شرح التدمرية - ناصر العقل

ناصر العقل

شرح العقيدة التدمرية [1]

شرح العقيدة التدمرية [1] تمس حاجة الإنسان إلى معرفة أصول الدين، ليبني دينه على معتقد صحيح، وقد كتب علماء الإسلام في ذلك رسائل مختصرة، من أهمها وأجلها رسالة العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الداعي إلى الكتابة في تحقيق الأصلين

الداعي إلى الكتابة في تحقيق الأصلين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نبدأ درسنا اليوم إن شاء الله في المجلد الثالث ضمن الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأوله: كتاب التدمرية؛ وسمي بذلك لأنه ألفه في (تدمر) من بلاد الشام، وهو من الكتب التي تعتبر مرجع التأصيل والتقعيد في منهج أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات والقدر. قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه: [الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر، لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين]. هذان الأصلان يدور عليهما أكثر الكتاب، بل كل الكتاب، والكلام في التوحيد والصفات منشؤه الخبر، أو يدخل تحت الأخبار، والمقصود بالخبر هنا ما أخبر الله به، وما علمه خلقه أو بعض خلقه، سواء من الأمور المعرفية الفطرية، ككثير من أمور توحيد الربوبية، فإنها علمية، سواء جاءت عن طريق الوحي أو مقتضى الفطرة، فهي خبرية علمية، وأكثر تفاصيلها إنما جاءت عن طريق الخبر، يعني: عن طريق الوحي، لكن مع ذلك يدخل فيها بعض الأمور العلمية الفطرية التي فطر الله الناس عليها. والآخر: وهو توحيد الأمر والطلب، ويدخل فيه توحيد الشرع والقدر، وتوحيد الإلهية كله، وهو مبني على الشرع، أي: مبني على شرع الله وما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: عندنا أصلان: الأول: ما يتعلق بالتوحيد الخبري، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وكثير من مسائل القدر؛ لأن القدر سيدخل في جانبين: في جانب الأمر، وفي جانب الخبر. والثاني: التوحيد العملي الإرادي، وهو ما يتعلق بتوحيد الإلهية الذي يرتكز على الأمر والشرع.

أصناف الناس الذين خاضوا في مسائل الدين

أصناف الناس الذين خاضوا في مسائل الدين قال رحمه الله: [وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد، لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال، لاسيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات]. قوله: (ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر) يشير بذلك إلى الخائضين في هذه المسائل بحق وبباطل، فهم أصناف: الصنف الأول: وهم من أكثر الناس خوضاً فيما لا يعلمون، فقد خلطوا الحق بالباطل، فيخطر لهم خواطر بعضها يوافق الحق، وكثير منها داخل في الظنون والأوهام والتخرصات، وكثير من هؤلاء هم من أهل الكلام الذين يسمون بأهل النظر من الفلاسفة ومن سار على نهجهم، أو على بعض مناهجهم من المتكلمين، كمتكلمة الفرق من المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي جاءت بعدها، والتي تسمى بالفرق الصفاتية الكلامية، وكذلك من دخل منهم أو معهم في هذا المجال من متكلمة الخوارج ومتكلمة الشيعة الرافضة ومتكلمة القدرية ومتكلمة المرجئة وغيرهم، فكلهم يجمعهم وصف واحد، أعني: وصفهم بأنهم أهل النظر. كما قد يدخل في أهل النظر أيضاً: من نظر على مقتضى القواعد الشرعية من أهل السنة والجماعة الذين تصدوا لهذه المناهج الكلامية، فقد يوصفون بأنهم أهل نظر من هذا الجانب، لا أن مناهجهم مناهج أهل النظر، فهم قد استعملوا بعض الأمور التي تتعلق بالنظر -كالتفكير- في الدفاع عن الحق وفي رد الباطل. لكن إن أطلق: (أهل النظر) فالمقصود به غالباً أهل الكلام الذين خاضوا في كثير من مسائل الدين بغير حق، وذلك بمجرد المناهج الفلسفية أو النزعات العقلية أو الأوهام والتخرصات كما قلت، وأغلبهم يشملهم قول الله عز وجل: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11]. الصنف الثاني: أهل العلم، والمراد بهم أهل العلوم الشرعية؛ لأنه غالباً إذا أطلق (أهل العلم) فالمراد بهم أهل العلوم الشرعية، فهم قد أخذوا بمقتضى العلم منهجاً وعملاً وتطبيقاً. والعلم: هو العلم بالكتاب والسنة وما يتفرع عنهما من الحديث وعلومه والفقه وأصوله والفرائض واللغة العربية وغير ذلك من العلوم الشرعية، أو الوسائل والأدوات إليها، فهذه تدخل في العلم بمفهومه الخاص، والذي قد ورد الثناء عليه في الكتاب والسنة هو العلم الشرعي. الصنف الثالث: أهل الإرادة، ويبدو لي أنه يشمل أولئك الذين اتجهوا إلى العمل، سواء على مقتضى الحق أو الباطل، لكن غالباً يقصد بأهل الإرادة العاملين من أهل الحق. وأما العباد فمعرفون، فهم الذين سلكوا مسلك العبادة وجنحوا إليها، ومالوا إلى التعبد دون الأخذ بكمال الدين، وإفرادهم هنا من مجموع هذه الأصناف يدل على أن المقصود بهم: العباد النساك الذين سلكوا طريق العبادة والعزلة، وهذا مسلك فيه خير، وفيه شطحات كما تعلمون. فهؤلاء الأصناف كلهم قد تناولوا مسائل من الدين، وهذا معنى قوله: (لابد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال)، لكن الذي أخذ بالهدى الذي جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أصاب الحق، والذين شطحوا وخرجوا قد أخطئوا الطريق، وسلكوا مسالك الضلالة، ولذا كل هذه الأصناف محتاجة إلى بيان الهدى من الضلالة. لاسيما مع كثرة من خاض في هذه الأمور بالحق تارة وبالباطل تارات، وفي هذا إشارة إلى أن أغلب ما خاض فيه الخائضون في أمور الدين من الباطل؛ لأن الحق في أصوله وقواعده وكثير من جزئياته، بل في كل جزئياته -حتى فيما يمكن أن يطرأ على أذهان الناس أو أعمالهم ولو في مستقبل الزمن- جاء مقرراً في الكتاب والسنة، إما بنص أو بنصوص، أو بقواعد شرعية مأخوذة من النصوص. ولذلك فإن كل جزئيات وسلوكيات وحاجات البشر تندرج تحت قواعد الدين، والقواعد مأخوذة من النصوص، لكن مع ذلك نجد أن أكثر من خاض في هذه الأمور قد سلك مسلك الباطل، وهذا يصدقه وقوع الافتراق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بأن أغلب هذه الأمة -كسائر الأمم- ستقع في الافتراق، وهو الخوض بالباطل. ولذلك لما عد الفرق عدها ثلاثاً وسبعين فرقة، واحدة منها على الحق، واثنتين وسبعين على الباطل، ولا شك أن واحدة من ثلاث وسبعين تعتبر قليلة؛ لأن أغلب الذين خاضوا في مسائل الدين قد خاضوا بالباطل، ثم أيضاً ما يعتري القلوب من الشبهه التي توقعها في أنواع الضلالات، وهذا مما يصرف الناس عن الحق إلى مسالك ومناهج الضلالة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر من ذلك في حديث: النهي عن السبل.

توحيد الربوبية والصفات من باب الخبر، وتوحيد الشرع والقدر من باب الطلب

توحيد الربوبية والصفات من باب الخبر، وتوحيد الشرع والقدر من باب الطلب قال رحمه الله: [فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً، والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات والتصديق والتكذيب، وبين الحب والبغض والحض والمنع، حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة، ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان، وكما ذكره المقسمون للكلام من أهل النظر والنحو والبيان، فذكروا أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء, والخبر دائر بين النفي والإثبات, والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة]. إذا أردنا أن نقسم أصول الدين بناء على هذا فإنا نقول: ما يتعلق بتوحيد الربوبية والقدر وما يتفرع عنهما، وما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كل ذلك دائر في باب الخبر، ولذلك لا مجال فيه للزيادة والنقص والتجديد، ولا يقوم إلا على مجرد التسليم والتصديق، وما عدا ذلك فهو تكذيب لخبر الله. وأما ما يتعلق بالشرع وهو توحيد الإلهية، فهو أمر ونهي، وهو يدور على الإنشاء، يعني: أن الله عز وجل شرع الشرائع، فأنشأ للعباد الأوامر والنواهي، وهذا -كما قلت- هو مضمون توحيد العبادة؛ لأن الأمر والنهي يحتاج إلى امتثال، والخبر يحتاج إلى تصديق، فإذا كان الخبر صادراً عن الله عز وجل وثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد من تصديقه، ولا محيد للمسلم عن ذلك في أي فرع من فروع الاعتقاد. وإذا كان الأمر راجعاً إلى الأمر والنهي فالمسلم أصلاً قد استسلم لله عز وجل، بأن استعد لأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وذلك راجع إلى الاستطاعة، لكن مبدأ التسليم لابد منه، بل لا يقوم ولا يصح توحيد العبادة -توحيد الألوهية- إلا على مبدأ التسليم، بمعنى: مبدأ الاستعداد للعمل واجتناب النواهي، فيبقى الاستعداد هو الأصل، وأما العمل فبحسب القدرة والاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

أقسام التوحيد وتقرير رجوع الدين كله إليها

أقسام التوحيد وتقرير رجوع الدين كله إليها قال رحمه الله: [وإذا كان كذلك فلابد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال، ولابد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته، ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويؤمن بشرعه وقدره إيماناً خالياً من الزلل. وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له، وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل، والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ودل على الآخر سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وهما سورتا الإخلاص، وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك]. قصد الشيخ بهذا الكلام: تقرير معنى كون التوحيد كله أو الدين كله يرجع إلى هذين الأصلين: الأول: توحيد العبادة، وسماه بـ: (توحيد القصد والإرادة والعمل)، وهذا وصف لهذا النوع من التوحيد قد سبق تقريره، كما سيأتي تقرير بأننا إذا استقرأنا معاني التوحيد، سواء في منشئها من الكتاب والسنة، أو في تطبيقها في أحوال البشر، أنه يمكن أن نقسمها إلى عدة أقسام، فممكن أن تكون في قسمين، وممكن أن تكون في ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، وهذا التقسيم تقسيم علمي استقرائي، وعليه يمكن أن نقول: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد علمي، وتوحيد عملي، أو نقول: توحيد ربوبية، وتوحيد إلهية، أي: توحيد إرادي طلبي، وهو ما ينشأ عن البشر من الإرادة والطلب، وتوحيد خبري. وكل ذلك يرجع إلى أن التوحيد ممكن أن يقسم في التقسيم الأساسي إلى نوعين من الناحية العلمية، وهذا التقسيم لا يلزم، فيمكن أن نقسم كل قسم أيضاً إلى أقسام، لكن هذا كما قلت: تقسيم علمي استقرائي، ولذا فإن المتأمل إلى أنواع أوامر الشرع أو المتأمل لأنواع الوحي فيما يتعلق بالتوحيد يجد أنها على نوعين: نوع من التوحيد هو خبر، يعني: علم، وهو أن الله علمنا الكثير من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بربوبيته وقدره، والأمور التي قد تدركها أو يدرك بعضها شيئاً من الفطر والعقول، وبعضها لا يدرك تفصيلاً إلا بالخبر، كأسماء الله وصفاته، فإن تفصيلات كثير منها لا نعلمه إلا بالخبر الذي جاءنا من عند الله، وعليه فتوحيد الربوبية كثير منه جاء بالخبر، ويدخل فيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات، وهو علم عن أمور الغيب قد أخبرنا الله به. ومن هنا سمي توحيد علمي وتوحيد خبري، وهذا اصطلاح راجع إلى معان، ويمكن أيضاً أن نتجاوز هذا الاصطلاح إلى معنى أوسع أو إلى معان أكثر دقة أو أكثر تفصيلاً، وهذا هو الأصل، فلابد من الإيمان به دون الخوض فيما لا تطيقه العقول. الثاني: توحيد الطلب، أي: ما يطلب منا؛ فنحن قد علمنا بالفطرة مجملات توحيد الربوبية، وعلمنا بالوحي تفصيلات توحيد الربوبية والأسماء والصفات لله عز وجل، هذا العلم يتطلب منا أمراً آخر يسمى: توحيد الألوهية، وهو أن نعبده بما شرع، وأن نوجه له الدعاء والذكر والصلاة وجميع أنواع العبادات، ولذلك سمي بالتوحيد الطلبي، أي: توحيد القصد. والمقصود بالقصد: أن العباد يقصدون به الله عز وجل، لكن لا يقصد الله عز وجل إلا بما شرع هو، ومن هنا رجع إلى كونه يدخل في الشرع كما دخل توحيد الربوبية في العلم. كما يسمى أيضاً بتوحيد الإرادة؛ لأن الناس يريدون به الله عز وجل. ويسمى بتوحيد العمل؛ لأنه مقتضى العمل المبني على المعرفة، وهو عمل القلوب والجوارح بالتوجه إلى الله عز وجل، ويسمى بتوحيد الشرع، وتوحيد الأمر. وعليه فهذه كلها ألفاظ صحيحة، لو اقتصرنا على بعضها صح، ولو أخذناها كلها صح، ولو أجملناها بتوحيد الإلهية صح. إذاً: فالتوحيد قسمان: قسم يرد من الله عز وجل من خلال الوحي، وهو توحيد الربوبية المسمى بالعلمي، وإن كان بعضه يعلم بالفطرة، لكن تفاصيله لا تعلم إلا بالوحي، وحتى العلم بالفطرة هو علم ركبه الله في العباد، ويسمى هذا: (توحيد علمي خبري) كما ذكرنا. والقسم الآخر: وهو التوحيد الإرادي القصدي العملي، أي: توحيد الإلهية الذي يتلخص في الشرع.

دلالة سورتي الإخلاص على أنواع التوحيد

دلالة سورتي الإخلاص على أنواع التوحيد وقد مثل الشيخ للقسم الأول بسورة: الإخلاص، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، فهذا خبر تضمن أسماء الله وصفاته. كما مثل للقسم الآخر بسورة: الكافرون، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2]، فالعبادة تعني القصد، أي: أن يقصد المسلم بعبادته الله عز وجل، ولذلك جاء في سورة الكافرون ضرورة إخلاص التوحيد لله عز وجل، ونفي الشرك الذي عليه أولئك الذين يعبدون غير الله عز وجل. ومن هنا جاء تحريم عبادة المسلم يقصد بها غير الله، كأن يقصد ما قصده المشركون حينما قصدوا، أو الكافرون حينما قصدوا غير الله، فعبدوا غيره، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2]، فلا يقصد ويتوجه المسلم إلا إلى لله، ولا يعمل ولا يريد إلا لله عز وجل، ولا يعمل إلا بمقتضى شرع الله، وهذا ظاهر جداً، فإننا نجد السورة الأولى قد تضمنت الخبر عن أسماء الله وصفاته، وجوامع الأسماء والصفات. والسورة الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، قررت لمن يكون القصد؟ لمن تكون العبادة؟ لمن يكون العمل؟ لمن تكون إرادة المسلم؟ لمن يكون توجهه؟ كل ذلك لا يكون إلا لله عز وجل، ومن هنا خالف المسلم الكافرين مخالفة متميزة تقوم على البراء الكامل الذي لا تقارب فيه، ولذلك قد تكرر البراء في السورة بألفاظ تعطي الحدية الفاصلة التي لا مساومة فيها، فلا يمكن للمسلم أن يعبد أو يقصد أو يتوجه أو يعمل لغير الله عز وجل، وهذا هو معنى توحيد القصد، وتوحيد الإلهية، وتوحيد العبادة.

الأصل في باب الأسماء والصفات

الأصل في باب الأسماء والصفات قال رحمه الله: [فأما الأول: وهو التوحيد في الصفات، فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه]. هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، والقاعدة الكبرى في أسماء الله وصفاته، وعليها سيدور كلام الشيخ في أكثر هذا الكتاب، ولذلك فإن استيعابها وفهمها وإدراكها أمر ضروري لطالب العلم خاصة عندما يقرأ هذا الكتاب؛ لأن جميع ما سيرد من القواعد المفرعة عنها يعود إليها، وهذه القاعدة لم يأت بها الشيخ من عند نفسه، وإنما هي راجعة إلى قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وقول الشيخ: (الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه) ليس هذا الأصل مبنياً على اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أو غيره، وإنما هو مبني على نصوص قاطعة وثابتة من الكتاب والسنة، وسيأتي لهذا أدلة وأمثلة كثيرة جداً تدل على أن هذه القاعدة هي القاعدة الحاكمة، وأن من عمل بها سلم، ومن أخل بها هلك. وهي بمثابة الميزان في قلب المؤمن، متى ما أدركها وفهمها فإنه يستطيع بإذن الله أن يرجع إليها كلما ورد إليه، أو سمع أو قرأ أو خطر بباله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، كما أنه بإذن الله يستطيع أن يميز بين الحق والباطل إذا وفقه الله لذلك. وقوله: (فالأصل في هذا الباب) أي: في باب الصفات -إذا قيل: في الصفات، فإنها تشمل الأسماء-: أن يوصف الله عز وجل بما وصف به نفسه، وجاءنا هذا من كتاب الله عز وجل، يعني: أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه أتى بشيء عن الله من غير الوحي كما يزعم كثير من ضلال أهل الأهواء من البدع والافتراق، فإنهم يزعمون أنهم يتلقون عن الله، ولذلك وصفوا الله بأسماء وصفات وأفعال لم ترد في الكتاب والسنة، بل وزعموا أنها من عند الله! وهذا طريق ليس بسليم. إذاً: أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفته به رسله، وهذا بالنسبة في جميع الأمم، وفي هذه الأمة نقول: وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يثبت لا يكون مصدراً في أسماء الله وصفاته، بل ولا يحتج به. وهذه القاعدة مجمع عليها عند السلف، وإن كان بعضهم أحياناً قد يستدل بالضعيف، لكن لا يستدل بالضعيف في تقرير اسم أو صفة لله، وإنما في تأييد ما ثبت بنص آخر كما ذكرت لكم سابقاً. وهذه مسألة لابد من التنبه لها، فقد ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً أحاديث ضعيفة في الصفات، لكن قد يوردها بعض السلف لا للاستدلال بها استقلالاً، ولذلك لا يوجد عند السلف شيء من ذلك يستدل به في حديث ضعيف، إلا أن بعضهم قد يجتهد في حديث ويظن أنه صحيح وليس بصحيح، وهذه زلة عالم، لا أنه منهج السلف رحمهم الله تعالى. إذاً: نصف الله بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح. أما قوله: (نفياً وإثباتاً) أي: أننا لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ننفي عن الله تفصيلاً إلا ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إجمالاً فننفي النقائص عن الله، لكن لا ننفي كل أمر يحتمل إلا ما جاء نفيه؛ لأن الأمور المحتملة تخضع لقاعدة التفصيل، يعني: بعض أهل الأهواء قد ينفر من معنى من المعاني، وينفيه عن الله، وهذا المعنى محتمل لحق وباطل، فجانب الحق نثبته لله على إلحاقه باسم من أسماء الله وصفاته، وجانب الباطل في هذه الألفاظ -مثلاً- ننفيه. إذاً: لابد من الاحتراز في مثل ذلك، ولذا نقول: النفي بأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والإثبات أن يوصف الله بما أثبته لنفسه، وبما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

مذهب السلف في باب الأسماء والصفات

مذهب السلف في باب الأسماء والصفات قال رحمه الله: [وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل]. هذه قاعدة أخرى تتفرع عن الأولى، وستأتي قواعد كثيرة كلها تتفرع عن القاعدة الأولى، وهذه القاعدة الفرعية تتمثل في أن طريقة السلف الذين سبيلهم سبيل المؤمنين، والذين اقتفوا أثر الأنبياء، والذين هم أهل الحق، والذين عصم الله بهم الدين، وتحقق فيهم إجماع الأمة على الحق، هؤلاء السلف طريقتهم وطريق أئمتهم: إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا الإثبات لابد فيه من احتراز، وهذا الاحتراز هو: أنه حينما نثبت لا نكيف ولا نمثل، فلا نكيف الغيبيات بما فيها أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا نقرر الكيفية لا في عقولنا ولا بألسنتنا ولا باعتقاداتنا؛ لأن الكيفية هي الحقيقة المحسوسة التي تتمثل في الغيبيات والمحسوسات، وإحساس الغيبيات غير ممكن. والتكييف هو: وصف الصفة وصفاً تفصيلياً كما توصف المخلوقات المعاينة والمشاهدة، وعليه فلا يجوز أن نصف أسماء الله وصفاته وصفاً كيفياً، بمعنى: أن نحدد الشكل واللون والحكم والثقل ونحو ذلك مما هو من لوازم التكييف. إذاً: المقصود التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله: الكلام في الشكل والهيئة التي عليها الحقيقة المعاينة، ونحن لا نعاين الحقائق الغيبية بحواسنا وإنما بقلوبنا، وعلى هذا فلا يجوز التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله. وأما التمثيل فهو جزء من التكييف ومتفرع عنه، والمقصود به: أنه لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله أو بعض صفات الله أو بعض أسمائه مثل شيء من مخلوقاته، وكذلك العكس، فلا نمثل أسماء الله وصفاته وأفعاله بأمثلة من المخلوقات، ولا نشبهها بالمخلوقات تشبيهاً كيفياً، والعكس كذلك، فلا نمثل صفات المخلوقات بصفات الله، ولا نجعل صفات الله كصفات المخلوقين، فإن هذا تمثيل، وهو كفر، ولا نجعل صفات المخلوقين كصفات الله، فإن هذا أيضاً تمثيل، وهو كفر. إذاً: فالتمثيل ممنوع من طرفين: تمثيل خصائص الله بالمخلوقات، وتمثيل خصائص المخلوقات بصفات الله، وهذا كله لا يجوز، والسلف طريقتهم حينما يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال أنهم ينفون التكييف والتمثيل، بخلاف ما يزعمه خصوم السلف من الجهلة وأهل الأهواء والبدع والافتراق بأن السلف يكيفون ويمثلون، ولذلك سموهم: مجسمة ومشبهة؛ لأنهم أثبتوا -أي: السلف- صفات الله، وعند أولئك القوم -أفراخ الفلاسفة- من أثبت أسماء الله وصفاته، أو شيئاً منها فهو ممثل مجسم، وهذا من الزيغ والعياذ بالله. وكذلك أيضاً نثبت الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فلا نؤولها ولا ننكرها ولا نشير إلى أنها رموز، أو أنها خيالات، أو أنها أمثال تضرب لا حقيقة لها، وكل ذلك مسالك الفلاسفة والمتكلمين وأفراخهم ممن تأثروا بهم، أو حكموا عقولهم، أو سلكوا مسالك الأمم الضالة، بينما قاعدة السلف تنبني على الإثبات من غير تحريف، والتحريف هو التأويل، ومن غير تعطيل، والتعطيل هو الإنكار، والتحريف قد سلكته طوائف من الفرق، والتعطيل هو منهج الجهمية والفلاسفة، فينفون الأسماء والصفات لله عز وجل، ويصفونه بالسلوب فيقولون: لا كذا ولا كذا، مما سيأتي بيانه، وهم في الحقيقة لا يثبتون شيئاً، وحينما ترد الأسماء والصفات في الكتاب والسنة فإنهم يقفون منها مواقف، فبعضهم ينكرها ويسخر من الكتاب والسنة، وبعضهم قد لا يجرؤ على إنكار الكتاب والسنة، لكن يصرفونها عن الإثبات فيقولون: هذه معان خيالية! أو هذه مثاليات! أو هذه أمثال تقرب وليست حقائق! أو هذه تنبني على التخييل ومحاولة ربط الناس بمعاني لا حقيقة ولا ثبوت لها! إلى آخر ما يقولونه، وهذا الصنف الأول. وأما الصنف الثاني: فهم أهل الكلام، وهؤلاء قد سلكوا مسلك التحريف الذي هو التأويل، أي: أنهم قد عمدوا إلى أسماء الله وصفاته، أو إلى بعضها فأخرجوها من حقيقتها إلى معان تخيلوها في عقولهم، مع أن هذه المعاني قد اختلفوا عليها كثيراً كما سيأتي بيانه، بل لا يكادون يتفقون على معنى. بينما السلف قد قام دينهم على الكتاب والسنة، وقامت طريقتهم على الكتاب والسنة، وهو الإثبات لله عز وجل من غير تمثيل وتشبيه، وإن كانت كلمة: (التشبيه) فيها تفصيل، وكذلك الإثبات من غير تحريف ولا تعطيل، أي: من غير إنكار ولا تأويل؛ لأن التعطيل إلحاد، والتحريف قول على الله بغير علم، وقول في الغيبيات، وتحكم فيما لا علم للإنسان به، وخروج عن مقتضى الحقيقة إلى أوهام وظنون وتخرصات كما سيأتي بيانه.

نفي ما نفاه الله عن نفسه من غير إلحاد في أسمائه وآياته

نفي ما نفاه الله عن نفسه من غير إلحاد في أسمائه وآياته قال رحمه الله: [وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]]. هذه القاعدة بيان للقاعدة التي قبلها، وهي نوع من استظهار القاعدة السابقة بأسلوب آخر، ولذلك قال: (وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد)، والإلحاد هو التعطيل والتحريف الذي أشار إليه؛ لأنه كله إلحاد، لكن هناك إلحاد خالص وهو كفري، وإلحاد غير خالص وهو بدعي، فالتحريف والتأويل بدعة، وهو نوع من الإلحاد، والتعطيل كفر، وهو نوع من الإلحاد، وكلها تدخل في قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، أي: في أسمائه وصفاته، سواء بالتعطيل أو التأويل. قال رحمه الله: [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] الآية. فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد للإلحاد والتعطيل]. نجد أن من السمات والمميزات التي ميز الله بها أهل الحق أنهم لا يحتاجون في الاستدلال على القواعد الكبرى إلى كبير عناء وجهد، بل يستطيع أصغر طلاب العلم إذا فقه أن يستدل على الحق بأيسر أسلوب وأخصر عبارة. ولذلك فإن هذه الآية -التي تمثل القاعدة التي أشرت إليها قبل قليل- من تمثلها واستشعرها دائماً فإنه بإذن الله سيوفق ويسدد للحق والصراط المستقيم، كما نجد أن الذين ضلوا سواء من أهل التشبيه أو من أهل التعطيل -وهم على طرفي نقيض- ما فقهوا هذه الآية، ولو فقهوها ما خرجوا عن الصراط المستقيم، وهي رد عليهم جميعاً. ففي قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يتمثل الحق الذي هو نفي النقائص والمماثلة عن الله عز وجل، وإثبات الصفات لله عز وجل على نحو مفصل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]؛ لأن من أثبت السمع والبصر أثبت بقية الصفات، ولزمه أن يثبت كل ما ثبت لله عز وجل في الكتاب والسنة. وهذا أنموذج هذه القاعدة: لذا فالمشبهة الممثلة المجسمة، وهم من الرافضة المشبهة الأوائل، وقفوا عند قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ولم يعتبروا بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وكذلك العكس، فالمعطلة والمؤولة الذين خاضوا في الأسماء والصفات، سواء الذين حرفوها بالتعطيل أو التأويل، كلهم غفلوا عن قوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهؤلاء وأولئك لو أخذوا بهذه القاعدة التي يستطيع أن يحفظها كل مسلم -وهذا من يسر دين الله عز وجل- وكل عالم وطالب علم وكل جاهل وعامي، وكل من أعطاه الله عقلاً، لسلموا من الوقوع في الخطأ والزلل. إذاً: فهذه القاعدة هي الميزان الذهبي في جميع مسائل وأمور الدين، وليس فقط في الأسماء والصفات، لكن عندما اختلت عند أهل الأهواء اختلت مناهجهم، فالذين أخذوا بأول الآية دون آخرها وقعوا في التعطيل، والذين أخذوا بآخرها دون أولها وقعوا في التشبيه، ولذا كان أكبر خطأ وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق أنهم أخذوا بالنصوص التي تصلح لهم وتركوا ما لا يوافق أهواءهم، كما أنهم لا يجمعون بين نصوص الشرع. إذاً: هذه القاعدة مثال لكل مناهج أهل الأهواء والبدع، وليس فقط محصورة في الأسماء والصفات، فجميع أهل الأهواء والبدع قامت مناهجهم في الاستدلال على هذا النحو، فيأخذون من الأدلة ما يوافق مناهجهم، ويتركون ما لا يوافق مناهجهم، ولو أخذوا بشمولية الأدلة على نهج السلف في الاستدلال لما وقعوا في الضلالة، إن كانوا يريدون الحق، وإلا فمن أراد الله له الغواية فلا هادي له، نسأل الله العافية.

الأسئلة

الأسئلة

من التكييف السؤال عن الكيفية

من التكييف السؤال عن الكيفية Q هل نستطيع أن نقول: إن التكييف هو السؤال عن الكيفية؟ A نعم، من التكييف السؤال عن الكيفية، وليس كله.

نفي المماثلة والتشبيه عن الله تعالى

نفي المماثلة والتشبيه عن الله تعالى Q هل صحيح أن قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، هو نفي للتمثيل لا للتشبيه، وعليه فالمخلوق مشابه للخالق؟ A لا، والكلام هذا لا ينبغي أن يكون على إطلاقه؛ لأن التشبيه بعضه تمثيل وبعضه ليس بتمثيل كما سيأتي في درس قادم إن شاء الله، وكلمة: (التشبيه) من الكلمات المجملة، أما كلمة: (التمثيل) فهي ليست من الكلمات المجملة، إذ أن التمثيل هو المماثلة، والمماثلة لا يمكن أن تكون بين الخالق والمخلوق أبداً، لكن التشبيه يقصد به أحياناً معاني مجملة، فقد يكون مجرد وصف الله عز وجل بالرحمة أنه تشبيه له بالمخلوق! إذاً: فكلمة: (تشبيه) عبث بها أهل الأهواء، فاستعملوها على غير وجهها، لذا فتحتاج إلى تفصيل، أما عند الإطلاق فلا يجوز أن نثبت لله تشبيهاً، لكن عند التعيين لابد من التفصيل.

حكم قول القائل: قدس الله روحه

حكم قول القائل: قدس الله روحه Q ما حكم قول القائل: قدس الله روحه؟ A هذه من الكلمات المجملة التي يقصد بها معاني عدة، فقد تكون بمعنى: رفعه إلى الجنة، وهذا مما يسع فيه الخلاف، لكن الأولى اجتنابها، وربما تعني: التعظيم الذي لا يجوز إلا لله عز وجل، وهذا غير جائز، أما إن قصد به: أنعم الله عز وجل على عبده -وهو معنى بعيد- فهو يكون مما يتسامح فيه، ولكن الأولى اجتنابها.

حكم إطلاق لفظ القديم وواجب الوجود على الله تعالى

حكم إطلاق لفظ القديم وواجب الوجود على الله تعالى Q إذا كانت القاعدة في باب الخبر: التسليم والتصديق وعدم الزيادة، فكيف جوز بعض السلف إطلاق ألفاظ محدثة على الله عز وجل، مثل: قديم وواجب الوجود؟ A السلف لم يطلقوا على الله عز وجل: قديم وواجب الوجود من باب التسمية، بل لا أعرف أحداً من السلف المعتبرين أطلق على الله ذلك، إلا بعض العلماء زلوا بذلك، والزلة ليست محسوبة على السلف، إذ أن منهج السلف أنهم لم يسموا الله عز وجل بهذه الأسماء، ولذلك عندما تجدون مباحث وفصولاً في أسماء الله لا تجدون من ضمنها هذه الأسماء، لكن قد يرد في درج الشرح، أو في ثنايا الكلام عن الصفات كلمة: (واجب الوجود)، وهي من باب الخبر، أو من باب المجاراة والرد على أهل الأهواء. إذاً: فرق بين العبارة التي يقصد بها تسمية الله على سبيل الاستقلال، وبين العبارة التي تأتي في درج الكلام عن صفات الله عز وجل، فهذه لا يجوز أن يذكر فيها إلا الأسماء الثابتة لله عز وجل، أو يقصد بها الإخبار عن الله عز وجل؛ لأن باب الإخبار عن الله واسع، فنقول مثلاً: الصانع، مع أنها ليست من أسماء الله، لكنها تأتي في باب شرح معنى الخالق.

مسألة زيارة ورؤية الموتى بعضهم لبعض

مسألة زيارة ورؤية الموتى بعضهم لبعض Q هل الموتى يتزاورون أو يرى بعضهم بعضاً؟ A هذه مسألة خلافية كما تعرفون، وهي ليست مما نتعبد الله بها حتى نقف عليها.

اتفاق السلف على عدم تخليد الفرق الثنتين والسبعين في النار

اتفاق السلف على عدم تخليد الفرق الثنتين والسبعين في النار Q هل الفرق الثنتان والسبعون ممن يخلد في النار؟ A لا، وهذا باتفاق السلف، والفرق الخارجة عن السنة على نوعين: فرق خرجت عن الملة نسأل الله العافية، مثل: كثير من الغلاة الذين وقعوا في الشركيات، أو وقعوا في الإلحاد، فهؤلاء ليسوا من الفرق الثنتين والسبعين، وفرق لم تخرج عن الملة، وهي فرق المسلمين، كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية الثانية لا الأولى، والمرجئة، وأهل الكلام، فهؤلاء من فرق المسلمين، وهم من أهل الوعيد، وحكمهم حكم أهل الكبائر والبدع، مع أن أغلب أهل الكبائر هم أهل بدع، والبدع هي أغلب الكبائر، لكن لا يخرجون عن مسمى المسلمين، ولا يجوز أن يعتقد تخليدهم في النار؛ لأنهم من أهل الوعيد، وتحت مشيئة الله عز وجل. وأرجو أن يفهم هذا جيداً؛ لأن كثيراً من الشباب قد صار عندهم خلط في هذه المسألة، فيظن أن مجرد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة)، أنه من باب الخلود في النار، وأن حكمهم حكم الكفار! وهذا غير سليم وصحيح، ولذلك حتى الوعيد بالنار كوعيد الزاني أو السارق أو آكل الربا، لا يعني التخليد في النار، وهذا كله باتفاق السلف، فينبغي أن يفهم هذا جيداً؛ وخاصة في مثل هذه الظروف التي كثر فيها الخلاف والتنازع على بعض الأمور.

حكم التخيل والتفكر في أسماء الله وصفاته

حكم التخيل والتفكر في أسماء الله وصفاته Q أحياناً قد يتخيل الواحد منا صفات الخالق جل وعلا، فهل يأثم ويحاسب بمجرد التفكير أم لا؟ A الخواطر التي تخطر للإنسان لا يسلم منها أحد أياً كان، مسلماً أو غير مسلم، فإذا سمع بأوصاف وأسماء فلابد أن يتخيل، وهذا الخيال ما دام أنه خيال عارض فلا يؤاخذ به المسلم، لكن يجب ألا يعتقده؛ لأنه من أسباب ضلال الذين ضلوا في أسماء الله وصفاته، فالمشبهة اعتقدوا ما يتخيلون فوقعوا في التشبيه الكفري، والمعطلة تخيلوا وظنوا أنه هو حقيقة أسماء الله وصفاته فوقعوا في التعطيل والتأويل، وكلاهما خطأ، لذا فالمسلم لابد أن يتخيل، لكن يجب ألا يعتقد خياله، فإن الله عز وجل أعظم وأجل مما نتخيله، أما أن يسلم الإنسان من الخيال فهذا محال، فالخيالات هي أمثلة في الذهن تقرب إلى الحقائق، أو تقرب صور الحقائق لا تقريب حقيقي، لكن تقريب تمثيلي خيالي، والخيال خيال ليس بحقيقة، وعلى هذا كون الإنسان يتخيل أسماء الله وصفاته هذا لا يضره، وإنما يضره أن يعتقد ما يتخيل، أو أن يبني على خياله أحكاماً، مثل: التأويل والتعطيل، وهذا هو الممنوع كما سيأتي بيانه.

شرح العقيدة التدمرية [2]

شرح العقيدة التدمرية [2] المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله صلوات الله عليهم هو إثبات صفات الكمال على سبيل التفصيل، أما النفي لصفات النقص فجاء على ألسنتهم مجملاً؛ وهذا المنهج الرباني قد جانبه الفلاسفة الجهمية والباطنية ومن نحا نحوهم تمام المجانبة، فوقعوا في الضلال.

بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل

بعث الله رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قال أهل اللغة: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] أي: نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] مثيلاً أو شبيهاً]. الإثبات المفصل يتمثل بما جاء تعداده من الأسماء الحسنى لله عز وجل، ومن صفات الكمال والأفعال لله عز وجل، وهذا قد ورد تفصيله في الكتاب والسنة، وهذا يسمى إثباتاً مفصلاً، ولذلك لابد من الإشارة إلى أمر مهم في مثل هذا المقام، وهو: أن الكتاب والسنة -أي: ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد اشتملا على صفات الكمال المطلق لله عز وجل، بما لا يحتاج البشر معه إلى تقرير أسماء وصفات لله من عند أنفسهم، نعم أسماء الله وصفاته لا تحصى ولا تعد، وليست محصورة فيما ذكره لنا، لكن ما ذكره الله عز وجل من أسماء وصفاته، وما ذكره له رسوله صلى الله عليه وسلم من أسمائه وصفاته تشمل كل كمال يمكن أن يرد على ذهن بشر، بل يمكن أن يخطر على بال مخلوق، وكل كمال يمكن أيضاً أن ينطق به البشر على أي لغة؛ لأن كل ما جاء في الكتاب والسنة يشمل هذا الكمال وزيادة، بمعنى: أن أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة تتضمن كل كمال يمكن أن يرد في أذهان المخلوقات، وعلى ألسنة البشر بأي لغة، وعلى هذا فهم ليسوا بحاجة إلى تقرير اسم أو وصف جديد لله عز وجل، ويتفرع عن هذا الأصل أصل آخر، وهو: أنه لو افترضنا أن أحداً قال: أنا أعرف من الكمالات ما لم يرد في الكتاب والسنة، فنقول له: هات ما عندك، فلو جاء من عنده بوصف كمال فلابد أن يرجع هذا الوصف إلى ما ورد في الكتاب والسنة، بمعنى: أن الألفاظ الجوامع في أسماء الله وصفاته لابد أن تتضمن كل ما يرد على أذهان البشر وزيادة، يعني: أنها تفي بما يرد على أذهان البشر وزيادة، بل لله من الأسماء ما يمكن أن يجمع جميع الكمالات، مثل: اسم الجلالة: (الله)، و (الحي القيوم) و (ذو الجلال والإكرام)، و (العلي العظيم)، ونحو ذلك من الأسماء التي تشمل كل كمال.

منتهى الكمال في أسماء الله تعالى وصفاته

منتهى الكمال في أسماء الله تعالى وصفاته ومنتهى الكمال يرجع إلى ثلاثة أمور: الأول: كمال العلم، فالله عز وجل بكل شيء عليم، وقد ورد من أسمائه وصفاته الدالة على كمال العلم ما لا يمكن أن يأتي البشر بأفضل منه. الثاني: كمال القدرة، فالله عز وجل على كل شيء قدير، وكل ما يمكن أن يرد في أذهان الناس من وصف كمال القدرة فقد تضمنته أسماء الله وصفاته في الكتاب والسنة. الثالث: كمال الغنى، فالله عز وجل هو الغني، وكل العباد مفتقرون إليه، ولا يمكن للبشر أن يأتوا بوصف يدل على كمال الغنى أفضل مما ورد في الكتاب والسنة، وعلى هذا فإن ألفاظ الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته كافية لتتضمن كل كمال ممكن أن يرد على أذهان البشر وفي لغاتهم، ومن هنا لا يحتج محتج أو يدعي مدع أنه بحاجة إلى أن يقرر لله من الأسماء والصفات ما لم يرد في الكتاب والسنة، وكما قلت: بأن الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة ليست حاصرة لكمال الله، فلله من الكمال ما لا تحيط به العقول، وقد ورد ذلك في كثير من الأحاديث، مثل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، أي: أن الله قد استأثر في علم الغيب من الكمال له، والأسماء والصفات ما لم يرد في الكتاب والسنة؛ لأنها فوق مدارك البشر. وكذلك ما ورد في حديث الشفاعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سيدعو الله في ذلك الموقف العظيم بمحامد يلهمه إياها لم يكن يعرفها في الدنيا، ولاشك أن كمال الله لا يحاط به. إذاً: بعث الله رسله بإثبات مفصل، فقد فصل الله من أسمائه وصفاته ما فيه الكمال المطلق مما تدركه مدارك البشر، وما لا تدركه مما حجب عنها أعظم وأكثر مما ورد، والله أعلم. وأما النفي المجمل، فيعني: نفي النقائص عن الله عز وجل، مثل قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فيدخل فيه نفي كل ما يمكن أن يتصور ويرد من النقائص، ومثل قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، نفي مجمل لجميع النقائص، ولا نحتاج إلى أن نفصل كما تفعل الفلاسفة وأهل الكلام، فتكثر من كلمة: (لا) في أوصاف الله عز وجل، فيقولون: لا كذا ولا كذا، ولا يفعل كذا ولا كذا، وهذه كلها إساءة أدب مع الله عز وجل، فالله عز وجل يكفي في تنزيهه بالنفي المجمل الذي ورد في الكتاب والسنة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، لكن قد يقول قائل: ألم يرد نفي نقائص في القرآن والسنة غير هذه؟ و A نعم، قد ورد نفي النقائص التي وردت في عقائد أهل الباطل، ولذلك لا أعرف أن هناك نفياً لم يرد ضد اعتقاد باطل على ألسنة البشر من المشركين والمنافقين والضالين، وكل ما ورد نفيه مما اعتقده أهل الباطل في الله عز وجل هو من النقائص، ولذلك تكفي هذه المجملات، وأما الأسماء والصفات فقد جاءت مفصلة كما هو معلوم.

التفصيل في نفي المشابهة عن الله عز وجل دون المماثلة

التفصيل في نفي المشابهة عن الله عز وجل دون المماثلة كما قد يقول قائل أيضاً: إن الله عز وجل قد نفى المماثلة ولم ينف التشبيه، وعليه فيجوز أن يشبه الخالق بالمخلوق، فما رأيكم؟ و A نعم، لم يرد نفي المشابهة في القرآن، وإنما ورد نفي المماثلة فقال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، فنفى المماثلة ونفى الكفؤ، وبقيت مسألة التشبيه، فلم يرد نفي التشبيه في الكتاب ولا في السنة، ولذلك قال السلف: مسألة التشبيه من الألفاظ المجملة التي ضلت بها كثير من الفرق، فالمشبهة وقعوا في التشبيه بدعوى أن الله عز وجل لم ينف التشبيه، لكنه نفى المماثلة، فقالوا: يجوز أن نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق تشبيهاً مطلقاً، وهؤلاء كفروا، وصنف آخر: بالغوا في نفي التشبيه، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وجعلوا إثبات الصفات من التشبيه، زعماً منهم أنه لا يمكن أن نثبت الأسماء والصفات إلا ونقع في المشابهة، ومن هنا نفوا الأسماء والصفات، وهؤلاء ضلوا عن الحق. إذاً: من نفى التشبيه بقصد نفي المماثلة مطلقاً فهذا هو الحق، ومن نفى المشابهة بقصد المشابهة اللفظية فنقول: لا؛ لأن هذه لابد أن نأخذها على قواعد الشرع، فمثلاً: لو قال: أنا أنفي أن يكون الله سميعاً بصيراً؛ لأن السمع والبصر من صفات المخلوقين، وهذه مشابهة، فأنا أنفي السمع والبصر؛ لأنها توقع في المشابهة، فنقول: لا؛ لأن المشابهة الحقيقية غير واردة، فالله عز وجل له من الصفات ما يليق بجلاله، مثل: السمع والبصر، بينما سمع وبصر المخلوقات يليق بضعفها ونقصها، ووجود التشابه اللفظي بين صفات الله وصفات المخلوقين ليس تمثيلاً وليس تشبيهاً من جميع الوجوه، وإنما هو تشابه لفظي، وعلى هذا لابد من التفصيل: فالتشابه اللفظي واقع، لكن لا يدل على تشابه في الكيفية؛ لأن التشابه في الكيفية ممنوع. والخلاصة: إن قصد بنفي التشبيه نفي المماثلة فنعم؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وإن قصد نفي المشابهة فهذا فيه تفصيل، فالمشابهة اللفظية واردة، ولا دخل لها في حقائق الأمور ولا في الكيفيات، أما المشابهة الكيفية فهي غير واردة.

شواهد من القرآن لطريقة الرسل في الإثبات والنفي

شواهد من القرآن لطريقة الرسل في الإثبات والنفي قال المصنف رحمه الله: [وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]. وقال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:100 - 101]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:1 - 2]، وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:149 - 160] إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]، فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات. وأما الإثبات المفصل، فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الآية بكمالها].

اشتمال اسم الجلالة على كل كمال

اشتمال اسم الجلالة على كل كمال اسم الجلالة: (الله) يشمل كل كمال؛ لأن الألوهية تشمل معاني من الكمال لا تكاد تحصى، فالله بمعنى: المألوه، أي: المعبود الذي تنجذب إليه جميع المخلوقات، بخلاف الربوبية فهو انجذاب قسري، أما بالعبادة فهو انجذاب اختياري لمن وفقهم الله عز وجل وهداهم، كما أن من معنى الألوهية: المحبة، والكمال؛ لأنه لا يستحق الألوهية إلا الكامل، ومن معاني الألوهية كذلك: الحياة، فإنه لا تكون ألوهية إلا للحي وهكذا. وعليه فاسم الجلالة: (الله) قد تضمن الكمالات كلها، ولذلك نجد أنه إذا تأمل الإنسان هذا اللفظ عند النطق به، تجد أنه يخرج من أقصى كيان الإنسان، فإذا استشعر المسلم وهو يعبر بهذه الكلمة ما في قلبه من المعاني، وما على لسانه من اللفظ بها، يجد أنه ينجذب بهذه الكلمة إلى كمال لا ينتهي إلى حد. إذاً: اسم الجلالة: (الله) شامل لجميع الكمال، لاسيما كما ذكرت بأن معانيه اللغوية متعددة، وكل معنى منها يدل على كمال من الكمالات التي لا نهاية لها. وكذلك في هذه الآية قوله عز وجل: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهذان الاسمان لله عز وجل يدخل فيهما كل كمال، وكذلك بقية أسماء الله عز وجل الجامعة التي سيعدها الشيخ هنا، إذ أنها من الأسماء أو الألفاظ ذات المعاني المتعددة التي تشتمل على الكمال، مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] و {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] و {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] و {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] إلى غير ذلك من أسماء الله عز وجل.

مجيء القرآن بإثبات أسماء الله وصفاته على وجه التفصيل

مجيء القرآن بإثبات أسماء الله وصفاته على وجه التفصيل قال رحمه الله: [وقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] السورة، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:14 - 16]، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:3 - 4]. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] الآية، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24]. إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين]. إن منهج جميع المرسلين أنهم جاءوا بإثبات أسماء الله وصفاته، ووصفه بالكمال، وبيان وحدانيته في الربوبية والإلهية، ولذلك فإنه من هذا الجانب، أي: جانب التوحيد والعقيدة، فإن الرسل كلهم دينهم واحد، وكلهم جاءوا بإثبات الكمال لله عز وجل، ووصفه بصفات الكمال، وكلهم جاءوا بالدعوة إلى توحيد الله، وإنما اختلفت شرائعهم، فالشرائع جاءت لكل صنف من البشر، ولكل أمة من الأمم بحسب ما تحتاجه، وبحسب حالها وزمانها وظروفها، ولم تأت شريعة لجميع البشرية إلا هذه الشريعة الخالدة التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فهي آخر الشرائع وأتم الشرائع، وهي عامة لجميع البشرية إلى قيام الساعة. وأما التوحيد فإنه المتمثل في أركان الإيمان، والدعوة إلى التوحيد، ونفي الشرك، وكل الرسل جاءوا بشعار أو بقاعدة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فلم يختلف جميع المرسلين في ذلك، بل صاروا في هذا الأمر على منهاج واحد، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإخ

طريقة مخالفي الرسل

طريقة مخالفي الرسل قال رحمه الله: [وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة المتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان]. قبل أن يفصل الشيخ في قولهم أحب أن أشير إلى ما سبق تقريره في أكثر من درس: نظرة الفلاسفة والأمم الضالة لله عز وجل، إذ إنها نظرة قاصرة، فالفلاسفة ومن تفرع منهم عقيدتهم في الله باطلة، وجميع الفرق التي ضلت، سواء من اليهود أو النصارى أو في هذه الأمة -في باب أسماء الله وصفاته- كلها إنما تعتمد على أوهام الفلاسفة، أو على الشبهات العقلية التي هي من جنس شبهات الفلاسفة، وقد ذكر الشيخ نماذج من الفلاسفة والأمم الضالة، كالصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية وغيرهم، ونظرتهم لله عز وجل نظرة تجريدية سلبية، أعني: أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً ذاتياً، ولذلك توهموا بأنه لا يقبل الأسماء والصفات، وهم في هذا يختلفون اختلافاً كبيراً في تصورهم عن الله، وفي توهمهم عن الله، وهم الذين قال الله فيهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:10 - 12]؛ لأنهم لما ضلوا في معرفة الله عز وجل ضلوا حتى عن يوم القيامة فلم يدركوه، فهذه الأمم وهذه المناهج الفلسفية تقوم على اعتقاد أنه ليس لله وجود حقيقي يقبل الوصف ويقبل الأسماء، ولا يقبل أن يكون له أفعال، هذا التصور التجريدي لهم فيه مناح كثيرة، ولذلك كثر اعتقادهم في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. ومنهم من يرى أن وجود الله عز وجل مجرد وجود عقلي، أي: أن هناك عقلاً مدبراً لهذا الكون، ومنهم من اعتقد أن وجود الله وجود روح فقط، أي: عبارة عن كيان معنوي يحرك هذا الكون كما تحرك الروح الجسد، وبعضهم يتوهم لله أشياء وتصورات، لذا كان أغلب تصورات الفلاسفة والباطنية والجهمية تدور حول هذا، أي: أن الله عز وجل مجرد قوة، أو مجرد عقل فعال، أو عقل مدبر، أو أنه روح، أو نحو ذلك من هذه الأوصاف التي إذا تأملناها فإنها تؤدي إلى عدم اعتقاد أسماء حقيقية وأوصاف حقيقية لله عز وجل، وإن قال بعضهم بالأسماء أو ببعض الأسماء وببعض الأوصاف، فمن باب أنه يوصف بها الأمر الذي يتصور في الأذهان صار تصورهم لله تصوراً لا يعدو أن يكون في الأذهان، وهذا معنى كلام الشيخ: وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان. مع أننا لا نقول: في الأعيان، ولا في غير الأعيان، نحن نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن حتى نعرف سبب ضلال هؤلاء، إذ إن ضلالهم ناشئ عن أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً، ولا يعتقدون لله وجوداً منفصلاً عن المخلوقات، ومن هنا لا يتصف عندهم بالعلو، ولا يتصف بالفوقية، ولا يتصف بالاستواء، ولا يتصف بكثير من الصفات؛ لأنها تؤدي إلى وجود حقيقي، بل إن بعضهم قد نفى الأسماء؛ لأنه إذا سمي فلابد أن يكون له مسمى، والمسمى لابد أن يكون له وجود حقيقي، وهم لا يعتقدون الوجود الحقيقي، وكذلك الذين نفوا الصفات قالوا: الصفات لابد أن تدل على موصوف، والموصوف لابد أن يكون له ذات، والله عز وجل منزه من أن يكون له وجود ذاتي، ومعلوم أن هذه اللوازم لا نلتزمها، لكن نحن نلتزم المعاني الحقة، بمعنى: أننا نقول: ماذا تقصدون بالذات؟ إن قصدتم بالذات أن لله وجوداً حقيقياً، وأن له الأسماء والصفات، وأنه فعال لما يريد، فالله عز وجل موصوف بذلك، لكن كلمة: (ذات) من الكلمات التي يعبر بها عن الإثبات، وليست من أسماء الله وصفاته، وإنما هي تعبير مثلما نقول: شيء، ومن هنا أيضاً تدركون أن هؤلاء لا يرون أن الله شيء، فالله ليس بشيء عندهم. ومن هنا نشأت عقائد الباطنية، وعقائد الفلاسفة، وعقائد أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهذه الثلاثة الأخيرة إلحادية شركية فلسفية تقوم على ما ذكرته لكم من قبل، فالذي يرى أن الله روح يرى أن الروح قد حلت بالمخلوقات، والذي يرى أن الله عقل يرى أن العقل قد اتحد بالمخلوقات، والذي يرى أن الله مجرد الوجود المطلق قال بوحدة الوجود، وعلى أي حال لا نريد الدخول في تفاصيل أقوالهم، وإنما هذا الكلام هو تمهيد لما سيذكره الشيخ عنهم بعد قليل في تفصيلاتهم للنفي، فهم يعتقدون في الله السلوب، فيسلبون عن الله الأسماء والصفات ويقولون: لا كذا ولا كذا ولا كذا ولا كذا مما سيأتي ذكره؛ لئلا يثبتون لله وجوداً حقيقياً، ولذا كان أصعب ما على هذا الصنف أن يتصوروا لله وجوداً حقيقياً؛ لأنه يلزمهم بإثبات الحق إثبات الأسماء والصفات والأفعال له عز وجل. ولذلك نجد كلاً منهم أنه ينفر مما يتعلق بعقيدته، فالجهمي والفيلسوف لا يطلق الأسماء والصفات إطلاقاً، ولا يطلق نصوصها، والمعتزلي لا يطيق ذكر الصفات، وأهل الكلام من

استلزام قول الفلاسفة غاية التعطيل والتمثيل

استلزام قول الفلاسفة غاية التعطيل والتمثيل قال رحمه الله: [فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات]. قوله: (فقولهم) أي: أنهم قالوا: بأنه لا يثبت لله إلا الوجود المطلق، وهذه كلمة فلسفية وراءها إلحاد، فهم يقصدون بالوجود المطلق ما ذكرته لكم قبل قليل، أي: أنهم يقولون: إنه مطلق من التقييد باسم أو وصف أو فعل، وهذا هو معنى مطلق، وهذا يعني أنه لا يكون له وجود إلا في الأذهان فقط، بينما نحن نقول: إن لله وجوداً فعلياً، مع أننا لا ندرك أسماء الله وصفاته على كيفيتها وحقيقتها؛ لأن هذا مما لا تدركه الأبصار، لكن نحن نعلم يقيناً أن لله وجوداً حقيقياً، بينما هم يقولون: الوجود ذهني. وقوله: (يستلزم غاية التعطيل) يعني: غاية نفي الأسماء والصفات والأفعال عن الله عز وجل، كما أنه يستلزم غاية التنفيذ؛ لأنهم حينما نفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال شبهوه بالمعدوم، وهذا هو أقبح تمثيل يمكن أن يتصور؛ لأن الذي -بزعمهم- لا يقبل الاسم ولا الوصف ولا الفعل ولا يقبل ذلك كله هو المعدوم الذي ليس له وجود. وأما الموجود فلابد أن يقبل الأسماء والصفات والأفعال كما سيأتي، ولذا فإن الشيخ سيجادلهم حتى في مبدأ الوجود، حيث قال: دعونا من مسألة إنكار الأسماء والصفات، لكن هل تقرون بأن الله موجود؟ الكثير منهم سيقول: نعم. إذاً: إذا توفرت صفة الوجود فالموجود لابد أن تكون له صفات أخرى أيضاً، وإلا فلا يقبل الوجود بمجرد الاعتراف بوجوده.

مذهب القرامطة والفلاسفة والمعتزلة في الصفات

مذهب القرامطة والفلاسفة والمعتزلة في الصفات قال رحمه الله: [فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين]. المراد بالنقيضين: الوجود والعدم، والكمال والنقص، لكنهم فعلاً وصفوه بالنقص؛ لأن الذي لا يقبل هذا الوصف كله هو المعدوم، كما يسلبونه النقيضين: الإثبات والنفي. قال رحمه الله: [فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل؛ لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات. وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجود هـ فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم. وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البدهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات. وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات. والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات]. الشيخ في هذا الكتاب سيشير إلى تناقض هذه المقالات على جهة التفصيل، ولذلك أترك التعليق عليها الآن؛ لأن الشيخ هناك سيبين فساد هذه المقالات بالأمثلة وبالشواهد من مقالاتهم، ومما يرد على مقالاتهم أيضاً، لكن في هذا المقام يحسن الإشارة إلى أمرين: الأول: أن هذه الطوائف الثلاث -أعني: غلاة الفلاسفة والجهمية والقرامطة- والمعتزلة الذين نفوا الوجود والعدم جميعاً، أو وصفوه بالنقيضين، أو الذين وصفوه بالسلبيات فقط -يعني: بالنفي- أو الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، كل هؤلاء يلتقون على قاسم مشترك وقاعدة مشتركة، ولذلك سيأتي رد الشيخ عليهم، سيرد على طائفة منهم ويجعل رده من الجميع على الجميع، يعني: سيلزم بعضهم بقول بعض، فيأتي لأخفهم فينقض قوله، ثم بناقض هذا القول ينقض قول من سبقوه؛ لأن كل طائفة من هؤلاء تشارك أهل السنة في بعض القواعد التي ترد بها على من هو أشد غلواً منهم، فمثلاً: المعتزلة يشاركوننا في الرد على الجهمية في بعض القواعد، وعليه فسنتخذ وسيلتهم في الرد على الفلاسفة الذين هم أشد غلواً هم والجهمية وسيلة للرد عليهم هم، ثم نأتي إلى الأشاعرة والماتريدية الذين لا يثبتون إلا سبع صفات ويردون الباقي، فسيشاركونا في الرد على المعتزلة في بعض القواعد، أو نرجع إليهم في الرد على تأويلاتهم بنفس الأسلوب الذي ردوا به على المعتزلة، وهكذا حتى لو ما يبقى إلا من يؤول صفة واحدة، فإنه سيرد على بقية الذين يؤولون بنفس الأسلوب الذي رد به على من أولوا في تأويله لهذه الصفة، وهذه قاعدة فطرية وعقلية سليمة، وسيأتي تفصيلها في الكتاب في دروس قادمة بمشيئة الله تعالى. الثاني: أن هذه الطوائف كلها أو بعضها قد تتتلمذ على بعض، حتى وإن رد بعضهم على بعض، وكفر بعضهم بعضاً، فالواقع من الناحية التاريخية والمنهجية والعلمية، بل ومن جميع النواحي أن هذه الطوائف -من أول تأويلاً واحداً أو أول بعض الصفات أو جميع الصفات أو أنكر الصفات أو أنكر الأسماء والصفات- قد تتلمذ بعضهم على بعض، وتأثر بعضهم بالبعض الآخر، ولذلك سنجد أن الرد عليهم سهل من هذه الناحية، ومن الناحية الأخرى نستطيع أن نقول بسهولة: إنهم جميعاً وقعوا في مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، هذا الاتباع قد يكون في جزئية صغيرة، وقد يكون في قاعدة، وقد يكون في عدة قواعد، وقد يكون في قاعدة شاملة أو قواعد شاملة في الدين، فالغلاة منهم اتبعوا سنن السابقين من ضلال الأمم في قواعد شاملة، والذين ضلوا في بعض وقعوا في بعض البدع فيما وقعوا فيه، ولاشك أن من أسباب وقوعهم أنهم تأثروا بالأمم السابقة، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تكلف، فهو أمر علمي سيأتي ذكره إن شاء الله، لكن أقول: هذه الطوائف لا يعني أن كل واحد منها مستقلة بقواعدها ومنهاجها، فقواعدهم ومناهجهم واحدة، وكل طائفة قد تتلمذت على الطائفة التي ترد عليها، وكل طائفة قد تتلمذت على الطائفة التي هي أشد منها غلواً، وهذا في جميع الفرق، وليس فقط فيما يتعلق بالتي ضلت في الأسماء والصفات. إذاً: كل فرقة ترد على الأخرى عندها مما عند الأخرى شيء، إما على سبيل المضادة، أو مما يسمى رد

وقوع الفرق الضالة في شر مما فروا منه

وقوع الفرق الضالة في شر مما فروا منه قال رحمه الله: [وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل، ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات].

السفسطة في العقليات

السفسطة في العقليات قوله: (ولكنهم من أهل المجهولات) أي: أن أصول أهل الأهواء والبدع، وعلى رأسهم الذين ضلوا في باب الأسماء والصفات والأفعال لله عز وجل، إنما تقوم على الجهل والأوهام؛ لأن الكلام في الغيب عموماً، وفي أسماء الله وصفاته وأفعاله بالذات، لا سبيل إلى معرفته على جهة التفصيل، لا بالعقل ولا بالفطرة ولا بالعلم الحسي. ولو تناولته الحواس لما كان من الغيب، والله أعظم وأجل من أن تتناوله الحواس. إذاً: هؤلاء ليس عندهم إلا المجهولات التي هي أوهام وتخرصات وخيالات، ثم إنهم اتصفوا بالمجهولات لأنهم لا يعتمدون على الوحي، وإذا استدلوا بالوحي استدلوا به على وجه باطل، كالأخذ بالمتشابه، وجر الدليل إلى غير ما يدل عليه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما ذكر الله عنهم. وقوله: (المعقولات)، أي: أنهم يشبهون خيالاتهم الفاسدة بالمعقولات التي قد تكون معقولة في عالم حياة الناس، فمثلاً: الفلاسفة لهم فلسفة معقولة صحيحة في العلوم الطبيعية، كالرياضيات وغيرها، فإذا قالوا: 1+1=2 فهذا حق؛ لأنه أمر معلوم ويدخل تحت مدارك الناس، وكونه معلوماً لا يعني أننا نلحق به غير المعلوم، فهم شبهوا أوهامهم وتصوراتهم عن الغيب بالمعقولات، ولذلك أكثر ما يفتن أجيال المسلمين الآن قديماً وحديثاً بالفلاسفة هو: أن بعض الفلاسفة لهم إسهام في العلوم الطبيعية والعلوم التجريبية، فمثلاً: ابن سينا، هذا رجل اعتقاده فاسد ويعترف بذلك، فيعترف بأنه باطني إسماعيلي، لكن له كلام جيد في الطب، وكونه أجاد في الطب لا يعني أنه محق في كلامه عن الله عز وجل بالباطل، فحينما جانب الوحي فيما يتعلق بالله عز وجل وبأمور الآخرة وغيرها وقع في الباطل المحض، ووقع في الكفر، وحينما تكلم في العلوم الطبيعية أجاد، ولا فضل له في ذلك؛ فإن العلوم الطبيعية يستوي فيها المسلم والكافر، إذ هي علوم عقلية تتعلق بعالم الشهادة. وكذلك بقية الفلاسفة، وأنا قد لاحظت في الآونة الأخيرة خاصة من خلال غوغائية الإنترنت، أن كثيراً من الناس يتعاطف مع الفلاسفة، ويستنكر على من يتكلم فيهم، ونسي هؤلاء أن الفلاسفة ليسوا على دين، فهم تالفون في الاعتقاد، إذ أن دينهم هو الإلحاد، وأما كون بعضهم أجاد في العلوم الطبيعية فهذا أمر آخر، ولا دخل له في الدين، يقول بعضهم: كيف تتكلمون في ابن سينا وهو الطبيب المجيد؟! بل بعضهم قال: والموسيقار فلان؟! ويا ليتنا سلمنا من موسيقاه! وعلى أي حال ينبغي أن يتعلم الشباب الانضباط في الموازين الشرعية. وهذا هو معنى كلام الشيخ: (المشبهة بالمعقولات)، فإنهم ظنوا أنه بإمكانهم أن يتطاولوا حتى على الغيب، فقاسوا الغيب بالشهادة، وقاسوا الشهادة بالغيب، فصاروا من الخراصين الذين ذمهم الله عز وجل. وأما تشكيكهم في العقليات، فمعنى هذا: أنهم سلكوا طريق السفسطائية من الفلاسفة الذين يتعمقون فيما لا تدركه العقول، والسفسطة هي الكلام الذي لا قيمة له، والكلام التافه الذي لا يستند إلى عقل ولا إلى فطرة ولا إلى دين، وكل الفلسفة سفسطة، وكل ما وراء الطبيعة فلسفة حسب مصطلحهم، أو كل ما يتعلق بالغيبيات فلسفة وسفسطة، وكلها لا أصل لها.

القرمطة في السمعيات

القرمطة في السمعيات قوله: (يقرمطون في السمعيات)، القرمطة هي: سلوك طريق القرامطة الباطنية الذين يقلبون ألفاظ الشرع إلى معانٍ باطلة، فيفسرون كل المصطلحات الشرعية إلى معانٍ ضدها تماماً، فيفسرون الحق بالباطل، والباطل بالحق، ويفسرون أركان الإسلام بأشخاص يقدسونهم! وأركان الإيمان بأشخاص يقدسونهم! بل حتى مشاعر الحج يؤولونها بأشياء يعبدونها من دون الله، ويقلبون المصطلحات الشرعية إلى معانٍ باطلة دون أي وجه من الدلالة، لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً سليماً، فهم يقرمطون في السمعيات، فيأخذون ألفاظ القرآن وألفاظ الحديث فيؤلونها بتأويلات معكوسة تماماً، فيصورون الحق بصورة الباطل، ويصورون الباطل بصورة الحق، ويصورون أهل الحق على أنهم جهلاء، ويصورون أهل الباطل على أنهم أهل العلم، ولذلك قالوا: بمبدأ الحقيقة والشريعة، والظاهر والباطن، وهذه هي القرمطة، نسأل الله العافية. قوله: (ما وراء الطبيعة) مصطلح، لكن من الناحية الشرعية عليه مآخذ؛ لأنه ليس كل الغيبيات وراء الطبيعة، فكثير من الغيبيات في الإنسان نفسه، لكن هم عبروا بما وراء الطبيعة عن الإلهيات، فسموا الإلهيات ما وراء الطبيعة، وهذا التعبير نوعاً ما إذا قصد به هذا الحد فقد يكون تعبيراً وصفياً تقريرياً، أما أن يكون مصطلحاً حقيقياً فلا، وعليه فلا يجوز أن نقف عنده ونعتبره من المصطلحات الصحيحة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تسمية المدارس الحكومية ونحوها بأسماء الفلاسفة كابن سيناء

حكم تسمية المدارس الحكومية ونحوها بأسماء الفلاسفة كابن سيناء Q توجد مدرسة في الرياض وغيرها تسمى بمدرسة: ابن سينا أو ابن الفارابي وغيرهما، فما حكم ذلك؟ A في الحقيقة هذا من جهل بعض الناس، والأولى أن ننصح وزارة المعارف بأن تلغي مثل هذه الأسماء؛ لأن هؤلاء ليسوا قدوة في الدين، نعم لهم جهود في بعض الأمور العلمية خاصة، كـ ابن سينا في الطب، لكن جهوده كجهود أي إنسان غير مسلم، فهم خلطوا أموراً نافعة وضارة من الكفار، وعليه فلا يجوز أن نستعمل اسم هذا الرجل، كما أننا لا نجيز أن نضع اسم دارون وفلان وفلان؛ لأن الفتنة فيه أعظم، بل أرى أن أصحاب المناهج الضالة ممن ينتسبون للإسلام أن وضع أسمائهم أخطر، ولو أن الإخوة الذين يدركون مثل هذه الأسماء ويعرفونها، سواء من أسماء المدارس وغيرها، فتحصر وترفع للمسئولين، ويبين وجه الحق والخطورة في ذلك من ميزان عقدي صحيح بالأدلة، وأنا واثق إن شاء الله أنه سيسعى المسئولون إلى إزالة ما هو باطل.

وجود القرامطة في كثير من البقاع العربية والإسلامية

وجود القرامطة في كثير من البقاع العربية والإسلامية Q هل لا يزال للقرامطة والإسماعيلية وجود، وما حكمهم؟ A نعم، فهم موجودون الآن في كثير من البقاع، ولهم أسماء عديدة، مثل: الإسماعيلية، والبهرة، والباطنية وغيرها، ومما ينبغي التنبه له أن الباطنية يمكن أن تظهر كشوكة ضد المسلمين من خلال الأحداث في أفغانستان، إذ أنه يقطن كثير منهم شمال أفغانستان.

مدى صحة مقولة: كل ما جاء عن الله في بالك فاعلم أن الله ليس كذلك

مدى صحة مقولة: كل ما جاء عن الله في بالك فاعلم أن الله ليس كذلك Q ما صحة المقولة: كل ما جاء عن الله في بالك فاعلم أن الله ليس كذلك؟ A نعم صحيح، ليس كذلك على سبيل التحديد والتشبيه والتوقع، فكل ما تتصور عن أسماء الله وصفاته لا يمكن أن يصل تصورك إلى الحقيقة، ولذلك ما في الأذهان من تصور عن عظمة الله سبحانه، إنما هو أمثال في الأذهان فقط، وليست هي حقيقة ما عليه الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله.

شرح العقيدة التدمرية [3]

شرح العقيدة التدمرية [3] التفصيل في الإثبات هو المنهج الصحيح في باب صفات الله تعالى، والتشابه في الألفاظ لا يوجب التشابه في حقيقة ما تطلق عليه تلك الألفاظ، وبهذا يرد على النفاة الذين نفوا صفات الله تعالى بحجة أن إثباتها يلزم منه مشابهتها بصفات المخلوقين.

مواطن الاستشهاد في الآيات عند الكلام على الإثبات المفصل

مواطن الاستشهاد في الآيات عند الكلام على الإثبات المفصل أما الكلام على الإثبات المفصل، فسنمر على مواطن الاستشهاد في الآيات؛ لأني بعد التأمل رأيت أن بعض الآيات قد يخفى وجه الشاهد فيها، وبعض الآيات قد تضمنت أكثر من دليل على الإثبات المفصل، لذا فسنقف على أسماء الله وصفاته وأفعاله والإخبار عن الله عز وجل في هذه الآيات، مع ما ورد في بعض الآيات من باب الأسماء، وبعضه من باب الصفات، وبعضه يجمع بين الأسماء والصفات، وبعضه من باب أفعال الله عز وجل، وبعضه من باب الإخبار عن الله عز وجل، وهذا كله يدخل في باب الإثبات المفصل. أولاً: آية الكرسي معروفة بدلالتها على أسماء الله عز وجل، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فهذه كلها أسماء. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] فهذه مع اسم الجلالة: (الله) قد أثبت اسم (الأحد) لله عز وجل، وكذلك: (الصمد). وبعده: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]، صرحت باسم (العليم)، وباسم (الحكيم)، وتضمن صفة (العلم)، وصفة (الحكمة). وكذلك: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، تضمنت صفة (العلم) و (القدرة)، مع ثبوت الاسمين. وكذلك: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، تضمنت أيضاً من الصفات: (السمع) و (البصر)، مع ثبوت الاسمين. وكذلك: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، تضمنت صفة (العزة) و (الحكمة)، مع ثبوت الاسمين. وكذلك: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] كذلك تضمنت مع ثبوت الاسمين صفة (المغفرة) وصفة (الرحمة). وكذلك: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، تضمنت صفة (المغفرة) وصفة (المودة). وكذلك: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، تضمنت الخبر عن الله عز وجل، وأنه ذو عرش، وكذلك اسم (المجيد) وصفة (المجد). وكذلك: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، تضمنت معنى الفعل لله عز وجل، وكذلك الإرادة. وقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، هذه أسماء لله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرح معانيها فقال: (الأَوَّلُ الذي ليس قبله شيء، وَالآخِرُ الذي ليس بعده شيء، وَالظَّاهِرُ الذي ليس فوقه شيء، وَالْبَاطِنُ الذي ليس دونه شيء)، فهذه أسماء تضمنت صفات وأخبار الأولية والآخرية والظهور والباطن، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، تضمنت أيضاً اسم (العليم) وصفة (العلم) لله عز وجل. وكذلك قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]. فقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، تضمنت صفة (الخلق). وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، تضمنت صفة (الاستواء). وقوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا)، تضمنت عموم علم الله عز وجل. وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ) تضمنت صفة (المعية) المقيدة بثبوت العلو كما هو معلوم، وليست معية الحلول والاتحاد والمخالطة ووحدة الوجود، وإنما المعية هنا: المعية في العلم. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، تضمنت صفة (البصر) لله عز وجل. ثم قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] فقوله: (مَا أَسْخَطَ اللَّهَ) تضمنت صفة لله عز وجل على ما يليق بجلاله. وقوله: (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ) تضمنت صفة لله عز وجل. وقوله: (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) تضمنت فعلاً من أفعال الله. وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، تضمنت صفة (المحبة) لله عز وجل. وكذلك قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119]، تضمنت صفة الرضا لله عز وجل.

اعتبار سياق آيات الأسماء والصفات عند أهل السنة والجماعة

اعتبار سياق آيات الأسماء والصفات عند أهل السنة والجماعة وكذلك قوله عز وجل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] تضمنت صفة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، والسياق معتبر، لا كما يقول بعض المفتونين: إن أهل السنة لا يهتمون بالسياق، ويزعمون أنهم يجزئون أسماء الله وصفاته، وهذا جهل وضلال وحيدة عن الحق؛ لأني أعرف من قال هذا الكلام من المعطلين وأنه تربى على هذه الأمور ودرسها، لكنه فتن ببعض بني جنسه، ففضل عصبية القوم على الحق، فالله يوصف بمثل هذه الصفات لكن مع اعتبار السياق، بمعنى: أننا لا نفرد الصفة إلا على الوجه اللائق بالله عز وجل. وكذلك قول الله عز وجل: {لَمَقْتُ اللَّهِ} [غافر:10]، هذا فعل من أفعال الله عز وجل، وقد يفهم منه صفة لله عز وجل، لكن مع اعتبار السياق، لأن سياقات النصوص معتبرة عند السلف، فلا تثبت هذه الصفات، مثل: المقت والسخط والغضب إلا على وجه الكمال لله سبحانه، وعلى اعتبار المفهوم من السياق؛ يعني: أن المفهوم من سياق كل آية -بحسب ما وردت- وكل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن صفة لله عز وجل -بحسب ما ورد- هذا أمر معلوم عند السلف، ولا بد أن يلتزموه، وهو من لوازم إقرارهم بالصفات. وكذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210]، فصفة (الإتيان) تثبت لله عز وجل على نحو ما جاءت في السياق. وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]، فالاستواء هنا ليس هو الاستواء على العرش -هذه من الأدلة العاضدة لأدلة الاستواء على العرش- وإنما الاستواء هنا يفسر بمعنى: العلو والارتفاع، ولا مانع أن يضاف إلى تفسير معنى الاستواء على العرش، لكن هذا النص وحده ليس هو الدليل على الاستواء على العرش، فالاستواء على العرش قد ورد في نصوص أخرى، فهنا استوى كما يليق بجلاله، والفعل: (استوى) إذا عدي بـ (إلى) ثم أشير إلى السماء فإنها تعني: العلو والارتفاع، وتعني المعاني الكاملة التي تقتضيها المعاني اللغوية. وكذلك قوله عز وجل: {فَقَالَ لَهَا} [فصلت:11]، إثبات صفة (القول) لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وهي فرع عن صفة (الكلام). وبعد ذلك: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم:52]، هذه من أفعال الله عز وجل. وكذلك: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62]، هذه من أفعال الله عز وجل، وهي مرتبطة بالكلام والصوت. وكذلك: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. فقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ) إثبات (الأمر) لله سبحانه. وقوله: (إِذَا أَرَادَ) إثبات صفة (الإرادة). وقوله: (أَنْ يَقُولَ) إثبات صفة (القول) لله سبحانه. وكذلك آيات سورة الحشر كلها في أسماء الله وصفاته، وهكذا بقية النصوص.

الرد على الطوائف التي زاغت وحادت عن سبيل المرسلين

الرد على الطوائف التي زاغت وحادت عن سبيل المرسلين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه]. هذا بداية الرد على الطوائف الأربع -الشيخ قد ذكر منها ثلاثاً، والرابعة قد تضمنها كلامه- وهذه الطوائف زاغت عن سبيل الحق، ووقعوا فيما نهى الله عنه من اتباع المتشابه، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، وحادوا في باب أسماء الله وصفاته، وهي: الطائفة الأولى: الذين عطلوا غاية التعطيل، وهم غلاة المعطلة الذين يسلبون عن الله النقيضين. الطائفة الثانية: الذين قاربوهم ممن وصف الله عز وجل بالسلبيات وبالنقيض، والسلوب هو: كل وصف لله فيه سلوب، وهؤلاء كلهم فلاسفة. الطائفة الثالثة: الذين أثبتوا لله الأسماء ونفوا الصفات. الطائفة الرابعة: الذين نفوا بعض الصفات وأثبتوا البعض، ولم يذكرهم الشيخ، لكنه عند الرد على الجميع سيشملهم، وهؤلاء كلهم يسمون مؤولة ومعطلة ونفاة، مع أنهم يتفاوتون، فمنهم من يعطل تعطيلاً صريحاً، ومنهم من يؤول. وهذه الطوائف الأربع قد اجتمعت كلها في قدر مشترك، وهو نفي ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والإلحاد في أسماء الله وصفاته إلحاداً كلياً أو جزئياً، والتأويل لما ثبت أو بعض ما ثبت، وعلى هذا فإن هذا الرد من الشيخ سيشمل من أنكر كل شيء، أو أنكر الأسماء دون الصفات، أو أنكر الأسماء مع الصفات، أو بعض الصفات دون بعض، أو أنكر وأول صفة واحدة، فكل هؤلاء يشملهم هذا الرد.

البدهيات التي انطلق منها المصنف في الرد على النفاة والمعطلة والمؤولة

البدهيات التي انطلق منها المصنف في الرد على النفاة والمعطلة والمؤولة قوله: (علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني) يقصد المصنف بذلك قواعد الإثبات التي يرد عليهم بها، وهي: الوجود، والقدم، والغنى، فهذه الأمور يعترفون بها عقلاً، فيثبتوها لمن يسمونه بواجب الوجود، الذي وجوده يخالف وجود المحدثات، فالشيخ رحمه الله قد بدأ بما يسلمون به، أي: أنه لابد من موجود، وهذا أولاً، ثانياً: أنه قديم، ثالثاً: أنه غني، وهذه بدهيات انطلق منها الشيخ في الرد على النفاة أو المعطلة أو المؤولة، وهي قواعد مشتركة عند الجميع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن]. هذا بداية التفصيل من المصنف لما أجمله من الأمور المتفق عليها عند جميع الطوائف، فبدأ بالبرهان الأول وهو: أننا نشاهد حدوث المحدثات، كالحيوان والمعدن وغيرهما. ثم قال رحمه الله تعالى: [والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار، أن المحدث لا بد له من محدث، والممكن لابد له من موجد]. هذا الاستدلال أو البرهان الثاني، وهو أن الحادث ممكن وليس بواجب ولا ممتنع، بمعنى: أنه قابل للوجود والعدم، فيفترض العقل أن هذا الوجود الذي يقبل العدم قد بدأ من لا شيء.

الخلق لم يخلقوا من غير شيء ولم يخلقوا أنفسهم

الخلق لم يخلقوا من غير شيء ولم يخلقوا أنفسهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم]. عند التأمل في البراهين القرآنية نجد أنها تتميز عن براهين الفلاسفة وغيرهم بالبساطة والقوة، والإيجاز والوضوح، وهذا إعجاز، فقاعدة: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، قد يكتب فيها الفلاسفة المجلدات، لكن لبعدهم عن الحق وقعوا في المتاهات والضلالات، مع أن هذه قاعدة فطرية يدركها البليد ومتوسط الذكاء والعبقري، بل والبسيط من أصحاب الفهم الذين لا يكون عندهم عادة قدرة وتمكن في التفكير، ومع ذلك يدركون هذه القاعدة الفطرية. ولذا فإن الإنسان إذا تأمل هذه القاعدة، وجد أنه لا يمكن أن يحيد عقله السليم عن أنه لا يمكن أن يكون قد خلق الخلق من غير شيء، ثم تأتي درجة ثانية وهي: إذا كانوا خلقوا من غير شيء، فهل يعقل أنهم خلقوا أنفسهم؟! هذه القاعدة في ثلاث عبارات أو عبارتين سليمة من المقدمات المعقدة، ومن الافتراضات الفلسفية، وفي نفس الوقت هي فطرية وضرورية ولازمة، يعني: لا يستطيع أن ينفك عنها العاقل، فكل عاقل لا بد أن يقف عندها بوضوح، وعند ذلك يصل إلى نتيجة جازمة لا شك فيها ولا ريب، بأنهم لم يخلقوا من غير شيء ولم يخلقوا أنفسهم، وهذا يشمل كل المخلوقات.

اتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات

اتفاق الأسماء لا يوجب تماثل المسميات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود، وهذا موجود، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه، ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره]. هذا دليل بدهي في الرد على الذين أنكروا الأسماء والصفات، كالجهمية، أو أنكروا بعضها، كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، فهؤلاء كلهم يرد عليهم بمثل هذه القاعدة العقلية البدهية، إذ إن شبهتهم في إنكار الأسماء أو الصفات أو بعضها: أن إثبات هذه الأسماء أو الصفات لله عز وجل يقتضي التشبيه، فالجهمية يقولون: إذا سمينا الله عز وجل بالعليم أو الحكيم فقد شبهناه بالمخلوق؛ لأن المخلوق قد يكون حكيماً، وكذلك الذين ينفون الصفة يقولون: الحكمة من صفات المخلوقين، فإذا وصفنا بها الخالق فقد شبهناه بالمخلوق، وبالتالي نفوا عنه الحكمة، وكذلك بقية الصفات، فكان الاشتباه عندهم هو في التشابه اللفظي، والشيخ قد بدأهم من حيث الأساس الذي ينطلقون منه جميعاً، فكلهم يثبتون الوجود لله، سواء الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والمؤولة لبعض الصفات أو لكثير منها، وكلهم يجتمعون على وصف الله باعتبار أنه موجود. فيقول لهم: أنتم إذا عبرتم عن الله بأنه موجود، أليست كلمة (موجود) اسماً وصفة؟ سيقولون: بلى. يقول: إذا كان من أجل التشابه اللفظي تنكرون الأسماء والصفات، فكذلك كلمة: (وجود) فيها اشتباه لفظي؛ لأننا كما نصف الله بأنه موجود، والمخلوق موجود، نستطيع أن نقول: المخلوق إذاً غير موجود، لكن ما دام أنه موجود فإذاً هو حي ويرزق، وعليه فكما نفيتم يلزمكم أن تنفوا حتى الوجود، وأما إذا أثبتم الوجود -مع وجود الاشتباه اللفظي- فيلزمكم أن تثبتوا بقية الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وإن قلتم: نحن نثبت وجوداً يليق بجلال الله، فنحن نقول أيضاً: ونحن نثبت لله بقية الأسماء والصفات على ما يليق بجلاله، فما الفرق؟! وهذه قاعدة تطرد معنا في الدروس التي ستأتي بمشيئة الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود، وإن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا، لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره، مع أن الاسم حقيقة في كل منهما].

أسماء الله وصفاته مختصة به وإن اتفقت مع ما لغيره عند الإطلاق

أسماء الله وصفاته مختصة به وإن اتفقت مع ما لغيره عند الإطلاق قال المصنف رحمه الله: [ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص]. يمكن أن نضرب لهذا بأي مثال، كالحكمة والرحمة مثلاً، فالله عز وجل وصف نفسه بذلك، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وكلمة (حكمة) من الكلمات المطلقة مثل كلمة (وجود)، ومثلها كلمة: (رحمة) و (علم)، إذ لا يمكن أن تنطبق على المعين إلا إذا قرنت بمعين، ومع ذلك قبل أن تقترن بمعين فهي كلمة في الذهن، ولذلك قالوا: في الأذهان وليس في الأعيان، كما أنهم قالوا: إنها بمعنى الإطلاق، والاسم المطلق هو الاسم المجرد عن الموصوف، فنأتي باسم ولا ندري من نقصد به! مع أنه لا يوجد اشتراك بين المسميات إلا في اللفظ، حتى المخلوقات كلها تشترك في كثير من الصفات، لكن بعض الألفاظ المشتركة فيها تباين عظيم جداً، فوجود العرش غير وجود البعوضة -وهذا في المخلوقات نفسها- فالتفاوت بينها تفاوت لا يكاد يتصور من الفوارق العظيمة الهائلة، ولله المثل الأعلى، فكيف بإطلاق اللفظ على الله عز وجل إذا أطلق؟! فالألفاظ والمعاني والأسماء المجملات عند الإطلاق لا تعني شيئاً، وعند التقييد لا بد أن يلتزم فيها ما يليق بمن أطلقت له، ويبقى اللفظ مشتركاً، والاشتراك لا يعني التشابه والمماثلة إلا في اللفظ، والاشتراك اللفظي ليس اشتراكاً حقيقياً بين الخالق والمخلوق بالذات، بل لا يمكن أن يكون الاشتراك اللفظي بين الخالق والمخلوق اشتراكاً حقيقياً في الكيفيات، وإنما هو اشتراك لفظي فقط، وهذا الاشتراك اللفظي وإن وجد لا يوجب نفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل؛ لأننا نعلم علم اليقين أن هذه الألفاظ المشتركة إذا أطلقت على الله عز وجل أطلقت عليه بما يليق بجلاله وعظمته، وأنه ليس كمثله شيء، وإذا أطلقت على المخلوقات فإنها تليق بالمخلوقات من حيث إنها ناقصة وزائلة وفانية، ويعتريها النقص من كل وجه، ففرق بين هذا وذاك.

أمثلة على أن الاشتراك اللفظي بين صفات الخالق والمخلوق لا تعني التماثل

أمثلة على أن الاشتراك اللفظي بين صفات الخالق والمخلوق لا تعني التماثل قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقد سمى الله نفسه حياً، فقال: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وسمى بعض عباده حيًا، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: (الْحَيَّ) اسم لله مختص به، وقوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدرًا مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق. ولابد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وكذلك سمى الله نفسه عليمًا حليمًا، وسمى بعض عباده عليمًا فقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، يعني: إسحق، وسمى آخر حليمًا، فقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم. وسمى نفسه سميعًا بصيرًا، فقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، وسمى بعض عباده سميعًا بصيرًا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير. وسمى نفسه بالرءوف الرحيم، فقال: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:143]، وسمى بعض عباده بالرءوف الرحيم، فقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. وسمى نفسه بالملك، فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر:23]، وسمى بعض عباده بالملك، فقال: {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، وليس الملك كالملك. وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن، وسمى بعض عباده بالمؤمن، فقال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وليس المؤمن كالمؤمن. وسمى نفسه بالعزيز، فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23]، وسمى بعض عباده بالعزيز، فقال: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، وليس العزيز كالعزيز. وسمى نفسه الجبار المتكبر، وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] وليس الجبار كالجبار، ولا المتكبر كالمتكبر، ونظائر هذا متعددة]. إن كل النصوص السابقة تمثيل للقاعدة السابقة في أسماء الله عز وجل، وأن كون أسماء الله عز وجل مشتركة مع أسماء المخلوقين أو مع أسماء بعض المخلوقين، لا يقتضي الاشتراك في الكيفية، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: لا يقتضي التشبيه، ولو قلنا: إنه تشبيه، معناه: أنه لابد أن نصادم النصوص، ويضطر من يقول ذلك بإلغاء النصوص وردها، وهذا كفر صريح، وكذلك العكس، فلو قال: أنها تقتضي التشبيه، فقد خالف النص القطعي وبداهة العقول من أن الله عز وجل ليس كمثله شيء. إذاً: فالمسلم لا يجمع بين هذا وذاك، وكل ما سبق هو في تطبيق القاعدة في أسماء الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى صفات عباده بنظير ذلك، فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، وقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، وسمى صفة المخلوق علمًا وقوة، فقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر:83]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَ

نتيجة ما تقدم

نتيجة ما تقدم فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى، كان معطلا جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات. ومن قال له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، أو رضا كرضاي، أو يدان كيداي، أو استواء كاستوائي، كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبين هذا بأصلين شريفين، ومثلين مضروبين -ولله المثل الأعلى- وبخاتمة جامعة]. سيفصل الشيخ رحمه الله ما أجمله هنا، مع أنه قد فصل في الأمثلة، لكن أيضاً سيفرع على هذه القاعدة قواعد ثمينة ذهبية جيدة تدل على إحكام هذا المنهج الذي قامت عليه عقيدة السلف، وهو منهج -كما ترون- يعتمد على نصوص الكتاب والسنة، والشيخ هنا في معرض رده على أهل الأهواء والبدع الذي صاروا يثيرون الإشكالات والشبهات والمطاعن على منهج السلف لا يستدل عليهم إلا بالقرآن، فماذا سيقولون؟! ليس عندهم إلا ما عند أهل الأهواء من الزيغ والتلبيس والحيدة عن الحق، نسأل الله العافية والسلامة. وفي الفصل الآتي سيبدأ بالأصول التي تبنى عليها قواعد الأسماء والصفات في الرد على المعطلة والمؤولة، وسترون أن الشيخ فعلاً في مستهل هذا الفصل سيبدأ بالأصلين اللذين يمثلان القاعدة في الرد على المعطلة وعلى المؤولة بجميع أصنافهم، سواء من أول صفة واحدة، أو من أول عدداً من الصفات، أو من أول جميع الصفات، فقد بنى قاعدة الرد عليهم على أصلين، أحدهما: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، والثاني: القول في الصفات كالقول في الذات. ثم يستكمل بعد ذلك بقية القواعد على نحو ما سيأتي.

شرح العقيدة التدمرية [4]

شرح العقيدة التدمرية [4] عندما يطلع المرء على عقائد الفرق المخالفة يجد أنه يمكن الرد على كل فرقة بأقوال الأخرى، ومن ذلك أنه يرد على من يثبت بعض الصفات بأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.

القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل فأما الأصلان: فأحدهما أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض]. يقصد الشيخ هنا: القول في بعض الصفات من حيث التعطيل أو التأويل أو الإثبات، وعلى هذا يمكن أن نفسر العبارة بأنها: القول نفياً أو إثباتاً، والإثبات سواء كان على جهة الإثبات الشرعي، وهذا لا مجال لطرحه هنا؛ لأنه هو الأصل، وإنما المعروض هنا هو رأي المخالفين والرد عليهم. إذاً: فالقول في بعض الصفات من حيث التعطيل والتأويل يسمى نفياً، أو من حيث الإثبات خاصة إثبات المشبهة، لاسيما الذين شبهوا بعض الصفات ولم يشبهوا البعض الآخر، فيدخل المشبهة في هذا المجال، وسيأتي لهذا عرض على وجه يحتاج إلى مزيد من التأمل في كلام الشيخ مستقبلاً، إذ إنه قد عد ممن أخطأ في الإثبات المعطلة أنفسهم والمؤولة؛ وهذا فعلاً من باب الإلزام الذي يلزم، إذ إن المعطلة والمؤولة إنما عطلوا وأولوا حينما شبهوا في أذهانهم، فهربوا من التشبيه، فيقول: إن تشبيهكم في بعض الصفات -الذي من أجله عطلتم- لابد أن يحكم جميع الصفات عندكم، ومن هنا تنسحب قاعدة التعطيل عندكم جميعاً، أو قاعدة التأويل عندكم جميعاً، وذلك كله حجة عليكم؛ لأن ما أثبتموه موجود فيما نفيتموه، وكذلك العكس: ما نفيتموه موجود فيما أثبتم.

مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها

مناقشة من يثبت الصفات السبع دون غيرها قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات]. يقصد بهؤلاء: متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فالأشاعرة يثبتون سبع صفات والماتريدية يثبتون مع هذه السبع صفة ثامنة يسمونها: التكوين، ويجعلون هذه الصفات حقيقية، وفي الوقت نفسه مع ثبوت صفات أخرى، مثل: المحبة والرضا ينازعون فيها، فمثلاً: (المحبة) يؤولونها بأحد أمرين، أو بأمور كثيرة، لكن أشهر التأويلات عندهم للمحبة: إرادة الإنعام، أو يقولون: هي النعمة، أي: أنها ثمرة محبة العبد لله عز وجل، يرونها هي ذات المحبة، عبر عنها بالمحبة مجازاً، وكذلك الرضا يدخل في معنى المحبة، والغضب والكراهة يؤولونها إما بالانتقام أو بإرادة الانتقام، ويجعلون التعبير عن النعمة بالمحبة مجازاً، وكذلك عن النقمة والغضب بالانتقام أو إرادة الانتقام، فيجعلونها مجازاً، أو يفسرون ذلك بالإرادة. إذاً المقصود بمحبة الله عز وجل عند هؤلاء الناس: أن الله يريد إنعام العباد، أو بعض المخلوقات، وهي الآثار الظاهرة لمحبة الله عز وجل، مثل المطر وغيره، فيقولون: هذه آثار رضا الله عز وجل، وقد عبر عنها بذلك مجازاً. والصفة الثامنة عند الماتريدية: التكوين، وهذه عقوبة من يحيد عن الصراط المستقيم، ولو في أمور جزئية إن صح التعبير، مع أن هذا ليس من الأمور الجزئية، لكن حينما حادوا عن إثبات الصفات اضطروا أن يأتوا بشيء من عندهم، وليس عندهم دليل على أن هناك صفة اسمها: التكوين، فهم ترددوا وخاضوا، بل تورعوا -بزعمهم- عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ولم يتورعوا أن يأتوا بصفة لا دليل لها من الكتاب أو السنة، وهي عندهم من مجموع الإرادة والقدرة، أي: من مجموع صفات ينتج عنها -بزعمهم- شيء اسمه: التكوين، وهو المتمثل بقول الله عز وجل: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر]. أي: يقال للأشاعرة والماتريدية: إنه لا فرق بين ما نفيتموه من المحبة والرضا والغضب والكراهية ونحو ذلك، وبين ما أثبتموه من الكلام والسمع والبصر ونحو ذلك، فما دام أنكم أثبتم شيئاً من صفات الله فيلزمكم أن تثبتوا الجميع، وما نفيتموه تنسحب علة النفي عندكم على ما أثبتموه، فإما أن تلتزموا قاعدة الفلاسفة المعطلة، وهذا شرط، وإما أن تلتزموا الحق، وهو الإثبات لكل ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله، فإن الله ليس كمثله شيء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به. وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق. وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوق، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قيل: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه، قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. فهذا المفِّرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي:] المقصود بالمعتزلي هنا: الذي يثبت أسماء الله وينفي صفاته سبحانه اللائقة بجلاله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ليس له إرادة ولا كلام قائم به]. يعني بذلك: أن المعتزلي ينص على أن الله مريد بلا إرادة -تعالى الله عما يزعمون- ومتكلم بلا كلام، وهذا في الحقيقة حيلة إلى التعطيل، وإن كان قد يقصدون به التنزيه، لكن ليس كل من ادعى أنه يقصد الحق يوفق للحق؛ لأن أمور المقاصد ليست هي التي توصل إلى الحق ما لم تكن على الاستقامة، نعم أمور المقاصد في الأمور المشروعة هي التي يبنى عليها الحكم، وأما المقاصد في الأمور غير المشروعة فلا تكون ذريعة للاعتذار عن مثل هؤلاء، أو اعتبار أقوالهم مشروعة، بل إن أقوالهم غير مشروعة وإن حسنت مقاصدهم؛ لأنهم يزعمون -وبعضهم قد يكون ممن يستهويه الشيطان- أنهم بنفيهم لصفات الله أرادوا التنزيه لله عز وجل، لكنا لا نوافقهم على ذلك، بل نقول لهم: ليس الأمر كما تزعمون، بل إن منتهى التنزيه لله عز وجل هو بالخضوع لما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم والرضا والتصديق بذلك. إذاً: المعتزلي يقول: أنا أقول: إنه مريد، لكن يهدم قوله هذ

الرد على الاحتجاج بإثبات العقل لهذه الصفات

الرد على الاحتجاج بإثبات العقل لهذه الصفات

الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين

الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل]. القائل أو المتكلم هنا: الأشعري والماتريدي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك. قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان: أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل]. قوله: (أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين)، أي: يقال للأشعري: إذا زعمت أيها المتكلم أن إثبات المحبة مثلاً أو الإحسان أو الرضا لله عز وجل أو الغضب، أو غيرها من الصفات الفعلية لا يدل عليها عقلك، فلا يعني ذلك عدم صحة المدلول؛ لأن ذلك قد ثبت في الكتاب والسنة، وعليه فيلزمك أن تأتي بالدليل الذي يدل قطعاً على رد ما جاء في الكتاب والسنة، ومع ذلك فلن يستطيع الإتيان بدليل، بالرغم أننا نحاجهم بقاعدتهم، لكن نحن أهل السنة والجماعة نقول: هل هناك أقوى دليلاً من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! ليس هناك أقوى. إذاً: يلزمه الدليل حتى ينفي ما يثبت، أما أن يسلط هذه القاعدة الموهمة الملبسة، والتي تشتبه على كثير من الناس، ويقول: العقل لا يدل على هذه الصفات، وهي ثابتة في الكتاب والسنة، فذلك كلام مرفوض؛ لأن ثبوتها عندنا لا تتوقف على العقل، فهي فوق العقل، وكلام الله فوق العقل، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق العقل. كما أن إثبات الصفات الفعلية، كالمحبة والرضا والغضب والنزول لا يدل عليها العقل كما تزعم، فلا يعني ذلك عدم وجود المدلول، وهو إثبات الصفة، فإن النافي هنا هو الذي يحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت هو الأصل، ونحن لم نثبت شيئاً من عندنا، لكن إن أثبتنا شيئاً من عند أنفسنا فيلزمنا الدليل، أما إذا قلنا: قال الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نطالب بالدليل ونحن أهل الدليل؟! إن هذا من التلبيس الذي ينطوي على بعض الأغرار من الناس، وخاصة ممن لم يوفق لطريق السلف، أو عندهم شيء من الغرور، أو قلة الفقه في الدين، لذا فإن كثيراً من الناس إذا جئته بمثل ذلك ينبهر، ولا يعرف كيف يرد؛ لأنه ما عرف أصول الاستدلال، وكيف يكون الرد على مثل هذه الشبهات. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم]. هذه فائدة مهمة جداً لطلاب العلم اليوم، وهي أن من أسباب الفتنة على المثقفين وشبابنا في العصر الحاضر تلبيس أصحاب الأهواء والافتراق والبدع عليهم، بأن يقولوا في كثير من أمور الدين، أو في القضايا التي تتعلق بمناهج السلف وأصول السنة: هذا أمر ليس عليه دليل، أو أحياناً يقولون: هذا لا يدل عليه العقل، أو أن هذا ينفيه العقل، أو أن العقل ينفر منه، أو أن العقل لا يصدقه، أو أحياناً يقولون: هذا الأمر الفلاني الذي جاء في الشرع يتنافى مع العلم الحسي والحديث. وسأضرب لكم مثالاً على ذلك: كثير من الأطباء النفسيين وخاصة ممن ليس عندهم ورع ولا تقوى -أستثني الأخيار وهم بحمد الله كثير- لا يعترفون بتأثير القرآن، ويقولون: هذه توهيمات نفسية، فسواء قرأت القرآن أم لم تقرأ، فإذا أوهمت المريض بأنك تعالج فربما يبرأ بمجرد توهمه أنه يعالج، ثم نقول لهم لماذا؟ قالوا: ليس عندنا دليل علمي، وهذا غير قابل للقياس المادي، وللاستقراء العلمي الظاهر المادي، ثم النتيجة: أن هذا ليس بعلم، وإنما هو تقاليد أو أعراف أو توهمات أو شعور نفسي، وعلى هذا نجد الكثير من الكتاب والمفكرين ردوا أشياء كثيرة من الإسلام، بدعوى أنها لا يقبلها العلم، فنحن نرد عليهم بهذه القاعدة، فنقول: عدم الدليل المادي لا يدل على عدم صحة الشيء، وإذا كان هذا الأمر غيباً فإنه لا يحتاج إلى دليل مادي. ونقول لهم أيضاً من وجه آخر: كما أن عقولكم لا تثبت وهي عاجزة عن الإثبات، فكذلك هي لا تنفي، إذاً: أخرجوا العقل إذا كانت عقولكم لا تثبت، وهي كذلك لا تستطيع أن تنفي، لذا فليس عند هؤلاء الذين يخبطون في الغيب وفي الدين قدرة على النفي، كما أنهم يزعمون أن عقولهم لا تثبت، مع أن العقل السليم يوافق الشرع، لكن عقولهم قاصرة، فنقول لهم: عقولكم القاصرة في حين أنها لا تثبت، فكذلك لا تقدر على النفي، وكذلك العلم المادي الحديث، فكما أنه لا يستطيع أن يتناول أمور الغيب لا بالإثبات ولا بالنفي، فنقول: فكذلك العلوم التجريبية العلمية الحديثة، فكما أنها لن تثبت أو لا تستطيع أن تثبت الغيب ولن تستطيع ذلك، فكذلك لا تستطيع أن تنفي، إذاً فأخرجوا العلم والعقل من أن تجعلوه أداة للكفر والإلحاد، ولو كان للعلم لسان لخاصم هؤلاء، ولو كان للعقل لسان لخاصم هؤلاء الذين افتروا عليه وبهتوه وعرضوه لتكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله

الجواب الثاني: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتت به تلك من العقليات

الجواب الثاني: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتت به تلك من العقليات قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته -وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة; كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة]. في الحقيقة هذا رد علمي موضوعي كما يعبر به كثير من المعاصرين الذين يعجبون بالشعارات الغربية ممن يسمون بالعلمية والموضوعية، فإذا أخذناه على مقاييسهم فهذا الكلام علمي وموضوعي واستقرائي وعقلي، ولا يستطيع أن ينفك عنه لا المؤولة ولا المعطلة، والشيخ هنا قد رجع إلى الأشاعرة وقال لهم: كما أنكم أثبتم الصفات السبع، وقيل لكم: لماذا أثبتموها؟ قلتم: أثبتناها بالعقل، ونحن إذا تأملنا عقلاً لوجدنا أن الفعل الحادث دل على قدرة الله عز وجل، وأن التخصيص كون المخلوقات مميزة بعضها عن بعض، هذه سماوات وأرضون وأحياء وأموات، هذا يسمى تخصيصاً، ووجود التمييز بين المخلوقات يدل على الإرادة، والإحكام -إحكام المخلوقات- يدل على العلم، وهذه الصفات كلها مستلزمة للحياة؛ لأنه لا يمكن أن يكون قادر ومريد وعالم إلا حياً، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، فنقول لهم: اطردوا هذه القاعدة. كما نقول أيضاً: وجود الرحمة والنفع، أي: نفع العباد بالإحسان، يدل على الرحمة، وكذلك التخصيص يدل على المشيئة والحكمة، مع أن الشيخ لم يذكر الحكمة في هذا المقام، لكنه أتى بها بعد ذلك، فدلالة التخصيص كما تدل على المشيئة تدل على الحكمة أيضاً، وأنتم قلتم: تدل على الإرادة، أو أضيفوا مع الإرادة الحكمة، وإكرام الطائعين يدل على المحبة، وعقاب الكافرين يدل على البغض، وهكذا بقية الأمور، فنقول لهم: كما أثبتم القدرة بالفعل، والتخصيص بالإرادة، والعلم بالإحكام، وبقية الصفات، كالحياة والسمع والبصر؛ لأنها من لوازم الحياة، فكذلك بقية الصفات، مثل: الرحمة والمحبة والمشيئة والبغض والحكمة ونحو ذلك، فكل هذه دلت عليها مخلوقات الله عز وجل، وشئون الله في خلقه دلت على هذه الصفات، والله عز وجل له في خلقه شئون نراها يومياً في حياتنا الخاصة والعامة، وكلها دليل على بقية صفات الله، فنرى أثر محبة الله في عباده، ونرى أثر غضب الله في عباده، ونرى أثر حكمة الله في مخلوقاته، ونرى أثر كثير من أفعال الله، مثل الرزق والإحياء والإماتة وغير ذلك في مخلوقاته، فلماذا جعلتم بعض الأشياء دالة على نوع من الصفات، ولا يدل على النوع الآخر منها؟ إن هذا هو دليل انغلاق أهل الأهواء على أهوائهم، وعدم إدراكهم لعموم القواعد الشرعية، ولذا فإن المتأمل سيلاحظ أنه لا يوجد كما عند أهل السنة والجماعة في تعميم دلالات النصوص على الوجه الصحيح، فهؤلاء يغلقون دلالات النصوص بأهواء يضعونها لأنفسهم، وينتقون في الاستدلال انتقاء، فلا يأخذون بشمولية الاستدلال، وإلا فأدلتهم العقلية كما ذكر الشيخ هي دليل عليهم، وكما أن العقل يدل على الصفات السبع، فكذلك يدل على بقية الصفات من باب الضرورة، وكلها كمال، فلماذا كانت الإرادة والعلم كمالاً، والمحبة والحكمة غير كمال؟! إن هذا مما يعجب منه صاحب العقل السليم. كما أنهم يقولون بعدة وجوه، فلا يثبتون السمع على حقيقة ما يثبته السلف، ولهم في ذلك تأولات كثيرة، لكن نوجزها: فهم يرون أن السمع هو العلم بالمسموعات، فيردونها إلى العلم، والبصر هو العلم بالمبصرات، وهذا مجمل قولهم، وإلا فلهم في ذلك مسالك عجيبة، فهم في الحقيقة لا يثبتون حتى السمع والبصر على وجهها الشرعي، ولذلك أكثر ما رد عليهم المعتزلة في إثبات السمع والبصر، يعني: أنهم هم قد يوافقونهم في بعض الصفات الأخرى، لكن في السمع والبصر قال المعتزلة للأشاعرة: لماذا أثبتم السمع والبصر ولم تثبتوا اليد والوجه؟ بالرغم أن قاعدتهما واحدة، والمعتزلة يقولون نحو ما قالت الأشاعرة: كما أنكم تقولون: اليد لا تكون إلا الجارحة، يقولون: نحن لا نعرف السمع إلا الجارحة، والبصر إلا الجارحة، وهؤلاء لا نوافقهم كلهم، لكن هكذا يضرب بعضهم بعضاً، لذا فأقول: إثباتهم للسمع والبصر على غير قاعدة عقلية صحيحة، وأيضاً على غير القاعدة المطردة عندهم، لكنهم تورعوا عن نفي السمع والبصر، ولذلك أولوهما، وأكثر ما يدور تأويلهم على أن البصر العلم بالمبصرات، والسمع العلم بالمسموعات.

شرح العقيدة التدمرية [5]

شرح العقيدة التدمرية [5] يتشبث منكرو الصفات بشبهة الفرار من التجسيم والتشبيه، ومن هؤلاء من يثبت الأسماء ومنهم من ينفيها أيضاً لكنه يثبت الوجود، وأقوال هؤلاء باطلة على كل تقدير كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ههنا.

شبهة التجسيم ومناقشة من يثبت الأسماء دون الصفات

شبهة التجسيم ومناقشة من يثبت الأسماء دون الصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة. قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً، لأنا لا نجد في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم، قيل لك: ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء؛ بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم، فكل ما يحتج به من نفى الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات]. المعتزلي يقول: إن الله حي، ثم يقول: بلا حياة -تعالى الله- عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، فالشيخ رحمه الله ضبط عليهم هذا الكلام، وقال: أنتم قلتم: بأنه حي عليم قدير، فلماذا نفيتم الحياة والعلم والقدرة؟ قالوا: لأن الحياة والعلم والقدرة من حيث هي صفات لا توجد إلا فيما هو أجسام، فرد عليهم الشيخ: فكذلك تسمية الله بالحي والعليم والقدير لا تعرف عندنا بما نعرفه قبل أن يأتينا الخبر أو مجملات المعقولات إلا ما هو من أوساط الأجسام بالنسبة لمداركنا، فإذا كنا نعرف أن المخلوق حي عليم قدير، وتعترفون بذلك، وتقولون أيضاً: إن الخالق حي عليم قدير، فالتشابه موجود، ونحن نقول: إن التشابه لفظي، بينما هم يقولون: التشابه إذا وقع فإنه يكون حقيقياً، وعلى ذلك فإنهم قالوا: بأنه حي بلا حياة، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، فأثبتوا: الحي العليم القدير، ونفوا: الحياة والعلم والقدرة، ولم يفرقوا بينهما، فالشيخ -كما ذكرنا- ضبط عليهم هذه المسألة فقال: لا فرق بين أن تسموه أو تصفوه، فكما أنكم لا تعرفون الأوصاف إلا في المخلوقات، فكذلك يقال لكم: لا تعرفون المسميات إلا في المخلوقات بالنسبة لمدارككم أنتم، فلا فرق بين القاعدتين.

نسبة القول إلى فرقة من الفرق لا ينفي وجود من يخالف فيه منهم

نسبة القول إلى فرقة من الفرق لا ينفي وجود من يخالف فيه منهم لكن ينبغي أن تفهم قاعدة في عموم ما سيرد من الكلام على الفرق، بل قاعدة في كل الكلام على الفرق، وهي مسألة مهمة ترجع إلى أصل -يجهله كثير من المعاصرين- من الأصول التي يتعامل بها السلف مع المخالفين وأهل الأهواء، وهي أنهم يحكمون على العموم، وإن وجد من لا يقول بهذه الأقوال من أهل الأهواء، أعني: أن السلف إذا قالوا: قالت الجهمية، فإنهم يعنون أحد أمرين: إما أن يكون قولاً مشهوراً عندهم، وإن اختلفت عليه في التفصيلات، أو يكون قولاً للأغلبية من الجهمية، وقد يرد احتمال ثالث وهو: أن يكون هذا القول لرءوس وكبار الجهمية، وكذلك المعتزلة، فكثيراً ما ينسب إليهم السلف أقوالاً، ثم يأتي بعض الجهلة ويقول: وجدت عند الجاحظ أو القاضي عبد الجبار أنهم لا يقولون بما يقول عنهم السلف، فنقول: هذا ناتج عن استقراء ناقص عندك، وناتج عن جهلك بقاعدة السلف، فالسلف ينظرون إلى العموم، فإذا نسبوا إلى المعتزلة قولاً فإنهم قد تثبتوا منه وخاصة الأقوال الشهيرة، لكن يكون إما قول أغلبهم أو قول رءوسهم، أو يكون قولاً التزموه في العموم، وإن اختلفوا في تفصيلاته، مثل: الأصول الخمسة التي لا يقول بها كل المعتزلة، بل وضعها لهم أحدهم، لكن في الجملة هي منهجهم، وكثير منهم قد يخالف بعض هذه الأصول، وعلى هذا فإن ما يثيره بعض المفتونين من دعوى أن السلف يفترون على خصومهم، وأنهم يتقولون عليهم، هذا ناتج عن جهل هؤلاء المفتونين، فالسلف حينما ينسبون قولاً إلى فرقة معينة، وخاصة الأقوال المشهورة، إنما ذلك بعد التثبت والاستقراء، وإلا فقد يزل الواحد من علماء السلف وقد يخطئ، لكن الكلام على ما اشتهر عند السلف من حكمهم على أهل الأهواء في مجملات الأمور، وكله راجع إلى هذه القواعد، من أنهم يرون أن المقولة إذا اشتهرت فإنها تنسب إلى العموم وإن خالفها بعضهم، وكذلك إذا قال بها الرءوس فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وأيضاً إذا قال بها الأغلب، فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وهذه قاعدة في كل ما يتعلق بنسبة الآراء إلى الناس، بل نجد ما حكاه الله عز وجل عن كثير من الأمور من المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو قول الغالبية أحياناً، أو قول مشهور لهم، ولو لم يكن قول الغالبية، وتأملوا ما وصف الله به كفريات اليهود والنصارى، مع أنها أقوال لبعضهم، وليست لكلهم، لكن لأنها معتمدة وهي المشهورة، أو قال بها شيوخهم أو رءوسهم، أو كانت قول الأغلب، فإنه يقال بها، لأننا لو استثنينا في كل شيء لفسدت المعاني، وعليه فكلما ننسب قولاً إلى المعتزلة ونستثني فسد المعنى، مع أن من المعتزلة من لا يلتزم نفي الصفات دائماً، بل منهم عدد كبير، وإن لم يكن أكثرهم يثبتون بعض الصفات أو يثبتون الصفات، فليس العبرة بمن خرج أو شذ، وإنما العبرة في الأصول والمناهج العامة، وأقول هذا لأنه تثار قضية الآن وهي: أن السلف قالوا عن المعتزلة ما لم يقولوا به، ودعوى أثيرت: أن من المعتزلة من يثبت الصفة، نعم من المعتزلة من يثبت الصفة، لكن ليست العبرة بهذا، وإنما العبرة بالعموم، فتجد الآن كبار العقلانيين وعلى رأسهم حزب التحرير معتزلة، بل إنهم أشد حماساً للاعتزال من المعتزلة أنفسهم، وقد ذكرت في أحد كتبي ما يدل على ذلك بالوثائق والنصوص، فمعتزلة العصر أشد اعتزالاً من الأوائل، وأثبت من خلال واقع تراجم الرجال أن المعتزلة الأوائل أكثر ورعاً وتعظيماً لله عز وجل وللدين، وللرسالة والسنة من المعتزلة الجدد، فهم معتزلة أكثر من المعتزلة؛ لأن أصولهم تقوم على ذلك، مع استثناء أشخاص لاشك، لكن هناك أشخاص يخرجون من القاعدة، لكن العبرة في التوجه، فالتوجه العقلاني المشهور الآن في العالم الإسلامي توجه اعتزالي بلا شك ولا ريب، وليس الأمر تقولاً عليهم؛ لأنهم كلهم -إلا النادر والنادر لا حكم له- يتباكون على المعتزلة، ويؤصلون قواعدهم ويمجدونهم، ويتفقون على أنه لا يمكن أن تنهض الأمة الإسلامية من جديد إلا أن تحيي تراث المعتزلة وتعمل به، وهذا شعارهم اليوم.

مناقشة الفلاسفة الذين ينفون الأسماء والصفات

مناقشة الفلاسفة الذين ينفون الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال لا أقول: هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير; بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز؛ لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم. قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات. فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات. قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل. فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما. قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم؛ فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر. وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية]. سمي الفلاسفة المشاءون بذلك لأنهم غالباً من الناس الذين يسرحون في الخيال، إلى حد أنهم من مبالغتهم في التمادي في الأوهام والخيالات يمشي أحدهم فيسجل خواطره أو يمليها على من حوله، وهذا من علامات إفلاسهم في العلم، فيمشي ويفكر أحدهم مجرد تفكيرات خيالية، ويهذي، فيبدأ تلاميذه يكتبون، وقد وجدنا صورة تاريخية عجيبة تدل على مدى ضياع هؤلاء، هذه الصورة للإمام الرازي قبل توبته ورجعته إلى منهج الحق، فقد كان مرة يمشي ومعه تلاميذه يعدون بالعشرات، فيمشي ويهذي من هذا الهذيان والطلاب يسجلون، ويعيشون حالة من الزهو والغرور، حتى يظنون أنهم على شيء، فمروا بامرأة عجوز جالسة في الشمس، فتعجبت من هذه الأبهة وهذا الحشد مع هذا الرجل، فقالت لأحد الماشين مع الرازي: من هذا؟ فأنكر عليها وقال: كيف لا تعرفين هذا؟ قالت: أهو السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو فلان، وذكرت الوجهاء الذين تعرف، فنفى أن يكون منهم، فأراد أن يعرفها بشيخه، قال: هذا شيخنا فلان الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، فقالت: تعساً له وتباً، إن كان كذلك فوالله إن في نفسه ألف شك، أفي الله شك؟! فهؤلاء المشاءون يمشي ويهذي، ولو كان يتكلم بعلوم حسية لقلنا: هذا نافع ومفيد، ولو كان يتكلم بتقرير الشرع والدين لقلنا: هذا نافع ومفيد، لكن يتكلم في هذه الخيالات، في امتناع الوجود وامتناع العدم والسلبيات والأمور التي هي من طبيعة المتكلمين والفلاسفة، فهذا -نسأل الله العافية- من علامة الإفلاس، فالمشاءون هم الذين يسلكون هذه الطريقة، وكان على هذا طائفة من الفلاسفة قبل الإسلام، فقد كانت طوائف منهم يستعملون هذا الأسلوب، فيمشي ويفكر، والآخرون يكتبون ما يقول، ويناقشون ويتجادلون على هذا النحو.

الرد على طائفتي المعتزلة الخلص، وفلاسفة ومتكلمة الصوفية

الرد على طائفتي المعتزلة الخلص، وفلاسفة ومتكلمة الصوفية قال رحمه الله: [وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20 - 21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم. وقيل لك، ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر، أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك. وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتناعاً مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد. وهؤلاء الباطنية منهم من يصرِّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما، ومنهم يقول: لا أثبت واحداً منهما، فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق، وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدَّر قبوله لهما -مع نفيهما عنه- فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم: أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يقدر قابلاً لهما مع نفيهما عنه، وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود القبول وجب. وقد بسط هذا في موضع آخر، وبُيِّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه. وقيل له أيضاً: اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات: ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذِّب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل. وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة. وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع. قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً]. هذا الرد على طائفتين، والشيخ رحمه الله قد خلط بين طائفتين: الطائفة الأولى: المعتزلة الخلَّص الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ويقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف، وأن ذلك تركيب ممتنع. والطائفة الثانية: فلاسفة ومتكلمة الصوفية الذين زعموا أنهم يتورعون عن وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه من الصفات، خاصة الفعلية والذاتية أيضاً، في حين أنهم لا يتورعون عن وصف الله بأوصاف أحدثوها من عند أنفسهم، وهذا أيضاً يوجد -كما قلت- عند الصوفية وعند الباطنية، مثل: وصف الله بأنه: عقل، وعاقل، ومعقول، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ، وملتذ، ولذة، فهذه لا تليق بالله عز وجل، فإن ما سمى الله به نفسه وما وصف به نفسه يُغني عن مثل هذه الألفاظ المحتملة للمعاني، فهم حينما تورعوا بزعمهم، وحين ترددوا في إثبات ما أثبته الله لنفسه لم يتورعوا عن إطلاق هذه الألفاظ التي هي أقرب إلى التشبيه، فإنه لا يليق أن نصف ما يجب لله عز وجل من المحبة أنه عشق، فالعشق له معنى عاطفي، وله معنى أيضاً مفهوم عند البشر يخرج عن حد الاعتدال، ولا يليق أن تسمى العبادة لله عز وجل، وما يشعر به المسلم من السعادة وقرة العين بأنها لذة وملتذ، وكذلك ما يصف به فلاسفتهم من وصف الله بأنه عاقل، فإن هذا ليس من أوصاف الكمال، فالعقل هبة من الله عز وجل للخلق، والله متصف بالحكمة وهي أعظم من مجرد وصف العقل وهكذا، فالذين يقولون مثل هذه الأوصاف هم فلاسفة الصوفية ومتصوفة الفلاسفة، الذين تورعوا بزعمهم عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ثم خاضوا في أوصاف الله وأسمائه بما لم يرد به الشرع، بل ينافي أيضاً صفات الكمال حتى عند البشر.

إبطال أقوال نفاة الصفات على كل تقدير

إبطال أقوال نفاة الصفات على كل تقدير قال رحمه الله: [فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً. قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة، وليس هو تركيباً ممتنعاً. وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع. وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق -يُعدم بعدم وجوده، ويوجد بعد عدمه- هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم. وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب، كما يُصرِّح بذلك أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير]. هذا الكلام التالي هو عبارة عن قاعدة ذهبية، هذه القاعدة تعتمد على نصوص الشرع وعلى العقل السليم، وهي التي ينبني عليها الحوار مع هؤلاء، سواء فيما سبق أو فيما يأتي، وهي قاعدة عظيمة ينبغي التنبه لها. قال رحمه الله: [وهذا باب مطّرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً -فراراً مما هو محذور- إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه، فلا بد في آخر الأمر من أن يُثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيُقال له: هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات: فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال]. بهذا ندرك مدى جهل وخطأ وفرية الذين يتهمون السلف بالتشبيه، وهذه القاعدة هي عند السلف، فإنهم حينما يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء من الأسماء أو الصفات أو الأفعال، فإنهم إنما يثبتون ذلك على ما يليق بجلال الله، وعلى الحقيقة التي وصف الله بها نفسه كما يليق بجلاله، دون أن نتوهم الكيفيات، وأن الاشتراك اللفظي بين أسماء الله عز وجل وبين مسميات الخلق إنما هو تواطؤ في المسميات، ومن أجل خطاب البشر؛ لأنه لا يمكن أن يفهم البشر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته وعظمتها وكمالها إلا بلسان عربي مبين، ولولا أن الله وصف نفسه باللسان الذي نعرفه -مع أننا ندرك أن الكيفية ليست من مداركنا- لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم مع إيماننا بحقيقة ما ورد من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن ذلك أعظم مما يخطر على البال؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء.

حقيقة أسماء الله عز وجل وصفاته ليست هي الصور التي في الأذهان

حقيقة أسماء الله عز وجل وصفاته ليست هي الصور التي في الأذهان ومن هنا أنبه إلى ما ذكرته أكثر من مرة، وهو أن المسلم عندما يسمع خطاب الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، لا بد أن يتوهم في ذهنه صوراً تقريبية تقرب الحقيقة له، ولكن هذه أمثال تُضرب، فحقيقة أسماء الله وصفاته أعظم وأجل من أن تكون هي التي في الأذهان، فمثلاً: يسمع المسلم قوله عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3 - 4]، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لابد أن يكون في ذهن السامع صورة تخطر لهذه المعاني، وهذه الصورة ليست هي حقيقة وصف الله عز وجل قطعاً، ولذلك الجهمية والمعتزلة أخطئوا حينما اعتقدوا ما توهموه، أو ظنوا أنهم لا بد أن يعتقدوا ما توهموه، بينما نحن نقول غير ذلك؛ لأن ما يفهمه المخاطب إنما هو مجرد أوهام وأمثال في ذهنه تقرب إلى الحقائق العامة لا الحقائق المقيدة، الحقائق المطلقة في الأذهان وليست في الأعيان والواقع، وحينما نحول هذه المعاني إلى الواقع فإنها فيما يختص بالله عز وجل أعظم من أن نتخيله أو نتصوره أو يخطر بالبال، فإن الله له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، لكن ومع ذلك {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأما إطلاقها على المسميات المعلومة فبحسب حالها، فالمخلوق ناقص وقاصر وفانٍ، ولا شك أن وجود هذه المسميات في المخلوقات على الوجه الذي يليق بالمخلوقات من النقص، وإطلاقها على الله عز وجل على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من الكمال الذي لا يمكن أن يخطر على بال، فإذا كان هناك من مخلوقات الله فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلله المثل الأعلى، فصفاته وأسمائه من باب أولى ألا تخطر على قلب بشر، وهذه عقيدة السلف، ومن هنا ندرك جناية وخطأ الذين يتّهمون السلف بالتشبيه.

الأسئلة

الأسئلة

ادعاء الصوفية أنهم من أهل السنة والجماعة

ادعاء الصوفية أنهم من أهل السنة والجماعة Q يقول هذا السائل: إنه سافر إلى بلد أفريقي، وسمع إذاعة الصوفية وكان اسمها: صوت أهل السنة والجماعة، فهل الصوفية يرون أنهم من أهل السنة والجماعة؟ A نعم فغالب الصوفية، وخاصة الذين ينتسبون للمذاهب الأربعة أو المذاهب الثلاثة يدعون أنهم من أهل السنة والجماعة، لكن يندر أن يوجد صوفي حنبلي، بينما قد يوجد صوفية مالكية أو شافعية أو أحناف، أو يكون ممن ينتسب للمذاهب الكلامية، وكذلك الصوفية الذين ينتسبون للأشاعرة والماتردية هم أكثرية الصوفية، وهؤلاء أيضاً يدّعون أنهم من أهل السنة والجماعة.

حكم الاستغاثة بصفة من صفات الله عز وجل

حكم الاستغاثة بصفة من صفات الله عز وجل Q ما حكم الاستغاثة بالصفات في مثل قوله: إلهي برحمتك أستغيث؟ A أولاً (برحمتك أستغيث) هي دعاء لله عز وجل، وليست استغاثة بصفة، فيجب أن نفرق بين قولنا: برحمتك أستغيث، واللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك. وبك منك ونحو ذلك، وبين دعاء الصفة، دعاء النداء، فبرحمتك أستغيث هي دعاء لله عز وجل، فلا حرج بمثل هذا الدعاء.

الزمخشري من كبار المعتزلة

الزمخشري من كبار المعتزلة Q هل كان الزمخشري معتزلياً؟ A نعم، فهو من كبار المعتزلة، لكن من أفاضلهم، فقد كان له عناية بكتاب الله عز وجل، وهو من علماء اللغة، ومن المتبحرين في كثير من العلوم الشرعية، كما عُرف عنه الورع والزهد والعبادة، لكنه معتزلي في الصفات، وكثير من أصول المعتزلة أو أكثرها يعتقدها.

بيان المقصود بمصطلح السمعيات

بيان المقصود بمصطلح السمعيات Q ما المقصود بالسمعيات؟ A كثيراً ما يستعمل السلف كلمة السمعيات خاصة بعد القرن الثالث عندما يتكلمون في أمور العقائد، والمقصود بالسمعيات: كل أمور الدين التي لا تخضع للاجتهاد، وخاصة الأمور الغيبية، وسميت سمعيات لأنها جاءت عن طريق السمع، أي: الوحي، والوحي يسمى السمع؛ لأنه مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمعه من جبريل، فغُلِّب هذا الوصف على كل الوحي، وعلى هذا فإن القرآن سمعي والسنة سمعية. إذاً: السمعيات عند علماء العقيدة هي: كل ما ثبت بالنصوص الشرعية مما لا دخل للعقول فيه، أو كل أمور الغيب والأخبار، وأحياناً قد يحدد بعض العلماء السمعيات بأشراط الساعة وأحوال الآخرة، لكن هذا التحديد -في الحقيقة- غير علمي ولا منضبط، والتعميم هو الصحيح، وهي أن السمعيات: كل ما ثبت في القرآن والسنة من أمور الغيب؛ لأنه مسموع، ولا دخل للعقل فيه.

شرح العقيدة التدمرية [6]

شرح العقيدة التدمرية [6] يتعلل نفاة الصفات في نفيهم بالتنزيه والفرار من التشبيه، وكان يلزمهم على هذا نفي الذات الإلهية، فإنه يلزم من المحذور في إثباتها كالذي يلزم من إثبات الصفات، وما أجابوا به عن هذا الإلزام يجاب عنهم به في إثبات الصفات.

التحقق بمقتضى أسماء الله وصفاته

التحقق بمقتضى أسماء الله وصفاته الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد. فلا زلنا في دروس العقيدة في المجلد الثالث من الفتاوى، وقد وصلنا إلى الأصل الثاني، وقبل أن نشرع في الدرس أحب أن أشير إلى قاعدة مهمة يجب أن يستصحبها المسلم دائماً عندما يتأمل أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا سيما طالب العلم، وكما تعرفون هذه الرسالة، أعني: (رسالة التدمرية) جلها أو أغلبها في تقرير الصفات لله عز وجل والرد على المخالفين، ولا شك أن هذا أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أعظم أصل في تقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله التي يجب أن يعتقدها المسلم، ثم ما يستتبع ذلك من ضرورة الدفاع عن العقيدة ونفي أقوال المبطلين والجاهلين والمتأولين بأسماء الله وصفاته، والرد على المخالف -كما تعلمون- أصل عظيم من أصول الإسلام، لكن مما يجب على طالب العلم بأن يستصحبه عندما يخوض في مسائل الخلاف مع أهل الأهواء والبدع في أسماء الله وصفاته قاعدة عظيمة جداً، وهي: ألا ينسى أن المقصود بتقرير أسماء الله وصفاته والدفاع عنها إنما هو تعظيم الله عز وجل، وليس مجرد المعرفة العلمية، أو مجرد استعراض قوة المسلم أمام المخالفين، أو قوة أهل السنة أمام المخالفين، أو عرض الحجج وقوتها، فليس هذا هو المقصود، وإنما هذه وسائل، فالكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله تقريراً ودفاعاً إنما هو وسيلة لتعظيم الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، وإلى دعاء الله بذلك، وعليه فيجب أن تكون الغاية الأولى عند تعلم هذا الأصل: توحيد الله عز وجل وتعظيمه وإجلاله، وعبادته على هذا الأصل، أي: دعاء الله بأسمائه وصفاته كما أمر الله عز وجل. كما أن أسماء الله وصفاته لا بد أن تُثمر ثمرتها في قلب المسلم، لا سيما طالب العلم الذي يتكلم عن هذه الأمور على جهة التفصيل، فيجب أن يمتلئ قلبه من خلال استعراضه لأسماء الله وصفاته وأفعاله، ونفي الباطل والنقص عن الله عز وجل، والمحبة لله، والخشية له، والرجاء منه، ثم ما يستتبع ذلك من اليقين والإنابة والتوكل، وسائر الأعمال القلبية التي لا بد أن تُثمر ثمرتها في الجوارح وعلى اللسان. وهذا الأصل -كما قلت- ينبغي أن يكون بدهياً، لكن مع ذلك لا بد من التنبيه له بين وقت وآخر؛ لأن طالب العلم إذا اشتغل بالردود فربما يقسو قلبه، فتنصرف همّته إلى مجرد الرد ومقارعة الحجة بالحجة، فيغفل عن أن يتأثر قلبه وتتأثر جوارحه ولسانه بتعظيم أسماء الله وصفاته وأفعاله. ولذلك نجد بعض المشتغلين بهذا العلم أو بهذا الجانب يغفلون عن هذه القاعدة، والشيخ رحمه الله كما تعلمون لا يزال يرد على الذين ينفون الصفات، سواء أولئك المعطلة كالجهمية والفلاسفة والغلاة الذين ينفون الأسماء والصفات، أو من دونهم ممن يؤولون أو ينفون البعض ويثبتون البعض. والشيخ الآن سيقرر الأصل الثاني في الرد عليهم على النحو التالي:

القول في الصفات كالقول في الذات

القول في الصفات كالقول في الذات قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وهذا يتبين بالأصل الثاني، وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات]. من أجل أن نربط الأصل الثاني بالأصل الأول، فقد قرر الشيخ في الأصل الأول أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وكان هذا رداً على المؤولة أكثر مما هو رد على النفاة، ثم هنا سحب نفس القاعدة في الرد على المعطّلة النفاة، فكما يقال: إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض، كذلك يقال هنا: إن القول في الصفات كالقول في الذات؛ لأن كثيراً من غلاة المعطّلة لا ينفون الذات أو خصائص الذات، مثل: الوجود، فهي أهم خصائص الذات عندهم، ولذلك هم لا ينفونها، والوجود لابد أن يقبل الوصف، وما قبِل الوصف فلا بد أن يكون ذاتاً. قال رحمه الله: [وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات]. وكذلك الأفعال؛ لأن الشيخ يجمل، والأفعال داخلة في الصفات، والصفات كما تعلمون على نوعين: صفات ذاتية، وصفات فعلية. فالصفات الذاتية مثل: اليد، والوجه، والصفات الفعلية مثل: النزول، والاستواء.

بواعث أهل الأهواء والبدع لإثارة السؤال عن كيفيات الصفات

بواعث أهل الأهواء والبدع لإثارة السؤال عن كيفيات الصفات قال رحمه الله: [فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟]. وقبل أن يرد الشيخ على هذا القول أحب أن أنبه إلى أنه باستقراء آراء أهل البدع والأهواء والافتراء، سواء منهم الغلاة الملحدة، مثل: الفلاسفة والباطنية، أو من دونهم من المعطّلة الذين انتسبوا إلى الإسلام، أو من دونهم من المؤولة، كل هؤلاء يوردون هذا السؤال، لكن إيراده منهم هو على وجوه كثيرة، وأهم البواعث لإيراد هذا السؤال -حسب الاستقراء- في نظري ثلاثة بواعث: الأول: أن يكون هذا السؤال من المشبهة المجسمة، وخاصة الرافضة الأوائل، فقد كانوا مشبهة، فيقولون: لا بد أن يكون الاستواء كاستواء المخلوق -تعالى الله عما يزعمون- وإلا فكيف استوى؟! وهذا السؤال بدعي لا يجوز بحال، لكنه غالباً ينشأ من أهل الباعث الأول، أي: من أهل التشبيه. الثاني: أن يكون السائل من أهل التأويل والتعطيل، كالجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وهؤلاء ينشرون هذا السؤال من أجل إنكار الصفة، يعني: أن غايتهم عكس الأولين، ولذلك إذا أرادوا أن يحرجوا المثبت ويجرّوه إلى التأويل -إذا كان جاهلاً- قالوا له: كيف استوى؟ فإذا فسّر الاستواء، قالوا: إذاً أنت شبّهت؛ حتى يلزموه بالتأويل أو التعطيل، وعلى ذلك كان أول ما نشأ السؤال على وجه واسع من المعطّلة بعد المشبّهة. الثالث: إثارة هذه الأمور عند من لم يفقه العقيدة، ومنشأ ذلك: الجهل والشك والريب، سواء من السائل أو ممن أثيرت عنده هذه المسائل فاضطر أن يسأل، ولذلك نجد أن الذين يسألون هذه الأسئلة إما متعالم مغرور من أصحاب الفلسفة والتجهّم وأهل الكلام، وإما من جاهل لا يعرف كيف يثبت، فينشأ عنده السؤال عن إشكال. إذاً: البواعث عندنا كثيرة، لكن أهمها التشبيه، ثم أهل التعطيل والتأويل يثيرون هذا السؤال من أجل إلزام الناس بالتشبيه، ثم بالتأويل والتعطيل، أو يكون من جاهل أو شاك، أو نحو ذلك ممن يخوضون في هذه المسائل على غير وجه شرعي.

جواب من سأل عن كيفية صفة من صفات الله

جواب من سأل عن كيفية صفة من صفات الله قال رحمه الله: [فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له -كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟! وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متّصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم]. بعد أن بين الشيخ كيفية الرد على مثل هذه الأسئلة -وسيفصل أيضاً بشكل أوسع- أحب أن أذكر بالقاعدة الأصلية التي أراد الشيخ أن يُرجع الناس إليها، وهي قاعدة السلف التي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة السلف، وأهل الاستقامة من الراسخين في العلم وأتباعهم من أهل السنة والجماعة إلى قيام الساعة، هذه القاعدة الأصلية التي من اعتقدها لا يمكن أن ينشأ عنه أصلاً هذا السؤال، ولا حتى الباعث للسؤال، وهي: أن الأصل في أسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه؛ لأن الإثبات مبني على قوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، مع ما ورد قبل ذلك في أول الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وكذلك نفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والنفي جاء مفصلاً ومجملاً، فإن الله عز وجل نفى النقائص عن نفسه إجمالاً، ونفى ما رماه به أهل الباطل تفصيلاً، وعلى هذا فإن المسلم إذا أخذ بقاعدة الإثبات مع قاعدة النفي سلمت عقيدته، ولم ينشأ عنده أصلاً السؤال عن الكيفية ولا الباعث على السؤال. إذاً: الباعث على السؤال إما أن يكون من مشبّه، وإما أن يكون من معطِّل، وإما أن يكون من جاهل. فالجاهل يُعلّم، والمعطِّل والمشبه يرد عليهما قولهما؛ لأنهما خرجا عن القاعدة.

مناقشة من يثبت بعض الصفات دون بعض

مناقشة من يثبت بعض الصفات دون بعض قال رحمه الله: [وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بالعقل، أُلزم إذاً فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة، نظير ما يلزمه فيما أثبته، ولو طولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقاً].

عدم التفريق بين أسماء الله وصفاته لازم للأشاعرة في العقليات

عدم التفريق بين أسماء الله وصفاته لازم للأشاعرة في العقليات يشير الشيخ هنا أشار إلى أمر في مسألة العقليات والسمعيات، إذ يقول: هذا الكلام، أي: عدم التفريق بين شيء من أسماء الله وصفاته مع بعضها، لازم لهم في العقليات. يعني: فيما يُثبته العقل لله عز وجل، أو فيما يثبته العقل في كل أمر من الأمور، لكن الكلام هنا عمّا يتعلق بأسماء الله وصفاته، فمثلاً: العقول تُثبت أموراً يعترف بها أهل الكلام، فتُثبت كمالات الله عز وجل ويقولون: هذه صفات عقلية، ويسمونها: صفات عقلية، مثل: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة ونحو ذلك، فهذا الكلام لازم لهم في العقليات، أي: فيما أثبتوه من العقليات وما نفوه مما يشبهها مما جاء في السمعيات التي ثبتت في القرآن والسنة. إذاً: فالعقليات هي الأمور التي يثبتها العقل ولا ينكرونها؛ لأنها عندهم -بزعمهم- تثبت عقلاً ولو لم تثبت شرعاً، مع أنها قد ثبتت شرعاً قبل أن تثبت عقلاً، مثل: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة. بينما السمعيات ينكرونها؛ لأنهم يرون أنها ليست من مدارك العقل حتى يثبتها، والسمعيات كاليد والوجه التي أُثبتت لله عز وجل في الكتاب والسنة، إذ لا طريق إلى إثباتها بمجرد العقل، يعني: لو لم ترد في الكتاب والسنة ما استطعنا أن نوردها، ولا أن نتكلم فيها، ولا أن نثبتها لله عز وجل، مع أن كل أسماء الله وصفاته وأفعاله جاءت عن طريق السمع، أي: الوحي، لكن مع ذلك بعضها تدركه بداهة العقول والفطر، وبعضها لا يمكن أن نثبتها لله لو لم يأت بها القرآن وصحيح السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: لا نستطيع أن نثبت، أو لا يستطيع أحد من الخلق أن يثبت لله اليد، لولا أنها ثبتت في الكتاب والسنة إثباتاً عقلياً مجرداً، وكذلك الاستواء والنزول والمجيء وغير ذلك. فالشيخ يقول: نظراً لأنهم أثبتوا بعض الصفات العقلية فهذا يلزمهم أيضاً فيما أثبتوه من العقليات نفسها، فهم قد ثبتوا الحياة والعلم والقدرة والإرادة عقلاً ونفوا الحكمة، وهناك طوائف من أهل الكلام ممن يدّعون الإسلام ينفون الحكمة عن الله عز وجل، فيقول لهم عقلاً: لم أثبتم الحياة والعلم والإرادة ونفيتم الحكمة؟ فإن كان هناك علة في نفي الحكمة فهي موجودة في إثبات الحياة وهكذا كذلك في السمعيات، ثم ما بين العقليات والسمعيات. كما يقال لهم أيضاً حتى في السمعيات البحتة: ما دام أن هذا قد ورد في الكتاب والسنة، ولا يمكن للعقل أن يدركه، فلابد من إثباته؛ لأن العقل قد سلّم بصحة ما جاء في كتاب الله وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا العقل يجب أن يسلّم بالخبر عن صفات الله الخبرية السمعية التي لا يمكن أن يدركها، أو أن يثبتها مجرداً عن دلالة السمع أو دلالة الوحي. إذاً: من أثبت شيئاً -كالعلم والحياة، لأن هذا عقلي- ونفى شيئاً بالعقل -كاليد والوجه- أُلزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، ولو طولب بالفرق بين المحظور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقاً، وعليه فالقاعدة واحدة كما ذكر الشيخ في الأصل الأول والأصل الثاني.

تأويل متكلمة الأشاعرة والماتريدية لبعض صفات الله باللازم هو لازم لهم في الصفات الأخرى

تأويل متكلمة الأشاعرة والماتريدية لبعض صفات الله باللازم هو لازم لهم في الصفات الأخرى قال رحمه الله: [ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه، إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي، وكذا تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه، هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط]. هؤلاء هم متكلمة الأشاعرة والماتردية أو طائفة منهم الذيني يؤولون المحبة والرضا والغضب والسخط، لكن قد تختلف تأويلاتهم، واختلافهم في التأويلات من الحجة عليهم، ومع ذلك فالشيخ هنا ضرب مثالين لأنواع التأويل: هذا واحد، والثاني سيأتي، فيقول: إن أهل الكلام يؤولون المحبة والرضا بإرادة الثواب، والغضب والسخط لله عز وجل بإرادة العقاب، يقول: فهذا الكلام يلزمكم أيضاً في الصفات الأخرى، أي: لماذا فسّرتم فقط المحبة والرضا بإرادة الثواب، وأثبتم صفات أخرى مثل: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والخلق وغيرها؟! لأنهم يثبتون هذا ويؤولون ذاك، وكذلك في بقية الصفات، وهناك من يؤول تأويلاً آخر، وسيأتي الإشارة إليه أيضاً على نفس القاعدة. فالشيخ يقول: الذين أوّلوا المحبة والرضا بإرادة الثواب، والغضب والسخط بإرادة العقاب، يثبتون الإرادة، والإرادة نفسها لها تفسير هو من لوازمها، فيقول: أنتم تقولون بالإرادة، مع أن الإرادة حسب ما نعرف في المخلوقات ألا تكون الإرادة إلا عند عاقل إذا كانت المسألة مسألة قياس، مع أن هذا لا يجوز لله عز وجل، لكن من باب ضرب استدلالاتهم ببعضها ليسقط استدلالهم على التأويل، أيضاً يقول: الإرادة لا يمكن أن تكون إلا بباعث وقصد في النفس، فهل نصرف أيضاً إثبات الإرادة عن الله عز وجل؟ لأن أي معنى لا بد أن يكون له حقيقة ولوازم، وأي لفظ من الألفاظ له حقيقة ولوازم، هذه الحقيقة تُثبت لكل موصوف بحسبه، فألفاظ أسماء الله وصفاته حقائق، لكنها على ما يليق به، وأسماء وصفات المخلوقين حقائق، لكنها على ما يليق بهم، ولذلك هذه الحقائق لا تثبت ولا تُصرف إلى لوازمها، وهم الآن قد صرفوا الغضب إلى لازم، ومن لازم الغضب غالباً الانتقام، ومن لوازم المحبة غالباً الثواب، فهم فسّروا الصفات بلوازمها، فهو يقول: فكذلك الإرادة فسّروها بلازمها، وإلا فلماذا جعلتم لله عز وجل إرادة ولم تثبتوا له محبة ورضا؟! ثم إن إثبات اللازم لا يعني إسقاط حقيقة الملزوم، فإذا كان أحياناً من لوازم المحبة الثواب، ومن لوازم السخط العقاب، فلا يعني ذلك أن يُفسَّر الأصل بلازمه، وإلا لقلنا بهذا في جميع أسماء الله وصفاته، حتى يصير الأمر راجعاً إلى الخلق؛ لأن آثار الصفات هي في الخلق، فيرجع تفسير الصفات كلها إلى الخلق نفسه، ومن هنا تنتفي، وهذا ما يذهب إليه الفلاسفة الذين لا يرون لله عز وجل وجوداً حقيقياً، وإنما وجوداً مجرداً، ويفسّرون جميع أسماء الله وصفاته، أو دلالات عظمته بالخلق نفسه، وكذلك الذي يفسّر اللازم وينفي الحقيقة لا بد وأن يحصر الصفات والأفعال بالمخلوقين، ولذلك فعلاً نجدهم - أي: أهل الكلام - دائماً يفسّرون أفعال الله بمخلوقاته، فلا يثبتون لله الأفعال، فأفعاله هي مخلوقاته، مع أن المخلوقات هي آثار أفعاله وصفاته عز وجل. قال رحمه الله: [فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط، ولو فسّر ذلك بمفعولاته -وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل لابد أن يقوم أولاً بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات].

شرح العقيدة التدمرية [7]

شرح العقيدة التدمرية [7] لقد ضرب الله تعالى لنا الأمثال في القرآن، وذكر من نعيم الجنة ما نجد أسماء مفرادته عندنا في الدنيا، وهذا مع اختلاف الحقائق الأخروية عما في الدنيا، وكان ينبغي لنفاة الصفات الاعتبار بذلك، وألا يلجئوا إلى نفي ما ثبت في القرآن والسنة من صفات الله تعالى، أو ليتفكروا في الروح التي بها قوام الحياة ويعتبروا بذلك في عدم نفي صفات الله تعالى.

المثالان المضروبان لبيان الأصلين المتضمنين إثبات الأسماء والصفات مع نفي المماثلة للمخلوقات

المثالان المضروبان لبيان الأصلين المتضمنين إثبات الأسماء والصفات مع نفي المماثلة للمخلوقات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا في المجلد الثالث من الفتاوى في كتاب التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

المثال الأول: نعيم الجنة

المثال الأول: نعيم الجنة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عمّا في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم، والملابس، والمناكح، والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً، وعسلاً، وخمراً، وماء، ولحماً، وحريراً، وذهباً، وفضة، وفاكهة، وحوراً، وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء]. أراد الشيخ رحمه الله هنا أن يبين قاعدة من القواعد التي سبق الكلام عنها في الصفات. كما قد تكلم عن أصلين سابقين، الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، يعني: أن من أثبت شيئاً من الصفات الواردة في الكتاب والسنة لزمه أن يثبت الباقي؛ لأن الشبهات التي أثارها فيما ينفيه تندرج على ما أثبت، والأجوبة الشرعية والعقلية في نفي الشبهات تندرج على ما نفى كذلك. الثاني: القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا فيه رد على صنف آخر، وهم الذين ينفون جميع الصفات ويثبتون لله عز وجل الوجود الذاتي أو الذات، فيقول: إن الإثبات فيما أثبتموه ينطبق على ما نفيتموه، والشبهات التي قلتموها في الصفات تنطبق على ما أثبتموه، وهو الذات، وبهذا تنتقض شبهات القول. ثم ذكر أنه سيبين هذا بعد الأصلين السابقين بمثالين مضروبين: الأول: نعيم الجنة، وبيّن أنه كما أننا نثبت ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من حقائق في الجنة، فإن هذه الأوصاف والحقائق تشبه ما في الدنيا، ومع ذلك نحن نعتقد ونجزم أن حقائق نعيم الجنة وما ورد في تفصيلاتها، مثل: العنب والخمر واللبن وغيرها، أنها حقائق تختلف تماماً عن الحقائق التي في الدنيا، فهي حقيقة، وما في الدنيا حقيقة، لكن ما في الجنة أعلى وأعظم، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قد وصف نعيمها هذا الذي لا يمكن أن يخطر على قلب بشر بنفس الوصف الذي وصف به أحوال المأكولات والمشروبات الطيبة في الدنيا، فإذا كانت حقيقة ما في الجنة تختلف كيفياتها عن حقيقة ما في الدنيا مع اتفاق الألفاظ واتفاق المعاني العامة، فإن إثبات الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله كما ثبتت بالكتاب والسنة على وجه يختلف عن كيفيات الصفات المشابهة لها لفظاً في الدنيا، وهي صفات المخلوقين، وهذا أمر لا بد أن يقطع به العقل السليم. الثاني: الروح، وسيأتي الكلام عنه في وقته إن شاء الله.

افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر

افتراق الناس فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر قال رحمه الله: [وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق، وهذا بيّن واضح. ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق: فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وإن مباينة الله لخلقه أعظم. والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل: طوائف من أهل الكلام. والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة، والباطنية، والفلاسفة أتباع المشّائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر]. هذا التقسيم يشمل مواقف الناس من كل أمور الغيب، وأعظم وأجل أمور الغيب ما يتعلق بالله عز وجل وتعظيمه سبحانه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو أبعد الغيب عن مدارك الناس، أي: عن أن تدركه حواس الناس وعقولهم على وجه الكيفية، ومع ذلك كل الغيوب غائبة عن العقول، وغائبة عن الحواس، وغائبة عن المدارك. إذاً: هذه المواقف الثلاثة التي ذكرها الشيخ هي مواقف الناس عموماً من الغيب كله، لكن نحن هنا نتكلم عن الجانب الأعظم من الغيب، وهو المتعلق بالله عز وجل.

تأويل الباطنية للأمر والنهي

تأويل الباطنية للأمر والنهي قال رحمه الله: [ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون من الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم، وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يُعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله. وقد يقولون: الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات. وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب. وهؤلاء الباطنية: هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى. وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات، يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات كما دل على ذلك الآيات البينات، كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول، ويهدم أساس الإلحاد والضلالات. والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما يُنزَّه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم].

المثال الثاني: الروح

المثال الثاني: الروح [وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تسل الشعرة من العجينة. والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن. ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تُدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنه، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تُلحقها بالمعدوم والممتنع. وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل. قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها. وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال]. يلاحظ أن أكثر كلام هؤلاء الفلاسفة على مختلف أنواعهم يدور على أوهام؛ لأن ما أشار إليه الشيخ من قولهم: بأن الكليات ممكنة الوجود. مجرد افتراض بنوا عليه أحكاماً، وبنوا على هذه الأحكام لوازم، وهذه اللوازم جعلوها تنسحب على الوحي الذاتي، وتنسحب على المقررات العقلية القطعية، بل حتى الأمور المعلومة في الرياضيات وغيرها. إذاً: الفلاسفة في الأصل أنهم يعتمدون على الأوهام والتخرصات، وهم الذين أشار الله إلى صنف منهم بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11] فالتخرُّص هو المنطلق الأساس في كل الأحكام الفلسفية في الأمور الغيبية عن مدارك العقول أو عن الحواس، وأن كل كلام فيها إنما هو ظن، والظن لا يُغني من الحق شيئاً، ولذلك لا نعرف الفلاسفة -هؤلاء الذين يتكلمون في الإلهيات- أنهم قد أصابوا الحق في شيء، فإن وافقوا ما جاء في الكتاب والسنة فذلك ليس من عندهم، بل إن أكثر ما قالوه يخالف الكتاب والسنة ومن براهين بُعدهم عن الحق وأنهم لا يصيبونه: أولاً: أنهم لا يملكون البرهان القاطع لإثبات أوهامهم؛ لأن الأمور الغيبية غير قابلة للتجربة ولا الأمور الحسية. ثانياً: أن كبارهم الذين يُعتبرون أصحاب مذاهب مستقلة لا يمكن أن يتفقوا، إلا أن المقلد يتبع بعض الشيوخ، والحقائق لا تتعدد، إذاً ليس عند الفلاسفة حقائق. وبرهان ذلك: ما نقرؤه عنهم في أقوالهم في الروح، فكلها أقوال خطأ، والروح لا يمكن أن يصل فيها الإنسان بعقله وذكائه وبعلمه إلى قول قاطع، ولذلك لما سأل أهل الكتاب والمشركون عن الروح، قال الله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] حتى ما علّمنا الله إيّاه من حقائق الغيب هو قليل بمقابل ما لم نعلمه؛ لأن الله عز وجل ما أطلعنا من أمور الغيب الكبرى إلا على ما نحتاجه، وما لنا فيه مصلحة، وما عدا ذلك -وهو أكثر الغيب- محجوب في علم الله، ولا يمكن أن تصل إليه مدارك الناس ولا عقولهم ولا تجاربهم، لا الحسية ولا العقلية، وكذلك الغيب الذي أُخبرنا به من الكتاب والسنة لا يمكن للناس أن يأتوا فيه بجديد إطلاقاً، فلا يزيدون فيه ولا ينقصون، ولا يتحكمون فيه بقول أكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وكل ما قيل في الأمور الغيبية هو رجم بالغيب، سواء من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة. قوله: (الكليات) أي: التصورات الكلية أو العامة، مثل: قول الفلاسفة بأنه لا يمكن أن يكون هذا العالم -المخلوقات الحسية- ناتجاً عن عاقل! وهذه كلية عند كثير من الملاحدة بما فيهم الشيوعيين. وقد قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن فيها ما لا يجوز أن يكون، إذ أنه يقع في حياة الناس ظلم، ويقع في حياة الناس فساد، وهذا لا يمكن أن يكون على عاقل. وهذا تصور فاسد، لكن مع ذلك تُعتبر تصوراً كلياً لا ينبني عليه حكم، ولذلك عنون أحد معاصريهم كتاباً له بـ (العالم ليس عقلاً)؛ لأنهم بنوا على افتراض وهمي، وهذا الافتراض إضافة إلى أنه فاسد، فهو أيضاً مجرد افتراض عقلي عام. قال رحمه الله: [واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك: أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي تو

أقوال الناس في الجسم

أقوال الناس في الجسم قال رحمه الله: [وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ: (الجسم) للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي. فإن أهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]. وأما أهل الكلام فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المفردة. ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية. ومنهم من يقول: ليس مركباً من هذا ولا من هذا، بل هو مما يُشار إليه، ويُقال: إنه هنا أو هناك. فعلى هذا إن كانت الروح مما يُشار إليها ويتبعها بصر الميت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا خرجت تبعها البصر، وإنها تقبض ويعرج بها إلى السماء) كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح.

المقصود بضرب المثل بالروح

المقصود بضرب المثل بالروح والمقصود: أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة، تصعد وتنزل وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها؛ لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها. فإذا كان من نفى صفات الروح جاحداً مُعطّلاً لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات].

نتيجة ما سبق

نتيجة ما سبق من خلال هذين المثالين: نخلص إلى نتيجة واضحة بيّنة يرد بها الشيخ على جميع الطوائف التي عطّلت، فأنكرت أسماء الله عز وجل وصفاته أو بعضها، أو تأولوا ولو لم يُنكروا الأسماء والصفات أو بعضها، فهؤلاء كلهم يرد عليهم بهذين المثالين: الأول: يقال لهم: أنتم الآن تؤمنون بأن الله عز وجل قد وصف الجنة بأوصاف، وألفاظ ومعان، وحقائق هذه الأوصاف تشبه ظاهر ما في الدنيا، سيقولون: نعم، فنحن نوافقكم على ذلك. فنقول لهم: ومع ذلك نحن نؤمن قطعاً بأن هذه الحقائق التي جاءت ألفاظها مطابقة لما في الدنيا، ولها حقائق أيضاً، كما نعلم قطعاً أنها ليست كحقيقة ما في الدنيا، وهذا أمر يتفقون عليه أو يؤمنون به، وعليه فلله المثل الأعلى، فنحن عندما نُثبت أسماء الله عز وجل وصفاته كما وردت في الكتاب والسنة، فإنا نثبتها على ما يليق بجلاله، والتشابه اللفظي لا يعني التشابه في الكيفيات، كما أن التشابه اللفظي بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا إنما هو تشابه في المعاني العامة وليس في الكيفيات. الثاني: الروح، فهم يؤمنون بالروح، بل كل عاقل يؤمن بها ويدرك وجودها في أي حيوان، وأن هذه الروح أيضاً قد ورد لها أوصاف في الكتاب والسنة، والناس يدركون لها ذلك، من الحركة، والصعود، والنزول وغير ذلك، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يُدرك كيفيات صفات هذه الروح، مع أنها توصف بصفات ألفاظها تشبه صفات المشاهدات، أي: الأمور الحسية، لكن لا يمكن أن نحكم فيها بأن لها كيفية ككيفيات الأمور الحسية، رغم أنها توصف ويُعلم عنها ظواهر، وهذه الظواهر موجودة في الحسيات التي نعلمها، ومع ذلك لا نُدرك كيفية الروح. فكذلك من باب أولى -ولله المثل الأعلى- أسماء الله وصفاته نحن نؤمن بأنها حق، وأن لها معاني حقيقية تليق بالله عز وجل، لكن لا نعلم كيفيتها، فإذا كان هناك من المخلوقات ما هو موصوف بما يشبه صفات المحسوسات، بل بما يشبه صفات الخالق، فإننا نجزم أن هذا ليس كذلك في الكيفية؛ لأنه لابد لمن استعمل عقله على وجه صحيح أن يصل إلى نتيجة سليمة، وهي أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله عز وجل وصفاته لابد أن تثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وأن إثباتها له ليس تشبيهاً ولا تمثيلاً، وأنه لا يؤدي إلى الحرج كما يزعمون، وأن من أثبت ما أثبته الله ورسوله لله عز وجل من الأسماء والصفات فلا بد أن يكون محقاً، بدليل أننا نجد الفارق في الكيفيات حتى في المخلوقات، والله عز وجل أعظم وأجل.

قياس التمثيل والشمول

قياس التمثيل والشمول وأما قول المصنف: (فلا يجوز أن يُشرك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده). فإن قياس التمثيل: هو قياس الشيء على فرعه أو أصله، أو: قياس الأشياء على نظائرها وأمثالها، أو أن نقيس شيئاً على شيء من وجه، وليس من كل الوجوه، وهذا من جانب، ومن جانب آخر: قياس التمثيل كأن نقيس أو نشبّه الابن بأبيه. وأما قياس الشمول فهو: كقياس الإخوة بعضهم على بعض، وهذا يمكن أن يكون من أبسط الأمثلة لذلك. إذاً: إلحاق الشيء بأصل يعتبر قياساً تمثيلياً وإلحاق الشيء بما يشبهه وليس أصلاً له ولا فرعاً يعتبر قياساً شمولياً.

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بالفلاسفة المشائين

المقصود بالفلاسفة المشائين Q قال شيخ الإسلام: الفريق الثالث نفوا هذا وهذا كالقرامطة والباطنية وأتباع المشائين، ما المقصود بأتباع المشائين؟ A المشاءون وصف لطائفة من الفلاسفة من عادتهم كثرة الخوض وكثرة التخرص في الوهميات، وذكر عنهم أن من عادتهم أنهم يقررون الأشياء وهم يمشون، ربما يعتقدون أن المشي يفتح النفس ويفتح آفاق التفكير، فيمشي أحدهم ويبدأ يهذي بما يدري وبما لا يدري، ويحلق في الخيالات، ثم يبدأ يعبر عما يتخيل وهو يمشي، وتلاميذه يحلقون به ويسجلون ما يقول.

شرح العقيدة التدمرية [8]

شرح العقيدة التدمرية [8] أهل السنة يثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد انبنى هذا الباب عندهم على قواعد مأخوذة من الكتاب والسنة، وهذه القواعد لابد منها لضبط هذا الباب، والرد على المخالفين فيه.

القواعد التي بني عليها تقرير الأسماء والصفات والرد على المخالفين

القواعد التي بني عليها تقرير الأسماء والصفات والرد على المخالفين الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد. فبعون الله وتوفيقه نستأنف درسنا، وقد وقفنا في الفتاوى في كتاب التدمرية على الفصل الذي يتعلق بالخاتمة الجامعة، والتي تتضمن قواعد، وهذه القواعد سبع، وقبل أن نشرع في هذه القواعد أُحب أن أستعرضها إجمالاً؛ لأن استحضار هذه القواعد قبل القراءة التفصيلية مفيد جداً، لا سيما أن في بعضها شيئاً من التشابه والتداخل، وكذلك لعل الدخول في القراءة المفصّلة في هذا الدرس في هذا اليوم غير مناسب. ولذا سأعرض هذه القواعد التي بنى عليها الشيخ تقرير الأسماء والصفات، والرد على المخالفين فيها، ثم إن هذه القواعد وسواها من القواعد المتعلقة بالأسماء والصفات وأفعال الله عز وجل توجد مفصّلة، وبأمثلة واضحة في كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (القواعد المثلى)، وهو كتاب مفيد نافع جداً، وقد استقى الكثير مما ذكره من التدمرية وغيرها، وأنصح كل طالب علم أن يرجع إلى ذلك الكتاب. أما القواعد التي أشار إليها الشيخ فهي سبع، وفي بعض النسخ ست، ولذلك أُلحقت في الفتاوى القاعدة السابعة بغير ترقيم، وقد استعملت فيها طريقة الحروف؛ لأنها لم تكن موجودة في بعض النسخ الخطية للكتاب.

القاعدة الأولى: صفات الله سبحانه إثبات ونفي

القاعدة الأولى: صفات الله سبحانه إثبات ونفي القاعدة الأولى: أن الله موصوف بالإثبات، أي: إثبات ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وموصوف أيضاً بنفي النقائص جملة وتفصيلاً، أي: نفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لابد أن تتضمن الأسماء والصفات والأفعال النفي والإثبات، والنفي والإثبات لا بد أن يدخل فيه ما تقر به العقول السليمة، من أنه لا بد أن يُثبت لله الكمال المطلق، ولا بد أن يُنفى عنه النقص مطلقاً.

القاعدة الثانية: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه

القاعدة الثانية: الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه القاعدة الثانية: أن كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب والدين وجب التسليم به دون مناقشة، والتصديق والإذعان واليقين بأنه حق، وهذا هو الفارق بين المؤمنين الصادقين وبين من في قلوبهم مرض من أهل الأهواء والتأويل والشكوك، فالمؤمنون سلّموا بخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأنه حق على حقيقته على ما يليق بجلال الله عز وجل، وأول ذلك ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، بل وسائر أمور الغيب، فكل ما أخبر الله به وجب التسليم به، وكل ما ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التسليم به، وأول ذلك الأسماء والصفات والأفعال، وهذا اليقين أو هذا الإثبات لا يتوقف على إدراك الكيفيات، بل يجب ألا يتطلّع المسلم إلى الكيفيات أصلاً، كما لا يتوقف ذلك حتى على إدراك المعنى؛ لأن المعنى قد لا يُدرك عند بعض الناس وإن كانت المعاني المجملة مُدركة، لكن مع ذلك فإن مدارك الناس تختلف، فبعض الناس قد تعرض له بعض الشبهات وبعض الشكوك، ونحو ذلك من العوارض التي تعرض للبشر، فيضعف يقينه بالله عز وجل، وقد لا يُدرك المعنى فيما ثبت عن الله وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس الحق موقوفاً على إدراك المعنى عند الفرد، مع أننا نعلم أن الله عز وجل قد خاطبنا بلسان عربي مبين، وأمرنا بالتدبر، ولا شك أن معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله مُدركة بالجملة، لكن ومع ذلك لو أن أحداً من الناس قال: والله لم أُدرك هذا المعنى، ولا أدري كيف أعتقد هذه الحقيقة! فنقول له: إن الحق ليس متوقفاً على إدراكك للمعنى ولا للحقيقة، والمعنى ثابت لله عز وجل على ما يليق بجلاله.

القاعدة الثالثة: التفصيل في معنى الظاهر المراد من الأسماء والصفات

القاعدة الثالثة: التفصيل في معنى الظاهر المراد من الأسماء والصفات القاعدة الثالثة: أن الأسماء والصفات والأفعال يراد بها ظاهرها، لكن مع ذلك لا بد من التفصيل في معنى الظاهر؛ لأن الظاهر قد يُراد به: المشاهدات وقياس الغائب على الشاهد، وهذا ليس هو المراد بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وقد يُراد بالظاهر: إثبات المعنى والحقيقة، وهذا هو الحق، فعلى هذا إذا قيل: هل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ الأصل أنه مراد؛ لأن الله عز وجل ما خاطبنا إلا بما أراد أن نفهمه ونعتقده، لاسيما -كما هو معروف- إنما جاء ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله في الكتاب والسنة لنعظّم الله بها وندعوه بها، ونعتقد له الكمال المطلق، وننفي عنه النقائص، وهذه هي الغاية الأولى من إثبات الأسماء والصفات، لكن مع ذلك فإن المعنى الظاهر قد يحدث فيه إشكال عند بعض المتحذلقين ممن وقعوا في شبهات المتكلمين والمتفلسفة. وهنا يرد سؤالاً: هل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ نحن نقول: هو مراد ابتداء، لكن مع ذلك نسأل السائل، وخاصة إذا كان ممن عرف بمسالك الكلام والفلسفة: ماذا تقصد بالظاهر؟ إن أردت بالظاهر: تشبيه الله تعالى الله بالمشاهدات فليس هذا هو الظاهر، ولا يُعتقد لله عز وجل، وإن أردت بظاهر النصوص إثبات المعاني والحقائق، إذاً فالإنسان السالم من الشبهات والشكوك والفلسفات والكلاميات يعتقد أصلاً أن ظاهر النصوص مراد؛ لأن ظاهرها هو الحق، وليس تشبيهاً، وإن كان السائل ممن عنده ريب أو يتوقع أن عنده شكوكاً وإشكالات يفصّل له، فيقال: إن أردت بالظاهر قياسه على المخلوقات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، ولا نعلم كيفيات صفاته، وإن أردت بالظاهر المعنى والحقيقة، فلاشك أن أسماء الله وصفاته لها معان وحقائق.

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم أن مدلول نصوص الصفات هو التمثيل

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم أن مدلول نصوص الصفات هو التمثيل القاعدة الرابعة: نفي توهم مماثلة الأسماء والصفات لله عز وجل لصفات المخلوقين، ثم إرادة نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة محاذير، ومن هذه المحاذير: المماثلة، وتوهم خيالات في الأذهان، وهذه الخيالات غالباً تنطبع عن الواقع. إذاً: فهذه القاعدة تتلخّص في أنه يجب على المسلم أن ينفي في ذهنه توهم مماثلة الخالق للمخلوقين، أو مماثلة الله عز وجل لشيء من المخلوقات، وقلنا: نفي توهم؛ لأن التوهم قد يوجد، بل لا بد أن يوجد؛ لأنه لا يمكن أن يفهم الإنسان ألفاظ الكتاب والسنة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر أمور الغيب إلا بأن يتخيل في ذهنه خيالات، لذا كانت هذه القاعدة تتعلق بنفي وخيال، واعتقاد أن الله عز وجل له من الأسماء والصفات والأفعال ما هو أعظم وأجل مما تتخيله أذهاننا، أو نتوهمه ونتصوره بمجرد تصورات، لذا كان نفي الأوهام ضرورياً؛ لأن من لم ينف الأوهام يقع في التشبيه؛ لأنه لا بد أن يعتقد صوراً وأشكالاً في ذهنه، فإذا لم ينف ذلك إما أن يشبِّه، وإما أن يكون عنده ردة الفعل كما عند الجهمية والمعتزلة والمتكلمين، فيعطِّل ويؤول؛ لأنه توهم بأسماء الله وصفاته وأفعاله -تعالى الله- أشياء وأشكالاً، فنفر من هذه الأشكال التي توهمها، وهذه الأشكال مبنية على ما ينطبع في ذهن الإنسان من عالم الشهادة، والله عز وجل ليس كمثله شيء، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وبهذا يسلم المؤمن من مداخل الشيطان.

القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا الله به من وجه دون وجه

القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا الله به من وجه دون وجه هي قاعدة شبيهة بالقاعدة التي قبلها، لكن لها وجه من التوضيح، وهي: أنه يجب على المسلم أن يعلم أن ما أخبرنا الله به، وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه في ذاته وأسمائه وصفاته، نعلمه من وجه ولا نعلمه من وجه آخر، فالوجه الذي نعلمه أن هذه الأسماء والصفات والأفعال هي لله على الحقيقة، وأن لها معاني تليق بالله عز وجل، وأنها تعني الكمال المطلق لله عز وجل، ويجب أن نعظّم الله بذلك ونقدّسه ونسبّحه، ولأنه لا يمكن أن يكون هناك أوصاف بلا معان، وأسماء بلا معان، وأفعال بلا معان، وإذا جُردت الألفاظ من المعاني وقع المسلم في التعطيل، ووقع في وصف الله عز وجل بصفات المعدوم. إذاً: لا بد أن نعلم أن ما جاء في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته نعلمه من وجه، وهو أن أسماء الله وصفاته وأفعاله على الحقيقة، وأن لها معاني ثابتة، لكن لا نعلمه من وجه آخر، وهو الكيفيات وسائر أمور الغيب، وفي حق الله أولى، ولله المثل الأعلى، فنحن نؤمن بخبر الله عن الملائكة، وقد جاء تفصيل أحوال الملائكة في القرآن والسنة، وممكن أن كل واحد منا في ذهنه توهمات وتصورات عن الملائكة أو عن بعض الملائكة، كجبريل مثلاً، فجبريل قد وردت له أوصاف كثيرة، وكل منا يتخيل في ذهنه شيئاً من هذه الأوصاف، ونحن نعلم أن أوصاف جبريل لها معاني حقيقة، وهذه المعاني الحقيقية هي الوجه الذي يجب أن نؤمن به، لكن أيضاً في أوصاف جبريل معان وهمية في أذهاننا، ليست حقيقة ما هو عليه، ولا أحد من البشر أو المخلوقين قد رأى جبريل على حقيقته إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رآه على حقيقته، وهي حقيقة ليست كحقيقة ما يشاهده الناس من مشاهدات، فإذا كان هذا -ولله المثل الأعلى- في مخلوق نعلم له صفات، ونعلم له أحوالاً، وهذه الأحوال نفهمها من وجه، وهي أنها معان حقيقية وصفات حقيقية، ولا نفهمها من وجه، وهي الكيفيات، فمن باب أولى -ولله المثل الأعلى- ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وكل ما ورد عن الله سبحانه له معان وحقائق نفهمها من وجه، وهو أنها حقيقة على ما يليق بجلال الله، وأنها على الكمال المطلق له عز وجل، ولا نفهمها من وجه، وهو الكيفية.

القاعدة السادسة: بيان ضابط النفي والإثبات في الأسماء والصفات

القاعدة السادسة: بيان ضابط النفي والإثبات في الأسماء والصفات القاعدة السادسة: أنه لابد في هذا الباب -أعني باب الأسماء والصفات- من ضابط للنفي والإثبات، بمعنى: أننا لا ننفي نفياً مطلقاً، ولا نثبت إثباتاً مطلقاً، فالإثبات لا بد أن يُقيد بالنفي، والنفي لابد أن يُقيد بالإثبات، فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لابد أن نضبط ذلك مع نفي الكيفيات والمماثلة، نضبطه بضوابط، وهو: أن الإثبات يقتضي إثبات الكمال المطلق، ويقتضي نفي المشابهة، ويقتضي نفي كل النقائص التي نفاها الله عن نفسه، وكل النقائص التي يتوهمها البشر. إذاً: لابد للإثبات من تقييد، وكذلك النفي، فعندما ننفي عن الله عز وجل النقائص والعيوب، وعندما ننفي عن الله عز وجل مماثلته للمخلوقين لابد أن يقيد هذا النفي أيضاً بضوابط، وهو ألا ينصرف النفي إلى نفي ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا إلى الإلزام بالمستلزمات التي لا تلزم، وهناك قصة ذكرها الذهبي عن محمود بن سبكتكين، وهو أحد السلاطين المسلمين في الهند في القرن الرابع والخامس الهجري، وقد قال كلمة جيدة، وقاعدة عظيمة فطرية، وعقلية بدهية، وذلك عندما جاءه أحد المتكلمين المشاهير، وأراد أن يدخل في ذهنه مسألة نفي العلو والفوقية لله عز وجل، فكان مما قال هذا المتكلم: إنه يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، فرد عليه هذا السلطان فقال: ليس أنا الذي يُثبت الفوقية من أجل أن تلزمني، وإنما الذي أثبتها هو الله عز وجل. فخرج هذا المتكلم من عند السلطان مغموماً، حتى قيل: إنه أُصيب بمرض فتك به فيما بعد ومات، والله أعلم بالحال. فتأمل هذه الإجابة الفطرية، وانظر إلى هذا التقرير العقلاني الفلسفي من المتكلم، إذ إنه إذا أثبت الفوقية لابد أن يثبت ضدها، وهذا صحيح في عالم الشاهدة، فكل مخلوق لا بد له من فوق وتحت، لكن هو استعمل القياس على منهج فاسد، فقال هذا المتكلم -كأنه يريد أن يدخل هذا المعنى الكلامي في ذهن السلطان-: يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، وصرّح بالضد! فقال له: كيف تلزمني؟! وأنا لست القائل بذلك، وإنما القائل هو الله عز وجل، وكان ذلك حجة فطرية تدل على الذكاء والفطنة، وتدل أيضاً على سلامة الاعتقاد.

القاعدة السابعة: أن ما جاء به الشرع يدل عليه العقل إما دلالة مفصلة وإما دلالة مجملة

القاعدة السابعة: أن ما جاء به الشرع يدل عليه العقل إما دلالة مفصلة وإما دلالة مجملة القاعدة السابعة: أن ما جاء به الشرع يدل عليه العقل إما دلالة مفصّلة وإما دلالة مجملة، وأغلب أسماء الله وصفاته وأفعاله يدل عليها العقل كما يدل عليها الشرع؛ لأنها كمال ظاهر، أما ما لا يدركه العقل مما ثبت به الشرع فإن العقل يسلّم بصحته؛ لأن العقل السليم سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وسلّم بصدق القرآن وصدق السنة، فإذا ورد الاسم أو الصفة لله عز وجل في القرآن أو السنة فإن العقل يسلّم ابتداءً ولا يناقش؛ لأنه قد سلّم بأن خبر الله صادق، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، وعليه فالعقل السليم لابد أن يسلّم بجميع أسماء الله وصفاته وأفعاله، إما على سبيل التسليم المباشر، وهو الإقرار بأن الله عليم حكيم إلى آخر الأسماء والصفات التي تقر عقلاً، أو على سبيل التسليم الإيماني المتضمن التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كالصفات الخبرية، من إثبات اليد، والوجه، والعين وغير ذلك، فالعقل لا يستقر بإثباتها، لكن لما ثبتت من المصدر القطعي، لم يكن للعقل قدرة أن يعارض هذا المصدر القطعي؛ لأن العقل مخلوق ضعيف. إذاً: فالعقل السليم قد سلّم ابتداء بأن كلام الله حق، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق، والأسماء والصفات التي نثبتها هي كلها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن جئنا بشيء من عندنا فليرد إلى أصل القاعدة، وهو أن ما دل عليه الشرع دل عليه العقل، وذلك إذا سلم العقل من العوارض، وإلا فالعقل لا يسلم من ذلك؛ لأنه مخلوق ضعيف، فتأتيه عوارض الهوى، والضعف، والمحدودية، والشبهات، والشهوات، والشكوك، ومداخل الشيطان، وعوارض أخرى كثيرة، فكيف ينزع هؤلاء الفلاسفة والمتكلمون إلى جعل العقل حكماً على الشرع؟! لما فعلوا ذلك خاضوا في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق، نسأل الله السلامة والعافية.

شرح العقيدة التدمرية [9]

شرح العقيدة التدمرية [9] لقد وضع العلماء في الكلام على أسماء الله تعالى وصفاته قواعد إذا فهمها المرء وتعامل بها سلم مما وقعت فيه الفرق الضالة من وصف الله بأوصاف العدم والنقص، أو القول عليه بغير علم.

مجمل القواعد والأصول في الأسماء والصفات

مجمل القواعد والأصول في الأسماء والصفات الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقبل أن نشرع في الدرس أحب أن أستعرض بإيجاز المعاني والأصول التي قد درسناها، وذلك من أجل أن يرتبط في الذهن الدرس الحاضر بالدروس الماضية، فأولاً: أشار الشيخ في المقدمات الأولى قبل هذا الفصل إلى قواعد مهمة أجملها وبدأ يفصل فيها الآن، وهي أن الأصل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قاعدة لا تتخلف، وهي مقتضى قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ثم أشار إلى مقدمة للرد على أهل الأهواء الذين أولوا الصفات أو عطلوها، هذه المقدمة قد لخصها الشيخ في أمور عدة: منها: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، أي: إذا أثبتنا بعض الصفات فيلزمنا إثبات الجميع، والذين أولوا بعض الصفات رد عليهم الشيخ قائلاً: لماذا فرقتم بين الصفات عند تأويل بعضها؟ والصفات كلها غيب، وكلها كمال لله عز وجل، وكلها على حقائقها، وكلها جاءت في الكتاب والسنة، فإذا أولتم بعضها فلماذا لم تأولوا البعض الآخر؟ والتفريد لا مبرر له. ومنها: القول في الصفات كالقول في الذات. ثم ضرب مثالين عظيمين في أن أسماء الله عز وجل وصفاته لا يجوز الكلام فيها بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وأنها أمور غيبية لا يمكن فيها قياس المخلوق على الخالق، أو قياس الخالق على المخلوق، وأن من قاس الخالق على المخلوق وقع في التأويل والتعطيل وفيما نهى الله عنه، ووقع في الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أي: الإلحاد الجزئي والكلي، وقد ضرب لهذا مثلاً في الخلق -ولله المثل الأعلى- فقال: هناك من المخلوقات ما لم تحيطوا به علماً، وهي مخلوقات لها أوصاف وأسماء وأحوال، وضرب لذلك مثلاً بالروح، فقال: أنتم الآن تتكلمون في الله عز وجل بغير ما ورد في الكتاب والسنة، وتتعرضون لأسماء الله وصفاته بعقولكم وأرواحكم بدعوى القياس، مع أن فيكم جميعاً مخلوقاً لم تصلوا فيه إلى نتيجة، وهذا المخلوق له صفات وأحوال وسمات، ومع ذلك لا تحكموا فيه برأي ولا بعقولكم، وهذا المخلوق هو الروح، فكل إنسان معه روح، وهذه الروح تقعد وتنزل، ولها صفات وأحوال، وموصوفة بحقائق، ومع ذلك لا أحد يدري ما الروح؟ مع أنها مخلوق من مخلوقات الله. إذاً: فلماذا تتحكمون بأسماء الله وصفاته بعقولكم؟ ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً بنعيم الجنة فقال: الجنة فيها نعيم، لكن ليس كنعيم الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي مخلوقة وموصوفة لنا، ومع ذلك فنعيمها من حيث الألفاظ تشبه ألفاظ نعيم الدنيا، ففيها عنب وخمر ولبن وماء وأشياء كثيرة مما يوجد في الدنيا، ومع ذلك فليس هذا كذاك. ثم ذكر القواعد التفصيلية وخاتمة ستأتي، وهذه القواعد التفصيلية مهمة في الحقيقة، وينبني عليها تصور ما سنقرؤه الآن، وما سنقرؤه مستقبلاً، وما قرأناه في الماضي، والشيخ قد أشار إلى سبع قواعد ذهبية عظيمة جداً استنبطها من النصوص، وستجدون أن لكل قاعدة أدلة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته. القاعدة الأولى: أنه يجب وصف الله بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثبات والنفي. القاعدة الثانية: ما جاء في كتاب الله، وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجب قبوله والإيمان به بدون مناقشة. القاعدة الثالثة: التفصيل في ظواهر النصوص، هل هي مرادة أو غير مرادة؟ لابد من التفصيل، فإن قصد بالظاهر: أنها حقائق فحق، وإن قصد بالظاهر: تشبيه الله بالمشاهدات فلا؛ لأن الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فيقول: لا تلبسوا على الناس بمثل هذه الأمور، فتقول: إذا كان ظاهرها مراداً فمعناه أننا قد وقعنا في التشبيه، إذاً لابد أن نؤول، فأقول: لا، فإن ظاهرها مراد، لكن ليس ظاهرها ما تتوهمونه، وإنما ظاهرها الحقائق، فالله عز وجل موصوف بالحقائق على ما يليق بجلاله. القاعدة الرابعة: نفي ما يتوهم من مماثلة المخلوقين. القاعدة الخامسة: أن نعلم أن ما أخبر الله به معلوم من وجه، وغير معلوم من وجه آخر، معلوم من حيث أنه حقيقة، وغير معلوم من حيث الكيفية. القاعدة السادسة: أنه لابد من ضابط للنفي والإثبات في أسماء الله وصفاته. القاعدة السابعة: أن كثيراً مما جاء به الشرع يدل عليه العقل دلالة إجمالية، لكن العقل لا يستطيع أن يعرف التفاصيل، بل لم يعرف تفاصيل نفسه، ولذا فالتفاصيل يعفى منها العقل، والله عز وجل ما كلفه بذلك، لكن من حيث الإجمال فنعم؛ لأنه ما من عقل سليم إلا ويدرك الكمال لله عز وجل، كما يدرك على جهة الإجمال أن الشرع جاء بمصالح العباد، ويدرك ضرورة البعث، وضرورة النبوات، إلى آخر ذلك على جهة الإجمال، وأما التفصيل فلا، وهذا ما سيفصله الشيخ ف

خاتمة جامعة في صفات الله سبحانه

خاتمة جامعة في صفات الله سبحانه

القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي

القاعدة الأولى: أن الله تعالى موصوف بالإثبات والنفي قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة: القاعدة الأولى: أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم]. قوله: (أن الله سبحانه موصوف بالإثبات) أي: إثبات الذات والأسماء والصفات لله عز وجل، بمعنى: أنه لا يكون الإيمان بالله مجرد إيمان ذهني كما يقول الفلاسفة وغلاة الجهمية وغيرهم، بل الأمر أعظم من ذلك، فلابد للإيمان بالله من أن تعرف أن الله موصوف بالأسماء والصفات والأفعال، وأنه لابد أن ننفي عنه جميع النقائص، وكل ما يضاد الكمال فهو منفي عنه عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255].

صفات النفي تتضمن إثبات الكمال والمدح لله عز وجل

صفات النفي تتضمن إثبات الكمال والمدح لله عز وجل وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال; لأن النفي المحض عدم محض]. يعني: أن النفي الخالص عدم خالص، مثل وصف المتكلمين والفلاسفة ومن أعجب بطريقتهم ومنهجهم -ليس فقط في الدين، بل في الدنيا أيضاً، وهذا ثابت عنهم، ولا نقول ذلك لمجرد ظن أو توهم-: بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا يوصف، وغير قابل للوصف! إذاً: هذا معدوم وخيال في أذهانهم، بل ولا حتى خيال، فالخيال ممكن أن يتوهم له صفات، ولذلك لا نستغرب هذا من الفلاسفة؛ لأنهم ملاحدة، وأعداء الأنبياء، لكن الغريب ممن ينتسبون للإسلام من المتكلمين الذين أعجبوا بطرائق الفلاسفة، حيث أتونا بهذه البدع، بدع النفي لأسماء الله وصفاته أو بعضها تحت دعوى أن النفي يقتضي تنزيه الله عن التشبيه، والشيخ رحمه الله أراد هنا أن يوقظ فيهم الفطرة إن كان عندهم عقول، فيقول: يا قوم! النفي المحض يدل على العدم المحض، والنفي الخالص يدل على العدمية الخالصة، وهذه أمور تعرف بالبداهة، فإذا كان كل شيء ما عندك له إلا النفي فمعناه أن هذا عدم.

أمثلة على النفي المتضمن إثبات الكمال في حق الله تعالى

أمثلة على النفي المتضمن إثبات الكمال في حق الله تعالى قال رحمه الله: [والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255]. فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم. وكذلك قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته. وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض. وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه. وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية; لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية]. لذلك جاءت الآية في منتهى البلاغة، ولا شك أنه لم ينف الرؤية فقال: لا تراه الأبصار، بل قال: {لا تُدْرِكُهُ} [الأنعام:103]، وهذا اللفظ يتضمن ضرورة أن هناك من الأبصار من ستراه، وهي أبصار المؤمنين في الجنة يوم القيامة، فالله عز وجل ينعم عليهم بأن يمكنهم من التنعم برؤيته، لكن لا يحيطون به سبحانه. ولذلك لما تكلم بعض المعتزلة الذين عندهم فقه للغة في هذه الآية حاروا وما استطاعوا أن يتخلصوا من دلالتها، مثل: الزمخشري رحمه الله تعالى، فقد أتى بالآيات التي تثبت الرؤية، ومنها قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فأخذ يلف ويدور بطريقة عجيبة؛ لأنه لم يستطع أن يتخلص من فقهه للغة؛ لأنه يعلم أن معنى قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] أي: أنه لا يمكن نفي الإدراك إلا بعد ثبوت الرؤية، وإلا فلماذا ينفي الإدراك، والإدراك هو الإحاطة؟ والله عز وجل أعظم من أن تحيط به الأبصار، بمعنى: تدركه، لكنها تراه، وهذا التضمن ضروري في معنى اللغة ومقتضى العقل السليم والفطرة.

لا يصف الله نفسه بنفي لا يستلزم ثبوت كمال ضده

لا يصف الله نفسه بنفي لا يستلزم ثبوت كمال ضده قال رحمه الله تعالى: [فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يصف الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب لم يثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً. وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: لا يتكلم، أو لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش]. من أنكر رؤية الله عز وجل يوم القيامة فالأصل فيه أنه يكفر، لكن يجب التنبه إلى أنه ليس كل من اعتقد كفراً أو عمل كفراً أو قال كفراً أن يكفر بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً، وأنا أضرب لكم مثالاً على ذلك: فلو أن واحداً منكم الآن خرج إلى الخارج فقابل مجموعة من العوام السذج الذين لا يفهمون شيئاً، وقال لهم: هل تؤمنون برؤية الله؟ فيمكن أن بعضهم ينكر؛ لأنه يظن أن هذا عظيم وشنيع في الدين، فهو لم يسمع بشيء اسمه: رؤية الله عز وجل، لكن هل أنكرها عالماً بمعناها وبأصلها، وعالماً بقدرها في الدين، وعالماً بنصوصها؟ لا، بالرغم أن الرؤية من المتواتر في الدين -رؤية المؤمنين لربهم في الجنة- وأصل من أصول الدين، ثبتت بنصوص قطعية من الكتاب، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجمع عليها أهل الحق، إذاً إنكار المعلوم من الدين بالضرورة كفر، لكن ليس كل معين يكفر.

وصف المتكلمين لله تعالى بالنفي وما فيه من التشبيه بالمعدوم

وصف المتكلمين لله تعالى بالنفي وما فيه من التشبيه بالمعدوم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا محايد له، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت. ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجماد والناقص]. هذا تقرير حقيقة بدهية سهلة بينة، وقد ساقها الشيخ بسياق يناسب ألفاظ المتكلمين لإقناعهم؛ لأنه الآن يعالج مرضاً، والكلام هذا لا يصح للأصحاء، ولذلك أنا لا أنصح طلاب العلم أمثالكم الذين سلمت -بحمد الله- عقائدهم وأفكارهم من هذه المعضلات الكلامية والمحارات الخوض فيها، فلذلك سنقتصد فيها، نقرأ قليلاً ثم نتجاوزها بعد قليل إلى القاعدة الثانية. لكن قبل أن نخرج من هذه القاعدة أحب أن أنبه إلى أن الشيخ يقول: إن هؤلاء الفلاسفة وأهل الكلام ومن قلدهم من المعتزلة والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية لما أحرجوا بنصوص الصفات وقال لهم السلف: هذه نصوص صريحة صحيحة جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أخذوا يتحايلون في نفي الصفات بأوهام عقلية، من أجل أن يردوا بها الصفات ويتأولونها، فكان منهم من يرد، ومنهم من يتأول هذه الأوهام العقلية على أنها من مقتضى تعظيم الله وتقديسه، ومن مقتضى نفي التشبيه عن الله عز وجل، فقالوا: لا يجوز أن نتصور أن الله داخل العالم، أي: داخل المخلوقات، فنقول: نعم، فلا يليق أن يكون الله داخل مخلوقاته، بل ولم يقل بهذا من يحترم نفسه من عقلاء الناس، وأما أصحاب الهذيان والموسوسين من الفلاسفة فلا اعتبار لهم، لكن لم يقل أحد من عقلاء الناس: إن الله داخل العالم؛ لأنه مقرر في العقول السليمة والفطر المستقيمة وفي الشرع أن الله عز وجل فوق السموات، فوق عرشه لا داخل المخلوقات.

ما وقع فيه من وصف الله بأنه لا داخل العالم ولا خارجه

ما وقع فيه من وصف الله بأنه لا داخل العالم ولا خارجه وأما قولهم: ولا خارج العالم، فإنهم إنما قالوا ذلك خوفاً من إثبات الفوقية والاستواء، وإثبات الذات لله عز وجل، لأنهم إذا أقروا بأنه ليس داخل العالم فقد يكون خارج العالم، يعني: خارج المخلوقات، وهذا كلام في الحقيقة لا يليق أن نقوله في الله؛ لأن الله يجب أن نصفه بما وصف به نفسه لا نقول: خارج ولا داخل أصلاً، لكن ابتلينا بهؤلاء فنضطر من أجل أن نبسط هذه الأمور أن نتكلم بلغتهم على سبيل نفي الباطل. قولهم: لا خارج العالم، يقصدون به نفي الاستواء والفوقية والعلو، وأن يكون لله وجود حقيقي بذاته، فلذلك قالوا: ولا خارج العالم. ونحن نقول: ماذا تقصدون بقولكم: (ولا خارج العالم)؟ إن قصدتم بنفي الخارج أن يكون الله عز وجل ليس بمستو على عرشه، وليس بعلي، فهذا خلاف النصوص وخلاف مقتضى العقول، وكذبتم، وإن قصدتم أننا لا نتصور له وجوداً كوجود العالم خارج العالم فنعم، ليس له وجود كوجود العالم، خارج العالم له وجود يليق بجلاله كما يليق بعظمته سبحانه. إذاً: فهم من أجل أن يفروا من إثبات الصفات قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا يعقل أصلاً، بل ولا يقول به عاقل يحترم نفسه، كذلك: لا مباين ولا محايد إلى آخره، ولذلك قال أحد العقلاء لمن ادعى ذلك في الخالق: ميز لنا بين هذا الرب الذي تعتقده وبين المعدوم؛ لأنه الذي لا داخل ولا خارج ولا ولا هذا هو الذي لا وجود له. كما أن الله عز وجل مستو على عرشه فوق السموات، كما أخبر عن نفسه وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وله وجود حقيقي يليق بجلاله، ولابد من هذه الحقيقة، وإلا فإن من تصور غير ذلك فلابد أن يبقى قلبه خاوياً لم يمتلئ بالإيمان الحقيقي، ولذلك كل أهل الكلام الذين تأملوا في حالهم بعد كبر السن أو بعد مدة طويلة وجدوا أنفسهم لا يعتقدون شيئاً، بل وصرحوا بذلك؛ لأنه إذا كنت تعتقد أن رباً ليس داخل العالم ولا خارج العالم، إذاً فأين يكون؟! لا وجود له، وكل الباطل يدور على هذه الفلسفة، لكن لا مانع أن نقرأ مقطعاً يكون فيه مثال وتوضيح، ثم نترك الباقي من الوساوس والأوهام؛ لأن عافية الله أوسع لنا.

القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأن الله لا قديم ولا محدث

القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه هو بمنزلة القول بأن الله لا قديم ولا محدث قال رحمه الله تعالى: [فمن قال: لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ولا متقدم على العالم ولا مقارن له. ومن قال: إنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم؛ لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم. فإن قال: العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر، ومن لم يقبل البصر كالحائط لا يقال: له أعمى ولا بصير. قيل له: هذا اصطلاح اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة. وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حياً، كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصي. وأيضاً: فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس أعظم نقصاً من الحي الأعمى الأخرس]. نكتفي بهذا، ولا مانع من أن أقول وأؤكد مرة أخرى: لماذا نترك بقية هذا الكلام؟ لأني أشعر أنه يوقعنا في سوء الأدب مع الله عز وجل، ويوقعنا في قسوة القلوب، ويوقعنا في حرج نحن في عافية منه، ثم لماذا نناقش أناساً لا عقول لهم؟ يعني: أناساً يقولون في الرب عز وجل هذا القول، فيكفينا أن نرد عليهم بإجمال، ونحمد الله على العافية. ولذلك فإن كثيراً من هذه المقاطع التي تشبه هذا المقطع في التدمرية وفي غيرها نتجاوزها، وإذا كان في المنهج الذي كنا عليه في الدروس السابقة إذا بدأ الكلام في محارات، ورد على الرد، وقيل وقالوا، فإنما قصد به شيخ الإسلام أولئك القوم المرضى الموسوسين نسأل الله العافية، أما الأصحاء فلا ينبغي أن يوقعوا أنفسهم في هذه الشبهات.

القاعدة الثانية: وجوب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول عن ربه، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف

القاعدة الثانية: وجوب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول عن ربه، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف قال رحمه الله تعالى: [القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه. وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة. وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً]. هذه القاعدة من القواعد العظيمة، وهي من مقتضى ما يسلم به قلب المؤمن والمسلم؛ لأنها قاعدة ينبني عليها تأسيس الدين كله، ليس فقط في الصفات -الصفات أعظم ما يجب من المسلم تجاه ربه عز وجل، وهي أعظم مقامات التوحيد- وإنما بكل ما يتعلق بأسماء الله وصفاته والإخبار عنه.

الأربعة المباني التي تجب على المسلم تجاه النصوص الشرعية

الأربعة المباني التي تجب على المسلم تجاه النصوص الشرعية هذه القاعدة تتلخص في أن ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الدين وجب التسليم له دون مناقشة؛ لأن الكلام فيها كلام عن أمور قطعية توقيفية غيبية، ولأنه لا يمكن أن يسلم للمسلم إيمانه حتى يخضع ابتداء، ويسلم بأن الخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حق وصدق، ولابد من أن يبني في قلبه تجاه هذه النصوص أربعة مبانٍ: الأول: التصديق. الثاني: التسليم بكل معانيه بمعنى: الإيمان والإذعان وقبول الخبر، والاستعداد الكامل للتصديق والعمل، وينبني هذا على التسليم. الثالث: ثم بعد ذلك القبول، إذا سلمت فاقبل، لأن هناك من يدعي أنه يسلم لكنه لا يقبل. الرابع: أنه لا يلزم من القبول الفهم، فما كل الناس يفهمون الدين، بل لا يوجد عالم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يفهم الدين كله، لكن مجموع العلماء يفهمون الدين. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، لكن قد ينفرد بعض أفراد أهل الحق في ضلالاتهم وأخطائهم، وعلى هذا فلا يمكن أن يحيط أحد بالدين، ولا يلزم من قبول الدين أن تفهمه، بل يجب أن تقبله، فهمت أو لم تفهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا بياناً واضحاً في أكثر من حديث، ومن ذلك: حديث القدر، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحابة يتجادلون في القدر قال: فما علمتم منه -يعني: من القرآن والسنة- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه)، يعني: قولوا: الله أعلم، ولا تجادلوا فيه. إذاً: لا يلزم من القبول الفهم، وهذه نقطة مهمة جداً، فبعض الناس إلى اليوم وخاصة أصحاب النزعة العقلانية إذا ما يفهم لم يؤمن ولم يسلم، وإنما يجادل ويشكك في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن الدين كله لم يستوعبه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما بقية البشر فلا، بل أعلم العلماء في الأمة لا يستوعب الدين كله، فتجد عنده نقصاً في أمور. وعليه فلابد أن يكون الأمر مبنياً على التسليم، والمسلم إذا غرس في نفسه هذه القاعدة، فإن أي خبر يأتيه عن الله عز وجل في أسمائه وصفاته، في القرآن أو ثبت في الصحيح، فإنه يسلم ويذعن، ويوقن أن خبر الله حق، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق. ثم إن القصد من دراسة أسماء الله وصفاته العمل؛ لأن كثيراً من طلاب العلم قد تجاوز هذا الأمر الخطير، لذا فعندما نتعلم أسماء الله وصفاته وأفعاله إنما المقصود تعظيم الله سبحانه، وغرس معاني الإيمان في قلوبنا؛ لأنه ما من صفة واسم لله عز وجل إلا وفيه معان، إذا امتلأ بها القلب تحقق معنى الإيمان في المسلم، وكذلك نقصد تزكية أعمالنا، وكذلك المسلم إذا سلم بهذه القاعدة فلا يمكن أن يؤول، ولا يمكن أن يثير شكاً في أسماء الله وصفاته، ولا يمكن أن تشكل عليه ألفاظ الأسماء والصفات، وما ذكره الشيخ هو ما ينطبق على الحديث السابق، فهو أحسن مثال له وأقرب مثال، فإذا جاء هذا الحديث نسلم بأنه حق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالصدق ونقبله، ولا يلزم من إيماننا أن نفهم. إلى الآن العلماء يتكلمون في الحديث فهموا منه الحقيقة؛ لكن الكيفية أنى لأحد أن يفهمها؛ لأنها أمر غيب، كيف يكون ذلك؟ لا ندري، ولا يلزم أن ندري، ولا نستطيع أيضاً أن نتوصل إلى ذلك.

الأقوال المجملة لأهل الأهواء والبدع تشتمل على حق وباطل

الأقوال المجملة لأهل الأهواء والبدع تشتمل على حق وباطل قال رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً]. يقصد بهذه العبارة: ما أحدثه أهل البدع والأهواء من الألفاظ والمعاني عن الله عز وجل التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل: نفي التشبيه، أو نفي العرض، أو نفي الجوهر، أو نفي الحدوث، إلى آخر الألفاظ التي ما عرفناها في الكتاب والسنة، وكانت النتيجة أن تنازع فيها المتأخرون الذين خالفوا منهج السلف، لكن ما أحدثها الأوائل، ولا تنازع فيها السلف.

التفصيل في الكلام على الجهة والحيز ونحوهما

التفصيل في الكلام على الجهة والحيز ونحوهما قال رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه]. قوله: (وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً ولم يرد جميع معناه) أي: إذا أطلق الجسم الجوهر العرض الجهة المباينة المفاصلة خارج العالم داخل العالم، وغيرها من هذه الوساوس والأوهام هذه إذا اشتملت على حق وباطل فإننا لا نقبله كله ولا نرده كله، فإذا جاءنا مبطل ونفى الجهة، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل، فنقول له: ماذا تقصد بالجهة إن قصدت بالجهة: أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، فوق سماواته، فهذا حق، لكن لا نسميه جهة، فأنت الذي سميته جهة! وإن قصدت بالجهة: أن الله سبحانه نحيط به جهة، فهذا غير معقول أصلاً، ولم يقل به أحد من أهل الحق ممن ينتسبون للإسلام والسنة والجماعة حتى تأتي لتتشدق به عندنا. وعلى أي حال فالمقصود هنا: أن أي لفظ لم يرد في الكتاب والسنة فلا نرده مطلقاً ولا نقبله مطلقاً، بل نفصل. قال رحمه الله تعالى: [بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك. فلفظ: (الجهة) قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم]. هذا التفصيل فيه نعم ولا؛ إن أريد به شيء موجود غير الله من المخلوقات فهذا ينفى عن الله؛ لأن الله عز وجل غير حال في المخلوقات، وإن أريد بالجهة أيضاً العرش أو السموات وقيل: إن الله ليس بجهة، أي: ليس فوق عرشه، وليس فوق سمواته، فهذا يرد، وإن أريد بالجهة نفس العرش على أنه جهة أيضاً، فهذا لا يقبل، على أنه يسمى العرش جهة، لكنه مخلوق. ولا شك أننا حينما نقول إنه فوق عرشه، يعني: أنه فوق المخلوقات؛ لأن العرش فوق جميع المخلوقات، والكرسي محيط بجميع المخلوقات. فإذاً: كلمة: (جهة) إن أريد بها إثبات العلو والفوقية فنثبت العلو والفوقية، لكن نلغي كلمة جهة؛ لأنها محدثة، فنسمي الوصف العلو والفوقية، وإن أريد بالجهة مكاناً يحوي الله عز وجل، فهذا باطل ومنفي في حق الله عز وجل. قال رحمه الله: [ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ: (الجهة) ولا نفيه، كما فيه إثبات (العلو) و (الاستواء) و (الفوقية) و (العروج إليه) ونحو ذلك. وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فان أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل]. أي: أننا لا نثبت لله شيئاً اسمه: الجهة، ولا ننفي عن الله شيئاً اسمه: الجهة؛ لأن هذا كله لم يرد في الكتاب والسنة، مع أن كلمة: (جهة) لها معان عدة، والمعنى الحق نثبته ونرده إلى اللفظ الشرعي، والمعنى الباطل نرده مطلقاً، ومثل ذلك: كلمة (متحيز) و (مباين) وغير ذلك من الألفاظ المحدثة التي لا تثبت لله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك لفظ: (التحيز)، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر، بل قد وسع كرسيه السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟). وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة)، وفي حديث ابن عباس: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم). وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه]. تلاحظون بحمد الله وضوح السنة، والشيخ رحمه الله يقرر ثم يستدل بأدلة صحيحة، لذا يجب علينا تجاه هذه النصوص أن نستصحب الأصل دائماً، ولا ننسى أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، بمعنى: إذا جاءت مثل هذه النصوص فإننا نثبتها على ما يليق بجلال الله عز وجل، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه)، هذا حق، لكن يجب أن ننفي المشابهة التي ترد في أذهاننا، وأقول هذا لأني أدرك أن بعض الناس إذا وردت عليه آيات الصفات تخيل في ذهنه

الأسئلة

الأسئلة

بيان الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين في العقائد وأصول الفقه

بيان الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين في العقائد وأصول الفقه Q ما الفرق بين الفلاسفة والمتكلمين في العقائد وفي أصول الفقه؟ وهل يشبهون المعتزلة أم لا؟ A الفلاسفة هم الذين يتخرصون في أمور الغيب، وهم الذين لا ينهجون نهج الأنبياء، بل غالبهم من خصوم الأنبياء، فهم من الخراصين الذين جعلوا أوهامهم فيما يتعلق بعالم الغيب حقائق، وزعموا أنها عقليات، كما قد يتوسع بعض الناس في مفهوم الفلاسفة فيدخل فيهم طوائف ممن يتكلمون في بعض العلوم، كالفلك والطب؛ لأن الفلاسفة إضافة إلى كلامهم في الغيبيات يعنون بهذه العلوم، لذا فقد اختلطت المفاهيم عند الناس، وأعني بذلك: الفلاسفة الخلص لا من عنده نزعة فلسفية؛ لأن النزعة الفلسفية قد توجد في كثير من أصحاب العلوم الأخرى، وعلى هذا فإن الفلاسفة لا يلتزمون الشرع، وهذا هو الأصل فيهم، فلا عقيدة ولا شريعة إلا النادر، والنادر لا حكم له. أما أهل الكلام فيقصد بهم طوائف من المسلمين الذين تأثروا بالنزعات الفلسفية، وأرادوا أن يوفقوا بزعمهم بين الشرع والعقل، أو بين الشرع والفلسفة، فوقعوا في منهج تلفيقي جعلهم يخرجون عن مقتضى السنة، وهم ليسوا فلاسفة خلص، وليسوا على نهج السنة، وإنما هم قوم خلطوا بين مناهج الفلاسفة من وجه وبين الشرع من وجه آخر، والخلط لا يستقيم. فلذلك ما استقام لهم الأمر، وصارت مناهجهم مخالفة لمناهج السلف في العقائد. وأما في أصول الفقه فلا أثر واضح للفلاسفة إلا من حيث أن أصول الفقه دخلت فيه كثير من المسائل الكلامية التي تأثر أصحابها بالأصول الفلسفية، بينما المتكلمون هم الذين لهم أثر في أصول الفقه. وأما هل يشبهون المعتزلة؟ فالمعتزلة طائفة متكلمة، بل هم أهل الكلام الخلص، بينما متكلمة الأشاعرة والماتريدية والكلابية ونحوهم إنما هم عالة على المعتزلة؛ لأنهم -والله أعلم- يعتمدون على العلوم الرياضية والمنطقية، وعلم الفلك قديماً فيه نوع من القرب من الجانب المنطقي، هذا أمر. الأمر الآخر: أن علم الفلك علم علوي، وهم يزعمون أن لهم قدرة على اكتشاف الأمور العلوية، لذلك تعلقوا بالفلك، أما تعلقهم بالطب فلا أدري ما سببه؟ لكن ربما هذا راجع إلى أن الفلاسفة الأوائل لهم عناية بالطب، فاستمر الفلاسفة الذين بعدهم على هذا النهج، والله أعلم، إنما العلوم الطبيعية التطبيقية لهم عناية بها في الجملة أو في العموم، حتى غير الطب كالكيمياء والفيزياء إلى آخره.

علاقة القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه بوحدة الوجود

علاقة القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه بوحدة الوجود Q هل قول المتفلسفة والمتكلمين بأن الله عز وجل ليس بداخل العالم ولا خارجه هو مرادف لما يسمى بوحدة الوجود؟ A بينهما تداخل وتشابه وتلازم، فإن كثيراً من أصحاب وحدة الوجود قد يقولون بهذا القول؛ لأن أصحاب وحدة الوجود أيضاً ليسوا على تصور واحد في قولهم في الله عز وجل، فبعضهم يزعم أن هذا الوجود هو الله، وأنه متحد فيه أو حال فيه، وعلى هذا فإنه قد يعبر بهذا التعبير لهذا المقصد، ومنهم من يرى أن وجود الله عز وجل إنما هو وجود ذهني، فأيضاً ممكن أن ينطلق منهم هذا الوصف: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، والمهم أن هذا ليس من لوازم قول وحدة الوجود، وإنما قد يلزم من بعض الوجوه.

بيان الفرق بين المفوضة وبين من يقول: يجب التسليم بصفات الله عز وجل مع شرط فهمها

بيان الفرق بين المفوضة وبين من يقول: يجب التسليم بصفات الله عز وجل مع شرط فهمها Q بالنسبة لصفات الله عز وجل يجب التسليم بها بشرط فهمها، لكن بعض السلف يذم من يسمى بالمفوضة، فما الفرق بين هؤلاء؟ A التسليم بما جاء في حق الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال أمر ضروري لكل مسلم، والفهم المشترط قد يقصد به: الإيمان بأن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقائق، لا فهم التفصيلات والكيفيات؛ لأن ذلك مستحيل، ولا ينبغي للمسلم أن يطمح إليه، بل حتى الخوض فيه بدعة. وأما المفوضة فإنهم لا يثبتون إثباتاً حقيقياً، وليس عندهم يقين في الإثبات، فهم متذبذبون، بل إن غالبهم لا يثبت أصلاً؛ لذا سموا مفوضة؛ لأنهم يقولون: نفوض المعنى، أو نفوض الحقيقة، وهذا غير صحيح؛ لأننا إذا فوضناها فقد أثبتناها، فنحن نثبت المعنى ونثبت الحقيقة، لكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، ونفوض الكيفيات والمعاني الغائبة عن أذهاننا، ولا نتكلم فيها تفصيلاً، لكن نقر بأنها حق على ما يليق بجلال الله عز وجل. إذاً: التفويض لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى عدم اليقين.

شرح العقيدة التدمرية [10]

شرح العقيدة التدمرية [10] عند التصدي لكلام أهل الأهواء في الأسماء والصفات لابد من مراعاة التفصيل، وذلك حتى يتميز الحق من الباطل، فإن كثيراً مما يوردونه من الألفاظ نفياً وإثباتاً قد يراد به معنى صحيح وقد يراد به معنى باطل.

القاعدة الثالثة: القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس بمراد يحتاج إلى تفصيل

القاعدة الثالثة: القول بأن ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس بمراد يحتاج إلى تفصيل

صنفا الناس في المراد بظاهر النصوص من عدمه

صنفا الناس في المراد بظاهر النصوص من عدمه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد]. قبل أن نبدأ التفصيل لابد أن نفهم ما معنى ظاهر النصوص؟ وما معنى كونه مراداً أو غير مراد؟ مع أن الشيخ قد فسر بما فيه الكفاية، لكن أريد أن أشير إلى الفلسفة التي عند أصحاب هذا القول قبل أن نشرع في الرد عليه، فالذين قالوا: ظاهر النصوص مراد، أو غير مراد هم صنفان: الأول: المشبهة، وهم أوائل الرافضة، ثم مع الجدال معهم والمراء، وكثرة جدالهم للجهمية والمعتزلة تحولوا إلى مؤولة ومعطلة، لكن المهم أنهم زعموا أن ظاهر النصوص مراد ويقصدون غير ما يقصده السلف، فيقصدون بظاهر نصوص الصفات مراد: أنهم يفهمون التجسيم والتشبيه لله تعالى، فالظاهر ما يتبادر إلى الذهن مما هو معلوم في عالم الشهادة، فإذا جاء ذكر اليد أو الوجه أو العين أو الاستواء أو نحو ذلك تبادر إلى أذهانهم المعنى المعهود، والشكل المعهود مما يحسونه بحواسهم، فلذلك شبهوا الله في خلقه. الثاني: هم الذين قالوا: بأن الظاهر غير مراد، وهؤلاء مروا بمرحلتين: مرحلة تصور التشبيه، فاستبشعوها فقالوا: إذاً ظاهر النصوص غير مراد، ويقصدون بظاهر النصوص: ما قصده المشبهة من نفي التشبيه، لكنهم أدخلوا في ظاهر النصوص الحقائق اللائقة بالله عز وجل، فزعموا أنها تدخل في مفهوم ظاهر النصوص، وهذا خطأ. إذاً: ممكن أن ينشأ القول الحق بين القولين، وهو أنه يجوز أن يقال: إن ظاهر نصوص الشرع في أسماء الله وصفاته وأفعاله مراد إذا قصدنا بظاهر النصوص الحقائق اللائقة بالله، لا للتشبيه، وعلى هذا حين تصبح كلمة: (ظاهر النصوص) من الكلمات المجملة التي لابد فيها من التفصيل، يقال لمن قالها: إن قصدت بظاهر النصوص: الحقائق، فهذا لا شك أنه ظاهر من النصوص، وحق يليق بالله عز وجل، والله ليس كمثله شيء، والتشبيه منفي، وإن قصدت بظاهر النصوص: المشابهة، وتمثيل الله بخلقه، فهذا باطل قطعاً، وليس هو مراد في كلام الله عز وجل؛ لأن الله نفى وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، فهذا النفي يدل على أن الظاهر الذي هو التشبيه غير مراد، ولا شك أن الظاهر الذي هو الحقيقة أنه مراد؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بالقرآن، والقرآن قد جاء {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، أي: موضح غير ملبس. فإذاً: لابد أن تكون ظواهر النصوص مرادة على ما يليق بجلال الله عز وجل، والمراد بذلك الحقائق.

لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك

لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك قال رحمه الله تعالى: [فإنه يقال: لفظ (الظاهر) فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد. ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال. والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين]. قوله: (ظاهرها ذلك) يعني: الذين يجعلون ظاهرها التشبيه والتمثيل يغلطون من وجهين. قال رحمه الله: [تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل. فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم تطعمني) الحديث، وفى الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، وقوله: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن)]. فحديث: (الحجر الأسود) الراجح أنه لا يصح، لكنه مرفوع عن ابن عباس، وعلى هذا فإنه يؤتى به من باب عضد الأدلة، لا من باب الاستدلال المستقل، حيث إن الأدلة قبله وبعده كافية؛ لأنها وردت في الصحاح.

الكلام على حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) وأمثاله

الكلام على حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) وأمثاله قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن). فقالوا: قد علم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق. فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لم تدل إلا على حق. أما الواحد فقوله: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال: (يمين الله في الأرض)، وقال: (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به]. لا يقصد بيمين الله ما يقصد بها على المعنى الآخر الذي جاء في سياق أمر غيبي بحت؛ لأن الأمر تعلق بشيء عن الحجر الذي نراه ونشاهده من عالم الشهادة، ولأن الحجر في الأرض، والله عز وجل علي على عرشه، وهو بذاته ليس في الأرض، وعليه فينتفي كونه يقصد بذلك صفة اليد؛ لأن الخبر قد جاء عن أمر معهود نراه ونشاهده، وصفات الله لا نراها ولا نشاهدها، ولا نعلم كيفيتها، وهكذا بقية النصوص، كحديث الهرولة جاء مربوطاً بأفعال الخلق وأوصاف الخلق. إذاً: لا يعني هذا أن المقصود به صفة الله عز وجل التي هي متعلقة بذاته، وإنما المقصود به تقريب الأمر للأذهان، ولوازمه القريبة منه التي تفهم من النص. ولذلك أي نص يتعلق بأفعال الله عز وجل يرتبط بأفعال الناس لابد أن يقيد بهذا الارتباط، كما لا ينبغي أن نفرد صفة المكر لله عز وجل دون إيراد سياقها، أنه يمكر بالماكرين، ويمكر بالكافرين والمنافقين، وكذلك الاستهزاء لابد أن يرتبط في أذهاننا، أي: ليس الاستهزاء صفة منفصلة عن لازمها في مثل هذا السياق، وإنما نقول: إن الله عز وجل يستهزئ بالكفار وبالمنافقين، ويستهزئ بالمستهزئين، فلابد أن يرتبط هذا بأذهاننا؛ لأنه جاء الأمر على قبيل المجازاة والمشاكلة، أو على قبيل الارتباط، أي: ارتباط الوصف بمخلوق، مثل: الحجر. فإذا كان الأمر كذلك لم يعد يحتاج إلى أن يكون كالصفات الغيبية البحتة، ولا أن يتأول تأولاً بعيداً؛ لأن أي نص جاء فيه خبر عن الله عز وجل مرتبط بعالم الشهادة إلا وتأويله في سياقه، ولذلك لا يسمى تأويلاً، وإنما يسمى تفسيراً، وعليه فنحن فسرنا النص بسياقه الموجود في ضمنه. قال رحمه الله: [ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً؛ لأنه محتاج إلى التأويل، مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس]. ليت الشيخ بين أنه موقوف على ابن عباس قبل أن يفصل فيه.

الكلام على حديث: (عبدي جعت فلم تطعمني) وأمثاله

الكلام على حديث: (عبدي جعت فلم تطعمني) وأمثاله قال رحمه الله: [وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسراً: يقول الله: (عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لو جدت ذلك عندي، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، فلو عدته لوجدتني عنده)]. مثل هذا الحديث يعتبر أنموذجاً للأحاديث التي أشكلت على كثير من أهل الكلام، من المشبهة وغيرهم، فالمشبهة جعلوها ذريعة للتشبيه، وأهل الكلام جعلوها ذريعة للتأويل، مع أنهم لو استقاموا على نهج السلف لكان هذا الحديث حجة على استقامة نهج السلف وبيانه ووضوحه، وأن السلف يفرقون بين النص في صفة غيبية بحتة وبين النص الذي جاء خبراً عن الله عز وجل في أمر يتعلق بأحوال المخلوقين، ولذلك عندما نتأمل الحديث: يقول الله: (عبدي جعت فلم تطعمني)، يمكن أن يستشكل، لكن نقول: أكمل الحديث وستجد الجواب فيه، ففي نفس الحديث نرى أن العبد قد سأل مستنكراً ذلك؛ لأنه ما كان يخلد في ذهنه أن الله عز وجل يحتاج، ففسر له أن المقصود به حاجة العبد، وهذا من البلاغة والبيان والإيجاز، ومن جوامع الكلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عبر عن ربه عز وجل في مثل هذا الحديث، فالحديث مفسر لا يحتاج إلى التأويل، وتفسيره ليس تأويلاً؛ لأنه خبر عن أمر يتعلق بالمخلوق فيما وعد الله به عباده في ذلك، فلا يعتبر تأويلاً. قال رحمه الله: [وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يمرض ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسراً ذلك بأنك (لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده) فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل].

الكلام على حديث: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) وأمثاله

الكلام على حديث: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) وأمثاله [وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: هذا بين يدي ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل: (السحاب المسخر بين السماء والأرض) لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذا كثيرة. ومما يشبه هذا القول أن يجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71]]. في الآية الأولى ثبتت صفة اليد لله عز وجل؛ لأن الله أضافها إلى نفسه، بينما في الآية الأخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]، فأضاف العمل للأيدي، ففرق بين إلحاق الوصف بالذات وبين إلحاق الوصف بالصفة أو العمل بالصفة، ومع ذلك تبقى الآية مجملة، لكن دلالتها ليست كدلالة: (يدي) و (بيدي) و (بيده) كما ورد في ألفاظ النصوص الأخرى التي تثبت إلحاق الصفة بذات الله عز وجل كما يليق بجلاله، ثم أيضاً الخصوصية والعموم بينها فرق، وليس لها خصوصية، وإنما خلقت كبقية الخلق، بخلاف آدم، فقد خلق بعناية من الله، خاصة وأنه خلقه بيده. إذاً: معنى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]، غير معنى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فدلالة {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] على الصفة أقوى وأصرح من دلالة: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]؛ لأنه هناك أضاف الصفة لذاته، وهنا أضاف الفعل للصفة، وأيضاً العموم غير الخصوصية، فالأنعام داخلة في عموم الخلق، وهي خلقت كما خلقت المخلوقات العامة، بخلاف آدم فإن الله خلقه بيده. وبعض السلف جعل جمع اليد دليل على أنه تعظيم لله عز وجل، لكن ليست دلالتها صريحة كدلالة: خلقت بيدي، ومع ذلك تبقى الآية مجملة، وسياقها يدل على أن المقصود أعم من مجرد الصفة. قال رحمه الله: [فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي} [الروم:41]، وهنا أضاف الفعل إليه فقال: {لِمَا خَلَقْتُ} [ص:75]، ثم قال: {بِيَدَيَّ} [ص:75]. وأيضاً فإنه هنا ذكر نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي (اليدين) ذكر لفظ التثنية كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]]. ليس المقصود به إثبات جمع العين، وإنما يدل على أن المقصود لازم الصفة وليس الصفة. قال رحمه الله: [وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] للمفرد.

بيان الفرق بين التعبير عن الذات والتعبير عن الصفة

بيان الفرق بين التعبير عن الذات والتعبير عن الصفة فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وأمثال ذلك. ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه]. هناك فرق بين التعبير عن الذات وبين التعبير عن الصفة؛ لأن الصفات لله عز وجل تتعدد، بينما الذات لا تتعدد، فإذا جاء التعبير عن ذات الله عز وجل، أو عن نفس الله، أو عما يتعلق بذلك، فإنه يأتي على أحد وجهين: إما بالإفراد، أو بالجمع على سبيل التعظيم لله عز وجل، أما التثنية فلا ترد فيما يتعلق بذات الله عز وجل ولواحقها، أو ما يعبر عنها به، مثل: النفس ونحو ذلك. قال رحمه الله: [وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدس عن ذلك. فلو قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لما كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]، وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] ولو قال: (خلقت بيدي) بصيغة الإفراد لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: (خلقت بيدي) بصيغة التثنية. هذا، مع دلالات الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع السلف على مثل ما دل عليه القرآن كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وأمثال ذلك]. مثل هذه النصوص لا ينبغي أن تقاس على مفاهيم الخلق، ولا على مدارك الخلق مهما كانت، حتى المقاييس الضرورية عند الخلق لا يجوز أن تحكم بها صفات الله والأخبار عن الله سبحانه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فلذلك لا ينبغي أن تدخل العقول في مثل هذه المجالات؛ لأنه قد يأتي متحذلق ويقول: وصف اليدين كليهما بأنها يمين، فهذا يستحيل، نقول: يستحيل لأنك قست، وإلا فالله عز وجل لا يقاس بخلقه، فهذا نص صريح يجب التسليم به، وأنه على الحقيقة كما يليق بجلال الله عز وجل، ولذا فلا يجوز أن نأخذ معاني صفات الله عز وجل وأسمائه وأفعاله والإخبار عنه على مقاييس الخلق إطلاقاً؛ لأن هذا يتنافى ويتعارض مع كونه عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وأما المقصود بقوله: (وكلتا يديه يمين) وإن كان الأولى عدم الكلام في هذا: فأنا أظن أن الحديث عن أكثر مما ورد في النص يعتبر نوعاً من التجاوز والعدوان والكلام على الله عز وجل بغير دليل، وإن كان بعض الراسخين في العلم -الذين هم أعلم منا، وأفقه في أسماء الله وصفاته- حاولوا أن يتكلموا في مثل هذه الأمور على وجه إزالة الإشكال من أذهان الناس، لكن هذا لا يجرئنا، بل ينبغي ألا نتعدى الإيمان بالنص، وأنه حق على ما يليق بجلال الله عز وجل، وخاصة في الأمور التي يظهر أن فهمها يعضل، وخاصة عندما لا يكون لدينا أي دليل نصل به إلى معنى الدلالة، وعند ذلك لا نفصل فيها، وإنما نؤمن بأنها حق، وأن المقصود بذلك الكمال لله عز وجل، ثم أليس اليمين كمالاً؟ إذاً: الله عز وجل موصوف بالكمال، ومع ذلك جاء في بعض النصوص إطلاق الشمال بمعنى الأخرى لا بمعنى الشمال الناقصة، وعليه فهذه أمور تورد كما جاءت من دون أن نتكلم فيها بشيء؛ لأن الكلام فيها حكم وقول على الله بغير علم، ثم كيف وهو بذاته يأتي بما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فيجب على المسلم أن يتهيب، وألا يجرئ نفسه عن الحديث في مثل هذه الأمور.

الأسئلة

الأسئلة

أفضل مرجع في الملل والنحل والعقائد

أفضل مرجع في الملل والنحل والعقائد Q ما هو أفضل مرجع في المذاهب والملل والنحل والعقائد ينبغي أن يجعلها طالب العلم في مكتبته؟ A مع الأسف إن مما قصر فيه أهل الاختصاص أنه لا توجد إلى الآن موسوعة وافية في هذا الباب، لكن قد وجدت كتب جيدة وشاملة، ولا بأس بها، ومن ضمنها كتاب للدكتور: غالب العواجي في الفرق، فقد ألفه على منهج الجامعة الإسلامية، مع أن منهج الجامعة في الحقيقة كسائر الجامعات الإسلامية، يعني: أنه منتقى، وقد ذكر فيه أهم الديانات وأهم الفرق على ضوابط شرعية مأمونة إن شاء الله. كما أنه من أشمل الكتب وأوجزها أيضاً في وقت واحد، ولا أذكر عنوانه بالتحديد، لكنه مشهور، أيضاً: موسوعة الندوة، وإن كان فيها عيوب كبيرة، لكنها نوعاً ما تعتبر من حيث العنصرة والعرض وتسهيل المعلومة لا بأس بها.

معنى: أن الله تعالى قريب منا بذاته

معنى: أن الله تعالى قريب منا بذاته Q قلت في الأسبوع الماضي عند كلامك على المعية: إن الله معنا بذاته، فهل هذه العبارة صحيحة؟ A هل فهمت مني هذه الكلمة، أنا كنت حريصاً أن أتفادى هذه العبارة؛ لأنها تشكل، فإن كانت صدرت مني فهي زلة لسان، لكني في الشرح بينت أن الله قريب منا بذاته، ففرق بين معنا بذاته، وقريب بذاته، فالقرب غير المعية لهذا الجانب؛ لأن القرب نسبي، والله عز وجل ليس بعيداً من خلقه {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، بل هو أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، وأما المعية فلها معنى آخر يشكل على الناس، ومن هذه المعاني: أنه قد يفهم منها المخالطة والممازجة والحلول، ولذلك فإن السلف قد كرهوا أن يقال: معنا بذاته، فأنا أرجو إن كنت قد قلتها ألا تفهم على هذا الوجه، لكني قد قلت معنى قريباً من هذا كما أشرت.

توضيح عبارة الشيخ ابن عثيمين في المعية الذاتية

توضيح عبارة الشيخ ابن عثيمين في المعية الذاتية Q معلوم أن الشيخ: محمد بن عثيمين رحمه الله عندما قال مثل هذا قبل سنوات حصل كلام كثير حول مقالته، فأرجو التوضيح؟ A نعم، الشيخ قال في المعية الذاتية ثم تراجع؛ لأنه وجد أن الأمر ملبس، وأن الناس يفهمون خطأ المعية الذاتية، وأنها تحمل على معاني الوحدة والاتحاد والحلول.

شرح العقيدة التدمرية [11]

شرح العقيدة التدمرية [11] الرد على أهل الكلام في النصوص المتنازع في معناها يكون بردها إلى النصوص المتفق على معناها، وأن الظاهر هو المراد في الجميع، فلا فرق بين هذه النصوص وهذه؛ لأنها كلها جاءت من عند الله تعالى، فكونه سبحانه يصف نفسه بأنه حي عليم قدير لا يعني أنه مثل المخلوق الذي هو حي قدير عليم، وكذلك في سائر الصفات.

القول في بعض الصفات بأن الظاهر مراد أو ليس بمراد يلزم ذلك في سائرها؛ لأن جنسها واحد

القول في بعض الصفات بأن الظاهر مراد أو ليس بمراد يلزم ذلك في سائرها؛ لأن جنسها واحد قال شيخ الإسلام رحمه الله: [وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا]. المقصود بأن ظاهر النصوص مراد عند السلف، ويقصد بها الحقيقة، فإذا قلنا: النصوص جاءت لإثبات علم الله، نقول: علم حقيقي يليق بجلاله، وكذلك: السمع، فهو سمع حقيقي يليق بجلاله، ومثله: البصر، فهو بصر حقيقي يليق بجلاله. إذاً: قول السلف: يراد بالنصوص ظاهرها، أي: أن الله قد خاطبنا وأخبرنا بحق على الحقيقة، ليس فيه لبس ولا تغيير ولا مجازات ولا تأويلات، وأن الحقيقة غير الكيفية، والظاهر يطلق على أمرين: الأول: يطلق على الحقيقة، وهي لاشك أنها تثبت لله. الثاني: يطلق على الكيفية الظاهرة المعلومة من شواهد الخلق، وهذا جزماً أنه لا يثبت لله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء. قال رحمه الله: [وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة، لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير. فكذلك إذا قالوا في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: إنه على ظاهره لم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضاً كرضاه. فإن كان المستمع يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين]. قوله: (فإن كان المستمع)، أي: لكلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، في صفات الله ونحوها من الأمور الغيبية. يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين. قال بعد ذلك رحمه الله: [لزمه ألا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر]. وهو الحق. قال رحمه الله تعالى: [ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً. وبيان هذا أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا كالوجه واليد، ومنها ما هو معان وأعراض، وهي قائمة بنا كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة. ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: إن ظاهر هذا غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه]. هو رحمه الله يذكر العلة ولا يقصد بذلك الخبر، يقول رحمه الله: ثم إن من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون -أي: السلف الصالح من الصحابة والتابعين، الذين لم يأت عندهم التأويل-: إن ظاهر هذا غير مراد، وفسروا لنا القرآن، وارجعوا إلى تفسير ابن جرير رحمه الله، ذلك الكنز الذي لم يعرف الناس قدره، لذا لم تكن هذه التفسيرات التأويلية عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل ما قالوا: إن ظاهر صفات الله غير مرادة، بدعوى أن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، كما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد، بدعوى أن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه، فهو يذكر الدعوى لا ليقرر مذهبهم على سبيل الإقرار. قال رحمه الله: [فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته ليست كصفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر)، فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي].

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم أن مدلول نصوص الصفات هو التمثيل

القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم أن مدلول نصوص الصفات هو التمثيل قال رحمه الله تعالى: [وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة، وهو أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير]. قبل أن يبدأ بالمحاذير أحب أن أذكركم بشيء يدركه كل عاقل يسمع كلام الله من كتابه، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء في وصف الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله والأخبار عنه: أن المسلم عندما يسمع ويتأمل الخطاب يتوهم في خاطره صوراً أو أشكالاً معينة، وهذا التصور والتوهم ما هو إلا خيالات في الأذهان، فما نتصوره ونتوهمه في صفات الله عز وجل في أسمائه وأفعاله، وأمور الغيب عموماً، كنعيم الجنة وما فيها، وأحوال القيامة، وأشراط الساعة، ما هو إلا وهم وخيال لا حقيقة له، والشيخ رحمه الله يريد أن يبين أن مشكلة الذين وقعوا في التأويل أنهم لما سمعوا بأسماء الله وصفاته وأفعاله توهموا له صوراً، وبالتالي نفروا من هذه الصور، وعند ذلك اضطروا للتأويل والتعطيل، فأدى هذا إلى الخلل عندهم في الاعتقاد، وزعموا أن الإثبات تشبيه، وفي حقيقة الأمر أن الذي في أذهاننا من صور وأشكال للمعاني التي نسمعها إنما هي أوهام يجب ألا تتعلق بها اعتقاداتنا، بل وأحياناً تكون أمثالاً تضرب لتقريب المعاني الحقيقة لا للحقيقة، فالحقيقة الغيبية أبعد من أن نتخيلها على ما يقرب من حقيقتها؛ لأن الله عز وجل قال عن صفاته وعن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. قال رحمه الله تعالى: [فيقع في أربعة أنواع من المحاذير: أحدها: كونه مثّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله بقيت النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله]. هو أراد شيئاً واضحاً، ولو أدرجنا عبارة لصارت الجملة منتظمة المعنى، وهو قوله: الثاني من المحاذير التي وقع فيها المؤولة، حينما جعل الذي أول وعطل ما توهمه في خياله هو مفهومها، فنفر من هذا المفهوم؛ لأنه وقف عنده؛ ولأنه تصور أنه هو المطلوب من النص، وتصور أنه هو الخطاب، وهذا غلط. إذاً: هذا المتوهم جعل وهمه هو مفهوم النصوص، ثم أراد أن ينزه الله عز وجل عن الخيال الذي توهمه مع أن الله منزه سلفاً عن خياله، لكنه ظن أن دلالات النصوص هي هذه الأوهام فسماها: تشبيهاً، فأول النصوص وأنكر دلالاتها بدعوى أنه تشبيه، وما ذلك إلا وهم في عقله القاصر. قال رحمه الله تعالى: [فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم -حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه. الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله عز وجل بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب. الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الأموات والجمادات، أو صفات المعدومات. فيكون قد عطل به صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثله في المنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسماء الله وآياته].

توضيح صفتي الاستواء والعلو

توضيح صفتي الاستواء والعلو قال رحمه الله تعالى: [مثال ذلك: أن النصوص كلها دلت على وصف الإله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش، فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع]. يقصد بالسمع: الوحي، كما يشير إلى أمر يتفق عليه العقلاء الذين لم تنحرف عقولهم بالعقائد الباطلة، وهو أن وصف الله عز وجل بالعلم والقدرة والإحاطة ونحو ذلك أمر معلوم بالضرورة عند العقلاء، لكن هناك من الصفات لو لم يرد بها الشرع ما استطعنا أن نثبتها ولا أن ننفيها، وهي كل الصفات الذاتية وبعض الصفات الفعلية، فالصفات الذاتية كالوجه واليد، والصفات الفعلية كالاستواء والكلام ونحو ذلك، فهذه لا نستطيع أن نثبتها إلا بما ورد به الشرع؛ لأنها أمور لا يمكن أن يحكم فيها العقل نفياً ولا إثباتاً، لكن يحكم بالحكمة لله عز وجل، يحكم بالإرادة، بالقدرة، بالخلق، بالتدبير، لكن الاستواء، والنزول، والمجيء، والوجه، واليد وغيرها من الصفات الذاتية والفعلية التي لا تتصور في أذهاننا. إذاً الوقوف فيها على ما ورد به الوحي الثابت، وهو ما يعبّر عنه أهل العلم: بالسمع، أي: المسموع عبر الرسل، وليس كل ما يُسمع يُعتبر سمعاً بالمفهوم الشرعي، وإنما هذا السمع العام لا يدخل في مفهومنا هنا، لذا فإن المقصود بالسمع هنا: الشرعي، أي: الوحي المسموع عن الرسل المعصومين.

إثبات صفة الاستواء لله عز وجل كما يليق بجلاله

إثبات صفة الاستواء لله عز وجل كما يليق بجلاله قال رحمه الله تعالى: [وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله. فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:12 - 13]، فيتخيل له أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يُريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار. ولا يُعلم أن مسمى (القعود) و (الاستقرار) يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء! فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى (الاستواء) فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم. وقد عُلم أن بين مسمى (الاستواء) و (الاستقرار) و (القعود) فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يُعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره. وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثّل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك. وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك. فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوقات، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة]. أشار الشيخ هنا إلى شيء يغلط فيه كثير من الناس، بل حتى بعض طلاب العلم، وهو قوله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47]، وقول شيخ الإسلام: وأنه بنى السماء بأيد، أن المقصود بالأيد جمع اليد، وليس هذا هو المقصود باتفاق المفسّرين من السلف وأهل اللغة، وإنما المقصود بالأيد القوة، وليس هذا تأويلاً؛ لأن معنى الآية عند العرب {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، ولا دخل لها باليد واليدين والأيدي. قال رحمه الله تعالى: [فلو قدر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه، أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق. بل لو قُدِّر أن جاهلاً فهم مثل هذا وتوهمه، لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه. فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان؟].

الأسئلة

الأسئلة

بعض الكتب في أسماء الله وصفاته

بعض الكتب في أسماء الله وصفاته Q هل يوجد كتاب أو رسالة مطبوعة تتحدث عن أسماء الله وصفاته؟ A هناك عدة كتب، ومن أخصرها في تقعيد الأسماء والصفات: كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى، والمسمى: (القواعد المثلى)، كما يوجد كتاب متوسط في الحجم، وإن كان صاحبه قد وسعه فيما بعد، ككتاب: (المنهج الأسنى في أسماء الله الحسنى) للشيخ الحمود من الكويت، والكتاب جيد، وهناك كتب مطوّلة عن أسماء الله وصفاته، ككتاب الدكتور محمد خليفة التميمي، أيضاً يوجد كتاب جيد لا بأس به في أسماء الله عز وجل وفي معانيها للدكتور عبد الله الغصن وغير ذلك من الكتب الكثيرة، لكن هذه متوافرة الآن في السوق، وأغلبها مشروح، كما أن هناك كتاباً في الأسماء والصفات للشيخ سعيد بن وهف القحطاني صاحب كتب الأدعية.

شرح العقيدة التدمرية [12]

شرح العقيدة التدمرية [12] إثبات العلو والفوقية لله سبحانه وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته علواً مطلقاً لا يلزم منه التشبيه، بل هو عين التوحيد، وهو المراد من النصوص، فالله علي علواً مطلقاً، وله الكمال المطلق، فله علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وليس مفتقراً سبحانه إلى أحد أبداً، فهو القائم بذاته سبحانه.

إثبات صفة العلو والفوقية لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلال الله تعالى

إثبات صفة العلو والفوقية لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلال الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قد عُلم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله]. الشيخ هنا مستمر في تقرير أصل عظيم، وهو تقرير العلو والفوقية لله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته، علواً مطلقاً، ولا يلزم منه التشبيه، بل العلو هو مقتضى الكمال، وحصر العلو على نوع معين، وهو العلو الاعتباري كما يفعل أهل التأويل من المعطّلة والمؤولة وأهل الكلام استنقاص لله عز وجل، فالله عليٌّ علواً مطلقاً، وله الكمال المطلق، ولا يتم كمال العلو إلا بأن نثبت لله عز وجل جميع أنواع العلو كما يليق بجلاله؛ لأن العلو كله كمال، وعلى هذا فالشيخ يقرر أنه عندما نثبت العلو والفوقية على منهج السلف، بمعنى: كل أنواع العلو على ما يليق بجلال الله، فلا يعني ذلك التشبيه؛ لأنهم زعموا أن إثبات العلو الذاتي تشبيه له بمخلوقاته، وأنه حصر له في مكان! وهذه كلها أوهام توهموها. قال رحمه الله تعالى: [فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه؟! أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟ وقد عُلم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه أحق به وأولى. وكذلك قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه. ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله].

الحجج العقلية الواضحة والفطرية الدامغة لشبه نفاة العلو

الحجج العقلية الواضحة والفطرية الدامغة لشبه نفاة العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة]. لأن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، والشيخ هنا يريد أن يرد على أصحاب شبهة نفي العلو بحجج عقلية واضحة بيّنة فطرية، فيقول: عندما نعبّر عن أي شيء أنه في كذا، فإن كل شيء له معنى، فالأشياء وهي مخلوقات لا يقاس بعضها ببعض إذا عبّرنا عنها بـ (في) ولله المثل الأعلى، فمن باب أولى أن نعتقد أن الله عز وجل حينما يُعبَّر أنه في السماء أن نجزم أنه ليس معناها: أن السماء تحويه، أو أنه في أي مكان من السماء، ولذلك قال: (لاختلاف تفسيرات المعاني في التعبير بـ (في)). ولهذا يفرّق بين كون الشيء الذي ندركه بمداركنا وبحواسنا في مكان، لكن الله عز وجل لا يُدرك بالحواس، وأيضاً كون الجسم في الحيّز، يعني: كون أي مادة كتلة موجودة في المجال الذي تشغله، فإذا قلنا: الشيء الفلاني أو الجسم الفلاني في كذا، فكل جسم يختلف عن الجسم الآخر، فالشمس جسم، والقمر جسم، والإنسان جسم، فإذا قلنا: الإنسان في الغرفة، عرفنا معنى كونه في الغرفة، وإذا قلنا: الشمس في السماء، عرفنا أن المقصود أنها فوق، وأن السماء تحويها أيضاً، وكون العرض في الجسم، والعرض هو الصفة، والصفة كالجسم، كالسواد والبياض والطول والقصر، وكون الصفة في الجسم لا يعني أن هذا الوصف إذا انطبق انطبق على مثل صفة الجسم لو وصفنا بها غير الجسم، وكون الوجه في الإنسان غير كون الوجه في المرآة، فالوجه في الإنسان حقيقة، وفي المرآة صورة، وكله يقال: (في)، فتقول: انظر إلى وجه فلان في المرآة، فهل معنى هذا أن الوجه حل في المرآة؟ لا، وإنما هي صورة، والشيخ أتى بهذه الأمثلة ليبين أنه حتى عند تعبيرنا عن المخلوقات أنها في كذا يختلف من مخلوق إلى مخلوق، من حيث الحقيقة وعدم الحقيقة. إذاً: إذا كان سبب نفيهم للعلو أنه لا يليق أن يكون الله في السماء، فيقول: نظراً لأنهم توهموا أن كونه في السماء تشبيهاً، وهذا خطأ منهم، فإذا قلنا: حتى في المخلوقات، فبعض الأشياء نقول: إنها في كذا، مثل: الوجه في المرآة، ومع ذلك فإن المرآة لا تحوي الوجه، وهذا مخلوق وهذا مخلوق -ولله المثل الأعلى-، فكيف نتحكم في معنى غيبي بحت في حق الله عز وجل الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، الذي لا نحيط به علماً؟ ويقولون: إن معنى كونه في السماء لا بد أن يكون وجوداً اعتبارياً؛ لأنا لو قلنا: إنه بمعنى العلو الذاتي، لقلنا: إنه بذاته داخل السماء، وهذه كلها تحكمات وأوهام، يجب أن نستبعدها من أذهاننا، وأن نثبت لله عز وجل العلو والفوقية على ما يليق بجلاله، ولا يعني إثبات العلو والفوقية أنه يحويه مكان سبحانه، وأنه يحصره مكان، وأنه داخل خلقه، فالله عز وجل أعظم وأجل، فهو على عرشه، والكرسي محيط بالمخلوقات كلها، والعرش فوق الكرسي، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله على ما يليق بجلاله، فكيف إذاً يتحكّمون بمثل هذه التحكمات، ويقولون: لا بد أن نثبت العلو الاعتباري المعنوي، ولا نثبت العلو الذاتي؛ لأنا لو أثبتناه لزم منه أن يكون في السماء، فتحويه وتحصره فيها! وهذا كله وهم، وقول على الله بغير علم، وتخرُّصات وخيالات وعبث، لكن مع ذلك صدّقوا خيالاتهم فقالوا: هذا تشبيه، فنفوا العلو الذاتي لله عز وجل، وليس العلو بإطلاق.

دلالة حديث: (وسقفها -أي: الفردوس- عرش الرحمن) على علو الله وفوقيته وغيره من النصوص

دلالة حديث: (وسقفها -أي: الفردوس- عرش الرحمن) على علو الله وفوقيته وغيره من النصوص قال رحمه الله تعالى: [فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن). فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]. ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]: أنه في العلو وأنه فوق كل شيء. وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء)، إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها]. لا شك أن مقتضى الفطرة والعقل السليم، ومقتضى النصوص الشرعية أن الله عز وجل فوق كل شيء، فكيف يقال: إذا قلنا: بالعلو الذاتي لزم الجهة ولزم التشبيه ولزم التكييف؟ فهذا يتنافى مع إقرارنا الفطري الضروري بأن الله عز وجل فوق كل شيء، وعلى هذا إذا كان فوق كل شيء فلا يجوز أن نحكمه بجهات أو مكان، ولا نحكمه بداهة ببداء العقول وبداء الفطرة، فلا شيء يحويه ولا شيء يحيّزه، ولا شيء يحصره سبحانه وتعالى، ولذا فإن كل ما ردّوا به الإثبات إنما هو أوهام في عقولهم وخيالات، وإلا فلا نحتاج إلى تقرير هذا كله، ولذلك ما كان السلف يتكلمون على هذه الأمور على جهة التفصيل، حتى جاءت المعطّلة والمؤولة، وفتنوا الناس وفتنوا العامة وقالوا: لا يليق أن نقول: إن الله عز وجل فوق العرش، ولا أنه مستو على عرشه، وقالوا: هذا تشبيه وتجسيم، وسموا من يثبت العلو: مشبِّهاً ومجسِّماً، فلما وصلوا إلى حد إفساد فطرة الناس، وإفساد دينهم، وأيضاً سوء الأدب مع الله عز وجل، وقلة البصيرة، اضطر السلف أن يتكلموا على هذا الجانب على جهة التفصيل، وإلا فنحن في غنى عن هذه الأمور كلها، ومن هنا أرى أن مثل هذه الدروس التفصيلية لا تكون عند كل الناس، وعند كل المسلمين العامة والناشئين، والذين لا يعنيهم التخصص في العقيدة، فالناس يُعلّمون الدين بمجملاته، ويُعلّمون أسماء الله وصفاته على جهة العموم، فيعظّمون الله ويدعونه بها، لكن مثل هذه التفاصيل لا تكون إلا لطلاب العلم في الدروس المتخصصة؛ لأن فيها حرجاً على أمور الناس، بل إن أكثرهم لا يفكّر فيها أصلاً، وأكثر الناس على الفطرة، ولذا كما ذكر شيخ الإسلام: أنهم ما اضطروا لمثل هذه التفصيلات إلا رداً على طوائف أوقعت الأمة في الحرج وفي مثل هذه الأهواء. قال رحمه الله تعالى: [وإذا قيل: (العلو) فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق. وإذا قدر أن (السماء) المراد بها الأفلاك، كان المراد أنه عليها]. يعني: فوقها. قال رحمه الله تعالى: [كما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، وكما قال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2]، ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه].

القاعدة الخامسة: كوننا نعلم ما أخبرنا به في النصوص من وجه دون وجه

القاعدة الخامسة: كوننا نعلم ما أُخبرنا به في النصوص من وجه دون وجه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الخامسة: أنّا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه]. ولكي نفهم ضوابط هذه القاعدة، ونفهم أدلتها بعد ذلك، لا بد أن نعلم أن ما أخبرنا الله به من أمور الغيب في ذاته عز وجل وأسمائه وصفاته، نعلم بها من وجه ويخفى علينا وجهاً آخر، فالوجه الذي نعلمه في أسماء الله وصفاته هو الحقيقة التي تليق بالله سبحانه، فنعلم أن الله سميع على وجه كامل يليق به، وأن الله بصير على وجه كامل يليق به، ونعلم أن الله عز وجل عليم بذات الصدور، وأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، ونعلم أن الله عز وجل مستو على عرشه كما يليق بجلاله. وعليه فألفاظ الشرع التي وردت في هذه الأمور نعلمها من وجه كونها حقائق، فإن كانت فيما يتعلق بالله فنعلم أنها حقائق تليق بالله، وإن كانت تتعلق بأمور الغيب الأخرى فنعلم أنها حقائق، لكن لا نُدرك الوجه الآخر وهو الكيفيات، فالتصور الذي يُعطي الأمر على كيفيته الذاتية لا نفهمها؛ لأنها غيب، والله عز وجل ليس كمثله شيء، ولا تدركه العقول، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار سبحانه. إذاً: نعلم ما خاطبنا الله به في كتابه، وما خاطبنا به رسوله صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور من وجه كونها حقيقة، ولا نعلم كيفياتها، والذين خالفوا هذه القاعدة وقعوا إما في التشبيه وإما في التأويل والتعطيل، والذين قالوا: إنا نعلم ما أخبرنا الله به من كل وجه! وقعوا في التجسيم والتشبيه، والذين قالوا: لا نعلم ما أخبرنا الله به إلا بتأويل! وقعوا في التأويل والتعطيل، ولذا فالحق وسط بين الجافي وبين الغالي، فنعرف من وجه أنها حقيقة، ولا نعرف الكيفية.

النصوص الدالة على تدبر القرآن وتفهم معانيه وعلاقتها بالصفات ومعرفة معانيها دون كيفياتها

النصوص الدالة على تدبر القرآن وتفهم معانيه وعلاقتها بالصفات ومعرفة معانيها دون كيفياتها قال رحمه الله تعالى: [فإن الله تعالى قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فأمر بتدبر الكتاب كله]. أمرنا في هذه الآيات بأن نتدبر الكتاب الكريم حتى نفهم؛ لأن أوامر الله ليست عبثاً، ولأن التدبر له ثمرة، وهي الوصول إلى الحقائق، والتدبر هو التأمل والتمعن في المعاني، فتقف عند الكلمات القرآنية، وتتأمل معانيها وتتمعن ما ينتج عنها من مفاهيم، وتوقن بالحقائق منها. ولذا فما دمنا أننا قد أُمرنا بتدبر القرآن فيعني هذا أننا نفهم الحقيقة، وأن نُدرك الحقائق، وإلا لكان هذا عبثاً، والله عز وجل منزّه عن العبث. إذاً: الذي نفهمه بالتدبر هو الحقائق اللائقة، لكن التدبر لا يوصلنا إلى ما لا تحيط به عقولنا من الكيفيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنها غيب.

دلالة قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) على التفريق بين منهج أهل السنة في الاستدلال والتلقي وبين منهج أهل الأهواء في العقيدة وغيرها

دلالة قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) على التفريق بين منهج أهل السنة في الاستدلال والتلقي وبين منهج أهل الأهواء في العقيدة وغيرها قال رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]]. هذه الآية ترسم لنا قاعدة عظيمة في الدين، وهي من الآيات الفاصلة بين منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال والتلقي، وبين مناهج أهل الأهواء والبدع، فإن آيات الله محكمة كلها من حيث اشتمالها على الحق، لكن هذا الإحكام قد يخفى على صاحب البدعة والهوى، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك تقسيم من حيث الإحكام والتشابه للآيات، وهو أن هناك آيات بيّنة معانيها لعموم الناس، وهناك آيات لا يتبين معانيها إلا لبعض الناس، وهم العلماء كما سيأتي بيان ذلك، وهذه تكون من المتشابه على من لم تتبين له، هذا جانب، والجانب الآخر: أن كل هذه الآيات المحكمة قد يكون بعض معانيها متشابهاً، فمثلاً: آيات الأسماء والصفات محكمة، لكن كيفياتها من المتشابه الذي يجب على المسلم ألا يخوض فيها، ولذلك الإحكام والتشابه في القرآن على نوعين: الأول: أن القرآن كله محكم، أي: أنه حق بيّن لا لبس فيه، وكله متشابه، أي: أنه يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، فهو من التشابه لا من الاشتباه. الثاني: ينقسم القرآن إلى محكم من حيث إنه بين واضح، وإلى متشابه من حيث إنه غير بيّن ولا واضح، إما لعموم الخلق وهو الكيفيات، وإما لبعض الخلق وهو الذي لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، فيتشابه على غير الراسخين في العلم، ولذلك سيأتي بيان معنى الآية، والفرق بين الوقف على قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وبين عدم الوقف، وكله صحيح، فهذه لها معنى وتلك لها معنى.

الخلاف في إمكان معرفة تأويل المتشابه

الخلاف في إمكان معرفة تأويل المتشابه قال رحمه الله تعالى: [وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب]. جاءت الآية على قراءتين، القراءة المشهورة: الوقف على قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، والوقف هنا يجري عليه تقسيم المحكم والمتشابه إلى أن المحكم المقصود به ما يعلمه الناس، والمتشابه ما لا يعلمه إلا الله، وهذا هو الكيفيات، وعلى هذه القراءة يكون معنى الآية: ما يعلم كيفيات الغيبيات إلا الله، والراسخون يسلّمون بأن هذا حق، ولا يخوضون فيه، وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة. والقراءة الأخرى أيضاً صحيحة، ولها معنى، وهي ترجع إلى التقسيم الثاني، بمعنى: الإحكام والتشابه، وهي عدم الوقف على لفظ الجلالة في الآية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]، أي: أن الذي يتشابه على غير العلماء لا يتشابه على الراسخين من العلماء، وعليه فإن الثابت عند جمهور السلف أن القراءات الصحيحة هي بمثابة النصوص المستقلة، وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، فكأن هذه آية وتلك آية، ولذلك تعدد القراءات في الآيات يُعتبر كأنه عدد آخر للآية، يعني: كل قراءة كأنها آية غير الأخرى، ويبدأ هذا في أول آية من البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة:1 - 2] في بعض القراءات، وفي بعض القراءات: {فِيهِ هُدًى} [البقرة:2]، وكلها كأنها ست آيات، وما كأنها ثلاث آيات، وهذا من إعجاز القرآن، فالقراءة إذا جاءت صحيحة فهي تحمل معنى صحيحاً غير المعنى التي تحمله القراءة الصحيحة الأخرى. فإذاً: الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، يعني: أن هناك من الآيات ما لا يفهم معانيها إلا الله عز وجل، وهي كيفيات أمور الغيب، ومثلها: الحروف المقطّعة وغيرها، فلا نجزم بفهمها؛ لأنها مما استأثر الله بعلمها. وقراءة الوصل تعني: أن هناك ما يشتبه على أغلب الناس، ولا يشتبه على الراسخين في العلم. قال رحمه الله تعالى: [وقد روي عن مجاهد وطائفة: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها].

بيان معاني لفظ التأويل ووجه انحراف أهل البدع في أسماء الله وصفاته وأفعاله

بيان معاني لفظ التأويل ووجه انحراف أهل البدع في أسماء الله وصفاته وأفعاله قال رحمه الله تعالى: [ولا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ: (التأويل) قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان: أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله، أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل ذلك محمود أو مذموم، أو حق أو باطل؟ الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير رحمه الله وأمثاله من المصنفين في التفسير: (واختلف علماء التأويل). ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري رحمهم الله تعالى وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره. الثالث: من معاني التأويل: هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام لما سجد أبواه وإخوته قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا. فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يُفهم معناه أو تُعرف علته أو دليله. وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن) يعني قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، وقول سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي. فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة. كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء؛ لأن الفقهاء يعلمون تفسير ما أمر به ونهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع بقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهما ما لا يُعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر]. يعتبر بقية الكلام تفصيلاً لما سبق، لكن يحسن أن نستعرض الخلاصة. والشيخ عندما ذكر أنواع التأويل أراد بذلك أن يبين وجه الانحراف والخطأ والضلال الذي وقع فيه أهل البدع والافتراق والأهواء من موقفهم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، ومن موقفهم من الغيبيات بشكل عام، فذكر أن من أعظم أسباب خطئهم: هو استعمالهم التأويل على غير وجهه الصحيح، وأيضاً الخلل في فهم التأويل الشرعي الصحيح، وما يسوغ تأويله مما لا يسوغ، والشيخ من أجل أن يُحكم القضية ذكر أقسام التأويل التي لا يختلف عليها أهل العلم، ثم بعد ذلك سيبيّن ما هو التأويل الذي يسوغ أن نستخدمه في تفسير الغيبيات ومنها: أسماء الله وصفاته، وما هو التأويل الذي لا يجوز لنا أن نستخدمه. فالأول: التأويل بمعنى: صرف ألفاظ الشرع عن معانيها وحقائقها المتبادرة إلى الأذهان إلى معان أخرى بقرينة أو سبب يدل على الصارف، وهذا النوع من التأويل، أعني: صرف ألفاظ ومعاني الشرع في الأمور الغيبية وتأويلها من معنى هو مفهوم عند المخاطبين بحقيقته المجملة إلى معنى آخر متوهم، يحتاج إلى دليل مادي، ونحن لا نملك الدليل المادي في الغيبيات، لكن أهل الكلام وأهل البدع والأهواء استخدموا هذا التأويل في صرف ألفاظ كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من معانيها وحقائقها إلى معان أخرى، وقالوا: أوّلنا لقرينة، ما هي القرينة؟ قالوا: إن اللفظ هذا يدل على التشبيه! فهل هذه قرينة؟! هذا أمر. والأمر الآخر: كأن الشيخ أراد أن يقول: عندما تقولون: إن التأويل هو صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر لصارف معين. فأنتم لا تتفقون على صارف واحد، ثم إذا صرفتم معاني أسماء الله وصفاته من معنى هو المتبادر وهو الحقيقة إلى معان أخرى فإنكم لم تتفقوا على معان بعد، وستأتي نماذج لذلك. لذا عندما خرجوا عن مقتضى الحق في أمر غيبي باسم التأويل أخطئوا؛ لأن الخروج من معنى إلى معنى آخر في أمر الغيب يحتاج إلى دليل قطعي، مثل: تأويل نصوص المعية كما سيأتي، فالنص يفسّر النص، لكن أن أخرج عن مقتضى النص بقرينة أضعها من خيالي فهذا ليس بسليم، ولذلك

الأسئلة

الأسئلة

إثبات استواء الله على عرشه استواء يليق بجلاله دون تشبيه أو تعطيل

إثبات استواء الله على عرشه استواء يليق بجلاله دون تشبيه أو تعطيل Q يقول السائل: ذكرت أن الله عز وجل مستو على عرشه، لكن لا بد من إثبات العلو لله، ومقتضى الفطرة أن الله فوق كل شيء، ولا يجوز أن تحكمه الجهات، أو أشياء أخرى، وهذا ينافي قولك الأول: إن العرش محيط بخلق الله، فكيف ذلك؟ A بداية أقول: عند الكلام عن ذات الله وأسمائه وصفاته يجب أن يكون قصدنا تعظيم الله سبحانه، وأن نستصحب معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله؛ ليقوى الإيمان في قلوبنا، ولتغرس محبة الله وخوفه ورجاؤه في قلوبنا، واليقين، والتقوى، والتوجه إليه سبحانه، وعلى هذا فإن الكلام على هذه الأمور لا ينبغي أن يكون مجرد كلام علمي، نزيد فيه معلومة وننقص فيه معلومة، وإنما يكون قصدنا ما ذكرناه. وأما بالنسبة لجواب السؤال، فالذي يظهر أن السائل عنده لبس، وقد يكون عند كثير من طلاب العلم وخاصة المبتدئين، وفرق بين الكلام عن الخالق عز وجل وبين الكلام عن المخلوقات، فعندما نتكلم عن العرش وعن الكرسي نتكلم عن مخلوقاته، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النصوص الصحيحة بأن الكرسي محيط بالخلق كلهم، وأن العرش محيط بالكرسي، وهذا معنى قوله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، يعني: استوعبها، فالكرسي محيط بالمخلوقات، والعرش محيط بالكرسي، لكن ما فهمه الأخ السائل هو وهم، فنحن لا نتكلم بعد ذلك عن كيفية استواء الله على عرشه، بل ولا يجوز ذلك، وحينما نقول: إن العرش محيط بالمخلوقات، فلا يجوز أن نسحب القياس إلى معنى فوقية الله عز وجل، ومعنى كونه مستوياً على العرش، ونقول كذا في حق الله، فالله أعظم وأجل من أن تدركه عقولنا وأبصارنا، والله عز وجل، ليس كمثله شيء، وحينما نقول: إن الكرسي محيط بالسماوات والأرض، والعرش محيط بالكرسي؛ لأن النصوص قد جاءت بذلك، وهذه مخلوقات، لكن نقف عند هذا، ولا نتكلم عن الله عز وجل بمثل هذه القاعدة؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فإحاطته ليست كإحاطة الكرسي بالمخلوقات، ولا كإحاطة العرش بالكرسي والمخلوقات؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء. إذاً: ننفي في أذهاننا التشبيه، لكن مع ذلك فالله مستو على عرشه كما يليق بجلاله، والله عز وجل عليٌّ على خلقه، وهو القاهر فوق عباده كما يليق بجلاله سبحانه، ونقف ولا نتعدى إثبات الكمال لله عز وجل كما جاء بألفاظ الشرع. وهذه اللوازم التي في ذهن السائل أنا ما قلتها، وليس هناك تناقض، ولا يجوز أن نستعمل هذا القياس.

معنى (الأيد) في قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد)

معنى (الأيد) في قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) Q يقول الله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] فما المقصود بالأيد؟ وهل القول: بأنه القوة من التعطيل؟ A ليس من التعطيل، بل هذا هو تفسير الآية، إذ الآية تشتبه في لفظها مع آيات إثبات اليد أو اليدين لله عز وجل، والأيد هنا غير اليد، فهي ليست بجمع، بل هي مفرد بمعنى بقوة، وليس هذا تأويلاً، فالعرب تسمي القوة: أيداً لا أيدياً، وعليه فلا يجوز أن يقال: إنها صفة لله عز وجل، وإنما مرتبطة بالقوة لله عز وجل، فهي خبر عن قوة الله سبحانه.

حكم قراءة القرآن عند القبور عند الدفن وبعده

حكم قراءة القرآن عند القبور عند الدفن وبعده Q ما حكم قراءة القرآن عند القبور؟ وهل صح عن الشافعي أنه لا يرى بأساً في قراءة القرآن عند القبور كما روى عنه السيوطي في كتابه: (شرح الصدور)؟ A في رواية للإمام أحمد، ونسب إلى الشافعي، والإمام مالك: جواز قراءة القرآن أثناء الدفن وليس بعده، وهذا مبني على ما أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى بعد موته أن يقرأ القرآن عند قبره. وأُثر عن بعض الصحابة وبعض التابعين أيضاً، لكنه عند التحقيق لا يصح، والراجح أنه بدعة، ولذلك علّقه الإمام أحمد بالرواية، والرواية لم تثبت، وعلى هذا فما دام عُلِّق بالرواية عن ابن عمر، ورواية ابن عمر لم تثبت، وبناء على قاعدة الإمام أحمد، فإن هذا ليس من قوله، مع أنها رواية عنه، وليست هي الرواية الوحيدة، وإن صح عن ابن عمر فهو مما خالف فيه بقية الصحابة، ومعروف أن الصحابي إذا خالف غيره في مثل هذه الأمور فإن ذلك من الاجتهاد الذي لا يُقر عليه، ويكون من باب الزلة للعالم أو التأوّل أو نحو ذلك. وأما قراءة القرآن دائماً حتى بعد الدفن، فلا شك أنها بدعة باتفاق جمهور السلف.

معنى حديث: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)

معنى حديث: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) Q ما معنى حديث: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)؟ وهل ينبغي السؤال عن مثل ذلك؟ A في الحقيقة ما كان ينبغي السؤال عن مثل ذلك، لكن مع ذلك إذا اشتد الإشكال عند الشخص في مثل هذه الروايات فلا مانع أن يسأل، لكن أرى أن يسأل بمفرده؛ لأن هذه الأمور لم نُتعبّد بالخوض فيها، إذ هي من مشكلات الأمور، وتدخل بسببها الشبهات على الناس، وقلَّ أن يجدوا من يخلّصهم منها، لا سيما أنها من الأمور التي لم يتكلم عنها العلماء بوضوح، وفيها خلاف كثير، ومثل هذا الحديث يُمر كما جاء، ونفهم منه أن الله عز وجل يرغّبنا في العمل والصبر على العمل، ولا شك أننا نفهم هذا قطعاً، (إن الله لا يمل حتى تملوا)، أي: لا تملوا من عبادة الله، وداوموا على طاعة الله، وهذا هو الذي يُفهم من النص. ثم إن مسألة الملل هل هي صفة أو غير صفة؟ أنا أرى أن المسلم في حل من ذلك، وينبغي أن يعرف أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق على حقيقته، وأنه من باب الخبر عن مجازاة الله لعباده، وأنه من باب حثّهم على المداومة على الأعمال، وليس هذا تأويلاً، وهذا هو ظاهر السياق. إذاً: كونه صفة أو غير صفة محل خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه لا يُعتبر صفة إلا بسياقه.

التقسيمات في العقيدة أمور اصطلاحية لا تضر

التقسيمات في العقيدة أمور اصطلاحية لا تضر Q لماذا قسم أهل السنة العلو إلى ثلاثة أقسام: علو ذات، وعلو قدر، وعلو قهر، وبعضهم قسّم العلو إلى قسمين: علو ذات، وعلو صفات؟ A إن مسألة التقسيمات لمثل هذه الأمور العقدية والعلمية إنما هي أمور اصطلاحية، ولا يضر فيها أن يتعدد التقسيم، بل يمكن أن يقسم العلو إلى خمسة أقسام، وإلى عشرة أقسام، فيمكن أن يقال: علو الذات، علو الأسماء، علو الصفات، علو القهر، علو القدر، علو استواء، وكله علو، فهذه أمور تتعلق بالتفصيل والإجمال، فإن أجملت فالعلو واحد، فالله عز وجل هو العلي الكامل بكل معاني العلو اللائقة به سبحانه، فهذا نوع واحد، وهو اسم الله العلي، ولا يمكن أن يتعدد، وبقي تقسيم العلو إلى أنواع ومفردات، فهذا لا يتناهى، فلا حرج أن يقسم السلف العلو إلى ثلاثة أو إلى اثنين، وإذا نظرنا إلى علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر وجدناها ترجع إلى نوعين: علو ذات، وعلو صفات؛ لأن علو القدر وعلو القهر يرجع إلى علو الصفات، فاستقام الأمر، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وجه إضافة الظل إلى الله عز وجل وبيان أنواعه ومعناه

وجه إضافة الظل إلى الله عز وجل وبيان أنواعه ومعناه Q إضافة الظل إلى الله عز وجل، ألا يكون من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؟ ومن من السلف أجراه على ظاهره، وأنه صفة من صفات الله عز وجل؟ A إضافة الظل إلى الله عز وجل على نوعين: إما إضافة الظل إلى أحد مخلوقاته عز وجل، مثل: ظل عرشه، جاء في الحديث: (سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، أو إضافة الظل إلى الله عز وجل مباشرة، ويكون من الأمور التي تجرى على ظاهرها على ما يليق بجلاله. إذاً: فالظل له تفسيران: بمعنى: المخلوق، وإضافته إلى الله عز وجل كإضافة كثير من المخلوقات إلى الله عز وجل، كإضافة السماوات أو الكعبة أو الأرض إلى الله عز وجل، ونسبة الخلق إلى الله: إما نسبة تشريف، وإما نسبة ملك، وإما من أنواع النسبة التي تليق بكمال الله عز وجل، وأحياناً تكون نسبة الشيء إلى الله من باب الصفة، ولذلك قال بعض السلف: إذا أُضيف الظل إلى الله مباشرة في بعض الألفاظ، فيكون صفة له على ما يليق بجلاله، وهذا جائز على القاعدة الشرعية، لكن لا نتكلم في الكيفية؛ وعلى هذا فقد يكون إضافة الظل إلى الله عز وجل من باب إضافة المخلوق، وذلك حسب السياق، وقد يكون من باب إضافة الصفة، والله أعلم. هذه القاعدة من أبرز القواعد التي تضبط مسألة إثبات الصفات؛ لأنها قاعدة مبنية على مسائل أو ضوابط شرعية واضحة، ويسلّم بها أكثر المتكلمين الذين وقعوا في التأويلات.

شرح العقيدة التدمرية [13]

شرح العقيدة التدمرية [13] ما جاء في الكتاب والسنة يجب العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً وعسلاً وخمراً وماءً، فاجتمعت من حيث اللفظ بما في الدنيا واختلفت في الكيفيات، هذا في المخلوقات، فكيف بالخالق سبحانه ولله المثل الأعلى، فنحن نؤمن بمعاني ما أخبر عن نفسه ولا نعلم كيفيتها.

خلاصة الكلام في أنواع التأويل

خلاصة الكلام في أنواع التأويل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فسيقرر الشيخ هنا قاعدة هي من أوضح القواعد، وأكثرها إلزاماً للمتكلمين المؤولة؛ لأنها تنظّر لهم على قواعدهم، وهو رحمه الله قد نظّر لهم على قواعدهم، وهذه القاعدة هي القاعدة الخامسة، وهي: أن الله عز وجل أخبرنا بأمور غيبية، وخبره صدق وحق لا شك فيه، وهي على حقائقها، لكن لا نعلم كيفيتها، فهي حقائق معلومة من حيث الإجمال، بما في ذلك أسماء الله وصفاته وأفعاله، فنعلم خطاب الله فيها، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم حقيقة ذلك من وجه، ولا نعلم من وجه آخر، فالوجه الذي نعلمه في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب أنها حق، وأنها علم وليس بظن، وأنه لا يمكن أن تنالها العقول ولا الخواطر؛ لأنا لو كنا نعلمها من حيث الكيفية لما صارت غيباً، والله عز وجل ليس كمثله شيء، فيستحيل أن يعلم أحد من العباد كيفيات صفات الله عز وجل، وعلى هذا فإن الخلط بين هذين الوجهين هو الذي أوقع أهل الكلام في الاضطرار للتأويل والتعطيل، وهذه من ناحية، والناحية الأخرى أنهم حينما وقعوا في التأويل ظنوا أن التأويل سائغ، وقالوا: إن السلف كانوا يؤولون، فالشيخ قطع عليهم حجتهم هذه؛ لأنها أدخلتهم في الباطل واللبس، فقال: نعم كان السلف يقولون بالتأويل، لكن ليس التأويل الذي تقصدونه أنتم، فالتأويل على ثلاثة أنواع: الأول: بمعنى: صرف معاني الألفاظ من المفهوم للمخاطبين إلى معاني وتفسيرات أخرى بقرائن أو بغير قرائن، وهو في هذه الصورة جائز في عالم الشهادة؛ لأننا نملك وسائل الحس فنستخدمها في تأويل المعاني التي نسمعها، لكن في أمور الغيب هذا النوع من التأويل لا يمكن أن يرد إطلاقاً، فلا يمكن أن نقول: إن أي خبر أخبر الله به في ذاته وأسمائه وصفاته، أو أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم -مثل: أحوال القيامة- أنه يؤول، لأنا إذا أولناه فقد انتقلنا من الحقيقة المفهومة إلى لا شيء، والدليل على هذا أنهم حينما أولوا ما اتفقوا، فكل واحد انصرف بالتأويل إلى معنى غير ما انصرف له الآخر، وهذا أمر. الأمر الآخر: أن الأمر لو كان يحتاج إلى تأويل لبيّنه الله بالتأويل، فلماذا نحتاج إلى أن نخرج من الحقيقة اليقينية إلى التأويل المحتمل، لاسيما وأن التأويل في أمور الغيب احتمال وليس يقيناً؟ فلا يمكن أن يخاطبنا الله ويخاطبنا رسوله صلى الله عليه وسلم بمعانٍ محتملة، وهذا النوع من التأويل -كما قلنا- لا يجوز في الغيبيات؛ لأننا لا نملك القرينة إلا في عالم الشهادة، مثل قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، أي: اسأل الركب الذين كانوا مع إخوة يوسف؛ لأنه معلوم في حياتنا المشاهدة أن القرية لا تتحدث، وإنما الذين يتحدثون إنما هم أهلها، فعلمنا ذلك بقرينة مشهودة، لكن هل يمكن أن نستخدم هذه القرينة في أخبار القيامة مثلاً؟ لا يمكن؛ لأن حقائق الغيب كيفياتها غائبة، فلا يمكن صرف معانيها المتبادرة للأذهان، والحقائق اللائقة بها، إلى معان أخرى بمجرد أوهام، ولاسيما أنهم قد اختلفوا في القرائن واختلفوا في التأويلات. الثاني: بمعنى: التفسير، وهذا لا خلاف فيه، فأي كلمة في اللغة تفسيرها هو تأويلها، وأي معنى من معاني ألفاظ الشرع تأويله هو تفسيره، إذا لم تتعلق بأمور الغيب. إذاً: التأويل بمعنى: تفسير الأمور، أي: بشرح مفرداتها وببيان معانيها على مقتضى القواعد المعتبرة في التفسير، وهذا النوع ليس فيه خلاف، وليس هو المقصود في التأويل. الثالث: بمعنى: وقوع الشيء كما أخبر الله به، كقوله عز وجل عن يوم القيامة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53]، وقول يوسف عليه السلام لأبويه عندما تحققت رؤياه بعد أربعين سنة: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، أي: تفسيرها ووقوعها، وهذا لا شأن للخلق فيه، وإنما يتعلق بتقدير الله لأمور الغيب. إذاً: تأويل الشيء: هو وقوعه على ما أخبر الله به، أو إيقاعه على ما أمر الله به إذا كان أمراً شرعياً، وهذا النوع من التأويل لا نزاع فيه عند أهل الكلام، ولذلك لا نقف عنده كثيراً، وكذلك النوع الثاني لا ينازعون فيه، وإنما ينازعون في النوع الأول، ولذلك قال شيخ الإسلام: إن النوع الثاني والثالث نفسِّر به جميع النصوص، أما النوع الأول فلا يجوز أن نفسّر به أمور الغيب؛ لأن التأويل بمعنى صرف اللفظ من معناه إلى معنى آخر بقرينة يقينية، وليس عندنا قرائن يقينية، فنتحول به من الحقيقة إلى الظنون، والعقيدة ليس فيها ظنون، والله أعلم.

ما جاء في القرآن أو الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه

ما جاء في القرآن أو الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا عُرف ذلك فتأويل ما أخبر الله تعالى به عن نفسه المقدسة، المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات، هو حقيقة لنفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به تعالى من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد. ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، يشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماً ولبناً وعسلاً وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله ولا حقيقته كحقيقته]. ولذلك لا يمكن أن يقر عاقل بأن نفسر اللحم بأنه ليس المقصود به حقيقة اللحم المعروف، نعم لحم الطير في الجنة أعظم وأرقى وألذ من لحم الطير في الدنيا، لكن هو لحم، فلا يجوز تأويله، وكذلك لا يجوز تأويل الخمر أو اللبن بمعنى آخر، فهو لبن حقيقي، وخمر حقيقي، ولحم حقيقي، وماء حقيقي، لكن من حيث الكيفية يختلف عما في الدنيا، فهو أعظم وألذ وأرقى وأفضل بدرجات لا تتناهى مما في الدنيا. إذاً: اجتمعت هذه المعاني في الحقائق العامة واختلفت في الكيفيات، فكذلك من باب أولى أسماء الله عز وجل، فهي كمال، والله له الكمال المطلق فيها، فلا يجوز تأويلها، كما لا نؤول جميع أخبار الغيب، وأول الغيب وأعظمه ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته.

الإخبار عن الغائب بالمعنى المعلوم في الشاهد وإن كانت الحقيقة مختلفة

الإخبار عن الغائب بالمعنى المعلوم في الشاهد وإن كانت الحقيقة مختلفة قال رحمه الله تعالى: [فأسماء الله تعالى وصفاته أولى -وإن كان بينهما وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه- ألا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وإن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلم في الشاهد]. هذه أيضاً حقيقة صحيحة وبدهية وفطرية وعقلية، وهو أنه من الممكن أن يعترض معترض من هؤلاء المتكلمين فيقول: لماذا عبّر الله عز وجل عن أمور الغيب بهذا التعبير، مع أنه ليس المقصود بها المعاني التي نتوهمها، وليست كيفياتها ككيفياتنا في الدنيا؟ نقول: لأنه لا سبيل إلى إفهام العباد إلا بمثل هذه الألفاظ المشتركة، كما أنه لا سبيل إلى إثبات الحق في قلوب العباد إلا من خلال الألفاظ المشتركة، لكن الكيفية تختلف، أما الحقيقة فهي واحدة، فهذا لبن حقيقي، فيما يتعلق بلبن الجنة ولبن الدنيا، لكن الكيفية تختلف، فذاك أرقى وأعظم وألذ وأجود. وأما تساؤلهم بأنه لو كان المراد كذا لعبّر لنا بغير هذا التعبير، فنقول: غير صحيح، فالله عز وجل عبّر لنا عن الحقائق بهذا التعبير الذي فيه مشابهة لألفاظ الدنيا، وما ذاك إلا لتقريب الحقائق، فهي أمثال تُضرب، ولا يمكن إيصال الحقائق الغيبية إلى العقلاء إلا بهذا الأسلوب، وهو أن يُخاطبوا بالحقائق العامة، أما الكيفيات فلا شك أنها تختلف. قال رحمه الله تعالى: [وفي الغائب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنحن إذاً أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله]. المقصود هنا الكيفية؛ لأن الحقيقة نوعان: الأولى: الحقيقة بالمعنى المثبت للفظ، أي: يُثبت للفظ معنى؛ لأن الله عز وجل ما خاطبنا إلا بحق له معان وبألفاظ لها معان، فالمعنى هذا نثبته. الثانية: الحقيقة بمعنى: الكيفية، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون في مدارك العباد؛ لأنه لو كان في مدارك العباد ما صار غيباً، ولذلك امتدح الله المؤمنين بإيمانهم بالغيب؛ لأنهم سلّموا وأقروا بالحق وبالحقيقة، وأقروا بمعاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب، فأقروا بأن لها معاني وحقائق، وسلّموا بها تسليماً، لكن دون أن يفهموا الكيفيات، ولذلك أُجروا على هذا الإيمان؛ لأنه لو كان مما يشاهدونه ويحسّونه ما صار لهم فضل، وما صار لهم أجر، لكن فضلوا وفضّلهم الله عز وجل حينما أيقنوا بهذه الغيبيات، أما الكيفيات فلا سبيل إليها.

جواب السلف عن كيفية استواء الله عز وجل على عرشه

جواب السلف عن كيفية استواء الله عز وجل على عرشه قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لما سُئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة]. إن مثل هذا الكلام واضح، ويُعتبر قاعدة ذهبية سار عليها السلف في منهجهم إلى يومنا هذا، إذ إن كل ما ثبت لله عز وجل من الصفات على ما يليق بجلاله، كالاستواء، والنزول، والمجيء، واليد، والوجه، كله يُثبت وهو معلوم، أي: أن حقيقته ومعناه معلوم، من غير أن نعلم الكيفيات؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وأما توهم المتوهمين الذين يقولون: لا نفهم هذا إلا بكذا، فيفرضون تكييفهم وخيالاتهم ويجعلونها هي معنى النص، فهو من عبث الشيطان بهم، ولذلك أعجبتني كلمة نُقلت عن أحد طلاب العلم الذين عرضوا مذهب السلف ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في المستقلة، وأظنه عائض الدوسري، وأنا لم أسمع ولم أر ذلك، ولكن تواتر عندي، فحين سأله أحد المشاغبين يريد أن يصور شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه إنسان يسيء إلى الله عز وجل، وأنه يُثبت لله ما لا يثبُت، فيُثبت لله الهرولة، وأظنه قال له: هات الدليل، فجاء له بحديث الهرولة، فقال له: إن مشكلتك هي مع النبي صلى الله عليه وسلم وليست مع ابن تيمية، وأنت خصم للنبي صلى الله عليه وسلم ولست خصماً لـ ابن تيمية، ولذلك الذين يأخذون على السلف إثباتهم للصفات، ويزعمون أنهم خصوم لأهل الحق، لم يعرفوا أن السلف ما جاءوا بشيء من عندهم، وخصومة أهل الأهواء وأهل البدع في جانب الصفات وغيره، ليست خصومة للسلف بأعيانهم، وإنما هي خصومة للحق، فخصمهم هو ربهم عز وجل، وخصمهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فالله هو الذي ذكر عن نفسه هذه الصفات وهذه الأفعال، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها له، ونحن نُثبت ما ثبت بالقرآن والسنة، والسلف يثبتون ما ثبت، فليس هذا قولنا، ولذلك من علامات الخذلان أن أهل الأهواء دائماً إذا أردوا أن يردوا على السلف ردوا عليهم بإيراد ألفاظ الكتاب والسنة على أنها قول السلف، فتأتي بآية وتقول: هذا قول السلف وتعيبهم فيه! وتأتي بحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: هذا قول أهل السنة المشبّهة والمجسّمة! فهذا من علامات الخذلان، وأيضاً من علامات ظهور الحق عند السلف، فالسلف ما قالوا بشيء من عند أنفسهم، وما أثبتوا لله ما لم يثبت لله، وأيضاً يحترزون في الإثبات بضرورة نفي التشبيه والمماثلة، ويثبتون لله جل وعلا الكمال كما يليق بجلاله، فما أثبتوا من عند أنفسهم شيئاً، وما قاله بعض السلف باجتهاد يزيد عن ألفاظ الشرع رده بقية السلف، وذلك من باب زلّة عالم أو اجتهاد خاطئ، لكن الكلام عن المنهج بالعموم. إذاً: قول الإمام مالك: الاستواء معلوم، أي: معلوم ثبوته وحقيقته، ومعلوم بالكتاب والسنة، ومعلوم بالنص القاطع، ومعلوم معناه اللائق لله عز وجل من غير الكيفية؛ لأن التطلع والكلام في ذلك لا يجوز، ثم لماذا تجعلون الكيف وسيلة للتأويل مع أن الكيف غير وارد؟! في الحقيقة جواب الإمام مالك هو إلهام ألهمه الله إيّاه، بل وصار قاعدة ذهبية لا تتخلّف، وما من عاقل يُدرك هذه القاعدة إلا ويسلّم بأنها مقتضى قواعد الحق، وكذلك نقول في بقية الصفات، فنقول مثلاً في صفة النزول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه ثبت، وكذلك الرؤية: الرؤية معلومة، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنها بدعة، وهكذا خذ كل ما ثبت لله عز وجل في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فخذه على هذه القاعدة، وليس فقط في صفة الاستواء، بل في جميع ما جادل فيه المجادلون، وعطّل فيه المعطّلون، وألحد فيه الملحدون، وأوّل فيه المؤولون، فكله يقال فيه بهذه القاعدة. وهذه القاعدة ملزمة لا يمكن أن يفر منها منصف ولا عاقل، بل لا يفر منها إلا صاحب هوى. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان. فبيّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهول. ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عن

الأسئلة

الأسئلة

حكم إطلاق بعض العبارات في حق الله عز وجل

حكم إطلاق بعض العبارات في حق الله عز وجل Q بعض العوام ينسبون إلى الله عز وجل من الصفات والأفعال ما لا يليق به سبحانه، مثل عبارة: ظلمتني الله يظلمك، أو الله يخون من خان، أو أزعجتنا الله يزعجك إلى آخر ذلك من العبارات، فهل يجوز هذا أم لا؟ A هذه العبارات قد يكون بعضها من باب الخبر لا من باب إثبات صفة، فعبارة: الله يزعجك، إذا جاءت من باب المشاكلة فلا حرج، فهي من باب المجازاة على أذى؛ ولا يعني ذلك أن الإزعاج من صفات الله، لكن الأفضل أن يسأل الله عز وجل أن يكفيه شره، وهذا مثل قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]، و {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فالله عز وجل لا يوصف بالاستهزاء والمكر مطلقاً، فلا يليق ولا يمكن لعاقل فضلاً عن مسلم أن يقول بهذا على جهة الإطلاق، وإنما تُقيد بالمعنى الذي جاءت من أجله، فتُقيد بالأسلوب والسياق الذي جاءت من أجله، وهذه العبارات التي هي من باب المشاكلة لا يصل الحد فيها إلى أن نجعلها من الابتداع أو من كبائر الذنوب، لكن ذلك غير لائق، ومن الأدب مع الله عز وجل ألا يدعو بمثل هذه الأمور المشتبهة، وخاصة عبارة: الله يظلمك؛ لأنه قد ورد نفي الظلم عن الله عز وجل صراحة في القرآن، بل وكل نقص. إذاً: نأخذ الأمور بوسط، فالأولى للمسلم أن ينزّه لسانه عن مثل هذه العبارات المشكلة، لكن لو جاءت من إنسان عامي، أو إنسان ما تنبه لها، فإننا نبيّن له أن اللائق ألا يطلقها، ولا نعتب أو نشدد عليه؛ لأنه لا يقصد بذلك إثبات الصفة لله عز وجل.

أسماء الله وصفاته ليست دلالاتها ظنية

أسماء الله وصفاته ليست دلالاتها ظنية Q ذكر لنا الدكتور في مادة الشريعة أن من أنواع الأدلة: أدلة قطعية الثبوت ظنّية الدلالة، وذكر مثالاً لذلك، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]، فما رأيكم؟ A هذا صعب؛ لأنه لا يجوز أن يكون هذا كمثال، وهو في الحقيقة أنه من الأشياء التي قد يصعب أحياناً الكلام فيها إلا بمثل مناسبة هذا السؤال، إذ إن كثيراً من قواعد أصول الفقه هي قواعد كلامية لا تستقيم مع منهج السلف، ولذلك أغلب الذين أسسوا أصول الفقه، وأسهموا فيه هم من أهل الكلام، فأدخلوا عليه المسائل الكلامية، والأمثلة التي لا تجوز شرعاً، بل وما ينافي العقيدة، ولذلك أصول الفقه فيه قواعد فقهية صحيحة معتبرة عند السلف، وفيه قواعد وأمثلة غير صحيحة وغير معتبرة، وهذا المثال كيف تكون دلالته ظنّية؟! هل معناه: أننا لا نعتقد شيئاً؟! وهل إذا كانت الأدلة الصريحة في أسماء الله وصفاته وأفعاله مثل: الاستواء ظنّية وأنه يجوز أن نبني ديننا على ظن؟! لا، فهي قطعية الدلالة والثبوت، لكن ماذا يقصد بالدلالة؟ إن قصد بالدلالة: الحقيقة، فلا شك أنها قطعية، وإن قصد بالدلالة: التأويل، فهذه ليست دلالة صحيحة لكي نسميها ظنّية، فهو من الظن الباطل أصلاً، فضلاً أن يكون من الظن المحتمل.

الفرق بين الكيف والكيفيات

الفرق بين الكيف والكيفيات Q هل هناك فرق بين الكيف والكيفيات؟ A ليس هناك فرق كبير، فالكيف يعني الشكل، والكيفية هي فعل التكييف، وهذا يرجع إلى تصريف الكلمة، وإلا فالمعنى واحد.

صفات الله لها كيفية لا يعلمها إلا هو

صفات الله لها كيفية لا يعلمها إلا هو Q هل للصفات كيفية غيبية؟ A نعم، مع نفي علمنا بالكيفية، وليس أننا لا نؤمن، بل لا نعلم، بمعنى: لا نطّلع وليس عندنا وسيلة للاطلاع على الكيفية لا بالبصر ولا بالسمع ولا بالشم ولا باللمس ولا بأي وسيلة من الوسائل؛ لأن الكيفية غيبية.

نصيحة لمن يثير الشبهات في مواقع الإنترنت والدعوة إلى شبهات المعتزلة

نصيحة لمن يثير الشبهات في مواقع الإنترنت والدعوة إلى شبهات المعتزلة Q هناك بعض الكُتَّاب في مواقع الإنترنت يثيرون الشبهات، وقد ذكر أن أحدهم يدعو إلى الرجوع إلى قول المعتزلة في خلق القرآن، فما نصيحتكم لهؤلاء؟ A نرى أن هؤلاء يُناصحون؛ لأن بعضهم أغراراً مساكين ضحايا الإنترنت الذي هو حمار الدجّال، فيُناصحون، والمفاسد والمصائب والفتن قد كثرت على الشباب، فبعضهم قد صار يتعاطف مع أهل البدع ويتبنون آراءهم؛ لأنه ليس عنده ثوابت، وليس عنده مسلمات، فيقرأ شبهات القوم كالمعتزلة وغيرهم، وهي شبهات قوية إذا عُرضت على إنسان خلو من الثوابت والمسلّمات ومنهج الاستدلال والعقيدة التي تملأ قلبه وعقله، هذا فارغ يصير فارغاً، وبمجرد ما يقرأ الشبهات قد يقتنع بالقول بخلق القرآن؛ لأنه ليس عنده أصلاً حصانة، فهذا يُناصح ويتلطّف معه لعله يفيد فيه، فإن لم يكن داعية إلى بدعة فالأولى تركه إذا لم يأخذ بالنصيحة، وأما إذا كان داعية إلى بدعة فيرد عليه، ويرجع في هذا الأمر إلى أهل الاختصاص، وتؤخذ وجوه الرد مركّزة ويرد عليه.

شرح العقيدة التدمرية [14]

شرح العقيدة التدمرية [14] كل أسماء الله عز وجل تدل في دلالاتها على ذات الله سبحانه، مع كون كل لفظ منها يدل على معنى ينفرد به من وجه، ويتفق به مع الآخر من وجه، ومما يوضح هذا أنه سبحانه وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي معرفة الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه.

أسماء الله وصفاته متفقة في دلالتها على ذات الله متنوعة في معانيها

أسماء الله وصفاته متفقة في دلالتها على ذات الله متنوعة في معانيها يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [والله سبحانه أخبرنا أنه عليم قدير، سميع بصير، غفور رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، فنحن نفهم معنى ذلك، ونميّز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات]. أي: أن جميعها تدل على موصوف واحد، لكنها صفات متعددة في المعاني، وهذا أمر مقرر شرعاً وعقلاً وعرفاً، والشيخ قال هذا لأن هناك ممن تأثروا بالفلسفة والفلاسفة واتجاهات العقلانية وغيرها من اعتبروا صفات الله عز وجل معاني مترادفة، ليس بينها اختلاف في الدلالات، وهذا كله هروب من إثبات الذات لله عز وجل. إذاً: كل أسماء الله عز وجل تدل في دلالاتها على ذات الله سبحانه، فتدل على الحقيقة، لكن كل لفظ منها يدل على معنى ينفرد به من وجه، ويتفق به مع الآخر من وجه آخر. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. وكذلك أسماء القرآن، مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء وغير ذلك]. إن النبي صلى الله عليه وسلم واحد، وهو محمد، أو أحمد، أو الماحي، أو الحاشر، أو العاقب كلها صفات تدل على واحد، لكن لكل لفظ معنى ينفرد به، فمحمد هو الذي حمده الله ويحمده الناس، وكذلك أحمد، والماحي هو الذي يمحو الله به الباطل، والحاشر هو الذي يحشر الله الناس على عقبيه، وكذلك العاقب الذي هو آخر الأنبياء، وليس بعده نبي، فهي صفات متعددة المعاني، لكن دلالاتها على واحد، وكذلك بالنسبة لله عز وجل، فصفاته سبحانه متعددة المعاني، لكن دلالاتها تدل على ذات الله سبحانه. قال رحمه الله تعالى: [ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها، هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات؟ كما إذا قيل: السيف، والصارم، والمهند، وقصد بالصارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند، والتحقيق أنها مترادفة في الذات، متباينة في الصفات]. نعود إلى المقطع السابق فنقول: إن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كلها مترادفة إذا نظرنا أنه يوصف بها ذاته عليه الصلاة والسلام، وإذا نظرنا إلى إطلاقاتها من حيث إنها تدل على معان هي أوصاف للنبي صلى الله عليه وسلم فهي متعددة، ولذلك لا تناقض بين الرأيين، وهذا مما يسهّل الفقرة التي سنقرؤها بعد قليل، كما أن هذا يذكّرنا بأمور كثيرة في الشرع وفي لغة العرب وفي غيرها قد اختلف عليها الناس، فنجد أن أغلب ما يختلف عليه المختلفون في تفسير ألفاظ الشرع أو معانيها أو استنتاجاتها يرجع إلى أنهم لم يتفقوا على المعنى المختلف عليه، فكل واحد في ذهنه عن المعنى المختلف عليه غير ما في ذهن الآخر، فتجد هذا كلامه صحيحاً من وجه وخطأ من وجه، وهذا كلامه صحيحاً من وجه وخطأ من وجه، لاسيما في باب الأسماء والصفات وألفاظ العقيدة، فنجد فيها اشتباهاً كثيراً على الناس، لا سيما في الفرعيات لا في الأصول، واختلافات حتى بين أهل السنة والجماعة في المسائل الجزئية المتفرعة عن العقيدة، ونجد أن أغلب الخلاف راجع إلى أن كل واحد في ذهنه على المختلف عليه غير ما في ذهن الآخر، وكل واحد ينطلق من فهمه ومن تصوره، والتصورات مختلفة، وهذا يشمل كثيراً من القضايا الكبيرة التي يختلف عليها المنتسبون للسنة الآن، ويرجع ذلك إلى أنهم لم يحرروا في أذهانهم مسائل الخلاف، ولو أنهم اتفقوا على عين القضية لخفّت قوة الخلاف بين المختلفين، مثل: مسألة العذر بالجهل، ومسألة الحجة وبلوغها وفهمها، ومثل: قضايا الدعوة، ووسائل الدعوة، ومناهج الدعوة وغيرها من القضايا الكثيرة التي أجد أن أكثر الخلاف فيها بين المختلفين من أهل السنة ومن طلاب العلم ومشايخ هذا الوقت راجع إلى أن كل واحد منهم عنده تصور في الحقيقة المختلف فيها غير تصور الآخر، ولو أنهم وحدوا التصور والمفهوم لقلّت مساحة الخلاف. ثم ذكر أيضاً أسماء السيف، وأسماء السيف إذا نظرنا إليها من حيث إنها دلالات على السيف نفسه، فهي مترادفة، وإذا نظرنا إلى أنها إطلاقات على أوصاف السيف من حيث قوته، ومن حيث جماله، ومن حيث حدّته إلى آخر ذلك، نجد أنها من باب غير المترادف.

معنى الإحكام والتشابه في النصوص

معنى الإحكام والتشابه في النصوص قال رحمه الله تعالى: [ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه]. أي: أن الترادف يقع من وجه والتباين يقع من وجه، ومعنى كونه مُحكماً، أي: أنه لا ينقض بعضه بعضاً، وأنه لا يعتريه السهو ولا النقص ولا النسيان ولا الضعف ولا الجهل ولا أي نوع من أنواع النقص التي تعتري كلام البشر، فالقرآن محكم كله. ومعنى كونه متشابهاً، أي: أنه لا يناقض بعضه بعضاً، فقصصه تتشابه، وأحكامه تتشابه، وألفاظه تتشابه، ومعانيه تتشابه، ووجوه البلاغة فيه تتشابه، ووجوه البيان تتشابه، وأساليبه تتشابه. إذاً: التشابه العام هنا راجع إلى الإحكام، فمن وجوه كونه محكماً أنه متشابه، وتشابهه أيضاً دليل على إحكامه، هذا من وجه، لكن من وجه آخر أيضاً جعل منه ما هو محكم وليس بمتشابه، ومنه ما هو متشابه وليس بمحكم، ولذا رجعنا إلى المفهوم الآخر للإحكام والتشابه، وهو أن الإحكام هنا المقصود به وجه من وجوه المعاني التي اشتمل عليها القرآن، وهو الإحكام، بمعنى: الوضوح الذي لا يحتاج إلى تفسير، والبيان الذي يكون لجميع الناس ولجميع السامعين أو نحو ذلك؛ لأن الإحكام أوسع من المتشابه من هذا الوجه، ومنه متشابه يجهله البعض. أي: أنه يصعب فهمه على غير العالم، وعلى غير من يفقه العربية، إذ إن تشابه معانيه بمعنى: أنها تشكل على بعض الناس، والإشكال ليس في ذاتها، وإنما الإشكال في فهوم الناس. إذاً: القسم الآخر من الإحكام والتشابه هو أن من القرآن ما هو بين واضح لا لبس فيه عند جميع الناس، ومنه ما فيه نوع غموض على بعض الخلق وليس على الجميع، أيضاً يرد في التشابه معنى آخر: وهو التشابه الخاص، أن منه ما هو مشتبه على جميع الخلق، فلا يفهمون كيفياته، ومحكم من وجه أن الله عز وجل هو العالم بحقيقة كيفيته. وعلى هذا تكون هذه الألفاظ تحمل على سياقاتها ومعانيها، فإذا جاء في القرآن متشابه، فيعني به: غير المحكم الذي يخفى على بعض الناس، فيشتبه عليهم فهمه، وليس بذاته، وإنما بفهوم الناس، والمحكم هو البين الواضح، وهذا ينسحب على كثير من ألفاظ الشعر، ويذكرنا هذا بما ينبغي علينا عند الاستدلال أن نتأكد من تطبيق هذه المعاني، وأن نعرف أن القرآن وألفاظ السنة تأتي على وجوه من حيث الخصوص والعموم، من حيث الإحكام والتشابه، من حيث البيان والإجمال وما يفسر، ومن حيث النسخ وعدمه إلى آخره، بمعنى: أنه لا يجوز لنا أن نأخذ نصوص الشرع لأول وهلة حتى نردها على النصوص الأخرى وسياقاتها، وقواعد الاستدلال التي يعتمدها السلف في تفسير النصوص، ولذلك لما جاوز أهل الأهواء والبدع هذا المفهوم في التفريق بين التشابه العام والإحكام العام، وبين التشابه الخاص والإحكام الخاص، وخفيت عليهم هذه الحقيقة التي هي من أكبر الحقائق التي يجب العمل بها في تفسير القرآن والنصوص، وجهلوها وتجاهلوها، وقعوا في الخبط والخلط والأهواء والبدع في المقالات التي أدت إلى فرقتهم عن السنة والجماعة.

معنى الإحكام

معنى الإحكام قال رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1]، فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] فأخبر أنه كله متشابه. والحكم: هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المتشابهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره. والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، وقد سماه الله: حكيماً بقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1]، فالحكيم بمعنى الحاكم. كما جعله يقص بقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]. وجعله مفتياً في قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:127]، أي: ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن. وجعله هادياً ومبشراً في قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء:9]].

معنى التشابه

معنى التشابه قال رحمه الله تعالى: [وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9]. فالتشابه هنا: هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو عن ملزوماته إذا لم يكن هناك نسخ. وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته أو ثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة. وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويناسب بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً، كان الكلام متشابهاً بخلاف الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً. فهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، والتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك، والإحكام: هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما].

التشابه قد يكون أمرا نسبيا

التشابه قد يكون أمراً نسبياً قال رحمه الله تعالى: [ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا يتميز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس مثله وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه. ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشبه فيها الحق والباطل، حتى تشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل. والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد].

عامة الضلال من جهة التشابه

عامة الضلال من جهة التشابه قال رحمه الله تعالى: [وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه؛ فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط، كما قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال، والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة]. وبهذا يتميز الفرق بين المفهوم العام للإحكام والتشابه، وبين المفهوم الخاص للإحكام والتشابه، يعني: أن القرآن كله محكم وكله متشابه، وتشابهه هو إحكام وإحكامه تشابه، لكن المعنى الخاص للإحكام والتشابه أمر آخر، وهو: أنه يرجع إلى البيان والالتباس، فبعض الناس يلتبس عليه بعض معاني الشرع، حتى الواضحة عند عموم الناس، كما جاء في قصة ذلك الرجل الذي عسر عليه فهم البدهيات، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لا أعرف دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أسأل ربي الجنة، وأعوذ به من النار، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حولها ندندن). فهذا اشتبه عليه أغلب كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصيب في الفهم، وهذا هو الاشتباه النسبي، والشيخ ذكر هذه القضية من أجل الرد على الذين قالوا: إن نصوص الصفات ونصوص القدر ونصوص العقيدة من المشتبهات، وهم يقصدون أنه ليس لها معان ولا حقائق، فهو سيقول لهم: إن قصدتم أننا لا نعلم كيفيتها فهذا حق؛ لأن كيفيتها لا يعلمها إلا الله، وإن قصدتم أنه ليس لها حقائق ولا معان فهذا ليس بصحيح، وهذا ما يريد الشيخ أن يصل إليه فيما بعد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان القصد من دراسة مسائل العقيدة

بيان القصد من دراسة مسائل العقيدة Q ألا ترى أننا انشغلنا بإثبات الأسماء والرد على المبتدعة عن معاني هذه الأسماء والتأمل فيها؟ A سبق أن نبهت على هذا أكثر من مرة، وقد جعلت لي منهجاً معيناً عند تدريس العقيدة، وهو: أنني أقول: إن المقصود من دراسة العقيدة عموماً ومن دراسة أسماء الله وصفاته على وجه الخصوص: غرس الإيمان في القلوب، واستثمار هذه المعاني فما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وتعظيم الله عز وجل وإجلاله، والتوجه إلى الله بالمحبة والرجاء والخشية والمراقبة؛ لأن الإنسان إذا استشعر معاني صفات الله وأسمائه فلابد أن يقوى بها إيمانه، ويزداد بها يقينه، ولابد أن يراقب الله عز وجل ويخشاه، ولابد أن يثمر ذلك عملاً صالحاً في عبادته وأحواله ومعاملاته وجميع أموره، وأن يصل بإذن الله إلى درجة الإحسان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فلا يمكن أن تصل إلى درجة كأنك تراه، أو استشعار أنه يراك، حتى تنغرس فيك معاني أسماء الله وصفاته على الوجه الشرعي الصحيح، وبفقه من الكتاب والسنة. فهذا هو المقصود الأول من دراسة أسماء الله وصفاته، ومن دراسة العقيدة بأكملها، سواء الإيمان بالله، أو بملائكته، أو كتبه، أو رسله، أو اليوم الآخر، أو الإيمان بالشفاعة، ورؤية المؤمنين لربهم في الجنة، وحقوق الصحابة وغير ذلك من أمور العقيدة. فكل هذه يجب أن نقصد بها أن نفقهها ونفهمها، وأن يقوى بها إيماننا، وأن نستوعبها علماً وعملاً وسلوكاً، وتعاملاً مع الله عز وجل، ثم مع الخلق. إذاً هذا هو المقصود من دراسة العقيدة أياً كان نوع هذه الدراسة، قلت أو كثرت، والرد على المخالفين إنما يأتي تبع؛ لأن من انبعث في قلبه هذه المعاني فلابد أن ينكر ما يخالفها، ويعمل بمقتضى قواعد الشرع في الرد، لكن الحاصل أن كثيراً من الذين يطلبون العلم في العقيدة يكون على بالهم استظهار آراء المخالفين، وكيفية الرد عليهم، فينبت له قرون من حديد، وهو إلى الآن ما اشتد عوده، ويناطح الخلق، حتى إن بعضهم يخاصم فيما ليس له وجود أصلاً، فتجده فاتلاً عضلاته لأفكار ومقالات ليس لها وجود على الإطلاق، وإنما قرأها في الكتب وبدأ يناطح غيره، وهذا في الحقيقة سببه الإخلال بهذا المنهج عند كثير من طلاب العلم، فلا تجدهم ينبهون طلابهم على هذا الأمر، وخاصة الصغار المبتدئين الذين امتلئوا إيماناً وحماساً وغيرة من غير انضباط، فهؤلاء يحتاجون إلى أن يعلموا الأصول والمناهج، فيعلمون لماذا يقرءون؟ ولماذا يدرسون العلم الشرعي؟ مع أن كثيراً منهم الآن نشأ على أساس أنه يدرس العلم الشرعي من أجل أن يرد! بينما الرد نتيجة طبيعية للتأصيل على أصول ومناهج، أما أن يكون القصد هو الرد، فهذا يجعل الإنسان يخاصم، ولذلك هذا النوع من الناس تجد عندهم قلة ورع، وقسوة قلب.

القول الفصل في مسألة القول بفناء النار

القول الفصل في مسألة القول بفناء النار Q مسألة: فناء النار، ما هو القول الفصل فيها؟ وما هي الآثار التي وردت عن بعض الصحابة في ذلك؟ A مسألة فناء النار من المسائل الفلسفية التي لا طائل تحتها، وأرى أن إثارتها من الفضول، لذا ينبغي لطلاب العلم أن يبعدوا أنفسهم عن الحديث في هذه المسائل، وخاصة الحديث علناً. والأمر الآخر: أن هذه المسائل من التي يشتبه فيها الكلام، إذ إنها من المشتبهات التي تشتبه على كثير من الناس. وأما مسألة خلود الناس وخلود النار فهذه قطعية، وكذلك مسألة خلود أهل الجنة، فهي أيضاً مسألة قطعية، ومسألة خلود أهل النار فيها على قسمين: أهل الكبائر قطعاً سيخرجون من النار، وغير أهل الكبائر قد وردت النصوص القاطعة على أنهم يخلدون، لكن بقي تفسير: (التخليد)، فبعض الصحابة له تفسير لمعنى الخلود فقط. فهذا أمر فيه اشتباه، ولم يتعبدنا الله به، ونبقى على قول جمهور السلف، وهو: أن الجنة مؤبدة، وكذلك النار -وهي محل الإشكال- فلا تفنى أبداً، وأن عذابها لا ينقطع، وأن أهلها الخلص الذين حكم الله عليهم بالخلود فيها لا يخرجون منها. فهذه ظواهر النصوص ودلالات النصوص، ورأي جمهور السلف، ولا داعي أن نخرج إلى مسائل خلافية مشتبهة.

شرح العقيدة التدمرية [15]

شرح العقيدة التدمرية [15] سبب ضلال طوائف أهل البدع من جهة التشابه والقياس الفاسد الذي هو من باب الشبهات، وكذلك بسبب التفريق بين المجتمعين والجمع بين المفترقين، وقد أدى بهم ذلك إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب سبحانه بوجود كل موجود، فبعضهم جعل وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مما جعلهم يثبتون خالقاً في الخارج، وإنكار الوجود الذاتي الحقيقي للخالق سبحانه، وهذا ضلال لا شك فيه.

مذاهب طوائف ضلت من جهة التشابه

مذاهب طوائف ضلت من جهة التشابه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد وصلنا في التدمرية إلى القاعدة الخامسة عند قوله: وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات. ولا يزال الشيخ يتكلم عن الاشتباه والتشابه، والفرق بين هذا وذاك، هذا من ناحية، والناحية الأخرى: لا يزال الشيخ يتكلم عن القياس الفاسد الذي هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما ليس فيه من جانب آخر، والتفريق بين المجتمعين، والجمع بين المفترقين، إذ إنه سبب ضلال كثير من الضلال في العقيدة وفي غيرها، كما لا يزال الشيخ يقرر مذاهب طوائف ضلت من هذه الجهة، أي: في عدم الجمع بين المتشابهات من الوجوه التي تجتمع فيها، ومن التفريق بين المتشابهات أحياناً ووجوه تفترق فيها، ومن عدم التفريق بين الاشتباه والتشابه بين الشبه والتشابه، وبين الاجتماع والافتراق وما بينهما من تداخل وتقاطع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، وأن يكون إياه أو متحداً به أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق]. لأن هذا أمر بدهي بالفطرة وبالعقل السليم وبقواعد الشرع القطعية، بأن الله عز وجل ليس كمثله شيء في جميع الأحوال، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولأنه يستحيل أن يكون المخلوق كالخالق في وجوه التشابه من حيث الكمال، وعليه فالتشابه لفظي أو نسبي في بعض الحقائق النسبية التي النسبة فيها لا تساوي شيئاً، وسيأتي وجوه ضرب أمثلة على وجوه الاشتراك اللفظي، وأيضاً مدى ضلال الذين ضلوا إما في التشبيه بسبب وجود التشابه اللفظي في ذكر أسماء الله وصفاته، أو العكس، أي: نفي التشابه إلى حد تسلطوا فيه على نفي قطعيات النصوص في الكتاب والسنة. قال رحمه الله تعالى: [فمن هنا اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع. وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم التشبيه والتركيب فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات]. كلمة (قديم) من الشيخ رحمه الله مجاراة لأهل الكلام في اصطلاحاتهم؛ لأنه يناقشهم هنا، ولذلك فأنا أشعر بشيء من الضيق والتذمر من قراءتنا لهذه المقاطع، ولولا أنها رغبة عدد من الحاضرين من طلاب العلم -إن شاء الله- المتمكنين في الجملة، وإلا فلسنا بحاجة إلى مثل هذه التعمقات، والشيخ إنما كتب هذا لأهل الكلام، أو للذين ابتلوا ببعض مصطلحات أهل الكلام، أو الذين يخشى عليهم من الانجرار وراء الكلاميات، وخاصة في ذلك الوقت، والذي بدأ مثله الآن في الآونة الأخيرة وفي وقتنا الحاضر، إذ إننا نرى طوائف من شبابنا الآن قد استهوتهم الكلاميات، واستهوتهم مناهج العصرانيين والعقلانيين والمعتزلة، حتى إنهم الآن أصبحوا جماعات وخلايا خطيرة تدعو إلى هذا المنهج، فهؤلاء قد ينفع معهم الدخول في مثل هذه الأمثال. والشاهد أن الشيخ حينما قال: إن الوجود ينقسم إلى قديم، ومحدث. مجاراة منه لأهل الكلام في استعمال الاصطلاح، فهو أراد أن يقنعهم ويناقشهم، وإلا فالمفروض أن يقول: إن الوجود ينقسم إلى أزلي ومحدث، أو إلى: الأول الذي ليس قبله شيء، والمخلوق الذي يعتريه النقص والخلل إلخ، بمعنى: أنه مقرر في نفوس العقلاء أن الوجود منه وجود الله عز وجل، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، بدون ما نستعمل القديم، وإلى وجود المحدثات التي وجدت من لا شيء، وكانت شيئاً بعد أن لم تكن شيئاً، والتي مصيرها الخلل والسهو والنسيان بالنسبة لتصرفات العقلاء، ومصيرها الفناء بالنسبة لجميع الخلق. إذاً: المقارنة بين الأول والمحدث مقارنة لا تكون إلا في بعض وجوه المعاني العامة المشتركة، والاشتراك اللفظي في بعض الصفات، مثل: الوجود، فهو اشتراك نسبي، فإذا نسبناه إلى الله عز وجل فهو الوجود المطلق الذي ليس قبله شيء، وليس بعده شيء، وإذا نسبناه إلى المخلوق فهو وجود نسبي ضئيل، ووجود محكوم بالفناء وهكذا.

الرد على الطوائف المنكرة للوجود الذاتي لله وسبب وقوعهم في هذا الإنكار

الرد على الطوائف المنكرة للوجود الذاتي لله وسبب وقوعهم في هذا الإنكار قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة مثل: وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك، فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من نوع الاشتباه]. يشير الشيخ بهذا الكلام إلى فلسفة المتفلسفة، وإلى خيالات أهل الكلام الذين تكلموا في هذه الأمور، فالفلاسفة وضعوا تصورات للغيب، وزعموا أنها حقائق، وهي في الحقيقة ما هي إلا خيال، وهذا ما قصده الشيخ بكلمة: (الخارج)، أي: خارج الوجود، بل ليس مما يعقل وجوده أصلاً، وإنما هو مجرد تعابير خيالية تقوم على التخرص وعلى التوهم في الأذهان؛ لأنها صدرت عن أذهان المكلفين، أذهان هؤلاء الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، هؤلاء الذين ظنوا أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فلزم من ذلك أن يكون هذا الاشتراك حتى في الأمور الخيالية، وأن هناك موجوداً مشتركاً يفترض وجوده، يسمونه: الوجود المطلق، أو مطلق الوجود. ولذلك هذا الصنف ومن تبعهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً أو ذاتياً؛ لأنهم وصفوه بالوجود المطلق، أو بمطلق الوجود على اختلاف بين العبارتين، فالوجود المطلق هو الذي لا يوجد إلا في الخيال، وعند التحقيق لا يكون له وجود، وهذا سبب رئيسي في وجوب إنكار الأسماء والصفات عند الجهمية، وسبب رئيسي في إنكار الصفات عند المعتزلة، وسبب أساسي في إنكار متكلمي الأشاعرة والماتريدية لصفات الله، ما عدا سبع أو عشرين على اختلاف بينهم. فالذين أنكروا بقية الصفات ما عدا السبع أو العشرين، أو الذين أنكروا الصفات كلها، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات يشتركون في وهم، لكنه يتسع عند بعضهم ويضيق عند آخرين، هذا الوهم هو أنهم يعتقدون أن الله عز وجل ليس له وجود ذاتي، ولذلك تجدهم ينفرون من إثبات الاستواء ومن إثبات العلو ومن إثبات الصفات الفعلية من النزول والمجيء؛ لأن من يعتقد أن وجود الله في الأذهان فقط من الطبيعي أن ينفر من الصفات التي تدل على وجود حقيقي لله، وهذا هو مصدر الأدلة التي حرفت بهؤلاء عن منهج السلف، فاشتركوا في هذا الوهم، لكن منهم مقل، مثل: الجهمية وغلاة الفلاسفة والمتكلمين، ومنهم مكثر، مثل: المعتزلة، ومنهم من وسع الهوة حتى اعتقد أنه لا وجود لله إلا هذا الوجود المطلق، أو مطلق الوجود. كذلك الذين قالوا: بالوجود المطلق أو مطلق الوجود انقسموا إلى قسمين: المعطلة الذين جعلوا وجود الله معنوياً، أو الذين نفوا وجود الله الذاتي واعتقدوا أنه هو هذا الوجود، ثم انقسم هذا القسم الأخير إلى ثلاثة أقسام: منهم من رأى الحلول، ومنهم من رأى الاتحاد، ومنهم من رأى وحدة الوجود. فهذه مذاهب خبيثة دخلت على المسلمين من الأمم، وذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، وبعض الناس قد يستغرب، فلا يستغرب؛ لأن كل من خرج عن نهج السلف في إثبات أصول الدين، أو في التزام الوحي، أو في التعبير عن الدين بالألفاظ الشرعية وقع في هذه المسالك أو في غيرها من مسالك الضلالة، نسأل الله العافية.

دحض شبهة النصارى وغيرهم في استدلالهم بمثل (إنا) و (نحن) على تعدد الآلهة

دحض شبهة النصارى وغيرهم في استدلالهم بمثل (إنا) و (نحن) على تعدد الآلهة قال رحمه الله تعالى: [ومن هداه الله فرق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينهما من الجمع والفرق والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام؛ لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق. وهذا كما أن لفظ (إنا) و (نحن) وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له، فإذا تمسك النصراني بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ونحوه على تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغة الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات، وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم]. هذا منهج ضروري في الاستدلال، إذ إن كل الفرق التي ضلت عن منهج السلف إلى الافتراق، سواء فرق الغلو أو فرق التقصير، كلها تخل بهذا المنهج، أعني: منهج أخذ تفسير النصوص بعضها ببعض، سواء في الغيبيات: أسماء الله وصفاته، أمور القدر، أمور الآخرة، أمور الوعد والوعيد، أو فيما يتعلق بالأحكام، مع أن أصول العقيدة كلها، العلمية والعملية لا تستقيم ولا يستقيم الاعتقاد فيها حتى يؤخذ بشمولية النصوص، وأن تفسر النصوص بعضها ببعض، ويرد بعضها إلى بعض، وهذا المنهج النصراني الذي زعم أن دليله على التثليث: أن الله عز وجل عبر عن نفسه بـ (نحن)، أي: أنه يدل على جماعة، وعليه فهم ثلاثة! فيرد عليه: بأن الله عز وجل عبر عن نفسه بلفظ المفرد، وعليه فيرد هذا بهذا، وهذه قاعدة عظيمة يحتاجها طلاب العلم اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ لأن الخلط فيها الآن أصبح من أكبر أسباب جهل عقيدة السلف، والتنكر لها من ناحية، ومن أكبر أسباب انجذاب كثير من شبابنا اليوم إلى مسالك الافتراق والهوى القديمة والحديثة، فتجده يستدل بنص بين فيما يظهر له، كآية أو حديث على عقيدة أو موقف أو مبدأ أو اتجاه، لكن يجهل أو يتجاهل ما يفسر هذا النص أو يقيده أو يبينه، فيتجاهل تفسيرات السلف الشمولية لهذه النصوص، ولذلك كثيراً ما أقرر فأقول: يجب أن نفرق بين صورتين على سبيل المثال: بين إنسان طالب علم إلى الآن ما استوعب إلا القليل، أو ما عرف إلا القليل من النصوص، وبين إمام راسخ كالإمام أحمد الذي قيل عنه: إنه يحفظ ألف ألف سند، أي: مليوناً، ففرق بين هذا وذاك، وفرق بين من يحفظ مليون سند وبين من صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألفاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين هذا الذي صح عنده ما يزيد على ثلاثين ألف حديث وبين إنسان حافظ لبعض الصحاح أو بعض الأسانيد. ومن هنا ندرك أهمية وفضل الرسوخ في العلم على نهج السلف، وإلا قد يكون هناك إنسان راسخ في العلم لكنه صاحب هوى يعميه عن الأخذ بمنهج الاستدلال، وقد يوجد من المنتسبين للفرق من عنده عمق ورسوخ في بعض العلوم الشرعية، لكنه ابتلي بالمنهج المنحرف في الاستدلال، فلا ينفعه علمه، بل يضره، نسأل الله العافية.

حقائق الأسماء والصفات من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله

حقائق الأسماء والصفات من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله قال رحمه الله تعالى: [وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل: كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك، أمروا به، وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة. وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ} [محمد:15] فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقة، لا يعلمها إلا هو. ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في (الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله). وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ (التأويل)، كما تقدم من أن لفظ (التأويل) يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا في غير هذا الموضع]. أشار الشيخ هنا إلى مسألة مهمة لا بد من الوقوف عندها قليلاً، فقال رحمه الله: (وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو). أي: أن الحقيقة نفياً وإثباتاً على نوعين: الأولى: بمعنى: المعاني اللائقة بجلال الله عز وجل، وهذه معلومة حتى عند المخاطبين، فنعلم أن الله عالم حقيقة، ورحيم حقيقة، وأنه سبحانه شديد العقاب، وأنه مستو حقيقة على ما يليق بجلاله، لكن حقيقة على المعنى. الثانية: وهي التي نفاها الشيخ هنا: وهي الكيفية التي عليها أسماء الله وصفاته وذاته، فهذه لا يعلمها إلا الله، بل كل أمور الغيب لا يعلم حقيقتها، أي: كيفيتها، إلا الله عز وجل، مثل: الجنة ونعيمها، فنحن نؤمن بأنها حقيقة، لكن لا نعلم كيفية هذه الحقيقة على جهة التفصيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فلم يقل: على عقل بشر. بل قال: (على قلب بشر)؛ لأن خاطر القلب أبعد وأعمق من خاطر العقل؛ ولأن خاطر القلب ذوق قد يدركه أصحاب الفراسة وخلص المؤمنين، لكن مع ذلك لا يدركه أصحاب العقول، ومع ذلك: (ولا خطر على قلب بشر) أي: لا يأت في خاطره أصلاً ولا يرد. إذاً: الحقيقة المنفية في أسماء الله وصفاته هي الكيفيات، لا الحقيقة المثبتة، وهي أن ذات الله وأسماءه وصفاته وأفعاله حقائق على معان تليق بجلال الله، وهذه الحقائق نعلمها بمجملها، لكن لا نعلم حقيقة الكيفية.

الأسئلة

الأسئلة

نسبة الأقوال إلى الفرق نسبة ترجع إلى الأعم والأغلب

نسبة الأقوال إلى الفرق نسبة ترجع إلى الأعم والأغلب Q هل الأشاعرة يثبتون سبع صفات أو عشرين صفة، وهل هناك فرق بين المتقدمين والمتأخرين منهم؟ A هذه مسألة مهمة جداً، وهي مسألة: نسبة الأقوال إلى الفرق، إذ إنها نسبة ترجع إلى الأعم والأغلب لا إلى أنهم كلهم يقولون، فإذا قلنا: أصول الجهمية كذا، فهذا يعني أن غالب الجهمية قالوا بذلك، وإذا قلنا: أصول الخوارج كذا، فهذا يعني أن غالب الخوارج يقولون بذلك وليس كلهم، وإذا قلنا: أصول المعتزلة خمسة، فلا يعني أن كل المعتزلة يتفقون على الخمسة، بل المعتزلة الأوائل إلى نهاية القرن الثالث لا يعرفون شيئاً اسمه: (الأصول خمسة)، حتى اخترعها لهم واحد منهم، فجمع ما يمكن أن يتشابهوا فيه فسماه: (الأصول الخمسة). إذاً: فهذه أمور إجمالية لا يعني أنهم متفقون عليها كلهم، وكذلك عندما نقول: الأشاعرة يؤولون الصفات إلا سبعاً، فلا يعني أنهم كلهم كذلك، بل هذا ما عليه عامتهم ورءوسهم الكبار، مثل البغدادي والشهرستاني والجويني قبل رجوعه إلى السنة، وكذلك الرازي قبل رجوعه، والإيجي والآمدي والغزالي وغيرهم، فهؤلاء غالبهم يثبتون السبع ويؤولون الباقي، مع أن أعداداً كبيرة منهم يثبتون أكثر من ذلك، فمنهم من يثبت ثماني صفات تبعاً للماتريدية، ويسمونها: التكوين، ومنهم من يثبت اثنتي عشرة صفة، ومنهم من يثبت ثلاث عشرة، ومنهم من يثبت عشرين، ومنهم من يثبت اثنين وعشرين، وليس لهم قاعدة إلا القاعدة الإجمالية. لذلك بعض الشباب استغرب عندما سمع من بعض المشايخ أن الأشاعرة يثبتون اثنتين وعشرين صفة، وظن أنه أخطأ، مع أن الشيخ لم يخطئ؛ لأن أغلب الدراسات الأشعرية الحديثة قد تداخلت مع الماتريدية، وتداخلت مع بعض الاتجاهات الجديدة، ولذا فأغلب الدراسات في الجامعات والمدارس الأشعرية يثبتون عشرين صفة.

شرح العقيدة التدمرية [16]

شرح العقيدة التدمرية [16] ينبغي وضع ضابط في بيان ما يجوز على الله عز وجل مما لا يجوز في النفي والإثبات، فلا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فالإثبات لابد من تقييده من غير تشبيه ولا تمثيل، والنفي لابد من تقييده من غير تعطيل ولا تحريف ولا تأويل.

تلخيص القاعدة الخامسة في مسألة الأسماء والصفات

تلخيص القاعدة الخامسة في مسألة الأسماء والصفات وقبل أن نشرع في الدرس أحب أن ألخص آخر القاعدة الخامسة؛ لأنه في الحقيقة فيه عسر وفيه تكرار، ففي ما مضى تكلم الشيخ عن مسألة الأسماء والصفات، وما الذي يدخل فيها من المعلوم، وما الذي يكون مما لا يعلم، وهذا خلاصة الأمر، فهو يقول: إنما يتعلق بالمعاني والحقائق في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب هذه معلومة، وهي حق على ما يليق بالله عز وجل، لكن الوجه الآخر من هذه الحقائق: وهو الكيفية فلا نعلمه، ويعبر عنه باللفظ المشترك، ومع ذلك فالذي يعلم والذي لا يعلم يعبر عنه بتعبير واحد، لكن سياق الكلام هو الذي يحدد المعنى، فالله عز وجل أحياناً ينفي التأويل في أمور الغيب والصفات، والسياق يدل على أن المنفي هو الكيفيات، وأحياناً كما في القراءة الأخرى التي عطف فيها التأويل، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، فالمقصود فيما يعلم الحقائق والمعاني العامة الثابتة في أمور الغيب، في أسماء الله وصفاته وأفعاله، ثم بعد ذلك قال رحمه الله: (ومن لم يعرف هذا)، أي: مسألة مفهوم المتشابه وتأويل المتشابه، فيعرفه على جهة التفصيل فيه، كثر اضطرابه، وضرب لهذا بمثل من هذه الطوائف -وهو رحمه الله سيذكر عدة طوائف- الذين يقولون: إن التأويل باطل مطلقاً، وهؤلاء هم المفوضة الذين يقولون: يجب إجراء اللفظ على ظاهره، وهذه مشكلة؛ لأنهم يبطلون التأويل وإن كان بمعنى الحقيقة، والتفسير الذي لابد منه، والأمر الذي يئول إليه الشيء، وهو الحقائق المعلومة، أو حتى غير المعلومة، فيبطلون التأويل ويدّعون أن هذا هو وجه الحق، أعني: التفويض، وهذا خطأ، بينما نحن نقول بمنع التأويل المبتدأ، لكن لا نقول: يمنع التأويل مطلقاً، فإذا كان التأويل بمعنى التفسير والبيان وإن سمي تأويلاً تجوزاً فلا شيء فيه، وإن قصد بالتأويل التحريف، أي: صرف المعاني عن حقائقها، أو إلغاء الحقائق، أو التعدد فيها، فهذا هو الممنوع، مع أنهم يحتجون بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فيحتجون بهذه على إبطال التأويل، ويقصدون بذلك: إبطال الحقيقة والمفهوم الذي يتعلق بأمر الغيب، وهذا خطأ وتناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، والآية ما نفت التأويل، بل إنها أضافت التأويل إلى الشيء، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7]، ولو لم يكن له تأويل ما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وكان على الأقل أن يقولوا: له تأويل لا يعلمه إلا الله، أو أن هناك نوعاً من التأويل يعلمه الراسخون في العلم، حتى تسلم ذممهم، لكن نفوا التأويل المطلق، وهؤلاء يسمونهم: المفوضة.

القاعدة السادسة: بيان الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة والباطلة في النفي والإثبات

القاعدة السادسة: بيان الضابط الذي تعرف به الطرق الصحيحة والباطلة في النفي والإثبات ننتقل إلى القاعدة السادسة، وقبل أن نبدأ فيها سنلاحظ أن الشيخ قد أطال في تقريرها حتى ما وجدنا تحديداً لهذه القاعدة إلا عندما نستنبط من هذا الكلام كله. والقاعدة السادسة: هي أنه لابد من وضع ضابط يعرف به ما يجوز على الله سبحانه مما لا يجوز في النفي والإثبات، فلا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فالإثبات لابد من تقييده من غير تشبيه وتمثيل، والنفي أيضاً لابد من تقييده من غير تعطيل، فهذه القاعدة هي التي سبق الكلام عنها، لكن أراد أن يفرع عليها مسائل من أجل إلزام الخصوم، وهذه القاعدة هي إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل، بمعنى: أن نثبت، لكن بإثبات مقيد بعدم التشبيه، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، ولابد أن ننفي النقص عن الله عز وجل، لكن لا يعني ذلك أن ننفي الحقائق، وأن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل. إذاً: الضابط هنا: أن نعرف ماذا نثبت؟ وكيف نثبت؟ ونعرف ماذا ننفي؟ وكيف ننفي؟ وهذا الضابط الذي قصده الشيخ هو تفصيل وتفريع على القاعدة الأولى، أعني: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتلخص في إثبات كل كمال لله عز وجل، ونفي كل نقص عن الله عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [القاعدة السادسة: أنه لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات، إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز].

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه فيما ينفى

خطأ الاعتماد في النفي على مجرد ادعاء التشبيه فيما ينفى قال رحمه الله تعالى: [فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه، أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له. ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة. ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك قالوا: إنه مشبه. ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس من التشبيه]. يذكر الشيخ قضية سائرة بين أهل السنة وخصومهم من أهل الكلام، وهي تشبيه الله بالخلق، وتشبيه صفات الله بصفات الخلق، ويبنون على هذا التشبيه إثبات الصفات نفسها، بمعنى: أنهم يقولون: إثبات الوجه إثبات الاستواء، وهذا تشويه وخطأ، ولذلك سموا كل من أثبت الاستواء، وأثبت الوجه لله عز وجل ونحو ذلك من الصفات، بأنهم مشبهة، وهذا خطأ في تحديد الاصطلاح، إذ إن أهل السنة يقولون: لا يسمى هذا تشبيهاً؛ لأننا نقول: نثبت لله عز وجل الاستواء؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله الوجه؛ لأنه أثبته لنفسه، ونثبت لله اليد؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، فليس الاستواء كالاستواء، ولا الوجه كالوجه، ولا اليد كاليد. إذاً: المنازع قصد معنى آخر وركب عليه نتيجة خاطئة، وهذه النتيجة هي أن كل إثبات يعد تشبيهاً، لكن نحن نقول: هذا غير صحيح؛ لأن مجرد الاشتراك اللفظي ليس بتشبيه، ومجرد الاشتراك في بعض المعاني بين المشبه والمشبه ليس بتشبيه، والذي يحكم هو الدليل والسياق، ولذا فنقول لهم: أولاً: نحن لسنا الذين وصفنا الله بهذا الشيء، فالله هو الذي وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم. ثانياً: أنه لا يجوز تأويل كلام الله عز وجل ما دام يمكن حمله على محامل تقتضيها اللغة والمعاني العامة، ونحن نعرف أن اللغة تقتضي تفسير فعل الله عز وجل بالاستواء ما دام أنه على ما يليق بجلاله، من غير الالتزام بلوازم من عند الخلق، وإلا أصبح كلام الله ملبساً على الخلق، والدليل على هذا أن المؤولة ما اتفقوا على حد أو تعريف التأويل، هل هو اللفظ المنتقل إليه، أو المعنى المنتقل إليه في التأويل؟ فتجد معاني الاستواء عندهم متعددة، ومعاني الوجه متعددة، ومعاني اليد متعددة، بل أحياناً يقولون بحسب السياقات، ونحن نقول: إن اللوازم هي التي تثبت حسب السياقات، فإذا جاء -مثلاً- ذكر اليد لله عز وجل بمعنى الكرم، فلازمها الكرم، وإذا جاءت بمعنى القوة، فلازمها القوة، وإذا جاءت بمعنى العطاء أو الرزق، فلازمها العطاء أو الرزق، ولا شك أننا لا ننكر اللازم، بل هو ضروري، فما جاء من ذكر أسماء الله عز وجل والأفعال والصفات إلا من أجل أن ندرك معانيها، ونتعبد الله بذلك ونعظمه بها، ومن أجل أيضاً أن نستثمر هذه المعاني في قوة الإيمان في القلوب، وفي سلوك الحياة، لكن العدول عن المعاني والحقائق اللائقة بالله عز وجل لمجرد وجود الاشتباه في الألفاظ أمر يعتبر مكراً كباراً، جاء عن طريق الفلاسفة وغلاة المتكلمين.

من شبه المعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف

من شبه المعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف قال رحمه الله تعالى: [وقد يفرق بين لفظ (التشبيه) و (التمثيل)، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف للإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلاً قديماً، ويسمونه ممثلاً بهذا الاعتبار]. في الحقيقة هذه فلسفة فيها مكابرة، وفيها دليل على أن الإنسان قد يصاب بالغرور واتباع الهوى، فلا يعتمد في دينه إلا على العقل، فيقول: بأن تعدد الصفات لابد أن يدل على تعدد الموصوف؛ لأنهم قالوا: إن القديم أخص وصفاً بذلك، فمن أثبت صفة قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً؛ لأنهم يعتبرون أن الصفة غير الموصوف، فصارت نداً، فإذا أثبتنا أنها أزلية فمعنى هذا أننا أثبتناها إلهاً مع الله، أو خالقاً مع الله، وهذه مكابرة راجعة إلى أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقاً ذاتياً، وإلا لو اعتقدوا لله وجوداً ذاتياً حقيقياً للزم اعتقاد أن له صفات تلازمه؛ لأنه لا يمكن لموجود حقيقي إلا أن يكون موصوفاً بصفات الكمال كلها، يعني: أن الوجود الحقيقي الأزلي لا يمكن أن يثبت وجوداً لله عز وجل حقيقياً أزلياً إلا ولابد أن يكون موصوفاً بصفات الكمال؛ لأن ما بعده من المخلوقات حادث، والحادث لا يمكن أن يعتمد إلا على كامل؛ لأنه مفتقر، ولابد أن يكون معتمداً على غني، وهو الله عز وجل، ولابد أن يكون معتمداً على خالق، وهو الله عز وجل، ولابد أن يعتمد على ما لا يفنى، وهو الله عز وجل، فهذه صفات تلحق بالموصوف، وتلازمه من حيث إنها صفات أزلية، لكن نظراً لأنهم يعتبرون وجود الله وجوداً ذهنياً معنوياً خيالياً -هم عادتهم يختلفون- فقد أنكروا الصفات؛ لأنها تلزمهم بوجود الموصوف وجود حقيقي مباين للمخلوقات، وهم إذا أثبتوا هذا الوجود لزمهم إثبات الصفات، فهم يفرون من إثبات الصفات، ولنا مع الأشاعرة والماتريدية الذين انساقوا مع هؤلاء في بعض أصولهم نفس الكلام، فنقول لهم: إذا كنتم أثبتم لله عز وجل وجوداً ذاتياً حقيقياً يليق بجلاله، ومبايناً للمخلوقات، وهذا الوجود قابل للصفات ولابد، فإذاً لم فرقتم بين الصفات؟! فإذا كان لله علم ليس كعلم المخلوقين، وقدرة ليست كقدرة المخلوقين، وكلام ليس ككلام المخلوقين، وسمع ليس كسمع المخلوقين، وهم يقرون بذلك، إذاً له استواء ليس كاستواء المخلوقين، ويد ليس كيد المخلوقين؛ لأن ذلك كله ثابت بالنصوص، وهذا دليلنا، وإلا لو كان مجرد تحكم للعقل لعذرناهم؛ لأن لكل إنسان أن يعقل كما يشاء، ولا نلزمه إلا بالثوابت الكبرى التي هي مجملات عند التفصيل، والتي يختلف عليها الخلق كلهم. وقد وجدت في بعض ألفاظ السلف عبارات أحياناً تزيد عن الحد الشرعي، وهذه اجتهادات وليست هي منهج السلف، وإنما منهجهم هو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال، بما فيها الصفات الذاتية على ما يليق بجلاله، فقد وردت في الكتاب والسنة، ونبرأ إلى الله أن نقول: هذه مصدرها العقل، أو معرفتنا، أو جهودنا، أو هذه مجرد أن اتفق عليها السلف، لا والله، فالسلف لا يقولون بذلك، بل قد ثبتت في الكتاب والسنة، فما الذي يلجئ إلى الحيدة عنها غير مجرد التوهم والتشبيه؟ ثم لماذا الصحابة ما توهموا التشبيه ليفروا إلى التأويل؟ ولماذا التابعون ما توهموا التشبيه وهم أعلم وأفقه باللغة، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله، وهم أيضاً أحرص على كمال الله عز وجل وصفاته؟! إن من الطبيعي أن يوجد عندهم التوهم، لكنهم طردوا الأوهام بالحقائق، وإلا فهم عرب أقحاح لابد أن ترد عندهم مسألة الاشتراك اللفظي، يعني: أن أي إنسان يسمع قول الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، لابد أن يقع في ذهنه تشابك المعاني بين ما يفهمه من يد المخلوق وبين ما يجب أن يعتقده في اليد لله عز وجل، ولذلك الله عز وجل وضع القاعدة بالنفي قبل الإثبات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، لأن الإنسان قد يتوهم، بل لابد أن يتوهم عند سماع كلام الله، ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فبدأ بالنفي قبل الإثبات؛ ليستقر في العقل نفي كل الخيالات والأوهام، وإلا فهل يخلو إنسان من أن يتخيل؟ إنه لا يمكن أن يعرف معاني كلام الله إلا بالتخيل، لكن يجب أن يعرف أن هذا خيال، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يرد العبد صفات الله بخياله. إذاً: فهذه المسألة تعتبر الفارق بين أهل السنة وبين المخالفين من أهل الكلام في معنى التشبيه والتمثيل، فالتمثيل منفي كله؛ لأن التمثيل هو المطابقة، وليس بين الخلق والمخلوقات مطابقة، حتى في اللفظ، وأما التشبيه ففيه مطابقة لفظية، فلذلك نفصل فيه، فإن قصد بنفي التشبيه نفي صفات الله فهذا باطل، وإن قصد بنفي التشبيه نفي المماثلة فنعم، فالله عز وجل ليس كمثله شيء.

جواب المثبتة عن هذه الشبهة

جواب المثبتة عن هذه الشبهة قال رحمه الله تعالى: [ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخص وصفه ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد ونحو ذلك، والصفة لا توصف بشيء من ذلك].

الأسئلة

الأسئلة

تقويم كتاب (تفسير العقائد الإسلامية) لحسن أيوب

تقويم كتاب (تفسير العقائد الإسلامية) لحسن أيوب Q ما رأي الشيخ في كتاب: (تفسير العقائد الإسلامية) لـ حسن أيوب؟ A كتاب حسن أيوب في تفسير العقائد الإسلامية كتاب يميل إلى منهج المتكلمين في نزعة التأويل، وفيه بعض الأخطاء الكبيرة، منها: أنه عندما عرّف أهل السنة قال: هم أتباع أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي! فأخرج القرون الثلاثة من أهل السنة والجماعة، وعليه فأهل السنة والجماعة هم أتباع الأشعري والماتريدي! مع أنهما قد توفيا في القرن الرابع، وهذا دليل على التعصب بالفرق؛ وكأنه يرى أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية، وأخرج أهل السنة الحقيقيين من مسمى السنة والجماعة، وأنا أظنه هو صاحب هذا الكتاب، لكن لا أجزم، وعلى أي حال فالشيخ حسن أيوب عنده نزعة تأويل، وهذا الذي أذكره في كتابه، ومع ذلك لا يخلو كتابه من فوائد طيبة ومفيدة.

شرح العقيدة التدمرية [17]

شرح العقيدة التدمرية [17] المقصود بالصفاتية هم الذين يثبتون الصفات بما فيهم أهل التأويل، فالذين يثبتون جميع الصفات الواردة هم أهل السنة والجماعة، والذين يثبتون بعض الصفات هم المعتزلة وأهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية، أما الجهمية فلا يسمون صفاتية؛ لأنهم ينفون الصفات مطلقاً، والمخالفون لأهل السنة فرقوا بين الصفة وبين الذات، وهذا ضلال؛ لأنه لا يتصور وجود بلا صفات.

بيان المقصود بالصفاتية وموقفهم من صفات الله عز وجل

بيان المقصود بالصفاتية وموقفهم من صفات الله عز وجل أذكركم بالقاعدة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل ما ينفى فيها وما يثبت، وهذه القاعدة لم يذكرها الشيخ بعينها، لكنها فهمت من فحوى كلامه فهماً واضحاً من خلال مناقشة القضية: الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله وما لا يجوز هو أنه يثبت ما أثبته الله لنفسه ويثبت لله كل كمال لا نقص فيه، وهذه قاعدة جاءت بها النصوص؛ لأن الله عز وجل قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وأيضاً في النفي أن ننفي عن الله عز وجل النقائص، وننفي عن الله كل عيب وكل نقص، ومن ذلك مماثلة المخلوقين، وبقي مسألة المشابهة هذه محل كلام آخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم]. ينبغي أولاً أن نعرف أن المقصود بالصفاتية هم الذين يثبتون الصفات بما فيهم أهل التأويل، ولذا فكلمة (صفاتية) لا تعني الإشارة إلى فرقة معينة؛ لأن الموقف العام تجاه الصفات إما إثبات أو نفي، فالجهمية لا يسمون صفاتية؛ لأن فيهم الفلاسفة والباطنية وغيرهم ممن ينفون الصفات مطلقاً، لكن الذين وافقوا الجهمية في نفي بعض الصفات، أو في تأويلها يسمون: صفاتية. إذاً: الصفاتية: هم كل من أثبت شيئاً من الصفات، سواء الذين يثبتون جميع الصفات الواردة، وهم أهل السنة والجماعة، أو الذين يثبتون بعض الصفات دون بعض، كالمعتزلة وأهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية، بل وحتى الذين بالغوا في الإثبات إلى حد البدعة، مثل المشبهة والممثلة، فهؤلاء يسمون صفاتية؛ لأنهم يثبتون، سواء غلوا في الإثبات، أو غلوا في النفي، ثم ذكر الشيخ أنهم قد اختلفوا، وذكر أن منهم من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، وهذا الكلام فلسفة، وكنت أتوقع أن ينشأ سؤال منكم يقول: أي هذه الأقوال هو الحق؟ وعلى أي حال أؤجل الجواب عليه حتى ننتهي من المقطع؛ من أجل أن تتصوروا المسألة. قال رحمه الله تعالى: [بل يقول: الرب بصفاته قديم، ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان، ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أن النبي محدث وصفاته محدثة، وليست صفاته نبياً]. على أي حال هذه كلها فلسفة لا طائل تحتها، والشيخ باختصار ينقل مقالات قد بينها في مقامات أخرى وفي بعض كتبه الأخرى، فهو أراد أن يشير إلى خوض الناس، أو خوض الصفاتية الذين هم المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، ومن شاركهم، مثل: الكلابية والسالمية وفرق أخرى كثيرة، فهؤلاء كلهم اختلفوا اختلافات لا طائل تحتها، وإنما كلها تخرصات وظنون، ولذلك أشار الشيخ إلى أن الذين فرقوا بين الصفة وبين الذات، أو الذين ما فرقوا فقالوا: لأنه لا يتصور ذات بلا صفات، وأن الذات المجردة لا وجود لها في الحقيقة، وهذا حق؛ لأنه لا يمكن ولا يعقل أن يكون هناك وجود لا يقبل الصفات، وإذا كان كذلك فالله عز وجل موجود، ووجوده لا ينفك عن الصفات، كما أن كل موجود لا يمكن أن ينفك عن الصفات؛ لأنه لا يتصور وجود بلا صفات، وكلمة (ذات) مجردة هي الذات المتخيلة، والخيال ليس بشيء. ولذلك مثل هذا الكلام غالباً يمرض القلوب، ومن هنا نخلص إلى أن مسألة التفريق بين الله وبين صفاته في القدم مسألة بدعية لا أصل لها في الشرع، بل ولا يجوز الخوض فيها، فالله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء. إذاً: الله عز وجل لم تطرأ له صفات حتى نقول: قديمة وغير قديمة؛ لأنه سبحانه بصفاته موصوف بهذا الكمال المطلق، فيما لا بداية ولا نهاية، وإذا كان الأمر كذلك فالتفريق بين الله وبين صفاته بدعة من جميع الوجوه، سواء التفريق في القدم، أو التفريق في الحدود، أو التفريق في الخصائص، أو أي نوع من التفريق بين الله وبين صفاته، لكن الكلام على مفردات الصفات يأتي بسياقاته، يعني: تأتي أحكام هي التي تتعلق بها ذمم المكلفين، أو بعض المكلفين، فمثلاً: نقسم بالله عز وجل، لكن هل نقسم بصفته؟ نقول: هذا فيه تفصيل، ولا يعني هذا التفريق بين الله وبين صفته؛ لكن نظراً لأنه أحياناً يشتبه الأمر في مسألة ما يتعلق بذات الله عز وجل وبين بعض صفاته قد يحتاج الأمر إلى تفصيل، فمثلاً: (الرحمة) قد يشتبه إطلاق (الرحمة) على صفة الله التي هي صفة ذاتية، من حيث إن الله عز وجل رحيم، وبين (الرحمة) التي هي من خلقه، كالمطر والجنة، فإذا جاء الاشتباه احتجنا إلى التفصيل، لكن لا يعني هذا التفريق بين الله عز وجل وبين صفته من حيث القدم وغيرها. ونخلص إلى أن هذا الكلام كله لا طائل تحته، وهو من فضول الكلام، والوقوف عنده قسوة للقلوب، لذا

اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه

اصطلاح المعتزلة والجهمية في مسمى التشبيه قال رحمه الله تعالى: [فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم (التشبيه) و (التمثيل) كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك]. لأنه يقصد بهذا أن إطلاق (التشبيه) و (التمثيل) ليس على جماعة واحدة من الصفاتية، بل حتى بعض الصفاتية يطلق على بعضهم: (التجسيم) و (المشبهة)، فمثلاً: المعطلة الخالصة الذين لا يثبتون لله عز وجل الصفات يسمون المثبتة (مجسمة)، ثم المثبتة أنواع، فالذين يثبتون بعض الصفات دون بعض يطلقون على من أثبت جميع الصفات مجسمة وهكذا. فإذاً: هذه المسألة نسبية، بمعنى: أن كلمة (التشبيه) و (التمثيل) ليس إطلاقهما دائماً ذماً، وليس كل من نفى التشبيه والتمثيل أيضاً يمدح دائماً، لذا فنحتاج إلى أن نضع القاعدة السابقة. وهي إذا كان التشبيه والتمثيل لا يخرج عن قاعدة إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل، فذلك يستقيم، وإذا اختل شيء من هذه القاعدة فقد يطلق التشبيه، وقد يطلق التمثيل، وقد يطلق العكس. قال رحمه الله تعالى: [ثم تقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس: تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفعه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية. والقرآن قد نفى مسمى (المثل) و (الكفء) و (الند) ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمى (التشبيه) في اصطلاح المعتزلة].

الرد على شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم

الرد على شبهة أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم قال رحمه الله تعالى: [وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه]. هذا الكلام ليس على إطلاقه، بمعنى: أنه لا يسلم لهم، لكن يصطادون الأغرار، فقولهم: (إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز) قد يكون صحيحاً في الجملة، لكن عند التفصيل قد نستثني أشياء، وقد نزيد أحكاماً وضوابط، وقد ننقص هذا من جانب، وهذا من جانب آخر. وقولهم: (والأجسام متماثلة) لا يسلم لهم هذا الإطلاق؛ لأنه لا يلزم أن تكون الأجسام متماثلة من كل وجه، فالتماثل نسبي، لكن ومع ذلك ففي الجملة أن الغالب في الأجسام التماثل، ولذلك جاء في القرآن نفي المماثلة ولم يأت نفي المشابهة؛ لأن المماثلة أدق وأخص من المشابهة، والمشابهة أعم؛ لأن المماثلة غالباً تشمل الحقائق الحدية، بينما المشابهة تشمل الحقائق والمعاني والتصورات، بل وحتى الخيالات، فالتشابه أعم من التماثل، والتماثل أخص، ولذا أقول: ومع ذلك لا يسلم لهم بأن جميع الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز؛ لأن معنى التحيز: المخلوقات، إذ إنها متحيزة، لكن الخالق عز وجل كيف يقال: إنه متحيز إن كان بمعنى أنه مفاصل لمخلوقاته، وليس مخالطاً لها، وليس حالاً فيها؟! لكن ومع ذلك الوصف المتحيز، والوصف المتحد يحمل معاني حق ومعاني باطلة، معاني كمال ومعاني نقص، والباطل والنقص منفي عن الله عز وجل، ولذلك تعتبر كلمة (متحيز) من الألفاظ المبتدعة، وعليه فلا يسلم هذا الكلام على إطلاقه، وإنما يسلم على عمومه، ومع ذلك لا يقال: إنه حق بإطلاق. وكذلك يقال: الأجسام متماثلة، وهذا حكم غالب على الأجسام التي هي المخلوقات، لكن لماذا نقلتم هذا الحكم إلى الخالق؟! هذا الخالق الذي ليس كمثله شيء. إذاً: هم يصطادون الأغرار الذين ليس عندهم قاعدة ولا موازين شرعية وعقلية سليمة، فيسلم لهم المستمع الذي ما عرف وجه اللبس في هذه الأمور، فيظن أن هذا ميزان، ثم يجرونه إلى أن إثبات الصفات لله عز وجل مماثلة، والله ليس كمثله شيء، ونحن نقول: ليس إثبات الصفات التي وردت في الكتاب والسنة مماثلة أبداً، لكن قد تعني المشابهة في المعاني العامة، والمشابهة في المعاني العامة لا تعني التشابه المطابق أو التشابه التمثيلي.

الرد على الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون الصفات العقلية وينفون الصفات الذاتية والفعلية وبيان تناقضهم

الرد على الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون الصفات العقلية وينفون الصفات الذاتية والفعلية وبيان تناقضهم قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية ونحو ذلك]. هؤلاء هم صفاتية أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون الصفات العقلية، وينفون الذاتية والفعلية، فينفون علوه سبحانه على العرش، وينفون قيام الأفعال الاختيارية ونحو ذلك؛ لأنهم سلموا بإطلاق تلك القاعدة السابقة: أن الصفات لا تقوم إلا باسم متحيز، وأن الأجسام متماثلة، فلو قامت بها الصفات لا يلزم أن يكون مماثلاً لفعل المخلوقات والأجسام، وهذا هو التشبيه، لذا لما طبقوا هذه القاعدة على صفات الله عز وجل قالوا: إذاً ما أشعر بالمشابهة وبالمماثلة فننفيه عن الله عز وجل، فنفوا الاستواء، والعلو على العرش، والأفعال الاختيارية، ظناً منهم أن تلك القواعد صحيحة. قال رحمه الله تعالى: [ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه]. نجد أن أهل الكلام قد بنو هذه القواعد على مقدمات فاسدة، وبالتالي وصلوا إلى نتيجة فاسدة، فصار حكمهم فاسداً، وعارضوا بذلك الكتاب والسنة. وقولهم: أما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً. فيقال لهم: إن قصدتم بالجسم الوجود الذاتي، فيسمى وجوداً، ولا يلزم أن يكون جسماً، وإن قصدتم بالجسم الجسم المعهود الذي نراه ونشاهده ونحسه بحواسنا، فهذا منفي عن الله عز وجل؛ لأنه ليس كمثله شيء، لكن ومع ذلك تقصدون بالجسم الوجود الذاتي، والله عز وجل له وجود ذاتي، وكونكم سميتوه جسماً فهذا تحكم من عندكم، وإلا فنحن لا نسميه جسماً؛ لأن (الجسم) كلمة غريبة وجديدة ومحدثة لم ترد في الكتاب والسنة. فإذاً: مقدماتهم فاسدة، ونتائجها فاسدة، وتطبيقاتها فاسدة؛ لأنهم بنوا فاسداً على فاسد، والحكم على نتيجة فاسدة، فلذلك سقطت جميع هذه الأمور، ولذلك قلنا: نرجع إلى الأصل، وهو: ما أثبته الله عز وجل لنفسه من الصفات بما فيها العلو على العرش، فإنه يثبت لله عز وجل، واللوازم الباطلة منفية، إذ إنهم يقولون: لا يكون علو إلا للجسم! لا يكون استواء إلا للجسم! فنقول: الله أعظم وأجل من أن تقولوا فيه هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، ونقول لهم أيضاً: أريحوا أنفسكم وعقولكم وفطركم، وأريحوا الناس وأريحوا المسلمين بالتسليم لله عز وجل، فأثبتوا الاستواء كما أثبته الله لنفسه، ولا تزيدوا على ذلك شيئاً، تبرأ ذممكم، وتسلموا ويسلم الناس من غوائل هذه النقاشات والصراعات الفلسفية التي لا طائل تحتها إلا الإثم والوقوع في الإلحاد والتعطيل كما حصل. قال رحمه الله تعالى: [فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه: مشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب (الإرشاد) وأمثاله]. صاحب (الإرشاد) هو الإمام الجويني رحمه الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات. والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق]. صحيح، ونقول لهم أيضاً: لماذا أثبتم السمع والبصر والكلام ولم تثبتوا العلو، بل إثبات العلو أولى عقلاً وشرعاً؟! فالعلو بدهي فطري، أما الكلام لو لم يرد في الكتاب والسنة لما استطعنا أن نثبته عقلاً. انظر إلى التناقض، قالوا: نثبت الكلام -وهذا هو الآن مذهب الأشاعرة إلى اليوم- والسمع والبصر وننفي العلو. وليس المقصود نفي العلو مطلقاً، بل نفي العلو الذاتي، وكون العلو معنوياً اعتبارياً، لا يكفي إثبات العلو؛ لأن الله عز وجل ذكر علوه على خلقه وعلى عرشه وعلى سماواته، فلابد أن يكون العلو أيضاً ذاتياً، ولا يكون الكمال المطلق إلا باجتماع النوعين الذاتي والاعتباري المعنوي، وإلا فالمعنوي أمر لا يرتبط بحد، هذا من ناحية، والناحية الأخرى: أن المعنوي ليس متعلقاً بالعلو فقط، بينما العلو يعتبر حداً زائداً عن العلو الذاتي، وفيه منتهى الكمال، فلا ينتهي به الكمال حتى يجتمع الأمران، فعلى هذا يقول الشيخ: إذا تأمل العاقل وجد الأمر فيما نفوه وهو العلو والاستواء ونحو ذلك، كالأمر فيما أثبتوه، أي: أننا إذا أخذنا بقاعدتهم السابقة وجدنا أنه لا فرق بين الأمرين. ولذلك يقال لهم: إما أن تثبتوا الجميع؛ لأن الكتاب والسنة ورد بذلك كله، وإما أن تنفوا الجميع حتى تكون قاعدتكم سليمة، وإلا فهي في الحقيقة فاسدة، بمعنى: مطردة، وليست سليمة شرعاً، ولذلك المعتزلة قالوا للأشاعرة: أنتم ليس لكم قاعدة، حتى إن بعض رءوس المعتزلة قالوا: نحن نحترم مذهب السلف وإن كنا نخطئه؛ لأن لهم قاعدة، أما أنتم فلا هنا ولا هناك، و

الأسئلة

الأسئلة

صفات الله عز وجل ليست متوقفة على وجود المتعلقات

صفات الله عز وجل ليست متوقفة على وجود المتعلقات Q إن إثبات بعض صفات الله عز وجل متوقف على وجود مخلوقات، مثل: الخالق والغفور والرحيم، فكيف ذلك؟ A أهل السنة والجماعة قد بينوا ذلك بياناً شافياً فقالوا: إن الله عز وجل خالق قبل وجود الخلق، فله قدرة على الخلق، وهذا أمر معلوم بالضرورة، وكذلك بقية الأحكام المتعلقة بالمخلوقات، مثل: المغفرة والرحمة، فالله غفور قبل وجود من يغفر لهم، ورحيم عز وجل قبل أن يوجد من تتعلق بهم الرحمة، فهذه صفات كمال لازمة لله عز وجل، بل ليست متوقفة على وجود المتعلقات، والذين قالوا: بأنها متوقفة على الوجود هم أهل الفلسفة والخوض، والحق أن الله عز وجل متصف بتلك الصفات قبل الخلق.

حكم تعلم المنطق

حكم تعلم المنطق Q ما حكم تعلم المنطق؟ وهل منه ما هو محمود وما هو مذموم؟ A المنطق منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، فالمنطق المحمود ما بني على أسس شرعية وعقلية صحيحة، ومن المنطق: القواعد الرياضية الصحيحة التي ينبني عليها علم الرياضة، أو علم الرياضيات، إذ إن أكثرها منطقية، وكذلك العقلية الصحيحة مبنية على مقدمات عقلية ونتائج عقلية صحيحة. وهناك منطق مذموم، وهو الذي يتعدى إلى الغيبيات، وإلى أمور القدر، وإلى مسائل الإلهيات كما يسمونها، فهذا منطق فاسد؛ لأنه لا سبيل إلى هذه الأمور إلا عن طريق الوحي. وأما مقولة: لا يمكن فهم بعض العلوم ومنها: (كتاب التدمرية) إلا بعلم المنطق. فهذا ليس على الإطلاق، لكنها تسهل فهم هذه الأمور. وهناك كتاب (السلم) للأخضري، وهو كتاب جيد، ومن أجود الكتب في المنطق، وله شروح شرحها بعض أساتذة جامعة الإمام شرح جيد، ومنها: شرح الدكتور: علي بن دخيل الله، ولا أدري هل قد طبع أم لا؟

شرح العقيدة التدمرية [18]

شرح العقيدة التدمرية [18] إثبات الصفات لله عز وجل إثباتاً يليق بجلاله من غير تمثيل ولا تعطيل لا يستلزم التجسيم؛ لأننا نثبتها وفق قواعد شرعية صحيحة: منها: أن الله سبحانه وتعالى أثبتها لنفسه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم أثبتها له، وثالثاً: أننا نثبتها على ما يليق بجلاله سبحانه، بحيث ننفي كل ما يشعر بالنقص أو الاستنقاص أو المماثلة. وبهذه القواعد نسلم مما وقع فيه أهل البدع من التشبيه والتمثيل أو التأويل والتعطيل.

تكملة بيان ما ورد في القاعدة السادسة

تكملة بيان ما ورد في القاعدة السادسة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا في القاعدة السادسة، وقد بدأ الشيخ يرد على شبهات المعطلة والمؤولة، وتذرعهم بالتجسيم في نفيهم للصفات أو تأويل الصفات، وقد بدأ هذا الأمر بقواعد واضحة نوعاً ما، وقد قمنا بدراستها، لكن بعد ذلك دخل في نقاش عميق، وفيه أحياناً استعمال للأصول والمصطلحات الفلسفية والعقلية، والتي هي أشبه بالمحارات والأسلوب العسر، ولذلك سنستغني عن القراءة الآن في هذا المقطع الذي أمامنا حتى نصل إلى القاعدة السابعة. لذا سألخص لكم مقاصد الشيخ في رده على أولئك القوم الذين نفوا الصفات أو أولوها، بدعوى أنها تقتضي التجسيم أو التشبيه. فبعد أن تكلم الشيخ عن دعواهم بأن إثبات بعض الصفات -حتى العلو- يقتضي التشبيه، وأن هذا ليس بحق، وأن مسألة تماثل الأجسام لا تعني أن هذه القاعدة مطردة من كل وجه، وأن التماثل غير التشبيه، وأنه قد ينفى التمثيل ولا ينفى التشبيه أيضاً؛ لأن المماثلة غالباً تعني المطابقة من كل وجه، أو من أغلب الوجوه، وهذا لا يليق في حق الله عز وجل، أما المشابهة فهي معنى عام، فقد يعني التشابه اللفظي، أو التشابه المعنوي العام دون التشابه الحقيقي الذاتي، ولذلك فرق الشيخ بين التشبيه والتمثيل، وقال: إن أي مماثلة الله لخلقه، أو مماثلة الخلق لله عز وجل أمر لا يجوز بإطلاق جزئي ولا كلي، وأما المشابهة فهذه كلمة لابد أن نفصل فيها، فمثلاً: المشابهة اللفظية موجودة من غير مماثلة الله عز وجل، فقد وصف نفسه بأنه عليم، وأنه خبير، وأنه حكيم، بل وصفه جميع العقلاء بذلك، ومع ذلك العلم والحكمة موجودة في الخلق، فهذا تشابه لفظي، وقد يوجد فيه -كما سيقول الشيخ- اشتراك معنوي جزئي أيضاً، لكنه في المخلوق ناقص، وفي الخالق كامل، ومن ذلك أيضاً: العلم، فالله عز وجل بكل شيء عليم، وعلمه لا يحيط به شيء، وعلمه لا حد له سبحانه، فهو صاحب العلم الكامل المطلق، لكن ومع ذلك فالله عز وجل وهب لبعض خلقه علماً، وهذا العلم هو من علم الله، وهنا يوجد شيء من التشابه النسبي الضئيل، لكنه بالنسبة للمخلوق علم ناقص ومحدود، ويعتريه جميع عوارض النقص والضعف، بينما العلم في حق الله عز وجل كامل لا محدود له، ولذا فهذا التشابه الجزئي لا يعني المشابهة المنفية، ولا يعني المماثلة التي نفاها الله عز وجل في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهذا ما سيدور عليه الكلام التالي، يقول الشيخ: (وأصل كلام هؤلاء كلهم) أي: سواء يقصد بذلك المعطلة، أو الصفاتية الذين منهم المعتزلة الذين نفوا الصفات، أو الأشاعرة الذين أولوا الصفات، إذ إن الصفاتية تشمل كل من أثبت الصفات بما فيهم أهل السنة والجماعة، لكن هو الآن لا يرد على أهل السنة والجماعة، بل هو الآن يثبت مذهب أهل السنة والجماعة، ويرد -على قواعدهم- على الصفاتية الذين وافقوا الجهمية في بعض الأمور، يقول رحمه الله تعالى: (وأصل كلام هؤلاء -الجهمية أولاً، ثم يتبعهم المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، أي: أن قاعدتهم التي انطلقوا منها في النفي أو التأويل- على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم) أي: عندما نثبت صفة فكأننا جسمنا الله عز وجل، فهذه قاعدة باطلة؛ لأن إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم، ولأننا عندما نثبت الصفات لله عز وجل فإننا نثبتها بالقواعد التالية؛ لأن الله أثبتها لنفسه، وهل يثبت الله لنفسه المماثلة والتجسيم؟ لا، وهذا أولاً. ثانياً: أننا نثبت الصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله، ونحتاط بأن ننفي كلما يشعر بالنقص أو الاستنقاص أو المماثلة لله عز وجل. ثم بنوا على هذه القاعدة حكماً نهائياً هو في غاية البطلان، فقالوا: إذا لزم من إثبات الصفة الجسمية، فمعنى هذا: أن الأجسام لابد أن تكون متماثلة، وكأننا إذا أثبتنا لله عز وجل صفة اليد أثبتنا التجسيم، وإذا أثبتنا التجسيم فالأجسام متماثلة بين الخالق والمخلوق، وعند ذلك نكون قد مثلنا الله بخلقه. وهذا كله باطل، ولذلك هذا التقعيد الباطل يخفى على بعض الناس الذين لا يعرفون موازين الحق؛ لأنهم يسلمون بذلك دون أن يشعروا، حتى وإن كان القائل من أهل الاستقامة والخير، فإذا لم تكن عند المسلم موازين تحصنه من مثل هذه المفاهيم فإنها تدخل مخه، وإذا لم تكن عنده قدرة على التمييز سيظن أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وعلى هذا من أثبت الصفة فقد أثبت المماثلة بين الله وبين خلقه، فهذا هو ملخص هذه النقطة. ثم قال رحمه الله: (ولهذا يقول هؤلاء -أي: الذين قرروا التشبيه والمماثلة بزعمهم، أو الذين نفوا الصفات أو أثبتوها-: إن التشابه لا يمكن أن يكون من وجه، أو أن يقع من وجه ويختلف من وجه، فالشيئان لا يشتبهان من وجه، ويختلفان من وجه) يعني إما أن يشتبهان تماماً، وإما أن يختلفان تماماً، وهذه مكابرة أيضاً للعقول. وكل كلامه هذا هو في معرض الصفات، فهم يقولون: أي شيئين -ما يسمى بشيء من الموجودات، من وجود عالم الشهادة ووجود

الطريق الصحيح في النفي

الطريق الصحيح في النفي بعد ذلك تكلم الشيخ عن الطريق الصحيح فقال: (وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد) أي: أن الطريق الصحيح هو نفي النقص، فإن كان اللفظ الذي يقولونه تشبيهاً يقتضي النقص فنحن ننفي النقص عن الله عز وجل، وإن كان لا يقتضي النقص فنحن نثبته ولا نسميه تشبيهاً، بل هم الذين يتوهمون التشبيه، فالله عز وجل تُنفى عنه النقائص، ويُثبت له ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كما يُثبت له الكمال المطلق بلا قيود، وما يُشعر بنقص فيُنفى عنه، فننفي عنه النقص والعيب، ومن الأمور المنفية المماثلة، إلا أن المماثلة مطابقة من كل وجه، وأما المشابهة ففيها تفصيل؛ لأن المشابهة لا تعني المطابقة من كل وجه.

التشابه الجزئي لا يعني المشابهة الكلية التي تسوغ نفي الصفات

التشابه الجزئي لا يعني المشابهة الكلية التي تسوغ نفي الصفات بعد ذلك تكلم عما يسمى بالتشابه الجزئي، وهو في الحقيقة قاعدة شرعية، فإذا وجد تشابه جزئي فلا يعني المشابهة الكلية التي يُبنى عليها نفي الصفات، إذ إن التشابه الجزئي هو أننا نجد في معاني صفات الله -التي هي كمال مطلق- معاني توجد في المخلوقات، لكنها ناقصة ومحدودة، فالعلم المطلق لله عز وجل، يوجد منه علم عند بعض المخلوقات، لكنه ناقص، والقدرة التي هي كمال لله عز وجل توجد عند بعض المخلوقات، لكنها قدرة محدودة وناقصة، وهكذا في بقية كثير من الصفات التي جعل الله منها في الخلق جزءاً يسيراً، فهذا التشابه الجزئي لا يعني المشابهة من كل وجه، ولا يعني المماثلة من باب أولى، ولذلك بسبب التشابه الجزئي نفوا الصفات؛ لأنهم ما أدركوا أن التشابه الجزئي ليس استنقاصاً لله؛ لأنه كله موهبة من الله عز وجل، فالصفات التي جعل الله منها في خلقه هي موهبة من الله عز وجل.

حقيقة القدر المشترك الذي اشترك فيه الخالق والمخلوق

حقيقة القدر المشترك الذي اشترك فيه الخالق والمخلوق بعد ذلك تكلم عن القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال، فيقول: (فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال -يعني: لله عز وجل-: كالوجود والحياة والعلم والقدرة) أي: أن كل صفات الله عز وجل صفات كمال، فإذا أُطلقت على الله عز وجل لا يدل ذلك على شيء من خصائص المخلوقين، بل ليس هناك عاقل يقترن في ذهنه أن هناك وجوه تقارب بين الخالق والمخلوق، فإذا تكلمنا عن وجود الله عز وجل، وأنه موجود، أو عن حياة الله عز وجل، وأنه الحي القيوم، وعن علمه أو قدرته، فلا يعني ذلك أن ما يوجد عند المخلوقين يكون كما هو للخالق، والعكس كذلك، فليس ما يوجد عند الخالق يكون كما هو عند المخلوق، فإن هذا بقدر محدد، وهذا بكمال مطلق.

نفي الاشتراك اللفظي يقتضي نفي جميع الأسماء والصفات لله عز وجل

نفي الاشتراك اللفظي يقتضي نفي جميع الأسماء والصفات لله عز وجل ذكر مسألة مهمة، فقال: (ولهذا لما اطّلع الأئمة على أن هذا هو حقيقة قول الجهمية سمّوهم معطّلة) أي: حقيقة دعواهم بأن أي إثبات لأي صفة لله يقتضي المشابهة، حتى صفة الوجود، فلذلك نفى هؤلاء الغلاة جميع الأسماء والصفات، وقالوا: لأنها تشعر بالمشابهة، وهذا ربما يكون من باب الإلزام، أي: أنهم أُلزموا بذلك؛ لأنهم وضعوا قاعدة قد يكونون فصّلوا أو لم يفصلوا، فالله أعلم، لكن السلف لم ينقلوا عنهم تفصيل، وإنما نقلوا عنهم هذا المبدأ الهدّام، أعني: مبدأ نفي الاشتراك، حتى اللفظي، إذ إن نفي الاشتراك يقتضي نفي جميع الأسماء والصفات لله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يخلو الأمر من اشتراك لفظي. يقول: إن السلف عندما عرفوا هذه القاعدة عند الجهمية -قاعدة: نفي أي مشاركة بين الخالق والمخلوق، حتى وإن كانت لفظية- أدركوا أنهم معطّلة، وسمّوهم بذلك، ولذلك قال: (وكان جهم ينكر أن يسمى الله شيئاً)؛ لأن هذا يلزمه بإثبات الوجود، والوجود لا بد أن يتضمن الصفات، فما من موجود إلا ويكون موصوفاً، ولذلك فهو يرى الحلول كما أُثر عنه، فقد خرج من خلوته التي خلا به الشيطان إلى الإلحاد الكامل، يقولون: إنه خرج من خلوته وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء، يعني: الله عز وجل، تعالى الله عما يقول. يقول: (وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء) نعم قد يكون هذا حقاً من وجه، وباطلاً من وجه، فهو شيء لا كالأشياء، لكن قوله: (لا كالأشياء) بمعنى: أنه لا يوصف ولا يسمى! وهذا باطل، ثم قال: (فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام).

حقيقة القدر المشترك الكلي

حقيقة القدر المشترك الكلي بعد ذلك تكلم المصنف عن القدر المشترك الكلي، وهذه مسألة كثيراً ما ينخدع بها المتأثرون بمناهج الفلاسفة، وقد أشكلت على كثير من المتكلمين، وهي من المعضلات التي جعلتهم يخوضون فيما لا يعلمون، وهي: أن الاشتراك يقتضي نفي أي علاقة مشاركة، الاشتراك الذي هو الاشتباه، ولذلك منهم من نفى كل الأسماء والصفات، ومنهم من نفى الصفات فقط، ومنهم من أوّل الصفات. هذا الاشتراك الكلي المطلق الذي علّقوا به أحكاماً واقعية وهو ليس بواقع، هذا الاشتراك الذي في الأذهان هو اشتراك خيالي، فإذا طبّقته في الواقع لم يعد اشتراكاً، ولنأخذ مثلاً صفة: (الوجود)، إذ هي كلمة كلية لم نخصص بها أي وجود، يقول الشيخ: هذه الكلمة في الأذهان لم تخرج إلى الواقع، لكن عندما نقول: الوجود وجود الكون، فقد خصصنا الصفة، فخصصنا الوجود بالكون، وعرفنا أنها قُيدت بشيء، أو نقول: الوجود وجود الإنسان، فقد خصصنا الوجود بالوجود الإنساني، لذا لما خُصصت صارت واقعاً، أما قبل أن تخصص فهي في الذهن فقط، وما دامت في الذهن فيقول: لماذا تبنون عليها أحكاماً؟ لماذا تعتبرون الوجود قاسماً مشتركاً وهو في الذهن؟ مع أننا إذا خصصناه لم يعد قاسماً مشتركاً، فإذا خصصنا الوجود صرفناه إلى الخالق عز وجل، فهو وجود يخصه، وهو الكمال، وكذلك إذا أضفنا وجود المخلوق فهو وجود يخصه، وهو النقص، فالشيخ يحاكمهم إلى خيالات بنوا عليها أحكاماً، وهذا في جميع أصولهم التي نقضوا بها الوحي، سواء بتعطيل أو بتأويل أو بنفي بعض الشيء وإثبات بعض، فكل هذا مبني على خيالات وهمية هي في أذهانهم ليست في الواقع، وهذا القدر يسمى: القدر المشترك الكلي، ولا يوجد في الواقع، ولا يوجد في خارج الأذهان، وليس في خارج الكون، وإنما خارج الأذهان، فالخيالات في الأذهان ليست واقعاً حتى تكون هذه الخيالات منطبقة على الواقع، وكذلك الأوصاف ليست واقعاً حتى ننسبها إلى موصوف، فصفة (الوجود) كلمة مطلقة ليست واقعية، فإذا نسبناها إلى موصوف أصبحت واقعية، فإذا قلنا: الإنسان موجود. إذاً نسبنا هذا الوجود للإنسان، فأصبح واقعاً، وإذا قلنا: الله عز وجل موجود، فهذا وجود خصصناه بالخالق عز وجل، فهو الوجود المطلق الكامل، لا مطلق الوجود. إذاً: هذه من الأشياء التي استطاع بها الشيخ رحمه الله درء التعارض، وبيان تلبيس الجهمية، إذ أوصلهم إلى طريق مسدودة، فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا هذا الأمر، ولذلك ما رد عليه أحد من أهل الكلام إلى يومنا هذا في هذه القضايا، أي: في مسألة تحكيمهم أو الحكم عليهم من قواعدهم ومن أصولهم التي يقولون بها، يقول: حتى أصولكم تتناقض! فمنها: مسألة الوجود الكلي، أو الوجود الذهني، أو الوجود العام، أو الوجود المطلق، أو الوصف المطلق، فيقول: أنتم الآن تحكمون على أشياء ليس لها واقع، فإذا صارت واقعاً عند ذلك حكمنا بالخصائص، وخصائص الله عز وجل غير خصائص المخلوق. يقول رحمه الله: (وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا -أي: أن المعنى العام إذا خصصناه أُطلق على هذا وعلى هذا- لأن الموجودات في الخارج -أي: خارج الذهن- يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. لأن الموجودات في الخارج يشارك أحدها -ويجوز النفي أيضاً، لكن جاء لها عن طريق الإثبات- الآخر في شيء موجود فيه) بمعنى: إذا قلنا: إن كلمة (الوجود) كلمة في الذهن، فإذا خصصناها صارت في الواقع، فإن الموجودات في الواقع بينها اشتراك جزئي، هذا الاشتراك الجزئي لا يعني المماثلة من كل وجه، بل يعني المشابهة من بعض الوجوه، وهذه المشابهة لا تقتضي نقصاً في أحد الطرفين. فأما الوجود المطلق فهو الوجود الذي لا ينتهي ولا يبتدي، مثل: وجود الله، وأما مطلق الوجود فهو الذي في الأذهان، كأن نقول: كلمة (الوجود) فهذه مطلق الوجود، لكن وجود الله هو الوجود المطلق الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا هو الوجود المطلق، وأما مطلق الوجود فهو المتخيل والمتصور، وهذا ينطبق على الوجود وعلى الحياة وعلى كثير من الصفات العامة، فإذا قلنا: الحياة، لا ندري أي حياة حتى تقيد، وحتى تتعلق بمتعلقها، فالحياة لله عز وجل هي القيومية التي لا نهاية لها، والحياة بالنسبة للمخلوق هي حياة موقوتة يعتريها الضعف والنقصان والفناء وجميع عوارض الخلل. إذاً كما قرر الشيخ: أن عدم فهم هذا المعنى هو الذي تسبب في غلط منهجي أدى إلى التعطيل للأسماء والصفات، أو للصفات فقط، ثم إلى التأويل، وهو أخطر من التعطيل من أغلب الوجوه على الخلق، يعني: على المسلمين بالذات، مع أن التعطيل كفر، فلماذا يكون التأويل أخطر؟ لأنه بيّن البطلان، ولا يُعقل أيضاً، ولأن فيه تلبيساً على الإنسان، فإذا جاء شخص وقال لك: أنا أنفي لله الاستواء على العرش، فقد تستنكر لأول وهلة، لكن لو يلبِّس عليك ويقول: أنا أنفي أن يكون الله عز وجل يحتا

الأسئلة

الأسئلة

الحذر من الخوض في محارات ومتاهات الفلاسفة

الحذر من الخوض في محارات ومتاهات الفلاسفة Q أهل السنة يقولون: إن الجمع بين الضدّين مستحيل لذاته، ثم قال: مثل خلق مثله، وتحريك وسكون الشيء في وقت واحد، ويقول من يخالفهم: يلزمكم على هذه القاعدة أن تنفوا علو الله على خلقه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون فوقه شيء من خلقه ولا محيط به شيء من مخلوقاته؛ لأن هذا جمع بين الضدّين، فهل هذا الإلزام صحيح؟ وكيف الرد عليه؟ A إن مثل هذه الأمور لا ينبغي الخوض فيها؛ لأنها محارات ومتاهات، ولأن هذه المصطلحات مما يكثر فيها الغلط والوهم، ويكثر عليها الاختلاف، نعم قد تكون العبارة في بعض الأمور صحيحة من حيث إنها من بدهيات العقل، لكن لوازمها وتطبيق هذه القواعد على أمور الغيب هو الذي يكون زلّة، ويدخل في محارات وأوهام، فالجمع بين الضدين لا شك أنه مستحيل، لكن كثيراً من الفلاسفة والمتكلمين ومن دونهم قد يدخلون في الأضداد ما ليس منها، وقد يفرّعون عن هذه القواعد ما لا يدخل فيها، وقد يضعون مقدمات بعضها غير صحيح، فتكون نتائجها غير صحيحة، وقد يضعون مقدمات صحيحة، لكن نتائجها ليست مطابقة لأصل مقدماتهم، وكونهم جعلوا الاستواء والنزول يدخل في المتضادات فهذا توهم منهم؛ لأننا نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، وينزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله، كما ورد ذلك في النصوص الشرعية، ورد على وجوه كثيرة في الزمان وفي الأحوال، وهذا النزول ثابت قطعاً بقطعيات النصوص، ويلزم إثباته، لكن اللوازم التي قالوا بها في النزول لوازم وهمية، فأهل السنة لا يزيدون عن إثبات ما جاء في النصوص القطعية من أن الله عز وجل مستو على العرش، وأنه سبحانه ينزل نزولاً كما يليق به تبارك وتعالى، وقد وردت في ذلك النصوص القطعية. وعليه فاللوازم هذه غير لازمة، فلا يعني أنه يلزم من النزول إخلاء العرش؛ لأن ذلك لا يمكن أن يكون داخلاً في الأضداد، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أنه لا يمكن التحكم في تصوره، فالله عز وجل ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلا يجوز لنا أن نتعدى ذلك، وما ورد عن بعض السلف، أو ما أُثر عن بعض السلف من ذكر بعض اللوازم، كمسألة الإخلاء وعدم الإخلاء، فكلها اجتهادات ليست بقطعية، ولا تلزم جمهور السلف، إذ إنها اجتهادات من آحاد السلف قد يقول بها من باب رد باطل على وجه آخر، فيبالغ أو يقول بما يتوهم ويتصور، وليست عقيدته ملزمة للسلف الصالح، وإن كان من أفراد السلف ومن علماء الأمة؛ لأنه قد يجتهد فيخطئ، فلا يكون اجتهاده موافقاً للقاعدة الشرعية، ولذا فأهل السنة والجماعة لا يلتزمون بهذه اللوازم، أعني: ضرورة القول بإخلاء العرش إذا حصل النزول؛ لأن هذا أمر غيبي خالص، وحتى لو كان في أمر المخلوق لكان من الغيب الذي نتورع أن نخوض فيه، فكيف وهو في حق الله عز وجل الذي ليس كمثله شيء؟! إذاً: كل هذه التصورات والاعتراضات أوهام على أوهام، فمقدماتها أوهام، ونتائجها أوهام، وما علينا إلا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نثبته في حق الله عز وجل أمور لا يحيلها العقل، واللوازم التي ألزموا بها باطلة، فإن كانت اللوازم تستلزم النقص فهي باطلة، وإن كانت لا تستلزم النقص فقد ترد، فإن جاء ما يدل على هذه اللوازم أثبتناه، مثل: أن نقول: من لوازم قوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]: أن الله كريم، وأنه سبحانه غني، وأنه قادر، وأنه هو الرزاق، فهذه لوازم نلتزمها، لأنها حق وكمال، لكن اللوازم الأخرى من التشبيه والتجسيم والإخلاء وغير ذلك مما قالوه لوازم باطلة، ولا يستطيعون أن يحاجونا بها، حتى ولو قلنا بقاعدة الجمع بين الضدين؛ لأن استواء الله عز وجل على عرشه ونزوله كما يليق بجلاله ليس من باب الأضداد على أي وجه من الوجوه، إنما هم توهموا أوهاماً فألزمونا بأوهامهم، وأوهامهم لا تلزمنا قطعاً.

معنى قول شيخ الإسلام: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو المتواطئ أو التشكيك؟

معنى قول شيخ الإسلام: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو المتواطئ أو التشكيك؟ Q ما معنى العبارة التالية التي أوردها المصنف في معرض رده على الذين ينفون الصفات: ولكثرة الاشتباه في هذا المقام -يعني: مقام الغلط والتناقض في استعمال الاصطلاحات والعبارات والقواعد- وقعت الشبهة في أن وجود الرب عز وجل هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ (الوجود) مقول بالاشتراك اللفظي، أو المتواطئ، أو التشكيك؟ A الاشتراك اللفظي: هو العبارات التي يتحد لفظها وتتعدد معانيها، فاللفظ واحد، لكن يُطلق أحياناً على معان مختلفة ومتفاوتة، مثل: العين، فقد تُطلق على ذات الإنسان، أو على ذات الحيوان، فيُقال: هذا الإنسان بعينه، وهذا الحيوان بعينه، وقد تُطلق على العين الباصرة، وقد تُطلق على العين الجارية، أو الماء الجاري، وهذا يسمى: اشتراك لفظي، فاللفظ واحد والمعاني متعددة، وعليه فهذا أقرب للاشتراك اللفظي منه إلى الاشتراك الحقيقي. والاشتراك اللفظي في مثل هذه الألفاظ لا يعني التماثل، فإذا وجد الاشتراك اللفظي بين بعض أسماء الله وأسماء الخلق، أو بين بعض صفات الله وصفات الخلق، فلا يعني وجود التشابه ولا التماثل، فلماذا ينفون أسماء الله بمجرد وجود الاشتراك اللفظي؟ هذا هو قصد الشيخ. أما التواطؤ فهو أقرب أو أخص، وهو: أن تتفق اللفظة مع كثير من معانيها، أو يجمع اللفظة جنس واحد متقاربة، كالإنسان، فقد يُطلق على جنس، لكن هذا الإنسان قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى، وقد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً، وقد يكون عاقلاً وقد يكون مجنوناً، لكن ومع ذلك فاللفظة متقاربة معانيها، وليس هناك بعد، مثل: العين، أو الأسد إذا أُطلق على إنسان سماه أبوه وأمه أسد، وبين (أسد) الحيوان المعروف، أو إطلاق الذهب، فقد يُطلق الذهب على المعدن، وقد يُطلق على الشيء العزيز الثمين، وقد يقال: ما شاء الله فلان كلامه من ذهب، فهل معناه أنه يتلفظ ذهباً يوزن؟ لا، ولذا فالتواطؤ هو أن يوجد شيء من التقارب في المعاني مع اتحاد اللفظ، كالإنسان، أو الحيوان، والحيوان هو كل حي سمي حيواناً، لكن لا يُسمى الجدار حيواناً، فهو جنس وإن اختلفت بعض معانيه، فالإنسان -مثلاً- جنس واحد وإن اختلفت بعض معانيه. إذاً: الاشتراك اللفظي هو وجود لفظ متطابق في الحروف، لكن تختلف معانيه اختلافاً كبيراً، أما التواطؤ فهو أن يوجد لفظ يطلق على جنس، وهذا الجنس تتنوع مفرداته تنوعاً غير بعيد عن الأصل. وأما التشكيك فهو الذي يجمع بين هذا وذاك، يعني: كونه لفظاً مشككاً فيه.

شرح العقيدة التدمرية [19]

شرح العقيدة التدمرية [19] من أقوى ما يهدم قواعد نفاة الصفات أو بعضها: أنهم مختلفون في قواعدهم وفي معاني مفرداتها، وكل منهم يرد على الآخر، وهذه الردود التي بينهم يستفاد منها في بيان ما هم عليه من الباطل والتناقض، ولقد تصدى لهم شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وبينوا فساد مذاهبهم وبطلانها، ولذلك فإن التكلف في هذه الأمور ومخالفة منهج أهل السنة في تقرير العقيدة يسبب الشك والاضطراب في القلوب والعقول.

الاحتجاج على نفي النقائص بنفي التجسيم أو التحيز لا يحصل المقصود لوجوه عدة

الاحتجاج على نفي النقائص بنفي التجسيم أو التحيز لا يحصِّل المقصود لوجوه عدة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله]. نحتاج إلى أن نبيّن وجه القاعدة حتى نعرف ما بعدها. فهو يقول رحمه الله: إن النفاة، سواء النفاة المعطّلة الخُلّص، أو من دونهم الذين ينفون شيئاً ويثبتون شيئاً كالمعتزلة، أو أهل الكلام الخُلّص من متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فهؤلاء يخلطون خلطاً يجعل الإنسان الجاهل غير المتمكن في العقيدة يشتبه عليه الأمر، فيخلطون بين النقص الخالص وبين ما يُشعر بالنقص من وجه عند السامع دون إضافة اللفظ، فإذا أُضيف اللفظ إلى الموصوف زال الإشكال، أو كان السياق يدل على الكمال. وهناك ألفاظ هي نقص بحت، مثل: الحزن والبكاء، والأكل والشرب، فهذه تنفى عن الله عز وجل؛ لأنه ليس له وجه من الحق، ولا تحتمل معنى من المعاني الذي يكون فيه كمال، بعكس ما أثبته الله لنفسه من بعض الأمور التي لو أُفردت لكان فيها وجه نقص، لكن ما جاء في سياق يدل على الكمال كانت كمالاً، مثل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فجاءت في مقابل المجازاة، فليست بنقص، فهو مكر بمعنى المجازاة لهم بحق على عملهم الذي استحقوه، وهو من باب العدل، لكن هم جعلوا هذا مثل ذاك، فجعلوا النقص الخالص مثل العبارة التي قد تُشعر بالنقص إذا جاءت في سياق، لكنها في سياق آخر لا تدل على النقص، وإنما تدل على الكمال، فهم خلطوا بين هذا وذاك. ولذلك إلى الآن غير هؤلاء المتكلمين، وخاصة هؤلاء الذين بدءوا يرفعون رأس التصوف، أو راية التصوف، ومن رءوس البدع الجدد بدءوا الآن يوهمون الناس أن أهل السنة والجماعة مجسّمة ومشبّهة، ويقولون: إنهم أخذوا التجسيم والتشبيه عن اليهود، وصدرت في هذا كتب، ويزعمون أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي امتداد لعقيدة اليهود، ويقولون: إن أهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل اليد والعين والحزن والبكاء، وهذا قد قالوه قبل مائتي سنة، وذلك حين حشدوا جيوشهم ضد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وسلّطوا ألسنتهم وأقلامهم فقالوا هذا الكلام، ونسبوا إلى السنة ما لا يقولون به؛ لأنهم لما قيل لعقلائهم: لماذا قلتم هذا؟! قالوا: من باب الإلزام، فما دمت تثبت اليد والوجه فيلزمك أن تثبت ما عداها من الأعضاء والجوارح! بينما أهل السنة لم يقولوا بذلك، ولما قيل لهم: لماذا اتهمتم أهل السنة بذلك؟ قالوا: لأنهم يثبتون اليد، واليد جارحة وعضو، وهذا يشتبه على كثير من السامعين الذين ليس لديهم فقه في العقيدة، والذين لم يتشربوا العقيدة، فيظنون أن شبهتهم صحيحة، مع أنهم لو عرفوا العقيدة لفرقوا بين هذا وذاك، إذ إن إثبات ما أثبته الله لنفسه على وجه الكمال، لا يعني إثبات ما قرروه هم بهذه الأشياء المثبتة، فهم جعلوا مع إثبات الوجه واليد إثبات جوارح أخرى لم يثبتها السلف ولم يقولوا بها، وإنما قالوا ذلك باللازم، ولازم المذهب ليس بلازم، ومثل ذلك الكلام عن الحزن والبكاء، فلما نفوا الحزن والبكاء -وهو لا يليق بالله عز وجل- نفوا ما يرون أنه مثله من الرحمة أو الغضب وغير ذلك من الصفات التي يظنون أنها من شاكلة الحزن والبكاء، فخلطوا بين الحق والباطل، ولبّسوا الحق بالباطل، فأراد الشيخ هنا أن يبيّن وجه الخطأ عندهم، ووجه الباطل الذي التزموه، أو أرادوا أن يلزموا به أهل الحق بغير حق. قال رحمه الله تعالى: [فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع. وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه]. يقول: إن أهل الكلام الذين لم ينفوا الأسماء وأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها، إذا استعملوا هذه الطريقة ألزمهم الذين هم أشد غلواً في النفي، وهم الملاحدة من الجهمية وغلاة المعتزلة الذين ينفون الأسماء والصفات أو ينفون الصفات، فسماهم ملاحدة، لا لأنهم ملاحدة بأعيانهم، لكن لأن منهجهم هو منهج الملاحدة؛ لأن الملاحدة هم الذين ينفون النفي المطلق، فيقول: استظهروا عليهم، بمعنى: انتصروا عليهم، وقالوا: أنتم إذا كنتم تقولون هذا فمعنى ذلك: أن الأسماء والصفات التي تصفون بها الله ينطبق عليها هذا الكلام، فأهل الكلام عندما قالوا: ننفي اليد والوجه والاستواء والنزول؛ لأنها لا تليق بجلال الله عز وجل، لكن نثبت السمع والبصر، قال لهم المعتزلة نفاة الصفات: ما أثبتم فيما أثبتموه مثل ما نفيتموه، فوجه التجسيم والتشيبه كما أنه موجود في اليد والعين موجود في السمع والبصر، وعليه فيلزمكم أن تنفوا الجميع، ثم جاءت الجهمية للمعتزلة فقالوا: ما دمتم أنكم تثبتون الأ

الوجه الأول لفساد مسالك المعطلة والرد عليه

الوجه الأول لفساد مسالك المعطلة والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوه: أحدها: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم]. فمثلاً: الأكل والشرب والحزن والبكاء هذه يردها العاقل بدون أن نقول: إنه تجسيم، ولا ننفيها عن الله لمجرد أنها تجسيم، بل ننفيها عن الله لأنها غير لائقة أصلاً بحد ذاتها، لذا ليس هناك داع لأن نضيفها إلى مبدأ آخر، ونتكلف ونجر أذهان الناس إلى شيء مشتبه، وأكثر الناس قد لا يفهم؛ لأننا لو قلنا: إن الكثير من الناس غير متخصصين، أننا ننفي هذا؛ لأنه تجسيم، لم يفهم ما معنى تجسيم، لكن لو قلنا: ننفي هذه النقائص لأنها غير لائقة بالله، سيفهم كل إنسان ذلك؛ لأنه يشعر بأن هذه غير لائقة بالله، لا لأنها تجسيم، وإن كانت تشعر بالتجسيم، مع أن كلمة (التجسيم) كلمة مشتبهة. إذاً: ليس السبب في نفيها هو مجرد أنها تشعر بالتجسيم فقط، بل تنفى هذه النقائص عن الله عز وجل لأنها نقائص خالصة لا تُشعر بكمال مطلقاً. قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام]. يعني: أن الذي يمثّل الله بالخلق تمثيلاً جزئياً أو كلياً، أو يمثل الخلق بالله تمثيلاً جزئياً أو كلياً، فهو كافر بالإجماع. قال رحمه الله تعالى: [والدليل معرِّف للمدلول ومبيّن له، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود]. ولذلك التكلّف في إثبات البدهيات يسبب الشك والاضطراب في القلوب والعقول، ولذا من البدهي أن الله عز وجل لا يليق به أن يوصف بهذه الصفات؛ لأنها صفات نقص، فلا يحتاج أن نذهب لنأتي بأدلة ملتوية لنثبت أنها نقص؛ لأنها بالفطرة معروفة، وكذلك إثبات الكمال لله عز وجل لا يحتاج إلى تكلف كبير؛ لأنه فطري وبدهي، ولذلك لما تكلم السلف في هذه الأمور، وتكلموا في المسلك الكلامي في إثبات الحقائق، قال السلف: إن المسلك الكلامي في إثبات الحقائق يؤدي إلى الشك قبل أن يؤدي إلى اليقين، فيوقع الناس في ريب؛ لأن ثبوت الحقائق مبني على العقل السليم والفطرة المستقيمة، وأننا كلما تكلفنا في أدلة خارجية لإثبات البدهيات أوجد الشك أكثر مما يوجد اليقين، ولذلك لما قال أحد تلاميذ الرازي لما سألته امرأة عن هذا من هو؟ قال: هذا فلان بن فلان، ووضع عليه من الصفات والتبجيل الشيء الكثير، ثم قال لها: هذا شيخنا الرازي الذي يملك ألف دليل على وجود الله، فضحكت وقالت: تعس والله وخسر، أفي الله شك؟! إذاً: عنده ألف شك؛ لأننا لا نحتاج إلى أن نأتي بألف دليل على وجود الله، ولذلك التكلف في هذه الأمور يوجب الريب والشك، فعلى سبيل المثال: لو أنك في الصحراء مع مجموعة من الناس، والشمس طالعة، ثم قلت لهم: أرى الشمس طالعة، فيردون عليك: نعم لا شك أنها طالعة، لكن لو قلت لهم: أثبتوا لي أنها طالعة، فكيف سيكون الموقف؟! لاشك أنهم سيقولون لك: إن في عقلك خللاً، وإن كان هزلاً؛ لأن هذا ليس فيه مجال حتى ولو للهزل، فالأمر لا يحتاج إلى أن نبرهن على أن الشمس طالعة؛ لأن وجودها يبهر العيون.

الوجه الثاني لفساد مسالك المعطلة والرد عليه

الوجه الثاني لفساد مسالك المعطلة والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيّز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحداً، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد].

الوجه الثالث لفساد مسالك المعطلة والرد عليه

الوجه الثالث لفساد مسالك المعطلة والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة]. يعني: أن نفي صفات الكمال هذه أيضاً متفاوتة بينهم، فالجهمية ينفون كل صفات الكمال بدعوى أنها تقتضي التجسيم، والمعتزلة ينفون الصفات بدعوى أنها تقتضي التجسيم، فالذي عنده نفي جزئي، أو نفي كلي كلهم قاعدتهم واحدة وتهدم أصولهم وعقائدهم؛ لأنهم ينفون صفات الكمال بدعوى أنها تجسيم، وكل واحد منهم يقول للآخر: أنت جسمت فيما أثبت، حتى لا يبقى إثبات؛ لأن كلمة (التجسيم) كلمة وهمية. إذاً: كيف يقولون: إن إثبات صفات الكمال في حق الله تجسيم؟! الله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن توهمهم بمختلف طبقاتهم أن الإثبات تجسيم، سواء من ينفي نفياً جزئياً، أو ينفي نفياً كلياً، مع أن التجسيم ما هو إلا وهم وخيال في رءوسهم لا حقيقة له، ومن هنا وقعوا في هذه المعضلات.

الوجه الرابع لفساد مسالك المعطلة والرد عليه

الوجه الرابع لفساد مسالك المعطلة والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي]. إن أهل السنة -بحمد الله- يلزمونهم جميعاً بالحق.

بيان تناقض نفاة الصفات أو بعضها

بيان تناقض نفاة الصفات أو بعضها قال رحمه الله تعالى: [فمثبتة الصفات كالحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر]. هؤلاء متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون هذه الصفات، بل وبعضهم قد يزيد، وهذا دليل الخذلان في مثل هذه الأمور، أعني: خذلان المنهج لا الأفراد، فالأفراد قد يكون فيهم من عنده اجتهاد يؤجر عليه، لكنه أخطأ، لكن خذلان المنهج يعني: اضطراب المنهج، ففي الوقت الذي يثبتون فيه هذه السبع الصفات مثل: الماتريدية وينفون ما ثبت من الصفات الأخرى في القرآن والسنة، أتوا بصفة من عندهم اسمها (التكوين)، فصارت ثماني صفات، فنقول لهم: من أين أتيتم بهذه الصفة؟! فأنتم الآن نفيتم ما ثبت لله عز وجل، وأتيتم لنا بصفة لا أصل لها، ولذلك الماتريدية يثبتون ثماني صفات، والأشاعرة يثبتون سبع صفات، وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، وقد جاء في بعض المقابلات التلفزيونية التي أشكلت على كثير من طلاب العلم في الآونة الأخيرة، من أن بعض المشايخ يقول: إن الأشاعرة يثبتون عشرين صفة أو أكثر، وحتى الماتريدية يتفاوتون، فمنهم من يثبت أكثر من ثمان، فيثبت ثلاث عشرة صفة، أو عشرين، أو اثنتين وعشرين، ومنهم من يثبت عموم الصفات وهو من الأشاعرة الماتريدية، لكن يتأول بعضها، وخاصة الصفات الفعلية، لذا فالكلام إنما هو على المنهج العام لا على حال الأفراد أو بعض المدارس أو الاتجاهات، فليس كل الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات، وليس كل الماتريدية لا يثبتون إلا هذه الصفات. قال رحمه الله تعالى: [فمثبتة الصفات كالحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، أو لأنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً. قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن. وقالوا لهم: أنتم أثبتم حياً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل]. إن غالب من يقعون في هذه الأمور المعضلة هم أناس يظنون أن هذا من تعظيم الله عز وجل وتنزيهه، فعوّلوا على عقولهم وتشرّبوا مذاهب الفلاسفة، وظنوا أن فيها شيئاً من أصول التنزيه، واغتروا بذكائهم فوقعوا فيما وقعوا فيه، ولو سلّموا لله عز وجل، وسلّموا لكتابه، ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزموا سبيل المؤمنين، وفوّضوا علم ما لم يعلموه إلى عالمه سبحانه، وهذا ما يجب أن يكون عند الوقوع في مثل هذه المعضلات، لكان خيراً لهم، لذا فكيف يجرؤ إنسان أن يقول: إن الله حي بلا حياة، أو عليم بلا علم، أو سميع بلا سمع، أو قدير بلا قدرة؟! فهو كمن بنى ثم هدم ما بنى، ولذلك الشيخ يناقشهم أحياناً بالبدهيات فيقول: هذا تناقض يُعلم بضرورة العقل، فلا يُعقل أن يكون عليماً بلا علم، لكن الحاصل أنهم التزموها لأنهم إذا أثبتوا العلم أثبتوا تعدد الصفات، وإثبات الصفة وتعدد الصفات لابد أن يكون دليلاً على موصوف له وجود حقيقي ذاتي، لكنهم يهربون من الوجود الحقيقي الذاتي، فيثبتون معاني فقط، لكن إذا انتقلت هذه المعاني إلى صفات، فلابد أن تكون الصفات دليلاً على موصوف، والأفعال لا بد أن تكون خارجة من فاعل، وهذا يدل على ثبوت وجود حقيقي ذاتي لله عز وجل، لكن ما ذكرت فهم يهربون من ذلك، وسبق أن ذكرت أن معضلة هؤلاء كلهم ابتداء من الفلاسفة، ثم من دونهم من المتكلمين، ثم من دونهم ممن وقع في التأويل: أنهم لا يثبتون لله وجوداً حقيقياً ذاتياً، فيرون وجود الله وجوداً معنوياً اعتبارياً، ولذلك قالوا: الاستواء هو الاستيلاء، والنزول هو نزول الرحمة، وفي سائر الصفات وخاصة الفعلية اضطروا للتأويل، فقالوا: العلو علو القدر؛ لأنهم إذا قالوا: علو ذاتي، لزمهم أن يثبتوا الاستواء، ولزمهم أن يثبتوا لله وجوداً يستحق به العلو الذاتي، فهم لا يريدون أن يثبتوا لله في أذهانهم ولا في عقائدهم، وهذا نزعة فلسفية، فالفلاسفة كلهم على مختلف مناهجهم يمكن أن نجمع مذهبهم وفلسفتهم في وجود الله على أن وجود الله مجرد وجود معنوي، أو وجود قوة تسيّر الكون، وهذه القوة قوة معنوية ليست ذاتية، فلذلك صرفوا عنه الأسماء والصفات، أو صرفوا عنه الصفات، أو صرفوا عنه الصفات الفعلية، وكل أخذ من هذا الباطل بقدر، ولذلك الذي لا يعتقد لله وجوداً ذاتياً لا يستطيع أن يثبت الاستواء ولا العلو ولا النزول ولا المجيء، ولا أن يثبت بقية الصفات الفعلية؛ كالكلام وغيره؛ لأنه لا يرى أن لله وجوداً ذاتياً، ومن هنا نجد كما ذكر علماء السلف، بل ووجدنا هذا في الدروس المعاصرة، أن الذين تشرّبوا هذه العقيدة وفقهوها -وهم قلة- لا يطيق سماع الأحاديث التي تُثبت الصفات، بل قد يخرج من الدرس ويكاد أن يمزّق ثيابه؛ لأنه يظن أن هذا تجسيم، لذا فهؤلاء خلطوا بين هذا وذاك، ونحن نقول: الله عز وجل له وجود يليق بجلاله، وليس وجوده الذاتي يعني ضرورة التجسيم أو التشبيه

شرح العقيدة التدمرية [20]

شرح العقيدة التدمرية [20] طرق إثبات أسماء الله وصفاته هي الطرق الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، وما تضمنته من قواعد وأصول شرعية وعقلية، والطرق العقلية هي التي توافق قواعد الشرع، وقد تكون غير واردة في الكتاب والسنة على جهة التفصيل، لكنها صحيحة في السبر والاستقراء وفي التمعن والتدبر، وفي صريح العقل السليم والفطرة السليمة، كل ذلك على جهة الإجمال.

تلخيص موجز لفصل جديد في طرق الإثبات

تلخيص موجز لفصل جديد في طرق الإثبات سننتقل إلى فصل جديد في طرق الإثبات، وسنأخذه على سبيل الإيجاز والتلخيص، والفصل فيه قواعد وأصول وتفصيلات لهذه الأصول، ولا يهمنا التفصيلات والأمثلة؛ لأن فيها نوعاً من الصعوبة الذي قد يتسبب في تشويش الفهم. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام لم يكتب لطلاب العلم وأهل السنة فقط، بل كتب لصنفين: للمتكلمين، ولمن تأثر من طلاب العلم بمذاهب المتكلمين في أسماء الله وصفاته، أما عامة طلاب العلم فهذا لا يصلح لهم، وليسوا بحاجة إليه، إلا القواعد العامة كما ذكرت. وفي هذا الفصل لا نحتاج إلى أن نقرأ، وإنما نحتاج إلى أنكم تتبعون معي القواعد في مظانها، ثم نتجاوز جزءاً كبيراً من الفصل. والشيخ رحمه الله تعالى هنا يتكلم عن الطرق المشروعة وغير المشروعة في مسألة إثبات أسماء الله وصفاته وأفعاله، والنفي كذلك، لكن هنا ركّز على الإثبات، وسيأتي كلامه على النفي فيما بعد. فيقول: إن طرق إثبات أسماء الله وصفاته هي الطرق الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، وما تضمنته من قواعد وأصول شرعية وعقلية، ثم الطرق العقلية التي توافق البراهين القرآنية، والتي جاءت بتثبيت الطريقة الشرعية. وإثبات الأسماء والصفات لله عز وجل أولاً: يعتمد على السمع، أي: على الوحي، والوحي له في الإثبات طريقتان: الطريقة الأولى: إثبات تفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله ومفرداته، مثل: العلم، والحكمة، والإرادة ونحو ذلك. الطريقة الثانية: إثبات قواعد أو أصول الكمال لله عز وجل التي تتضمن الأسماء والصفات والأفعال. والثاني: هي الطرق العقلية التي يقول بها العقلاء، والتي توافق قواعد الشرع، فقد تكون غير واردة في الكتاب والسنة، لكنها صحيحة في السبر والاستقراء، وفي التمعن والتدبر، وفي صريح العقل السليم والفطرة، إذ هي أصول يستدل بها عقلاء الناس على إثبات الكمال لله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله على جهة الإجمال، وفي بعض التفاصيل، وليس كل التفاصيل؛ لأن العقول لا سبيل لها في إدراك التفاصيل بأسماء الله وصفاته في كل الأمور، فالعقول السليمة تُدرك الإجماليات، وبعض الأمثلة على التفاصيل التي توافق الشرع، فهذا ما أراد أن يقوله الشيخ في أول هذا الفصل.

خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه فيما يثبت

خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه فيما يثبت يقول رحمه الله تعالى: [وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه]. يشير الشيخ هنا إلى طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، أو حتى المنتسبين لأهل السنة الذين يثبتون -بزعمهم- كل صفة ترد مع نفي التشبيه، حتى بما لا يليق، ولذلك تكلموا في الأعضاء والأفعال غير اللائقة بحق الله، فقالوا: نثبتها، مع أنها لم ترد في الكتاب والسنة، بل إن العقول السليمة تنفر منها، لكن قالوا: نثبتها من غير تشبيه، وصاروا يثبتون كل شيء من غير تشبيه، ويظنون أن كلمة (من غير تشبيه) تنفي النقص عن الله، وهذا غير مسلّم لهم، فالفريقان كل منهما نقول له: مجرد نفي التشبيه لا يجوز، سواء من الجهمية والمعطّلة الذين أثبتوا بعض الأسماء والصفات، وقالوا: من غير تشبيه، وزعموا بذلك أنهم يريدون نفي حقيقة الصفة، أو يدخلون تحت هذا نفي حقيقة الصفة، أو الذين بالغوا في الإثبات، من المشبّهة ومن بعض جهلة أهل السنة، والذين أثبتوا ما لا يليق بحق الله عز وجل في الاستواء والأعضاء وغيرها، يعني: أنهم ذكروا لوازم الاستواء، وقالوا: نُثبت ذلك من غير تشبيه، والشيخ يقول لهم: إن هذا خطأ، بل نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه، إذ لا مانع من ذلك، لكن أيضاً هذا الإثبات إذا أخرجناه عن نصوص الكتاب والسنة فلا نُثبت إلا ما يقتضي الكمال، ونقول: صحيح أن من الكمالات ما نعبّر عنه بألسنتنا، ولم يرد في الكتاب والسنة، لكنه كمال لا غبار عليه، فهذا يُثبت لله عز وجل. أما تفصيلات الأسماء والصفات والأفعال فلا تُثبت على وجه يشعر بالنقص لله عز وجل، إلا ما ثبت في الكتاب والسنة، ولذلك الشيخ ضرب أمثلة: بالبكاء والحزن والجوع والعطش، وبعضهم حينما ذكر حديث: (جعت يا عبدي فلم تطعمني) فتعالى الله عن أن يثبت ذلك على هذا النحو، مع أن مثل هذا السياق جاء صراحة من غير تأويل، وذلك تعبيراً عن حاجة عباده الذين يحتاجون إلى إطعام، وهذا واضح من السياق، ومثله: حديث الهرولة، فالصحيح والراجح أنه لا يُقال: هرولة من غير تشبيه، فحديث الهرولة مرتبط بأفعال العباد، ولذلك تفسيره ليس غيبياً، فلا يجوز أن يقول قائل: نثبت الهرولة من غير تشبيه، ولا يقال: الله أعلم بمراده، بل نثبت اللازم الظاهر من النص، ولا يعد هذا من التأويل؛ لأن التأويل يتعلق بالغيب البحت، أما أمر مربوط بعالم الشهادة، أو مربوط بمجازاة العباد ربطاً مباشراً من غير تأويل ولا مجاز ولا استعارة ولا نحو ذلك، فهذا تفسيره يعتبر حقيقياً للنص، فهو تعبير عن مجازاة العبد؛ لأنا نعلم أن الإنسان لا يعبد الله بالمشي ليجازى بالهرولة، وليس المشي في حد ذاته عبادة، وإنما من أتاني ماشياً، أي: سائراً على ما شرع الله من العبادات والواجبات والفرائض فإن الله يجازيه بأعظم مما فعل، فعُبِّر عن هذا بالمشي، وعُبِّر عن تلك بالهرولة، وهذا نص فريد من نوعه، ومثله: حديث الملل عند بعض أهل العلم، وكذلك نصوص أخرى جاءت بسياق عالم الشهادة، وجاءت في سياق المجازاة، وليست غيبية خالصة. أما بقية النصوص الأخرى فتُعلّق بأفعال الله عز وجل وصفاته؛ لأنها غيبية خالصة، ويقال فيها: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير تمثيل، ونقول: على ما يليق بجلال الله عز وجل، مع وجوب معرفتنا بأنها حقيقة؛ لأن الله عز وجل لم يتكلم إلا بالحق، ولا يُخبر إلا بالحق. ثم ذكر أيضاً الضحك والفرح والحزن في أشياء ثبتت فيها النصوص، ولا يقال: الجوع مثل الضحك، أو العطش مثل الضحك، أو البكاء مثل الضحك، فالضحك أمر غيبي بحت، ويُثبت على ما يليق بجلال الله عز وجل، لكن ما لم يرد لا بد أن يخضع للقاعدة الأخرى.

خطأ الاعتماد في النفي على عدم مجيء السمع

خطأ الاعتماد في النفي على عدم مجيء السمع قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع - يعني: الوحي- أثبته دون ما لم يجئ به السمع]. هذه أيضاً قاعدة ناقصة؛ لأن من الكمالات التي تثبتها الفطرة السليمة والعقول لله عز وجل ما لم يرد به السمع على جهة التفصيل، فهذا على جهة الإجمال يُثبت لله عز وجل، فالسمع لا شك أنه خبر صادق، وهو جاء بالنفي والإثبات، وأيضاً الخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، بمعنى: أنه إذا لم يأت خبر في كمال من الكمالات لا يعني أنه لا يثبت ذلك الكمال لله، فالله عز وجل ما ذكر لنا جميع كمالاته، وإنما ذكر نماذج منها، حتى إنه في حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)، لا تعني الحصر، بل هناك أدلة قاطعة تدل على أن لله عز وجل من الكمال والأسماء والصفات والمحامد ما لم يرد في الكتاب والسنة، كما جاء في حديث الشفاعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأدعو الله بمحامد يلهمني الله إياها)، يعني: بكمالات، ليحمد الله بها في ذلك اليوم العظيم، فهذا دليل على أن الكمال لله عز وجل ليس محصوراً بما ورد في الكتاب والسنة، بل كمال الله لا يحصر، ولذلك قد تدرك العقول السليمة أن كمال الله لا حد له، ولا يُحد بمفردات قد وردت في الشرع، بل ما ورد في الكتاب والسنة هي نماذج من كمال الله، مما يحتاجه البشر وتستوعبه أذهانهم. إذاً: الاعتماد في النفي على كون الشيء لم يرد به السمع خطأ، بل كما يجب إثبات كل كمال الله عز وجل كذلك يجب نفي كل ما ينافي الكمال لله عز وجل، حتى لو لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، والإثبات من جانب أوسع من النفي، والنفي من جانب أوسع من الإثبات، فإذا نظرنا إلى مفردات الصفات والأسماء والأفعال نجدها في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد فنجد النفي أكثر، مثل قاعدة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فهذه أوسع؛ لأنها تنفي كل نقص، وهذا الذي جعل بعض الناس تشتبه عليه عبارة بعض السلف حينما قالوا: إن القرآن جاء بإثبات مجمل ونفي مفصّل. وفي عبارة أخرى: إن الشرع جاء بإثبات المفصّل ونفي المجمل. فإذا نظرنا إلى مفردات الأسماء والصفات والأفعال نجد التفصيل في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد نجد التفصيل في النفي أكثر؛ لأنه رد على مقالات أمم الكفر الباطلة التي قالت في الله عز وجل قولاً عظيماً، وقولاً شنيعاً، فجاء رد أقوالهم بقواعد دون التعريج على الأمثلة؛ لأن الأمثلة لا يحتاجها الناس، أي: أن صاحب العقل السليم والفطرة المستقيمة يكفيه أن تُعرض عليه قواعد نفي النقص عن الله عز وجل، بل إنه من غير اللائق أن يبالغ الإنسان في النفي، فالله عز وجل يُثبت له الكمال وتُنفى عنه النقائص، فيُثبت له الكمال جملة وتفصيلاً، وتُنفى عنه النقائص على جهة الإجمال، إلا إذا جاء لتفصيل موجب، كأن يتكلم متكلم بكلام غير لائق، فيرد عليه بمثل كلامه، وإلا فالأولى أن الإنسان لا يكثر من الأمثلة في نفي النقائص عن الله عز وجل، ولذلك تجدون مثل العبارات التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية من نفي البكاء والعطش والأعضاء، لا يأتي بها إلا عندما تأتي قواعد الرد فقط، وعند الرد على أناس خاضوا في هذه الأمور وابتلوا بها، ولذلك نصيحتي لكل طالب علم متخصص في العقيدة ألا يُعرّض الناس في الدروس لمثل هذه الأمور بدون موجب ضروري، كأن تكون مقتضى الدرس الذي يدرسه، أو أتت على لسان أحد، ومن هنا يفصّل من أجل نفي الشبهة، أما أن يكون تقريراً أمام عامة الناس، أو أمام عامة طلاب العلم، أو حتى طلاب العلم المبتدئين في العقيدة، فالأولى والأجدر أن يتحاشى التفصيلات في نفي النقائص؛ لأن ذكرها سوء أدب مع الله عز وجل.

السمع والعقل يثبتان لله صفات الكمال وينفيان عنه كل ما يضاد ذلك

السمع والعقل يثبتان لله صفات الكمال وينفيان عنه كل ما يضاد ذلك بقية كلام المصنف هو تقرير لهذا، ولذلك قال بعدها رحمه الله تعالى: [فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر]. هذه قاعدة عظيمة جامعة. يعني: أن السمع والعقل السليم جاء بإثبات صفات الكمال لله عز وجل، وأيضاً السمع والعقل السليم والفطرة المستقيمة أتيا بنفي النقص بقاعدتين: الأولى: ما يضاد الكمال لله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، فهذا ينفى عن الله عز وجل. الثانية: نفي أن يكون لله كفء ونظير وند مطلقاً. فهاتان القاعدتان تلتقي فيهما جميع قواعد نفي النقائص عن الله عز وجل. ثم ذكر الشيخ الرد على القرامطة، هؤلاء الذين يعيشون في وساوس وأوهام وأمراض.

قاعدة: كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به

قاعدة: كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به]. هذه قاعدة جديدة متفرعة عن القواعد السابقة، إذ إن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، لكن على نحو مختلف، فالكمال الذي ثبت للمخلوق كمال نسبي محدود يعتريه الضعف والنقص والفناء والخلل، بينما الله عز وجل له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص. هذه القاعدة تنطبق على ما يسمى بالمفردات والجزئيات، فإذا قلنا: إن الله عز وجل ثبت له العلم، ومن البشر من أعطاه الله علماً على وجه الكمال بين البشر، إذ إن أكمل الناس علماً هم الأنبياء، وأكمل الأنبياء علماً هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فعلمه محدود؛ لأن الله لم يطلعه من العلم إلا على الشيء اليسير، بعكس ما تدعيه أصحاب الطرق والفرق والأهواء، فليس عنده من علم الله إلا ما علّمه الله إياه، ولم يطّلع من أمر الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فإذاً علمه محدود، مع أنه يُقال فيه: أكمل الخلق علماً. إذاً: هذا العلم يُثبت لله على صفة الكمال، ويُثبت للمخلوقين على صفة يناسبهم، وكذلك الحكمة والإرادة وغيرها، إذ هي كمالات، والله عز وجل يُكمل بها بعض خلقه، لكنه كمال نسبي، أما الكمال المطلق في جميع هذه الأمور وغيرها فهو لله سبحانه.

قاعدة: كل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك

قاعدة: كل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك قال رحمه الله تعالى: [وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك] سواء ورد بالسمع -أعني: بالوحي- أو لم يرد؛ لأن الناس يحدثون من المقالات ومن الأوهام ومن الخيالات ومن الألفاظ ما لم يرد في الكتاب والسنة، لكن قواعد رد الباطل موجودة في الكتاب والسنة، مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] فهذه قواعد حاكمة لا يُفلت منها أي تصور إدراك مطرد عن البشر، فكلها ترد إلى هذه القواعد. قال رحمه الله تعالى: [والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب] كما ذكر المحقق هنا: أنه أخرج الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك، فأنزل الله تبارك وتعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]). لا يعني النسب هنا: نسب التوارث، وإنما هو التعريف بالرب عز وجل، ووصفه عز وجل. ثم بعد ذلك تكلم عن تفصيلات وأمثلة لسنا بحاجة إليها، بل الأولى ألا نتعمّق في مثل هذه الأمور؛ لأن الشيخ رد بها على أناس ابتلوا بالوساوس والأوهام، وزبالات أفكار الفلاسفة وخيالاتهم.

نتيجة القاعدة السادسة

نتيجة القاعدة السادسة قبل القاعدة السابعة قال رحمه الله تعالى: [وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له - أي: لله عز وجل - ولا ما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع]. على هذا التفصيل يشير الشيخ إلى مواضع أخرى، مثل: كتابه (درء التعارض) فقد فصّل فيه الشيخ هذه المسألة في مئات الصفحات، وكذلك كتاب: (منهاج السنة) بشكل أقل، وأيضاً في مواضع أخرى، كرسائل مفردة في الفتاوى، وسيأتي قراءة بعضها. يقول رحمه الله تعالى: [وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه]. أي: جوامع تقرير هذه الأمور بالأصول الشرعية وبالنصوص، وتقرير هذه الأمور بالقواعد العقلية السليمة، وقواعد الفطرة نفياً وإثباتاً. ثم قال رحمه الله تعالى: [وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه]. قوله: (ولم يكن في العقل) يقصد بذلك: العقل السليم، وإلا فكل صاحب عقل مخلّط يستطيع أن يقول: إن عقله يقول ويقول. قال رحمه الله تعالى: [ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم]. إذاً: هذه قاعدة عظيمة وسليمة، من التزمها سلم دينه وسلمت عقيدته.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى الأحاديث التي أتت بربط أفعال الله بأفعال العباد

بيان معنى الأحاديث التي أتت بربط أفعال الله بأفعال العباد Q ما ذكرته حول حديث: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) نريد مزيد بيان وتوضيح، وهل هناك قاعدة تضبط بها مثل هذه النصوص؟ A الأحاديث التي جاءت بربط أفعال الله بأفعال العباد، سواء على سبيل المجازاة أو المشاكلة أو نحو ذلك، تعتبر مفسّرة بنصها، ولا يجوز في غالبها أن نثبت منها صفات؛ لأنها قد جاءت على وجه فُسِّر بها النص، وضربت في هذا بمثال الهرولة والملل، قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الله لا يمل حتى تملوا) فليس المقصود بالملل عند الله الملل الذي عند البشر، فالملل عند البشر صفة نقص، لكن الملل هنا جاء على سبيل المجازاة، وهذه القاعدة لا تُحكم بها الصفات الغيبية البحتة الأخرى؛ لأنها تخرجها عن الحقائق، بينما هذه التي وردت في سياق المجازاة حقيقتها يفهمها كل عاقل، حتى العامي يفهم أن قوله عز وجل: (من أتاني يمشي أتيته هرولة) أنها حث على الطاعة، وليست متعلقة بإثبات الصفة، وإنما متعلقة بإثبات الجزاء؛ لأنها ربطت بالمخلوق، وكذلك ما يتعلق بنسبة بعض الأشياء إلى الله، كنسبة البيت إلى الله عز وجل، ونسبة الناقة، فلا يعني أن نقول: نصف الله عز وجل بهذه الصفات؛ لأنها جاءت على سبيل التكريم والتشريف، وفسّرناه بهذا التفسير لأنها رُبطت بعالم الشهادة، فبيت الله إذا كان المقصود به الكعبة عرفنا ما معنى كونه بيت الله، وكذلك الناقة أيضاً، فقد قيل لها ناقة الله؛ لأن الله عز وجل جعلها محل امتحان واختبار لأولئك القوم، وأعطاها مميزات وخصائص، فكرّمها وميّزها، فجاء الاختصاص على سبيل التشريف والتكريم.

الشفاعة العظمى وبيان وقتها

الشفاعة العظمى وبيان وقتها Q ما هو دعاء الشفاعة؟ ومتى وقته؟ A حديث الشفاعة الكبرى والعظمى حديث طويل، وقد ذكر فيه عليه الصلاة والسلام ما يحدث للأمم يوم القيامة من القيام الطويل تحت الشمس، وأنهم يستشفعون بمن يشفع لهم أمام الله عز وجل لفصل القضاء بينهم، وأنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، حتى يمروا بأولي العزم جميعاً، فيكون آخرهم عيسى عليه السلام، فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، فيأتي تحت العرش فيسجد طويلاً ويدعو الله بمحامد يلهمه إياها في ذلك الموقف العظيم، وأيضاً يدل عليه دلالة أوضح قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في العلم غيب عندك)، أي: أن من أسماء الله المستأثرة به ما تكون في علم الغيب، وليس كل ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته تعتبر حصراً لها، بل إن أسماء الله عز وجل لا حصر لها من حيث الكمال والعدل.

شرح العقيدة التدمرية [21]

شرح العقيدة التدمرية [21] العقل نعمة كبرى من الله عز وجل، وهو مناط التكليف، وهو دليل ووسيلة في فهم الوحي والإيمان به، لكن العقل لا يقرر الدين على جهة التفصيل استقلالاً، وإنما يدرك المجملات، والمجملات تتفاوت فيها العقول أيضاً، فهذا يدل على فساد من حكم عقله في الشرع وجعله حاكماً عليه.

ملخص تتمة القاعدة السادسة في الإثبات

ملخص تتمة القاعدة السادسة في الإثبات فلا زلنا في القاعدة السادسة من قواعد الصفات في التدمرية ضمن المجلد الثالث من الفتاوى، وقد وصلنا إلى آخر القاعدة، ولذا فأقول: ليس هناك داع لأن نقرأ بعض كلام المصنف؛ لأنه عبارة عن ردود على أناس ابتلوا -ونحن بحمد الله في عافية من هذا الأمر- بمناهج المتكلمين أصالة أو تبعاً، فلذلك نختصر الموضوع. وهو رحمه الله قد قرر أن السمع والعقل يُثبتان لله عز وجل صفات الكمال، وينفيان عنه ما يضاد صفات الكمال، وينفيان أن يكون له كفء أو مثل، وقد سبق تقرير هذا، ثم في آخر الكلام ذكر النصوص، وقال في موضع من نهاية القاعدة السادسة: [وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به]. وهذه قاعدة عظيمة، لكنها أيضاً قاعدة إجمالية، وتفصيلها ما سبق وما سيلحق أيضاً. ثم قال: [وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2]]. هذا تقرير الصمدية التي تنفي حالة النقص من الحاجة للأكل والشرب، أو أن له جوفاً؛ لأن الصمد وصف كمال يدل على الغنى الكامل وعدم الحاجة. ثم قال رحمه الله تعالى: [والصمد الذي تصمد إليه الخلائق، والذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب]، وقال: [وهذه السورة هي نسب الرحمن] أي: صفته، وقد سبق أن قررنا هذا. ثم ذكر أمثلة على ما لا يليق بالله عز وجل، وهي أمثلة في الحقيقة توحش إيرادها؛ لأنه من غير اللائق أن تقال، لكن الشيخ أراد الرد على أناس ابتلوا بهذه الوساوس والأوهام، لا على أصحاب الفطرة السليمة، أو شباب أهل السنة، ولذلك من الحكمة وأظنه من المناسب أن نتجاوز هذا إلى القاعدة السابعة.

القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع

القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبيّن ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بيّن من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بيّن أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه]. قوله: (إن كثيراً مما دل عليه السمع يُعلم بالعقل أيضاً). هذه مسألة في الحقيقة مهمة جداً، وهي عبارة مقصودة، وتقريرها يعتبر من الفوارق بين أهل السنة وبين كثير من أهل الأهواء، وهو أنه ليس كل ما دل عليه السمع يُعلم بالعقل، فأهل الأهواء وأهل الكلام خاصة قد يفرحون بمثل هذه العبارة، لكن حينما يقول: إن كثيراً. فهذا يعني: أنه ليس الكل، بل هناك من تفاصيل الكمال لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ما جاء ذكره في القرآن وصحيح السنة لا يمكن أن يتوصل إليه العقل، ولا ينفرد بمعرفته، كالاستواء على العرش، فلا يمكن أن يقرره العقل على النحو الذي جاء في القرآن والسنة، وكذلك النزول والمجيء، وكثيراً من الصفات الذاتية، كاليد والوجه والعين وغيرها، فهذه كلها لا يتوصل إليها بالعقل، فالعقل يُدرك العلم، والإرادة، والحكمة، وقد يُدرك ما يدل عليه السمع على جهة الإجمال، لكن هل العقل بذاته يُدرك ما دل عليه السمع أو يرده إلى العلم لو لم يرد به النص؟ مع ذلك نقول: إن كثيراً مما دل عليه الوحي -القرآن والسنة- يُعلم بالعقل أيضاً، لكن ليس كله. والأمر الآخر: أنها على جهة الإجمال لا على جهة التفصيل، يعني: أن العقل يُدرك عموم علم الله عز وجل وقدرته ومشيئته، لكن مسألة الكتابة في أقدار الله هذه لا يدركها العقل، نعم هي جزء من العلم، فكون الله عز وجل كتب مقادير كل شيء هذا داخل في عموم العلم، وهو المرتبة الثانية من مراتب القدر، لكن ليس للعقل إطلاقاً أن يُثبت لنا الكتابة إلا عندما جاء به النص، مع أنه يُدرك عموم العلم الذي من ضمنه الكتابة وهكذا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بيّن الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها. والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع]. هذه أقيسة عقلية لتأييد ما ورد به الشرع، وليست أقيسة وأدلة استقلالية، فكل ما جاء من الأدلة العقلية إنما جاء لتأييد ما جاء به الشرع، ولا يعني ذلك الاستهانة بنعمة العقل، فهي نعمة كبرى من الله عز وجل، وهي مناط التكليف، لكن العقل لا يقرر الدين على جهة التفصيل استقلالاً، وإنما يدرك المجملات، وهذه المجملات أيضاً تتفاوت فيها العقول تفاوتاً عظيماً، فلا يظن ظان أن كون القرآن عول على الأدلة العقلية أن القرآن جعل العقل مصدر العقيدة، بل القرآن جعل العقل دليلاً ووسيلة في فهم الوحي والاعتراف له، أما أن يكون هو بذاته حجة على جهة التفصيل فلا، وإنما على جهة الإجمال، ولذلك الله عز وجل خاطب العقول؛ لأنها هي الوسيلة إلى الفهم، وهي الوسيلة إلى تقرير الحق، وحتى قطعيات النصوص لا يمكن فهمها بدون العقل، فلذلك الذي يفقد عقله لا يفهم من النصوص شيئاً ولا من غير النصوص، ومن هنا رفع عنه التكليف، لكن فرق بين أن نقول: العقل نعمة، وأن نقول: إنه وسيلة، وأن نقول: إن العقل يقرر الحق بمجملاته، وأن العقل هو الذي يفهم النص، وبين أن نقول: إنه مصدر! فالمصدر هو الوحي، والمشرع هو الله عز وجل وليس العقل.

فساد دلائل المتكلمين

فساد دلائل المتكلمين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً، وكثير من أهل الكلام يسمي هذه: (الأصول العقلية)]. يقصد أهل الكلام أننا نذمهم في ذلك، لا؛ لأنهم قالوا بأصول عقلية فقط، وكثير من أهل الكلام يسمون هذه الأصول العقلية: (الدلالات) و (القرائن) و (الشواهد) و (الأمثال المضروبة) و (الأقيسة)، وهذا حق أنها أصول عقلية، لكن وجه الخطأ الذي أراد الشيخ أن يبينه أنهم جعلوها مصدر التلقي، فجعلوا العقل هو المصدر، وأنه حاكم على الوحي، ومن هنا وقع الخلل، ولذلك أهل السنة والجماعة يوافقونهم على أن العقل يقرر الأصول، وأن العقل يوافق النص، وأن العقل هو الذي يفهم الأقيسة والأمثال المضروبة في القرآن، لكنهم لا يجعلونه الدليل الوحيد، أو المصدر، وإنما هو خادم للمصدر، ووسيلة لفهم كلام الله وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم، والوصول بهذه الوسيلة إلى فهم الحق وفقهه. والأصول العقلية يقصد بها: القواعد العقلانية التي يقرر بها الغيب، من إثبات وجود الله، وإثبات وحدانيته، وإثبات أسمائه وصفاته على التفاوت بينهم، وإثبات البعث، وإثبات بعض مسائل الغيب الأخرى التي يرون أن العقل يثبتها، مع أن هناك أموراً يعترفون أن العقل لا يستطيع أن يثبتها، وإنما العقل جاء بدلالة الشرع مؤيد. وأقول هذا لأنهم يقولون: إن هذه الأصول العقلية يتوصل بها العقل إلى معرفة الأمور الغيبية وغير الغيبية، ونحن نقول: نعم أهل الكلام حينما جعلوا الأقيسة العقلية، أو الأدلة العقلية، أو البراهين العقلية، أو الوسائل العقلية الأخرى التي تنبني على استعمال الحواس، أو تنبني على استعمال البراهين الرياضية، مثل المعلومة عند البشر، أو استعمال ما يسمى بالاستقراء أو السبر والتقسيم طريقاً يتوصل بها إلى الحقائق، ومن ضمن هذه الحقائق موافقتها للشرع، فهل يعني ذلك أن الشرع متوقف على دلالة العقل، فيكون هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الغيبيات، أو معرفة ما أخفاه الله عز وجل عن العباد على جهة التفصيل، أو الوصول إلى أحكام الحلال كما أراد الله وشرع، أو أحكام الحرام كما أراد الله وشرع؟ إن العقل السليم يدرك وجود الله، ويدرك ضرورة البعث، ويدرك حب الفضائل، وينكر الرذائل، وينكر المنكرات، ويحب العدل ويبغض الظلم إلى آخر المقررات العقلية العامة، لكن إذا تحولت هذه المقررات العقلية العامة إلى شرع باسم أنها تقرر الشرع تحولت إلى المناحي الشخصية للبشر، بتفاوت عقولهم ورغباتهم وطاقاتهم ومناحيهم، ومن هنا يختل الميزان العقلي ما بين إنسان وآخر. إذاً: نلجأ إلى تشريع الحكيم الخبير سبحانه الذي أقر العقل بأن شرعه هو الأفضل، وأن قوله هو الحق، وأن ما جاء به الوحي هو الحق في الغيب وفي غير الغيب، ولذا فما دام العقل قد أقر على نفسه، فليبق عند قدره، فهو محدود ويفنى، ويعتريه النقص والهوى والنسيان، وتعتريه عوارض وقواطع وموانع لا نهاية لها، لاسيما عندما يتفق العقلاء على أمر يرون أن مصدره العقل، فسيرد عليهم إشكال لا بد منه: وهو عقل من؟ وهل يوجد إنسان عقله يخضع لعقل الآخر؟ إن هؤلاء الرءوس من أهل الكلام الذي يزعم كل واحد منهم أنه هو المرجع، وأنه هو الذي يقرر، وأنه هو الذي يفهم كل شيء، لا يخضع بعضهم لبعض إطلاقاً، بل إن كل واحد يرى أن عقلياته هي التي تقرر الحق، فتشتتوا وتشتت الناس الذين تبعوهم في مناهج أبعدتهم عن الدين، فصارت الفرق والأهواء والبدع والنزعات الكلامية بسبب قولهم: إن الأصول العقلية هي التي تقرر الحق الذي جاء به الشرع، وتقرر الشرع الذي وكل إليه في أمور، مثل: العلوم الطبيعية التي تركت لعقول البشر في أمور دنياهم، فإذا وصلوا لنتيجة علمية صحيحة فهذا من مقررات العقل، لكن أن يتجاوز إلى الغيب الذي ليس في مقدوره، فهذا من الظلم للعقل، وهو الذي نخالف فيه أهل الأهواء.

حكم حصر العلم الإلهي بالدليل العقلي

حكم حصر العلم الإلهي بالدليل العقلي قال المصنف رحمه الله تعالى: [لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل]. ملخص هذا: أنهم يحصرون العلم الإلهي -علم الوحي- بالدليل العقلي، ومن هنا جعلوا العقل هو الحكم، فيحاكمون الشرع إلى العقل، وهذا ضلال وزلل، فالمسألة عندهم قد انتكست تماماً، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عكس عليهم هذه القضية عكساً فطرياً عقلياً صحيحاً، أعني: قضية تقديم العقل على النقل؛ لأنهم قالوا: إن العقل هو وسيلة لفهم الشرع، وما دام أنه وسيلة فهو إذاً الحاكم الذي يحكَّم في الشرع، فإذا تعارض شرعي وعقلي قدمنا العقلي؛ لأن العقلي هو الأصل، وهو المقدم، فالشيخ قلبها عليهم، فقال: لماذا لا تقولون العكس؟ فما دام الوحي هو كلام الله العليم الخبير سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، اعكسوا القضية وقولوا: إن الأصل هو الشرع، والعقل تابع ومؤيد، وعلى هذا فإنه إذا تعارض قطعيان عقلي وشرعي، اعتبرنا الأصل هو الشرع، ونتهم العقل ونحكم الشرع، ونرده إلى عالمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذه قاعدة عقلية، أعني: قاعدة فهم القدر وغيره من الغيبيات- في الحديث الشهير: (فما علمتم منه -يعني: مما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم- فاعملوا به، وما لم تعلموا فردوه إلى عالمه)، ولم يقل: ردوه إلى العقول، ثم قال: (وقولوا: الله أعلم)؛ لأن العقول متناهية محدودة، ولذا لو أتيت بأذكى الخلق لما وصل إلى حقيقة غاية صغرى من غايات الشرع، فكيف بالغايات كلها؟ وعلم الخلق كله بما فيه أذكياء العالم لا يساوي شيئاً أمام علم الله. إذاً: كيف يجرؤ إنسان يخاف الله عز وجل ويتقيه أن يقول: العقل مقدم وحكم على الشرع؟! فلذلك شيخ الإسلام قال: اقلبوها وستصح العبارة، وفعلاً عندما تقلبها تجد أن هذا ينسجم مع الفطرة.

معنى التحسين والتقبيح العقليين عند أهل السنة وغيرهم من أهل البدع

معنى التحسين والتقبيح العقليين عند أهل السنة وغيرهم من أهل البدع قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها: فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل]. الشيخ هنا يقول: الذين قالوا: إن تحسين العقل وتقبيحه داخل في أصول تقرير الحق، فما حسنه العقل فهو حق، فإن جاء النص بضده إما أن نرد النص أو نؤوله، وإذا قبح العقل شيئاً فهو الأصل، فإن وافقه النص الشرعي أخذنا به، وإن عارضه فإما أن نرده أو نؤوله، وهذه قاعدة فاسدة، وهذا هو التحسين والتقبيح العقليان عند المعتزلة، بخلاف التحسين والتقبيح العقليان عند أهل السنة والجماعة، فالتحسين والتقبيح المعتبر عند أهل السنة والجماعة هو التحسين الفطري والتقبيح الفطري الذي يوافق الشرع، أي: أن الإنسان الذي يحسن ويقبح فيما يخالف الشرع عنده اضطراب وخلل، لكن الأصل في ذلك أن الله عز وجل فطر الناس على حب الخير، وحب الفضائل، وبغض الشر، وبغض الرذائل، فهذا تحسين وتقبيح عقلي يوافق الشرع في الجملة، وإذا تعارض مع الشرع فهذا يعني أن في الفطرة أو في الإنسان -الذي توهم التعارض- خللاً، وهذا الخلل لا يدرى أين هو؟ فقد يحتمل أنه من عدة أمور، فهذا هو معنى التحكيم الذي على هذه الصورة.

حكم إثبات النبوة بالدلائل العقلية فقط

حكم إثبات النبوة بالدلائل العقلية فقط قالوا: إنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك. بمعنى: أنهم يزعمون أن النبوة لا تثبت إلا بالدلائل العقلية، وأن هذا هو الدليل الوحيد، بينما أهل السنة والجماعة يقولون: نعم الدلائل العقلية والفطرية تدل على النبوة، وأكثر عقلاء العالم استدلوا على نبوات الأنبياء بأدلة عقلية، وكذلك كثير من العرب ومن عقلاء العجم استدلوا على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بأدلة عقلية، لكن هل الأدلة العقلية هي الوحيدة؟ لا، فهناك قرائن الأحوال، مع أن مرد قرائن الأحوال النظرة العقلية، لكن مع ذلك فإن قرائن الأحوال أحياناً تأسر الإنسان، ولو لم يكن عنده تفكير عميق، ولو لم يكن ذكياً، ولو لم يستعمل عقله استعمالاً آلياً كما عند العقلاء، بمعنى: أن الله عز وجل فطر النبي صلى الله عليه وسلم وجبله على محاسن الأخلاق، والبعد عن الرذائل، وجبله على القيام بأمور وتصرفات وأعمال -من أقواله وأفعاله وأحواله- تدل على نبوته بدون استدلالات عقلية، وكثير من الذين أسلموا استدلوا على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بقرائن الأحوال، يعني: مجمل ما كان عليه أحواله في سيرته مع الناس، وفي سيرته مع ربه عز وجل، وما يلاحظون من تصرفاته في مواقفه تجاه الأحداث والأشياء، فهذه حاله التي كان عليها، وهي تسمى قرائن الأحوال التي دلت على نبوته، وأيضاً ليست الأدلة العقلية فقط هي التي تدل على نبوته، بل هناك براهين عقلية أخرى جاء بها الله عز وجل بناء على إقامة الحجة على الكفار، أو بناء على طلبهم، فلم تنفع؛ لأنها عقلية لا ينفك منها العقل أبداً، فتأسر العقل أسراً، مثل: انشقاق القمر، فقد جاءت بطلب من المشركين، ولما انشق القمر لم يسلموا، فهل هذا صار دليلاً لهم على نبوته؟ وهل أفادهم هذا الدليل؟ إذاً: فالنبوة دلالاتها ليست مقتصرة على الدلالات العقلية، بل أغلب الدلالات العقلية من الآيات الكبرى والمعجزات لم تنفع في المعاندين، ونفعت قرائن الأحوال التي هي سلوكيات التعامل ومنهج حياة، ومواقفه وسيرته عليه الصلاة والسلام.

تصحيح عبارة: (كما جعلوا التكذيب بالقدر ليس مما ينفيه العقل)

تصحيح عبارة: (كما جعلوا التكذيب بالقدر ليس مما ينفيه العقل) قوله: (كما جعلوا التكذيب بالقدر ليس مما ينفيه العقل) كما ذكر ذلك المحقق، والصحيح والأقرب في العبارة: مما يقتضيه العقل. أي: يجعلون التكذيب بالقدر مما يقتضيه العقل لا مما ينفيه، مع أننا نقول: التكذيب بالقدر ينفيه العقل، لكن ليس هذا قول المخالفين، فالشيخ يحكي قول المخالفين، والمخالفون يقولون: إن العقل ينفي بعض أصول القدر، ولذلك أنكروا في البداية مراتب القدر كلها، ثم لما رأوا شناعة الأمر صاروا ينفون المشيئة، أو ينفون الخلق في بعض أفعال المخلوقين، وزعموا أن ما يفعله الإنسان من الشر ليس بتقدير الله، وقالوا: لا يعقل عقلاً أن الله يخلق، أو يقرر، أو يشاء عملاً يعمله الكافر ثم يحاسبه عليه، وزعموا أن هذا ظلم، فكذبوا بالقدر بدعوى أن العقل هو الذي يكذب القدر، وما عرفوا أن لله في ذلك حكمة، وأن الله عز وجل قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وأن من أصول القدر الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل، وكون الشر قدره الله ابتلاء وفتنة، ومع ذلك فإن الله عز وجل أقام الحجة على الخلق، وليس بظلام للعبيد، فالإنسان الذي يسلك مسلك الشر والكفر، إنما سلكه بإرادته التي امتحن بها، وليس بالجبر، ولو كان مجبوراً ما عذب، بل إن الله عز وجل بين طريق الخير عن طريق إنزال الكتب وإرسال الأنبياء، وأمر به، وسهل العمل به، ويسره، ووعد بالأجر لمن سلكه، وبين طريق الشر، فحذر منه، وأقدر العباد عليه ابتلاء وفتنة، ثم أنذر وتوعد، ولذلك الإنسان إذا فقد شيئاً من هذه الضوابط لا يحاسب، فإذا فقد العقل لا يحاسب، وإذا مات دون أن تبلغه النبوة لا يحاسب إلا امتحاناً آخر يمتحنه الله به يوم القيامة، وعليه فإذا ما قامت عليه الحجة فالله يتولاه؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد. إذاً: الأمر مبني على أنهم يكذبون ببعض القدر، زعماً منهم أنه ينافي المعقول إلى آخره.

الرد على من زعم أن من أقوى الأدلة على إثبات وجود الله عز وجل وجود المحدثات ونفي أفعال الله بموجب هذا الزعم

الرد على من زعم أن من أقوى الأدلة على إثبات وجود الله عز وجل وجود المحدثات ونفي أفعال الله بموجب هذا الزعم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول]. يعني: من هذه الأصول العقلية، وحدوث العالم بمعنى: حدوث المخلوقات، وهذا مقرر عقلاً، وهو الذي يوصلنا إلى وجود الخالق، وإلى وحدانيته وإلى أسمائه وصفاته، وأن العلم بالخالق -قال الشيخ: بالصانع- لا يمكن إلا بإثبات حدوث العالم، وهذا مسلك فيه وجه حق ووجه باطل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام، وحدوثها يُعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب، ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها]. وجه العلاقة أنهم زعموا أن من أقوى الأدلة على إثبات وجود الله عز وجل وجود المحدثات، أي: المخلوقات التي لابد لها من محدث، وهذا المحدث لا بد أن يكون غير المحدث، فلابد أن يكون أكمل وأعلم وأقوى إلى آخر الصفات التي تلزم من وجود الحادثات، وهذه القاعدة فرعوا عنها تفريعاً باطلاً، وهو: أنه إذا قلنا: بأن الله عز وجل له أفعال، فالفعل حادث بزعمهم، وعلى هذا فإن الله عز وجل حدث فيه حادثات، فاتصف بصفات الناقص وهو المخلوق، ومن هنا نفوا الأفعال، وهذا خلط، فالحق أن أفعال الله عز وجل راجعة إلى أسمائه وصفاته الثابتة، لا إلى مفردات الأفعال، وأوضح مثال لذلك: صفة الكلام لله عز وجل، وهي صفة ثابتة له عز وجل، لكن مفردات الكلام هي تحت مشيئته، ومفردات الكلام ليست هي صفة الكلام، وإنما هي فعله على ضوء صفته الأصلية، وكذلك بقية الأفعال، فكل الأفعال مفرداتها هي كمال لله عز وجل، ولا يعني: أنها حادثة، وإنما هي ناتجة عن صفاته الثابتة له، فمثلاً: صفة الخلق منبثقة عن كونه عز وجل هو الخالق، حتى قبل أن يوجد الخلق، وبعد أن يوجد الخلق، فهو متصف بصفة الخلق منذ الأبد وإلى الأزل وإلى ما لا نهاية، وكونه يخلق متى شاء لا يعني أنه حدثت له صفة الخلق كما يزعمون، بل هذا راجع إلى المشيئة، فمتى ما شاء خلق، ومتى ما شاء تكلم، وكذلك بقية الصفات، ولذلك أنكروا كل الصفات الفعلية، وبعضهم أنكر جميع الأفعال وجميع الصفات أيضاً، كالمعتزلة، وبعضهم أنكر الأسماء والصفات بناء على شبهات كثيرة، من ضمنها ما سبق من شبهة التجسيم، ومن ضمنها: مسألة: إخراج قضية الحدوث والحادثات عن مسارها الشرعي الفطري الصحيح. وقول الطحاوي رحمه الله: (وليس بعد وجود الخلق استفاد اسم الخالق). هذه قاعدة شرعية عظيمة، وهي رد على أهل الأهواء والبدع، فالله عز وجل متصف بصفة الخلق، ومسمى بالخالق قبل أن يوجد الخلق، وكذلك بقية الصفات المتعلقة بالحادثات، فهو عليٌّ قبل أن يستوي على عرشه سبحانه، ولم يحدث العلو بعد خلق العرش، وكذلك بقية الصفات الفعلية، فليست مبنية على وجود الأفعال، بل هي صفات أزلية لله عز وجل، والأفعال من آثارها، بل من أفعال الله عز وجل، ومن صفات الله عز وجل، ما تتعلق به أفعال الله إلى ما لا نهاية، مثل: صفة الكلام لله عز وجل، فالله عز وجل متكلم، وقد كلم آدم، وكلم موسى، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، ويكلم من شاء من خلقه، وأوحى لمن شاء من خلقه، وكذلك يكلم العباد يوم القيامة، فقد ثبتت النصوص بأنه يكلمهم كلاماً عاماً وكلاماً خاصاً، وأنه يحادث ويناجي كل إنسان بمفرده، وكل ذلك راجع إلى صفة واحدة، وهي صفة الكلام لله عز وجل، وكونه يتكلم متى شاء لا يسمى هذا حدوث نقص، بل على العكس، فهذا كمال، فالمتصف بصفات الكمال التي تتجدد مفرداتها وحادثاتها أعظم من المتصف بصفة لا يفعل بها شيئاً، فالله عز وجل فعال لما يريد، وأفعاله متعلقة بمشيئته سبحانه، وهذا هو الحق الذي تقتضيه الفطرة والعقل السليم، لكنهم أتوا من تقرير القضايا الغيبية بالعقل، والعقل مسكين لم يدرك نفسه بعد، لذا لو أن إنساناً يتباهى بعقله فسألته: أين عقلك؟ وكيف تعقل؟ وهل يمكنك أن تعرف لي عقلك، وماهية عقلك؟ فإنه لا يستطيع أن يجيب، فإذا كان لا يعرف عقله، فكيف يريد أن يسلط عقله على قضايا أكبر منه، كقضايا الغيب، وقضايا تتعلق بالله عز وجل سبحانه؟ إن من أعظم الإساءة وسوء الأدب مع الله أن تقحم عقلك المسكين الضعيف المحدود في قضايا تتعلق بكمال الله سبحانه، ولذلك نجد هذا الصنف من الناس ليس عندهم ورع، وليس في قلوبهم -فيما يظهر من أقوالهم وأفعالهم التي أُثِرت- شيء من تقوى الله عز وجل؛ لأنهم لو اتقوا الله ما تكلموا في الله. ومن هنا أحب أن أنبه على أمر قد كررته كثيراً؛ لأنه مرض قد وقع فيه بعض طلاب العلم، وهو: أننا عندما ندرس مثل هذه القضايا التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، وهي أعظم ما تتطلبه العقيدة، وأعظم مباني العقيدة، وأول أركان الإيمان، فإن مقصدنا من ذلك هو أن نعظم الله بها، وليقع موقعها في قلوبنا، فتتأثر بها جوارحنا وأعمالنا، ومعاملتنا مع ربنا ومع الخلق، وهذا هو الذي يجب أن يكون، ولذلك نتفادى الخوض في المسائل العقلية والفلسفية الزائدة عن حد الحاجة، وأيضاً كثيراً ما أصرف بعض

شرح العقيدة التدمرية [22]

شرح العقيدة التدمرية [22] توحيد العبادة يسمى توحيد العمل؛ لأنه عمل القلوب والجوارح تجاه الرب جل وعلا، من المحبة والرجاء والخوف واليقين والإنابة والتوكل وغير ذلك من أعمال القلوب والجوارح. وسمي توحيد القصد والطلب؛ لأنه مما يقصد به العباد ربهم عز وجل ويقصدون رضاه ونيل ثوابه.

الأصل الثاني: توحيد العبادة الواجب في شرع الله وقدره اعتقادا

الأصل الثاني: توحيد العبادة الواجب في شرع الله وقدره اعتقاداً قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وأما الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات، المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً]. هذا هو الأصل الثاني في تقسيم الدين أو التوحيد، والتوحيد يشمل الدين كله، وينقسم إلى أصلين: الأصل الأول: التوحيد المتعلق بالله عز وجل، أي: الخبر عن الله المتعلق بذاته وأسمائه وصفاته وقواعد ذلك، وقد تكلم فيه المصنف عما يجب لله عز وجل من الكمال في أسمائه وصفاته وأفعاله، وقعد ذلك، ورد على المخالفين، وأجاب على شبههم بشيء من التفصيل، ثم انتقل إلى الأصل الثاني على منهج أهل الحق، أعني: منهج الأنبياء والصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، وهو أنه لا بد من اكتمال الأصلين، فينبني على الأول الأصل الثاني بالضرورة؛ لأنه ما دام أننا قد عرفنا كمال الله عز وجل سبحانه، وما يجب أن نعظمه به من الأسماء والصفات والأفعال، فلا يعني ذلك أننا نقف عند هذا التعظيم، وإنما يلزم منه شيء آخر، وهو المطلوب من العباد، ألا وهو العبادة لله عز وجل، إذ هو الأصل الثاني، فيقال للعباد: قد عرفتكم كمال الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجب له من الحق، إذاً فالتزموا لازم هذه المعرفة، وهو أن تعبدوا الله وحده، وأنه وحده سبحانه المستحق للعبادة، وهو الذي يجب أن يخضع له العباد قدراً وشرعاً، ولذلك جمع الشيخ هنا في الأصل الثاني القدر والشرع جميعاً، فقال: الأصل الثاني، وهو التوحيد في العبادات. وهذا له مفاهيم كثيرة، فتوحيد العبادة يسمى: توحيد العمل؛ لأنه هو عمل القلوب والجوارح تجاه الرب عز وجل، وما يجب أن يعمله العباد في حق ربهم عز وجل، فهو توحيد عمل، حتى المحبة والرجاء والخوف واليقين والإنابة والإحسان وغير ذلك هي أعمال قلوب، فيتوجه بها إلى الله عز وجل وحده، فلذلك يسمى: توحيد العمل، ويسمى: توحيد القصد، ويسمى: توحيد الطلب، ويسمى توحيد الإلهية؛ لأن الناس يتألهون به إلى الله عز وجل، تأله العبادة والطاعة والتسليم والرضا والإذعان والعمل، فسمي هذا التأله عبادة، والتأله: انجذاب الإنسان بقلبه إلى الله عز وجل، وعليه لابد أن يكون على شرع، ومعنى التأله: التعبد، والتعبد أيضاً لا يكون إلا على ما جاء به الرسل، فلذلك سمي توحيد الإلهية. وسمي توحيد القصد والطلب؛ لأنه مما يقصد به العباد ربهم عز وجل، فتوحيد القصد هو التوجه إلى الله بالقلب والجوارح؛ لأن العباد يقصدون به رضا الله، ويقصدون به ثواب الله، ويقصدون به عبادة الله، قصد القلوب وقصد الجوارح، وكذلك الطلب بمعنى القصد؛ لأن العباد يطلبون به الرضا والتسليم لله، ويطلبون به عبادة الله، ويطلبون به رضا الله، ويطلبون به الجزاء من الله، فهذه كلها معان وأوصاف لشهادة نوع من التوحيد. مع أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع والجهلة يقولون: إن هذا التقسيم محدث ومبتدع، وهذه كلها ما جاء بها إلا الفلانيون، مما يعيرون به أهل السنة من التغييرات، ويزعمون أن هذا من صنع السلف من عند أنفسهم، بينما هو مقتضى دلالة النصوص، بل هو المقصد من بعثة الرسل، إذ هو تحقيق الألوهية؛ لأن مجرد معرفة الله عز وجل تبقى فطرية، لكن يبقى معرفة ما يجب لله عز وجل من الكمالات على جهة التفصيل، هذا هو الذي جاء به الأنبياء في ذات الله وأسمائه وصفاته، ثم ما يجب لله من الطاعة والامتثال والعبادة، أيضاً ما جاء به الرسل، فهذا كله هو التوحيد، فحينما نصفه بالأوصاف الأخرى، نصفه بأوصاف شرعية هي دلالات قطعية، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وجه الجمع بين الخلق والأمر

وجه الجمع بين الخلق والأمر قال المصنف رحمه الله تعالى: [فنقول: إنه لابد من الإيمان بخلق الله وأمره]. هذه قاعدة عظيمة جداً، وفيها إشارة إلى أن الخلق والأمر يجتمعان، وعلى هذا فقد جمع الشيخ الشرع والقدر في فصل واحد، والقدر له وجهان: من حيث كونه من تقدير الله وخلقه، فهذا مرتبط بالربوبية، ومن حيث التسليم به والرضا، فهذا داخل في التوحيد الإلهي، أي: توحيد العبادات، وأدخله المصنف هنا في توحيد العبادات ليبين ضرورة الارتباط بين القدر والشرع؛ لأن مبنى الشرع على التسليم، والتسليم هو تسليم بقدر الله، ومما قدره الله عز وجل الأمر بشرعه، وإبعاث الرسل، وإنزال الكتب، وهذا قدر كوني تضمن الأمر الشرعي، بل تقسيم ابتلاء العباد إلى خير وشر ابتلاء كما قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} [الأنبياء:35]، فهذا قدر، ثم تقسيم حال العباد إلى صلاح وفساد، إلى حق وباطل، إلى هدى وضلال، تقدير من الله بقدره، ثم إن الشرع الذي انبنى على ذلك هو الأمر، فتوافق الأمر والقدر، أعني: توافق الشرع والقدر، وكلاهما من أمر الله. ووجه إدخال القدر هنا هو الذي انبنى عليه الشرع تقديراً، ومن حيث أن كلاهما داخلان في مفهوم الأمر، إذ إن الأمر بمفهومه العام يدخل فيه الأمر القدري والأمر الشرعي، وأيضاً لضرورة ارتباط الشرع بالقدر؛ لأن مبنى العمل بالشرع على التسليم، والتسليم يشمل القدر والشرع في وقت واحد، فمن سلم للقدر ولم يسلم للشرع هلك، ومن سلم للشرع ولم يسلم للقدر هلك، ولذلك غالب أهل الأهواء اختل عندهم أحد المبنيين، فمنهم من سلم للقدر ولم يسلم للشرع التسليم الكامل، ومنهم من سلم للشرع ولم يسلم للقدر، ويمكن أن نجد هذا في تقسيم الفرق الكبرى، فقد كان منها من هو أكثر ضلالة في الشرع، ومنهم: المرجئة والخوارج وكثير من أصحاب الطرق والفرق الصوفية، ومنهم من كان خلله في اعتقاد القدر، ومنهم: القدرية والمعتزلة والجهمية، وقد اجتمع عند الجهمية الأمران؛ لأن الجهمية هي خلاصة مذاهب الفرق في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني، بل وحتى القرن الثالث، فالجهمية بدأت من ناحية فلسفية ثم انتهت إلى فلسفة وسلوك وأعمال، فكان في القرن الثالث أن اجتمع الأمران عند الجهمية، فاختل عندها الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، وبقية الفرق كل واحدة لها نصيب يقل أو يكثر من الخلل بالأصلين جميعاً أو بأحدهما.

مراتب القدر

مراتب القدر قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد علم ما سيكون قبل أن يكون، وقدّر المقادير وكتبها حيث شاء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]]. يقرر الشيخ الآن توحيد الربوبية والقدر، ليبين تلازم الأمرين كما سيأتي بعد قليل، وهذا التقرير هو تقرير لجانب الربوبية وجانب القدر المتعلق بالربوبية أيضاً، لأن الآية هنا قد اشتملت على مراتب القدر الأربع. فقوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، هذه المرتبة الأولى. وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) هذه المرتبة الثانية. والمرتبة الثالثة والرابعة تضمنتها عبارة واحدة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، أي: يسير في تقديره، ويسير في خلقه، يسير على الله تقدير المقادير، ويسير على الله خلق المخلوقات، فاجتمعت الرتبتان الأخيرتان من القدر في هذه العبارة. وعليه فالعلم والكتابة والتقدير والخلق قد اجتمعت في هذه الآية بشكل بين وواضح، وهذا كله تقرير للربوبية، لكن أيضاً له وجه في دخوله في الأصل الثاني: وهو توحيد العبادات؛ ليبين الشيخ مدى وجه التلازم بين الأصلين، وأنه لا فرق هنا، فلا يستطيع هنا أن يقرر توحيد الإلهية دون أن يعتمد على توحيد الربوبية؛ لأن الذي يتأله ويعبد الله عز وجل لابد أن يعرف من يعبد، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة كمال الله عز وجل كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)]. هنا الشيخ قرن النوعين من التوحيد، فعندما قرر توحيد الربوبية والقدر، وبين أن الأصل في تقريرها هذه القواعد العظيمة، بين بعد ذلك أن هذا يوجب توحيد الله بالعبادة، ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده؛ لأنه ذكر الأمر قبل ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويجب الإيمان بأن الله تعالى أمر بعبادته وحده لا شريك له، كما خلق الجن والإنس لعبادته، وبذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه].

تضمن العبادة كمال الذل والحب وتضمن ذلك كمال الطاعة

تضمن العبادة كمال الذل والحب وتضمن ذلك كمال الطاعة قال رحمه الله تعالى: [وعبادته تتضمن كمال الذّل له والحب له]. أيضاً: كمال الذل والحب له قدراً وشرعاً، فلابد أن المسلم يروض قلبه ويعود نفسه وجوارحه على أن الذل لله عز وجل يشمل التذلل والخضوع لقدر الله، ثم أيضاً الذل للاستجابة لشرع الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك يتضمن كمال طاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]]. في هذه الآية قرن الله عز وجل بين الأمرين وبين تلازمهما، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31]، هذه محبة الكمال لله عز وجل ومحبة الله لكماله، وهي انجذاب العبد لربه عز وجل، والتي هي أصلاً تنبني على الربوبية، وعليه فلابد أن ينبثق عن هذا توحيد آخر وهو الاتباع، أي: توحيد الإلهية. قال: (فَاتَّبِعُونِي) أي: اتبعوا رسولي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا شرعي، بمعنى: التزموا أوامر الله واجتنبوا نواهيه التي جاءت على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: من ادعى أنه عظم الله بربويته وأسمائه وصفاته، وأنه أحب الله بناء على كمال المحبة، فلا بد أن يلتزم ما أمر الله به من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

دين الأنبياء واحد وهو الإسلام مع اختلاف الشرعة والمنهاج

دين الأنبياء واحد وهو الإسلام مع اختلاف الشرعة والمنهاج قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]، فأمر الرسل بإقامة الدين وألا يتفرقوا فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والأنبياء إخوة لعَلاَّت، وإن أولى الناس بابن مريم أنا؛ ليس بيني وبينه نبي)]. هذا الحديث يؤكد مسألة وحدة الدين عند الأنبياء من حيث إنه عقيدة، وأن اختلاف الشرائع لا يعني اختلاف الدين، وإن اختلاف أحوال البشر وحاجاتهم هو فيما يتعلق بالأوامر والنواهي من الله عز وجل، وإن الدين عند الله الإسلام، وأن أصول الدين وثوابته واحدة، ولذلك حتى أغلب المحرمات والمباحات أصولها واحدة عند الأنبياء، وإنما تفاصيلها هي التي تختلف، وقد يكون الله عز وجل يحرم على بعض الأمم بعض الحلال القطعي من باب العقوبة لهم، كما فعل مع بني إسرائيل، لا من باب أنها في أصلها حرام، فقد يحرم عليهم بعض الطيبات؛ لأنهم ارتكبوا ما أوجب العقوبة عليهم، ولذلك لما بعث الله عيسى عليه السلام بعثه ليخفف عن بني إسرائيل بعض ما حرم عليهم من الأمور الحلال، فتبقى تفاصيل الشرائع لتنظيم أحوال البشر في وسائل حياتهم، وهذا راجع إلى ما تحتاجه كل أمة بحسب الزمان والمكان، واختلاف الشرائع لا يعني اختلاف الدين، فالشرائع في عقيدتها واحدة، وفي أصولها أيضاً واحدة، وهذا معنى كون الأنبياء إخوة. قال: (لعلات) أي: لضرات، يعني: كالإخوة من نساء متعددات والأب واحد، فالتعدد هنا تعدد الشرائع، والأصل الموروث عن جميع الأنبياء هو العقيدة الواحدة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أولى الناس بابن مريم)، يعني: أنا على ديني وهو على دينه، ولأنه ليس بينه وبينه نبي؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر بأن يؤمن بمن بعده، فهذا عيسى عليه السلام قد أوصى أمته بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم تفاصيل خبره وصفته وأحواله ومبعثه ومهجره، وأعطاهم من الأوصاف ما يوجب عليهم ضرورة الإيمان به، لكنهم كذبوه. لكن قد وجد من يشكك في هذا الأصل من بعض الكتاب، فقد رأينا كتابات عجيبة في هذه الأيام، وقبلها أيضاً بسنين، فهناك من ادعى أنه قد وجد أنبياء في بني إسرائيل أو في النصارى بعد عيسى عليه السلام، وأن هؤلاء الأنبياء فعلاً هم على دين عيسى، وما بدلوا وما حرفوا، وهؤلاء الأنبياء هم بعض من جاء من الحواريين أو من دونهم، فزعموا أنهم أنبياء، ولا يزالون يصفونهم بأوصاف النبوة، وهذا كذب، فليس بعد عيسى عليه السلام نبي ولا رسول؛ لأن هناك من يقول: الرسالات قد ختمت، لكن النبوة قد وجدت بين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فهذا يخالف قطعيات النصوص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، قال الله تعالى عن نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71] إلى قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] إلى قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، وقال عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، وقال في خبر المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]، وقال فيمن تقدم من الأنبياء: {يَحْكُمُ بِهَا النَّ

الأسئلة

الأسئلة

أسماء الله وصفاته لا اجتهاد فيها ولا تدخل في المشتبهات

أسماء الله وصفاته لا اجتهاد فيها ولا تدخل في المشتبهات Q هل مسائل الأسماء والصفات من المتشابه التي لا يعلمها كثير من الناس؟ وهل اختلاف الناس فيها يعتبر من الاجتهاد، فالمخطئ له أجر والمصيب له أجران؟ A أولاً: ليست مسائل الأسماء والصفات من المتشابه، بل هي من المحكم، سواء في أدلتها أو في مفرداتها، ولا يجوز أن نقول: إنها من المتشابه، لكن هناك أمر لم نتعبد الله به، وهو من المتشابه، وليس مطلوباً من المسلم، بل لا يجوز الخوض فيه: وهو كيفيات الغيبيات، أعني: كيفيات أسماء الله وصفاته وأفعاله، فالدخول فيها من الزيغ الذي نهى الله عنه في قوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فالسعي إلى تأويل الكيفيات هو من المتشابه، وضرب الآيات بعضها ببعض، وعدم التسليم لله عز وجل فيما أخبر، وعدم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عن ربه، كل ذلك من المتشابه الذي لا يجوز للإنسان أن يخوض فيه، وأما في حقيقة الأمر فليس في أسماء الله وصفاته لا في حقائقها ولا في أدلتها تشابه، وليست أدلة الأسماء والصفات من المتشابه. وأما اختلاف الناس حول بعض مسائل الأسماء والصفات، فأولاً: يجب أن نفهم أن الأصول والثوابت في أسماء الله وصفاته ليست محل خلاف، فكل ما ورد في الأدلة الصحيحة الصريحة، وما اتفق عليه سلف الأمة فيما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، في مفرداتها وقواعدها، ليس محل اجتهاد؛ لأنه من القطعيات، لكن هناك بعض المسائل قد اختلف فيها، إما لعدم صحة الأدلة، بألا تكون الأدلة قطعية، أو لأن دلالات الأدلة فيها تكون فيها وجوه تختلف عن هذه الوجوه، والاختلاف ليس راجعاً إلى أسماء الله وصفاته، وإنما راجع إلى فهم الناس لهذه الأدلة، وهذا ليس في الثوابت والقطعيات، وإنما في مسائل تفرعت عن العقيدة. فمثلاً: الاستواء أدلته قطعية، وهي حقائق ودلالاتها قطعية، لكن بعض لوازم الاستواء استوحيت من بعض الأدلة، وهذه محل خلاف، ونحن قد نهينا عن الخوض فيها، وإذا خاض فيها بعض العلماء الكبار فإنما خاضوا فيها من باب الاجتهاد في البيان، إذ هذه الأمور قد يكون عليها اجتهاد، وقد يكون المجتهد فيها إذا قصد الوصول إلى الحق مأجوراً، مثال ذلك: مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عندما عرج به إلى السماء، ورؤية الناس لربهم في أرض المحشر، غير رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، هل هي عينية أو قلبية؟ وإذا كانت عينية هل هي على ما هو معهود أو على غير ذلك؟ كل ذلك محل خلاف، وهذا الاجتهاد فيه من العالم إنما هو للبيان للأمة، والمجتهد ما دام أنه اجتهد وأراد أن يتوصل للحق فهو مأجور.

حكم إثبات الأذى في حق الله عز وجل

حكم إثبات الأذى في حق الله عز وجل Q في حديث: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر)، فهل يثبت الأذى في حق الله عز وجل؟ A فهذه من النصوص التي تمر كما جاءت، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى -على القاعدة التي سبق أن ذكرتها-: أنه ما دامت أنها تتعلق بأحوال الناس فيكون المقصود بها ما جاء في السياق، أي: ما يحصل من اعتراض على قدر الله فيكون من وجه من الوجوه نوع إساءة أدب مع الله، فسمي أذى من هذا الوجه؛ لأن من سب الدهر فقد سب أقدار الله، فالدهر ليس كياناً مستقلاً، وإنما يشمل تصاريف الزمان التي صرفها الله بأقداره، فما في الكون من تقلبات في أحوال البشر وغيرهم يسمى الدهر، فالإنسان إذا تذمر من الدهر، أو تذمر من أحداث الزمان أو سبها، فذاك راجع إلى سب أقدار الله التي قدرها، وليس المقصود أن الله عز وجل يناله أذى العباد، فهو سبحانه لا يناله شيء من ذلك، وإنما جاء على سبيل الوصف، أو وجه من وجوه الوصف الذي يعني سوء الأدب مع الله عز وجل.

إثبات بعض الصفات بسياقها لا كلها

إثبات بعض الصفات بسياقها لا كلها Q ذكرت في حديث الهرولة أنها لا تثبت كصفة لله جل وعلا، وذكرت في ذلك ضابطاً وهو: أن أفعال الله التي ترتبط بأفعال المخلوق لا تثبت كصفات لله عز وجل، فما صحة ذلك؟ A هذا الكلام بإجماله نوعاً ما صحيح، لكن ليس بهذا التعبير، فلا تثبت الصفات مفردة مستقلة عن سياقها، بل لابد أن يؤخذ الكلام بكامله، وأنا لم أقل: لا تثبت الصفات بإطلاق، بل هذه جاءت أوصافاً لله عز وجل، ولا شك في ذلك، لكن لا تفرد كصفات مفردة إلا بسياقها، (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فهذه العبارات جاءت بمعنى بين وواضح، وهو أن الله عز وجل جازاهم بما عملوا، فجازى أهل الخير بما يستحقونه وزيادة، وجازى أهل النفاق بما يستحقونه وزيادة، وهذا المعنى معروف عند السياق، وهو مربوط بمجازاة العباد، وليس مثل: الاستواء أو النزول أو المجيء أو الصفات الذاتية أو الفعلية التي ورد ذكرها؛ لأنه لا علاقة لها بالعباد، ولذلك قال السلف في هذه النصوص، أعني: نصوص الهرولة والاستهزاء والمكر ونحوها: إنها تمر كما جاءت في سياق بين وواضح، وليس معنى ذلك: أننا لا نعرف لها معنى ولا حقيقة كما يفهم بعض الذين يطعنون في منهج السلف، إذ يقولون: لما عجز السلف عن معرفتها قالوا: تمر كما جاءت. وفي الحقيقة فإن السلف ما عجزوا، بل هم يعرفون أن القرآن جاء بلسان عربي مبين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الواضح فيما يتعلق بشئون المخلوقات، فكيف بما يتعلق بالخالق عز وجل؟ فلابد أن تكون أسماء الله وصفاته واضحة وبينة في القرآن والسنة، وأن تكون لها حقائق، لكن بعض السياقات جاءت بمعرض المجازاة، وبعضها جاءت بمعرض التهديد، وبعضها جاءت مربوطة بأفعال البشر، فهذه تؤخذ على سياقها، فتمر كما جاءت على أنها حقيقة على ما يليق بجلال الله، لكن أن تفرد صفة فهذا محل خلاف، أو يستنتج منها اسم فلا يجوز، وهذا هو الذي قلته، ومع ذلك فالمسألة خلافية، فبعض أهل العلم يقول: إنها من الصفات التي نثبتها على ما تليق بالله عز وجل، وقد أوردها كثير من أئمة الدين على هذا الشكل، ومعروف مرادهم، وكلامهم لا غبار عليه، لكن الآخرون تورعوا فقالوا: نظراً لأن الأمر يشتبه، وقد خاض الناس فيما خاضوا فيه، ولم يعد الناس على صفاء الفطرة وإدراك اللغة كما كان في عهد الصحابة والتابعين، فإذاً نحترز من إساءة الأدب مع الله، وحتى لا يكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ورد عن الإمام أحمد رحمه الله وهو يروي حديثاً: (أن الله عز وجل يحمل الأرض على إصبع، والسماوات على إصبع)، فرأى أحد طلبة العلم في مجلسه يشير بإصبعه، فقال الإمام أحمد: قطع الله إصبعك، مع أن الرواة يروونها هكذا كما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أنا نسيت هل هو هذا الحديث، أو حديث آخر فيه أنه أشار إلى إصبعه؛ لكن نظراً لأنه أشار في موضع يوجد فيه من لا يدرك، أو من قد يشتبه عليه الأمر، وخاضت الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام، ووجد للاشتباه مبرر نهاه الإمام أحمد عن رواية هذه النصوص بهذا النحو عند عامة الناس، ولو أشار إلى إصبعه عند أهل الحديث والعلماء ما أنكر عليه. إذاً: فالأمر يحتاج إلى مراعاة ما عليه الناس، ودرء الفتن والمفاسد المعتبر درؤها في فهم النصوص. وهذا كله بخلاف الصفات الذاتية والفعلية، إذ ليست على سبيل المجازاة والمقابلة، فإنها لا بد أن تروى وتثبت الصفة، كاليد والوجه والنزول والاستواء؛ أما تلك فنظراً لأنها جاءت على سبيل المجازاة، فلا بد أن تثبت بسياقها، فنقول: إن الله عز وجل يمكر بالمنافقين، ويستهزئ بالمنافقين. ولذلك كان من أسباب الخلاف فيها بين السلف: أن بعضهم يقول: هذه أخبار، فلا يلزم أن يثبت منها صفات؛ لأن ما جاء عن الله عز وجل خمسة أنواع: ما يتعلق بذات الله عز وجل، وكل الأسماء والصفات متعلقة بالذات، وما يتعلق بالأسماء، ثم ما يتعلق بصفات الله عز وجل، ثم الأخبار، ثم الأفعال. إذاً: هذه خمسة أنواع، والأخبار بابه واسع، فلا يلزم أن يثبت منها صفات، ولا يلزم أن يثبت منها أسماء، فبعضهم يرى أنه مثل هذه الأمور من الأخبار تمر كما جاءت على الحقيقة، والذي يقول: تمر كما جاءت لا ينفي إثبات سياقها عن الله، وإنما ينفي إفرادها كصفات مستقلة؛ لأنها إذا أفردت بدون الاحتراز يقع الاشتباه وسوء الأدب مع الله عز وجل، وهذا كله من باب تعظيم الله. إذاً: انقسم السلف إلى قسمين: منهم من يعتبر هذه النصوص من باب الأخبار، ومنهم من يعتبرها من باب الصفات أو الأفعال، ومع ذلك لم يختلفوا في إثبات حقائقها. مما ينبغي التنبيه له: أن مثل هذه النصوص لا تذكر عند العامة من الناس، ولا حرج بذكرها عند المتخصصين في علوم العقيدة، أو عند طلاب العلم.

شرح العقيدة التدمرية [23]

شرح العقيدة التدمرية [23] الإسلام هو الاستسلام لله وحده، والانقياد له بالطاعة، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين الرسل والأنبياء جميعهم من حيث الأصول والثوابت، وإن اختلفت الشرائع والأحكام، وكل رسول سابق بشر بمن بعده، وكل رسول لاحق آمن وصدق بما قبله، أما دين الإسلام بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو الدين المهيمن على كل الأديان السابقة.

الإسلام بمفهومه العام

الإسلام بمفهومه العام قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده. فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت، فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة، ثم أمر ثانياً باستقبال الكعبة، كان كل من الفعلين حين أمر به داخلاً في دين الإسلام، فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين، وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجهة المصلِّي، فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك، فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدِّين واحداً، كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد].

أول الرسل يبشر بآخرهم وآخرهم يصدق بأولهم

أول الرسل يبشر بآخرهم وآخرهم يصدق بأولهم قال رحمه الله تعالى: [والله تعالى جعل من دين الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه). وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]].

تلازم الإيمان بالرسل وكفر من بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقر بها

تلازم الإيمان بالرسل وكفر من بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقر بها قال رحمه الله تعالى: [وجعل الإيمان بهم متلازماً، وكفَّر من قال: إنه آمن ببعض وكفر ببعض، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]، وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، وقد قال لنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:136 - 137]، فأمرنا أن نقول: آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، بل يكون كافراً، وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن]. هذه القاعدة قاعدة في كل أصول الدين وثوابته وقطعياته، فهي قاعدة في أركان الإيمان وأركان الإسلام، وفي أصول الغيبيات الأخرى، وفي الأحكام القطعية، أعني: أن قاعدة التسليم لابد أن تكون مطردة، وأن من اختل تسليمه في مسألة من المسائل التي تطرد في قاعدة واحدة فقد هدم دينه، فمثلاً: أول أركان الإيمان: الإيمان بالله عز وجل، فمن أنكر اسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته لا على سبيل التأويل، فإنه بذلك يكون قد وقع في الكفر، وهكذا فيما يتعلق بالإيمان بالملائكة، والإيمان بالرسل. وكما قرر الشيخ أن من أنكر رسالة رسول أو نبوة نبي واحد فقد كفر كفراً مطلقاً مخرجاً من الملة، وكأنه كفر بالجميع، لأن تكذيب واحد منهم يعتبر تكذيباً للكل، ثم كذلك بقية أركان الإيمان بالرسل، أو الإيمان باليوم الآخر، فمن أنكر شيئاً من ثوابت اليوم الآخر، حتى وإن كان جزئياً، فكأنه ما آمن باليوم الآخر، بل انتقض إيمانه بالدين كله، وكذلك الثوابت العملية الأخرى، فلو أن أحداً ادعى أنه يسعه أن ينكر ركناً من أركان الإسلام أو يؤوله، وهذه فتنة موجودة، ولا تظنونها مجرد افتراضات، فهي فتنة موجودة عند غلاة الفرق إلى يومنا هذا، فتجد من يدعي أن أركان الإسلام مجرد أمور قلبية، فالصلاة صلة الإنسان بربه، والزكاة أن يكون الإنسان عنده أخلاق عالية، والصيام الكف عن الآثام والأخلاق الرذيلة، وأعرف من المذاهب الحديثة في هذا العدد الكبير، وهي قائمة الآن على فئام من الناس ممن ينتسبون إلى الإسلام، فينكرون قواطع الدين من أركان الإسلام فضلاً عن أركان الإيمان؛ لأن عندهم شكوكاً أيضاً في أركان الإيمان، وعلى سبيل المثال: توجد طائفة خرجت قبل أكثر من عشرين سنة تزعمها رجل يقال له: محمود طه، وهو سوداني الأصل، فقد أول أركان الإسلام، وادعى أن الإسلام إسلامان: إسلام جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إسلام البادية والأرياف، وهذا قد انتهى، وإسلام جديد، وهو إسلامه الذي يدعيه، فقد ألغى أركان الإسلام، وألغى اعتبارها وأولها بهذه التأويلات، وقد أقيمت عليه الحجة واستتيب ولم يتب، فقتل نسأل الله العافية، وأمثال هذا كثير من الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وليس هذا خاصاً بالأنبياء، بل كل ثوابت الدين، كإنكار الشفاعة، وإنكار الرؤية، وإنكار أشراط الساعة، بل أحياناً قد يقع اللبس عند بعض الذين ينتسبون للعلم، فمثلاً: ممن فتن بمثل هذه الفتنة، وممن ينتسبون للعلم، أن رجلاً أنكر أن يكون هناك شيء اسمه المهدي، بدعوى أن المهدي أصبح خرافة، وأصبح كل من عنده غلو أو عنده نوع من الانحراف والبدعة تعلق بمهدي ما، فهذا أنكر قطعيات الدين، وإنكاره يعود إلى إنكار الرسالة؛ لأنه من الذي أخبر بالأخبار الصحاح عن وجود المهدي؟ أليس النبي عليه الصلاة والسلام؟ بلى، بصرف النظر عن خرافات الرافضة والفرق، فنحن لا نعني بـ المهدي الخرافة التي يعتقد بها الخرافيون، وإنما نعني بـ المهدي الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصفات الصحيحة الثابتة، فمن أنكره فقد أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وهذا أيضاً يعود على إنكار النبوة. وأعود فأقول: إنني كنت ممن عاصر فتنة محمود طه، فقد زرت السودان في ذاك الوقت، فوجدت أن أغل

أهم الفوارق بين أركان الإيمان وأركان الإسلام

أهم الفوارق بين أركان الإيمان وأركان الإسلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فأنزل الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فقالوا: لا نحج، فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]]. من أهم الفوارق بين أركان الإيمان وأركان الإسلام الأربعة الأخيرة: أن أركان الإيمان لا يعذر بها أحد، إذ ليست داخلة في الاستطاعة من حيث إجمالياتها، أما من حيث تفاصيلها فنعم، فهي أمر قلبي لا يعذر به عاقل، لكن يبقى مدى اليقين بها، فهذه أمور تتفاوت بين إنسان وآخر. أما أركان الإسلام فهي بحسب الاستطاعة، حتى الشهادتين قد يكون الإنسان لا ينطق بالشهادتين، فهو مسلم بالحال، أيضاً قد لا يستطيع أن يصلي، فيجب عليه أن يصلي إلى أدنى حد يومئ به، أو قد لا يكون عنده مال يزكي، فلا شيء عليه، وإنما المقصود إقراره بهذا الركن، إذ إنه لو تمكن لفعل، وكذلك الصيام، والحج، ولذلك الذين يكفرون بترك الحج مطلقاً يخطئون، حتى الذي يستطيع الحج وهو يسوف، وهو بنية أن يحج، ولم ينكر ركن الحج، فمن الصعب أن نقول: إنه ارتد عن الإسلام، فهو إنسان قد توافرت عنده الوسيلة والاستطاعة، لكنه ما حج تساهلاً أو تسويفاً، ففي هذا العام لم يستطع أن يحج، أو لم يرغب في الحج، ثم حج في العام القادم، فالراجح والذي تقتضيه النصوص الكثيرة أنه لا يقال بكفره ما دام مقراً بالحج بقلبه، وناوياً أن يحج وإن سوف.

تنازع الناس في إسلام من تقدم من أمة موسى وعيسى وبيان كون الإسلام خاصا وعاما

تنازع الناس في إسلام من تقدم من أمة موسى وعيسى وبيان كون الإسلام خاصاً وعاماً قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا؟ وهو نزاع لفظي، فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا، وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبياً؛ فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء]. هذا التفصيل مهم جداً؛ لأنه الآن قد بدأت تظهر فتنة ظهرت قديماً على ألسنة غلاة المتصوفة وغلاة المتكلمين، وبعض المتحذلقين ورءوس بعض المعتزلة والجهمية، وبعض العباد الجهلة الذين بذروا بذور التصوف، وهي دعوى: أن الإسلام هو اتباع أي نبي، بل قالوا: أي شرع مستقيم أو قويم، حتى إن بعضهم لا يربطه بالأنبياء، فيرى أن المجوس جملة المسلمين، مع أنهم لا ينتسبون إلى نبي، وكذلك الصابئة، وإن كانوا يدعون أنهم ينتسبون إلى يحيى بن زكريا، وقد يستدلون بمثل النصوص العامة في الإسلام العام، وهذا خطأ، بل هو ضلال مبين، فالإسلام كما ذكر الشيخ إن قصد به الإشارة إلى دين الأنبياء فهو ما جاءوا به كلهم، وخاصة ما يتعلق بالعقائد، وفي عهد كل نبي الإسلام هو دينه الذي جاء به شريعة وعقيدة، حتى وإن وجد في وقت واحد أكثر من نبي، فكل منهم جاء بالإسلام في محيط ما بعث به وشرع له، ثم بعد ذلك بعدما ختمت النبوات والشرائع بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن ينصرف الإسلام لأول وهلة إلى هذا الدين جملة وتفصيلاً، هذا الدين بأصوله وفروعه، ولا يجوز التمويه أو استعمال هذا المصطلح على غير سياق بين، لكن مع ذلك إذا أردنا أن نخصص معنى الإسلام بالعقيدة فإنا نقول: كل الأنبياء جاءوا بالإسلام، فهم لا يختلفون في العقيدة، ولا في الثوابت العامة للدين، حتى قطعيات النصوص وقطعيات الأحكام يتفق فيها الأنبياء، وعلى هذا إذا جاء السياق في بيان ما بعث به عموم الأنبياء فنقول: بعثوا بالإسلام، وخاصة جانب الاعتقاد، لكن هذا لا يأتي إلا لمناسبة، ولا يعبر به التعبير المطلق عن الإسلام، ومتى ما جاءت كلمة (الإسلام) فإنه لابد أن يقصد بها لأول وهلة هذا الدين، أما إذا جاءت في السياق تدل على أن المقصود ما جاء به الأنبياء فهي بحسب السياق. إذاً: الأنبياء اتفقوا في أصول الاعتقاد وأصول الدين وقطعياته إلى قيام الساعة، واختلفت شرائعهم، وكل شريعة في وقتها إسلام، ثم ختمت هذه الشرائع بهذه الشريعة، فصار الإسلام على هذا المعنى هو هذا الدين، والشرائع الأخرى حرفت وبدلت ونسخت، فلم تعد تدخل في مسمى الإسلام.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى (الزيادة) في مجازاة المؤمنين ومجازاة المنافقين

بيان معنى (الزيادة) في مجازاة المؤمنين ومجازاة المنافقين Q قلت في كلامك: إن الله عز وجل يجازي عباده الصالحين بالخير وزيادة، ويجازي المنافقين بما يستحقون وزيادة، فماذا تقصد بذلك؟ A هذه العبارة قد لا تكون دقيقة، لكن الزيادة هنا هي بالمعنى المعهود، أقصد أن الله عز وجل يجازيهم على أعمالهم، وأعمالهم متعددة وليست قاصرة على مجرد الذنب؛ لأنهم خادعوا الله وخادعوا المؤمنين، وخدعوا أنفسهم، وكلمة (زيادة) ينبغي أن يفصل فيها أو أن تحذف.

حكم التمسح بأحجار الكعبة والحجر الأسود

حكم التمسح بأحجار الكعبة والحجر الأسود Q رجل رأى آخر بجوار الكعبة المشرفة ويتمسح بالحجر، فأراد أن ينكر عليه، فقال: هذا الحجر لا يضر ولا ينفع، فقام يضرب الحجر بيده عدة مرات عديدة، فهل فعله صحيح؟ A مسألة مسح جدران الكعبة على سبيل التعبد لا تجوز إطلاقاً، إلا مس الحجر أو الركن اليماني، وكذلك على سبيل التبرك فلا شك أنه لا أصل له، لكن ليست كمسح غيرها من الأحجار، لاسيما إذا كان المسح على سبيل الالتزام، والمهم أنه منكر، لكن ليس كمنكرات الأحجار الأخرى. وأما ضربه للحجر يريد بذلك إقناع الآخر، فالذي يظهر أن هذا غير مناسب؛ لأن الذي تمسح بالحجر من باب التبرك ما قصد به ما يقصد عند الأصنام والأوثان التي يزعم أصحابها هذه المزاعم الكبرى، وإنما يقصد البركة المتعدية، وهذا المثال غير مناسب، وأظن أنه لا يليق بهذا المقام، بل ينبغي إقناعه بأن هذا لا أصل له، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بدعة، وضرب الحجر قد يلتبس الأمر على ذلك الشخص، لأنه قال: إنه لا يزعم أو يدعي أنه يتكلم أو ينطق أو يصيح حتى تبرهن له أن الحجر لا يتكلم، وإنما هو يزعم أن هناك بركة متعدية، فأحسن شيء أن يقال له: إن هذا لا أصل له، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجب.

الفرق بين الدعاء للنفس والدعاء للغير وحقيقة الاستثناء بالمشيئة والدعاء للمريض

الفرق بين الدعاء للنفس والدعاء للغير وحقيقة الاستثناء بالمشيئة والدعاء للمريض Q من الدعاء أن يقال للمريض: لا بأس طهور إن شاء الله، لكن من السنة إذا دعا أحدنا فليعزم المسألة، فكيف ذلك؟ A الدعاء للغير ليس كالدعاء للنفس، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن هذا قصد به التفاؤل ولم يقصد به ربط أو استثناء بالمشيئة، فهو ذكر (إن شاء الله) على سبيل التفاؤل، ولا حرج فيه.

خطأ من يزعم أن كل العلم منبثق من الكتاب والسنة كالفيزياء والكيمياء وغيرهما

خطأ من يزعم أن كل العلم منبثق من الكتاب والسنة كالفيزياء والكيمياء وغيرهما Q هل كل العلم منبثق من الكتاب والسنة حتى العلوم الفيزيائية والكيميائية وغيرها من العلوم الطبيعية؟ A لا يوجد أحد قال بهذا، لكن توجد للعلوم أصول أو إشارات في القرآن الكريم، أما أن ينبثق العلم التجريبي من القرآن فبالضرورة لا، والمقصود بالعلم: العلم الشرعي، العلم الذي يتعلق بالأوامر والنواهي الشرعية، سواء في الاعتقاد أو في القول أو في العمل أو في الأحكام، وهذا هو العلم المستمد من الكتاب والسنة. والعلوم الطبيعية التجريبية تستمد من مصادرها، ولتعلمها ضوابط موجودة في القرآن والسنة، منها: أن يقصد بها المرء المصلحة لا الفساد، وأن يحتسب بها خدمة الدين، وأن ينوي بها وجه الله عز وجل. إذاً: هذه العلوم لابد أن تكون مشروطة بجلب المصالح ودرء المفاسد، وهذه تترك للتقعيد، ولذلك الكتاب والسنة يدخلان في تأصيل كل علم من حيث الأصول العقدية والأخلاقية، وأصول المصالح والمفاسد، لا من حيث كونه كله علماً مادياً له مصادره، وهذا مما ينادي به كثير من طلاب العلم اليوم، وهو أنه كما أننا نقول: إن العلوم الأخرى، سواء إنسانية أو تجريبية أو غيرها لها مصادرها، ولا مشاحة فيها في الاصطلاحات، إلا أنهم ينادون بأن تضبط بالضوابط الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، من حيث أهدافها وغاياتها وأخلاقياتها.

دحض شبهة من يقول: ليس من العدل مجازاة الخلق على ما قدره الله لهم من عمل السيئات

دحض شبهة من يقول: ليس من العدل مجازاة الخلق على ما قدره الله لهم من عمل السيئات Q لا شك أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله، خيرها وشرها، ولكن لقائل أن يقول: كيف يستقيم هذا على القول: بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خالقها فيهم! فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله؟! A هذا نوع من الوسواس على مستوى عال عند كثير من الفلاسفة والأذكياء والمفكرين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يذعنوا لله عز وجل، مع أنه قد يخطر هذا الخاطر حتى على عامة الناس، لكن يبقى ضرباً من الوسواس، وسأتكلم بعد نهاية السؤال عن القواعد في هذا. قال: فإن كان الجواب: بأن الله علم ما الخلق عاملون، وقدر ذلك عليهم، كان السؤال: من الذي جعلهم يختارون ذلك فعلمه الله، وإن كان الجواب: بأن الله جل وعلا هو الذي جعلهم يختارون ذلك عاد السؤال الأول، وعند ذلك كيف يستقيم؟ هذه هي الوسوسة لاسيما وظهور الدور فيها -الأوهام فيها دور-، أما أصل القضية فليس فيها دور، فهي واضحة؛ لأنها مبنية على أهمية تركيب قواعد التسليم لله عز وجل، وقواعد القدر. وهذا النوع من الخواطر يأتي على ضربين: الضرب الأول: نوع عارض، وذلك كالذي يجده كثير من الصالحين، بل كثير من الناس، بل ربما كل المسلمين، لكنه يزول أمام قوة التسليم والثوابت التي في القلب، فالمسلم أصلاً قد بنى دينه على ثوابت، هذه الثوابت إذا استقرت في القلب وأذعن لها العقل واستجابت لها العواطف والأحاسيس، فإنها لا يضرها الشيء العارض، فتصطدم هذه الوساوس العارضة بهذه الثوابت فتزول بإذن الله. الضرب الثاني: التشكيك الذي ينبني على شبهات ناتجة عن عوامل كثيرة، منها: التفريط في تحصيل العلم الشرعي، والغرور، والجهل، وضعف الإيمان، والأهواء التي تستحكم على المرء، والمذاهب والاتجاهات، والجهل بالعقيدة السليمة، أعني: عقيدة السلف إلى آخر ذلك من العوامل التي قد تجتمع عند كثير من أصحاب الأفكار الضالة، من القدرية ومن سلك سبيلهم، إذ إن القدرية ليست محصورة بفرقة معينة، بل هي نزعة الاعتراض، وأهمها هذا الاعتراض الذي هو مرض وسوس به القدرية الأولى والقدرية الثانية، وجميع من تكلموا في هذا، من جماعات أو أفراد، سواء قدرية فرقة أو النزعة القدرية عند الأفراد؛ ولذا فأقول: إن هذا الأمر يمكن الجواب عليه باختصار على النحو التالي: أولاً: أننا نعلم أن الله عز وجل قدر الخير والشر ابتلاء وفتنة للعباد، فالله عز وجل يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، والابتلاء له غاية كبرى وحكمة عظيمة. ثانياً: لا بد أن نعود إلى ركن الإيمان، وهو أن تؤمن بالقدر، والقدر هو تقدير الله مشيئة وفعلاً، إرادة وخلقاً، فالله خالق كل شيء، وهو قدر كل شيء، فإذا كان الأمر كذلك فمعنى الإيمان بالقدر أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه من الله عز وجل جاء على جهة الحكمة، ثم إن الله عز وجل بنى أصول القدر على المراتب الأربع: العلم بأن الله عالم بكل شيء، علم ما كان، وما سيكون، وما هو كائن، وكيف يكون، وعلى أي وجه يكون. ثم الكتابة، أي: أن الله كتب مقادير كل شيء، الخير والشر، بما فيها مقادير العباد وأفعال العباد الإرادية واللاإرادية. ثم المشيئة، ومعناها: أن الله شاء كل المقادير بمشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون إلا ما يشاؤه الله من الخير والشر بما فيه أفعال العباد، وبما فيه أفعال الشرك والظلم، وكل الأفعال التي تصدر عن المكلفين، فهي بمشيئة الله. ثم إن الله خالق كل شيء، قدر الشر على العباد وابتلاهم به. وهذه مسألة لها باب آخر، وهي تنبني على الثقة بالله عز وجل، والثقة بعلمه وحكمته وعدله، وبأن الله بكل شيء عليم، وأنه عز وجل فعال لما يريد، وأنه حكيم فيما قدر وفعل، وأنه سبحانه العليم الخبير، وأنه لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وبكمال عدله، فإذا رسخت هذه المعاني في القلب اصطدمت بها الشكوك فلم تؤثر فيها. ثم يبقى الجانب الثالث أضيق، وهو مسألة تقدير الخير والشر والابتلاء به، وكيف أن الله عز وجل قدر الشر وخلقه وابتلى به ثم يعاقب عليه؟ قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فالله عز وجل قد ميز لهذا الإنسان بين الهدى والضلال، وبين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الخير والشر من جميع الجوانب، ثم لما ميز بين هذا وذاك، ابتلى به على نحو إذا تصوره المسلم لم يعد عنده أي إشكال في كمال عدل الله، وذلك أن الله عز وجل قدر الخير وشرعه، أي: أن الشرائع قد تضمنت الأمر بفعله، وأنزل الكتب، وبعث الأنبياء يبينون طريق الخير للناس، ثم إنه أمرهم به وأقدرهم عليه، بل وسهله لهم، ووعدهم عليه بالوعد الحسن في الدنيا والآخرة. كما أنه قدر الشر وحذر منه على ألسنة الرسل وفي الشرائع، ونفر منه العقول السليمة والفطر المستقيمة التي لم تنطمس بعد، فهو سبحانه قدر الشر، لكنه بعث المرسلين وشرع الشرائع في التحذير منه، وبيان طريقه وا

شرح العقيدة التدمرية [24]

شرح العقيدة التدمرية [24] هناك أصول عظيمة كبرى ينبني عليها أصل الدين كله، وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله، وركنا الشهادة أو التوحيد أو العبادة: عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الطاغوت، وهو كل ما يعبد من دون الله. وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإن أصل الدخول في الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمن لم يشهد بذلك فليس بمسلم بل هو كافر.

بعث الرسل بالدعوة إلى توحيد العبادة

بعث الرسل بالدعوة إلى توحيد العبادة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ورأس الإسلام مطلقاً شهادة أن لا إله إلا الله، وبها بعث الله جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]، وقال تعالى عنه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4]، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وذكر عن رسله: كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14] إلى قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، وقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ذكر ذلك في موضعين من كتابه]. في هذا المقطع بين الشيخ رحمه الله أصولاً عظيمة، ومباني كبيرة من مباني الدين، بل هي أصول الدين الكبرى التي ينبني عليها أصل الدين كله، سواء ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أو ما بعث به جميع النبيين، وهو أنه يقوم على شهادة أن لا إله إلا الله، ثم بعد الإسلام: شهادة أن محمداً رسول الله، وقبل الإسلام الشهادة لكل نبي بأنه هو النبي المرسل، وركني الشهادة أو ركني التوحيد أو ركني العبادة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فهذه أصول عامة في كل دين منذ آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة، بعث بها كل رسول وكل نبي وكل مصلح وكل داعية وكل مسلم يجب أن يعتقد ذلك، سواء من المسلمين بمعنى: الإسلام الاصطلاحي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسلمين الذين كانوا أتباع الأنبياء كلهم، فلابد أن يكون دينهم على ذلك، ثم أيضاً في هذه النصوص القطعية إشارة قاطعة إلى أن أصل الدخول في الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن من لم يقل ذلك أو يشهد به فليس بمسلم، وهذا يعطي القاعدة القطعية بأن من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، وهذه من القطعيات والثوابت التي بدأت تنهش أو تزعزع من قبل كثير من المفتونين، ولا أقصد مجرد الزنادقة وأهل الضلال، لكن المفتونين من جهلة أبناء المسلمين، ومن الذين بدأت الآن تغزوهم الأفكار الضالة عبر الوسائل الكثيرة، والذين لم يكن عندهم يقين بأن غير المسلم كافر، بل ربما بعضهم قد يكون كافراً خالصاً، والكفار على نوعين: هناك كفار خلص ينتمون إلى ديانات، وأمرهم بين وواضح مثل اليهودي والنصراني، وكذلك كل من ينتمي إلى ديانة غير الإسلام، فهو كافر أصلاً، لكن هناك أناس يدعون أنهم لا يتبعون ديانات، لكنهم قد يقرون بالنبوات على وجه العموم، وقد يقرون بأن الإسلام حق على وجه العموم، لكنهم لا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهؤلاء أيضاً يشكك في أمرهم كثير من الناس، مع أنهم يدخلون في الكفار الخلص؛ لأن كل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر خالص، سواء تسمى بدينه أو لم يتسمَ بدينه، والعكس كذلك، فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فالأصل فيه الإسلام، ولا يجوز إخراجه من الملة إلا بعد إقامة الحجة عليه، وتطبيق شروط وضوابط التكفير، وانتفاء الموانع مهما بلغ فعله

بيان أنواع الشرك وأصله

بيان أنواع الشرك وأصله قال رحمه الله تعالى: [وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة, والشرك بالأنبياء, والشرك بالكواكب, والشرك بالأصنام، وأصل الشرك الشرك بالشيطان]. ذكر المصنف هنا ستة أنواع من الشرك، وهذه الأنواع يندرج فيها جميع أنواع الشرك، فالنوع الأول وهو الأخير في كلام المؤلف، وهو أصل الشرك وأساسه ومنطلقه: الشرك بالشيطان، سواء بعبادته أو طاعته، وهذا هو أصل أنواع الشرك الأخرى: الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، كما أن هذه الأنواع من أنواع الشرك أيضاً لها تقسيمات أخرى، فمثلاً: الشرك بالملائكة والأنبياء بدعوى أنهم صالحون، وبدعوى أنهم يشفعون عند الله، وهذه كانت ذريعة الشرك الأول، ثم عبدتهم أجيال وأمم -أحياناً- وهي لا تدري لماذا عبدتهم؟ لكن أصل إشراك هؤلاء بالملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هو أن الشيطان أوهمهم بأن هؤلاء أقرب منهم إلى الله، وأنهم يشفعون لهم عند الله عز وجل، فأشركوا بهم، ثم تمادت وتجارت بهم الأهواء حتى جاءت أجيال من هؤلاء يعبدون الملائكة والأنبياء، وهم لا يدرون لماذا يعبدونهم؟ أما النوع الآخر فهو الشرك بالله عز وجل من خلال مظاهر معينة، إما مظاهر العظمة أو الخوف أو الرغبة أو الرهبة، كالشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، فمنها ما هو ذريعة فلسفية إلى الشرك بالله، فمن ذلك: أنهم يزعمون أن الكواكب حلت فيها أرواح إلهية، أو أنها حلت فيها الملائكة، أو أنها تتضمن أرواحاً مقدسة، أو أن لها التصرف بالكون. وكذلك الأصنام، سواء كانت أصناماً أو أوثاناً، أو أصناماً هي أحياناً حيوانات ونحوها، فكلها تسمى أصناماً، فيدخل في هذا الشرك بالشمس والقمر، والسجود للشمس والقمر والنجوم وغيرها، فهو شرك بالله عز وجل، سواء خافوا منها، أو رغبوا فيها، أو زعموا أنها حلت فيها أرواح تستحق التقديس، أو أنها أيضاً حلت فيها الإلهية، أو أن لها تصرفاً في الكون تستحق به العبادة، أو أن لها نفعاً. فمثلاً: الذين عبدوا البقر فلسفتهم في هذا تنبع من أن البقر هي أنفع الحيوانات، يعني: أن الشيطان وسوس للناس حتى أوصلهم إلى الشرك. وهناك عباد للشيطان يوجدون إلى اليوم، وهم مع الأسف مذهب من المذاهب التي تنسب إلى المسلمين، والغربيون الآن يصنفون عباد الشيطان على أنهم من ضمن فئة المسلمين في العراق، ويحاولون أيضاً أن يعطونهم كياناً، بل الآن كل شذاذ الديانات وشذاذ المذاهب في العراق تحاول قوى الكفر والاحتلال أن تنفخ فيهم حتى تكون لهم كيانات لتضرب بهم السنة، وليس فقط الإسلام، فهناك نوع من رفع الشعارات الإسلامية تؤيده أمريكا وأوروبا، ومعلوم هذا ما هو، لكنهم يريدون قمع السنة؛ لأن السنة هي الإسلام الحق الذي يخافون منه ويرهبونه. وعلى أي حال هذا من فضول الأمور، ومن الترف الذي غالبه أقرب إلى الإثم؛ لأن الشرك كله عقوبته في الدنيا والآخرة واحدة، لكن كون بعضهم أشد عذاباً من بعض، فقد ذكر الله عز وجل عنهم بأنهم يتحاجون في النار، ولا نقف عند هذا الحد؛ لأنه ليس لنا شأن في العبادة، فالله يتولاهم، وأيضاً عندما نصنف الشرك تصنيفاً موضوعياً -لا من حيث موقفنا منه- لاشك أنه يتفاوت، فالشرك الأكبر يتفاوت، كما أن الشرك بمعناه العام يتفاوت، فهناك شرك أصغر لا يخرج الإنسان من الملة، كيسير الرياء، والتعلق القلبي ببعض الأمور التي لا يشرع التعلق بها، لكن الشرك الأكبر حكمه واحد. أما كونه أنواعاً ودرجات فهذا معلوم عند جميع العقلاء، لكن درجات وشعب في حكمها، أما في الآخرة فلا فرق، فكلهم من أهل النار المخلدون، نسأل الله العافية. قال رحمه الله تعالى: [فقال عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:116 - 117]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر].

إقرار عامة المشركين بتوحيد الربوبية

إقرار عامة المشركين بتوحيد الربوبية قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلهاً مساوياً لله في جميع صفاته، بل عامة المشركين بالله مقرون بأنه ليس شريكه مثله، بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكاً أو نبياً أو كوكباً أو صنماً، كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فأهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فقال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). وقد ذكر أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذين يقولون بالأصلين: النور والظلمة، وأن النور خلق الخير, والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما: أنها محدثة، فتكون من جملة المخلوقات له. والثاني: أنها قديمة، لكنها لم تفعل إلا الشر، فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور]. هذه كلها مقالات للمجوس وبعض الديانات الشرقية، وهي مقالات لا تعني أنهم يعتقدون التساوي بين ربين أو بين إلهين، وهذه يبدو لي أنها من الحقائق البدهية، فلا أحد حتى الذين قد لا يتعمقون في التفلسف في عبادة غير الله عز وجل، يعني: المشركين الخلص الذين انبنت شركياتهم على مناهج وأديان تتبع هؤلاء عندهم تفلسف واضح، وعندهم أصول وقواعد للشرك، لكن حتى الأمم التي تشرك عن سذاجة، ككثير من الشعوب في آسيا وإفريقيا وغيرها لا تعتقد أن ما تعبده يساوي الله الخالق الأكبر الأعظم، بل لا تتصوره أصلاً؛ لأنه لا يتصور عند التحقق والتفكير -سواء كان تفكيراً سطحياً أو عميقاً- أن أحداً يعتقد أو يمكن أن يعتقد بتساوي إلهين أو ربين، وإن وجد هذا في بعض جوانب الإلهية فلا يمكن أن يوجد في بعض جوانب الربوبية، أعني: أن التساوي في العبادة قد يوجد عند بعض المشركين، لكن في الربوبية لا، وهذه حقيقة ينبني عليها أو يتفرع عنها كلام سيقوله شيخ الإسلام في بقية الفقرات التالية.

توحيد المتكلمين

توحيد المتكلمين قال رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه، فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89] إلى قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى (التوحيد)، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له, وواحد في صفاته لا شبيه له, وواحد في أفعاله لا شريك له]. هذه الأنواع عندهم ترجع إلى قسمي التوحيد، ويغفلون القسم الثالث الذي هو المطلوب من العباد، والذي هو مقتضى بعث الأنبياء والرسل، ومقتضى ما أمر الله به من تحقيق رضاه عز وجل، ومقتضى الفوز بالجنة، ألا وهو توحيد الإلهية، فلا يدخل عندهم في أنواع التوحيد، بل لا يعرفونه ولا يتكلمون فيه، فهم قد دمجوا بين الربوبية والأسماء والصفات، وليس في ذلك ضير، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات بينهما خصوص وعموم كثير، فتوحيد الربوبية داخل في الأسماء والصفات، وكذلك العكس، لكن التوحيد الذي هو المطلوب من العباد، والذي بعث الله به الرسل، والذي عليه الخصام بين الأنبياء وأعدائهم، والذي هو التمييز بين الحق والباطل، والذي يتعلق به ما يرضي الله عز وجل، هو توحيد العبادة، ولذلك هذه الآيات التي ذكرها المصنف كلها في تقييد وبيان أن هذه الأمم الضالة المشركة كلهم يقرون بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والله عز وجل قد عاتبهم على ذلك، لأنه ما دام أنهم يقرون بأن الله عز وجل خلق السماوات والأرض، فلماذا يدعون غير الله؟ وهل هذه المدعوات من دون الله تكشف لهم الضر، أو تجلب لهم النفع؟ سيقولون: لا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من الموحدين أن يقولوا: حسبنا الله، وألا يتوكلوا إلا على الله، بمعنى: لابد من تحقق العبادة له سبحانه، وأيضاً حينما يسأل هؤلاء: لمن الأرض ومن فيها؟ كلهم سيقولون: لله، حتى من يعتقد أن هناك آلهة تدبر شيئاً من الكون يرون أن هذه الآية كلها تحت تدبير الله. إذاً: الله عز وجل نبههم إلى أن يستعملوا عقولهم وأذهانهم، ولذلك جعل صرف أذهانهم وعقولهم وعواطفهم ومشاعرهم عن هذه الحقيقة كالسحر الذي يقلب الحقائق، فقال: (فأنى تسحرون) ما دام أنكم اعترفتم بهذه المعاني كلها، فاعترفتم بأن الله عز وجل رب السماوات والأرض، وأنه رب العرش العظيم، وأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه يجير ولا يجار عليه سبحانه، فما الذي سحركم عن هذه الحقيقة؟ وما الذي سحركم عن العبادة؟ وما الذي سحركم عن الألوهية الحقيقية؟ وما الذي سحركم عن إفراد التوحيد لله سبحانه؟ ولذلك جاء تقرير الحق بمجرد السؤال فقط، فقال: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89]، ولم يزد على ذلك شيئاً؛ لأن هذه حقيقة بدهية، ويكفي أن أكثر الخطاب ينبه عقولهم وفطرهم ومشاعرهم وعواطفهم إلى هذه الحقيقة، وليس هناك داع بأن يقول: لماذا تسحرون عن هذا الحق الذي هو كذا وكذا؟ يعني: أن المسألة هذه غير طبيعية، فأنتم قلبتم المفاهيم وعكستم المطلوب، وكذلك بقية الآيات، وهي كثيرة في كتاب الله عز وجل. والدخول في هذا يحتاج إلى شيء من المقدمة، ولعلي إن شاء الله أبدأ فيه في الأسبوع القادم، والمهم أن هذه الأنواع -أنواع التوحيد- هي الأنواع التي يقررها الفلاسفة والملاحدة وكثير ممن انحرف من الأمم الضالة نحو النزعات العقلية والفلسفية، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يعتب على أهل الكلام فيقول: أنتم ما أتيتم بجديد، فحينما قسمتم التوحيد إلى هذه الأقسام ما قررتم حقاً ولا أبطلتم باطلاً؛ لأن هذا الذي

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما يجب لله من حيث الإجمال ثم التفصيل، والفرق بين أفعال الله وصفاته

بيان ما يجب لله من حيث الإجمال ثم التفصيل، والفرق بين أفعال الله وصفاته Q ما الفرق بين الأفعال والصفات الفعلية؟ ثم قبل ذلك ما هي الفروق بين أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله وبين الأخبار؟ A ما يتعلق بترتيب ما يجب في حق الله عز وجل من حيث الخصوص ثم العموم، أو من حيث الإجمال ثم التفصيل، أولاً: يجب إثبات ذات الله عز وجل المعبر عنه بإثبات الوجود؛ لأنه لا يتصور عقلاً أن يكون هناك موجود بلا أسماء وصفات على الإطلاق؛ لأنه بمجرد إثبات الوجود لابد من إثبات الذات، ثم الأسماء والصفات، أما الأفعال والأخبار فإنها من مستلزمات ذات الأسماء والصفات من جهة العموم، أما على جهة التفصيل فإن أفعال الله عز وجل لابد من إثباتها تفصيلاً، أي: بمفرداتها، بحسب ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنها أخبار تفصيلية، ومعلوم أن الإثبات على نوعين: إثبات إجمالي يقتضيه العقل والفطرة، وتقتضيه الدلائل والشواهد وهو إثبات وجود الله عز وجل، وأيضاً وجود المخلوقات، والفرق بين الموجودين، أو ضرورة إثبات الكمال لله عز وجل للخالق، والإقرار بالنقص للمخلوقات؛ لأنه ما من مخلوق يتصور كماله إلا وكماله محدود ومقيد بالحاجة والفناء والافتقار، والغنى المطلق لا يكون إلا لله عز وجل. وأيضاً مما تقر به العقول والفطر السليمة أنه لا يمكن أن يكون وجود بلا صفات، أو بلا أسماء وصفات. ثانياً: التفصيل في هذا كله، إذ التفصيل موقوف على الكتاب والسنة، وعلى خبر الغيب الذي لا يكون إلا بالوحي المعصوم؛ لأنه يستحيل لجميع العقول والقدرات البشرية والفطر أن تدرك الغيب، ويستحيل عليها أيضاً أن تحيط بالكثير مما ورد من التفاصيل في الكتاب والسنة في حق الله عز وجل، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. أما الإجماليات -فكما قلت- فلا يكمل بها دين ولا يستقيم بها أمر، ولا يتحقق بها رضا الله عز وجل، ولا يتحقق بها حق الله على ما يرضيه سبحانه، فكان لابد من الشرع، ولابد من الوحي المعصوم الذي يكون به إثبات. وأما الفرق بين الصفات الفعلية والأفعال لله فهو أنه فيما يتعلق بالله عز وجل لا فرق، وأما فيما يتعلق بالمفهوم العام فقد تكون هناك بعض الفروق، لكن لا يهم هذا هنا؛ لأن الأفعال أحياناً تكون مختلطة بالأخبار، فلا يلزم منها إثبات الصفات؛ لأنه إذا قلنا: صفات فعلية، فهذا يعني: تقييد الصفات لكونها فعلية، وأيضاً بتقييد الأفعال لكونها صفات؛ لأن الوصف العام قد يكون مما ترد به الأخبار، لكن لا نستطيع أن نثبته كصفات أو يكون فيه الخلاف. وضربت لهذا بأمثلة مرات عديدة: المكر، أو الاستهزاء بالمنافقين ونحو ذلك، فهذه أخبار جاءت عن الله عز وجل، لكن هل يلزم أن نثبت بها صفات فعلية، أو لا يلزم؟ محل خلاف بين العلماء، بينما الأخبار كلها تتضمن أوصافاً عامة، لكن هل تثبت صفات مفردة لله عز وجل؟ هذا أمر يحتاج إلى تقعيد وتقييد، وأحسن من قعد له وقيد له: ابن القيم فيما أعلم، وأيضاً الشيخ: محمد بن عثيمين رحمهما الله تعالى.

بيان عقيدة أهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

بيان عقيدة أهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب Q نريد إيضاحاً عن عقيدة أهل نجد قبل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، وهل كانوا على عقيدة الأشاعرة أم لا؟ A أهالي نجد كانوا قبل دعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب قد مروا بمراحل كثيرة، من ضمنها أنهم كانوا في عهد الخلفاء الراشدين، ودولة بني أمية كعموم المسلمين، وكذلك في أول دولة بني العباس، فقد كانوا على السنة، ولا يعرف أن عندهم مذاهب عديدة، حتى جاء نهاية القرن الثالث والرابع فدخلت عليهم الباطنية، وانتشرت البدع والقبورية والشركيات والتصوف، وظهرت فرق كثيرة من القدرية ومن المرجئة ومن الجهمية، فكان أهالي نجد أوزاعاً وأشتاتاً بين كل من يؤثر فيهم ممن يردهم، وبين كل من تأثر فيهم ممن يسافر إلى خارج نجد، لذا كان كثير منهم يسافرون إلى العراق، ويسافرون إلى الشام، ويسافرون إلى الهند، ويسافرون إلى مصر، فيتعلم ثم يأتي بما تعلم. فلذلك ما كانت هناك سمة عامة لأهل نجد قبل دعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، ولذا يمكن أن يقال: هذا هو مذهب عامتهم، وغالبهم كان عنده تصوف، وعندهم نزعة أشعرية، وفيهم مذاهب أخرى كثيرة، فهم قد تنازعتهم المذاهب كما تعرفون، لكن لم تكن هناك في نجد حواضر كبيرة، بل أغلبهم بواد وأرياف، والبوادي والأرياف يسيطر عليهم الجهل، وعامتهم أو غالب عوامهم على الفطرة مع الجهل. إذاً: فقد كان أهل نجد كغيرهم من سائر العالم الإسلامي، تجتذبهم تيارات كثيرة وفرق كثيرة، حتى دعوة الشيخ الإمام: محمد بن عبد الوهاب، وهذا لا يعني أنه لم يكن بينهم سنة، بل كان بينهم أهل سنة، واتضح هذا من بعض الإشارات إلى أشخاص، والإشارات إلى خلافات ونزاعات بينهم وبين غيرهم، لكن كان أكثر أهل السنة من المستضعفين الغرباء، ووجودهم كان وجوداً انطوائياً محدوداً ببعض الشيوخ وبعض التلاميذ، أما المشيخة الكبرى فكانت تتنازعها الاتجاهات والأهواء، وهذا هو الظاهر من وصف المؤرخين، ومن رسائل أئمة الدعوة في وصفهم للحال، وعلى رأسهم الإمام: محمد بن عبد الوهاب.

شرح العقيدة التدمرية [25]

شرح العقيدة التدمرية [25] لقد أقر المشركون بربوبية الخالق في الخلق والإيجاد، ولم ينفعهم هذا الإقرار؛ لأنهم أشركوا مع الله غيره في توحيد العبادة والألوهية والقصد والطلب، وكذلك من تبعهم من أهل الأهواء والزندقة، وأهل الكلام شغلوا أوقاتهم وأضاعوا أعمارهم في تقرير شيء لا خلاف فيه وهو وجود الله تعالى، مع عدم اهتمامهم بالتوحيد الذي بعثت به الرسل وهو توحيد الألوهية أو توحيد العبادة.

وقوع الغلط من المشركين في مسمى التوحيد

وقوع الغلط من المشركين في مسمى التوحيد

بيان قولهم: إن الله واحد في أفعاله لا شريك له

بيان قولهم: إن الله واحد في أفعاله لا شريك له قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث: وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب, وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى قد يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع. ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون. فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله، كالقدرية وغيرهم، لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا: إنهم خلقوا أفعالهم. وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور]. المقصود بـ (الطبع) هنا: الطبائعيون الذين يزعمون أن الطبيعة بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها، أو أن الطبيعة ركبت على أنها تحدث أحداثاً ليس لله عز وجل فيها دخل، أو الذين يرون أن الأمور تنبني على ما طبعت عليه، وهم صنفان: الأول: الذين يرون أن الطبيعة هي الخالق، وهي المخلوق، ولا فرق في ذلك، وعلى هذا فهم يرون أنها بذاتها هي التي تسير نفسها بنفسها. الثاني: وهو المقصود هنا، وهؤلاء يزعمون أن الكون ركب على طبع، أي: أنه ركب على نظام، وهذا النظام يجعله يسير نفسه بنفسه، دون أن يكون للرب عز وجل فيه دخل، أو أن بعض أجزاء الكون ركبت وطبعت على أنها تنشئ أفعالها أو أفعال غيرها من دون تقدير الله، وهذا التصور نتج عنه -حينما دخل على بعض فرق الأمة- اعتقاد بأن هناك من المخلوقات من يدبر مع الله عز وجل، وأنه يستقل بشيء من أفعال الخلق أو أمور الخلق من دون الله، فبعضهم أحال ذلك على النجوم والكواكب، ومنهم من أحال ذلك على الأشخاص، كالأئمة الذين يقدسونهم بعض الناس، فجعلوا لهم تدبيراً في الكون جزئياً أو كلياً، أو الذين يقدسون الأولياء، إذ زعموا أن الأولياء يدبرون الكون أو بعض الكون، بل إنهم صنفوا الأولياء إلى أصناف، فزعموا أن القطب والغوث يدبر الكون كله، وأن من دونه من الأوتاد -أحياناً يقولون: أربعة أو اثنا عشر أو أربعة ثم اثنا عشر- يأخذ ربعاً من أرباع الكون يدبره. والمهم أن منشأ الفلسفة واحد، وهو اعتقاد أن هناك من يدبر الكون مع الله عز وجل، وهذا خلل في توحيد الربوبية، وبالتالي نتج عنه بالضرورة الخلل في توحيد الإلهية؛ لأن من زعم أن ثم مخلوقاً يدبر مع الله لاشك أنه سيصرف له شيئاً من العبادة من دون الله. قال رحمه الله تعالى: [فهم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة]. كلمة (الصانع) هذه استعملها الشيخ رحمه الله على غير القاعدة التي يقول بها ويقول بها السلف، وكان المفروض أننا لا نورد كلمة (الصانع) إطلاقاً، وإنما يقال: الخالق، لكن الشيخ أورد مصطلحاتهم ليقيم الحجة عليهم، وقد فعل ذلك في كثير من مؤلفاته التي قصد بها الذين ابتلوا بالنزعة الفلسفية والنزعة الكلامية؛ لأنهم يستعملون هذه الكلمات أو العبارات، بل إن بعضهم قل أن يصف الرب عز وجل بصفاته، بل يقول: الصانع، وعلى هذا فإن الشيخ ربما أراد التنزل معهم في هذا المصطلح وغيره حتى يحرجهم، أو يبين وجه الباطل عندهم، أو استدراجهم إلى استعمال مصطلحاتهم حتى يأخذوا بالحق، أو يقبلوا به، ولا يعني هذا أنه يجوز لنا استعمال مثل هذه المصطلحات، ولذا أقول: من كشيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي لمثل هذا المقام، بأن يستعمل مصطلحات القوم لهدم أصولهم؟ إن هذا يندر أن يرقى له طالب علم، أو متخصص، ولذلك ينبغي أن تتفادى هذه المصطلحات؛ لأن لها معاني لا تليق بالله عز وجل، فينبغي أن يقال: الخالق بدل الصانع. ولذا من الخلط والتهور الذي يقع فيه كثير من طلاب العلم أنهم يستعملون أساليب استعملها شيخ الإسلام للرد على أهل الأهواء، مع اختلاف الحال والمقام والقدر، سواء كانت أساليب كلامية أو مناهج أو طريقة الدعوة أو طريقاً لهم في الحجة أو أساليب عملية تنفيذيه، فنقول: إذا الواحد منا وصل إلى مثل مقام شيخ الإسلام ابن تيمية، في سعة علمه، وقدراته العقلية، وقوة حجته، وإلزامه للخصوم، واحترام الخصوم له، فقد كان خصومه من أكثر الناس ثناء عليه واعترافاً بفضله، وهذه قل أن توجد في التاريخ، وأنا قد وجدت فعلاً أن أكثر من أثنى على شيخ الإسلام، واعترف له بسعة العلم، والمقدرات الراقية في العلم والتعامل، هم خصومه كـ السبكي وغيره، وعدد من الشافعية والمالكية والأحناف، ومن الفرق، كالأشاعرة وغيرهم، عند ذلك لا مانع أن يستعمل بعض أساليب العلم، وهذا ما أشرت إليه في أول كلامي عند حديثي عن الإجابة عن بعض الأسئلة، فقد قلت: إن بعض الناس الآن يقلد على غير جدارة، ويأتينا بأ

وقوع الغلط من المشركين في قولهم: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له

وقوع الغلط من المشركين في قولهم: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له قال رحمه الله تعالى: [وكذلك النوع الثاني، وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته، فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته، سواء قال: إنه يشاركه، أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور. وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات، يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم، وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك، كاتفاقهما في مسمى (الوجود) و (القيام بالنفس) و (الذات) ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية، وقد تقدم الكلام على ذلك]. عادة الشيخ أن يضرب أمثلة في مثل هذا المقام وإن كانت بدهيات؛ لأنه بالأمثلة يفهم السياق لاسيما في هذه الأمور الصعبة. قوله: (قد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات) أي: بعقل كل عاقل يحترم عقله، وإن لم يكن مسلماً. وقوله: (يشاركه فيما يجب) هذه عبارة فلسفية، فـ (يجب) بمعنى: يلزم بداهة، وليس الوجوب وجوب الأمر الشرعي كما يفهم في الأحكام الشرعية، وإنما (يجب) بمعنى: يلزم فيما تقرره العقول بالشكل البدهي، فمثلاً: ليس لأحد أن يزعم أن هناك أحداً يشارك الله عز وجل فيما يجب له من خصائص، ككونه عز وجل (الأول) فليس قبله شيء، إذ إن عدم الإقرار بها يؤدي إلى التسلسل، وإلى الممنوع عقلاً، وكذلك (الآخر) الذي ليس بعده شيء، وهذا يمتنع أن يكون له مثل من المخلوقات؛ لأنه لو كان له مثل ما صرح له إذا كان مخلوقاً، فمعناه: أنه مبدع محدث، وكون المحدث لابد له من بداية. وقوله: (أو يجوز) ليس معناه: أنه جائز شرعاً، بل هو بمعنى: يحتمل، فيقر به العقل ولو لم يكن، كالرؤية لله عز وجل، فالعقل السليم لا يمنع أن الله يرى، لكن يمنع أن تكون عند البشر قدرات أن يروه في الدنيا، والله عز وجل سيهيئ للبشر قدرات يوم القيامة ليروه. إذاً: هذا مثال للجواز، فكل موجود يجوز أن يرى، بمعنى: يحتمل أن يرى، لا أن (يجوز) بمعنى: يصلح شرعاً، بل هنا (يجوز) بمعنى: يحتمل أن يقع، أو يتوقع وقوعه، وهذا يقبله العقل ولو لم يحدث، ولو كان مستحيلاً حدوثه بناء على موانع أخرى، لكن كل موجود موصوف يسمى يمكن أن يرى. وقوله: (أو يمتنع) كالموت، فهذا ممتنع عقلاً، أي: أن كل حي لابد أن يموت، ويبقى حي لا يموت، وهو الله عز وجل؛ لأنه من يقدر الموت. إذاً: هذه بدهيات فيما يجب، فكونه عز وجل الأول والآخر لا يشاركه فيه أحد فيما يجوز أن يمكن كالرؤية، أو يمتنع كالموت.

التوحيد عند أصناف الجهمية

التوحيد عند أصناف الجهمية قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى (التوحيد)]. تأمل الدقة في الوصف والتأصيل: (ثم إن الجهمية) ثم قال: (من المعتزلة)؛ لأن كثيراً من الناس يفهم أن الجهمية شيء، والمعتزلة شيء وهذا صحيح من وجه، لكن المنهج واحد تجاه ما يجب لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي التطبيقات والتفاصيل يختلفون، ولذلك أصول المعتزلة هي أصول الجهمية من حيث التأصيل لا من حيث التطبيقات، ولذلك هناك أناس وقعوا في مناهج الجهمية وهم غير معتزلة، لكن قد يقول قائل: بما أن المعتزلة تنكر صفات الله عز وجل فهي إذاً جهمية. ولذا فالتجهم هو المنهج الذي يسلك مسلك التعطيل والتأويل في أسماء الله وصفاته، وتقرير الدين بالرأي والعقل فيما يتعلق بقضايا الدين الأخرى، وتقديم العقل على النقل، أو تحكيم العقل في الشرع، وعرض النصوص على مناهج مسبقة، ثم ما وافق من هذه النصوص لمناهجهم أخذوا به، وإلا فلا، فهذا هو التجهم بمعناه العام، والجهمية قد تركت التعطيل، وسلكوا مسلك التأويل، وهذا مما جعلهم يختلفون، فتنساب أصولهم ومناهجهم بسرعة في الفرق الأخرى، وما أن انتهى القرن الثالث إلا وأغلب الفرق على مذهب الجهمية، ولا يعني ذلك أنها تخلت عن مناهجها، فإذا قلنا مثلاً: الرافضة جهمية، فيظن أنها تركت الرفض، لا، فهي رافضة وزادت عليه التجهم، وكذلك إذا قلنا: إن الخوارج المتأخرة صاروا جهمية، فيظن أنهم قد تخلوا عن مذهب الخوارج، لا، فهم لا يزالون خوارج وزادوا مذهب الجهمية؛ لأن الخوارج الأوائل لا تتكلم في الصفات إطلاقاً، فاختلطت الفرق، وما أن انتهى القرن الثالث إلا وأكثر الفرق على مذهب الجهمية، بما فيها الفرق الكلامية، كالكلابية في ذلك الوقت، بينما لم تظهر الأشاعرة في ذلك الوقت، وكذلك الماتريدية، ولذا فإنه من حيث شدة المناهج وضلالها، فإن أوسع شيء الباطنية الفلاسفة الغلاة، ثم الجهمية، ثم المعتزلة، ثم الفرق الكلامية. ويدخل في الجهمية والمعتزلة متأخرة الرافضة، ويدخل أيضاً من باب أولى الزيدية، وأغلب متأخرة الخوارج، فهم على منهج الجهمية في هذا الجانب، أي: الجهمية الثالثة أو الدائرة الثالثة، وهي الأوسع عدداً والأضيق مذهباً، وتلك أوسع مذهباً وأضيق عدداً، فالجهمية الخالصة أوسع مناهج وأضيق عدداً، ثم تليها: الجهمية المتوسطة، وهي: المعتزلة ومن نشأ عنها مباشرة، كالرافضة والزيدية، ثم الفرق الكلامية من الأشاعرة والماتريدية. ثم إن كل الفرق تؤول ما عدا أهل السنة والجماعة، وهناك مشبهة لكنهم ندرة، إذ ليسوا بفرقة، وقد كان التشبيه الأول في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وهو الذي كانت عليه الرافضة، فقد كانوا مجسمة مشبهة ممثلة لله، ثم مع عنف الردود عليهم وقوتها من أهل السنة ومن المعتزلة ومن جميع الفرق انتقلت المجسمة إلى مؤولة تماماً وهكذا الفرق تقلبت في القرن الثاني والثالث، لكن لا أعرف فرقة تركت أصلها إلى السنة، أو تركت أصلها إلى أصل آخر، كأن تجد المرجئة يتحولون إلى الخوارج، والخوارج يتحولون إلى مرجئة، وتجد رافضة يتحولون إلى جهمية أو إلى معتزلة، أو يحصل الاندماج بين الفرق جميعاً، فتتداخل في أصولها، كالجهمية فقد دخلت على الجميع، وبقيت كل فرقة لها خصائصها الأولى، ولم يسلم من ذلك إلا مذهب السلف، أما الفرق فما أعلم فرقة سلمت من مذهب الجهمية، حتى الطرق التي تعتبر وعاء الافتراق، مع أن بعض الناس يظن أن الطرق فرقة، والصحيح أنها وعاء لجميع المذاهب، فمثلاً: طرق الصوفية وعاء لجميع المذاهب التي خرجت عن السنة، بل إن طرق الصوفية دخلتها مذاهب الأمم المشركة والصابئية واليهودية والنصرانية والوثنية، إضافة إلى أن جميع الفرق لها طرق، حتى الخوارج وهم أبعد الناس عن الطرقية يوجد في بعض نواحيهم البعيدة في إفريقيا من دخلوا في الطرق، لكن ليس هذا من منهجهم، أي: الدخول في الطرق؛ حتى لا نظلمهم أيضاً. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى (التوحيد)، فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون: إنه مشبه ليس بموحد. وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد. وزاد عليهم غلاة الغلاة، وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات; لأن في كل منهما تشبيهاً له. وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فراراً من تشبيههم -بزعمهم- له بالأحياء]. نقف عند هذا الحد، وإن شاء الله في بداية الدرس القادم نقعد لهذه المسائل، أو نختصر تقعيد الشيخ؛ لأن فيه تداخلاً ويحتاج إلى شيء من الأمثلة. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصبحه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

أسماء الله ليست محصورة في تسعة وتسعين اسما وضرورة الاكتفاء بما ورد من الأسماء في الكتاب والسنة

أسماء الله ليست محصورة في تسعة وتسعين اسماً وضرورة الاكتفاء بما ورد من الأسماء في الكتاب والسنة Q هل أسماء الله عز وجل محصورة في مائة اسم، مع أن الحديث الذي ذكرها مفصلة لم يكن ثبوته كثبوت حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)؟ A على أي حال الشيء الذي تقتضيه النصوص، وقواعد الشرع، والعقول السليمة في حق الله عز وجل، وما فطر الله عليه أهل الحق من معرفة حق الله عز وجل في أسمائه وصفاته: أن أسماء الله لا يمكن حصرها أبداً، وأدلة ذلك قطعية، ومنها: حديث الشفاعة الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه يوم القيامة بمحامد يلهمه الله إياها، وأيضاً حديث: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك). فهذه الأحاديث بمجموعها متواترة المعنى، وتدل على أن أسماء الله عز وجل غير محصورة بما ذكر في الحديث، لكن أيضاً ينشأ عن هذا سؤالاً آخر، وهو: هل نحن عندما نثبت لله عز وجل الأسماء والصفات نكتفي بما جاء ذكره في الكتاب والسنة، أو ممكن أن نزيد عليها؟ إذا أخذنا باب التورع والأحوط والأسلم فلا يجوز أن نذكر لله عز وجل اسماً غير ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه ليس لله أسماء غيرها وردت في الكتاب والسنة، بل إن غيرها من معاني الكمال التي تخطر على بال البشر، وما يتكلمون به، وما يمكن أن يعبروا عنه، لا تخرج عن هذه الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، وليس ذلك بالنسبة لمداركنا؛ لأن أسماء الله محصورة، لكن ما خاطبنا الله به وما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله عز وجل فيه، كلما يمكن أن يخطر على البشر فيما أعطاهم الله من قدرات، وعلى هذا فلا يجوز أن ننشئ لله اسماً لم يرد في الكتاب والسنة، وإنما يأتي من باب الوصف والخبر، أي: أنه كلما يمكن أن يعبر عنه لله عز وجل من الكمالات فهو من باب الوصف والخبر، وما يمكن أن يستنبط منه اسم فيرد إلى الأسماء الموجودة؛ لأنها شاملة وكاملة، وبابها يندرج فيه كل كمال، مثل: الحي القيوم، العلي العظيم، واسم الجلالة: (الله) وذو الجلال والإكرام، فهذه الأسماء الجامعة يندرج فيها كل كمال يمكن أن يتوهمه بشر، سواء كان في قلوبهم أو في خيالاتهم أو في ألسنتهم أو عبروا عنه أو لم يعبروا عنه، فكل كمال يليق بالله عز وجل فإنه يندرج تحت ما جاء ذكره من الأسماء والصفات في الكتاب والسنة، وهذا هو الأسلم والمنهج الذي عليه عامة السلف. فالعدد لا نستطيع أن نتحكم فيه، أما الأصول فلا شك أن لها أصولاً من حيث إنها كمال، ومن حيث إنها كلها حسنى، ومن حيث إنها كلها تدل على لوازم، وكلها تدل على الصفات والأفعال إلى آخره، ومنها المتعدي ومنها غير المتعدي إلى آخره، هذه قواعد معروفة عند أهل العلم أتت من استقراء الأسماء والصفات في الكتاب والسنة ومن تطبيق معاني اللغة العربية التي جاء بها القرآن والتي هي لسان النبي صلى الله عليه وسلم. فمن حيث القواعد لا شك أن قواعد الكمال وقواعد الاحتياط وقواعد نفي النقص وأيضاً الدلالات اللغوية لمعاني أسماء الله وصفاته هي قواعد معتبرة ما لم تؤد إلى اشتباه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) ليس على سبيل الحصر؛ فإن الذي يفهم العربية لا يفهم من سياق النص الحصر، كما تقول مثلاً وأنت تملك آلاف الدراهم: عندي ألف درهم، فهذا لا يعني أن هذا كل ما تملكه، فيحتمل أنك تملك غيرها، إنما أردت أن تخبر عن حد معين لغرض معين. فعلى أي حال ألفاظ الحديث لا تدل على الحصر، لكن ومع ذلك ربما سياق الحديث بهذه الصورة وبهذا العدد ربما يعني أن هذه الأسماء التسعة والتسعين شاملة لكل ما عداها، حتى من الأسماء الأخرى التي لم ترد، والله أعلم.

دحض شبهة بعض الشيعة فيما يتعلق بما جرى بين الصحابة

دحض شبهة بعض الشيعة فيما يتعلق بما جرى بين الصحابة Q هناك شبهة من قبل بعض الشيعة، وهي أنهم يقولون: تلوموننا على سب الصحابة وتسكتون على من قتلهم! فكيف ذلك؟ A هذا كلام جاهل، ولا ينبغي أن ينطلي أيضاً على مسلم، ثم نحن لا نؤيد قتل الصحابة، إذ إنه ليس من منهج أهل السنة والجماعة أنهم يسكتون عن قتل الصحابة، بل ولا يعتقد ذلك مسلم أبداً، وهذه الشبهة إنما تأتي من فراغ أو من كذب عند الفرق، وقد تنطلي على كثير من شبابنا اليوم، وهي في الحقيقة كذب وافتراء، وأهل السنة والجماعة يلومون من سب الصحابة ويدينون الله بذلك، وهذا بمقتضى نصوص الكتاب والسنة ومناهج الدين القطعية التي لا يستقيم الدين إلا بها، أي: أن من سب الصحابة فنلومه ونؤدبه إذا ملكنا وقدرنا على ذلك. لكن لا يعني ذلك أننا نسكت على من قتلهم، بل نلوم من فعل ذلك، فمثلاً: الذين قتلوا عثمان لا يزالون محل سبة عند الأمة، والذين قتلوا علياً لا يزالون محل سبة عند الأمة، وكذلك كل من قتل صحابياً فهو محل سبة عند الأمة، حتى الذين قتلوا الحسين رضي الله عنه، وهذا هو الذي يبدو لي أن أصحاب هذه النزعة يقصدون قتل الحسين رضي الله عنه، إذ إننا لا نسكت عمن قتل الحسين، ونرى أن قتله ظلم، لكن لا نجلس نصرخ وننعق ونضيع ديننا ودنيانا من أجل قتل الحسين رضي الله عنه، فهو رضي الله عنه قد خرج متأولاً مخطئاً، وقد نصحه الصحابة ولم ينتصح، وأراد الله عز وجل له الشهادة واستعجله عن الفتنة، ثم لا ندري ماذا كان يقصد الحسين من خروجه؟ وليس أهل السنة الذين تواطئوا على قتل الحسين، وإنما هم أناس حمقى ينتسبون للسنة، وبعضهم من الزنادقة، وبعضهم الله أعلم بحالهم، إذاً نحن لا نؤيد قتله، ويعتبر قتله خطأ، ولم نعتذر لهم ولم نسكت عنهم. ولو كان الحسين حياً لأدب هؤلاء الذين يولولون ويصرخون، وأيضاً لو أردنا أن نقتص للحسين لاقتصصنا من شيعته؛ لأنهم هم الذين خذلوه على مبدأ علي بن أبي طالب، إذ يقول: لو تمالأ أهل اليمن كلهم على قتل فلان لقتلتهم. وهؤلاء هم الذين استنهضوه واستدرجوه واستعطفوه وكذبوا عليه وأرسلوا له الكتب والرسل، وأعطوه العهود والمواثيق لينصرنه إذا جاء، فلما أقبل خذلوه وقالوا: لا طاقة لنا ببني أمية، وتركوه لغوغائية التفوا حوله في الصحراء وقتلوه، وربما الذين قتلوه هم الذين قتلوا أباه، والله أعلم بذلك. إذاً: نحن أولى بـ الحسين من هؤلاء، ونحن الذين نأسف عليه أسفاً حقيقياً، ونحن الذين نرى أن الذين قتلوه أصحاب فتنة، ونحن الذين نعتقد أن ما حصل له إنما هو ابتلاء، وأنه تأول وأخطأ، ويغفر الله لنا وله، ونعرف أن الصحابة نصحوه وعلى رأسهم أقاربه، ومنهم: صاحبه عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فقد حاول أن يثنيه حتى اغبرت قدماه في الصحراء وهو يقول: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذهب، فإن القوم قوم غدر، غدروا بأبيك. ومع ذلك أبى إلا أن يأخذ برأيه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وعلى أي حال أنا أحب أن أؤكد أن أكثر الشبهات التي يثيرها القوم قديماً وحديثاً، والآن أنشئوها من جديد وأربكوا بها شبابنا إنما هي من الأمور التي لا أصل لها، فهي من كذبهم ومفترياتهم، والإنسان الخالي الذهن من شباب أهل السنة والجماعة يظن أنهم على حق، وربما يستعطفونه، فيجرم السلف وهو لا يدري، ويتعاطف مع القوم وهو لا يدري، فيجب أن نتنبه حتى لا نستغفل بمثل هذه المقولات. ثم إن من وسائل أهل البدع والافتراق، بل من وسائل الكفار ضد المسلمين الإنترنت، فينبغي مناصحة الشباب بأن لا يتوغلوا في الإنترنت، وألا يستخدموه إلا للأغراض السليمة والمصادر النقية، لكن مع ذلك الآن أصبح وسيلة تستهوي شبابنا، فينبغي أن نتنبه لذلك، وهذا هو واجب المربين، وأولهم المعلمون ثم طلاب العلم والمشايخ، فينبغي أن يكفوا أو يصرفوا الشباب عن الانجرار خلف الإنترنت والفضائيات؛ لأن شرها أكثر من خيرها، وأن تضبط استعمالات هذه الوسائل، فهي وسيلة قد تكون مفيدة في تتبع الدروس والعلم والفوائد المفيدة التي تصدر عن علماء الأمة وعن غيرهم، وقد تكون غير ذلك. وكذلك الفضائيات، فقد أصبحت الآن مصدر شر إلا القليل منها، ولعله من الخير أن الله عز وجل عوض الأمة بظهور بعض الفضائيات الجيدة، مثل: المجد، ونرجو أن تتبعها فضائيات أخرى، إذ إنها في هذه الظروف تعتبر غيثاً ورحمة للأمة، لاسيما مع عموم البلوى في هذه الوسائل. ثم مثل هذه الوسيلة أصبحت حجة على من يدعي أنه يحتاج إلى الفضائيات، وأنه لابد أن يدخله إلى بيته، فنقول: إذا كنت ولابد، وقصدك الأخبار ومتابعة الأحداث والأمور المهمة، فهذه القناة نقية، ونسأل الله أن يثبتنا والقائمين عليها على الحق.

شرح العقيدة التدمرية [26]

شرح العقيدة التدمرية [26] كل أنواع التوحيد التي قال بها المتكلمون يقر بها المشركون، فهم لا ينكرون أن الله واحد في ذاته وفي أفعاله، وإن كانوا يناقضونها بشركهم بألوهية الله تعالى، فالقضية المهمة هي توحيد العبادة (الألوهية) فهم لا يعبدون الله عز وجل، وبهذا يتبين أن الأمور التي يدندن حولها أهل الكلام متبعين فيها الفلاسفة هي أمور مفروغ منها ولا تحتاج إلى تقرير، فهم يكدون ويتعبون في خيالات وأوهام وتخرصات.

تابع وقوع الغلط من المشركين وغيرهم في مسمى التوحيد

تابع وقوع الغلط من المشركين وغيرهم في مسمى التوحيد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه، ويسمون أنفسهم (الموحدين)].

قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له

قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له قال رحمه الله تعالى: [وكذلك النوع الثالث، وهو قولهم: هو واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ، أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد]. هذا كله من التخرصات والقول على الله بغير علم، وكله نتيجة لاستجابة مناهج الفلاسفة في طرائق تفكيرهم، ولذلك الذين وقعوا من المتكلمين في هذه المناهج كلهم تأثروا بالفلاسفة، وهم لا يجحدون ذلك، بل يعترفون ويعتزون بذلك، وهذا مما يدل على أن هذه أمور دخيلة أصلاً، فلا يمكن أن ترد في ذهن إنسان خال من المنهج الفلسفي، أو إنسان ليس عنده اتجاه فلسفي، ولم يتأثر بمناهج المتكلمين، لكن تصوراتهم عن الله عز وجل تصورات ذهنية فقط أوقعهم في هذه الأوهام والتخرصات. وقد سبق أن أشرت إلى ذلك، وأؤكد في هذا المقام لتعرفوا فعلاً أنهم جروا الأمة إلى هذه المعارك الكلامية، بناء على تصور خاطئ عن الله سبحانه، وهو أنهم لا يرون لله وجوداً ذاتياً، وإنما يرون وجود الله وجوداً ذهنياً عقلياً فكرياً فقط، ومن هنا لما سمعوا بأسماء الله وصفاته وأفعاله صعقوا؛ لأن هذا يتنافى مع ما توهموه، فهم قد توهموا أن وجود الله مجرد وجود ذهني أو وجود عقلي أو وجود في التصور والخيال لا في الواقع، بمعنى: أنه ليس لله وجود ذاتي منفرد منفصل عن المخلوقات؛ ولذا اعتبروا من التوحيد أن الله واحد لا قسيم له، مفروض يصير هذا بديهي أصلاً، وجاءت كلمة (قسيم) لأنهم حينما اعتقدوا أن وجود الله ذهني، ثم سمعوا بالنصوص التي تؤكد أن لله وجوداً ذاتياً، وأن هذا الوجود لابد أن يكون متصفاً بصفات، اعتقدوا أن الصفات الذاتية تعني التبعيض والتجزئة، أي: أن لله أبعاضاً وأجزاء، وبالتالي سحبوا الأمر حتى على العلو والاستواء، وقالوا: هذا حركة، والحركة لا تكون إلا لشيء يتجزأ أو يتبعض أو ينتقل، والله عز وجل منزه عن الانتقال، فنفوا العلو لله عز وجل؛ لأن إثبات العلو يثبت الذات، وإثبات الذات يعني إثبات الأسماء والصفات، وهم أصلاً ينفرون من هذا، وإلا لو اعتقدوا لله وجوداً حقيقياً للزمهم عقلاً وفطرة بأنه لابد أن يتصف بصفات، لكن حينما لم يعتقدوا لله وجوداً ذاتياً صاروا ينفرون من أي شيء يثبت لله الوجود الذاتي، ومن هنا فسروا التوحيد بالتفسيرات التي تنفي أي شيء يدل على الوجود الذاتي الحقيقي، فيقولون: إن الله موجود، لكن وجود ذهني تصوري فقط، لا حقيقي واقع، ولذلك نتجت عنهم عقائد الحلول، وعقائد الاتحاد، وعقائد وحدة الوجود، وعقائد الاقتصار على المعرفة في الدين، كما نتج عنهم التعطيل والتأويل إلى آخر ما نتج عن ذلك الاعتقاد الخاطئ. قال رحمه الله تعالى: [فقد تبين أن ما يسمونه (توحيداً) فيه ما هو حق, وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقاً]. وجه الحق: هو أنهم حينما عبروا عن الله عز وجل بأنه لا يتبعض ولا يتجزأ، وهذا حق، لكن ليست صفاته وأسماؤه الثابتة في الكتاب والسنة تتبعض وتتجزأ، فهم أصابوا في الأول وأخطئوا في الثاني، لكن خلطوا بين هذا وذاك، وهذا ناتج -كما قلت- عن تصوراتهم الخاطئة في حق الله عز وجل، فلم يقدروا الله حق قدره. قال رحمه الله تعالى: [فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن، وقاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم]. كل أنواع التوحيد التي قال بها المتكلمون يقر بها المشركون، فهم لا ينكرون أن الله واحد في ذاته وفي أفعاله، وإن كانوا يناقضونها، لكن الإقرار المبدئي الفطري العقلي يقرون به، وتجد هذا في أشعارهم وفي خطبهم، بل يرتبون أمورهم فيما بينهم بهذه الأمور، فينسقون عهودهم وأحوالهم فيما بينهم بالإقرار بتوحيد الربوبية، لكن القضية هي توحيد العبادة، إذ إنهم لا يعبدون الله عز وجل، مع أن هذه هي قضية الأنبياء مع مخالفيهم، أما هذه الأمور التي يدندن حولها أهل الكلام، وتبعوا فيها الفلاسفة، وبذلوا فيها مهجهم وأوقاتهم وقصارى جهودهم، فإن القضية مفروغ منها أصلاً، ولا تحتاج إلى تقرير، فهم يكدون في خيالات وأوهام وتخرصات.

معنى (الإله)

معنى (الإله) قال رحمه الله تعالى: [بل لابد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله. وليس المراد بـ (الإله): هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظنوا أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو]. سيذكر الشيخ قضية المشركين، وهي فعلاً دلالة على أن المشركين ما امتنعوا من لا إله إلا الله إلا لأنها تعني معنى آخر غير الإقرار بالربوبية، وحتى من الناحية اللغوية فالعرب تفقه معنى (الإله) فقهاً عاماً وفقهاً خاصاً، بمعنى: أن بعضهم يفهمها بالإجمال وهم عامة العرب، وكل من يفقه العربية إلى اليوم، أو كل إنسان عنده فقه بالعربية يعرف أن معنى (لا إله إلا الله): التأله والتعبد لله عز وجل، والانجذاب إليه سبحانه، والمحبة والرجاء والخوف والانطراح بين يديه عز وجل، وكل العرب يفهمون هذا قديماً وحديثاً، ولذلك المشركون الأوائل لم يكن عندهم في ذلك لبس؛ لأنهم يفقهونها، فمعناها اللغوي هو دلالاتها من جميع الوجوه، حتى على تعدد معانيها عند من شرحها من العرب، فتجد الذين شرحوا (الألوهية) و (الإله) عند العرب تدور معاني الشرح إلى هذا المعنى، أي: إلى التأله، والانجذاب والعبادة والتعظيم، والتوجه، والمحبة لله عز وجل، وهي غاية معنى الألوهية؛ لأن الإلهية أو الإله مأخوذ من التوله، والتوله هو الوله، والوله هو كمال المحبة، ولذلك تجد حتى عند عوام الناس يقول لك: فلان ولهان، أي: مشتاق ومنجذب إلى المحبوب. إذاً: فأين هم عن معاني العربية؟! إن الإنسان إذا اعتقد شيئاً فإن ذلك يذهله عن البدهيات، لاسيما إذا كانت عقيدته باطلة، فإنه يعمى عن إدراك الحق خاصة الذي عليه منهج المتكلمين ومنهج أهل الأهواء والبدع، وهو أنهم يقررون شيئاً في عقولهم أو في أذهانهم أو في مناهجهم، ثم يذهبون للاستدلال له، وهذا خلاف منهج الحق، لذا فإن من سلك هذا المنهج في أصول الدين فإنه يهلك، كأن يعتقد آراء فكرة مسبقة، أو رأياً مسبقاً، ثم يذهب للاستدلال له، ولذلك فإن القاعدة الصحيحة التي عليها أهل الحق، وعليها منهج أهل السنة والجماعة هي أن تبحث عن الحق من خلال النص، لا أن تبحث عن النص الذي يؤيد رأيك؛ لأنه من هنا يأتي الهلاك، حتى فيما يجري بين المختلفين من أهل السنة، فتجد أن أغلب ما يقع فيه هؤلاء الذين وقعوا في الاختلاف هو مخالفة مناهج العلماء الراسخين في العلم، وسبب ذلك أن عندهم آراء وأهواء وتبعيات، سواء حزبية أو غير حزبية، شخصية أو عامة، فيريدون الاستدلال لها. ولذلك يجدون من النصوص ما يكون فتنة لهم، ويجدون من أقوال العلماء ما يكون فتنة لهم، وهذا هو منهج المتكلمين الذين وضعوا في مفاهيمهم معنى لـ (لا إله إلا الله) غير المعنى الذي جاء به الشرع، وغير المعنى الذي تقتضيه لغة العرب، فوجدوا من الشبهات والمشتبهات وغرائب اللغة ما قد يدل على شبهتهم من جانب بعيد، وهذا هو موقع الفتنة. قال رحمه الله تعالى: [فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون، كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد، فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله. والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهاً آخر]. نقف عند هذا الحد، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

خطأ من يزعم أن كل من تعلم المنطق صار من أهل الكلام

خطأ من يزعم أن كل من تعلم المنطق صار من أهل الكلام Q هل أهل الكلام هم أهل المنطق، أم أن هناك فرقاً؟ A ليس كل من تعلم المنطق من أهل الكلام، والمنطق نوعان: منطق يتعلق بتصورات الناس عن الغيب أياً كان هذا الغيب، وقياس عالم الغيب على الشهادة، فهذا منطق باطل، ومنطق ينبني على قضايا عقلية أو تجريبية صحيحة، كالرياضيات التي تنبني على معلومات حسابية صحيحة، وعلى منطق عقلي صحيح، وكذلك مسائل الاستقراء، والسبر والتقسيم، والقضايا العقلية البدهية، فهذا منطق صحيح. إذاً: المنطق الذي يقوم على أسس علمية وعقلية صحيحة، وتجارب علمية صحيحة، فهذا منطق سليم، وأما الذي يقيس الشهادة على الغيب، أو الغيب على الشهادة، فهذا منطق باطل، والله أعلم.

ضرورة الدراسة المنهجية التأصيلية لكتب العقيدة

ضرورة الدراسة المنهجية التأصيلية لكتب العقيدة Q هناك يا شيخ بعض الإخوة المبتدئين في قراءة العقيدة قد يبدأ بمثل كتاب: (كشف الشبهات)، فهل فيه محذور أم لا؟ A نعم فيه محذور، إذ البدء في دراسة العقيدة بـ (كشف الشبهات) ليس مناسباً للمبتدئين، سواء كانوا صغار السن أو كبار السن؛ لأن هذا يبرز له قروناً، وهو ما نضج بعد في العقيدة، و (كشف الشبهات) فيه ردود متعمقة على الشبهات الكبار، والغالب أنها تستثير العاطفة، لذا أرى أن المبتدئ يبدأ بالتأصيل في قراءة الكتب الأولية التي تغرس العقيدة، والتي تتكلم حول أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وثوابت الدين، ومن هذه الكتب: الأصول الثلاثة، والرسائل الأربع، ثم كتاب التوحيد، وهو من الكتب الفذة النادرة الذي لا يزال أمثل كتاب يغرس العقيدة عند المبتدئين والمتوسطين، وذلك إذا أخذوا الأساسيات التي قبل هذا الكتاب، فإنهم عند ذلك سيستوعبون هذا الكتاب ويستفيدون منه، وكذلك المتوسطون أيضاً إذا قرءوا عدة كتب فإنهم يحتاجون إلى هذا الكتاب.

شرح العقيدة التدمرية [27]

شرح العقيدة التدمرية [27] مفهوم التوحيد عند طوائف الصوفية هو أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى وبالأمور الغيبية، وأصحاب هذه النزعة الفلسفية يرون أنهم بهذه الطريقة يمارسون أسلوباً يؤدي بهم إلى السعادة النفسية والراحة القلبية، وانصهار الإنسان بربه، ويعتبرون ذلك مما يستغنون به عن الشرع، وهذا ظاهر البطلان، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً.

توحيد الصوفية

توحيد الصوفية قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد]. قوله: (والمنتسبين) أي: الذين يدّعون أنهم موحدون، وليس الأمر كذلك؛ لأن فهمهم للتوحيد مختل، وهذا غالب على الفلاسفة الإلهيين إن صح التعبير، يعني: الذين يتكلمون عن الله عز وجل، ويعترفون بوجود الله، والمتكلمون بدرجاتهم -سواء المتكلمين الغلاة، مثل: الجهمية أو من دونهم كالمعتزلة، أو من دونهم كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية أو غيرهم من أصحاب النزعات الكلامية- كلهم يقصدون بالتوحيد: توحيد الربوبية، ويزعمون أنهم بذلك يحققون التوحيد، ويقولون: نحن أهل التوحيد، مع أنهم لا يفهمون من التوحيد إلا هذا، ولا يعني ذلك أنهم لا يعملون بمقتضى توحيد العبادة، فليس ذلك بالضرورة، فقد يكون عند كثير منهم تعبّد، لكن من حيث تقرير العقيدة تجد عنده انحرافاً، فيقصرون التوحيد على وجود الرب عز وجل ووحدانيته، بمعنى: إفراده بالربوبية والخلق والأفعال، ثم لا يعرّجون على التوحيد المطلوب من العباد، وهذا نجده حتى عند كبارهم الذين يُنسبون إلى العبادة والصلاح، فتجدهم لا يعرّجون على توحيد العبادة، وكأنه ليس مطلوباً من العباد، وهذا الذهول له أسباب كثيرة تأتي لها مناسبة في درس قادم، كما تجد كبارهم الذين ألّفوا كتباً خاصة بالتوحيد، يقررون فيها التوحيد على منهجهم، ومن ذلك: كتاب التوحيد للماتريدي، إذ إنه عمدة في تقرير منهج المتكلمين في هذا الجانب، وهو أسبق من الأشاعرة، مع أن الماتريدي معاصر للأشعري، لكنهما لم يلتقيا، والأشعري كان يعظّم توحيد الإلهية، ولم يكن منهجه موغلاً في هذا الجانب، وإن كانت عنده نزعة خفيفة، لكنه نهَج نهْج السلف في تقريره للدين، والاهتمام بتوحيد الإلهية والعبادة، أما الماتريدي فمن حيث العبادة فقد كان يؤدي العبادات، وهذا الذي أُثر عنه، وقد كان صاحب تقى وصلاح وعبادة وزهد وورع، لكنه من حيث العقيدة والتقرير النظري للدين فنجد ذلك في كتابه (التوحيد)، فقد كان لا يعوّل على توحيد الإلهية -مع أنه أسمى كتابه بـ (التوحيد) وهو مطبوع الآن- إلا إشارات تأتي عرضاً لا على سبيل الاستقلال، أما أصوله ومنهجه وطرائقه في الاستدلال فهي مركزة على توحيد الربوبية، ولذلك يقال: إن ادعاءهم بأنهم موحدون مجرد دعوى فقط تحتاج إلى دليل وبرهان. ثم إنه ليس هناك فرق كبير بين الماتريدية والأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أكثر معايشة لأهل السنة، ولذلك من جوانب كثيرة هم أقرب لأهل السنة، بينما أغلب أتباع أبي منصور الماتريدي من بلاد العجم، من تركيا، وجمهوريات القوقاز وبخارى وأجزاء من الهند، وأغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم في بلاد العجم، ولذلك قل احتكاكهم بأهل السنة الموجودين في جزيرة العرب والشام والعراق ومصر والمغرب، وأكثرية أهل السنة في هذه المناطق، وذلك بحكم القرب وبحكم اللغة العربية؛ لأن فهم اللغة العربية أقرب إلى فهم السنة وفقهها، فنجد أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة في جوانب كثيرة من حيث التطبيق، أما من حيث التنظير فلا أجد بينهم فرقاً، وخاصة في الآونة الأخيرة، وفي بداية المذهبين كانت الماتريدية في القرن الرابع والخامس أكثر إيغالاً في الكلاميات، وكان الأشاعرة في القرن الرابع والخامس أكثر تورعاً، بينما في القرن السادس وما بعده اختلطت الفرقتان، ولم نستطع أن نميز بينهما إلا تمييزاً علمياً فنياً لا عقدياً، وذلك في أمور أشبه بالشكليات. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها]. تعتبر هذه نزعة فلسفية وقع فيها كثير من المتعبدة الذين عندهم نزعة كلامية، وهي نزعة ماتريدية موجودة في كثير من الديانات -هم أناس من العباد- سواء من الديانات التي حُرّفت، كعُبّاد اليهود، وعُبّاد النصارى وهم الأكثر، أو عُبّاد الديانات الأخرى، كالمجوسية والصابئة والهندوسية وغيرها، فهؤلاء عُبّادهم كثير منهم ينزعون إلى العبادة الفلسفية، والعبادة الفلسفية عندهم أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى الغيبية، وبأمور غيبية، وبعضهم يسمي من يربط قلبه به فيقول: نربط القلب بالله عز وجل، وأحياناً من خلال التعبد تحس به، ومعنى تعبّد: أن يكون قلبه متعلقاً بالغيب، وأحياناً يعبّرون بالغيب عن الل

مدى قرب وبعد بعض الرجال أو الفرق من الحق

مدى قرب وبعد بعض الرجال أو الفرق من الحق قال رحمه الله تعالى: [وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته. وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين. وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه، لكن جهماً ومن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده، والنجّارية والضرارية]. النجّارية هم أتباع الحسين بن النجار، وهو صاحب نزعة كلامية. وكذلك الضرارية أتباع ضرار بن عمرو القاضي المشهور، وكل هؤلاء إلى الجهمية أقرب. قال رحمه الله تعالى: [والنجّارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان، مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات. والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة]. في الحقيقة صعب أن نطلق الأئمة الأوائل على ما قبل القرن السابع الهجري، بل حتى قبل القرن السادس، وإذا اعتبرنا أبا الحسن الأشعري إماماً لهم، مع أنه ليس بإمام، فإننا نظلمه إذا قلنا بذلك، لكن على اعتبار أنهم يعدّونه إمامهم، ثم من جاء بعده: ابن فورك والباقلاني ثم الخطابي والبيهقي، وهذه الطبقة كلها يتورّعون عن نفي الصفات باسم التأويل، لكن يسلكون مسلكاً مضطرباً، فيثبتون الصفات الخبرية، مثل: صفة اليد والوجه لله عز وجل، لكن يثبتونها بنوع تأويل، لا بتأويل صريح، ولا يردّون الصفة كما يردها الذين جاءوا من بعدهم، فهؤلاء عندهم تورّع، لكن فتحوا باب النزعة الكلامية لمن جاء بعدهم، فمن جاء بعدهم ردها رداً صريحاً، ابتداء من البغدادي ثم الشهرستاني ثم الغزالي ثم الإيجي والآمدي، والإيجي والآمدي قد ختموا منهج الأشاعرة على أصول الكلامية التي عليها الأشاعرة إلى اليوم، وهذه الأصول هي أقرب إلى الجهمية، نعم عندهم تورع من الرد الكامل، لكن منهجهم يؤدي إلى التعطيل؛ لأنهم لا يثبتون لله عز وجل الصفات الذاتية، بل لا يثبتون لله إلا سبع صفات، وبقية الصفات يؤولونها، وهذا نتيجة الخلط، مع أنهم يسمونه: (التوفيق)، وهو في الحقيقة (تلفيق)، أي: الخلط والتلفيق بين منهج الفلاسفة الذي يتمثل بالجهمية والمعتزلة والمتكلمين، وبين منهج السنة والجماعة الذي يتمثل بالتزام النصوص فيما يتعلق بكل ما هو من أمر الغيب، وبالأخص صفات الله عز وجل، فهي غيب خالص لا مجال للتأويل فيها، فضلاً عن التعطيل.

مقاربة الأشاعرة والكلابية لأهل السنة والجماعة في الأسماء والأحكام

مقاربة الأشاعرة والكلابية لأهل السنة والجماعة في الأسماء والأحكام قال رحمه الله تعالى: [وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع، وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة]. يعني: الكلابية والأشعرية، لا الضرارية والنجّارية، إذ لهؤلاء شطحات كبرى، لكن من حيث مسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم مقاربة لأهل السنة والجماعة مقاربة كبيرة، نعم عندهم هناك اضطراب في القدر، وخاصة الماتريدية فهي في القدر أصفى من الأشاعرة، والأشاعرة في الصفات أصفى من الماتريدية، لكن ومع ذلك فعندهم نوع قرب من أهل السنة. والمراد بـ (الأسماء) أي: أسماء المسلمين، و (الأحكام) أي: الكافر، والمسلم، والفاسق، والفاجر، والمنافق، ثم إن الأشاعرة بحق لا يبعدون عن أهل السنة، بل يوافقون أهل السنة في الجملة تقعيداً وتفصيلاً، وكذلك في باب الصحابة، وحتى الماتريدية يوافقون أهل السنة والجماعة في الأسماء والأحكام، وأيضاً أقوالهم متقاربة.

بيان حال ابن كلاب ومذهبه في أفعال الله

بيان حال ابن كلاب ومذهبه في أفعال الله قال رحمه الله تعالى: [والكلاّبية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته، وأصحاب ابن كلاب، كـ الحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل]. كان ابن كلاب على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان من أهل الحديث، ثم احتسب في مناظرات أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، لكنه زاد وأفرط في ذلك، فدخل في المراء واللوازم العقلية، ونهاه السلف عن ذلك، لكنه تمادى ولم ينتصح، مما جعله يستخدم أساليب لنصر السنة ليست من السنة، وهي أساليب عقلانية وفلسفية وكلامية، وكأنه أراد أن يرد بها على أهل الكلام، فاستدرجوه إلى بعض أصولهم، ومما استدرجوه إليه: مسألة أفعال الله عز وجل، فقد وافق المتكلمين في أن الله عز وجل لا يمكن أن تكون لأفعاله مفردات أو حادثات، زعماً منه أننا إذا فتحنا هذا الباب فقد فتحنا باب التشبيه، وكأنه أراد أن يقر لهم بأن الله عز وجل لا يُثبت له من الصفات الفعلية ما هو متجدد أو ما هو حادث، مع أن هذه المسألة لها وجهة، والمهم أنه أقفل باب ما يسمى بمفردات الأفعال لله عز وجل، مثل الكلام وغيره، فقال في كلام الله: إنه كلام معنوي قائم بالنفس، وكذلك بقية الأفعال جعلها لازمة، والصحيح والذي عليه السلف هو أن أفعال الله عز وجل أو الصفات الفعلية لها وجهان: من حيث إنها متعلقة بذات الله عز وجل، والتي هي ما يوصف به مما يتعلق به سبحانه، فهذا لا شك أنه لا يحدث له فيه شيء، حتى وإن حدثت لوازمها أو آثارها، وهناك نوع متعلق بالصفات أحياناً يعبّر به على أنه من الصفة، وهذا غلط، وإنما هو آثار صفات الله، فمثلاً: صفة الخلق لله عز وجل، فالله موصوف بالخلق قبل وجود المخلوقات، وحينما خلق لم تتجدد له صفة الخلق. وكذلك الكلام، فالله عز وجل موصوف بالكلام قبل أن يوجد للكلام موجب، ثم تكلم بما شاء من ذلك، وحينما فعل الله عز وجل ما أراد أن يفعله لم يكن ذلك تجدد في ذات الصفة، وإنما هو تجدد في آثار الصفة وفي المفعولات لا في الأفعال بذاتها؛ لأن أصل الصفة ثابتة لله عز وجل حتى قبل وجود الأثر، لكن ابن كلاب جعلها لازمة، ومن هنا التزم بأن الكلام لله عز وجل معنى قائم بالنفس، وأنكر أن يكون الكلام بحرف أو صوت، ثم صار هذا مذهباً، ونتج عن هذا المذهب إنكار أو تأويل كل الصفات الفعلية لله عز وجل، ومال الأشعري رحمه الله إلى قول ابن كلاب في ذلك، لكن بحذر وبتورع، وأُخذ عليه ذلك حتى في كتبه الأصلية، مثل: (الإبانة)، وهو غير واضح، لكن في (اللمع) واضح، و (رسالة إلى أهل الثغر)، وهي واضحة في أنه قد تأثر بهذه النزعة، ومع ذلك يثبت الصفات الذاتية لله عز وجل، ويثبت الصفات الفعلية، لكنه وصف بعض الصفات بالوصف الذي لا يدل على حدوث ما يريد الله عز وجل من الصفات الفعلية، وإنما جعلها لازمة، فهذا تعبير مبسط، وإلا فهناك تعبيرات أكثر غموضاً، ولعله تأتي لها مناسبة فيما بعد من أجل تنظير هذه القضية، فلا نستعجلها الآن. والشاهد هنا أن الأشعري لم يقل بما قال به متأخرة الأشاعرة، لكنه فتح باباً توسّع معه الأشاعرة، وهو تبع ابن كلاب، فتوسع بعد ذلك أهل الكلام في هذه المسألة حتى تدرجوا إلى تأويل أكثر الصفات الفعلية، وكذلك الصفات الخبرية من باب أولى.

مذهب الكرامية والمعتزلة في الإيمان

مذهب الكرامية والمعتزلة في الإيمان قال رحمه الله تعالى: [والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار، فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر، والوعد والوعيد، فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظّموا الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وغلو فيه، فهم يكذّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب]. قوله: (ففيهم نوع من الشرك) يقصد: شرك الأفعال، ووصفوا بنوع من الشرك بسبب لازم قولهم، فلو استنطقناهم أو بحثنا عن تعبيراتهم لا نجد أنهم يعبّرون بهذا، لكن من اللوازم الضرورية التي لا يمكن أن ينفك منها القائل بقولهم، وهو أنهم يرون أن الإنسان مقدّر لأفعال، أو خالق لأفعال، ولا يعبّرون عن هذا تعبيراً صريحاً؛ لأن بعضهم يتورع أو يتهيّب بأن يقول: إن الإنسان يخلق أفعالاً، لكن هم يقولون: بأن الله لم يقدّر أفعال الشر للإنسان، ولم يخلقها. إذاً هي قُدّرت وخُلقت، فمن الذي قدّرها وخلقها؟! هم لا يجعلون خالقاً ثالثاً، لكنهم على هذا لا بد أن يعترفوا فإنهم قالوا: بأن الإنسان خالق أفعاله، ولذلك عبّر السلف عن مذهبهم بهذا التعبير، فيقولون: إن المعتزلة يقولون: بأن الإنسان خالق أفعاله، فلو تتبعت أقوالهم فلا تجد أنهم يصرّحون بهذه الكلمة تصريحاً مباشراً، لكن هذا من لوازم القول، فإذا كان الله عز وجل عندهم لا يُقدّر أفعال الشر ولم يخلقها، مع أن الله عز وجل قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله عز وجل؛ حكمة وابتلاء وفتنة للعباد، فإن الله عز وجل حينما قدّر الشر وخلقه ما خلقه لمحض الشر، وإنما لحكمة وابتلاء للعباد، فهم قالوا: بأن الإنسان لم يقدّر أفعال الشر ولم يخلقها. إذاً: ينشأ عندنا سؤال ضروري: من الذي قدّرها وخلقها؟ هل هو خالق ثالث؟! سيقولون: لا. إذاً بالضرورة يكون الإنسان هو خالق أفعاله، فهذا ما قصد به الشيخ من أنهم يكذّبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك، أي: شرك الأفعال. قال رحمه الله تعالى: [والإقرار بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، مع إنكار القدر، خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكان قد نبغ فيهم القدرية، كما نبغ فيهم الخوارج الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخفى، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة. فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية، مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبهون المجوس، وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] والمشركون شر من المجوس].

أصل الإسلام الشهادتان

أصل الإسلام الشهادتان قال رحمه الله تعالى: [فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه، فإن أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما، مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة، فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فلا بد من الكلام في هذين الأصلين].

الأسئلة

الأسئلة

التحذير من قراءة كتب المحاسبي إلا لطالب علم متمكن

التحذير من قراءة كتب المحاسبي إلا لطالب علم متمكن Q قد يقرأ بعض الإخوة كتاب الحارث المحاسبي (التوهم) في الوعظ؛ لأنه يلامس القلوب، فما رأيكم؟ A في الحقيقة إن من الكتب النقية ما هو أولى من ذلك، مثل: كتاب (الزهد) للإمام أحمد، و (الزهد) لـ ابن المبارك، وهي من أروع الكتب، مع أنه لا يلزم من هذا صحة كل ما ورد فيها، لكن أكثر ما ورد فيها من باب الحكم والمواعظ المنتقاه، وأما كتب الحارث المحاسبي فلا تخلو من نزعتين: من النزعة الكلامية، وهذا قليل، وأكثر الناس لا يدركها؛ لأنها لا تُدرك إلا بالمناقيش، وخاصة إذا تكلم عن القدر، أو تكلم عن بعض مسائل الصفات، فنزعته في ذلك كُلابية، لكنها غير واضحة، إنما الأخطر من هذا استعماله لمصطلحات صوفية تجعل الإنسان يتعلق بمعان لا أصل لها شرعاً، ولذلك سمى الإمام أحمد هذا المنهج بـ: الخطرات والوساوس، لا سيما فيمن لم يكن في بيئة صوفية، يعني: من كان في مثل هذه البيئة، والتي بحمد الله لا تزال على السنة في الظاهر، لذا فأنا أرى أنه لا يُنصح بكتب المحاسبي لهذا السبب، إلا لطالب علم متمكن، يستطيع أن يميّز بين المصطلحات الشرعية والمصطلحات المضطربة.

شرح العقيدة التدمرية [28]

شرح العقيدة التدمرية [28] أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر هو الإيمان بالوحدانية والرسالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد حصل الإخلال بهذين الأصلين من كثير من الناس؛ بسبب ظنهم أن إقرار المرء بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ينجيه من عذاب الله، وهذا غير صحيح، بل لابد أن يقترن مع ما سبق إقراره بأنه لا إله إلا الله ألا يعبد غيره، فلا يستحق العبادة أحد إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر.

الأصل الأول: توحيد الإلهية

الأصل الأول: توحيد الإلهية قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [الأصل الأول: توحيد الإلهية، فإنه سبحانه أخبر عن المشركين -كما تقدم- بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله، يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]].

أنواع الشرك الواقع في الأمم والطوائف والفرق

أنواع الشرك الواقع في الأمم والطوائف والفرق هذا نوع من أنواع الشرك، وهو النوع الأكثر والغالب فيما وقعت فيه الأمم عامة وفيما وقع فيه مشركو العرب خاصة، فقد كان الأغلب في شركهم أنهم زعموا أن من يقدّسونهم من أشخاص أو أحجار أو أشجار أو أشياء غيبية غائبة أو حاضرة من الصالحين وغير الصالحين، أن هؤلاء وسطاء لهم، وأنها تشفع لهم عند الله، وقد يعبدون الله من وجه، ويعبدون هذه الأصنام من وجه، وقد يفرد طوائف منهم العبادة للأصنام؛ زعماً منهم أنهم ليس لهم دالة على الله لارتكابهم للمعاصي والآثام، ليس لهم وجه بأن يعبدوا الله، وهذا من عبث الشيطان بهم، وبعضهم يعبد الله ويعبد هذه الأصنام، وبعضهم قد يعتقد -وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس اليوم- فيها النفع والضر، وقلبه يتوجه إليها عند الضرورة. النوع الثاني: هناك من يعبد غير الله مباشرة، ويزعم أن في المعبود خصائص الإله، وهذا ما عليه كثير من مشركي المجوس والهنود وغيرهم، فلا يعبدون الله أصلاً، بل يعبدون الصنم مباشرة، لا لأنه وسيط؛ بل لأنه عندهم هو المستحق للعبادة، وهذا النوع من الشرك أغلب ما يكون في البلاد البعيدة عن بلاد العرب. وهناك نوع آخر، لكن قد لا يكون من هذا النوع: وهو ادعاء خصائص إلهية أو ربوبية في أحد المخلوقات، حتى وإن لم يوجه له عبادة ولا رجا ولا خشيه، لكنه إذا اعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات فيه خصيصة من خصائص الرب عز وجل فهذا شرك اعتقادي، وهذا يقع فيه كثير من الفلاسفة، والذين يستكبرون عن العبادة، فتجد في قلوبهم تقديساً لشيء من المخلوقات، ويدّعون أن في بعض المخلوقات خصائص الرب عز وجل أو بعض خصائص الرب، وهذا النوع من الشرك يوجد عند طوائف من الأمم. النوع الآخر: شرك الحلول، وهو أن يعتقد أن الله حل في شيء من المخلوقات، كالروح أو العقل أو النفس أو في أي من تعبيراتهم الكثيرة، فمثلاً: خرافة العقل الفعّال، فيرون أن العقل الفعّال هو الله، وأن هذا العقل الفعّال وجد في المحركات للكون، وهذا نوع من الحلول، وبعضهم يرى أنه حل في بعض المخلوقات أو في كلها جزءاً من الإلهية حلول روح أو حلول عقل أو حلول نفس أو أي نوع من الحلول، وأحياناً يكون الأمر أكبر من ذلك، فقد يكون أحياناً اتحاداً، وهذا قمة الشرك، أي: اعتقاد أن الكون كله هو الله، وأنه ليس هناك وجود ذاتي لله عز وجل غير وجود المخلوقات. وهذه كلها دخلت على العرب قديماً، ودخلت على المسلمين تحت مذاهب شتى، خاصة مع الطرق الصوفية التي صارت أوعية، ولذلك من خلال الطرق استطاع أمثال ابن عربي وابن الفارض والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم أن يُدخلوا وحدة الوجود على المنتسبين للإسلام من خلال الطرق، ومن خلال التصوف الذي يسلّم للشيخ، ويعتقد أنه مهما عمل فعمله كله بركة، ولو كان شركاً خالصاً. قال رحمه الله تعالى: [فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:22 - 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44] وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4]، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28]، وقال تعالى: {وَكَ

من تحقيق شهادة التوحيد إفراد الله بجميع أنواع العبادة

من تحقيق شهادة التوحيد إفراد الله بجميع أنواع العبادة قال رحمه الله تعالى: [ومن تحقيق التوحيد أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل، والخوف والخشية، والتقوى، كما قال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]، وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64] إلى قوله: {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66]، وكل من الرسل يقول لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). وقد قال تعالى في التوكل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، وقال: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فقال في الإتيان: ((مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ))، وقال في التوكل: ((وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ)) ولم يقل: ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرّعه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كاف عبده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فهو وحده حسبهم كلهم. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسباً للرسول. وهذا في اللغة كقول الشاعر: فحسبك والضحاكَ سيف مهند وتقول العرب: حسبك وزيداً درهم، أي: يكفيك وزيداً جميعاً درهم. وقال في الخوف والخشية والتقوى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:2 - 3] فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقد قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81 - 82]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو الشرك، أو لم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]]. ذكر الشيخ هنا بعض الألفاظ في العبادة، فبعضها من الألفاظ التوحيدية الخالصة، وبعضها تحتاج إلى شيء من التفصيل، وبعض هذه المعاني الإيمانية والقلبية لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، وبعضها قد يشتبه مع الفطري الغريزي، فمثلاً: مقام التقديس والتعظيم لا يكون إلا لله، أما المقام الفطري فهو أمر لا يدخل في المنهي عنه، فمثلاً: التوكل

الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم

الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [الأصل الثاني: حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن نؤمن به، ونطيعه، ونتبعه، ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه، وأمثال ذلك، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وأمثال ذلك]. نقف عند هذا الحد؛ لأن الموضوع الجديد يتعلق بتقسيم أهل الضلال، وهو تقسيم منهجي يحتاج إلى مزيد تعليق. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان مذهب السلف والخلف في أسماء الله وصفاته

بيان مذهب السلف والخلف في أسماء الله وصفاته Q نرجو التعليق حول قول القائل: إن السلف قالوا في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات: نؤمن بها كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله تعالى، فيثبتون اليد والعين كل ذلك بمعان لا ندركها، ونترك الإحاطة بعلمها لله، لا سيما وقد نُهينا عن ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تفكّروا في خلق الله ولا تتفكّروا في الله، فإنكم لن تقدروه حق قدره)، ثم يقول: إن الخلف قالوا: إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يُراد بها ظواهرها، فهي مجازات، ولا مانع من تأويلها، ولو بحثت الأمر لعلمت أن مسافة الخلاف بين الطريقين لا تحتمل شيئاً من هذا، لو ترك كل منهما التطرف والغلو، وأن البحث في هذا لا يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة، وهي: النفور عن الله تعالى، ثم يقول: يتفق السلف والخلف على التأويل، وينحصر الخلاف بينهما: أن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد؟ A على أي حال أنا لا أدري كلام من هذا؟ إذ إن الكلام يحتاج إلى أن يُنظر فيه كله، فقد اشتمل على أمور بيّنة وأمور فيها عمومات، وفرق بين مذهب السلف ومذهب الخلف في هذا الجانب، فالسلف يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه وتمثيل وتكييف، وينفون ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير أن يُعطّلوا أو ينكروا الصفات. أما مسألة المعاني فهذا كلام مجمل، فإن قصد به المعنى الذي هو مراد الله فهذا يُثبت بالحقيقة التي يريدها الله عز وجل، والسلف يثبتون ذلك، لكن أحياناً قد ترد بعض النصوص التي يُشكل تفسيرها، فيقولون: الله أعلم بمراده، أو نجريها على ظاهرها، ويقصدون بالظاهر الحقائق التي تليق بالله، وهذا هو الظاهر؛ لأنه ما جاء السياق إلا لإثبات حق، ولإثبات كمال لله سبحانه وتعالى، وما وراء الظاهر من الكيفيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل فنتوقف فيه، أما مذهب الخلف فهو يخالف، ولا شك أن الحق لا يتعدد؛ لأنه إذا تعدد ضاع الناس، وهذا في المعطيات، بينما في الاجتهاديات يتعدد الصواب أو عدمه؛ لأن الاجتهاديات مبنية على أن الناس تُعبِّدوا بأن يستنبطوا المعاني من النصوص، ومن هنا قد يخطئ، ومن يخطئ عن اجتهاد فهو مأجور، ومن يصيب عن اجتهاد فله أجران، ومن أخطأ ولم يقصد الخطأ فلا يضره ذلك؛ لأن المسائل الاجتهادية تتعلق بممارسات الناس، فيجري فيها الخلاف على ضوء اختلاف النصوص أو منازع الاجتهاد من النصوص، أما القطعيات، ومنها: أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله فلا يجوز تعدد المعنى فيها؛ لأنه إذا تعدد ماذا يعتقد الناس؟! هل تقول: والله أظن الحق كذا! وكذا! وإذا قلت ذلك فهل نستطيع أن نعتقد شيئاً؟ ولذلك الخلف الذين خالفوا منهج السلف في الإثبات ليس لهم رأي واحد، فقد ضاعوا وأضاعوا الناس من خلفهم، فضاعت من خلفهم ملايين المسلمين فيما يتعلق بالله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله. إذاً: مذهب الخلف ليس هو مذهب الحق، وكون بعضهم يقع في مثل هذه المذاهب عن اجتهاد وتأوّل، وقد تكون زلّة من غير قصد، فلا يعني ذلك أن اجتهاده سائغ، فنحن قد نعذره من حيث إنه أخطأ الحق من غير قصد، وأخطأ الحق من غير عمد، لكن لا يجوز أن نقول: الحق عند هؤلاء وعند هؤلاء، أو نقول: السلف على حق، والخلف على حق! فالحق لا يتعدد.

شرح العقيدة التدمرية [29]

شرح العقيدة التدمرية [29] الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، وقد ضلت فيه طوائف عدة من هذه الأمة، ويرجع أصل الخلاف إلى ثلاث فرق رئيسية: مجوسية، وهم الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه، ومشركية، وهم الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي، وإبليسية، وهم الذين أقروا بالأمرين لكنهم جعلوا هذا متناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، أما أهل السنة فيؤمنون بهذا وهذا مع التسليم التام لله عز وجل.

مذاهب الفرق الضالة في القدر

مذاهب الفرق الضالة في القدر قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره بقضائه وشرعه]. قوله: (بخلق الله) يقصد بها: القدر كله، والذي هو متعلق بربوبية الله سبحانه، فكل معاني الربوبية تجتمع في معنى الخلق؛ لأن الخلق هو مبدأ الربوبية من حيث المخلوقات لا من حيث الخالق، فالله عز وجل ربوبيته وخلقه متصف بها قبل وجود المربوبات والمخلوقات، لكن من حيث نشأة الربوبية ومن حيث وجود المربوبات فإنه يتعلق ذلك بربوبية الله وقدره. وقوله: (وأمره) يشمل الأمر القدري والشرعي، ثم قال: (بقضائه وشرعه) فالقضاء جزء من الخلق، والشرع جزء من الأمر، فقوله: (بخلق الله وأمره) أعم، فالخلق يشمل القضاء وغير القضاء، والأمر يشمل الشرع وغير الشرع، فهو قد خصص بعد تعميمه. والشيخ هنا سيذكر بعد هذا الكلام تقسيم أهل الضلال في القدر إلى ثلاثة أقسام، وعلى هذا نقول: إن مذاهب الناس في القدر أربعة: الأول: مذهب أهل الحق، وهو الإيمان بقدر الله عز وجل إيماناً كاملاً، فيؤمنون بالقدر خيره وشره من الله عز وجل. ثم المذاهب الثلاثة التي سيذكرها، وكلها مذاهب ضالة وباطلة. قال رحمه الله تعالى: [وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية]. يقصد هنا: المناهج لا جزئيات المقالات، فكلمة (مجوسية) و (مشركية) يدخل فيها مئات المذاهب، لكن هو ذكر جماع مذاهب الباطل، يعني: أصول مذهب أهل الباطل في الديانات والفرق والأفراد، قديماً وحديثاً، وهذه المناهج هي: المنهج المجوسي، والمنهج المشركي، والمنهج الإبليسي، وسيشرح الشيخ كل واحد على حده.

منهج فرقة المجوسية في القدر

منهج فرقة المجوسية في القدر قال رحمه الله تعالى: [فالمجوسية الذين كذبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم]. سمي هؤلاء بالمجوسية؛ لأن أشهر من عُرف من الأمم بالتكذيب بالقدر هم المجوس، وهذا تسبب في أنهم عبدوا إلهين، وزعموا أن الشيطان هو خالق الشر، فعبدوه من دون الله، ويسمونه: إله الشر، وهم أكثر من تعمّق في هذه المسألة إلى حد أنهم ألّهوا الشيطان وعبدوه من دون الله، ولا يزال إلى الآن توجد فرقة في العراق هم من عبدة الشيطان، وهي نزعة أو فصيل من فصائل الاتجاه المجوسي، وإن كانوا ينتسبون إلى ديانة أخرى، والمهم أن هذه النزعة أصلها في المجوس، ويوجد مثلها أو ما هو أقل منها عند جميع الأمم، ونظراً لأن الله عز وجل قد كتب الافتراق على جميع الأمم، فإنه ما من فرقة من فرق الديانات الكتابية إلا وفيها فرقة مجوسية قدرية، وكذلك هذه الأمة حين كتب الله عز وجل أنها ستفترق، وأنها ستتبع سَنن من كان قبلها من الأمم، فقد تأثرت بسنن المجوس، فدخلت الفلسفة المجوسية إلى المسلمين من خلال مذهب القدرية الأولى، والتي أنكرت جميع مراتب القدر، بمعنى: أنها أنكرت علم الله عز وجل بالشر، وكتابته للشر، ومشيئته وخلقه، ثم نشأ عنها مذهب المعتزلة -لما رأوا قوة مواجهة السلف لهذا المذهب، وأن السلف كفّروا من يُنكر العلم والكتابة بقطعية النصوص- الذين تأولوا لأنفسهم وقالوا: بنفي قدر الله عز وجل فيما يتعلق بالمشيئة والخلق، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل لا يشاء الشر ولا يخلقه، ولذلك أُلزموا بأن يقولوا: بأن الإنسان خالق أفعال، وهذا إلزام عقلي حتمي؛ لأنهم إذا كانوا يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر، ولم يشأه، ولم يخلقه، مع أن الله عز وجل قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، وقال: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، إلا أنهم مع ذلك حين قالوا بهذه المقولة قال لهم السلف: إذاً هذه الأفعال التي هي أفعال الشر وتقولون بأنها ليست من خلق الله، لابد أن يكون لها خالق، وبالنسبة للإنسان فلأنه نشأتْ منه أفعال الشر، فإنه يكون خالق أفعال، وعليه فهذا المذهب راجع إلى القدرية المجوسية.

منهج فرقة المشركية في القدر

منهج فرقة المشركية في القدر قال رحمه الله تعالى: [والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة]. سمي هؤلاء بالمشركية لأن غالب المشركين على هذا المبدأ، إذ إنهم يقرون بأن الله هو الرب سبحانه، وأنه الخالق، وأنه المدبّر، ولذلك جاءت أسئلتهم في القرآن، وبيّن الله عز وجل أنهم أقروا بهذه الأمور، لكن حينما جاءتهم الأوامر الشرعية والنهي، وعندما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وطلب منهم أن يعبدوا الله وحده، وطلب منهم مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبوا الأمر والنهي، وبقوا على مجرد دعوى أنهم موحدون بتوحيد الربوبية، وهذا ما عليه كل من يقع في الشرك من الأمم، وممن ينتسب إلى الإسلام، فيزعمون بأنهم يعظمون الله عز وجل، وبأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويظنون هذا هو التوحيد، لكنهم يخلون بالأمر والنهي، إما بالابتداع في الدين، وإما بالإعراض. وأما النصارى فمنهم فِرَق، حيث تجتمع فيهم هذه الفرق كلها، فمنهم فرق قدرية، وأغلب النصارى قدرية فيما يظهر لي، والله أعلم.

منهج فرقة الإبليسية في القدر

منهج فرقة الإبليسية في القدر قال رحمه الله تعالى: [والفرقة الثالثة: وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونُقل عن أهل الكتاب].

مذهب أهل السنة في القدر

مذهب أهل السنة في القدر قال رحمه الله تعالى: [والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في إمام مبين. ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، مما هو من أصول الإيمان].

إثبات أهل السنة للأسباب

إثبات أهل السنة للأسباب قال رحمه الله تعالى: [ومع هذا فلا يُنكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة:26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب]. هنا الأدلة صريحة بأن نسبة كل الأمر إلى الله عز وجل، وكل الأمر يأتي بالأسباب حتى الشر، كقوله عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26] فالضلالة بأسباب، والهداية بأسباب، والأسباب كلها من الله عز وجل، وهذا يتبين بشكل أوضح من خلال الكلام القادم، لكن كيف يقال: بأن ننسب الشر إلى تقدير الله؟ نعم يقال ذلك؛ لأن الله عز وجل ما فعل ذلك ولا قدره إلا لحكمة؛ ليميز الخبيث من الطيب، والهدى من الضلال، وليميّز أيضاً بين أهل الهدى وأهل الضلال في النهاية، ولأن الدنيا دار امتحان، والامتحان لا يمكن أن يُميّز فيه بين الناجح وغير الناجح، بين الهالك والفائز، إلا بمثل هذا التمييز، كما قال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] فمرد ذلك كله إلى حكمة الله عز وجل. وهؤلاء غالباً يسمون بـ (أهل الكسب)، أي: كسب الأشياء، فيقولون: إن الله عز وجل يفعل عند الأسباب لا بالأسباب، وهذه فلسفة سيتكلم عنها الشيخ بتفصيل أكثر، لكن يقصدون بها أن الله عز وجل إنما يخلق القدرة للقادرين، فالإنسان الحي الذي يتحرك يخلق الله له القدرة على الحركة أثناء عزمه على الفعل، مع أنه لم توجد عنده قدرة لا قبل ولا بعد، وهذه فلسفة لا طائل تحتها، ولا تعدو أن تكون نوعاً من التحكم، وإساءة الأدب مع الله سبحانه، وكأن الله عاجز عن أن يجعل هذا الإنسان أو الحيوان قادراً على الفعل قبل أن يفعل بعده، ولذلك سموا بـ (أهل الكسب) بمعنى: أن الإنسان يكسب الشيء فجأة وصدفة من غير قصد.

ضلال من أنكر الأسباب وشرك من جعلها هي المبدعة

ضلال من أنكر الأسباب وشرك من جعلها هي المبدعة قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد]. هؤلاء يقولون: إن الإنسان والحيوان لا يفعل بالأسباب، وإنما يفعل عندها، يعني: أن هناك قدرة موازية للعزم على الفعل، وهذه القدرة ليست موجودة عند الفعل، لا عند الإنسان ولا عند الحيوان، فمثلاً: القدرة على المشي لمن أعطاه الله عز وجل قدرة على المشي، أو أعطاه الوسيلة لذلك، لذا يقولون: كونه عنده قدمان سليمتان لا يعني أنه قادر على المشي، لكن إذا عزم على المشي وجدت القدرة، وهذه فلسفة لا تغني شيئاً، وإنما هي تحصيل حاصل، مع أن الله عز وجل قد أوجد عنده القدرة قبل أن يفعل وعندما يفعل وبعدما يفعل، وهذه راجعة إلى مسائل أخرى سيأتي الكلام عنها فيما بعد. قال رحمه الله تعالى: [كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه]. وهذا ليس إلى ما لا نهاية، بل تنتهي الأسباب إلى قدرة الله عز وجل وإرادته، يعني: أن الأسباب ليست متسلسلة إلى ما لا نهاية، لكن القصد أن الأسباب تتسلسل إلى القدرة لله عز وجل حينما خلق بـ (كن) أو خلق بأسباب أخرى سبحانه. قال رحمه الله تعالى: [ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد]. قبل أن نتجاوز هذا، هناك مسألة مهمة في هذا الباب، إذا تصورها الإنسان سلم اعتقاده في هذا الجانب: وهي أن الله عز وجل جعل الأسباب متسلسلة إلى منشأ السبب الأول، وهو قدرة الله سبحانه، والتي أيضاً تكون لله عز وجل على ما يليق بجلاله، هذه الأسباب أحياناً قد تصل إلى مئات الأسباب، سبب وراء سبب وهكذا، حتى يرجع الأمر إلى القدرة الأولى والأخيرة، وهي قدرة الله سبحانه، فالله خالق كل شيء ومقدّر لكل شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، لكن إذا كانت مسألة الأسباب ستأتي فعلى سبيل المثال: حياة الإنسان والحيوان من حيث حياة الرطوبة وغيرها راجعة إلى الماء، فالله عز وجل جعل من الماء كل شيء حي، الماء ما سببه؟ المطر، والمطر ما سببه؟ البخار، والبخار ما سببه؟ إذاً: حسب ما يطلع الله عباده من الأسباب، وأحياناً يصلون إلى نهاية، قد تكون هناك أسباب غيبية أيضاً لا نعلمها، لكن ومع ذلك مرد الأمر في النهاية إلى المسبب الأول وهو الله عز وجل؛ لئلا نقول: إن الأسباب متسلسلة إلى ما لا نهاية فهذا لا يُعقل ويستحيل، لا بد أن تنتهي إلى نهاية وهي قدرة الله عز وجل ومشيئته.

جهل من قال: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد

جهل من قال: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد، لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، كان جاهلاً، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان، إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنّدَل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد. فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده]. في بداية الكلام أشار الشيخ إلى مسألة هي في الحقيقة فلسفة، حيث أراد بها الرد على الذين عندهم النزعات الفلسفية، ومن تأثر بمقولة: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذه فيها صيغ كثيرة عند طوائف من الفلاسفة، وأشهرها: أنهم يزعمون أن الذي يدير الكون على جهة التفصيل ليس هو الله عز وجل، لأن الله واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فينكرون الأفعال لله عز وجل، ولا يعتقدون أن الله فعّال لما يريد، ولذلك بعضهم وضعوا صنماً وسيطاً يزعمون أنه يدبّر الكون، وسموه بـ (العقل الفعّال)، وتسميه الصوفية بـ (الغوث) أو (القطب)، فهذا عندهم هو الذي يحكم جزئيات الأفعال في الكون، ويخلق الأسباب ويدير الكون، وهذا ناتج عن نظرتهم التجريدية الإلحادية لله عز وجل، فهم لا يرون لله وجوداً فعلياً ذاتياً، ومن هنا لا يرون أن الله عز وجل يفعل، ويزعمون أن توحيده يقتضي تنزيهه من الفعل، ولذا نجد أثر هذه المقولة عند الفرق الكلامية من الجهمية مثلاً، إذ إنهم ينكرون الأسماء والصفات عموماً؛ لأنهم لا يرون أنه قابل للتسمية ولا الوصف، ومن ذلك ألا يُسمى خالقاً، ولا مدبراً، ولا فعّالاً، ولا يوصف بذلك. ثم جاءت المعتزلة وخففت هذا الضلال، فأخذت بنصفه وتركت نصفه، فأثبتت الأسماء وأنكرت الصفات، وذلك ناتج عن أنهم لا يرون أن الله عز وجل قابل للوصف؛ لأن ذلك يلزم منه إثبات وجوده الذاتي، وإذا ثبت وجوده الذاتي ثبت علوه واستواؤه على عرشه، وأنه فعّال لما يريد، وهم ينكرون ذلك. ثم تسلسلت هذه المقولة الخبيثة إلى علماء الكلام من غير المعتزلة، ممن يُنسبون للمتكلمين، وكذلك الذين ينتسبون للأشعري والماتريدي، فأنكروا أيضاً الصفات الفعلية لله عز وجل، ثم بعد ذلك أنكروا الصفات الذاتية، وكل ذلك أيضاً راجع إلى هذه النزعة، أي: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، مع أنهم لا يصرّحون بها، لكنهم أخذوا بلوازمها، فأنكروا الأفعال لله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه].

حاجة الإنسان إلى الشرع في سيره إلى الله وفي معاشه

حاجة الإنسان إلى الشرع في سيره إلى الله وفي معاشه قال رحمه الله تعالى: [والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه. وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يُصلحه أو يفسده؟ وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم لهم]. المعارف غير العقيدة، وهذا مما يجب التنبه له، لا سيما بعدما كثر الذين لا يفهمون العقيدة، وبدءوا يشككون في المسلّمات، زعماً منهم أن العقل هو الذي يقرر الثوابت، مع أن هناك فرقاً بين المعرفة والاعتقاد، فالمعرفة قد تتحول إلى اعتقاد وقد لا تتحول، والاعتقاد هو الأمر اللازم شرعاً، سواء كان مما تقتضيه الفطرة والعقل السليم أو لا تقتضيه، بمعنى: سواء كان مما ندركه أو لا ندركه. ومن هنا فإن مفهوم العقيدة أخص وألزم من المعرفة، وعلى سبيل المثال: فإن العقول السليمة والفطر المستقيمة تُدرك كمال الله عز وجل، لكن هل كل عقل يُدرك ذلك؟ لا، فليس كل عقل يدرك ذلك، فبعض العقول قد يعتريها الخلل، والهوى، والنقص، والخواطر، والوساوس، والأوهام إلى غير ذلك، بل غالب العقول وأكاد أجزم أنه يندر أن يوجد العقل السليم الذي يقرر هذه الثوابت العلمية المعرفية، والتي هي ثوابت شرعية بموجب النصوص، ولذا أقول: إن العقول السليمة والفطر المستقيمة تقرر كمال الله عز وجل ووحدانيته، وأنه الخالق وحده، وتقرر وجوب العدل الذي هو من أصول الاعتقاد عندنا، ودفع الظلم عن الخلق، وتقرر حاجة الناس إلى شرع يحكمهم، وهذا الشرع ينبغي ألا يكون منهم، بل ممن هو عليم خبير بالخلق، والعقول السليمة تدرك ذلك. ثم إن العقول السليمة أيضاً تُدرك ضرورة البعث، لكن ومع ذلك هل ممكن أن هذه المعارف تتحول إلى حقائق يقينية بدون ما يرد بها الشرع على جهة الإلزام؟ أقول: في الأمر شك؛ لأن البشر لا يطيع بعضهم بعضاً في المعارف، فلو أن واحداً من الناس أو مجموعة من الناس قرروا قضية فطرية، فإنهم لا يستطيعون أن يقولوا للناس: إنها لازمة، إلا بتكلف ودلائل وبراهين قد تقنعهم وقد لا تقنعهم، لكن إذا قالوا: هذا هو حكم الله الذي جاء من السماء، هذا الوحي المعصوم، أصبح عقيدة عند من يدين بالوحي، وهذا شيء. والشيء الآخر: أن الفطر السليمة وافقت الشرع، لكن حينما وافقت الشرع هل جاءت لنا بالتفاصيل؟ هناك تفاصيل تتعلق بجميع القضايا التي تدركها العقول على الإجمال، وهناك تفاصيل لا يمكن أن تُدركها العقول إلا بالوحي، وهي مناط الاختبار والتكليف، فمثلاً: عندما تُدرك العقول كمال الله عز وجل، فهل تستطيع أن تصف الله وتسميه بأسمائه الحسنى كما جاء في الكتاب والسنة؟ لا؛ لأن من أوصاف الله عز وجل ما لا يمكن أن تصل إليها العقول ولو لم يرد في الكتاب والسنة، كإثبات الاستواء على العرش، واليد، والوجه، والنزول، والمجيء، والكلام وغير ذلك من الصفات الثابتة، والعقل السليم لا ينكرها ما دام أنها قد ثبتت، لكن قبل أن تثبت لا يستطيع أن يقول فيها بشيء، فمثلاً: البعث، فإن العقل السليم والفطرة يُدرك مجملات البعث، لكن هل يعرف عذاب القبر ونعيمه، والبعث، والحشر، والنشور، والصحف، والميزان، والصراط، وتفاصيل نعيم الجنة، وتفاصيل عذاب النار؟ كل ذلك لا تدركه العقول. إذاً: المجملات لا تقرر العقيدة، وإنما تقرر المعارف فقط، والعقيدة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل لا تقررها العقلية السليمة استقلالاً، ولا الفطر المستقيمة استقلالاً، كما أن المجملات لا تنفع، فإن من المشركين من عقلاء الكفار الآن من يدرك هذه المجملات، وكتبوا في ذلك كتابات، وهي موجودة الآن، لكن هل تنفعهم؟ هل تدخلهم الإسلام؟ لا.

حسن الأفعال وقبحها وما يعرف منه بالعقل

حسن الأفعال وقبحها وما يعرف منه بالعقل قال رحمه الله تعالى: [وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يُعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يُعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه. وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك. وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]. ولكن توهمت طائفة أن للحُسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحُسن والقُبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحُسن والقُبح، العقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت]. يعني: أنه لابد من التفصيل، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وسيأتي بيانه، ولذلك قالت المعتزلة: بأن الحُسن والقُبح عقليان، بينما الأشاعرة والماتريدية وبعض المتكلمين قالوا: الحُسن والقُبح شرعيان، والصحيح: أن الحُسن والقُبح منه ما هو عقلي، ومنه ما هو شرعي، فالعقول بالجملة تحسّن العدل والفضائل، وتحسّن التزام شرع الله، وتحسّن الخير، وتُقبِّح الشر والرذائل والظلم، لكن هذا على جهة الإجمال، أما التفصيل فلا بد أن يأتي به الشرع؛ لأن هناك أموراً لا تُدرك العقول حُسنها وقُبحها إلا بالشرع؛ لأنها غيب بحت خالص. إذاً: التفصيل هو الصحيح، وكون العقول لها مدخل في التحسين والتقبيح لكن ليس على جهة التفصيل، فعلى هذا أخطأت الفئتان عندما بالغوا في التحسين والتقبيح، وقالوا: كل حسن هو ما حسّنه العقل، وكل قبيح ما قبّحه العقل، لذا فإن الشرع قبّح أشياء لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يقبّحها، والعكس كذلك، أي: أن هناك أشياء حسّنها الشرع لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يحسّنها. قال رحمه الله تعالى: [ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه سبحانه منزّه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القُبح العقلي الذي أثبتوه؟ على قولين. والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه]. على أي حال هذه فلسفة، والوسط والتفصيل في هذه الأمور هو الحق، والظاهر من كلام الفلاسفة، وتبعهم المعتزلة في هذه المسألة بالذات، وبعض طوائف المتكلمين، أنهم قالوا: بأن الله عز وجل كونه لا يفعل القبيح راجع إلى أنه لا يتصور منه ذلك ولا يقدر عليه، ولذلك عبّروا عن الله عز وجل بعبارات منها: أنه لا يقدر ولا يفعل، وهذا من سوء الأدب مع الله عز وجل، والخوض فيما لا طاقة للعقول به، وهو أيضاً نوع من التكلّف الذي نهى الله عنه، ثم إنه يُلزم بإلزامات كلها باطلة، فلذلك الأولى للمسلم ألا يتحدث عن هذه الأمور، فإن الله عز وجل فعّال لما يريد، وهو لا يفعل الشر؛ لأنه ليس مقتضى الحكمة، فالله كما أنه فعّال لما يريد فهو سبحانه عليم خبير حكيم، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فلا يقال: إنه لا يقدر على فعل الشر، وكذلك العكس، والذين قالوا: إن هذا مقتضى ثوابت هي لازمة لله عز وجل، ليس بصحيح؛ لأن الله عز وجل لا يلزمه شيء.

مخالفة من ينظر إلى القدر ويعرض عن شرع الله ودينه

مخالفة من ينظر إلى القدر ويعرض عن شرع الله ودينه قال رحمه الله تعالى: [فمن نظر إلى القدر فقط، وعظم الفناء في توحيد الربوبية، ووقف عند الحقيقة الكونية، لم يميّز بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وأولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار. وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه].

مخالفة القدرية لضرورة الحس والذوق والعقل والقياس

مخالفة القدرية لضرورة الحس والذوق والعقل والقياس قال رحمه الله تعالى: [فهم مخالفون أيضاً لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية. ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى، وخالف ضرورة الحس]. يقصد الشيخ بهذا طوائف قد لا تكون ظاهرة عند عموم الناس، لكن مذهب هذه الطوائف قد أثّر في عقائد كثير من أهل الأهواء والبدع والافتراء لا سيما الصوفية. وهذه الطوائف كانت موجودة قبل الإسلام في بعض عُبّاد الأمم، خاصة الأمم الشرقية والأمم الغربية، كما يوجد عند اليونان والرومان فلاسفة يتعبّدون بالفلسفة وبمناهج فلسفية، ويزعمون أن الإنسان بالتعبد والتحنّث يتّحد بالله عز وجل، أو يكون له حلول مع الله، أو أنه إذا ارتقى إلى القمة في التعبد لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بالأمر، ولا أن ينتهي عن النهي. كما لم يعد بحاجة إلى أن يلتزم بالشرع؛ لأنهم يقولون: الشرع إنما جاء لترويض العوام، أما الخواص فقد ارتقوا إلى درجة ليسوا بحاجة معها إلى أن يلتزموا بالشرع، ومن هنا زعموا أنهم فوق الأنبياء، وأنهم بالتعبد لم يعد لهم حاجة ولا إحساس بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا المذهب انتقل إلى المسلمين بعدما شاعت الطرق، وقبل أن توجد الطرق لم يكن لهذا المذهب وجود فعلي، رغم وجود كلام في القرن الثاني والثالث، إلا أن هذه كنزعة فعلية موجودة ما كانت توجد إلا على شكل بذور ليست كاملة، يعني: أن بذورها في القرن الثاني والثالث كانت ظاهرة عند بعض العباد، مثل مقولة: لا أعبدك رجاء جنتك ولا خوف نارك، وإنما أعبدك محبة لك ونحو ذلك من المقولات الباطلة والفاسدة. وهذه النزعة فعلاً راجعة إلى مسألة إلغاء الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والعمل بشرع الله، لكنها لم تكن إلى حد إلغاء الشرع، فقد كان هؤلاء يدعون أنهم يتورعون، وأنهم يعملون بأركان الدين وواجباته، وإن قعدوا عن أمور وواجبات أخرى أيضاً، لكنهم لم يجرءوا على إلغاء الشرع في سلوكياتهم. فبعد القرن الثالث لما شاعت الباطنية، وشاعت الطرق، دخلت هذه المذاهب عبر الطرق، فوجد من غلاة الطرقية والصوفية من يعتقد هذا المذهب، ويستغني بزعمه عن الشرع؛ لأنه وصل إلى درجة الفناء، أي: أنه يفنى بالرب من كثرة التعبد والتحنث والتفكر في الله، فيندمج ويحل في الله على ما يعتقدون من الوثنية المعروفة عندهم، وأنه بهذا الحلول لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بأمر ولا ينتهي عن نهي، وهذه النزعة ما تزال موجودة، لكنها قليلة، ولا تزال توجد عند بعض الغلاة من هذا الصنف. والحقيقة الكونية تتلخص في أمور الربوبية، وهي: اعتقاد أن هذا العابد أصبح ذرة من هذا الكيان، والكيان هو الله، يعني: أنهم يقولون بوحدة الوجود والاتحاد والحلول، وهذه كلها ترجع إلى فلسفة الحقيقة الكونية. قال رحمه الله تعالى: [ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائمًا فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوءه تارة وما يسره أخرى، فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا. ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة. وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، أو إن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه. ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل]. في الحقيقة الشيخ في مثل هذه المقامات كثيراً ما يميل إلى التفصيل الذي يدخل المعاني الصحيحة المحتملة في بعض العبارات؛ لأنه وجد من بعض المنتسبين للسلف من اغتر بهذه المصطلحات، فاستعمل فيها المعاني الشرعية ظناً منه أنها تتضمن المعاني الشرعية كما فعل ابن القيم في كتابه: (مدارج السالكين)، فقد حاول أن يعطي المصطلحات البدعية وجهاً من المعاني الشرعية لتكون معاني على المشروع لا على المبتدع، وكذلك الشيخ هنا قد تكلف ليقول: إن هناك بعض الصالحين من قد يستعمل الفناء بمعنى العبادة التي هي التسليم والتذلل لله عز وجل، ف

أنواع الفناء

أنواع الفناء

الفناء الديني الشرعي

الفناء الديني الشرعي قال المصنف رحمه الله تعالى: [والفناء يراد به ثلاثة أمور: أحدها: هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به، فيفنى عن عبادة غيره بعبادته، وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله، وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه، وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله، وعن خوف غيره بخوفه، بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله، وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله]. هذا هو المعنى الذي أشار إليه الشيخ قبل قليل، وهو التسليم لله عز وجل، لكن كيف يسمى فناء؟ الحقيقة هذا يشكل، وشيخ الإسلام رحمه الله قد أوقع من بعده من أهل السنة خاصة في إشكال في هذا الأمر، نعم هو أراد أن يجر الذين ابتلوا إلى الحقائق الشرعية بهذا الاستدراج، لكن مع ذلك كونه يعتبر هذا فناء مشروطاً، أو أن هذا التعبد لله عز وجل هو حقيقة العبادة والتسليم والذل له سبحانه، وأن الإنسان لا يلتفت إلى غير مراد الله، ولا يهتم بغير ما يريده الله، فلا يبالي إلا بما يحبه الله، لكن كيف نسميه فناء؟ الأمر فيه تكلف شديد، لعل للشيخ ما ذكرته من الأعذار.

الفناء عند بعض الصوفية

الفناء عند بعض الصوفية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الفناء الثاني: وهو الذي يذكره بعض الصوفية، وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى، فيفنى بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى، فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين، وليس هو من لوازم طريق الله، ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين. ومن جعل هذا نهاية السالكين، فهو ضال ضلالاً مبينًا، وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ، بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض، ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك]. سنلاحظ أن النوع الثاني ملتبس مع النوع الثالث، لكن قبل أن نقرأ الثالث أحب أن نقرب النوع الثاني للمصطلحات المشهورة، وهو أن النوع الثاني من الفناء: هو فناء أصحاب الاتحاد والحلول، والنوع الثالث: هو فناء أصحاب وحدة الوجود، فالنوع الثاني ضلال وشرك، وهو أن يعتقد هذا العبد -بزعمه- أنه اتحد مع الله عز وجل، ومع ذلك لكل واحد منهما مسمى، فهذا عبد وهذا معبود، بمعنى: أنه تبقى عنده نسبة من الفارق بين الخالق والمخلوق، لكن هذه النسبة ليست بجانب العبادة، فيرى أنه حل واتحد بالله تعالى، إما اتحاداً كلياً أو جزئياً، فهذه فلسفات لا تنتهي، وبعضهم يرى أنه حلت فيه روح من الله، أو أنه حلت فيه شيء من الأمور المقدسة، مثل: أرواح الملائكة، أو أرواح أخرى، أو العقل الفعال، فلكل منهم مسلك، والحلول قد يكون من باب تقديس المخلوق ليتصف ببعض صفات الخالق أو العكس، لاعتقاد أن صفات الخالق هي التي أيضاً وجدت في المخلوق، وبينهما دور، لكن مع ذلك هي فلسفات. إذاً: أقول: من أجل أن نفرق بين الثاني والثالث، فالأول واضح، وهو المقصود به العبادة الحقة، لكن سمي فناء تجوزاً، والثاني هو فناء الاتحاد والحلول الذي لا يزال يرى أن وجود الخالق له خصائص، ووجود المخلوق له خصائص، لكن في العبادة اندمج هذا العابد مع المعبود، وأما الثالث الذي سيذكره فهو فناء أصحاب وحدة الوجود، الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق مطلقاً، فيرون عين هذا الكون هو الله عز وجل بجملته ومفرداته.

الفناء عن وجود السوى

الفناء عن وجود السوى قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الثالث: فهو الفناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، وأن الوجود واحد بالعين، فهو قول أهل الإلحاد والاتحاد، الذين هم من أضل العباد. وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس، فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله، فإنه إذا كان مشاهدًا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور، فعومل بموجب ذلك، مثل أن يضرب ويجاع، حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع]. هناك قصة طريفة تبين أثر هذه المذاهب والفلسفات على بعض العباد الأوائل، وهي ناتجة عن جهل، والقصة مشهورة ذكرها حتى بعض السلف الذين ذكروا قصص العباد، وهي: أن رجلاً تمنى أن الله عز وجل يبتليه ليحصل على أجر الصبر من الله عز وجل، فابتلاه الله بحبس البول، فضاقت به الأرض بما رحبت، وأصبح يركض من غير شعور، فاشترى لوزاً للأطفال ووزعها عليهم، وقال: ادعوا لأخيكم الكذاب. يعني: أنه ظن لو امتحن سيصل إلى درجة الفناء، بحيث لا يشعر بالألم، وأنه سيصبر ليعظم أجره، فلما ابتلي بمثل هذه المصيبة عرف أنه لا يطيق، وكذلك كلام الشيخ هنا، فلو أن أحدهم ابتلي بعظيم الأوصاب والأوجاع ما ادعى أنه فني، ثم كيف يفنى والله عز وجل لا يضره شيء، وكيف يدعي أنه متحد وإذا أصابه شيء تألم! وإذا شعر بالجوع احتاج للأكل، وإذا شعر بالعطش احتاج للماء أو يموت! قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله، وخرج عن أصل مذهبه، وقيل له: هذا الذي فعله مقضي مقدور، فخلق الله وقدره ومشيئته متناول لك وله، وهو يعمكما، فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا، وإلا فليس بحجة لا لك ولا له. فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر، ويعرض عن الأمر والنهي].

الواجب في شرع الله وقدره عملا

الواجب في شرع الله وقدره عملاً قال رحمه الله تعالى: [والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، كما قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]، وقال في قصة يوسف: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فالتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر:55]، فأمره مع الاستغفار بالصبر، فإن العباد لابد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يأيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وقال: (إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة). وكان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)]. إكمال الحديث: (أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت).

الأسئلة

الأسئلة

حكم التعبير عن العقائد وغيرها بالفكر

حكم التعبير عن العقائد وغيرها بالفكر Q هل التعبير عن بعض العقائد بالفكر، مثل: الفكر التكفيري، مع أن قضية التكفير عقيدة، يجوز أم لا؟ A هذا من باب الاصطلاحات، والتكفير قد يكون عقيدة وقد يكون فكراً، والفكر هو نتاج الناس الذي ينبني على الأمور التي يخترعونها بالاجتهادات، والفكر أحياناً يكون آراء الناس في القضايا القطعية، وهذا فكر مردود، وأحياناً يكون آراء الناس فيما يتعلق بالأمور الاجتهادية في الشرع، فتسميته فكراً تجوزاً مقبول نوعاً ما، كذلك آراء الناس في أمور الحياة التي ليست داخلة في الكتاب الشرعي هي فكر. إذاً: العقيدة الثابتة لا يجوز أن تسمى فكراً؛ لأن هذا نوع من التهوين من شأنها، ونوع من القول بأنها ليست ثوابت ولا مسلمات، ولأن الأفكار هي نتائج آراء الناس وتأملاتهم، وهي ليست بقطعيات ولا يتعبد الآخرون بها، وعلى هذا فإن العقيدة لا تسمى فكراً، أما ما عدا ذلك فيجوز تسميته فكراً، ومع ذلك إذا أمكن أنه يلتزم بالمعاني الشرعية فنسمي الأمور الاجتهادية في الدين اجتهاداً، ونسمي ما يتعلق بالأمور غير الشرعية من آراء الناس آراء، وهذا أولى، لكن مع ذلك أعود وأقول: العقائد لا يجوز تسميتها فكراً.

بيان أقوال أهل العلم في الجنب

بيان أقوال أهل العلم في الجنب Q ما قول أهل العلم في الجنب، هل هو صفة أم ماذا؟ A هذه مختلف فيها اختلافاً كبيراً، وقد اتفق السلف على أنها من الألفاظ التي تمر كما جاءت، وأنها لا تكيف، لكن يبقى هل هي صفة أو غير صفة؟ المسألة سهلة والخلاف فيها قائم، وهذه من نماذج الأمور الخلافية في العقيدة، يعني: أن هناك مسائل ملحقة بالاعتقاد يرد فيها الخلاف، ليست من المسلمات ولا القطعيات، فالعقيدة من حيث المسلمات والقطعيات والأصول والثوابت لا خلاف فيها بين السلف على الإطلاق، لكن تبقى مسائل ملحقة بالعقيدة يختلف عليها، إما لتنازع الأدلة فيها، أو لأن الحكم فيها غير بين، مثل: مسألة الجنب، فقد ورد فيها النصوص، والسلف كلهم متفقون على أنها تثبت كما جاءت، وبعض الناس إذا قال: قال بعض أهل العلم: إنها ليست بصفة. يظن أنه ينفيها، لا، فهو لا ينفيها ولا يؤولها، وإنما يثبتها كما جاءت، يعني: لا نتحكم في أن نقول: إنها صفة، وقال بعضهم: تكون صفة، ولذا فالنزاع في هذا ليس في أصل ورودها ولا في ثبوتها، وإنما النزاع هل تسمى صفة أو هي خبر عن الله؟ أما أنها خبر عن الله فبالاتفاق، لكن هل يوقف على أنها خبر؟ لا، فبعض السلف يقول: إنها تثبت كصفة لله عز وجل. إذاً: المسألة من الخلافيات، ولا يجوز أن يقف عندها المسلم، وفي الحقيقة أنا أنصح كل طالب علم فضلاً عن عامة المسلمين ألا يقف عند هذه الأمور، ولا يشغل نفسه بها، بل يكفي أن يعتقد أن ما جاء فيه الخبر عن الله عز وجل حق وصدق، ما دام أنه ثبت بالنص، والجنب وردت في القرآن وفي السنة، فلا داعي لأن يخوض الإنسان فيها بأكثر مما ورد، بل يسلم بأنها حق على الحقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، سواء سميت صفة أو خبراً، فالأمر سهل ما دام أنها ثبتت بالنص.

بيان معنى (الحقيقة) في كلام شيخ الإسلام

بيان معنى (الحقيقة) في كلام شيخ الإسلام Q كثيراً ما تتردد عبارة (الحقيقة) في قول شيخ الإسلام، وقد كثر ذكر الحقيقة من المتصوفة؟ A ( الحقيقة) التي أشرت إليها قبل قليل، وأشار إليها الشيخ، يزعمون بها أن الإنسان إذا وصل إليها استغنى عن امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، فيسمون هذا حقيقة، ويرون أن هذا مرادف أو مغاير للشريعة، فالشريعة أحكام تحكم السلوكيات العامة، وهذه الأمور التي تحكم السلوكيات العامة يرون أن العابد منهم لا يحتاجها؛ لأنه وصل إلى حقيقة التوحيد الذي هو الفناء، فلا يحتاج إلى الشرع والأوامر والنواهي، والله أعلم.

شرح العقيدة التدمرية [30]

شرح العقيدة التدمرية [30] العبد بطبعه ضعيف فهو بحاجة إلى مولاه وخالقه في كل أموره، حتى في عمل الطاعات، ولذلك فالعبد المؤمن يلزم الاستغفار؛ لأنه مقصر حتى مع قيامه بما أمره الله تعالى، وهو أيضاً يعبد ربه ويستعينه في تأدية تلك العبادة، ويستعينه في كل أموره، فهذا هو الفارق بين المؤمن الحق من غيره ممن لا يستعين بربه في جميع أموره أو في بعضها، وخير مثال للمؤمن الصادق هم الصحابة رضوان الله عليهم، الذين أثنى عليهم ربهم في كتابه، وأخبر أنه راض عنهم، وكذلك أثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فينبغي الاقتداء بهم.

حاجة العباد إلى الاستغفار ووجه اقتران التوحيد والاستغفار

حاجة العباد إلى الاستغفار ووجه اقتران التوحيد والاستغفار قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه، فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه، وعن إبليس أبي الجن لعنه الله أنه أصر متعلقًا بالقدر فلعنه وأقصاه، فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه، ومن أشبه أباه فما ظلم، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:72 - 73]. ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:1 - 3]. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره: (يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا). وقد ذكر سبحانه عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: {أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه)]. هذا الوعد حق، لكن هو كسائر النصوص العامة المجملة التي تحتاج إلى أن يرجع في تفسيرها تفصيلاً إلى نصوص أخرى؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه) حق، لكن بشرط أن تتوافر الشروط وتنتفي الموانع، وهذا في كل عمل، كما أن الله عز وجل وعد من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بأن يدخل الجنة، لكن هذا مشروط بشروط وانتفاء موانع، وكذلك من حقق أركان الإيمان، وحقق أركان الإسلام، وحقق بعض الأخلاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها من ألفاظ الوعد، ترد إلى ما يفصلها، وبعض الناس يقول: أنا أدعو ولا أجد أن الله فرج عني كربتي، فلعله تخلفت عنده شروط ووجدت عنده موانع، فالإنسان عندما يدعو الله عز وجل ولا يستجاب له، فلا يعني ذلك أن وعد الله يخلف، ولا يعني أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يخلف، بل يعني ذلك أن الموانع قد خفيت عليه، أو أن الذهول والغفلة جعلت الإنسان يقع في موانع إجابة الدعاء، وعدم تحقق الشروط وهو لا يدري، فهو معرض للخطأ والنسيان، والسهو والخلل، والأهواء والأدواء، وأمراض النفوس، وكيد الشيطان، فكل هذه الأمور صوارف عن الحق، وصوارف عن أسباب الأخذ بدواعي الإجابة، لذا فليعلم الإنسان أنه لو دعا ولم يجد نتيجة الدعاء أنه قد أوتي من قبل العمل، ومع ذلك غالباً أن من كرر الدعاء يستجاب له؛ لأن كثيراً ممن يدعون الله يستعجلون الإجابة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إجابة الدعاء: (ما لم يعجل) وكذلك لابد أن يكون من قلب حاضر لا من قلب لاه أو ساه، وأن يكون ذلك مسبوقاً بالعمل بالواجبات والأركان، فلا يكون الإنسان مخلاً بالفرائض، ثم يريد أن يتحقق له ما طلبه من ربه عز وجل.

لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين

لابد للعبد في الأمر من أصلين وفي القدر من أصلين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وجماع ذلك: أنه لابد له في الأمر من أصلين، ولابد له في القدر من أصلين، ففي الأمر عليه الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به، والعمل بذلك، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، وتعديه الحدود. ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار، فـ (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا)، وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، وفي الصحيح (أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفرلي. يتأول القرآن)]. أشار الشيخ هنا إلى الأصلين اللذين لابد منهما في الأمر: الأول: الاجتهاد في الامتثال، فيجتهد العبد بتوجه قلبه إلى الله عز وجل، بالمحبة والخوف والرجاء والاستعانة والإنابة إليه عز وجل. الثاني: أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، والاستغفار والتوبة يكون بأمرين: باللسان، وبعمل الجوارح، بأن يعمل ما يكفر به ذنوبه من كثرة الذكر والاستغفار والتسبيح والتهليل وعمل الصالحات، فهذا نوع من الاستغفار أو نوع من التوبة، والاستغفار يكون أوسع من التوبة من وجه، والتوبة أوسع من الاستغفار من وجه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، ويكون مفتقرًا إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه]. كما جعل الشيخ هنا القدر في أصلين: أولاً: أن يستعين بالله، ثانياً: الصبر على المقدور، ومن مقتضى الصبر أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا علم ذلك المؤمن، وعلم أن ما أصابه إنما هو لحكمة وفائدة غائبة عنه؛ هان عليه أي مقدور، وتحمل أي شيء يصيبه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)؛ لأن غير المؤمن لا تتوافر عنده الصفات الشرعية للرضا بالمقدور والصبر عليه، وحلاوة تلقي المقدور، ولأن المؤمن هو الذي إذا قوي إيمانه تلقى المقدور بأمن وطمأنينة وسعادة، ووجد لذلك طعماً في قلبه وفي حسه ومشاعره، وهذا لا يكون إلا للمؤمن، بينما غير المؤمن قد يكون بطبعه أو بفطرته الصبر، لكنه لا يتلذذ ولا يسعد بقيمة هذا الصبر؛ لأنه لا يؤمل بالآجل الذي وعد الله به عباده الصابرين.

محاجة آدم وموسى عليهما السلام

محاجة آدم وموسى عليهما السلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال: (يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، فبكم وجدت مكتوبًا علي من قبل أن أخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: بكذا وكذا سنة، قال: فحج آدم موسى) وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب، فإن آدم قد كان تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك، وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر:55]]. رغم أن السياق واضح في قصة آدم وموسى عليهما السلام، إلا أنه مع ذلك قد يكون فيه نوع من اللبس أحياناً؛ لأن القصة جاءت على سياق أن آدم سأل موسى، فقال: فبكم؟ وهذا تقرير أصل، وكأنه قال: يا موسى! ألست تعلم أن ذلك مكتوباً ومقدراً علي؟ قال: بلى أعلم. قال: إذاً انتهى الأمر. فالمصيبة التي حدثت قدر، أما الذنب فإن موسى لم يعتب عليه؛ لأنه يعرف أنه استغفر ربه فغفر له، لكنه عاتبه على المقدور الذي هو عقوبة الذنب، لأن هناك ذنباً وهناك عقوبة الذنب، فالذنب انتهى أمره، وموسى عليه السلام أفقه من أنه يعاتب آدم على ذنب حدث، ثم استغفر منه وغفر الله له، لكن المصيبة التي عمت البشرية جمعاء هي كون آدم نزل من الجنة إلى الأرض، إلى الكدح والنكد، فهذا هو مجال العتاب، لذلك قال له: أنت تسببت في هذا القدر، وآدم عليه السلام يعلم أن موسى مؤمن بالقدر، وأنه يعرف أن هذه مقادير، لكن أراد أن ينبهه لأمر قد يكون غفل عنه، وهو قوله: ألم تعلم أن ذلك مقدور علي، أي: أن الله قد كتبه علي، بصرف النظر عن كونه كتبه قبل كذا أو كذا سنة، فهذا مجرد تقرير خبر جديد فيه فائدة أخرى، ككتابة المقادير، لكن القصد من كلام آدم لموسى أن يقول له: أنت تعلم أن هذا مقدر علي، قال: نعم أعلم. قال: إذاً القدر لا يد لي فيه، وهي المصيبة التي قد حصلت، والذنب قد استغفرت منه.

مراعاة الشرع والقدر توجب العبادة والاستعانة

مراعاة الشرع والقدر توجب العبادة والاستعانة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن راع الأمر والقدر -كما ذكر- كان عابدًا لله، مطيعًا له، مستعينًا به، متوكلاً عليه، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، وقوله: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2 - 3]]. نجد أن الفرق بين الأصلين في هذه النصوص واضح جداً. فقوله: (إياك نعبد) تعني: الأصل الأول، وهو تحقيق الأمر، فنعبدك استجابة لأمرك. وقوله تعالى: (وإياك نستعين) تحقيق للمقدور، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله عز وجل، وهي عبادة، إذ إنها نوع من التوكل على مقدور الله سبحانه. كما في الآيتين تضمن واستلزام، فـ (إياك نعبد) كما أنها عبادة واستجابة للأمر، فهي كذلك نوع من الخضوع للقدر، لكنها إلى الأمر أقرب؛ و (وإياك نستعين) كما أن فيها استعانة بقدرته، إلا أنها تتضمن العبادة؛ لأن الاستعانة عبادة، ولذا فكل عبارة في أحد الأصلين تستلزم الأصل الآخر. وكذلك الآية التي بعدها: (فاعبده) إذ هي في أصل الأمر، و (توكل عليه) في أصل القدر، وبينهما كذلك تضمن وتلازم كما بين العبارتين السابقتين. وقوله: (عليه توكلت) بدأ في مسألة الاعتماد، وهي نوع من الربوبية والقدر، ثم قال: (وإليه أنيب) كذلك فيها جانب قدر، وجانب أمر، كما في العبارتين هنا التأكيد على الأمرين أكثر، بمعنى: أن وضوح القدر والشرع في العبارتين أكثر من العبارات التي سبقت، فالتوكل كما أنه نوع عبادة، فهو كذلك أخذ بالأسباب وتسليم لقدر الله، والإنابة بالعبادة فهي أقرب إلى الأمر، وكذلك بقية النصوص على هذا النهج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالعبادة لله والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية: (اللهم! منك ولك)، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم].

شروط قبول العبادة

شروط قبول العبادة قال رحمه الله تعالى: [ولابد في عبادته من أصلين: أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم! اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا). وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [الملك:2]. قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة. ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه].

أقسام الناس في عبادة الله والاستعانة به

أقسام الناس في عبادة الله والاستعانة به قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام]. يقصد بـ (الناس) عموم البشر، المسلمين وغير المسلمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه. وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحريًا للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع. وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة]. الأقسام الأربعة هي كالتالي: الأول: المؤمنون المتقون الذين جمعوا بين الأمرين، ولا يعني ذلك أن الذين بعدهم ليسوا كلهم من المؤمنين، كما لا يفهم أن هذا يشمل كل المسلمين، بل هو خاص بأهل السنة والاستقامة الذين يجمعون بين الأمرين على وجه معتدل، فيعبدون الله ويستعينونه على وجه شرعي، ويمتثلون الأمر ويخضعون للقدر، وعملهم هو الخالص الصواب بإذن الله، ويرجون ذلك. الثاني: طوائف من المسلمين، أو طائفة من المسلمين تعبد الله عز وجل، لكن ليس عندهم صبر، ولا عندهم كبير استعانة، فاستعانتهم ضعيفة، وهذا ما عليه عامة أصحاب الغفلة من المسلمين، وهو لازم مذهب بعض المعتزلة، إذ من لوازم مذهب بعض المعتزلة في القدر أنهم يرون أن أفعال الإنسان ليست من فعل الله عز وجل، بل هي من فعل الإنسان نفسه، فألزموهم بأن الإنسان خالق أفعاله، لذلك ما كانت عندهم قوة الاستعانة والصبر، مع أنهم قد يكون عندهم ورع ولزوم سنة، وهذا كثير في رءوس المعتزلة، فتجد عندهم ورع، وتجد عندهم اهتمام بالطاعات، وليس هذا عند كلهم، وإلا فمنهم من عرف بعكس ذلك، ولزومهم للسنة هو لزوم ظاهر، بمعنى: أنهم يلتزمون شعائر الإسلام الظاهرة، لكنهم في جانب التوكل والاستعانة عندهم ضعف؛ لأنه من الطبيعي ما دام أنهم يرون أن الإنسان موجد لأفعاله أن يقل توكله على الله، وما دام أن الإنسان يعتقد بأنه هو الذي يوجد أفعاله، فنتيجة تلقائية يضعف توكله على الله، سواء عملوا بها أو لم يعملوا، وهذا كما قلت ليس خاصاً بالمعتزلة، أو بطوائف المعتزلة، بل هو سمة عامة لكل أصحاب التقصير وضعاف الإيمان، وأصحاب الغفلة من المسلمين. الثالث: فئة من المسلمين فيهم استعانة وتوكل وصبر، لكنهم لا يستقيمون على الشريعة، وهؤلاء غالباً أصحاب الطرق الصوفية، وقد بدأت هذه السمة حتى عند العباد الأوائل، أي: قبل أن تكون طرقاً، فالعباد في أواخر القرن الأول الهجري والثاني والثالث قبل أن تظهر الطرق، العباد الذين سلكوا مسالك التنطع في العبادة، والذين سلكوا مسالك المناهج البدعية في العبادة أياً كان نوعها، عامتهم ليس عندهم استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، وإنما متابعة للجهل والتقليد، ولأنهم أيضاً سيطرت عليهم الأهواء، فهم لا يطلبون العلم الشرعي ولا يتفقهون في الدين، ويتلقون دينهم عن عباد الأمم وعن الكتب، فلذلك صارت استقامتهم على الأمر الشرعي ضعيفة، وإلا لو استقاموا على الأمر الشرعي ما أنشئوا مذاهب تحريم الزواج، وتحريم طلب العيش، وتحريم طلب العلم، فالذي يفعل ذلك ما استقام على دين الله، وإن كان يجتهد ويقول: إن العلم دُخل، أي: دخله الرياء، والشيطان أسس فيهم المذاهب بشبهات، فتجد العباد الأوائل أصحاب الورع حينما انقطعوا عن الناس، وانقطعوا عن الجمعة والجماعات، وانقطعوا عن العلم الشرعي لاتهامهم نيات الناس، إذ قالوا: كل الذين سلكوا هذه المسالك نيتهم فيها شيء! فنقول لهؤلاء: ما الذي يمنعك أن تجرد نيتك، فتطلب العلم، وتطلب العيش، وتطلب الرزق، وتحضر الجمع والجماعات، وتعاشر العلماء وأهل العلم؟! إذاً: هذه الطائفة هي التي أسست مذاهب الصوفية والطرق، وأغلب أصول الطرق الصوفية تقوم على هذا الأصل، فتجد عند الواحد منهم توكلاً وصبراً على العبادة، وصبراً على السفر، وصبراً على العبادات البدعية وغير البدعية، وأغلب ما يتعب أهل هذا الصنف: التعبدات البدعية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وعلى سبيل المثال: ننظر كيف يكدح المساكين أصحاب البدع في الحج، فيتلفون أموالهم وتضيع أوقاتهم في تتبع البدع، ويضيع أجرهم؛ لأنهم عبدوا الله من غير استقامة، وأذكر أني رأيت ورأى غيري أن أناساً يحملون رجالاً أو نساء مسنين على ظهورهم، ويصعدون بهم غار حراء، والشباب الأقوياء يحتاج الواحد منهم إلى ساعة ونصف لكي يصل إلى الغار، وهذا يحمل فوق ظهره عجوزاً، ويظن أنه يتعبد لله بذلك، وكذلك تتبعهم للمشاهد والآثار بشكل مرهق، في حين أن الله عز وجل أراح الحاج بأن يقر في منى، ويتعبد ويسبح ويهلل ويلبي ويكبر ويستغفر ويصلي مع المسلمين، ويشهد مناسك الحج، ويجلس في المشاعر والشعائر، وهذا المسكين يتعب نفسه في أمور بدعية! وبهذا نعرف أن هذه الطائفة فيها استعانة وتوكل وصبر فيما يتعلق بمسالكهم في العبادة البدعية، لكنهم من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة. بينما أوائل المعتزلة قد اشتهروا بالورع ولزوم السنة الظاهرة، والشيخ قد جمع بين فئتين: طوائف من المعتزلة، وأهل البدع من العقلانيين الكلاميين، مع أن كل أهل

فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية باتباعهم

فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية باتباعهم [وإنما دين الله ما بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهو الصراط المستقيم، وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير القرون وأفضل الأمة، وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة:100] فرضي عن السابقين الأولين رضاء مطلقًا، ورضي عن التابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (من كان منكم مُسْتنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بدينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (يا معشر القراء! استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله! لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيدًا)]. فيما يتعلق بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خير القرون، وأن خير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فقد اختلف السلف في تفسير القرون، هل هي الأجيال، بحيث تشمل المائة السنة الأولى، أم هي مئات السنين، إذ المئون تعد قروناً، والأجيال تعد قروناً؟ الراجح والله أعلم أنه يقصد بذلك المئات، أعني: المائة الأولى والثانية والثالثة، ولذلك شواهد وقرائن كثيرة من التاريخ وحال السلف، وهو الذي يرجحه جمهور السلف، من أن المقصود به الثلاثمائة السنة الأولى. أيضاً: الخيرية لهذه القرون، بعض الناس من المنافقين ومرضى القلوب والجهلة والذين استجابوا لشبهات الذين بدءوا يتجرءون على نهج السلف، قد بدءوا يشككون في معنى الخيرية، وأن الخيرية لا تعني الخيرية التي نقصدها، أي: المنهج في الدين والعقيدة والتعامل إلى آخر منهج هؤلاء الجيل، وصاروا يفسرون الخيرية بتفسيرات جزئية، منها: أن منهم أخيار، وأن الخيرية المقصود بها أن الأمة في ذلك التاريخ أقرب إلى النبوة، وهذه كلها معان صحيحة، لكن ليست هي كل المعنى، بل الخيرية تشمل جميع هذه المعاني قطعاً، فالخيرية من حيث النوع، أي: نوعية الأخيار في القرون الثلاثة الأولى، لا شك أنهم خير ممن جاء بعدهم، هذا من جانب. والجانب الآخر أن الفرق لم تستفحل بعد وإن وجدت. والجانب الثالث: أنه رغم وجود الفرق إلا أن الفرق التي خرجت عن الملة كانت نادرة جداً، إذ لم تخرج فرق الردة إلا بعد القرن الثالث. والجانب الرابع: أن الأهواء والبدع لم تكن لها شأن في تقرير مصائر الأمة في القرون الثلاثة، بينما بعد القرون الثلاثة الفاضلة صار هناك للبدع دول وشعوب وأقاليم، وكيانات حل وعقد في بعض مصائر الأمة ومصالحها العظمى، ثم أيضاً الخيرية تشمل سلامة المناهج في الجملة، واستقرار الدين من حيث المصادر في الثلاثة القرون الفاضلة، فقد استقر الدين في منهجه العام، واستقر سبيل المؤمنين من حيث تنقية المصادر، فبعد القرون الثلاثة الفاضلة لا توجد -مثلاً- مناهج استطاعت أن تجدد في تدوين السنة ودراسة الأسانيد إلا على قواعد الأولين، واستقرت قواعد حفظ الدين ومناهج الاستدلال كذلك، وهي مهمة، وأهم شيء في نهج الدين تحرير المصادر ومناهج الاستدلال والتطبيق. فهذه كلها تمت في القرون الثلاثة الفاضلة على الوجه الذي استقر به نهج أهل السنة والجماعة، وما بعده مجرد خدمة فقط، حتى جهود الجهابذة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده من أئمة السنة لا تعدو أن تكون جهوداً في تجديد الكيان وخدمته الذي بناه أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، كيان الدين من حيث إنه منهج المؤمنين في التلقي والاستدلال والمصادر والتطبيق. وكذلك التجارب والعبر التاريخية التي مرت في القرون الثلاثة الفاضلة طُّبقت فيها جميع ما تحتاجه الأمة من تطبيقات الدين، وعليه فالخيرية في هذه القرون الثلاثة تعني جميع معاني الخيرية، فهي عامة، ولا تعني معنى معيناً، هذا شيء. والشيء الآخر في كلام ابن مسعود: (فمن كان مستناً فليستن بمن قد مات)، فقد بدأنا نسمع من بعض المفتونين كلاماً غريباً، وهو أنهم يقولون: أنتم الآن تتعلقون بالمشايخ الأحياء -وهذا غلط- فلا تتعلقون إلا بالأموات! ويستدلون بمثل هذا النص، وهذا يدل على الجهل، فنحن حينما نتبع أئمة الهدى فإنا نقسّم الاتباع من حيث اتباع الأئمة إلى قسمين: القسم الأول: الأئمة الذين ماتوا، بمعنى: أننا عرفنا أنهم ماتوا على ما كانوا عليه من الهداية والتوفيق والعلم، فهؤلاء ضمنّا بإذن الله أن الاقتداء بهم والاهتداء ممن لم يملك

سبيل الله واحد وما عداه سبل باطلة

سبيل الله واحد وما عداه سبل باطلة قال رحمه الله تعالى: [وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط حوله خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153])]. في هذا الحديث والآية أصل من الأصول البدهية والمسلّمات والثوابت في الدين، والتي أيضاً بدأ يشكك فيها بعض المفتونين والمنافقين، وذلك حينما نجم النفاق في هذا الوقت، وهي دعوى أن الدين والإسلام يشمل سبلاً، وأن كل هذه السبل مرضية، وأنها على الحق! وهذا عين الباطل، فالدين الحق سبيله واحد وليست سبلاً، والسبل الأخرى إنما هي أهواء وافتراق، وأصحابها من المسلمين نرعى لهم حقهم في الإسلام، لكن لا نجعل بدعهم من الدين، ولا نساوم على السنة، ولا نتنازل عنها قيد شعرة، ولا يكون مبدأ الحوار بيننا وبينهم أن نتنازل عن شيء، وهم يتنازلون عن شيء، ثم بعد ذلك نتقارب، لا، نتقارب في التعامل وفيما يتعلق بمصالحنا العامة في المصالح المعيشية، وفيما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، ودرء للمفاسد وجلب للمصالح، ودفع للضرر عن الأمة من العدو المشترك. أما أن نتقارب بمعنى نتنازل عن السنة فلا، وأذكر أني حضرت بعض المناسبات أو بعض الفرص التي كان فيها نوع من محاولة جر أهل السنة إلى أن يتنازلوا عن بعض الثوابت التي لا يملكون التنازل عنها، فلما قُدّمت أحد البحوث في هذا الملتقى التي تقول: إنه يجب أن نفرّق بين العقيدة والثوابت، صاح أولئك الذين حضروا -حتى ممن ينتسبون للسنة-: هذا حجر على الآخرين، هذا ظلم، هذا ليس بتفاهم ولا حوار! حتى الناس من أهل السنة قالوا: إذاً لماذا أتينا؟ لا بد أن نتنازل ويتنازلون! فقيل لهم: لا يمكن أن نتنازل، نعم نتنازل في كذا وكذا، أما أن نتنازل عن السنة، والحق البيّن فلا نملك ذلك أصلاً، ولو تنازلنا فإنا سنخسر ديننا وذممنا، والحق ليس فيه تنازلات، بل الحق طريق وسبيل واحد، ليس فيه سبل ولا خيارات، وإن تكلم بهذا بعض الكبار من الدعاة، فهو خطأ وزلل منهم، ولا نتبعهم في ذلك، مع أننا لا نلزم الآخرين، ولا نملك أن نكره أحداً في الدين، لكن لا نتنازل عن الحق، وإن خفيت خدعة التنازلات على بعض المنتسبين للسنة، وبعض من ينتسبون للعلم، فلا يعني ذلك أن هذا هو الحق، فهذه زلات وجهالات، وربما تكون أموراً تعتري القلوب والمصالح، أو أموراً تحدث من أفراد أهل السنة، حتى وإن كانوا علماء، أو منتسبين للعلم لملابسات أخرى، لكنها لا تخرق المنهج، فالصراط الذي نحن عليه هو واحد، ولذلك كثيراً ما نؤكد أن أصول السنة واحدة، ولم يختلف عليها أهل السنة قديماً ولا حديثاً، وما يجري من بعض أهل السنة والعلماء وغيرهم من خلاف على بعض المسائل الملتحقة بالعقيدة فلا يعني ذلك اختلاف في الأصول، ولو قُدّر أن عالماً من علماء السنة خالف في أصل من الأصول، فهذه زلة وليس عيباً في المنهج، مع أني لا أعرف من أئمة السنة الكبار أنه خالف في أصل من الأصول القطعية والثوابت، وأنا أدّعي هذا، وسبق أن عرضت هذا الأمر أكثر من مرة، وقلت: من يدّعي أنه توجد مخالفة من إمام معتبر من أئمة السنة في أصل من الثوابت والقواطع فليأت ببينة، نعم هناك مسائل ملحقة بالثوابت خالف فيها بعض الأئمة؛ لأنها مسائل أشكل فيها الدليل فقط، أما الثوابت والقطعيات والأصول، كأركان الإيمان، وأركان الإسلام، والشفاعة، والرؤيا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وغيرها من القضايا القطعية، فليس فيها خلاف.

التحذير من طريق اليهود والنصارى

التحذير من طريق اليهود والنصارى قال رحمه الله تعالى: [وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)؛ وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه، والنصارى عبدوا الله بغير علم. ولهذا كان يقال: تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وقرأ هذه الآية. وكذلك قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1 - 5]، فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين. فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً].

الأسئلة

الأسئلة

أنواع تقنين الشريعة وحكمها

أنواع تقنين الشريعة وحكمها Q ما رأي الشيخ في مسألة تقنين الشريعة؟ A مسألة تقنين الشريعة من الأمور التي تحتاج إلى شيء من التفصيل، فأولاً: يختلف مفهوم تقنين الشريعة بين علماء الشريعة اليوم وقبل اليوم، فبعضهم يقصد بتقنين الشريعة: عنصرتها ووضعها على شكل فقرات واضحة عند القاضي أو المحامي أو طالب العلم أو غيرهم، بمعنى: وضعها على شكل مواد تشبه المواد القانونية، لكنها فقهية خالصة، فيضم بعضها إلى بعض، وتضم إلى اجتهادات المعاصرين، وتضم إليها المسائل التي تتعلق بالأنظمة الحاكمة عليها، مثل: نظام الحكم، نظام الحكم عندنا الآن ولله الحمد إسلامي شرعي يعتمد على الكتاب والسنة في أكثر من مادة، فمن الممكن مثلاً التقنين، فتربط الأحكام الفقهية بالأصول التي قام عليها هذا النظام، وذلك من باب أنها قواعد شرعية عامة متفق عليها، أو أنها قواعد عامة تنبني على قواعد الشرع، وهذا النوع من التقنين قد يكون سائغاً إذا توافرت الضمانات في ألا يؤدي ذلك إلى مرحلة الخروج من مقتضى الشريعة. وهناك نوع آخر من التقنين: وهو إعطاء القوانين صفة الشرعية، المسألة عكسية، بمعنى: محاولة تسويغ القوانين وتعديلها، وجعلها نفس المواد، مثل: القانون المصري، فإنه يدّعي بعض واضعيه أنه ينسجم مع المذاهب الفقهية خاصة المذهب الحنفي، وهذه في الحقيقة دعوى عريضة، مع أنك إذا اطّلعت فيه لم تجد فيه من علامات الفقه والشرع سوى في المضامين أو الصياغة، إلا ما يتعلق بالنزعة الإنسانية فقط، فتجد حماية الأخلاق، والعدل، ودفع الظلم، وهذا كلام مجمل تقوله جميع الأمم، لكن لا تجد في هذه القوانين التي رأيتها مصطلحات فقهية شرعية، ويريدون أن يعطوها صفة القانون! بل ويقول لك: إنها تنسجم مع القواعد العامة للمذهب الفلاني. مع أن عبارة: (القواعد العامة) فضفاضة، فتجد مثلاً القانون الفرنسي والقانون الإنجليزي والقانون المصري الذي يدّعون أنه ينسجم مع الفقه سواء، ولا تجد بينهما فرقاً، فهذا النوع من التقنين لا شك أنه خطير، وليس هو المقصود عندنا -ولله الحمد- في هذا البلد، وأكثر الذين يتكلمون عن التقنين من طلاب العلم أو المشايخ -وهم قلة- يقصدون النوع الأول، والذي هو: وضع الأحكام الفقهية على شكل مواد تقرب للقاضي والحاكم والناظر والمستشار والباحث المسائل الشرعية، بشكل يتناسب مع مستجدات العصر الإدارية والأساليب والوسائل التي تتجدد، فمثلاً: القضاء، فلابد أن يحكم قضايا المرور، وقضايا الاقتصاد، وقضايا الطب الحديث وغيرها؛ لأننا إذا أخذنا زاد المستقنع أو شرح الزاد لا نستطيع أن نأخذ منه أحكاماً واضحة لمعالجة مشكلات معاصرة، مثل: صدام السيارات، فلا يوجد في الفقه القديم أحكام تنص على ذلك، لكن توجد له قواعد ونظائر، لذا فهم يريدون بالتقنين: جعل هذه القواعد والنظائر على شكل مواد تُريح من التخبيط والاجتهاد الخاطئ الذي يكثر في تطبيق القضايا المعاصرة على القديمة، وعليه فنقول: إن تسمية هذا النوع من العمل تقنيناً هو الذي أدخل اللبس على الناس، وإلا فهو يعني عنصرة الفقه المعاصر؛ ليمكن تنفيذه أمام القاضي بدون أن يتعب ذهنياً، فيبحث عن المسألة ويقارب ويقارن، وبدون أن يخالفه المدّعي العام أو المُحامي، أو الخصم أو أي معترض؛ لأن الأمر بين وواضح، فلا يبقى في ضمير القاضي أي شيء. وأخيراً: أنا أتوقف عن هذه المسألة؛ لأنها في الحقيقة مهمة ويكثر فيها اللبس، والأمر إذا كان -في تقديري وقد أكون مخطئاً- في أيد أمينة، فأرجو ألا يكون فيه حرج، ومع ذلك الذين يتخوّفون، أو يتوجسون خيفة من هذا التوجه معهم الحق؛ لأنه من خلال تجاربي السابقة قد وجدنا الألم، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فأنا حينما أرى بعض الغيورين يتوجّسون خيفة من شعارات التقنين، فأنا أعذرهم، لكن ينبغي أيضاً أن يعالجوا الأمور باعتدال وحكمة.

تأثر الكثير من أهل العلم بفكر الإخوان وحكم تصنيفهم ضمن أهل البدع

تأثر الكثير من أهل العلم بفكر الإخوان وحكم تصنيفهم ضمن أهل البدع Q ما رأيكم حول انتشار فكر الإخوان المسلمين في الجامعات والمدارس وغيرها، وتأثر الكثير من أهل العلم بهذا الفكر، وتصنيفهم ضمن أهل البدع، وأنه لا داعي للجهاد إذا كانت أبواب الدعوة مفتوحة؟ A هذا الكلام فيه جانب حق وجانب باطل، فأما أن تكون دخلتنا عبر مناهج الإخوان وغيرها بعض المناهج البدعية فكرية وعقدية فنعم دخلتنا، وخاصة في جانب المناهج في الدين، ومناهج الدعوة، وفي جانب العقيدة، وقد يكون تأثير الإخوان عقدياً ممن تأثروا بمنهج الإخوان في المملكة، وقد يكون تأثيرهم ضعيفاً جداً، بل لا أعرف أن واحداً مثلاً تحوّل إلى أشعري بسبب أنه إخواني، أو تحوّل إلى صوفي بسبب أنه إخواني، بل تجد بدعاً أخرى، كبدع المواقف من العلماء، وبدع المواقف من الدولة، وبدع الثرثرة في السياسة أكثر من اللازم إلى حد الوسوسة، وبدع مناهج الدعوة والتعبد بها، وبدع التنظيمات التي تتخذ بشكل إلزامي، وبدع الأفكار تجاه السنة وأهلها، فقد تكون من جانب بعضها بدعاً صريحة، وبعضها تدخل في التوجه البدعي، وأخذناها كمفردات ولا نقول: هذه بدعة، لكنها تخدم التوجه البدعي، أو تخدم مناهج أهل البدع، وكذلك: التساهل، والتميع، والإرجاء، والتصوّف مما يتساهل فيه الإخوان، كما أصبح منهج الإخوان منهجاً عاماً يدخل فيه عدة فئات أيضاً، فقد يُصنّفون على أن إخوانهم ليسوا على منهج الإخوان في العقيدة، أو في بعض الأفكار، فهناك مناهج توصف بأنها إخوانية وهي تخالف بعض أصول الإخوان، وقد وجد هذا فعلاً، وهو من أمراضنا اليوم، رغم أن المشاكل التي تجري أسبابها كثيرة، لا يجوز أننا نحيلها على الإخوان وهذا غلط، فنحن نتحمل بتفريطنا وبتقصيرنا في تنشئة الأجيال، ونتحمل جزءاً من المشكلة والمسئولية، وأيضاً عوامل كثيرة أدت إلى ما وصلنا إليه من الفرقة بين الشباب، ووجود مظاهر الغلو والمواقف الحادة من الدولة ومن العلماء، فهذه توافرت فيها عوامل كثيرة، ومن الظلم أننا نرجعها إلى عامل أو عاملين أو حتى عشرة عوامل، بل توافرت فيها عوامل كثيرة جداً، من ضمن هذه العوامل مناهج الإخوان، وتربيتهم للشباب تربية فيها انحراف عن نهج السنة، وعزلهم عن العلماء ولو لم يتعمدوا ذلك، وإنما المنهج التطبيقي للإخوان هو الذي يعزل الشباب الصغار عن العلماء، أيضاً اتخاذ المواقف المريبة تجاه الدولة والمسئولين، فقد ربت طوائف منهم الشباب على هذا المنهج قصدوه أو ما قصدوه، أيضاً إهمال الثوابت عندنا، وإهمال التعلق بدعوة السنة في هذا البلد، وإهمال البيعة، وإهمال شرعية الدولة، بل ربما بعضهم يرى عكس ذلك، لكن لا نتهم النيات، فإذا ما رأوا عكس ذلك فهم أهملوا هذا الجانب وتربية الأجيال عليه، فحدث هذا الفصام، وكان لمناهج الإخوان أثر في ذلك، لكن من جانب آخر أيضاً ليس كل من ينتسب إلى الإخوان أو نُسب يكون بهذه الصفة، خاصة في الآونة الأخيرة بعد الأحداث وبعد التجارب، فقد وجد اعتدال كبير حتى عند كثير ممن ينسبون إلى الإخوان أو ينتسبون، ووجد أيضاً عوامل أخرى كثيرة تسببت في هذا الفصام، فأنا أقول: الأمر يحتاج إلى التوازن. أيضاً كل الدعوات لها إسهام في جوانب الخير، فيجب أن تُذكر وتشكر، كاحتضان الشباب عما هو أعظم، مثل: صرف الشباب إلى التدين، وإلى الخير، وإلى طلب العلم الشرعي، وإن كان اهتمامهم بالعلم الشرعي ضعيفاً، لكن مع ذلك فمبدأ طلب العلم الشرعي موجود، خاصة وإن كان لا يوجد عند التبليغ، لكن يوجد عند غيرهم، فأقول: هذه الجماعات لها حسنات يجب أن تُذكر وتُشكر؛ لأن القضية قضية غفلة في المجتمع عن الشباب، فلو تصورنا أن الشباب تُركوا من جميع هذه الدعوات فما الذي أمامهم؟ الأحزاب، اتجاهات علمانية، اتجاهات حادة من قوميات، وناصرية، وبعثية، ومخدرات، ومصائب، وانفلات أخلاقي، وانفلات عقدي. فإذاً: الأمر يؤخذ بتوازن إذا نظرنا إلى ظروف الأمة وأحوالها، ونقول هذا رغم أن الجماعات عندها كثير من الأخطاء، إلا أنها أيضاً حملت معنا شيئاً من العبء في احتضان كثير من شبابنا، فكان المفروض أن تعالج هذه المشكلات بالتناصح، وأن يكون الأمر بعلاج الأخطاء لا بهدم الكيانات؛ لأن الهدم لا يؤدي إلى نتيجة، بل يضر الجميع، فأنا أعتقد أن هذه اللهجة لهجة هدّامة ليست لهجة إصلاح، مع أني لا أدري ماذا قال الشيخ؟ وربما قال كلاماً أحسن من هذا، فإذا كان الأمر -وأنا صرّحت- قد وصل إلى وسائل الإعلام فلا بد أيضاً أن نقول ما نرى أنه الحق، أما أن يقال: إنهم أهل بدع مطلقاً فلا؛ لأنني أعرف أن الغالبية الكبرى من الشباب الذين يُنسبون للإخوان ليسوا من البدع في شيء، وما قلته قبل قليل هو موجود في المناهج وليس في تصرفات الأفراد. فإذاً: الأمر يحتاج إلى توازن وإلى المعالجة بالحكمة، وأعود فأقول: نعم هذه الأمور توجد، لكن علاجها هو بعلاج الأخطاء لا بالتشهير والتنفير، ولا بالاستعداء، ولا بالمحاسبة على الماضي بالشكل الذي يهدم ولا يبني، فنحتاج إلى أن نتناصح، وإلى أن نصحح أخطاء، وإلى أن نبيّن وجه الحق من غير أن نُسقط ذمم الآخرين، فهؤلاء

واجب المسلمين تجاه ظاهرة تدنيس المصحف

واجب المسلمين تجاه ظاهرة تدنيس المصحف Q ما واجب المسلمين تجاه ما حدث من تدنيس للمصحف؟ A لاشك أن هذا الأمر شنيع، لكن لابد أن تؤخذ الأمور بالضوابط الشرعية، وخاصة الأمور الكبار التي تتعلق بمصالح الأمة، وأنا أرى أنه لابد من الرجوع إلى أهل العلم والعقل والحكمة في ذلك، كما لابد من إنكار هذا المنكر بالوسائل المتاحة بحدود وضوابط؛ لأنه يجب أن نراعي الظروف التي نعيشها، من حيث إننا لا نستفز عدواً متربصاً خبيثاً، بل لا أستبعد أن يكون لها أصل، لكن ربما يكون لا أصل لها، وإنما هي نوع من إبقاء الحجر الاستفزازي لاستثارة الأمة، ومن أجل التذرع بالتدخل في شئون المسلمين بشكل أكبر، وأنا منذ أن سمعت هذه القصة ورد في خاطري -ولا تزال الأحداث تؤكد ما أظنه- أن القضية قضية استفزازية، وذلك من أجل جر الأمة إلى فتنة عظيمة، فالذي ينبغي أن نأخذ الأمور بقدر، ولا نترك القضية تمر بسلام، بل لابد أن نرجع إلى مشايخنا وعلمائنا والدعاة الراشدين، ونأخذ الأمور بالطرق التي تؤدي إلى أن نحفظ كرامتنا وكرامة ديننا، بدون التصرفات المتشنجة التي يفرح بها العدو، ويتخذها ذريعة لأن يتدخل أكثر، فكفى الأمة هواناً وذلاً فيما هي فيه الآن، فلا نزيد من تصرفاتنا المتشنجة التي تؤدي إلى مزيد من الهوان والذل، فلابد أن يكون هناك تثبت على مستوى يُطمئن إليه، ولذا فهم قد نفوا، وأنا قد قرأت نفيهم، وزعموا أن الصحيفة التي نشرت هذا ما تثبتت، بل كانت مجرد عبارات طليقة، وأن هذا ما ثبت عندنا لكنه من مصدر مسئول، فيبقى الأمر نحسب له حساباً في نتائجه، والإنكار الإعلامي والخطابات مطلوب، لكن إلهاب المشاعر بشكل يؤدي إلى تصرفات هوجاء ترجع إلينا بالضرر في ديننا وأنفسنا، أمر يجب أن نحسب له حساباً.

حقيقة التيامن في الصفوف

حقيقة التيامن في الصفوف Q هل يفضّل كل من في الصف الأيمن على الصف الأيسر في الصلاة؟ A التيمن مطلوب، وكون الإنسان يكون على يمين الإمام هذا نوع من التيمن، لكن من الأشياء التي يلاحظها بعض المشايخ وبعض أهل العلم: أنه إذا انحاز الناس كلهم إلى اليمين وتركوا شمال الإمام أن هذا يؤدي إلى الخلل في المصافّة، ونحن مأمورون بالتوازن خاصة في العبادة، وبالذات في الصلاة، فقد جاءت التوجيهات الربانية والسنة النبوية بالأمر بالإتقان في كل شيء، لذا فليس من اللائق أن يكون المصلون على جهة من الإمام والجهة الأخرى فاضية، فهذا غير لائق ولا يناسب التوازن في المصافّة، أما إذا كان الأمر مقارب فلا مانع أن الإنسان يختار اليمين.

بيان المقصود بكلمة (الليبرالية)

بيان المقصود بكلمة (الليبرالية) Q يكثر في هذه الأيام استخدام بعض المصطلحات الغريبة في الصحف، مثل: كلمة (الليبرالية) فما معنى ذلك؟ وما موقفنا من ذلك؟ A كلمة: (الليبرالية) تعني: العلمانية، وهي عزل الدين عن الدولة وعن الحياة، كما تعني الإعراض عن شرع الله، وكلمة: الليبرالية لكونها ألطف وجديدة فقد فرح بها العلمانيون، وبدأ الواحد يقول: أنا ليبرالي، وما درى أن الناس عندهم عقول، لذا نقول: ليبرالي يساوي علمانياً؛ لأنه ليس هناك فرق، ثم إن هذه المصطلحات كمصطلحات أجنبية بينها نوع من الاختلاف، لكن الغايات والمقاصد واحدة، فكلها مصطلحات تخدم التوجهات الغربية، وكلها تنخر في عقيدة الأمة وفي دينها وأخلاقها وكيانها؛ بل وكلها عوامل هدم.

الجمع بين قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما)، وقوله: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)

الجمع بين قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً)، وقوله: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} [الأنعام:153]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16]؟ A هذا كأنه استشكل أو تصور وتوهم أن هناك اختلافاً بين قوله عز وجل: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] وقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها وتفسير ابن مسعود، وهو الصحيح، أي: أن المقصود: الصراط المستقيم فاتبعوه، ولا أظن أن هناك تعارضاً، أي: بين مسألة الهداية والإضلال من الله عز وجل ابتداءً، ومسألة تكليف العباد بأن يسلكوا سبيل الهداية ويتركوا طريق الضلالة، فهذا مما كلّف الله به جميع العباد وأمرهم به، ومع ذلك فمسألة الهداية مبنية على توفيق الله عز وجل ولا تناقض؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كانت مبنية على توفيق الله، فكيف يُطلب منا أن نتبع الصراط ونهتدي به، مع أن هذا أمر مقرر قدراً؟! فنقول: قد سبق الكلام عن هذا، أي: عن مسألة تقدير الله عز وجل في الهداية والإضلال، السعادة والشقاوة، وقلنا: إنها مبنية على علم الله السابق عن كل إنسان ماذا سيفعل؟ فلما علم الله عز وجل عن هذا الكافر بأنه سيضل قدّر عليه الضلالة، يعني: كتبها عليه بناء على علمه سبحانه بأنه سيضل، وسيختار طريق الضلالة، وكذلك حينما كتب الله عز وجل السعادة والهداية على من سعدوا واهتدوا، فلسابق علمه عز وجل بأنهم سيهتدون في الاختبار وسينجحون في الاختبار، وهذا مبني على علم الله بمصائر العباد بالاختبار، فهذا الأول: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة:16] بأن الله عز وجل جعل اتباع الرضوان سبباً للهداية، والتي هي التوفيق، ومع ذلك أمر الجميع بأن يتبعوا الصراط فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فهذا أمر عام، من تبعه صار من المهتدين، وقدّر الله لهم ذلك، وضل من ضل فصار من الضالين، وقدّر الله عليهم ذلك بناء على علمه السابق، فلا تنافي بين هذا وذاك؛ لأن الفارق بين التقدير والاختيار فارق غيبي لا ندرك منه إلا ما تقوم به الحجة علينا، فالقاسم بين التقدير والاختيار للعباد قاسم غيبي لا يعلمه إلى الله عز وجل، لكن الفارق فيما يتعلق بأفعالنا أمر بين لكل ذي بصيرة، وهو أن كل عاقل يجد أنه قادر على أن يفعل الشر أو يفعل الخير، وكل عاقل يجد أن عنده تمييزاً فضلاً عن مسلم يدّعي الإسلام، فإنه إذا نظر في أدلة القرآن وأدلة السنة وجد أبواب الهداية مفتوحة، والتحذير من الضلالة بيّنة، وهو إن سلك أبواب الهداية فعن بصيرة مستجابة لأمر الله، ولم يُرغم عن ذلك إرغاماً، وإن سلك طريق الضلالة والعصيان فهو يعلم أن ذلك باختياره، ولم يرغمه أحد ولا ألزمه، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله فلا يكلف؛ لأنه لم يعد عنده تمييز بين النافع والضار، بين الصالح والفاسد، والتمييز نوعان: تمييز فطري، ويكون في القضايا العامة، وتمييز شرعي، وهو الذي يُعرف بأدلة الكتاب والسنة، ومن هنا يؤتى كثير من الناس في تفريطه بالأخذ بأدلة الكتاب والسنة، فقد لا يعرف طريق الهداية؛ لأنه لم يتسبب في معرفته، وقد يقع في طريق الضلالة؛ لأنه لم يتسبب في معرفته ليتجنبه، وهذه كلها راجعة إلى أمور يدركها العباد في أنفسهم لو تأملوا وأنصتوا، أما جانب الغيب فهو أمر محجوب عن العباد، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كتابة مصير الإنسان عندما يبلغ (120) يوماً: شقي أو سعيد، قال الصحابة رضي الله عنهم: (فبم العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له)، فهناك جانب غيبي، وهو ماذا كتب الله لهذا العبد؟ فإن كان لا يدري، والغيب محجوب عنه، وعنده الأسباب وهي أمامه، فليسلكها، وكلنا الآن يُدرك، بل وكل عاقل يدرك ويجزم أن كل واحد منا يعلم أن المصير المكتوب غيب، كما كلنا يُدرك أيضاً أن سبيل الحق بيّن، وسبيل الضلال بيّن، فإذاً: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، والله أعلم.

خطأ من يقول: إن الشريعة في أي زمان ومكان تطبق تطبيقا كاملا

خطأ من يقول: إن الشريعة في أي زمان ومكان تطبق تطبيقاً كاملاً Q كيف تقول: إن الشريعة تطبق عندنا في كل شيء؟ A أسألكم بالله هل عرفتم مني هذه العبارة، أو قلت: في الجملة؟! إن مشكلة الفهم في الإسقاط، وينبني على هذا الفهم فوارق، وأنا أعذر الأخ القائل بذلك وأسامحه، لكن كونه ينبني على مثل هذا الكلام أحكاماً خطيرة، ينبغي التثبت عند نقل الكلام، لذا فأقول: حتى في عهد الخلفاء الراشدين أحياناً لا تطبق الشريعة في كل شيء، بل ولا أحد يقول: الشريعة تطبق في كل شيء، لكن قد ترد العبارة بمعنى آخر: أنه مجملاً النظام العام كذلك. ثم يقول السائل: وفي وزارة التجارة والعمل تطبّق القوانين الوضعية التي ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القضايا التجارية وقضايا العمل؟ وأقول: الأصل في الأنظمة أنها مبنية على الالتزام بالشريعة الإسلامية، وهذا نظام الحكم موجود، وأغلب الأنظمة تسند إلى هذا وتشير إليه، مع أنه توجد تجاوزات في بعض الوزارات وغيرها، وهذه التجاوزات لا نستطيع أن نحكم عليها؛ لأن كلانا طرف غائب ولم نتحقق، والأمر يحتاج إلى أن نتثبت عن مدى شرعية مثل هذه الأعمال، أو مخالفتها للشرع، هذا من ناحية. والناحية الأخرى: ما هي حجة القائمين على هذه الأعمال؟ وهل عندهم مسوغ؟ وهل عندهم تأول؟ وهل عندهم فتاوى؟ وهل هم يزعمون أن هذه ليست محاكم إلى آخر ذلك من الأسئلة الواردة؟ إذاً: هذا يترك للراسخين في العلم، لذا فأنصح نفسي والسائل وأمثاله بأن يترك هذه المسائل للأئمة الكبار الراسخين في العلم، فهم الذين يحكمون فيها، إذ هي قضايا لا تزال تهمهم وأهمتهم قديماً، ولا يزالون يبحثونها، ولهم مع ولاة الأمر كلام كثير، ونصائح وتبادل آراء، والموضوع يناقش وما أُهمل، لكن ومع ذلك قد لا يستطيعون عمل كل شيء، فتبقى أعمال البشر تعتريها الخطأ والسهو والخلل، ويعتريها الانحراف، ومثل هذه الأمور تعتبر من الأمور التي تعد من مصالح الأمة العظمى، فلا يجوز في مثل هذا الدرس أن أفصّل فيها بغير بيّنة، أنا ولا غيري ولا السائل أيضاً، أو يبني مثل هذه الأحكام، فليتق الله في نفسه وفي أمته وفي دينه، وليحرص أن يتفقه، وإذا تمكّن -إن شاء الله- وصار من الراسخين في العلم، فالله يقويه ويعينه، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1