيرها من موطوءات الآباء والأبناء بالإجماع (¬4). ومثاله أيضًا: قوله تعالى في آية القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬5)؛ لأنه وقع الإجماع على تنصيف الحد في حق العبد والأمة (¬6). و (¬7) مثال التخصيص بالإجماع أيضًا: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬8) خصصت (¬9) منه الأمة (¬10) لأن عدتها حيضتان بالإجماع، قاله ابن العربي في أحكام القرآن (¬11). ¬
قوله: (والكتاب بالكتاب (¬1) خلافًا لبعض أهل الظاهر). ش: هذا مخصص (¬2) ثالث (¬3). مثاله (¬4): قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬5) خصصه قوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيض} (¬6) إلى قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُن} (¬7) خصصه من عموم اللفظ للحائلات والحاملات، فخصصت باليائسة (¬8)، والصغيرة، والحاملة، ¬
وخصصت (¬1) بغير المدخول بها لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). [ومثاله أيضًا: قوله تعالِى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬3) خصصه قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أًجَلُهُنَّ أَن يَضعْنَ حَمْلَهُن} (¬4). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا المشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬5) خصصه قوله تعالى: {وَالْمحْصَنَاتُ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (¬6)] (¬7). ومثاله أيضًا: قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬8) خصصه قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهمْ صَاغِرُون} (¬9). حجة أهل الظاهر (¬10): قوله (¬11): {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِليْهِمْ} (¬12)؛ ¬
لأنه يقضي (¬1): أن البيان لا يكون إلا بالسنة، ولا يكون بالقرآن، والتخصيص بيان. أجيب عنه: بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬2) والقرآن شيء فيبين نفسه، وهو المطلوب (¬3). قوله: (وبالقياس الجلي والخفي للكتاب والسنة المتواترة، ووافقنا الشافعي، وأبو الحسين (¬4)، وخالفنا الجبائي، وأبو هاشم في القياس مطلقًا. وقال عيسى بن أبان (¬5): إِن خص قبله بدليل مقطوع جاز (¬6)، وإِلا فلا. ¬
وقال الكرخي: إِن خص قبله بدليل منفصل جاز، وإِلا فلا. وقال ابن شريح (¬1) وكثير من الشافعية: يجوز بالجلي (¬2) دون الخفي. و (¬3) اختلف في الجلي والخفي، فقيل: الجلي: قياس المعنى، والخفي: قياس الشبه، وقيل: الجلي: ما تفهم (¬4) علته، كقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬5). ¬
وقيل: ما يُنقض (¬1) القضاء بخلافه، وقال الغزالي: إِن استويا توقفنا، وإِلا طلبنا الترجيح، وتوقف القاضي أبو بكر وإِمام الحرمين، وهذا إِذا كان أصل القياس متواترًا، فإِن كان خبر واحد كان الخلاف أقوى. لنا: أن (¬2) اقتضاء النصوص تابع للحكم، والقياس مشتمل على علة الحكمة (¬3) فيقدم (¬4)). ش: هذا مخصص رابع، ذكر المؤلف في تخصيص العموم بالقياس (¬5) سبعة أقوال: ¬
قولان متقابلان (¬1)، وأربعة بالتفصيل، والقول السابع بالوقف. مثال تخصيص القياس الجلي للكتاب: قوله تعالى: {فَاقْتلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬2) خصصه قوله عليه السلام: "نهيت (¬3) عن قتل النساء والصبيان" (¬4)، ثم قاسوا عليهما (¬5) الأحبار، والرهبان، والشيخ الفاني، بجامع عدم الإذاية، وهذه العلة ظاهرة. ومثال تخصيص القياس الخفي للكتاب قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} (¬6) ¬
فقاسوا جلده على لحمه. ومثاله من السنة قوله عليه السلام: "ألا إن لحوم الحُمُر الأهلية حرام" (¬1) فقاسوا جلدها على لحمها. قوله: (وقال عيسى بن أبان: [إن خص قبله بدليل مقطوع بصحته (¬2) جاز، وإِلا فلا). هذا هو القول الثالث: يعني: أن عيسى بن أبان] (¬3) من الحنفية قال: إن خص العموم قبل القياس عليه (¬4) بدليل مقطوع بصحته، فإن القياس يجوز، وإن خص العموم قبل القياس بدليل مظنون وهو خبر الآحاد، أو كان العموم غير مخصوص أصلاً فإن القياس لا يجوز (¬5). ¬
مثال المخصوص بدليل مقطوع: حديث عبادة بن الصامت (¬1)، وهو قوله عليه السلام: "البُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح ربًا، إلا هاء وهاء" لأن هذا الحديث مقطوع بصحته، وهو تخصيص قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيعَ} (¬2)، ثم قاسوا الأرز على هذه الأربعة بجامع الاقتيات والادخار. ومثال التخصيص بدليل مظنون, وهو خبر الآحاد: قوله (¬3) عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان؛ فالميتتان: الحوت والجراد, والدمان: الكبد والطَّحال" (¬4) ¬
كما نظمه المجاصي في أرجوزته قائلا (¬1): أحلت (¬2) لنا السنة ميتتين (¬3) ... ومثلها من الدماء اثنين الحوت والجراد فيما قالوا ... ثم الدماء الكبد والطحال (¬4) وذلك أن هذا الحديث تخصيص لقوله (¬5) تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكم الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} (¬6). فلا يجوز القياس على هذا العموم؛ لأن دليل تخصيصه مظنون، فلا يقاس على الجراد على هذا ميتة ما لا نفس له سائلة، كالحلزون مثلاً [بجامع عدم الدم] (¬7). [قال ابن العربي في أحكام القرآن في سورة البقرة: والصحيح: أن الكبد والطحال (¬8) ليس (¬9) بتخصيص للدم؛ لأن الكبد (¬10) والطحال (¬11) لحم، يشهد ¬
لذلك العيان الذي لا يعارضه بيان، ولا يفتقر إلى (¬1) برهان] (¬2). قوله: (وقال الكرخي: إِن خص قبله بدليل منفصل جاز وإِلا فلا). هذا هو القول (¬3) الرابع، معناه: قال أبو ثور الكرخي (¬4) من الحنفية: إن خص العموم قبل القياس لدليل منفصل عن العموم، سواء كان ذلك الدليل مقطوعًا أو مظنونًا جاز القياس، بخلاف ما إذا خص بدليل متصل بالعموم في اللفظ، فلا يجوز القياس عليه (¬5). مثال تخصيصه بالدليل (¬6) المنفصل: حديث عبادة بن الصامت، وهو قوله المتقدم: "البُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر ... " إلى آخر الحديث (¬7)، فهو تخصيص لقوله تعالى: {وَأَحَّلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬8) فيجوز قياس الأرز على ¬
هذه الأربعة المذكورة بجامع الاقتيات والادخار. ومثال تخصيصه بالدليل المتصل بالعموم في اللفظ: قوله عليه السلام: "لا صلاة (¬1) بعد الفجر إلا ركعتي الفجر" (¬2). فإن نفي (¬3) النوافل بعد طلوع الفجر خصص منه ركعتا الفجر، فلا يقاس: الوِتْرُ والوِرْدُ (¬4) على ركعتي الفجر عند الكرخي؛ لأن دليل التخصيص متصل. قوله: (وقال ابن شريح وكثير من الشافعية: يجوز بالجلي دون الخفي). هذا قول خامس معناه: يجوز تخصيص العموم بالقياس الظاهر البيِّن، ولا يجوز تخصيص العموم بالقياس الخفي (¬5). قوله: (واختلف في الجلي والخفي). ¬
معناه: واختلف على هذا القول في تفسير القياس (¬1) الجلي، والقياس الخفي على ثلاثة أقوال. قوله: (فقيل: الجلي قياس المعنى، والخفي قياس الشبه) (¬2). ومعنى قياس المعنى: هو القياس المشتمل على الوصف المناسب للحكم، ويقال له (¬3) أيضًا: قياس العلة. ومعنى قياس الشبه: هو القياس (¬4) المشتمل على الوصف المستلزم للمناسب، ويقال له (¬5): قياس الشبهة. مثال القياس المشتمل على الوصف المناسب للحكم (¬6): قياس الأرز على البر بجامع الاقتيات والادخار. ومثاله أيضًا: قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار. ومثال القياس المشتمل على الوصف المستلزم للمناسب: قياس الخل على الدهن في عدم إزالة النجاسة (¬7)، بجامع كون القنطرة لا تبنى على جنسه، ¬
فيقال: الخل مائع، لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا تزال به النجاسة قياسًا على الدهن. فالوصف الذي هو كونه لا تبنى القنطرة على جنسه غير مناسب، ولكن مستلزم للمناسب، الذي هو: القلة؛ لأن العادة (¬1) جارية بأن القناطير (¬2) [لا تبنى] (¬3) إلا على المائع الكثير كالأنهار، ولا تبنى على المائع القليل، والقلة وصف مناسب لعدم مشروعية الطهارة (¬4) بالمائع المتصف بها، أي: بالقلة، فإن الطهارة شرع عام، والشرع (¬5) العام يقتضي: أن تكون أسبابه عامة الوجود (¬6) في كل زمان ومكان، رفقًا ولطفًا من الله تعالى (¬7) لعباده، فأما تكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد (¬8)، فالوصف الذي هو كونه لا تبنى القنطرة على جنسه ليس بمناسب؛ لعدم مشروعية (¬9) الطهارة به، ولكنه مستلزم للقلة: التي هي وصف مناسب لعدم مشروعية الطهارة (¬10). قوله: (فقيل: الجلي قياس المعنى، والخفي قياس الشبه)؛ وذلك ¬
أن الوصف باعتبار القياس إما أن يكون مناسبًا، وإما ألا يكون مناسبًا، ولكن هو (¬1) مستلزم للمناسب، وإما أن لا يكون مناسبًا ولا مستلزمًا للمناسب. فالوصف المناسب معتبر باتفاق، والوصف الذي ليس مناسبًا ولا مستلزمًا للمناسب لا يعتبر، بل هو ملغى بإجماع، وهو الذي يقال له: وصف طردي (¬2)، والوصف الذي هو مستلزم للمناسب مختلف فيه: قيل: باعتباره. وقيل: بعدم اعتباره. وسيأتي بيان ذلك في باب القياس إن شاء الله تعالى؛ لأن ذلك موضعه (¬3) بالذات. قوله: (وقيل: الجلي: ما تفهم علته) أي: القياس الجلي: هو القياس الذي تظهر علته للسامع بأول وهلة (¬4) أي: ببديهة العقل (¬5)، كقوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". لأن هذا المنصوص (¬6) يفهم منه السامع أول سماعه: أن علة منع القضاء ¬
هو (¬1) التشويش (¬2) للفكر، فيقاس على ذلك كل ما يشوش الفكر: كالجوع، والعطش، والهم، والحاقن، وغير ذلك مما ظهر (¬3) فيه تشويش الفكر (¬4). قوله: (ما تفهم علته) فيه تجوز بحذف مضاف تقديره: ما تفهم حكمة علته؛ لأن العلة التي جعلها الشارع لمنع القضاء هي: الغضب، وأما كونه يشوش الفكر: فهو الحكمة التي لأجلها (¬5) صار الغضب علة. والتعليل بالحكمة مختلف فيه كما سيأتي في باب القياس إن شاء الله. قوله: (والخفي (¬6) ما لا (¬7) تفهم [يعني: أن الخفي ما لا تفهم علته] (¬8) إِلا بعد تدبر وتفكر. مثاله: قياس الأرز على البر بجامع الاقتيات (¬9) والادخار، وكذلك قياس النبيذ على الخمر بجامع السكر؛ لأن العلة لا تفهم فيهما (¬10) بأول ¬
وهلة، ولا تفهم إِلا بعد بحث ونظر). قوله: (وقيل: ما ينقض القضاء بخلافه). أي: معنى القياس الجلي هو: القياس الذي ينقض به قضاء القاضي (¬1) إذا خالفه (¬2). [يعني: ومعنى القياس الخفي هو: القياس الذي لا ينقض به قضاء القاضي إذا خالفه] (¬3). قالوا: ينقض قضاء القاضي إذا خالف الإجماع، أو النص، أو القياس الجلي، أو القواعد. قال المؤلف في الشرح: قول من قال: القياس الجلي ما ينقض القضاء بخلافه، هو (¬4): تفسير يلزم منه الدور، فإن الفقهاء يقولون: ينقض قضاء القاضي إذا خالف الإجماع، أو النص، أو القواعد، أو القياس الجلي، فهذا (¬5) يقتضي أن يكون القياس الجلي معلومًا قبل النقض، فإذا عرف (¬6) بالنقض توقف معرفة كل واحد منهما على معرفة الآخر (¬7). ¬
قوله: (وقال الغزالي: إِن استويا توقفنا (¬1)، وإِلا طلبنا الترجيح) (¬2). هذا هو القول السادس في جواز التخصيص بالقياس، ومعناه: إن استوى (¬3) العموم والقياس في القوة والضعف (¬4) وجب التوقف، فلا يقدم أحدهما على الآخر حتى يرد البيان؛ لأجل كونهما قويين معًا، أو ضعيفين معًا في نظر المجتهد. قوله: (وإِلا طلبنا الترجيح)، أي: وإن لم يستويا في القوة والضعف طلبنا الراجح منهما، فنقدمه على المرجوح؛ إذ (¬5) العمل بالراجح متعين. ووجه هذا القول: أن مراتب القياس مختلفة، وكذلك مراتب العموم مختلفة أيضًا، وإنما قلنا: إن (¬6) مراتب القياس مختلفة؛ لأن القياس على أصل متفق عليه أقوى من القياس على أصل مختلف فيه، والقياس الذي ¬
ثبتت (¬1) علته بالنص أقوى من القياس الذي ثبتت (¬2) علته [بالاستنباط، والقياس الذي ثبتت (¬3) علته بالإيماء أقوى من القياس الذي ثبتت (¬4) علته] (¬5) بالمناسبة، إلى غير ذلك، كما سيأتي في ترجيح الأقيسة إن شاء الله. وإنما قلنا أيضًا: إن مراتب العموم مختلفة؛ لأن العموم الذي قلَّت أنواعه أقوى من العموم الذي كثرت أنواعه، والعام الذي لم تجر العادة باستعماله مجازًا أقوى من العام الذي جرت العادة باستعماله مجازًا، والعام المتفق على تخصيصه أقوى من العام المختلف في تخصيصه، إلى غير ذلك، وسيأتي بيان الترجيح في باب التعارض والترجيح إن شاء الله تعالى. قال المؤلف في شرحه: و (¬6) هذا مذهب حسن، يعضده (¬7) قوله (¬8) عليه السلام: "نحن (¬9) نحكم بالظاهر، والله متولي السرائر" (¬10). ¬
قوله: (وتوقف القاضي أبو بكر وإِمام الحرمين). هذا هو القول السابع في جواز التخصيص بالقياس، وهو: القول بالتوقف (¬1) (¬2). قوله: (وهذا إِذا كان أصل القياس متواترًا، فإِن كان خبر (¬3) واحد كان الخلاف أقوى). ش: يعني: أن الخلاف المذكور في جواز التخصيص بالقياس مخصوص بما إذا كان حكم أصله ثبت بالتواتر، كنص الكتاب والسنة المتواترة، أو ¬
الإجماع، وأما إن كان حكم (¬1) أصل القياس ثبت بخبر الآحاد كان الخلاف أقوى في منع التخصيص به؛ لضعف أصله. قوله: (لنا: أن اقتضاء النصوص تابع للحكم، والقياس مشتمل على الحكمة (¬2) فيقدم (¬3)). ش: هذا حجة القول الأول الذي عليه الجمهور، وهو القول بجواز التخصيص بالقياس (¬4)؛ وذلك: أن النصوص تقتضي الأحكام، والأحكام تابعة للحكم والمصالح؛ لأن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد، فلما (¬5) كانت النصوص تابعة للحكم صارت الحكمة أصلاً، وصار النص فرعًا عنها؛ لأن المتبوع أصل والتابع فرع، فإذا تعارض الأصل مع الفرع قدم الأصل على الفرع (¬6)، فيقدم القياس على العموم على هذا؛ لأن القياس على هذا كالأصل لاشتماله على الأصل الذي هو الحكمة، فلو قدم العموم على القياس لكان فيه تقديم الفرع على الأصل، هذا معنى هذا الدليل الذي قرره المؤلف ها هنا في الأم (¬7). ¬
ودليل آخر على تقديم (¬1) القياس على العموم قرره المؤلف في الشرح، وهو: أن تقديم العموم على القياس يؤدي إلى تقديم الضعيف على القوي؛ لأن دلالة العام على ذلك الخاص أضعف من دلالة الخاص على ذلك الخاص؛ لجواز (¬2) إطلاق العام بدون إرادة الخاص، ولا يجوز إطلاق الخاص بدون إرادة ذلك الخاص؛ إذ ليس له مدلول غيره. قال المؤلف في الشرح: وذلك أن القياس دليل شرعي، والعموم دليل شرعي، وهما متعارضان فلا يصح إعمالهما؛ لئلا يجتمع النقيضان، ولا يصح إلغاؤهما؛ لئلا يرتفع النقيضان، ولا يصح إعمال العام دون القياس؛ لأنه يؤدي إلى تقديم الأضعف (¬3) وهو العام، على الأقوى وهو القياس، وإنما قلنا بضعف العام وقوة القياس؛ لأن العام يجوز إطلاقه بدون إرادة الخاص، ولا يجوز إطلاق الخاص بدون إرادة القياس، فإذا انبطلت هذه الأوجه الثلاثة تعين الوجه الرابع، وهو تقديم القياس على العام، وهو المطلوب. وبيانه بالمثال: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّه الْبَيْعَ} (¬4) يقتضي بعمومه: حل بيع الأرز متفاضلاً ونسيئة، والقياس على البر يمنع (¬5)، فإن أعملناهما أبحنا التفاضل بالآية ومنعناه (¬6) بالقياس فيجتمع النقيضان، وإن ألغيناهما فنلغي ¬
الحل من الآية ونلغي التحريم من القياس، فيحل ولا يحل، و (¬1) ذلك ارتفاع النقيضين، أو الجمع بين النقيضين، فإن إلغاء (¬2) العام يقتضي ألا يحل، وإلغاء القياس يقتضي ألا يحرم، فإن قدمنا العام لزم تقديم الأضعف؛ إذ يجوز إطلاق العام بدون إرادة الأرز، وقياس الأرز (¬3) لا (¬4) يمكن أن يثبت بدون التحريم في الأرز. قال المؤلف في الشرح: وهذه الدلالة مطردة في جميع صور التخصيص على هذا التقدير (¬5). قال بعض الشراح (¬6): ودليل آخر على تقديم القياس على العام: أن في (¬7) ذلك جمعًا بين الدليلين، بخلاف ما إذا قدم العام، فليس فيه إلا إعمال دليل وإلغاء الآخر (¬8). حجة القول الثاني - وهو قول الجبائي وابنه (¬9) أبي هاشم في منع التخصيص بالقياس مطلقًا (¬10) -: أن القياس فرع النصوص، فلو قدم ¬
القياس على النص للزم منه تقديم الفرع على الأصل. أجيب عنه: بأن النص الذي هو أصل القياس مخالف للنص المخصوص بالقياس، فلم (¬1) يتقدم الفرع على الأصل؛ وذلك أن حديث عبادة بن الصامت في الربا في الأشياء، هو أصل القياس مثلاً، والنص المخصوص: الآية (¬2)، فما قدم فرع على أصل (¬3). [حجة القول الثالث - الذي قاله عيسى بن أبان بالتفصيل بين دليل مقطوع ومظنون -: أن العام إذا خصص قبل القياس بدليل قطعي قطعنا بضعفه، فجاز (¬4) تسليط القياس عليه، وأما إذا خص بدليل ظني فلم يقطع (¬5) بضعفه، فلا يسلط عليه (¬6) القياس] (¬7). حجة القول الرابع - الذي قاله أبو ثور الكرخي (¬8) بالتفصيل بين دليل منفصل ومتصل -: أن المخصص المتصل كالشرط، والاستثناء، والصفة، ¬
والغاية، لا يستقل بنفسه، فيتعين أن يكون مع الكلام الذي دخل عليه كلامًا واحدًا موضوعًا لما بقي بعد التخصيص، فهو كالحقيقة لقربه من الحقيقة، فلا يسلط (¬1) القياس عليه بخلاف المخصص المنفصل، فلا يمكن جعلهما كالكلام الواحد. كقوله عليه السلام: "البر بالبر" الحديث، مع قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬2)، فلا يمكن جعل الكلامين كلامًا واحدًا موضوعًا لما بقي بعد التخصيص، فهو إذًا مجاز يسلط (¬3) عليه القياس؛ لضعف دلالته. حجة القول الخامس - الذي قاله أبو العباس بن شريح من الشافعية، بالتفصيل بين القياس الجلي والخفي -: أن الجلي أقوى من الخفي فيسلط (¬4) الجلي على العموم لقوته، ولا يسلط عليه الخفي لضعفه (¬5). حجة القول السادس - الذي قاله الغزالي -: أنه إذا ظهر الرجحان في أحدهما تعين تقديمه: كان ذلك الراجح عامًا أو قياسًا؛ لقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر" وإذا لم يظهر رجحان واحد ¬
منهما، بل تساويا عند المجتهد: وجب التوقف في ذلك (¬1). حجة القول السابع - الذي قاله القاضي أبو بكر، وإمام الحرمين بالتوقف -: تعارض المدارك (¬2). قوله: (ويجوز عندنا تخصيص السنة المتواترة بمثلها، وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، كانت قولاً، أو فعلاً خلافًا لبعض الشافعية). ش: هذا مخصص (¬3) خامس، وهو: التخصيص بالسنة المتواترة. قوله: (ويجوز عندنا تخصيص السنة المتواترة بمثلها) (¬4). اعلم أن عبارة كثير من الأشياخ هي: يجوز تخصيص السنة بمثلها (¬5) , وزاد الإمام فخر الدين (¬6): قيد التواتر (¬7)، وتبعه المؤلف على ذلك. ¬
قال المؤلف في الشرح: تصوير هذه المسألة في السنتين (¬1) المتواترتين إنما هو في زمان الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - لشدة العناية (¬2) إذ ذاك بالرواية، وقرب العهد بالمروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما تصويرها (¬3) في زماننا فهو عسير أو منقطع، لقلة العناية بالرواية، وطول العهد بالمروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وليس في الأحاديث (¬4) في زماننا متواتر، وليس فيها إلا ما يفيد الظن حتى قال بعض الفقهاء: ليس في السنة متواتر إلا قوله عليه السلام (¬5): "الأعمال بالنيات" (¬6). وعند التحقيق لا تجده (¬7) متواترًا عندنا؛ لفقدان العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغايتنا أن نرويه عن واحد، عن اثنين، عن ثلاثة، عن عشرة، وذلك لا يفيد التواتر (¬8). قوله: ([تخصيص السنة المتواترة] (¬9) بمثلها). والدليل على جوازه: المعقول والمنقول: فالمعقول: [ما تقدم من] (¬10) أن العام والخاص دليلان متعارضان، فإما أن ¬
يعمل بهما أو لا يعمل بهما، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل بالخاص دون العام، فالثلاثة الأولى (¬1) باطلة، والرابع هو: الصحيح، وهو: المطلوب (¬2)، كما تقدم بسطه في تخصيص العام بالقياس. وأما الدليل المنقول: فمنه قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر"، خصصه قوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬3). ¬
وقوله عليه السلام: "في الرَّقَة ربع العشر" (¬1) خصه قوله عليه السلام: ¬
"ليس دون خمس أواق صدقة". قوله: (وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة كانت قولاً أو فعلاً (¬1)). ¬
تقدم لنا: أن التواتر إنما هو باعتبار الزمان الأول، وأما في زماننا فلا يوجد. أما تخصيص الكتاب بالسنة القولية: فقال الأصوليون: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلادِكُم} (¬1) خصصه قوله عليه السلام: "القاتل لا يرث" (¬2). ¬
وخصصه أيضًا (¬1): قوله عليه السلام: "لا توارث بين ملّتين" (¬2)؛ [لأن عموم الآية سواء كان الوارث قاتلاً أم لا، اتفقا في الدين أم لا] (¬3). وخصصه أيضًا قوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". ¬
وأما تخصيص الكتاب بالسنة الفعلية: فقوله (¬1) تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2). خصصه ما (¬3) تواتر عنه عليه السلام من رجم ماعز والغامدية. قال المؤلف في شرحه: قول الأصوليين: إن قوله عليه السلام: "القاتل لا يرث" (¬4) مخصص لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (¬5). ليس (¬6) الأمر كذلك؛ لأنه تقدم لنا: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، والأزمان، والبقاع، والمتعلقات، فالآية على هذا تقتضي: أن كل ولد يرث في حالة ما، أي: في حالة غير معينة [وحالة القتل هي: حالة معينة] (¬7)، ولا تتعين الحالة غير المعينة للحالة المعينة؛ لأن الحالة غير المعينة أعم من الحالة المعينة، والدال على الأعم غير دال على الأخص. فإذا قلت مثلاً: في الدار رجل، ثم قلت: ليس في الدار زيد، فإن الكلام الثاني لا يناقض الكلام الأول؛ لأن لفظ رجل أعم من لفظ زيد، فلا يتعين رجل لزيد، ومن شرط الخاص: أن يكون مناقضًا للعام، ولا تناقض بين ثبوت الحكم في حالة غير معينة وبين عدم ثبوته في حالة معينة، بل المناقض ¬
لثبوت الحكم في حالة غير معينة، هو عدم (¬1) ثبوت الحكم في جميع الحالات، كما لو قال الشارع: بعض الأولاد لا يرث في جميع الحالات (¬2). قال المؤلف في شرحه: وكذلك يلزم أن يكون قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكيِنَ} (¬3) غير مخصوص بالنساء، ولا الصبيان، ولا الرهبان (¬4)، ولا بأهل الذمة (¬5)؛ لأن كل واحد من هؤلاء [يقتل في بعض الحالات؛ لأن النساء والرهبان (¬6) وأهل الذمة يقتلون إذا قاتلوا، والصبيان يقتلون أيضًا إذا كبروا، وليس في هؤلاء شخص] (¬7) لا يقتل في جميع الحالات (¬8). قال المؤلف في شرحه: وإنما يتصور العموم والخصوص (¬9) في قوله تعالى: {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬10). فإن الواجب الوجود جل وعلا لا يقبل هذا الحكم، أعني خلق نفسه في جميع الحالات. ¬
وكذلك قوله تعالى: {وَأوتِيَتْ مِن كلِّ شَيْء} (¬1): فإنها لم تؤت النبوة، ولا ملك سليمان، ولا الشمس والقمر، مثلاً في جميع الحالات. وكذلك قوله تعالى: {تدَمِّرُ كلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬2). فإنها لم تدمر الجبال ولا السموات في جميع الحالات، فهذا تخصيص محقق لما فيه من المناقضة للعموم (¬3). قال المؤلف في شرحه: وبهذه الطريقة يظهر لك: أن أكثر ما يعتقد فيه التخصيص ليس مخصوصًا؛ فإن تلك الأفراد الخارجة من العموم إنما خرجت (¬4) في أحوال خاصة لا (¬5) في جميع الحالات، [فلا يحصل التناقض (¬6) بين العام والخاص الذي هو شرط التخصيص، فتلك الأفراد إذًا إنما أخرجت بالتقييد لا بالتخصيص] (¬7). قوله: (وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة). وكذلك يجوز عكس هذا، وهو: تخصيص السنة المتواترة بالكتاب على المشهور، نص عليه فخر الدين وغيره (¬8). ¬
قوله: (ويجوز عندنا، وعند الشافعي (¬1)، وأبي حنيفة تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وفصل ابن (¬2) أبان والكرخي كما تقدم، وقيل: لا يجوز مطلقًا، وتوقف (¬3) القاضي فيه). ش: هذا هو (¬4) مخصص سادس، وهو التخصيص بخبر [الآحاد] (¬5)، وهذا هو تخصيص (¬6) الكتاب بخبر الآحاد. قال أبو المعالي: وخبر الآحاد هو كل خبر عن (¬7) جائز ممكن لا سبيل إلى ¬
القطع بصدقه، ولا سبيل إلى القطع بكذبه، سواء رواه (¬1) واحد أو جماعة (¬2). ذكر المؤلف في جواز التخصيص به خمسة (¬3) أقوال: الجواز مطلقًا، للأئمة الأربعة (¬4). والمنع مطلقًا، لبعضهم (¬5). ¬
والتفصيل لعيسى بن أبان بين تخصيصه قبل بدليل مقطوع، وبين تخصيصه بدليل مظنون (¬1)، كما تقدم له في التخصيص بالقياس. والقول الرابع للكرخي: بالتفصيل بين تخصيصه بدليل منفصل، وبين تخصيصه بدليل متصل (¬2)، كما تقدم له (¬3) أيضًا في التخصيص بالقياس. ¬
والقول الخامس للقاضي أبي بكر بالتوقف (¬1). حجة القول الأول الذي قاله الجمهور (¬2): المعقول والمنقول. فالمعقول (¬3) هو: ما تقدم في التخصيص بالقياس، وهو: أن الكتاب وخبر الآحاد دليلان شرعيان، فإما أن يعمل بهما معًا [أو لا يعمل بهما معًا] (¬4)، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل بالخاص دون العام، فالثلاثة الأولى باطلة، والرابع هو الصحيح كما تقدم. وأما دليل المنقول فهو: إجماع الصحابة - رضوان الله عليهم - على تخصيص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (¬5) بما رواه أبو بكر رضي الله عنه: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". وتخصيصهم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬6) ¬
بقوله عليه السلام: "لا قطع (¬1) إلا في ربع دينار فصاعدًا" (¬2). وتخصيصهم: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3) بما رواه أبو هريرة (¬4) رضي الله عنه، وهو قوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها" (¬5). ¬
وتخصيصهم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّه البيع} (¬1)، بحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - (¬2)، وهو قوله عليه السلام: "البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح ربًا إلا مِثْلاً بمثل، يدًا بيد" وغير ذلك. حجة القول الثاني بالمنع مطلقًا: أن الكتاب مقطوع السند لتواتره (¬3)، وخبر الواحد مظنون السند لعدم تواتره؛ فلا يقدم المظنون على المقطوع. ودليل آخر: أن عمر (¬4) - رضي الله عنه - رد حديث فاطمة بنت قيس (¬5) فيما ¬
روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه لم يجعل للمبتوتة نفقة ولا سكنى؛ تخصيصًا لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬1). وقال: "كيف نترك كتاب ربنا، وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت؟! " (¬2) بمحضر من الصحابة من غير نكير، فكان ذلك إجماعًا. ¬
ودليل آخر: أنه لو جاز التخصيص به لجاز النسخ به. أجيب عن الأول: بأن (¬1) التخصيص إنما هو في الدلالة لا (¬2) في السند، ودلالة العام على الأفراد الداخلة تحته ظنية، ودلالة الخبر على مدلوله قطعية، والقطعي مقدم على الظني جمعًا بين الدليلين، كما تقدم في التخصيص بالقياس. وأجيب عن الثاني: أن الخبر إنما رده عمر - رضي الله عنه - لتردده في صدقها؛ ولذلك قال: لا ندري أصدقت أم كذبت، ونحن نساعد على ذلك، وإنما النزاع في الخبر إذا سلم من الطعن. وأجيب عن الثالث (¬3): الفرق بين التخصيص والنسخ: أن التخصيص: بيان ما لم يرد، والنسخ: إبطال ما ورد وثبت (¬4) أنه مراد، فيحتاط فيه أكثر (¬5). حجة القول الثالث - الذي قاله عيسى بن أبان -: أن (¬6) العام إذا خصص بدليل قطعي قطعنا بضعفه، فيجوز تسليط الخبر عليه، وإذا خص (¬7) بدليل ظني لم نقطع (¬8) بضعفه، فلا يجوز تسليط الخبر عليه (¬9). ¬
حجة القول الرابع - الذي قاله الكرخي -: أن العام إذا خصص بدليل منفصل فهو ضعيف؛ إن لا يمكن جعل مخصصه معه كالكلام الواحد، [فيجوز تسليط الخبر عليه بالتخصيص، وإذا خصص بدليل متصل فهو قوي؛ إذ المخصص المتصل مع العام كالكلام الواحد] (¬1)، فكأن الكلامين موضوعان (¬2) لشيء واحد، وهو ما بقي بعد التخصيص، فهو كالحقيقة لقربه من الحقيقة، فلا يسلط الخبر عليه بالتخصيص (¬3). حجة القول الخامس - الذي قاله القاضي بالتوقف - فهو: تعارض المدارك (¬4). قال المؤلف في شرحه: سكت الغزالي ها هنا، عن خبر الواحد، ولم يذكره كما ذكر (¬5) القياس. قال: ويلزم الغزالي ها هنا: أن ينظر (¬6) إلى مراتب الظنون، كما تقدم له في القياس (¬7)، فإن مراتب خبر الواحد في الظن مختلفة كاختلاف مراتب العموم، وليس له أن يقول: خبو الواحد أقوى من القياس؛ لأنه وإن كان ¬
أقوى فذلك المدرك بعينة موجود ها هنا، فيلزم انتقاضه، وهو: خلاف الأصل (¬1). قال المؤلف في الشرح: أكثر النحاة والمحدثين على منع "أبان" من الصرف؛ لوجود علتين فرعيتين فيه، وهما: العلمية، ووزن الفعل، اعتبارًا بأصله؛ لأن أصله أبين على وزن أفعل، فانقلبت ياؤه ألفًا بعد نقل حركته إلى ما قبله فصار أبان، ومن النحاة من نزع إلى أنه (¬2) منصرف؛ لأن وزنه عنده فعال، وليس فيه إلا علة واحدة، وهي: العلمية على هذا القول، وهذا القول (¬3) ذكره (¬4) ابن يعيش (¬5) في شرح المفصل. فإن قيل: إذا فرعنا على القول المشهور بمنع صرف أبان، ما الفرق بينه وبين بيع، وقيل (¬6): إذا سمي به رجل فإنه منصرف عندهم باتفاق؟. ¬
قال المؤلف: الفرق بينهما: أن بيع ونحوه يرجع إلى وزن ما هو أصل في الأسماء، وهو وزن فِعْل، نحو ديك وفيل، وأما أبان فلم يرجع بعد التغير إلى بناء أصل، فلذلك امتنع صرفه (¬1). قوله: (وعندنا يخصص (¬2) فعله عليه السلام وإِقراره الكتاب والسنة، وفصل الإمام فخر الدين (¬3)، فقال (¬4): إن تناوله العام كان الفعل مخصصًا له (¬5) ولغيره، إِن علم بدليلٍ أن حكمه كحكمه، لكن المخصص: فعله مع ذلك الدليل، وكذلك إِذا (¬6) كان العام متناولاً لأمته (¬7) فقط، وعلم بدليل أن حكمه كحكم (¬8) أمته، وكذلك الإِقرار يخصص الشخص السكوت عنه لما خالف العموم، ويخصص غيره، إِن علم أن حكمه على الواحد حكم (¬9) على الكل). ش: ذكر المؤلف - رحمه الله تعالى - (¬10) ها هنا مسألتين، وهما: تخصيص العام بفعله - صلى الله عليه وسلم -، وتخصيص العام بإقراره - صلى الله عليه وسلم -. ¬
ومعنى قولنا: تخصيص العام بفعله عليه السلام: أنه إذا ورد لفظ عام، [ثم فعل عليه السلام خلاف مقتضى ذلك العام. ومعنى قولنا: تخصيص العام بإقراره عليه السلام: أنه ورد لفظ عام] (¬1)، ثم رأى عليه السلام رجلاً فعل خلاف مقتضى ذلك العام، فأقره (¬2) على ذلك، ولم ينكره عليه. قال المؤلف في شرحه: أما تخصيص الفعل والإقرار للكتاب والسنة، فكما تقدم من تخصيص خبر الواحد لهما خلافًا، ومدركًا، وسؤالاً، وجوابًا، إلا أن الفعل والإقرار أضعف دلالة من القول؛ لأن القول يدل بنفسه، والفعل يدل بغيره، أي: لا يكون دليلاً شرعيًا إلا بغيره، أي: لا يكون مدركًا شرعيًا إلا بالقول؛ لأن دلالته إنما يستفاد (¬3) من القول (¬4)، كقوله (¬5) تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬6). [وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬7)] (¬8). وقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم". ¬
وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). قوله: (وعندنا يخصِّص فعله (¬2) عليه السلام وإِقراره (¬3) الكتاب والسنة). مثال تخصيص الكتاب بفعله عليه السلام: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ¬
فَاجلِدُوا كلَّ وَاحِدٍ مِّنهُمَا مِائةَ جلْدَةٍ} (¬1). خصصه: فعله عليه السلام برجم ماعز والعامرية. ومثال تخصيص الكتاب بإقراره عليه السلام: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2). خصصه: ما رواه مسلم "من أنه عليه السلام وجد عبد الرحمن بن عوف في الصلاة، فأحرم عليه السلام وراءه، فأقره عليه السلام على الإمامة، مع أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكون إمامًا للنبي عليه السلام". ومثال تخصيص السنة لفعله عليه السلام: قوله عليه السلام: "لا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها لبول أو غائط، و (¬3) لكن شرقوا أو غربوا". خصصه: ما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - "أنه سعد على ظهر بيت حفصة، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين لبنتين لقضاء الحاجة، مستقبل بيت المقدس، مستدبر الكعبة". ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "من دخل المسجد على وضوء فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (¬4). ¬
خصصه: كونه دخل المسجد يوم الجمعة فرقى المنبر، كما يدخل (¬1). ومثال تخصيص السنة بإقراره عليه السلام: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر". خصصه: إقراره عليه السلام أهل المدينة على أكل الخضر وبيعها من غير زكاة. قوله: (وفصل الإمام فخر الدين فقال: إِن تناوله العام كان الفعل مخصصًا له ولغيره (¬2)، و (¬3) إن علم بدليل أن حكمه كحكمه، لكن المخصص فعله مع ذلك الدليل، وكذلك إِذا كان العام (¬4) متناولاً لأمته فقط، وعلم (¬5) بدليل أن حكمه كحكم أمته) (¬6). ش: فهذا (¬7) الذي نقله المؤلف عن فخر الدين [في] (¬8) المعنى عين (¬9) ما ¬
قاله أولاً، لكن (¬1) ما تقدم مجمل، وكلام الإمام مفصل. ولم ينقل المؤلف ها هنا إلا قولاً واحدًا، خلافًا لبعض الشراح، القائل (¬2): بأن المؤلف نقل ها هنا قولين، وذلك وهم. ومعنى كلام الإمام: أن اللفظ إذا كان معناه شاملاً للنبي عليه السلام مع أمته، فإن فعله عليه السلام بخلاف مقتضى ذلك اللفظ يخصصه عليه السلام وغيره، سواء كان ذلك اللفظ خاصًا بصيغته للنبي عليه السلام (¬3) خاصة، أو كان خاصًا بصيغته لأمته (¬4) دونه عليه السلام؛ إذ المعتبر ها هنا عموم المعنى [لا عموم اللفظ] (¬5). مثال المتناول (¬6) له عليه السلام فقط: قوله عليه السلام: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا" (¬7). ¬
ولكن وإن كان لفظه خاصًا به عليه السلام، فمعناه له ولأمته عليه السلام؛ لأنه علم بدليل آخر [أن حكم غيره من الناس كحكمه عليه السلام، وذلك الدليل هو قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"] (¬1). ومثال المتناول لأمته عليه السلام فقط: قوله عليه السلام: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط، ولكن شرّقوا أو غرّبوا" ولكن وإن كان لفظه خاصًا بالأمة، فمعناه عام لأمته (¬2) مع النبي عليه السلام؛ لأنه علم بدليل آخر أن حكمه عليه السلام كحكم غيره من أمته (¬3)؛ لأنه عليه السلام أولى بتنزيه القبلة (¬4) ممن سواه، فيكون فعله مخصوصًا (¬5) له من حكم هذا النص الذي تناوله بالدليل، ومن الناس من حمل فعله على حالة، وهي أن هذا حكم الأبنية، والنهي محمول على الصحارى (¬6) والأفضية. ومثال المتناول له عليه السلام ولأمته معًا: قوله عليه السلام: "من دخل ¬
المسجد على وضوء فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" فهذا عام باللفظ والمعنى؛ لأن (¬1) "من" موضوعة للعموم. قوله: (كان الفعل مخصصًا له)، [أى: فعله عليه السلام مخصصًا] (¬2) لنفسه مطلقًا. قوله: (ولغيره، إِن عُلِمَ بدليل أن حكمه كحكمه) معناه: ويخصص فعله عليه السلام غيره من الناس، بشرط أن يدل دليل على أن حكم غيره من الناس كحكمه عليه السلام، أي: يدل دليل (¬3) على وجوب التأسي به عليه السلام في ذلك الفعل. [قوله: (لكن (¬4) المخصص: فعله مع ذلك الدليل)، معناه: أن المخصص لغيره عليه السلام شيئان: أحدهما: فعله عليه السلام، والثاني: هو الدليل الدال على وجوب التأسي به في ذلك الفعل، والمخصص للنبي عليه السلام شيء واحد، والمخصص لغيره شيئان: فعله عليه السلام، والدليل الدال على وجوب التأسي به (¬5) في ذلك الفعل] (¬6). قوله: (وكذلك الإِقرار يخصص الشخص المسكوت عنه لما خالف ¬
العموم، ويخصص غيره إِن علم (¬1) أن حكمه على الواحد حكم على الكل). ش: ومثل هذا قوله (¬2) عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" مع أنه أقر عليه السلام أهل المدينة على أكل الخضر وبيعها من غير زكاة، فأهل المدينة هم الشخص المسكوت عنه في هذا المثال. قوله: (ويخصص غيره) أي: ويخصص الإقرار أيضًا غير ذلك الشخص المسكوت عنه، والمراد بذلك الغير في هذا المثال هو: سائر أهل البلاد سوى أهل المدينة؛ لأنه علم أن حكم أهل المدينة وغيرهم في الزكاة واحد؛ لقوله (¬3) عليه السلام: "حكمي على الواحد كحكمي (¬4) على الجماعة" قوله: (ويخصص غيره) المواد بذلك الغير: بعض الأشخاص لا جملة ما يصدق عليه أنه غيره؛ لأن ذلك يؤدي إلى خروج (¬5) جملة الأفراد من ذلك اللفظ، فلا يبقى فيه شيء، [فيكون إذ ذاك نسخًا لا تخصيصًا] (¬6). قوله: (وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال (¬7) الإمام: إِن علم وجودها في زمان (¬8) الخطاب، وهو متجه). ¬
ش: هذا مخصص آخر، تعرض المؤلف هنا لتخصيص العام بالعادة، وهي العرف، وهي: الحقيقة العرفية كانت عامة أو خاصة، وظاهر كلام المؤلف: أن العادة تخصص مطلقًا، سواء كانت قولية أو فعلية، وليس الأمر كذلك، بل العادة التي تخصص العموم هي: العادة القولية خاصة دون الفعلية (¬1). ¬
[وإنما قلنا: بأن العادة القولية هي المخصصة دون الفعلية] (¬1)؛ لأن القولية هي المعارضة للغة دون الفعلية، فكل من له عرف وعادة في لفظه فإنما (¬2) يحمل لفظه (¬3) على عرفه وعادته؛ لأن دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة؛ لأن العرف ناسخ للغة، فالناسخ مقدم على المنسوخ. قوله: (قال الإمام (¬4): إِن علم وجودها في زمان الخطاب). قول الإمام هو تفسير لا خلاف؛ يعني: أن العادة التي يخصص بها العموم هي: العادة الحاضرة في وقت الخطاب؛ لأنها هي المعارضة للخطاب، وأما العادة الحادثة بعد الخطاب فلا عبرة بها، أي: لا يخصص بها العموم، ولا يقيد بها المطلق، ولا تأثير لها أصلاً. قوله: (وهو متجه) , أي قول (¬5) الإمام له وجه (¬6)، وتوجيهه (¬7): أن من له عوف [وعادة في لفظه، حمل لفظه على عرفه] (¬8) وعادته الحاضرة لنطقه، دون العادة الغائبة عن نطقه، فلا يحمل عليها لفظه؛ لعدم معارضتها لنطقه ¬
في حال (¬1) الخطاب، فإذا كان المتكلم هو الشارع حملنا لفظه على عرفه، وخصصنا عموم لفظه بذلك العرف، [أو قيدنا (¬2) إطلاق لفظه بذلك العرف] (¬3)؛ فإن نصوص الشريعة لا يؤثر (¬4) في تخصيصها [وتقييدها إلا ما قارنها من العوائد] (¬5). ونظير (¬6) ذلك: الأعواض، والنذور، والإقرار، والوصية، وغير ذلك، فإذا وقع البيع مثلاً فإنما (¬7) يحمل العوض فيه (¬8)، وهو الثمن على السَّكَّة الحاضرة في زمان التبايع، ولا عبرة بسكة حادثة (¬9) بعد ذلك. وقد أشار القاضي عبد الوهاب في التلقين إلى ذلك بقوله (¬10): ومن باع بنقد أو اقترض، ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد (¬11). ¬
وأشار إليه ابن الحاجب أيضًا (¬1) بقوله: ولو (¬2) قطعت الفلوس فالمشهور: المثل، ولو (¬3) عدمت فالقيمة وقت اجتماع (¬4) الاستحقاق والعدم (¬5). وكذلك إذا نذر دراهم أن يتصدق بها، فإن ذلك يحمل على السكة الحاضرة وقت النذر. وكذلك إذا أقر بدراهم أو وصى (¬6) بها، فالمعتبر هو السكة الحاضرة وقت الإقرار ووقت الإيصاء. قوله: (وعندنا العوائد مخصصة للعموم)، يريد: القولية دون الفعلية. مثال العادة القولية: إذا كان إنسان (¬7) لا يُطْلِق الثوب في كلامه إلا على (¬8) ثوب الكتان، فإن حلف وقال: والله لا ألبس (¬9) ثوبًا فلا يحنث إلا بالكتان؛ تنزيلاً لكلامه على عرفه، وتفسيرًا لكلامه بكلامه. ¬
وكذلك إذا كان إنسان (¬1) لا يطلق الدابة (¬2) إلا على الفرس، فإذا حلف وقال: والله لا أركب دابة فلا يحنث إلا بالفرس، ولا يحنث بركوب غيره من سائر الدواب وكذلك إذا كان لا يطلق الرأس في كلامه إلا على رأس الغنم، [فإذا حلف ألا يأكل رأسًا] (¬3) فلا يحنث إلا برأس الغنم، ولا يحنث بأكل غيره من رؤوس البقر، والإبل، وغير (¬4) ذلك من رؤوس الحيوانات. وكذلك إذا كان إنسان لا يطلق لفظ الخبز إلا على خبز القمح (¬5)، فإذا حلف وقال: والله لا آكل الخبز فلا يحنث إلا بأكل خبز (¬6) القمح دون غيره من خبز الشعير، أو خبز الفول، أو خبز الذرة، أو الدخن (¬7)، وغير (¬8) ذلك. فقد تبين بما قررناه: أن العوائد القولية يخصص بها. وأما مثال العادة الفعلية فهو: إذا كان الإنسان لا يلبس إلا ثوب الكتان، فإذا حلف وقال: والله لا ألبس ثوبًا، فإنه يحنث بكل ثوب، لا فرق بين الكتان وغيره، ولا عبرة بعادته (¬9) الفعلية. ¬
وكذلك إذا كان إنسان لا يركب إلا الفرس، فإذا حلف وقال: والله لا أركب دابة، فإنه يحنث بكل دابة، لا فرق بين الفرس وغيره من الدواب، ولا عبرة بعادته (¬1) الفعلية. وكذلك إذا كان إنسان لا يأكل إلا رؤوس الغنم، فإذا حلف وقال: والله لا آكل [رأسًا، فإنه يحنث لكل رأس أكله (¬2)، لا فرق بين رؤوس الغنم وغيرها، ولا عبرة بعادته الفعلية. وكذلك إذا كان إنسان لا يأكل إلا خبز القمح، فإذا حلف وقال: والله لا آكل] (¬3) خبزًا فإنه يحنث بكل خبز، لا فرق بين خبز القمح وغيره، ولا عبرة بعادته الفعلية، وغير ذلك من الأمثلة. فقد (¬4) تبين بما قررناه: أن المعتبر من العوائد هو: العادة القولية دون الفعلية. وقد حكى المؤلف الاتفاق على ذلك، أعني: الاتفاق على التخصيص بالقولية، والاتفاق على عدم التخصيص بالفعلية (¬5). وقد نقل غيره (¬6) الخلاف في الفعلية (¬7). ¬
قال المازري في شرح التلقين: اختلف قول (¬1) مالك - رضي الله عنه - في غسل الإناء من ولوغ الكلب في مائع سوى الماء: فمرة حمل الحديث (¬2) على عمومه، ولم يفرق بين الماء وغيره من المائعات. ومرة خصصه بالعادة؛ لأن عادة الكلاب في زمان النهي أن تلغ (¬3) من المياه دون المائعات؛ لأن الماء هو الموجود المألوف في ذلك الوقت دون المائع؛ لقلة الطعام عندهم في ذلك الزمان (¬4). قال المؤلف في النفائس: وما نقله المازري عن المالكية في ذلك (¬5) مؤوَّل برجوعه إلى العوائد القولية (¬6). قال المؤلف في الشرح: فقد غلط في هذا جماعة من أكابر الفقهاء المالكية وغيرهم، وقالوا: من (¬7) حلف بأيمان المسلمين، إنما (¬8) يلزمه صيام شهرين متتابعين والحج دون الاعتكاف، لأجل العادة الفعلية؛ لأن عادة ¬
الناس أنهم (¬1) يصومون كثيرًا ويحجون كثيرًا (¬2)، ولم تجر عادتهم بالاعتكاف إلا نادرًا، وليس ذلك كما قالوا: إنما (¬3) يلزمهم الصوم والحج دون الاعتكاف؛ لأجل عادتهم القولية؛ لأن عادتهم إذا نطقوا (¬4) بالأيمان أن يحلفوا بإلزام (¬5) الصوم والحج، ولم تجر عادتهم في النطق بالأيمان التزام الاعتكاف. وكذلك أيضًا قالوا: إذا حلف الإنسان (¬6)، وقال: والله لا آكل رؤوسًا. فمنهم من حنَّثه برؤوس الأنعام خاصة؛ لأن رؤوس الأنعام قد جرت العادة الفعلية بأكلها دون غيرها. وليس ذلك كما قالوه (¬7)، بل نقول: منشأ الخلاف في هذا: أن عادتهم القولية إذا نطقوا للفظ الرؤوس في الأيمان، فإنهم يخصون رؤوس الأنعام دون غيرها، فهي إذًا عادة قولية لا فعلية. وإنما سبب الخلاف بين العلماء: في كونه يحنث بجميع الرؤوس، أو يحنث برؤوس الأنعام دون غيرها، هل وصلت هذه الغلبة في النطق إلى هذا النقل عن اللغة (¬8)؟ فمن قال بالوصول، قال: هذه العادة ناسخة، وناقلة للغة، فلا يحنث إلا برؤوس الأنعام. ¬
ومن قال بعدم وصولها، قال: يحنث بجميع الرؤوس؛ لأن مقتضى اللغة باقٍ غير منسوخ (¬1). انتهى معنى كلامه (¬2) في الشرح (¬3). قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": أما العادة الفعلية فلا يخص بها العموم. وقد أشار إلى ذلك في "التلقين"، ونصه فيه: ويعتبر في اليمين ثلاثة أشياء: أولها: النية فيعمل عليها إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها، كانت مطابقة له أو زائدة فيه، أو ناقصة عنه، بتقييد مطلقه، أو تخصيص عامه، فإن عدم الحالف تحصيلها (¬4) نظر السبب المثير (¬5) لليمين ليعرف منه، فإن عدم أجري اللفظ على ما يقتضيه إطلاقه في عرف اللغة وعادة التخاطب دون عادة الفعل (¬6)، وذلك كالحالف: لا آكل رؤوسًا (¬7)، أو بيضًا، أو لا أسبح في نهر أو غدير، فإن قصد معنى عامًا عبر (¬8) عنه بلفظ خاص، أو معنى خاصًا عبر (¬9) بلفظ عام حكم بنيته إذا قارنها عرف التخاطب، كالحالف: لا أشرب لفلان ماء، يقصد قطع المن، فإنه يحنث بكل ما ينتفع به من ماله، كذلك (¬10): لا ألبس ثوبًا ¬
من غزل زوجته، يقصد قطع المن دون عين المحلوف عليه. انتهى نصه (¬1). قوله (¬2): (أو كانت (¬3) مما يصلح أن يراد اللفظ بها)؛ احترازًا مما إذا كانت النية لا يصلح أن يراد اللفظ بها، كما إذا (¬4) قال: والله لا آكل اللحم، فسئل، فقال: أردت الخضروات (¬5) أو أردت الخبز. و (¬6) قوله: (كانت مطابقة له) أي: سواء كانت النية مساوية للفظه (¬7)، كما إذا (¬8) قال: والله لا آكل رؤوسًا، فسئل فقال: أردت جميع الرؤوس؛ لأن نيته مطابقة للفظه (¬9) في العموم، وكذلك إذا قال: والله لا آكل بعض الرؤوس، فسئل فقال: أردت رؤوس المعز؛ لأن نيته مطابقة للفظه في الخصوص. و (¬10) قوله: (أو زائدة فيه)، كما إذا (¬11) قال: والله لا آكل رؤوس (¬12) الغنم، فسئل عن نيته، فقال: نويت جميع الرؤوس، فإنه قصد معنى ¬
عامًا بلفظ (¬1) خاص. و (¬2) قوله: (أو ناقصة عنه)، كما (¬3) إذا قال: والله لا آكل رؤوسًا، فسئل عن نيته فقال: نويت رؤوس الغنم. قوله: (بتقييد مطلقه أو تخصيص عامه). التقييد والتخصيص راجعان إلى النية الناقصة، تقديره: أو ناقصة عنه بالتقييد، أو التخصيص، والضمير في قوله: مطلقه وعامه، راجع إلى اللفظ، ويحتمل أن يرجع إلى اللافظ، وهو الحالف. مثال تقييد المطلق، إذا قال: والله لا آكل رؤوسًا، فقال: نويت رؤوس البقر. ومثال تخصيص العام: كإذا قال: والله لا آكل الرؤوس، فقال: نويت رؤوس البقر، فإن الرؤوس ها هنا (¬4) لفظ عام؛ لأنه جمع (¬5) معرف بالألف واللام. قوله: (ليعرف منه) أي: ليعرف منه قصد الحالف، أو لتعرف منه نية الحالف على نسخة التاء (¬6)، كإذا قال: والله لا آكل رؤوسًا، ولا نية له، فسئل فقيل له: وما سبب يمينك؟ فقال: أكلت رؤوس المعز فضرني، فإنه لا يحنث إلا برأس المعز خاصة. ¬
و (¬1) قوله: (في عرف اللغة، وعادة التخاطب) هذان (¬2) قولان: قال ابن القاسم: عرف اللغة مقدم على عرف التخاطب؛ لأنه الأصل. وقال أشهب (¬3): عرف التخاطب (¬4) مقدم على عرف اللغة (¬5)؛ لأنه الغالب في الاستعمال. وقيل: عرف الشرع هو المقدم؛ لأنه العالم بالأحكام، فهذه ثلاثة أقوال (¬6). مثال العرف الشرعي: إذا قال: والله لأصومَنَّ، أو قال: والله لأركعنَّ، أو قال: والله لأهجرن فلانًا، فيصوم يومًا واحدًا، ويصلي ركعتين، ويهجر ¬
فلانًا ثلاثة أيام؛ لأنه (¬1) الهجران (¬2) الشرعي على هذا (¬3) القول. و (¬4) قوله: (في عرف اللغة وعادة التخاطب) ظاهره: أن عرف اللغة عنده مقدم على عرف التخاطب. وقال في المعونة: يقدم عرف التخاطب على عرف اللغة (¬5)، ولكن يجاب عنه بأن الواو لا ترتب (¬6)، فمذهبه (¬7) تقديم عرف التخاطب على عرف اللغة، وهو قول أشهب. وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا قال: والله لا آكل رؤوسًا، ولم تكن له نية، ولا ظهر له سبب: فعلى قول ابن القاسم الذي اعتبر عرف اللغة: يحنث (¬8) بجميع الرؤوس. وعلى قول أشهب: لا يحنث إلا برؤوس الأنعام. ¬
وقوله: (وعادة الفعل) معناه: لا عبرة بالعادة الفعلية، كما إذا (¬1) قال: والله لا آكل خبزًا، وعادته أنه لا يأكل إلا خبز القمح، فإنه يحنث بجميع الأخباز، لا (¬2) فرق بين خبز القمح وغيره. وكذلك إذا قال: والله لا ألبس ثوبًا، وعادته أنه لا يلبس إلا ثوب الكتان، فإنه يحنث بجميع الأثواب، لا فرق بين ثوب الكتان وغيره. وكذلك إذا قال: والله لا أركب دابة، وعادته أنه لا يركب إلا الخيل، فإنه يحنث بجميع الدواب، ولا فرق بين الخيل وغيرها. قوله: (دون عادة الفعل) يحتمل أن يكون الفعل راجعًا إلى الحالف، أي: دون عادة فعل الحالف كما قررناه بالأمثلة. ويحتمل أن يرجع الفعل إلى الفعل المحلوف عليه، كما إذا (¬3) قال: والله لا آكل اللحم، فإنه يحنث بأكل اللحم، سواء كان مطبوخًا، أو كان (¬4) نيًا، وإن كانت عادة اللحم (¬5) ألا يؤكل إلا مطبوخًا، فلا عبرة (¬6) بالعادة (¬7) الفعلية. قوله: (وذلك كالحالف: لا آكل رؤوسًا أو بيضًا) الإشارة عائدة ¬
على (¬1) زيادة النية ونقصانها بالتقييد والتخصيص، تقديره: وبيان زيادة النية ونقصانها [بالتقييد والتخصيص. ويحتمل أن تعود الإشارة على الثلاثة الأشياء: النية، والسبب، والعرف، تقديره: وبيان اعتبار النية والبساط (¬2) والعرف. قوله: (فإن قصد معنى عامًا وعبر عنه بلفظ خاص، أو معنى خاصًا وعبر عنه بلفظ عام (¬3)). هذا بيان زيادة النية على اللفظ، كإذا قال: لا آكل (¬4) رؤوس البقر، فقال: نويت جميع الرؤوس، أو قال: والله لا آكل بيض النعامة، فقال: نويت جميع البيض، أو قال: والله لا أسبح في نهر بني فلان أو غدير بني فلان، فقال: نويت جميع الأنهار أو جميع الغدر. قوله: (أو معنى خاصًا ...) (¬5) إلى آخره. هذا بيان نقصان النية عن اللفظ، فإذا قال: والله لا آكل رؤوسًا، وقال (¬6): نويت رؤوس البقر، أو قال: والله لا آكل بيضًا، فقال: نويت بيض النعامة، أو قال: والله لا أسبح في نهر، أو: لا أسبح في غدير، فقال: نويت نهر بني فلان أو غدير (¬7) بني فلان. ¬
قوله: (فإِن قصد معنى عامًا وعبر (¬1) عنه بلفظ خاص، أو معنى خاصًا، وعبر عنه بلفظ عام) وسكت عما إذا قصد معنى عامًا، وعبر عنه بلفظ عام، أو قصد (¬2) معنى خاصًا، وعبر عنه بلفظ خاص، مع أن الحكم في جميع الصور الأربع واحد، وهو الحكم بنيته، وإنما سكت عن حكم النية المطابقة؛ لأنه يؤخذ من كلامه بأولى وأحرى؛ لأنه (¬3) إذا كان يحكم بالنية المخالفة للفظ فأولى وأحرى أن يحكم بالنية الموافقة للفظ، وبالله التوفيق بمنّه] (¬4). و (¬5) قوله: (كالحالف: لا أشرب لفلان ماء) مثال أيضًا لزيادة النية على اللفظ. وكذلك قوله: (وكذلك (¬6) لا ألبس ثوبًا من غزل زوجته). [قوله: (دون عين المحلوف عليه): راجع إلى المسألتين، أعني قوله (¬7): "لا أشرب لفلان ماء" أو قوله: "لا ألمس ثوبًا من غزل زوجته"] (¬8). قوله: (عندنا: يخصص (¬9) الشرط (¬10) والاستثناء العموم (¬11) مطلقًا، ¬
ونص الإمام على الصفة والغاية (¬1)، وقال (¬2): إِن (¬3) تعقبت الصفة جملًا جرى فيها الخلاف الجاري في الاستثناء. والغاية: "حتى" و"إِلى" (¬4)، فإِن اجتمع غايتان، كما لو قال (¬5): لا تقربوهن حتى يطهرن حتى يغتسلن، قال الإمام: فالغاية (¬6) في الحقيقة الثانية، والأولى سميت غاية (¬7)؛ لقربها منها). ش: ذكر المؤلف ها هنا أربعة أشياء من المخصصات (¬8)، و (¬9) هي: الشرط (¬10)، والاستثناء (¬11)، ¬
و (¬1) الصفة (¬2)، والغاية (¬3). مثال الشرط: اقتلوا المشركين إن حاربوا. ومثال الاستثناء: اقتلوا المشركين إلا أن يتركوا الحرابة. فالشرط والاستثناء يقصران القتل على المحاربين، ويخرج منه القتل في حالة عدم الحرابة، ولولا الشرط والاستثناء لعم القتل جميع الأحوال لغة (¬4)، ولم يحصل لنا العلم بعدم القتل عند عدم الحرابة، فكان الشرط أو الاستثناء (¬5) مخصصًا للعموم. وأما على قاعدة المؤلف من كون العام في الأشخاص هو مطلق في الأحوال فإنه تقضي (¬6): أن يكون الشرط مقيدًا لتلك الحالة المطلقة لا مخصصًا، وكذلك الاستثناء، والصفة، والغاية. ¬
و (¬1) قوله: (مطلقًا) أي: كان الشرط شرط سبب، أو كان شرط حكم. مثال شرط السبب: القدرة على التسليم في البيع. ومثال شرط الحكم: الطهارة للصلاة (¬2). ومعنى قولنا: شرط السبب: أن يكون عدم الشرط مستلزمًا لعدم حكمة السبب، [كالقدرة على تسليم المبيع؛ لأن عدم القدرة على التسليم مستلزم لعدم الانتفاع بالمبيع (¬3)، الذي هو حكمة السبب] (¬4). ومعنى قولنا: وشرط الحكم: أن يكون عدم الشرط مستلزمًا لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب، كالطهارة في الصلاة؛ لأن عدم الطهارة يستلزم عدم الثواب الذي هو نقيض الحكم الذي هو الثواب، مع بقاء حكمة السبب الذي هو التوجه إلى الله تعالى، وقد تقدم هذا في الفصل الخامس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام (¬5). قوله: (مطلقًا) أي: كان (¬6) الشرط شرط سبب، أو شرط حكم، كان (¬7) الاستثناء استثناء شخص، أو استثناء (¬8) نوع. ¬
مثال الشخص (¬1): اقتلوا المشركين إلا زيدًا. ومثال النوع: إلا أهل الذمة. قوله: (ونص الإمام على الصفة، والغاية (¬2)). وكذلك نص عليها القاضي عبد الوهاب (¬3) وغيره. مثال الصفة: اقتلوا المشركين المحاربين. ومثال الغاية: اقتلوا المشركين حتى يعطوا الجزية. وكذلك: اقتلوا المشركين إلى (¬4) أن يسلموا (¬5). قوله: (وقال: إِن تعقبت الصفة جملًا جرى فيها الخلاف الجاري في الاستثناء). مثال ذلك: أكرم النحاة والفقهاء الزهاد، هل يرجع وصف الزهد إلى الجميع، أو يرجع إلى الآخر؟ فقد (¬6) ذكر المؤلف: أن حكم الصفة ها هنا كحكم (¬7) الاستثناء إذا تعقب (¬8) ¬
الجمل، وفيه خمسة أقوال (¬1) ذكرها المؤلف في باب الاستثناء في قوله: إذا (¬2) تعقب الاستثناء الجمل يرجع إلى جملتها (¬3) عند مالك والشافعي، وعند أصحابهما. وإلى (¬4) الأخيرة عند أبي حنيفة. ومشترك بين الأمرين عند المرتضي (¬5). ¬
ومنهم من فصّل فقال: إن تنوعت الجملتان: بأن تكون إحداهما (¬1) خبرًا، والأخرى أمرًا (¬2) عاد إلى الأخيرة فقط، وإن لم تتنوع الجملتان، ولا كان حكم إحداهما في الأخرى، ولا (¬3) أضمر اسم إحداهما في الأخرى (¬4) فكذلك أيضًا، وإلا عاد إلى الكل، واختاره الإمام، وتوقف أبو بكر منا (¬5) في الجميع. انتهى نصه (¬6). وسيأتي بيان ذلك في باب الاستثناء، إن شاء الله تعالى (¬7). قوله: (والغاية: حتى وإِلى): لما ذكر المؤلف الغاية أراد أن يبين أدواتها، فقال: والغاية، حتى وإلى (¬8)، معناه: أدوات الغاية حرفان (¬9)، وهما: حتى وإلى (¬10)، هذا هو الغالب. ¬
وقد تكون الغاية باللام وهو قليل، ومنه قوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} (¬1) أي: إلى بلد ميت، وأشار إليه ابن (¬2) مالك في الألفية بقوله في حروف الجر: للانتهاء حتى ولام وإلى (¬3) ........................... قال المرادي: إلا أن "إلى" أمكن (¬4) في الغاية من "حتى"؛ لأن "إلى" تدخل فيما لا تدخل فيه "حتى"؛ لأن المجرور (¬5) بـ "حتى" (¬6) يلزم أن يكون آخر (¬7) جزء (¬8) , بخلاف إلى؛ لأنك تقول: سرت النهار إلى نصفه، ولا تقول: سرت (¬9) النهار حتى نصفه (¬10). ¬
و (¬1) قوله: (والغاية: حتى وإِلى)، انظر حصر المؤلف الغاية في "إلى" و"حتى" (¬2)، مع أن الغاية موجودة في غيرهما، كقوله (¬3): {وَحُرِّمَ علَيكمْ صَيدُ الْبَر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4). قوله: (وعندنا يخصص الشرط والاستثناء العموم مطلقًا، ونص الإمام على الصفة والغاية). ذكر المؤلف ها هنا أربعة أشياء من المخصصات المتصلة، كما (¬5) ذكرها غيره. قال المؤلف في القواعد السنية في الفرق التاسع والعشرين، في الفرق بين النية المخصصة (¬6) والنية المؤكدة -: المعدود (¬7) في كتب (¬8) الأصوليين (¬9) من المخصصات المتصلة أَربعة خاصة، وهي (¬10): الشرط، والاستثناء (¬11)، والصفة، والغاية. ¬
قال: وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر، وهي هذه الأربعة المذكورة، وثمانية أخرى، وهي: ظرف الزمان، وظرف المكان، والمجرور، والحال، والتمييز، والمفعول معه، والمفعول من أجله، والبدل، فهذه اثنا عشر (¬1). وقد بينها المؤلف أيضًا في الفرق الثاني عشر (¬2). مثال الشرط: اقتلوا المشركين إن حاربوا. ومثال الاستثناء: اقتلوا المشركين إلا أن يسلموا. [ومثال الصفة: اقتلوا المشركين المحاربين] (¬3). ومثال الغاية: اقتلوا المشركين حتى يعطوا (¬4) الجزية. مثال (¬5) ظرف الزمان: اقتلوا المشركين عند طلوع الفجر. ومثال ظرف المكان: اقتلوا المشركين أمام زيد. ومثال المجرور: اقتلوا المشركين في شهر رمضان. ومثال الحال: اقتلوا المشركين عراة. ومثال التمييز: اقتلوا المشركين رؤوسًا (¬6). ومثال المفعول معه: اقتلوا المشركين وزيدًا. ¬
ومثال المفعول من أجله: اقتلوا المشركين (¬1) إذهابًا (¬2) لغيظكم (¬3). ومثال البدل: اقتلوا المشركين أهل الحرب (¬4). قوله (¬5): (فإِن اجتمع غايتان، كما لو قال: لا تقربوهن حتى يطهرن حتى يغتسلن). قال الإمام: فالغاية في الحقيقة الثانية (¬6)، والأولى سميت غاية؛ لقربها منها، وإنما صارت الثانية هي الغاية (¬7) حقيقة؛ لأن الحكم إنما تعلق بها وحدها؛ إذ لا يجوز وطؤهن إلا بالاغتسال (¬8)، وإنما سميت الغاية الأولى غاية (¬9) مجازًا؛ لأجل قربها منها؛ أي (¬10): من الغاية الثانية التي هي الحقيقة. وقال غير الإمام: بل كل واحدة منهما غاية معتبرة؛ لتعلق الحكم بهما معًا؛ لأن هذا من باب تعليق (¬11) الحكم على شرطين، وهما: انقطاع الدم، والغسل بالماء (¬12)، فإن الحائض لا توطأ إلا باجتماعهما، وأما إن عدما ¬
معًا (¬1)، أو وجد أحدهما (¬2)، فلا يجوز وطؤها. قاله ابن العربي في أحكام القرآن (¬3)، هذا كله على (¬4) قراءة التخفيف (¬5)، وأما على قراءة التشديد: فالمراد بالطهر في اللفظين شيء واحد وهو: الاغتسال بالماء. وذلك أن القراء اتفقوا على التشديد في اللفظ الثاني، وإنما اختلفوا في الأول بالتخفيف والتشديد: [قراءة (¬6) حمزة (¬7) والكسائي وأبي بكر بالتشديد (¬8) ¬
فى (¬1) الطاء والهاء مفتوحتين (¬2)] (¬3). و (¬4) قال ابن العربي: و (¬5) نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغوا النِّكَاحَ ...} (¬6) الآية. فعلق دفع المال على وجود شرطين، وهما: بلوغ النكاح، وإيناس الرشد (¬7). قوله: (فالغاية في الحقيقة الثانية (¬8)) يريد: إذا كانتا (¬9) على طريق الاجتماع، وأما إذا كانتا (¬10) على طريق البدل فالغاية هي إحداهما من غير تعيين. كقولك: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا المسجد، أو الدار (¬11)، فإن مقتضى ذلك. أن الإكرام يستمر إلى حصول إحدى الغايتين، إما دخول المسجد، ¬
وإما دخول الدار (¬1) من (¬2) غير تعيين أحد المدخولين (¬3). وقد بين المؤلف هذا في الباب التاسع في قوله: (إِذا رتب مشروط على شرطين لا يحصل إِلا عند حصولهما إِن كانا (¬4) على الجمع، وإِن كانا على البدل حصل عند أحدهما). انتهى نصه (¬5). فحكم (¬6) الغايتين يفهم من حكم الشرط مع جوابه (¬7). وحاصل الغاية مع المغيا تسعة أوجه: وذلك أن الغاية: إما أن تكون متحدة، وإما أن تكون متعددة على الجمع، وإما أن تكون متعددة على البدل. فهذه ثلاثة أقسام في الغاية، وفي كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة ثلاثة أوجه: فإذا كانت الغاية متحدة فإما أن يكون المُغَيَّا متحدًا، وإما أن يكون متعددًا على الجمع، وإما أن يكون متعددًا على البدل، فهذه ثلاثة أوجه في اتحاد الغاية. ¬
مثال (¬1) اتحاد الغاية مع اتحاد المغيا: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار. ومثال اتحاد الغاية مع تعدد المغيا على الجمع: أعط بني تميم دينارًا ودرهمًا إلى أن يدخلوا الدار. ومثال اتحاد الغاية مع تعدد المغيا على البدل: أعط بني تميم دينارًا أو درهمًا إلى أن يدخلوا الدار. فهذه ثلاثة أوجه مع أمثلتها (¬2) في اتحاد الغاية. وأما إذا كانت الغاية متعددة على الجمع: فإما أن يكون المغيا متحدًا، وإما أن يكون متعددًا على الجمع، وإما أن يكون متعددًا على البدل. مثال تعدد الغاية على الجمع مع اتحاد المغيا: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا. ومثال تعدد الغاية على الجمع مع تعدد المغيا على الجمع: أعط بني تميم دينارًا ودرهمًا (¬3) إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا. ومثال تعدد الغاية على الجمع مع تعدد المغيا على البدل: أعط بني تميم دينارًا أو درهمًا إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا. فهذه ثلاثة أوجه في تعدد الغاية على الجمع. وأما إذا كانت الغاية متعددة على البدل: فإما أن يكون المغيا متحدًا، وإما ¬
أن يكون متعددًا على الجمع، وإما أن يكون متعددًا على البدل. مثال تعدد الغاية على البدل مع اتحاد المغيا: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار أو المسجد (¬1). ومثال تعدد الغاية على البدل مع تعدد المغيا على الجمع: أعط بني تميم دينارًا ودرهمًا إلى أن يدخلوا الدار أو المسجد (¬2). ومثال تعدد (¬3) الغاية على البدل مع تعدد المغيا على (¬4) البدل: أعط بني تميم دينارًا أو درهمًا إلى أن يدخلوا الدار أو المسجد (¬5). فهذه تسعة أوجه بحسب اتحاد الغاية والمغيا وتعددهما جمعًا وبدلًا، وأحكامها ظاهرة مما ذكر في باب الشرط (¬6)؛ لأن ترتيب المغيا على الغاية بمنزلة ترتيب المشروط على الشرط (¬7)، كما سيأتي في باب الشروط (¬8)، إن شاء الله تعالى (¬9). ¬
قوله: (ونص على الحِسِّ نحو قوله تعالى (¬1): {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬2)). ش: هذا مخصص آخر، يعني: أن الإمام فخر الدين (¬3) نص في المحصول على أن التخصيص يكون بالحس (¬4)، أي: بحاسة البصر؛ وذلك أن البصر شاهد بقاء الجبال والسموات لم تدمرها الريح (¬5). ويقرب من التخصيص بالحس التخصيص بالواقع، كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬6) فإن الواقع أنها لم تؤت النبوة، ولا ملك سليمان، ومثله (¬7) قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (¬8) فإنه لم يؤت أسباب السموات. ومثله (¬9) أيضًا: قوله تعالى: {يُجْبَى (¬10) إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬11)، فإن ¬
الحرم لم تُجْبَ إليه جميع ثمرات الدنيا. وكذلك أيضًا يقرب من التخصيص بالحس: التخصيص (¬1) بقرائن الأحوال، كقول السيد لعبده: ائتني بمن يحدثني، فإن ذلك يختص بمن يحدثه في مثل حاله (¬2). قال المؤلف في الشرح: ومن التخصيص بالواقع: قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (¬3)؛ لأنا نقطع أن (¬4) بعض العصاة لا يعذب، إما بفضل الله، وإما بسبب توبته، وإما بسبب شفاعة شافع. ومنه أيضًا: قوله تعالى (¬5): {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬6)؛ لأن بعض من عمل خيرًا لا يرى خيرًا؛ إما بسبب ارتداده، وإما بسبب ظلمه فيؤخذ (¬7) ذلك الخير في ظلمه، وبعض من عمل شرًا أيضًا (¬8) قد لا يرى شرًا؛ لما تقدم من التوبة، والشفاعة، ¬
وفضل (¬1) الله - عز وجل -، لقوله تعالى: {وَيعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬2) (¬3). قوله: (قال: وفي المفهوم نظر، وإِن قلنا: إِنه حجة؛ لكونه أضعف من المنطوق (¬4)). ش: هذا [مخصص آخر وهو] (¬5) آخر المخصصات، وهو التخصيص بالمفهوم (¬6). معناه: قال الإمام فخر الدين (¬7): في جواز تخصيص العموم بالمفهوم نظر، ولو قلنا بأنه حجة. وإنما قال: في المفهوم نظر، إشارة إلى ضعف التخصيص به؛ لأن دلالة المفهوم ضعيفة؛ لأنها معنوية، ودلالة العام قوية؛ لأنها لفظية، وتخصيص الأقوى بالأضعف ممنوع (¬8). ¬
وقيل: لأنه يخصص؛ لأن في تخصيصه الجمع بين الدّليلين؛ إذ الجمع بين الدليلين، ولو (¬1) من وجه واحد، أولى من إعمال أحد الدليلين وإلغاء الآخر. قال سيف الدين الآمدي في المنتهى: لا نعرف خلافًا بين القائلين بالعموم في تخصيص العموم بالمفهوم: كان من مفهوم الموافقة (¬2)، أو من مفهوم المخالفة؛ لأن كل واحد منهما دليل شرعي، فأمكن أن يكون لخصوصه (¬3) تخصيص للعام. انتهى نصه (¬4). ونقل الشيرازي في اللمع القول الثالث: بالتفصيل بين مفهوم الموافقة فيخصص العموم، وبين مفهوم المخالفة فلا يخصص العموم، وهو قول العراقيين (¬5)؛ لأنهم أنكروا مفهوم المخالفة جملة. ¬
مثال مفهوم المخالفة: قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاةً شاةٌ (¬1) " (¬2). فهو (¬3) عام (¬4) للسائمة (¬5) والمعلوفة. ثم قال عليه السلام: "في الغنم السائمة الزكاة" مفهومه: عدم الزكاة في المعلوفة. فمن العلماء من قدم العموم على المفهوم فقال بوجوب الزكاة في المعلوفة؛ لأن دلالة المنطوق أولى (¬6) من دلالة المفهوم. ومنهم من قدم المفهوم على العموم؛ لأن المفهوم أخص من العموم؛ لأنه لم يتناول (¬7) إلا (¬8) المعلوفة، والعموم أعم (¬9)، والأخص يقدم على العموم، ¬
وهو قول الشافعي في خصوص مسألة الزكاة هذه (¬1). و (¬2) مثال مفهوم الموافقة: قول السيد لعبده: كل من دخل داري فاضربه، ثم قال له (¬3): إن دخلها زيد فلا تقل له: أف، فإنه يدل على تحريم ضرب زيد، وإخراجه من العموم نظرًا إلى مفهوم الموافقة. قوله: (لنا في سائر صور (¬4) النزاع أن ما يدعى أنه مخصص لا بد (¬5) أن يكون منافيًا وأخص من المخصص). ش: ذكر المؤلف ها هنا: أن المخصص للعموم يشترط فيه شرطان: أحدهما: أن يكون منافيًا للعموم، أي: مناقضًا له. والثاني: أن يكون المخصِّص - وهو: الخاص - أخص من المخصَّص، الذي هو العام. فلا بد في كل دليل يدعى أنه مخصص للعموم من هذين الشرطين: كونه مناقضًا للعموم بحيث يمتنع اجتماعهما وارتفاعهما، وكونه أيضًا أخص من العموم، وأما إن كان مساويًا للعموم مع مناقضته إياه فهو نسخ لا تخصيص. قوله: (فإِن أعملا أو ألغيا اجتمع النقيضان). ش: أي: فإن أعمل العام والخاص معًا في الصورة المخصوصة اجتمع ¬
النقيضان في الصورة المخصصة (¬1). قوله: (وإِن أعمل العام مطلقًا: بطلت جملة الخاص بخلاف العكس). ش: معناه: وإن أعمل العام في صورة التخصيص، وغيرها: بطلت جملة الخاص، بخلاف العكس؛ وهو: إعمال الخاص في صورة التخصيص فلا تبطل جملة العام؛ لأنه يعمل بالعام في الصورة الباقية بعد صورة التخصيص. قوله: (فيتعين وهو المطلوب). ش: أي: فيتعين العكس، وهو: إعمال الخاص، وإعمال الخاص هو: المطلوب من الدليل؛ إذ يلزم من إعماله الجمع بين الدليلين، ولا يلزم من إعماله خاصة الجمع بين النقيضين، كما في الوجهين الأولين؛ إذ الجمع بين الدليلين أولى من إعمال أحدهما وإلغاء الآخر. قوله: (لنا في سائر صور النزاع). استعمل المؤلف ها هنا سائر في الجميع، وهو خلاف المشهور، كما تقدم في أدوات العموم في قوله: قال القاضي عبد الوهاب: إن سائر ليست للعموم، فإن معناها: باقي الشيء لا جملته (¬2). ¬
قوله: (و (¬1) لا بد أن يكون منافيًا): معناه: مناقضًا للعام، كما إذا قال الشارع مثلًا: اقتلوا المشركين، ثم قال: لا تقتلوا أهل الذمة، فإن النفي والإثبات متناقضان، فإن العام يقتضي ثبوت القتل في أهل الذمة، والخاص يقتضي نفي القتل في أهل الذمة، والخاص أيضًا أخص من العام وليس بمساوٍ له، فقد وجد الشرطان. قوله: (و (¬2) لا بد أن يكون منافيًا)؛ احترازًا مما إذا كان مؤكدًا. ولأجل هذا قال المؤلف في الشرح (¬3)، وكذلك في القواعد السنية، في الفرق التاسع (¬4) والعشرين, في الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة: أكثر أرباب الفتاوى لا يفرقون بين النية المخصصة والنية (¬5) المؤكدة، فإذا قال لهم الحالف: حلفت (¬6): لا لبست ثوبًا، ونويت ثوب الكتان، قالوا له: لا تحنث بغير الكتان. وليس الأمر كما قالوا، بل لا بد في ذلك من التفصيل، وهو: أن (¬7) ها هنا أربعة أوجه: أحدها (¬8): أن ينوي جميع الثياب. ¬
والثاني: ألا ينوي (¬1) واحدًا منها. والثالث: أن ينوي بعض الثياب، ولم ينوِ إخراج غيره. والرابع: أن ينوي بعض الثياب، وينوي أيضًا إخراج غيره. فهذه أربعة أوجه. فإذا نوى جميع الثياب: فإنه يحنث بجميع الثياب باللفظ والنية (¬2)، إلا أن النية ها هنا مؤكدة، فإن اللفظ يستقل بالحنث في جميع الثياب. وأما إذا لم ينو أصلًا: فإنه يحنث أيضًا بجميع الثياب للفظ (¬3)؛ لأن اللفظ العام إذا أطلق من غير نية، ولا بساط (¬4)، ولا عادة تصرفه إلى الخصوص، فإن الحنث يلزم فيه جميع (¬5) أفراد ذلك العام. وأما إذا نوى بعض الثياب، ولم ينو إخراج غيره: فإنه يحنث بجميع الثياب، إلا أنه يحنث في البعض المنوي باللفظ والنية، فالنية ها هنا أيضًا مؤكدة لا مخصصة، ويحنث في غير المنوي بمجرد اللفظ؛ لأن اللفظ كافٍ في ثبوت حكمه من (¬6) غير احتياج إلى نية، كما إذا لم تكن له نية أصلًا لا في البعض ولا في الكل. وأما إذا نوى بعض الثياب، ونوى إخراج غيره: فلا يحنث إلا بالمحلوف ¬
عليه خاصة (¬1). فالواجب (¬2) على المفتي: ألا (¬3) يكتفي بمجرد قول المستفتي: نويت ثوب الكتان (¬4)، حتى يقول له: هل نويت إخراج غير الكتان، أو (¬5) لا؟ فإن قال له: نويت إخراج غيره: حنثه (¬6) بالكتان دون غيره، وإن قال له: لم أتعرض لإخراج غيره: حنث (¬7) بالجميع، أي: بالكتان وبغيره؛ لأنه إذا نوى الكتان مع إخراج غيره من يمينه فالنية (¬8) ها هنا مناقضة للعموم؛ لأن العموم يقتضي إدخال غير الكتان، والنية تقتضي إخراج غير الكتان، فالإدخال والإخراج متناقضان (¬9)، فالنية ها هنا مناقضة (¬10) للعموم. وإذا قال له المستفتي: لم أنوِ إلا الكتان، ولم أتعرض لإخراج غيره (¬11) من اليمين: فالنية ها هنا مؤكدة لحكم العموم في البعض المنوي، وأما غير المنوي: فإنه (¬12) باقٍ على حكم العموم فيحنث بالجميع، ¬
بالكتان، وبغيره (¬1)، إلا أن حنثه في الكتان (¬2) بشيئين: باللفظ، وبالنية المؤكدة، وحنثه (¬3) في غير الكتان هو: باللفظ دون النية. قال: فإن قيل: ما الفرق بين تقييد هذا الكلام بالنية وبين تقييده باللفظ، فإنه إذا قال: لا ألبس ثوبًا ونوى ثوب الكتان، هو بمنزلة ما إذا قال: لا ألبس ثوب الكتان، فإنهم اتفقوا على أنه: لا يحنث بغير الكتان في التقييد باللفظ بخلاف التقييد بالنية، ما الفرق بين التقيدين؟ فالفرق بينهما (¬4) من وجهين: أحدهما: أن المخصصات اللفظية المتصلة، كالشرط والصفة والغاية (¬5)، لا تستقل بنفسها، فجعلتها العرب مع ما قبلها كالكلمة الواحدة في مدلولها، حتى في الإقرار الذي هو أشد الأشياء، فإذا قال له: عندي الدراهم الزيوف، أو الدراهم الخفيفة (¬6) مثلًا فلا يلزم إلا بالموصوف بتلك الصفة، فإذا لم يلزمه غير ما قيد به في الإقرار فأولى وأحرى (¬7) في غير الإقرار، وأما النية فليس للعرب فيها هذا الموضوع. الجواب (¬8) الثاني: أن القيد "اللفظ": يدل بمفهومه على عدم دخول غير ¬
الكتان، فتكون هذه الدلالة معارضة لظاهر العموم فيخصص بها العموم بخلاف النية؛ إذ لا دلالة لها، فليس هنالك ما يعارض العموم (¬1) إذا نوى الكتان وذهل عن غيره، وإنما قلنا: لا دلالة للنية؛ لأنها من المعاني، والمعاني مدلولات (¬2) لا دالات، بخلاف اللفظ، فإنه يدل: إما بمطابقة، وإما بتضمن، وإما بالتزام، والفرق بين النية المخصصة، والنية المؤكدة من المباحث (¬3) العظيمة، فيجب على أرباب الفتاوى (¬4) التفطن إليه (¬5)، وبالله التوفيق بمنّه. ... ¬
الفصل الرابع فيما ليس من المخصصات للعموم
الفصل الرابع فيما ليس من المخصصات للعموم (¬1) ش: شرع المؤلف - رحمه الله - في هذا الفصل (¬2) في بيان ما يتوهم فيه أنه (¬3) مخصص للعموم، وليس بمخصص له عند الجمهور، ذكر المؤلف في هذا الفصل عشر مسائل. قوله: (وليس من المخصصات للعموم (¬4) سببه، بل يحمل عندنا على عمومه إِذا كان مستقلًا لعدم المنافاة خلافًا للشافعي (¬5)، والمزني - رضي الله ¬
عنهما - وإِن كان السبب يندرج (¬1) في العموم أولى من غيره، وعلى ذلك (¬2) أكثر أصحابنا، وعن مالك فيه روايتان). ش: هذه (¬3) أول المسائل العشر (¬4)، يعني: أن الخطاب العام إذا ورد على سببه (¬5)، هل يقتصر (¬6) به على ذلك السبب فلا يعم غيره، أو يعم ذلك السبب وغيره؟ قال المؤلف في الشرح: رأيت فيه ثلاثة مذاهب: ¬
يخص (¬1). ولا يخص (¬2). الفرق بين المستقل فيخص (¬3)، وبين غير المستقل فلا يخص (¬4). هذه (¬5) ثلاثة أقوال ذكرها في الشرح (¬6). واختلف الشراح فيما ذكره ها هنا في الأصل: هل هو وفاق (¬7) لما ذكره في ¬
الشرح أو هو خلافه (¬1)؟ قال (¬2) بعضهم: كلامه موافق (¬3)؛ وذلك أنه ذكر أول الكلام القول بالتفصيل بين المستقل، وغير المستقل، وذكر القولين آخر الكلام في قوله: وعن مالك فيه روايتان، فيعود (¬4) الضمير في قوله: فيه، على الخطاب العام، كان مستقلًا أو غير مستقل. ومنهم من قال: كلامه في الأصل خلاف (¬5) لكلامه في الشرح؛ وذلك أنه لم يذكر في الأصل إلا الخطاب المستقل دون غيره، وذكر فيه قولين، فيعود الضمير في قوله: (وعن مالك فيه) على الخطاب المستقل الذي قيد به الكلام، ولم يتكلم على غير المستقل. مثال المستقل: قوله عز وجل في قضية عويمر العجلاني (¬6) في اللعان: ¬
{وَالَذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنفُسُهُمْ} (¬1) الآية. [وكذلك] (¬2) قوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر بالمدينة تلقى فيها القاذورات، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غيّر لونه أو طعمه، أو ريحه" (¬3). ¬
ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام، وقد مر بشاة ميمونة (¬1) وقد ماتت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أيّما إهاب دبغ فقد طهر" (¬2). ¬
ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام لما سئل عن (¬1) ماء البحر، فقال: "الطهور ماؤه، الحل (¬2) ميتته". فهذا كله خطاب مستقل بنفسه عن سببه؛ لأنه إذا أفرد عن سببه يكون مفيدًا (¬3) لحكمه، ولا يحتاج أن يضم إلى سببه. ومثال غير المستقل: قوله عليه السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقالوا: نعم فقال: "فلا إِذًا" (¬4). ¬
[فقوله: فلا إِذًا هو خطاب غير مستقل بنفسه؛ لأنه يحتاج أن (¬1) يضم إلى الكلام الذي قبله فيكون تقدير الكلام] (¬2): لا يباع الرطب بالتمر؛ إذ ينقص إذا جف (¬3)؛ لأن (¬4) التنوين في إِذًا تنوين العوض من الجملة المحذوفة، كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ} (¬5) أي: يوم إذ زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها. ومثال غير المستقل أيضًا (¬6) كما لو سأله سائل فقال له (¬7): توضأت بماء البحر فقال له: يجزئك. واعلم أن غير المستقل على قسمين: أحدهما: أن يكون سببه عامًا. والآخر: أن يكون سببه خاصًا. ¬
فالذي يكون سببه عامًا كقضية بيع الرطب بالتمر المذكورة، فالخطاب فيه عام من غير خلاف لعموم سببه؛ إذ لا يختص السؤال بأحد، فكذلك جوابه يكون عامًا، وهو عدم جواز بيع الرطب بالتمر. والخطاب الذي يكون سببه خاصًا كما لو سأله سائل فقال له: توضأت بماء البحر فقال له: يجزئك فهذا موضع الخلاف هل يختص بسببه أو يعم الجميع؟ قوله: (لعدم (¬1) المنافاة). هذا حجة القول بالتعميم، ومعناه: إنما قلنا: يحمل على العموم؛ لعدم التناقض الذي هو شرط المخصص بين العموم والسبب؛ لأن الجمع بين حكم السبب، وحكم ما زاد عليه ممكن لا منافاة بينهما؛ و (¬2) لأن الحجة في كلام صاحب الشرع لا في السبب؛ لأن السبب (¬3) لو انفرد لم يوجب حكمًا. وأيضًا لو كان العام الوارد على سبب مخصوصًا بسببه لكان أكثر عمومات الشريعة مخصوصة بأسبابها؛ لأن كثيرًا من العمومات وردت على إلأسباب، فيلزم أن تكون آية اللعان مخصوصة بعويمر العجلاني، وتكون آية الظهار (¬4) مخصوصة بسلمة بن صخر (¬5)، ¬
وتكون آية السرقة مخصوصة بالرجل الذي سرق رداء صفوان (¬1) مثلًا، وذلك ¬
خلاف الإجماع. وحجة القول بالتخصيص: أن الكلام إنما سيق لأجل السبب فهو كالجواب لسببه، ومن شرط الجواب: أن يكون مطابقًا للسؤال فلا يزيد عليه فيخصص (¬1) العموم به (¬2). ¬
أجيب عن هذا: بأن الجواب إذا حصلت فيه زيادة، فإنها تعتبر ولا تقدح في الجواب كما سئل عليه السلام عن الوضوء بماء البحر فقال: "الطهور ماؤه الحل (¬1) ميتته". فزاد عليه السلام الميتة فحكمها ثابت مع (¬2) طهورية الماء، ولا تنافي في ذلك. قوله: (وإِن كان السبب [يندرج في العموم أولى من غيره). تقديره: بل يحمل عندنا على عمومه لعدم المنافاة، وإن كان السبب يندرج في العموم اندراجًا أولى من اندراج غيره في العموم] (¬3)؛ وذلك أن دلالة العام على موضع السؤال أقوى من دلالته على غير موضع السؤال. قوله: (على ذلك أكثر أصحابنا) الإشارة عائدة على العموم. قوله: (والضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4) هذا (¬5) عام، ثم قال: ¬
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (¬1) وهذا خاص بالرجعيات، نقله الباجي منا (¬2) خلافًا للشافعي والمزني). ش: هذه (¬3) مسألة ثانية، يعني: أن الضمير الخاص ببعض أفراد العام الذي قبله، هل يحكم به على تخصيص ذلك العام، أو يبقى العموم على عمومه ويرجع الضمير إلى من يصلح له؟ وفي ذلك ثلاثة أقوال: قيل: يخصصه (¬4). وقيل: لا يخصصه (¬5). ¬
وقيل: بالوقف (¬1). قوله: (نقله الباجي منا) أي: نقل الباجي منا (¬2) عدم تخصيصه (¬3). حجة القول بعدم تخصيصه: أن الأصل العموم، فلفظ المطلقات عام (¬4) للحرائر البائنات، والرجعيات. حجة القول بالتخصيص: أن الأصل مساواة الضمير للظاهر الذي يعود عليه، فلو أجري الظاهر على عمومه لزم مخالفة الضمير للظاهر الذي يعود عليه؛ لأن الضمير عائد على بعض ذلك الظاهر، وهو الرجعيات باتفاق، فإذا خصصنا الظاهر بالبعض الذي يعود عليه الضمير لم تقع المخالفة بين الضمير والظاهر. حجة القول بالوقف: تعارض المدارك؛ لأنه لو أجرينا المطلقات على عمومها لزم مخالفة ظاهر الضمير؛ إذ الظاهر في الضمير (¬5) إعادته على مجموع ما تقدم، ولو خصصنا المطلقات لزم أيضًا مخالفة ظاهرها؛ لأن ظاهر ¬
لفظ المطلقات: تعميمه للبائنات والرجعيات، فلا بد إِذًا من إحدى المخالفتين فوجب التوقف لذلك حتى يدل الدليل. قال بعضهم: ترجم المؤلف ها هنا هذه المسألة: بالضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره، وترجمها أولًا: بالعطف (¬1) على العام لا يقتضي العموم، وهما مسألة واحدة قال: عبارته ها هنا أولى من عبارته الأولى؛ لأن العطف لا تأثير له في العموم، ولا في الخصوص. وقال بعضهم: هما (¬2) مسألتان: إحداهما: أنه لا يحكم بعموم الأول على عموم الثاني، وإليه أشار أولًا بقوله: (والعطف على العام لا يقتضي العموم) أي: لا يقتضي العموم في الثاني. المسألة (¬3) الثانية: أنه (¬4) لا يحكم بخصوص الثاني على خصوص الأول، وإليه أشار بقوله ها هنا: (والضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره). قال الباجي في الفصول: قد يرد أول اللفظ عامًا، وآخره خاصًا، وقد يرد أوله خاصًا، وآخره عامًا، ويحمل كل واحد منهما على ما يقتضيه لفظه من خصوص أو عموم (¬5). ¬
قوله: (ومذهب الراوي لا (¬1) يخصص عند مالك والشافعي (¬2)، خلافًا لبعض أصحابنا، وبعض أصحاب (¬3) الشافعي (¬4)). ش: هذه مسألة ثالثة، يعني: أن الصحابي (¬5) إذا روى خبرًا عامًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رئي ذلك الصحابي خالف ما رواه، هل يكون مذهبه مخصصًا للعام الذي رواه أو لا؟ مذهب الجمهور: أنه لا يخصصه (¬6). وقيل: يخصصه (¬7). ¬
مثاله: ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - (¬1) عن النبي عليه السلام قال: "من بدّل دينه فاقتلوه" (¬2). ومذهب ابن عباس: تخصيصه بالرجال (¬3). ومثاله أيضًا (¬4): ما رواه ابن عمر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام (¬5) أنه (¬6) قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬7). ¬
ومذهب ابن عمر: تخصيص التفرق بالتفرق (¬1) بالأبدان دون التفرق بالأقوال. حجة القول بعدم التخصيص: أن عموم الخبر حجة؛ إذ الحجة في كلام صاحب الشرع، والراوي يحتمل أنه تركه لاجتهاد منه، واجتهاده ليس بحجة على غيره؛ لاحتمال الخطأ؛ إذ الاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، والأصل بقاء العموم على عمومه. وحجة القول بالتخصيص: أن عدالة الصحابي تمنعه من ترك العموم إلا لمستند (¬2) من قرائن حالية اطلع عليها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تدل على أنه عليه السلام أطلق العام لإرادة الخاص. قال المؤلف في الشرح: هذا الراوي المراد به (¬3) الصحابي؛ لأنه هو الذي يمكن فيه أنه شاهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على صرف العموم إلى ¬
الخصوص، لمشاهدته لصاحب الشرع، وأما غير الصحابي كمالك، وغيره ممن لم يشاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتأتى (¬1) ذلك منه، فإن اجتهاده لا يكون حجة على غيره بإجماع (¬2). قوله: [(ومذهب الراوي لا يخصص ...) إلى آخره] (¬3). وذكر المؤلف في هذه المسألة في باب الخبر، في (¬4) الفصل الثامن منه أربعة أقوال [وذلك قوله هنالك: ولا يكون (¬5) مذهبه على خلاف روايته، وهو مذهب أكثر أصحابنا، وفيه أربعة مذاهب: قال الحنفي: إن خصصه رجع إلى مذهب الراوي؛ لأنه أعلم. وقال الكرخي: ظاهر الخبر أولى. وقال الشافعي: إن خالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث، وإن كان أحد الاحتمالين رجع إليه. وقال القاضي عبد الجبار: إن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك، وإلا وجب النظر في ذلك (¬6)، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: (خلافًا لبعض أصحابنا ...) إلى آخره، يحتمل أن يكون معناه: ¬
خلافًا لبعض أصحابنا القائلين بالتخصيص مطلقًا، والقائلين (¬1) بالتفصيل] (¬2). قوله: (وذكر بعض العموم لا يخصصه (¬3) خلافًا لأبي ثور). ش: هذه (¬4) مسألة رابعة (¬5)، يعني: أن الخاص إذا وافق (¬6) حكمه (¬7) حكم العام فلا يخصصه عند الجمهور. خلافًا لأبي ثور (¬8) من أصحاب الشافعي القائل: بالتخصيص (¬9). ¬
حجة الجمهور القائلين بعدم التخصيص (¬1): أن الأصل في الدليل الإعمال لا الإبطال؛ إذ لا تعارض بين الدليلين لإمكان تنزيل كل واحد منهما على مدلوله (¬2) لغة، فيجب العمل بهما معًا. حجة أبي ثور: أن تخصيص بعض العام بالذكر يدل على (¬3) نفي ذلك الحكم عن (¬4) غير ذلك الفرد (¬5)، وإلا (¬6) فما فائدة تخصيصه بذكره دون غيره؟ أجيب عنه: بأن فائدة تخصيصه بذكره (¬7) دون غيره: إبعاد له عن المجاز والتخصيص بذلك النوع. قال المؤلف في الشرح: وعادة العرب أنها إذا اهتمت (¬8) ببعض أنواع العام خصصته بالذكر؛ إبعادًا له عن المجاز, والتخصيص بذلك النوع. ومثال ذلك: قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬9) فإن الصلاة الوسطى بعض أفراد الصلوات (¬10). ومثله (¬11) أيضًا: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي ¬
الْقُرْبَى} (¬1)، فإن إيتاء ذي القربى بعض أنواع الإحسان. وكذلك (¬2) قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (¬3) كان البغي (¬4) بعض أنواع المنكر، فإنما ذكر (¬5) مع اندراجه في المنكر؛ لأنه أقبح المنكر، وأهم أنواعه. ومثاله (¬6) أيضًا: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬7) فجبريل وميكائيل بعض أنواع الملائكة. قال المؤلف في الشرح: وكثير من العلماء يمثلون هذا الباب بقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬8). وليس منه؛ لأن لفظ فاكهة مطلق لا عموم فيه، فلا يتناول النخل، والرمان بخلاف المثل السابقة فإنها تعم ما ذكر بعدها (¬9). ¬
[ومثاله أيضًا (¬1): قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة وَالدَّمُ} (¬2) ثم قال (¬3): {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬4)] (¬5). ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" ثم ورد: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وتربتها (¬6) طهورًا". قال أبو ثور: لا يتيمم إلا بالتراب فهو مخصوص. وقال مالك: بل يتيمم بالتراب وغيره من أنواع الأرض، فلا يخصص. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "نهيت عن بيع ما لم يضمن" (¬7)، ثم قال عليه السلام: "نهيت عن بيع الطعام قبل قبضه". فإن بيع الطعام قبل قبضه بعض أنواع ما لم يضمن؛ لأن ما لم يضمن أعم ¬
من الطعام وغيره من سائر السلع، فالجاري على القاعدة المذكورة: منع بيع الطعام وغيره من السلع قبل القبض، وهو مذهب الشافعي. ولكن خصص مالك - رضي الله عنه - (¬1) هذا العموم بالطعام (¬2)، وإنما خصصه بذلك؛ لأجل عمل أهل المدينة، فلا يحرم عند مالك إلا الطعام. قال المؤلف في الشرح: "قال جماعة من المالكية: هذا من باب حمل المطلق على المقيد، قال المؤلف: وهذا غلط، بل هذا تخصيص العام بذكر بعض أنواعه (¬3)، ولكن الصحيح: أن ذكر بعض أفراد العموم لا يخصصه، فهذا المثال من باب العموم والخصوص، وليس من باب المطلق والمقيد، فإن معنى المطلق والمقيد: أن يكون (¬4) المطلق (¬5) ماهية كلية فيذكر معها، أو بعدها قيد، نحو: رقبة في آية (¬6)، وفي آية أخرى رقبة مؤمنة (¬7)، فهذا هو المطلق ¬
والمقيد، [الذي يحمل فيه المطلق على المقيد؛ لأن التقييد زاد على الثابت أولًا مدلول القيد، أنها إذا كان اللفظ عامًا فالقيد] (¬1) يكون منقصًا إن أخرجنا ما عدا محل القيد، وأما في المطلق فلا يكون القيد منقصًا". قال المؤلف في الشرح: وهذا فرق عظيم ينبغي أن تلاحظه، فهو نفيس (¬2) في الأصول والفروع (¬3). قوله: (وكونه مخاطبًا لا يخصص العام إِن كان خبرًا، وإِن (¬4) كان أمرًا جعل جزاء، قال الإمام: يشبه أن يكون مخصصًا). ش: هذه مسألة خامسة، والمراد بالمخاطب ها هنا هو: المتكلم، وهو المخاطِب بكسر الطاء، وهو: فاعل الخطاب، فذكر المؤلف ها هنا الفرق بين الخبر والأمر، فيخصص في الأمر، ولا يخصص في الخبر، بل يندرج في خطابه. مثال الخبر: من دخل داري فهو سارق السلعة، فإذا قلنا باندراجه في عموم خطابه، فهو مقر على نفسه بأنه سارق السلعة. وكذلك قوله لامرأته: من كلمك فأنت طالق، فإذا قلنا باندراجه في عموم خطابه، فإنها تطلق عليه إذا كلمها هو. وكذلك قوله: من دخل داري فامرأته طالق، فإذا قلنا باندراجه في عموم ¬
خطابه فتطلق (¬1) عليه امرأته إذا دخل داره. وكذلك قوله (¬2): من دخل داري فعبده حر، فإذا قلنا باندراجه في عموم خطابه فعبده (¬3) حر إذا دخل داره، وأما امرأة غيره، أو عبد غيره، فلا تصرف له في ذلك؛ إذ ليس له (¬4) طلاق امرأة غيره، ولا عتاق (¬5) عبد غيره. ومثال الأمر: قول السيد لعبده: من دخل داري فأعطه درهمًا. وفي معنى الأمر: النهي، كقول السيد لعبده: من دخل داري فلا تطعمه. فذكر المؤلف أن المتكلم مندرج في خطابه إن كان خبرًا، ولا يندرج في خطابه إن كان أمرًا، وإنما يجعل الأمر جوابًا للشرط (¬6) ولا يندرج فيه المتكلم؛ لأن كونه أمرًا قرينة تخصصه (¬7). والدليل على اندراجه في الخبر دون الأمر، وهو مذهب الباجي: قال الباجي: لأن الأمر استدعاء للفعل، فلا يدخل المستدعي فيه، ولأن الإنسان أيضًا لا يأمر نفسه، ولا يأمر لنفسه بدرهم من ماله؛ لأنه لا يتوجه عليه اللوم إذا لم يفعل ذلك (¬8). ¬
قوله: (وكونه مخاطبًا لا يخصص العام إِن كان خبرًا، وإِن كان أمرًا جعل جزاء (¬1)). هذه المسألة تكرار لقوله أولًا في الفصل الثاني: (وكذلك يندرج المخاطب عندنا في العموم الذي يتناوله) (¬2)؛ إذ هما مسألة [واحدة] (¬3)، وكلامه ها هنا أيضًا [مناقض لكلامه أولًا، فإن كلامه أولًا يقتضي أن لا فرق بين الخبر، والأمر، وكلامه ها هنا] (¬4) يقتضي الفرق بين الخبر والأمر، فيحتمل: أن يتكلم أولًا على القول بعدم التفصيل بين الخبر والأمر، وتكلم ها هنا على قول الباجي بالتفصيل بين الخبر، والأمر. قوله: (وكونه مخاطبًا لا يخصص العام). تكلم المؤلف على حكم المخاطب بكسر الطاء، وتكلم في الشرح على المخاطَب بفتح الطاء فذكر فيه الخلاف، ثم قال: والصحيح: أنه مندرج في العموم؛ لأنه متناول (¬5) له لغة، والأصل عدم التخصيص. مثاله: قول المرأة لوليها: زوجني ممن شئت، فهل له أن يزوجها (¬6) لنفسه؛ لاندراجه في العموم [أم لا؟ وكذلك: بع (¬7) سلعتي ممن شئت، ¬
أو ممن رأيت، فهل له شراؤها (¬1) لنفسه] (¬2)، أم لا؟ فيه (¬3) خلاف بين العلماء (¬4). قال المؤلف في الشرح: والصحيح اندراجه في العموم؛ لأنه متناول له لغة، والأصل عدم التخصيص (¬5). قوله: (وذكر (¬6) العام في معرض المدح أو الذم (¬7) لا يخصص، خلافًا لبعض الفقهاء). ش: هذه مسألة سادسة، ومعناها: أن الله تعالى إذا ذكر فاعل المحرَّم، ثم قال بعده: والله لا يحب الظالمين (¬8)، أو ذكر فاعل المأمور به، ثم قال بعد ذكره: والله يحب المحسنين، فهل يعم ذلك اللفظ كل ظالم، وكل محسن، أو يختص (¬9) ذلك بمن تقدم قبل ذكر العام (¬10)؟ مثال العام المذكور في معرض المدح، أي: في سياق المدح، قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬11): الَذِين يُنفِقُون فِي السَّرَّاءِ وَالضرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ¬
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). مذهب الجمهور: أنه يعم كل محسن، لا فرق بين المذكورين قبله وغيرهم (¬2). ومثال العام المذكور في معرض الذم: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬3). مذهب الجمهور: أنه يعم (¬4) كل ظالم، لا فرق بين المذكورين من قوم عيسى (¬5) عليه السلام قبله، وغيرهم (¬6) (¬7). ¬
حجة القول بالتعميم: أن اللفظ عام، ولا ضرورة تلجئ إلى تخصيصه بمن تقدم، فإن حكم الجميع ثابت بالعموم، والأصل عدم التخصيص، فيبقى اللفظ على حاله (¬1). حجة التخصيص بمن تقدم: أن ذكرالعام بعده يجري مجرى الجواب عنه، وشأن الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال (¬2) من غير زيادة، ولا نقصان، كأن (¬3) يقول (¬4). والله يحب المحسنين الذين تقدم ذكرهم، والله لا يحب الظالمين الذين تقدم ذكرهم (¬5). قال المؤلف في الشرح: تنبيه: قال الشيخ الإمام عز الدين بن (¬6) عبد السلام: ليس من هذا الباب العام المرتب (¬7) على شرط تقدم، بل يختص اتفاقًا كقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (¬8)، فإن الشرط المتقدم، هو صلاح المخاطبين، وصلاحهم لا يكون سببًا في مغفرة من تقدم من الأمم قبلهم، ويأتي (¬9) بعدهم، فإن قاعدة اللغة وقاعدة الشرع تأبى ذلك؛ ¬
أما قاعدة اللغة: فإن شرط الجزاء لا يرتب جزاؤه على غيره. وأما قاعدة الشرع، فإن سعي كل إنسان لا يتعداه لغفران (¬1) غيره، إلا أن يكون له فيه وجه (¬2) سبب، ولا سبب ها هنا، فلا يتعدى، كما في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى} (¬3) فيتعين أن يكون المراد بالآية المذكورة: أنه كان للأوابين منكم غفورًا (¬4). قوله: (وعطف الخاص على (¬5) العام لا يقتضي تخصيصه خلافًا للحنفية، كقوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬6) فإِن الثاني خاص بالحربي، فيكون الأول كذلك عندهم). ¬
ش: هذه مسألة سابعة (¬1)، وهي: أن (¬2) المعطوف إذا كان مخصوصًا، هل يوجب تخصيصه تخصيص المعطوف عليه أم لا؟ قالت (¬3) المالكية، والشافعية: لا يوجب تخصيص المعطوف تخصيص المعطوف عليه. وقالت الحنفية: يوجب التخصيصُ (¬4) التخصيصَ (¬5). قوله (¬6): (كقوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" فإِن الثاني خاص بالحربي، فيكون الأول كذلك عندهم). وبيان عطف الخاص على العام في هذا الحديث: أن قوله عليه السلام في أول الحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر": أن هذا الكافر عام، ويندرج (¬7) فيه الحربي والذمي. ¬
وقوله عليه السلام آخر (¬1) الحديث: "ولا ذو عهد في عهده" معناه: ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي، أي: لا يقتل المعاهد بالحربي؛ لأن الذي (¬2) لا يقتل به المعاهد هو الحربي خاصة باتفاق، وأما الذمي فيقتل به المعاهد، فمحل النزاع ها هنا هو الذمي، هل يقتل به المسلم أو لا (¬3) يقتل به؟ قالت المالكية والشافعية: لا يقتل المسلم بالذمي. وقالت الحنفية: يقتل به (¬4). واستدلت المالكية، والشافعية: بأول الحديث، وهو قوله عليه السلام: "لا يقتل مؤمن بكافر". قالوا: هذا عام للكافر، سواء كان حربيًا، أو ذميًا؛ لأن هذا الكلام عام لكونه نكرة في سياق النفي. واستدل الحنفية بآخر الحديث، وهو قوله عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده"؛ لأن الذي لا يقتل به المعاهد هو الحربي. وأما الذمي فيقتل به المعاهد اتفاقًا بين المالكية، والشافعية، والحنفية، واتفقوا كلهم على أن المعاهد يقتل بالذمي، فقوله: "ولا ذو عهد في عهده" مخصوص بالحربي دون الذمي باتفاق، فإذا كان المراد بالكافر المشار إليه آخر الحديث الكافر الحربي، فيجب أيضًا أن يكون الكافر المذكور أول الحديث ¬
الكافر الحربي أيضًا. فيكون التقدير على مذهب الحنفية: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي أيضًا، فيكون المراد بالكافر أول الحديث هو: الكافر المذكور في المعنى آخر الحديث؛ إذ القاعدة التساوي بين المعطوف، والمعطوف عليه في الحكم. وقالت الحنفية: أول الحديث لكم و (¬1) آخره عليكم، فلو كان أول الحديث يتناول الذمي لكان آخره يتناوله أيضًا (¬2)، فيقتضي آخره: أن المعاهد لا يقتل بالذمي [وذلك خلاف الإجماع؛ لأن المعاهد يقتل بالذمي إجماعًا؛ لأن القاعدة أن الأدنى يقتل بالأعلى] (¬3)؛ وذلك أن الذمي أعلى (¬4) من المعاهد؛ لأن عقد الذمي (¬5) يدوم للذرية، بخلاف المعاهدة فإنها لا (¬6) تدوم، وما يدوم هو أعلى مما لا يدوم، واتفقوا كلهم على أن الأدنى يقتل بالأعلى. وإنما الخلاف بينهم، وبين الحنفية: هل يقتل الأعلى بالأدنى كالمسلم يقتل الذمي؟ قالت المالكية والشافعية: لا يقتل به؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقالت الحنفية: يقتل به، استدلالًا منهم بتخصيص أول هذا الحديث بتخصيص آخره. ¬
قوله: ("ولا ذو عهد في عهده") أي: لا يقتل ذو عهد في زمان عهده، أي: في زمان أمانه، تقدير الحديث عند المالكية، والشافعية: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، أو ذمي، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي، وتقدير الحديث عند الحنفية: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي. قوله: (فإِن الثاني خاص بالحربي) معناه: فإن الكافر الثاني الذي لا يقتل به المعاهد خاص (¬1) بالحربي. (فإِن الثاني) أراد بالثاني: الكافر، وإن (¬2) لم يتقدم ذكره في اللفظ، فإنه (¬3) مقدر في المعنى؛ لأن قوله (¬4) عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده" معناه: لا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، وهو من باب حذف الأواخر لدلالة الأوائل (¬5). واتفقوا على تخصيص هذا الكافر المقدر في آخر الحديث بالحربي، فيكون الكافر الأول في (¬6) الحديث كذلك عندهم، أي عند الحنفية، لأجل ¬
قاعدة التسوية بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم (¬1)، كما تقدم. وذكر المؤلف في الشرح: أن الجواب عن هذا من (¬2) أربعة أوجه: أحدها: أن الواو لا نسلم أنها (¬3) للعطف (¬4)، وإنما هي للاستئناف فلا يلزم التشريك لعدم العطف. الثاني: سلمنا العطف، لكن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم خاصة، دون توابعه، فإنك إذا قلت: مررت بزيد قائمًا، وعمرو، فلا يلزم أن تكون مررت بعمرو أيضًا قائمًا، بل أصل المرور فقط، كذلك جميع التوابع من المتعلقات وغيرها، فيقتضي العطف ها هنا: أنه لا (¬5) يقتل ذو عهد، أما تعيين من يقتل به فلا؛ لأن الذي يقتل به من توابع الحكم. الثالث: لا نسلم أن قوله عليه السلام: "ولا ذو عهد في عهده" معناه: لا يقتل (¬6) ذو عهد في عهده بكافر حربي، بل معناه: التنبيه على السببية، فتكون "في" (¬7) في قوله: "ولا ذو عهد فى عهده" للسببية، كقوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة (¬8) من الإبل"، أي: تجب مائة من الإبل بسبب قتل النفس ¬
المؤمنة، كما تقدم في الباب الثاني من معاني الحروف (¬1)، فقوله عليه السلام على هذا: "ولا ذو عهد في عهده" معناه: لا يقتل ذو عهد بسبب معاهدته، فيفيد (¬2) الكلام: أن المعاهدة [سبب يوجب العصمة، وليس المراد أنه يقتص منه، ولا غير ذلك. الجواب الرابع: التنبيه على أن عقد المعاهدة] (¬3) لا يدوم (¬4) كما يدوم عقد الذمة، فبين عليه السلام أن أثر العهد إنما هو في ذلك الزمان خاصة، لا يتعداه لما بعده (¬5)، فتكون (¬6) "في" على هذا للظرفية (¬7)، وهو المعنى الغالب عليها (¬8). قوله: (وعطف الخاص على العام). انظر: هل هو تكرار لقوله أولًا: "والضمير الخاص لا يخص عموم ظاهره؟ " ليس بتكرار؛ لأن الأولى خاصة بالضمير، وهذا أعم (¬9). قوله: (وتعقُّب (¬10) العام باستثناء، أو صفة، أو حكم لا يتأتى (¬11) إِلا في ¬
البعض لا يخصصه عند القاضي عبد الجبار، وقيل: يخصصه، وقيل بالوقف، واختاره الإمام، فالاستثناء: كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) إلى قوله: {إلا أَنْ يَعْفُونَ} (¬2) فإِنه خاص بالرشيدات (¬3). والصفة (¬4) كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} إلى قوله {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬5) أي: الرغبة في الرجعة. والحكم كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬6) إلى قوله (¬7): {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فإِنه خاص بالرجعيات، فتبقى (¬8) العمومات على (¬9) عمومها، وتختص هذه الأمور بمن تصلح (¬10) له) (¬11). ¬
ش: هذه مسألة ثامنة، وتاسعة، وعاشرة، جمع المؤلف بينها في هذا الكلام بحكم واحد، وهو (¬1) تعقب العام باستثناء، أو تعقبه بصفة، أو تعقبه بحكم (¬2). ومعنى كلام المؤلف في هذه المسائل الثلاث: أن العام إذا تعقبه استثناء، أو صفة، أو حكم، لا يتأتى ذلك، أي: لا يمكن ذلك الاستثناء [أو الصفة، أو الحكم إلا في بعض الأفراد التي تناولها ذلك العام، هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض، أم لا؟ ذكر المؤلف فيه ثلاثة أقوال: ثالثها (¬3) الوقف. وقد مثل المؤلف كل واحدة من هذه المسائل الثلاث] (¬4). وبيان الاستثناء في الآية الأولى: أن العفو المنسوب إلى النساء لا يتأتى، أي: لا يصح إلا من الرشيدات؛ لأنهن هن المالكات لأمورهن دون السفيهة، والصغيرة (¬5)، والمجنونة. وبيان الصفة في الآية الثانية: أن الرغبة في الرجعة لا تأتي، ولا ¬
تصح إلا في الرجعيات دون البائنات. وبيان الحكم في الآية الثالثة: أن الأحقية في الرد لا تأتي (¬1)، أي: لا تصح إلا (¬2) في الرجعيات دون البائنات. انظر تفريق المؤلف بين الصفة والحكم، فجعلهما شيئين، وهَلَّا يجعلهما شيئًا واحدًا؟ فاعلم أن الفرق بين الصفة والحكم: أن الرغبة في الرجعة أمر حقيقي، وهي: حالة من أحوال النفوس، فهو: وصف حقيقي ثابت في النفس، وإن لم يرد شرع، وأما كون الزوج أحق بالرجعة دون الأجنبي، فهو أمر راجع إلى الإباحة في حق الزوج، وإلى التحريم في حق غيره، وهذه (¬3) أحكام شرعية، والحكم الشرعي قائم بذات الله تعالى، والصفة قائمة بأنفس الخلق؛ فلأجل ذلك اختلف المثال، قاله المؤلف في الشرح (¬4). حجة القول المشهور بعدم التخصيص: ما ذكره المؤلف، وهو قوله: (لنا في سائر صور النزاع) أي: في جميع المسائل العشر المذكورة في هذا الفصل: إن الأصل: بقاء العموم على عمومه، فمهما أمكن ذلك لا يعدل عنه تغليبًا للأصل، وبيان ذلك: أن العموم ثابت، والأصل عدم التخصيص، فيجب التمسك بهذا الأصل، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك الأصل. وحجة القول بالتخصيص: أن الأصل الاتحاد (¬5) في الضمائر، وفي جميع ¬
ما يعود عليه الحكم المتأخر، أي شيء كان، ولا يحصل الاتحاد إلا إذا اعتقدنا أن المراد بالسابق ما يحصل لذلك الحكم اللاحق، ومتى كان ذلك لزم التخصيص جزمًا (¬1) وحجة الوقف: تعارض الأدلة. ... ¬
الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه
الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه ش: معنى (¬1) هذا الفصل في بيان القدر الذى يقع انتهاء التخصيص إليه في جميع ألفاظ العموم (¬2). قوله: (و (¬3) يجوز عندنا إِلى الواحد (¬4)، هذا إِطلاق القاضي عبد الوهاب). ش: وكذلك (¬5) الباجي، [وقال الباجي] (¬6): وإليه ذهب (¬7) أكثر الناس (¬8). ¬
حجة هذا القول بجواز التخصيص إلى الواحد: أن الجمع يطلق ويراد به الواحد، كما في قوله (¬1): {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (¬2)، قيل: الجامع (¬3) هو أبو سفيان، وهو المراد بالناس (¬4). الثاني: وكذلك المراد بالناس في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬5). قيل: المراد بالناس المحسودين هو: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، فإذا صح إطلاق لفظ (¬7) العموم على الواحد: صح التخصيص إلى الواحد. ¬
قوله: (وأما الإمام فحكى إِجماع أهل (¬1) السنة على ذلك في "من" و"ما" ونحوهما (¬2)). ش: المراد بنحو "من" و"ما": كل ما له حالتان: حالة من جهة اللفظ، وحالة من جهة المعنى؛ لأن لفظ "من" و"ما" مفرد مذكر، و (¬3) معناهما: جمع، والمراد بنحوهما (¬4): كاللفظ المفرد المعرف باللام كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعْوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5)، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} (¬6) ومن ذلك: الذي والتي، ونحو ذلك مما له (¬7) لفظ مفرد ومعناه جمع، [قاله الباجي. وإنما قال الإمام: يجوز التخصيص إلى الواحد في "من" و"ما" ونحوهما؛ لأن لفظه مفرد ومعناه جمع] (¬8)، تارة يعتبر لفظه، وتارة يعتبر معناه، وتارة يعتبر لفظه ومعناه معًا. فمثال اعتبار اللفظ: قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) ¬
وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} (¬2). وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} (¬3). وقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّنَّ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬5). ومثال اعتبار المعنى [قوله تعالى] (¬6): {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬7) وقوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِيِنِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} (¬8). ومنه قول الشاعر: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من - يا ذئب - يصطحبان (¬9) ¬
مثال اعتبارهما معًا: قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ فِإِنَّ لَة نَارَ جَهنَّمَ خَالِدِينَ فِيْهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} (¬1) فأفرد الضمير وجمع الحال. حجة التخصيص في "من" [و"ما"] (¬2) ونحوهما: لأنه يجوز إطلاقهما على الواحد بإعتبار اللفظ. قوله: (قال: وقال القفال: يجب (¬3) إِبقاء أقل الجمع في الجموع المعرّفة). ش: هذا قول ثانٍ، ومعناه: أن أبا بكر القفال قال بالتفصيل بين (¬4) الجموع المعرفة: كالرجال، والمسلمين، والمشركين، فيجب إبقاء أقل الجمع منها (¬5) وهو ثلاثة، وأما غير الجموع المعرفة من سائر صيغ العموم فيجوز التخصيص فيها إلى الواحد (¬6). ¬
حجة القفال: أن صيغ الجمع يصح الجمع إطلاقها حقيقة على أقل الجمع، والمحافظة على أقل الجمع تمنع من إرادة الواحد والتخصيص إليه، بخلاف "من" و"ما" وغيرهما، مما هو في اللفظ مفرد، فيجوز تخصيصه إلى الواحد؛ لأنه يطلق على الواحد. قوله: (وقيل: يجوز إِلى الواحد فيها). ش: هذا تكرار؛ لأنه قول القاضي عبد الوهاب الذي (¬1) ذكره المؤلف أولًا. قوله: (وقال أبو الحسين (¬2): لا بد من الكثرة (¬3) في الكل (¬4)، إلا إِذا استعمله الواحد المعظم نفسه (¬5)). ش: هذا قول ثالث، وهو قول أبي الحسين البصري (¬6). قال الآمدي في المنتهى: وإليه مال إمام الحرمين، وهو مذهب أكثر أصحابنا، وهو أنه لا بد من إبقاء جمع يقرب من مدلول اللفظ وإن لم يكن محدودًا، وهو أن يكون الباقي أكثر من النصف. ¬
حجة أبي الحسين: أن من قال: أكلت كل رمانة في البيت، وكان في البيت ألف رمانة مثلًا، وقد أكل ثلاثًا ونحوها، فإن أهل اللغة يستقبحون (¬1) كلامه [ويعدونه (¬2) لاغيًا، وكذلك إذا قال: قتلت (¬3) كل من في المدينة، وقد قتل ثلاثة ونحوها، فإن أهل اللغة يستقبحون (¬4) كلامه] (¬5)، فحينئذٍ لا بد من كثرة يحسن (¬6) العموم لأجلها، وإلا امتنع (¬7). قال المؤلف في الشرح: وقد نص إمام الحرمين وغيره على استقباح تخصيص الحنفية، قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬8) بالمكاتبة والأمة، وأن هذا التخصيص في غاية البعد (¬9)، ولا ¬
البعد (¬1)، ولا يجوز لغة، مع أن أنواع (¬2) المكاتبة والأمة، أفراده غير متناهية، فكيف إذا لم يبق إلا فرد واحد؟! كان أشد في القبح. وأما الواحد المعظم نفسه: فهو في معنى الجمع العظيم (¬3) , كقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬4)، فقد وزن أبو بكر بالأمة فرجح بها، ووزن (¬5) عمر بالأمة فرجح بها - رضي الله عنه - (¬6)، فكيف بالأنبياء عليهم السلام؟! فكيف بسيد (¬7) المرسلين محمّد - صلى الله عليه وسلم - (¬8)؟! قال المسطاسي: ليس في كلام المؤلف إلا ثلاثة أقوال: يجوز إلى الواحد في الكل. لا بد من الكثرة في الكل. الفرق بين الجموع المعرفة وغيرها. ¬
وهناك قول رابع: أنه يجوز إلى الاثنين، ولا يجوز إلى الواحد (¬1). ... ¬
الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص
الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص (¬1) ش: ذكر المؤلف في هذا الفصل ثلاث (¬2) مسائل: الأولى: دلالة العام على الباقي بعد (¬3) التخصيص، هل هي بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز؟ المسألة الثانية (¬4): إذا قلنا: إنه مجاز، هل هو مبين فيصح الاحتجاج به، أو هو مجمل فلا يصح الاحتجاج به؟ المسألة الثالثة: جواز القياس على الصورة المخصوصة إذا علمت. قوله: (لنا وللشافعية، والحنفية، في كونه بعد التخصيص حقيقة أو مجاز قولان، واختار الإمام وأبو الحسين التفصيل بين تخصيصه ¬
بقرينة (¬1) عقلية أو سمعية، فيكون مجازًا، أو (¬2) تخصيصة بالمتصل كالشرط، والاستثناء، والصفة، فيكون حقيقة). ش: ذكر المؤلف في هذه المسألة ثلاثة أقوال (¬3): قولان متقابلان: أحدهما: حقيقة مطلقًا. والثاني: مجاز مطلقًا (¬4). ¬
والثالث: التفصيل بين تخصيصه بالمنفصل (¬1) وبين تخصصه بالمتصل، وهو الذي اختار (¬2) الإمام وأبو الحسين (¬3)، كما قاله المؤلف. مثال تخصيصه بالمنفصل العقلي: قوله تعالى مثلًا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬4). فإن العقل خص (¬5) منه العاجز عن قتال المشركين. ومثال تخصيصه بالمنفصل السمعي: قوله تعالى أيضًا: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. فإن الدليل السمعي المنفصل خصصه (¬6)، وهو قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان". ومثال تخصيصه بالمتصل، الذي هو شرط: اقتلوا المشركين إن حاربوا. ومثال تخصيصه بالمتصل، الذي هو الاستثناء: اقتلوا المشركين إلا أن يسلموا. ¬
ومثال تخصيصه بالمتصل، الذي هو الصفة: اقتلوا المشركين المحاربين. حجة القول بأنه حقيقة مطلقًا: أن تناول اللفظ للباقي قبل التخصيص كان (¬1) حقيقة، فيبقى تناوله له بعد التخصيص حقيقة؛ عملًا بالاستصحاب. حجة القول بأنه مجاز مطلقًا: أن اللفظ إنما وضع حقيقة للعموم، ولم يستعمل فيه، فقد استعمل في بعض الأفراد دون البعض، فقد استعمل في غير ما وضع له فيكون مجازًا؛ لأنه وضع للعموم، ثم استعمل في الخصوص (¬2). حجة القول بالتفصيل: أن الدليل المتصل كالشرط، والاستثناء، والصفة، لا يستقل بنفسه، فلا بد أن ينضم (¬3) إلى ما قبله، فيكون كاللفظ الواحد، فلا يثبت الحكم (¬4) إلا بمجموعهما، فيكون المجموع حقيقة فيما بقي بعد التخصيص، حتى قال القاضي أبو بكر وجماعة: إن الثمانية له عبارتان: ثمانية، وعشرة إلا اثنين. وقالت الحنفية أيضًا: الاستثناء تكلُّم بالباقي بعد الثُّنيا (¬5)، ومرادهم ما ذكرناه. وأما المخصص المنفصل: كنهيه عليه السلام عن قتل النساء والصبيان، ¬
بعد الأمر بقتال المشركين. ونهيه عليه السلام عن بيع الغرر (¬1)، بعد قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} (¬2) فلا يمكن جعله مع لفظ العموم كلامًا واحدًا، فيتعين أن يكون اللفظ الأول مستعملًا في غير ما وضع له، فيكون مجازًا. قوله: (وهو حجة عند الجميع إِلا عيسى بن أبان وأبا ثور، وخصص الكرخيُّ التمسك به إِذا خصص (¬3) بالمتصل (¬4)، وقال الإمام فخر الدين: إِن خص (¬5) تخصيصًا إِجماليًا (¬6)، نحو قوله: هذا العام مخصوص (¬7) فليس بحجة، وما (¬8) أظنه يخالف في هذا التفصيل). ¬
ش: هذه هي (¬1) المسألة الثانية، وهي (¬2) قولنا: هل يستدل بالعموم على الباقي بعد التخصيص، أو لا (¬3) يستدل به؟ ذكر المؤلف في الاستدلال به (¬4) ثلاثة أقوال (¬5): قولان متقابلان. وثالث بالتفصيل بين التخصيص بالمتصل، والتخصيص بالمنفصل. وأما تفصيل الإمام: فهو بيان محل الخلاف (¬6). ¬
حجة القول المشهور القائل (¬1): بأنه حجة يستدل به على الباقي بعد التخصيص فيستدل بقوله تعالى مثلًا: {فَاقْتلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬2) على قتل المشركين بعد خروج النساء والصبيان: أنه (¬3) لو قلنا: لا يستدل بالعموم على (¬4) الباقي بعد تخصيصه، لأدى ذلك [إلى] (¬5) تعطيل كثير العمومات (¬6)، ولا سيما على قول ابن عباس رضي الله عنه القائل: ما من عام إلا وهو مخصوص، إلا قوله تعالى: {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬7) فيؤدي ذلك إلى تعطيل جميع عمومات (¬8) الكتاب والسنة (¬9). حجة عيسى بن أبان وأبي ثور (¬10) الحنفيين: أن الإجمال حاصل فيه؛ لأن الحقيقة التي هي الاستغراق غير مرادة، فالمراد المجاز، والمجاز مجمل؛ لأنه لم يتعين أي مجاز يحمل اللفظ عليه بعد التخصيص؛ إذ ليس البعض أولى من البعض، فلما تعين الإجمال سقط الاستدلال (¬11). ¬
قال المؤلف في الشرح: جواب هذا: أن هذا يصح (¬1) في المجاز الأجنبي عن الحقيقة، كالأسد إذا أريد به الرجل الشجاع، فليس حمله [على بعض الشجعان بأولى من حمله] (¬2) على البعض الآخر، فيتعين الإجمال، وأما المجاز في العام المخصص (¬3): فليس أجنبيًا عن الحقيقة، بل محل التجوز البعض الباقي بعد التخصيص، فلا إجمال (¬4). و (¬5) حجة الكرخي الحنفي: أن المخصص المتصل يصير مع الأصل حقيقة فيما بقي بعد التخصيص، بخلاف المخصص المنفصل، فلا يكون (¬6) جعله (¬7) مع الأصل كلامًا واحدًا، فيتعين فيه الإجمال (¬8). قوله: (إِن خص تخصيصًا إِجماليًا)، كقوله عليه السلام مثلًا (¬9): "نهيت عن قتل (¬10) طائفة من المشركين" بعد قوله: {فَاقْتلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬11). ¬
قال المؤلف في الشرح: أنها تفصيل الإمام فخر الدين فليس تفصيليًا (¬1) في التحقيق (¬2)، بل هو راجع إلى القول بأنه حجة، فإن الله تعالى إذا قال مثلًا (¬3): {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، ثم قال: حرمت عليكم قتل (¬4) طائفة معينة لا أعينها لكم، فلا شك أنّا نتوقف عن (¬5) القتل قطعًا، حتى نعلم الواجب قتله من المحرم قتله (¬6)، وهذا لا يتصور فيه الخلاف، بل هذا تفريع على أنه حجة بعد التخصيص. انتهى (¬7). قوله: (لنا أنه وضع للاستغراق، ولم (¬8) يستعمل فيه فيكون مجازًا). ش: هذا دليل على أنه مجاز في الباقي بعد التخصيص، وقد تقدمت هذه الحجة. قوله: (ومقتضيًا (¬9) ثبوت (¬10) الحكم لكل فرد من أفراده (¬11)، وليس ¬
البعض شرطًا في البعض، وإِلا للزم الدور، فيبقى حجة في (¬1) الباقي بعد التخصيص). ش: هذا دليل (¬2) الإمام (¬3) في المحصول (¬4)، وهو دليل القول بأنه حجة، فيستدل (¬5) به في الباقي بعد التخصيص، ومعنى كلام المؤلف: لنا في الاستدلال على كونه حجة في الباقي بعد التخصيص: أنه وضع حالة كونه مقتضيًا ثبوت (¬6) الحكم لكل فرد من أفراده، من (¬7) غير توقف، بعضها على بعض. قوله: (وليس البعض شرطًا في البعض) أي: وثبوت الحكم في الباقي ليس شرطًا في ثبوته في الخارج، ولا بالعكس، فإذا خرج بعض الأفراد بالتخصيص بقي اللفظ متناولًا للبعض الآخر؛ [لأن خروج ما ليس بشرط في دلالة اللفظ لا يضر؛ لأن كل واحد من الباقي والخارج لا يتوقف حكمه على حكم الآخر] (¬8)، فيبقى اللفظ حجة في الباقي بعد التخصيص؛ لعدم التوقف. قوله: (وإِلا لزم الدور) أي: وإن قدرنا أن ثبوت الحكم في البعض شرط في ثبوت الحكم في البعض الآخر لزم الدور، وهو توقف البعض على ¬
البعض، فإذا وجد الدور سقط الاستدلال به، ولكن لم يتوقف أحدهما على الآخر، فيبقى الاستدلال به بعد التخصيص. قوله: (وإِلا لزم الدور) هذه العبارة اعترضها المؤلف في الشرح على الإمام فخر الدين من وجهين: أحدهما: أنّا لا نسلم الدور إذا توقف أحدهما على الآخر، ولا يحصل الدور إلا إذا توقف كل واحد منهما على الآخر، أي توقف هذا على ذاك، وتوقف ذاك على هذا، فحصل التوقف من الطرفين، وأما إذا حصل التوقف من أحد الطرفين ولم يحصل التوقف (¬1) من الطرف الآخر، فذلك ليس من باب الدور، وإنما هو من باب الترجيح من غير مرجِّح، ولكن الترجيح من غير مرجح هو أيضًا محذور؛ لأنه محال، فلو قال: وإلا لزم الدور، والترجيح (¬2) من غير مرجح، لكان أكمل للفائدة. الوجه الثاني: أن التوقف سلمناه ها هنا، ولكن التوقف ها هنا معي لا سبقي، والتوقف المعي لا يضر، وإنما الذي يضر هو التوقف السبقي. مثال التوقف المعي: قول رجل لرجل (¬3): لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج معي، ويقول له الآخر: لا أخرج حتى تخرج معي، فإنهما يخرجان معًا، فلا دور، ولا محال ها هنا. ومثال التوقف السبقي: إذا قال أحد الرجلين للآخر: لا أخرج حتى تخرج قبلي، ويقول الآخر: لا أخرج حتى تخرج قبلي، فإن خروج كل ¬
واحد منهما متوقف على خروج الآخر توقفًا (¬1) سبقيًا (¬2)، وهو محال لعدم إمكان ذلك؛ لأن ذلك جمع بين النقيضين، وهما القبلية و (¬3) البعدية. وبيان هذا (¬4) الاستدلال المذكور بالمثال: أن قوله تعالى مثلًا: اقتلوا المشركين، يتناول الحربي والذمي مثلًا تناولًا واحدًا، فكونه حجة في الحربي: إما أن يتوقف على كونه حجة في الذمي، أو لا يتوقف، فإن لم يتوقف عليه، فإذا خص الذمي خرج الذمي بدليل التخصيص، وبقي اللفظ متناولًا للحربي (¬5)، فيكون حجة في الحربي، وهو المطلوب. وأما أن يوقف (¬6) كونه حجة في الحربي على كونه حجة في الذمي: فإما أن يتوقف (¬7) كونه حجة في الذمي على كونه حجة في الحربي، أو لا يتوقف عليه، فإن حصل التوقف من الجهتين بحيث يكون كل واحد منهما متوقفًا على الآخر: لزم الدور، وإن حصل التوقف من جهة واحدة، ولم يحصل من الجهة الأخرى لزم ترجيح من غير مرجح؛ لأن نسبة التوقف إلى أحدهما دون الآخر لا (¬8) دليل له، فهو ترجيح من غير مرجح؛ إذ ليس أحدهما في نسبة ¬
التوقف إليه بأولى من الآخر؛ لأن العام تناولهما تناولًا واحدًا، ولا (¬1) مزية لأحدهما في ذلك على الآخر. فحصل مما ذكرنا: أن التوقف لا يصح على كل تقدير؛ لأن التوقف يؤدي إما إلى الدور، وإما إلى الترجيح من غير مرجح، [وكلاهما] (¬2) محال؛ وذلك أن التوقف إن حصل من الجهتين فذلك دور، والدور يؤدي إلى تعطيل الدليل؛ لأنه إذا توقف كل واحد منهما على الآخر، يلزم ألا (¬3) يعمل في هذا حتى يعمل في هذا، ولا (¬4) يعمل في هذا حتى يعمل في هذا، فيلزم ألا يعمل في كل واحد منهما، فذلك تعطيل اللفظ، وإن حصل التوقف من جهة واحدة (¬5) أيضًا، فذلك ترجيح من غير مرجح، [والترجيح من غير مرجح] (¬6) ممنوع محال (¬7)، فإذا كان التوقف لا يصح على كل تقدير، ثبت حينئذٍ أن حكم (¬8) كل واحد من أفراد العام لا يتوقف على حكم الآخر، فيكون اللفظ العام حجة في الباقي بعد التخصيص. قوله: (والقياس على الصورة (¬9) المخصوصة إِذا علمت جائز عند ¬
القاضي إِسماعيل (¬1) منا، وجماعة من الفقهاء). ش: هذه المسألة (¬2) من تخصيص العموم بالقياس (¬3). ومعنى كلام المؤلف. إذا خرجت صورة (¬4) من العموم بالتخصيص، هل يجوز القياس على تلك الصورة (¬5) أم لا؟ مثال ذلك: قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان" هذه صورة مخصوصة من عموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬6)، فهل يقاس الأحبار، والرهبان، والشيخ الفاني على النساء، والصبيان، بجامع عدم (¬7) الإذاية أم لا؟ وكذلك قوله عليه السلام: "البر بالبر ربًا إلا هاء وهاء" هذه صورة ¬
مخصوصة (¬1) من (¬2) عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ} (¬3)، فهل يقاس الأرز، والدخن، والذرة على البر، بجامع الاقتيات والادخار، أم لا؟ قوله: (إِذا علمت) لا يصح أن يكون معناه: إذا علمت الصورة المخصوصة، احترازًا مما إذا جهلت، فإن القياس على مجهول لا يصح ولا يمكن (¬4)، فإنما (¬5) يقاس الشيء على المعلوم، ولا يقاس على المجهول. [وقال (¬6) بعضهم] (¬7): قوله: (إِذا علمت) [معناه: إذا علمت] (¬8) الصورة المخصوصة بطريق علمي، كالإجماع، أو نص (¬9) الكتاب أو السنة المتواترة، وقال بعضهم: معنى قوله: إذا علمت، علتها (¬10) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي: إذا عرفت العلة الجامعة بين الصورة المخصوصة، والصورة المقيسة. قوله: (جائز عند القاضي إِسماعيل منا، وجماعة من (¬11) الفقهاء) مفهومه: أن ذلك ممنوع عند آخرين. ¬
قال القاضي [عبد الوهاب في الملخص: مذهب الجمهور: منع القياس على الصورة المخصوصة، وهو قول جمهور أصحابنا. وقال كثير من الشافعية بجوازه] (¬1). حجة المنع: أن الصورة المخصوصة على خلاف الأصل؛ لأنها مخالفة لقاعدة العموم، فلو قسنا عليها غيرها لأدى ذلك إلى تكثير مخالفة الأصل الذي هو قاعدة العموم (¬2). حجة القول بالجواز: أن قاعدة الشرع [تقتضي] (¬3) مراعاة المصالح والحكم، فإذا استثنى الشارع صورة لمصلحة، ثم وجدت صورة أخرى تشاركها في تلك المصلحة وجب إثبات الحكم (¬4) لها؛ تكثيرًا للمصلحة (¬5). قال المؤلف في الشرح: ومراعاة المصالح أولى من مراعاة العموم؛ فإن إبقاء (¬6) العموم على عمومه اعتبار لغوي، ومراعاة المصالح اعتبار شرعي، والشرع مقدم على اللغة (¬7). ... ¬
الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء
الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء (¬1) ش: لما اشتركت هذه الأشياء الثلاثة في الإخراج احتاج المؤلف إلى الفرق بينها، ذكر المؤلف في هذا الفصل ثلاث مسائل: الأولى: في الفرق بين التخصيص، والنسخ. المسألة الثانية: في الفرق بين التخصيص، والاستثناء. المسألة الثالثة: في الفرق بين التخصيص، والاستثناء، والنسخ. أما الفرق بين التخصيص والنسخ (¬2)، وهو المسألة الأولى، فقد فرق المؤلف (¬3) بينهما بثلاثة أوجه: أحدها: [أن التخصيص لا يكون إلا فيما يتناوله اللفظ، بخلاف النسخ فإنه يكون في الأمرين، أي يكون فيما يتناوله اللفظ، ويكون فيما يتناوله الفعل، أو الإقرار، أو القرائن (¬4). ¬
الوجه الثاني: أن التخصيص لا يكون إلا قبل العمل، بخلاف النسخ فإنه يجوز قبل العمل وبعده (¬1)]. ش: وإنما كان التخصيص لا يكون إلا قبل العمل، ولا يكون بعد العمل بالعام؛ لأن التخصيص بيان المراد (¬2)، بخلاف النسخ، فإنه إبطال المراد، فإذا حصل العمل علم أنه مراد، فالواقع بعد ذلك: إبطال ونسخ لذلك المراد، ويكون النسخ أيضًا قبل (¬3) العمل إذا علم أن مدلول اللفظ مراد. مثال (¬4) النسخ قبل العمل، كأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه (¬5)، كما في قوله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (¬6). ومثال النسخ بعد العمل: كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، كما في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬7). الوجه الثالث أنه: (يجوز (¬8) نسخ شريعة بأخرى (¬9) ولا يجوز تخصيصها بها). ¬
ش: يعني: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى (¬1) في بعض الفروع خاصة، ولا يجوز في العقائد الدينية، ولا في الكليات الخمس، وهي: حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال، مع جوازه في الجميع عقلاً، غير أنه لم يقع. فإذا قيل: شريعتنا ناسخة لجميع الشرائع، فمعناه: في بعض الفروع خاصة كنكاح الأختين، فإنه جائز قبلنا، ثم نسخ ذلك في شريعتنا، كما قاله ابن العربي في أحكام القرآن (¬2) في قوله تعالى (¬3): {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬4). قوله: (ولا يجوز تخصيصها) أي: لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى مطلقًا، أي: لا تخصص (¬5) المتقدمة بالمتأخرة، ولا تخصص (¬6) المتأخرة بالمتقدمة، وإنما لا تخصص المتقدمة بالمتأخرة؛ لأن التخصيص بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وإنما لا تخصص المتأخرة بالمتقدمة؛ فإن عادة الله تبارك وتعالى ألا يخاطب قومًا إلا بما يتعلق بهم خاصة، فلو كان في الشريعة المتقدمة ما يكون بيانًا وتخصيصًا للمتأخرة لكانوا مخاطبين بما لا (¬7) يتعلق بهم، وهذا كله عادة ربانية لا وجوب عقلي. ¬
قوله: (والاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة (¬1) الواحدة الدالة على شيء واحد (¬2)، ولا يثبت بالقرينة الحالية، ولا يجوز تأخيره، بخلاف التخصيص). ش: هذه هي المسألة الثانية: في الفرق (¬3) بين التخصيص والاستثناء (¬4)، فرق المؤلف (¬5) بينهما بثلاثة أوجه أيضًا: أحدها: أن الاستثناء لا يستقل بنفسه عن المستثنى منه؛ لأن الاستثناء والمستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على معنى واحد وهو الباقي بعد الاستثناء؛ ولأجل هذا قال القاضي أَبو بكر: الخمسة لها عبارتان: إحداهما (¬6): خمسة. والأخرى: عشرة إلا خمسة (¬7). قال المؤلف في الشرح: تعليل (¬8) الاستثناء بعدم الاستقلال بنفسه، يلزم مثله في التخصيص بالشرط، والصفة، والغاية، لكن لم يذكروه إلا في ¬
الاستثناء (¬1). الوجه الثاني: أن الاستثناء لا يثبت بالقرائن الحالية، أي: لا يثبت إلا باللفظ، ولا يثبت بالقرينة، فإذا قال رجل لفلان: له عندي عشرة، ودلت القرينة على أنه أراد إلا (¬2) خمسة: لزم أن يكون لفظ العشرة قد استعمل في الخمسة مجازًا، وتلك القرينة هي: دليل المجاز وذلك ممنوع؛ لأن المجاز لا يجوز دخوله في ألفاظ العدد، بخلاف التخصيص فإنه يجوز بالقرينة؛ لأن التخصيص مجاز، والمجاز يجوز دخوله في العمومات إجماعًا (¬3)؛ لاحتمالها (¬4)، بخلاف ألفاظ العدد؛ لأنها لا تحتمل؛ لأنها نصوصات. الوجه الثالث: أن الاستثناء لا يجوز تأخيره عن المستثنى منه، فلا (¬5) يجوز أن تقول: له عندي عشرة، ثم تقول: بعد يوم إلا اثنين، وإنما لا يجوز ذلك؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يجوز (¬6) أن يفرد بالنطق، وكذلك المخصص المتصل: كالشرط، والاستثناء (¬7)، والصفة، والغاية؛ لأن كل ¬
واحد منها لا يستقل بنفسه في الدلالة؛ إذ لا بد من ضمه (¬1) إلى ما قبله، وأما المخصص المنفصل فلا يمكن جعله مع عامه (¬2) لفظًا واحدًا لاستقلال كل واحد منهما بنفسه. قوله: (بخلاف التخصيص) راجع إلى (¬3) الأوجه الثلاثة، كأنه يقول: والاستثناء مع المستثنى منه كالكلمة الواحدة بخلاف التخصيص، يعني: المخصص المنفصل، ولا يثبت الاستثناء بالقرينة الحالية بخلاف التخصيص، فإنه يثبت (¬4) بالقرائن (¬5) الحالية، والاستثناء لا يجوز تأخيره بخلاف التخصيص (¬6) بالمنفصل. قوله: (و (¬7) قال الإِمام: والتخصيص (¬8) كالجنس للثلاثة (¬9) لاشتراكهما (¬10) في الإِخراج، فالتخصيص والاستثناء إِخراج الأشخاص، والنسخ إِخراج الأزمان). ش: هذه هي المسألة الثالثة، وهي: الفرق بين التخصيص والاستثناء ¬
وبين النسخ. إنما نسب (¬1) المؤلف هذه المسألة إلى الإمام، مع أن المسائل المتقدمة كلها للإمام؛ لضعف كلام الإمام في هذه المسألة عند المؤلف. قوله: (والتخصيص كالجنس للثلاثة)، أراد بالثلاثة: التخصيص، والاستثناء، والنسخ. اعترض المؤلف هذه العبارة على الإمام فقال: جعل الإمام التخصيص جنسًا لنفسه، والشيء لا يكون جنسًا لنفسه؛ لأن ذلك محال، فقول الإمام: التخصيص جنس (¬2) للثلاثة يقتضي: أن يكون التخصيص جنسًا لنفسه وهو محال. الصواب: أن تقول: الإخراج جنس للثلاثة (¬3): التخصيص، والنسخ، والاستثناء (¬4). قوله: (لاشتراكها في الإِخراج) أي (¬5): لأن الثلاثة مشتركة في مطلق الإخراج. قوله: (فالتخصيص والاستثناء إِخراج الأشخاص، والنسخ: إِخراج ¬
الأزمان). مثال التخصيص في الأشخاص: قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان" تخصيصًا لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1). ومثال الاستثناء في الأشخاص: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة. ومثال النسخ في الأزمان: وقوف الواحد للعشرة في الزمان الأول (¬2)، ثم نسخ في الزمان الثاني بوقوف الواحد للاثنين (¬3). قوله: (فالتخصيص والاستثناء إِخراج الأشخاص، والنسخ إِخراج الأزمان). هذا في الغالب، وقد يكون التخصيص والاستثناء في الأزمان، وقد يكون النسخ في غير الأزمان. مثال التخصيص في الأزمان: قولك: ما رأيت فلانًا طول الدهر، ومرادك بالدهر عمرك. ومثال الاستثناء في الأزمان: ما رأيت (¬4) فلانًا في جميع الأيام إلا يوم ¬
الجمعة. ومثال النسخ في غير الأزمان: أمر الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بذبح ابنه؛ لأن ذلك فعل واحد لا يتعدد زمانه، فلا يقبل الإخراج؛ لأن الإخراج من الشيء فرع تعدده بين المخرج والمخرج عنه؛ لأنه لم يخرج منه بعض الأزمنة، وبقي بعضها، بل بطل المأمور به بالكلية، بخلاف وقوف الواحد للعشرة ثبت في بعض الأزمنة، وخرج المستقبل بعدها بالنسخ. ***
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحْمَد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد الرّابع مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 3241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5633575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863533
رفع النقاب عن تنقيح الشهاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب السابع في أقل الجمع
الباب السابع في أقل الجمع
الباب السابع في أقل الجمع (¬1) ش: لمَّا كان الجمع المنكَّر (¬2) لا عموم له على الصحيح، وإنما يحمل على أقل الجمع (¬3)، احتيج إلى معرفة أقل الجمع، ولذلك قال فخر الدين في المحصول: الكلام في الجمع المنكَّر يتفرع على الكلام في أقل الجمع (¬4). ¬
قوله: (في أقل الجمع) (¬1) معناه: في بيان أقل مراتب مسمى الجمع (¬2). والكلام في هذا الباب (¬3) في أربعة مطالب: الأول: في بيان الخلاف في أقل الجمع. الثاني: في تعيين محل الخلاف. الثالث: في مستند (¬4) الخلاف. الرابع: في (¬5) الإشكال الذي أورده (¬6) المؤلف (¬7). أما بيان [الخلاف] (¬8) (¬9) فقد بينه المؤلف بقوله: قال القاضي أَبو بكر: ¬
مذهب مالك - رحمه الله -[أن] (¬1) أقل الجمع اثنان، ووافقه القاضي (¬2) على ذلك (¬3)، والأستاذ أَبو إسحاق، وعبد الملك بن الماجشون (¬4) من أصحابه، وعند الشافعي وأبي حنيفة رضوان الله عليهما ثلاثة، [و] (¬5) حكاه عبد الوهاب عن مالك. ش: (¬6) قال الباجي: القول بالثلاثة هو المشهور عن مالك (¬7). وأما تعيين محل [هذا] (¬8) الخلاف (¬9)، فاعلم أن هذا الخلاف يستثنى منه ثلاثة أشياء: ¬
أحدها: ضمير المتكلم إذا نوى به نفسه وغيره، نحو قولك: قلنا (وفعلنا) (¬1)، فإنه لا خلاف أنه يصدق (¬2) على الاثنين (¬3) اتفاقًا (¬4). [وكذلك] (¬5) (¬6) صيغة [الجمع] (¬7)، التي هي الجيم والميم والعين، وهو (¬8) مجموع هذه الحروف الثلاثة، فلا خلاف أيضًا، أنها (¬9) تصدق على اثنين (¬10) اتفاقًا (¬11) (¬12)؛ لأن الجمع لغة ضم شيء (¬13) إلى شيء (¬14) (¬15)، وذلك حاصل في اثنين من غير خلاف. ¬
وكذلك الإقرار [كما] (¬1) إذا قال: له عندي دراهم أو دنانير، فإنه يحمل على الثلاثة، ولا يحمل على الاثنين اتفاقًا. وقد حكى الغزالي في المنخول الإجماع في هذه الصورة (¬2)، قال شرف الدين في شرح المعالم (¬3): أراد الغزالي إجماع الأئمة المشهورين؛ لأن صاحب الشامل (¬4) نقل عن بعض الفقهاء أنهم ينزلونه (¬5) على ............ ¬
الاثنين (¬1) (¬2) (¬3) (¬4)، قال إمام الحرمين في التلخيص (¬5): فائدة (¬6) الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لمساكين (¬7) هل تعطى وصيته لاثنين/ 190/ أو لثلاثة (¬8)؟ وقال في البرهان: إذا أوصى بدراهم أو أقر بدراهم هل يحمل على الاثنين أو على الثلاثة؟ قولان. سبب الخلاف: هو الخلاف في أقل ¬
الجمع (¬1) (¬2). وأما مستند الخلاف المذكور في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة؟ فلكل فريق حجج احتج بها على مذهبه. فأما من قال: أقل الجمع اثنان، فاحتج بوجوه (¬3): أحدها: قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (¬4)، أراد يوسف وأخاه (¬5)، فأطلق ضمير الجماعة على التثنية (¬6). وثانيها: قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (¬7)، فأطلق ضمير الجماعة على ¬
التثنية، وهما داود وسليمان. وثالثها: قوله تعالى -: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (¬1)، فأعاد ضمير الجماعة في قوله: {مَعَكُمْ} على موسى وهارون. ورابعها: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (¬2)، فأعاد ضمير الجماعة على التثنية. وخامسها: قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (¬3)، فأعاد ضمير الجماعة على التثنية، ويدل على (¬4) التثنية قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} (¬5). وسادسها: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬6). وسابعها: قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬7)، فجمع (¬8) القلوب وليس هناك إلا قلبان. ¬
وثامنها: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬1)، فإن الأم تحجب عن الثلث إلى السدس بأخوين فأكثر (¬2)، فأطلق (¬3) الإخوة على الأخوين، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه (¬4). وتاسعها: قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما (¬5) جماعة". وعاشرها: أن معنى الجمعية حاصل في اثنين، كما هو حاصل في ثلاثة فأكثر. أجيب (¬6) عن الأول: وهو قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (¬7)، أن المراد: يوسف وأخوه والأخ الكبير (¬8) المشار إليه بقوله (¬9) ¬
تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (¬1). وأجيب عن الثاني: وهو قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ...} إلى قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (¬2)، بأن (¬3) الضمير يعود على الأربعة، [وهم] (¬4): الحكمان، والمتحاكمان، أي: [المحكوم له] (¬5) والمحكوم عليه؛ لأن المصدر يضاف إلى الفاعل، ويضاف إلى المفعول (¬6)، وقد أضيف ها هنا إليهما معًا، قاله الإمام فخر الدين (¬7). قال شرف الدين في شرح المعالم: وفي هذا نظر، لأنه إذا أضيف إلى الفاعل كان موضع المجرور رفعًا (¬8)، وإذا أضيف إلى المفعول كان موضع المجرور نصبًا، فإذا أضيف إليهما معًا كان المجرور في موضع الرفع والنصب ¬
معًا، [وذلك] (¬1) محال (¬2). وأجيب عن الثالث: وهو قوله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (¬3)، [أن] (¬4) المراد بذلك موسى وهارون وفرعون (¬5) (¬6). قال المؤلف في شرح المحصول (¬7): وهذا الجواب فيه نظر؛ لأن المراد بالمعية ها هنا معية النصر والمعونة، وذلك لا يصح بالنسبة إلى فرعون (¬8). قال بعضهم: ويمكن أن يقال: هو مع موسى وهارون بالنصر والمعونة، وهو مع فرعون بالخذلان والهلاك (¬9)، والله أعلم. ¬
وأجيب عن الرابع، وهو قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} (¬1)، أن الخصم لغة يصدق على الواحد، وعلى الاثنين، و [على] (¬2) الجماعة؛ لأن العرب تقول: رجل خصم، ورجلان خصم، ورجالٌ خصم، كما يقال: رجل ضيف (¬3)، ورجلان ضيف (¬4)، ورجالٌ ضيف (¬5) (¬6) (¬7). وأجيب عن الخامس: وهو قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) [إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ] (¬8)} (¬9)، أن الخصم يصدق لغة على الواحد، وعلى الاثنين، وعلى الجماعة، مثل الجواب الذي قبله. وأجيب عن السادس: وهو قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬10)، أن الطائفة جماعة، والطائفتان جماعتان، والجماعة (¬11) جمع بالضرورة (¬12). ¬
وأجيب عن السابع: وهو قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1)، أن القاعدة العربية أن كل شيء أضيف إلى شيء هو (¬2) بعضه ليس في الجسد منه إلا واحد كان فيه للعرب ثلاث (¬3) لغات نحو رؤوس الرجلين وقلوبهما: الأولى التثنية وهي (4) الأصل، والجمع وهي (4) الأكثر، والإفراد وهي (¬4) الأقل (¬5). فيقال (¬6) [على لغة] (¬7) التثنية: رأيت رأسي (¬8) رجلين، وعلى لغة الإفراد: رأيت رأس رجلين، وعلى لغة الجمع: رأيت رؤوس رجلين، واللغة الفصيحة منها: هي لغة الجمع، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ ¬
قُلُوبُكُمَا} (¬1). وإنما تركوا التثنية التي (¬2) هي الأصل ها هنا لاستثقال اجتماع تثنيتين في كلمة واحدة (¬3)، [ولأجل هذا يقول النحاة] (¬4): كل شيئين من شيئين [مضافين] (¬5) إلى شيئين (¬6) [فلك فيهما الجمع والتثنية والإفراد، مثاله: رؤوس الزيدين ورؤوسهما] (¬7) (¬8). وإنما رجحوا لغة الجمع على لغة الإفراد؛ لأن الانتقال من التثنية التي هي الأصل إلى الجمع أولى من الانتقال إلى الإفراد؛ لما بين التثنية والجمع من المناسبة لاشتراكهما في معنى الضم والاجتماع، والواحد لا ضم ولا جمع فيه (¬9). وقولنا (¬10): ليس في الجسد منه إلا واحد، احترازًا مما إذا (¬11) كان في ¬
الجسد أكثر من واحد، فلا يجوز جمعه، فلا تقول (¬1): رأيت أعين (¬2) الرجلين (¬3) وأنت تريد عينيهما، لما في ذلك من اللبس؛ لأن ذلك يوهم أنك رأيت جميع أعينهما (¬4)، بخلاف قولك: رأيت رؤوسهما أو ظهورهما أو بطونهما أو قلوبهما (¬5)؛ إذ ليس ها هنا (¬6) [لبس] (¬7) فيما إذا لم يكن للواحد من ذلك إلا شيء واحد./ 191/ وقولنا: هو بعضه، احترازًا مما إذا لم يكن بعضه، كقولك: رأيت غلامي رجلين، فلا يجوز الجمع؛ لأنه تثنية أجنبية مضافة (¬8)، فلم تستثقل (¬9) العرب إلا اجتماع تثنيتين في الشيء الواحد ليس أحدهما أجنبيًا، حتى كأن الواحد يثنى مرتين، وأما الأجنبيان فهما شيئان في شيئين، فلم (¬10) ¬
تستثقل (¬1) العرب ذلك (¬2). وأجيب عن الثامن: وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬3) أنه معارض بقول (¬4) ابن عباس [لعثمان] (¬5) رضي الله عنهما حين رد عثمان الأم من الثلث إلى السدس بأخوين: قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (3)، وليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمرًا كان قبلي وتوارثه (¬6) الناس (¬7). فلما لم ينكر عليه عثمان وعدل إلى التأويل [دل] (¬8) على أن الأخوين ليسا (¬9) إخوة حقيقة (¬10). ¬
وأجيب عن التاسع: وهو قوله عليه السلام "الاثنان فما فوقهما (¬1) جماعة" (¬2) بأن المراد الحكم الشرعي الذي هو فضيلة الجماعة؛ يعني: أن فضيلة الجماعة تحصل للاثنين (¬3)، وليس المراد به المعنى اللغوي؛ لأنه عليه السلام بعث لتبيين الشرعيات (¬4) لا لتبيين اللغويات (¬5). وجواب ثان: أن لفظ الجماعة لفظ مفرد (¬6) وليس (¬7) بمحل (¬8) النزاع؛ إذ لا خلاف أن هذا اللفظ يطلق (¬9) على الاثنين، وإنما الخلاف في صيغ الجموع (¬10) نحو: رجال ودراهم ودنانير ونحوها (¬11) (¬12). وجواب ثالث: أن هذا الحديث غير صحيح، قاله ابن حزم (¬13) (¬14) وهو ¬
من الحفاظ (¬1) المحدثين (¬2). وأجيب عن العاشر: وهو أن معنى الجمع حاصل في اثنين (¬3) كما هو حاصل في ثلاثة فأكثر، بأن (¬4) حصول الاجتماع في اثنين ليس بمحل النزاع؛ إذ يحصل (¬5) ذلك المعنى في الاثنين باتفاق. وإنما النزاع في ألفاظ الجموع؛ هل تصدق على الاثنين (¬6) حقيقة أم لا؟ فأين أحدهما من الآخر؟! (¬7). وأما من قال: أقل الجمع ثلاثة فاحتج بوجوه (¬8): ¬
أحدها: أن الزائد على الاثنين هو المتبادر إلى الذهن عند سماع صيغ الجمع، فإذا قال (¬1): عندي (¬2) دراهم (¬3) فلا يفهم منه السامع إلا ثلاثة فأكثر، والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة (¬4). وثانيها: أن العرب فرقت بين التثنية والجمع ظاهرًا ومضمرًا (¬5). فقالوا: رجلان ورجال، وضربا وضربوا، والأصل في الاستعمال الحقيقة. وثالثها: اتفاقهم في صورة الإقرار، فيلزم ذلك في غيرها. ورابعها: أن صيغة الجمع لا تنعت بالتثنية. وخامسها: أن (¬6) ابن عباس رضي الله عنه [قال] (¬7) لعثمان بن عفان حين حجب الأم عن (¬8) الثلث إلى السدس بأخوين (¬9): ليس الأخوان بإخوة في لسان قومك (¬10). ¬
أجيب عن الأول (¬1) الذي هو التبادر (¬2) إلى الذهن دليل الحقيقة: بأن ذلك باطل بالمجاز الراجح؛ لأنه المتبادر إلى الذهن وليس مع ذلك بحقيقة (¬3). وأجيب عن الثاني (¬4) الذي هو تفريق العرب بين التثنية والجمع ظاهرًا ومضمرًا (¬5) بأن يقال: إن ادعيتم (¬6) أن العرب فرقت بينهما في اللفظ، فهذا متفق عليه وليس محل النزاع، وإن ادعيتم أن العرب فرقت بينهما في المعنى وأن مسمى الجمع لا يطلق على مسمى الاثنين فهو محل النزاع. وأجيب عن الثالث الذي هو صورة الإقرار: بأنه قياس في اللغة، واللغة لا تثبت بالقياس، وإنما تثبت (¬7) بالنقل عن أربابها (¬8)، وأيضًا هو ¬
محل الخلاف؛ لأن صاحب الشامل نقل الخلاف فيها عن بعض الفقهاء، وقد تقدم ذلك (¬1). وأجيب عن الرابع الذي هو: صيغة الجمع لا تنعت بالتثنية: بأن (¬2) العرب تشترط في النعت المناسبة اللفظية والمعنوية معًا؛ فلا ينعت لفظ التثنية إلا بلفظ التثنية، ولا لفظ الجمع إلا بلفظ الجمع، ولا لفظ الواحد إلا بلفظ الواحد - إنما (¬3) ذلك لتحصل المناسبة لا لأجل ما ذكرتموه. ¬
وأجيب عن الخامس وهو قول ابن عباس: ليس الأخوان بإخوة في لسان قومك: بأن (¬1) عثمان قال في آخر الحديث: إن قومك حجبوها، قاله أَبو المعالي في التلخيص (¬2). وأما بيان الإشكال الذي أورده المؤلف، فإن المؤلف رحمه الله أورد ها هنا سؤال الإشكال؛ وذلك أن السؤال عند أرباب الأصول على قسمين: سؤال الإشكال، وسؤال الخيال، فسؤال الإشكال هو الذي لا جواب له، وسؤال الخيال هو الذي له جواب (¬3). وتقرير (¬4) السؤال الذي أورده المؤلف: أن هذا الخلاف إما أن يكون في صيغة الجمع التي هي الجيم والميم والعين، [أو فيما عداها من] (¬5) صيغ (¬6) الجموع كرجال ومسلمين. فلا يصح أن يكون الخلاف في صيغة الجمع التي هي [مجموع] (¬7) الجيم والميم والعين، فلو كان الخلاف في هذه الصيغة لما وقع الخلاف في غيرها من ¬
صيغ الجموع نحو: رجال ومسلمين؛ فإنه لا يلزم من ثبوت حكم (¬1) لصيغة، ثبوته لغيرها. ولا يصح أيضًا أن يكون الخلاف في غير الصيغة المذكورة من (¬2) صيغ الجموع؛ وذلك أن صيغ الجموع على قسمين: جمع قلة، وجمع كثرة، فلا يصح أن يكون [الخلاف] (¬3) في جمع الكثرة؛ لأن (¬4) أقله أحد عشر فلا معنى فيه للخلاف بالاثنين ولا بالثلاثة؛ لأن استعماله في أقل [من] (¬5) أحد عشر [إنما هو] (¬6) مجاز، والبحث في المسألة إنما هو في الحقيقة. ولا يصح أيضًا أن يكون الخلاف في جمع القلة خاصة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لخصوا جموع القلة بالأحكام مع إنهم لا يفرقون في الأحكام بين جموع القلة وجموع الكثرة / 192/، بل يسوون بينهما في الأحكام كالأقارير (¬7) والوصايا والأيمان والنذور. فإنهم يقولون لمن أقر بدراهم: إنه يلزمه ثلاثة دراهم، مع أن صيغة دراهم صيغة جمع كثرة (¬8)، ويقولون لمن قال (¬9): عليّ أفلس: إنه يلزمه ثلاثة فلوس أيضًا، مع أن (¬10) صيغة أفلس جمع قلة. ¬
فإذا كانوا لا يفرقون بين جمع القلة وجمع الكثرة في الأحكام دل ذلك على أن الخلاف فيما هو أعم من الجمعين (¬1)، فإذا كان الأمر كذلك صار مرادهم بالخلاف مشكلاً غير معقول (¬2). قوله: ([وعندي] (¬3) أن محل النزاع مشكل؛ فإِنه (¬4) إِن كان الخلاف في صيغة الجمع، التي هي الجيم والميم والعين، لم يكن (¬5) إِثبات الحكم لغيرها من الصيغ، وقد اتفقوا على ذلك). [ش] (¬6): قوله: "لم يكن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ". كان ها هنا تامة أي: لم يقع ولم يحصل ولم يصح إثبات الحكم لغيرها؛ أي: لغير هذه الصيغة المركبة من الجيم والميم والعين. ومعنى الكلام: فلو كان الخلاف المذكور إنما هو في هذه الصيغة المركبة من الأحرف الثلاثة لامتنع إثبات الحكم لغيرها من صيغ الجموع، مع أنهم اتفقوا على إثبات الحكم لغيرها من صيغ الجموع المنكَّرة (¬7)، والإشارة في ¬
قوله: "وقد (¬1) اتفقوا على ذلك"، تعود على إثبات الحكم أي: لأنهم اتفقوا على إثبات حكم (¬2) الإقرار أو الإيصاء (¬3) أو النذر أو اليمين على المقر أو الموصي أو الناذر أو الحالف. فإن من قال: له عليَّ دراهم أو أوصى بها أو نذرها أو حلف بها، فإنه يحكم عليه بثلاثة دراهم (¬4)، [مع] (¬5) أن صيغة دراهم ليست بصيغة مركبة من جيم وميم وعين. قوله: (وإِن كان في غيرها من صيغ الجموع فهي على قسمين: جمع قلة، وهو (¬6) جمع سلامة (¬7) مذكرًا أو مؤنثًا (¬8)، ومن جمع التكسير (¬9) ما في قول الشاعر: بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد (¬10) ¬
وجمع كثرة وهو ما عدا ذلك. فجموع القلة للعشرة (¬1) فما دون ذلك، وجموع الكثرة لأحد عشر فأكثر) (¬2). ش: مثال جمع السلامة: مسلمون ومسلمين ومسلمات ومؤمنات. ضابطه: ما جمع بالواو والنون، أو بالياء والنون أو بالألف والتاء، وقد ذكر بعض النحاة في وضع (¬3) جمع السلامة هل (¬4) وضع للقلة أو للكثرة؟ ثلاثة أقوال: ثالثها: وضع للقلة و (¬5) الكثرة معًا (¬6). وذكر المؤلف أن جمع التكسير كله للكثرة إلا أربعة أوزان وهي المذكورة في هذا البيت المتقدم. مثال أفعل: أفلس وأكلب (¬7). ومثال أفعال: أعدال وأحمال (¬8). ¬
ومثال أفعلة: أرغفة وأغربة (¬1) (¬2). ومثال فعلة: صبية وغلمة وفتية (¬3). [وبعد] (¬4) هذا البيت المذكور بيت آخر وهو هذا: وبالمسلَّم من أنثى من وذكر ... فتلك ست فلا تنقص ولا تزد (¬5) وقول الشاعر: فلا تنقص (¬6)، إشارة إلى قول ابن السراج القائل: بأن فعلة اسم جمع وليس بجمع تكسير (¬7). وقوله: ولا تزد، أشار (¬8) [به أيضًا] (¬9) إلى قول من قال: إن هناك (¬10) ¬
[أيضًا] (¬1) خمسة أوزان [هي] (¬2) من جموع القلة، [وهي] (¬3): فُعَل نحو ظُلَم (¬4)، وفِعَل نحو نِعَم، وَفَعَلَة نحو بَرَرَة، وفِعَلَة نحو قِردَة، وأفْعِلاء نحو أصْدِقَاء (¬5). فنبه الشاعر على (¬6) المشهور وأشار إلى الشاذ (¬7)، ولم يعرج (¬8) المؤلف إلا على المشهور. قوله (¬9): (فجموع القلة للعشرة فما دون ذلك) .. يعني أن جمع القلة موضوع بالحقيقة (¬10) [للعشرة إلى ثلاثة أو اثنين على الخلاف المذكور في أقل ذلك. قوله: (وجموع الكثرة لأحد عشر) .. يعني أن] (¬11) جمع الكثرة ¬
موضوع بالحقيقة (¬1) لأحد عشر إلى مالا نهاية له، وقال إمام الحرمين في البرهان: جمع القلة للتسعة (¬2) فما دون (¬3). وجمع الكثرة للعشرة فما فوقها (¬4). وكذلك ذكره (¬5) [ابن عبد السلام في قول] (¬6) ابن الحاجب في كتاب الأيمان، ولو حلف لا كلَّمه (¬7) أو ليهجرنَّه أيَّامًا أو شهورًا أو سنين فالمنصوص أقل الجمع وخُرِّجَ الدهر؛ لأنه الأكثر (¬8). قوله: (جمع (¬9) القلة للعشرة فما دون ذلك، وجمع الكثرة لأحد عشر فأكثر). هذا الجمع المحدود بالقلة أو بالكثرة (¬10) المراد به الجمع المنكَّر، وأما الجمع المعرف المراد به العموم فهو ينصرف (¬11) [إلى] (¬12) العموم والاستغراق إلى غير نهاية، ولا يبقى لمسماه أقل ولا أكثر؛ إذ ليس له إلا رتبة ¬
[واحدة] (¬1) وهي العموم. بخلاف الجمع المنكَّر؛ فإن مسماه الذي هو كونه جمعًا، متردّدٌ بين مراتب مختلفة، وكل واحدة (¬2) من تلك المراتب يصدق عليها (¬3) أنها جمع. فألف رجل جمع، وثلاثة رجال جمع (¬4) (¬5). قوله: (هذا هو نقل العلماء)، يعني (¬6): هذا نقل العلماء في الفرق بين مراتب الأقل في جمع القلة والكثرة. قوله: (ثم قد يستعار كل واحد منهما للآخر مجازًا). ش: يعني أن الجمع الموضوع [للقلة, يجوز استعماله في موضع جمع الكثرة، وكذلك الجمع الموضوع] (¬7) للكثرة يجوز استعماله في موضع جمع القلة على طريق المجاز، لا على طريق الحقيقة، وهذا الذي قاله المؤلف نص عليه الزمخشري في المفصل (¬8)، وكذلك ابن الأنباري (¬9) ................. ¬
أيضًا (¬1). والعلاقة في هذا المجاز هي الاشتراك في معنى الجمع. قال صاحب المفصل: يستعار (¬2) لفظ الجمع للقلة للكثرة، والموضوع للكثرة للقلة (¬3) (¬4). فقوله: (¬5) "يستعار كل واحد منهما للآخر" يدل على أنه ليس موضوعًا له، فإن المستعار مجاز (¬6) إجماعًا. وقال ابن الأنباري: وقد يستعمل كل واحد [منهما] (¬7) للآخر بسبب اشتراكهما في معنى الجمع (¬8)، فإبداؤه للعلاقة المصححة ........ ¬
للمجاز (¬1) دليل المجاز. مثال استعمال جمع الكثرة/ 193/ في موضع جمع القلة: قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)؛ لأن أصل (¬3) الكلام: ثلاثة أقراء، فاستعمل قروء (¬4) الذي هو [(5) (6) وزن فعول وهو] (¬5) من أوزان الكثرة، في موضع أفعال الذي هو] (¬6) من أوزان القلة (¬7). ومثال (¬8) استعمال جمع القلة في موضع جمع الكثرة: قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} (¬9) أي: عيون، فاستعمل أعين (¬10) [الذي هو على وزن أفعل] (¬11) في موضع فعول (¬12). ¬
قوله: (ثم (¬1) يستعار كل واحد منهما للآخر) يعني: إذا كان للفظة جمع قلة وجمع (¬2) كثرة نحو فَلْس وكَلْب؛ لأنه يقال في جمعهما: أفلس [وفلوس] (¬3) وأكلب وكلاب (¬4). أما (¬5) إذا لم يكن للفظة إلا جمع قلة (¬6) [خاصة] (¬7) نحو: أعناق جمع عُنُق، أو جمع كثرة خاصة نحو: رجال جمع رجل، فإنه لا يستعمل غيره لعدم وجوده (¬8) (¬9). قوله: (قد (¬10) يستعار كل واحد منهما للآخر مجازًا) يدل [على] (¬11) أنه ليس موضوعًا [له] (¬12)؛ فإن المستعار مجاز إجماعًا، ولهذا استشكل جماعة من المفسرين والنحاة (¬13) (¬14) قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬15)؛ لأن ثلاثة دون العشرة، فالمنطبق عليها أقراء لا قروء، فلم عبر عنه بما لا ينطبق مع إمكان ¬
التعبير [عنه] (¬1) بما ينطبق على الثلاثة (¬2)؟. أجيب عنه: بأن هذا من باب الالتفات، فقوله: {ثَلَاثَةَ} إنما هو بالالتفات إلى أفراد (¬3) المطلقات (¬4)، وقوله: {قُرُوءٍ}؛ إنما هو بالالتفات (¬5) إلى مجموع المطلقات (¬6)، [ومن هذا المعنى قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}، فالقطع بالدخول باعتبار المجموع، والاستثناء باعتبار الإفراد، فإن منهم من يموت قبل الدخول] (¬7). قوله: (والخلاف في هذه المسألة إِنما هو في الحقيقة اللغوية). ش: هذا تعيين محل النزاع، أتى المؤلف بهذا ليبين أن من قال: محل النزاع هو الحقيقة العرفية [فقوله] (¬8) باطل؛ لأنه قال في الشرح: وكثير من الفضلاء قال: الجواب عن الإشكال المذكور أن الكلام في هذه المسألة إنما هو في الحقيقة العرفية دون اللغوية؛ لأن العرف (¬9) سوى بين القسمين، ¬
ولا فرق (¬1) بين جمع القلة وجمع الكثرة، فلذلك أطلقت الفتيا في القسمين (¬2) (¬3). قال في الشرح: وهذا جواب لا يصح؛ لأن بحث العلماء المهم (¬4) في أصول الفقه إنما هو الحقيقة اللغوية دون غيرها، كما يقولون: الأمر للوجوب (¬5)، أو الأمر للتكرار، أو الأمر (¬6) للفور، أو النهي للتحريم، أو الصيغة للعموم، وغير ذلك من المباحث (¬7) إنما يريدون بذلك الحقيقة اللغوية، [وهي المهمة في أصول الفقه. ¬
والدليل على أن كلامهم في الحقيقة اللغوية] (¬1) دون العرفية استدلالهم بآيات (¬2) القرآن وكلام العرب على أقل الجمع، ولا يستدلون على ذلك بالعرف، ولا يقولون: قال أهل العرف، ولا يقولون: فرق أهل العرف، وإنما يقولون: فرقت العرب بين التثنية والجمع (¬3). قوله: (فإِن (¬4) كان الخلاف في جموع الكثرة فأقلها أحد عشر، فلا معنى للقول بالاثنين والثلاثة (¬5)، وإِن كان في جموع القلة فهو مستقيم (¬6)، لكنهم لما أثبتوا (¬7) الأحكام والاستدلال في جموع الكثرة، علمنا أنهم غير مقتصرين عليها، وأن محل النزاع (¬8) ما هو أعم منها؛ لا هي). ش: الضمير في قوله: عليها، عائد على جموع القلة، وكذلك الضمير في قوله: منها، وكذلك الضمير في قوله: هي. قال المؤلف في الشرح: الذي تقتضيه القواعد أن نقول (¬9): أقل مسمى الجمع المنكَّر من جموع القلة اثنان أو ثلاثة، وأقل (¬10) جموع الكثرة أحد ¬
عشر، قال: وهذا متجه ولا خفاء فيه (¬1)، وأما التعميم فمشكل جدًا، قال: ومقتضى القواعد أن القائل إذا قال مثلاً: [لله] (¬2) علي صوم شهور (¬3)، أن يلزمه أحد عشر [شهرًا] (¬4)؛ لأنه جمع كثرة. [وإذا قال: [لله] (¬5) عليّ أن أصوم أيامًا، أن يلزمه ثلاثة أيام؛ لأنه جمع قلة، وإذا قال: [له] (¬6) علي دنانير أو دراهم، أن يلزمه أحد عشر لأنه جمع كثرة] (¬7)، وتُقَرَّرُ الفتاوى وأقضية الحكام على هذه الصورة (¬8)، حتى يثبت لهذه (¬9) القواعد ناسخ عرفي أو شرعي (¬10) (¬11). ... ¬
الباب الثامن في الاستثناء
الباب الثامن في الاستثناء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول: في حده. الفصل الثاني: في أقسامه. الفصل الثالث: في أحكامه.
الباب (¬1) الثامن في [الاستثناء] (¬2) [وفيه ثلاثة فصول] (¬3) (¬4) ش: الاستثناء مصدر قولك: استثنى يستثني استثناء. وها هنا خمسة مطالب: وهي: ما اشتقاق الاستثناء؟، وما ألفاظه؟، وما مطالقه (¬5)؟، وما أدواته؟، وما حده؟. أما اشتقاقه، فقيل: من الصرف، وقيل: من العطف. ¬
أي [هو] (¬1) مأخوذ من قولهم: ثنيت فلانًا عن رأيه إذا صرفته عن رأيه، وقيل: مأخوذ من قولهم: ثنيت الثوبَ إذا عطفت بعضه على بعض (¬2). [ووجه المناسبة بين الاستثناء والصرف: أن الاستثناء يصرف الكلام عما كان عليه قبل الاستثناء] (¬3). ووجه المناسبة بينه وبين العطف: أن الاستثناء ينقص (¬4) المستثنى (¬5) منه كما ينقص [العطف] (¬6) الثوب في رأي العين. وأما ألفاظ الاستثناء، فهي ثلاثة: الاستثناء، والثُنْيَا، والثَنْوَى (¬7) إما بضم الثاء مع إبقاء الياء على حالها، وإما بفتح الثاء مع قلب الياء واوًا نظيره الفتيا والفتوى. وأما مطالقه، فإنه يطلق على معنيين: أحدهما: الإخراج بأدوات الاستثناء (¬8)، والمعنى الثاني: الشرط (¬9)، ومنه قوله عليه السلام: "مَنْ ¬
حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" (¬1)، أراد بالاستثناء شرط المشيئة، وهو [أن] (¬2) يقول: إن شاء الله (¬3). ومنه قول أبي محمد في الرسالة (¬4): ولا ثُنيا ولا كفارة إلا في اليمين بالله أو بشيء من أسمائه (¬5) وصفاته (¬6). [ومنه نهيه عليه السلام عن بيع الثُنْيَا (¬7)، ¬
أي: عن بيع الشرط؛ لأن العلماء قالوا: معناه: بيع وشرط (¬1)] (¬2)، وإليه أشار ابن الحاجب في كتاب البيوع، فقال: ومنه بيع وشرط/ 194/، وحُمِلَ على شرط يناقض مقصود العقد (¬3). مثل: ألاَّ يبيع ولا يهب، غير تنجيز العتق للسنة (¬4) (¬5). ¬
وأما أدوات الاستثناء فهي ثلاثة عشر (¬1)، وهي: إلا (¬2)، وغير، وسوى، وسُوى، وسواء، وليس، ولا يكون، وحاش، وخلا، وعدا، وماخلا، وماعدا، ولاسيما، فهذه ثلاثة عشر (1) (¬3). ولكن تعداد لاسيما في أدوات الاستثناء [إنما هو] (¬4) على مذهب أبي علي الفارسي (¬5) (¬6)، وأما على مذهب سيبويه فليس من أدوات الاستثناء وهو الصحيح (¬7)؛ لأن من شرط الاستثناء أن يكون حكم المستثنى مخالفًا ¬
لحكم المستثنى (¬1) منه (¬2). وحكم المستثنى في لاسيما موافق لحكم (¬3) المستثنى منه، بل يندرج في حكم المستثنى منه بأولى وأحرى. فقولك [مثلاً] (¬4): قام القوم لاسيما زيد، فقد دخل زيد في القيام بطريق الأولى والأحرى، فإن معنى قولك: لاسيما زيد، أي: لا مثل زيد، لأن سيَّ معناه: مثل، فإن لا حرف نفي وسيَّ اسمها (¬5) مبني معها، وما زائدة، [بين المضاف والمضاف إليه، كقوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} (¬6)] (¬7) (¬8). ¬
الفصل الأول في حده
وأما حد الاستثناء، فقد ذكره المؤلف في هذا الفصل [الأول] (¬1) وهو قوله: (الفصل الأول في حده: وهو عبارة عن إِخراج بعض ما دل اللفظ عليه (¬2) ذاتًا كان أو عددًا، أو ما لم يدل عليه، وهو إِما محل المدلول، أو أمر عام، بلفظ إِلا أو ما يقوم (¬3) مقامه) (¬4) (¬5). (¬6) ش: هذا الحد مركب من جنس وفصلين (¬7) فالجنس: هو الإخراج [لأن الإخراج] (¬8) يشمل الاستثناء والنسخ والتخصيص، والفصل الأول: هو الشيء المخرج، سواء دل عليه اللفظ أو لم يدل عليه، وإلى هذا الفصل ¬
[الأول] (¬1) أشار [المؤلف] (¬2) [بقوله] (¬3): "بعض ما دل (¬4) عليه اللفظ (¬5) " إلى قوله: "أو أمر عام". والفصل الثاني: هو الشيء الذي به يكون الإخراج، وإلى هذا الفصل [الثاني] (¬6) أشار المؤلف بقوله: "بلفظ إلا أو ما يقوم مقامه". قوله: (إِخراج بعض) (¬7)، احترازًا من النسخ؛ فإنه إخراج الكل (¬8). قوله: (ما دل اللفظ عليه) يعني: دلَّ عليه بالمطابقة (¬9)، نحو: قام القوم ¬
إلا زيدًا (¬1)؛ فإن زيدًا بعض القوم الذي دل عليه اللفظ بالمطابقة". قوله: (ذاتًا كان أو عددًا)، [هذا تنويع ما دل اللفظ عليه؛ أي] (¬2) سواء كان المستثنى ذاتًا (¬3)؛ أي جزءًا من المستثنى [منه] (¬4)، أو كان عددًا؛ أي [ذا] (¬5) آحاد (¬6)، فأطلق العدد على المعدود. قوله: (أو ما لم (¬7) يدل [اللفظ] (¬8) عليه) يعني: أو إخراج بعض ما لم يدل [اللفظ] (¬9) عليه بالمطابقة ولا بالتضمن، ولكن دل عليه بالالتزام. قوله: (وهو إِما محل المدلول أو أمر عام). ش: الضمير (¬10) في قوله: وهو، يعود على المستثنى، وهذا تنويع المستثنى الذي لم يدل اللفظ [عليه] (¬11) بالمطابقة ولا بالتضمن، فنوعه إلى نوعين: أحدهما: أن يكون محل المدلول، والثاني: أن يكون أمرًا عامًا. ¬
وسيأتي بيانهما الآن (¬1) (¬2). قوله: "بلفظ إِلا أو ما يقوم مقامه". ش: هذا هو الفصل الثاني من فصلي الحد وهو المخرج به. أي: وهو الشيء الذي يكون به (¬3) الإخراج، وهو أدوات (¬4) الاستثناء، وأراد بذلك جميع أدوات الاستثناء، وهي ثلاثة عشر، المذكورة أولاً. قوله: (بلفظ إِلا أو ما يقوم مقامه)؛ يعني: ما يقوم مقامه من أدوات الاستثناء، واحترز بذلك من سائر أنواع التخصيص؛ كالصفة والغاية وغيرهما (¬5). قوله: "فالذات (¬6) نحو رأيت زيدًا إِلا يده". ش: هذا بيان النوع الأول من الفصل الأول، وهو كون المستثنى ذاتًا أي: جزءًا؛ لأن يد زيد جزء (¬7) مما دل عليه اللفظ، أي جزء من أجزاء زيد. ¬
قوله: (والعدد إِما متناه (¬1) نحو [قوله] (¬2): عندى عشرة إِلا اثنين، أو غير متناه (¬3) نحو: اقتلوا المشركين إلا [أهل] (¬4) الذمة). ش: هذا بيان النوع الآخر من الفصل الأول وهو كون المستثنى عددًا، أطلق العدد على المعدود، يعني: أن العدد المستثنى على قسمين: محصور، وغير محصور. مثال المحصور وهو المتناهي: عشرة إلا اثنين؛ فإن الاثنين آحادًا (¬5) محصورةً (¬6) بالعدد. ومثال غير المحصور، وهو غير المتناهي: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، فإن آحاد الذميين غير محصور، أي غير متناه. فخرج من كلامه أن الاستثناء مما دل عليه اللفظ ثلاثة أشياء، وهي: ذات، [أو عدد] (¬7) متناه، أو عدد (¬8) غير متناه. قوله: (ومحل المدلول نحو: أعتق رقبة إِلا الكفار، وَصَلِّ إِلا عند ¬
الزوال، إِذا (¬1) قلنا (¬2): الأمر ليس للتكرار، [فإن] (¬3) الرقبة (¬4) أمر مشترك عام يقبل (¬5) التعيين (¬6) في محال (¬7) كثيرة من الأشخاص، فإِن كل شخص هو (¬8) محل لأَعَمِّه، وكذلك الفعل حقيقة كليَّة تقبل (¬9) الوقوع في أي زمان كان، فالأزمان (¬10) محال الأفعال (¬11)، والأشخاص محال الحقائق). ش: [هذا] (¬12) بيان النوع [الأول من] (¬13) المستثنى الذي [لم] (¬14) يدل عليه اللفظ، وهو محل المدلول، [ويريد بمحل المدلول أي: محل المطلق] (¬15) (¬16). قوله: (ومحل المدلول) أي: ومثال الاستثناء من محل المدلول، قولك: أعتق رقبة إلا الكفار؛ وذلك أن العتق يدل على الرقبة، والرقبة أمر كلي (¬17) ¬
يصدق على أشخاص متعددة، وهذا المعنى الذي هو الرقبة مدلول للعتق، ومحال هذا المدلول هي الأشخاص، ولا يدل [العتق على الأشخاص] (¬1)؛ لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص، وإنما يدل العتق على الرقبة [لأن] (¬2) الاستثناء (¬3) إنما يقع (¬4) من الأشخاص التي هي محال الرقبة، ولم يدل لفظ العتق على الأشخاص إلا بالملازمة. وقوله: (وصل إِلا عند الزوال)، فقولك: [صل] (¬5) يدل (¬6) على فعل الصلاة، ومحل المدلول الذي [هو] (¬7) فعل الصلاة [هو الزمان, ووقع الاستثناء ها هنا من الزمان الذي هو محل المدلول، والمدلول هو الصلاة، ولا يدل صل على الزمان إلا بالملازمة] (¬8). قوله: ([فإِن] (¬9) الرقبة (¬10) أمر مشترك عام) / 195/ أي: قدر مشترك بين جميع الرقاب القابلة (¬11) للعتق، مؤمنة أو كافرة، والمشترك بين أشياء (¬12) ¬
[هو] (¬1) [أعم من كل واحد منها. وأراد بقوله: مشترك عام: أنه أعم ولم يرد به العموم على بابه؛ لأن الرقبة مطلقة والمطلق لا عموم له، فلما] (¬2) كانت الرقبة المأمور بها أعم من خصوص كل رقبة، كانت بسبب ذلك قابلة لأن تقع في محال (¬3) كثيرة من أشخاص الرقاب على البدلية؛ لأن كل شخص هو محل لأعمه، أي لوجود أعمه. قوله: (وكذلك الفعل حقيقة كلية تقبل الوقوع في أي زمان كان). ش: هذا (¬4) بيان المثال الثاني، وهو قوله: "وصل إلا عند الزوال"، يعني: أن فعل الصلاة المأمور به إذا قلنا: إن الأمر لا يقتضي التكرار، فإن فعل الصلاة يقبل الوقوع، أي يمكن وقوعه في كل جزء من أجزاء الزمان على البدلية؛ لأن الجزء الذي يقع فيه غير معين؛ لأنه شائع في أجزاء الزمان، وبهذا الاعتبار سماه المؤلف: [حقيقة] (¬5) كلية، معناه: [هو] (¬6) أمر كلي مطلق. قوله: ([إِذا قلنا: الأمر ليس للتكرار) احترازًا مما (¬7) إذا قلنا: الأمر ¬
للتكرار (¬1)، فإن الفعل يستوعب جميع] (¬2) الأزمنة فيكون جميع الزمان ظرفًا لإيقاع (¬3) الفعل، وأما على القول بأن الأمر لا يكون للتكرار فالجزء الذي يكون ظرفًا لإيقاع (¬4) الفعل هو جزء واحد غير معين، وهو شائع [بين] (¬5) جميع الأجزاء الزمانية. قوله: (فالأزمان (¬6) [محال الأفعال])، هذا راجع إلى قوله: "وَصَلِّ إلا عند الزوال"، وقوله: "والأشخاص محال الحقائق"، راجع إلى قوله: "أعتق رقبة". قوله: (فالأزمان محال الأفعال) أي: محال لإيقاع (¬7) الأفعال (¬8). ¬
قوله: (والأشخاص محال الحقائق) أي: محال لوجود المعاني. قوله: (فالأزمان محال الأفعال والأشخاص محال الحقائق)، أدخل المؤلف الفاء على هذه (¬1) الجملة كالنتيجة عما تقدم (¬2) من المقدمات. قوله: (والأمر العام)، نحو قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} (¬3) أي: لتأتنني (¬4) به في كل حالة (¬5) من الحالات إِلا (¬6) حالة الإِحاطة بكم، فالحالة أمر عام لم يدل اللفظ عليها (¬7). ش: هذا بيان النوع الثاني من المستثنى الذي لم يدل عليه اللفظ وهو الأمر العام الذي أشار إليه بقوله: أو أمر عام، فالاستثناء في قوله تعالى: {إلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} (¬8) واقع من حالات غير مدلولة للفظ (¬9). [قوله: (والأمر العام) أي: ومثال الاستثناء من الأمر العام قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} الآية] (¬10). قوله: "وكذلك محال المدلول ليست مدلولة للفظ" (¬11). ¬
ش: يعني أن محال المدلول من الأشخاص والأزمان ليست مدلولة للفظ، أي: لا يدل اللفظ عليها بالتعيين. قوله: (فإِن فَرَّعْتَ على أن الاستثناء المنقطع مجاز، فقد كمل الحد، فإِنا إِنما نحد الحقيقة، وإِن قلت: هو حقيقة، زدت بعد قولك: أو أمر عام: أو ما يعرض في نفس المتكلم، وتكون (¬1) أو للتنويع كأنك قلت: أي شيء وقع على وجه من هذه الوجوه (¬2) فهو استثناء). ش: ومعنى قوله: "يعرض في نفس المتكلم"، أي: يظهر، يقال: عرض الشيء (¬3) إذا ظهر (¬4)، فيكون المستثنى الذي لم يدل عليه اللفظ على هذا ثلاثة أنواع، وهي (¬5): محل المدلول، وأمر عام، أو ما يظهر (¬6) في نفس المتكلم، فتشترك الثلاثة في كون اللفظ لا دلالة له على واحد منها (¬7)، وفي كون حكم ما بعد إلا مخالفًا لحكم ما قبلها، ولكن المحال والأمور العامة للفظ بها تعلق، بخلاف (¬8) المنقطع فلا تعلق للفظ به. قوله في حد الاستثناء: (إِخراج بعض ما دل اللفظ عليه ذاتًا كان أو عددًا أو ما لم يدل عليه، وهو إِما محل الدلول أو أمر عام بلفظ إِلا أو ما يقوم مقامه). ¬
هذا الحد هو حد الإمام فخر الدين في المحصول (¬1)، واعترض هذا الحد بأن قيل: قوله: "أو ما يقوم مقامه"، لا يخلو إما أن يريد ما يقوم مقام إلا في الاستثناء، [يلزم] (¬2) منه تعريف دوري، والتعريف الدوري محال؛ لأن الذي يقوم مقام إلا إنما يعرفه من يعرف الاستثناء، فذلك تعريف الاستثناء بما لا يعرف إلا بعد معرفته، وإن أراد ما يقوم مقام إلا في الإخراج يكون الحد غير مانع؛ لأنه يدخل فيه الشرط والصفة والغاية وغيرها من المخصصات؛ لأنها تقوم مقام إلا في الإخراج وليست باستثناء (¬3). واعترض الحد أيضًا في حصره ما لا يدل اللفظ عليه في نوعين وذلك قوله: "أو ما لم يدل عليه وهو إما محل المدلول أو أمر عام"، مع أن الذي لا يدل اللفظ عليه ثمانية أمور، وهي: الأسباب، والشروط، والموانع، والمحال، والأحوال، والأزمان، والأمكنة، ومطلق الوجود. قال المؤلف في الشرح في آخر هذا الباب (¬4): الاستثناء يقع في عشرة ¬
أمور: اثنان ينطق بهما، وثمانية لا ينطق بها (¬1). فاللذان ينطق بهما هما الأحكام والصفات، فالأحكام كقولك (¬2): قام القوم إلا زيدًا، ومثال الصفة (¬3) قوله تعالى: {أَفَمَا (¬4) نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إلا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} (¬5)، فاستثنى من صفتهم الموتة الأولى، وأما الثمانية التي لا ينطق بها فهي: الأسباب، والشروط، والموانع، والمحال، والأحوال، والأزمان، والأمكنة، ومطلق الوجود. مثال الاستثناء من الأسباب: لا عقوبة إلا بجناية. ومثال الاستثناء من الشروط: لا صلاة إلا بطهور. ومثال الاستثناء من الموانع: لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحيض. ومثال الاستثناء من المحال: أكرم رجلاً (¬6) إلا زيدًا وعمرًا وبكرًا (¬7) / 196/ فإن كل شخص هو محل لأعمه. ومثال الاستثناء من الأحوال: قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَنْ يُحَاطَ ¬
بِكُمْ} (¬1) أي: لتأتنني به في كل حالة من الحالات إلا حالة الإحاطة بكم، فإني أعذركم. ومثال الاستثناء في الأزمان: صل إلا عند الزوال. ومثال الاستثناء في الأمكنة: صل إلا عند المجزرة (¬2) والمزبلة. ومثال الاستثناء من مطلق الوجود مع قطع النظر عن الخصوصات: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} (¬3) يعني: الأصنام التي (¬4) يعبدونها (¬5)، أي: لا حقيقة لها إلا مجرد اللفظ، ولا وجود لها إلا وجود اللفظ، فوقع الاستثناء من مطلق الوجود على سبيل المبالغة في النفي. فهذه الثمانية لم تذكر قبل الاستثناء، وإنما تعلم بما يذكر بعد الاستثناء من فرد منها (¬6)، فيستدل بذلك الفرد على أن جنسه هو الكائن قبل الاستثناء، ويعلم حينئذ أن الاستثناء في هذه الأمور الثمانية هو استثناء متصل؛ لأنه استثناء من الجنس، والحكم فيه بالنقيض بعد إلا، فلما أشار المؤلف في الشرح إلى هذه (¬7) الاعتراضات المذكورة (¬8) قال في الشرح: ¬
الذي ينبغي أن يقال في حد الاستثناء: ما يدخل (¬1) في الكلام لإخراج بعضه، أو بعض أحواله، أو متعلقاته، مع ذكر لفظ المُخْرَج، ولا يستقل بنفسه (¬2). فقولنا: لإخراج (¬3) بعضه، احترازًا من النسخ (¬4) فإنه يبطل الكل (¬5). وقولنا: أو بعض أحواله أو متعلقاته ليندرج في الحد ما لم يدل اللفظ عليه، وهو ثمانية أشياء وقد تقدمت. وقولنا: مع ذكر المُخْرَج، احترازًا من الصفة والغاية والشرط؛ فإن الخارج بسببها (¬6) لم يذكر لفظه، فإن قولك في الصفة: اقتلوا المشركين المحاربين، وكذلك قولك [في الغاية] (¬7): اقتلوا المشركين حتى يتركوا الحرابة، وكذلك قولك في الشرط: اقتلوا المشركين إن حاربوا، فإن هذا كله خرج منه أهل الذمة مع أن لفظهم لم يذكر، بخلاف قولنا: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، فهذا استثناء؛ لأن لفظ المخرج مذكور، وقولنا: ولا يستقل بنفسه احترازًا مما يستقل بنفسه من الجمل، كقولك: اقتلوا المشركين لا ¬
تقتلوا أهل الذمة، وكذلك قولنا: قام زيد ولم يقم عمرو (¬1) (¬2)، قال المؤلف في الشرح: [هذا الحد] (¬3) منطبق على الاستثناء (¬4). ... ¬
الفصل الثاني في أقسامه
الفصل الثاني في أقسامه (¬1) ش: أي في بيان تقسيم (¬2) الاستثناء. قوله: (وهو ينقسم إِلى: الإِثبات والنفي، والمتصل والمنقطع). ش: الضمير المرفوع في قوله: (وهو ينقسم)، يعود على الاستثناء أي: ينقسم الاستثناء باعتبار التصديق (¬3) إلى الإثبات والنفي (¬4)، وينقسم باعتبار ¬
التصور (¬1) إلى المتصل والمنقطع (¬2). قوله: (¬3) (وينقسم إِلى الإثبات والنفي) اعترضه بعضهم بأن قال: قسم المؤلف الاستثناء إلى الإثبات والنفي (¬4) مع أن الموصوف بالإثبات [والنفي] (¬5) هو المستثنى منه لا الاستثناء (¬6). أجيب عنه: بأن الاستثناء في النفي إثبات، والاستثناء من الإثبات نفي، فيكون الاستثناء أيضًا موصوفًا (¬7) بالإثبات والنفي وهو مراد ¬
المؤلف (¬1). قوله (¬2): (والمتصل والمنقطع)، زاد الباجي قسمًا ثالثًا، وهو: لا متصل ولا منقطع، وهو استثناء الجزء من الكل نحو: رأيت زيدًا إلا يده (¬3)، فإن نظرت إلى كونه إخراج بعض من كل أشبه (¬4) المتصل، وإن نظرت إلى عدم تماثل (¬5) أجزائه أشبه المنقطع، فصار (¬6) لذلك قسمًا ثالثًا (¬7). وقال الجمهور: رده إلى المتصل أولى، لأن أجزاء زيد متماثلة (¬8) من حيث هي أجزاء، واختلاف تلك الأجزاء من جهة (¬9) أخرى لا يضر (¬10)، كما يقال في قولك: قام القوم إلا زيدًا (¬11) لم يقم، [فإن هذا متصل] (¬12) باتفاق، [فإن المستثنى] (¬13) مع القوم متماثلة (¬14) في الإنسانية، ولا يضر اختلافهما من ¬
جهة أخرى، كالطول والقصر والبياض والسواد والعلم والجهل وغير ذلك. قوله: (وضبطهما مشكل فينبغي أن تتأمله). ش: ضمير التثنية يعود على المتصل والمنقطع. قوله: (فإِن كثيرًا من الفضلاء (¬1) يعتقدون (¬2) أن المنقطع عبارة عن الاستثناء (¬3) من غير الجنس). ش: يعني أن كثيرًا من العلماء [كالباجي وغيره] (¬4) يقولون (¬5) [في تفسير الاستثناء] (¬6) المنقطع: (¬7) هو الاستثناء من غير الجنس [ويقولون في تفسير الاستثناء المتصل: هو الاستثناء من الجنس (¬8)، قال المؤلف في شرح المحصول: لا تكاد تجد في كتب الأدباء والنحاة والأصوليين إلا هذا، وهو غلط في القسمين (¬9). قوله: (وليس كذلك). ¬
ش: يعني أن الاستثناء المنقطع أيضًا قد يكون من الجنس] (¬1)، وذلك إذا حكم بغير النقيض. واعلم أن ضابط المتصل والمنقطع على مراد المؤلف: أن المتصل هو الاستثناء من الجنس والحكم بالنقيض كقولك: قام القوم إلا زيدًا لم يقم، فهذا متصل باتفاق؛ لأن زيدًا من جنس القوم، ونقيض القيام عدم القيام، فقد وجد فيه القيدان. والاستثناء المنقطع: هو الاستثناء من غير الجنس، أو الحكم بغير النقيض، وإن كان الاستثناء من الجنس، مثال الاستثناء من غير الجنس والحكم بالنقيض: قام القوم إلا حمارًا لم يقم، ومثال الاستثناء من غير الجنس والحكم بغير النقيض: قام القوم إلا حمارًا لم يخرج، ومثال الاستثناء من/ 197/ الجنس والحكم (¬2) بغير النقيض: قام القوم إلا زيدًا لم يخرج. فالحاصل من كلام المؤلف: أن المتصل مركب من قيدين، وهما: الجنس والحكم بالنقيض، وأما المنقطع فليس بمركب؛ إذ لا يشترط فيه إلا قيد واحد وهو خلاف الجنس أو خلاف النقيض على البدلية (¬3). قوله: (فإِن قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (¬4) ¬
منقطع على الأصح مع أن المحكوم عليه بعد إِلا هو بعض المحكوم عليه أولاً ومن جنسه) (¬1). ش: هذا دليل على أن الاستثناء من الجنس قد يكون منقطعًا ولو كان من الجنس إذا حكم فيه بغير نقيض حكم المستثنى منه؛ وذلك أن المحكوم عليه في هذه الآية أولاً هو جملة أفراد الموت والمحكوم عليه بعد إلا هو بعض أفراد الموت ومن جنسه. قوله: (وكذلك قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا (¬2) أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} (¬3) منقطع مع أن المحكوم عليه بعد إِلا هو عين (¬4) الأموال التي ¬
حكم عليها قبل إِلا) (¬1). ش: هذا مثال آخر للاستثناء المنقطع مع أنه من الجنس؛ لأنه حكم فيه [بغير] (¬2) نقيض حكم المستثنى منه، فتبين بهذا التقرير أن قولهم في حد الاستثناء المنقطع هو الاستثناء من غير الجنس، غير جامع؛ لأن المنقطع يكون أيضًا (¬3) في الجنس الواحد إذا حكم بغير النقيض [كما] (¬4) في هاتين الآيتين الكريمتين. قوله: (بل ينبغي أن تعلم أن المتصل: عبارة عن أن تحكم على جنس ما جكمت عليه أولاً بنقيض ما حكمت به أولاً، فمتى انخرم قيد من هذين القيدين كان منقطعًا، فيكون المنقطع هو أن تحكم على غير جنس ما حكمت ¬
عليه أولاً أو بغير نقيض حكمت به أولاً، وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعًا للحكم فيهما بغير النقيض، فإِن نقيض {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ}، يذوقون فيها ولم يحكم به، بل الذوق (¬1) في الدنيا، ونقيض {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، كلوها بالباطل، ولم يحكم به، وعلى هذا الضابط تُخَرَّج (¬2) جميع أقوال العلماء في الكتاب والسنة ولسان العرب (¬3)). قوله (¬4) تعالى في الآية الأولى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (¬5) منقطع على الأصح. ش: لا بد ها هنا من بيان الاتصال والانقطاع، وكون الانقطاع فيها أصح، وبيان ذلك: أن الذوق حقيقة في إدراك الطعوم بحاسة اللسان، ولا يصح حمل الذوق في هذه الآية على هذه الحقيقة؛ فلا بد من حمله على المجاز، وله مجازان: أحدهما: إدراك ما قام بالإنسان من غنى، أو فقر، أو ولاية، أو موت، أو غير ذلك؛ لأنه يقال: ذاق فلان الغنى، أو ذاق (¬6) الفقر، أو ذاق الولاية، أو ذاق [الموت، أو] (¬7) غير ذلك، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ¬
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬1). والمجاز الثاني: هو أصل الإدراك، وهو مطلق العلم، والعلاقة بين المجازين المذكورين والحقيقة المذكورة: اشتراك الجميع في مطلق الإدراك (¬2)، فاختلف العلماء في محمل (¬3) الذوق في الآية، هل يحمل على إدراك ما قام بالإنسان أو يحمل على العلم؟ حجة القول بحمله على ما قام بالإنسان من موت: أن هذا المجاز أقرب إلى الحقيقة؛ لأن الحقيقة فيها ثلاثة أوصاف وهي: الإدراك، والطعم، وكونه قائمًا بالمدرك، ولم يعدم من هذه الأوصاف في هذا المجاز إلا وصف واحد وهو الطعم، ووجد فيه الوصفان الباقيان وهما (¬4): الإدراك، وكونه قائمًا بالمدرك. وأما المجاز الثاني فقد عدم فيه وصفان، وهما: الطعم، وكونه قائمًا بالمدرك، وأما المجاز الأول فلم يعدم فيه إلا وصف واحد، ولذلك قلنا: ¬
هو أقرب إلى الحقيقة؛ فالحقيقة مقدَّم، والأقرب إلى المقدم مقدم على الأبعد عن (¬1) المقدم، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعًا؛ لأن الحكم فيه بغير النقيض؛ لأن الموت لا يقوم (¬2) بهم في الجنة (¬3)، وهو مذهب المؤلف (¬4). وحجة القول بحمل الذوق على العلم: أن الأصل في الاستثناء الاتصال (¬5)، فمتى أمكن ذلك لا يعدل عنه تغليبًا للأصل، وهو ممكن ها هنا، فتقديره: لا يعلمون فيها الموت إلا الموتة الأولى، فإنهم يعلمونها في الجنة، فيكون الاستثناء على هذا القول متصلاً؛ لأنه اجتمع فيه القيدان، الاستثناء من الجنس، والحكم بالنقيض؛ لأن نقيض لا يعلمون فيها الموت: يعلمون فيها الموت (¬6). فسبب الخلاف إذًا في الاستثناء في هذه الآية، هل هو متصل أو منقطع (¬7): هو الخلاف في معنى الذوق، فمن قال: معناه العلم، قال: [هو] (¬8) متصل ومن قال: معناه الإدراك (¬9)، قال: هو منفصل (¬10). ¬
وقوله (¬1) تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (¬2)، هذه الآية تقتضي أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة، وهذا مخالف لقوله تعالى في آية أخرى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (¬3)، فهذه الآية تقتضي أن الإنسان يموت مرتين (¬4)، وما الجمع (¬5) بين الآيتين؟ أجيب عن ذلك بأن قيل: الآية التي تقتضي موتتين (¬6) إنما هي في الأجساد، والآية التي تقتضي موتة واحدة إنما هي في الأرواح؛ وذلك أن الأجساد فيها موتتان: إحداهما (¬7) موتهم حيث كانوا نطفًا، والموتة الثانية (¬8) حين حل أجلهم، وأما الأرواح فلا تموت إلا موتة واحدة، وذلك عند النفخة الأولى وهي نفخة الصعق (¬9) ............................... ¬
(¬1) كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (¬2) (¬3). قوله: {فَصَعِقَ} (¬4): فمات، وقوله: {إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} اختلف (¬5) في هذا المستثنى/ 198/ قيل: أزواج الأنبياء، وقيل: أرواح الشهداء، وقيل: طائفة من الملائكة، وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (¬6)، واختلف في آخر هؤلاء الأربعة موتًا، قيل: جبريل، وقيل: ملك الموت (¬7). ¬
وقيل: المستثنى هو الله وحده، وقيل: المستثنى اثنا عشر: حملة العرش الثمانية، والحور، ورضوان، وخازن النار، والزبانية، ذكر هذه الأقوال ابن العربي في القانون (¬1) (¬2)، [واعلم أن الجن من الصاعقين في ذلك الوقت؛ لأنهم لا يموتون إلى ذلك الوقت، قال الرجراجي (¬3) في مناهج التحصيل (¬4) في كتاب الأيمان والنذور: والصحيح أن إبليس ليس من ¬
الملائكة، وهو أَبو الجن كلهم مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن منهم يقال له: جني والكافر منهم يقال له: شيطان (¬1)، كما أن آدم أَبو الإنس مؤمنهم وكافرهم. انتهى نصه] (¬2) (¬3). ... ¬
الفصل الثالث في أحكامه
الفصل الثالث (¬1) في أحكامه (¬2) ش: ذكر المؤلف في هذا الفصل من أحكام الاستثناء ست (¬3) مسائل وفائدتين. قوله: (اختار الإِمام أن المنقطع مجاز، ووافقه القاضي عبد الوهاب). ش: ذكر المؤلف ها هنا الخلاف (¬4) بين العلماء في كون الاستثناء المنقطع (¬5) حقيقة أو مجازًا (¬6)، ولم يذكر الخلاف في جوازه، مع أن ذكر الخلاف في جوازه، أسبق من ذكر الخلاف في كونه حقيقة، أو مجازًا (¬7)؛ [لأن كونه حقيقة أو مجازًا] (¬8) هو فرع عن جواز استعماله، فإذا صح استعماله في الكلام، فحينئذ يقال: هذا الاستعمال هل هو حقيقة أو مجاز؟ فتكلم المؤلف على الفرع وعدل عن الكلام في (¬9) الأصل الذي هو جواز استعماله. ¬
وذلك أن العلماء قد اختلفوا في جواز الاستثناء من غير الجنس، هل يجوز استعماله؟، قاله الجمهور من أرباب العلم (¬1)، أو لا يجوز استعماله؟ قاله طائفة منهم القاضي ابن العربي (¬2) وأنكر (¬3) القاضي عبد الوهاب عدم جوازه، قال في الإفادة (¬4): القول بمنعه فاسد؛ لأن استعماله غير مدفوع، ¬
وإنما الخلاف في كونه حقيقة أو مجازًا، والأقرب أنه مجاز. يحتمل أن يكون المؤلف إنما سكت عن الخلاف في جوازه، لضعف القول بمنعه وفساده (¬1)، كما قال القاضي عبد الوهاب. ويحتمل أن يقال: لم يسكت المؤلف عن الخلاف في جوازه، بل هو المشار إليه بقوله: وفيه خلاف؛ أي: وفي جواز استعماله خلاف. واعلم أن استعمال المنقطع الذي هو محل الخلاف بين العلماء، هو (¬2) الاستثناء من غير الجنس نحو: رأيت القوم إلا حمارًا. وأما الاستثناء من الجنس إذا حكم فيه بغير النقيض فلا خلاف في جواز استعماله، نحو: رأيت القوم إلا زيدًا لم أضربه (¬3) (¬4). ¬
فمحل الخلاف إذًا إنما هو الاستثناء من غير الجنس، والذي عليه الجمهور هو القول بالجواز، والدليل على ذلك: القرآن، وكلام العرب (¬1). فمن القرآن: قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إلا إِبْلِيسَ} (¬2)، الظاهر أن إبليس ليس من جنس الملائكة، لقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} (¬3). قال أَبو المعالي في التلخيص: [الأصح] (¬4) أنه ليس من الملائكة (¬5). [قال الرجراجي في مناهج التحصيل: والصحيح أن إبليس ليس من الملائكة] (¬6) وهو أَبو (¬7) الجن كلهم [مؤمنهم وكافرهم، كما أن آدم عليه السلام أَبو البشر] (¬8) مؤمنهم وكافرهم (¬9) (¬10). ¬
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬1)، فإن الرب قال وعلا لا يفهم من الكلام السابق (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً} (¬3) فإن الخطأ لا يندرج تحت أقضية التكليف؛ لأنه غير مقصود إليه ولا مشعور (¬4) به (¬5). وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إلا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (¬6) فهذا استثناء من غير الجنس؛ لأن السلام ليس من اللغو ولا من ¬
التأثيم (¬1). وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) (¬3). وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (¬4)، والظن ليس من جنس العلم (¬5). وقوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (¬6)، فعاصم ¬
فاعل، ومن رحم مفعول، وهو معصوم، فالمفعول ليس بفاعل وهو كثير في القرآن (¬1). وأما الدليل من كلام العرب؛ فمنه قول النابغة: وقفت فيها أُصَيْلانًا أسَائِلُها (¬2) ... عَيَتْ (¬3) جوابًا وما بالرِبْع من أحد إلا الأواري لأيًا ما أُبَيِّنُهَا ... والنُؤْي كالحوض بالمظلومة (¬4) الجلد (¬5) فالأواري ليست من جنس الأحد، لأن أحد (¬6) المراد به الإنسان، ¬
فالأواري هي مرابط الخيل مفرده أري (¬1)، واللأي: معناه البطء (¬2)، والنؤي: هو التراب الذي يستدار به حول الخباء لئلا يدخله السيل (¬3)، والمظلومة الجلد: الأرض الصلبة (¬4)، ومعنى الكلام: ليس في الدار إلا مرابط الخيل والتراب [المستدير] (¬5) الذي [كان] (¬6) يستدير بالخباء لا أتبين ذلك إلا بعد بطء (¬7). ¬
وقال آخر (¬1): [و] (¬2) لا عيب فينا غير أن سيوفنا ... بهن فلول من قُرَاع الكتائب (¬3) فإن الفلول (¬4) من قراع الكتائب ليس بعيب، فإنه يمدح قومه بالشجاعة وعدم الفرار عند اللقاء (¬5). وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس ... الا اليَعَافِيْر وإلا العِيْس (¬6) أمسى سقام خلاء لا أنيس به ... إلا السباع ومر الريح (¬7) باَلغرف (¬8) ¬
وقد كثير (¬1) الاستثناء من غير الجنس في كلام العرب نثره ونظمه، فدل ذلك على جوازه. وحجة القول بمنع الاستثناء من غير الجنس: أن الاستثناء مأخوذ من الصرف، ومنه قولهم/ 199/: ثنيت فلانًا عن رأيه إذا صرفته عنه، ولا يتحقق هذا المعنى في الاستثناء من غير الجنس، وإنما يتحقق في الاستثناء من الجنس (¬2). قوله: (اختار (¬3) الإِمام أن المنقطع مجاز، ووافقه القاضي (¬4) (¬5)، وفيه خلاف). ¬
ش: هذه (¬1) المسألة الأولى من أحكام الاستثناء، وهي (¬2) كون الاستثناء المنقطع حقيقة أو مجازًا، فذكر المؤلف في ذلك قولين: قال جمهور العلماء: هو مجاز (¬3). وهو مختار الإمام الفخر (¬4)، والقاضي عبد الوهاب (¬5). قوله: (وفيه خلاف)، قيل معناه: وفي جوازه خلاف، أي: وفي جواز الاستثناء المنقطع خلاف، قيل بجوازه وهو المشهور كما قدمناه، وقيل بعدم جوازه كما قدمناه أيضًا عن ابن العربي وغيره، وقيل: معنى قوله: "وفيه خلاف": أي وفي كون الاستثناء المنقطع حقيقة أو مجازًا خلاف، ولكن هذا التأويل فيه (¬6) تكرار في المعنى؛ لأن قوله: "اختار الإمام أن المنقطع مجاز". يقتضي الخلاف في كونه حقيقة أو مجازًا. وسبب الخلاف في هذا: أن العرب هل وضعت "إلا" لتركبها مع جنس ¬
ما قبلها، أو لتركبها مع الجنس وغيره (¬1)؟، فمن قال بالأول، قال: المنقطع مجاز في التركيب، ومن قال بالثاني، قال: هو حقيقة، هذا كله إذا قلنا: إن (¬2) العرب وضعت المركبات كما وضعت المفردات، وهي (¬3) مسألة خلاف (¬4)، وأما إذا قلنا: بأن العرب لم تضع إلا المفردات ولم تضع المركبات، فيكون الاستثناء مطلقًا مجازًا لغويًا، سواء كان متصلًا أو منقطعًا، وهو مجاز في التركيب. واختار الإمام: أن المجاز المركب عقلي [بناء] (¬5) على أن العرب لم تضع المركب (¬6). قوله: (وذكر القاضي أن قول القائل: له عندي مائة دينار إِلا ثوبًا، من هذا الباب، وأنه (¬7) جائز على المجاز، وأنه يرجع إِلى المعنى بطريق ¬
[القيمة] (¬1)). [ش: أراد] (¬2) بالقاضي (¬3) عبد الوهاب، وقوله: ([له] (¬4) عندي مائة دينار إِلا ثوبًا، من هذا الباب) أي: من هذا الباب الذي هو [باب] (¬5) الاستثناء المنقطع؛ لأنه استثناء من غير الجنس؛ لأن جنس الثوب مخالف لجنس الدنانير. قوله: (وأنه جائز)، خلافًا لمن قال: لا يجوز الاستثناء من غير الجنس، كما قال ابن العربي وغيره كما تقدم، قال ابن الحاجب في كتاب "الإقرار": واستثناء غير الجنس مثل: ألف ثوب (¬6) إلا عبدًا، يصح على الأصح، وتسقط قيمة العبد (¬7). قوله: (وتسقط قيمة العبد)، يعني: يصفه المقر ويقوم، ثم تسقط تلك القيمة من الألف، وقوله: (على المجاز)، خلافًا لمن قال: هو حقيقة (¬8). ¬
قوله: (وأنه يرجع إِلى المعنى بطريق القيمة) أي: يرجع إلى معنى المتصل بطريق القيمة؛ يعني قيمة الثوب، فهذا استثناء من لازم المنطوق (¬1)؛ لأن من لوازم مائة دينار قيمة الثوب؛ لأن الدنانير تقوم بها الأشياء، فلما كانت القيمة تلازم (¬2) الدنانير، صح استثناء قيمة الثوب منها، فهو في المعنى استثناء القيمة من القيمة (¬3)، واختلف الأصوليون في كيفية تقدير هذا الموضع (¬4): فمنهم من يقول (¬5): عبر بالثوب عن القيمة (¬6) من غير حذف، فيكون لفظ الثوب على هذا مجاز (¬7)، ومنهم من يقول: فيه حذف مضاف، تقديره: إلا قيمة ثوب (¬8)، فيكون لفظ الثوب على هذا مستعملًا في حقيقته، فيكون مجاز الحذف، والمعنى في التقديرين (¬9) واحد (¬10). قوله: ((¬11) خلافًا لمن قال: [إِنه] (¬12) مقدر بلكن (¬13)). ¬
ش: أي خلافًا لمن قال: إن الاستثناء المنقطع مقدر بلكن (¬1) (¬2). وقوله: ([أيضًا] (¬3) خلافًا لمن قال: إِنه مقدر بلكن (¬4))، قال المؤلف في الشرح: هذه العبارة وافق عليها الإمام فخر الدين القاضي عبد الوهاب (¬5). وهي عبارة باطلة، بسبب أن الاستثناء المنقطع عند الناس أجمعين (¬6) ¬
مقدر بلكن (¬1)، ومعنى هذا التقدير: أن إلا في هذا المقام تشبه لكن (¬2)، من جهة أن لكن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها (¬3) كما تقدم في الباب الثاني في معاني الحروف في قوله: ولكن للاستدراك بعد النفي، نحو: ما جاءني (¬4) زيد لكن عمرو (¬5)، هذا التقدير بلكن هو تقدير البصريين (¬6)، وقدره الكوفيون بسوى (¬7)، ووجه (¬8) هذا التقدير أيضًا، هو مخالفة ما بعد سوى لما قبلها، كما هو حال إلا (¬9) ورجح البصريون مذهبهم بأن لكن حرفٌ، وإلا حرفٌ، فتقدير الحرف بالحرف أولى من تقدير الحرف بالاسم؛ لأن إلا حرفٌ وسوى اسم (¬10). فإن قلت: هذه المخالفة الحاصلة في الاستثناء المنقطع هي حاصلة في ¬
الاستثناء المتصل أيضًا، فينبغي أن تقدر إلا في المتصل بلكن، ولا قائل (¬1) بذلك التقدير في الاستثناء المتصل، جوابه: أن ما قبل إلا في المنقطع لا يدل على ما بعدها، كما أن لكن لا يدل ما قبلها على ما بعدها، بخلاف المتصل؛ فإنه يدل ما قبل إلا على ما بعدها (¬2). قوله: (ولمن قال إِنه كالمتصل). ش: أي: وخلافًا أيضًا لمن قال: إن الاستثناء المنقطع كالمتصل في كونه حقيقة (¬3)، هذا القول مقابل قوله أولًا: "وأنه جائز على المجاز". فذكر المؤلف إذًا في الاستثناء المنقطع على القول بجوازه قولين: قول بالمجاز وقول بالحقيقة، أشار إلى القول بالمجاز بقوله: "جائز على المجاز"، وأشار إلى القول بالحقيقة بقوله: "ولمن قال إنه كالمتصل"، وسبب الخلاف قد تقدم وهو: هل وضع "إلا" للتركيب الخاص أو للتركيب العام (¬4)؟. فإذا قلنا: بأن المنقطع حقيقة كالمتصل، فإطلاق [لفظ] (¬5) الاستثناء عليهما [فيه] (¬6) قولان: قيل بالاشتراك اللفظي، وقيل بالاشتراك المعنوي (¬7). ¬
قوله: (ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة). ش: هذه هي/ 200/ المسألة الثانية من أحكام الاستثناء، قوله: "عادة" أي: يجب اتصال الاستثناء في اللفظ، أو (¬1) في حكم المتصل في اللفظ، كانقطاعه بسعال، أو عطاس، أو تثاؤب، أو بلع الريق، أو بعطف الجمل بعضها على بعض (¬2) فيستثني بعد ذلك، فإن ذلك كله لا يقدح في الاتصال؛ لأنه متصل عادة. قوله: (خلافًا لابن (¬3) عباس رضي الله عنهما)، قال الإِمام: إِن صح عنه ¬
النقل (¬1) يحمل على ما إِذا نوى عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك (¬2). ش: اختلف في صحة هذا النقل عن ابن عباس (¬3) رضي الله عنه، فقيل: ¬
لا يصح هذا عن ابن عباس، وقيل: يصح، فعلى القول بعدم الصحة لا كلام، وعلى القول بصحة النقل عنه، هل ذلك مطلق في الزمان أو مقيد بسنة؟ قولان عن ابن عباس (¬1)، وإذا قلنا أيضًا بصحة النقل مطلقًا في الزمان أو مقيدًا به، فهل الاستثناء مطلق في معانيه أو [هو] (¬2) مقيد (¬3) بأحد معنييه (¬4) وهو التعليق بمشيئة الله تعالى؟ لأن الاستثناء له معنيان: أحدهما: الاستثناء بإلا وأخواتها، والثاني: التعليق على مشيئة الله تعالى، لقوله عليه السلام: "من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" (¬5). معنى قوله عليه السلام: "واستثنى": قال: إن شاء الله، وهذا القول هو مختار المؤلف في شرحه (¬6)، قال الإمام المازري في شرح البرهان (¬7): المنقول عن المالكية هو الاستثناء بالمشيئة إذا نواه (¬8) هل تنحل به اليمين أم لا؟ قال: ¬
وعن ابن عباس [في تأخير المشيئة] (¬1) روايتان: قيل: مطلقًا، وقيل: سنة (¬2). وإذا قلنا أيضًا بصحة النقل إطلاقًا أو تقييدًا في زمانه أو معانيه، فهل ذلك مطلق في اعتقاده أو مقيد (¬3) بما إذا نواه عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك؟ وهذا القول هو الذي حكاه المؤلف عن الإمام (¬4) [فهذه خمسة أقوال] (¬5). القول السادس: أنه مقيد بما إذا أضمره (¬6) عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك، ذكره إمام الحرمين (¬7). القول السابع: أن ذلك مقيد بما إذا نواه وأضمره معًا، نقله إمام الحرمين في البرهان (¬8) [أيضًا] (¬9). القول السابع (¬10): أن ذلك مختص بكتاب الله عز وجل. ¬
فهذه سبعة أقوال: لا يصح مطلقًا (¬1)، يصح مطلقًا، وهذان القولان (¬2) متقابلان، ثالثها: مقيد بسنة (¬3) (¬4)، ورابعها (¬5) مقيد بالمشيئة، وخامسها (¬6) [مقيد] (¬7) بالنية، وسادسها (¬8): [بالإضمار, سابعها] (¬9) بالنية والإضمار معًا، ومعنى الإضمار هو الإيقاع بالضمير، [وسابعها: مختص بكتاب الله عز وجل] (¬10). حجة القول بجواز التأخير مطلقًا: قوله تعالى: {غَيْرُ أُوْلي الضَّرَرِ} (¬11) (¬12) لما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} (¬13) شكا ذلك ابن أم مكتوم (¬14)، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لضعفه عن الجهاد؛ لأنه ¬
أعمى، فنزل قوله تعالى: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} (¬1)، فهذا يدل على جواز تأخير الاستثناء مطلقًا (¬2). أجيب عنه: بأنه خبر واحد والمسألة علمية ولا يكتفى فيها بالظن. وحجة القول بتقييد ذلك بسنة (¬3) كما روي عن ابن عباس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ...} (¬4) الآية إلى قوله: {مُهَانًا} (¬5) نزلت هذه الآية فلما كان بعد سنة نزل قول الله تعالى: {إلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَاُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬6) (¬7). ¬
وحجة القول بتقييد ذلك بمشيئة الله تعالى: قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬1) وبيان ذلك: أنه عليه السلام سأله (¬2) اليهود عن لبث (¬3) أصحاب الكهف، قال لهم: غدًا أجيبكم، ولم يقل: إن شاء الله، فتأخر عنه الوحي بضعة عشر يومًا، ثم نزل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أَن يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن شاء الله"، إلحاقًا لقوله أولًا: "غدًا أجيبكم" (¬4) (¬5)، ومعنى قوله تعالى: {وَاذْكر (¬6) رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: [إن لم تستثن عند] (¬7) القول فاستثن بعد ذلك (¬8)، والمراد ¬
بالاستثناء ها هنا هو مشيئة الله تعالى، وهو أن يقول: إن شاء الله (¬1). أجيب عن هذا: بأن قوله عليه السلام: إِن شاء الله، ليس ملحقًا بخبره (¬2) الأول (¬3)، وإنما هو عائد على فعل مقدر كأنه يقول: أقول: إن شاء الله عند قولي: أفعل كذا وكذا، ومثال هذا: إذا قلت لغيرك: افعل كذا، فيقول لك: إن شاء الله، أي: أفعل ذلك إن شاء الله (¬4). وحجة القول بتقييد ذلك بما إذا نواه: أن النية لها تأثير في الأحكام لقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" أجيب عن هذا: بأنه لا يصح في جميع الصور؛ إذ لا يخلو صاحب هذا القول: إما أن يريد الاستثناء بمشيئة الله تعالى، وإما أن يريد الاستثناء بأدوات الاستثناء، فإن أراد بذلك الاستثناء بمشيئته تعالى، فلا يصح؛ لأنه لا بد من التلفظ به؛ لأنه سبب حل اليمين ولا تكفي فيه النية. قال ابن الحاجب: ولا تفيد نية الاستثناء إلا بلفظه (¬5). ¬
وإن أراد الاستثناء بأدواته، فإما أن يكون ذلك في النصوص، وإما أن يكون (¬1) في الظواهر، فإن كان ذلك في النصوص فلا يصح؛ لأن النص لا يستثنى منه بالنية، فإذا قلت: له عندي عشرة، وتنوي بها ثمانية، ثم تبين بعد ذلك مرادك فلا يصح ذلك الاستثناء. وإن كان ذلك في الظواهر مثل إطلاق العام ويريد به الخاص ثم يفسره [بعد] (¬2) ذلك (¬3)، مثل أن يقول: نساؤه طوالق ونوى بعضهن. ثم بعد ذلك فسر مراده منهن، فها هنا خاصة يمكن التقييد بالنية، فلا يصح تقييده بالنية إذًا إلا في الظواهر إذا خصصت بأدوات الاستثناء، ولا يصح ذلك في النصوص ولا في مشيئة الله تعالى. وحجة القول بتقييده/ 201/ بما إذا أضمره: أن الكلام (¬4) حقيقة في النفساني (¬5)، فإذا أضمر الاستثناء في نفسه [أي: أوقعه في نفسه] (¬6) فإنه ينفعه ¬
إذا فسره بعد ذلك، ولا يكفيه مجرد النية وهي (¬1) القصد إلى إيقاعه؛ لأن القصد إلى إيقاع الشيء ليس بإيقاع له إجماعًا، فإن من قصد (¬2) إيقاع الطلاق ثم بدا له [ألا يطلق] (¬3) فلا يلزمه الطلاق إجماعًا (¬4) (¬5). قال المسطاسي: تنبه لهذا القول، فإن أكثر الناس (¬6) ممن لم يميز (¬7) في علم الأصول (¬8) ينكره (¬9). وحجة القول بتقييده بالنية والإضمار معًا: أن الكلام حقيقة في اللساني مجاز في النفساني (¬10) .......................................... ¬
والمجاز لا بد معه من النية والله أعلم (¬1). وحجة القول بأن ذلك مختص بكتاب الله عز وجل دون غيره: أن الكلام الأزلي واحد، وإنما الترتيب في (¬2) جهات الوصول إلى المخاطبين (¬3) (¬4). أجيب عن هذا: بأن ذلك ليس محل النزاع؛ فإن الكلام في العبارات التي بلغتنا (¬5)، وهي محمولة على كلام العرب، فإن المنقول عن ابن عباس جواز تأخير الاستثناء عن المستثنى منه (¬6). فهذا (¬7) تمام (¬8) حجج الأقوال المذكورة، وهي كلها أقوال (¬9) ضعيفة. ¬
وأما حجة القول المشهور، الذي عليه الجمهور، وعليه العمل [يدور] (¬1) في سائر الأمصار والأعصار، وهو منع تأخير الاستثناء عن المستثنى منه، فمن ذلك: قوله عليه السلام: "من حلف على شيء فرأى غيره خيرًا منه فليكفر [عن] (¬2) يمينه وليأت الذي هو خير" (¬3)، فلو صح تأخير الاستثناء، لقال له: استثن، ولا يقول له: كفر، لأن الاستثناء أسهل من التكفير؛ لأنه عليه السلام قاصد للتسهيل (¬4)، ومنها: أن العرف (¬5) يقبح فيه أن يقول الإنسان لغيره: بع سلعتي ممن شئت، [ثم] (¬6) يقول (¬7) بعد غد: إلا ¬
من زيد، فإذا كان قبيحًا عرفًا كان قبيحًا لغة؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير (¬1). ومنها: أن الاستثناء يقاس على الشرط والغاية والصفة؛ إذ لا يجوز تأخيرها باتفاق والجامع بينهما: أن الجميع فضلة في الكلام غير مستقلة بنفسها (¬2). ومنها: أن الاستثناء لو جاز تأخيره (¬3) لما استقر شيء من العقود: كالطلاق والعتاق، ولا يثبت حنث ولا إقرار ولا عهود (¬4)، وقد حكى ابن العربي في القبس (¬5): أنه سمع امرأة ببغداد تقول لجاريتها: مذهب ابن ¬
في الاستثناء غير صحيح؛ إذ لو كان صحيحًا لقال الله لنبيه أيوب عليه السلام: استثن ولا تحنث ولا يقول له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَث} (¬1) (¬2) (¬3). قوله: (واختار القاضي عبد الوهاب (¬4) والإِمام (¬5) جواز استثناء (¬6) الأكثر، وقال القاضي أبو بكر: يجب أن يكون أقل، وقيل: يجوز المساوي دون الأكثر، لنا: قوله (¬7) تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ [مِنَ الْغَاوِينَ] (¬8)} (¬9) ومعلوم أنهم الأكثر (¬10)). ش: هذه مسألة ثالثة (¬11) من أحكام الاستثناء، وهي نهاية الاستثناء. ¬
ذكر المؤلف فيها ها هنا ثلاثة أقوال، وزاد في الشرح قولين (¬1)، فهي إذًا خمسة أقوال. القول الأول وهو المشهور: أنه يجوز استثناء الأكثر. القول الثاني (¬2): لا يجوز إلا استثناء الأقل ولا يجوز الزائد عليه. القول الثالث: يجوز استثناء المساوي وهو النصف (¬3). القول الرابع: لا يجوز إلا استثناء الكسر، ولا يجوز استثناء العقد، فتقول مثلًا: عندي (¬4) عشرة إلا نصف واحد، وتقول (¬5): عندي مائة إلا نصف عشرة، وله عندي ألف إلا نصف مائة، ولا تقول: عندي عشرة إلا واحدًا (¬6)؛ لأن واحدًا عقد وليس بكسر. ولا تقول: له عندي مائة إلا عشرة؛ لأن عشرة عقد لا كسر. ولا تقول: له عندي (¬7) ألف إلا مائة؛ لأن مائة عقد لا كسر؛ لأن نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة ونسبة المائة إلى الألف؛ لأن الجميع عقد تام وعدد صحيح. ¬
القول الخامس: أنه يجوز استثناء الكل وهو الاستثناء المستغرق (¬1). ¬
أما القول الأول: وهو استثناء الأكثر وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين فحجته كما قاله (¬1) المؤلف: قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬2)، لأن الغاوين أكثر من المهتدين والدليل على أنهم أكثر: قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬5) (¬6)، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ منْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬7) وغير ذلك (¬8). ¬
أجيب عن هذا الدليل: بأن (¬1) العباد في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} أعم من بني آدم والجن والملائكة؛ لأن لفظ العباد صادق على الكل، فمعلوم أن الغاوين أقل من الملائكة، فكيف [إذا ضم] (¬2) إليهم صالحو بني آدم [وصالحو الجن] (¬3) (¬4) وقد قال عليه السلام: "إن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الملائكة لا يرجعون إليه أبدًا" (¬5)، وفي حديث آخر: "إن الملائكة في الحشر يطوفون بمن فيه سبعة أدوار" (¬6). ¬
وأما القول الثاني: وهو وجوب استثناء الأقل، وهو مذهب عبد الملك ابن الماجشون (¬1)، وابن خويز منداد (¬2)، وهو مذهب الخليل، وسيبويه، وجمهور البصريين (¬3). حجته: أن مقتضى الدليل منع الاستثناء مطلقًا لكونه إنكارًا بعد إقرار، فخالفنا مقتضى الدليل في الاستثناء (¬4) الأقل لمعنى (¬5) لا يوجد في المساوي ولا في الأكثر، وهو كون القليل/ 202/ معرض النسيان لقلة التفات (¬6) القلب إليه، فلو لم يصح استثناؤه لتطرق الضرر إلى ¬
المقر، بخلاف المساوي والأكثر فلا يعرض فيهما النسيان غالبًا، فيجوز استثناء القليل؛ لأن الحاجة تدعو إلى اليسير دون الكثير (¬1). أجيب عن هذا الدليل: بأنا لا نسلم أنه إنكار بعد إقرار، وإنما يكون كذلك لو كان الكلام تامًا قبل حصول الاستثناء وليس كذلك، فإن المجموع المركب من المستثنى والمستثنى منه جملة واحدة (¬2)، بل الأصل قبوله، لإمكان صدق المتكلم به، ودفعًا للضرر عنه؛ إذ المقر ربما أقر بما قد وفَّى بعضه غير أنه نسيه وتذكره عند الإقرار، فلو لم يصح الاستثناء للحقه (¬3) الضرر (¬4) (¬5). وقد نص ابن الحاجب في كتاب الإقرار على هذين القولين الأولين وهما استثناء الأكثر أو الأقل فقال: والاستثناء بما لا يستغرق كعشرة إلا تسعة يصح، خلافًا لعبد الملك (¬6) (¬7). وأما القول الثالث وهو استثناء المساوي (¬8) وهو مذهب القاضي أبي ¬
بكر (¬1) وابن درستويه (¬2) (¬3) من النحاة (¬4) فحجته مفهومة من حجة استثناء الأكثر؛ لأنه إذا جاز استثناء الأكثر فأولى وأحرى جواز (¬5) استثناء المساوي، ¬
لاشتمال الأكثر على المساوي والزيادة (¬1). وأما القول الرابع وهو جواز استثناء الكسر دون العدد التام (¬2)، وهو مذهب بعض أهل اللغة، قاله سيف الدين الآمدي (¬3)، فحجته أنهم قالوا: ليس في القرآن والسنة إلا استثناء الكسر، ومنه قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسِينَ عَامًا} (¬4)، فخمسون من الألف كسر لا عقد (¬5)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا؛ مائة إلا واحدًا" (¬6)، فاستثنى واحدًا من المائة وهو [بعض] (¬7) عقد المائة، فإن عشرة هو عقد المائة (¬8). وهذا المذهب مردود بمسائل الطلاق والإقرار؛ فإنه إذا قال: أنت طالق ¬
ثلاثًا إلا واحدة أنه يلزمه اثنان باتفاق، وليس ذلك بكسر (¬1)، وكذلك إذا قال في الإقرار: له عندي عشرة إلا واحدًا (¬2) أنه يلزمه تسعة باتفاق، وليس ذلك بكسر (¬3). وأما القول الخامس وهذا استثناء الكل (¬4) فحجته: القياس على استثناء البعض بجامع الإخراج، وهذا المذهب مردود بالإجماع؛ لأن الغزالي (¬5) ¬
وغيره (¬1) حكى الإجماع في بطلان الاستثناء المستغرق، فإذا قال: له عندي عشرة إلا عشرة، لزمته عشرة بإجماع؛ لأنه يعد نادمًا. قال المؤلف في الشرح (¬2): قد وقع في المذهب مسائل تقتضي جواز استثناء الكل: المسألة الأولى: حكى ابن طلحة الأندلوسي (¬3) (¬4) في المدخل له في الفقه: أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، ففي لزوم الثلاث (¬5) له قولان، فإن القول بعدم لزوم الثلاث يقتضي جواز استثناء الكل (¬6) (¬7) (¬8). ¬
المسألة الثانية: نقلها أصحاب المذهب: أنه إذا قال: أنت طالق [ثلاثًا] (¬1) إلا ثلاثًا إلا اثنتين، ففي لزوم الثلاث (¬2) قولان: قيل: تلزمه الثلاث (¬3) بناء على أنه استثنى ثلاثًا (¬4) من ثلاث فيكون الاستثناء باطلًا (¬5) لاستغراقه، وقيل: تلزمه اثنتان بناء على أن استثناء الكل إذا تعقبه استثناء آخر يُصَيِّره أقل من الثلاث (¬6)، وهو قوله: إلا اثنتين، وذلك أن الثلاث (¬7) الأولى مثبتة والثلاث (¬8) الثانية منفية والاستثناء الثاني وهو الاثنتان (¬9) مثبتتان (¬10)؛ لأنه استثناء من نفي، فلم ينتف إلا واحدة فقط فتلزمه ¬
اثنتان (¬1). المسألة الثالثة: ذكرها أصحاب المذهب [أيضًا] (¬2) إذا قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة (¬3) إلا واحدة، فإنه تلزمه الاثنتان (¬4) لاستثنائه الثالثة، مع أن الثالثة قد نطق بها (¬5) بلفظ يخصها (¬6) فقد استثنى جملة ما نطق به فيها، وهو استثناء الكل، وعللوا ذلك بأن خصوص الوَحَدَات (¬7) لا يتعلق به غرض، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا (¬8) إلا واحدة (¬9). ¬
المسألة الرابعة: ذكرها ابن شاس (¬1) في الجواهر (¬2)، وابن أبي زيد في النوادر (¬3)، إذا قال: أنت طالق واحدة إلا واحدة، لزمته واحدة (¬4) (¬5) إلا أن يعيد الاستثناء على الواحدة فتلزمه اثنتان (¬6)؛ وذلك أن الواحدة صفة، وقوله: طالق موصوف، فإذا رفعت صفة الواحدة بالنية فقد رفع بعض ما ¬
نطق به، وإذا ارتفعت الوحدة تعينت الكثرة؛ إذ لا واسطة بينهما، وأقل مراتب الكثرة اثنان؛ لأن الأصل براءة الذمة من الزيادة (¬1) (¬2). قوله: (والاستثناء من الإِثبات نفي اتفاقًا، ومن النفي إِثبات، خلافًا لأبي حنيفة، ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما في عدم إِثبات نقيض المحكوم به [بعد إِلا] (¬3)، لنا: أنه المتبادر عرفًا، فيكون [كذلك] (¬4) لغة؛ لأن (¬5) الأصل عدم النقل (¬6)). ش: هذه هي المسألة الرابعة من أحكام الاستثناء (¬7)، ذكر المؤلف أن الاستثناء من الإثبات نفي اتفاقًا (¬8) أراد بالاتفاق: اتفاق الجمهور؛ لأن ¬
المتأخرين من الحنفية قالوا: لا يكون الاستثناء من الإثبات نفيًا (¬1)، كما لا يكون الاستثناء من النفي إثباتًا، كما قاله (¬2) المؤلف في قوله: "ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما"، وذكر المؤلف أن الاستثناء من النفي إثبات عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى. قوله (¬3): (ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما)، [ضمير] (¬4) التثنية عائد على الاستثناءين / 203/: الاستثناء من الإثبات والاستثناء من النفي، فحصل (¬5) من كلام المؤلف أن مذهب الجمهور أن الاستثناء من النفي إثبات، وأن الاستثناء من الإثبات نفي (¬6)، وللحنفية في ذلك قولان (¬7): قول ¬
المتقدمين منهم، وقول المتأخرين منهم، فالمتقدمون منهم يقولون بالتفصيل: فالاستثناء من الإثبات نفي كما قاله الجمهور، والاستثناء من النفي لا يكون إثباتًا (¬1)، وإلى هذا القول أشار المؤلف [بقوله] (¬2): "ومن النفي إثبات خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى". وأما المتأخرون من الحنفية فيقولون بالإطلاق؛ فلا يقتضي الاستثناء عندهم نفيًا ولا إثباتًا، وإلى هذا القول أشار المؤلف بقوله: ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما في عدم إثبات نقيض المحكوم به بعد إلا (¬3). واعلم أن هذه المسألة يتوقف فهمها على قاعدتين: إحداهما (¬4) لغوية والأخرى عقلية (¬5). فأما القاعدة اللغوية: فهي أن قولك مثلًا: قام القوم إلا زيدًا، فيه ¬
مُخْرِجٌ، ومُخْرَجٌ، ومُخْرَجٌ منه، فالمُخْرِجْ هو إلا، والمُخْرَج زيد، والمخرج منه هو ما قبل إلا، والذي قبل إلا شيئان وهما: الحكم، والمحكوم به الذي هو القيام. وأما القاعدة العقلية: فهي أن من خرج من نقيض دخل في النقيض الآخر؛ إذ لا واسطة بين النقيضين، فمن خرج من العدم دخل في الوجود، ومن خرج من الوجود دخل في العدم، وهاتان القاعدتان (¬1) لا نزاع فيهما، وإنما النزاع في تعيين المُخْرَج منه، هل هو الحكم أو المحكوم به الذي هو القيام؟ فنحن نقول: المخرج منه [هو] (¬2) المحكوم به الذي هو القيام، ونقيض القيام عدم القيام، فإذا خرج زيد من القيام دخل في عدم القيام، فهو غير قائم. والحنفية يقولون: المخرج منه هو الحكم، ونقيض الحكم عدم الحكم، فإذا خرج زيد من الحكم دخل في عدم الحكم، فهو غير محكوم عليه بشيء لا بقيام ولا بعدم القيام؛ لأن الاستثناء عندهم لا يقتضي ثبوتًا ولا نفيًا (¬3). قوله: (واعلم أن الكل [قد] (¬4) اتفقوا على إِثبات نقيض ما قبل الاستثناء (¬5) [بما] (¬6) بعده، ولكنهم اختلفوا، فنحن نثبت نقيض المحكوم به، ¬
والحنفية يثبتون نقيض الحكم (¬1)، فيصير ما بعد الاستثناء غير محكوم عليه بنفي ولا إِثبات). ش: بين المؤلف بهذا موضع الاتفاق وموضع الخلاف؛ وذلك أننا (¬2) متفقون مع الحنفية في إثبات نقيض ما قبل الاستثناء لما بعد الاستثناء، واختلفوا في تعيين (¬3) ما قبل الاستثناء؛ لأنه وقع قبل حرف (¬4) الاستثناء شيئان وهما (¬5): الحكم والمحكوم به. حجة القول الذي عليه الجمهور ما قاله المؤلف وهو: "أنه (¬6) المتبادر عرفًا فيكون لغة كذلك"؛ لأن الأصل عدم النقل، الضمير في قوله: "أنه المتبادر" يعود (¬7) على إثبات نقيض المحكوم به بعد إلا، يعني: أن إثبات نقيض المحكوم به هو المتبادر عرفًا، فإذا كان ذلك هو المتبادر في العرف فيجب أن يكون ذلك هو الثابت في اللغة؛ إذ الأصل عدم النقل والتغيير، وإنما قلنا: هو المتبادر عرفًا؛ فإن الإنسان إذا قال في الإقرار: ليس له عندي إلا عشرة لم يفهم منه إلا الاعتراف بعشرة (¬8). ¬
وحجة أخرى أيضًا: أن الاستثناء لو لم يفد إثبات نقيض المحكوم به، لما أفادت كلمة الشهادة التوحيد لله تعالى؛ لأنه على ذلك التقدير يصير غير محكوم له (¬1) بشيء وذلك باطل؛ لأنه خلاف الإجماع، لأن كلمة الشهادة تفيد التوحيد بالإجماع (¬2). وحجة الحنفية: قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور"، وقوله: "لا نكاح إلا بولي" (¬3)؛ لأنه لو كان الاستثناء من النفي يقتضي الإثبات، للزم صحة الصلاة بمجرد الطهارة، وثبوت النكاح بمجرد الولي، وذلك خلاف الإجماع، وفيه أيضًا تخلف المدلول عن الدليل وهو على خلاف ¬
الأصل (¬1). أجيب عن هذه الحجة: بأن (¬2) قاعدة الاستثناء من النفي إثبات [قد] (¬3) تستثنى منها الشروط، لأن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم (¬4) (¬5)، كما نبه المؤلف على ذلك في الفائدة الثانية التي ختم بها هذا الباب؛ لأنه قال هنالك: "ولما (¬6) كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط، الحكم بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده، فيكون مطردًا فيما عدا الشروط" (¬7). ¬
قوله: (وإِذا تعقب [الاستثناء] (¬1) الجمل يرجع إِلى جملتها عند مالك والشافعي وعند أصحابهما، [وإِلى الأخيرة عند أبي حنيفة] (¬2)، ومشترك بين الأمرين عند المرتضى (¬3)، ومنهم من فَصَّل فقال: إِن تنوعت الجملتان بأن تكون إِحداهما (¬4) خبرًا والأخرى (¬5) أمرًا عاد إِلى الأخيرة فقط، وإِن لم تتنوع الجملتان ولا كان حكم إِحداهما (¬6) في الأخرى ولا أضمر اسم إِحداهما في الأخرى فكذلك أيضًا، وإلا عاد إِلى الكل، واختاره الإِمام، وتوقف القاضي أبو بكر (¬7) منا في الجميع). ش: هذه هي المسألة الخامسة من أحكام الاستثناء، وهي (¬8): تعقب الاستثناء الجمل هل يرجع الاستثناء إلى جميع الجمل أو يرجع إلى الجملة الأخيرة خاصة؟ (¬9) ذكر المؤلف فيه خمسة أقوال: قيل: يرجع إلى الجميع، ¬
وهو قول مالك والشافعي وجمهور العلماء/ 204/ (¬1)، وقيل: يرجع إلى الأخيرة، وهو قول أبي حنيفة (¬2)، وقيل: مشترك بين رجوعه إلى الجميع وبين رجوعه إلى ما يليه وهو قول الشريف [المرتضى] (¬3) من الشيعة (¬4)، وقيل: بالتفصيل بين أن تستقل كل جملة بنفسها (¬5) أو تفتقر ¬
إحداهما إلى الأخرى فإن استقلت كل واحدة بنفسها عاد إلى الأخيرة وإن افتقرت إحداهما إلى الأخرى عاد إلى الكل، وهو قول أبي الحسين من المعتزلة (¬1)، واختاره الإمام الفخر في المحصول (¬2) (¬3)، وقيل: بالوقف وهو قول القاضي أبي بكر (¬4). وهذا الخلاف كله إنما هو فيما إذا لم تكن هناك قرينة تصرف الاستثناء ¬
إلى الجميع أو إلى البعض، وأما إذا كان هناك قرينة تصرفه إلى الجميع أو إلى الأخيرة أو الأولى أو الوسطى (¬1)، فلا خلاف في صرفه إلى ذلك؛ لأن اتباع القرينة راجح، والعمل بالراجح متعين (¬2). قوله: (وإِذا تعقب الاستثناء الجمل)، مثاله: قام الزيديون والعمرون (¬3) إلا الطوال، فهل يرجع الاستثناء إلى الجملتين، أو يرجع إلى الأخيرة خاصة، أو هو مشترك، أو يجب التوقف حتى يرد البيان، أو يجب فيه التفصيل؟ وهو القول المختار عند الإمام الفخر في المحصول (¬4)، وبيان هذا القول بالتفصيل أن يقال: إما أن تتنوع الجملتان بأن تكون إحداهما خبرًا والأخرى أمرًا، وإما ألا تتنوع الجملتان، فإذا لم تتنوع، فإما أن يكون حكم إحداهما أو اسمها مضمرًا في الأخرى أم لا، فإن وجد التنوع عاد إلى الأخيرة فقط، وكذلك إن عدم وعدم الإضمار، وأما إن عدم التنوع ووجد الإضمار، فإنه يعود إلى الجميع (¬5). مثال (¬6) التنوع بأن تكون (¬7) إحداهما خبرًا والأخرى أمرًا: قام الزيدون ¬
وأكرم العمرين (¬1) إلا الطوال (¬2)، فإن الاستثناء ها هنا يعود إلى الأخيرة خاصة لأنها مستقلة بنفسها (¬3). ومثال عدم التنوع (¬4) وعدم الإضمار: قام الزيدون وقام العمرون إلا الطوال، فإن الاستثناء ها هنا أيضًا يرجع إلى الأخيرة فقط؛ لأنها مستقلة بنفسها، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: "وإن (¬5) لم تتنوع الجملتان ولا كان حكم إحداهما في الأخرى ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى، فكذلك أيضًا"، يعني: أنه يرجع إلى الأخيرة فقط. ومعنى قوله: (وإِن لم تتنوع الجملتان) أي: هما [معًا] (¬6) من نوع واحد، أي: هما معًا خبر، أو هما معًا أمر (¬7)، مثال الخبر: قام الزيدون وقام العمرون إلا الطوال، ومثال الأمر: أكرم الزيدين (¬8) وأكرم العمرين إلا الطوال (¬9). ¬
ومثال عدم التنوع (¬1) مع وجود الإضمار: قام الزيدون والعمرون إلا الطوال (¬2)، [فقد عدم التنوع في الجملتين ها هنا لأنها معًا خبر، ووجد الإضمار] (¬3)؛ لأن حكم الجملة الثانية وهو القيام مضمر أي: مقدر في النفس؛ لأنه لم يذكر في اللفظ؛ لأنه استغني عنه بحرف (¬4) العطف؛ لأن حرف العطف ينوب مناب الفعل، فإن حكم الجملة الثانية مذكور في الأولى فقد استغني بحكم الأولى عن حكم الثانية، فصارت الثانية متعلقة بالأولى، فصارت الجملتان لأجل ذلك كالجملة الواحدة (¬5)، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: ولا كان حكم إحداهما (¬6) في الأخرى، هذا مثال إضمار الحكم (¬7). ومثال إضمار الاسم: قام الزيدون وخرجوا إلا الطوال، وذلك أن الاسم الذي هو الزيدون هو مضمر في الجملة الثانية؛ لأن الضمير (¬8) الذي هو الواو في خرجوا يعود على الزيدين (¬9)، فقد صارت الجملة الثانية مفتقرة ¬
إلى الأولى في اسمها؛ لأن ضميرها يحتاج إلى التفسير، فصارت الجملتان كالجملة الواحدة، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى، لأن اسم الأولى مضمر في الثانية (¬1). قوله: (وإِلا عاد إِلى الكل)، أشار به إلى عدم التنوع [مع] (¬2) وجود إضمار الحكم أو (¬3) إضمار الاسم. قوله: ([و] (¬4) إِن تنوعت الجملتان ...) إلى آخر التفصيل يحتاج إلى أربعة أمثلة: مثال واحد في وجود التنوع (5)، وثلاثة أمثلة في عدم التنوع (5)؛ لأنا نقول عدم التنوع (¬5): إما [مع] (¬6) عدم الإضمار أصلًا، وإما مع إضمار الحكم، وإما مع إضمار الاسم، [وقد بينا هذه الأمثلة قبل] (¬7) هذا بيان الأقوال. وأما حججها، فحجة القول الأول برجوعه إلى الجميع: أن حرف العطف (¬8) يُصَيِّر المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، فتكون الجملتان كالجملة الواحدة، فيعود الاستثناء على جميعها كما يعود على الجملة ¬
الواحدة (¬1)، وحجة ثانية: أن المتكلم [إن] (¬2) احتاج إلى الاستثناء فإن ذكره بعد كل جملة فذلك من الركاكة في القول، فإذا ذكره (¬3) آخر الجمل سلم كلامه من الركاكة (¬4)، وحجة ثالثة (¬5): قياس الاستثناء على الشرط، والجامع بينهما أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه (¬6)، وذلك أن الشرط إذا تعقب الجمل يرجع إلى جميعها عند الجمهور (¬7)، كقولك: امرأتي طالق، وعبدي حر، ومالي صدقة، إن كلمت زيدًا. ¬
ورد هذا بأنه قياس في اللغة وهو ممنوع عند الجمهور (¬1). وحجة القول برجوعه إلى الأخيرة: أن (¬2) رجوعه إلى القريب أولى من رجوعه إلى البعيد (¬3)، لأن العرب تعتبر القريب في أبواب (¬4) كثيرة (¬5) منها: باب العطف، وباب التنازع، وباب المفعول، وباب الفاعل. فمن باب العطف قولك: أكرم زيد عمرًا وأكرمته، تعين عود الضمير على عمرو (¬6) لقربه من الضمير (¬7). ومن باب التنازع أن نحاة البصرة يقولون: إذا تنازع (¬8) عاملان معمولًا (¬9) واحدًا؛ فالمختار إعمال الثاني لقربه، كقولك: أكرمت (¬10) ¬
وأكرمني زيد (¬1). ومن باب المفعول [قولك] (¬2): أعطى (¬3) زيد (¬4) عمرًا بكرًا، قالوا: الأقرب للفعل (¬5) هو الآخذ (¬6)، وهو الفاعل في المعنى، و [هو] (¬7) مفعول في اللفظ/ 205/ (¬8). ومن باب الفاعل خمسة أشياء وهي: المقصور، والمبهم، والموصول، والمضاف إلى ياء المتكلم، والمركب من بعض ذلك (¬9). مثال (¬10) المقصور: ضرب موسى عيسى (¬11)، ومثال المبهم: ضرب هذا ¬
هذا (¬1)، ومثال الموصول: ضرب الذي في الدار الذي في السوق (¬2)، ومثال المضاف إلى ياء المتكلم: ضرب صاحبي غلامي (¬3)، ومثال المركب من بعض ذلك: ضرب موسى هذا (¬4)، فإن الفاعل في جميع ذلك هو القريب للفعل، فيجب تقديم (¬5) الفاعل على المفعول، قال أبو موسى الجزولي في باب الفاعل: وكل فاعل لا قرينة تفصل بينه وبين المفعول لا في اللفظ ولا في المعنى وجب تقديمه (¬6). وحجة القول بالاشتراك بين رجوعه إلى الأخيرة وبين رجوعه إلى الجميع: أنه ورد في القرآن رجوعه إلى الأخيرة، وورد (¬7) فيه أيضًا رجوعه إلى الجميع، والأصل في (¬8) الاستعمال الحقيقة، فيكون مشتركًا؛ لأنه حقيقة فيهما (¬9). ورد هذا بأن قيل: الأصل أيضًا عدم الاشتراك، فيكون حقيقة في أحد الرجوعين (¬10) مجازًا في الآخر، فإذا تعارض المجاز مع الاشتراك قدم ¬
المجاز على الاشتراك (¬1) كما تقدم في الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ (¬2). مثال رجوع الاستثناء إلى الجميع: قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيْتمْ} (¬3) أي: إلا ما أَدركتم ذكاته من هذه المذكورات، على القول باتصال الاستثناء (¬4). ومثال رجوِعه إلى الأخيرة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِين جَلْدَةَ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئكَ هُمُ الْفَاسقُونَ (4) إلا الًّذِين تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم} (¬5). فهذا (¬6) الاستثناء لا يعود على الجملة الأولى (¬7) وهي جملة الجلد ¬
باتفاق، لأن التوبة لا تسقط الجلد، وإنما الخلاف هل يرجع هذا الاستثناء إلى الجملة الثانية وهي رد الشهادة، أو يرجع إلى الجملة الثالثة وهي الفسق؟ (¬1). وثمرة الخلاف: هل تقبل شهادة القاذف إذا تاب، قاله مالك (¬2) والشافعي (¬3)، وجمهور العلماء (¬4). أو لا تقبل شهادته قاله الحنفي (¬5) والثوري (¬6) والنخعي (¬7) (¬8) وغيرهم (¬9) (¬10). ¬
ومثال رجوعه إلى الأولى خاصة. قوله تعالى: {(¬1) إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمِ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّه مِنِّي إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} (¬2)، فهذا (¬3) الاستثناء تعين عوده إلى الجملة الأولى دون الثانية؛ لأن مناسبة المعنى تقتضيه (¬4). ومثال رجوعه إلى إحدى الجملتين أيضًا: قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلا امْرَأَتَك} (¬5)، فعلى قراءة النصب يعود إلى الأولى تقديره: "فأسر بأهلك إلا امرأتك"، وعلى قراءة الرفع، وهي (¬6) قراءة ابن كثير وأبي عمرو (¬7) يعود على الثانية؛ لأنها منفية، فتكون قد خرجت معهم ثم رجحت فهلكت، قاله المفسرون (¬8). ¬
قال المؤلف في الشرح: قول العلماء: إن الاستثناء مشترك بين عوده إلى الكل و (¬1) إلى الأخيرة هو من الاشتراك الواقع في التركيب دون الإفراد، أي: وضعت العرب "إلا" لتركبها عائدة على الكل وتركبها عائدة على الأخيرة، فهو [من] (¬2) فروع كون العرب وضعت المركبات كما وضعت المفردات، وفيه قولان (¬3)، [و] (¬4) اختار الإمام منعه (¬5). وحجة القول بالتفصيل: أن الجملتين إذا استقلت (¬6) كل واحدة منهما ¬
بنفسها فلا تعد الجملتان كالشيء الواحد لاستقلال كل واحدة منهما بنفسها، بخلاف ما إذا افتقرت إحداهما إلى الأخرى، فإنهما كالشيء الواحد فيرجع الاستثناء إليهما لعدم الاستقلال (¬1). وحجة قول القاضي بالتوقف: (¬2) تعارض الأدلة المذكورة؛ فإنها [لما] (¬3) تعارضت (¬4) تقاومت، [فإذا تقاومت] (¬5) وجب التوقف (¬6) وإلا لزم (¬7) الترجيح من غير مرجح (¬8)، وحجة أخرى: أن رجوعه إلى إحدى (¬9) الجهات إما أن يكون من جهة العقل وإما أن يكون من جهة النقل، فباطل أن يكون من جهة العقل، إذ لا مجال للعقل في اللغات؛ لأن اللغات لا تثبت بالعقل وإنما تثبت بالنقل عن أربابها، وباطل أن يكون من جهة النقل، لأن النقل إما تواتر (¬10) وإما آحاد (¬11)، فباطل أن يكون تواترًا؛ لأنه (¬12) لو كان تواترًا لعلمه ¬
كل أحد (¬1) وارتفع الخلاف، وباطل أن يكون آحادًا؛ لأن المسألة علمية والآحاد ظنية ولا يكتفى بالظن في العلميات (¬2). ورد هذا الدليل بأن قيل: لا يلزم من التواتر حصول العلم لكل أحد، فرب قضية تواترت عند قوم ولم (¬3) تتواتر (¬4) عند آخرين (¬5). هذا بيان حجج الأقوال المذكورة. قوله: (وإِذا تعقب (¬6) الاستثناء الجمل) هذه (¬7) عبارة الإمام في المحصول (¬8)، ومنهم من يقول: إذا تعقب (¬9) الاستثناء الجمل المعطوفة، ¬
وهي عبارة عن الباجي (¬1)، ومنهم من يقول: إذا تعقب (¬2) الاستثناء الجمل المعطوفة (¬3) بالواو وهي عبارة سيف الدين (¬4)، ومنهم من يقول: إذا تعقب (2) الاستثناء الجمل المختلفة المعطوفة وهي عبارة إمام الحرمين (¬5)، واحترز بقوله: المختلفة من الجمل المتفقة على شيء واحد. وهي الجمل (¬6) التي تنبئ عن شيء واحد، نحو قولك: اضرب العصاة ¬
[والطغاة] (¬1) والجناة إلا من تاب، إذًا لا خلاف أن الاستثناء يرجع إلى الجميع؛ لأن هذه الجمل آيلة إلى شيء واحد. واعلم أن هذه العبارات الأربع كلها مدخولة (¬2): أما عبارة الإمام الفخر وهي قوله: إذا تعقب (¬3) الاستثناء الجمل، وهي عبارة المؤلف. فيعترض عليها/ 206/ بأنها غير مانعة لاندراج الجمل التي تنبئ عن شيء واحد [فيها] (¬4) مع أنها لا يدخلها الخلاف، وأما عبارة الباجي، وهي قوله (¬5): إذا (¬6) تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة، وكذلك عبارة إمام الحرمين وهي (¬7) قولنا: إذا تعقب (¬8) الاستثناء الجمل المختلفة المعطوفة، وكذلك عبارة سيف الدين، وهي (¬9) قولنا: إذا تعقب (¬10) الاستثناء الجمل المعطوفة بالواو فهي معترضة بأنها غير جامعة ولا مانعة. وبيان ذلك أن حروف العطف العشرة على ثلاثة أقسام: أحدها يتأتى فيها الخلاف من غير خلاف، وقسم لا يتأتى فيها الخلاف (¬11) باتفاق، وقسم ¬
متردد فيه (¬1)، فالذي يتأتى فيه (¬2) الخلاف باتفاق هو اربعة وهي: الواو، والفاء، وثم، وحتى. قال المؤلف في الشرح: لأن هذه الأربعة تجمع بين الشيئين في الحكم معًا فيمكن الاستثناء منهما أو من (¬3) أحدهما، كقولك: قام الرجال والنساء إلا الطوال (¬4) أو فالنساء، أو ثم النساء، أو حتى النساء (¬5). والقسم الذي لا يتأتى فيه الخلاف باتفاق هو (¬6) ثلاثة أحرف وهي: أو، وأم، وإما، كقولك: أكرم الرجال أو (¬7) النساء إلا من عصى الله، أو أكرم [إما] (¬8) الرجال وإما النساء إلا من عصى الله، أو أكرم الرجال أم النساء إلا من عصى الله. قال المؤلف في الشرح: المحكوم عليه ها هنا واحد قطعًا ولم يتعرض للآخر أصلًا لا بالنفي ولا بالإثبات، لأن حرف العطف ها هنا [هو] (¬9) لأحد ¬
الشيئين لا بعينه، فلا احتمال (¬1) في هذا القسم (¬2). والقسم المتردد بين القسمين هو (¬3) ثلاثة أحرف وهي: بل، ولا، ولكن. كقولك: قام الرجال بل النساء إلا الطوال، أو (¬4) قام الرجال لا النساء إلا الطوال، أو ما قام الرجال لكن النساء إلا الطوال، فالمحكوم عليه واحد بعينه، أي: فالمحكوم عليه بالقيام أحد الفريقين بعينه دون الآخر، قال المؤلف في الشرح: يمكن أن يقال: لا يمكن عود الاستثناء عليهما لعدم اندراجهما معًا في الحكم؛ إذ عود الاستثناء عليهما يقتضي عود الحكم عليهما، ويمكن أن يقال: إنهما معًا محكوم عليهما: أحدهما محكوم عليه بالنفي، والآخر محكوم عليه بالإثبات، ولكن إن صححنا عود الاستثناء عليهما يلزم أن يرفع باعتبار النفي وينصب باعتبار الإيجاب، واجتماع الرفع والنصب محال، إلا أن يصرف (¬5) أحدهما للفظ والآخر للمعنى، فهذا القسم هو موضع تردد (¬6). ¬
قال المسطاسي: الظاهر الأول (¬1). فإذا علمت هذا التقسيم (¬2) أن عبارة الباجي وإمام الحرمين غير مانعة، لاندراج حرف العطف الذي هو لأحد الشيئين في عبارتهما؛ لأنهما (¬3) يقولان: الجمل المعطوفة، فاشترطا العطف، وعبارتهما أيضًا غير جامعة لخروج الجمل غير المعطوفة من عبارتهما لاشتراطهما العطف، مع أن الاستثناء يصحح أيضًا في الجمل غير المعطوفة، كقولك: أكرم بني (¬4) تميم، اخلع على مضر إلا الطوال. وكذلك عبارة سيف الدين أيضًا غير جامعة ولا مانعة: أما كونها غير جامعة، فلأن ما عدا الواو من حروف العطف التي تجمع بين الشيئين خارجة عن عبارته؛ لأنه اشترط العطف بالواو، وكذلك تخرج عبارته الجمل غير المعطوفة مع صحة الخلاف فيها (¬5). وأما كونها غير مانعة فلأن الجمل المعطوفة بالواو التي (¬6) تنبئ عن شيء واحد تندرج في عبارته مع أنها لا خلاف في رجوع الاستثناء فيها إلى الجميع، كقولك: اضرب العصاة والطغاة والجناة إلا من تاب (¬7)، فالحاصل ¬
مما ذكرنا أنه لا خلاف في عود الاستثناء إلى الجميع إذا كانت الجمل تنبئ عن شيء واحد (¬1)، ولا خلاف أيضًا [في] (¬2) عدم عوده إلى الجميع إذا كانت معطوفة بأو وأم وإما، واختلف فيما عدا ذلك. والأحسن في التعبير عن هذه المسألة أن يقال: إذا تعقب الاستثناء الجمل المختلفة التي لم تعطف بحرف يقتضي أحد الشيئين لا بعينه كما في أو وأم وإما على الاتفاق، ولا بحرف يقتضي أحد الشيئين بعينه على الظاهر كما في بل ولا ولكنَّ (¬3) كما تقدم (¬4) بيان (¬5) جميع ذلك. قوله: (إِذا عطف استثناء على استثناء، فإِن كان الثاني بحرف عطف أو هو (¬6) أكثر من الاستثناء الأول أو مساو (¬7) له عاد إِلى أصل الكلام؛ لاستحالة العطف في الاستثناء (¬8) وإِخراج الأكثر والمساوي، وإلا عاد على (¬9) الاستثناء الأول ترجيحًا للقرب ونفيًا للغو الكلام). ¬
ش: هذه هي المسألة السادسة من أحكام الاستثناء، تكلم المؤلف رحمه الله على الاستثناء المتعدد، هل يرجع إلى أصل الكلام وهو المستثنى منه أو يرجع إلى المستثنى؟ (¬1). واعترض كلامه بأنه قسَّم العطف إلى ما ليس منه؛ لأنه صدر كلامه بالعطف ثم أدخل فيه ما ليس منه بدليل قوله: "فإن كان الثاني بحرف عطف ... " إلى قوله: "وإلا عاد على الاستثناء الأول (¬2) ". أجيب عنه: بأنه أراد بالعطف: العطف لغة، وهو: الرد، وذلك [أن] (¬3) المعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي، لأن العطف اصطلاحًا هو ما كان بحرف عطف (¬4) وقال بعضهم: الأولى أن لو قال: وإذا تعدد الاستثناء (¬5). ¬
قوله: (فإِن كان الثاني بحرف عطف ...) إلى آخر كلامه، يحتوي كلامه على ثلاثة/ 207/ أقسام: الأول (¬1): أن يكون الاستثناء المتعدد بحرف العطف، كقولك (¬2) عندي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين، القسم الثاني: أن يكون بغير حرف العطف ويكون الثاني أكثر من الأول أو مساويًا، كقولك في الأكثر: [له] (¬3) عندي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، وكقولك (¬4) في المساوي: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة، القسم الثالث: أن يكون بغير عطف أيضًا ويكون الاستثناء الثاني أقل من الأول، كقولك: [له] (¬5) عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين (¬6)، قال المؤلف في الشرح: وهذه (¬7) المسألة مبنية على خمس قواعد: القاعدة الأولى: أن العرب لا تجمع بين إلا وحرف العطف؛ لأن إلا تقتضي الإخراج، وحرف العطف يقتضي الشريك، وهما متناقضان. القاعدة الثانية: أن استثناء الأكثر والمساوي باطل. القاعدة الثالثة: أن القرب يقتضي الرجحان. القاعدة الرابعة: أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي. القاعدة الخامسة: أنه إذا دار الكلام بين الإعمال والإلغاء، فالإعمال ¬
أولى من الإلغاء (¬1). فإذا ظهرت لك هذه القواعد فنقول: إذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين، يتعين عود الاستثناء على أصل الكلام، وهو المستثنى منه، ويمتنع عود الاستثناء على الثلاثة، لئلا يجتمع الاستثناء وحرف العطف، وهو مقتضى القاعدة الأولى (¬2). وإلى هذه (¬3) القاعدة أشار المؤلف بقوله: "لاستحالة العطف في الاستثناء"؛ لأن قوله: "لاستحالة العطف في الاستثناء" راجع إلى قوله: "فإن كان الثاني بحرف عطف"، [فتقدير الكلام: فإن كان الثاني بحرف عطف] (¬4) عاد إلى أصل الكلام؛ لاستحالة العطف في الاستثناء، فالمُقَرُّ به على هذا خمسة، فإذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، يتعين أيضًا عوده على أصل الكلام؛ لأن استثناء (¬5) الأكثر باطل؛ لأن الأربعة أكثر من الثلاثة، وكذلك إذا قال: [له] (¬6) عندي عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة، يتعين عوده على أصل الكلام؛ لأن استثناء (¬7) المساوي باطل، وهو مقتضى القاعدة الثانية (¬8). ¬
وإلى مقتضى هذه القاعدة أشار المؤلف بقوله: "وإخراج الأكثر والمساوي"، فتقدير كلامه: فإن كان الثاني أكثر أو مساويًا عاد إلى أصل الكلام لاستحالة إخراج الأكثر والمساوي، فالمُقَرُّ به على هذا (¬1) ثلاثة، وإذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، يتعين عوده على الاستثناء الذي قبله، ولا يعود على أصل الكلام؛ لأن عوده على القريب أولى من عوده على البعيد، وهو مقتضى القاعدة الثالثة (¬2). و [إلى] (¬3) مقتضى هذه (¬4) القاعدة أشار المؤلف بقوله: وإلا عاد على الاستثناء الأول، فالمُقَرُّ به على هذا تسعة ترجيحًا للقرب. قوله: (وإِلا عاد على الاستثناء الأول) معناه: وإن لم يكن بحرف عطف ولا كان أكثر ولا مساويًا، بل هو أقل من الاستثناء الأول، فإنه يعود على الاستثناء الأول، ولا يعود على أصل الكلام، ترجيحًا للقرب على البعد. قال المؤلف في شرحه: ولا يصح عوده عليهما [معًا] (¬5)، ولا يصح أيضًا أن يقال: لا يعود على واحد منهما، لأنه يؤدي في القسمين إلى اللغو في الكلام (¬6)، ومعنى اللغو هو الحشو، وهو الكلام العاري عن الفائدة. وبيان ذلك: أنه إذا قلنا: [إنه] (¬7) لا يعود على واحد منهما أي: لا ¬
يعود على الاستثناء ولا على المستثنى منه، فذلك كلام باطل حشو ملغى، وهو مقتضى القاعدة الخامسة (¬1). وإذا قلنا أيضًا: يعود الاستثناء الثاني عليهما معًا، أي: يعود على الاستثناء الأول والمستثنى منه معًا، فذلك أيضًا لا يصح؛ لأنه حشو ملغى كالوجه الذي قبله، وهو أيضًا مقتضى القاعدة الخامسة. وإنما قلنا: لا يصح عوده عليهما [معًا] (¬2)؛ لأنه إذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة، فقد اعترف بسبعة، وقوله (¬3) بعد ذلك: إلا اثنين، فباعتبار عوده على (¬4) أصل الكلام يخرج من السبعة اثنين، وباعتبار عوده على الثلاثة يرد اثنين؛ لأن الثلاثة منفية وأصل الكلام مثبت وهو مقتضى القاعدة الرابعة، فينجبر (¬5) المنفي (¬6) بالثابت (¬7)، فيصير الاعتراف بسبعة وهو الذي أقر به قبل الاستثناء الثاني، فيكون الاستثناء الثاني على هذا (¬8) لغوًا، [أي] (¬9): حشوًا لا فائدة فيه (¬10). فحصل مما ذكرنا أن الاستثناء الثاني في هذا القسم له أربعة أوجه، واحد صحيح وثلاثة باطلة. ¬
فالوجه الصحيح: هو عوده على الاستثناء خاصة، والثلاثة الباطلة: عوده على أصل الكلام، أو عوده عليهما معًا، أو لا عوده على واحد منهما (¬1). فقوله: (ترجيحًا للقرب (¬2))، إشارة (¬3) إلى أنه يعود على الاستثناء خاصة، ولا يعود على أصل الكلام خاصة. وقوله: (ونفيًا للغو الكلام)، إشارة (¬4) إلى أنه لا يصح عوده عليهما معًا، و (¬5) لا يصح أن يعود لا عليهما (¬6) معًا. قوله: (وإِذا عطف استثناء على استثناء، فإِن كان الثاني بحرف عطف (¬7) ...) إلى آخر كلامه .. هذا الذي ذكره المؤلف هو القول الذي عليه الجمهور من النحاة والأصوليين (¬8) / 208/، وذكر بعضهم الخلاف في ¬
القسم الثاني والثالث، أعني بالقسم الثاني: استثناء الأكثر (¬1) والمساوي، كقولك: [له] (¬2) عندي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، أو عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة، وأعني بالقسم الثالث: استثناء الأقل، كقولك: له عندي عشرة [إلا ثلاثة] (¬3) إلا اثنين. فإذا كان الاستثناء الثاني أكثر من الأول نحو [قوله: له] (¬4) عندي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، [فمذهب] (¬5) الجمهور: أن الاستثناءين يرجعان معًا إلى أصل الكلام، ومذهب الفراء: أن الاستثناء [الثاني] (¬6) منقطع يضم إلى أصل الكلام فيكون مقرًا به، تقدير الكلام: له عندي عشرة إلا ثلاثة سوى الأربعة التي [له] (¬7) عليَّ (¬8)، فعلى قول الجمهور يكون أقر بثلاثة، وعلى قول الفراء يكون أقر بأحد عشر. ¬
قال ابن عصفور في شرح الجمل (¬1): كأنه قال: له عشرة إلا ثلاثة سوى الأربعة التي تقررت له عندي (¬2)، وهكذا [إذا كان الاستثناء الثاني مساويًا للأول] (¬3) كإذا (¬4) قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة، فعلى قول الجمهور يكون أقر بأربعة، وعلى قول الفراء يكون أقر بعشرة. وقال ابن مالك في شرح التسهيل (¬5): وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه جار على قاعدة [جعل] (¬6) الاستثناء الأول إخراجًا والثاني إدخالًا (¬7). وأما القسم الثاني وهو استثناء الأقل: فمذهب الجمهور: أن الاستثناء الثاني يعود إلى الاستثناء الأول، فيستثنى منه، ومذهب الفراء: أن الاستثناء الثاني منقطع يضم إلى أصل الكلام فيكونُ مُقَرًا به (¬8) كما قال في القسم الذي فرغنا منه، فإذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، فعلى ¬
مذهب الجمهور يكون أقر بتسعة، وعلى مذهب الفراء يكون أقر بتسعة أيضًا، لأنك [تخرج] (¬1) الثلاثة من العشرة فيبقى سبعة، ثم تضم الاثنين إلى السبعة فيكون المقر به تسعة كما قلنا، فتقدير الكلام على هذا القول: [له] (¬2) عندي عشرة إلا ثلاثة (¬3) سوى الاثنين الذي (¬4) له عندي. ومذهب أبي يوسف القاضي: أن الاستثناءين معًا يرجعان إلى أصل الكلام، وهو المستثنى منه، فيكون المقر به في هذا المثال المذكور خمسة (¬5)، وقال بعض النحاة: يجوز في ذلك وجهان: أحدهما: رد الاستثناءات كلها إلى أصل الكلام كما قال أبو يوسف القاضي. ¬
والوجه الثاني: رد كل استثناء إلى الاستثناء الذي قبله، كما قال الجمهور (¬1). فهذه أربعة أقوال: أحدها: رد كل استثناء إلى الاستثناء الذي قبله وهو مذهب الجمهور. القول (¬2) الثاني: رد ما بعد الاستثناء الأول إلى أصل الكلام [أي يضم إلى أصل الكلام] (¬3) ثم يستثنى منه الاستثناء الأول وهو مذهب الفراء. القول الثالث: أن الاستثناءات كلها تستثنى من أصل الكلام وهو مذهب أبي يوسف القاضي. القول الرابع: جواز الوجهين كما قال بعض النحاة. فإذا فرعنا على مذهب الجمهور: الذي هو رد كل استثناء إلى الذي قبله، فإذا قال: [له] (¬4) عندي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدًا، ففي طريق العلم بما (¬5) أقر به خمسة أوجه: أحدها: أن تطرح عدد الأفراد من المستثنى منه، وعدد الأفراد في هذا المثال خمسة، فإذا طرحت خمسة من المستثنى منه الذي هو العشرة فالمُقَرُّ به ¬
خمسة، هذا إذا كان المستثنى منه شفعًا كما في هذا المثال، وإن كان المستثنى منه وترًا فإنك تطرح عدد الأزواج [من المستثنى منه، فما بقي فهو المُقَرُّ به، كقولك: عندي أحد عشر إلا عشرة إلا تسعة إلى الواحد، فإذا طرحت عدد الأزواج] (¬1) وهو خمسة فيكون المقر به ستة. الوجه الثاني: أن تطرح مجموع الأفراد من مجموع الأزواج فما بقي فهو المقر به؛ وذلك أن مجموع الأفراد في (¬2) المثال الذي صدرنا به خمسة وعشرون، ومجموع أزواجه ثلاثون، فإذا طرحت المجموع من المجموع فيكون الباقي خمسة، وهو المُقَرُّ به، [هذا] (¬3) إذا كان المستثنى منه شفعًا كما تقدم، وأما إذا (¬4) كان المستثنى منه وترًا كقولك: أحد عشر إلا عشرة إلى الواحد، فإنك تطرح مجموع الأزواج من مجموع الأفراد، فما بقي فهو المقر به؛ وذلك أن مجموع الأزواج ها هنا ثلاثون، ومجموع الأفراد ستة وثلاثون، فإذا طرحت ثلاثين من ستة وثلاثين فتبقى ستة، وهو (¬5) المقر به (¬6). الوجه الثالث: أن تطرح كل استثناء من الذي قبله (¬7) فما بقي بعد ذلك فهو المقر به؛ وذلك أن تطرح واحدًا من اثنين، الباقي واحد، ثم تطرح ¬
الواحد من ثلاثة، الباقي اثنان، ثم تطرح اثنين من أربعة [الباقي اثنان] (¬1)، هكذا إلى آخره (¬2) (¬3). الوجه الرابع: أن تطرح الاستثناء الأول (¬4) من المستثنى منه، فما بقي فأضفه (¬5) إلى ما بعد المستثنى، فما اجتمع فاطرح منه ما بعده (¬6)، إلى آخرها (¬7). وبيان ذلك: أن تطرح تسعة من عشرة فيبقى (¬8) واحد، فأضفه إلى الثمانية فيكون تسعة، فاطرح منه سبعة كذلك إلى آخرها (¬9) (¬10). الوجه الخامس: أن تأخذ ثلاثة أعداد متوالية، فتطرح العدد الأوسط (¬11) من مجموعي (¬12) الطرفين، ثم تضيف الباقي بعد الطرح إلى العددين ¬
المتواليين بعد الثلاثة الأولى، فتطرح أيضًا وسطها (¬1) من مجموعي الطرفين، كذلك تفعل إلى آخرها. وبيان ذلك: [أن تأخذ] (¬2) العشرة والتسعة والثمانية، فتجمع العشرة مع الثمانية فتكون (¬3) ثمانية عشرة، فتطرح منها (¬4) العدد الأوسط (¬5) وهو التسعة، فيبقى تسعة، ثم تضيف التسعة إلى السبعة والستة، فتجمع التسعة والستة فتكون خمسة عشر، فتطرح منها (¬6) الأوسط (¬7) وهو السبعة، فبقي (¬8) ثمانية، كذلك تفعل إلى آخرها، فتبقى خمسة، وهو المقر به، وبالله التوفيق بمنه. قوله: (فائدتان / 209/: الأولى (¬9): قد يكون الاستثناء عبارة عما لولاه لعلم دخوله، أو ما لولاه لظن دخوله، أو ما لولاه لجاز دخوله، أو ما لولاه لقطع بعدم دخوله، فهذه أربعة أقسام: فالأول: الاستثناء (¬10) من النصوص، نحو قوله (¬11): عندي ¬
عشرة إِلا اثنين، والثاني: الاستثناء من الظواهر، نحو: اقتلوا المشركين إِلا زيدًا، والثالث: الاستثناء من المحال، والأزمان، والأحوال، نحو: أكرم رجلًا (¬1) إِلا زيدًا [و (¬2) عمرًا] (¬3)، وَصَلّ (¬4) إِلا عند الزوال، و {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} (¬5)، والرابع الاستثناء المنقطع: نحو: رأيت القوم إِلا حمارًا). ش: هاتان الفائدتان هما باعتبار فهم السامع للاستثناء، وإنما يقطع بدخوله في النصوص لكون اللفظ لا يحتمل (¬6) المجاز؛ لأنه لا يستعمل إلا في مسماه (¬7)، وإنما يظن دخوله في الظواهر؛ لأنه يحتمل المجاز (¬8)، وإنما يجوز دخوله من غير علم ولا ظن في المحال والأزمان والأحوال؛ لأن اللفظ لا يشعر بخصوصها ولم يتناولها، فانتفى العلم والظن (¬9)، وإنما يقطع بعدم دخول المنقطع لعدم صلاحية اللفظ له؛ فإن لفظ القوم لا يندرج فيه الحمار قطعًا (¬10). قوله: (نحو: أكرم رجالًا)، فقولك: أكرم: دال، وقولك: رجالًا (¬11): ¬
مدلول، ومحله الأشخاص، ومن هذا المحل يستثنى. وقوله: (والأزمان) يريد: والبقاع (¬1)، [مثال البقاع] (¬2) كقولك: صل إلا في المجزرة (¬3) (¬4). فقولك: [صل] (¬5): دال، والصلاة مدلول، [و] (¬6) محله البقاع (¬7)، ومن هذا المحل يقع الاستثناء، [ومثال الأزمان: كقولك: صل إلا عند الزوال (¬8)، ¬
فقولك: صل: دال، والصلاة مدلول، ومحلها الأزمان، ومن هذا المحل يستثنى] (¬1)، وقوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} (¬2) فقوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِه}، دال، والإتيان بأخي يوسف مدلول، ومحله الأحوال. قوله (¬3): (الثانية): [أن] (¬4) إِطلاق العلماء (¬5): الاستثناء من النفي إِثبات، يجب أن يكون مخصوصًا، فإِن الاستثناء يرد على الأسباب، والشروط، والموانع، والأحكام، والأمور العامة التي لم ينطق بها، فالأول: نحو: لا عقوبة إِلا بجناية، والثاني: نحو: لا صلاة إِلا بطهور، والثالث: [نحو] (¬6) لا تسقط الصلاة عن المرأة إِلا بالحيض، والرابع: نحو: قام (¬7) القوم إِلا زيدًا، والخامس: نحو: قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ [إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ] (¬8)} (¬9) (¬10)، ولما كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم، لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط، الحكم بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده، فيكون مطردًا فيما عدا الشروط) (¬11). ¬
ش: المقصود بهذه الفائدة، الرد على الحنفية القائلين بأن (¬1) الاستثناء من النفي لا يكون إثباتًا (¬2)؛ فإنهم قالوا: لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا لزوم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بطهور" (¬3)، و"لا نكاح إلا بولي" (¬4) ثبوت الصلاة بمجرد الطهارة (¬5)، وثبوت النكاح بمجرد الولي (¬6)، وذلك باطل. أجيب بأن الحديث إنما سبق لبيان شروط (¬7) الصلاة والنكاح، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط. قوله: (يجب أن يكون مخصوصًا)، أي: مقيدًا بما عدا الاستثناء من الشروط، وأما الاستثناء من الشروط (¬8) فلا يصح فيه ذلك، وإلى هذا الجواب أشار المؤلف بقوله: ولما كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط) الحكمُ بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده. قوله: (لم يلزم من الحكم بالنفي) أي: لم يلزم من الحكم بنفي المشروط وهو الصلاة أو النكاح في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور"، و"لا نكاح إلا بولي". ¬
قوله: (لعدم الشرط) يعني: لعدم الشرط الذي هو الطهارة أو الولي. قوله: (الحكم بالوجود) أي: بثبوت المشروط الذي هو الصلاة أو (¬1) النكاح في مثالنا. قوله: (لأجل وجوده)، أي: لأجل وجود الشرط الذي هو الطهارة أو الولي في مثالنا. قوله: (فيكون مطردًا فيما عدا الشروط) (¬2)، أي: فيكون قولهم: الاستثناء من النفي إثبات مطردًا فيما عدا الشروط، وإلا فيلزم عليه صحة الصلاة بوجود الطهارة خاصة [من غير ركوع ولا سجود] (¬3)، وصحة النكاح بوجود الولي خاصة [من غير عقد] (¬4)، ولا قائل به. قال المؤلف في شرحه: الاستثناء يقع في عشرة أمور (¬5): اثنان ينطق بهما، وثمانية لا ينطق بها (¬6)، فأما اللذان ينطق بهما فهما: الأحكام والصفات، فمثال الأحكام: قام القوم إلا زيدًا، ونحوه من الأفعال، وأما (¬7) الاستثناء من الصفة فهو (¬8) على ثلاثة أقسام: ¬
أحدها: استثناء متعلقها، والثاني: استثناء نوعها، والثالث: جملتها (¬1). مثال استثناء متعلقها: قول الشاعر: قاتل ابن البتول إلا عليًا (¬2) أراد بقوله: ابن البتول: الحسين (¬3) بن علي بن أبي طالب (¬4) رضي الله عنهما، [وأراد] (¬5) بالبتول (¬6) فاطمة الزهراء (¬7) رضي الله عنها، وسميت بالبتول (¬8) قيل: لانقطاعها عن النظير، وقيل: لانقطاعها عن الأزواج، ¬
وهو (¬1) مراد هذا الشاعر؛ لأنها انقطعت عن الأزواج كلهم إلا عن علي رضي الله عنه، فاستثنى الشاعر من متعلق التبتل وهو الأزواج. ومثال الاستثناء من أنواعها: قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ (¬2) بِمَيِّتينَ (58) إنْ هِيَ إلا مَوْتَتُنَا الأُولَى} (¬3)؛ فإن الموتة (¬4) الأولى نوع من أنواع الموت (¬5)، ومثال استثناء جملتها قوله: [أنت] (¬6) طالق واحدة إلا واحدة (¬7). قال ابن شاس في الجواهر، وابن أبي زيد في النوادر: إذا قال الرجل: أنت طالق واحدة إلا واحدة تلزمه طلقة واحدة (¬8) / 210/ لبطلان استثنائه بالاستغراق، إلا أن يعيد الاستثناء على الواحدة فتلزمه طلقتان (¬9)، وبيان ¬
ذلك: أن الواحدة صفة [و] (¬1) الموصوف طلقة، فإذا رفع (¬2) صفة الوحدة (3) بالنية فقد رفع بعض ما نطق به، فإذا ارتفعت الوحدة (¬3) تعينت الكثرة؛ إذ [لا] (¬4) واسطة بينهما، وأقل مراتب الكثرة اثنان (¬5)؛ لأن الأصل براءة الذمة من الزائد (¬6). ومثال استثناء جملة الصفة أيضًا: مررت بالمتحرك إلا المتحرك، تقديره: مررت بالجسم المتحرك، فهذان شيئان موصوف وصفة، ثم استثنيت (¬7) أحدهما [وهو الصفة التي هي الحركة، فيتعين السكون؛ لأن كل ضدين لا ثالث لهما إذا رفعت أحدهما] (¬8) تعين الآخر للوقوع (¬9)، فكأنك قلت: مررت بالساكن. قال المؤلف في شرحه: والاستثناء من الصفات هو باب غريب في الاستثناء، وقد بسطته (¬10) هو وغيره في كتاب الاستغناء في أحكام ¬
الاستثناء، وهو سفر كبير، [و] (¬1) فيه أحد وخمسون بابًا ونحو أربعمائة مسألة (¬2). وأما الثمانية التي لا ينطق بها ويقع الاستثناء منها، فهي: الأسباب، والشروط، والموانع، والمحال، والأحوال، والأزمان، والأمكنة، ومطلق الوجود مع قطع النظر عن الخصوصات. مثال الاستثناء من الأسباب: لا عقوبة إلا بجناية (¬3). ومثال الاستثناء من الشروط: لا صلاة إلا بطهور (¬4). ومثال الاستثناء من الموانع: لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحيض (¬5). ومثال الاستثناء من المحال: أكرم رجلًا (¬6) إلا زيدًا و (¬7) عمرًا (7) وبكرًا، فإن كل شخص هو محله لأعمه (¬8). ومثال الاستثناء من الأحوال: قوله: {لَتَأْتنَّنِي بِهِ إلا أَن يُحَاطَ بِكمْ} (¬9) ¬
أي: لتأتنني به في كل حالة من الأحوال إلا حالة الإحاطة بكم، فإني أعذركم فيها (¬1). ومثال ذلك الاستثناء من الأزمان: صل إلا عند الزوال (¬2). ومثال الاستثناء من الأمكنة: صل إلا في المزبلة والمجزرة (¬3). ومثال الاستثناء من مطلق الوجود مع قطع النظر عن الخصوصات: قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكم} (¬4) يعني: الأصنام التي كانوا يعبدونها، أي: لا حقيقة لها إلا مجرد (¬5) اللفظ، ولا وجود لها إلا وجود اللفظ، فوقع الاستثناء من مطلق الوجود على سبيل المبالغة في النفي (¬6). فهذه الثمانية لم تذكر قبل الاستثناء، وإنما تعلم بالفرد الذي يذكر منها بعد الاستثناء. [فيستدل بذلك الفرد على أن جنسه هو الكائن قبل الاستثناء، فيعلم حينئذ أن الاستثناء في هذه الأمور الثمانية هو استثناء ¬
متصل؛ لأنه استثناء] (¬1) من الجنس، والحكم فيه بالنقيض بعد إلا، وكثير من النحاة يعتقد أنه استثناء منقطع؛ لأنه يلاحظ الفعل المتقدم قبل الاستثناء ويجد ما بعده من غير جنسه فيقضي عليه بانقطاعه؛ لاعتقاده أن ما بعد الاستثناء من المنطوق (¬2) به (¬3) قبله، وليس كما ظن، بل الاستثناء واقع من غير مذكور، وهو متصل باعتباره (¬4) (¬5). قال المؤلف في شرحه: وهذه الأمور مبسوطة في كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء، فمن أرادها فليطالعه، فإنها فوائد غريبة وفوائد جليلة، وهي كلها من فضل الله، له المنة في جميع الأحوال (¬6). ... ¬
الباب التاسع في الشروط
الباب التاسع في الشروط وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أدواته. الفصل الثاني: في حقيقته. الفصل الثالث: في حكمه.
[الفصل الأول: في أدواته]
الباب التاسع في الشروط (¬1) ش: وإنما أتى المؤلف بهذا الباب عقب (¬2) [باب] (¬3) الاستثناء لاشتراك (¬4) الشرط والاستثناء في الإخراج (¬5)؛ إذ لا فرق بين قولنا: اقتلوا المشركين إن حاربوا، وبين قولنا: اقتلوا المشركين إلا ألا (¬6) يحاربوا، فلا فرق بينهما في خروج أهل الذمة من هذا الحكم المذكور. قوله: (الشروط). ش: شامل للشروط اللغوية والعقلية والشرعية والعادية (¬7). ¬
قوله: (وفيه ثلاثة فصول). ش: أي وفي هذا الباب [وهو باب الشروط] (¬1) ثلاثة فصول، ويحتمل عود الضمير على الشروط (2) أي: وفي الشروط (¬2) ثلاثة فصول، [والأول أصح] (¬3) (¬4). قوله: (¬5) (الأول: في أدواته) (¬6). ش: والأدوات جمع أداة، والأدوات: هي الآلات (¬7) التي يتوصل بها ¬
إلى المقصود (¬1)، كالحبل والدلو؛ فإنه يتوصل بهما إلى الماء، وكذلك حروف الشرط (¬2) يتوصل بها إلى الربط (¬3) بين الكلامين، وهما الشرط والجزاء (¬4). قوله: (في أدواته) يعني: [أ] (¬5) دوات الشرط اللغوي، أي: في ذكر أدوات الشرط عند أرباب اللغة. قوله: (وهي "إِن"، و"إِذا" (¬6)، و"لو"، وما تضمن معنى "إِن"). ش: ظاهر كلامه: أن [لو] من أدوات الشرط حقيقة، وهو ظاهر كلام ابن مالك في الألفية [أيضًا] (¬7)؛ لأنه قال: "لو" حرف شرط (¬8)، وهو (¬9) أيضًا ظاهر كلام الزمخشري في المفصل؛ لأنه قال: ومن أقسام الحروف حرف الشرط وهما: "إن" و"لو" (¬10). ¬
[نعم] (¬1) قيل (¬2): سميت حرف الشرط مجازًا، لشبهها بحرف الشرط في الربط بين جملتين، قاله (¬3) المؤلف؛ لأن حقيقة الشرط ربط مستقبل بمستقبل، لا ربط ماضٍ بماضٍ كما في "لو" (¬4). قوله: (وهي: و"إن" و"إِذا" و"لو" وما تضمن معنى "إِن")، ظاهر كلامه من أوله (¬5) أن هذه الثلاثة كلها أصل في الشرط؛ لأنه قال: وهي: "إن" و"إذا" و"لو"، وظاهر آخر كلامه وهو قوله: (وما تضمن معنى "إِن")، أن "إن" هي الأصل منها. فاعلم أن الأصل من أدوات الشرط (¬6) هو "إن" خاصة، وأما غيرها فهو فرع عنها (¬7) لتضمنه معنى "إن"، يدل عليه قوله في باب معاني الحروف: (و"إن" وكل ما تضمن معناها للشرط) (¬8)، ويدل على ذلك أيضًا قوله هنالك: (ولو مثل هذه الكلمات في الشرط (¬9)) وإنما ذكر المؤلف [ها] (¬10) هنا "إذا" ¬
و"لو"/ 211/ مع "إن" ليبين ما تختص به كل واحدة (¬1) منها، وإنما احتاج المؤلف [ها هنا] (¬2) إلى الفرق بينها (¬3) لاشتراكها (¬4) في الشرطية والاختصاص بالفعل (¬5). قوله: (فـ "إِن" تختص بالمشكوك فيه، وإِذا تدخل على المعلوم والمشكوك، ولو تدخل على الماضي بخلافهما). ش: ذكر أن "إن" تختص بالمشكوك (¬6) فيه، أي بالمحتمل، فتقول: إن جاء زيد فأتني، ولا تقول: إن طلعت الشمس فأتني؛ لأن مجيء زيد مشكوك فيه، بخلاف طلوع الشمس فإنه معلوم محقق لا بد من وقوعه؛ لأن طلوعها معلوم عادة، ونظير "إن" في هذا المعنى "متى"، فإنها لا يستفهم بها إلا عن الزمان المجهول، فتقول: متى يقدم (¬7) زيد؟ ولا تقول: متى تطلع الشمس؟ (¬8). وقوله: (و"إِذا" تدخل على المعلوم والمشكوك (¬9))، فإنك تقول: إذا جاء زيد فأكرمه، وإذا طلعت الشمس فأكرمه، فـ "إذا" أعم من "إن". ¬
قالوا: الفرق بين "إن" و"إذا" من جهة اللفظ (¬1) ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أنّ "إنْ" حرف، و"إذا" اسم (¬3). وثانيها: أنّ (¬4) بناءها أصل، وبناء "إذا" (¬5) فرع (¬6). وثالثها: أن "إن" تجزم (¬7) ما بعدها، و"إذا" تخفض (¬8) ما بعدها بالإضافة (¬9). والفرق بينهما من جهة المعنى من أربعة أوجه (¬10): أحدها: الأصالة. والثاني: الدلالة، والثالث: عموم التعليق وخصوصه، والرابع: السعة وعدمها. قولنا: (¬11) الأصالة: أن "إن" أصلها الشرطية، و"إذا" أصلها الظرفية (¬12). ¬
ومعنى قولنا: الدلالة: أن "إن" تدل على الزمان بالالتزام وعلى الشرط (¬1) بالمطابقة، و"إذا" تدل على الزمان بالمطابقة وعلى الشرط بالالتزام (¬2). ومعنى قولنا: عموم التعليق وخصوصه: أن "إن" لا يعلق (¬3) عليها إلا المشكوك، و"إذا" يعلق (¬4) عليها المشكوك والمعلوم (¬5). وقولنا: (¬6) السعة وعدمها. فإن "إن" لا سعة فيها، بخلاف "إذا" ففيها السعة، فلذلك يلزم الطلاق في: أنت طالق إذا مت، على قول، ولا يلزم في أنت طالق إن مت، باتفاق (¬7)، ¬
قال ابن الحاجب: ورجع مالك إلى أن إذا مت مثل إن مت، في أنه لا يحنث بخلاف يوم أموت (¬1) (¬2). وقولنا في الوجه الأول: إن "إن" أصلها الشرطية هذا هو الأصل فيها، وقد تستعمل في غير الشرط كقوله تعالى: {إِن تَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ} (¬3) (¬4) فإنّ (¬5) "إنْ" ها هنا نافية بمعنى "ما"، وتكون زائدة بعد "ما" النافية كقولك: ما إن زيد قائم، وتكون مخففة من الثقيلة كقوله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لمَّا عَلَيْهَا} (¬6) (¬7). وقولنا في "إذا": أصلها (¬8) الظرفية، وقد تكون ظرفًا محضًا لا شرط فيه كقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (¬9) تقديره: أقسم ¬
بالليل حالة غشيانه وبالنهار حالة تجليه؛ لأن تلك الحالة أعظم حالات الليل والنهار، والقسم تعظيم، والتعظيم يناسب أعظم الحالات، فـ "إذا" ها هنا ظرف (¬1) لا شرط فيه (¬2)، والعامل فيه الفعل المحذوف وهو أقسم، و"إذا" ها هنا في موضع النصب على الحال (¬3). وقد يدخلها مع ذلك معنى الشرط كقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬4)، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمنَاتُ يُبَايعْنَكَ} (¬5)، وقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزالَهَا} (¬6). والعامل في "إذا" إذا كانت للشرط هو الفعل الذي بعدها، وهو جاء وزلزلت في الأمثلة المتقدمة، وإنما يعمل فيها ما بعدها إذا كانت شرطية؛ لأن الفعل الذي بعدها مجزوم في المعنى، فكما جاز عمل "إذا" فيما بعدها مع أنها مضافة إلى الجملة بعدها، كذلك جاز عمل ما بعدها فيها، كما تعمل من و"ما" الشرطيتان (¬7) فيما بعدهما ويعمل ما بعدهما فيهما، كقولك: من تكرم أكرمه، وما تفعل أفعل، فإن "من" و"ما" في موضع نصب بالفعل المجزوم الذي بعدهما، و"من" [و] (¬8) "ما" هما الجازمتان لما بعدهما، فهكذا ¬
تقول في "إذا" الشرطية فهي (¬1) عاملة معمولة، وإن كانت (¬2) في التقدير مضافة إلى الجملة بعدها (¬3)، قاله المكي في مشكل الإعراب (¬4) في سورة إذا زلزلت الأرض (¬5). قوله: (فـ "إِن" تختص بالمشكوك فيه) انظر هذا مع وقوع "إن" في كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (¬6)، وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (¬7)، وقوله تعالى: {إِن (¬8) كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ} (¬9) وهو كثير في القرآن، مع أن الله تعالى بكل شيء عليم، والشك في حقه تعالى محال (¬10). ¬
والجواب عن هذا (¬1): أن القرآن عربي، فكل ما جاز أن يرد في كلام العرب جاز أن يرد في القرآن، ولا يعتبر في ذلك خصوص الربوبية؛ إذ لا مدخل له فى وضع اللغة، فإذا كان ما تدخل عليه "إنْ" شأنه أن يكون مشكوكًا فيه، حسن دخولها عليه، ولا يقدح في ذلك علم المتكلم والسامع (¬2). قوله: (و"لو" تدخل على الماضي بخلافهما). ش: لما ذكر الفرق بين "إن" و"إذا"، ذكر ها هنا الفرق بينهما وبين "لو"، فذكر أن "لو" تختص بدخولها على الفعل الماضي لفظًا ومعنى (¬3)، كقولك (¬4): لو جاء زيد أمس لأكرمته اليوم، أو تقول: لو جاء زيد أمس لكنت أكرمته، بخلاف "إن" و"إذا" وغيرهما من جميع أدوات الشرط، فإنها لا تدخل على الماضي، وإن وقع دخولها على الماضي [فإنه مؤول] (¬5) (¬6)، كقولك: إن جاء زيد أكرمته، تقديره: إن يجئ زيد أكرمته (¬7)، فقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (¬8) قال ابن السراج: معناه: إن يثبت في المستقبل أني قلته (¬9) في ¬
الماضي (¬1)، فالشرط (¬2) هو ثبوته في المستقبل. قوله: (و"لو" تدخل على الماضي)، يعني: الماضي لفظًا ومعنى، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬3)، وقد تدخل على الماضي لفظًا وهوِ مستقبل معنى، فتكون بمعنى "إن"، (¬4) كقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} (¬5) (¬6). ¬
ومنه قول الشاعر: ولو أن ليلى خيلته لسلمت ... علي وفوقي تربة/ 212/ وصفائح (¬1) وقد تدخل [أيضًا] (¬2) على الماضي معنى وهو مستقبل لفظًا (¬3)، كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (¬4). ومنه قول الشاعر: لو يسمعون (¬5) كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعًا وسجودًا (¬6) فإذا وقع الفعل المستقبل في اللفظ بعد "لو" فإنه يقدر بالماضي، فقوله ¬
تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ (¬1)} تقديره: لو أطاعكم. وقول الشاعر: لو يسمعون (¬2)، تقديره: لو سمعوا، لأجل (¬3) هذا لا تعمل في المضارع إذا دخلت عليه؛ لأنه في تقدير الماضي (¬4). قوله: (و"لو" تدخل على الماضي بخلافهما)، هذا من خصائصها، كذلك أيضًا من خصائصها: أنها (¬5) تدخل على "أنَّ" المفتوحة المشددة (¬6) كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬7)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} (¬8)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬9) وغير ذلك. واختلف النحاة في "أن" الواقعة بعد [لو] (¬10): مذهب سيبويه وجمهور البصريين: أنه مبتدأ، وهو شاذ، كقول الشاعر: ¬
لو ذات السوار (¬1) لطمتني (¬2) (¬3). وقال جمهور الكوفيين (¬4): هو فاعل بفعل مضمر تقديره: لو ثبت أنهم فعلوا (¬5)، فإذا قلنا بمذهب سيبويه فما خبر هذا المبتدأ؟ قالوا: هذا المبتدأ لا يحتاج إلى الخبر؛ لانضمام الخبر عنه والخبر بعد "أن" (¬6). قال ابن مالك في ألفيته: "لو" حرف شرط في مضي ويقل ... إيلاؤه مستقبلاً لكن قبل وهي في الاختصاص بالفعل كـ "إن" ... لكن "لو" "أنَّ" بها قد تقترن (¬7) وإن مضارع تلاها صرفا ... إلى المضي نحو لو يفي كفى (¬8) قوله: (و"لو" تدخل على الماضي بخلافهما)، اعلم أن "لو" التي تكلم ¬
عليها (¬1) المؤلف هي "لو" الشرطية، وهي الامتناعية (¬2)؛ لأنها هي التي تفيد الشرط والربط. وأما المصدرية والتمنية، فلم يتكلم عليها (¬3)، لأنه (¬4) [قد] (¬5) تقدم لنا في باب معاني الحروف أن "لو" لها ثلاثة (¬6) معان، وهي: شرطية، ومصدرية، وتمنيِّة (¬7)، فالشرطية (¬8): كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (¬9)، والتمنيَّة: كقوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬10)، وقد أثبتها كثير من النحاة، ومن نفاها تأولها بالامتناعية ¬
أشربت معنى التمني (¬1). ومثال المصدرية: قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (¬2) تقديره: (¬3) أن يعمر (¬4) ألف سنة (¬5)، فتقدر مع الفعل بالمصدر، وقد نفاها جمهور النحاة وتأولوا الآية ونحوها بحذف مفعول الفعل وحذف جواب "لو"، تقدير (¬6) [الآية] (¬7): يود أحدهم طول العمر لو يعمر ألف سنة لسر (¬8) بذلك (¬9). قوله: (وما تضمن معنى "إِن") يعني به: جميع أدوات الشرط (¬10)، وهي على مذهب سيبويه: اثنا (¬11) عشر وهي: حروف، وأسماء، وظروف زمان، وظروف مكان، ومتردد. ¬
فأما الحروف فهي حرفان، وهما: "إن"، و"إذما"، وأما الأسماء فهي ثلاثة، وهي: "من"، و"ما"، و"مهما"، وأما ظروف الزمان فهي ثلاثة [أيضًا] (¬1)، وهي: "متى"، و"أيان"، و"إذا" في الشعر، وأما ظروف المكان فهي ثلاثة أيضًا وهي: "أين"، و"أنى"، و"حيثما"، وأما المتردد بين الاسمية والظرفية الزمانية والظرفية المكانية فهو واحد وهو: "أي"، لأنه بحسب ما يضاف إليه، لأنه إن أضيف إلى ظرف (¬2) زمان فهو ظرف زمان، كقولك: أي وقت جئتني أكرمتك، وإن أضيف إلى ظرف مكان فهو ظرف مكان، كقولك: أي موضع جلست أكرمتك، وإن أضيف إلى اسم غير ظرف فهو اسم غير ظرف، كقولك: أي شيء تفعل أفعله، وكذلك إذا لم يضف أصلاً فهو اسم لا ظرف، كقوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3)، وقد تقدم الكلام على أدوات الشرط مستوفى في باب معاني الحروف، فانظره (¬4). ... ¬
الفصل الثاني في حقيقته
الفصل الثاني في حقيقته (¬1) ش: أي في حقيقة الشرط الشرعي. قوله: (وهو الذي يتوقف عليه تاثير المؤثر ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود (¬2) ولا عدم). ش: تقدم في فصل (¬3) ما تتوقف عليه الأحكام حقيقة الشرط (¬4)، وكرره ¬
المؤلف ها هنا، وضم إليه حد الإمام الفخر (¬1) في المحصول؛ لأنه قال في المحصول: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر (¬2)، ولم يزد على هذا (¬3)، ثم أضاف المؤلف إلى هذا الحد (¬4): ويلزم (¬5) من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وإنما ذكر المؤلف ها هنا حقيقة الشرط مع أنه تكرار لما تقدم في باب ما تتوقف عليه الأحكام، لينبه على فساد حد الإمام. قوله: (وهو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر)، معناه: هو الشيء الذي يتوقف على وجوده تأثير السبب في وجود مسببه، كالنصاب (¬6) تأثيره في وجوب الزكاة [موقوف] (¬7) على دوران الحول، وكتوقف تأثير الزوال في وجوب الظهر على البلوغ، وغير ذلك. قال المؤلف في الشرح: هذا الحد فاسد؛ لأنه غير جامع؛ لأن الشرط قد ¬
يكون شرطًا فيما ليس مؤثرًا، نحو قولنا: الجوهر شرط في وجود العرض المخصوص لا في تأثيره (¬1)، وكذلك قولنا: الفرج شرط في وجود (¬2) الزنا لا في تأثيره، وكذلك قولنا: الحياة شرط [في] (¬3) العلم مع أن العلم غير مؤثر، وكذلك قولنا: العلم شرط في الإرادة مع أن الإرادة غير مؤثرة؛ لأنها مخصصة لا مؤثرة (¬4) (¬5)، قال المؤلف: فهذه الصور كلها خارجة عن ضابط الإمام، فلذلك زدت أنا: ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. قال: وهذا غير جيد مني، لأن هذه الزيادة (¬6) مضافة/ 213/ إلى ضابط الإمام، فصار الحد باطلاً كما كان قبل الزيادة، وإنما قلنا: الكل باطل؛ لأن القيد الأول (¬7) الذي ذكره الإمام يلزم أن يوجد في جميع الشروط، وذلك لا يصح لما ذكرته من الأمثلة، بل الحد الصحيح ما ذكرته في فصل ما تتوقف عليه الأحكام (¬8). ¬
قال بعضهم: إنما حد الإمام الفخر الشرط الشرعي، وما وقع به الاعتراض [عليه] (¬1) هو عقلي (¬2)، واعترض على المؤلف قوله في شرحه: الفرج شرط في الزنا، مع أن الشرط يتميز بذاته عن المشروط، ومعقول (¬3) الزنا هو عبارة عن التقاء الختانين على وجه مخصوص، فلا يصح أن [يكون] (¬4) الفرج شرطًا (¬5) في وجود (¬6) الزنا؛ لأنه داخل في حقيقة الزنا (¬7). قوله: (ثم هو قد لا يوجد إِلا متدرجًا كدوران الحول، وقد يوجد دفعة كالنية، وقد يقبل الأمرين كالسترة (¬8)). ش: هذه (¬9) مقدمة في تقسيم الشروط (¬10)، يترتب عليها معرفة حصول ¬
المشروط في الوجود، فقسم المؤلف الشرط ها هنا (¬1) إلى ثلاثة أقسام (¬2)، أحدها: ما لا يوجد إلا متدرجًا، الثاني (¬3): ما لا يوجد إلا دفعة واحدة، الثالث: ما يقبل التدرج والدفعة الواحدة. قوله: (دَفعة) قال المسطاسي: هو بفتح الدال مصدر دفع يدفع دفعة، نحو: ضرب يضرب ضربة، فلا يتناول إلا مرة واحدة؛ لأن المصدر يصدق على القليل والكثير من جنسه، إلا إذا حد بالتاء فلا يتناول إلا مرة واحدة منه (¬4)، وأما الدفعة بالضم: فهي (¬5) الشيء المندفع، ومنه الدفعة من الدم (¬6) (¬7). مثال الشرط الذي لا يوجد إلا متدرجًا أي: شيئًا بعد شيء: دوران الحول، فإن دوران الحول لا يمكن حصوله دفعة واحدة؛ لأن الحول مركب من أجزاء الزمان، [وهي الفصول الأربعة، فلا يمكن حصولها إلا شيئًا بعد شيء، وكذلك الشهر لا يوجد إلا متدرجًا؛ لأنه مركب من أجزاء الزمان] (¬8) ¬
أيضًا، وكذلك اليوم لا يوجد إلا متدرجًا؛ لأنه مركب من أجزاء الزمان أيضًا، وكذلك الطهارة لا توجد إلا عضوًا بعد عضو (¬1) (¬2). ومثال الشرط الذي لا يوجد إلا دفعة واحدة: النية؛ لأن النية معنى بسيط لا تركيب فيه (¬3). ومثال الشرط الذي يمكن حصوله متدرجًا ويمكن حصوله دفعة واحدة: ستر العورة بالثوب، فإنه (¬4) يمكن أن يستر بعضًا في زمان ويستر البعض (¬5) (¬6) في زمان آخر، ويمكن أن يسترها في زمان واحد. ومثاله أيضًا: [كل ما] (¬7) يمكن جمعه وافتراقه (¬8): كالدنانير والدراهم (¬9). ¬
قوله: (فيعتبر من الأول (¬1) آخر [جزء] (¬2) منه، ومن الثاني جملته، وكذلك الثالث لإِمكان تحققه). ش: يعني أن هذه الأقسام الثلاثة، إن كان وجودها هو الشرط، فيعتبر في القسم الأول الذي هو المتدرج: آخر جزء منه، مثاله: قولك لعبدك: إن دار الحول فأنت حر، أو إن قرأت سورة البقرة فأنت حر، أو إن دار الشهر فأنت حر، فلا يحصل المشروط (¬3) الذي (¬4) هو العتق (¬5) إلا عند آخر جزء من الحول أو الشهر، أو (¬6) عند آخر حرف من السورة؛ لأن مجموع الشرط لا وجود له في التحقيق إلا بآخر جزء منه، وإنما يحكم عليه أهل العرف بالوجود عند حصول آخر جزء منه في الوجود، فتقدر الأجزاء المتقدمة كأنها حاصلة مع الجزء الآخر في الوجود (¬7). وأما القسم الثاني وهو ما لا يوجد إلا دفعة واحدة، [مثاله] (¬8): قولك (¬9) لعبدك: إن نويت كذا فأنت حر، فإن العبد يعتق بمجرد حصول الشرط الذي هو النية؛ إذ لا يمكن التجزئة في النية. ¬
وعلى هذا يجري (¬1) الخلاف بين العلماء في قول السيد لعبده (¬2): إن بعتك (¬3) فأنت حر، هل يعتق إذا باعه أو لا يعتق؟، قولان (¬4). وسبب الخلاف: هل المشروط (¬5) مقارن أو ملاحق؟ فمن قال: المشروط (¬6) مقارن للشرط، أي يحصل مع شرطه، قال: يعتق العبد على البائع؛ لأن العتق صادفه في ملك (¬7) [البائع] (¬8). ومن قال [بأن] (¬9) المشروط (¬10) ملاحق، [أي: لا يحصل إلا بعد حصول شرطه] (¬11)، قال: لا يعتق (¬12) على البائع؛ لأن العتق لم يصادفه في ملكه، ¬
وإنما صادفه وهو في ملك المشتري، فلا تصرف للإنسان في ملك غيره (¬1). قال ابن الحاجب في كتاب العتق: ولو قال البائع: إن بعته فهو حر، وقال المشتري: إن اشتريته فهو حر، فباعه [له] (¬2) عتق على البائع ويرد ثمنه. انتهى (¬3)، قوله: عتق على البائع، يقتضي أن المشروط (¬4) مقارن (¬5) (¬6)، وقيل بأنه يعتق على المشتري في هذه الصورة (¬7). وأما القسم الثالث وهو الشرط الذي يقبل الأمرين، كقول السيد لعبده: إن سترت عورتك فأنت حر، أو قال له: إن أعطيتني عشرة دراهم فأنت حر، أو قال [له] (¬8) إن أعطيتني عشرة دنانير فأنت حر، فإن المعتبر في ¬
هذا القسم أيضًا حصول جملة الشرط؛ لأنه (¬1) يمكن (¬2) حصوله دفعة واحدة (¬3) (¬4)، وهو معنى قول المؤلف: لإمكان تحققه، معناه: لإمكان حصول حقيقة (¬5) هذا الشرط دفعة واحدة، فإذا أعطاه عشرة دراهم جملة واحدة (¬6) عتق، وإن أعطاه بعضها في زمان وبعضها في زمان آخر فلا يعتق لإمكان تحقق الشرط بجملته، [وهو لم يفعله، وكذلك إن ستر بعض عورته في زمان ثم يستر (¬7) بعضها في زمان آخر فلا يعتق إلا أن يسترها في زمان واحد؛ لأن الشرط أمكن تحصيله] (¬8) في وقت واحد. قوله: (لإِمكان تحققه)، هذا إشارة إلى الفرق بين هذا القسم الثالث وبين الأول (¬9)، كأن قائلاً قال له: فلأي شيء اعتبر/ 214/ آخر جزء (¬10) في ¬
القسم الأول ولم يعتبر آخر جزء في هذا القسم الثالث مع أن كل واحد منهما مركب من الأجزاء؟ فأجاب فقال: لإمكان تحقق هذا القسم الثالث، بخلاف القسم الأول؛ إذ لا يمكن حصوله دفعة واحدة (¬1). قوله: (وكذلك الثالث لإِمكان تحققه)، يعني: أن المعتبر حصوله دفعة واحدة (¬2) لا مفترقه، هذا الذي قاله (¬3) الإمام الفخر (¬4) هو مذهب الشافعي (¬5)، وأما مالك فإنه [قال] (¬6): إذا أعطاه عشرة دراهم فيعتق، سواء أعطاها (¬7) مجموعة أو متفرقة (¬8). وسبب الخلاف: هل المراعى الألفاظ؟ قاله الشافعي، أو المراعى المقاصد؟ قاله مالك، وفي هذا الأصل قولان في المذهب، وكذلك خارج ¬
المذهب (¬1)، ولكن الذي عليه الفتيا في مذهب مالك: مراعاة المقاصد، فيعتق إذا أعطاه (¬2) عشرة دراهم سواء جمعها في الإعطاء في وقت واحد، أو فرقها في أوقات متعددة (¬3). قوله: (فإِن [كان] (¬4) الشرط عدمه، اعتبر أول أزمنة عدمه في الثلاثة). ش: تكلم أولاً على ما إذا كان المعلق عليه وجود أحد الأقسام الثلاثة المذكورة، وتكلم ها هنا على ما إذا كان المعلق عليه عدم أحد الثلاثة المذكورة. مثال ذلك: إن لم تنو كذا فأنت حر، أو [إن] (¬5) لم تقرأ سورة البقرة فأنت حر، أو إن لم تستر عورتك فأنت حر. قوله: (اعتبر أول أزمنة عدمه في الثلاثة)، معناه: فإن المعتبر ها هنا أول أزمنة عدم المعلق عليه في الثلاثة، [أي: في الأقسام الثلاث] (¬6)، فإذا مضى زمان فرد لم يقرأ فيه سورة البقرة، أو لم ينو فيه كذا، أو لم يستر فيه عورته، فهو حر؛ لوجود الشرط وهو مطلق العدم. هذا الذي قاله الإمام الفخر (¬7) هو مذهب الشافعي، وأما مذهب مالك: ¬
فلا بد من مضي زمان يسع ذلك الفعل، ولا يكتفى بمجرد العدم (¬1). قال المؤلف في شرحه: هو (¬2) مقاصد الناس في أيمانهم (¬3). قال المؤلف في شرح المحصول: وقد يقصد في الأيمان العدم الشامل للعمر، كقول [القائل] (¬4): إن لم أعتكف عشرة أيام فعلي صدقة دينار، فإن ذلك لا يتعين له الزمان (¬5) الحاضر، ولا تلزمه صدقة دينار بمضي زمان فرد لم يعتكف فيه، أو مضي زمان يسع الاعتكاف المذكور (¬6). قال: وفتاوى الفقهاء تابعة للنيات والمقاصد وما دلت عليه العوائد (¬7) (¬8). ¬
قال ابن رشد في البيان والتحصيل (¬1) في نوازل عيسى بن دينار (¬2) من كتاب التفليس فيمن قال لغريمه وقد حل حقه (¬3): إن عجلت لي كذا وكذا من حقي (¬4) فبقيته عنك موضوعة إن عجلت لي ذلك نقدًا (¬5) الساعة أو إلى أجل يسميه (¬6)، فعجل له بعض ما قال له. هل تلزمه الوضيعة أم لا؟ قال: لا أرى الوضيعة تلزمه [وصاحب الحق على شرطه، ولا تلزمه الوضيعة إذا لم يعجل له ما قال له (¬7). ¬
قال ابن رشد: تحصَّل في هذه المسألة أربعة أقوال. أحدها: هذا، وهو أن (¬1) الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما قال، وهو أصح الأقوال، وبه قال أصبغ (¬2). القول الثاني: أن الوضيعة تلزمه] (¬3)، وبه قال ابن الماجشون. والثالث: لزوم (¬4) الوضيعة إن نقص الشيء اليسير، قاله مطرف (¬5). والرابع: أنه يلزمه من الوضيعة بقدر ما عجل له من حقه (¬6). ... ¬
الفصل الثالث في حكمه
الفصل الثالث في حكمه (¬1) ش: أي في حكم الشرط، وفي هذا الفصل أربع مسائل: قوله: (إِذا رتب مشروط على شرطين، لا يحصل إِلا عند حصولهما (¬2) إِن كانا على الجمع، وإِن كانا على (¬3) البدل حصل عند أحدهما وإِلى المعلق (¬4) تعيينه؛ لأن الحاصل (¬5) أن الشرط (¬6) [هو] (¬7) المشترك بينهما). ش: هذا أول المسائل (¬8) (¬9)، يعني: أن المشروط (¬10) إذا علق على شرطين على الاجتماعية فلا يحصل إلا بحصول الشرطين معًا، كقوله لزوجته: إن دخلت الدار وكلمت زيدًا فأنت طالق، وإذا علق مشروط على شرطين على ¬
البدلية فإن المشروط (¬1) يحصل بحصول أحدهما من غير تعيين، كقوله: إن دخلت الدار أو (¬2) كلمت زيدًا فأنت طالق، فإنها تطلق بأيها حصل ولا يتوقف طلاقها على مجموع الشرطين. قوله: (وإِلى المعلق تعيينه)، هذا كلام الإمام في المحصول (¬3)، واستشكله المؤلف في الشرح (¬4)، وبيان إشكاله: أن قوله: (وإِلى المعلق (¬5) تعيينه) أن المتكلم له (¬6) أن يعين أحد الشرطين للمشروط إذا كانا على البدل (¬7)، نحو قولك: إن دخلت الدار أو كلمت زيدًا فأنت طالق، وبيان هذا: أن تعيين المتكلم أحد الشرطين لا يخلو إما أن يكون عند التلفظ، وإما أن يكون تعيينه بعد التلفظ، وأيًا ما (¬8) كان فهو باطل. فإنه إن عين أحدهما عند التلفظ للشرطين وألغى الآخر، فإنه يكون من باب تعليق (¬9) المشروط على شرط واحد، وأين الشرطان؟ وإن كان تعيينه ¬
بعد التلفظ فهو باطل؛ إذ ليس له بعد ذلك أن يعين أحدهما (¬1) للشرطية ويبطل الآخر، وأين التعيين؟. فلا يصح (¬2) إذًا قوله (¬3): للمعلِّق (¬4) تعيين أحد الشرطين، على كل تقدير. قال المسطاسي: هذا الاعتراض الذي أورده المؤلف على الإمام، هو وهم من المؤلف؛ لأن الإمام إنما قال: للمعلق تعيينه (¬5) في المشروط، لا في الشرط، ونصه في المحصول: الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين على سبيل البدل، كقوله لجاريته: إن زنيت جلدتك أو نفيتك (¬6)، ومقتضاه (¬7) أحدهما (¬8) مع أن التعيين فيهما للقائل. انتهى (¬9). فحصل (¬10) مما ذكرنا أن التعيين إنما يكون في أحد المشروطين لا في أحد الشرطين، وقد وقع في بعض النسخ وهو (¬11) الأولى: وإذا رتب مشروطان على شرط، فإن كانا على الجمع حصلا عند وجوده، وإن كانا على البدل حصل أحدهما، وللمعلق (¬12) ¬
تعيينه؛ لأن الحاصل أن المشروط (¬1) هو المشترك بينهما، فهذه النسخة هي المطابقة للمراد، وأما الأولى فهي عبارة باطلة/ 215/ (¬2)؛ إذ ليس للمعلق تعيين أحد الشرطين، وإنما الذي له هو تعيين أحد المشروطين. وقوله: (لأن الحاصل أن الشرط هو المشترك بينهما)، لا يصح، وإنما الذي هو المشترك هو المشروط؛ لأن المشروط هو المشترك بين المشروطين (¬3) (¬4). قوله: (إِذا رتب مشروط ...) المسألة، انظر: إذا قال لزوجتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان (¬5)، فدخلت إحداهما خاصة، ففيها ثلاثة أقوال، ثالثها: تطلق الداخلة خاصة، حجة القول بطلاقهما معًا: أن بعض الحنث حنث؛ ولأن الحنث يقع بأقل الأشياء (¬6)، [وحجة القول بعدم طلاقهما معًا: لأن مطلق اللفظ يقتضي اجتماعهما في الدخول] (¬7) (¬8). ¬
وحجة القول بطلاق الداخلة خاصة: [أن] (¬1) دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها نفسها (¬2)، فالقولان المتقابلان لابن القاسم، والقول بالتفصيل لأشهب، ذكرها ابن العربي في أحكام القرآن (¬3) في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬4) فانظره (¬5). قوله: (إِذا رتب مشروط على شرطين ...) إلى آخر كلامه، لم يستوف المؤلف جميع وجوه (¬6) هذه المسألة ولم يذكر من وجوهها إلا وجهين وهما: اتحاد المشروط مع تعداد الشرط على الجمع، واتحاد المشروط مع تعداد الشرط على البدل. وحاصل الوجوه في هذه المسألة (¬7) أن تقول: لا يخلو الشرط إما أن ¬
يتحد وإما أن يتعدد، فإذا اتحد ففيه ثلاثة أوجه: إما (¬1) اتحاد المشروط، وإما تعداده على الجمع، وإما تعداده على البدل. مثال اتحاده: إن جاء زيد فأعطه درهمًا. ومثال تعداده على الجمع: إن جاء زيد فأعطه دينارًا ودرهمًا (¬2). ومثال تعداده على البدل: إن جاء زيد فأعطه دينارًا أو درهمًا. فهذه ثلاثة أوجه في اتحاد الشرط. وأما إن تعدد الشرط على الجمع ففيه أيضًا ثلاثة أوجه: إما اتحاد المشروط، وإما تعداده على الجمع، وإما تعداده على البدل. مثال اتحاده: إن جاء زيد وسلم عليك فأعطه درهمًا (¬3). ومثال تعداده على الجمع: إن جاء زيد وسلم عليك فأعطه دينارًا ودرهمًا (¬4). ومثال تعداده على البدل: إن جاء زيد وسلم عليك فأعطه دينارًا أو درهمًا. [فهذه أيضًا ثلاثة أوجه في تعداد الشرط على الجمع. وأما تعداد الشرط على البدل ففيه أيضًا ثلاثة أوجه: إما اتحاد المشروط، وإما تعداده على الجمع، وإما تعداده على البدل. مثال اتحاده: إن جاء زيد أو سلم عليك فأعطه درهمًا. ¬
ومثال تعداده على الجمع: إن جاء زيد أو سلم عليك فأعطه دينارًا أو درهمًا (¬1). ومثال تعداده على البدل: إن جاء زيد أو سلم عليك فأعطه دينارًا أو درهمًا] (¬2). فهذه ثلاثة أوجه أيضًا في تعداد الشرط على البدل، فهي إذًا تسعة أوجه وكلها واضحة الأحكام مما ذكر (¬3) المؤلف رحمه الله تعالى (¬4). هذا كله في التعليق بحرف العطف، وأما إذا كان التعليق بغير حرف العطف كقوله: إن كلمت زيدًا إن دخلت الدار فأنت طالق، فهذا يسميه الفقهاء والأصوليون بتعليق التعليق، ويسميه النحاة بشرط الشرط (¬5). فمذهب مالك: أن التعليق مع عدم (¬6) العطف كالتعليق مع العطف، فإن قولك: جاء زيد جاء عمرو (¬7)، بمنزلة قولك: جاء زيد وجاء عمرو لا فرق بينهما في المعنى، فإذا كلمت زيدًا أولاً فلا تطلق حتى تدخل (¬8)؛ لأنه ¬
جعل دخول الدار شرطًا في كون كلام زيد (¬1) شرطًا في الطلاق، ولا يحصل المشروط بدون شرطه، وكذلك إذا دخلت الدار أولاً ولم تكلم زيدًا، فلا يحصل الطلاق أيضًا (¬2) لعدم شرطه الذي هو كلام زيد (¬3). ومذهب الشافعي: أنها (¬4) إن دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيدًا طلقت، وإن كلمت زيدًا أولاً ثم دخلت الدار لم تطلق؛ لأنه جعل دخول الدار شرطًا في كلام زيد، فوجب تقديمه؛ لأنه لما قال: إن كلمت زيدًا، جعل كلام زيد شرطًا وسببًا لطلاق امرأته، ثم إنه جعل لهذا (¬5) الشرط شرطًا في اعتباره، وهو دخول الدار، ولأجل ذلك يسمى هذا الشرط الثاني بشرط (¬6) الشرط، فيكون دخول الدار سببًا وشرطًا في اعتبار كون كلام زيد سببًا لطلاق امرأته. والقاعدة: أن الشيء إذا وجد قبل سببه فلا يعتبر، كوقوع صلاة الظهر قبل الزوال، فإذا وقع كلام [زيد] (¬7) قبل دخول الدار فإنه لا يعتبر، فإذا دخلت الدار بعد ذلك لم يلزم (¬8) الطلاق لعدم سببه الذي هو كلام [زيد] (¬9)، ¬
فإذا دخلت الدار أولاً ثم كلمت زيدًا فقد وقع كلام زيد بعد سببه، فيلزم (¬1) الطلاق. وضابط المسألة عندهم: أن المؤخر في اللفظ يجب أن يكون مقدمًا في الوقوع، وحينئذ يلزم المشروط، وإذا وقع المتأخر متأخرًا والمتقدم (¬2) متقدمًا لم يحصل المشروط، ويشهد لهذا القول قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ [كَانَ] (¬3) اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هُوَ رَبُّكُمْ] (¬4)} (¬5)، فإن إرادة الله تعالى متقدمة على إرادة البشر، فالمتقدم في اللفظ متأخر في الوقوع (¬6)، ويشهد للقول (¬7) الأول وهو قول المالكية قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ (8) إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ (¬8) أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ ¬
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، فالظاهر أن إرادة النبي (¬2) عليه السلام متأخرة عن هبتها، فإنها تجري مجرى القبول في العقود، وهبتها لنفسها إيجاب، كما تقول: من وهبك شيئًا للمكافأة لزم أن تكافئه عليه إن أردت قبول تلك الهبة، فقد حصلت (¬3) الإرادة بعد الهبة/ 216/، انظر (¬4) الفرق الثالث من القواعد السنية (¬5). قوله: (وإِذا دخل الشرط على جمل رجع إِليها عند إِمام الحرمين (¬6)، وإِلى ما يليه عند بعض الأدباء، واختار فخر الدين (¬7) التوقف). ش: هذه هي المسألة الثانية، وهي دخول الشرط على جمل غير واحدة، كقولك: امرأتي طالق وعبدي حر ومالي صدقة إن كلمت زيدًا (¬8)، ففيه ثلاثة أقوال ذكرها المؤلف ها هنا. ¬
حجة رجوعه إلى الجميع (¬1) ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أن حرف العطف يصير المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، فتكون جميع الجمل كالجملة الواحدة، فيحسن عوده إلى الجميع (¬3). الوجه الثاني: قياسه على الاستثناء، بجامع كون كل واحد منهما غير مستقل بنفسه، لأنه فضلة في الكلام (¬4). الوجه الثالث: أن المتكلم [قد] (¬5) يحتاج إلى الشرط، فإن ذكره بعد كل جملة فذلك من الركاكة في القول (¬6)، فيذكره آخر الجمل ليخرج (¬7) [كلامه] (¬8) عن الركاكة (¬9). وأيضًا فإذا كان رجوع الاستثناء إلى الجميع، فأولى وأحرى أن يرجع ¬
الشرط إلى الجميع؛ لأن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب متضمنة للحكم والمصالح. فعوده إلى الجميع فيه تكثير للمصلحة بخلاف الاستثناء؛ فإنه إخراج ما ليس بمراد عما هو مراد (¬1). حجة القول باختصاصه بما يليه: ترجيحًا للقريب على البعيد؛ ولأن الشرط فضلة في الكلام ومبطل له فيختص (¬2) بما يليه، تقليلاً لمخالفة (¬3) الأصل (¬4). حجة التوقف: تعارض الأدلة (¬5). وقوله: (واتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، وعلى حسن التقييد به، وإِن كان الخارج به أكثر من الباقي). ش: هذه هي المسألة الثالثة (¬6)، ذكر المؤلف ها هنا فرعين اتفقوا على ¬
جوازهما: أحدهما: وجوب اتصال الشرط بالكلام، ولا يدخله (¬1) الخلاف المتقدم في الاستثناء: هل يجب اتصاله أم لا (¬2)؟ كما ذكره المؤلف في قوله [أولاً] (¬3): ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة، خلافًا لابن عباس رضي الله عنه (¬4). الفرع الثاني: جواز [التقييد في] (¬5) الشرط (¬6) سواء كان أقل أو أكثر أو مستغرقًا، ولا يدخله الخلاف المتقدم أيضًا في استثناء الأكثر والمساوي (¬7) في قول المؤلف أولاً: واختار القاضي عبد الوهاب والإمام جواز استثناء ¬
الأكثر، وقال القاضي أبو بكر: يجب أن يكون [أقل] (¬1)، وقيل (¬2): يجوز المساوي، دون الأكثر (¬3). قوله: (واتفقوا على وجوب اتصال الشرط)، يريد لفظًا أو ما في حكمه، فلا يعتبر انفصاله (¬4) بسعال أو عطاس ونحوهما (¬5) كما تقدم في الاستثناء؛ لأن ذلك لا يعد انفصالاً في العرف والعادة. ووجه الاتفاق على وجوب اتصال الشرط بالكلام: أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب متضمنة للحكم والمصالح، فلا ينبغي أن تؤخر المصالح اهتمامًا واعتناءً بها (¬6)؛ ولأن (¬7) الشرط لا يستقل بنفسه لأنه فضلة الكلام (¬8). ووجه الاتفاق على جواز التقييد بالشرط، وإن كان الخارج به أكثر من الباقي: فهو عدم القبح في الإخراج؛ لأنه إذا قال: (¬9) أكرم بني تميم إن ¬
أطاعوا الله، فقد لا يطيعه أكثرهم فيخرج من الكلام أكثره، وقد لا يطيعه أحد (¬1) منهم فيبطل جميع الكلام فلا يقبح ذلك، بخلاف الاستثناء؛ لأن المتكلم [به] (¬2) يعد عابثًا بنطقه بما يعتقد بطلان أكثره أو بطلان جميعه (¬3). والفرق بين الشرط والاستثناء: أن الخارج (¬4) بالشرط غير متعين، بخلاف الاستثناء؛ لأنك إذا قلت: أكرم بني تميم إن أطاعوا الله، قد (¬5) يطيعون كلهم، وقد يطيع أكثرهم، وقد يطيع أقلهم، وقد لا يطيعون كلهم، وذلك كله لا يقدح في الشرط ولا يقبح، بل يحسن، بخلاف الاستثناء فإنه يقبح فيه (¬6). قوله (¬7): (ويجوز تقديمه في اللفظ وتأخيره، واختار الإِمام تقديمه خلافًا للفراء، جمعًا بين التقدم (¬8) الطبعي والوضعي). ش: هذه هي المسألة الرابعة. اعلم أن العلماء اتفقوا على [جواز] (¬9) تقديم الشرط وتأخيره عن المشروط ¬
في اللفظ (¬1)، فيجوز أن تقول: إن دخلت الدار فأنت طالق، ويجوز أن تقول: أنت طالق إن دخلت الدار. وإنما اختلفوا في المختار من الوجهين: هل المختار تقديمه؟ قاله الإمام الفخر (¬2)، أو [المختار] (¬3) تأخيره؟ قاله الفراء (¬4). حجة الإمام: أن الشرط سبب، والسبب شأنه التقديم، فإذا تقدم في المعنى وجب أن يكون متقدمًا في اللفظ، وهذا معنى قول المؤلف: جمعًا بين التقدم (¬5) الطبعي والوضعي (¬6). حجة الفراء: أن الشرط فضلة في الكلام، والفضلة شأنها التأخير كالصفة والغاية والنعت والمفعول والتأكيد وغير ذلك (¬7). قال المؤلف في الشرح: وقد غلط بعض الجهال في هذه المسألة فقال: إن العلماء اختلفوا في تقديم المشروط على شرطه، وإذا سئل أين ذلك؟ أشار ¬
إلى هذه المسألة وهو غلط، ما قال أحد بأن المشروط لا يتوقف على شرطه، بل الخلاف إنما هو في التقدم في النطق حالة التعليق (¬1) فقط (¬2). قال المسطاسي: هذا الذي قاله المؤلف [ها] (¬3) هنا مخالف لما قال في شرح المحصول؛ وهو أن العلماء اختلفوا في المشروط: هل يقع مع الشرط أو بعده؟ قال: وعليه يتخرج الخلاف فيما إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، هل يعتق على البائع أم لا؟ فتأمله فإنه يقتضي التدافع، والله أعلم؟ (¬4). قوله: (ويجوز تقديمه في اللفظ ...) إلى آخر الكلام (¬5)، اعلم أن الشرط إذا تأخر كقولك: أنت حر إن دخلت الدار، اختلف النحاة في قولك: أنت حر مثلاً، هل هو دليل على الجواب أو هو نفس الجواب؟ قال البصريون: هو دليل (¬6) الجواب، وهو جملة خبرية وليس بنفس الجواب؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام فلا تقع حشوًا (¬7)، وعلى هذا المذهب يجري قول الإمام الفخر في اختياره تقديم الشرط؛ لأن له صدر الكلام. ¬
وقال الكوفيون: هو نفس الجواب/ 217/، وهو جملة إنشائية (¬1). وعلى هذا المذهب يجري قول الفراء في اختياره تأخير الشرط، والله أعلم. ... ¬
الباب العاشر في المطلق والمقيد
الباب العاشر في المطلق والمقيد
الباب العاشر في المطلق والمقيد (¬1) (¬2) ش: هذا الباب مناسب (¬3) للباب الذي قبله، لأن الشرط من جملة ما ¬
يقيد به المطلق (¬1). قال المؤلف في شرحه: التقييد والإطلاق من أسماء الألفاظ لا من أسماء المعاني؛ لأنك تقول: هذا لفظ (¬2) مطلق، وهذا لفظ (¬3) مقيد، ولا تقول: معنى مطلق، ولا معنى مقيد (¬4). قوله: (التقييد والإِطلاق أمران اعتباريان). ش: أي: أمران نسبيان، أي: إضافيان (¬5). قوله: (فقد يكون المقيد مطلقًا بالنسبة إِلى قيد آخر، كالرقبة مقيدة بالملك، مطلقة بالنسبة إِلى الإِيمان). ش: هذا تفسير وبيان لقوله: أمران اعتباريان، ومعناه (¬6): قد يكون الشيء (¬7) مطلقًا باعتبار شيء، ويكون [أيضًا] (¬8) مقيدًا باعتبار شيء ¬
[آخر] (¬1)، مثله المؤلف بالرقبة، فإن الرقبة إذا اعتبرت أن معناها المملوكة فهي مقيدة، لخروج غير المملوكة منها، وإذا اعتبرت صدقها على المؤمنة والكافرة [حرة كانت أو مملوكة] (¬2) فهي مطلقة، ولكن (¬3) جهة (¬4) التقييد خلاف جهة الإطلاق، فما به الإطلاق خلاف ما به التقييد. قوله: (وقد يكون المطلق مقيدًا كالرقبة مطلقة وهي مقيدة بالرق). ش: أي إذا اعتبرت كون الرقبة تصدق على المؤمنة والكافرة فهي مطلقة، وإذا اعتبرت كونها مملوكة فهي مقيدة. قوله: (والحاصل أن كل حقيقة إِن اعتبرت من حيث هي هي فهي مطلقة، وإِن اعتبرت مضافة إِلى غيرها فهي مقيدة). ش: قال المؤلف في شرحه: ضابط الإطلاق أنك تقتصر على مسمى اللفظة المفردة، نحو: رقبة، أو إنسان، أو حيوان، ونحو ذلك من الألفاظ المفردة، فهذه كلها مطلقات، ومتى زدت على مدلول اللفظة مدلولاً آخر بلفظ أو بغير لفظ صار مقيدًا (¬5)، مثال زيادته بلفظ نحو: رقبة مؤمنة، أو (6) إنسان صالح، أو (¬6) حيوان ناطق، ومثال زيادته بغير لفظ: أن تأخذ ¬
هذه الألفاظ المطلقة باعتبار ألفاظ أخر، وذلك أن الرقبة إنسان مملوك، وأن الإنسان حيوان ناطق، وأن الحيوان (¬1) جسم حساس، وأن الرجل إنسان ذكر، وما أشبه ذلك. فتبين بما ذكرناه: أن التقييد والإطلاق أمران نسبيان، فرب مطلق مقيد، ورب مقيد مطلق (¬2). قوله: (ووقوعه في الشرع على أربعة أنواع (¬3) (¬4) (¬5): متفق الحكم والسبب، كإِطلاق الغنم في حديث وتقييدها (¬6) في [حديث] (¬7) آخر بالسوم. ومختلف الحكم والسبب، كتقييد الشهادة بالعدالة وإِطلاق (¬8) الرقبة في الظهار. ¬
[ومتحد الحكم مختلف السبب كالعتق (¬1) مقيد في القتل مطلق في الظهار] (¬2)، ومختلف الحكم متحد (¬3) السبب كتقييد الوضوء بالمرافق وإِطلاق التيمم (¬4). والسبب واحد [و] (¬5) هو الحدث). ش: ومعنى قوله في القسم الأول: (متفق الحكم والسبب): أن قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاة شاة" مع قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" الحكم في السائمة والمعلوفة واحد، وهو وجوب الزكاة، وكذلك سبب [وجوب] (¬6) الزكاة فيهما أيضًا واحد، وهو نعمة الملك، أو نفي الشح عن النفس (¬7) (¬8). قوله: (فالأول يحمل (¬9) فيه المطلق على المقيد على الخلاف في دلالة المفهوم، وهو حجة عند مالك رحمه الله تعالى). ش: يعني أن المطلق يحمل على المقيد، على القول بأن المفهوم حجة، وهو قول مالك وجمهور أصحابه، وقد تقدم التنبيه على ضعف التخصيص بالمفهوم في باب العموم في قول المؤلف: (وفي المفهوم نظر ¬
وإِن قلنا: إِنه حجة، لكونه أضعف من المنطوق) (¬1)، وأما إذا قلنا: إن المفهوم ليس بحجة فلا يحمل المطلق على المقيد؛ إذ لا عبرة بالمفهوم (¬2). وذلك أن قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاة شاة" يقتضي بمنطوقه (¬3) وجوب الزكاة في السائمة والمعلوفة، وقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" يقتضي بمفهومه نفي الزكاة عن المعلوفة (¬4). ¬
قوله: (كإِطلاق الغنم في حديث وتقييدها في حديث آخر بالسوم)، قال (¬1) في الشرح: وهذا المثال عليه إشكال من جهة أن مطلقه عام، فإن (¬2) قوله عليه السلام: "في كل أربعين (¬3) شاة شاة" عام لا مطلق، فإذا كان عامًا كان المقيد له مخصصًا لا مقيدًا، فإن المخصص مناقض لمقتضى العام ومناف له، وأما المقيد فليس بمناقض لمقتضى المطلق (¬4) بل فيه ذلك المطلق وزيادة، فإن العامل بالمقيد عامل بالمطلق، وليس كذلك العام مع الخاص، فإن العامل بالخاص غير العامل (¬5) بالعام، فإن معتق الرقبة المؤمنة معتق الرقبة المطلقة، ومزكي الغنم السائمة ليس بمزكي الغنم المعلوفة (¬6). ¬
وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال: بأن مذهب المؤلف أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فإن السوم في الغنم حال من حالاتها، فالغنم بالنسبة إلى السوم مطلقة، وكذلك بالنسبة إلى العلف، فيصير إذًا من باب المطلق والمقيد [لا من باب العام والخاص فتأمله (¬1). قال بعضهم: فإذا كان المفهوم حجة عند مالك (¬2)، ومذهبه أيضًا حمل المطلق على المقيد] (¬3) (¬4). فها هنا مسألتان خالف فيهما أصله ولم يعتبر فيهما المفهوم، ولا حمل فيهما المطلق على المقيد (¬5). المسألة الأولى: قوله عليه السلام: "في كل أربعين شاة شاة" / 218/ مع قوله عليه السلام: "في الغنم السائمة الزكاة"؛ لأن مالكًا رضي الله عنه أوجب الزكاة في السائمة والمعلوفة، ولم يعتبر المفهوم (¬6) ولا حمل المطلق على المقيد (¬7). أجيب عن هذا بثلاثة أوجه: أحدهما: أن هذا من باب العموم والخصوص، فإن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، كما تقدم في باب العموم في قوله: وذكر بعض العموم لا ¬
يخصصه، خلافًا لأبي ثور (¬1). الوجه الثاني: أن المفهوم وإن كان حجة فها هنا ما يعارضه، وهو دلالة المنطوق؛ لأن [دلالة المنطوق أولى من] (¬2) دلالة المفهوم (¬3)، [لأن المفهوم مختلف فيه هل هو حجة أم لا؟] (¬4). الوجه الثالث: أن المفهوم إنما يكون حجة إذا لم يخرج مخرج الغالب (¬5)، والمفهوم ها هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب أغنام (¬6) الحجاز السوم دون العلف (¬7). المسألة الثانية: قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬8) مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬9)، فإن مالكًا رضي الله عنه قال: بنفس الارتداد ينحبط العمل، ولا يتوقف على الموت ¬
على الكفر (¬1)، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬2). وقال الشافعي: لا ينحبط عمله إلا بوفاته على الكفر حملاً للمطلق على المقيد (¬3). وتظهر ثمرة الخلاف: فيمن ارتد بعد أن حج حجة الفريضة، إذا رجع إلى الإسلام هل يعيد الحج أو لا يعيده؟ قال مالك: يعيده؛ لأنه منحبط بنفس ارتداده. وقال الشافعي: لا يعيد (¬4) [الحج] (¬5)؛ لأن حبطه متوقف على وفاته على الكفر، حملاً للمطلق على المقيد (¬6). أجاب المؤلف في القواعد في الفرق الحادي والثلاثين عن مالك في هذا فقال: ليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد. وإنما هذا (¬7) من باب ترتيب مشروطين على شرطين، فالمشروطان هما ¬
الحبوط والخلود (¬1)، والشرطان هما: الردة والوفاة عليها. فالأول للأول والثاني للثاني، فالحبوط للردة، والخلود للوفاة عليها (¬2). قوله: (والثاني لا يحمل [فيه] (¬3) إِجماعًا). ش: يعني أن القسم الذي اختلف حكمه وسببه (¬4)، لا يحمل (¬5) فيه المطلق على المقيد إجماعًا (¬6)، إذ لا موجب لرد أحد الدليلين إلى الآخر لاختلاف الأحكام والأسباب، فإن اعتبار العدالة في الشهادة لا يوجب اعتبار العدالة في الرقبة (¬7). قوله: (إِجماعًا)، يعني إجماع الجمهور، وإلا فقد نقل المؤلف في شرح المحصول في حمل المطلق على المقيد عن التبريزي (¬8) ثلاثة أقوال: لأنه قال في حمل المطلق على المقيد ثلاثة أقوال؛ قولان متقابلان على الإطلاق، والقول ¬
الثالث: إن اتحد السبب حمل عليه وإلا فلا، قال: وهذا الثالث هو الحق (¬1)، فهذا يقتضي عدم الإجماع الذي ذكره (¬2) المؤلف ها هنا (¬3)؛ لأنه يقتضي الخلاف في جميع الأقسام. قوله: (والثالث لا يحمل فيه المطلق على المقيد عند أكثر أصحابنا و (¬4) الحنفية خلافًا لأكثر الشافعية؛ لأن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام، فيقتضي أحدهما التقييد والآخر الإِطلاق). ش: يعني أن القسم الذي اتحد حكمه واختلف سببه لا يحمل فيه المطلق على المقيد عند أكثر أصحاب مالك والحنفية خلافًا لأكثر الشافعية (¬5). ¬
قوله: (والحنفية) أي لا يحمل المطلق على المقيد ها هنا عند (¬1) الحنفية، يريد: إلا فيما يجوز نسخه به، فإن تقييد المطلق زيادة، والزيادة على النص نسخ عند الحنفية، كما سيأتي بيانه في باب النسخ إن شاء الله تعالى في ¬
الفصل الرابع منه، في قوله: [الزيادة] (¬1) على العبادة الواحدة ليست نسخًا عند مالك رحمه الله وعند أكثر أصحابه والشافعي، خلافًا للحنفية (¬2) (¬3). قوله: (لأن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام)، هذا الدليل أعم من المدلول؛ لأنه (¬4) يتناول القسم الثاني (¬5) أيضًا. قوله: (والرابع فيه خلاف). ش: يعني أن القسم (¬6) الذي اختلف حكمه واتحد سببه فيه خلاف (¬7)، ¬
كتقييد الوضوء بالمرافق وإطلاق التيمم والسبب واحد وهو الحدث (¬1)، فقيل: تحمل آية التيمم المطلقة على آية الوضوء المقيدة؛ لأن الله تعالى قال في آية التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬2)، أي: من الصعيد الطيب، وقال [في] (¬3) آية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬4)، فتحمل إحدى (¬5) الآيتين (¬6) على الأخرى، فيتيمم إلى المرافق كالوضوء، حملاً للمطلق على المقيد (¬7)، وقيل: إنما تحمل آية التيمم [على آية السرقة (¬8)؛ لأن القطع فيها في الكوعين فيتيمم إلى الكوعين] (¬9) قياسًا على القطع (¬10)؛ لأنه عضو (¬11) أطلق (¬12) النص فيه (¬13). فالقول الأول جعل هذا من باب حمل المطلق على المقيد. ¬
و [هذا] (¬1) القول الثاني جعله من باب القياس (¬2). وقيل: [بل] (¬3) يتيمم إلى الإبطين لأن اسم اليد في اللغة من الإبط إلى الأصابع؛ و [لأجل] (¬4) ذلك (¬5) لما نزلت آية التيمم فيتيمم (¬6) الصحابة رضي الله عنهم إلى الإبط (¬7) وهم [أهل] (¬8) اللسان والمعرفة بمعاني الخطاب (¬9)، قال ¬
جماعة من الفقهاء: سبب الخلاف في هذه الآية المذكورة في التيمم: هل يؤخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ (¬1). قال المؤلف في الشرح: وهذا (¬2) باطل؛ لأن اسم اليد كل لا كلي فلا يجزئ البعض عن الكل إجماعًا، فلا تجزئ ركعة واحدة عن صلاة الصبح ولا يوم واحد عن شهر رمضان إجماعًا، وإنما محل الخلاف [هو الكلي] (¬3) الذي له مراتب في القلة والكثرة، كالطمأنينة والتدلك والرقبة وما أشبه ذلك (¬4)، كما تقدم بيانه في الباب الرابع في الأوامر في قوله: فرع: اختار القاضي عبد الوهاب أن الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط" (¬5). حجة القول بعدم حمل المطلق على المقيد مع اختلاف السبب شيئان. أحدهما: / 219/ أن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام كما قال المؤلف (¬6). الثاني: أن الأصل عدم الحمل، وخالفناه فيما اتفق سببه وبقي ما عداه على الأصل. ¬
وإنما قلنا: الأصل عدم الحمل؛ لأن كل واحد من المطلق والمقيد [له] (¬1) دلالة تخصه (¬2)، فليس إبطال دلالة المطلق بدلالة المقيد بأولى من العكس (¬3). حجة القول بالحمل، ثلاثة أوجه: أحدها: الجمع بين الدليلين؛ لأن العامل بالمقيد عامل بالمطلق، بخلاف العكس؛ لأن المطلق في ضمن المقيد. فإذا قال لعبده: أكرم رجلاً، ثم قال له: أكرم زيدًا، فإذا أكرم زيدًا صدق عليه أنه أكرم رجلاً (¬4). الوجه الثاني: أن القرآن كله كالكلمة الواحدة، فيقدر كالمنطوق (¬5) به [مع المطلق] (¬6)، فيتعين لذلك حمل المطلق على المقيد (¬7). الوجه الثالث: بالقياس على الشهادة؛ لأن الله عز وجل أطلق الشهادة ¬
في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬1) وقيدها بقوله: (¬2) {مَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3)، وفي قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬4)، فإنه حُمِلَ المطلق على المقيد ها هنا باتفاق، فينبغي (¬5) أن يكون كذلك في محل النزاع، طردًا للقاعدة (¬6). وأجيب عن الأول وهو قولنا: المطلق في ضمن المقيد: بأنا نسلم أن المطلق في ضمن المقيد، ولكن السبب مختلف (¬7)، فلعل القتل لعظم مفسدته يقتضي زيادة الزاجر (¬8) فيغلظ عليه باشتراط الإيمان في الرقبة، ولا يشترط ذلك في الظهار لخفة مفسدته. وقاعدة الشرع: اختلاف الأسباب لاختلاف (¬9) المسببات، واختلاف العقوبات لاختلاف الجنايات، واختلاف الجابرات لاختلاف المجبورات (¬10). وأجيب عن الثاني: وهو قولنا: القرآن كله كالكلمة الواحدة إنما ذلك ¬
باعتبار عدم التناقض، لا باعتبار الأحكام؛ لأنه مختلف (¬1) قطعًا؛ لأن بعضه أمر وبعضه نهي، وبعضه وعد وبعضه وعيد، وغير ذلك من أنواعه (¬2) وأجيب عن الثالث - وهو قولنا: بالقياس على الشهادة -: أن ذلك قياس في اللغة، واللغة لا تثبت بالقياس وإنما تثبت بالنقل عن أربابها (¬3). تنبيه: قولهم: يحمل المطلق على المقيد، كيف يجمع بينهما مع أن الإطلاق والتقييد ضدان، والضدان لا يجتمعان؟. الجواب: أن كون الإطلاق والتقييد ضدين لا ينافي حمل المطلق على المقيد؛ إذ لا يلزم من التضاد بين الصفتين وقوع التضاد بين الموصوفين، فإن الجسم الواحد لا يتصف بالحركة والسكون مع أنه لا يضاد نفسه، فكذلك المطلق والمقيد (¬4). قوله: (فإِن قيد بقيدين مختلفين في موضعين حمل على الأقيس (¬5) عند الإِمام، ويبقى على إِطلاقه (¬6) عند الحنفية ومتقدمي الشافعية). ش: تكلم أولاً على ما إذا قيد المطلق بقيد واحد، وتكلم ها هنا على ما ¬
إذا قيد بقيدين. قوله: (فإِن قيد بقيدين)، احترازًا من قيد واحد، وقد تقدم (¬1). قوله: (مختلفين)، احترازًا من قيدين متفقين، فإن حكمهما حكم القيد الواحد (¬2). قوله: (مختلفين)، مثاله: قوله تعالى في كفارة اليمين بالله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬3) هذا الصوم مطلق ولم (¬4) يقيد بتتابع ولا بتفريق، وقيد الصوم في (¬5) الظهار بالتتابع في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬6)، وقيد الصوم في كفارة التمتع بالتفريق في قوله (¬7) تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬8)، فقد ورد الصوم مطلقًا بين قيدين مختلفين، أي: متضادين؛ لأن أحد القيدين (¬9) يقتضي الجمع، والآخر يقتضي التفريق، فهل يقاس على هذا، أو يقاس على هذا، أو لا يقاس على واحد منهما بل يبقى على ¬
إطلاقه؟ (¬1). فلقائل أن يقول: قياسه على صوم الظهار أولى بجامع (2) الكفارة. ولقائل أن يقول: قياسه على صوم التمتع أولى بجامع (¬2) الجبران؛ لأن كل واحد منهما جابر؛ هذا جابر لما فات من البر، وهذا جابر لما نقص من الحج. ولقائل أن يقول: لا يصح قياسه على واحد منهما، فلا يصح قياسه على الظهار؛ لأن الظهار معصية تناسب التغليظ بخلاف كفارة الحنث، ولا يصح قياسه على التمتع، لأن الحج من باب العبادات، وهذا من باب الكفارات (¬3) فلا يصح القياس مع اختلاف الأبواب (¬4) (¬5) (¬6). ¬
ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب"، وفي رواية: "أولاهن بالتراب"، وفي رواية: "أخراهن بالتراب" (¬1). أخذ الحنفية والشافعية برواية إحداهن دون أولهن وأخراهن، أما الحنفية فلكونهم لا يقولون بحمل المطلق على المقيد، وأما الشافعية فإنما لم يقولوا ها هنا بحمل المطلق على المقيد مع أنهم يقولون بحمل المطلق [على المقيد] (¬2)؛ لأن القيدين في هذا الحديث متعارضان، أعني: أولاهن وأخراهن، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فلما [تعارضا تساقطا، فلما] (¬3) تساقطا رجعوا - أعني: الحنفية والشافعية - إلى التمسك بالمطلق، وهو قوله: "إحداهن"، وأما المالكية فلم يعرجوا على هذا المطلق الذي هو إحداهن ولا عرجوا على ¬
قيديه اللذين هما أولاهن وأخراهن (¬1). قال المؤلف في القواعد: وأنا متعجب من المالكية كيف لم يعرجوا على الروايات (¬2) الثلاث مع ورود ذلك في الأحاديث الصحاح (¬3)، قاله في الفرق الحادي والثلاثين بين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلي وبين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلية (¬4). قوله: (حمل على الأقيس عند الإِمام) (¬5)، ويبقى على إطلاقه عند (¬6) الحنفية ومتقدمي الشافعية (¬7). ¬
قال المؤلف في شرحه: ما أظن بين الفريقين خلافًا؛ لأن القياس إذا وجد قال به الحنفية والشافعية وغيرهم، فيحمل قولهم: / 220/ يبقى على إطلاقه على ما إذا لم يوجد قياس، أو استوى (¬1) القياسان (¬2). ... ¬
الباب الحادي عشر في دليل الخطاب
الباب الحادي عشر في دليل الخطاب
الباب الحادي عشر في دليل الخطاب (¬1) (¬2) (¬3) (¬4) (¬5) وهو مفهوم المخالفة، وقد تقدمت حقيقته وأنواعه العشرة. ¬
ش: يعني أن حقيقة مفهوم المخالفة تقدمت في الباب الأول في الفصل التاسع منه في قوله: "وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه" (¬1) (¬2)، وتقدمت أنواعه أيضًا [كذلك] (¬3) هنالك في قوله: "وهو عشرة أنواع" (¬4)، ولم يذكر في هذا الباب من أنواعه إلا ثلاثة أنواع وهي: مفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، ومفهوم الحصر. قوله: (وهو حجة عند مالك وجماعة من أصحابه وأصحاب الشافعي) (¬5). ¬
ش: قال القاضي عبد الوهاب في الملخص (¬1): ومن الدليل على قول مالك بدليل الخطاب، احتجاجه (¬2) على [منع] (¬3) ذبح الضحايا والهدايا ليلاً بقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬4) (¬5)، وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (¬6)، والمراد بذلك (¬7) أبناؤكم بالنسب والرضاع (¬8) احترازًا من أبنائكم بالتبني. قال ابن العربي في أحكامه في هذه الآية: الأبناء ثلاثة: ابن بالنسب، و [ابن] (¬9) بالرضاع، وابن بالتبني، فحليلة الابن بالنسب أو بالرضاع هي المحرمة (¬10) وأما حليلة الابن بالتبني فهي حلال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج حليلة ¬
زيد بن حارثة (¬1) (¬2) مع [أن] (¬3) النبي عليه السلام تبناه؛ لأنه يقال له: زيد ابن محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬4) (¬5) (¬6). قوله: (وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر منا وأكثر المعتزلة). ش: اعلم أن القائلين بمفهوم الصفة قالوا بمفهوم الشرط بأولى (¬7) وأحرى، والقائلون بأن مفهوم الصفة ليس بحجة اختلفوا في الشرط، فمنهم من طرد أصله في المنع، وهو القاضي أبو بكر منا وأكثر المعتزلة (¬8) وهو ¬
اختيار الباجي (¬1)، ومنهم من خالف أصله وقال بأنه حجة في الشرط، وهو مذهب أكثر العراقيين (¬2)، وابن شريح (¬3) من الشافعية (¬4). حجة القول بأن مفهوم الشرط حجة: أن الشرط بمنزلة العلة، [فإن العلة] (¬5) يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم (¬6). وأجيب: بأن العلة لا يلزم من انتفائها انتفاء المعلول، لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضًا (¬7). حجة القول بأن مفهوم الشرط ليس بحجة: قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (¬8)؛ لأنه يقتضي بمفهوم الشرط أنهن إن ¬
لم يردن التحصن فيجوز إكراههن على الزنا، وذلك خلاف الإجماع؛ لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا مطلقًا، سواء أردن التحصن، أو لم يردن التحصن (¬1). وأجيب: بأن المفهوم [ها] (¬2) هنا لا يعتبر؛ لأنه خرج مخرج الغالب؛ لأن الإكراه على الزنا إنما يكون عند إرادة التحصن (¬3)، والمفهوم إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة كما سيأتي بعد هذا في الفرعين المذكورين بعد هذا. قوله: (وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء شرطه فإِنه متفق عليه، بل معناه: أن هذا الانتفاء ليس مدلولاً للفظ). ش: أراد المؤلف أن يبين بهذا (¬4) الكلام محل الخلاف في مفهوم الشرط، وبيان ذلك: أن قولك مثلاً في الشرط: أنت (¬5) طالق إن دخلت الدار، فهذا الشرط فيه أربعة أمور: أحدها: ارتباط الطلاق بالدخول، وثانيها: ارتباط عدم الطلاق بعدم (¬6) الدخول، وثالثها: دلالة لفظ التعليق على ارتباط الطلاق بالدخول (¬7)، ورابعها: دلالة [لفظ] (¬8) التعليق على ارتباط ¬
عدم الطلاق بعدم الدخول، فهذه (¬1) أربعة أقسام. أما الأقسام الثلاثة الأولى (¬2) فلا خلاف فيها، وإنما الخلاف في القسم الرابع منها، وهو دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم (¬3) الدخول؛ وذلك أن الجميع متفقون على أن المرأة إن لم تدخل الدار لا تطلق، وإنما اختلفوا من أين استفيد عدم الطلاق إذا لم تدخل الدار، هل هو مستفاد من استصحاب العصمة السابقة لا من اللفظ؟ وهو مذهب القاضي أبي (¬4) بكر وأكثر المعتزلة كما قال المؤلف، أو [هو] (¬5) مستفاد من دلالة لفظ التعليق مع ذلك الاستصحاب؟ فيحصل (¬6) بما ذكرنا أن الخلاف لفظي؛ لأنهم اتفقوا على أنها لا تطلق (¬7) إذا لم تدخل الدار، وإنما اختلفوا لماذا لم تطلق؟، فالقاضي أبو بكر يقول: إنما لم تطلق لشيء واحد، وهو استصحاب العصمة خاصة، ولا تأثير للفظ الشرط في ذلك، وغيره يقول: إنما لم تطلق لشيئين، وهما: الاستصحاب، واللفظ (¬8). قوله: (ليس مدلولاً للفظ)، هو قول القاضي ومن تابعه، فلا يكون ¬
مفهوم الشرط حجة على هذا، وغير القاضي يقول: هو حجة، أي: هو مدلول اللفظ مع الاستصحاب، فالنزاع إذًا إنما هو في مستند (¬1) انتفاء المشروط [عند انتفاء شرطه] (¬2)، هل مستند (¬3) هذا الانتفاء هو الاستصحاب خاصة؟ قاله القاضي، أو مستنده (¬4) لفظ الشرط [مع] (¬5) الاستصحاب، فيكون حجة [على هذا] (¬6)؟. قوله: (وخالف في مفهوم الصفة أبو حنيفة وابن شريح (¬7) والقاضي وإِمام الحرمين وجمهور المعتزلة (¬8)، ووافقنا الشافعي [والأشعري] (¬9) (¬10)). ش: حجة القول بأن مفهوم الصفة حجة شيئان: ¬
أحدهما: ما (¬1) قال المؤلف بعد هذا، وهو قوله: "لنا أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح من غير مرجح، وهو محال" (¬2). الثاني: أن الصفة تشعر بالعلة، [والعلة] (¬3) يلزم من عدمها عدم المعلول (¬4). أجيب (¬5) عن هذا الدليل/ 221/ الثاني: أنه (¬6) لا يلزم من انتفاء العلة انتفاء المعلول، لأن العلل الشرعية يخلف (¬7) بعضها بعضًا (¬8). وأجيب عن الدليل الأول - وهو أن تخصيص إحدى (¬9) الصورتين بالذكر يقتضي سلب الحكم عن المسكوت عنها -: بأن (¬10) السكوت لا يلزم منه سلب الحكم عن الصورة المسكوت عنها؛ لأن السكوت قد يكون لأمور ¬
أخرى (¬1) (¬2). أحدها (¬3): [أن] (¬4) بيان الصورة الأخرى قد تقدم قبل ذلك (¬5). وثانيها: أن صاحب الصورة المذكورة هو الحاضر (¬6) الآن (¬7). وثالثها: أن يكون الشارع إنما سكت عن الصورة الأخرى ليفوز المجتهد بثواب الاجتهاد في التسوية بين الصورتين بالقياس (¬8)، كما نص عليه السلام على الأشياء الستة (¬9) مع أن حكم غيرها من الربويات مثلها، غير أنها فوضت لاجتهاد المجتهدين (¬10). ¬
ورابعها: أن يكون إنما سكت عن الصورة الأخرى لينص عليها نصًا خاصًا بها، ليكون ذلك أبعد لها عن (¬1) [احتمال] (¬2) التخصيص (¬3). وخامسها: أن يكون مقصود الشارع تكثير الألفاظ ليكثر ثواب القارئ والحافظ والضابط لها (¬4). وبالجملة فالمرجحات كثيرة، فلا يتعين سلب الحكم عن المسكوت عنه، ولا يلزم ترجيح من غير مرجح. واختلف في مفهوم الغاية، قال القاضي: هو حجة (¬5)، وقال الباجي: ليس بحجة (¬6) (¬7). ¬
حجة القول بأنه حجة: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬1) إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬2)، فإنهم إذا أعطوا الجزية وجب الكف عن قتالهم (¬3). حجة القول بأنه (¬4) ليس بحجة: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (¬5)، فإنه لا يحل ماله بعد بلوغه، كما لا يحل قبل بلوغه (¬6). قوله: (وحكى الإِمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إِلا الدقاق). ش: قال المؤلف (¬7) فيما تقدم، في الفصل التاسع من الباب الأول: "مفهوم اللقب هو تعليق الحكم على مجرد أسماء الذوات (¬8) " (¬9). قال المؤلف في الشرح: قال التبريزي: اللقب هو العلم ويلحق به ¬
أسماء الأجناس (¬1)، فجعل الأعلام أصلاً وألحق بها أسماء الأجناس، وغيره أطلق في الجميع (¬2). مثال الأعلام: زيد وعمرو (¬3) وبكر. ومثال أسماء الأجناس: الإبل والبقر والغنم. مثاله في الأعلام، قولك: زيد قائم، مفهومه أن غير زيد لم يقم. ومثاله في أسماء الأجناس: في الغنم الزكاة، مفهومه لا زكاة في الإبل والبقر، وقوله عليه السلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر (¬4) والملح بالملح ربًا إلا هاء وهاء" [مفهومه: ألا ربا في غير هذه الأجناس] (¬5). قوله: (لم يقل به إِلا الدقاق)، أي: لم يقل بكون مفهوم اللقب حجة إلا أبو بكر الدقاق من الشافعية (¬6). ¬
قال سيف الدين الآمدي: وكذلك الحنابلة قالوا به أيضًا (¬1). حجة الجمهور: عدم الإشعار (¬2) بالعلة لجموده، بخلاف غيره من سائر المفهومات، فإنها كلها تشعر بالعلة (¬3). وحجة أخرى (¬4): أن مفهوم اللقب لو كان دليلاً للزم منه تكفير من قال: زيد موجود، وكذلك من قال: محمد رسول الله، وذلك إذا قلنا: مفهوم اللقب حجة، فإن مفهوم قولك: زيد موجود، أن غيره غير موجود (¬5)، فيقتضي أن الله تعالى غير موجود، وهو كفر؛ لأنه خرق الإجماع. وكذلك إذا قال القائل: محمد رسول الله، يقتضي أن غيره من (¬6) الأنبياء كعيسى وموسى ليس رسول (¬7) الله، وهو أيضًا كفر؛ لأنه خرق ¬
الإجماع (¬1). حجة أبي بكر الدقاق: أن التخصيص بالذكر لا بد له من فائدة، ولا فائدة إلا نفي الحكم عن غير المذكور (¬2). وأجيب عن هذا: بأن الفائدة قد تكون في الإخبار عن المذكور دون غيره، فلذلك خص بالذكر (¬3). قالوا: ولأجل ضعف القول بمفهوم اللقب، ضعف الاستدلال على سقوط الوضوء عن المرأة بمس فرجها، بمفهوم قوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ"؛ لأن الذكر اسم جنس (¬4)، وكذلك ضعف الاستدلال على (¬5) منع التيمم بالحجر بمفهوم (¬6) قوله عليه السلام: "جعلت (¬7) لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬8)؛ لأن التراب اسم جنس (¬9). ¬
قوله: (لنا أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح (¬1) من غير مرجح، وهو محال) (¬2). [ش: هذا الدليل يعم سائر أنواع مفهوم المخالفة، وبيانه بالمثال: أن تخصيص السائمة بالحكم في قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" لو لم يقتض نفي الزكاة عن المعلوفة، لاستوت السائمة والمعلوفة في الحكم، ولزم من تخصيص السائمة بالذكر دون المعلوفة ترجيح من غير مرجح، أي: من غير فائدة] (¬3). واعترض هذا الدليل بأنه يقتضي أن يكون مفهوم اللقب حجة؛ لأنه يصدق فيه هذا الدليل (¬4). أجيب عن هذا: بأن الكلام إنما هو في الشيء الذي لو أسقط من الكلام لم يختل الكلام، فإن قوله: "في سائمة الغنم الزكاة" لو أسقطت (¬5) السائمة لم يختل الكلام، فتقول: في الغنم الزكاة، وأما مفهوم اللقب كقولك: زيد قائم، فإنه لو أسقط زيد لاختل الكلام، ولم يبق فيه ما يقتضي المفهوم (¬6). ¬
قوله: (فرعان: الأول: (¬1) المفهوم متى خرج مخرج الغالب فليس بحجة إِجماعًا، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬2) ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" فإِنه (¬3) خرج مخرج الغالب، فإِن غالب أغنام (¬4) الحجاز وغيرها السوم). ش: قوله: (فرعان)، أي: ها هنا فرعان زائدان على ما ذكر الإمام في المحصول/ 222/ ومعنى قوله: المفهوم إذا خرج مخرج الغالب، [يعني:] (¬5) أن القيد الدال على المفهوم إذا غلب على الحقيقة في العادة، فإذا قيدت به تلك الحقيقة، فلا يستدل بذلك على نفي الحكم عن المسكوت عنه (¬6). قال [المؤلف] (¬7) في الشرح: وإنما (¬8) لا تكون الصفة الغالبة على الحقيقة حجة ودليلاً على نفي الحكم عن المسكوت عنه؛ لأن الصفة الغالبة على الحقيقة هي أبدًا لازمة للحقيقة بسبب الغلبة، فإذا استحضر (¬9) المتكلم تلك الحقيقة ليحكم عليها حضرت معها (¬10) تلك الصفة، فينطق بها لحضورها ¬
مع الحقيقة [في الذهن] (¬1) لا ليفيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه. أما إذا لم تكن الصفة غالبة على الحقيقة فلا تكون لازمة لها في الذهن، فإذا نطق بها المتكلم علمنا أنه إنما استحضرها ليؤيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه؛ فلأجل ذلك كانت الصفة غير الغالبة دالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه، وكانت الصفة الغالبة غير دالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه (¬2). وقال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: لو كان بالعكس لكان أصوب، وذلك أن غير الغالبة إذا كانت [تدل] (¬3) على نفي الحكم عن المسكوت عنه، فأولى وأحرى في الغالبة، فإن الغالبة لا تحتاج [إلى] (¬4) النطق (¬5) بها للزومها، فإذا نطق بها المتكلم علمنا أنه إنما قصد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه (¬6). [وأما غير الغالبة إذا ذكرها، فيحتمل أن يكون إذا ذكرها أن يريد بذكرها إعلام السامع بأن هذه الصفة مما يعرض لهذه الحقيقة، لا أنه قصد بذكرها نفي الحكم عن المسكوت عنه] (¬7) (¬8). ¬
قوله: (نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (¬1)) أي: مخافة الفقر، فلا يقال: يجوز قتل الأولاد إذا لم يخف الفقر؛ لأن هذا خرج مخرج الغالب؛ إذ الغالب أن الكفار (¬2) إنما يقتلون الأولاد (¬3) مخافة الفقر، وأما قتلهم لغير ذلك فهو نادر (¬4) (¬5). وذلك أن الكفار كانوا يدفنون البنات إذا ولدن أحياء، وذلك (¬6) الوأد (¬7) المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬8). ومثاله أيضًا قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به} (¬9) أي: فإن خفتم الشقاق؛ لأن الغالب أن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق، فلذلك لا يختص الخلع بحالة الشقاق (¬10) (¬11). ومثاله أيضًا: قوله تعالى في جزاء الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ¬
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1)؛ لأن الجزاء يلزم في قتل الصيد مطلقًا لا فرق بين العمد والخطأ؛ لأن قتل الصيد الغالب فيه العمد دون غيره. ومثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "أيما امرأة أنكحت (¬2) نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل [باطل باطل] (¬3) " (¬4)؛ لأن الغالب أن المرأة لا تزوج (¬5) نفسها إلا عند عدم [إذن] (¬6) وليها [لها] (¬7) وإبايته (¬8) من تزويجها، فلا مفهوم له؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تزوج نفسها مطلقًا، سواء أذن لها وليها أو لم (¬9) يأذن [لها] (¬10) (¬11). ومثاله أيضًا: قول ابن أبي زيد في الرسالة: ومن صلى بزوجته قامت خلفه (¬12)، [أي] (¬13): وكذلك ذات محرمه أو أجنبية (¬14)، إلا أنه تكلم على ¬
الغالب. قوله: (ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة")؛ فإن غالب أغنام الحجاز وغيرها السوم؛ وذلك أن الشافعية أوجبوا الزكاة في السائمة دون المعلوفة، تمسكًا منهم بمفهوم هذا الحديث (¬1). قوله: (السوم) معناه: الرعي، يقال: سامت البهيمة تسوم سومًا، أي: رعت، والسائمة: هي الراعية (¬2)، وجمعها: سوائم، يقال: أسمتها وسومتها، أي: جعلتها سائمة، ومنه: قوله تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (¬3) أي: ترعون (¬4). قوله: (المفهوم متى خرج مخرج الغالب) هذا من باب المجاز؛ لأن الذي خرج مخرج الغالب هو القيد الدال على المفهوم، فأطلق المؤلف وصف الملزوم على اللازم؛ لأن المفهوم لازم عن القيد، والعلاقة بينهما هي: الملازمة. قوله: (الثاني: (¬5) بالصفة (¬6) في جنس، هل يقتضي نفي ذلك الحكم عن سائر الأجناس؛ فيقتضي الحديث مثلاً نفي وجوب الزكاة عن سائر الأنعام وغيرها، أو لا يقتضي نفيه إِلا عن ذلك الجنس خاصة؟ وهو اختيار الإِمام ¬
[فخر الدين] (¬1)). ش: البحث في هذا الفرع مبني على أن نقيض المركب هل هو عبارة عن سلب الحكم عن ذلك المركب خاصة أو هو عبارة عن سلب الحكم مطلقًا؟ فالأول لغوي، والثاني عقلي، فإذا قلنا: زيد في الدار، فالذي يناقضه لغة: زيد ليس (¬2) في الدار، وإن كان يناقضه [عقلاً] (¬3) عدم زيد مطلقًا، وكذلك قولنا: في الخبز من الحنطة غذاء (4)، فالذي يناقضه لغة: ليس في الخبز من الحنطة غذاء (4)، ولو قلنا: ليس في الخبز مطلقًا غذاء (¬4)، حصل التناقض عقلاً. وعلى الجملة: هل يؤخذ خصوص المحل في النقيض أم لا؟ (¬5). فمن نظر إلى عرف اللغة أخذه، وعليه الجمهور، وهو اختيار الإمام فخر الدين (¬6)، ومن نظر إلى العقل لم يأخذ خصوص المحل في النقيض، فقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة"، فنقيضه على مذهب الجمهور: ليس فيما ليس [سائمة من الغنم الزكاة، ونقيضه على القول الآخر: ليس فيما ¬
ليس] (¬1) بسائمة مطلقًا الزكاة (¬2)، فالقول (¬3) الذي عليه الجمهور لا يتناول المفهوم في الحديث إلا المعلوفة من الغنم. وأما على القول الآخر: فيتناول (¬4) المفهوم المعلوفة من الغنم، ويتناول كل ما ليس بغنم من الإبل والبقر والخضر والعقار (¬5) والحلي، فيستدل بهذا الحديث على هذا القول على عدم وجوب الزكاة في هذه الأشياء كلها؛ لأنها ليست بغنم سائمة (¬6)، وبالله التوفيق [بمنه] (¬7) / 223/. ... ¬
الباب الثاني عشر في المجمل والمبين
الباب الثاني عشر في المجمل والمبين وفيه ستة فصول: الفصل الأول: في معنى ألفاظه. الفصل الثاني: فيما ليس مجملاً. الفصل الثالث: في أقسامه. الفصل الرابع: في حكمه. الفصل الخامس: في وقته. الفصل السادس: في المبين له.
[الفصل الأول: في معنى ألفاظه]
الباب الثاني عشر في المجمل والمبين (¬1) ش: المجمل مأخوذ من الجمل الذي هو الخلط (¬2)، ومنه قوله عليه السلام: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها"، ومعنى قوله: جملوها، أي: خلطوها (¬3) بالسبك (¬4) والتذييب (¬5). وسمي اللفظ المجمل مجملاً؛ لأنه اختلط فيه المراد بغير المراد (¬6) (¬7). ¬
وقوله: (المبين)، معناه: المفسر، يقال: بان الشيء يبين بيانًا إذا ظهر وانكشف (¬1). قال الإمام فخر الدين في المحصول: البيان اسم مصدر، وهو مشتق من التبيين (¬2). قال المؤلف في شرح المحصول: قوله: البيان اسم مصدر، إن أراد بذلك أنه لا يجري على فعله كما تقول: [في] (¬3) سبحان الله من التسبيح، فلا يصح؛ لأن البيان مصدر يجري على فعله، لأنه (¬4) مصدر (¬5) بان يبين بيانًا، وإن لم يرد هذا فليس باصطلاح الناس. وقوله أيضًا: البيان مشتق من التبيين، لا يصح، بل هما مصدران لفعلين، فالبيان مصدر بأن (¬6)، والتبيين مصدر بين (¬7)، والمصادر كلها ليس ¬
فيها (¬1) اشتقاق، فكيف يجعل أحدهما مشتقًا من الآخر (¬2). قوله: (وفيه ستة فصول، الفصل الأول: في معنى ألفاظه). ش: الضمير في [قوله] (¬3): ألفاظه، لا يصح أن يعود على المجمل وحده؛ لأنه ذكر المبين كما ذكر المجمل، ولا يصح أيضًا أن يعود على المبين وحده؛ لأن المؤلف ذكر أيضًا المجمل كما ذكر المبين؛ ولأن كل واحد من المجمل والمبين ليس له ألفاظ، وإنما له لفظ واحد، ولا يصح أيضًا أن يعود على الباب؛ لأن الباب له لفظ واحد لا ألفاظ، فإذا كان لا يصح عوده على المجمل ولا على المبين ولا على الباب، فعلى أي شيء يعود؟ قالوا (¬4): عائد على الباب (¬5)، بمعنى: الألفاظ المستعملة في هذا ¬
الباب (¬1)، وهي أربعة ألفاظ، وهي: المجمل، والمبين، والمؤول، والمفسر. ذكر المؤلف ثلاثة منها وهي: المجمل، والمبين، والمؤول، وسكت عن المفسر (¬2) استغناء عنه بالمبين؛ لأنه بمعناه (¬3). قوله: (المبين (¬4): هو اللفظ الدال بالوضع على معنى، إِما بالأصالة (¬5)، وإِما بعد البيان). ش: هذا الحد الذي ذكره المؤلف ها هنا في المبين، مرادف في المعنى للحد الذي ذكره في الباب الأول في الفصل السادس في أسماء الألفاظ؛ لأنه قال هنالك (¬6): والمبين ما أفاد معناه، إما بسبب الوضع، أو بضميمة بيان إليه (¬7). فقوله ها هنا (¬8): (اللفظ الدال بالوضع على معنى بالأصالة)، هو معنى قوله أولًا: "هو ما أفاد معناه بسبب الوضع"، وقوله ها هنا: (وإِما بعد ¬
البيان)، هو (¬1) معنى قوله أولًا: "أو بضميمة بيان إليه". وذلك أن البيان [قد يكون] (¬2) بأصل الوضع [و] (¬3) قد يكون بالقرينة (¬4). مثال البيان بالأصل: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬5)، وقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (¬6)، وقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ ¬
كَامِلَةٌ} (¬1)، وغير ذلك؛ لأن أسماء الأعداد (¬2) نصوص (¬3) لا تحتمل أن يراد بها غير مدلولاتها، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬4)، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬6)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا (¬7) النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} (¬8). ومثال البيان بالضميمة: آية الصلاة، وآية الزكاة (¬9)، وآية الحج (¬10)، لأنها مجملة بينها النبي عليه السلام بقوله وبفعله. قال (¬11) في آية الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقال في آية الزكاة: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح (¬12) أو دالية نصف العشر". وقال في آية الحج: "خذوا عني مناسككم". ¬
قوله: (والمجمل هو التردد (¬1) بين احتمالين فصاعدًا، إِما بسبب الوضع وهو المشترك، أو من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته). ش: هذا الحد الذي ذكره المؤلف ها هنا في المجمل، هو موافق في المعنى للحد (¬2) الذي ذكره (¬3) في الباب الأول في قوله في الفصل السادس منه: "والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء، ثم التردد قد يكون من جهة الوضع كالمشترك، وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماه" (¬4) (¬5). ومعنى كلامه (¬6) في الموضعين: أن سبب الإجمال أمران: أحدهما: الوضع (¬7). والآخر: العقل (¬8). ¬
وقد تقدم (¬1) بيان ذلك في الباب الأول في الفصل السادس في أسماء الألفاظ (¬2). قوله: (فكل مشترك مجمل، وليس كل مجمل مشتركًا) (¬3). ش: لما كان الإجمال له سببان، أحدهما: الاشتراك اللفظي وهو اللفظ المشترك، والثاني: الاشتراك المعنوي وهو المتواطئ (¬4)، كان الإجمال أعم من كل واحد منهما وكل واحد منهما أخص منه، فصار كل مشترك وضعًا مجملًا (¬5)، وليس كل مجمل مشتركًا وضعًا، وكذلك أيضًا نقول: كل متواطئ مجمل وليس كل مجمل متواطئًا (¬6)، انظر لأي شيء خص (¬7) المؤلف المشترك (¬8) بهذا الحكم دون المتواطئ (¬9)، مع أن ذلك يقال في المتواطئ (¬10)، كما يقال في المشترك (¬11)؟!. ¬
قوله: (وقد يكون اللفظ مبينًا من وجه [مجملًا (¬1) من وجه] (¬2)، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3)؛ فإِنه مبين في الحق مجمل في مقاديره (¬4)). ش: سمى المؤلف ثبوت الحق [ها] (¬5) هنا (¬6) مبينًا، وسماه في الباب الأول ظاهرًا (¬7)، وذلك أمر قريب؛ لأن الظاهر مبين. قوله: (مبين في الحق)، أي: في ثبوت الحق؛ لأن الحق ثابت فيه بلا شك، وهو مجمل بالنسبة إلى مقادير الحق، هل هو الثلث أو الربع أو النصف أو غير ذلك من المقادير؟ بينه النبي عليه السلام [بقوله] (¬8): "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح (¬9) أو دالية نصف العشر". وقيل: معنى قوله: "مبين في الحق" / 224/، أي: (¬10) في حكم الحق وهو وجوب الحق؛ وذلك أن الحق يحتمل الوجوب ويحتمل الندب؛ لأنه ¬
يرد بمعنى الوجوب كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، ويرد بمعنى الندب كقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (¬2)، فحمله على الوجوب أرجح لاقترانه باليوم (¬3). وقيل: معنى قوله: "مبين (¬4) في الحق"، أي: ظاهر مبين في حكم الأمر بالحق، أي: في إرادة الوجوب بالأمر بالحق. ومعنى الكلام: فهذا الأمر الذي هو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ} (¬5) مبين وظاهر في حمله على الوجوب, لأن الأمر المطلق يحتمل الوجوب ويحتمل الندب، وحمله على الوجوب هو الراجح لاقترانه بالحق (¬6)، فهذه ثلاثة تأويلات، فالاحتمال في التأويل الثاني في نفس الحق، هل يراد به الوجوب أو الندب؟، والاحتمال في التأويل الثالث: في مدلول الأمر بالحق، هل هو (¬7) الوجوب أو (¬8) الندب؟. هذه (¬9) ثلاثة (¬10) تأويلات في قوله: "فهو مبين في الحق". ¬
قيل: (¬1) معناه: مبين في ثبوت الحق. وقيل: معناه: مبين في معنى الحق. وقيل: معناه: مبين في معنى الأمر بالحق. والتأويل الأول هو أولاها، والله أعلم. قوله: (والمؤول هو الاحتمال الخفي مع الظاهر). ش: هذا هو اللفظ الثالث من الألفاظ المستعملة في هذا الباب، أي حقيقة المؤول هو الاحتمال المرجوح (¬2) الكائن مع الاحتمال الراجح، فالمراد بالخفي هو المعنى المرجوح، والمراد بالظاهر هو المعنى الراجح. ولكن في كلامه مناقشة؛ لأنه فسر اللفظ الذي هو المؤول، بالمعنى الذي هو الاحتمال، فالأولى [أن يقول: و] (¬3) المؤول هو المحتمل الخفي الكائن مع المحتمل الظاهر، فالمؤول هو محل (¬4) التأويل، والتأويل مأخوذ من آل يؤول إذا رجع (¬5)، ومنه قوله تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬6) أي: طلب ما يؤول إليه معناه، ومنه قولهم: تأول فلان الآية، إذا نظر إلى ما يؤول إليه معناها، وقال بعضهم: حقيقة التأويل في الاصطلاح: حمل الظاهر على ¬
المحتمل المرجوح بدليل يصيره راجحًا (¬1) (¬2). فقوله: (حمل)، جنس. وقوله: (الظاهر) احترز به من النص والمجمل كان مشتركًا أو غير مشترك، فإن صرف المشترك إلى أحد (¬3) معنييه (¬4) لا يسمى تأويلًا، وقوله: (المحتمل)، احترز به عن حمل الظاهر على ما لا يحتمله، فإنه لا يكون تأويلًا أصلًا، وقوله: (المرجوح)، احترز به من حمل الظاهر على محتمله (¬5) الراجح؛ أعني: حمله على معناه. وقوله: (بدليل)، احترز به عن التأويل بغير دليل، فإنه لا يكون تأويلًا صحيحًا، ومعنى قوله: (يصيره راجحًا) (¬6)، يصير المحتمل المرجوح راجحًا على مدلوله الظاهر. فتبين بما قررناه أن التأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل، وإنما يتطرق إلى الظاهر، وهو المتردد بين احتمالين فأكثر، وهو في أحدهما ¬
أرجح (¬1)، كالحقيقة مع (¬2) المجاز، والعام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، وغير ذلك من الاحتمال المرجوح مع الاحتمال الراجح. قوله: (مأخوذ من المآل). ش: أي المؤول مأخوذ من المآل وهو الرجوع، يقال: آل يؤول، إذا رجع، والمآل اسم مصدر. قوله: (إِما لأنه يؤول إِلى الظهور بسبب (¬3) الدليل العاضد). ش: يعني أن المؤول سمي مؤولًا؛ لأنه يرجع معناه إلى الظهور والرجحان بسبب الدليل العاضد، أي: المقوي والمرجح لإرادة ذلك المعنى. مثال ذلك: إذا قال: رأيت أسدًا، فإن المتبادر إلى ذهن السامع هو الحيوان المفترس؛ لأنه حقيقته (¬4) لغة، ويحتمل أن يريد (¬5) به المجاز وهو الرجل الشجاع وهو الاحتمال الخفي، وهذا الاحتمال الخفي قد يؤول إلى الظهور والرجحان إذا كان هناك دليل (¬6) يعضده؛ أي: قرينة تبين إرادة ذلك المعنى ¬
الخفي، كقوله (¬1) مثلًا: رأيت أسدًا يلعب بسيفه، فإن اللعب بالسيف دليل يعضد إرادة المعنى الخفي الذي هو الرجل الشجاع. قوله: (أو لأن العقل يؤول إِلى فهمه بعد فهم الظاهر) (¬2). ش: أي: ويحتمل أن يسمى المؤول مؤولًا, لأن العقل يرجع إلى فهم المعنى الخفي بعد فهم الظاهر؛ وذلك أن العقل إذا سمع اللفظ فأول ما يسبق إليه، الاحتمال الظاهر، كالحقيقة بالنسبة إلى المجاز، والعموم بالنسبة إلى الخصوص، والإطلاق بالنسبة إلى التقييد، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الاحتمال الخفي، كالمجاز، والخصوص، والتقييد، ويجوز أن يكون مراد المتكلم ذلك الاحتمال الخفي. قوله: (وهذا وصف له بما هو موصوف به في الوقت الحاضر فيكون حقيقة). ش: يعني أن تسميته بالمؤول؛ لأن العقل يؤول إلى فهمه بعد فهم الظاهر، حقيقة؛ لأنه وصف (¬3) بوصف قام به [في] (¬4) الحال. قوله: (فيكون حقيقة)، معناه: فيكون إطلاق المؤول على هذا المعنى الخفي حقيقة (¬5). قوله: (وهذا وصف له بما هو موصوف به). ¬
ش: أي [و] (¬1) هذا الوصف وصف للمؤول بما هو موصوف به، أي: بالوصف الذي (¬2) المؤول موصوف به، أي: بذلك الوصف، فالضمير المجرور بالباء [هو] (¬3) عائد على: ما، وهو الرابط بين الصلة والموصول. قوله: (وفي الأول (¬4) باعتبار ما يصير (¬5) إِليه، وقد لا يقع فيكون مجازًا مطلقًا). ش: أي وتسميته في المعنى الأول، وهو كونه يؤول إلى الظهور بحسب الدليل العاضد، إنما هو باعتبار الدليل العاضد، وذلك وصف للشيء بوصف سيوجد [فيه] (¬6)، فيكون مجازًا؛ لأنه وصف مستقبل؛ لأن وصف الموصوف بوصف مستقبل مجاز (¬7). قوله: (وقد لا يقع، فيكون مجازًا مطلقًا) / 225/، أي: وقد لا يقع الدليل العاضد، فيكون إطلاق المؤول على ذلك المعنى الخفي - على هذا - مجازًا مطلقًا، أي: وجد ذلك الدليل العاضد أو لم يوجد، وبالله التوفيق [بمنه] (¬8). ... ¬
الفصل الثاني فيما ليس مجملا
الفصل الثاني فيما ليس مجملًا (¬1) معناه: (¬2) فيما يتوهم أنه مجمل وليس بمجمل، بل هو مبين، ونظير هذه الترجمة، قوله في الأوامر: الفصل الرابع: "فيما ليس من مقتضاه" (¬3)، وقوله في العموم: الفصل الرابع: "فيما ليس من المخصصات للعموم" (¬4)، وقوله في باب النسخ: "الفصل الرابع: فيما يتوهم أنه ناسخ" (¬5). قوله: (فيما ليس مجملًا)، فلا يقال: لم يترجم المؤلف لهذا في الباب, لأن ما ليس مجملًا هو مبين. فقد ترجم له؛ لأنه مبين. ذكر المؤلف في هذا الفصل مسألتين: قوله: (إِضافة التحريم والتحليل (¬6) إِلى الأعيان ليس مجملًا). ¬
ش: هذه هي المسألة الأولى (¬1)، والمراد بالأعيان هي (¬2) الذوات، وهي الأجسام. مثال إضافة التحريم إلى الأجسام: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى [قوله: {إِلَّا] (¬3) مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬4). ومثال إضافة التحليل إلى الأجسام قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (¬5). ومثال إضافة التحريم والتحليل في آية واحدة: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [وَعَمَّاتُكُمْ]} (¬6) إلى آخر المحرمات، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬7). ومثال إضافة التحريم إلى الأعيان أيضًا: قوله عليه السلام: "ألا إن ¬
دماءكم (¬1) وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم" (¬2). قوله: (ليس مجملًا)، أي: بل هو مبين، [وهو جار مجرى النص] (¬3)، هذا (¬4) مذهب الجمهور من أهل السنة (¬5) وأهل الاعتزال، كالقاضي عبد الجبار (¬6)، والجبائي (¬7) وأبي هاشم (¬8)، وأبي الحسين (¬9) خلافًا ¬
للكرخي (¬1) وأبي عبد الله البصري (¬2) (¬3) (¬4). حجة الجمهور: أن العرف عين المقصود من هذه الأعيان، فلا يفهم من هذه الإضافة عند الإطلاق غير ذلك، فصار ذلك المركب حقيقة عرفية لا يحتاج معها إلى تقدير (¬5)، (¬6) وهو مجاز لغوي (¬7)، وهو مجاز في التركيب؛ لأن النقل كما يكون في المفردات يكون في المركبات، واشتهر هذا المركب حتى صار حقيقة عرفية (¬8)، و [هو] (¬9) من باب إطلاق المجمل على الحال فيه. ¬
قوله: (يحمل (¬1) على ما يدل العرف عليه في كل عين) (¬2). هذا إشارة إلى حجة (¬3) الجمهور، وهي (¬4) كون العرف يعين المقصود بالتكليف في كل عين، فلا إجمال مع تعيين المقصود. قوله: (فيحمل في الميتة على الأكل وفي الأمهات على وجوه الاستمتاع). ش: هذا [بيان] (¬5) ما يدل العرف عليه في كل عين؛ وذلك أن المفهوم عرفًا من تحريم الميتة، هو أكلها، والمفهوم من تحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وغيرهن، هو الوطء ووجوه الاستمتاع، فقوله عليه السلام: "ألا إن دماءكم (¬6) وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم" المقصود بالتحريم في الدماء سفكها، وفي الأموال أكلها، وفي الأعراض سبها وشتمها، وإذا قال السيد لعبده] (¬7): حرمت عليك الخبز والثوب والفرس، فالمقصود (¬8) في الخبز أكله، والمقصود في الثوب لبسه، والمقصود في الفرس ركوبه. حجة الكرخي: أن التحريم والتحليل إنما يتعلق بما هو مقدور للمكلف ¬
وهو أفعاله، وأما الأعيان التي أضيف إليها التحريم والتحليل فليست مقدورة للمكلف؛ إذ ليست من كسبه لا إيجادًا ولا إعدامًا، فلا يتعلق التكليف بها (¬1)، فتكون الأعيان غير مرادة، فالمراد أفعال المكلف وهي غير منطوق بها، فلا بد من تقدير (¬2) ما يتعلق به التكليف من تلك الأفعال، وليس هنالك (¬3) ما يعين بعض الأفعال، فليس تقدير (¬4) البعض بأولى (¬5) من البعض فيحصل الإجمال (¬6)، فقوله تعالى مثلًا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬7) هل أكلها أو لمسها أو نظرها أو غير ذلك؟ وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (¬8) هل مسهن أو نظرهن أو مضاجعتهن أو وطؤهن أو غير ذلك؟ وليس هنا [لك] (¬9) ما يعين أحد التقديرات فيحصل الإجمال، فيتوقف حتى يرد البيان، هذا حجة الكرخي، وجوابه ما تقدم وهو: أن العرف يبين ¬
المقصود من تلك التقديرات (¬1). قوله: (وإِذا دخل النفي على فعل (¬2) كان مجملًا عند أبي عبد الله البصري نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" و"لا نكاح إلا بولي" لدوران النفي بين الكمال والصحة). ش: هذه هي المسألة الثانية (¬3)، وهذه المسألة شبيهة (¬4) بالمسألة التي قبلها؛ لأن كل واحدة منهما أضيف الحكم فيها إلى ما لا يصلح (¬5) إضافته إليه، غير أن المسألة الأولى وقعت فيها (¬6) الإضافة من حيث الثبوت، ووقعت الإضافة في المسألة الثانية من حيث النفي (¬7). ¬
قوله: (إِذا دخل النفي على فعل) (¬1). ش (¬2): المراد بالفعل ها هنا: الفعل الحقيقي، وهو فعل المكلف، ولم يرد به الفعل (¬3) الصناعي عند النحاة (¬4). مثال مقصوده: [قوله] (¬5) عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور"، و"لا نكاح إلا بولي"، و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، و"لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" (¬6)، ................................................... ¬
معناه: لم (¬1) يعزم (¬2) الصيام من الليل، "ولا صلاة (¬3) لجار المسجد إلا في المسجد" (¬4)، [و"لا وضوء لمن لم يسم الله" (¬5)، و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬6)، ¬
و"لا صلاة لمن لم يصل علي"] (¬1) وغير ذلك. ذهب (¬2) أبو عبد الله البصري من المالكية (¬3) (¬4)، والقاضي أبو بكر (¬5)، إلى أنه مجمل (¬6)، وذهب الأكثرون إلى أنه غير مجمل (¬7)، واختاره الباجي (¬8) والشيرازي (¬9). فالقائلون بأنه مجمل اختلفوا في وجه الإجمال على قولين: أحدهما (¬10): أن ذلك لمجرد / 226/ إضافة النفي إلى الأفعال مع تحقق ثبوتها (¬11)، وهو قول ضعيف. ¬
القول الثاني: أن ذلك لتردد (¬1) النفي بين الكمال والصحة (¬2) كما قاله المؤلف (¬3). أما القول بأن إجماله لمجرد إضافة النفي إلى الذات (¬4) مع ثبوتها فلا وجه له (¬5)، [ولذلك] (¬6) قال القاضي: هو (¬7) قول بعض الفقهاء ممن لا علم له بالحقائق (¬8). وأما القول بأن (¬9) إجماله لتردد النفي بين الكمال والصحة، فوجهه: أن نفي الصحة قد وقع في قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" [ونحوه، وورد أيضًا نفي الكمال في قوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، فلما ورد النفي في الأمرين دل ذلك على الإجمال] (¬10). وأما القائلون بعدم الإجمال فاختلفوا في ذلك على قولين: أحدهما (¬11): أن النفي متوجه إلى الذات والصفات [كلها، فخصص ¬
العقل الذات، وبقيت الصفات يعم النفي جميعها، فتنتفي الصحة والكمال، وإنما قلنا: توجه النفي إلى الذات والصفات] (¬1)؛ لأن اللفظ يتناول (¬2) الذات بالمطابقة ويتناول (¬3) الصفات بالالتزام؛ لأن الدال على نفي (¬4) الذات دال على نفي صفاتها؛ لأن الصفات لا تستقل (¬5) بنفسها، فلما خص العقل الذات بقي (¬6) العموم على مقتضاه في الصفات، فتنتفي الصحة والكمال وهو المطلوب (¬7). واعترض هذا القول: بأنه يلزم منه الجمع بين النقيضين، وهما: ثبوت الصحة ونفيها؛ وذلك أن توجه النفي إلى الكمال يقتضي ثبوت الصحة، وتوجهه إلى الصحة يقتضي نفي الصحة، فظهر (¬8) بذلك أن توجه النفي إلى الصحة والكمال فيه الجمع بين النقيضين، وهما ثبوت الصحة وعدمها (¬9). والقول الثاني: أن النفي إنما يتوجه (¬10) للصحة خاصة دون الكمال، ووجهه: أن النفي في الحقيقة إنما توجه (¬11) للفعل الواقع ورفع الواقع ¬
محال، فإذا تعذر (¬1) ذلك تعين حمله على المجاز، والمجاز متعدد وهو الصحة والكمال، واحد المجازين أقرب إلى الحقيقة وهو الصحة، فيجب حمل (¬2) النفي على الصحة؛ لأنها (¬3) أقرب إلى الحقيقة من الكمال (¬4)، وإنما قلنا: نفي الصحة أقرب إلى نفي الحقيقة لأنه يلزم من نفي الصحة نفي الحقيقة، [ولا يلزم من نفي الكمال نفي الحقيقة] (¬5)، فالصحة أقوى شبهًا من الكمال، والشبه [من] (¬6) علاقات المجاز (¬7)، فإذا كان الشبه أقوى، كان المصير (¬8) إليه أولى (¬9) (¬10) (¬11). ¬
قوله: (وقيل: إِن كان المسمى شرعيًا انتفى ولا إِجمال، وقولنا: هذه صلاة فاسدة، محمول على اللغوي، وإِن كان حقيقيًا نحو الخطأ والنسيان وله حكم واحد انتفى ولا إِجمال، وإِلا تحقق الإِجمال، وهو قول الأكثرين). ش: هذا القول بالتفصيل وهو المقابل للقول الأول الذي هو قوله: "كان مجملًا عند أبي عبد الله البصري"؛ لأن المؤلف نقل في المسألة قولين: قول بأنه مجمل من غير تفصيل وهو الأول، وقول بالتفصيل: تارة يكون مجملًا، وتارة لا يكون مجملًا، وإليه أشار بقوله: "وقيل: إن كان المسمى شرعيًا ... " إلى آخره (¬1). قوله: (المسمى) المراد بالمسمى هو الفعل، أي فعل المكلف، لا أنه (¬2) مسمى الفعل الصناعي (¬3)، ومعنى هذا (¬4) القول: التفصيل بين أن يكون ذلك الفعل الذي دخل عليه النفي شرعيًا، أو يكون لغويًا وهو المراد بقوله: حقيقيًا. ومعنى الفعل الشرعي: هو الفعل الذي يتوقف وجوده على وجود الشرع، أي: هو الفعل الذي جاء به الشرع، كالصلاة والصيام وغيرهما. ¬
ومعنى الفعل الحقيقي: هو الفعل الذي لا يتوقف وجوده على وجود الشرع، أي: هو الفعل الذي لم يجئ به الشرع، بل هو موجود سواء وجد الشرع أو لم يوجد (¬1) كالخطأ والنسيان؛ لأن وصف الفعل بكونه خطأ أو نسيانًا أمر معقول وجد الشرع أم (¬2) لا، ولأجل ذلك يقال له: أمر (¬3) حقيقي. قوله: (إِن (¬4) كان المسمى شرعيًا انتفى ولا إِجمال)، أي: إذا دخل النفي على الفعل الشرعي فإنه ينتفي بكليته، فليس فيه إجمال، فإذا قال عليه السلام مثلًا: "لا صلاة إلا بطهور" و"لا صيام لمن لم يبيت الصيام"، فإنه قد حكم على هذه الحقيقة بالنفي لانتفاء شرطها؛ وذلك أن الحقيقة الشرعية ليست واقعة في صورة النفي، فأمكن إضافة النفي إليها (¬5). قوله: (وقولنا) (¬6): [هذه] (¬7) صلاة فاسدة، محمول على اللغوي). ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، كأن قائلًا للمؤلف: كيف يقال: ينتفي المسمى الشرعي إذا دخل عليه النفي؟ مع أن صاحب (¬8) الشرع يقول: ¬
هذه (¬1) صلاة فاسدة، [فيجمع بين وجود الصلاة وفاسدة] (¬2)، فإن لفظ: هذه (¬3)، [يدل على وجودها، فدل ذلك على بقاء الصلاة، ووجودها على الفساد. أجاب المؤلف عن هذا السؤال بقوله: "محمول على اللغوي"، يعني: أن قولنا: هذه صلاة] (¬4) فاسدة، محمول على المعنى اللغوي وهو الدعاء؛ لأن الصلاة لغة معناها: الدعاء، فالإشارة بقولنا: هذه صلاة فاسدة (¬5)، إلى المسمى اللغوي الذي هو الدعاء، يعني: أن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء فسدت عن أن تكون شرعية، فانصرف (¬6) النفي في المعنى إلى المسمى الشرعي، وتنصرف الإشارة في قولنا: هذه صلاة فاسدة، إلى المسمى اللغوي، فتقدير (¬7) الكلام: هذه الصلاة اللغوية فسدت عن أن تكون شرعية، فهذا معنى فسادها. ¬
وإلا فالدعاء في نفسه لم يفسد؛ حيث نقضي بالفساد لعدم (¬1) الطهارة (¬2). قوله: (وإِن كان حقيقيًا)، أي: وإن كان الفعل الذي دخل عليه النفي حقيقيًا، أي: لغويًا لا يتوقف وجوده على وجود الشرع، فإما أن يكون له حكم واحد أو أكثر، فإن كان له حكم واحد، فإن ذلك الحكم ينتفي فلا يكون فيه إجمال (¬3)، كقوله عليه السلام: "لا شهادة لمحدود في قذف" (¬4)؛ لأنه لا يمكن صرف النفي إلى ذات/ 227/ الشهادة؛ لأنها قد وجدت، فلا بد من صرف النفي إلى حكمها، وليس لها إلا حكم واحد وهو الجواز، قاله المؤلف في الشرح (¬5). ¬
قال المسطاسي: جعل المؤلف الشهادة وصفًا حقيقيًا، والظاهر أنها أمر شرعي (¬1) (¬2). وإن كان له (¬3) أكثر من حكم واحد فإنه مجمل، وهو معنى قوله: (وإِلا (¬4) تحقق الإجمال) , أي: وإن كان [له] (¬5) أكثر من حكم واحد تحقق الإجمال، لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر (¬6). مثاله: (¬7) قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وذلك أن هذا الفعل الذي هو [فعل] (¬8) الخطأ أو النسيان (¬9) لم يدخل النفي إلا على واقع، والواقع يستحيل نفيه، فيتعين العدول إلى حكمه، وله حكمان، وهما: الإثم ولزوم الضمان، فيتعين الإجمال حتى يدل ¬
الدليل على أن المراد الإثم دون الضمان (¬1). واعلم أن مذهب الجمهور أن المراد بهذا الحديث رفع المؤاخذة (¬2) والعقاب؛ لأنه قد علم من عرف [أهل] (¬3) اللغة أن السيد إذا قال لعبده: رفعت عنك الخطأ والنسيان، أن المراد منه (¬4) رفع (¬5) المؤاخذة والعقاب، والأصل في المتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة، فلا إجمال (¬6)، خلافًا لأبي الحسن (¬7) البصري، وأبي عبد الله البصري (¬8) (¬9). قوله: (وهو قول الأكثرين)، أي: القول (¬10) بالتفصيل بين الشرعي والحقيقي هو قول الأكثرين من الأصوليين (¬11). ... ¬
الفصل الثالث في أقسامه
الفصل الثالث في أقسامه (¬1) ش: الضمير في: أقسامه، يعود على المبين، دل عليه سياق الكلام. ذكر المؤلف في هذا الفصل مسألتين وهما: أقسام المبين وأقسام البيان، ولكن تبرع بمسألة البيان؛ لأنه لم يترجم للبيان وإنما ترجم للمبين. ولك أن تقول: ترجم للبيان في المعنى؛ لأن ذكر (¬2) المبين يستلزم ذكر البيان. قوله: (المبين إِما بنفسه كالنصوص والظواهر، وإِما بالتعليل كفحوى (¬3) الخطاب، أو باللزوم كالدلالة (¬4) على الشروط (¬5) والأسباب). ش: هذه هي المسألة الأولى، وهي أقسام المبين (¬6). ¬
وهو (¬1) [ثلاثة] (¬2) أقسام وهي: المبيَّن بالذات، والمبين بالتعليل، والمبين باللزوم. فالمبين بالذات: كالنص والظاهر، والمراد (¬3) النص (ها) (¬4) هنا: النص في اصطلاح الأصوليين، وهو ما دل على معنى قطعًا ولا يحتمل غيره قطعًا كأسماء الأعداد (¬5)، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬6). ومثال الظاهر: قوله (¬7) تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬8) (¬9). ومثال المبين بالتعليل: قوله تعالى: {فَلَا [تَقُلْ] (¬10) لَهُمَا أُفٍّ} (¬11) [لأنه] (¬12) فهم منه أن علة تحريم (¬13) التأفيف هي العقوق، ونحن نعلم حكم ¬
الضرب من ذلك التعليل بطريق الأولى؛ لأن العقوق بالضرب أشد من العقوق بالتأفيف، فتحريم الضرب يناسب التعليل (¬1). وأما المبين باللزوم فمثاله: دلالة المشروطات على شروطها (¬2)، ودلالة المسببات على أسبابها (¬3). مثال دلالة المشروط على شروطه (¬4): قولك: صلى فلان صلاة صحيحة، فإنه يدل على وجود شروطها من الطهارة والسترة (¬5) وغيرهما من شروط الصلاة (¬6). ومثال دلالة المسبب على سببه: كدلالة الإحراق على وجود النار، ودلالة الشبع على وجود الطعام، ودلالة الري على وجود الماء، وغير ذلك (¬7). قوله: (والبيان (¬8): إِما بالقول، أو بالفعل كالكتابة والإِشارة، أو بالدليل العقلي، أو بالترك [فيعلم أنه ليس واجبًا] (¬9)، أو بالسكوت [بعد ¬
السؤال] (¬1) فيعلم عدم الحكم الشرعي (¬2) في تلك الحادثة). ش: هذه هي المسألة الثانية وهي أقسام البيان (¬3). حقيقة البيان: إخراج الشيء من حيز (¬4) الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح (¬5). ذكر المؤلف أن أقسام البيان خمسة وهي (¬6): القول، والفعل، والعقل (¬7)، والترك، والسكوت بعد السؤال، وزاد الباجي اثنين (¬8) وهما: ¬
الإقرار على الفعل، وشاهد (¬1) الحال. مثال البيان بالقول: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح (¬2) والدالية (¬3) نصف العشر" بيانًا لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬4) (¬5). ومثال البيان بالفعل: كصلاة (¬6) جبريل بالنبي عليهما السلام (¬7)، ¬
وكصلاته عليه السلام بأصحابه رضي الله عنهم (¬1)، بيانًا لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا (¬2) الصَّلَاةَ} (¬3) (¬4). ومثال البيان بالكتابة: كتابه (¬5) عليه السلام إلى عمر بن حزم (¬6) وغيره بنصب الزكاة ومقادير الديات (¬7) ......................................... ¬
(¬1). ومثال البيان بالإشارة: كإشارته عليه السلام بيده إلى الذهب والحرير، وفي يده خيط ذهب وخيط حرير، فقال: "هذان محرمان على ذكور أمتي" (¬2)، وكقوله عليه السلام، "إذا أقبل الظلام من ها هنا"، وأشار بيده إلى المشرق، "وأدبر (¬3) الضياء من ها هنا" وأشار بيده إلى المغرب، "فقد وجبت الصلاة" (¬4)، وكإشارته عليه السلام إلى عدد أيام الشهر، فقال: "الشهر ¬
هكذا وهكذا" وخنس (¬1) إبهامه في الثالثة (¬2) إشارة إلى أنه قد يكون تسعة وعشرين يومًا (¬3). ومثال البيان بالعقل: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ (¬5) عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬6)، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬7) وغير ذلك [مما خص الله به نفسه جل جلاله] (¬8) (¬9) (¬10). ¬
ومثال البيان بالترك: نهيه عليه السلام عن الشرب قائمًا ثم ترك الجلوس وشرب قائمًا (¬1)؛ لأنه يدل على عدم وجوب الشرب جالسًا، وكذلك تركه عليه السلام للجلسة الأولى في الصلاة والاكتفاء بالسجود ¬
عنها (¬1)، يدل على أنها غير واجبة (¬2) (¬3). ومثال البيان بالسكوت بعد السؤال: قصة عويمر العجلاني (¬4) / 228/ إذ (¬5) سأل النبي عليه السلام عن حكم امرأته حين وجد معها رجلًا فسكت [عنه] (¬6) النبي عليه السلام (¬7)، فدل سكوته على عدم الحكم في النازلة حتى نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ ...} (¬8) [الآية] (¬9)، فلاعن عليه السلام بينهما (¬10). ¬
ومثال البيان بالإقرار على الفعل [على] (¬1) ما قال الباجي: إقراره عليه السلام أهل المدينة على أكل الخضر وبيعها من غير زكاة، بيانًا لقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر". ومثال البيان بشاهد (¬2) الحال: قوله عليه السلام: "يقضى بالحائط (¬3) لمن إليه القمط (¬4)، والعقود (¬5) (¬6) "، ومعناهما: تداخل الأركان بعضها في بعض، وقيل: القمط: هو التمليس بالجبس والجير والتراب، ¬
والعقود (¬1): هو تداخل الأركان بعضها في بعض (¬2). ... ¬
الفصل الرابع في حكمه
الفصل الرابع في حكمه (¬1) ش: الضمير في حكمه، يعود على البيان؛ وذلك أن المؤلف ذكر في هذا الفصل أربع مسائل، ثلاثة (¬2) في البيان، وواحدة في المجمل، وهي التي بدأ بها، فأعاد المؤلف الضمير على البيان، تغليبًا للكثير على القليل .. قوله: ([و] (¬3) يجوز ورود المجمل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (¬4) عليه السلام، خلافًا لقوم. لنا أن آية الجمعة وآية الزكاة مجملتان، وهما في كتاب الله عز وجل). ش: هذه هي المسألة الأولى (¬5). حجة القول بورود المجمل (¬6) في القرآن: نحو آية الجمعة، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ¬
ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1)، فهي مجملة بالنسبة إلى صفة أدائها (¬2). وكذلك آية الزكاة، وهي قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3) فهي مجملة بالنسبة إلى مقادير الحق الواجب. ومثال وروده في السنة: قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم (¬4) وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" (¬5)، فقوله: "إلا بحقها" مجمل. وغير ذلك من الآيات (¬6) والأحاديث، فدل وقوعه على جوازه؛ لأن الوقوع من لوازم الجواز؛ إذ لو كان ممتنعًا (¬7) لما وقع (¬8). حجة القول بالمنع: (¬9) أن الوارد من ذلك في الكتاب والسنة، إما أن ¬
يكون المراد به البيان، أو لا، والثاني عبث وهو غير جائز على الله تعالى. وإن أريد به البيان، فإما أن يقترن بالمجمل ما يبينه أو لا، فإن اقترن به بيانه فذلك تطويل من غير فائدة؛ لأن (¬1) التنصيص عليه بالبيان أفصح من ذكره باللفظ المجمل ثم يبين (¬2) ذلك المجمل بلفظ آخر. وإن لم يقترن به ما يبينه فهو باطل, لأنه إذا أريد به البيان مع عدم بيانه في اللفظ فهو ممتنع؛ لأنه تكليف بما لا يطاق. والجواب: (¬3) أنا لا نسلم عدم الفائدة في ورود المجمل، بل فيه فوائد ومصالح: أحدها: (¬4) امتحان العبد حتى يظهر تثبته وفحصه (¬5) عن البيان فيعظم أجره، أو يظهر إعراضه فيظهر عصيانه (¬6). وثانيها: أنه إذا ورد المجمل ثم ورد البيان بعده، ازداد شرف العبد بكثرة مخاطبة سيده له. وثالثها: أن الحروف إذا كثرت كثرت الأجور، لقوله عليه السلام: "من ¬
قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر (¬1) حسنات" (¬2). فهذه مصالح تترتب على الإجمال وهي: امتحان العبد، وزيادة شرفه، وكثرة ثوابه، وقوله عليه السلام: "من قرأ القرآن وأعربه"، أي: بينه؛ لأن الإعراب يراد (¬3) به البيان، كقوله عليه السلام: "الثيب (¬4) تعرب عن نفسها" (¬5) ومعنى أعربه (¬6): أي بينه بالترتيل؛ لأن الترتيل وسيلة إلى الفهم معناه (¬7)، وفهم معناه (¬8) الذي هو وسيلة إلى العمل الذي هو ثمرة التلاوة. ¬
ومن ظن أن المقصود من القرآن تلاوته فقط فهو مغرور، ولهذا قال عليه السلام: "القرآن حجة لك أو عليك" (¬1)، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: "ليس في القرآن أشد عليّ من هذه الآية؛ قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬2) (¬3). قوله: (ويجوز البيان بالفعل خلافًا لقوم (¬4). ش: حجة المشهور القائل بالجواز: دليل النقل، ودليل (¬5)، فأما دليل النقل، فهو الأفعال الصادرة من النبي عليه السلام على وجه البيان؛ لأنه عليه السلام لما بين الصلاة بفعله، فقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولما بين الحج بفعله فقال: "خذوا عني مناسككم"، فدل (¬6) ذلك على أن فعله بيان ¬
لتفاصيل الصلاة والحج، هذا دليل النقل (¬1). وأما دليل العقل: فلأن مشاهدة فعل الصلاة والحج مثلًا، أدل على معرفة تفاصيلها من الإخبار عنهما بالقول؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة (¬2). حجة القول بالمنع: أن البيان بالفعل فيه تطويل، وتأخير البيان مع إمكانه بما هو أقصر من الفعل وهو القول عبث، والعبث على الله تعالى محال؛ وذلك أن زمان البيان بالقول أقل من زمان البيان بالفعل (¬3). أجيب عنه: بأن البيان بالقول قد يكون أطول من البيان بالفعل، وذلك في الأشياء الغامضة التي تحتاج إلى ألفاظ كثيرة، وأما الفعل فقد يظهر بالمرة الواحدة ضروريًا عند من شاهد ذلك الفعل، وأيضًا سلمنا أن الفعل أطول، ولكن ذلك لفائدة، وهي كون الفعل أقوى وأثبت في النفس، ولذلك كانت الصنائع تنضبط بالمشاهدة دون الأقوال المجردة كالتجارة/ 229/ والحياكة والصياغة وغيرها (¬4). قوله: (وإِذا تطابق القول والفعل، فالبيان القول، والفعل مؤكد له). ش: هذه هي المسألة الثالثة (¬5): يعني إذا ورد القول والفعل بعد ¬
المجمل، وكل واحد منهما صالح للبيان واتفقا في البيان، فإن القول هو البيان، وأما الفعل فهو مؤكد له. وهذا الذي ذكره المؤلف هو أحد الأقوال الثلاثة: قيل: البيان: القول، والفعل مؤكد له، كما قاله المؤلف. وقيل: البيان: الفعل، وأما القول فهو مؤكد للفعل. وقيل: هما سيان (¬1) (¬2) (¬3). حجة الأول: أن القول يدل بنفسه بأصل الوضع، وأما الفعل فلا يدل إلا بواسطة القول الدال على كونه دليلًا، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬4)، وما يدل بنفسه أولى مما يدل بغيره (¬5). ¬
حجة المنع (¬1): أن الفعل أقوى وأثبت في النفس من القول فيقدم (¬2). حجة القول بالتسوية: تعارض الأدلة، وعدم الأولية، واستقلال كل واحد منهما بالدلالة على انفراده (¬3). قوله: (وإِن تنافيا، نحو قوله عليه السلام: "من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافًا واحدًا" (¬4)، وطاف عليه السلام لهما طوافين (¬5)، فالقول مقدم؛ لأنه (¬6) يدل بنفسه). ش: هذا من تمام ما قبله، وهو مقابلة؛ لأن ما تقدم إنما هو فيما إذا اتفق القول والفعل في البيان، وهذا فيما تنافيا (¬7) في البيان، أي: تخالفا في البيان، وذلك أن قوله عليه السلام: "فليطف لهما طوافًا واحدًا" هو بيان لآية الحج، وكذلك كونه عليه السلام طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ¬
هو أيضًا بيان لآية الحج، ولكن بيانهما مختلف (¬1)، وهذا الحديث الذي مثل به المؤلف هو أيضًا تمثيل الإمام فخر الدين في المحصول (¬2)، وهذا الحديث إنما قاله عليه السلام في حجة الوداع (¬3)، وهذا المثال إنما جاء على القول بأنه عليه السلام في حجة الوداع قارن (¬4) وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: بأنه متمتع وهو مذهب الشافعي، وقيل بأنه مفرد وهو مذهب مالك رضي الله عنهم جميعًا (¬5). ¬
قوله: (فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه). يعني: وأما الفعل فلا يدل إلا بواسطة القول الدال على كونه دليلًا، وما يدل بنفسه أولى مما يدل بغيره، فيكون القول هو البيان، فيحمل الفعل على أنه ندب، أو على أنه واجب خاص به عليه السلام، وهذا هو المختار عندهم جمعًا بين الدليلين؛ دليل القول، ودليل الفعل، والجمع بين الدليلين ولو بوجه ما أولى من إلغاء أحدهما. قوله: (ويجوز بيان المعلوم بالمظنون، خلافًا للكرخي). ش: هذه هي المسألة الرابعة (¬1)، المراد بالمعلوم: هو المتواتر، والمراد بالمظنون: الآحاد. ذكر المؤلف الوجه المختلف فيه، وهو بيان المعلوم بالمظنون، وسكت عن الثلاثة الباقية لجوازها باتفاق وهي: المعلوم ¬
بالمعلوم، والمظنون بالمظنون، أو (¬1) المظنون بالمعلوم (¬2). قوله: (ويجوز بيان المعلوم بالمظنون)، مثاله: قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر" بيانًا لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3)؛ فإن هذا الحديث خبر واحد بالنسبة إلينا، وأما من سمع ذلك من الصحابة منه عليه السلام فإنه معلوم عنده لا مظنون؛ إذ لا يكون التواتر أقوى من المباشرة (¬4). قوله: (خلافًا للكرخي)، حجة أبي الحسن الكرخي: أن المظنون أضعف من المعلوم، فلا يعتمد على الأضعف في البيان (¬5). الجواب عنه: أن خبر الآحاد وإن كان مظنونًا من حيث السند فإن المتواتر أيضًا مظنون من حيث الدلالة فاشتركا في الظن، وخبر الآحاد أخص فيقيد به لأنه أقوى دلالة؛ ولأن فيه الجمع بين الدليلين بخلاف العكس، وبهذا ما قدمنا إلا ما هو أقوى على ما هو أضعف (¬6). وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الدليلين إنما تعارضا بالنسبة إلى ما تناوله ¬
الدليل الخاص، وأما ما عداه فلم يحصل فيه معارضة، وحينئذ يلزم من إعمال أحدهما إلغاء الآخر فلا محالة. ولا يقال: إن ذلك الأخص أقوى. فإذا تعارضا من كل وجه، وجب التوقف حتى يرد البيان. ***
الفصل الخامس في وقته
الفصل الخامس في وقته الضمير في "وقته" يعود على البيان، دل عليه سياق الفصل. ذكر المؤلف في هذا الفصل ثلاثة (¬1) مسائل، وهي: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة، وتأخير ما يوحى إليه عليه السلام إلى وقت الحاجة. قوله: (من جوز تكليف ما لا يطاق، جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة). ش: هذه هي المسألة الأولى، وهي جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬2). قال الغزالي في المستصفى (¬3): لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن ¬
وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال (¬1) وهو تكليف ما لا يطاق. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن تأخيره يمنع وقوع الفعل، وذلك من باب تكليف ما لا يطاق، وهو التكليف بفعل لا تعلم صفته. وقال الباجي: لا خلاف بين الأمة أنه لم يرد في الشرع تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬2). قوله: (من جوز تكليف ما لا يطاق جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬3) إِليه، وهو التكليف بفعل لا تعلم صفته) يعني: ومن منع تكليف ما لا يطاق منع تأخير البيان عن وقت الحاجة باتفاق في المسألتين. سبب الخلاف إذًا في جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة: هو الخلاف في جواز تكليف ما لا يطاق. / 230/ من جوزه جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ومن منع ذلك منع هذا. فحصل من كلامه: أن في تأخير البيان عن وقت الحاجة قولين: الجواز، والمنع. مثال هذه المسألة: أن يقول الله تعالى في رمضان مثلًا: {فَإِذَا انْسَلَخَ ¬
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1). فرمضان وقت الخطاب، وأول صفر وقت الحاجة، من جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو أول صفر، قال: يجوز البيان بعد أول صفر (¬2)، ومن منع تأخير البيان عن وقت الحاجة، قال: يجب البيان في أول صفر. والبيان مثلًا قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان". قوله: (وتأخيره عن وقت الخطاب إِلى وقت الحاجة جائز عندنا، سواء كان للخطاب (¬3) ظاهر (¬4) أريد (¬5) خلافه، أو (¬6) لم يكن، خلافًا لجمهور (¬7)، المعتزلة (¬8) إِلا في النسخ (¬9)، ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر أريد خلافه، وأوجب تقديم البيان الإِجمالي دون التفصيلي بأن تقول (¬10): هذا الظاهر ليس مرادًا). ش: هذه هي المسألة الثانية (¬11)، وهي تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. ¬
ذكر المؤلف فيها ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز مطلقًا، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية (¬1). القول الثاني: المنع مطلقًا، وهو مذهب أبي بكر الأبهري من المالكية (¬2) , والجمهور من المعتزلة (¬3) والحنفية (¬4) والظاهرية (¬5). ¬
وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي (¬1) (¬2)، وأبو بكر الصيرفي، من الشافعية (¬3) (¬4). القول الثالث: بالتفصيل لأبي الحسين بين المجمل (¬5) والعام، فيجوز تأخير البيان في المجمل ولا يجوز تأخيره في العام، بل يجب فيه تقديم البيان الإجمالي دون التفصيلي، وهو أن يقول: هذا الظاهر ليس مرادًا (¬6). فهذه ثلاثة أقوال (¬7). ¬
ومثال هذه المسألة وهي تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة: أن يقول الله تعالى مثلًا في شهر رمضان: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1) فوقت الخطاب هو رمضان، ووقت الحاجة هو أول صفر. هل يجوز تأخير البيان، وهو قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان" من رمضان إلى أول صفر أو لا يجوز تأخيره؟ محل الخلاف. حجة القول المشهور بالجواز: أن أكثر أدلة الشريعة وردت مجملة ثم ورد بيانها بعد ذلك (¬2). مثال ذلك: قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) بينه النبي عليه السلام بفعله، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4) بينه النبي عليه السلام بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، وبقوله: "ليس في أقل من خمس أواق صدقة"، وبقوله: "في كل أربعين شاة شاة"، وبقوله: "ليس فيما دون ¬
خمس من الإبل صدقة" (¬1)، وبقوله: "في كل ثلاثين من البقر تبيع" (¬2)، وبقوله: "فيما سقت السماء العشر"، وغير ذلك. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3) الآية، بينه النبي عليه السلام بقوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل". وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬4) بينه النبي عليه السلام بفعله وقال: "خذوا عني مناسككم". وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5) بينه النبي عليه السلام بقوله: "لا قطع فيما دون ربع دينار"، وبقوله: "ولا قطع في ثمر معلق ولا في الجمار في النخل" (¬6). ¬
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬1) بينه النبي عليه السلام بقوله: "لا يقتل والد بولده" (¬2)، وبقوله: "لا يقتل مؤمن بكافر". وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3) بينه النبي عليه السلام بقوله: "لا تنكح امرأة على عمتها ولا على خالتها". وقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (¬4) بينه الله تعالى بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} (¬5) الآية. وكذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬6) بينه عليه السلام أن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو عبد المطلب (¬7) ........................ ¬
(¬1)، وقال عليه السلام: "أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، ولم نزل هكذا" وشبك بين أصابعه (¬2). وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬3)، أراد بقرة معينة، قاله الغزالي (¬4)، ولم يبينها إلا بعد السؤال عنها. فهذا كله يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. وحجة القول بمنع تأخير البيان عن وقت الخطاب: أن تأخيره يؤدي إلى وقوع العبد في المفسدة (¬5)، وهو جهله بما كلف به؛ لأن الجهل مفسدة إجماعًا، ويستحيل على الله تبارك وتعالى أن يوقع عبده في مفسدة، فلا يؤخر البيان عن وقت الخطاب نفيًا لهذه المفسدة. قاله المعتزلة (¬6). ¬
أجيب عن هذا: بأن الله تبارك وتعالى له أن يفعل في ملكه ما يشاء: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1) قاله أهل السنة (¬2). وحجة أخرى للقول بالمنع أيضًا: أن الخطاب بالمجمل من غير بيان بمنزلة خطاب الميت، فلا يجوز كما لا يجوز خطاب الميت. وذلك لاشتراكهما في الجهل بمراد الآمر مثلًا؛ لأن الميت لا يفهم المراد من الخطاب، وكذلك الحي إذا خوطب بالمجمل فلا يفهم المراد منه (¬3). أجيب عن هذا: بأن قيل: قياس الخطاب بالمجمل على خطاب الميت إما أن يكون ذلك على تقدير حياته أو على تقدير مماته، فإن كان على تقدير حياته، فنحن نقول به لأنا نجوز خطاب المعدوم على تقدير وجوده، وإن كان ذلك على تقدير مماته فالفرق بينهما أن الحي يحصل له البيان في المستقبل بخلاف الميت (¬4). وحجة القول بالتفصيل لأبي الحسين بين ما ليس له ظاهر أريد خلافه وما له ظاهر أريد خلافه: أن ما لا ظاهر له كاللفظ المشترك، فقال أبو الحسين: أجوز (¬5) على الله تعالى إيقاع عبده في الجهل البسيط لخفته ولا بأس به/ 231/؛ لأنه من لوازم ¬
العبد؛ إذ لا يعرى منه بشر (¬1). وأما ما له ظاهر، كالعام الذي أريد به الخاص إذا تأخر بيانه عن وقت الخطاب، فإن السامع يعتقد أن الخاص ليس مراد الله تعالى لظهور اللفظ في إرادة العموم دون الخصوص، وذلك جهل مركب. فقال أبو الحسن: لا أجوز على الله تعالى إيقاع عبده في الجهل المركب لفرط قبحه ولإمكان السلامة منه، فيجب تعجيل البيان الإجمالي بأن يقول الله تعالى: هذا الظاهر ليس مرادًا، فيذهب الجهل المركب ويبقى البسيط فقط، فيتأخر بيانه التفصيلي إلى وقت حاجة (¬2) (¬3). قال المؤلف في الشرح: وأما اتفاقهم معنا على جواز تأخير البيان بالنسخ؛ لأن النسخ يستحيل أن يقع إلا مؤخرًا؛ لأن التأخير من ضروريات النسخ، فإنه لو عجل بيانه في وقت الخطاب، مثل أن يقول الله تعالى: سأنسخ عنكم وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بعد سنة لكان ذلك من باب المُغيَّا بالغاية لا من باب النسخ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬4)، فمن ضرورة النسخ تأخير البيان فيه، فلذلك وافقونا عليه بخلاف غير النسخ من البيانات ليس من ضرورته تأخير البيان (¬5). قوله: (ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر أريد خلافه)، أي كالعام إذا ¬
أريد به خصوصه، وكالمطلق إذا أريد به تقييده، وكالحقيقة إذا أريد مجازها. مثال الأول: اقتلوا المشركين، ويريد الرجال الحربيين. ومثال الثاني: أكرم رجالًا، ويريد العلماء. ومثال الثالث: اضرب الأسد، ويريد الرجل الشجاع. قوله: (وأوجب تقديم البيان الإِجمالي). مثاله: أن يقول: هذا الظاهر ليس مرادًا، ولا يجب أن يقول: ليس مرادًا بهذا كذا وكذا، معينًا بالبيان التفصيلي، وإنما بينه بيانًا إجماليًا، مثل قوله: الظاهر غير مراد، أو يقول: المراد به الخصوص، أو المراد به التقييد، أو المراد به المجاز، من غير تعيين ذلك الخصوص، ولا تعيين ذلك التقييد، ولا تعيين ذلك المجاز (¬1). قوله: (ويجوز له عليه السلام تأخير ما يوحى إِليه إِلى وقت [الحاجة]) (¬2). ش: هذه هي المسألة الثالثة (¬3)، وهي: تأخير النبي عليه السلام ما ¬
يوحى به إليه إلى وقت الحاجة، وهي تفريع على القول بمنع تأخير البيان عن وقت الخطاب؛ لأن المانعين لتأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير تبليغ ما يوحى به إلى النبي عليه السلام من أحكام العبادات إلى وقت الحاجة إليه. والقول المشهور الذي عليه المحققون: جوازه؛ إذ لا يلزم من فرضه محال (¬1). حجة هذا القول المشهور: أن التبليغ يقتضي المصلحة، فقد تكون المصلحة في التعجيل، وقد تكون في التأخير (¬2)، فلو أوحي إلى النبي عليه السلام بقتال (¬3) أهل مكة بعد سنة، لكانت المصلحة تقتضي تأخير ذلك لئلا يستعد العدو للقتال ويعظم الفساد، ولأجل ذلك لما أراد عليه السلام قتالهم، قطع عنهم الأخبار، وسد دونهم الطريق حتى دهمهم (¬4). يقال: دهِمتهم (¬5) الخيل، إذا غشيتهم وجاءتهم بغتة، ويقال: دهَمتهم بفتح الهاء أيضًا، والكسر أفصح (¬6)، فكان دهمه إياهم سبب أخذهم ¬
وقهرهم، فلذلك يجوز التأخير في بعض الصور، بل يجب الإبلاغ (¬1) في بعض الصور (¬2). حجة القول بمنع تأخير الإبلاغ: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬3) (¬4)، فظاهر الأمر يقتضي الوجوب والفور (¬5). أجيب عنه: بأن كونه للوجوب والفور لا نسلمه, لأنه محل الخلاف، سلمناه، لكن لا نسلم أن ما أنزل يتناول الأحكام التي وقع النزاع فيها، لكونها ظاهرًا في إرادة القرآن؛ لأن السابق إلى الفهم معناه: بلغ القرآن (¬6). قوله: (لنا: قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬7) (¬8) وكلمة ثم للتراخي، فيجوز التأخير وهو المطلوب). ش: هذا دليل على المسألتين: جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، وتأخير تبليغ ما يوحى به إلى النبي عليه السلام إلى وقت الحاجة. ¬
قوله. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}، أي: أنزلناه (¬1). وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال مطلقًا من غير تفصيل؛ لأن ثم للتراخي، وكذلك قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (¬2) (¬3). واعترض هذا الاستدلال: بأن ثم قد تكون لغير التراخي كقوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬5)، فهي في هذين بمعنى الواو (¬6). قاله الباجي (¬7) (¬8). الجواب: بأن استعمالها لغير التراخي مجاز، والحقيقة أولى من المجاز (¬9) ولكن يقال أيضًا: الأصل عدم المجاز، والأصل عدم الاشتراك، والمجاز أولى من الاشتراك (¬10). ... ¬
الفصل السادس في المبين له
الفصل السادس في المبين له ش: أي في بيان الشخص الذي يجب بيان الخطاب له. وفي هذا الفصل أربع مسائل. قوله: (يجب البيان لمن أريد إِفهامه [فقط] (¬1)). ش: هذه هي المسألة الأولى (¬2)؛ يعني أن الخطاب المحتاج إلى البيان إنما يجب بيانه لمن أريد إفهامه، وهو المكلف بذلك الخطاب دون غيره. وإنما يجب (¬3) البيان له؛ لأنه لو لم يبين له ذلك لكان مكلفًا بما لا سبيل له إلى العلم به، وذلك تكليف بما لا يطاق (¬4). قوله: (فقط)، يعني أن من لم يرد إفهامه وهو غير مكلف بذلك ¬
الخطاب، فلا يجب البيان له؛ لأنه لا تعلق له بذلك الخطاب، فإذا لم يجب بيان الخطاب لغير المكلف به، فيجوز له/ 232/؛ لأن نفي الوجوب أعم من الجواز والمنع (¬1). قوله: (يجب البيان لمن أريد إِفهامه فقط)، معناه: يجب بيان الخطاب لمن أراد الله تعالى تكليفه بذلك الخطاب (¬2). مثاله: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3) يجب وإن هذه الآية للحراثين والجنائين (¬4). وكقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬5) يجب بيانها للعقلاء البالغين. وكقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬6) يجب بيانها للأغنياء وأهل النعم، ¬
وغير ذلك. قوله: (يجب البيان) قال فيما تقدم: "يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"، وقال هنا: "يجب"، فهذا تناقض (¬1). أجيب عنه: بأن الجواز باعتبار العقل، والوجوب باعتبار السمع؛ فإن مذهبنا: أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلًا ممتنع سمعًا (¬2). ولأجل ذلك قال فيما تقدم: من جوز تكليف ما لا يطاق جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. قوله: (ثم المطلوب قد يكون علمًا فقط). كالعلماء بالنسبة إلى الحيض، أو عملًا (¬3) فقط كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض وفقهه، أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم، أو لا علم ولا عمل كالعلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة. ش: هذه هي مسألة ثانية (¬4)، وهي: تقسيم المطلوب إلى أربعة أقسام تقسيمًا عقليًا، يعني أن المطلوب بيانه لا يخلو من أربعة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك المطلوب العلم خاصة دون العمل، أي: أن يكون ذلك المطلوب فهم الخطاب خاصة دون العمل بمقتضاه، كالعلماء بالنسبة إلى الحيض؛ إذ المطلوب في حقهم هو العلم بأحكام الحيض؛ يعني: ¬
وشبه الحيض كالعدة والاستبراء. الثاني: أن يكون ذلك المطلوب العمل بمقتضى الخطاب فقط دون علمه وفهمه، كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض وفقهه، هكذا قال الإمام فخر الدين في المحصول؛ لأنه قال في المحصول: لم يوجب الله تعالى على النساء فهم الخطاب وإنما أوجب عليهن استفتاء العلماء (¬1)، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء (¬2). قال المؤلف: وهذا غير متجه، بل النساء مأمورات بالعلم والعمل كالرجال، فلا ينبغي أن نقول: المطلوب منهن العمل فقط دون العلم (¬3)، بل المطلوب منهن العلم والعمل؛ لأنهن كالرجال في جميع أحكام الشريعة إلا ما خصه الدليل، فإن في النساء العاجز عن فهم الخطاب كما إن في الرجال العاجز عن فهم الخطاب، وفي النساء الذكي للفهم كما إن في الرجال الذكي للفهم، وغاية ما في الباب أن العجز فيهن أكثر من الرجال (¬4)، فإذا كان النساء كالرجال في الأحكام الشرعية سقط القسم وبقي ثلاثة أقسام من الأربعة (¬5). قال المسطاسي: فلو قال المؤلف: أو عملًا فقط كالضعفاء لعجزهم عن ¬
فهم الخطاب، لاستقام الكلام (¬1). قال: والعجب من إطباق جماعة مع الإمام فخر الدين على هذا مع أنه مقطوع ببطلانه كما رأيت (¬2)، وقد تقدم التنبيه على هذا في باب العموم في قوله: والصحيح عندنا اندراج النساء في خطاب التذكير (¬3). قوله: (أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إِلى أحوالهم)؛ أي الوجه الثالث: أن يكون ذلك المطلوب العلم والعمل معًا، كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم؛ أي بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة بهم كصلاتهم وزكاتهم، وجميع الأحكام المطلوبة منهم شرعًا؛ فإنه يجب عليهم فهم آية الصلاة وآية الزكاة وغير ذلك، ويجب عليهم العمل بمقتضى تلك الآيات. قال في الشرح: كون المطلوب من العلماء العلم، مبني على أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره، وهو قول مالك وجمهور أهل السنة (¬4). وفيه خمسة أقوال، ثالثها: يجوز تقليد العالم الأعلم، ورابعها: يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به، وخامسها: يجوز إن ضاق الوقت عن الاجتهاد وإلا فلا (¬5). ذكر المؤلف هذه الأقوال الخمسة في الباب التاسع عشر في الاجتهاد في ¬
الفصل التاسع منه (¬1). قال المؤلف في شرحه: ما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله تعالى في حقه وفي حق من قلده إذا حصل له سببه، فصار ما حصل له علمًا بهذه الطريقة (¬2)، وقد تقدم هذا في حد الفقه في الأول (¬3). قوله: (أو لا علم ولا عمل، كالعلماء بالنسبة إِلى الكتب السالفة)، أي: الوجه الرابع: أن يكون ذلك المطلوب لا علم ولا عمل. مثاله: العلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة في الأمم الماضية كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها. قال الإمام في المحصول: لم يرد الله تعالى من هذه الأمة أن يفهموا مراده من الكتب السالفة ولا أن يفعلوا مقتضاها (¬4). قال المؤلف في الشرح: إنما لم نؤمر بتعلمها والعمل بمقتضاها لعدم صحتها، وتأدبًا مع الأفضل منها الذي هو القرآن العظيم، وإنما نؤمر بما فيها من العقائد والقواعد الكلية وغيرها من الفروع من جهة دلالة شرعنا على اعتبار ذلك لا من جهة تلك الكتب (¬5). قوله: (أو لا علم ولا عمل). اعترض هذا القسم: بأنه ليس من أقسام المطلب؛ لأنه غير مطلوب، فقد ¬
أدخل في المقسوم ما ليس منه ومن شرط المقسوم صدقه على كل واحد من أقسامه (¬1). أجيب عنه: بأن المطلوب أعم من كونه مطلوب الترك أو مطلوب الفعل، فيكون هذا القسم المذكور من أقسام المطلوب، والله أعلم (¬2). قوله: (ويجوز إِسماع المخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقًا) (¬3). ش: هذه مسألة ثالثة (¬4)، وإنما وقع الاتفاق عليه من غير التنبيه على تخصيصه؛ لأن الدليل العقلي حاصل في الطباع، فيحصل البيان بالتأمل، فإذا كان فيه التأخير كان التفريط من جهة المكلف لا من جهة المتكلم، بخلاف الخصوص (¬5) بالسمع؛ إذ لا قدرة للمكلف في تحصيله لعدم حصوله في الطباع فكان معذورًا (¬6). قوله: (والمخصوص بالسمع بدون بيان مخصصه عند النَظَّام (¬7) ¬
وأبي هاشم، واختاره الإِمام [فخر الدين] (¬1)، خلافًا للجبائي وأبي الهذيل) (¬2). ش: / 233/ هذه مسألة رابعة (¬3)، الذي عليه أهل الحق (¬4) .. اختار الإمام فخر الدين جواز إسماع الدليل المخصوص بالدليل السمعي (¬5)، والدليل على ذلك شيئان: أحدهما: أن النبي عليه السلام ما كان في تبليغه يطوف على القبائل حتى يستوعب أنواعهم وأشخاصهم بكل حكم، بل يبلغ من حيث الجملة، ¬
ويقول: "بلغوا عني ولو آية" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، فهذا يدل على أنه كان يسمع البعض فقط، وذلك معلوم من حاله عليه السلام بالضرورة (¬2). الدليل الثاني: أن بعض الناس يسمعون العام ولا يسمعون مخصصه إلا بعد حين، كما روي أن فاطمة رضي الله عنها سمعت قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬3) ولم تسمع قوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" إلا بعد حين (¬4). وحجة القول بأن ذلك لا يجوز: أن ذلك يفضي إلى اعتقاد حكم الله تعالى على خلاف ما هو عليه، وذلك مفسدة، لا تليق بالحكيم (¬5). الجواب عنه: أن الله تعالى لا يسأل عما يفعل، فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (¬6). ¬
قوله: (ويجوز إِسماع الخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقًا، والمخصوص بالسمع)؛ أي: ويجوز إسماع العام المخصوص بالعقل وفاقًا من غير التنبيه عليه. قال المؤلف في شرحه: فإن قيل: ما الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب؟ فجوابه: أن تلك المسألة مفروضة فيما إذا لم ينزل البيان البتة، وهذه فيما إذا نزل البيان لكن سمعه البعض ولم يسمعه البعض، فالذي لم يسمعه هو محل النزاع (¬1)، فالأولى: قبل نزول البيان، والثانية: بعد نزول البيان. ... ¬
الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام
الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في دلالة فعله عليه الصلاة والسلام الفصل الثاني: في اتباعه عليه السلام الفصل الثالث: في تأسيه عليه الصلاة والسلام
الفصل الأول في دلالة فعله عليه السلام
الباب الثالث عشر في فعله عليه السلام ش: المقصود بهذا الباب هو التأسي بالنبي عليه السلام في أفعاله. قوله: (في فعله عليه السلام)، أي: في دلالة فعله عليه السلام على حكم ذلك الفعل بالنسبة إلينا نحن الأمة (¬1) قوله: (وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول في دلالة فعله عليه السلام إِن كان بيانًا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل، في الوجوب أو الندب أو الإِباحة (¬2)، وإِن لم يكن بيانًا وفيه قربة، فهو عند مالك رحمه الله تعالى وابن القصار والأبهري (¬3) والباجي وبعض الشافعية [للوجوب، وعند] (¬4) الشافعي للندب، وعند القاضي أبي بكر (¬5) والإِمام [فخر الدين] (¬6) وأكثر ¬
المعتزلة على الوقف. و [أما] (¬1) ما لا قربة فيه كالأكل والشرب [واللباس] (¬2) فهو عند الباجي للإِباحة، وعند بعض أصحابنا للندب). ش: ذكر المؤلف رحمه الله أن فعله عليه السلام إما أن يكون: بيانًا لمجمل أو لا، والثاني: إما أن تكون فيه قربة أو لا، فهذه ثلاثة أقسام (¬3). ¬
فإن كان بيانًا لمجمل؛ فحكمه حكم ذلك المجمل مطلقًا، فإن كان المبين واجبًا فكذلك الفعل الذي هو بيانه واجب، وإن كان المبين مندوبًا فكذلك الفعل الذي هو بيانه، وإن كان المبين مباحًا فكذلك الفعل الذي هو بيانه؛ لأن البيان تابع لمبينه في حكمه إن واجبًا فواجبًا، وإن مندوبًا فمندوبًا، وإن مباحًا فمباحًا (¬1)، وهذا القسم لا خلاف فيه (¬2). قال المؤلف في شرحه: وذلك أن البيان يعد كأنه منطوق به في ذلك المبين. فبيانه عليه السلام لآية الحج يعد كأنه منطوق به في الآية، فكأنه تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬3) على هذه الصفة، وكذلك بيانه عليه السلام لآية الجمعة، وقد فعلها بخطبة وجماعة وجامع وغير ذلك من شروطها، يعد ذلك كأنه منطوق به في الآية، فكأنه تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا ¬
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} (1) التي من شأنها كذا، وصفتها كذا {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1)، وغير ذلك من سائر أفعاله عليه السلام التي هي بيان للمجملات، فإذا كان البيان بَعْدُ، فكأنه (¬2) منطوق به في المبين، صار حكمه حكم المبين من غير خلاف (¬3). وكذلك إذا كان الفعل مخصوصًا بالنبي عليه السلام لا خلاف فيه أيضًا، ولم يذكره المؤلف لوضوحه (¬4). وأما القسم الثاني: وهو الفعل الذي فيه القربة، أي: قصد به طاعة الله تعالى ولم يكن بيانًا لمجمل. فذكر المؤلف فيه ثلاثة أقوال: الوجوب والندب والوقف. ونقل فيه سيف الدين (¬5)، وفخر الدين (¬6)، القول الرابع بالإباحة، ونسبوه إلى مالك رضي الله عنه (¬7). ¬
حجة القول بالوجوب: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل السنة. فالكتاب: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1)، وفعله مما أتانا به فوجب أخذه (¬2). وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬3)، والأمر محمول على الوجوب (¬4). وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬5)، جعل الله اتباع نبيه من لوازم محبة الله تعالى، ومحبتنا لله تعالى واجبة، ولازم الواجب واجب، فاتباعه عليه السلام واجب، فقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي} أمر والأمر محمول على الوجوب (¬6). وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬7)، والأمر محمول على الوجوب (¬8). ¬
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1) (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ...} (¬3) الآية، وترك المتابعة هو مشاقة (¬4). وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5)، والأمر قدر مشترك بين القول والفعل، فوجب القول به نفيًا للمجاز والاشتراك؛ لأنهما على خلاف الأصل (¬6). وأما دليل السنة: فمنه قوله عليه السلام/ 234/: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" (¬7) (¬8). وقوله: "من ترك سنتي فليس مني" (¬9) والسنة هي الطريقة المسلوكة، وهي ¬
تتناول أقواله وأفعاله وتركه عليه السلام (¬1). وقوله: "إِنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬2) والنبي عليه السلام إمام الأمة وسيدها، فوجب اتباعه في فعله (¬3). وما روي أن عليًا رضي الله عنه قبل الحجر الأسود، فقال: "لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك" (¬4) (¬5). وما روي أن أم سلمة رضي الله عنها سألها رجل عن قبلة الصائم، فسألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم" (¬6)، ¬
فذلك كله يدل على وجوب اتبا [عه] (¬1) عليه السلام في أفعاله (¬2). وأما الإجماع: فلأن الصحابة رضوان الله عليهم لما اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين سألوا عائشة رضي الله عنها عن ذلك، فقالت: "فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا"، فرجعوا إلى قولها بعد اختلافهم وأجمعوا على ذلك، فذلك يدل على وجوب اتباع فعله عليه السلام (¬3) (¬4). حجة القول بأن فعله المذكور محمول على الندب: أن الأدلة المذكورة دلت على رجحان الفعل، والأصل الذي هو براءة الذمة دل على عدم الحرج، فيجمع بين المدركين وهما: الرجحان، وعدم الحرج، فيحمل على الندب (¬5). أجيب عن هذا: بأن ذلك الأصل قد ارتفع بظواهر الأوامر الدالة على الوجوب (¬6). ¬
حجة القول بالوقف: تعارض المدارك (¬1). أجيب: بأن التعارض قد ارتفع أيضًا بما تقدم من الأدلة الدالة على الوجوب (¬2). حجة القول بالإباحة: أن الإباحة التي هي نفي الحرج هي المتحقق في فعله عليه السلام، فوجب الوقوف معها، ولا يحكم بالزيادة على ذلك إلا بدليل (¬3). أجيب عن هذا: بأنا نقول بالإباحة في كل فعل لم يظهر فيه من النبي عليه السلام قصد القربة، وأما ما ظهر فيه قصد القربة فيمتنع أن يكون مباحًا؛ بمعنى نفي الحرج عن فعله وتركه من غير ترجيح الفعل على الترك، فإن مثل ذلك لا يتقرب به إلى الله تعالى، وذلك مما يجب حمله على ترجيح جانب الفعل على الترك (¬4). وأما القسم الثالث (¬5): وهو الفعل الذي لم يقصد به التقرب إلى الله تعالى، ولم يكن بيانًا لمجمل كأكله وشربه ولباسه عليه السلام، فذكر ¬
المؤلف فيه قولين: الإباحة والندب (¬1). حجة القول بالإباحة: أن الطلب إنما يتبع مصالح القربات، فلا قربة، فلا مصلحة، فتعينت الإباحة (¬2). حجة القول بالندب: هي الحجة على الندب فيما فيه قربة. وهي: أن الأوامر الدالة على رجحان الفعل، والأصل الذي هو براءة الذمة يدل على عدم الحرج، فيجمع بين المدركين فيحمل على الندب (¬3). قوله: (وأما إِقراره على الفعل فيدل على جوازه). ش: أي: إذا فعل فعل وعلم به النبي عليه السلام ولم ينكره، فإن سكوته عليه السلام عن إنكاره يدل على جواز ذلك؛ لأنه عليه السلام لا يقر على باطل (¬4). مثاله: ما روي أنه عليه السلام سلم من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله (¬5)؟، فلم ينكر عليه السلام عليه ¬
الكلام في الصلاة لتفهيم الإمام، فدل ذلك على جوازه (¬1). ... ¬
الفصل الثاني في اتباعه عليه السلام
الفصل الثاني في اتباعه عليه السلام (قال جماهير الفقهاء والمعتزلة: يجب اتباعه في فعله، إِذا علم وجهه [وجب اتباعه] (¬1) في ذلك الوجه، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬2)، والأمر ظاهر في الوجوب. وقال أبو علي بن خلاد (¬3) به في العبادات فقط). ش: قوله: (في اتباعه)، أي: في وجوب اتباعه عليه السلام. قال المؤلف في شرح المحصول: هذه المسألة في غاية الالتباس بالتي قبلها. لأن المسألة الأولى في دلالة فعله على الوجوب والندب والإباحة، وذلك يرجع إلى وجوب اتباعه في ذلك، وهي المسألة الثانية (¬4). قال: الفرق بينهما: أن المسألة الأولى إنما هي: هل نصب فعله عليه السلام دليلًا أم لا؟ ¬
والمسألة الثانية: إذا قلنا بنصبه دليلًا، فهل كلفنا باتباعه أم لا؟ فإن هنالك أشياء أمرنا بالاتباع فيها مع أنها لم تنصب دليلًا، كأئمة الصلاة، والأمراء، فإنه يجب علينا اتباعهم وطاعتهم مع أن أفعالهم لم تنصب دليلًا شرعيًا، فهذا هو الفرق بين المسألتين (¬1). فالمسألة الأولى إذًا: إنما هي في فعله المجهول حكمه. والمسألة الثانية: هي في فعله المعلوم حكمه (¬2) (¬3). قوله: (قال جماهير الفقهاء والمعتزلة)، أي: وجماهير المعتزلة بخفض المعتزلة عطفًا على الفقهاء. بدليل قوله: "وقال علي بن خلاد" (¬4)؛ لأنه من المعتزلة (¬5). قوله: (يجب اتباعه في فعله إِذا علم وجهه)، أي: إذا علم حكمه الذي فعله عليه، أي: إن فعله على وجه الوجوب وجب علينا أن نفعله على وجه الوجوب، وإن فعله على وجه الندب وجب علينا أن نفعله على وجه ¬
الندب إذا أردنا فعله، وإن فعله على وجه الإباحة وجب علينا أن نفعله على وجه الإباحة إذا أردنا فعله؛ إذ لو خالفناه في النية لم يحصل الاتباع (¬1) (¬2). قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: ليس المراد بهذا أن المندوب والمباح واجب علينا إذا فعله النبي عليه السلام، وإنما الواجب اتباع صفة ذلك الفعل؛ إذ لا يجب علينا إلا الواجب على/ 235/ النبي عليه السلام، وأما المندوب والمباح فلا يجب علينا كما لا يجب على النبي عليه السلام. حجة الجمهور: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬3)، قال بعضهم: هذه الآية لا دليل فيها على اتباعه في فعله عليه السلام؛ لأن الإيتاء لا يصدق على فعله؛ لأنه ظاهر في الإعطاء (¬4)، وهو مجاز في القول (¬5). ودليل الجمهور أيضًا: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬6) (¬7)، ¬
وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) (¬2)، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (¬3) (¬4). وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5)، والأمر قدر مشترك بين القول والفعل، فوجب القول به نفيًا للمجاز والاشتراك؛ لأنهما على خلاف الأصل. قوله: (وقال علي بن خلاد به (¬6) في العبادات فقط)، أي: قال ابن خلاد المعتزلي: إنما يجب اتباعه عليه السلام في فعله المعلوم حكمه في العبادات فقط، ولا يجب في العادات كالأنكحة والمعاملات وغيرها فإنه يندب ولا يجب (¬7) (¬8). ¬
حجته: قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله: "خذوا عني مناسككم"، وظاهر الأمر للوجوب، فمفهوم هذا المنطوق أن غير المذكور لا يجب، وهو المطلوب (¬1). قوله: (يجب اتباعه في فعله)، يريد: وكذلك يجب اتباعه في تركه، لأن في المتروكات ما يجب تركه كالمحرمات، ومنها ما يندب إلى تركه كأكل الضب (¬2)، ومنها ما يباح كلبس الثوب المباح (¬3). ¬
قوله: (يجب اتباعه في فعله) انظر: هل يجب اتباعه في زمان فعله وفي مكان فعله أم لا؟ قال أَبو زكريا المسطاسي: هذه المسألة اختلف فيها الأصوليون على أربعة أقوال: قيل بالتعبد فيهما، وقيل: بعدم التعبد فيهما، وقيل: بالتعبد إن تكرر الفعل فيهما وإلا فلا، وقيل بالتعبد في المكان دون الزمان (¬1). والمشهور من هذه الأقوال: أن الزمان والمكان لا يعتبران؛ وذلك أن الزمان لا يمكن الاتباع فيه؛ لأن الزمان الذي فعل فيه النبي عليه السلام ذلك الفعل قد ذهب ولا يمكن الاتباع فيه منا (¬2) (¬3). ويدل على عدم اعتبار المكان: أنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قطع الشجرة التي بويع النبي عليه السلام تحتها مخافة أن تعبد (¬4)، وكان عمر رضي الله عنه ينهى الناس عن تعمد الصلاة في المواضع التي صلى فيها النبي عليه السلام (¬5)، وقال: "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا" (¬6)، وهذا حجة ¬
المشهور. وحجة القول بالتعبد في المكان دون الزمان: أن ابن عمر يقصد المواضع التي صلى بها النبي عليه السلام فيصلي فيها (¬1). حجة القول بالتعبد فيهما: أن الزمان والمكان يعتبران في الحج فيجب اعتبارهما في غير الحج (¬2). ورد هذا بأن الحج خرج بدليله بأمر النبي عليه السلام، وليس بمحل النزاع (¬3). وحجة القول باعتبار الزمان والمكان إن تكرر الفعل فيهما وإلا فلا: أن التكرار فيهما قرينة تدل على اعتبار القربة فيهما، والله أعلم (¬4). قوله: (وإذا وجب التأسي به، وجب معرفة وجه (¬5) فعله من الوجوب والندب والإِباحة). ¬
ش: التأسي معناه: الاتباع والاقتداء والاقتفاء والاقتفار (¬1)، وإنما لم يذكر من أقسام الحكم الشرعي إلا هذه الثلاثة؛ لأن أفعاله عليه السلام محصورة في هذه الثلاثة؛ لأنه عليه السلام معصوم من المحرم ومن المكروه (¬2). قوله: (إما بالنص، أو بالتخيير بينه وبين غيره مما (¬3) علم فيه وجه (¬4) (¬5) فيسوى به، أو بما يدل على نفي القسمين (¬6) فيتعين الثالث، أو بالاستصحاب في [عدم] (¬7) الوجوب (¬8)، وبالقربة (¬9) على نفي (¬10) الإِباحة [فيحصل (¬11) الندب] (¬12)، وبالقضاء على الوجوب، وبالإِدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب، وبعلامة الوجوب عليه كالأذان، وبكونه (¬13) جزاء (¬14) لسبب ¬
الوجوب كالنذر). ش: ذكر المؤلف ها هنا الأشياء التي يعرف بها حكم فعله عليه السلام. ذكر المؤلف ثمانية أشياء، وهي في التحقيق خمسة أشياء كما سيظهر لك (¬1). قوله: (إِما بالنص)، أي: إما أن يعرف حكم فعله عليه السلام بنصه، كما إذا نص على أن الفعل واجب أو مندوب أو مباح، كما نص بعد أن صلى صلاة الجمعة، فقال: "هذا حق واجب على كل مكلف" (¬2)، فيدل ¬
على أنها واجبة. وكما نص على سجدة التلاوة بعد أن سجدها فقال: "إِن الله تعالى لم يكتبها علينا إِلا أن نشاء" (¬1) فيدل على أنها مندوبة. قوله: (أو بالتخيير) أي: إذا خير النبي عليه السلام بين الفعل الصادر منه، وبين فعل علم حكمه، فحكم ذلك الفعل حكم ذلك المعلوم، فإن كان واجبًا فواجب، وإن كان مندوبًا فمندوب، وإن كان مباحًا فمباح (¬2). مثال ذلك: حديث أنس بن مالك: كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا المتم ومنا المقصر ومنا الصائم ومنا المفطر (¬3)، فلم يعب بعضنا بعضًا (¬4). ¬
فيستدل بالتخيير بين شيئين على أن حكمهما واحد؛ لأن التخيير يقتضي التسوية في الحكم (¬1). قال المؤلف في القواعد السنية (¬2): جمهور الفقهاء يعتقدون أن التخيير يقتضي التسوية، وأنه لا يخير إلا بين واجب وواجب، أو بين مندوب ومندوب، أو بين مباح [ومباح] (¬3)، وليس الأمر كذلك، بل التخيير على قسمين: تخيير يقتضي التسوية، وتخيير لا يقتضي التسوية، فالتخيير الذي يقتضي التسوية هو التخيير [بين] (¬4) الأشياء المختلفة، كالتخيير بين خصال الكفارة؛ فإن حكم كل واحد من الخصال حكم الأخرى. وأما التخيير الذي/ 236/ لا يقتضي التسوية فهو التخيير بين الأقل والأكثر، أو بين الجزء والكل. مثال التخيير بين الأقل والأكثر: قوله (¬5) تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إلا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} (¬6)، فإنه خيره تعالى بين الثلث والنصف والثلثين، مع أن الثلث هو الواجب والزائد عليه مندوب، فقد وقع التخيير ها هنا بين واجب ومندوب؛ لأن التخيير قد وقع بين الأقل والأكثر. ¬
ومثال التخيير بين الجزء والكل: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) خير الله المسافرين بين ركعتين وأربع ركعات، مع أن الركعتين واجبتان جزمًا، والزائد ليس بواجب؛ لأنه يجوز تركه، وما يجوز تركه ليس بواجب، وأما الركعتان فلا يجوز تركهما إجماعًا، فقد وقع التخيير بين واجب وغير واجب؛ لأن التخيير وقع بين جزء وكل (¬2). قوله: (أو بما يدل على نفي قسمين فيتعين الثالث) يعني: إذا كان هناك ما يدل على نفي حكمين فإن الثالث يتعين، ذلك أن أفعاله عليه السلام محصورة في ثلاثة أحكام وهي: الوجوب، والندب، والإباحة؛ إذ لا يفعل محرمًا ولا مكروهًا، فإذا كان هنالك ما ينفي الوجوب والندب تعين الإباحة، وإذا كان هنالك ما ينفي الوجوب والإباحة تعين الندب، وإذا كان هنالك ما ينفي الندب والإباحة تعين الوجوب (¬3). وإنما يتعين الثالث بانتفاء الاثنين لضرورة انحصار أحكامه في ثلاثة أشياء وهي المذكورة قبل (¬4). قوله: (أو بالاستصحاب في عدم الوجوب - وبالقربة - على نفي الإِباحة)، يعني: أن من وجوه الاستدلال: أن الاستصحاب يدل على عدم ¬
الوجوب، وكونه قربة يدل على عدم الإباحة (¬1)، وهذا تكرار؛ لأنه أحد أقسام ما يدل على نفي قسمين، فجعله المؤلف قسيمًا للذي قبله مع أنه أحد أقسامه؛ لأنه حين انتفى الوجوب والإباحة تعين الندب، فصوابه أن يقول: كالاستصحاب في عدم الوجوب مع القربة في نفي الإباحة فيحصل الندب (¬2). قوله: (وبالقضاء على الوجوب)، هذا على مذهب مالك القائل: بأن النوافل لا تقضى، وأما على مذهب الشافعي القائل: بأن ذوات الأسباب من النوافل كالعيدين تقضى، فلا يستدل بالقضاء على الوجوب (¬3) .... ¬
(¬1). قوله: (وبالإِدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب)، يعني: أن المداومة على الفعل يدل على عدم الإباحة، والترك في بعض الأوقات يدل على عدم الوجوب، فيتعين الندب (¬2)، وهذا أيضًا تكرار لقوله: أو بما يدل على نفي القسمين فيتعين الثالث. قوله: (وبعلامة الوجوب عليه كالأذان)، يعني: إذا أمر عليه السلام بالأذان لصلاة علمنا أنها واجبة؛ لأن الأذان من خصائص الوجوب (¬3). قوله: (وبكونه جزاء لسبب الوجوب كالنذر) يعني: ويستدل أيضًا على معرفة حكم فعله عليه السلام: بأن يكون ذلك الفعل جزاء لسبب الوجوب، والمراد بالجزاء جواب الشرط، يقال له: الجواب، والجزاء. والمراد بالسبب هو الشرط؛ لأن الشروط اللغوية أسباب (¬4). ¬
مثل المؤلف ذلك بالنذر، قال ابن رشد: حقيقة النذر التزام ما لا يلزم من الطاعات، فإذا بلغنا أن النبي عليه السلام نذر صلاة أو غيرها من المندوبات وفعلها قضينا على أن ذلك الفعل بالوجوب؛ لأن فعل المنذور واجب (¬1). قوله: (وبكونه جزاء لسبب الوجوب)، تقديره: وبكونه جوابًا لشرط الوجوب كالنذر، وذلك أن الفعل لا يجب أولاً قبل النذر، ثم إنه لما جعل جوابًا لشرط صار واجبًا إذا وجد شرطه، كقولك: إن شفى الله مريضي، أو قدم غائبي، فعلي كذا وكذا من الطاعات. قوله: (وبكونه جزاء لسبب الوجوب) هذه النسخة لا تتناول إلا النذر المعلق على شرطه كما تقدم تمثيله، ولا تتناول النذر المطلق، كقوله: لله علي أن أفعل كذا وكذا من الطاعات، من غير تعليق ذلك النذر على شرط، وفي بعض النسخ: "وبكونه جزءًا لسب الوجوب كالنذر"، من غير ألف قبل الهمزة (¬2)، فقوله: كالنذر، هو أحد جزئي السبب، والجزء الآخر: هو كون المنذور مندوبًا إليه قبل النذر، لأن النذر لا تعلق له بالمحرم ولا بالمكروه ولا بالواجب ولا بالمباح، وإنما يتعلق بالمندوب فقط، فإذا كان مندوبًا إليه قبل النذر، ثم نذره وفعله لأجل النذر علمنا أن تأثير النذر إنما هو في الوجوب، فسبب الوجوب إذًا: النذر والندب. قوله: (تفريع: إِذا وجب الاتباع وعارض فعله قوله (¬3)، فإِن تقدم القول وتأخر (¬4) الفعل نسخ الفعل القول، كان القول خاصًا به أو بأمته أو عمهما، ¬
وإِن تأخر القول وهو عام له ولأمته أسقط حكم الفعل عن الكل، وإِن اختص بأحدهما خصصه عن عموم حكم الفعل. وإِن تعقب الفعل القول من غير تراخ وعم القول له ولأمته خصصه عن عموم القول، وإِن اختص بالأمة ترجح القول [على الفعل، وإن اختص به جاز إِن جوزنا نسخ الشيء قبل وقته، وإِلا فلا. وإِن لم يتقدم واحد منهما، رجح القول] (¬1) لاستغنائه بدلالته عن (¬2) غيره من غير عكس. فإِن عارض الفعل الفعل بأن يقر شخصًا على فعل فعل (¬3) [هو] (¬4) عليه السلام ضده، فيعلم خروجه عنه، أو يفعل عليه السلام ضده في وقت (¬5) يعلم لزوم مثله (¬6) [له فيه، فيكون نسخًا للأول] (¬7)). ش: كلام المؤلف ها هنا في حكم الدليلين إذا تعارضا بنفي/ 237/ أو إثبات (¬8). ¬
ينبغي أن نقدم ها هنا أربعة أمور: أحدها: أن الدليلين المتعارضين إذا تأخر أحدهما كان المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم (¬1). والأمر الثاني: مهما أمكن الجمع بين الدليلين فلا يعدل عنه إلى النسخ (¬2). والأمر الثالث: أن من شرط الناسخ أن يكون مساويًا أو أقوى من المنسوخ (¬3). والأمر الرابع: أن الأفعال لا يصح التعارض فيها لاستحالة اجتماعهما في زمان واحد، بخلاف الأقوال؛ فإنها تتناول الأزمنة بصيغها (¬4). واعلم (¬5) أن التعارض على ثلاثة أوجه: إما بين القولين، وإما بين الفعلين. وإما بين القول والفعل. فالتعارض بين القولين لم يتعرض له المؤلف ها هنا وموضعه (¬6) باب ¬
النسخ، وأما التعارض بين الفعلين، أو بين القول والفعل، فهذان القسمان هما اللذان تعرض لهما المؤلف ها هنا. ذكر المؤلف في هذا التفريع جزأين: الأول: في حكم التعارض بين القول والفعل. والجزء الثاني: في حكم التعارض بين الفعلين. أما التعارض بين القول والفعل، فإما أن يعلم التاريخ أو يجهل التاريخ، فإن علم التاريخ ففيه اثنا عشر وجهًا: ستة أوجه في تقديم (1) القول على الفعل، وستة أوجه في تقديم (¬1) الفعل على القول. وبيان ذلك أن القول إذا تقدم على الفعل، فإما بتراخ، وإما بفور، وعلى التقديرين: فإما أن يكون القول خاصًا به عليه السلام، أو خاصًا بالأمة، أو عامًا لهما، فهذه ستة أوجه في تقديم القول وتأخير الفعل. وهكذا يقول أيضًا في تقديم الفعل وتأخير القول؛ لأنا نقول: إما أن يتأخر عنه القول بتراخ، أو بفور، وعلى التقديرين: فإما أن يكون القول خاصًا به عليه السلام، أو خاصًا بالأمة، أو عامًا لهما، أيضًا ستة أوجه في تقديم الفعل وتأخير القول (¬2). مجموع ذلك اثنا (¬3) عشر وجهًا ذكرها المؤلف كلها. ¬
قوله: (إِذا وجب الاتباع). يعني: إذا وجب التأسي بالنبي عليه السلام في فعله المعلوم حكمه. قوله: (فإِن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل القول)، وإنما ينسخه لأن الدليلين الشرعيين إذا تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما نسخ المتأخر المتقدم (¬1). قوله: (كان القول خاصًا به أو بأمته أو عمهما). مثال الخاص بأمته: قوله عليه السلام: "الزاني المحصن يجلد ثم يرجم" (¬2)، ثم إنه عليه السلام رجم ماعزًا والغامدية (¬3) من غير جلد. ومثال العام له ولأمته: قوله عليه السلام: "من أصبح جنبًا فلا صيام له" (¬4)، ثم أصبح عليه السلام جنبًا (¬5). ¬
قوله: (وإِن تأخر القول وهو عام له ولأمته، أسقط حكم الفعل عن الكل)، فلما ذكر حكم الفعل إذا تأخر عن القول، شرع ها هنا في عكسه وهو حكم القول إذا تأخر عن الفعل، فذكر أن القول إن كان عامًا له ولأمته أسقط حكم الفعل عن الكل (¬1)، معناه: أسقط ذلك القول المتأخر حكم الفعل المتقدم عن الكل، أي: عن النبي عليه السلام وعن أمته. مثال ذلك: أنه عليه السلام يسجد سجدة التلاوة مع أصحابه حتى قال لهم: "إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء". قوله: (وإِن اختص بأحدهما خصصه عن عموم حكم الفعل (¬2))، اعلم أن الفعل في ذاته لا عموم له؛ ولأجل ذلك أضاف المؤلف العموم إلى حكمه لا إلى ذاته، بخلاف القول، فلا عموم للفعل، وإنما يتعلق الفعل بالنبي عليه السلام بالدليل الدال على التكرار في حقه، وتعلق بالأمة بالدليل الدال على التأسي، فالقول الخاص بأحدهما ناسخ، وهي عبارة فخر الدين (¬3)، والآمدي (¬4)، وغيرهما (¬5)، فإطلاق التخصيص عليه تَجَوُّز (¬6). قوله: (وإِن تعقب الفعل القول من غير تراخ وعم القول له ولأمته، خصصه عن عموم القول). هذا مقابل قوله أولاً: "فإن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل ¬
القول"، لأن ما تقدم إنما هو فيما إذا تأخر الفعل بتراخ، وكلامه ها هنا فيما إذا تأخر الفعل من غير تراخ (¬1). قوله: (خصصه عن عموم القول)، معناه: خصص الفعل النبي عليه السلام من عموم القول (¬2). قال المؤلف في شرحه: تعذر النسخ في هذه الصورة؛ لأن من شرط النسخ التراخي، فإذا تعذر النسخ لم يبق إلا التخصيص، فيعلم أنه عليه السلام غير مراد بالعموم (¬3). مثال ذلك: قوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها حين ذكرها"، فأخر عليه السلام الصبح حتى خرجوا من واد الشيطان (¬4)، ولا يجوز التأخير لغيره إذا ذكرها، فالنبي عليه السلام مختص بذلك الفعل (¬5). ¬
قوله: (وإِن اختص بالأمة ترجح القول على الفعل)، قال فخر الدين في المحصول: يجب المصير إلى القول جمعًا بين الدليلين؛ لأن حكم الفعل ثابت في حقه عليه السلام، بخلاف المصير إلى الفعل؛ فإن فيه إلغاء القول (¬1). وقال المؤلف في الشرح: إن اختص القول بالأمة، والفعل أيضًا شأنه أن يترتب في حقهم حكمه، وهما متناقضان متعارضان، فيقدم القول على الفعل لقوته؛ لأن دلالة القول بالوضع فلا يفتقر إلى دليل يدل على أنه حجة، بخلاف الفعل؛ لولا (¬2) قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬3) لتعذر علينا نصب الفعل دليلاً (¬4). مثال هذا: قوله عليه السلام: "إذا انتصف شعبان فلا يصومن أحدكم" (¬5)، ¬
فصام عليه السلام إلى رمضان (¬1). قوله: (وإِن اختص به جاز إِن جوزنا نسخ الشيء قبل وقته، وإِلا فلا). ش: مثال هذا: إذا قال النبي عليه السلام: الفعل الفلاني واجب علي في الوقت الفلاني، ثم تلبس بضده في ذلك الوقت قبل التمكن منه/ 238/، فمن جوز نسخ الحكم قبل التمكن من الامتثال قال: الفعل ناسخ للقول، ومن لم يجوز ذلك مع كون الفعل رافعًا لحكم القول، قال: لا يتصور وجود مثل هذا الفعل، وهو معنى قوله: وإلا فلا. قوله: (وإِن اختص به جاز إِن جوزنا نسخ الشيء قبل وقته وإلا فلا) (¬2)، مثاله قوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء والصبيان" ثم بعد ذلك رمى عليه السلام أهل الطائف بالمجانيق (¬3)، فقيل له عليه السلام: فيهم الذرية، فقال: "هم من آبائهم" (¬4). ¬
انظر قول ابن الحاجب: ويقاتل العدو بكل نوع ولو بالنار ... إلى آخر المسألة (¬1). قوله: (وإِن لم يتقدم واحد منهما، رجح القول باستغنائه (¬2) عن غيره من غير عكس). ش: لما ذكر المؤلف حكم التعارض بين القول والفعل إذا علم التاريخ، شرع ها هنا في حكم التعارض بينهما إذا جهل التاريخ، فذكر أن القول هو ¬
المتقدم (¬1)؛ لأنه يدل بنفسه، أي: يدل بالوضع ولا يحتاج إلى ما يدل على أنه دليل (¬2)، بخلاف الفعل؛ فإنه لا يكون دليلاً إلا بالقول الدال على أنه دليل. مثال ذلك: قوله عليه السلام: "امشوا أمام الجنازة" (¬3) رواه أَبو هريرة رضي الله عنه, وقال ابن عباس عنه: يمشي وراء الجنازة مع الصحابة (¬4). ¬
قوله: (فإِن عارض الفعل الفعل، بأن يقر شخصًا على فعل، وفعل هو عليه السلام ضده، فيعلم خروجه عنه، أو يفعل عليه السلام ضده في وقت يعلم لزوم مثله له فيه، فيكون نسخًا للأول). ش: هذا هو الجزء الثاني، وهو التعارض بين الفعلين (¬1)؛ فإن ما تقدم كله فإنما هو في حكم التعارض بين القول والفعل، وهذا الكلام إنما هو في حكم التعارض بين الفعلين. قال الغزالي: لا يمكن التعارض بين الفعلين (¬2)، وذلك أن نقول: إما أن يمكن اجتماعهما، فإن أمكن اجتماعهما كالصلاة والصوم فلا تعارض، وإن لم يمكن اجتماعهما، إما أن يتماثلا، أو يتضادا؛ فإن تماثلا كظهر اليوم وظهر الغد فلا تعارض أيضًا، وإن تضادا كما إذا صام في وقت معين وأكل في مثل ذلك الوقت فلا تعارض أيضًا، لجواز أن يكون الفعل واجبًا في أحد الوقتين وجائزًا (¬3) في الوقت الآخر (¬4)، فإذا انتفت المعارضة فلا نسخ ولا تخصيص إلا في مسألتين (¬5): ¬
إحداهما: أن يقر عليه السلام شخصًا على فعل ثم فعل عليه السلام ضد ذلك الفعل؛ فإنه يعلم خروج ذلك الشخص المقر من حكم ذلك الفعل، فيكون إقرار ذلك الشخص على ذلك الفعل نسخًا لحكم الفعل في حق ذلك الشخص، أو يكون تخصيصًا له من حكم ذلك الفعل. مثال ذلك: إقراره عليه السلام عبد الرحمن بن عوف على لباس الحرير (¬1)، وهو عليه السلام يترك لباسه (¬2). وإلى هذه المسألة أشار المؤلف بقوله: بأن يقر شخصًا على فِعْلٍ فَعَلَ هو عليه السلام ضده فيعلم خروجه عنه. المسألة الثانية: أن يفعل عليه السلام فعلاً ويدل الدليل على أنه يجب عليه تكرر ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت، ثم فعل عليه السلام ضد ذلك الفعل في مثل ذلك الوقت، فيكون الفعل الثاني ناسخًا لحكم الفعل الأول. مثال ذلك: أنه عليه السلام رئي يشرب جالسًا ثم رئي بعد ذلك يشرب قائمًا، فالقيام ضد الجلوس. ... ¬
الفصل الثالث في تأسيه عليه السلام
الفصل الثالث في تأسيه عليه السلام ش: التأسي هو الاتباع (¬1)، أي: في اتباعه عليه السلام لشرع من قبله من الأنبياء عليهم السلام. الفرق بين هذا الفصل والذي قبله: أن التأسي فيما تقدم أضيف إلى المفعول، وها هنا في هذا الفصل أضيف إلى الفاعل، تقدير الفصل المتقدم: الفصل الثاني: في اتباع الأمة للنبي عليه السلام، وتقدير هذا الفصل الثالث: أي الفصل الثالث: في اتباع النبي عليه السلام لشرع من قبله من الأنبياء عليهم [السلام] (¬2). قوله: (مذهب مالك وأصحابه أنه لم يكن متعبدًا بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل: كان متعبدًا). ش: يقال: تعبد، إذا تلبس بالعبادة (¬3)، فهو متعبد بكسر الباء اسم ¬
الفاعل، ويقال: تعبده الله بكذا، إذا كلفه عبادته فهو متعبد بفتح الباء اسم مفعول. قال المؤلف في الشرح (¬1): المختار أن نقول: متعبد، بكسر الباء فيما قبل النبوة. ونقول: متعبد، بفتح الباء فيما بعد النبوة، قال: وهو الصواب، وهو الذي يظهر لي. قال: والدليل على ذلك أنه عليه السلام قبل النبوة كان ينظر إلى ما عليه الناس فيجدهم على حالة لا تليق لصانع العالم فكان يخرج إلى غار حراء يتحنث فيه أي: يتعبد ويقترح أشياء من ذاته لقربها من المناسب في اعتقاده، ويخشى ألا تكون مناسبة لصانع العالم، فكان من ذلك في أمر عظيم وكرب شديد، حتى بعثه الله سبحانه، وعلمه جميع طرق الهداية، وأوضح له جميع مسالك الضلالة، فزال عنه ذلك الثقل الذي كان يجده، وهو المراد بقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} (¬2) على أحد التأويلات (¬3) أي: ووضعنا عنك الثقل الذي كنت تجده من أمر العبادة والتقرب. وهذا يقتضي أن نقول: متعبد بكسر الباء؛ لأنه عليه السلام يقترح أشياء من ذاته لاعتقاده مناسبتها لجانب الربوبية، وذلك يقتضي أنه لم يكلف ¬
بها. وأما إن قلنا: إنه متعبد بفتح الباء فيقتضي أنه تعبده الله تعالى بشريعة سابقة أي: كلفه بها، وإنما يستقيم ذلك بعد النبوة؛ فإن الله تعالى تعبده بشريعة من قبله بعد النبوة، على الخلاف في ذلك (¬1). قوله: (مذهب مالك وأصحابه / 239/ أنه لم يكن متعبدًا بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل: كان متعبدًا). ذكر المؤلف في هذا الفصل مسألتين: الأولى: فيما قبل نبوته عليه السلام، والثانية: فيما بعد نبوته عليه السلام، فذكر فيما قبل النبوة (¬2) قولين، وفيه قول ثالث بالوقف (¬3)؛ ففيه إذًا ثلاثة أقوال. ¬
والقائلون بالتعبد اختلفوا في الشريعة التي تعبدها: فقيل: بجميع الشرائع، وقيل: بشريعة آدم، وقيل: بشريعة إبراهيم، وقيل: بشريعة نوح، وقيل: بشريعة موسى، وقيل: بشريعة عيسى. وهي ستة أقوال (¬1). حجة القول المشهور الذي عليه مالك وأصحابه رضي الله عنهم بعدم التعبد هي: قوله: (لنا أنه لو كان كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة وليس فليس (¬2)). معناه: لو قلنا: إنه عليه السلام متعبد بشريعة من قبله، لافتخر أهل تلك الشريعة به بعد بعثه، لعلو شأنه بنسبته إلى شريعتهم، مع أنه لم ينقل شيء من ذلك. قوله: (وليس فليس). ¬
استعمل المؤلف ها هنا نوعًا من علم البديع وهو الترديد، وهو من الفصاحة اللفظية. وهو أن تعلق الكلمة في المصراع - أو مثله من النثر - بمعنى ثم تعلقها فيه بمعنى آخر (¬1)، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} (¬2)، وقد يجتمع في مصراع واحد ترديدان كقوله: ليس بما ليس به باس باس ... ولا يضر المرء ما قال الناس (¬3) وحجة ثانية أيضًا: أن الشرائع المتقدمة قد اندرست ولم يبق منها ما يتمسك به أهلها فضلاً عن غيرهم (¬4). وحجة ثالثة أيضًا: أنه لو كان متعبدًا بشريعة من قبلنا لكان يراجع علماء تلك الشريعة ويسألهم؛ إذ لم يقع ذلك، ولو وقع لاشتهر، ولو اشتهر لنقل إلينا (¬5). ¬
وحجة رابعة أيضًا: ما تقدم لنا من أنه يقترح من ذاته أشياء يعتقد مناسبتها، ويخشى ألا تكون مناسبة، فلو كان متعبدًا بشرع من قبلنا (¬1) لما احتاج إلى ذلك (¬2). وأما القائلون بالتعبد فحجتهم من وجهين: أحدهما: أن شريعة من قبله عامة للأشخاص والأزمان، فوجب دخوله عليه السلام فيها ما لم يرد ناسخ، ولا ناسخ قبل نبوته، فوجب اندراجه فيها (¬3). والوجه الثاني: أنه عليه السلام كان يأكل اللحم والفواكه، ويركب الدواب، ويطوف بالبيت، ويصل الرحم، ويتقي الفواحش ولا بد من ذلك من مستند، ولا مستند [إلا] (¬4) الشرائع المتقدمة على مذهب أهل السنة القائلين بأن العقل لا يفيد الأحكام الشرعية، وإنما الذي يفيدها هو الشرائع (¬5). أجيب عن الأول، الذي هو قولهم: شريعة من قبله عامة فيدخل فيها، بأن ذلك دعوى لا برهان لها؛ إذ لا نسلم عمومها، وأيضًا سلمنا عمومها، ¬
فإن تلك الشرائع قد بدلت وغيرت، فلم يبق منها ما يوثق به، فانحسمت أبواب التوصل إليها، فكيف يكلف بها والله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها (¬1). وأجيب عن الوجه الثاني: الذي هو كونه عليه السلام يأكل اللحم والفواكه، ويركب الدواب، ويطوف بالبيت وشبه ذلك، بأن مستنده في ذلك البراءة الأصلية، وذلك كاف في مباشرة هذه الأفعال (¬2). وأما طوافه بالبيت فلا حجة فيه؛ لأن العرب مازالوا يطوفون بالبيت ويتبركون (¬3) به ويعظمونه ولم يقتدوا في ذلك بشريعة، وإنما توارث ذلك أصاغرهم عن أكابرهم (¬4). وأما صلة الرحم وتوقي الفواحش، فذلك مما جبلت عليه الطبائع الشريفة (¬5). وها هنا تنبيهان: الأول: قال المؤلف في الشرح: هذا الخلاف مخصوص بالفروع، وأما الأصول فلا خلاف في التكليف بها. والدليل: أن أموات الكفار في الجاهلية يعذبون على تركها، ولولا ¬
التكليف بها لما عذبوا بتركها، وإنما الخلاف في الفروع خاصة، فإطلاق العلماء ها هنا مخصوص بالإجماع (¬1). التنبيه الثاني: قال المازري، والأبياري (¬2) في شرح البرهان (¬3)، والإمام فخر الدين (¬4)، وإمام الحرمين (¬5)، والتبريزي (¬6): هذه المسألة لا تظهر ثمرة لا في الأصول ولا في الفروع البتة، بل تجري مجرى التواريخ (¬7) المنقولة، ولا يترتب عليها حكم في الشريعة البتة (¬8). ¬
قوله: (وأما بعد ثبوته فمذهب مالك رحمه الله تعالى وجمهور أصحابه. وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة (¬1) أنه متعبد بشرع من قبله، وكذلك أمته إِلا ما خصه الدليل، ومنع من ذلك (¬2) القاضي أَبو بكر [وغيره] (¬3) (¬4). لنا قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى (¬5) اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬6) وهو عام، لأنه اسم جنس أضيف). ش: هذه هي المسألة الثانية (¬7)، وهذه المسألة هي التي يقول فيها الفقهاء: شرع من قبلنا هل هو مشروع لنا أم لا (¬8)؟ ¬
ذكر المؤلف فيها قولين: قول بالتعبد (¬1)، وقول بعدم التعبد (¬2)، وفيها قول ثالث بالوقف (¬3). فهي ثلاثة أقوال كالأقوال الثلاثة المتقدمة فيما قبل النبوة. واعلم أن شرائع من قبلنا على ثلاثة أقسام (¬4): قسم لا نكلف به باتفاق. وقسم نكلف به باتفاق. وقسم مختلف فيه. فالقسم الذي لا نكلف به باتفاق، هو ما لا يعلم إلا بقولهم ومن جهة كتبهم المبدلة، فلا نكلف به لعدم صحته. ¬
والقسم الذي نكلف به باتفاق، هو ما علم بشرعنا وأمرنا به، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ...} (¬1) الآية، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2). والقسم المختلف فيه ما علم بشرعنا أنه مشروع لهم، ولم نؤمر به، فهذا القسم الثالث هو محل الخلاف: هل تعبدنا به، أم لا، أو الوقف؟ وهذا الخلاف أيضًا / 240/ فيما عدا الأصول وهي عقائد التوحيد والقواعد الكلية كما تقدم فيما قبل النبوة، فالخلاف إذًا إنما هو مخصوص بالفروع. وهذا القسم المختلف فيه مثاله: قوله تعالى حكاية عن منادي يوسف عليه السلام: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬3) والزعيم: هو الضامن (¬4). هل يستدل بهذه الآية على وجوب الضمانة (¬5) أم لا؟ ¬
وكذلك قوله تعالى حكاية عن شعيب (¬1) وموسى عليهما السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ...} (¬2) الآية. هل يستدل بهذه الآية على جواز الإجارة أم لا؟ مذهب مالك وجمهور العلماء (¬3) أن النبي عليه السلام متعبد بشرع من قبلنا وكذلك أمته، معناه: أن شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصه الدليل، كالجمع بين الأختين وتزويج الأخت (¬4)، واسترقاق السارق كما في قوله تعالى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ¬
فَهُوَ جَزَاؤُهُ} (¬1) معناه: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، وقوله: فهو جزاؤه تكرار لتأكيد البيان، وقيل: تقديره: من وجد في رحله فاسترقاقه جزاؤه، فالخبر للمبتدأ على التقدير الأول مفرد، والخبر على التقدير الثاني جملة، مبتدأ (¬2) وخبر (¬3). واختلف أصحاب هذا القول بالتعبد: هل بجميع الشرائع؟ أو بشريعة آدم؛ لأنها أول الشرائع (¬4)، أو بشريعة نوح (¬5)، أو بشريعة إبراهيم (¬6)، أو بشريعة موسى (¬7)، أو بشريعة عيسى (¬8)، كما تقدم فيما قبل النبوة (¬9). حجة القول بالتعبد كما قال المؤلف: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬10)؛ لأن قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} اسم جنس أضيف، وهو عام للأقوال والأفعال والاعتقادات (¬11)، وكذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ...} إلى قوله: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬12)، ¬
وهذا عام في جميع ما وصى به كل واحد منهم (¬1)، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ (¬2) الَّذِينَ أَسْلَمُوا} (¬3) ونبينا عليه السلام من جملتهم (¬4)، وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (¬5) (¬6)، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (¬7) (¬8)، وكذلك قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬9) (¬10)، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ (¬11) مِنْ بَعْدِهِ} (¬12) (¬13). وأجيب عن هذا الاستدلال بهذه الآيات كلها: بأنه يحتمل أن يكون ¬
المراد الاتباع في الأصول، والقواعد الكلية، دون الفروع (¬1). وحجة القول بعدم التعبد أوجه: أحدها: قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2) (¬3). الوجه الثاني: أنه لو كان متعبدًا بشرع من قبله لوجب عليه مراجعة علماء تلك الشريعة ولا يتوقف إلى نزول الوحي عليه؛ إذ لو فعل ذلك لاشتهر، ولو اشتهر لنقل إلينا (¬4). الوجه الثالث: أنه لو تعبدنا بشرع من قبلنا لوجب على علمائنا مراجعة علماء تلك الشرائع، وليس فليس (¬5). الوجه الرابع: قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل (¬6) رضي الله عنه: "بم ¬
تحكم يا معاذ؟ "، فقال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فقال النبي عليه السلام: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله" (¬1)، فدل ذلك على عدم اعتبار الشرائع المتقدمة (¬2). الوجه الخامس: اتفاق العلماء على إضافة جميع الأحكام إلى شريعته عليه السلام دون الشرائع المتقدمة، ولو تعبدنا بالشرائع المتقدمة لأضيف ذلك إليها لا إلى شرعنا (¬3). ¬
وأجيب عن قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬1) بأن المراد بالشريعة والمنهاج هو القرآن؛ لأنه يخاطب به جميع الناس، ولم يرد بذلك الكتب المتقدمة قبله. وأجيب عن عدم مراجعته عليه السلام وعن مراجعة علمائنا إلى (¬2) تلك الشرائع: لعدم التوثق بهم (¬3). وأجيب عن حديث معاذ: بأنه خبر آحاد، وأيضًا كتابنا وكتبهم جميع ذلك هو كتاب الله؛ فإن كتابنا يدل على الكتب المتقدمة (¬4). وأجيب عن إضافة الأحكام إلى شريعته عليه السلام دون سائر الشرائع المتقدمة: لكونه أحياها وبينها، لا لكونه غير مخاطب بها (¬5)، وبالله التوفيق بمنه. ... ¬
الباب الرابع عشر في النسخ
الباب الرابع عشر في النسخ وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: في حقيقته. الفصل الثاني: في حكمه. الفصل الثالث: في الناسخ والمنسوخ. الفصل الرابع: فيما يتوهم أنه ناسخ. الفصل الخامس: فيما يعرف به النسخ.
[الفصل الأول: في حقيقته]
الباب الرابع عشر في النسخ وفيه خمسة فصول: ش: النسخ في اللغة يطلق على معنيين: أحدهما: الإزالة (¬1)، والثاني: النقل (¬2). فمن الإزالة (1): قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ...} (¬3)، أي: يزيله (¬4)، ومنه قوله: نسخت الشمس الظل، .................. ¬
أي: أزالته (¬1)، وقولهم: نسخت الريح الأثر، أي: أزالته (¬2)، وقولهم: نسخ الشيب الشباب (¬3). ومثال المعنى الذي هو النقل: [قوله] (¬4) تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5) أي: ننقل (¬6)، ومنه قولهم: نسخت النحل ونسخت العسل، إذا نقلتهما من خلية إلى خلية (¬7)، ومنه قولهم: تناسخ المواريث، وهو نقل الحق من وارث إلى وارث (¬8)، ومن معنى النقل قولهم: نسخت الكتاب (¬9)، ولكن إطلاق النسخ على هذا مجاز، وهو مجاز التشبيه؛ لأن حقيقة النقل نقل الشيء من مكان إلى مكان ومن حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه، كقولك: نقلت الحجر من مكان إلى مكان، وأما نسخ الكتاب فليس فيه نقل، وإنما هو شبيه بالنقل؛ لأن تحصيل مثل ما في أحد الكتابين/ 241/ في الآخر يجري ¬
مجرى نقله، وأما عين الشيء الذي في الكتاب المنسوخ منه فلم ينقل حقيقة (¬1). وهذان المعنيان المذكوران اللذان هما: الإزالة والنقل، اختلف الأصوليون في إطلاق النسخ عليهما؛ هل هو على سبيل الاشتراك فهو لفظ مشترك بينهما؟ قاله القاضي أَبو بكر والغزالي (¬2)؛ إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة. وقيل: هو حقيقة في الإزالة، مجاز في النقل، قاله أَبو الحسين البصري (¬3) وغيره (¬4)؛ لأن إطلاق النسخ على النقل في قولهم: نسخت الكتاب مجاز؛ لأنه لم ينتقل حقيقة، فيتعين كونه حقيقة في الإزالة (¬5). وقيل: حقيقته (¬6) في النقل مجاز في الإزالة، قاله بعض الشافعية (¬7)؛ لأنه حقيقة في تناسخ المواريث، ونسخ النحل من خلية إلى خلية أخرى؛ لأن ذلك ¬
نقل حقيقة، فيكون مجازًا في الإزالة. ولكن هذان القولان المتعاكسان فيهما نظر؛ لأن كل واحد منهما معارض بمثله، والظاهر القول الأول بالاشتراك، والله أعلم؛ إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون حقيقة فيهما، وهذا الخلاف لفظي لا حظ للمعنى فيه (¬1). وها هنا ثلاثة ألفاظ وهي: النسخ، والمسخ، والسلخ. لأنه يقال: نسخت الكتاب وسلخته ومسخته، فالنسخ معناه: نقل اللفظ والمعنى، والسلخ معناه: نقل المعنى دون اللفظ، والمسخ معناه: إفساد اللفظ والمعنى (¬2). وقد كتب بعض العلماء إلى صديق له يعرفه بناسخ فقال: أعرفك بصفته: إن نسخ مسخ، وإن لفظ غلط، وإن شَكَّل أشكل، ولقد أمليته زيدًا فسمع عمرًا، وكتب خالدًا فقرأ عبد الله (¬3). قوله: (الفصل الأول: في حقيقته (¬4). ¬
قال القاضي (¬1) منا والغزالي (¬2) (¬3): هو خطاب دال على ارتفاع حكم ثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتًا مع تراخيه عنه) (¬4). ش: وفي بعض النسخ: والغزالي من الشافعية (¬5)، ولا شك أن الغزالي من الشافعية. قوله: (خطاب)، جنس يشمل اللفظ والفحوى والمفهوم والفعل والإقرار؛ لأن النسخ يقع بالجميع (¬6). ¬
قوله: (دال على ارتفاع حكم) الحكم أعم من الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة؛ لأن النسخ يقع في جميعها (¬1). قوله: (ثابت بخطاب متقدم) احترازًا من حكم ثابت بعقل؛ لأن العقل ليس بخطاب؛ لأن العقل يقتضي براءة الذمة قبل ورود الشرع، فابتداء إيجاب العبادة في الشرع مزيل لحكم العقل الذي هو براءة الذمة، ولا يسمى ذلك نسخًا (¬2). قوله: (على وجه لولاه لكان ثابتًا) أي: لولا الخطاب الناسخ لكان حكم الخطاب المتقدم ثابتًا؛ أي مستمرًا. واحترز بذلك من الحكم المؤقت، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬3) فيقول الله تعالى مثلاً: فإذا دخل الليل فكلوا واشربوا، فإن هذا لا يكون نسخًا لحكم الأول لفوات شرط النسخ وهو استمرار الحكم الأول عند عدم الثاني الذي هو الناسخ، فإن الحكم المؤقت بغاية لا يستمر إذا انتهى إلى غايته (¬4). قوله: (مع تراخيه عنه) أي: مع تأخير الخطاب الثاني الذي هو الناسخ عن الخطاب الأول الذي هو المنسوخ. واحترز بذلك من الخطاب المتصل بالخطاب الأول كالاستثناء والشرط ¬
والصفة والغاية، فلا يسمى ذلك نسخًا لفوات شرط النسخ وهو التراخي بين الناسخ والمنسوخ؛ فإن ذلك يسمى بيانًا ولا يسمى نسخًا (¬1). قوله: (خطاب دال على ارتفاع حكم ...) إلى آخر الحد معترض من أوجه: أحدها: أن الخطاب طريق معرف للنسخ وليس هو نفس النسخ؛ لأن النسخ هو الارتفاع، فالخطاب معَرِّف والنسخ معَرَّف، والفاعل خلاف المفعول فلا يتناول الحد المحدود أصلاً (¬2). الثاني: أنه غير جامع، لخروج الفعل والإقرار من المحدود؛ لأن فعله عليه السلام وإقراره ليس بخطاب مع أن النسخ يقع بذلك كما تقدم لنا في الباب قبل هذا، في قوله: "تفريع: إذا وجب الاتباع وعارض فعله قوله، فإن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل القول، كان القول خاصًا به أو بأمته أو عمهما (¬3) " (¬4). الثالث: أنه غير جامع لخروج الفعل والإقرار منه أيضًا بالنسبة إلى المنسوخ؛ لأنه يقع النسخ في الفعل والإقرار كما يقع بهما؛ لأن قول المؤلف: ¬
(بخطاب متقدم)، يقتضي أن الفعل والإقرار لا ينسخان؛ إذ ليسا بخطاب (¬1)، فوقع الاعتراض بالفعل والإقرار من وجهين: وجه من جهة الخطاب الناسخ، ووجه من جهة الخطاب المنسوخ. الرابع: أن رفع الحكم لا يصح؛ لأنه إما أن يريد به كلام الله القديم، أو يريد أفعال المكلفين، ولا يصح الرفع في كليهما. أما رفع القديم فمحال ظاهر، وأما أفعال المكلفين، فإما أن يقع الفعل أم لا، فإن وقع الفعل فلا يصح رفعه/ 242/ لأن رفع الواقع محال، وإن لم يقع فرفع ما لم يقع محال أيضًا، فاستحال الرفع على كل حال (¬2). الخامس: أن قوله: (لولاه لكان ثابتًا)، حشو مستغنى عنه، فإن الحكم المغيا بوقت يرتفع بانتهائه إلى وقته، فلا يدل الخطاب الثاني على ارتفاع حكم الخطاب الأول، بل يرتفع بانتهائه إلى وقته؛ لأن ارتفاعه يتوقف على ثبوته لاستحالة ارتفاع المرتفع (¬3). السادس: أن قوله: (مع تراخيه عنه) حشو أيضًا؛ لأن الخطاب المتصل ليس رافعًا لحكم الخطاب الأول، بل هو مبين لكون الخطاب المتقدم لم يرد به الحكم في المستثنى، وفيما خرج عن الشرط، والغاية، والصفة (¬4). أجيب عن الأول الذي هو قولنا: الخطاب مُعَرِّف للنسخ لا نفس النسخ: ¬
بأن الناسخ في الحقيقة هو الله، ولذلك أضاف النسخ إلى نفسه في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬1)، فالنسخ هو فعل الناسخ، وفعله هو هذه المدارك وجعلها ناسخًا، فالمصدر في التحقيق هو هذه المدارك، فاندفع السؤال (¬2). وأجيب عن الثاني - الذي هو خروج الفعل والإقرار من الحد لكونهما غير خطاب - بأن فعله عليه السلام وإقراره يدل على ورود خطاب الله تعالى الدال على ارتفاع الحكم أو على ثبوت الحكم؛ إذ ليس للرسول عليه السلام رفع الحكم ولا إثباته من تلقاء نفسه؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى أحكامه للعباد، فيندرج فعله عليه السلام وإقراره في الخطاب، وهذا الجواب أيضًا هو جواب عن الثالث (¬3). وأجيب عن الرابع الذي هو قولنا: رفع الحكم الشرعي محال: بأن المراد بالحكم الشرعي ها هنا ما يجعل المكلف بعد أن لم يكن، وهو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وهو تعلق تنجيز التكليف، وهو كون المخاطب مكلفًا بالإتيان بالمكلف به عند تعلق الخطاب به، وليس المراد بالحكم الشرعي ها هنا الحكم القديم الأزلي (¬4). وأجيب عن الخامس الذي هو قولنا: لولاه لكان ثابتًا حشو: بأنه أتى به ¬
رفعًا للبيان إلى أقصى غايته. وهكذا الجواب عن السادس الذي [هو] (¬1) قولنا: قوله: مع تراخيه عنه حشو. قوله: (قال (¬2) الإِمام فخر الدين: الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الثابت بطريق لا يوجد بعده متراخيًا عنه بحيث لولاه لكان ثابتًا (¬3)، فالطريق يشمل (¬4) سائر المدارك الخطاب وغيره، وقوله (¬5): مثل الحكم؛ لأن الثابت قبل النسخ غير المعدوم بعده، وقوله: متراخيًا (¬6) لئلا يتهافت الخطاب، وقوله: [لولاه] (¬7) لكان ثابتًا احترازًا من المغيات نحو: الخطاب بالإِفطار بعد غروب الشمس، فإِنه ليس ناسخًا (¬8) [لوجوب] (¬9) الصوم (¬10)). ش: لما نظر الإمام إلى الإشكالات الواردة على حد القاضي عدل إلى هذا الحد فقال: طريق شرعي، فالطريق يندرج فيه الخطاب والفعل والإقرار، فالطريق أعم من الخطاب (¬11) وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: "فالطريق يشمل ¬
سائر المدارك: الخطاب وغيره". وقوله: (يدل) يعني دلالة الالتزام، ولا تصح ها هنا دلالة المطابقة ولا دلالة التضمن؛ لأن المنسوخ ليس جملة الناسخ ولا جزأه. قوله: (على أن مثل الحكم الثابت بطريق) أي: بطريق شرعي، وإنما حذف صفة الطريق ها هنا لدلالة الأول عليه، وإنما قال: "مثل الحكم" ولم يقل: يدل على أن الحكم الثابت، بناء على أن الحكم الأول لا يرتفع، وإنما الذي يرتفع بالنسخ هو مثله لا نفسه؛ لأنه لو لم يرد النسخ لتجدد مثل الحكم الأول، فورود النسخ يمنع تجدد مثل الحكم الأول، وهذا على طريقة المعتزلة القائلين بأن الحكم الشرعي قول، والأقوال عندهم لا تبقى زمانين فلا بد من تجددها. قوله: (الثابت) أي: الثابت قبل النسخ. قوله: (لا يوجد بعده) أي: لا يوجد بعد النسخ، أي: لا يوجد مثل الحكم الأول بعد النسخ بل يعدم مثله بعد النسخ، وهذا بناء على أن النسخ ليس فيه رفع الحكم المتقدم، وإنما هو بيان انتهاء مدة الحكم المتقدم. قوله: (متراخيًا عنه) قال فخر الدين وتاج الدين (¬1): أخرجنا بهذا القيد ¬
الأشياء المتصلة من الشرط والاستثناء والغاية؛ لأنها غير متراخية (¬1). قوله: (لئلا يتهافت الخطاب) التهافت لغة: هو التساقط، قال المؤلف في الشرح: قولي: مع تراخيه عنه؛ لأنه لو قال الشارع: افعلوا، لا تفعلوا، لتهافت الخطاب وأسقط الثاني الأول، وكذلك لو قال عند الأول: هو منسوخ عنكم بعد سنة، لكان هذا الوجوب مغيًا بتلك الغاية من السنة فلا يتحقق النسخ بل ينتهي بوصوله إلى غايته، وحينئذ يتعين أن يكون الناسخ مسكوتًا عنه في ابتداء الحكم. انتهى نصه (¬2). قوله: (بحيث لولاه لكان ثابتًا) أي: على وجه لولا الناسخ لكان مثل الحكم ثابتًا أي مستمرًا. قوله: (احترازًا من المغيات) كأن يقول الله تعالى مثلاً: صوموا إلى الليل، ثم يقول بعد ذلك: إذا دخل الليل فكلوا واشربوا. فإن الحكم إذا جعل له غاية فلا يكون ثابتًا إذا وصل غايته، ومن شرط النسخ أن يكون الحكم الأول قابلاً للثبوت والدوام، والمغيا لا يقبل الثبوت والدوام بعد وصوله غايته (¬3). قوله: (الناسخ طريق شرعي ...) إلى آخر الحد. ¬
معترض/ 243/ من أوجه: أحدها: أن الطريق ناسخ لا نسخ، والمصدر غير الفاعل، فالحد لا يصدق على المحدود (¬1). الثاني: أن قوله: "يدل على أن مثل الحكم الثابت"، يقتضي خروج ما أمر به مرة واحدة في العمر ثم نسخ، كذبح إسحاق عليه السلام (¬2) فإنه شيء واحد والشيء الواحد لا مثل له، فيكون الحد غير جامع (¬3). الثالث: أن الحكم الشرعي كلام الله القديم، والمثلية في حق القديم محال، وإنما تصح المثلية في الأعراض الممكنة التي يستحيل البقاء عليها زمانين (¬4) (¬5). الرابع: أن قوله: "متراخيًا عنه"، مناقض لقوله في الباب الذي قبل هذا: وإن تعقب الفعل القول من غير تراخ، وعم القول له ولأمته، خصصه عن ¬
عموم القول، وإن اختص بالأمة ترجح القول على الفعل، وإن اختص به جاز إن جوزنا نسخ الشيء قبل وقته وإلا فلا (¬1). انتهى نصه. فذكر هنالك أن الفعل إذا تعقب القول من غير تراخ وكان القول خاصًا بالنبي عليه السلام فإنه يكون نسخًا، فإن كان التراخي شرطًا في النسخ فلا يصح كلامه في تعارض القول والفعل، وإن لم يكن التراخي شرطًا فلا يصح حده في النسخ، فأحد الأمرين لازم. الخامس: قوله: "لولاه لكان ثابتًا" إنما يحسن على القول بأن النسخ رفع لا أنه انتهاء (¬2). أجيب عن الأول: الذي هو قولنا: أن الطريق ناسخ لا نسخ والمصدر خلاف الفاعل: بأن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى والنسخ هو فعله، وفعله هو هذا الطريق الذي جعله ناسخًا، فالمصدر في التحقيق هو هذا الطريق الذي جعله ناسخًا (¬3). أجيب عن الثاني: الذي هو قولنا: قوله: "يدل على أن مثل الحكم الثابت"، يقتضي خروج ما أمر به مرة واحدة كنسخ ذبح إسحاق؛ لأنه شيء واحد، والشيء الواحد لا مثل له مع تحقق النسخ، أجيب عنه: بأن المقصود التعدد في الزمان لا في الفعل المأمور به (¬4)؛ لأن زمان الذبح متسع من حين ¬
الأمر به إلى حين الفداء (¬1). أجيب عن الثالث: الذي هو قولنا: الحكم الشرعي قديم ولا تصح المثلية في القديم: بأن المراد بالحكم الشرعي ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، وهو تنجيز التكليف وهو كونه مخاطبًا بالإتيان بالمكلف به كما تقدم في حد القاضي (¬2). أجيب عن الرابع: الذي هو قولنا: قوله: (متراخيًا عنه) مناقض لما تقدم في تعارض الفعل والقول (¬3): بأن ما تقدم جار على أحد القولين بدليل: جاز إن جوزنا نسخ الشيء قبل وقته وإلا فلا، وما ذكر ها هنا جار على القول الآخر. أجيب عن الخامس: الذي هو قولنا: قوله: (لولاه لكان ثابتًا)، إنما يحسن على القول بأن النسخ رفع لا على أنه انتهاء. أجيب: بأن ذلك على أحد القولين، ولا يعارض قول بقول. والمختار في تحديد النسخ عند المحققين ما قاله ابن الحاجب في الأصول وهو: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر (¬4). ومراده بالحكم الشرعي: ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن، وليس المراد به الحكم القديم. قوله: (وقال القاضي (¬5) منا، والغزالي: الحكم المتأخر يزيل ¬
[الحكم] (¬1) المتقدم، وقال الإِمام والأستاذ وجماعة: هو بيان انتهاء (¬2) مدة الحكم، وهو (¬3) [الذي يتجه] (¬4)؛ لأنه لو كان دائمًا في نفس الأمر لعلمه الله دائمًا، فكان يستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب العلم [جهلاً] (¬5)، وكذلك الكلام القديم الذي [هو] (¬6) خبر عنه) (¬7). ش: لما ذكر المؤلف حد النسخ فذكر في ذلك حدين: أحدهما للقاضي، والآخر للإمام، فذكر أن معنى النسخ عند القاضي: هو رفع الحكم المتقدم (¬8)، وأن معناه عند الإمام: هو انتهاء الحكم المتقدم (¬9)، ولا خلاف بين الفريقين في ¬
أن الخطاب يقتضي الدوام في اعتقادنا، وإنما الخلاف بينهما: هل يقتضي الدوام في نفس الأمر؟ قاله القاضي، أو لا يقتضيه؟ قاله الإمام. قال القاضي: النسخ بمنزلة الفسخ، فكما أن الإجارة إلى شهر مثلاً يمكن فسخها في أثناء الشهر؛ لأن شأنها أن تدوم إلى تمام الشهر، فكذلك النسخ لا يكون إلا فيما شأنه أن يدوم (¬1)، وأما بعد الشهر فلا يمكن الفسخ لعدم الدوام، فيقتضي الخطاب عنده الدوام إلا أن يبطله الناسخ. وقال الإمام والجماعة (¬2): لا يقتضي الخطاب الدوام في نفس الأمر، وإنما يقتضي الحكم إلى الغاية التي بيّنها النسخ. حجة القاضي: أن معنى النسخ لغة هو: الإزالة والرفع، فوجب أن يكون عرفًا كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير (¬3). وحجة الإمام ما قاله المؤلف وهو قوله: (لو كان دائمًا في نفس الأمر لعلمه الله دائمًا ...) إلى آخره، وتقدير (¬4) هذا الدليل: لو كان الحكم المتقدم يقتضي دوامه في نفس الأمر إلى أن رفعه الناسخ، لَعلمه الله تعالى دائمًا فيما ¬
علمه الله تعالى دائمًا، فيستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب علم الله جهلاً، فذلك محال وما يؤدي إلى المحال فهو محال (¬1) فيتبين بهذا الدليل أن الحكم المتقدم لا يقتضي الدوام في نفس الأمر، فإذا كان لا يقتضي الدوام في نفس الأمر فلا يصح رفعه بالنسخ وهو المطلوب. قالوا: يلزم القاضي القائل برفع الحكم المحال في ثلاث صفات: وهي العلم، والخبر، والإرادة (¬2). أما العلم: فلأن الله تعالى علم الأشياء على ما هي عليه، فلو كان الحكم دائمًا في نفس الأمر لعلمه الله دائمًا، ولو علمه الله لاستحال نسخه؛ لأن خلاف معلومه محال (¬3). وأما الخبر: فلأن الله تعالى لو شرعه دائمًا لعلمه دائمًا، ولو علمه دائمًا لأخبر عن دوامه، ولو أخبر عن دوامه لوجب دوامه/ 244/ ولو وجب دوامه لاستحال نسخه؛ لأن خلاف خبره محال (¬4)، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: وكذلك الكلام القديم الذي [هو] (¬5) خبر عنه، معناه: وكذلك يستحيل نسخ الكلام القديم الذي هو خبر عن الحكم؛ لأن ذلك يؤدي إلى التناقض. ¬
وأما الإرادة: فلأن [الله] (¬1) تعالى لو شرعه دائمًا لأراد دوامه، ولو أراد دوامه لوجب دوامه، ولو وجب دوامه لاستحال نسخه؛ لأن خلاف مراده محال (¬2). فلو صح رفع الحكم بالنسخ كما قال القاضي للزم مخالفة هذه الصفات الثلاث، فتعين بذلك أن الحكم كان دائمًا في اعتقادنا لا في نفس الأمر، فالناسخ مزيل للدوام من اعتقادنا لا من نفس الأمر (¬3)، فالنسخ على هذا بمنزلة تخصيص العام، ولهذا قالوا: النسخ تخصيص في الأزمان (¬4). قال بعضهم: هذا الخلاف بين القاضي والإمام، إنما هو اختلاف حال وليس باختلاف مقال، فقول القاضي: النسخ هو: الحكم المتأخر يزيل المتقدم، إنما هو بالنسبة إلى اعتقادنا، وقول الإمام والجماعة: هو بيان انتهاء مدة الحكم، إنما هو بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، فعلى هذا فلا خلاف بين الفريقين (¬5). ... ¬
الفصل الثاني في حكمه
الفصل الثاني في حكمه ش: أي: في حكم النسخ باعتبار الجواز والوقوع. أي: هل هو جائز أم لا؟ وهل هو واقع أم لا؟ ذكر المؤلف في هذا الفصل ثماني مسائل. قوله: (وهو واقع (¬1)، وأنكره بعض اليهود عقلاً وبعضهم سمعًا، وبعض المسلمين مؤولاً لما وقع من ذلك بالتخصيص. لنا: ما اتفقت عليه الأمم من أن الله تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته (¬2) غير توأمته، وقد نسخ ذلك). ش: قال سيف الدين الآمدي في الإحكام: اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلاً، وعلى وقوعه شرعًا، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى ¬
أبي مسلم الأصفهاني (¬1) من المعتزلة، فإنه جوّزه عقلاً ومنعه شرعًا، ولم يخالف في ذلك من أرباب الشرائع سوى اليهود، فإنهم افترقوا في ذلك ثلاث فرق: فذهبت الشمعنية (¬2) إلى امتناعه عقلاً وسمعًا (¬3). وذهبت العنانية (¬4) منهم إلى امتناعه سمعًا لا عقلاً. وذهبت العيسوية (¬5) إلى جوازه عقلاً ............ ¬
ووقوعه (¬1) سمعًا، واعترفوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لكن إلى العرب خاصة لا إلى الأمم كافة (¬2). قوله: (وهو واقع) يعني باتفاق المسلمين، وأما قول الأصبهاني المذكور فهو مؤول كما سيأتي. وقوله: (وأنكره بعض اليهود عقلاً) يعني: وسمعًا بأولى وأحرى وهم الشمعنية (¬3) المذكورة (¬4). قوله: (وبعضهم سمعًا) يعني: وجوزه عقلاً، وهم العنانية المذكورة (¬5). قوله: (وبعض المسلمين مؤولاً لا وقع من ذلك بالتخصيص) يعني: أن بعض المسلمين وهو أَبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة، فسر النسخ الوارد في الشريعة بالتخصيص في الأزمان (¬6)؛ وذلك أن الحكم المنسوخ عنده هو مؤقت [بغاية وأنه] (¬7) انتهى بانتهاء غايته، فعلى هذا لا خلاف في المعنى، وإنما ¬
الخلاف في التسمية؛ هل يسمى نسخًا أو يسمى تخصيصًا؟ (¬1). فحصل من كلام المؤلف رحمه الله تعالى ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا، والمنع مطلقًا، والثالث: يجوز عقلاً ولا يجوز سمعًا. فالأول للمسلمين، والآخران لليهود لعنهم الله تعالى. قوله: (لنا ما اتفقت عليه الأمم من [أن] (¬2) الله تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته (¬3) غير توأمته)، هذا دليل أهل الإسلام على جوازه عقلاً وسمعًا؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز (¬4)، وذلك أن أمنا حواء عليها السلام ولدت أربعين بطنًا في كل بطن ذكر وأنثى، فكان آدم عليه السلام يزوج لكل ذكر غير توأمته (¬5)، ثم حرم الله ذلك في زمان نوح عليه السلام. ولنا أيضًا (¬6) أن الله تعالى أباح لآدم وحواء أكل كل ما دب على وجه الأرض، ثم حرم الله تعالى في زمان نوح عليه السلام، وهذان الدليلان يستدل بهما على من أنكر النسخ من اليهود؛ لأن هذا موجود في التوراة (¬7). ¬
ولنا أيضًا: إباحة العمل في السبت ثم حرم في زمان موسى (¬1). ولنا أيضًا: أن في التوراة السارق إذا سرق في الرابعة تنقب أذنه ويباع (¬2)، ثم نسخ ذلك. ولنا أيضًا: جواز الجمع بين الحرة والأمة في شرع إبراهيم؛ لأنه جمع بين سارة الحرة وهاجر الأمة، ثم نسخ ذلك في التوراة (¬3). ¬
ولنا أيضًا: أن الله تعالى قال في التوراة لموسى عليه السلام: أخرج أنت وشعبك لترثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم (¬1) إبراهيم، فلما صاروا إلي التيه، قال الله تعالى: لا تدخلوها لأنكم عصيتموني (¬2)، فهذا أيضًا عين النسخ) (¬3). قال المؤلف في الشرح (¬4): وقد ذكرت في شرح المحصول صورًا كثيرة غير هذه (¬5)، وكذلك ذكرتها في كتاب الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة (¬6)، في الرد على اليهود والنصارى (¬7). ولنا أيضًا: قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (¬8) والتحليل بعد التحريم نسخ. ¬
وكذلك قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬1) (¬2)، وبيّن الله تعالى ذلك بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (¬3)، ومعنى ذي ظفر: ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز، وقد بين المجاصي (¬4) ذلك في أرجوزته (¬5) فقال: وجاءنا/ 245/ في وصف كل ذي ظفر ... يعني البعير والنعام والحمر وقيل كل كاسب بالظفر ... من سبع أو غيره كالطير (¬6) ثم الحوايا مبعر في البطن ... فيما حكى ذوو النهى والفطن (¬7) (¬8) وقوله: أو الحوايا: في مفرده ثلاثة أقوال ذكرها المهدوي في التحصيل (¬9). ¬
قال: قيل: حاوياء مثل قاصعاء وقواصع، وقيل: حاوية كضاربة وضوارب، وقيل: حوية، كسفينة وسفائن (¬1). ولنا أيضًا: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ...} الآية (¬2) فأمر بذبح ولده، ثم نسخ ذلك. ولنا أيضًا: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ ...} الآية (¬3)، وذلك أن الله تعالى حرم على اليهود العمل يوم السبت بعد أن كان مباحًا قبل ذلك، والتحريم بعد التحليل نسخ (¬4). ولنا أيضًا: أن العلماء أجمعوا على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السالفة (¬5). وكذلك أجمعوا أيضًا على نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة (¬6). ¬
وكذلك أجمعوا أيضًا على نسخ عدة الوفاة التي هي مقدرة بالحول الكامل بأربعة أشهر وعشر (¬1). وكذلك أجمعوا أيضًا (¬2) على نسخ الوصية الوالدين (¬3) والأقربين بآية المواريث (¬4). وكذلك أجمعوا أيضًا على نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي عليه السلام (¬5). وكذلك أجمعوا على نسخ وجوب وقوف الواحد للعشرة بوقوفه للاثنين (¬6) (¬7). ويدل على جواز النسخ أيضًا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ ¬
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬1) (¬2)، قوله: "ننسخ" و"ننسها"، في كل واحد من الفعلين قراءتان في السبع، أما "ننسخ" بقراءة ابن عامر بضم النون وكسر السين (¬3)، يقال: أنسخت الكتاب، أي: وجدته منسوخًا (¬4)، كقولك: أحمدته وأبخلته، أي: وجدته محمودًا، أو بخيلاً (¬5)، وفتحها الباقون (¬6)، وأما "ننسها" (¬7) فقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون والسين مع الهمزة، وقرأه الباقون بضم النون وكسر السين من غير همزة (¬8). فقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} (¬9) على قراءته بغير همز، يحتمل أن يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر، ويحتمل أن يكون من النسيان الذي هو ¬
الترك، كقوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ (¬1) نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (¬2) معناه (¬3): نترك ثوابكم كما تركتم العمل ليوم هذا (¬4)، فمعناه على أن المراد به النسيان الذي هو ضد الذكر: ما ننسخ من حكم آية أو ننسيكها تلاوتها، على حذف المفعول الأول لننسي (¬5). ومعناه على أن المراد بالنسيان الترك: ما ننسخ من تلاوة آية أو ننسيكها العمل (¬6) بها، أي نأمرك بترك العمل بها (¬7). وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا}، يعني: ثوابها (¬8) في الآجل لا في العاجل. وأما معناه على قراءة الهمز فهو: ما ننسخ من حكم آية أو نؤخرها من التلاوة مع بقاء حكمها نأت بخير منها أو مثلها (¬9). ¬
فقوله: أو ننسأها بالهمز: نؤخر (¬1)، فقولهم: نسأه ينسؤه نسأ، إذا أخره (¬2) ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (¬3)، وهو تأخير القتال في المحرم إلى صفر إذا احتيج إلى ذلك (¬4). ومنه تسمية العصا بالمنسأة (¬5)، ومنه قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (¬6). ومنه قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل (¬7) ويدل على جواز النسخ أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ...} (¬8) الآية (¬9). وهذا بأسره (¬10) يدل على جواز النسخ، وإلى ذلك أشار المؤلف بقوله: ¬
"وهو واقع". قوله: (وأنكره بعض اليهود عقلاً) حجتهم: أن الفعل لا يخلو إما أن يكون حسنًا وإما أن يكون قبيحًا، فإن كان حسنًا استحال النهي عنه لحسنه، وإن كان قبيحًا استحال الإذن فيه لقبحه؛ لأن الله تعالى لا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة، فكيف يأمر بما فيه مصلحة ثم ينهى عنه؟ وكيف ينهى عن شيء فيه مفسدة ثم يأمر به؟ (¬1). أجيب عن هذا: بأن الفعل قد يكون حسنًا في وقت وقبيحًا في وقت آخر، كالأكل والشرب، باعتبار الصحة والمرض، وباعتبار الجوع والشبع، وباعتبار الشتاء والصيف. ألا ترى أن الطبيب قد يأمر المريض بدواء خاص في وقت معين لمصلحة، وينهاه عن ذلك في وقت آخر لمصلحة أخرى؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، كما تختلف باختلاف الأزمان والأوقات (¬2). قوله: (وبعضهم سمعًا) يعني الطائفة العنانية من اليهود. حجتهم: أن موسى عليه السلام تواتر عندهم أنه قال: إن هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض (¬3) (¬4). ¬
أجيب عنه بأوجه: أحدها: الأدلة المتقدمة في جواز النسخ. الوجه الثاني: أن لفظ الأبد ظاهر في عموم الأزمنة المستقبلة لا نص، والمسألة علمية لا يكتفى فيها بالظواهر (¬1) كما يأتي في قوله: "ويجوز نسخ ما قيل فيه: افعلوا أبدًا خلافًا لقوم" (¬2)، فإن صيغة أبدًا بمنزلة العموم في الأزمان، والعموم قابل للتخصيص والنسخ. الوجه الثالث: أن اليهود لم يبق منهم ما يصلح للتواتر؛ لأنهم أفناهم وأبادهم بختنصر (¬3) بالقتل (¬4). ¬
الوجه الرابع: أن لفظ الأبد في التوراة ورد على خلاف التأبيد (¬1)، فقال في التوراة: العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة، فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدًا (¬2)، فأطلق الأبد على العمر خاصة، وقال في السفر الثاني من التوراة: قربوا إليّ كل يوم خروفين/ 246/؛ خروفًا غدوة وخروفًا عشية قربانًا دائمًا لاحقًا بكم أبدًا (¬3)، ثم نسخ ذلك. الوجه الخامس: أنه لو صح ما ذكروه من النقل عن موسى عليه السلام لحاججوا (¬4) به النبي عليه السلام، ولم يرو عن أحد منهم أنه أظهر ذلك في زمان النبي عليه السلام، وإنما أظهره ابن الراوندي (¬5) (¬6) بعد ذلك، ليعارض ¬
بذلك دعوى محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الوجه السادس: أنه لو صح ما نقلوه عن موسى عليه السلام لما ظهرت معجزات نبي بعده، وقد ظهرت معجزات عيسى، ومعجزات محمد عليهما الصلاة والسلام (¬2). فثبت بما قررناه أن ما نقلوه عن موسى عليه السلام افتراء عليه وبهتان، والحمد لله على ظهور كذبهم وفضيحتهم. قوله: (ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن خلافًا لأبي مسلم (¬3) الأصفهاني؛ لأن الله تعالى نسح وقوف الواحد للعشرة [في الجهاد] (¬4) بثبوته للاثنين، وهما في القرآن). ش: هذه مسألة ثانية (¬5). ¬
قوله: (عندنا) يعني: أهل السنة. قوله: (وعند الكافة) يعني: المعتزلة. قوله: (خلافًا لأبي مسلم الأصبهاني)، ذكر المؤلف أن الخلاف المنسوب إلى أبي مسلم الأصبهاني مخصوص بنسخ القرآن. وهذا مخالف لما قال سيف الدين الآمدي في الإحكام؛ لأنه ذكر أن أبا مسلم الأصبهاني خالف في النسخ مطلقًا، فإنه منع وروده شرعًا وجوزه عقلاً (¬1)، كما تقدم لنا أول هذا الفصل (¬2). فيحتمل أن يكون لأبي مسلم الأصبهاني قولان: قول بإنكار النسخ مطلقًا كما قاله الآمدي، وقول بإنكاره في القرآن خاصة، كما قاله المؤلف (¬3). قوله: (خلافًا لأبي مسلم الأصبهاني) ذكر المؤلف الخلاف في جواز نسخ القرآن، وهذا مخالف لما ذكره القاضي أَبو بكر وإمام الحرمين؛ لأنهما قالا: لا خلاف بين الأمة في جواز نسخ القرآن بالقرآن (¬4)، ولم يذكرا خلاف ¬
أبي مسلم الأصبهاني، فيحتمل أن يكون سكوتهما عن خلاف أبي مسلم الأصبهاني بناء على القول بتكفير المعتزلة (¬1)، فلا يعتبرون في الإجماع (¬2). قوله: (خلافًا لأبي مسلم)، قال أَبو إسحاق الشيرازي في اللمع: أَبو مسلم كنيته، واسمه: عمر بن يحيى (¬3). حجة الجماعة: ما قاله المؤلف، وهو قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ (¬4) مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا [أَلْفًا] (¬5) مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ ¬
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1)، هذه الآية منسوخة بالتي بعدها، وهي قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ (¬2) مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬3) (¬4). وكذلك نسخ اعتداد المتوفى عنها بالحول الكامل بأربعة أشهر وعشر، وذلك أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬5)، وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬6) (¬7). وغير ذلك من الناسخ والمنسوخ في القرآن. حجة أبي مسلم القائل بمنع نسخ القرآن بالقرآن: قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ [مِنْ] (¬8) بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (¬9)، فلو نسخ لبطل؛ لأن النسخ إبطال (¬10). ¬
أجيب: بأن معنى الآية: لم يتقدمه من الكتب ما يبطله، ولا يأتي بعده ما يبطله (¬1)، فالناسخ والمنسوخ حق (¬2). قوله: (ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا خلافًا لأكثر الشافعية والحنفية [والمعتزلة] (¬3)، كنسخ ذبح إسحاق عليه السلام قبل وقوعه). ش: هذه مسألة ثالثة (¬4) (¬5). ¬
قال المؤلف في شرحه: ها هنا أربع صور: إحداها: أن يوقت الفعل بزمان مستقبل فينسخ قبل حضوره. وثانيها: أن يؤمر به على الفور فينسخ قبل الشروع فيه. وثالثها: أن يشرع فيه فينسخ قبل كماله. ورابعها: أن يكون الفعل يتكرر فيفعل مرارًا ثم ينسخ. فأما هذه الصورة الرابعة فقد وافقنا فيها المعتزلة، لحصول مصلحة الفعل بتلك المرة الواقعة قبل النسخ، كنسخ بيت المقدس بالكعبة وغير ذلك. وأما المسألة الأولى والثانية، وهما: النسخ قبل الوقت، وقبل الشروع، فقد منعه المعتزلة، لعدم حصول مصلحة الفعل؛ لأن ترك المصلحة عندهم ممنوع على قاعدة التحسين والتقبيح. وأما الصورة الثالثة وهي: النسخ بعد الشروع وقبل الكمال، فقال المؤلف في شرحه: لم أر فيه نقلاً للأصوليين، ومقتضى مذهب المعتزلة في هذه الصورة التفصيل بين الفعل الذي لا تحصل مصلحته إلا بكماله، وبين الفعل الذي تكون مصلحته متوزعة على أجزائه. مثال الفعل الذي لم تحصل مصلحته إلا بكماله كذبح الحيوان، وإنقاذ ¬
الغريق؛ فإن مجرد قطع الجلد لا يحصل مقصود الذكاة من إخراج الفضلات وزهوق الروح على وجه السهولة، وكذلك إيصال الغريق في البحر إلى قرب البر ويترك هنالك لا يحصل مقصود النجاة. ومثال الفعل الذي تكون مصلحته متوزعة على أجزائه كإطعام الجوعان، وسقي العطشان، وإكساء العريان، فإن كل جزء من هذه الأفعال يحصل جزءًا من المصلحة. فمقتضى مذهبهم (¬1) في القسم الأول منع النسخ لعدم حصول المصلحة، ومقتضى مذهبهم في القسم الثاني الاحتمال: يحتمل أن يقولوا بالجواز لحصول بعض المصلحة المخرجة للأمر الأول عن العبث، ويحتمل أن يقولوا بالمنع؛ لأن جزء المصلحة لا يقصدها العقلاء غالبًا بخلاف المصالح التامة (¬2). قوله: (ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا) هو أعم/ 247/ من كونه لم يحضر وقته، أو حضر ولم يفعل منه شيء، أو فعل بعضه ولم يكمل، فإن هذه الصور كلها مندرجة في كلام المؤلف، وهي كلها جائزة عندنا نحن المالكية (¬3). قوله: (كنسخ ذبح إِسحاق عليه السلام قبل وقوعه) أي: قبل وقوع الذبح، أي: قبل حصوله (¬4). ¬
وذلك أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، بدليل قوله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬1)، ثم نسخ ذلك قبل فعله بذبح كبش بدليل قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬2) (¬3). قال ابن عباس رضي الله عنه: فدي بكبش رعى في الجنة أربعين سنة (¬4)، ومعنى قوله: عظيم، أي: كبير متقبل (¬5). قوله: (كنسخ ذبح إِسحاق عليه السلام) هذا يقتضي أن الذبيح هو إسحاق، هذا هو القول الصحيح، وهو الذي عليه كثير أهل العلم (¬6) (¬7). ¬
وقيل: بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، واستدل قائل هذا بقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1)؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن المبشر به خلاف الذبيح، أي: وبشرناه بإسحاق مع الفداء، وإنما قلنا: ظاهر الآية أن إسماعيل هو الذبيح؛ لأن الله تعالى لما فرغ من قصة الذبيح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ}، فدل ذلك على أن المبشر به غير الذبيح. وتأولها القائلون بأن الذبيح هو إسحاق بأن التقدير: وبشرناه بكون إسحاق نبيًا من الصالحين (¬2). قوله: (كنسخ ذبح إسحاق عليه السلام) اعترض سيف الدين هذا المثال بأن النسخ فيه بعد التمكن من الامتثال، وليس محل النزاع في النسخ قبل التمكن من الامتثال (¬3) (¬4). أجيب: بأنه لو كان بعد التمكن لعصى بتأخير المأمور به عن أول زمان الإمكان. ومثل سيف الدين هذه المسألة: بنسخ الخمسين صلاة ليلة الإسراء بخمس ¬
صلوات (¬1) (¬2). قال المؤلف في شرحه: ويرد عليه أن ذلك خبر واحد والمسألة علمية، فلا يفيد القطع، ولأنه نسخ قبل الإنزال، وقبل الإنزال لا يتقرر علينا حكم، فليس من صورة النزاع (¬3). قال بعضهم: قول المؤلف: نسخ قبل الإنزال، فيه نظر، بل هو نسخ بعد الإنزال؛ لأنه أنزل على النبي عليه السلام في السماء ولا عبرة في هذا بالإنزال إلى الأرض؛ لأن الذي ينزل عليه هو النبي عليه السلام (¬4)، وقد أمر بذلك سواء كان في الأرض أو في السماء، فمثال سيف الدين موافق. قوله (¬5): (ونسخ (¬6) [الحكم] (¬7) لا إِلى بدل خلافًا لقوم، كنسخ الصدقة في قوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (¬8) لغير بدل). ¬
ش: هذه مسألة رابعة (¬1) اختلف فيها أهل السنة وأهل الاعتزال. قوله: (خلافًا لقوم) يعني المعتزلة (¬2). سبب الخلاف: هل يجوز ارتفاع التكليف عن المكلفين جملة أو لا يجوز؟ جوزه أهل السنة ومنعه المعتزلة، فإذا جوزناه جملة فأولى وأحرى أن نجيزه في عبادة مخصوصة (¬3). واحتج المعتزلة على منع النسخ بغير بدل: بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬4)، فنص على أنه لا بد في النسخ من بدل بخير أو مثل (¬5). أجيب عنه: بأن رفع الحكم لغير بدل قد يكون خيرًا للمكلف باعتبار ¬
التخفيف عليه يرفع التكليف عنه (¬1). وأجيب عنه أيضًا: بأن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...} الآية صيغة شرط والشرط لا يستلزم الإمكان؛ إذ ليس من شرط الشرط (¬2) أن يكون ممكنًا، فقد يكون الشرط ممكنًا كقوله: إن جاء زيد فأكرمه، وقد يكون متعذرًا إن (¬3) كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان، فهذا الشرط محال مع أن الكلام عربي فصيح، ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬4) فالشرط ها هنا محال أيضًا؛ لأن تعدد الآلهة محال، فإذا كان الشرط لا يستلزم الإمكان، فلا يدل على الوقوع مطلقًا، فضلاً عن الوقوع ببدل (¬5). قوله: (كنسخ الصدقة في قوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (¬6))، قال بعضهم: الاستدلال بهذه الآية على جواز النسخ ضعيف؛ لأن هذا من باب ارتفاع الحكم لارتفاع سببه؛ لأن الأمر بالصدقة المذكورة ¬
سببه التمييز بين المؤمنين والمنافقين (¬1)، وقد ذهب المنافقون فارتفع الحكم لارتفاع سببه (¬2). أجيب عنه: بأن هذا رفع للحكم مع بقاء سببه؛ لأنه روي أنه لم يتصدق إلا علي رضي الله عنه (¬3)، فرفع الحكم ونسخ حينئذ مع بقاء السبب بعد صدقته (¬4). وأجيب عنه أيضًا: بأن سبب الأمر بالصدقة هو أن أهل المشورة غلبوا على مجالسة النبي عليه السلام ومناجاته، فكره عليه السلام ذلك، فأمر الله عز وجل الأغنياء بالصدقة عند المناجاة، ثم نسخ ذلك (¬5). ¬
قوله: (ونسخ الحكم إِلى الأثقل، خلافًا لبعض أهل الظاهر كنسخ عاشوراء برمضان) (¬1). ش: هذه مسألة خامسة، ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: نسخ الحكم ببدل مماثل، كنسخ توجه بيت المقدس بالكعبة. الثاني: نسخ الحكم ببدل أخف، كنسخ تحريم الأكل بعد النوم ليلة رمضان بإباحة الأكل (¬2). ¬
والثالث: نسخ الحكم بأثقل منه، كنسخ عاشوراء بصوم رمضان؛ لأن صوم شهر أثقل من صوم يوم. أما القسمان الأولان فلا خلاف في جوازهما عند القائلين بالنسخ. وأما القسم الثالث، وهو النسخ بالأثقل: فهو محل النزاع (¬1). جوّزه جمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين (¬2)، ومنعه بعض الظاهرية (¬3)، وبعض الشافعية (¬4)، وبعض المعتزلة (¬5)، ولكن منهم من منعه مطلقًا عقلاً وسمعًا، ومنهم من منعه سمعًا وجوّزه عقلاً (¬6). حجة الجمهور: نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان (¬7)، وكذلك نسخ الصفح/ 248/ عن الكفار بالقتال؛ لأن القتل أثقل وأشد من الصفح؛ لأن ¬
قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} (¬1) منسوخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2) (¬3). وكذلك نسخ الحبس في البيوت بالجلد والرجم؛ لأنهما أثقل وأشد على الزناة (¬4) من الحبس؛ لأن قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (¬5) منسوخ بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ...} الآية (¬6)، وبرجم النبي عليه السلام ماعزًا والغامدية (¬7) (¬8). حجة المخالف: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬9) فنصّ على الخير وهو الأخف، ونصّ على المثل، ولم ينص على الأثقل، فيمنع (¬10). أجيب عنه: بأن الأثقل قد يكون خيرًا للمكلف باعتبار الثواب ¬
والأجور (¬1). واحتج المخالف أيضًا: بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) والأثقل هو عسر لا يسر (¬3). أجيب عنه: بأن اليسر محمول على اليسر في الآخرة (¬4). قوله: (ونسخ التلاوة دون الحكم، كنسح: "الشيخ والشيخة إِذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله" مع بقاء الرجم (¬5)، والحكم دون التلاوة كما تقدم في [آية] (¬6) الجهاد (¬7)، وهما معًا لاستلزام إمكان المفردات إِمكان المركبات (¬8)). ¬
ش: هذه مسألة سادسة (¬1)، ذكر المؤلف فيها ثلاثة فروع وهي: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، أو نسخ التلاوة والحكم معًا. مثال نسخ التلاوة دون الحكم قوله تعالى: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله". وكذلك روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: كنا نقرأ من القرآن: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم" (¬2). وكذلك روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: أنزل في قتلى بئر معونة (¬3): ¬
"ألا بلغوا إخواننا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" (¬1). ومثال نسخ الحكم دون التلاوة: نسخ وقوف الواحد للعشرة بوقوفه للاثنين، وإليه أشار المؤلف بقوله: كما تقدم في آية الجهاد، وكذلك نسخ الاعتداد بالحول الكامل بالاعتداد بأربعة أشهر وعشرًا في حق المتوفى عنها زوجها. وكذلك نسخ الوِصية للوالدين (¬2) والأقربين (¬3): {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬4) بآية المواريث، وهي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ ...} (¬5) الآية (¬6). وكذلك نسخ وجوب الفدية على المفطر القادر على الصوم بوجوب الصوم، وذلك أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬7) أي: يطعم عن كل يوم أفطر فيه مدًا من الطعام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ¬
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1) (¬2). ومثال نسخ التلاوة والحكم معًا: قول عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل الله تعالى: "عشر رضعات يحرمن" ثم نسخن بخمس (¬3). وروي أيضًا أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ثم نسخ منها ما نسخ (¬4). حجة الجمهور بالجواز مطلقًا: أن التلاوة والحكم عبادتان متباينتان، أي: حكمان متباينان، فجاز رفع أحدهما وبقاء الآخر، وجاز رفعها معًا؛ إذ ليس في ذلك كله ما يحيله كسائر الأحكام (¬5). حجة من منع نسخ التلاوة مع بقاء الحكم: أن التلاوة دليل على الحكم والحكم يثبت بثبوتها، فينبغي أن ينتفي بانتفائها (¬6). ¬
أجيب عنه: بأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فإن وجود العالم دليل على وجود صانعه جل وعلا، ولا يلزم من عدم العالم عدم صانعه (¬1). حجة من منع نسخ الحكم دون التلاوة: أن التلاوة دليل على الحكم، فإذا ارتفع المدلول ارتفع دليله (¬2). أجيب عنه: بأن دلالة التلاوة على الحكم مشروطة بعدم الناسخ، فإذا وجد الناسخ انتفت الدلالة لانتفاء شرطها (¬3). قوله: (وهما معًا) فيه حذف مضاف تقديره: ونسخهما معًا، أي: ويجوز نسخ التلاوة والحكم معًا. قوله: (لاستلزام إِمكان المفردات إِمكان المركبات). هذا دليل على جواز نسخ التلاوة والحكم معًا، معناه: لأن ما يمكن في المفردات يلزم أن يمكن في المركبات، أي: فيما تركب من المفردات، يعني: أن النسخ لما جاز في حالة إفراد التلاوة دون الحكم، وجاز أيضًا في حالة إفراد الحكم دون التلاوة، فيجوز نسخهما معًا في حالة تركيبهما، أي: في حالة اجتماعهما. قوله: (ونسخ الخبر إِذا كان متضمنًا لحكم عندنا خلافًا لمن جوز (¬4) مطلقًا، أو منع (¬5) مطلقًا، وهو أبو علي، وأبو هاشم وأكثر المتقدمين، لنا أن ¬
نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة، وهو محال، فإِذا تضمن (¬1) [جاز نسخه] (¬2)؛ لأنه (¬3) مستعار له، ونسخ الحكم جائز كما لو عبر عنه بالأمر). ش: هذه مسألة سابعة (¬4). ذكر المؤلف في جواز نسخ الخبر ثلاثة أقوال: قولان متقابلان، والثالث بالتفصيل بين أن يكون بمعنى الطلب أم لا. وهذا القول الثالث هو المختار عندنا، قاله الباجي في الفصول (¬5)، والقاضي عبد الوهاب في الملخص. قوله: (خلافًا لمن جوز مطلقًا) كأبي عبد الله البصري، وأبي الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار (¬6) كلهم من المعتزلة، واختاره فخر الدين منا (¬7) في المحصول (¬8). قوله: (أو منع مطلقًا) وهو أبو علي وأبو هاشم وأكثر الأصوليين (¬9)، ¬
وهو مذهب القاضي أبي بكر (¬1). قوله: (ونسخ الخبر ...) المسألة، واعلم أن الخبر على قسمين: إما خبر عما لا يتغير؛ كالخبر بالوحدانية وحدوث العالم/ 249/ وما في معنى ذلك، فهذا لا يصح فيه النسخ باتفاق. والقسم الثاني: هو الخبر عما يتغير، فهذا هو محل الخلاف (¬2)، سواء كان ماضيًا أو مستقبلاً، كان وعدًا أو وعيدًا أو حكمًا شرعيًا (¬3). مثال الماضي: قولك: زيد مؤمن، أو زيد كافر. ومثال الوعد: قولك: المطيع يدخل الجنة. ومثال [الوعيد] (¬4): قولك: العاصي يدخل النار. ومثال الحكم الشرعي: قولك: يجب الحج على المستطيع. قوله: (إِذا كان متضمنًا لحكم) أي: إذا كان الخبر بمعنى الأمر، مثلاً كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬6)، وقوله تعالى: ¬
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). وسبب الخلاف في جواز نسخ الخبر: مبني على الخلاف في حقيقة النسخ، فمن قال: النسخ عبارة عن بيان مدة لعبادة، قال هنا بجواز النسخ مطلقًا؛ إذ لا فرق في ذلك بين الخبر وغيره. ومن قال: النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت، قال هنا بمنع النسخ مطلقًا؛ لأن رفع الخبر يؤدي إلى الخَلْف (¬2) والبداء (¬3)، وذلك في حق الله تعالى محال، فهذا هو سبب الخلاف بين القولين المتقابلين (¬4). وأما من فرّق بين أن يتضمن حكمًا أم لا، فلأنه إذا تضمن حكمًا كان ¬
حكمه حكم الأمر فيجوز فيه النسخ كما يجوز في الأمر؛ إذ معناه معنى الأمر. وأما ما لم يتضمن معنى الحكم (¬1) فلا يجوز فيه النسخ؛ لأنه يؤدي إلى الخلف والبداء، وذلك محال على الله جل جلاله (¬2). قوله: (لنا أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة، وهو محال، فإِذا تضمن الحكم جاز؛ لأنه مستعار له) هذا دليل القول بالتفصيل الذي هو المختار يعني: إنه لو قلنا: إنه يجوز النسخ لأدى ذلك إلى الكذب، وهو المراد بعدم المطابقة؛ لأن الخبر لم يطابق المخبر عنه، فإن الكذب معناه عدم المطابقة، كما أن الصدق معناه ثبوت المطابقة، والكذب في حق الله تعالى محال. وأما إذا تضمن الخبر الحكم جاز نسخ الخبر؛ لأن الخبر مستعار للحكم، فإذا كان الخبر بمعنى الحكم فإن نسخ الحكم جائز، كما يجوز إذا عبر عن الحكم بالأمر. قوله: (ويجوز نسخ ما قيل (¬3) فيه افعلوا (¬4) أبدًا، خلافًا لقوم؛ لأن صيغة أبدًا بمنزلة العموم في الأزمان، والعموم قابل للتخصيص (¬5) والنسخ). ش: هذه مسألة ثامنة (¬6)، مثالها: أن يقول الشارع مثلاً: صوموا أبدًا. ¬
حجة المشهور: أن لفظ الأبد بمنزلة لفظ العموم في الأزمان فيصح به النسخ والتخصيص كسائر الألفاظ العامة (¬1)، ولأجل هذا قال ابن العربي: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق أبدًا، وقال: نويت يومًا أو شهرًا، فله الرجعة، بخلاف قوله لها: أَنتِ طالق حياتها، فليس له الرجعة، قاله في أحكام القرآن له، في سورة الحجر (¬2). حجة المانع: قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬3) في أهل الجنة، وفي أهل النار، فلولا كلمة أبدًا لما استفدنا دوام أهل الجنة في الجنة، ولا دوام أهل النار في النار (¬4). أجيب عنه: بأن الدوام لم يستفد من مجرد لفظة "أبدًا"، وإنما استفيد ذلك من تكراره في القرآن تكرارًا يفيد القطع بالدوام والبقاء (¬5). ... ¬
الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ
الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ ش: أي: في بيان ما يقع به النسخ، وفي بيان ما يقع فيه النسخ. قوله: ([و] (¬1) يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين) (¬2). ش: أي: مساواة (¬3) الناسخ والمنسوخ في القوة لتواترهما. قوله: (وعند الأكثرين) تبع المؤلف في هذه الزيادة عبارة الإمام فخر الدين في المحصول (¬4). ¬
وقال الآمدي (¬1) والباجي (¬2) والقاضي عبد الوهاب: لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب. حجة الجواز: وروده في نسخ وقوف الواحد للعشرة بوقوفه للاثنين (¬3)، وكذلك نسخ الاعتداد بالحول بالاعتداد بالأشهر الأربعة والعشر في حق المتوفى عنها (¬4) وهما في القرآن وغير ذلك مما وقع منه في القرآن، كما تقدم في الرد على أبي مسلم الأصبهاني (¬5). حجة المنع: قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (¬6)؛ لأن النسخ إبطال (¬7). أجيب عنه: بأن المعنى لم يتقدمه من الكتب ما يبطله، ولا يأتي بعده ما ¬
يبطله (¬1). قوله: (والسنة المتواترة بمثلها، والآحاد بمثلها، وبالكتاب، وبالسنة المتواترة إِجماعًا) (¬2). ش: إنما جاز نسخ السنة المتواترة بمثلها لمساواتهما (¬3) في الطريق (¬4)، وكذلك نسخ الآحاد بمثلها لمساواة (¬5) الناسخ والمنسوخ في الطريق (¬6)، وأما جواز نسخ الآحاد بالكتاب أو بالسنة المتواترة فيجوز من باب الأولى والأحرى؛ فإنه إذا جاز النسخ بالمساوي فأولى وأحرى بالأقوى (¬7). قوله: (إِجماعًا) راجع إلى الثلاث مسائل الآحاد (¬8). ¬
قوله: (وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد، فجائز عقلاً [غير] (¬1) واقع (¬2) سمعًا، خلافًا لأهل الظاهر (¬3)، والباجي منا، مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت المقدس إِلى الكعبة (¬4). لنا: أن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد المظنونة، لتقدم العلم على الظن). ش: هذا نسخ المتواتر بالآحاد (¬5)، ذكر فيه المؤلف قولين: قول بعدم الوقوع، وقول بالوقوع. وذكر الباجي في الفصول قولاً ثالثًا، وهو منعه عقلاً (¬6)، فيكون في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا عقلاً وسمعًا، والمنع مطلقًا عقلاً وسمعًا/ 250/، والجواز عقلاً والمنع سمعًا، وهو المشهور. ¬
قوله: (مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت المقدس إِلى الكعبة) هذا دليل الوقوع الذي قال به الباجي وأهل الظاهر (¬1)، وذلك أن أهل قباء كانوا يصلون صلاة الصبح فأخبرهم رجل أرسله عليه السلام إليهم أن القبلة قد حولت من بيت المقدس إلى الكعبة، فاستداروا في [أول] (¬2) الصلاة ولم يعيدوا الصلاة (¬3)، فعلم النبي عليه السلام ذلك فلم ينكره عليهم، مع أنه لم يثبت عند أهل قباء تحويل القبلة إلا بخبر واحد (¬4). وردّ الاستدلال بهذا بثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا من باب نسخ السنة المتواترة بالآحاد، لا من باب نسخ الكتاب بالآحاد؛ لأن استقبال بيت المقدس لم يثبت بالقرآن، وإنما ثبت ¬
بالسنة؛ لأنه تواتر فعله عليه السلام بذلك مع أصحابه رضي الله عنهم (¬1). أجيب عن هذا: بأن استقبال بيت المقدس ثابت بالقرآن، وهو قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬2)؛ لأن هذا الدليل يدل على الصلاة بشروطها وأركانها وجميع هيئاتها، كأنه يقول: أقيموا الصلاة: شروطها وأركانها وجميع هيئاتها، فإن الدال على الماهية المركبة يدل على جميع أجزائها، فإن هذا الدليل مجمل بينه عليه السلام بفعله، فيدل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) على استقبال بيت المقدس دلالة إجمالية، ويدل فعله عليه السلام على ذلك دلالة تفصيلية، قاله ابن العربي (¬4). الوجه الثاني: سلمنا ثبوت نسخ القبلة في حق أهل قباء، ولكن إنما ذلك لأجل إقرار النبي عليه السلام ذلك؛ لأنه لما علمه ولم ينكره (¬5)، فيكون ذلك النسخ بإقراره عليه السلام لا من جهة خبر الرجل الواحد الذي أخبرهم بالتحويل. الثالث: سلمنا ثبوت (¬6) النسخ في حق أهل قباء، ولكن لعل ذلك من قرائن ثبتت عندهم تدل على تحويل القبلة، كسماع ضجيج أهل المدينة وغير ¬
ذلك مما يدل على التحويل لا من مجرد خبر الواحد (¬1). واستدل الباجي أيضًا بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (¬2) الآية، نسخها قوله عليه السلام: "نهيت عن أكل ذي ناب من السباع" وهو خبر واحد (¬3). وردّ هذا الاستدلال بأن النسخ لا يصح ها هنا لفوات شرطه، وهو المنافاة بين الناسخ والمنسوخ؛ إذ لا منافاة (¬4) ها هنا بين هذه الزيادة والمزيد عليه، فإذا انتفت المنافاة انتفى النسخ (¬5). واستدل الباجي أيضًا بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬6)، نسخه قوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬7) (¬8). ¬
وردّ هذا الاستدلال: بأن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فيحمل هذا العام على حالة عدم القرابة المذكورة، وكأنه يقول: وأحل لكم ما بقي من النساء في حالة ما (¬1). وأيضًا لا نسلم أن هذا نسخ، وإنما هو تخصيص، وكلامنا ها هنا في النسخ لا في التخصيص (¬2). وأيضًا: أن تحريم الجمع المذكور داخل في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬3)، فيكون الحديث المذكور بيانًا للآية لا أنه نسخ (¬4). واستدل الباجي أيضًا بقياس النسخ على التخصيص؛ لأن التخصيص في المعنى نسخ في الأزمان (¬5)، وقد تقدم في المخصصات في الباب السادس أن خبر الواحد يخصص عند جمهور العلماء، ونصه فيما تقدم: ويجوز عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة تخصيص الكتاب بخبر الواحد (¬6). وردّ هذا الاستدلال: بأن النسخ إبطال للمراد فيحتاط فيه أكثر، بخلاف ¬
التخصيص؛ لأنه بيان المراد (¬1) (¬2). قولنا (¬3): إن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد المظنونة لتقدم العلم على الظن، هذا دليل القول المشهور وهو عدم وقوعه؛ لأن الأضعف لا يحكم به على الأقوى (¬4). ¬
قوله: (ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافًا للشافعي وبعض أصحابه (¬1) لنا: نسخ القبلة بقوله تعالى (¬2): {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬3) ولم يكن التوجه [إِلى بيت] (¬4) المقدس (¬5) ثابتًا بالكتاب عملاً بالاستقراء) (¬6). حجة الجواز: ما ذكره المؤلف، ولكن فيه نظر؛ لأن ما كان بيانًا لمجمل يعد مرادًا لذلك المجمل ويقدر كائنًا فيه، فيكون التوجه لبيت المقدس ثابتًا ¬
بالقرآن، وهو قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1) فيكون من باب نسخ الكتاب بالكتاب (¬2). وحجة [أخرى] (¬3): أن الصلاة كانت تؤخر بالسنة في الخوف إلى زمان الأمن، ثم نسخ بفعلها على الصفة المذكورة في القرآن (¬4) (¬5). حجة الشافعي: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} (¬6) قال: والحجة من هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه جعل نبيه عليه السلام مبينًا، مفهومه: أن غيره لا يبين (¬7). ¬
الوجه الثاني: أن السنة تبين الكتاب، فلو (¬1) كان الكتاب يبينها للزم الدور (¬2). أجيب عن الأول: أنه مفهوم اللقب، والشافعي لا يقول به، ولم يقل به من أصحابه إلا الدقاق (¬3). وأجيب عن الثاني بوجهين: أحدهما: أن الذي بينت السنة من القرآن غير الذي بين القرآن من السنة، فلا دور (¬4). الوجه الثاني: أن ذلك يعارضه قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬5) (¬6). قوله: (ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر أصحابنا (¬7)، وواقع، كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" ونسخ آية الحبس في البيوت بالرجم، وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يقع؛ لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد). ¬
ش: ففي نسخ القرآن بالسنة المتواترة ثلاثة أقوال (¬1): قال مالك: جائز وواقع (¬2)، وقال الشافعي: هو غير جائز ولا واقع (¬3) , ¬
وقال ابن سريج من الشافعية: هو جائز غير واقع (¬1). حجة الجواز: مساواتهما في الطريق العلمي، وهو التواتر؛ فإن شرط الناسخ أن يكون مساويًا أو أقوى (¬2). وحجة الوقوع: الآيتان المذكورتان في [الأم] (¬3)، وآية ثالثة: وهي قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬4)، نسخه قوله عليه السلام: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬5) أجيب عن الآية الأولى: بأنه تخصيص لا نسخ؛ لأن الوصية جائزة لغير الوارث إذا كان قريبًا (¬6). أجيب عن الآية الثانية: أن آية الحبس مغياة بالغايتين، فإذا جعل الله لهن ¬
سبيلاً بالرجم أو غيره، كان بيانًا للغاية، لا أنه نسخ، بل ولا تخصيص (¬1). حجة القول بامتناعه سمعًا لا عقلاً (¬2) وجهان: أحدهما: قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (¬3)، فإن النسخ تبديل (¬4). الوجه الثاني: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬5)، والسنة ليست بخير من القرآن/ 251/ ولا هي مثله (¬6). أجيب عن الآية الأولى: بأن آخر الآية: {[إِنْ] (¬7) أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (¬8)؛ فالسنة مما أوحي إليه عليه السلام، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} (¬9) (¬10). ¬
أجيب عن الآية الثانية: أنه لا يمتنع أن يثيب الله تعالى على العمل بالسنة أكثر مما يثيب على تلاوة الآية والعمل بها (¬1). قوله: (قال الشافعي: لم يقع)، يقتضي أنه عنده جائز إلا أنه لم يقع، بل لا يجوز عنده (¬2)، انظر قول الشافعي في هذه المسألة بالمنع مناقض لاحتجاجه في المسألة التي قبلها فإنه احتج فيها بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3)، وهذا يقتضي أن السنة تبين القرآن؛ لأن النسخ بيان (¬4)، والله أعلم. قوله: (لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد، أي: آية النساء التي هي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬5)، نسخت بآية الجلد التي هي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬6). قوله: (نسخت بالجلد) يعني لا بالرجم المتواتر في ماعز والغامدية (¬7)، فهو عند الشافعي من باب نسخ القرآن بالقرآن، لا من باب نسخ القرآن بالسنة. ¬
قال المؤلف في شرحه: قول الشافعي: إن آية الحبس نسخت بالجلد، ظاهره أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس (¬1)، بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه عليه السلام قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيّب بالثيّب رجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (¬2)، فظاهر هذا أن الآن نسخ ذلك الحكم (¬3). قوله: (والإِجماع لا ينسخ ولا ينسخ به) (¬4). ش: ذكر المؤلف رحمه الله، أن الإجماع لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا، ولم يذكر فيه خلافًا، كذلك قال الإمام في المحصول (¬5)، والباجي في الفصول (¬6). ¬
ونقل الآمدي (¬1) وابن الحاجب (¬2): الخلاف، هل يجوز انعقاد الإجماع بعد الإجماع أم لا؟ (¬3). وقال بعضهم: سبب الخلاف: هل يصح انعقاد الإجماع بمجرد البحث من غير ذلك أم لا؟ (¬4). وإنما لم يعرج المؤلف إلى هذا الخلاف لشذوذه. قوله: (والإِجماع لا ينسخ، وإِنما لا ينسخ، أي: لا يكون منسوخًا، أي: لا يجوز أن يكون منسوخًا؛ لأن الناسخ له لا يخلو إِما أن يكون كتابًا، أو سنة، أو إِجماعًا، أو قياسًا، والكل باطل) (¬5). أما الكتاب والسنة فلم يمكن نسخ الإجماع بهما لتعذرهما بعد وفاة النبي عليه السلام. وأما الإجماع لم يمكن نسخ الإجماع به؛ لأنه إما أن يكون عن دليل، أو ¬
عن غير دليل، فإن كان عن دليل بطل الإجماع الأول؛ لأنه خطأ، وإن كان عن غير دليل بطل الثاني؛ لأنه خطأ. وأما القياس فلا يمكن نسخ الإجماع به أيضًا؛ لأن من شرط القياس ألا يكون مخالفًا للإجماع، فلا يصح نسخ الإجماع مطلقًا. قوله: (ولا ينسخ به، وإِنما لا يجوز النسخ بالإِجماع أي: لا يجوز أن يكون ناسخًا؛ لأنه لا يخلو: إِما أن يكون ناسخًا للكتاب، أو السنة، أو الإِجماع، أو القياس، والكل باطل) (¬1) (¬2). أما الكتاب والسنة فلا يمكن أن ينسخهما الإجماع (¬3)؛ لأنهما مستنده. وأما الإجماع فلا يمكن أن ينسخه الإجماع؛ لأن أحدهما لا بد أن يكون خطأ؛ لأن الأول إن كان عن دليل بطل الثاني، وإن كان من (¬4) غير دليل بطل [الأول] (¬5). وأما القياس فلا يمكن أن ينسخه الإجماع؛ لأن من شرط القياس أن لا يكون مخالفًا للإجماع. فامتنع النسخ بالإجماع مطلقًا أيضًا، كان ناسخًا أو منسوخًا. قوله: (والإِجماع لا ينسخ ولا ينسخ به)، عارضه بعضهم [بالإجماع] (¬6) ¬
على مصحف الصديق، والإجماع على مصحف عثمان رضي الله عنه (¬1). قوله: (ويجوز نسخ الفحوى الذي [هو] (¬2) مفهوم الموافقة تبعًا للأصل، ومنع (¬3) أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل رفعًا (¬4) للتناقض بين تحريم التأفيف مثلاً وحل (¬5) الضرب (¬6)). ش: ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: نسخ الفحوى مع نسخ أصله. الثاني: نسخ الفحوى مع بقاء أصله. الثالث: نسخ الأصل مع بقاء الفحوى. ¬
أما نسخهما معًا فلا خلاف في جوازه (¬1)، وإليه أشار المؤلف بقوله: (ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعًا للأصل). قوله: (تبعًا للأصل) أي: [في] (¬2) حالة كونه منسوخ الأصل [أي في حالة كون] (¬3) الفحوى تابعًا لأصله في النسخ، معناه: نسخا معًا. قوله: (تبعًا للأصل) شرطٌ احترازًا من نسخ الفحوى مع بقاء الأصل، وهو الوجه الثاني. قوله: (ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل) هذا هو الوجه الثاني، وهو نسخ الفحوى دون الأصل، ففي [جواز] (¬4) هذا الوجه قولان: منعه أبو الحسين (¬5)، وجوّزه غيره (¬6). ¬
حجة أبي (¬1) الحسين القائل (¬2) بمنع نسخ الفحوى مع بقاء أصله (¬3) على حكمه: أن (¬4) قوله تعالى مثلاً: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬5)، فلو ورد بعد هذا جواز الضرب مع بقاء تحريم التأفيف لكان في ذلك تناقض؛ لأن جواز الضرب يقتضي جواز التأفيف بأولى وأحرى، وذلك الجواز يناقض تحريم التأفيف، فيجتمع الجواز والتحريم في التأفيف (¬6) وذلك متناقض (¬7) (¬8)، فهذا معنى قول المؤلف: رفعًا للتناقض بين تحريم التأفيف [مثلاً] (¬9) وحل الضرب. حجة القول بجواز نسخ الفحوى مع بقاء الأصل على حكمه: أن كل واحد من الفحوى والأصل له دلالة مستقلة بنفسها، فإذا رفعت إحداهما بقيت الأخرى (¬10)، فإن ورد جواز الضرب بقي التأفيف على تحريمه، فيكون هذا من باب التخصيص (¬11)؛ لأن قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬12) يقتضي تحريم أنواع الأذى كلها، ثم خصص من ذلك الضرب بالجواز، وبقي ¬
ما عداه من التأفيف وغيره على التحريم. قوله: (ومنع أبو الحسين [من نسخه] (¬1) مع بقاء الأصل) سكت المؤلف عن الوجه الثالث، وهو عكس هذا، وهو نسخ الأصل مع بقاء الفحوى، كما إذا (¬2) ورد بعد ذلك جواز التأفيف مع بقاء الضرب مثلاً على حكم التحريم، ففي جوازه أيضًا قولان (¬3)، فحاصل ما ذكرنا (¬4) ثلاثة أوجه: [وجه باتفاق، ووجهان بالخلاف؛ فالوجه الذي هو بالاتفاق فهو (¬5) نسخ الفحوى والأصل معًا، والوجهان بالخلاف: نسخ الفحوى دون الأصل، ونسخ الأصل دون الفحوى، وفي هذين الوجهين ثلاثة أقوال: الجواز فيهما، والمنع فيهما، والقول الثالث: يجوز نسخ الأصل ولا يجوز نسخ الفحوى، وهذا هو القول المختار عند الأصوليين؛ لأن إباحة التأفيف لا يستلزم إباحة الضرب بخلاف العكس] (¬6) (¬7). قوله: (ويجوز النسخ به وفاقًا، لفظية كانت دلالته أو عقلية (¬8) على ¬
الخلاف). ش: لما ذكر المؤلف حكم الفحوى بالنسبة إلى كونه منسوخًا تكلم ها هنا على حكمه بالنسبة إلى كونه ناسخًا، أي: يجوز النسخ بمفهوم (¬1) الموافقة اتفاقًا (¬2)، [و] (¬3) لكن قوله: (وفاقًا)، يعني: اتفاق الجمهور، وإلا فقد ذكر [فيه] (¬4) الباجي وابن الحاجب الخلاف (¬5). مثال هذا: كما لو ورد تحليل (¬6) الضرب/ 252/ فيستدل به على [نسخ] (¬7) تحريم التأفيف. قوله: (لفظية كانت دلالته أو عقلية) أراد بالعقلية القياس؛ لأن الناس اختلفوا في دلالة الفحوى؛ هل هي عقلية أو [هي] (¬8) لفظية؟ فقيل: هي عقلية؛ لأن الحكم ثابت بالقياس، أي: حكم المسكوت عنه ¬
ثابت بالقياس على حكم المنطوق به. وقيل: الدلالة لفظية؛ لأن لفظ المنطوق [به يدل] (¬1) على حكم المسكوت عنه بدلالة الالتزام (¬2). وعلى كل تقدير [سواء] (¬3) قلنا: عقلية، أو قلنا: لفظية يصح النسخ به؛ لأن حكمه صار مناقضًا لحكم ما تقدمه، فيصح النسخ به؛ كغيره من سائر ما يجوز به النسخ (¬4). قوله: (والعقل يكون ناسخًا في حق من سقطت رجلاه، فإِن (¬5) الوجوب ساقط عنه. قاله الإِمام). ش: قال المؤلف في شرحه: ليس هذا (¬6) بنسخ، فإن بقاء المحل شرط، وعدم الحكم لعدم شرطه أو سببه أو قيام (¬7) مانعه ليس بنسخ، وإلا كان النسخ واقعًا طول (¬8) الزمان، لطريان الأسباب وعدمها (¬9)، فقول الإمام فخر الدين: سقوط غسل الرجلين بسقوط الرجلين، هو نسخ لوجوب غسل الرجلين ¬
المأمور [به في] (¬1) قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬2) (¬3)، لا يصح، وإنما ذلك [من باب سقوط الحكم لعدم محله] (¬4) (¬5). ... ¬
الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ
الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ (¬1) ش: ها هنا سؤالان: أحدهما: [لأي شيء] (¬2) لم (¬3) يدرج المؤلف مسائل هذا الفصل في الفصل الذي قبله؟ واستأنف لها فصلها، مع أن مسائل هذا الفصل مختلف فيها كما اختلف في مسائل الفصل الذي قبله (¬4). أجيب عنه: بأن دعوى النسخ في مسائل هذا الفصل بعيدة (¬5)، ولذلك وصفها بالتوهم فقال: فيما يتوهم أنه ناسخ، ولكن هذا الجواب ضعيف؛ لأنه ذكر في الفصل الذي قبله ما دعوى النسخ فيه أبعد مما (¬6) ذكر ها هنا وهو نسخ الغسل في حق من سقطت رجلاه كما قاله الإمام (¬7). ¬
السؤال الثاني: لأي شيء خالف المؤلف عبارة المحصول؟ لأنه قال: فيما يتوهم، وقال الإمام في المحصول: فيما يظن أنه ناسخ وليس كذلك (¬1)، فعبر الإمام بالظن، وعبر المؤلف بالوهم، مع أن الظن والوهم حقيقتان متباينتان (¬2). أجيب عنه: بأن الإمام نظر إلى من أثبت النسخ في هذه المسائل فعبر بالظن، ونظر الشهاب إلى من منعه فعبر بالوهم؛ لأن المثبت يقضي (¬3) بغلبة (¬4) ظنه، والمانع يقول (¬5): إنما ذلك وهم لا ظن. قوله: (زيادة صلاة على الصلوات، [وزيادة] (¬6) عبادة (¬7) على العبادات، ليست نسخًا وفاقًا (¬8)). ¬
ش: هذه المسألة مشهورة عندهم بالزيادة على النص (¬1) (¬2). هل هي نسخ أو لا؟ فذكر المؤلف [أن] (¬3) العبادة المزيدة إذا كانت منفردة بنفسها غير مرتبطة بالمزيد عليه لا تكون نسخًا باتفاق (¬4). مثال زيادة صلاة على الصلوات، كزيادة الوتر على الصلوات الخمس. ومثال: زيادة عبادة على العبادات: زيادة الحج في آخر الإسلام على الصلاة والصيام والزكاة. [و] (¬5) ليست تلك الزيادة ناسخة للمزيد عليه باتفاق لعدم شرط النسخ وهو المنافاة بين الناسخ والمنسوخ، [إذ من شرط ¬
النسخ المنافاة] (¬1) ولا منافاة فلا نسخ (¬2) (¬3)؛ ولأن الزيادة لم ترفع حكمًا شرعيًا، وإنما رفعت البراءة الأصلية وهو حكم عقلي لا شرعي، ومن شرط النسخ رفع الحكم الشرعي (¬4). قوله: (وإِنما جعل أهل العراق الوتر ناسخًا لما فيه من رفع قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬5) , فإن المحافظة على الوسط (¬6) تذهب بصيرورتها (¬7) غير وسط (¬8). ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل له: كيف تقول زيادة عبادة على العبادات ليست نسخًا مع أن الحنفية (¬9) (¬10) قالوا: ينسخ (¬11) الوتر محافظة [الوسطى بسبب صيرورة تلك الوسطى غير وسطى؛ لأن الصلوات حينئذ ست صلوات] (¬12)؛ لأن الوتر واجب عند ............................. ¬
الحنفية (¬1)، فأجاب المؤلف بما ذكر [وذلك] (¬2) أن الحنفية لما اعتقدوا وجوب الوتر صارت الصلوات (¬3) عندهم ستًا لا خمسًا، والست عدد زوج (¬4) لا توسط فيه (¬5)، وإنما التوسط في العدد الفرد نحو الخمس، فإنك تقول: اثنان [و] (¬6) اثنان وواحد متوسط بينهما، وتقول في الست: ثلاث وثلاث (¬7) ولم يبق عدد يتوسط بينهما فالست ليس فيه (¬8) وسط، فإذا ذهب الوسط زال الطلب بالمحافظة على الوسط لعدم الوسط، والطلب بالمحافظة [على الوسط] (¬9) أمر شرعي لأنه مندوب إليه، فقد ارتفع حكم شرعي فيكون نسخًا (¬10). قال سيف الدين الآمدي: قول الحنفية زيادة الوتر ناسخ للوسطى غير صحيح، لأن كون العبادة وسطى (¬11) أمر حقيقي ليس بحكم شرعي، ومن ¬
شرط النسخ أن يكون [في] (¬1) حكم شرعي (¬2). وقال المؤلف في شرح المحصول: في المحافظة على الوسطى ندب شرعي تختص به دون سائر الصلوات، والندب حكم شرعي يقبل النسخ (¬3)، وإلى هذا أشار بقوله: لما فيه من رفع قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬4) أي: لما في وجوب الوتر من رفع ندب المحافظة المطلوبة في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قوله: فإن المحافظة على الوسط (¬5) تذهب بصيرورتها غير وسط، وفي بعض النسخ: فإن المحافظة على الوسطى تذهب بصيرورتها غير وسطى (¬6)، والمعنى واحد (¬7)، وهذا الذي قرره المؤلف مع الحنفية/ 253/ إنما هو كله على القول بأن الصلاة الوسطى سميت بذلك لتوسطها بين شيئين (¬8). ¬
وأما على القول بأنها سميت بذلك (¬1) لفضلها مأخوذ من الوسط الذي هو الفضل، فلا يجري عليه ذلك. وذلك أن الوسط لغة له معنيان (¬2): أحدهما: التوسط بين الشيئين. والثاني: الفضل والشرف. لأنك تقول: وسط فلان قومه، إذا فضلهم، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬3) أي فضلاً (¬4)، وقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (¬5) أي: أفضلهم (¬6). واختلف العلماء في الصلاة الوسطى في فرعين. أحدهما: ما معنى تسميتها بالوسطى هل من الوسط بين شيئين أو من الوسط بمعنى الفضل؟ قولان (¬7). ¬
والفرع الثاني: ما تعيين الصلاة الوسطى؟ فاختلف العلماء في تعيينها على تسعة أقوال، ذكرها ابن عطية (¬1)، وابن الخطيب (¬2)، والإمام المازري (¬3) (¬4). قيل: صلاة الصبح، وقيل: الظهر، وقيل: العصر، وقيل: المغرب، وقيل: العشاء، وقيل: الصلوات الخمس كلها، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الصبح والعصر، وقيل: أخفاها (¬5) الله بين سائر الصلوات ليقع التحفظ والمحافظة على جميعها، كما أخفى ليلة القدر بين سائر الليالي وكما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، وكما أخفى الدعاء الذي فيه رضاه بين سائر [الأدعية، وكما أخفى وليه بين سائر عباده، وكما أخفى وقت الإجابة بين سائر الأوقات، وكما أخفى اسمه الأعظم بين سائر] (¬6) أسمائه (¬7). ¬
أما صلاة الصبح، فقيل: سميت بالوسطى لفضلها، قال عليه السلام: "من صلى صلاة الصبح في جماعة فكأنما قام ليلة [القدر] (¬1) " (¬2)، وقيل: لتوسطها بين صلاتي جمع قبلها وصلاتي جمع بعدها (¬3)، وقيل: لتوسطها بين صلاتي اشتراك قبلها وصلاتي اشتراك بعدها (¬4)، وقيل: لتوسطها بين الليل والنهار (¬5) (¬6). ¬
وأما صلاة الظهر، فقيل: سميت الوسطى لفضلها لكونها أول صلاة ظهرت في الإسلام؛ لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي عليهما (¬1) السلام (¬2) (¬3). وقيل: لتوسطها بين صلاتي النهار (¬4). وقيل: لأنها متوسطة في وسط النهار (¬5) (¬6). وأما صلاة العصر، فقيل: سميت بالوسطى لفضلها لقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬7)، أقسم الله بها لفضلها على القول بذلك (¬8)، ولقوله تعالى قبل النسخ: {حافظوا على الصلوات والصلاة ¬
الوسطى وصلاة العصر} (¬1) (¬2) أي وهي صلاة العصر، وقال عليه السلام: "من فاتته (¬3) صلاة العصر فكأنما (¬4) وتر أهله وماله" (¬5) أي سلب أهله وماله؛ لأنه يقال: وتره وترًا إذا سلبه (¬6)، وقيل معناه: نقص أهله وماله وبقي ¬
فردًا، مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد (¬1)، وقال عليه السلام (¬2): "شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بطونهم وقبورهم نارًا"، وكانت تلك الصلاة هي صلاة العصر. وقيل: لتوسطها بين الحر والبرد أي بين حر النهار وبرد (¬3) الليل (¬4). وأما صلاة المغرب، فقيل: سميت بالوسطى لفضلها؛ لأن عمر رضي الله عنه أخرها حتى طلع نجم فأعتق رقبة. وأخرها حتى طلع نجمان فأعتق رقبتين (¬5). ¬
وقيل: لتوسطها بين الضياء والظلام (¬1). وأما صلاة العشاء، فقيل: سميت بالوسطى (¬2) لفضلها، قال عليه السلام: "من صلى صلاة العشاء في جماعة فكأنما قام ليلة" (¬3)، وقال عليه السلام: "فضلتم بصلاة العشاء على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم" (¬4). وقيل: لتوسطها بين صلاتين لا تقصران (¬5). وأما صلاة الجمعة، فقيل: سميت بالوسطى لفضلها لقوله عليه السلام: "الجمعة حج الفقراء (¬6) وعيد الأغنياء ونزهة الأولياء وعز الخطباء وسرور العلماء وغم الأعداء" (¬7). ¬
وقيل: لتوسطها بين صلاتي النهار. وقيل: لأنها متوسطة في وسط النهار (¬1). وأما القول بأنها صلاة الصبح وصلاة العصر معا (¬2)، فقيل: سميتا (¬3) بالوسطى لفضلهما لقوله عليه السلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون عند صلاة الصبح وعند صلاة العصر" (¬4). وقيل: لتوسط كل [صلاة من هاتين الصلاتين] (¬5) بين الظلام والضياء. وأما القول بأنها الصلوات الخمس كلها (¬6)، فقيل: سميت الصلوات الخمس بالوسطى لفضلها وشرفها لأنها أفضل العبادات، قال عليه السلام: ¬
"بين العبد والكفر ترك الصلاة"، وقيل: لتوسطها بين أعلى (¬1) الإيمان وأدناه، لقوله عليه السلام: "الإيمان بضع وسبعون خصلة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (¬2) (¬3). قوله: (والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخًا عند مالك رحمه الله وعند أكثر أصحابه والشافعي، خلافًا للحنفية. وقيل: إِن نفت (¬4) ما دل عليه المفهوم الذي هو دليل الخطاب أو الشرط كانت (¬5) نسخًا (¬6)، وإِلا فلا. وقيل: إِن لم يجز الأصل بعدها فهي نسخ، وإِلا فلا. فعلى مذهبنا: زيادة التغريب (¬7) ليست نسخًا، وكذلك تقييد الرقبة بالإِيمان، وإِباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين الواجب وغيره لأن المنع من إِقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي، وكذلك لو وجب (¬8) الصوم إِلى الشفق). ¬
ش: شرع المؤلف رحمه الله ها هنا في الزيادة على العبادة الواحدة، أي: إذا زيدت عبادة على عبادة واحدة (¬1)، كزيادة ركعتين على ركعتين كما قالت عائشة رضي الله عنها: "فرضت الصلاة مثنى مثنى ثم زيد في صلاة الحضر" (¬2) (¬3)، هل تكون تلك الزيادة ناسخة (¬4) أم لا؟ ذكر المؤلف في ذلك أربعة أقوال: الأول: لمالك والشافعي وأكثر أصحابهما (¬5). ¬
الثاني: للحنفية (¬1). الثالث: للقاضي عبد الجبار (¬2) (¬3). الرابع: للقاضي أبي بكر والقاضي ابن القصار (¬4) واختاره الباجي (¬5). ¬
قوله: (وعند أكثر أصحابه والشافعي)، وكذلك به قال أكثر/ 254/ أصحاب (¬1) الشافعي أيضًا، فصوابه أن يقول: (¬2) ليست نسخًا عند مالك والشافعي وأكثر أصحابهما. حجة القول الأول الذي عليه الجمهور: أن [شرط] (¬3) النسخ المنافاة فلا منافاة بين الزيادة والمزيد عليه فلا نسخ (¬4)، وذلك [أن] (¬5) زيادة ركعتين لا تبطل وجوب الركعتين الأوليين بل الجميع واجب (¬6). ¬
حجة القول الثاني الذي عليه الحنفية ثلاثة أوجه: أحدها: أن الركعتين قد كانتا (¬1) أولاً تجزيان (¬2) وبعد الزيادة لا تجزيان (¬3) والإجزاء حكم شرعي فقد ارتفع حكم شرعي فيكون نسخًا (¬4). الثاني: أن السلام كان أولاً واجبًا عقيب الركعتين ثم بطل ذلك وصار واجبًا بعد الأربع فقد بطل حكم شرعي فيكون نسخًا (¬5). الثالث: الأفعال بعد الركعتين كانت مباحة ثم ارتفعت تلك الإباحة بعد الزيادة والإباحة حكم شرعي فقد ارتفع حكم شرعي فيكون نسخًا (¬6). أجيب عن الأول: أن الإجزاء راجع إلى عدم التكليف بالزيادة وعدم التكليف عقلي لا شرعي، ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ إجماعًا (¬7). ¬
أجيب (¬1) عن الثاني: بأنا (¬2) لا نسلم أن الله تعالى أوجب السلام عقيب الركعتين لكونهما ركعتين بل لكونهما آخر الصلاة فقط، ولا مدخل للعدد في ذلك فقد وقع السلام في موضعه الذي هو آخر الصلاة فلم تبطله الزيادة فلا يكون نسخًا (¬3). وأجيب عن الثالث: بأن إباحة الأفعال بعد الركعتين تابع لعدم التكليف بالزيادة (¬4) وعدم التكليف عقلي وتابع العقلي عقلي ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ (¬5). قوله: (وقيل إِن نفت الزيادة ما دل عليه المفهوم الذي هو دليل الخطاب أو الشرط كانت نسخًا وإِلا فلا)، هذا هو القول الثالث، وهو قول القاضي عبد الجبار (¬6) بالتفصيل بين أن تنفي تلك الزيادة ما دل عليه مفهوم الصفة أو مفهوم الشرط أو لم تنفه (¬7). قوله: (دليل الخطاب)، أي: مفهوم المخالفة ومفهوم (¬8) الصفة. ¬
وقوله: (أو الشرط)، أي: أو دل عليه مفهوم الشرط. مثال نفي ما دل عليه مفهوم الصفة: قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة" مفهومه: أن لا زكاة في غير السائمة، ثم يقول بعد ذلك: في الغنم [مطلقًا] (¬1) الزكاة، فإن عموم هذا الثاني يرفع المفهوم المتقدم فيكون نسخًا (¬2). ومثال نفي ما دل عليه مفهوم الشرط: أن يقول صاحب الشرع (¬3): إن كانت الغنم سائمة ففيها الزكاة، مفهومه: أن لا زكاة في غير السائمة، ثم يقول بعد ذلك: في الغنم مطلقًا الزكاة، فإن عموم هذا الثاني ينفي المفهوم المتقدم فيكون نسخًا (¬4)؛ لأنه رافع لما هو ثابت بدليل شرعي وهو المفهوم، فجعل القاضي عبد الجبار النفي الأصلي حكمًا شرعيًا لاقترانه بمفهوم الصفة (¬5) أو مفهوم الشرط (¬6). قال المؤلف في شرحه: وليس الأمر كما قال: لأن الله تعالى لو قال: لا أشرع لكم في هذه السنة حكمًا، أو قال: لا أكلفكم في هذه السنة بشيء، فإنه تعالى (¬7) لم تكن (¬8) له في هذه السنة شريعة، فإن رفع الحكم ¬
الأصلي ليس بنسخ، أي فإن رفع الحكم العقلي ليس بنسخ، فالقاضي عبد الجبار مع تدقيقه [قد] (¬1) فاته هذا الموضع (¬2) (¬3). قوله: (وإِلا فلا)، أي: وإن لم (¬4) تنف الزيادة مدلول المفهوم فلا تكون نسخًا. مثاله: زيادة (¬5) ركعتين في صلاة الحضر على ركعتين. قوله: (وقيل: إِن لم يجز الأصل بعدها فهي (¬6) نسخ وإِلا فلا)، هذا هو القول الرابع، وهو قول القاضي أبي (¬7) بكر والقاضي ابن القصار وهو مختار الباجي، وهو التفصيل بين أن يجزئ الأصل أو لا يجزئ. مثال ما لا يجزئ فيه الأصل بدون الزيادة: كون الصلاة أولاً ركعتين هذا هو الأصل، ثم وردت زيادة ركعتين في الحضر، فإن الركعتين الأولتين (¬8) لا تجزيان بدون هذه الزيادة، فتكون الزيادة ناسخة للحكم المتقدم لعدم إجزاء ¬
المتقدم عن انضمام (¬1) الزيادة إليه (¬2). ومثال ما يجزئ فيه الأصل بدون انضمام الزيادة إليه: زيادة التغريب بعد الجلد في حد الزاني؛ فإن الإمام إذا جلده ثم قيل له: لا بد من تغريبه، فإنه يغربه ولا يحتاج إلى إعادة الجلد بخلاف المصلي ركعتين فإنه لا بد له من إعادة الصلاة بأربع ركعاتها (¬3)، فإذا كان الأصل لا يجزئ إلا باتصال الزيادة كانت الزيادة نسخًا للأصل، وإن (¬4) كان الأصل يجزئ بدون اتصال الزيادة لم تكن الزيادة نسخًا للأصل. ووجه هذا القول: أن الأصل إذا لم يجزئ بعد الزيادة اشتد التغيير فيكون نسخًا (¬5)، بخلاف القسم الآخر لقلة التغيير فيه. قوله: (فعلى مذهبنا زيادة التغريب ليست نسخًا)، أي: فعلى مذهبنا نحن القائلين (¬6) بأن الزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخًا، وإنما لم تكن زيادة التغريب نسخًا؛ لأن وجوب التغريب رافع لعدم وجوبه، وعدم الوجوب حكم عقلي ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ (¬7). ¬
قوله: (وكذلك تقييد الرقبة بالإِيمان)، أي: زيادة قيد الإيمان في الرقبة في كفارة قتل الخطأ وأطلقت الرقبة في كفارة الظهار، وإنما لم تكن زيادة الإيمان في الرقبة نسخًا؛ لأن وجوب الإيمان فيها رافع لعدم وجوب تحصيل الإيمان فيها، وعدم الوجوب حكم عقلي (¬1)، ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ. قوله: (وإِباحة قطع السارق [يعني: أن إِباحة قطع جارحة السارق] (¬2) في المرة الثانية ليست نسخًا لآية (¬3) السرقة)، وهي (¬4) قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5)، وإنما قيد المؤلف/ 255/ بالمرة الثانية لأن بها تتصور الزيادة على العبادة التي هي فرض المسألة (¬6). قوله: (في (¬7) الثانية)، يعني: وكذلك في المرة الثالثة والرابعة، وإنما لم تكن هذه الإباحة ناسخة؛ لأنها رافعة لعدم إباحة القطع، وعدم الإباحة حكم عقلي ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ (¬8). فإن قيل: إن الآدمي محرم مطلقًا والتحريم حكم شرعي، وقد ارتفع ¬
بإباحة القطع فيكون نسخًا؛ لأنه رفع حكم شرعي بحكم شرعي (¬1). أجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن الآدمي محرم، بل الأصل في الآدمي وغيره عدم الحكم لا تحريم ولا إباحة؛ لأن عدم الحكم هو الأصل عندنا في جميع (¬2) أجزاء العالم حتى وردت (¬3) الشرائع (¬4)، فإباحة القطع رافعة لعدم الحكم لا للتحريم فلا يكون نسخًا (¬5). الوجه الثاني: أنا نسلم التحريم ولكن ذلك التحريم إنما هو لآدميته وشرفه من غير نظر إلى الجناية، وهذا التحريم باق، وإباحة قطعه إنما هي (¬6) من حيث ¬
جنايته، ولا تنافي بين تحريمه من حيث هو هو وبين (¬1) إباحته من حيث الجناية، [فإن] (¬2) التحريم (¬3) باق لم يرتفع فلا (¬4) نسخ لعدم المنافاة، كما نقول في الميتة: هي محرمة من جهة أنها ميتة، ومباحة من جهة الإضرار (¬5) إليها، فلا تكون الإباحة فيها نسخًا لتحريمها الثابت (¬6) لها من حيث هي هي لعدم المنافاة، وإنما يحصل التنافي لو أبحنا الميتة من حيث هي ميتة، وكذلك قطع الآدمي لم يحصل فيه التنافي فلا يكون إباحة قطعه في السرقة (¬7) نسخًا، لعدم التنافي، وإنما يحصل التنافي لو أبحنا قطعه من حيث هو آدمي (¬8). فتبين بما قررناه: أن إباحة القطع في السرقة (¬9) لا تكون نسخًا للتحريم، بل هي رافعة لعدم الحكم، وعدم الحكم هو حكم عقلي ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ. قوله: (والتخيير بين الواجب وغيره لأن المنع من إِقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي)، يعني: أن التخيير بين الواجب وغيره لا يكون نسخًا ¬
للوجوب. مثاله: كما لو أوجب الله تعالى غسل الرجلين ثم خير بين الغسل والمسح على الخفين فلا يكون ذلك التخيير نسخًا لوجوب الغسل، وإنما لا يكون (¬1) التخيير نسخًا للواجب؛ لأن عدم التخيير إنما هو لعدم مشروعية المسح (¬2)، وعدم المشروعية حكم عقلي، ورفع الحكم العقلي لا يكون نسخًا، فإن المنع من إقامة المسح مقام الغسل عقلي لا شرعي (¬3)، وإلى هذا أشار بقوله: لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي؛ أي: لأن المانع من إقامة غير الواجب مقام الواجب عقلي لا شرعي، أي: لأن المانع من جعل غير الواجب بدل الواجب أمر عقلي، وهو عدم مشروعيته، أي: عدم وروده في الشرع لأن عدم المشروعية عقلي. قال في الشرح: لأنه إذا قيل لك: لم لا تتخير بين صلاة الظهر وصدقة درهم، تقول: لأن البدل لم يشرع، تشير إلى عدم المشروعية، وعدم المشروعية حكم عقلي (¬4). انتهى. وكذلك لو قيل: لم لا تتخير (¬5) بين غسل الرجلين والمسح على الخفين، تقول: لأن البدل لم يشرع، تشير إلى عدم المشروعية، وعدم المشروعية ¬
حكم عقلي. فمتى خير (¬1) بين الواجب وغيره فقد رفع عدم مشروعية (¬2) ذلك البدل فقط (¬3). قوله: (وكذلك لو وجب (¬4) الصوم إِلى الشفق)، يعني أنه لو ورد وجوب الصوم إلى الشفق بعد وروده إلى الغروب (¬5) فلا يكون نسخًا؛ لأنه رافع لعدم الوجوب من الغروب إلى الشفق، وعدم الوجوب حكم عقلي ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ (¬6). قوله: (ونقصان العبادة (¬7) نسخ لما سقط دون الباقي إِن لم يتوقف) (¬8)، [وإن توقف] (¬9) قال القاضي عبد الجبار: هو نسخ في الجزء دون الشرط، ¬
واختار فخر الدين والكرخي عدم النسخ. ش: لما فرغ المؤلف من حكم الزيادة على العبادة، شرع ها هنا في عكسه وهو (¬1) النقصان من العبادة. قوله: (ونقصان العبادة) (¬2)، [أي: نسخ بعض العبادة] (¬3)، أي: إذا نسخ بعض العبادة وبقي البعض فلا يخلو ذلك من وجهين: أحدهما: ألا يتوقف صحة الباقي على وجود الساقط. الوجه الثاني: أن يتوقف صحة الباقي على وجود الساقط قبل النسخ. فإن لم يتوقف صحة الباقي على الساقط فلا يكون نسخ الساقط نسخًا للباقي باتفاق (¬4). ¬
قال المؤلف في الشرح: مثال ما لا يتوقف: كنسخ الزكاة بالنسبة إلى الصلاة مثلاً، يعني: أنه إذا نسخ وجوب الزكاة مثلاً فلا يكون نسخها نسخًا للصلاة لعدم توقف الباقي وهو الصلاة على وجود المنسوخ وهو الزكاة لأن كل واحدة (¬1) منهما عبادة مستقلة بنفسها لا تفتقر إلى الأخرى (¬2). قال المسطاسي: تمثيل المؤلف ما لا يتوقف بالزكاة بالنسبة إلى الصلاة غير مطابق؛ لأن الغرض إنما هو في العبادة الواحدة (¬3). قال بعضهم: مثال ما لا يتوقف فيه الباقي على الساقط كنسخ سنة من سنن (¬4) العبادة فلا يكون ذلك نسخًا لتلك العبادة كلها باتفاق (¬5)، كنسخ تكبيرة من تكبيرات الصلاة، فلا يكون [ذلك] (¬6) نسخًا لتلك الصلاة، وإلى هذا القسم (¬7) الذي لا يتوقف ما بقي فيه على ما سقط منه أشار المؤلف بقوله: ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف. وإنما لا يحكم على الباقي [فيه] (¬8) بنسخ الساقط؛ لأن كل واحد (¬9) منهما منفرد بنفسه لا يتوقف على الآخر. فهما متباينان/ 256/ فلا يلزم من وجود ¬
أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه. وأما إن توقف صحة الباقي على وجود المنسوخ قبل نسخه ففيه ثلاثة أقوال: قيل: هو نسخ للباقي مطلقًا (¬1). وقيل: ليس بنسخ له مطلقًا (¬2). وقيل: التفصيل بين الجزء والشرط (¬3)، فإن كان المنسوخ جزءًا من أجزاء العبادة فهو نسخ (¬4) للباقي من العبادة فتنسخ العبادة كلها. وإن (¬5) كان المنسوخ من العبادة شرطًا من شروطها فلا يكون ذلك نسخًا للعبادة (¬6). مثال نسخ (¬7) الجزء: كنسخ ركعة من الصلاة أو الركوع أو السجود (¬8) (¬9). ¬
ومثال نسخ الشرط: كنسخ الطهارة بالنسبة إلى الصلاة أو ستر العورة أو الاستقبال (¬1). وإلى هذا القول بالتفصيل أشار المؤلف بقوله: وإن توقف، قال القاضي عبد الجبار: هو نسخ في الجزء دون الشرط. وإلى القول بعدم النسخ مطلقًا لا فرق بين نسخ الجزء ونسخ الشرط أشار المؤلف بقوله: واختار فخر الدين والكرخي عدم النسخ، يعني لا فرق بين نسخ الجزء ونسخ الشرط (¬2) فلا يكون نسخ بعض العبادة نسخًا للباقي منها، كان ذلك البعض المنسوخ جزءًا من أجزائها أو شرطًا (¬3) من شروطها. وأما القول بأنه نسخ مطلقًا فلم يذكره المؤلف ولم يذكر إلا القولين (¬4): قول بالتفصيل، وقول بعدم [النسخ] (¬5) من غير تفصيل. حجة القول المشهور، وهو عدم النسخ مطلقًا: أن إيجاب الحكم لجميع (¬6) العبادة يجري مجرى إثبات الحكم للعموم، فكما أن إخراج بعض العموم لا يقدح في الباقي فكذلك ها هنا (¬7)، فإذا نسخ البعض بقي [البعض، وبقي] (¬8) ¬
الحكم [له] (¬1) (¬2). حجة القول بالنسخ مطلقًا: أن الباقي لا يجزئ قبل النسخ بانفراده فكذلك لا يجزئ بانفراده بعد النسخ (¬3). أجيب عن هذا: بأن عدم الإجزاء إنما هو لأجل التكليف بالزائد (¬4). حجة القول بالتفصيل بين الجزء والشرط: أن الجزء [هو] (¬5) بعض أجزاء الماهية، والماهية حقيقة مركبة من أجزاء، فإذا عدم جزء من أجزائها بطلت الماهية كلها، بخلاف الشرط فإنه أمر خارج عن الماهية فلا يؤثر نسخه في نسخ الماهية (¬6). ... ¬
الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ
الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ (¬1) ش: أي في بيان الطريق الذي يعرف به النسخ (¬2)، وهو محصور في قسمين: لفظي، ومعنوي. قوله: ([و] (¬3) يعرف (¬4) بالنص على الرفع، أو على ثبوت النقيض أو الضد). ش: يعني أن النسخ يعرف بأحد شيئين: لفظي وهو [معنى] (¬5) قوله: بالنص، ومعنوي وهو قوله: ثبوت النقيض أو الضد (¬6). مثال النص على النسخ: كما لو قال عليه السلام: هذا ناسخ وهذا منسوخ، وكذلك ما في معنى هذا؛ كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ¬
{وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ...} (¬1) الآية، وكقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت عليكم وأما الآن فكلوا وتصدقوا وادخروا"، وكقوله عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا"، وكقوله عليه السلام (¬2): "نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام". ومثال النص (¬3) على ثبوت النقيض: (¬4) وقوف الواحد للاثنين فإنه يناقض وقوف الواحد للعشرة (¬5)؛ لأن ما بين الاثنين والعشرة يقتضي أحد الدليلين جواز الهروب منه والآخر يقتضي منع الهروب، فالجمع بين الجواز والمنع جمع بين النقيضين (¬6) وهو ممنوع، فيقتضي أن أحد الدليلين ناسخ ¬
للآخر. ومثال النص على الضد: استقبال الكعبة مع استقبال بيت المقدس؛ لأن الجمع بين الاستقبالين (¬1) جمع بين الضدين وهو ممنوع. قوله: (ويعلم (¬2) التأريخ بالنص على التأخير، أو [على] (¬3) السنة، أو الغزوة، أو الهجرة، ويعلم (¬4) نسبة ذلك إِلى زمان الحكم، أو برواية من مات قبل رواية الحكم الآخر) (¬5). ش: يعني أن زمان الدليلين المتعارضين يعلم بأحد شيئين: لفظي، ومعنوي (¬6)، فاللفظي: أن ينص الشارع على أن أحد الدليلين متأخر عن الآخر، كحديث لحوم الأضاحي المتقدم وغيره، وإلى هذا أشار بقوله: ويعلم التأريخ بالنص على التأخير (¬7)، وأشار إلى المعنوي بقوله: أو على السنة أو الغزوة أو الهجرة، يعني: أن ينص (¬8) الراوي على [أن] (¬9) التحريم مثلاً وقع في سنة خمس ويعلم أن الإباحة في سنة سبع فتكون الإباحة ناسخة للتحريم ¬
لتأخر تأريخها (¬1) (¬2) عن تأريخ التحريم، وإن قال الراوي: كان التحريم في غزوة كذا أو كانت الإباحة في غزوة [كذا] (¬3) كان (¬4) ذلك بمنزلة النص على السنة؛ لأن غزواته عليه السلام معلومة (¬5) السنين (¬6). وكذلك إن [قال] (¬7): كان التحريم مثلاً قبل الهجرة، وكانت الإباحة بعد الهجرة، فإن ذلك بمنزلة النص على السنة. والإشارة [في] (¬8) قوله (¬9): ويعلم نسبة ذلك، عائدة (¬10) على السنة والغزوة والهجرة، أي: ويعلم نسبة ذلك لزمان الحكم هل هو متقدم عليه أو متأخر عنه؟ فينسخ المتأخر المتقدم أبدًا (¬11). قوله: (أو السنة)، يغني عن قوله: أو الغزوة أو الهجرة؛ لأن قوله: الغزوة أو الهجرة تبيين للسنة؛ لأن ما قبل الهجرة وما بعدها معلوم السنين، وغزواته عليه السلام معلومة السنين، بينها أرباب السير، وقد أشار إليها ¬
ابن الحاجب في كتاب الجهاد (¬1) [فقال:] (¬2) وقد جاهد [رسول الله] (¬3) - صلى الله عليه وسلم - في الثانية من الهجرة غزوة بدر (¬4) , ثم أحد (¬5)، ثم ذات الرقاع (¬6)، ثم الخندق (¬7)، ثم بني النضير (¬8) (¬9) , ¬
ومريسيع (¬1) (¬2) وفيها اعتمر عمرة الحديبية (¬3) التي صد عنها، ثم خيبر (¬4) واعتمر فيها عمرة القضاء (¬5)، ثم فتح مكة (¬6)، وفيها نزل على حنين (¬7)، والطائف/ 257/ (¬8)، ¬
ثم تبوك وهي الأخيرة (¬1) وفيها تخلف الثلاثة (¬2) وجماعة، وفيها أمر أبا بكر أن يحج (¬3) بالناس (¬4)، وحج - صلى الله عليه وسلم - في العاشرة، وتوفي بعد حجـ[ـه في القابل] (¬5) (¬6). انتهى. قوله: (قال القاضي عبد الجبار: قول الصحابي في الخبرين المتواترين هذا قبل ذلك مقبول وإِن لم يقبل قوله في نسخ العلوم، كثبوت الإِحصان بشهادة (¬7) اثنين بخلاف الرجم، وشهادة (¬8) النساء في الولادة دون النسب). ¬
ش: ها هنا ثلاثة ألفاظ (¬1): أحدها: أن يقول الصحابي [هذا قبل ذلك. ثانيها: أن يقول: هذا نسخ ذلك. ثالثها: أن يقول: هذا منسوخ. فإذا قال: هذا قبل ذلك. قال القاضي عبد الجبار مقبول (¬2)، وإليه أشار المؤلف بقوله: قال القاضي عبد الجبار في الخبرين المتواترين هذا قبل ذلك مقبول، يعني: إذا قال الصحابي] (¬3) في الخبرين المتواترين المتعارضين هذا الخبر قبل ذلك الخبر فإنه مقبول في ثبوت النسخ. وقال غيره: لا يقبل، فإنه يقتضي نسخ المتواتر بقول ذلك الواحد (¬4). قوله: (وإِن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم)، هذا تأكيد وإغياء (¬5)، معناه: قال القاضي عبد الجبار: يقبل قوله وإن لم يقبل قوله ابتداء في نسخ المتواتر: هذا منسوخ. وقاس (¬6) القاضي عبد الجبار قبول ذلك على أصلين. ¬
أحدهما: الإحصان (¬1). فإنه يثبت بشاهدين (¬2) مع أن الإحصان يؤدي إلى الرجم الذي لا يثبت سببه بشاهدين (¬3). إذ لا يثبت سببه الذي هو الزنا إلا بأربعة شهداء. والجامع بينهما: أن التقدم شرط (¬4) النسخ كما أن الإحصان شرط الرجم (¬5). والأصل الثاني: شهادة النساء تقبل في الولادة بأن هذا الولد ولد على فراش هذا، فإن شهادة النساء تثبت في الولادة (¬6) مع أن الولادة يؤدي ثبوتها إلى ثبوت النسب الذي لا يثبت بشهادة النساء, إذ لا يثبت النسب إلا بشهادة الرجال. والجامع بينهما (¬7): أن التقدم (¬8) شرط ثبوت النسخ. والولادة شرط ثبوت النسب (¬9). ¬
قوله: (قال (¬1) (¬2): فخر الدين: قول الصحابي: هذا منسوخ، لا يقبل، لجواز (¬3) أن يكون اجتهادًا منه. وقال الكرخي: إِن قال: هذا (¬4) نسخ ذلك (¬5) لم يقبل، وإِن قال: هذا منسوخ قبل؛ لأنه لم يُخَلِ للاجتهاد مجالاً فيكون قاطعًا به، وضعفه الإِمام). ش: ذكر المؤلف ها هنا لفظين. أحدهما: أن يقول الصحابي: هذا منسوخ. الثاني: أن يقول هذا نسخ ذلك. فإذا قال: هذا منسوخ ففيه قولان: قال فخر الدين: لا يقبل (¬6). [وقال أبو الحسن الكرخي: يقبل (¬7). وإنما قال فخر الدين: لا يقبل] (¬8)، للاحتمال أن يقول ذلك بالاجتهاد ¬
منه (¬1). وإنما قال الكرخي: يقبل؛ لأنه لم يُخَلِ للاجتهاد مجالاً فيكون قاطعًا [به] (¬2)، أي: بنسخه (¬3)؛ لأن الصحابي إذا أطلق القول فيه فقال: هذا منسوخ ولم يذكر الناسخ فكأنه قطع بصحته، بخلاف ما إذا ذكر الناسخ فقال: هذا نسخ ذلك، فإنه عرضة للاحتمال؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك اجتهادًا منه (¬4). قال المؤلف في الشرح: ونظير قوله هذا منسوخ فيقبل (¬5)، قول بعضهم في الخبر المرسل: إنه أقوى من المسند؛ لأنه إذا بين السند ورجاله فقد جعل لك (¬6) مجالاً في الاجتهاد في عدالتهم، وأما إذا سكت فقد التزم ذلك في ذمته فيكون أقوى في العدالة ممن [لم] (¬7) يلتزم (¬8)، فكذلك إذا قال: هذا منسوخ. قوله: (وضعفه الإِمام)، [أي لأنه يحتمل] (¬9) (¬10) أن يقول ذلك لقوة ظنه ¬
والظن محتمل (¬1) للخطأ (¬2). تنبيه: لا يثبت التقديم والتأخير بتقدم إحدى (¬3) الآيتين على الأخرى في المصحف؛ لأنه ليس ترتيب الآيات (¬4) في المصحف على ترتيبها في النزول، لأنه ربما قدم المتأخر وربما أخر المتقدم (¬5). والدليل على ذلك أن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬6) ناسخ لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬7) مع أن الناسخ متقدم على المنسوخ في المصحف (¬8). ... ¬
الباب الخامس عشر في الإجماع
الباب الخامس عشر في الإجماع وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: في حقيقته. الفصل الثاني: في حكمه. الفصل الثالث: في مستنده. الفصل الرابع: في المجمعين. الفصل الخامس: في المجمع عليه.
الفصل الأول في حقيقته
الباب الخامس عشر في الإجماع وفيه خمسة فصول: الفصل الأول في حقيقته (¬1) ش: الإجماع لغة له ثلاثة (¬2) معانٍ: أحدها: العزم، والثاني: الصيرورة [إلى الجمع] (¬3)، والثالث: الاتفاق (¬4). فدليل العزم (¬5): أنك (¬6) تقول: أجمع الرجل أمره (¬7)، إذا عزم عليه، ومنه قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل"، [أي: لمن ¬
لم يعزم على الصيام من الليل] (¬1) ومنه قول ابن الحاجب: ولو أجمع على الإسلام واغتسل (¬2) له أجزأه (¬3)، أي: عزم (¬4) على الإسلام. ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (¬5) [أي: فاعزموا على أمركم، وقوله: {وَشُرَكَاءَكُمْ}] (¬6)، يحتمل نصبه على المعية، أي: مع شركائكم (¬7)، ويصح أن يكون منصوبًا بفعل محذوف تقديره: وأجمعوا شركاءكم (¬8)، أمر من جمع ثلاثيًا لا رباعيًا؛ لأن الرباعي لا يستعمل في الضم والجمع، وإنما يستعمل في العزم، وإنما الذي يستعمل في الضم والجمع هو الثلاثي، فتقول: أجمعت أمري، وجمعت شركائي (¬9). فلا تقول: جمعت أمري بفعل ثلاثي، ولا أجمعت (¬10) شركائي بفعل رباعي. ¬
فقوله تعالى: {وَشُرَكَاءَكُمْ} منصوب بواو المعية، أو منصوب بفعل مضمر كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (¬1)، أي: وألفوا (¬2) الإيمان، إذ لا يقال: تبوأت الإيمان (¬3). ومنه قول الشاعر: علفتها تبنًا وماءً باردًا (¬4) ..................... أي: وسقيتها ماءً باردًا؛ إذ لا يقال: علفتها ماءً. ومنه قول الشاعر [أيضًا] (¬5): فزججن الحواجب والعيونا أي: وكحلن العيونا؛ إذ لا يقال: زججن العيونا. وأما المعنى الآخر وهو الصيرورة إلى الجمع فدليله: (¬6) أنك تقول: أجمع ¬
الرجل، إذا صار ذا جمع، مثل: ألبن وأتمر (¬1)، إذا صار ذا لبن وذا تمر. فأجمع بالفعل الرباعي إذًا (¬2) له معنيان: إما عزم، وإما صار ذا جمع/ 258/، فقولهم: أجمع المسلمون على وجوب الصلاة مثلاً، يصح أن يكون بمعنى صاروا ذوي جمع، ويصح أن يكون بمعنى عزموا [على] (¬3) ذلك، أي: قطعوا به، هذا كله في أجمع (¬4) الرباعي، وأما الثلاثي فمعناه الضم، أي: ضم المفترق (¬5)، ومصدره جمعًا (¬6)، ومنه قوله تعالى: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} (¬7)، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ [لِيَوْمِ الْجَمْعِ]} (¬8) (¬9) (¬10). وأما المعنى الثالث وهو الاتفاق (¬11) فدليله: قولهم: أجمع القوم على كذا، معناه: اتفق القوم على كذا، ولكن هذا المعنى الثالث يصح أن يرجع إلى المعنيين (¬12) الأولين، فقولهم: أجمع القوم على كذا، يصح أن يكون معناه: ¬
صاروا ذوي جمع، ويصح أن يكون معناه: عزموا ذلك، أي: قطعوا به. هذا كله في المعنى اللغوي (¬1). وأما حقيقته في الاصطلاح فقد بيّنها (¬2) المؤلف رحمه الله تعالى. قوله: (وهو (¬3) اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في (¬4) أمر من الأمور. ونعني بالاتفاق: الاشتراك إِما في القول أو في الفعل أو [في] (¬5) الاعتقاد، و [نعني] (¬6) بأهل الحل والعقد: المجتهدين في الأحكام الشرعية، وبأمر من الأمور: الشرعيات، والعقليات، والعرفيات). ش: هذا الحد مع تفسير قيوده هو حد الإمام في المحصول (¬7). ¬
قوله: (إِما في القول) مثل أن يصرحوا بأن يقولوا: مذهبنا في هذا أنه حلال أو حرام أو واجب مثلاً. قوله: (أو في الفعل) مثل أن يفعلوا كلهم فعلاً من الأفعال، فيدل ذلك على جوازه ونفي الحرج، يريد ما لم تقم قرينة تدل على وجوبه أو (¬1) ندبه، فيحكم بمقتضى القرينة، كما أن فعله عليه السلام يدل على الإباحة ما لم تقم (¬2) قرينة تدل على الوجوب أو (¬3) الندب فيقضى بمقتضى القرينة، قاله إمام الحرمين [في البرهان] (¬4) (¬5). وكذلك إذا أجمعوا على ترك شيء قولاً كان أو فعلاً، فإن ذلك يدل على عدم وجوبه، ويجوز أن يكون مندوبًا؛ لأن ترك المندوب غير محظور (¬6). قوله: (أو في الاعتقاد) أي: [إذا] (¬7) اعتقدوا شيئًا وأخبروا أنهم (¬8) رضوه (¬9) في أنفسهم دل ذلك على أن ذلك حسن؛ إذ لو لم يكن حسنًا ما رضوا به (¬10). قوله: (ونعني بأهل الحل والعقد: المجتهدين في الأحكام الشرعية) ¬
احترز (¬1) بالمجتهدين من العوام، واحترز به أيضًا من اتفاق بعضهم (¬2) دون البعض؛ لأن قوله: (المجتهدين) يقتضي جميع المجتهدين؛ لأنه جمع محلى بالألف واللام، وسيأتي (¬3) صفة المجمعين في الفصل الرابع في المجمعين (¬4). قوله: (من هذه الأمة) يعني: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم اجعلنا من أمة محمد بحرمة محمد عليه السلام (¬5)، واحترز بهذه الأمة من إجماع أرباب الشرائع من الأم السالفة؛ لأن (¬6) إجماعهم ليس بحجة في أديانهم؛ لأن العصمة من خصائص هذه الأمة، ويجوز الخطأ على غيرهم من الأمم، وقد اختلف أرباب الأصول في الأمم السالفة هل هو حجة؟ قاله أبو إسحاق ¬
الإسفراييني (¬1) (¬2)، أو ليس بحجة؟ قاله الجمهور (¬3)؛ لأنهم قالوا: الإجماع من خصائص هذه الأمة، أو الوقف، قاله القاضي أبو بكر (¬4)، أو التفصيل: إن أسند إلى قطعي فهو حجة وإلا فالوقف، قاله فخر الدين (¬5). قوله: (الشرعيات) كتحريم الخنزير. قوله: (العقليات (¬6))، كنفي الشريك لله تعالى. قوله: (العرفيات (¬7)) كإباحة الأغذية النافعة كالخبز، وتحريم الأغذية الضارة كالسم. واعترض قوله: (العقليات)؛ إذ لا مدخل للإجماع في العقليات. ¬
قال إمام الحرمين في البرهان: لا أثر للإجماع في العقليات، فإن المعتبر فيها الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق (¬1)، وإنما يعتبر الإجماع في السمعيات (¬2). أجيب عنه: بأن مقصود الحد تصوير (¬3) حقيقة الإجماع خاصة، وأما كونه حجة في إثبات السمعيات والعرفيات والعقليات فلم يتكلم عليه المؤلف ها هنا، وسيأتي في موضعه إن شاء الله في الفصل الخامس في المجمع عليه (¬4)؛ لأن تصور الإجماع مخالف للحكم على الإجماع. واعترض (¬5) أيضًا قوله: (اتفاق أهل الحل والعقد) بأنه يوهم أن الإجماع لا يتم إلا باتفاقهم في جميع الأعصار إلى يوم القيامة، وذلك باطل؛ لأنه يؤدي إلى عدم انعقاد الإجماع أصلاً، فلا بد من أن يزاد بعد قوله: (من هذه الأمة): في عصر من الأعصار. ... ¬
الفصل الثاني في حكمه
الفصل الثاني في حكمه وهو عند الكافة حجة خلافًا للنظام والشيعة والخوارج، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬1) الآية (¬2)، وثبوت الوعيد على المخالفة، يدل على وجوب (¬3) المتابعة، وقوله عليه السلام: "لا تجتمع (¬4) أمتي على خطأ" (¬5) يدل على ذلك (¬6). ش: تعرض المؤلف في هذا الفصل لأحكام (¬7) الإجماع، فذكر في ذلك عشرين مسألة. الأولى (¬8): هل الإجماع حجة أم لا؟. ذهب (¬9) الجمهور [إلى] (¬10) أنه ¬
حجة (¬1)، خلافًا للنظام من المعتزلة (¬2)، والشيعة (¬3)، والخوارج (¬4) القائلين: ليس بحجة. حجة المخالف: أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن أنواع المناكر، كالقتل، والزنا، [والسرقة] (¬5)، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل أموال (¬6) الناس بالباطل، فلولا تصور (¬7) وقوع ذلك منهم لما نهاهم عنه، فذلك (¬8) يدل على عدم عصمة المؤمنين (¬9). أجيب عنه: بأن العصمة إنما هي (¬10) ثابتة للمجموع لا للآحاد والأفراد؛ ¬
لأن صيغ العموم إنما وضعت لكل واحد [واحد] (¬1) لا للمجموع، فيكون كل واحد من المؤمنين على انفراده غير معصوم، ولا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في مجموعهم لا في آحادهم (¬2). وحجة الجمهور: الكتاب، والسنة؛ فالكتاب (¬3): قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ...} (¬4) الآية (¬5)، كما قال المؤلف/ 259/؛ لأن ثبوت الوعيد على مخالفة سبيل المؤمنين يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين، والإجماع من (¬6) سبيل المؤمنين فيجب اتباعه (¬7). وقوله تعالى أيضًا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬8) والوسط] (¬9) معناه: الخيار، سمي الخيار وسطًا لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط (¬10)، قاله المؤلف في شرحه (¬11)، فمدحهم يدل على أنهم على الصواب، والصواب حق يجب (¬12) ¬
اتباعه، فيجب اتباعهم. وقوله تعالى [أيضًا] (¬1): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬2)، فمدحهم يدل على [أنهم على] (¬3) الصواب، والصواب يجب اتباعه فيجب اتباعهم (¬4). وأما دليل السنة: فقوله عليه السلام: "لا تجتمع (¬5) أمتي على خطأ"، وفي بعضها: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (¬6)، وفي بعضها: "لم يكن الله ليجمع (¬7) أمتي على الضلالة" (¬8)، وفي بعضها (¬9): "سألت الله ألا يجمع (¬10) أمتي على الضلالة فأعطانيها" (¬11) (¬12)، وقال عليه السلام: "من فارق الجماعة شبرًا خلع ¬
ربقة الإسلام من عنقه" (¬1)، والربقة هي ما أحاط بالعنق، مأخوذ من ربقة الغنم وهي حلقة من حبل تشد بها (¬2)، وقال عليه السلام: "من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقي الله ولا وجه له عنده" (¬3)، وقال عليه السلام: "من نزع يده من الطاعة لم تكن له يوم القيامة حجة" (¬4)، وقال عليه السلام: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" (¬5)، وقال عليه السلام: "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" (¬6)، ................................. ¬
والبحبوحة معناها (¬1) الوسط (¬2)، وقال عليه السلام: "يد الله على الجماعة" (¬3)، وقال عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" (¬4)، وقال عليه السلام: "لا تزال [طائفة من] (¬5) أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله عز وجل" (¬6)، وقال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (¬7)، وغير ¬
ذلك (¬1)، كله يدل على عصمة هذه الأمة من الخطأ، وذلك أن عصمة الأمة المحمدية تواتر معناها؛ لأنها وردت بألفاظ مختلفة وعبارات متباينة [الألفاظ] (¬2) كلها تدل على [معنى] (¬3) العصمة، فيكون ذلك تواترًا معنويًا كتواتر شجاعة علي، وسخاء (¬4) حاتم، وفصاحة حسان (¬5) وخطابة الحجاج، وغير ذلك. قوله: (وعلى منع (¬6) القول الثالث و [على] (¬7) عدم الفصل فيما جمعوه (¬8) فإِن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعين (¬9) الحق في جهتهم). ش: هذه مسألة ثانية وثالثة. قوله: (وعلى منع [القول] (¬10) الثالث وعلى عدم الفصل فيما جمعوه) يعني أن قوله عليه السلام: "لا تجتمع (¬11) أمتي على خطأ" يدل على منع ثلاثة أشياء: ¬
يدل على منع مخالفة الإجماع. ويدل على منع إحداث القول الثالث. ويدل على عدم الفصل فيما جمعه (¬1) الصحابة رضي الله عنهم. وإنما جمع المؤلف بين هذه المسائل الثلاث في الدليل الواحد؛ لأن مذهبه (¬2) المنع في الجميع. وإنما قدم الدليل على المدلول للاختصار؛ لأنه لو قدم المدلول لاحتاج إلى إعادة الدليل بعد المدلول فيكون تكرارًا وتطويلاً. قال المؤلف في الشرح: الفرق بين إحداث القول الثالث (¬3) وبين الفصل بين المسألتين، أن القول الثالث يكون في الفعل الواحد، وعدم الفصل يكون في مسألتين (¬4)، كما سيأتي [في] (¬5) تفصيل ذلك. قوله: (فإِن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعين (¬6) الحق في جهتهم) أي: لأن خلاف الإجماع، وإحداث القول الثالث، وتفصيل ما جمعوه، مخالف لهم، فإن جميع ما خالفهم خطأ لتعين الحق في جهتهم. قوله: (وإِذا اختلف (¬7) العصر الأول على قولين فلا يجوز (¬8) ¬
[لمن] (¬1) بعدهم إِحداث قول ثالث عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر، وفصل الإِمام فقال (¬2): إِن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع، وإِلا فلا، كما قيل: للجد كل المال، وقيل: يقاسم الأخ، فالقول: بجعل المال كله للأخ مناقض للأول، وإِذا اجتمعت (¬3) الأمة على عدم الفصل بين مسألتين فلا يجوز (¬4) لمن بعدهم الفصل بينهما). ش: لما ذكر المؤلف هاتين المسألتين إجمالاً أراد أن يذكرهما تفصيلاً. أما المسألة الأولى: وهي إحداث القول الثالث، فمثاله: اختلاف العلماء (¬5) في الفرض من الوقوف بعرفة، قال مالك: هو الوقوف بالليل (¬6)، وقال الشافعي: هو الوقوف بالنهار (¬7)، ولا يجوز لمن بعدهم أن يقول: ¬
الفرض منه هو الليل والنهار معًا؛ لأنه إحداث قول ثالث (¬1). فذكر المؤلف فيه ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا، [وهو قول الجمهور] (¬2) (¬3)، والجواز مطلقًا، وهو قول الظاهرية (¬4)، والمعتزلة (¬5)، وبعض الحنفية (¬6)، والقول الثالث بالتفصيل وهو مذهب الإمام الفخر (¬7) بين أن يلزم [من القول الثالث] (¬8) خلاف القولين معًا أم لا، مثل المؤلف ذلك بمسألة الجد مع الإخوة في الميراث، قيل: المال كله للجد، وقيل: يقسم بينه وبين الإخوة (¬9)، والقول ¬
الثالث بأن المال كله للإخوة يناقض الإجماع الأول الذي هو عدم حرمان الجد من المال، فالقول بحرمان الجد يرفع ما اتفقا عليه؛ لأنهما اتفقا على أن الجد لا يحرم من المال، فالقول الثالث مخالف للإجماع الأول. ومثاله أيضًا: وجوب النية في الطهارة وضوءًا وغسلاً (¬1) وتيممًا، قيل: تعتبر في الجميع (¬2)، وقيل: تعتبر في التيمم خاصة كما قاله الحنفية (¬3) (¬4)، فالقول بأنها (¬5) لا تعتبر في جميعها يرفع ما اتفق (¬6) عليه الفريقان من اعتبارها في التيمم (¬7). هذا معنى قوله: (إِن لزم منه خلاف ما أجمعوا (¬8) عليه امتنع). ¬
قوله: (وإِلا فلا) أي: وإن لم يخالف ما اتفقوا عليه (¬1) جاز إحداثه. مثاله: الخلاف في سباع الوحش/ 260/ قيل: كلها حرام (¬2) وقيل: كلها حلال (¬3)، والقول بأن بعضها حرام وبعضها حلال (¬4) غير مخالف لما اتفق (¬5) عليه الفريقان؛ لأن القول الثالث موافق لكل واحد من القولين في وجه، مخالف له في وجه. ومثاله أيضًا: زوج وأبوان، أو زوجة وأبوان (¬6)، قيل: للأم ثلث المال (¬7)، وقيل: [لها] (¬8) ثلث ما بقي بعد زوج أو زوجة (¬9)، فالقول بأن لها ¬
ثلث المال في إحدى (¬1) الصورتين ولها ثلث ما بقي في الصورة الأخرى جائز؛ لأنه موافق لكل واحد من القولين في وجه، مخالف له في وجه. حجة قول الجمهور بالمنع مطلقًا: قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" كما قال المؤلف؛ لأن الأمة لا يفوتها الحق، فلا يكون الثالث حقًا. وأيضًا: أن الأمة قبل هذا الثالث أجمعت (¬2) على هذين القولين، وإحداث القول الثالث (¬3) خارق (¬4) للإجماع (¬5). وأيضًا: لو صرحوا بنفي الثالث لم يجز الأخذ به إجماعًا، فكذلك إذا سكتوا ولم يصرحوا (¬6). أصله: إذا جمعوا (¬7) على قول واحد فإنه لا يجوز إحداث قول ثان ولو لم يصرحوا بنفيه. حجة القول بالجواز: أن الإجماع (¬8) الأول مشروط بألا يجمعوا بعد ذلك على خلافه، فبطل الإجماع الأول لعدم شرطه (¬9). وردّ هذا: بأنه يلزم جواز إحداث قول ثان في إجماعهم على قول واحد، ¬
مع أنهم اتفقوا على منع إحداث قول ثا [ن] (¬1) في الإجماع على قول واحد؛ لأن ذلك خارق للإجماع (¬2). وسبب الخلاف في إحداث قول ثالث: أن إجماعهم على قولين، هل يقتضي حصر الحق فيهما أو لا يقتضيه؟ فتكون المسألة اجتهادية (¬3). وأما المسألة الثانية: وهي عدم الفصل بين المسألتين ففيها ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا، وهو مذهب المؤلف (¬4)، والجواز مطلقًا (¬5)، والتفصيل بين أن يصرحوا بعدم الفصل بين المسألتين، أو تكون (¬6) العلة في القولين واحدة، وإلى هذا القول بالتفصيل ذهب الإمام فخر الدين (¬7) والقضاة الأربعة (¬8): القاضي عبد الوهاب (¬9)، والقاضي أبو جعفر (¬10) (¬11) ........................... ¬
والقاضي أبو الطيب (¬1) (¬2)، والقاضي أبو بكر (¬3) (¬4)، وغيرهم (¬5). مثال ذلك: ذوو الأرحام، فإنهم اتفقوا على عدم الفصل بينهم، فمن [ورث العمة] (¬6) ورث الخالة بموجب القرابة والرحم (¬7) (¬8)، ومن لم يورث العمة لم يورث الخالة لضعف القرابة عن التوريث، فلا يجوز لأحد أن يورث العمة دون الخالة، أو يورث الخالة دون العمة، فطريق (¬9) الحكم وعلته واحدة في المسألتين. ¬
وأما إن اختلفت العلة بأن يقول بعضهم: [لا أورث العمة لبعدها من الأب] (¬1)، ويقول البعض الآخر: لا أورث الخالة لإدلائها بالأم، فإن الفصل يجوز؛ لأن اختلاف المدرك يسوغ ذلك؛ لأنه إذا قال قائل: أورث العمة لشائبة الإدلاء بالأب، ولا أورث الخالة لإدلائها بالأم، وجهة الأنوثية (¬2) ضعيفة، فهذا قد قال (¬3) بالتوريث في العمة، وقد قاله بعض الأمة فلم يخرق الإجماع، وقال بعدم التوريث (¬4) في الخالة، وقد قاله بعض الأمة أيضًا فلم يخرق الإجماع. وكذلك قال باعتبار ما اعتبره من العلة بعض الأمة، وبإلغاء ما ألغاه من العلة بعض الأمة فلم يخالف الإجماع (¬5). حجة المنع مطلقًا: قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" كما قال المؤلف، وغير ذلك من الأدلة المذكورة أولاً؛ لأن إجماعهم على عدم الفصل دليل على منع الفصل (¬6). حجة الجواز مطلقًا: أن اختلافهم في حكم المسألتين ليس بإجماع على حكم واحد (¬7)؛ لأن أحد الفريقين قال في المسألتين خلاف ما قال به الفريق ¬
الآخر. حجة القول بالتفصيل: أن التصريح بعدم الفصل بين المسألتين دليل على منع الفصل بينهما، ومن فصل بينهما فقد خالف ما أجمعوا (¬1) عليه فيكون خارقًا للإجماع، وكذلك إذا كانت علة أحد القولين متحدة فلا يجوز خلاف ذلك؛ لأنه خرق للإجماع (¬2). قوله: (ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد، خلافًا للصيرفي، وفي العصر (¬3) الثاني لنا وللشافعية والحنفية (¬4) قولان مبنيان على أن إِجماعهم على الخلاف هل يقتضي أنه الحق؟ فيمتنع الاتفاق أو (¬5) هو مشروط (¬6) بعدم الاتفاق، وهو الصحيح). ش: هذه مسألة رابعة وخامسة. إحداهما (¬7): هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد [أم لا] (¬8)؟ والثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف في العصرين أم لا؟ ¬
ذكر المؤلف في المسألة الأولى (¬1) قولين؛ مشهورهما الجواز، والشاذ المنع (¬2). حجة المشهور: أن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على إمامة أبي بكر رضي الله عنه بعد اختلافهم في إمامة الخلفاء (¬3) رضي الله عنهم (¬4)، وكذلك اتفقوا على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم فيه (¬5). حجة أبي بكر الصيرفي من الشافعية: أن اختلافهم أولاً على قولين يدل على أن كل واحد من القولين حق، وإجماعهم بعد ذلك على الحق في أحد القولن دون الآخر فيه مخالفة الإجماع الأول. قوله: (ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد خلافًا للصيرفي)، قال أبو إسحاق الشيرازي (¬6) في اللمع: الخلاف المذكور في هذه ¬
المسألة إنما هو فيما إذا استقر [الخلاف] (¬1) وجوزوا الأخذ بكل واحد من القولين، وأما إذا لم يستقر الخلاف بعد، وهم في حالة (¬2) التفكر والتردد ثم اتفقوا بعد ذلك فذلك إجماع من غير خلاف، كإمامة أبي بكر، وقتال مانعي الزكاة (¬3). وأما المسألة الثانية، وهي حصول الاتفاق في العصر الثاني بعد الاختلاف في العصر الأول (¬4)، يعني إذا اختلفت (¬5) الصحابة رضي الله عنهم على قولين وانقرض العصر عليه، هل يجوز للتابعين أن يتفقوا على أحد ذينك القولين أم لا؟ ذكر المؤلف فيه قولين، والصحيح المنع (¬6). مثال ذلك: اتفاق التابعين على منع بيع أم الولد بعد اختلاف الصحابة [فيه] (¬7) / 261/ (¬8). ¬
حجة الجواز (¬1): ما قال المؤلف: أن إجماعهم على الخلاف مشروط بعدم الاتفاق، أي شرطه: ألا يطرأ إجماع بعده، وقد فات الشرط فيفوت المشروط (¬2). وحجة أخرى: أن أهل العصر الثاني هم كل الأمة (¬3)، والصواب لا يفوت كل الأمة، فيتعين قولهم ويكون ما عداه باطلاً (¬4). وحجة المنع (¬5): ما قال المؤلف، وهو أن إجماعهم على الخلاف يقتضي ¬
أنه الحق فيمتنع (¬1) الاتفاق يعني أن أهل العصر الأول اتفقوا على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، فالقول (¬2) بعد ذلك بحصر (¬3) الحق في أحدهما خلاف الإجماع الأول، فيكون باطلاً (¬4). وحجة أخرى: أن ذلك يؤدي إلى تعارض الإجماعين؛ لأن أهل العصر الأول أجمعوا (¬5) على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، وأهل العصر الثاني أجمعوا على امتناع الأخذ بكل واحد من القولين وإنما يؤخذ بواحد منهما خاصة دون الآخر، فيلزم تخطئة (¬6) أحد الإجماعين القاطعين، وذلك ممنوع. قوله: (قولان مبنيان على [أن] (¬7) إِجماعهم على الخلاف) أي: على أن إجماعهم على جواز الأخذ بكل واحد من القولين يقتضي أنه الحق، فيمتنع (¬8) الاتفاق على الأخذ بأحد القولين خاصة، أو يقال: إجماعهم على الخلاف إنما يكون حقًا بشرط عدم الاتفاق على الأخذ بأحد القولين خاصة، وهو الصحيح عند المؤلف، فالخلاف إنما هو في تخريج المناط ثم تحقيقه. ¬
فرع: قال إمام الحرمين رضي الله عنه (¬1): إذا سمع أحد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمًا في مسألة بنص لا يحتمل التأويل ولم يسمع (¬2) غيره، والسامع ليس من أهل الاجتهاد، ثم أجمعت (¬3) الأمة على خلاف مسموعه، فهل يأخذ السامع بما سمع أو يأخذ بالإجماع؟ [فالجواب أنه يأخذ بالإجماع] (¬4) لعصمة الإجماع، وذلك أن عدم عثورهم على الخبر يدل على نسخه ولو لم ينسخ لعثروا عليه [وعملوا به] (¬5) (¬6) لما ثبت لهم من العصمة (¬7)، فاعلم هذه الحجة؛ فإن هذا مما زل فيه كثير من العلماء، وبالله التوفيق بمنّه. قوله: (وانقراض العصر ليس شرطًا، خلافًا لقوم من الفقهاء والمتكلمين، لتجدد الولادة [في] (¬8) كل يوم، فيتعذر الإِجماع). ش: هذه مسألة سادسة (¬9)، ................................ ¬
مذهب الجمهور أن الإجماع يصير حجة بنفس انعقاده (¬1) ولا يشترط فيه انقراض المجمعين (¬2) (¬3)، وذهب (¬4) أحمد بن حنبل (¬5) وبعض الشافعية (¬6) وبعض المعتزلة (¬7) إلى أنه لا يصير حجة إلا بعد انقراض المجمعين (¬8) (¬9). حجة الجمهور القائلين بعدم اشتراط انقراض العصر: ما ذكره (¬10) المؤلف من تجدد الولادة في كل يوم فيتعذر الإجماع، يعني: أن اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع يؤدي إلى عدم تحقق الإجماع في شيء من الأعصار. ¬
لأن التابعين يولدون في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ويصير منهم فقهاء مجتهدون قبل انقراض عصر الصحابة فيلزم ألا ينعقد إجماع الصحابة دونهم، ثم عصر التابعين أيضًا كذلك، فتتداخل (¬1) الأعصار بعضها في بعض فلا ينعقد إجماع أبدًا (¬2)؛ لأن من قال باشتراط انقراض العصر اشترط موافقة اللاحقين لهم (¬3) في صحة إجماعهم. قوله: (لتجدد الولادة في كل يوم)، يعني: ويصير (¬4) المولود مجتهدًا فتتداخل (¬5) الأعصار فيتعذر الإجماع. قال بعضهم: قول المؤلف: يمتنع الإجماع لتجدد (¬6) الولادة في كل يوم، لا يصح؛ لأن المعتبر في الإجماع من أدرك من المجتهدين عصر المجمعين (¬7)، وأما من أدرك [عصر] (¬8) من أدرك عصر المجمعين (¬9) فلا يعتبر في إجماع من لم يعاصره، فيصح اشتراط انقراض العصر (¬10). حجة القول باشتراط انقراض العصر في صحة الإجماع: أن الناس ما داموا ¬
أحياء فهم في مهلة النظر والاجتهاد، فربما يرجعون أو بعضهم عما أجمعوا عليه، فلا ينعقد الإجماع (¬1). قوله: (وإِذا حكم بعض الأئمة (¬2) وسكت الباقون؛ فعند الشافعي والإِمام ليس بحجة ولا إِجماع (¬3) (¬4)، وعند الجبائي إِجماع وحجة بعد انقراض العصر (¬5)، وعند أبي هاشم ليس بإِجماع وهو حجة (¬6)، وعند أبي علي بن أبي هريرة (¬7) (¬8): إِن كان القائل حاكمًا لم يكن إِجماعًا ولا حجة ¬
وإِن كان غيره فهو حجة وإِجماع) (¬1) (¬2). ش: هذه مسألة سابعة (¬3)، يعني إذا ذهب واحد من المجتهدين إلى حكم في نازلة قبل استقرار المذاهب (¬4) على حكم [تلك النازلة] (¬5)، كان ذلك على طريق الحكم أو على طريق الفتيا، وحضر الباقون، أو عرف (¬6) به أهل عصره، وسكتوا عن الإنكار عليه. كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر: ألا إن الخمر إذا تخلل بنفسه فهو حلال (¬7)، وسكت الآخرون. ¬
فاختلف الأصوليون فيه على خمسة أقوال، ذكر المؤلف أربعة، والخامس هو إجماع وحجة مطلقًا، وهو قول جمهور المالكية والشافعية (¬1). حجة القول بأنه إجماع وحجة مطلقًا: أن السكوت ظاهر في الرضى لا سيما مع طول المدة، ولهذا قال (¬2) عليه السلام [في البكر] (¬3): "إذنها صماتها" (¬4)، فإذا كان الساكت موافقًا للقائل كان إجماعًا وحجة، عملاً بالأدلة الدالة على كون الإجماع حجة (¬5). حجة القول بأنه ليس بإجماع ولا حجة: أن السكوت لا يدل على الرضى؛ لأن الساكت قد يسكت (¬6)؛ لأنه في مهلة النظر أو التدبر (¬7)، أو يعتقد أن قول خصمه مما يمكن أن يذهب إليه ذاهب، أو يعتقد أن كل مجتهد مصيب، أو لأنه عنده منكر ولكن يظن أن غيره قام بالإنكار عليه، أو يعتقد أن ¬
إنكاره لا يفيد، أو لأنه لا يقدر على الإنكار في الحال (¬1)، ومع هذه الاحتمالات لا يقال: الساكت موافق للقائل، وهو معنى قول الشافعي: "لا ينسب إلى ساكت (¬2) قول (¬3) ". حجة (¬4) الجبائي القائل: بأنه إجماع وحجة بعد انقراض العصر: أن الساكت ما دام حيًا هو في مهلة (¬5) النظر والاجتهاد، فإذا مات أمن خلافه (¬6). حجة القول بأنه حجة وليس بإجماع: وإنما قال/ 262/: ليس بإجماع لاحتمال السكوت غير الموافقة (¬7) كما تقدم، وإنما قال: هو حجة؛ لأن السكوت ظاهر في الرضى، [والظاهر يفيد الظن، والظن حجة معمول به لقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر"، وقوله عليه السلام: "أمرت أن أقضي بالظاهر" وقياسًا] (¬8) على سائر المدارك الظنية (¬9). ¬
حجة القول بالفرق بين الحاكم والمفتي: أن أحكام الحاكم تابعة لما يطلع عليه من أمور الرعية، فربما يطلع على ما لا يطلع عليه غيره من أمور رعيته مما يقتضي خلاف دعوى الخصم وظاهر الحال [يقتضي] (¬1) أنه مخالف للإجماع، وأما المفتي فإنما (¬2) يفتي على مقتضى المدارك الشرعية وهي معلومة عند غيره، فإذا رآه قد خالفها نبهه، بخلاف الحاكم؛ لاطلاعه على ما لم يطلع عليه غيره من أحوال رعيته، فإنه (¬3) قد يرى المذهب المرجوح راجحًا في بعض الخصوم مما لا يطلع عليه إلا من وُلِّي عليه (¬4). قوله: (فإِن قال بعض الصحابة قولاً ولم يعرف له مخالف، قال الإِمام: إِن كان مما تعم به البلوى ولم ينتشر ذلك القول فيهم، ففيه (¬5) مخالف لم يظهر، فيجري مجرى قول البعض وسكوت البعض، وإِن كان مما لا تعم به البلوى، فليس بإِجماع ولا حجة). ش: هذه مسألة ثامنة (¬6). ¬
الفرق (¬1) بين هذه المسألة والتي قبلها، أن القول في التي قبلها منتشر ظاهر، والقول في هذه المسألة غير منتشر. فقال الإمام في المحصول: إذا قال بعض الصحابة (¬2) [قولاً] (¬3) ولم ينتشر فيهم، ففيه تفصيل بين أن تعم به البلوى أم لا، فإن كان مما تعم به البلوى فيجري مجرى قول البعض بحضرة البعض (¬4) وسكوتهم، فتكون بمنزلة المسألة التي قبل هذه وهي قوله: (وإِذ حكم بعض الأمة وسكت الباقون ...) إلى آخره، وإن كان مما لا تعم به البلوى فليس بإجماع ولا حجة (¬5). قوله: (وإِن كان مما تعم به البلوى) يعني: الحاجة (¬6)، وهو ما احتاج ¬
إليه كل مكلف؛ لأن التكليف به يعم كل أحد من المكلفين، كدم البراغيث (¬1)، والدماميل (¬2)، وطين المطر، وغيرها بالنسبة إلى العفو عنها، وكمسّ (¬3) الأنثيين، والدبر، أو بين (¬4) الإليتين، بالنسبة إلى نقض الوضوء، كذلك القيء (¬5)، والقلس (¬6)، والبلغم (¬7)، والرعاف (¬8)، والحجامة، والفصادة (¬9)، ¬
بالنسبة إلى نقض الوضوء، وذلك (¬1) أن هذه الأشياء كلها وقع فيها الخلاف بين العلماء وهي كلها مما تعم به البلوى. وقد أشار القاضي عبد الوهاب إلى الخلاف فيها بالردّ على المخالف فقال في التلقين: ولا يوجب الوضوء ما خرج من البدن من غير السبيلين (¬2) من قيء ولا قلس ولا بلغم ولا رعاف ولا حجامة ولا فصادة (¬3) ولا غير ذلك (¬4). قوله: ولا غير ذلك، كالدم (¬5) والعرق واللعاب والمخاط. وقال أيضًا: ولا وضوء من مسّ (¬6) الأنثيين ولا الدبر ولا شيء من أرفاغ البدن وهي مغابنه الباطنة كتحت الإبطين وما بين الفخذين وما أشبه ذلك (¬7)، ولا من أكل شيء أو شربه (¬8) كان مما مسته النار أو مما لم تمسه، ولا من قهقهة في صلاة أو غيرها، ولا من ذبح بهيمة أو غيرها (¬9). قوله: أو غيرها أي: غير (¬10) البهيمة كذبح الطيور، وفي بعض النسخ: ¬
أو غيره، بضمير التذكير، أي: أو غير الذبح، كحمل الميت (¬1) أو مس الصنم، أو حلق الشعر، أو قص (¬2) الظفر. قوله: ولا من أكل شيء أو شربه (¬3)، خلافًا لمن قال بذلك مستدلاً بأنه عليه السلام: أكل كتف شاة فتوضأ (¬4)، وشرب (¬5) لبن ناقة فتوضأ (¬6)، وحمل مالك ذلك الوضوء على (¬7) اللغوي (¬8). ¬
قوله: (وإِن كان مما لا تعم به البلوى) أي: وإن كان مما لا يحتاج إليه كل أحد من المكلفين، كالاستحاضة (¬1) والسلس (¬2) والدود والحصى، بالنسبة إلى نقض الوضوء. وإنما قال الإمام: إذا كان مما تعم به البلوى يجري مجرى قول [البعض] (¬3) وسكوت البعض؛ لأن ما تعم به البلوى شأنه أن ينتشر بينهم لعموم سببه لهم وشموله لهم، فإذا (¬4) لم ينتشر بينهم فلا بد أن يكون الساكت علم تلك الفتوى لوجود سببها في حقه وهو إما موافق أو مخالف (¬5) (¬6). قال المؤلف في شرحه: قولي: ففيه (¬7) مخالف لم يظهر، صوابه ففيه قائل لم يظهر، أما المخالف (¬8) فلا يتعين؛ لأن الساكت قد يكون موافقًا للقائل، وقد يكون مخالفًا له (¬9). وإنما قال الإمام: إذا كان [مما] (¬10) لا تعم به البلوى فلا يكون إجماعًا ولا ¬
حجة لاحتمال ذهول (¬1) البعض عنه. وإنما قال الإمام: ليس بإجماع ولا حجة؛ لأن مذهبه في الإجماع السكوتي أنه ليس بإجماع ولا حجة، وإلا فالخلاف جار في الجميع (¬2). قوله: (وإِذا جوّزنا الإِجماع السكوتي فكثير (¬3) ممن لم يعتبر انقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي). ش: هذه مسألة تاسعة (¬4)، والفرق بين القولي والسكوتي في هذا المعنى: أن الإجماع القولي قد صرح كل واحد بما في نفسه فلا معنى لانتظار انقراض العصر، وأما السكوتي فيحتمل أن يكون الساكت في مهلة النظر فينتظر حتى ينقرض العصر، فإذا مات علمنا رضاه (¬5). قال الإمام فخر الدين: هذا ضعيف؛ لأن السكوت إما أن يدل على ¬
الرضا أم لا، فإن دل على الرضا دل عليه في الحياة، وإن لم يدل على الرضا لم يدل عليه في الممات (¬1). قوله: (والإِجماع المروي (¬2) بالآحاد (¬3) حجة خلافًا لأكثر الناس؛ لأن هذه الإِجماعات (¬4) وإِن لم تفد [العلم] (¬5) فهي تفيد الظن [والظن] (¬6) معتبر في الأحكام كالقياس وخبر الواحد، غير أنا (¬7) لا نكفر (¬8) مخالفها قاله الإِمام (¬9)). ش: هذه مسألة عاشرة (¬10). حجة كونه حجة ثلاثة [أوجه] (¬11): ¬
أحدها: ما قال المؤلف أنه مفيد للظن والظن (¬1) معتبر شرعًا كالقياس وخبر الواحد. الوجه الثاني: أن الإجماع حجة شرعية فيصح التمسك بمظنونه كما يصح بمقطوعه كالنصوص والقياس (¬2). الوجه الثالث: أنه يقاس على قبوله في السنة؛ لأنه إذا كان مقبولاً في السنة فأولى وأحرى أن يكون مقبولاً في الإجماع؛ لأن السنة متفق عليها، والإجماع مختلف فيه، فإذا جاز إثبات السنة بالآحاد فأولى وأحرى/ 263/ أن يثبت الإجماع بالآحاد. حجة كونها ليس بحجة (¬3): أن الإجماع من الوقائع العظيمة (¬4) فشأنه (¬5) أن تتوفر (¬6) الدواعي (¬7) على نقله، فإذا لم ينقل بالتواتر كان ذلك ريبة فيه (¬8). ورد هذا الدليل: بأنه لازم في خبر الواحد (¬9) بما تعم به (¬10) البلوى، مع أن ¬
الصحيح قبوله. أجيب عنه: بأن عموم البلوى أقل من الكل (¬1). قوله: (غير أنا لا نكفر مخالفها) وإنما [لا] (¬2) يكفر مخالف الإجماعات المروية بالأخبار الآحادية (¬3)؛ لأنها ظنية (¬4)، ولا يكفر بمخالفة الظنون (¬5) باتفاق، وإنما الخلاف في الإجماع الثابت بالتواتر هل يكفر به أم لا؟ كما سيأتي إن شاء الله [في آخر هذا الفصل في قوله: (واختلف في تكفير مخالفه بناء على أنه قطعي، وهو الصحيح، ولذلك قدم على الكتاب والسنة، وقيل: ظني)] (¬6). قوله: ([قال] (¬7) وإذا استدل أهل العصر [الأول] (¬8) بدليل وذكروا (¬9) تاويلاً، واستدل [أهل] (¬10) العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلاً آخر ¬
فلا يجوز إِبطال التأويل القديم، وأما الجديد فإِن لزم منه إِبطال القديم بطل وإِلا فلا). ش: هذه مسألة حادية عشر (¬1)، أي: قال الإمام: إذا استدل أهل العصر الأول على مسألة الإجماع بدليل ثم استدل أهل العصر الثاني على تلك المسألة بدليل آخر (¬2). مثاله: اللفظ المشترك كالقرء (¬3) [مثلاً] (¬4) (¬5) إذا فسره أهل العصر الأول بالطهر ثم فسره أهل العصر الثاني بالحيض، فلا يجوز إبطال التأويل القديم وهو تفسيره بالطهر، ويبطل التأويل الثاني وهو تفسيره بالحيض؛ لأن تفسيره بالحيض يؤدي إلى إبطال تفسيره (¬6) بالطهر؛ لأن الطهر مناقض للحيض فإذا ثبت أحدهما ارتفع الآخر فلا يمكن اجتماعهما. قوله: (يبطل وإِلا [فلا] (¬7)) أي: بطل التأويل الثاني، وإن لم يلزم منه إبطال القديم فلا يبطل التأويل الثاني، كالعام إذا خصصه [أهل العصر الأول بتخصيص، وخصصه] (¬8) أهل العصر الثاني بتخصيص آخر، فلا يبطل واحد ¬
من التأويلين، فيبقى كل واحد على حاله. مثال (¬1) [ذلك] (¬2): قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬3) إذا خصصه أهل العصر الأول بالنساء والصبيان، وخصصه (¬4) أهل العصر الثاني بكل ما ليس فيه إذاية (¬5) للمسلمين كالأحبار والرهبان والشيخ الفاني، فلا يبطل التأويل الثاني [ها] (¬6) هنا كما لا يبطل التأويل القديم؛ لأن التأويل الثاني لا يلزم من إثباته إبطال التأويل القديم، لإمكان اجتماعهما، فيخصص العموم بمجموع (¬7) التأويلين معًا فيخرج النساء والصبيان والأحبار والرهبان والشيخ الفاني [من العموم] (¬8). قوله: (وإِذا استدل أهل العصر الأول بدليل ...) إلى آخره، هذا الذي ذكره المؤلف إنما هو فيما إذا لم ينص أهل العصر الأول على منع الاستدلال بغير دليلهم، ولا نصوا على جواز الاستدلال بغير دليلهم (¬9)، أما إذا نصوا ¬
على منع الاستدلال بغير دليلهم فإنه يمنع (¬1) الاستدلال بغير دليلهم اتفاقًا، وكذلك إذا نصوا على جواز الاستدلال بغير دليلهم، فإنه يجوز الاستدلال بغير دليلهم اتفاقًا أيضًا. وإنما الخلاف فيما إذا سكت أهل العصر الأول عن الأمرين، أعني: سكتوا عن جواز الاستدلال بغير دليلهم وسكتوا أيضًا عن منع الاستدلال بغير دليلهم. فالقول المشهور الذي عليه الجمهور جواز الاستدلال بغير دليلهم، والشاذ (¬2) منعه، فالمختار مذهب الجمهور بأنه (¬3) جائز إلا إذا لزم منه إبطال ما أجمع (¬4) عليه أهل العصر الأول كما قاله (¬5) المؤلف. قوله: (وإِجماع أهل المدينة [عند مالك رحمه الله] (¬6) فيما طريقه التوقيف حجة خلافًا للجميع). ش: هذه مسألة ثانية عشر (¬7) .............................. ¬
يعني إذا أجمع (¬1) علماء المدينة من الصحابة والتابعين على شيء مما سبيله التوقيف، أي: النقل (¬2) فهو حجة عند مالك، يعني وعند جمهور أصحابه. قال الباجي: وإليه ذهب المحققون من أصحابنا (¬3). قوله: (فيما طريقه التوقيف)، كصفة الأذان والإقامة، ومقدار الصاع والمد (¬4)، وجواز الأحباس (¬5) (¬6)، وغير ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل والرواية عن النبي عليه السلام. ¬
واحترز بقوله: (التوقيف) مما طريقه الاجتهاد. وقيل (¬1): إجماعهم حجة مطلقًا في المنقولات وفي الاجتهاديات، وإليه ذهب أكثر المغاربة (¬2) (¬3). وقيل: إجماعهم لا يكون حجة مطلقًا (¬4). حجة [قول] (¬5) مالك بأنه حجة في النقل دون الاجتهاد: أن أخلافهم (¬6) ينقلون عن أسلافهم، وأبناءهم، عن آبائهم، وذلك يخرج الخبر عن حيز الظن والتخمين إلى حيز القطع واليقين (¬7). حجة (¬8) القول بأنه حجة مطلقًا: قوله عليه السلام: "إن المدينة تنفي خبثها ¬
كما ينفي الكير خبث الحديد" (¬1) والخطأ خبث فوجب (¬2) نفيه (¬3). حجة القول بأنه لا يكون حجة مطلقًا: قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ". مفهوم ذلك أن بعض الأمة يجوز عليه الخطأ، وأهل المدينة هم بعض الأمة (¬4). أجيب عنه: بأن منطوق الحديث المثبت أولى من مفهوم الحديث النافي (¬5) قوله: (وإِجماع أهل المدينة) يعني علماءها (¬6). قالوا (¬7): علماء المدينة سبعة (¬8) (¬9) ........................... ¬
جمعهم بعضهم في هذين البيتين (¬1): ألا كل من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجة فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة (¬2) بيانهم بالنثر: عبيد الله (¬3) بن عبد الله بن مسعود (¬4)، وعروة بن الزبير (¬5) , ¬
والقاسم بن محمد (¬1)، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن (¬2)، وسليمان بن يسار (¬3)، وخارجة بن زيد (¬4). وجمعهم (¬5) بعضهم [أيضًا] (¬6) بهذه الحروف السبعة: عينان وسينان وألفان وخاء. ¬
قوله: (ومن الناس من اعتبر إِجماع أهل الكوفة) (¬1). ش: هذه مسألة ثالثة عشر، والمشهور أن إجماعهم لا يكون حجة. حجة القول بأن إجماعهم حجة: أن عليًا رضي الله عنه وجماعة كثيرة من الصحابة [والعلماء] (¬2) كانوا بها فكان ذلك دليلاً على أن الحق لا يفوتهم (¬3). حجة القول الآخر: أن العصمة إنما تثبت (¬4) لمجموع الأمة (¬5) لا لبعض الأمة؛ فلا يكون إجماعهم حجة (¬6). قوله: / 264/ (وإِجماع العترة عند الإِمامية (¬7) [حجة] (¬8)). ش: هذه مسألة رابعة عشر (¬9)، المشهور أن إجماع العترة ليس بحجة ¬
خلافًا للإمامية (¬1)، وهم: أتباع أبي بكر (¬2) رضي الله عنه (¬3). العترة بالعين المهملة (¬4)، قال الزبيدي في مختصر العين (¬5) باب العين المهملة (4): عترة الرجل: أقرباؤه (¬6). واختلف العلماء في المراد بعترة النبي عليه السلام، قيل: بنو عبد المطلب، وقيل: بنو هاشم، وقيل: أهل بيته الأقربون والأبعدون، لقول أبي بكر رضي الله عنه: نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيضته التي تفقأ (¬7) عنه، كما تقدم ¬
في خطبة الكتاب (¬1). ومعنى العترة في اللغة: ما يجعله الضب (¬2) علامة يهتدي (¬3) بها إلى مأواه (¬4)، فإن الرجل يرجع إلى أقربائه وأهل بيته. حجة الإمامية (¬5): قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬6) [والخطأ رجس] (¬7)، فوجب أن يزال عنهم (¬8) (¬9). أجيب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الرجس ظاهر في المعصية، والاجتهاد المخطئ ليس بمعصية (¬10)؛ لأنه عليه السلام أثبت فيه أجرًا، والأجر لا يكون في المعصية. الوجه الثاني: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ [اللَّهُ] (¬11)} [صيغته] (¬12) ¬
صيغة الحصر، والحصر متعذر؛ لأن إرادة الله تعالى شاملة لجميع أجزاء العالم فبطلت الحقيقة، فإذا (¬1) بطلت الحقيقة تعين المجاز، ووجوه المجاز غير منحصرة، فيصير (¬2) في الآية إجمال فيسقط [بها] (¬3) الاستدلال (¬4). واختلف في أهل البيت المذكورين في هذه الآية المذكورة، قيل: زوجاته عليه السلام (¬5)، وقيل: علي وفاطمة والحسن (¬6) والحسين (¬7). وقيل: بنو عبد المطلب، وقيل: بنو هاشم (¬8). قوله: (وإِجماع الخلفاء الأربعة حجة عند أبي حازم (¬9) ولم يعتد ¬
بخلاف زيد (¬1) في توريث (¬2) ذوي الأرحام). ش: هذه مسألة خامسة عشر (¬3)، يعني [أن القاضي] (¬4) أبا (¬5) حازم من أصحاب أبي حنيفة قال: إجماع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على مسألة حجة، ولا عبرة بمخالفة من خالفهم من الصحابة وغيرهم (¬6). حجته: قوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [من] (¬7) ¬
بعدي عضوا عليها بالنواجذ"، فهذا (¬1) تحضيض (¬2) يوجب اتباعهم وهو المطلوب (¬3). حجة الجماعة: أنهم بعض الأمة لا كل الأمة والعصمة إنما تثبت لكل الأمة لا لبعض الأمة. قوله: (ولم يعتد بخلاف زيد في توريث (¬4) ذوي الأرحام) يعني أن أبا حازم جعل اتفاق الخلفاء الأربعة إجماعًا، ولذلك لم يعتبر ما قاله زيد بن ثابت من أن ذوي الأرحام لا يرثون. وذلك أن زيد بن ثابت قال: لا يرثون (¬5)، وقال الخلفاء الأربعة: يرثون، فاعتبر القاضي أبو حازم قول الخلفاء الأربعة، ولم يعتبر قول زيد بن ثابت؛ لأن أبا حازم أفتى بتوريثهم وحكم بردّ أموال حصلت في بيت الخليفة المعتمد العباسي (¬6)، ¬
وأعطاها لذوي الأرحام، وقبل (¬1) المعتمد فتياه وأنفذ قضاءه (¬2) وكتب به إلى الآفاق (¬3). وتوريث (¬4) ذوي الأرحام هو مذهب أبي حنيفة (¬5)، واستدل بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬6). وقال مالك: لا يرثون (¬7) واستدل بعمل أهل المدينة، وقد مات رجل ولم يترك إلا عمته (¬8) وخالته، فقال لهما (¬9) النبي عليه السلام: "لا أجد لكما في كتاب الله شيئًا" (¬10). ¬
قال ابن الحاجب: وإن لم يكن وارث فبيت المال على المشهور، وقيل: لذوي الأرحام، وعن ابن (¬1) القاسم: يتصدق به، إلا أن يكون الوالي كعمر ابن عبد العزيز (¬2) (¬3). واعلم أن ذوي الأرحام ثلاثة عشر؛ ستة من الرجال، وسبعة من النساء. فمن الرجال: ابن البنت، وابن الأخت، والخال، وابن الأخ للأم، والعم للأم، وأبو الأم. ومن النساء: بنت البنت، وبنت الأخت، [وبنت الأخ] (¬4)، وبنت العم، ¬
والعمة، والخالة، وأم أبي الأم (¬1). قوله: (قال الإِمام: وإِجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافًا لقوم). ش: هذه مسألة سادسة عشر (¬2)، يعني أن التابعي إذا بلغ درجة الاجتهاد [قبل إجماع الصحابة] (¬3) فإن خلافه معتبر، فلا ينعقد (¬4) الإجماع بدونه؛ لأنه كأحد (¬5) منهم، وعلى هذا تكلم المؤلف رحمه الله تعالى. وأما إذا أجمع (¬6) الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يبلغ التابعي درجة الاجتهاد، ففيه ثلاثة أوجه: إما أن يتفق الصحابة، أو يختلفوا، أو يتوقفوا. فإن اتفقوا فذلك إجماع ولا عبرة بمخالفة التابعي. وإن اختلفوا فيجري (¬7) على جواز إحداث قول ثالث. وإن توقفوا أفتى بما يراه (¬8). ¬
قوله: (وإِجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم) يريد إذا كان من أهل الاجتهاد حالة اتفاقهم، وأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد حالة اتفاقهم فلا عبرة به (¬1)، هذا هو مذهب الجمهور. حجة المشهور: أن التابعي (¬2) بعض الأمة، والصحابة بعض الأمة، وقول بعض الأمة ليس بحجة في الإجماع (¬3). حجة المخالف (¬4): قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬5) ولو لم يكونوا عدولاً ما رضي [الله] (¬6) عنهم، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬7)، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬8)؛ لأن هذا كله خاص بالصحابة. وقوله عليه السلام: "لا تؤذوني في أصحابي، فوالذي (¬9) نفسي بيده لو ¬
أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبًا (¬1) ما بلغ مُدّ (¬2) أحدهم ولا نصيفه" (¬3) (¬4). [وقول عائشة رضي الله عنها لأبي مسيلمة (¬5) حين يناكر (¬6) الصحابة في أحوال الاجتهاد، فقالت له: مثلك كمثل الفروج (¬7) يسمع الديكة (¬8) تصرخ فيصرخ معها] (¬9) (¬10). أجيب عن الأول: أن الآية لا تعلق لها بالإجماع؛ لأنها تقتضي عدم المعصية وحصول الطاعة في البيعة (¬11)، ...................... ¬
ولا تعلق لذلك (¬1) بالإجماع (¬2). وأجيب عن الآية الثانية والثالثة بأن هناك عمومات تتناول المؤمنين كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، وقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" (¬4). وأجيب عن الحديث (¬5): أنه يقتضي أن قول كل واحد منهم يكون حجة، وأنتم لا تقولون ذلك (¬6) / 265/ (¬7). [وأجيب عن إنكار عائشة على أبي مسيلمة (¬8) بأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد، وبأنه أخطأ طريق الاجتهاد] (¬9) (¬10). قوله: (قال: ومخالفة من خالفنا في الأصول إِن كفرناهم لم نعتبرهم، ولا يثبت تكفيرهم بإِجماعنا؛ لأنه فرع (¬11) تكفيرهم، وإِن لم نكفرهم اعتبرناهم). ش: هذه مسألة سابعة عشر (¬12)، يعني أن المبتدعة المخالفين [لأهل السنة ¬
في أصول الدين إن قلنا بكفرهم فلا عبرة بهم في انعقاد الإجماع؛ لأن العصمة إنما تثبت] (¬1) للأمة وهي (¬2) المؤمنون لا الكافرون (¬3)، وإن قلنا بعدم كفرهم فإنهم يعتبرون في انعقاد الإجماع لأنهم من الأمة؛ إذ هم مؤمنون. وذلك أن المبتدعة اختلف العلماء في تكفيرهم بسبب ما يؤول إليه مذهبهم من الكفر، فهل يكفرون بسبب ما يلزمهم (¬4) [من] (¬5) مذهبهم من الكفر أو لا يكفرون؟ وسبب الخلاف: هل لازم المذهب مذهب؟ أو ليس لازم المذهب مذهبًا (¬6)؟ قال ابن الحاجب: ولمالك والشافعي والقاضي فيهم قولان. وفيها: ولا يناكحوا، ولا يصلى خلفهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا يسلم عليهم (¬7). قوله: (ولا يثبت تكفيرهم بإِجماعنا؛ لأنه فرع (¬8) تكفيرهم)، معناه: أن إجماعنا لا يكون حجة على تكفيرهم إلا إذا كنا كل الأمة، ولا ¬
نكون (¬1) كل الأمة إلا إذا حكمنا بتكفيرهم، فصار إجماعنا متوقفًا على تكفيرهم، فلو توقف تكفيرهم على إجماعنا للزم الدور (¬2) وهو محال. وإنما يثبت (¬3) تكفيرهم بالأدلة القاطعة (¬4). قوله: (ويعتبر عند (¬5) مالك مخالفة الواحد في إِبطال الإِجماع، خلافًا لقوم). ش: هذه مسألة ثامنة عشر (¬6)، مثالها: قال اللخمي وابن رشد في المقدمات: أجمع أهل العلم على جواز الرهن في السفر والحضر، إلا مجاهدًا (¬7) ¬
فإنه منعه في الحضر (¬1). واختلف (¬2) العلماء (¬3) في مخالفة الأقل للأكثر هل ينعقد الإجماع ولا عبرة بتلك المخالفة لقلتها أو لا ينعقد؟ فقيل: تضر المخالفة مطلقًا فلا ينعقد الإجماع معها، وهو مذهب الجمهور (¬4). وقيل: لا تضر تلك المخالفة مطلقًا لقلتها، وهو مذهب أبي بكر الرازي (¬5) (¬6). وقيل: يضر الزائد على الاثنين ولا يضر الواحد والاثنان، قال الباجي: ¬
وإليه ذهب محمد بن خويز منداد (¬1) من أصحابنا (¬2). وقيل: تضر (¬3) مخالفة الأقل إن بلغ عدده حد التواتر، وإن قصر عن عدد التواتر فلا تضر مخالفته، قاله أبو الحسن الخياط (¬4) (¬5) من المعتزلة (¬6). وقيل: التفصيل بين أصول الديانات ومسائل الفروع، فلا تضر مخالفة الواحد والاثنين (¬7) في أصول الدين، وتضر في الفروع، قاله ابن الأخشاد (¬8) من المعتزلة (¬9). حجة الجمهور باعتبار المخالفة مطلقًا: أن الباقي بعض الأمة، وقول ¬
بعض الأمة ليس بحجة. وأقوى من ذلك [أن] (¬1) ابن عباس رضي الله عنه خالف الصحابة في مسألة العول ولم يعدوه (¬2) مخالفًا للإجماع (¬3). حجة القول بعدم اعتبارها: قوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم"؛ لأنه يقتضي أن المعتبر هو الأكثر دون الأقل. أجيب عن هذا (¬4): بأنه إنما يفيد الظن وليس محل (¬5) النزاع، وكلامنا في الإجماع الذي يفيد العلم والقطع (¬6). حجة القول بأن الواحد والاثنين لا يضر: أن اسم الأمة لا ينخرم بمخالفة (¬7) الواحد أو الاثنين (¬8)؛ لأن ذلك في غاية القلة، كما أن الثور الأسود ¬
[الذي] (¬1) فيه شعرات بيض لا يخرجه ذلك عن كونه أسود. أجيب عن هذا: بأن إطلاق اسم الأسود (¬2) مجاز لا حقيقة، كذلك إطلاق اسم الأمة لا يصدق على بعضها إلا مجازًا (¬3). حجة القول بأن عدد (¬4) التواتر تضر مخالفته دون الأقل، أن ما قصر عن عدد التواتر لا يقطع بإيمانه (¬5) فلا يقدح من يشك في إيمانه في الاجتهاد. أجيب عن هذا: بأنه يبطل بما إذا اختلفت الأمة على قولين وكل واحد من الفريقين [يبلغ] (¬6) عدد التواتر (¬7). وحجة القول بأن مخالفة [الواحد والاثنين تضر في الفروع دون الأصول، أن أصول الديانات مدركها العقل، والعقول (¬8) قد تعرض لها الشبهات فلا يقدح] (¬9) ذلك في الحق الحاصل للجمهور، وأما الفروع فمدركها السمع، وتحصيله واجب على كل مجتهد، فإذا خالف (¬10) واحد أو اثنان (¬11) فإنما خالفوا مدركًا صحيحًا. ¬
أجيب عن هذا: بأن الشبهات كما تعرض للعقليات تعرض للسمعيات، إما من جهة سندها (¬1)، أو [من] (¬2) جهة دلالتها، أو من جهة ما يعارضها بتخصيصها أو بنسخها، أو غير ذلك، فالكل سواء (¬3). قوله: (وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس). هذه مسألة تاسعة عشر (¬4)، وجه ذلك (¬5): أن الكتاب والسنة يقبلان النسخ والتأويل، والقياس يحتمل الخطأ لقيام فارق أو فوات شرط، وأما الإجماع فمعصوم مطلقًا (¬6) لا احتمال فيه، والإجماع المراد ها هنا: [هو] (¬7) الإجماع اللفظي المشاهد (¬8) أو المنقول بالتواتر، وأما الإجماع السكوتي والمنقول بالآحاد مثلاً فإن الكتاب والسنة المتواترة يقدمان عليه؛ لأنه ظني (¬9). قوله: (وهو مقدم على الكتاب والسنة)، يريد إذا كان لفظيًا أو متواترًا. قوله: (واختلف في تكفير مخالفه بناء على أنه قطعي، وهو الصحيح، ¬
ولذلك قدم على الكتاب والسنة، وقيل: ظني). هذه مسألة عشرون (¬1)، الإجماع الذي يكفر به مخالفه على الصحيح يشترط أن يكون لفظيًا (¬2) أو منقولاً (¬3) بالتواتر، وأن يكون المجمع (¬4) عليه ضروريًا أي: معلومًا من الدين بالضرورة. فقولنا: أن يكون لفظيًا، احترازًا من السكوتي؛ فلا يكفر مخالفه؛ لأنه ظني، وقولنا: أن يكون منقولاً بالتواتر، احترازًا من المنقول (¬5) بالآحاد فلا يكفر مخالفه لأنه ظني. [وقولنا:] (¬6) أن يكون المجمع عليه ضروريًا، كالعبادات الخمس مثلاً احترازًا من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا [المجتهدون] (¬7) المتبحرون في الفقه كالإجارات والجنايات (¬8) فلا يكفر مخالفه (¬9)؛ لأنه لم يقصد إلى تكذيب صاحب الشريعة (¬10). ¬
فإن قيل (¬1): كيف تُكَفِّرُون مخالف الإجماع [ولا تُكَفِّرُون جاحد أصل الإجماع كالنظّام والشيعة وغيرهم من منكري الإجماع؟ مع أنهم أولى بالتكفير؛ لأن جحدهم يشمل/ 266/ كل إجماع] (¬2) بخلاف جاحد إجماع خاص. جوابه: أن الجاحد لأصل الإجماع لم يستقر عنده حصول الأدلة السمعية الدالة على وجوب متابعة الإجماع، فلم يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة، بخلاف جاحد إجماع خاص، فإنه مقر بالأدلة الدالة على وجوب اتباع الإجماع، فيكون مكذبًا لصاحب (¬3) الشريعة، ومكذبه كافر، فلذلك كفرناه (¬4). قوله: (بناء على أنه قطعي ...) المسألة. حجة القول بأنه [ظني: أن الأخبار الواردة فيه إنما تفيد الظن، وما كان أصله ظنيًا فأولى بأن يكون ظنيًا (¬5). حجة الجمهور بأنه] (¬6) قطعي: أن تلك الظواهر الدالة على الإجماع لا ¬
تفيد إلا الظن، ولكن تلك الأدلة الواردة فيه مضمومة (¬1) إلى الاستقراء التام من جزئيات الشريعة (¬2)، وذلك يحصل العلم بكونه حجة، كشجاعة علي، وسخاء (¬3) حاتم، وبالله التوفيق بمنّه. ... ¬
الفصل الثالث في مستنده
الفصل الثالث في مستنده (¬1) (¬2) ش: أي في الشيء الذي يصدر عنه الإجماع. قوله: (ويجوز عند مالك انعقاده على (¬3) القياس والدلالة والأمارة، وجوّزه قوم بغير ذلك بمجود الشبهة (¬4) والبخت (¬5)، ومنهم من قال: لا ينعقد عن الأمارة بل لا بد من الدلالة، ومنهم من فَصَّل بين الأمارة الجلية وغيرها). ش: حاصل هذا الخلاف أن يقال: اختلفوا أولاً، هل ينعقد الإجماع من غير مستند (¬6) أو لا بد من مستند؟ (¬7) وهو الصحيح، والقائلون: بأنه لا بد له ¬
من مستند (¬1) اختلفوا: هل يستند (¬2) إلى الأمارة أو لا بد من الدلالة؟ والقائلون بأنه يستند (¬3) إلى الأمارة، اختلفوا: هل يشترط أن تكون جلية أو لا فرق (¬4) بين الجلية والخفية؟ (¬5). فالفرق بين الدلالة والأمارة: أن الدلالة في عرف الأصوليين ما أفاد القطع، والأمارة ما أفاد الظن (¬6)؛ لأن الدليل والبرهان في عرف أرباب الأصول موضوعان لما أفاد العلم، والأمارة (¬7) موضوعة لما أفاد الظن (¬8)، فيكون القياس داخلاً في الأمارة لأنه يفيد الظن، وإنما خصصه المؤلف بالذكر؛ لأن الظاهرية يجوزونه عن الأمارة ولا يجوزونه عن القياس؛ لأن القياس عندهم ليس بدليل شرعي (¬9). ذكر المؤلف أربعة أقوال: أحدها، وهو المشهور: أنه لا بد للإجماع من مستند (¬10)، إما دلالة وإما أمارة (¬11). ¬
الثاني: أنه ينعقد من غير مستند (¬1)، أي: من غير دلالة ولا أمارة (¬2). الثالث: أنه ينعقد بالدلالة دون الأمارة (¬3). الرابع: أنه ينعقد بالدلالة والأمارة الجلية، ولا ينعقد بالأمارة الخفية (¬4). قوله: (انعقاده على القياس). مثاله: إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر رضي الله عنه قياسًا على إمامته بهم في الصلاة، ولذلك قال بعضهم: "رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟! " (¬5). ¬
وكذلك تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه (¬1). وكذلك إراقة الزيت إذا وقعت فيه فأرة قياسًا على السمن (¬2). وكذلك إجماعهم على قتال مانع الزكاة قياسًا على الصلاة، قال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لا أفرق بين ما جمع (¬3) الله، قال [الله] (¬4) تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬5) (¬6). وكذلك إجماعهم في زمان عمر رضي الله عنه على حد شارب الخمر ¬
ثمانين قياسًا على القذف؛ حيث شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى [أن يقام] (¬1) عليه حد المفتري، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: هذا حد وأقل الحدود (¬2) ثمانون (¬3). قوله: (والدلالة) (¬4). ¬
مثال انعقاد الإجماع على الدلالة: إجماعهم (¬1): على تحريم الضرب بتحريم التأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬2)؛ لأن تحريم التأفيف يدل على تحريم الضرب بطريق الأولى. قوله: [(والأمارة)] (¬3). مثاله: ما تقدم في أمثلة (¬4) القياس؛ لأن القياس أمارة. قوله: (وجوّزه قوم بمجرد الشبهة والبخت). [الشبهة والبخت] (¬5) بمعنى واحد (¬6)، والبخت بالخاء المعجمة بنقطة واحدة من فوق مع التاء المهملة (¬7)، معناه: الحظ والجد والسعد والنصيب، وهو ما يأتي الإنسان (¬8) من غير تعب ولا مشقة (¬9). ¬
[ومنه قول ابن دريد في المقصورة: لا ينفع اللب بلا جد ولا ... يحطك الجهل إذا الجد علا (¬1) ومنه قول الشاعر: تقلبت حتى ما نفعني تقلبي ... وبالجد يسعى المرء لا بالتقلب (¬2) ومنه قول العرب لفلان: جد في الأمر (¬3)، أي: حظ وبخت] (¬4). يقال: بخت فلان بختًا، إذ صار له حظ وجد. أي: وجوّز قوم شاذ (¬5) انعقاد الإجماع من غير مستند (¬6)، بل بمجرد ¬
البخت، أي بتوفيق الله تعالى إياهم في اختيار الصواب، وهذا جار على القول بأنه يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو عالم: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فينعقد الإجماع على هذا القول بغير (¬1) دلالة ولا أمارة (¬2). قال بعضهم: مثال ذلك: كأجرة الحجام والحمام والسقاء؛ لأن ذلك يجوز من غير تقدير الأجرة بإجماع (¬3). حجة المشهور (¬4) بانعقاده على (¬5) الدلالة والأمارة: أن الأمارة تفيد الظن فأمكن اشتراك الجميع في ذلك الظن، كالغيم الرطب؛ فإنه يجوز اشتراك الجمع العظيم (¬6) في الظن بنزول المطر، وكذلك أمارة الخجل والوجل يمكن اشتراك الجمع العظيم (¬7) في إفادتها الظن، فكذلك أمارة الأحكام كالقياس وغيره (¬8). حجة القول بانعقاده عن الدلالة دون الأمارة: أن الظنون تتفاوت؛ فلا يصح فيها الاتفاق، بخلاف الدلالة، وهي (¬9) الدليل القاطع، فهو ظاهر لا ¬
مجال للاختلاف فيه، فيتصور بسببه الإجماع (¬1). أجيب عن هذا بثلاثة أوجه: أحدها: ما قدمناه (¬2) من [أن] (¬3) الغيم الرطب يجوز اشتراك الجمع العظيم في الظن بموجبه. الوجه الثاني: أن الدليل القاطع قد تعرض له الشبهة أيضًا كما تعرض للظني، ولذلك اختلف العقلاء في حدوث العالم وغيره من القطعيات، لكن عروض الموانع لا عبرة بها. الوجه الثالث: أنا لا ندعي وجوب حصول الإجماع، بل ندعي أنه إذا حصل كان حجة، وتعذر حصوله في كثير من الصور لا يقدح في ذلك (¬4). حجة القول بالفرق بين الأمارة الجلية [والخفية] (¬5) وهو القياس الجلي والخفي. مثال/ 267/ الجلية: قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"؛ لأن علة ذلك تفهم بأول وهلة من غير تفكر، بخلاف الخفية كقياس الأرز على البر [في] (¬6) الربا بجامع الاقتيات والادخار، أو الطعم (¬7)، ¬
فلا تفهم علته إلا بعد تفكر؛ فإن الأمارة الجلية يمكن (¬1) اجتماع الكل في الظن بموجوبها بخلاف الخفية (¬2). حجة القول بأنه ينعقد (¬3) بدون مستند (4): قوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ"؛ فإنه يقتضي صحة الإجماع من غير مستند (¬4) (¬5). أجيب عن هذا: بأن القول من غير مستند (4) اتباع الهوى (¬6)، واتباع الهوى حرام، قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) (¬8). ... ¬
الفصل الرابع في المجمعين
الفصل الرابع في المجمعين ش: أي في بيان المعتبرين في انعقاد الإجماع. قوله: (فلا يعتبر فيه جملة الأمة إِلى يوم القيامة، [لانتفاء فائدة الإِجماع] (¬1)). ش: وهذا الذي ذكره المؤلف [ها] (¬2) هنا لا خلاف فيه؛ إذ لا يمكن التمسك بقول جميع الأمة من زمان الرسول عليه السلام إلى يوم القيامة (¬3)، أما قبل يوم القيامة فلعدم كمال الإجماع، وأما في يوم القيامة فلأنه لا تكليف فيه (¬4). وإلى هذا أشار بقوله: لانتفاء فائدة الإجماع. قوله: (ولا العوام عند مالك وعند غيره، خلافًا للقاضي؛ لأن الاعتبار فرع الأهلية [ولا أهلية] (¬5) فلا اعتبار). ¬
ش: وفي اعتبار العوام ثلاثة أقوال؛ ثالثها: يعتبرون في الإجماع العام دون الخاص، واختاره الباجي (¬1). ومعنى الإجماع العام: هو الذي يعلم الحكم فيه العلماء والعوام، وهو كل ما علم حكمه من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والتحريم بالطلاق، وتحريم الربا، والزنا، والقتل، والخمر، وغير ذلك، دون الخاص، كأحكام البيوعات، والإجارات، والمساقاة، والقراض، والمغارسة، والمزارعة، وأحكام العتق، والكتابة، والتدبير، والشفعة، والجنايات، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا العلماء. حجة القول الذي عليه الجمهور: وهو عدم اعتبار العوام (¬2): أن من شرط المعتبر في الإجماع أن يكون أهلاً للنظر والاجتهاد، وذلك معدوم من ¬
العامي ولا يوجد ذلك إلا في العلماء، فإذا عدم الشرط عدم مشروطه، وإلى هذه الحجة أشار المؤلف بقوله: (لأن الاعتبار فرع الأهلية [ولا أهلية] (¬1) فلا اعتبار) (¬2). حجة القول باعتبار العوام في الإجماع، وهو قول [القاضي] (¬3) أبي بكر (¬4): أن أدلة الإجماع تتناولهم؛ لأن لفظ الأمة يتناولهم (¬5) لأنهم مؤمنون فيعتبرون في الإجماع (¬6). أجيب عن هذا: بأن أدلة الإجماع يتعين حملها على العلماء دون العوام؛ لأن قول العامي (¬7) بغير مستند خطأ، والخطأ لا عبرة به (¬8) (¬9). ¬
وأيضًا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا (¬1) على عدم اعتبار العوام، وعلى إلزامهم اتباع العلماء (¬2). حجة القول باعتبار العوام فيما يعلم من الدين بالضرورة: أن (¬3) العوام والعلماء سواء في حصول المعرفة بالعلوم من الدين بالضرورة، وإنما يفترق الحال بين العوام والعلماء فيما لا يعلمه إلا العلماء. قال بعضهم: هذا القول الثالث بالتفصيل يحتمل أن يكون تفسيرًا لمحل الخلاف، وأن ما يعلم من الدين ضرورة يعتبر فيه العوام باتفاق، وإنما الخلاف فيما عداه، والله أعلم (¬4). قوله: (والمعتبر في كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإِن لم يكونوا من أهل (¬5) الاجتهاد في غيره، فيعتبر في الكلام المتكلمون، وفي الفقه الفقهاء، قاله الإِمام) (¬6). ش: وإنما لا يعتبر في الفن إلا أربابه؛ لأن غير أربابه بمنزلة العوام بالنسبة إلى غير فنه، والعوام لا عبرة بهم، ويلزم على قول القاضي المتقدم أن يعتبر ¬
أهل كل فن في غير فنه؛ لأن غايتهم أن يكونوا كالعوام بالنسبة إلي غير فنهم (¬1). قوله: (وقال: لا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والذاهب إِن (¬2) لم يكن مجتهدًا، والأصولي المتمكن من الاجتهاد غير الحافظ للأحكام و [المذاهب] (¬3) خلافه معتبر على (¬4) الأصح). ش: ذكر المؤلف ها هنا شخصين: أحدهما: العالم بالفروع دون الأصول، والثاني: العالم بالأصول دون الفروع. فذكر أن العالم بالفروع خاصة دون الأصول لا عبرة به في الإجماع، وإليه أشار بقوله (¬5): لا عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إن (¬6) لم يكن مجتهدًا (¬7) أي: إن لم يكن أصوليًا (¬8). قوله: (للأحكام والمذاهب) معناهما واحد، وهو الفروع، والمراد بالفروع: معرفة [مواضع] (¬9) الاجتماع (¬10) والاختلاف خاصة؛ لئلا يفتي على خلاف الإجماع. ¬
وذكر المؤلف: أن العالم بالأصول خاصة دون الفروع يعتبر خلافه على الأصح، لعلمه بمدارك الأحكام وكيفية (¬1) دلالتها (¬2) عليها، وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها ومفهومها ومعقولها، بخلاف الفروعي. وهذا الذي ذكر المؤلف من التفصيل بين الفروعي والأصولي هو القول المشهور (¬3). واختلف الأصوليون في هذه المسألة على أربعة أقوال: قيل: يعتبران (¬4)، وقيل: لا يعتبران (¬5)، وقيل: يعتبر الأصولي دون الفروعي، وهو الذي ذكره المؤلف، وقيل: يعتبر الفروعي دون الأصولي (¬6)، وهو عكس ما ذكره المؤلف. وهذا الخلاف كله إنما هو على القول بعدم اعتبار العوام. وأما على القول باعتبار العوام في الإجماع فإن الفروعي والأصولي ¬
يعتبران بأولى وأحرى لما بينهما وبين العوام من التفاوت في الأهلية في الفروعي، وصحة النظر في الأصولي. حجة من اعتبرهما - أعني: الفروعي والأصولي -: هي (¬1) النظر إلى ما اشتملا عليه من الأهلية التي لا وجود لها (¬2) في العوام ودخولهما في [عموم] (¬3) أدلة الإجماع. حجة من لم يعتبرهما: أن شرط الاجتهاد معرفة الأصول والفروع (¬4) معًا/ 268/ فإن فقد أحدهما عدم الاجتهاد، وإذا عدم الاجتهاد عدم الإجماع. حجة من اعتبر الأصولي دون الفروعي: أن الأصولي أقرب إلى الاجتهاد لعلمه بمدارك الأحكام وكيفية دلالتها وأخذها من المنطوق والمفهوم والمعقول بخلاف الفروعي (¬5). حجة من اعتبر الفروعي دون الأصولي: لأن (¬6) الفروعي أعلم بتفاصيل الأحكام من (¬7) الأصولي. قوله: (ولا يشترط بلوغ المجمعين إِلى حد التواتر، بل لو لم يبق والعياذ ¬
بالله إِلا واحد (¬1) كان قوله حجة). ش: اختلف؛ هل يشترط في المجمعين (¬2) العدد المفيد للعلم، وهو عدد التواتر؟ قاله القاضي أبو بكر، فإن قصروا عن ذلك فليس بحجة (¬3) أو لا يشترط ذلك، قاله الجمهور (¬4). حجة عدم الاشتراط: الأدلة الدالة على كون الإجماعِ حجة؛ إذ لم يفصل (¬5) فيها بين عدد وعدد، كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ (¬6) غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬7) (¬8)، وقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" وغير ذلك (¬9). حجة القول بالاشتراط: أنا (¬10) مكلفون بالشريعة وأن نقطع (¬11) بصحة ¬
قواعدها في جميع الأعصار، ومتى قصر العدد عن التواتر لم يحصل القطع بذلك (¬1). أجيب عنه: بأنا (¬2) لا نسلم عدم حصول العلم لما ثبت للأمة من العصمة، وأيضًا سلمناه لكن (¬3) نسقط (¬4) التكليف بالعلم لتعذر أسبابه (¬5). قوله: (وإِجماع غير الصحابة حجة، خلافًا لأهل الظاهر). ش: مذهب الجمهور [أن الإجماع] (¬6) لا يختص بعصر (¬7) الصحابة (¬8) بل يصح إجماع أهل كل عصر، خلافًا لداود الظاهري (¬9) ....................... ¬
وشيعته (¬1) (¬2) حجة الجمهور: أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة تتناول الجميع ولا يخص (¬3) عصر الصحابة دون غيره. حجة الظاهرية: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬4) [وقوله تعالى] (¬5): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬6)؛ لأن [هذا] (¬7) خطاب مشافهة وحضرة، فلا (¬8) يتناول إلا الحاضرين دون من بعدهم (¬9). أجيب عنه: بأنه (¬10) وردت (¬11) أخبار تتناول الجميع (¬12) كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬13)، وقوله عليه السلام: "لا تزال ¬
طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله عز وجل"؛ لأن هذه الأدلة لا تخص (¬1) بعض (¬2) الأعصار دون البعض، فوجب التعميم (¬3) وبالله التوفيق [بمنه] (¬4) (¬5). ... ¬
الفصل الخامس في المجمع عليه
الفصل الخامس في المجمع عليه ش: أي في بيان ما يصح فيه الإجماع وما لا يصح فيه الإجماع، أي: في بيان ما يثبت بالإجماع وما لا يثبت بالإجماع، أي في بيان ما يكون الإجماع فيه (¬1) حجة وما لا يكون الإجماع فيه حجة. قوله: (كل ما يتوقف [عليه] (¬2) العلم بكون (¬3) الإِجماع [حجة] (¬4) لا يثبت بالإِجماع، كوجود الصانع وقدرته وعلمه، والنبوة، وما لا يتوقف عليه، كحدوث العالم والوحدانية، فيثبت، واختلف (¬5) في كونه حجة في الحروب والآراء (¬6)). ش: حاصل هذا أربعة أوجه: أحدها: ما يتوقف صحة الإجماع عليه أول النظر. الثاني: ما لا يتوقف عليه إلا بالنظر البعيد. ¬
الثالث: ما لا يتوقف عليه أصلاً [وهو أمر دنيوي. الرابع: ما لا يتوقف عليه أصلاً وهو أمر ديني] (¬1). أما ما يتوقف عليه الإجماع أول النظر فلا يثبت بالإجماع باتفاق (¬2)، وإليه أشار المؤلف بقوله: (كل ما يتوقف عليه العلم بكون الإِجماع حجة لا يثبت بالإِجماع، كوجود الصانع وقدرته وعلمه، والنبوة). وبيان ذلك: أن الإجماع من متوقف على الدليل السمعي، والدليل السمعي متوقف على النبوة، والنبوة متوقفة على الربوبية، والنبوة أيضًا متوقفة (¬3) على كون الرب جل وعلا حيًا عالمًا قادرًا مريدًا، [وإنما قلنا بتوقف النبوة على كون الرب جل وعلا حيًا، لاستحالة وجود الرسول بغير مرسل] (¬4). وإنما قلنا بتوقف النبوة على كون الرب جل وعلا عالمًا؛ إذ لا يرسل الرسول إلا من يعلمه. وإنما قلنا بتوقف النبوة على كون الرب جل وعلا قادرًا؛ إذ لا يفعل الفعل إلا من هو قادر عليه. وإنما قلنا بتوقف النبوة على كون الرب جل وعلا مريدًا؛ لأن (¬5) إرسال ¬
زيد دون عمرو يدل على أنه مريد؛ لأن اختيار شيء دون شيء يدل على الإرادة. فتبين بما قررناه: أن الإجماع فرع (¬1) السمع، والسمع فرع النبوة، والنبوة فرع الربوبية المتصفة بالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، فظهر بذلك توقف الإجماع على هذه الأمور؛ إذ لولا هذه الأمور لما وجد الإجماع، فلو توقفت (¬2) هذه الأمور على وجود الإجماع للزم الدور، والدور ممنوع؛ لأنه محال (¬3). قوله: (كوجود الصانع وقدرته وعلمه، والنبوة). هذه أربعة أمثلة، أي لا يثبت وجود الصانع جل وعلا بالإجماع، لتوقف وجود الإجماع على وجود الصانع. ولا تثبت (¬4) قدرة الله بالإجماع، لتوقف [وجود] (¬5) الإجماع على وجود القدرة، ولا يثبت علم الله بالإجماع، لتوقف الإجماع على علم الله تعالى. ولا تثبت (¬6) النبوة بالإجماع، لتوقف الإجماع على صحة النبوة. قوله: (وما لا يتوقف عليه كحدوث العالم والوحدانية فيثبت). ¬
هذا هو الوجه الثاني من الأربعة الأوجه (¬1)، وهو ما لا يتوقف عليه الإجماع إلا بالنظر البعيد، كحدوث العالم والوحدانية. بيان (¬2) ذلك: أن العقل لو فرض قدم العالم لم يكن الإرسال مستحيلاً في ذاته، فلا يتوقف الإجماع على حدوث العالم، وإنما يتوقف عليه بالنظر البعيد، وهو أنه يلزم من قدم العالم نفي الإرادة، فإن القديم يستحيل أن يراد (¬3). وكذلك الوحدانية أيضًا لا يتوقف عليها الإجماع في أول النظر؛ لأنه لو فرض العقل إلهين (¬4) اثنين أو أكثر لتصور العقل من كل واحد منهما الإرسال ولم يكن ذلك مستحيلاً في أول النظر، فلا يتوقف الإجماع على الوحدانية في بادئ النظر، وإنما يتوقف عليه في النظر البعيد، وهو أنه من المحال أن يثبت عالَم مع (¬5) الشركة حتى يوجد فيه إرسال (¬6)، وهذا الوجه المذكور / 269/ اختلف فيه، هل يثبت بالإجماع أو لا؟ قولان، سببهما: هل النظر إلى مطلق التوقف؟ فلا يثبت بالإجماع (¬7)، أو النظر إلى بعد التوقف، فيثبت بالإجماع (¬8). ¬
قوله: (واختلف في كونه حجة في الحروب والآراء (1)). هذا هو الوجه الثالث من الأربعة الأوجه، وهو ما لا يتوقف عليه الإجماع وهو أمر دنيوي كالحروب والآراء (¬1)، أي: إذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كيفية في الحروب كترتيب الجيوش من تقسيمها (¬2) على خمسة أقسام: المقدمة (¬3) والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب (¬4)، وكذلك تدبير أمور الرعية، فهل تجوز مخالفتهم فيما أجمعوا عليه في هذا ونحوه من مصالح الدنيا أو لا تجوز مخالفتهم؟ قولان: والمختار منهما منع المخالفة. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: والأشبه بمذهب مالك أنه لا تجوز مخالفتهم فيما اتفقوا عليه من الحروب والآراء (¬5)، غير أني لا أحفظ فيه شيئًا عن أصحابنا (¬6). حجة القول بمنع المخالفة (¬7): أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة ¬
عامة، في كل ما أجمعوا عليه، كان دينيًا أو دنيويًا (¬1)، لثبوت عصمة الأمة من الخطأ، لقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" (¬2). حجة القول بجواز مخالفتهم (¬3) في هذا: أن الأدلة إنما دلت على عصمتهم فيما يقولونه عن الله تعالى، وهذا ليس منه، فلا يكون إجماعهم على هذا حجة. أجيب عنه: بأن هذا تخصيص، والأصل عدمه (¬4). وأما ما لا يتوقف عليه الإجماع أصلاً وهو أمر ديني، وهو الوجه الرابع من الأوجه الأربعة المذكورة، لم ينص (¬5) عليه المؤلف في هذا الفصل؛ فإنه يثبت بالإجماع اتفاقًا من غير خلاف (¬6). ¬
ولكن وإن لم ينص عليه المؤلف ها هنا، فقد ذكره (¬1) أول الباب بقوله: (وهو اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور) -[إلى قوله: - (وبأمر من الأمور] (¬2) الشرعيات والعقليات والعرفيات). وقولنا في هذا الوجه: وهو أمر ديني، [أي] (¬3) سواء كان شرعيًا كوجوب الصلاة (¬4) [والزكاة] (¬5)، أو عقليًا كجواز رؤية الله تعالى، وجواز العفو (¬6) عن المذنبين (¬7). قوله: (ويجوز اشتراكهم في عدم العلم بما لم يكلفوا به). ش: أي يجوز على الأمة اشتراكهم كلهم في الجهل بما لم يكلفوا به؛ إذ لا تجب (¬8) الإحاطة إلا لله تعالى، والجهل من ضرورات المخلوقات (¬9). ¬
وأما اشتراكهم في الجهل بما كلفوا به فلا يجوز عليهم (¬1)؛ لأنه معصية تأباها العصمة (¬2). وها هنا ثلاثة أحوال (¬3): الحالة الأولى: اتفاقهم على الخطأ في مسألة واحدة، كإجماعهم على أن العبد يرث، فهذا لا يجوز باتفاق. الحالة الثانية: أن يخطئ كل فريق في مسألة أجنبية عن المسألة الأخرى، فهذا يجوز باتفاق؛ لأنه يجوز الخطأ على كل مجتهد، وما من مذهب من المذاهب إلا وفيه ما ينكَر، ولهذا قال مالك: كل أحد في قوله مأخوذ ومردود (¬4) إلا صاحب هذا القبر (¬5) (¬6). ¬
الحالة الثالثة: أن يخطئوا كلهم في مسألتين هما في حكم المسألة الواحدة، مثل أن يقول أحد الفريقين: العبد يرث، ويقول الفريق الآخر: القاتل عمدًا يرث؛ لأن هاتين المسألتين ترجعان إلى مسألة [واحدة] (¬1) وهو مانع الميراث، فوقع الخطأ فيه من الكل، فمن نظر إلى اتحاد الأصل منع هذا، ومن نظر [إلى] (¬2) تعدد الفرع أجازه (¬3)، وبالله التوفيق بمنّه. ... ¬
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحْمَد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد الخامِس مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 3241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5633575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863533
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب السادس عشر في الخبر
الباب السادس عشر في الخبر وفيه عشرة فصول: الفصل الأول: في حقيقته. الفصل الثاني: في التواتر. الفصل الثالث: في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر. الفصل الرابع: في الدال على كذب الخبر. الفصل الخامس: في خبر الواحد. الفصل السادس: في مستند الراوي. الفصل السابع: في عدده. الفصل الثامن: فيما اختلفوا فيه من الشروط الفصل التاسع: في كيفية الرواية. الفصل العاشر: في مسائل شتى.
الباب السادس عشر في الخبر وفيه [عشرة] (¬1) فصول (¬2). ش: انظر لأي شيء أخر المؤلف باب الخبر عن بابي النسخ والإجماع، مع أن النسخ والإجماع مفتقران (¬3) إلى الخبر؛ إذ لا يوجدان إلا بعد وجود الخبر، فتقديم (¬4) الخبر عليهما أولى. أجيب عن تقديم الإجماع: لأنه قطعي بخلاف الخبر فإن أكثره مظنون، فالقطعي أولى وأقوى من المظنون فقدم الإجماع لشرفه وقوته (¬5) (¬6). وأجيب (¬7) عن تقديم النسخ: لأنه من توابع الكتاب الذي هو قطعي فقدمه على جهة التبعية لأصله (¬8) والله أعلم. ¬
الفصل الأول في حقيقته
الفصل الأول في حقيقته (¬1) قوله: (وهو المحتمل للصدق والكذب لذاته، احترازًا من خبر (¬2) المعصوم، والخبر على خلاف الضرورة) (¬3). ش: اختلف (¬4) في الخبر هل يحد أو لا يحد؟ قولان، فإذا قلنا: لا يحد ففيه قولان، قيل: لعسره (¬5)، وقيل: لأنه ضروري (¬6). فإذا (¬7) قلنا بأنه يحد فقيل: هو الكلام الذي يدخله الصدق والكذب، قاله ¬
المعتزلة (¬1) والقاضي أبو (¬2) بكر منا (¬3) (¬4). واعترض هذا الحد بأنه يقتضي دخول الصدق في كل خبر، ودخول الكذب في كل خبر، وليس الأمر كذلك، فإن من الخبر ما لا يدخله إلا الصدق، ومن الخبر ما لا يدخله إلا الكذب (¬5). فإن خبر الله تعالى، وخبر الرسول عليه السلام، وخبر مجموع الأمة، لا يدخله إلا الصدق ولا يدخله الكذب. وكذلك الخبر (¬6) على وفق الضرورة، كقولك: الواحد نصف الاثنين، فلا يدخله إلا الصدق. ¬
ومثال ما لا يدخله إلا الكذب ولا يدخله الصدق: كالخبر على (¬1) خلاف (¬2) الضرورة، كقولك (¬3): الواحد نصف العشرة. فالحد المذكور إذًا غير جامع، لأنه خرج عنه ما لا يدخله إلا الصدق وما لا يدخله إلا الكذب، ولأجل هذا قال المؤلف في حد الخبر: وهو المحتمل للصدق و [الكذب] (¬4) لذاته (¬5)، فزاد قوله: لذاته، أي لذات الخبر، أي لنفس الخبر، احترازًا من احتمال أحدهما دون الآخر لأمر (¬6) عارض، لا من (¬7) ذات [الخبر] (¬8) من حيث هو خبر، كخبر المعصوم، والخبر على وفق الضرورة، أو على خلاف الضرورة، فإن عدم احتمال الكذب أو عدم احتمال الصدق في ذلك إنما (¬9) عرض من جهة المخبر به أو من جهة المخبر عنه لا من جهة ذات الخبر، ولأجل هذا زاد المؤلف قوله: لذاته./ 270/ قوله: "احترازًا من خبر المعصوم والخبر على خلاف الضرورة"، أراد بالمعصوم الله تبارك وتعالى، ورسوله عليه السلام، ومجموع الأمة، وكذلك ¬
الخبر على خلاف (¬1) الضرورة، فامتناع الصدق والكذب في هذه الأمور إنما هو بالنظر إلى متعلق الخبر لا بالنظر إلى ذاته (¬2)، وأما إن نظرت إلى معقول الخبر من حيث هو خبر مع قطع النظر عن متعلقه فهو محتمل للصدق والكذب. قوله: (احترازًا من خبر المعصوم والخبر (¬3) على خلاف الضرورة) اعترض (¬4) [هذا] (¬5) بأن قيل (¬6): إنما يحترز مما يراد خروجه ولا يحترز مما يراد دخوله. أجيب عنه: بأن في الكلام حذف مضاف تقديره: احترازًا من خروج خبر المعصوم، والخبر على خلاف الضرورة. ونظير هذه العبارة قول المؤلف في حد التخصيص في الباب الأول في الفصل الثامن: (فقولنا: أو ما يقوم مقامه: احترازًا من المفهوم) (¬7)، تقديره: احترازًا من خروج المفهوم، على حذف المضاف. قال المؤلف في شرحه: الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق والكذب والتصديق والتكذيب، فالصدق: هو مطابقة الخبر للمخبر عنه، والكذب: هو عدم مطابقة الخبر [للمخبر] (¬8) عنه، والتصديق هو الإخبار عن كونه ¬
صدقًا، والتكذيب: هو الإخبار عن كونه كذبًا، فالصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه، عدميتان لا وجود لهما في الأعيان، وإنما وجودهما في الأذهان: والتصديق والتكذيب خبران وجوديان في الأعيان (¬1) مسموعان، فظهر الفرق بين الصدق والتصديق و [بين] (¬2) الكذب والتكذيب. [و] (¬3) قوله في حد الخبر: هو المحتمل للصدق والكذب [والتصديق والتكذيب] (¬4)، كما قال في الشرح (¬5) معترض بأن قيل: الصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه، والنسبة بين الشيئين لا تعرف [إلا] (¬6) بعد معرفتهما، فتعريف الخبر بهما تعريف الشيء بما لا يعرف (¬7) إلا بعد معرفته وهو محال (¬8)، وكذلك التصديق والتكذيب: هما نوعان من أنواع الخبر، والنوع لا يعرف (¬9) إلا بعد معرفة الجنس فتعريف الجنس بهما أيضًا دور (¬10). ¬
أجيب عن ذلك: بأن الحد شرح اللفظ، وهو نسبة اللفظ إلى المعنى، [والمعنى] (¬1) في نفسه معروف فلا دور (¬2). وأجاب بعضهم: [بأن] (¬3) النسبة (¬4) بين الخبر ومتعلقه معناها الإسناد، والصدق والكذب خلاف الإسناد، فالإسناد قابل لهما وهما مقبولان، والفرق بين القابل والمقبول ظاهر. وقد أشار المؤلف إلى هذا في الباب الأول في الفصل السادس في حد الخبر بقوله: (إِسنادًا يقبل الصدق والكذب لذاته) (¬5). قوله: (وقال الجاحظ (¬6): يجوز عزوه عن الصدق والكذب والخلاف (¬7) لفظي). ¬
ش: مذهب أهل السنة: أن الخبر على قسمين خاصة: صادق، وكاذب، فلا واسطة بين الصدق والكذب (¬1). وقال الجاحظ من المعتزلة: الخبر على ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب (¬2). وسبب الخلاف يرجع إلى العرب، هل وضعت العرب لفظ الصدق للمطابقة (¬3) كيف كانت، أو وضعته للمطابقة مع القصد إليها؟ وكذلك لفظ الكذب، هل وضعته العرب لعدم المطابقة كيف كانت، أو وضعته لعدم المطابقة مع القصد إلى ذلك؟ (¬4). وإلى هذا السبب أشار المؤلف بقوله: والخلاف لفظي، أي هذا (¬5) الخلاف يرجع إلى التسمية، فعلى مذهب الجمهور لم تضع العرب لفظ الصدق والكذب إلا لمطابقة في الصدق وعدم المطابقة في الكذب، وعلى مذهب الجاحظ وضعت العرب لفظ الصدق والكذب للمطابقة مع اعتقادها في الصدق ولعدم المطابقة مع عدم اعتقادها (¬6) في الكذب. ¬
فها هنا أربعة أوجه: أحدها: المطابقة مع الاعتقاد. الثاني: عدم المطابقة مع عدم الاعتقاد. الثالث: المطابقة مع عدم الاعتقاد. الرابع: عدم المطابقة مع حصول الاعتقاد. فهذه أربعة أقسام: مثال حصول المطابقة مع الاعتقاد، قولك: زيد في الدار إذا كان زيد في الدار واعتقدت أنه [فيها، فهذا خبر صادق بالاتفاق لوجود المطابقة والاعتقاد. ومثال عدم المطابقة مع عدم الاعتقاد، قولك: زيد في الدار إذا لم يكن فيها واعتقدت أنه لم] (¬1) يكن (¬2) فيها، فهذا القسم كاذب (¬3) باتفاق لعدم (¬4) ¬
المطابقة وعدم الاعتقاد (¬1). ومثال المطابقة مع عدم الاعتقاد، قولك: زيد في الدار إذا كان فيها واعتقدت أنه ليس فيها، فهذا (¬2) القسم محل الخلاف. مذهب الجماعة أنه صدق لوجود المطابقة. ومذهب الجاحظ أنه ليس بصدق ولا كذب لعدم اعتقاد المطابقة. ومثال عدم المطابقة مع وجود الاعتقاد، قولك: زيد في الدار إذا لم يكن فيها واعتقدت أنه (¬3) فيها، فهذا القسم أيضًا محل الخلاف، فمذهب (¬4) الجماعة أنه كذب لعدم المطابقة. ومذهب الجاحظ أنه ليس بصدق ولا كذب لعدم اعتقاد عدم المطابقة. وهذه الأقسام الأربعة: اثنان بالاتفاق (¬5)، واثنان بالاختلاف (¬6) فَتَحَصَّلَ مما ذكرنا أن الصدق عند الجاحظ: هو المطابق مع اعتقاد أنه مطابق، والكذب هو غير المطابق مع اعتقاد أنه غير مطابق، وماعدا ذلك فليس بصدق ولا كذب عنده. حجة الجماعة القائلين بحصر الخبر في قسمين: قوله ¬
تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [بَلَى] (¬1) ...} إلى قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (¬2)، فدل على أن الكذب هو عدم المطابقة، وقوله عليه السلام: "مَنْ كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده في النار" (¬3) فدل على أن الكذب يتصور بدون العمد؛ لأن تقييده بالعمد يدل على تصوره بدون العمد، وقوله عليه السلام: "كفى بالمرء كذبًا (¬4) أن يحدث بكل ما سمع" (¬5) [فجعله كاذبًا إذا حدث بكل ما سمع] (¬6) وإن كان لا يشعر (¬7) بعدم المطابقة، [فذلك يدل على أن القصد لعدم المطابقة] (¬8) / 271/ ليس ¬
بشرط في تحقق الكذب وهو المطلوب (¬1). حجة الجاحظ: قوله تعالى حكاية عن الكفار: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} (¬2) فجعلوا الجنون قسيم الكذب، وقسيم الشيء غيره، ولا يوصف الجنون بصدق ولا كذب، فجعلوا الجنون قسيم الكذب لعدم القصد فيه، مع أن خبره على التقديرين (¬3) غير مطابق، فدل ذلك على اشتراط القصد في حقيقة الكذب (¬4). أجيب عنه: بأن ألافتراء عبارة عن الاختراع فهم نوعوا الكذب إلى اختراع وجنون، لا أنهم نوعوا كلامه إلى كذب وغيره (¬5). وقوله: (واختلفوا في اشتراط الإِراده في [حقيقة] (¬6) كونه خبرًا)، وعند (¬7) أبي علي وأبي هاشم الخبرية معللة بتلك الإِرادة، وأنكره الإِمام لخفائها، فكان يلزم ألا يعلم خبر (¬8) البتة، ولا (¬9) ستحالة (¬10) قيام (¬11) الخبرية بمجموع الحروف لعدمه، ولا ببعضها (¬12) وإِلا كان خبرًا، وليس فليس. ش: ذكر المؤلف ها هنا الخلاف بيننا وبين المعتزلة في مقامين: ¬
أحدهما: هل تشترط الإرادة في كون الخبر خبرًا أم لا؟ المقام الثاني: إذا قلنا باشتراط الإرادة، هل هي علة الخبرية أم لا؟ ثم ذكر المؤلف (¬1) [بعد هذا] (¬2) جوابين، الأول عن الأول، والثاني عن الثاني. قوله: واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقة كونه خبرًا. هذا هو المقام الأول، مذهب أهل السنة أن (¬3) الإرادة غير مشروطة في [حقيقة] (¬4) كون الخبر خبرًا (¬5)، ومذهب المعتزلة أنها مشروطة (¬6). حجة المعتزلة: أن الخبر قد يأتي والمراد به الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬7) وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ} (¬8)، ويأتي والمراد به الدعاء كقولنا: غفر الله لنا، ويأتي والمراد به التهديد كقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} (¬9)، وإذا اختلفت موارد استعماله فلا يتعين للخبرية إلا بالإرادة (¬10) (¬11). ¬
أجيب عن هذا بوجهين: أحدهما: أن الصيغة [إنما] (¬1) وضعت حقيقة للخبر، واستعمالها في غير الخبر مجاز، فتصرف (¬2) لمدلولها بالوضع لا بالإرادة (¬3)، والذي يحتاج إلى الإرادة هو المجاز (¬4) كما تقدم لنا في الأمر، هل تشترط الإرادة في كونه (¬5) أمرًا (¬6) أم لا؟ تقدم بيان ذلك في باب الأوامر في قول المؤلف ولا يشترط (¬7) فيه إرادة المأمور به ولا إرادة (¬8) الطلب خلافًا لأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة (¬9) فالخلاف في هذه المسألة كالخلاف في تلك (¬10). الجواب (¬11) الثاني: ما ذكره المؤلف عن الإمام وهو قوله: وأنكره الإمام لخفائها فكان يلزم أن لا يعلم خبر (¬12) البتة، لأن هذا جواب عن السؤال الأول، وهو هل تشترط الإرادة في حقيقة كون الخبر خبرًا أم لا؟ قوله: (وأنكرها (¬13) الإِمام لخفائها)، معناه: أنكر الإمام فخر الدين ¬
اشتراط (¬1) الإرادة لأجل خفاء الإرادة لأنها أمر باطني لا يطلع عليه لخفائه (¬2)، فلو كانت شرطًا في حقيقة الخبر للزم أن لا يعلم (¬3). وأما المقام الثاني: وهو قولنا: هل الإرادة علة الخبرية أم لا؟ معناه: هل تلك الإرادة هي التي أوجبت كون اللفظ خبرًا أم لا؟ [قال] (¬4) أهل السنة: ليست الإرادة علة الخبرية. [و] (¬5) قال أبو علي وأبو هاشم الجبائي (¬6) وغيرهم من المعتزلة: الإرادة علة الخبرية (¬7). قوله: (ولاستحالة (¬8) قيام الخبرية بمجموع الحروف لعدمه ولا ببعضها (¬9) وإِلا كانت خبرًا، وليس فليس). هذا جواب عن السؤال الثاني وهو قولنا: هل الإرادة علة الخبرية أم لا؟ ¬
[و] (¬1) هو جواب أهل السنة القائلين بأن الإرادة ليست علة للخبرية (¬2). وبيان هذا: أن ما قال المعتزلة من كون الإرادة علة للخبرية (¬3) محال، وبيان استحالته: أن هذه الخبرية المعللة بالإرادة لا تخلو، إما أن تقوم بمجموع حروف (¬4) الخبر، وإما أن تقوم ببعض الحروف دون البعض، والكل باطل لأنه محال. فلا يصح قيامها بمجموع الحروف لعدم المجموع، لأن الكلام من المصادر السيالة كالماء يأتي بعض الحروف ويذهب بعضها، فلا يوجد منه أبدًا إلا حرف واحد فلا يمكن اجتماعها في حالة [واحدة] (¬5) من النطق، والإرادة تكون في دفعة واحدة فلا يصح قيامها بالمجموع لعدم المجموع، إذ لو قلنا؛ قامت الخبرية بمجموع الحروف لأدى (¬6) إلى قيام المعنى الوجودي بالأ [مر] (¬7) العدمي وذلك محال. ولا يصح [أيضًا] (¬8) قيامها (¬9) ببعض الحروف خاصة دون البعض، لأنه ¬
يلزم [منه] (¬1) أن يكون ذلك البعض الذي قامت به خبرًا (¬2) والبعض الآخر ليس بخبر، وذلك أيضًا محال، وهو خلاف الإجماع. قوله: (وإِلا كان خبرًا)، أي: وإن قامت الخبرية بالبعض كان ذلك البعض خبرًا وحده، وليس بخبر بإجماع (¬3)، فليس قيام الخبرية به، وهو المطلوب. وقيل: معناه: فليس اشتراط الإرادة (¬4) في الخبر بصحيح. قال المؤلف (¬5) في الشرح: فكأن الإمام فهم عنهم أن تلك الخبرية أمر وجودي فلا يصح قيامها بمجموع الحروف ولا ببعضها. ... ¬
الفصل الثاني في التواتر
الفصل الثاني في التواتر (¬1) ش: شرع المؤلف (¬2) في خبر التواتر؛ إذ الخبر على ثلاثة أقسام: خبر التواتر، وخبر الآحاد، وما ليس بتواتر ولا آحاد وهو خبر المنفرد (¬3) إذا احتفت (¬4) به قرائن تفيد العلم (¬5). قال المؤلف: هذا (¬6) القسم ما علمت له اسمًا في الاصطلاح، فليس بمتواتر (¬7) لعدم العدد، وليس بآحاد (¬8) لإفادته (¬9) العلم (¬10). ¬
ذكر المؤلف في هذا الفصل سبع (¬1) مسائل. [المسألة] (¬2) الأولى: حقيقة التواتر لغة. قوله: (وهو مأخوذ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما) (¬3). ش: هذه (¬4) حقيقته (¬5) لغة (¬6)، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (¬7)، أي واحدًا (¬8) بعد واحد بفترة بينهم (¬9). وقيل: مشتق من الوتر/ 272/ وهو الفرد (¬10). وقال بعض اللغويين: من لحن العوام قولهم: تواترت عليّ كتبك، ومرادهم: "تواصلت عليّ كتبك" وهو لحن، ولا يقال ذلك إلا في عدم ¬
التواصل (¬1). قوله: (وفي الاصطلاح: خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم (¬2) على الكذب عادة). ش: هذه مسألة ثانية في حقيقته اصطلاحًا (¬3). قوله: (خبر أقوام)، أي: جماعة، احترازًا من خبر واحد (¬4). قوله: (عن أمر محسوس) وهو ما يدرك بالحواس الخمس، احترازًا من أمر عقلي كسائر النظريات، كما إذا أخبر الجمع العظيم بحدوث (¬5) العالم، ¬
فإن (¬1) خبرهم لا يحصل العلم (¬2). قال إمام الحرمين في البرهان: ويلحق بذلك ما كان ضروريًا بقرائن (¬3) الأحوال كصفرة الوجل وحمرة الخجل فإنه ضروري عند المشاهدة (¬4). قوله: (يستحيل تواطؤهم (¬5) على الكذب)، احترازًا من خبر الآحاد (¬6). قوله: (عادة)، احترازًا من العقل، فإن العلم الحاصل بالتواتر (¬7) هو (¬8) عادي لا عقلي؛ لأن العقل يجوز الكذب على كل عدد وإن كثروا، فالإحالة المذكورة في التواتر هي عادية لا عقلية (¬9). قوله: خبر أقوام، يريد عقلاء عالمين بما أخبروا به. وقولنا: عقلاء، احترازًا من غير العقلاء كالمجانين (¬10) وغيرهم. ¬
وقوله: تواطؤهم (¬1)، معناه توافقهم، يقال: تواطأ القوم على الأمر، أي توافقوا عليه، ومنه قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (¬2) معناه (¬3)، ليوافقوا عدة ما حرم الله (¬4)، يقال: واطأتك على الأمر، أي: وافقتك عليه، [فالمواطأة هي الموافقة] (¬5) (¬6). ولا يشترط فيهم: الإسلام (¬7)، ولا العدالة (¬8)، ولا البلوغ، ولا الذكورية (¬9)، ولا الحرية (¬10). وقولنا: عالمين بما أخبروا به، احترازًا مما إذا كانوا ظانين لذلك. قوله: (وأكثر (¬11) العقلاء (¬12) على أنه مفيد للعلم (¬13) في الماضيات ¬
والحاضرات. والسمنية أنكروا العلم واعترفوا بالظن، ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط). ش: هذه مسألة ثالثة، هل يفيد العلم أم لا؟ ثالثها: يفيده في الحاضرات دون الماضيات. حجة الجمهور بأنه يفيده مطلقًا في الماضيات والحاضرات (¬1). أنا نقطع بوجود دولة الأكاسرة والأقاصرة والخلفاء الراشدين ومن بعدهم من بني أمية وبني العباس من الماضيات، وإن (¬2) كنا لا نقطع بتفاصيل ذلك، ونقطع بوجود مكة والمدينة ودمشق (¬3) وبغداد وخراسان وغير ذلك من الأمور الحاضرات (¬4)، فقد حصل العلم بالتواتر من حيث الجملة (¬5). ¬
حجة السمنية: وهي طائفة من أهل الهند (¬1) (¬2): أنه كثيرًا (¬3) ما يجزم (¬4) بالشيء ثم ينكشف (¬5) الأمر بخلافه، فلو كان التواتر يفيد العلم لما انكشف الأمر بخلافه (¬6). وحجة ثانية: أن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب، فيجور على المجموع، فإن (¬7) المجموع مركب من الآحاد، وخبر الآحاد مظنون، والمركب من المظنون مظنون، كما نقول (¬8) في الزنج: لما كان كل واحد منهم أسود، كان ¬
مجموعهم أسود. أجيب عن الأول: أن تلك الصور التي ينكشف الأمر فيها بخلافه لم يحصل فيها العلم، والذي يحصل فيها هو الاعتقاد (¬1)، ولو حصل فيها العلم لما انكشف الأمر بخلافه، ونحن لا ندعي حصول العلم في جميع الصور بل ادعينا أنه قد يحصل وذلك لا ينافي عدم حصوله في كثير من الصور (¬2). وأجيب عن الثاني: بأن من الأحكام ما لا يثبت إلا للمجموع دون الآحاد ومنها ما لا يثبت إلا للآحاد دون المجموع. فمثال (¬3) الأول: إشباع مجموع (¬4) اللقم من الطعام، وإرواء مجموع (¬5) ¬
القطرات من الماء، وغلبة مجموع الجيش للعدو، [و] (¬1) ما أشبه ذلك من الأحكام الثابتة للمجموعات دون الآحاد. ومثال ما يثبت للآحاد دون المجموع: كالألوان، والطعوم، والروائح، فإنه يستحيل ثبوتها إلا للآحاد، وأما المجموعات فإنها أمور ذهنية، والأمور الذهنية لا يمكن أن تقوم بها كيفيات الألوان وغيرها (¬2). ومحل النزاع ها هنا هو [من] (¬3) القسم الأول الذي هو حصول الحكم للمجموع (¬4)، وليس من القسم الثاني الذي هو حصول الحكم للآحاد، فإنه قد يوجد في المركبات ما ليس في المفردات. حجة الفرق بين الحاضرات والماضيات (¬5): أن الماضيات غائبة عن الحس فيتطرق إليها احتمال الخطأ والنسيان؛ ولذلك أن الدول الماضية لم يبق عندنا شيء من أحوالها. وأما الحاضرات فمعضودة (¬6) بالحس فبعد (¬7) (¬8) تطرق احتمال الخطأ ¬
والنسيان إليها (¬1). قال المؤلف: الجواب عنه: أن حصول الفرق (¬2) لا يمنع من الاشتراك في الحكم، ويدل عليه ما قدمناه من حصول العلم بالدول (¬3) الماضية والبلدان الغائبة فبطل ما تعلقوا به (¬4). قوله: (والعلم الحاصل منه ضروري عند الجمهور (¬5)، خلافًا لأبي الحسين البصري (¬6) وإِمام الحرمين (¬7) والغزالي) (¬8) (¬9) (¬10). ¬
ش: هذه مسألة رابعة. حجة الجمهور: أنا نجد العلم التواتري (¬1) يحصل (¬2) للصبيان والنسوان (¬3)، ومن ليس له أهلية النظر، فلو (¬4) كان نظريًا لما حصل (¬5) إلا لمن له أهلية النظر (¬6). حجة القول بأنه نظري: أن السامع إذا توهم التهمة (¬7) من المخبرين فيما أخبروا (¬8) به لم يحصل له العلم، وإذا لم يتوهم ذلك حصل له العلم، وإذا علم أن المخبرين من أهل الديانة (¬9) والصدق حصل له العلم بالعدد اليسير منهم، وإذا علم أن المخبرين من أهل الفسق والكذب لم يحصل [له] (¬10) العلم بإخبار العدد الكثير منهم، فإذا كان العلم يتوقف حصوله على ثبوت أسباب وشروط (¬11) وانتفاء موانع (¬12)، فلا بد من النظر في تلك الأسباب والشروط، ¬
وانتفاء [تلك] (¬1) الموانع، وما توقف على النظر (¬2) فهو نظري (¬3) (¬4). أجيب عن هذا: بأنه صحيح، ولكن تلك المقدمات حاصلة في أوائل الفكرة (¬5) ولا يحتاج في العلم الحاصل عنها/ 273/ إلى كبير تأمل ولا يقال في العلم إنه نظري إلا إذا كان لا يحصل إلا لمن له أهلية النظر، وقد بينا أن الأمر ليس كذلك (¬6). قوله: (والأربعة لا تفيد العلم، قاله (¬7) القاضي أبو بكر، وتوقف في الخمسة (¬8)، قال (¬9) فخر الدين: والحق أن عددهم غير محصور خلافًا لمن حصرهم في ¬
اثني (¬1) عشرة عدة (¬2) نقباء موسى عليه السلام (¬3) أو عشرين (¬4) عند أبي الهذيل لقوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬5) أو أربعين لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6) وكانوا حينئذ أربعين، أو سبعين عدد المختارين (¬7) من قوم موسى عليه السلام (¬8)، أو ثلاثمائة عدد أهل بدر، أو عشرة عدد [أهل] (¬9) بيعة (¬10) الرضوان). ش: هذه مسألة خامسة: وهي هل عدد التواتر محصور أو غير محصور؟ ¬
ذكر المؤلف فيه ها هنا ثمانية أقوال: أحدها: وهو أصحها أنه غير محصور (¬1). الثاني (¬2): الزائد على الخمسة (¬3)، الثالث: عشرة (¬4)، الرابع (¬5): اثنا (¬6) عشر (¬7)، الخامس: عشرون (¬8)، السادس: أربعون (¬9)، السابع: سبعون (¬10)، الثامن: ثلاثمائة (¬11). ¬
قوله: نقباء موسى [عليه السلام وهم] (¬1) الذين أرسلهم موسى عليه السلام ليستخبروا (¬2) له (¬3) بلاد الجبارين [بالشام] (¬4) وهم اثنا عشر رجلاً (¬5) عدد الأسباط، لأنه جعل على كل سبط نقيبًا (¬6)، والنقيب (¬7) معناه الأمين، [وسمي نقيبًا] (¬8) لأنه ينقب على أحوال قومه (¬9). وإنما جزم القاضي رحمه الله بأن الأربعة لا تفيد العلم، لاحتياج تزكيتهم في الزنا، فلو كان (¬10) خبر الأربعة (¬11) يفيد العلم لما احتاج الأربعة في الزنا إلى التزكية، وذلك خلاف الإجماع. وإنما توقف في الخمسة لاحتمال حصول العلم بخبرهم. وظاهر كلام القاضي رحمه الله أن العدد بما هو عدد هو مدرك العلم، وفيه نظر، بل (¬12) الحق (¬13) أن القرائن لا بد منها مع الخبر فقد يمكن ¬
حصول القرائن مع الأربعة فيفيد خبرهم العلم (¬1). وهذه المذاهب المشترطة (¬2) عددًا معينًا فمدركها أن تلك الرتبة (¬3) من العدد وصفت بمنقبة حسنة، فجعل ذلك سببًا لأن تحصل لذلك العدد منقبة (¬4) أخرى وهو حصول العلم بخبرهم. قال المؤلف في الشرح: وهذا غير لازم لأن الفضائل لا يلزم فيها التلازم، فقد يحصل العلم بقول الكفار أحيانًا، ولا يحصل بقول الأخيار أحيانًا، بل الضابط: حصول العلم، فإذا (¬5) حصل العلم بعدد فذلك العدد هو عدد التواتر (¬6). قوله: (وهو ينقسم إِلى اللفظي وهو أن تقع الشركة (¬7) بين ذلك العدد في اللفظ المروي، والمعنوي وهو وقوع الاشتراك في معنى عام كشجاعة علي وسخاء (¬8) حاتم). ش: هذه مسألة سادسة، وهي تقسيم (¬9) الخبر المتواتر إلى اللفظي والمعنوي (¬10). ومعنى اللفظي: اشتراك المخبرين في اللفظ. ¬
ومعنى المعنوي: اشتراك المخبرين في المعنى (¬1). فمثال التواتر اللفظي: كما نقول (¬2) في القرآن العظيم: إنه متواتر، [أي] (¬3) كل لفظ منه اشترك فيها العدد الناقلون للقرآن (¬4). وكذلك دمشق (¬5) وبغداد، أي جميع المخبرين نطقوا بهذا اللفظ. ومثال التواتر المعنوي: كشجاعة علي وسخاء (¬6) حاتم، فلم تقع الشركة في اللفظ وإنما وقعت في المعنى. كما يروى أن عليًا قتل ألفًا في الغزوة (¬7) الفلانية، وقتل كذا وكذا في غزوة أخرى، وتروى قصص أخرى بألفاظ أخرى يدل مجموعها على شجاعته، وذلك بألفاظ (¬8) مختلفة ولكن معنى جميعها واحد وهو الشجاعة. فشجاعة علي رضي الله عنه ثابتة بالتواتر المعنوي. ¬
وكذلك سخاء حاتم، كما يروى (¬1) أنه أعطى مائة ناقة، وأعطى ألف دينار، وأعطى كذا وكذا، وأضاف كذا وكذا، [وذلك] (¬2) بألفاظ مختلفة ولكن (¬3) يدل مجموعها على معنى واحد وهو السخاء، فسخاء حاتم ثابت بالتواتر المعنوي. قوله: (وشرطه على الإِطلاق إِن (¬4) كان الخبر لنا غير المباشر استواء الطرفين والواسطة، وإِن كان المباشر فيكون المخبر عنه محسوسًا، فإِن الإِخبار عن العقليات لا يحصل العلم). ش: هذه مسألة سابعة، وهي شرط التواتر. قال المؤلف في شرحه: التواتر له أربع حالات وهي: إما طرف واحد، وإما طرفان، وإما طرفان وواسطة، وإما طرفان ووسائط. فمعنى طرف واحد: إذا كان المخبر لنا هو المباشر لسماعه (¬5) من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومعنى طرفان: إذا كان المخبر لنا ناقلاً عن المباشر. ومعنى طرفان وواسطة: إذا كان المخبر لنا ناقلاً عن الناقل المباشر، ¬
فهم ثلاث طوائف (¬1). ومعنى طرفان ووسائط: إذا تعددت الوسائط بيننا وبين الناقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نقول في القرآن العظيم، فإن سامعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقله عنه وسائط وقرون متعددة حتى انتهى إلينا (¬2). قوله: (وشرطه على الإِطلاق)، أي كان لفظيًا أو معنويًا. قوله: (إِن كان الخبر لنا غير الباشر)، أي: غير مباشر السماع (¬3) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (استواء الطرفين (¬4) والواسطة)، يعني استواءهم (¬5) في الشرطين اللذين أشار إليهما المؤلف في حد التواتر، وهما (¬6) أن يكون كل طائفة يستحيل تواطؤهم (¬7) على الكذب عادة، [وأن يكون المخبر عنه أمرًا محسوسًا] (¬8) (¬9). ¬
قوله: (وإِن كان المباشر فيكون المخبر عنه محسوسًا)، أي [و] (¬1) إن كان المخبر لنا هو مباشر السماع (¬2) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيشترط فيه أن يكون المخبر عنه أمرًا محسوسًا. ظاهر هذا يوهم أن كونه محسوسًا خاص (¬3) بخبر المباشر، وليس الأمر كذلك، بل هذا الشرط (¬4) مشروط في جميع أنواع التواتر، وظاهره أيضًا [أنه] (¬5) لا يشترط في المباشر/ 274/ إلا هذا، وليس كذلك، بل يشترط فيه استحالة التواطئ على الكذب عادة (¬6). قوله: (فإِن الإِخبار عن العقليات لا يحصل العلم)، كحدوث العالم؛ فإن المعتمد عليه في ذلك إنما هو الدليل العقلي لا الخبر (¬7). ... ¬
الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر
الفصل الثالث في الطرق (¬1) المحصلة للعلم غير التواتر (¬2) ش: يريد الأشياء المحصلة للعلم بالمخبر عنه، ولم يرد الأشياء المحصلة للعلم مطلقًا، لأن العلم قد يحصل بغير ما ذكر ها هنا كالتجريبيات والحدسيات. مثال التجريبيات: كحلاوة العسل ومرارة الحنظل وغير ذلك مما يعلم بالتجريب. ومثال الحدسيات: كجودة الفضة والذهب ورداءتهما، ونضج الفاكهة وعدم نضجها وغير ذلك بما يعلم بالحدس والتخمين، وذلك أن العلم سبعة أقسام (¬3) وهي: الضروري، والنظري، والحسي، والتواتري، والتجريبي، والحدسي، والوجداني، وقد تقدم بيان ذلك في الباب الأول في الفصل الثاني عشر: في حكم العقل بأمر على أمر (¬4). ¬
قوله: غير التواتر (¬1)، [لأن التواتر] (¬2) قد تقدم أنه يفيد العلم ضرورة عند الجمهور. وذلك أن الخبر محصور في ثلاثة (¬3): إما خبر عن واجب، وإما خبر عن مستحيل، وإما خبر عن جائز. فأما الخبر عن الواجب فلا يكون إلا صدقًا، وصدقه يعلم (¬4) بالضرورة، وقد يعلم بالنظر (¬5). مثال ما علم صدقه بالضرورة: كقولك: الواحد نصف الاثنين. ومثال ما علم صدقه بالنظر: كوجود الصانع وحدوث العالم. وأما الخبر عن المستحيل فلا يكون إلا كذبًا، وكذبه قد يعلم بالضرورة، وقد يعلم بالنظر (¬6). مثال ما علم كذبه [بالضرورة] (¬7): كقولك: الواحد نصف الثلاثة (¬8) أو نصف العشرة. ومثال ما علم كذبه بالنظر: كقولك: العالم قديم. ¬
وأما الخبر عن الجائز فإما أن يكون المخبر معصومًا (¬1) فلا يكون إلا صدقًا (¬2) كخبر الله تعالى، وخبر الرسول عليه السلام (¬3). وإن كان المخبر غير معصوم، فإما أن يكون تواترًا، أو آحادًا. فإن كان تواترًا فلا يكون إلا صدقًا (¬4). وإن كان آحادًا، فإما أن تقترن به قرائن تفيد العلم أم لا، فإن اقترنت به فهو صدق، وإلا فمحتمل، وسيأتي بيانه في خبر الآحاد [إن شاء الله تعالى] (¬5). قوله: (وهي سبعة، كون المخبر (¬6) عنه معلومًا بالضرورة، أو بالاستدلال (¬7) أو خبر (¬8) الله سبحانه، أو خبر (¬9) الرسول عليه السلام، أو خبر (¬10) مجموع الأمة، أو الجمع العظيم عن (¬11) الوجدانيات في أنفسهم (¬12)، ¬
أو القرائن (¬1) عند إِمام الحرمين (¬2) والغزالي (¬3) والنظام (¬4) خلافًا للباقين). ش: قوله: (كون المخبر (¬5) [عنه] (¬6) معلومًا بالضرورة) (¬7)، كقولك: الواحد نصف الاثنين، والواحد ثلث الثلاثة (¬8). قوله: (أو بالاستدلال) (¬9)، كقولك: الواحد سدس عشر الستين لأنك تستدل عليه بالقياس المنظوم من مقدمتين قطعيتين، كقولك: الواحد سدس الستة، والستة عشر الستين [فينتج لك الواحد سدس عشر الستين] (¬10). وكذلك قولك: الواحد ربع عشر الأربعين، لأنك تستدل عليه بالمعلوم بالضرورة وهو القياس المنظوم من مقدمتين قطعيتين، كقولك (¬11): والواحد ¬
ربع الأربعة، والأربعة عشر الأربعين، ينتج (¬1) لك: الواحد ربع عشر الأربعين. قوله: (أو خبر الله سبحانه) (¬2)، فإن خبر الله تعالى صدق، لأن ضد (¬3) الصدق كذب، والكذب نقص، والنقص في حق الله جل جلاله محال. قوله: (أو خبر الرسول عليه السلام) (¬4) فإن خبر الرسول عليه السلام صدق؛ لأن المعجزات الظاهرة على يده تدل على صدقه قطعًا. قوله: (أو خبر مجموع الأمة) (¬5)، لثبوت العصمة لمجموع الأمة، لقوله عليه السلام: "لا تجتمع أمتي على خطأ" كما تقدم في أدلة (¬6) الإجماع. قوله: (أو لجمع العظيم عن الوجدانيات في أنفسهم) (¬7) ومعنى الوجدانيات هي المشاهدات (¬8) الباطنية التي يجدها الإنسان في نفسه، ¬
كالجوع، والعطش، واللذة، والألم، والفرح، والغضب، والنشاط، والكسل، وغير ذلك، مثال ذلك: أن يخبر كل واحد من الجمع العظيم على أنه وجد هذا الطعام شهيًا أو كريهًا، فإنا نقطع بأن ذلك الطعام كما أخبروا به؛ لأن متعلق أخبارهم واحد وهو كونه شهيًا أو كريهًا، وإن كنا لا نقطع بما في نفس كل واحد من تلك الشهوة (¬1)، أو تلك الكراهة؛ لأن كل واحد لم يخبر عما قام بغيره، وإنما أخبر عن شهوة نفسه أو كراهته (¬2) القائمة به. ففي كل واحد منهم خبر واحد لا نقطع (¬3) به، بخلاف متعلق تلك الشهوة أو الكراهة فإنا نقطع به، فإنه واحد كونه شهيًا أو كريهًا. قوله: (والقرائن) (¬4) (¬5). حجة القول: بأن القرائن تفيد العلم: أن الإنسان إذا أخبر عن مرضه مع اصفرار وجهه وسقم جسمه وغير ذلك من أحواله الموافقة لخبره (¬6)، فإنا نقطع بصدقه حينئذ (¬7). ¬
حجة القول بأن القرائن لا تفيد العلم: أنا نقطع بموت زيد، ثم ينكشف الأمر بخلاف (¬1) ذلك، وأنه فعل ذلك خوفًا من سلطان، أو فعل ذلك لغرض آخر (¬2). أجيب عن هذا: بأنا لا نسلم أن الحاصل في هذه الصورة هو العلم، بل الحاصل فيها [هو] (¬3) الاعتقاد الجازم (¬4)، ونحن لا ندعي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور، بل يحصل العلم في بعضها، [ويحصل الظن في بعضها] (¬5) ويحصل الاعتقاد في بعضها، ونقطع في بعض الصور بحصول العلم وأن الأمر لا ينكشف بخلافه، ومن أنصف (¬6) وراجع نفسه وجد الأمر كذلك في كثير من الصور. نعم [و] (¬7) في بعض الصور ليست كذلك، ولا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يمكن أن يحصل العلم في صورة أم لا؟ فهم ينفونه على الإطلاق ونحن نثبته في بعض الصور، قاله المؤلف (¬8)، [وبالله التوفيق بمنه] (¬9)./ 275/ ... ¬
الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر
الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر ش: هذا الفصل هو على ضد [ما عليه] (¬1) الفصل الذي قبله. قوله: (وهو خمسة، منافاته (¬2) لما علم بالضرورة، أو النظر، أو الدليل القاطع، أو ما شأنه (¬3) أن يتواتر (¬4) [ولم يتواتر] (¬5) كسقوط المؤذن يوم الجمعة (¬6) ولم يخبر به إِلا واحد، وكقواعد (¬7) الشرع، أولهما جميعًا، كالمعجزات، أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقرار (¬8) الأحاديث فلم يوجد). ش: قوله: (منافاته لما علم بالضرورة (¬9)). ¬
مثال مخالفة الخبر لما علم بالضرورة كقولك: الواحد ليس نصف الاثنين (¬1). قوله: (أو النظر) (¬2)، مثال مخالفة الخبر لما علم بالنظر والاستدلال: قولك: الواحد ليس سُدُس عشر الستين أو الواحد ليس [ربع] (¬3) عشر الأربعين. [قوله: (والدليل القاطع)] (¬4) (¬5). مثال مخالفة الخبر لما علم بالدليل القاطع: قولك (¬6): والشمس ليست بطالعة (¬7)، ونحن نشاهدها طالعة، لأن الحس دليل قاطع. قوله: (أو ما شأنه أن يتواتر (¬8) ولم يتواتر) (¬9)، هذا رابع، وما ¬
موصولة، أو نكرة [موصوفة] (¬1)، تقديره على أنها موصولة: أو [كونه] (¬2) الخبر الذي شأنه أن يتواتر ولم يتواتر (¬3)، وتقديره على أنها نكرة موصوفة: أو كونه خبرًا شأنه أن يتواتر [ولم يتواتر] (¬4). وهذا (¬5) الذي شأنه أن يتواتر على ثلاثة أقسام: إما لغرابته (¬6)، وإما لشرفه، وإما لهما معًا، أي لغرابته وشرفه (¬7) جميعًا (¬8). ومثال ما شأنه أن يكون متواترًا [لغرابته: سقوط المؤذن عن المنار يوم الجمعة (¬9). ومثال ما شأنه أن يكون متواترًا] (¬10) لشرفه: قواعد الشرع، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، وغير (¬11) ذلك من قواعد الدين (¬12). ¬
ومثال ما شأنه أن يكون متواترًا لغرابته وشرفه: معجزات الرسول عليه السلام، ففيها الغرابة، لأنها من خوارق العادات (¬1) وفيها الشرف لأنها أصل النبوة (¬2)، فإذا لم يتواتر شيء من ذلك ولم ينقله إلا واحد فإنه يدل على كذب المخبر (¬3)، ولكن بشرطين: أحدهما: أن يحضره جمع كبير. والثاني: ألا يقوم غيره مقامه في حصول المقصود منه. فقولنا: أن يحضره جمع (¬4) كبير، احترازًا من انشقاق القمر (¬5) ¬
فإنه (¬1) لم يحضره عدد التواتر لأنه وقع في الليل. وقولنا: ألا يقوم غيره مقامه، احترازًا من بقية معجزات الرسول عليه السلام، كتكثير القليل (¬2)، ونطق العجماء (¬3)، ونبع الماء من بين أصابعه (¬4) ¬
وغير ذلك من معجزاته عليه السلام، فإنه حضر الجمع العظيم، إلا أن الأمة اكتفت بنقل القرآن وإعجازه عن (¬1) غيره من معجزاته عليه السلام، فلذلك لم تنقل بالتواتر فنقلت آحادًا مع أن شأنها أن تكون متواترة (¬2). قوله: (أو لهما جميعًا)، هذا الضمير يعود على الغرابة والشرف، يدل على ذلك سياق الكلام (¬3) وإن لم يتقدم لهما ذكر، كقوله تعالى: {كُلّ مَن عَلَيْهَا فَانٍ} (¬4) [أي على الأرض] (¬5) وقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬6) يعني الشمس، تقدير كلام المؤلف: أو ما شأنه أن يتواتر لغرابته كسقوط المؤذن (¬7) عن المنار (¬8) يوم الجمعة، أو لشرفه كقواعد الشرع، أو لهما جميعًا كالمعجزات. قوله: (أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقرار الأحاديث فلم يوجد)، هذا خامس. ¬
تقديره: أو كونه طلب فلم (¬1) يوجد، يعني (¬2): أن الأحاديث بعد (¬3) استقرارها وتحصيلها في الصدور أو الكتب (¬4)، إذا طلب حديث ولم يوجد عند الرواة ولا في شيء من كتب الحديث فإنه يدل على كذبه، ولكن بشرط استيعاب الاستقراء (¬5) بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلا وقد كشف أمره في جميع أقطار الأرض، وذلك متعذر أو متعسر (¬6). وأما الكشف في البعض دون البعض فلا يقطع [بكذبه و] (¬7) عدمه (¬8)، لاحتمال أن يكون ذلك الحديث في البعض الباقي. وقد ذكر أبو حازم (¬9) حديثًا في مجلس هارون الرشيد (¬10) ¬
بحضرة (¬1) ابن شهاب الزهري، فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث، فقال له أبو حازم: أكل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفتها؟ فقال: لا، فقال (¬2): أثلثها؟ فقال: لا، فقال [له] (¬3): أنصفها؟ فسكت فقال له: اجعل هذا في النصف الذي لم تعرفه. فهذا (¬4) ابن شهاب مع كثرة حفظه، فما ظنك بغيره؟ (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الفصل الخامس في خبر الواحد
الفصل الخامس في خبر الواحد ش: شرع المؤلف ها هنا في خبر (¬1) الواحد، أي في حقيقته (¬2)، والاحتجاج (¬3) به، وشروطه. قد تقدم لنا أن الخبر عند المؤلف ثلاثة أقسام (¬4): تواتر، وآحاد، وما ليس بتواتر ولا آحاد، وهو خبر (¬5) الواحد إذا احتفت (¬6) به القرائن حتى يفيد (¬7) العلم، فإنه ليس بتواتر لعدم العدد، وليس بآحاد لإفادته العلم؛ إذ خبر الآحاد يفيد الظن ولا يفيد العلم (¬8). ¬
مثاله: إذا أخبر (¬1) واحد بأن فلانًا (¬2) المريض مات، وسمعت النياحة، قال المؤلف في شرحه (¬3): هذا القسم الثالث لا أعلم له اسمًا في الاصطلاح (¬4). قال بعضهم: هذا القسم الثالث الذي زاده المؤلف فيه نظر، لاندراجه في خبر الآحاد، لأن الأصوليين كلهم يقولون: الخبر على قسمين: تواتر، وآحاد. فالتواتر: خبر جماعة مفيد بنفسه العلم بصدقه. وخبر الآحاد: ما لم ينته إلى التواتر، كما قاله (¬5) ابن الحاجب فيهما (¬6). وقولنا: ما لم ينته إلى التواتر، يندرج فيه [خبر] (¬7) الواحد المنفرد إذا احتفت (¬8) به القرائن المفيدة للعلم. والصحيح أن الخبر على قسمين: تواتر، وآحاد خاصة، كما قاله غير واحد كابن الحاجب وغيره (¬9)، وكون الخبر (¬10) المنفرد يفيد العلم بالقرائن لا ¬
يخرجه ذلك عن خبر الآحاد (¬1)، لأن مورد التقسيم إنما هو الخبر من حيث هو خبر، أي باعتبار نفسه لا باعتبار القرائن. ومنهم من زاد قسمًا رابعًا وهو الخبر/ 276/ المستفيض وهو: ما زادت نقلته على ثلاثة، قاله ابن الحاجب (¬2) (¬3). ¬
قوله: (وهو (¬1) خبر العدل (¬2) أو العدول المفيد للظن). ش (¬3): احترز بالعدل من الفاسق (¬4). قوله: (أو العدول) ليندرج (¬5) خبر الجماعة المفيد للظن (¬6). قوله: (المفيد للظن) راجع إلى العدل والعدول، احترازًا من خبر العدل المفيد للعلم بالقرائن، فإنه ليس بخبر الواحد عند المؤلف كما تقدم (¬7). واحترز بقوله: المفيد للظن أيضًا، من خبر العدول المفيد للعلم (¬8) فإنه من التواتر لا من الآحاد (¬9). قوله: المفيد للظن، احترازًا من خبر العدل [أو العدول] (¬10) المفيد للشك فلا عبرة بالشك (¬11). ¬
قال المؤلف في شرحه: كون خبر الجماعة إذا أفاد الظن يسمى (¬1) خبر الواحد، هو اصطلاح (¬2) لا لغة، انتهى [نصه] (¬3) (¬4). وذلك أن خبر الواحد في اللغة إنما هو خبر إنسان واحد أعم من أن يكون عدلاً أو فاسقًا، وهو أعم من أن يفيد علمًا أو ظنًا أو شكًا (¬5). قوله: (وهو عند مالك رحمه الله وعند أصحابه حجة. [واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات، والفتوى، والشهادات. والخلاف إِنما هو في كونه حجة] (¬6) في حق المجتهدين، فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضي الله عنهم إِلى العمل به). ش: اختلف العلماء: هل يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً أو لا يجوز؟ ومذهب الجمهور جوازه، فإذا قلنا بمنعه، فقيل: يمتنع عقلاً، وقيل: يمتنع سمعًا، فإذا قلنا بجوازه، هل (¬7) يجب (8) العمل به أو لا يجب؟ (¬8). مذهب (¬9) الجمهور وجوبه، فإذا قلنا بوجوب العمل به، فاختلفوا هل ¬
يجب العمل به مطلقًا أو لا بد من زيادة؟ ومذهب (¬1) الجمهور وجوب العمل به مطلقًا من غير زيادة. فإذا قلنا بالزيادة، فاختلفوا، فقيل: لا بد أن يكون هنالك ما يقويه، وقيل: لا بد أن يرويه اثنان (¬2)، وقيل: لا بد أن يرويه اثنان إلا فيما يتعلق بالزنا فلا بد أن يرويه أربعة، قاله عبد الجبار من المعتزلة (¬3)، وقيل: لا بد أن يرويه أربعة في كل شيء، قاله غيره من المعتزلة (¬4). قوله: (وهو عند مالك رحمه الله وعند أصحابه حجة). قال المؤلف في شرحه: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن خبر الواحد حجة (¬5)، ...... ¬
وهو مذهب مالك (¬1)، والشافعي (¬2)، وأبو حنيفة (¬3)، وأحمد بن حنبل (¬4) وغيرهم (¬5). وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: وبه قال الفقهاء والأصوليون خلافًا لبعض المتكلمين (¬6). قال الباجي: خالف في ذلك القاساني (¬7) (¬8) وغيره من المعتزلة (¬9). ¬
حجة الجمهور على وجوب العمل به: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس (¬1). فالكتاب قوله تعالى: {إِن جَاءَكمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬2) فأوجب التبين (¬3) عند الفسق، وعند عدمه يجب العمل وهو المطلب. وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬4). فأوجب الحذر بقول الطائفة الخارجة من الفرقة (¬5)، والفرقة تصدق على ثلاثة والخارج منها يكون أقل منها وهو واحد أو اثنان، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة وهو المطلوب (¬6). وأما السنة: فقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى (¬7) ¬
السرائر". وأما الإجماع فهو ما أشار إليه المؤلف بقوله لمبادرة الصحابة رضي الله عنهم إلى العمل [به] (¬1). مثل (¬2) ما روي عن عائشة رضي الله عنها في (¬3) التقاء الختانين لأنهم رجعوا إلى خبرها بعد اختلافهم فيه. وكذلك رجوعهم إلى خبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وهو قوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬4). وكذلك رجوعهم إلى خبر حمل (¬5) بن مالك في الغرة قال: ضربت امرأة ¬
امرأة أخرى فألقت جنينًا ميتًا فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغرة (¬1)، فقال عمر رضي الله عنه: لو (¬2) لم نسمع هذا لقضينا فيه برأينا (¬3)، وغير ذلك من أخبار كثيرة لا تعد ولا تحصى. وأما القياس: فبالقياس على الفتوى والشهادة، لأن كل واحد منهما خبر واحد. حجة القول بعدم جواز التعبد به عقلاً (¬4): أن التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وذلك يقتضي أن تكون المصلحة والمفسدة معلومة، وخبر الواحد إنما يفيد الظن، والظن يجوز (¬5) خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد (¬6) وهو غير سائغ (¬7). ¬
أجيب عن هذا بوجهين: أحدهما: أن هذا مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، نحن نمنعها. الوجه الثاني: أن الظن إصابته غالبة، وخطؤه نادر، والقواعد (¬1) تقتضي ألا تترك المصلحة الغالبة للمفسدة النادرة، ولذلك أقام [الشرع] (¬2) الظن مقام العلم في أمور كثيرة لغلبة صوابه وندرة (¬3) خطئه (¬4). حجة القول بمنع التعبد به سمعًا (¬5): قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ (¬6) مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ} (¬7)، وخبر الواحد لا يفيد علمًا، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬8) (¬9). وجوابه: أن ذلك مخصوص بأصول الديانات وقواعد العبادات، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر"، ¬
وكذلك غيره من الأدلة المذكورة الدالة على قبوله، إذ الجمع بين الأدلة أولى من اطراح أحدها (¬1). حجة القول بأنه لا بد مما يقويه (¬2): قوله عليه السلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإلا فاتركوه" (¬3). حجة القول بأنه لا بد من اثنين (¬4): أنه عليه السلام أنكر خبر ذي اليدين حتى أخبره (¬5) غيره. وكذلك أنكر أبو بكر خبر المغيرة (¬6) في ميراث الجدة ¬
السدس حتى رواه محمد بن مسلمة (¬1) (¬2). وكذلك أنكر عمر خبر أبي موسى الأشعري (¬3) في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري (¬4) [وهو قوله عليه السلام: "الاستئذان ثلاثًا فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع"] (¬5) (¬6). وكذلك أنكر عمر أيضًا خبر فاطمة بنت قيس في السكنى وقال (¬7): لا ندع كتاب ربنا ¬
وسنة نبينا عليه السلام بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. حتى رواه غيرها. / 277/ وكذلك أنكرت عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر رضي الله عنه في تعذيب الميت ببكاء أهله [عليه] (¬1) حتى رواه غيره (¬2). أجيب: عن حديث ذي اليدين: أنها واقعة عظيمة وقعت بمجمع (¬3) عظيم، فلو لم يخبر بها غيره لكانت ريبة توجب الرد (¬4). [و] (¬5) أجيب عن خبر أبي موسى في الاستئذان بأنه مما يتكرر وتعم به البلوى، فلو لم يعرفه إلا (¬6) واحد لكان ريبة توجب الرد (¬7). وكذلك الجواب عن (¬8) خبر المغيرة في ميراث الجدة، وخبر فاطمة بنت قيس في السكنى. وأما خبر ابن عمر رضي الله عنه في تعذيب الميت ببكاء أهله [عليه] (¬9) ¬
فإنما (¬1) أنكرته عائشة رضي الله عنها لأنه مخالف للقاعدة وهي: أن الإنسان لا يؤخذ بذنب غيره لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2)، وقد ثبت في الأحاديث الصحاح أن النبي عليه السلام قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه" أثبته مالك في الموطأ (¬3) وغيره (¬4) من العلماء (¬5). واختلف في الجواب عن هذا الحديث فقيل: هذا [إذا] (¬6) أوصى الميت بالبكاء والنياحة عليه (¬7) كما قال الشاعر وهو طرفة العبدي (¬8) من الشعراء الستة (¬9). ¬
إذا (¬1) مت فانعني (¬2) بما أنا أهله وشقي علي الجيب (¬3) يا ابنة (¬4) معبدي (¬5) فعلى هذا إنما يعذب الميت بفعله، وهو إيصاؤه بالبكاء والنياحة عليه. وقيل: هذا إذا كان مع البكاء والنياحة ألفاظ تدل على الافتخار (¬6) ¬
بالمنكرات، كسفك الدماء، والغصب (¬1)، والفسوق، كما هو عادة العرب (¬2)، فإطلاق البكاء على هذه الأفعال مجاز، والعلاقة بين البكاء وهذه الأفعال المحرمات (¬3) هي الملازمة، لأن البكاء يلازم هذا اللفظ، واللفظ يلازم مدلوله، فتقدير الكلام: إن الميت يعذب بلازم لازم البكاء، فعلى هذا أيضًا إنما يعذب الميت بفعله لا بفعل غيره. وقيل: المراد بالعذاب المذكور في [هذا] (¬4) الحديث هو التشويش، وليس المراد به عذاب الآخرة المتوعد به شرعًا. [فرع: الأموات يعلمون أحوال الأحياء من الشدة والرخاء والفقر والغنى] (¬5). وقد روي أن امرأة في العراق (¬6) مات لها ولد فحزنت عليه حزنًا شديدًا، وبكت [عليه] (¬7) بكاءً عظيمًا، وصارت تخرج (¬8) كل عيد إلى المقابر تبكي (¬9) وتنوح عليه، ورحلت (¬10) من ذلك البلد إلى بلد آخر فلما حضر (¬11) العيد ¬
فخرجت إلى مقابر ذلك البلد [الذي] (¬1) حلت [به] (¬2) فأكثرت البكاء والعويل (¬3) فيها ثم نامت، فرأت أهل تلك المقابر قد هاجوا يسأل بعضهم بعضًا هل لهذه المرأة ولد عندنا؟ قالوا (¬4): لا، فقال بعضهم لبعض كيف جاءت عندنا تؤذينا ببكائها وعويلها من غير أن يكون لها عندنا ولد، ثم ذهبوا إليها فضربوها ضربًا وجيعًا، فاستيقظت فوجدت ألمًا عظيمًا من ذلك (¬5) الضرب (¬6). وذلك يقتضي أن الأرواح تتألم بالمؤلمات وتفرح باللذات في البرزخ كما كانت في الدنيا. وقد ورد أن الأرواح (¬7) تتألم بالمؤلمات وبعدم الزيارات، وتفتخر بالزيارات وتفرح باللذات، وأن الأموات يعلمون أحوال الأحياء (¬8) من الشدة والرخاء والفقر والاستغناء وغير ذلك، انظر القواعد السنية في الفرق الحادي والمائة بين قاعدة: فعل غير المكلف لا يعذب به، وقاعدة: البكاء على ¬
الميت يعذب الميت به (¬1). وأما حجة القول بأربعة في الخبر المتعلق بالزنا، فذلك بقياس الرواية على الشهادة (¬2). وحجة القول بأربعة في جميع الأخبار: فإن ذلك احتياطًا بأعلى مراتب الشهادات (¬3) (¬4). وأجيب عن هذين: بما قدمناه أولًا من الأدلة الدالة على قبول خبر الواحد من كتاب وسنة وإجماع وقياس. قوله: ([واتفقوا] (¬5) على جواز العمل به في الدنيويات (¬6) والفتوى والشهادات، والخلاف إِنما هو في كونه حجة في حق المجتهدين). ذكر المؤلف ها هنا محل الاتفاق ومحل الخلاف، فذكر أن محل الاتفاق ثلاث (¬7) مسائل، وهي: الأمور الدنيوية، والفتاوى، والشهادات (¬8). ومعنى الأمور الدنيوية: كما إذا أخبر عدل بالأمن أو الخوف (¬9) في الطريق ¬
فإن خبره يعتمد عليه، وكذلك إذا أخبر طبيب بأن المريض ينفعه هذا الطعام أو هذا الشراب أو يضره هذا الطعام أو هذا الشراب فإن خبره يعتمد عليه. ومعنى الفتوى: إذا أفتى المفتي فإنه يجب الاعتماد على قوله، وإن كان قوله لا يفيد إلا الظن عند المستفتي. ومعنى الشهادات: أن قول الشاهد العدل يجب على الحاكم قبول شهادته، وإن كان قوله لا يفيد إلا الظن عند الحاكم (¬1). قوله: (والخلاف إِنما هو في كونه حجة في حق المجتهدين)، [أي: وإنما الخلاف في الأحكام المتعلقة بالفتاوى، هل يجوز للمجتهد الاعتماد على ذلك أم لا؟ على الخلاف المتقدم] (¬2) (¬3). قوله: (ويشترط في المخبر العقل والتكليف وإِن كان تحمل (¬4) الصبي صحيحًا (¬5)، والإِسلام (¬6)، واختلف في المبتدعة إِذا كفرناهم فعند القاضي أبي بكر منا [وعند] (¬7) القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم، وفَصَّل (¬8) فخر ¬
الدين وأبو الحسين (¬1) بين من يبيح الكذب وغيره، [والعدالة] (¬2)، والصحابة رضي الله عنهم عدول إِلا عند قيام المعارض). ش: ذكر المؤلف أن المخبر يشترط فيه أربعة شروط: العقل، والبلوغ، والإسلام، والعدالة، وزاد الباجي في الفصول شرطًا خامسًا، وهو: ألا يكون كثير الخطأ والنسيان (¬3). أما (¬4) اشتراط العقل: فلأن العقل أصل الضبط (¬5)، والضبط لا يمكن من غير العاقل (¬6) كالمجنون والصبي غير المميز (¬7)، فلا تقبل رواية غير العاقل من غير خلاف (¬8). وأما اشتراط التكليف، وهو البلوغ: فاحترز به من الصبي المميز (¬9)، وإنما لا تقبل إذ ليس معه وازع يمنعه من الكذب، والوازع من الكذب هو الخوف من ¬
عذاب الله، وليس معه هذا المانع (¬1) لأنه غير مكلف فهو آمن من عذاب الله في كذبه لعدم تكليفه، فلا يؤمن عليه الكذب في روايته، فلا تقبل روايته (¬2)، بخلاف تحمله الرواية /278/ فإن تحمله مقبول، إذ لا (¬3) يشترط في تحمله إلا الضبط والميز (¬4). ونقل عن الشافعي رضي الله عنه قول بجواز رواية الصبي (¬5)، وهو منكر من حيث النظر والقواعد، وذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس معه وازع يمنعه من الكذب كما قدمناه. الوجه الثاني: أنه إذا لم تقبل رواية (¬6) الفاسق مع وجود الوازع في حقه، فالصبي أولى لعدم الوازع في حقه. الوجه الثالث: أن إقراره على نفسه لا يقبل، فأولى وأحرى ألا يقبل قوله ¬
على الشريعة (¬1). قوله: (وإِن كان تحمل الصبي صحيحًا)، هذا تأكيد وإغياء (¬2) راجع إلى التكليف الذي هو البلوغ، كأنه يقول: لا تقبل رواية الصبي ولو صح تحمله للرواية في حالة الصبا إلا تأديتها بعد بلوغه (¬3)، والدليل على صحة تحمل الصبي للرواية إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على قبول رواية الصبيان إذا أدوا بعد البلوغ (¬4) ما تحملوه في حالة الصبا، كابن عباس (¬5)، وابن الزبير (¬6)، والحسن بن علي (¬7)، والنعمان بن بشير (¬8)، وأنس بن ¬
مالك (¬1)، ومحمود (¬2) بن الربيع (¬3) وغيرهم، رضي الله عنهم، فإن المعتبر عندهم إنما هو حالة الأداء لا حالة التحمل لأنهم يقبلون ما تحمله (¬4) الكافر (¬5) أو الفاسق أو الصبي بعد زوال الكفر والفسوق والصبا، فإن المعتبر في الرواية (¬6) وقت التأدية لا وقت [التحمل] (¬7) بمنزلة الشهادة (¬8). قال ابن الحاجب في الأصول في باب الخبر: والرواية بعده، والسماع قبله مقبولة (¬9) كالشهادة (¬10)، الضمير (¬11) في قوله: بعده وقبله (¬12) يعود على البلوغ. قوله: (والإِسلام) (¬13)، أما اشتراط الإسلام فاحترز به من الكافر، ¬
والكافر على ضربين: كافر من غير أهل القبلة كاليهود (¬1) والنصارى، وكافر من أهل القبلة كالمبتدعة. فأما الكافر من غير أهل القبلة كاليهود والنصارى فلا تقبل روايته باتفاق لعدم الوازع معه (¬2)، وإن كان أبو حنيفة رضي الله عنه قبل شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر، واستدل بقوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (¬3) لأنه يقول: أو آخران من غير أهل دينكم، والجمهور يقولون: أو آخران من غير تلك القبيلة (¬4) (¬5). ¬
وأما الكافر من أهل القبلة، وهو المبتدع فقد بينه المؤلف بقوله: (واختلف في المبتدعة إِذا كفرناهم، فعند القاضي أبي بكر منا وعند القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم، وفصّل فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره). ش: ففي قبول رواية المبتدعة ثلاثة أقوال، ثالثها: التفصيل بين من يبيح الكذب فلا تقبل روايته، و (¬1) من لا يبيحه فتقبل روايته. حجة القول بالمنع مطلقًا، وهو مذهب مالك رحمه الله (¬2): [فإنهم إما ¬
كفار وإما فساق، وأيًا ما كان فلا تقبل روايتهم (¬1). حجة القبول مطلقًا:] (¬2) (¬3) أنهم (¬4) من أهل القبلة، وأن أحكام الإسلام تجري عليهم [لأنهم] (¬5) يُورّثُوْن (¬6) ويُورَثُونْ (¬7). حجة [القول] (¬8) بتجويز رواية من منع الكذب دون من جوزه (¬9)، وهو مذهب الشافعي، كما قاله المؤلف (¬10) في قوله (¬11): قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء (¬12) (¬13): أن من منع الكذب معه الوازع يمنعه من الإقدام على الكذب، لعلمه (¬14) بتحريم الكذب. ورد هذا الجواب: بأنه ينتقض عليه بالفاسق (¬15) فإن روايته لا تجوز مع ¬
علمه بتحريم الكذب (¬1). وكذلك ينتقض عليه بالكافر فإن منهم من لا يجيز (¬2) الكذب مع أن روايتهم (¬3) لا تجوز باتفاق (¬4). فحصل (¬5) مما ذكرنا أن الخلاف في المبتدعة مطلقًا، سواء قلنا بتكفيرهم أم لا، فقول المؤلف: إذا كفرناهم، يقتضي أن الخلاف مخصوص بالقول بتكفيرهم، وليس الأمر كذلك، بل الخلاف عام، ولأجل هذا قال بعضهم: صوابه أن يقول: واختلف (¬6) في المبتدعة وإن كفرناهم، بزيادة الواو على وجه التأكيد (¬7). قوله: (والعدالة) (¬8)، أما اشتراط العدالة، فاحترز بذلك من الفاسق، ¬
فلا تقبل روايته باتفاق (¬1). والدليل على ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: قياس روايته على شهادته؛ لأن الفاسق لا تجوز شهادته، فإذا كانت شهادته لا تجوز في أمر جزئي، فأولى وأحرى ألا تجوز روايته التي تثبت حكمًا عامًا على الخلق إلى يوم القيامة. [و] (¬2) الوجه الثاني: قوله (¬3) تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4) فإنه يقتضي أن الفسق مانع من القبول. والوجه الثالث: أن مقتضى الدليل ألا يعمل [بالظن] (¬5)، خالفناه في العدل، فيبقى ما عداه على مقتضى الدليل (¬6). قوله: (والصحابة رضوان الله عليهم عدول إِلا عند قيام المعارض). ش: الأصل في الصحابة العدالة حتى يدل الدليل على خلافه، والأصل في غيرهم عدم العدالة حتى يدل الدليل على خلافه، عملًا بالغالب في الفريقين (¬7). ¬
قوله: (إِلا عند قيام المعارض)، مثل: زنا ماعز مع الغامدية (¬1) (¬2). قوله: (والصحابة رضوان الله عليهم عدول). هذا هو الذي عليه أكثر السلف، وجمهور (¬3) الخلف (¬4). وقيل: حكمهم كحكم غيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم (¬5). وقيل: هم عدول إلا الداخلين في الفتنة (¬6) الواقعة بينهم، فإن (¬7) أحد الفريقين ظالم، [وهو] (¬8) غير معين، فيجب البحث عن (¬9) العدالة (¬10). وقالت المعتزلة: هم عدول إلا من قاتَل عليًا رضي الله عنه (¬11). حجة الجمهور: الكتاب والسنة. ¬
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1). وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬2) أي: عدولًا. وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬3). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (¬4)} الآية (¬5)، وغير ذلك من الآيات الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم. ومن السنة: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬6)؛ لأن الاهتداء من غير عدالة محال. ¬
وقوله عليه السلام: "والذي (¬1) نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبًا /279/ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (¬2). وقوله عليه السلام: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (¬3). قوله عليه السلام: "إن الله تعالى اختار لي أصحابًا وأصهارًا وأنصارًا" (¬4). ¬
وأنصار الله تعالى لا يكونون غير عدول، وغير ذلك من الأحاديث. وأما المعقول: فهو ما تواتر واشتهر من جدهم واجتهادهم (¬1) في امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب مناهيه، وذلك (¬2) دليل على عدالتهم رضي الله عنهم، فهذا هو القول الواضح. وأما الأقوال الثلاثة (¬3) فهي كلها جرأة على السلف الصالح رضي الله عنهم. لأن من قال: حكمهم (¬4) كحكم غيرهم، فأين (¬5) من مدحه الله تعالى ومدحه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غيره (¬6). ومن قال: إلا من دخل الفتن (¬7) التي وقعت بينهم؛ لأن (¬8) أحد الفريقين ظالم، وهو غير معين، فيجب البحث على (¬9) العدالة، لا يصح ذلك؛ لأن ما وقع بينهم إنما هو بالتأويل والاجتهاد، فكلهم (¬10) على الحق، سواء قلنا، كل مجتهد مصيب، أو قلنا: المصيب واحد من غير تعيين؛ لأنه إن قلنا: كل ¬
مجتهد مصيب، فكل واحد منهم على الحق لإصابته، فلا كلام. وإن قلنا أيضًا: المصيب واحد، فقد اتفق الأصوليون على أن كل مجتهد يجب عليه ما أداه إليه اجتهاده، فكل واحد منهم على الحق؛ لأن كل واحد منهم عمل [ما عمل] (¬1) بمقتضى اجتهاده، وبالله التوفيق بمنه (¬2) (¬3). فإذا ثبت أن الصحابة عدول فما معنى الصحابي؟ فاختلف العلماء في الصحابي من هو؟ على ثمانية أقوال: فقيل: من ولد في زمانه عليه السلام (¬4). وقيل: من ولد في زمانه، وبلغ في زمانه. وقيل: من رآه، ولو مرة واحدة (¬5). وقيل: من روى عنه، ولو حديثًا واحدًا. وقيل: من رآه وطالت صحبته معه (¬6). ¬
[وقيل: من رآه وروى عنه وطالت صحبته معه] (¬1) (¬2). وقيل: من غزا معه غزوة أو غزوتين أو قعد معه سنة أو سنتين، قاله سعيد ابن المسيب [رضي الله] (¬3) عنه (¬4). وقال شهاب الدين القرافي: أصحابه عليه السلام [هم الملازمون له] (¬5) (¬6) المهتدون بهديه، حتى فاضت عليهم أنواره، وظهرت عليهم بركته (¬7) وأسراره - صلى الله عليه وسلم - (¬8). قال ابن الحاجب في الأصول: مسألة: الصحابي (¬9): من رآه - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يرو ولم تطل (¬10)، وقيل: إن طالت صحبته، وقيل: إن اجتمعا (¬11)، فذكر ¬
ثلاثة أقوال من الأقوال المتقدمة. وقوله: إن اجتمعا يعني: الرواية والطول. قوله: (والعدالة اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإِصرار عليها والمباحات القادحة في المروءة) (¬1). ش: لما ذكر [المؤلف] (¬2) أن العدالة شرط أخذ [ها هنا] (¬3) بذكر (¬4) حقيقتها، فذكر أن الذنوب فيها كبائر وصغائر، وهذا مذهب أرباب السنة وذهبت (¬5) طائفة من المعتزلة إلى أن الذنوب كلها كبائر بالنسبة إلى من يعصى بها، وهو الله عز وجل (¬6). ¬
وذهبت (¬1) طائفة أخرى من المعتزلة أيضًا إلى أن الذنوب كلها صغائر بالنسبة إلى الإيمان فقالوا (¬2): لا كبيرة مع الإيمان كما لا حسنة مع الكفر (¬3)، والصحيح مذهب أهل السنة. والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (¬4). وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللَّمَمَ} (¬5) واللمم [هي] (¬6) صغائر الذنوب. وقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (¬7) فالفسوق (¬8) هو الكبائر، والعصيان هو الصغائر. ¬
قوله: (اجتناب الكبائر)، اختلف العلماء في الكبائر اختلافًا كثيرًا، قال (¬1) أبو عمر بن عبد البر: وأحسن ما قيل فيها: إنها عشرون، منها أربعة في القلب، وهي: الرياء، والحسد، والعجب، والكبر. ومنها ثمانية في الفم، وهي: الغيبة، والنميمة، وقذف المحصنات (¬2)، وشهادة الزور، ويمين الغموس، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى بالباطل. ومنها اثنان في اليد: وهما: القتل، والسحر. ومنها اثنان في الفرج، وهما الزنا، واللواط. ومنها أربعة في سائر الجسد: وهي (¬3): ترك الصلاة، وعقوق الوالدين، والتولي يوم الزحف، وإفساد أموال (¬4) المسلمين (¬5) (¬6). ¬
قوله: (وبعض الصغائر)، أي واجتناب بعض الصغائر يعني الصغائر التي تدل على أن صاحبها مستهزئ بدينه ومروءته، كسرقة بصلة أو تمرة أو لقمة، أو التطفيف (¬1) بحبة، أو تقبيل أجنبية بحضرة (¬2) الناس، وشبهها (¬3)، فهذا (¬4) وشبهه لا يفعله إلا من يستهزئ بدينه ومروءته (¬5). وإنما قال: بعض الصغائر، ولم يقل: اجتناب جميع الصغائر كما قال في الكبائر؛ لأن من الصغائر ما لا يفسق فاعلها، إذ ليس (¬6) فيها إلا مجرد المعصية كالنظر إلى الأجنبية (¬7)، والكذب الذي لا يتعلق به ضرر أحد (¬8). قوله: (والإِصرار عليها)، أي على الصغائر، معناه: واجتناب ¬
الإصرار على الصغائر، أي: وترك العزم على معاودة الصغائر، فالإصرار معناه: اعتقاد العودة إلى الذنب، وفي الحديث: "لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار". قال بعض العلماء: سبعة أشياء تصير الصغيرة كبيرة وهي (¬1): الإصرار على الذنب وهو المقام عليه، واحتقار الذنب واستصغاره، والسرور والفرح به، والتهاون بستر الله [وحمله] (¬2)، وإتيان الذنب مشاهرة بغير حياء، والتحدث على وجه الافتخار به، وأن يفعله عالم مقتدى به (¬3). قوله: (والمباحات القادحة في المروءة)، كالأكل في السوق لغير السوقي، والبول في الطريق، واللعب بالحمام، والحرف الدنية لمن لا تليق (¬4) به من غير ضرورة، كدباغة، وحجامة، وحياكة، وغيرها من كل ما يدل /280/ على أن صاحبه غير [مكترث] (¬5) بدينه (¬6) ومروءته (¬7). قال الغزالي: إلا [أن] (¬8) يكون ممن يفعل ذلك على سبيل كسر النفس ¬
وقمعها وإلزامها التواضع، كما يفعله بعض العباد (¬1). قوله: (ثم الفاسق إِن كان فسقه مظنونًا قبلت روايته بالاتفاق، وإِن كان مقطوعًا [به] (¬2) قبل الشافعي رواية (¬3) أرباب الأهواء إِلا الخطابية (¬4) (¬5) من الرافضة لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم (¬6)، ومنع القاضي أبو بكر من قبولها) (¬7). ش: لما ذكر أن العدالة شرط (¬8) [في] (¬9) قبول الرواية شرع ها هنا في ¬
ضدها وهو الفسق، فذكر أن الفسق على ضربين: مظنون، ومقطوع، فالمظنون لا يمنع من القبول باتفاق (¬1). فالمظنون (¬2) أن يعتقد أنه على صواب لمستند حصل له، ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع ببطلانه، فهو في حكم الفاسق لولا ذلك المستند، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت عليه أنه ارتكب شيئًا من أسباب الفسق فلا تقبل روايته باتفاق وليس من هذا القبيل (¬3). فالفسق المظنون هو فسق الجوارح بالتأويل، والفسق المقطوع هو فسق العقائد. قال الإمام فخر الدين في المحصول: وأما الفاسق (¬4) الذي يعلم كونه فاسقًا فلا تقبل روايته بالإجماع (¬5). فقول المؤلف: ثم الفاسق، يعني الفاسق الذي لا يعلم كونه فاسقًا، وأما الفاسق الذي يعلم كونه فاسقًا فلا تقبل روايته بالإجماع (¬6). فمثال الفسق المظنون: كفسق الحنفي إذا شرب النبيذ من غير سكر، فإنه غير مقطوع به عند الشافعي كما سيأتي، وإليه أشار المؤلف بقوله: ثم الفاسق ¬
إن كان مظنونًا قبلت روايته بالاتفاق (¬1). ومثال الفسق المقطوع (¬2): فسق المعتزلة [كالخوارج] (¬3) والقدرية، فإنهم يستحلون دماء المسلمين وأموالهم (¬4)، ففسقهم مقطوع به، وإليه أشار المؤلف بقوله: وإن كان مقطوعًا به قبل الشافعي رواية أرباب (¬5) الأهواء، يعني: المعتزلة (¬6)، وإنما قبل روايتهم لأنهم من أهل القبلة، ولأن أحكام المسلمين تجري عليهم من الإرث والتوريث (¬7) لأنا نورثهم ونرثهم (¬8)، وإنما منع الشافعي رواية الخطابية من الرافضة لتجويزهم الكذب ليوافقهم الناس على التمسك بمذهبهم (¬9). ¬
قوله: (إِلا الخطابية) (¬1)، سميت هذه الطائفة بالخطابية، لأنهم منسوبون إلى شيخهم أبي (¬2) الخطاب، وكان يأمر أصحابه بأن يشهدوا بالزور على من خالفهم في الدماء والأموال والجروح، وكان يقول: كل من خالف دينكم فماله ودمه حلال لكم، قاله ابن (¬3) قتيبة في المعارف (¬4) (¬5). قوله: (من الرافضة)، سموا بذلك لأنهم رفضوا إمامة علي رضي الله عنه (¬6). قوله: (ومنع القاضي أبو بكر من قبولها)، وهذا هو مذهب مالك، لأنهم إما كفار وإما فساق، كما تقدم. ¬
قوله: (وإِن كان مقطوعًا به قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء) إلى قوله: (ومنع القاضي أبو بكر من قبولها) هو تكرار (¬1) لقوله أولًا: واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم .. إلى قوله: وفصّل فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره (¬2). وذلك الخلاف المذكور أولًا هو هذا الخلاف المذكور ها هنا. وقال بعضهم: ليس بتكرار؛ لأنه تكلم أولًا على حكم المبتدعة على القول بأنهم كفار، وتكلم ها هنا: على حكمهم على القول بأنهم فساق، وذلك أنه لما ذكر شرط الإسلام أعقبه [بحكم] (¬3) المبتدعة بالنسبة إلى ضده الذي هو الكفر، ولما ذكر شرط العدالة أعقبها بضدها الذي هو الفسق، فذكر حكم المبتدعة بالنسبة إلى الفسق، فلا تكرار ولو كان الخلاف كالخلاف (¬4). قوله: (واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر (¬5)، فقال الشافعي: أحده وأقبل شهادته [بناء على أن فسقه مظنون، وقال مالك رحمه الله: أحده ولا أقبل شهادته] (¬6) كأنه (¬7) قطع بفسقه) (¬8). ¬
ش: ذكر المؤلف ها هنا جزئية يحتمل [الفسق] (¬1) فيها الأمرين. يحتمل أن يكون مظنونًا كما قاله الشافعي، ويحتمل أن يكون مقطوعًا كما قاله مالك، وهي (¬2) شارب النبيذ إذا لم يسكر منه. وسبب الخلاف (¬3) فيه قاعدتان: تمسك الشافعي فيه بإحداهما (¬4)، وتمسك مالك بالأخرى. فالقاعدة التي تمسك بها الشافعي: أن الزواجر إنما شرعت لدرء المفاسد لا لتحصيل المصالح، ولذلك يزجر الصبيان والبهائم لأجل الاستصلاح لهم وإن لم يكونوا عصاة، ولهذا قال الشافعي: أحده وأقبل شهادته، وإنما حده ¬
لدرء المفسدة (¬1)، وهي فساد العقل من التسبب إلى ذلك بالسكر (¬2)، وإنما قبل شهادته لعدم عصيانه لأنه قلد أبا حنيفة القائل بجواز شرب النبيذ (¬3)، فهذه القاعدة هي مدرك الشافعي فلا تناقض حينئذ بين حده وقبول شهادته، لأن حده لدرء المفسدة، وقبول شهادته لعدم المعصية (¬4). القاعدة الثانية التي تمسك بها مالك رحمه الله: أن الحكم ينقض إذا خالف أربعة أشياء، وإن تأكد بقضاء القاضي، وهي: الإجماع، والنص، والقياس الجلي، والقواعد (¬5). فإذا كان الحكم لا يقر (¬6) إذا خالف هذه الأشياء فلا يجوز التقليد فيه، فالتقليد فيه كالعدم، فيكون المقلد فيه كأنه (¬7) لم يقلد أحدًا، ومن لم يقلد أحدًا في شرب النبيذ كان عاصيًا في شربه، والعاصي بمثل هذه الفعلة يكون ¬
فاسقًا، فهذه القاعدة هي مدرك مالك رحمه الله، ولأجل هذا قال مالك: أحده ولا أقبل شهادته، وإنما حده لعصيانه، ورد شهادته لفسقه (¬1). قال المؤلف في شرحه: وقاعدة مالك أوجه في النظر من قاعدة الشافعي، / 281/ لأن قاعدة الشافعي [و] (¬2) إن كانت صحيحة يرد عليها أنها لم توجد إلا في الزواجر التي ليست بمحدودة (¬3)، وأما المحدودة فلا توجد إلا في المعاصي (¬4). وإنما قلنا: إن المقلد في شرب النبيذ لأبي حنيفة كأنه غير مقلد لأحد، لأن أبا حنيفة خالف ها هنا [النص، والقياس الجلي، والقواعد. أما النص: فهو قوله عليه السلام: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" (¬5). وأما القياس: فهو قياسه على الخمر بجامع السكر] (¬6). وأما القواعد: [فهو] (¬7) سد الذريعة في صون العقل (¬8). ¬
ولأجل هذا انعقد الإجماع على تحريم القطرة الواحدة من الخمر وإن كانت لا تسكر سد الذريعة (¬1) (¬2). قوله: (وقالت (¬3) الحنفية (¬4): يقبل قول المجهول). ش: يعني أن من جهل حاله ولا يعلم كونه فاسقًا أو كونه (¬5) عدلاً، هل تقبل روايته؟ قاله أبو حنيفة (¬6)، أو لا تقبل روايته؟ قاله الجمهور: ¬
مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وجل أهل العلم (¬1). حجة الجمهور من وجوه: أحدها: قوله عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، وصيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر [تقديره:] (¬2) ليحمل (¬3) هذا العلم من [كل] (¬4) خلف عدوله، فأمر عليه السلام بالعدالة في الرواية، فلو لم تكن العدالة شرطًا لبطلت حكمة هذا الخبر ولكان العدل وغيره في ذلك سواء (¬5). والوجه الثاني: أنه عليه السلام كان يطلب العدالة فيمن ينفذه إلى القبائل والبلاد، فدل ذلك على أن العدالة شرط. الوجه (¬6) الثالث: أن الصحابة رضوان الله عليهم يردون أخبار المجاهيل كما رد عمر رضي الله عنه [خبر] (¬7) فاطمة بنت قيس في السكنى فقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا عليه السلام بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، وغير ذلك. ¬
والوجه الرابع: بالقياس على مجهول الإسلام إذ [لا] (¬1) فرق بينهما. والوجه الخامس: أن مقتضى الدليل ألا يعمل بالظن (¬2) [خالفناه] (¬3) فيمن ثبتت عدالته، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل (¬4). حجة الحنفية من وجوه أيضًا: أحدها: قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬5)، فأوجب التبين (6) عند وجود الفسق، وعند عدم وجود الفسق لا يجب التبين (¬6)، فيجوز العمل بقول المجهول، وهو المطلوب (¬7). الوجه (¬8) الثاني: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬9) فأوجب الحذر عند قولهم ولم يشترط العدالة، فيقبل قول المجهول (¬10). والوجه الثالث: أن أعرابيًا شهد عند النبي عليه السلام برؤية الهلال ¬
فقبل شهادته (¬1)، فإذا جاز المجهول في الشهادة (¬2) ففي الرواية أولى؛ لأن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من الذكورية والحرية والعدد (¬3). الجواب عن الأول وهو قوله تعالى (¬4): {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬5): أن الفسق إذا علم زواله ثبتت (¬6) العدالة، لأنهما ضدان لا ثالث لهما، متى علم زوال (¬7) أحدهما ثبت الآخر, [ومع جهل الحال لم ينتف قطعًا ولا ظنًا، فلا يقبل] (¬8). [وأجيب عن الثاني: وهو قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية (¬9) أن الطائفة مطلقة] (¬10) وقوله عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" مقيد لإطلاق (¬11) الآية، لأن السنة تبين القرآن؛ لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬12). [وأجيب عن الثالث وهو قبول شهادة الأعرابي في الهلال: أن قضايا ¬
الأعيان إذا جهل حالها نُزِّلتْ على القواعد، وقاعدة الشهادة العدالة، ولو نقل عن قاض من قضاة الوقت أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته، حمل (¬1) على أنه ثبتت (¬2) عنده عدالته، فإذا كان هذا في آحاد القضاة، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، لاسيما وهو عليه السلام يقول (¬3): "إذا شهد ذو عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا"، فتصريحه (¬4) عليه السلام بالعدالة يأبى قبول شهادة المجهول، فثبت بما ذكرنا أن قول أبي (¬5) حنيفة مرجوح (¬6). واختلف في سبب قول أبي حنيفة: قيل: سببه أن العدالة معناها (¬7) الإسلام، والسلامة (¬8) من ظهور الفسق. وأما معناها عند الجمهور فهي اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها، والمباحات القادحة في المروءة، كما تقدم (¬9). وقيل: سببه: أن العدالة [عندهم] (¬10) حق للعبد (¬11) فإذا لم ¬
يطلبها الخصم فلا تجب، فإذا طلبها الخصم وجب على الحاكم إجابته. وأما الجمهور فالعدالة عندهم حق لله تعالى فلا بد من ثبوتها طلبت أو لم تطلب (¬1). وقيل سبب ذلك: أن أبا حنيفة إنما قال في ذلك في أول الإسلام حيث كان الناس الغالب عليهم العدالة (¬2)، ولما كثر الفساد وقل الرشاد فلا بد من ثبوت العدالة إلحاقًا للنادر بالغالب (¬3) في الوجهين (¬4)، والله أعلم. قوله: (وتثبت العدالة إِما بالاختبار أو بالتزكية). لما ذكر المؤلف أن العدالة شرط، أراد أن يذكر ما تثبت به، فذكر ها هنا أنها تثبت بأحد شيئين: أحدهما: الاختبار، والثاني: التزكية (¬5)، وزاد في الشرح شيئين آخرين، وهما: السماع المتواتر، أو المستفيض (¬6)، وزاد غيره خامسًا، وهو رواية العدل (¬7)، فهذه خمسة أشياء تدل على العدالة. ومعنى الاختبار: هو (¬8) المعاملة [و] (¬9) المخالطة التي يطلع بها على خبايا (¬10) النفوس ودسائسها (¬11). ¬
ومعنى التزكية: ثناء العدول (¬1) المبرزين عليه بصفات العدالة، وصفة هذا معروفة (¬2) عند الفقهاء (¬3). قال مالك: هي (¬4) أن يقول المزكي: هو عدل رضا (¬5). قال أبو محمد في الرسالة: لا (¬6) يقبل في التزكية إلا من/ 282/ يقول: عدل رضا (¬7)، فاللفظ عند مالك معتبر متعين على المشهور من مذهبه، وقد بين القاضي عبد الوهاب ذلك في التلقين بقوله: والمراعى في تزكية الشاهد: أن يشهد المزكي بأنه عدل رضا، وذلك يغني عما سواه، ولا يغني غيره عنه (¬8). ¬
قال بعضهم: هذا اللفظ الذي هو عدل رضا بمنزلة أم القرآن [في الصلاة] (¬1) لأنها تغني عن غيرها من القرآن ولا يغني غيرها عنها. قوله: ولا يغني غيره عنه كإذا قال: هو نعم العبد، أو نعم الرجل، أو نعم الإنسان، أو مقبول الشهادة، أو جائز الشهادة، أو غير ذلك، فلا يزكى بذلك (¬2). ولا يزكي الشاهد إلا من هو عارف بحاله ظاهرًا وباطنًا (¬3) كما قال عمر رضي الله عنه في رجل زكى شاهدًا عنده: هل ساكنته؟ هل سافرت معه؟ هل عاملته بالدنانير والدراهم التي تقطع الرحم؟ فقال: لا، فقال: [ائتني بغيره] (¬4) (¬5) (¬6). ¬
قال مالك: ولا يكفي (¬1) في ذلك مصاحبة شهر (¬2) (¬3). واختلف في هذين اللفظين قيل: مترادفان، وقيل: متباينان. فإذا قلنا: متباينان، فقيل: عدل في أفعاله، [و] (¬4) رضا معناه: مأمون من التخيل (¬5) عليه في شهادته. وقيل: عدل فيما بينه وبين الله، رضا فيما بينه وبين الناس. واختلف في هذين اللفظين، هل يكتفى بأحدهما (¬6) عن الآخر أم لا؟ [قولان] (¬7) (¬8)، سببهما: الاختلاف المذكور في ترادفهما وتباينهما، فإذا قلنا بترادفهما فيكتفى بأحدهما عن الآخر، وإذا قلنا بتباينهما فلا يكتفى بأحدهما عن الآخر. ومعنى السماع المتواتر: هو خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم على (¬9) الكذب عادة، كما تقدم بيانه أول الباب (¬10). ¬
ومعنى السماع المستفيض: هو السماع المنتشر ولم يبلغ حد التواتر. قال ابن الحاجب في الأصول: والمستفيض ما زادت نقلته على ثلاثة. انتهى (¬1). ولكن هذا على القول بأن الخبر (¬2) ثلاثة أقسام: تواتر، وآحاد، ومستفيض. والمشهور أنه محصور في قسمين خاصة، وهو التواتر، والآحاد، [و] (¬3) لا ثالث لهما. فقولنا: السماع المتواتر والمستفيض تثبت (¬4) بهما العدالة، وذلك أنا نقطع بعدالة أقوام من العلماء والصلحاء من سلف هذه الأمة ولم نختبرهم، بل بالسماع المتواتر أو المستفيض. وقد نص الفقهاء بأن (¬5) من عرف بالعدالة لا تطلب تزكيته (¬6). وأما رواية العدل كإذا قال العدل: رويت هذا عن فلان، هل ذلك ¬
تعديل لفلان؟ ففيه ثلاثة أقوال: مشهورها التفصيل (¬1). قال ابن الحاجب في الأصول: [و] (¬2) رواية العدل ثالثها المختار، تعديل إن كانت عادته أنه لا يروي إلا عن عدل. انتهى (¬3). قوله: (واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية والتجريح، فشرطه (¬4) بعض المحدثين في التزكية والتجريح، في الرواية والشهادة، ¬
واشترطه القاضي أبو بكر [في تزكية] (¬1) الشهادة فقط (¬2)، واختاره [الإمام] (¬3) فخر الدين) (¬4). ش: اختلف الأصوليون هل يكتفى بمزكٍ واحد ومجرح واحد في الرواية والشهادة (¬5)؟ أو لا بد من اثنين في الرواية والشهادة (¬6)، أو التفصيل بين الرواية ¬
والشهادة، على ثلاثة أقوال. والقول الذي عليه الجمهور: التفصيل: أي يكتفى بواحد في التعديل والتجريح في الرواية، وأما الشهادة فلا بد في تعديلها وتجريحها من اثنين (¬1). حجة اشتراط العدد فيهما، أي في الرواية الشهادة: قياسًا لهما على الترشيد، والتسفيه، والكفاءة، وغيرهما (¬2) لأن الجميع صفات (¬3)، وقياسًا (¬4) لهما أيضًا على الشهادة (¬5). حجة القول بالاكتفاء بالواحد فيهما: قياسًا على الرواية (¬6). حجة القول بالتفصيل: إلحاقًا للفرع بأصله تسوية بين البابين، وذلك أن الرواية يكتفى فيها بواحد على الصحيح، فيكتفى بواحد في التعديل والتجريح فيها. والشهادة لا يكتفى فيها بواحد فلا بد فيها من اثنين، فكذلك لا بد من اثنين في التزكية والتجريح فيها، تسوية بين الفرع وأصله (¬7). ¬
قوله: (في تزكية الشهادة)، يريد: وتجريحها. قوله: (وقال الشافعي: يشترط إِبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب (¬1) والعدالة شيء واحد (¬2)، وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح (¬3)، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما) (¬4). ش: واختلف في إظهار سبب التجريح والتعديل، هل يشترط أم لا؟ علي أربعة أقوال: ¬
قيل: يشترط في التعديل والتجريح، وقيل: لا يشترط فيهما، وقيل: يشترط في التجريح دون التعديل، وقيل: بالعكس. ذكر المؤلف ثلاثة أقوال وسكت عن القول باشتراطه فيهما (¬1). حجة القول باشتراط إظهار سبب التجريح والتعديل: الاحتياط، لأن الإنسان قد يعتقد أن شيئًا جرحة ويعتقد غيره أن ذلك الشيء ليس بجرحة، فالاحتياط (¬2) إظهار السبب (¬3). حجة القول بعدم إظهار (¬4) السبب فيهما (¬5): أن العالم المتقن لا يجرح ولا يعدل إلا بما لو صرح به عند الحاكم لكان موجبًا للتجريح أو التعديل، وحينئذ يكتفي الحاكم بعلمه عن سؤاله (¬6). حجة القول باشتراط ذلك في التجريح دون التعديل: أن ذلك لاختلاف المذاهب في سبب التجريح، فقد يعتقد إنسان في شيء أنه موجب للجرح، ويعتقد غيره أن ذلك الشيء بعينه غير موجب للجرح، فيحتاج (¬7) إلى إظهار سبب التجريح (¬8). ¬
قوله: (لاختلاف المذاهب) [أي لاختلاف المذاهب] (¬1) فيما يجرح به بخلاف سبب العدالة فهو واحد، وهو اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها، والمباحات القادحة في المروءة، وذلك يجمعها اجتناب القادحات. حجة القول باشتراط الإظهار في التعديل دون التجريح: أن الناس يسرعون كثيرًا إلى الاعتماد (¬2) [على] (¬3) الظاهر (¬4)،/ 283/ بخلاف التجريح فلا بد من الاطلاع على سببه (¬5). والصحيح من هذه الأقوال عدم الاشتراط فيهما، لأجل الاحتياط (¬6)، وهو قول القاضي أبي (¬7) بكر رحمه الله. وأما ما احتجوا به من اختلاف المذاهب، فلا حجة فيه؛ لأن العالم ¬
المتقن (¬1) لا يجرح بأمر مختلف فيه، يمكن التقليد فيه، ولا يفسق بذلك إلا جاهل، فما من مذهب إلا وفيه [أ] (¬2) مور ينكرها أهل المذاهب الأخر، ولو صح التفسيق بذلك لفسقت كل طائفة طائفة أخرى، وذلك يؤدي إلى تفسيق جميع الأمة، وذلك خلاف الإجماع، فالمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى السعادة فمن سلك منها طريقًا وصله إلى الجنة، فكل من قلد تقليدًا صحيحًا فهو مطيع لله تعالى، وإن [كان] (¬3) غيره من [أهل] (¬4) المذاهب مخالفًا في ذلك (¬5). قال المؤلف في شرحه: وأما الاكتفاء بالظاهر فهو شأن الجهلة والأغبياء، الضعفاء الحزم والعزم، ومثل هؤلاء لا ينبغي للحاكم الاعتماد على قولهم في التزكية، وكل من كان يغلب عليه حسن الظن بالناس فلا ينبغي أن يكون مزكيًا ولا حاكمًا لبعده من الحزم، وقد قال عليه السلام: "الحزم سوء الظن" (¬6) (¬7) فمن ضيع سوء الظن فقد ضيع الحزم، ثم لا ينبغي أن يبني على سوء ظنه شيئًا ¬
إلا لمستند شرعي، وهو معنى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (¬1)، أي: اجتنبوا العمل (¬2) به حتى يثبت بطريق شرعي (¬3)، فالحق مذهب القاضي. انتهى نصه (¬4). قال ابن الحاجب في الفروع في كتاب الشهادات (¬5): ولا يجب ذكر سبب التعديل، وفي سبب الجرح، ثالثها لمطرف: إن كان عالمًا بوجهه لم يجب، ورابعها لأشهب: إن كان غير مبرز لم يجب. انتهى نصه (¬6). قوله: (ويقدم الجرح على التعديل، إِلا أن يجرحه بقتل إِنسان (¬7) فيقول المعدل رأيته حيًّا (¬8)، وقيل: يقدم المعدل إِذا (¬9) زاد (¬10) عدده). ش: قوله: (ويقدم الجرح على التعديل)، يعني: مطلقًا، سواء كان ¬
عدد المجرح (¬1) أكثر أو أقل أو مساويًا لعدد المعدل (¬2). أما إذا كان عدد المجرح أكثر، فلا خلاف أنه يقدم، قاله القاضي عياض في الإكمال (¬3) (¬4). وإن كان عدد المجرح أقل أو مساويًا، فقولان، مشهورهما: يقدم الجرح أيضًا (¬5). وقيل: يقدم التعديل إذا كان عدد الجرح أقل (¬6)، ولا يقدم أحدهما على الآخر إذا تساويا لتعارضهما (¬7). حجة القول بتقديم الجرح مطلقًا: أن المجرح اطلع على ما لم يطلع عليه ¬
المعدل، فلا منافاة بين البينتين (¬1). حجة القول بتقديم المعدل إذا زاد عدده: أن الكثرة تقوي الظن، والعمل بالراجح متعين (¬2). جوابه: أن المجرح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل فلا منافاة، ولأن المجرح مستنده العلم، والمعدل مستنده الظن، ولا يعارض العلم بالظن (¬3). وأما من قال: لا يقدم أحدهما على الآخر عند التساوي، فلا وجه له، ولأجل ذلك حمله الباجي على الصورة المخصوصة (¬4)، وهي الصورة التي استثناها المؤلف بقوله: إلا أن يجرحه بقتل إنسان فيقول المعدل: رأيته حيًا، يعني: أن الجرح يقدم على التعديل مطلقًا إلا إذا ذكر المجرح سبب التجريح ونفاه المعدل، مثل أن يقول المجرح: رأيت هذا الشاهد قتل فلانًا ظلمًا، ويقول المعدل: رأيت ذلك الفلان بعد ذلك التأريخ حيًا، فإن البينتين ها هنا متعارضتان، فلا تقدم إحداهما على الأخرى (¬5). ومثاله أيضًا: أن يقول المجرح: رأيت هذا الشاهد يشرب الخمر أمس، ويقول المعدل: هو لم يفارقني أمس (¬6) من الصباح إلى الغروب، فلا خلاف في ¬
مثل هذا أنه لا يقدم أحدهما على الآخر لحصول التعارض من كل وجه، ولا يمكن أن يقال ها هنا: إن المجرح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، لأن كل واحد منهما ادعى المعرفة بما (¬1) أخبر به، فقد حصل التعارض، فوجب (¬2) التوقف، وإلا لزم الترجيح (¬3) من غير مرجح وهو محال، فيتساقطان [و] (¬4) كأنهما لم يكونا، فيرجع إلى [الاستصحاب أي إلى] (¬5) استصحاب الحالة السابقة قبل قيام هاتين البينتين (¬6). ... ¬
الفصل السادس في مستند الراوي
الفصل السادس في مستند (¬1) الراوي (¬2) ش: أي: [في] (¬3) بيان الشيء الذي يستند إليه راوي الحديث. والمستند في ذلك إما علم أو ظن (¬4)، فذكر المؤلف في ذلك المستند أربع مراتب (¬5). قوله: (فأعلاه (¬6): أن يعلم قراءته على شيخه، [أ] (¬7) وإِخباره [له] (¬8)، ¬
أو يتفكر (¬1) ألفاظ قراءته). ش: أي فأعلى مستند الراوي، أي فأعلى مراتب [مستند] (¬2) الراوي: أن يعلم الراوي قراءته، أي: أن يعلم أنه قرأ الحديث على شيخه (¬3). قوله: (أو إِخباره له)، أي: أن يعلم الراوي إخبار الشيخ له بالحديث، أي أن يعلم الراوي أن الشيخ (¬4) حدثه بالحديث (¬5). قوله: (أن يعلم قراءته أو إِخباره له)، معنى ذلك أن يقره الشيخ على ذلك بأن يقول له: الأمر كما قرأت (¬6). قوله: (أو يتفكر ألفاظ قراءته)، أي أن يتذكر الراوي ألفاظ قراءة شيخه وهو يسمع (¬7). قال المسطاسي: تذكر ألفاظ قراءة الشيخ أقوى من الأول (¬8)، والمؤلف ¬
ساوى بين الأمرين، وليس الأمر كذلك، فإن السمع من الشيخ مشافهة أقوى من إقراره على القراءة، لأنهم لم يختلفوا في سماعه مشافهة، أن له أن يقول: حدثني وأخبرني مطلقًا، واختلفوا في إقراره على القراءة، هل له أن يقول أخبرني مطلقًا، أو لا يقول إلا أخبرني قراءة (¬1) عليه؟ (¬2). قوله: (وثانيهما: أن يعلم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر الألفاظ ولا الوقت) (¬3). / 284/ ش: يعني أن يعلم أنه روى جميع الكتاب عن شيخه وجزم بروايته عن شيخه من حيث الجملة، ولكن لم يذكر (¬4) تلك الألفاظ ولا تذكر وقت الرواية من الأعوام أو الشهور أو الأيام، فيجوز العمل بما رواه لحصول الثقة بذلك، بمنزلة من قطع بأنه رأى مسألة في كتاب ولا يذكر (¬5) صورة حروفها، فإنه يجوز له الاعتماد على ما جزم به من ذلك (¬6). قوله: (أن يعلم قراءة (¬7) جميع الكتاب)، يريد أو حدثه الشيخ [به] (¬8) (¬9). ¬
قوله: (وثالثها: أن يشك في سماعه فلا تجوز له روايته (¬1) (¬2) بخلاف الأولين). ش: لأن الشاك (¬3) لا مستند له لا علم ولا ظن (¬4). قوله: (ورابعها: أن يعتمد على خطه، فيجوز عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد (¬5)، خلافًا لأبي حنيفة). ش: يعني أن الراوي لم يتذكر (¬6) سماعه ولا قراءته، لكنه يظن ذلك لما رآه من خطه. قوله: (أن يعتمد على خطه)، يحتمل [الضمير] (¬7) في خطه أن يعود على الشيخ، [أو أن] (¬8) يعود (¬9) على نفس الراوي، وهو الظاهر والله أعلم (¬10). ¬
قوله: (ومحمد) (¬1) يعني به: أبا الحسين (¬2). فذكر المؤلف قولين في الاعتماد على الخط في الرواية، وكذلك أيضًا في الاعتماد على الخط في الشهادة، فإذا جمعت بين الرواية والشهادة، فتقول (¬3): في الاعتماد على الخط ثلاثة أقوال: قال مالك: يعتمد على الخط في الرواية والشهادة (¬4). وقال أبو حنيفة: لا يعتمد على الخط [لا] (¬5) في الرواية ولا في الشهادة (¬6). وقال الشافعي: يعتمد على الخط في الرواية دون الشهادة (¬7). ¬
حجة القول بالاعتماد مطلقًا: أن الإنسان قد يقطع بصور الحروف وأنها لم تتبدل بقرائن حالية قامت بتلك الحروف، ولا يمكن التعبير عن تلك القرائن، كما أن منتقد الذهب والفضة يقطع بجيدها ورديئها بقرائن في تلك الأعيان لا يمكنه (¬1) التعبير (¬2) عنها (¬3) (¬4). حجة المنع من الاعتماد على الخط: قوة احتمال التزوير على الخط، ومن استقرأ (¬5) أحوال المزورين على الخطوط علم (¬6) أن وضع مثل الخط ليس من البعيد المتعسر وأنه من القريب المتيسر، حتى روى بعض المصنفين في مذهب مالك أنه رجع عن الشهادة على (¬7) الخط (¬8). وذكر الباجي في إحكامه في الشهادة على الخط خمسة أقوال (¬9) في المذهب: تجوز، لا تجوز، تجوز على خط نفسه دون خط غيره، تجوز في ¬
الرق (¬1) دون غيره، تجوز إن لم يكن محو ولا ريبة في الوثيقة وإلا فلا (¬2). حجة الشافعي رضي الله عنه القائل بقبول الشهادة على (¬3) الخط في الرواية دون الشهادة وجهان: أحدهما: أن الرواية لا تتعلق بشخص معين؛ لأنها متعلقة بجميع الأمة فيضعف فيها التزوير؛ إذ لا يتصور أن يعادي أحد جميع الأمة إلى قيام الساعة، بخلاف الشهادة فإنها تتعلق بشخص معين، وهو مظنة العداوة. الوجه الثاني: أن الشهادة غالبًا إنما تقع في الأموال النفيسة والأغراض (¬4) الخطيرة، فتقوى الداعية فيها على التزوير على ما تقتضيه الطباع البشرية، وبالله التوفيق (¬5) (¬6). ... ¬
الفصل السابع في عدده
الفصل السابع في عدده (¬1) (¬2) ش: أي هل يشترط تعدد الراوي للحديث أم لا؟ قوله: (والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي، خلافًا للجبائي في اشتراطه (¬3) الاثنين (¬4)، أو يعضد الواحد ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرًا فيهم، ولم يقبل في الزنا إِلا أربعة. لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وحدها (¬5)، وهو مما (¬6) تعم به البلوى). ش: قال بعضهم: الأولى [أن] (¬7) يذكر المؤلف هذا الفرع في الفصل ¬
الثامن الذي يلي هذا الفصل؛ لأن هذا الشرط من الشروط المختلف فيها، ولا وجه لإفراد الفصل له (¬1). وقد تقدم لنا في الفصل الخامس في خبر الواحد خمسة أقوال (¬2): قيل: يجب العمل به وحده، وقيل: لا بد مما يقويه، وقيل: لا بد من اثنين مطلقًا، وقيل: لا بد من اثنين (¬3) إلا في الخبر المتعلق بالزنا، فلا بد فيه من أربعة، وهذان القولان المذكوران في الاثنين مرويان عن الجبائي. وقيل: لا بد من أربعة مطلقًا في كل خبر (¬4). احتج الجبائي: بحديث ذي اليدين، لأنه عليه السلام سلم من اثنتين (¬5) فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله، فقال عليه السلام: "كل ذلك لم يكن"، فقال (¬6) [ذو اليدين] (¬7): قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضي الله عنهم: "أحق ما يقول ذو اليدين"، فقالوا: نعم، فلم يقبل عليه السلام قول ذي اليدين وحده (¬8). ¬
واحتج الجبائي أيضًا: بحديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رده (¬1) ولم يقبله وحده حتى رواه غيره (¬2). واحتج الجبائي أيضًا: بأن مقتضى الدليل ألا يعمل (¬3) بالظن لقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬4)، خالفناه في العدد، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل (¬5). أجيب عن الحديثين المذكورين: أن الرد فيهما لأجل الريبة، لا لكون العدد شرطًا، وليس [ذلك] (¬6) محل النزاع. أما حديث ذي اليدين فلأنها واقعة عظيمة في جمع عظيم فلو لم يخبر بها (¬7) إلا ذو (¬8) اليدين لكان ذلك ريبة (¬9) فيه، فسؤاله عليه السلام إنما هو لأجل الريبة، لا لأن العدد شرط (¬10) (¬11). وأما حديث أبي موسى الأشعري فلأن الاستئذان مما يتكرر وتعم به ¬
البلوى، فلو لم يخبر به إلا أبو (¬1) موسى لكان ذلك ريبة (¬2) فيه، فالرد فيه إنما هو لأجل الريبة، لا لأن العدد شرط (¬3) (¬4). وأما قوله مقتضى الدليل ألا يعمل بالظن خالفناه في العدد فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. الجواب (¬5) عنه: أن الأدلة على أنه لا يعمل بالظن مخصوصة بعمل الصحابة رضي الله عنهم/ 285/ لقبولهم خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وحدها، وهو مما تعم به البلوى. وقبولهم خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وحده في أخذ الجزية من المجوس لما روى لهم قوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وغير ذلك من الأخبار. وقد تقدم لنا ذلك في الفصل الخامس في خبر الواحد (¬6)، والجمع بين الدليلين أولى من اطراح أحدهما، وبالله التوفيق (¬7) (¬8). قوله: (أو يعضد الواحد ظاهر)، تقديره: أو أن يعضد بالنصب بأن ¬
المحذوفة (¬1) لأن هذا الفعل معطوف على الاسم الذي هو الاثنين، ولا يمكن عطف الفعل على الاسم إلا أن يكون الفعل مقدرًا بالاسم، ولا يمكن تقدير الفعل ها هنا بالاسم إلا بأن المصدرية ليصير الفعل بمعنى (¬2) المصدر (¬3)، لأن أن المصدرية تقدر مع الفعل بعدها بتأويل المصدر، تقدير الكلام: خلافًا للجبائي في اشتراطه الاثنين [أو يعضد الواحد ظاهر، أي: اشتراطه الاثنين أو عضد الواحد ظاهر، فحينئذ يصح عطف العضد على الاثنين] (¬4). وهذا من المواضع التي يجوز فيها حذف أن المصدرية (¬5). وإلى هذا أشار أبو موسى الجزولي فقال: والموضع الذي تضمر فيه وتظهر (¬6) (¬7): بعد لام كي إذا لم يكن معها لا، وبعد حرف العطف المعطوف به الفعل على المصدر الملفوظ به. انتهى نصه (¬8). وقوله: إذا لم يكن [معها] (¬9) لا، احترازًا مما إذا دخلت لا على لام كي، فإنه يجب التصريح فيه (¬10) بأن، أو التصريح بكي، كقولك: ¬
جئت (¬1) لئلا تغضب، أو تقول: لكيلا تغضب (¬2). ومنه قوله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} (¬3)، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (¬4)، إذ كلام أبي موسى ها هنا فيما يجوز فيه حذف أن ويجوز فيه إظهارها، فإن ما احترز منه يجب فيه إظهارها. وإنما يجب إظهار أن فيما إذا دخلت لا على لام كي؛ لئلا يلتقي المثلان، وهما اللامان، فلا تقول: جئتك للا تغضب (¬5). وقول أبي موسى: [و] (¬6) بعد حرف العطف المعطوف به الفعل على المصدر الملفوظ [به] (¬7) (¬8)، مثاله قولك: يعجبني ضرب زيد فيغضب، تقديره: فأن يغضب، ومنه قول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف (¬9) ¬
ومنه قوله تعالى على قراءة غير نافع بالنصب {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (¬1) أعني: بنصب "يرسل" عطفًا على قوله: "وحيًا" (¬2). تقدير [هـ] (¬3): أو أن يرسل، أي: إلا وحيًا أو إرسالاً (¬4)، ولا يجوز عطفه على أن يكلمه؛ لأنه يلزم منه نفي (¬5) الرسل، أو نفي المرسل إليهم، وذلك ممنوع (¬6). وأما قراءة الرفع، فهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: [أو] (¬7) هو يرسل رسولاً (¬8). وقول أبي موسى: على المصدر الملفوظ به، احترازًا من العطف (¬9) على المصدر المتوهم، فإنه يجب فيه حذف أن، كقولك: ما تأتينا فتحدثنا، بالنصب على إضمار أن بعد الفاء، تقديره: فأن تحدثنا، فهو (¬10) معطوف على ¬
مصدر متوهم تقديره: ما يكون منك إتيان فحديث (¬1). وقول أبي موسى: وبعد حرف العطف المعطوف به الفعل على المصدر الملفوظ به، معترض [من] (¬2) ثلاثة (¬3) أوجه. أحدها: أنه أطلق في حرف العطف، مع أن سيبويه نص على أن هذا مخصوص بثلاثة أحرف من حروف العطف، وهي: الواو، والفاء، وأو (¬4)، فتقول: أعجبني ضرب زيد ويغضب، أو أعجبني ضرب زيد فيغضب، أو أعجبني ضرب زيد أو يغضب، ولا تقول: أعجبني ضرب زيد ثم يغضب. صوابه: وبعد حروف (¬5) العطف الثلاثة الواو والفاء وأو. الوجه الثاني: قوله المعطوف به الفعل، أطلق في الفعل، فيظهر منه أن الماضي والمضارع سواء، وليس كذلك، فيوهم كلامه على هذا دخول الفعل الماضي في هذا، فيوهم أن قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬6) يضمر فيه "أن" بعد الواو في قوله تعالى: {أَقْرَضُوا} وليس الأمر كذلك. ¬
صوابه: أن يقول: وبعد حرف العطف المعطوف به الفعل المضارع. الوجه الثالث: قوله: على المصدر، ظاهره أن هذا مختص بالمصدر، وليس الأمر كذلك؛ لأن سيبويه نص على أن المصدر وغيره في ذلك سواء، وأنشد قول الشاعر: [و] (¬1) ما أنا للشيء (¬2) الذي ليس نافعي (¬3) ويغضب منه صاحبي بقؤول (¬4) (¬5) فعطف يغضب على الشيء، وهو اسم غير مصدر. وقال آخر: [ولولا] (¬6) رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقمًا (¬7) ¬
فعطف أسوءك على رجال وليس بمصدر (¬1). ومثاله أيضًا قولك (¬2): لولا أخوك ويغضب لما جئتك، بعطف (¬3) يغضب على أخوك، وليس [أخوك] (¬4) بمصدر. صوابه: المعطوف به الفعل على الاسم. ولكن يشترط في هذا الاسم أن يكون خالصًا، أي غير شبيه بالفعل، احترازًا من الاسم المؤول بالفعل، كقولك: الطائر فيغضب زيد الذباب، فقولك: فيغضب مرفوع لا منصوب، لأنه معطوف في المعنى على الفعل، لأن الطائر اسم فاعل واسم الفاعل شبيه بالفعل، تقديره: الذي يطير فيغضب زيد الذباب (¬5). وقد أشار ابن مالك إلى هذا بقوله: وإن على اسم خالص فعل عطف ... تنصبه "أن" ثابتًا (¬6) أو منحذف (¬7) قوله: (أو اجتهادًا)، أراد به القياس. قوله: (أو يكون)، هو معطوف على قوله: (أو يعضد)، تقديره: أو [أن] (¬8) ¬
يكون منتشرًا فيهم (¬1). قوله: (ولم يقبل في الزنا إِلا أربعة) (¬2) (¬3)، الفاعل بيقبل هو الجبائي؛ لأن هذا كله كلام الجبائي. ومنهم من يحكي عن الجبائي اشتراط الاثنين مطلقًا (¬4)، لا في الزنا ولا في غيره (¬5) (¬6). [و] (¬7) وجه اشتراط الأربعة في الخبر المتعلق بأحكام الزنا: قياس الرواية على الشهادة، كما تقدم في خبر الواحد في الفصل الخامس (¬8). قوله: (لنا أن الصحابة قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين وحدها، وهو (¬9) مما تعم به البلوى). هذا حجة الجمهور في قبول الراوي المنفر [د] (¬10). ¬
وكذلك قوله عليه السلام: / 286/ "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر" يدل (¬1) على قبوله. وكذلك قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬2)، مفهومه أن خبر العدل المنفرد مقبول، كما تقدم في الفصل الخامس في خبر الواحد (¬3). ... ¬
الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط
الفصل الثامن فيما اختلف (¬1) فيه من الشروط (¬2) تعرض المؤلف ها هنا لذكر الشروط المختلف فيها، هل تعتبر في الرواية أم لا؟ والصواب أن يجعل هذا الفصل مع الذي قبله ترجمة واحدة، لأجل وجود الخلاف في الجميع. قوله: (قالت (¬3) الحنفية: إِذا لم يقبل راوي الأصل الحديث، لا تقبل رواية (¬4) الفرع، قال الإِمام: إِن جزم كل واحد منهما لم يقبل، وإِلا عمل بالراجح، وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية: إِذا شك الأصل في الحديث لا يضر ذلك، خلافًا للكرخي). ش: قوله: (إِذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع)، يعني: أن الراوي إذا كذب من روى عنه فيما روى عنه، قالت الحنفية لا تقبل ¬
رواية الفرع (¬1). حجة الحنفية: أن اعتبار الفرع فرع اعتبار الأصل، والأصل قد أنكر رواية الفرع عنه، فلا يقبل الفرع، قياسًا على الشهادة إذا أنكرها الشاهد على الناقل قبل القضاء بها فإن الشهادة تبطل باتفاق (¬2) (¬3). ¬
قال ابن الحاجب في الفروع في كتاب الشهادة، وإذا كذب الأصل الفرع قبل الحكم بطلت، وبعده ثلاثة، ابن القاسم يمضي ولا غرم، ابن حبيب ينقض، محمد (¬1) يمضي ويغرم الأصل لرجوعه (¬2). أجيب عن هذا: بأن قياس الرواية على الشهادة ضعيف لوجود الفارق، لأن الرواية أخف من الشهادة؛ إذ يشترط في الشهادة ما لا يشترط في الرواية من العدد والذكورية والحرية، فباب الشهادة أضيق من باب الرواية (¬3). قوله: (إِذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع)، نسبة هذا البطلان للحنفية دون غيرهم غير صحيح. ذكر سيف الدين الآمدي، وقطب الدين الشيرازي: أن الأصل إذا كذب الفرع فلا تقبل رواية الفرع باتفاق (¬4)، لا فرق بين الحنفية وغيرهم في هذا. فالأولى الاجتزاء (¬5) بما قال الإمام (¬6). ¬
وحاصل ما قال الإمام: أن الأصل والفرع إما أن يجزما معًا بما قالا، وإما (¬1) ألا يجزما معًا، وإما أن يجزم الأصل ولم يجزم الفرع، وإما أن يجزم الفرع ولم يجزم الأصل. فإن جزما معًا: أي قال الأصل: كذب الفرع عني (¬2) فيما روى، وقال الفرع: بل رويت عنه، فلا يقبل هذا الحديث باتفاق بل يحصل فيه التوقف إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح (¬3). وإن لم يجزم كل واحد منهما بما قال، لم يقبل الحديث أيضًا كالأول (¬4). وإن جزم الأصل ولم يجزم الفرع، قدم ما قال الأصل لرجحانه بالجزم، إذ العمل بالراجح متعين فلا يقبل غير الجازم. وإن جزم الفرع ولم يجزم الأصل، قبل الحديث لجزم الفرع بالرواية، فقوله راجح (¬5). ¬
وهو معنى قول المؤلف: وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية إذ [ا] (¬1) شك الأصل في الحديث لا يضر ذلك، أي: لا يقدح ذلك في رواية الفرع بل تقبل روايته، لأن عدالته مع جزمه تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافي صدقه، فالمثبت مقدم على النافي [لأن الإثبات أولى من النفي] (¬2) (¬3). قوله: (خلافًا للكرخي)، يعني مع جماعة من الحنفية (¬4)، قال: يقدح (¬5) شك الأصل في رواية الفرع فلا تقبل الرواية مع الشك. ¬
حجة الكرخي: قياس الرواية على الشهادة (¬1). أجيب عنه: بأن القياس ضعيف، لما تقدم من أن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من العدد والذكورية والحرية (¬2) فالرواية أخف من الشهادة (¬3). حجة الجمهور: أن الشك لا يعارض اليقين، فاليقين (¬4) مقدم على الشك، ولأن عدالة الفرع تمنع كذبه وتقتضي صدقه (¬5). واستدل الجمهور أيضًا بما رواه ربيعة بن [أبي] (¬6) عبد الرحمن (¬7) عن سهيل (¬8) بن (¬9) أبي صالح (¬10) ...................................... ¬
عن أبيه (¬1) عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام: "أنه قضى باليمين مع الشاهد"، وكان سهيل نسي (¬2) هذا [الحديث] (¬3) ويقول: حدثني ربيعة عني (¬4) هذا الحديث (¬5)، وشاع وذاع ذلك بين الصحابة من غير نكير فدل ذلك على أن نسيان (¬6) الأصل لا يضر [مع] (¬7) جزم الفرع. قوله: (والمنقول عن مالك أن الراوي إِذا لم يكن فقيهًا فإِنه كان يترك روايته، ووافقه أبو حنيفة، وخالفه الإِمام (¬8) وجماعة). ش: ذكر المؤلف ها هنا قولين في اشتراط الفقه في الراوي، فاشترطه ¬
مالك لأنه كان يترك (¬1) رواية الراوي الجاهل بالفقه (¬2)، ووافقه على ذلك الشرط أبو حنيفة (¬3). وقال الإمام فخر الدين وجمهور العلماء: لا يشترط في الراوي معرفته بالفقه (¬4). حجة مالك وأبي حنيفة: أن غير الفقيه يسوء (¬5) فهمه، فيفهم الحديث على خلاف مقتضاه، وربما يخطر بباله أن ينقله بالمعنى الذي فهمه معرضًا علي اللفظ، فيقع الخلل في مقصود الشارع، فالاحتياط والحزم (¬6) ألا يروى ¬
الحديث إلا عن فقيه (¬1). حجة الجمهور [ثلاثة] (¬2) أوجه. أحدها: (¬3) قوله عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، فاشترط العدالة دون الفقه، فدل ذلك على أن الفقه ساقط عن الاعتبار (¬4). الوجه (¬5) الثاني: قوله عليه السلام: "نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها" فلم يشترط إلا أن يؤديها كما سمعها، ولم يشترط الفقه (¬6). الوجه الثالث: قوله عليه السلام: "رب حامل فقه [غير فقيه إلى فقيه ورب حامل فقه] (¬7) إلى من هو أفقه منه"، فقوله: "رب حامل فقه غير فقيه" يدل على أن الحامل للحديث لا يشترط فيه الفقه (¬8)./ 287/ قوله: (والمنقول عن مالك أن الراوي إِذا لم يكن فقيهًا فإِنه كان يترك روايته)، معناه: فإن مالكًا يترك رواية الراوي الجاهل بالفقه. قال بعض الشراح: ما قاله مالك رضي الله عنه مؤول بما إذا لم يكن ¬
الراوي ضابطًا لما رواه (¬1). وقال القاضي (¬2) عياض في الإكمال: لا يشترط في رواية الثقة عندنا وعند المحدثين من الفقهاء والأصوليين والمحدثين كون المحدث من أهل العلم والفقه، بل يشترط ضبطه لما رواه خاصة (¬3). وقال القاضي (¬4) عبد الوهاب في الملخص (¬5): لا يرد الخبر لكون الراوي لا يعرف معناه ولا يدري المراد به، ولا يشترط علمه بمعناه، وإنما المشترط صدقه في الرواية. قوله: (قال الإِمام (¬6): ولا يخل بالراوي تساهله في غير الحديث، ولا جهله بالعربية، ولا الجهل بنسبه، ولا مخالفة (¬7) أكثر الأئمة (¬8) لروايته، [و] (¬9) قد اتفقوا على أن مخالفة الحفاظ (¬10) لا تمنع من القبول، ولا كونه ¬
على خلاف الكتاب، خلافًا (¬1) لعيسى بن أبان). ش: ذكر المؤلف ها هنا ستة أشياء لا تقدح في الراوي للحديث. أحدها: جهله بفنون العلم سوى (¬2) علم الحديث، وهو المشار إليه بقوله: تساهله في غير الحديث، فإذا علم ضبط الراوي للحديث وعلم عدم تساهله فيه، فلا يضر تساهله في غيره؛ إذ المقصود ضبط الشريعة، فإذا علم ضبط الراوي للحديث حصل المقصود فتقبل روايته (¬3). الثاني: جهله بالعربية، أي جهله بعلم النحو؛ لأن عدالته تمنعه أن يروي الحديث إلا كما سمع، وعلى إعرابه وصورته (¬4)، وأنه متى شك في شيء تركه (¬5). الثالث: الجهل بنسبه؛ إذ المقصود إنما هو حصول عدالته، ولا يضر عدم العلم بنسبه (¬6). ¬
الرابع: مخالفة أكثر الأئمة (¬1) لروايته، أي إذا خالفه أكثر الصحابة فيما رواه، فلا يقدح ذلك في حديثه لأنه قد ينفرد بما لم يطلعوا (¬2) عليه، والإحاطة في حق البشر متعذرة (¬3). وقد حدث أبو حازم بحديث في مجلس هارون الرشيد بحضرة ابن شهاب الزهري، فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث، فقال أبو حازم: أكُلَ (¬4) حديث النبي عليه السلام عرفته؟ [فقال: لا] (¬5)، فقال له: أثلثيه؟ فقال: لا، فقال له: أنصفه؟ فسكت، فقال له أبو حازم: اجعل هذا الحديث في النصف الذي لم تعرفه (¬6). الخامس: مخالفة الحفاظ (¬7) كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل؛ لأنه قد ينفرد بما لم يطلعوا عليه (¬8). ¬
السادس: كون [مذهب] (¬1) الراوي مخالفًا للكتاب، خلافًا لعيسى بن أبان من الحنفية (¬2). حجة عيسى بن أبان: قوله عليه السلام: "إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه وإلا فاتركوه" (¬3). أجيب عنه: [بوجهين] (¬4) (¬5): أحدهما: أن هذا الخبر معارض بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬6) والتخصيص بيان للعام (¬7) المخصص، والمخصص مخالف للمخصص، فكان يلزم على ذلك ترك المخصص لمخالفته عموم (¬8) ¬
الكتاب، وليس كذلك لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. الوجه الثاني: أن ظاهر [هذا] (¬1) الحديث يقتضي رد الخبر وإن كان متواترًا مقطوعًا بدلالته، وليس كذلك، فيحمل الحديث الذي احتج به عيسى بن أبان على ما إذا دلت قواطع الكتاب على نقيض ما دل عليه الحديث، والحديث خبر واحد (¬2) أو مظنون الدلالة (¬3). وحاصل ذلك: أن الكتاب إما أن يكون مقطوع الدلالة أم لا، فإن كان مقطوع الدلالة (¬4) فإما أن يكون الخبر متواترًا أو مظنونًا، فإن كان متواترًا فإما أن يكون مقطوع الدلالة أم لا. فإن كان مقطوع الدلالة تساقطا لحصول (¬5) المساواة بينهما من كل وجه. وإن كان مظنون الدلالة قدم [الكتاب] (¬6) للقطع بدلالته. وإن كان آحادًا قدم الكتاب للقطع بطريقه. وإن كان الكتاب مظنون الدلالة، فإما أن يكون الخبر متواترًا أم لا، فإن كان متواترًا فإما أن يكون مقطوع الدلالة أم لا. ¬
فإن كان مقطوع الدلالة قدم الخبر. وإن كان مظنون الدلالة تساقطا لحصول المساواة. فإن كان آحادًا، فإما أن يكون مقطوع الدلالة أم لا. فإن كان مقطوع الدلالة قدم الخبر على المشهور. وإن كان مظنون الدلالة قدم الكتاب للقطع بطريقه. فهذا تلخيص هذا الموضع، وبالله التوفيق. قوله: (ولا كون مذهبه على خلاف (¬1) روايته، وهو مذهب أكثر أصحابنا (¬2)، وفيه أربعة مذاهب: قال الحنفي (¬3): إِن خصصه رجع إِلى مذهب الراوي؛ لأنه أعلم (¬4). وقال الكرخي: ظاهر الخبر أولى (¬5). وقال الشافعي: إِن خالف ظاهر الحديث رجع إِلى الحديث، وإِن كان أحد الاحتمالين رجع إِليه (¬6). وقال القاضي عبد الجبار: إِن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك، وإِلا ¬
وجب النظر في ذلك) (¬1). ش: قال المؤلف في شرحه: ينبغي أن تكون هذه المسألة مخصوصة بالراوي المباشر للنقل عن النبي عليه السلام، لأنه هو الذي يحسن أن يقال فيه: هو أعلم بمراد (¬2) المتكلم، وأما غيره كمالك (¬3) في مخالفته لحديث بيع الخيار الذي رواه، وغيره من الأحاديث التي رواها وخالفها، فلا يصح ذلك فيه ولا يندرج ذلك في هذه المسألة، فلا يكون مذهبه دليلاً حتى يخصص (¬4) كلام صاحب الشرع؛ إذ لا يحسن أن يقال فيه: لعله شاهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرائن [تقتضي مخالفة الحديث (¬5). وهذه المسألة قد نبه عليها المؤلف في باب العموم في قوله: ومذهب الراوي لا يخصص عند مالك والشافعي، خلافًا لبعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي (¬6). وقال المؤلف في شرحه هنالك،/ 288/ والذي أعتقده أنه مخصوص بما إذا كان الراوي صحابيًا؛ لأنه هو الذي يحسن أن يشاهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
قوائن] (¬1) تدل على تخصيص ذلك العام، وأنه عليه السلام أطلق العام لإرادة (¬2) الخاص، وأما إذا كان الراوي مالكًا وغيره ممن لم (¬3) يشاهد الرسول (¬4) - صلى الله عليه وسلم - فلا يتأتى ذلك فيه، ومذهبه ليس دليلاً حتى يخصص به كلام صاحب الشرع، والتخصيص بغير دليل لا يجوز إجماعًا. انتهى كلامه (¬5). فقد نص المؤلف على أن المسألة مخصوصة بالصحابي في هذا الباب وفي باب العموم. فذكر فيها ها هنا أربعة مذاهب. أحدها، وهو مذهب الجمهور: أن الحديث أولى من المذهب (¬6) مطلقًا (¬7). حجته: أن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الراوي؛ لاحتمال أن يكون ذلك اجتهادًا منه واجتهاده لا يكون حجة على غيره (¬8). القول الثاني: أن مذهب الراوي أولى من الحديث، وهو مذهب الحنفية. حجته: أن المباشر يحصل له من القرائن الحالية والمقالية ما يقتضي خلاف ¬
الحديث فيرجع إلى مذهبه كما يرجع إليه في أصل الحديث (¬1). القول الثالث، وهو مذهب الشافعي: أن الحديث إن كان له ظاهر فالحديث أولى. مثاله: اللفظ العام، قال الشافعي: كيف آخذ بقول من لو عاصرته لحججته، وأترك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وإن كان المذهب تفسيرًا للمجمل فالتفسير أولى. حجته: أن الحديث إن كان له ظاهر، فالحجة في ظاهر الشريعة لا في مذهب الراوي، وإن لم يكن له [ظاهر] (¬3) وكانت الاحتمالات متساوية فلا حجة فيه لإجماله، وحينئذ يرجع إلى تفسير الراوي لأنه أعلم بحال المتكلم (¬4). مثاله: اللفظ المشترك، كما إذا قال عليه السلام: "اعتدي بالأقراء" فحمله الراوي على الأطهار، فيتعين مذهب الراوي. القول الرابع، وهو قول عبد الجبار: التفصيل بين أن يكون مذهب الراوي مخالفًا للضرورة، وبين أن يكون موافقًا للضرورة. ولكن قول عبد الجبار موافق من وجه مخالف من وجه. ¬
فإذا كان مذهب الراوي مخالفًا للضرورة، فإنه يترك ويرجع إلى الحديث، وهذا (¬1) لا يخالف فيه أحد؛ إذ لا يمكن مخالفة الضرورة، وهو من هذا الوجه موافق للجماعة (¬2). وأما إن كان مذهب الراوي على وفق الضرورة، فهو مخالف لمن جزم بتقديم الخبر مطلقًا، وهو مخالف أيضًا لمن جزم بتقديم المذهب مطلقًا؛ لأنه قال: وجب النظر في ذلك، فإنه ينظر في نص الحديث وفي مذهب الراوي بالمدارك المرجحة إما من نص أو ظاهر أو قياس أو أمارة، فإن وجد شيء من المرجحات في الحديث أو المذهب فإنه يقدم على الآخر، وإن تساوت الاحتمالات وجب التوقف؛ لأن الترجيح من غير مرجح محال (¬3). قوله: (وإِذا ورد الخبر في مسألة علمية، وليس في الأدلة القطعية ما يعضده (¬4) رد؛ لأن الظن لا يكفي في القطعيات، وإِلا قبل (¬5)). ¬
ش: المسائل العلمية هي أصول الدين، فإن المقصود (¬1) فيها (¬2) إنما هو العلم لا الظن، والمراد بالأدلة القطعية: العقلية والنقلية: [وهي] (¬3) الكتاب والسنة المتواترة والإجماع. فإذا ورد في المسألة العلمية خبر يفيد الظن، فإما أن يكون في الدلالة القطعية ما يقتضي ذلك الذي اقتضى الخبر أم لا. فإن لم يكن ذلك فإن الخبر يُردُّ لعدم الفائدة فيه، لأن ما ورد فيه لا يعتبر فيه، والذي يعتبر فيه لم يرد فيه. وإن كان في الدلالة القطعية ما يقتضيه حصل المقصود بالدليل العقلي، ¬
ويصير الخبر مؤكدًا له ومؤنسًا، ويكون أقوى مما ليس فيه إلا العقل وحده، فإن اليقين بما ورد فيه السمع والعقل أقوى مما ليس فيه إلا العقل وحده (¬1)، وهذا بناء (¬2) على القول بحصول التفاوت في العقليات، وهي مسألة الخلاف، والصحيح حصوله (¬3). لقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬4) وهذا يدل على حصول التفاوت في العقليات (¬5). وأيضًا نحن (¬6) ندرك بالضرورة حصول التفاوت بين النظريات والحسيات والبديهيات مع حصول القطع في جميع ذلك. وسيأتي بيان ذلك في باب التعارض والترجيح في الفصل الثاني منه في قول (¬7) [المؤلف] (¬8): ويمتنع الترجيح في العقليات لتعذر التفاوت بين القطعيين (¬9) (¬10). ¬
وقوله: (وإِن اقتضى عملاً تعم به البلوى عند المالكية والشافعية، خلافًا للحنفية. لنا حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم في [التقاء] (¬1) الختانين). ش: يعني أن خبر الواحد إذا ورد في عمل تعم به البلوى، أي تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، فإنه مقبول عند المالكية (¬2) والشافعية (¬3) (¬4)، خلافًا للحنفية (¬5)، وابن خويز منداد من المالكية (¬6). مثاله: قول عائشة رضي الله عنها: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" (¬7). وكذلك خبر ابن مسعود (¬8): .......................................... ¬
"من مس ذكره فليتوضأ" (¬1). وكذلك خبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من النوم [قال:] (¬2) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين (¬3) باتت (¬4) يده" (¬5) [وكذلك خبر أبي هريرة في رفع اليدين عند الركوع، قال: كان يرفع يديه في الصلاة كلما خفض ورفع] (¬6) ......................................................... ¬
(¬1) وغير ذلك من الأخبار التي تعم بها (¬2) البلوى. مذهب الجمهور أنه مقبول، ومذهب الحنفية وجماعة قليلة أنه غير مقبول. حجة الحنفية القائلين بعدم قبوله: وجهان: أحدهما: أن ما تعم به البلوى شأنه أن يكون معلومًا عند الكل لعموم سببه، فيحتاج كل أحد (¬3) أن يعلم حكمه، فلو كان فيه حكم لعلمه الكل، فإذا لم يعلموه دل ذلك على كذبه (¬4). الوجه الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬5) فإن ¬
مقتضى [هذا] (¬1) الدليل ألا يعمل بالظن، خالفناه فيما لا تعم به البلوى، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل (¬2). أجيب/ 289/ عن الأول: بأنه لو صح ما ذكرتم للزم أن يثبت كل ما تعم به البلوى بالتواتر، وليس كذلك؛ لأن فيه ما ثبت بالتواتر، وفيه ما ثبت بالآحاد (¬3). وأجيب عن الثاني: بأنه معارض بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4) مفهومه: إن جاءكم غير فاسق بنبأ فاقبلوا (¬5)، فإن مقتضاه الجزم بالعمل عند عدم الفسق كان فيما تعم به البلوى أم لا (¬6). وأيضًا يرد على الحنفية: أنهم نقضوا أصلهم، فإنهم أوجبوا الوضوء من القهقهة، والحجامة، والفصادة، والرعاف، والقيء، وغيرها (¬7)، وهي كلها أخبار آحاد تعم بها البلوى (¬8). قال المسطاسي: إطلاق القول بقبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى أو ¬
رده مطلقًا لا يتجه، والصحيح والصواب أن ذلك يختلف باختلاف القرائن والأحوال، فلا بد للمجتهد من النظر في كل صورة (¬1). قوله: (وإِن اقتضى عملاً تعم به البلوى)، احترازًا مما لا تعم به البلوى، فإنه يقبل بأولى وأحرى كقوله عليه السلام في أخذ الجزية من المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ومذهب مالك وجمهور العلماء: أن خبر الواحد مقبول كان مما تعم به البلوى أم لا (¬2)، دليلهم: الكتاب والسنة. فالكتاب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬3) دليل الخطاب (¬4) أن غير الفاسق مقبول. والسنة: قوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر" والظن ظاهر فيحكم به. وقول عائشة رضي الله عنها: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل". وخبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان: "الاستئذان ثلاث، فإن أذن ¬
لك فادخل وإلا فارجع". وخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، وغير ذلك من الأدلة. ***
الفصل التاسع في كيفية الرواية
الفصل التاسع في كيفية الرواية [ش] (¬1): أي في صفة الرواية، ولا يخلو الراوي إما أن يكون صحابيًا أو غيره. فإن كان صحابيًا فذكر فيه المؤلف سبع مراتب. وإن كان الراوي غير صحابي فذكر فيه ثماني مراتب (¬2). قوله: (إِذا قال الصحابي: سمعت رسول (¬3) الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أخبرني، أو شافهني، فهذا أعلى المراتب). ش: يريد وكذلك إذا قال: حدثني عليه السلام بكذا (¬4). ¬
[وهذه] (¬1) المرتبة هي أعلى المراتب، ولا خلاف أنه (¬2) [كلام] (¬3) النبي عليه السلام؛ لأنه لا يحتمل الواسطة بل هو محمول على المشافهة (¬4). وأما المراتب الست (¬5) الباقية فهي محل الخلاف لما فيها من الاحتمال. قوله: (وثانيها: أن يقول: قال عليه السلام). ش: إنما (¬6) جعل المؤلف هذه المرتبة أخفض من الأولى، لأن الأولى لا تحتمل إلا المشافهة، وأما "قال": فيحتمل المشافهة [و] (¬7) يحتمل الواسطة، كما (¬8) يقول أحدنا اليوم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يسمعه ولا شافهه، ولا شك أن اللفظ الدال على المشافهة أنص في المقصود وأبعد عن الخلل المتوقع من الوسائط (¬9). ¬
قوله: (ثانيها وثالثها ورابعها ...) إلى آخرها، إنما أتى بها على صورة التذكير لأنه اعتبر الأقسام ولم يعتبر المراتب؛ لأن المراتب هي في المعنى أقسام. قوله: (وثالثها: [أن يقول] (¬1) أمر (¬2) بكذا [أ] (¬3) ونهي عن كذا). ش: يعني أمر أو نهى بالبسط من غير ذكر الفاعل. قال المؤلف في شرحه: يريد: وكذلك إذا قال: أمرنا أو نهانا (¬4). قوله: (وهذا كله محمول عند المالكية على أمر (¬5) النبي عليه السلام خلافًا لقوم). ش: هذا الكلام راجع إلى المرتبة الثالثة خاصة، وهي قوله: أمر أو نهى. ¬
قال المؤلف في الشرح: [و] (¬1) قولي: إنه محمول عند المالكية على أمر النبي عليه السلام، أريد إذا لم يذكر النبي عليه السلام في الأمر، بل يقول الراوي: أمر بكذا، أو أمرنا بكذا، فإن اللفظ يحتمل أن يكون فاعل هذا الأمر هو النبي عليه السلام أو غيره. انتهى (¬2). وإنما جعل هذه المرتبة أخفض من التي قبلها؛ لأن التي قبلها لا تحتمل إلا احتمالاً واحدًا، وهو احتمال الوسيطة (¬3)، وأما هذه المرتبة الثالثة فتحتمل احتمالات كثيرة، أي: هل أمر عليه السلام أو أمر غيره؟ ثم هل المراد بالأمر الطلب أم لا؟ ثم الطلب، هل المراد به الجازم أو لا؟ ثم الجازم، هل المراد به الفور أو التراخي؟ ثم الفور، هل المراد به التكرار أو المرة الواحدة؟ وهل المراد به الكل أو البعض؟ (¬4). حجة المالكية أن هذا محمول على أمره عليه السلام [أ] (¬5) ونهيه: أن من له ¬
رئيس معظم إذا قال: أمر بكذا، أو أمرنا بكذا، إنما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلا ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو رئيس الأمة وعظيمها ومرجعهم، وهو المشار إليه في أقوالهم وأفعالهم، فتنصرف إطلاقاتهم في ذلك إليه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قوله: (خلافًا لقوم)، حجة المخالف: أن الفاعل إذا حذف احتمل النبي عليه السلام أو غيره، فيكون المعنى: أمر الكتاب، أو أمر (¬2) بعض الأمة، والاحتمال شك، ولا يثبت الشرع بالشك. أجيب عنه: بأن شاهد الحال صارف للنبي عليه السلام كما تقدم تقريره من [أن] (¬3) الفعل المطلق ينسب إلى الرئيس، والعمل بالراجح متعين (¬4). قوله: (وثالثها: أن يقول: أمر بكذا أو نهى عن كذا) ببسط الفعل فيهما (¬5)، سكت المؤلف عن مرتبة أخرى، وهي: إذا صرح بالفاعل فقال: أمر النبي عليه السلام (¬6) أو نهى عليه السلام عن كذا (¬7)، ففيها الخلاف أيضًا (¬8)، ¬
وحكمها عند المالكية (¬1) حكم المرتبة التي هي: أمر أو نهى من غير ذكر النبي عليه السلام، إلا أن هذه المرتبة [التي] (¬2) فيها التصريح بذكر النبي عليه السلام أقوى من المرتبة التي لم يذكر فيها النبي عليه السلام؛ / 290/ لأنه إذا ذكر النبي عليه السلام ارتفع منه احتمال واحد، وهو إرادة غيره (¬3) عليه السلام، وبقي سائر الاحتمالات (¬4). قوله: (ورابعها: أن يقول: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فعندنا (¬5) وعند الشافعية (¬6)، يحمل (¬7) على أمره (¬8) عليه السلام (¬9) خلافًا للكرخي (¬10)). ¬
ش: اعترض [على] (¬1) المؤلف في جعل هذه مرتبة أخرى؛ إذ لا فرق بين بسط الفعل وتركيبه فيما إذا حذف الفاعل، فالأولى (¬2) أن يجعل هذه المرتبة مع التي قبلها مرتبة واحدة لاتحادهما في الحكم والاحتجاج (¬3). قوله: (وخامسها: أن يقول: السنة كذا، فعندنا يحمل (¬4) على سنته عليه السلام (¬5)، خلافًا لقوم) (¬6). ش: سبب الخلاف: النظر إلى اللغة، أو النظر إلى العرف. من نظر إلى اللغة قال: لفظ السنة مجمل؛ لأن معنى السنة في اللغة هو الطريقة، ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} (¬7) أي: طريقتهم (¬8)، فقول الراوي: من السنة كذا، [أي من الطريقة كذا] (¬9)، ولا يدرى هل طريقة النبي عليه السلام أو طريقة غيره من أصحابه؟ وذلك مجمل. ¬
ومن نظر إلى العرف قال: تعين أن المراد بذلك طريقة النبي عليه السلام، لأن السنة في العرف هي طريقة النبي عليه السلام في الشريعة (¬1). فإذا قلنا: المراد بالسنة طريقة النبي عليه السلام وهو المعنى العرفي، [انظر] (¬2) ما معنى السنة في اصطلاح أهل الشرع (¬3). فقيل السنة: هي المندوب، ولأجل ذلك تذكر السنة في مقابلة الفرض، فيقال (¬4): فروض (¬5) الصلاة وسننها كذا وكذا (¬6). وقيل: السنة ما ثبت من قِبَلَه عليه السلام من قول أو فعل غير القرآن كان ¬
مندوبًا أو واجبًا (¬1)، ولذلك قال الشافعي (¬2): الختان سنة، وهو عنده واجب، أي ثابت بالسنة (¬3). وقيل: السنة ما فعله (¬4) عليه السلام [وداوم عليه] (¬5) واقترن به ما يدل على أنه غير واجب (¬6). وقيل: ما فعله عليه السلام في جماعة، وداوم (¬7) عليه، واقترن به ما يدل على (¬8) أنه غير واجب (¬9). وتظهر ثمرة (¬10) الخلاف بين هذين القولين في ركعتي الفجر، هل هي من السنن أو من الرغائب؟ من اشترط الجماعة، قال: من الرغائب، ومن أسقط (¬11) الجماعة من الحد (¬12)، قال: من السنن (¬13). ¬
قوله: (وسادسها: أن يقول عن النبي عليه السلام، قيل (¬1): يحمل على سماعه هو (¬2)، وقيل: [لا] (¬3) (¬4)). ش: هذا اللفظ يحتمل المباشرة ويحتمل الواسطة، وذلك أن قول الراوي: عن النبي عليه السلام يحتمل أن يكون متعلق هذا الجار رويت أو نقلت أو أخذت عن النبي عليه السلام، فيكون الراوي مباشرًا للسماع. ويحتمل أن يكون متعلق هذا الجار روي أو نقل [أو أخذ] (¬5) عن النبي عليه السلام بتركيب الفعل المتعلق، فلا يلزم أن يكون الراوي مباشرًا لسماعه من النبي عليه السلام. فمن غلّب (¬6) حال الصحابي حمله على المباشرة؛ لأن غالب حال (¬7) الصحابي مباشرة السماع من النبي عليه السلام. ومن غلب ظاهر اللفظ قال بالاحتمال؛ لاحتمال المباشرة والواسطة؛ لأن ¬
اللفظ محتمل فلا يحمل (¬1) على المباشرة إلا بدليل (¬2) لإجماله، فيتعين التوقف. قوله: (وسابعها: [أن يقول] (¬3): كنا نفعل كذا (¬4)، وهو يقتضي (¬5) كونه شرعًا). ش: يريد وكذلك إذا قال: [كانوا] (¬6) يفعلون كذا (¬7) (¬8). والضمير (¬9) في قوله: (وهو)، يعود على قول الراوي. والضمير في قوله: (كونه)، يعود على الفعل المكنى [عنه] (¬10) بكذا (¬11) , أي: يدل قول الراوي: كنا، أو كانوا، على أن ذلك الفعل مشروع (¬12)، ¬
خلافًا (¬1) لبعض الحنفية (¬2). حجة المشهور: أن مقصود الصحابي أن يخبرنا بما كان شرعًا؛ لأن الغالب اطلاع النبي عليه السلام على ذلك الفعل وإقراره عليه، وذلك يقتضي كونه شرعًا لأنه عليه السلام لا يقر على باطل، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم لا يقرون بين أظهرهم إلا ما كان شرعًا، فيكون ذلك الفعل شرعًا (¬3). حجة المخالف: أنهم كانوا يفعلون في زمانه عليه السلام ما لا يكون مسندًا (¬4) إليه، كما قال بعضهم حين اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين: "كنا نجامع على (¬5) عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نغتسل" (¬6). وقال جابر (¬7): ................................................... ¬
كنا نبيع أمهات الأولاد على (¬1) عهد النبي عليه السلام (¬2) (¬3). أجيب عن هذا: بأن محل النزاع إنما هو فيما الغالب عليه اطلاعه عليه السلام، وأما مثل هذه الأفعال مما يمكن إخفاؤه عنه عليه السلام فليس بمحل (¬4) النزاع (¬5). قوله: (وأما غير الصحابي فأعلى مراتبه (¬6) أن يقول: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته، وللسامع منه أن يقول: حدثني، [أ] (¬7) وأخبرني، [أ] (¬8) وسمعته يحدث عن فلان، إِن قصد إِسماعه خاصة (¬9)، أو في جماعة، وإِلا فيقول: سمعته يحدث). ش: هذا مقابل (¬10) قوله أولاً: إذا قال الصحابي، فلما تكلم على كيفية ¬
رواية الصحابي، شرع ها هنا في كيفية رواية غير الصحابي، فذكر فيها ثماني مراتب (¬1): المرتبة الأولى، وهي أعلاها: قراءة الشيخ لما يرويه الراوي عنه (¬2)، وهو معنى قول المؤلف: "أن يقول: حدثني، أو: أخبرني". ¬
يعني: أن يقول الشيخ: حدثني فلان بكذا، أو أخبرني (¬1)، أو سمعت (¬2) فلانًا يقول كذا، أو سمعته يحدث عن فلان. فلا يخلو الشيخ إما أن يكون قصد إسماع السامع منه بالقراءة سواء كان السامع وحده أو كان مع غيره، أو لم يقصد إسماع السامع منه. فإن قصد إسماعه خاصة، أو قصد إسماع جماعة هو فيهم، فذلك أعلى المراتب في الرواية؛ إذ لا خلاف في قبول روايته بقراءة الشيخ؛ لأنه إذا قصد الشيخ إسماعه خاصة، أو قصد إسماع جماعة [هو] (¬3) فيهم، صدق لغة أن يقول السامع منه: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته يحدث عن فلان (¬4). وأما إذا لم يقصد الشيخ إسماع السامع خاصًا، ولا قصد إسماع جماعة هو فيهم، فلا يصدق أنه حدثه ولا أخبره (¬5) وإنما يصدق أنه سمعه فقط، ولأجل هذا لا (¬6) يقول السامع منه إلا سمعته فقط، فإن سماعه لا ¬
يتوقف/ 291/ على قصد إسماع الشيخ (¬1). قوله: (عن فلان)، تعلق بالثلاثة، وكذلك قوله: (إِن قصد إِسماعه). قوله: (وثانيها: أن يقول (¬2) له: أسمعت (¬3) هذا من فلان؟ فيقول: نعم، أو يقول بعد الفراغ: الأمر كما (¬4) قرأت (¬5)، فالحكم (¬6) مثل الأول في وجوب العمل ورواية السامع). ش: هذه المرتبة الثانية هي قراءة الراوي أو غيره على الشيخ، وهي (¬7) أن يقول الراوي للشيخ بعد الفراغ من القراءة: هل سمعت هذا الحديث من فلان؟ فيقول الشيخ: نعم، أو يقول الشيخ بعد الفراغ من القراءة عليه: الأمر كما قرأت علي، أو كما قرأ (¬8)، فإن العمل بالحديث لازم للسامع، وللسامع ¬
أيضًا أن يقول: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته (¬1)، وإلى هذا أشار بقوله: فالحكم مثل الأول في وجوب العمل ورواية السامع، تقديره: فالحكم في وجوب العمل، و [في] (¬2) رواية السامع في هذا القسم الثاني مثل الأول، أي مثل القسم الأول، وهو قوله: فأعلى مراتبه أن يقول: حدثني، أو أخبرني، أو سمعته ... إلى آخره، وذلك أنه إذا قيل (¬3) له: أسمعت هذا من فلان؟ فيقول: نعم، فإن لفظة نعم في اللغة تقتضي إعادة الكلام الأول بعينه، فإذا قلت لغيرك: أقام زيد؟ فيقول: نعم، تقديره: نعم قام زيد، فإذا قيل لشيخ (¬4): أسمعت هذا؟ فيقول: نعم، [تقديره: نعم] (¬5) سمعته. قوله: (الأمر كما قرأت)، عبر بالأمر ها هنا عما سمعه وضبطه (¬6). ¬
تقديره: الذي سمعته وضبطته كما قرأت، [أي مثل الذي قرأت] (¬1)، لأن اللفظ إذا أعيد بعينه كان الثاني مثل الأول، لأنها أمثال تتكرر وتتوالى، فإذا أعاد الإنسان (¬2) قراءة الفاتحة كانت أصواته الثانية مثل أصواته الأولى لا أنها عينها بل هي أصوات تتكرر وتتوالى (¬3). قوله: فالحكم مثل الأول في وجوب العمل ورواية (¬4) السامع. أما كون هذا القسم مثل القسم الأول في وجوب العمل فهو أمر متفق عليه (¬5). وأما كونه مثل الأول في رواية السامع فهو مختلف فيه، فجرى كلام المؤلف على قول إذ فيه للمحدثين ثلاثة أقوال: قيل: قراءة الشيخ على الطالب أصح، وهو مذهب الجمهور (¬6)، وقيل: قراءة الطالب على الشيخ أصح، على عكس القول الأول، وهو ¬
مذهب مالك رضي الله عنه (¬1). وقيل: هما سواء، وهو مذهب أهل المدينة قديمًا وحديثًا (¬2). حجة القول بأن قراءة الشيخ على الطالب أقوى: أن الشيخ ربما يغفل ويذهل إذا كان الطالب هو الذي يقرأ، لأنه قد يخطئ الطالب في القراءة والشيخ غافل ذاهل لا يشعر بالخطأ. حجة القول بأن قراءة الطالب (¬3) على الشيخ (¬4) [هي] (¬5) أقوى كما قال مالك: أن الطالب إذا أخطأ في القراءة فإن الشيخ يرد عليه لعلمه بخطأ الطالب، لأن تصديه للنقل عنه يبعد (¬6) عنه الذهول والغفول (¬7)، وأما إذا كان ¬
الشيخ هو القارئ فإذا أخطأ فلا يرد عليه الطالب إما لجهله بالخطأ، وإما لمهابة الشيخ وتوقيره (¬1) (¬2). حجة القول بأنهما سواء: تعارض (¬3) الأدلة، لجواز الذهول على الشيخ إذا كان الطالب يقرأ (¬4)، ولجواز الجهل على الطالب إذا كان الشيخ هو القارئ (¬5)، وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: قراءتك على العالم كقراءة العالم عليك (¬6). وهذه الأقوال الثلاثة [المذكورة] (¬7) ذكرها ابن رشد في أول الجزء الثاني ¬
من جامع البيان (¬1). قوله: (وثالثها: أن يكتب إِلى غيره بسماعه (¬2)، فللمكتوب إِليه أن يعمل بكتابه إِذا تحققه أو ظنه، ولا يقول: سمعته (¬3) ولا حدثني، ويقول: أخبرني). ش: قد تقدم لنا في الفصل السادس من هذا الباب (¬4): أن الاعتماد على الخط في الرواية جوزه جمهور العلماء، وقد جوزه كثير ممن منعه في الشهادة لأن الداعية إلى التزوير في الرواية ضعيفة بخلاف الشهادة، فإن التزوير فيها قوية (¬5). لأن الشهادة مظنة العداوة، وأنها تكون في الأموال النفيسة والأمور العظيمة، فتقوى داعية التزوير فيها على ما تقتضيه الطباع البشرية بخلاف الرواية. قوله: (أن يكتب إِليه (¬6) بسماعه)، أي يكتب الشيخ إلى الطالب شيئًا من حديثه، وذلك نوعان: ¬
أحدهما: مجرد عن الإجازة. والثاني: مقرون بالإجازة (¬1). ومعنى المجرد عن الإجازة: أن يكتب إليه فيقول له: هذا الذي كتبته إليك هو سماعي. ومعنى المقرون بالإجازة: أن يكتب إليه فيقول له: هذا الذي كتبته إليك هو سماعي، وأجزتك بأن تروي عني ما كتبت إليك، وهذه الكتابة المقرونة بالإجازة شبيهة بالمناولة [المقرونة] (¬2) بالإجازة في الصحة والقوة (¬3). وأما الكتابة المجردة عن الإجازة فقد منع قوم الرواية بها (¬4)، وأجازها قوم (¬5)، وهي كالمناولة المجردة عن (¬6) الإجازة. قوله: (ولا يقول: سمعته ولا حدثني)؛ لأن الكتابة ليست مما يسمع ولا هي من الحديث. ¬
قوله: (ويقول: أخبرني) (¬1)؛ لأن إطلاق الإخبار على الكتابة حقيقة عرفية مجاز لغوي؛ لأن الإخبار في اللغة إنما يكون باللفظ، وسميت الكتابة إخبارًا لأنها تدل على اللفظ؛ لأن الحروف الكتابية موضوعة للدلالة على الحروف اللسانية، فسميت الكتابة إخبارًا أو خبرًا من باب تسمية الدال (¬2) باسم المدلول، ولأن الإعلام يقع بالكتابة كما يقع باللفظ، فقولهم في الكتابة: أخبرني، معناه: أعلمني (¬3). قوله: (ورابعها: أن يقال له: هل سمعت هذا؟ (¬4)، فيشير برأسه أو بإِصبعه (¬5) فيجب العمل (¬6) ولا يقول المشار إِليه: أخبرني، ولا حدثني، ولا سمعته (¬7)). ¬
ش: وإنما قال ها هنا يجب العمل بمقتضى [الإشارة] (¬1)؛ لأن الإشارة في اللغة والعرف تقوم مقام "نعم" فتفيد غلبة الظن، والعمل بالظن في هذا الباب واجب (¬2). قوله: (ولا يقول المشار إِليه: أخبرني، ولا حدثني، ولا سمعته) (¬3)؛ لأن الإشارة ليست خبرًا حقيقة، ولا حديثًا، ولا هي مسموعة، لأنها من المبصرات لا من المسموعات. وهذه المعاني/ 292/ موجودة أيضًا في الكتابة، فيحتاج أن يقال في الإشارة أخبرني، كما يقال ذلك في الكتابة. قال المؤلف في شرحه: الفرق بين الكتابة والإشارة من وجهين: أحدهما: أن الكتابة أمَسُّ بالإخبار لكثرة استعمالها وتداولها بين الناس، ولذلك (¬4) ملئت الخزائن بالكتب والدواوين بخلاف الإشارة. الوجه الثاني: أن الكتابة [فيها] (¬5) وضع اصطلاحي بخلاف ¬
الإشارة (¬1). قوله: (وخامسها: أن يقرأ عليه ولا (¬2) ينكر (¬3) بإِشارة ولا عبارة ولا يعترف، فإِن غلب على الظن اعترافه لزم العمل (¬4) وعامة الفقهاء جوزوا روايته، وأنكرها المتكلمون، وقال بعض المحدثين ليس له أن يقول إِلا: أخبرني قراءة عليه، وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث: أأرويه (¬5) عنك؟ قال: نعم، وهو السادس: وفي مثل هذا اصطلاح المحدثين (¬6) وهو من مجاز التشبيه شبه (¬7) السكوت بالإِخبار). ش: يعني إذا قرأ الطالب على الشيخ: حدثك فلان بهذا، فسكت الشيخ ولا ينكر بإشارة ولا عبارة، ولا يعترف أيضًا بصحة ما قرئ عليه لا بإشارة ولا عبارة. وفي هذه المسألة ثلاثة فروع: أحدها: هل يجب العمل بهذا أم لا؟ الثاني: هل تجوز الرواية بهذا أم لا؟ ¬
الثالث: ما كيفية الرواية ها هنا؟ أما الأول، وهو هل يجب العمل أم لا؟ فقد بينه المؤلف بقوله: فإن غلب على الظن اعترافه لزم العمل (¬1)، يعني: وإن غلب على الظن عدم اعترافه حرم العمل (¬2). قال المؤلف في الشرح: إذا غلب على الظن اعترافه لزم العمل؛ لأن العمل بالظن واجب في هذا الباب. غير أن ها هنا إشكالاً، وهو أن مطلق الظن كيف كان لم يعتبر [هـ] (¬3) صاحب الشرع، وإنما اعتبر ظنًا خاصًا عند سبب خاص، فإن قلنا: يكفي (¬4) ها هنا مطلق الظن كان على خلاف القواعد، وإن قلنا: المطلوب ها هنا ظن خاص فما ضبطه، فإن ضبطه صعب، فلزم (¬5) الإشكال. انتهى (¬6). وإن لم يكن إلا مجرد السكوت، فمذهب الجمهور وجوب العمل (¬7)، وذهب [بعض] (¬8) أهل الظاهر إلى أنه لا بد من التصريح بالتقرير، وإلا حرم العمل (¬9). ¬
حجة الجمهور: أن سكوته مع عدالته وثقته يتنزل منزلة التقرير؛ لأنه لو سكت غير مقرر مع علمه بأن الذي قرئ عليه يؤثر عنه لكان ذلك قدحًا في عدالته (¬1). [حجة القول الآخر: أن السكوت محتمل، والاحتمال شك، والشرع لا يثبت بالشك (¬2)] (¬3). وأما الفرع الثاني وهو هل تجوز الرواية بهذا أم لا؟ فقد بينه المؤلف بقوله: وعامة الفقهاء جوزوا روايته (¬4)، وأنكرها المتكلمون (¬5). حجة الفقهاء القائلين بالجواز من وجهين: أحدهما: قياس الرواية على العمل؛ لأن المانع (¬6) في الرواية وافق على وجوب العمل. ¬
الوجه الثاني: أن الظن حصل باعترافه، فتجوز الرواية، كما لو قال: نعم (¬1). حجة المتكلمين القائلين بالمنع: أن الرواية عبارة عن التحمل والنقل، وهو لم يأذن في شيء فيتحمل (¬2) عنه، والتحمل من غير سماع ولا ما يقوم (¬3) مقام السماع لا يجوز (¬4). أجيب بمنع الثاني: لأن ها هنا ما يقوم (¬5) مقام السماع، وهو غلبة الظن باعترافه (¬6). وأما الفرع الثالث: وهو كيفية الرواية، فقد بينه المؤلف بقوله: وقال بعض المحدثين: ليس له أن يقول إلا: أخبرني قراءة عليه (¬7) يعني أنه لا يقول: أخبرني مطلقًا، من غير تقييد بالقراءة عليه، لأ [نه] (¬8) محض الكذب، وإنما يقول: أخبرني قراءة عليه، فسر إخباره بأنه قراءة عليه، فإن قوله: قراء [ة] (¬9) عليه، منصوب على التمييز، والتمييز مفسر لكون إخباره قراءة ¬
عليه، لا سماعًا لفظيًا، هذا هو قول الجمهور (¬1). وقيل يقول: أخبرني مطلقًا، [أو حدثني مطلقًا] (¬2) من غير تقييد بالقراءة عليه (¬3). قوله: (وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءته (¬4) الحديث: أأرويه (¬5) عنك؟ قال: نعم، وهو السادس، وفي مثل هذا اصطلاح المحدثين، [وهو من مجاز التشبيه] (¬6) شبه السكوت بالإِخبار). ش (¬7): يعني أن الخلاف المذكور في القسم الخامس، هو (¬8) أيضًا كذلك في القسم السادس (¬9)، وهو أن يقول القارئ للشيخ بعد الفراغ من قراءة الحديث: أأرويه عنك؟ فيقول الشيخ: نعم. وعورض ذلك: بأن هذا القسم السادس أقوى من القسم الخامس؛ إذ فيه ¬
التصريح بالجواب، وهو نعم بخلاف الخامس فليس فيه إلا السكوت، فإذا كان أقوى من الخامس فالأولى (¬1) تقديم هذا السادس على الخامس (¬2). أجيب عن المؤلف في تأخيره هذا القسم السادس عن الخامس: بأن مقصوده عدد الأقسام لا ترتيبها. قوله: (وفي مثل هذا اصطلاح المحدثين)، يعني السكوت في الخامس مثل السكوت في السادس في اصطلاح المحدثين؛ لأن المحدثين يطلقون الخبر على السكوت وعلى اللفظ (¬3). قوله: (وهو من مجاز التشبيه)، أي: وإطلاقهم (¬4) الخبر على السكوت مجاز التشبيه (¬5)، شبه السكوت بالإخبار بجامع إفادة الظن؛ إذ كل واحد منهما يفيد الظن. ¬
قوله: (وسابعها: إِذا قال له: حدث عني ما في هذا الكتاب، ولم يقل له: سمعته، فإِنه لا يكون محدثًا له به، وإِنما أذن له في التحدث عنه). ش: هذه المرتبة هي المناولة. قال الإمام في المحصول: المناولة (¬1) أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول: قد سمعت ما فيه، فإنه يكون بذلك محدثًا، فلغيره أن يرويه عنه سواء قال: اروه عني، أو لم يقل ذلك. أما إذا قال له: حدث عني ما في هذا الكتاب، ولم يقل: سمعته، فإنه لا يكون محدثًا، وإنما أجاز له التحدث، وليس له أن يحدث به عنه. أما إذا أشار الشيخ إلى نسخة معينة من كتاب مشهور وقال: سمعتها، لم تجز رواية نسخة أخرى؛ لأن النسخ تختلف (¬2) إلا أن يعلم أنهما متفقتان (¬3) (¬4). قوله: (إِذا قال [له] (¬5) حدث عني ما في هذا الكتاب ولم يقل له: ¬
سمعته)، لأنه لم يقل: سمعته، لم يثبت إسناد الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبطل العمل (¬1). وأما إذا قال له: حدث عني ما في هذا الكتاب، وقد سمعته، / 293/ فلغيره أن يحدث به عنه (¬2)، وكذلك إذا قال له: سمعت ما في هذا الكتاب (¬3)، وأشار إلى كتاب معين، فلغيره أن يحدث به عنه. قوله: (وثامنها: الإِجازة، [وهي] (¬4) تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك إِباحة للكذب، لكنه في عرف المحدثين معناه: أن ما صح عند [ك] (¬5) أني سمعته فارو [هـ] (¬6) عني، والعمل عندنا بالإِجازة جائز، خلافًا لأهل الظاهر في اشتراطهم المناولة، وكذلك إِذا كتب إليه: إِن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إِذا (¬7) صح عندك، فإِذا صح عنده جازت (¬8) له الرواية، وكذلك إِذا قال له مشافهة: ما صح عندك من حديثي (¬9) فاروه عني) (¬10). ش: تكلم المؤلف في هذه المرتبة في الإجازة، والكلام فيها في أربعة ¬
مطالب: ما صورتها، وما حكمها، وما كيفية الرواية به، وما حكم العمل بها. أما المطلب الأول، وهو صورة الإجازة، فلها صورتان: مطلقة ومقيدة (¬1). فالمطلقة: أن يقول الشيخ مثلًا: أجزتك أن تروي (¬2) عني كل شيء لأنك حاذق تقي، أو يقول له: أجزت لك الرواية عني مطلقًا، فهذه هي المطلقة، وهي تقتضي أن يروي عنه كل شيء، وذلك يقتضي (¬3) إباحة للكذب؛ لأنه أباح له أن يحدث بما لم يحدثه (¬4) به، وإلى هذه الإجازة المطلقة أشار المؤلف بقوله: الإجازة تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك ¬
إباحة للكذب (¬1). والإجازة المقيدة: أن يقول له: ما صح عندك أني سمعته فاروه عني، أو قال له: [ما صح] (¬2) عندك أني رويته فاروه عني، أو قال له مشافهة: ما صح عندك من حديثي فاروه عني، وما في معنى ذلك، فهذه الإجازة المقيدة ليس فيها إباحة للكذب، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: لكنه في عرف المحدثين معناه: أن ما صح عندك (¬3) [أني سمعته] (¬4) فاروه عني. قوله: (ما صح عندك أني سمعته فاروه عني)، وكذلك قوله: (إِذا كتب إِليه: إِن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني)، [وكذلك] (¬5) قوله: (إذا قال له مشافهة: ما صح عندك من حديثي فاروه عني)، ذلك كله أمثلة للإجازة المقيدة. قوله: (وكذلك إِذا كتب إِليه: إِن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني)، وذلك (¬6) كما فعل المازري كتب إلى عياض: إن كتاب معلم رويته فاروه عني إذا صح عندك أنه خطي وروايتي (¬7). وأما المطلب الثاني، وهو حكم الإجازة، فقال عبد الوهاب في الملخص (¬8): اختلف أهل العلم في الإجازة، وهو أن يقول الراوي لغيره: ¬
قد أجزت لك أن تروي هذا الكتاب عني، أو يكتب بذلك إليه (¬1). فمنعها (¬2) مالك (¬3) وأشهب، وأكثر الفقهاء (¬4). وأما المطلب الثالث، وهو كيفية الرواية بها على القول بإجازتها، فقال القاضي عبد الوهاب: اختلف فيما يقول المجاز، فقيل: يقول: أخبرني إجازة، ولا يقول أخبرني مطلقًا، ولا حدثني. وقيل: يقول: كتب إلي، أو أجازني (¬5) فقط (¬6). ¬
وأما المطلب الرابع وهو حكم العمل بها، فقال المؤلف: (العمل عندنا بالإِجازة جائز (¬1)، خلافًا لأهل الظاهر (¬2) في اشتراط المناولة (¬3)، ومعنى المناولة: أن يناوله (¬4) الشيخ كتابًا ويجيزه الرواية به عنه، والمناولة عندنا ليست بشرط ولكن (¬5) هي مؤكدة وعاضدة؛ لأن المقصود إِنما هو اتصال [السند] (¬6) بطريق صحيح، فإِذا جمع اتصال السند (¬7) حصل (¬8) المقصود، ولا عبرة بالمناولة). حجة أهل الظاهر: أن خصوص هذا الكتاب الذي وجده الآن لم يسمعه ¬
من شيخه فلم يتصل سنده (¬1) فيه، فلا تجوز نسبته إلى الرسول (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز العمل به (¬3). أجيب عنه: بأن السند متصل بالطريق الذي بيناه، وقد صح عنده رواية مجيزه له، فيتصل السند ولا حاجة للمناولة؛ لأن ثبوت رواية المجيز يقوم مقام المناولة، فالمقصود اتصال السند بطريق صحيح كيف كان (¬4). قال المؤلف في الشرح: ومعنى جواز العمل، أنه يجوز للمجتهد أن يجعله مستنده فيما يفتي به من حكم الله عز وجل وأما من ليس بمجتهد فلا يجوز له العمل بمقتضى حديث وإن صح عنده سنده، لاحتمال نسخه وتخصيصه وتقييده، وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهدون، وكذلك لا يجوز لغير المجتهد أن يعتمد (¬5) على آيات القرآن (¬6) لما ذكرنا، بل الواجب عليه تقليد مجتهد معتبر ليس إلا، لا يخلصه عند الله تعالى إلا ذلك، كما أن المجتهد لا يخلصه إلا ما أدى (¬7) إليه اجتهاده بعد بذل جهده (¬8) بشرطه، ¬
ولا يخلصه التقليد (¬1)، وسيأتي بيانه في باب الاجتهاد في الفصل (¬2) التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء (¬3). ... ¬
الفصل العاشر في مسائل شتى
الفصل العاشر في مسائل شتى ش: أي في بيان مسائل مفترقة مختلفة، أي لم تجتمع في جنس، وهي ثلاث مسائل. قوله: ([فالمسألة] (¬1) الأولى (¬2): المراسل (¬3) عند مالك رحمه الله، وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة [حجة] (¬4) خلافًا للشافعي؛ لأنه إِنما أرسل حيث ¬
جزم بالعدالة، فتكون (¬1) حجة). ش: وها هنا ثلاثة مطالب: أحدها: [ما] (¬2) معنى الحديث المرسل، الثاني: ما حكمه (¬3)، الثالث: ما أقسام الحديث عند المحدثين. أما معنى المرسل: فهو عبارة عما سقط من سنده صحابي. قاله الحاكم (¬4) في كتاب علوم الحديث (¬5) (¬6). ¬
وقيل: عبارة عما سقط من سنده [راو] (¬1) (¬2) كان صحابيًا أو غيره. قاله الباجي في الفصول (¬3). وسمي الحديث الذي سقط منه راو: مرسلًا (¬4)، مأخوذ من الإرسال (¬5) الذي هو الإهمال، ومنه قولهم: [أرسلت الناقة، إذا أهملتها بلا راع (¬6)، ومنه قولهم:] (¬7) المصالح المرسلة، أي المهملة؛ لأن الشارع أهمله ولم يشهد لها بالاعتبار/ 294/ ولا بالإلغاء، فسمي الحديث بالمرسل لأنه أهمل (¬8) فيه فذكر راو من رواته (¬9). وأما حكمه، فقد بينه (¬10) المؤلف بقوله: المراسل عند مالك رحمه الله، ¬
وأبي (¬1) حنيفة، وجمهور المعتزلة حجة (¬2)، خلافًا للشافعي (¬3). قال الباجي: وعلى مذهب الشافعي أكثر المتكلمين، وبه قال القاضي أبو بكر، والقاضي إسماعيل، والقاضي عبد الوهاب (¬4). وهذان (¬5) القولان المذكوران على كل واحد منهما جم غفير من أهل العلم. وروي عن الشافعي رد المراسل إلا مراسل [سعيد] (¬6) بن المسيب رضي الله عنه، فإن الشافعي يقبلها (¬7). وروي عن الشافعي أيضًا أنه يرد المراسل إلا مراسل سعيد بن المسيب، ومراسل الحسن. ¬
وروي عن الشافعي أيضًا، أنه لا يقبل إلا مراسل الصحابة (¬1) رضوان الله عليهم، وأما مراسل التابعين فلا يقبلها إلا بأمور أربعة تقويها (¬2): أحدها: أن يكون ظاهر حاله أن ما أرسله أسنده غيره. [و] (¬3) الثاني: أن ما أرسله قال به بعض الصحابة. الثالث: أن يقول به عامة العلماء. الرابع: أن يعلم أنه إذا سمى لا يسمي مجهولًا، ولا من فيه علة [تمنع] (¬4) من قبول حديثه (¬5). فهذه أربعة أقوال عن الشافعي، والظاهر من مذهبه: القول برد المراسل مطلقًا (¬6). قال الباجي: وهذا الخلاف إنما هو [فيما] (¬7) إذا كان المرسل لا يروي إلا ¬
عن الثقاة خاصة، وأما إذا [كان] (¬1) يروي عن الثقاة وغيرهم فلم يقبل اتفاقًا (¬2). حجة مالك ومن تابعه على قبول الحديث المرسل: أن سكوت المرسل مع عدالته وعلمه بأن روايته يترتب عليها شرع عام، يقتضي [ذلك] (¬3) أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته، فإن سكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا (¬4) تزكيته وروايته، فكذلك سكوته عنه، ولأجل هذا قال بعضهم: إن المرسل أقوى من المسند فكانه لما أرسله [فقد] (¬5) التزمه في ذمته وتذممه في ذمته، بخلاف ما إذا أبرزه فقد فوض أمره إلى السامع ينظر فيه (¬6). وإلى بسط هذه الحجة المذكورة أشار المؤلف بقوله: لأنه إنما أرسله (¬7) حجث جزم بالعدالة، فيكون (¬8) حجة. وحجة الشافعي ومن تابعه على رد الحديث (¬9) المرسل من وجهين: ¬
أحدهما: أن مقتضى الدليل (¬1) ألا يعمل بالظن، خالفناه فيمن (¬2) علمت عدالته بالبحث والمباشرة، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل (¬3). الوجه الثاني: أن سكوته عنه لا يدل [على] (¬4) عدالته، [[لجواز أن يكون إذا [ا] (¬5) طلعنا نحن عليه لا تقبل روايته (¬6). قال القاضي [أبو بكر:] (¬7) وهذا هو الصحيح (¬8)، وأما قولهم: إن سكوته عنه يقتضي الجزم بعدالته]] (¬9) فلا يصح (¬10). والدليل على ذلك: أن العدل قد يروي عن العدل وغير العدل ولا يقدح ذلك في عدالته، ألا ترى أن الزهري وهو إمام (¬11) الأئمة روي عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، فلما سئل عمن أخبره به، فقال: أخبرني به رجل ¬
على باب مروان (¬1) لا أعرفه (¬2). حجة القول بقبول مراسل سعيد بن المسيب دون غيره: قال الشافعي: إنما قبلتها لأني اختبرتها (¬3) فوجدتها كلها مسندة (¬4)، فعلى هذا لم يقبل في الحقيقة إلا مسندًا (¬5)، ولم يقبل مرسلًا. وكذلك الجواب في قبول مراسل الحسن. حجة القول بقبول مراسل الصحابة رضي الله عنهم دون غيرهم: لأن الصحابة يكتفى فيهم بتعديل الله تعالى إياهم، بخلاف غيرهم فلا بد مما يقوي ذلك فيهم من الأوصاف المذكورة أو لا (¬6). فإن قيل: الإرسال معناه إسقاط صحابي (¬7) من السند، والصحابة عدول، ¬
فلا فرق بين ذكر الصحابي والسكوت عنه، فكيف يجري الخلاف فيه؟ فالجواب: إنهم عدول إلا عند قيام المعارض، فقد يكون المسكوت (¬1) عنه ممن عرض في حقه ما يوجب القدح، فيتوقف في قبول المرسل حتى تعلم (¬2) سلامته من القدح (¬3). وأما أقسام الحديث عند أرباب الحديث، فقال الحاكم في كتاب علوم الحديث: ينبغي للأصولي أن يعرفها ليستعين بها على معرفة المرسل وغيره (¬4)، وهي (¬5) عشرة أقسام (¬6): ¬
أولها: المسلسل، ثم المسند، ثم المرسل، ثم المنقطع، ثم الموقوف، ثم المقطوع، ثم المعضل، ثم المدرج، ثم الغريب، ثم الحسن، فهذه عشرة أنواع، زاد بعضهم اثنين، وهما: الصحيح، والمدلس، فتكون (¬1) جملتها اثني عشر قسمًا (¬2)، جمعها بعضهم بهذه الأبيات: سلسل بإسناد وقوف المرسل ... واقطع بمنقطع غريب المعضل ولتدرجن صحيحه في حسنه ... واحفظ مدلسه وخذ بالأفضل (¬3) ¬
[وجمعها بعضهم أيضًا بهذه الأبيات] (¬1): يا صاح أقسام الحديث تنقل ... مسلسل وحسن (¬2) ومرسل ومدرج ومعضل ومنقطع ... والسابع المقطوع يا ذا فاستمع والثامن الموقوف والغريب ... والعاشر المعنعن (¬3) العجيب (¬4) ولنشرع في تفسيرها واحدًا (¬5) بعد واحد، على تواليها أولًا في قولنا: [وهي] (¬6) عشرة أقسام، أولها: المسلسل ثم المسند ثم المرسل ... إلى آخرها. أما المسلسل: فهو السماع الظاهر الذي لا غبار عليه مثل أن يقول: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا (¬7)، [كذلك] (¬8) إلى آخر السند (¬9). ¬
وأما المسند (¬1): فهو المتصل المعنعن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كقولك: مالك عن نافع (¬2) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] (¬3) قال كذا (¬4). [وأما المرسل: فهو ما سقط منه الصحابي، قاله الحاكم، كما تقدم، كقولك: مالك عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا (¬5). ¬
وأما المنقطع: فهو ما سقط منه غير الصحابي، كقولك: مالك عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا] (¬1) (¬2). وأما الموقوف: فهو ما سقط منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموقوف على (¬3) الصحابي، / 295/ كقولك: مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال كذا (¬4). وأما المقطوع: فهو المقطوع على (¬5) التابعي، أي المنتهي إلى التابعي، كقولك: مالك (¬6) عن نافع أنه قال كذا (¬7). وأما المعضل: فهو ما سقط منه أكثر من راو واحد، كقولك: مالك عن النبي عليه السلام أنه قال كذا (¬8). ¬
وأصل العضل المنع (¬1)، ومنه قوله تعالى: {فَلَا (¬2) تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬3) (¬4)، أي فلا تمنعوهن (¬5)، ومنه قولهم: الداء العضال، وهو الذي أعيا الأطباء (¬6) دواؤه (¬7)، وكأن الراوي قد منع الحديث بسبب ما أسقط منه (¬8). وأما المدرج: فهو أن يدرج في الحديث ما هو من كلام الصحابي (¬9)، كقوله (¬10) في الحديث: "من أعتق شركًا له في عبده ثم استسعى غير مشقوق عليه" (¬11) ........................................................ ¬
قيل: إنه من قول قتادة (¬1) (¬2). ¬
وأما الغريب: فإما (¬1) غريب السند، وإما غريب المتن، فالغريب في السند هو الحديث الذي روي عن رجل لم تجر العادة بالرواية عنه، والغريب في المتن أن يكون لفظه غريبًا (¬2). وأما الحسن: فهو ما كان راويه في أول رتبة العدالة (¬3). ¬
وأما الصحيح (¬1) على قول من زاده (¬2) على الأقسام (¬3) العشرة فهو: ما كان راويه (¬4) في غاية العدالة (¬5). وأما الحديث المدلس فهو: أن يروي عن قوم مجهولين، أو مجرحين، أو عن قوم لم يسمع منهم، وما في معنى ذلك (¬6). قوله: (ونقل الخبر بالمعنى عند [أبي] (¬7) الحسين (¬8) والشافعي ¬
وأبي حنيفة (¬1) جائز، خلافًا لابن سيرين وبعض المحدثين، بثلاثة شروط: ألا تزيد الترجمة، وألا (¬2) تنقص، وألا (¬3) تكون أخفى لأن المقصود إِنما هو إِيصال المعاني، فلا (¬4) يضر فوات غيرها (¬5). ش: اختلف العلماء في نقل الحديث بالمعنى على ثلاثة أقوال: أحدها: جوازه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (¬6)، مالك وغيره. قال الباجي: وهو مذهب المتقدمين من أصحاب الحديث (¬7). ¬
القول الثاني: منعه، وهو مذهب ابن سيرين (¬1) [و] (¬2) جماعة من الفقهاء (¬3). قال الباجي: وهو مذهب المتأخرين من أصحاب الحديث (¬4)، وهو مختار أبي بكر الرازي من الحنفية (¬5). قوله: بثلاثة (¬6) شروط، أي يجوز على القول بجوازه بثلاثة شروط. أحدها: ألا تزيد الترجمة، ومعنى الترجمة عبارة الناقل التي يعبر بها عن معنى الحديث، أي ألا تزيد عبارة الناقل على ما أفاده الحديث (¬7). ¬
الشرط الثاني: ألا تنقص عبارة الناقل مما أفاده الحديث (¬1). الشرط الثالث: ألا تكون عبارة الناقل أخفى من عبارة النبي عليه السلام (¬2). يريد: ولا تكون (¬3) عبارة الناقل أجلى من عبارة النبي عليه السلام، وهو شرط رابع (¬4) (¬5). قالوا: يزاد على هذه الأربعة شرطان آخران (¬6): أحدهما: أن يكون الناقل عالمًا بالحديث، أي عارفًا بدلالة الألفاظ واختلاف مواقعها (¬7) (¬8). والشرط الآخر: أن يكون الحديث المنقول يسير الألفاظ دون كثيرها. فهذه ستة شروط هي مشترطة (¬9) في جواز نقل الحديث بالمعنى، فإذا عدمت كلها أو بعضها فلا يجوز نقله بالمعنى اتفاقًا (¬10). ¬
فإذا وجدت هذه الشروط كلها فهو محل الخلاف (¬1)، وفيه ثلاثة أقوال (¬2): الجواز مطلقًا والمنع مطلقًا، وهذان القولان ذكرهما المؤلف، والقول الثالث نقله ابن الحاجب وغيره: يجوز (¬3) نقله باللفظ المرادف للفظ الحديث بحيث لا احتمال فيه أصلًا (¬4)، كإبدال لفظ الجلوس بالقعود، وكإبدال لفظ القيام بالوقوف، وكإبدال لفظ الاستطاعة بالقدرة، وكإبدال لفظ الحظر بالتحريم، وما في معنى ذلك من الألفاظ المترادفة (¬5)، [التي لا تحتمل غير المرادفة] (¬6). ¬
قوله: (ألا تزيد الترجمة، وألا (¬1) تنقص، [و] (¬2) ألا تكون أخفى)، يريد: وألا (¬3) تكون أجلى، وأن يكون عالمًا بالحديث، وأن يكون المسموع يسيرًا. أنها وجه اشتراط كون (¬4) الترجمة لا تزيد ولا تنقص، فلأن عبارة الراوي إذا زادت أو نقصت فقد زاد في الشرع أو نقص منه، وذلك (¬5) حرام إجماعًا (¬6). وأما كونها لا تكون (¬7) [أخفى ولا] (¬8) أجلى، فلأن الحديث متى كانت عبارته (¬9) جلية وأبدلها بعبارة خفية، فقد أوقع (¬10) في الحديث وَهْنًا يوجب تقديم غيره عليه بسبب خفائه، فإن الأحاديث (¬11) إذا تعارضت في الحكم الواحد يقدم (¬12) أجلاها على أخفاها (¬13). ¬
وكذلك إذا كانت عبارة الحديث خفية فأبدلها بعبارة جلية، فقد أوجب له تقديمه على غيره عند التعارض، فقد تسبب بذلك التبديل إلى تغيير حكم الله تعالى، وذلك لا يجوز (¬1). وأما اشتراط كونه عالمًا بالحديث، فلأن الجاهل يسوء فهمه فيفهم الشيء على غير فهمه، فإذا نقله على مقتضى فهمه فقد أوقع خللًا في الشرع (¬2). وأما اشتراط كون المسموع يسيرًا كالسطر ونحوه، فإن (¬3) الكثير لا يمكن حفظه إلا بتكرار وترداد، فإذا كرره النبي عليه السلام وأعاده لم يمكن أن يزاد فيه ولا [أن] (¬4) ينقص منه (¬5). حجة القول بجواز نقل الحديث بالمعنى أوجه: أحدها: ما ذكره المؤلف، وهو أن المقصود من السنة إنما (¬6) هو إيصال معنى اللفظ إلى المكلفين، فلا يضر فوات اللفظ؛ لأن اللفظ وسيلة إلى فهم معناه، ومعناه هو المقصود، فإذا حصل المقصود فلا عبرة بالوسيلة؛ لأن لفظ السنة لم نتعبد (¬7) به بخلاف [لفظ] (¬8) القرآن (¬9). ¬
وما نقل عن مالك في (¬1) تشديد [هـ] (¬2) في إبدال الباء (¬3) بالتاء أو بالعكس في [بالله وتالله في] (¬4) القسم (¬5) (¬6)، محمول على المبالغة في الأولوية (¬7) (¬8)، فإن (¬9) الأولى والأفضل أن يؤتى بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو. الوجه الثاني: أن الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون الأحاديث الكثيرة ولا يكتبونها ولا يكررونها (¬10) [بل يروونها] (¬11) بعد السنين الكثيرة والمدة الطويلة، ومثل هذا يجزم (¬12) الإنسان فيه أن نفس العبارة لا تنضبط فيه، بل المعنى فقط (¬13). الوجه الثالث: أن أحاديث كثيرة/ 296/ قد رويت (¬14) بألفاظ مختلفة في ¬
قصة واحدة، فيدل ذلك على جواز نقل الحديث بالمعنى، كقوله عليه السلام: "نضر الله امرأ سمع (¬1) مقالتي فوعاها"، وروي [أيضًا] (¬2): "رحم الله امرأ"، وكذلك قوله عليه السلام: ["رب حامل فقه غير فقيه إلى فقيه"] (¬3)، وروي: "رب حامل فقه لا فقه له إلى فقيه", وغير ذلك من الأحاديث الواردة في قصة متحدة بألفاظ متعددة (¬4). الوجه الرابع: إجماع العلماء على جواز تفسير الحديث بالعجمية، فيكون تفسيره بالعربية أولى وأحرى، فإن تبديل العربي (¬5) بالعربية أقرب وأخف من تبديل العربي بالعجمي (¬6). الوجه الخامس: قياس الرواية على الشهادة؛ فإن تحمل الشهادة لا يشترط [فيه] (¬7) صورة الألفاظ اتفاقًا، بل ضبط المعنى خاصة (¬8). حجة القول بمنع (¬9) نقل الحديث بالمعنى وجهان: أحدهما: قوله عليه السلام: "رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ¬
وأداها كما سمعها"، فهذا يقتضي أن اللفظ المؤدى كاللفظ المسموع عملًا بكاف التشبيه، والمسموع في الحقيقة هو اللفظ والمعنى تبع للفظ (¬1) (¬2). الوجه الثاني: أن الشرع قد اعتبر اللفظ في أشياء كثيرة كالأذان والإقامة وتكبيرات الصلاة (¬3) وغيرها، فيكون [نقل] (¬4) لفظ الحديث معتبرًا كذلك (¬5). أجيب عن الأول: بأن ذلك من باب الأولى لا من باب الأوجب، يدل عليه قوله عليه السلام: "رحم الله امرأ"، فإن مثل هذا الدعاء لا يستعمل في الوجوب. وأجيب عنه أيضًا: بأن معنى [قوله] (¬6): أداها كما سمعها، أي أدى معناها، كالفارسي إذا نقله وعبر عنه بلسانه. وأجيب عنه أيضًا: بأنه معارض بقوله عليه السلام: "إذا أصيب المعنى ¬
فلا بأس" (¬1) (¬2). وأجيب عن الثاني: وهو اعتبار الشرع اللفظ في أشياء كثيرة كالأذان والإقامة وتكبيرات (¬3) الصلوات: أن اللفظ لو كان معتبرًا في نقل الحديث لنقل إلينا نقلًا تقوم به الحجة، كما نقل الأذان وغيره (¬4). وأما حجة من قال بجواز (¬5) نقل الحديث بالمعنى في اللفظ المرادف دون غيره: أن اللفظ المرادف كإبدال القعود بالجلوس مثلًا، يقطع بأنه لم يغير معنى، وأما ما يكون باجتهاده فلا يجوز، وإن قطع بأنه لم يغير معنى؛ لأن غيره ربما أداه اجتهاده إلى خلاف ذلك، ولم يكلف (¬6) أحد (¬7) إلا باجتهاده ولم يكلف باجتهاد غيره (¬8). ¬
قوله: (وإِذا زادت إِحد [ى] (¬1) الروايتين على الأخرى والمجلس مختلف قبلت، وإِن كان واحدًا ويتأتى (¬2) الذهول عن تلك الزيادة قبلت، وإلا لم تقبل (¬3)). [ش] (¬4): أي إذا انفرد أحد الرواة بالزيادة (¬5) [في] (¬6) الحديث دون الباقين، فإن كان المجلس مختلفًا قبلت الزيادة باتفاق (¬7). ¬
قال ابن الحاجب: فإن تعدد المجلس قبل باتفاق، فإن جهل فأولى بالقبول. انتهى (¬1). وإنما تقبل الزيادة باتفاق في تعدد المجلس؛ لأن الراوي قد يسمع (¬2) الزيادة في مجلس آخر لم يحضر فيه الباقون (¬3) (¬4) [لتلك الزيادة] (¬5). فأما إن كان المجلس واحدًا فهذا محل الخلاف، وفيه ثلاثة أقوال (¬6)، ثالثها: بالتفصيل بين إمكان الذهول عن الزيادة وعدم إمكانه (¬7)، وهذا القول هو الذي ذكره المؤلف ها هنا. قال القاضي عبد الوهاب [في الملخص: و] (¬8) إذا انفرد بعض رواة (¬9) ¬
الحديث بزيادة وخالفه بقية الرواة، فقال مالك وأبو الفرج من أصحابنا: تقبل إن كان ثقة ضابطًا (¬1)، وقال الشيخ أبو بكر الأبهري (¬2) وغيره: لا تقبل (¬3). قوله: (وإِن كان واحدًا ويتأتى الذهول عن تلك الزيادة قبلت وإِلا لم تقبل)، أي إذا انفرد واحد بالزيادة في مجلس واحد دون الباقين (¬4)، فإن كان الباقون جماعة كثيرة لا يمكن الذهول على مجموعهم عادة لكثرتهم لم تقبل تلك الزيادة؛ لأن نسبة الذهول إلى الواحد أولى من نسبته إلى الجماعة الكثيرة، وإن كان الباقون جماعة قليلة كالاثنين والثلاثة مثلًا فإن الزيادة تقبل لإمكان الذهول عليهم لقلتهم. حجة القول بقبول الزيادة مطلقًا وجهان: أحدهما: [أن] (¬5) انفراد الراوي بالزيادة على الحديث كانفراده بحديث ¬
تام، فتقبل زيادته (¬1) كما يقبل حديثه (¬2). الوجه (¬3) الثاني: عدم المعارضة في نقله؛ لأن الراوي للزيادة (¬4) قطع بها، والباقون لم يقطعوا بنفيها بل هم شاكون، ولا يعارض اليقين بالشك (¬5)، لإمكان أن يكون سمعها في موطن آخر، أو يكون سمعها قبل دخول الباقين المجلس، أو يكون سمعها بعد خروج الباقين [من] (¬6) المجلس (¬7)، أو لم يسمعوها لغفلتهم وذهولهم عنها، أو يكونوا سمعوها وطرأ عليهم (¬8) النسيان (¬9). حجة القول بعدم [قبول] (¬10) الزيادة مطلقًا: أن عدم رواية سائر الرواة لهذه الزيادة يقوم مقام تصريحهم بعدمها، وتصريحهم [بعدمها] (¬11) مقدم على روايته (¬12). ¬
أجيب عن هذا: بأن عدم روايتهم (¬1) للزيادة لا يقوم مقام التصريح بعدمها، بل يتعين حمله على الذهول والنسيان جمعًا بين عدالة الفريقين (¬2). وبالله التوفيق بمنه (¬3). ... ¬
الباب السابع عشر في القياس
الباب السابع عشر في القياس وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: في حقيقته. الفصل الثاني: في حكمه. الفصل الثالث: في الدال على العلة. الفصل الرابع: في الدال على عدم اعتبار العلة. الفصل الخامس: في تعدد العلل. الفصل السادس: في أنواعها. الفصل السابع: فيما يدخله القياس.
[الفصل الأول: في حقيقته]
الباب السابع عشر في القياس وفيه سبعة فصول [ش] (¬1) القياس شريف القدر، عظيم (¬2) الخطر، وهو أصل الرأي في استنباط الأحكام الشرعية، فمن علم تقاسيمه، وصحيحه وفاسده (¬3)، وجليه [وخفيه] (¬4) فقد ظفر بعلم الفقه (¬5). ¬
والقياس في اللغة له معنيان: أحدهما: المساواة، والآخر: التقدير (¬1). فمن المساواة قولهم: فلان يقاس بفلان، أي يساوى (¬2) [به] (¬3) , ويقال: فلان لا يقاس بفلان، [أي] (¬4) لا يساوى (¬5) [به] (¬6). ومنه قول الشاعر: يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ماشاه كحذو (¬7) النعل بالنعل ... إذا ما النعل حاذاه (¬8) ¬
وهذا الشعر منسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأوله: [لا تصحب] (¬1) / 297/ أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين واخاه (¬2) يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء (¬3) ماشاه كحذو النعل بالنعل ... إذا ما النعل حاذاه وللشيء على الشيء (¬4) ... مقاييس وأشباه (¬5) وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه (¬6) ¬
وأما المعنى الآخر، وهو التقدير، فمنه قولهم: قست (¬1) الأرض بالقصبة [أو بالحبل] (¬2) وقست (¬3) الثوب بالذراع، أي قدرته، وذلك راجع إلى القسمة بين الشيئين على وجه المساواة بينهما. وأما حقيقة القياس في الشرع: فهو مساواة الفرع بالأصل في الحكم، وهو من باب تخصيص ما عممته اللغة، كتخصيص الدابة بالحمار عند أهل مصر، أو بالفرس عند أهل العراق. ¬
فالقياس إذًا: حقيقة عرفية، مجاز لغوي (¬1). قوله: (الفصل الأول: في حقيقته (¬2)، وهو إِثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، لأجل [ا] (¬3) شتباههما (¬4) في علة الحكم عند المثبت. فالإِثبات (¬5)، المراد به: المشترك بين العلم والظن والاعتقاد، ونعني بالمعلوم: المشترك بين المعلوم والمظنون (¬6). وقولنا: عند المثبت، ليدخل فيه القياس الفاسد). ش: [قوله]: (¬7) إثبات، هذا جنس وما بعده فصول، فالإثبات قدر مشترك بين العلم والظن والاعتقاد الجازم؛ لأن إثبات الحكم في الفرع أعم من كونه علمًا أو ظنًا أو اعتقادًا جازمًا، فقد اشتركت هذه الثلاثة في الإثبات، ¬
وهو المطلوب (¬1). وقوله: (مثل حكم معلوم)، وإنما قال: مثل، ولم يقل: إثبات حكم معلوم؛ لأن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الحكم الثابت في الأصل، بل هو مثله لا عينه، وهما مختلفان بالعوارض، فقد يكون الأول ثابتًا بالنص [أ] (¬2) وبالإجماع، ويكون الثاني ثابتًا (¬3) بالقياس، وحكم الأول لا خلاف فيه، وحكم الثاني مختلف فيه، غير أنه مثله من حيث إنه تحريم أو تحليل (¬4). قوله: (حكم معلوم لمعلوم آخر)، احترازًا ممن قال: حد القياس: إثبات حكم الأصل في الفرع (¬5)؛ لأن الأصل والفرع لا يعقلان إلا بعد معرفة القياس، فتعريف القياس بهما (¬6) دور، فإذا قيل: إثبات مثل (¬7) حكم معلوم لمعلوم آخر اندفع الدور (¬8). [و] (¬9) قوله: (لأجل (¬10) اشتباههما في علة الحكم (¬11))، احترازًا من ¬
إثبات الحكم بالنص، [كما] (¬1) لو ورد نص بتحريم الربا في الأرز كما ورد في البر، فإن ذلك لا يكون قياسًا (¬2). قوله: (عند المثبت)، ليندرج (¬3) القياس الفاسد، فإنه قياس شرعي، فإنا لو قلنا: لأجل اشتباههما في علة الحكم خاصة، فإن ذلك لا يتناول إلا العلة المرادة للشرع، ولا يتناول العلة التي هي غير مرادة للشرع، فيخرج القياس الفاسد من الحد، فيكون الحد [غير] (¬4) جامع (¬5)، لأن القياس الفاسد هو قياس شرعي (¬6). وذلك أن العلماء لما اختلفوا في علة الربا، هل هي الطعم أو القوت أو الادخار (¬7) أو الكيل أو غير ذلك (¬8)؟ وقاس كل إمام بعلة اعتقدها، ¬
أجمعت (¬1) الأمة (¬2) على أن الجميع أقيسة شرعية، سواء قلنا: كل مجتهد مصيب، أو قلنا: المصيب واحد. فإن قلنا: كل مجتهد مصيب، فكل واحد مصيب للعلة المرادة للشرع. وإن قلنا: المصيب واحد، وذلك الواحد المصيب لم يتعين، فيتعين أن يكون الجميع أقيسة شرعية، مع أن جميع تلك العلل غير مرادة للشرع (¬3) (¬4)، ¬
فالقياس بغير علة صاحب الشرع قياس فاسد، مع أنه قياس شرعًا، فلأجل هذا زاد المؤلف: عند المثبت، ليتناول (¬1) جميع العلل، كانت علة صاحب الشرع أو غيرها (¬2) (¬3). ... ¬
الفصل الثاني في حكمه
الفصل الثاني في حكمه (وهو حجة عند مالك وجماهير العلماء، خلافًا لأهل الظاهر (¬1) لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (¬2)، ولقول معاذ رضي الله ¬
عنه: "أجتهد رأيي"، بعد ذكره للكتاب (¬1) والسنة). ش: حجة الجمهور على أن القياس حجة شرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب [فمن وجوه، أحدها] (¬2): قوله (¬3) تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي [الأَبْصَار] (¬4)} (¬5). ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الاعتبار معناه تمثيل الشيء بالشيء وإجراء حكمه عليه (¬6)، فالاعتبار مأخوذ من العبور وهو المجاوزة (¬7)، ومنه قولهم: المعبر (¬8) للمكان الذي يعبر (¬9) منه من شاطئ الوادي (¬10) (¬11)، ومنه قولهم أيضًا: المعبر، للسفينة (¬12)، ومنه قولهم: العبرة (¬13)، للدمع؛ لأنها ¬
تعبر من الشقوق (¬1) إلى العين (¬2)، ومنه عابر الرؤيا؛ لأنه يتجاوز من تلك المثل المرئية إلى المراد (¬3)، فكأن القياس يتجاوز من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فيتناول لفظ الآية القياس (¬4) بالاشتقاق (¬5) (¬6). الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬7)، فإن مقتضى (¬8) المشاورة: القياس والاجتهاد. الوجه الثالث: قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬9). وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} (¬10). ¬
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} (¬1). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ النُّشُورُ} (¬2). وقوله تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (¬3). وقوله تعالى: {[وَ] (¬4) كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (¬5)، وغير ذلك؛ لأن ذلك كله فيه تنبيه على قياس النشأة الآخرة على الأولى. الوجه الرابع: قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ} (¬6). وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأْمَنُهُ بِدِينَارٍ لأَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (¬7). وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِتْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬8). وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ [ذَرَّةٍ] (¬9)} (¬10). ¬
الوجه الخامس: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (¬1)، ورد من في الأموال ثم قيس غيرها عليها (¬2). الوجه السادس: قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} (¬3)، وقيس (¬4) شحمه على لحمه (¬5). وهذه الأدلة المذكورة/ 298/ تدل على القياس (¬6). ويرد على الأول، [وهو] (¬7) قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (¬8): أنه فعل في سياق الثبوت، فلا يتناول إلا مطلق العبور، فلا يتناول كل عبور بل يصدق بفرد (¬9) واحد؛ لأنه مطلق فلا عموم للآية في كل عبور، فلا تندرج ¬
فيه صورة النزاع لأنه مطلق، فإذا كان (¬1) مطلقًا [فإنه] (¬2) يدل على ما هو أعم من القياس، والدال على الأعم غير دال على الأخص، كما أن لفظ الحيوان لا يدل على الإنسان، ولفظ العدد لا يدل على الزوج. ويرد على الدليل الثاني، وهو قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (¬3) [أنه] (¬4) إنما أمره بذلك لتحسين العشرة مع أصحابه، ولذلك قال له: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكلْ عَلَى اللهِ} (¬5). ويرد على الثالث، وهو قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (¬6) الآية، و [ما] (¬7) في معناها من الآي المذكورة: أن ذلك أمر عقلي وليس بمحل النزاع؛ إذ محل النزاع هو الأمر (¬8) الشرعي. ويرد على الرابع، وهو قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ} (¬9)، وما في (¬10) معناها من الآي المذكورة [معها] (¬11): أنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالعكس، وليس من باب القياس عند الأكثرين. ¬
أو يقال (¬1): إنما يستفاد حكم المسكوت (¬2) عنه من دليل آخر، فيستفاد (¬3) حكم غير التأفيف من قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬4)، ومن قوله تعالى: {وَقُل لَّهمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (¬5). ويستفاد حكم ما فوق الذرة من الخير أو الشر (¬6) من قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسَبَتْ} (¬7)، ومن قوله تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (¬8)، وما في معنى ذلك. ويرد على الخامس، وهو قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (¬9) أن (¬10) الشهادة في غير الأموال إنما تثبت بقوله عليه السلام: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬11) فإنه يعم جميع الأحكام. ¬
ويرد [على] (¬1) السادس، وهو قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (¬2): أن الشحم (¬3) داخل في مسمى اللحم بوضع اللغة لا بالقياس (¬4). وأما دليل السنة فمن وجوه (¬5): أحدها: قوله عليه السلام لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: "بم تحكم يا معاذ؟ " فقال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: "فبسنة رسول الله"، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأيي، فقال عليه السلام: "الحمد لله الذي ¬
وفق رسول (¬1) رسوله". الوجه الثاني: قوله عليه السلام: "إذا اجتهد المجتهد فأصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد" (¬2) (¬3). الوجه الثالث: قوله عليه السلام حين قيل (¬4) له: أيباع الرطب باليابس؟: "أينقص (¬5) الرطب إذا جف؟ "، قالوا: نعم، قال: "فلا إِذًا". الوجه الرابع: قوله عليه السلام: "إنما أقضي (¬6) فيكم (¬7) بالرأي فيما لم ينزل علي فيه شيء" (¬8). ¬
الوجه الخامس: قوله عليه السلام لما سأله عمر بن الخطاب عن قبلة الصائم، فقال له: "أرأيت لو تمضمضت (¬1) [بماء] (¬2) ثم مججته (¬3) أكنت ¬
شاربه (¬1)؟ " (¬2)، شبه القبلة إذا لم يعقبها إنزال بالمضمضة إذا لم يعقبها شرب بجامع انتفاء الثمرة المقصودة في الموضعين، وهذا عين القياس (¬3). الوجه السادس: قوله عليه السلام للخثعمية (¬4): أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟، قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقضى" (¬5). ¬
ويرد على الأول، وهو حديث معاذ: أنه رواية الحارث بن عمر (¬1) وهو مجهول. ويرد على الثاني، وهو حديث الاجتهاد: أن الاجتهاد أعم من القياس، فالدال (¬2) على الأعم غير دال على الأخص. ويرد على الثالث، وهو حديث الرطب إذا جف: أنه نص على العلة وليس بمحل النزاع، وإنما النزاع في العلة المستنبطة لا في المنصوصة. ¬
ويرد على الرابع، وهو حديث القضاء بالرأي (¬1): أنه رواية أسامة الليثي، وهو ضعيف (¬2). ويرد على الخامس والسادس، وهما حديث القبلة، وحديث الدين: أن اجتهاد النبي عليه السلام لا يلحق به غيره؛ لأنه لا ينطق [عن] (¬3) الهوى (¬4) (¬5). ¬
وأما دليل الإجماع، فهو: أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على العمل بالقياس، وذلك يعلم من استقراء أحوالهم ومناظراتهم، وقد كتب عمر (¬1) رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري "اعرف الأشباه (¬2) والنظائر، وما اختلج (¬3) في صدرك فألحقه بما هو أشبه بالحق" (¬4)، وهذا عين القياس (¬5). أجيب عن هذا: بأن الإجماع لم ينقل (¬6) عن جميعهم، إذ لا ينسب قول إلى ساكت (¬7)، وأيضًا لو انعقد عليه إجماع الصحابة لما وقع فيه خلاف (¬8) بين ¬
التابعين. وأجيب عن رسالة عمر: بأنها جاءت من طريق عبد الله بن أبي هاشم، وهو مجهول (¬1). وأما حجة أهل الظاهر القائلين بمنع (¬2) القياس فالكتاب، والسنة، وأخبار الصحابة. أما الكتاب فمن أوجه: أحدها: قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (¬3). وقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِّكُل شَيْءٍ} (¬4)، وهذا يدل على أن في القرآن [بيان] (¬5) جميع الحوادث، فيبطل حينئذ القياس. الوجه (¬6) الثاني: قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} (¬7). [و] (¬8) قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ¬
الْكَافِرُونَ} (¬1). و (¬2) {الْظَّالِمُونَ} (¬3)، و (¬4) {الْفَاسِقُونَ} (¬5). وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (¬6). الوجه الثالث: قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬7). وقوله تعالى: {[إِن] (¬8) نَّظُنّ (¬9) إلا ظَنًّا} (¬10). وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ (¬11) الظَّنِّ إِثْمٌ} (¬12)، لأن القياس إنما يفيد الظن. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬13). وقوله تعالى: {وَأَن تَقولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬14)، وهذا كله يقتضي ¬
منع القياس (¬1). أجيب عن الأول، وهو قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (¬2)، وما في معناه: أنه لو كانت الأحكام في جميع الحوادث مستفادة من القرآن لكان تحريم القياس موجودًا فيه كما زعمتم. أجيب (¬3) عن الثاني، وهو قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} (¬4)، وما في معناه: بأن (¬5) الحاكم بالقياس هو حاكم بما أنزل الله، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬6)، وقد جاءنا بالقياس فقال: {فَاعْتَبِروا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (¬7). أجيب (¬8) عن الثالث، وهو قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ} (¬9)، وما في معناه: بأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أشياء كثيرة، كالشهادة وخبر الواحد، فالحاكم بالظن حاكم بالعلم، وما ورد من المنع بمقتضى (¬10) الظن إنما ¬
ذلك في الظن الذي لا مستند له/ 299/ كظن الكفار ونحوه (¬1). وأما دليل السنة، فمنه قوله عليه السلام: "إن الله [تعالى] (¬2) لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (¬3). ومنه قوله عليه السلام: "تعمل هذه الأمة (¬4) برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" (¬5). ¬
أجيب عن ذلك: بأن المراد (¬1) محمول على القياس الفاسد الوضع (¬2)، المخالف للنص؛ إذ من شرط القياس ألا يخالف النص الصريح جمعًا بين الأدلة (¬3). وأما أخبار الصحابة: فلأن الصحابة يذمون القياس، فمن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن (¬4) قلت في القرآن برأيي" (¬5). وقال عمر رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب (¬6) الرأي فإنهم أعداء السنن (¬7)، ¬
أعيتهم الأحاديث [أن يحصوها] (¬1) فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا" (¬2). وقال علي رضي الله عنه: "لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره" (¬3)، وهذا يدل على منع القياس. أجيب عن هذا: أن ذم الصحابة القياس محمول على القياس الفاسد المخالف للشرع، جمعًا بين الأدلة (¬4). قوله: (وهو مقدم على خبر الواحد عند مالك، [لأن الخبر إِنما يرد (¬5) لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة، فيقدم على الخبر] (¬6)) (¬7). ¬
ش: ذكر القاضي عياض في التنبيهات، وابن رشد في المقدمات (¬1)، قولين في مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد (¬2). حجة تقديم القياس: أنه متضمن لتحصيل المصالح ودرء المفاسد (¬3) بخلاف الخبر، فما تضمن المصلحة أو درًا المفسدة (¬4) موافق للقواعد، [و] (¬5) ما لم يتضمن ذلك فهو مخالف للقواعد، فالقياس مقدم لموافقته القواعد، والخبر المخالف له مخالف للقواعد (¬6)، فيقدم (¬7) القياس عليه (¬8). حجة المنع: أن القياس فرع النصوص، والفرع لا يقدم على ¬
أصله (¬1)، وإنما قلنا: إن القياس فرع النصوص، لأنه لم يكن حجة إلا بالنصوص الدالة على كونه حجة، فالقياس فرع النصوص، وأيضًا فالمقيس عليه لا بد أن يكون منصوصًا عليه، فصار القياس فرع النصوص من هذين الوجهين (¬2). أما قولنا: إن الفرع لا يقدم على أصله، فلأنه (¬3) لو قدم على أصله لبطل أصله، ولو بطل أصله لبطل هو في نفسه. أجيب عن هذه: بأن النصوص التي هي أصل القياس، غير النص الذي قدم عليه القياس، فلا تناقض، ولم يقدم الفرع على أصله، بل قدم على غير أصله (¬4). قوله: (وهو حجة في الدنيويات اتفاقًا) (¬5). ش: مثاله: مداواة الأمراض، فإذا رأينا شيئًا صلح لمرض (¬6) (¬7)، فإنا نقيس عليه مرضًا آخر، فإن الطب مبني على القياس والتجريب. فإنهم (¬8) يقولون: من قواعد الطب: مقابلة الضد بالضد، فإن الضد يمنع ¬
ضده، وهذه قاعدة (¬1) يعتمد عليها في الطب (¬2). مثاله: إذا كان المرض من الحرارة فيكون شفاؤه التبريد، وإن كان المرض من البرد [فيكون] (¬3) شفاؤه (¬4) التسخين، وإن كان المرض من الرطوبة فيكون شفاؤه التيبيس (¬5)، وإن كان المرض من اليبوسة [فيكون] (¬6) شفاؤه (¬7) الترطيب (¬8) (¬9). قوله: (وهو إِن كان بإِلغاء الفارق فهو (¬10) تنقيح المناط عند الغزالي، أو باستخراج الجامع من الأصل ثم تحقيقه في الفرع، فالأول (¬11) تخريج المناط، والثاني تحقيقه). ش: ذكر المؤلف ها هنا ثلاثة أشياء، وهي: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط. ¬
قال المؤلف في شرحه (¬1): المناط: اسم مكان الإناطة، [والإناطة] (¬2): هي (¬3) التعليق والإلصاق (¬4). قال (¬5) حسان بن ثابت رضي الله عنه فيمن هجاه: وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (¬6) الزنيم: هو الملاصق (¬7) للقوم (¬8)، ومنه قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (¬9) ومنه قول حبيب (¬10) الطائي (¬11) أيضًا: ¬
بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها (¬1) أي: علقت علي الحروز فيها. وسميت العلة مناطًا (¬2) على وجه الاستعارة والتشبيه؛ لأن الحكم علق عليها (¬3) ونيط بها. قوله: (إِن كان بإِلغاء الفارق (¬4))، أي إن كان القياس واقعًا بإلغاء الفارق، فيسمى (¬5) تنقيح المناط عند الغزالي (¬6). فنقول على هذا: تنقيح المناط هو إلغاء الفارق، أي ترك الفارق بين المقيس والمقيس عليه. ¬
مثاله: قياس العبد على الأمة في تشطير (¬1) الحد، [لأنه ورد النص بالتشطير في الأمة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِن الْعَذَابِ} (¬2)، فيقاس على الأمة في ذلك] (¬3)؛ إذ لا فارق بينهما إلا الذكورية، وهو وصف لا يصلح (¬4) للتعليل، فيسوى (¬5) في الحكم بينهما لعدم الفارق (¬6). ومثاله أيضًا: [قياس] (¬7) بيع الصفة على بيع الرؤية في الجواز؛ إذ لا فارق بينهما إلا الرؤية، وهي لا يصح (¬8) أن تكون (¬9) فارقًا بينهما في أغراض (¬10) المبيع، فيسوى بينهما في الحكم (¬11). ¬
ومثاله أيضًا: قياس الأمة على العبد في وجوب التقويم (¬1) على معتق (¬2) الشقص، كما في قوله عليه السلام: "من أعتق شركًا له في عبد (¬3) قوم عليه نصيب شريكه" (¬4)، فتقاس الأمة على العبد في ذلك التقويم (¬5)؛ إذ لا فارق بينهما إلا الذكورية، وهي لا يصح (¬6) أن تكون فارقًا (¬7) بينهما في ذلك الحكم، فهذا معنى تنقيح المناط عند الغزالي (¬8). قوله: (أو باستخراج الجامع (¬9))، أي إن كان القياس واقعًا باستخراج الجامع من الأصل، أي باستخراج العلة الجامعة بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه من الأصل المقيس عليه (¬10). مثاله: وجوب الكفارة على كل مفطر هتك (¬11) حرمة رمضان، قياسًا على الأعرابي/ 300/ الذي جاء الرسول (¬12) - صلى الله عليه وسلم - يضرب صدره ¬
وينتف (¬1) شعره، فقال: هلكت [هلكت] (¬2) واقعت (¬3) أهلي في نهار رمضان، فأوجب (¬4) النبي عليه السلام الكفارة عليه. فذكر (¬5) في الحديث كونه أعرابيًا، وكونه يضرب صدره، وكونه ينتف شعره، وهذه الأوصاف كلها لا تصلح للتعليل لعدم (¬6) مناسبتها، وكونه مفسد [اً] (¬7) للصوم هو (¬8) المناسب للكفارة، فقد استخرجت علة (¬9) الحكم من الأصل (¬10). ومثاله أيضًا: قياس الأرز مثلًا على البر في تحريم الربا إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، [لأنه ورد النهي عن بيع البر (¬11) بالبر إلا مثلًا بمثل يدًا بيد] (¬12)، ولم ¬
يذكر العلة، ولا أوصافًا تشتمل على العلة. فاختلف في العلة، هل الطعم أو القوت أو الكيل أو المالية؟ كما هو المعروف في الفقه، فهذا أيضًا استخراج العلة من الأصل، بخلاف القسم [الثاني] (¬1) الذي هو إلغاء الفارق. فإن القسم الأول يسمى عند الغزالي تنقيح المناط، وهذا القسم الثاني يسمى عند الغزالي تخريج المناط (¬2). قوله: (عند الغزالي)، راجع إلى القسمين تنقيح المناط وتخريج المناط. ونبه بقوله: عند الغزالي، على أن معناهما عند غيره مخالف لمعناهما عند الغزالي. وذلك أن معنى تنقيح المناط عند غير الغزالي: استخراج العلة من أوصاف مذكورة. [ومعنى تخريج المناط: استخراج العلة من أوصاف غير مذكورة] (¬3) (¬4). مثال استخراجها من أوصاف مذكورة: حديث الأعرابي المذكور. ومثال (¬5) استخراجها من أوصاف غير مذكورة: قياس الأرز على البر ¬
في حديث بيع الربا المتقدم. فتحصل مما ذكرنا (¬1): أن [معنى] (¬2) تنقيح المناط فيه قولان، و [معنى] (¬3) تخريج المناط أيضًا فيه قولان: فتنقيح المناط قال الغزالي: معناه إلغاء الفارق (¬4). وقال غيره: معناه استخراج العلة من أوصاف مذكورة. وأما تخريج المناط فقال الغزالي: معناه استخراج العلة مطلقًا، من أوصاف مذكورة، ومن (¬5) أوصاف غير مذكورة (¬6). ¬
وقال غيره: معناه استخراج العلة من أوصاف غير مذكورة. والاصطلاحان المذكوران في تنقيح المناط كلاهما مناسب؛ لأن التنقيح معناه: التصفية والإصلاح والإزالة (¬1)، وهو إزالة ما لا يصلح عما يصلح (¬2). قوله: (ثم تحقيقه في الفرع) هذا هو اللفظ الثالث من الألفاظ الثلاثة، وهو تحقيق المناط. ومعنى تحقيق المناط: عبارة عن تحقيق العلة في الفرع بعد الاتفاق عليها (¬3). مثال (¬4) [ذلك] (¬5): أن يتفق على أن علة الربا هي القوت الغالب، ثم يختلف بعد ذلك [في الربا] (¬6) في التين. فقيل فيه بالربا (¬7) بناء على أنه يقتات غالبًا بالأندلوس (¬8). ¬
وقيل فيه بعدم الربا بناء على أنه لا يقتات غالبًا بالحجاز (¬1) وغيرها. فهذا معنى تحقيق المناط وهو أن ينظر في المناط، هل هو محقق في الفرع أم لا؟ [أي] (¬2) هل هو موجود في الفرع أم لا؟ بعد الاتفاق على كونه علة للحكم في الأصل. فقد تبين (¬3) لك الفرق بين هذه الحقائق الثلاث، وهي: تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط، وكلها اصطلاحات لفظية (¬4). ... ¬
الفصل الثالث في الدال على العلة
الفصل الثالث في الدال على العلة ش: أي فيما يدل (¬1) على [العلة] (¬2) الجامعة بين الأصل والفرع، لأن كل علة لا بد لها من دليل يدل عليها، كما أن كل حكم لا بد له من دليل يدل عليه. قوله: (وهو ثمانية: النص، والإِيماء، والمناسبة، والشبه، والدوران (¬3)، والسبر، والطرد، وتنقيح المناط). ش: زاد بعضهم تاسعًا وهو الإجماع (¬4). ¬
قوله: (فالنص (¬1) على العلة (¬2) ظاهر) (¬3). ش: نحو قول (¬4) الشارع (¬5): العلة كذا، أو إنما (¬6) فعلته لأجل كذا. ومنه قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬7). ومنه قوله عليه السلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت عليكم". ومنه قوله عليه السلام: "إنما جعل الاستئذان من أجل (¬8) البصر" (¬9). قوله: (و (¬10) الإِيماء (¬11) خمسة). ¬
ش: الإيماء ضد الصراحة، وهو الإشارة إلى العلة (¬1). وهو محصور في خمسة أشياء: قوله: (الفاء (¬2)، نحو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} (¬3)). ش: لأن الزنا علة الجلد. ومثاله (¬4): قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5)، لأن السرقة علة القطع. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬6)، ¬
فإن قتل العمد علة لتغليظ العذاب. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬1)، فإن (¬2) قتل الخطأ علة لتحرير الرقبة. ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ (¬3) (¬4) مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬5). واعلم أن الفاء تارة تدخل على المعلول (¬6) مثل (¬7) هذه المثول (¬8) المذكورة، ¬
فإن الزنا علة الجلد، فالجلد معلول الزنا، وكذلك ما ذكر معه من الأمثلة، وقد تدخل الفاء تارة على العلة (¬1)، كقوله عليه السلام في المحرم الذي وقصت (¬2) به ناقته (¬3): "لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، فإن الإحرام علة المنع من الطيب. قوله: (وترتيب الحكم على الوصف، نحو ترتيب الكفارة على قوله: واقعت (¬4) أهلي في نهار (¬5) رمضان. قال الإمام: سواء كان مناسبًا أو لم يكن (¬6)). ش: يعني: أن الحكم إذا رتب على وصف، فإن ذلك الوصف علة لذلك ¬
الحكم (¬1)، لأن ترتيب الحكم على الوصف يؤذن بأن ذلك الوصف علة/ 301/ لذلك الحكم، سواء كان ذلك الوصف مناسبًا لذلك الحكم أم لا (¬2). مثال المناسب للحكم المرتب عليه، قولك: أكرم العلماء وأهن الجهال، فإن الإكرام مناسب للعلم، والإهانة مناسب للجهل. ومثال غير المناسب [قولك] (¬3): أكرم الجهال (¬4) وأهن العلماء، فإن الإكرام غير مناسب (¬5) للجهل، والإهانة غير مناسب للعلم. وقول الإمام: سواء كان مناسبًا أو لم يكن، هو إشارة إلى أن ترتيب الحكم على الوصف مستقل بالدلالة على العلية (¬6) وإن عري عن المناسبة، فإن القائل إذا قال: أكرم الجهال وأهن العلماء، فإن السامعين ينكرون ذلك ويعيبونه ويستقبحونه، ومدرك الاستقباح أنهم فهموا أن القائل جعل الجهل (¬7) علة الإكرام، وجعل العلم علة الإهانة، ولا مستند لهم في اعتقاد هذا التعليل إلا ترتيب (¬8) الحكم على الوصف لا المناسبة (¬9). ¬
فإن المناسبة ها هنا مفقودة، فدل ذلك على أن ترتيب الحكم على الوصف يدل على العلية وإن فقدت المناسبة. قوله: (نحو ترتيب الكفارة على قوله: واقعت (¬1) أهلي في نهار رمضان) يفهم (¬2) منه أن الجماع علة الكفارة. [و] (¬3) مثاله أيضًا: قوله عليه السلام: "خمس فويسقات يقتلن في الحل والحرم" (¬4) (¬5). قوله: (وسؤاله عليه السلام عن وصف المحكوم عليه (¬6)، نحو قوله عليه ¬
السلام: "أينقص الرطب (¬1) إِذا جف؟ "). ش: لم يكن سؤاله عليه السلام لعدم علمه بنقصان الرطب إذا جف، لأن (¬2) كل أحد (¬3) يعلم ذلك، وإنما سؤاله لتنبيه السامع على علة المنع، فيكون السامع مستحضرًا لعلة الحكم حالة وروده عليه، فيكون ذلك أقرب لقبوله للحكم، بخلاف إذا غابت العلة عن السامع، وربما صعب (¬4) عليه تلقي الحكم، واحتاج لنفسه من المجاهدة ما لا يحتاجه إذا علم العلة. قوله: (وتفريق (¬5) الشارع بين شيئين في الحكم (¬6)، نحو قوله عليه السلام: "القاتل [عمدًا] (¬7) لا يرث" (¬8)). ¬
[ش: وذلك أن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (¬1)، يقتضي توريث جميع الأولاد، وقوله عليه السلام: "القاتل لا يرث"] (¬2) يقتضي تفريق الحكم في الأولاد، فيقتضي ذلك أن القتل هو علة المنع من الميراث لأن التفريق بين شيئين في الحكم يؤذن (¬3) بالعلة، و [في] (¬4) هذا أيضًا ترتيب الحكم على الوصف. ومثاله أيضًا: تفريقه عليه السلام بين الفارس والراجل في الإسهام، فقال: "للفارس سهمان وللراجل سهم" (¬5)، فالتفريق بينهما يؤذن بالعلة. ¬
قوله: (وورود (¬1) النهي عن (¬2) فعل [يمنع] (¬3) ما تقدم وجوبه) (¬4). ش: مثاله: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬5) [الآية] (¬6)، فهذا يدل على وجوب السعي إلى الجمعة، فقوله تعالى بعد ذلك: {وَذَروا الْبَيْعَ}، يقتضي منع البيع؛ لأن البيع يمنع السعي الواجب وفعل الجمعة، فيكون ذلك من باب الإيماء إلى العلة، وأن تحريم البيع علته التشاغل عن (¬7) فعل الجمعة، فيدخل في ذلك النهي كل ما يشغله عن الجمعة من الأكل والشرب والكلام وغير ذلك، كما بينه (¬8) ¬
ابن أبي زيد في قوله: ويحرم حينئذ البيع (¬1) وكل ما يشغل عن السعي (¬2). قوله: (والمناسب: (¬3) ما تضمن [تحصيل] (¬4) مصلحة أو درء مفسدة. فالأول: كالغنى، علة في وجوب (¬5) الزكاة (¬6). والثاني: كالإِسكار، علة في تحريم (¬7) الخمر). ش: هذا هو الثالث من الأشياء الثمانية الدالة على العلة، وهو المناسب (¬8). ومعنى قولهم: المناسب، أي المناسب لأن يترتب عليه الحكم، فسر المؤلف الوصف المناسب، بالوصف المتضمن لتحصيل مصلحة أو لدرء مفسدة. وإنما كانت المناسبة تدل على العلة؛ لأن الأصل في ورود الشرائع إنما هو لتحصيل المصالح ودرء (¬9) المفاسد. ¬
مثل المؤلف الوصف المتضمن للمصلحة بالغنى، [فإنه] (¬1) علة لوجوب الزكاة؛ لأن الغنى مناسب لوجوب الزكاة لما فيه من المواساة للفقراء، فالمصلحة على هذا هي المواساة. وقيل (¬2): المصلحة ها هنا [هي] (¬3) تطهير (¬4) النفس من رذيلة البخل؛ لأن المال محبوب بالطبع فلا يبذله لله تعالى إلا من غلبت عليه محبة الله تعالى وخلص (¬5) إيمانه، ولهذا قال عليه السلام: "الصدقة برهان" (¬6)، أي دليل على صدق الإيمان وخلوصه (¬7). ومثل المؤلف (¬8) الوصف المتضمن للمفسدة بالإسكار، فإنه علة لتحريم (¬9) الخمر؛ لأن الإسكار مناسب للتحريم لما فيه من خلل العقل (¬10). قوله: ([و] (¬11) المناسب ينقسم إِلى ما هو في محل الضرورات، وإِلى ما ¬
هو في محل الحاجات، وإِلى ما هو في محل التتمات، فيقدم الأول على الثاني، والثاني على الثالث عند التعارف). ش: قسم المؤلف الوصف المناسب للحكم ها هنا ثلاثة أقسام: ضروري، وحاجي، وتتمي (¬1). فالضروري: هو الذي لا يستغنى عنه أصلًا، ولا بد [منه] (¬2) لكل أحد (¬3)، على كل حال. والحاجي: هو الذي يحتاج إليه في بعض الأحوال. والتتمي: هو الذي يستغنى عنه ولا يحتاج إليه، ولكن هو من تتماته وتكميلاته وتحسيناته وتزييناته. وفائدة هذا التقسيم تظهر في تعارض الأقيسة، فيقدم (¬4) الضروري على الحاجي، ويقدم الحاجي على التتمي (¬5). قوله: (فالأول نحو الكليات الخمس، وهي حفظ النفوس، والأديان، ¬
والأنساب/ 302/ والعقول، والأموال، وقيل: والأعراض). ش: قال المؤلف: اختلف العلماء في عدد هذه [الكليات] (¬1) فبعضهم يذكر الأديان، ولا يذكر الأعراض. وبعضهم يذكر الأعراض، ولا يذكر الأديان. وفي التحقيق: أن الجميع محرم (¬2) باتفاق، وقد حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على [اعتبار] (¬3) هذه الكليات، وأن الله تعالى لم يبح (¬4) شيئًا من هذه الكليات في ملة من الملل (¬5) (¬6) من لدن خلق (¬7) [الله] (¬8) آدم إلى الآن. بل أمر الله تعالى بحفظ هذه الكليات كلها. فإنه أمر بحفظ النفوس من القتل وقطع الأعضاء. وأمر بحفظ الأديان من الكفر. وأمر بحفظ الأنساب من الزنا. وأمر بحفظ العقول من المسكرات. ¬
وأمر بحفظ الأموال من الغصب والسرقة. وأمر بحفظ الأعراض من القذف والسب وما في معنى ذلك (¬1). قال المؤلف: لم يبح الله تبارك وتعالى شيئًا من هذه الكليات في ملة من الملل (¬2) بالإجماع، إلا في المقدار الذي لا يسكر من المسكرات، ففيه خلاف في ملتنا (¬3)، وهو مباح في الملل المتقدمة قبل الإسلام، وأما المقدار الذي يسكر فهو حرام بإجماع الملل (¬4). قال المسطاسي: فإن قيل هذا الإجماع المذكور يشكل بما يذكرونه من إباحة الخمر في أول الإسلام، فكيف يحرم الخمر في جميع الملل المتقدمة، ويباح في هذه الملة (¬5) التي هي أفضل الملل وأتمها في استيفاء المصالح ودرء المفاسد؟ (¬6). ¬
الجواب عنه: أن ما ذكروه من الإباحة، معناه: أنه مسكوت (¬1) عن تحريمه، وأن تصرفهم فيه إنما هو بالبراءة (¬2) الأصلية، لا [أ] (¬3) ن الشرع أذن لهم في شربه. قال: وأما احتجاجهم على إباحة الخمر في أول الإسلام بقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬4)، في الكلام (¬5) حذف، تقديره: شيء تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا، أن تتخذوا (¬6) منه ما يسكر وما لا يسكر، فذكر المسكر في سياق الامتنان يدل على الإباحة؛ إذ لا يمتن إلا بمباح ولا يمتن بالمحرم. قال (¬7): الجواب عنه [من] (¬8) وجهين (¬9): أحدهما: [أن] (¬10) السكر (¬11) المذكور في الآية المراد به الخل، كما قاله جماعة من المفسرين (¬12)؛ لأن أصل السكر لغة هو ...................... ¬
المنع (¬1). ومنه قوله تعالى: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} (¬2) (¬3)، أي منعت من الإبصار (¬4). [و] (¬5) سمي الخل سكرًا، لأنه يمنع من الأدواء الصفراوية وغيرها. والوجه الثاني: سلمنا أن المراد به المسكر (¬6)، ولكن إنما وقع الامتنان [به] (¬7) من حيث إنه لم يحرمه عليهم، وعدم تحريمه أعم من كونه مأذونًا فيه أو ¬
مسكوتًا (¬1) عنه، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فيسقط الاستدلال بالآية (¬2) على إباحة الخمر (¬3). قوله: (وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال، وقيل: والأعراض). قال المسطاسي: ومما يستدل به على اعتبار هذه الكليات في شريعتنا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). فقوله: {الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، يدل على حفظ الأنساب، فالظاهر منها كذوات الرايات (¬5)، والباطن [منها] (¬6) كذوات الأخدان (¬7). ¬
وقوله: {وَالْإِثْمَ}، قيل: المراد به الخمر (¬1)، ومنه قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول (¬2) يدل على حفظ العقول. وقوله: {وَالْبَغْيَ}، وهو الظلم (¬3)، يدل على حفظ النفوس والأموال والأعراض. [و] (¬4) قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، يدل على حفظ الأديان. وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، إشارة إلى ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام (¬5) (¬6)، المذكورة في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬7). ¬
وقد كثر اختلاف المفسرين في معنى هذه الأشياء الأربعة. وأقربها ما قال محمد بن إسحاق (¬1) قال: البحيرة بنت السائبة، والسائبة هي (¬2) الناقة [إذا] (¬3) تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، فإنها لم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها (¬4)، ولم يشرب لبنها إلا ضيف (¬5)، فكلما نتجت بعد ذلك من أنثى فهي البحيرة، فإنها تشق أذنها ويخلى (¬6) سبيلها، ويفعل بها ما يفعل بأمها (¬7). ¬
فهي البحيرة (¬1) بنت السائبة، [يقال: بحرت أذن الناقة، إذا شققتها، فالبحيرة، معناها: مبحورة الأذن، أي مشقوقة الأذن] (¬2). ومعنى الوصيلة: هي الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، فهي (¬3) وصيلة، فما ولدت بعد ذلك فهو لذكورهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشترك في [أكله] (¬4) الذكور والإناث (¬5). ومعنى الحام: هو الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، فيقال: حمى ظهره، فلا يركب ولا يجز وبره (¬6)، ويخلى سبيله، ولا ينتفع منه إلا بالضراب في الإبل (¬7). ¬
قوله: (وقيل: [والأعراض] (¬1))، الأعراض (¬2) جمع عِرْضٍ. اختلف (¬3) في عرض الرجل، قيل: ذاته ونفسه (¬4)، دليله قوله عليه السلام في أهل الجنة: "لا يبولون (¬5) ولا يتغوطون (¬6)، وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل ريح المسك" (¬7)، [و] (¬8) قوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته". [قال ابن العربي (¬9) في أحكام القرآن: يحل عرضه، بأن ¬
يقول: مطلني، ويحل عقوبته بأن يحبس (¬1) له حتى ينصفه] (¬2) (¬3). وقيل: عرض الرجل، حسبه وشرفه (¬4)، دليله قول الشاعر: رب مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب قوله (¬5): (فالأول نحو الكليات الخمس ..) المسألة، أي فمثال الأول الذي هو الوصف الكائن في محل الضرورة: هو الكليات الخمس، التي هي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال والأعراض. وبيان ذلك في حفظ النفوس: أن القتل وصف مناسب للقصاص / 303/ فترتيب القصاص عليه فيه مصلحة، وهي حفظ النفوس. وبيانه في حفظ الأديان: أن الشرك وصف مناسب للحرابة، فترتيب الحرابة عليه لما فيه من مصلحة، وهي حفظ الأديان. وبيانه في حفظ الأنساب: أن الزنا وصف مناسب للحد، فترتيب ¬
[الحد] (¬1) عليه لما فيه من مصلحة، وهي حفظ الأنساب من الاختلاط. وبيانه في حفظ العقول: أن شرب الخمر وصف مناسب للحد، فترتيب الحد عليه لما فيه من مصلحة، وهي حفظ العقول. وبيانه في حفظ الأموال: أن السرقة مثلاً وصف مناسب للقطع، فترتيب القطع عليها لما فيه من مصلحة، وهي حفظ الأموال. وبيانه [في] (¬2) حفظ الأعراض: أن القذف مثلاً وصف مناسب للحد، [فترتيب الحد] (¬3) عليه لما فيه من مصلحة، وهي حفظ الأعراض. قوله: (والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة، فإِن النكاح غير ضروري، لكن الحاجة تدعو إِليه في تحصيل الكفء (¬4) لئلا يفوت (¬5) (¬6)). ش: هذا مثال للوصف (¬7) الذي في محل الحاجات. فالكفء، وهو المثل (¬8) وصف مناسب لتزويج الولي الصغيرة، وتزويج الولي الصغيرة حكم مرتب على هذا الوصف، لما فيه من مصلحة، [وهي] (¬9) ¬
مخافة (¬1) التفويت. قوله: ([و] (¬2) الثالث: ما كان حثًا على مكارم الأخلاق كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية (¬3) الشهادة (¬4) عن الأرقاء (¬5)، ونحو (¬6) الكتابات، ونفقات القرابات) (¬7) (¬8). ش: هذا مثال (¬9) الوصف الذي في محل التتمات، وذلك أن القاذورات وهي النجاسات وصف مناسب لتحريم تناولها، فترتيب (¬10) التحريم على هذا الوصف لمصلحة، وهي مكارم الأخلاق (¬11)، [و] (¬12) هي من التتمات، وليس من الضرورات ولا من الحاجات. وكذلك سلب أهلية الشهادة عن العبيد (¬13)، وذلك [أن] (¬14) ¬
الخسة (¬1) التي هي وصف العبد، وصف مناسب لسلب أهلية الشهادة، فترتب (¬2) منع شهادته على هذا الوصف الذي هو الخسة لمصلحة هي (¬3) مكارم الأخلاق؛ لأن الشهادة منصب شريف فلا يناسبه العبد لخسته. وليس سلب ذلك عن العبد (¬4) بضروري ولا بحاجي (¬5)، وإنما هو من مكارم الأخلاق (¬6). وكذلك الكتابات، وذلك أن توهم المال في العبد وصف مناسب للكتابة، وكتابته حكم مرتب على هذا الوصف لما فيه من مصلحة، وهي العتق، لأنه من مكارم الأخلاق. وإنما قلنا الكتابة من مكارم الأخلاق، لأنها عون على حصول العتق وإزالة الرق عن الصورة البشرية المكرمة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬7)، فالكتابة من مكارم الأخلاق وتتمات المصالح. وكذلك نفقات القرابات كالأبوين (¬8) والأولاد، فهي من مكارم الأخلاق ¬
وتتمات المصالح (¬1). وذلك أن القرابة وصف مناسب لوجوب (¬2) النفقة، فوجوب النفقة حكم مرتب على هذا الوصف لمصلحة، وهي مكارم الأخلاق (¬3). قوله: (وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب، كقطع الأيدي باليد (¬4) الواحدة (¬5)، فإِن شرعيته (¬6) ضرورية صونًا للأعضاء (¬7). وأمكن (¬8) أن يقال: ليس منه، لأنه يحتاج (¬9) الجاني (¬10) فيه إلى الاستعانة (¬11) بالغير، وقد يتعذر). ش: لما ذكر [المؤلف] (¬12) أن الوصف قد يقطع بأنه في محل الضرورات، ¬
أو في محل الحاجات، أو في محل التتمات، ذكر ها هنا أن الوصف قد [لا] (¬1) يقطع فيه بشيء (¬2) (¬3)، فيكون مترددًا، أي محتملاً (¬4). مثال الوصف الذي لا يقطع عليه بشيء (¬5) من ذلك بل هو محتمل: قطع الأيدي باليد الواحدة، [فإن قطع الأيدي باليد الواحدة] (¬6) وصف متردد بين الضروري والحاجي، فإنه يمكن أن يقال: قطع الأيد [ي] (¬7) باليد الواحدة (8) حكم مرتب على قطع اليد الواحدة (¬8)، حكم ضروري لما فيه من مصلحة، وهي حفظ الأعضاء، كما نقول في قطع اليد الواحدة (9) باليد الواحدة (¬9)؛ إذ لو قلنا بعدم قطع الأيدي (¬10) باليد الواحدة لأدى ذلك إلى عدم صيانة الأعضاء، ولكان كل من أراد قطع عضو إنسان استعان بغيره، فينتفي القصاص. ويمكن أن يقال (¬11): قطع الأيدي [باليد] (¬12) الواحدة (¬13) ليس بضروري؛ ¬
لأن الغير قد يساعد الجاني [على الإعانة] (¬1)، وقد لا يساعده (¬2) فيتعذر (¬3). فمن اعتبر الصيانة قال بأن القطع (¬4) ضروري. ومن اعتبر عدم تحقق الاستعانة قال: ليس بضروري. وقطع الأيدي المتعددة باليد الواحدة حكم مرتب على قطع اليد الواحدة، وهو (¬5) ضروري لمصلحة، وهي حفظ الأعضاء. وأمكن أن يقال: ليس من الضروري، بل هو من الحاجي؛ لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة بغيره، والضروري لا يحتاج [الجاني] (¬6) فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد يتعذر الاستعانة بالغير. قوله: (ومثال (¬7) اجتماعها كلها في وصف واحد: أن نفقة النفس ضرورية والزوجات حاجية (¬8)، والأقارب (¬9) تتمة) (¬10). ش: وذلك أن الجوع وصف مناسب لوجوب النفقة، كانت النفقة ¬
[ضرورية كالنفقة] (¬1) على نفسه، أو كانت (¬2) حاجية كالنفقة على الزوجة، أو كانت تتمة (¬3) كالنفقة (¬4) على الأبوين، فقد اجتمعت الضرورة والحاجة والتتمة في شيء واحد، [وهو وجوب النفقة] (¬5). قوله: (واشتراط العدالة في الشهادة ضروري صونًا للنفوس والأموال، وفي الإِمامة (¬6) على الخلاف حاجية (¬7) لأنها شفاعة والحاجة داعية (¬8) [إِلى] (¬9) إِصلاح (¬10) الشفيع، وفي النكاح تتمة لأن الولي قريب يزعه (¬11) طبعه عن الوقوع في العار والسعي في الإِضرار، وقيل: حاجية (¬12) على الخلاف. ولا يشترط / 304/ في الإِقرار لقوة الوازع الطبعي (¬13)). ش: هذا مثال [آخر] (¬14) لاجتماع المراتب الثلاث (¬15)، وهي: الضرورة، ¬
والحاجة، والتتمة. وذلك أن اشتراط العدالة، قد يكون ضروريًا، وقد يكون حاجيًا، وقد يكون تتميًا. مثال كونه ضروريًا: اشتراط العدالة في الشهادة، لأن الشهادة وصف مناسب لاشتراط العدالة، فاشتراط العدالة حكم مرتب على الشهادة لما فيه من مصلحة، وهي صون النفوس والأموال. ومثال كون اشتراط العدالة حاجيًا: اشتراط العدالة في إمامة الصلاة، على القول باشتراط العدالة فيها، وهو قول مالك (¬1)، وذلك أن الإمامة وصف مناسب لاشتراط العدالة فيها (¬2)، فاشتراط العدالة حكم مرتب على الإمامة لما فيه من المصلحة، وهي الشفاعة، والحاجة داعية إلى إصلاح الشفيع. ومراد المؤلف بالإمامة: الإمامة الصغرى، وهي إمامة الصلاة، يدل عليه قوله: لأنها شفاعة. وأما الإمامة (¬3) الكبرى فاشتراط العدالة فيها ضروري، صونًا للنفوس ¬
والأموال (¬1). ومثال كون اشتراط العدالة تتمة: اشتراط العدالة في ولي النكاح، وذلك أن الولاية وصف مناسب لاشتراط العدالة، فاشتراط (¬2) العدالة حكم مرتب على الولاية لما فيه من مصلحة، وهي دفع العار (¬3) عن الولي، فاشتراط العدالة في هذه الولاية تتمة، وقيل حاجية؛ لأن الحاجة داعية إلى إصلاح الولي. قوله: (على الخلاف)، أي على القول باشتراط العدالة في ولي النكاح، وفي مذهب مالك قولان في اشتراط العدالة في ولي النكاح، المشهور عدم اشتراطها اكتفاء بالوازع الطبعي عن العدالة (¬4). قوله: (ولا يشترط في الإِقرار)، (¬5) أي ولا يشترط اشتراط (¬6) ¬
العدالة في الإقرار، لأن الوازع الطبعي يمنع (¬1) الإنسان من الإضرار بنفسه بغير موجب (¬2) فلا يقر (¬3) الإنسان إلا بما هو حق عليه، فيقبل (¬4) إقراره (¬5) سواء كان برًا أو فاجرًا (¬6)، مؤمنًا أو كافرًا، ولا خلاف (¬7) بين الأمة في ذلك (¬8). فتبين بهذه الأمثلة أن الضرورة والحاجة والتتمة قد اجتمعت في شيء واحد، وهو العدالة. قوله: (ودفع المشقة عن النفوس مصلحة، ولو أفضت إِلى مخالفة (¬9) القواعد، وهي ضرورية (¬10) مؤثرة في الترخيص، كالبلد الذي يتعذر فيه العدول. قال: ابن أبي زيد في النوادر: تقبل شهادة أمثلهم (¬11) حالاً لأنها (¬12) ضرورة. ¬
وكذلك يلزم في القضاة وولاة (¬1) الأمور، وحاجية (¬2) في الأوصياء (¬3) على الخلاف (¬4) في عدم اشتراط العدالة، وتمامية (¬5) في السلم والمساقاة (¬6) وبيع الغائب، فإِن [في] (¬7) منعها مشقة على الناس، وهي من تتمات معايشهم (¬8)). ش: هذا مثال آخر لاجتماع المراتب الثلاث، وهي: الضرورة، والحاجة، والتتمة. وذلك أن دفع المشقة باعتبار تأثيرها في الترخيص، قد يكون ضروريًا، وقد يكون حاجيًا، وقد يكون تتميًا (¬9). مثال كونه ضروريًا: البلد الذي ليس فيه عدول بل عمه الفسق، فإن عموم الفسق للبلد وصف مناسب [لجواز] (¬10) قبول (¬11) شهادة غير العدل (12)، وقبول شهادة غير العدل (¬12) حكم مرتب على الفسق (¬13)، لما فيه من مصلحة، ¬
وهي صون النفوس والأموال، فقبلت شهادة الفاسق هنا لهذه المصلحة، وإن كان ذلك مخالفًا لقاعدة الشهادة التي هي العدالة، لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1)، وقال أيضًا: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬2). وذلك أنه لو كلف شهادة (¬3) العدول في البلد (¬4) الذي تعذر فيه العدول، لكان ذلك مشقة على النفوس، فقبلت شهادة غير العدول للضرورة، دفعًا لهذه المشقة. وقد نص ابن أبي زيد [رضي الله عنه على هذا] (¬5) في [كتابه] (¬6) النوادر قال (¬7): تقبل شهادة أمثلهم حالاً، أي أحسنهم حالاً، وفي بعض تواليفه (¬8) قال: [قال] (¬9) سحنون: من (¬10) غلب خيره على شره جازت شهادته، سيأتي على الناس زمان لا يوجد فيه عدل رضا. قوله: (وكذلك يلزم [في] (¬11) القضاة وولاة (¬12) الأمور)، ............. ¬
هذا (¬1) مثال آخر للضروري أيضًا، وذلك أن البلد الذي ليس فيه عدل يستحق القضاء، أو يستحق ولاية الأمر، بل عم الفسق أهل البلد كلهم، فإنه يلزم أن يستقضي أحسنهم حالاً، وكذلك يلزم أن يتولى أمرهم أحسنهم (¬2) حالاً، فإن عموم الفسق وصف مناسب لجواز استقضاء غير العدل، فاستقضاء غير العدل [حكم] (¬3) مرتب على عموم الفسق، لمصلحة، وهي حفظ النفوس والأموال، وكذلك تولية غير العدل. وذلك من باب تغليب أحد الضررين (4) على الآخر، وذلك أن الضررين (¬4) إذا تعارضا فإنه يقدم أقواهما، لأن العمل بالراجح متعين، وذلك أن الضرر الحاصل من عدم قبول الشهادة وعدم نصب القضاء والإمامة لعدم العدالة، أعظم من الضرر الحاصل من قبول الشهادة ونصب القضاة والولاة لعدم العدالة (¬5). قوله: (وحاجية في الأوصياء على الخلاف في عدم اشتراط العدالة)، هذا معطوف (¬6) على قوله: وهي ضرورية (¬7) هذا مثال كون المشقة (¬8) حاجية، وذلك أن عموم الفسق وصف مناسب لاستيصاء غير العدل، واستيصاء غير العدل حكم مرتب على عموم الفسق، لمصلحة، وهي دفع (¬9) المشقة عن ¬
النفوس. قال المؤلف في الشرح: قولي: حاجية في الأوصياء، معناه: أن الناس يحتاجون (¬1) أن يوصوا لغير العدول، وفي منعهم من ذلك مشقة عليهم، وفيه خلاف، ومذهب مالك إنه إنما يشترط (¬2) فيه أن يكون مستور الحال فقط (¬3). وعلى القول بعدم اشتراط العدالة مع أنها ولاية، والولاية لا بد فيها من العدالة، لكن خولفت هذه القاعدة في عدم/ 305/، اشتراط العدالة في الأوصياء، دفعًا للمشقة الناشئة من الحيلولة بين الإنسان [و] (¬4) بين من يريد أن يعتمد (¬5) عليه (¬6). ¬
قوله: (وتمامية (¬1)، في السلم (¬2) والمساقاة (¬3) (¬4) وبيع الغائب)، هذا مثال كون المشقة تتمة. وبيان (¬5) ذلك في السلم: أن العجز وصف مناسب لبيع ما ليس عندك، وبيع ما ليس عندك حكم مرتب على هذا الوصف لمصلحة، وهي دفع المشقة عن النفوس. ونقول في المساقاة أيضًا: إن العجز وصف مناسب لجواز إجارة مجهولة، فجواز الإجارة المجهولة حكم مرتب على هذا الوصف لمصلحة، وهي دفع المشقة. [وكذلك نقول في بيع الغائب: فإن العجز وصف مناسب لجواز بيع الغائب، وجواز بيع الغائب حكم مرتب على هذا الوصف لمصلحة، وهي دفع المشقة] (¬6) عن النفوس. ¬
قال المؤلف في الشرح: وكذلك خولفت القواعد في السلم، والمساقاة، وبيع الغائب، والجعالة، والمغارسة (¬1)، وغير ذلك، لما (¬2) فيه [من] (¬3) جهالة (¬4) وغرر (¬5) (¬6). وكذلك الصيد لاشتماله على الفضلات، وعدم تسهيل الموت على الحيوانات، فقد خولفت القواعد في هذه الأشياء لتتمة المعاش (¬7)، فإن من الناس (¬8) من يحتاج في معاشه إلى هذه الأمور، وذلك شرع عام في الكل لعدم الانضباط في مقادير الحاجات (¬9). فتقرر بما قررناه: أن الوصف الذي هو المشقة اجتمع فيه أيضًا الثلاثة الأشياء: الضرورة، والحاجة، والتتمة. قوله: (و [هو] (¬10) ينقسم أيضًا (¬11) إِلى ما اعتبره الشرع، وإِلى ما ألغاه، وإِلى ما جهل حاله. ¬
فالأول (¬1) ينقسم إِلى ما اعتبر (¬2) نوعه في نوع الحكم، كاعتبار نوع الإِسكار في نوع التحريم، وإِلى ما اعتبر جنسه [في جنسه] (¬3)، كالتعليل بمطلق (¬4) المصلحة، كإِقامة الشرب (¬5) مقام القذف لأنه مظنته. وإِلى ما اعتبر نوعه في جنسه، كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث، فيقدم (¬6) في النكاح، وإِلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم، كإِسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة، فإِن المشقة جنس، وهو (¬7) نوع من الرخص. فتأثير النوع في النوع، مقدم على تاثير النوع في الجنس، وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع، وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس. والملغى، نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر. والذي جهل أمره، هو (¬8) المصلحة المرسلة، التي نحن (¬9) نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب (¬10)). ¬
ش: قوله: (وهو ينقسم أيضًا)، يعني المناسب. وذلك أن المؤلف قسم المناسب أولاً باعتبار الضرورة والحاجة والتمام، ثم قسمه ها هنا بالنسبة إلى الاعتبار والإلغاء والإهمال. وذلك أن (¬1) الوصف المناسب للحكم الشرعي، تارة يعتبره الشرع، وتارة لا يعتبره بل يلغيه ويتركه، وتارة يسكت (¬2) عنه ولم يعتبره ولم يلغه (¬3)، وسيأتي بيان جميعها. قوله: (فالأول ينقسم إِلى ما اعتبر نوعه في نوع الحكم)، قسم المؤلف الأول من (¬4) الأقسام الثلاثة، وهو المناسب المعتبر إلى أربعة أقسام، وهي: النوع في النوع، والجنس في الجنس، والنوع في الجنس، والجنس في ¬
النوع (¬1). ولا بد ها هنا من مقدمة بها يفهم كلام المؤلف رحمه الله تعالى، وهي: أن تعلم (¬2) أحوال الوصف وأحوال الحكم باعتبار الجنسية والنوعية. فنقول: الوصف من حيث هو وصف هو جنس عال، وتحته مناسب وغير مناسب، ثم المناسب تحته معتبر وغير معتبر، ثم المعتبر تحته مصلحة ومفسدة، ثم المصلحة [أ] (¬3) والمفسدة تحتها ضرورة أو حاجة أو تتمة (¬4)، فهذه أحوال الوصف. وأما أحوال الحكم فنقول: الحكم من حيث هو حكم هو جنس عال، وتحته طلب وتخيير، ثم الطلب تحته طلب فعل و (¬5) طلب ترك، ثم طلب الفعل تحته طلب واجب وطلب مندوب، ثم الواجب [تحته] (¬6) عبادي وعادي. ونقول أيضًا في طلب الترك (¬7): تحته ترك محرم وترك مكروه، فهذه ¬
أحوال الحكم (¬1). وبهذا الطريق تظهر الأجناس العالية والمتوسطة، والأنواع السافلة في الأحكام والأوصاف. وبيان هذا أن نقول: الوصف أعم أحواله كونه وصفًا، وأخص منه كونه مناسبًا، وأخص منه كونه معتبرًا، وأخص منه كونه مصلحة أو مفسدة، وأخص منه كونه مصلحة كذا أو مفسدة كذا، وأخص منه كون المصلحة أو المفسدة من باب الضرورة أو الحاجة أو التتمة. وأما الحكم فأعم أحواله كونه حكمًا، وأخص منه [كونه] (¬2) طلبًا أو تخييرًا، وأخص منه كونه إيجابًا أو تحريمًا، وأخص منه كونه إيجاب كذا أو تحريم كذا. فإذا تحققت هذه المقدمة (¬3) سهل عليك فهم كلام المؤلف. قوله: (فالأول ينقسم إِلى ما اعتبر نوعه في نوع الحكم (¬4) كاعتبار نوع الإِسكار في نوع التحريم)، هذا مثال تأثير النوع في النوع (¬5)، اعتبر نوع ¬
الوصف (¬1) الذي هو الإسكار، في نوع الحكم الذي [هو] (¬2) التحريم. وإنما قلنا: الإسكار نوع، لأنه تحت المفسدة، وهو نوع من أنواع المفسدة؛ لأن المفسدة جنس تحتوي على الإسكار وغيره من [سائر] (¬3) أنواع المفسدة (¬4). وإنما قلنا: التحريم نوع، لأنه تحت الطلب، لأن الطلب جنس يحتوي على التحريم وغيره من أنواع الطلب. فقد اعتبر ها هنا النوع في النوع. قوله: (وإِلى ما اعتبر جنسه في جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة، كإِقامة الشرب مقام القذف لأنه مظنته (¬5))، هذا مثال تأثير الجنس في الجنس (¬6)، معناه: كالتعليل/ 306/ بمطلق المصلحة في مطلق الحكم، أي كالتعليل بجنس المصلحة في جنس الحكم. وذلك أن شرب الخمر جنس الوصف، والحد جنس الحكم. ¬
وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن [حد] (¬1) شارب الخمر، فقال: أراه إذا شرب سكر، وإذا سكر [هذى] (¬2)، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري، فأخذ رضي الله عنه مطلق المناسبة والمظنة، لأن الشرب مظنة القذف. قوله: (وإِلى ما اعتبر نوعه في جنسه، كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث فيقدم في النكاح)، هذا مثال تأثير النوع في الجنس (¬3). وذلك أن الأخوة نوع من الأوصاف، لأن النسب جنس للأخوة، والتقديم جنس من الأحكام، لأنه يحتوي على التقديم في الميراث، وعلى التقديم في النكاح، وعلى التقديم في صلاة (¬4) الجنازة. فيقدم الإخوة مطلقًا في الأبواب الثلاثة قياسًا للنكاح والجنازة على الميراث. قوله: (وإِلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم، كإِسقاط الصلاة عن (¬5) الحائض بالمشقة، فإِن المشقة جنس، وهو نوع من الرخص). هذا مثال تأثير الجنس في النوع (¬6)، وذلك أن المشقة جنس؛ لأنها متنوعة ¬
إلى مشقة الصلاة وإلى مشقة الصيام و [إلى] (¬1) غير ذلك من أنواع المشاق، فمطلق المشقة جنس، وإسقاط الصلاة عن (¬2) الحائض نوع من الأحكام والإسقاطات والرخص (¬3). قوله: (فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس)، لما ذكر أقسام المناسب الأربعة أراد [ها] (¬4) هنا أن يبين أحكام تلك الأقسام فيما إذا تعارضت. فذكر ها هنا أولاً أن تأثير النوع في النوع مقدم على الجميع، أي مقدم على الأقسام الثلاثة (¬5)، وهي: تأثير النوع في الجنس، وتأثير الجنس في النوع، وتأثير الجنس في الجنس (¬6). وإنما قدم تأثير النوع في النوع على الجميع لوجود الخصوصين فيه، أعني خصوص الوصف، وخصوص الحكم، بخلاف غيره من الأقسام الثلاثة الباقية إذ ليس في قسمين منها (¬7) إلا خصوص واحد، وهما النوع في الجنس؛ والجنس (¬8) في النوع، وليس في القسم الثالث خصوص أصلاً، وهو الجنس في ¬
الجنس، فلأجل هذا قدم النوع في النوع على الجميع لوجود (¬1) الخصوصين فيه؛ إذ الأخص بالشيء مقدم على غيره أبدًا (¬2). ولأجل هذه القاعدة قدمت البنوة في الميراث على الأخوة، وقدمت الأخوة على (¬3) العمومة. ولذلك قدم النجس على الحرير [في الصلاة] (¬4) من حيث المنع؛ لأن النجس أخص بالصلاة من الحرير، فإن منع الحرير لا يختص بالصلاة، فكان (¬5) تحريم النجس (¬6) أقوى من تحريم الحرير؛ لاختصاص منع النجس بالصلاة على الخلاف فيه. وكذلك المحرم إذا لم يجد إلا ميتة وصيدًا، فإنه يأكل الميتة دون الصيد (¬7)، ¬
لأن تحريم الصيد خاص بالإحرام، بخلاف تحريم الميتة فإنه عام للإحرام وغيره. فالقاعدة (¬1) أن الأخص أبدًا مقدم على الأعم (¬2). ومعنى قولنا: يقدم الصيد على الميتة، أي يقدم عليه في المنع والترك، أي يقدم تحريم الصيد على تحريم الميتة، أي فيترك الصيد. وكذلك قولنا: يقدم النجس على الحرير في الصلاة، أي يترك النجس ويصلى بالحرير؛ لأن ضرورة (3) الأخص أشد وأقوى من ضرورة (¬3) الأعم. قوله: (فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس) يعني إذا تعارضا، أي [إذا] (¬4) تعارض التأثيران. مثاله: إذا لم يجد العريان إلا ثوب الحرير وثوب النجس، فإنه يترك النجس ويصلي بالحرير، وإنما يقدم تحريم النجس (¬5) ها هنا على تحريم الحرير؛ لأن تحريم النجس فيه تأثير النوع في النوع، بخلاف تحريم الحرير فهو تأثير النوع في الجنس. وبيان ذلك أن لبس (¬6) الثوب النجس نوع من الوصف؛ لأن لبس الثوب أعم من النجس والطاهر، فلبس (¬7) النجس إذًا أخص من ذلك، ثم تحريم ¬
لباسه في الصلاة نوع من الحكم؛ لأن لبس النجس أعم من كونه في داخل الصلاة أو في خارجها، فصار تحريم [لبس] (¬1) النجس في الصلاة إذًا أخص من تحريمه (¬2) مطلقًا في الصلاة وفي خارجها. فقد ظهر لك بهذا (¬3) التقرير أن لبس النجس في الصلاة فيه تأثير النوع في النوع. ونقول في الحرير: إن لبس الحرير نوع من الوصف؛ لأن لبس الثوب أعم من الحرير وغيره، فصار لبس الحرير إذًا أخص من ذلك. ثم تحريم لباسه أعم من كونه في الصلاة أو [في] (¬4) غيرها. فقد ظهر لك بهذا [التقرير] (¬5) أن لبس (¬6) الحرير فيه تأثير النوع في الجنس، فلبس الحرير وصف مناسب لتحريمه مطلقًا في الصلاة وفي غيرها، ولبس النجس وصف مناسب لتحريمه في الصلاة خاصة، فيقدم النجس في الترك (¬7) ويصلى بالحرير؛ لأن مفسدة النجس خاص بالصلاة ومفسدة الحرير عامة للصلاة وغيرها؛ إذ لا تعلق لها (¬8) بخصوص الصلاة، فإن النهي الخاص يقدم ¬
على النهي العام. هذا هو توجيه القول المشهور بتقديم الحرير في الفعل على النجس، وهو قول ابن القاسم. وقال أصبغ: يصلي بالنجس، ووجهه أن النجس يجوز لباسه في غير الصلاة، فهو أخف من هذا الوجه من الحرير؛ لأن الحرير لا يجوز لباسه في الصلاة (¬1) ولا في غيرها. قال ابن الحاجب في الفروع: ويستتر العريان بالنجس وبالحرير، على المشهور، ونص ابن القاسم وأشهب في الحرير: يصلي عريانًا، فإن اجتمعا، فالمشهور ابن (¬2) القاسم (¬3) بالحرير، وأصبغ بالنجس، وخرج في الجميع قولان (¬4)، والمذهب: يعيد في الوقت، ولو صلى بالحرير مختارًا عصى، وثالثها: تصح إن كان (¬5) ساتر (¬6) غيره. انتهى (¬7) (¬8). قوله: (وتأثير النوع/ 307/ في الجنس مقدم على ثأثير الجنس في النوع). ش: اعترض كلام المؤلف ها هنا بكلامه في الباب الثامن عشر في ¬
التعارض والترجيح في الفصل الخامس منه، لأنه قال فيه: والمناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم مقدم على ما اعتبر جنسه في نوعه، ونوعه في جنسه؛ وجنسه في جنسه، لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به (¬1)، والثاني والثالث متعارضان (¬2). فقوله: [و] (¬3) الثاني والثالث متعارضان، يعني [أن] (¬4) القسمين (¬5) وهما: الجنس في النوع، والنوع في الجنس، متعارضان متساويان، لا مزية (¬6) لأحدهما على الآخر، فيجب التوقف لعدم الترجيح؛ إذ ليس تقديم خصوص أحدهما على خصوص الآخر (¬7) بأولى من العكس، لوجود الخصوص من وجه في كل واحد من النوعين، وذلك مناقض لما قال ها هنا؛ لأن كلامه ها هنا يقتضي تقديم أحد النوعين على الآخر، وكلامه في باب التعارض والترجيح يقتضي تساويها لتعارضهما، فلا يقدم (¬8) واحد منهما على الآخر (¬9). ¬
والمنقول (¬1) عن الأصوليين في هذين النوعين هو التعارض والتساوي، كما قال المؤلف في باب التعارض والترجيح (¬2). ووجه التعارض [ظاهر] (¬3)، وهو كون [كل] (¬4) واحد من النوعين فيه خصوص من وجه واحد؛ إذ في أحد النوعين خصوص الوصف، وفي الآخر خصوص الحكم، فليس تقديم [خصوص] (¬5) أحد النوعين على خصوص الآخر بأولى من العكس. ووجه (¬6) ما قال المؤلف ها هنا في باب القياس: أن الوصف أصل للحكم؛ لأن الحكم إنما جيء (¬7) به لأجل الوصف، والحكم فرع له، وإذا تعارض الأصل مع الفرع قدم الأصل، فخصوص الأصل أولى بالاعتبار (¬8) ¬
[من] (¬1) خصوص الفرع (¬2)، والله أعلم. قوله: (فتأثير النوع [في النوع] (¬3) مقدم على تأثير النوع في الجنس)، إلى آخر [هـ] (¬4). مثال تقديم النوع في النوع على النوع في الجنس: اختلافهم في نية الوضوء. قال مالك: عبادة بدنية، فتفتقر إلى نية أصله الصلاة (¬5). قوله: عبادة بدنية، نوع الوصف. قوله: فتفتقر إلى نية، نوع الحكم. وقال الآخر (¬6): طهارة مائية، فلا تفتقر [إلى نية] (¬7)، أصله زوال النجاسة. قوله (¬8): طهارة مائية، نوع الوصف. ¬
وقوله: فلا تفتقر إلى نية، جنس الحكم. هذا مثال قوله: فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس. ومثال تقديم النوع في الجنس على الجنس في النوع، اختلافهم فيمن دفع الصائل (¬1) من البهائم عن نفسه، هل يضمن أم لا؟ قال مالك رحمه الله: هذا دفع الصائل عن النفس، فلا يضمن، أصله الصائل الآدمي (¬2). قوله: دفع الصائل عن النفس، نوع الوصف. وقوله: لا يضمن، جنس الحكم. وقال الآخر: هذا إتلاف مال الغير فيضمن، أصله أكل مال الغير في زمان المسغبة. قوله: إتلاف مال الغير، جنس الوصف. وقوله: يضمن، نوع الحكم. هذا مثال قوله: وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع. ومثال تقديم الجنس في النوع على الجنس في الجنس، اختلافهم في ¬
السلس والدود والحصى، هل يوجب الوضوء أم لا؟ قال الشافعي: هذا حدث فيجب منه الوضوء، أصله الصحيح (¬1). قوله: حدث، جنس الوصف. وقوله: يجب منه الوضوء، نوع الحكم. ويقول المالكي: هذا مكلف يشق عليه الفعل فيسقط عنه الحكم، أصله لزوم المذي في الصلاة. قوله: (مكلف يشق عليه الفعل، جنس الوصف). وقوله: (يسقط (¬2) عنه [الحكم] (¬3)، جنس الحكم). هذا مثال (¬4) قوله: وهو (¬5) مقدم على تأثير الجنس في الجنس. والضمير في قوله: وهو [مقدم على تأثير الجنس في الجنس] (¬6)، عائد على تأثير الجنس في النوع، تقديره: وتأثير الجنس في النوع مقدم على تأثير الجنس في الجنس، وسيأتي زيادة بيان لهذا (¬7) في الفصل الخامس في ترجيح ¬
طرق العلل (¬1)، في الباب الثامن عشر [في التعارض والترجيح] (¬2) (¬3). قوله: (والملغى (¬4)، نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر). ش: هذا [هو] (¬5) القسم الثاني من أقسام الوصف المناسب، وهو [المناسب] (¬6) الملغى (¬7)، وهذا راجع إلى قوله: وهو ينقسم أيضًا إلى ما اعتبره الشرع، وإلى ما ألغاه، وإلى ما جهل حاله، فلما فرغ المؤلف من بيان المناسب المعتبر، شرع هنا في بيان المناسب الملغى. مثاله: المنع من زراعة العنب خشية الخمر. وكذلك مجاورة الرجال مع النساء [الأجنبيات في الدار الواحدة. فإن المناسبة تقتضي ألا يزرع العنب سدًا لذريعة الخمر. والمناسبة تقتضي ألا يسكن الرجال مع النساء] (¬8) في الدار الواحدة سدًا لذريعة الزنا. ¬
ولكن [أجمع] (¬1) المسلمون على جواز زراعة العنب، وعلى جواز سكنى الرجال مع النساء في الدار الواحدة. فقد أجمعوا (¬2) على إلغاء المناسب (¬3) ها هنا (¬4). قوله: (والذي جهل أمره، هو المصلحة المرسلة، التي نحن نقول [بها] (¬5)، وعند التحقيق هي (¬6) عامة في المذاهب) (¬7). ش: هذا (¬8) القسم الثالث من أقسام المناسب الثلاثة، وهو المعبر (¬9) عنه بالمصلحة المرسلة (¬10)، وإنما سمي هذا بالمصلحة المرسلة لأن الشرع أهملها، لم يشهد لها باعتبارها ولا بإلغائها، بل سكت عنها جملة. [وهي] (¬11) مأخوذة (¬12) من الإرسال الذي هو الإهمال. ¬
ومعنى المصلحة المرسلة، [أي] (¬1) المناسبة المهملة. وقال بها مالك رضي الله عنه، وأنكرها جمهور العلماء (¬2). وسبب الخلاف تعارض أصلين (¬3)، أحدهما: أن الأصل ألا يعتبر إلا ما اعتبره الشرع، والثاني: أن الأصل اعتبار المصلحة في الجملة (¬4). فمن نظر إلى الأصل الأول، / 308/ قال: لا تعتبر المصلحة المرسلة؛ لأن الشرع لم يعتبرها. ومن نظر إلى الأصل الثاني، قال باعتبار المصلحة المرسلة؛ لأن الشرع اعتبر المصلحة من حيث الجملة (¬5). ¬
قال المؤلف في شرحه: والمنقول عن العلماء أن المصلحة المرسلة خاصة بمذهبنا، وليس الأمر كذلك، بل هي عامة (¬1) للمذاهب، فإنا إذا وجدناهم قاسوا أو جمعوا [أو] (¬2) فرقوا، فلا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة التي نقول بها، فهي إذًا عامة للمذاهب، فإن المصلحة المرسلة، أخص من مطلق المصلحة، لأن المرسلة مصلحة بقيد السكوت عنها، والمصلحة المطلقة (¬3) أعم، لأنها تكون معتبرة وملغاة ومرسلة (¬4) (¬5)، فكل مرسلة مصلحة، وليس كل مصلحة مرسلة (¬6). ويدل على اعتبار المصلحة المرسلة: قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"، وفي رواية: "من الفجار (¬7) " (¬8) أي من .......................................... ¬
أعمال (¬1) الفجار على حذف المضاف في هذه الرواية، وكان عمر بن عبد العزيز يحلف الناس بلا خلطة (¬2) (¬3)، فقيل له في ذلك فقال: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". وقال ابن أبي زيد في النوادر: كان سحنون يقبل الوكيل من الطالب ولا يقبله من المطلوب، فقيل له: لم فعلت ذلك [مع] (¬4) أن مالكًا (¬5) يقبل الوكيل من الطالب والمطلوب؟ فقال: قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. ¬
وقد قيل لابن وضاح (¬1): كان عاصم (¬2) يحلف الناس بالطلاق، فقال: أخذ ذلك من قول عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور (¬3). ولأجل هذا قال التونسي: يجوز التحليف في المصحف إذا علم الارتداع به (¬4). ¬
قال المؤلف في شرحه (¬1): والدليل على العمل بالمصلحة المرسلة: أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أمورًا بمطلق [المصلحة] (¬2)، نحو: كتابة القرآن في المصحف، كما فعله عثمان رضي الله عنه (¬3)، وكالعهد بالولاية، كما فعله أَبو بكر (¬4) رضي الله عنه (¬5) (¬6)، وكاتخاذ (¬7) السكة للمسلمين (¬8)، واتخاذ ¬
السجن (¬1)، كما فعله عمر رضي الله عنه، وكهدم الأوقاف لتوسعة المسجد، كما فعله عثمان بمسجد النبي عليه السلام (¬2)، وكجعل أذان الجمعة في السوق (¬3) ثم ¬
نقله هشام (¬1) إلى المسجد، وغير ذلك. قوله: (الرابع الشبه، قال القاضي أَبو بكر: هو (¬2) الوصف الذي لا يناسب [بذاته (¬3) ويستلزم المناسب] (¬4) لذاته، وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب. والشبه يقع في الحكم، كشبه (¬5) العبد المقتول بالحر، [أ] (¬6) وشبهه بسائر المملوكات، وعند ابن علية (¬7) يقع الشبه في الصورة، كرد الجلسة الثانية إِلى (¬8) ¬
الأولى في الحكم، وعند الإِمام التسوية، بين الأمرين إِذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم (¬1))، و [هو] (¬2) ليس بحجة عند القاضي منا). ش: تكلم المؤلف ها هنا على الوصف الرابع من الأوصاف الثمانية الدالة على العلة وهو الشبه (¬3). ذكر المؤلف حقيقته وأقسامه وحكمه. أما حقيقته: فهو (¬4) الوصف الذي لا يناسب بذاته ويستلزم المناسب لذاته، كما قاله القاضي أَبو بكر (¬5). ¬
مثال ذلك: قولنا: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه في العادة، وما لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال به النجاسة، قياسًا على الدهن. فقولنا: لا تبنى القنطرة على جنسه، ليس بمناسب (¬1)، ولكن (¬2) مستلزم للمناسب، وهو القلة، وذلك أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل، وإنما تبنى على المائع الكثير كالأنهار، فالقلة (¬3) مناسبة لعدم مشروعية الطهارة بالمائع المتصف بالقلة، فإن الطهارة شرع عام، [وما هو شرع عام] (¬4) يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، فإن تكليف الجميع بما لا يجده [إلا] (¬5) البعض بعيد عن القواعد (¬6). ¬
قوله: (وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب). أي: وقد اعتبر الشرع أن قلة الماء يؤثر في عدم استعماله في الطهارة، إذا ألجأت الحاجة إلى الماء في السفر مثلاً، فإنه يرجع إلى التيمم، فكذلك تؤثر القلة في عدم استعمال الخل في الطهارة، فكما أن الماء القليل لا يستعمل في الطهارة إذا احتيج إليه، كذلك الخل لا يستعمل في الطهارة، والجامع بينهما القلة. قوله: (جنسه القريب)، أي جنس الوصف القريب من صورة النزاع (¬1)؛ لأن قلة الماء وصف قريب من الخل لاشتراكه مع الخل في القلة. قوله: (لتأثير (¬2) جنسه القريب في جنس الحكم القريب)، فقد اعتبر الشرع في مثالنا [تأثير] (¬3) قلة الماء في عدم استعمال الماء للطهارة، فجنس الحكم ها هنا هو عدم الاستعمال للطهارة. ¬
قوله: (والشبه يقع في الحكم)، هذا (¬1) بيان أقسام الشبه، وهو [على] (¬2) قسمين: شبه في الصورة، وشبه في الحكم (¬3). مثال الشبهين معًا (¬4): العبد المقتول لأنه شبيه (¬5) بالحر في كونه آدميًا، وشبيه بسائر المملوكات في كونه مملوكًا. ففيه إذًا شبهان، فمن غلب عليه الشبه الصوري، وهو كونه آدميًا أوجب فيه القيمة ما لم تزد (¬6) على دية الحر، وهو أبو حنيفة، بل قال أَبو حنيفة: لا بد أن ينقص دينار من دية الحر إذا بلغتها قيمة (¬7) العبد (¬8). ومن غلب عليه الشبه الحكمي، وهو الشبه الشرعي، وهو كونه مملوكًا، أوجب فيه القيمة بالغة ما بلغت، وهو مالك والشافعي (¬9). ¬
قوله: (والشبه يقع في الحكم)، أي وفي الصورة. قوله: (كشبه العبد المقتول بالحر)، هذا عند أبي (¬1) حنيفة، لأنه قال: العبد/ 309/ آدمي، فالواجب في قتله القيمة ما لم تزد على دية الحر، قياسًا على الحر. قوله: (أو شبهه بسائر المملوكات)، هذا (¬2) عند مالك والشافعي، لأنهما قالا: العبد مملوك (¬3)، فالواجب في قتله القيمة ولو زادت على الدية، قياسًا على سائر المملوكات. قوله: (وعند ابن علية يقع الشبه في الصورة، كرد الجلسة الثانية إِلى الأولى في الحكم (¬4)) , [أي] (¬5) قال ابن علية: تقاس الجلسة الثانية على الجلسة الأولى فتكونان سنتين لمشابهتهما (¬6) في الصورة. قوله: (وعند الإِمام للتسوية [بين] (¬7) الأمرين (¬8) إِذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم (¬9)، وهو ليس بحجة عند القاضي منا) (¬10). ¬
هذا بيان حكم الشبه، وذلك أن العلماء اختلفوا في قياس الشبه، هل هو حجة أم [لا]؟ (¬1). على ثلاثة أقوال؛ قيل: حجة، وقيل: ليس بحجة، وقيل: قياس الحكم حجة دون قياس الصورة (¬2). والمراد بالأمرين في قوله: التسوية بين الأمرين: الشبهان (¬3)؛ الصوري والحكمي (¬4) إذا غلب على الظن أن [الشبه] (¬5) مستلزم للحكم، أي إذا غلب على الظن أن الشبه علة الحكم أو مستلزم لعلة الحكم، فإنه يجب كونه علة، سواء كان صورة، أو حكمًا، أو غير ذلك، عملاً بموجب الظن. حجة القول بأنه حجة: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬6)، والشبه نوع من الاعتبار، فوجب (¬7) اندراجه في دليل الاعتبار. ¬
وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله متولي السرائر"، والشبه ظاهر لأنه يفيد الظن، فوجب (¬1) اندراجه في دليل الظاهر. وقول معاذ: أجتهد رأيي (¬2)، والشبه من الاجتهاد، فوجب (1) اندراجه في دليل الاجتهاد. حجة القول بأنه ليس بحجة، كما قال القاضي: أن الأصل ألا يعمل بالظن (¬3) لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬4)، خالفناه في قياس المناسبة، فيبقى قياس الشبه (¬5) على مقتضى الدليل (¬6). حجة القول بأن قياس الشبه الشرعي حجة دون الصوري (¬7): أن الشرعي (¬8) أولى من غيره بالاعتبار. وهذا الخلاف كله [إنما هو] (¬9) فيما إذا عدم قياس العلة (¬10)، وكذلك ¬
إذ [ا] (¬1) كان الفرع تجاذباه (¬2) أصلان، وكان الفرع أقوى شبهًا بأحدهما، فإن الأقوى شبهًا يقدم على الآخر باتفاق، عملاً بالراجح. وإنما محل النزاع ما عدا هاتين الصورتين (¬3) (¬4). قوله: ([الخامس] (¬5): الدوران، وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف، وعدمه مع عدمه، وفيه خلاف. والأكثرون (¬6) من أصحابنا وغيرهم يقولون بكونه حجة). ش: هذا هو الوصف الخامس من الثمانية الدالة على العلة، وهو المعبر (¬7) عنه بالدوران، ويعبر عنه أيضًا بالطرد والعكس (¬8)، وبالاطراد (¬9) ¬
والانعكاس (¬1) (¬2). ومعناه: اقتران الوجود بالوجود، والعدم بالعدم، أي إذا وجد الوصف وجد الحكم، وإذا عدم عدم (¬3). مثاله: الإسكار مع التحريم، فإن التحريم يدور مع الإسكار وجودًا وعدمًا، إذا وجد الإسكار وجد التحريم، وإذا عدم الإسكار عدم التحريم. فإن عصير العنب قبل الشدة [ليس بمسكر، فليس بحرام، فقد اقترن العدم بالعدم، وإذا صار مسكرًا صار حرامًا، فقد اقترن الوجود بالوجود، وإذا تخلل صار] (¬4) ليس مسكرًا ولا حرامًا، فقد دار التحريم مع الإسكار وجودًا وعدمًا (¬5). إلا أن الفقهاء ذكروا في الخمر إذا تخلل التفصيل بين أن يكون ذلك بغير معالجة فهو حلال باتفاق، وإن كان ذلك بمعالجة [ففيه] (¬6) قولان (¬7): قيل: ¬
حرام، وقيل: حلال (¬1). سببهما: انقلاب الأعيان، هل له تأثير في الأحكام أم لا؟ (¬2) (¬3). قوله: (اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف، وعدمه مع عدمه)، قد يكون ذلك في صورة واحدة كما تقدم في عصير العنب، وقد يكون ذلك في صورتين (¬4). مثاله: أن ندعي وجوب الزكاة في الحلي المتخذ للاستعمال المباح (¬5)، ¬
فنقول: الموجب (¬1) لوجود (¬2) الزكاة في النقدين كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونهما أحد الحجرين وجودًا وعدمًا. أما وجودًا: ففي صورة المسكوك، فإنه أحد الحجرين، فالزكاة واجبة فيه. وأما عدمًا: ففي صورة العقار، فإنه ليس أحد الحجرين، فلا تجب الزكاة فيه، إلا أنه في الصورة الواحدة أرجح منه في الصورتين؛ لأن انتفاء الحكم بعد ثبوته [في] (¬3) الصورة (¬4) الواحدة يقتضي أنه ليس معه ما يقتضيه في تلك الصورة وإلا لثبت فيها، وأما انتفاء الحكم من صورة أخرى فيمكن أن يقال: موجب الحكم في صورة الثبوت غير الوصف المدعى علة (¬5)، وإن الوصف المدعى علة (¬6) لو فرض انتفاؤه لثبت الحكم بوصف آخر، فلم يتعين ها هنا عدم اعتبار [غير] (¬7) هـ، بخلاف الصورة الواحدة (¬8). قوله: (وفيه خلاف (¬9) والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقولون بكونه حجة). واختلف الأصوليون في الدوران على أربعة أقوال: ¬
قيل: يفيد العلة قطعًا (¬1)، وقيل: يفيدها ظنًا (¬2). وقيل: إن تكرر كثيرًا أفادها قطعًا، وإلا أفادها ظنًا (¬3). والقول الرابع: لا يفيدها مطلقًا؛ لا قطعًا ولا ظنًا (¬4). حجة الأكثرين القائلين بأن الدوران حجة: أن اقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم يغلب على الظن أن المدار علة (¬5) للدائر، بل يحصل القطع بذلك في بعض الصور. وذلك أن من ناديناه باسم فغضب، ثم سكتنا عنه فزال غضبه، ثم ناديناه بذلك الاسم فغضب، ثم سكتنا عنه فزال غضبه، ثم ناديناه [به] (¬6) فغضب، ثم كذلك مرارًا كثيرة (¬7)، حصل لنا الظن الغالب، [أو] (¬8) القطع الجازم أن علة غضبه هو (¬9) نداؤه بذلك الاسم (¬10)، ولذلك جزم الأطباء/ 310/ بكثير من ¬
الأدوية المسهلة والقابضة، والمبردات (¬1) والمسخنات، وغيرها، بسبب وجود تلك [الآثار عند وجود تلك] (¬2) العقاقير (¬3)، وعدمها [عند عدمها] (¬4). فالدوران أصل كبير من أصول الدنيا والآخرة، [فإذا وجدناه بين الوصف] (¬5) والحكم، جزمنا بعلة الوصف للحكم (¬6). قال إمام الحرمين في البرهان: الدوران أقوى ما تثبت به العلة (¬7). حجة القول بأن الدوران ليس بحجة: أن بعض الدورانات (¬8) ليس بحجة، فوجب أن يكون الجميع ليس بحجة، وذلك كالجوهر مع العرض، وكحركات الأفلاك مع الكواكب، فإن كل واحد منهما يدور مع الآخر وليس أحدهما علة للآخر، فوجب أن يكون الجميع ليس بحجة إلا ما وقع الاتفاق عليه. أجيب عنه: بأن القول بكون الدوران حجة، مشروط بألا يجزم بعدم عليته (¬9) والموصوف بهذه الصفة لم يوجد في صورة النقض، فلا يرد النقض (¬10). ¬
[قوله] (¬1): (السادس: السبر والتقسيم، وهو أن تقول (¬2): إِما أن يكون الحكم معللاً بكذا أو بكذا [أو بكذا] (¬3)، والكل (¬4) باطل إِلا كذا فيتعين). ش: هذا هو الوصف السادس من الثمانية الدالة على العلة، وهو السبر والتقسيم (¬5). والسبر في اللغة معناه: الاختبار، ومنه المسبار لما يختبر به الجرح طولاً وعرضًا، ومنه قول العرب: هذه القضية يسبر بها غور العقل (¬6). قال المؤلف: والأولى أن يقال (¬7): التقسيم والسبر، بتقديم التقسيم على السبر، لأنا نقسم أولاً، ثم نسبر تلك الأقسام ثانيًا (¬8)، ولكن إنما قدموا (¬9) ¬
السبر في اللفظ على التقسيم؛ لأن السبر هو القصد (¬1)، والتقسيم وسيلة إلى السبر، فالمقصد (¬2) أهم من الوسيلة، فإن شأن العرب [تقديم] (¬3) الأهم والأفضل (¬4). وهذا الوصف الذي هو السبر والتقسيم (¬5)، حجة [عند الأكثرين] (¬6). والدليل على (¬7) كونه حجة أصلان: أحدهما: أن الأصل في الأحكام التعليل، فمهما أمكن أن يكون الحكم معللاً فلا يجعل تعبدًا (¬8). والأصل الثاني: أنه مهما أمكن إضافة الحكم إلى المناسب فلا يضاف إلى غيره، ولم نجد ها هنا مناسبًا (¬9) إلا ما بقي بعد السبر، فوجب كونه علة عملاً بهذين الأصلين (¬10). حجة القول بأنه ليس بحجة: أن إبطال ما بطل من المعاني لا يلزم (¬11) منه ¬
صحة (¬1) ما بقي، لاحتمال بطلانه في نفسه، أو تكون للحكم علة أخرى (¬2). مثال ذلك: سارق الكفن [من القبر] (¬3)، قال مالك: يقطع (¬4)، وقال أَبو حنيفة: [لا يقطع] (¬5) (¬6). فيقول المالكي: سقوط القطع لا يخلو إما لعدم الملك، وإما لعدم الحرز، وإما لعدم الخصومة، فلا يصح أن يقال: لعدم الملك؛ لأن الملك ثابت إما للميت وإما للورثة، ولا يصح أن يقال: لعدم الحرز؛ لأن حقيقة الحرز ما لا يعد الواضع فيه [في العرف] (¬7) مضيعًا للمال، فإن من كفن ميتًا ودفنه وسد قبره فلا ينسب إلى ضياعه في العرف، فإن القبر حرز للميت ولكفنه، ولا يصح أن يقال لعدم الخصومة فيه؛ لأن الخصومة فيه ثابتة إما للورثة وإما للإمام، فإذا انتفت أسباب السقوط تعين القطع. قوله: (السابع: الطرد، وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر (¬8) صور الوصف، وليس (¬9) مناسبًا ولا مستلزمًا (¬10) للمناسب، وفيه خلاف). ش: [هذا] (¬11) هو الوصف السابع من الثمانية الدالة على العلة، وهو ¬
الطرد (¬1). ومعناه: اقتران الحكم بجميع صور الوصف، وهو اقتران الوجود بالوجود، وليس مناسبًا ولا مستلزمًا للمناسب؛ لأنه لو كان مناسبًا لكان هو المناسب المتقدم، ولو كان مستلزمًا [للمناسب] (¬2) لكان هو الشبه المتقدم، ونحن إنما قصدنا [ها هنا] (¬3) إثبات طريق آخر (¬4) غير المناسب وغير الشبه، فاقتران الوجود بالوجود طريق مستقل في إثبات العلة (¬5)، وفيه قولان: قيل (¬6): يدل على العلة، وإليه ذهب القاضي ابن القصار (¬7) وجماعة (¬8). ¬
وقيل: لا يدل على العلة، وإليه ذهب [القاضي] (¬1) أَبو بكر (¬2)، وأبو إسحاق الشيرازي (¬3) (¬4)، وأبو حامد الغزالي (¬5)، وغيرهم (¬6). مثال ذلك: كما (¬7) لو قلنا [علة] (¬8) وجوب الزكاة في الحلي من أحد النقدين كونه ذهبًا أو فضة، فإنه ليس بمناسب ولا هو مستلزم للمناسب الذي هو الغنى، فنقول بوجوب الزكاة في الحلي المباح إلحاقًا له بسائر الصور من المسكوك (¬9) والمثبور (¬10)، .............................................. ¬
والغلة (¬1)، والصحاح (¬2)، وغيرها. حجة القول بأنه حجة ودليل، وجهان: أحدهما: أن الأصل في الأحكام التعليل، وليس ها هنا غير هذا الوصف، فوجب كونه علة عملاً بهذا الأصل، نفيًا للتعبد بحسب الإمكان. والوجه الثاني: [أن] (¬3) اقتران الحكم بجميع الصور مع انتفاء ما يصلح (¬4) للتعليل غير هذا المقترن يغلب على الظن علية ذلك المقترن، والعمل بالراجح متعين (¬5). حجة القول بأنه ليس بحجة، أربعة أوجه (¬6): أحدها: أن الأصل في الشرائع اعتبار المصالح والمفاسد، فما لم يعلم (¬7) فيه تحصيل مصلحة ولا درء مفسدة، وجب ألا يعتبر (¬8). الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم إنما نقل عنهم العمل بالمناسب، وأما غير المناسب فلا، فوجب بقاؤه على الأصل في عدم الاعتبار (¬9). ¬
الوجه الثالث: أن العلل الشرعية أمارات (¬1) نصبها الشرع على الأحكام، فلا تثبت إلا بدلالة (¬2) السمع، فلا بد من إقامة الدليل على اعتبارها. الوجه الرابع: أن الطرد راجع إلى السلامة من النقص، ولا يلزم [من] (¬3) انتفاء مفسدة خاصة انتفاء جميع المفسدات، وعلى تقدير انتفاء جميع المفسدات فلا يلزم ثبوت الصحة. قوله: (الثامن: تنقيح المناط، وهو إِلغاء الفارق، فيشتركان في الحكم). ش: هذا هو الوصف الثامن الباقي من الثمانية الدالة على العلة، وهو المعبر عنه بتنقيح المناط (¬4). تقدم لنا الخلاف في معنى تنقيح المناط (¬5)، هل هو إلغاء الفارق؟ قاله الغزالي، أو تعيين (¬6) العلة من أوصاف مذكورة، قاله غيره. ومعنى قوله: فيشتركان في الحكم، أي يشترك الأصل والفرع في الحكم لعدم الفارق بينهما. ¬
والدليل على أن تنقيح المناط حجة على تفسيره بإلغاء الفارق (¬1): أن الأصل [في] (¬2) كل مثلين/ 311/ أن يكون (¬3) حكمهما واحد [اً] (¬4)، فإذا استوت صورتان ولم يوجد (¬5) بينهما فارق، [فإن] (¬6) الظن القوي (¬7) القريب من القطع يقتضي أنهما متساويتان (¬8) في الحكم (¬9). مثال ذلك: قياس العبد على الأمة في تشطير الحد الوارد في الأمة [في] (¬10) قوله (¬11) تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬12)؛ إذ لا فارق يصلح للتعليل بين العبد والأمة. وكذلك قياس الأمة على العبد في التقويم على معتق الشقص؛ لأن النص وارد بلفظ العبد، لقوله عليه السلام: "من أعتق شركًا له في عبد قوم ¬
عليه نصيب شريكه". وكذلك قياس بيع الصفة على بيع الرؤية؛ إذ لا فارق بينهما يصلح للتعليل. ***
الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة
الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة ش: هذا الفصل نقيض الفصل الذي قبله. قوله: (وهو خمسة). [ش] (¬1) جملتها: النقض، وعدم التأثير [والقلب] (¬2)، والقول بالموجب (¬3)، والفرق (¬4)، وهي كلها ظنية. ¬
والقادح في العلة أعم من كونه (¬1) ظنيًا أو قطعيًا، فالقطع مخالفته للنص أو الإجماع (¬2)، قال القاضي: وكذلك إذا لم يقم دليل (¬3) على نصبها فإنه يقطع بفسادها (¬4). وكذلك إثباتها بطريق العقل دون اعتبار مور [د] (¬5) الشرع، كما يفعله المعتزلة فيما يحل ويحرم عقلاً، فيلحقون الفروع (¬6) بالأصول على (¬7) قطعية (¬8) العقل (¬9). قوله: (الأول (¬10): النقض، وهو وجود الوصف بدون الحكم) (¬11). ¬
[ش] (¬1): قوله: (وجود الوصف بدون الحكم)، يعني في صورة أخرى. مثاله: تعليل وجوب الزكاة بالغنى، فإنه ينتقض بالعقار، فإن فيه الغنى مع عدم الزكاة، فقد وجدنا العلة بدون الحكم. وكما يرد النقض على العلة، فكذلك (¬2) يرد على الأدلة والحدود، فإن وجود الدليل بدون المدلول، ووجود الحد بدون المحدود، [نقض عليه (¬3). ولا خلاف في أنه قادح في الحد، واختلف في قدحه في العلة والدليل. فقيل: يقدح في العلل والأدلة كما يقدح في الحد (¬4)،] (¬5) وقيل: لا يقدح. قوله (¬6): (وفيه أربعة مذاهب. ثالثها: إن وجد المانع في صورة النقض فلا يقدح، وإِلا قدح. ورابعها: إِن نص عليها لم يقدح، وإِلا قدح). ش: قيل: يقدح مطلقًا، [وقيل: لا يقدح مطلقًا] (¬7) وقيل: يقدح إلا أن يوجد المانع في النقض، وقيل: يقدح إلا أن تكون العلة منصوصة (¬8). ¬
ومعنى كون النقض قادحًا، أي يكون دليلاً على [عدم] (¬1) اعتبار العلة. ومعنى كونه لا يقدح، أي لا يكون دليلاً على عدم اعتبار العلة. مثال هذه الأقوال الأربعة: [أن] (¬2) الأمير مثلاً إذا كان يعطي صدقة لكل فقير في كل يوم، وفيهم رجل (¬3) لا يعطي له في بعض الأيام، فترك العطاء لهذا الرجل، نقض دال على [أن] (¬4) الفقر ليس بعلة للعطاء (¬5) فيقدح فيه، وقيل: لا يقدح فيه. والقول الثالث: إن وجد المانع من العطاء (¬6) كقلة الأدب مع الأمير، أو كون ذلك الرجل مبتدعًا، فلا يقدح [النقض، وإن لم يوجد مانع فيقدح. والقول الرابع: إن نص الأمير على علة الإعطاء، كقوله: إنما أعطي لهم لأجل فقرهم، فلا يقدح] (¬7) النقض في عدم تأثير الفقر، وإن لم ينص على ¬
ذلك [قدح] (¬1). حجة القول بأن النقض (¬2) يقدح في العلة مطلقًا، أي يمنع من اعتبار العلة: أن الوصف إما أن يكون علة أو مستلزمًا لها، أو لا يكون علة ولا مستلزمًا لها، فلو كان علة أو مستلزمًا لها لثبت الحكم معه في جميع صوره، وإن لم يكن الوصف علة ولا مستلزمًا لها لكان الوصف وحده (¬3) ليس بعلة، حتى ينضاف (¬4) إليه غيره، والمقدر أنه علة، هذا خلف (¬5). حجة القول بأن النقض (¬6) لا يقدح، أي لا يمنع من اعتبار العلة مطلقًا وجهان: أحدهما (¬7): أن الموجب (¬8) لعلية الوصف هو (¬9) المناسبة، والمناسبة تقتضي أن يثبت الحكم معها حيثما وجدت، [وقد وجدت] (¬10) فيما عدا صورة النقض، فوجب أن يثبت الحكم معها و [إن] (¬11) لم يوجد معها في صورة ¬
النقض (¬1). الوجه الثاني: أن العلة أمارة على الحكم، فجاز تخصيصها، بمنزلة العام، وتكون العلة كالعام المخصوص إذا خرجت منه بعض الصور، فإنه يبقى حجة فيما عدا صورة التخصيص، سواء علم موجب التخصيص أم لا. ولأجل هذا قال كثير من الأصوليين: النقض تخصيص للعلة (¬2). قال المؤلف: وهذا هو المذهب المشهور (¬3). حجة القول بالفرق بين وجود المانع من الحكم في صورة النقض وعدم المانع: أن الفرق إذا وجد في صورة النقض كان ذلك الفارق مانعًا من ثبوت الحكم مع العلة في صورة النقض، أما إذا لم يوجد فارق (¬4) كان عدم الحكم في صورة [النقض] (¬5) منافيًا لعدم علية الوصف [لا] (¬6) لقيام (¬7) المانع فلا يكون الوصف علة (¬8). حجة القول بالفرق بين التنصيص على العلة وعدم التنصيص: أن ¬
الوصف إذا نص على كونه علة تعين الانقياد لنص صاحب الشرع، وهو أعلم بالمصالح فلا عبرة بالنقض مع نص صاحب الشرع بل النص مقدم، أما إذا لم يوجد نص فإنه يتعين أن الوصف ليس بعلة، لأنه لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع صوره، وليس فليس (¬1). قوله: (وجواب النقض (¬2) إِما بمنع (¬3) وجود الوصف في صورة النقض أو بالتزام الحكم فيها). ش: لما كان النقض مركبًا من شيئين: أحدهما: وجود الوصف في صورة النقض، والثاني: عدم الحكم فيها، كان انتفاء أحدهما مانعًا من النقض؛ لأن الماهية المركبة من شيئين تنتفي بانتفاء أحدهما، فإذا عدم الوصف من صورة النقض، أو وجد الحكم فيها،/ 312/ لم يرد النقض (¬4). مثال عدم الوصف من صورة النقض: أن يختلف في الوقف هل يفتقر (¬5) إلى القبول أم لا؟ فنقول (¬6): الوقف عقد (¬7) ينقل [ا] (¬8) لملك، فوجب أن يفتقر إلى القبول ¬
قياسًا على البيع. فيقول المعترض (¬1): هذا منقوض بالعتق، لأنه عقد ينقل [ا] (¬2) لملك، مع أنه لا يفتقر إلى القبول باتفاق. فيقول المجيب: لا نسلم أن العتق نقل، بل هو إسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يفتقر إلى القبول، بخلاف النقل والتمليك. وسيأتي الفرق بين النقل والإسقاط في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى في قول المؤلف: الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان، وهي: إما نقل، أو إسقاط، أو قبض أو إقباض، إلى آخر كلامه هنالك (¬3). ومثال آخر لعدم الوصف من صورة النقض: أن يختلف في الوضوء، هل يفتقر إلى نية أم لا؟ فيقول المستدل: الوضوء طهارة من حدث، فيفتقر إلى نية، قياسًا على التيمم. فيقول المعترض: هذا ينتقض بإزالة النجاسة، لأنه وجد فيه الوصف، وهو الطهارة، مع أنه لا يفتقر إلى نية. ويقول المجيب: لا نسلم وجود الوصف في زوال النجاسة؛ لأن الوصف ¬
المعلل به في الوضوء هو (¬1) الطهارة من الحدث لا الطهارة المطلقة، فما به الاشتراك غير ما به الامتياز، لأن زوال النجاسة طهارة الخبث، والوضوء طهارة الحدث. ومثال وجود الحكم في صورة النقض: أن يختلف في وجوب الزكاة فيما توالد بين الغنم والظباء، وفي ذلك في مذهبنا ثلاثة أقوال، أشار إليها ابن الحاجب فقال في كتاب الزكاة: وفي المتولد منها ومن الوحش، ثالثها: إن كانت الأمهات من النعم (¬2)، وجبت (¬3). فيقول المستدل: هذا حيوان توالد بين حيوانين لا زكاة في أحدهما فلا تجب فيه الزكاة. فيقول المعترض: هذا ينتقض بما توالد بين السائمة والمعلوفة، لأنه حيوان توالد بين حيوانين لا تجب الزكاة في أحدهما، وهي المعلوفة. فيقول المجيب: لا نسلم أن المعلوفة لا تجب فيها (¬4) الزكاة بخلاف الظباء. قوله: (الثاني: عدم التأثير، وهو أن يكون الحكم موجودًا مع وصف، ثم يعدم ذلك الوصف ويبقى الحكم، فيقدح، بخلاف العكس، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى، فلا يقدح؛ لأن العلل الشرعية يخلف ¬
بعضها بعضا). ش: ذكر المؤلف ها هنا عدم التأثير (¬1)، ثم أدرج في (¬2) [هذا] (¬3) دالاً آخر، وهو المعبر عنه بالعكس (¬4). مثال عدم التأثير: تعليل تحريم الخمر بغليانه في دنه (¬5)، أو بلون خاص، ثم زال غليانه، [أ] (¬6) وتغير لونه المعلل به إلى لون آخر، مع كون تحريمه باقيًا، فهذا عدم التأثير، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة واحدة، فإن ذلك يدل على عدم تأثير ذلك الوصف لذلك التحريم؛ إذ لو كان ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لكان ذلك الحكم معدومًا عند عدم ذلك (¬7) الوصف. ¬
قوله: (بخلاف العكس)، هذا هو دال آخر، وهو في المعنى رابع، وإن جعله المؤلف ثالثًا في اللفظ (¬1)، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى، وهو عكس النقض الذي تقدم أولاً؛ لأن النقض معناه: وجود الوصف بدون الحكم في صورة أخرى. وأما العكس فمعناه: وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى. وأما عدم التأثير فمعناه: وجود الحكم بدون الوصف في صورة واحدة. مثال النقض: تعليل الزكاة بالغنى، ثم يعترض عليه بالعقار كما تقدم. ومثال عدم التأثير: تعليل الخمر بلون خاص، ثم يزول ذلك اللون ويبقى التحريم، كما تقدم [أيضًا] (¬2). ومثال العكس، وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى: تعليل الحد بالقذف؛ لأنه يعترض عليه بحد الزنا وحد الشرب، فهذا الاعتراض لا يرد؛ لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضًا. ومثال العكس أيضًا: تعليل وجوب الغسل بالإنزال، فيعترض عليه بوجوب الغسل من الإيلاج والحيض، فلا يرد هذا الاعتراض؛ لأن العلل ¬
الشرعية يخلف بعضها بعضًا. قال المؤلف في شرحه: قال سيف الدين الآمدي: يرد سؤال النقض ولا يرد سؤال العكس، إلا أن يتفق المتناظران (¬1) على اتحاد (¬2) العلة في النقض والعكس (¬3). قال المؤلف: وكثيرًا ما يغلط طلبة العلم في إيراد العكس، فإنهم يوردونه كما يوردون النقض، وهو غلط؛ لأن (¬4) العلل الشرعية يخلف بعضها بعضًا. فقد ظهر الفرق (¬5) بين النقض والعكس وعدم التأثير. انتهى نصه (¬6). فالنقض وعكسه (¬7) في صورتين، وعدم التأثير في صورة واحدة، [اعلم ذلك] (¬8). قوله: (الثالث: القلب، وهو إِثبات نقيض الحكم بعين العلة، كقولنا في ¬
الاعتكاف: لبث في مكان مخصوص، فلا يستقل بنفسه، [قياسًا على] (¬1) الوقوف (¬2) بعرفة، فيكون الصوم شرطًا فيه (¬3). فيقول السائل: لبث في مكان مخصوص، فلا يكون الصوم شرطًا [فيه] (¬4)، كالوقوف بعرفة. وهو إِما [أن] (¬5) يقصد به (¬6) إِثبات مذهب السائل، [أ] (¬7) وإِبطال مذهب المستدل (¬8)، فالأول كما سبق، والثاني كما يقول الحنفي: [مسح الرأس] (¬9) ركن من أركان الوضوء، فلا يكفي فيه أقل ما يمكن، ¬
أصله (¬1) الوجه (¬2). ويقول (¬3) الشافعي: ركن من أركان الوضوء، فلا يقدر بالربع، أصله (¬4) الوجه). ش: تكلم المؤلف ها هنا على الثالث من مبطلات العلة، وهو القلب (¬5) , أي قلب العلة إلى حكم آخر، فقسمه المؤلف إلى قسمين: أحدهما: يقصد به إثبات مذهب السائل. ¬
والآخر: يقصد به إبطال مذهب المستدل (¬1). فالأول: قياس الاعتكاف على الوقوف بعرفة، لأن فيه إثبات مذهب السائل، وهو القالب (¬2). والثاني: وهو ما يقصد به إبطال مذهب المستدل: أن الحنفي يقول: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما يسمى مسحًا، كما قاله الشافعي،/ 313/ قياسًا على الوجه. فقول الحنفي: لا يكفي (¬3) فيه أقل ما يسمى مسحًا، فيه إبطال مذهب المستدل، و [هو] (¬4) الشافعي، وليس فيه ما يثبت (¬5) مذهب الحنفي القائل بإيجاب مسح الربع؛ لأن قوله: لا يكفي (¬6) [فيه] (¬7) أقل ما يمكن، أعم من إيجاب الربع، كما قاله الحنفي، ومن إيجاب مسح الجميع، كما قاله مالك رحمه الله، والدال على الأعم غير دال على الأخص. وكذلك قول الشافعي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء فلا يقدر بالربع، أصله الوجه، فيه [أيضًا] (¬8) إبطال مذهب الحنفي القائل بإيجاب ¬
الربع، وليس فيه إثبات مذهب الشافعي القائل بأقل ما يسمى مسحًا، لأن قوله: لا يقدر بالربع أعم من إيجاب أقل المسح، كما قاله الشافعي، ومن إيجاب جميع (¬1) [الرأس] (¬2)، كما قاله مالك رضي الله عنهم (¬3) [جميعًا] (¬4)، والدال على الأعم غير دال على الأخص. والمراد بالسائل في كلام المؤلف هو القالب، وإنما جعل القلب مبطلاً للعلة؛ لأن القالب إذا أثبت (¬5) نقيض الحكم في صورة النزاع كان ذلك مبطلاً للعلة، وإلا للزم (¬6) اجتماع النقيضين في صورة النزاع (¬7). قوله: (الرابع: القول بالموجب (¬8)، وهو تسليم ما ادعاه المستدل موجب علته، مع بقاء الخلاف في صورة النزاع). [ش:] (¬9) تكلم المؤلف ها هنا على الرابع من مبطلات العلة، وهو القول بالموجب (¬10)، والموجب هو بفتح الجيم، وهو اسم مفعول، وهو ما توجبه ¬
العلة، أي الحكم الذي أوجبته العلة أو الدليل (¬1). وإنما جعل المؤلف القول بالموجب مبطلاً للعلة، باعتبار صورة النزاع خاصة، وإلا فالعلة صحيحة مسلمة، وحكمها صحيح مسلم أيضًا، وإنما بطلانها باعتبار صورة النزاع خاصة، وذلك أن المستدل بها أراد أن يثبت الشيء المتنازع فيه، فإذا هو قد أثبت غيره، بمنزلة الرامي إذا رمى فأخطأ الغرض، فإن ذلك لا يقدح، فكذلك ها هنا، الاستدلال صحيح، وإنما فسد من جهة كونه حاد (¬2) عن محل النزاع (¬3). مثال القول بالموجب: القاتل في الحرم، يقول المستدل: هذا شخص انصدر (¬4) منه القتال فوجب عليه القصاص، قياسًا على الحل. ¬
فيقول المعترض: سلمنا في وجوب القصاص عليه، لكن لا نسلم في الاقتصاص [منه في الحرم حتى يخرج إلى الحل (¬1). فالذي ادعاه المستدل من وجوب القصاص عليه مسلم فيه، وصورة النزاع باقية] (¬2). ومثاله أيضًا قول المستدل: المحرم لا يُغَسل ولا يُطَيب، لقوله عليه السلام في محرم وقصت (¬3) به ناقته: "لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم (¬4) القيامة ملبيًا" (¬5) (¬6). فيقول المعترض: ليس النزاع في ذلك المحرم الذي ورد فيه النص، وإنما ¬
النزاع في غيره؛ لأن ذلك النص ليس فيه عموم يتناول غيره، فلا يضرنا ذلك. ومثاله أيضًا: استدلال الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1)، فإن الأمر للوجوب (¬2). ويقول (¬3) مالك: سلمنا أنها واجبة في إتمامها، وإنما النزاع في إنشائها، ودليل مالك على عدم وجوبها: قوله عليه السلام: "بني الإسلام على خمس" (¬4) فذكر الحج ولم يذكر العمرة. [و] (¬5) مثاله أيضًا: قول القائل: تجب الزكاة في الخيل؛ لأنه حيوان يسابق عليه، فتجب الزكاة فيه كالإبل. فيقول المعترض: أقول بموجب هذه العلة، ولكن تجب الزكاة فيها إذا كانت للتجارة، وإنما محل النزاع هل تجب الزكاة في رقابها من حيث هي ¬
خيل (¬1)؟ (¬2). قوله: (الخامس: الفرق، وهو إِبداء معنى مناسب للحكم في إِحدى (¬3) الصورتين مفقود في الأخرى (¬4)، وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين، لاحتمال أن يكون الفارق إِحداهما، فلا يلزم من عدمه عدم الحكم لاستقلال الحكم بإِحدى العلتين). ش: هذا هو الخامس من مبطلات العلة، وهو الفرق بين الأصل والفرع (¬5). قوله: (مناسب للحكم)، يريد الحكم المدعى، احترازًا من غير المناسب ¬
أصلاً، ومن المناسب لغير الحكم المدعى (¬1)، فهذا المعنى الذي يقع به الفرق إذًا ثلاثة أقسام: أحدها: غير مناسب. والثاني: مناسب للحكم المدعى. والثالث: مناسب لغير الحكم المدعى (¬2). مثال الفرق بالمعنى الذي هو غير مناسب أصلاً: قياس الأرز على البر في منع التفاضل بجامع الطعم أو القوت. ثم يقول المعترض: الفرق بينهما أن الأرز أشد بياضًا وأيسر تقشيرًا من سنبله من البر، فهذا الفرق لا عبرة به لعدم المناسبة فيه. ومثال الفرق بالمعنى المناسب للحكم المدعى: قياس الهبة على البيع في منع الغرر، فإن المستدل يقول: عقد ينقل الملك فلا يجوز فيه الغرر قياسًا على البيع (¬3). فيقول المعترض: الفرق بينهما أن البيع عقد معاوضة والمعاوضة مكايسة (¬4) يخل بها الغرر، بخلاف الهبة فإنها عقد مكارمة وإحسان محض، فلا يخل بها ¬
الغرر، ولأن الموهوب (¬1) له إذا لم يحصل له شيء فلا يتضرر به، بخلاف المشتري، وهذا هو الفرق المعتبر. ومثال الفرق بالمعنى المناسب لحكم آخر خلاف (¬2) الحكم المدعى: قياس المساقاة على القراض في جواز المعاملة على جزء مجهول. فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الشجر إذا ترك العمل فيها هلكت، بخلاف النقدين، فهذا ليس بمناسب للحكم المدعى، وهو جواز المساقاة، وإنما هو مناسب للزوم عقد المساقاة لا لجوازه، فإن القول (¬3) بجواز عقد المساقاة يؤدي إلى جواز رده بعد مدة من غير عمل فتهلك الشجر. أما باعتبار الغرر فلا مدخل لمناسبة هذا الفرق فيه. قوله: (وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين ..) إلى آخره، يعني أن تأثير الفرق في بطلان (¬4) العلة إنما ذلك على القول بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين. أما إذا قلنا بأن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل (¬5) بعلتين، فوجدت إحداهما في الفرع دون الأخرى، فإن عدم العلة الأخرى [من] (¬6) الفرع (¬7) لا ¬
يضر (¬1). مثال ذلك: إذا عللنا إجبار الأب/ 314/ [بالصغر] (¬2) والبكارة. فإذا انفردت البكارة في المعنسة ثبت الجبر، أو انفرد الصغر في الثيب الصغيرة ثبت الجبر. فإذا أورد (¬3) المعترض الفرق بوجود أحد الوصفين في الأصل دون الفرع لم يرد، لأنه علة أخرى في الأصل، ولا يضر عدمها من الفرع لاشتراكهما (¬4) في العلة الأخرى، فإن عدم إحداهما لا يمنع ترتب الحكم على الأخرى. فلأجل هذا قال الإمام: وقدحه مبني على أن الحكم الواحد (¬5) لا يعلل بعلتين؛ لاحتمال أن يكون الفارق إحداهما (¬6) (¬7). قال المؤلف في الشرح: وعليه إشكال؛ لأن الجمهور على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين، والجمهور أيضًا على سماع الفرق، فكيف هذا البناء؟ ¬
لأن ذلك يقتضي بطلان قوله: سماع [الفرق] (¬1) ينافي تعليل الحكم بعلتين. والجواب: أن الفرق قد يستقل بالعلة كالصغر مع البكارة، وقد لا يستقل كما نفرق بزيادة (¬2) المشقة وزيادة الغرر من باب صفة الصفة التي لا تصلح للتعليل المستقل. فما (¬3) لا يصلح للاستقلال يمكن أن يسمع مع جواز التعليل بعلتين، فاتجه ما قاله الإمام. وذلك أن ما يصلح (¬4) للاستقلال لا يمكن إيراده (¬5) إذا جوزنا التعليل بعلتين، وبالله التوفيق (¬6) (¬7). ... ¬
الفصل الخامس في تعدد العلل
الفصل الخامس في تعدد العلل (¬1) يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين، خلافًا لبعضهم، كوجوب (¬2) الوضوء على من بال ولا مس. ولا يجوز بمستنبطتين، لأن الأصل عدم الاستقلال فيجعلان علة واحدة. ش: ذكر المؤلف قولين في جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين (¬3). ¬
حجة القول بالجواز، وهو المشهور: أن العلل الشرعية أمارات (¬1) على الأحكام ومعرفات لها (¬2)، فيجوز للشارع (¬3) أن يربط الحكم الشرعي (¬4) بعلة واحدة، أو بعلتين، أو بأكثر (¬5)، أو بغير علة، يفعل ما يشاء ويحكم ما ¬
يريد (¬1). مثال ذلك: وجوب الوضوء على من بال ولامس. وكذلك: الصغر والبكارة، كل واحد منهما علة في إجبار الأب على النكاح. وكذلك القتل (¬2) والزنا والردة، كل واحد منها علة لوجوب القتل. وكذلك: الحيض والصوم والإحرام، كل واحد منها علة لتحريم الوطء (¬3)، وغير ذلك، وهو كثير، وهذا كله استدلال بالوقوع. حجة القول بالمنع وجهان: أحدهما: أن تعليل الحكم الواحد بعلتين يلزم منه نقض (¬4) العلة، وذلك خلاف الأصل (¬5). بيانه: أنه إذا وجدت إحدى العلتين ترتب الحكم عليها، فإذا وجدت العلة الأخرى لم يترتب عليها شيء، فيلزم وجود العلة بدون مقتضاها، وذلك نقض [على] (¬6) العلة، والنقض على العلة يبطلها كما تقدم في مبطلات العلة. الوجه الثاني: أن تعليل الحكم الواحد بعلتين يلزم منه اجتماع مؤثرين على أثر واحد، وهو محال، لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وذلك ¬
[أن] (¬1) الوقوع بأحدهما سبب في عدم الوقوع بالآخر، فلو وقع بهما للزم ألا يقع بهما، وذلك جمع بين النقيضين، وهو محال (¬2). والجواب عن الأول: أن النقض لقيام المانع لا يقدح في العلة (¬3). والجواب عن الثاني: أن العلل الشرعية معرفات لا مؤثرات؛ لأن العلل الشرعية علامات وأمارات ودلالات على الأحكام ومعرفات لها وليس بمؤثرات، واجتماع معرفين أو معرفات على معرف واحد جائز، كما يعرف الله تبارك وتعالى بكل جزء من أجزاء العالم (¬4)، والمحال الذي ذكروه (¬5) إنما يلزم في العلل العقليات لأنها مؤثرات، وهذا من الوجوه الخمسة التي تخالف بها العلة العقلية العلة (¬6) الشرعية (¬7). أحدها هذا، وهو أن الحكم العقلي لا يعلل بعلتين. الثاني: أن العقلية توجب حكمها لذاتها، ولا يصح وجودها بدون حكمها (¬8). الثالث: أن العقلية لا توجب حكمها لغير محلها. ¬
الرابع: أن العقلية لا تكون (¬1) إلا وجودًا، وأما الشرعية فتكون وجودًا وعدمًا. الخامس: أن العقلية لا تتوقف على شرط في اقتضائها حكمها، بخلاف العلة (¬2) الشرعية فإنه تفتقر إلى الشرط (¬3) في اقتضاء حكمها (¬4)، كالطعم علة في الربا لكن بشرط اتحاد الجنس. فإن قيل: أليس [العلم] (¬5) من شرطه الحياة، والعلم علة (¬6) عقلية؟ فالجواب: أن الحياة شرط في وجود العلم، لا في اقتضائه [حكمه] (¬7). قوله: (ولا يجوز بمستنبطتين). قال المؤلف: إنما لا يجوز في المستنبطتين؛ لأن الشرع إذا ورد بحكم مع أوصاف مناسبة وجب جعل كل واحد منها جزء علة لا علة مستقلة، لأن الأصل عدم الاستقلال حتى ينص صاحب (¬8) الشرع على استقلالها أو أحدها فيستقل (¬9). قوله: (يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافًا لبعضهم)، ذكر المؤلف الخلاف في تعدد العلة للحكم الواحد، وسكت عن الخلاف في ¬
تعدد الحكم للعلة الواحدة. والمشهور جوازه؛ لأن العلل الشرعية معرفات وأمارات على الأحكام، فكما تكون العلة الواحدة أمارة على حكم واحد، فكذلك تكون أمارة على حكمين فأكثر (¬1)؛ إذ لا مانع من ذلك (¬2). مثال ذلك: الإحرام، علة لتحريم (¬3) الوطء والطيب ولبس المخيط وغير ذلك. * * * ¬
الفصل السادس في أنواعها
الفصل السادس في أنواعها وهي أحد (¬1) عشر نوعًا. الأول: التعليل بالمحل، وفيه خلاف، قال الإِمام (¬2): إِن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه (¬3)، كتعليل (¬4) الخمر بكونه خمرًا، أو البر يحرم الربا فيه لكونه برًا (¬5). ش: ذكر المؤلف في جواز التعليل بالمحل، أي محل النص ¬
خلافًا (¬1)، كتحريم الخمر بعلة كونه خمرًا، وتحريم الربا [في البر] (¬2) بعلة كونه برًا. / 315/. ذكر سيف الدين الآمدي في جواز [هـ] (¬3) ثلاثة أقوال: ثالثها: يجوز في الجزء ولا يجوز في الكل (¬4) (¬5)، والقول بالمنع مطلقًا هو قول الأكثرين (¬6). حجة الجواز مطلقًا: أن العلل الشرعية أمارات على الأحكام، فكما يجوز أن يكون الوصف أمارة على الحكم، فكذلك يجوز أن يكون المحل أمارة على الحكم (¬7). حجة المنع مطلقًا: أن العلة (¬8) فائدتها التعدية للفرع، والمحل قاصر، فلا يصح أن يكون علة (¬9)، ولأجل هذا خرج الإمام الخلاف في التعليل بالمحل على التعليل بالعلة القاصرة، فالمحل والعلة القاصرة شيئان لا شيء ¬
واحد (¬1)، فلو كانا شيئًا واحدًا (¬2) لما حسن التخريج. والفرق بين المحل والعلة القاصرة: أن المحل ما وضع (¬3) اللفظ [له] (¬4) كوصف البرية، والعلة القاصرة هي وصف اشتمل عليه محل النص ولم يوضع اللفظ له، كاشتمال البر على نوع من الحرارة والرطوبة، وهو ملائم لمزاج الإنسان ملاءمة (¬5) لا تحصل (¬6) بين الإنسان والأرز، فإن الأرز [حار] (¬7) يابس يبسًا شديدًا منافيًا لمزاج الإنسان، فيحرم الربا في البر لأجل هذه الملائمة الخاصة التي لا توجد في غير البر، فهذه علة قاصرة لا محل، وأما وصف البرية بما هو (¬8) برية فهو (¬9) المحل (¬10). حجة من جوز التعليل في الجزء دون الكل: أن الجزء قد يتعد [ى] (¬11) بخلاف (¬12) الكل، أي كل المحل (¬13). ¬
قوله: (قال الإِمام: إِن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه). يقتضي: أن كل من قال بجواز التعليل بالعلة القاصرة، قال به في المحل، وليس كذلك، فإن الأكثر على جواز التعليل بالعلة القاصرة، والأكثر على منع التعليل بالمحل. قوله: (الثاني: الوصف إِن لم يكن منضبطًا جاز التعليل بالحكمة، وفيه خلاف، والحكمة هي (¬1) التي لأجلها صار الوصف علة، كذهاب العقل الموجب لجعل (¬2) الإِسكار علة) (¬3). ش: ذكر المؤلف ها هنا الخلاف في جواز التعليل بالحكمة (¬4). قيل بالجواز، وقيل بالمنع، وهو (¬5) قول الأكثرين، ثالثها: يجوز إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة، وإلا فلا يجوز (¬6). ¬
والفرق بين الوصف والحكمة: أن الوصف عبارة عما شرع الحكم عنده للحكمة، والحكمة عبارة عما شرع الحكم لأجله. مثال ذلك: اختلاط الأنساب، فإنه الحكمة في جعل [وصف] (¬1) الزنا سببًا لوجوب الحد، وكذلك ضياع المال، فهو الحكمة في جعل وصف السرقة سبب القطع، وكذلك ذهاب العقل هو الحكمة في جعل الإسكار علة لوجوب الحد، وغير ذلك. حجة القول بجواز التعليل بالحكمة وجهان: أحدهما: أن الحكمة هي أصل للوصف (¬2)، [فإذا جاز التعليل بالوصف] (¬3) فأولى وأحرى (¬4) أن يجوز التعليل بالحكمة، لأنها أصله (¬5). الوجه الثاني: أن الحكمة هي نفس المصلحة والمفسدة، وهي سبب ورود الشرائع، فالاعتماد عليها أولى من الاعتماد على فرعها (¬6). حجة القول بمنع التعليل بالحكمة وجهان: أحدهما: أنه لو جاز التعليل بالحكمة لامتنع (¬7) بالوصف؛ لأن الأصل لا يعدل عنه إلا عند تعذره، والحكمة ليست متعذرة، فيجب التعليل بها، فإذا ¬
علل بها امتنع التعليل بالوصف (¬1)، لكن المنع من التعليل بالوصف خلاف إجماع أرباب القياس (¬2). الوجه الثاني: أنه لو جاز التعليل بالحكمة للزم النقض، وهو تخلف الحكم عن علته، وذلك خلاف الأصل، لأن النقض من مبطلات العلة، كما تقدم في بيان النقض (¬3). وبيان ذلك مثلًا: أن وصف الرضاع (¬4) سبب التحريم، وحكمته أن جزء المرأة وهو لبنها صار جزءًا من الرضيع، لأنه قد صار لحمًا للرضيع، فأشبه لبنها منيها الذي صار جزءًا للرضيع، فكما أن ولد الصلب (¬5) حرام، فكذلك ولد الرضاع، وهو سر قوله عليه السلام: "الرضاع لحمة كلحمة النسب" (¬6)، إشارة إلى الجزئية، فإذا كانت هذه هي الحكمة، فلو أكل رضيع ¬
قطعة من لحم امرأة فقد (¬1) صار (¬2) جزؤها جزءه، فكان يلزم التحريم، ولم يقل به أحد، فقد وجدت العلة (¬3) وتخلف حكمها، فانبطلت (¬4) العلة. ¬
وكذلك وصف الزنا حكمته اختلاط الأنساب، فإذا أخذ رجل صبيانًا صغارًا (¬1) وغيبهم عن آبائهم حتى صاروا رجالًا ولم يعرفهم آباؤهم فاختلطت أنسابهم، فكان ينبغي أن يجب عليه الحد أي حد الزنا، لوجود حكمة وصف الزنا، لكنه خلاف الإجماع، فقد وجدت العلة ها هنا أيضًا وتخلف حكمها فبطلت العلة. فلو جاز التعليل بالحكمة للزم النقض بهذه (¬2) الصور، فلا يجوز التعليل بها إذًا، وهو المطلوب (¬3). حجة القول بالتفصيل: أنه إذا جاز التعليل بالوصف لانضباطه وإن لم يكن هو المقصود، فأولى وأحرى أن يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت منضبطة؛ لأن الحكمة هي المقصودة، وإنما جيء بالوصف من أجل الحكمة ليكون الوصف معرفًا لها ودليلًا عليها (¬4). قوله: (الثالث (¬5)، يجوز التعليل بالعدم، خلافًا لبعض الفقهاء، فإِن عدم العلة علة لعدم المعلول) (¬6). ش: مثال التعليل بالعدم: قولنا: لا علة تتقى في العصير فيباح ¬
كاللبن (¬1) (¬2). وقولك: لا علة تتقى في العصير فلا يحرم كاللبن، فالمثال الأول تعليل الحكم الثابت (¬3) بالمعدوم (¬4). والمثال الثاني: تعليل الحكم المعدوم بالمعدوم (¬5). ¬
حجة القول بالجواز وجهان: أحدهما: أن العلة الشرعية أمارة ودلالة على الحكم، وهي مُعَرِّفٌ له، والمعرف للشيء يجوز أن يكون وجوديًا وعدميًا، حقيقيًا وإضافيًا، حكمًا وحكمة، قاصرًا ومتعديًا؛ إذ لا مانع من ذلك كله (¬1). الوجه الثاني: بالقياس على الحكم، فإن الحكم يجوز أن يكون وجودًا وعدمًا/ 316/ فكذلك العلة (¬2). حجة القول بالمنع وجهان: أحدهما: أن العدم نفي محض لا تمييز فيه، وما لا تمييز فيه فلا يمكن جعله علة، [لأن العلة حكم، والحكم فرع التصور، أي لأن العلة فرع التميز (¬3). الوجه الثاني: أن العلة وصف وجودي] (¬4) لأنها [نقيض] (¬5) لا علية، ولا علية عدم، فتكون العلة (¬6) وجوديًا، والصفة الوجودية لا تقدم بالعدم ولا المعدوم، وإلا لزم الشك في وجود الأجسام، لأنا لا نرى من هذا العالم إلا أعراضه، فلو جوزنا قيام الصفات الوجودية بالعدم، لجاز أن تكون هذه ¬
الألوان قائمة (¬1) بالمعدوم، فلا يوجد شيء من أجزاء العالم، وهو (¬2) خلاف الضرورة (¬3). الجواب عن الأول: أن العدم الذي يقع التعليل به لا بد أن يكون عدم شيء بعينه، فهو عدم متميز، فيصح التعليل به؛ فإن عدم العلة علة لعدم المعلول، كما نقول: عدم الإسكار علة الإباحة والتطهير؛ لأن الإسكار علة التحريم والتنجيس، فإذًا عدم الإسكار ثبت الإباحة والتطهير (¬4). والجواب عن الثاني: أنه لا نسلم أن العلية وصف وجودي؛ لأن العلة عندنا نسبة وإضافة (¬5)، والنسب والإضافات عدمية عندنا، فيكون قولنا: لا ¬
علية (¬1) ثبوتًا؛ لأن النفي إذا دخل على النفي صار ثبوتًا، فتكون العلة عدمًا، لأن نقيضها ثبوت فلا يتم مقصودكم (¬2). قوله: (الرابع: المانعون من التعليل بالعدم، امتنعوا من التعليل بالإضافة (¬3) لأنها عدم). ش: تكلم ها هنا على العدم الإضافي، وما تقدم هو العدم المطلق (¬4). مثال العدم الإضافي: النبيذ غير مسكر للعقل فيباح، أصله اللبن؛ لأن عدم العلة علة لعدم (¬5) المعلول. قال المؤلف في شرحه (¬6): النسب والإضافات، كالأبوة والبنوة، والتقدم والتأخر، والمعية والقبلية والبعدية، عدمية عندنا مطلقًا ذهنًا وخارجًا، وهي عند الفلاسفة وجودية في الذهن عدمية في الخارج، فهي عندهم موجودة في الأذهان مفقودة في الأعيان، بخلاف الأوصاف العدمية فهي عدم مطلقًا في الذهن والخارج، فهذا هو الفرق بين العدم الإطلاقي، ¬
والعدم (¬1) الإضافي (¬2)، فقد استوى القسمان في العدم في الخارج، فلأجل ذلك من منع ذلك منع هذا، ومن جوز ذلك جوز هذا من باب أولى. قوله: (الخامس: يجوز تعليل (¬3) الحكم (¬4) الشرعي بالحكم (¬5) الشرعي، خلافًا لقوم، كقولنا: نجس فيحرم) (¬6). ش: حجة الجواز: أن العلل الشرعية أمارات ومعرفات للأحكام، فللشارع (¬7) أن يجعل الحكم علمًا على حكم آخر، كالنجاسة فإنها حكم شرعي، وقد جعلها الشرع علمًا على تحريم البيع أو الأكل، [وتحريم البيع أو الأكل] (¬8) حكم شرعي أيضًا (¬9). ¬
حجة المنع وجهان: أحدهما: أن الحكم (¬1) شأنه أن يكون معلولًا لا علة، فلو كان علة للزم قلب الحقائق (¬2). والوجه الثاني: أن الحكمين متساويان في [كون] (¬3) كل واحد منهما حكمًا، فليس جعل أحدهما علة [للآخر] (¬4) بأولى من العكس (¬5). الجواب عن الأول: أن كونه معلولًا لعلته، غير مانع من أن يكون علة لحكم آخر، فيكون علة باعتبار، ومعلولًا [باعتبار] (¬6) آخر، وهذا ليس فيه قلب الحقائق، فإن قلتم: إن شأن الحكم ألا يكون (¬7) علة البتة، فهذا محل النزاع (¬8). الجواب عن الثاني: أن المناسبة تعين أحدهما للعلية والآخر للمعلولية (¬9)، كما [تقول] (¬10): نجس فيحرم، وطاهر فتحل به الصلاة؛ فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة للتحليل، ولو عكس ذلك لم يستقم (¬11). ¬
قوله: (السادس: يجوز التعليل بالأوصاف العرفية (¬1)، كالشرف والخسة، بشرط اطرادها (¬2) وتمييزها (¬3) عن غيرها) (¬4) (¬5). ش: المراد (¬6) بالشرف ما لا تقززه (¬7) النفوس، كاللبن والعسل (¬8)، والمراد بالخسة ما تقززه النفوس، كالبول والدم (¬9). فتقول مثلًا: اللبن والعسل طاهر لشرفه؛ لأنه لا تقززه النفوس. وتقول مثلًا: البول والدم نجس لخسته؛ لأنه تقززه النفوس، فهذان (¬10) قاعدتان (¬11). واعترض على قاعدة الشرف بالخمر؛ لأنه لا تقززه النفوس، وهو مع ¬
ذلك نجس. واعترض على قاعدة الخسة بالمخاط؛ لأنه تقززه النفوس، وهو مع ذلك طاهر. وإنما جاز التعليل بالشرف (¬1) والخسة للمناسبة (¬2)؛ لأن الشرف يناسب التعظيم، والخسة تناسب ضد التعظيم، وهو الإهانة (¬3). قوله: (بشرط (¬4) اطرادها وتمييزها عن غيرها)، أي بشرط اطراد تلك الأوصاف، أي إذا وجدت تلك الأوصاف وجدت أحكامها، وأما إذا وجدت دون حكمها (¬5) فذلك (¬6) نقض لها، وقد تقدم أن النقض قادح في العلة (¬7). وإذا لم [تتميز] (¬8) تلك الأوصاف عن غيرها لم يصح تصورها، وإذا لم يصح تصورها لم يصح التعليل [بها] (¬9)؛ لأن الحكم بها فرع تصورها (¬10). قوله: (بشرط اطرادها وتمييزها) (¬11)، يوهم كلامه أن هذين الشرطين ¬
مخصوصان بهذه الصورة، وليس كذلك، بل ذلك عام لجميع صور التعليل، ولا يختص بهذه الصورة. قوله: (السابع: يجوز التعليل بالعلة المركبة عند الأكثرين، كالقتل العمد العدوان) (¬1). ش: حجة الجواز وجهان: أحدهما: أن العلل (¬2) الشرعية أمارات [و] (¬3) معرفات، فكما يصح التعريف بالمفرد (¬4)، فكذلك يصح بالمركب (¬5). الوجه الثاني: أن المصلحة قد لا تصح إلا مع التركيب، كوصف الزنا، فإنه لا يستقل بالحد حتى ينضاف إليه (¬6) العلم بكون الموطوءة أجنبية، وإلا لم يناسب وجوب الحد. / 317/. وكذلك القتل وحده لا يناسب وجوب القصاص حتى ينضاف إليه العمد ¬
العدوان (¬1). حجة القول بالمنع: أن القول بتركيب (¬2) العلة الشرعية يؤدي إلى نقض العلة العقلية. بيانه: أن عدم جزء المركب علة لعدم ذلك المركب، فإذا فرضنا علة مركبة من ثلاثة أجزاء، فعدم واحد منها، عدم لذلك المركب، فإذا عدم جزء آخر لم يترتب عليه عدم ذلك المركب، وإلا لزم تحصيل الحاصل، فقد وجدت العلة العقلية بدون أثرها، وذلك نقض لها، وهو محال؛ لأن نقض العلة العقلية محال (¬3) والجواب (¬4) عنه: أن الاثنين الباقيين من الثلاثة ماهية أخرى غير ماهية الثلاثة، فإذا عدم واحد من الاثنين عدم مجموع الاثنين، فإن عدم الحزء الثاني من الاثنين هو علة لعدم الاثنين، لا أنه (¬5) علة لعدم الثلاثة [فلم توجد العلة] (¬6) بدون أثرها، فلا نقض (¬7). قوله: (الثامن: يجوز التعليل بالعلة القاصرة (¬8) عند الشافعي وأكثر ¬
المتكلمين، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه، إِلا أن تكون منصوصة؛ لأن فائدة التعليل عند الحنفية التعدية (¬1) للفرع، وقد امتنعت (¬2). وجوابهم: بقاء (¬3) سكون النفس للحكم (¬4) والاطلاع (¬5) على مقصود الشرع) (¬6). ش (¬7): ومعنى العلة القاصرة، [أي القاصرة] (¬8) على محل النص، أي لم توجد في غير محل النص، كتعليل تحريم الربا في الذهب والفضة بكونهما (¬9) أصول الأثمان والمثمونات، وكتعليل الربا أيضًا في البر بكونه مشتملًا على نوع من الحرارة والرطوبة ملائم لمزاج الإنسان ملاءمة لا تحصل بين الإنسان والأرز، فإن الأرز حار يابس يبسًا شديدًا منافيًا لمزاج الإنسان، فهذه الملاءمة ¬
الخاصة لا توجد في غير البر، فهي (¬1) علة قاصرة على محل النص كالثمنية في النقدين. وقد حكى القاضي عبد الوهاب (¬2) في جواز التعليل بالعلة القاصرة ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا، وهو قول أصحابنا (¬3) وأصحاب الشافعي (¬4) (¬5). والمنع مطلقًا، وهو قول أكثر العراقيين (¬6). والجواز في المنصوصة والمنع في المستنبطة إلا أن ينعقد (¬7) فيها إجماع، ¬
وهو قول العراقيين أيضًا (¬1) (¬2). حجة الجواز مطلقًا: أن العلل الشرعية أمارات [و] (¬3) معرفات للأحكام، فكما يجوز أن تكون أمارات على أشياء (¬4)، فكذلك يجوز أن تكون أمارات (¬5) على شيء واحد، ولا مانع من ذلك (¬6). حجة المنع مطلقًا: أن فائدة العلة هي التعدية إلى الفرع، فإذا كانت قاصرة على محل النص، وقد (¬7) عدمت التعديه ها هنا، فيستغنى بالنص عنها (¬8). حجة الجواز [في] (¬9) المنصوصة دون المستنبطة: أن النص يجب الانقياد إليه ولا مندوحة عنه، وأما استنباطنا فلا يجوز أن يكون إلا للتعدية (¬10)؛ إذ لا فائدة للاستنباط إلا التعدية (¬11) (¬12). والجواب: أن فائدة ذلك ما قاله المؤلف، وهو الاطلاع على حكمة الشرع ¬
في الأصل، فيكون ذلك أدعى لطواعية العبد وسكون نفسه للحكم، فإن العبد إذا لم يطلع على الحكمة فربما تنفر نفسه من ذلك فيحتاج إلى معالجتها ومعاناتها (¬1) (¬2). قوله: (التاسع: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم) (¬3). ش: مثاله: تعليل الخمر بكونه خمرًا. والفرق بين التعليل بالاسم والتعليل بالمحل: أن المحل مسمى، وهذا اسم فنقول في التعليل بالمحل مثلًا: حرم الخمر لكونه مائعًا (¬4) يقذف بالزبد، ونقول في التعليل بالاسم: حرم الخمر لتسميته بالخمر (¬5). قوله: (اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم)، هذا الاتفاق غير صريح، بل نقل فيه الباجي ثلاثة أقوال: ثالثها: يجوز بالاسم المشتق دون الجامد (¬6). ¬
مثال المشتق (¬1): ولد وعبد ومملوك. ومثال الجامد (¬2): دينار ودرهم. حجة الجواز: أن العلل الشرعية أمارات على الأحكام، فكما يجوز أن يكون الوصف أمارة على الحكم، فكذلك الاسم، ولا مانع من ذلك (¬3). حجة المنع: أن الاسم طردي محض لا مصلحة فيه، وشأن الشرائع رعاية المصالح ومظانها، وما ليس فيه مصلحة ولا مظنة المصلحة فليس من شأن الشرع اعتباره (¬4). حجة الجواز في المشتق دون غيره: أن الاشتقاق يشعر بالمناسبة والعلة، بخلاف الجامد فإنه طردي محض. قوله: (العاشر: اختار [الإِمام] (¬5) أنه لا يجوز التعليل بالأوصاف المقدرة خلافًا لبعض الفقهاء، كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك) (¬6). ش: تكلم المؤلف ها هنا على الأوصاف المقدرة، ....................... ¬
وهي (¬1) المعبر عنها (¬2) بالتقادير الشرعية، مثل: إعطاء الموجود حكم المعدوم، وإعطاء المعدوم حكم الموجود. ومثال إعطاء الموجود حكم المعدوم: وجود الماء في حق من لا يقدر على استعماله، وكذلك النجاسة المعفو عنها، وكذلك الغرر اليسير في البيع، وكذلك فعل المكره، كطلاقه ونكاحه وعتقه وغير ذلك، وكذلك قاتل موروثه، فوجود ذلك كله كعدمه. ومثال إعطاء المعدوم حكم الموجود: كالحمل في الميراث، ولأجل ذلك يوقف ميراثه حتى يولد، وكذلك الإعتاق عن الغير، يقدر الملك للمعتق عنه قبل العتق بالزمان الفرد، ولأجل ثبوت الملك له يثبت له الولاء، وتبرأ ذمته من الكفارة الواجبة عليه إذا أعتق عنه بسببها. ومثاله أيضًا: تقدير ملك الدية للمقتول قبل موته بالزمان الفرد، ولأجل ذلك تورث الدية عنه. ومثاله أيضًا: تقدير الثمن في ذمة المشتري في بيع الدين، وكذلك تقدير المثمون في السلم (¬3) في ذمة المسلم إليه، وكذلك تقدير الذمة نفسها،/ 318/ فإن الذمة من جملة المقدرات، فإن معناها: معنى شرعي مقدر في الإنسان قابل للإلزام (¬4) والالتزام. ¬
واعلم أن أرباب الأصول اختلفوا في جواز التعليل بالمقدرات (¬1)، بالجواز، والمنع، واختار الإمام فخر الدين القول بالمنع، وأنكر القول بجوازه غاية الإنكار، وقال: إنها من الأمور التي لا ينبغي أن تعتقد في الشرائع، وقال: تقدير الأعيان في الذمة، وتقدير الملك في العتق عن الغير لا يتصور (¬2) (¬3). قال المؤلف في الشرح: وإنكار (¬4) الإمام هو المنكر، فإن التقادير الشرعية لا يكاد يعرى منها باب من أبواب الفقه، فكيف يصح عقد السلم (¬5) في إردب من الحنطة (¬6)، وهو غير معين ولا مقدر في الذمة، فكيف تصح المطالبة بذلك الإردب مع كونه غير معين ولا مقدر في الذمة، فذلك (¬7) طلب بلا مطلوب، وعقد بلا معقود، بل هو لفظ بلا معنى، وكذلك إذا باعه سلعة بثمن إلى أجل، فإن هذا الثمن غير معين، فإذا كان غير مقدر في الذمة فكيف يتصور كونه ثمنًا، وكذلك الإجارة لا بد من تقدير المنافع المعقود عليها في الأعيان المستأجرة وإلا امتنعت إجارتها، وكذلك الصلح عن الدين، والعتق عن ¬
الغير، وتوريث الدية، وغير ذلك. قال (¬1): والحق جواز التعليل (¬2) بالمقدرات (¬3). وذكر المؤلف في القواعد السنية مسائل من هذا الباب، وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم، منها: رفع النية في العبادات، كالوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، على القول بصحة الرفض. وذلك أن الشرع يقدر هذه النية الواقعة، وهذه (¬4) العبادة الواقعة، كأنها لم توجد أصلًا، لا أنه رفعها بعد وجودها؛ لأن رفع الواقع محال (¬5). ومنها: الرد بالعيب، على القول بأنه نقض البيع من أصله، فتكون غلة المبيع للبائع؛ لأن صاحب الشرع يقدر هذا العقد كأنه لم يقع قط ولم يوجد [أصلًا] (¬6)، لا أنه نقضه بعد وقوعه؛ لأن رفع الواقع محال (¬7). ومنها: من قال لامرأته: إن قدم فلان آخر الشهر فأنت طالق من أوله، فإنها مباحة الوطء إلى قدوم فلان بالإجماع، فإذا قدم فلان آخر الشهر، فقال ابن يونس مذهب مالك أنها تطلق من أول الشهر (¬8)؛ فإن الإباحة الواقعة في ¬
أثناء الشهر قدرها الشرع كأنها لم تقع أصلًا ولا وجدت قط، لئلا يكون ذلك رفع الواقع؛ لأن رفع الواقع محال (¬1). وهذا كله من إعطاء الموجود حكم المعدوم، وهي من التقادير الشرعية. قال المؤلف في الشرح (¬2)، وفي القواعد أيضًا (¬3): وقد بينت التقادير الشرعية في كتاب الأمنية في إدراك النية (¬4). انظر القواعد [(¬5) السنية، في الفرق السادس والخمسين، في الفرق بين رفع الواقعات وتقدير رفع الواقعات (¬6). [و] (¬7) انظر أيضًا الفرق الثالث] (5) في الفرق بين الشرط اللغوي، وغيره من الشروط العقلية والشرعية والعادية (¬8). قوله: (الحادي عشر: يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، ولا يتوقف على وجود المقتضي عند الإِمام، خلافًا للأكثرين في التوقف (¬9)، ¬
وهذا هو تعليل [انتفاء] (¬1) الحكم (¬2) بالمانع، فهو يقول: [المانع] (¬3) (¬4) ضد علة الثبوت والشيء لا يتوقف على ضده. وجوابه: أنه لا يحسن في العادة (¬5) أن يقال للأعمى: إِنه لا يبصر زيدًا للجدار الذي بينهما، وإِنما يحسن ذلك في البصير). ش: مثال تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، قولك: الطير لا يطير لكونه في القفص، فعلة عدم طيرانه كونه في القفص، فقد عللنا الحكم العدمي وهو عدم الطيران، بالوصف الوجودي، وهو كونه في القفص، وهذا هو المعبر عنه عندهم بتعليل انتفاء الحكم بالمانع (¬6)، كما قال المؤلف. [و] (¬7) في كلامه تقديم وتأخير، تقديره: يجوز تعليل [الحكم] (¬8) العدمي بالوصف الوجودي، وهذا (¬9) تعليل انتفاء الحكم بالمانع (¬10). ¬
قوله: (ولا يتوقف على وجود المقتضي عند الإِمام خلافًا للأكثرين (¬1) في التوقف)، يعني أن الأصوليين اختلفوا في التعليل بالمانع، هل (¬2) يتوقف على وجود السبب المقتضي لثبوت الحكم أو لا يتوقف عليه؟ قال الإمام فخر الدين: لا يتوقف عليه (¬3). وقالت الجماعة: بل يتوقف على وجود المقتضي (¬4). فقولنا مثلًا: الطير لا يطير لكونه في القفص، فعلى (¬5) مذهب الإمام لا يتوقف التعليل بكونه في القفص على وجود [الشرط] (¬6) المقتضي للطيران، وهو الحياة. [وعلى مذهب الجماعة: لا يصح هذا التعليل إلا مع وجود المقتضي لثبوت الطيران، وهو الحياة] (¬7). قوله: (فهو يقول: المانع ضد علة الثبوب، والشيء لا يتوقف على ضده) هذا دليل الإمام القائل بعدم التوقف (¬8)، والضمير في قوله: هو (¬9) ¬
يقول، عائد على الإمام، معناه: فالإمام يقول في استدلاله على هذا: المانع من ثبوت الحكم هو ضد المقتضي لثبوت الحكم، فالمراد بعلة الثبوت [هو السبب المقتضي لثبوت] (¬1) الحكم، فالمانع ضد المقتضي، وأحد الضدين لا يكون شرطًا في [وجود] (¬2) الآخر؛ إذ من شرط الشرط إمكان اجتماعه مع المشروط، والضد لا يمكن اجتماعه مع ضده (¬3) وهذا معنى قوله: المانع ضد علة الثبوت، والشيء لا يتوقف على ضده. الجواب: أن تقول: لا نسلم أن المانع ضد المقتضي، وإنما هو [ضد أثره، فالتضاد إنما هو] (¬4) بين الأثرين لا بين المؤثرين. وبيان ذلك: أن قولك مثلًا: لا تجب الزكاة [على الفقير لكونه] (¬5) مديانًا، فهذا تعليل انتفاء الحكم بالمانع، وهو كونه مديانًا، فيقول الإمام (¬6) في هذا المثال: المانع ضد (¬7) المقتضي، فلا يتوقف عليه لأنه ضده، أي المانع الذي هو الدين، لا يتوقف على وجود المقتضي الذي هو النصاب لأنه ضده؛ لأن النصاب يقتضي وجوب الزكاة، والدين يقتضي (¬8) عدم وجوب ¬
الزكاة (¬1). / 319/. وقالت الجماعة: لا نسلم أن المانع ضد المقتضي؛ لأن التضاد إنما وقع بين الأثرين لا بين المؤثرين؛ فإن (¬2) أثر النصاب وجوب الزكاة، وأثر (¬3) الدين عدم وجوبها، فقد وقع التضاد بين الأثرين، وهما الوجوب [وعدمه، ولم يقع التضاد بين المؤثرين، وهما النصاب والدين، لأنه يمكن اجتماعهما؛ لأنه قد يكون مديانًا وعنده النصاب، وإنما وقع التضاد بين الأثرين، وهما الوجوب] (¬4) والعدم، والوجوب مع العدم متناقضان، والجماعة لم يقولوا بأن أحدهما (¬5) شرط في الآخر، [بل] (¬6) قالوا بنفي أحدهما مطلقًا (¬7)، وقالوا: أحد المؤثرين شرط في الآخر، ولم يقولوا: أحد الأثرين شرط في الآخر. فعلى مذهب الجماعة لا نقول: لا تجب الزكاة على الفقير (¬8) لكونه مديانًا، وإنما نقول: لكونه فقيرًا. وكذلك لا نقول في الأجنبي: لا يرث لكونه عبدًا، وإنما نقول لكونه أجنبيًا. ¬
ولا نقول في الطير الميت: لا يطير لكونه في القفص، وإنما نقول: لكونه ميتًا. قوله: (وجوابه: أنه لا يحسن في العادة أن يقال للأعمى: إِنه لا يبصر زيدًا للجدار الذي بينهما، وإِنما يحسن ذلك في البصير)، هذا دليل الجماعة، وهو دليل عادي [على] (¬1) أن (¬2) المانع يتوقف على وجود المقتضي، وهو أنه لا يحسن أن يقال: الأعمى (¬3) لا يبصر زيدًا لأجل الجدار الكائن بينه وبن زيد، وإنما [الذي] (¬4) يحسن أن يقال: لا يبصر [هـ] (¬5) لكونه أعمى، فالمانع الذي هو الجدار يستدعي ثبوت المقتضي، وهو البصر، لأن البصر يقتضي الإبصار عادة، فدليل الإمام واحد، [وهو] (¬6) عقلي. ودليل الجماعة شيئان: عادي، وشرعي. فالعادي: ما ذكر (¬7) من الأعمى. والشرعي: ما ذكر (¬8) من عدم الزكاة، وعدم إرث العبد (¬9). ... ¬
الفصل السابع فيما يدخله القياس
الفصل السابع فيما يدخله القياس وهو ثمانية أنواع: الأول: [اتفق أكثر المتكلمين] (¬1) [على جوازه] (¬2) في العقليات، ويسمونه إلحاق [الغائب] (¬3) بالشاهد (¬4). ¬
ش: اختلف في هذا النوع [الأول] (¬1) الذي هو العقليات. مذهب الجمهور: جواز القياس فيها: ويسمونه إلحاق الغائب بالشاهد، قالوا: الجامع بين الغائب والشاهد أربعة أشياء، وهي: الحقيقة، والدليل، والشرط، والعلة (¬2). مثال الجمع بالحقيقة (¬3): قولنا: العالم من قام به العلم، والله تعالى عالم، فيقوم به العلم. ومثال الجمع بالدليل: قولنا: الإتقان في الشاهد دليل العلم، والله تعالى متقن، فيكون عالمًا. ومثال الجمع بالشرط: قولنا: العلم في الشاهد مشروط بالحياة، والله تعالى عالم، فيكون حيًا. ومثال الجمع بالعلة قولنا: العلم في الشاهد علة العالمية، والله تعالى [له] (¬4) علم (¬5) فيكون عالمًا (¬6). ¬
وكثير من أصول الديانات مبني على قياس الغائب على الشاهد (¬1). حجة القول بمنع قياس الغائب على الشاهد: أن صورة المقيس إما أن تكون بعينها صورة المقيس عليه أو غيرها. فإن كانت هي فلا قياس لأنهما صورة واحدة. وإن كانت غيرها فلكل (¬2) واحد منهما (¬3) تعيين، فلعل تعيين الأصل شرط في ثبوت الحكم، وتعيين الفرع مانع من ثبوت الحكم، ومع الاحتمال لا يقين، والمطلوب بهذا القياس اليقين (¬4). وأجيب عن هذا: بأن العقل قد يقطع بسقوط (¬5) الخصوصات (¬6) عن الاعتبار، كاللون القائم بالحيوان والجماد والنبات، فإنه يفتقر لمحل يقوم به، وخصوصية الحيوان [أ] (¬7) والجماد أو النبات لا مدخل له في افتقار اللون للمحل، لا شرطًا، ولا مانعًا، ولا موجبًا، بل ذلك لذات اللون من حيث هو ¬
لون، وكذلك العلم القائم بزيد مشروط بالحياة لكونه (¬1) علمًا (¬2)، لا لخصوص محل زيد، ونحن إنما نقيس فيما هذا شأنه، فاندفع الإشكال وزال الاحتمال (¬3). قوله: (الثاني: اختار (¬4) الإِمام (¬5) وجماعة (¬6) (¬7) القياس في اللغات. وقال ابن جني هو قو [ل] (¬8) أكثر الأدباء (¬9)، خلافًا للحنفية (¬10)، وجماعة من الفقهاء) (¬11). ش: اختلفوا في جواز القياس في اللغة، بالجواز، والمنع (¬12). ¬
مثاله: اللواط، هل يقاس على الزنا للشبه (¬1) الذي بينهما أم لا؟ خلاف. وكذلك النباش للقبور، هل يقاس على السارق في حكمه أم لا؟ خلاف. وكذلك النبيذ، هل يقاس على الخمر أم لا؟ خلاف. جهة القول بجواز القياس في اللغة: أن الفاعل في زماننا يرفع والمفعول ينصب، في أسماء لم تسمعها العرب، وليس ذلك بوضع العرب؛ لأن العرب لم تسمعه، والوضع فرع التصور، فيتعين (¬2) أن يكون ذلك بالقياس (¬3). أجيب عنه: بأن الرفع والنصب بالوضع لا بالقياس، وذلك أن العرب لما وضعت الفاعل ورفعته لم تضعه لشيء واحد بعينه، بل وضعته للحقيقة الكلية وهي كونه فاعلًا من حيث هو فاعل، وذلك صادق (¬4) في جميع صور ¬
الفاعل، فيكون الإطلاق [عليه] (¬1) حقيقة لا مجازًا ولا قياسًا (¬2). وقال بعضهم: جميع اللغات اليوم ثابتة بالقياس؛ لأن العرب إنما وضعت (¬3) أسماء الأجناس للأعيان (¬4) التي شاهدوها، كالإنسان والفرس والطير مثلًا، وقد ذهبت تلك الأعيان وجاءت أعيان أخر، فلم يطلق عليها ذلك الاسم إلا بالقياس على الأسماء التي شاهدتها (¬5) العرب حين الوضع (¬6). قال المؤلف في الشرح: وهذا غلط؛ لأن العرب إنما وضعت لما تصورته (¬7) بعقولها، لا لما شاهدته (¬8) بأبصارها، والمتصور بالعقل شامل للماضي والحاضر والغائب على حد واحد، فكأن الواضع (¬9) يقول مثلًا في وضع الفرس: كل ما تنطبق عليه هذه الصورة الذهنية فهو المسمى [بالفرس عندي] (¬10) (¬11). ¬
حجة القول بمنع القياس في اللغة وجهان: أحدهما: أنه لو صح/ 320/ القياس لغة لبطل المجاز، كقولك: أسد للرجل الشجاع، فإن الجامع بينهما وهو (¬1) العلاقة لا بد منه، وحينئذ إما أن يريدوا بالقياس أنه حقيقة، وإما أن يريدوا أنه مجاز. فإن أرادوا (¬2) أنه حقيقة، بطل المجاز من أصله، وهو خلاف الإجماع. وإن أرادوا أنه مجاز، فهو متفق عليه، فبطل القول بالقياس، وهو المطلوب (¬3). الوجه الثاني: أن الأبيض من الخيل يقال له: الأشهب (¬4)، والأسود من الخيل يقال له: الأدهم (¬5)، والأحمر من الخيل يقال له: الكميت (¬6)، وما ¬
اجتمع فيه البياض والسواد يقال له: الأبلق (¬1)، ولا تطلق هذه الأسماء على غير هذه الخيل (¬2)، ولو صح القياس لغة لصح إطلاق الأشهب على كل أبيض، وصح إطلاق الأدهم على كل أسود، وصح إطلاق الكميت على كل أحمر، وصح إطلاق الأبلق (¬3) على كل ما اجتمع فيه البياض والسواد. وكذلك [لفظ] (¬4) القارورة للزجاجة (¬5) لأجل ما يستقر فيها من المائعات، ولا يقال ذلك لغيرها وإن استقرت فيه المائعات (¬6). [فلو صح القياس لغة لصح إطلاق القارورة على كل ما يستقر فيه المائعات] (¬7). واختار سيف الدين (¬8) وغيره من المحققين (¬9) القول [بمنع] (¬10) القياس في اللغة (¬11). ¬
قوله: (الثالث: المشهور أنه لا يجوز إِجراء (¬1) القياس في الأسباب، كقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد (¬2) (¬3)، لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس إِنه موجب للعبادة كغروبها). ش: المشهور منع القياس في الأسباب (¬4). حجة المنع: أنا إذا قسنا سببًا على سبب إنما نجمع بينهما بالحكمة، والحكمة غير منضبطة لاختلاف مقاديرها، والجمع بغير المنضبطة لا يجوز، ولأجل ذلك عدل عن الحكمة إلى التعليل بالوصف لانضباطه، وجدت حكمة (¬5) أم لا، فلذلك يقطع السارق [و] (¬6) إن وجد معه المال المسروق ولم يتلف، ويحد ¬
الزاني وإن لم يخلط نسبًا. فعلمنا أن الحكمة لا عبرة بها (¬1). حجة القول بالجواز من وجهين: أحدهما: أن السببية حكم شرعي، فجاز القياس فيها كسائر الأحكام. الوجه الثاني: أن السبب إنما يكون سببًا لأجل الحكمة التي اشتمل عليها فإذا وجدت تلك الحكمة [في] (¬2) غيره (¬3) وجب أن يكون سببًا، تكثيرًا لتلك (¬4) [الحكمة] (¬5) (¬6). قوله: (لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس: إِنه موجب للعبادة كغروبها)، فيه نظر؛ لأنه قياس بغير جامع، وهو ممنوع باتفاق، وليس محل النزاع (¬7). قوله: (الرابع: اختلفوا في (¬8) دخول القياس في العدم الأصلي. قال الإِمام: والحق أنه يدخله قياس الاستدلال بعدم خواص الشيء على ¬
عدمه دون قياس العلة (¬1)، وهذا بخلاف (¬2) الإِعدام فإِنة حكم شرعي) (¬3). ش: معنى (¬4) العدم الأصلي (¬5): هو البراءة الأصلية السابقة قبل الشرع (¬6). اختلفوا في القياس بالعدم الأصلي على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والثالث للإمام بالتفصيل: يجوز قياس الاستدلال [و] (¬7) لا يجوز قياس العلة. ومثال العدم الأصلي: عدم (¬8) وجوب صلاة (¬9) سادسة، وعدم (¬10) ¬
وجوب شهر غير رمضان، وما أشبه ذلك. حجة الجواز مطلقًا: أنه يمكن أن يقال: إنما لم يجب الفعل الفلاني؛ لأن فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وهذا فعل فيه مفسدة خالصة أو راجحة، فوجب ألا يجب قياسًا على الفعل الفلاني (¬1). حجة المنع مطلقًا: أن العدم الأصلي مستمر بذاته، وما هو مستمر بذاته يستحيل إثباته (¬2) بالغير، فلا يمكن إثباته بالقياس (¬3). وأجيب عن هذا بوجهين: أحدهما: أن الاستمرار بالغير، غير الاستمرار بالذات؛ لأن أحدهما عقلي والآخر شرعي، فأحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه. الوجه الثاني: أن العلل أمارات ومعرفات، وإنما يلزم ذلك لو قلنا (¬4): إنها مؤثرات، والأمر ليس كذلك (¬5). حجة الإمام: أن العلل إنما تكون في المعاني الوجودية، والعدم الأصلي نفي محض، فلا تتصور فيه العلل (¬6)، بخلاف الاستدلال بعدم خاصية الشيء (¬7)، على عدمه (¬8)، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلا الله ¬
لَفَسَدَتَا} (¬1)، فيستدل بعدم الفساد على عدم تعدد الآلهة (¬2). أجيب عن هذا: بأن العدم قد يعلل بالمفسدة، كقولنا: إنما لم يبح الله تعالى الخمر والزنا وشبههما (¬3) لما في ذلك من مفسدة، وهذا الفعل مشتمل على المفسدة، فوجب ألا يباح (¬4). قوله: (وهذا بخلاف الإِعدام فإِنه حكم شرعي)، معناه: والعدم الأصلي مخالف للإعدام؛ فإن الإعدام حكم شرعي، والعدم الأصلي هو حكم عقلي. مثال العدم الأصلي: عدم وجوب صلاة سادسة. ومثال الإعدام: كالخمر إذا تخلل، فيباح بالقياس على أصله قبل التخمير، فيستدل برفع الحكم (¬5) على إباحته، ومعنى الإعدام هو رفع الحكم بعد ثبوته ورفع الثابت يحتاج إلى رافع، بخلاف العدم الأصلي، فإنه يرتفع بنفسه ولا يحتاج إلى رافع، لئلا يكون تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل محال (¬6). فظهر (¬7) الفرق بين العدم والإعدام (¬8). ¬
قوله: (الخامس: [قال] (¬1) الجبائي (¬2) والكرخي: لا يجوز [إِثبات] (¬3) أصول العبادات بالقياس (¬4)). ش: وقال غيرهما (¬5) بالجواز (¬6). مثال ذلك: المريض العاجز عن كل أمر سوى نيته (¬7)، هل يخاطب بالصلاة قياسًا على الإيمان أم لا؟ قال ابن الحاجب: فإن عجز عن كل أمر سوى نيته فلا نص، وعن الشافعي إيجاب القصد (¬8)، وعن أبي حنيفة (¬9) سقوط (¬10) ........... ¬
(¬1). قال ابن بشير: الاحتياط (¬2) مذهب الشافعي، والرجوع إلى براءة الذمة مقتضى مذهب الحنفية (¬3). حجة الجواز من وجهين: أحدهما: أن الأصول أحكام شرعية (¬4)، فيجوز إثباتها بالقياس كسائر الأحكام الشرعية (¬5). الوجه الثاني: أن أصل العبادة إذا وجب لنوع من المصلحة، ووجدنا تلك المصلحة في فعل آخر، وجب أن يكون ذلك الفعل واجبًا، تكثيرًا لتلك المصلحة (¬6) / 321/. حجة المنع من وجهين (¬7): ¬
أحدهما: [أن] (¬1) مقتضى الدليل ألا يعمل بالظن، خالفناه في إثبات فروع العبادات بالقياس، فبقي فيما عداه على مقتضى الدليل. الوجه الثاني: أن أصول العبادات أمر مهم (¬2) في الدين، فلا يثبت إلا بنص (¬3) الشارع لاهتمامه (¬4) به، بخلاف الفروع، فإن الأصل ينبه على فرعه (¬5)، فيكتفى فيه بالقياس. أجيب عن الأول: بأن الأدلة الدالة على نفي العمل بالظن محمولة على أصول العبادات، والأدلة الدالة على القياس عامة للأصول والفروع، فالجمع بين الدليلين أولى ما أمكن (¬6). أجيب عن الثاني: بأن مصلحة الأصول إما أن تكون أعظم من مصلحة الفروع أو مثلها؛ لأن الفرع لا يكون أضعف من أصله (¬7)، وعلى كل تقدير يصح القياس تحصيلًا لتلك المصلحة التي هي أعظم بطريق الأولى، ¬
والمصلحة (¬1) المساوية؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر (¬2). قوله: (السادس: يجوز عند ابن القصار (¬3) والباجي (¬4) والشافعي (¬5) جريان القياس في المقدرات والحدود والكفارات (¬6)، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه (¬7)؛ لأنها أحكام شرعية). ش: مثال المقدرات: كنصب الزكاة. ومثال الحدود: حد الزنا (¬8). ومثال الكفارات: كفارة الظهار، [وكفارة اليمين] (¬9)، وكفارة فدية ¬
الأذى. وهذا الخلاف الذي أشار إليه المؤلف هو سبب اختلاف العلماء في قياس حد الشرب على حد القذف، وكذلك قياس (¬1) النباش على حد السارق، وكذلك قياس كفارة الأكل على كفارة الجماع في الصيام. حجة الجواز من ثلاثة أوجه: أحدها: ما قال المؤلف وهو أن هذه الأشياء (¬2) أحكام شرعية، فجاز فيها القياس كما جاز في غيرها من الأحكام الشرعية. الوجه الثاني: عملًا بالأدلة الدالة على كون القياس حجة (¬3). الوجه الثالث: أن العلل الشرعية أمارات ومعرفات، فجاز نصبها في المقدرات كغيرها (¬4). حجة المنع: [أن] (¬5) المقدرات كنصب الزكاة، والحدود، والكفارات، أمور تعبديات لا يعقل معناها، وما لا يعقل معناه تعذر فيه [القياس] (¬6)؛ لأنه لا بد من جامع، ولا جامع، فلا قياس (¬7). ¬
أجيب عن هذا: بأنا لا نقول بالقياس إلا حيث ظفرنا بالمعنى الذي لأجله ثبت الحكم في الأصل، فلا ترد علينا مواطن التعبد (¬1). قوله: (خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه)، يرد على الحنفية (¬2) أنهم ناقضوا أصلهم في تقديرهم مسح الرأس [بالربع] (¬3)، وكذلك مسح الخف (¬4)، وقاسوا كفارة الأكل في رمضان على (¬5) كفارة الجماع (¬6) (¬7). قوله: (السابع: [يجوز القياس] (¬8) عند الشافعي على الرخص، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه) (¬9). ش: وفي القياس على الرخص قولان في مذهب مالك (¬10). وقد خرجوا على هذا الخلاف في المذهب فروعًا كثيرة، منها: الخلاف في ¬
المسح على الجوربين (¬1) (¬2)، والجرموقين (¬3) (¬4)، وغير ذلك. حجة الجواز من وجهين (¬5): أحدهما: أنها أحكام شرعية فجاز القياس عليها كغيرها من الأحكام الشرعية. الوجه الثاني: الأدلة الدالة على كون القياس [حجة] (¬6). حجة المنع: أن الرخص مخالفة للدليل، فالقياس عليها يؤدي إلى كثرة (¬7) مخالفة الدليل، وذلك غير سائغ (¬8) (¬9) (¬10). ¬
أجيب عنه: بأن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل عملًا بالاستقراء، وتقديم الأرجح هو شأن صاحب الشرع، وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي من أجلها (¬1) خولف الدليل في صورة أخرى، وجب أن يخالف (¬2) الدليل بها عملًا برجحانها، فنحن على هذا إنما كثرنا موافقة الدليل لا مخالفة (¬3) الدليل (¬4). قوله: (الثامن (¬5): لا يدخل القياس فيما طريقه الخلقة (¬6) والعادة، كالحيض، و [لا] (¬7) فيما [لا] (¬8) يتعلق به عمل، كفتح مكة عنوة ونحوه). ش: الخلقة (¬9): هي الطبيعة (¬10)، فلا تقاس (¬11) طبيعة زيد [على] (¬12) ¬
طبيعة (¬1) عمرو مثلًا؛ لأن الطبائع تختلف، فرب طبيعة يغلب عليها معنى لا يغلب على طبيعة أخرى. قال المؤلف في الشرح: لا يمكن (¬2) أن تقول: فلانة تحيض عشرة أيام وينقطع دمها، فوجب أن تقيس عليها غيرها (¬3). واعترض هذا الذي قاله المؤلف بقياس المبتدأة على أيام لداتها؛ لأن ذلك روي عن مالك (¬4) (¬5). قوله: (كالحيض)، هذا مثال الخلقة (¬6)، أي كالحيض بالنسبة إلى أقله وأكثره، [(7) وكالطهر أيضًا بالنسبة إلى أقله وأكثره، [(8) وكالنفاس بالنسبة إلى أقله وأكثره] (¬7) (¬8). فلا تقاس امرأة بامرأة في جميع ذلك، فكل طبيعة يحكم عليها (¬9) بحكمها، ولا يحكم على طبيعة بحكم غيرها. ¬
قوله: (والعادة (¬1)) , أي لا يدخل القياس أيضًا فيما طريقه العادة والعرف (¬2)؛ لأن العوائد تختلف باختلاف الأقاليم، فرب إقليم يغلب عليه معنى (¬3) لا يغلب على غيره من الأقاليم. قوله: (ولا فيما [لا] (¬4) يتعلق به عمل، كفتح مكة عنوة ونحوه). هذا قول الإمام في المحصول (¬5). قال المؤلف في الشرح: فإن أراد أن مكة فتحت عنوة، فوجب أن يكون دمشق (¬6) مثلًا مثلها، فهو صحيح؛ لأن العنوة تابعة لأسبابها، ولا يمكن إثبات عنوة ولا صلح (¬7)، بالقياس. وإن أراد أن العنوة ليس فيها حكم شرعي، فليس الأمر كذلك؛ لأن العنوة تتعلق بها أحكام شرعية، كالحبس، والإجارة، والشفعة، والقسمة، والإرث، وغير ذلك. ¬
فقد قال مالك: إن أرض العنوة يمنع فيها ذلك كله (¬1) (¬2). وقال الشافعي: يجوز فيها جميع ذلك (¬3). فإذا تعلقت (¬4) بها هذه الأحكام، أمكن التمسك في بعضها بالقياس إن وجد جامع يقتضيه، غير أن الإمام أطلق القول (¬5) في ذلك، والحق هذا التفصيل (¬6). / 322/. ... ¬
الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح
الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح وفيه خمسة فصول: الفصل الأول: هل يجوز تساوي الأمارتين .. إلخ. الفصل الثاني: في الترجيح. الفصل الثالث: في ترجيحات الأخبار الفصل الرابع: في ترجيح الأقيسة. الفصل الخامس: في ترجيح طرق العلة.
الفصل الأول
الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح (¬1) وفيه خمسة فصول: الفصل الأول (¬2) اختلفوا: هل يجوز تساوي الأمارتين؟ (¬3) (¬4) فمنعه الكرخي (¬5)، وجوزه ¬
الباقون، والمجوزون اختلفوا، فقال القاضي أبو بكر منا (¬1) وأبو علي وأبو هاشم (¬2): يتخير (¬3)، ويتساقطان [عند بعض الفقهاء] (¬4). قال الإِمام رحمه الله: إِن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين فهو (¬5) متعذر، وإِن وقع في فعلين والحكم واحد، كالتوجه إِلى جهتين للكعبة فيتخير (¬6). [و] (¬7) قال الباجي في القسم الأول: إِذا تعارضا في الحظر والإِباحة يتخير (¬8) (¬9). وقال الأبهري: يتعين الحظر: بناء على أصله أن الأشياء على الحظر (¬10). وقال أبو الفرج: تتعين الإِباحة، بناء على أصله أن الأشياء على ¬
الإِباحة (¬1). فالثلاثة رجعوا إِلى حكم العقل (¬2) على أصولهم). ش: [قوله] (¬3): (يتخير)، هذا هو المشهور. قوله: (ويتساقطان)، وهو القول بالتوقف، وهو شاذ. مثال تعارضهما في فعل واحد: قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقّ بِرَدِّهِنَّ} (¬4). قوله (¬5): (وبعولتهن)، يقتضي ثبوت الزوجية فيحل وطء الرجعية (¬6). وقوله: (وأحق بردهن)، يقتضي زوال (¬7) الزوجية (¬8) فيحرم وطؤها، والجمع بين التحليل والتحريم في شيء واحد متعذر. حجة الكرخي القائل بمنع تساوي الأمارتين: أن الظنون تختلف ولا تنضبط؛ لأنها تابعة للعقول والطبائع، والعقول والطبائع مختلفة غير منضبطة، فتابع المختلف [مختلف] (¬9) (¬10). ¬
فعلى قول الكرخي: لا بد أن تكون إحدى الأمارتين راجحة والأخرى مرجوحة، فيعمل عنده بالراجحة. حجة الجواز: أن الغيم الرطب (¬1) في زمان الشتاء قد يستوي العقلاء في موجَبه (¬2) وما يقتضيه حاله، وكذلك الجدار المائل لا بد أن يجتمع اثنان على حكمه، وإن خالفهما (¬3) الباقون، وذلك كاف في المطلوب؛ لأن المدعى الجواز لا الوجوب، والجواز يصدق بصورة [ما] (¬4)، والممتنع لا يصدق بكل حال (¬5). حجة القول بالتغيير: أن التساوي يمنع الترجيح، وإعمال الدليل الشرعي واجب بحسب الإمكان، فإذا خيرناه بينهما، فقد أعملنا الدليل الشرعي من حيث الجملة، بخلاف إذا قلنا بالتساقط، فإنه إلغاء للدليل الشرعي بالكلية (¬6). حجة القول بالتساقط من وجهين: أحدهما: أن الحكم لا بد له من مستند، والمستند إما علم أو ظن، ومع التساوي لا علم ولا ظن، فلا حكم. ¬
الوجه الثاني: [أنَّا] (¬1) إذا خيرنا فقد رجحنا الإباحة، مع أنها مساوية (¬2) للحظر، والرجحان مع التساوي محال. أجيب عن الأول: أن الظن المنفي إنما هو الظن الناشئ عن أحدهما عينًا، لا ظن التخيير الناشئ عن التساوي، فإنه لا نسلم أنه غير حاصل. وأجيب عن الثاني: أن التخيير إنما نشأ عن تساوي (¬3) الأمارتين، لا عن أمارة الإباحة، فلا يلزم الترجيح (¬4) من غير مرجح، فقد تشترك المختلفات في اللازم الواحد، كاشتراك الإنسان والفرس في الحيوانية (¬5). قال المؤلف في شرحه (¬6): وأما قول الإمام: هذا متعذر في [فعل] (¬7) واحد باعتبار حكمين، فليس كما قال، فإن المتعذر هو ثبوت حكمين لفعل واحد من جهة واحدة، أما ثبوتهما له من جهتين مختلفتين فلا يمتنع ذلك، كالصلاة في الدار المغصوبة، هي حرام واجبة من جهتين مختلفتين (¬8)، وتعارض الأمارتين ليس من ذلك، فإنا لا نقول بمقتضاهما الذي هو الوجوب والحظر مثلًا، بل نقول: إنهما اقتضيا حكمين متضادين، فلو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضي والمانع في جميع صور الشريعة، وليس كذلك، فلا ¬
محال حينئذ، انتهى نصه (¬1). انظر قول المؤلف: ولو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضي والمانع، فإن مذهب الإمام منع اجتماعهما، فهو استدلال بمحل (¬2) النزاع، وقد تقدم شبهة الإمام في ذلك والرد عليه في باب القياس، في قول المؤلف: يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، ولا يتوقف على وجود المقتضي عند الإمام، خلافًا لأكثرين (¬3) في التوقف (¬4). قوله: (كالتوجه إِلى جهتين للكعبة)، هذا مثال التعارض في حكم واحد في فعلين، وذلك أن تدل أمارة (¬5) على أن القبلة في جهة، وتدل أمارة أخرى على [أن] (¬6) القبلة في جهة أخرى مستدبرة للجهة الأولى، فالاستقبال والاستدبار فعلان، وحكمهما واحد، وهو وجوب التوجه، فيتخير في الجهتين كما قال الإمام (¬7). قال ابن الحاجب في الفروع: فإن أغمي عليه، ففي تخييره، أو أربع ¬
صلوات، أو تقليده، ثلاثة أقوال (¬1). قوله: (وقال الباجي في القسم الأول)، وهو إذا وقع التعارض في فعل واحد بين حكمين، وهما الحظر والإباحة. مثاله: خنزير الماء، وذبيحة الكتابي (¬2)، والجمع بين الأختين بوطء (¬3) الملك. قال الباجي: بالتخيير، وقال الأبهري: يتعين الحظر، وقال أبو الفرج: تتعين الإباحة (¬4). قوله: (فالثلاثة رجعوا إِلى حكم العقل على أصولهم)؛ لأن الأمارتين عندهم لما تعارضتا تساقطتا، [فلما تساقطتا] (¬5) رجع كل واحد منهم إلى أصله في حكم الأشياء قبل ورود الشرائع (¬6). قوله: (فالثلاثة رجعوا إِلى حكم العقل على أصولهم)، يقتضي أن مستندهم (¬7) في ذلك هو العقل (¬8)، وليس الأمر كذلك؛ لأن ذلك [هو] (¬9) ¬
مستند أهل الاعتزال (¬1). وقد نبه المؤلف على هذا في شرحه في الحسن والقبح. فقال: تنبيه: قول من قال من الفقهاء بأن الأشياء قبل ورود الشرائع على الحظر أو الإباحة ليس موافقًا للمعتزلة، وإنما ذلك لمستند شرعي. أما الأبهري: فمستنده في الحظر: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أحِلَّ لَهُمْ} (¬2)، وقوله تعالى/ 323/: {أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ] (¬3)} (¬4) [فإن] (¬5) مفهوم (¬6) هاتين الآيتين يقتضي أنها كانت قبل ذلك على الحظر. وأما أبو الفرج فمستنده [في] (¬7) الإباحة: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم مَّا فِي الأَرْضِ [جَمِيعًا] (¬8)} (¬9) وقوله تعالى: {أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬10) فإن ذلك يدل على الإذن في الجميع. فهذه المدارك الشرعية تدل بعد ورودها على أن الأشياء قبل ورود الشرع إنما هي على الحظر أو على الإباحة، فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء: لا علم لنا بحظر ولا ¬
بإباحة (¬1)، بخلاف المعتزلة فإنهم يقولون: المدارك عندنا العقل (¬2)، فلا يضرنا عدم ورود الشرائع إلا فيما لا يمكن الاطلاع على حكمته (¬3). فمن ها هنا افترق هؤلاء الفقهاء من (¬4) المعتزلة، فاتفقوا في الحكم واختلفوا في المدرك (¬5). فقول المؤلف ها هنا: رجعوا إلى حكم العقل، غير صحيح، بل رجعوا إلى حكم النص، كما تقدم. قال المؤلف في شرحه: ورجح سيف (¬6) الدين الآمدي الحظر على الإباحة عند التعارض بثلاثة أوجه: أحدها: أن الحظر إنما يكون لتضمن المفاسد، وعناية الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من عنايتهم بتحصيل المصالح، فيقدم الحظر عنده على المباح والواجب والمندوب. الوجه الثاني: أن الحظر موافق للأصل (¬7)، وهو عدم الفعل، لأن عدم الفعل هو الأصل، بخلاف غيره، فإن مقتضاه الفعل، وهو (¬8) خلاف الأصل. ¬
الوجه الثالث: [أن الحظر] (¬1) يخرج الإنسان عن عهدته بمجرد تركه وإن لم يشعر به، بخلاف الوجوب ونحوه (¬2)، فإنه لا بد فيه من الشعور حتى يخرج من العهدة، فالحظر (¬3) بهذا الاعتبار أقرب إلى الأصول (¬4)، فهذه ترجيحات (¬5) غير تلك الأصول المتقدمة (¬6). قوله: (وإِذا نقل عن مجتهد قولان)، فإِن كانا في موضعين وعلم التاريخ، عد الثاني رجوعًا عن الأول. وإِن لم يعلم (¬7) حكي عنه القولان، ولا يحكم عليه بالرجوع (¬8). وإِن كانا في موضع واحد، بأن يقول: في المسألة قولان، فإِن أشار إِلى تقوية أحدهما فهو قوله، وإِن لم [يعلم] (¬9) [فقيل] (¬10): يتخير السامع (¬11) بينهما (¬12). ¬
ش: فإذا (¬1) علم التاريخ عد القول الثاني رجوعًا عن الأول (¬2). قال المؤلف في شرحه: فلا يجوز الفتيا بالأول (¬3)، ولا تقليده فيه، ولا يعد من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص صاحب الشريعة (¬4)، لأ [ن] (¬5) نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنصوص صاحب الشريعة بالنسبة إلى المجتهد، فإن المتأخر منها (¬6) ناسخ للمتقدم. قال المؤلف في باب الاجتهاد في الفصل السابع في نقض الاجتهاد: أما (¬7) المجتهد في نفسه، فلو تزوج امرأة علق (¬8) طلاقها الثلاث (¬9) قبل الملك بالاجتهاد فإن حكم به حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينقض، وإن لم يحكم به الحاكم نقض، ولم يجز له إمساك المرأة. ¬
وأما العامي: فإذا فعل ذلك بقول المفتي ثم تغير اجتهاده، فالصحيح أنه تجب المفارقة، قاله الإمام، انتهى (¬1). قوله: فالصحيح: أنه تجب المفارقة، قال في الشرح: لأن الاجتهاد الأول منسوخ بالاجتهاد الثاني (¬2). [و] (¬3) قال: وقيل: لا تجب المفارقة (¬4)؛ لأن الثاني هو اجتهاد أيضًا، وليس إبطال أحدهما بالآخر أولى من العكس، فلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد إلا إذا قطع ببطلان الأول، فتجب المفارقة اتفاقًا. قوله: (وإِن لم يعلم، حكي عنه القولان (¬5)، ولا يحكم عليه بالرجوع). أي: إذا لم يعلم التاريخ، فلا يحكم عليه بالرجوع (¬6) عن أحدهما. قال المؤلف في الشرح: ولا يعمل بواحد منها؛ لحصول الجزم بأن (¬7) أحدهما مرجوع [عنه، والمرجوع (¬8) عنه] (¬9) منسوخ، ولكن لا يعلم الناسخ ¬
من المنسوخ، فيحرم العمل بكل واحد منهما، بمنزلة اختلاط [الجائز بالممنوع، كاختلاط] (¬1) المذكاة بالميتة، والأجنبية بالأخت من الرضاع (¬2). قوله: ([وإِن] (¬3) كانا في موضع واحد)، بأن يقول: في المسألة قولان، فإن أشار إلى تقوية أحدهما فذلك قوله، أي: ويترك القول الآخر، وإن لم يعلم كونه مشيرًا إلى تقوية أحدهما، فقيل يتخير المقلد بين القولين، ووجه هذا التخيير قياسًا (¬4) على تعارض الأمارتين؛ لأن المشهور في تعارض الأمارتين هو التخيير كما تقدم، فإن (¬5) نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشريعة (¬6) إلى المجتهد، وكذلك يحمل (¬7) عام المجتهد على خاصة (¬8) (¬9)، ومطلقه على مقيده، وناسخه على منسوخه، وصريحه على محتمله، كما يعمل ذلك في نصوص صاحب الشرع (¬10). قال المؤلف في شرحه: كون المجتهد جازمًا بالقولين (¬11) في مسألة واحدة ¬
محال ضرورة، وإنما معنى ذلك أنهما (¬1) قولان محتملان للعلماء، أي يمكن أن يقول (¬2) بكل واحد منهما عالم، لتقاربهما من الحق (¬3). ... ¬
الفصل الثاني في الترجيح
الفصل الثاني في الترجيح ش: أي في ترجيح الأدلة بعضها على بعض. قوله: (والأكثرون اتفقوا على التمسك به، وأنكره بعضهم)، وقال: يلزم التخيير [أ] (¬1) والتوقف (¬2). ش: حجة الجواز ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: قوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر، والله متولي السرائر". الثاني: قوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم"، فإنه يقتضي تغليب (¬1) الظاهر الراجح؛ لأن الظاهر كون الحق (¬2) معهم. الثالث: بالقياس على الفتيا، والشهادة، وقيم المتلفات، وغير ذلك، فإن الظاهر فيها الصدق (¬3)، والكذب مرجوح، وقد اعتبر فيها الراجح إجماعًا، فكذلك ها هنا (¬4). حجة القول بمنع الترجيح: [أن] (¬5) الدليلين (¬6) إذا تعارضا ورجح أحدهما، ففي كل واحد منهما مقدار معارض بمثله، فيسقط المثلان/ 324/ لتعارضهما ويبقى مجرد الرجحان، [ومجرد الرجحان] (¬7) ليس بدليل، وما ليس بدليل لا يصح الاعتماد عليه، فتتخرج هذه المسألة على تساوي الأمارتين، وقد تقدم أن التخيير هو المشهور فيها (¬8) (¬9). والجواب عن هذا: أنا لا نسلم أن القول بالترجيح حكم بمجرد الرجحان، بل الحكم بالدليل الراجح، كالقضاء بأعدل البينتين، فإنه قضاء بالبينة ¬
الراجحة لا برجحانها، فكذلك ها هنا، فالحكم إنما هو بالدليل الراجح لا بالرجحان. وقولهم: إن المثلين يتساقطان، ويبقى (¬1) مجرد الرجحان، ممنوع (¬2)؛ فإنا (¬3) لا نقضي بمزيد العدالة دون أصلها، بل نقضي (¬4) بأصل العدالة مع الرجحان (¬5). قوله: (ويمتنع الترجيح في العقليات؛ لتعذر التفا [وت] (¬6) بين القطعيين). ش: هذا قول الإمام (¬7)، وقال غيره: لا يمتنع الترجيح في ¬
العقليات (¬1). حجة [القول] (¬2) بعدم الترجيح في العلم وجهان (¬3): أحدهما: أن التفاوت يؤدي إلى انقسام المعنى، وذلك محال، وذلك أنه لو دخل الترجيح في العقلي (¬4) لدخله التفاوت، ولو دخله التفاوت لدخله التبعيض والانقسام، وانقسام المعنى محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال. الوجه [الثاني] (¬5): أن القول بالتفاوت يلزم (¬6) منه الجمع بين النقيضين، وذلك محال؛ لأن التفاوت إنما يكون بزيادة في أحد المحلين ونقصان في الآخر، ومحل النقصان لا بد أن يقوم به نقيضه، ونقيض العلم عدم العلم، فيلزم أن يكون المحل الواحد عالمًا غير عالم، وهو محال. ¬
حجة القول بالتفاوت (¬1) وجهان: المنقول، والمعقول. أما المنقول: فقوله (¬2) تعالى لإبراهيم عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬3)، والطمأنينة معناها: معرفة الشيء من جميع جهاته، وقال عليه السلام: "لم يفقكم أبو بكر بصلاة ولا بصوم، ولكن بما وقر في قلبه, لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح" (¬4)، وقال عليه السلام: "أنا أعرفكم بالله" (¬5)، ........................................................... ¬
وقال عليه السلام: "أشهد (¬1) أني رسول (الله) (¬2) حقًا" (¬3)؛ وذلك لما يراه في نفسه من الأمور الدالة على نبوته، سوى ما شاركه فيه غيره من العلم به، وقد قيل له عليه السلام: كان عيسى عليه السلام يمشي [على الماء] (¬4)، فقال: "لو ازداد (¬5) يقينًا لمشى على الهواء" (¬6)، [أي على الريح] (¬7)، وأشار بذلك إلى نفسه، حيث مشى فوق السموات وتخلف البراق (¬8) ........................... ¬
(¬1)، وقد قال عليه السلام لأصحابه رضي الله عنهم: "أي (¬2) المؤمنين أعظم إيمانًا؟ "، فقالوا: [الملائكة] (¬3)، فقال: "ولم لا يكونون (4) كذلك وهم يشاهدون الأمر؟ " فقالوا: الأنبياء، فقال: "ولم لا يكونون (¬4) كذلك والوحي ينزل عليهم بالأمر؟ " فقالوا: نحن، فقال: "ولم لا تكونون كذلك وأنتم تشاهدون الأشياء، وأنا بين أظهركم؟ " فقال: "هم قوم يأتون آخر الزمان يسمعون الأشياء (¬5) سماعًا، ويتهالكون عليها حبًا واشتياقًا، للعامل منهم أجر سبعين منكم" فقالوا: منهم، فقال: "بل (¬6) منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون ذلك، وإني إليهم لمشتاق" (¬7). وهذا كله يدل على جواز التفاوت والترجيح في القطعيات. ¬
ويدل عليه أيضًا قول الشاعر: ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي (¬1) الخمر ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر (¬2) وذلك أنه إذا شرب الخمر فقد علمها ضرورة وأدرك (¬3) طعمها ولونها وريحها، وبقي له من الإدراكات السمع. فقال منبهًا على الإدراك السمعي: وقل لي: هي الخمر، فإن من علم الشيء من وجه، فلا يساوي من علمه من جميع (¬4) الوجوه. وأما الدليل المعقول فهو: [أن] (¬5) العلم الضروري أجلى (¬6) من العلم النظري، فإن علمك [بأن] (¬7) الواحد (¬8) نصف (¬9) الاثنين أجلى (¬10) من علمك بأن الواحد سدس عشر الستين (¬11). ¬
قوله: (ويمتنع الترجيح (¬1)) هو أحد القولين المذكورين. وهذه القاعدة [هي] (¬2) سبب الخلاف في الإيمان القلبي، هل يزيد وينقص (¬3) أم لا؟ قوله: (ومذهبنا ومذهب الشافعي الترجيح بكثرة الأدلة، خلافًا لقوم) (¬4). [ش] (¬5): حجة الجواز: أن كثرة الأدلة تزيد ظنًا بالمدلول، والظن مرجح، والعمل بالراجح متعين (¬6). حجة [المنع] (¬7): القياس على منع الترجيح بالعدد في الشهادة، فإن المشهور المنع منه، بخلاف الترجيح بمزيد العدالة (¬8). ¬
والجواب: أن الترجيح بالعدد إنما منع في الشهادة سدًا لباب الخصومات، وحسمًا لمادة النزاع بين الخصمين، فلو فتح هذا الباب لأدى إلى أن يأتي كل واحد من الخصمين بأكثر من عدد شهود صاحبه، ولا يزال كل واحد منهما يتحيل في ذلك، فلا تكاد تنفصل خصومة، بخلاف الترجيح بمزيد العدالة؛ إذ ليس في قدرة الخصم أن يُصَيّر بينته أعدل من بينة خصمه، والترجيح بكثرة الأدلة من هذا القبيل، فليس في قدرته أن يصير دليلًا مرجوحًا راجحًا، ولا أن يصير قليل الأدلة كثيرها؛ لأن الأدلة قد استقرت من جهة صاحب الشرع فلا قدرة على الزيادة (¬1) فيها، بخلاف غيره، فالترجيح (¬2) بكثرة الأدلة كالترجيح بمزيد العدالة لا كالترجيح بالعدد، فظهر الفرق [بينهما] (¬3). قوله: (وإِذا تعارض دليلان فالعمل بكل واحد منهما [من وجه] (¬4) أولى من العمل باحدهما دون الآخر، وهما إِن كانا عامين (¬5) معلومين والتاريخ [معلوم] (¬6) نسخ [المتأخر المتقدم (¬7)، وإِن كان مجهولًا (¬8) سقطا، وإِن علمت المقارنة (¬9) خير بينهما، وإِن كانا مظنونين ¬
فإِن علم المتأخر نسخ] (¬1) المتقدم، وإِلا رجع (¬2) إِلى الترجيح، وإِن كان أحدهما معلومًا (¬3) والآخر مظنونًا (¬4) والمتأخر المعلوم نسخ، [أ] (¬5) والمظنون لم ينسخ، وإِن جهل الحال تعين المعلوم، وإِن كانا خاصين فحكمهما حكم العامين، وإِن كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا (¬6) قدم (¬7) الخاص (¬8) على العام، لأنه لا يقتضي إِلغاء (¬9) أحدهما بخلاف العكس، وإِن كان أحدهما عامًا من وجه، كما في قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (¬10) / 325/ مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬11) وجب الترجيح إِن كانا مظنونين). ش: هذا (¬12) التقسيم الذي ذكره المؤلف هو للإمام (¬13) فخر الدين في المحصول (¬14)، وحصر ذلك: أن الدليلين إذا تعارضا، فإما أن يمكن الجمع ¬
بينهما أولا، فإن لم يمكن الجمع بينهما ففيه أربعة أقسام وهي: إما أن يكونا عامين، وإما أن يكونا خاصين، وإما أن يكون أحدهما عامًا والآخر خاصًا، وإما أن يكون أحدهما عامًا من وجه وخاصًا من وجه، والآخر كذلك. فهذه (¬1) أربعة أقسام، وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة: إما أن يكونا معلومين، وإما أن يكونا مظنونين، وإما أن يكون أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا، فثلاثة في أربعة باثني عشر قسمًا، وفي كل واحد من هذه الأقسام إما معلوم التاريخ، وإما مجهول (¬2) التاريخ بينهما، فهذه أربعة وعشرون قسمًا (¬3). قوله: (فالعمل بكل واحد منهما [من] (¬4) وجه (¬5) أولى من العمل بأحدهما دون الآخر). قال المؤلف: إنما رجح العمل بكل واحد منهما من وجه؛ لأن كل واحد منهما (¬6) يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الوجه الذي ترك العمل به، ولا يجوز إطلاقه بدون جميع ما دل عليه، فإن ذلك يُصَيّر اللفظ باطلًا بالكلية (¬7)، وأما التقدير الأول فهو أولى؛ لأن فيه الجمع بين الدليلين، فهو أولى من اطّراح (¬8) ¬
أحدهما (¬1). مثال ذلك: قوله عليه السلام: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2) مع قوله عليه السلام: "من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬3)، فيحمل الأول على الندب، ويحمل الثاني على نفي الحرج. وكذلك نهيه عليه السلام عن الشرب (¬4) قائمًا، ثم روي عنه أنه شرب قائمًا فيحمل الأول على الكراهة، و [يحمل] (¬5) الثاني على نفي الحرج. وقوله عليه السلام: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول ولا غائط" (¬6). وروي عنه أنه فعل ذلك في بيته، فيحمل الأول على الأفضية، ويحمل الثاني على الأبنية. ¬
وكذلك قوله عليه السلام: "خير الشهداء من شهد قبل أن يستشهد" (¬1) مع قوله عليه السلام: "شر الشهداء من شهد [قبل أن] (¬2) يستشهد" (¬3) (¬4)، فيحمل الأول على حقوق الله تعالى، ويحمل الثاني على حقوق الآدميين. ومثاله أيضًا: إذا شهدت بينة أن الدار لزيد، وشهدت أخرى أنها لعمرو، فإنها تكون لهما معًا (¬5)؛ جمعًا بين الدليلين. قوله: (وهما إن كان عامين معلومين والتاريخ معلوم نسخ المتأخر ¬
المتقدم) لأنه إذا لم يمكن الجمع بينهما تعين النسخ (¬1)؛ لأنه يشترط في النسخ أن يكون المتأخر مساويًا (¬2) أو أقوى (¬3)، وهو ها هنا مساوٍ (¬4)، فيتعين النسخ. مثاله: قوله تعالى: {وَالَّذينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} (¬5) إلى قوله: {الْحَوْلِ} (¬6) (¬7) مع قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَوْنَ مِنكُمْ} إلى قوله: {[أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ] (¬8) وَعَشْرًا} (¬9). قوله: (وإِن كان مجهولًا سقطا). مثاله: [قوله تعالى] (¬10): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية (¬11)، ظاهره تعذيب القاتل وإن تاب. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية (¬12) ظاهره عدم تعذيب القاتل التائب (¬13). فالدليلان عامان مقطوعان مع جهل التاريخ؛ لأنه إذا جهل التاريخ وجب ¬
الوقف؛ إذ ليس نسخ أحدهما للآخر بأولى من العكس فيسقطان، فإذا (¬1) سقطا رجع إلى الأصل، وهو عدم الحكم، فيجب الوقف حتى يدل الدليل (¬2). قوله: (وإِن علمت المقارنة خير بينهما)، أي: ولا نسخ؛ لأن من شرط النسخ التراخي، ولا تراخي مع المقارنة، فلا نسخ، وكل واحد منهما [حجة قطعًا، فيتعين (¬3) التخيير بينهما؛ لئلا يتهافت الخطاب (¬4). قوله: (وإِن كانا مظنونين فإِن علم المتأخر نسخ المتقدم لحصول المساواة بينهما في الظن) (¬5). مثالهما: قوله عليه السلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي ترد عليكم، وأما الآن فكلوا وتصدقوا وادخروا" (¬6). قوله: (وإِلا رجع إِلى الترجيح)، أي: وإن لم يعلم المتأخر منهما] (¬7) رجع إلى الترجيح، ولا سبيل ها هنا إلى التساقط، بخلاف المعلومين، لتعذر التفاوت بين المعلومين. ¬
مثاله: قوله عليه السلام: "وهل هو إلا بضعة منك؟ " (¬1) مع قوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ" (¬2) هذا أرجح؛ لأنه رواه عدد كثير، بخلاف الأول؛ لأنه رواه عدد قليل. ولو علمت المقارنة ها هنا في المظنونين خير بينهما، كما يخير (¬3) في المعلومين. قوله: (وإِن كان أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا، والمتأخر المعلوم نسخ، أو المظنون لم ينسخ). مثال المتأخر المعلوم: قوله: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول المغرب عند الغروب، وصلاها بنا في اليوم الثاني عند الشفق (¬4)، نسخه قوله ¬
عليه السلام: "صلى به جبريل عليه السلام صلاة المغرب في اليومين عند الغروب" (¬1) هذا معلوم، والأول مظنون (¬2). وذلك [أنه] (¬3) يشترط في الناسخ [أن يكون] (¬4) مساويًا [أ] (¬5) وأقوى. فإن [كان] (¬6) المعلوم هو المتأخر نسخ لأنه أقوى (¬7). وإن كان المظنون هو المتأخر لم ينسخ لأنه أضعف (¬8). مثاله: حديث أهل قباء، وخالف فيه الباجي وأهل الظاهر، كما تقدم في باب النسخ، في الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ، في قول المؤلف: وأما ¬
جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلًا غير واقع سمعًا، خلافًا لأهل الظاهر والباجي منا، مستدلًا بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة (¬1). قوله: (وإِن جهل الحال تعين المعلوم)، لأجل رجحانه فإن العمل (¬2) بالراجح متعين (¬3) (¬4). مثاله: قوله عليه السلام: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن [فهي خداج] " (¬5) (¬6) هذا معلوم، وقوله: "كل ركعة [لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج] " (¬7) (¬8) مظنون، .................................................. ¬
وإنما قلنا [بأن] (¬1) الأول (¬2) معلوم؛ لأن الرواة اتفقوا على مرفوعه (¬3) إليه عليه السلام، بخلاف كل ركعة. قوله: (وإِن كانا خاصين فحكمهما حكم العامين، الحكم كالحكم، والتقسيم كالتقسيم، وإِن كانا معلومين والتاريخ معلوم نسخ المتأخر المتقدم (¬4)). مثاله:/ 226/ قوله تعالى: {عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ} الآية (¬5). هذا خاص، وقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكمْ} (¬6) الآية (¬7) هذا خاص أيضًا. وإن جهل التاريخ، سقطا ووجب الوقف. وإن علمت المقارنة، خير بينهما. [وإن كانا مظنونين، فإن علم التاريخ، نسخ المتأخر المتقدم. وإن جهل التاريخ، رجع إلى الترجيح. ¬
وإن علمت المقارنة، خير بينهما] (¬1). وإن كان أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا، فإن كان المتأخر المعلوم نسخ، وإلا فلا، على ما تقدم. فإن كان أحدهما عامًا والآخر خاصًا [قدم الخاص] (¬2)، نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، مع قوله عليه السلام: "لا تقتلوا النساء والصبيان". وإنما يقدم الخاص على العام من وجهين (¬4): أحدهما: ما ذكر [هـ] (¬5) المؤلف، وهو أنه لا يقتضي إلغاء أحدهما بخلاف العكس؛ لأنا إذا قدمنا الحديث [بقيت] (¬6) الآية مستقلة (¬7) فيما عدا الصبيان، ولو قدمنا عموم الآية لبطل الحديث بالكلية. الوجه الثاني: أن دلالة (8) الخاص على ما دل عليه أقوى من دلالة (¬8) العام عليه، فإن العام يصح إطلاقه بدون ذلك الخاص، ولا يصح إطلاق الخاص بدون إرادة الصبيان؛ لأنهم جميع مدلوله. قوله: (وإِن كان أحدهما عامًا من وجه ما) في قوله تعالى: {وَأَنْ ¬
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬1) مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬2) [وجب الترجيح إن كانا مظنونين (¬3) ووجه العموم فيها: أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يتناول الحرتين والمملوكتين [خاص بالأخوات دون غيرهن] (¬4)، وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}] (¬5) يتناول الأختين والأجنبيتين [خاص بالمملوكات] (¬6). فصار أحد العمومين يقتضي تحريم الجمع بينهما، أي بين الأختين المملوكتين، والعموم الآخر يقتضي حلية الجمع بينهما، وليس تخصيص عموم أحدهما بأولى من العكس، فلا بد من مرجح، وإلا وجب الوقف. وقد اختلف أرباب العلم في الوطء [في] (¬7) الملك (¬8) في الأختين على ثلاثة أقوال: التحريم، والإباحة، والوقف (¬9). ¬
والمشهور التحريم ترجيحًا لآية التحريم على آية التحليل. لأن آية التحليل مخصوصة بموطوءات الآباء إجماعًا، وآية التحريم اختلف فيها، هل دخلها التخصيص أم لا؟ وما اختلف في تخصيصه أقوى مما خُصِّص إجماعًا، والعمل بالراجح متعين، فتقدم آية [التحريم] (¬1) لرجحانها؛ ولأنهما قد تعارضا، والتحريم في نظر الشرع أغلب؛ لاشتماله على المفسدة (¬2). وأما من قال بالإباحة: فلأنهما لما تعارضا تساقطا، والأصل براءة الذمة (¬3). وأما الوقف: فلأنهما لما تعارضا فلا أولوية، فوجب [الوقف] (¬4) والإلزام الترجيح من غير مرجح، وهو محال (¬5). وجوابه: أن المرجح حاصل. وقد تقدم بيانه، وبالله التوفيق بمنه. ومثاله أيضًا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اْلْبَحْرِ} (¬6) هو (¬7) عام للحي (¬8) والميت خاص بالبحر، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ [عَلَيْكُمُ] (¬9) الْمَيْتَةُ} (¬10) عام ¬
للبر، والبحر خاص (¬1) بالميتة دون الحي. قوله: (إِن كانا مظنونين)، كقوله عليه السلام: "لا صلاة نافلة بعد الفجر ... " الحديث [هذا] (¬2) خاص بالزمان عام بالمكان، وقوله: "من دخل المسجد على وضوء" عكسه، فهذا أرجح؛ لأن الأول ضعيف، لأنه خص (¬3) بالحزب، [وبالوتر] (¬4)، وبركعتي الفجر (¬5). ... ¬
الفصل الثالث في ترجيح الأخبار
الفصل الثالث في ترجيح (¬1) الأخبار وهو (¬2) إِما في الإِسناد، أو [في] (¬3) المتن (¬4). فالأول: قال الباجي: يترجح بأنه في قصة (¬5) مشهورة، والآخر ليس كذلك، أو راويه (¬6) أحفظ، أو أكثر، أو مسموع منه عليه السلام، والآخر مكتوب به، أو متفق على رفعه إِليه عليه السلام، أو تتفق (¬7) رواته عند (¬8) إِثبات الحكم به، أو راويه (¬9) صاحب القضية، أو إِجماع (¬10) أهل المدينة على العمل به، أو روايته (¬11) أحسن نسقًا، أو سالم من الاضطراب، أو موافق ¬
لظاهر الكتاب، والآخر ليس كذلك (¬1). ش: واعلم أن الترجيح يكون في الأخبار، ويكون في الأقيسة، ويكون في طرق العلل. وقد عقد المؤلف لكل واحد من هذه الثلاثة فصلًا (¬2) يخصه، فقدم الكلام ها هنا على ترجيح الأخبار. والترجيح في الأخبار على قسمين: إما في أسانيدها (¬3)، وإما في متنها. ومعنى إسنادها: أي إسناد الحديث إلى رواته (¬4). ومعنى متنها: أي لفظ الحديث [نفسه] (¬5). قوله: (فالأول)، أي فالقسم الأول الذي هو الترجيح في الإسناد. (قال الباجي: يترجح أحد الخبرين بأنه في قصة مشهورة، والآخر ليس كذلك) (¬6) (¬7). ¬
مثاله: الخلاف (¬1) بين العلماء في جواز النكاح من غير إشهاد، قال مالك: بجوازه (¬2)، وقال غيره: بمنعه (¬3). واستدل مالك بحديث أنس بن مالك، أنه عليه السلام تزوج صفية (¬4) في غزوة خيبر (¬5)، فأولم بتمر وأقط ولم يشهد؛ ولذلك شك الصحابة، هل اتخذها زوجة أو أم ولد، حتى حجبها فعلموا أنها زوجة (¬6)، وهذه قصة مشهورة (¬7). واستدل الشافعي بحديث ابن عباس رضي الله عنه، [وهو] (¬8) قوله عليه ¬
السلام: "لا نكاح إلا بولي، وصداق، وشاهدين (¬1) عدلين" (¬2) (¬3) وليس هذا الحديث في قصة مشهورة. فحديث مالك أولى لشهرته، فالإشهاد عند مالك من شروط الكمال، وعند الشافعي من شروط الصحة. قوله: (أو رواية أحفظ (¬4)). مثاله: اختلافهم في استسعاء العبد في خلاص نفسه، إذا لم يكن الشريك المقوم عليه مليًا. قال مالك: لا يستسعى العبد (¬5)، وقال الحنفي: يستسعى (¬6). ¬
واستدل مالك بحديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو قوله عليه السلام: "من أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". واستدل الحنفي بحديث سعيد بن أبي عروبة (¬1) وهو قوله عليه السلام: / 327/ "من أعتق نصيبًا له في مملوك فعليه إخلاصه من ماله إن كان له مال، وإن لم يكن له مال استسعى العبد في قيمته غير مشقوق عليه"، وحديث مالك أولى؛ لأن ابن عمر أحفظ من الآخر (¬2). ¬
قوله: (أو أكثر) (¬1)، مثاله: قوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ" رواه عدد كثير من الرجال والنساء، وهو دليل مالك (¬2). وعارضه الحنفي بقوله عليه السلام: "وهل هو إلا بضعة منك" (¬3) رواه عدد قليل. قوله: (أو مسموع منه عليه السلام، والآخر مكتوب به) (¬4). مثاله: اختلافهم في جلود الميتة، هل يطهرها الدباغ أم لا؟ فقال مالك: لا يطهرها الدباغ (¬5)، وقال غيره: يطهرها (¬6). ¬
واستدل الغير: بقوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" [وهذا الخبر] (¬1) مسموع منه عليه السلام. واستدل مالك بحديث عبد الله بن عكيم (¬2) قال: كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (¬3)، حديث السماع أولى من حديث الكتابة؛ لأن المكتوب يحتمل التزوير (¬4) والتصحيف والغلط. ولكن في هذا نظر؛ لأن التزوير (¬5) والتصحيف والغلط على كتابه عليه السلام في مثل هذا بعيد. قوله: (أو متفق [على رفعه] (¬6) إِليه عليه السلام)، أي والآخر مختلف ¬
في رفعه إليه (¬1). مثاله: اختلافهم في فرضية أم القرآن، هل هي فرض في جملة الصلاة أو هي فرض [في] (¬2) كل ركعة؟. استدل القائل بفرضها (¬3) في جملة [الصلاة] (¬4) بقوله عليه السلام: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج"، وهذا الحديث مرفوع إليه عليه السلام. واستدل (¬5) [القائل بفرضها في كل ركعة] (¬6) بقوله عليه السلام: "كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن ... " إلى آخره، وهذا موقوف على جابر (¬7) (¬8) (¬9)، فالمرفوع أولى من الموقوف؛ لأن المرفوع إليه حجة إجماعًا، وأما الموقوف على الراوي فهو محتمل؛ لأنه يحتمل أن يكون سمعه فيكون حجة، ويحتمل أن يكون اجتهادًا منه، فيخرج على الخلاف في قول ......................... ¬
الصحابي هل هو حجة أم لا؟ (¬1). قوله: (أو تتفق رواته عند إِثبات الحكم به) (¬2) (¬3). مثاله: اختلافهم في جواز النافلة بعد العصر. قال مالك: يمنع ذلك (¬4)، واستدل برواية [عمر] (¬5) رضي الله عنه، وهو قوله عليه السلام: "لا صلاة نافلة بعد العصر حتى تغرب [الشمس] (¬6) ". وقال أهل الظاهر بجوازه (¬7)، استدلالاً (¬8) بحديث عائشة رضي الله عنها [قالت:] (¬9) "ما دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر إلا صلى ركعتين" (¬10). ¬
فخبرنا أولى؛ لأنه لم يرو عن عمر غيره، وأما عائشة فقد روي عنها مثل ما ذكر عمر (¬1)، وإنما كان (¬2) أولى؛ لأن اتفاق رواته عند إثبات الحكم به دليل على قوة الخبر، فإن رواة [الخبر] (¬3) عن عمر متفقون، والرواة عن عائشة مختلفون. قوله: (أو راويه صاحب القضية) (¬4). مثاله: اختلافهم في [نكاح] (¬5) المحرم، جوزه الشافعي (¬6)، ومنعه ¬
مالك (¬1). استدل الشافعي: بحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: "تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهما محرمان" (¬2). واستدل مالك: بحديث ميمونة، قالت: "تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان" (¬3)، وهي صاحب القضية، وصاحب القضية أعلم بحال القضية من غيره. قوله: ([أ] (¬4) وإِجماع أهل المدينة على العمل به) (¬5) مثاله: اختلافهم في تربيع (¬6) الأذان (¬7). ¬
فقال مالك: بتربيع (1) التشهد، وتثنية التكبير. وقال غيره: بالعكس، وهو تربيع (¬1) التكبير، وتثنية التشهد. فالأول مذهب مالك، وعليه عمل أهل المدينة. وسبب الخلاف: اختلاف الأحاديث. وعمل أهل المدينة أولى؛ لأنها مهبط الوحي، ومعدن الرسالة، ومن عندهم (¬2) خرج العلم إلى غيرهم، فإذا لم يوجد الخبر بين أظهرهم، دل ذلك على كذبه أو نسخه (¬3). قوله: (أو روايته (¬4) أحسن نسقًا) (¬5). ¬
مثاله: اختلافهم في الأفضل من صفة الحج، هل الإفراد؟ قاله مالك (¬1)، أو القران؟ قاله أبو حنيفة (¬2). [واستدل مالك بحديث جابر، واستدل أبو حنيفة] (¬3) بحديث أنس. فحديث جابر أولى؛ لأنه وصف فيه حجه عليه السلام من أوله إلى آخره، لأنه قال: أفرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج، ثم فعل كذا ثم فعل كذا (¬4) (¬5)، فأتى به على أحسن نسق، وأما أنس فإنه قال: "قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬6). ¬
فحديث جابر أولى؛ لأنه وصفه من بدايته (¬1) إلى نهايته (¬2)، وذلك يدل على حفظه وضبطه، وعلمه بظاهر الأمر وباطنه، بخلاف الذي لم ينقل إلا بلفظة واحدة. فإنه يجوز ألا يعلم سببها (¬3). قال المؤلف: وإنما كان الأحسن نسقًا أولى؛ لأنه أنسب للفظ (¬4) النبوة، فإنه عليه السلام أفصح العرب، فإضافة الأفصح إليه أنسب من ضده (¬5). فسر المؤلف في شرحه حسن النسق بالفصاحة، فأضاف ها هنا الفصاحة إلى السند، وأضاف (¬6) الفصاحة إلى المتن في قوله [بعد] (¬7)، أو يكون فصيح اللفظ يعني الخبر (¬8). قوله: (أو سالم من الاضطراب) (¬9). ¬
قال المؤلف: الاضطراب: هو اختلاف ألفاظ الرواة (¬1). مثاله: حديث أنس رضي الله عنه: كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنا (¬2) الصائم ومنا المفطر، ومنا المقصر، [ومنا المتم] (¬3)، وهذا الحديث لم يضطرب فيه راويه، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة مثنى مثنى، وروي عنها أيضًا أنها قالت: فرضت الصلاة أربعًا [أربعًا] (¬4) (¬5) (¬6)، فحديث أنس أولى لعدم (¬7) اضطراب راويه في لفظه، وهو يقتضي عدم وجوب القصر، وحديث عائشة يقتضي وجوب القصر؛ لقولها (¬8): وأقرت (¬9) صلاة الحضر (¬10). ¬
قوله: (أو موافق لظاهر الكتاب) (¬1). مثاله: اختلافهم في الزكاة/ 328/ في مال الصبي. فقال مالك: تجب فيه الزكاة (¬2)؛ لقوله عليه السلام: "أمرت أن آخذ الصدقة (¬3) من أغنيائهم وأردها على فقرائهم" (¬4)، هذا (¬5) موافق لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (¬6). [و] (¬7) قال أبو حنيفة: لا تجب الزكاة في مال الصبي (¬8)؛ لقوله ¬
عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي [حتى] (¬1) يبلغ" فالحديث المعضود بالكتاب أقوى في الظن مما ليس له عاضد. [قوله] (¬2): (قال الإِمام: أو يكون راويه (¬3) فقيهًا، أو عالمًا بالعربية، أو عرفت عدالته بالاختبار، أو علمت بالعدد الكثير، أو ذكر سبب عدالته، أو لم يختلط عقله في بعض الأوقات، أو كونه من أكابر الصحابة، أو له اسم واحد، أو لم تعرف له رواية في زمان الصبا والآخر ليس كذلك، أو يكون مدنيًا والآخر [مكيًا] (¬4)، أو راويه متأخر الإِسلام (¬5)). ش: قوله: (أو يكون راويه فقيهًا) (¬6)؛ لأن العلم بالفقه يبعد معه الخطأ في النقل، فإن اشتركا في الفقه وكان أحدهما أفقه. فقال القاضي عبد الوهاب: إن (¬7) كان النقل باللفظ فلا ترجيح، وإن نقل ¬
بالمعنى، فالأفقه أولى. انظر هل يلزم مثله في الفقيه وغير الفقيه، أو يفرق بينهما، وأن (¬1) الفقيه أولى من غيره مطلقًا؟ لأن مالكًا اشترط الفقه في الراوي بخلاف الأفقه، إلا أن يقال: إنما اشترط مالك الفقه حيث يكون النقل بالمعنى. قوله: (أو عالمًا بالعربية) (¬2)، مثاله: اختلافهم في المعتقة تحت الحر، هل تخير أم لا؟ (¬3). قال مالك: لا تخير (¬4)، استدل بحديث نافع، وهو قوله: عتقت بريرة (¬5) تحت عبد فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، ونافع عالم بالعربية. ¬
وقال أبو حنيفة: تخير (¬1)، استدل بحديث رجل جاهل بالعربية، وهو قوله: عتقت بريرة (¬2) تحت حر فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)؛ لأن العلم بالعربية يبعد معه الخطأ في النقل، والكلام في اشتراط العربية كالكلام الذي تقدم في الفقه (¬4). قوله: (أو عرفت عدالته بالاختبار) (¬5)، أي: عدالة الخلطة، أولى وأقوى ¬
من عدالة التزكية من غير خلطة للمزكى (¬1). ومعنى الاختبار: كالمخالطة والمعاملة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها؛ لأن ذلك أقوى ممن علمت عدالته بالتزكية [فقط] (¬2). قوله: (أو علمت (¬3) بالعدد الكثير) (¬4)؛ لأن من علمت عدالته بالعدد الكثير أقوى ظنًا ممن علمت عدالته بالعدد القليل (¬5)، والعمل بالراجح متعين. قوله: (أو ذكر سبب (¬6) عدالته) (¬7)؛ لأن من ذكر (¬8) سبب (6) عدالته أقوى ممن [سكت عن سبب عدالته؛ لاحتمال الاكتفاء بالظاهر في التزكية المطلقة. قوله: (أو لم يختلط عقله في بعض الأوقات) (¬9)؛ لأن الذي] (¬10) ¬
يختلط عقله في بعض الأوقات يحتمل أن يكون ما رواه مما سمعه في حال اختلاط عقله بخلاف الذي لم يختلط عقله في وقت من الأوقات. قوله: (أو كونه من أكابر الصحابة) (¬1). مثاله: اختلافهم في وقت [قطع] (¬2) التلبية (¬3). قال مالك: يقطعها بعد الزوال والرواح إلى مصلى عرفة (¬4)، رواه الخلفاء الأربعة، وعليه عمل أهل المدينة أيضًا (¬5). وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقطعها عند جمرة العقبة (¬6)، استدلالاً على ¬
ذلك بحديث طلق بن علي (¬1) (¬2). والاستدلال بحديث الأكابر أولى؛ لأن الأصاغر يأخذون العلم من الأكابر، فوجب تقديم الأكابر عليهم. وقد اختلف، هل يرجح بالسن أم لا؟ واختار القاضي عبد الوهاب عدم الترجيح بالسن، وعلل ذلك بأن حديث السن قد يكون أتقن (¬3) قوله: (أوله اسم واحد) (¬4)؛ لأن الذي له اسم واحد يبعد التدليس به، بخلاف ذي الاسمين؛ لأن ذي (¬5) الاسمين أقرب اشتباهًا بغيره ممن ليس بعدل، وهو يسمى بأحد اسميه، فتقع الرواية عن (¬6) الذي ليس بعدل فيظن ¬
السامع أن العدل ذو الاسمين (¬1). قوله: (أو لم تعرف له رواية في زمان الصبا) (¬2). مثاله: اختلافهم في سجود التلاوة في المفصل (¬3). قال ابن عباس رضي الله عنه: ما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (¬4) [والنجم والانشقاق والعلق] (¬5) منذ تحول من مكة إلى المدينة (¬6). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سجدنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في والنجم ¬
والانشقاق والعلق (¬1). وأبو هريرة لم تعرف له رواية في زمان الصبا، بخلاف ابن عباس؛ لأن رواية الصبا غير موثوق (¬2) بها، بخلاف الذي لم يرو إلا بعد البلوغ. قوله: (أو يكون مدنيًا والآخر مكيًا) (¬3) (¬4). مثاله: حديث أبي هريرة من المدنيين: "من مس ذكره فليتوضأ"، وروى طلق بن علي [من المكيين] (¬5): "هل هو إلا بضعة منك" فيقدم (¬6) المدني ¬
لاحتمال (¬1) النسخ، ولقول ابن عباس رضي الله عنه: "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). والموصوف بقوله: مدنيًا أو مكيًا، يحتمل الراوي، ويحتمل الخبر. قوله: (أو راويه متأخر الإِسلام) (¬3)؛ [لأن رواية متأخر الإسلام يتعين تأخيرها، وأما متقدم الإسلام فيحتمل أن يكون حديثه مما سمعه في أول الأمر، فالذي لا احتمال (¬4) فيه أولى من الذي فيه احتمال، كالمدني والمكي (¬5)] (¬6). مثاله: (¬7) روى أبو هريرة: "من مس ذكره فليتوضأ" وهو متأخر الإسلام، وروى طلق بن علي: "هل هو إلا بضعة منك" وهو متقدم الإسلام (¬8). ¬
وقال سيف الدين بعكس ذلك فقال: ما رواه متقدم الإسلام أولى؛ لشرف قدره، وقوته، وإطالته (¬1) في الإسلام (¬2). [قوله] (¬3) (وأما ترجيح المتن، قال الباجي رحمه الله: يترجح السالم من الاضطراب، [أ] (¬4) والنص في المراد، أو غير متفق على تخصيصه (¬5)، أو ورد على غير سبب، أو قضي به [على الآخر] (¬6) في موضع، أو ورد بعبارات مختلفة، أو يتضمن نفي النقص عن الصحابة رضوان الله عليهم، والآخر ليس كذلك (¬7)). ش: قوله: (السالم من الاضطراب) (¬8)./ 329/ مثاله: [روى] (¬9) أنس رضي الله عنه: "فرضت الصلاة أربعًا أربعًا" (¬10)، ¬
وروت عائشة رضي الله عنها هذا الخبر (¬1)، وروت أيضًا: "فرضت الصلاة مثنى مثنى". والاضطراب معناه: اختلاف ألفاظ الرواة مع اختلاف المعاني (¬2)، وهذا بعينه قد تقدم في الإسناد (¬3) (¬4). أما رجوعه إلى المتن فظاهر، وأما رجوعه إلى الإسناد، فذلك (¬5) من طريق الالتزام؛ لأن اختلاف ألفاظ الراوي، يدل على ضعفه وقلة ضبطه، وهما (¬6) أمران إضافيان. قوله: (أو النص في المراد) (¬7)، واحترز بالنص من المحتمل كالمجاز ¬
والظاهر. مثاله: (¬1) اختلافهم في وجوب الزكاة في مال الصبي. استدل المالكية بقوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر". واستدل الحنفية بقوله عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ". حديث المالكية أولى؛ لأنه نص في إيجاب الزكاة، وحديث الحنفية ليس فيه نفي الزكاة عن المال، وإنما فيه نفي الزكاة عن الصبي، ونحن نقول به؛ لأن الوجوب إنما هو على الولي. قوله: (أو غير متفق على تخصيصه) (¬2). مثاله: اختلافهم في قتل المرأة المرتدة. قال جمهور العلماء: تقتل (¬3)، لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه". وقال الشاذ: لا تقتل (¬4)، لقوله عليه السلام: "نهيت عن قتل النساء ¬
والصبيان"، فالحديث الأول أولى؛ لأنه مختلف في تخصيصه بالمرأة المرتدة، وأما الدليل الثاني: فهو متفق على تخصيصه (¬1) [بقتل المرأة إذا قتلت أو زنت وهي محصنة، فالحديث المختلف في تخصيصه أقوى من الحديث المتفق على تخصيصه] (¬2). قوله: (أو ورد على غير سبب) (¬3)، مثاله (¬4): اختلافهم في الأمانة، هل يجوز للمؤتمن أن يأخذ من الأمانة الكائنة عنده حقه الذي ظلمه به صاحب الأمانة، أو لا؟ (¬5). استدل من قال بالمنع بقوله (¬6) عليه السلام: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (¬7). ¬
واستدل من قال بجوازه بقوله (¬1) عليه السلام لهند بنت عتبة: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فالحديث الأول أولى؛ لأنه ورد على غير سبب؛ لأن الحديث الوارد على غير سبب يحمل على عمومه باتفاق. وأما الحديث الثاني: فهو ضعيف؛ لأنه ورد بسبب المرأة المذكورة، فهو ضعيف؛ لاختلاف العلماء في [الحديث الوارد على سبب، هل يعم أو يقصر على سببه؟ (¬2) كما تقدم في باب العموم والخصوص (¬3). وذلك أن المرأة المذكورة، وهي] (¬4) هند بنت عتبة زوجة سفيان بن حرب (¬5)، اشتكت بنفقتها عليه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". قال ابن الحاجب في الفروع: وإذا استودعه من ظلمه بمثلها (¬6) فثالثها الكراهة، ورابعها الاستحباب. وقال الباجي: والأظهر الإباحة لحديث هند (¬7). ¬
قوله: (أو قضي به على الآخر في موضع) (¬1). مثاله: اختلافهم في قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عنها، وهي ما بعد العصر إلى الغروب، وما بعد الصبح إلى ارتفاع الشمس. فقال مالك بالجواز (¬2)، استدلالاً بقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها". وقال أبو حنيفة بالمنع (¬3) استدلالاً بقوله عليه السلام: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". فحديث المالكية أولى من حديث الحنفية؛ لأن حديث المالكية قضي به على حديث الحنفية في قضاء عصر اليوم؛ لأن الحنفية قد وافقوا المالكية في قضاء عصر اليوم دون عصر الأمس (¬4). قال المؤلف: وإذا قدم (¬5) أحد الخبرين على الآخر في موطن، كان ذلك ترجيحًا له عليه (¬6)؛ لأنها مزية له (¬7). ¬
قوله: (أو ورد بعبارات مختلفة) (¬1)، يريد: والمعنى واحد، وهذا هو الفرق بين هذا وبين الاضطراب الذي تقدم (¬2). لأن الاضطراب المتقدم هو اختلاف الألفاظ مع اختلاف المعنى، والمراد ها هنا اختلاف الألفاظ مع اتفاق المعنى (¬3). مثاله (¬4): قوله عليه السلام: "من مس ذكره فليتوضأ"، وورد أيضًا: "من مس فرجه فليتوضأ"، وورد أيضًا: "من أفضى بيده إلى ذكره فليتوضأ"، وورد أيضًا: "من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ"، وورد أيضًا: "ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضؤون" هذا كله دليل المالكية على وجوب الوضوء من مس الذكر. وقال الحنفية: لا يجب الوضوء من مس الذكر استدلالاً بحديث طلق بن علي، وهو قوله عليه السلام: "هل هو إلا بضعة منك". فحديث الوجوب أولى؛ لأنه ورد بعبارات مختلفة، والمعنى في الجميع واحد، فإن ورود العبارات المختلفة على المعنى يقوي ذلك المعنى في النفس ¬
ويبعد اللفظ [عن] (¬1) احتمال المجاز، بخلاف العبارة الواحدة فإنها تحتمل المجاز، وأن يراد بها غير ذلك المعنى الظاهر. قوله: (أو يتضمن نفي النقص عن الصحابة رضوان الله عليهم) (¬2). مثاله: اختلاف المالكية والحنفية في الضحك، هل ينقض الوضوء أم لا؟ قالت المالكية: لا ينقض الوضوء (¬3)، استدلالاً بقوله عليه السلام: "الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء" (¬4). [وقالت الحنفية: ينقض الوضوء (¬5)] (¬6)، استدلالاً بحديث الأعمى الذي وقع في مهواة فضحك به (¬7) الصحابة وهم في الصلاة، فأمرهم النبي عليه السلام بإعادة الوضوء والصلاة (¬8). ¬
فحديث المالكية أولى؛ إذ ليس فيه إضافة الصحابة إلى النقص، وحديث الحنفية فيه إضافة الصحابة إلى النقص، وهو الاشتغال عن الصلاة بالضحك برجل أعمى تردى في مهواة، وذلك/ 330/ ضد ما كانوا عليه من الإقبال على الصلاة والخشوع فيها، وهو أيضًا ضد ما وصفهم الله تعالى به من التراحم والتعاطف، حيث قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1)، وقال: {رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ} (¬2) (¬3). وانظر قوله: (أو يتضمن نفي النقص عن (¬4) الصحابة)، فإنه غير مطابق، فإن خبرنا نحن المالكية ليس فيه نفي النقص عن الصحابة، وإنما فيه عدم إضافة النقص إليهم، وعدم إضافة النقص إليهم أعم من نفيه عنهم، والدال على الأعم غير دال على الأخص. فلو قال: أو لا يتضمن إضافة النقص إلى الصحابة لكان أولى (¬5). ¬
قوله: (والآخر ليس كذلك)، راجع إلى كل واحد من السبعة المذكورة. قوله: قال الإِمام: أو يكون فصيح (¬1) اللفظ، أو لفظه حقيقة، أو يدل على المراد من وجهين، أو تأكد (¬2) لفظه بالتكرار، أو يكون ناقلاً عن (¬3) حكم العقل، أو لم يعمل بعض الصحابة أو السلف على خلافه مع الاطلاع عليه، أو كان فيما (¬4) لا تعم (¬5) به البلوى، والآخر ليس كذلك (¬6). ش: قوله: (أو يكون فصيح (¬7) اللفظ (¬8)) [أي] (¬9): أو يكون أحد الحديثين (¬10) أفصح من الحديث (¬11) الآخر. مثاله (¬12) اختلاف المالكية والحنفية في شفعة الجوار. قال المالكية (¬13): لا شفعة إلا بالشركة (¬14). ¬
وقالت الحنفية (¬1): تجب أيضًا الشفعة بالجوار (¬2). واستدلت (¬3) المالكية بقوله عليه السلام: "إنما الشفعة فيما بين الشركاء، فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬4). وقالت الحنفية: تجب الشفعة أيضًا بالجوار، واستدلوا بقوله عليه السلام: "الجار (¬5) أحق بصقبه" (¬6) (¬7)، [أي: بقربه] (¬8) (¬9). وحديث المالكية أفصح من حديث الحنفية؛ لأن حديث الحنفية فيه ¬
وحشي اللغة. قوله: (أو لفظه حقيقة) (¬1)، يريد ولفظ الحديث الآخر مجاز. مثاله: (¬2) اختلافهم في النوم، هل هو حدث بنفسه أو هو سبب الحدث؟ فقالت المالكية: هو سبب لا حدث، فيجب الوضوء من المستثقل دون الخفيف (¬3)، واستدلوا بقوله عليه السلام: "لا وضوء على من نام حتى يضع جنبه" (¬4). ¬
وقال غيرهم: هو حدث بنفسه، فيجب منه الوضوء مطلقًا (¬1)، واستدلوا بقوله عليه السلام: "العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان انحل الوكاء" (¬2). فحديث المالكية أولى؛ لأنه حقيقة، وحديث الغير فيه مجاز، وهو إطلاق الوكاء على العينين، فإنه [يقال] (¬3) في الحقيقة: وكاء السقاء (¬4)، ولا يقال: وكاء السه، فالحقيقة أولى من المجاز. قوله: (أو يدل على المراد من وجهين) (¬5)، يريد أو أكثر من وجهين، مثاله: اختلافهم في فرضية الوتر. فقالت المالكية: لا يجب (¬6)، واستدلوا (¬7) بحديث الأعرابي الذي سأل ¬
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عدد ما فرض الله تعالى [من الصلوات] (¬1)، فقال عليه السلام: "خمس صلوات فرضهن الله تعالى على العباد بين اليوم والليلة"، فقال الأعرابي: يا رسول الله، هل علي غيرها أم لا؟، فقال عليه السلام: "لا، إلا أن تتطوع"، فقال الأعرابي: لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال عليه السلام: "أفلح الأعرابي إن صدق" (¬2). وقالت الحنفية بوجوب الوتر (¬3)، واستدلوا بقوله عليه السلام: "إن الله تعالى زادكم صلاة إلى صلاتكم (¬4) ألا وهي الوتر، ألا وهي الوتر" (¬5) (¬6). فحديث المالكية أولى؛ لأنه يدل على عدم الوجوب من ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: قوله: "خمس صلوات" لأن أسماء العدد نصوص. الوجه الثاني: قوله: "لا"؛ لأنه نفى الوجوب. الوجه [الثالث] (¬1): قوله: "إلا أن تتطوع" (¬2)، فجعل الزائد تطوعًا. قوله: (أو تأكد لفظه بالتكرار) (¬3). مثاله: اختلاف العلماء في وجوب الفاتحة في الصلاة. قال الجمهور: تجب (¬4)، واستدلوا بقوله عليه السلام: "كل صلاة أو كل ركعة - على اختلاف الأحاديث - لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" مكرر ثلاث مرات. وقال الشاذ: لا تجب (¬5)، واستدل بقوله عليه السلام: "يكفيك من القرآن ما تيسر" (¬6). ¬
قوله: (أو يكون ناقلاً عن حكم العقل) (¬1) (¬2). مثاله: اختلافهم في جواز الصلاة في الكعبة. قال بلال: (¬3) صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: لم يصل فيه (¬4). وحديث الصلاة فيها أولى من حديث النفي؛ لأن حديث الصلاة (¬5) ناقل عن حكم العقل، ونفي الحكم هو حكم العقل، وهو البراءة الأصلية. قال [المؤلف] (¬6) في شرحه: لأن الناقل عن البراءة الأصلية مقصود لعينه، ¬
بخلاف البراءة الأصلية، فإن العقل كاف في استصحاب حكمها، فيقدم الناقل، كما يقدم المؤكد على المنشئ (¬1). قوله: (أو لم يعمل بعض الصحابة أو السلف على خلافه مع الاطلاع عليه) (¬2). مثال: اختلافهم في الوضوء مما مست (¬3) النار (¬4). قال مالك وجمهور العلماء: لا يوجب [الوضوء] (¬5) (¬6). وقال آخرون: يجب منه الوضوء (¬7). واستدل مالك والجمهور بما روي أنه عليه السلام أكل كتف (¬8) شاة، ولم ¬
يتوضأ (¬1). واستدل الغير بقوله عليه السلام: "الوضوء مما مست النار" (¬2). فيقدم حديث الكتف؛ لأن الثاني لم يعمل به الصحابة مع اطلاعهم عليه، وأما الحديث الأول فقد علموا (¬3) به ولم يعلموا بخلافه، فعمل الصحابة بخلاف الخبر مع اطلاع عليه يدل على الاطلاع على نسخه، فالسالم من ذلك مقدم عليه. أما إذا لم يطلع عليه، جاز أن يكون تركه إياه لعدم الاطلاع عليه، فيسقط (¬4) الترجيح (¬5). ¬
قوله: (أو كان فيما لا تعم به البلوى) (¬1)، وذلك أن الذي تعم به البلوى اختلف [العلماء] (¬2) في قبوله؛ منعه الحنفية؛ لأنه من أخبار الآحاد، فهو ضعيف للخلاف في قبوله، فالمتفق على قبوله أولى من المختلف (¬3) في قبوله. قال بعضهم: مثاله: قوله عليه السلام: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (¬4) فهو مقدم على قوله عليه السلام: "إنما الماء من الماء"، ولكن هذا المثال لم يظهر لي؛ لأن كلام المؤلف ظاهره فيما إذا تعارض ما لا تعم به البلوى مع ما تعم به البلوى، وهذان الخبران الممثل بهما [هما] (¬5) معًا مما تعم به البلوى (¬6). قوله: (والآخر ليس كذلك)،/ 331/ راجع إلى جميع السبعة المذكورة. ذكر المؤلف في الوجوه التي يقع بها الترجيح [في الأخبار] (¬7) ستة وثلاثين وجهًا، اثنان وعشرون في الإسناد، وأربعة عشر في المتن. ... ¬
الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة
الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة ش: إنما قدم المؤلف رحمه الله ترجيح الأخبار على ترجيح الأقيسة لوجهين (¬1): أحدهما: أن الأخبار أشرف لإضافتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن الأخبار أصل للأقيسة، فالأصل مقدم على فرعه. واعلم أن ترجيح القياس يكون من أحد أربعة أشياء. إما [أن يكون] (¬2) من جهة الأصل، واما من جهة الفرع، وإما من جهة العلة، وإما من جهة الحكم. قوله: (قال الباجي: يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته، أولا (¬3) يعود على أصله بالتخصيص (¬4)، أو علته مطردة منعكسة، أو تشهد (¬5) لها أصول كثيرة، أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله، أو ¬
علته متعدية، أو تعم (¬1) فروعها، أو هي أعم، أو هي منتزعة (¬2) من أصل منصوص عليه، أو أقل أوصافًا، والقياس الآخر ليس كذلك (¬3). ش: قوله: (يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته) (¬4). مثاله: اختلافهم في قليل النبيذ. قالت المالكية: هذا شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، قياسًا على الخمر. وقالت (¬5) الحنفية: هذا شراب لا يسكر فلا يحرم، قياسًا على اللبن. فقياس المالكية أولى؛ لأن علته منصوص عليها في قوله عليه السلام: "كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله (¬6) حرام" (¬7). ¬
وعلة الحنفية مستنبطة، وما ثبت بالنص أولى مما ثبت بالاستنباط؛ لأن الاستنباط يحتمل الخطأ بخلاف النص. قوله: (أولا يعود على أصله بالتخصيص) (¬1). مثاله: اختلافهم في التيمم بالجص والنورة. قال مالك: يتيمم به؛ لأنه نوع من الصعيد (¬2). [[وقال الشافعي: لا يتيمم [به] (¬3)؛ لأنه ليس بتراب (¬4). فقياس المالكية أولى؛ لأنه لا يكر على أصله بالتخصيص. وأصل ذلك هو الصعيد]] (¬5) في قوله تعالى: {فَتَيَمَّموا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬6)، والصعيد أعم من جميع أنواع الأرض. وأما علة الشافعي: فإنها تقتضي تخصيص الصعيد. ¬
[و] (¬1) مثاله أيضًا: اختلافهم في بيع اللحم بالحيوان. قالت المالكية: هذا بيع معلوم بمجهول من جنسه فيمنع، قياسًا على منع [بيع] (¬2) الرطب بالتمر بعلة (¬3) المزابنة. ويقول الحنفي: هذا بيع ربوي بغير ربوي فلا يمنع، قياسًا على بيع الثياب بالعين. فقياس الحنفية ها هنا أولى من قياس المالكية؛ لأن قياس المالكية يعود على أصله بالتخصيص والبطلان، وذلك أن تعليلهم بالمزابنة، وهي بيع المعلوم بالمجهول يقتضي حمل الحديث على الحيوان المأكول اللحم، فيخرج بسبب هذه العلة كثير من الحيوان، ويبطل حكم النهي (¬4) فيها (¬5). واختلف العلماء في بيع اللحم بالحيوان على ثلاثة مذاهب: قال الشافعي: لا يجوز [مطلقًا] (¬6) ولو بعبد (¬7)؛ تقديمًا للخبر على (¬8) القياس (¬9). ¬
وقال أبو حنيفة: يجوز (¬1) مطلقًا؛ تقديمًا للقياس على الخبر (¬2). وقال مالك بالتفصيل؛ لأنه قيده بالحيوان من جنسه الذي لا يراد إلا للحم (¬3)؛ جمعًا (¬4) بين الدليلين (¬5). قال ابن الحاجب في الفروع: فمنه: بيع الحيوان باللحم، ومحمله عند مالك على الجنس الواحد للمزابنة، فيجوز بيع الطير بلحم الأنعام (¬6) وبالعكس، وخصصه القاضيان بالحي الذي لا يراد إلا للحم (¬7)، وما لا تطول حياته، وما لا (¬8) منفعة فيه إلا اللحم كاللحم (¬9)، خلافًا لأشهب، وهما روايتان، فإن طالت، أو كانت المنفعة [فيه] (¬10) يسيرة، كالصوف في الخصي، فقولان، ومن ثم اختلف في بيعه بالطعام نسيئة، وفي المطبوخ بالحيوان، قولان: (¬11) قوله: (أو علته مطردة منعكسة) (¬12). ¬
مثاله: اختلافهم في إجبار العاصب اليتيمة الصغيرة على النكاح. قالت المالكية: هذا شخص لا يملك التصرف في مالها، فلا يملك الإجبار، قياسًا على الأجنبي (¬1). وقالت الحنفية: هذا شخص من أهل ميراثها، فيملك الإجبار، قياسًا على الأب (¬2). فقياس (¬3) المالكية أولى؛ لأن علته مطردة منعكسة؛ لأنها تدور مع الحكم وجودًا وعدمًا، وعلة الحنفية غير منعكسة؛ لأن الحاكم يزوجها مع أنه ليس من أهل ميراثها. قوله: (أو تشهد لها أصول كثيرة) (¬4). مثاله: اختلافهم في النية في الوضوء. ¬
قالت المالكية: الوضوء عبادة، فيفتقر إلى نية (¬1)، أصله التيمم والصلاة والصوم والزكاة والحج. وقالت الحنفية: الوضوء طهارة بالماء، فلا يفتقر إلى نية (¬2)، أصله زوال النجاسة. فقياس المالكية أولى؛ لأنه تشهد له (¬3) أصول كثيرة، كالصلاة والصوم والحج (¬4) وغير ذلك. وأما قياس الحنفية، فلم يشهد له (¬5) إلا أصل واحد وهو زوال النجاسة. قوله: (أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله) (¬6). مثاله: [اختلافهم] (¬7) في ضمان الصائل البهيمي. قالت المالكية: من أتلف الصائل البهيمي فلا يضمن، أصله الصائل الآدمي. وقالت الحنفية: من أتلف الصائل البهيمي يضمن (¬8)، أصله من أتلف ¬
مالاً في مخمصة، والجامع بين الأصل والفرع في القياسين (¬1) الضرورة، فقياس المالكية أولى؛ لأن فرعه من جنس أصله وهو (¬2) قياس صائل على صائل، وقياس الحنفية فرعه مخالف لجنس أصله. قال ابن الحاجب في الفروع: ويجوز دفع الصائل بعد الإنذار للفاهم من مكلف أو صبي أو مجنون أو بهيمة، عن النفس والأهل والمال، فإن (¬3) علم أنه لا يندفع إلا بالقتل، جاز قتله قصدًا ابتداء، وإلا فلا، ومن قدر على الهروب من غير مضرة لم يجز له الجرح (¬4). قوله: (أو علته (¬5) متعدية) (¬6)، مثاله: اختلافهم في علة تحريم الخمر. قالت المالكية:/ 332/ علته كونه مسكرًا، وقالت الحنفية: علته كونه خمرًا. ¬
فعلة المالكية أولى؛ لأنها متعدية، بخلاف [علة] (¬1) الحنفية فإنها قاصرة على محلها، والتعليل بالعلة المتعدية لمحلها أولى من العلة القاصرة على محلها؛ لأن المتعدية متفق على صحتها والقاصرة مختلف في صحتها، وما ذكره المؤلف من تقديم المتعدية على القاصرة هو المشهور، وقيل: القاصرة أولى، وقيل: هما سواء، ووجه الأول: أن النص يغني عن القاصرة. ووجه الثاني: أن النص يقويها. ووجه الثالث: تعارض المدركين (¬2) (¬3). واعترض كلام المؤلف ها هنا: بأن ما ذكره ها هنا هو تعارض العلتين، لا تعارض القياسين الذي صدر به الفصل (¬4)، فتأمله. قوله: (أو تعم فروعها) (¬5)، مثاله: اختلافهم فيمن ملك قريبه الذي ليس من عمودي النسب ولا من الإخوة، هل يعتق عليه أو لا؟. كابن الأخ (¬6) والعم والخال [وغيرهم] (¬7). ¬
قالت المالكية: شخص تجوز شهادته له فلا يعتق عليه؛ قياسًا على الأجنبي (¬1). وقالت الحنفية: شخص ذو محرم فيعتق عليه؛ قياسًا على الوالد والولد (¬2). فنقول: علة المالكية أولى؛ لأنها تعم فروعها؛ لأنها تتناول (¬3) سائر العصبة كابن الأخ والعم وابن العم والخال (¬4) وغيرهم. وعلة الحنفية لا تعم فروعها؛ لأن البنت تعتق على الأم، ولا يقال: إنها ذات محرم لأمها، وكذلك الابن يعتق على أبيه، ولا يقال: إنه ذو محرم لأبيه. وإنما كان العامة لفروعها أولى؛ لأن التي لا تعم فروعها تكون بقية الفروع معللة بعلة أخرى، وتعليل الأحكام المستوية بالعلل المختلفة مختلف فيه، والمتفق عليه أولى من المختلف فيه (¬5). قوله: (أو هي أعم) (¬6)؛ لأن العلة التي هي أعم أكثر فائدة من العلة التي ¬
هي أخص. مثاله: اختلافهم في جواز التحري في الأواني المشتبهة إذا كان أحد الإناءين مشوبًا بنجاسة لم تغيره. قال مالك: هذا جنس وسيلة إلى الصلاة فيجوز فيه (¬1) التحري؛ قياسًا على الثياب وجهات (¬2) القبلة (¬3). وقالت الحنفية: هذا [ن] (¬4) إناءان أحدهما نجس، فلا يجوز فيه التحري (¬5)؛ قياسًا على ما إذا كان أحدهما بولاً والآخر ماء. فعلة المالكية أولى؛ لأنها عامة (¬6) في الأواني والثياب والجهات، وعلة الحنفية خاصة بالأواني. قوله: ([أ] (¬7) وهي منتزعة من أصل منصوص عليه (¬8)). ¬
مثاله: اختلافهم في جواز التيمم بالأحجار وتراب المعادن الباقي في معادنه (¬1). قال مالك: الأحجار وسائر المعادن صعيد، فيجوز التيمم به، قياسًا على التراب (¬2). وقال أبو حنيفة: الأحجار وسائر المعادن ليس بصعيد، فلا يتيمم به، قياسًا على الذهب والفضة (¬3). فعلة المالكية التي هي الصعيد أولى؛ لأنها منتزعة، أي مستخرجة من أصل منصوص عليه، وهو قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيَّبًا} (¬4). قوله: (أو أقل أوصافًا) (¬5). ¬
مثاله: اختلافهم في الواجب بقتل العمد، هل الواجب فيه بدل واحد وهو القصاص؟ وهو (¬1) مذهب ابن القاسم (¬2)، أو الواجب فيه بدلان وهما القصاص أو الدية؟ وهو مذهب أشهب (¬3) والشافعي (¬4). فيقول ابن القاسم: هذا قتل، فيجب فيه بدل واحد قياسًا على قتل الخطأ؛ [إذ لا يجب في قتل الخطأ إلا بدل واحد، وهو الدية] (¬5). ويقول أشهب والشافعي: هذا قتل العمد العدوان (¬6)، تعذر فيه القود من غير عفو بعض الأولياء ولا عدم المحل، فتجب فيه الدية من غير رضا القاتل، قياسًا على الأب. فعلة ابن القاسم أولى، لقلة (¬7) أوصافها. وتظهر فائدة هذا الخلاف: فيما إذا أراد أولياء المقتول الدية، وأراد أولياء القاتل القصاص، فعلى قول ابن القاسم: القول قول القاتل، وعلى قول أشهب والشافعي: القول قول أولياء المقتول. وتظهر فائدة الخلاف أيضًا: فيما إذا عفا أولياء المقتول عفوًا مطلقًا، فعلى قول ابن القاسم لا شيء لهم؛ إذ ليس لهم إلا شيء واحد وهو القصاص فقد ¬
أسقطوه بعفوهم. وعلى قول أشهب والشافعي: لهم الدية؛ إذ لهم شيئان (¬1) وهما القصاص أو الدية. قوله: (والقياس الآخر ليس كذلك)، راجع [إلى] (¬2) جميع الأشياء العشرة [المذكورة] (¬3). قوله: (قال الإِمام رحمه الله: أو يكون أحد القياسين متفقًا على علته، أو أقل خلافًا، أو بعض مقدماته يقينية، أو علته وصفًا حقيقيًا) (¬4) (¬5). [ش]: (¬6) قوله: (أو يكون أحد القياسين متفقًا على علته) (¬7)؛ لأن القياس المتفق على علته أولى من (¬8) المختلف في علته. مثاله: (¬9) اختلافهم في النبيذ. ¬
قال مالك: هذا شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، قياسًا على الخمر. ويقول أبو حنيفة: هذا شراب لا يذهب عقل صاحبه فلا يحرم، قياسًا على اللبن. فعلة مالك أولى؛ لأنها متفق عليها وهي الإسكار. قوله: (أو أقل خلافًا) (¬1)؛ لأن ما قل الخلاف فيه أولى مما كثر الخلاف فيه. مثاله: اختلافهم في نجاسة ما ليس له نفس (¬2) سائلة إذا (¬3) مات. قال مالك: هو (¬4) حيوان ليس له نفس سائلة، فلا ينجس بالموت (¬5)، قياسًا على ذباب العسل والباقلاء. وقال الشافعي: هو حيوان بري فينجس بالموت، قياسًا على الشياه والبقر (¬6). فقياس مالك أولى؛ لقلة الخلاف في ذباب العسل والباقلاء، وكثرة الخلاف في الحيوان البري. ¬
قوله: (أو بعض مقدماته يقينية) (¬1)؛ لأن ما كان [بعض] (¬2) مقدماته يقينية أقوى مما كان مقدماته ظنية. مثاله: اختلافهم في القليل من النبيذ. قال مالك: قليله يدعو إلى كثيره، وكل ما يؤدي قليله إلى كثيره فهو حرام، فيحرم قليل النبيذ. وقال أبو حنيفة: هذا (¬3) شراب ليس بمسكر، [وكل ما ليس بمسكر] (¬4) فلا يحرم. فقياس الحنفية ها هنا أولى والله أعلم؛ لأن بعض مقدماته يقينية؛ لأن قوله: ليس بمسكر،/ 333/ وهو المقدمة الأولى يقينية. قوله: (أو علته وصفًا حقيقيًا) (¬5)، أي: والقياس الآخر علته وصف عدمي؛ لأن التعليل بالوصف الحقيقي موافق للأصل، والتعليل بغير الحقيقي مخالف للأصل، وما وافق الأصل هو أولى مما خالف الأصل. ¬
مثاله: اختلافهم أيضًا في القليل (¬1) من النبيذ. فقال مالك مثلا: شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، قياسًا على الخمر. وقال أبو حنيفة: شراب لا يسكر فلا يحرم، قياسًا على اللبن. قوله: (ويترجح التعليل (¬2) بالحكمة على العدمي (¬3) والإِضافي والحكم الشرعي والتقديري، والتعليل بالعدمي (¬4) أولى من التقديري، وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي ومن العدمي بالوجودي و (¬5) الوجودي بالعدمي؛ لأن التعليل بالعدم يستدعي تقدير الوجود، وبالحكم الشرعي أولى من التقديري؛ لكون (¬6) التقدير (¬7) على خلاف الأصل). ش: قوله: (ويترجح التعليل بالحكمة على العدمي) (¬8). مثاله: اختلافهم في الكبير السفيه، هل يجبره (¬9) الأب على النكاح أم لا؟ ¬
قال مالك (¬1): شخص جاهل بمصالحه، فيجبره (¬2) الأب على النكاح، [قياسًا] (¬3) على الصغير (¬4). وقال غيره: شخص ليس بصغير، فلا يجبره (¬5) الأب على النكاح، قياسًا على البالغ الرشيد (¬6). والحكمة هي قولنا: جاهل بالمصالح، والوصف العدمي هو قولنا: ليس بصغير. قوله: (والإِضافي) (¬7). مثاله: اختلافهم في تقديم الجد أو الأخ في ولاية النكاح. قال مالك: الجد أكثر شفقة ورحمة فيقدم في الولاية، قياسًا على الأب (¬8). ¬
وقال غيره: الأخ شخص يدلي بالبنوة فيقدم، قياسًا على الابن (¬1). فالتعليل بالشفقة أولى؛ لأنها هي الحكمة في ترتيب الأولياء، وهي أولى من الوصف الإضافي وهو البنوة. قوله: (والحكم الشرعي) (¬2). مثاله: اختلافهم في ولاية العبد في النكاح. قال مالك: هو شخص محجور (¬3) عليه في أفعاله فلا يكون وليًا، قياسًا على المجنون (¬4). وقال [غيره وهو] (¬5) أبو حنيفة: هو (¬6) شخص عارف بمصالح وليته فيكون وليًا، قياسًا على الحر (¬7). فقياس الحنفي هنا (¬8) أولى؛ لأنه علل بالحكمة، وهي: كونه عارفًا بمصلحة ¬
الولية. قوله: (والتقديري) (¬1). مثاله: اختلافهم في نكاح المريض، هل ترث فيه الزوجة أم لا؟ قال مالك: هذا معنى يؤدي إلى توريث من لا يرث، فيقدر (¬2) وجوده كعدمه، فلا يثبت فيه الميراث، قياسًا على الوصية للوارث (¬3). وقال أبو حنيفة: هذا نكاح يباح فيه الوطء، ويلحق فيه الولد، فيثبت فيه الميراث، قياسًا على نكاح الصحيح (¬4). فقياس الحنفي ها هنا أولى؛ لأنه علل بحكمة النكاح، وهي [إباحة الوطء و] (¬5) إلحاق الولد، وأما الأول، فقد علل بالوصف المقدر. قوله: (والتعليل بالعدمي أولى من التقديري) (¬6). مثاله: اختلافهم في المعتق عنه، هل يثبت له الولاء وتبرأ ذمته من الكفارة ¬
أم لا؟ فيقول المثبت وهو مالك: المعتق عنه يقدر مالكًا (¬1)، فيجزئه لكفارته، ويثبت (¬2) له الولاء، قياسًا على المعتق عن نفسه (¬3). ويقول النافي وهو أبو حنيفة في المعتق [عنه] (¬4): ليس بمالك فلا تبرأ (¬5) ذمته من الكفارة، ولا يثبت له الولاء، قياسًا على ما إذا أعتق عبد غيره (¬6). هذا القياس الثاني أولى من الأول؛ لأن هذا الثاني علل بالعدمي، والأول [علل] (¬7) بالتقديري. قوله: (وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي) (¬8). مثاله: اختلافهم في قليل النبيذ. ¬
قال [مالك] (¬1): شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، أصله (¬2) الخمر. وقال أبو حنيفة: شراب لا يسكر [فلا يحرم] (¬3)، أصله اللبن. فالوصف الوجودي هو قولنا: يسكر، والحكم الوجودي هو قولنا: يحرم، والوصف العدمي، هو قولنا: لا يسكر، والحكم العدمي هو قولنا: فلا يحرم. قوله: (ومن العدمي بالوجودي) (¬4)، معناه: وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي. مثاله: اختلافهم في نية الوضوء. قال مالك: [الوضوء] (¬5) عبادة بدنية فتشترط فيه النية، أصله الصلاة. وقال أبو حنيفة: الوضوء طهارة مائية فلا تشترط فيه النية، أصله زوال النجاسة. قوله: (والوجودي بالعدمي) (¬6) معناه: وتعليل الحكم الوجودي ¬
بالوصف الوجودي أولى من تعليل الحكم الوجودي [بالوصف] (¬1) العدمي (¬2). مثاله: اختلافهم في قليل النبيذ. قال مالك: شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، أصله (¬3) الخمر. وقال أبو حنيفة: شراب لا يسكر فيباح، أصله اللبن. قوله: (لأن التعليل بالعدم يستدعي تقدير الوجود)، وإنما استدعى العدم تقدير الوجود؛ لأن العلة العدمية لا بد أن تكون عدمًا مضافًا لشيء معين (¬4)، كقولنا: عدم الإسكار علة إباحة الخمر، وعدم العقل علة منع التصرف. كما نقول: ليس بمسكر فلا يحرم، ليس بعاقل فلا يصح تصرفه. ليس بجانٍ (¬5) فلا يعاقب، ونحو ذلك، فلا بد أن يقدر معنى [هذا] (¬6) عدمه. قوله: ([و] (¬7) بالحكم الشرعي أولى من التقديري) (¬8). ¬
معناه: والتعليل بالحكم الشرعي أولى من التعليل بالوصف المقدر. مثاله: اختلافهم في المعتق عنه، هل تبرأ ذمته من الكفارة إذا أعتق عنه بسببها ويثبت له الولاء، أو لا تجزئه تلك الكفارة ولا يثبت له الولاء؟. قال مالك: هذا شخص أعتق عنه، فيقدر أنه مالك فتبرأ ذمته ويثبت له الولاء، أصله إذا أعتق [عبد] (¬1) نفسه. وقال أبو حنيفة: هذا شخص ليس بمالك، فلا تبرأ ذمته/ 334/ بعتق الغير عنه، أصله إذا أعتق عبد غيره عن نفسه. فقياس الحنفي (¬2) ها هنا أولى؛ لأنه علل بالحكم الشرعي، وهو قولنا: ليس بمالك، وأما مالك فقد علل بالوصف التقديري، وهو تقدير الملك. قوله: (والتقدير (¬3) على خلاف الأصل)، أي: إنما قدم التعليل بالحكم الشرعي على التقديري؛ لأن الحكم الشرعي جاء على وضعه لم يخالف فيه أصلاً (¬4)، وأما التقديري فهو على خلاف الأصل. [وذلك أن إعطاء الموجود (¬5) حكم المعدوم، أو إعطاء المعدوم حكم ¬
الموجود هو مخالف للأصل؛ لأن وضع المعلوم على خلاف ما هو عليه، خلاف الأصل. أما المعدوم فهو باق على وضعه لم يخالف فيه أصلاً (¬1)، فلذلك قدم على التقديري] (¬2). قوله: (والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى، أو بالإِجماع، أو بالتواتر، أقوى مما ليس كذلك). ش: قوله: (والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى) (¬3). معناه: والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى، هو أولى من القياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أضعف. مثاله: اختلافهم في الوضوء من مس الذكر. قال المالكي: هذا عضو ملتذ بمباشرته، فيجب به الوضوء، قياسًا على القبلة في الفم (¬4). وقال الحنفي: هذا عضو من (¬5) أعضاء الجسد، فلا يجب به (¬6) الوضوء، ¬
قياسًا على الركبتين. فقياس المالكي أولى من قياس الحنفي؛ لأنه رواه جماعة كثيرة، وأما مستند الحنفي فلم يروه إلا طلق بن علي (¬1)، فما رواه الجماعة أولى مما رواه الواحد. قوله: (أو بالإِجماع) (¬2)، معناه: والقياس الذي يكون ثبوته الحكم في أصله بالإجماع أولى من غيره. مثاله: اختلافهم في تحديد أقل الصداق. قال [مالك]: (¬3) محدود بربع دينار (¬4). وقال الشافعي (¬5)، وابن وهب (¬6): لا حد له (¬7). ¬
وسبب الخلاف: هل هو عبادة أو معاوضة؟ فمن جعله من باب العبادة قدره كالزكاة والكفارة، ومن جعله من باب المعاوضة لم يقدره، بل يجوز بكل ما يقع به التراضي كسائر المعاوضات (¬1). فيقول المالكي في نظم قياسه: هذا عضو لا يستباح إلا بمال، فيقدر بربع دينار أو ثلاثة دراهم، قياسًا على السرقة. ويقول الشافعي: هذا عقد بمعاوضة، فلا يقدر، بل يجوز بما يقع به التراضي، قياسًا على البيع (¬2). وقياس الشافعي أولى؛ لأن أصله ثبت حكمه بالإجماع (¬3). قوله: (أو بالتواتر) (¬4) (¬5)، معناه: والقياس (¬6) الذي يكون ثبوت الحكم [في أصله] (¬7) (¬8) بالتواتر أولى من غيره. مثاله: اختلافهم في الحيوان البحري الذي يعيش في البر. ¬
هل حكمه حكم الحيوان (¬1) البحري كالحوت، فلا ينجس في نفسه، ولا ينجس ما مات فيه، أو حكمه حكم الحيوان البري كالشاة الميتة، فينجس (¬2) في نفسه، وينجس ما مات [فيه] (¬3)؟. قال ابن الحاجب في الفروع: والمشهور أن السلحفاة والسرطان والضفدع ونحوه مما تطول حياته في البر بحري كغيره (¬4) (¬5). قال مالك [مثلا] (¬6) في نظم قياسه: هذا حيوان بحري، فلا ينجس بالموت، أصله السمكة الميتة (¬7). ويقول الآخر: هذا حيوان بري ذو نفس سائلة، فينجس بالموت، أصله الشاة الميتة (¬8). وهذا القياس أولى؛ لأن ثبوت الحكم في أصله ثبت بالتواتر (¬9)، وأما القياس الأول فإنما ثبت بالآحاد، وهو قوله عليه السلام: "الطهور ماؤه، الحل (¬10) ميتته". ... ¬
الفصل الخامس في ترجيح طرق العلل
الفصل الخامس في ترجيح طرق العلل (¬1) ش: قد تقدم لنا أن الترجيح يكون في الأخبار، ويكون في الأقيسة، ويكون في طرق العلة، وترجيح الأقيسة يكون باعتبار الأصل، أو (2) الفرع، أو (2) الحكم، أو (¬2) العلة. قوله: (قال الإِمام: المناسبة أقوى (¬3) من الدوران، خلافًا لقوم، ومن التأثير، والسبر المظنون (¬4)، والشبه، والطرد) (¬5). ش: ذكر [المؤلف رحمه الله] (¬6) ها هنا [من] (¬7) طرق العلة ستة (¬8) أشياء، وهي: المناسبة، والدوران، والتأثير، والسير، والشبه، والطرد، فجعل المناسبة أقواها؛ لأن المصلحة في المناسبة ظاهرة (¬9)، وأما الدوران فليس فيه ¬
إلا مجرد الاقتران، وهو اقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم. والشرائع مبنية على المصالح، فما كانت فيه المصلحة (¬1) ظاهرة، فهو أولى بالمراعاة (¬2). حجة القول بأن الدوران مقدم على المناسبة: أن الدوران (¬3) فيه طرد وعكس، وهو اقتران الوجود بالوجود، والعدم بالعدم، والعلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية، فيكون الدوران أولى من المناسبة (¬4). وأجيب: بأن الترجيح بالطرد والعكس إنما يكون مع المساواة في المناسبة، [والمناسبة] (¬5) المطردة [المنعكسة] (¬6) أولى من المناسبة التي لا تكون كذلك، وأما مجرد الطرد والعكس فممنوع (¬7). وأما تقديم المناسبة على التأثير؛ فلأن التأثير هو اعتبار الجنس في الجنس، والاعتبار أضعف من المناسبة؛ لأن الاعتبار مظنة المناسبة، فما ظهرت فيه المناسبة أولى (¬8). ¬
وأما تقديم المناسبة على الشبه؛ فلأن الشبه هو الذي لا يناسب لذاته ولكنه يستلزم المناسب لذاته، فالمناسب (¬1) في ذاته أولى مما ليس كذلك (¬2). وأما تقديم المناسبة على السبر والتقسيم؛ فلأن السبر والتقسيم وقع التعيين (¬3) فيه بإلغاء (¬4) الغير، أو بعدم اعتباره، والمناسبة وقع الاعتبار فيه بالذات (¬5)، فكان (¬6) أولى (¬7). وأما تقديم المناسبة على الطرد؛ فلأن الطرد عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف، فمجرد (¬8) الاقتران أضعف من المناسب (9)؛ لأن المناسب (9) المصلحة فيه ظاهرة بادية فكان أولى؛ لأن المناسب (¬9) هو معدن الحكمة (¬10). قوله: (قال الإِمام: المناسبة أقوى من الدوران) (¬11). مثاله: اختلافهم في علة الربا. ¬
قال مالك: علته الاقتيات والادخار، وهما مناسبان للحكم؛ لأن الاقتيات والادخار لهما تأثير في إحياء النفوس، وما كان كذلك ينبغي ألا يهان بأن يباع متفاضلاً. وعلله أبو حنيفة [بالكيل والوزن] (¬1)، فحيث وجد الكيل أو الوزن وجد الحكم، وحيث عدم عدم. قوله: (ومن التأثير) (¬2). مثاله: / 335/ اختلافهم في تكرار مسح الرأس. [[قال مالك: مسح [الرأس] (¬3) مبني على التخفيف، فلا يُسَنُّ فيه التكرار (¬4)، أصله المسح على الخفين، فقد علل مالك بوصف مناسب للحكم، وهو: مبني]] (¬5) على التخفيف، والحكم هو عدم التكرار؛ لأن التخفيف يناسب عدم التكرار. وقال الشافعي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فيسن (¬6) فيه التكرار، أصله الوجه (¬7). ¬
قوله: (والسبر المظنون) (¬1). مثاله: اختلافهم في علة الكفارة في رمضان بالأكل والشرب. فعلل (¬2) مالك وجوب الكفارة بهتك حرمة رمضان، فتجب الكفارة عنده بالأكل والشرب (¬3) (¬4). فيقال في القياس: هذا معنى يقصد (¬5) به هتك حرمة رمضان، فتجب فيه الكفارة، أصله الجماع؛ لأن الجماع متفق عليه في وجوب الكفارة به، وهو (¬6) محل النص؛ لأنه عليه السلام جاءه أعرابي وهو يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت هلكت يا رسول الله (¬7)، واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره النبي عليه السلام بالكفارة. وعلل الشافعي وجوب الكفارة بالإيقاع وهو الجماع، فلا تجب [الكفارة] (¬8) عنده بالأكل والشرب (¬9) (¬10)، ويقال (¬11) في قياسه: هذا ¬
[معنى] (¬1) ليس بجماع فلا تجب الكفارة فيه (¬2)، أصله أكل ما لا يغذي كالحصاة. فتعليل مالك بالهتك مناسب لوجوب الكفار [ة] (¬3). قوله: (والشبه): أي: المناسبة (¬4) أقوى من الشبه (¬5). مثاله: اختلافهم في ولاية العبد في النكاح. قال مالك: هو شخص محجور عليه في أفعاله فلا يكون وليًا، أصله المجنون. وقال أبو حنيفة: هو شخص عارف بمصالح وليته فيكون وليًا، أصله الحر، فكونه محجور [اً] (¬6) عليه مناسب للحكم. قوله: ([و] (¬7) الطرد)، معناه: والمناسبة أقوى من الطرد (¬8). ¬
مثاله: اختلافهم في تعليل الربا. علل مالك بالاقتيات والادخار، وعلل أبو حنيفة بالكيل والوزن، فالتعليل بالاقتيات والادخار (¬1) مناسب، وأما التعليل بالكيل والوزن فليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب؛ فالربا عند الحنفي مطرد في كل مكيل وموزون، حتى الجص. قوله: (والمناسب [الذي] (¬2) اعتبر نوعه في نوع الحكم [مقدم] (¬3) على ما اعتبر جنسه في نوعه (¬4)، ونوعه (¬5) في جنسه، وجنسه (¬6) في جنسه؛ لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به، والثاني والثالث متعارضان، والثلاثة راجحة على الرابع، ثم الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة، وكلما قرب (¬7) كان أرجح). ش: تقدم لنا في باب القياس في الفصل الثالث في الدال على العلة: أن المناسب الذي اعتبره الشرع ينقسم إلى أربعة أقسام: (¬8) إما ما اعتبر نوعه في نوع الحكم، وإما ما اعتبر جنسه في جنسه، وإما ما اعتبر نوعه في جنسة، وإما ما اعتبر جنسه في نوعه. ¬
فذكر المؤلف رحمه الله ها هنا: أن القسم الأول الذي هو تأثير النوع في النوع يقدم على الثلاثة الأنواع الباقية (¬1)، وهي (¬2) تأثير الجنس في النوع، وتأثير النوع في الجنس، وتأثير الجنس في الجنس، وإلى هذه الثلاثة أشار بقوله: مقدم على ما اعتبر جنسه في نوعه، ونوعه في جنسه، وجنسه في جنسه. وذكر: [أن] (¬3) النوع الثاني والثالث، وهما الجنس في النوع والنوع في الجنس، يقدمان على الرابع، وهو (¬4) الجنس [في الجنس] (¬5)، وإليه (¬6) أشار بقوله: والثلاثة راجحة على الرابع. وأراد بالثلاثة: النوع في النوع، والجنس في النوع، والنوع في الجنس. ولكن في كلامه تكرار بالنسبة إلى دخول النوع الأول في جملة الثلاثة؛ لأن كلامه أولاً يقتضي أن النوع الأول مقدم على الرابع، فلو قال: والثاني والثالث راجحان على الرابع، لكان أولى. ¬
وذكر المؤلف أن النوع الثاني والنوع الثالث متعارضان فيما بينهما، وليس تقديم أحدهما على الآخر بأولى من العكس (¬1)، وإلى هذا أشار بقوله: والثاني والثالث متعارضان، أي متساويان. ولكن اعترض المؤلف بأن كلامه ها هنا مناقض لقوله أولاً في باب القياس: فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس، وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع (¬2)؛ لأن كلامه في باب القياس عدم التعارض، وكلامه [هـ] (¬3) هنا في باب التعارض يقتضي تعارضهما؛ لأنه قال: والثاني والثالث متعارضان. يحتمل أن يجاب عنه: بأنه (¬4) نقل أولاً قولاً، ونقل ها هنا قولاً آخر، ولكن قالوا: [المنقول عن الأصوليين إنما هو القول بالتعارض، كما قال المؤلف ها هنا في باب التعارض. ووجه التعارض ظاهر: وهو أن] (¬5) كل واحد من القسمين فيه خصوص من وجه واحد؛ إذ في أحد القسمين خصوص الوصف، وفي الآخر خصوص الحكم، فليس تقديم خصوص أحد (¬6) القسمين على خصوص ¬
الآخر بأولى من العكس. ووجه ما قال المؤلف في باب القياس: أن الوصف أصل للحكم والحكم فرع له، فخصوص الأصل أولى بالاعتبار (¬1) من خصوص الفرع، والله أعلم (¬2). قوله: (والمناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم ... إلى (¬3) قوله: راجحة على الرابع). وحاصل كلامه ست صور (¬4): وذلك أن تأثير النوع في النوع يحتوي على ثلاث (¬5) صور، وهي: تأثير الجنس في النوع، وتأثير النوع في الجنس، وتأثير الجنس في الجنس، فهذه ثلاث صور في تأثير النوع [في النوع] (¬6). وأما تأثير الجنس في النوع، فيحتوي على صورتين، وهما: تأثير النوع في الجنس، وتأثير الجنس في الجنس، فهاتان صورتان في ¬
تأثير الجنس في النوع. وأما تأثير النوع في الجنس، فيحتوي على صورة واحدة، وهي: تأثير الجنس في الجنس، فهذه ست صور. مثال تقديم النوع في النوع على الجنس في النوع، اختلافهم في قليل النبيذ. قال مالك رضي الله عنه: شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، أصله الخمر، فاعتبر (¬1) نوع الإسكار في نوع التحريم. وقال أبو حنيفة رحمه الله: شراب لا مفسدة فيه فيباح (¬2)، أصله اللبن. / 336/ فقوله: لا مفسدة فيه، هذا (¬3) جنس الوصف، موثر في نوع الحكم، وهو الإباحة. ومثال تقديم النوع في النوع على النوع في الجنس: اختلافهم في نية الوضوء. قال مالك: عبادة بدنية فتفتقر إلى نية، أصله الصلاة. قوله: عبادة بدنية، نوع الوصف، وقوله: تفتقر (¬4) إلى نية، نوع الحكم. وقال غيره: طهارة مائية فلا تفتقر إلى نية، أصله زوال النجاسة. فقوله: طهارة مائية، نوع الوصف، وقوله: فلا تفتقر إلى نية، جنس ¬
الحكم. ومثال تقديم النوع في النوع على الجنس في الجنس: اختلافهم في القليل من النبيذ. فيقول المالكي: شراب يسكر كثيره فيحرم قليله، أصله الخمر. ويقول الحنفي: شراب لا مفسدة فيه فلا يحرم، أصله العسل. فقوله: لا مفسدة فيه، جنس الوصف، وقوله: فلا يحرم، جنس الحكم. ومثال الجنس في النوع مع النوع في الجنس: اختلافهم فيمن دفع الصائل من البهائم عن نفسه، هل يضمن أو لا يضمن؟ قال مالك رضي الله عنه: هذا دفع صائل عن النفس، فلا يضمن، أصله الصائل الآدمي. قوله: (¬1) دفع صائل (¬2) عن النفس، نوع الوصف، وقوله: لا يضمن، جنس الحكم. وقال الآخر: هذا إتلاف مال الغير فيضمن، أصله أكل مال الغير في زمان (¬3) المسغبة. ¬
قوله (¬1): إتلاف مال الغير، جنس الوصف، وقوله: يضمن، نوع (¬2) الحكم. ومثال الجنس في النوع مع الجنس في الجنس: اختلافهم في السلس والدود والحصى، هل يوجب الوضوء أم لا؟ قال الشافعي: هذا حدث فيجب منه الوضوء، أصله الصحيح. قوله: حدث، [هو] (¬3) جنس الوصف، وقوله: يجب منه الوضوء (¬4)، نوع الحكم. ويقول المالكي: هذا مكلف يشق عليه الفعل فيسقط عنه الحكم، [أصله لزوم المذي في الصلاة] (¬5). قوله (¬6): يشق عليه الفعل، جنس الوصف، وقوله: يسقط عنه الحكم، جنس الحكم. ومثال النوع في الجنس مع الجنس في الجنس (¬7): اختلافهم في الأخ الشقيق، هل يقدم على الأخ للأب في ولاية النكاح والصلاة على الجنازة، أو هما سواء؟ ¬
فيقول المالكي مثلًا: هذا أخ شقيق فيقدم في النكاح والجنازة، أصله الميراث (¬1). ويقول الآخر (¬2): هذان (¬3) شخصان اشتركا في سبب التعصيب [فيستويان في الولاية] (¬4)، أصله الابنان والعمان (¬5). فقول (¬6) المالكي: أخ شقيق، نوع الوصف، وقوله: يقدم (¬7)، جنس الحكم. وقول الآخر: شخصان اشتركا في سبب التعصيب، جنس الوصف، وقوله: فيستويان في الولاية، جنس الحكم. قوله: (والمناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم ... إِلى قوله: راجحة على الرابع)، هذا كله تقسيم المناسب. قسمه المؤلف رحمه الله إلى الأقسام المذكورة، وسكت المؤلف عن الخمسة الباقية من (¬8) أنواع العلة، وهي: الدوران، والتأثير، والسير، والشبه، والطرد؛ لأن المؤلف ذكر تعارض المناسب مع هذه الخمسة، ولم ¬
يذكر تعارض هذه الخمسة فيما بينها، وفي (¬1) تعارض هذه (¬2) الخمسة فيما بينها (¬3) عشرة (¬4). وذلك أنك تأخذ الدوران مع كل واحد (¬5) من الأربعة الباقية بعده، ثم تأخذ التأثير مع كل واحد من الثلاثة بعده، ثم تأخذ السير مع كل واحد من الاثنين بعده، ثم تأخذ الشبه مع ما بعده وهو (¬6) الطرد، فهذه عشرة أوجه. قال أبو زكريا يحيى بن أبي بكر المسطاسي: ولم أر من تعرض لهذه الأوجه العشرة (¬7)، وبالله التوفيق بمنه (¬8). قوله: (والمناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم مقدم على ما اعتبر جنسه في نوعه ونوعه في جنسه وجنسه في جنسه، لأن الأخص بالشيء أرجح، وأولى به) ووجه هذا التقديم: أن النوع في النوع فيه الخصوص من وجهين، والنوع في الجنس وكذلك الجنس في النوع في كل واحد خصوص ¬
من وجه واحد، والجنس في الجنس لا خصوص فيه البتة، فما فيه الخصوص من وجهين أولى مما فيه الخصوص من وجه واحد، وما فيه الخصوص من وجه واحد أولى مما لا خصوص فيه البتة (¬1). والثاني والثالث متعارضان؛ لأن كل واحد منهما خاص من وجه، فليس تقديم خصوص أحدهما على خصوص الآخر بأولى من العكس. قوله: (لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به)، [أي:] (¬2) الأخص أرجح من الأعم، ألا ترى أن المحرم إذا لم يجد إلا صيدًا وميتة أكل الميتة ويترك الصيد؛ لأن تحريم الصيد خاص بالإحرام. وكذلك المصلي، إذا لم يجد إلا ثوب الحرير وثوب النجس صلى بالحرير ويترك النجس؛ لأن تحريم النجس خاص بالصلاة، وغير ذلك من الأمثلة، فإن الأخص أبد [اً] (¬3) آكد وأقوى من الأعم، فيقدم النهي الأخص في الترك، ويستعمل النهي الأعم (¬4). قوله: (ثم الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة، وكل ما قرب كان أرجح (¬5))، تقدم بيان هذا الفصل الثالث في باب القياس (¬6)، وهو: أن الوصف أعم أحواله كونه وصفًا، وأخص منه كونه مناسبًا، وأخص منه كونه ¬
معتبرًا، وأخص منه كونه مصلحة أو مفسدة، وأخص منه كونه مصلحة كذا أو مفسدة كذا، وأخص منه كون تلك المصلحة أو المفسدة في محل الضرورة أو الحاجة أو التتمة (¬1). والحكم أعم أجناسه كونه حكمًا، وأخص منه كونه طلبًا أو تخييرًا، وأخص منه كونه تحريمًا أو تحليلاً، وأخص منه [كونه] (¬2) تحريم كذا أو تحليل كذا، وبهذا تظهر الأجناس العالية والسافلة والمتوسطة من الأوصاف والأحكام (¬3). قوله: (وكل ما قرب كان أرجح)، أي: وكل ما قرب إلى النوع كان أرجح، فيقدم الجنس السافل على العالي. قوله: (والدوران في صورة (¬4) أرجح منه في صورتين) (¬5). ش: تقدم لنا في باب القياس حقيقة الدوران (¬6)، وهو: [عبارة عن] (¬7) اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف، وعدمه مع عدمه. مثاله في صورة واحدة: الإسكار مع التحريم، فإن الإسكار يدور/ 337/ ¬
مع التحريم وجودًا وعدمًا، فإن عصير العنب قبل الإسكار ليس بمسكر، فهو ليس بحرام، وإذا صار مسكرًا صار حرامًا، وإذا تخلل زال الإسكار فزال التحريم، فقد اقترن الوجود بالوجود والعدم بالعدم ها هنا في صورة واحدة. ومثاله في صورتين: اقتران وجوب الزكاة في النقدين بكونهما أحد الحجرين، فإن وجوب الزكاة دار مع كونهما أحد الحجرين وجودًا وعدمًا، أما وجودًا ففي صورة المسكوك، وأما عدمًا ففي صورة العقار. وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه الصورة؛ لأن انتقاء الحكم بعد ثبوته في الصورة الواحدة، يقتضي أنه ليس معه ما يقتضيه في تلك الصورة، وإلا لثبت فيها، وأما انتفاء الحكم من صورة أخرى (¬1) غير صورة الثبوت، فيحتمل أن يكون موجب الحكم فيها غير الوصف المدعى كونه علة (¬2)، وأن (¬3) الوصف المدعى كونه علة لو فرض انتفاؤه ثبت الحكم بوصف آخر، فلا يتعين عدم اعتبار غيره بخلاف الصورة الواحدة. قوله: (والشبه في الصفة أقوى منه في الحكم)، وفيه خلاف. ش: تقدم حقيقة الشبه في باب القياس (¬4)، وهو عبارة عن الوصف الذي لا يناسب لذاته ويستلزم المناسب لذاته. ¬
مثاله: العبد المقتول، فإن فيه شبهين (¬1)، وهما: كونه آدميًا، وكونه مملوكًا، فكونه آدميًا وصف حقيقي، وكونه مملوكًا حكم شرعي. فمن [غلَّب فيه الشبه الأول (¬2) الذي هو كونه آدميًا - وهو أبو حنيفة - لم يوجب فيه الزيادة على الدية. ومن] (¬3) غلب فيه الشبه الثاني الذي هو كونه مملوكًا - وهو مالك والشافعي - أوجب فيه القيمة بالغة ما بلغت، وإن زاد [ت] (¬4) على الدية. حجة القول بأن الشبه في الصفة أقوى: أن الأوصاف هي أصل العلل (¬5)، والأصل في الأحكام أن تكون معلولات لا عللاً، فالحكم (¬6) إذًا فرع الوصف والوصف أصل له، فإذا تعارضا قدم الأصل (¬7). وحجة القول بأن الشبه في الحكم أقوى: أن الحكم يستلزم علته، فيقع الشبه في الصفة والحكم معًا، والشبه من وجهين أقوى منه من [و] (¬8) جه واحد (¬9). ¬
أجيب عن هذا بأنه لا يلزم من (¬1) الشبه في الحكم الشبه في العلة، فإن الأحكام المتماثلة تعلل بالعلل المختلفة (¬2)، وبالله التوفيق بمنه. ... ¬
رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ تأليف أبي عَلي حسَين بن علي بن طَلحة الرّجراجي الشوشَاوي المتوفى سنة 899 هـ تحقيق د. أَحْمَد بن محمَّد السراح عضو هَيئة التّدريس بجامعة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلامية المجلّد السَّادِس مَكْتَبة الرُّشدِ نَاشِرُون
حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1425 هـ - 2004 م مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 - هاتف: 4593451 - فاكس: 4573381 E - mail: [email protected] www.rushd.com * فرع الرياض: طريق الملك فهد - غرب وزارة البلدية والقروية ت 2051500 * فرع مكة المكرمة: ت: 5585401 - 5583506 * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - ت: 8340600 - 8383427 * فرع جدة: مقابل ميدان الطائرة - ت: 6776331 * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - ت: 3242214 - ف: 3241358 * فرع أبها: شارع الملك فيصل ت: 2317307 * فرع الدمام: شارع ابن خلدون ت: 8282175 وكلاؤنا في الخارج * القاهرة: مكتبة الرشد - مدينة نصر - ت: 2744605 * الكويت: مكتبة الرشد - حولي - ت: 2612347 * بيروت: دار ابن حزم ت: 701974 * المغرب: الدار البيضاء/ مكتبة العلم/ ت: 303609 * تونس: دار الكتب الشرقية/ ت: 890889 * اليمن - صنعاء: دار الآثار ت: 603756 * الأردن: دار الفكر/ ت: 4654761 * البحرين: مكتبة الغرباء/ ت: 957823 * الامارات - الشارقة: مكتبة الصحابة/ ت: 5633575 * سوريا - دمشق: دار الفكر/ ت: 221116 * قطر - مكتبة ابن القيم/ ت: 4863533
رفع النقاب عن تنقيح الشهاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الباب التاسع عشر في الاجتهاد
الباب التاسع عشر في الاجتهاد وفيه تسعة فصول الفصل الأول: في النظر الفصل الثاني: في حكمه الفصل الثالث: فيمن يتعين عليه الاجتهاد الفصل الرابع: في زمانه الفصل الخامس: في شرائطه الفصل السادس: في التصويب الفصل السابع: في نقض الاجتهاد الفصل الثامن: في الاستفتاء الفصل التاسع: فيمن يتعين عليه الاستفتاء
الباب التاسع عشر في الاجتهاد ش: الاجتهاد مصدر قولك: اجتهد يجتهد اجتهادًا، إذا استوفى قدرته (¬1) وطاقته (¬2) والتاء فيه للمبالغة؛ لأنها تقتضي المعاناة والإقبال على الشيء، وهذا مثل قولك: كسب واكتسب وقلع واقتلع (¬3)، فإن اكتسب أبلغ من كسب (¬4)، واقتلع أبلغ من قلع (¬5)، واجتهد أبلغ من جهد. يقال: الجهد والجهد، بضم الجيم وفتحها، واختلف فيهما. فقيل: معناهما واحد، وهو القدرة والطاقة. وقيل: الجهد بالضم معناه الطاقة، والجهد بالفتح معناه المشقة. قاله صاحب المحكم (¬6) (¬7) .......... ¬
في اللغة (¬1). ولا يستعمل الاجتهاد إلا فيما فيه مشقة، ولذلك يقال: اجتهدت في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهدت في حمل الخردلة. قوله: (وهو استفراغ الوسع في المطلوب، [لغة] (¬2)). [ش:] (¬3) ذكر المؤلف ها هنا حقيقة الاجتهاد في اللغة، (¬4) وهو: استيفاء القدرة في تحصيل المطلوب (¬5). الوسع، والقدرة، والطاقة، والطوق، والجهد، بمعنى (¬6) واحد (¬7). وكان من حق المؤلف رحمه الله أن يصرح ها هنا بذكر الفصل، كما هو عادته في أول كل باب، كباب الأوامر (¬8)، وباب العمومات (¬9)، وباب الاستثناء (¬10)، ¬
وباب النسخ (¬1)، وباب الخبر (¬2)، وباب الإجماع (¬3)، وباب القياس (¬4)، وغيرها. فالصواب أن يقول: الباب التاسع عشر في الاجتهاد، وفيه عشرة فصول، [الفصل] (¬5) الأول في حقيقته، وهو استفراغ (¬6) الوسع في المطلوب لغة، واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحًا. وهذا الفصل الذي هو [في] (¬7) حقيقة الاجتهاد، وإن لم يذكره المؤلف لفظًا فهو عنده مذكور معنى، بدليل تصريح المؤلف أول الكتاب [بعد فصول الكتاب؛ لأنه قال أول الكتاب] (¬8): ولخصت (¬9) جميع ذلك في مائة فصل ¬
وفصلين [في عشرين بابًا] (¬1) (¬2)، وهذا الفصل المشار إليه في حقيقة الاجتهاد، هو المكمل (¬3) به ذلك العدد، وإلا فليس في الكتاب إلا مائة فصل وفصل واحد (¬4). قوله: (واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحًا). ش: [هذا] (¬5) حقيقة الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين (¬6). معناه: استيفاء الجهد والقدرة والطاقة في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي، فالاستفراغ (¬7) مصدر أضيف إلى المفعول (¬8) الذي هو الوسع، والفاعل محذوف، وهو الفقيه، وعليه يعود الضمير المنصوب في "يلحقه"، ¬
"وما" واقعة على المجتهد فيه، وهو الحكم الشرعي الذي لا قاطع فيه؛ لأن المطلوب بالاجتهاد حصول الظن بحكم شرعي، فتقدير كلام المؤلف: وهو استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل الظن بما يلحقه فيه لوم شرعي. وبسط كلامه أن نقول: استفراغ الفقيه الوسع في النظر في تحصيل الظن بحكم شرعي. وقوله: فيما يلحقه فيه لوم شرعي، يعني: [أنه] (¬1) يلحقه (¬2) لوم شرعي على تقدير تركه لتحصيل ذلك الظن إذا تعين عليه. واعترض هذا الحد بأن قيل: قوله: فيما يلحقه فيه لوم شرعي. إما أن يريد فيما يلحقه فيه لوم شرعي بترك الاجتهاد فيه. وإما أن يريد فيما يلحقه فيه لوم شرعي بترك العمل به بعد حصول الاجتهاد فيه. فإن أراد: فيما يلحقه فيه لوم شرعي بترك الاجتهاد فيه، فيكون الحد غير مانع؛ لأنه يندرج فيه كل ما يجتهد فيه من أصول الديانات/ 338/، وقيم المتلفات، وأروش (¬3) الجنايات، والأواني (¬4) والثياب في الطهارات، وتعيين القبلة (¬5) في إحد [ى] (¬6) الجهات (¬7)، وتعيين الكفء من بين الأكفاء في حق ¬
الزوجات، وتعيين القضاة والخليفة وغيرهما من أرباب (¬1) الولايات، فإن النظر في جميع ذلك لا يسمى اجتهادًا في الاصطلاح الفقهي، بل بالاصطلاح (¬2) اللغوي. وإن أراد بقوله: فيما يلحقه فيه لوم شرعي: بترك العمل به بعد حصول الاجتهاد فيه، فيكون الحد غير جامع؛ لأن الحد لم يتناول على هذا إلا الواجبات؛ لأن الحكم الذي يلحق [فيه] (¬3) اللوم الشرعي بترك العمل به هو الواجب دون غيره، فلا يلحق اللوم الشرعي بترك المحرمات والمكروهات والمندوبات والمباحات (¬4) (¬5). قال أبو زكريا المسطاسي: الأولى أن نقول في حد الاجتهاد: بذل المجتهد الجهد في الأحكام الفروعية (¬6) الكلية (¬7). قوله: المجتهد، احترازًا من العامي؛ لأن معنى المجتهد: من حصلت له شرائط الاجتهاد. وقوله: (في الأحكام الفروعية)، احترازًا من الأحكام الأصولية. وقوله: (الكلية)، وهي الفتاوى؛ لأنها عامة على الخلق إلى يوم القيامة، ¬
احترازًا من الفروعية الجزئيات، كقيم المتلفات، وأروش (¬1) الجنايات، وغيرها مما ذكرنا معها، فإنها أمور جزئيات لا تتعدى (¬2) تلك الصور المعينة، بخلاف الفتاوى، فإنها عامة على الخلق (¬3) إلى يوم القيامة. ... ¬
الفصل الأول في النظر
الفصل (¬1) الأول في النظر (¬2) وهو الفكر، وقيل: تردد الذهن بين أنحاء الضروريات. وقيل: تحديق العقل إِلى جهة الضروريات. وقيل: ترتيب تصديقات يتوصل [بها] (¬3) إِلى علم أو ظن. وقيل: ترتيب تصديقين، وقيل: ترتيب معلومات، وقيل: ترتيب معلومين. فهذه سبعة مذاهب، أصحها (¬4) الثلاثة (¬5) الأولى (¬6). ش: لما ذكر (¬7) .............. ¬
المؤلف (¬1) النظر في حقيقة الاجتهاد، أراد أن يبين معنى النظر. وقد اختلف المؤلفون في محل وضع النظر، فأكثرهم وضعوه في أوائل تصانيفهم قبل الخوض في المعنى المقصود به، كالقاضي أبي بكر، والقاضي عبد الوهاب، وإمام الحرمين (¬2)، وغيرهم (¬3). ومنهم من وضعه في هذا الباب، وهو باب الاجتهاد كما فعل المؤلف؛ لأن باب الاجتهاد هو موضع الحاجة إلى النظر؛ لأن المجتهد هو الذي يحتاج إلى النظر (¬4). واعلم أن النظر له معانٍ مختلفة، منها: نظر البصر، ومنه قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (¬5). ومنها: الانتظار (¬6)، كقوله (¬7) تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} (¬8) (¬9). ¬
ومنها: التأخير، كقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) (¬2). ومنها: التعطف (¬3) والرحمة، كقوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4) (¬5). ومنها: الجدال، كقولهم: كنا في مجلس المناظرة. ومنها: التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬6)، وهذا كثير في القرآن العظيم. والمراد من معانيه المذكورة، هو النظر الذي معناه، التفكر والاعتبار (¬7). [و] (¬8) اختلف في معناه، فذكر المؤلف فيه سبعة مذاهب. قوله: (وهو (¬9) الفكر): هذا قول القاضي أبي بكر (¬10) ................. ¬
(¬1)، ومعنى الفكر: هو التصرف بالعقل في الأمور المنا [سبة] (¬2) للمطلوب. [قوله]: (¬3) (وقيل تردد الذهن بين أنحاء الضروريات) (¬4) (¬5). الأنحاء: (¬6) جمع (¬7) نحو، والنحو معناه الجهة (¬8)، ومنه تسمية علم العربية بالنحو؛ لأنه جهة الصواب (¬9)، وقيل: الأنحاء جمع ناحية (¬10). التردد هو التفكر، والذهن هو العقل، والأنحاء هي الجهات والطرق والمسالك، والضروريات هي القضايا القطعية التي لا تحتاج إلى الاستدلال عليها، وهي المعبر عنها بالبديهيات، فإن العقل يقصدها ابتداء ليستخرج منها القضايا النظريات. ¬
ومعنى قوله: تردد الذهن بين أنحاء الضروريات، أي: تردد العقل بين جهات القطعيات. قوله: (وقيل: تحديق العقل إِلى جهة الضروريات)، أي: تصويب العقل وتسخيره إلى جهة القطعيات. قال المؤلف في شرحه (¬1): [و] (¬2) هذه الأقوال الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى، وإن اختلفت (¬3) العبارة (¬4). قوله: (وقيل: ترتيب تصديقات يتوصل بها إِلى علم أو ظن (¬5). وقيل: ترتيب تصديقين. وقيل: ترتيب معلومات. وقيل: ترتيب معلومين). وهذه التعريفات الأربعة (¬6) لا بد في جميعها من قوله: يتوصل بها إلى علم أو ظن، وإنما لم يصرح به المؤلف إلا في الأول اكتفاء بدلالة السابق على (¬7) اللاحق. قوله في القول الأول من هذه الأربعة: (ترتيب تصديقات). ¬
مثاله: الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم مؤلف، فهذه ثلاثة (¬1) تصديقات وقوله في القول الثاني: (ترتيب تصديقين). مثاله: الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فهذه تصديقان (¬2). وقوله في القول الثالث: (ترتيب معلومات). مثاله: كما تقدم في ترتيب تصديقات: الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم مؤلف. وقوله في القول الرابع: ترتيب معلومَيْن. مثاله: كما تقدم في ترتيب تصديقين: الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم. واعترض [على] (¬3) القول الأول من هذه الأقوال الأربعة، وهو قوله: ترتيب تصديقات بوجهين (¬4): أحدهما خروج تصديقين من الحد، مع أن النظر في الدليل قد يكتفى فيه بتصديقين، وهما المقدمتان، كقولك، الإنسان حيوان، وكل حيوان جسم. [ولذلك قال الثاني: ترتيب تصديقين] (¬5) (¬6). ¬
الوجه الثاني: خروج التصورات من الحد، مع أن النظر كما يكون في التصديقات يكون في التصورات، كقولك في التصورات: الإنسان حيوان ناطق، ولذلك قال الآخر: ترتيب معلومات/ 339/؛ لأن المعلومات أعم من التصديقات والتصورات. واعترض على القول الثاني، وهو قوله: ترتيب تصديقين، بخروج التصورات من الحد، فإن النظر يكون في التصورات كما يكون في التصديقات (¬1)، ولذلك قال الثالث: ترتيب معلومات؛ ليشمل التصديقات والتصورات. واعترض على القول الثالث، وهو قوله: ترتيب معلومات، بخروج معلومين من الحد؛ لأنه قد يكتفى في الدليل بمعلومين (¬2)، ولذلك قال الرابع: ترتيب معلومين (¬3). واعترض على القول الرابع، وهو قوله: ترتيب معلومين، بخروج الحد الناقص (¬4) والرسم الناقص (¬5) من الحد، فإن التعريف يقع بكل واحد منهما، كقولنا في حد الإنسان: إنه الناطق، أو الضاحك، فإن الترتيب لا يصح مع ¬
الإفراد، وإنما يصح مع التركيب (¬1)، ولا تركيب مع الوحدة (¬2). ولأجل هذه الاعتراضات المذكورات (¬3)، قال المؤلف: أصحها الثلاثة الأولى؛ لعدم اشتراط الترتيب والتعدد فيها. قوله: (وهو (¬4) يكون في التصورات (¬5) لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة، على ترتيب خاص (¬6) تقدم أول الكتاب، وفي التصديقا [ت] (¬7) لتحصيل المطالب التصديقية، على ترتيب خاص وشروط (¬8) خاصة حررت في علم المنطق). ش: [لما] (¬9) ذكر (¬10) المؤلف رحمه الله حقيقة النظر، شرع ها هنا في بيان محله، فذكر أنه يكون في التصورات، ويكون في التصديقات، وذلك أن العلم على قسمين: علم التصور، وعلم التصديق. فالتصوري: هو أن تصور في النفس صورة من غير أن تحكم عليها بنفي ولا إثبات. ¬
والتصديقي: هو أن تصور في النفس صورة، ثم تحكم عليها بنفي [أ] (¬1) وإثبات. مثال التصوري (¬2): قولك في تعريف الإنسان: هو الحيوان الناطق. لأنك صورت حقيقة الإنسان ولم تحكم عليه بشيء (¬3) لا بنفي ولا بإثبات (¬4)، ومثال التصديقي: قولك: الإنسان حادث، أي مخلوق. لأنك حكمت على الإنسان بأنه مخلوق، وغير ذلك من الأمثلة. فعلم التصور يكتسب بالحد، وعلم التصديق يكتسب بالدليل. قوله: (لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة)، هذا فائدة النظر في التصورات، وهي تحصيل الحدود، أراد بالحدود: المعرفات الخمسة (¬5) التي هي: الحد التام (¬6)، والحد الناقص، والرسم التام (¬7)، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له أشهر منه عند السامع (¬8). إذ بهذه الحدود الخمسة يحصل علم التصور [في النفس. قوله: (الكاشفة عن الحقائق المفردة)، أي: الموضحة للحقائق المفردة، ¬
أي: الحدود الكاشفة للحجاب عن الحقائق المفردة] (¬1). [الحقائق المفردة]: (¬2) هي (¬3) المعاني المتصورة (¬4) في النفس. وإنما قال: المفردة، احترازًا من الحقائق المركبة، وهي المعاني التصديقية؛ لأن علم التصور هو معرفة المفردات، وعلم التصديق هو معرفة المركبات. قوله: (على ترتيب خاص تقدم أول الكتاب)، أراد [بهذا] (¬5) الترتيب (¬6) الخاص، تقديم الجنس على الفصل إذا وقع التعريف بالحد التام، كقولك: الإنسان هو الحيوان الناطق، أو تقديم الجنس على الخاصة إذا وقع التعريف بالرسم التام، كقولك: الإنسان هو الحيوان الضاحك، فإنه إذا وقع التعريف بحد تام أو برسم تام فلا بد فيه من تقديم الجنس، فإن قدم الفصل أو الخاصة على الجنس بطل الحد (¬7). قوله: (تقدم أول الكتاب)، أراد قوله أولاً: فالأول التعريف بجملة الأجزاء، نحو قولنا: الإنسان هو الحيوان الناطق (¬8)، وقوله بعده: والثالث التعريف بالجنس والخاصة، كقولنا: هو الحيوان الضاحك (¬9). ¬
ولم يرد (¬1) المؤلف أن التصريح بهذا الترتيب تقدم أول الكتاب، وإنما معنى الكلام: على ترتيب خاص تقدم فهمه مما ذكرنا أول الكتاب، لأن تمثيل المؤلف ذلك يفهم منه تقديم الجنس على الفصل، [أ] (¬2) وعلى الخاصة. قوله: (وفي التصديقات (3) لتحصيل المطالب التصديقية)، أي: ويكون النظر في التصديقات (¬3)، وفائدته فيها: تحصيل المطالب التصديقية. قوله: (على ترتيب خاص)، وهو تقديم المقدمة الصغرى على المقدمة الكبرى، ومعنى المقدمة الصغرى: هي التي فيها الحد الأصغر. ومعنى المقدمة الكبرى: هي التي فيها الحد الأكبر. كقولك: كل إنسان [حيوان] (¬4)، هذه مقدمة صغرى. وقولك: كل (¬5) حيوان متحرك، هذه (¬6) مقدمة كبرى. وإنما كانت الأولى صغرى؛ لاشتمالها على الإنسان الذي هو أخص. وسمَّيَتْ الثانية كبرى؛ لاشتمالها الحيوان الذي هو أعم من الإنسان (¬7). قوله: (وشروط خاصة حررت في علم المنطق)، كقولهم في الشكل ¬
الأول: يشترط في إنتاجه إيجاب الصغرى وكلية الكبرى (¬1)، معناه: أن تكون المقدمة الأولى موجبة لا سالبة، وأن تكون المقدمة الثانية كلية لا جزئية. مثاله: قولك: كل إنسان حيوان، وكل حيوان متحرك. قوله: (ومتى كان في الدليل مقدمة سالبة، أو جزئية، أو مظنونة، كانت النتيجة كذلك، [لأنها] (¬2) تتبع أخس المقدمات، ولا يلتفت إِلى ما صحبها (¬3) أشرفها (¬4) (¬5)). ش: فالسالبة تقابلها الموجبة، والجزئية تقابلها الكلية، والمظنونة تقابلها القطعية. مثال السالبة مع الموجبة: كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحيوان بحجر، فالنتيجة: لا شيء من الإنسان بحجر، فالنتيجة هنا تابعة للسلب؛ لأن السلب أخس من الإيجاب. ومثال الجزئية مع الكلية: بعض الحيوان إنسان، وكل إنسان ناطق، فالنتيجة: بعض الحيوان ناطق، فالنتيجة ههنا تابعة للجزئية؛ لأن الجزئية أخس من الكلية. ¬
ومثال المظنونة مع القطعية: / 340/ في البيت عصفورٌ، عملًا بإخبار زيد، وكل عصفور حيوان، فالنتيجة: في البيت حيوان ظنًا. وضابط الإنتاج أبدًا: أنك تسقط الحد المتكرر، وتحكم بالثاني على الأول، كما ذكرنا في هذه الأمثلة (¬1). قوله: (لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات)، وإنما تتبع أخس المقدمات، لأن تلك المقدمة القوية متوقفة على تلك الخسيسة ولا تستقل بنفسها، فلذلك صارت كالضعيفة (¬2). قوله: (ولا يلتفت إِلى ما صحبها (¬3) من [أشرفها (¬4))، أي: من] (¬5) أشرف (¬6) المقدمات، وأشرف (¬7) المقدمات: هي الكلية (¬8)، والموجبة، والقطعية. وقال بعض الأدباء: قولهم: النتيجة، لحن، والصواب: المنتوجة؛ لأن العرب تقول: نتجت الناقة ولدها، فالناقة منتجة، وولدها منتوج، وفعله أبدًا مبني لما لم يسم فاعله، وهو ثلاثي، حكاه ثعلب في الفصيح (¬9) ¬
وابن القوطية في كتاب الأفعال (¬1). ونقل (¬2) ابن القوطية لغة أخرى، وهي: أنتجت الناقة مبني للفاعل (¬3)، فعلى [هذا] (¬4) يكون الولد منتجًا، نحو أكرم فهو مكرم. وقولهم: نتيجة، معناه: منتوجة، نحو قتيلة وجريحة، أي: مقتولة ومجروحة (¬5). ونظير هذا الفعل في كونه لم ينطق به إلا مركبًا (¬6) قولهم: عنيت بحاجتك (¬7)، وأولعت بالشيء (¬8)، وبهت الرجل (¬9)، وشغل (¬10)، وشهر (¬11)، ووقص (¬12)، وهزل (¬13)، ونكب (¬14)، ووضع في البيع (¬15)، وغبن (¬16)، ¬
وعقمت المرأة (¬1)، ووهصت الدابة (¬2)، وغم الهلال (¬3)، وغير ذلك (¬4)، انظر: الفصيح لثعلب (¬5). ... ¬
الفصل الثاني في حكمه
الفصل الثاني في حكمه ش: أي: في حكم الاجتهاد، [أو في حكم النظر، والمعنيان واحد] (¬1). قوله: (مذهب (¬2) مالك (¬3) رحمه الله وجمهور العلماء رضي الله عنهم وجوبه وإِبطال التقليد؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقوا الله مَا اسْتًطَعْتمْ} (¬4)). ش: ذكره المؤلف [ها هنا] (¬5): أن مذهب الجمهور: وجوب الاجتهاد وبطلان التقليد، ظاهره لا فرق بين الأصول والفروع، وهذا مخالف لما ذكره في الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاسفتاء؛ لأنه أطلق هنالك في الأصول، وقيد في الفروع. فذكر أن مذهب الجمهور: منع (¬6) التقليد في الأصول مطلقًا للمجتهد والعامي؛ لأنه قال هنالك: [و] (¬7) لا يجوز التقليد في أصول [الدين] (¬8) ¬
للمجتهد (¬1) ولا للعوام (¬2) عند الجمهور (¬3)، وذكر التفصيل [في الفروع] (¬4) بين العامي والعالم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد [والعالم الذي بلغ درجة الاجتهاد] (¬5)، كما سيأتي بيانه هنالك إن شاء الله (¬6). فقوله (¬7) [ها] (¬8) هنا: (مذهب الجمهور: وجوبه وإِبطال التقليد)، [هو كلام مجمل، وما ذكره في الفصل التاسع هو تقييد لهذا الإجمال. فنقول: قوله: مذهب الجمهور وجوبه وإبطال التقليد] (¬9)، يريد في الأصول مطلقًا، وفي الفروع في حق المجتهد، بدليل قوله (¬10) في الفصل التاسع: وأما العامي، فيجوز له التقليد، بل يجب (¬11)، لقوله تعالى: {فَلَوْلا ¬
نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَةٍ (¬1) مِّنْهُم طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬2)، وقوله: {أَطِيعْوا (¬3) اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (¬4) وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (¬5). [[قال سيف الدين الآمدي: حكم الاجتهاد على ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، ومندوب إليه. ففرض العين: فيما إذا نزلت نازلة، وليس هناك من يقوم بها إلا مجتهد واحد. وفرض الكفاية: إذا نزلت نازلة، وهناك من يقوم بها من المجتهدين. ومندوب إليه: فيما سيقع [بعد] (¬6) من النوازل (¬7)]] (¬8). واعلم: أن أرباب العلم قد اختلفوا في التقليد في الأصول، هل يجوز أو لا يجوز؟ (¬9) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
حجة المنع: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، ومن الاستطاعة ترك التقليد، وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ} (¬2)، فأمر بالعلم دون (¬3) التقليد، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ [بِهِ] (¬4) عِلْمٌ} (¬5)، وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬6). فظاهر هذه الآيات: أن الله تعالى أمر بالعلم. وكذلك أيضًا أمر الله تعالى بالنظر، فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (¬7)، وقال: {أَفَلَمْ (¬8) يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (¬9)، (¬10) وقال: {أَفَلا يَنظُرونَ إِلَى الإِبِلِ كيفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كيْفَ ¬
سُطِحَتْ} (¬1)، وغير ذلك من أدلة النظر، وهي كثيرة في القرآن العظيم. وقد ذم الله تبارك وتعالى التقليد، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (¬2)، وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (¬3)، وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (¬4) وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (¬5)، وغير ذلك (¬6). حجة القول بجواز التقليد في الأصول: قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وقوله عليه السلام للجارية: "أين الله؟ " فقالت: في السماء، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة" (¬7). ويدل على ذلك ¬
أيضًا: أن أعرابيًا أبصر [وجه] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والله ما هذا بوجه كذاب (¬2) "، فصدقه وأسلم (¬3). ويدل على ذلك أيضًا: أن أعرابيًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنشدك (¬4) الله، آلله بعثك؟، قال له عليه السلام: "إي والله"، فصدقه [بيمينه] (¬5)، وأسلم (¬6). ويدل على ذلك أيضًا: أنه عليه السلام: كان يقبل الإيمان من الأعراب ¬
الأجلاف البعيدين (¬1) عن النظر، ويقرهم على ذلك (¬2)، ولو صح منع التقليد لما حكم عليه السلام بإيمانهم. هذا (¬3) كله يدل على جواز التقليد (¬4). وأجيب عن هذه الأدلة: بأن ذلك كان من أحكام أوائل الإسلام لضرورة المبادئ؛ لأن ذلك أقرب إلى الاستئلاف وعدم التنفير، كما قال عليه السلام: "سكنوا ولا تنفروا" (¬5)، وأما بعد تقرر الإسلام وتمهيده فيجب العمل بمقتضى الأدلة الموجبة للنظر؛ لأن الجمع بين الأدلة ما أمكن أولى (¬6). فتحمل الأدلة الواردة في النظر على وجوب النظر، وتحمل الأدلة الواردة على عدم وجوب النظر على أول الإسلام. [و] (¬7) قال القاضي أبو بكر: أما حديث الجارية فمحمله على أنها كانت ¬
عالمة (¬1)، وقوله عليه السلام لها: "أين الله؟ "، ليس سؤالاً عن المكان؛ لأن المكان على الله تعالى محال/ 341/؛ إذ لا يقال: أين كان؟، ولا كيف كان؟، وإنما معناه: أين الله عندك من سائر المعبودات؟، كما تقول: أين مالك من الشافعي، [أي] (¬2) في المنزلة والمكانة، فهو عليه السلام إنما سألها عن منزلة الله تعالى عندها، فقالت: في السماء، أي في أعلى منزلة، أي: أنه أعلى من كل شيء، لا شبيه له ولا نظير (¬3)، فاتضح بهذا أن الجارية قد استدلت بالنظر، فلذلك قال عليه السلام: "أعتقها فإنها مؤمنة". وقال أبو زكريا (¬4) المسطاسي: ذهب جمهور الفقهاء والمحدثين وبعض ¬
المتكلمين إلى جواز التقليد في الأصول (¬1)، وهو اختيار الغزالي (¬2)، والشيرازي (¬3) وغيرهما (¬4)، حتى (¬5) قال الغزالي: "من أشد الناس إسرافًا وغلوًا طائفة من المتكلمين، كفروا عوام المسلمين، وزعموا [أ] (¬6) ن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حررها العلماء فهو كافر، وهؤلاء قد ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده، وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة قليلة من المتكلمين ومن اعتقد ذلك فقد أبعد، فإن الإيمان نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده. فالحق الصريح: أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه السلام اعتقادًا جازمًا فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته (¬7)؛ لأن معرفة الله تعالى إنما تحصل ¬
بانشراح الصدر (¬1) بنور الله تعالى، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬2)، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬3). وقد سئل عليه السلام عن معنى شرح (¬4) الصدر فقال: ["نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فقيل له: وما علامته؟، فقال:] (¬5) "التجافي عن دار الغرور والإِنابة إِلى دار الخلود" (¬6) (¬7). قوله: (وقد استثنى مالك رحمه الله أربع عشرة (¬8) صورة لأجل الضرورة. ¬
[الصورة] (¬1) الأولى: قال ابن القصار: قال مالك: يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام، [ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين] (¬2)، كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة (¬3)، وهو قول جمهور العلماء (¬4)، خلافًا لمعتزلة بغداد (¬5) (¬6). [و] (¬7) قال الجبائي: يجوز في مسائل الاجتهاد فقط (¬8)). ش: ذكر المؤلف ها هنا: أن مالكًا رضي الله عنه استثنى مما يجب [فيه] (¬9) ¬
الاجتهاد (¬1) أربع عشرة مسألة لا يجب فيها الاجتهاد، وإنما الواجب فيها التقليد، ومعنى التقليد: أخذ القول عن قائله بغير دليل (¬2)، وهو مأخوذ من القلادة، يقال: قلدته بالقلادة (¬3) إذا جعلتها في عنقه (¬4)، كأن المفتي (¬5) جعل الفتيا زيادة في عنق السائل (¬6). ذكر المؤلف في تقليد العوام للمجتهدين ثلاثة أقوال. قولان متقابلان، وثالث للجبائي بالتفصيل بين مسائل الاجتهاد، كالأنكحة والبيوعات والإجارات وغيرها، دون أصول العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من شعائر الإسلام. حجة الجمهور القائلين بوجوب التقليد على العوام: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬7)، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ ¬
كُلِّ فِرْقَةٍ [مِنْهُمْ] (¬1) طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬2) فأمرهم بالحذر عند إنذار علمائهم يدل على وجوب التقليد، وقوله: {[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (¬3) أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬4)، قيل: العلماء، وقيل: ولاة الأمر (¬5)، وكيفما كان فطاعتهم واجبة، وهي وجوب تقليدهم (¬6) (¬7). حجة المعتزلة: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬8)، ومن الاستطاعة ترك التقليد (¬9). وأجيب عن هذا بأن العوام لا قوام لهم بوجوه (¬10) النظر، لأنهم لا يعرفون الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ولا غير ذلك مما يتوقف عليه النظر والاجتهاد، وما لا يضبطونه لا تحل لهم محاولته لفرط (¬11) ¬
الغرر فيه (¬1). حجة الجبائي: أن شعائر الإسلام لا تحتاج إلى نصب أدلة الاجتهاد، فلا حاجة للتقليد فيها، وأما الأمور الخفية فيتعين التقليد فيها لغموضها (¬2)، وقال بعضهم: قول الجبائي ليس بخلاف لقول الجمهور، بل هو وفاق؛ لأن شعائر الإسلام لا يجوز التقليد فيها، إذا انتهت إلى حد (¬3) الضرورة بطل التقليد فيها باتفاق (¬4). قوله: (ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة)، أي: يجب على العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين (¬5)، كما سيأتي بيانه [في الفصل الثامن] (¬6) في قوله: ولا يجوز لأحد أن يستفتي إلا إذا غلب على ظنه أن الذي يستفيته من أهل الدين والعلم والورع (¬7). وقوله: (كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أْعيان الأدلة). ¬
يحتمل أن يكون معناه: كما يجب الاجتهاد في العثور (¬1) والاطلاع (¬2) على أعيان الأدلة. ويحتمل أن يكون معناه: كما يجب الاجتهاد [عليهم] (¬3) في الأدلة بعد العثور عليها ليعلم (¬4) الصحيح منها والفاسد. وكلا الأمرين واجب على المجتهد، والظاهر من الكلام هو (¬5) المعنى الآخر (¬6). قوله: (خلافًا لمعتزلة بغداد)، فقولهم: بغداد، اسم للمدينة المعروفة بالعراق، وتسمى أيضًا مدينة السلام (¬7)، وتسمى أيضًا الزوراء (¬8). أما بغداد فهو اسم فارسي، وفيه لغات، يقال: بغداد، وبغدان، بإبدال الدال الآخرة نونًا، ويقال: مغدان، بإبدال الباء ميمًا، كما يقال (¬9): سبد رأسه، إذا حلقه، وسمده (¬10). ¬
[ويقال: بغدين] (¬1)، بإبدال الألف ياء مع كسر الدال. هذه أربع لغات، وجميعها مفتوح أوله، واللغة الأولى التي [هي] (¬2) بغداد هي الكثيرة، وفيها ثلاث لغات. [إما] (¬3) بإعجام الذالين معًا، و [إما] (¬4) بإهمالهما معًا، و [إما] (¬5) بإعجام الثانية وإهمال الأولى (¬6). وهذا الاسم بجميع لغاته لا ينصرف للعلمية والتركيب. وهو يذكر ويؤنث، فتذكيره اعتبارًا بالمكان، وتأنيثه اعتبارًا بالبقعة (¬7). واختلف في معناه في الأصل على قولين:/ 342/. قيل: "بغ" معناه البستان، و"داد" معناه الرجل، تقديره: بستان الرجل. وقيل: "بغ" اسم صنم، و"داد" معناه العطية، تقديره: عطية صنم (¬8)، لكن الإضافة عندهم مقلوبة، [أي] (¬9): يقدمون المضاف إليه على المضاف على عكس اللغة العربية، كما قالوا في سيبويه، السيب هو التفاح (¬10)، وويه ¬
[هو] (¬1) الرائحة، تقديره: رائحة التفاح (¬2)، بقلب الإضافة. انظر: ابن هشام في شرح الفصيح في باب ما يقال بلغتين (¬3). قوله: (فروع ثلاثة: الأول: قال ابن القصَّار: إِذا استفتى العامي في نازلة، ثم عادت (¬4) يحتمل أن يعتمد على تلك الفتوى لأنها حق، ويحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير (¬5) الاجتهاد (¬6)). ش: ظاهر كلام المؤلف أن الاحتمالين متساويان عند ابن القصار، والذي رجح (¬7) ابن القصار في أصوله: هو إعادة الاستفتاء، قال: ولعله أصح (¬8)، وحكى القاضي عبد الوهاب [عن أصحاب مالك] (¬9) قولين في المسألة، ولم يجعل ذلك احتمالين كما قال ابن القصار (¬10). ¬
فتحصل من هذا أن المستفتي (¬1) فيه قولان، هل يلزمه إعادة [الاستفتاء] (¬2) أم لا؟. و [أما] (¬3) حكم المفتي إذا سئل عن تلك الحادثة، فقد بينه المؤلف في الفصل الثامن في الاستفتاء في قوله: إذا استفتي مجتهد فأفتى، ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة، فإن كان ذاكرًا لاجتهاده الأول أفتى به، وإن نسي استأنف الاجتهاد، فإن أداه إلى خلاف الأول أفتى بالثاني. قال الإمام: [و] (¬4) الأحسن أن يعرف العامي ليرجع (¬5) (¬6). قوله: (الثاني: قال الرياشي (¬7): يجوز تقليد المذاهب في النوازل ¬
والانتقال من مذهب إِلى مذهب بثلاثة شروط (¬1). ألا يجمع بينهما (¬2) على وجه يخالف (¬3) الإِجماع، كمن تزوج بغير صداق [ولا] (¬4) ولي ولا شهود، فإِن هذه الصورة لم يقل بها (¬5) أحد. ¬
وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إِليه، ولا يقلده رميًا في عماية، وألا (¬1) يتبع (¬2) رخص المذاهب. قال: والمذاهب كلها مسالك إِلى الجنة، وطرق إِلى السعادة (¬3) فمن (¬4) سلك [منها] (¬5) طريقًا وصله). ش: قوله [الثاني] (¬6)، أي: الفرع الثاني من الفروع الثلاثة. قوله: (قال الرياشي): [هو] (¬7) بتشديد الراء المكسورة، وبعدها ياء بنقطتين (¬8) تحته، وبعده ألف، وبعد الألف شين معجمة (¬9). قال ابن السيد في طرة (¬10) على كتاب سيبويه: الرياشي هو أبو الفضل العباس بن الفرج من بني رياش (¬11). ¬
قوله: (يجوز تقليد المذاهب) .. إلى آخر [هـ] (¬1)، [يعني] (¬2): أن (¬3) من تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فهو مخالف للإجماع، فإن هذه الصورة المجموعة لم يقل بها أحد من أهل العلم، فمن فعل هذا فقد خالف جميع المذاهب (¬4)، وإنما الخلاف بين العلماء في صورة الإفراد، كمن تزوج بصداق وولي دون شهود (¬5)، فقد قال (¬6) بها خارج المذهب (¬7)، [أو تزوج بصداق ¬
وشهود دون ولي، فقد قال بها خارج المذهب] (¬1) (¬2)، أو تزوج بولي وشهود دون صداق (¬3)، فقال (¬4) بها أيضًا خارج المذهب (¬5). فلا يجوز الانتقال إلى المذاهب على هذه الصورة المجموعة. قالوا: وقد وقعت بالأندلس (¬6) في زمان القاضي ابن رشد، فأمر بقتل الزوج. قوله: (وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه)، أي: بوصول أخبار علمه ودينه إليه. [قوله] (¬7): (ولا يقلد [هـ] (¬8) رميًا في عماية)، أي: رميًا لنفسه في جهالة. واختلف فيما يثبت به عند المقلد أنه من أهل الفتوى. قيل: يكتفى بخبر عدل (¬9)، ................................ ¬
وقيل: لا بد من عدلين (¬1)، وقيل: لا بد من الاستفاضة (¬2)، وإلى هذا القول نحا القاضي أبو بكر؛ لأن هذا مما شأنه أن يستفيض. [واتفقوا على أنه لا يكتفى في ذلك بالزي؛ لأنه قد يفعله لغرض ما] (¬3) (¬4) (¬5). قوله: (وألا يتبع رخص المذاهب)؛ لأن ذلك يدل على عدم الاكتراث بالدين والتساهل فيه. قال بعضهم: مثال ذلك: أن يمسح المتوضي بعض رأسه، ويترك تدلك أعضائه، فهذا (¬6) وضوءه باطل، فإنه جمع بين رخصتين من مذهبين، أخذ ترك استيعاب المسح من مذهب الشافعي (¬7)، وأخذ ترك التدلك من مذهب مالك (¬8). ¬
ولكن هذا المثال فيه نظر، لاختلاف مذهب مالك في التدلك (¬1). و [قد] (¬2) قال أبو عمر بن عبد البر: من أخذ برخصة كل عالم في نوازله فقد جمع الشر كله (¬3)، والإجماع على فساد القول به (¬4). وذكر صاحب الحلل في آخر شرحه [على] (¬5) الرسالة (¬6) في جواز الانتقال من مذهب إلى مذهب لمن التزم (¬7) مذهبًا، خمسة أقوال: قولان متقابلان، بالجواز والمنع (¬8). والقول الثالث: يجوز الانتقال من الأخف إلى الأثقل دون العكس. ¬
والقول الرابع: يجوز الانتقال من الأقل إلى الأكثر دون العكس. معناه: يجوز الانتقال مما عليه الأقل إلى ما عليه الأكثر. والقول الخامس: يجوز الانتقال من العالم إلى الأعلم (¬1). معناه: يجوز الانتقال من مذهب العالم إلى مذهب من هو أعلم منه. وأما من لم يلتزم مذهبًا معينًا فيجوز له الانتقال باتفاق. حجة القول بالجواز مطلقًا: قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، وقوله عليه السلام: "اختلاف العلماء رحمة للناس" (¬2)، وإن لم يصح هذا الحديث فقد قال (¬3) به طوايف من العلماء. ¬
[[حجة القول بالمنع مطلقًا: أن ذلك من باب التلاعب بالدين، ومن باب الاستخفاف بالدين وأهله، فإن من التزم شيئًا يلزمه (¬1) الوفاء [به] (¬2). وهذا المذهب بالمنع، هو (¬3) مذهب أبي المعالي في التلخيص]] (¬4) (¬5). حجة الأقوال الثلاثة الباقية: الاحتياط في الدين. قال (¬6) صاحب الحلل في شرح الرسالة: قال أبو المعالي في العقيدة الناظمية (¬7) في الأركان الإسلامية: يتعين على جميع المقلدين ألا يرتقوا إلى مذاهب أئمة الصحابة، وأن يقلدوا من تصدى للبحث عن مذاهبهم، فإنهم قد كفوهم مؤنة البحث والتنقير (¬8)، وتصدوا للتنخيل والتحرير (¬9). ¬
قوله: (قال: والمذاهب (¬1) كلها [مسالك] (¬2)) إلى آخره (¬3) / 343/، أي: قال الرياشي: والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة، وطرق إلى السعادة، فمن سلك منها طريقًا وَصَّلَه، أي وصله الجنة، [أ] (¬4) ووصله السعادة، ومعناهما واحد، يعني أنه يجوز عند الرياشي الانتقال إلى مذهب بكماله (¬5). قال ابن العربي: اختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع (¬6) إلى الرفق .. قوله: (والمذاهب (¬7) كلها مسالك إِلى الجنة وطرق إِلى السعادة)، سواء قلنا: المصيب واحد في نفس الأمر، أو قلنا: كل مجتهد مصيب، لأنه انعقد الإجماع على أن كلَّ ما غلب على ظن (¬8) المجتهد هو حكم الله تعالى في حقه وفي حق من قلده (¬9). قوله: (تنبيه: قال غير [هـ] (¬10): يجوز تقليد المذاهب والانتقال إِليها ¬
في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة: ما خالف الإِجماع، [أ] (¬1) والقواعد، [أ] (¬2) والنص، [أ] (¬3) والقياس الجلي (¬4)، فإِن أراد رحمه الله بالرخص هذه الأربعة فهو حسن (¬5) متعين، فإِن ما لا نقره مع تأكده (¬6) بحكم الحاكم، فأولى أن لا نقره قبل ذلك. وإِن أراد بالرخص ما فيه (¬7) سهولة على المكلف كيف كان، فيلزمه (¬8) أن يكون من قلد مالكًا رحمه الله في المياه والأرواث (¬9) وترك الألفاظ في العقود مخالفًا لتقوى الله تعالى، وليس كذلك). ش: الضمير في قوله: وهو أربعة، لا يصح أن يعود على المذكور؛ لأن الذي ينقض فيه [[حكم الحاكم هو نقائض هذه الأربعة، فالضمير عائد على لازم المذكور لا على المذكور. أي: والذي ينقض [فيه] (¬10)]] (¬11) قضاء القاضي هو أربعة، أو نقول: هذا ¬
جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل له: وما الذي ينقض فيه قضاء القاضي؟، فقال: هو أربعة (¬1). قوله: (قال غيره)، أي: غير الرياشي (¬2). قوله: (القواعد)، قال المسطاسي: المراد بالقواعد الكليات الخمس، وهي: حفظ النفوس، والأديان والأنساب، والعقول، والأموال، وقيل: والأعراض، فهي في الحقيقة ست لا خمس، وقد تقدم الكلام عليها في باب القياس (¬3). فإذا حكم قاضٍ بما يخالف [أحد] (¬4) هذه القواعد الست فإنه ينقض. ¬
وقال بعض الشراح: القواعد (¬1) التي أشار إليها المؤلف، المراد بها: الضوابط التي تجري عليها أحكام الأبواب، وهي غير محصورة، وإنما هي مفترقة (¬2) بين أبواب [الفقه] (¬3)، ولا يصح حصرها في الكليات (¬4) التي ذكر المسطاسي، بل كل باب من أبواب الفقه لا بد فيه من قاعدة فيه (¬5). فنقول مثلًا: القاعدة في إتلاف ما تعلق به حق توفية (¬6) من كيل (¬7)، أو وزن أو عدد: أن يحكم فيه (¬8) بمثل المتلف، فإن حكم فيه حاكم بالقيمة فإنه ينقض حكمه؛ لأنه خالف قاعدة المثليات. ونقول أيضًا: القاعدة في إتلاف ما لا يتعلق به حق توفية، لا من كيل ولا من وزن ولا من عدد: أن يحكم فيه بقيمته، فإن حكم فيه حاكم بالمثل فإنه ينقض حكمه (¬9)؛ لأنه خالف قاعدة المقوَّمات، هذا مثال ما خالف ¬
القواعد (¬1). ومثال ما خالف الإجماع: اجتماع البيع والسلف، فإن حكم حاكم بجوازه فإنه ينقض حكمه؛ لأنه خالف الإجماع. قال ابن الحاجب: وأجمعت (¬2) الأمة على المنع من بيع وسلف، ولا معنى سواه (¬3)، أي: ولا علة لمنعه سوى حسم الذريعة. ومثال ما خالف النص: أن يحكم حاكم بجواز النكاح بلا ولي، فإنه يفسخ لأنه خالف النص، وهو قوله عليه السلام: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل [باطل باطل] (¬4) ". ومثال ما خالف القياس الجلي: إذا [حكم] (¬5) قاض بجواز التفاضل في الأرز، فإنه ينقض قضاؤه؛ لأنه خالف القياس الجلي، لأن الأرز يقاس (¬6) على البر في تحريم الربا بجامع الاقتيات والادخار، فقد اشترك الأرز والبر في هذا الوصف المناسب (¬7)، وقد (¬8) تقدم معنى القياس الجلي في باب العموم والخصوص (¬9). ¬
فالقواعد (¬1) إذ [اً] (¬2) من الشراح من حصرها في الكليات التي ذكر [ها] (¬3) المسطاسي، ومنهم من لم يحصرها، وفسرها بالضوابط التي تجري عليها أحكام الأبواب. قال بعضهم: الأولى الاستغناء عن ذكر القواعد بذكر النصوص؛ لأن القواعد مستندها [النصوص] (¬4)، ولأجل هذا لم يذكر غير المؤلف [إلا] (¬5) النص والإجماع والقياس الجلي (¬6). قوله: (فإِن أرد رحمه الله بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين). [أي:] (¬7) فإن أراد الرياشي بالرخص المذكورة في قوله: ألا (¬8) يتبع ¬
لرخص المذاهب (¬1)، خلاف هذه الأربعة، فذلك حسن متعين، فيكون هذا القول الثاني، موافقًا لقول الرياشي المتقدم. ولكن قول (¬2) المؤلف: فهو حسن متعين فيه نظر؛ لأن إطلاق (¬3) الرخصة على ما خالف الأربعة المذكورة مخالف للغة والاصطلاح. لأن الرخصة ما فيه سهولة على المكلف (¬4). قوله: (فإن ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم (¬5))، [أي:] (¬6) فإذا كان هذا الدليل المخالف لأحد الأربعة (¬7) [المذكورة] (¬8) لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم، فأولى أن لا نقره [قبل] (¬9) [ذلك] (¬10)، [أي] (¬11) قبل اتصاله بحكم الحاكم. قوله: (في المياه)، كترخيص مالك في ماء قليل تحل به نجاسة [يسيرة] (¬12) ولم تغيره (¬13). ¬
قوله: (والأرواث)، كترخيص مالك في أرواث الدواب (¬1) (¬2). قال ابن الحاجب في المعفوات، وعن الخف والنعل (¬3) من أرواث الدواب وأبوالها: يدلكها (¬4) ويصلي للمشقة (¬5)، ورجع إليه للعمل (¬6). قوله: (وترك الألفاظ في العقود (¬7))، نحو انعقاد البيع [في] (¬8) المعاوضة (¬9) من غير قول. [(¬10) قوله: (وليس كذلك)، أي: وليس من أخذ بهذه [الرخص] (¬11) مخالفًا لتقوى الله تعالى، لجواز (¬12) الأخذ بالرخص، لقوله عليه السلام: "إن الله يحب (¬13) أن تؤتى رخصه كما يحب (¬14) أن تترك معصيته" (¬15)، فعلى التقديرين فكلام الرياشي فيه نظر. ¬
لأنه على التقدير الأول (¬1) يلزمه خلاف الاصطلاح. وعلى التقدير الثاني يلزمه خلاف المنقول. ويحتمل، والله أعلم، أن يريد بقوله: ولا (¬2) يتبع رخص المذاهب: غير مذهب إمامه] (¬3). قوله: ([قاعدة] (¬4): انعقد الإِجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير (¬5) حجر (¬6). وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن من استفتى أبا بكر و (¬7) عمر رضي الله عنهما و (¬8) قلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهما (¬9) من غير نكير (¬10)، .................... ¬
فمن (¬1) ادعى رفع هذين الإِجماعين فعليه الدليل). ش: قوله: (¬2) (إِن من /344/ أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء)، ظاهره: وإن جهل حال العالم، وهذا مخالف لقوله [أولاً:] (¬3) ولا يقلده رميًا في عماية، وفي هذا الكلام تأويلان: أحدهما: أن هذا الكلام يقيد بما ذكر أولاً، وأنه لا يستفتيه حتى يبحث عن حاله. التأويل الثاني: أن كلامه ها هنا محمول على من أسلم وضاق عليه الوقت، فإنه يقلد من شاء، لجهله بأحوال الناس. ويحمل الكلام المتقدم أولاً في قوله: ولا يقلده رميًا في عماية، على الذي عرف أحوال الناس واتسع عليه الوقت (¬4). قوله في الإجماع الثاني: (وانعقد الإِجماع على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما، فله أن يستفتي من شاء من الصحابة). أتى بهذا ردًا على من - قال: لا يجوز الانتقال من - مذهب إلى - مذهب إلا بثلاثة (¬5) شروط. وردًا على من قال أيضًا: لا يجوز إلا فيما لا ينقض فيه قضاء القاضي (¬6). ¬
قوله: (الثالث: إِذا فعل المكلف فعلاً مختلفًا في تحريمه غير مقلد لأحد، [فهل] (¬1) نؤثمه بناء على القول بالتحريم، أو لا نؤثمه بناء على القول بالتحليل؟ مع أنه ليس إِضافته إِلى أحد المذهبين أولى من (¬2) الآخر، ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه. ولم أر لأصحابنا (¬3) فيه نصًا (¬4)، وكان الشيخ [الإِمام] (¬5) عز الدين [ابن] (¬6) عبد السلام من الشافعية (¬7)، يقول في هذا الفرع: إنه آثم من جهة أن كل واحد (¬8) يجب عليه ألا يقدم على (¬9) فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وهذا [قد] (¬10) أقدم (¬11) غير عالم، فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه، فإِن كان مما (¬12) علم بالشرع (¬13) قبحه أثمناه، وإِلا فلا). ش: قوله: (الثالث)، أي: الفرع الثالث. ¬
قال المؤلف في الشرح: مثال ما علم بالشرع قبحه: كتلقي الركبان ونحوه، لأنه من الفساد على الناس (¬1). وقال غيره: [أما تأثيمه من جهة إقدامه من غير علم بحكم الله، فلا نزاع فيه، وأما تأثيمه من جهة نفسه] (¬2)، فالأولى أن لا يؤثم (¬3)، وإن [كان] (¬4) مما علم في الشرع (¬5) قبحه، إذا كان الفاعل غير عالم؛ لأن التكليف مع (¬6) عدم العلم تكليف بما لا يطاق، فالأولى تفويض ذلك إلى الله تعالى حتى يدل الدليل (¬7) القاطع على التأثيم (¬8). قوله: ([الصورة] (¬9) الثانية (¬10): قال ابن القصار: يقلد (¬11) القائف (¬12) العدل عند مالك، وروي لا بد من اثنين) (¬13). ¬
ش: قال [المؤلف] (¬1) في شرحه: سبب الخلاف عند المالكية في هذا الفرع: هل هذا من باب الرواية أو من باب الشهادة؟، فمن جعله من باب الرواية، قال: يكفي (¬2) فيه واحد، ومن جعله من باب الشهادة، قال: لا بد [فيه] (¬3) من اثنين، وهو المشهور من مذهب مالك (¬4). قال الرجراجي في مناهج التحصيل: الفرق (¬5) [بين الرواية والشهادة]: (¬6) أن الرواية أمر عام على جميع الناس إلى يوم القيامة، والشهادة أمر جزئي خاص، إما بشخص، وإما بزمان. مثال الرواية: قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" (¬7) (¬8). ومثال الشهادة: قول القائل عند الحاكم: لفلان على [فلان] (¬9) كذا وكذا. والأمران موجودان في القافة، فمن نظر إلى أن الحاكم نصبهم نصبًا عامًا ¬
أشبه الرواية، ومن نظر إلى أن القائف إنما يخبر عن أمر جزئي أشبه الشهادة (¬1). قوله: (يقلد القائف)، هو اسم فاعل من قاف يقوف قيافة، إذا اتبع الأثر (¬2)، ويقال أيضًا: قفا يقفو قفوا، إذا اتبع أيضًا. وهو من المقلوب نحو: جبذ وجذب (¬3)، وجمع القائف: القافة، وأصل جمعه: قَوَفَة على وزن فعلة، بفتح الفاء والعين (¬4). تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفًا، فصار قافة، ومصدره قيافة. قال عياض: ومعنى القيافة (¬5): معرفة الأنساب بالأشباه (¬6). وقال صاحب المناهج: القيافة من مدارك المعارف البشرية، ومن غرائب نتائج المعرفة، متميزة من فنون الكهانة، ومترقية (¬7) عن (¬8) قوانين النجامة، وحقيقتها: اقتفاء الشبه (¬9) لمخايل الخلقة (¬10)، .............................. ¬
وهي علم خص الله به (¬1) آحاد [اً] (2) وأفراد [اً] (¬2) من العباد، وهي سنة قائمة إلى يوم القيامة (¬3)، وكا [ن] (¬4) حكمها في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وذلك [علم] (¬5) خص الله به قبيلة معينة، وهم بنو مدلج (¬6). والأصل في القضاء بالقافة: أن المدلجي (¬7) نظر في زيد وأسامة (¬8) ورأى أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، ففرح النبي عليه السلام (¬9) ¬
ولا يفرح إلا بظهور الحق، وقد قضى بها عمر بمحضر الصحابة رضي الله عنهم من غير إنكار من أحد منهم (¬1)، فكان إجماعًا سكوتيًا. وأحكام القافة مستوعبة في مناهج التحصيل للرجراجي فانظره (¬2). قوله: (الثالثة: قال: يجوز (¬3) عنده تقليد التاجر (¬4) في قيم (¬5) المتلفات، إِلا أن تتعلق القيمة بحد من حدود الله تعالى فلا بد من اثنين، لدرية (¬6) التاجر بالقيم، وروي (¬7) لا بد من اثنين في كل موضع (¬8)). ش: مثال القيمة التي يتعلق بها حد من حدود الله: تقويم (¬9) العَرَضْ المسروق، هل وصلت (¬10) قيمته إلى نصاب القطع أم لا؟ ¬
فلا بد في هذه الصورة من اثنين لوجهين: أحدهما: أن الحدود تدرأ بالشبهات، كما قاله عليه السلام (¬1). والثاني: أنه عضو يبطل فيحتاط فيه لشرفه (¬2). وحاصل كلامه: أن القيمة إما أن يترتب عليها حد أو لا. فإن ترتب عليها [حد] (¬3) فلا بد من اثنين، وإلا فقولان، سببهما: هل هذا من باب الرواية، أو من باب الشهادة، أو من باب الحكم؟ لأن حكمه ينفذ في القيمة، والحاكم ينفذه. قوله: (الرابعة (¬4): [قال] (¬5) يجوز (¬6) [عنده] (¬7) تقليد القاسم (¬8) بين ¬
اثنين (¬1) (¬2)، وابن القاسم لا يقبل قول القاسم، لأنه شاهد على فعل نفسه (¬3)). ش: سبب الخلاف: هل هذا من باب الرواية، أو من باب الشهادة، أو من باب الحكم؟ قال المؤلف في القواعد في الفرق الأول بين الرواية والشهادة: الأظهر أنه من باب الحكم؛ لأن الحاكم استنابه (¬4). قوله: (يجوز عنده)، أي عند مالك. تقليد القاسم، يعني فيما قسمه بين اثنين مثلاً. ظاهر كلامه هذا أن هذا (¬5) قولان: أحدهما لمالك، والآخر لابن القاسم. وليس الأمر كذلك، بل هما روايتان/ 345/ عن مالك، روى ابن القاسم إحداهما، وروى ابن نافع (¬6) الأخرى (¬7). ¬
قوله: (لأنه شاهد على فعل نفسه)، فيه نظر، لأنه لازم في الاثنين أيضًا (¬1). وسبب (¬2) الخلاف [هو] (¬3) ما ذكرنا: هل هو من باب الرواية، أو من باب الشهادة، أو من باب الحكم؟ قوله: (الخامسة: قال: يقلد (¬4) المقوم لأرش الجناية (¬5) [عنده] (¬6) (¬7)). ش: يقومه [على] (¬8) أنه عبد صحيح من غير جناية، ثم يقومه بالجناية، فتؤخذ نسبة ما بينهما من الدية (¬9). قال القاضي عبد الوهاب في جنايات (¬10) التلقين: وصفة الحكومة [أن يقوم المجني عليه] (¬11) لو كان (¬12) عبدًا سليمًا، ثم يقوم مع الجناية، فما نقص من قيمته جعل جزءًا من ديته بالغًا ما بلغ (¬13). ¬
وظاهر كلام المؤلف: أن المقوم لأرش الجناية ليس فيه خلاف، بل فيه خلاف، قاله المؤلف في القواعد كما تقدم في مقوم المتلفات (¬1)؛ إذ لا فرق بين مقوم المتلفات (¬2)، والمقوم لأرش الجنايات (¬3). قوله: (السادسة: قال: يقلد (¬4) الخارص الواحد فيما يخرصه عند مالك (¬5)). ش: لأنه من باب الرواية، أو لأنه من باب الحكم، والدليل عليه: أنه عليه السلام يبعث عبد الله بن رواحة (¬6) وحده إلى خيبر، ليخرص الثمر على اليهود عامًا بعد عام (¬7). ¬
قوله: (السابعة: [قال] (¬1) يقلد الراوي عنده (¬2) فيما يرويه (¬3)). ش: حجة مالك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4)، مفهومه أن الواحد العدل (¬5) مقبول. وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر، [والله] (¬6) تولى (¬7) السرائر"، لأن ظاهر العدالة الصدق. وقول عائشة رضي الله عنها: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل". فقد انعقد إجماع الصحابة على قبول خبر عائشة (¬8) بعد اختلافهم [في ذلك] (¬9)، كما تقدم في باب الخبر في الفصل السابع [منه] (¬10) [في عدده، في قوله: ¬
والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافًا للجبائي في اشتراطه اثنين] (¬1) (¬2). قوله: (الثامنة: قال: يقلد (¬3) الطبيب (¬4) فيما يدعيه (¬5)). ش: يعني: أن الطبيب يقبل قوله فيما يختص بصناعة الطب؛ لأنه أعلم (¬6) بذلك من غيره، فإن الرجوع في (¬7) كل فن [إنما يكون] (¬8) إلى أهل الخبرة فيه (¬9) (¬10). قوله: (التاسعة (¬11) [قال:] (¬12) يقلد الملاح في القبلة إِذا خفيت أدلتها، وكان عدلاً دريًا بالسير (¬13) في البحر (¬14)). ش: الملاح هو الرئيس، وهو رئيس البحر (¬15). ¬
قوله: (وكذلك كل من كانت صنعته (¬1) في الصحراء (¬2) وهو عدل (¬3)). ش: أي: دليل القوم في الصحراء يقبل قوله في القبلة أيضًا إذا خفيت أدلتها؛ لأنه أعلم بذلك من غيره، [بشرط عدالته] (¬4). غلب شبه الرواية على شبه (¬5) الشهادة في هذه الفروع الأربعة، أعني: الخارص، والطبيب، ورئيس البحر، ورئيس الصحراء. قوله: (العاشرة: قال: ولا يجوز عنده أن يقلد عامي عاميًا، [إِلا] (¬6) في رؤية (¬7) الهلال لضبط (¬8) التاريخ دون العبادة (¬9)). ش: أي فائدة قبوله: ضبط التاريخ خاصة، وأما العبادة كالفطر والصوم، فلا يقبل فيه إلا العد [ل] (¬10) (¬11). ¬
[قوله] (¬1): (الحادية عشرة: (¬2) قال: يجوز (¬3) عنده تقليد الصبي والأنثى والكافر والواحد في الهدية والاستئذان (¬4)). ش: لأن هذه الصور وما أشبهها احتفت بها قرائن تدل على الصدق، فأغنت عن العدد والإسلام والبلوغ والذكورية، فربما حصل العلم فيها أو في بعضها (¬5). ذكر المؤلف في القواعد: أن القبول في هذه الصور ليس بمجرد الإخبار، وإنما حصل القبول بسبب (¬6) القرائن مع عموم البلوى (¬7) ودعوى الضرورة، فلو كلف أحدنا ألا يدخل بيت صديقه مثلاً حتى يأتي بعدلين يشهدان له على إذنه؛ لشق (¬8) ذلك على الناس مشقة عظيمة. وكذلك لو كلف المهدي ألا يبعث (¬9) بهديته (¬10) إلا مع عدلين ليشهدا له، لكان ذلك مشقة عظيمة على الناس (¬11). قال [المؤلف] (¬12) في القواعد: نقل ابن حزم في مراتب الإجماع له ¬
إجماع العلماء على (¬1) قبول [قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس (¬2)، انظر القواعد السنية. في الفرق الأول بين] (¬3) الرواية والشهادة (¬4). قوله: (الثانية عشرة (¬5): قال: يقلد القصاب في الذكاة، ذكرًا كان أو أنثى (¬6)، مسلمًا أو كتابيًا، ومن مثله يذبح (¬7)). ش: (¬8) القصاب هو الجزار (¬9). قال المؤلف [في القواعد] (¬10): ليس هذا [الفرع] (¬11) من باب الرواية ولا من باب الشهادة، وإنما هو من قاعدة أخرى، وهي: أن القاعدة الشرعية أن كل أحد (¬12) مؤتمن على ما يدعيه مما [هو] (¬13) تحت يده، فإذا قال الكافر: هذا ¬
مالي، [أ] (¬1) وهذا عبدي، أو هذا ذكيته، صدق؛ لأنه مؤتمن في (¬2) ذلك، كما أن المسلم إذا قال: هذا ملكي، [أ] (¬3) وهذه أمتي، لم نعده راويًا لحكم شرعي ولا نشترط فيه العدالة، ولا نعده شاهدًا أيضًا، بل نقبله منه، وإن كان أفسق الناس، وليس هذا من (¬4) الفروع المترددة بين قاعدتي (¬5) الرواية والشهادة، بل هذا من باب التأمين المطلق (¬6). قوله: (الثالثة عشرة (¬7): قال: تقلد (¬8) محاريب (¬9) البلاد العامرة التي تكررت (¬10) الصلاة فيها، ويعلم أن إِمام المسلمين بناها أو نصبها (¬11)، أو اجتمع أهل البلد (¬12) على بنائها، قال: لأنه قد علم (¬13) أنها لم تنصب (¬14) ¬
إِلا بعد اجتهاد (¬1) العلماء في ذلك، ويقلدها العالم والجاهل. وأما غير ذلك (¬2)، فعلى العالم الاجتهاد، فإِن تعذرت (¬3) [عليه] (¬4) الأدلة صلى إِلى المحراب (¬5) إِذا كان البلد عامرًا؛ لأنه أقوى من الاجتهاد بغير دليل، وأما العامي فيصلي في سائر المساجد (¬6)). ش: حاصل كلامه: [إما] (¬7) أن يكون البلد من الأمصار العظيمة. [أم لا، فإن كان من الأمصار العظيمة] (¬8) قلدها العالم والجاهل، وإلى هذا أشار بقوله: لأنه قد علم أنها لم تنصب إلا بعد اجتهاد (¬9) العلماء في ذلك، ويقلدها العالم والجاهل. وإن لم يكن البلد من الأمصار العظيمة، فإما أن يشتهر خطؤها أم لا، فإن اشتهر [خطؤها] (¬10) فلا يقلدها عالم ولا جاهل (¬11) / 346/. قال المؤلف في شرحه: مثل مساجد القرى وغيرها بالديار المصرية، فإن ¬
أكثرها ما زال العلماء قديمًا وحديثًا ينبهون (¬1) على فسادها (¬2). وإن لم يشتهر خطؤها، فإما أن يكون عالمًا متمكنًا من الاجتهاد أم لا، فإن كان عالمًا متمكنًا من الاجتهاد ففرضه الاجتهاد، فإن تعذرت عليه أدلة القبلة بسبب غيم السماء [مثلاً] (¬3) صلى إلى المحراب؛ [[لأنه أقوى من الاجتهاد بغير دليل، لاحتمال (¬4) أن يكون نصب عن دليل، وإن كان جاهلاً [بالأدلة] (¬5) صلى إلى المحراب]] (¬6) مطلقًا (¬7). قوله: (الرابعة عشرة (¬8): قال: يقلد العامي في ترجمة الفتوى باللسان العربي أو العجمي، وفي قراءتها [أيضًا] (¬9) (¬10)). ش: ذكر المؤلف في القواعد في المترجم للفتاوى والخطوط قولين، قال: قال مالك: يكفي مترجم واحد، وقيل: لا بد من اثنين، سببهما: هل هو من باب الرواية أو من باب الشهادة؟، لأنه أشبه الرواية من حيث أنه نصب نصبًا عامًا لجميع الناس، ولا يختص بمعين. ¬
وأشبه الشهادة (¬1) لأنه يخبر عن فتوى معينة، أو عن خط معين، ولا يتعدى إخباره ذلك الكلام المعين [أو ذلك الخط المعين] (¬2) (¬3). قوله: (ولا يجوز لعالم ولا لجاهل (¬4) التقليد في زوال الشمس لأنه مشاهد (¬5)). ش: معنى هذه المسألة: إذا شك في صدق المخبر بذلك. وكذلك غروب الشمس، ومغيب الشفق، وطلوع الفجر، لأن الجميع مشاهد بالحس. وهذه المسألة تبرع بها المؤلف لأنها زائدة على الأربع عشرة (¬6) صورة التي استثناها مالك مما يجب فيه الاجتهاد، وهذه المسألة التي تبرع بها هي مسألة خامسة عشرة (¬7) (¬8). وذكر المؤلف في القواعد: أن الأذان يقبل فيه المؤذن الواحد (¬9). ¬
وذكر أيضًا فيها: أن المخبر بقدم (¬1) العيب وحدوثه لا بد فيه من اثنين؛ لأنه من باب الشهادة، لأنه حكم جزئي (¬2) لشخص (¬3) معين [على شخص معين] (¬4)، فإن تعذر المسلمون قبل فيه أهل الذمة للضرورة (¬5). وذكر فيها أيضًا: أن المخبر الواحد بنجاسة الماء يقبل قوله (¬6)، وذكر في المخبر عن قدر ما صلى الإمام قولين، هل يكتفى بالواحد، أو لا بد من اثنين؟ (¬7). قال ابن الحاجب: ويرجع الإمام إلى عدلين، وقيل: وإلى عدل ما لم يكن عالمًا، وقيل: بشرط أن يكونا مأموميه (¬8). سبب الخلاف: هل (¬9) هذا من باب الرواية أو من باب الشهادة؟، فإنه أشبه الرواية من حيث إنه لم يخبر عن إلزام حكم لمخلوق، فإن هذا حكم الله تعالى. وأشبه الشهادة أيضًا لأنه إلزام لمعين (¬10) لا يتعداه. قال: وهو الأظهر (¬11). ... ¬
الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد
الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد (¬1) ش: أي فيمن يتعين عليه تحصيل أدلة الاجتهاد، ولم يرد من يتعين عليه الاجتهاد بعد تحصيل أدلته؛ لأن الاجتهاد بعد تحصيل أدلته (¬2) يتعين بثلاثة شروط (¬3)، وهي: أن تنزل به نازلة، ويخاف فواتها، وليس هناك (¬4) من يقوم مقامه من المجتهدين (¬5). وذلك أن الاجتهاد على ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، ومندوب إليه. ففرض العين: هو [على] (¬6) المجتهد الذي نزلت به نازلة، وخاف فوات ¬
وقتها، وليس هناك (¬1) من يقوم مقامه. وفرض الكفاية (¬2): [هو] (¬3) على المجتهد الذي وجد هناك (¬4) من يقوم مقامه. والمندوب إليه: ما يجوز حدوثه من النوازل ولم ينزل بعد (¬5). قوله: (أفتى أصحابنا رضي الله عنهم بأن العلم على قسمين: فرض عين، وفرض كفاية، وحكى (¬6) الشافعي في رسالته (¬7)، والغزالي في إِحياء علوم الدين الإِجماع على ذلك (¬8) (¬9). ففرض العين الواجب على كل أحد: هو علمه بحالته التي هو فيها. مثاله: رجل أسلم ودخل (¬10) وقت الصلاة، فيجب عليه أن يتعلم الوضوء والصلاة، فإِن أراد أن يشتري طعامًا لغذائه، قلنا [له] (¬11) يجب ¬
عليك (¬1) أن تتعلم (¬2) ما تعتمده (¬3) في ذلك، وإِن (¬4) أراد الزواج، وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده (¬5) في ذلك، وإِن أراد [أن] (¬6) يؤدي شهادة، وجب (¬7) عليه أن يتعلم شروط التحمل والأداء، وإِن (¬8) أراد أن يصرف ذهبًا، وجب (¬9) عليه أن يتعلم (¬10) حكم الصرف. فكل حالة يتصف بها وجب (¬11) عليه أن يتعلم (¬12) حكم الله تعالى فيها. فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات، ولا في باب (¬13) من أبواب الفقه، كما يعتقده كثير من الأغبياء (¬14)، وعلى هذا القسم يحمل قوله عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬15). ¬
فمن توجهت عليه حالة فعلم وعمل بمقتضى علمه (¬1)، فقد أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل، فقد عصى الله تعالى معصيتين. ومن علم ولم يعمل (¬2)، فقد أطاع الله طاعة، وعصاه معصية. ففي هذا المقام يكون العالم خيرًا (¬3) من الجاهل. والمقام الذي يكون الجاهل فيه خيرًا (¬4) من العالم: كمن (¬5) شرب خمرًا يعلمه، وشربه (¬6) آخر يجهله، فإِن العالم (¬7) يأثم بخلاف الجاهل، فهو (¬8) أحسن حالاً من العالم. وكذلك من اتسع في العلم باعه، تعظم مؤاخذته لعلو منزلته (¬9)، ¬
بخلاف الجاهل، فإِنه (¬1) أسعد حالاً [من العالم] (¬2) في هذين الوجهين. وأما فرض الكفاية: فهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإِنسان، فيجب على الأمة أن تكون (¬3) منهم طائفة يتفقهون في الدين؛ ليكونوا قدوة (¬4) للمسلمين، حفظًا للشرع من الضياع. والذي يتعين لذلك (¬5) من الناس (¬6): من جاد حفظه، وحسن إِدراكه (¬7)، وطابت سجيته (¬8) وسريرته (¬9)، ومن لا فلا). ش: قوله: (أفتى أصحابنا رضي الله عنهم بأن العلم على قسمين - إلى قوله - والذي يتعين لذلك من الناس)، كله توطئة للمقصود، الذي هو قوله: (والذي يتعين لذلك من الناس: من جاد حفظه، وحسن إِدراكه، وطابت سجيته، وسريرته، ومن لا فلا (¬10)). قوله: (ففرض العين الواجب على كل أحد/ 347/ هو علمه بحالته التي هو فيها) ليس مراده بحالته التي هو فيها، علم جميع ما تلبس [به] (¬11)، ¬
وإنما المراد بذلك السؤال عن أفراد المسائل التي تنزل به كالأمثلة التي ذكرها، وإلا فالوضوء مثلاً إذا تلبس به فإنه يحتاج إلى علم فرائضه وسننه وفضائله (¬1) وجميع فروعه، وهذا لا يسعه مجلدات. وكذلك الصلاة والزكاة والصيام، وغير ذلك من العبادات، وإنما المراد بذلك ما ذكرناه (¬2) من أفراد المسائل (¬3) التي تنزل به خاصة (¬4). قوله: (وعلى هذا يحمل قوله عليه السلام: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"). قال بعضهم: ويحتمل حمله (¬5) على علم العقائد (¬6)، وهو أولى لوجهين: أحدهما: لأنه عام لكل مسلم؛ لأنه يجب على كل مسلم. والوجه الثاني: لأن العلم حقيقة (¬7) هو علم العقائد، والله أعلم. قوله: (وأما المقام الذي يكون فيه الجاهل خيرًا (¬8) من العالم: كمن ¬
شرب خمرًا يعلمه، وشربه (¬1) آخر يجهله)، يريد [يجهل] (¬2) عينه لا حكمه، مثل أن يظنه عسلاً أو جلابًا (¬3) أو غيرهما من الأشربة المباحة، فإذا هو خمر (¬4). قوله: (وكذلك من اتسع في العلم باعه - أي إدراكه - تعظم مؤاخذته لعلو منزلته)، وذلك أنه على قدر المنزلة تكون المؤاخذة، لأن المخالفة مع العلم تدل على الجرأة على الله تبارك وتعالى، ولأن العالم يقتدى (¬5) به في أفعاله، فيكون عليه وزر ذلك ووزر من عمل (¬6) به إلى يوم القيامة. ولأجل هذا [لما] (¬7) سئل عليه السلام عن أشرار [الناس] (¬8) فقال: "العلماء إذا فسدوا" (¬9)، والأصل في هذا قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ¬
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا [لَهَا] (¬1) رِزْقًا كَرِيمًا} (¬2) فإن مضاعفة العذاب على قدر مضاعفة الثواب (¬3). قوله: (فيجب على الأمة أن تكون منهم طائفة يتفقهون في الدين؛ ليكونوا قدوة للمسلمين)، والأصل في هذا: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (¬4)، وقال عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، وكذلك تعلم جميع الصناعات التي لا بد للناس منها، فهو فرض كفاية فإذا نوى [بها] (¬5) الإنسان ذلك كان له ثواب الواجب (¬6). قوله: (الذي يتعين لذلك من الناس: من جاد حفظه)، أي: قوي حفظه. قوله: (وحسن إِدراكه)، أي: قوي فهمه. قوله: (وطابت سجيته وسريرته)، معناه: قويت ضميرته (¬7) (¬8) ¬
وعقيدته وعزيمته، فالسجية والسريرة بمعنى واحد، [و] (¬1) معناهما: الطبيعة (¬2). وقيل: السجية هي الطبيعة (¬3)، ومعنى السريرة هي (¬4) التقوى (¬5). فمعنى طابت سجيته [أى] (¬6): اعتدلت طبيعته، ومعنى طابت سريرته أي: حسن دينه. وذلك أنه إذا اعتدلت طبيعته يكون جيد الفهم فيمكن منه إدراك المقصود، وإذا حسن دينه فيمكن منه المقصود أيضًا؛ [لأن من العلوم ما لا يحصل (¬7) إلا مع التقوى] (¬8). قوله: (من جاد حفظه وحسن إِدراكه)، يؤخذ منه أن الحفظ خلاف الإدراك، وهو كذلك، فإن الناس في ذلك على أربعة أقسام، منهم من هو حافظ فاهم، ومنهم من ليس بحافظ ولا فاهم، ومنهم من هو حافظ غير فاهم، ومنهم من هو فاهم غير حافظ. وكثير من الناس لا يفهم الفرق بين الحفظ والفهم في هذا الزمان، فإنهم ¬
إذا رأوا من يحفظ الأقوال ويسردها قالوا: ما هو إلا فقيه حافظ، وإن كان لا معرفة له بحقيقة ما يقول، كما قال الشاعر: يقولون أقوالاً [و] (¬1) ما يعرفونها ... وإن قيل (¬2) هاتوا حققوا لم يحققوا (¬3) وقال آخر: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح (¬4) ما في الغرائر (¬5) وحسبك دليلاً أن الله تعالى سمى مثل هؤلاء أميين، فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلا يَظُنُّونَ} (¬6). وقوله: أماني، أي: تلاوة (¬7)، فسماهم الله تعالى أميين وإن كانوا حافظين للكتاب (¬8)، فإن الحفظ غير مقصود لنفسه، وإنما المقصود فهم المعاني ¬
واستخراجها واستنباطها من الألفاظ. فمن كان حافظًا ولم يفهم ذلك، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا (¬1). قوله: (والذي يتعين لذلك (¬2))، إلى آخره (¬3) [[حاصله وصفان: حسن الفهم، والتقوى، فباجتماعهما يحصل الاجتهاد. فإن عدم أحدهما، فإنه إذا كان سيئ الفهم تعذر [وصوله إلى رتبة] (¬4) الاجتهاد، وإن كان غير تقي فيسوء (¬5) الناس الظن به فينفرون (¬6) عن الاقتداء به، فلا يحصل منه المقصود]] (¬7). قوله: (وإِلا فلا) أي: من ليس كذلك فلا يتعين عليه طلب العلم؛ لعدم حصول المقصود منه، فإن مقصود الاقتداء لا يحصل منه لتعذره. إما (¬8) لكونه سيئ الفهم، فيتعذر (¬9) وصوله لرتبة الاقتداء. وإما لسوء الظن به فينفر الناس عنه، فلا يحصل مقصود الاقتداء على كل حال (¬10). ¬
الفصل الرابع في زمانه
الفصل الرابع في زمانه اتفقوا (¬1) على جواز الاجتهاد بعد وفاته عليه السلام (¬2). وأما في زمانه (¬3)، فوقوعه منه عليه السلام، قال به الشافعي (¬4) وأبو يوسف (¬5) (¬6)، وقال أَبو علي وأبو هاشم (¬7): لم يكن متعبدًا به لقوله تعالى: ¬
{إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} (¬1)، وقال بعضهم: كان له أن يجتهد في الحروب [والآراء] (¬2) دون الأحكام (¬3)، [و] (¬4) قال الإِمام: توقف (¬5) أكثر المحققين / 348/ في الكل (¬6). وأما وقوع الاجتهاد في زمانه (¬7) عليه السلام من غيره، فقيل (¬8): جائز (¬9) عقلاً في الحاضر عنده والغائب عنه، فقد قال معاذ بن جبل: "أجتهد رأيي". ش: ذكر المؤلف في جواز الاجتهاد للنبي عليه السلام أربعة أقوال: الجواز، والمنع، والوقف، والجواز في الحروب والآراء دون غيرها (¬10). ¬
حجة الجواز: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا [يَاأُولِي الْأَبْصَارِ] (¬1)} (¬2)، وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬3)، وقوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي" (¬4)، وقوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي بعضها "عند كل وضوء" (¬5) يدل على أنه عليه السلام يجوز له أن يفرض على أمته [شيئًا بالاجتهاد] (¬6) (¬7). وقوله عليه السلام في تحريم مكة (¬8): "لا يعضد شجرها ولا يختلى ¬
خلاها" (¬1)، فقا [ل] (¬2) له العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نحتاجه لدوابنا (¬3)، فقال عليه السلام: "إِلا الإِذخر" (¬4) فهذا يدل على أنه يجوز له الاجتهاد؛ لأنه لما بين له الحاجة إليه أباحه بالاجتهاد للمصلحة، وروي عنه عليه السلام أنه قتل رجلاً، فأتته أخته فأنشدت أبياتًا، فقال عليه السلام: "لو سمعت شعرها قيل قتله ما قتلته" (¬5) ...................................... ¬
(¬1). أجيب عن هذه الصور (¬2): أنه (¬3) يجوز أن تقارنها نصوص أو تقدمتها نصوص، بأن يوحى إليه إذا كان ذا فافعل كذا، فيكون ذلك إذًا بالوحي لا بالاجتهاد (¬4). حجة المنع: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} (¬5) (¬6). أجيب عن هذا: بأن كونه عليه السلام متعبدًا بالاجتهاد بالوحي لم ينطق عن الهوى (¬7). حجة الجواز في الحروب والآراء دون غيرها: أن الحروب تعظم المفسدة فيها بالتأخير، فلا يمكن فيها التأخير مخافة استيلاء العدو، فلا يجوز التراخي فيها، ويدل على ذلك قول معاذ (¬8): "أجتهد رأيي" (¬9). ¬
وأما غير الحروب من الأحكام، فيجوز التراخي فيها [فلا يصح الاجتهاد فيها] (¬1)، وأما الحروب فهي واجبة على الفور لا على التراخي (¬2). أجيب عن هذا بأن المفسدة تندفع بتقدم نصوص (¬3) في مثل هذه الصور، أن يقال له عليه السلام: إذا وقع كذا فافعل كذا (¬4). حجة الوقف: تعارض المدارك (¬5). قوله: "هو جائز عقلاً" (¬6). ¬
حجته: أنه لا يستحيل في العقل أن يقول عليه السلام: أوحي إلي أن (¬1) لفلان أن يجتهد. [قوله] (¬2): ([(¬3) فقد قال معاذ بن جبل: "أجتهد رأيي")، هذا دليل جوازه من غيره في حياته عليه السلام، وذلك (¬4) أنه عليه السلام أنفذ (¬5) معاذًا إلى اليمن حاكمًا، فقال له: "بم (¬6) تحكم يا معاذ؟ " فقال: بكتاب الله. فقال: "فإن [لم] (¬7) تجد؟ " قال: فبسنة (¬8) رسول الله، فقال (¬9): "فإن لم تجد؟ "، فقال: أجتهد رأيي، فقال عليه السلام: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول (¬10) [الله] (¬11) لما يرضي رسوله". ¬
الفصل الخامس في شرائطه
الفصل الخامس في شرائطه (¬1) وهي (¬2) أن يكون عالمًا بمعاني (¬3) الألفاظ وعوارضها من التخصيص، والنسخ، وأصول الفقه، ومن كتاب الله تعالى ما يتضمن الأحكام، وهي خمسمائة آية، ولا يشترط الحفظ، بل العلم بمواضعها لينظرها عند الحاجة إِليها، ومن السنة مواضع (¬4) أحاديث الأحكام دون حفظها، ومواضع الاجتماع (¬5) والاختلاف، والبراءة الأصلية. ¬
وشرائط الحد (¬1) والبرهان، والنحو واللغة والتصريف، وأحوال الرواة، ويقلد من تقدم في ذلك، ولا يشترط عموم النظر، بل يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن، وفي مسألة دون مسألة [أخرى] (¬2)، خلافًا لبعضهم. ش: قوله: (بمعاني الألفاظ)، [أي] (¬3): لغة، وشرعًا، وعرفًا. قوله: (وعوارضها)، أي: عوارض الألفاظ، كالتخصيص، والنسخ، والتقييد، والمجاز، والاشتراك (¬4). قوله: (وأصول الفقه)، أي: وأن يكون عالمًا بأصول الفقه، أي أدلته، وهي ثلاثة: أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال. فالأصل: الكتاب، والسنة، والإجماع. ومعقول الأصل: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، [ومعنى الخطاب] (¬5). فلحن الخطاب: هو دلالة الاقتضاء. وفحوى الخطاب: هو مفهوم الموافقة. ودليل الخطاب: هو مفهوم المخالفة. ¬
[(¬1) ومعنى الخطاب: هو القياس. وأما استصحاب الحال فهو على ضربين: إما استصحاب حال ثبوت [الحكم] (¬2) الشرعي. وإما استصحاب حال عدم الحكم الشرعي. مثال الأول: استصحاب ثبوت الدين في الذمة العامرة حتى يدل الدليل على غرمه، ويعبر عنه بقولهم: [(3) الأصل بقاء ما كان على ما كان. ومثال الثاني: استصحاب عدم الدين في الذمة الخالية حتى يدل الدليل على ثبوته، ويعبر عنه بقولهم:] (¬3) الأصل براءة الذمة] (1) (¬4). قوله: (أصول (¬5) الفقه)، هذا من باب ذكر العام بعد الخاص؛ لأن معرفة الألفاظ وعوارضها (¬6) من جملة أصول الفقه، وهو جائز (¬7)، ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (¬8). ¬
قوله: (وهي خمسمائة آية)، حصر آيات (¬1) الأحكام في خمسمائة آية هو مذهب الإمام فخر الدين (¬2)، وابن العربي (¬3)، وأما غيرهما فلم يحصر الأحكام في ذلك (¬4). قال المؤلف في الشرح: [و] (¬5) الصحيح عدم حصرها، فإن كل آية لا تخلو من حكم؛ لأن كل آية ذكر فيها [عذاب أو ذم] (¬6) على فعل، [فإنها] (¬7) تدل على تحريم ذلك الفعل، وكل آية ذكر فيها ثواب أو مدح على فعل [فإنها] (¬8) تدل على وجوب ذلك الفعل أو ندبه، وكل آية ذكر فيها صفات الله تعالى والثناء عليه، فإنها تدل على الأمر بتعظيم ما عظم الله، وكل آية ذكر فيها القصص (¬9) والأخبار، فإنها تدل على الأمر بالاتعاظ (¬10)، فلا تكاد تجد ¬
آية عارية من حكم من أحكام الله تعالى، فحصرها في خمسمائة آية بعيد (¬1). قوله: (ومن السنة مواضع أحاديث الأحكام). قال أبو الطاهر بن بشير في كتاب الأقضية (¬2): مواضع الأحكام من الأحاديث [نحوا] (¬3) من أربعة آلاف حديث. قال: ومن الإجماع نحوًا من ثلاثمائة موضع (¬4). قوله: (ومواضع الاجتماع والاختلاف) يعني بين الصحابة (¬5). وإنما يشترط [ذلك] (¬6) لئلا يؤدي إلى [أن] (¬7) يفتي بمخالفة الإجماع، أو إحداث قول ثالث. قوله: (والبراءة الأصلية)، أي: أن يعلم أن الأصل عدم الأحكام ¬
الشرعية؛ لأن الرجوع إلى براءة الذمة [في الأصل] (¬1) طريق يفزع إليه المجتهد عند عدم الدليل الشرعي. قوله: (وشرائط الحد والبرهان)، فشرط الحد: الجمع والمنع، وهو أن يكون جامعًا/ 349/ لجملة أفراد المحدود، مانعًا من دخول غيره [معه] (¬2) فيه. وشرط البرهان، وهو القياس: تقديم المقدمة الصغرى، ثم الكبرى، ثم النتيجة ثالثًا، وأن يعلم المنتج (¬3) والعقيم، وذلك مبسوط [في علم المنطق] (¬4) (¬5). قوله: (والنحو واللغة والتصريف). [قال المؤلف في شرحه: إنما يشترط معرفة النحو واللغة والتصريف] (¬6)؛ لأن الحكم (¬7) يتبع الإعراب، كما قال عليه السلام: " [نحن] (¬8) - معاشر الأنبياء - لا نورث، ما تركنا [هـ] (¬9) صدقة"، بالرفع، ¬
فرواه الرافضة (¬1) [بالنصب] (¬2) (¬3). معناه: لا نورث ما تركناه وقفًا، ومفهومه: أنهم يورثون في غيره. وكذلك قوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين (¬4) من بعدي أبي بكر (¬5) وعمر" بالخفض (¬6)، رواه الشيعة بالنصب على حذف حرف النداء (¬7)، تقديره عندهم: يا أبا بكر وعمر، فيكونان مقتديين لا مقتدى بهما، فانعكس (¬8) المعنى، وغير ذلك. فإن اسم الفاعل والمفعول إنما يعرف من جهة التصريف (¬9). قوله: (وأحوال الرواة)، أي: أن يعرف العدل وغير العدل من الرواة. قوله: (ويقلد من تقدم في ذلك) أي: [و] (¬10) يقلد في أحوال رواة الحديث من تقدم [من العلماء المتعرضين له] (¬11)، لبعد أحوالهم عنا، ¬
فيتعين (¬1) التقليد لمن (¬2) اطلع [على] (¬3) أحوالهم لتعذر ذلك علينا (¬4)، فلأجل ذلك يقلد من مضى، كالبخاري ومسلم. قوله: (ولا يشترط عموم النظر). حجته: (¬5) أن (¬6) المقصود بالاجتهاد (¬7) البعد عن الخطأ بتحصيل شرائط الاجتهاد، فإذا حصل ذلك في فن واحد كان كحصوله في جميع الفنون (¬8). قوله: (خلافًا لبعضهم)، أي: القائل باشتراط عموم النظر في الفنون. حجته: أن الفنون يمد بعضها بعضًا، فمن غاب عنه فن فقد غاب عنه نور فيما يعلمه، فحينئذٍ لا يكمل النظر إلا بالشمول. فلذلك ترى النحو [ي] (¬9) الذي لا يحسن (¬10) الفقه ولا المعقولات قاصرًا ¬
في نحوه بالنسبة إلى من يعلم ذلك، وكذلك جميع الفنون (¬1)، ولهذا (¬2) قال ابن العربي في شعره: تعلَّمَنْ كل علم تبلغِ الأملا ... ولا يكن لك علم واحد شغلا فالنحل لما رعت من كل نابتة ... أبدت لنا الجوهرين الشمع والعسلا الشمع نور مبين يستضاء به ... والعسل يبري بإذن الواحد العللا (¬3) (¬4) ... ¬
الفصل السادس في التصويب
الفصل السادس في التصويب (قال الجاحظ (¬1) وعبيد الله (¬2) العنبري (¬3) بتصويب (¬4) المجتهدين في أصول الدين، بمعنى عدم (¬5) الإِثم، لا بمعنى مطابقة الاعتقاد. واتفق سائر العلماء على فساده). ش: هذا نص الإمام فخر الدين في المحصول (¬6). وذلك [أن] (¬7) ¬
الجاحظ (¬1) (¬2) والعنبري (¬3) يقولان: كل مجتهد في أصول الدين مصيب، وإن معنى كونه مصيبًا، [أي] (¬4) لا إثم عليه، وليس المراد بكونه مصيبًا، أنه مطابق لمعتقده (¬5)؛ لأن (¬6) ذلك محال بالضرورة؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين [النقيضين] (¬7)؛ لأن أحد المجتهدين يؤديه اجتهاده إلى أن العالم قديم، والآخر يؤديه اجتهاده إلى أن العالم حادث (¬8). واتفق سائر العلماء على فساد قول الجاحظ (¬9) والعنبري في قولهما: لا إثم عليه، بل إذا اجتهد مجتهد في أصول الدين فأخطأ فإنه آثم باتفاق؛ لأن (¬10) ¬
المصيب في [أصول] (¬1) الدين واحد باتفاق جماهير المسلمين (¬2)، قاله سيف الدين الآمدي (¬3) قال المؤلف في الشرح: حجة الجاحظ (¬4): أن المجتهد في أصول [الدين] (¬5) إذا بذل جهده فقد فنيت قدرته، فتكليفه بعد ذلك بما (¬6) زاد على ذلك تكليف بما لا يطاق (¬7)، وهو منفي في الشريعة، وإن قلنا بجوازه، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} (¬8) (¬9). حجة الجمهور: أن الأصول (¬10) الدينية مهمة (¬11) عظيمة؛ فلذلك شرع [الله] (¬12) تعالى فيها الإكراه دون غيرها، فيكره على الإسلام بالسيف والقتل وأخذ الأموال والذراري (¬13)، وذلك أعظم الإكراه، ولذلك لم يعذر الله تعالى بالجهل (¬14) في أصول الدين إجماعًا بخلاف الفروع، فإن من شرب خمرًا يظنه ¬
خلاً، أو وطئ امرأة يظنها امرأته، فإنه يعذر بالجهل. فقياس الخصم الأصول [على الفروع] (¬1) غلط، لعظم (¬2) التفاوت بينهما (¬3). قوله: (وأما في الأحكام الشرعية فاختلفوا، هل لله تعالى في نفس الأمر حكم معين في الوقائع (¬4) أم لا؟ والثاني: قول من قال: كل مجتهد مصيب، وهو قول جمهور المتكلمين (¬5)، منهم: (¬6) الأشعري (¬7)، والقاضي أَبو بكر (¬8) منا، وأبو علي (¬9) (¬10)، وأبو هاشم (¬11) (¬12) من المعتزلة. ¬
وإِذا لم يكن لله تعالى حكم معين، فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين لحكم (¬1) به أو لا (¬2)؟ والأول هو القول بالأشبه، وهو قول جماعة من المصوبين (¬3)، والثاني قول بعضهم). [ش:] (¬4) قوله: (وأما في الأحكام الشرعية)، أي: وأما تصويب المجتهدين في الأحكام الشرعية فاختلفوا. قيل: لله تعالى في الوقائع حكم معين عنده قبل الاجتهاد. [وقيل: ليس لله حكم معين في الوقائع قبل الاجتهاد] (¬5). فهذان قولان، فإذا قلنا: له حكم معين، فسيأتي. وإذا قلنا: ليس له حكم معين قبل الاجتهاد، فنقول: كل مجتهد مصيب، وهو قول جمهور المتكلمين كما قال المؤلف، وذلك أنه إذا (¬6) لم يكن هناك حكم معين فليس هناك إلا ما ظهر (¬7) للمجتهدين، فلا يكون حكم الله ¬
تعالى واحدًا بل حكم الله تعالى تابع لظنون المجتهدين، فحكم (¬1) الله تعالى في حق كل مجتهد هو ما أداه إليه اجتهاده، فكل مجتهد مصيب (¬2). قال في شرح المحصول: انعقد الإجماع أن ما ظهر على ألسنة المجتهدين هو حكم الله تعالى يجب عليهم اتباعه (¬3). وإذا قلنا: ليس لله تعالى في نفس الأمر حكم معين، فاختلف، هل في نفس/ 350/ الأمر حكم راجح في المصلحة، أو ليس هناك [حكم] (¬4) راجح بل الأحوال متساوية فليس هناك أرجح؟ وهذان قولان أيضًا، من قال: هناك أرجح، هو قول القائل بالأشبه، وإنما سماه بالأشبه: لأنه عند [هـ] (¬5) أشبه بمقاصد الشريعة، فالقول بالأشبه هو حكم بالفرض والتقدير لا بالتحقيق. قال الإمام المازري: القول بالأشبه، بعيد من مذهب المصوبة، قريب من مذهب المخطئة. قوله: (والثاني: قول بعضهم)، أي: قول بعض المصوبة. قال المؤلف في الشرح: ومعنى المذهب الثالث، وهو القول بالأشبه: أنه ليس في نفس الأمر حكم معين، وإنما في نفس الأمر ما لو عين (¬6) الله شيئًا ¬
لعينه، فهو أشبه الأمور بمقاصد الشريعة. كما تقول: لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمان رجل صديق خير، لو أن الله تعالى [يبعث] (¬1) نبيًا لبعثه (¬2). والظاهر هو القول بالأشبه، فإن الأفعال المتجلية لا تخلو عن الرجحان في بعضها. والقول الثالث (¬3) يقول: إذا لم يعين الله تعالى شيئًا استوت الأفعال، كما أن المباحات مباحة كلها لم تختلف، وإن كانت مصالحها مختلفة (¬4). قوله: (وإِذا قلنا بالمعين (¬5) فإِما أن يكون عليه [دليل] (¬6) ظني أو قطعي، أو ليس عليه واحد منهما، والثاني قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين (¬7) ونقل عن الشافعي (¬8)، وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق، ¬
والقول (¬1) بأن عليه دليلاً ظنيًا: فهل كلف بطلب ذلك الدليل فإِن أخطأه تعين التكليف (¬2) إِلى ما غلب على ظنه؟، وهو قول [بعضهم] (¬3) (¬4) أو لم يكلف بطلبه لخفائه؟، وهو قول كافة الفقهاء (¬5) منهم الشافعي (¬6) وأبو حنيفة (¬7). والقائلون بأنّ عليه دليلاً قطعيًا، اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه (¬8). وقال بشر المريسي (¬9): ............................................... ¬
إن أخطأه استحق العقاب (¬1). وقال غيره (¬2): لا يستحق العقاب (¬3). واختلفوا أيضًا: هل ينقض قضاء القاضي إِذا خالفه؟ (¬4). قاله الأصم (¬5) (¬6) , خلافًا للباقين (¬7). ¬
ش: ومعنى كلامه: [أنَّا] (¬1) إذا قلنا: إن (¬2) لله تعالى في نفس الأمر حكمًا معينًا وهو الحكم المتضمن للمصلحة فاختلف. هل عليه دليل، أو لا دليل عليه؟ قولان: فإذا قلنا بأن عليه دليلاً، فاختلف فيه أيضًا: هل ذلك الدليل قطعي أو ظني؟ قولان. فهي إذًا ثلاثة أقوال: قيل: (¬3) لا دليل عليه أصلاً، وإليه أشار المؤلف بقوله: أو ليس عليه واحد منهما. قوله: (والثاني قول جماعة [من] (¬4) الفقهاء والمتكلمين ونقل عن الشافعي (¬5))، أراد بالثاني: القول القائل بعدم الدليل؛ لأنه ثان بالنسبة إلى اشتراط الدليل، [والدليل] (¬6) أعم (¬7) من القطعي والظني، وهذا القول الذي [هو عدم الدليل] (¬8) هو عند القائلين به كشيء مدفون لا علامة عليه، فيجده (¬9) المجتهد في حالة الاجتهاد بالمصادفة لا بالقصد ولا يكلف بوجدانه، ¬
فواجده له أجران؛ أجر الطلب، وأجر الوجدان، وفاقده (¬1) له أجر واحد، وهو أجر الطلب خاصة، لقوله عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد [فأصاب] (¬2) فله أجران". مثال ذلك: إذا حكم بشهادة الزور على غير القاتل ولم (¬3) يعلم، فقتل، فله أجر الاجتهاد، وإذا حكم بذلك على القاتل، فقتل، فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر إصابة الحق. وقال ابن رشد في أقضية المقدمات: قوله عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر [واحد] " (¬4). قال: هذا [إذا كان] (¬5) الحاكم من أهل الاجتهاد، وأما إن (¬6) لم يكن من أهل الاجتهاد فهو آثم وإن أصاب (¬7) باجتهاده، لتقحمه (¬8) (¬9) وجرأته على الله تعالى في الحكم بغير علم. قوله: (والقول بأن عليه دليلاً ظنيًا)، فهل (¬10) كلف بطلب ذلك ¬
الدليل، أو لم يكلف بطلبه؟ يعني: إذا قلنا: مأمور بطلبه، فإن طلبه وأخطأ [هـ] (¬1) فإنه يجب عليه الرجوع إلى ما غلب [على ظنه] (¬2)، ويسقط عنه الإثم. قوله: (أو لم يكلف بطلبه)، لخفائه، ومخطئه معذور مأجور (¬3). قوله: (والقائلون بأن عليه دليلاً قطعيًا اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه)، [أي] (¬4): اتفقوا في هذا القول على أن المجتهد مأمور بطلبه، واختلف ها هنا في موضعين: أحدهما: هل يستحق مخطئه العقاب؟، قاله بشر المريسي من المعتزلة، أو لا يستحق العقاب؟، قاله الباقون. والموضع الثاني: هل ينقض القضاء إذا خالفه؟، قاله أَبو بكر الأصم، أو لا ينقض؟، قاله الباقون. قوله: (قضاء القاضي)، يعني: في نفس الأمور وإلا أدى (¬5) إلى مخالفة (¬6) الظاهر، لأن الحكم مجهول لا يعرفه إلا الله تعالى ومخالفه معذور. قال المؤلف في الشرح: حجة الدليل القطعي على (¬7) الحكم في نفس ¬
الأمر: أن تكليف الكل بشيء معين يعتمد دليلاً يظهر للكل، وما ذلك إلا القطعي، وأما الظني فتختلف [فيه] (¬1) القرائح (¬2) (¬3). حجة الدليل الظني: أن الله تعالى امتحن الخلق بذلك [الحكم] (¬4) في نفس الأمر، وأمرهم ببذل الجهد في طلبه، [فلولا] (¬5) أنه ودليله في غاية الخفاء لعرفه الكل فزال الامتحان، وليس كذلك (¬6). حجة القول بأنه ليس عليه دليل لا ظني ولا قطعي: أنه لو كانت عليه أمارة لعلمها الكل، لكن الحكم ليس كذلك، فلا أمارة عليه (¬7). وقول (¬8) بشر باستحقاق العقاب (¬9) إذا أخطأه، لأنه يجعل التقصير من (¬10) جهته، ومن قصر استحق العقاب. حجة الجمهور: قوله عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران"، فجعل الثواب مع الخطأ، فلا عقاب حينئذ. وأما قول الأصم بنقض قضاء القاضي إذا خالفه: فهو في غاية العسر من ¬
جهة تصوره؛ بسبب أن هذا الحكم غير معلوم، وكذلك دليله، ونحن [و] (¬1) إن قلنا: / 351/ إن المصيب واحد، فهو (¬2) غير معلوم، ونقض قضاء القاضي إنما يكون لما يتحقق، [وأما ما لا يتحقق] (¬3) كيف ينقض به القضاء؟ فهذا المذهب مشكل (¬4). قوله: (والمنقول عن مالك (¬5): أن المصيب واحد (¬6) واختاره الإِمام (¬7)، وقال الإِمام (¬8): عليه دليل (¬9) ظني، ومخالفه معذور، والقضاء لا ينقض (¬10)). ش: وقد اختلف عن مالك، هل مذهبه أن المصيب واحد؟، كما قاله المؤلف، لأنه سئل عن اختلاف الصحابة فقال: ليس إلا خطأ أو صواب (¬11)، وقال: قولان مختلفان لا يكونان قط صوابًا (¬12)، قاله [القاضي] (¬13) ¬
عبد الوهاب في الملخص. وقال ابن رشد في الأقضية و [في] (¬1) الجنايات (¬2) من المقدمات: والذي يقوله المحققون (¬3): أن كل مجتهد مصيب، وهو الصواب الذي لا يصح خلافه؛ لأن الله تعالى تعبد المجتهد باجتهاده، فهو مأمور بأن يقضي به ويحل (¬4) به ويحرم [به] (¬5)، كما تعبده (¬6) بأن (¬7) يقضي بشهادة الشاهدين (¬8)، ويحل (¬9) بها، ويحرم بها، فلا يجوز أن يقال لمن حلل أو حرم (¬10) بشهادة الشاهدين: إنه مخطئ عند الله تعالى؛ إذ لم يتعد ما أمر [هـ] (¬11) به، فكذلك (¬12) لا يجوز [أن يقال] (¬13) لمن حرم أو حلل باجتهاده: إنه مخطئ عند الله، وليس عن مالك في ذلك نص. ¬
ويدل على أن مذهبه [أن] (¬1) كل مجتهد مصيب: أن المهدي (¬2) سأله أن يجمع مذهبه في كتاب ويحمل عليه الناس، فامتنع مالك من ذلك فقال: [إن] (¬3) أصحاب رسول الله عليه السلام تفرقوا في البلاد وأخذ الناس بآرائهم، فدع الناس وما اختاروه (¬4) (¬5)، فلولا أن كل مجتهد مصيب لما جاز لمالك أن يقر الناس على ما هو خطأ عنده. وأجيب عن قول مالك في اختلاف الصحابة: ليس إلا خطأ أو صواب: أن هذا فيما طريقه العلم، ويحتمل أن يجاب عنه: بأن قوله: خطأ، أي: خطأ عنده، أي: عند مالك لا عند الله. والدليل إذا تطرق (¬6) إليه الاحتمال سقط [به] (¬7) الاستدلال (¬8). ¬
قوله: (لنا أن الله تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، أو درء المفاسد الخالصة أو الراجحة، ويستحيل وجودها في النقيضين، فيتحد الحكم). ش: هذا دليل المالكية على أن المصيب واحد، كأنه قال: (¬1) [و] (¬2) الدليل على أن المصيب واحد: أن القول بتصويب كل مجتهد يؤدي إلى الجمع (¬3) بين النقيضين، وذلك أن أحد المجتهدين يقول بتحريم مثلاً، ويقول الآخر بتحليل في قضية واحدة، وذلك جمع بين النقيضين، فإن التصويب يفضي [إلى] (¬4) المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال. قوله: (المصالح الراجحة)، أي: [الراجحة] (¬5) على المفسدة. قوله: (أو درء المفاسد الراجحة)، أي: [الراجحة] (¬6) على المصلحة. قوله: (وجودها في النقيضين)، أي: ويستحيل وجود المصالح والمفاسد (¬7) في النقيضين، أي وجود المصلحة والمفسدة (¬8) في شيء واحد محال (¬9). ¬
قوله: (في النقيضين)، أي: في التحليل والتحريم (¬1) مثلاً. قوله: (فيتحد الحكم)، أي: فيلزم أن يكون حكم الله واحدًا، وهو التحريم خاصة، أو التحليل خاصة. أجاب المصوبة عن هذا: بأن الحكم إنما يتبع (¬2) المصالح الخالصة (¬3) أو الراجحة في مواضع الإجماع، وأما في مواضع الخلاف فلا يكون الحكم تابعًا للراجح في نفس الأمر [من المصالح، بل يتبع ما في الظنون فقط (¬4)، كان راجحًا في نفس الأمر] (¬5) أو مرجوحًا (¬6). قوله: (احتجوا بانعقاد الإِجماع على أن المجتهد يجب [عليه] (¬7) أن يتبع ما غلب على ظنه ولو خالف الإجماع، وكذلك من قلده، ولا نعني بحكم الله تعالى إِلا ذلك، فكل مجتهد مصيب، فتكون (¬8) ظنون المجتهدين تتبعها الأحكام، كأحوال المضطرين والمختارين بالنسبة إِلى الميتة، فيكون الفعل الواحد حلالاً حرامًا بالنسبة إِلى شخصين كالميتة). ¬
ش: هذا جواب عن دليل المخطئة المتقدم، ومعناه: أن التناقض إنما يلزم فيما إذا اجتمع التحريم والتحليل مثلاً في حق شخص واحد، وأما بالنسبة إلى شخصين فلا، فإن المجتهد يجب [عليه] (¬1) أن يتبع ما غلب على ظنه، إلى آخر ما ذكر، فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره (¬2)، وإفطار رمضان مباح للمعذور كالمريض والمسافر ويحرم لغيرهما (¬3). وما نحن فيه كذلك؛ فإن من وجب عليه الحكم بالتحليل الذي أداه إليه نظره، كمن (¬4) وجب [عليه] (¬5) الحكم بالتحريم الذي أداه إليه نظره؛ لأن المجتهد يجب عليه أن يتبع ما غلب على ظنه. قوله: (فيكون الفعل (¬6) الواحد حلالاً حرامًا)، أي: حلالاً في حق المجتهد الذي أداه اجتهاده إلى تحليله (¬7)، وحرامًا في حق المجتهد الذي أداه اجتهاده إلى تحريمه. قوله: (بالنسبة إلى شخصين)، أي: بالنسبة إلى مجتهدين مختلفين. قوله: (كالميتة)، أي: كما يكون [أكل] (¬8) الميتة حلالاً حرامًا (¬9) بالنسبة إلى شخصين، وهما المضطر والمختار. ¬
قال المؤلف في شرحه: وأما قول المصوبة: إنه يجب عليه اتباع ظنه وإن خالف الإجماع فمسلم، ولكن الأحكام التي على ألسنة المجتهدين وظنونهم متفق عليها، وأنها أحكام الله تعالى؛ لأنهم قالوا: كل مجتهد مصيب باعتبار الرجحان في ظنه، لا باعتبار نفس الأمر، وإنما النزاع في ثبوت أمر آخر غيرها، و [هو] (¬1) أنه ليس لله تعالى في نفس الأمر حكم غيرها، فهذا (¬2) محل النزاع، وهذا هو الذي ينبغي أن يقيموا عليه الدليل (¬3). ... ¬
الفصل السابع في نقض الاجتهاد
الفصل السابع في نقض الاجتهاد أما المجتهد في نفسه فلو تزوج امرأة علق طلاقها الثلاث قبل (¬1) الملك بالاجتهاد، فإِن حكم به حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينقض / 352/، وإِن لم يحكم [به حاكم] (¬2) نقض، ولم يجز له إمساك المرأة. وأما العامي إِذا فعل ذلك بقول (¬3) المفتي ثم تغير (¬4) اجتهاده، فالصحيح أنه تجب (¬5) المفارقة، [قاله الإمام] (¬6) (¬7) وكل حكم اتصل [به] (¬8) قضاء القاضي استقر، إلا أن يكون ذلك القضاء مما ينقض في نفسه (¬9). [ش] (¬10): قوله: (في نقض الاجتهاد)، ......................... ¬
أي: [إذا] (¬1) تغير اجتهاد المجتهد، فهل ينقض الاجتهاد الثاني الاجتهاد الأول أم لا؟ ذكر المؤلف في هذا الفصل بحثين: أحدهما في المجتهد نفسه، والثاني: في مقلده إذا عمل بفتواه. أما المجتهد في نفسه إذا تزوج امرأة بالاجتهاد، وقد كان علق (¬2) طلاقها الثلاث بالملك، أي بالتزويج، مثل (¬3) أن يقول لها: إن تزوجتك (¬4) فأنت طالق ثلاثًا، فتزوجها باجتهاده، ورأى أن تعليق الطلاق على الملك لا يلزم كالشافعي (¬5)، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك ورأى أن تعليق الطلاق على الملك يلزم كالمالكي (¬6). فإن حكم به حاكم لم ينقض (¬7)، أي فإن (¬8) حكم حاكم (¬9) بالتزويج لم ينقض، أي فإن قضى القاضي بإمضاء ذلك التزويج ثم بعد ذلك تغير ¬
اجتهاد (¬1) المتزوج لم ينقض اجتهاده الأول بالثاني لتقرر (¬2) الأول بقضاء القاضي؛ لأ [ن] (¬3) حكم الحاكم يعين (¬4) حكم الله تعالى؛ لأن (¬5) الحاكم نائب الله تعالى في مسائل الخلاف، فيكون حكمه كالنص الوارد في خصوص تلك الواقعة من تلك القاعدة العامة، والدليل الخاص أبدًا مقدم على غيره (¬6). [قوله] (¬7): (وإِن لم يحكم به نقض) (¬8)، أي: وإن لم يحكم القاضي بالاجتهاد الأول نقض؛ لأنه كالمنسوخ بالثاني، فتجب المفارقة (¬9). وقيل: لا ينقض؛ إذ لا ينقض اجتهاد باجتهادٍ مثله، فليس إبطال أحدهما بالآخر (¬10) بأولى (¬11) من العكس، إلا أن يقطع (¬12) بخطأ الأول فينقض اتفاقًا (¬13). ¬
وأما المقلِّد إذا تغير اجتهاد (¬1) مقلَّده، فقال الإما [م] (¬2): فالصحيح (¬3) أنه تجب [عليه] (¬4) مفارقة (¬5) المرأة (¬6)؛ لأن الاجتهاد الثاني كالناسخ والاجتهاد الأول كالمنسوخ، وقيل: لا تجب عليه المفارقة؛ إذ لا ينقض اجتهاد باجتهاد مثله؛ إذ ليس إبطال أحدهما بالآخر بأولى (¬7) من العكس، لأنه ينتقل من ظن إلى ظن، اللهم لو قطع بخطأ الاجتهاد الأول لوجبت عليه المفارقة (¬8). قوله: (ثم تغير اجتهاده)، يعني بظن، وأما إن تغير اجتهاده بعلم فتجب المفارقة. قوله: (إِلا أن يكون ذلك القضاء مما ينقض نفسه) (¬9)، وهو ما ¬
خالف أحد أربعة (¬1) أمور: الإجماع، أو القواعد، [أو] (¬2) النص، أو القياس الجلي، كما تقدم في الفصل الثاني من الباب في قوله: تنبيه: قال غيره (¬3): يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم، وهو أربعة: ما خالف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي (¬4). قوله: (وكل حكم اتصل به قضاء القاضي) (¬5) استقر ... إلى آخره، يعني: أن القاضي إذا قضى في حكم فلا ينقض قضاؤه، إلا إذا قضى بما يخالف هذه الأربعة المذكورة، فإنّ قضاءه ينقض، ولا يمنع قضاؤه نقض قضائه. ... ¬
الفصل الثامن في الاستفتاء
الفصل الثامن في الاستفتاء (¬1) [إذا استفتي] (¬2) مجتهد فأفتى (¬3)، ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة، فإِن كان ذاكرًا لاجتهاده الأول أفتى [به] (¬4)، وإِن نسي استأنف الاجتهاد، فإِن أداه (¬5) إِلى خلاف الأول أفتى بالثاني (¬6). قال الإِمام: والأحسن أن يُعِّرفَ العامي ليرجع (¬7). ¬
ش: ذكر المؤلف في هذا الفصل فرعين (¬1). أحدهما: إذا أفتى المجتهد في واقعة ثم تكررت تلك الواقعة، هل يتكرر الاجتهاد بتكرر الواقعة أم لا؟ وإلى هذا الفرع أشار بأول الفصل. [الفرع] (¬2) الثاني: في شروط المستفتي، وهو قوله: ولا يجوز لأحد أن يستفتي ... إلى آخره. [قوله] (¬3): [(فإِن كان ذاكرًا لاجتهاده الأول)، أي] (¬4): فإن كان ذاكرًا لأدلة اجتهاده الأول أفتى به. قال المؤلف في شرحه: لا ينبغي للمجتهد أن يقتصر على مجرد الذكر، بل يحرك (¬5) الاجتهاد لعله يظفر فيه بخطأ أو بزيادة، [فيعمل] (¬6) بمقتضى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬7)، فإن الله تعالى يخلق [على] (¬8) الدوام، فلعل الله تعالى يخلق له علومًا ومصالح لم يكن يشعر بها قبل ذلك، فإهمال الاجتهاد تقصير (¬9) (¬10). ¬
قوله: (والأحسن أن يُعَرِّفَ العامي ليرجع) (¬1)، وإنما قال ذلك، ولم يقل: وجب تعريف العامي (¬2)؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولكن الثاني أغلب (¬3) على الظن من (¬4) الأول (¬5). أما لو قطع ببطلان الأول، لوجب عليه تعريف العامي (¬6). قوله: (قال الإِمام: والأحسن)، مخالف لقوله في الفصل الذي قبل هذا، وهو [قوله: وأما العامي إذا فعل ذلك بقول المفتي ثم تغير اجتهاده] (¬7) [فالصحيح أنه تجب المفارقة قاله الإمام] (¬8) (¬9). قوله: (ولا يجوز لأحد أن يستفتي (¬10)، إِلا إِذا غلب على ظنه أن الذي يستفتيه (¬11) من أهل الدين والعلم (¬12) والورع (¬13)). ¬
ش: أي: ولا يقلد [هـ] (¬1) رميًا في عماية، كما تقدم في الفصل الثاني من الباب في قوله: [و] (¬2) أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميًا في عماية (¬3). و [أما] (¬4) إذا لم يتضح له ذلك فلا يحل له الاستفتاء؛ لأن دين الله تعالى لا يؤخذ من غير أهله، قال الله تعالى: {[قُلْ] (¬5) هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬6)، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬7) مفهومه تحريم سؤال غيرهم (¬8). قوله: (فإِن اختلف عليه العلماء في الفتوى، فقال قوم: يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لتمكنه من ذلك) (¬9). ¬
ش: هذا (¬1) قول مالك المتقدم في أول الفصل الثاني في الباب في قول المؤلف: الصورة (¬2) الأولى: قال ابن القصار: قال مالك: يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام، ويجب عليهم الاجتهاد في أعيان المجتهدين، كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة، وهو قول جمهور العلماء، خلافًا لمعتزلة بغداد (¬3). قوله: (وقال قوم: / 353/ لا يجب [عليه] (¬4)؛ لأن الكل طرق (¬5) إِلى [حكم] (¬6) الله تعالى (¬7)، ولم ينكر أحد على العوام في [كل] (¬8) عصر ترك النظر في أحوال العلماء). ¬
ش: ذكر المؤلف ها هنا الخلاف في المقلِّد، هل يجب عليه الاجتهاد في أعيان المجتهدين، أو لا يجب؟، وهذا مناقض للإجماع (¬1) الذي ذكره في الفصل الثاني من الباب في قوله: قاعدة: انعقد (¬2) الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر .. إلى آخره (¬3). أجيب عنه بأن قيل: قوله: (من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء)، يريد من أسلم وضاق عليه الوقت، ولم يمهله الوقت إلى استفحاص (¬4) أحوال العلماء. قوله: (وإِذا فرعنا على الأول، فإِن حصل ظن الاستواء مطلقًا، أمكن (¬5) أن يقال: ذلك متعذر (¬6)، كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال: سقط (¬7) عنه التكليف ويفعل ما يشاء (¬8) [منها]) (¬9). ش: أي: إذا فرعنا على القول الأول، وهو وجوب الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم، وهو المشهور، فقيل: لا يمكن الاستواء في كل حال فلا بد من ¬
الرجحان في بعض (¬1) الوجوه، فلا يمكن الاستواء (¬2). وهو مذهب الكرخي المتقدم في تعارض الأمارات في الفصل الأول من باب التعارض والترجيح في قول المؤلف: الفصل الأول: اختلفوا، هل يجوز تساوي الأمارتين؟، فمنعه الكرخي، وجوزه الباقون، والمجوزون اختلفوا، فقال القاضي أَبو بكر وأبو علي وأبو هاشم: يتخير ويتساقطان (¬3) عند بعض الفقهاء (¬4). قوله: (وأمكن أن يقال سقط (¬5) عنه التكليف). [ش]: (¬6) هذا قول ثانٍ، وهو سقوط التكليف لتعارض الجوابين (¬7). قوله: (ويفعل ما يشاء (¬8) منها). ¬
[ش] (¬1): هذا (¬2) قول ثالث (¬3)، وهو القول بالتخيير، فيفعل ما يشاء من الفتاوى (¬4)، وهو المشهور (¬5). قوله: (وإِن حصل ظن الرجحان مطلقًا تعين (¬6) العمل بالراجح (¬7)). ش: أي: حصل (¬8) الرجحان مطلقًا، أي: من كل وجه، [أي] (¬9) لا مقيدًا (¬10) بوجه واحد. قوله: (وإِن حصل من وجه، فإِن كان في العلم والاستواء في الدين، فمنهم من خير، ومنهم من [أ] (¬11) وجب الأخذ بقول الأعلم، قال الإِمام: وهو الأقرب (¬12) ولذلك قدم في إِمامة الصلاة. وإِن كان في الدين والاستواء في العلم، فيتعين الأدين. ¬
وإِن (¬1) رجح أحدهم في دينه والآخر في علمه، [فقيل:] (¬2) يتعين الأدين، وقيل: الأعلم، [قال:] (¬3) وهو الأرجح كما مر) (¬4). ش: أي: إذا حصل الرجحان من وجه واحد ففيه ثلاثة أوجه: الأول: استواؤهما في الدين، وأحدهما أعلم. والثاني: استواؤهما في العلم، وأحدهما أدين. والثالث: أحدهما أعلم، والآخر أدين. أما استواؤهما في الدين وأحدهما أعلم، ففيه قولان: قول بالتخيير (¬5) وقول بتقديم [الأعلم] (¬6) (¬7). حجة القول بالتخيير: أن تقليد الأعلم غير واجب على المشهور (¬8). وحجة القول بتقديم الأعلم: أن المقدم في كل موطن من مواطن الشريعة من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن. فيقدم في الحروب مثلاً من هو أعلم بمكائد الحروب وسياسة الجيوش. ¬
ويقدم في القضاء من هو أعلم بالتفطن لحجج الخصوم. ويقدم على الأيتام (¬1) من هو أعلم بتنمية الأموال وضبطها وأحوال الأيتام ومصالحها. ولذلك قدم في الصلاة الفقيه على القارئ؛ لأن الفقيه أقوم بمصالح الصلاة في سهوها وعوارضها (¬2). وكذلك الفتوى يقدم العالم فيها على الأدين؛ لأن العالم بها أحق من الأدين (¬3). وأما استواؤهما في العلم وأحدهما أدين، فيقدم الأدين (¬4). وأما إن رجح كل واحد منهما من وجه، أي: أحدهما أعلم والآخر أدين، ففيه قولان: قيل: يقدم الأدين (¬5)، وقيل: يقدم الأعلم (¬6). قال (¬7) الإمام: وهو الأرجح (¬8)، كما مر، [أي كما مر] (¬9) في القسم الأول وهو ¬
استواؤهما في الدين وأحدهما أعلم. وحاصل ما ذكر المؤلف خمسة أوجه: إما الاستواء مطلقًا، وإما الرجحان مطلقًا، وإما الرجحان في العلم خاصة، [وإما الرجحان في الدين خاصة] (¬1)، وإما رجحان أحدهما في العلم ورجحان الآخر في الدين. ... ¬
الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء
الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء ش: [معنى الاستفتاء: طلب [الفتيا] (¬1)، وهو الجواب القوي، يقال: الفتيا، والفتوى، بضم الفاء مع الياء، وبفتح الفاء مع الواو (¬2). ومنه الفتى للموصوف بالصبوة والقوة] (¬3) (¬4)، تعر [ض] (¬5) المؤلف في هذا الفصل لأمرين: أحدهما: من يجب عليه التقليد، وهو الاستفتاء. والثاني: في الشيء الذي يقلد فيه. قوله: (فيمن يتعين عليه الاستفتاء)، أي: في بيان من يجب عليه التقليد، أي: ومن يجب عليه ترك الاستفتاء، وهو العالم المجتهد. قوله: (الذي (¬6) تنزل (¬7) به الواقعة (¬8) إن كان عاميًا وجب عليه ¬
الاستفتاء) (¬1). ش: لأن العامي ليس له أهلية (¬2) الاجتهاد، فيتعين عليه أن يقلد، كما في القبلة، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3)، فأمر العوام بسؤال العلماء، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} (¬4)، فأمر العوام بالحذر عند إنذار العلماء إياهم، فلولا وجوب التقليد لما وجب ذلك عليهم، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬5)، فأمرهم بطاعة العلماء يدل على وجوب التقليد، وأولو (¬6) الأمر هم العلماء، وقيل: الأمراء (¬7) (¬8). قوله: (وإِن كان عالمًا لم يبلغ درجة الاجتهاد، قال: فالأقرب أنه يجوز له الاستفتاء) (¬9). ¬
ش: لأن احتمالات (¬1) الخطأ في حقه موجودة، إلا أنها (¬2) أقل من العامي، فهذا وجه التردد فيه (¬3)، وقال سيف الدين: الواجب عليه التقليد (¬4). قوله: (وإِن بلغ درجة الاجتهاد وكان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم، فاتفقوا (¬5) على تعيينه (¬6) [في حقه] (¬7)) (¬8). ش: يريد، وكذلك يتعين (¬9) ذلك في حق من قلده في ذلك. وذلك كله إذا كان المجتهد متصفًا بسبب الاجتهاد/ 354/، وإلا فقد يجتهد (¬10) في زكاة الغنم ولا غنم (¬11) له، وقد يجتهد في أحكام الجناية ولا ¬
جناية [له] (¬1) ولا عليه، وقد يجتهد في أحكام الحيض والعدة وغير ذلك مما [لا] (¬2) يتصف به، ولكن المقصود أنه يتعين ذلك عليه، بحيث أن لو كان موصوفًا به لكان ذلك الحكم حكم الله تعالى في حقه (¬3). قوله: (وإِن [كان] (¬4) لم يجتهد، فأكثر أهل السنة [على] (¬5) أنه لا يجوز له التقليد (¬6)، وهو مذهب مالك (¬7)، وقال [أحمد] (¬8) بن حنبل (¬9) (¬10) ¬
وإِسحاق ابن راهويه (¬1) (¬2) وسفيان الثوري (¬3) يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز تقليد العالم الأعلم (¬4) وهو قول محمد بن الحسن (¬5) (¬6). وقيل: يجوز فيما يخصه دون ما يفتى [به] (¬7) (¬8). ¬
وقال ابن سريج (¬1): إِن ضاق وقته عن (¬2) الاجتهاد جاز، وإِلا فلا (¬3)، فهذه خمسة (¬4) أقوال لنا: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (5)). ش: حجة منع التقليد للمجتهد مطلقًا: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬5)، ومن الاستطاعة ترك التقليد. ولأن معه آلة يتوصل بها إلى الحكم المطلوب، فلا يجوز له تقليد غيره [[كالعقليات. حجة الجواز مطلقًا: أن غاية المجتهد في اجتهاده أن يحصل مثل [ما] (¬6) يحصله غيره (¬7)]] (¬8) من المجتهد [ين] (¬9)، فكما يجوز أن يكون اجتهاده أقوى يجوز أن يكون أضعف فيتساقطان، فيبقى التساوي (¬10)، وأحد المثلين يقوم مقام الآخر (¬11) ........ ¬
حجة تقليد [الأعلم] (¬1) أن الظاهر أن اجتهاد (¬2) الأعلم أقرب إلى الصواب (¬3). حجة التقليد فيما يخصه دون ما يفتي به: أن الحاجة تدعوه (¬4) إلى ما يخصه ولا مندوحة له عنه، بخلاف ما يفتي به غيره (¬5)، فإن له أن يحيله على غيره (¬6). حجة الجواز: [في] (¬7) ضيق الوقت: لأن ضيق الوقت ضرورة تلجئه إلى التقليد، بخلاف اتساع الوقت (¬8). قوله: (ولا يجوز التقليد في أصول الدين للمجتهد (¬9) ولا للعوام عند الجمهور، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬10)، ولعظم الخطر في الخطأ (¬11) في جانب الربوبية بخلاف الفروع، فإِنه ربما كفر في الأول (¬12)، ويثاب (¬13) في الثاني جزمًا). ¬
ش: قد [تقدم] (¬1) حجج الفريقين في الفصل الثاني من الباب (¬2). قوله: (ربما (¬3) كفر في الأول) (¬4)، يعني الأصول. قوله: (ويثاب في الثاني) يعني الفروع. قوله: (جزمًا)، أي: قطعًا. تقدير كلام المؤلف: ربما (¬5) كفر المجتهد إذا أخطأ الصواب في الأصول؛ لأن المصيب فيها واحد. ويثاب المجتهد جزمًا إذا أخطأ الصواب في الفروع، لقوله عليه السلام: "إذا اجتهد مجتهد فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران". ... ¬
الباب العشرون في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين في الأعيان
الباب العشرون في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين في الأعيان وفيه فصلان: الفصل الأول: في الأدلة. الفصل الثاني: في تصرفات المكلفين في الأعيان.
الفصل الأول في الأدلة
الباب العشرون في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين (¬1) [في الأعيان] (¬2) وفيه فصلان: الفصل الأول في الأدلة (¬3) (¬4) وهي على قسمين: أدلة مشروعيتها، وأدلة وقوعها. فأما أدلة مشروعيتها فتسعة عشر بالاستقراء (¬5)، وأما أدلة وقوعها فلا يحصرها عدد (¬6). ش: قوله: (في جميع أدله المجتهدين) أي: في جميع الأدلة التي يستدل (¬7) بها (المجتهدون) (¬8) على الأحكام الشرعية. ¬
قوله: (فتسعة عشر) هذا باعتبار التفصيل، وأما حصرها باعتبار التجميل فهي ثلاثة أضرب: وهي (¬1) أصل، ومعقول أصل، واستصحاب [حال] (¬2). فالأصل: [ثلاثة] (¬3): الكتاب، والسنة، والإجماع. ومعقول الأصل (¬4) أربعة: لحن الخطاب (¬5)، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، ومعنى الخطاب. فلحن الخطاب: هو دلالة الاقتضاء. وفحوى الخطاب: هو مفهوم الموافقة. ودليل الخطاب: هو مفهوم المخالفة. ومعنى الخطاب: هو القياس. [(¬6) وأما استصحاب الحال فهو على ضربين: استصحاب الثبوت، واستصحاب العدم، أي: إما استصحاب ثبوت الحكم الشرعي، ويعبر عنه بقولهم: الأصل بقاء ما كان على [ما كان] (¬7). وإما استصحاب عدم الحكم الشرعي، ويعبر عنه بقولهم: الأصل براءة الذمة. مثال الأول: استصحاب ثبوت الدين في الذمة العامرة حتى يدل الدليل ¬
على غرمه. ومثال الثاني: استصحاب عدم الدين في الذمة الخالية حتى يدل الدليل على ثبوته] (¬1). والضمير في [قوله] (¬2): مشروعيتها، ووقوعها، يعود على الأحكام الشرعية، يدل على ذلك الأدلة؛ لأن الدليل يستلزم المدلول. وإنما كانت الأدلة المشروعية (¬3) محصورة؛ لأنها متوقفة على الشرائع، فلكل واحد منها مدرك شرعي يدل على أن ذلك الدليل نصبه صاحب الشرع لاستنباط الأحكام، بخلاف الأدلة الدالة على وقوع الأحكام بعد مشروعيتها، وهي أدلة وقوع أسبابها، وحصول شروطها (¬4)، وانتفاء موانعها (¬5). قوله: (فلنتكلم أولًا على أدلة مشروعيتها، فنقول: هي: الكتاب، والسنة، وإِجماع الأمة، وإِجماع [أهل] (¬6) المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، و (¬7) سد الذرائع، والاستدلال، والاستحسان، والأخذ بالأخف، ¬
والعصمة، وإِجماع أهل الكوفة، وإِجماع العترة (¬1)، وإِجماع الخلفاء الأربعة). فأما الخمسة الأول (¬2) فقد تقدم الكلام عليها. ش: تقدم الكلام على الخمسة الأول (2) في أبوابها. تقدم الكتاب، في باب العموم، والخصوص (¬3)، والنسخ (¬4) وتقدم السنة، في باب الخبر (¬5). وتقدم الإجماع، وإجماع أهل المدينة، في باب الإجماع (¬6). وتقدم القياس [في باب القياس] (¬7) (¬8). ¬
قوله: (وأما قول الصحابي (¬1)، فهو حجة عند مالك (¬2)، والشافعي (¬3) في قوله (¬4) القديم (¬5)، مطلقًا؛ لقوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". ومنهم من قال: إِن خالف القياس فهو حجة، وإِلا فلا، ومنهم من قال: قول أبي بكر وعمر حجة دون غيرهما. وقيل: قول الخلفاء الأربعة حجة إِذا اتفقوا) (¬6). ش: قوله: (مطلقًا) أي من غير تقييد ببعض الصحابة، ولا بمخالفة ¬
[القياس] (¬1)، بخلاف الأقوال الباقية. حجةُ كونه حجةً إذا (¬2) خالف القياس: لأنه إذا خالف القياس يقتضي أنه (¬3) عمل بنص، أما إذا لم يخالف القياس فأمكن أن يكون عن اجتهاد (¬4)، واجتهاده لا يكون حجة على غيره من المجتهدين، فيكون ذلك كقول غير الصحابي (¬5). حجة القول بأن قول أبي بكر وعمر حجة (¬6) [دون غيرهما] (¬7): قوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي (¬8) أبي بكر وعمر" (¬9) / 355/، مفهومه: أن غيرهما ليس كذلك (¬10). حجة القول بأقوال (¬11) الخلفاء الأربعة خاصة: قوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، مفهومه: ¬
أن غيرهم ليس كذلك (¬1). وهذا الخلاف كله في قول الصحابي، هل حجة أم لا؟ إنما هو بالنسبة إلى غير الصحابة من المجتهدين. قال سيف الدين الآمدي: اتفقوا على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين (¬2)، واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين (¬3). قوله: (المصلحة المرسلة (¬4)، والمصالح بالإِضافة (¬5) إِلى شهادة الشرع لها بالاعتبار: على ثلاثة أقسام: ما شهد الشرع باعتباره، وهو القياس الذي تقدم [ذكره] (¬6) (¬7). ¬
وما شهد الشرع بعدم اعتباره، نحو المنع من زراعة العنب؛ لئلا يعصر [منه] (¬1) الخمر (¬2). وما لم يشهد [الشرع] (¬3) [له] (¬4) بالاعتبار (¬5) ولا بالإِلغاء (¬6)، وهو المصلحة المرسلة، وهي (¬7) عند مالك حجة (¬8)، وقال الغزالي: إِن وقعت في محل الحاجة أو التتمة فلا تعتبر، وإِن وقعت في محل الضرورة فيجوز أن يؤدي (¬9) إِليها اجتهاد مجتهد (¬10). ومثاله، تترس (¬11) الكفار بجماعة من المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا (¬12)، واستولوا (¬13) علينا (¬14)، وقتلوا المسلمين [كافة] (¬15)، ولو ¬
رمينا [هم] (¬1) لقتلنا الترس معهم. قال: فيشترط (¬2) في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية، فالكلية احترازًا مما (¬3) إِذا تترسوا في قلعة (¬4) بمسلمين (¬5)، [فلا يحل رمي المسلمين] (¬6)؛ إِذ لا يلزم من ترك [تلك] (¬7) القلعة (¬8) فساد عام. والقطعية (¬9): احترازًا مما (¬10) إِذا لم نقطع باستيلاء الكفار (¬11) علينا إذا لم نقصد الترس (¬12)، ومن (¬13) المضطر يأكل قطعة من فخذه (¬14). والضرورية (¬15): احترازًا من المناسب الكائن في محل الحاجة [أ] (¬16)، والتتمة (¬17). ¬
لنا: أن الله تعالى إِنما بعث الرسل لتحصيل مصالح العباد عملًا بالاستقراء، فمهما (¬1) وجدنا (¬2) مصلحة، غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع). ش: ومعنى المرسلة، أي المهملة، أي أهملها الشرع (¬3)، فلم (¬4) يشهد لها باعتبار ولا بإلغاء. قوله: (وهي عند مالك حجة)، ودليل مالك (¬5): أن الصحابة رضي الله عنهم قد عملوا أشياء بمطلق المصلحة من غير أن يتقدم لها ما (¬6) يشهد لها بالاعتبار، وذلك ككتابة القرآن في الصحائف كما فعله أبو بكر رضي الله عنه، وككتابته في المصاحف، كما فعله عثمان رضي الله عنه، وكذلك اتخاذ السجن، كما فعله عمر رضي الله عنه، وكذلك هدم الأوقاف لتوسعة [مسجد] (¬7) النبي عليه السلام، كما فعله عثمان أيضًا، وكذلك الأذان الأول [في] (¬8) يوم الجمعة الذي أحدثه عثمان في السوق، ثم نقله هشام إلى ¬
المسجد، وغير ذلك، وهو كثير [جدًا] (¬1) (¬2). قوله: ([و] (¬3) مثاله: تترس الكفار بجماعة من المسلمين) ... إلى آخره. قال ابن الحاجب في الفروع في كتاب الجهاد: ويقتل العدو بكل نوع، وبالنار، إن لم يمكن غيرها وخيف منهم، فإن لم يخف، فقولان، فإن خيف على الذرية من النار تركوا [ما لم يخف منهم] (¬4)، ومن الآلات (¬5) لم يتركوا، وفيها رمي أهل الطائف بالمجانيق (¬6)، ورأى اللخمي أنه لو خافت (¬7) جماعة كثيرة [منهم] (¬8) جاز قتل [من] (¬9) معهم من المسلمين ولو بالنار، وهو مما انفرد به، كما انفرد بالطرح بالقرعة من السفن، وفيها الاستدلال بقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} (¬10). أما لو خيف (¬11) على استئصال الإسلام، احتمل القولين كالشافعي. انتهى نصه (¬12). ¬
[قوله: وفيها رمي أهل الطائف بالمجانيق (¬1)، استدل بها على جواز رميهم وإن كان معهم الذرية، لقوله عليه السلام حين رماهم (¬2) بالمجانيق: "هم من آبائهم". وقوله: وفيها الاستدلال بقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا} (¬3)، استدل بها على أنه لا يجوز قتل المسلمين المختلطين مع الكفار ولو كانوا قليلين] (¬4). أو الحاضر، يو [جب] (¬5) ظن ثبوته في الحال، أو الاستقبال. قوله: (الاستصحاب، ومعناه: اعتقاد كون الشيء في الماضي). ش: السين والتاء في الاستصحاب للطلب، أي: لطلب الصحبة. معناه: أن ما في الماضي تطلب صحبته في الحال، [وما في الحال تطلب صحبته في الاستقبال، حتى يدلس دليل على رفعه (¬6). وهذا الاستصحاب، هو المعبَّر عنه بقولهم: استصحاب الحال] (¬7). وقولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان. مثاله: استصحاب ثبوت الدين في ذمة (¬8) المديان حتى يدل الدليل على ¬
غرمه. وكذلك (1) الغائب، تستصحب حياته حتى يدل الدليل على موته، وكذلك (¬1) العبد، يستصحب فيه الرق حتى يدل الدليل على حريته. فالمراد بالاستصحاب هنا (¬2): إنما هو استصحاب ثبوت الحكم الشرعي. وليس المراد به استصحاب عدم الحكم الشرعي، الذي يعبر [عنه] (¬3) بالبراءة الأصلية، وهو المذكور بعد هذا (¬4). ¬
قوله: (فهذا (¬1) الظن عند مالك (¬2)، والإِمام (¬3)، والمزني، وأبي بكر الصيرفي (¬4)، حجة، خلافًا لجمهور الحنفية (¬5) والمتكلمين (¬6)، لنا: أنه قضاء (¬7) بالطرف الراجح، [فيصح] (¬8) كأروش الجنايات واتباع الشهادات). ش: حجة الجواز: أن القضاء بالاستصحاب راجح على منعه، قياسًا على القضاء بصدق مقوم أروش الجنايات، وقيمة المتلفات؛ إذ الظاهر صدقه في ذلك لعدالته، فذلك راجح على كذبه، وكذلك صدق الشاهد راجح على كذبه لعدالته (¬9). وحجة منع القضاء بالاستصحاب: أن الاستصحاب أمر عام يشمل كل شيء، فإذا كثر (¬10) عموم الشيء كثرت مخصصاته، وما كثرت مخصصاته ¬
ضعفت دلالته، فلا يكون حجة (¬1). والجواب (¬2): أن الظن الضعيف يجب [اتباعه] (¬3) حتى يوجد معارضة الراجح عليه، كالبراءة الأصلية، فإن شمولها لم يمنع من التمسك بها حتى يوجد رافعها (¬4). قوله: (البراءة الأصلية (¬5)، وهي: استصحاب حكم العقل في عدم ¬
الأحكام، خلافًا للمعتزلة، والأبهري [وأبي الفرج] (¬1) منا. [لنا: أن ثبوت] (¬2) العدم في الماضي يوجب ظن عدمه (¬3) في الحال، فيجب الاعتماد على هذا [الظن] (¬4) بعد الفحص (¬5) عن رافعه، وعدم وجوده، عندنا وعند (¬6) طائفة من الفقهاء. ش: البراءة الأصلية، هي قسم من الاستصحاب، وهي المعبر عنها (¬7) بقولهم: الأصل براءة الذمة. مذهب الجمهور: عدم الحكم قبل ورود الشرائع (¬8). ومذهب المعتزلة: أن كل ما ثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله (¬9). ومذهب الأبهري: أن التحريم ثابت قبل الشرع/ 356/ (¬10). ومذهب الباجي (¬11): أن الإباحة ثابتة قبل الشرع. ¬
فهذه (¬1) أربعة مذاهب: مذهب الجمهور: عدم (¬2) ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع. ومذهب الأبهري: ثبوت التحريم خاصة. ومذهب الباجي (¬3): ثبوت الإباحة خاصة، ومذهب المعتزلة: ثبوتها (¬4) بالعقل لا بالسمع؛ لأن العقل عندهم يحسن ويقبح. فدليل أهل السنة على عدم الحكم قبل الشرع: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬5)، نفي التعذيب قبل البعثة، فينتفي ملزومه وهو الحكم. وبيان الاستدلال بهذه الآية الكريمة أن نقول: لو كلفوا لعصوا، عملاً بالغالب، فإن الغالب على العالم (¬6) العصيان؛ لقوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬7)، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬8). ¬
ولو عصوا لعذبوا عملًا بالأصل، إذ الأصل ترتب المسبب على سببه، فالعصيان سبب التعذيب. فترتيب القياس إذًا: لو كلفوا [لعصوا] (¬1)، ولو عصوا لعذبوا، فالعذاب لازم لازم التكليف، ولازم اللازم لازم، فانتفاء اللازم الآخر يقتضي انتفاء الملزوم الأول، فيلزم من انتفاء العذاب قبل البعثة انتفاء التكليف [قبل البعثة] (¬2). ودليل الأبهري القائل بالتحريم: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ (¬3) مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} (¬4)، مفهومه أن المتقدم قبل التحليل هو التحريم. وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (¬5)، مفهومه: أنها [كانت] (¬6) قبل ذلك محرمة (¬7). الجواب عن هاتين الآيتين: أن الثابت في دليل (¬8) الخطاب إنما هو النقيض لا الضد، ونقيض الحلِّيَّة عدم الحلِّيَّة، وعدم الحلِّيَّة أعم من التحريم، فالدال على الأعم غير دال على الأخص (¬9). ¬
ودليل أبي الفرج القائل بالإباحة: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1)، وقوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬2)، ومقتضى الآيتين يدل على الإذن (¬3) في الجميع (¬4). والجواب على هاتين الآيتين: أنه يحتمل أن يكون خلقها للاعتبار لا للتصرف، أي خلقها لنعتبر بها [و] (¬5) نستدل بها على وجود الخالق ووحدانيته وقدمه وبقائه وصفاته جل وعلا، لا أنه خلقها للتصرف فيها (¬6). وأما دليل المعتزلة فهو: أن الله تعالى حكيم، والحكيم يستحيل عليه إهمال المصالح والمفاسد، فالعقل (¬7) عندهم أدرك [أن الله تعالى] (¬8) [حكم] (¬9) بإيجاب المصالح وتحريم المفاسد، لا أن (¬10) العقل هو الموجب [والمحرم] (¬11)، بل الموجب والمحرم هو الله تعالى، لكن (¬12) يجب ذلك [له] (¬13) لذاته؛ لكونه حكيمًا، كما يجب له لذاته كونه عالمًا. ¬
وأما عند أهل السنة: فكونه تعالى حكيمًا، معناه: اتصافه بصفات الكمال من العلم العام التعلق، والإرادة العامة النفوذ، والقدرة العامة التأثير، وغير ذلك من صفاته، لا أن (¬1) ذلك بمعنى أنه يراعي المصالح والمفاسد، بل له تعالى أن يضل الخلائق أجمعين، أو يهديهم أجمعين، أو يضل البعض ويهدي البعض، يفعل في ملكه (¬2) ما يشاء، ويحكم (¬3) ما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال الله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ (¬4) وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬5)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ [[يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬6)، وقال: {[إِنَّ] (¬7) اللَّهَ]] (¬8) يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (¬9)، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬10). قوله: (فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه وعدم وجوده: وذلك أنه لا يصح أن يقال (¬11): لم أجد الشيء، إِلا بعد الطلب (¬12) والبحث). ¬
[قوله] (¬1): (العوائد) (¬2) (¬3). ش: [مفرده عادة] (¬4)، ومعنى العادة لغة: كل ما عاد عليه الناس وداموا عليه (¬5)، ومعناه اصطلاحًا بينه [المؤلف] (¬6) بقوله (¬7): والعادة: غلبة معنى من المعاني على الناس، وهذا موافق لمعناها لغة. قوله: (وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأمم (¬8)، كالحاجة للغذاء والتنفس للهواء (¬9)، وقد تكون خاصة ببعض البلاد، كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق، كالأذان للمسلمين (¬10)، والناقوس (¬11) للنصارى). ¬
ش: ذكر [المؤلف] (¬1) للعادة ثلاثة أقسام (¬2): أحدها: عامة لجميع الأمم في جميع البلاد (¬3)، كالحاجة للتغذي؛ لأن الإنسان إذا عدم الغذاء فإنه يموت إذا طال حاله. وكذلك إذا عدم التنفس في الهواء فإنه يموت، مثل: إذا خنق، أو إذا وقع في مطمورة (¬4) حارة حين (¬5) حلها فإنه يموت. والقسم الثاني: عادة خاصة ببعض البلاد؛ كالنقود والعيوب. يحتمل أن يريد بالنقود: الذهب والفضة؛ لأن التعامل بهما خاص ببعض البلاد، فإن بعض البلاد يكون التعامل فيها بالفلوس، ومنها ما يكون التعامل فيها بالعروض. ويحتمل أن يريد بالنقود: السكك؛ لأن السكك تختلف باختلاف البلاد (¬6). قوله: (والعيوب)، وهي عيوب السلع؛ لأنها تختلف أيضًا باختلاف البلاد، وباختلاف الأقوام، وباختلاف الأزمان، فرب شيء يكون عيبًا عند ¬
قوم لا عند قوم، كعدم الخفاض (¬1) في الجواري عند العرب، ولا يكون عيبًا عند العجم؛ فإنهم [لا] (¬2) يعرفونه. ورب شيء يكون عيبًا في زمان دون زمان، كالبول في الفراش، هو عيب في العبد في زمان الكبر، لا في زمان الصغر. ورب شيء يكون عيبًا في العلي (¬3) دون الوخش (¬4)، كالحمل، والشيب، والزَّعَر (¬5)، والبَخَر (¬6)، وقد أشار القاضي عبد الوهاب في التلقين إلى هذا، فقال: ومن هذه العيوب ما يعم، ومنها ما يخص الرائعة (¬7) المرتفعة (¬8) ¬
المتخذة للوطء، وذلك بحسب ما يعلم (¬1) في العادة (¬2). والقسم الثالث: عادة خاصة ببعض الطوائف، وإن كان البلد واحدًا، كالأذان لأهل الإسلام، ولأجل هذا كان [النبي] (¬3) عليه السلام إذا أراد أن يغير على قوم أمسك إلى الصباح، فإن سمع الأذان وإلا [أ] (¬4) غار (¬5) (¬6)، فإن الأذان للصلاة خاص (¬7) بطائفة الإسلام، وكذلك الناقوس (¬8)، خاص بطائفة (¬9) النصارى (¬10). قوله: (فهذه العادة يقضى بها (¬11)، لما (¬12) تقدم في الاستصحاب). ¬
ش: / 357/ [أي] (¬1): يقضى بها لأجل [الدليل] (¬2) الذي تقدم في القضاء بالاستصحاب، وهو قوله: لنا أنه قضاء (¬3) بالطرف الراجح فيصح (¬4)، كأروش الجنايات واتباع الشهادات (¬5). قوله: (الاستقراء (¬6)، [و] (¬7) هو تتبع الحكم في (¬8) جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة، كاستقرائنا الفرض في جزئياته [أنه] (¬9) لا يؤدَّى على الراحلة (¬10)، فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضًا لما أُدِّي على الراحلة، وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء). ش: قوله: في جزئياته، يعني جزئيات الصلاة الفريضة (¬11)، وهي حالاتها (¬12) من الأداء والقضاء والإتمام [والقصر] (¬13). ¬
واعترض (¬1) [استدلال] (¬2) المؤلف (¬3) على عدم فرضية الوتر بفعله عليه السلام [إياه] (¬4) على الراحلة (¬5): بكونه عليه السلام [لم] (¬6) يفعل ذلك إلا في السفر، مع أن الوتر وقيام الليل ليسا بواجبين عليه في السفر، فلم يفعل عليه السلام على الراحلة إلا غير الواجب، فدليل المؤلف لا يمس محل النزاع (¬7). وفيه اعتراض آخر: وهو أن المخالف الذي هو أبو حنيفة لم يقل بأن الوتر فرض (¬8)، وإنما قال واجب، والواجب عنده ما فوق السنة ودون الفرض، ¬
فقد اتفق العلماء كلهم على أن الوتر ليس بفرض، وإنما اختلفوا فيه: هل هو سنة أو واجب؟ قال الجمهور: سنة. وقال أبو حنيفة: واجب، لزيادة تأكده على السنن، وانحطاطه عن رتبة الفرض؛ ولأجل هذا قال سحنون: يجرح تاركه، و [قال] (¬1) [أ] (¬2) صبغ: يؤدب تاركه. فعلى هذا يكون الخلاف إذًا في التسمية لا في المعنى، فحينئذ لا يحتاج فيه إلى الاحتجاج؛ لاتفاق المعنى (¬3). قوله: (سد الذرائع (¬4)، الذريعة (¬5): الوسيلة إلى الشيء (¬6)، ومعنى (¬7) ¬
ذلك: حسم مادة (¬1) الفساد دفعًا له، فمتى كان الفعل السالم من (¬2) المفسدة وسيلة إلى المفسدة، منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك رحمه الله) (¬3). ش: قوله: الذريعة: الوسيلة إلى الشيء، هذا أصلها في اللغة، والذريعة مأخوذ [ة] (¬4) من الذرع، وهو القوة، ومنه الذراع الجارحة؛ لأنه يقوى بها الإنسان على ما لا قوة له عليه (¬5). قوله: (ومعنى ذلك حسم مادة الفساد دفعًا له)، هذا معنى الذريعة في الاصطلاح: وهو (¬6) التوصل بمباح إلى ما فيه جناح. وفائدتها: سد أسباب الفساد، التي تؤدي إلى الفساد، وإن كانت الأسباب في نفسها مباحة. مثاله: حفر البئر في طريق الناس، فإن حفر البئر في نفسه مباح، وإنما منع؛ لأنه وسيلة إلى هلاك الناس والبهائم. وكذلك: سب صنم الكافر (¬7) لمن يعلم أن صاحب ذلك الصنم يسب الله تعالى، فإن سب الصنم في نفسه مباح، وإنما منع إذا (¬8) كان يؤدي إلى سب ¬
الله تعالى. قوله: (تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه: اعتبار العوائد، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، وليس كذلك). ش: ومعنى التنبيه: إيقاظ من غفلة (¬1) الوهم. ومقصود المؤلف بهذا التنبيه: أن يرد على من يدعي اختصاص مذهب مالك رحمه الله بهذه (¬2) الثلاثة، فذكر المؤلف أنها غير خاصة بمذهب مالك، وأنها عامة لجميع المذاهب. وقال بعض أرباب المذهب: انفرد مالك رحمه الله بخمسة أشياء: مراعاة الخلاف، [وحماية الذرائع، والحكم بين حكمين، والقول بالعوائد، والقول بالمصالح. أما مراعاة الخلاف,] (¬3) والحكم بين حكمين، فقد انفرد بهما مالك. وأما الثلاثة الباقية: فقد نبه المؤلف على عدم انفراد مالك بها. مثال مراعاة الخلاف: من سجد قبل السلام عامدًا (¬4) لسهو الزيادة. فقيل [في المذهب] (¬5): لا تبطل صلاته، [وهو المشهور من المذهب] (¬6) (¬7) ¬
مراعاة لخلاف الشافعي؛ لأن سجود السهو كله عنده قبل السلام (¬1)، وقيل: تبطل [صلاته] (¬2) (¬3). [وكذلك من قام من اثنتين قبل الجلوس، ورجع إليه بعد (¬4) الاستقلال عامدًا. فقيل: لا تبطل صلاته (¬5)، وهو المشهور من المذهب، مراعاة (¬6) لمن قال: له الرجوع بعد الاستقلال، وهو أحمد بن حنبل (¬7). وقيل: تبطل صلاته] (¬8) (¬9). ومثال الحكم بين الحكمين (¬10): [مسألة] (¬11) المدرك (¬12) (¬13)، قال (¬14) ¬
الشافعي: [قاض في الأقوال والأفعال] (¬1) (¬2)، وقال أبو حنيفة، بان فيهما (¬3)، [وقال مالك: قاض في الأقوال بان في الأفعال (¬4)، فحكم في ذلك بين الحكمين] (¬5). [(¬6) وكذلك العارية إذا هلكت، قال مالك: يضمنها المستعير فيما يغاب عليه (¬7)، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه: لضعف التهمة فيما لا يغاب عليه (¬8)، وقال الشافعي: يضمنها المستعير مطلقًا فيما يغاب عليه وفيما لا يغاب عليه (¬9)، لقوله عليه السلام: "العارية مؤداة"، ويروى ¬
"مضمونة" (¬1)، ولقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬2)، وقال أبو حنيفة: لا يضمنها المستعير مطلقًا، كانت مما يغاب عليه [أ] (¬3) ومما لا يغاب عليه (¬4)؛ لقوله عليه السلام: "لا ضمان على المستعير" (¬5). وكذلك الرهن إذا هلك في يد المرتهن. ¬
قال مالك: يضمنه (¬1) المرتهن فيما يغاب عليه دون ما لا يغاب عليه (¬2). وقال الشافعي: يضمن فيهما (¬3). وقال أبو حنيفة: لا يضمن فيهما (¬4). وكذلك ذكاة الأم تعمل في ذكاة الجنين إذا خرج ميتًا بعد ذبح أمه [بشرط تمام خلقه ونبات شعره، ولا تعمل إذا عدم ذلك، قاله مالك (¬5). الشافعي: تعمل مطلقًا (¬6)، أبو حنيفة: لا تعمل مطلقًا (¬7). وهذا الخلاف إنما هو إذا خرج ميتًا بعد ذبح أمه، وأما إن خرج حيًا لعد ذبح أمه] (¬8) فله حكم نفسه، وكذلك إن خرج قبل ذبح أمه فله حكم نفسه أيضًا. ومثال الحكم بين حكمين أيضًا: إذا أعتق العبد المرهون. قال الشافعي: يرد العتق (¬9)، وقال أبو حنيفة: لا يرد (¬10). ¬
وقال مالك: يرد إن كان الراهن معسرًا وينفذ إن كان الراهن موسرًا (¬1). ومثاله أيضًا: المحال بالدين، هل يرجع على المحيل مطلقًا؟ قاله أبو حنيفة (¬2)، أو لا يرجع عليه مطلقًا؟ قاله الشافعي (¬3). أو يرجع عليه إذا غره خاصة؟ قاله [مالك] (¬4) (¬5). ومثاله أيضًا: إذا وجد صاحب السلعة (¬6) سلعته بعينها. هو أحق بسلعته مطلقًا في الفلس والموت، قاله الشافعي (¬7). أو هو أسوة الغرماء مطلقًا في الفلس والموت، قاله أبو حنيفة (¬8). أو هو أحق بها في الفلس، وهو في الموت أسوة الغرماء، قاله مالك (¬9)] (¬10). قوله: (أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها). ¬
[ش] (¬1): وذلك أن العلماء كلهم قالوا: إذا وقع البيع بثمن معلوم ولم تذكر السكة، فإنها تحمل على السكة المعلومة (¬2) في موضع البيع؛ [لأن] (¬3) العرف إنما جرى في ذلك بتلك السكة. وكذلك إذا وقعت الإجارة بأجرة معلومة ولم تذكر السكة، فإنها تحمل على السكة المعتادة في ذلك الموضع؛ عملًا بالعرف أيضًا. وكذلك أوقات الصلوات، يخرجها العرف عن الدخول في الإجارات. وكذلك الضرب [في] (¬4) الحدود (¬5) والتعزيرات، محمول على الضرب المعتاد. فهذا كله وأشباهه يحمل على العرف والعادة، فلا يختص به مذهب مالك (¬6). [[ولأجل هذا قال القاضي ابن العربي في القبس: العادة (¬7) إذا جرت، أكسبت علمًا، ورفعت جهلًا، [وهونت صعبًا] (¬8)، وهي أصل من أصول مالك، وأباها سائر العلماء لفظًا، ويرجعون إليها معنى (¬9)]] (¬10) (¬11). ¬
قوله: (وأما المصلحة المرسلة، فغيرنا يصرح بإِنكارها, ولكنهم عند التفريع تجدهم (¬1) يعللون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإِبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة) (¬2). ش: ويدل على اعتبار المصلحة المرسلة عند الشافعية: أن إمام الحرمين الذي هو إمام الشافعية، نص في كتابه (¬3) على أمور ليس لها نص ولا أصل في الشرع، إلا مجرد المصلحة (¬4). منها: أنه قال: إذا عدم إمام قرشي (¬5) يجوز أن يولى (¬6) غير قرشي (¬7) (¬8)، [و] (¬9) ليس له على هذا نص، بل النص يدل على خلاف قوله، وهو قوله عليه السلام: "الأئمة من قريش". ¬
ومنها: أنه قال: إذا عدم الإمام المجتهد يجوز أن يولى (¬1) غير مجتهد (¬2)، ممن له قوة، ونجدة، وتنفذ أحكامه بين الناس، [كما تنفذ] (¬3) أحكام المجتهد (¬4). ومنها: أنه قال: إذا عدم الإمام العدل يجوز أن يولى (¬5) الفاسق المتبع لشهواته؛ لأن مفسدة المسلمين أعظم من مفسدة شهواته (¬6). ومنها: أنه (¬7) قال: يجوز للإمام أن يستعين بأموال (¬8) الفساق والظلام في بعض الأحوال / 358/ إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لما في ذلك من نفع المسلمين وردع الفاسقين (¬9). ومنها: أنه (¬10) قال: إذا ضاق بيت المال، يجوز للإمام أن يجعل على الزروع والثمار جزءًا يجبى (¬11) على الدوام، يستعين به الإمام على منافع ¬
المسلمين (¬1)، مع أنه ليس له نص في هذا من الشرائع (¬2)، بل النص جاء بخلافه، كقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬3)، وقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله عليه السلام: "ليس في المال حق إلا الزكاة" (¬4). وهذا كله ليس فيه إلا مجرد المصلحة. ¬
قوله: (وأما الذرائع فقد اجتمعت (¬1) الأمة على أنها [على] (¬2) ثلاثة أقسام (¬3). أحدها: معتبر إِجماعًا، كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإِلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذٍ. وثانيها: ملغى إِجماعًا (¬4)، كزراعة العنب [فإِنه لا يمنع] (¬5) خشية الخمر، والشركة في سكنى الدار (¬6) خشية الزنا. وثالثها (¬7): مختلف فيه، كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن (¬8) الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا، فحاصل القضية: أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا، لا أنها (¬9) خاصة بنا). [ش] (¬10): قوله: (كبيوع الآجال). مثاله: إذا باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم اشتراها نقدًا بأقل [من] (¬11) ذلك ¬
الثمن، فإنه لا يجوز عند المالكية (¬1)، فإنه يتوصل فيه إلى سلف (¬2) بزيادة؛ لأنه عجَّل قليلاً ليأخذ كثيرًا عند حلول الأجل (¬3). قوله: (واعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، ويكره، ويندب، ويباح، فإِن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي إِلى الجمعة (¬4) والحج). ش: يعني أن الوسيلة تنقسم إلى خمسة أقسام على أحكام الشريعة. مثال المحرمة: كالسعي إلى الزنا والسرقة، أو غيرهما من المحرمات. ومثال الواجبة: كالسعي إلى الجمعة والحج، وغيرهما من المفروضات. ومثال المندوبة: كالسعي إلى العيد والاستسقاء، وغيرهما من المسنونات. ومثال المكروهة (¬5): كالسعي [إلى] (¬6) صيد (¬7) اللهو، وغيره من المكروهات (¬8). ومثال المباحة: كالسعي إلى السوق والتجارة، وغير (¬9) ذلك من المباحات. ¬
قوله: (كما يجب سدها) هذا راجع إلى وسيلة المحرم. وقوله: (يجب (¬1) فتحها) هذا راجع إلى وسيلة الواجب. وقوله: (ويكره) هذا راجع إلى وسيلة (¬2) المكروه. وقوله: (ويندب) هذا راجع إلى وسيلة المندوب. [و] (¬3) قوله: (ويباح) راجع إلى وسيلة المباح. وقوله: ([ويكره] (¬4) ويندب ويباح) تقديره: ويكره فتحها، [ويندب فتحها] (¬5)، [ويباح فتحها] (¬6). قوله: (وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد: وهي (¬7) المتضمنة (¬8) للمصالح والمفاسد في أنفسها. ووسائل: وهي الطرق المفضية إِليها، وحكمها حكم (¬9) ما أفضت (¬10) إِليه من تحريم أو تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في أحكامها (¬11)، فالوسيلة إِلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، ¬
وإِلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإِلى ما يتوسط (¬1) متوسطة) (¬2). [ش] (¬3): ([[قوله: من تحريم أو تحليل) يريد: أو ندب، أو كراهة، أو إباحة، يدل عليه ما قبله. قوله: (أحكامها) يصح [عود] (¬4) الضمير على الوسائل، أو المقاصد. تقديره على الأول: الوسائل في أحكامها أخفض رتبة من المقاصد. وتقديره على الثاني: الوسائل أخفض رتبة من المقاصد في أحكام المقاصد]] (¬5). مثال الوسيلة إلى أفضل المقاصد: كالمشي إلى تأدية الفرائض من الصلاة (¬6) وغيرها. [و] (¬7) مثال الوسيلة إلى أقبح المقاصد: كالمشي إلى المحرمات من الزنا والحرابة وغيرهما. ومثال الوسيلة إلى ما يتوسط: كالمشي إلى السنن (¬8)، والمندوبات، والمكروهات؛ لأن المندوبات متوسطة بين الواجبات والمباحات. وكذلك المكروهات متوسطة بين المحظورات والمباحات. ¬
وإنما قلنا بتوسيط المندوب بين الواجب والمباح؛ لأن المندوب يشارك الواجب في طلب (¬1) [الفعل] (¬2)، ويشارك المباح في جواز الترك. وإنما قلنا بتوسيط المكروه بين المحظور والمباح؛ لأن المكروه يشارك المحظور في الترك، ويشارك المباح في جواز الترك (¬3). قوله: (وينبه (¬4) على اعتبار الوسائل: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ [مَوْطِئًا] (¬5) يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} (¬6)، فأثابهم [الله] (¬7) على الظمأ والنصب، وإِن لم يكونا من فعلهم؛ لأنهما حصلا لهما بسبب التوسل إِلى الجهاد الذي هو وسيلة لإِعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد (¬8) وسيلة الوسيلة (¬9)) (¬10). ش: استدل المؤلف على اعتبار الوسائل بهذه الآية الجليلة، وبين وجه الاستدلال بها، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ ¬
دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1)، وذلك أن سبَّ الأصنام (¬2) جائز في نفسه، ولكن يمنع إذا خيف منه محظور، وهو سب الله تعالى (¬3). ويدل على اعتبار الوسيلة (¬4) أيضًا: قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} (¬5) (¬6)، وذلك أن اليهود في زمان داود عليه السلام حرم الله عليهم اصطياد (¬7) الحوت في يوم السبت، وأباحه لهم في سائر الأيام، وكانت الحيتان لا تأتيهم شُرَّعًا إلا في يوم السبت، ومعنى شُرَّعًا: أي ظاهرة (¬8) على الماء، مفرده: شارع، وقيل: معناه: تأتيهم الحيتان في مشارع الماء إلى أبواب بيوتهم (¬9)، ثم إنهم نصبوا آلات (¬10) الصيد للحيتان في يوم السبت فوقعت فيها, ولا تقدر على الهروب يوم [السبت] (¬11)، ثم ¬
يأخذونها (¬1) [في] (¬2) يوم الأحد (¬3)، فلم يباشروا أخذ الحوت يوم السبت، ولكن فعلوا فيه سبب الأخذ، ففاعل السبب كفاعل المسبب. فلأجل ذلك مسخهم الله تعالى قردة خاسئين، [وذلك] (¬4) قوله (¬5) تعالى: {[وَ] (¬6) لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ (¬7) كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬8)، أي: مبعدين (¬9). قوله: (قاعدة: كلما سقط اعتبار المقصد، سقط اعتبار الوسيلة، فإِنها تبع) (¬10). ش: ومعنى القاعدة: صورة كلية تتبين بها جميع جزئياتها (¬11). ¬
وهي: القانون، والضابط، والرابط. وذلك أن المقصود بالوسيلة إذا [ذهب] (¬1) ذهبت الوسيلة، فلا يخاطب بها لعدم ما يتوصل إليه بالوسيلة. مثال ذلك: إذا سقط وجوب الجمعة بالسفر/ 359/ مثلاً، سقط وجوب السعي إليه، وإذا سقط وجوب الحج بالفقر، سقط وجوب السعي إليه، وغير ذلك. قوله: (وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إِمرار الموسى على رأس من لا شعر له، مع أنه وسيلة إِلى إِزالة الشعر، فيحتاج إِلى ما يدل [على] (¬2) أنه مقصود في نفسه، وإِلا فهو مشكل) (¬3). ش: وبيان مخالفة قاعدة الوسائل ها هنا: أن إجراء الموسى على رأس من لا شعر له كالأقرع (¬4) والأصلع (¬5) واجب عند المالكية (¬6)، مع أن الحلاق إنما أمر به في الإحلال لإزالة الشعر، فإذا عدم الشعر فينبغي أن يسقط إجراء الموسى على رأس من لا شعر له؛ لأجل قاعدة الوسائل التي هي [سقوط الوسيلة عند] (¬7) سقوط المقصود بالوسيلة، فهذا وجه (¬8) الإشكال في هذا، ¬
وهو ثبوت الوسيلة مع عدم المقصود بها. فيحتاج هنا (¬1) أن يقال: إن إمرار الموسى على رأس من لا شعر له واجب وجوب المقاصد لا وجوب الوسائل، وإن لم نقل هذا، فإمرار الموسى مع عدم الشعر مشكل. ونظير هذا الفرع: من وُلِدَ مختونًا، فهل يجب إجراء الموسى على حشفته أم لا؟ قولان. وفي كلا الفرعين قولان في المذهب. سبب الخلاف في الفرعين: هل إجراء الموسى مقصود بنفسه، أو هو وسيلة لإزالة الشعر وإزالة الغرلة؟ فمن جعله مقصودًا أوجبه، ومن جعله وسيلة [أ] (¬2) سقطه. وقد اختلف العلماء في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له. قال الشافعي: لا يجب؛ لأنه عبادة تتعلق بجزء من البدن، فتسقط بذهابه، قياسًا على طهارة اليد إذا قطع (¬3) (¬4). وقال مالك: يجب؛ لأنه عبادة تتعلق بالشعر، فتتعلق بالبشرة عند ذهابه ¬
قياسًا على مسح الرأس في الوضوء، فإمرار الموسى على هذا على رأس من لا شعر له مقصود لنفسه (¬1). وهو على قياس الشافعي وسيلة. قوله: (تنبيه: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة، [إِذا] (¬2) أفضت إلى مصلحة راجحة (¬3)، كالتوسل إِلى فداء الأسارى بدفع (¬4) المال إِلى العدو الذي (¬5) يحرم (¬6) عليهم الانتفاع (¬7) به؛ لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا، وكدفع المال لرجل (¬8) يأكله حرامًا حتى لا يزني بامرأة إِذا عجز عن ذلك إِلا به، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال، واشترط مالك رحمه الله فيه اليسارة) (¬9). ¬
ش: نبه المؤلف بهذا التنبيه على قولهم، وسيلة المحرم محرمة، فأراد (¬1) أن يستثني من ذلك الوسيلة التي عارضتها مصلحة راجحة على مفسدة المحرم؛ لأنها إذا كانت راجحة وجب اعتبارها، إذ العمل بالراجح متعين في جميع موارد الشريعة (¬2). مثل المؤلف ذلك بثلاثة أشياء: أحدها: دفع المال للكافر في فدية السلم، فهو جائز، وإن كان وسيلة إلى محرم (¬3)، وهو تصرف الكافر فيه بغير حق؛ لكونه مخاطبًا بفروع الشريعة عندنا، على الخلاف. المثال الثاني: دفع المال للمحارب؛ ليكف أذاه عن قتال المسلمين، إذا كان ذلك صلاحًا للمسلمين فهو جائز، وإن كان تصرف المحارب فيه بغير حق حرامًا. المثال الثالث: دفع المال للزاني؛ لينزجر عن الزنا، فهو جائز إذا لم يقدر على انزجاره إلا بذلك، فهو مباح، وإن كان تصرف الزاني [في ذلك غير مباح؛ بل تصرفه] (¬4) فيه (¬5) حرام (¬6). واشترط مالك رحمه الله في هذا [الباب] (¬7) اليسارة. ¬
ومن هذا الباب: ما يعطيه الرجل لولاة الجور لرفع (¬1) الأذى عنه في نفسه وماله. ومن هذا أيضًا: ما يعطى للقُطَّاع في طرق (¬2) الحجاز. قال ابن الحاجب في الفروع: ويعتبر الأمن على النفس والمال، وفي سقوطه بغير المجحف، قولان. انتهى نصه (¬3). يعني: إنه إذا طلب له المال الكثير سقط عنه الحج اتفاقًا، فإن طلب له اليسير، ففيه قولان: قيل: يسقط (¬4) [عنه] (¬5) الحج. وقيل: يعطيه ولا يسقط عنه بذلك. نص القاضي عبد الوهاب في المعونة على القولين (¬6)، وكذلك غيره (¬7). قوله: (ومما شنع (¬8) على مالك رحمه الله: مخالفته لحديث بين الخيار مع ¬
روايته [له] (¬1) (¬2)، وهو مهيع متسع، ومسلك غير ممتنع، فلا (¬3) يوجد عالم إِلا وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام أدلة كثيرة، ولكن لمعارض راجح عليها عند مخالفها (¬4). وكذلك ترك مالك (¬5) هذا الحديث لمعارض راجح (¬6)، وهو عمل [أهل] (¬7) المدينة (¬8)، وليس (¬9) هذا بابًا اخترعه، ولا بدعًا افترعه) (¬10). ش: لما قال المؤلف: إن اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع مشنع على مالك رحمه الله، قال أيضًا: ومما شنع على مالك رحمه الله: مخالفته [لحديث] (¬11) بيع الخيار مع روايته له. وذلك أنه أثبته في الموطأ، وهو حديث صحيح أثبته الأئمة، وهو قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا" أي هما بالخيار ماداما في ¬
المجلس وإن لم يشترطا (¬1) الخيار، فالبقاء [في المجلس] (¬2) كالشرط، و [هو] (¬3) مذهب الشافعي (¬4)، وابن حبيب (¬5) من أصحاب مالك. فأما مالك وجمهور أصحابه: فلا يكون الخيار بالبقاء [في المجلس] (¬6) عندهم (¬7). قال ابن الحاجب في الفروع: الخيار تروٍّ ونقيضه (¬8)، فالتروي بالشرط لا بالمجلس للفقهاء (¬9) السبعة، ابن (¬10) حبيب وبالمجلس، لحديث الموطأ (¬11). وقال القاضي عبد الوهاب في التلقين: وليس خيار المجلس [[من مقتضى العقد، ومجرد القول المطلق كافٍ في لزومه (¬12). ¬
[و] (¬1) معنى كلامه: ليس خيار المجلس]] (¬2) مما يقتضيه العقد، وكذلك لا يثبت الخيار في المجلس بالشرط؛ لأنه أجل مجهول؛ لأن بقاءهما في المجلس أجل مجهول، ولأجل هذا قال مالك: خيار المجلس باطل لا أعرفه (¬3). وقال ابن العربي: سبحان الله! كيف يثبت بالشرع ما لا يجوز أن يثبت بالشرط (¬4). وقول عبد الوهاب: ومجرد القول المطلق كافٍ في لزومه. معناه: [و] (¬5) القول المجرد عن تقييده لا باللزوم ولا بالخيار ولا بالافتراق، كافٍ في لزوم البيع. فقوله عليه السلام:/ 360/ "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا" حمله الشافعي على أن معناه: ما لم يفترقا بالأبدان (¬6)، وحمله مالك على أن معناه: ما لم يفترقا بالألفاظ، وهي الإيجاب والقبول؛ لأجل عمل أهل المدينة (¬7). قوله: (وهو (¬8) مهيع متسع)، أي: طريق واضح متسع. ¬
قوله: (ومسلك غير ممتنع) (¬1) أي هو طريق لا يمنع أحد من سلوكه، فقد سلكه العلماء، إذ لا يوجد عالم (¬2) إلا وقد خالف في مذهبه أدلة من كتاب الله أو من سنته عليه السلام؛ لأجل معارض راجح عنده لذلك. قوله: (وليس هذا بابًا اخترعه ولا بدعًا افترعه)، أي: ليس مخالفة مالك لحديث رواه شيئًا أحدثه وانفرد به. قوله: (ولا بدعًا افترعه)، أي: ليس شيئًا سبق إليه (¬3) مالك فافترعه (¬4) قبل غيره من العلماء، فالبدع بكسر الباء: هو السابق بالشيء، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (¬5)، أي: لست بأول (¬6) مرسل (¬7). ¬
قوله: (ومن هذا الباب: ما يروى (¬1) عن الشافعي أنه قال: إِذا صح الحديث فهو مذهبي، وإِلا (¬2) فاضربوا بمذهبي [عرض] (¬3) الحائط (¬4). فإِن كان مراده مع عدم المعارِض (¬5)، فهو (¬6) مذهب العلماء كافة، وليس خاصًا به، وإِن كان [مع] (¬7) وجود المعارض، فهو (¬8) خلاف الإِجماع، وليس (¬9) هذا القول خاصًا (¬10) بمذهبه (¬11) كما ظنه بعضهم). ش: قوله: (ومن هذا الباب) معناه: ومن هذا الباب الذي هو مخالفة العالم للحديث؛ لأن قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، يريد مع عدم المعارض. ¬
مثال هذا: اختلاف العلماء في نقض الوضوء بقبلة النساء ولمسهن. قال الشافعي: ينقض الوضوء مطلقًا، [التذ] (¬1) أم لا (¬2). وقال أبو حنيفة: لا ينقضه مطلقًا (¬3). وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ (¬4). ¬
قال الشافعي: إن ثبت هذا الحديث في القبلة فلم أر في القبلة، ولا في اللمس وضوءًا (¬1). قوله: (عُرْضَ الحائط) أي: جهته [و] (¬2) جانبه (¬3)، قال (¬4) في إصلاح (¬5) المنطق (¬6): عرض الحائط هو: جهته (¬7)، وقال ابن الأعرابي (¬8): العرض هو: الجانب من كل شيء (¬9). قوله: (الاستدلال: وهو محاولة الدليل المفضي إِلى الحكم الشرعي من جهة القواعد، لا من جهة الأدلة المنصوبة) (¬10). ¬
ش: وفي بعض النسخ: لا من جهة الأدلة المنصوصة (¬1)، ومعناهما واحد. تعرض (¬2) ها هنا لبيان ما يستدل به على الأحكام (¬3) الشرعية من الأدلة العقلية، وهي المشار إليها بالقواعد. قوله: (محاولة الدليل)، المحاولة: استعمال الحيلة. أي: الاستدلال، هو إقامة الدليل الموصل إلى الحكم الشرعي من جهة القوانين العقلية، لا من جهة الأدلة التي نصبت لذلك من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الشرعي. قوله: (المفضي إِلى الحكم الشرعي)، يعني: إما قطعًا (¬4)، وإما ظاهرًا. ¬
وقوله: (لا من [جهة] (¬1) الأدلة المنصوبة (¬2))، يعني أنه لم يتعرض ها هنا للأدلة (¬3) المنصوبة للاستدلال على الأحكام الشرعية، وهي أدلة القرآن والسنة والإجماع والقياس؛ لأنه بين جميع ذلك في الأبواب المتقدمة. قوله: (وفيه قاعدتان) (¬4). ش: أي: في الاستدلال ها هنا قاعدتان، يعني: قاعدة الملازمة، وقاعدة الأصالة. قوله: (القاعدة الأولى: [في] (¬5) الملازمات (¬6)، وضابط الملزوم [ما] (¬7) يحسن فيه لو، واللازم: ما يحسن فيه اللام، نحو قوله (¬8) تعالى: {لَوْ كَان فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬9)، وكقولنا (¬10): إِن [كان] (¬11) هذا الطعام ¬
مهلكًا فهو حرام، تقديره: [لو كان مهلكًا] (¬1) لكان حرامًا) (¬2). [ش:] (¬3) فالذي يحسن فيه لو: هو الذي يسميه المنطقيون بالمقدَّم، والذي يحسن فيه اللام: هو الذي يسميه المنطقيون بالتالي (¬4) (¬5). فاللازم في الآية المذكورة، ما دخلت عليه اللام: وهو الفساد (¬6)، والملزوم ما دخلت عليه لو: وهو تعدد الآلهة. واللازم في المثال الثاني: هو الحرام، والملزوم: هو الهلاك (¬7). قوله: (والاستدلال (¬8) إِما بوجود الملزوم، [أو بعدمه] (¬9)، أو بوجود (¬10) اللازم، أو بعدمه، فهذه الأربعة منها اثنان منتجان، واثنان عقيمان. ¬
فالمنتجان: الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم، وبعدم اللازم على عدم الملزوم، فكلما أنتج وجوده فعدمه عقيم، وكلما أنتج عدمه فوجوده عقيم (¬1)، إِلا أن يكون اللازم مساويًا للملزوم فتنتج الأربعة، نحو قولنا: لو كان هذا إِنسانًا لكان ضاحكًا بالقوة). ش: أي يستدل في الآية المذكورة بوجود الآلهة على وجود الفساد، ويستدل بعدم الفساد على عدم الآلهة (¬2). وقولنا: لو كان [هذا] (¬3) الطعام مهلكًا فهو حرام، يصح في اللام في قوله: مهلكًا ضبطان: كسرها، وفتحها. فمثال الطعام المهلِك بكسر اللام: كالسموم (¬4). ومثاله بفتح اللام: الطعام النجس. فيستدل بوجود الهلاك على وجود التحريم، ويستدل بعدم التحريم على عدم الهلاك، ولا يستدل بعدم الهلاك على وجود التحريم، ولا على عدم التحريم؛ لأن الطعام غير المهلك قد يكون حلالاً، كالطعام الذي ليس مسمومًا ولا نجسًا، وقد يكون حرامًا، كالطعام المغصوب والنجس (¬5). ¬
ولا يستدل بوجود التحريم على وجود الهلاك ولا على عدم الهلاك؛ لان الطعام المحرم قد يكون مهلكًا كالسموم، وقد يكون غير مهلك كالمغصوب والنجس (¬1). [و] (¬2) قوله: (فكلما أنتج وجوده فعدمه عقيم، [وكلما أنتج عدمه فوجوده عقيم] (¬3))، [(¬4) مثاله أيضًا: لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا، نقول في الإنتاج: لكنه إنسان فهو حيوان؛ لأنه يلزم من وجود الأخص وجود الأعم. فيلزم من وجود الملزوم الذي هو الإنسان وجود اللازم الذي هو الحيوان، ونقول أيضًا: لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان؛ لأنه يلزم من عدم الأعم (¬5) عدم الأخص. فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، ولا يلزم من عدم الإنسان عدم الحيوان ولا وجوده، وكذلك لا يلزم من وجود الحيوان/ 361/ وجود الإنسان ولا عدمه (¬6). وإلى هذه الأقسام الأربعة أشار [المؤلف] (¬7) بقوله: فكلما أنتج وجوده ¬
فعدمه عقيم، وكل ما أنتج عدمه فوجوده عقيم] (¬1). وقد تقدم التنبيه على هذا في الباب الأول، في الفصل التاسع عشر في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها في قول [المؤلف] (¬2) هناك: فيستدل بوجود المساوي على وجود مساويه، وبعدمه على عدمه، وبوجود الأخص على وجود الأعمّ. وينفي الأعم على نفي الأخص، وبوجود المباين على عدم مباينه، ولا دلالة في الأعم من وجه مطلقًا، ولا في عدم الأخص، ولا في وجود الأعم (¬3). قوله: (إِلا أن يكون اللازم مساويًا للملزوم، فينتج الأربعة، نحو قولنا: لو كان هذا إِنسانًا لكان ضاحكًا بالقوة) (¬4). [ش:] (¬5) يعني أنه إذا ساوى اللازم الملزوم، فإنه ينتج المطالب الأربعة. فيقال (¬6) في الإنتاج: لكنه إنسان فهو ضاحك بالقوة، لكنه ضاحك بالقوة فهو إنسان، لكنه ليس بإنسان فليس بضاحك بالقوة، لكنه ليس بضاحك بالقوة فليس بإنسان. ¬
وهكذا نقول في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّه لَفَسَدَتَا} (¬1)، فإنه ينتج المطالب الأربعة. قوله: (ثم الملازمة قد تكون قطعية، كالعشرة مع الزوجية، و [ظنية] (¬2) كالنجاسة مع كأس الحجام). ش: قسم المؤلف ها هنا الملازمة بين اللازم والملزوم إلى قسمين: ملازمة قطعية، أي: عقلية، وملازمة ظنية (¬3). مثال القطعية: ملازمة (¬4) الزوجية للعشرة، وملازمة الفردية للخمسة، فكل عشرة تلازمها (¬5) الزوجية، وكل خمسة تلازمها الفردية. فنقول: لو كان عشرة لكان زوجًا، ولو كان هذا خمسة لكان فردًا. ومثال الملازمة الظنية: ملازمة النجاسة لكأس الحجام، فلا يوجد كأس الحجام إلا ومعه نجاسة ظنية. فتقول: لو كان هذا كأس حجام (¬6) لكان نجسًا. وإنما قلنا: تلازم النجاسة كأس الحجام، بناء على غالب الظن؛ لأنه قد لا ¬
يكون كأسه نجسًا، لكونه لم يحجم به أحدًا بعد، أو حجم به ثم غسله. قوله: (وقد تكون كلية: كالتكليف مع العقل، فكل مكلف عاقل في سائر الأزمان والأحوال، فكليتها (¬1) [باعتبار] (¬2) ذلك (¬3) لا باعتبار الأشخاص، وجزئية: كالوضوء مع الغسل، فالوضوء لازم للغسل إِذا سلم من النواقض حالة إِيقاعه فقط، فلا جرم (¬4) لم [يلزم] (¬5) من انتفاء اللازم الذي هو الوضوء، انتفاء اللزوم الذي هو الغسل (¬6)؛ لأنه ليس كليًا، بخلاف انتفاء العقل، [فإِنه] (¬7) يوجب انتفاء التكليف في سائر الصور) (¬8). ش: قسم المؤلف ها هنا الملازمة (¬9) تقسيمًا آخر بالنسبة إلى الملازمة الكلية، والملازمة الجزئية (¬10). مثال الملازمة الكلية: ملازمة التكليف للعقل، فلا يوجد التكليف إلا مع ¬
العقل فلا زمان ولا حال يوجد فيه التكليف إلا والعقل لازم له، ومعنى كونها (¬1) كلية: أن تكون الملازمة عامة لأفرادها، كقولك: لو كان هذا مكلفًا لكن عاقلاً، فهذه الكلية إنما هي باعتبار الأزمان والأحوال، لا باعتبار الأشخاص، بخلاف الملازمة الجزئية كالوضوء مع الغسل، فإن ملازمة الوضوء للغسل إنما هي في حال دون [حال] (¬2)، فإن كل فرد من أفراد الغسل يلازمه الوضوء في حالة (¬3) إيقاعه فقط إذا سلم الوضوء من النواقض، فنقول: لو كان هذا مغتسلاً لكان متوضئًا، لكنه مغتسل فهو متوضئ، فهذا (¬4) الوجه هو المنتج في هذا، وأما الثلاثة الباقية فهي عقيمة؛ لأن الملازمة بينهما جزئية لا كلية، أي لأن الملازمة بين الوضوء والغسل خاصة لا عامة. وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: لأنه ليس كليًا، أي لأن اللازم (¬5) ليس كليًا، أي ليس اللزوم (¬6) بين الوضوء والغسل عامًا لجميع (¬7) الأزمان والأحوال. قوله: (فالوضوء لازم للغسل إِذا سلم من النواقض حالة إِيقاعه فقط)، فيه تقديم وتأخير، تقديره: فالوضوء لازم للغسل حالة إيقاعه فقط إذا سلم من النواقض. ¬
أي يلزم الوضوء الغسل (¬1) في حالة إيقاع الغسل إذا سلم (¬2) من النواقض، ولا (¬3) ملازمة بينهما إذا نقض الوضوء، ولأجل ملازمة الوضوء للغسل قال أرباب مذهب مالك: إذا (¬4) اقتصر المغتسل على الغسل دون الوضوء أجزأه (¬5). وقال بعض العلماء: لا يجزئ الغسل عن الوضوء؛ فلا بد للمغتسل من الوضوء (¬6)، واستدل على ذلك بالقاعدة العقلية، وهي (¬7): أنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم، فلو كان الوضوء لازمًا للغسل للزم انتفاء الغسل بانتفاء الوضوء، فإذا أحدث المغتسل الحدث الأصغر يلزمه (¬8) الغسل، وذلك خلاف الإجماع (¬9). والجواب عن هذا: أن الملازمة بينهما جزئية، أي خاصة ببعض الأحوال، وهي حالة الابتداء فقط، وأما بعد ذلك فلا ملازمة بينهما، فلا يلزم من انتفاء ما ليس بلازم انتفاء شيء البتة، وكذلك نقول: كل مؤثر لازم لأثره حالة ¬
إيقاعه؛ لأنه قد ينتفي الصانع وتبقى صنعته بعده؛ لأن الملازمة بينهما جزئية في بعض الأحوال، وهي حالة الحدوث فقط، وما عدا تلك الحالة فلا ملازمة بينهما [فيها] (¬1)، فلا يلزم من نفيه نفيها، فكذلك (¬2) لا يلزم من انتفاء الطهارة [الصغرى انتفاء الطهارة] (¬3) الكبرى بعد زمان الابتداء؛ لعدم الملازمة بعد ذلك. فقولهم: يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم، خاص بما إذا كانت الملازمة كلية، أي عامة، وأما إذا كانت جزئية، [أي] (¬4) خاصة، فلا يلزم نفيه من نفيه (¬5). قوله: (القاعدة الثانية: أن الأصل في المنافع (¬6) الإِذن، [و] (¬7) في المضار المنع، بأدلة السمع، لا [بأدلة] (¬8) [[العقل (¬9)، خلافًا للمعتزلة. وقد تعظم المنفعة، فيصحبها الوجوب، أو الندب (¬10). ¬
وقد تعظم المضرة، فيصحبها التحريم/ 362/ [أو الكراهة] (¬1)]] (¬2) على قدر رتبتها (¬3)، فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة) (¬4). ش: قوله: (بأدلة السمع)، وذلك أن الأحكام الشرعية التي هي: الوجوب، والتحريم، والندب (¬5)، والكراهة، والإباحة، إنما ثبتت (¬6) بالأدلة المسموعة من الشارع، إما من كتاب (¬7)، وإما من سنة (¬8)، [و] (¬9) إما من إجماع، أو قياس. وذلك أن المأمور به إذا كانت (¬10) فيه منفعة عظيمة، فإن حكمه الوجوب كسائر الواجبات، وإذا كانت منفعته (¬11) قليلة، فحكمه (¬12) الندب كسائر ¬
المندوبات [على مراتبها. وإذا كان المنهي عنه مضرته عظيمة، فإن حكمه التحريم كسائر المحرمات. وإن كانت مضرته قليلة، فإن حكمه الكراهة كسائر المكروهات] (¬1). وإذا كان الشيء لا منفعة فيه ولا مضرة، فحكمه الإباحة كسائر المباحات. قوله: (بأدلة السمع)، مثال (¬2) دليل السمع في الإذن في المنافع: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَج لعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬3)، وقوله تعالى: {[هُوَ] (¬4) [الَّذِي] (¬5) خَلَقَ لَكُمَ مَّا فِي الأَرْض جَمِيعًا} (¬6)، وغير ذلك. ومثال دليل السمع في مِنع المضار: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬7)، فكونه جل وتعالى حرم بهذه الآية ما فيه الضرر والنفع (¬8)، فأولى وأحرى [تحريم] (¬9) ما فيه الضرر خاصة، دون النفع (¬10) كالسموم. ¬
قوله: (خلافًا للمعتزلة)، أي القائلين بأن الأصل في المنافع الإذن: وفي المضار المنع بأدلة العقل (¬1)؛ لأن العقل عندهم يحسن ويقبح، كما تقدم تقريره (¬2) في الباب الأول في الفصل السابع عشر في الحسن والقبح (¬3). قوله: (وقد تعظم المنفعة): مثاله: الجائع الخائف (¬4) على نفسه الموت، يجب عليه الأكل مخافة الموت؛ لأن منفعة الأكل لهذا عظيمة؛ لأن إحياء النفس واجب. قوله: (وقد تعظم المضرة)، مثاله: الخمر. ومتى قلت المنفعة فيصحبها الندب، ومتى قلت المضرة فيصحبها الكراهة، ومتى تساويا فيصحبها الإباحة. قوله: (على قدر رتبتها) (¬5) (¬6)، أي رتبة (¬7) المنافع والمضار من الكثرة والقلة. قوله: (الاستحسان (¬8)، قال الباجي: هو القول بأقوى ¬
الدليلين (¬1)، وعلى هذا يكون حجة إِجماعًا، وليس كذلك). ش: ذكر المؤلف في معنى الاستحسان أربعة أقوال: أحدها: القول بأقوى الدليلين، وهو قول الباجي، ورده المؤلف بقوله: وعلى هذا يكون [حجة] (¬2) إجماعًا، [وليس كذلك. وذلك أنه لو كان معناه القول بأقوى الدليلين] (¬3) لما وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ لأنهم اختلفوا في الاستحسان، هل يكون حجة أو لا يكون حجة؟ كما سيأتي. أجيب [عن هذا:] (¬4) بأن المراد بهذا الدليل الذي هو أقوى الدليلين: هو (¬5) الدليل الذي يخالف القياس [بدليل أقوى من القياس] (¬6). ¬
مثال ذلك: تخصيص العرايا من بيع الرطب بالتمر؛ فيه من الرفق والمعروف (¬1) (¬2)، وكذلك تضمين الصناع المؤثرين بصنعتهم (¬3) في الأعيان من سائر الأجراء لمصلحة العامة (¬4). وكذلك تضمين الحما [لين] (¬5) للطعام والإدام دون سائر الأجراء؛ لأن الطعام تسرع إليه الأيدي كثيرًا، دون (¬6) غيرهم ممن يحمل غير الطعام (¬7). وغير ذلك مما خولف فيه القياس بوجه أقوى منه. فإن هذه الأشياء المذكورة لم تحمل على نظائرها؛ لأجل ما يعارض (¬8) قياسها (¬9) على نظائرها. قوله: (وقيل: هو الحكم بغير دليل (¬10)، .................. ¬
وهو (¬1) اتباع الهوى (¬2) فيكون حرامًا إِجماعًا). ش: هذا قول ثان، وهو [قول] (¬3) من قال: ليس بحجة (¬4). قوله: ([و] (¬5) قال الكرخي: هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إِلى خلافه، لوجه أقوى منه (¬6)، وهذا يقتضي: أن [يكون] (¬7) العدول عن (¬8) العموم إِلى الخصوص استحسانًا، ومن المنسوخ إِلى الناسخ) (¬9). ش: هذا قول ثالث، ورده المؤلف بأنه (¬10) يلزم منه أن يكون العدول إلى الخصوص وإلى الناسخ وعن الإطلاق إلى التقييد استحسانًا، مع أنه لا يسمى ذلك العدول استحسانًا إجماعًا. أجيب عن هذا: بأن هذا القول هو [القول] (¬11) الأول في المعنى، ولا فرق بينهما إلا في العبارة، وأما المعنى فهو واحد، والمراد بها: هو العدول إلى ¬
مخالفة [القياس] (¬1) لوجه أقوى من القياس، كما تقدم تمثيله بالعرايا، وتضمين الصناع المؤثرين، والحمالين للطعام (¬2). ومعنى قوله: العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه قوى منه (¬3): أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها [[إلى خلافه لوجه أقوى منه، كحكم مالك رضي الله عنه بالضمان في حق الصناع المؤثرين، والحمالين [للطعام] (¬4)، وكحكمه بالجواز (¬5)]] (¬6) في العرايا، وكحكمه بالبناء في الرعاف في الصلاة (¬7)، بخلاف نظائره، كالقيء والحدث (¬8). قوله: (وقال أبو الحسين (¬9): هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على (¬10) الأول) (¬11). ¬
ش: هذا قول رابع، وهذا القول راجع ايضًا (¬1) إلى القول الأول الذي هو القول بأقوى الدليلين. قالوا: عبارة أبي الحسين (¬2) هي (¬3) التي تنطبق على ما قاله مالك في تضمين الصناع المؤثرين بصنعتهم، والحمالين للطعام، وشبه ذلك. فإنه (¬4) ترك وجهًا من وجوه الاجتهاد، وهو عدم التضمين الذي هو شأن الإجارات (¬5). قوله: (غير شامل شمول الألفاظ)؛ لأن عدم التضمين قاعدة لا لفظ (¬6). قوله: (لوجه أقوى منه): إشارة إلى الفرق الذي لاحظ (¬7) في صورة الضمان؛ لأن اعتباره راجح على عدم اعتباره، وإضافة الحكم إلى المشترك ¬
الذي هو قاعدة الإجارات وعدم التضمين. وهذا (¬1) الفرق (¬2) في حكم الطارئ على قاعدة الإجارات، فإن المستثنيات طارئات (¬3) على الأصول، وأما أحد القياسين على الآخر فليس أحدهما أصلاً للآخر حتى يكون في حكم الطارئ عليه (¬4). قوله: (فبالأول خرج العموم). / 363/ ش: أي: فبالقيد الأول الذي [هو] (¬5) قوله: غير شامل شمول الألفاظ، خرج العموم. قوله: (وبالثاني، ترك (¬6) القياس المرجوح (¬7) للقياس الراجح، لعدم طريانه عليه) (¬8). ش: أي: وبالقيد الثاني الذي هو قوله: وهو في حكم الطارئ على الأول، خرج القياس المرجوح (¬9) للقياس الراجح، لعدم طريان القياس الراجح على القياس المرجوح. قوله: (ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه ¬
أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول). قال الغزالي: مثاله: ترك تقدير أجرة الحجام والسقاء لوجه أقوي منه، وهو: استقباح العادة؛ لأن تقدير الثمن (¬1) في مثل هذا قبيح في العادة، فاستقباحه في حكم الطارئ، فيقدم على التقدير (¬2). قوله: (لوجه أقوى منه)، أي أقوى من المتروك. قوله: (وهو حجة عند الحنفية (¬3) وبعض البصريين منا (¬4) وأنكره العراقيون) (¬5). ش: حجة كونه [حجة: كونه] (¬6) راجحًا على ما يقابله، على ما تقدم تقريره (¬7)، والعمل بالراجح متعين، ولقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر، والله متولي السرائر" (¬8). ¬
وحجة كونه ليس بحجة: كونه لم تتحقق له حقيقة في الشرع، وإنما هو شيء يهجس (¬1) في النفس، وليس بقياس، ولا هو مما دلت عليه النصوص، فلا يتبع (¬2). فإن قلت: ما الفرق بين الاستحسان والمصلحة المرسلة؟ إذ لا معنى للاستحسان، إلا مصلحة راجحة (¬3) تقع في نفس المجتهد. قلنا: الاستحسان أخص من المصلحة المرسلة؛ لأن الاستحسان يشترط فيه أن يكون له معارض مرجوح؛ ولذلك (¬4) نقول فيه: ترك وجه من وجوه الاجتهاد لوجه أقوى منه. وأما المصلحة المرسلة: فلا يشترط فيها أن يكون لها معارض، بل قد تكون خالية من المعارض (¬5) (¬6). قوله: (الأخذ بالأخف (¬7)، ................................ ¬
وهو عند الشافعي (¬1) حجة (¬2)، كما قيل في دية اليهودي (¬3): إِنها مساوية لدية المسلم، ومنهم من قال: نصف دية المسلم، وهو قولنا، ومنهم من [قال] (¬4): ثلثها، أخذًا بالأقل، [و] (¬5) أوجب (¬6) الثلث (¬7) فقط لكونه مجمعًا (¬8) عليه، وما زاد منفي بالبراءة الأصلية). ش: قوله: [(الأخذ بالأخف)، بعضهم يعبر عنه بهذا، وبعضهم يعبر ¬
عنه بأقل ما قيل، فيقول: أقل ما قيل في هذه المسألة كذا وكذا (¬1). مثل المؤلف] (¬2) ذلك بدية اليهودي، قال أبو حنيفة: هي مساوية لدية المسلم (¬3)، وقال الشافعي: ثلث دية المسلم (¬4). وقال مالك: نصف دية المسلم (¬5). حجة الشافعي: أن الثلث مجمع عليه؛ لأن من قال بالتساوي أوجب الثلث بالضرورة، ومن قال بالنصف أوجب الثلث أيضًا بالضرورة، فالثلث اجتمع على وجوبه (¬6) الأقوال الثلاثة، وأما (¬7) الزائد فهو مختلف فيه، فالمتفق عليه أولى (¬8) من المختلف فيه؛ ولأن الأصل براءة الذمة من الزائد (¬9). وحجة التساوي: أن الذمة مشغولة بالدية (¬10)، فلا تبرأ بالأقل؛ لأن الأقل مشكوك فيه، فلا تبرأ بالشك (¬11). وحجة النصف: تعارض الأدلة، [وجمعًا بين الأدلة] (¬12). ¬
ومثال هذه المسألة أيضًا: إذا اختلف المقومون في قيمة السلعة المتلفة، [أ] (¬1) وفي أرش الجرح مثلاً، فهل يؤخذ بأقل ما قيل أو يؤخذ بأعلى ما قيل أو بالوسط بين الأقل والأعلى؟ خلاف، كما تقدم (¬2). ومثالها أيضًا: إذا أوصى رجل لرجل بوصيتين: إحداهما أكثر من الأخرى، فهل له الوصيتان معًا أو له أكثرهما خاصة، أو له أقلهما خاصة، أو له نصف كل واحدة منهما؟ خلاف (¬3) بين العلماء. قال ابن الحاجب في الفروع في [باب] (¬4) الوصايا: ولو أوصى (¬5) لواحد بوصية بعد أخرى من صنف (¬6) واحد، وإحداهما أكثر [من الأخرى] (¬7)، فأكثر الوصيتين، وقيل: الوصيتان، وقيل: إن كانت الثانية أكثرهما أخذها فقط، وإن كانت أقل أخذهما، [وأما] (¬8) من صنفين فالوصيتان. انتهى [نصه] (¬9) (¬10). قوله: (العصمة، وهي أن العلماء اختلفوا، هل يجوز أن يقول الله تعالى ¬
لنبي أو عالم (¬1): احكم فإِنك لا تحكم إِلا بالصواب؟ (¬2). فقطع بوقوع ذلك مويس (¬3) بن عمران [من العلماء] (¬4) وقطع (¬5) جمهور المعتزلة بامتناعه (¬6) وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه (¬7) ووافقه ¬
الإِمام) (¬1). ش: ومعنى هذه المسألة: هل يجوز أن يقول الله لنبي أو عالم: احكم بما شئت تشهيًا (¬2) لا اجتهادًا؟ أي: أن يقول له: احكم بما شئت (¬3) على طريق التشهِّي، لا على طريق الاجتهاد؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب. ذكر المؤلف فيه ثلاثة أقوال، قيل: جائز واقع (¬4)، وقيل: ممنوع مطلقًا، وقيل بالوقف، فهذه الثلاثة ذكرها المؤلف. وفيه قولان آخران: أحدهما: جائز غير واقع (¬5)، والآخر: جائز في حق النبي دون العالم (¬6)، فهي خمسة أقوال: وحاصله أن تقول: اختلفوا أولاً هل يجوز أو لا يجوز، [أ] (¬7) ويجوز في حق النبي دون العالم؟ فإذا قلنا بالجواز، فهل (¬8) وقع أو لم يقع؟ ¬
حجة الجواز والوقوع: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬1)، فوجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله تعالى أضاف التحريم إلى إسرائيل، فدل ذلك أن (¬2) المحرِّم لذلك هو [إسرائيل، ولو كان المحرِّم لذلك هو] (¬3) الله تعالى لقال: إلا ما حرمنا على إسرائيل، ومقتضى السياق: أن ذلك لما حرمه إسرائيل على نفسه صار حرامًا عليه، وذلك يقتضي: أنه ما حرم على نفسه إلا ما جعل له أن يفعله، فقد فعل التحريم على نفسه (¬4). واعترض على الاحتجاج بهذه الآية؛ لأنها وردت في النبي دون العالم، فالدليل خاص، والمدلول عليه عام (¬5). وحجة المنع:/ 364/ أن ذلك تصرف في الشرع بالهوى، والله تعالى يشرع الشرائع للمصالح والمفاسد، لا لاتباع الهوى (¬6). أجيب عنه: بأن هذا مبني على قاعدة التحسين والتقبيح، وهي باطلة، فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬7) (¬8). وحجة الوقف (¬9): تعارض الأدلة (¬10). ¬
وحجة الفرق بين النبي وغيره: استحالة الخطأ في حق النبي؛ لما ثبت له من العصمة دون العالم (¬1). وحجة الجواز دون الوقوع: فلعدم الإحالة من طريق (¬2) العقل والنقل (¬3). قوله: (إِجماع [أهل] (¬4) الكوفة (¬5) ذهب قوم إِلى أنه حجة؛ لكثرة من وردها (¬6) من الصحابة، كما قال (¬7) مالك في المدينة (¬8). [فهذه أدلة مشروعية الأحكام] (¬9)). ش: [حجة] (¬10) القول بأن إجماع أهل الكوفة حجة: أن عليًا رضي الله عنه وجماعة كثيرة من الصحابة والعلماء رضي الله عنهم كانوا بها، فدل ذلك على أن الحق لا يفوتهم. ¬
وحجة القول المشهور الذي هو [ليس] (¬1) بحجة: أن أهل الكوفة هم بعض الأمة، والعصمة إنما ثبتت (¬2) لمجموع الأمة لا لبعض الأمة، فلا يكون إجماع بعض الأمة حجة. [قوله] (¬3): (قاعدة: يقع التعارض في الشرع بين الدليلين، والبينتين (¬4)، والأصلين، والظاهرين، والأصل [والظاهر] (¬5)، [و] (¬6) اختلف (¬7) العلماء في جميع ذلك). [ش: كان من حقه (¬8) أن يجعل هذه القاعدة في باب التعارض والترجيح، ولكن جعلها هنا؛ لأنها من أدلة المجتهدين] (¬9) (¬10). قوله: (الدليلان (¬11)، ............................. ¬
نحو قوله تعالى: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ (¬1) أَيْمَانُكُم} (¬2)، فهو (¬3) يتناول الجمع بين الأختين في الملك، وقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوأ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (¬4) يقتضي تحريم الجمع مطلقًا. ولذلك قال علي رضي الله عنه: حرَّمتهما آية وحلَّلتهما (¬5) آية (¬6). وذلك كثير في الكتاب والسنة. واختلف العلماء، هل يخير (¬7) بينهما، أو يتساقطان (¬8)؟ (¬9)). ¬
ش: حجة التخيير: أن العمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الإمكان، فالتخيير (¬1) عمل بالدليل، فأي شيء اختاره فهو فيه مستند (¬2) إلى دليل شرعي، وذلك أولى من إلغائها بالكلية (¬3). حجة التساقط: تعارضهما، وليس العمل بأحدهما أولى من الآخر (¬4) فتساقطا (¬5)، فإذا [تساقطا] (¬6) فيكون الحكم فيه كالحكم قبل ورود الشرع (¬7)، وقد تقدم الخلاف فيه، والمشهور فيه: عدم الحكم على مقتضى البراءة الأصلية، ولكن يرجح دليل التحريم ها هنا؛ للاختلاف في آية التحريم: دخلها التخصيص أم لا (¬8)؟ وأما آية التحليل: فلا خلاف أنها مخصوصة بموطوءات الآباء وغيرها، وما اختلف في تخصيص أقوى مما اتفق على (¬9) تخصيصه. قوله: (البينتان (¬10)، نحو (¬11) شهادة (¬12) بينة أن (¬13) هذه الدار لزيد، وشهادة (¬14) ¬
أخرى أنها (¬1) لعمر [و] (¬2)، فهل تترجح إِحد [ى] (¬3) البينتين؟ [فيه] (¬4) خلاف) (¬5). ش: [أي] (¬6) قيل: بالترجيح، وقيل: بالتساقط لأجل التعارض. فإذا قلنا بالترجيح [فيقع الترجيح] (¬7) بالأعدلية وبالكثرة (¬8). وإذا [قلنا] (¬9) بالتساقط تقسم بينهما بعد أيمانهما. انظر فروع ذلك في كتب الفقه (¬10). قوله: (الأصلان (¬11)، نحو رجل قطع رجلاً ملفوفًا نصفين (¬12)، ثم ¬
نازع (¬1) أولياؤه أنه كان [حيًا] (¬2) حالة القطع، فالأصل براءة الذمة من القصاص، والأصل بقاء الحياة، فاختلف العلماء في نفي القصاص وثبوته (¬3)، والتفرقة بين أن يكون ملفوفًا في ثياب الأحياء أو الأموات (¬4) (¬5)). ش: [قوله] (¬6): (الأصلان)، معناه (¬7): العقليان، [أ] (¬8) وتقول: الراجحان. قوله: (ملفوفًا) أي في ثيابه ولا يدرى هل هو حي أو ميت؟ فقيل: يرجح القصاص، وقيل: يرجح عدم القصاص، والقول الثالث: بالتفصيل. وقال بعضهم: القول بالتفرقة (¬9) هو الصواب؛ لأن أحد (¬10) الأمرين يرجح أحد الأصلين. وحمل بعضهم القول بالتفرقة على التفسير، وأنه لا يختلف في نفي القصاص إذا كان ملفوفًا في ثياب الأموات؛ لأن ذلك قرينة تقتضي أنه كان ميتًا قبل القطع، فأما إن (¬11) لم يكن ملفوفًا في ثياب (¬12) الأموات فهو محل ¬
[النزاع و] (¬1) الخلاف، هل يثبت (¬2) القصاص، أو لا يثبت؟ لتعارض الأصلين المذكورين. [قوله:] (¬3) (ونحو (¬4) العبد إِذا انقطع خبره، فهل تجب زكاة فطره (¬5)؛ لأن الأصل بقاء حياته، أو لا تجب (¬6)؛ لأن الأصل براءة الذمة؟ (¬7) (¬8)). ش: هذا مثال آخر لتعارض الأصلين. قوله: (الظاهران (¬9)، نحو (¬10) اختلاف الزوجين في متاع (¬11) البيت، فإِن اليد (¬12) ظاهرة في الملك، ولكل واحد منهما يد، فسوى (¬13) الشافعي بينهما، ورجحنا نحن بالعادة) (¬14). ¬
ش: [قوله: (الظاهران) معناه: الغالبان العرفيان (¬1). فإذا اختلف الزوجان في متاع (¬2) البيت] (¬3)، فادعاه كل واحد منهما مع عدم البينة، فقال الشافعي: [هو] (¬4) مشترك بينهما [قضاء] (¬5) بمقتضى الظاهرين معًا، لعدم رجحان أحدهما على الآخر (¬6). وقال مالك: يقضى بينهما بالعادة، فما يعرف للنساء يقضى به للزوجة، وما يعرف للرجال يقضى به للزوج، وما يعرف للرجال والنساء معًا يقضى به للزوج أيضًا؛ لأن البيت بيته (¬7). وقال ابن القاسم: يقضى به لهما (¬8) بعد أيمانهما (¬9)، انظر كتب الفقه. قوله: (ونحو (¬10) شهادة رجلين (¬11) [منفردين] (¬12) برؤية الهلال ¬
والسماء مصحية، فظاهر العدالة الصدق، وظاهر الصحو اشتراك [الناس] (¬1) في الرؤية، فرجح مالك العدالة (¬2)، وسحنون (¬3) الصحو (¬4) (¬5)). ش: هذا مثال آخر للظاهرين. قال ابن الحاجب في كتاب الصيام: وفي قبول الشاهدين في الصحو في المصر [الكبير] (¬6)، ثالثها: إن نظروا إلى صوب واحد ردت، وإذا (¬7) قبلا (فعد) (¬8) ثلاثون فلم ير في الصحو، ففيها (¬9) قال مالك: هما شاهدا (¬10) سوء (¬11). قوله: (الأصل (¬12) والظاهر، [نحو:] (¬13) المقبرة (¬14) القديمة الظاهر (¬15) ¬
تنجيسها (¬1) فتحرم الصلاة فيها، والأصل عدم النجاسة) (¬2). ش: قوله: (الأصل والظاهر) معناه: العقلي والعرفي. وإنما [قال:] (¬3) الأصل عدم النجاسة؛ لأنه الأصل في جميع أجزاء الأرض؛ لقوله عليه السلام: "جعلت/ 365/ لي الأرض مسجدًا وطهورًا". وإنما قال: الظاهر تنجيسها، لما فيها من عظام الموتى، هذا على القول بنجاسة الميت مسلمًا كان أو كافرًا. وفي بعض النسخ: الظاهر نبشها (¬4)، والنسختان متقاربتان؛ لأن نبشها ملازم لتنجيسها. قوله: (وكذلك اختلاف الزوجين في النفقة، ظاهر العادة (¬5) دفعها، والأصل بقاؤها، فغلبنا (¬6) الأول، والشافعي الثاني) (¬7). ش: قوله: (فغلبنا الأول)، راجع إلى المسألتين: مسألة المقبرة، ومسألة ¬
النفقة، وكذلك قوله: [والشافعي الثاني، راجع [إلى] (¬1) المسألتين أيضًا. تقدير الكلام. فغلبنا التنجيس في المقبرة (¬2)، والدفع في] (¬3) النفقة (¬4)، وغلب الشافعي: الطهارة في المقبرة (¬5)، وبقاء النفقة في النفقة (¬6). قوله: ([و] (¬7) نحو (¬8) اختلاف الجاني مع (¬9) المجني عليه في سلامة العضو [أ] (¬10) ووجوده، الظاهر سلامة أعضاء الناس (¬11) ووجودها، والأصل براءة الذمة، فاختلف (¬12) العلماء في جميع ذلك) (¬13). ش: هذا مثال [آخر] (¬14) في تعارض الأصل والظاهر (¬15). قوله: (الظاهر سلامة العضو ووجوده) (¬16)، يحتوي على مسألتين: ¬
الأولى: اختلافهما في سلامة العضو وبطلانه. الثانية (¬1): اختلافهما في وجود العضو وعدمه. مثال اختلافهما في السلامة والبطلان: أن (¬2) يقول المجني عليه: يدي سالمة (¬3) حتى ضربتني فيها، ويقول الجاني: يدك شالَّة (¬4) قبل أن أضربك فيها. ومثال اختلافهما في وجود العضو وعدمه: أن يقول المجني عليه: يدي باقية (¬5) حتى ضربتني فيها. ويقول الجاني: يدك مقطوعة قبل أن أضربك فيها. أما اختلافهما في سلامة العضو وشلله (¬6): فتصوره ظاهر. وأما اختلافهما في وجود العضو وعدمه مع تحقق الجناية: فلا يتصور، فإن تحقق الجناية على العضو يستدعي وجود العضو بالضرورة. قوله: (واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى، فإِن الأصل براءة الذمة، والغالب المعاملات، لاسيما إِذا كان المدعي من أهل الدين والورع، واتفقوا على تغليب الغالب على الأصل في البينة، فإِن الغالب صدقها، والأصل براءة الذمة) (¬7). ¬
[ش:] (¬1) هذا بين المسألة الأولى: فيما إذا ادعى عليه دينًا من غير بينة. والمسألة الثانية: فيما إذا ادعى عليه دينًا ببينة (¬2). قوله: (فائدة: الأصل أن يحكم الشرع بالاستصحاب، أو بالظهور (¬3) إِذا انفرد عن المعارض) (¬4). ش: قوله: (بالاستصحاب)، أي: باستصحاب الحكم الشرعي، أو العقلي، وهو البراءة الأصلية. قوله: (إِذا انفرد عن المعارض)، أي: إذا انفرد كل واحد منهما [عن] (¬5) دليل (¬6) يعارضه. مثال استصحاب الحكم الشرعي: إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، ولا بينة له أصلاً، وأنكر السيد ذلك، فلا يعتق؛ إذ الأصل استصحاب [حال] (¬7) الملك. [(¬8) ومثاله أيضًا: إذا ادعت المرأة أن زوجها قد طلقها، ولا بينة لها أصلاً، وأنكر الزوج ذلك، فلا تطلق بذلك؛ إذ الأصل استصحاب حال العصمة. ¬
هذا مثال استصحاب وجود الحكم الشرعي. وأما مثال استصحاب عدم الحكم الشرعي، وهو استصحاب الحكم العقلي: فهو إذا ادعى رجل على رجل أنه عبده، ولا بينة له على ذلك، وأنكر المدعى عليه ذلك، فلا يكون رقيقًا؛ إذ الأصل عدم الرق. ومثاله أيضًا: إذا ادعى رجل على امرأة أنها امرأته، ولا بينة له أصلاً، وأنكرت المرأة ذلك، فلا تكون امرأته بذلك؛ إذ الأصل عدم الزوجية. وهذا كله مثال الاستصحاب المنفرد عن دليل يعارضه] (¬1). و [أما] (¬2) مثال الظهور المنفرد عن المعارض، فكما إذا عرَّف صاحب اللقطة عفاصها ووكاءها (¬3)، فإنها تعطى له بغير يمين على المشهور (¬4)؛ لأن معرفة العفاص والوكاء ظاهر في صدق مدعي اللقطة (¬5). ومثاله أيضًا: إذا ادعى أحد المتبايعين سكة بلدهما الذي وقع فيه التبايع، وادعى الآخر سكة أخرى، فادعاء سكة البلد ظاهر في صدق مدعيها. ومثاله أيضًا: من ادعى على رجل أنه وهب له كذا، أو أعاره كذا بشيء (¬6) في يد مالكه، وأنكر [مالك الشيء] (¬7) ذلك، فإن [بقاء ذلك] (¬8) الشيء في يد ¬
مالكه ظاهر في صدق مالكه (¬1). قوله: (وقد استثنى (¬2) [مالك رحمه الله] (¬3) من ذلك أمورً [ا] (¬4) لا يحكم فيها إِلا بمزيد (¬5) ترجيح يضم (¬6) إِليها (¬7) (¬8). أحدها (¬9): ضم اليمين إِلى النكول، فيجتمع الظاهران) (¬10). [ش:] (¬11) قوله: (وقد استثنى مالك من ذلك)، أي من الاستصحاب والظهور. [و] (¬12) قوله: (أمورًا)، أي: أمورًا من الاستصحاب، وأمورًا من الظهور. قوله: (فيجتمع الظاهران)، أي ظاهر اليمين وهو الصدق، وظاهر النكول وهو الكذب، ولا يحكم بمجرد النكول. [[مثاله: إذا ادعى رجل على رجل دينًا فأنكر [هـ] (¬13)، فتوجهت ¬
اليمين على المنكر فنكل، فظاهر نكوله]] (¬1) ثبوت الدين [عليه] (¬2)، ثم توجهت اليمين بعد النكول على مدعي (¬3) [الدين] (¬4) فحلف، فظاهر يمينه ثبوت الدين [أيضًا] (¬5)، فقد اجتمع الظاهران على ثبوت الدين. ولا يحكم بمجرد [ظهور] (¬6) نكول المدعى عليه، حتى يضم إليه يمين صاحب الدين. وكذلك إذا أقر بثبوت الدين عليه، وادعى أنه [قد] (¬7) غرمه، فنكل صاحب الدين عن اليمين على بقاء دينه، فظاهر نكوله سقوط الدين، ثم حلف الذي عليه الدين على غرمه، فظاهر يمينه أيضًا سقوط الدين عنه، فقد اجتمع الظاهران على سقوط الدين أيضًا، ولا يحكم بمجرد [ظهور] (¬8) نكول صاحب الدين، حتى يضم إليه (¬9) يمين الذي عليه الدين. قوله: (وثانيهما: تحليف (¬10) المدعى عليه (¬11)، فيجتمع استصحاب البراءة، مع ظهو [ر] (¬12) اليمين) (¬13). ¬
[ش:] (¬1) وهذه المسألة هي التي تقدم مثالها فيمن ادُّعي عليه بدين (¬2)، فأنكره (¬3) يعني: لا يحكم فيها بمجرد البراءة الأصلية، فلا بد (¬4) من اليمين، أي: لا بد من يمين الذي عليه الدين. قوله: (وثالثها: اشتباه الأواني والأثواب، يجتهد فيها على الخلاف، فيجتمع الأصل، مع ظهور الاجتهاد) (¬5). ش: أي: إذا التبست الأواني الطاهرة من (¬6) الأواني النجسة (¬7)، أو التبست الثياب الطاهرة من (¬8) الثياب النجسة (¬9)، فالأصل الطهارة، ولكن لا يحكم مالك فيها بمجرد الأصل، فلا بد من الاجتهاد فيها (¬10). قال ابن الحاجب في الفروع: وإذا اشتبهت الأواني، قال سحنون: يتيمم ويتركها (¬11)، وقال مع ابن الماجشون (¬12): يتوضأ ويصلي حتى تفرغ (¬13)، ¬
زاد ابن مسلمة: ويغسل أعضاءه (¬1) مما قبله (¬2)، ابن المواز وابن سحنون (¬3) يتحرى (¬4) كالقبلة (¬5)، ابن القصار مثلهما إن كثرت، ومثل ابن مسلمة [إن] (¬6) قلت (¬7)، فإن تغير اجتهاده بعلم عمل عليه، وبظن، قولان كالقبلة (¬8)، [[وإذا [اختلف] (¬9) اجتهاد (¬10) رجلين (¬11) في ذلك، لم يجز أن يؤم أحدهما الآخر]] (¬12). ويتحرى في الثياب، وقال ابن الماجشون:/ 366/ يصلي بعد [د] (¬13) النجس ¬
وزيادة ثوب (¬1). انتهى نصه (¬2). قوله: (ويكتفى في القبلة بمجرد الاجتهاد؛ لتعذر انحصار القبلة في جهة حتى تستصحب (¬3) فيها). ش: أي: يكتفى في القبلة بمجرد [ظهور] (¬4) الاجتهاد؛ إذ ليس هناك [جهة] (¬5) تستصحب القبلة فيها. فلا (¬6) يقال: الأصل بقاء القبلة في جهة حتى يدل الدليل. قال ابن الحاجب: وليس (¬7) للمجتهد تقليد غيره، فإن أغمي عليه، ففي تخييره، أو أربع (¬8) صلوات، أو تقليده، ثلاثة أقوال. انتهى (¬9). قوله: (وأما أدلة وقوع الأحكام بعد (¬10) مشروعيتها، فهي أدلة وقوع أسبابها، وحصول شروطها، وانتفاء موانعها، وهي غير محصورة. وهي: ¬
إِما معلومة بالضرورة، كدلالة [زيادة] (¬1) الظل على الزوال، وإِكمال (¬2) العدة على [الهلال] (¬3)، وإِما مظنونة كالإِقارير والبينات، والنكول والأيمان (¬4)، والأيدي على الأملاك، وشعائر الإِسلام عليه [الذي] (¬5) هو (¬6) شرط في الميراث، وشعائر الكفر عليه، وهو مانع [من] (¬7) الميراث، وهو (¬8) باب لا يعد ولا يحصى) (¬9). ش: لما فرغ المؤلف رحمه الله من أدلة الشروع (¬10) شرع في أدلة الوقوع، [فقسم] (¬11) أدلة الوقوع على (¬12) قسمين: إما معلومة، وإما مظنونة. فالمراد بأدلة الوقوع: وجود الأ [سبا] (¬13) ب والشروط وعدم الموانع، وهذه الأدلة لا تنحصر ولا تتناهى. مثال وقوع الأسباب: كزيادة الظل؛ لأنه دليل على السبب الذي هو ¬
الزوال، والزوال دليل على وجوب الظهر، فزيادة الظل دليل الدليل، سماه المؤلف دليلاً مع أنه دليل الدليل؛ لأن دليل الدليل هو دليل على المدلول لما بينهما من الملازمة. وكذلك إكمال عدة أيام شعبان، دليل على السبب الذي هو استهلال (¬1) شهر رمضان، الذي هو دليل على وجوب الصوم، فإكمال العدة دليل الدليل، كما تقدم. ومثال الشروط: كالطهارة (¬2) مثلاً، فدلالتها تقدم فعلها على الصلاة. ومثال الموانع: كالحيض، فإنه مانع من الصلاة، فدلالة عدمه انقطاعه حسًا [أ] (¬3) ومعنى، وغير (¬4) ذلك. قوله: (وإِما مظنونة كالأقارير) (¬5)، وذلك أن الإقرار (¬6) دليل على الملك، الذي هو شرط في التصرف، الذ [ي] (¬7) هو الحكم. [وكذلك البينات دليل على الملك، الذي هو شرط في التصرف، الذي هو الحكم. وكذلك الأيمان والنكولات دليل على الملك، الذي هو شرط في التصرف، الذي هو الحكم] (¬8). ¬
قوله: (والأيدي على الأملاك)، [أي] (¬1): الحيازة دليل على الملك، الذي هو شرط في التصرف. فقوله: على الأملاك، متعلق (¬2) بالخمسة (¬3) التي هي: الأقارير، والبينات، والأيمان، والنكولات، والأيدي. قوله: (وشعائر الإِسلام عليه)، [أي على الإسلام] (¬4)، فإن الصلاة مثلاً دليل على الإسلام، الذي هو [شرط] (¬5) في الميراث (¬6). والشعائر: هي المعالم والأدلة. قوله: (وشعائر الكفر عليه)، أي على الكفر، فإن عبادة الصنم مثلاً دليل على الكفر، [الذي] (¬7) هو مانع (¬8) [من] (¬9) الميراث. قوله: (وهو باب لا يعد ولا يحصى)، أي: باب أدلة وقوع الأحكام [باب] (¬10) لا يعد ولا يحصى. ... ¬
الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان
قوله: الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان هذا هو الفصل الثاني من الفصلين اللذين (¬1) حصر فيهما المؤلف الباب العشرين (¬2) في قوله: (الباب العشرون (¬3) في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين (¬4) في الأعيان، وفيه فصلان) (¬5). [بين الفصل الأول، وشرع ها هنا في بيان الثاني] (¬6). قوله: (في الأعيان)، يعني: وفي المنافع. قوله: ([وهي] (¬7) إِما نقل، [أ] (¬8) و [إِ] (¬9) سقاط، أو قبض، أو إِقباض (¬10)، أو التزام، أو خلط، أو إِنشاء ملك، أو اختصاص (¬11)، أو ¬
إِذن، أو إِتلاف، أو تأديب، [أ] (¬1) وزجر) (¬2). ش: قوله (¬3): (النقل، ينقسم إِلى ما هو بعوض (¬4) في الأعيان، كالبيع، والقرض، أو في المنافع: كالإِجارة، ويندرج فيها (¬5): المساقاة، والقراض (¬6)، والمزارعة (¬7)، والجعالة، وإِلى ما هو بغير عوض: كالهدايا، والوصايا (¬8)، [والعمرى (¬9)، والهبات [والصدقات] (¬10)، والكفارات] (¬11)، والزكاة (¬12)، والغنيمة، والمسروق من أموال الكفار) (¬13). ¬
ش: قوله: (ويندرج فيها (¬1))، أي في الإجارة (¬2)، وهذه الأشياء كلها فيها نقل الملك إلى غير مالكه، إما ملك الرقبة، وإما ملك المنفعة. قوله: (الإِسقاط، إِما بعوض: كالخُلْع (¬3)، والعفو على مال، والكتابة، وبيع العبد من نفسه، والصلح على الدين، والتعزير (¬4)، فجميع هذه تسقط الثابت، ولا تنقله للباذل. أو بغير عوض: كالإِبراء (¬5) من الدين (¬6)، والقصاص، والتعزير (¬7)، وحد (¬8) القذف، والطلاق، والعتاق، وإِيقاف المساجد، فجميع هذه تسقط الثابت ولا تنقله) (¬9). ش: انظر ما الفرق بين النقل والإسقاط؟ مع أن البائع مثلاً إذا باع شيئًا فقد نقل ملكه إلى ملك المشتري، وقد أسقط عن المبيع ملكه، وبماذا يمتاز النقل عن الإسقاط؟ واعلم أن النقل [يكون] (¬10) فيه من التصرف للمنقول (¬11) إليه مثل ما كان ¬
للناقل، كالبيع والهبة والصدقة، فإن المبتاع والموهوب له والمتصدق عليه يجوز له أن يتصرف في ذلك [بكل] (¬1) ما يجوز للبائع والواهب والمتصدق، بخلاف الإسقاط، كالطلاق والعتاق، فإن المطلقة لم ينقل إليها إباحة وطء نفسها، وكذلك العبد المعتق لم ينقل إليه إباحة [بيع] (¬2) نفسه، بل يسقط ما كان على المرأة (¬3) من العصمة، وما كان على [العبد] (¬4) من الملك، ولم يصر يملك نفسه (¬5). وقال بعض الأشياخ: ها هنا خمسة أقسام، وهي: إما نقل وحده، وإما إسقاط وحده، وإما نقل في مقابلة نقل (¬6)، وإما إسقاط في مقابلة إسقاط، / 367/ وإما نقل في مقابلة إسقاط. فالنقل وحده كالهبة والصدقة (¬7). والإسقاط وحده كالطلاق والعتاق (¬8) (¬9)، والنقل (¬10) في مقابلة النقل كالبيع (¬11). والإسقاط (¬12) في ¬
مقابلة الإسقاط (¬1) كالمقا [صة في] (¬2) الديون (¬3) (¬4)، والنقل (¬5) في مقابلة الإسقاط (¬6)، كالخلع والعفو على (¬7) مال (¬8). وها هنا ثلاث (¬9) مسائل اختلف فيها العلماء (¬10)، هل هي من باب النقل أو من باب الإسقاط؟ المسألة الأولى (¬11): الإبراء من الدين، هل يفتقر إلى القبول فلا يبرأ من الدين حتى يقبل، أو يبرأ (¬12) من الدين إذا أبرأه وإن لم يقبل؟ فمن جعله من باب الإسقاط، قال: لا يحتاج إلى القبول، كالطلاق والعتاق، فإن الطلاق والعتاق ينفذ [ان] (¬13) وإن كرهت المرأة والعبد. ومن جعله من باب النقل وأنه تمليك لما في ذمة المديان، قال: يحتاج إلى القبول كما لو ملكه (¬14) عينًا (¬15) ¬
بالهبة أو غيرها، لا بد من رضاه وقبوله. قال المؤلف في القواعد [السنية] (¬1): وظاهر المذهب: اشتراط القبول (¬2). المسألة الثانية (¬3): الوقف، هل يفتقر إلى القبول، أم لا؟ فمن جعله من باب الإسقاط، قال: لا يفتقر إلى القبول؛ لأن الواقف [أسقط (¬4) حقه من المنافع في الشيء الموقوف كالطلاق والعتاق. ومن جعله من باب النقل قال: يفتقر إلى القبول؛ لأن الواقف] (¬5) ملك منافع الشيء الموقوف للموقوف عليه، فهو تمليك، فيفتقر إلى القبول، كالبيع والهبة. وهذا إذا كان الموقوف عليه معينًا، وأما غير المعين فلا يشترط قبوله لتعذره. وهذا كله في منافع الموقوف، وأما أصل ملكه فظاهر مذهب مالك: أنه باقٍ على ملك الواقف؛ لأن مالكًا رحمه الله أوجب الزكاة في الحائط الموقوف على غير معين، كالفقراء والمساكين، إذا كان فيه خمسة أوسق، بناء على أنه ملك للواقف، فيزكي على ملكه (¬6). المسألة الثالثة (¬7) (¬8): إذا أعتق أحد عبيده، أو طلق إحدى نسائه، هل يعم ¬
العتق جميع عبيده، [أ] (¬1) ويعم الطلاق جميع (¬2) نسائه، أو يختار واحدًا من العبيد وواحدة من النساء؟ خلاف (¬3) بين العلماء. والمشهور من مذهب مالك: أنه (¬4) يختار أحد عبيده، ويعم الطلاق جميع نسائه (¬5) (¬6). انظر (¬7) ابن الحاجب [في قوله] (¬8) في كتاب الطلاق: [و] (¬9) في إحداكن (¬10) طالق [أو] (¬11) امرأته طالق، ولم ينو (¬12) معينة (¬13)، [قال المصريون (¬14) عنه يطلقن، وقال المدنيون يختار واحدة كالعتق. انتهى] (¬15) (¬16). والفرق بين الطلاق والعتق (¬17): أن الطلاق إسقاط خاصة، بخلاف العتق ¬
فإنه إسقاط وقربة. انظر الفرق [التاسع والسبعين] (¬1) من القواعد السنية (¬2) (¬3). قوله: (القبض، [وهو] (¬4) إِما بإِذن الشرع وحده: كاللقطة، والثوب إِذا ألقته الريح (¬5) في (¬6) دار إِنسان، ومال اللقيط، وقبض المغصوب من الغاصب، وأموال الغائبين، وأموال بيت المال، والمحجور عليهم، والزكوات) (¬7) (¬8). ش: [قوله] (¬9): (وهو إِما بإِذن الشرع)، المراد بالإذن (¬10) ها هنا جواز الإقدام؛ لأن هذه الأشياء واجبة. قوله: (ومال اللقيط)، كإذا كان مع اللقيط دنانير، أو دراهم، أو غيرها. [قوله: (وقبض المغصوب من الغاصب)؛ لأن الشرع أذن (¬11) للحاكم أن ¬
يقبض المغصوب من الغاصب ويرده إلى صاحبه] (¬1) (¬2). قوله: (وأموال الغائبين)، أي يقبضها الحاكم، أو ورثة الغائب، حتى يجيء الغائب. قال المؤلف في شرحه: ويلحق بالغائبين المحبوسون (¬3) الذين لا يقدرون على حفظ أموالهم، فتحفظ لهم أموالهم، وكذلك المودع إذا مات وترك الوديعة، وورثته (¬4) غائبون، ومات الذي [هي] (¬5) عنده، فالإمام أولى بحفظها. وأما إذا كان الذي هي عنده حيًا، فيحتمل أيضًا أن يقال: الإمام أولى من الذي هي عنده؛ لأن إذن المودع قد انقطع بموته (¬6)، وهذا هو ظاهر الفقه (¬7). ويحتمل أن يستصحب حفظه [لها] (¬8) حتى يوصلها لمستحقها. وكذلك قبض المضطر ما يدفع (¬9) به ضرورته (¬10) [هو] (¬11) أيضًا بإذن الشرع. ¬
وكذلك قبض الإنسان مال من ظلمه في ماله، إذا ظفر بجنس حقه، أو بغير جنسه، على الخلاف في ذلك (¬1). [وقد أشار ابن الحاجب إلى هذا الخلاف في كتاب الوديعة، فقال: وإذا استودعه من ظلمه بمثلها، فثالثها: الكراهة، ورابعها: الاستحباب، وقال الباجي: والأظهر الإباحة لحديث هند] (¬2) انتهى نصه (¬3). وهذا الخلاف أعم من الوديعة وغيرها. قوله: (وأموال بيت المال (¬4) [يقبضها الحاكم] (¬5))، أي يقبضها الحاكم ويحفظها في بيت المال. قوله: (والمحجور عليهم)، أي يقبضها الولي. قوله: (والزكوات) (¬6)، أي يقبضها السعاة. قوله: (أو بإِذن غير الشرع: كقبض المبيع (¬7) بإِذن البائع، والمستأجر (¬8)، ¬
والبيع الفاسد (¬1)، والرهون (¬2) والهبات، والصدقات، والعواري، والودائع) (¬3). ش: هذا قسم ثان في القبض، [وهو القبض] (¬4) بإذن غير الشرع. قوله: (والمستأجر) بفتح الجيم، وهو قبض الشيء المستأجَر بإذن المستأجر (¬5). وفي بعض النسخ: والمستام، وهو (السلعة) (¬6) المعرضة للسوم (¬7)، ويقال: المستام (¬8) للذي يعرض سلعته للسوم (¬9). قوله: (أو بإِذن غير الشرع)، بل نقول: هذه الأشياء كلها فيها أيضًا إذن الشرع. قوله: (أو بغير إِذن من (¬10) الشرع، ولا من غيره، كالغصب) (¬11). ش: هذا قسم ثالث [من القبض] (¬12) وهو القبض بغير إذن من الشرع، ولا من غيره: كالغصب، والسرقة. ¬
ذكر المؤلف في القبض ثلاثة أقسام: إذن الشرع، وإذن غير الشرع، وما ليس فيه إذن من الشرع، ولا من غيره. وهناك قسم رابع: ليس فيه إذن ولا منع (¬1)، لا من (¬2) الشرع ولا من غيره كمن قبض شيئًا يعتقد أنه ماله، وهو في نفس الأمر ليس بماله. فلا يقال: إن الشرع أذن له في قبضه، بل يقال: عفا عنه فقط (¬3) لعدم العلم، فإن التكليف مع عدم العلم تكليف بما لا يطاق، وهو مرفوع عن (¬4) هذه الأمة. وإنما يقال في مثل هذا: عفا عنه الشرع بإسقاط الإثم. ومثاله أيضًا: من وطئ أجنبية يظنها امرأته، أو قتل إنسانًا خطأ، أو فعل شيئًا ناسيًا. فلا يقال في هذا كله: إن الشرع أذن للفاعل فيه، بل عفا عنه؛ إذ لا حكم لله تعالى في أفعال الخطأ والنسيان، فأفعال الخطأ والنسيان كأفعال البهائم، فليس فيها/ 368/ إذن ولا منع (¬5). قوله: (الإِقباض: [إِما] (¬6) بالمناولة (¬7) في [العروض والنقود، أو] (¬8) ¬
بالكيل (¬1) والوزن (¬2) في الموزونات والمكيلات، [أ] (¬3) وبالتمكين في العقار والأشجار، [أ] (¬4) وبا [لنية] (¬5) فقط، كقبض الوالد وإِقباضه من نفسه لنفسه (¬6) لولده (¬7) (¬8)). ش: القبض والإقباض متلازمان (¬9)، فما كان من جهة الدافع فهو إقباض، وما كان من جهة المدفوع إليه فهو قبض، وإنما جعلهما المؤلف قسمين؛ لما بينهما من العموم والخصوص، فإن القبض قد يوجد من غير إقباض كاللقطة ونحوها، ولا يوجد الإقباض إلا ومعه قبض، فكل إقباض معه قبض، وليس كل قبض معه إقباض، فالقبض أعم (¬10). قوله: (أو بالنية) إلى قوله: (لولده)، معناه كقبض الوالد من نفسه، وإقباض لنفسه ما وهبه لولده، أو تصدق به على ولده، أو حبسه على ولده، أو باعه لولده، فإن قبض الوالد ذلك كله من نفسه نيابة عن ولده الذي في ¬
حجره، ثم يقبض (¬1) أيضًا ذلك لنفسه بالنيابة [عن ولده] (¬2)، وكذلك إذا اشترى الأب مال ولده، فالقبض فيه والإقباض بالنية. وكذلك بيع المرتهن [الرهن] (¬3) بإذن الراهن، وتقاضي دينه من ذلك، فقد اتحد فيه القابض والمقبوض؛ لأن المرتهِن قبض الثمن من المشتري، وأقبضه لنفسه عن دينه. وكذلك إذا كان للمديان حق في يد ربِّ الدين، فيأمره بقبضه من يده لنفسه، ففيه أيضًا قبض وإقباض بالنية؛ لأنه قبض ذلك من نفسه وأقبضه لنفسه (¬4). قوله: (الالتزام بغير عوض: كالنذر، والضمان بالوجه، أو بالمال) (¬5). ش: سكت المؤلف عن الالتزام بعوض، مثاله: الضمان برهن يكون عند (¬6). قوله: (الخلط، إِما شائع، أو بين الأمثال، وكلاهما شركة) (¬7). ش: أي: إما شائع في جميع المشترك: كالعبد المشترك، أو الفرس ¬
المشترك، أو الدار المشتركة؛ لأنه [قد] (¬1) خلط نصيب شريكه بنصيبه (¬2) (¬3). قوله: (أو بين الأمثال)، أي: وإما خلط شائع بين الأمثال: كالزيت المخلوط بمثله، أو البر المخلوط بمثله، فالشياعة معنوية، والخلطة حسية. بخلاف خلط الغنم ونحوها (¬4)، فإنه ليس بشركة، بل هو خلط يوجب أحكامًا أخر غير الشركة (¬5) في باب الزكاة (¬6). قوله: (إِنشاء الأملاك في غير المملوك (¬7): كإِرقاق الكفار وإِحياء الموات (¬8) والاصطياد، والحيازة في الحشيش، ونحوه) (¬9). ش: قوله: (ونحوه) (¬10) كالحطب والماء ونحوه من مباحات الأرض، ومن ذلك حيازة المعادن على أنواعها، وكذلك حيازة اللآلئ (¬11) والجواهر من البحار، وغير ذلك من نفائس الأحجار (¬12). قوله: (الاختصاص بالمنافع: كالإِقطاع (¬13) والسبق إِلى المباحات، ¬
ومقاعد (¬1) الأسواق، والمساجد، ومواضع النسك، كالمطاف (¬2) والسعى وعرفة، ومزدلفة (¬3) ومنى، ومرمى الجمار، والمدارس، والربط (¬4)، والأوقاف) (¬5). ش: قوله: كالإقطاع، كما [إذا] (¬6) قاطع الإمام قومًا بأرض يحرثونها ويغرسونها (¬7) ويختصون [بها] (¬8) عن غيرهم، وذلك في المنفعة دون أن يملكهم رقبتها؛ لما تعلق برقبتها (¬9) من حقوق المسلمين. وهذا في أرض العنوة، وأما الأرض (¬10) التي انجلى عنها أهلها بغير قتال، ¬
أو كانت في الفيافي البعيدة عن العمران مما لم تبلغه أخفاف الإبل، فللإمام (¬1) أن يملك رقبتها (¬2). قوله: (والسبق إِلى المباحات)، كالسبق إلى منافع المواضع المباحات كالحطب والحشيش (¬3). قوله: (ومقاعد الأسواق) إلى آخر الأمثلة، هو من باب الإتيان بالخاص بعد العام؛ لأن ذلك كله من المواضع المباحات. ويُلْحَق بذلك: الاختصاص بالخانات المسبلة في الطرقات، لقوله تعالى: {لَيْسَ [عَلَيْكُمْ] (¬4) جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ (¬5) لَكُمْ} (¬6). وكذلك الاختصاص بجلد الميتة، وكلب الصيد، والأرواث النجسة، فإنا وإن منعنا (¬7) من بيعها، فإنا نمنع من أخذها ممّن حازها لينتفع (¬8) بها (¬9). ¬
قال المؤلف في شرحه: قولنا: الاختصاص ببيوت المدارس والخواني، معناه: أن لهم أن ينتفعوا بذلك؛ لا أنهم (¬1) يملكون تلك المنافع؛ فلذلك كان لهم أن يسكنوا، وليس لهم أن يؤجروا، ولا أن يسكنوا غيرهم ممن لم يقم بشرط (¬2) الواقف، فإن بذل المنفعة للغير بعوض أو بغير عوض فرع ملكها، وهو ليس بحاصل، بل له أن ينتفع بنفسه إذا قام بشرطها [فقط، دون] (¬3) أن ينقل المنفعة لغيره (¬4). قوله: (الإِذن، إِما في الأعيان: كالضيافات، والمنائح (¬5). أو [في] (¬6) المنافع: كالعواري، والاصطناع (¬7) بالحلق (¬8) والحجامة. أو في التصرفات (¬9) .. كالتوكيل، [والإِبضاع] (¬10)، [والإِيصاء]) (¬11) (¬12). ش: قوله: (كالضيافات)، أي طعام الضيف؛ لأن تقديم الطعام ¬
للضيف إذن له في أكله. قال المؤلف في الشرح: الصحيح أن تقديم الطعام للضيف إذن له في تناوله، واشتراط بعضهم الإذن بالقول قياسًا على البيع، [وهو] (¬1) بعيد، وله أن يأكل بنفسه، وليس له أن يبيع، ولا أن يعطيه لغيره، ولا أن يأكل فوق حاجته؛ لأن العادة إنما [د] (¬2) لت على تناوله لنفسه فقط مقدار حاجته، فلا يتعدى موجب الإذن؛ لأن الأصل استصحاب الملك السابق بحسب الإمكان. ونقل عن الشافعية خلاف في الزمان الذي يحصل به الملك [للضيف] (¬3): [هل] (¬4) بالتقديم (¬5) أو [بالازدراد؟ (¬6) (¬7) ولا معنى ¬
للقول] (¬1) بالازدراد (2)؛ لأن الملك هو إذن الشارع في التصرف، وبعد الازدراد (¬2) انقطع ذلك، بل مقتضى الفقه أن يقال: لا ملك ها هنا البتة، بل أذن في أن يتناول بأكله مقدار حاجته. ويلحق بذلك/ 369/ ما دلت العادة على الإذن فيه، كإطعام (¬3) الهر ونحوه، فالعادة كالقول في الإذن، فكلُّ ما دلت العا [دة] (¬4) عليه فهو كالمصرح به، في هذا و [في] (¬5) غيره. ولذلك إن كتب الرسائل [التي] (¬6) تسير (¬7) للناس، تلك الأوراق كانت (¬8) على ملك مرسلها. وذكر الغزالي: أنها بعد الإرسال يحتمل أن تكون انتقلت إلى ملك المرسل إليه، ويحتمل أن يقال: إنها لم يحصل فيها إلا إسقاط الملك السابق، وبقيت بعد تحصيل المقصود منها مباحة للناس أجمعين، ما لم يكن فيها سر وما يحافظ عليه، فإن كان كذلك فقد تدل العادة على رده لمرسله بعد الوقوف ¬
عليه، وقد تدل على تحفظ الثاني [به من] (¬1) غير رد، وقد تدل العادة على تمليك الثاني لتلك الرقعة، كالتراقيع التي يكتبها الخلفاء والملوك؛ لتشريف المكتوب إليه، فإنها تبقى عند الأعقاب؛ تذكيرًا لذلك الشرف وعظم المنزلة. فكل ما دلت عليه العادة [من] (¬2) ذلك اتبع، وكان كالمنطوق به (¬3). والحاصل من كلام الغزالي: أن تلك الأوراق لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن تكون [من] (¬4) كتب الملوك التي (¬5) تدل على تشريف المكتوب إليه. وإما أن تكون مشتملة على ما يكره المكتوب إليه اطلاع الناس عليه. وإما أن تكون عارية من الوجهين المذكورين. فأما التي (¬6) تدل على تشريف المكتوب [إليه] (¬7) من كتب الملوك فهي على ملك المكتوب إليه باتفاق. وأما التي تشتمل على ما يكره المكتوب إليه اطلاع الناس عليه: ¬
فيحتمل [أن] (¬1) تكون على ملك المكتوب إليه أيضًا، ويحتمل [أن تكون] (¬2) على ملك المرسل. وأما الخالية من الوجهين المذكورين: فتحتمل [ثلاثة] (¬3) [أوجه] (¬4) (¬5): أن تكون على ملك المكتوب إليه. [أ] (¬6) وأن تكون (¬7) باقية على ملك المرسل. [أ] (¬8) وتكون مباحة لجميع الناس [بعد] (¬9) حصول مقصود المكتوب إليه منها. قوله: ([والمنائح)، يعني] (¬10) كالشاة، تعطى لمن يأكل لبنها (¬11)، والعرية ¬
وهي: [هبة] (¬1) ثمرة النخل (¬2)؛ لأن ذلك إذن في الأعيان. قوله: (والعواري)، كالإسكان: وهو الإذن (¬3) في السكنى (¬4). [[والإعمار: وهو الإذن [في] (¬5) السكنى]] (¬6) مدة العمر (¬7). والإخدام: وهو ¬
الإذن في منافع العبد أو الأمة. والإفقار (¬1): وهو الإذن في ركوب الدابة (¬2). قوله: (والاصطناع بالحلق والحجامة)، أي: أذن للصانع (¬3) أن يحلق شعره أو يحجمه، ويحتمل أن يكون معناه: [أنه] (¬4) أذن له في الاصطناع بآلة الحلق وآلة الحجامة. قوله: (أو [في] (¬5) التصرف): كالتوكيل؛ لأن التوكيل هو إذن للوكيل (¬6) في التصرف. [و] (¬7) قوله: (والإِبضاع) (¬8)؛ لأنه إذن في توصيل البضاعة. [و] (¬9) قوله: (والإِيصاء)؛ لأنه إذن للوصي (¬10) في التصرف في مال الموصي. قوله: (الإِتلاف، إِما للإِصلاح (¬11) في الأجساد والأرواح: كالأطعمة، والأدوية، والذبائح، وقطع الأعضاء المتآكلة. ¬
أو للدفع: كقتل الصوال، والمؤذي من الحيوان، أو لتعظيم الله تعالى: كقتل الكفار لمحو الكفر من قلوبهم، وإِفساد (¬1) الصلبان، أو لتعظيم الكلمة: كقتل البغاة، أو للزجر: كرجم الزناة، وقتل الجناة) (¬2). ش: قوله: (كالأطعمة والأدوية)، أي: كإطعام الأطعمة، والأدوية، وذبح الذبائح، وقطع الأعضاء المتآكلة؛ لأن إتلاف هذه الأشياء لإصلاح الأجساد والأرواح؛ لأن بقاء الروح بصلاح الجسد، وفساد الروح بفساد الجسد عادة أجراها (¬3) الله تعالى. قوله: (أو الدفع)، أي: الإتلاف يكون أيضًا لأجل الدفع، كقتل الصُّوال، والمؤذي من الحيوان. [الصوال: جمع صائل، وهو كل ما له صولة وقوة (¬4). والمؤذي من الحيوان] (¬5): أعم من الصائل؛ فإن (¬6) القملة والبرغوث مؤذيان، وكذلك العقرب والحية، ولا يقال في شيء منها: صائل، فيكون هذا من باب ذكر العام بعد [ذكر] (¬7) الخاص، ومن هذا قتل القط المؤذي (¬8). ¬
قال المؤلف في شرحه: سئل عز (¬1) الدين [بن] (¬2) عبد السلام عن قتل القط المؤذي، فكتب رحمه الله وأنا حاضر (¬3): إذا خرجت إذايته عن عادة القطوط، وتكرر ذلك منه، قتل. وتحرز (¬4) بالقيد الأول: عما [في] (¬5) طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك سائبًا، أو جعل عليه ما يمكن رفعه غالبًا، فإذا رفعه [و] (¬6) أكله [فلا] (¬7) يقتل، وإن تكرر ذلك منه لأ [نه] (¬8) طبعه. واحترز بالقيد الثاني: من أن يكون ذلك منه على وجه الفلتة (¬9)، فإن ذلك لا يوجب قتله، بل القتل إنما يكون في المأيوس (¬10) من صلاحه من الآدميين والبهائم (¬11). وأما كيفية القتل حيث قيل به. ¬
فقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا آذت الهرة وقصد إلى قتلها، فلا تعذب، ولا تخنق، بل تذبح بموسى حادة؛ لقوله عليه السلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" (¬1) (¬2)، وهذا كله بحسب الإمكان، لنهيه عليه السلام عن تعذيب الحيوان (¬3). وانظر على هذا في الحيوان الذي لا يؤكل لحمه، إذا بلغ به المرض إلى حد لا يرجى واشتد به ألمه، هل يذبح تسهيلاً عليه (¬4) ورا [حة له من ألم] (¬5) الوجع، أم لا؟ قال المؤلف في الشرح: الذي رأيته المنع، إلا أن يكون مما يذكى لأخذ جلده كالسباع، وأجمع الناس على منع ذلك في الآدمي، وإن اشتد ألمه. فيحتمل أن يكون ذلك لشرفه، بخلاف غيره (¬6). فقول المؤلف: الذي رأيته، يحتمل أن يكون معناه: الذي رأيته ¬
منصوصًا، وهو الظاهر والله أعلم. ويحتمل أن يكون معناه: الذي رأيته [في] (¬1) رأيي (¬2) (¬3). قالوا: ومن باب الإتلاف: / 370/ ما يتلف من السفن خوف الغرق على النفس (¬4) والمال، فإنه إتلاف لصون النفس والمال (¬5). قوله: (وإِفساد الصلبان)، الصلبان بكسر الصاد: جمع صليب (¬6)، وهي الصور (¬7) التي يعبدها الكفار (¬8) على صورة عيسى عليه السلام (¬9). وكذلك كل ما يعصى الله تعالى به، [من الأوثان، وآلات (¬10) اللهو، وغيرها. ¬
قوله: (أو لتعظيم] (¬1) الكلمة)، كقتل البغاة من أهل الملة، وهم الخوارج (¬2) الذين يخرجون عن طاعة الأئمة بالتأويل (¬3) (¬4)، وسموا بالبغاة: إما لبغيهم واستطالتهم، وإما لأنهم يبغون الحق على زعمهم، أي: يطلبونه، فأمر بقتلهم لتعظيم الكلمة واجتماعها؛ لأنهم فرقوها لخروجهم عن طاعة الإمام (¬5) (¬6). وهذا (¬7) إذا كان الإمام عدلاً، وأما إن كان الإمام غير عدل فلا يقاتلون معه؛ لأن ذلك إعانة له على ظلمه. وقال عليه السلام: "لا طاعة لمخلوق (¬8) في معصية الخالق" (¬9) (¬10). ¬
قال المؤلف في الشرح: ومن باب الإتلاف: قتل الظلمة لدفع ظلمهم، وحسم مادة فسادهم، وتخريب ديارهم، وقطع أشجارهم، وقتل دوابهم، إذا لم يمكن (¬1) دفعهم (¬2) إلا بذلك. وكذلك كل من كان دأبه إذاية (¬3) المسلمين، وتكرر (¬4) ذلك منه، وعظم ضرره وفساده في الأرض، ولم يمكن (¬5) دفعه إلا بقتله، قتل بأيسر الطرق المزهقة لروحه. وكذلك من طلق امرأته ثلاثًا، وكان يهجم على الزنا بها، ولم يقدر على دفعه (¬6) إلا بقتله، قتل بأيسر الطرق في ذلك (¬7). قوله: (التأديب والزجر، إِما مقدر (¬8) كالحدود، أو غير مقدر (¬9) كالتعزير (¬10) وهو مع الإِثم في المكلفين، أو بدونه في الصبيان والمجانين ¬
والدواب) (¬1). ش: قوله: (التأديب والزجر)، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، وقد ينقص عن الحد، وقد يزيد عليه، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. قوله: (وهو مع الإِثم في المكلفين أو بدونه في الصبيان والمجانين)، وذلك مجمع عليه؛ لأن (¬2) الإثم إنما يكون [مع التكليف] (¬3)، والتكليف إنما يناط بالعقلاء، فمن لا عقل له، فلا إثم عليه، غير أنهم لا يتركون على المناكر، وإن كانوا غير مكلفين ولا عاصين (¬4). فالصبي والمجنون يمنعان من شرب الخمر اتفاقًا، ويمنعان من الزنا أيضًا (¬5) اتفاقًا، ويؤدبون على ذلك، ولو وقع ذلك منهم في الخلوة، ولا يسمى ذلك معصية في حقهم لعدم التكليف، فالمنكر أعم من المعصية؛ لأنهم إنما منعوا من ذلك لأنه منكر، والمنكر يجب تغييره، وليس بمعصية لعدم التكليف والإثم، كما تقدم (¬6). قال المؤلف في شرحه: ويلحق بالتأديب: تأديب الآباء والأمهات للبنين والبنات, والأزواج للزوجات. ¬
وكذلك السادات للعبيد والإماء، وذلك يختلف بحسب (¬1) جنايتهم على القوانين الشرعية من غير إفراط. وكذلك الرياضات في سائر الحيوانات (¬2). فمهما حصل ذلك بالأخف من القول أو غيره، فلا يعدل إلى ما هو أشد منه، لحصول المقصود بذلك. فالزيادة على ذلك مفسدة لغير (¬3) مصلحة فتحرم. قال إمام الحرمين: إذا كانت العقوبة المناسبة (¬4) لتلك الجناية لا تؤثر [في] (¬5) استصلاحه (¬6)، فلا يحل أن يزجر أصلاً. أما بالرتبة المناسبة: فلعدم [الفائدة] (¬7). وأما بما هو أعلى منها: فلعدم المبيح له، فيحرم الجميع حتى يتأتى استصلاحه بما يجوز أن يرتب على تلك الجناية (¬8). انتهى نصه (¬9). ¬
قال بعض الأشياخ: يمكن أن تكون الفائدة في ذلك زجر الغير عن الوقوع في مثل ما وقع فيه الجاني. قوله: (فهذه أبواب مختلفة الحقائق والأحكام، فينبغي للفقيه الإِحاطة بها، لتنشأ له الفروق والمدارك في الفروع) (¬1). ش: [قوله] (¬2): فهذه أبواب، وهي اثنا عشر بابًا، وهي قوله: إما نقل أو إسقاط، إلى قوله: أو تأديب أو زجر، فينبغي للفقيه حفظها وفهمها، لتتمكن له الفروق بين المسائل، وتتمكن له المدارك في كل مسألة. [قال واضع هذا الشرح رحمه الله وعفا عنه أبو علي حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الويصلي نسبًا، الشوشاوي لقبًا] (¬3): فهذه فوائد جليلة، وقواعد جميلة، نفع (¬4) الله بها واضعها، وكاتبها، وقاريها، وسامعها، وختم لنا بخير أجمعين، في القول والعمل، بمنِّه وكرمه، وهو حسبنا ونعم الوكيل (¬5)، وصلى الله على سيدنا [ومولانا] (¬6) ¬
محمد خاتم النبيين، و [على] (¬1) آله الطيبين، [وأصحابه الطاهرين] (¬2) وسلم تسليمًا (¬3). ¬
(¬1) ثم قال رحمه الله تعالى: وكان فراغي من تأليف هذا الشرح، ضحى يوم الجمعة الرابع والعشرين من محرم فاتح سبعة وخمسين وثمانمائة. وانتسخت هذه النسخة، من نسخته المبيضة، المكتوبة بيده رحمه الله، وفرغت من نسخها، عشاء يوم الخميس الوافي لسبعة وعشرين ليلةً خلت من شهر جمادى الأولى، عام الخامس والسبعين وثمانمائة. قاله كاتبه لنفسه، ولمن شاء الله بعده من إخواننا العلماء علي بن داود الجزولي، نفعه الله به، وفهمه معناه، واستعمله بضمنه، آمين آمين آمين، وصلى الله على سيدنا محمد، عدد ما أحاط به علمه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. كتبت وقد أيقنت لا شك أنني ... ستبلى يدي ثم الحروف رواتب (¬2) رعى الله أقوامًا قروا فترحموا ... على من له ذا الخط بالكف كاتب (¬3) / 371/ ... ¬
ثبت المراجع
ثبت المراجع أولاً: ثبت مراجع التحقيق من المخطوطات والرسائل الجامعية مرتبة على الحروف الهجائية: 1 - إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي ت (474 هـ)، تحقيق عمران أحمد العربي، يوجد بمكتبة كلية الشريعة بالأزهر، قسم الرسائل الجامعية برقم (711) دكتوراه. 2 - الإشارة في أصول الفقه للباجي ومعه مقدمة ابن القصار في الأصول، تحقيق إبراهيم البربري، يوجد بمكتبة كلية الشريعة بالأزهر، قسم الرسائل الجامعية برقم (389) ماجستير. 3 - إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم للقاضي أبي الفضل عياض ت (544 هـ)، يوجد مخطوطًا بالمكتبة العامة بالرباط برقم (ج 933). 4 - التحصيل لأبي العباس أحمد بن عمار المهدوي ت (440 هـ)، يوجد مخطوطًا بخزانة ابن يوسف بمراكش برقم (658). 5 - التلقين في الفقه للقاضي عبد الوهاب البغدادي ت (422 هـ)، يوجد مخطوطًا بالمكتبة العامة بالرباط برقم (ج 672). 6 - التنبيه على مبادئ التوجيه لأبي الطاهر إبراهيم بن عبد الصمد بن بشير، يوجد مخطوطًا بخزانة القرويين بفاس برقم (1132). 7 - التنبيه على شرح مشكلات الحماسة لأبي الفتح عثمان بن جني ت (392 هـ)، يوجد مصورًا على مايكروفيلم في جامعة الإمام برقم (493/ ف).
8 - تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه لمظفر بن أبي الخير التبريزي ت (621 هـ) تحقيق حمزة زهير حافظ، يوجد بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، قسم الرسائل برقم (541 - 543) دكتوراه. 9 - شرح مختصر ابن الحاجب لمحمد بن عبد السلام التونسي ت (328 هـ) , يوجد بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، الجزء الأول برقم 220 أصول فقه. 10 - سراج المريدين لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي ت (543 هـ) , يوجد بخزانة ابن يوسف بمراكش برقم (697). 11 - شرح الإملاء على معالم أصول الفقه لعبد الله بن محمد الفهري التلمساني ت (644 هـ)، يوجد بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم (261 أصول) فيلم. 12 - شرح تنقيح القرافي لأبي زكريا يحيى بن أبي بكر المسطاسي، يوجد بمكتبة الجامع الكبير بمكناس برقم (352). 13 - شرح الجزولية للشلوبين، تحقيق ناصر عبد الله الطريم، يوجد بمكتبة كلية اللغة العربية بالرياض. 14 - شرح فصيح ثعلب لمحمد بن أحمد بن هشام اللخمي، ت (619 هـ) يوجد بمركز البحث العلمي جامعة أم القرى برقم (241) لغة (ميكروفيلم). 15 - شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب في الأصول، لقطب الدين محمود ابن مسعود الشيرازي بمكتبة الجامع الكبير بمكناس برقم (160). 16 - القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي ت (543 هـ)، يوجد بالمكتبة العامة بالرباط برقم (ج 25). 17 - كاشف الرموز ومظهر الكنوز لمحمد الطوسي، يوجد بمكتبة القرويين بالمغرب برقم (622).
18 - مختصر العين لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي ت (379 هـ) , يوجد بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (8498). 19 - مختصر المنتهى في الفروع لأبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، يوجد بالمكتبة العامة بالرباط برقم (د 787). 20 - المشكاة والنبراس على شرح كتاب الكراس لأبي إسحاق إبراهيم بن عبد السلام العطار من علماء القرن الثامن، يوجد بخزانة القرويين بفاس برقم (507). 21 - المصباح في اختصار المفتاح لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن محمد بن مالك ت (686 هـ) يوجد بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم (4555). 22 - المعلم بفوائد الإمام مسلم لأبي عبد الله محمد المازري، يوجد بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (361). 23 - المعالم في أصول الفقه لفخر الدين محمد بن عمر الرازي ت (606 هـ) , تحقيق موسى عائش أبو الريش، يوجد بمكتبة كلية الشريعة بالأزهر برقم (677) ماجستير. 24 - المعونة في الفقه للقاضي عبد الوهاب البغدادي ت (422 هـ) يوجد بمركز البحث العلمي أم القرى برقم (23) ميكروفيلم. 25 - الملخص في الحكمة لفخر الدين الرازي ت (606 هـ) يوجد بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (3576) ميكروفيلم. 26 - نفائس الأصول في شرح المحصول لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي ت (684 هـ) يوجد بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (8222، 8223) ميكروفيلم. 27 - نفائس الأصول في شرح المحصول لشهاب الدين القرافي، تحقيق
د/ عياض السلمي، يوجد بمكتبة كلية الشريعة بالرياض (دكتوراه). ثانيًا: ثبت مراجع التحقيق من الكتب المطبوعة: 1 - الإبهاج في شرح المنهاج، ابتدأه علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) وأكمله ابنه تاج الدين السبكي، تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل، نشر مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1402 هـ. 2 - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، تأليف أحمد بن محمد البنا (ت 1117 هـ)، تحقيق علي محمد الصباغ، وعبد الحميد أحمد حنفي، نشر المشهد الحسيني بالقاهرة سنة 1359 هـ. 3 - أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار المعرفة للطباعة ببيروت. 4 - أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص، نشر دار الفكر ببيروت. 5 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، تحقيق أحمد شاكر، نشر مطبعة العاصمة بالقاهرة. 6 - الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين الآمدي، بتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، نشر المكتب الإسلامي ببيروت ط 1 سنة 1387 هـ. 7 - أخلاق العلماء لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360 هـ) , المطبعة المصرية سنة 1349 هـ. 8 - الآداب الشرعية والمنح المرعية لمحمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، توزيع إدارة الإفتاء بالرياض، ط سنة 1397 هـ. 9 - أدب الدنيا والدين لأبي الحسن الماوردي (ت 450 هـ)، تحقيق مصطفى السقا، نشر دار الكتب العلمية سنة 1375 هـ. 10 - الأدب المفرد للبخاري، نشر المكتبة السلفية بالقاهرة سنة 1378 هـ. 11 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة لإمام الحرمين الجويني، تحقيق محمد يوسف
موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1369 هـ. 12 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1399 هـ. 13 - إرواء الغليل للألباني، نشر المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1399 هـ. 14 - الأزهية في علم الحروف، تأليف علي بن محمد الهروي المتوفى سنة 370 هـ، تحقيق عبد المعين الملوحي، نشر مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1391 هـ. 15 - الاستغناء في أحكام الاستثناء، لشهاب الدين القرافي، تحقيق طه محسن، مطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1402 هـ. 16 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، طبع بعناية علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر. 17 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، نشر الجمعية التعاونية بمصر سنة 1384 هـ. 18 - أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ)، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1402 هـ. 19 - أسرار العربية، تأليف عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت 577 هـ) , تحقيق محمد بهجت البيطار، نشر مكتبة الترقي بدمشق سنة 1377 هـ. 20 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للملا علي قاري، تحقيق محمد الصباغ، نشر مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1391 هـ. 21 - الأشباه والنظائر للسيوطي، نشر دار الكتب العلمية ببيروت 1399 هـ. 22 - الاشتقاق لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت 321 هـ) , تحقيق عبد السلام هارون، نشر مكتبة الخانجي بمصر سنة 1378 هـ.
23 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، طبع بعناية علي محمد البجاوي، مطبعة دار نهضة مصر. 24 - الأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر، نشر دار المعارف بمصر سنة 1387 هـ. 25 - الأصول في النحو لمحمد بن السري بن السراج (ت 316 هـ) تحقيق عبد الحسين الفتلي، مطبعة النعمان بالنجف سنة 1393 هـ. 26 - أصول السرخسي، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1393 هـ. 27 - أصول الشاشي، نشر دار الكتاب العربي ببيروت سنة 1402 هـ. 28 - إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس، تحقيق د/ زهير غازي زاهد، نشر عالم الكتب ببيروت سنة 1405 هـ. 29 - الأعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، تأليف العباس بن إبراهيم السملالي المراكشي (ت 1378 هـ)، المطبعة الملكية بالرباط سنة 74 - 1977 م. 30 - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، طبعة بولاق سنة 1390 هـ. 31 - كتاب الأفعال لأبي بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية (ت 367 هـ)، تحقيق علي فودة، طبع بمطبعة مصر سنة 1952 م. 32 - الاكتفاء في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء، تأليف الإمام أبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي (ت 634 هـ) , تحقيق مصطفى عبد الواحد، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة 87 - 1389 هـ. 33 - كتاب الأمثال لعامر بن عمران الضبي (ت 250 هـ) , تحقيق رمضان عبد التواب، نشر مجمع اللغة العربية بدمشق. 34 - ألفية ابن مالك، وعليها تعليقات لعدد من العلماء، جمعها موسى بن
محمد، طبع المطبعة النموذجية بمصر. 35 - الأم للشافعي، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1393 هـ. 36 - الأمالي الشجرية لابن الشجري، نشر دار المعرفة ببيروت. 37 - الأمنية في إدراك النية للقرافي، نشر دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1404 هـ. 38 - أمالي المرتضي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع سنة 1373 هـ. 39 - الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين لابن الأنباري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة صبيح بالقاهرة سنة 1373 هـ. 40 - أنوار الربيع في أنواع البديع لعلي صدر الدين معصوم المدني، تحقيق شاكر هادي، مطبعة النعمان بالنجف سنة 1388 هـ. 41 - إنباه الرواة على أنباه النحاة لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر دار الكتب المصرية سنة 1369 هـ. 42 - الأنساب للسمعاني، طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد بالهند سنة 1396 هـ. 43 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت ط 5 سنة 1966 م. 44 - البداية والنهاية لابن كثير، مطبعة السعادة بمصر. 45 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1398 هـ. 46 - بذل المجهود في حل أبي داود، تأليف خليل أحمد السهارنفوري (ت 1346 هـ) نشر دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1393 هـ. 47 - البرهان في أصول الفقه لأبي المعالي الجويني، تحقيق د/ عبد العظيم الديب، توزيع دار الأنصار بالقاهرة سنة 1400 هـ.
48 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لأحمد بن يحيى الضبي (ت 599 هـ)، مطبعة روفس بمدريد سنة 1884 م. 49 - بغية الوعاة في طبقات اللغوين والنحاة للجلال السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1384 هـ. 50 - البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق فوزي عطوى، نشر الشركة اللبنانية سنة 1968 م. 51 - تاريخ العلماء والرواد للعلم بالأندلس للحافظ أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي المعروف بابن الفرضي (ت 403 هـ)، تحقيق السيد عزت العطار الحسيني، نشر مكتبة المثنى ببغداد سنة 1373 هـ. 52 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، مطبعة السعادة بمصر سنة 1349 هـ. 53 - تاريخ الأمم والملوك للطبري، المطبعة الحسنية بالقاهرة سنة 1326 هـ. 54 - تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام لمحمد بن أحمد الذهبي (ت 748 هـ)، تحقيق حسام الدين القدسي، مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1394 هـ. 55 - تاريخ علماء الأندلس لعبد الله محمد بن الفرضي (ت 403 هـ) , نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة سنة 1386 هـ. 56 - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، تحقيق السيد أحمد الصقر، نشر دار التراث بالقاهرة سنة 1393 هـ. 57 - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري لابن عساكر مطبعة التوفيق بدمشق سنة 1347 هـ. 58 - التبصرة والتذكرة للصيمري، تحقيق د/ فتحي أحمد مصطفى، نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى سنة 1402 هـ.
59 - تجريد أسماء الصحابة للذهبي، نشر دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد بالهند سنة 1315 هـ. 60 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، نشر الدار القيمة في بمباي بالهند سنة 1386 هـ. 61 - تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية في المنطق لقطب الدين الرازي، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1367 هـ. 62 - تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه لعبد الله بن محمد الصديقي الغماري الحسني، تحقيق د/ يوسف المرعشلي، نشر عالم الكتب ببيروت سنة 1405 هـ. 63 - تخريج الفروع على الأصول لشهاب الدين الزنجاني (ت 656 هـ)، تحقيق د/ محمد أديب الصالح، نشر مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1402 هـ. 64 - تذكرة الحفاظ للذهبي، بعناية عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1377 هـ. 65 - التذكرة الحمدونية لمحمد بن الحسن بن حمدون (ت 562 هـ) نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1345 هـ. 66 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض، بتحقيق أحمد بكير محمود، نشر دار الحياة ببيروت سنة 1387 هـ. 67 - التعريفات للجرجاني، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1357 هـ. 68 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1388 هـ. 69 - التفسير الكبير للرازي، المطبعة البهية المصرية سنة 1357 هـ. 70 - تقريب التهذيب لابن حجر، بعناية عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر دار المعرفة ببيروت سنة 1395 هـ.
71 - التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ العراقي، بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة العاصمة بمصر سنة 1389 هـ. 72 - التكملة لأبي علي الفارسي، تحقيق الدكتور حسن فرهود، نشر جامعة الملك سعود سنة 1401 هـ. 73 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني، طبع بعناية عبد الله هاشم المدني، شركة الطباعة المتحدة بالقاهرة. 74 - التمثيل والمحاضرة لأبي منصور الثعالبي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، طبع مكتبة الحلبي بمصر سنة 1381 هـ. 75 - التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي، تحقيق مفيد أبو عمشة، نشر مركز البحث بجامعة أم القرى سنة 1406 هـ. 76 - تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث لابن الديبع، نشر دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1401 هـ. 77 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة لأبي الحسن ابن عراق الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق، نشر مكتبة القاهرة. 78 - التنبيه في فقه الشافعية لأبي إسحاق الشيرازي، مطبعة التقدم العلمية بمصر سنة 1348 هـ. 79 - تهذيب إصلاح المنطق للخطيب التبريزي، تحقيق الدكتور فخر الدين قباوة، طبع سنة 1403 هـ. 80 - تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر، تأليف عبد القادر بن بدران، نشر دار المسيرة ببيروت سنة 1399 هـ. 81 - تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لأحمد بن محمد المعروف بابن مكويه المتوفى سنة (421 هـ)، طبع دار مكتبة الحياة ببيروت سنة 1961 م.
82 - تهذيب السنن لابن القيم. 83 - تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، طبع دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الهند، طبع سنة 1325 هـ. 84 - تهذيب اللغة للأزهري لأبي منصور الأزهري، تحقيق عبد السلام هارون، نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر سنة 1384 هـ. 85 - توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، للحسن بن قاسم المرادي المتوفى سنة 749 هـ، تحقيق عبد الرحمن بن علي بن سليمان، طبع مكتبة الكليات الأزهرية بمصر سنة 1971 م. 86 - التوضيح في شرح التنقيح المطبوع بهامش شرح التنقيح للقرافي، لأحمد ابن عبد الرحمن الشهير بابن حلولو القيرواني، المتوفى سنة 898 هـ، طبع المطابع التونسية بتونس عام 1328 هـ. 87 - التوضيح والبيان عن شعر نابغة ذبيان، وهو ديوان النابغة المطبوع بمطبعة السعادة بالقاهرة. 88 - تيسير التحرير لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحنفي، توفي عام 987 هـ، طبع الحلبي بمصر عام 1350 هـ. 89 - التيسير في القراءات السبع لعمرو بن عثمان بن سعيد الداني، طبع دار الكتاب العربي عام 1404 هـ. 90 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر بن سعدي، تحقيق محمد زهدي النجار، طبع بالقاهرة سنة 1986 م. 91 - الجامع الصحيح لمسلم بن الحجاج القشيري طبع دار الفكر بيروت (¬1). 92 - الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة 671 هـ، طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت. ¬
93 - جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لأبي عمرو يوسف ابن عبد البر القرطبي، المتوفى سنة 463 هـ، طبع دار الفكر ببيروت. 94 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، لمحمد بن فتوح محمد بن عبد الله الحميدي المتوفى سنة 488 هـ، تحقيق محمد بن تاديت الطنجي، طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1372 هـ. 95 - جذوة الاقتباس في ذكر من حل مدينة فاس لأحمد بن القاضي المكناسي، طبع دار المنصور للطباعة بالرباط سنة 1974 م. 96 - جمع الجوامع المطبوع مع حاشية البناني لتاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، طبع الحلبي بمصر سنة 1356 هـ. 97 - الجمل في المنطق لأبي عبد الله محمد الخونجي المتوفى سنة 649 هـ، تحقيق سعد غراب، طبع المطبعة العصرية بتونس. 98 - الجمل في النحو للزجاجي، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، المتوفى سنة 337 هـ، تحقيق علي توفيق الحمد، طبع مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1405 هـ. 99 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم. 100 - الجنى الداني في حروف المعاني للحسن بن قاسم المرادي المتوفى سنة 749 هـ، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، طبع دار الآفاق ببيروت الأولى سنة 1393 هـ، والثانية سنة 1403 هـ. 101 - حاشية التفتازاني على شرح الشريف الجرجاني لمختصر ابن الحاجب لسعد الدين التفتازاني، طبع بولاق سنة 1316 هـ. 102 - حسن المحاضرة لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع الحلبي بمصر عام 1387 هـ. 103 - الحلل السندسية في الأخبار التونسية لمحمد بن محمد الوزير السراج،
تحقيق محمد الحبيب الهيلة، طبع دار الكتب الشرقية تونس سنة 1393 هـ. 104 - حلية الكميت في الأدب والنوادر لمحمد بن الحسن المتوفى سنة 859 هـ، طبع المطبعة المنيرية بالقاهرة سنة 1276 هـ. 105 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، طبع دار الكتاب العربي بيروت سنة 1387 هـ. 106 - الحماسة للوليد بن عبيد البحتري المتوفى سنة 284 هـ، تحقيق كمال مصطفى، طبع المطبعة الرحمانية بالقاهرة سنة 1348 هـ. 107 - الحماسة لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي، تحقيق د/ عبد الله عسيلان، طبع دار إحياء الكتب العربية القاهرة سنة 1398 هـ. 108 - الحيوان لأبي عمرو عثمان الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ، تحقيق عبد السلام هارون، طبع الحلبي بمصر سنة 1359 هـ. 109 - الخرشي على مختصر خليل لمحمد بن عبد الله الخرشي المتوفى سنة 1101 هـ، طبع دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة مطبعة بولاق بالقاهرة سنة 1318 هـ. 110 - خزانة الأدب لعبد القادر بن عمر البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ، المطبعة (¬1) الأميرية بولاق سنة 1299 هـ. 111 - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي، طبع بولاق سنة 1291 هـ. 112 - الخصائص لعثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، تحقيق محمد علي النجار، طبع دار الهدى بيروت الطبعة الثانية. 113 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852 هـ، تحقيق عبد الله هاشم المدني، طبع الفجالة بالقاهرة سنة 1382 هـ. ¬
114 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، تحقيق محمد جاد الحق، طبع المدني بالقاهرة سنة 1387 هـ. 115 - الدرر اللوامع على جمع الجوامع لأحمد بن الأمين الشنقيطي، ببيروت سنة 1393 هـ. 116 - درة الغواص في أوهام الخواص، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع دار نهضة مصر للطباعة بالقاهرة، سنة 1975 م. 117 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لإبراهيم بن علي بن فرحون المتوفى سنة 799 هـ، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، طبع عباس بن شقرون (¬1) بالقاهرة سنة 1351 هـ. 118 - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ، تحقيق محمد سيد رضا، طبع بمطابع صبيح بمصر سنة 1380 هـ. 119 - دمية القصر وعصرة أهل العصر لعلي بن الحسن بن علي الباخرزي، تحقيق د/ محمد التونجي، طبع سنة 1394 هـ. 120 - ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ المتوفى سنة 496 هـ، تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، طبع دار صادر بيروت عام 1316 هـ. 121 - ديوان أبي العتاهية، طبع دار صادر بيروت طبع سنة 1384 هـ/ 1964 م. 122 - ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل، الطبعة الثالثة، طبع دار المعارف بمصر. 123 - ديوان ابن حيوس المتوفى سنة 473 هـ، نشر خليل مردام بك، طبع المجمع العلمي سنة 1371 هـ. 124 - ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، المتوفى سنة 54 هـ، تحقيق د/ وليد ¬
عرفات، طبع دار صادر بيروت سنة 1394 هـ. 125 - ديوان جران العود، طبع دار الكتب المصرية، طبع سنة 1350 هـ. 126 - ديوان سحيم عبد بني الحسحاس المتوفى سنة 40 هـ، تحقيق عبد العزيز الميمني طبع الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة. 127 - ديوان عبيد بن الأبرص، طبع دار المعرفة بيروت، طبع سنة 1381 هـ. 128 - ديوان علقمة الفحل شرح الأعلم الشنتمري، تحقيق لطفي الصقال، طبع دار الكتاب العربي حلب طبع سنة 1389 هـ. 129 - ديوان الشريف الرضي المتوفى سنة 406 هـ، طبع مؤسسة الأعلمي بيروت، طبع سنة 1307 هـ. 130 - ديوان قيس بن الخطيم بن عمر المتوفى سنة 2 ق. هـ، تحقيق ناصر الدين الأسد، طبع مكتبة دار العروبة بالقاهرة، طبع سنة 1381 هـ. 131 - ديوان الإمام علي بن أبي طالب جمعه وشرحه الأستاذ نعيم زرزور، طبع دار الكتب العلمية بيروت، طبع سنة 1405 هـ. 132 - ديوان المفضليات لأبي العباس المفضل بن محمد الضبي، تحقيق كارلوس يعقوب الأيل، طبع مطبعة الآباء اليسوعيين، طبع سنة 1920 م. 133 - ديوان المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ، طبع مطابع الحلبي بمصر سنة 1376 هـ/ 1391 هـ. 134 - ديوان المثقب العبدي المتوفى سنة 35 ق. هـ، تحقيق حسني كمال الصيرفي، طبع مجلة معهد المخطوطات العربية، طبع سنة 1391 هـ. 135 - ديوان البحتري المتوفى سنة 282 هـ، تحقيق حسن كامل الصيرفي، طبع دار المعارف بالقاهرة، طبع سنة 92 - 1393 هـ. 136 - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق كرم البستاني، طبع دار صادر بيروت.
137 - الذخيرة، تأليف شهاب الدين القرافي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد السميع أحمد إمام، طبع وزارة الأوقاف بالكويت. 138 - رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد عبد العزيز المالقي المتوفى سنة 702 هـ، تحقيق د/ أحمد الخراط، طبع بمطبعة زيد بن ثابت - دمشق، طبع سنة 1395 هـ. 139 - روضة الناظر لابن قدامة المقدسي، تحقيق د/ عبد العزيز السعيد، طبع مطابع الرياض سنة 1397 هـ. 140 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، المتوفى سنة 581 هـ، طبع مطبعة الجمالية بمصر عام 1332 هـ. 141 - الزاهر ومعاني كلمات الناس لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة 328 هـ، تحقيق حاتم صالح الضامن، طبع دار الرشيد ببغداد. 142 - زهر الآداب لأبي إسحاق الحصري القيرواني، تحقيق زكي مبارك، طبع المطبعة الرحمانية بمصر سنة 1925 م. 143 - زهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن اليوسي، طبع بمطبعة النجاح الدار البيضاء سنة 1401 هـ. 144 - زهر الربيع في المعاني والبديع للحملاوي. 145 - السبب عند الأصوليين للدكتور عبد العزيز الربيعة، طبع مطابع جامعة الإمام عام 1399 هـ. 146 - سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب لأحمد بن عبد الله الشهير بابن أبي غدة، طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 147 - سر الصناعة لأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، تحقيق لجنة
من الأساتذة، طبع بمطابع الحلبي بمصر. 148 - سمط اللآلئ لعبد العزيز الميمني، طبع لجنة التأليف والترجمة بالقاهرة سنة 1354 هـ. 149 - سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع دار إحياء السنة النبوية. 150 - سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 هـ، تحقيق عزت الدعاس، طبع بحمص سنة 1388 هـ, 1394 هـ. 151 - سنن ابن ماجه لمحمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه المتوفى سنة 275 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع الحلبي مصر سنة 1972 م. 152 - سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق عزت الدعاس، طبع مطبعة الأندلس حمص (¬1) سنة 1386 هـ. 153 - سنن الدارمي لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255 هـ، تحقيق محمد أحمد الدهمان، طبع دار إحياء السنة النبوية. 154 - سنن الدارقطني لعلي بن عمر الدارقطني، تحقيق عبد الله المدني، طبع شركة الطباعة الفنية بمصر. 155 - السنن الكبرى لأحمد الحسين بن علي البيهقي، طبع مطبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند سنة 1346 هـ. 156 - سنن النسائي بحاشية الحافظ جلال الدين السيوطي لأحمد بن شعيب المتوفى سنة 303 هـ، طبع المطبعة المصرية بالأزهر الأولى سنة 1383 هـ. 157 - سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي محمد عبد الملك بن هشام المتوفى سنة 218هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع حجازي بالقاهرة سنة 1356 هـ. ¬
158 - سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، طبع مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1401 - 1405 هـ. 159 - شجر النور التركية في طبقات المالكية لمحمد بن محمد مخلوف، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1349 هـ. 160 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب لعبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 هـ، طبع دار السيرة بيروت سنة 1399 هـ. 161 - شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب لجمال الدين عبد الله بن هشام المتوفى سنة 761 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1373 هـ. 162 - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 163 - شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684 هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، طبع شركة الطباعة الفنية بمصر، طبع عام 1393 هـ. 164 - شرح أشعار الهذليين للحسن بن الحسن السكري، توفي سنة 275 هـ، تحقيق عبد الستار فرج ومحمود شاكر، طبع مكتبة دار العروبة بالقاهرة. 165 - شرح التصريح على التوضيح لخالد بن عبد الله الأزهري المتوفى سنة 905 هـ، طبع الحلبي بمصر. 166 - شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح لسعد الدين مسعود بن محمد التفتازاني، توفي سنة 792 هـ، طبع مطبعة محمد علي صبيح بالقاهرة. 167 - شرح ديوان الحماسة لأحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون، طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة بالقاهرة، طبع سنة 1387 هـ.
168 - شرح ديوان زهير بن أبي سلمى لأحمد بن يحيى المشهور بثعلب المتوفى سنة 291 هـ، طبع دار الكتب المصرية، طبع سنة 1363 هـ. 169 - شرح ديوان جرير لمحمد إسماعيل الصاوي، طبع المكتبة التجارية بالقاهرة سنة 1353 هـ. 170 - شرح ديوان المتنبي لعبد الرحمن البرقوقي، طبع دار الكتاب العربي بيروت. 171 - شرح ديوان المتنبي لأبي البقاء العكبري، طبع دار الطباعة الخديوية بمصر سنة 1287 هـ. 172 - شرح ديوان الأخطل لإيليا سليم الحاوي، طبع دار الثقافة بيروت سنة 1388 هـ. 173 - شرح ديوان الفرزدق لعبد الله إسماعيل الصاوي، طبع المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة سنة 1354 هـ. 174 - شرح السلم في المنطق لمحمد بن الحسن البناني، طبع المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1318 هـ. 175 - شرح السنة للحسين بن مسعود الفراء البغوي، المتوفى سنة 516 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، طبع المكتب الإِسلامي سنة 1390 هـ. 176 - شرح شواهد العيني المطبوعة مع خزانة الأدب، طبع المطبعة الأميرية بولاق الطبعة الأولى. 177 - شرح الشفاء للملا علي القاري المتوفى سنة 1014 هـ، تحقيق حسين مخلوف، طبع مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1398 هـ. 178 - شرح شواهد المغني لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد الشنقيطي، طبع دار الحياة بدمشق، طبع سنة 1386 هـ.
179 - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية لعلي بن علي بن محمد الحنفي المتوفى سنة 792 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، طبع المطابع الأهلية بالرياض سنة 1396 هـ. 180 - شرح طيبة النشر في القراءات العشر لأحمد بن محمد الجزري المتوفى سنة 833 هـ، تحقيق علي بن محمد الصباغ، طبع الحلبي في مصر سنة 1396 هـ. 181 - شرح غريب ألفاظ المدونة للجبي، تحقيق محمد محفوظ، طبع دار الغرب الإسلامي - بيروت سنة 1402 هـ. 182 - شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي، طبع المكتبة التجارية بالقاهرة سنة 1356 هـ. 183 - شرح القصائد السبع لأبي بكر الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، طبع دار المعارف بالقاهرة سنة 1383 هـ. 184 - شرح الكافية الشافية لجمال الدين محمد بن مالك، تحقيق د/ عبد المنعم أحمد هويدي، طبع مركز البحث جامعة أم القرى سنة 1402 هـ. 185 - شرح اللمع لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ، تحقيق د/ علي العميريني، نشر دار البخاري في بريدة عام 1407 هـ. 186 - شرح معاني الآثار للطحاوي، طبع المكتبة النحوية - الهند سنة 1369 هـ. 187 - شرح مقصورة ابن دريد للخطيب التبريزي، طبع المكتب الإسلامي سنة 1380 هـ. 188 - شرح المعلقات السبع للحسين بن أحمد الزوزني، طبع صبيح مصر سنة 1403 هـ. 189 - شرح المفصل ليعيش بن علي بن يعيش المتوفى سنة 643 هـ، طبع عالم الكتب - بيروت.
190 - شعر الراعي النميري. تحقيق عز الدين تنوخي، طبع المجمع العلمي - دمشق سنة 1383 هـ. 191 - شعر الأخطل، تحقيق فخر الدين قباوة، طبع مكتبة الأصمعي - حلب سنة 1390 هـ. 192 - شعر الكميت بن زيد الأسدي، جمع داود سلوم، طبع مطبعة النعمان - النجف. 193 - الشعر والشعراء لمحمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر طبع دار المعارف، القاهرة سنة 1386 هـ - 1387 هـ. 194 - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام لمحمد بن أحمد الفاسي المكي، تحقيق نخبة من العلماء والأدباء، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1956 م. 195 - الشفاء للقاضي عياض المتوفى سنة 544 هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت سنة 1399 هـ. 196 - صبح الأعشى للقلقشندي، المطبعة الأميرية، القاهرة سنة 1331 هـ. 197 - صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار لمحمد بن بليهد، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، بيروت سنة 1392 هـ. 198 - صحيح الجامع الصغير للألباني، طبع المكتب الإسلامي، بيروت دمشق سنة 1399 هـ. 199 - الصحاح للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، طبع دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1376 هـ. 200 - الصلة لابن بشكوال. 201 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني، طبع المكتب الإسلامي، بيروت سنة 1399 هـ.
202 - طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود الطناحي، طبع مطبعة الحلبي، مصر. 203 - طبقات الفقها لإبراهيم الشيرازي، تحقيق إحسان عباس، طبع دار الرائد العربي - بيروت سنة 1390 هـ. 204 - طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي، تحقيق محمود شاكر، طبع مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1394 هـ. 205 - طبقات النحويين لمحمد الزبيدي المتوفى سنة 379 هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع دار المعارف بالقاهرة سنة 1393 هـ. 206 - طبقات الشافعية لأحمد بن قاضي شهبة المتوفى سنة 851 هـ، تحقيق الحافظ عبد الحليم خان، طبع دائرة المعارف، حيدر آباد سنة 1399 هـ. 207 - طبقات الشافعية لمحمد العبادي المتوفى سنة 458 هـ. طبع مطبعة بريل - بليدن سنة 1964 م. 208 - الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد المتوفى سنة 230 هـ، طبع دار صادر بيروت سنة 1380 هـ. 209 - العبر في خبر من غبر لمحمد بن أحمد الذهبي، تحقيق صلاح الدين المنجد، طبع دائرة المطبوعات - الكويت سنة 1380 هـ - 1383 هـ. 210 - العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الحنبلي المتوفى سنة 458 هـ، تحقيق د/ أحمد سير مباركي، طبع مؤسسة الرسالة. 211 - العقد الفريد لابن عبد ربه المتوفى سنة 328 هـ، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، وإبراهيم الإبياري، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة سنة 1381 هـ، 1962 م. 212 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه للحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع دار الجيل - بيروت، الطبعة الرابعة سنة 1972 م.
213 - العمدة في غريب القرآن لأبي محمد مكي القيسي، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي، طبع مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1404 هـ. 214 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لعبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، طبع إدارة ترجمان السنة باكستان. 215 - عون المعبود شرح سنن أبي داود لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، طبع دار الفكر - بيروت سنة 1399 هـ. 216 - عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 هـ، نشر المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة سنة 1383 هـ. 217 - العين للخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 هـ، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، نشر دار الرشيد للنشر سنة 1982 م. 218 - غاية النهاية في طبقات القراء لمحمد بن الجزري المتوفى سنة 833 هـ، عني بنشره برجستراسر، طبع دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثانية 1400 هـ. 219 - غريب الحديث لأبي عبيد الهروي، تحقيق محمد عبد المعين خان، نشر دائرة المعارف العثمانية بالهند سنة 1385 هـ. 220 - الغزل في العصر الجاهلي لأحمد بن محمد الحوفي، نشر دار نهضة مصر سنة 1381 هـ. 221 - الفائق في غريب الحديث لمحمود الزمخشري، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، طبع الحلبي مصر. 222 - الفاخر للمفضل بن سلمة الكوفي المتوفى سنة 290 هـ، تحقيق شالس انبروس دستوري، طبع دار الفرجاني بالقاهرة سنة 1402 هـ. 223 - فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، تحقيق طه
عبد الرؤوف سعد، ومصطفى محمد، طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1398 هـ. 224 - فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي الشوكاني، نشر دار الفكر بيروت سنة 1393 هـ. 225 - فتح المبين شرح الأربعين لأحمد بن حجر الهيثمي المتوفى سنة 974 هـ، طبع الحلبي بمصر. 226 - فحول الشعراء لعبد الملك الأصمعي المتوفى سنة 216 هـ، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي وطه محمد الزيني، طبع شركة المطبعة المنيرة بالقاهرة سنة 1372 هـ. 227 - الفروق للقرافي، طبع عالم الكتب - بيروت. 228 - الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، نشر دار الآفاق الجديدة - بيروت سنة 1393 هـ. 229 - فصيح ثعلب ضمن كتاب الطرق الأدبية لطلاب العلوم العربية، عني بجمعه وترتيبه محمد الأمين الخفاجي، مطبعة السعادة بمصر سنة 1320 هـ. 230 - فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 430 هـ، مطبعة الحلبي مصر سنة 1392 هـ. 231 - كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ، تحقيق إسماعيل الأنصاري، طبع دار إحياء السنة النبوية سنة 1395 هـ. 232 - فهرس خزانة القرويين لعبد القاهر بن طاهر البغدادي. 233 - الفهرست لابن النديم المتوفى سنة 438 هـ، تحقيق رضا تجددي، نشر مكتبة الأسدي طهران سنة 1391 هـ. 234 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية لمحمد بن عبد الحي اللكنوي. 235 - الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة لمرعي المقدسي المتوفى سنة
1033 هـ، تحقيق محمد الصباغ، نشر دار المعرفة - بيروت سنة 1397 هـ. 236 - فواتح الرحموت المطبوع مع المستصفى لابن عبد الشكور الحنفي، طبع مطبعة بولاق - مصر سنة 1324 هـ. 237 - الفوائد المحصورة في شرح المقصورة لمحمد بن أحمد بن هشام اللخمي المتوفى سنة 577 هـ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، نشر دار مكتبة الحياة - بيروت سنة 1400 هـ. 238 - فوات الوفيات لمحمد بن شاكر الكتبي، تحقيق إحسان عباس، طبع دار بيروت سنة 1973، 1974 م. 239 - فيض القدير لمحمد عبد الرؤوف، نشر دار المعرفة بيروت سنة 1391 هـ. 240 - قلائد العقيان في محاسن الأعيان لأبي النصر بن خاقان، تحقيق سليمان الحرائري، نشر المكتبة العتيقة بتونس سنة 1386 هـ. 241 - القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية لعلي بن عباس البعلي الحنبلي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع دار الكتب العلمية - بيروت سنة 1403 هـ. 242 - القوانين الفقهية لابن جزي الكلبي. 243 - الكامل في التاريخ لابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ، نشر دار الكتاب العربي - بيروت سنة 1400. 244 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد النحوي المتوفى سنة 285 هـ، مطبعة الفجالة بالقاهرة. 245 - الكتاب لسيبويه المتوفى سنة 180 هـ، طبع المطبعة الأميرية بمصر سنة 1316 هـ. 246 - كتاب ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي، نشر دار الآفاق الجديدة بيروت سنة 1400 هـ.
247 - كشف الخفا ومزيل الالتباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس لإسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 1162 هـ، تحقيق أحمد القلاش، طبع مطبعة الفنون - حلب. 248 - كشف الظنون لحاجي خليفة المتوفى سنة 1067 هـ، نشر مكتبة المثنى - بغداد. 249 - كشف الأسرار عن أصول البزدوي لعبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة 730 هـ، طبع دار الكتاب العربي بيروت سنة 1394 هـ. 250 - كشف الأستار عن زوائد البزار لنور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبع مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1399 هـ. 251 - الكشاف عن حقائق التنزيل - لمحمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ، طبع مطبعة الحلبي - مصر سنة 1367 هـ. 252 - لسان العرب لابن منظور طبع دار صادر بيروت. 253 - لطائف الإشارات لفنون القراءات لشهاب الدين القسطلاني المتوفى سنة 923 هـ، تحقيق عامر عثمان، وعبد الصبور شاهين، نشر لجنة إحياء التراث بالقاهرة سنة 1392 هـ. 254 - اللمع في أصول الفقه المطبوع مع تخريجه لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ، تحقيق يوسف المرعشلي، نشر عالم الكتب بيروت سنة 1405 هـ. 255 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين السيوطي، نشر المكتبة الحسنية بمصر. 256 - متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، طبع مطبعة محمد صبيح - القاهرة، وأيضًا رجعت للطبعة التي نشرتها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمملكة المغربية عام 1405 هـ.
257 - مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع مطبعة الحلبي - مصر سنة 1977 م. 258 - مجاز القرآن - لمعمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي، تحقيق محمد فؤاد سزكين، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1390 هـ. 259 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن القاسم، نشر مكتبة الرياض سنة 1382 هـ. 260 - المجرد للغة الحديث لموفق الدين عبد اللطيف البغدادي، تحقيق فاطمة حمزة الراضي، طبع مطبعة الشعب بغداد سنة 1397 هـ. 261 - مجالس ثعلب لأبي العباس ثعلب المتوفى سنة 291 هـ، تحقيق عبد السلام هارون، طبع دار المعارف - مصر سنة 1368 هـ. 262 - مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي، طبع دار الكتب بيروت سنة 1967 م. 263 - المحتسب في تبين وجوه شواذ القراءات لأبي الفتح ابن جني، تحقيق علي النجدي ناصف، نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1389 هـ. 264 - المحصول في علم أصول الفقه لفخر الدين الرازي، تحقيق د. طه جابر العلواني، طبع مطابع الفرزدق - الرياض سنة 1399 هـ - 1400 هـ. 265 - المخصص لأبي الحسن بن سيده المتوفى سنه 458 هـ، طبع المطبعة الأميرية - القاهرة سنة 1321 هـ. 266 - المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب، تحقيق إيلزه ليختن شتيتر، طبع دار الآفاق بيروت. 267 - مختصر المنتهى الأصولي المطبوع مع حاشيتي التفتازاني والجرجاني لابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646 هـ، طبع مطبعة بولاق سنة 1316 هـ. 268 - المختصر في أصول الفقه على مذهب الإِمام أحمد لعلي بن محمد البعلي الحنبلي المعروف بابن اللحام، تحقيق د/ محمد مظهر بقا، طبع
دار الفكر بدمشق سنة 1400 هـ. 269 - مدارج السالكين لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع دار الكتاب العربي - بيروت سنة 1972 م. 270 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي. 271 - مرآة الجنان وعبرة اليقظان لعبد الله اليافعي المتوفى سنة 368 هـ، طبع مؤسسة الأعلمي - بيروت سنة 1390 هـ. 272 - المرصع في الآباء والأمهات والبنين والبنات والأذواء والذوات لمجد الدين ابن الأثير المتوفى سنة 606 هـ، تحقيق إبراهيم السامرائي المطبوع سنة 1391 هـ. 273 - المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، تأليف د/ محمد العروسي عبد القادر، نشر دار حافظ للنشر والتوزيع في جدة، الطبعة الأولى سنة 1410 هـ. 274 - المسودة في أصول الفقه لعبد السلام بن عبد الله محيي الدين ابن تيمية المتوفى سنة 653 هـ، وعبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع دار الفكر العربي بيروت سنة 1384 هـ. 275 - المستصفى للغزالي، طبع مطبعة بولاق بمصر سنة 1324 هـ. 276 - المستقصى في أمثال العرب لجار الله الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ، طبع دار الكتب العلمية - بيروت سنة 1397 هـ. 277 - المستدرك على الصحيحين للحاكم، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية. 278 - مسند الشهاب لمحمد القضاعي، تحقيق محمد عبد الحميد السلفي، طبع مؤسسة الرسالة بيروت. 279 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، طبع دار صادر بيروت.
280 - المشوف المعلم في ترتيب إصلاح المنطق على حروف المعجم لأبي الحسين العسكري المتوفى سنة 616 هـ، تحقيق السواس. 281 - المصون في الأدب للحسن بن عبد الله العسكري، تحقيق عبد السلام هارون نشر مكتبة المدني - القاهرة سنة 1402 هـ. 282 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير لأبي العباس أحمد بن محمد الفيومي المتوفى سنة 770 هـ، طبع المطبعة الأميرية بمصر سنة 1909 م. 283 - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، تأليف محمد حسين بن حسن الجيزاني، نشر دار ابن الجوزي بالدمام، الطبعة الأولى عام 1416 هـ. 284 - معجم الأدباء لياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ، طبع دار المأمون، القاهرة سنة 1357 هـ. 285 - معجم البلدان لياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ، طبع دار صادر، بيروت سنة 1376 هـ. 286 - معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس المتوفى سنة 395 هـ، تحقيق عبد السلام هارون، طبع مطبعة الحلبي القاهرة سنة 1389 هـ. 287 - معجم الشعراء لأبي عبد الله المرزباني المتوفى سنة 384 هـ، تحقيق فرتيس كرنكوا، نشر مكتبة القدس - القاهرة سنة 1354 هـ. 288 - المعجم الصغير للطبراني، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، طبع دار النصر - القاهرة سنة 1388 هـ. 289 - المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر لبدر الدين الزركشي، تحقيق حمدي عبد الحميد السلفي، طبع دار الأرقم الكويت سنة 1404 هـ. 290 - معالم السنن وهو شرح على سنن أبي داود لأحمد الخطابي المتوفى سنة 388 هـ، تحقيق عزت الدعاس طبع دار الحديث حمص سنة 1388 هـ. 291 - المعاني الكبير لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ، تحقيق المستشرق سالم
الكرنكوي، طبع دار النهضة الحديثة - بيروت سنة 1953 م. 292 - المعجم الكبير للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، طبع مطبعة الوطن العربي سنة 1400 هـ. 293 - معاني القرآن للفراء، تحقيق إبراهيم الإبياري، طبع عالم الكتب بيروت سنة 1403 هـ. 294 - معاهد التنصيص لعبد الرحيم بن أحمد العباسي المتوفى سنة 963 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1367 هـ. 295 - المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسن البصري المتوفى سنة 436 هـ، نشر دار الكتب العلمية بيروت سنة 1403 هـ. 296 - المغني لابن قدامة المتوفى سنة 620 هـ، طبع مكتبة الرياض - الرياض. 297 - المغني في أصول الفقه لمحمد الخبازي، تحقيق محمد مظهر بقا، طبع مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى سنة 1403 هـ. 298 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري المتوفى سنة 962 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار الباز. 299 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة لأحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده، المتوفى سنة 962 هـ، مطبعة دائرة المعارف بحيدر آباد الهند، الطبعة الأولى. 300 - المفصل في علم العربية لجار الله الزمخشري، طبع دار الجيل - بيروت. 301 - المفردات في غريب القرآن للحسن بن محمد الأصفهاني، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبع الحلبي مصر سنة 1381 هـ. 302 - المقصور والممدود لابن ولاد النحوي، تحقيق برونلد سنة 1900 م.
303 - المقرب لعلي بن مؤمن بن عصفور المتوفى سنة 169 هـ، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، طبع مطبعة المعاني - بغداد سنة 1391 هـ. 304 - المقتضب لأبي العباس ابن المبرد المتوفى سنة 285 هـ، تحقيق محمد عبد الخالق عظيمة، طبع عالم الكتب بيروت. 305 - المقتصد في شرح الإيضاح لعبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 816 هـ، تحقيق كاظم بحر المرجان، نشر وزارة الثقافة بغداد. 306 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة لشمس الدين السمخاوي المتوفى سنة 902 هـ، تحقيق عبد الله محمد الصديق، وعبد الوهاب العبد اللطيف، نشر مكتبة الخانجي بمصر سنة 1375 هـ. 307 - مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح لسراج الدين عمر البلقيني، تحقيق د/ عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، طبع دار الكتب سنة 1974 م. 308 - الملل والنحل لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني، طبع دار المعرفة - بيروت سنة 1404 هـ. 309 - ملحة الإعراب للقاسم بن علي الحريري المتوفى سنة 516 هـ، طبع الحلبي - مصر سنة 1345 هـ. 310 - ملحق ديوان ذي الرمة. 311 - مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا، لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ. 312 - المنخول من تعليقات الأصول لمحمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ، تحقيق د/ محمد حسن هيتو، طبع دار الفكر دمشق سنة 1400 هـ. 313 - المنصف لابن جني المتوفى سنة 392 هـ، تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين طبع الحلبي، مصر سنة 1373 هـ.
314 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لعبد الرحمن بن علي الجوزي المتوفى سنة 597 هـ، طبع دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الدكن سنة 1357 هـ. 315 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية حلب، سنة 1390 هـ. 316 - المنتقى شرح موطأ الإمام مالك لأبي الوليد الباجي، طبع دار الفكر العربي. 317 - منتهى السول في علم الأصول لسيف الدين الآمدي، طبع مطبعة محمد صبيح - مصر. 318 - المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، لعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، المتوفى سنة 415 هـ، وجمع أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة 840 هـ، وتحقيق علي سامي النشار، وعصام الدين محمد علي، طبع دار المطبوعات الجامعية - الإسكندرية سنة 1392 هـ. 319 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب، المتوفى سنة 954 هـ، مطبعة النجاح - ليبيا. 320 - موسوعة فقه عمر بن الخطاب لمحمد رواس قلعة جي. 321 - المواقف في علم الكلام لعضد الملة والدين القاضي عبد الرحمن الإيجي، طبع عالم الكتب بيروت. 322 - الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي، تحقيق عبد الله دراز، نشر المكتبة التجارية - مصر. 323 - الموطأ لمالك بن أنس، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع الحلبي مصر سنة 1370 هـ. 324 - الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء لمحمد المرزباني، المتوفى سنة 384 هـ،
تحقيق محب الدين الخطيب طبع المطبعة السلفية القاهرة سنة 1343 هـ. 325 - المؤتلف والمختلف للحسن بن بشير بن يحيى الآمدي، المتوفى سنة 370 هـ، تحقيق عبد الستار فرج، طبع الحلبي - مصر سنة 1381 هـ. 326 - ميزان الأصول في نتائج العقول (المختصر) لمحمد بن أحمد السمرقندي، المتوفى سنة 539 هـ، تحقيق د/ محمد زكي عبد البر، طبع مطابع الدوحة سنة 1404 هـ. 327 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال لمحمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، طبع دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة سنة 1382 هـ. 328 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال لمحمد بن أحمد الذهبي، تحقيق علي البجاوي، نشر الحلبي - مصر. 329 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لجمال الدين يوسف بن تغري بردي، المتوفى سنة 874 هـ، نشر دار الكتب المصرية سنة 1351 هـ. 330 - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد الكريم كاظم الراضي، طبع مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1404 هـ. 331 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، المتوفى سنة 577 هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع دار النهضة - مصر سنة 1386 هـ. 332 - نزهة المخاطر العاطر على روضة الناظر لعبد القادر بن أحمد بن بدران، نشر مكتبة المعارف بالرياض سنة 1404 هـ. 333 - النشر في القراءات العشر لمحمد بن الجزري المتوفى سنة 833 هـ، طبع مطبعة التوفيق - دمشق سنة 1345 هـ. 334 - نفائس الأصول في شرح المحصول لشهاب الدين أحمد بن إدريس
القرافي، المتوفى سنة 684 هـ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، نشر مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة، الطبعة الأولى سنة 1416 هـ. 335 - نفح الطيب عن غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق د/ إحسان عباس، طبع دار صادر بيروت سنة 1388 هـ. 336 - نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري، المتوفى سنة 733 هـ، نشر المؤسسة المصرية للتأليف سنة 1374 هـ. 337 - نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي، طبع عالم الكتب - بيروت سنة 1982 م. 338 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، الشافعي، المتوفى سنة 1004 هـ، طبع الحلبي، مصر سنة 1386 هـ. 339 - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير المتوفى سنة 606 هـ، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، طبع دار إحياء التراث العربي، القاهرة سنة 1383 هـ. 340 - النوادر في اللغة لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري المتوفى سنة 215 هـ، تحقيق سعيد الخوري الشرنوبي، طبع دار الكتاب العربي بيروت سنة 1387 هـ. 341 - نيل الأوطار لمحمد بن علي الشوكاني. 342 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج المطبوع بهامش الديباج لأحمد بابا التنبكتي، المتوفى سنة 1026 هـ، نشر مكتبة ابن شقرون - القاهرة سنة 1351 هـ. 343 - هدية العارفين وأسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل محمد أمين
البغدادي، المتوفى سنة 1339 هـ، نشر مكتبة المثنى، بغداد. 344 - همع الهوامع شرح جمع الجوامع لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، تحقيق محمد بدر الدين أبي فراس، طبع دار المعرفة - بيروت. 345 - الوجيز في أصول الفقه ليوسف بن الحسين الكرماستي، المتوفى سنة 906 هـ، تحقيق د/ عبد اللطيف كساب، نشر دار الهدى - مصر سنة 1404 هـ. 346 - الوحشيات وهو (الحماسة الصغرى) لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي، تحقيق عبد العزيز الميمني الراجكوتي، وزاد في حواشيه محمود محمد شاكر، طبع دار المعارف بمصر سنة 1963 م. 347 - الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، طبع الحلبي - مصر سنة 1386 هـ. 348 - الوسيط لمحمد الغزالي تحقيق علي محيي الدين علي القرة داغي، طبع دار النصر للطباعة - مصر سنة 1402 هـ. 349 - الوصول إلى علم الأصول لابن برهان. 350 - وفيات الونشريسي لأحمد الونشريسي، تحقيق محمد حجي، طبع مطبعة دار الغرب، بيروت سنة 1396 هـ. 351 - وفيات الأعيان لابن خِلكان، تحقيق د/ إحسان عباس، طبع دار صادر. ***
ثبت مراجع المقدمة
ثبت مراجع المقدمة 1 - آسفي وما إليه، لمحمد العبد الكانوني، ت (1357 هـ). 2 - الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى، لأحمد بن خالد الناصري، مطبعة الدار البيضاء سنة 1354 هـ. 3 - الإعلام بمن حل مراكش، للعباس بن إبراهيم، طبع المطبعة الملكية، الرباط سنة 1975 م. 4 - الأعلام للزركلي. 5 - جذوة الاقتباس في ذكر من حل مدينة فاس، لأحمد بن القاضي المكناسي، طبع دار المنصور بالرباط سنة 1974 م. 6 - حسن المحاضرة لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع الحلبي بمصر سنة 1387 هـ. 7 - الحلل السندسية في الأخبار التونسية، لمحمد بن محمد الوزير السراج، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، نشر دار الكتب الشرقية بتونس سنة 1393 هـ. 8 - خلال جزولة، لمحمد المختار السوسي، طبع المطبعة المهدوية بتطوان سنة 1397 هـ. 9 - درة الحجال في أسماء الرجال، لأحمد بن محمد المكناسي الشهير بابن الفرضي، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، طبع دار النصر للطباعة سنة 1390 هـ.
10 - دليل مؤرخ المغرب الأقصى، لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، طبع دار الكتاب بالدار البيضاء سنة 1965 م. 11 - دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشائخ القرن العاشر، لمحمد ابن عسكر الشنشاوني، تحقيق: محمد حجي، نشر دار المغرب للتأليف بالرباط سنة 1397 هـ/ 1977 م. 12 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، لإبراهيم بن علي بن فرحون ت (799 هـ)، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، طبع دار التراث بالقاهرة. 13 - الذخيرة لشهاب الدين القرافي، ت (684 هـ)، نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت سنة 1402 هـ. 14 - سوس العالمة لمحمد المختار السوسي، مؤسسة بنشرة بالدار البيضاء سنة 1404 هـ. 15 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي، ت (1089)، دار الميسرة بيروت 1389 هـ. 16 - شرح التنقيح لشهاب الدين القرافي، ت (684 هـ) تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية 1393 هـ/ 1973 م. 17 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي، ت (902 هـ)، دار مكتبة الحياة بيروت. 18 - طبقات الحضيكي، لمحمد بن أحمد الحضيكي، ت (1189 هـ)، المطبعة العربية بالدار البيضاء 1355 هـ.
19 - العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم، لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون، ت (808 هـ)، مؤسسة الأعلمي - بيروت 1391 هـ. 20 - غاية النهاية في طبقات القراء، لمحمد بن محمد بن الجزري، ت (833 هـ)، بعناية ج. برجنزاسر دار الكتب العلمية بيروت 1400 هـ. 21 - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة، حسين الشوشاوي، تحقيق: عزوزي إدريس 1398 هـ، رسالة لنيل الدبلوم، مطبوع على الآلة الكاتبة. 22 - القاموس المحيط للفيروز آبادي، طبع دار الفكر بيروت. 23 - قبائل المغرب، لعبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية بالرباط 1388 هـ. 24 - كشف الظنون، لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، ت (1067 هـ)، مكتبة المثنى بغداد. 25 - كفاية المحتاج لمعرفة ما ليس في الديباج، أحمد بابا التنبكتي، (ت 1026 هـ)، مخطوط بالمكتبة العامة بالرباط برقم (ج 709). 26 - لسان العرب لابن منظور، دار صادر بيروت سنة 1376 هـ. 27 - لفظ الفرائد من لفاظة الفوائد، أحمد بن القاضي، تحقيق: محمد حجي، دار المغرب للترجمة والتأليف بالرباط 1396 هـ. 28 - مظاهر الثقافة المغربية، د/ محمد بن أحمد بن شقرون، مطبعة الرسالة بيروت 1982 م. 29 - معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى بيروت. 30 - معجم المحدثين والمفسرين والقراء بالمغرب الأقصى، عبد العزيز بن عبد الله، مطبعة فضالة بالمغرب 1392 هـ.
31 - المعسول، لمحمد المختار السوسي، مطبعة فضالة بالمغرب 1383 هـ. 32 - المغرب الكبير، د/ عبد العزيز سالم، دار النهضة العربية بيروت 1981 م. 33 - المغرب عبر التاريخ, إبراهيم حركات، دار الرشاد بالدار البيضاء سنة 1405 هـ. 34 - المنهل الصافي، ابن تغري بردي، ت (874 هـ). 35 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية، أبو العباس أحمد بن علي المقريزي، دار صادر بيروت. 36 - الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية، عبد العزيز بن عبد الله، وزارة الأوقاف بالمغرب 1395 هـ. 37 - النبوغ المغربي في الأدب العربي، عبد الله كنون، دار الكتاب، بيروت 1395 هـ. 38 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي ت (874 هـ)، دار الكتب المصرية 1351 هـ. 39 - نفائس الأصول في شرح المحصول "القسم الدراسي"، لشهاب الدين القرافي 684 هـ، د/ عياضة السلمي 1406 هـ. 40 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، ت (401 هـ)، تحقيق: د/ إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1388 هـ. 41 - نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، د/ محمد عبد الله عنان.
42 - نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، ت (1026 هـ)، مكتبة ابن شقرون بالقاهرة 1351 هـ. 43 - هدية العارفين، إسماعيل بن محمد البغدادي، ت (1339 هـ)، مكتبة المثنى بغداد. 44 - ورقات من الحضارة المغربية في عصر بني مرين، لمحمد المنوني. 45 - الوافي بالوفيات، خليل بن أيبك الصفدي، ت (764 هـ)، بعناية س. ديرنيغ، دار النشر فوانسز شتانيز بقيسبادن بألمانيا 1394 هـ. 46 - وصف أفريقيا، الحسن الوزان "ليون الإفريقي" ترجمه عن الطبعة الفرنسية عبد الرحمن حميدة، نشر كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإِمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1399 هـ. ***