شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة

حسن أبو الأشبال الزهيري

مقدمة الكتاب

شرح كتاب الإبانة - مقدمة الكتاب كتاب الإبانة للإمام ابن بطة العكبري من الكتب المصنفة في موضوع العقيدة، وقد بين فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر مزاياها ومصادرها، وحذر من الفرق المذمومة، المخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة.

مزايا العقيدة السلفية وأول من صنف فيها

مزايا العقيدة السلفية وأول من صنف فيها الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فهذا أول درس مع كتاب جديد من كتب السنة المسندة. السنة عند الإطلاق تعني: المخالفة للبدعة، أو مقابلة البدعة، فإذا قرأنا كتاب السنة لفلان، فمعنى ذلك أنه يذكر مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة بأدلتها المسندة، وكتاب الإبانة للإمام ابن بطة عليه رحمة الله هو من هذا الباب، بل هو من أوائل من صنف في عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو العقيدة السلفية التي تمتاز عن غيرها من العقائد من أوجه عدة، منها: أن هذه العقيدة نبعها ومرتكزها هو الكتاب والسنة، أي: أن عقيدة السلف مردها ومرجعها إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وسار على منوالهم ونهجهم بقية علماء الأمة ممن نحا نحوهم، فمن مزايا العقيدة السلفية أن مصادرها هي المصادر الأصيلة التي لم يختلف عليها أحد، ولن يختلف عليها أحد بإذن الله إلى قيام الساعة. ومن مزايا العقيدة السلفية: أنها عقيدة رسخت بمفهوم النبوة لكتاب الله عز وجل، ومفهوم الصحابة، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين نقلوا إلينا معتقد النبي عليه الصلاة والسلام في ربه وأسمائه وصفاته، وبقية مسائل الاعتقاد التي خالفوا فيها أهل الأهواء والزيغ والضلال، ولذلك: كل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا الكل يقول: أنا سني أو أنا سلفي، أو نهجي قائم على الكتاب والسنة، وكم من صاحب بدعة إذا احتج احتج بقال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل يتصور أن صاحب البدعة يخرج علينا ويقول: أنا مبتدع، أنا زائغ، أنا ضال؟ لا يكون هذا منه، وإنما يقول: أنا مرتكزي ومصدري فيما أقول هو كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هيهات هيهات أن تصح دعوى أو يستقيم طريق لأحد، إلا لمن أخذ طريقه عن السلف رضي الله عنهم. الكل يقول: أنا منهجي القرآن والسنة؛ لكن بفهم من؟ هذا هو مناط البحث، ليس مناط البحث أن تأتي بقول أو فكر أو فهم أو تأتي له بشاهد من الكتاب والسنة، ولكن مناط البحث أن تأتي من أقوال السلف بمن سبقك إلى هذا الفهم لهذه الآية أو لهذا الحديث، حتى تعلم أن القضية ليست بالدرجة الأولى الاعتماد على النص، بقدر ما هي الاعتماد على فهم السلف رضي الله عنهم لهذا النص. وهذا أمر أردت بيانه حتى ينتبه الناس أن طريق السلف يعني مفهوم السلف للكتاب والسنة لا مفهوم الخلف، وسيأتي معنا الفرق بين السلف والخلف، إما من جهة الزمان وإما من جهة كيفية الاتباع. ثم عقيدة السلف من أعظم ثمارها أنها السبب في توحيد صف المسلمين، فهذه العقيدة لا تدعو إلى التفرق، بل تدعو إلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وفي ذلك روايات وأحاديث كثيرة. وما تفرق المسلمون منذ الصدر الأول إلا بعد ظهور الفرق الضالة، كالقدرية والمعتزلة وغيرهم من أصحاب الأهواء والملل والنحل، فلما ظهرت هذه الفرق تفرق المسلمون إلى فرق وجماعات شتى، فعقيدة السلف إنما هي أصل الاعتقاد، بل لا يصح اعتقاد غيرها عند الله عز وجل. كما أن من مزايا عقيدة السلف أنها مرتبطة على مر أيامها وسنينها بآبائها وأجدادها من أهل القرون الخيرية الأولى المشهود لهم بالخير، والمشهود لهم بالفهم والعلم والبركة والاحتياط والورع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فعقيدة السلف تعني أن تقتدي بآبائك أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين المشهود لهم بالكفاءة في الدين. وفي التمسك بعقيدة سلف الأمة آثار كثيرة جداً، ويكفينا وحسبنا في هذا المقام أن نقول: إن أهل العقيدة الصحيحة هم الناجون من النار نجاة أبدية، حتى لو عذب بعض المعتقدين بعقيدة السلف بسبب ذنوب قد اقترفوها، فإنه لابد خارج من النار ومخلد في الجنة بإذن الله عز وجل، ولذلك لما عدد النبي عليه الصلاة والسلام فرق النصارى واليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين كلها في النار) ولم يستثن إلا واحدة، قيل: (يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وهم الذين على عقيدتنا اليوم التي لا خلاف عليها، وكيف يكون الخلاف والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أسسها وقعدها رجوعاً إلى كتاب الله عز وجل وإلى وحي السماء. فهذه بعض مزايا العقيدة السلفية، وإن كانت كلها مزايا وفضائل وشمائل ومناقب؛ لكن ليس هذا عنوان بحثنا، إنما نتكلم اليوم عن الإمام ابن بطة وعن كتابه المعروف بالإبانة، وله كتابان: الإبانة الصغرى والإبانة الكبرى، وهذان الاثنان عرف بهما ما صنفه هذا

التعريف بمؤلف كتاب الإبانة

التعريف بمؤلف كتاب الإبانة

اسم ابن بطة ونسبه ومولده ومنشؤه

اسم ابن بطة ونسبه ومولده ومنشؤه هو الإمام أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن سعد بن عتبة بن فرقد، وعتبة بن فرقد هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل عتبي فرقدي، أي: من نسل عتبة بن فرقد، ولقب المؤلف بـ ابن بطة وهو لقب لأحد أجداده حتى صار يلقب به كل واحد في الأسرة. ولد ابن بطة سنة (303هـ) في بلدة تسمى: عكبرى، لها باع طويل جداً في تأصيل العلوم الشرعية واللغوية لهذه الأمة المباركة، فكم أنجبت من علماء، سواء في التاريخ أو في الحديث أو في الرجال أو في شروح اللغة العربية أو السيرة، وهي بلد معروف لدى طلاب العلم بأنها أنجبت علماء كثيرين. قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم: ولد ابن بطة يوم الإثنين 14 من شوال سنة (304)، وهو إما أن يكون ولد في سنة (303) أو (304). وعكبرى بلدة صغيرة على دجلة فوق بغداد من جهة الشمال بخمس فراسخ، والنسبة إليها عكبري، ولذلك هو معروف بـ ابن بطة العكبري. وقد نشأ ابن بطة في حجر والده، وكان والده يحب العلم والعلماء فاعتنى بولده منذ الصغر، فأوفده إلى بغداد، يعني: أرسل به إلى بغداد ليتعلم العلم هناك، وأنتم تعلمون أن الخلافة في مطلع القرن الرابع كان مقرها بغداد، وأنه حيثما كانت الخلافة كانت رحلة أهل العلم وطلاب العلم إلى بلد الخلافة. وإذا قرأنا في صحيحي البخاري ومسلم أو في أي كتاب من كتب السنة، وجدنا أن معظم الرواة إما كوفي أو بصري أو بغدادي، أو غير ذلك من بلدان العراق شواطئ وغيرها، وهذا الراوي إما أنه من أهل هذه البلاد، وإما أنه وفد إليها، وما وفد إليها إلا بعلمه، فهناك جملة عظيمة مستكثرة من أهل العلم استقروا في هذه البلاد بطلب الخليفة، أو رحمة بالأمة في اجتماعها حول الخليفة، واجتماع طلاب العلم من أنحائها في أي موطن يكون فيه الخلافة والخليفة.

رحلة ابن بطة في طلب العلم

رحلة ابن بطة في طلب العلم رحل ابن بطة من عكبرى إلى بغداد قبل أن يتم العاشرة من عمره، وقد عقد ابن بطة ألوية السفر، وشد رحله من قطر إلى قطر، ومن مصر إلى مصر؛ ليأخذ العلم عن مشاهير العلماء في عصره. يقول الخطيب البغدادي عن ابن بطة باعتباره من أهل بلاده: إنه سافر الكثير إلى البصرة والشام، وذكر ابن العماد الحنبلي عنه أنه سافر الكثير إلى مكة والثغور والبصرة وغير ذلك، والثغور: هي أماكن الجهاد. وهذا يدل على أنه لم يقتصر على العلم بل كان يجاهد كثيراً.

عزلة ابن بطة واشتغاله بالتدريس

عزلة ابن بطة واشتغاله بالتدريس وبعد عودة ابن بطة إلى موطنه من رحلاته المتكررة الكثيرة لازم بيته أربعين سنة، ولا يعني هذا أنه ترك العلم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، وإنما معنى ذلك أنه اعتذر عن قبول أي عمل في مهام السلطان من القضاء والإفتاء وغير ذلك، وإنما تصدر فقط للعلم والتدريس، كما جاء في الروايات أنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى قبضه الله عز وجل، وليس معنى ذلك أنه مكث في بيته ولم ينشغل إلا بنفسه. كما أن مفهوم العزلة عند ابن بطة هو عدم الخوض في الفتن أو الاشتراك في وظائف الحكم، وقد ذكر ابن أبي يعلى عنه أنه كان له مجلس للدرس يوم الجمعة في مسجد عكبرى، كما كان له درس في مسجد المنصور، وهو أعظم مسجد في بغداد، ومن هذه المجالس التي كان يعقدها للتدريس تمكن طلبة العلم من الرواية عنه والانتفاع به. كما أجمعت كتب التراجم على أنه كان عابداً كبيراً وصالحاً شهيراً، لم ير في سوق ولا رئي مفطراً إلا في يوم عيد، وأنه مستجاب الدعوة وكان صواماً قواماً. قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان صاحب أحوال وإجابة دعوة رضي الله عنه. وقال ابن الجوزي: وكان له حظ وافر من العلم والعبادة.

مصنفات ابن بطة العكبري

مصنفات ابن بطة العكبري

المؤلفات المخطوطة

المؤلفات المخطوطة وكان له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه واطلاعه، عرف منها تسعة عشر مؤلفاً يمكن إرجاع أفضلها إلى مواضيع فقهية، وهي: المناسك أي: في الحج والعمرة، وكتاب الإمام ضامن، وهو نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) أي: الإمام ضامن لأخطاء المأمومين، والمؤذن مؤتمن على الأذان، وأنه لا يؤذن إلا بعد علمه بدخول الوقت، وصنف الإمام ابن بطة في هذه المسألة رسالة فقهية. وكذلك كتاب: الإنكار على من قضى بكتب الصحف الأولى، والإنكار على من أخذ القرآن من المصحف، وإنما يؤخذ العلم من أفواه المشايخ والعلماء. وكتاب النهي عن صلاة النافلة بعد العصر وبعد الفجر. وكتاب تحريم النميمة. وكتاب صلاة الجماعة. وكتاب منع الخروج بعد الأذان والإقامة لغير حاجة. وكتاب إيجاب الصداق بالخلوة، والخلوة: هي الخلوة الشرعية، وهذا يعني أن رجلاً لو خلا بامرأته التي عقد عليها ثم طلقها فلها الصداق كاملاً، والخلوة: هي إرخاء الستر وإغلاق الباب وإن لم يقربها، أما إذا تنازلت أو تنازل وليها عن شيء من الصداق فهذا شيء آخر، إنما للمرأة الحق بأن تطالب بالصداق كاملاً عند تحقق الخلوة. وفي هذه المسألة نزاع بين أهل العلم، والذي ترجح لدى ابن بطة -وهو الراجح من أقوال أهل العلم- أن المرأة لها الصداق كاملاً إذا خلا بها زوجها قبل الجماع. وله كتاب فضل المؤمن. وله كتاب الرد على من قال الطلاق الثلاث لا يقع. وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والراجح فيها أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحداً. وله كتاب صلاة النافلة في شهر رمضان بعد المكتوبة، وله كتاب في ذم البخل، وكتاب في تحريم الخمر، وكتاب في ذم الغناء والاستماع إليه، وكتاب التفرد والعزلة. وكل هذه الرسائل لا تزال محفوظة لم تخرج للوجود، وهكذا لو عددنا لكل إمام من أئمة الدين كتبه المخطوطة التي لم تطبع لوجدناها أكثر مما طبع له، ولذلك فإن الذي تأهل لاستخراج هذه الكنوز الدفينة عليه مسئولية كبيرة جداً في إخراج تراث الأمة المهجور، لكنه للأسف الشديد اختلط الحابل بالنابل، وصار الطلاب يطلبون علم الحديث فحسب حتى يتمكنوا من التجارة، وإن شئت فقل: حتى يتمكنوا من أن يتاجروا بتراث البلد. ولذلك تجد الكتاب الواحد له عدة طبعات ربما لا يصلح من هذه الطبعات طبعة واحدة، ولابد عند المقارنة أن تجد بين مجموع هذه الطبعات سقطاً وتحريفاً وتصحيفاً وإن شئت فقل: هزلاً؛ لأنه يريد أن يخرج الكتاب حتى يأخذ على الملزمة كيت وكيت، ويأخذ على الكتاب مبلغاً من المال، ثم لا يهمه بعد ذلك الكتاب أن يخرج مصحفاً أو غير مصحف، محرفاً أو غير محرف، المهم أنه أخرج الكتاب واستفاد أمرين: الأمر الأول: أنه وضع اسمه على صدر الكتاب، وفي هذا حق أدبي ومعنوي عظيم، وأنه يعرف بين الناس بأنه من أهل العلم وإن لم يكن في حقيقة الأمر كذلك. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، تجد الواحد لا علاقة له بالعلم، بل والله لا علاقة له بالصلاة، ولا عهدنا عليه مرة أنه حضر مجلس علم، ثم يأتي وبين يديه كتاب يريد أن تقرأه ثم تقرأه، أنت لا تعرفه ولا هو معروف بين أهل العلم، ثم تقول له: يا فلان! ما الذي دعاك لهذه العجلة، ألا يسعك أن تطلب العلم أولاً حتى يزكيك أهل العلم؟ فالاستعجال في هذا الأمر ليس أمراً محموداً، يقول: يا شيخ؛ ليس المهم هذا، إنما المهم أن تقرأ الكتاب، وإن كان فيه شيء فأرجو أن تنصحني. ثم يدعي بعد ذلك أنه ما فعل هذا إلا لنفسه، وأن هذا الكتاب لا يخرج إلى الوجود قط، إنما هذا جهد وبحث في مسألة يريد أن يصل فيها إلى الحق، فإذا قرأت الكتاب وأثنيت عليه أو قلت له: هذا الكتاب جيد في بابه لكن يحتاج إلى تعديل في موطن كيت وكيت، ولا تتعد هذه الأماكن، ثم ما هي إلا أيام وترى الكتاب مطبوعاً مسبقاً. عجباً! فقديماً سمعنا الشيخ الألباني عليه رحمة الله وهو من هواة العلم يقول: لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لجمعت ما كتبت وأحرقت، مع أنه لو فعل ذلك لكان جديراً بالأمة أن تحفر الأخاديد ثم توقد على نفسها النيران، ومعنى ذلك: أنه ندم ندماً شديداً مع رسوخه في العلم أن قلمه تجرأ بالكتابة، تجد طالب العلم ما يريد إلا الحديث فقط؛ لأنه يعرف أن الحديث هو مادته للتجارة. لكن الأعمال بالنيات، لئن أفلحت في الدنيا فلن تفلح في الآخرة، وافعل ما بدا لك؛ فإنك معروض على الله عز وجل.

المصنفات المطبوعة

المصنفات المطبوعة قال: أما كتبه المطبوعة فهي: كتابه الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة. وهو الكتاب المعروف بالإبانة الصغرى، وكتاب آخر في إبطال الحيل، وهو مطبوع كذلك. وكان ابن بطة رحمه الله من كبار علماء الحنابلة في زمنه، وكان له اختيارات فقهية في المذهب الحنبلي، ذكر بعضها المرداوي في كتابه الإنصاف. ومعنى (اختيارات فقهية) أنه كان مجتهداً في المذهب، مثل ما يقال: إن فلاناً هذا له حرف، يعني: أنه مجتهد في القراءة، وفي تأصيل وتقعيد الأصول والقواعد بكيفية التلاوة على الحرف الفلاني أو على قراءة فلان عن فلان. كما تتلمذ عليه أشياخ وعلماء الحنابلة، ومنهم أبو حفص العكبري، وابن حامد وغيرهما.

شيوخ ابن بطة العكبري وتلاميذه ووفاته

شيوخ ابن بطة العكبري وتلاميذه ووفاته وقد أخذ ابن بطة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم عن كبار شيوخ عصره، منهم أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد الفقيه الحافظ شيخ الحنابلة بالعراق، وصاحب التصانيف الكثيرة، إمام كبير معروف مشهور. ومن شيوخه أيضاً: أبو القاسم الخرقي، وأبو بكر النيسابوري وكان إمام الشافعية في عصره. ومن شيوخه البغوي وابن الباغندي، والآجري وابن صاعد وكثيرون غير هؤلاء. وكلهم معروفون بالإمامة في الدين. كما أخذ العلم عن ابن بطة تلامذة كثيرون عرفوا بالعلم والتقوى والفضل، ومن أشهرهم: الحسن بن شهاب العكبري، وأبو حفص العكبري، وأبو إسحاق البرمكي، وابن حامد، والقطيعي، والروشاني وغيرهم. وكانت وفاة ابن بطة يوم عاشوراء سنة (387هـ)، أي أنه عاش حوالي (85) سنة، وقد سجلت لنا كتب التراجم قصيدة قيلت فيه، رثاه بها تلميذه ابن شهاب العكبري ومطلعها: هيهات ليس إلى السلو سبيل فليكتنفك تفجع وعويل إلى آخر القصيدة.

التعريف بكتاب الإبانة

التعريف بكتاب الإبانة أما هذا الكتاب الذي نحن بصدده فاسمه الحقيقي: الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة. ومعنى (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)، أي: الإظهار والوضوح عن عقيدة أهل السنة لما ظهرت عقيدة الفرق المذمومة، فأراد هذا أن يظهر وأن يبين عقيدة أهل السنة والفرقة الناجية، فسمى كتابه الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة.

توثيق نسبة الكتاب لابن بطة

توثيق نسبة الكتاب لابن بطة أما من حيث توثيق إسناد هذا الكتاب إلى ابن بطة: فقد نسب هذا الكتاب إليه غير واحد ممن ترجم له، فـ الذهبي وغيره في ترجمتهم لـ ابن بطة يذكرون أن من مؤلفاته أن له كتاباً في أصول الديانة، وهذا الكتاب له أمارات وعلامات. ومما يدل على نسبة هذا الكتاب إليه: السند المتصل إلى المؤلف، وهو من أقوى الأدلة في إثبات أن هذا الكتاب هو كتابه؛ والذي روى هذا الكتاب أثبت السند إلى ابن بطة. الأمر الثاني الذي يدل على صحة إسناد هذا الكتاب إليه: ذكر هذا الكتاب العلماء القريبون من عصر ابن بطة وغيرهم من المتأخرين على أنه من مؤلفاته، ونقلوا عنه بهذا الاعتبار، يعني: كل من صنف في العقيدة بعد ابن بطة استفاد مما كتبه ابن بطة، فهذه النصوص عن علماء عصره ومن أتى بعدهم واعتمادهم على ما كتبه ابن بطة ونسبة ذلك إليه، تؤكد أنه كتب كتاباً في الاعتقاد، ومن هؤلاء أبو يعلى الحنبلي، وابنه أبو الحسين من المتقدمين، وكذلك ابن تيمية عليه رحمة الله، وابن القيم، والذهبي من المتأخرين. الأمر الثالث: نقل بعض المحدثين لبعض المرويات عنه في هذا الكتاب، يعني: من أتى بعد ابن بطة وأراد أن يستدل بدليل في أصول الاعتقاد أورد هذا الدليل من طريق ابن بطة في هذا الكتاب، وهذا يدل على صحة النسبة إلى المؤلف. الأمر الرابع: أن السماعات المثبتة على أجزاء النسخة الأصلية أو في نهايتها، تؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة، وقرأه عليه تلاميذه أو بعض تلاميذه، فأجازهم برواية هذا الكتاب، وكتب إجازته لهم في أول صفحة أو في آخر صفحة من كل نسخة من نسخ الكتاب. وهذا كله يؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة بلا نزاع ولا خلاف. الأمر الخامس: أن أحداً لم يطعن في نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، فهذه الخمس الشواهد تؤكد أن الكتاب لـ ابن بطة ولم يطعن أحد في ذلك.

موضوع كتاب الإبانة لابن بطة

موضوع كتاب الإبانة لابن بطة أما موضوع الكتاب فهو: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، وأنه في العقيدة أو في أصول الاعتقاد. وهذا الكتاب ليس هو الكتاب الوحيد الذي صنف في هذا الباب بل كتب كثيرة جداً على منواله صنفت في أصول الاعتقاد، وأحياناً يطلق المصنف على ما صنف باسم السنة أو شرح السنة، مثل: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل ولولده عبد الله، وكتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للأثرم، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، وشرح السنة لـ ابن شاهين، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وشرح السنة للبغوي وغيرها. والمقصود بالسنة هنا: مخالفة البدع، ويهدف مؤلفو هذه الكتب في السنة أو في عقيدة السلف إلى إبراز عقيدة السلف كما كانت، خالصة من شوائب الفرق الأخرى وشبهها؛ وذلك من خلال روايتهم للأحاديث والآثار الواردة في هذه العقيدة، وهذه الكتب جميعها يكاد أن يكون نهجها واحداً، وهو ذكر عقائد السلف الصالح عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في جميع أبواب العقيدة السلفية، لاسيما ذكر من كان بارزاً ومشهوراً من السلف، حيث تذكر عقائدهم بالتفصيل مقرونة بأسمائهم. فهذا باب عظيم جداً تصدى له علماء السلف في إظهار مسائل الاعتقاد التي خالف فيها أهل البدع. والصحابة رضي الله عنهم لم يؤلفوا كتاباً في أصول العقيدة، لأن الأمر كان على الفطرة في ذلك الوقت، فلم تكن الأمة في حاجة إلى تصنيف يحفظ عليها أمر عقيدتها؛ لأنها محفوظة والعلم منتشر، وأي إنسان يرفع عقيرته يضرب على رأسه بالنعال أو بالجريد. إذاً: لا حاجة للسلف حينئذ أن يكتبوا وأن يحذروا الأمة من الجحد بالقرآن مثلاً؛ لأن الجاحد يؤخذ على رأسه، لكن لما انتشر هذا الفكر وتفشى وصار ظاهرة في الأمة صنف العلماء في هذه المسائل التي خالف فيها أهل الفرق، وفي كل عصر وفي كل مكان تظهر بدعة، فاضطر أهل السنة إلى الرد عليها من باب الرد على المخالفين أو المبتدعين، وهذا أمر ليس محدثاً، وإنما هو أمر قديم قد تطرق إليه سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين. فعندما يخرج مبتدع ببدعة لا يردون عليه، حتى إذا انتشرت بدعته وصار خطرها عظيماً على أغلب الأمة تصدى لها أهل العلم بالفضح والبيان والمخالفة وغير ذلك، ثم بينوا وجه الحق في المسألة من عقيدة السلف إلى يومنا هذا، فهذا النهج يسير عليه أهل السنة، لم يأت شخص بعد أن يتفشى المرض الفكري أو العقائدي في الأمة ويقول: يا أخي لا ترد عليهم، اتركهم، اجعل المسألة تمر. أما الآن فالرجل في التلفزيون أو الصحف أو المجلات أو الجرائد يكتب ما يريد وما يحلو له، باسم الدين وباسم السنة، والأمة كلها تتناقل الأخبار، أنتم عارفون أن فلاناً قال كذا، وهذا فلان يقول هكذا وهذا مخالف لعقيدة المسلمين. فحينئذ يجب وجوباً شرعياً محتماً على أهل السنة المتصدرين لبيان الحق في الأمة أن يظهروا فساد هذا الرأي، وأنه مخالف لعقيدة السلف التي هي المنبع والأساس، ولا يسعهم أن يسكتوا عن هذا الضلال، حتى وإن خمد هذا الضلال بعد ذلك ونسي وعفى عليه الزمن فإنهم لا ينجون من الإثم إلا أن يشاء الله عز وجل؛ لأن الله تعالى افترض عليهم إظهار دينه، ومكنهم من ذلك، وجعل لهم منزلة في قلوب الخلق فكان لابد عليهم أن يقوموا بهذا الواجب. أما أن يتأخروا وأن يتقاعسوا وتقدم الأهواء والآراء المضلة الفاسدة على دين الله عز وجل، فهذا ليس نهج السلف. ثم يقول: ومن المعلوم أن هذا النمط من الكتب -أي: كتب السنة- لم يظهر إلا بعد أن انتشرت الفرق الإسلامية وأخذت شبهها بالظهور بين الكافة.

منهج ابن بطة في كتابه الإبانة

منهج ابن بطة في كتابه الإبانة ومن الأجزاء الموجودة لدينا من هذا الكتاب نستطيع أن نقول: إن ابن بطة قد جمع بين رواياته للأحاديث والآثار الواردة في العقيدة، وبين الرد على الفرق المبتدعة، وقد سلك في كتابه مسلكاً عظيماً في إثبات وجه الحق في القضية، وإثبات قول المبتدعة والرد عليهم، أو إثبات قول المبتدعة ثم ذكر الآثار الواردة عن السلف في حقيقة هذه المسألة. وأظهر فساد ما عليه أهل البدع أصحاب الفرق الضالة، ثم بين الحق في هذه القضية، وذلك عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في إبراز وبيان حقيقة عقيدة السلف الصالح في هذه القضية، وهذا مسلك عظيم جداً، فالرد العلمي هو إظهار فساد فكر المخالف ثم إثبات الحق بأدلته. والفرق بين ضُلاَّل زمانهم وضُلاَّل زماننا كما بين السماء والأرض، ضُلاَّل زمانهم كانوا يتصورون أنهم أصحاب حق، فـ واصل بن عطاء، لما أتى رجل وسأل الحسن البصري وهو في المسجد الكبير في البصرة، فقال: يا إمام في مرتكب الكبيرة؟ وواصل بن عطاء تلميذ من تلاميذ الحسن البصري، لكن ليس من حقه أن يتكلم في حضرة الإمام، فتكلم قبل أن يتكلم الحسن البصري فقال: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة من المخلدين في النار. ولم يكتف بذلك، بل استند إلى ركن من أركان المسجد، وأفتى أصحاب الأهواء والأمراض الفتاكة، وجلسوا مع واصل في حلقة في نهاية المسجد، فقال الحسن البصري: لقد اعتزلنا واصل، فسموا من هذا الوجه المعتزلة، والعار ينتابهم إلى قيام الساعة، وأصل البدعة أن واصلاً تخلى عن الأدب بين يدي شيخه، ولو انتظر حتى يسمع الجواب فلربما هداه الله عز وجل. ولكنه تكلم بهذا الفقه بغير إذن فصار العار ينسب إليه إلى قيام الساعة؛ أنه أصل البلاء والاعتزال.

تقسيمات ابن بطة وترتيبه لكتاب الإبانة

تقسيمات ابن بطة وترتيبه لكتاب الإبانة والحقيقة أن كتاب الإمام مكون من ثلاثة أجزاء، وكل جزء يتكلم في قضية بعينها، الجزء الأول يتكلم عن الإيمان ومباحثه، وما هو الإيمان، ومن خالف من الفرق في مسائل الإيمان والرد عليه، وإثبات عقيدة السلف في أن الإيمان قول وعلم وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن الأعمال لها تأثير عظيم في زيادة الإيمان ونقصانه. وكتاب الإبانة جاء في ستة مجلدات، المجلدان الأولان يتكلمان عن الإيمان، والآخران يتكلمان عن القدر، والأخيران يتكلمان عن الرد على الجهمية، فالمجلدان الثالث والرابع فيهما الرد على القدرية وإثبات النصوص السلفية التي توجب الإيمان بالقدر وما هو القدر وأحكامه ومراتبه وغير ذلك، ثم يتكلم في المجلدين الأخيرين عن الرد على الجهمية، وتلاه الرد على القدرية والرد على المرجئة وغير ذلك من الفرق الضالة. أما تقسيم كتابه فقد جاء في أجزاء الجزء الأول: يتعلق بالخمسة الأبواب، وهي: باب ذكر الأخبار والآثار التي دعت إلى جمع هذا الكتاب وتأليفه، يعني: ما هي العلة وما هو السبب الذي جعل ابن بطة يؤلف هذا الكتاب، ثم باب ما افترض الله تعالى نصاً في التنزيل من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن. ثم باب ذكر ما نطق به الكتاب نصاً في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، ثم باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة. الجزء الثاني: ويتكون من ثلاثة أبواب: باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها، وباب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك، وباب ترك السؤال عما لا يعني والبحث عما لا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين. الجزء الثالث: ويتكون من باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان، ثم باب ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الجدل والكلام. الجزء الرابع: ويتكون من: باب التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين، وباب إعلام النبي عليه الصلاة والسلام لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم وتحذيره إياهم، وباب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر الفتن الجارية وأمره بلزوم البيوت، وباب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم، وباب النهي عن المراء في القرآن. الجزء الخامس: وفيه: باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وأن الإيمان قول وعمل، وباب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وباب معرفة الإسلام وعلى كم بني، وباب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وباب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم، وباب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك، وباب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين، وباب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان فإن تاب راجعه. الجزء السادس: ويتكون من أربعة أبواب: باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به عن الملة، وباب أن الإيمان خوف ورجاء، وباب بيان وجوب الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات ولا يكون المؤمن مؤمناً إلا بهذه الثلاث، وباب ذكر الآيات من كتاب الله عز وجل في ذلك. الجزء السابع: ويتكون من أربعة أبواب: باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول، وباب الاستثناء في الإيمان، وباب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ وكيف الجواب له وكراهية العلماء لهذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك، وباب القول في المرجئة وما روي فيهم وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم. وفي آخر الكتاب وهو آخر المجلدات وآخر النسخ الخطية ذكر فضل أبي بكر وعمر واستفاض في إثبات فضلهما. كأنه بذلك يرد على الرافضة والخوارج في إثبات فضل الصحابة. وصلى الله على نبينا محمد ورضي الله عن أصحابه أجمعين.

سبب تأليف ابن بطة لكتاب الإبانة

سبب تأليف ابن بطة لكتاب الإبانة أما سبب تأليف الكتاب فيقول الإمام في مطلع نسخته: [أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء، ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الأيام- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المفترون بتمويهاتها، وكساها الزائفون والجاهلون حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل بنا الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، ووقع أكثرنا في الذي عنه نهينا -يعني: وقعنا فيما نهينا عنه- وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلة الإيمان، وانكشف الغطاء وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء، واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة، وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة -والزناد هي ذلك الرمح الذي يقلب به- فاضطرمت نيرانها، أي: كما أنك لو أوقدت ناراً ثم خمدت فإذا ضربت مادة هذه النار والوقود بعصا تأججت النار مرة أخرى، هكذا قال: وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، أي: زادت. [وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف -يعني: نحن شر خلف لخير سلف- وعظمت البلية، واشتدت الرزية، فظهر المبتدعون وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحنة، بعد أن كان أمرهم هيناً، وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك -أي: وأقحم نفسه- في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا إليه مسرعين من كل قاصية، فالبسوا شيعاً وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة، والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله، وصدودهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فاشتعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضية، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار، ورويت فيهم الآثار]. وهذا في القرن الرابع فما بالك لو رأى زماننا هذا. نكتفي بهذا القدر من بيان حال المؤلِف والمؤلَف كذلك، ثم نقف عند أول أثر من آثار هذا الكتاب في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع

شرح كتاب الإبانة - الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع وردت آثار كثيرة عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في افتراق هذه الأمة وظهور البدع فيها، وما ذاك إلا بسبب ركوبها سنن أهل الكتاب، ومتابعتهم في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، ولا مخرج من هذا كله إلا أن يكون المسلم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

مقدمة المصنف رحمه الله تعالى

مقدمة المصنف رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: فهذا هو الدرس الأول في صلب الكتاب، وما سبق كان تعريفاً بالمؤلِّف والمؤلَّف. ذكر الإمام ابن بطة رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب كلاماً يستشعر القارئ أنه ينضح أسىً وحزناً على ما بلغ إليه أهل زمانه من الفساد والانحراف وترك السنة وظهور البدعة، فكيف به لو ظهر في زماننا ورأى ما نحن عليه؟! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المشكور على النعم بحق ما يطول به منها، وعند شكره بحق ما وفق له من شكره عليها، فالنعم منه والشكر له، والمزيد في نعمه بشكره، والشكر من نعمه لا شريك له، المحمود على السراء والضراء، والمتفرد بالعز والعظمة والكبرياء، العالم قبل وجود المعلومات، والباقي بعد فناء الموجودات، المبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، والمتكفل للبرية بأرزاقها قبل خلقها، أحمده حمداً يرضيه ويزكينا لديه، وصلى الله أولى صلواته على النبي الطاهر عبده ورسوله مفتاح الرحمة وخاتم النبوة، الأول منزلة، والآخر رسالة، الأمين فيما استودع، الصادق فيما بلغ. أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الزمان ومحدثاته- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المغترون -وفي رواية: فقد كثر المفترون- بتمويهاتها، وتباهى الزائغون والجاهلون بلبسة حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم، من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، وواقع أكثرنا الذي عنه نهينا، وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلية الإيمان، وانكشف الغطا وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف، وعظمت البلية واشتدت الرزية، وظهر المبتدعون، وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحة بعد أن كان أمرهم هيناً وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين من كل قاصية، فألبسوا شيعاً، وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله عز وجل، وصدفهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فأشعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضين، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار ورويت فيهم الآثار].

الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع

الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع ثم يروي رحمه الله بعد ذلك بسنده آثاراً كثيرة للدلالة على صحة ما قدم لهذا الكتاب، وأن البلاء الذي وقعت فيه الأمة -ولا تزال تغط فيه غطاً- إنما هو بسبب ترك أمر الله عز وجل، وترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقبالها على البدع، وشربها للأهواء شرباً كما تشرب الماء البارد في اليوم الحار. وهذه النصوص ما كان منها مرفوعاً شددنا فيه، وما كان منها موقوفاً أو أقل من ذلك تساهلنا فيه، وذكرنا بالعبرة منها.

حديث عبد الله بن عمرو (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل)

حديث عبد الله بن عمرو (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل) وقد أورد رحمه الله حديث الافتراق من طرق، وهو حديث يكاد أن يكون متواتراً، فقد رواه الجمع الغفير، وربما وجد في بعض طرقه ضعف، لكن هذا الضعف لا يؤثر؛ لثبوت الحديث اتفاقاً وشهرته كذلك. قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة)]، ولم يذكر اليهود؛ لأن اليهود افترقت إلى واحد وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية إنما تكلم عن بني إسرائيل، وهم اليهود والنصارى. قال: [(وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، تزيد عليهم واحدة)]، أي: أن هذه الأمة في تفرقها واختلافها، وعدم ائتلافها واتفاقها، أنها تزيد في تفرقها وتشرذمها وابتعادها عن نهجه السليم القويم عن عدد الاختلاف الواقع في بني إسرائيل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم يقيناً من ربه أن اليهود والنصارى بعد بعثته جميعاً في النار ما لم يؤمنوا ويدخلوا في الإسلام إنما اهتم وعني ببيان الفرق الإسلامية التي ستدخل النار. فقال: [(تزيد عليهم واحدة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي)]. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على المحجة البيضاء، وقد تركنا عليها، ليلها كنهارها، ليس فيها زيغ ولا خفاء ولا لبس، ولا شيء من هذا مما يعذر به المرء بين يدي الله عز وجل. فكانت الأمور واضحة والسنة ظاهرة حتى نهاية العصر الأول من عصر النبوة، حين ظهرت القدرية والخوارج والشيعة، وهذه الفرق هي أُولى الفرق ظهوراً في الإسلام، وكلها ظهرت في أواخر القرن الأول من القرون الخيرة. فالنبي عليه الصلاة والسلام بين أن الافتراق لا بد أنه واقع في هذه الأمة، وبين أن هذه الفرق ثلاث وسبعون فرقة، ثم بين أن مجموع هذه الفرق في النار إلا واحدة فقط، وهي التي يطلق عليها أهل العلم: الفرقة الناجية، وبعض الناس يخطئ إذا تصور أنها الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة إجماعاً، لذا فإن كل من تمسك بالسنة واستمسك بها، وتمسك بالجماعة ولم يفارقها قيد شبر، فهو من أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية. أما الطائفة المنصورة فشيء آخر، إذ إنهم خاصة الفرقة الناجية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم؟! والظن بالإمام أحمد أنه عنى: أهل العلم المتخصصين المعروفين به، سواء كانوا من أهل الحديث أو من غيره من بقية فروع العلم الشرعي. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، والسؤال هنا: هل هؤلاء دخلوا النار ردة؟ وإذا دخلوها -إن لم يكونوا قد ارتدوا- فهل سيخلدون فيها؟ اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن هذه الفرق كفرت وارتدت، وهي في الآخرة مخلدة في النار، لكن جمهور أهل السنة والجماعة أن الحكم بالنار لهذه الفرق ليس على سبيل التأبيد، وإنما على سبيل جزاء الانحراف وعلى قدر الانحراف، فيعذبون ثم يخرجون بشفاعة الشافعين بعد ذلك. مع أنهم يستثنون الغلاة، وإن شئت فقل: هم يقسمون الفرق إلى عامة وغلاة، فالغلاة منهم لا بأس بتكفيرهم؛ لأنهم من أهل العلم، وقد ظهرت لهم حجج أهل السنة والجماعة، وهي حجج شرعية نقلية، ومتفقة مع العقل السليم تمام الاتفاق. وهذا الرأي من أعجب الآراء إلي، إذ إن غلاة كل فرقة كفار إذا أتوا ما يستوجب كفرهم، وهم مخلدون في النار بالتأكيد إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة. وسموا بأهل السنة لاتباعهم للسنة، وسموا الجماعة لأنهم لا يخالفون الإمام ولا يخرجون عليه، وأعني بالإمام: الإمام العادل المسلم وإن كان فاجراً؛ لأن أهل السنة متفقون على عدم جواز الخروج على الإمام المسلم وإن جار، لكن بشرط أن لا يكون جوره مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، فلو كان مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، واستتيب ولم يتب وجب على الأمة أن تجتمع لخلعه ولا بد، قال: (كلهم في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي) وهذا يدل على أن الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين على الستر والسلامة والأمن والإيمان، وأن البدع من أبعد الأشياء عنهم أجمعين، فضلاً عن الخلفاء الراشدين.

حديث شداد بن أوس (لتركبن ما ركب أهل الكتاب)

حديث شداد بن أوس (لتركبن ما ركب أهل الكتاب) قال: [وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لتركبن ما ركب أهل الكتاب)]، (لتتبعن سنن أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، أي: إن لم يكونوا هم الذين أعنيهم فمن يكونون إذاً؟ وإنما عنى بهم اليهود والنصارى والخوارج والروم. ثم قال: [(لتركبن ما ركب أهل الكتاب لا تخطئون ولا يخطأ بكم، حذو النعل بالنعل)]، أي: تصيرون خلفهم، فإذا رفعوا نعالهم وضعتم أنتم نعالكم مكان نعالهم، مبالغة في ترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترك الاهتمام بها والاهتداء بهديه، ومتابعة اليهود والنصارى في كل شيء، في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، حتى لا يكاد الواحد منا -عياذاً بالله- يخطئ اليهودي ولا النصراني فيما يتعلق بخاصته، أي: يقلده في كل شيء، وأنتم تعلمون الآن أن تقليد المسلمين لأهل الكتاب -وإن شئت فقل: دول أوروبا وأمريكا- على أشده في بلاد المسلمين، حتى أخذ هذا مظهراً آخر واعتقاداً آخر، وحتى صار الذي يتبع اليهود والنصارى هو الإنسان المتمدن المتحضر الواعي العاقل الفاهم، وغير ذلك من هذه المصطلحات الرنانة، وفي الحقيقة هو الإنسان الفاجر الخاسر المستنكف عن عبادة الله عز وجل، المخالف لطريق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على أية حال مذهبنا، وهذا فهمنا، وليعده من شاء تخلفاً أو تقدماً، فهذا لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو اعتقادنا الجازم أن ترك السنة وركوب سنن أهل الكتاب هو التخلف بعينه، وهو الفجور بعينه، وهو الفسق بعينه، وأخشى أن من قلدهم حشر معهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم، يحب القوم لكنه لا يتمكن ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، قال أنس وهو راوي الحديث: فوالله ما فرح الصحابة رضي الله عنهم أشد من فرحهم يوم أن سمعوا: المرء مع من أحب، ثم قال أنس: وأشهدكم أنني أحب أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين.

حديث أبي هريرة (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم)

حديث أبي هريرة (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم) قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)]، وهذا الحديث أخرجه الشيخان. قال القاضي عياض: الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر، كل هذه الألفاظ التي وردت في الأدلة تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه، وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك)، أي: ومن أعني إلا أولئك.

بيان المصنف انطباق أحاديث الافتراق على أهل زمانه

بيان المصنف انطباق أحاديث الافتراق على أهل زمانه قال الشيخ ابن بطة رحمه الله: [وإنما ذكرت هذه الأحاديث في هذا الموضع من هذا الكتاب ليعلم العقلاء من المؤمنين، وذوي الآراء من المميزين أن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد صحت في أهل زماننا -أي: أنه يتكلم عن زمانه، فما بالك لو رأى زماننا- فليستدل بصحتها على وحشة ما عليه أهل عصرنا، فيستعملوا الحذر من موافقتهم ومتابعتهم]، أي: أن هذه الأحاديث ربما ما قالها النبي عليه الصلاة والسلام إلا ليحذر أهل زمان ابن بطة من متابعة اليهود والنصارى. قال: [ويلزمون اللجاء والافتقار إلى الله عز وجل في الاعتصام بحبله -أي: القرآن- والتمسك بدينه، والمجانبة والمباعدة ممن حاد الله ورسوله في أمره، وشرد شرود الناد المغتلم]، أي: شرود إنسان فارق وخالف وشذ.

الأحاديث والآثار الواردة في معنى حديث افتراق الأمة

الأحاديث والآثار الواردة في معنى حديث افتراق الأمة قال رحمه الله تعالى: [وأنا أذكر أيضاً من هذه الأحاديث وما يضاهيها وما هو في معانيها، لتكون زيادة في بصيرة المستبصرين، وعبرة للمعتبرين، وتنبيهاً للغافلين].

حديث أبي أمامة الباهلي (لتنقضن عرى الإسلام) وبيان مظاهر ذلك في زماننا

حديث أبي أمامة الباهلي (لتنقضن عرى الإسلام) وبيان مظاهر ذلك في زماننا قال: [وعن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)]. ثم قال عياض: أتدرون ما نقض الصلاة؟ قالوا: لا نعلم، قال: رفع الخشوع. والناظر في هذا الحديث الصحيح سيجد أنه ينطبق تمام الانطباق على أهل زماننا، فإن الإسلام ينقضي عروة عروة، وشيئاً فشيئاً، والعجب أنك إذا قرأت لعلماء السنة منذ خمسين عاماً مثلاً أو مائة عام وهم يذبون عن الإسلام وعن الإيمان، فيدافعون في وجوه أعداء السنة والقرآن، ويردون على المستشرقين أقوالهم وأفعالهم، ودس السم في العسل، تكاد تعجب إذا قرأت مثلاً لواحد مثل الشيخ أحمد شاكر وهو لم يمض على موته خمسين عاماً، فيرد على الملاحدة في زمانه؛ لأنهم تكلموا في فرعيات وجزئيات لا يكاد طالب العلم أن ينتبه لها، لكن انتبه لها العلماء أمثال الشيخ أحمد شاكر؛ لأن ملحداً أو زنديقاً أو منافقاً أو معادياً للإسلام وأهله أراد أن يغمز الإسلام غمزاً من طرف خفي وعلى استحياء، في جزئية الجزئية من دين الله عز وجل، لينظر الآن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى الطعن وخلع الثوابت من قلوب أبناء الإيمان وأهل الإسلام، والمسألة لا تحتاج بعد ذلك إلى استحياء، فكل كيد أو كل خنزير عنده طعن على الإسلام وأهله، سواء في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو القرآن، أو الرسول، أو السنة، أو في الله عز وجل؛ له أن يتقدم به الآن، وله أن يفعل بدين الله ما يشاء تحت ذريعة الإبداع، وحرية الفكر، وباب الأدبيات الراقية، والعقول النيرة. ونحن نقول لهم: من باب الديمقراطية التي تؤمنون بها ونكفر نحن بها أيضاً؛ لأن الديمقراطية ما هي إلا ترك حكم الله عز وجل، وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه. فنحن على أية حال من باب الديمقراطية التي يؤمنون بها نقول لهم: أعطونا فرصة، فمن باب الأدب، ومن باب الديمقراطية، ومن باب الإبداع أن نفكر كما تفكرون، وأن نبدع كما تبدعون، وأن نستنير كما تستنيرون ونقول إنكم كفار! فهذا الإبداع الذي نملكه نحن؛ لأن الذي يسب الله تعالى ويسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقول إن القرآن كذا وكذا، وإن الرسول مزاجي! ويغمط النبوة والرسالة، ويطعن في شخصه عليه الصلاة والسلام؛ الذي يفعل ذلك كافر. ثم بعد ذلك يظهر كتاب آخر بعد هذا الكتاب، يطالب باستئصال ثوابت الإسلام من قلوب المؤمنين، بالطعن في ذات الإله، وبالطعن في القرآن، ثم يقول: وهذا إبداع، وهذه أدبيات راقية قلَّ أن يصل إليها أحد من أهل العصر! ونحن نقول: لو تكرمتم أعطونا فرصة لنبدع مثلكم، لكن إبداعنا إيمان وكفر؛ ولذلك نحن نقول: ما وصلتم إليه إبداع، ونعم الإبداع هو في نظركم! وهو عندنا كفر بواح، وقائله كافر، والراضي به كافر، والمساعد على مثله كافر، فهذا الإبداع الذي عندنا، وليس إبداعكم أولى بنشره وبيانه ووضوحه من إبداعنا، فأعطونا مساحة نبدع فيها، ولا تجعلونا أكواماً على الأرصفة، فنحن لنا الحق في الإبداع مثلكم، لكن إبداعنا يقتضي تكفيركم وخلودكم في النار إن متم على ذلك، فهذا نوع إبداعنا، وكل واحد أعلم بإبداعه، وهو حر في إبداعه. والعجب العجاب: أن الكلام من قبل كان في فرعيات وجزئيات الدين على استحياء وخجل، وكان يقال: هذا الكلام يمكن أن يصح ويمكن ألا يصح، يمكن أن يقصده قائله ويمكن ألا يقصده، أما اليوم فسب علني لكل ثوابت الإسلام! وتصور لو أن بعض السلف رضي الله عنهم -ولا أقصد بالسلف الشيخ أحمد شاكر الذي مات منذ خمسين عاماً ومن مات قبله وبعده بقليل- ظهر الآن ورأى هذا الإبداع في خلع مبادئ الإسلام من قلوب أبنائه، فماذا يقول؟ وكيف يكون موقفه؟! أما نقض الحكم فهو بلية البلايا، فالله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، أي: ليس الحكم لأحد إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وأما هذه الدول العربية والإسلامية التي استغنت عن الله وعن حكمه، وعن شرعه وعن قرآنه، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل ليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد كلام الرسول كلام، إنما هي حثالات عقول البشر التي لا يمكن أن تصلح من خرج بها، ومن ظن أنه أبدعها أولاً، فإنها والله لا تصلحه، وكنا من قبل نعتقد ما كان يملى علينا في الجامعات من أن هذه القوانين الغربية لا تصلح إلا في بلادها التي خرجت منها، وإننا الآن بعد أن رددنا هذا نقول: إن هذا من أنكر المنكر وأكثر الفساد، بل هذه البلاد الغربية لا يصلحها إلا كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن القوانين الفرنسية والإنجليزية والأمريكية لا تصلح للتطبيق في هذه البلاد، بل لا يصلحهم إلا ما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام. فهذا الحكم قد نقض منذ زمن بعيد، ولا أعلم بقعة على وجه الأرض الآن تطبق شرع الله عز وجل كما أراد الله، وكما أراد

حديث أنس بن مالك (إن الإسلام بدأ غريبا)

حديث أنس بن مالك (إن الإسلام بدأ غريباً) قال: [وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)]. هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام يبين لنا فيه أنه لما بُعث بعث وحده في قوم يغطون في عبادة الأصنام والأوثان، ويعبدون آلهة شتى، فإذا به يسفه أحلامهم، أو يسفه أصنامهم، ويدعو لشيء غريب، ولذلك بدأ غريباً، ومن تبعه على ذلك كان أشد غرابة، خاصة الفقراء وهم أتباع الأنبياء، والمهاجرون الذين هاجروا إليه من الروم ومن فارس وغيرها من البلدان المجاورة، والحق الذي علمه من الكتب السابقة. قال: (إن الإسلام بدأ غريباً)، وبعد غربة الإسلام اشتد وقوي وأسست الدولة وفتحت البلدان، وكذلك عقول الخلق وقلوبهم، وتحملت كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، واشتد عود الدولة حتى هابها القاصي والداني، حتى قال هارون الرشيد أحد الخلفاء لما أرسل رسالة إلى نقفور: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسأرسل إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي. وهذا يعني أن الإسلام كان في عزة وقوة وسيادة وريادة، وكان هذا لفترة من الزمان ليست بالقليلة، ثم كان الإسلام يضعف ويقوى حتى انتشر في ربوع الأرض على ضعف وهزال، وهي الفترة التي يمر بها المسلمون الآن، كثرة كاثرة لا قيمة لها ولا وزن لها. ولذلك حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، وإن شئت فقل: أخبر بهذا، وأننا غثاء كغثاء السيل، وسبب ذلك: (ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فهذا حال الأمة اليوم، ومن أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام أن يتكلم بهذا الكلام. قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، أي: بعد قوة وذهاب للغربة الأولى سيعود غريباً كما بدأ؛ فلذلك أنتم الآن غرباء في مجتمع يغط غطيطاً في أخلاق الجاهلية وأعمال الجاهلية، وإن شئت فقل: نحن كذلك لم ننج من أعمال الجاهلية، بل كثير منا في وقت الميسرة تجده أحسن أخ، وفي وقت العسرة والغضب والشدة والضيق لو اضطر أن يذهب إلى ساحر يستجلب الرزق لذهب. إن الواحد منا لو فقد شيئاً عزيزاً عليه وقيل له: ليس من علاج إلا أن تذهب للساحر لذهب وهو يعتقد أن الساحر سيأتي به، وهذا من أعظم الجاهلية، بل هو الكفر البواح، ومع هذا يصدر منا معاشر الصحوة أحياناً! وعلى أية حال فالمسلمون اليوم يمرون بغربة عجيبة، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر، فليصبر، والله تعالى الناصر لعباده. ولذلك بشر النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الغرباء أولاً وآخراً بـ (طوبى) فقال: (فطوبى للغرباء)، أي: جزاء الغرباء لو تمسكوا بدينهم، واحتملوا هذه الغربة وما فيها من سب وتهكم وشتائم، واتهام بالإرهاب والتطرف؛ أن لهم في الآخرة: (طوبى) على خلاف في تفسيرها. فقيل: هي منزلة في الجنة لا يدخلها إلا الغرباء. وقيل: هي شجرة في الجنة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام، وقيل غير ذلك.

أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (كان النفاق غريبا)

أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (كان النفاق غريباً) قال: [قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كان النفاق غريباً في الإيمان]، أي: كان النفاق أولاًَ غريباً في الإيمان، إي والله، ولذا كان من أغرب الغرابة أن ينافق أحد في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نتمنى لو أننا رأينا النبي عليه الصلاة والسلام ولو في المنام، وهذه عاجل بشرى المؤمن، فما بالك بمن كان يلقاه في كل وقت وحين، ويسمعه يقرأ القرآن الكريم. وإذا كان الواحد منا إذا استمع مثلاً إلى الشيخ المنشاوي كأن قلبه يحلق في السماء، وهذا الشيخ المنشاوي عنده ما عنده من المعاصي، وعنده ما عنده من الطاعات؛ لأنه فقط لا يخلو مما نحن فيه. لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي ما أتى وما فكر في كبيرة قط، بل عصمه الله عز وجل، إنما أوتي من القرآن حلاوة وجمالاً وصوتاً لم يؤته أحد، فتصور أنك تسمع القرآن من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن والصحابة خلفه يتمنون أن لو ختم القرآن، أن لو أتى على آخره دون أن يصيبهم ملل. والشيخ ابن باز عليه رحمة الله يقول عن الشيخ المنشاوي: عجباً لهذا الرجل، لا يمل السامع من سماعه ولو كرر السورة مئات المرات! فما بالك بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ؟! ومع هذا فإن عبد الله بن أبي ابن سلول الكلب الملعون، ما كفاه الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وسماعه القرآن منه، بل وما كفاه رؤية النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات التي تتنزل من السماء، والمعجزات التي تظهر على يده الشريفة عليه الصلاة والسلام. كل هذا لم يغير في قلبه، ولذا فلا يمكن أن يكون هذا قلباً، بل قطعة من الصخر أو الحجر. ولذلك استغرب عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون النفاق في زمن النبوة، فقال: كان النفاق غريباً في الإيمان، أي: في ذلك الوقت. ثم قال: [ويوشك أن يكون الإيمان غريباً في النفاق]، وهذا هو الشاهد، أي: أن معظم أبناء الأمة تمرسوا في النفاق حتى صار صاحب الإيمان فيهم غريباً، ولا زلنا في تفسير الغرباء.

أثر حذيفة: (أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم)

أثر حذيفة: (أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم) قال: [وقال طارق بن شهاب: قيل لـ حذيفة: أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه]، فانظر إلى الخلع كيف يكون؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحاب المعاصي: كلما شرب العبد معصية نكت في قلبه نكتة سوداء، وإذا شرب أخرى نكت أخرى، وثالثة ورابعة حتى تسجتمع على قلبه طبقة تسمى الران، وهذا الران طبقة من السواد تغشى القلب حتى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما زيد له في هذا البلاء، فعد المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وهذا كما يفعل المنافقون في هذا الزمان، فيحاربون أهل الإيمان، لكن العجيب أن هذه الحرب باسم الإسلام وباسم الإيمان، فمثلاً: مجلة روز اليوسف، أو المتمسلمون من أسرة روز اليوسف لا يقلون في كفرهم ونفاقهم عن النصارى الذين يكتبون معهم في نفس هذه المجلة، إذ إنهم يحاربون أهل الإيمان، ويحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، نعم عندنا ضعف، وعندنا أخطاء، وعندنا تجاوزات، ونحن في نهاية الأمر بشر، لكن ليس عندنا نفاق ولا كفر. أما هم فهم أساتذة ومؤسسون للكفر، ويبثونه بالليل والنهار، وشتان بين ما عندنا من إهمال وتقصير وبين ما عندهم من كفر وجحود، ومع هذا يحاربوننا باسم الإسلام، أي: يقولون كلاماً يجعل الإنسان ينطلق في ليله ونهاره داعياً إلى الله، لذا فحذار أن تتصور أنك جئت إلى هنا لتسمع الدرس، بل أنت مكلف بعد خروجك من هذا المسجد بما هو أعظم من بقائك فيه، أنت مكلف في الليل والنهار بالدعوة إلى الله عز وجل، وفضح مخططات هؤلاء المنافقين، وإظهار صورة حسنة للإسلام وأهله، إما بالقول وإما بالعمل، وإن هذه الغمة لا تنقشع إلا بحسن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد أن يقوم بها كل إنسان على قدر ما أوتي، وهنا نستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).

أثر حذيفة بن اليمان (أول ما تفقدون من دينكم)

أثر حذيفة بن اليمان (أول ما تفقدون من دينكم) قال: [وعن حذيفة بن اليمان قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم، وتبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، لا يصلون إلا صلاتين أو ثلاثة، وفرقة أخرى تقول: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله أن يحشرهم مع الدجال]. هذا الكلام سنده ضعيف، وربما يكون في المتن بعض نكارة. لكن لنا أن نأخذ العبرة من هذا الكلام، وهو أن فرقتين في آخر الزمان تنكران ثوابت الإسلام. أما الأولى فتقول: ما هذه الصلوات الخمس التي يصليها الناس، فيكفينا أن نأخذ بالقرآن ولا علاقة لنا بالسنة، والقرآن ما قال في الصلاة غير قول الله عز وجل: {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114]، أي: صلاة في أوله، وصلاة في آخره، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، أي: وشيئاً يسيراً من آخره؟! ووالله لقد بلغ إلى مسامعي من يقول بهذا، وهو رجل ادعى العلم، وكتب ما يربو على عشر رسائل يسب فيها أهل العلم، وكأنه أخذ على عاتقه أو أقسم طلاقاً أن يشتم ويسب إمام أهل السنة والجماعة الشيخ الألباني عليه رحمة الله تعالى، فأبى الله عز وجل إلا أن يفضح هذا ويرفع ذاك، فرفع الله تعالى ذكر الألباني في الناس كلهم أجمعين، وأخزى هذا الأبعد، وهو بجواركم هنا خلف هذا المسجد، ولا بأس أبداً أن أذكره، وهو المعروف بـ أبي عبد الرحمن الأثري الذي صنف رسالة يقول فيها: تضعيف ما صححه الألباني وتصحيح ما ضعفه الألباني، والرد على جهالة الألباني، والرد على سفالة الألباني، وغير ذلك من عناوينه الاستفزازية التي سب فيها أهل العلم. وكذلك لم ينج علماء الحجاز من لسانه، حتى فتن في دينه الآن وقال: الصلوات الخمس بدعة منكرة، وليس في الدين إلا صلاة في الصباح وصلاة في المساء! ولا بأس أن يصلي المسلم شيئاً من الليل، هكذا قال أخزاه الله! فالحمد لله أن بلغ إلى أعظم حد الردة، وكل هذا بسبب سبه لأهل العلم، إذ إن أهل العلم لهم حرمة عظيمة، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن تعرض لهم بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب. على أية حال: نحن نحافظ كل المحافظة على البقية الباقية، لكن من أراد أن يمرق في هذا الزمان فالباب مفتوح على مصراعيه. أما الفرقة الثانية التي ذكرها حذيفة فتقول: (إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق)، وهذا كلام يشبه كلام المرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: نحن مؤمنون كإيمان جبريل وميكائيل، وإن إيماننا لا تضره ولا تؤثر فيه المعاصي، وهذا كلام كله خبل؛ ولذلك دعا عليهم حذيفة وقال: أسأل الله أن يحشرهم مع الدجال.

أثر حذيفة (يأتي على الناس زمان)

أثر حذيفة (يأتي على الناس زمان) قال: [وعن حذيفة قال: يأتي على الناس زمان لو رميت بسهم في يوم الجمعة لم يصب إلا كافراً أو منافقاً]. وهذا أثر ضعيف، وهو في الحقيقة شديد جداً على الناس، لكن حذيفة كان بارعاً ومتخصصاً في الفتن التي ستقع فيها الأمة حتى قيام الساعة؛ إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام قد أطلعه على الفتن التي تظهر في الأمة إلى قيام الساعة، وتصور أن حذيفة يقول: سيأتي على هذه الأمة زمان لو أنك ألقيت على الناس في المسجد وهم يشهدون الجمعة سهماً؛ فإنه لا يكاد يقع إلا على كافر أو منافق، وهذا لكثرة النفاق وترك الإسلام، حتى وإن صلوا وصاموا. وعلى أية حال فالأثر ضعيف، وأنا لا أقول به، لكن هذا الكلام يستفاد منه: كثرة الغدر في آخر الزمان.

حديث غضيف بن الحارث: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت)

حديث غضيف بن الحارث: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت) قال: [وقال غضيف بن الحارث: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت مثلها من السنة)]. أي: ما ابتدعت بدعة إلا أثرت فيما يقابلها من السنة، وهذا كلام حق؛ لأن البدعة في الدين بقصد القربة ليس لها دليل من الكتاب أو السنة. وهنا لو أن مبتدعاً ابتدع في دين الله عز وجل فإنه لا بد أن تقابل هذه البدعة مثيلتها من السنة، فإذا ظهرت البدعة ماتت السنة، وإذا ضعفت البدعة ظهرت السنة، فالسنة والبدعة طرفا رهان، إذا ظهر أحدهما انطفأ الثاني.

أثر ابن عباس: (ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه)

أثر ابن عباس: (ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه) قال: [وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن]. فأنت الآن عندما تأمر شخصاً بسنة يقول لك: لنا خمسون سنة على هذا، وقد أخذت هذا عن آبائي وأجدادي. فيظن أن ذلك هو الحق، وهو في الحقيقة على بدعة، ولذا فما الفرق بين قيام معظم هذه الأمة على هذه المبتدعات والشركيات وأنهم ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وبين هؤلاء الذين عبدوا الأصنام أخذاً عن دين آبائهم وأجدادهم؟! إن هذا ابتدع والأول أشرك، ومن البدع ما هو شرك في العمل فحسب.

أثر علي بن أبي طالب: (لا يزال الناس ينقصون)

أثر علي بن أبي طالب: (لا يزال الناس ينقصون) قال: [وقال علي بن أبي طالب عليه السلام]. الحقيقة أن تخصيص علي بالسلام دون صحابة النبي عليه الصلاة والسلام أمر مبتدع لم يكن معروفاً عند سلفنا، إلا ما جاء عن الشيعة أنهم يقولون عن علي بن أبي طالب وأئمة البيت عليهم السلام. ومن جهة الاعتقاد واللغة لا بأس أن نقول: عليهم السلام، لكن لا يختصون به دون بقية الأشخاص، فالصحابة جميعاً عليهم السلام. أما تخصيص علي وآل بيته بذلك فمشعر بشيء من التشيع، لذلك لم يكن سلفنا رضي الله عنهم يخصون أهل البيت بالسلام، وإنما يقولون: علي رضي الله عنه، الحسن رضي الله عنه، الحسين رضي الله عنه، فاطمة رضي الله عنها، وغير ذلك من آل بيته عليه الصلاة والسلام. قال: [قال علي رضي الله عنه: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يقول أحد: الله الله]، أي: لا يزال الناس في نقصان حتى لا يقول أحد: الله الله. ومعنى: (حتى لا يقول أحد: الله الله)، أي: لا يستعلن أحد بذكر الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن الأرض لا يبقى عليها أحد أبداً يعرف ربنا، ولا يقول: الله الله، بل لا يزال الناس في نقصان، حتى يخشى أهل الإيمان ألا يقول أحد: الله الله. ونحن الحمد لله نصلي ونصوم ونرفع الأذان، ونعمل كل شيء في هذا الوقت، والحمد لله أيضاً أنه لم يجعلنا من أهل الزمان الذي لا يمكن لنا أن نرفع أصواتنا، ولا أن ننطق بألسنتنا لفظ الجلالة، إذ نحن في نعمة عظيمة جداً فلنحافظ عليها، والمحافظة عليها لا تكون إلا بالعلم والدعوة إلى الله عز وجل، ولا يزال باب الخير مفتوحاً، وباب الدعوة على مصراعيه. والمسلم في دعوته إلى الله سيصيبه ما أصاب نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ إن الأرض لم تفرش يوماً حريراً له، فقد أصابه ما أصابه في الحروب وغيرها، وكان الواحد من الأعراب يأتي فيأخذ بتلابيبه، أو يأخذ بثوبه حتى يؤثر ذلك في رقبته عليه الصلاة والسلام، ومع هذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه؛ ولذلك كان الصبر هو عدة الداعية إلى الله عز وجل، فمهما وقع بك من أذى فاصبر؛ لأن هذا طريق النبوة، وهذا طريق الدعوة، فتدعو إلى الله وإن أصابك أذى؛ لأنه سبحانه هو الذي أمرك بالصبر على ذلك في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، أي: تواضوا فيما بينهم بالحق الذي هم عليه، وتواصوا فيما بينهم بالصبر على ذلك، والصبر عبادة كالجهاد، وحذار أن تظن أن الصبر سلاح لا ينفع، وأن الدعاء سلاح لا ينفع، فهذا خلل في اعتقادك! وحذار أيضاً أن تتصور أنه لا وقت للدعاء، وأنه لا وقت للصبر، إذ إن عبادة الوقت الآن هي الدعوة إلى الله عز وجل وطلب العلم والصبر على ذلك، وليس أمامك سبيل مفتوح الآن إلا هذا، فأنت مطالب أن تتعبد إلى الله عز وجل بما هو في وسعك ومقدورك، وهذا هو الذي في مقدورك الآن.

حديث أسامة بن زيد: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها)

حديث أسامة بن زيد: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها) قال: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها، ألا عليهم حلت اللعنة)]. هذا الحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنه يشهد له حديث [عائشة رضي الله عنها: (أمرتم بالاستغفار لسلفكم فشتمتموهم، أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: لا تفنى هذه الأمة -أي: لا تقوم الساعة- حتى يلعن آخرها أولها)]. ونحن الآن نقرأ في كل يوم ونسمع كثيراً من يسب أبا هريرة، ومن يسب معاوية، ومن يسب خالد بن الوليد، ومن يسب معظم الصحابة، بل ومن يكفر أبا بكر وعمر، أليس هذا حاصلاً في الأمة؟ أليس هذا آتياً من الفرق وحاصلاً في الفرق؟ إذاً: هذا الحديث من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أمرنا بالاستغفار لهم في كتاب الله عز وجل، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فذهبنا نسبهم ونلعنهم، ألا حلت لعنة الله عز وجل على من لعنهم!

آثار عن السلف في تغير حال المسلمين

آثار عن السلف في تغير حال المسلمين قال: [وقال حماد بن زيد: سمعت يونس بن عبيد يقول: يوشك لعينك أن ترى ما لم تر، ويوشك لأذنك أن تسمع ما لم تسمع، ولا تخرج من طبقة إلا دخلت فيما هو دونها، حتى يكون آخر ذلك الجواز على الصراط]. أي: أن الأمة ما تزال في نقصان حتى تلقى الله عز وجل. وعليه فهذه الأحاديث كلها مرعبة ومخيفة، تجعل الواحد لا ينام الليل ولا يفتر بالنهار، وإنما يبحث عن سنة في مقدوره وبإمكانه أن يستمسك بها في وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الإلحاد والفجور والفسوق، بل والكفر البواح، نسأل الله العافية. قال: [وقال أبو الدرداء: لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه -أي: لو كان الرجل يعلم الإسلام وما هو الإسلام ويهمه أمر الإسلام- ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئاً]، وهذا قد أخذه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقال: صليت في مائة مسجد، فما رأيت واحداً يصلي صلاة كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام. فتصور أن واحداً يقول هذا في القرن الثالث من القرون الخيرة: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث فينا الآن ما عرف منا غير القبلة، أي: لا يعرف واحداً منا، وإنما يعرف أن هذه قبلة المسلمين، وأن هذه هي الكعبة؛ لأن المسلمين قد أضاعوا دينهم، حتى الملتزم منهم ملتزم على ضعف وهزال، يغفره الله عز وجل. قال: [قال الحسن: ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم]، أي: المعروف الذي كان يعرف عند الصحابة بأنه معروف قد ذهب، وهذا في زمن الحسن البصري الذي مات سنة (110هـ)، أي: في أوائل القرن الثاني! وقوله: (ذهبت المعارف)، أي: ماتت، (وبقيت المناكر)، أي: المنكر، والمناكر جمع منكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم؛ لما يرى من ظهور المنكر وخفاء المعروف. قال: [وقال الحسن: ما لي لا أرى زماناً إلا بكيت منه، فإذا ذهب بكيت عليه]. أي: أن الحسن يبكي ويتحسر، ويتفطر قلبه دماً على الزمن الذي ولد فيه، فقد كان يتمنى أن يكون في زمن النبوة، لكنه تابعي ومن سادة التابعين، ومن أئمة أهل الورع، وهو سيد أهل البصرة في الورع والزهد والعلم والعبادة والاعتقاد، وهو الذي فضح المعتزلة من أول وهلة. ولا زلنا نقول: (معتزلة) إلى قيام الساعة أخذاً عن تسمية الحسن البصري رضي الله عنه لـ واصل بن عطاء. يقول الحسن: (مالي لا أرى زماناً إلا بكيت منه)، أي: في زمانه، (فإذا ولى هذا الزمان بكيت عليه)؛ لأنه يعلم أن ما يأتي بعده هو شر منه.

تعقيب المصنف على آثار السلف في تغير حال المسلمين

تعقيب المصنف على آثار السلف في تغير حال المسلمين قال: [قال الشيخ ابن بطة: إخواني! فاستمعوا إلى كلام هؤلاء السادة من الماضين والأئمة العقلاء من علماء المسلمين، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين، هذه أقوالهم، والإسلام في طرافة ومطاوعة وعنفوان قوته واستقامته]. يريد أن يقول لك الحسن البصري وأبو الدرداء وغيرهم ما قالوا هذا الكلام الذي يتفطر فيه القلب دماً وغماً إلا والإسلام في عز قوته وعنفوانه وشبابه. قال: [والأئمة راشدون، والأمراء مقسطون -أي: عادلون- فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه، ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر، ونحن في دردى الدنيا وثمارها]، أي: الحثالة من الطين التي تبقى في الماء، فهو يريد أن يقول: نحن الآن في نهاية الدنيا، وقد ذهب المسلمون الحق ولم يبق إلا الغثاء، وهذا في زمنه هو، فكيف بزماننا نحن؟! قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم]، عبد الله بن مسعود يقول هذا في زمن النبوة في القرن الأول، يقول: الموت اليوم تحفة وهدية الله عز وجل للمسلم؛ لأنه قد ذهب الذين يعاش في أكنافهم. ولذلك يقول أبو هريرة: لقد ذهب الناس ولم يبق إلا النسناس. فـ أبو هريرة يقول هذا، إذاً: ماذا نقول نحن؟! وعائشة رضي الله عنها تقول: لقد ذهب الذين يعاش في أكنافهم، أي: لم يبق أحد يستحق الصحبة والعشرة وغير ذلك من أقاويل أشراف الأمة في أعظم زمن الأمة وهو صدر الإسلام. قال: [وقال زبيد: حدثني أبو وائل، قال: قال عبد الله بن مسعود: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل وزبيد: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره، ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه]. أي: أنه يريد أن يقول: إن الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود أن الواحد منهم عندما تحيك في صدره مسألة من مسائل العلم، فيسأل عن العلماء، فيجد عالماً يفتيه ويشفي غلته، فهذا هو الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود وبعد ذلك لم يبق إلا الكدر. ثم يقول: [وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده]، أي: أنه يقسم بالله أن الرجل صاحب المسألة يسير في الناس، ويسأل عن عالم يفتيه فلا يجد؛ ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: أيها الناس! تعلموا قبل أن تسودوا، أي: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كباراً؛ لأن من صار سيداً وكبيراً ثم عزل من سيادته ونزل من كبريائه يستنكف أن يجلس في مجالس العلم، أي: بعد أن يصير وزيراً أو رئيساً أو مديراً أو غير ذلك، فهل يقبل أن يرجع مرة أخرى؟ ولذلك لما حمل رجل على القضاء في زمن مالك قال: حتى أستخير وأستشير، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال مالك: لا أحب أن تتولى القضاء إلا بعد أن تتعلم، مع أن هذا الرجل كان من أنبغ تلاميذ مالك، لكن مالكاً أراد له أن يبلغ الكمال والتمام في العلم. قال: ولم يا إمام؟ قال: لأنك لو عزلت عن القضاء لا ترجع إلينا هنا. وكان عروة بن الزبير يقول لأبنائه وأبناء أخيه: يا بني تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبار قوم غداً. فطلب العلم من أشرف المطالب، ويكفي أنه واجب على كل مسلم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قال: [وقال إبراهيم بن نصر: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كيف بك يا إبراهيم بن نصر إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناساً لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً]، فتصور أن زمناً يكون فيه كل هذه الآفات، وربما يكون هذا الزمن الذي نحن فيه. قال ابن بطة: [فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه، وعلمنا أكثره وشاهدناه، فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً، وبصراً نافذاً، فأمعن نظره، وردد فكره، وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر الأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة. ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه -رحمكم الله- أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين]. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وإنا لله وإنا إليه را

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث (رفع عن أمتي الخطأ)

الحكم على حديث (رفع عن أمتي الخطأ) Q ما درجة حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)؟ A على أية حال هذا الحديث قد ورد من طرق متعددة، من ثلاث طرق أو تزيد، ووقع النزاع بين أهل العلم في ثبوته من عدمه، والذي يترجح لدي أنه حديث حسن.

الحكم على حديث (الإسبال في ثلاث)

الحكم على حديث (الإسبال في ثلاث) Q ما درجة حديث: (الإسبال في ثلاث)، أي: في الكم والسروال والعمامة؟ A على أية حال هذا كلام الفقهاء، وإذا كان حديثاً مرفوعاً فهو ضعيف، ونبه عليه شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب زاد المعاد.

حكم رد السلام على المرأة الأجنبية

حكم رد السلام على المرأة الأجنبية Q ما حكم رد السلام على المرأة الأجنبية، وما الدليل على ذلك؟ A رد السلام فرض عين على كل من سمع، لكن الراجح أن رد السلام فرض كفاية، فإن رد البعض سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا جميعاً، أي: أثم من سمع، وهذا إذا سلم الرجال على الرجال، والنساء على النساء. ووقع الخلاف في سلام النساء على الرجال والعكس، فالراجح جوازه ما أمنت الفتنة، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: رد السلام). وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، و (أفشوا) فعل أمر. وإلقاء السلام في مذهب الجمهور سنة، والذي يترجح لدي أنه واجب ما كان ذلك في الإسلام، والرد واجب بلا خلاف، ويبقى الإشكال في سلام النساء على الرجال والعكس، وهو مرهون بأمن الفتنة، فإذا سلمت المرأة على الرجال فلا بأس بذلك، وإذا سلم الرجل على جمع من النسوة فلا بأس بذلك. أما إذا لقي الرجل المرأة، أو المرأة الرجل؛ فهذا الموقف صعب، وأصل السلام والحالة هذه جائز مع أمن الفتنة، خاصة حين يتعلق بالشاب والشابات، واستحب أهل العلم للشاب أو الفتاة أن لا يلقي أحدهما على صاحبه السلام؛ لأن الفتنة لا تكاد تكون مأمونة بين الشاب والفتاة.

حكم أداء النوافل عند إقامة الصلاة المفروضة

حكم أداء النوافل عند إقامة الصلاة المفروضة Q ما حكم من دخل يصلي السنة وأقيمت الصلاة؟ A يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنزاع وقع في فهم هذا الدليل، والكل متفق على صحة الحديث. أما الفهم فمن الفقهاء من قال: إذا أقيمت الصلاة فلا يصح لأحد أن ينشئ صلاة غير صلاة الجماعة؛ ولذلك لما أقام بلال صلاة الفجر وشرع رجل في الصلاة، أي: في صلاة السنة، دنا منه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (آصبح أربعاً؟)، كالمنكر عليه أن ينشئ صلاة بعد سماع الإقامة. وبعضهم قال: أنشأ أو لم ينشئ، فلو أنه كان في صلاة نافلة وأقيمت الصلاة فإنه يخرج من صلاته، والذي يترجح لدي -فضلاً عن المذهب الأول وأنه راجح بلا خلاف- أنه إذا كان الرجل في صلاة فسمع الإقامة، فإن كان قد نوى أربعاً صلاها اثنتين، ويتعجل فيها حتى يدرك الركعة الأولى مع الإمام، وإن كانتا اثنتين فليتمهما سريعاً حتى يدرك الإمام في الركعة الأولى، وهذا كله في النوافل والسنن. أما إذا فاته الظهر، ثم دخل المسجد بعد أذان العصر، فصلى الظهر حتى يدرك العصر مع الإمام، فأقيمت الصلاة وهو في الركعة الثانية أو الثالثة، فلا يخرج من صلاته حتى يتمها، وهذا النهي وارد في حق السنن دون الفرائض. كما أن النزاع وقع في كيف يخرج من صلاته، هل يخرج بتسليم أم لا؟ فمن حمل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة إلا المكتوبة) على الفساد والبطلان قال: لا يلزمه التسليم؛ لأن صلاته تبطل بسماعه الإقامة. ومن لم يحمل النهي على الفساد والبطلان قال: يلزمه التسليم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ذكر الأخبار التي دفعت إلى تأليف الكتاب

شرح كتاب الإبانة - ذكر الأخبار التي دفعت إلى تأليف الكتاب لقد جرت عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى بالتأليف والتصنيف في الرد على أهل الأهواء والبدع؛ لبيان وزيف باطلهم، وتحذير المسلمين منهم ومن باطلهم، وحتى لا يغتر بهم العامة فيقعون في أكاذيبهم وأباطيلهم.

التحذير من التلون في الدين

التحذير من التلون في الدين الباب الثاني: وهو ذكر الأخبار والآثار التي دعت ابن بطة رحمه الله إلى جمع هذا الكتاب. قال: [أستوفق الله بصواب القول وصالح العمل]، أي: أطلب منه التوفيق والسداد، [وأسأله العصمة من الزلل، وأن يجعل ما يوفقنا له من ذلك واصلاً بنا إليه، ومزلفنا لديه، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا وبركة علينا وعلى من عرفنا ومن قصدنا لحمل ذلك عنا، فإنا لله وبه وإليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل]. فهذا بلا شك أن الدافع لهذا الإمام إلى تصنيف هذا الكتاب: ظهور البدع، فقد أورد في هذا الباب أحاديث ظاهرها وجوب أن يتكلم العالم بما عنده من علم إذا ظهرت الفتن والبدع، لكن هذه الآثار غير صحيحة كما سيأتي. قال حذيفة لـ أبي مسعود البدري، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، وليس بدرياً، فهو لم يحضر غزوة بدر، وإنما نسب بدرياً لأنه كان يسكن في مكان يسمى: بدر. [قال حذيفة لـ أبي مسعود: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله واحد]. أي: أن الضلال الذي ليس بعده ضلال أن تقول عن الحق إنه باطل، وأن تقول عن الباطل إنه حق، وبعد أن كنت على الحق المبين تتنكب له وتقول: بل هو المنكر الذي ليس بعده منكر، فكثير من الناس يكون على أمر الاستقامة ثم يزيغ وينحرف، لأنه في أصله وأصل هدايته كان صاحب هوى، ثم اعلم أن الناس ينقمون عليه ضلاله وانحرافه عن الطريق الذي سار فيه أولاً، فهو يقول ويسابق: إن الذي كنت عليه لضلال مبين، وما أنا عليه الآن فإنه الحق المبين. فهذا تلون في دين الله عز وجل، والله عز وجل لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ولا من نياتهم، ودين الله تبارك وتعالى واحد لا تلون فيه، والحق فيه واحد، ولذلك نحن نرى أناساً كثيرين بعد أن كانوا ينهجون نهج سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين، تنكبوا وصاروا إلى مذاهب وفرق شتى، زاعمين بأن ما هم عليه الآن هو خير مما كانوا عليه آنفاً. وإني لأعجب كل العجب من إنسان بعد أن يتعرف على البخاري ومسلم، ومن قبلهما: الشافعي ومالك وابن حنبل، وغيرهم من أهل العلم وسلف الأمة وأصحاب السنن والمصنفات والأجزاء، ثم بعد ذلك كله يتنكب الطريق الحق جرحاً وتعديلاً، ويسلك مسلكاً خلفياً شطحاً، ثم يزعم أن ما هو عليه الآن خير مما كان عليه! فكيف يتصور أن صاحب فكر حديث هو خير وأولى بالاتباع من هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم آنفاً؟! إما أنه كان سلفياً بجهل ولا يدري ما معنى السلفية أو ما معنى نهج الخلف وسوء الخلف، وإما أنه تظاهر باتباع السلف وفي حقيقة الأمر قلبه قد امتلأ هوى، فإن مضى وأتيحت له الفرصة ترك وتخلى عن مذهب السلف وانتهج نهج الخلف. قوله: (إن الضلالة حق الضلالة: أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله تعالى واحد). ولذلك فإن انحراف هؤلاء الذين ينحرفون عن الصراط المستقيم أمر حتمي لابد منه؛ حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وحتى نعلم الصادق من المنحرف والمتلون، ومع ذلك فهو أمر لا يرضيني شخصياً، فإذا كان الإمام على الاستقامة ثم انحرف فهذا له دلالة عندي قد استخلصتها من عند السلف ومن خلال السلف، وهي: أنه لم يكن على المنهج أصيلاً، وإنما كان دخيلاً جاهلاً، أو صاحب هوى كما قلت، وتركه لهذا المذهب الناصع البياض السليم الصحيح، واختياره لمذهب الخلف ظاهرة سطحية، حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث. [وقال عدي بن حاتم: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف]. أي: لا تزال الأمة بخير إذا كان عالمها يتكلم وهو مطمئن لا يخاف السلطان وبطشه، أما إذا خاف العالم أن يتكلم من السلطان وظلمه وقهره، فإن الأمة لاشك قادمة إلى الهاوية. [وقال الحكم بن عمير -وإن كان الحديث ضعيفاً جداً- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع: إظهار البدع)]، وهذا الحديث لا نعول عليه لنكارته. [قال ابن بطة رحمه الله: فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الرجوع عن الحق والعلم إلى الجهالة والعمى].

لا أسوة في الشر

لا أسوة في الشر [وعن ابن مسعود قال: إذا وقع الناس في الشر خيل لك في الناس أسوة في الشر]، أي: إذا استشرى الشر وانتشر حتى لم يكن في المجتمع غيره، تصور الناس أن الأسوة في هذا الشر، ولذلك إذا نقدت أي إنسان الآن في ضلالة هو عليها أو في بدعة هو عليها يقول: كل الناس هكذا، فهل يتصور أن هذه بدعة والناس يعملون بها، ومطبقون عليها منذ زمن بعيد؟ وهل يتصور أن يكون هذا هو الباطل، وأن ما تأتيهم به الآن هو الحق؟ نعم هذا متصور. ولذلك أنكر مجتمع قريش دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول ظهورها؛ لتصورهم أنهم على الحق المبين. قال: إذا وقع الناس في الشر فقل: لا أسوة لي في الشر، وإنه لا أسوة في الشر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أسوة في الشر)، وإن أجمع الناس وأطبقوا على استمرار الباطل ورد الحق، فإن هذا لا يجعل الباطل حقاً، ولا يجعل الحق باطلاً. [وعن عبد الله بن مسعود قال: ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعاً لم يكفر]؛ لأن كل واحد سيأتي ربه فرداً، ويسأل فرداً لا علاقة له بالناس، وأن الناس لا يدافعون عنه ولا يدفعون له بين يدي الله عز وجل. قال: [ولا يكونن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول: أنا مع الناس]، أي: إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس فأحسنوا، وإن أساءوا فلا تسيئوا، أي: وإن أساءوا فلا تتبعوا إساءتهم. قال: [إنه لا أسوة في الشر]، وإن أطبق الناس على عمل الشر، وقول الشر، واعتقاد الشر، فإنه لا علاقة لك بالناس، وإنما علاقتك بالحق المبين، الذين نزل من السماء على قلب رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم.

فضيلة التمسك بالدين في هذا الزمان

فضيلة التمسك بالدين في هذا الزمان [وعن أنس بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه له أجر خمسين منكم)، حتى أعادها ثلاث مرات]. وهذا الحديث ضعيف، وربما يكون فيه شيء من النكارة؛ لأن الواحد منا مهما عمل ومهما بلغ عمله، فإنه لا يمكن أن يؤدي معشار ما أداه واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال في الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). والحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر)]. وهو حديث عظيم جداً، إن لم يكن يتناسب مع واقع المسلمين اليوم فهو على أي حال يكاد ينطبق على حالهم غداً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)، أي: لا يأتي عليكم زمان ولا يوم ولا عام ولا شهر ولا أسبوع إلا والذي بعده شر منه. فهذا الحديث فيه إيحاء بفضيلة من تمسك بدينه في هذا الزمان والأزمنة المتعاقبة التي تتلو هذا الزمان، وأن المتمسك القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار، والذي يقبض على جمرة من نار يوشك أن تحرقه أو تحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، وهكذا القابض على دينه في هذا الزمان، ويكفي أنهم الغرباء، والكثرة الكاثرة غالباً ليست الغريبة، وإنما الغريب هو القليل النادر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً)، أي: بدأ وظهر الإسلام في ثلة مؤمنة عظيمة، لكنها قليلة في وسط قوم وأمة تعج بالفساد والشرك وعبادة الأصنام والأوثان. ولذلك اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر، وأنه مجنون، وأنه ساحر، وأنه تعلم هذا من كتب السابقين، وغير ذلك من الشبه، وإن شئت فقل: افتراءات وكذبات قد ورد الرد عليها في كتاب الله عز وجل، إذ إن الله تبارك وتعالى قد رد وذب عن نبيه أيما رد وذب، وهنا إثبات الغرابة في أول أمر الإسلام، ثم بعد ذلك تنقض عرى الإسلام عروة عروة حتى يترك الناس دينهم أو جل دينهم، فإذا قامت فئة فتمسكت بالدين ظاهراً وباطناً أصولاً وفروعاً؛ كانوا هم الغرباء؛ لأنهم يحيون في الناس سنناً قد ماتت عندهم، وفرائض قد أهملوها، ولذلك يقول عنهم المجتمع الكثير: إنهم غرباء، وإنهم شواذ، وإنهم فئة قليلة، لكنها تغلب فئة كثيرة بإذن الله.

بشارة النبي عليه الصلاة والسلام للغرباء في آخر الزمان

بشارة النبي عليه الصلاة والسلام للغرباء في آخر الزمان [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)]، هذه بشارة لأهل الالتزام الصابرين على دينهم صبر من أخذ بيديه جمرة فقبض عليها، [(قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس). قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين، وبهدي شيوخنا الصالحين رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين، فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، قد جعل في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر]، فجعل الله تبارك وتعالى بين كل نبيين فترة من الزمن، يقتفي فيها الآثار حتى يتميز الناس بمن كان متبعاً لآثار من مضى عمن انحرف عن طريق الأنبياء السابقين، وكل فترة بين نبيين تسمى بالفترة، وأهل الفترة إن ماتوا في هذا الزمان -أي: في مدة الفترة- فكانوا متبعين لآثار من مضى من الأنبياء، فإنهم من أهل الجنة، وهم المؤمنون حقاً، أما من ترك آثار الأنبياء السابقين ومات في الفترة فإنه يموت على الكفر. قال: [قد جعل الله في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر، اقتفاء للآثار، أي: أن الله تعالى بلطفه بعباده، ورفقه بأهل عنايته، ومن سبقت له الرحمة في كتابه، لا يخلي كل زمان من بقايا من أهل العلم وحملة الحجة، يدعون من ضل إلى الهدى، ويذودونهم عن الردى -أي: يدفعونهم عن الردى- ويصبرون منهم على الأذى، فيحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بعون الله أهل العمى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والغباء]، أي: والغباء.

حديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)

حديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) [وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)]، أي: يحمل هذا العلم من كل جيل ومن كل عصر عدوله. والإمام أبو حنيفة ذهب إلى أن كل من طلب العلم، ودعا إلى الله عز وجل فهو عدل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم)، أي: العلم الشرعي (من كل خلف عدوله)، يقومون بهذه المهام. قال [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)]. أما غيره من أهل العلم فإنهم لم يستفيدوا من هذا الحديث أن كل من حمل العلم عدل، فمن أهل العلم من هو من أفسق الناس وأفجر الناس، وليس بلازم أن كل من طلب العلم أو حمله يكون عدلاً ثقة، بل الواقع يؤيد أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وإذا كان الأمر كذلك فهل يتصور أن أول من تسعر بهم جهنم العدول؟! وأنتم تعلمون الحديث: (إن أول من تعسر بهم جهنم ثلاثة: العالم)، أي: المرائي في علمه الذي طلبه لغير الله، وهذا يدل على أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وأن من راءى في طلب العلم ليس من العدول، وأن من لم يعمل بعلمه ليس من العدول، وأن من باهى وفاخر وسمَّع وراءى بعلمه ليس من العدول، مع ما هو عليه من علم. لكن ترد على الأحناف في ادعائهم أن النبي عليه الصلاة والسلام عدل أهل العلم وحملة العلم وطلاب العلم، أن ذلك مشروط بثلاثة شروط قد وردت في نفس الدليل الذي اعتمد عليه الأحناف. قال: [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، أي: أن العالم العدل في كل زمان هو: من حمل العلم أولاً، أي: تعلم وعرف المسائل العلمية الشرعية بأدلتها من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، وعمل بذلك لله تبارك وتعالى رغبة ورهبة، فهذا هو العالم حقاً. أما كونه عمل بذلك للناس، فإن هذا العمل إما أن يكون لنفسه، أو يكون متعدياً إلى الغير في الدعوة إلى الله، وهو مع هذا في ليله ونهاره يهتم ويغتم بالرد على انتحال المبطلين، أي: من انتحل نحلة زاغ بها عن نحلة الإسلام، وعن هدي الإسلام، وعن طريق الإسلام، إذ إن الإسلام واحد، ودين الله تبارك وتعالى واحد، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، وهديه واحد معروف لدى السلف، فمن انحرف عن مذهب السلف تصدى له أهل العلم الذين حملوه لبيان الحق له، وإثبات الباطل الذي انتحله، فهذا بلا شك من علماء الإسلام. قال: (ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين)، والغالون: هم المتنطعون المتهوكون المتشدقون الذين يلوون أعناق النصوص، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالدليل كما تلوي الأبقار ألسنتها؛ تجليلاً للباطل الذي هم عليه، وتحريفاً للكلم عن مواضعه. والغالون جمع غال، وهو الذي يتنطع في دين الله عز وجل، إما بإدخال أشياء ليست في دين الله عز وجل عليه، أو بنقصان أشياء من الدين، فإن أدخل هذا المتنطع زيادة في دين الله عز وجل وجب الرد عليه بترك هذه الزيادة والرجوع إلى الأصل؛ لأنه ربما فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام على غير ما فهمه سلف هذه الأمة، وكثير من أصحاب البدع إنما مردهم ومستندهم هو إلى الله ورسوله، وهل يتصور أن أهل البدع أثاروا البدعة وهم يعلمون ويوقنون بأنهم على الباطل المبين؟! لا يتصور ذلك إلا في الباطنية وفرق الشيعة، فإنهم يعلمون أنهم على الباطل المبين، وخاصة غلاتهم، أما أن الإنسان يقرأ في كتاب الله عز وجل، فتضربه آية في أم رأسه فيتوقف عندها ويبني عليها أقوالاً وأعمالاً دون أن يرجع إلى شراح كلام الله عز وجل وما يختص به، ودون أن يرجع إلى شراح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويفهم فهماً لوحده لم يسبقه أحد من علماء الأمة، ثم يزعم بعد ذلك أن هذا هو دين الله عز وجل؛ فإنه لابد من الرد عليه وإثبات أنه ليس على شيء، وأن ما هو عليه ليس صحيحاً؛ لأن السلف هم أولى الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم، وهم أبلغ الناس وأفصح العرب، ومع هذا لم يفهموا ما فهمه هذا الذي يقرأ في كتاب الله عز وجل. ولذلك يقول الشاعر: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا أي: كل يدعي أنه محب لليلى، لكن القضية تكمن في محبة ليلى لهؤلاء أو لواحد منهم؛ لأنها ستحار حينئذ، فكل يقول: منهجي ودليلي هو الكتاب والسنة، وفي حقيقة الأمر ليس هذا هو الفيصل، إنما الفيصل كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة، أما أهل البدع إذا خاصموا في قضية ما فإنهم يحتجون عليك بقال الله وقال رسوله، لكن الفيصل بينك وبينهم: أنك تفهم قول الله وقول رسوله من واقع فهم سلف الأمة، وهم يفهمون قال الله وقال رسوله من واقع أفهامهم وعقولهم.

منزلة العلماء وفضلهم على الناس

منزلة العلماء وفضلهم على الناس

حديث (لا يزال على هذا الأمر عصابة)

حديث (لا يزال على هذا الأمر عصابة) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال على هذا الأمر عصابة من الناس لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله)]. أي: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قولاً وعملاً، لا يضرهم في ذلك من خالفهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم ثابتون قائمون عاملون بقول الله تعالى وبقول رسوله الكريم، مظهرون لهذا الحق على مراد الله وعلى مراد رسوله مهما انتفش الباطل؛ لأن الباطل لا يدوم بل يزول سريعاً، أما الحق لما كان واحداً فهو ثابت، إذ إن له أهلاً يحفظونه في كل زمان ومكان، فيلزمون الوحي حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

حديث (لا تزال طائفة من أمتي)

حديث (لا تزال طائفة من أمتي) [وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة)]، فوصفهم بأنهم ثلة قليلة -وهذه بشارة لك- وهذه الثلة ظاهرة على الحق، أي: أن معها الحق وتدعو إليه، وهو أعلى من الباطل، وأنها تكتسب العزة بتمسكها بهذا الدين، ولذلك قال: (عزيزة)، أما باطل هؤلاء فإنه لا يمكن أبداً أن يبقى في أهل الحق؛ لأن الحق حق، وأهل الباطل يعلمون أنك على الحق وإن سخروا بك واستهزءوا بك وحاربوك، بل ولو قتلوك فإنهم يعلمون يقيناً أنك على الحق المبين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14].

حديث (من جاءه الموت وهو يطلب العلم)

حديث (من جاءه الموت وهو يطلب العلم) وجاء في حديث مرفوع: [(من جاءه الموت وهو يطلب العلم يحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء في الجنة إلا درجة)] هذا كلام مرفوع نصه، والنص ضعيف، ولا يقال من قبل الرأي؛ لأن هذا إخبار عن غيب، والإخبار عن الغيب لابد أن يكون من الثبوت والصحة بمكان، وليس الأمر هنا كذلك. [وقال وهب بن منبه: الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة؛ أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان]. ومن كان بهذه الخصال وهذه الصفات فإنه يكون حقاً متبعاً لآثار من مضى، أما إذا تخلف عنه شيء من ذلك ففيه من الانحراف عن آثار أنبيائهم على قدر ما فيه من الخلل. [قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم ممن أعز أمر الله فأعزه، وأبقى لله فكفاه، ولجأ إلى مولاه الكريم فتولاه].

أثر سفيان (أفضل الناس منزلة)

أثر سفيان (أفضل الناس منزلة) [وقال سفيان بن عيينة: أفضل الناس منزلة يوم القيامة من كان بين الله وبين خلقه]. وقد جاء نحو هذا الكلام عن غيره، والذي بين الله وبين خلقه هم الأنبياء وورثتهم من العلماء، إذ إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ولذا فالعلماء هم في الدرجة الثانية بعد الأنبياء. وهم الواسطة بيننا وبين الله بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، وهم المبينون والمفسرون والموضحون لكلام الله عز وجل، وهم الذي يأخذون بنواصي العباد إلى الله عز وجل، ولذلك هم أشرف الخلق عند الله عز وجل إذا كانوا عاملين بعلمهم.

أثر ربيعة (الناس في حجور علمائهم)

أثر ربيعة (الناس في حجور علمائهم) [وقال مالك بن أنس: سمعت ربيعة بن عبد الرحمن -وهو المعروف بـ ربيعة الرأي - يقول: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم]. أي: يسلمون لهم، فأنك لو أخذت طفلك الرضيع فوضعته في حجرك وألقيت في فمه سماً ابتلعه، ولو ألقيت في فمه لبناً رضع، وهكذا العلماء، فالناس في حجورهم وبين أيديهم كالصبية والغلمان الصغار بين أيدي آبائهم. بل أمر العلماء أخطر وأجل؛ لأن الأب غالباً يغذي الأبدان، أما العلماء فهم الذي يغذون الأرواح، ويغذون العقول ويفتحونها إما بالخير وإما بالشر، فإن كان بكتاب الله وسنة رسوله فهو خير، وإلا فلا خير في غير هذين المصدرين.

أثر سلمة بن سعيد (العلماء سرج الأزمنة)

أثر سلمة بن سعيد (العلماء سرج الأزمنة) [وقال سلمة بن سعيد: كان يقال: العلماء سرج الأزمنة]. أي: نور الأزمنة. [فكل عالم مصباح زمانه، فيه يستضيء أهل عصره، وكان يقال: العلماء تنسخ مكائد الشيطان]، وهو كذلك، إذ إن العالم في قرية ما كالعين التي تنبع بالماء، بل هو أحسن وأجل؛ لأن هذه العين التي تنبع بالماء تغذي أبدانهم وزروعهم وغير ذلك، أما العالم فإنه يغذي العقول والأرواح، ويأخذ بنواصي العباد إلى ربهم تبارك وتعالى. وكذلك وجود العالم في قرية ما دليل على صلاحية هذه القرية، وعلى خيرية هذه القرية، وذهاب الناس في القرية إلى هذا العالم يستفتونه في أمور دينهم، دليل على خيرية هؤلاء، أما قرية بغير عالم فهي قرية تتخبط في ظلمات الغي والضلالة، وإن الواحد منهم إذا احتاج ليستفتي في مسألة ربما ركب المواصلات الطويلة حتى يجد عالما يفتيه في مسألته؛ لأن القرية ليس فيها عالم، وهي آثمة كلها؛ لأنهم لم يفرغوا من بينهم واحداً يطلب العلم، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. وهنا يجب على كل طائفة من الناس أو قرية أو بلد إذا لم يكن فيها عالم أن يخصصوا رجلاً من أهل النباهة ليتعلم العلم في مكان يظهر فيه العلم، ثم يرجع إليهم عالماً يفتيهم في أمور دينهم وربما دنياهم. [قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم ممن يحيي به الحق والسنن، ويموت به الباطل والبدع، ويستضيء بنور علمه أهل زمانه ويقوي قلوب المؤمنين من إخوانه. [وعن سلمان أنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يعلم الآخر هلك الناس]. بل مثل هذا الكلام ثابت من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (البركة مع أكابركم، ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن كبارهم، فإذا أخذوه عن صغارهم فقد هلكوا). وقال ابن المبارك عليه رحمة الله: ليس الصغير صغير السن، وإنما الصغار هم أهل البدع. أما صغير يؤدي إلى كبير؛ فليس بصغير على الحقيقة، إنما الصغير من انحرف عن الجادة وإن كان كبيراً في السن، والكبير من عرف الحق بأدلته، وعلم الناس وعمل بذلك، فهو الكبير وإن كان حديث السن، ومجلس عمر رضي الله عنه كان مكتظاً بالشباب والكهول، وكان عمر يقول للشباب: لا يحقرنكم حداثة أسنانكم على ألا تشيروا برأيكم. والنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: (ستفتح لكم الأرض، ويأتيكم غلمان يتعلمون العلم، فإذا جاءوكم فعلموهم، والطفوا بهم، ووسعوا لهم في المجالس)، ولذلك كان أبو سعيد إذا أتاه غلام أو غلامان قال: مرحباً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما نراه الآن على شاشات التلفزيون تحت باب الحفاظ على الدين من الداخلين فيه بغير مؤهل، فهذا باطل ومنكر من القول. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فالعلم يكمن في قال الله قال رسوله، سواء كان قائله أزهرياً أو غير أزهري، حتى ولو كان صاحب حرفة حدادة أو نجارة أو غيرها، والأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم والصحابة والأئمة، وعلماء المسلمين شرقاً وغرباً، لم يتخرجوا من الأزهر، بل جل من تخرج من الأزهر لا يصلح أن يكون داعية لنفسه قبل أن يكون داعية لله عز وجل يدعو الناس، مع إيماننا الجازم بأن الأزهر قد خرَّج رجالاً قل أن تجد في الخلق مثلهم في العلم والعمل والديانة والورع والنسك وغير ذلك، أما جل الأزهريين فإنهم لا يصلحون لأنفسهم قبل أن يصلحوا لغيرهم، وهذه خطوة أو حلقة في سلسلة طويلة مردها ومآلها: القضاء على كتاب الله وسنة رسوله الكريم.

الالتزام على منهج صحيح من أعظم النعم على العبد

الالتزام على منهج صحيح من أعظم النعم على العبد قال: [إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها]، ولذلك ورد عن كثير من السلف أنهم قالوا: لا ندري أي الاثنتين أعظم: أن من الله علينا بالإسلام، أو أن جعل لنا في الإسلام سنة؟ وهذا كلام جدير بأن يكتب بماء الذهب، وبلا شك فإن الإسلام أعظم وأجل، لكن هذا كلام خرج مخرج بيان أفضلية اتباع الحق، أو المبالغة في إثبات أن الحق أولى بأن يتبع. ولذلك فإن من أعظم نعم الله على الشاب أنه إذا التزم التزم على يد دعوة صحيحة سليمة لا شك فيها، وهنا أصحاب الأهواء يكثرون التدخل والجدل من جماعة إلى جماعة، ومن طائفة إلى طائفة، ومن فرقة إلى فرقة، بخلاف من وفق أولاً إلى طريق السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهذا بخلاف الآخر، فقد مر على جماعة واثنتين وثلاث وأربع وعشر، وفي كل جماعة يدرس ولم يقتنع، فيتحول إلى جماعة أسوأ، منها حتى استقر به المقام على منهج السلف بعد أن بلغ من العمر أرذله. وعلى أي حال فمن الخير أن يختم له بالعمل الصالح وبمنهج سليم. قال: [من نعمة الله على الشاب والأعجمي إذا نسك أن يوافق لصاحب سنة يحملهما عليها؛ لأن الأعجمي يأخذ فيه ما سبق إليه]، وليس الأعجمي فقط فكذلك العربي، والأعجمي هو كل إنسان لا يحسن اللسان وإن كان عربياً، والعربي هو كل من يحسن العربية وإن كان أعجمياً. لذا فهو يريد أن يقول: إن العجم الذين لا يفهمون العربية، يتبعون في الغالب من يدعوهم إلى الإسلام، فإذا دعاهم الشيعة دخلوا في الإسلام على مذهب الشيعة، وإذا دعاهم الخوارج دخلوا في الإسلام على مذهب الخوارج، وأنا أقول: وهكذا العوام الذين لا علاقة لهم بدينهم ولا بالعلم الشرعي، فأول من يدعوهم إلى الالتزام يتبعونه، وأنتم ترون أن هذه الجماعات المترنحة على الساحة، إذا دعت إنساناً لا علاقة له أصلاً بالعلم الشرعي ولا بالدعوة، فإنما يكون مذهب هذا المدعو هو مذهب من دعاه، ويصعب جداً خلعه من هذا المذهب؛ لأنه يرى أن لهؤلاء الفضل عليه بعد أن كان غارقاً في أوحال المعصية، ولا شك أن هذا خير، لكن ليس هو الخير المحض، بل هو خير فيه شر. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: إن من لقي الله تبارك وتعالى ممن دعي إلى الإسلام على منهج الخوارج، خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً، وإن من لقي الله تبارك وتعالى من الروافض -أي: أسلم على مذهب الروافض- خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً. وهذا الكلام في غاية المتانة، وهو كلام محترم جداً، لكن ليس معنى ذلك أنه يدعو للرفض أو للخروج أو غير ذلك، وإنما نقول كما قال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم: إن من لقي الله تبارك وتعالى على بدعة أو معصية خير من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً؛ لأن الكافر مخلد في النار بخلاف صاحب البدعة، فإن لم تكن مكفرة فإنه لا يخلد في النار، بل إذا دخلها خرج منها لا محالة. ولذلك يقول: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة -أي: أن يصاحب صاحب سنة- يحمله عليها ويدعوه ويلهمه بها. [وقال عمرو بن قيس الملائي: إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -أي: ارج خيره- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه]، حتى ولو تاب، فإنك لو أتيت إلى صاحب بدعة في هذا الوقت قد تاب منها، فتنظر إليه فتجده لا يزال واقفاً على أشياء كبيرة ظاهرة فيه. وأذكر أنه في سنة (1981م) كان هنا شخص من إيران يدرس في كلية دار العلوم، وهو شيعي رافضي، وكان صاحباً لي، فزارني في بيتي في المنصورة ذات يوم بعد أن ترك مذهب الرفض عاماً كاملاً، وتفقه عندي أكثر من عشرين يوماً، وكنا نتدرب على مصطلح الحديث، فقلت له: ماذا تقول في ثورة الكذاب الخميني؟ قال: الخميني ليس بكذاب، إنما الكذاب أبو بكر وعمر! وقال: لا يسب أحد الإمام الخميني ونتركه! فقلت له: ألم تدع مذهب الرفض؟ قال: نعم، لكن الذي تتكلم به غيبة على الخميني، فقلت له: وأنت قابلت غيبة الخميني بالطعن في هذين الإمامين العظيمين؟ قال: وهل إمامة أبي بكر وعمر محل اتفاق عند أهل السنة؟ قلت: نعم محل اتفاق عند أهل السنة، قال: لا، أهل السنة إمام إيران! فتأمل رجوعه، رجع إلى الحور بعد الكور، مرة أخرى لمجرد أنك طعنته في مشاعره، إذ إنه أول ما يسمع الخميني يقول لك: إلا هذا! ونترك العجم ونتكلم عن العرب: جماعة التكفير -وهم خوارج العصر- يجمعون أنفسهم إلى الآن بعد أن دخلوا السجون وخرجوا منها، وتجدهم جميعاً على قلب رجل واحد، وإذا دخل بينهم رجل لم يكن منهم حاولوا جاهدين خلعه كما يخلع أحدنا ضرسه؛ لأن ولاءهم لبعضهم وليس لغيرهم، وهكذا كل صاحب بدعة لا تزال البدعة تؤثر وتعمل في قلبه عملاً عظيماً وإن تظاهر بغير ذلك، ونحن لا ننفي قط

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل قادر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل قادر [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)]، وهذا فيه أعظم حافز لدعوة الناس إلى الله عز وجل، حتى ولو كانت ثمرة الدعوة على مدار الأعوام العديدة واحداً، (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). وذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليزور طفلاً يهودياً في مرض موته ليدعوه، فلما ذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام دعاه إلى الحق، وإلى طريق الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه فقال أبوه: (يا غلام! أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بالشهادتين، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ووجهه يتهلل ويقول: الحمد لله الذي أعتق بي رقبة من النار)، أي: رقبة واحدة. فالدعوة إلى الله عز وجل واجبة على كل قادر عليها، أما النتيجة فهي على الله عز وجل، وإن قلت ثمرتها فإنه لا حرج في ذلك، والسلف رضي الله عنهم كانوا يأتون بكلمات ثم لا ينتظرون النتائج وكانوا يفعلون ما أمروا به؛ لأنهم يعلمون أن ثمرة هذا الكلام وهذه الدعوة على الله عز وجل دون سواه. [وقال الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله من نفقة قول)]، والعلم يزكو بالدعوة والعمل، وهذا كلام علي بن طالب وابن سيرين وابن المبارك وغيرهم من أهل العلم. قال: والعلم يزكو بالدعوة والعمل. أي: يزيد وينمو كلما دعوت إلى الله عز وجل، ولذلك الذي يدعو إلى الله عز وجل يتعلم أكثر ممن لا يدعو إلى الله عز وجل. ولذا لو أن شخصين يحضران مجالس العلم، أحدهما يدعو بما تعلم ويعمل به، والآخر يكتفي من العلم بالسماع والحفظ فقط، ولا يعمل به أو لا يدعو إليه، فيكاد هذا الذي لا يدعو أن ينسى ما تعلمه، بخلاف الذي يدعو فإنه يحتاج في كل دعوة أن يذكر وأن يتذكر وأن يراجع، وأن يدرس ما تعلمه، حتى يتمكن من تبليغه للناس، ودعوة الناس إليه وبه، فهذا أدعى لتثبيته في القلوب، ولذلك فزكاة العلم ونماؤه هي الدعوة إليه ومدارسته ومراجعته، وغير ذلك مما كان يفعله السلف. [وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكن نبي قط إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يتبعون أمره ويهتدون بسنته، ثم يأتي من بعد ذلك أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، يغيرون السنن، ويظهرون البدع، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)]. ففي الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام أن أول هذه الأمة على الخير والبركة والرحمة، وأن حوارييه عليه الصلاة والسلام على الإيمان التام، وهم أصحابه الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، لكن يأتي من بعدهم أمراء وسلاطين يقولون ما لا يعملون، ويعملون ما لا يؤمرون، يُظهرون البدع ويميتون السنن، يكيدون للإسلام ليل نهار، وينقضون عراه عروة عروة. ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أن على هؤلاء الحواريين ومن سلك نهجهم إلى قيام الساعة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قوله: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)، أي: إذا كان هذا المنكر لا يزول إلا باليد فواجبٌ أن نزيله باليد، وإذا عجزوا عن التغيير باليد جاهدوهم باللسان والدعوة والبيان، وإذا عجزوا عن ذلك فلا أقل من أن ينكروا بقلوبهم، ويفارقوا مواطنهم ولو بالهجرة من بلاد المعصية إلى بلاد الإيمان، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان، كما روي عند مسلم من حديث أبي سعيد في الإنكار على هؤلاء، قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، أي: لا إيمان بعد ذلك، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)؛ لأن تغيير المنكر بالقلب في مقدور كل إنسان، إذ لا سلطان لأحد على قلبك إلا لله عز وجل، فأنت بإمكانك أن يتمعر وجهك، وأن تهجر وتفارق مكان المعصية، فإن عجزت عن التغيير باليد أو باللسان، فلا أقل من أن تهجر مكان المعصية مخافة أن ينزل العقاب فيعم الجميع. [وقال أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة -: جزى الله عنا خيراً من أعان الإسلام بشطر كلمة]، وجزى الله تعالى شراً من أعان على هدم الإسلام ولو بشطر كلمة.

الأسئلة

الأسئلة

ما يفعله من دخل المسجد أثناء الخطبة أو الدرس العلمي

ما يفعله من دخل المسجد أثناء الخطبة أو الدرس العلمي Q إذا دخلت المسجد أثناء الدرس فهل أصلي أولاً أم أنصت إلى الدرس؟ A إذا دخلت المسجد فصل ركعتين خفيفتين، ثم الحق بدرس العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، ومجلس العلم إما أن يكون خطبة جمعة، أو درس علم، أو مادة شرعية، أو غير ذلك، وكل هذا لا ينفي أن تصلي ركعتين، ولذلك أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في يوم جمعة والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب، فجلس عثمان ولم يركع ركعتين، فأمره بعد أن جلس جلوساً خفيفاً أن يصلي ركعتين، وعثمان رضي الله عنه اعتقد أن الإنصات للخطبة أولى من صلاة ركعتين، وفي رواية: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، أي: لك أن تصلي ركعتين خفيفتين.

حكم توزيع الإنسان تركته على ورثته قبل وفاته

حكم توزيع الإنسان تركته على ورثته قبل وفاته Q والدي قسم بيننا قبل وفاته بمدة، والآن بعد عام إخوتنا لم يعطونا حقنا، ويقولون لنا: بعد ثلاث سنوات، وأمي تشجعهم على ذلك، وأنا وأختي في أمس الحاجة إلى المال، ومنعتني من دخول بيت أبي لو أصررنا على طلبنا هذا، والآن هي معي في المسجد، ونريد من حضرتكم الإفادة، وجزاكم الله خيراً؟ A على أي حال هذا كلام عظيم انتشر بين المسلمين. فأولاً: لا ينبغي للأب أن يوزع تركته على ورثته قبل موته؛ لأن الميراث ما سمي ميراثاً إلا لتوزيعه بعد الوفاة، أما قبل الوفاة فلا، وأنتم تعلمون أن الهبة أو العطية بين الأولاد ليس فيها للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما إذا أراد الأب أو الأم أن توزع على الأولاد ما تملكه أو ما يملكه، فيجب التوزيع بالتساوي، فإذا أعطى البنت ألفاً وجب عليه أن يعطي الولد ألفاً، وإذا أعطى الولد مائة ألف يعطي البنت مائة ألف؛ لأن هذه هبة وعطية، وحديث النعمان بن بشير عندما أتى أبوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليستشهده على عطية أو نحلة نحلها أحد أولاده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)، أي: أكل أولادك أعطيته مثلما أعطيت لهذا؟ (قال: لا يا رسول! قال: اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور). وهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام يفيد التقريع والتوبيخ، لا جواز الإشهاد على هذا الجور، والشاهد من الحديث قوله: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)، أي: أعطيته مثل ما أعطيت لهذا، قال: لا، فاعتبره النبي عليه الصلاة والسلام جوراً، لأن هذه هبة لا يصح أن تكون تركة؛ لأن توزيع الشيء في حياة المورث لا يسمى ميراثاً، وإنما يسمى هبة وعطية ونحلة ومنحة، كل هذا يلزم فيه التساوي، ولا تأخذ فيه البنت نصف ما يأخذ الولد. وأنا أنصح هذه الأم، وأنصح الأبناء الذكور أن يجمعوا الميراث كاملاً، أو يساووا التركة كاملة، ثم يقسموها من جديد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، بعد أن تأخذ الأم من ميراث زوجها الثمن ما دام لها أولاد، ثم توزع بقية التركة بين الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين. وأقول: هذا إذا كنتم تحبون وتحترمون هذا الرجل الذي قضى حياته في خدمتكم وتربيتكم، وتعب تعباً شديداً بالليل والنهار لأجل إسعادكم، فلا تكونوا أنتم أول من يشقيه ويعذبه في قبره، فإنه الآن يعذب في قبره والله تعالى يعلم ذلك؛ بسبب أنه جار في هذه الوصية، أو جار في هذا الميراث، فإما أن يكون هذا حدث منه جهلاً، وإما أن يكون حدث منه عناداً ومحبة لأبنائه الذكور على حساب البنات. وهذه الأم لا تأمن أن يصنع بها أولادها بعد موتها كما صنعت هي وأولادها بزوجها، فتشقى كذلك في قبرها، وهي ستموت وستعرض على الله عز وجل، ويكلمها كما يكلم أحدنا أخاه مشافهة ليس بينها وبين الله عز وجل ترجمان -ولله المثل الأعلى- ويسألها عن هذا الجور وعن هذا الظلم، فلا يكون لديها جواب صحيح سديد تجيب به عن نفسها، وإن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها ويدخلها الجنة، وهذا الكلام لكل واحد، فإن البنات مظلومات في هذا الزمان، فلا يعطين من التركة إلا القليل، ويظن الذكور أن الحق كل الحق لهم، مع أن هذا لا يصح؛ لأن العقيدة الصحيحة السليمة تقول: إن الباطل لابد من زواله، يمحق الله الربا مهما كثر، ويربي الصدقات وينميها ليعمل بالحلال. وهذه قصة لإحدى الأمهات دعتني لتوزيع التركة، فقال كبير القوم أو كبير الإخوة: يا شيخ! إذا كان عندك أن البنات ترث فلا نحتكم إليك في أول المجلس! فقلت: الأمر لكم، فرد جميع الرجال -إذا كانوا رجالاً، وإذا صح أنهم رجال-: أن البنات لا ترث من الأرض، وكانت هذه الأرض قطعة واحدة، والفدان الواحد بمائة وعشرين ألف جنيه، وعندهم فدان واحد بنوا عليه بيتاً عظيماً جداً بلغ إحدى عشرة غرفة، وعندهم مكان كبير يدرسون فيه المحاصيل، وبستان عظيم جداً فيه الكثير من الثمار وغير ذلك، ثم قالوا: ليس للبنت الواحدة إلا خمسمائة جنيه! أو ليس لهن كلهن إلا هذا! ونحن متفقون مع البنات على هذا، فسألت إحدى البنات فقالت: أنت ستقطع عيشتنا يا فلان! وإذا بها قد أغشي عليها حينما سمعت المبلغ المقسم من وراء الستار، وبعد جدال وأخذ ورد استمر حتى سمعنا أذان الفجر لم يصل أكثر من خمسمائة جنيه! فقلت: هذه المرة تتنازلن عن الخمسمائة جنيه وتحتسبن كامل حقكن عند الله عز وجل، وبينكن وبين إخوتكن الثلث الأخير من الليل. فتصور أن معظم الأمة بهذا الشكل، يتعاملون مع الدين بذكاء لمصلحتهم، أما عليهم فلا لا دين ولا مصلحة ولا علم، ولا من هذه الأشياء نهائياً. والعجيب أن البنات والصبيان حفظوا القرآن الكريم، وأنسى الله تبارك وتعالى القرآن كله أربعة من الرجال حتى صغار السن، وكان هذا قبل الميراث، لكن بقي واحد منهم على حفظ القرآن الكريم، وهو إنسان بصراحة، أما أحدهم وهو الكبير فقد كان صاحب متجر كبير جداً في شركة حكومية، وقد احتال عليه أحد التجار أن يأخذ رشوة في مقابل أن يسجل

حكم صيام الزوجة عن زوجها المتوفى

حكم صيام الزوجة عن زوجها المتوفى Q توفي زوجها وعليه صيام رمضان، فهل تصومه عنه أو تفطر؟ A لو صامت فهو أولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه)، أما المرأة التي لا تقوى على الصيام فلا بأس أن تفدي عنه كل يوم إطعام مسكين.

ما يجب على الرجل إذا دخل على المرأة وهي تصلي

ما يجب على الرجل إذا دخل على المرأة وهي تصلي Q لو دخل رجل أجنبي على امرأة وهي تصلي، فهل تقطع صلاتها أم تكمل الصلاة؟ A تكمل الصلاة، ويجب على من دخل عليها أن يغض بصره، وعلى المرأة أن تكمل صلاتها، وإذا كانت تلبس نقاباً فلها أن تنزله على رأسها.

الحكم على حديث (سبحانك اللهم وبحمدك)

الحكم على حديث (سبحانك اللهم وبحمدك) Q يسأل عن حكم حديث كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)؟ A حديث حسن.

حكم قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس

حكم قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس Q هل ثبت عند السلف قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس؟ A الإمام ابن كثير يرجح مثل ذلك، وكنت قد بحثت هذا الأثر الذي يقضي بقراءة سورة العصر، فلما وقف على ذلك شيخنا العلامة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف -وهو معروف بعلمه، إذ إنه بحر في سنن النبي عليه الصلاة والسلام- قال: أرجو أن تراجع الأثر في سورة العصر، ولا تتعجل فإنها إلى الثبوت أقرب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ذكر ما افترض الله تعالى في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما افترض الله تعالى في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لقد قرن الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته في مواضع كثيرة من كتابه، وجعل أمره كأمره، وأعقب ذلك بالوعيد الشديد، والزجر والتهديد لمن حاد عن أمره أو خرج عن طاعته، أو ابتدع في سنته، ولقد بين لنا سبحانه طريق محبته، وأرشدنا إلى سبيل هدايته بأقصد المذاهب، وأقرب المسالك، حين أعلمنا أن محبة الله هي متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.

باب ذكر ما افترضه الله تعالى نصا في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

باب ذكر ما افترضه الله تعالى نصاً في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب الذي نحن بصدده باب يحث على أصل عظيم من أصول الإيمان والإسلام، ألا وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. في هذا الباب يسرد الإمام ابن بطة رحمه الله الآيات والأحاديث التي أمرت بطاعته عليه الصلاة والسلام، ثم يعرج على موقف السلف، وخاصة أصحابه عليه الصلاة والسلام من طاعته صلى الله عليه وسلم.

بعث الله لمحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومهيمنا على النبيين

بعث الله لمحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومهيمناً على النبيين قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما افترضه الله تعالى نصاً في التنزيل -أي: في كتاب الله عز وجل- من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما بعد. فإن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومهيمناً على النبيين]. قوله: (مهيمناً) أي: مسيطراً على النبيين الذين سبقوه، أو ناسخاً لجميع الشرائع والملل السابقة، كما أن القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية التي نزلت من السماء، ولذلك فببعثته عليه الصلاة والسلام لا يحل لأحد أن يزعم أنه تابع لموسى أو لعيسى أو لغيرهما من الأنبياء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بمجرد بعثته قد نسخ جميع الشرائع، وليس في وسع أحد من الأنبياء لو كان حياً إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وسينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ويكون فرداً من أفراد الأمة الإسلامية، سيكون تابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فيدعو بالقرآن والسنة، ويضع يده في يد المهدي المنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان، وهو من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، كما أن اسمه يوافق اسمه، ثم يخرب المسيح عليه السلام رموز الكفر عند النصارى، ويتبرأ منهم تبرئة عظيمة عند باب لدٍّ في فلسطين، التي يزعم اليهود الآن والنصارى معهم أنهم يهيئون المنطقة العربية كلها لنزول المسيح على رأس الألفية، فإنهم زعموا في الألف الأولى أن عيسى سينزل، ولكنهم دائماً لا يقولون عيسى، إنما يقولون: سينزل المهدي أو ينزل المسيح، فالنصارى يزعمون أن المسيح هو عيسى بن مريم، واليهود يزعمون أنه المسيح الدجال. على أية حال خيب الله تعالى آمالهم وسعيهم في الألفية الأولى، كما خيب سعيهم وآمالهم في الألفية الثانية التي كانوا ينتظرونها منذ عدة أشهر، وهكذا الله تبارك وتعالى يخيب اليهود والنصارى في كل سعيهم وفي كل حربهم، وفي أموالهم التي ينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، وهذا وعد الله عز وجل.

بعث الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ببيان ما أجمل من الكتاب ووجوب طاعته في ذلك

بعث الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ببيان ما أجمل من الكتاب ووجوب طاعته في ذلك ثم قال: [ونذيراً بين يدي عذاب شديد، بكتاب أحكمت آياته وفصلت بيناته، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بيَّن فيه مناهج حقوق افترضها، ومعالم حدود أوجبها؛ إيضاحاً لوظائف دينه، وإتماماً لشرائع توحيده، كل ذلك في آيات أجملها بألفاظ اختصرها أدرج فيها معانيها، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبيين ما أجمل، وتفصيل ما أدرج، فقال جل ثناؤه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]]. أي: أنزلنا إليك يا محمد القرآن على سبيل الإجمال دون التفصيل؛ لتبين للناس ما أنزل إليك في القرآن على سبيل الإجمال، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما قام مع شرع ربه بمثابة المبين والمفسر والموضح، والمزيل للإشكالات العامة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. ثم قال: [وفرض على الخلق أجمعين طاعة رسوله، وقرن ذلك بطاعته، ومتصلاً بعبادته، ونهى عن مخالفته بالتهديد، وتوعد عليه بأغلظ الوعيد في آيات كثيرة من كتابه، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:131 - 132]]. فالله عز وجل عقد المقارنة بين من تنكب طريق الطاعة للنبي عليه الصلاة والسلام، وبين من أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أولي رحمة الله عز وجل.

ذكر بعض الآيات التي توجب طاعة الرسول وتقرنها بطاعة الله تعالى

ذكر بعض الآيات التي توجب طاعة الرسول وتقرنها بطاعة الله تعالى ثم قال: [وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]] أي: فإن تولوا عن طاعتك يا محمد، فهذا التولي إما أن يكون كفراً اعتقادياً مخرجاً من الملة، وإما أن يكون كفراً عملياً، لكنه على أية حال فهو في الجملة نوع كفر. ثم قال: [وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]] ينفي الله تبارك وتعالى في هذه الآية الإيمان عمن لم يقبل حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرض به ولم يسلم له تسليماً، قال: ((فَلا وَرَبِّكَ)) يبدأ الآية بالقسم، ((لا يُؤْمِنُونَ))، نفي للإيمان، ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)) أي: حتى يقبلوا تحكيمك يا محمد في كل المنازعات والخصومات التي تنشأ بينهم، ((ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)) يعني: يرضون بحكمك تمام الرضا، حتى لا يحيك في نفس أحد منهم مما قضيت وحكمت شيء، إنما يخرج من عندك بهذا القضاء الذي قضيت به راضياً بما قضيت، ثم يسلموا لك الأمر تسليماً؛ لأنك المبين عن الله عز وجل وأنت رسوله الكريم. ثم قال: [وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]] كأن الله عز وجل يسلي نبيه بقوله: من أطاعك يا محمد فهو منك وأنت منه، لا بد من عقد الولاء بينك وبينه، أما من عصاك وتولى عنك ولم يرض بحكمك، فإن الحرب تنتقل إلى الله عز وجل، هو الذي يتولى أمرها: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]. يعني: هذا فيه نوع من المعنى الذي قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، فالذي يتولى الكيد لهؤلاء الكائدين هو الله عز وجل، ومن ذا الذي يفلح إذا كاد الله عز وجل له، فالحرب تنتقل مباشرة بين هؤلاء وبين النبي عليه الصلاة والسلام إلى حرب بينهم وبين المولى عز وجل، فهو الذي يتولاهم.

قول الله في طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وبيان معنى ذلك

قول الله في طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وبيان معنى ذلك ثم قال: [وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]]. (أَطِيعُوا اللَّهَ) استقلالاً، (وأَطِيعُوا الرَّسُولَ): استقلالاً، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: (وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ)، وهذا يدل على أن أولياء الأمور لا طاعة لهم مستقلة عن طاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا أمر أولو الأمر بأمر هو في طاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام فبها ونعمت، كذلك إذا أمروا بأمر مباح لم يأت فيه أمر ولا نهي في كتاب الله ولا في سنة رسوله وجب على المأمور أن يلزم هذا الأمر؛ لأن أمر الأمير والسلطان والوالي إذا كان في دائرة المباح فهو ملزم للمأمور، أما إذا أمر الأمير والسلطان بل والخليفة العام، إذا أمر بأمر هو في معصية الله ومعصية رسوله الكريم؛ فإن هذا الأمر لا يلزم أحداً من المسلمين، بل لو أنفذه المأمور لكان شريكاً للأمير في الإثم، ولذلك أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سرية وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، فأمرهم أن يؤججوا ناراً ثم يقذفوا بأنفسهم فيها، قالوا: أيها الأمير والله إنا منها قد فررنا. يعني: نحن ما آمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام إلا فراراً من النار، فكيف تأمرنا أن نلقي بأنفسنا فيها؟! قال: إنما أنا أمير. وظن أن طاعته واجبة النفاذ في كل ما يأمر وينهى، في الحق والباطل، والخير والشر، والطاعة والإثم، فلم يفعلوا، فلما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكوا ما كان من أمرهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو أنكم أطعتموه ما خرجتم منها أبداً) أي: لو أنكم أطعتم أمر الأمير في معصية الله عز وجل ما خرجتم من النار أبداً؛ للحديث الثاني: (لا يحرق بالنار إلا رب النار)، وفي رواية: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) فالذي له هذه الخاصية هو الله عز وجل وحده دون أحد سواه لا أمير ولا غفير ولا خليفة ولا شيء من هذا، إلا بعض الأمور قد استثناها أهل العلم من هذه القاعدة العامة، مثل باب القصاص، قالوا: من أحرق أخاه بالنار اقتص منه بالنار، والجزاء من جنس العمل. يعني: لو قام عليك أحد فأحرقك بالنار متعمداً، فالقصاص منه لا يكون بمجرد القتل، وإنما يكون بالقتل عن طريق الحرق؛ لأن هذا من نوع العذاب الذي أوقعه على صاحبه، هذا الكلام ذكره الإمام النووي، ونقل أن هذا هو مذهب جماهير العلماء، ومنهم من أنكر ذلك بالكلية. كما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه غالت فيه الشيعة وقالت: إنه إله. فلما علم رضي الله عنه بمقالتهم أمر بجمعهم، فجمعوا له وأجج ناراً، ثم أمر بإلقائهم في النار، فألقوا فيها. ومن الناس من يقول: إن علياً لم يحرقهم على الحقيقة، والذي يترجح لدي أنه أحرقهم بالفعل، ولكن عبد الله بن سبأ لما علم بما كان من أمر علي رضي الله عنه واستطاع أن يهرب من الحرق، وفي أثناء هربه قال: الآن أيقنت أنه هو الله؛ لأنه لا يحرق بالنار إلا رب النار، فهو لم يستسلم، وإنما استشهد بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحرق بالنار إلا رب النار) على زعمه الباطل! وربما يدور في بعض الأذهان: لماذا أحرقهم علي بن أبي طالب بالنار؟ A ربما لم يبلغ علياً رضي الله عنه هذا النهي الذي نهاه النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك أنكر عليه كثير من أصحابه. ثم يحتمل أنه علم بالنهي، ولكنه خالف النهي لما رأى عظيم خطر هؤلاء، فأراد أن يجعلهم عبرة للعالم بأسره؛ حتى لا يجرؤ على هذه المقولة أحد بعدهم، وليس لأهل العلم أقوال في فعل علي بن أبي طالب غير هذين القولين. وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) التنازع بمعنى الاختلاف، وتقدير الآية: فإن اختلفتم في شيء فردوا هذا التنازع والخصام والاختلاف إلى الله وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام. وإن فعلنا ذلك فهذا علامة إيماننا بالله ورسوله؛ لأنه قال: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

تفسير عكرمة وميمون بن مهران لقوله تعالى (وأولي الأمر منكم)

تفسير عكرمة وميمون بن مهران لقوله تعالى (وأولي الأمر منكم) قال: [عن عكرمة في قول الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. قال: هما أبو بكر وعمر]. أي: بعد الرد إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام نرد أمورنا كلها إلى أبي بكر وعمر. وهذا الكلام له معنيان: الأول: أن ذلك كان في زمان عكرمة، ولم يكن الأمير في زمانه إلا ما كان من إمرة أبي بكر ثم من إمرة عمر رضي الله عنهم؛ لأن هذا الكلام محمول على أنه قاله في إمرة عمر، فولي الأمر في زمان عكرمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر ثم عمر. الثاني: أن يكون مقصود كلام عكرمة أنه يجب الرد إلى أولياء الأمور وخاصة الخلفاء الراشدين، فلما لم يكن من الخلفاء غير أبي بكر وعمر في زمانه أوجب الرد إليهما، وكأنه يدلنا على أصل أصيل من الأمور التي يجب على أصحاب الصحوة أن يحفظوها ويعوها جيداً، وهو أن أصول العلم كما قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فهذه أصول العلم عند أهل السنة والجماعة، الرد إلى الله عز وجل في كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد مماته، وإجماع أهل العلم، وخاصة ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون أو العشرة المبشرون رضي الله عنهم وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين. قال: [وعن ميمون بن مهران في قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] قال: الرد إلى الله إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن قبض إلى سنته] أي: وإن كان حياً فإلى شخصه وذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم.

وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من عصيانه

وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من عصيانه [قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13 - 14]]. مقابلة أهل الطاعة بأهل المعصية، وجزاء الصالحين بجزاء العاصين، فإن أطاع فله الجنة خالداً فيها، وإن عصى وتعدى حده فله النار خالداً فيها كذلك. ثم قال: [وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]. أي: بما يوافق الواقع الذي يعيشه العالم، فهذا الكتاب نزل بالحق لتحكم به يا محمد بين الناس بما أراك الله. قال العلماء: إن الله عز وجل أنزل كتابه، وجعل لنبيه البيان، وأرسل نبيه وجعل لأهل العلم اجتهاداً، فلا غنى عن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا عن سنته، كما أنه لا غنى لعامة الناس عن أهل العلم الذين يستنبطون من كلام الله عز وجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام باجتهادهم، وبالأدوات التي ملكوها من الحِكَم والعظات والأحكام والفوائد من كلام الله عز وجل، ومن كلام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ثم قال: [وقال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]]. أي: ليس على الرسول إلا البلاغ، فإن توليتم عن طاعته عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى يجازي من تولى بتوليه أن يصليه جهنم. ثم قال: [وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]]، فجعل شرط الإيمان هو طاعة النبي عليه الصلاة والسلام. ثم قال: [وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]]. فالحياة الحقيقية هي حياة الإيمان، ولا إيمان إلا بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.

الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من التنازع والاختلاف

الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من التنازع والاختلاف قال: [وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]]. أي: لا تضربوا الكتاب بالسنة، ولا تضربوا السنة بالكتاب، كما لا تتنازعوا في كتاب الله عز وجل، فتضربوا آياته بعضها ببعض، وتضربوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام بعضها ببعض؛ لأن الكتاب والسنة خرجا من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الوحي، وإذا كانت المشكاة واحدة، فليس هناك تعارض ولا تفرق؛ لأنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فلما لم يكن فيه اختلاف قليل ولا كثير، دل على أنه من عند الله عز وجل، فوجب الرجوع إليه وعدم التنازع فيه، فالنتيجة المترتبة على التنازع والنزاع: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تذهب قوتكم.

من شعار أهل الإيمان والفلاح السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم

من شعار أهل الإيمان والفلاح السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال: [وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]]. هذا شعار أهل الإيمان، بخلاف شعار بني إسرائيل الذين قالوا: سمعنا وعصينا. انظر إلى أهل الجحود والنكران وإلى أصحاب الإيمان، هؤلاء قالوا: سمعنا، وهؤلاء كذلك قالوا: سمعنا، فكل منهم سمع، ولكن شتان بين سماع هؤلاء وسماع هؤلاء، فبنو إسرائيل ما زادوا في كلام الله عز وجل على مجرد السمع بآذانهم، فأعقبهم الله عز وجل عصياناً وجحوداً؛ لأنهم لم يتقبلوا كلام الله عز وجل بالقبول الحسن: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، فختم الله على قلوبهم بالكفر، أما أهل الإيمان فقالوا: (سمعنا) أي: سماع إجابة، كقولك في الصلاة: سمع الله لمن حمده، مع أن الله تعالى يسمع من حمده ويسمع من لم يحمده، يسمع كل شيء من إيمان وكفر، فما فائدة قولك: سمع الله لمن حمده؟ أي: استجاب الله دعاء من دعاه، فسماع المولى عز وجل في قولك: سمع الله لمن حمده، أي: سماع إجابة، وكذلك المؤمنون إنما يقولون: (سمعنا وأطعنا) أي: أجبنا الله عز وجل إلى قوله، وأجبنا الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قوله كذلك. إذاً: سماع أهل الإيمان سماع إجابة، بمجرد أن تسمع الأمر والنهي تمتثل اعتقاداً وقولاً وعملاً، هذا هو الإيمان، فالإيمان قول وعمل، عمل بالقلب والجوارح، وقول باللسان. أما عمل القلب فإنه الإيمان والتصديق، وأما عمل الجوارح فأن تظهر نتيجة الإيمان القلبي على الجوارح، فيصلي ويصوم ويزكي ويحج، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وغير ذلك من امتثال الأمر واجتناب النهي، ويسبق هذا كله نطق اللسان، بعد أن يشهد العبد أنه قد آمن بالله ورسوله.

عدم الرضا بحكم الشرع واللجوء إلى حكم القوانين خلل في الاعتقاد

عدم الرضا بحكم الشرع واللجوء إلى حكم القوانين خلل في الاعتقاد قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. الواحد منا أحياناً لا يرضى بحكم المحكم في الغالب، وإنما يرضى بقضاء القاضي رغماً عن أنفه، فالفرق بين القاضي والحكم في هذه القوانين الوضعية، أن حكم القاضي ملزم للخصمين شاءا أم أبيا، والقاضي يملك صفة التنفيذ على الخصمين شاءا ذلك أم أبيا. ولا بد أن تعلم قبل هذا أن القاضي ربما وافق قضاؤه حكمَ الله عز وجل وربما خالف، وهو في كل الأحوال ملزم له، وفي غالب الأحوال أنه مخالف لحكم الله عز وجل، خاصة في ظل هذه القوانين الوضعية التي هي زبالات عقول البشر، أما المحكم فإنه في الغالب إما أن يكون ارتضاه الخصمان من باب العادة، وإما يكون قد ارتضاه الخصمان امتثالاً لحكم الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، يعني: يأتي شيخ أو رجل من أهل العلم يرتضيه الخصمان حَكَمَاً بينهما، يقضي بينهما بما أنزل الله وبما قضى به رسوله عليه الصلاة والسلام، فالرجل العالم يجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلو وافق حكمه حكم الله عز وجل فلا بد أنه يرضي أحد الخصمين ولا يرضي الآخر، فيتنكب هذا الخصم الطريق؛ لأنه يعلم أن حكم هذا الحاكم أو المحكم لا يملك قوة التنفيذ، فيرفضه، وهو يعلم أن هذا هو كلام الله، وأن هذا هو حكم الله، فمن فعل ذلك فليعلم أنه داخل تحت قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]؛ لأنه رضي بحكومة هذا المحكم رجاء أن يصل إلى أمر يرضيه هو لا أمر الشرع. فمهمة القاضي والمحكم إظهار حكم الله عز وجل وإظهار حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القاضي في هذا الزمان يزيد عن المحكم أنه يملك سلطة التنفيذ، لكن المحكم لا يملك هذا، ولذلك يستهين به الخصوم، مع أنه عند الله عز وجل أولى من هذا القاضي الجاهل بكلام الله والجاهل بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء الناس إنما يرضون بحكمه إذا وافق هواهم، فهؤلاء ما أطاعوا الله في هذا التحكيم، وما أطاعوا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فويل لهم ثم ويل لهم. ومع هذا ينتقلون من عند هذا المحكم إلى القاضي، وربما حكم القاضي بنفس ما حكم به المحكم، لكن لا يجرؤ واحد منهما أن يقول: إن هذا الحكم لا يعجبني؛ لأنه يعلم أن الحبس مصيره، ويعلم أن القتل مصيره، ويعلم ما يملكه القاضي من سلطة تنفيذية، فما بالنا لا نرضى بحكومة أهل العلم، وبقضاء أهل العلم، وبفصل أهل العلم في المنازعات؟! ولماذا نلجأ إلى هذه القوانين الباطلة الزائفة المستوردة من هنا وهناك، ولا نلجأ إلى أصحاب الدين وأصحاب المنهج السليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! لماذا لا تقبل أنت حكومة العالم الذي يقضي في قضيتك التي ربما تبقى في المحاكم عشرات السنوات؟ لماذا لا تقبل حكم المحكم العالم بكتاب الله وسنة رسوله في مجلس واحد؟ متى يكون هذا الكلام واقع الناس وحياة الناس وقلوب الناس، ودين الناس؟ أنتم تعلمون ما نحن فيه من ذل وهوان، ورب السماء والأرض ما هذا إلا بسبب البعد عن كتاب الله وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أخاطب الفساق ولا الفجار، وإنما أخاطب أهل المساجد وأهل الصلاة، وأصحاب اللحى، وصاحبات النقاب هذه البلايا فينا قبل غيرنا، فمتى نرجع؟ نحن الشيوخ والعلماء وطلاب العلم متى نرجع أولاً قبل الناس إلى الله عز وجل؟ وحذار أن تتصور أنني أخاطب الفجرة أو الفساق، أو المجرمين، وإنما أخاطب نفسي أولاً ثم أخاطبك بعد ذلك: متى العودة إلى الله عز وجل؟ لا بد أن تعلم أن هذا خلل في العقيدة، فلا تظن أن هذا خلل في المسلك أو في المنهج، هذا -والله- خلل في الاعتقاد، فأنت موقوف ومسئول، والله تعالى يسألك ليس بينك وبينه ترجمان، يوم أن تنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، ثم تنظر تلقاء وجهك فلا ترى إلا النار، والله عز وجل قادر على أن يقذف جميع عباده في النار ولا يبالي: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. الله تبارك وتعالى لا يخاف عاقبة الأمور، لا أحد يلومه: لم ألقيت عبادك في النار، والله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة، فإذا أدخلك الجنة فبفضله، وإذا أدخلك النار فبعدله، وراجع عملك ثم حاسب نفسك: هل تستحق الجنة بما قدمت من عمل؟ لا والله، ليس أحد منا يستحق الجنة بعمله، وإنما الجنة بفضل الله عز وجل ورحمته، ولذلك إذا قذفك في النار مهما كنت عابداً فليس بظالم لك، فقدم اليوم ما ترجوه غداً، واحذر اليوم ما تهرب منه غداً.

طاعة الله ورسوله سبب حصول العبد على الفوز والرحمة والهداية

طاعة الله ورسوله سبب حصول العبد على الفوز والرحمة والهداية قال: [قال: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]. وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]]. فالهداية في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا): وعد وبشارة منه سبحانه.

أمر الله عز وجل بلزوم الأدب معه صلى الله عليه وسلم عند مناداته

أمر الله عز وجل بلزوم الأدب معه صلى الله عليه وسلم عند مناداته قال: [وقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]]. أي: لا تقولوا: يا محمد يا محمد يا محمد، كما يقول بعضهم لصاحبه: يا محمد، يا إبراهيم، يا زيد، يا عمرو، ولكن ليكن دعاؤكم الرسول صلى الله عليه وسلم بما لقبه ونسبه إليه الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. أذكر بهذه المناسبة وإن كان الأمر فيه جهالة، لكن هذا رجل لطيف جداً لا يقصد أي شيء من كلامه؛ لأنه أقل من أن يقصد أي شيء بكلامه، سمعته والله بأذني رأسي، وهو رجل بسيط يقول: اللهم صل على سيدنا محمد أفندي رسول الله، فقلت: من أين أتيت بأفندي؟ قال: نحن نقول عن السيد الفلاني: يا أفندي، والنبي عليه الصلاة والسلام أحسن من هؤلاء الناس كلهم، وأولى بهذه الألقاب وهذه المصطلحات! فالرجل لا يقصد شيئاً، لكنه في نفسه يعظم ويبجل ويوقر النبي صلى الله عليه وسلم فوق هذا الرجل. لكن على أية حال دعنا نستفيد من هذا الرجل البسيط الذي رأى أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم بما يعظم به الناس، أيهما أحسن هذا الرجل أم الملاحدة أصحاب الشهادات وأصحاب حملة الدكتوراه، الذين يقولون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل على دينه وقرآنه وشرعه قولاً شنيعاً، بل يسبون الذات الإلهية؟ هل الأحسن والأفضل هذا الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده بلفظ: أفندي وأستاذ وغير ذلك، أم هؤلاء المجرمون الملاحدة؟ هذا الرجل أفضل. قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. أتى شخص من أهل المدينة إلى الإمام مالك ليسأله قال له: أنا أريد أن أحرم بالعمرة أو الحج، فهل أحرم من ذي الحليفة أم من المسجد النبوي؟ قال: لا، ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، اذهب إلى ذي الحليفة وأحرم من هناك، قال: يا إمام إنما هي خطوات، فهل أحرم من المسجد؟ فقال الإمام: إني أخشى عليك الفتنة، قال: أي فتنة في ذلك؟ قال: أما قرأت قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. انظروا إلى فقه الإمام مالك كيف يرى الفتنة، ولذلك أنت حينما تذهب إلى المسجد النبوي ستجد آلاف الناس محرمة، وهذا خطأ، إنما الإحرام لأهل المدينة ومن مر بها من ذي الحليفة.

عدم التزام أمر الله وأمر رسوله يوجب الوقوع في الضلال البعيد

عدم التزام أمر الله وأمر رسوله يوجب الوقوع في الضلال البعيد قال: [وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]]. يعني: إذا قضى الله عز وجل في قضية معينة، أو قضى الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية معينة؛ فلا خيار لك، ويلزمك أن تقول: سمعنا وأطعنا، هذا إذا كنت مؤمناً، أما إذا كنت غير ذلك فافعل ما بدا لك، والله تبارك وتعالى هو الذي سيحاسبك.

معنى التقدم بين يدي الله ورسوله وموقف الصحابة من الأمر بعدم التقدم

معنى التقدم بين يدي الله ورسوله وموقف الصحابة من الأمر بعدم التقدم قال: [وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]]. التقدم بين يدي الله: هو أن ترى غير ما أمرك به الله، وهو أن يحكم الله تعالى في قضية بحكم ثم أنت لا ترى هذا الحكم، وترى رأياً آخر يخالف حكم الله عز وجل، وكذلك أن يحكم النبي عليه الصلاة والسلام في قضية ما بحكم السماء، ثم أنت لا ترى ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام، بل تذهب فتحكم فيها برأيك وهواك، فهذا تقدم بين يدي الله ورسوله. والصحابة رضي الله عنهم قد ضربوا أروع الأمثلة لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. كان ثابت بن قيس بن شماس جهوري الصوت بطبيعة الخلقة التي خلقه الله تعالى عليها، كان صوته عالياً جداً، كان إذا تكلم أسمع الناس كلها، فإذا تكلم في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام علم الناس أن المتكلم هو ثابت بن قيس بن شماس، فظن ثابت بن قيس أن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] نزلت في شأنه؛ لأن صوته عال. فقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ} [الحجرات:2] أي: لا ترفعوا أصواتكم عليه، وتجهروا عليه بالقول: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فلما سمع ثابت بن قيس هذه الآيات لزم بيته وقال: أنا من أهل النار، أنا قد حبط عملي، أنا الذي نزلت فيّ هذه الآية، ولذلك تفقده النبي عليه الصلاة والسلام عدة أيام كما كانت عادته عليه الصلاة والسلام، فلما لم يره سأل عنه، فأخبروه بما كان من أمره، قال: (اذهبوا إليه وبشروه بالجنة). إذاً: المقصود أن ترى أنت غير حكم الله وترى غير حكم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن عمل الصحابة بظاهر هذه الآية. وقد جاء عن أبي بكر الصديق أنه قال بعد نزول هذه الآيات: [(يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار)، يعني: كمن يحدث أخاه سراً. وأما عمر فكان النبي عليه الصلاة والسلام يستبينه في الكلام مرة ومرتين وثلاثاً؛ لأن عمر يتكلم بصوت يتكلف فيه الخفض، حتى يقول له النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا تقول يا عمر؟ فيعيد عمر إعادة غير مسموعة، فيستعيده النبي عليه الصلاة والسلام. إذا كان هذا موقف الصحابة من مجرد التلفظ مع الطاعة، فما بالكم بمن يهجم على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام؟ شتان بين زمان الصحابة وزماننا، وقلوبهم وقلوبنا، وطاعتهم وانقيادهم وطاعتنا وانقيادنا.

اقتران طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله واتباعه بمحبة الله عز وجل

اقتران طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله واتباعه بمحبة الله عز وجل قال: [قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17]. وقال تعال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]]. وهذا يدل على أن ما نطق به النبي عليه الصلاة والسلام وحي وإن كانت سنة. ثم قال: [وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12]]. أي: ليس عليه إلا البلاغ البين الواضح الذي لا خفاء فيه. ثم قال: [وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق:10 - 11]. في آيات أخرى نظائر لهذه الآيات كلها قد قرن الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته، ووصلها بفريضته، وجعل أمره كأمره، وتعقبها بالوعيد الشديد، والزجر والتهديد لمن حاد عن أمره أو خرج عن طاعته، أو وجد في نفسه حرجاً من قضيته، أو ابتدع في سنته، ولقد دلنا مولانا الكريم سبحانه وتعالى على طريق محبته، وأرشدنا إلى سبيل هدايته، بأقصد المذاهب، وأقرب المسالك، حين أعلمنا أن محبة الله هي في متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، حين قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]]. يقول الحسن البصري: ما ابتلي الناس بمثل بلائهم بهؤلاء، يعني: هذه الآية أعظم اختبار ومحك لمن ادعى أنه يحب الله، فإن من زعم أنه محب لله لا بد من النظر في متابعته للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن كان حقاً متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو صادق في زعمه المحبة، وإن كان تنكب طريق الطاعة والاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو كاذب في ادعائه المحبة لله عز وجل. إذاً: قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) ما هي العلامة؟ (فَاتَّبِعُونِي) أي: اتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاتباع والانقياد والذل والخضوع لله عز وجل أحبكم الله عز وجل، وغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم. ثم قال: [فمن اتبع رسوله في سنته أورثه ذلك محبة الله عز وجل بكسبه البصيرة في إيمانه، فيما أحكمه في قلبه ولسانه، وبالمغفرة والرضوان في ميعاده. وسئل سهل بن عبد الله التستري عن شرائع الإسلام، فقال: قال العلماء في ذلك وأكثروا، ولكن نجمعه كله بكلمتين: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]] فالرجل هنا يسأل عن شرائع الإسلام، ما هي؟ وكيف هي؟ وماذا نفعل؟ وماذا نصنع إلى آخره؟ فقال: تكلم العلماء في شرائع الإسلام بكلام كثير وعرفوه وبينوه، ولكني أجمع كل ما قيل في شرائع الإسلام بكلمتين اثنتين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فبين أن شرائع الإسلام إنما هي في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم قال: [ثم نجمعه كله في كلمة واحدة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فمن يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فريضته].

باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله بالقرآن

باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله بالقرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن]. أي: هذا الباب فيه ذكر ما جاء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من لزوم طاعته والاقتداء به، بعدما بدأنا بذكر بعض الآيات التي حثت وأمرت باتباع النبي عليه الصلاة والسلام وطاعته، وأن طاعته هي من طاعة الله عز وجل، فسأحشد ذلك بباب من السنة يبين نفس المعنى. قال رحمه الله تعالى: [وليعلم المؤمنون من أهل العقل والعلم أن قوماً يريدون إبطال الشريعة] وفي الحقيقة ابن بطة يخاطبكم أنتم، يخاطب أصحاب الصحوة وأهل الشريعة وأصحاب الدين، ويبين لهم خطر الملاحدة، وما أكثرهم في زماننا، فاعتبر أن هذا الكلام رسالة موجهة لك: [وليعلم المؤمنون من أهل العقل والعلم أن قوماً يريدون إبطال الشريعة ودروس آثار العلم والسنة] أي: يريدون أن يمحوا آثار السنة من قلوب الخلق.

وصف ابن بطة للمعارضين للسنة ومقارنتهم بأهل زماننا

وصف ابن بطة للمعارضين للسنة ومقارنتهم بأهل زماننا قال: [فهم يموهون على من قل علمه وضعف قلبه، بأنهم يدعون إلى كتاب الله ويعملون به] يعني: صاحب الهوى والبدعة يزعم أنه أفهم لكتاب الله ممن يدعوه إلى بدعته وباطله، وأعرف بسنة النبي عليه الصلاة والسلام منه، ثم هو بعد ذلك يرى أنك على الخطر المبين. قال: [وهم من كتاب الله يهربون، وعنه يدبرون، وله يخالفون، وذلك أنهم إذا سمعوا سنة رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام رواها الأكابر عن الأكابر، ونقلها أهل العدالة والأمانة، ومن كان موضع القدوة والأمانة، وأجمع أئمة المسلمين على صحتها، أو حكم فقهاؤهم بها، عارضوا تلك السنة بالخلاف عليها، وتلقوها بالرد لها، وقالوا لمن رواها عندهم: تجد هذا في كتاب الله عز وجل؟]. يقول لك: أعطني أصل هذه الرواية في كتاب الله، لا يكفي أن تكون هذه الرواية في البخاري ومسلم! والعجيب أن الذي يناقشون بهذا هم أحط خلق الله وأسفل خلق الله، لكن الواحد منهم يظهر بمظهر المدافع عن كتاب الله، فيقول: أنا أعرف أن هذا الحديث في البخاري ومسلم، لكن هل البخاري معصوم؟ وهل مسلم معصوم؟ نقول: ليست القضية متعلقة بشخص البخاري ومسلم، القضية متعلقة بأمة أجمعت على تلقي هذا بالقبول، فأنت مضطر اضطراراً أن تقول حين رفضك لهذه الرواية: إن الأمة منذ أربعة عشر قرناً أجمعت على الضلالة، وتخالف بذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). ويقول لك: لا، هذا ليس حديثاً؛ لأنه ليس في البخاري ومسلم، وهو منذ قليل يقول: إن البخاري ومسلماً ليسا معصومين. المهم أن هؤلاء الملاحدة يريدون دروس السنة ومحوها من قلوب الخلق، لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، لا علاقة لهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بالإيمان ولا بالرسول، لكنهم لا يجرءون مع ما يرونه من قتل من يرفع عقيرته في هذا الزمن، لا يجرءون أن يقولوا للناس ويريحونا: نحن منافقون، أو نحن كفار. لا يجرءون أن يقولوها؛ لأنهم يعلمون أن بعض الشباب يتربص بهم. إذاً: فهذه الأفكار الشيطانية ربما انطلت على الجهال والصبيان والبسطاء، لكنها لا تنطلي على أهل العلم، ولذلك لم تنطل على ابن بطة، فيقول حاكياً عنهم ثم يرد عليهم: [وهل نزل في هذا القرآن؟ وائتوني بآية من كتاب الله حتى أصدق بهذا. فاعلموا رحمكم الله أن قائل هذه المقالة إنما ترقق عن صبوح] الصبوح هو السكر غدوة، تجد الشخص مثلاً بدلاً من أن يشرب حليباً يشرب خمراً، فيسكر على الريق؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيقول: هذه مقولة من شرب الخمر في أول نهاره، فهؤلاء أناس ملاحدة لا يدرون ما يخرج من رءوسهم من فرط عنادهم وكفرهم. فقوله: (إن قائل هذه المقولة إنما ترقق) أي: تكلم بها (عن صبوح)، أي: عن سكر. وهذا بلاء يتعرض له الأطباء النفسيون، يريد أن يوصل العلاج بأي شكل لمريضه، وربما يكون عند المريض خجل، أو انطواء، أو غير ذلك من الأمراض، فيقوم الدكتور يقول لأهل المريض: اتركوه عندي يومين أو ثلاثة فيعطيه حقنة بنج ويسجل كل كلامه، قل لي: ما الذي أغضبك؟ أبوك أغضبك، أمك أغضبتك، امرأتك أغضبتك، ابنك أغضبك. ما هي القضية؟ ويظل معه حتى يعرف أصل العارض، ويفيق بعد ذلك هذا المريض، فعندما يكون الطبيب قد عرف المرض يبدأ يعرّف المريض أساس العلة المعروفة لديه. حدثني بهذا طبيب نفساني، قال: إنما يسلك الأطباء النفسانيون هذا المسلك لمعرفة المرض الذي لا يمكن الوصول إليه بطريقة السلم بين الدكتور وبين المريض.

الرد على المعارضين للسنن بآيات قرآنية لا تتبين إلا بالسنة

الرد على المعارضين للسنن بآيات قرآنية لا تتبين إلا بالسنة ثم قال: [ويُسر خبيئاً في اربغاء يتحلى بحلية المسلمين، ويضمر على طوية الملحدين، يظهر الإسلام بدعواه، ويجحده بسره وهواه، فسبيل العاقل العالم إذا سمع قول هذه المقالة أن يقول له: يا جاهلاً بالحق خبيثاً في الباطن، يا من خُطِّئ به طريق الرشاد وسبيل أهل السداد، إن كنت تؤمن بكتاب الله، وأنه منزل من عند الله، وإن ما أمرك الله به وما نهاك عنه فرض عليك قبوله، فإن الله أمرك بطاعة رسوله وقبول سنته؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر فرائضه وأوامره بخطاب أجمله، وكلام اختصره وأدرجه، دعا خلقه إلى فرائض ذكر أسماءها، وأمر نبيه بأن يبين للناس معانيها، ويوقف الأمة على حدود شرائعها ومراتبها. فقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]]. هذه أوامر مجملة بينها بأوصافها وعددها وهيئاتها وغير ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فلو تركنا النبي صلى الله عليه وسلم بلا بيان، لم يستطع أحد منا أن يعبد ربه، إذاً: لا بد من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فربنا تبارك وتعالى هو المنزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]]. من منا يستطيع أن يحج بغير بيان وتفصيل؟ ولذلك لما حج النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم) يعني: اعرفوا كيف أحج من أجل أن تحجوا مثلي، وإلا فمن حج على غير نهج النبي عليه الصلاة والسلام فحجه يدور بين البطلان والفساد، أو يجبر بدم عند مخالفة الواجب أو غير ذلك. ثم قال: [وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]. وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]]، من كان يعرف أن يصوم من غير بيان أحكام الصيام؟ يعني: لو أتيت في هذا الوقت إلى واحد في بلاد الكفر أسلم على يديك، فتقول له: أنت ما دمت قد أسلمت، فربنا قد فرض عليك الزكاة في المال، وأمرك بالصلاة وبالصيام وبالحج، ولم تشرح له كيفية أداء تلك العبادات، فهل يستطيع أن يؤدي طاعة من هذه الطاعات؟ هو لا يعرف كيف يبدأ الصيام وكيف ينتهي، ما الذي يفسده وما الذي يصلحه، وأي الأشهر هو؟ وهل هو شهر أو شهران أو ثلاثة في السنة؟ أم هل هو السنة كلها أو بعضها؟ لا يعرف شيئاً، وكذلك في كل أمر من هذه الأوامر، فلا يمكن الاستغناء عن الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم قال: [فلو عارضك من هو في الزيغ هالك، وقال لك: إن الصلاة التي دعاني الله إلى إقامتها إنما هي صلاة في عمري -أي: صلاة واحدة في العمر كله- أو صلاة واحدة في كل يوم، أو عارضك في إحدى الصلوات الخمس، فقال: إن صلاة الظهر ركعتان، أو صلاة العصر ثلاث ركعات، أو قال لك: إن التي تسر القراءة فيها من صلاة النهار سبيلك أن تجهر به، وما تجهر به في صلاة الليل والفجر سبيلك أن تخافت به، أو قال لك: إن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فقال: إنما أمرني الله بالسعي والذكر، وليس تجب علي صلاة، وإنما أذكر الله بلساني وأنصرف، أو قال لك: إن الصلاة يوم الجمعة أربع ركعات كسائر الأيام، مثل: صلاة الظهر من غير خطبة، وإلا فأوجدني للخطبة وصلاة الركعتين، والجهر فيهما بالقراءة في كتاب الله موضعاً]. يعني: أعطني دليلاً على أن صلاة الجمعة هذه لها خطبة من كتاب الله عز وجل. [أو قال لك: إن الله أمرني بالزكاة، وإنما تجب على من معه ألف دينار في عمره مرة واحدة دينار واحد. أو قال لك قائل: إنما الزكاة في الذهب والورق ولا زكاة في الحبوب ولا البهائم، أو كيف تعطى الزكاة من البهائم والأنعام؟ أو قال آخر: إن الخيل والبغال والحمير والإماء والعبيد والعقارات والسفن والثياب الفاخرة والجواهر، واليواقيت التي يتزين بها الناس ويتجملون بها من نفيس الأموال وخطير العقد والأملاك فلم لا تؤدى زكاتها؟]. يعني: لماذا لا تخرج عنها زكاة، لأن الشرع لم يفرض عليه فيها زكاة؛ لأنها استعمال شخصي. [أو قال قائل: إني أحج بلا إحرام، ولا أخلع ثيابي، ولا أجتنب شيئاً مما يجتنبه المحرمون، ولا أمتنع من جماع النساء، وأستعمل الطيب، ولا آتي الميقات، ويجزيني طواف واحد وسعي واحد، والعمرة التي ذكرها الله عز وجل إنما هي الصلاة أصليها أو هدية أهديها. أو قال لك: إن الجمار لا أرميها. أو عارضك في شهور رمضان، وقال: إنما فرض على النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فقال: إن الشهر الذي فرض صيامه إنما هو رمضان الذي أنزل فيه القرآن]، وهذه هي حجة الملاحدة في الزمن القديم، استدل

نماذج وقصص تحكي واقع من لا يؤمن بالسنة ويدعي الإيمان بالقرآن فقط

نماذج وقصص تحكي واقع من لا يؤمن بالسنة ويدعي الإيمان بالقرآن فقط جاءني منذ ثلاثة أيام رجل برسالة تحكي قصة طبيب بيطري، وهذه الرسالة معي أتى بها هذا الرجل من مدينة (6 أكتوبر)، جاء بها وهو مفزوع يقول: أدركني، هذا طبيب بيطري تزوج أخت امرأته، طلق زوجته الأولى ثم تزوج أختها في اليوم الثاني من طلاق الأولى. وأنتم تعلمون أن هذا حرام؛ لأن الرجل إذا طلق المرأة فأراد أن يتزوج من كان يحرم عليه أن يجمع بينها وبين زوجته الأولى، فلا يحل له أن ينكحها إلا بعد انقضاء عدة الأولى، وهذه التي يسميها الفقهاء: عدة الرجل. فنكح أختها في اليوم الثاني من طلاقها، فأرادت أختها الأولى أن تكيد لها فاحتالت على الرجوع لزوجها، فرجعت، وهم الآن يقيمون في شقة واحدة، يبيت هذا الكلب عند هذه ليلة وعند تلك ليلة، وناقشه أكثر من شيخ في حرمة هذا -كما لو كنا جالسين في أمريكا أو في لندن، لا يوجد حل- يقول لهم هذا الرجل: أعطوني من القرآن حرمة هذا، لا يقول لي واحد: سنة، أنا لا أعترف بالسنة، وإنما أعترف بالقرآن المقطوع بتواتره. نقول لهذا: هذا الكلام لأهل العلم، هل تعلم ما معنى متواتر وآحاد؟ وما الذي يركب في العقل والذي لا يركب؟ فلا يزال هذا الأمر إلى الآن قائماً، وإذا وصل كلامي هذا إلى (البوليس) فأنا مستعد أن أذهب معهم إلى العنوان الذي معي، وأصحب معي بعض الدعاة الذين نهوه عن هذا الحرام. وهذا أخ تزوج أخته عند المأذون، ثم لما سحبا إلى الشرطة قالت البنت ببجاحة شديدة: لا يمكن أن أتخلى عنه؛ فإنني أحبه بجنون. أقول: هذا يدل أولاً على نهاية العالم، وقرب الساعة، ثم إن هذا ربما يكون بأدنى مخالفة للنبي عليه الصلاة والسلام، والله أنا أتوقع أن هذا بسبب أن الأب لم يفصل بينهما في المضجع منذ سن العاشرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علموهم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، لماذا نفرق بينهم في المضاجع؟ لماذا الولد ينام في مكان والبنت تنام في مكان؟ لأن الشيطان أقوى منهما، خاصة في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المحارم واختلط فيه الحابل بالنابل. وهذا طالب يقول لزميله: لماذا التعب يا أخي، تطلب هذه فتأبى عليك وتطلب هذه فتأبى عليك؟ لماذا لا تذهب لأختك؟ أختك تجلس معك في البيت وأنت في مأمن من أعين الناس. هذا هو الجيل المثقف، وأنتم تعرفون الوزير المثقف الذي جاء يهدم أبناءنا ويخرب التعليم، ويحذف مادة الشريعة الإسلامية التي يسمونها: التربية الدينية، وهذه تسمية خاطئة منافية للعقيدة الإسلامية، بل لا بد من تسميتها: التربية الشرعية الإسلامية، لا الدين فقط، دين ماذا؟! فالنصارى لهم دين، واليهود لهم دين، والمجوس لهم دين، فهذا تمييع لأمر الإسلام وشرائعه، على يد عميل يهودي، ومعظم هؤلاء السادة والقادة يهود، تربوا على أيدي اليهود في بلاد الغرب، ثم أتوا إلى هذه البلاد ليفعلوا بها الأفاعيل، فهؤلاء يصنعون بأبناء الأمة ما لم تقدر اليهود والنصارى أن تصنع، يريدون أن يخربوا، بل قد خربوا عقائد المسلمين شباباً ورجالاً، وشيوخاً ونساء، كباراً وصغاراً؛ بالتعليم تارة، والطب تارة، والزراعة تارة وكل مناحي الوزارات إنما تولاها من ليس بأهل، والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة، قالوا: وما ضياعها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله). أسأل الله تعالى لي ولكم العافية في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تقبل منا أعمالنا الصالحة، وتجاوز عن سيئاتنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان المعتقد الصحيح في رفع عيسى عليه السلام

بيان المعتقد الصحيح في رفع عيسى عليه السلام Q ما هو المعتقد الصحيح في رفع عيسى عليه السلام؟ A اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما أعلم في هذه القضية: أن عيسى عليه السلام لم يمت، وإنما رفعه الله عز وجل إليه، فعيسى حيٌّ في السماء، ليست حياته كحياة الأنبياء في قبورهم، ولا حياة الشهداء في قبورهم، وإنما هي حياة حقيقية كما نحيا نحن؛ لأنه لم ينتقل من حال إلى حال، بل رفع في حياته الدنيوية إلى الله عز وجل إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان. ولقد أخبرني رجل وهو من علية القوم، ومن حاملي الشهادات المتعددة، ويحرص كل الحرص على أن يذكر شهاداته ورحلاته العلمية، والمؤتمرات التي حضرها، أخبرني بأن عيسى قد مات. وذات مرة في كلية دار العلوم قال الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ: أتدري يا بني نتيجة الأبحاث العلمية المتعلقة بعيسى؟ قلت له: هل يحتاج عيسى إلى بحث علمي أم بحث شرعي؟ قال: لا، أبحاث علمية أثبتت أن عيسى مات، ولم يرفع إلى السماء! قلت: يا دكتور، هذا البحث العلمي أنت الذي سيحكم به؟ قال: نعم يا بني. قلت له: يا دكتور، انظر ما تقول، فإن هذا مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، قال: لا، بل متفق معهما تمام الاتفاق. قلت له: بيِّن لي. قال: والله يا بني عندي الآن مؤتمر، ففي وقت آخر إن شاء الله. ثم التقيت به أربع مرات بعد ذلك ليحدثني عن تفصيل ذلك، وأنا أكفر بكلامه، وأؤمن بكلام الله عز وجل، ولكنه في كل مرة كان يهرب، حتى التقيت به بمكتبه أنا وأحد الصحفيين أتى يسجل معه لقاء، فتنحيت بهذا الصحفي وقلت له: الدكتور يقول: كيت وكيت وكيت، وأنت لو حققت معه في هذه القضية ستصبح صحفي عصرك، وتصبح أنت صاحب السبق فيها، وبينت له خطورة الأمر، وقلت له: انتبه! فإنك ستذكر على كل لسان. فقال: لا، أنا كنت قد أتيت لمهمة أخرى، والمهمة هذه مضبوطة تحتاج إلى آيات من القرآن وأحاديث من السنة، فاكتبها لي أعرضها عليه، فجلسنا في المكتب المجاور، وأخرجت له الآيات والأحاديث مكتوبة، ودخلت معه إلى الدكتور، ففوجئ بأن الصحفي تبنى القضية ويريد أن يسترسل معه، فقال له: لا، نبقى في التاريخ الإسلامي المعروف عند الناس بالطريق الإسلامي، فقال له الدكتور: هذه مسألة متعلقة بالأنبياء والنبوة وغير ذلك، فاجعلها في وقت لاحق. قال: بل اليوم، فقال: يا بني هذه المسألة أنا أعددت فيها بحثاً سأدفعه إليك، فتفضل معي في سيارتي وأنا أعطيك بحثي، المهم خرج الدكتور من الكلية من أجل أن يدفع البحث للصحفي، ثم اتصل بي الصحفي، وقال: لم يكن لديه بحث ولا شيء من هذا نهائياً، فالرجل أقسم لي بالله أن البحث مكتمل وقد كتب النتيجة النهائية التي توصل إليها أن عيسى مات. نقول: اعلم أن هذه ليست عقيدة معظم النصارى، فمعظم النصارى يعتقدون أن عيسى رفع وهو حي، فتقول له: أنت تعبد من؟ يقول لك: عيسى، تقول له: أنتم تقولون إن عيسى مات، وهل هناك إله يموت وبعد ما يموت أيضاً نعبده؟ يقول لك: لا، أنا أعتقد أن عيسى حي. فهو نصراني ويعتقد أن عيسى حي، هل يتصور أن إنساناً كبيراً مثل الدكتور لم يصل إلى معتقد بعض النصارى أو جمهور النصارى، فهذا بلاء عظيم تمر به الصحوة، ومضروبة في قلبها ممن سموا دعاة، أو رسموا في الرسم العام أنهم علماء أو متخصصون أو غير ذلك، فهذا بلاء عظيم جداً. نسأل الله تعالى العافية.

ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لقد جاءت الأحاديث الكثيرة في السنة توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعتبرها من طاعة الله عز وجل، ومن تنكب طريق الطاعة فقد تنكب طريق الجنة، إذ إن الجنة مرهونة بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام.

ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام

ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: فلا يزال الكلام في طاعة النبي عليه الصلاة والسلام موصولاً من خلال سنته بعد أن سردنا كثيرا ًمن الآيات التي تأمر بطاعته عليه الصلاة والسلام، وتبين هذه الآيات أن طاعة النبي عليه الصلاة والسلام طاعة لله عز وجل؛ لأنه لا يتكلم من عند نفسه، وإنما يتكلم بوحي من السماء. وفي هذه الآثار والأحاديث التي سنسردها شاهد قوي جداً لتلك الآيات في لزوم طاعته عليه الصلاة والسلام، ومن تنكب طريق الطاعة لا بد أنه تنكب طريق الجنة، فإن الجنة مرهونة بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وكذلك النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. فالله عز وجل إنما خلق الخلق وجعلهم قسمين خلق النار وقسم لها قسماً من خلقه، وقال: يا أهل النار! خلود بلا موت، وخلق الجنة وجعل لها قسماً من خلقه، وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت. والله عز وجل لو قذف العباد جميعاً في النار لكان ذلك بعدله سبحانه وتعالى، ولو شاء أن يدخلهم جميعاً الجنة لجعلهم مؤمنين أولاً، ولكن لا تستقيم الحياة إذا كان كل الناس كفاراً أو كلهم مؤمنين، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، فلا بد من الدفع، ولا بد من الجهاد، ولا بد من القتال؛ وهذا يستلزم أن يكون الناس فريقين: فريقاً مؤمناً، وفريقاً كافراً. أما الكافر فإن الله تعالى أعد له النار، وأما المؤمن فإن الله تعالى أعد له الجنة، وجعل له منزلاً في النار إذا عصى، ورتب ذلك على مشيئته؛ فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ عباده بذنوبهم. والباب الذي نتكلم عنه في هذه الليلة هو تتمة وتكملة لما بدأناه في الدرس الماضي من وجوب طاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن من عصاه دخل النار كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ -أي: من الذي يرفض أن يدخل الجنة؟ - قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) أي: أبى أن يدخل الجنة، إذ إنه حكم على نفسه بالطرد من رحمته سبحانه وتعالى، وبالتالي استحق أن يدخل النار.

حديث أبي رافع (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته)

حديث أبي رافع (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته) قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)]. في هذا الحديث يحذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من قوم سيظهرون من بعدهم، فهو يحذرهم أن يكون هذا فيهم، أو في القرون الخيرية؛ فقال: احذروا أن أجد أحدكم متكئاً على أريكته، والأريكة هي الكرسي الوثير العظيم؛ ولذلك أتى في إحدى طرق الحديث: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعاناً)، أي: إنسان عنده تخمة، يعيش في النعيم، ويغص في نعم الله عز وجل، وجالس على الكرسي، ويضع رجلاً على رجل، فتقول له: أنت على معصية، فيقول لك: أين الدليل؟ فتقول له: قال النبي عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فيقول لك: لا تقل قال النبي كذا وكذا، فهذه سنة قد دخلها التحريف، فإما أن تأتيني بنص من كتاب الله، وإلا فلا حاجة لي في نصيحتك، ويزعم أنه مسلم، ويزعم أنه متبع، وهو يكذب بالوحي؛ ولذلك يقول لك: دعني من النبي وأقواله، فإن الأصل عندي أن الحل والحرمة في كتاب الله وإلا فلا، ولذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام على أمثال هؤلاء، والذي يقول هذا إما أن يكون منافقاً جاحداً زنديقاً، يتستر بقوله: ما كان في كتاب الله اتبعناه، وإما أن يكون جاهلاً يردد ألفاظ هؤلاء وكلمات هؤلاء وهو لا يدري أنها عين الكفر، فهو جاهل يقلد غيره، سمع الناس يقولون: لا شفاعة؛ فقال: لا شفاعة، سمع الناس يقولون: لا كيت ولا كيت ولا كيت من دين الله عز وجل؛ فسلك نفس المسلك، يقول مثلاً: لا عقاب، يقول: لا عذاب قبر، أي: أن القبر لا عذاب فيه ولا نعيم، وحتى يقول: إن الناس إذا ماتوا لا يبعثون! لماذا؟ لأنه سمع هذه المقالات تردد، وأدلتها في كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فكل ذكر في كتاب الله عز وجل، لكن من الذي يستنبط الفهم من كتاب الله عز وجل؟ لا بد أن يكون هناك علماء أجلاء مخلصون، ودعاة إلى الله عز وجل على علم وهدى وبصيرة ونور؛ حتى يعلموا ويربوا عامة الأمة، لكن عامة الأمة -للأسف الشديد- تركوا بيوت الله عز وجل، وتركوا مجالس العلم، وانشغلوا بالصحف والمجلات؛ وبالتالي فإنهم يتلقون دينهم عن هؤلاء الملاحدة، فما ذنب الدعاة إذاً؟ وما ذنب العلماء إذاً؟ إننا نقول: إن هؤلاء المثقفين أو أرباع المثقفين إنما أئمتهم الصحفيون، وهؤلاء الصحفيون أئمة ضلالة، وهؤلاء تبع وأتباع لهم، وسيأتي بعضهم لبعض بالتبرئة يوم القيامة، فيتبرأ كل واحد من صاحبه يوم القيامة، فإذا كانوا أخلاء وأصدقاء في الدنيا فإنهم أعداء في الآخرة: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فأهل التقوى لهم مسلك ومشرب واعتقاد يخالف هؤلاء. قال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته)، انظر إلى هذا التصوير النبوي، وكأنه يقول لهم: احذروا أن أرى واحداً منكم متكئاً على كرسيه، فيأتيه الأمر والنهي مما أمرت أنا به، أو نهيت أنا عنه، فيقول: دعنا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد دخله التحريف، ودخله الضعف، والرواة فيهم ضعف وخلل وغير ذلك، وإنما نتمسك بكتاب الله عز وجل! من الذي نقل إلينا كتاب الله؟ ومن الذي نقل إلينا سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ إنهم الرواة بدءاً بالصحابة رضي الله عنهم، وانتهاءً بهؤلاء الأجلاء العظماء الذين حافظوا على نقل كتاب الله، وحافظوا على تدوين سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم هم نفس الرواة، فإذا كنت تنكر السنة من باب أنه قد دخلها الضعف والزيغ والتحريف؛ فلزاماً عليك أن تنكر القرآن؛ لأن الذي حمل القرآن هو الذي حمل السنة، فلم تنكر هذا وتعتمد ذاك؟ ثم بناء على كلامك فإن القرآن قد دخله تحريف، ودخله الزيغ، ودخله التصحيف، مع أن الله عز وجل هو الذي تكفل بحفظ وحيه وحفظ دينه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذي يحفظ كلام الله هو الله عز وجل، والذي حفظ كلام الرسول عليه الصلاة والسلام هو الله عز وجل كذلك؛ ولذلك تجد في تفسير هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] أن كثيراً من المفسرين قالوا: بأن الذكر هو القرآن والسنة، وعلم الجرح والتعديل وعلم العلل وغيرها من العلوم التي تخدم السنة النبوية ما هي إلا نوع من أنواع حفظ الله عز وجل لهذا الوحي وهذا الدين، فالذي يزعم أن السنة قد دخلها التحريف نقول له: أنت مفتر وكافر، إلا أن تكون جاهلاً، فلم لم تقل هذا في القرآن؟ لأنه يعلم أنه إن قاله في القرآن كفر بإجماع أهل العلم؛ ولذلك فهو يحترز من هذا، فيذهب للطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم

حديث المقدام بن معدي كرب (ألا إني أوتيت الكتاب)

حديث المقدام بن معدي كرب (ألا إني أوتيت الكتاب) [وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، إلا أن يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرم فحرموه، ألا لا يحل الحمار الأهلي وذكر الحديث). أحياناً الواحد يستشعر معنى هذا الكلام، وذلك عندما تذهب مثلاً إلى شخصية كبيرة جداً، وربما تكون هذه الشخصية عندها دكتوراه في الشريعة، أو لا يزال يحضر الدكتوراه، ومعه ليسانس في الشريعة الإسلامية، أو في علوم السنة أو غير ذلك، وتجده طويلاً وعريضاً في بدنه، بل قد تجد أن ارتفاع بطنه حوالي متر ونصف، فتقول له: السنة، فيقول لك: لا، سنة ماذا؟ أنا حضرت ماجستير في السنة، تقول لي: السنة؟! خذها واشبع بها، ويرد روايات في البخاري ومسلم، ويقول لك: هذا الذي تسمعه أهو كلام دخل مخك؟! فتقول له: هل العيب في السنة أم في عقلي أنا؟ فيقول لك: لا بد من اتفاق النقل مع العقل، أقول له: صحيح، لكن اتفاق النقل مع العقل السليم، وليس العقل الخرف كحالتك، فيقول لك: أتصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر؟ وقد كان هناك شخص يناقشني في سحر النبي عليه الصلاة والسلام، فقلت له: عيب، الحديث في البخاري، وتلقته الأمة بالقبول، ولم يتعرض له أحد من أئمة الإسلام بالنقد، والأمة مجمعة على صحة الحديث، فيقول لك: هذا كلام فارغ! فهل إجماع الأمة كلام فارغ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فهل الأمة لها ألف وأربعمائة سنة مجمعة على ضلالة، وأنت يا مغفل أدركت الحقيقة بزعمك؟ فيقول لك: دعنا من ذلك الحديث، هل أنت مصدق حديث الذبابة الذي في البخاري؟ فهو يعرف أنه في البخاري، فأقول له: نعم، وفي النهاية تضطر أن تقول له: إن الطب أثبت فعلاً أنه في أحد جناحي البعوض داء وفي جناحها الآخر دواء؟ فيقول لك: غير معقول، أين قال هذا الطب؟ فتقول له: قد بحث في مكان كذا، فيقول لك: إذاً أنا آمنت فعلاً. يعني: أنت لا تؤمن إلا إذا بحث! والنبي والصحابة والعلماء والرواة، بل الأمة بأكملها لا تكفي! إلا قول طبيب من لندن أو من أمريكا أو من فرنسا أو من أي مكان آخر! ثم وهو يتحدث معك يجلس على الكرسي وبطنه أمامه، فهذا هو الذي صوره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان)، أي: عنده تخمة في بطنه وفي عقله، فيقول لك: لا نقبل السنة! فنقول له: إذاً ماذا تريد؟! إن معظم المثقفين معتزلة من حيث لا يدرون أنهم معتزلة، وعامة الأمة مرجئة من حيث لا تريد أن تكون كذلك، فإذا قلت لواحد من الأمة: صل، يقول لك: يا رجل! صلاة ماذا؟ أهم شيء القلب، هذا القلب في منتهى النظافة! ونسي أو لم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كفره، وقد يقول: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة تقليل للمال، والله لم يأمر بذلك، فينكر القرآن والسنة من حيث لا يريد هو أن ينكر، لكنه الإرجاء. قال: [وقال المقدام: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوتيت الكتاب وما يعدله)]، أي: السنة، ثم قال: [(يوشك شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، وإنه ليس كذلك)]، والضمير في الحديث يقول أهل العلم: يعود على الكتاب، وقال بعضهم: يعود على القائل، وهو الأقرب من قول أهل العلم. قال: (وإنه ليس كذلك)، أي: وإن الأمر ليس كما يزعم هذا الزاعم أنه متمسك بالكتاب؛ لأن من تمسك بالكتاب لزمه أن يتمسك بالسنة، فإما أن يؤمن بهما، وإما أن يكفر بهما.

أثر عمران بن حصين في أن السنة مبنية لمجمل القرآن

أثر عمران بن حصين في أن السنة مبنية لمجمل القرآن قال: [قال حبيب بن أبي نضلة المالكي: لما بني هذا المسجد مسجد الجامع، قال: وعمران بن حصين جالس، فذكروا عنده الساعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا أحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن]. وعمران بن حصين صحابي، وانظر إلى هذا التابعي كيف يتجرأ عليه، ويقول له: يا أبا نجيد! أنتم تحدثون بأحاديث لا نجد لها أصلاً في كتاب الله عز وجل، فيلزمكم المخرج؟ قال: [فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً، والغداة ركعتين، والأولى أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: فممن أخذتم هذا الشأن؟ ألستم عنا أخذتموه؟ -يعني: ألستم أخذتم هذا عنا نحن معشر الصحابة؟ - وأخذناه عن نبي الله عليه الصلاة والسلام، وعنا أخذتموه، أو عمن أخذتم في كل أربعين درهماً درهم؟ وفي كذا وكذا شاة كذا وكذا، ومن كذا وكذا بعير كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأخذتموه عنا؟ قال: وهل وجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]؟ وجدتم طوفوا سبعاً، واركعوا خلف المقام ركعتين؟ هل وجدتم هذا في القرآن؟ عمن أخذتموه: ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذتموه عنا؟ قالوا: بلى. قال: فوجدتم في القرآن: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا. قال عمران: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام). قال: أوما سمعتم الله تعالى قال لأقوام في كتابه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42 - 44] حتى بلغ: {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]. قال حبيب: أنا سمعت عمران يقول: الشفاعة نافعة دون من يسبِّحون]، وفي رواية أخرى تشهد لها الرواية السابقة: [عن عمران أنه قال لرجل: إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا تجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال له: أتجد هذا في كتاب الله مفسراً؟ إن كتاب الله أحكم ذلك، وإن السنة تفسر ذلك]. قوله: (إن كتاب الله أحكم ذلك). أي: أجمله، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فهذا إجمال، لكن عدد الصلوات، كيفية الصلاة، الجهر فيها، هيئاتها، الدخول فيها والخروج منها، ما يبطلها وما يفسدها؛ كل هذا إنما ورد في السنة، فأنتم إذا اكتفيتم بالقرآن أتقدرون أن تصلوا؟ إذا اكتفيتم بالقرآن أتحسنون الزكاة؟ أتحسنون الصيام؟ أتحسنون كيت وكيت وكيت مما أجمله القرآن؟ A لا، إذاً إنما أخذتم ذلك كله عن النبي عليه الصلاة والسلام.

حديث ابن مسعود في لعن الواشمات بآية من كتاب الله

حديث ابن مسعود في لعن الواشمات بآية من كتاب الله قال: [وعن علقمة بن قيس قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله]. واللعن هو الطرد من رحمة الله عز وجل، فهو على هلكة؛ ولعن الفعل يدل على أنه كبيرة؛ ولذلك من علامات الكبيرة أن يأتي لعن أو وعيد شديد أو إقامة حد في الدنيا، فكل هذه من علامات الكبيرة. والواشمة: هي التي تصنع الوشم، وذلك كالعلامات الخضراء التي تكون في البدن من كحل أو غيره، فتجد الواحد يرسم على ذراعه أو على صدره قلب حبيبته مثلاً، ويكتب اسمها، ثم بعد هذا يطلقها، فيريد التخلص من هذا الوشم؟ فيحرق نفسه من أجل أن يذهب هذا الوشم، وقد حدث هذا الأمر، ولما قابلته قلت له: ألا تعلم أن هذا حرام؟ قال: لم أكن أعلم أنه حرام، فقلت له: بل هو حرام، فقال: سبحان الله، ما أحلى هذه السنة! قلت له: كيف؟ قال: هذه البنت أنا أسرت بحبها سبع سنين، وفي الأخير تزوجتها بشق الأنفس، وبعد أن تزوجتها بثلاثة شهور طلقتها، ولو دفعوا لي مال قارون لا يمكن أرجعها، وأنا أريد أن أتخلص من هذا الوشم نهائياً، لكن كيف؟ قلت له: اذهب للذي صنع لك هذا الوشم فهو الذي يزيله، قال لي: أنا لا أريد أي شيء يذكرني بها، قلت له: وأنا ماذا أعمل لك؟ ليس عندي أكثر من هذا، فاذهب لتميط هذا الأذى عنك، وتستغفر ربك؛ فعلمت بعد عدة أشهر من لقائي به أنه قد انتحر بالنار حرقاً، وترك رسالة يحث فيها الشباب على أن هؤلاء البنات نصابات، وأن الواحدة ليس لها وفاء وعهد، لذا يمكن أن تحب عدة أشخاص في وقت واحد، فهو ينصح شلته وأصحابه من الانجرار خلف البنات. فالوشم هو: التأثير في البدن بتغيير بعض المواضع، بل بعضهم يكتب عنوانه على بدنه: فلان بن فلان الفلاني! وهذا من أكبر ما يرضي الشيطان، ولذلك عباد الشيطان الذين ظهروا -أبناء علية القوم- أبدانهم كلها من فوق إلى تحت مرسوم فيها رسومات وكاريكاتير أشبه بالشياطين، وعناوين وكلمات مقطعة وحروف ملخبطة، وحالتهم كلها لخبطة في لخبطة؛ لأن هذا كله من وحي الشيطان. فـ عبد الله بن مسعود قال: (لعن الله الواشمة والمستوشمة)، والواشمة هي الفاعلة لذلك، والمستوشمة هي التي طلبت أن يفعل بها ذلك. قال: (والمتنمصات)، والنمص هو ترقيق الحواجب، وللأسف الشديد أنه لا يزال إلى الآن، بل قد تجد المنقبات اللاتي يجلسن معنا الآن في المسجد يفعلن ذلك، فهذه نصيحة لهن ولغيرهن بأن هذا الفعل حرام، فلا تستحي المرأة أن تظهر بحاجب عريض، ولا ترققه بالحلاوة أو بالفتلة أو بغير ذلك، وكل هذا إنما هو مجلبة للعن ومطردة للرحمة، والمرأة الفاعلة لذلك إذا كانت عالمة فهي مستحقة للعن، وإذا كانت جاهلة وعلمت فيلزمها أن تتوب إلى الله عز وجل. قوله: (والمتفلجات) له حكاية أخرى. لذا فإن المرأة قد تكون لها أسنان كبيرة، وبالذات القواطع التي في بداية الفم، وهذا شيء يضايقها، فتزيد أن تظهر بأحسن مظهر وأجمل مظهر، كـ عمر الشريف، فتقوم بالتفريق بين السنتين، وهذا فن قائم بذاته في أمريكا وأوروبا، ففي أمريكا تجد محلات لو ترجمت ما هو مكتوب عليها وجدته: محلات التفلج، يعني: هم يعلمون أن هذا تفلج. فتظهر المرأة وما بين السنين مقطوع ومجوف، وأول ما تفتح فمها تضحك لك بضحكة عريضة تشلك وتشل قلبك؛ لأنه فعلاً هو هذا الذي في الحديث: (والمتفلجات للحسن)، يعني: أنها لا تفعل هذا إلا لأجل أن تظهر بمظهر حسن، وأنت ستبقى تنظر إليها إلى أن تختفي عن الأنظار، والعملية كلها ما هي إلا دقائق أو أقل من دقيقة، يعني: عندما تظهر واحدة جميلة في الشارع، فإن هذه الواحدة الجميلة هي امرأتك، ومع امرأتك ما معها؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى امرأة فأعجبته فليأت أهله؛ فإن معها مثل الذي معها)، أليس هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ فالرجل هو الرجل، وإن تعددت الأشكال والألوان، والمرأة هي المرأة وإن تعددت الأشكال والألوان، فلا فرق بين رجل وآخر، ولا بين امرأة وأخرى إلا بتقوى الله عز وجل. فأنت حينما تنظر إلى امرأة على هذا النحو من الحسن والجمال، جاهد نفسك لحظة، وصوب نظرك إلى الأرض، امتثالاً لأمر الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، و (يَغُضُّوا) فعل مضارع على اعتبار استمرار الغض، فالآن الشياطين تملأ الشوارع، يميناً وشمالاً وفوق وتحت، فماذا تعمل؟ تستمر في غض بصرك، وما هي إلا ثوان وهي خلف ظهرك. فيأتي شخص ويقول: أنا متعلق بها جداً، فهي حتى بعدما تمر ينظر إليها، فأنت قد أصابتك مصيبة، وتحتاج إلى أن تعالج قلبك بالدعاء وقيام الليل والتقرب إلى مولاك سبحانه وتعالى، فأنت لا يمكن أبداً أن تتقرب إلى الله عز وجل ويضيعك، بل الله عز وجل أشد تقرباً لعباده من تقرب العباد إليه. ولذلك قال في الحديث القدسي: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه با

اتباع ابن عمر لآثار النبي عليه الصلاة والسلام في الأمور الاعتيادية

اتباع ابن عمر لآثار النبي عليه الصلاة والسلام في الأمور الاعتيادية قال: [وعن عبد الله بن عمر أنه كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله وأفعاله ويهتم به]. حتى الأفعال الجبلية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال في مكان يحرص عبد الله بن عمر أن يبول في نفس المكان، وإذا جلس واستظل بظل شجرة يحرص عبد الله بن عمر أن يستظل بظل تلك الشجرة؛ تبركاً بآثاره عليه الصلاة والسلام. قال: [وعن نافع قال: كان ابن عمر إذا مر بشجرة بين مكة والمدينة أناخ عندها، ثم صب في أصلها إداوة من ماء، وإن لم تكن إلا تلك الإداوة معه، قال: وقال نافع: وأرى أن النبي عليه الصلاة والسلام فعله ففعله]. يعني: أن ابن عمر لم يكن معه إلا قربة ماء واحدة، والطريق طويل بين مكة والمدينة، لكنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام في نفس المكان عند أصل هذه الشجرة قد سقى الشجرة بإداوة من ماء كانت معه؛ فأراد عبد الله بن عمر أن يصنع نفس الصنيع، مع أن الطريق طويل وربما يعطش، لكن اتباع آثاره عليه الصلاة والسلام أحب إليه من هذا، وهذا منتهى الإيمان: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده وأهله وماله والناس أجمعين)، والرواية هذه من طريقين أو من حديثين. قال: [وعن نافع قال: كان ابن عمر يتتبع آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام فيصلي فيها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يصب تحتها الماء حتى لا تيبس]. قال: [وعن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: إني رأيت رسول الله فعل هذا ففعلت]. قال: [وعن عاصم الأحول قال: كان ابن عمر إذا رئي في طريق، كأنه ذكر كلمة من شدة اتباعه لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم لصق بالحائط لصق]، أي: إذا قيل لـ عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع رأسه على هذا الجدار فإنه يضع رأسه على هذا الجدار. وأنتم تعلمون أن من السنة لزق البطن والصدر بالملتزم الذي بين الحجر الأسود والباب. [وإن قيل له: قعد قعد، وإن قيل له: مشى مشى] شدة اتباع. [قال الشيخ ابن بطة: والله هذه أفعال العقلاء -يعني: أفعال عبد الله بن عمر - والمؤمنين، وأخلاق الأئمة الهادين المهديين الراشدين المرشدين، الذين من اقتفى آثارهم فاز ونجا ورشد واهتدى، ومن تفيأ بظلهم لم يظمأ ولم يضح، ومن خالفهم ضل وغوى، وغضب عليه رب السماء؛ فنعوذ بالله من الشقاوة والعماء، ومن الضلالة بعد الهدى]. قال: [وكان عبد الله بن عمر يحفظ ما يسمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يحضر سأل من حضر عما قال رسول الله وفعل]. وهذه سنة، أي: أنك عندما تغيب عن درس يوم تذهب إلى صاحبك وترتب معه في المسجد، فتقول له: اليوم الذي لا أحضر فيه يا فلان تحضر أنت فيه، واليوم الذي أنا أحضر فيه تذهب وتشتغل فيه، وقد جاء في كتاب العلم عند البخاري: أن عمر بن الخطاب كان له جار من الأنصار يتناوبان العلم، فـ عمر بن الخطاب يذهب يوماً ويأتي بطعامه وطعام جاره، والجار يحضر مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يظل في الليل يعلم عمر ما قال النبي صلى الله عليه وسلم وما صنع، وفي اليوم الثاني يذهب الأنصاري إلى المعاش والرزق والسوق والتجارة، فيتكسب له ولـ عمر، وعمر يجلس في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الليل بعد العشاء يأتي يعلمه عمر: النبي قال، النبي عمل، النبي أمر، النبي نهى، النبي شرح. قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب الحضور في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام. فانظر إلى عبد الله بن عمر، هذا الشبل من ذاك الأسد، فقد كان إذا فاته مجلس ذهب إلى رفقائه الذين حضروا؛ ليسمع منهم ما فاته من النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وإذا لم يحضر سأل من حضر عما قال رسول الله وفعل، وكان يتتبع آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام في كل مسجد صلى فيه]. يعني: أنه كان يصلي في نفس المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [وكان يعترض براحلته في كل طريق]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ راحلته سترة، وكذلك كان عبد الله بن عمر، فقد كان يركب الدابة أو الحمار في السفر، فتحضره الصلاة فينزل، فيعرض الحمار ويتخذه سترة له. قال: [كان يعرض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقال له في ذلك، فيقول: أتحرى أن تقع راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله عليه الصلاة والسلام]. أرأيتم كيف يكون الاتباع؟! وليس هو فقط، وليس من أجل أ

أثر أبي بكر الصديق (لست تاركا شيئا)

أثر أبي بكر الصديق (لست تاركاً شيئاً) [وعن عائشة قالت: إن أبا بكر رضي الله عنه قال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ]. أرأيتم أبا بكر رضي الله عنه؟ مع أن أبا بكر لا يمكن أن يزيغ؛ لأنه مبشر بالجنة، ومحكوم له بأنه من أئمة الهدى، بل هو أعظم إمام من أئمة الهدى بعد الأنبياء، يعني: لا يمكن أن يزيغ ولا يضل ولا يخرف، فإن هذا كان بعيداً عنه تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، وكل هذه الأوصاف أوصاف للخلفاء، ومع هذا فهو يخشى الزيغ والضلال إن ترك سنة صغيرة من السنن الجبلية التي لسنا مطالبين بها. [قال الشيخ: هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه عليه الصلاة والسلام، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون من سنته، نسأل الله عصمة من الزلل، ونجاة من سوء العاقبة]. ابن بطة يقول هذا الكلام وهو في زمن بقية السلف!

تحري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومها عصمة من الضلال

تحري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومها عصمة من الضلال قال: [وعن سعيد بن جبير قال في قول الله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة] أي: سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي عليها جماعة المسلمين. قال: [وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت سلمة بن الأكوع يصلي من وراء الصندوق]. وسلمة بن الأكوع من أجلة الصحابة ومن عظمائهم، وله آثار عظيمة جداً في مقاتلة المشركين، يعني: كان جيشاً لوحده، وآثاره عظيمة جداً في الصحيحين. قال: [فقلت له: ما لي أراك تصلي هاهنا؟ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى هذا المكان]. أي: يصلي في هذا المكان بالذات، فأنا أتحراه كما تحراه النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وعن عمر بن عبد الرحمن بن مظعون قال: (لما دَفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وسوى عليه التراب كانت صخرة قريبة من القبر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هاتوا هذه الصخرة، فثقلت على القوم، فقام النبي عليه الصلاة والسلام فأخرجها بيده حتى انتهى بها إلى رأس القبر فأثبتها رسول الله)]. يعني: أقامها عند رأسه. قال: [وقال: وكان أهل المدينة يضعون ذلك على قبورهم، حتى كانت إمارة مروان، فإنه أمر بتسوية القبور، قال: فأزيلت الصخرة عن مكانها، فجاء ابن عمر مغضباً، فقال: ويحك يا مروان! أزلت شيئاً وضعه رسول الله بيده؟] وظل بـ مروان حتى أرجع مروان الحجر إلى مكانه، وكان مروان أميراً وخليفة، ومع هذا يقوم إليه عبد الله بن عمر فيأمره وينهاه إلى أن أرجع الحجر إلى مكانه.

أثر سعيد بن جبير (رسول الله أعلم بكتاب الله)

أثر سعيد بن جبير (رسول الله أعلم بكتاب الله) قال: [وعن سعيد بن جبير أنه حدث عن النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً، فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه كذا وكذا]. أي: أن سعيد بن جبير يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام بحديث، فيقوم آخر ويقول: الظاهر أنه بين الآية والحديث تعارض، فيقوم سعيد بن جبير ويغضب غضباً شديداً، قال: [فقال: ألا أراك تعرض لحديث رسول الله بكتاب الله، ورسول الله أعلم بكتاب الله]. أي: أنا أرى أنك تضرب كتاب الله بسنة رسوله، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نقل إلينا هذا القرآن هو الذي قال هذا الحديث، وهو أدرى بكتاب الله وأعلم بكتاب الله منا، فليس هناك تعارض ولا تضارب بين القرآن والسنة. وإذا كان هناك تعارض ولا بد؛ فإما أن يكون الخلل في السند الذي رويت به سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو يكون الخلل في عقولنا نحن.

أثر عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه

أثر عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه فنهاه قال: [وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه فنهى المحرم]. أي: أن شخصاً محرماً في الحج كان يلبس الملابس العادية، فنهاه أن يلبس إلا ملابس الإحرام. قال: [فقال: ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي. فقرأ عليه: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]].

أثر عمر بن الخطاب (سيأتي أناس يجادلونكم)

أثر عمر بن الخطاب (سيأتي أناس يجادلونكم) قال: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فجادلوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]. أسمعتم هذا الكلام الجميل؟! سيأتي إليك شخص ويقول لك: القرآن، فقال: هؤلاء أهل الرأي وأصحاب الهوى، فإذا قالوا مثل ذلك؛ فعليكم بالسنن وأهل السنن؛ فإنهم أعلم بكتاب الله عز وجل. وعن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. أي: دائماً القرآن يأتي بالمجملات والكليات والقواعد العامة، وهذه محتاجة إلى تحليل وتفسير وتفصيل، ونجد كل هذا في السنة. إذاً: القرآن بحاجة إلى البيان؛ ولذلك أتى الأمر ببيان القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. فهنا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم بمهمة البيان والتبليغ عن ربه، كما أن هذا البيان يكون أحياناً بالشرح والتفسير، وحمل المطلق على المقيد، وتفصيل المجمل وغير ذلك. إذاً: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن؛ لأن بعض الناس يستعظم جداً هذا اللفظ مع أنه صحيح. ولذلك [قال يحيى بن أبي كثير] وأحمد بن حنبل من بعده: [السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضياً على السنة].

أثر حسان بن عطية (كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي بالسنة)

أثر حسان بن عطية (كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي بالسنة) قال: [وعن حسان بن عطية قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وقال قتادة في قول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال: القرآن والسنة]. والأمر في الآية موجه لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام بالدرجة الأولى، ثم لسائر الأمة بالتدبر والتذكر والحفظ والتلاوة، والعمل بما يتلى من كتاب الله عز وجل ومن سنته عليه الصلاة والسلام.

امتناع عمران بن حصين عن الحديث بسبب معارضة بشير بن كعب

امتناع عمران بن حصين عن الحديث بسبب معارضة بشير بن كعب قال: [وعن حجير بن أبي الربيع أنه سمع عمران بن الحصين يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحياء خير كله، فقال بشير بن كعب: إن منه ضعفاً ومنه وقاراً لله)]. فقال له بشير بن كعب: لا، فأحياناً يكون الحياء ضعفاً، ومنه وقار لله، أي: أن هذا ليس بحياء شرعي ممدوح، وإنما هذا ضعف وخور. فمثلاً: لو أن متبرجة ارتدت النقاب بعد أن سمعت الشيخ يتكلم عن الحجاب والجنة والنار وغير ذلك، ثم قالت: أنا أستحي من الناس! وماذا سيقول عني الجيران؟ من هذه الطالعة والنازلة بالنقاب؟! فهذه المرأة تترك الحجاب حياء من الناس. هل هذا يسمى حياءً؟ العرف سماه حياء، أما الشرع فلا يسمي هذا حياء، فالشرع حين تكلم عن الحياء إنما تكلم عن الحياء الشرعي، وأن الحياء خير كله. [ثم قال عمران: والله لا أحدثكم بحديث اليوم]. أي: عقوبة لكم أن تحرموا اليوم من درس العلم، وهذا الكلام كان عليه أئمة السلف، فقد كان مجلس إسماعيل بن عياش لا يسمع به صوت، ولا يبرى فيه قلم، ولا يلتفت فيه أحد لأخيه، فإن التفت فيه أحد قام وتركهم، وكان يحضر مجلسه آلاف من الطلاب، وفي رواية: أن إسماعيل تهيأ للدرس، فلما جلس سمع رجلاً يضحك، قال: من الضاحك؟ قال الضاحك: أنا، قال: أتطلب العلم وأنت تضحك؟ فقال: وما لي لا أضحك؟ أليس الله عز وجل هو الذي أضحك وأبكى؟ -أرأيتم الفلسفة- قالوا: أنت ضحكت وربنا يضحك ويبكي، فأنت ضحكت وبقي منك البكاء فلم لا تبك؟! ثم قام إسماعيل وقال: والله لا أحدثكم شهراً. فتصور أنه بسبب سوء أدب وقلة حياء واحد يُحرم الآلاف من العلم ومن سماع كلام النبي عليه الصلاة والسلام لمدة شهر كامل، وهذه عقوبة.

بعض الآثار الواردة في من عارض حديث النبي بعقله

بعض الآثار الواردة في من عارض حديث النبي بعقله قال: [وعن عبادة بن الصامت أنه خرج مع رجل إلى أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسرة الذهب بالدنانير، وكسرة الفضة بالدراهم. فقال: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا]. مع العلم أن عبادة بن الصامت مشهور في الصحابة بشدته وغلظته في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهنا قال لهم: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا، [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة)]. قوله: (لا زيادة)، يعني: لا تفاضل، (ولا نظرة)، يعني: لا نسيئة، فلا بد من التقابض في المجلس. قال: [فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة]. أي: أنه يقول له: يا عبادة! أتيتنا البارحة، ثم أنت اليوم تقول: إننا نتعامل بالربا، كم عمرك يا عبادة؟ ثلاثون أو أربعون؟ نحن نتعامل بهذه المعاملة من قبل خمسين سنة فما أدراك أنت؟ وكأنك تحدث والدك بالضبط، تقول له: يا أبت! لا يصح أن تصلي بهذه الطريقة، إنك بهذا تنقر الصلاة نقر الغراب، وتقعي في صلاتك كإقعاء الكلب، فيقول لك: وما شأنك بي؟ أبسبب أنك حضرت في مسجد أهل السنة درسين أو ثلاثة تأتي وتقول: إن الصلاة كلها خاطئة، أتأتي تعلمني ولي خمسون سنة وأنا أصلي ولا أحد قال لي هذا الكلام؟! قال: [فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة. فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن رأيك، لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليَّ فيها إمرة. فلما قفل لحق بالمدينة -أي: لما رجع إلى البلد رجع إلى المدينة- فقال له عمر رضي الله عنه: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، فقال: ارجع إلى أرضك وبلدك، ولا إمرة له عليك]. وهذا يدل على أن السائل كان مع معاوية. والراوي لم يذكر أنه معاوية، مع أنها مفهومة، لكنه لم يذكره تأدباً. وفي رواية البخاري: [ارجع إلى أرضك وبلدك ولا إمرة له عليك؛ فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك]. أي: أن أرضاً ليس فيها شخص من أمثالك يأخذ علمك؛ كادت هذه الأرض أن تهلك. قال: [وعن عطاء بن يسار: (أن رجلاً باع كسرة من ذهب أو ورق -فضة- بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل، فقال الرجل: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من فلان، أحدثه عن رسول الله ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى الرجل: أن لا تبيع ذلك إلا مثلاً بمثل وزناً بوزن)]. هل تعرفو هذه المخالفات يا إخواني؟! نحن في زمان نتمنى أن تكون معاصينا متمثلة في ذلك، يعني: بعد ضياع الحكم وضياع الدين والشريعة بأكملها نتمنى أن تكون معاصينا على قدر ما أنكره الصحابة فيما بينهم، إي والله! وذلك مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه). قال: [عن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول لرجل: (أتسمعني أحدث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا تبيعوا الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا منها عاجلاً بآجل، ثم أنت تفتي بما تفتي؟! والله لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد). أي: لا يمكن أن أجتمع بك في مكان إلا في المسجد؛ لأنه لا فكاك لي من حضور الجماعة وأنت تحضر الجماعة، أما أن أجتمع معك في قافلة أو في رحلة أو غير ذلك، فلا يمكن أبداً. قال: [وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الخذف)]، والخذف كنا نفعله قديماً ونحن نرعى الغنم، فنأتي بالعصا الطويلة التي نسوق بها الغنم، وننظر من الذي سيوصلها أبعد من الآخر؟ الذي يحرز مائة متر أو ثلاثمائة متر، وهذا الخذف قد نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنه يفقأ العين ولا ينكأ العدو)، يعني: أن الخذف لا يذهب عنك العدو، بل قد يأتي في عين أخيك فيقلعها؛ فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الخذف، [وقال: (إنها لا تصطاد صيداً، ولا تنكأ عدواً، ولكنها تفقأ العين، وتكسر السن). فقال رجل لـ عبد الله بن مغفل: وما بأس هذا؟ فقال: إني أحدثك عن رسول الله وتقول هذا! والله لا أكلمك أبداً].

تعقيب المؤلف على الآثار الواردة في وجوب طاعة الرسول

تعقيب المؤلف على الآثار الواردة في وجوب طاعة الرسول [قال الشيخ ابن بطة: فاعتبروا يا أولي الأبصار، فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار، الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم، والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم، وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيد من ساداتهم، يقطع رحمه، ويهجر حميمه، حين عارضه في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحلف أيضاً على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين. وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله عليه الصلاة والسلام حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم -يعني: يرحلون عن أوطانهم- وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم؛ لأجل من عارض حديثاً واحداً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري! كيف حالنا عند الله عز وجل ونحن نلقى أهل الزيغ والضلال في صباحنا والمساء، يستهزئون بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حائدين عنها وملحدين فيها، سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل].

ذكر طاعة الرسول في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعا

ذكر طاعة الرسول في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعاً [قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ؛ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة. قال الشيخ: فالله الله إخواني! احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة؛ فزاغ قلبه، وعميت بصيرته، واستحكمت للباطل نصرته، فهو يتخبط في عشواء، ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم؛ فافزعوا إلى تواب كريم فيما أمركم به من دعوته، وحضكم عليه من مسألته، فقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]]. قال: [قال رجل لـ مالك بن أنس: أحرم من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو من ذي الحليفة؟ فقال له: بل من ذي الحليفة. فقال الرجل: فإني أحرمت أنا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]]. قال: [قال أبو مجلز: قلت لـ ابن عمر: إن الله عز وجل قد أوسع، والبر أفضل من التمر]. أي: إن الله عز وجل أمرنا بأن نوسع على أنفسنا وعلى عيالنا والفقراء، ولكن الأمر ورد بالتمر، قال: والبر أفضل من التمر. قال: [فقال: إن أصحابي سلكوا طريقاً فأنا أحب أن أسلكه]. أي: إن أصحابي -وهم كبار الصحابة- سلكوا طريق إخراج التمر؛ فأنا أحب إخراج التمر.

أثر عمر بن عبد العزيز (لا أرى لأحد منكم مع سنة رسول الله رأيا)

أثر عمر بن عبد العزيز (لا أرى لأحد منكم مع سنة رسول الله رأياً) قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم]. أي: أول ما تسمعوا الحديث فقولوا: سمعنا وأطعنا، فلا أحد منكم يعارض الحديث بالرأي، ويعارض النقل بالرأي.

أثر مكحول (السنة سنتان)

أثر مكحول (السنة سنتان) قال: [وقال مكحول: السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج. قال الشيخ: وأنا أشرح لكم طرفاً من معنى كلام مكحول يخصكم ويدعوكم إلى طلب السنن التي طلبها والعمل بها فرض، والترك لها والتهاون بها كفر. فاعلموا رحمكم الله أن السنن التي لزم الخاصة والعامة علمها، والبحث والمسألة عنها والعمل بها؛ هي السنن التي وردت تفسيراً لجملة فرض القرآن مما لا يعرف وجه العمل به إلا بلفظ ذي بيان وترجمة، كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، وقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218]، وقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]. فليس أحد يجد سبيله إلى العمل بما اشتملت عليه هذه الجمل من فرائض الله عز وجل دون تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام]. وهذا من سنن الفرض الذي من تركه كفر، بخلاف سنن العادة، أي: ما كان من خاصة الجبلة التي خلق الله عز وجل عليها الخلق. نكتفي بهذا القدر، سائلين الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.

ذكر ما نطق به الكتاب بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما نطق به الكتاب بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة حث القرآن الكريم على لزوم الجماعة ونهى عن الفرقة والاختلاف، وحذرنا من سلوك سبيل الأمم السابقة في اختلافها وتفرقها، وأعلمنا الله سبحانه أنه ما اختلف الذين من قبلنا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وحسداً.

باب ذكر ما نطق الكتاب نصا بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة

باب ذكر ما نطق الكتاب نصاً بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ذكر ما نطق به الكتاب نصاً في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة]. هذا باب جديد ذكر فيه الآيات التي أمرت بالتزام الجماعة، والآيات التي نهت عن التفرق وترك الجماعة. كما أنه أمر بذلك فيما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأمر بلزوم الجماعة وترك الفرقة، والأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين. قال: [أما بعد: فاعلموا يا إخواني وفقنا الله وإياكم للسداد والصواب، وعصمنا وإياكم من الشتات والانقلاب! أن الله عز وجل قد أعلمنا باختلاف الأمم الماضين، وأنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل، والكذب عليه والتحريف لكتابه، والتعطيل لأحكامه والتعدي لحدوده. وأعلمنا تعالى أن الشيء الذي يكون سبباً في الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته، وكل ذلك وجميعه قد قصه الله عز وجل علينا، وأوعز فيه إلينا، وحذرنا منه أن نقع فيه، وخوفنا من ملابسته، ولقد رأينا ذلك في كثير من أهل عصرنا، وطوائف ممن يدعي أنه من أهل ملتنا. وسأتلو عليكم من نبأ ما قد أعلمناه مولانا الكريم، وما قد علمه إخواننا من أهل القرآن وأهل العلم وكتبة الحديث والسنن. وما يكون فيه إن شاء الله تعالى بصيرة لمن علمه ونسيه، ولمن غفله أو جهله، ويمتحن الله به من خالفه وجحده، بألا يجحده إلا الملحدون، ولا ينكره إلى الزائغون، قال الله عز وجل]. يبدأ الآن في سرد الآيات التي تأمر بالائتلاف وتنهى عن الاختلاف والتفرق والتشرذم، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الجماعة المقصود بها: هي جماعة الإخوان، أو هي جماعة التكفير، أو الجماعات الإسلامية، أو جماعة الجهاد. كل هذا خبط عشواء، فإن إنزال هذه الأدلة على هذه الجماعات الكائنة القائمة على الساحة الآن أمر غير رشيد، ولم يفهمه أحد من السلف، ولا من المعاصرين من أهل العلم، ولم يقل بذلك إلا بعض أصحاب هذه الجماعات. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجماعة)، فتظن أن هذه الجماعة هي جماعتك التي تتجه إليها، أو تسمعه صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية). فتقول: لابد لي من جماعة أنضم إليها وأوافقها، وأسمع وأطيع لها، وإلا فميتتي ميتة جاهلية. والصواب أن هذه الآيات وهذه الأحاديث التي أمرت بلزوم جماعة المسلمين، تعني بالجماعة جماعة الإمام الأعظم، جماعة الخليفة الذي عينه المسلمون وعينه أهل الحل والعقد، هذا الخليفة وهذا الإمام الأعظم هو الذي يعين الولاة والأمراء والسلاطين، فهذا الخليفة هو الرجل الذي أمرنا بأن من أتى بعده ينازعه قاتلناه حتى قتلناه. وما يفعله كل جماعة من الجماعات القائمة تجاه هذه الآيات والأحاديث، أمر يدعو إلى الحيرة والشتات والفرقة، مع أن الأصل الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والدعوة إلى الائتلاف وترك الاختلاف، ولكنك لو أنزلت هذه الآيات والأحاديث على كل جماعة أو على جماعة بعينها من هذه الجماعات؛ فإن كل الجماعات الإسلامية بعيدة عن هذه الآيات والأحاديث؛ فأين الحق وأين الباطل إذاً؟ ولذلك منتهى الكلام سيأتي معنا عند التعرض لذكر الأوامر والنواهي في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بلزوم الجماعة وترك الاختلاف.

قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)

قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) [قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]]. هذه الآية من آيات سورة البقرة، وقد تكلم عنها الحافظ ابن كثير كلاماً رائعاً ممتعاً، وخير من يتكلم عن الاجتماع وترك الفرقة هو الحافظ ابن كثير، كما يتكلم عنه كذلك ابن تيمية عليه رحمة الله. فيقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية نقلاً عن ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وأنتم تعلمون أن آدم هو أول نبي بعث، أما نوح فهو أول رسول بعث. يقول ابن عباس: كل أصحاب تلك القرون كانوا على الحق وعلى توحيد الله عز وجل الذي جاء به آدم حتى اختلفوا، فلما اختلفوا أرسل الله عز وجل الرسل مبشرين ومنذرين، فكان أول من أرسل نوحاً. ولـ ابن عباس قول ثان، وهو: أن الناس بين آدم ونوح كانوا على الضلال المبين وترك التوحيد، حتى أرسل الله عز وجل إليهم نوحاً ليدلهم على التوحيد. والرأي الأول أرجح. وقال قتادة في قول الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعاً، أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد والإيمان الصادق. ولهذا قال تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:213]-أي: مع المرسلين- {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، أي أن الحسد هو السبب الذي جعل بعضهم يبغي على بعض، وما أتاهم الحسد إلا بعد أن قامت عليهم الحجج بإرسال المرسلين وإنزال الكتب عليهم؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الحسد بين أهل العلم -وفي رواية قال: الغيرة بين العلماء- أشد منها بين السيوف في أغمادها. فإذا دب الحسد بين قوم لابد أن يبغي بعضهم على بعض؛ ولذلك ثبت في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، لا أقول: إنها حالقة الشعر، ولكنها حالقة الدين). والراجح في هذا الحديث أنه حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون). أي: نحن آخر الأمم، ونحن أول الأمم بعثاً يوم القيامة ودخولاً الجنة. وإذا كنا في تعداد الرسل والأمم فنحن آخر أمة، أما من جهة البعث والحساب والجزاء ودخول الجنة فنحن أول الأمم. قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا -يعني: غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا- وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفتم فيه هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى) وهذا اليوم يوم الجمعة. ثم اختلفوا في يوم يتخذونه لأنفسهم؛ فاختلفوا اختلافاً عظيماً جداً، فاستقر رأيهم -أي: رأي اليهود- على اتخاذ السبت، واستقر رأي النصارى على اتخاذ الأحد، ولكن الله هو الذي تولى هداية هذه الأمة ليوم عظيم وهو يوم الجمعة؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم الجمعة هو خير يوم طلعت عليه الشمس، فالناس لنا فيه تبع، غداً لليهود وبعد غد للنصارى). ثم يبين النبي عليه الصلاة والسلام فضائل هذا اليوم: أولاً: فيه صلاة الجمعة، وهي مجمع ومحشر لجميع المسلمين المكلفين. الأمر الثاني: فيه خلق آدم. الثالث: فيه مات آدم. الرابع: فيه تقوم القيامة، وغير ذلك من فضائل هذا اليوم التي عددها شيخ الإسلام ابن القيم، وكذلك الإمام السيوطي من بعده في رسالة مستقلة. وقال ابن وهب: عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود

قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) وقال الإمام ابن بطة: [وقال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]]. فالذي كلم الله هو موسى عليه السلام، ونبينا عليه الصلاة والسلام في ليلة المعراج أيضاً كلم ربه. قال: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وهذا يعرف بحديث المعراج، وأن الله تبارك وتعالى جعل في كل سماء من السموات السبع أنبياء معينين، وهذا يدل على مراتب الأنبياء، وأنهم كذلك درجات. قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87]، أي: بجبريل عليه السلام، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)، أي: الذين جاءوا من بعدهم (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: الحكمة والكتب السماوية، (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا)، يعني: بعد أن جاءتهم البينات اختلفوا، فقامت عليهم الحجج وانتشر فيهم العلم، فاختلفوا من بعد ذلك، {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253]، أي: لو أراد ربك ألا يقتتلوا لفعل، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].

قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)

قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) [وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]]، ولابد أن تعلم أن كل نبي ورسول أرسله الله إنما أرسل بالإسلام؛ ولذلك الدين المشترك بين جميع الأنبياء والمرسلين هو الأمر بعبادة الله وحده وترك الشرك. فما من نبي أرسله الله ولا رسول إلا أمر أمته بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو أصل الإسلام الذي أرسل الله عز وجل به الأنبياء والمرسلين.

قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم)

قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم) [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]]. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي: أحزاباً وجماعات وطوائف، فلست منهم يا محمد! في شيء، إن الله لن يحاسبك على تفرق اليهود، ولا على تفرق النصارى كما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). فهذه الأمة صارت فرقاً وشيعاً وأحزاباً، هل النبي عليه الصلاة والسلام سبب في ذلك؟ لا؛ لأنه قد حذر من الفرقة والاختلاف، وأمر بالاعتصام والائتلاف، ولكن هذه الأمة ركبت ما ركبه اليهود والنصارى والأمم السابقة من التفرق والتشرذم والاختلاف، فلما كان بهم شبه منهم وكان الأولون في النار؛ أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من اتخذ الفرقة والتشيع والتشرذم في شريعته عليه الصلاة والسلام؛ أنهم سيجازون بدخول النار؛ ولذلك قال: (كلها في النار إلا واحدة). وفي صحيح البخاري: عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات وديننا واحد)، يعني: وإن اختلفت أمهاتنا فلا يختلف ديننا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. فما من رسول إلا وقد أرسل بالإسلام، وإن اختلفت أمهاتهم، هذا أسود وذاك أبيض، هذا أحمر وهذا أصفر، هذا أعجمي وهذا عربي كلهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم، ومنازلهم ومراتبهم؛ إلا أنهم متفقون على وحدة الدين، وهي الأمر بعبادة الله تعالى وحده. فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] أي: يا محمد! لا تخف ولا ترتجف، فهؤلاء لا يمتون إليك ولا تمت أنت إليهم {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] أي: حسابهم على الله، فإنهم سيموتون ثم يبعثهم الله عز وجل، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] من التفرق والشيع.

قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق)

قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) [وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93]]. الله عز وجل أنزل بني إسرائيل أحسن منزل، وأرسل إليهم أنبياء كثيرين؛ قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس:93] أحل لهم الحلال وحرم عليهم الخبائث، (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ) أي لما أرسل الله تعالى إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب، وقامت عليهم الحجج العلمية والشرعية اختلفوا، {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93]. من هذه الآيات وغيرها تعلم أن من اختلف في دين الله عز وجل اختلاف شهوة فحسابه على الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعدما جاءهم العلم)

قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعدما جاءهم العلم) [وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. الله عز وجل يتوعد ويهدد أنه لولا كلمة سبقت منه أن يؤجل حسابهم ليوم القيامة لحاسبهم على ظهر هذه الدار، ولكن سبقت كلمة من ربك أن يتركهم، وألا يقضي بينهم ولا يحاسبهم إلا في يوم الحساب الأعظم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. ولذلك إذا فسد الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله، وإذا صلح الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله؛ لكن لا يمنع أن يكون عكس ذلك، فأين كان ولد نوح ووالد إبراهيم عليهما السلام؟ وأين كانت امرأة فرعون وامرأة لوط؟ فلا يلزم من هذا الأصل أن ينطبق، فالأصل أن يكون أبناء الصالحين صالحين: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، لكن لا يمنع أن تجد قصصاً في الواقع مخالفة لهذا؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [الشورى:14] أي: الذين أوتوا الكتاب من بعدهم ومن أصلابهم، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، يعني: ليسوا على يقين كامل بأن هذه الكتب من عند الله، فلما يعملوا بها؛ لما عندهم من شك وريب. [وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:4 - 5]]. [قال الشيخ: إخواني! فهذا نبأ قوم فضلهم الله وعلمهم وبصرهم ورفعهم، ومنع ذلك آخرين إصرارهم على البغي عليهم والحسد لهم إلى مخالفتهم وعداوتهم ومحاربتهم، فاستنكفوا أن يكونوا بأهل الحق تابعين، وبأهل العلم مقتدين، فصاروا أئمة مضلين، ورؤساء في الإلحاد متبوعين، رجوعاً عن الحق، وطلب الرئاسة، وحباً للاتباع والاعتقاد. والناس في زماننا هذا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لاتبعوه، أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعاً وشيعاً].

ذكر الآيات التي تحذر من الفرقة والاختلاف وتأمر بلزوم الجماعة والائتلاف

ذكر الآيات التي تحذر من الفرقة والاختلاف وتأمر بلزوم الجماعة والائتلاف قال: [فقد ذكرت ما حضرني من الآيات التي عاب الله فيها المختلفين وذم بها الباغين، وأنا الآن أذكر لك الآيات من القرآن الكريم التي حذرنا فيها ربنا تبارك وتعالى من الفرقة والاختلاف، وأمرنا بلزوم الجماعة والائتلاف. نصيحة لإخواننا وشفقة على أهل مذهبنا].

قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا)

قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) [قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]]. اعتصموا: فعل أمر، وحبل الله هو دين الله المتمثل في الكتاب والسنة، وهذا الأمر موجه لكل المكلفين، وليس لطائفة دون أخرى، ولا جماعة دون الثانية، وإنما لكل من أسلم وصار مكلفاً عاقلاً يدرك الخطاب، فلابد أن يعتصم بحبل الله المتين. وقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] نهي يفيد التحريم. قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:103] أي: كنتم أعداءً من قبل محمد عليه الصلاة والسلام فألف بين قلوبكم، وأنتم تعلمون أن الأوس والخزرج كانت بينهما حروب قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، وهما قبيلتان عظيمتان لم يكن بالمدينة أعظم منهما، فقامت بينهما معارك بسبب ناقة من إحدى القبيلتين نزلت في أرض القبيلة الأخرى فأكلت منها، فتعاركوا واقتتلوا أربعين عاماً؛ ولذلك كان مجيئه عليه الصلاة والسلام رحمة لجميع الخلق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: عالم الإنس والجن. ولذلك حدث في إحدى الغزوات أن كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! يعني: هلموا واجتمعوا. وقال المهاجري: يا للمهاجرين! حتى اصطف الفريقان للقتال، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومشى بين الصفين، وهو ينظر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ولم يتكلم إلا بكلمة واحدة قال: (دعوها فإنها منتنة). (دعوها) أي: هذه العصبية الجاهلية، فالتعصب للمهاجرين والتعصب للأنصار دعوة جاهلية، ورائحتها نتنة؛ ولذلك استحيا الفريقان وانصرف كل إلى مكانه. بسبب أكلة بعير تقوم الحرب أربعين عاماً، والله أعلم كم قتل فيها وكم سبي فيها، فما بالكم بكسعة رجل، فربما استأصلت شأفة المهاجرين والأنصار بسبب ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام تكلم بكلمة واحدة كانت هي البلسم الشافي لكلا الفريقين: (دعوها فإنها منتنة). ولذلك فإن التعصب لقومية معينة أو أرض معينة أو طائفة معينة كل هذا من نعرات الجاهلية، وخطره أنه يضعف الولاء لله عز وجل، ويضعف التعصب للكتاب والسنة. فأنت لو تعصبت لجماعة معينة من الجماعات القائمة على الساحة، فإن ولاءك لله عز وجل يحتاج إلى مراجعة، بل التعصب ينبغي أن يكون للحق دائماً، والحق لم نعرفه إلا بقال الله وقال الرسول وأجمع العلماء فقط. أما أن تتعصب لزعيم الطائفة أو شيخ المجموعة، أو أمير الجماعة أو غير ذلك، فاعلم أنك بمنأى عن كتاب الله وعن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فبعض الناس لو سب أميره فكأنه سب إلهه، يعني: يغضب لسب الأمير أعظم من غضبه لسب الله عز وجل، ولو كنت أنت في الشارع وكنت متعصباً لأمير ما، ووجدت الناس يسبون الدين فستقول: إن المجتمع كله فاسد، ولكن لو سمعت أنه يسب أميرك ويسب زعيمك لقاتلته قتالاً مستميتاً، ولا تكتفي بقولك: المجتمع كله فاسد، كما أنه لو سب أباك فإنك ستغضب له غضباً ربما لا تغضبه لو سمعت سب الإله بأذنيك، وهذا تعصب لأبيك أعظم من تعصبك لله عز وجل ومن غضبك وحميتك لله عز وجل، وهذا بلاء عظيم جداً. ولو استعرضنا بعض مواقف الصحابة رضي الله عنهم لعلمنا يقيناً أنهم أحبوا الله تعالى ورسوله أعظم من كل شيء، أعظم من الولد والوالد والمال والناس أجمعين، فقد كان الواحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام يسمح لنفسه أن يقتل أباه المشرك، وكان الوالد يقتل ولده، والمرأة تقتل زوجها، والزوج يقتل امرأته كل هذا في سبيل الله عز وجل، والرجل يترك ماله كله، ويرحل من مكة دار الكفر في ذلك الوقت إلى المدينة، حتى يقر النبي عليه الصلاة والسلام له بالربح الوفير العظيم يقول: (ربح البيع ربح البيع ربح البيع) لماذا؟ لأن هذا الرجل اشترى نفسه من المشركين بماله، فهان عليه المال ولم يهن عليه شيء من دينه. فهؤلاء حقاً هم الذين تأهلوا أيما تأهل لأن يفتح الله تبارك وتعالى عليهم البلاد، وأن يفتح لهم قلوب العباد. ولذلك نجد أن الإسلام انتشر في عهدهم انتشاراً رائعاً في شرق الأرض وغربها رغم قلتهم، ونحن رغم كثرتنا إلا أننا غثاء كغثاء السيل، بسبب حبنا للدنيا وكراهيتنا للموت كما أخبر عليه الصلاة والسلام. قال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103]. وهو الإسلام الذي دعا إلى الجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، قال: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عم

قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا)

قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) [ثم حذرنا من مواقعة ما أتاه من قبلنا من أهل الكتاب، مخافة أن يصيبنا ما أصابهم، فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا، ومن بعد البيان اختلفوا]. فالواحد منا لابد أن يدرك أمراً بعقله، وهو أن الصحابة أحسن الناس بعد الأنبياء، وأحسن الصحابة الخلفاء الراشدون، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، لكن على أية حال فإن الصحابة هم أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين من جهة الفهم، ومن جهة العلم والإيمان والعمل. فهم أول من خوطبوا بخطاب الشرع، وكان بلغتهم، ففهموا خطاب الشارع، وما فاتهم من فهم سألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أمرهم على الجادة حتى ظهرت الفرق، فظهرت القدرية، وظهرت الشيعة، وظهرت الخوارج وهذه الطوائف الثلاث هي أولى الطوائف في الإسلام، واتخذت كل طائفة من هذه الطوائف أصولاً وقواعد، هذه الأصول والقواعد خالفت كتاب الله من ناحية، وخالفت سنة النبي عليه الصلاة والسلام من ناحية أخرى، والذي يفهمها سلف الأمة. فالأمر فيهم كما قال ابن مسعود: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد عليه الصلاة والسلام، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. فهل يعقل أن ربنا تبارك وتعالى أخفى الاعتزال وهو حق على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأظهره لـ واصل بن عطاء؟ إن واصل بن عطاء كان من تلاميذ الحسن البصري وانشق عنه في أوائل المائة الثانية، فهل يعقل أنه فهم فهماً أفضل من فهم الصحابة؟! لو بحثت شرقاً وغرباً لن تجد هذا القول الذي سمعناه. وفي هذا الزمان أناس يقولون: النقاب حرام، فأخذت أبحث في كتب أهل العلم الموثوق، وبحثت في كتب أهل البدع، حتى في كتب الشيعة والقدرية والخوارج والضلال والفساق والفلاسفة، فلم أجد أحداً منهم يقول: النقاب حرام، فمن أين أخذت هذا؟ كل ما فيها أن هذه المسألة هي محل خلاف على قولين اثنين لا ثالث لهما: إما أنه فرض واجب، وإما أنه سنة مستحبة. فعندما يأتي رجل بعد (1420) سنة مرت على هذه الأمة ويقول: النقاب حرام؛ فهذا قول ثالث لم يأت به أحد من أهل العلم، وإنه لجدير أن نذكر كلام ابن حزم: إذا اختلف السلف والأئمة على قولين فلا يحل لمن أتى بعدهما أن يأتي بقول ثالث؛ لأنه لو قلت: إنه من الممكن وجود القول الثالث، فإنك ستقول: إن السلف اختلفوا في مسألة على وجهين، ولم يكن الحق من وجهين، ودل على أنهما ضلا عن معرفة الحق. ولذلك قال: إذا اختلف السلف في مسألة على قولين فلا يحل لمن أتى بعدهم أن يأتي بقول ثالث، وإلا لكان ظالماً. حذرنا الله تعالى من اقتراف ما اقترفه أهل الكتاب من قبلنا فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. فلا تتشبهوا بهم حتى لا يصيبكم من العذاب العظيم ما أصابهم، فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا، ومن بعد البيان اختلفوا.

قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه)

قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) [وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]]؛ ولذلك (خط النبي عليه السلام خطاً في الأرض، ثم جعل عن يمينه خطوطاً، وعن يساره خطوطاً، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]-أي: هذا الخط المستقيم يشبه الصراط الذي أتيتكم به- أما هذه السبل التي عن جنبي الصراط فإنها سبل الشيطان، وعلى رأس كل واحدة منها شيطان يدعو إليها). قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] أي: التي على جنبي الطريق، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام:153] أي: فتبتعد بكم عن سبيل الله عز وجل، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، أي: هذه وصية الله تبارك وتعالى لكم.

قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا)

قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً) [قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]]. يا محمد! إنه شق على المشركين أن تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، وترك ما كانوا يعبدون ويدعون. [وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32]. فهل بقي -رحمكم الله- أوضح من هذا البرهان، أو أشفى من هذا البيان؟]

إخبار الله أمة محمد بأنه خلق خلقا للابتلاء والفرقة وتحذيره سبحانه من متابعتهم

إخبار الله أمة محمد بأنه خلق خلقاً للابتلاء والفرقة وتحذيره سبحانه من متابعتهم [وقد أعلمنا الله تعالى أنه قد خلق خلقاً للاختلاف والفرقة، وحذرنا أن نكون كهم لهم -أي: أن نتمثل بصفاتهم- واستثنى أهل رحمته لنواظب على المسألة أن يجعلنا منهم، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119]. ثم حذر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهل الأهواء المختلفين وآراء المتقدمين، فقال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]-أي: يا محمد! إذا أتاك الخصمان فاحكم بينهما بما أنزل الله- {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]. وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]. وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16 - 19]. وقال عز وجل فيما ذم به المخالفين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]. وفي قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7]. وفي قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. وفي قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام:159]. وفي قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105]. وفي قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:53]. ونحو هذا في القرآن كثير، قال ابن عباس: أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل. وقال ابن المهاجر: سئل عيسى بن مريم عن الفرقة والاختلاف ما يوقعهما بين الناس؟ قال: البغي، والحسد، وما يلائمهما من المعصية، وما يريده الله تعالى بالعامة من النقمة]. ثلاثة أشياء: بغي، حسد، معاص يكون من نتيجتها أن تنزل اللعنة والغضب من الله عز وجل فتأخذ العامة؛ لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر اليوم، ورضوا به غداً كما فعل بنو إسرائيل. هذه بعض الآيات الواردة في الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة والاختلاف، والأمر باعتقاد الحق المبين، والبينات التي جاء بها المرسلون، خاصة نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يأتي من يزعم أنه على حق وأنه متمسك بالإنجيل مثلاً، فكل الكتب السماوية السابقة محرفة ومبدلة ومغيرة إن وجدت، وهذا ما تم إلا بفضل الله عز وجل، حتى لا يبقى كتاب صحيح ولا شرع ولا وحي نزل من السماء محفوظ بحفظ الله إلا القرآن الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو السراج الذي يضيء للناس حياتهم الشرعية والدنيوية، فبه إنارة الكون، وبه إنارة القلوب بنور الوحي ونور الإيمان المؤدي إلى جنة الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى الفرقة ومدى إطلاقها على كل جماعة في الساحة

بيان معنى الفرقة ومدى إطلاقها على كل جماعة في الساحة Q ما معنى الفرقة؟ وهل يطلق على كل جماعة على الساحة اسم الفرقة، وما هي ضوابط ذلك؟ A هذه الجماعات التي على الساحة ليست بفرق، وإنما هي تكتلات وجماعات وطوائف لا علاقة لها بهذه الفرق التي توعدها النبي عليه الصلاة والسلام بالنار، وإنما تختلف عنها اختلافاً كلياً وجزئياً؛ لأن كل فرقة من الفرق التي بين النبي عليه الصلاة والسلام أنها في النار لها قواعد وأصول تخالف قواعد وأصول أهل السنة والجماعة، بل تضادها. فليست هذه الجماعات الدعوية التي على الساحة الآن من الفرق، إلا بالنظر إلى كل شخص على حدة في داخل هذه الجماعات. إن هذه الجماعات ما هي إلا جماعات دعوية، وليست فرقاً لها معتقدات وأصول، وهذه الجماعات لم تكن موجودة إلا بسبب الظروف السياسية التي تمر بها بلدان الإسلام شرقاً وغرباً، فتقوم في كل بلد جماعة تنظر من منظور معين فترى أن الإصلاح لابد أن يكون من القمة. إذاً: فهي نظرة إصلاحية لا نظرة اعتقادية، ومنها من ترى إصلاح القاعدة وبإصلاحها تنطلق الهمم، ومنهم من يرى أخذ الظالم أخذاً شديداً وكف الظالم عن ظلمه، ومنهم من يرى أن سبيل النجاة هو بطلب العلم، وهذا أرجح المناهج، بل أصح المناهج اتباعاً لأهل السنة، إذا لم يكن في مقدورنا في وقت من الأوقات تغيير المنكر باليد فلا بد من تغييره بالعلم والدعوة إلى الله عز وجل، وأنتم تعلمون مكانة العلم ومنزلة العلم، وأن أمة بغير علماء، ودعوة بغير علماء، ليست في حقيقتها دعوة سديدة صحيحة، ولذلك فالدعوة السلفية الآن بإمكانك أن تعد لها عشرات بل مئات العلماء، وأنهم يأخذون بنواصي الشباب إلى الله عز وجل عن طريق طلب العلم، ما أمكنهم إلى ذلك سبيلاً. أما من يرى رؤيا غير ذلك فلا بد أن يراجع هذا الكلام، خاصة والواقع يثبت فشل جميع المناهج إلا طلب العلم. تصور لو أن هؤلاء الناس في كل الأرض شرقاً وغرباً قالوا: يا ناس! يا علماء! تفضلوا من باب: (الجمل بما حمل) اعملوا، فإنك تحتاج إلى آلاف العلماء في حين أنه ليس عندك عالم واحد، وفي كل أمر من الأمور تحتاج إلى رجل من أهل العلم، وفي كل مسجد تحتاج إلى رجل من أهل العلم. إن وزارة الأوقاف في مصر ضمت (65000) مسجد، فتجد معظم المؤذنين لا يحسنون الأذان والإقامة، وأنا أذكر مرات ومرات أن واحداً لو أقام الصلاة أو أذن على غير ما تقتضيه اللغة والشرع أمر الشيخ محمد بن شقرة -وهو شيخي وأستاذي- بإعادة الأذان وإعادة الإقامة؛ لأنه يعتبر أن هذا الأذان كأن لم يكن وقع فهو باطل، وهذه الإقامة وقعت باطلة، ثم لما كلمناه في ذلك في موطن عمله وهي وزارة الأوقاف قال: هؤلاء أكثر من ثلاثة وثلاثين شخصاً من بلاد العرب تقدموا للأذان في المساجد لم يفلح واحد منهم، وكان الشيخ يطلب من كل واحد أن يؤذن؛ فما ارتضى منهم إلا واحداً فقط وقال: هذا الأذان صحيح، والباقون جميعاً يلحنون لحناً جلياً في الأذان. فتصور أننا نحتاج للأذان في كل مسجد لواحد تقبل يديه حتى يؤذن أذاناً صحيحاً، هذا في المؤذن ناهيك عن الصلاة، فمن الأئمة من يصلي بالناس وليس له طعم ولا رائحة، ولا يعرف أن يتكلم حتى كلاماً عادياً، أول ما يدخل الصلاة يقول: الله وأكبر بصوت عال! فكيف أصلي خلفه؟ فلحنه جلي وتبطل به الصلاة، والقرآن كذلك يلحن فيه، فهو ينتقل من لحن إلى آخر. إمام في قرية من القرى تقدم ليصلي بالناس المغرب، فصمت ثم ركع، فالناس قالوا له: لماذا لم تقرأ؟ فالتفت وقال: نسيت، ثم قال: الله أكبر، ثم انتقل ليقرأ الفاتحة وما أدراك ما الفاتحة! قال: بسم الله الرحمن الرحيم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) حتى أتم الحديث ثم ركع. فبعد أن سلم من الصلاة، قلت: الله أكبر الله أكبر وأقمت الصلاة مرة أخرى، فقالوا: ما هذا يا شيخ؟! قلت: أصلاً أنا أتيت من مصر وأحب أن أصلي الفرض مرتين. وبعد أن انتهيت من الصلاة بهم مرة أخرى قلت لهم: أنتم تعلمون أن قراءته ليست هي فاتحة الكتاب وليس من أصل القرآن، وإنما قرأ حديثاً. وتصور أن مسجداً مثل هذا ليس فيه إمام ولا مؤذن ولا فراش، فبعض الناس يستهين بالعلم. فالشاهد يا أخي الكريم! من Q أن هذه الجماعات الدعوية التي على الساحة ما هي إلا جماعات نظرت نظرة إصلاحية للمجتمع والنهوض بالمسلمين إلى الإسلام الحق، وكل واقف على ثغرة اجتهد من وجهة نظره. وقد بلغني أن أحد الدعاة قال: إن الجمعية الشرعية وجماعة التبليغ فرقتان فقلت: عجباً أن يتفوه رجل من عامة الناس بهذا الكلام، فضلاً أن يصدر هذا الكلام من رجل ينسب نفسه إلى العلم، أن تكون الجمعية الشرعية التي قامت منذ أكثر من خمسين عاماً تدعو إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى إقامة السنن ونبذ البدع ومحاربة الشرك فرقة، وكذلك جماعة التبليغ، فكيف تكون هذه فرقاً؟ أمر عجيب جداً! نعم. عندهم أخطاء وعندهم سلبيات، لكن هل هذه السلبيات تجعلها فرقة من الفرق التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالنار؟ لا يمكن، وإني أبرأ إلى الله عز و

حكم الانتساب إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة

حكم الانتساب إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة Q هل الجماعات الموجودة على الساحة الآن تنزل تحت الحديث: (كلها في النار إلا واحدة)؟ وهل يأثم الذي ينضم إلى هذه الجماعات؟ A أما نزولها تحت الفرق فلا، ولكني أنصح دائماً بالتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. وأما إن كنت منخرطاً في إحدى هذه الجماعات، فإن الإيمان لابد أنه في قلبك ضعيف، فإن كان إيمانك قوياً فاحرص على اتباع الحق، سواء أتى هذا الحق من جماعتك أو من غيرها. إننا كلنا نعيش حياة الواقع الإسلامي بين المسلمين، والعداوة الواقعة بين الجماعات الإسلامية يا إخواني أمر مذموم، ومن العدل والإنصاف أنه لو كان الحق في رأيهم، وقد صح عن الله وعن رسوله، فلو قال به حتى اليهود لأخذت به؛ لأنه حق، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. يا إخواني؛ لما كنا في السبعينات منخرطين في إحدى الجماعات لم نكن نقبل من أحد شيئاً وإن كان صحيحاً. يعني: بلغ بنا الأمر في بغض الأزهر أننا كنا نرد عليه أي قول يقوله، وإن كان عليه دليل! وهذا في الحقيقة غلو، فالحق لو أتاني من طريق يهودي أشكره عليه، ولذلك أنتم تعرفون عبد الله بن سلام قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هي ثلاثة أشياء أسألك فيها، فإن أجبت فأنت نبي، وإن لم تجب فأنت كذاب. قال: ما أول طعام أهل الجنة؟ وما هي أول أشراط الساعة؟ وكيف ينزع الولد؟ وهذه الأسئلة الثلاثة حق، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل له: أنت يهودي فلا يمكن أن أجيبك! بل أجابه وقال: (أول علامات الساعة نار تحشر الناس في المشرق أو إلى المشرق، وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها). فعرف أن هذه الإجابات لا يجيب عليها إلا نبي؛ لأنه عرف ذلك من واقع كتب أهل الكتاب السابقة، ولذلك آمن فوراً، وانتفع بالنبي عليه الصلاة والسلام وبدينه. وأنا دائماً أريد أن أقول: إن التعصب للجماعات يضعف الولاء. والحمد لله أن السلفية ليست جماعة، وفي الأصل لا يمكن أن تكون السلفية جماعة، لأن جذورها وأصولها تمتد إلى زمن الصحابة، بل الصحابة هم أصل السلفية، وأصل الالتزام بالكتاب والسنة، وهم أصل الفهم للغة. فلا يصح أن أقول: إن السلفية جماعة، ولذلك من زعم أن السلفية جماعة فزعمه هذا باطل يجب أن نرد عليه. وكل جماعة يلزم لها أمير، والأمير يلزمه الأمر، والأمر يلزمه سمع وطاعة، فإن تنكرت للسمع والطاعة استلزم ذلك التأثيم، وكل هذه المؤهلات لا تصلح إلا مع الخليفة، أو مع من يعينه الخليفة، وأين هذا الخليفة؟ هل أحد منا يستطيع أن يظل في بيته آمناً إلى صلاة الفجر؟ وهل هناك أحد منا ينام في سريره أو في مخدعه يأمن على نفسه حتى طلوع الشمس؟

حكم ختان الإناث في الإسلام

حكم ختان الإناث في الإسلام Q ما هو حكم الختان في الإسلام؟ A حكم هذا قد أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ودعا إليه، والحديث في الصحيحين وغيرهما، والذي يقوم بهذا العمل امرأة حاذقة طبيبة ماهرة، تأخذ القدر الزائد حتى لا تصاب البنت بشهوة زائدة، ولا تنهك العضو كاملاً حتى لا تصاب المختونة ببرود جنسي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لـ أم عطية: (أشمي ولا تنهكي) يعني: خذي الجزء الزائد ولا تأخذي العضو كله. ففي هذا الوقت احذر أن تسلم بدنك لواحد لا يفهم شيئاً أبداً. وكذلك في مسألة الحجامة، فإن بدنك كله شرايين وعروق ودماء وغير ذلك، فقد يكون هناك شخص غشيم جاهل لا يعرف الحجامة يعبث في بدن الإنسان فيقتله. فتجد أتباع الملاحدة الخارجيين في مصر هنا يتكلمون في المجلات والجرائد والصحف. يقولون: هذا هو التشدد، وهذا ليس صحياً: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] نحن الذين جعلنا أنفسنا فتنة لهم، فهم ينتظرون أي ثغر يدخلون من خلاله للطعن في الإسلام.

ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة الاجتماع هو سر قوة الأمة؛ إذ به تصون كرامتها، وتقيم دينها دون خوف من أحد، وبه ترد كيد أعدائها، أما التفرق والتشرذم فلا يأتي إلا بالويلات والنكبات على الأمة، ويجعلها ضعيفة أمام عدوها، عاجزة عن تحقيق أهدافها، ولذلك حث النبي عليه الصلاة والسلام على الالتزام بالجماعة، وشدد النكير والعقوبة على دعاة الفرقة والشتات.

باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: في الدرس الماضي ذكرنا الآيات من كتاب الله عز وجل، والتي تحذر من الفرقة والشتات والتفرق والتشرذم، وبيان خطر ذلك، والأمر بلزوم الجماعة. ودرس اليوم متمم لدرس الأسبوع الماضي من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك آثار سلفنا رضي الله تعالى عنهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة]:

حديث أبي هريرة: (ترك السنة الخروج من الجماعة)

حديث أبي هريرة: (ترك السنة الخروج من الجماعة) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ترك السنة الخروج من الجماعة)]. والجماعة إما أن يقصد بها المعنى العام وهي جماعة أهل السنة، وإما أن يقصد بها ما عليه سواد المسلمين من اعتقاد صحيح. فإما أن يقصد بالجماعة صحة الاعتقاد في الله عز وجل، أو لزوم جماعة المسلمين، أي: لزوم الأمير ومن معه. والأمير بالمعنى العام: الخليفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ترك السنة هو الخروج من الجماعة)، بمعنى أنه يجب على كل مسلم أن يلزم الخليفة، وأن يلزم إمارته وولايته وطاعته إلا في معصية الله عز وجل، فمن ترك ذلك وتنكب هذا فإنه قد ترك السنة. وفي هذا بيان أهمية الجماعة، وبيان أهمية التزام منهج أهل السنة والجماعة تحت راية الإمام أو الخليفة، وأن من خالف ذلك فإنما خالف سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

حديث أبي هريرة: (من ترك الطاعة وفارق الجماعة)

حديث أبي هريرة: (من ترك الطاعة وفارق الجماعة) [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الطاعة وفارق الجماعة ثم مات فقد مات ميتة جاهلية)]. فقوله: (من ترك الطاعة) أي: طاعة الإمام والأمير والسلطان. وقوله: (وفارق الجماعة) أي: جماعة أهل السنة، فمات على هذه الحال فميتته حينئذ ميتة جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية لا إمام لهم ولا أمير ولا سلطان، بل كل إنسان منهم إلهه هواه، وأما المسلم في داخل الجماعة فإنما يأتمر بأمر الأمير وينتهي عما نهاه عنه الأمير والسلطان والخليفة، فالذي ينشق عن الإمام ويخالفه ويشق عصا الطاعة ثم يموت وهذه حالته، فإنما يشبه موتته بموت رجل من أهل الجاهلية. وهذا الحديث روي بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة، منها ما رواه [أبو هريرة نفسه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات على ذلك فميتته جاهلية)]. وفي رواية عنه [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من اعترض أمتي لا يحتشم من برها ولا فاجرها، ولا يفي لذي عهدها، فليس مني، ومن خالف الطاعة، وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية، أو يغضب للعصبية، فمات فميتته جاهلية)]. وهذا الحديث حديث صحيح، وهو عظيم جداً، وقد اشتمل على جملة من الفوائد والأحكام. أولها: قوله: (من اعترض أمتي لا يحتشم من برها ولا فاجرها)، أي: من خرج على جماعة المسلمين لا يرعى فيهم إلاً ولا ذمة، ولا يميز بين البر والفاجر، وإنما خرج عليهم جميعاً بالقتال والسلب، أو شق عصا الطاعة، أو فارق جماعتهم. وقوله (لا يحتشم) بمعنى: لا يستحي ولا يألو جهداً في الخروج عليهم ومخالفتهم بشتى أنواع المخالفة. وقوله: (ولا يفي لذي عهد بعهده)، يعني: لا يعبأ بالمواثيق والعهود التي أبرمها مع آحاد هذه الجماعة، فهو لا يفي بالعهد، ولا يستريح لإمامه، ولا يفي له. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فليس مني)، أي: من فعل ذلك فليس مني. وربما فهم بعض الناس كما فهم الخوارج من قبل أن قول النبي عليه الصلاة والسلام في أي حديث (ليس مني من فعل كذا) أي: أنه ليس من المؤمنين حقاً، بل إنه بذلك قد خرج عن حد الإسلام ودخل في حد الكفر، وليس الأمر كذلك إلا في حالة واحدة، وهي إذا استحل ذلك وقامت الحجة عليه بحرمة النفس، يعني: قامت عليه الحجة بحرمة قتل المسلم وإهراق دمه فقال: بل هو حلال الدم، فمن فعل ذلك فهو كافر خارج عن حد الإسلام، وداخل في حد الكفر، وأما من قاتل فقتل أو قتل، أو من أراق دم أخيه المؤمن أو المسلم غير مستحل لذلك؛ فهذا من أكبر الكبائر، فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر، ولكنها لا تخلد فاعلها في النار؛ لأنها كبيرة، فإن تاب منها قبل أن ينالوا منه يلزمه دفع الدية، وإلا فالأصل في القتل العمد القصاص، والقتل الخطأ فيه الدية، وديته على العاقلة، أي: على عشيرته وقبيلته لا عليه هو. فقول النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (من اعترض أمتي لا يتحاشى برها ولا فاجرها، ولا يفي لذي عهد بعهده فليس مني) أي: ليس من أخلاقنا ولا عاداتنا وسلوكنا، وإنما شريعتنا تخالف ذلك وتنهى عنه وتحذر منه، وتعد عليه بالنار في الآخرة، أو بإقامة الحد في الدنيا. فقوله: (ليس مني من فعل كذا) أي: ليس من هدينا ولا من طريقتنا، ولا يحمل على ظاهره إلا في حالة الاستحلال بعد قيام الحجة عليه، وأما غير ذلك فلا، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد نقله غير واحد، وقد بلغ نقلته المئات، ومن قال بغير ذلك فقد قال وتفوه بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ومن خالف الطاعة) يعني: أتى بالمعصية. (وفارق الجماعة) أي: صار وحده، أو تحيز وتميز هو ومن معه لمجادلة الجماعة الكبرى، أي: جماعة الإمام، فهذا يسمى محايداً، ولم يخرج على الإمام على مر التاريخ طوله وعرضه إلا الخوارج.

الطرق الشرعية لنصب الإمام

الطرق الشرعية لنصب الإمام السلطان إما أن يتعين تعييناً شرعياً، أو يتعين تعييناً جبرياً، ولا يخلو حاله من هذين. فإما أن يوليه أهل الحل والعقد ويتولى ولاية صحيحة من جهة الشرع، فيكون أميراً بالترشيح والانتخاب الذي يسميه الشرع بالبيعة، أي: بالبيعة الحقة، وهي بيعة أهل الحل والعقد، كما بويع أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، وبايعه بعد ذلك الناس في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. وهذه إحدى الطرق في تعيين الإمام أو الخليفة، وهي أعظم الطرق وأحسنها. وإما أن يتولى السلطان ولاية جبر واستفزاز، بمعنى: أن يفرض عليك فرضاً، وما فرض بهذه الطريقة إلا لأنه ملك القوة والعدة والعدد والعتاد. فالأول طاعته واجبة بلا خلاف بين أهل العلم؛ لأحقية ذلك له من جهة الشرع. والثاني طاعته واجبة بلا خلاف بين أهل العلم، لكن لا لكونه مستحقاً ذلك من جهة الشرع، وإنما للضرر الناتج عن حربه ومجابهته والخروج عليه.

محاسبة الرعية للولاة في عهد السلف

محاسبة الرعية للولاة في عهد السلف كان الواحد من سلفنا رضي الله عنهم إذا تولى ولاية يقوم آحاد الناس فيقول له: من أين لك هذا؟ وكيف لبست هذا الثوب؟ ومن أين لك المال الذي معك؟ وكان عامة الناس يحاسبون ولاتهم وأمراءهم وخلفاءهم على النقير والقطمير، وكانوا يعيشون في أمن وأمان؛ لأن الله تعالى هو الذي أمنهم، كما أنه هو الذي تولى تعيينهم برضا منه، وهو الذي بث في قلوب الخلق تبجيله واحترامه وتعظيمه، ولما قال عمر رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبر: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا، قام أعرابي وقال: لا سمع لك ولا طاعة، قال: ولماذا؟ قال: من أين لك هذا الثوب الذي تلبسه؟ وكان عمر يوزع أثواباً قصاراً، أي: ما يكفي لتفصيل ثوب قصير، وكان عمر قد جمع إلى ثوبه -أي: إلى حظه من القماش- نصيب ولده عبد الله، فقال عمر: قم يا عبد الله! فبجل أباك، فقال: إني وهبت أبي حظي، فجعلهما ثوباً واحداً، فقال الأعرابي: الآن نسمع ونطيع. ولو أن الأمة الآن بأسرها قالت لأحد ملوكها: من أين لك هذا؟ لما تورع هذا الحاكم عن إحراقها عن آخرها دون أن يعير هذا السؤال جواباً. وهذه ولاية إجبار. فالطاعة في ولاية الإجبار لا لأحقية الوالي من جهة الشرع، وإنما مخافة الفتن الناجمة التي تشق وحدة المسلمين. فالطاعة في الحالين واجبة إلا فيما حرمه الله ورسوله، لكنها تختلف في أن الطاعة في الأولى طاعة بحب ورضا، وفي الثانية مخافة الاستبداد وإراقة الدماء.

علة النهي عن الخروج على الإمام

علة النهي عن الخروج على الإمام والشاهد من هذا: أن الخروج على الإمام في كل الأحوال خطره محقق ومحدق بالأمة من كل جانب نتيجة الخروج، وربما يفهم البعض أنني إذا تكلمت عن الخروج أن هذا يعني السكوت عن بيان الحق وفضح الباطل، فأقول: بل هاتان المسألتان متباينتان، فإن ترك الخروج لا يمنعنا من قول كلمة الحق وإظهار وجه الفساد، فهذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فالخروج لا يقره عاقل لا في الولاية الشرعية ولا في الولاية الاستبدادية، وأما إظهار الحق ورد الباطل فيجب على كل الولاة وعلى كل إنسان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق -أو قال: كلمة عدل- عند سلطان جائر)، يعني: يحكم بالجور أو الظلم وتعدي الحد، والحد هنا هو حد الشرع، فإذا تعدى الحاكم أو السلطان أو الأمير أو الوالي حده الذي رسمه له الشرع فيجب إيقافه ممن وجب عليه إيقافه، وليس من كل أحد، وإنما من أهل العلم الذين أوجب الله تبارك وتعالى عليهم هذا الحق. قال: (ومن ترك الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية)، يعني: عصبية، كأن يقاتل لأجل بلدته أو لأجل عشيرته أو لأجل أن يقال: شجاع أو عملاق أو جريء، أو غير ذلك من هذه المصطلحات، فهذه كلها ما دامت ليست في الله عز وجل فكلها عمية وجاهلية. قال: (ومن قتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب للعصبية فمات على هذه الحال فميتته جاهلية).

التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن طاعة الإمام

التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن طاعة الإمام قال: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة، وخرج عن الطاعة فمات، فميتته جاهلية)]. إذاً: الخروج عن الطاعة المقصود به الخروج عن طاعة ولي الأمر، وولي الأمر إما أن يكون من العلماء أو من الأمراء؛ لأن أولياء الأمور بإجماع أهل السنة هم العلماء والأمراء، والأمراء بمعنى الخليفة الأكبر ومن ولاه؛ لأن الأصل أن جماعة المسلمين هي جماعة واحدة، وسواء شرقت أو غربت فهي جماعة واحدة، فلا يكون عليها إلا خليفة واحد، وهذا الخليفة لا بد أنه يولي ولاة وأمراء وسلاطين على الأمصار والبلدان، فطاعة هؤلاء الولاة والأمراء والسلاطين الذين ولاهم الخليفة إنما هي من طاعة الخليفة، وطاعة الخليفة من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله عز وجل، فانظر إلى تسلسل هذه الطاعة، وأنها في الأصل طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتنزل هذه الطاعة على الأمراء الموجودين الآن. والجماعات الموجودة الآن ليست فرقاً، ومن قال بأنها من الفرق فقد فقد عقله، ولا يدري ما يخرج من رأسه، فهي ليست فرقاً، كما أنه ليست واحدة منها هي الجماعة الأم، أو هي الجماعة التي يجب أن تبايع، بل لك أن تنخرط في أي منها، بشرط أن يكون الولاء لله تعالى ورسوله، وليس لهذه الجماعة، وإن كان الذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم في باب الجماعة أن ترك الجماعة بأسرها أمر أفضل من الأول؛ لأن الانخراط في سلك هذه الجماعات يضعف الولاء لله عز وجل، ويجعل الشخص يعادي إخوانه من الجماعات الأخرى، وينظر إليها شزراً ربما أكثر من النظر إلى اليهود والنصارى، بل إذا سألته عن حكم المعاملة مع اليهود والنصارى أجابك بكل ثقة أنه يتعامل معهم دائماً من باب أن الله تعالى قال ذلك، ولكنه لا يقبل أن يتعامل مع أخيه المؤمن من جماعة أخرى؛ لأنه تربى في داخل جماعته على العداء والبغض لكل من لم يكن في جماعته، ولا يمكن أن يكون هذا ديناً. ونحن نعتقد أن هذه الجماعات سلاح ذو حدين؛ لأن كل جماعة تقف على ثغر من ثغور الإسلام، وربما وجد فيها فساد عظيم، وقد تأمر الجماعة بالصلاة والمحافظة عليها، وهذا وجه حسن، ولكن الوجه القبيح الذي ربما لا يصمد أمامه الوجه الحسن هو أن هذه الجماعات تعادي بعضها البعض، وهذا كلام عظيم جداً. ولذلك على الواحد منا أن يدعو ربه حتى في نومه أن يؤلف بين هذه الجماعات جميعاً تحت راية واحدة، وتحت مذهب واحد، وهو مذهب السلف الصالح؛ لأنه المذهب الصحيح، وهو مراد الله عز وجل ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام من سنته، وأما المناهج الأخرى فربما فيها من الخلل على قدر ما فيها من الصواب، بل وربما يكون خللها أعظم من صوابها، ولذلك أنا أعتقد اعتقاداً جازماً منذ أواخر السبعينات أن الانضمام بأي جماعة من هذه الجماعات إنما هو تضييع للوقت والجهد، بينما الانشغال بطلب العلم على يد أناس لا ولاء لهم ولا انتماء لهم إلا لله ورسوله وأصحابه الكرام، فهذا هو المنهج السديد الذي أدعو إليه فيما يزيد عن عشرين عاماً إلى يومنا هذا. وأسأل الله تعالى أن يوفقني إلى ذلك. قال: [(من فارق الجماعة وخرج عن الطاعة فمات فميتته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يحاشي مؤمناً لإيمانه -أي: لا يترك مؤمناً لإيمانه- ولا يفي لذي عهد بعهده؛ فليس من أمتي، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية، فقتلته جاهلية)].

حديث عمر: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)

حديث عمر: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) [وعن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)]، يعني: كلما كثرت الجماعة كانت في مأمن من خطر الشيطان والفتن وغير ذلك. ربما يدور في أذهان بعض الحاضرين سؤال وهو: أنني دائماً أدعو لجماعة الإمام الأعظم الذي هو الخليفة، حيث إنه لا خليفة الآن، ولا بد للمؤمن أن يكون في جماعة أو مع جماعة، فيد الله مع الجماعة كما جاء في الحديث، فأي جماعة الآن نكون معها؟ وأقول: الجماعة الآن حقاً هي جماعة الكتاب والسنة، وهم أهل العلم المتحلون بكل خير، الملتزمون بمراد الله عز وجل من كلامه ومراد الرسول عليه الصلاة والسلام من كلامه، الداعون لذلك، والعاملون بذلك، وليس لهم من دعوتهم ولا علمهم مطلب ولا هوى ولا بدعة إلا أنهم يدعون إلى الله عز وجل، وأما أن يدعو رجل إلى مذهب أو إلى جماعة، أو إلى نهج انتهجه، أو إلى عصبية أو حمية أو غير ذلك، فليس هذا من دين الله عز وجل، وإنما الجماعة هي جماعة الكتاب والسنة على نهج وهدي السلف، هذه الجماعة التي نريد أن تنخرط في سلكها، فهي قد اتخذت لنفسها المنهج الذي قال الله عز وجل فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، أي: عقيدة وشريعة. وهذه العقيدة هي عقيدة النبي عليه الصلاة والسلام وعقيدة أصحابه الكرام والخلفاء الراشدين، وأما الشريعة فهي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما هذه الفرق التي فارقت جماعة المسلمين وجماعة الأئمة والخلفاء الراشدين، فليست من دين الله عز وجل من قريب ولا من بعيد، بل إنها قد انحرفت عنه انحرافاً، وتحقق فيها وعيد النبي عليه الصلاة والسلام.

حديث عمر: (أكرموا أصحابي فإنهم خياركم)

حديث عمر: (أكرموا أصحابي فإنهم خياركم) [عن عبد الرحمن بن عبد الله قال: قدم عمر الجابية -وهي قرية من قرى الشام- فقام فينا خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قمت فيكم، فقال: (أكرموا أصحابي)]. وقالت عائشة رضي الله عنها: أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فسبوهم، أي: فلم يستغفروا لهم، بل سبوهم وشتموهم. فنحن مأمورون بالاستغفار لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، اللهم اغفر لهم وارحمهم. قال: [(أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر فيكم الكذب)]، أي: بعد هذه القرون الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: [(فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف، ويشهد وإن لم يستشهد، ألا من أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن معهما الشيطان، ومن ساءته خطيئته فهو مؤمن)]. يعني: علامة الإيمان أن من عصى الله تعالى وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم، فاستاء بهذه المعصية وتفطر قلبه وحزن حزناً بالغاً عليها؛ فهذا دليل على صدق الإيمان. ولذلك لما أتى الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا تحدثه نفسه بالشيء لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتفوه به، قال: أوقد فعلها الشيطان؟) وفي رواية مسلم (أوقد وجدتم ذلك؟ ذاك صريح الإيمان). وكما قال النووي وابن حجر عليهما رحمة الله: إن هذه وسوسة الشيطان في ذات الله عز وجل، فتجد الرجل يفكر في نفسه ما لو أنه يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (أوقد فعلها؟) يعني: الشيطان قد فعلها وضحك عليكم؟ وأنتم ساءتكم هذه، مع أنه حدثته به نفسه حديثاً، ومرت عليه مرور الكرام ولم تستقر في القلب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فتقولون: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فتقولون: الله، فيقول: من خلق الجبال؟ فتقولون: الله، فيقول الشيطان: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا)، وفي رواية: (وقولوا: آمنا بالله ورسوله). وقوله: (فاستعيذوا بالله) أي: لدحر الشيطان وطرده، فالاستعاذة تطرد الشيطان. وقوله: (وانتهوا) أي: جاهدوا أنفسكم ألا يستقر هذا الوسواس في قلوبكم، وأن يكون مجرد خاطر خطر في القلب ومر ولم يستقر في القلب. وقوله: (وقولوا: آمنا بالله ورسوله) تحديد من النبي عليه الصلاة والسلام لعلاج هذا الداء الفتاك العظيم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان)، أي: إذا ساءتك هذه المعصية ولم تفرح بها. وصاحب الأمراض القلبية يتمنى بزعمه أن لو يجد متشابهاً في القرآن فيقف عنده، وقد نبهنا الله تعالى أن هؤلاء هم مرضى القلوب والعقول، الذين يتتبعون المشتبهات، وأما المسلم فإنه يؤمن بها ويمرها كما جاءت ولا يحملها إلا على أحسن المحامل، بخلاف المريض من أهل الشبهات ومن العامة والجهلاء. وكلام الله تعالى واحد، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فلما لم يكن فيه اختلاف دل على أنه من عند الله عز وجل. فقوله عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان) أي: خوفك البالغ مما وقع في قلبك أو خطر على قلبك أكبر دليل على أنك رجل صالح مؤمن، وكذلك عندما تفعل المعصية ثم تتوب إلى الله عز وجل فوراً، وترجع إليه حالاً، وتستاء غاية الإساءة مما بدر منك. وقد قال حنظلة: (يا رسول الله! نكون بين يديك كأننا نرى الجنة والنار، فإذا خرجنا من عندك وعافسنا الزوجات وانشغلنا بأموالنا اتهمنا أنفسنا بالنفاق)، يعني: عندما نكون في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فكأنا نرى الجنة والنار حقيقة، فإذا خرجنا من مسجده النبوي الشريف وانشغلنا بأمور الدنيا غاب عنا بعض التصور الذي نجده في مجلس العلم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وبهذا اتهموا أنفسهم بالنفاق، وليسوا كذلك، ولذلك قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لو ظللتم على ما أنتم عليه لصافحتكم الملائكة). وأمر جبلي فطري أن الإنسان حينما ينشغل بشيء يغيب عنه أشياء، فـ عمر بن الخطاب مثلاً كان يجعل نفسه جملاً لأولاده ويقعد في ساحة البيت وغير ذلك، ولو أن عمر في هذه اللحظة تصور أو تذكر النار لما مازح أبناءه، وهذا من رحمة الله عز وجل بالخلق.

حديث النعمان بن بشير (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)

حديث النعمان بن بشير (الجماعة رحمة والفرقة عذاب) [وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)]، أي: جماعة الإمام. وكل جماعة تأخذ هذه الأحاديث وتنزلها على نفسها، ولو أن هذه النصوص قد وردت في كل جماعة من هذه الجماعات الموجودة على الساحة، فلا بد وأن الأمة قد أجمعت على الباطل منذ قرون عديدة، وأول الجماعات هذه كانت سنة (1926م)، ولم توجد جماعة قبل هذا إلا الجماعة الأم، وقد سقطت الجماعة الأم سنة (1924م)، وكانت متمثلة في الخلافة العثمانية، فأتت فكرة إنشاء جماعة مسلمة قوية تسد الفراغ، يعني: أن القضية في أولها كانت نواياها حسنة، ثم صارت هذه الجماعة كغيرها من الجماعات السابقة التي تأخذ الولاء والبراء فيما بينها بعد أن قامت على غير أسس، ثم وضعت لها بعد ذلك الأسس، ثم أصبحت جماعة شيعية، وبعد هذا جماعة اعتقادية، وبعد هذا فرقة من الفرق وغير ذلك. فهذه الجماعات سلكت نفس المسلك وإن لم تكن فرقاً، فهي قامت أولاً لأجل أن تحافظ على الكيان الإسلامي للمسلمين بعد أن سقطت الخلافة، ثم دعت بعد ذلك كل جماعة لنفسها، وادعت كل جماعة بأنها الجماعة الحقة، وهذا يلزم من جهة ثانية أن تكفر أو تفسق كل جماعة الأخرى، وهذا وجه من وجوه تفرق الأمة.

حديث: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)

حديث: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة) [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)]. وهذا نفس الحديث الأول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). وهو حديث صحيح. فمن خرج علينا الآن يقول بقول لم تقل به الأمة منذ قرون متعددة، ويقول: هذا دين الله عز وجل، فهو مخترع مبتدع في دين الله عز وجل، لا تجوز موالاته ولا موافقته على ما أحدثه. فإن كان من أهل الاجتهاد والعلم فهو مأجور أجراً واحداً، أما إذا كان دون ذلك فهو إنسان مبتدع. فالأمة لا تجتمع على ضلال، لكن قد يكون الضلال موجوداً في بعض الأفراد، ولا يقصد من هذا النص نفس الضلال مطلقاً، وإنما بمعنى آخر، فقد تجد بعض الأمة ليسوا على الحق، بل على الضلال المبين، وقد يكونوا في ضلال في فهم النصوص ولا يرجعون إلى كلام أهل العلم، وإما في ضلال في استخدام دين الله عز وجل للحصول على كرامة أو أموال أو وجاهة أو غير ذلك. وهذا أيضاً نوع ضلال. ولا يعني هذا الضلال أن الحق قد خفي والتبس على الأمة، بل الحق ظاهر عند غير هؤلاء، وهذا معنى (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، أي: لا يعم فيها الضلال في وقت من الأوقات ولا في بلد من البلدان، بل لا بد من قيام أحد أبناء الملة بالحجة في كل زمان ومكان، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]. قال: (فإن رأيت اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم). وهذا الشق بالذات ضعيف، بل ضعيف جداً، وفي إسناده مناكير، وأما معناه فربما يكون صحيحاً، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم، والسواد الأعظم ليسوا عامة الناس ورعاع الناس، وإنما السواد الأعظم علماء الأمة؛ لأن بعضهم يتصور أن السواد الأعظم هم العوام، والعوام لا عبرة بهم ولا حكم لهم نهائياً، فالعوام شر القطيع، وإنما المقصود بالسواد الأعظم في النصوص هم السواد الأعظم من أهل العلم؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع السواد الأعظم من العلماء على الضلال، بل قد يكون في أفراد العلماء، وأما في المجموع فلا. وفي حديث ابن مسعود: الحق ما عرف المسلمون، والباطل ما لم يعرفه المسلمون، أو بمعنى هذا الكلام. قال الشيخ الألباني وغيره من أهل العلم: (المسلمون) أي: علماؤهم.

حديث: (يد الله فوق الجماعة)

حديث: (يد الله فوق الجماعة) وقال: (يد الله فوق الجماعة، فمن شذ لم يبال الله بشذوذه). وقوله: (يد الله فوق الجماعة) الأصل إجراء هذا النص على ظاهره وعدم تأويله، وإن أولته فلا بأس بذلك بشرط أن يكون الأصل إجراءه على ظاهره، ومن العلماء في زماننا من لم يتصور قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، مع أنه من أهل السنة ويدعو إلى السنة، ولكنه كما يقولون: لكل جواد كبوة، وقال في قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) أي: قدرة الله فوق قدرتهم، وأن المراد باليد القدرة، ولا شك أن قدرة الله فوق قدرتهم، ولكن هذا لا يمنع إجراء النص على ظاهره، وأن يد الله فوق أيديهم. فقال: وكيف نفهم أن يد الله فوق أيديهم؟ فقلت له: كما تفهم أن السماء فوق الأرض بغير عمد، كما نقول: فلان فوق فلان، أي: في الرتبة والمنزلة والقوة والمكانة والعظمة والوجاهة، ويلزم من هذا أنه كان فوقه، فقوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) أي: هي فوق خلقه، ولكن تثبت اليد لله على ما يليق بكمال الله عز وجل. فوقف عند هذا وقال: أنا لا أتصور هذا النص إلا مؤولاً. وهو قد قضى حياته في نشر عقيدة السلف، فهذا يغفر له ذلك إن شاء الله بين يدي الله عز وجل؛ لأن الأصل فيه الاستقامة، وربما يكون قد قال هذا الكلام فيكم، أو أن أحداً منكم سمعه إن لم يكن كثير منكم سمعه، وأظنه إن شاء الله سيرجع. قال: (فمن شذ)، أي: من فارق الجماعة (لم يبال الله بشذوذه) وفراقه لهذه الجماعة.

حديث (من فارق الجماعة شبرا)

حديث (من فارق الجماعة شبراً) [وعن علي رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبراً فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه]، والربقة هي الحبل الذي فيه عقد، فكأن الإسلام كالحبل الذي فيه عقد، وفي الحديث: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فيكون أوله نقضاً الحكم، وآخره الخشوع في الصلاة). ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه، وهذا الحديث محمول على الوعيد الشديد جداً لمن خالف جماعة الإمام. [وقال حذيفة: من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه]. وهذا قول يؤيد قول علي رضي الله عنه. [وقال حذيفة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فارق الجماعة شبراً فارق الإسلام)]. وهذا الحديث فيه نظر، ففي أحد رواته ضعف يسير.

حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات)

حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات) [عن أبي الحارث الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات فذكر الحديث بطوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن)، أي: بخمس خصال وخمس واجبات. (بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله). فالجماعة مأمور بها، وكذلك السمع والطاعة والجهاد في سبيل الله والهجرة، أي: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، لا من مكة إلى المدينة؛ لأن الهجرة من مكة نسخت إلى يوم القيامة. [وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (أنا آمركم بخمس: بالسمع، والطاعة، والجماعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يراجع)]، أي: إلا أن يرجع إلى الجماعة.

حديث: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا)

حديث: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً) [عن عبد الله قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً -أي: خطاً مستقيماً- وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً -أي: خطوطاً معوجة يميناً ويساراً- ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)]. فصراط الله المستقيم هو هذا الخط الذي صوره ومثله النبي عليه الصلاة والسلام بخط مستقيم، والانحراف عن هذا الخط يعني الانحراف عن الإسلام والهدى ومنهاج النبوة، فكلما انحرف المرء عن هذا الخط انحرف عن الإسلام، ويزيد انحرافه عن الإسلام حسب انحرافه عن هذا الخط؛ لأنه يبتعد عن الإسلام بقدر غلوه وتماديه في هذا السبيل الذي سلكه بعيداً عن صراط الله المستقيم. [ثم تلا ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]]. وجاء ذلك أيضاً عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، فقد قال [جابر رضي الله عنه: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً هكذا أمامه -يعني: خطاً مستقيماً- فقال: هذا سبيل الله، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال: هذه سبل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم قال هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153])].

حديث: (من عمل لله في جماعة فأصاب تقبل الله منه)

حديث: (من عمل لله في جماعة فأصاب تقبل الله منه) جاء في رواية [ابن عباس قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من عمل لله في جماعة فأصاب تقبل الله منه)]، أي: من عمل لله وهو في داخل الجماعة تقبل الله منه، [(وإن أخطأ غفر الله له)] وبهذا تعلم بركة العمل في الجماعة. فلو أوكل إلى شخص معين أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة العمل، فعمل هذا مجلة، وهذا انشغل بالخطابة، وهذا بكذا، فهؤلاء انشغلوا في المصلحة العامة للمسلمين، وهذا العمل صورته صورة عمل جماعي، فالعمل الجماعي على هذا النحو مشروع بلا خلاف بين أهل العلم، بل حتى الحيوانات والحشرات والدواب تعمل عملاً جماعياً، حتى النمل والنحل تعمل عملاً جماعياً، ولا يلزم أن يكون لها أمير معين من قبل الخليفة. فالعمل الجماعي الذي يكون لله عز وجل لا يشترط له إمارة ولا بيعة ولا سمع ولا طاعة، فحينما يقوم واحد بأمر الدعوة مثلاً، ويتعاون مع غيره من الدعاة أو الشيوخ، فهذا عمل جماعي. وهذا لا يستلزم بالضرورة أنني أسمع وأطيع له، ولو أنه أميري لما كان يوجد شيء اسمه حر في هذه الحالة. ولو أن قاضياً تعين للقضاء فكان يذهب إلى المحكمة ويضع رجلاً على رجل ويقول: أنا لست قاضياً، ولن أحكم بين الناس، ولن أفصل في المنازعات؛ لم يصح هذا، بل يأثم عليه؛ لأن الذي عينه على القضاء هو الخليفة أو الأمير. ولو أنه حكم نفسه بين الناس ولم يتعين عليه التحكيم، بل الناس اضطروا إليه؛ فهذا التحكيم ليس ملزماً له، بخلاف القضاء، فالقضاء ملزم، وله سلطة تنفيذية، وأما هذا فبإمكانه أن يمتنع عن التحكيم من غير أن يأثم. فالعمل الجماعي إذا كان بصورة اتفاقية بين الناس لإتمام عمل مشروع كالدعوة إلى الله عز وجل، فلا بأس بذلك ولا حرج، وهذا العمل لا يستلزم أمر الإمام.

حكم الإمارة في السفر والإمارة في الحضر

حكم الإمارة في السفر والإمارة في الحضر والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم). فإمارة السفر إمارة مسنونة ومشروعة، واختلف فيها أهل العلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ والراجح أنها مستحبة، وهناك من قال: إنها واجبة؛ لورود النص بها، ولم يقس الحضر على السفر إلا اثنان من أهل العلم ابن تيمية في الفتاوى ثم الشوكاني، فقالا: الإمارة في الحضر جائزة قياساً على الإمارة في السفر، بل الإمارة في الحضر من باب أولى؛ لأن الإمارة في السفر تنتهي بانتهاء السفر، وأما الحضر فإنما دعت إليها ضرورة العمل إلى ما لا نهاية، ولم يوافقهم على ذلك أحد. ثانياً: إن الذين يركنون إلى كلام ابن تيمية ومن بعده كلام الشوكاني أصحاب هوى، فقد كانوا قبل أن يعلنوا أنهم جماعة يردون على ابن تيمية والشوكاني، وبعد أن أعلنوا أنهم جماعة قالوا في نهاية أمرهم بكلام ابن تيمية وكلام الشوكاني، وهذا يدل على وجود الهوى. ثالثاً: إن ابن تيمية ومن بعده الشوكاني قالا بجواز الإمارة في الحضر، وهم يقولون بوجوب الإمارة في الحضر، وشتان بين الجواز وبين الوجوب، فـ ابن تيمية والشوكاني لم يقولا بالوجوب، وإنما قالا بالجواز إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يربي أصحابه على ذلك، واليوم مثلاً نجد أهل مسجد معين يقولون: لا بد من الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد، والذي يتخلف يدفع جنيهاً، وهذا الجنيه يوضع في صندوق المسجد، أو يقولون: يلزم كل واحد فينا بأن يصلي الليلة في بيته، فإن لم يقم يعزر بدفع مبلغ كبير، أو بأن ينام على ظهره في المسجد ويرفع رجليه ويجلد عشر جلدات تعزيراً، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب من أجل هذا، ومن لم يكن له وازع من قلبه فلا خير فيه، والذي يسمع النص ولا يتأثر به ولا يعزم من داخله على التزامه فلن ينفع معه الضرب، وإن لم يقتنع تماماً بقولك فلن يقتنع به بعد الضرب، بل سيزداد منه بعداً، وهذه الطريقة التي يعملونها في المساجد هي طريقة في غاية النكارة، ولو سمع الصحابة بهذا لماتوا ضحكاً مما وقع بنا، فأنت ليس عليك إلا أنك تذكره، فإن كان من أهل الذكرى انتفع بها، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. فالذي ليس معه إيمان بالشيء ولا ينتفع بنصيحة فلا خير فيه، وأما أنك تعزره وتؤدبه ثم تهجره فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل). ولم يضربه أو يعلقه في المسجد وغير ذلك، فلما سمع عبد الله هذه الكلمة ما ترك قيام الليل لا في حضر ولا سفر، ولا في غزوة ولا حرب، فالحر تكفيه الإشارة، والعبد تقرعه العصا، وكان هذا في الماضي، وأما في هذا الوقت فالحر نفسه لا تقرعه العصا.

معنى العمل لله في الجماعة

معنى العمل لله في الجماعة [قال ابن عباس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه، وإن أخطأ غفر الله له)]. فقوله: (من عمل لله) يعني: أن يكون هذا العمل خالصاً. والسلف إما زمناً وإما معنى، يعني: أن السلف رضي الله عنهم عند الإطلاق نعني بهم أصحاب القرون الخيرية، وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين والأئمة المتبوعون، فهؤلاء هم سلفنا، لكن كلمة (سلف) لها معنى آخر، وهو المنهج، يعني إما أن يكون سلفي الزمن وإما سلفي المنهج، فالسلف عند الإطلاق يعنون به سلفية الزمان الأول وسلفية المنهج، وليس كل من تقدم سلفياً، فالفرق الباطلة ظهرت في القرن الأول الهجري، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وهذا لا يعني أنهم من خير القرون، وإنما يعني أن جل أصحاب هذه القرون هم خير الناس، بخلاف من شذ عنهم وبخلاف من فارقهم، فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم). هؤلاء سلفية الزمن والمنهج، ثم يأتي بعد ذلك سلفية المنهج، فـ ابن تيمية كان سلفياً وكذلك ابن القيم وابن نصر المروزي، وغيرهم من أهل العلم قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا من الدعاة الذين لا علاقة لهم بهذه الجماعات الموجودة على الساحة، إلا الالتزام بالكتاب والسنة على نهج السلف الصالح، فهؤلاء سلفيو المنهج، وهم الجماعة سواء عرفتهم أو لم تعرفهم، وهم شيء واحد، وقد كان الواحد منهم -أي: في القرون الخيرية- يرسل السلام إلى صاحبه في المغرب وهو في المشرق؛ لأنه يعلم أنهما شيء واحد لاتحاد المنهج، وهذه هي في حقيقتها الجماعة. وقوله: (وإن أخطأ)، أي: في عمله لله في الجماعة (غفر الله له). ثم قال: [(ومن عمل لله في الفرقة؛ فإن أصاب لم يقبل الله منه، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)]. وهذا كلام ابن عباس.

حديث النواس بن سمعان: (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما)

حديث النواس بن سمعان: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً) [روى النواس بن سمعان عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سور وأبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا -أي: لا تتبعوا هذه السبل- وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فالصراط الإسلام، والسور هو حدود الله، والأبواب المفتحة هي محارم الله، وذلك الداعي على الصراط هو كتاب الله، وأما الداعي من فوق الصراط فواعظ الله في قلب كل مسلم)].

حديث معاذ: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم)

حديث معاذ: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم) [عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ السيرة والقاصية والناحية، فإياكم والشعاب -أي: إياكم أن تتفرقوا في الشعاب- وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد)]، أي: وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد. [وقال عبد الله: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما يكرهون في الجماعة خير مما يحبون في الفرقة]. وقصر الصلاة في موسم الحج في عرفة ومنى ومزدلفة يجوز حتى لأهل مكة وأهل منى، وهذه رخصة من الله عز وجل، وعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان خليفة وصلى في مسجد الخيف في منى في موسم الحج، فأتم الصلاة، وترك هذه السنة مجتهداً ومتأولاً، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود؛ لأنه حق يجب ظهوره، وبعد أن أنكر عليه صلى معه وأتم، وعثمان كان متأولاً، فأصر على تأويله، فقد كانت له أرض وأهل بمكة، فقال: أنا من أهل مكة، وظن أنه لا رخصة له لكونه من أهل مكة، فاستمر على ما يعتقد، ولما كان هو الإمام كان يلزم الناس أن يصلوا بصلاته ويتمون كما هي السنة كذلك، فلما أتم ابن مسعود خلف عثمان قيل له: يا أبا عبد الرحمن! ألا تدري أن السنة قصر الصلاة؟ قال: نعم، قال: لم صليت خلفه أربعاً؟ قال: الخلاف شر. ولو كان أحدنا مكان عبد الله بن مسعود لكان فضح عثمان على المنبر، ولألب عليه جميع المسلمين، ولانشق بجماعة وصلى بهم في ناحية من المسجد، ولكن عبد الله بن مسعود رغم وضوح الحق عنده إلا أنه خالف ما عنده من حق؛ لأنه لو صلى أربعاً لا تبطل صلاته، وما دام أنها لا تبطل فلنصل معه بدلاً من إحداث مشكلة، وتقسيم المسلمين فريقين في موسم الحج، فالاختلاف شر.

قول مجاهد في معنى آية: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)

قول مجاهد في معنى آية: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [قال مجاهد: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] قال: البدع والشبهات]، أي: لا تتبعوا البدع والشبهات فتفرق بكم عن سبيل الله عز وجل. [وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتم الإسلام فلا ترغبوا عنه يميناً ولا شمالاً، وعليكم بالصراط المستقيم، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت الحسن بذلك فقال: صدق والله ونصح -أي: صدق للأمة ونصح لها- فحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: يا بني! أنت حدثت بهذا محمداً، تعني: أخاها ابن سيرين؟ فقلت: لا. قالت: فحدثه إذاً]. [وقال الأوزاعي: حدثنا أبو عمار قال: حدثني جار كان لـ جابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاء جابر يسلم عليَّ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً)].

حديث ابن عمر: (من خلع يده من طاعة)

حديث ابن عمر: (من خلع يده من طاعة) وعن نافع وسالم عن عبد الله بن عمر قال: [جاء ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع فلما رآه قال: ألا أحدثك بحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سمعته يقول: (من خلع يده من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)]. وهذه البيعة هي بيعة الخليفة الأعظم، وليست بيعة هؤلاء، وقد قابلت رجلاً كبيراً -عليه رحمة الله- من علماء المسلمين الأجلاء، وكان من أفذاذ أهل العلم في الحديث والفقه، وله في الحديث والفقه مصنفات عظيمة جداً، وقلت له: يا شيخ! هل بايعت أحداً؟ قال: نعم، في رقبتي يا بني بيعة لفلان، قلت: ولما مات فلان هل بايعت من بعده؟ قال: لا.

حديث عرفجة: (إنها ستكون هنات وهنات)

حديث عرفجة: (إنها ستكون هنات وهنات) [وقال: عرفجة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها ستكون هنات وهنات، فمن جاءكم يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان)]، يعني: إذا كان أمر الخليفة قائماً ومعه جماعة المسلمين، ثم ظهر شخص يقول: أنا خليفة، فاضربوا عنق الثاني كائناً من كان، وهذا عند العلماء بالإجماع، كما نقله النووي وابن عبد البر وغيرهما، أي: اضربوا عنقه إذا لم يندفع إلا بالقتل، أما إذا أمكن دفعه بغير القتل فادفعوه بغير القتل ويحرم عليكم قتله. يعني: إذا كان الخليفة قائماً وقد بويع له ثم أتى آخر يقول: أنا الخليفة، وإذا كنتم بايعتم فلاناً، ففلان وفلان وفلان بايعوني، فأنا كذلك خليفة، فيجب أن يرد هذا الرجل عن بدعته التي أتى بها، فإن رد بالترغيب والترهيب والتهديد وغير ذلك، فلا يحارب بغير هذا ولا يدفع بغيره، وإذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل وجب على الخليفة الأول وجماعته قتله، وليس على أفراد الناس. نكتفي بهذا القدر. ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه!

ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [1]

شرح كتاب الإبانة - ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [1] الاعتصام بالسنة والتوحيد من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده المسلمين، ففيه الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة، ولن تسعد الأمة المحمدية إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، والائتلاف وعدم الاختلاف، وترك محدثات الأمور والبدع والضلالات التي ليست من الإسلام في شيء.

فضل الاعتصام بالسنة

فضل الاعتصام بالسنة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. في الدروس الماضية تكلمنا عن ذم الفرقة والاختلاف، والأمر بالاتفاق والائتلاف من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، قال في كتابه العظيم الممتع وهو ما طبع بعنوان: الفرقان بين الحق والباطل، وهو غير كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لكن الثاني مشهور أكثر من شهرة الأول، وكلاهما جزء قد استل من الكتاب الأم وهو: مجموع الفتاوى. قال ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه: (الفرقان بين الحق والباطل): فخير للمرء أن يلقى الله تعالى مؤمناً، ولو كان مبتدعاً من أن يلقاه على الكفر البواح. أولاً هذا الكلام لا يفهمه إلا ابن تيمية ومن مثله أو فوقه، كما أن هذا الكلام لا يقبله إلا من شرح الله تعالى صدره للحق. يقول ابن تيمية: بعض الشر أهون من بعض، فلأن يلقى الله تعالى رجل مسلم متشيع أو قدري أو معتزلي أو أشعري أو غير ذلك من أصحاب هذه الفرق، خير من أن يلقاه كافراً كفراً بواحاً، وهذا الكلام في غاية القبول، وابن تيمية يقول هذا الكلام في المرتبة الثانية، أما المرتبة الأولى فهي ما نقل عن أبي الأسود الدؤلي وميمون بن مهران وغير واحد من السلف أنهم قالوا: والله لا ندري أي النعمتين علينا أعظم: أن هدانا الله للإسلام، أم عصمنا في الإسلام إلى سنة وتوحيد. أي أن كثيراً من السلف قالوا: والله لا ندري أي النعمتين لله عز وجل علينا أفضل من الثانية: أن من الله تعالى علينا بالإسلام فأسلمنا، أو أن الله عصمنا في الإسلام إلى سنة، فلم نزغ ولم ننحرف، نحن لا نعرف أي واحدة أعظم من أختها، هل الإسلام أعظم من الثبات على الحق، أو أن الثبات على الحق في الإسلام أعظم من الإسلام نفسه. فالذي يتكلم عنه ابن تيمية إنما هو في الرتبة الثانية، أما الرتبة الأولى فهي أن تكون مسلماً صاحب حق، وهذا الحق لا يعرف إلا من خلال قال الله وقال الرسول وقال الصحابة. أي: فهم الصحابة من قول الله شيئاً، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. ولذلك كل الفرق الضالة والجماعات لا تخلو من انحراف عن النهج السديد في هذا العصر الراهن، والجماعات ليست فرقاً، لكن كل واحدة من هذه الجماعات انحرفت عن كتاب الله وعن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ولو شيئاً يسيراً. أما هذه الفرق الضالة فقد انحرفت، بل وأبعدت بانحرافها إلى أقصى درجات الانحراف؛ ولذلك هي الفرق التي خالفت أصل الرسالة وأصل الشرع الذي جاء به الله تعالى من السماء على لسان رسوله الكريم، فهذه استحقت الوعيد بالنار، أما هذه الجماعات فعلى قدر انحرافها، إلا أننا نرجو الله تعالى أن يغفر لهذه الجماعات؛ لحسن ظنها ولجهدها المبذول في سبيل نصرة الإسلام على نهج النبي عليه الصلاة والسلام. أقول هذا مع إثبات الانحراف لهذه الجماعات، أو لمعظم هذه الجماعات؛ ولذلك فإن من سعادة المرء الناشئ ألا يرتبط بجماعة من هذه الجماعات، بل يرتبط بالكتاب والسنة، وإن ادعت كل جماعة أنها على الكتاب والسنة، لكن هيهات، مع قول الشاعر: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا فكل يقول: إنا على الكتاب والسنة، وليست العبرة بادعائك الكتاب والسنة، أو بسيرك حقيقة وفق قول الله وقول الرسول، ولكن العبرة من الذي فهم قول الله وقول رسوله، هل فهم فهم الجماعة، أم فهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وغير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم. إذاً: العبرة ليست في اعتمادك على آية أو حديث، وإنما العبرة في اعتمادك على فهم السلف لهذه الآية ولهذا الحديث. ولذلك هذه الجماعات في لحظة صدق مع الله عز وجل، ولحظة صفاء فردي؛ لابد أن تراجع حساباتها من أول الأمر إلى آخره، فإن كانت صادقة مع الله عز وجل، فإنها ستراجع منهجها الذي أسست عليه، وأعتقد أن المناهج التي أسست عليها هذه الجماعات ووضعها زعماؤهم القدامى، تختلف عما عليه الجماعات الآن، فإن أي جماعة من هذه الجماعات قد وضع لها قائدها الأعظم ومؤسسها الأول نهجاً علمياً هو نهج سلفي لا محالة، لكن إذا نظرت إلى هذه الجماعات الآن وجدت أنها لا علاقة لها بالعلم لا من قريب ولا من بعيد، مع أن إمامها الأول إنما ابتغى أن تصل هذه الجماعة إلى ذروة العلم، ولكن من أتى بعده خالف نهجه شيئاً ف

باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها

باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها قال ابن بطة رحمه الله: [باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، -أي: بالسنة- وفضل من لزمها]، أي: لزم السنة وجماعة المسلمين.

حديث العرباض بن سارية: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)

حديث العرباض بن سارية: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة) [قال عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي: أتينا العرباض بن سارية رضي الله عنه، وكان من الذين أنزل الله فيهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]]، يعني: كان رجلاً فقيراً، ولكنه كان محباً للجهاد. فكان يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليحمله، -أي: ليجهزه للقتال- فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أجد ما أحملكم عليه، اذهبوا إلى فلان لعله يحملكم، فيذهبون إليه فيحملهم، ثم يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقولون له: قد حملنا فلان، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله). قالا: [فدخلنا فسلمنا عليه فقلنا: أتيناك زائرين وعائدين]؛ لأنه كان مريضاً، [ومقتبسين] أي: متعلمين العلم، [فقال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا)]، أي: بوجهه، وهذا من السنة لمن صلى إماماً بقوم أن يقبل عليهم بوجهه، ويستدبر القبلة. [قال: (ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون -أي: دمعت دمعاً شديداً- ووجلت -أي: خشعت- منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع)] هذه الموعظة ليست على منوال المواعظ السابقة. [قال: (فكأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ -ماذا تأمرنا وتوصينا؟ - فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً)]، وهذا مثال وإن كان محالاً إلا أنه ضربه للزوم الطاعة إن تولى الإمام، فقوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة -أي: الخلفاء- من قريش) معناه: أنه لا يجوز أن يتولى أمر المسلمين خليفة ليس قرشياً، وإذا دعت الضرورة إلى أن يتولى غير الإمام أمر المسلمين فلابد أن يكون حراً، لا أن يكون عبداً فضلاً عن عبد حبشي مجدع الأطراف، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: حتى وإن تولى عليكم عبد حبشي مع أنه محال، لكن إن تولى عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، أو ربما يكون الإمام الذي بمعنى الخليفة هو الذي عين الوالي والأمير على مصر من الأمصار وكان عبداً. قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)]، يعني: فتناً كثيرة وقتلاً وهرجاً، وبعد أن وصف الداء وصف عليه الصلاة والسلام الدواء، فقال: [(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)]، هذا أحد شقي العبادة، إذا ظهرت الفتن: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء) أي: تمسكوا بهديي وهدي الخلفاء الراشدين الذين هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رغم أنف الرافضة ورغم أنف الشيعة، وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم خلفاء راشدون مهديون، وأمرنا بالتمسك بسنتهم، وقد انعقد الإجماع على أن الخلفاء الراشدين إذا أجمعوا على مسألة أو على أمر من أمور الشرع فإجماعهم حجة كقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام. قال: [(وإياكم ومحدثات الأمور -أي: البدع في الدين- فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].

أقوال معاذ بن جبل في وجوب لزوم السنة وترك البدعة

أقوال معاذ بن جبل في وجوب لزوم السنة وترك البدعة قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: أدركت أبا الدرداء ووعيت عنه، وأدركت عبادة -أي: ابن الصامت - ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل، فأخبرني يزيد بن عميرة أنه كان يقول في مجلس يجلسه: الله حكم قسط -أي: عدل- تبارك اسمه، هلك المرتابون -أي: الشاكون في ذلك- إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟ ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره]. انظروا، يعني: أنه ينتشر تيار العلم حتى يقرأ القرآن من لا يستحقه؛ لأنه ما قرأه إلا لأجل أن يتصدر به المجالس، أو يترأس به الناس، أو ليتشرف به الزمان، أو ليحصل بالقرآن على ملذات الدنيا وشهواتها، وأنتم تعلمون أن هذه الكراسي فتن، وهي التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام، فقديماً كانت تعلم إمامة الرجل بعلمه وتقواه، فلم تكن هناك مناصب ولا كراسي ولا مسئوليات إدارية وغير ذلك، وإنما أعطي أحمد بن حنبل الإمام بعلمه وتقواه رحمه الله، وكذلك الشافعي وكذلك مالك وسفيان والبخاري ومسلم وغير واحد، بل هم ألوف مؤلفة في كل عصر من عصور سلفنا، كيف عرفت إمامة هؤلاء؟ هل لأنهم تولوا مشيخة الأزهر؟ أو لأنهم كانوا نواباً لرئيس الدولة، أو كانوا قضاة وأمراء؟ لم يكن من ذلك شيء، بل إنهم كانوا يفرون من ذلك فرارهم من الأسد، بل كانوا يعتبرون أن عملهم الذي كان سراً إذا ظهر على الناس كان ذلك من باب الرياء، وكان الواحد منهم إذا أراد أن يعمل لله عملاً أسره، فإذا اطلع عليه إنسان أخذ عليه العهود والمواثيق ألا يتكلم بهذا إلا بعد أن يموت إن أراد أن يتكلم، وبذلك كافأهم الله تعالى بحسن إخلاصهم بمن يبرز لنا بعد موتهم ما قدر رأوه من إخلاصهم وعملهم وعبادتهم. أما الآن فالرجل تُعرف إمامته كذلك بدينه وعلمه وتقواه وصلاحه، لكنه قد أبى قوم إلا أن يقتحموا أبواب السلاطين؛ تارة للرياسة، وتارة للرفعة، بزعمهم أن الرياسة والرفعة في طرق أبواب السلاطين، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ومن اقترب من السلطان افتتن)، أي: وقع في الفتنة، فسار الواحد منهم على الجادة والاستقامة في قوله وعلمه وعمله، حتى إذا تولى منصباً من هذه المناصب الزائلة غيَّر دينه واتبع هواه، وانقلب على أهل الصحوة يسبها ويلعنها، ويدعي أن أهلها خوارج العصر. أقول: قد سمعنا من جل هؤلاء قبل تولي المناصب أننا خيرة الشباب، ولم تشهد العقود الماضية صحوة كما شهدها هذا العصر، وهذا بشهاداته وبشهادة المخلصين فيه إلى يومنا هذا، ولكن المنصب يغير القلوب ويغير النفوس؛ خاصة لمن أراد أن يحافظ على هذه المناصب. ويكفينا فخراً أن هذه الصحوة إنما هي محض فضل الله عز وجل على هذه الأمة، فليس لأحد من البشر في هذا البلد فضل على هذه الصحوة، بل ابتداءً من شيوخ الأزهر السابقين إلى الشيخ الحالي لا يجرؤ واحد منهم وممن دونهم في هذه المناصب أن يدعي أن له فضلاً على الصحوة لا من قريب ولا من بعيد، بل استمدت هذه الصحوة قوتها وثباتها وتأييدها ونصرتها على أهل الباطل من الله عز وجل أولاً، ثم من العلماء الربانيين العاملين لله بتقى، سواء كانوا من أهل البلد أو من خارج البلد، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، سواء كانوا أمهات أو بنات، إنما وقف بجوار هذه الدعوة أناس من أهل العلم يريدون أن يعملوا لله عز وجل، لم تحركهم إلى ذلك شهرة ولا نسب ولا حسب، وإنما تحركوا بفضل الله عز وجل لإعلاء راية الإسلام. إن أصحاب هذه المناصب من أهل العلم نحن نقر لهم بالعلم، ومن سلب العلم عنهم فإنما نطق بالباطل وأعان على الظلم، لكن الواحد منهم إذا دعي إلى محاضرة تثور حافظته ويجن جنونه إذا لم يحضر أحد لسماعه، فإذا دعي غيره من العاملين على الساحة حضر المئات بل الألوف واجتمعوا عليه؛ لما يعلمون من صدقه من قلوبهم، ولما علموا عليه من استقامة وحسن التزام. فالأمور لا تطلب بعلم فحسب، فإن مؤهلات القبول بيد الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه، ثم نادى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله تعالى فلاناً أمر جبريل أن يبغضه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، ثم لا يوضع له القبول في الأرض). إذاً: القبول بيد الله عز وجل، ولا علاقة له بغير الله. قال: (قال: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟) أي: ما بالهم لا يجتمعون علي وقد تعلمت القرآن وتعلمت تفسيره وتأويله وناسخه ومنسوخه وغير ذلك مما يختص بالقرآن الكريم. قال: (ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع

حديث علي بن أبي طالب: (المتمسك بدينه في الهرج له أجر مائة شهيد)

حديث علي بن أبي طالب: (المتمسك بدينه في الهرج له أجر مائة شهيد) قال: [ومن رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتمسك بسنتي في دينه في الهرج -أي: في الاختلاط والفتن والقتل- له أجر مائة شهيد)]. وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أنه يشهد له ما أخرجه مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، أي: العبادة في القتل والفتن تعادل في الثواب هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى الله عز وجل: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله). قال: (العبادة في الهرج) ولم يقل: المشاركة في الهرج؛ ولذلك أنصح الشباب أنه لا يخلو عصر من العصور من فتن وخلافات وإشكاليات ومنازعات وخصومات بين الأكابر والدعاة والشيوخ، وربما يكون الحامل على ذلك الغيرة على دين الله عز وجل، وربما يكون الحامل على ذلك العزة بالإثم، وربما الحامل على ذلك الحسد، وربما يكون الحامل هو الإحراج من الإقرار بالخطأ وغير ذلك من الأسباب. ويقول ابن عباس: كلام الأقران يطوى ولا يروى، أي: كلام الأقران الذين هم في منزلة واحدة ورتبة واحدة من العلم، فإذا تكلم بعض أهل العلم في البعض الآخر فيجب عليك أن تطويه ولا ترويه، ولا تشهر به، ولا تعتبره حجة على الخصوم والأقران في الناحية الأخرى، وإنما يجب عليك ألا تلتفت لمثل هذا، بل خذ الحق من كل من جاء به، وإن كان يهودياً أو نصرانياً، ورد الباطل على كل من جاء به وإن كان إماماً من أئمة المسلمين. ولذلك يحدث لكثير من الشباب في هذا الزمان في هذا البلد وفي غيره؛ أنهم يتلقفون بعض السوءات والعورات التي تحدث من بعض الشيوخ، فيشعلونها ناراً وفتناً، ثم يشغلون أنفسهم بها، وهم بعد لم يتعلموا ما أوجب الله تعالى عليهم وفرض عليهم من صلاة وصيام وزكاة وحج وطهارة وغير ذلك. وبئس ما تشغل المرأة به نفسها حينما تقول: أنا لا أدري أي الناس على الحق: فلان أو فلان؟ وهي بعد لم تتعلم كيف تخرج من بيتها، ولا تعرف إذا غسلت ولدها ومست عورته ما الذي يجب عليها، وإذا سألتها في أصول دينها تقول: ليس هذا الآن مهماً، المهم الآن أن نعرف أي الفريقين على الحق، وأي الفريقين أحق بالأمن، عجيب! والناظر في كلام أهل العلم يرى عجباً؛ يرى أهل العلم عندما صنفوا كتبهم إنما قدموا في أول كتبهم شرائع الإسلام، تكلموا عن العلم والإيمان، ثم تكلموا عن التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وتكلموا عن الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ والنكاح والطلاق، والرضاع والديون والكفارات، والأيمان، والنذور، وحينما ينتهون من ذلك قالوا: كتاب الفتن. لكن الشباب اليوم يبدءون من حيث انتهى أهل العلم، فهذا يدل على أن النهج الذي سلكه طلاب العلم الآن نهج غير سديد. يقول الإمام الذهبي نقلاً عن أبي علي الأبار أنه قال: نزلت بالأهواز يوماً فوجدت رجلاً قد حف شاربه، وأخذ عصاً في يده، واشترى كتباً، وتعين للفتوى أي: فرض على نفسه الفتوى، وقال للناس: الفتوى في حقي فرض عين، أرأيتم من الذي عينه؟ هو الذي عين نفسه، وللأسف الشديد أن الدعاة والشيوخ في هذا الزمان يعينهم تلاميذهم وأبناؤهم، بخلاف منهج السلف، فإن الواحد منهم ما كان يتكلم بشيء من العلم إلا إذا زكاه غير واحد من مشايخه، وممن تخرج هو على أيديهم ودرس عنده الكثير. أما اليوم فإن شباب الصحوة هم الذي يرفعون فلاناً ويخفضون آخر، أمور كلها معكوسة، ومع هذا تدعي الصحوة أنها صحوة السلفية، وأنها صحوة مباركة، نعم هي سلفية ومباركة في جوانب، ولكنها في جوانب أخرى لابد أن تراجع حساباتها من الآن قبل فوات الأوان. قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم عن الفتن ماذا يفعلون، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كونوا أحلاس بيوتكم)، والحلس: هو الذي يكون ملازماً وملاصقاً لعقر داره، يعني: لا يكفيك تماماً أنك تقف أمام بيتك وتلصق ظهرك به، بل لابد أن تكون داخل البيت وفي أصغر مكان في البيت، وهذا للمبالغة في الابتعاد عن الفتن، ولزوم النهي عن الخوض فيها، أنسيتم قول النبي عليه الصلاة والسلام في الفتنة: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. قالوا: ماذا نصنع يا رسول الله؟! قال: كن كخير ابني آدم)، يعني: أنا بإمكاني أن أكون قاتلاً، فإذا دعا الأمر إلى القتل إما أن أكون قاتلاً أو مقتولاً ولا خيار ثالث لي، فعند ذلك أترك سبب الفتنة مكتوفة يداي حتى أقتل، فألقى الله تعالى كما لقيه أفضل ابني آدم حيث قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:29]، وأما أنا فلا أريد أن أكون من أصحاب النار. وهذا الكلام لا يكون إلا في الفتنة، أما في الأحوال العادية فقد شرع الشارع الدفاع عن النفس ودفع الصائل، وإذا كان

حديث أبي هريرة (من دعا إلى هدى)

حديث أبي هريرة (من دعا إلى هدى) [قال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)]. وهذا الحديث يساوي حديثه عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة -أي: في الإسلام-، فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). يتصور بعض الناس أن البدعة الحسنة هي السنة الحسنة، وأن البدعة إذا كانت حسنة فلا بأس بالتمسك بها والعمل بها والدعوة إليها. أقول: إذا كان هذا في أعمال الدنيا وليس في دين الله عز وجل فيا حبذا ونعمت البدعة؛ ولذلك هذه المخترعات والمحدثات التي حدثت في عمارة الكون، إنما هي ضريبة العقل التي فرضها الله عز وجل على عباده، أما بدعة الدين فإنها ضلالة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكل بدعة ضلالة)، أي: وكل بدعة في الدين ضلالة، وليست حسنة، بل فيها الوزر لمن ابتدعها ولمن سار عليها وهو يعلم أنها بدعة، وأنها ليست من دين الله عز وجل. ولذلك يحتجون بقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها). والحجة الثانية لهم قول عمر إن صح عنه: (نعمت البدعة). لما جمع الناس على صلاة التراويح بعد أن أذن النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة أن يجتمعوا للصلاة في الليلة الأولى والثانية؛ فلما كثروا في الثالثة دخل بيته وتركهم، ثم استمر الحال على صلاة التراويح في البيوت في زمن أبي بكر وفي نهاية زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وردحاً من خلافة عمر، حتى جمعهم عمر على أبي بن كعب في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قيل له: إنها بدعة يا أمير المؤمنين! لم يفعلها قبلك أبو بكر الصديق. قال: نعمت البدعة، واحتج بقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، وهذا احتجاج صحيح وبعد نظر من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. فإن مناسبة الحديث أن قوماً من مضر أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده جياعاً قد أثر فيهم الجوع فلما رآهم عليه الصلاة والسلام تغير وجهه؛ لِما رأى بهم من فقر وحاجة وجوع، فلمح النبي عليه الصلاة والسلام ولم يصرح حفاظاً على شعور القوم، فعرف أحد أصحابه في وجهه الغضب والتغير؛ فقام إلى بيته فأتى بما عنده من طعام وملبس وخبز، ووضعه على النطع -أي: على شيء مفروش- بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى الصحابة تهلل وجه النبي عليه الصلاة والسلام بصنيع صاحبهم قام كل منهم إلى بيته فأتى بما عنده، فوضعه في النطع وحملوه حتى كادت أيديهم أن تكل -أي: تعجز عن حمله- ويقول الراوي: بل قد كلت، أي: تعبت وعجزت عن حمل هذا النطع؛ لما اجتمع عليه من الطعام والشراب والملبس؛ فحينئذ قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى أول من صنع ذلك: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة -أي: ابتدع فيه بدعة وهي سيئة- فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). إذاً: هل هذا الرجل الذي قام أولاً وأتى بما لديه من طعام وشراب قد ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أم أن أصل الصدقة قد جاء الحث عليها في الكتاب والسنة؟ A هذا الشخص لم يأت من عنده بشيء، وكذلك عمر احتج بهذا الحديث وقال: نعمت البدعة؛ لماذا؟ لأنه أحيا سنة كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأت هو بشيء من عنده، وإنما أحيا سنة موجودة في الإسلام على الحقيقة، (فمن سن في الإسلام): أي: من أحيا سنة في الإسلام جاءت في شرع الله عز وجل، فله أجر إحيائها، وأجر آثارها ومن تبعه فيها، ولا يتأثر أجر كل من تبعه، وفي هذا الحديث غنية.

إحداث أمر ليس من الدين مردود لا يقبله الشرع

إحداث أمر ليس من الدين مردود لا يقبله الشرع قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فعل في أمرنا ما لا يجوز فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)]؛ فقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة) لابد أن تضبطها بهذا الحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). فقوله: (من أحدث حدثاً): أي: ابتدع في دين الله بدعة ضلالة في الاعتقاد، وصارت لها أصول، كأصول الخوارج، وأصول المعتزلة، وأصول المرجئة، وأصول الرافضة وغير ذلك من هذه الأصول القديمة. قوله: (أو آوى محدثاً): يعني: خبأه حتى لا يؤدب ولا يحاسب ويعاقب على ابتداعه في دين الله، فإن الذي يبتدع في دين الله عز وجل كأنه يتهم الله تعالى بأنه لم يكمل الشرع ولم يتم نعمته، ويتهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدم البلاغ عن ربه. ولذلك الشافعي رضي الله عنه ورحمه يقول: من ابتدع فاستحسن فقد شرع. أي: من ابتدع في دين الله عز وجل، واستحسن ما ابتدعه فقد قال للناس: هذا شرع فالزموه ولا تتركوه. ومن العجب العجاب أن هذا المجلس المسكين الذين يسمى بمجلس الأمة في بلد عربية إسلامية، أو مجالس الشعب، وإن شئت فقل: مجالس الشغب والتضييع، ومجالس الجهال أرباع المثقفين فيه الذين لا يعرفون كيف يتطهرون. إن ابن تيمية لا يزال باقياً في الدنيا، هو باق بعلمه ودينه وعدله، أما هؤلاء فلا يعرفون شيئاً عن دين الله ولا عن أئمة الدين سلفاً، ومع هذا تجدهم يشرعون، ويقدرون الأيام والشهور لما اخترعوه وابتدعوه وفجروا به وحادوا الله تعالى ورسوله، ظناً منهم أن ما قد أتوا به هو في غاية الحسن وفي غاية الروعة، ولا يدرون أن هذا عليهم حجة؛ لأن من شرع فاستحسن فقد كفر. فترى الواحد منهم يصلي ويصوم، ويأتي مجالس اللهو للراقصات والمغنيات واللاعبين والفئة الفاجرة في المجتمع. حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). قوله: (في أمرنا هذا): أي في ديننا وفي شرعنا، فلا يحل لأحد أن يُحدث في دين الله ما ليس منه، لابد من وضع هذا الحديث مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) إلى آخر الحديث. هذان الحديثان يمثلان قطبي الرحى في قبول العمل عند الله عز وجل: حديث يدعو إلى الإخلاص في القول والعمل، والثاني: يدعو إلى التحذير من الابتداع في دين الله عز وجل. ومفهوم المخالفة هو الاستقامة على منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم الانحراف عن دينه وشرعه وسنته، وهذا كله يجمعه قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، أي: إذا أراد أن يلقى الله تعالى على أحسن حال يجب عليه أمران: أن يعمل عملاً صالحاً، ولا يوصف العمل بالصلاح إلا إذا كان على منهاج النبوة، كما أنه لا يشرك بعبادة ربه أحداً، يعني: يكون مخلصاً في أداء هذا العمل المشروع المسنون، وألا يفعله إلا لله عز وجل. إذاً: الإخلاص والمتابعة هما شرطا القبول عند الله عز وجل.

حديث جابر في الأمر باتباع كتاب الله وهدي نبيه والتحذير من البدع

حديث جابر في الأمر باتباع كتاب الله وهدي نبيه والتحذير من البدع قال: [عن جابر بن عبد الله قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال على إثر ذلك، وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم أو مساكم)]، وهذا حاله عليه الصلاة والسلام إذا خطب، خاصة إذا ذكر الجنة والنار، يعلو صوته، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، وتحمر وجنتاه، كأنه منذر جيش يقول: (أنا النذير العريان) ويقول: (صبحكم أو مساكم) أي: صبحكم العدو أو مساكم العدو، يعني: أقبل عليكم العدو بكرة أو غدوة. ثم قال: [(بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والتي تلي الإبهام)] يعني: السبابتين أو السبابة والوسطى لتلاحقهما، وأنه لا فرق بينهما، وأنه ليس بعد السبابة إلا الوسطى، أو ليس بعد الوسطى إلا السبابة، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده حتى تقوم الساعة، قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، فبعد النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، وبالتالي هذا نص يؤكد لنا أنه ما من أحد ادعى النبوة إلا وهو كاذب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقوم الساعة حتى يدعي ثلاثون أنهم أنبياء)، وفي رواية: (حتى يدعي ثلاثون من أمتي أنهم أنبياء). وأنتم تعلمون أن شبرا فقط فيها حوالي ثلاثين نبياً، والمعادي كان فيها من قبل ثلاث سنوات من يدعي النبوة، وأحمد صبحي منصور ادعى أنه نبي، وشيخه رشاد خليفة كان نبياً أولاً ثم ترقى حسب زعمه إلى أن أصبح إلها!! ولا يزال الأنبياء والآلهة في تقدم وفي كثرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنهم أنه سيظهر ثلاثون شخصاً يدعون النبوة؛ ولذلك ظهر في عصر النبي عليه الصلاة والسلام أنبياء كذبة، مثل الأسود العنسي ومسيلمة وغيرهما، وظهر في زمن التابعين وفي كل زمن وكل عصر، فعندما تعد المشاهير من هؤلاء الأنبياء ستجدهم ثلاثين أو ما يناهز الثلاثين، لكن غير المشاهير بالآلاف، بل إن شخصاً لو حفظ كلمتين يقول: أنا نبي. إذاً: إما أن نحمل ذكره عليه الصلاة والسلام العدد في الرواية على مجرد الكثرة، مثلما تقول لصحابك: أين أنت يا أخي؟! قد أتيت إلى بيتك مائة مرة، في حين أنك أتيت إلى بيته ثلاث مرات أو أربع مرات، وإنما قلت هذا للكثرة، وهذا ليس من باب الكذب في شيء. فإما أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في أمتي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يدعي النبوة) على مجرد الكثرة ولا يقصد تحديد العدد، وإما أنه عليه الصلاة والسلام قصد أن هؤلاء الثلاثين إنما هم الذين يذاع أمرهم وينتشر بين العامة والخاصة. الشاهد: قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها يعني: السبابة. [ثم قال: (إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها)]، يعني: شر شيء أن تحدث في دين الله ما ليس منه [(وكل بدعة ضلالة)].

نصيحة عبد الله بن مسعود لأمة محمد بلزوم الجماعة وتقوى الله والصبر

نصيحة عبد الله بن مسعود لأمة محمد بلزوم الجماعة وتقوى الله والصبر [عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة]، أي: جماعة الإمام الذي هو الخليفة، فعند إطلاق لفظ الجماعة في المصطلحات الشرعية، إنما يقصد بها جماعة الخليفة، فإذا لم يكن للمسلمين إمام ولا خليفة فيكون أئمة المسلمين علماءهم. قال: [فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة أبداً، وعليكم بالصبر]. أرأيت إلى الكلام الجميل؟ هذا الكلام والله دواء لما نحن فيه من داء، ولذلك هذه النصوص الشرعية لا تريد شخصاً يقرأ الكتاب بسرعة من أوله إلى آخره باسم أنه قرأ الكتاب فحسب، بل لابد أن تقف عند كل حرف خرج من في النبي عليه الصلاة والسلام قرآناً كان أو سنة، حتى تأخذ العبر وتعرف الأحكام، وتتخلق بأخلاق القرآن وأخلاق السنة النبوية. هذا حديث لـ أبي مسعود. يقول: (عليكم بتقوى الله)؛ لأنها رأس الأمر، قال: (وهذه الجماعة). أي: الزموا جماعة الإمام وجماعة الخير ولا تخرجوا عليهم؛ لأنه لا يحل لأحد أن يخرج على جماعة الإمام، فمن خرج على إمامه مقدار شبر فمات على هذه الحال فميتته جاهلية، وفي الدرس الأول نبهت وقلت: لا يتصور شخص أن هذا الحديث يتنزل على الجماعات الموجودة على الساحة أبداً، هذا الحديث وغيره مما يتكلم عن جماعة المسلمين، إنما يتكلم عن جماعة الإمام الأعظم الخليفة. قال: (عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة أبداً، وعليكم بالصبر)، ولماذا الصبر؟ أليس معي تقوى الله ومعي الجماعة، فلم أصبر؟ مع أن أهل الجماعة مجمعون على أن الصبر لا يلزم الجماعة؛ وذلك لأنها جماعة قوية، وتستطيع أن تفتك بغيرها من جماعات وتكتلات الكفر، فلم أصبر إذاً؟ الصبر هنا في حالة عدم وجود الإمام، كما في حديث حذيفة بن اليمان أنهم قالوا: (فإن لم يكن لهم يا رسول الله! جماعة ولا إمام؟)، ماذا نعمل حينئذ؟ قال أبو مسعود: [وعليكم بالصبر حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر]. أي: إذا تولى عليكم أحد وكان فاجراً فعليكم بالصبر، ومآله إما أن تستريح بإيمانك، وإما أن يريحك الله من فاجر. وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا ونصبها وتعبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، فليس هناك أمر ثالث، هما أمران فقط، فالمطلوب مني الصبر، بدلاً من أن تدخل معه في معركة، ونهاية هذه المعركة خسران، هذا هو الواقع، وليس الواقع فحسب، بل هذا اعتقادنا من واقع دراستنا لأهل الكفر، ولو لم يكن في الأمر نص وارد، لكفانا الواقع المر الذي تمر به الأمة. فالصبر في حال الضعف من أعظم العبادات لله عز وجل، أما إذا كنت في حال القوة فالجهاد من أعظم العبادات التي يتقرب بها المرء إلى مولاه؛ رفعاً لراية التوحيد وكلمة الله عز وجل.

حديث: (عمل قليل في سنة)

حديث: (عمل قليل في سنة) قال: [قال سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة والجماعة]، (وَعَمِلَ صَالِحًا): أي: على منهاج النبوة، ((ثُمَّ اهْتَدَى)): أي بانخراطه في جماعة المسلمين والسواد الأعظم مع الناس. [وعن الحسن البصري رحمه الله قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة)]، وهذا الحديث من جهة الرفع غير صحيح، وإنما ثبت موقوفاً من قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة: (عمل قليل في سنة خير من اجتهاد كثير في بدعة). ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أحسن العمل أدومه وإن قل) يعني: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، شخص تأتيه الجلالة والنشوة في ليلة من الليالي فيقول: أنا من هذه الليلة سأقوم الليل، ثم يمسك المصحف بيده، ويصلي ثمان ركعات أو إحدى عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة نصف جزء أو ربع جزء، وبعد ذلك في الفجر لا يستطيع أن يتحرك ولا يتكلم، فإذا به ينام وهو ساجد، وتفوته صلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة العصر، ويوقظونه بعتلة بعد العصر! إنما كان يكفيك حينئذ ركعتان ثم ركعتان ثم ركعتان حتى تتعود على ذلك. في كلية التجارة تقول منكراً: أربع سنوات في سنة؟! فإذا كان هذا التدرج في عمل الدنيا، فمن باب أولى أن يكون التدرج في عمل الآخرة؛ حتى يكتب لك الاستخلاف وأسباب النجاح، أما أن تقفز السلم قفزة واحدة فلابد أن تقع في الأرض، ثم لا يهيأ لك قفز السلم مرة أخرى في حياتك نهائياً؛ فخير العمل أدومه وإن قل. ولذلك قال غير واحد من السلف: (عمل قليل في سنة)، أي: المحافظة على السنة وإن كان بقدر يسير (خير من أن تكون رأساً في البدعة)، يعني: عندما تكون تابعاً لسنة خير من أن تكون متبوعاً في بدعة، لكن ضعاف النفوس ومرضى القلوب لا يستريحون حتى يتصدروا في المجالس، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد تحذير. قال: (من تعلم العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليتصدر به المجالس، فالنار النار) يعني: مصيره إلى النار. فيا حسرة عبد عمل فيما يراه الناس عملاً صالحاً، فتراه يطحن نفسه بالليل والنهار ولكنه غير مخلص في هذا العمل، ثم لا يكون له في الدنيا ولا في الآخرة حظ من هذا العمل. عبد لا يكاد يغمض له جفن؛ لأنه يعمل عملاً الأصل فيه أنه لله فيعمله لغير الله، لكنه يوهم العامة أن هذا العمل لله، ثم لا يكتب له القبول في الأرض، ولا يستر عليه يوم القيامة، بل يفضحه الله على رءوس الخلائق. هذه مصيبة كبيرة، إذ يحدث هذا الشخص فتنة في الدين، ومشاكل مع أبيه وأمه، ومشاكل مع الإخوة، ومشاكل مع الشيوخ والعلماء والدعاة، لم يترك أحداً إلا وآذاه، كل هذا من أجل أن يشار إليه بالبنان. يقول: أنا رجل صاحب دين، أمار بالمعروف نهاء عن المنكر، والله يعلم ما هو فاعل، إذ لا يخفى عليه سر سبحانه وتعالى، يؤتى به يوم القيامة بعد التعب والنصب في الدنيا فلا يجد له عملاً ألبتة، فلم التعب في الدنيا؟ إن أبا علي الأبار تعين للفتيا واشترى كتباً، وحف الشارب، وكأنه يقول: اسألوني، فقالوا له: ماذا تقول في أصحاب الحديث، الذين هم الطائفة الناجية المنصورة؟ قال: ليسوا بشيء، ولا يساوون شيئاً! سبحان الله! لا يهدأ له بال حتى يغتاب كل أحد؛ ليقال: فلان عالم، فلان رئيس، فلان زعيم، وهذا كله من الغدر بالنفس، فالمرء يغدر بنفسه، وإذا غدر بغيره ينصب له لواء يوم القيامة على رءوس الأشهاد، ويقال: هذه غدرة فلان، فما بالكم بالذي يغدر بنفسه، ويمكر بنفسه ويظلم نفسه؟!

حديث: (لا يقبل قول إلا بعمل)

حديث: (لا يقبل قول إلا بعمل) قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة)] أي: بموافقة السنة والتمسك بها والعمل عليها، وهذا حديث كذلك من جهة الرفع غير صحيح، ولكنه قول الفقهاء، وقول أئمة الدين قاطبة، إن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل، ولا يقبل عملاً إلا بنية، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بموافقة السنة. إذاً: إخلاص، وقول، وعمل، ومتابعة للسنة على منهاج النبوة، فلابد من طلب العلم على أصول موافقة لمنهج السلف، يتبع هذا العلم العمل؛ لأن من لم يعمل بما يعلم لم ينفعه علمه. الرابعة: أن يكون هذا العمل على هدي النبوة، ويقصد به: العمل الصالح. [وقال ابن مسعود: إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وشر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة)].

حديث سفيان الثقفي: (قل آمنت بالله ثم استقم)

حديث سفيان الثقفي: (قل آمنت بالله ثم استقم) قال: [وعن سفيان الثقفي رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً)] يعني: قل لي قولاً واحداً لا تكثر علي، وهذا القول يكون جامعاً للخير مانعاً لدخول الغير فيه. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قل: آمنت بالله ثم استقم)]. فقوله: (قل: آمنت بالله) يشتمل على العمل والإخلاص، (ثم استقم) على منهاج النبوة. هذا الحديث من أقل الأحاديث مبنى وأعظمها معنى، هذا الحديث يشبه فاتحة الكتاب، فأنتم تعلمون أن فاتحة الكتاب شملت الدين كله، ومن لم يعلم ذلك فعليه بكتب ابن تيمية وابن القيم، فهما من أعظم النعم على هذه الأمة، فإنه من تمسك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لكفى ذلك طلباً للعلم الشرعي، فإنك عندما تقرأ لـ ابن تيمية وابن القيم مهما كانت بك من بلايا ورذائل ونقائص تزال بإذن الله، فإن الآفات الموجودة في الأمة كلها مردها إلى أمرين: شبهة وشهوة، والشبهة تزال بالعلم، ولذلك إذا اعترتك شبهة وذهبت إلى شخص ليزيلها لا يزيلها، لكن إذا ذهبت إلى عالم أزالها، وإذا اعترتك شهوة فإنك تزيلها بسؤال أهل العلم وبتقواك وورعك، إذاً: الأمور كلها والأمراض كلها مردها ومدارها على أهل العلم، إما شبهة وتزال بجواب أهل العلم، وإما شهوة وزوالها بالتقوى والورع. فهذا ابن تيمية ليس له توسع في السياسة، فهو رجل من أهل العلم فقط، ومع ذلك تعرفون موقفه من التتار، وكان رجلاً شديداً، بل لم تنجب الأمة في الشدة بعد عمر إلا ابن تيمية. والعجيب أن كل من صنف في ابن تيمية ممن عاصره أو ممن أتى بعده قال: ما تكلم ابن تيمية في فن أو في علم من العلوم إلا وقال السامع أو القارئ: لا يحسن هذا الرجل إلا هذا الفن، يعني: بلغ الغاية في كل فن، وكان ابن تيمية إذا تكلم في الزهد والرقائق صدع القلوب. وأنتم تعلمون أنه إذا ذكر الوعظ والزهد ولغة القلوب فزعيم ذلك ابن القيم، وابن القيم إنما استقى ذلك من شيخه ابن تيمية. فإذا كان مرد الآفات كلها في دين الله إلى الشبهة والشهوة، فإنما يكفيك وحسبك من دينك وعلمك وورعك أن تقرأ لهذين الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم. [قال: (قل لي يا رسول الله! في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم)]. [وقال سلام بن مسكين: كان قتادة إذا قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: إنكم قد قلتم: ربنا الله]. إن قتادة من أئمة أهل البصرة في زمن التابعين، كان إذا تلا هذه الآية: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، يقول لأصحابه: إنكم تقولون: ربنا الله. إذاً: لم يبق إلا الاستقامة، وهذا كان منهجاً لأهل العلم عليهم رحمة الله. يذكر أن إسماعيل بن عياش ضحك طالب في مجلسه، وكان لا يسمح أن يضحك طالب في مجلس العلم، فقال إسماعيل للطالب: أتضحك وأنت تطلب العلم؟ فقال الطالب: إن الله تعالى هو الذي أضحك وأبكى، فقال إسماعيل: إن كنت قد ضحكت فابك، لماذا تأخذ من الآية الضحك فقط؟ ونحن نوقن أن الله تعالى هو الذي أضحك، لكنه كذلك هو الذي أبكى، فلم يبك الرجل، قال: إما أن تبكي وإلا فلن أحدثكم شهراً، فكان البكاء صعباً، إذ كيف يجمع بين الضحك والبكاء في مجلس واحد؟ فحين لم يستطع البكاء قام إسماعيل بن عياش وما دخل مجلس العلم -وكان يحضره ثلاثون ألفاً- إلا بعد مرور شهر. فأول شيء الأدب ثم العلم، وكم من إنسان تعلم العلم ولم يتعلم الأدب فلم ينتفع أحد بعلمه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم. وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ قال: أسمع بالحرف منه فأود لو أن كل جوارحي آذان فتنعم به. قيل: كيف طلبك إياه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. يعني: امرأة لديها ولد فتاه وضاع، كيف تطلبه هذه المرأة؟ لابد أنها تطلبه بجنون. فكذلك الشافعي رحمه الله هو سيد المؤدبين في زمانه، يسمع بالحرف من الأدب فيرحل له الأقطار في طلبه، ولذلك كتب الله تبارك وتعالى له الذكر والثناء الحسن الجميل في الدنيا والآخرة. يقول الشافعي: كنت أهاب أن أقلب الورقة في مجلس مالك مخافة أن أؤذيه بصوت تقليب الورقة. أما الآن فالطالب يظل يقلب في الكتاب ويسأل الذي بجانبه: اشرح لي كلام الشيخ، وبعد ذلك يرد على الشيخ ويفاجئه بالفصاحة التام

الأسئلة

الأسئلة

جماعة أنصار السنة والفرق الثلاث والسبعون

جماعة أنصار السنة والفرق الثلاث والسبعون Q بعض الناس تعتقد أن جماعة أنصار السنة المحمدية كأي فرقة من الفرق الثلاث والسبعين؟ A من أين أتيت بهذا؟ الذي أعتقده أن جماعة أنصار السنة المحمدية وجماعة الجمعية الشرعية، والسلفيين، من أقرب الجماعات للحق، وكلنا فينا ضعف ونقص يجبره الله تعالى ويغفره، لكن في جماعة أنصار السنة المحمدية الحق، وما ظهرت هذه الجماعات إلا لما رأت أن البدعة تنتشر في الأمة، فقامت هذه الجماعات تنظيمياً للدعوة إلى الخير. إنك اليوم إذا أردت أن تخطب في المسجد الفلاني، يقال لك: هل معك رخصة؟ فمن أجل انطلاقة الدعوة كان لابد للدعاة من رزق، فقامت الجمعية الشرعية، وجماعة أنصار السنة المحمدية وغيرها من الجمعيات القريبة للحق أو التي على الحق مع ضعف فيها، لكن هذا الضعف ليس من شر وفساد في الاعتقاد الصحيح، لكن هناك بعض الخلل، وبعض الناس يذكر بعض فروخ العلمانية في هذه الجمعيات، لكن ليس هذا هو النهج العام لهذه الجمعيات، مع أنك تجد الآن في جماعة أنصار السنة المحمدية من يقول: إن حديث الذباب الذي رواه البخاري في الصحيح كلام لا أصل له، وعندما تذكر له حديث الذبابة كأن عقرباً لدغته، فيقول: هذا الحديث مكذوب، فعندما تحاول إقناعه يصول ويجول معك، ومرد صولته وجولته إلى العقل. أما الجمعية الشرعية فبعض الزعماء فيها يذهبون إلى التأويل، لكن ليس هذا نهجاً عاماً للجماعة، وأنتم تعلمون أن رواد الجمعية الشرعية خاصة في أيامنا هذه من الشيوخ والدعاة بل وعامة المصلين، إنما هم على اعتقاد السلف الصحيح، فالدنيا تغيرت. فالذي يقول: إن جماعة أنصار السنة المحمدية فرقة من الفرق؛ يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل. وأذكر أن هناك بعض الشيوخ أو الدعاة قالوا: إن الجمعية الشرعية وجماعة التبليغ فرقتان ناريتان، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا كلام لا يصدر إلا من إنسان فقد عقله، أما أن يصدر من إنسان له عناية بالعلم وله اتصال بواقع الأمة فإنه إنسان من أساسه لا يمكن أن يكون من أهل العلم، وشيء غريب أن ينسب نفسه للعلم أو ينسبه الغير إلى أهل العلم. فعلى أية حال هذه الجماعات سلاح ذو حدين: فيها وجه خير، وكل جماعة منها تقف على ثغرة من ثغور الإسلام. أما وجه الشر: فهي أن هذه الجماعات تدعو في الغالب إلى نفسها، لا تدعو إلى الله عز وجل؛ ولذلك أثمرت هذه الدعوة تشدداً ومعاداة بين كل جماعة وأختها. وهذا هو الوجه القبيح، وإني لأسأل الله تعالى في نومتي كما أسأله في قومتي أن يجمع وأن يؤلف بين قلوب المسلمين تحت راية واحدة، وهي راية النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم التسمية قبل الوضوء وحكم نسيانها

حكم التسمية قبل الوضوء وحكم نسيانها Q ما حكم التسمية قبل الوضوء، وماذا علي لو نسيتها وتذكرتها في أثناء الوضوء، أو بعد الوضوء؟ A بعض الناس يتصور أنه لو نسي التسمية في أول الوضوء وتذكرها في أثنائه أو بعده قال: باسم الله أوله وآخره، فالرد عليه: أن هذا ليس طعاماً، وإنما هي عبادة من العبادات، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن يذكر اسم الله عليه)، اتفق جمهور أهل العلم على أن التسمية في أول الوضوء سنة، وليست واجبة، وهذا القول الراجح، ومن نسيها فلا حرج عليه. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [2]

شرح كتاب الإبانة - ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [2] كلام السلف رضي الله عنهم في لزوم السنة والجماعة، والمحافظة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من السنة كثير، وهو يدل على أهمية ذلك، وأنه عصمة من الزلل، والناظر في كلامهم رضوان الله عليهم يجد أنه يشهد له كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

تابع باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، وفضل من لزمها

تابع باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، وفضل من لزمها إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. لا يزال الكلام موصولاً عن فضل الجماعة ولزوم السنة، وذكرنا في الدروس الماضية بيان ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وموعدنا في هذه الليلة مع ذكر بعض النصوص لبعض السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين في أهمية لزوم ذلك، والناظر في كلام السلف رحمهم الله -خاصة الصحابة منهم- يعلم علماً يقينياً أنه ما من قائل تكلم في هذا الباب بكلمة إلا ولها أصل يشهد له من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا شأن من عاين الأمر معاينة وعاش معه سنوات كثيرة، ولذلك الواحد منا إذا عاش عيشة معينة أدبية أو نفسية أو غير ذلك يتأثر بها مع مرور الوقت. فالصحابة رضي الله عنهم لكثرة وطول ملازمتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ولما كانت السنة وحياً من عند الله عز وجل كاد السلف أن ينطقوا بالوحي، وكادوا أن يكونوا أنبياء، لأنهم اعتادوا لسنوات طويلة ألا يتكلموا إلا بوحي السماء قرآناً أو سنة، ولذلك تجد كلام الصحابة أشبه بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويُشتاق لكل قول من كلامهم في لزوم السنة وأهميتها.

حديث: (كان قتادة إذا تلا قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا))

حديث: (كان قتادة إذا تلا قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)) فهذا قتادة وهو سيد من سادات التابعين [كان إذا تلا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]] أي: شهدوا وأقروا بربوبية الله عز وجل، وبأنهم مربوبون لله عز وجل، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا)): على ما أقروا به. [قال: إنكم قد قلتم: ربنا الله. فاستقيموا على أمر الله]. أي: إذا كنتم أقررتم بالربوبية والألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية إذا جاء منفرداً شمل معه الإلهية، وإذا كان الإقرار بالإلهية منفرداً شمل معه الربوبية، أما إذا ذكر الإلهية والربوبية في نص أو في دليل فإن لكل واحد منها مدلولاً، فالإلهية لها مدلول والربوبية لها مدلول آخر، كما في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فهذه الآية قد شملت الإلهية كما في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ))، والربوبية كما في قوله: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فهذه الآية قد تكلمت عن الإلهية وعن الربوبية في آن واحد، أما إذا قال العبد: (الحمد لله) فإنه قد أقر بالإلهية والربوبية على السواء، وإذا قال: ربنا الله، فإنه أقر بالربوبية والإلهية كذلك، وهذا في معنى قولهم: الإلهية والربوبية إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهذا كالإيمان والإسلام والإحسان. قال: [إنكم قد قلتم: ربنا الله. فاستقيموا على أمر الله وطاعته وسنة نبيكم، وامضوا حيث تؤمرون]، أي: استمسكوا بالعمل حيث قد أمرتم. قال: [فالاستقامة]-أي: فاستقامة المرء على الإسلام [أن تلبث على الإسلام]- أي: أن تقر وأن تعمل بالإسلام [والطريقة الصالحة، ثم لا تمرق منها] أي: لا تخرج من الإسلام، ولا من طريقته الصالحة، [ولا تخالفها ولا تشذ عن السنة، ولا تخرج عنها، فإن أهل المروق من الإسلام] أي: أهل الردة والخروج عن الإسلام، [منقطع بهم يوم القيامة]. أي: منقطع بهم آخر الانقطاع، فلا يصلون إلى الله عز وجل. قال: [ثم إياكم وتصرف الأخلاق]، أي: وابتعاد أخلاقكم عن أخلاق نبيكم، [واجعلوا الوجه واحداً، والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه من كان ذا وجهين وذا السانين كان له يوم القيامة لسانان من نار]. هكذا قال قتادة رحمه الله، وهو من سادات التابعين، وتربى على يد أنس بن مالك.

أثر ابن عباس: (عليك بالاستقامة)

أثر ابن عباس: (عليك بالاستقامة) [قال عثمان بن حاضر الأزدي: دخلت على ابن عباس فقلت: أوصني]. وأنتم تعلمون منزلة ابن عباس فهو من بيت النبوة، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه من كبار أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ممن بذل الغالي والرخيص في سبيل نصرة الإسلام والإيمان، وابن عباس هو ربيب بيت النبوة، وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين)، (علمه التأويل) أي: تفسير القرآن الكريم بمعرفة معانيه وأسراره وحكمه. [قال عثمان بن حاضر لـ ابن عباس: أوصني. قال: عليك بالاستقامة، اتبع ولا تبتدع]. قوله: (عليك بالاستقامة) أي: الاستقامة على أمر الإسلام، وعلى أخلاقه وآدابه وعقائده. قال: اتبع أي: اتبع ذلك كله، ولا تبتدع من عند نفسك شيئاً، فإن من ابتدع في دين الله شيئاً، فكأنما اتهم الله عز وجل بالنقص في شرعه وعدم كماله، واتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بلغ عن ربه سبحانه وتعالى.

أثر الزهري: (الاعتصام بالسنة نجاة)

أثر الزهري: (الاعتصام بالسنة نجاة) [وعن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة]، والزهري من فقهاء المدينة، فإما أن يقول هذا عن متأخري أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن كبار التابعين، كما كان يروي عن أنس بن مالك، ويقرأ عن كبار التابعين، وأي رواية عن الزهري يرويها عن بعض أهل العلم، فيقول: كان من مضى من علمائنا، فمعناه أنها عن الصحابة أو كبار التابعين يقولون: (الاعتصام بالسنة نجاة). أي: التمسك والاستمساك بحبل الله المتين وبسنة نبيه الأمين نجاة من كل هلكة. وحبل الله تعالى هو كتابه الكريم، وهو وحي السماء إلى الخلق أجمعين، فهذا الكتاب له طرفان، طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيدي الموحدين، كما جاء ذلك في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً]، أي: يرفع رفعاً سريعاً، وتكلمنا في دروس مضت وفي خطب مختلفة أن قبض العلم لا يكون برفع العلم، وإنما يكون بقبض العلماء، فقبض العلماء علامة على نهاية الزمان، وقرب الساعة، وبئست هذه العلامة للناس، وبئس قوم يموت علماؤهم ويبقون هم بلا علم وبلا علماء، كيف يعيشون والعلماء هم منارات الهدى في كل عصر وفي مصر؟ فإذا مات عالم في قرية فأشبه بموت القرية بأسرها، وأنتم تعلمون أن العالم في القرية ينفع أهل القرية في أرواحها وفي عقيدتها، وفي الأخذ بنواصيها إلى الله، فهو كعين تنبع لهم بالماء وتغذيهم؛ لأن العالم يغذي الأرواح والقلوب، ويقيم الأفكار والعقول على كتاب الله عز وجل وعلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الدنيا فإنها تغذي الأبدان، وشتان ما بين الجنتين. قال: [والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وذهاب العلم ذهاب ذلك كله]. وعن الزهري قال: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين، وذهاب ذلك كله ذهاب العلماء.

قول ابن مسعود (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)

قول ابن مسعود (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة) [وقال عبد الله: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة]. وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد عايش الوحي، ولهذا الكلام عدة معانٍ، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير العمل أدومه وإن قل)، والصحابة رضوان عليهم لا يتكلمون بكلام إلا ولكلامهم أصل في كتاب الله أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقول ابن مسعود قد قاله غير واحد، ولكنه أول من قال هذا، قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)، يعني: تداوم على العمل القليل الخيري المستقيم الصالح وإن كان قليلاً، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فهذا في مقدور كل إنسان أن يفعله، ومع هذا لا يفعله كثير من الناس، وأبناء الصحوة لا يفعلون هذا، بل كثير منهم يجيد العلو ووسائله، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بذلك لو كان عملاً صالحاً، لكنه كان يتهلل فرحاً لأصحابه ويستبشر لقدوم غائبهم، وغير ذلك من أخلاقه العالية عليه الصلاة والسلام. يذكر أن أعرابياً كان يأتي من البادية ومعه طعام، فيهديه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يستقبله بالبشر والترحاب، وذات يوم أتى هذا الأعرابي بغير ما كان يتزود به في كل مرة، فاستحيا أن ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فنزل في سوق المدينة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في السوق، فعرف الرجل، فأتى من خلف ظهره ووضع يديه على عينيه، وقال: (من يشتري العبد؟) وهو ليس عبداً، بل هو حر، فعرف هذا الأعرابي صوت النبي عليه السلام، قال: (يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً) أي: لن يربح من ورائي شيئاً قال: (لا والله بل رابحاً) فبكى هذا الأعرابي فرحاً بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وبممازحته له عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضاحك النساء والرجال على السواء، وهو من هو في منزلته، وهذا في حقنا يجوز مع من تكون محرماً له، أما من لم تكن كذلك فلا يحل لأحد مخافة الوقوع في الفتنة إلا للنبي عليه الصلاة والسلام. قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، أي: أن تكون تابعاً لغيرك في لزوم سنة، خير لك من أن تكون رأساً في البدعة. هذا التفسير الثاني، الأول: ألا تحقر من المعروف شيئاً، وأن تداوم على العمل الصحيح الصالح وإن قل، والتفسير الثاني: لأن تكون تابعاً في الحق خير لك من تكون رأساً في الباطل، فحين نرى إنساناً مغموراً على التزام السنة خير من أن يتشبه بـ واصل بن عطاء وهو رأس الاعتزال، وأنتم تعلمون أن الخميني رأس في البدعة، فهل تريد أن تكون في منزلة الخميني رأساً في الشيعة، أم تريد أن تكون إنساناً مغلوباً مقهوراً وقد رزقت الحفاظ على السنة والعمل بالسنة، وإن لم يسمع بك أحد؟ أتريد أن تكون رأساً في البدعة أو أن تكون تابعاً في الحق؟ بلا شك أن تكون تابعاً في الحق. وهكذا كان السلف رضي الله عنهم، كانوا يلتزمون بالسنة في كل حياتهم، حتى قال ابن المبارك إن استطعت ألا تحك قفاك إلا بأثر فافعل، فتصور أن السنة أقيمت إلى هذا الحد، ألا يتحرك أحدنا بحركة ولا يقرأ القرآن، ولا يفعل شيئاً إلا ومعه دليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فالعلة من الاتباع هو العصمة، أن يعصم الإنسان نفسه من الزلل، ويعصم نفسه من الزيغ والانحراف؛ لأن كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة رضي الله عنهم ليس فيه زيغ ولا انحراف، بل قد أتى بالحكمة من جميع الجوانب، فمن تمسك به فهو عن الزلل والانحراف أبعد، وإذا انحرف الإنسان عن كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإنه سريع إلى الوقوع في الانحراف والابتعاد عن الخير.

أثر عمر بن الخطاب: (أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة)

أثر عمر بن الخطاب: (أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة) [قال الأوزاعي: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: أيها الناس! إنه لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها، ولا في هدى تركه، حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة وانقطع العذر]، هذا الكلام لو صح عن عمر -وهو غير صحيح- لاحتاج إلى مجلدات في شرح هذه الكلمات، ولكنه لم يقل: قال عمر، وإنما قال: بلغني أن عمر بن الخطاب، وهذا القول روي بلاغاً، والبلاغ منقطع، وهو علة في عدم ثبوت النص، لكن هب أنه ثبت من طريق آخر عن عمر رضي الله عنه، فمعناه العام: أن السنة قد ظهرت ظهوراً يجب على كل أحد أن يطلبها إن لم تذهب إليه، وهناك فرق بين مجتمع العلم فيه غالب، وبين مجتمع العلم فيه غير غالب، فلو أن شخصاً في السعودية الآن أو قطر أو الكويت أو غيرها من بلاد الإسلام يقول: أنا لا أدري أن الصلاة فرض من فرائض الإسلام، فهل يقبل منه ذلك؟ هل يقبل من أحد يسمع الأذان في اليوم خمس مرات أن يقول: أنا لا أدري ما الصلاة، أو لا أدري ما الزكاة؟ A لا يقبل منه في بلاد الإسلام، إنما يقبل من إنسان في بلاد الكفر قد أسلم حديثاً، وهو لا يعرف الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة ولا غير ذلك من فرائض وشرائع الإسلام، أما إنسان في بلاد الإسلام فقد قامت عليه الحجة بظهور السنة في كل هذا، فلا عذر له حينئذ.

وصية عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أوصيك بتقوى الله والاتباع وعدم الابتداع)

وصية عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أوصيك بتقوى الله والاتباع وعدم الابتداع) [وقال سفيان: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله] أي: بعض طلابه وأنصاره: [أوصيك بتقوى الله]، وهكذا كانت وصية الله للأنبياء والمرسلين، وهي وصية الأنبياء بلغتهم وأخلاقهم. قال: [أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره]. أي: أخذ الدين شيئاً فشيئاً؛ لأن من أخذ العلم جملة فاته جملة، ولابد أن تعلم أن هذه سنة الله تعالى في طلب العلم، شخص الآن يأتي يريد أن يحصل على شهادة من شهادات الدنيا، يصبر على الدراسة في الجامعات والمدارس عشرين عاماً حتى يحصل عليها، وبعد أن يحصل عليها ربما لا تنفعه، ومع هذا تجده صابراً محتسباً، وربما صابراً غير محتسب، وفي طلب العلم الشرعي ربما يطلب العلم شهراً أو شهرين ثم يتطرق إليه الملل والنفرة، وإذا أشكل عليه علم من العلوم تجده ينصرف عنه بكليته ولا يختاره ولا يدرسه، كعلم أصول الفقه، أو علوم اللغة، أو علم مصطلح الحديث، فهذه علوم جافة تحتاج إلى تفصيل، فهب أنه رزق بأستاذ أو بشيخ لا يحسن التفصيل فتجده ينصرف ولا يثبت، وهو في الجامعة يدرس مواد لا قبل له بها ولا طاقة، ومع هذا يصبر عليها؛ لأنه قد وضع نصب عينيه أن يحصل على بكالوريوس كذا، ولا سبيل له إلى الحصول عليه إلا أن يصبر على المر في سنوات دراسته. إذاً: فعلوم الشرع أولى بذلك كله، ولا سيبل لك إلى الاستقرار في العلم الشرعي إلا بطلب السهل والعسير، والصبر عليهما على السواء. فقال: أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره. أي: أن تأخذه شيئاً فشيئاً. شخص يقول لك الآن: أن لا أفهم شيئاً من الحديث، فإنه يقول: عن وعن وعن ما هذا؟ فحتى أصل إلى قائل القول أكون قد نسيت الأول، ثم تجده ينصرف إلى أصول الفقه، فيجد أن هذا العلم هو عبارة عن طلاسم وكلام غير مفهوم، وهو أشبه بالسحر، هكذا يعبر عن علم أصول الفقه، ثم يتركه وينصرف إلى علم الاعتقاد، فيجد الشيخ الذي يدرس المادة يدخل في تفصيلات وفرعيات الفلاسفة، فيقول: لا يمكن أن يكون هذا ديناً، ثم ينتقل إلى العلم الرابع والخامس، ثم ينتقل من المسجد إلى الشارع، ومن الشاعر إلى المقاهي، ومن المقاهي إلى النساء، ومن النساء إلى الخمور وهكذا، لابد أن ينتهي به الأمر إلى الانحراف؛ لأنه لم يصبر ولم يحتسب في أمر الله، بل لابد أن يأخذ العلم قليلاً قليلاً. ولذلك يقول الإمام الزهري: العلم نتف -يعني: قليلاً قليلاً- فمن رامه جملة -أي: فمن طلبه دفعة واحدة- فاته جملة. فالذي يحفظ عشر آيات في اليوم أو خمس آيات يستطيع أن يحفظ في الغد مثلها، ويستطيع أن يحفظ بعد الغد مثلها، ويتقن الآيات في كل يوم ولا ينساها، أما من يحفظ ربع جزء أو ربعين أو ثلاثة أرباع أو نصف جزء أو جزءاً فإنه سرعان ما ينساه في الغد وفي الباكر مباشرة، فإذا أراد أن يحفظ شيئاً آخر وضم محفوظ اليوم إلى محفوظ الأمس وكان قدراً كبيراً لا يستطيع أن يحفظ بعد الغد جملة مستكثرة كما كان يحفظ في الأمس أو قبل الأمس. فالعلم لابد أن يؤخذ قليلاً قليلاً، وقد ثبت عن كثير من السلف أنه حفظ القرآن في ثلاثة أشهر، بل قد جاء عن بعض السلف أنهم حفظوا القرآن من قراءتين -أي: من مراجعتين- أو ثلاث مراجعات عن ظهر قلب، لكن هدي السلف ليس كذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون العشر الآيات، ثم لا يتجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من أحكام وآداب وأخلاق ويعملون بكل هذا، ثم ينتقلون إلى عشر آيات أخريات، هذا منهج السلف في طلب العلم، أما من جلس مجلساً وقد شعر بنشاط وحيوية فيريد أن يحفظ ثلاثة أرباع أو أربعة أرباع من سورة البقرة في يوم واحد، فإنك فقط لو سألته عن معنى آية لا يعرفها، ولا يحل له أن يتكلم في معناها بغير علم مما ورد من كلام المفسرين، ثم هو في اليوم الثاني يكسل أن يراجع هذه الآيات، لماذا يكسل؟ لأنه قد أنهك نفسك بالأمس، فلم تبق عنده قدرة ولا طاقة ولا قوة كما كانت عنده بالأمس، فالعلم يا إخواني! نتف يؤخذ شيئاً يسيراً فشيئاً يسيراً؛ حتى يتمكن المرء من علمه. ولذلك يذكر عن الشعبي والأوزاعي وغيرهما أنهم كانت تعقد لهم مجالس الحديث بالآلاف المؤلفة، حتى إنه كان يحضر للواحد منهم ثلاثون ألفاً، فيحدث بالحديث والحديثين والثلاثة، فإذا قيل له: حدثنا بالرابع أو الخامس، يقول: لا والله. لقد أكثرت عليكم، تصور أن ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً يحضرون مجلس العلم، ثم لا يقومون منه إلا بثلاثة أحاديث، هل هذا قليل؟! A ليس قليلاً، فقد كان الواحد من الصحابة يرحل للحديث الواحد من المدينة إلى مصر، ومن المدينة إلى الشام. قال: [أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما قد جرت به سنته، وكفوا مئونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها]، إلا قدم عليها دليلاً أنها بدعة وأنها ليست من دين الله، [فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، واعلم أن من سن السنن قد

تفسير سعيد بن جبير لقوله تعالى: (وعمل صالحا ثم اهتدى)

تفسير سعيد بن جبير لقوله تعالى: (وعمل صالحاً ثم اهتدى) [وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة والجماعة]. ((عَمِلَ صَالِحًا)) أي: لزم السنة، ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: إلى التمسك بالجماعة وعدم الخروج عليها. [وعن الضحاك في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: استقام] أي: على الإيمان والعمل الصالح بعد التوبة.

أثر عطاء الخراساني: (ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة)

أثر عطاء الخراساني: (ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة) [وعن حسان بن عطية أنه سمع عطاء الخراساني يقول: ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة]، يعني: أن الأمر يلزم فيه ثلاث أشياء ولا يكفي شيئان، بل لابد من اجتماع الثلاث، إذا اختلت واحدة فإن الاثنتين لا تنفعان صاحبهما، قال: [الإيمان والصلاة والجماعة]، ونحن قد ذكرنا معظم الكلام الذي ورد عن السلف رضي الله عنهم: أن الصلاة من الإيمان، وأن تارك الصلاة مارق عن الإسلام، أما من يترك الصلاة بالكلية فإنه مارق عن الإيمان والإسلام.

أثر ابن مسعود: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)

أثر ابن مسعود: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض) [وقال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وإياكم والتنطع والتبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق]. وهذه وصية جامعة. قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)، أي: قبل أن يموت العلماء، و (إياكم) أسلوب تحذير، و (عليكم) أسلوب حث. قال: (وإياكم والتنطع) وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على المتنطعين فقال: (هلك المتنطعون ثلاثاً)، والتنطع: هو التعمق والتكلف فوق الحد، ودائماً أنا أقول لكم: إن العزيمة والشدة يحسنهما كل أحد، أما الرخصة فلا يحسنها إلا فقيه، (والنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فهذا هو استخدام الرخصة في محلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستخدم العزيمة في موطن يحتاج إلى عزيمة، ويستخدم الرخصة في موطن يحتاج إلى الرخصة، أما أن تستخدم العزيمة دائماً في كل وقت وحين فإن هذا أمر ينخرط عقده ولا يصل. أي: لا يصل بصاحبه إلى الله عز وجل. وانظر إلى أي إنسان مستقيم دائماً تأخذه العزيمة بالعزيمة، وفجأة تراه نازلاً إلى الهاوية، اصعد يا فلان! يقول لك: لا أستطيع، لقد تعبت؛ لكن من أخذ في أمره بالرفق، وكلف نفسه من العمل ما يطيق لابد أنه سيستمر؛ لأن هذه سنة الله في الكون وفي الخلق، فمن سعادة المرء أن يوفق لشيخ أو عالم يأخذ بيديه ويعلمه منهجية السلف في العلم والعمل؛ لأن العمل يحتاج إلى جهد، فإذا بذل العبد مجهوداً فوق طاقته انقطع به الطريق. قال: (وإياكم والتنطع والتبدع) أي: والابتداع، (والتعمق)، وهو بمعنى: التنطع، (وعليكم بالعتيق) والعتيق: القديم، يعني: إذا حزبك أمر فليس لك من عاصم إلا الوحي، ولا يوصف الوحي بأنه قديم، وإنما يقصد به الأمر الأول، أي: عليك بالأمر العاصم من كل قاصمة وزلة وانحراف، فإذا نزل بك أمر فلا تطلب رأي فلان ولا علان، بل اطلب حكم الله تعالى وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا هو الأمر الأول العاصم من كل فتنة. [وقال محمد: كانوا لا يختلفون عن ابن مسعود في خمس]، أي: خمس أمور كانوا يروونها عن ابن مسعود، وكأن هذه وصية ابن مسعود دائماً لأصحابه؛ حتى وردت عنه بالتواتر أنه كان يقول: [إن أحسن الحديث كتاب الله]، وهذه المسألة من جهة العقل ليست محسومة، فعندنا في هذا الزمان من يعترض على الله بعقله، وكأنه يقول بلسان حاله: كلامي أحسن من كلام الله، أليس هذا حاصلاً؟ حال العلمانيين والمنافقين الموجودين الآن على صفحات الجرائد والمجلات والصحف أنهم يعترضون على كلام الله عز وجل، وعلى كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاعتراض على آية من كتاب الله يقولون: أنتم لا تفهمونها فهماً صحيحاً، ومن هو ابن كثير هذا؟ ومن هو الطبري؟ ومن القرطبي؟ ثم بعد ذلك يطعنون في كتب المفسرين، وكلامهم هم فقط هو الصحيح، ومنظورهم للآية هو المنضبط، هكذا يزعمون ويدعون، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم منافقون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وهم يعلمون أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، فلا يعقل أن معنى الآية يخفى على الأمة ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة ويظهر لواحد من هؤلاء الكلاب الموجودين في هذا الزمان، وإلا فالأمة في ضلال منذ ألف وأربعمائة سنة، والعلماء فيها لم يكن لهم قيمة ولا مذهب، ولم يفهموا هذه الآيات، بل خبطوا فيها خبط عشواء، وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد فقد عقله أو فقد قلبه، أو فقد قلبه وعقله على السواء مع الله عز وجل، فخرج من الإيمان بالكلية خاصة إذا كان يقصد ذلك، أما إذا كان يردد كلام هؤلاء عن جهل فهو على خطر عظيم، فهو إذاً على خطر في الحالين. قال: [إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف على ذلك، وشر الأمور محدثاتها]، أي: محدثات الأمور وبدع الأمور في دين الله عز وجل. وهذا بلاء. قال: [وإن أكيس الكيس التقى]. أفضل الأعمال أن يأتي العبد تقياً لله عز وجل. قال: [وإن أحمق الحمق الفجور]، سواء في القول أو العمل أو الاعتقاد. هكذا حفظ أصحاب ابن مسعود عنه هذا الحديث.

خطبة ابن مسعود: (إن أصدق الحديث كلام الله)

خطبة ابن مسعود: (إن أصدق الحديث كلام الله) [وعن إياس]، وهو ابن معاوية بن قرة المزني القاضي المشهور، وهو من سادات التابعين، يروي [عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول دائماً في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن]. وهذا نهج المذكرين والوعاظ لو يعلمون صدق هذا الكلام وروعته، وهو كلام ابن مسعود سادس ستة في الإسلام، فهو من المسلمين الأوائل. والمعروف أن في القرآن عشرات القصص والأمثال، وكذلك السنة قد امتلأت بالقصص والأمثال، والقصص تجد طريقها لقلوب الناس، خاصة قلوب العامة، بل تجد طريقها في قلوب العامة والخاصة، والقصص مسلية، لكنها ذكرت في القرآن والسنة للعبرة والعظة وتقريب المقال وغير ذلك، فيا ليت الوعاظ يلتزمون قصص القرآن الكريم وقصص سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام. والناظر في قصص القرآن وقصص السنة يجد أنها قد تصل إلى أكثر من (300) قصة، فلو أن كل واعظ انشغل بقصة من القصص فعلمها للناس، واستخرج منها العظات والفوائد والنكات، وأنزلها على واقع المسلمين اليوم، وطاف بها البلدان؛ لكان في هذه القصص الخير الكثير، لا كما يطوف بالقصص الصوفية والأولياء ويطوفون بالكلام الذي قد ورد في كتب الموضوعات والخرافيات وغيرها، وللأسف الشديد أن وعاظنا يرددون هذا الكلام على مسامع العامة؛ حتى صرنا أشبه بسلفية صوفية كما هو مصطلح أحد الزعماء الكبار. يقول: دعوتنا سلفية صوفية. كيف تكون سلفية صوفية؟! إن النار والجنة لا يمكن اجتماعهما قط؛ لأنه إما أن تؤثر السلفية في الصوفية فتستقيم، وإما أن تؤثر الصوفية في السلفية فتنحرف، أما اجتماعهما فمحال؛ فكيف تكون الدعوة موصوفة بأنها سلفية تارة وصوفية تارة أخرى؟! إلا أن يكون المراد بالصوفية الزهد، ولذلك حملناها على أصل معناها الذي وضعت له في مصطلح الصوفية. فقوله: [إن أصدق الحديث كلام الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء]، يعني: أحسن القتل هو أن تموت شهيداً في ساحة القتال، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله. قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى]، يعني: أسوأ الضلالة الضلالة بعد الهدى، فالإنسان الذي نشأ في ضلالة هو أقل قبحاً ممن عرف الهدى ثم انحرف عنه، وفي الغالب أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يترك الإيمان رغبة عنه. قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع]. يعني: أنفع العلم وأحسن العلم ما ينفعك في دنياك وآخرتك. قال: [وخير الهدى ما اتبع]، أي: خير الهدى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، [وشر العمى عمى القلب]. كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فشر العمى عمى القلب، ويتبعه عمى العقل، أما عمى البصر فربما يمدح المرء لأنه أعمى البصر، ولو لم يكن تمني البلاء مذموماً في الشرع لتمنى المخلصون الذين يتأذون بالمعاصي العمى؛ لأن المرء الآن لا يكاد ينظر في شرق ولا غرب ولا فوق ولا تحت إلا وتقع عيناه على ما يغضب الله عز وجل، فهذا أمر يحمل على طلب العمى في هذا الزمان، لولا أنا قد نهينا عن تمني البلاء، والعمى بلاء، فالمرء ربما يغبط على بلاء قد نزل به وإن كان عمى في بصره. ثبت في الأثر أن صحابياً أصيب بالعمى، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يدعو له بذهاب البلاء عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك. قال: يا رسول الله! بل أصبر)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب في حبيبتيه فصبر فليس له جزاء إلا الجنة)، والحبيبتان: هما العينان، أي: من أصابه العمى في عينيه فصبر على هذا واحتسب الأجر عند الله عز وجل فله الجنة. قال: (وشر العمى عمى القلب). فعمى القلب وعمى العقل التابع لعمى القلب من أعظم الأمراض الفتاكة بالشخص التي تودي به إلى جهنم والعياذ بالله، لكن إذا كان أعمى البصر، وقلبه قد عمر بالإيمان والتوحيد فهذا شيء عظيم جداً، أما أن يعمى القلب عن معرفة الحق فلا يكاد يميز بين الحق والباطل، بل ربما زعم أن الحق باطل وأن الباطل حق، بل ذهب يدعو إلى الباطل وينحرف عن الحق؛ فهذا منتهى العمى ومنتهى الضلالة. وأنتم تعلمون أن ابن مسعود في مسجد الكوفة الكبير كان يذكر الناس عشية كل خميس، ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن أصحاب ابن مسعود قالوا له: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب كلامك فهلا ذكرتنا في كل يوم؟ فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) ي

أثر ابن مسعود: (أنه كان يذكر كل عشية خميس)

أثر ابن مسعود: (أنه كان يذكر كل عشية خميس) قال: [إن ابن مسعود: كان يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب]، يعني: شر الحديث الكذب فيه، [وسمعته يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة]، والطاعة هنا لأولياء الأمور وللعلماء. قال: [عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة]. فانظر إلى الكلام الجميل: (إن ما تكرهون في الجماعة) أي: في جماعة الإمام والخليفة خير لكم مما تحبونه حين تفرقكم. قال: [وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليه]. لابد. أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام حديث أنس: (أن دابة النبي عليه الصلاة والسلام القصواء لم تسبقها دابة قط، فجاء رجل من الأعراب بدابته، وقال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك)، انظر النكتة التي استفادها البخاري من هذا الحديث، فبوب هذا الحديث: باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وهو نبي ورسول رضي أن يسابق أعرابياً أتى من البادية، مع أن هذه القصواء لم تسبقها ناقة ولا جمل ولا حمار (قال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك، فسبقه الأعرابي. فقال الصحابة: خلأت -عضبت- القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا، ما بلغ شيء تمامه إلا نقص)، أي: ما من شيء يرتفع إلا ومصيره النزول. انظر في نفسك حيث كنت جنيناً، ثم وليداً رضيعاً، ثم طفلاً، ثم صبياً، ثم شاباً، ثم رجلاً فتياً قوياً، وبعدما تصبح فتياً قوياً يبدأ العد التنازلي مرة أخرى، كان هناك عد تصاعدي، واختلف أهل العلم في هذا، فمنهم من قال: يبدأ النزول بعد سن الأربعين، ومنهم من قال: يبدأ بعد سن الخمسين، ومنهم من قال: بعد سن الستين، فأياً كان اعتبر أن صفوة قوتك وشبابك من أربعين إلى الستين، وبعد الستين يبدأ العد التنازلي السريع لا محالة، ففي قوتك تفعل ما تشاء من خير أو شر، لكن الإنسان الذي بلغ تمام قوته، ثم بدأ ينزل بعد ذلك على حتفه، لابد أن يعمل ألف حساب لهذا اليوم الذي ينزل فيه، ولابد أنه نازل مهما طال به الزمان وعاش، وقد أعجبني جداً كتاب رجل سماه: انتبه فقد بلغت الأربعين، (ولقد أعذر الله عز وجل إلى امرئ بلغه الستين)، يعني: تكون فاجراً، تكون زانياً، تكون سارقاً، تكون قاتلاً، ليس لك في ذلك عذر واحد، فالله تبارك وتعالى مد في عمرك وأقام عليك الحجة منذ ستين عاماً، ولا زلت مصراً على المعصية؟ إنك على خطر عظيم جداً بين يدي الله عز وجل. فقال ابن مسعود: [وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليها، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة، وإن هذا الإسلام اليوم مقبل]. والإسلام قادم لا محالة، والإسلام باق إلى قيام الساعة، لكنه يخبو أحياناً ويظهر أحياناً، حسب تمسك أهله به، والعاقبة للتقوى. قال: [وإن هذا الإسلام اليوم مقبل، ويوشك أن يبلغ نهايته، ثم يدبر وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشو الفاقة]، يعني: علامات ذلك أن يكثر الفقر بين الناس؛ لبخل الأغنياء، وتركهم لأداء زكاة أموالهم وعموم الصدقات. قال: [وتقطع الأرحام]. فمن منا أيها الإخوة يعرف رحمه ويعرف نسبه؟ A قليل جداً، حتى واصل الرحم فينا يصل من وصله ويقطع من قطعه، وليس هذا هو الوصل، بل إن الواصل من يصل من قطعه، أما ذاك الذي يقال له: صل أخاك فيقول: الذي يأتي إلي أذهب إليه، والذي لا يأتي إلي لا آتي إليه، فلا أحد أحسن من أحد، وهذا من مصطلحات الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام نقولها نحن اليوم، فنحن في جاهلية عظيمة جداً، وأمثلنا وأحسنا من يصل أباه، أمه، أخاه، عمته، خالته، فإنه يصل المحارم دائماً، وهل هؤلاء فقط هم المحارم؟ A لا، بل هم أعظم من هؤلاء بكثير، فهناك صلة رحم عامة وهناك صلة رحم خاصة، وليس هذا وقت تفصيل ذلك. قال: [وآية ذلك أن تفشو الفاقة، وتقطع الأرحام حتى لا يخشى الغني إلا الفقر]. الغني يخشى أن يخرج الزكاة ويفتقر، مع أنه يعطي الفقراء مقابل حق الله وحق الفقراء والمساكين في ذلك الذي فرضه الله عليه. قال: [حتى لا يخشى الغني إلا الفقر، ولا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه، وجاره غنيُّ لا يعود عليه بشيء]، يعني: الواحد يكون له ابن عم وابن خال في بلد أخرى، فيقول له: يا ابن عمي! أنقذني ويا ابن أخي! أرسل لي خبزاً آكله، وجاره الذي ساكن بجواره المأمور بألا ينام وجاره جائع، والمأمور بأنه إذا طبخ لحماً أن يكثر المرق ويتعاهد الجيران، لا يعطيه شيئاً، فالواحد منا محتاج إلى صدقة تأتيه من بلدان بعيدة أو أماكن بعيدة، وجاره الذي فرض الشارع عليه حق الجوار، وأمره ألا ينام إلا

ذكر افتراق الأمم وعلى كم تفترق هذه الأمة

شرح كتاب الإبانة - ذكر افتراق الأمم وعلى كم تفترق هذه الأمة الافتراق سنة ماضية في الأمم إذا ابتعدت عن شرع الله عز وجل ونهجه، فقد افترق اليهود من قبل إلى فرق متناحرة متحاربة، ثم افترق بعدهم النصارى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق أعظم مما افترق اليهود والنصارى، وأنه لا نجاة من ذلك إلا بالتمسك بهديه صلى الله عليه وسلم.

باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة

باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر افتراق الأمم في دينهم، وعلى كم تفترق هذه الأمة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك]. هذا الباب من أهم أبواب الاعتقاد، وهو ذكر افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حديث معاوية بهذا السياق رضي الله عنه: (وإنه سيخرج في أمتي أقوام يهوون هوىً، فيتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله). وهذا الحديث من الأحاديث التي تجعل المؤمن على حذر ووجل من أن يكون في فرقة من هذه الفرق الضالة، وهذا يستلزم محاسبة العبد لنفسه دائماً، هل هو على منهاج أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة؟ أم أنه -من حيث لا يشعر- ضمن فرقة من هذه الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها في النار. فاليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهذا بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. والناظر إلى هذا الحديث يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين). ثم لو توقف عند هذا الحد فسيقول: إن تكملة هذا الحديث هو أن المسلمين لا يفترقون قط؛ لأن المسلم الأصل فيه أنه ليس صاحب هوى، وإنما هو صاحب اقتداء واتباع، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن اتباع الأهواء في هذه الأمة أعظم من بقية الأمم، بل إن هذه الأمة تزيد فرقة عن أصحاب الأهواء والبدع في أمة اليهود والنصارى. وقد جعل هذا الباب لبيان هذه الفرق الضالة وبعض علاماتها، والحكم عليها بأنها في النار، وسنتعرض لبيان مذهب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وبيان بعض علاماتها وأماراتها، وأنها ما سميت أو وصفت بالناجية إلا لنجاتها من النار، وما نجت من النار إلا لاتباعها سنة النبي عليه الصلاة والسلام. [قال الشيخ: قد كتبت في أول هذا الكتاب ما قصه الله عز وجل علينا في كتابه من اختلاف الأمم، وتفرق أهل الكتاب، وتحذيره إيانا كذلك، وأنا أذكر الآن ما جاءت به السنة، وما أعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم من كون ذلك؛ ليكون العبد على حذر من مجاراة هواه] أي: من إطلاق العنان لهواه، [ومتابعة بعض الفرق المذمومة، وكي يتمسك بشريعة الفرقة الناجية، فيعض عليها بنواجذه، ويضمها بجنبيه، ويلزم المواظبة على الالتجاء والافتقار إلى مولاه الكريم في توفيقه وتسديده ومعونته وكفايته، فإنا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له فيه دينه]. فـ ابن بطة يقول: إننا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له دينه، فما بالك لو أنه بعث في زماننا؟ قال: [والنجاة فيه متعذرة صعبة، إلا من عصمه الله وأحياه بالعلم]، ونحن دائماً نؤكد على قضية العلم. فالعلم حياة للقلوب.

شرح حديث (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمنا ويمسي كافرا)

شرح حديث (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً) قال: [عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً، إلا من أحياه الله بالعلم)]. هذا الحديث بهذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بعلم) فيه ضعف، والمحفوظ: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، أي: يبيع دينه بأقل القليل وأقل المتاع، وهذا في آخر الزمان. وبعض أهل العلم حسن هذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بالعلم). وفتن آخر الزمان تتقلب فيها القلوب وتغلي كغليان الماء في القدر على النار، بحيث لا يستقر القلب على حال واحدة، فيصبح الرجل مؤمناً موحداً ويمسي على الكفر البواح الذي ليس بعده كفر، أو يصبح كافراً ويمسي مؤمناً. وإذا علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها سبحانه وتعالى كيف يشاء، زادك هذا معرفة بشدة حاجتك إلى الله عز وجل لأن يعصمك ويثبتك، والثبات على الإيمان أعظم من الإيمان نفسه، وأهم من الإيمان، ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولو أن الله نصرنا ولم نذكره تعالى بعد هذا النصر لكان هذا سبب الهزيمة، ولا قيمة لنصر تعقبه هزيمة، ولكن النصر المؤزر الثابت الذي لا يتزعزع هو النصر الذي يدوم ويستمر. وقد كانت غزوة بدر مثار الحديث والإعجاب في العالم إلى يوم القيامة، وغزوة أحد رغم أنها كلها نصر إلا أن مخالفة الرماة رضي الله عنهم لأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألحق الأذى والهزيمة بهم آخراً، ولهذا قال بعض أهل العلم: ليس في غزوة أحد أدنى هزيمة، لكن مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل الرماة تسببت في انهيار السهام عليهم من قمة الجبل -أي: جبل الرماة- مما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأصاب أصحابه الكرام في سفح الجبل. فالدوام والثبات والاستمرار على النصر أولى من مجرد النصر الذي تعقبه هزيمة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال)، أي: أسرعوا بالأعمال الصالحة قبل قيام الساعة؛ لأنكم إذا كنتم في آخر الزمان ظهرت الفتن التي لا يصبر أمامها إلا من وفقه الله، ودليل ذلك: أنك تجد الرجل في معمعة الفتن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، وغيره يمسي كافراً ويصبح مؤمناً، وهكذا تقلب القلوب في هذا الزمان، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ دائماً من الفتن. قال الإمام ابن بطة: [جعلنا الله وإياكم ممن أحيانا الله تعالى بالعلم، ووفقه بالحلم، وسلمنا وإياكم من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن].

شرح رواية سعد بن أبي وقاص لحديث افتراق الأمة

شرح رواية سعد بن أبي وقاص لحديث افتراق الأمة قال: [وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقوا على بضع وسبعين ملة، ثم إن أمتي ستفترق على أو عن مثلها، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)]. والفرقة الناجية هي الجماعة، وإذا علمنا أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن فرقة واحدة منها هي الناجية؛ فلنعلم أن هذه الفرقة الواحدة هم أهل السنة والجماعة، والطائفة المنصورة إما منهم وهو الراجح، أو أنهم هم هذه الطائفة أو هذه الفرقة بأسرها، وهذه الفرقة هم أهل الجنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، أي: فهي في الجنة.

شرح رواية عبد الله بن عمرو لحديث افتراق الأمة

شرح رواية عبد الله بن عمرو لحديث افتراق الأمة قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة)]، ثم بين أن هذه الواحدة [(ما أنا عليه اليوم وأصحابي)]. وهذه تسمى الفرقة الناجية، وهي التي تمسكت بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين المنهج الذي من سلكه كان من الجماعة، وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام. ولذلك يقول بعض أهل العلم: الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة؛ لأنهم معصومون بمجموعهم، ولأنه لم تظهر فيهم البدع، وإنما ظهرت فيمن أتى بعدهم. وابن سيرين عليه رحمة الله كان يقول: ما ابتدع عالم قط، أي: أن البدعة إنما أتت من الجهال، فالجاهل بالله عز وجل هو الذي أحدث الاختلاف في الدين، أو الاختلاف في الإلهية والربوبية، حتى أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما في ذات الله، أو في أسمائه وصفاته، وإما في النبوة والرسالة، بل حتى في الكعبة، فتجد بعض الفرق الضالة يقولون: نحن نؤمن بالله، ولكنا لا نعرفه، ونحن نؤمن بالرسول، وما دمنا لم نره فإنه لا يلزمنا اتباعه، إنما نؤمن به إذا لم نره، يعني: أنهم آمنوا به بمجرد النظر، ولكن هذا لا يلزمهم العمل بما أمروا به، هكذا يقولون، ويقولون: نؤمن بالقبلة والكعبة، ولكنا لا ندري أهي التي في مكة، أم في بلد غير مكة؟ وهؤلاء بلا شك كفار، وإن لم يكونوا كفاراً فلا أدري من يكون كافراً. قال: (كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي)، أو ما أنا عليه اليوم وأصحابي، فبين المنهج لهذه الفرقة الناجية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله عز وجل على مراد الله، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة فهموا كلام الله على مراد الله، وفهموا كلام النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لهم أهواء ولا بدع.

إشكال حول عدالة الصحابة والجواب عليه

إشكال حول عدالة الصحابة والجواب عليه البعض يقول: كيف نحكم بعدالة الصحابة جميعاً، مع أنهم ينسون كما ينسى غيرهم من البشر ويبتدعون كما ابتدع من أتى بعدهم، بدليل أن البدع إنما ظهرت في زمن علي بن أبي طالب، بل وفي زمن عثمان؟ وأقول: إن نسيان الصحابة أقل ما يكون، ولذلك أجمع النقاد على أن الثقة يهم أحياناً، وأن الضعيف يتقن أحياناً، فإذا وافق الراوي الضعيف في روايته أحد الثقات دلت موافقته على أنه ضبط هذا الحديث وأتقنه. وكذلك الثقة يهم أحياناً كما أن الضعيف يضبط أحياناً. والنسيان في طبقة الصحابة أقل ما يكون، وهذا أمر لا يجرح العدالة ألبتة، وهذا بإجماع أهل العلم. الأمر الثاني: إن القول بأن الصحابة قد ابتدعوا في دين الله عز وجل، والاستدلال على ذلك بظهور البدع في زمن علي بن أبي طالب، وفي زمن عثمان رضي الله عنهما، كبدعة الخوارج والشيعة مثلاً، وهذه من أصول البدع بالإجماع، وقد ظهرت في الزمن الأول، وفي الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة وقالا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما ظهر في زمننا بالبصرة، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالكعبة، قال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أنه سيكل الكلام إلي، قلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون العلم- والمعنى: أنهم يطلبون العلم طلباً حثيثاً، ويتفقهون في العلم بأنفسهم لا على يد عالم، وإنما يطلبون دقائق المسائل، حتى استحقوا التعمق، يعني: كانوا في غاية التنطع في طلب العلم، فهم يطلبون دقائق المسائل ويتركون عظامها، ويقولون: إن الأمر أنف، وفي رواية: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: أوقد قالوها؟ يعني: هؤلاء قد ظهروا؟ قلنا: نعم، قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني فهذه بدعة القدرية ظهرت على يد معبد الجهني في زمن الصحابة، لكن هذه الروايات لم تصرح أن هؤلاء المبتدعة هم من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وليس في الرواية تصريح بأن البدعة وقعت في الصحابة، وإنما وقعت في التابعين ومن أتى بعدهم، والصحابة هم الذين تصدوا لنبذ هذه البدعة وقمعها، وبيان أنهم كانوا على غير ذلك، وبينوا معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكل بدعة على حدة. والصحابة رضي الله عنهم معصومون في مجموعهم بعصمة الله تعالى لهم، كيف لا والله تعالى أحبهم ورضي عنهم ورضوا عنه، وكيف يرضى الله تبارك وتعالى عن قوم قد غيروا دينه وبدلوا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يذاد أناس عن الحوض فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك -أي: ما بدلوا وما غيروا- فأقول: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لمن بدل بعدي). فالتبديل والإحداث إنما ظهر في غير الصحابة، وإن كان هذا التغيير والنفاق قد ظهر في زمن الصحابة. وأصول البدعة هي بدعة الخوارج، وقد ظهرت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أتى رجل وقال: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعطوا هذا الرجل حتى يرضى، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). والخوارج كلاب النار، كما جاءت بذلك الأخبار عن السلف رضي الله عنهم. فبعض البدع ظهرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما على جهة الخصوص، ولم تظهر في زمن أبي بكر؛ لانشغال أبي بكر بالردة، ولا في زمن عمر رضي الله عنه، فـ عمر قمع هذه الفتن كلها، وما استطاع أحد أن يظهر بدعته؛ لشدة عمر وقوته، فقد كان عمر يؤدب من يخرج عن الجادة بضربه على أم رأسه بالجريد والنعال، فلما علم المبتدعة بذلك كل دخل جحره، ولم يخرجوا إلا في فترات الضعف والوهن والتفرق والشتات والشذوذ، فزمن القوة حافظ لدين الأمة بأسرها، وزمن الضعف مهين لأفراد الأمة كلها. وقال عبد الله بن عمرو: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل)، يعني: مثل التفرق الذي وقع في بني إسرائيل من اليهود والنصارى تماماً بتمام، وسواء بسواء. قال: (حذو النعل بالنعل، فإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة، قال: وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أي: التمسك بالهدي الأول، ونحن نحفظ قول

شرح رواية معاوية بن أبي سفيان لحديث الافتراق

شرح رواية معاوية بن أبي سفيان لحديث الافتراق قال: [وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وكذلك سعد بن أبي وقاص قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، ألا وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة). وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: (حججت مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة من بني مخزوم، فأرسل إليه معاوية فقال له: أمرتك بهذا القصص؟ قال: لا، قال: فما حملك على أن تقص بغير إذني؟ قال: ننشر علماً علَّمَنَا الله. فقال معاوية: لو كنت تقدمت إليك قبل مرتي هذه لقطعت منك طائفة -أي: لقطعت منك جزءاً- ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني: الأهواء، وأنها كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة. وقال: إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)]، أي: تدخل تلك الأهواء في جزء من أجزاء أبدانهم، حتى ما تدع عرقاً ولا مفصلاً إلا دخلته وتمكنت منه، ثم شبه النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأهواء بكلب عض إنساناً فدخل فيه أثر عضة الكلب، وهذا الداء يسمى الكلِب بكسر اللام، يصيب المعضوض بسبب عضة الكلب، وإذا تمكن هذا الداء من هذا الإنسان فلا يخرج منه إلا بالموت، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تتجارى بهم تلك الأهواء)، أي: تدخل في كل أجزاء أبدانهم وعقولهم وأفكارهم وقلوبهم حتى تتمكن منها تمكن الكلِب من صاحبه، حتى يبدو منه في كل عرق ومفصل، أو لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً. فهذه الأهواء والمحدثات في الاعتقاد -على جهة الخصوص- إذا تمكنت من العبد تمكناً على هذا النحو فإنه لا ينجو منها قط، إلا إذا شاء الله تعالى له النجاة، كما شاء الله تعالى نجاة بعض المتكلمين والفلاسفة وأصحاب المذاهب الهدامة والأفكار القبيحة الرديئة، كما هو الشأن في أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى الذي تاب من أشعريته، وبقي أصحابه على أشعريتهم؛ ظناً منهم أن الأشعرية هم أهل السنة، وأن الأشعرية هي السنة، وليس الأمر كذلك، بل الأشعرية انحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مناقضة لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام في العقيدة. قال: [(وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلِب بصاحبه، فلا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله، ثم قال معاوية: والله يا معشر العرب! لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به)]. يعني: إذا تهاونا وتكاسلنا نحن العرب عن حمل دين الله عز وجل، وعن أن نأمر فيه بالمعروف وننهى فيه عن المنكر بشروطه المعروفة عند أهل العلم، وأن نحمل هذا الدين، ونغير به الأرض كلها؛ حتى يدخل هذا الدين في كل بيت وبر أو مدر؛ فمن يحمله؟ أيحمله العجم الذين لا يحسنون لغة العرب والقرآن؟ وقد اختار الله عز وجل نبيه من العرب، واختار أصحابه من العرب، وقلَّ أن يكون أصحابه من العجم، مع أنه لا فرق بين عربي وعجمي، ولا أحمر ولا أبيض، ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى، كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في سنته. فنشر هذا الدين يقع على عاتق العرب لأول وهلة، ولا مانع أن ينصر الله تعالى هذا الدين على يد رجل أعجمي، أو على يد مولى من الموالي لا على يد حر، وكل هذا إنما يتم بقدر الله عز وجل وقدرته، لكن كلف العرب أولاً أن ينشروا دين الله عز وجل، فإذا هم نفروا عن ذلك فغيرهم أولى بهذا النفور.

شرح روايات أنس بن مالك لحديث افتراق الأمة

شرح روايات أنس بن مالك لحديث افتراق الأمة قال: [وعن أنس بن مالك في حديث طويل له رضي الله عنه عن عمر قال: (تفرقت أمة موسى عليه السلام على إحدى وسبعين ملة، منها سبعون في النار وواحدة في الجنة)]. وهذه الفرقة هم الذين تبعوا موسى في رسالته وفي شرعه حتى جاء عيسى عليه السلام، وحتى بعث محمد عليه الصلاة والسلام، ثم لا يقبل من أحدهم بعد ذلك اقتداءً بموسى؛ لأن موسى عليه السلام لو كان حياً في زمن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لما وسعه إلا أن يكون تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام. وكذلك النصارى فالفرقة الناجية منهم من كان تابعاً في حياته وفي حياة عيسى لعيسى عليه السلام، أي: في مدة بقاء عيسى مع بني إسرائيل، ونحن نعتقد أن عيسى حي رفعه الله تعالى إلى السماء، وأنه حي في السماء الآن، وسينزل في آخر الزمان. قال: [(وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة: إحدى وسبعين ملة في النار، وواحدة في الجنة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة)]، يعني: وتزيد أمتي في الافتراق على افتراق أمة اليهود وأمة النصارى بفرقة. قال: [(ثنتان وسبعون ملة في النار، وواحدة في الجنة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة). قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]، ثم يذكر في أمة عيسى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65 - 66]. ثم ذكر في أمتنا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181]]. [وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن سلام!)]. وابن سلام هو عبد الله بن سلام، وكان حبراً من أحبار اليهود في المدينة، قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة)]. وهذه علامة وأمارة أصحاب الأهواء والبدع، فإنهم إذا اختلفوا كفّر بعضهم بعضاً، وضلَّل بعضهم بعضاً، وبدَّع بعضهم بعضاً، وفسَّق بعضهم بعضاً. وأما أهل الحق فإنهم يخطئ بعضهم بعضاً، وهذا قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم وغير واحد من السلف، فقالوا: أهل البدع إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت كافر، وأهل السنة إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت مخطئ، وشتان ما بين هذا وذاك. فإطلاق التكفير علامة على أن من قال ذلك مبتدع، إن لم يكن حكمه موافقاً للشرع. وأصحاب الكبائر عند الخوارج كفار، وغلاة الخوارج يكفرون بالذنب، سواء كان صغيراً أم كبيراً، يعني: أدنى معصية يفعلها العبد يكفر بها عند غلاة الخوارج. والمعتزلة لهم قول كذلك في مرتكب الكبيرة، فهم يقولون: مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، هذا حكمه في الدنيا، ولا أعرف كيف سيكون التعامل مع إنسان لم تبد هويته ولا يعلم أهو مؤمن أم كافر أم فاسق؟ وأما في الآخرة فإنهم يقولون: إنه مخلد في النار. والخلود لا يكون إلا للكفار الأصليين، أو الذين طرأ عليهم الكفر، أي: الذين بدلوا دينهم وخرجوا من ملة الإسلام، وهم حكموا عليه في الدنيا بأنه ليس كافراً، وحكموا عليه في الآخرة بأنه مخلد في النار، فوصلوا إلى هذا التخبط، وهذا الكلام لا تصدقه عقول العجائز وصبيان الكتاتيب، ولذلك قال غير واحد من السلف: عليك بدين الصبي في الكُتَّاب والعجوز في البادية، واله عما سواهما، يعني: لا يضرك من خالفهما، وهذا الكلام أحرى أن يكتب بماء الذهب، وكلام السلف عصمة لكل أحد، بل هو حجة على كل أحد، فإذا انحرف الشخص فلينحرف ما شاء، فإنه لا عذر له بعد سماع هذه النصوص بين يدي الله عز وجل إلا أن يأتي ربه بقلب سليم. قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة، قالوا: أفلا تخبرنا لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك على هذا)]. يعني: يا رسول الله! قد أخبرناك عن بني إسرائيل، فأخبرنا أنت إذا متَّ وخرجت من الدنيا إلام تصير أمتك؟ [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني إسرائيل تفرقوا على ما قلت يا ابن سلام! وستفترق أمتي على ما افت

شرح رواية عوف بن مالك الأشجعي لحديث افتراق الأمة

شرح رواية عوف بن مالك الأشجعي لحديث افتراق الأمة قال: [وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)]. وقوله: (قوم يقيسون الأمور برأيهم) يدل على مخالفة هذه الفرقة الضالة لفرقة الحق الناجية في أصول الدين لا في فروعه. وهذه الفرق تخالف في الحلال والحرام، فتجعل الحرام حلالاً، وتجعل الحلال حراماً. والتفرق لا بد أنه واقع في الأمة، ولا حاجة إلى إثبات ذلك من قبل النقل؛ لأن النقل ثابت لا محالة بطرق متعددة كثيرة، والواقع يقول: إن التفرق قد حصل ووقع بالفعل، فلو لم يرد نص بإثبات وقوع التفرق في الأمة لآمنا بوقوع التفرق؛ لأنه قد وقع في المجتمع. فإذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوقوع التفرق في الأمة فنقول: إن هذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر عن أمر غيبي سيكون فكان، وهذا يدل على أن ذلك من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام. الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار)، والكفر لا يطلق على فرقة بأكملها، وإنما يغلب الكفر البواح على بعض الفرق، ونحن نحجم عن إطلاق لفظ الكفر على بعض الفرق، ولكن في الغالب غلاة الفرق كفار مارقون عن دائرة الإسلام، وأما عامة الفرق فإنه لا يحكم عليهم بالكفر حتى تظهر لهم الحجج والبينات. والإمام الذهبي عليه رحمة الله يقول: والحمد لله أن عصمنا من هؤلاء وهؤلاء، وكنا في زمان غير زمانهم، يقصد زمن علي ومعاوية. يقول: فما ذنب من نزل بالشام طفلاً رضيعاً على حب معاوية والمغالاة فيه، وذم علي رضي الله عنه، وما ذنب من نزل بالكوفة والبصرة طفلاً رضيعاً على حب علي رضي الله عنه والمغالاة فيه، وعلى ذم معاوية رضي الله عنه، أي: أنهم كالغنم السائمة أينما قيدت انقادت، لا علم لهم ولا فقه، وليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل. فقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) يقضي بأن جميع هذه الفرق في النار، ولا يلزم من دخولها النار الخلود فيها، إلا إذا كانوا قد مرقوا وخرجوا عن دائرة الإسلام فإنهم يخلدون، وأما غيرهم فإن دخلوها -وهم لا محالة داخلوها؛ لخبره عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم من دخولهم الخلود، وإن جاء في بعض الروايات أنهم يخلَّدون في نار جهنم؛ فإن الخلود في لغة العرب محمول على المكث الطويل، لا دخولاً أبدياً سرمدياً. وقوله: (كلها في النار) يلزم منه التفريق بين من كان كافراً وبين من كان عاصياً من أصحاب هذه الفرق، وكلهم يدخلون النار، ثم منهم من يخرج منها بعد أن يخلد فيها حيناً من الزمان، ومنهم من يمكث فيها أبداً، على حسب ما إذا كان قد كفر ببدعته أو لم يكفر ببدعته. الثالثة: أن الفرقة لا يمكن أن تطلق على كل مبتدع، سواء كان واحداً أو جماعة أو طائفة من الناس، إلا إذا خالفت في الأصول والقواعد والكليات العامة للدين الإسلامي. يعني: إذا خالف إنسان في فرع من فروع الشريعة فلا يقال: هو خارجي، أو شيعي، أو قدري، أو مرجئي، أو أشعري، ولا يقال ذلك إلا إذا خالف في أصل من أصول الشريعة، وكلية من كلياتها؛ فصارت هذه المخالفة علامة عليه وعلى منهجه وفكره، فهنا يستحق أن يلحق بإحدى هذه الفرق التي انتهج مخالفتها في هذه الكليات والقواعد العامة. فإذا وافق شخص القدرية في بعض الفرعيات فإنه لا يكون قدرياً، وأما لو وافقها في الأصول العامة والكليات العظمى التي خالفت فيها هذه الفرقة أهل السنة والجماعة؛ فإنه يكون قدرياً، فبناء على مخالفتهم في هذه القواعد العامة والأصول الكلية استحقوا أن يكونوا فرقة ضالة، ولو وافقهم أحد في هذه الكليات والقواعد العامة يكون منهم. إذاً: ليس كل من أحدث في الدين أو ابتدع بدعة في فرعية من الفرعيات يسمى فرقة، وإنما يعزر لأجل مخالفته أو يؤدب، وأما إلحاقه بالفرقة فلا.

منهج جماعة التكفير

منهج جماعة التكفير جماعة التكفير في هذا الزمان خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فاستحقوا أن يكونوا خوارج كأجدادهم؛ لأنهم تبنوا أصول أسلافهم من الخوارج في سالف عهدهم، فهذه الطائفة أولى بها أن تلحق بتلك الفرقة الضالة، فمنهم من يكفر ببدعته، ومنهم العامي الذي لا يكفر ببدعته. وقد انتشروا في هذا الزمان انتشاراً أنتم تعلمونه وتعلمون أماكنهم، وقد وجد هذا الفكر طريقه في وسط الأحياء الراقية. وهذا الفكر لا يزال إلى الآن مستمراً في إحياء منهج الخوارج، وإن زعموا أنهم قد تابوا، ولو أنا قبلنا منهم ذلك، فإن عملهم ومسلكهم الأخلاقي ينبئ أنهم لم يتوبوا من هذا الفكر، وهم يجمعون أنفسهم الآن، وقد دخل غيرهم في وسطهم، وهم لا يزالون على تنطعهم الأول في اهتمامهم بالفرعيات، وشغل الناس بها، وهذه المعاصي الظاهرة التي لا تعد من الكبائر يجعلونها من أعظم الكبائر، حتى قال أحدهم: إن الالتزام بالزي الإسلامي لازم لكل مسلم قبل إيمانه بالله، ولا أدري كيف يصدر هذا الكلام من إنسان له عقل، فضلاً عن تبني ذلك، فهو يقول: الالتزام بالزي الإسلامي أسبق في الوجوب من الإيمان بالله ورسوله! فلو كان هناك كافر مثلاً فهل نطالبه بأن يلبس الثوب والعمامة؟ وهل هذا كلام مقبول؟ فهؤلاء يضربون بالنعال، ولا يوقفهم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهم قد بدءوا الآن يرفعون عقائرهم مرة أخرى، فلا بد من ضبطهم وإثبات عوارهم وفسادهم الأخلاقي والعقدي في المجتمع؛ حتى يحذر الناس منهم.

شرح أثر علي بن أبي طالب في افتراق الأمة

شرح أثر علي بن أبي طالب في افتراق الأمة قال: [قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة، كلها في الهاوية وواحدة في الجنة]. وقوله: (كلها في الهاوية) أي: في النار، (إلا واحدة)، وهي الجماعة، وهم أهل السنة، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهم من كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا واحدة)، وهذا يدل على أن الحق واحد غير متعدد، خاصة في هذه الأمور العامة الكلية التي أجمع أهل العلم باستنادهم على ثبوتها من دين الله ضرورة، والتي لا يسع المسلم الجهل بها. فمن قال من الناس -مثلاً- إن الله لم يفرض الصلوات الخمس، وإنما هما صلاتان في الصباح والمساء فقد كفر بذلك، ومن قال إن الله تعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ونحن قد آمنا بالكعبة، ولكن لا أدري أهي التي في مكة أم أنها كعبة غيرها فقد كفر؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يصح لأحد أن يدعي أنه يجهل ذلك، كمن يقول: أنا أعلم أن الله فرض علي صيام شهر في السنة، وهو شهر رمضان، ولكن لا أدري هل نحن في شهر رمضان أم لا؟ فهذا نعجز أمامه أن نثبت له أننا في رمضان. وإذا كانت الشمس ساطعة وقال: أنا مؤمن بأن الله تعالى خلق الشمس، وأنها تشرق من المشرق، وتغرب في المغرب، لكني لا أدري هل هذه الشمس هي التي خلقها أم غيرها؟ وهو يقول هذا الكلام في الظهر، فكيف نثبت له أن هذه شمس؟ لن نستطيع إثبات ذلك؛ لأنه فقد بصره وبصيرته، وعلى أم عمرو السلامة. فلو أنه نازع في أصل أصيل لا ينازع فيه أجهل الجاهلين فإنه لا حجة له عليه، وهذا يدل على أن الفرقة الناجية واحدة، وأن الحق الذي تستند إليه، والأصل الذي تتمسك به، والذي به نجت من النار ودخلت الجنة، هو كذلك واحد، وهو كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل العلم. فهم لا يجتهدون بعيداً عن القرآن والسنة وإجماع العلماء، ولا يتكلمون كلاماً من أهوائهم ثم يقولون: هذا كلامنا وهذا اجتهادنا، فالاجتهاد حتى يكون معتبراً مقبولاً لا بد أن يبنى على أصول صحيحة من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا كيف نعرف أن هذا المجتهد أصاب أو أخطأ إلا برجوعه في اجتهاده إلى هذه الأصول الثلاثة، وموافقته الكتاب والسنة والإجماع، أو نعرف أنه أخطأ إلا بمخالفته للكتاب والسنة والإجماع. فالخلاف نوعان: مذموم، واعتماده على الرأي. وممدوح، واعتماده على المصادر الأصيلة في الإسلام، وهي الكتاب والسنة والإجماع. فهذه الفرق فرق ضالة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنها ضالة، وأن ضلالها يؤهلها إلى الدخول في النار، ثم منهم المخلد، وهو الكافر، ومنهم غير المخلد، وهو الفاسق. والخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، والمجموعة المخالفة لما كان عليه السلف لا يمكن إطلاق الفرقة عليهم إلا إذا خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية، وأما إذا خالفوا في فرع أو فرعين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، فلا يستحقون اسم الفرقة. وقال بعض أهل العلم: إذا بالغوا في مخالفتهم للفروع استحقوا اسم الفرقة؛ لتهديمهم بهذه الفروع معالم الشريعة، ولهذا الكلام وزن، يعني: يمكن أن يكون مقبولاً، لكن الكلام الذي لا نزاع عليه أنه إذا وقعت المخالفة في الأصول العامة والفرائض الكلية وكانت علماً على هذه الطائفة، استحقوا أن يكونوا فرقة.

الفرق بين الجماعة والفرقة

الفرق بين الجماعة والفرقة الذي أؤكد عليه أن الفرق قائم وضروري بين الفرقة والجماعة، أو الطائفة من الناس، وكثير من الناس يقولون: إن هذه الجماعات الدعوية التي أخذت على عاتقها واجب إصلاح المجتمع الإسلامي في الشرق والغرب بعد سقوط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك لعنه الله؛ فرق ضالة، وهذا الكلام في غاية الخطأ، وإن قال بعض أفراد هذه الجماعات ما قالته فرقة بعينها ألحق هذا الشخص بالفرقة الضالة التي تبنى هو أصولها، ولا أعتقد أن جماعة من هذه الجماعات الإصلاحية الدعوية على الساحة تتبنى مذهب الخوارج أو مذهب الاعتزال أو مذهب الإرجاء أو مذهب الرفض مثلاً، إلا الشيعة في إيران وغيرها. والجماعة التي وردت في النصوص هي جماعة الإمام الأعظم، وأما اعتبار هذه الجماعات فرقاً، فهذا من أعظم الظلم؛ لأنه ليس ثمة جماعة من هذه الجماعات تبنت أصول إحدى الفرق الضالة.

أصول الفرق الضالة ومرجعها

أصول الفرق الضالة ومرجعها هذه الفرق وإن كانت ثنتين وسبعين فرقة إلا أنها في أصلها ترد إلى أربع فرق أو خمس، وهي: الرافضة أو الشيعة، والخوارج، والجهمية، وبعضهم كـ عبد الله بن المبارك يقول: إن الجهمية ليسوا من فرق الضلالة، وإنما هم كفار أصليون، لا علاقة لهم بفرق الإسلام. ولذلك لما سأله يوسف بن أسباط: ما هذه الفرق التي ذكرها ابن عمر في حديثه؟ قال: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والمشبهة. قال: يا أبا عبد الرحمن! لم تعد الجهمية؟ قال: وهل سألتني عن الكفار؟ إنما سألتني عن فرق الضلالة، وأما الجهمية فإنهم كفار. فهذا تصريح من عبد الله بن المبارك -وهو إمام الأئمة وسيد العلماء في زمانه- بأن الجهمية أتباع الجهم بن صفوان ليسوا من أهل الإسلام، وإنما هم من فرق الضلالة؛ لأنهم من أول يوم مرقوا وخرجوا عن الإسلام بالكلية. فمرد الفرق إلى هذه الأربع أو الخمس، ثم تفرقت كل فرقة منها إلى فرق متعددة، وبلغت كل فرقة منها فوق العشرين أو دونها، حتى أصبح مجموع هذه الفرق كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتاب الفتاوى قال: فهذه الفرق بلغت في صدرها الأول اثنتين وسبعين فرقة.

علامات الفرقة الناجية

علامات الفرقة الناجية الفرقة الناجية واحدة، ولها علامات وأمارات، فهم ليسوا أقواماً تحزبوا في أماكن وانحازوا فيها، وإنما استحقوا ذلك باتباعهم للسنة ونقدهم للبدعة ومحاربتهم لها، ونصرتهم للحق الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام. ولذلك قال سفيان لـ يوسف بن أسباط: يا يوسف! إذا سمعت برجل من أهل السنة في المشرق فأرسل إليه السلام، وإذا سمعت به في المغرب فأرسل إليه السلام؛ فإن أهل السنة قلة. أي: فإن علماء السنة الداعين لها المستمسكين بها قلة. ولذلك قال عنهم: (طائفة)، قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). ولذلك سموا بالجماعة، وسموا أهل السنة؛ لأنهم متمسكون بالسنة، خاصة في الاعتقاد، والسنة هنا لا تعني حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هي في مقابلة البدعة في الاعتقاد، ولذلك يقولون: فلان سني وفلان بدعي وفلان على السنة وفلان على البدعة. فالسنة عند إطلاقها في باب الاعتقاد أو كتب الاعتقاد تعني القيام على عقيدة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وسموا بالجماعة لأنهم اجتمعوا على هدف واحد.

من هم الفرقة الناجية والجماعة

من هم الفرقة الناجية والجماعة اختلف أهل العلم من هم الجماعة؟ فقيل: هي جماعة الإمام الأعظم، أي: جماعة الخليفة ومن معه من الناس، وقيل: هي السواد الأعظم من الناس، وقيل: هي جماعة العلماء والمجتهدين، سواء كان معهم العامة أو ليس معهم العامة، وقيل: هي جماعة الصحابة على جهة الخصوص؛ لأنهم معصومون بعصمة الله لهم من الوقوع في إحدى هذه الفرق الضالة، فلما كانوا معصومين على هذا النحو الذي ذكرت استحقوا أن يكونوا هم الجماعة الذين تتمثل فيهم القدوة والأسوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم من كانوا على الحق وإن قلوا، ولذلك يقول ابن مسعود: الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك. والنبي عليه الصلاة والسلام بمجرد أن أرسله الله عز وجل قبل أن يدخل أحد في دينه كان وحده هو الجماعة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه كان في زمانه وحده على الحق وهو جماعة، فقد كان الحكام والأمراء والعلماء وغيرهم من الكبار والصغار في زمن أحمد من المعتزلة، وقد حدا هذا ببعض أهل العلم أن يذهب إلى أحمد في بيته ويقول له: يا أحمد! أنت تقول: إن ما نحن عليه هو الباطل، وأن ما أنت عليه هو الحق، فلو كان ما نحن عليه هو الباطل فلِمَ أظهره الله على الحق؟ فقال أحمد: ومن قال لك بأنكم ظاهرون؟ ألا تدري أن الظهور هو انتقال القلوب من الحق إلى الباطل؟ قال: وقد انتقلت. قال: ومن قال لك إنها انتقلت؟ أما أنا فقلبي مطمئن بالحق الذي هو عليه. أي: يريد أن يقول له: ولو كانت القلوب كلها تحولت إلا قلباً واحداً فقط لم يتحول فإنه الحق، وإنه الجماعة. وهذه الفتنة كانت في القرن الثالث، والإمام أحمد مات سنة (241هـ)، فهو يريد أن يقول له: أنا وحدي على الحق، ثم سرعان ما زال الباطل ولم يصمد أمام رجل واحد، والذي حارب المعتزلة في زمان أحمد هو الإمام أحمد فقط، والأمة كلها اعتبرت الإمام أحمد هو الذي كان على الحق في زمانه، والأمة بأسرها أو في مجموعها كانت معتزلة، ومع هذا ثبت الله تبارك وتعالى أحمد رحمه الله حتى ظهر دين الله عز وجل. وقد جاءه شخص مشفق عليه يقول له: يا أحمد! قل هذه، وما الذي تخسره؟ فنظر أحمد إلى الآلاف التي وقفت في المشهد، وقال له: إن هذه المحابر تنتظر هذه الكلمة، يعني: تنتظر أن تزل قدم أحمد في هذا الموقف، فضحى أحمد بنفسه لأجل سلامة أمة، فاستحق أن يكون الصديق الثاني للأمة كما سماه بعض أهل العلم. قال أحمد: فعبر رجل النهر ودخل علي، ولا أحد منهما يعرف الآخر، وفي طريقه إلى أحمد كان يسأل: أين أحمد؟ فدلوه على الإمام أحمد في السجن، حتى وصل إلى أحمد فقال: يا أحمد! اثبت؛ فإنك على الحق، وما هو والله إلا سوط واحد ولا تشعر بشيء بعده. فالقضية قضية دين ودعوة وشرع، وقضية أن تذهب بنفسك وتبقى أمة وتعلو راية، فلا تكن أنت أول من يسقطها، ولا أول من يضيع العلم، ولا أول من يضيع الأمة، وأنت لو ذهبت فإنك تذهب إلى رب كريم. أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة الروايات الوارد فيها خصائص الفرقة الناجية

مدى صحة الروايات الوارد فيها خصائص الفرقة الناجية Q ما صحة الروايات التي ذكرت في علامات الفرقة الناجية في أحاديث الافتراق؟ A معظم الزيادات التي وردت -وليست كل الزيادات- في حديث الافتراق في بيان الفرقة الناجية وما هم عليه زيادات ضعيفة، وأنا أقر بذلك، ولكن هذه الزيادات أجمعت الأمة على أنها من خصائص أهل السنة والجماعة.

التعريف بالماتريدية

التعريف بالماتريدية Q وجدت في أحد المساجد كتاباً عنوانه: تأويلات أهل السنة من الماتريدية في الأسماء والصفات، وهو كتاب كبير، فمن هم الماتريدية؟ A الماتريدية هم أتباع أبي منصور الماتريدي، والماتريدية والأشعرية هما فرقتان، ولكن أدخلت الماتريدية مع الأشعرية أو مع المئولة؛ لأن أصولهم تكاد أن تكون واحدة. والأزهر الشريف يدرس الأشعرية والماتريدية على أنهما مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا الكلام في غاية التدليس، فلم يكن أهل السنة والجماعة أشعرية في يوم من الأيام ولا ماتريدية، وإنما الأشعرية والماتريدية فرقتان من فرق الضلالة. والله تعالى أعلم.

حكم إجابة المستحلف، وحال نوال السعداوي

حكم إجابة المستحلف، وحال نوال السعداوي Q إذا استحلفك أحد بالله فهل ترد عليه؟ A ليس من السنة الاستحلاف، والاستحلاف في طلب مثل هذا محل نظر عند أهل العلم. وعند ذكر أهل العلم تنزل الرحمات، وعند ذكر أهل المعاصي تتنزل اللعنات، وهذا مجلس علم، فإذا ذكرنا فيه الكفار والمجرمين فإن الله تعالى يحفظنا من اللعنات، حتى وإن كان بيننا شقي، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم. ونوال السعداوي كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً تبين فيه أن ختان الرجال ليس من الدين. وأنا أرجو ممن نازع في ختان الإناث في السنوات الماضية والذين كانوا يقولون: لا داعي لمسألة ختان الإناث؛ لأن هذا إجرام، ويثبت ختان الرجال؛ أرجو منهم الرد عليها؛ لأنها منهم وهم منها، والرد المحلي أحسن من الرد الخارجي أو المستورد. فأرجو من شيخ الأزهر ومن معه ممن حاربوا ختان الإناث أن يردوا على نفسهم وابنة عمهم نوال السعداوي. ونوال السعداوي تتضايق جداً في هذا المقال وتقول: إنني أغضب غضباً شديداً حينما يقول لي شخص: يا حجة! ونحن والله لا نستحل أن نقول لها: يا حجة! حتى وإن حجت مراراً؛ لأنها لا علاقة لها بالإسلام، فكيف تحج؟ أو كيف يقبل منها حج؟ فهي مارقة خارجة، مستعدون لأن فـ نوال السعداوي ومن معها لا علاقة لهم بالإسلام ألبتة؛ لأنها قد أتت من الأقوال والأعمال ما يجعلنا نكفرها. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

ذكر فرق الشيعة

شرح كتاب الإبانة - ذكر فرق الشيعة تعد الشيعة من أوائل الفرق ظهوراً في تاريخ الإسلام، وقد كان لها أثر سيئ في تفريق وإضلال كثير من الناس، وقد وقف لها سلف الأمة بالمرصاد، فبينوا ضلالها، وحذروا الناس منها، وهي أكثر من ثلاثين فرقة، ومردها جميعاً إلى أصول ثلاثة: غلاة، وزيدية، وإمامية.

فرقة الخطابية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الخطابية من الشيعة ومعتقداتها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن الفرق التي ظهرت في الإسلام، وقد تكلمنا عن الفرقة الأولى وهي: الشيعة، وهي من أوائل الفرق ظهوراً، وبينا أن الشيعة إنما مردها جميعاً إلى أصول ثلاثة: فهم إما غلاة، وإما زيدية، وإما إمامية. وتكلمنا عن بعض فرق غلاة الشيعة وقلنا: إن منها: السبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام. ومنها: الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل. ومنها: البيانية، وهم أصحاب بيان بن سمعان. ومنها: المغيرية، وهم أصحاب المغيرة بن سعيد. ومنها كذلك: المنصورية، وهم أصحاب أبي منصور العجلي. ومنها: الجناحية، وهم أصحاب عبد الله بن جعفر ذي الجناحين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنها: الخطابية، وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي، واسمه: محمد بن أبي زينب الأجدع، مولى بني أسد، أبو إسماعيل، وقد قتله عيسى بن موسى والي الكوفة من قبل العباسيين في عام 143هـ. وقد عزا أبو الخطاب الأسدي نفسه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق، فلما علم منه جعفر الصادق غلوه في حقه تبرأ منه، فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه، وهو نفس ما فعله من قبل أبو منصور العجلي]، أي: أنه لما يظهر غلوه يتبرأ منه الإمام، ثم يزعم أن الأمر لنفسه بعد ذلك. وهؤلاء الخطابية يقولون: إن الأئمة أنبياء أو رسل، وهذه أول بلية من بلاياهم، وهم يقولون: إن أبو الخطاب إمام، إذاً فهو نبي، ويزعمون أن الأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب، أي: أن الأنبياء تنبئوا بنبوة أبي الخطاب، ولذلك أمر كل نبي قومه بطاعة أبي الخطاب، بل يزيدون على ذلك ويقولون: إن الأئمة آلهة، وهذا الكلام لا يستغرب منهم؛ لأن الذي يغالي في الإمام لابد أنه يضعه في موضع العصمة، وبالتالي لابد أن يثبت له النبوة، ثم إذا ثبت لأحد النبوة عند هؤلاء الفرق الضالة فاعلم أنه لابد أن يصل إلى مرحلة ادعاء الإلهية. كما يزعمون أن الحسنين ابنان الله تعالى! وأن جعفر الصادق إله، لكنَّ أبا الخطاب أفضل منه ومن علي، ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، والإمام بعد قتل أبي الخطاب هو معمر، ذهب إلى ذلك جماعة منهم، فعبدوا معمراً كما كانوا يعبدون أبا الخطاب، وقالوا -أي: المعمرية أتباع معمر خليفة أبي الخطاب -: إن الجنة هي نعيم الدنيا، والنار آلامها، أي: أنهم لا يؤمنون بالجنة والنار كما يؤمن أهل السنة، والدنيا عندهم لا تنتهي بقيام الساعة؛ لأنهم لا يؤمنون بالساعة، ولا يؤمنون بالبعث ولا بالنشور. كما استباحوا المحرمات: من الخمر والسرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك، وتركوا الفرائض من التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من سائر الواجبات. وقيل: إن الإمام بعد قتله هو بزيغ، ذهب إلى ذلك طائفة أخرى منهم، وقالوا -أي: البزيغية-: إن كل مؤمن يوحى إليه! أي: أن الوحي لا يزال ينزل على كل مؤمن، متمسكين في ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:145]، أي: إلا بوحي من الله، فلا تموت عندهم نفس قط إلا إذا أوحى الله تعالى إليها، ولو أوحى إليها: أن موتي؛ فهذا نوع من أنواع الوحي. وزعموا أن في أصحاب بزيغ من هو خير من جبرائيل وميكائيل! وإذا كان هذا في أصحاب بزيغ وهو الإمام الثالث في هذه الطائفة من الخطابية بعد أبي الخطاب ومعمر؛ فما بالكم بـ بزيغ كيف يكون حاله؟! وهم لا يموتون أبداً، فإذا بلغوا النهاية رفعوا إلى الملكوت، وعلى أي حال فهذا مصطلح عندهم ربما عم به البلاء؛ لكن البلاء عندما أوصلوا بـ بزيغاً إلى مرحلة الإلهية، وبزيغ قد مات، وهم الذين دفنوه، فكيف يدفن إله، ومن دون الإله يرفع إلى الأعلى؟! فهذا كلام كله تخبيط.

فرقة الغرابية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الغرابية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: الغرابية، ولقبوا بذلك لأنهم قالوا: كان محمد أشبه بـ علي من الغراب بالغراب، ومن الذباب بالذباب، وهذا مثل قبيح جداً؛ لأن الغراب عند العرب من الطيور الحقيرة، ولم يقولوا ذلك من فراغ، ولذلك ضربوا هذا المثل الحقير في مشابهة النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي بن أبي طالب، فقالوا: كان محمد أشبه بـ علي من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب؛ لأنك لو أتيت بذبابتين أو غرابين فربما لا تكاد تميز بينهما. كما قالوا: إن جبريل عليه السلام أُمر أن ينزل بالوحي على علي، لكن لوجود الشبه بين علي ومحمد أخطأ جبريل فنزل على محمد. ولذلك هم يتقربون إلى الله -بزعمهم- بسب صاحب الريش، ويعنون بصاحب الريش: جبريل عليه السلام، فهم دائماً يلعنون جبريل عليه السلام.

فرقة الذمية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الذمية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: الذمية، ولقبوا بذلك لأنهم ذموا وسبوا وشتموا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن علياً هو الإله، وقد بعث من يدعو الناس إليه، فدعاهم إلى نفسه. أي: هم يقولون: بإلهية علي بن أبي طالب، وأن علي بن أبي طالب -باعتباره إلهاً- هو الذي بعث محمداً عليه الصلاة والسلام؛ ليدل الناس عليه، لكنه دل الناس على نفسه، وبالتالي يكون محمداً قد غدر وخان إلهه وهو علي بن أبي طالب. وقالت طائفة منهم بإلهيتهما، أي: بإلهية محمد وعلي، وأظن قائل هذا القول من فرق المعتزلة، ولهم في التقديم خلاف مشهور، أي: هما إلهان، لكن أيهما أكثر إلهية من غيره؟ فمنهم من قال: محمد، ومنهم من قال: علي. وقال بعضهم بإلهية خمسة أشخاص، وهذه فرقة ثالثة داخل الفرقة الأولى، فقالوا بإلهية خمسة: محمد، وعلي، ثم الحسن، والحسين، وفاطمة رضي الله عنهم. كما يزعمون أن هؤلاء الخمسة شيء واحد، وأن الروح حالة فيهم بالسوية، أي: أن الروح الإلهية نزلت فتقسمت وتوزعت بين هؤلاء الخمسة بالسوية، فلا مزية لواحد منهم على الآخر، ولا يقولون: فاطمة؛ تحاشياً للأنوثة؛ ولأنهم يعتقدون أن الإله لا يكون أنثى، بل يعبرون عنها بأي رمز، ورموزهم في ذكر فاطمة كثيرة جداً. فإذا كانوا يعتقدون أن الإله لا يكون أنثى، ويتحاشون عن ذكر الاسم ليقينهم بأنها أنثى، وأنها أم الحسن والحسين؛ فكيف يجعلونها إلهاً في الوقت نفسه؟!

فرقة الهشامية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الهشامية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: الهشامية، وهي من هذه الفرق الغالية الكافرة، وقد اتفقنا من قبل أن الغلاة من كل فرقة كفار، وعليهم تتنزل النصوص المطلقة التي وردت في السنة، وفي آثار السلف رضي الله عنهم. وهؤلاء هم أصحاب هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي، وقد زعموا أن الله تعالى جسد، واتفقوا على ذلك، ثم اختلفوا، أي: اتفقوا على أنه جسد، لكنهم اختلفوا في كنه هذا الجسد، فهم قد اتفقوا على الكفر، ثم تفرع وتغلغل كل منهما في كفره. يقول هشام بن الحكم: الله تعالى طويل، عريض، عميق، متساو طوله وعرضه وعمقه، وهو كالسبيكة البيضاء الصافية، ويتلألأ من كل جانب، وله لون وطعم ورائحة! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وأقول هذا الكلام وأنا في منتهى الحزن، وغاية الغم والنكد أن يقول أحد ممن ينسب إلى الإسلام هذا الكلام، ولولا إجماع أهل العلم على أن ناقل الكفر ليس بكافر، وأن أئمة الدين وأعيان الشريعة إنما نقلوا إلينا مقالة هؤلاء الملاحدة الكفار؛ ما نقلنا إليكم كلمة واحدة من هذا. وهذه الصفات المذكورة ليست غير ذاته تعالى، فهو تعالى يقوم ويقعد، ويتحرك ويسكن، وله مشابهة بالأجسام، ولولاها لم تدل عليه، ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه! أي: أن الله تعالى لا يعرف ما تحت التراب إلا بشعاع ينبثق منه إلى هذا الذي تحت الثرى. وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه، مماس للعرش بلا تفاوت بينهما، على وجه لا يفضل أحدهما على الآخر، وإرادته تعالى حركة هي لا عينه ولا غيره، وإنما يعلم الأشياء بعد وقوعها وحدوثها لا قبل ذلك، وهم بهذا يتفقون مع القدرية. وعلمه بالأشياء بعد كونها لا قبله بعلم لا قديم ولا حادث؛ لأنه صفة والصفة لا توصف، وكلامه صفة له لا مخلوقة ولا غير مخلوقة؛ لما مر. والأعراض لا تدل عليه، وإنما تدل عليه الأجسام؛ لما عرفت من مشابهته إياها. والأئمة عندهم معصومون دون الأنبياء، وحجتهم في ذلك: أن النبي يوحى إليه، ويتقرب به إلى الله، بخلاف الإمام فإنه لا يوحى إليه، فوجب أن يكون معصوماً، وكذلك: أن الله تعالى هو الذي تولى حفظ ورعاية النبي، وهذا بخلاف الإمام، فإنه للزوم عصمته لابد أن يكون له ملك السماء. وقال هشام بن سالم الجواليقي: الله تعالى على صورة الإنسان له يد ورجل، وخمس حواس: أنف وأذن وعين وفم، وله وفرة سوداء -أي: شعر أسود- ونصفه الأعلى مجوف ونصفه الأسفل مصمت، إلا أنه ليس لحماً ودماً! وقائل هذا الكلام يكفر بلا خلاف عند أهل العلم.

فرقة الزرارية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الزرارية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: الزرارية، وهم أصحاب زرارة بن أعين، وهؤلاء قالوا: صفات الله تعالى حادثة، أي: أن الله تعالى كان ذاتاً بغير صفات، ثم اكتسب الصفات بعد ذلك، فلم يكن عليماً ثم صار عليماً، ولم يكن قادراً ثم صار قادراً، ولم يكن قديراً ثم صار قديراً، ولم يكن رازقاً ثم صار رزاقاً وهكذا، أي: أنها مستحدثه بعد أن لم تكن! تعالى الله عن قولهم العظيم علواً كبيراً. وقبل حدوثها لم يكن لله تعالى حياة ولا علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر، فيلزم حينئذ ألا يكون حياً، ولا عالماً، ولا قادراً، ولا سميعاً، ولا بصيراً!

فرقة اليونسية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة اليونسية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: اليونسية، وهم أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي، مولى آل يقطين، وهم من جهة الشيعة، وقد صنف لهم كتباً في ذلك، أي: في تشبيه الله عز وجل، وهو الذي قال: إن الله تعالى على العرش تحمله الملائكة، وهو أقوى من الملائكة، مع كونه محمولاً لهم!

فرقة الشيطانية أو النعمانية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الشيطانية أو النعمانية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: الشيطانية، وهم أصحاب محمد بن النعمان الملقب بـ شيطان الطاق. وكذلك يسمون النعمانية؛ نسبة إلى صاحبهم محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب بـ شيطان الطاق، ويلقبه الشيعة بمؤمن الطاق! فانظر إلى تحريف الشيعة، فالعالم كله يسمونه: شيطان الطاق، لكن لما كان شيعياً ومنظراً من منظري الشيعة سموه: مؤمن الطاق! وهو ليس مؤمناً. وقد صنف كتباً جمة للشيعة منها: افعل لم فعلت، ومنها: افعل لا تفعل. ويذكر في هذه الكتب أن كبار الفرق أربع: القدرية، ثم الخوارج، ثم العامة، ثم الشيعة. وقال هذا الشيطان: إن الله نور غير جسماني، ومع هذا هو على صورة إنسان، وإنما يعلم الأشياء بعد وقوعها لا قبلها.

فرقة الرزامية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الرزامية من الشيعة ومعتقداتها [ومنها: الرزامية، وهم أتباع رزام بن رزم، وهؤلاء ظهروا في خرسان في أيام أبي مسلم صاحب الدولة في ذلك الوقت، والذي كان على مذهب الكيسانية في الأول، ثم حاد إلى أبي العباس عبد الله بن محمد بن عباس وقلده أمره. وهؤلاء قالوا: إن الإمامة بعد علي لـ محمد بن الحنفية، ثم لابنه عبد الله، ثم لـ علي بن عبد الله بن عباس، ثم لأولاده إلى المنصور، ثم حل الإله في أبي مسلم، وأنه لم يقتل، واستحلوا المحارم، وتركوا الفرائض]، واستحلالهم للمحارم لوحده كاف في الكفر؛ لأن أهل السنة متفقون على أن من أحل حراماً، أو حرم حلالاً متعمداً بعد قيام الحجة عليه؛ فإنه يكفر.

فرقة المفوضة من الشيعة ومعتقداتها

فرقة المفوضة من الشيعة ومعتقداتها [ومنها: المفوضة، ولقبوا بذلك لأنهم يقولون: بأن الله تعالى فوض الخلق كله إلى محمد] أي: أن الله قال: يا محمد! أنا فوضتك في أن تخلق الدنيا وما فيها! [وقال بعضهم: بل فوض ذلك إلى علي] أي: أنهم متفقون على أن الله فوض أمر الخلق إلى غيره، لكن منهم من قال: إن هذا الغير هو محمد، ومنهم من قال: هو علي، والمهم أنهم ينفون عن الله تعالى صفة الخلق؛ لأنه لم يخلق، وإنما فوض الخلق إلى غيره من المخلوقين.

فرقة البدائية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة البدائية من الشيعة ومعتقداتها ومنها: البدائية، أي: الذين جوزوا على الله البداء، والبداء مصطلح في غاية الأهمية نجده في كتب المتكلمين، كما تجد في كتب الأزهر إثبات الكلام النفساني لله عز وجل! فأنت رجل من أهل السنة تعلم أن الله تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وبأي كلام شاء، ويتكلم المولى عز وجل بحرف وصوت، لا ككلام البشر، ويتكلم بكيفية تليق بجلاله وكماله، فأنت تعلم هذا الأمر ومؤمن به. بينما تقرأ في كتب الأزهر: أن الله تعالى يتكلم بكلام نفساني، فما معنى: أن الكلام نفساني؟ إن كنت لا تعلم معناها فستمرها كما هي، ثم بعد ذلك عندما تكون في موطن المسئولية ستعلمها الغير، وبهذا تكون قد أسهمت في نشر الباطل وأنت لا تدري أنه باطل. القول بالكلام النفساني لله عز وجل أمر في غاية البطلان والخذلان، وهو مصطلح عند الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم بصوت ولا حرف، وأما أهل السنة فيعتقدون أن الله تعالى يتكلم بصوت وحرف، بينما الأشاعرة يقولون: لا يتكلم بصوت ولا حرف، وإنما هو كلام نفساني، أي: أن الكلام يدور في نفس الله عز وجل، مثل السر تماماً حينما يحيك في صدرك، ثم إن الله عز وجل يطلع جبريل عليه السلام على هذا الكلام النفساني فيعرفه جبريل، فإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإذا عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وهذا يعني في نهاية الأمر أن القرآن هذا كلام جبريل، وليس بكلام الله عز وجل! أرأيتم خطورة هذا المصطلح، ففي نهاية الأمر أن الله تعالى لا يتكلم، لكنه يدور في نفسه الشيء فيطلع عليه جبريل، ثم يعبر عنه جبريل من عند نفسه؛ لأن جبريل له شأن كبير، فهو يعرف كل اللغات، فإذا عبر بالعبرانية فهو التوراة، وإذا عبر بالسريانية فهو إنجيل، وإذا عبر بالعربية فهو قرآن. وفي نهاية الأمر هذه الكتب السماوية من كلام جبريل لا من كلام الله عز وجل! والصواب: أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأن كلام الله تبارك وتعالى لا ينفد ولا يفنى. وأما أهل الباطل فإنهم يعتقدون أن الله تعالى لا يتكلم بحرف ولا صوت، وإنما له كلام نفساني. وكذلك مصطلح: البداء، فإنك تجد بعض الفرق تجوُّز على الله البداء، أي: أن الله تبارك وتعالى يقول الشيء، ويأمر بالشيء، وينهى عن الشيء، ثم يعرض له ما كان جاهلاً به فيرجع عن أمره وينهى، فبعد أن نهى وهو يعلم أن هذا النهي فيه مصلحة للناس يبدو له بعد ذلك أن هذا النهي ليس فيه مصلحة للناس، بل فيه مفسدة، فيرجع عن نهيه، أي: أنه يفعل الشيء ثم يبدو له خلاف ما كان عليه في الأول، وهذا اتهام لله عز وجل بأنه ليس عظيماً ولا قديراً ولا حكيماً. والذين جوزوا البداء على الله عز وجل هم من الفرق الضالة وليسوا من أهل السنة، ولا علاقة للنسخ ألبتة بالبداء، والنسخ محل نزاع بين أهل السنة، فمنهم من يقول به، ومنهم من لا يقول به، لكن الذي يقول به ليس من باب البداء على الإطلاق، وإنما هو باب آخر. والبدائية لقبوا بذلك لأنهم جوزوا البداء على الله تعالى.

فرقة النصيرية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة النصيرية من الشيعة ومعتقداتها [ومنها: النصيرية والإسحاقية، وهم موجودون في بلاد المسلمين، وأقول هذا الكلام لأن هناك فرقاً معاصرة موجودة، فإن كانت ليست موجودة عندك فهي عند غيرك، وأنت تذهب لغيرك وغيرك يأتي إليك، ثم أليس في بلادنا شيعة؟! عندما كنت في السنة الثالثة في الجامعة كان لي أصحاب شيعة، إلى أن قامت ثورة الخميني الإسلامية، وفي أثناء الثورة وقع تحت يدي كتاب: الحكومة الإسلامية للخميني، وهو مجلد صغير، فقرأته فوجدت نصفه كفراً، فعلمت أن هذا الرجل كذاب، وأنه مجرم أفاك، وأن هذه الثورة ليست ثورة إسلامية، بل هي ثورة شيعية، ومزقته وحذرت منها وأنا في الجامعة، فلما حذرت منها إذا بهؤلاء الأصدقاء الشيعة قد انقلبوا علي رأساً على عقب، وكانوا قبل هذه الثورة إذا اعترضهم شيء في دينهم استفتوا رجلاً من أهل العلم من أهل السنة، ثم أجدهم يخالفون الفتوى ويعملون بمعكوسها، وهذا مذهب الإمامية، إذ إن الإمامية على خلاف في الأصول والفروع مع أهل السنة، ولذلك استفتي الخميني من قبل طلاب جامعة القاهرة، فقيل له: ماذا نصنع إذا اعترضنا شيء في أمر ديننا أو دنيانا؟ فقال: إذا اعترضكم شيء في أمر دينكم فاسألوا عنه أحد الناصبة، فـ الخميني والاثنا عشرية الإمامية يسمون أهل السنة الناصبة؛ لأننا بزعمهم ناصبنا علياً العداء، ونحن في الحقيقة نحب علياً رضي الله عنه، لكن بغير إفراط ولا تفريط. فقال: إذا اعترضكم شيء في أمر دينكم فاسألوا عنه أحد الناصبة -أي: أحد أهل السنة- ثم اعملوا بخلاف قوله! إنه حقد دفين، هذا الخميني الذي كان يمدحه ويثني عليه الكثير هنا في مصر، بل إن أعظم محافظة فتنت بـ الخميني هي المنصورة؛ إذ إنها أكثر محافظة فيها شيعة بعد القاهرة، وأنتم تعلمون أن أئمة التشيع في مصر وجودهم في المنصورة بعد وجودهم في القاهرة، لكن ليس لهم انتشار في المنصورة كما هو انتشارهم في القاهرة. والنصيرية موجودة في سوريا، والزيدية وجودهم في منطقة من اليمن، والاثنا عشرية وجودهم الأول في إيران، ثم في العراق، والعجيب أن الزيدية والاثنا عشرية انتشروا انتشاراً عظيماً جداً في جنوب الحجاز، أي: في جنوب المملكة العربية السعودية، وأصبح لهم قوة وصولة وجولة لا يقف أمامها ملك البلاد ولا غيره. كما لابد أن تعلموا أن الأسرة الحاكمة منذ قديم الزمان في سوريا نصيرية، وحافظ الأسد أنا أعتقد أنه لا علاقة له لا بالنصيرية، ولا بالنصرانية، ولا باليهودية، ولا بالإسلامية، فهو كغيره من الناس لا علاقة له بهذا كله، لكن أنا أقصد بالنصيرية هناك في سوريا في الشام، وحافظ الأسد ينسب إليها شاء أم أبى، وكذلك ولده الذي يحكم البلاد الآن هو نصيري. فانظر إلى عقيدة هؤلاء فقد قالوا: إن الله تعالى تجلى في علي، فإن ظهور الروحاني في جسد جثماني أمر لا ينكر، وهذه العقيدة هي التي سماها الصوفية: عقيدة الحلول والاتحاد، أي: أن روح الإله حالة في روح فلان، أو حلت في فلان حتى صار فلان هو الإله، والإله هو فلان، وهذا هو الاتحاد، فصار كل منهما يدل على الآخر. أما في جانب الخير فكظهور جبريل في صورة البشر، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان في صورة الإنسان. ثم قالوا: لما كان علي وأولاده أفضل من غيرهم، وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الأسرار قلنا: ظهر الحق سبحانه وتعالى في صورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم. إذاً: فـ ابن حافظ الأسد عُين ملكاً أو رئيساً على هذه البلاد؛ لأن النصيرية يعتقدون أن روح الإله تحل في هذا الغلام؛ إذ إنه مؤيد بتأييدات السماء وبتأييدات الأرض. وعليه فالذي اختاره عليهم هو الإله؛ لأن هذا معتقدهم، ومن هاهنا أطلقوا الآلهة على الأئمة، فهم يقولون: إذا حلت روح الإله في الإمام؛ مع اتحاد الإله والإمام باتحاد الروح فيهما؛ فلا بأس أن يكون الإمام إلهاً، ولذلك يقولون: من هاهنا أطلقنا الآلهة على الأئمة، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين؛ لأن هؤلاء شركهم ظاهر لا خفاء فيه، بل كانوا ينصبون له العداء، وأما المنافقون فإنهم أظهروا الإسلام، وشاركوا المسلمين في الأعمال الظاهرة، لكن علياً عرفهم فقاتلهم فقتلهم، وهذا يدل على أن علياً إله؛ لأنه يعلم السر وهو النفاق، وأما محمد فإنه ليس كذلك، بل عمل بالظاهر، فقالوا: إن محمداً حارب المشركين لظهور شركهم، وما استطاع أن يحارب المنافقين؛ لأنه لم يعلم النفاق فيهم، مع أن الله تعالى قد أطلعه على المنافقين بأسمائهم وأعيانهم وذواتهم، لكنهم ينكرون هذا كله. وأن علياً قاتل المنافقين؛ لأنه عرفهم، وهذا يدل على أنه قد حلت فيه روح الإله، ولذلك يقولون: إن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، ويقولون: إن علياً يعلم السرائر. فلا يعقل أن هذه

فرقة الإسماعيلية من الشيعة ومعتقداتها

فرقة الإسماعيلية من الشيعة ومعتقداتها [ومنها: الإسماعيلية، ولقبوا بذلك لإثباتهم الإمامة لـ إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو أكبر أبناء جعفر الصادق، وقيل: لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل، وهؤلاء لقبوا بألقاب أخرى:

من ألقاب الإسماعيلية: الباطنية

من ألقاب الإسماعيلية: الباطنية [منها: الباطنية، وحي الباطنية في القاهرة، وحي الإسماعيلية موجودان إلى اليوم، وأنتم تعملون أن الإسماعيلية والباطنية والفاطمية يسكنون الحي إلى يومنا هذا، ولهم أحياء تحفهم ومساجد تأويهم، ولا يأذنون لأحد قط من أهل السنة أو من غيرهم أن يدخل هذه المساجد إلا هم، ولابد أن يتدين بدينهم، ولذلك حينما تذهب إلى حي هؤلاء الإسماعيلية لا يأذنون لك بالدخول إلا إذا كنت رجلاً منهم، وهؤلاء كاليهود تماماً، فقد اشتروا الدور والمحلات والشوارع والطرقات بأغلى الأثمان؛ حتى تكون لهم دولة واحدة، وهكذا أخذوا بهذه الطريقة ثمان حارات، وهدوا ست عشرة عمارة وبنوها كنيسة! والباطنية لقبوا بذلك لأنهم يعتقدون أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن المراد باطنه لا ظاهره، وأن العمل بالظاهر يؤدي إلى ترك العمل بالباطن، وهو المراد، ويحتجون في ذلك بقول الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، مع أن الآية حجة عليهم وليست لهم.

من ألقاب الإسماعيلية: الحرامية

من ألقاب الإسماعيلية: الحرامية وكذلك يسمون بالحرامية؛ نسبة إلى إباحتهم المحارم والمحرمات، أي: أن الواحد منهم قد يقع على أي امرأة شاء سواء كانت من محارمه، أو ليست من محارمه بشكل عام، وكذلك إباحتهم المحرمات: من القتل، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وكل هذا عندهم حلال، ولذلك سموا بالحرامية.

من ألقاب الإسماعيلية: السبعية

من ألقاب الإسماعيلية: السبعية وسموا كذلك بالسبعية؛ لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع سبعة أشخاص من الأنبياء، وهم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومحمد المهدي هو سابع النطقاء، أي: أن محمداً المهدي عندهم نبي من الأنبياء؛ لأنه ناطق بالشريعة، وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعة النبي السابق، ولابد لكل عصر من سبعة بهم يهتدى في الدين.

مراتب الأئمة السبعة عند الشيعة الإسماعيلية

مراتب الأئمة السبعة عند الشيعة الإسماعيلية وهم متفاوتون في الرتب -وانتبه إلى قوله: متفاوتون في الرتب- فالإمام يؤدي عن الله تعالى، وهو غاية الأدلة إلى دين الله تعالى، فأحسن من يدلك على الله هو الإمام. ثم بعد الإمام: الحجة، وانتبه إلى هذا الترتيب؛ حتى تعلم من أين أتى الإيرانيون بهذه الألقاب! فالشيعة قالوا: إن الخميني حجة -وهذا هو دينهم- وهو يؤدي عن الإمام؛ لأن الخميني اثنا عشري، وهو من أكابر علماء الشيعة بشهادة الألباني، وهذا من باب العدل في إثبات العلم له، لكن هل هو مجتهد؟ هذه قضية أخرى، فالثناء عن الرجل هو في باب واحد توغل فيه وهو علم الشيعة، أو علم التشيع. وعلى أي حال فالحجة يكون بعد الإمام، وهو يؤدي عن الإمام، ولذلك نحن نعلم الآن أن الشيعة دائماً لهم إمام، وهم يحفظون إمامهم، وهو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء وعنده من العمر أربع سنوات، وهذا هو الإمام الثاني عشر؛ لأنهم يتبعون الأئمة الاثني عشرية، وآخر الأئمة عندهم هو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء بالعراق، وينتظرونه يوماً في كل عام بالخيل والطبول والزينة والبهرج وغير ذلك. وإيران تعتقد أن الاتصال قائم بين الحجة -أي: الخميني - والإمام، فـ الخميني كان يؤدي عن الإمام. وهم يقولون: صلاة الجمعة لا تجوز إلا خلف الحجة؛ لأنه يؤدي عن الإمام؛ لأن أصل المعتقد عندهم أن الجمعة تسقط عن الشيعي في غيبة الإمام، لكن إذا أدى عنه الحجة فلا بأس، وقبل هذا الحجة كان هناك كلب من الكلاب موجود اسمه: شاه إيران، وهو فعلاً شاة، حتى إن الشاة أنظف منه؛ لأن الشاة تؤكل وتحلب ويشرب لبنها، وأما هذا فكان مجرماً، وكان قبل وجود الخميني، والخميني كان مبعداً في فرنسا، وكان القائم على أمر الشيعة عموماً في إيران: شاه إيران، وهو لا يؤمن بالإمامة ولا بالحجة، بل لا يعرف أين يقف في الصف ليصلي. ومصر بلد بابها وصدرها واسع ورحب، وهي ترحب بكل من يأتي إليها، ففيها الشيعي والشيوعي والملحد، يعني: فيها كل شيء، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولذلك فمصر سوف تظل على ثغر إلى يوم القيامة، أعني موحدي مصر سيظلون على ثغر إلى يوم القيامة، وموقفهم هو الصمود أمام الباطل إلى قيام الساعة، فهذه منطقة حساسة جداً، ولذلك الطمع فيها بالليل والنهار، وأنت الوحيد الذي تعمل غصة في حلقهم، وكل ملل الكفر والإلحاد والزندقة ممكن أن يضعوا أيديهم في أيدي أي شخص، إلا أنت فلا تضع يدك إلا في يد من هو على شاكلتك، ولذلك أنت تسبب إزعاجاً كبيراً جداً، فمرة يسمونك بالمتطرف، ومرة يسمونك بالإرهابي، ومرة يسمونك بالأصولي، ومرة يقولون: إنك تريد أن تصل إلى السياسة وإلى السلطة، وأن تحكم البلد، وتريد، وتريد، وكل هذا وهم يعلمون ويفهمون جداً أنك في أول أمرك وآخره صاحب الشأن، وهم أعلم الناس بشأن هذه الدعوة. فالحجة يؤدى عن الإمام، ويحمل علمه، ويحتج به. الثالث من مراتبهم: ذو مطة، مط مطة من العلم، أي: من علم الحجة. الرابع: داع أكبر، وهو يرفع درجات المؤمنين! مع أنه في الحقيقة لا يرفع الدرجات إلا الله عز وجل. الخامس: داع مأذون، أي: مأذون له في التصرف، فيأخذ العهود على المخالفين من أهل الظاهر، وقد قلت: إنهم يهتمون بالباطن؛ لأن الباطن هو المراد، وأما الظاهر في القرآن فغير مراد، وهذا يعني أن أهل الظاهر مخالفون لهم، فالداعي الآخر مهمته هي: أنه يأخذ العهود والمواثيق على أهل الظاهر المخالفين ليدخلهم في خدمة الإمام, أي: أن هذا دوره أن يعمل معك عهداً وميثاقاً. والعهود والمواثيق كثيرة جداً في هذا الزمان، وأنا أتوقع أن العقود والمواثيق الآن يمكن أن تباع في السوبر ماركت خاصة عند الصوفية، وقد يأتي الواحد منهم فيقول لك: يا شيخ! أنا أعمل كيت وكيت، فتقول: هذا لا يجوز، فيقول لك: أنا لا أستطيع أن أرجع، فقد عاهدت، فتقول له: هل قال لك: المكان الفلاني لا تذهب إليه؟ هذا كذب، فيقول: أنا لو تركته فسيهلك أولادي وامرأتي وأبي وأمي، أرأيت إلى أين أوصله هذا؟! يعني: ما هو إلا خرقة في أيديهم يتصرفون فيه كيف شاءوا، وفي مثل هذه الحالات قد يستخدمون الجن، والسحر، والشعوذة وغير ذلك. السادس: مكلب، وهو يستاهل هذا اللقب، وهو من ارتفعت درجته في الدين لكن لم يؤذن له في الدعوة، بل في الاحتجاج على الناس، فهو يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصيد. بمعنى: أنه لم يؤذن له في الدعوة العامة، بل يؤذن له في أنه يصطاد واحداً أو اثنين أو ثلاثة فيوصلهم إلى الإمام أو الشيخ، وهذه الألقاب لها سحر في القلوب، فلدى هذا الإمام والخليفة الراشد ألقاب كبيرة جداً، فحينما يسمعها الشخص يقول لك: إلى أين أذهب؟ فيقوم بأخذه ويذهب به إلى المأذون وهو الداعي، والذي سوف يقرأ عليه العهود والمواثيق، وبعد ذلك يسلمه إلى الذي فوقه، وهذا يسلمه إلى الذي فوقه وهكذا، فيكون عندهم درجات وترتي

من ألقاب الإسماعيلية: البابكية

من ألقاب الإسماعيلية: البابكية ومن الألقاب المرادفة للإسماعيلية بعد الباطنية، والحرامية، والسبعية: البابكية، وهم أتباع بابك الخرمي.

من ألقاب الإسماعيلية: المحمرة

من ألقاب الإسماعيلية: المحمرة ومنها كذلك: المحمرة؛ للبسهم الأحمر في أيام بابك، أو لتسمية المخالفين لهم حميراً.

من ألقاب الإسماعيلية: القرامطة

من ألقاب الإسماعيلية: القرامطة وكذلك: القرامطة؛ لأن أول من دعا الناس إلى مذاهبهم رجل يقال له: حمدان قرمط، أو حمدان قرمطة، وهي إحدى قرى واسط بالعراق، وأصل دعوتهم إبطال الشرائع؛ لأن الغيارية -وهم طائفة من المجوس- راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم؛ وذلك أنهم اجتمعوا وتذكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك، وقالوا: لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف؛ لغلبتهم واستيلائهم على الممالك. وهذا نفس الذي يصنعه اليهود الآن، حيث أيقنوا بأنه لا يمكن غلبة المسلمين بالسيف، وأن مواجهة المسلمين بالسيف سيجعل القاصي والداني يدافع عن دينه وعرضه ووطنه، فراموا إلى تغيير الشرائع عند ذلك، فغيروا وبدلوا دين المسلمين على أيدي أبناء لهم في بلاد المسلمين لا على أيديهم هم، وهذا وضع طبيعي جداً، ولذلك فما أشبه اليوم بالبارحة. فقالوا: لكننا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا، ونستدرج به الضعفاء منهم. ولذلك لا يمكن قط أن يدعوا العلماء، أي: لا يمكن لأي فرقة ضالة أن تدعو عالماً إلى دعوتها وإلى مذهبها، ودائماً تجد في أصول المبتدعة أنهم لا يدخلون بيتاً فيه سراج، ويقصدون بالسراج: العالم، وهذا أمر مشهور عند جماعة التبليغ، واسمحوا لي أن أفصح عن هذا. فجماعة التبليغ يقولون: لا ندخل بيتاً فيه سراج، وإذا أتيت إلى جماعة التبليغ لوجدت أن من تعاليم الزعيم الأول الذي أسس هذه الجماعة وهو الكاندهلوي أنه يحذر أتباعه من أن يدخلوا بيتاً فيه سراج، ويقصد بالسراج: العالم؛ لأن العالم عنده من الحجج ما يستطيع بها أن يرد عليهم، وأن يثبت أن ما هم عليه ضلال. فكذلك هؤلاء إنما يدعون الضعفاء، وهذا يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم، ورئيسهم في ذلك هو حمدان قرمط، ولهم في الدعوة مراتب، ولابد أن تدرك أن الذي بلغ مبلغاً عظيماً في الباطل لم يبلغه في يوم وليلة، وإنما تدرج في هذا الباطل درجة بعد أخرى، وسلماً بعد آخر، وفي كل درجة يمكث فترة من الزمان كفيلة باستمرار هذه الدرجة، ثم الإيمان بهذه الدرجة، أي: أن يصدق بما هو عليه، وإذا كان يعلم من قبل أنه باطل لكن بمكثه على الباطل فترة من الزمان يألفه، فإذا ألفه صدقه، وإذا صدقه دافع عنه، وإذا دافع عنه دعا إليه بعد ذلك. ولذلك الباطل لا يمكن أن يستقر في القلب بين يوم وليلة، بل لابد من المكوث عليه فترة طويلة من الزمان؛ حتى يتأهل صاحبه إلى الدعوة إلى هذا الباطل.

مراحل الدعوة عند القرامطة

مراحل الدعوة عند القرامطة فالقرامطة -وإن شئت فقل: الباطنية والإسماعيلية- لهم في دعوتهم مراحل: المرحلة الأولى: مرتبة الرزق، وهو تفرغ حال المدعو من جهة حاجته إلى الدنيا، وهذه طريق للنصارى الآن يستخدمونه خاصة في دعوتهم، فيذهبون إلى كثير من الشعوب وهم يعلمون أن هذه الشعوب مطحونة جوعاً، في الوقت الذي تلقى فيه المواد الغذائية والسلع وغيرها في المحيطات والبحار، وتترك هذه الشعوب الجائعة فريسة في أيدي النصارى، فإذا طلبت هذه الشعوب -تحت وطأة الجوع- طعاماً وشراباً ذهب القساوسة وذهب النصارى إلى هناك، وبينوا بعد ذلك محاسن الدين النصراني، ومحاسن الشريعة النصرانية، وإثبات أن عيسى نبي الله ورحمة الله، أو رحمة السماء إلى الناس وغير ذلك، ثم يقدمون لهم الطعام والشراب باسم المسيح، أو باسم مريم أو يسوع أو غير ذلك، مع جهل هؤلاء المطبق في دين الله عز وجل، فانظر إلى الجهل ويجمع إليه الجوع! ويجمع إليه تقصير المسلمين في حق إخوانهم في جنوب أفريقيا، ويجمع في مقابله دعوة علماء النصرانية إلى دين النصرانية! وقد بلغني بأنه وجد في إحدى البلدان العربية أن قسيساً مد رغيفاً إلى رجل فلما أراد هذا الرجل أن يتناوله قال له: أتؤمن بعيسى؟ قال: نعم، قال: أتؤمن بمحمد؟ قال: نعم، قال: ليس الرغيف لك، يجب أن تقول: الإيمان بعيسى، والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام في مقابل رغيف! وحتى في مصر يذهبون إلى بيوت الفقراء؛ فيقدمون لهم المساعدات والمعونات وغير ذلك. المرحلة الثانية: ما يطلقون عليها بالأرض السبخة، أي: دعوة من ليس أهلاً لها، أي: أرض ميتة. المرحلة الثالثة: مرحلة التأنيس، أي: استمالة كل واحد من المدعوين بما يميل إليه هواه وطبعه من رقص وخلاعة وغيرها، فإن كان يميل إلى الزهد زينوه في عينه وقبحوا نقيضه، وإن كان يميل إلى الخلاعة زينوها وقبحوا نقيضها؛ حتى يحصل له الأنس بهم، فإذا كان يشرب خمراً قالوا له: تعال إلى المسجد وكأس الخمر معك، وادخل المسجد بزجاجة الخمر. ولذلك كتب بعض أهل العلم: أن مما يثبت أن الدخان حرام عند العامة: أن أحدهم لا يجرؤ أن يدخن في المسجد، ولو كان حلالاً زلالاً فما الذي يمنعه من أن يدخن في المسجد؟ وهذا قد يجده على زنا ولا يقول له: الزنا حرام، بل يقول له: عليك أن تفعل هذا على سطح المسجد، إي والله! لذا فالمهم عنده أنه يلم ويجمع، وليس من المهم التربية والتعليم، وغير مهم بناء الشخصية العلمية القوية التي تزلزل الجبال، لكن المهم بدل أن يكونوا اثنين أن يكونوا ألفاً، لكن هؤلاء الألف لا يثبتون عند أول صيحة. المرحلة الرابعة: التشكيك في أركان الشريعة، فيقول له: ما قيمة هذا الكلام ((الم)) ((الر)) ((عسق))؟ لا يمكن أن يكون ديناً ولا قرآناً، ولا يمكن أن يكون هذا كلام ربنا عز وجل! والمدعو جاهل من الأصل فيصدق هذا الكلام، بل ويزيده تشكيكاً في دينه فيقول له: لم وجب قضاء صوم الحائض دون قضاء صلاتها؟ ولم وجب الغسل من المني دون البول مع أنهما يخرجان من سبيل واحد؟ ولم كان عدد الركعات بعضها أربعاً وبعضها ثلاثاً وبعضها اثنتين؟ إلى غير ذلك من الأمور التعبدية، فيشككونهم في هذه الأشياء، ويطوون الجواب عنهم؛ لتتعلق قلوبهم بمراجعتهم إياهم فيها، فيذهبون إليه ويقولون له: إذاً ما هو السبب؟ فيقول له: ليس هذا وقته، فلا يزال أمامك وقت، فانظر إلى هذا الكلام الفارغ! وربما يقول له: هذه المسألة كبيرة عليك! مع أنكم تعلمون أن البدوي كان يأتي من البادية وليس هناك رزق ولا تشكيك ولا تأنيس، فيدخل بجرأة على النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: أين محمد؟ فيقول له: أنا محمد، فيقول له: أنا أريد أن أسألك عن كيت وكيت وكيت، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه بكلام مفهوم وواضح، ثم لا يستفسر منه عن شيء، وإنما يأخذ هذا الكلام ويذهب إلى قومه فيدعوهم بهذه الكلمات البسيطات. لكن كلام هؤلاء الناس كلام فارغ، وقد استفادت منه جميع الطوائف والفرق حتى في العمل، فحينما تريد أن تذهب لتقابل رئيس مجلس إدارة أخرى فأول شيء تقابل الزبال، والزبال يعرف منك قضيتك من أولها إلى آخرها، فتقول له: أتيت إلى رئيس مجلس الإدارة في موضوع شخصي، وأنا صاحبه وأعرفه، فيقول لك: أنا آسف، أنت صاحبه، لكن هذا أيضاً للمصلحة، ثم يرفع الزبال قضيتك إلى رئيس الزبالين، ورئيس الزبالين يرفعها لعامل المطعم، وعامل المطعم يرفعها للسكرتير الأول، وبعد ذلك الثاني والثالث والرابع والنائب والذي فوق النائب، إلى أن تقول: حقيقة أنا أستقيل من هذه المصلحة، وقد قاربت أن تصل، لكنك قلت ذلك من الملل الذي أصابك. وانظروا إلى الرجل الذي أتى فربط حماره بباب المسجد النبوي ودخل، وقبل أن يسلم أو يتكلم تنحى في المسجد وبال فيه، وبعد أن بال قال: أين محمد؟ قال: أنا، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فهل مر هذا بمراحل؟ لم يمر على عمر أولاً، وعمر سلمه إلى أبي بكر، وأبو بكر يسلمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

معاني المصطلحات الشرعية عند القرامطة

معاني المصطلحات الشرعية عند القرامطة وحين يصلون إلى مرتبة اليقين يأخذون بالإباحة، والحث على التحلل من الدين، وتأويل الشرائع، فيقولون: الوضوء هذا عبارة عن موالاة الإمام! ولا ينكر النصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ لأنه لا يستطيع ذلك، لكن يؤولها ويصرفها عن معناها المراد، ويقول لك أيضاً: التيمم عبارة عن الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة. والصلاة: عبارة عن الناطق الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فيقول: الصلاة التي نصليها تتكلم! فتقول له: لا، فيقول لك: هنا نص على أن الصلاة تتكلم؛ لأنها تنهى، والذي ينهى هو الرسول، إذاً فالصلاة هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))، أي: إن الرسول ينهى عن الفحشاء والمنكر. والاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله، بغير قصد منه. والغسل: عبارة عن تجديد العهد، أي: يكتب عهداً جديداً وعقداً جديداً. والزكاة: عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين. والكعبة: عبارة عن النبي عليه الصلاة والسلام. والباب: عبارة عن علي. والصفا: هو النبي، والمروة: هو علي. والميقات: هو الإيناس، أي: الأنس. والتلبية: إجابة المدعو. والطواف بالبيت سبعاً: هو موالاة أئمتهم السبعة، وآخرهم محمد المهدي. والجنة: هي راحة الأبدان عن التكاليف، أي: من الصلاة والصوم والزكاة. والنار: مشقتها، أي: مشقة التكاليف.

ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [1]

شرح كتاب الإبانة - ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [1] لقد أمر الشارع الحكيم بترك السؤال عما لا يعني، وترك البحث والتنقير والتنقيب عما لا يضر جهله ولا ينفع العلم به، وكان السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم يكرهون الكلام فيما لا فائدة فيه، والسؤال عما لم يقع، وكانوا ينهون عن ذلك، بل كانوا يحذرون ممن يفترض الأسئلة التي لم تقع، ومن مجالسته، وذكروا أن من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها.

باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه

باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. عودة إلى ما بدأناه من المحاضرات فيما يتعلق بمسائل الإيمان من كتاب (الإبانة) لـ ابن بطة وكنا قد شرحنا مواضيع من كتابه في بعض المحاضرات؛ لإلقاء الضوء على أصول بعض الفرق، وهذا الكتاب تناول أصول الفرق الضالة. وموضوع اليوم هو من أخطر الموضوعات التي تمس العمل الإسلامي، والساحة الدعوية، فهو من الموضوعات التي ينبني عليها العمل، والتي يجب أن يتخلق بها السائر إلى الله عز وجل، وكذا طالب العلم، بل وكل مسلم عليه أن يتخلق بهذه الأصول التي سنتعرض إليها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ترك السؤال عما لا يعني]. يعني: إذا كان الأمر لا يعنيك فينبغي عليك أن تترك السؤال عنه؛ لأن هذا من حسن إسلامك وإيمانك. ثم قال: [والبحث والتنقير عما لا يضر جهله، ولا ينفع علمه]. يقول أهل العلم في بعض الأمور: العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر، فلم تبحث عنه، وتنقب وتضيع العمر فيه، وتترك ما قد فرض الله عز وجل عليك معرفته، تترك الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك، ثم تبحث في أدق المسائل التي لا يحاسبك الله عز وجل عليها يوم القيامة؟! ثم قال: [من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين] يعني: سواء حرصت على ذلك لنفسك، أو حرصت على صحبة من تخلق بهذا الخلق. وهذا الباب يحذر من عدة مسائل: المسألة الأولى: السؤال عما لا يعني. المسألة الثانية: التحذير من التنقير والتنقيب عما لا يضر جهله، ولا ينفع العلم به. المسألة الثالثة: التحذير من صحبة قوم يتعمقون ويتشدقون في دين الله عز وجل، فإما أن تكون أنت الذي تصنع ذلك فتنتهي بنهي الله تعالى ورسوله لك، وإما أن تنتهي عن صحبة قوم تخلقوا بهذا الخلق. إذاً: فهذه المسائل الثلاث من أعظم ما يمكن أن يتخلق به طالب العلم في هذا الزمن، وإلا ضاع وقته.

أسباب خروج الناس عن السنة والجماعة إلى البدعة والشناعة

أسباب خروج الناس عن السنة والجماعة إلى البدعة والشناعة قال: [اعلموا إخواني! أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة]. أي: فكرت وتدبرت في الأسباب التي أخرجت أقواماً من عداد أهل السنة والجماعة، وأدخلتهم في عداد أهل البدع. قال: [واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين] يعني: هناك سببان أديا بهؤلاء الأقوام إلى ترك الحق، والتنافس في الباطل. قال: [أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا يعني، ولا يضر العاقل جهله، كما أنه لا ينفع المؤمن فهمه]. أي: النهي عن كثرة السؤال فيما لا يعني، وأما إذا كان السؤال مبناه على الفهم والعلم والعمل فلا حرج فيه شرعاً، بل هو واجب، يقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، بل يشرع كذلك للعالم أن يسأل عما يعلمه إذا كان القصد نشر العلم وبثه في الناس. قال: [والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، بل وتفسد القلوب صحبته]، فلست فقط منهياً عن فساد قلبك أو تجنبك للفتنة، بل أنت مطالب أيضاً أن تجتنب أهل الأهواء بألا تصاحبهم، ولا تقترب منهم، بل تفر منهم فرارك من الأسد؛ لغلبة الفتنة، وانتصار الشر، وغلبة الفساد، وربما أثر عليك في قلبك فوقعت في المحذور.

قول النبي: (اتركوني ما تركتكم)، ونهيه عن كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء

قول النبي: (اتركوني ما تركتكم)، ونهيه عن كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء قال: [وسأذكر في هذين الوجهين ما يكون فيه بلاغ لمن قبل النصيحة، وكان بقلبه أدنى حياء إن شاء الله]. فيبدأ رحمه الله بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوني ما تركتكم)] , وهذا الخطاب في عمومه موجه للأمة كلها، وليس خاصاً بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(اتركوني ما تركتكم)] يعني: لا تجادلوني ولا تخاصموني ولا تسألوني حتى أبادركم بالعلم. قال: [(اتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم)]. وجاء في الحديث: (قام رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام -لما فرض الله عز وجل الحج- فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعاد عليه ثانية: يا رسول الله آلحج كل عام؟ فسكت، حتى أعادها عليه ثلاثاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم) يعني: لو رددت عليك بالإيجاب لكان الحج واجباً على كل مسلم في كل عام، والمعلوم قطعاً أن أحداً لا يقدر على ذلك، والحج فرض في العمر مرة، وما دون ذلك فهو نافلة. ثم قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)] يعني: إذا لم أحدثكم بشيء ابتداءً فلا تحدثوني وتنازعوني وتخاصموني وتحاجوني فيه؛ لأن هذا كان سبب هلاك الأمم من قبلكم: كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فسبب هلاك بني إسرائيل وسبب ضلالهم: أن الله شدد عليهم لما شددوا على أنفسهم. فمثلاً: قصة البقرة، فقد فرض الله تعالى على بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، ثم سألوا عن هيئة البقرة، ولون البقرة، وصفات البقرة، ولو سكتوا من أول الأمر لكان يجزئهم ذبح أي بقرة، ولكنهم شددوا وتعنتوا حتى اختار الله عز وجل لهم بقرة واحدة لا مثيل لها، فبحثوا عنها ونقبوا عنها وتعبوا أيما تعب، ولما وصلوا إلى البقرة المعلومة المعينة المذكورة بأماراتها وأوصافها غالى صاحبها أيما مغالاة في ثمنها، فوقعوا في مشقة أخرى؛ لأنهم لم يسمعوا ويطيعوا من أول الأمر، بل جادلوا وكثرت أسئلتهم.

النهي الشرعي في مقدور كل إنسان تطبيقه بخلاف الأمر

النهي الشرعي في مقدور كل إنسان تطبيقه بخلاف الأمر قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم)] وهذا يدل على أن النهي الشرعي في مقدور كل إنسان؛ لأنه لم يستثن منه شيئاً صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: (فاجتنبوه) بخلاف الأمر، فإن الأمر أحياناً يكون أكبر من قدرة المكلف، وأحياناً يكون في مقدوره، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) ولم يقل: فائتوه كما قال في النهي: (فاجتنبوه)، ولم يقل في النهي: فاجتنبوا منه ما استطعتم، وإنما قال: (فما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي: للدلالة على أن النهي في مقدور كل إنسان أن يبتعد عن المعاصي والمنهيات، وأما الأوامر فقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نصلي قياماً، وأمرنا الله عز وجل أن نصلي قياماً: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وهذا يدل على أن القيام في الصلاة واجب في الفرض على المكلف، وأما إذا عجز عن القيام لعلة أو مرض أو غير ذلك؛ جاز له أن يصلي قاعداً، أو على جنب، أو مستلقياً حسب قدرته؛ لأن القيام ليس بمقدوره، وهو من باب الأوامر. قال: [وفي رواية عند مسلم وأحمد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم)]، وهناك: (بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم - أي: على أنبيائهم-، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)].

بيان أن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته

بيان أن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته قال: [عن عامر بن سعد بن أبي وقاص رحمه الله عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء ونقر عنه لم يكن نزل فيه -أي: لم ينزل فيه قرآن ولا وحي-، فحرم من أجل مسألته)]. أي: أعظم الناس جرماً رجل يتنطع ويسأل، ويتعمق في قضية لم ينزل فيها تشريع، فينزل التشريع بتحريم هذه المسألة لأجل سؤاله، وإلا فالحرام ما حرمه الله عز وجل في كتابه، وما حرمه رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، والحلال ما أحله الله في كتابه، وما أحله النبي عليه الصلاة والسلام في سنته، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فلا تسألوا عن أشياء سكت عنها الشرع، إن تسألوا عنها وتجحفوا في المسألة وبدت لكم تسؤكم؛ وذلك بأن تحرم عليكم، فتقعون في الحرج والمشقة؛ بسبب أنكم تعمقتم وتنطعتم، ودخلتم فيما لا يعنيكم، وسألتم عما لم تكلفوا بالسؤال عنه. قال الخطابي في كتاب (معالم السنن): (هذا في مسألة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه، دون من سأل سؤال حاجة وضرورة) يعني: أن الذي يسأل للتعلم والعمل لا حرج عليه في ذلك، وهو مأمور بذلك، وأما الذي يسأل تكلفاً وتنطعاً فهذا هو المعني بهذا النهي.

النهي عن الاستعجال بالبلية قبل نزولها، فإن العجلة تشتت السبل

النهي عن الاستعجال بالبلية قبل نزولها، فإن العجلة تشتت السبل قال: [وعن معاذ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون فيهم من إذا قال سدد، أو من إذا قال وفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل هاهنا وهاهنا)]. هذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أن بعض أهل العلم قد حسنه، ولو اتفقنا على تضعيفه لقلنا كان عليه العمل في زمن الصحابة ومن بعدهم، وهذا الحديث ظاهره يقضي بأن المرء لا يسأل عن الشيء حتى يكون ويقع، أما أن يفترض المرء ويتصور أمراً لم يقع بعد، ثم يتكلف المسألة وسؤال أهل العلم هنا وهناك، كأن يقول: هب أن أمراً حصل وكان كيت وكيت، فماذا يكون الجواب؟ ألم تعلموا أن معظم الشر والبلاء الذي دخل في كتب الفقه وغيرها إنما هو من: أرأيت أرأيت، أرأيت لو كان كذا، ماذا يكون؟ وأرأيت لو كان كذا، ماذا يكون؟ ولكن أهل السنة والجماعة متفقون على ألا يتكلموا في أمر إلا إذا نزل وصار واقعاً، فإذا صار واقعاً قيض الله عز وجل له من يجتهد فيه، وإذا قيض له من يجتهد فيه سدده الله تعالى ووفقه.

تحليف السلف للسائل عن وقوع المسألة من عدمه

تحليف السلف للسائل عن وقوع المسألة من عدمه قال: [وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوساً -وهو ابن كيسان - عن مسألة فقال لي: أكانت؟] يعني: أوقعت هذه المسألة التي تسأل عنها أم هو فرض جدلي فرضته أنت؟ [قلت: نعم -أي: أنها وقعت- قال: آلله؟ قلت: آلله] أقسم عليه عما إذا كانت هذه المسألة قد وقعت أو لم تقع، حتى أقسم أنها قد وقعت، قال طاوس: [إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنه قال: أيها الناس! لا تسألوا عن البلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا، وإنكم إن لم تسألوا لم تفتنوا؛ فإنه لا ينفك أن يكون في المسلمين من إذا قال وفق، أو من إذا قال سدد].

بيان أن التنطع والتعمق مهلكة لصاحبه

بيان أن التنطع والتعمق مهلكة لصاحبه قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)]. قال الخطابي: (المتنطع: هو المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم). يعني: كأن يسأل شخص عن دقيقة من دقائق المسائل التي لا ينبغي أن تخطر على بال أحد، ومع هذا هو غير متفقه في أصول دينه، لا في أصول الإسلام: من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وحج، ولا في أصول الإيمان: من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا الإيمان بملائكته والأنبياء، والجنة والنار، والقدر خيره شره، فيترك هذا كله ولا يسأل فيه شيئاً، ولم يتعلم الواجب والفرض الذي يضره جهله في أصول الدين في الإسلام والإيمان، ثم هو يبحث عن دقيقة من الدقائق، ويشغل حياته كلها بهذه الدقيقة، ويتنطع فيها. فمثلاً: لو دخل شخص الآن المسجد وهو لا يعرف شيئاً عن صلاة، ولا عن صيام، ولا زكاة، ولا أي شيء، فأول ما دخل سمع الشيخ يتكلم عن دار الإيمان ودار الكفر، فمن حين خرج من هذه الخطبة جعل حياته كلها بحثاً عن دار الإيمان ودار الإسلام ودار الكفر، وتقابله بعد سنة أو بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة وهو لا زال قائماً يبحث في أول موضوع سمعه مع أول دخلة دخلها بيتاً من بيوت الله عز وجل، هل ينفع هذا الكلام؟! هو يبحث عن دقيقة لا تعنيه أصلاً؛ لأنه قدم ما حقه التأخير، وأخر ما حقه التقديم، بل الذي أخره هو يجهله تماماً، ويتصور أنه غير مكلف بالبحث عنه، وهو الذي يبنى عليه العمل، وهو الذي يسأل عنه يوم القيامة. فقوله: (هلك المتنطعون) هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق: أن كل من تنطع في دين الله فهو هالك. ومعنى كلمة: (هلك) أي: انقطع به الطريق، ولذلك ما وجدنا متشدداً في دين الله عز وجل إلا ولا بد أنه ينقطع، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: كل من تنطع في الدين وتعمق فيه على غير ما ذكر؛ فلا بد أن يغلبه الدين وأن يرده، فإن كان من أهل التوفيق والسداد رده إلى أصل الديانة والحنيفية السمحة، وإن كان من أهل التعنت لا بد أن يبتلى. وقد حدثني رجل عن آخر أنه رافق المتنطعين منذ عشر سنوات وزيادة وإلى الآن لم يهلك ولم ينقطع، حتى أخبرني صاحبه منذ ثلاثة أيام أنه ترك صحبة فلان، قلت: ولم؟ قال: لأنه يقول بضلال كل العلماء والشيوخ والدعاة على الساحة إلا ثلاثة، وهؤلاء الثلاثة هم فعلاً من أهل العلم، لكنهم على أية حال مغمورون؛ لأنهم لا يحبون الظهور، وهم من أهل العلم والحجة حقاً نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله. وأما الحكم على جميع الشيوخ والدعاة والعلماء على الساحة بالضلال، وأنهم ليسوا من أهل الأصول ولا من أهل العلم على الحقيقة؛ فهذا بلا شك تنطع وغلو، بل هو غرور وكبر، حتى ذكر عن واحد من أكابر أهل العلم ممن ألان الله عز وجل له النصوص الشرعية كما ألان الحديد لداود عليه السلام، يقول هذا الغبي الأحمق: جلوسي على المقهى أحب إلي من بقائي في درس الشيخ محمد عبد المقصود. فأقول: إن هذا الشخص إن شاء الله تعالى ليس أهلاً لحضور درس الشيخ ولا غيره، وإنما محله بإذن الله تعالى في المستقبل أن يبيع كتبه كما باع غيره كتبه، فقد سبقه المتنطعون والهلكى فباعوا مكتباتهم المجلد بجنيه واحد، وبلغ من حماقتهم أنهم باعوا من الكتاب الذي يضم عدة مجلدات مجلداً أو مجلدين، فهم ما باعوا الكتاب كله وإنما فرقوه في البيع، فرق الله تعالى شملهم.

قلة المسائل التي سألها الصحابة للنبي حتى قبض

قلّة المسائل التي سألها الصحابة للنبي حتى قبض قال: [وعن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض -أي: حتى قبض النبي عليه الصلاة والسلام-، كلهن -أي: كل هذه المسائل الثلاث عشرة- في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220]. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]]. إلى آخر مسائل الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرها الله عز وجل في القرآن على سبيل الجواب للأمة المباركة إلى قيام الساعة؛ لتنتفع بها، وليظهر الحكم في هذه المسائل من الحل والحرمة، والآداب والأحكام وغير ذلك. ولم يذكر الراوي أكثر مما ذكر هنا، والمسائل في القرآن معروفة مشهورة.

بيان حديثي: (إن الله كره لكم ثلاثا)، و (نهى النبي عن الأغلوطات)

بيان حديثي: (إن الله كره لكم ثلاثاً)، و (نهى النبي عن الأغلوطات) قال: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)]، فهذه الثلاث يكرهها الله عز وجل. [وعن عيسى بن يونس قال: حدثني الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات). قال عيسى بن يونس: الأغلوطات ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف]. يعني: البحث والتنقير عن مسائل لم يكلف المرء بالبحث عنها، أو الخصومات في الدين. وبعض أهل العلم يسمي الأغلوطات: الخصومات في الدين، والمجادلات والمنازعات والاشتباكات التي تدور بين الشباب في مسائل لا علم لهم بها. ومن أعجب الأعاجيب أن اثنين يختلفان في مسألة، وفي وجه الحق والصواب فيها، فيتبنى هذا رأياً والآخر يتبنى رأياً آخر، وكلا الرأيين ليسا من آراء أهل العلم، فيحتكمان إلى ثالث ليس من أهل العلم! فلا يردان الأمر إلى كتاب الله عز وجل، ولا إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا إلى اجتهاد أهل العلم، وإنما يتحاكمان إلى من هو أجهل منهما، فيكثر الخلاف؛ ولذلك يقول ابن حزم: لو سكت الجاهل لقل الخلاف. وذلك أن الجاهل يأبى وتأبى عليه نفسه الأمارة بالسوء إلا أن يتكلم فيما لا يعنيه، وخاصة في دين الله عز وجل. [عن عبادة بن نسي قال: (تذاكروا عند معاوية المسائل، فرد بعضهم على بعض -يعني: رد بعضهم على بعض حتى ارتفعت أصواتهم- فقال: ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات؟!). وعن الصنابحي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات). قال الأوزاعي: شداد المسائل وصعابها].

ضرورة التأهل العلمي عند الدخول في المناظرات والجدال

ضرورة التأهل العلمي عند الدخول في المناظرات والجدال وهناك مدرس كبير جداً يسمونه: فيثاغورس؛ باعتبار أن عنده رياضة عقلية فذة، فيسمونه باسم عالم كبير من علماء الرياضة فيثاغورس، قابلني وقال: أنا متخصص في مقارنة الأديان منذ اثني عشر عاماً، قلت: هل درست الدين الإسلامي؟ قال: نعم، قلت: ثم اليهودية والنصرانية؟ قال: نعم، قلت: ربنا يفتح علينا وعليك بالخير. فلقيني بالأمس فقال: الدكتور الفلاني يقول: إن الإمام البخاري صنف صحيحه من ست عشرة نسخة كنسخ التوراة والإنجيل، فكيف نرد عليه. فقلت له: وهل عنده أسئلة أخرى؟ قال: نعم، السؤال الثاني: قال: إن حديث الذبابة الذي أخرجه البخاري يغلب على راويه النكارة، قلت: والثالث؟ حتى عد سبعة أسئلة. منها: إنكار شفاعة إبراهيم عليه السلام بالذات، قلت لماذا إبراهيم عليه السلام؟ قال: لأن إبراهيم صرح بأنه كذب ثلاث كذبات، قلت: غيره من الأنبياء صرح بمثل هذا، فلم منعت إبراهيم من الشفاعة بالذات؟! قلت له: لقد أخبرتني آنفاً أنك عالم كبير في مقارنة الأديان، فكيف تخفى عليك مثل هذه المسائل؟ ولو أن قسيساً في الكنيسة تناظر معك وألقى عليك هذه الأسئلة فماذا ترد عليه؟ قال: أنا ما عندي خبر غير هذا، قلت: إذاً ستفتضح حجتك أمام العالم في المناظرة، فتكون بذلك قد أفسدت على نفسك، وأوقعت المسلمين في الفتنة والحرج بانتصار هذا القسيس عليك، أليس كذلك؟ فسكت. فقلت له: إنما مثلك كمثل رجل دخل المسجد فحرص أن يصلي الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والصبح ثنتين، ولا علاقة لك في دين الله عز وجل فيما لا يعنيك، كما أنه يحرم عليك أن تنظر في كتب أهل الكتاب، فخاصمني وامتنع عن محادثتي إلى يومنا هذا، وأنا من الأمس إلى اليوم قد ألقيت عليه السلام ثلاث مرات في المسجد المجاور لبيتي فلم يرد علي السلام! فهل مثل هذا ينفع أن يفرض نفسه على الأمة أنه عالم كبير في مقارنة الأديان؟! مثل هؤلاء السفهاء الذين في الجامعات يسمونهم: دكاترة وفقهاء في الأديان، وعلم الفلسفة، والمنطق، فيقدمون دراسة هذه العلوم على دراسة كتاب الله عز وجل، ويزعمون أن دراسة هذه المواد إنما هي مفاتيح لكتاب الله عز وجل، وهؤلاء المفتونون المجرمون آل بهم الأمر إلى محاربة الله تعالى ورسوله جهاراً نهاراً.

ذم السلف لمن يجيء بشرار المسائل

ذم السلف لمن يجيء بشرار المسائل قال: [قال الحسن: شرار عباد الله يتبعون شرار المسائل؛ يعمون بها عباد الله عز وجل. وقال: إن شرار عباد الله قوم يجيئون بشرار المسائل؛ يعيبون بها عباد الله]. يعني: يعيبون بها أهل العلم، كأن يأتي إنسان ويسأل عما لا يعنيه، ويتعمد إحراج المسئول. قال: [قال أحمد بن جناب المصيصي: سألت عيسى بن يونس عن قول الله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فإن الحور العين يمتن، قال: فغضب عيسى من ذلك غضباً شديداً، فقال: لقد بعثرنا الحديث بعثرة ما بعثرها أحد -يعني: جمعنا الحديث جمعاً من كل قطر ومصر- ما بقي كوفي ولا بصري ولا مدني ولا مكي ولا حجازي ولا شامي ولا جزري إلا وقد لقيناه وسمعنا منه، ما سمعنا أحداً قط يسأل عن مثل هذا. ثم قال: ما لكم ومجالسة أهل الأهواء ومحادثتهم؟]. أي: لماذا تجالسونهم وتتحدثون معهم؟ وكثير من الناس جرته الحمية في مجالسة أهل الأهواء، ثم يقع في نفس الهوى وفي نفس البلية، فمثلاً: يريد أن يجلس مع جماعة التكفير أو أي جماعة على بدعة معينة؛ ليتعرف على مداخل ومخارج البدعة، فنقول له: هل أعدت لكل بدعة دليلاً ينقض هذه البدع؟ وهؤلاء لا يعرفون شيئاً من دين الله شيئاً إلا ما ظنوا أنهم قد عقلوه من بدعتهم، فإذا بهذا الشخص يجلس أمام مناظرهم ومجادلهم فيلقي عليه الشبهة ثم الشبهة ثم الشبهة، وهو لا علم له أصلاً بدين الله عز وجل، ولكن أخذته العاطفة والحمية أن يناظر أهل البدع؛ حتى يردهم بزعمه عن بدعتهم، فإذا به بعد إلقاء الشبهات عليه، وعدم قدرته على رد هذه الشبهات؛ يشربها هو، ويشربها قلبه، ثم يتذبذب ويتشكك، فيلقون عليه بالشبهات الأخرى والحجج المتكررة التي لا جواب عنده على واحد منها، ثم إذا هو يرجع وقد شك فيما كان عليه من الحق، وأيقن بما قد سمعه من شبهات. فنقول لهذا وأمثاله: أنت لا زلت بعد في بداية طلبك للعلم، ولست مطالباً بالمناظرة والمجادلة مع هؤلاء، وإنما المجادلة والمناظرة تكون من أهل العلم الأثبات لا من طلاب العلم المبتدئين في العلم.

ذم السلف لمن يجالس أهل الأهواء فيتيه ثم يطلب من يجادله ليهديه

ذم السلف لمن يجالس أهل الأهواء فيتيه ثم يطلب من يجادله ليهديه قال: [قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: كان ذلك الرجل إذا جاءه بعض هؤلاء أصحاب الأهواء يسأله قال: أما أنا فعلى بينة من ربي] يعني: مالك رحمه الله يحكي عن نفسه، لكنه يتورع أن يقول: أنا المعني، ولذا فقد جاء في غير كتاب أنه مالك، وفي رواية أنه ابن سيرين. ولا مانع بتعدد الحوادث وأن السؤال وجه لـ مالك، ووجه لـ ابن سيرين. فأتى رجل إلى مالك ليناظره في ربه، ويجادله في إلهه، [فقال مالك: أما أنا فعلى بينة من ربي -أي: لا أحتاج إلى مناظرة ومجادلة-، وأما أنت فشاك، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. وقال: يلبسون على أنفسهم، ثم يطلبون من يعرفهم ويهديهم] يعني: هم الذين يوقعون أنفسهم في الشك والحيرة والتيه، ثم هم بعد ذلك يأتون فيسألون لأجل الهداية وغير ذلك. [وعن سالم بن أبي حفصة قال: إن من قبلكم بحثوا ونقروا حتى تاهوا] يعني: تكلفوا البحث والتنقير عما لا يعنيهم حتى وقعوا في التيه والحيرة.

تقسيم يحيى بن معاذ الرازي الناس إلى خمس طبقات، ومنها المتعمقون في الدين

تقسيم يحيى بن معاذ الرازي الناس إلى خمس طبقات، ومنها المتعمقون في الدين قال: [وقال يحيى بن معاذ الرازي -وكلامه جميل أشهى من عسل النحل-: الناس خمس طبقات، فاجتنب أربعاً والزم واحدة]. لكن الإمام ابن بطة اختصر كلامه اختصاراً شديداً جداً، حتى إنه لم يذكر الطبقة التي يؤمر العبد بالتزامها، وهم أهل السنة والجماعة. وأما الأربع التي أمر يحيى بن معاذ باجتنابها فلم يذكر منها ابن بطة إلا طبقة واحدة فقال: [والطبقة الرابعة: هم المتعمقون في الدين، الذين يتكلمون في العقول، ويحملون الناس على قياس أفهامهم، قد بلغ من فتنة أحدهم، وتمكن الشك من قلبه: أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك]. يعني: أن هذا الشاك هو نفسه غير مؤمن بهذه الحجة، ولذلك إذا أتاه شاك آخر بحجة هي أقوى من حجته تحول إليها، وترك حجته السابقة التي قد خصم بها خصمه وانتصر عليه، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه خصومات أكثر التحول. يعني: يتحول من دليل إلى دليل؛ لأنه لا يعتقد دليلاً واحداً، بل كلما رأى أن هذا الدليل أحسن وأجمل وأطيب من غيره تحول إليه. قال: [وهو نفسه في تلك الحجة في شك، ليس يعتقدها ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها، إن عرضت له من غيره حجة هي أوثق منها انتقل إليها، فدينه محمول على سفينة الفتن، يسير بها في بحور المهالك، يسوقها الخطر، وتسوسها الحيرة، وذلك حين رأى عقله أملى بالدين، وأضبط له، وأغوص على الغيب] يعني: دائماً يعتمد على عقله في التنقيب عن أمور الغيب التي لم يكلف بالبحث عنها. ثم قال: [وأبلغ لما يراد من الثواب من أمر الله إياه، ونهيه وفرائضه الملجمة للمؤمنين عن اختراق الشذوذ، والتنقير عن غوامض الأمور، والتدقيق الذي قد نهيت هذه الأمة عنه؛ إذ كان ذلك سبب هلاك الأمم قبلها، وعلة ما أخرجها من دين ربها، وهؤلاء هم الفساق في دين الله عز وجل المارقون منه، التاركين لسبيل الحق، المجانبون للهدى، الذين لم يرضوا بحكم الله في دينه حتى تكلفوا طلب ما قد سقط عنهم طلبه، ومن لم يرض بحكم الله في المعرفة حكماً لم يرض بالله رباً، ومن لم يرض بالله رباً كان كافراً، وكيف يرضون بحكم الله في الدين وقد بين لنا فيه حدوداً، وفرض علينا القيام عليها، والتسليم بها، فجاء هؤلاء بعد قلة عقولهم، وجور فطنهم، وجهل مقاييسهم يتكلمون في الدقائق، ويتعمقون، فكفى بهم خزياً سقوطهم من عين الصالحين، يقتصر فيهم على ما قد لزمهم في الأمة من قالة السوء، وألبسوا من أثواب التهمة، واستوحش منهم المؤمنون، ونهى عن مجالستهم العلماء، وكرهتهم الحكماء، واستنكرتهم الأدباء، شكاكون جاهلون، ووسواسون متحيرون، فإذا رأيت المريد يطيف بناحيتهم فاغسل يدك منه ولا تجالسه]. يعني: إذا رأيت المبتدئ يطوف حولهم، ويحضر مجالسهم؛ فاغسل يدك منه، واعلم أنه لا خير فيه، فطالب العلم إذا ذهب عند المبتدع وصاحب هوى فاغسل يدك منه لا من صاحب البدعة؛ فإن هذا أمره مفروغ منه، ولكن اغسل يدك من ذلك الذي يحرص على مجالسته، واعلم أنه لا خير فيه.

ذكر بعض المسائل التي لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها

ذكر بعض المسائل التي لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها قال: [قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب فيها]. كان السلف رضي الله عنهم إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أمسكوا، وهذه أمور متفق عليها، فما كان أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم في القدر قط، ولم يثبت أن صحابياً تكلم في القدر، وكل ما هنالك إذا سئل أحدهم عن القدر قال: إن الله على كل شيء قدير، فكل قارئ للقرآن يقرأ هذا، وكل مطلع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يطلع على هذا، ولم يفسروا ويؤصلوا ويقعدوا لنا مسائل القدر التي كتبت فيها هذه الكتب التي لا نهاية لها، وإنما كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله، كما جاء ذلك في تعريف الإيمان في غير ما حديث: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) أي: أنه من عند الله عز وجل، وأن الله على كل شيء قدير. فالسلف خاصة الصحابة ما زادوا في القدر عن هذه الكلمات اليسيرات، ولو أنك أتيت الآن بأكابر المثقفين لنازعك في القدر أيما منازعة، وخاصمك فيه أيما مخاصمة، حتى يقول القائل: إذا كان الله تعالى قد قدر علي هذا العمل فلم يعذبني؟ وإذا كان الله تعالى قد كتب لي الجنة فلم العمل إذاً؟ لا بد أن يصل الأمر بمثقفي العصر إلى هذه المشكلة؛ لأن أسلافهم من القدريين ومن السالكين على غير هدى قد وجهوا هذه الأسئلة لسلف الأمة، ولذلك كان الصحابة إذا ذكر القدر أمسكوا، مع إيمانهم الجازم بأن كل شيء من عند الله، وأن الله تعالى كتب كل شيء من الخير والشر. قوله: (وإذا ذكر الصحابة أمسكوا) أي: إذا ذكر الصحابة بما دار بينهم من خلاف؛ أمسكوا، وعلموا أن السنة في ذلك حب الصحابة أجمعين، والترضي عنهم أجمعين، وأن الله تبارك وتعالى غفر لهم ورضي عنهم، كما حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام في سنته في الصحيحين وغيرهما من الكلام فيهم وسبهم، وبين أن أحدنا لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه إلى آخر فضائل الصحابة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. لكن هؤلاء لا بد أن ينشروا الفتن التي دارت بين معاوية وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولا بد من الخوض في هذا، بل يخرج بعض من لا يفهم أمور الدعوة، ولا يفهم قدرات الخلائق على استيعاب هذا الأمر، فينشر على مسامع العامة ما دار بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا بالسكوت والترضي عنهم.

الشيعة في مصر

الشيعة في مصر وآخر الأمر أن الشيعة عليهم من الله ما يستحقون يريدون نشر التشيع في مصر، والتشيع لا يمكن قط أن يستقيم مع أخلاق المصريين وسلوكهم؛ لأن التشيع قام على سب الصحابة ولعنهم، والمصريون في الأصل لا يتفقون مع هذه الدعوة، أنتم تعرفون المصريين لو أن حماراً أو كلباً دفن في قبر، وقيل لهم: هذا المدفون هو رجل صالح لعبدوه؛ فقلوب المصريين جبلت على حب الصالحين وخاصة الصحابة، فتأتي وتقول للمصري: أبو بكر عليه لعنة الله، أو عمر عليه لعنة الله؛ فلا يستقيم هذا معه قط؛ ولذلك تجد دعوة الشيعة قديماً وحديثاً لم تلق رواجاً في مصر. ومنذ عشر سنوات أو يزيد قليلاً ظهر هذا الكلب الذي يدعى حسن شحاتة، وهو إمام مسجد الجامعة في مقابلة الجامعة الجديدة، وقال ما قال في شأن الصحابة، خاصة في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، قال كلاماً هو كفر بواح، ثم تألب الرأي العام والصحافة وغير ذلك في ذلك الوقت على هذا الكلب، وسجن مدة من الزمان، لكن لوساطة بعض الوجهاء الشيعة في لبنان قام بعضهم بزيارة لمصر خاصة لإخراجه من السجن، وخرج هذا الكلب، وأنا على يقين أن الحكومة المصرية تخشى التشيع، وتخاف من ظهوره وانتشاره في مصر؛ لأن الشيعة في إيران شكيمتهم قوية جداً. والدرس الذي تلقاه صدام حسين من خميني إيران وشعب إيران لا يمكن أن تنساه الحكومة المصرية، ولا غيرها من الحكومات. والآن تهاونت الحكومة المصرية مرة أخرى بعد أن أخذت موقفاً حاسماً منذ عشر سنوات فيما يتعلق بظهور الشيعة في مصر خاصة في المنصورة، فمنبع التشيع هو في المنصورة، وإن شئت فقل: المنصورة في المرتبة الثانية بعد حي شبرا في القاهرة. وللأسف الشديد ظهرت مجلة في مصر من عدة أشهر، هذه المجلة اسمها: أهل البيت، وأهل البيت -يعلم الله- أنهم بريئون جميعاً ممن ينتسب إليهم من الشيعة. فهذه المجلة إنما تتقرب إلى مولاها بزعمها بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان، وردة عائشة رضي الله عنها، واتهامها بالفاحشة، وأن حادثة الإفك ليست حادثة وهمية، بل هي حادثة حقيقية، وأن عائشة حقاً وقعت في الزنا، هكذا قالوا، ولا تزال هذه المجلة تصدر على قدم وساق في كل شهر مرة على مسمع ومرأى من الحكومة المصرية، فلم لا تقوم الحكومة المصرية بمصادرة هذه المجلة ومعاقبة القائمين عليها؟ ماذا تنتظر؟ هل تنتظر أن يستفحل الأمر ولا يمكن علاجه؟! فكل ثلم يبدأ بعفن. كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر هل تنتظر الحكومة حتى يكون الشيعة في مصر بالملايين؟ إن شاء الله لا يكونون كذلك، لكن ولو كان واحداً فلابد من حربه، أما سمعتم أن صبيغاً الذي كان يتكلم ويتعمق ويتنطع في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لما سأل عن الذاريات والمرسلات وغير ذلك نظر عمر في وجهه فعلم أنه متنطع لا يقصد التعلم، فجلده وضربه، وقال: والله لو كنت حالقاً لضربت عنقك. وربما يأتي هذا الدليل معنا في هذا الباب لأنه من مظانه. إذاً: فهناك من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، كما لا يجوز للمسئول أن يجيب فيها، بل إذا سئلت في مسألة فقل: أثم هي؟ أوقعت؟ فإذا كانت قد وقعت فإن الله تعالى يسدد ويعين المجتهد في القضاء فيها أو الإفتاء فيها، وإذا لم تكن قد وقعت فيجب عليك أن تنهى السائل عن ذلك؛ لأن هذا ليس هو منهج السلف ولا منهج أهل السنة.

ضرورة الكف عما كف الشرع عنه، وعدم الخوض فيه

ضرورة الكف عما كف الشرع عنه، وعدم الخوض فيه قال: [مر القاسم بن محمد بقوم يتكلمون في القدر، فقال: انظروا ما ذكر الله تعالى في القرآن فتكلموا فيه، وما كف عنه فكفوا] أي: لا تذكروا القَدَرَ إلا بالقَدْرِ المذكور في كتاب الله لا تزيدوا عليه، ولا تخوضوا فيه؛ لأن هذا القول يؤدي إلى الحيرة، والتيه، والضلال والابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً. قال: [وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: قال رجل: لقد دخلت في هذه الأديان كلها فلم أر شيئاً مستقيماً]. يعني: كأن هذا الرجل يقول: دخلت في القدرية والمعتزلة والمرجئة وغير ذلك من الفرق الكبار في زمن مالك فلم أر شيئاً منها مستقيماً. [فقال رجل من أهل المدينة من المتكلمين: فأنا أخبركم لم ذلك؟ -أي: لم دخل هذا الرجل في كل الأديان ولم ير شيئاً منها قط مستقيماً- قال: لأنك لا تتقي الله، فلو كنت تتقي الله جعل الله لك من أمرك مخرجاً]. أي: نور بصيرتك، وهداك إلى معرفة الحق، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فالمهم أن يعقدوا قلوبهم على الهدى ويحبوه، ويبذلوا المهج في سبيل الوصول إليه، ثم الله تعالى يوفقهم لذلك بعلمه صدق نيتهم، أما من كان يتنطع ويتعمق ولا يريد الوصول إلى الحق؛ فإن الله تبارك وتعالى يضله، ويجعله يتيه في ظلمات الضلال هنا وهناك.

بيان النبي أن الله تعالى سكت عن أشياء من غير نسيان رحمة بنا فلا نبحث عنها

بيان النبي أن الله تعالى سكت عن أشياء من غير نسيان رحمة بنا فلا نبحث عنها قال: [وعن أبي ثعلبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم؛ فلا تبحثوا عنها، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64])]. هذه الأشياء التي سكت الله عز وجل عنها لا نتكلف نحن السؤال فيها؛ لأن الله تبارك وتعالى لما تركها تركها لنا من باب العفو، ومن باب المباحات، فمن فعلها كان له ذلك، ومن لم يفعلها فلا حرج عليه، فأما أن تتكلف البحث عنها، ومعرفة الحكم فيها؛ فإن هذا الأمر يسبب الحرج لصاحبه.

آثار عن السلف في ردهم الافتراضات في الأسئلة، والسؤال عما لم يكن

آثار عن السلف في ردهم الافتراضات في الأسئلة، والسؤال عما لم يكن قال: [وعن مسروق قال: سألت أبي بن كعب عن مسألة، فقال لي: أكانت؟ قلت: لا، قال: فأجمنا حتى يكون] أجمنا أي: أرحنا، والاستجمام بمعنى الراحة. قال: [فأجمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا رأينا]. يعني: لك أن تأتي بسؤالك الذي وقع، ولا تسأل عن غيره؛ لأنك منهي عن هذه الطريقة الجاهلية، فسؤالك الذي ينبني عليه العمل في سلوكك إلى الله عز وجل أنت مكلف به فقط دون سواه. قال: [وعن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تسألوا عن أمر لم يكن؛ فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه، وإذا تكلفتم ما لم تبلوا به وكلتم إليه]. يعني: يتخلى الله تعالى عنكم، ويكلكم إلى هذا، وربما أصبتم وربما خالفتم. قال: [وعن خارجة بن زيد بن ثابت قال: سئل زيد بن ثابت عن شيء فقال: أكان هذا؟ فقيل: لا، فقال: دعه حتى يكون؛ فإنما هلك من كان قبلكم بأنهم قاسوا ما لم يكن بما قد كان، حتى تركوا دين الله عز وجل. وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا لا يسألون إلا عن حاجة. وعن الشعبي قال: سل عما كان، ولا تسأل عما لم يكن ولا يكون].

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه قال: [عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)] يعني: من أصول الإسلام أن تترك كل شيء لا يعنيك من أمر الدين أو الدنيا؛ لأنه ليس كل أمر الدين أنت مكلف به.

التمادي في الأسئلة والافتراضات قد يؤدي بالإنسان إلى السؤال عمن خلق الله

التمادي في الأسئلة والافتراضات قد يؤدي بالإنسان إلى السؤال عمن خلق الله قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟)]. يعني: إذا كنت ممن يسأل كثيراً فلا بد أن تصل إلى عين هذا Q ( هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟) ولا بد أن تعلم أنك أضعف من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وأقل إيماناً؛ ولذلك حاك في قلوبهم وصدورهم هذا Q [ ( قالوا: يا رسول الله إن أحدنا لتحدثه نفسه بشيء لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أو قد فعلها؟ -يعني: أو قد غلبكم عليها الشيطان؟ - ذاك محض الإيمان)] أي: تحرجكم أن تتكلموا بهذا الكلام دليل على إيمانكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(وإن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فتقولون: الله، فيقول الشيطان: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ قال: فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا، وقولوا: آمنا بالله ورسوله)]. يحدد عليه الصلاة والسلام علاج شبه الشيطان بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان، والانتهاء، ومجاهدة النفس؛ حتى لا يستقر هذا الخاطر في القلب، بل يمر على القلب مروراً ولا يستقر فيه، ولا يتمكن منه، ثم بقولك: آمنت بالله ورسوله؛ لأن الشيطان يفر إذا سمع هذا الشيء. فبين عليه الصلاة والسلام الجواب لهذا السؤال وعلاجه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [2]

شرح كتاب الإبانة - ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [2] لقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف بترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه، لكن العجب لقوم حيارى تاهت عقولهم في بنيات الطريق، وتركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر فيه والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، وهؤلاء هم الزائغون الذين يجب الحذر منهم.

تابع باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه

تابع باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا يزال الكلام في الباب الذي بدأناه في الدرس الماضي موصولاً وهو: باب ترك السؤال عما لا يعني، والبحث والتنقير عما لا ينفع علمه، ولا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين.

جلد عمر رضي الله عنه لصبيغ وأمر الناس بهجرانه

جلد عمر رضي الله عنه لصبيغ وأمر الناس بهجرانه قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو عثمان النهدي: إن رجلاً كان من بني يربوع يقال له: صبيغ سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات، والنازعات، والمرسلات أو عن بعضهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك -يعني: اكشف لي رأسك- فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة -أي: لمة من الشعر- فقال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك -أي: لقطعت رأسك- قال: ثم كتب إلى أهل البصرة: ألا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا ألا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه]. طاعة لولي الأمر الذي يحكم البلاد الإسلامية. [وعن السائب بن يزيد أنه أتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينما عمر ذات يوم جالساً يغدي الناس إذ جاءه رجل عليه ثياب فتغدى، حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:1 - 2]، فقال عمر: أنت هو؟ -أي: أنت الذي يسأل عن المتشابه- فقام إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب -أي: على قتب البعير- ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم، ثم ليقم خطيباً -أي: ثم ليقم هو فيكم خطيباً- ثم ليقل: إن صبيغاً كان برأيه كيت وكيت وكيت، وفعل به أمير المؤمنين كيت وكيت وكيت، فلم يزل وضيعاً -أي: صبيغ - في قومه حتى هلك، وكان سيدهم].

تعليق المؤلف على فعل عمر مع صبيغ

تعليق المؤلف على فعل عمر مع صبيغ قال الشيخ ابن بطة: [وعسى ضعيف القلب، قليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه]. هنا يجلي ابن بطة رحمه الله حقيقة أمر صبيغ ويقول: إن المستمع لما وقع في القضية من أمير المؤمنين ربما يقول: هذا ظلم، فلماذا يضرب عمر صبيغاً وصبيغ لم يعد كونه سائلاً عن آيات في كتاب الله عز وجل؟ فهل الذي يتفقه في دين الله يقابل بالإنكار والضرب والإهانة والحمل على قتب بعير بغير جرم؟! إن الذي فعله أمير المؤمنين ظلم لا يليق بمقام الخلافة، فالمؤلف يريد أن يزيل الإشكال الذي يدور في ذهن ورأس المستمع لهذه القصة، فبين رحمه الله حقيقة الأمر وأن صبيغاً لم يكن سائلاً متفقهاً، وإنما كان يسأل سؤال المتعنت، ولذلك صبيغ لم يعهد عليه أنه سأل عما ينفعه من العلم، وإنما يسأل عن المتشابهات. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سأل أحدهم عن المتشابهات -أي: في كتاب الله عز وجل- فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم). فقوله: (فأولئك الذين سمى الله) أي: الذين يسألون عن متشابه القرآن، ويتركون الفرائض والأركان التي لا يسعهم جهلها، فهؤلاء هم الزائغون الذين ذكرهم الله تعالى في مطلع سورة آل عمران، فاحذروهم. فـ عمر لما بلغه أن صبيغاً بالبصرة إنما يسأل عن المتشابهات فحسب؛ دعا عمر الناس لتناول الطعام عنده، فقام إليه رجل بعد أن فرغ من الطعام يسأله عن المتشابهات، فقال: أنت هو؟ أي: الذي بلغني خبرك، فقام إليه عمر وضربه؛ لا لأنه يسأل عن العلم أو عن تفسير القرآن، وإنما لأنه يسأل عن المتشابهات ويترك المحكمات. قال ابن بطة: [لعل أحدكم إذا سمع هذا الخبر دخل في نفسه شيء مما فعله أمير المؤمنين بـ صبيغ، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها لا أن يوجع ضرباً، وينفى ويهجر ويشهر به!] يعني: أهذا جزاء من طلب العلم؟! هكذا ربما دخل في نفس السامع. ثم قال رحمه الله: [وليس الأمر كما ظن السائل الذي لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم أجمعين؛ ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرض الله عز وجل عليهم]. يعني: هذه كانت رحلة الناس من أقطار الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى الخلفاء الراشدين، وإلى أئمة العلم في الدين؛ لأجل أن يتعلموا أصول الدين، وما لا يسعهم جهله؛ لأن هذا هو الذي خاطبهم الله عز وجل به في كتابه، وسار عليه سلف الأمة. ونحن نقول كلمة أحرى بنا أن نقف عندها مرات ومرات، خاصة في زمن كادت أن تهدم فيه الثوابت، وتزعزع فيه المحكمات، وتصير في قلوب العامة من المتشابهات، بل بعض المحرمات. نقول: إننا نؤمن بما آمن به النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، على فهم السلف، وكلمة: (على فهم السلف) هي كلمة تحتاج منا إلى وقفه، فهي كلمة عظيمة جداً، ولذلك لا يسعنا قط أن نقول بشيء أو أن نعمل شيئاً، أو أن نعتقد في دين الله شيئاً إلا وقد آمن به واعتقده السلف، وعمل به السلف، ومن عمل بغير ذلك أو اعتقد غير ذلك فإنما يعتقد ويعمل على غير ما كان عليه سلف هذه الأمة. فتمسك السلف بشيء إنما هو عصمة لمن أتى بعدهم، فالسلف لم يسألوا عن هذه المتشابهات، وإنما آمنوا بها وأمروها كما جاءت بغير سؤال، وإن بدا منهم سؤال فإنما سألوا عنه للتعلم والتفقه في كلام الله عز وجل، وفي كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأما أن يسأل الشخص عن شيء على سبيل التعنت والإحراج وغير ذلك؛ فهذا الشخص لا بد أنه مريض لا يصلح لطلب العلم. ولذلك خشي الأئمة من السلف ومن أتى بعدهم من وجود أمثال هؤلاء في وسط العامة؛ لأنهم بإشاعة هذه المتشابهات لا بد أنهم يفسدون دين العامة، ولذلك عمل السلف رضي الله عنهم على استئصال شأفة هؤلاء، فـ صبيغ كان يسأل عن هذه المتشابهات، فضربه عمر بالجريد على رأسه حتى سال منه الدم، حتى قال صبيغ يعلنها صراحة: يا أمير المؤمنين والذي نفس صبيغ بيده لقد ذهب الذي كان في رأسي. فهذا صبيغ يعترف أنه لم يكن يسأل تعلماً، وإنما سأل من باب إشاعة الشبهات، وزعزعة الثوابت في قلوب العامة، وجعل ما هو ركن ركين في دين الله ليس ركناً في قلوب العامة. قال: [فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يع

سبب قول عمر: (لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك)

سبب قول عمر: (لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك) ثم قال: [فإن قلت: فإنه قال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك] أي: لقطعت رأسك، وهذا بلا شك قتل، وأنتم تعلمون أن القتل محرم، وأن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يسفك دماً حراماً، فلماذا عمر رضي الله عنه هم بذلك؟ ولما حجم عن قتله؟ هل لأنه ذو شعر؟ [أومن حلق رأسه يجب عليه ضرب العنق؟] A لا، ولكن هذا كلام له مغزى وله أدلة سمعها عمر رضي الله عنه من النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [فإني أقول لك: من مثل هذا أتي الزائغون، وبمثل هذا بلي المنقرون، الذين قصرت هممهم، وضاقت أعطانهم عن فهم أقوال الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، فلم يحسوا بموضع العجز من أنفسهم، فنسبوا النقص والتقصير إلى غيرهم]. وهذا موجود في كل زمان ومكان، تجد الواحد منا إذا عجز عن فهم نص نسب النقص إلى النص، وإذا عجز عن فهم فعل إمام من أئمة العلم والهدى والدين أو قوله سارع وبادر إلى الإنكار عليه، وذم قوله وفعله، بل ربما نسبه إلى الجهل، وتطاول عليه بما هو أبعد وأكثر من ذلك، وليس الأمر كذلك. ثم قال: [وذلك أن عمر رضي الله عنه كان قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم أحداث الأسنان -أي: صغار السن- سفهاء الأحلام)]. يعني: يتصدرون الناس زعماً منهم أنهم ذوو أحلام، وذوو أسنان، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك. ثم قال: [(يقولون من خير قول الناس)] يعني: يتكلمون بأحسن الكلام وأجمله. ثم قال: [(يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)] أي: لا يؤمنون بالقرآن، وإلا لو آمنوا بكتاب الله عز وجل لآمنوا به كله محكمه ومتشابهه. ثم قال: [(يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)] يعني: يخرجون من الإسلام بعد أن دخلوا فيه كما يخرج السهم من الرمية. ثم قال: [(من لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله)] فالذي حكم عليهم بالقتل هو النبي عليه الصلاة والسلام، قال: من لقي هؤلاء الذين ذكرت علامتهم فليقتلهم، ومن قتلهم فأجره على الله عز وجل. قال رحمه الله: [وفي حديث آخر: قال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه)]. (طوبى لمن قتلهم) لأنه من أعظم الجهاد، (وطوبى لمن قتلوه) لأنه جاهدهم، فتمكنوا منه فقتلوه، فهو عند الله شهيد. [(قيل: يا رسول الله! ما علامتهم؟ قال: سيماهم التحليق)] يعني: هم يحلقون رءوسهم، وهذه علامة لهم. ثم قال: [فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله -أي مسائل صبيغ - فيما لا يعنيه كشف رأسه] أي: كشف عمر رأس صبيغ؛ ليهتدي عمر أهو من الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بتلك العلامات: أنهم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، سيماهم حلق الرءوس. فقوله: صلى الله عليه وسلم: (سيماهم التحليق) هذه هي العلامة الوحيدة الظاهرة، أي: أمارتهم بين الناس أنهم يحافظون على حلق رءوسهم بالموسى. فلما جيء بـ صبيغ بين يدي عمر، وكان يسأل عن متشابه القرآن، قال عمر: لعله ممن حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام منهم، وبين لنا أماراتهم وعلاماتهم، فلما ضربه كشف عن رأسه، فلو وجده محلوق الرأس لقتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لمن قتلهم)، ولو قتله عمر فإنه يكون مأجوراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل)، لكنه رأى أنه لم يكن ممن وصف النبي عليه الصلاة والسلام.

انتفاع صبيغ بتأديب عمر رضي الله عنه له فلم يلتحق بالخوارج حين ظهروا

انتفاع صبيغ بتأديب عمر رضي الله عنه له فلم يلتحق بالخوارج حين ظهروا قال: [فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه؛ لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها أحسن تأديبه؛ لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه، فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فحقن دمه -أي: لم يقتله؛ لأنه ليس بصاحب علامة- وحفظ دينه بأدبه، رحمة الله عليه ورضوانه. ولقد نفع الله صبيغاً بما كتب له عمر في نفيه]. لأن عمر نفاه إلى البصرة، وقال: هذا صبيغ يا أهل البصرة لا بد أن يقوم فيكم خطيباً، فيفضح نفسه على الملأ، ويقول: كان برأسي كيت وكيت وكيت، حتى أدبني أمير المؤمنين وفعل بي كذا وكذا وكذا، ولا زال صبيغ وضيعاً حتى مات بعد أن كان شريفاً. ثم قال: [فلما خرجت الحرورية -وهي فرقة عظيمة من فرق الضلالة- قالوا لـ صبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا]. يعني: ذهب أصحاب السوء إلى صبيغ وقالوا: يا صبيغ لقد ظهرت فرقة تسمى: الحرورية -نسبة إلى مكان يسمى: حروراء، وهم خوارج، فهل لك يا صبيغ أن تلحق بهم، وأن تصير رأساً فيهم كما كنت رأساً من قبل؟ فانظر إلى رد صبيغ ماذا قال. قال: [فقال: هيهات، نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه] يعني: نفعه الله تعالى بما أدبه به أمير المؤمنين؛ ولذلك قال: هيهات هيهات لقد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين. قال: [وكان عمر قد ضربه حتى سالت الدماء على وجهه، أو رجليه أو على عقبيه. ولقد صار صبيغ لمن بعده مثلاً وتردعة لمن نقر وألحف في السؤال].

تحذير أبناء الصحوة من الاهتمام بالمتشابهات

تحذير أبناء الصحوة من الاهتمام بالمتشابهات اعلم أن الصحوة الإسلامية فيها مئات من مثل صبيغ، ولذلك هذا الكلام إن لم نستفد منه فلا قيمة له إذاً، فكثير من أبناء الصحوة يسألون ويلحفون في المسألة، وهذه المسألة الجهل بها لا يضر، والعلم بها لا ينفع، وإذا سألته في أصول دينه علماً وعملاً ستجده صفر اليدين، وإنما أدخل نفسه في مسألة لا تعنيه، وهذا كمن أراد أن يقفز النهر قفزة واحدة فسقط فيه، أو من أراد أن يقفز من الأرض إلى السطح فوقع على أم رأسه، فاندك في الأرض فمات؛ لأنه رام شيئاً وسلك له سبيلاً غير السبيل المستقيم، وأما سبيل طلاب العلم فإنهم يصلون إلى العلم شيئاً فشيئاً، حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى دراسة المتشابهات بعد الإيمان بها، حتى يردوا ويذبوا عن دين الله عز وجل. وأما أن يأتي إنسان في أول الطريق فيسأل عن المتشابه ولا علم له بالمحكم، فمن يكون هذا؟ أو يأتي طالب علم مبتدئ فيسأل عن مسائل الخلاف والفروع المختلف فيها، وهو بعد لم يعرف مسائل الإجماع، والمسائل المجمع عليها ينكر أهل العلم أشد الإنكار على من لا يعرفها، ومن تصدى لغيرها قبل بحثها، وقبل الوقوف عليها، ومعرفة أصلها وأدلتها، فهو يسأل عن الفروع وهو بعد لم يتعلم الأصول، ويسأل عن الخلاف وهو بعد لم يتعرف على محل الاتفاق عند أهل العلم، كل هذا خلط وخبط عشواء في طريق الطلب، فينبغي أن يتنزه عنه طالب العلم. وبعض الطلاب يسألون عن مسائل كثيرة، وإذا لقيته هذا العام تجده يسأل عن مسائل كان يسأل عنها منذ أربع أو خمس سنوات، ففي أول دروسنا في مسجد التوحيد كان بعض الطلاب لا يحلو له إلا أن يسأل عن المتشابهات، أو عن الخلافيات، أو عن الفرعيات الدقيقة جداً، فإذا سئل عن مسائل في أصول العلم والأمور المتفق عليها والمجمع عليها بين أهل العلم تجده لا يعرف عنها شيئاً، ولا يعرف أصلاً هل هي من دين الله أو ليست من دين الله؟ أقول: إذا كان البحث في هذه المسائل واجباً فإنما هو واجب على أهل العلم المتبحرين فيه، وأما أنت كطالب علم مبتدئ فإن هذا لا يسعك، وليس من أمرك. فمثلاً: الطفل الرضيع لو أطعمته أمه لحماً -وهو طعام، ولا يختلف أحد أنه طعام- فإنه يقتله، وكذلك هذه المسائل المتشابهات التي لا علم لك بها، ولست أهلاً لها إنما تقتلك ولا تنفعك، مع أنها علم، لكن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، فهذه المسائل إنما يهتم بها أهل العلم الكبار، وأما أنت فلا. والدفاع عن دين الله عز وجل واجب على كل مسلم، لكن كل على قدره، فهل أنت مطالب الآن أن تتصدى لفرقة من فرق الضلالة دفاعاً عن دين الله عز وجل؟ A لا، وأنك إذا فعلت ذلك أفسدت في دين الله عز وجل، بل ربما تكون سبباً قوياً في ظلم الظالمين، وأنا على يقين أنك ستنهزم أمام أصحاب الضلالة؛ لأنك لا تعرف مواطن الشبه التي يثيرونها عليك، وبالتالي إذا ألقيت عليك شبهة واثنتان وثلاث وأربع ولم يأت منك جواب مقنع، أو لم يأت منك جواب أصلاً على هذه الضلالات والانحرافات والشبه؛ اغتر العامة بكلام زعيم المبتدعة، فصدقوا كلامه، ووقع في قلوبهم أنه على الحق، فكنت فتنة للعامة بسبب الجهل، أو بسبب أنك تصديت لمسألة لم تتأهب لها بعد. إذاً: فاعلموا أن العلم مراتب، ولكل مرتبة أهلها. [وعن القاسم بن محمد: أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل الفرس وسرجه، فأعاد عليه السائل، فأجابه ابن عباس بنفس الجواب، فأعاد عليه ثالثة، فأعاد ابن عباس الجواب عليه ثالثة، فقال ابن عباس: تدرون ما مثل هذا؟ هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر رضي الله عنه، أما لو عاش عمر لما سأل أحد عما لا يعنيه]. والآن تجد الواحد لأول مرة يدخل المسجد، ولا يعرف عن دينه أي شيء، ثم يتوجه إلى المحاضر ويقول له: أنا أريد أن أعرف الفرق بين الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية والجهاد، والتوقف والتبين، والسلفيين وغير ذلك. نقول لهذا: أنت لا تعرف كيف تصلي، والأصل أن تتعلم كيف تصلي، وكيف تتوضأ، فتجد كثيراً ممن يتوضأ يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص، ويخبط في أصل العبادة، وهذا الأمر وجدناه وأنتم تجدونه هنا، وهو كثير جداً في بلاد الغرب، فمثلاً: في أمريكا وأوروبا تجد المسلم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف كيف يصلي، ويتعثر في أصول دينه، ومع ذلك تجد لحيته طولها ربع متر، وتراه يلبس العمامة، ويمشي في الشارع ومعه دفتر وقلم، وكلما قابل شخصاً ملتحياً أخرج القلم وفتح الصفحة وسأله، وهو لا يعرف أن الذي يسأله هو أيضاً أجهل منه، يقول له: أنا أريد أن أعرف ما هو الفرق بين الجماعة الفلانية وبين الجماعة العلانية؟ وما هي أخطاؤهم؟ وما هو الصواب الذي عندهم؟ فهو يقلب في الصفحات ويكتب الملاحظات، وفي الأخير يقول له: بعد أن استفدنا منك الفوائد العظيمة هذه اكتب لنا كلمة في هذا الدفتر من أجلي، فالمسئول مجهول، والسائل أجهل منه، فالقضية كلها ليس

موقف الصحابة والسلف ممن يسألون فيما لا ينفع

موقف الصحابة والسلف ممن يسألون فيما لا ينفع قال: [قال علي بن أبي طالب يوماً: سلوني عما شئتم]. ويجوز للعالم المتبحر أن يصدر منه ذلك إذا تفرس في وجه الحاضرين أسئلة أو رسالة. قال: [سلوني عما شئتم، فقال ابن الكواء -وهو رأس من رءوس البدعة-: ما السواد الذي في القمر؟ قال علي: فإن تلك لله -أي: لا يعلمه إلا الله- ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك؟! ذاك محو الليل. وفي رواية: أنه سأله عن الحاملات وقراً؟ قال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك! سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك]. قال الشيخ ابن بطة: [وهكذا مكان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه، ولا يضره جهله، فربما كان الجواب أيضاً مما لا يدركه السائل، ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب، وربما زجروه وعنفوه]. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يستطيع أن يتكلم في القدر، ويحسن الكلام في القدر، ومع ذلك لم يجب في القدر بشيء. وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما يحسن ذلك، ومع هذا ما كان يجيب في القدر بشيء؛ لأن من منهج السلف أنه إذا ذكر القدر أمسكوا عن الجواب؛ لأن هذا باب عظيم وباب شائك، وإذا تحدث فيه متحدث فلابد أن يمكث فيه الساعات الطوال حتى يبين أصل الإيمان بهذا الأمر، ثم يبين مراتبه ومسائله وأحواله للعامة، لكن إذا كان المقام لا يسمح فإن قطع الكلام فيه أنجى للعامة في اعتقادهم، وقد كان السلف يأمرون بالإيمان بالقدر؛ لأن الله أمر بذلك، وانتهت القضية عند هذا الحد. وكذلك يستطيع السلف أن يتكلموا في النجوم، ولكنهم كانوا إذا سئلوا في النجوم ومنازلها ومساكنها أمسكوا، ويستطيع السلف أن يتكلموا في الصحابة، أي: في منزلتهم وفي فضلهم، وفي الفتنة التي دارت بينهم، لكنهم كانوا إذا سئلوا عن الفتنة أمسكوا. فإذا كنا نحن نعرف أن نتكلم في الفتنة فهم أولى بذلك منا، لكنهم أمسكوا. وهذا عمر بن عبد العزيز الإمام الراشد، إمام الهدى، لما سئل عن الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال: فتنة نجى الله تعالى منها سيوفنا، فلم لا ننزه عنها ألسنتنا؟! وكان سيقطع كل فتنة يمكن أن تدار إذا أجاب بغير هذا الجواب، ولكنه تكلم بهذا الكلام الوجيز في المبنى العظيم جداً في المعنى، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، فعبر رحمه الله بكلمات يسيرات عن معتقد أهل السنة والجماعة في الخلاف الذي دار بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

آثار عن السلف في ترك السؤال عما لا يعني، وذم الآرائيين

آثار عن السلف في ترك السؤال عما لا يعني، وذم الآرائيين قال: [قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها] يعني: ليس لكل سائل أن يسأل عما دار في رأسه من محكم ومتشابه، ومن غث وسمين، وإذا فعل فيحرم على المجيب أن يجيب في كل شيء، وإنما يجيب في شيء ينفع السائل، وأما في كل ما يسأل عنه السائل فلا. ثم قال: [وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده، وجعل سؤاله عما يعنيه، وعلمه ما ينفعه. وقال أيضاً: إياكم والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق] أي: الأمر الأول. ثم قال: [وقال أبو يوسف: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم]. وهناك أناس لا يهدأ لهم بال إلا إذا انطلقت ألسنتهم بالكلام والفلسفة والمنطق، ومعرفة المقدمات والنتائج وغير ذلك، ويظنون أنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً عظيماً، وليس الأمر كذلك، بل هذا هو الجهل بعينه إذا لم يكن مضبوطاً بضوابط الشرع. ثم قال: [وقال زيد بن علي لابنه: يا بني! اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك]. يعني: أن الوقت والعمر لا يسع إلا لشيء واحد للنافع أو الضار، فإن انشغلت بالضار شغلك عما ينفعك، وإذا انشغلت بما ينفعك لم يبق وقت للسؤال عما يضرك، فإما هذا وإما ذاك. ثم قال: [فإن في تركك ما لا يعنيك دركاً لما يعنيك، واعلم أنك تقدم على ما قدمت لنفسك، ولست تقدم على ما أخرت، فآثر -أي: فقدم- ما تلقاه غداً على ما لا تراه أبداً. وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئاً وأخفى أشياء] أي: أظهر لنا شيئاً وأخفى عنا أشياء، والعاقل من انشغل بما أبداه الله تعالى، وترك ما أخفاه الله عز وجل، فإن خالف هذا الناموس الكوني فلا بد أنه هالك. ثم قال: [وبلغني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: سؤال العبد عما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل له]. وقد جاءني سائل ومعه دفتر قد كتب فيه عدة أسئلة تصل إلى واحد وخمسين سؤالاً، ولا يمكن أن ينتفع بسؤال واحد منها. فقال: السؤال الأول: ما اسم أم موسى عليه السلام؟ فقلت له: هل ستستفيد من هذا السؤال؟ هل أنت مطالب به ومتعبد به؟ وهل سيسألك الله عنه يوم القيامة؟ وتعبت معه كثيراً حتى أقنعته أن هذا السؤال لا ينبني عليه عمل العبد. ثم أخرج الدفتر ووجه إلي السؤال الثاني: ما اسم كلب أهل الكهف؟! فالذين انشغلوا بأسماء وصفات الله عز وجل أنظف وأشرف منك بألف مرة مع انحرافهم؛ لأنهم انشغلوا بباب من أعظم أبواب الاعتقاد، وضلوا فيه، ولكن الأبعد انشغل بأسماء الحيوانات والنساء والطيور وغير ذلك، وذكر حوالي اثني عشر اسماً توجد في القرآن لا يلزمه معرفتها. وتلك الأسئلة فيها عجائب، لكنه أخذ مني الدفتر عنوة لما ضحكت ضحكاً شديداً على بعض الأسئلة، وكان هذا قديماً، وليتني لم أضحك حتى آتي بالباقي. إذاً: فهذا علمه لا ينفعني، وجهله لا يضرني، وهذا الشخص اتهمني بأنني أصد عن الله عز وجل، وعن ذكر الله، وقال: أليست هذه أشياء ورد ذكرها في القرآن، ونحن مطالبون بالتدبر والتفكر في القرآن ومعرفة آياته؟ فأقول: نعم، ولكن كان ينبغي أن يعلم الحلال والحرام، ومع ذلك لو سألته عن الكبائر والصغائر فإنه لا يعرف شيئاً؛ لأنه أخذ هذه المتشابهات التي لا تعنيه أصلاً وجعلها دينه فحسب. ثم قال: [وقال طاوس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن؛ مما أسمع منهم. وقال الشعبي: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك، يسألونك!].

إكثار الأحناف من الرأي والقياس

إكثار الأحناف من الرأي والقياس وهناك أناس كثيرون يقول أحدهم: يا شيخ أنا وضعت أموالي في البنك الفلاني، فهل الأرباح هذه حلال أم حرام؟ لو قلت له: حلال، قال: افرض لو أني وضعتها في بنك آخر؟ وندخل بعد ذلك في دوامة كبيرة كلها افتراضات، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا افتراضات. ولذلك عيب على أهل الرأي وأصحاب المذهب الحنفي كثرة الآراء، فعندما تقرأ في أي كتاب من كتب الأحناف ستجد أن معظم الفقه افتراضات، فمثلاً: الساجد عليه أن يسجد على سبعة أعضاء: الوجه مع الأنف هذا عضو واحد، واليدين والركبتين وأطراف القدمين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرنا أن نسجد على سبعة آراب) أي: على سبعة أعضاء، لكن المذهب الحنفي حينما وقف على هذا الحديث قال: افرض أنه سجد على خمسة أعضاء فقط، رجل سجد ورفع أطراف القدمين، فيظل يفرض الافتراضات إلى أن قال: افرض أنه سجد على جبهته فقط دون أنفه، فهذا افتراض ليس له أي قيمة، بل هو مضيعة للوقت، وعبء وثقل في كتب الفقه، وكلام بلا فائدة، ولا يمكن أن يحدث قط، ولذلك من كثرة الافتراضات هناك افتراضات الواقع الآن يكذبها، ويقول: إنه لا أساس لها، كما قالوا أيضاً: افرض أن إنساناً صلى في أرجوحة لا هي معلقة في السماء ولا متصلة بالأرض، هل تصح صلاته؟ قالوا: لا، لا تصح؛ لأن الصلاة يلزمها السجود، والسجود لا بد فيه من المكان، وهذه أرجوحة معلقة في الهواء، والمفترض أنه يسجد على الأرض؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما جعلت لي الأرض مسجداً) يعني: يسجد فيها (وتربتها طهوراً، فأيما مسلم أدركته الصلاة فعنده طهوره وسجوده) أي: المكان الذي يسجد فيه، قالوا: وهذه ليست أرضاً وإنما هذه أرجوحة. ثم قالوا: وهذا محال لا يتحقق، فإذا بهذا المحال الذي لا يتحقق تحقق الآن، فالطائرة مثل الأرجوحة، فهي تطير في السماء في هذا الوقت، فهم قالوا: ببطلان الصلاة في الأرجوحة، والآن الأحناف المتعصبون يلتزمون مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، فيقولون: إن الصلاة في الطائرة غير صحيحة، وإنما يجمع جمع تقديم قبل ركوب الطائرة أو جمع تأخير بعد النزول، فإذا كان السفر فوق الطائرة مقدار عشرين ساعة فهل أجمع خمسة فروض أم عشرة؟! هذا لا يصح. وانعقد الإجماع من أهل العلم بعد ظهور الطائرات على أن الصلاة فيها صحيحة كالصلاة في السفينة سواءً بسواء، لكن المتعصبون الآن من الأحناف يقولون بالبطلان، وغيرهم يقولون بصحة الصلاة فيها مع الكراهة، ونحن نقول ليس بإمكاننا أن نتخلص من هذه الكراهة، لذلك فهي صحيحة مطلقاً.

تعقيب ابن بطة على آثار السلف المتعلقة بترك السؤال عما لا يعني

تعقيب ابن بطة على آثار السلف المتعلقة بترك السؤال عما لا يعني قال: [فالعجب يا إخواني رحمكم الله! لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تلج محاضرهم في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم وأوقاتهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون أن مفاتيح أبواب الكفر، ومعالم أسباب الشرك هو التكلف لما لم تحط الخلائق علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير، والأحمق الصغير، بقوته الضعيفة وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب التي أرادها لنفسه سبحانه وتعالى، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله، ومخزون غيبه، وخفي أقداره، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره، وقّلب فيه فكره، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور؛ ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما ينهى عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده، والعجب كل العجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟ فسبحان الله أنى تؤفكون! قال ابن الصواف: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير؛ لكان من أعظم ما افترضه عليهم. قال الشيخ: فالزموا رحمكم الله! الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم، وشرائع توحيدكم، التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

مناظرة ابن عباس مع رجل يحاول معرفة أسرار الله في خلقه

مناظرة ابن عباس مع رجل يحاول معرفة أسرار الله في خلقه قال: [قال أبو اليقظان: خرج رجل من أسلاف المسلمين يطلب علم السماء، ومبتدأ الأشياء، ومجاري القضاء، وموقع القدر المجهول، وما قد احتجبه الله عز وجل من علم الغيوب، التي لم ينزل الكتاب بها، ولم تتسع العقول لها]. قال: [حتى انتهى إلى بحر العلوم، ومعدن الفقه، وينبوع الحكمة عبد الله بن عباس، فلما انتهى بالأمر الذي ارتحل إليه، وأقدمه عليه؛ قال له: اقرأ آية الكرسي، فقرأها حتى بلغ قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، قال ابن عباس: أمسك؛ فقد بلغت ما تريد، فقد أنبأك الله أنه لا يحاط بشيء من علمه، قال له الرجل: يرحمك الله! إن الله قد استثنى فقال: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، فقال ابن عباس: صدقت، ولكن أخبرني عن الأمر الذي استثناه من علمه، وشاء أن يظهره لخلقه: أين يوجد؟ ومن أين يعلم؟ قال: لا يوجد إلا في وحيه، ولا يعلم إلا من نبيه، قال ابن عباس: فأخبرني عن الذي لا يوجد في حديث مأثور، ولا في كتاب مسطور، أليس هو الذي نبأ الله: لا يدركه عقل، ولا يحيط به علم؟ قال الرجل: بلى، قال ابن عباس فإن الذي تسأل عنه ليس محفوظاً في الكتب، ولا محفوظاً عن الرسل، فقام الرجل -وانتفع بكلام ابن عباس - وهو يقول: لقد جمع الله لي علم الدنيا والآخرة، فانصرف شاكراً لـ ابن عباس]. قال الشيخ: [فاتقوا الله يا معشر المسلمين! وانتهوا عن السؤال والتنقير، والبحث عما يشكك في اليقين، وليس هو من فرائض الدين، ولا من شريعة رب العالمين، ولا تثقل به الموازين، ولا تثق نفوسكم إلى استماع كلام المتنطعين، الذين اتهموا أئمة المسلمين، وردوا ما جاءوا به عن رب العالمين، وحكموا آراءهم وأهواءهم في الدين، ودعوا الناس إلى ما استحسنوه دون كتاب الله وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم]. فقد تقدم عن ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا هلك المتنطعون ثلاثاً).

آثار عن السلف في كراهة القول في المسائل بآرائهم، وتعقيب المصنف عليها

آثار عن السلف في كراهة القول في المسائل بآرائهم، وتعقيب المصنف عليها قال: [سئل عطاء عن شيء؟ فقال: لا أدري، فقيل له: قل فيها برأيك، قال: إني لأستحي من الله أن يدان في أرضه برأيي. وعن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي، ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك. وسئل ابن سيرين أيضاً عن شيء، فقيل له: ألا تقول فيه برأيك؟! فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي. وقال الأعمش: إنما مثل أصحاب هذا الرأي مثل رجل خرج بالليل فرأى سواداً، فظن أنها تمرة فإذا بها عقرب، فلما التقطها لدغته]. قال الشيخ: [الله الله يا إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث! لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب، ومكنون العلوم؛ فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه]. يعني: أوكلوا أمره إلى أهل العلم المتبحرين المتخصصين فيه، ولا تنشغلوا به أنتم. [ولا تحيطوا الأمور بحيط العشواء، حنادس الظلماء، بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً، وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين حين قالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]؟!] أي: أنهم أوكلوا أمر العلم فيما لا يعلمون إلى الله عز وجل. ثم قال: [إخواني! فمن كان بالله مؤمناً فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة، والجادة السابلة -أي: المسلوكة- والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهي عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده. والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟ أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟! فسبحان الله أنى يؤفكون]. أقول: والعجب أن هذا الباب لم يذكر في كتب الأدب، وإنما ذكر في باب الاعتقاد، وفي أبواب أصول الدين؛ لأن الأمر فيه جدل خطير، ففيه التحذير من قوم يتعمقون، وينقبون ويبحثون عما لا يعنيهم، والتحذير من صحبتهم، والاستماع إليهم وغير ذلك. والناظر لأول وهلة إلى هذا الباب يرى أن كتب الأدب التي تذكر أدب طالب العلم؛ أولى بهذا الباب من كتب الاعتقاد، لكن لما كان هذا الأمر متعلقاً بالمتشابهات من كتاب الله عز وجل، وأننا لم نكلف بالبحث عنها، وإنما كلفنا بالإيمان بها، وإمرارها كما جاءت، وإن غاب عنا علمها لكن لا يغيب علمها عامة عن الأمة كلها، بل لابد أن يتكلم فيها أهل العلم، ويقولون فيها قولتهم بما يفتح الله عز وجل به عليهم. وأما نحن صغار طلاب العلم، أو صغار أهل العلم فإننا لم نكلف بذلك، وحذرنا أيما تحذير من التدخل فيما لا يعنينا؛ لأن هذا أمر يؤدي في نهاية الأمر إلى التشكيك والحيرة في كتاب الله عز وجل، وهذا باب عظيم من أبواب الكفر، فلما كان هذا الأمر يؤدي بنا إلى الكفر أراد أهل العلم أن يحافظوا على هذا الأمر، فأوردوه ضمن كتب الاعتقاد؛ لعلاقته بالإيمان والكفر. أسأل الله تعالى أن يحفظني وإياكم من التنطع والجدل والتعمق، وأن يرزقنا وإياكم التمسك بالدين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة

حكم وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة Q ما حكم صلاة الفريضة في الطائرة؟ A تصح صلاة الفرد في الطائرة إذا لم يتمكن من الصلاة على الأرض؛ وإن كانت لغير القبلة، والأصل في صلاة الفريضة أنها تؤدى باتجاه القبلة، وعلى الأرض، لكن ذلك في الطائرة غير ممكن، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي النافلة على الدابة يوجهها تجاه القبلة حتى يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يدعها بعد ذلك تسير حيث شاءت، فحتى لو انحرفت عن القبلة في النافلة فإن هذا أمر لا يضره، وأما انحراف الدابة عن القبلة في الفريضة فإن هذا أمر لا يجزئ صاحبه، والله تعالى أعلم.

حكم أخذ نسبة معينة من الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة وتوزيعها على العاملين

حكم أخذ نسبة معينة من الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة وتوزيعها على العاملين Q ما حكم العشرة في المائة أو الاثنين في المائة، أياً كانت النسبة التي تفرض على الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة، ثم توزع بعد ذلك على العاملين؟ A جائز وحلال لا شيء فيه، ولا يستوي من أكل طعامه وانصرف ليأكل في بيته أو في سيارته، ومن جلس في المطعم فقدمت له زيادات في الخدمة من طعام وشراب وغير ذلك، فهذه النسبة ليس فيها حرج، والبقشيش إذا قدم بطيب خاطر من صاحبه -أي: من الآكل- وبغير أساليب ملتوية من العامل فإنه لا شيء فيه. وأما إذا فعل العامل أفعالاً وتحرك بحركات يفهم منها انتزاع المال من جيب الآكل، فأعطاه المال بسبب هذا الطلب إما بقوله أو فعله؛ فإن الحرج كل الحرج فيه؛ لأنه ما أعطاه بطيب خاطر منه.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم) Q كثير من الناس يسأل عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويقول: إذا كنا مأمورين بمخالفة المشركين، أو مخالفة غيرنا من سائر ملل الكفر ولا نقتدي بهم، ولا نتشبه بهم في الهدي الظاهر ولا الباطن؛ فاليهود والنصارى الآن يطلقون لحاهم فهل يجب علينا أن نحلق لحانا؟ A لا، وإنما ضبط هذا الدليل الذي يستدل به السائل: من تشبه بقوم في أصل عادتهم وديانتهم، وليس هو من ديننا، فيكون المعنى: من تشبه بهم في أصل دينهم، أو في أصل عاداتهم المخصوصة بهم وليس من ديننا فليس منا، أي: ليس ذلك من أخلاق المسلمين، وأما إذا قام النصارى في الصباح يصلون معنا في المسجد، ويقومون معنا شهر رمضان فهل نخالفهم حتى لا نتشبه بهم؟! لا؛ لأن هذا من أصول ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، ولا ينفعه ذلك إلا بعد الإيمان بالله عز وجل، وأما إذا تشبه بنا قبل أن يؤمن فإن ذلك لا ينفعه؛ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. فلو أن شخصاً صلى أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع ونحن نعرف أنه نصراني، وقلنا له: هل أسلمت؟ فقال: لا، إذاً فلماذا أنت تصلي؟ قال: أنا أتدرب على الصلاة، وأتعرف عليها، وأرى أحوال المسلمين في المساجد، فهذا لا ينفعه فعله ذلك، وهذه أفعال أهل الشبهات، فهو أتى يجربنا، فلو أن النصارى كلهم اجتمعوا واتفقوا في الكنيسة في كل حي أنهم ينطلقون إلى المساجد يصلون مع الناس، فهل نقوم نحن نخالفهم حينما نرى المسجد مليء بالنصارى ونترك الصلاة، ونقول: ما داموا يصلون فنحن مأمورون بمخالفتهم ولن نصلي؟! هل يصح هذا الكلام؟! لا. إذاً فالأحاديث التي حذرت من التشبه بغير المسلم إنما ذلك فيما يخصه هو من أصل دينه، أو من أصل عادته، والله تعالى أعلم. وكذلك الشارب؛ فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث في الصحيحين وغيرهما بمخالفة المشركين بإعفاء اللحية، وحف الشارب، وأما حلق الشارب فلا، وأما حلق اللحية فحرام معلوم حرمته، وأجمع على حرمة حلق اللحية فقهاء الإسلام، ولم يخالف في ذلك أحد، حتى نقل غير واحد من أهل العلم إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل على وجوب إطلاق اللحية، وحرمة حلقها. وهذا أمر لا يحتاج إلى إجماع؛ لأن هذا أمر معلوم علماً يقينياً عند أهل العلم. فإذا كان النصارى قد أطلقوا لحاهم، وحفوا شواربهم، فهل يجوز أن نحلق لحانا، أو أن نحلق شواربنا؟! لا يجوز ذلك؛ لأن هذا من ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، وإلا فنحن لا نتشبه بأحد من سائر ملل الكفر بما هو من عادتهم ودينهم، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. سبحانك اللهم بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [1]

شرح كتاب الإبانة - التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [1] لقد حذر السلف الصالح من مصاحبة ومتابعة أهل البدع والأهواء؛ لأنهم أخطر على القلوب من ارتكاب الكبائر، فإن صاحب البدعة يظن أنه قد أحسن عملاً، فلا يوفق إلى التوبة وترك البدعة، بعكس صاحب الكبيرة فإنه لا يظن في نفسه أنه على خير، والندم والإقلاع عن المعصية أرجى له.

باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان

باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان

الفرق بين العلماء الراسخين في العلم والإيمان وبين غيرهم من المبتدئين في الرد على أهل البدع ومناظرتهم

الفرق بين العلماء الراسخين في العلم والإيمان وبين غيرهم من المبتدئين في الرد على أهل البدع ومناظرتهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: تناولنا في الدروس الماضية قضية مهمة جداً، وهي: أن المرء لا يتدخل فيما لا يعنيه، ودرس اليوم متمم لما مضى من أعمال، وهو يتعلق باختيار الصاحب والصديق، والهروب من أبناء السوء، وأصحاب البدع والأهواء. ولأهل العلم من السلف كلام في غاية الروعة والجمال في هذا الباب، وكثير من الناس يتصورون أنه لا يضرهم أن يصاحبوا مبتدعاً، أو أن يتلقوا عن مبتدع، أو يناظروا مبتدعاً أو غير ذلك، مع أن هذا من أكثر أبواب الضلال والفساد التي يمكن أن تواجه طالب العلم، ولعل من الشبهات أن أهل العلم الكبار بعد أن حذرونا أيما تحذير من مصادقة ومجالسة أهل الأهواء والبدع؛ نراهم قد جالسوهم وناظروهم، وبينوا لنا عقائدهم الفاسدة وغير ذلك. فالجواب على هذه الشبهة: أن لأهل العلم الكبار المتثبتين ما ليس لغيرهم من الطلاب الصغار المبتدئين، ففي الوقت الذي يحذرنا فيه أهل العلم من مجالسة أهل الأهواء، أو الإصغاء إليهم، أو إلقاء السمع أو غير ذلك؛ نجدهم يناظرون أهل الأهواء والبدع ويفضحون أمرهم، ويكشفون سترهم من باب النصيحة للأمة، ومن باب التفريق والتمييز بين الحق والباطل. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يحذر من دراسة الفلسفة والمنطق، مع أنه قد طالع كثيراً في كتب الفلسفة والمنطق. وله قول شهير مشهور: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق، مع أنه سيد أهل المنطق في زمانه، وإنما تعلم ذلك لتثبته وقوة حجته وتسلحه بالعلم، فلم يكن يخشى عليه الاطلاع في كتب القوم، حتى ولو اطلع في كتب السحر ليرد على السحرة أمرهم؛ فإن هذا أمر جائز ومشروع له، وأما غيره من الطلاب المجتهدين فإن ذلك فيه خطورة عظيمة جداً عليه، وربما انقلب المرء رأساً على عقب من أول الطريق. فهذا الباب يبين مذاهب السلف في هذه المسألة، وهو باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان.

آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء وسماع كلامهم

آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء وسماع كلامهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [قد أعملتك يا أخي عصمني الله وإياك من الفتن، ووقاني وإياك جميع المحن؛ أن الذي أورد القلوب حمامها، وأورثها الشك بعد اتقائها، هو البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته، وقد كفى العقلاء مؤنته، وأن الذي أمرضها بعد صحتها، وسلبها أثواب عافيتها، إنما هو من صحبة من تغر إلفته، وتورد النار في القيامة صحبته، أما البحث والسؤال فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه -مع توفيق الله- عصمك، ولك فيه مقنع وكفاية. وأما الصحبة فسيرجع عليك بالنفع طالما إن تمسكت به نفعك، وإن أردت الله الكريم به وفقك، قال الله عز وجل فيما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره منه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. ثم أذكره ما حذره، وأعاد له ذكر ما أنذره فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]. عن مجاهد في قوله تعالى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68]، قال: يستهزئون، نهى الله عز وجل محمداً أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا تذكر فليقم، وذلك قوله: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. وعن قتادة بن دعامة البصري في قول الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، وإن نسي وقعد فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يرى أن أسرع الناس ردة هم أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)]، والخليل: هو الصديق والصاحب. قال: [وعن عطاء قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: لا تجالس أهل الأهواء؛ فإنهم يحدثون في قلبك ما لم يكن فيه]. أي: أن لهم تأثيراً شديداً كالسحر في الخلق، فإذا دخل شيء من كلامهم وأهوائهم في قلب المرء أفسده، فنسأل الله عز وجل أن يحفظك منه. [وعن طلحة قال: سمعت خصيفاً الجزري يقول: أشهد أن في التوراة مكتوباً: يا موسى! لا تجادل أصحاب الأهواء؛ فيمرضوا عليك قلبك بما يرديك فيدخلك النار. وعن محمد بن النضر الحارثي قال: بلغنا أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام: أن كن يقظاناً -أي كن حذراً متيقظاً- مرتاداً بنفسك أخداناً، فكل خدن لا يواتيك على مسرتي فاحذره]. أي: كل صاحب لك لا يصحبك على ما يحبه الله عز وجل، فلا تصاحبه؛ فإنه لك عدو، وهو يقسي قلبك. وعن عطاء قال: بلغني أن فيما أنزل الله على موسى: لا تجالس أهل الأهواء فيحدثوا في قلبك ما لم يكن فيه. وقال أبو قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي الإمام البصري الكبير-: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون]. أي: أن مجرد المجالسة له ولو مرة واحدة أنت منهي عن ذلك؛ فضلاً عن مناظرته ومجادلته وخصومته وغير ذلك، فمن باب أولى ألا تفعل ذلك؛ س لأن السلف لم يأمنوا علينا إذا فعلنا ذلك أن ننغمس في البدعة، وأن نتقرب من هواهم، أو يلبسوا علينا، أو يضعونا في دائرة الشك في الثوابت التي لدينا ومنها: شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الشافعين جميعاً، فهذه عقيدة استقرت في قلوب العامة والخاصة، حتى إن عامة الناس إذا تحدثوا قال بعضهم لبعض: صلوا على النبي، فهذه عقيدة مستقرة لدى العامة أن النبي عليه الصلاة والسلام شفيع لأمته، ووجد في الأمة من ينكر الشفاعة؛ لأن ثقافتهم إنما هي بالصحف والمجلات، ولم يتلقوا علمهم ودينهم من أهل العلم. [وعن عمرو بن قيس الملائي قال: كان يقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك. وعن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: من فقه المرء ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسه]. أي: من العلامات الدالة على فقه الرجل، وعلى عقله واستقامته: النظر إلى ممشاه، أي: مع من يمشي، ومع

التحذير من الدخول على الأمراء والسلاطين

التحذير من الدخول على الأمراء والسلاطين قال: [ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه] أي: ولا تدخلن على أمير ولو زعمت أنك داخل عليه لتغير ما هو عليه من منكر، أو أن تعظه في مسألة أو غير ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن اقترب من السلطان افتتن). ولذلك دخل رجل من أهل العلم في حلقة شيخ وكان السلطان قد أرسل صرة بها مال مع عامل له؛ فتلقاها الشيخ صاحب الحلقة وأنفقها في الطلاب ولم يأخذ منها شيئاً، فلما دخل عليهم ذلك الزاهد قال: يا فلان أقبلت هدية السلطان؟ قال: ألم تر كيف وزعتها؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه الآن كقلبك عليه قبل أن تأخذ الصرة؟ فقال الشيخ: لا والله، وهذه الشهادة مع أنه كان في غنى عنها، لكنه مع ذلك شهد على نفسه بأن قلبه قد تغير، فالاقتراب من السلطان فتنة عظيمة جداً. ونحن نعلم أن بعض الشيوخ كان من أشد الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان زعيماً لجماعة أسماها: جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأذكر أنه قال على المنبر في عام (1981م): إن لمصر إلهين: إله في السماء، وإله في الأرض، فإله الأرض هو مجلس الشعب والحكومة، ويرأسهم رئيس البلد ثم ما لبث أن تحول 180درجة، وصار يتمثل ويتصنع للرئيس ويقول: أنتم لا تعلمون علاقتي بالرئيس؛ إنها علاقة قوية جداً، وقد عرفته عن قرب، حتى طرد فخسر أمواله، وخسر دعوته، وخسر كل شيء. وهذه سنة الله عز وجل فيمن طلب العلم لغير الله، وفيمن عمل لغير الله، فلابد أن يبتلى، وأعظم البلاء أن ينزل بدينه، فلو نزل بدنياه: بولده، ببدنه، بماله، بأهله فالأمر في كل هذا هين، وأما أن نزل البلاء بدينه، ولو أدنى شعيرة في دينه؛ فهذا الذي كان يستعيذ منه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (اللهم لا تجعل فتنتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) إلى آخر الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام.

الفرق بين طلب المحق للعلم وطلب المبطل والمبتدع له

الفرق بين طلب المحق للعلم وطلب المبطل والمبتدع له [وقال إسماعيل بن عبيد الله: لا تجالس ذا بدعة -أي: صاحب بدعة- فيمرض قلبك، ولا تجالس مفتوناً فإنه ملقن حجته]. ولذلك فإن الطلاب الذين يطلبون العلم الشرعي لا يطلبون مسألة أو مسألتين أو ثلاثاً، وإنما يطلبون علماً أوله كتاب الله، وآخره آخر حديث حسن لغيره قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فدين الإسلام طويل عريض، تكلم به المولى عز وجل، وتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام على مدار 23 سنة، فأنت مطلوب منك أن تدرس هذا، وليست المسألة متعلقة بقضية من القضايا، أو مذهب من المذاهب، فالرجل الذي يطلب العلم ينبغي عليه أن يطلبه بصورة عامة شاملة كلية؛ لأنه دين لا يتجزأ. وأما من ابتدع -تبعاً لهواه- قضية من قضايا الشرع كقضية الجهاد مثلاً، أو قضية التأهيل، أو قضية الإيمان، أو غير ذلك فإنه يدرسها دراسة جيدة محكمة، فيعرف الشبهات التي ترفع إليه، ويحسن الجواب للرد عليها، فالذي يذهب ليناقش أمثال هؤلاء لابد أن يعلم أولاً من أين مخرجهم ومدخلهم وممشاهم، وما هي السبل التي يهتدون عليها، وما هي الشبهات التي يدسونها، وما هي ردود الأفعال لهؤلاء، لابد أن يلاحظ هذا كله حتى يستطيع الرد عليهم، ويظهر عوار هذه الفرقة، فإذا كان طالباً للعلم فله أن يتصدر، وأن يجادل ويخاصم؛ إظهاراً لدين الله عز وجل بإخلاص. وأما الإنسان المفتون المغرور، الذي ليس عنده من العلم شيء، ولكنه يزعم أنه في كل واد من أهل العلم، ففي اليوم الفلاني يذهب ليجادل فلاناً، وفي اليوم الثاني يذهب ليخاصم فلاناً؛ فلا شك أنه يكون دائماً خاسراً خاطئاً غير ناصر لدين الله عز وجل ولا لشرعه، بل ربما كان هو أعظم سبب للفتنة في هذا المفتون، لأن عدم رده على هذا المفتون أو الزائغ يعطي انطباعاً أن هذا الزيغ حق، وأن هذا الضلال حق، فيتمثل به صاحب الضلال؛ زعماً أو ظناً منه أنه على الحق، وإذا كانوا على الباطل فما الذي يمنع هذا أن يرد عليهم، وأن يبين أنهم على الباطل. فلما لم يبين وقع المفتون، بل جعله يتمسك أشد التمسك بفتنته وضلاله، وربما يكون الإنسان في أول الأمر يعلم أن هذا ضلال، لكن مع استمراره على الضلال قد يصدق نفسه. وهذه تعتبر سنة كونية في الخلق، كالأحزاب التي تدور على الساحة، فإنها لا يخفى على المسئولين أنها فرقعات مفتعلة، وهم الذين فرقعوها وافتعلوها، لكن مع تقادم الأحداث والقيل والقال والأخذ والرد؛ تجد الرجل الآن يتفاعل ويتعامل مع الأحداث من واقع أنها أحداث حقيقية أحدثها وأوجدها أصحاب الافتراق أو غير ذلك، وإنما أحدثها الغير، فتعاملت مع الغير إما بأنه عدو أو خصم، فهكذا ربما يكون المبتدع أو الضال، فإنه يعلم في أول الأمر أن هذا هو الضلال، لأن هذا الباب شهرة، ويريد أن يشهر ولو بالشر، فمع بقائه في الشر مدة من الزمان يصدق أنه على الحق؛ لأنه قد ألف هذا الطريق هذا الضلال حتى كان يسيراً على قلبه؛ لأن الحق دائماً ثقيل على القلوب. قال: [لا تجالس مفتوناً فإنه ملقن بالحجة]، أي: أن أصحاب البدع يحبون المناظرات لأجل أن يبدءوا بالمناظرة، فإذا فرغ صاحب البدعة من إلقاء ما عنده، وبيان أنه على الحق، ويزور في كلامه حتى يستقر أو يدخل في قلوب المستمعين، ثم بعد ذلك لا يسمح للخصم بالكلام، بل يستعرض الملل، وفي الغالب أنه ينصرف قبل أن يتكلم صاحب الحق، فلا يجد صاحب الحق من يناظره أو يخاطبه أو يجادله، فينصرف هو كذلك، فيكون صاحب البدعة هو الذي يتكلم، وأما صاحب الحق فإنه يرجع بذيول الخيبة والخسارة، والخسارة إنما تكمن في تأثر هذا الجمع باستماع كلام ذلك المبتدع أو الضال.

تابع لتحذير السلف من مجالسة أهل البدع ومجادلتهم وسماع كلامهم

تابع لتحذير السلف من مجالسة أهل البدع ومجادلتهم وسماع كلامهم [وعن صالح بن مسمار قال: خرجت من البصرة على عهد عبيد الله بن زياد فسمعت المشيخة الأولى وهم يتعوذون بالله من الفاجر العليم اللسان] يعني: صاحب الحجة، وإن كانت حجته باطلة لكنه على أية حال يتخذ لها من الزخارف ما يجملها في أسماع السامعين. [وعن المفضل بن مهلهل قال: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته؛ حذرته وفررت منه]. أي: كنت على حذر منه؛ وفررت منه؛ لأنه منحرف عن السنة، فلا حاجة لك باستماع كلامه، فإنه يحدثك بأحاديث التمسك بالسنة في بدو مجلسه، ثم يدخل عليك بدعته، فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج منه؟! فهو يقيدك بالكتاب والسنة أولاً، ثم يبين لك أن ما عليه هو من الضلال والانحراف ليس ضلالاً وإنما هو سنة، فإن لم تشرب أنت هذه البدعة فلا أقل من أن يتزعزع الحق الذي في قلبك، فأنت مهزوم لا محالة. [وعن هشام قال: كان الحسن البصري ومحمد بن سيرين يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم. وقال الحسن: لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك، ولا تجيبن أميراً وإن دعاك لتقرأ عنده سورة من القرآن؛ فإنك لا تخرج من عنده إلا بشر مما دخلت. وعن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر احذر أن تتكلم فيه، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فأمسك -أي: إذا ذكرت الفتن التي دارت بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فالسنة أن تمسك فيها لسنانك ولا تتكلم- ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينفذوا فيه ما شاءوا، أي: فيصبوا فيه من الضلال والبدع ما شاءوا. [وقال سعيد بن عامر: سمعت جدتي أسماء تحدث قالت: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر! نحدثك بحديث، قال: لا]. وربما يقول قائلكم: وما الذي يضر ابن سيرين أن يسمع عنه حديثاً من أحاديث حديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ و A أنه لا يريد أن يسمع منهم شيئاً؛ لأنهم أصحاب هوى، والقلب يتقلب لأنه ملك لخالقه، فالإنسان دائماً يجعل حول قلبه حجاباً من الإيمان؛ حتى لا يقع في براثن الرذيلة، رذيلة الفكر والاعتقاد الفاسد. [قالا: سنقرأ عليك آية من كتاب الله، فقال: لا، لتقومان عني أو لأقومن عنكما]. أي: إما أن تنصرفوا الآن، وإما أن أترك لكم المكان وأنصرف أنا. ومحمد بن سيرين هذا إمام السنة في زمانه، وسيد أهل البصرة، العالم الذي كانت إليه الرحلة في زمانه، وزمن التابعين، ومع هذا ما كان يجادل أصحاب الأهواء والبدع. [وقال هشام بن حسان: قال رجل لـ ابن سيرين: إن فلاناً يريد أن يأتيك ولا يتكلم -أي: أن رجلاً من أهل البدع يريد أن يجلس معك في المجلس، ولن يتكلم معك بكلمة- فقال ابن سيرين: قل لفلان: لا يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ذاته]. فإذا كان هذا حال ابن سيرين والحسن البصري وغيرهما؛ فنحن من باب أولى يجب علينا أن نتجنب أصحاب الأهواء والزيغ والانحراف. [وقال معمر: كان ابن طاوس -واسمه عبد الله - جالساً فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، قال: فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أي بني! أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً]. أي: يأمر ولده أن يدخل أصبعيه في أذنيه؛ مخافة أن يسمع كلمة واحدة من رجل معتزلي. [وقال عبد الرزاق: قال لي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى: أرى المعتزلة عندكم كثيراً، قلت: نعم، وهم يزعمون أنك منهم، قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت؟ قلت: لا، قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، والدين ليس لمن غلب]. أي: قلبي ضعيف، والدين ليس حجة لصاحب اللسان، فإذا كان صاحب فربما غلبني، لكن هل تعني غلبته لي أني على الباطل؟ فكم من إنسان على الحق يعلم أن الذي أمامه على الباطل، لكنه لا يستطيع ولا يملك الحجة. [قال سلام بن أبي مطيع: إن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لـ أيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة، قال أيوب وجعل يشير بأصبعه: ولا نصف كلمة ولا نصف كلمة].

العلة في عدم سماع السلف من أهل الأهواء

العلة في عدم سماع السلف من أهل الأهواء وقد يقول قائل: لماذا لم يسمع أيوب من هذا، فربما أنه كان يريد أن يسأله عن شيء يهتدي به؟ ف A أن أيوب كان فقيهاً؛ وهو يعلم أنه سيقدم بمقدمة عظيمة، فلو أذن أيوب لنفسه أن يصغي سمعه إلى أهل البدع فربما أنه يتأثر به. فالسلف رضي الله عنهم لم يتعرضوا لأصحاب الأهواء، وإنما أرادوا أن يبينوا للأمة ولطلاب العلم والعامة أن يحذروا أهل البدع، ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم، ولا يؤمنوهم ولا يشاركوهم، ولا يسمعوا منهم ولا نصف كلمة، مع أن أحمد بن حنبل قد ناظر وجادل الجهمية والمعتزلة في زمانه، وفتنته معلومة مشهورة وهي: فتنة خلق القرآن، وغيرها من الفتن، وكذلك محمد بن نصر المروزي، وكذلك الإمام الشافعي مع بشر المريسي وغير واحد من السلف تصدوا لهؤلاء المبتدعين، وكشفوا سترهم، وفضحوهم أيما فضيحة على رءوس الأشهاد؛ لأن الله تعالى كلفهم بذلك، وفرض عليهم ذلك فرض عين؛ لأنهم بلغوا في العلم مبلغاً أهلهم لمثل هذا، فهل كل أحد في الأمة وطلاب العلم على هذا النحو؟ A لا.

باب وجوب التصدي لأصحاب الأهواء وبيان أهوائهم وضلالاتهم للأمة

باب وجوب التصدي لأصحاب الأهواء وبيان أهوائهم وضلالاتهم للأمة

أهلية المتصدي لأهل الأهواء

أهلية المتصدي لأهل الأهواء قال [باب: وجوب التصدي لأصحاب الأهواء وبيان أهوائهم وضلالاتهم للأمة]. إن العلماء الكبار هم الذين يتصدون لذلك وليس طلاب العلم، فطالب العلم اليوم قد يفتن بأن يظن أنه على شيء، وهو في حقيقة الأمر ليس بشيء، وهذه السنين القليلة ليست كافية ولا كفيلة لتوثيق العقيدة فضلاً عن معرفة الشبهات، والرد عليها في دين الله عز وجل، ثم يذهب ويفتي نفسه ويجيز لنفسه أن يجادل، وأن يخالط أصحاب البدع، ثم ما يلبث أن ينقلب رأساً على عقب، ويقول: الذي كنت عليه هو الضلال، والذي أنا عليه الآن هو الحق، والدليل على ذلك أن معظم الناس أشاعرة، وأن معظم العلماء أشاعرة، ولو كان مذهب الأشاعرة باطلاً فكيف انتشر في أهل العلم هذا الانتشار؟ والجواب عليه: أن الحق لا يعرف بكثرة الأتباع، وإنما يعرف الحق بمتابعة الكتاب والسنة، والواجب عليه التعرف على الحق أولاً، ولا يجيز لنفسه ذلك وإنما يجيزه العلماء، ولذلك من البلايا العظيمة جداً على الساحة الآن أن الذين كلفوا أن يقودوا الأمة إلى ربها هم الذين يقادون الآن، فالواحد منهم يحرص كل الحرص على أن يلقي على مسامع الناس ما يعجبهم وما يسرهم، وليس هذا طريق السلف ولا الخلف، وإنما طريق الخلف أن يرغم العلماء والمشايخ الناس إرغاماً على تعلم دينهم، وهم أدرى بدين الله عز وجل من هؤلاء العوام المستمعين، أو طلاب العلم الصغار المبتدئين، فكيف يزكي الطلاب الشيخ؟! فتزكية الصغير لا عبرة بها. فهم يقولون: الشيخ الفلاني صاحب علم، وصاحب هدى، وصاحب سنة، فالذي يقول هذا لزاماً يكون من مشايخه، فهم الذين يأمرونه أن يجلس للتدريس والإفتاء، وليس المستمعون هم الذين يفعلون هذا، فـ مالك رحمه الله أو الشافعي أو غيرهما من أهل العلم لم يزكهم طلابهم، فالطلبة الآن هم الذين يزكون، فيرفعون هذا ويخفضون ذاك، ويقولون: هذا معتدل، وهذا مستقيم وهذا ضال! وهذا انتكاس عظيم جداً. ومن أعظم الانتكاس كذلك أن تتخير شيخاً بعينه، فتأخذ عنه كل شيء وتقلده، فهذا مذموم في دين الله عز وجل، بل ينبغي عليك أن تسمع واحداً واثنين وثلاثة وأربعة وعشرة، وتختار أصحاب الهدى، وأصحاب الطريق المستقيم، وأصحاب السنة، ولا تسمع من صاحب فتنة، أو صاحب ضلال وانحراف وزيغ يعلم عنه ذلك قديماً وحديثاً، ولا تسمع ممن يغلب على ظنك أنه يبتغي شهرة، أو زعامة أو رئاسة، أو غير ذلك من هذه الأمراض القلبية التي نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم منها. [قال ابن الحسين: إن طاوساً كان جالساً هو وطلق بن حبيب فجاءهما رجل من أهل الأهواء، فقال: أتأذن لي أن أجلس؟ فقال له طاوس: إن جلست قمنا، فقال: يغفر الله لك أبا عبد الرحمن! فقال: هو ذاك، إن جلست والله قمنا! فانصرف الرجل. وعن عمرو بن ميمون قال: إياكم وهذه الزعانف الذين رغبوا عن السنة، وخالفوا الجماعة]. والزعانف: هي أجنحة السمك، فهم شرذمة شردوا؛ لأن الأصل هو البقاء على السنة، والاستقامة عليها. [وعن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد قال: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68]، قال: يكذبون بآياتنا. وعن عبد الله الرومي قال: جاء رجل إلى أنس بن مالك وأنا عنده فقال: أبا حمزة! لقيت قوماً يكذبون بالشفاعة، وبعذاب القبر، فقال: أولئك الكذابون، فلا تجادلوهم].

وجود من يزعزع ثوابت الدين في هذا الزمان

وجود من يزعزع ثوابت الدين في هذا الزمان وقد صنف رجل كتاباً في (300) صفحة في إنكار عذاب القبر، وهذه الـ (300) صفحة كلها ضلال، وعذاب القبر ثابت، وهو من عقيدة الموحدين، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ومن أنكره أسأل الله تعالى أن يدخله في حفرة من حفر النار. وكذلك الشفاعة من أنكرها أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ أن يحرمه منها يوم القيامة. ثم نسمع مثلاً خلاف العلماء، ورد الشيوخ بعضهم على بعض على المنابر وفي الدروس والمحاضرات على فرعية من الفرعيات، أذكر أن في سنة 1976م أو 1977م دارت حرب ضروس في الجمعية الشرعية على الذي كان تاركاً للصلاة ثم اهتدى؛ هل يقضي ما فاته أو لا يقضي؟ فقامت حرب ضروس استمرت ثلاثة أشهر، فهذا يرد على هذا وهذا يرد على هذا، ويأتون بأدلة من المحلى لـ ابن حزم، أو المغني، والمسألة هذه لو أثيرت لا أحد ينتبه إليها هذه الأيام؛ لأن الزعزعة أصبحت في الثوابت الكبيرة، كمسائل الإيمان والصلاة والصيام والزكاة والحج، حتى قال قائلهم: إن الحج ممكن أن يكون في أي يوم من أيام الأشهر الحرم. فأصبحت في الثوابت الكبيرة: في أصول الإيمان وأصول الإسلام، وليس الفرعيات الدقيقة التي اختلف فيها أهل العلم والخلاف فيها معتبر، فالقول بهذا ليس ضالاً، والقول بذاك ليس منحرفاً؛ لأنه مسبوق بكلام أهل العلم، فالزعزعة في هذا الوقت والشك والحيرة والتيه والضلال أصبح في الثوابت التي لم يكن أحد منذ عشرين سنة يجرؤ أن يتكلم فيها، وفي هذا الوقت تصنف فيها مجلدات كبيرة جداً. فتغطية الوجه إما أنها واجبة أو مستحبة، ولم يقل أحد بغير هذين الحكمين، فالذين قالوا بجواز الكشف هم الذين قالوا باستحباب التغطية، فالخلاف في الحكم وليس في العمل، إلى أن ظهر مسلم من المسلمين يفتي برأي فيقول: النقاب حرام وبدعة! ولا يوجد أحد قال بهذا من أهل العلم، ولا من أهل الجهل منذ أكثر من (1400) سنة، فهل الأمة أجمعت على الضلال؟ وهل القرون كلها ضالة؟ فهذا الكلام في منتهى النكارة والشذوذ.

تابع تحذير السلف من أهل الأهواء

تابع تحذير السلف من أهل الأهواء [وعن ابن شوذب قال: قال لي عقيل بن طلحة -وكان لـ طلحة صحبة- هل لقيت عمرو بن عبيد؟ وعمرو بن عبيد هو رأس الاعتزال، وقد كان معروفاً بالزهد، حتى إن الناس اغتروا به، والعوام دائماً لهم الظاهر، وأما أهل العلم فلهم نظرة أبعد من ذلك، فلما اشتهر عن عمرو بن عبيد الزهد وقع في حبائل فكره وانحرافه كثير من العامة. [فـ عقيل بن طلحة سأل ابن شوذب: هل لقيت عمرو بن عبيد؟ فقال: لا، قال: فلا تلقه؛ لست آمنه عليك، وكان عمرو بن عبيد يرى رأي الاعتزال]. [وعن أبي إدريس الخولاني أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر، فقام إليه فوطئ بطنه -يعني: وضع رجليه على بطنه- ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه، فخرج الرجل من دمشق ماشياً إلى حمص]، يعني: هرب إلى بلد آخر ليبث فيها فتنة القدر. [وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا تجالس أصحاب القياس؛ فتحل حراماً أو تحرم حلالاً]. والقياس المذموم الذي يذمه هنا الإمام الشعبي هو القياس على غير أصل، وأما القياس على الأصول العلمية التي قال بها أهل العلم فإن هذا هو القياس المعتبر والمحمود، وهو أصل من أصول الشريعة. [وقال الزبرقان: نهاني أبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي أن أجالس أصحاب أرأيت أرأيت]، وهؤلاء يسمون: الآرئيين. [وعن ابن عون عن إبراهيم النخعي قال: لا تجالس بني فلان؛ فإنهم كذابون]. أي: منحرفون، والغيبة هنا جائزة؛ لأنه من باب النصيحة في الدين.

المرء على دين خليله وجليسه

المرء على دين خليله وجليسه وعن الأعمش قال: كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه، ومدخله، وإلفه من الناس]. يعني: إذا عرفوا عن الرجل مع من يمشي؟ ومع من يأكل؟ ومع من يخرج؟ ومن هم أصحابه وأصدقاؤه؟ إذا كان يمشي، ويصادق ويصاحب أصحاب الاستقامة، وأصحاب السنة؛ فإنه لا يسأل عنه؛ لأن المعلوم يقيناً أنه من أصحاب السنة. [وكان الأوزاعي يقول: من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته]، يعني: أن الذي يحاول من أصحاب البدع أنه يخفي بدعته فإنه أصحابه هم الذين يخبروننا عنه. [وقال يحي بن سعيد القطان: لما قدم سفيان الثوري البصرة جعل ينظر إلى أمر الربيع بن صبيح -والربيع بن صبيح كان قد رمي بشيء من الإرجاء أو القدر، فجعل سفيان ينظر في الأمر الربيع وقدره عند الناس- فسأل: أي شيء مذهبه؟ قالوا: مذهبه إلى السنة، قال: من بطانته؟ قالوا: أهل القدر، قال: هو قدري]. أي: لما كانت صحبته وألفته مع أصحاب القدر فإنه قدري وإن زعم أنه سني. قال: [رحمة الله على سفيان الثوري؛ لقد نطق بالحكمة فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة، وما توجبه الحكمة ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]. وقال الأصمعي: سمعت بعض الفقهاء يقول: إذا تلاحمت بالقلوب النسبة؛ تواصلت بالأبدان الصحبة]. قال الشيخ: [وبهذا جاءت السنة] أي: كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). [وعن ثابت أن ابن مسعود قال: لو أن الناس جمعوا في صعيد واحد كلهم مؤمنون وفيهم كافران، تآلف أحدهما إلى صاحبه، ولو أن الناس كلهم اجتمعوا في صعيد واحد كلهم كفار وفيهم مؤمنان؛ تألف أحدهما إلى صاحبه]. لأنها أرواح تطير وتهفوا فيقع بعضها على بعض، ولذلك فإن أصحاب المعاصي يحبون أن يمشوا لمع بعضهم، وأصحاب الطاعة يحبون أن يمشوا مع بعضهم، وكلنا نحب أن يكون أبناؤنا من أهل الطاعات، ويصادقون أصحاب الطاعات، فصاحب المعصية لو مشي مع خليله أعانه على المعصية، ولو يمشي مع مؤمن طائع ففي كل حين يسمع منه: هذا حرام، حلال، توجيه، تقريع، نصح، مراقبة. إذاً: فصديقك الحق هو من صدقك لا من صدّقك، فعندما تعمل عملاً غلطاً يذكرك، وعندما تنسى الله يذكرك، وإذا ذكّرته قبل منك، وهذه هي الصحبة التي ينبغي على كل منا أن يعض عليها بالنواجذ لنفسه ولإخوانه. [وعن ابن مسعود قال: الأرواح جنود مجندة، تلتقي تتشاءم كما تتشاءم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف, ولو أن مؤمناً دخل مسجداً فيه مائة ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل مسجداً فيه مائة ليس فيهم إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه]. قال الشيخ: [هكذا قالت شعراء الجاهلية، كما قال طرفة: تعارف أرواح الرجال إذا التقوا فمنهم عدو يتقى وخليل وقال الفضيل بن عياض: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي ويصادق صاحب بدعة إلا من النفاق]، أي: إلا على جهة النفاق.

عدم التساوي بين مجالسة أهل الباطل وبين مجالسة أهل الحق

عدم التساوي بين مجالسة أهل الباطل وبين مجالسة أهل الحق قال: [وقيل للأوزاعي: إن رجلاً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل. أقول: صدق الأوزاعي إن هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، وورد في السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] أي: نحن معكم، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]، فهم مع هؤلاء ومع هؤلاء، لكنهم في حقيقة الأمر كما وصفهم الله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المنافق في أمتي كمثل الشاة العايرة)]. والعايرة: هي الساقطة بين الغنمين تصير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع، فهذه غنمة شردت وضلت من صاحبها، فصارت بين غنمين، هذه غنم لشخص وهذه غنم لشخص آخر، فهي تسير بينهما، فمرة تمشي مع هذه، ومرة مع تلك، لكنها متحيرة لا تدري أين يستقر بها المطاف. قال: [كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا لا كثرهم الله، وسلمنا وإياكم من شر المنافقين، وكيد الباغين، ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين، ولا من الذين استهوتهم الشياطين، فارتدوا ماكثين، وصاروا حائرين].

ضرر السماع من أهل البدع ومجالستهم

ضرر السماع من أهل البدع ومجالستهم قال: [وعن ابن سيرين: أن رجلاً أتاه فسأله عن القدر، فقال ابن سيرين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. فأعاد عليه الكلام، فوضع محمد يديه في أذنيه، قال: ليخرجن عني، أو لأخرجن عنه. قال: فخرج الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي، وإني لا آمن من أن يبعث في قلبي شيئاً لا أقدر أن أخرجه منه، وكان أحب إلي ألا أسمع كلامه أصلاً]. ولهذا يحذر أهل العلم من مجالسة أهل الأهواء والبدع. [وعن ابن النضر الحارثي قال: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إليها]. فالذي عصمك من الكفر ابتداء وجعلك مسلماً هو الله، والذي عصمك في الإسلام لطريق السنة هو الله عز وجل، فلا تختر لنفسك أن تذهب بقدميك إلى أصحاب الأهواء والبدع يلعبون بعقلك وقلبك، فإن فعلت فاعلم أن الله تعالى يتخلى عنك، ويكلك إلى نفسك، فاحفظها أو ضيعها. [وقال يوسف بن أسباط: ما أبالي سألت صاحب بدعة عن ديني أو زنيت]. يعني: أن سؤال أهل البدع عن شيء في الدين هو والزنا سواء، فسؤال أهل البدع معصية وكبيرة من الكبائر، كما أن الزنا كبيرة من الكبائر. وأنا أزيد كلاماً فوق هذا الكلام وأقول: إن مساءلة أهل البدع ومصاحبتهم أشد من الزنا؛ لأن الواقع في هذه البدعة أو في هذا الهوى يعتقد أنه على السنة، وأنه على الحق، ولذلك لا يرجع عنه إلا من وفقه الله، بخلاف أصحاب المعاصي فإن الواحد يزني ويعلم أنه زنا، وأنه يحتاج إلى توبة، كما أن السرقة كبيرة، ورتب الشرع عليها حداً، فالسارق يعلم أنه سارق، ويعلم أنه عاص، ويعلم أنه بارتكابه الكبيرة فاسق قد فقد جزءاً كبيراً من الإيمان، لكن صاحب البدعة يتقرب بزعمه إلى الله عز وجل بهذه البدعة. ولذلك يقولون: إن البدعة بريد الكفر، أي: البدعة تؤدي إلى الكفر، وصاحب البدعة أحب عند إبليس من ألف من أصحاب المعاصي؛ لأنه يعرف أن أحدهم من الممكن أن يتوب، وأما صاحب البدعة فأنى له التوبة! [وقال مسلم بن يسار: لا تمكن صاحب بدعة من سمعك فيصب فيها ما لا تقدر أن تخرجه من قلبك. وقال الفضيل: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى] يعني: في قلبه. [وقال الفضيل: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكن مجلسك، لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليه، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة. وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة. وقال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قبله. وقال: لا تجلس مع صاحب بدعة؛ فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. وقال ابن سيرين: لو أني أعلم أن أحدكم يقوم من عندهم كما جلس لم أبالِ. وقال ابن عون: لا يمكن أحد منكم أذنيه من هوى أبداً. وقال الثوري: ما من ضلالة إلا ولها زينة؛ فلا تعرض دينك إلى من يبغضه إليك]. فصاحب البدعة لا بد أنه يحسن لك وجهه القبيح، ولو قال: إنه قبيح؛ لم تقبل منه قبحاً، لا لأنه أثر على نفسه، وأثر على معتقده الزائف الضال، فهو يدخل عليك ببدعته مزينة ومزخرفة ومزركشة، وملونة بألوان جذابة، مرة بآيات من كتاب الله عز وجل على غير فهم سلف الأمة، ومرة بأحاديث لا يأخذونها بفهم السلف، فإذا كان للسلف فهم لآيات الله، ولأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا يحل لأحد أتى بعدهم أن يخالفهم فيما فهموه؛ لأنهم أصحاب اللغة، والبيان والفصاحة، وهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن الكريم، وهم أفقه الناس وأعلم الناس بكلام الله، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فإذا كانت المسألة مسألة عقول وأفهام؛ فلا شك أن أفهام السلف خير من أفهام وعقول من أتى بعدهم، فلابد أن تعلم أن فهم السلف لنصوص الوحيين عصمة لك حتى تلقى الله عز وجل، فلا تحد عنه قط، والسلف عند الإطلاق هم أصحاب القرون الخيرية، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام بعد ذلك يشهدون ولا يستشهدون) إلى آخر الحديث، يعني: يتكلمون بغير علم. [قال محمد بن الخضر الحارثي: إن أصحاب الأهواء قد أخذوا في تأسيس الضلالة، وطمس الهدى، فاحذروهم. وقال المغيرة عن ابن السائب: قوموا بنا إلى المرجئة نسمع كلامهم. قال المغيرة: فما رجعت حتى علق] أي: تعلق في قلبه شيء من كلام المرجئة، وكان ينبغي ألا يذهب وألا يسمع كلامهم. [وقال الفضيل بن عياض: من تواضع لله رفعه، ومن كان مجلسه مع المساكين نفعه، وإياك أن تجلس مع من يفسد لك قلبك، ولا تجلس مع صاحب هو

التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [2]

شرح كتاب الإبانة - التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [2] وردت الآثار الكثيرة عن السلف الصالح تحذر من صحبة قوم يمرضون القلوب؛ إذ إن صحبة هؤلاء عار يوم القيامة، ومجاورة الفاسقين أو اليهود أو النصارى خير من مجاورة هؤلاء، والسلامة كل السلامة في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم.

التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان

التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فلا يزال الكلام موصولاً في: باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة]. أي: صحبة الإنسان المتبلد الحس، الذي لا يهمه أن يعيش عيشة كريمة أو مهينة في وسط قوم؛ عار في وجه الصاحب والصديق في الدنيا ويوم القيامة، خاصة إذا كان هذا العار إنما يلحق المرء في دينه لا في أخلاقه وسلوكه؛ إذ إن أعظم العار أن يعير الإنسان في دينه. قال: [وقال عون بن عبد الله: لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم -أي: لا تناقشوهم ولا تجادلوهم-؛ فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض]. وهذه من علامات أهل البدع: أنهم يضربون القرآن بعضه ببعض، فتأتي له بآية فيأتي لك بآيتين، وتأتي له بآيتين فيعطيك عشراً، ولذلك أنتم تعلمون أن هذا خلق مذموم ذمه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خرج إلى أصحابه ذات ليلة ليخبرهم بليلة القدر، فوجد أن بعض أصحابه قد تلاحوا، أي: تخاصموا وتجادلوا في مسألة ما، فغضب لذلك غضباً شديداً، وقال: (أتضربون القرآن بعضه ببعض وأنا بين أظهركم! والله لقد خرجت لأخبركم بليلة القدر، فلما رأيتكما تتلاحيا ذهبت عني).

تحذير السلف من مجالسة عمرو بن عبيد المعتزلي

تحذير السلف من مجالسة عمرو بن عبيد المعتزلي قال: [وعن شعبة بن الحجاج أبي بسطام قال: كنت عند يونس بن عبيد فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد -وهو رأس الاعتزال- وقد دخل إليه ابنك؟ قال: ابني؟! قال: نعم. فتغيظ يونس فلم أبرح حتى جاء ابنه، فقال: يا بني! قد عرفت رأي عمرو بن عبيد ثم تدخل إليه! فجعل الولد يعتذر، فقال: كان معي فلان -أي: من بين اعتذارات الولد أنه قال لأبيه: إن عمرو بن عبيد لم ينفرد به، وإنما كان معه فلان من الناس -فقال يونس: أنهى عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولئن تلقى الله عز وجل بهذا أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو بن عبيد]. أي: أنا أنهاكم عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ومع هذا لو زنيت وسرقت وشربت الخمر أحب إلي من أن تلقى الله برأي عمرو بن عبيد، وأحب إلي من أن تلقاه تابعاً لمنهج الاعتزال ولهذه الفرقة الضالة، وليس في هذا تهوين من شأن المعاصي -السرقة، الزنا، شرب الخمر- وإنما هذا فيه بيان فظاعة البدع خاصة إذا كانت في أصل الدين. [قال سعيد بن عامر: ما رأينا رجلاً قط كان أفضل من يونس. وقال أيوب: ما عددت عمرو بن عبيد عاقلاً قط]. أي: ما ظننت في يوم أنه عاقل قط؛ لأنه كان يتكلم بكلام أهل القدر والاعتزال، وهو كلام لا يدل على سلامة العقل.

آثار السلف في أن مجاورة الحيوانات المستقذرة خير من مجاورة أهل البدع

آثار السلف في أن مجاورة الحيوانات المستقذرة خير من مجاورة أهل البدع قال: [وقال أبو الدرداء: لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء وقد دخلوا في هذه الآية: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119]]. فهذه الآية أصلاً نزلت في الكفار، لكن أجراها أبو الدرداء على أهل البدع، فقال: وجه الشبه كبير جداً بين أهل البدع والضلالات وبين أهل الكفر، ولذلك لو جلست مع إنسان من أهل البدع فلابد أن تسمع منه كلاماً أحلى من العسل، بل ويثني عليك خيراً، فإذا قمت سلقك بألسنة حداد، وهذا شأنهم؛ لأن النفاق أسرع إلى الكافرين وأصحاب الأهواء، بخلاف أهل السنة فإنهم يتقربون إلى الله تبارك وتعالى بالصدق، ويعلمون أن الصدق طريق البر، وأن البر يهدي إلى الجنة. قال: [وقال أبو موسى الأشعري: لئن أجاور يهودياً ونصرانياً وقردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني صاحب هوى يمرض قلبي].

استحباب السلف أن يكون بينهم وبين أهل البدع حاجز وسد منيع

استحباب السلف أن يكون بينهم وبين أهل البدع حاجز وسد منيع قال: [وقال الفضيل: أحب أن يكون بيني وبين المبتدع حصن من حديد]. هذا هو الفضيل بن عياض الذي لو جلس مع آلاف المبتدعة فإنهم لا يضرونه شيئاً، بل إن أهل البدع يهابون مجالسة الفضيل، ومع هذا فإنه يقول: لأن يكون بيني وبين أصحاب الأهواء حصن من حديد أحب إلي من أن تكون سبل المجاورة مفتوحة بيني وبينهم، وهذا مع سلامة معتقده، وصحة منهجه، وتبحره في العلم، وإيمانه العظيم وغير ذلك، فما بال الذي فقد المؤهلات التي كانت بين جنبي الفضيل، وأخذ يتصدى لهم، بل ويطالب بالتصدي لهم؟! إن هذا أمر على خلاف ما كان عليه سلفنا رضي الله عنهم.

تفضيل السلف للحيوانات المحتقرة على المبتدعة

تفضيل السلف للحيوانات المحتقرة على المبتدعة قال: [وقال شريك: لئن يكون في كل قبيلة حمار أحب إلي من أن يكون فيها رجل من أصحاب أبي فلان، يقصد رجلاً مبتدعاً بعينه]. وهذا يدل على جواز غيبة الفاسق المبتدع الذي يجاهر ببدعته؛ حتى يحذره الناس، وهذا من باب النصيحة في الدين، كما في هذا النص: أن الحمار أفضل وأشرف من أصحاب الأهواء والبدع؛ إذ إن للحمار منفعة عظيمة على الأقل، فتحمل عليه متاعك، ويحملك من بلد إلى آخر، وأما المبتدع فلا فائدة فيه، بل المضرة كلها تأتي من قبله، ولذلك فضِّل الحمار على أصحاب البدع.

تحذير السلف من مجاورة أهل البدع في السكنى

تحذير السلف من مجاورة أهل البدع في السكنى قال: [وقال أحمد بن سنان: إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه ذلك]. أي: إذا كنت مجاوراً لرجل من أهل البدع فأحب إلى الله عز وجل أن تهجر هذا المكان، وهذا كان شأن أهل العلم حتى في مجرد المعصية لا في البدع والضلالة الكبرى فقط. وقد جاء عن أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه كان إذا دعي إلى عرس أو غيره فذهب فوجد معصية لله عز وجل ترك المكان وانصرف، وهذا في مجرد المعصية التي ربما لا تضر بصاحبها كثيراً مقارنة بأصول الابتداع في الدين، فإن هذا أمر شنيع أيما شناعة؛ لأن صاحب المعصية يفعلها ويعلم أنها معصية، وهو إلى التوبة أسرع، بخلاف صاحب الهوى والابتداع في الدين؛ فإنه يعتقد أنه على الحق، ولذلك يزداد صلابة وقوة وتمسكاً لبدعته، وقل أن يرجع إلا إذا وفق لرجل من أهل السنة يأخذ بيديه بعد طول عناء، فربما يوفق للتوبة وربما لا يوفق، والغالب أن أصحاب البدع لا يوفقون إلى التوبة، ولذلك جاء عند ابن ماجه وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، أي: أن المطلوب أن يدع البدعة أولاً، ثم بعد ذلك يتقبل الله عز وجل منه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فهم يتخيرون ويسلكون طريق الهداية أولاً، والله تعالى بعد ذلك يوفقهم إذا علم منهم حسن نيتهم، وتوجههم الصحيح إليه. وقول أحمد بن سنان هذا شبيه بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم، وذلك في معرض كلامه عن حرمة مشابهة أهل الكتاب، فقال: ويقرب منهم أهل البدع. أي: لما تكلم عن حرمة بيع الدور والمحلات وغيرها للنصارى؛ قال: وجه الحرمة أنه يرفع شعار الكفر عليها، أي: يضع الصليب على باب البيت، أو يضع صورة اليسوع، أو صورة مريم رحمها الله، وهذا فيه إظهار لشعائر الكفر، ولذلك حرم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم أن يتعامل المسلم مع الكفار في أن يبيع له داراً، أو يمكنه من إظهار شعار الكفر.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من المسيح الدجال أصل في التحذير من الاقتراب من أهل الشر

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من المسيح الدجال أصل في التحذير من الاقتراب من أهل الشر قال: [إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه وليتحول -أي: لينتقل إلى مكان آخر- وإلا أهلك ولده وجيرانه، فنزع ابن سنان بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع منكم بـ الدجال فلينأ عنه)، أي: من سمع منكم بظهور المسيح الدجال فليهرب عن مكانه الذي نزل فيه، (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب فيتبعه لما يرى من الشبهات). وأنتم تعلمون أن الدجال أعظم فتنة بين يدي الساعة؛ لما يرى الناس بأعينهم من فتنته التي لا يمكن أن يصبر عليها أحد، بل الناظر لأول وهلة فيما يأتي به الدجال يصدقه، فيزعم أنه نبي، ثم يزعم أنه إله، وفي زعمه النبوة خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يزعم أنه إله، ويأتي بأفعال إنما هي من خصائص إلهية، ولكن الله مكنه من ذلك فتنة للناس، ولم يتركهم هكذا، وإنما بين لهم خطره، وبين لهم ماذا سيصنع، فإنه يجوب الأرض شرقاً وغرباً في أربعين، وخطوته عند منتهى بصره، وهذا شيء خارق للعادة. والأمر الثاني: أنه يكون في إحدى يديه خبز، وفي الأخرى نار، فأما الذي هي نار فهي في الحقيقة خبز، وأما التي فيها خبز فهي النار، ويدعو الناس في وقت جذب وفقر وقحط أن يأكلوا من يده التي بها الخبز، فيطعمهم النار وهم لا يعرفون؛ لأن الناس تقبل على الخبز وتخاف من النار. وهو يوقف على مشارف مكة والمدينة فلا يدخلهما، وهذه خاصية للبلدين الشريفين، فيخرج إليه عالم من علماء المدينة في آخر الزمان، فيضربه بالسيف حتى يسقط على الأرض فلقتين، ويمشي بين الفلقتين والناس ينظرون، وهو يقول: أما ترون؟ أي: أما ترون أن هذا الرجل قد شق نصفين؟ ثم يدعوه فيقوم، أي: يقول له: قم فيقوم، فيقف أمامه حياً، ولا يفعل هذا إلا إله وذلك قد سبقه إليه عيسى ابن مريم، لكن عيسى بن مريم إنما فعل ذلك بإذن الله وأمر الله وإرادة الله وليس من عنده، فـ الدجال فعل ذلك ليصدق الناس أنه إله؛ لأن الإله هو الذي يحي الموتى، فهذا قد أماته وأحياه في نظر الجهال، ولكن هذا العالم الذي خرج إليه قال له: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فأنت المسيح الدجال الذي حذرنا منك النبي عليه الصلاة والسلام. فيذكر الإمام هنا أن مجاورة أصحاب الأهواء والبدع كالسعي خلف المسيح الدجال، وهو قريب، فهذه فتنة وتلك فتنة أخرى، ويجمعهما أنهما فتنتان. والعجيب قوله: (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب)، أي: أن الرجل يذهب إلى المسيح الدجال وهو على يقين أنه إنسان كاذب، (ثم ما يلبث أن يتبعه؛ لما يرى من الشبهات)، وهب أنه لم يتبعه فإنه لا يمكن أن يرجع من عنده سالماً، بل الشكوك والشبهات قد أكلت قلبه وعقله، ولذلك الواحد من أهل السنة الذي يتأهل للخصومات والمنازعات والمناظرات والمجادلات إنما يذهب فيعرض نفسه للفتنة، فيسمع الشبهات من أصحاب الأهواء، وبعد أن كان عنده يقين جازم أن هؤلاء على الضلال والبدعة فإذا به يرجع وقد اقتنع بكلامهم، أو على الأقل عذرهم فيما هم عليه؛ لما عندهم من الشبهات، والذي فيه خير يرجع متشككاً يبحث عن إجابة لهذه الشبهات إما في بطون الكتب، وإما بالاتصال بأهل العلم وغير ذلك، والمهم: أنه كلف نفسه ما لا يطيق، فأذل نفسه وأذل دينه في قلبه. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينبغي لأحدكم أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل أحدنا نفسه يا رسول الله؟! قال: يعرض نفسه لما لا يطيق)، فهذا باب من أبواب الذل: أن تتصدى لما لا تحسنه، ولذلك يقول العلماء: لو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، أي: لو قال: أنا جاهل لا أعرف شيئاً؛ فسيقل الخلاف جداً، لكن قضية واحدة عرضت على مائة جاهل، ولكل جاهل فيها قول، وكل الأقوال مطرحة لا قيمة لها، إذ إنها كلام الجهال لا يبنى على دليل، ولو أن كل متخصص في فن يجيده تصدى له دون غيره لكان الأمر أحسن من ذلك بكثير. قال: [وعن عمران قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه -أي: فليبتعد منه ما استطاع- فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، وما يزال به حتى يتبعه؛ لما يرى من الشبهات).

تعقيب المؤلف على الآثار التي أوردها في التحذير من مجاورة المبتدعين

تعقيب المؤلف على الآثار التي أوردها في التحذير من مجاورة المبتدعين قال: [هذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق المصدوق، فالله الله يا معشر المسلمين! لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم؛ فما زالت بهم المباسطة -أي: ينبسط بعضهم إلى بعض في المجالس- وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم]. أي: حتى مالوا إليهم وصاروا منهم، مع أنهم ذهبوا إليهم ليجادلوهم، وليستخرجوا مذاهبهم، ويعلموا ما عندهم من باطل للرد عليهم، ثم ما لبثوا أن وقعوا فيما وقعوا فيه؛ بسبب شبهات كانت أقوى منهم.

شؤم الاقتراب من أهل البدع ومجالستهم والتحذير من ذلك

شؤم الاقتراب من أهل البدع ومجالستهم والتحذير من ذلك قال: [وعن المغيرة قال: خرج محمد بن السائب وما كان له هوى -أي: أنه كان صاحب سنة ولم يكن صاحب بدعة- فقال: اذهبوا بنا حتى نسمع قولهم -أي: قول القدرية- فما رجع حتى أخذ بها، وعلقت بقلبه. قال: وعن البتي قال: كان عمران بن حطان رجلاً من أهل السنة المتمسكين الداعين إليها، فقدم غلام من أهل عمان مثل البغل، فقلبه في مقعد -أي: في جلسة واحدة- ويقال: إن انقلاب عمران بن حطان ليس على يدي هذا الغلام، وإنما على يد امرأة جميلة تزوجها، وكانت من أهل القدر -أي: ممن تنكر القدر- فقال عمران: أتزوجها وأجتهد عليها]. وهذه شبهة أيضاً لإخوة يتزوجون بنات متبرجات، والمهم أنها بنت جميلة، وشعرها أصفر، وعيونها خضر، ويقول: هذه هي عروسة المستقبل، وأما مسألة الحجاب والنقاب فهذه مسائل سهلة نستطيع أن نجتهد عليها إن شاء الله، وإنما أخذ بلبه وفؤاده جمالها، وإذا بها تجتهد عليه فيترك الصلاة والصيام والالتزام وكل شيء. فـ عمران بن حطان قال: أتزوجها واجتهد عليها أيما اجتهاد، لكن الذي حصل أنها أخرجته من السنة وأدخلته في البدعة، وذلك بعد أن كان داعية إلى السنة وليس سنياً فقط. وقوله: (فقدم غلام من أهل عمان مثل البغل). هذه صفة مشتركة بين أهل البدع جميعاً، إما في عقله، وإما في بدنه. قال: [وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي عبد الله بن بسر -وكان من الخاشعين، ما رأيت قط أخشع منه-: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا تلكم أحداً منهم]. هذا هو منهج أهل السنة، لذا ينبغي علينا أن نحذر من أهل البدع، فلا أحد ينتخب واحداً منهم، ولا أقول: نذهب ننتخب الباقين، لا، فنحن نعتقد أن هذا المجلس مجلس كفري لا ينبغي لمسلم قط أن يشارك فيه، والإمام الشافعي يقول: من شرع فاستحسن فقد أشرك، فهذا المجلس ليست له أدنى مشروعية في دين الله عز وجل، لكن إذا تحتم الأمر اتركوا الناس ينتخبون من أرادوا، لكننا نحذر دائماً من أهل البدع، والصراحة أن هذا رجل من أساتذة الشيعة الكبار هناك، فلماذا يدخل المجلس؟ حتى يؤصل للتشيع في داخل المجلس، ويطالب بحقوق الشيعة في البلد، ونحن لا نتعرض لـ رجب ولا لغيره من رءوس الشيعة هنا، وإنما نحذر منهم من بُعد؛ التزاماً بما كان عليه سلفنا في نهجهم مع أصحاب البدع. قال: [ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا تلكم أحداً منهم؛ حتى لا تفتن]. قال: [وعن أيوب أنه قال: لست براد عليهم بشيء أشد من السكوت]. أي: إذا أردت أن تغيض واحداً منهم فلا ترد عليه، حتى ينصرف في الأخير وهو محروق القلب.

كتاب الإمام أحمد إلى رجل أراد أن يناظر المبتدعة بألايفعل

كتاب الإمام أحمد إلى رجل أراد أن يناظر المبتدعة بألايفعل قال: [وكتب رجل إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله كتاباً يستأذنه فيه أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم، ويحتج عليهم]، وهذا الرجل مؤدب جداً، ويبدو أنه كان من أقران أحمد بن حنبل، أو من تلاميذه. قال: [فكتب إليه أحمد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا عليه من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك -أي: في نفس الوقت- وهم لا يرجعون -أي: عن بدعهم وأهوائهم- فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم، فليتق الله امرؤ، وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غداً من علم صالح يقدمه لنفسه، ولا يكن ممن يحدث أمراً، فإذا هو خرج منه أراد الحجة]. أي: حتى لو نجا من الجلوس مع البدع فإنه سينجو وفي ذهنه شبهات القوم، فلا يسأل عن الحجة والدليل والبرهان، فما الفرق بينه وبين أصحاب الأهواء إلا درجة؟! فالشبهات قد استقرت عنده، لكنه لا يزال يرفض النهج كله، وإنما أصابته شبهات القوم، فهو يسأل عن الحجة. قال: [فيحمل نفسه على المحال فيه، وطلب الحجة لما خرج منه بحق أو بباطل؛ ليزين به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه، فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل، وإن وضح له الحق في غيره، ونسأل الله التوفيق لنا، ولك والسلام عليك]. فانظر إلى نصيحة الإمام أحمد بن حنبل لرجل من أصحاب القرن الثالث، وهو من القرون الخيرة أصحاب العلم والفضل والعبادة وغير ذلك، وقد كان عندهم من الأعمال التي تحصنهم بين يدي الله عز وجل الكثير، ومع هذا كل منهم ينصح الآخر، والآخر هذا لا يقل عنه في الإمامة في الدين، فقد كان ينصحه بعدم الجلوس إلى أصحاب الأهواء، وكثير كثير جداً من أصحاب الأهواء إنما ذهب في هذا الهوى بسبب مصاحبة هؤلاء، ومصادقتهم، أو مجالستهم أو غير ذلك. وأذكر قديماً سنة: (1974م) و (1975م) لما انتشر فكر التكفير في بلادنا، كنا نسمع عن جماعة التكفير، فحب الاستطلاع والاستشراف كان يدفع الواحد منا إلى أن يجلس مع هؤلاء، ومعلوم أن عندهم آيات وأحاديث معينة لا يتعدونها، فتخرج من عنده وتقول: والله إن كلامه حق، وبصراحة إن كلامه طيب، ثم يقول لك: أنا سأسافر يومياً لحضور الدرس معهم. فأنا قلت في يوم من الأيام سنة 1976م -وأنا في الثانوية العامة بعد مقتل الذهبي بثلاثة أيام-: أحضر الدرس أنا وزملائي وأرد عليهم، فحضرت درساً لزعيم من زعمائهم وهو يشرح صحيح مسلم، فقال: الإمام النووي يقول في شرح حديث: (الحكمة يمانية والفقه يمان، أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً)، يقول: أهل اليمن. المقصود بهم: أهل المدينة! وهذا كفر بالإجماع! فقلت له: ما الذي يكفره بهذا؟ هب أنه أخطأ، فهل يقال للمخطئ: أنت كافر؟ فقال لي: ما اسمك؟ فقلت له: معرفة اسمي وعنواني ليست قضية، فأنت تتكلم في العلم في هذا الوقت، قلت له هاتين الكلمتين، ولم أفق بعدها إلا بساعتين أو ثلاث إلا وأنا خارج المسجد، والمسجد مقفل ولا أحد بجواري نهائياً، فقلت: هذا هو الطريق، المطلوب أننا نشرب ولا نرد. وبعد ذلك لما وقفت على كتاب الشريعة للإمام الآجري وهو يتكلم في نفس الباب: التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، والتحذير من مجالسة أهل البدع، عرفت أن هذا هو الحق. يا إخواني! أنا أحترم جداً كلمة: على منهج السلف؛ لأنها عصمة من الله عز وجل، فالذي عملوه نحن نعمله، وهم أعلم منا، بل هم أولى مننا بالعلم، وأفضل منا، وأعبد منا، وأتقى منا، وأعرف منا، وكل المؤهلات قد اجتمعت فيهم، وإذا كانت الأمة لا تجمع على الضلال فمن باب أولى ألا يجمع على الضلال أصحاب القرون الخيرية، وإذا كان الله تعالى بين أن الخير في هذه الأمة فالمخاطب بذلك أولاً هم الصحابة رضي الله عنهم، لذا فالمهم دائماً أن تجعل بينك وبين سلفك حبلاً ممدوداً متصلاً مرتبطاً بهم كل الارتباط، ولو حلت عقدة من هذا الحبل لانحلت عقدة من دينك، فلابد أن تتأكد من صلتك بسلفك.

جملة من آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع وسماعهم وزجرهم عن ذلك

جملة من آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع وسماعهم وزجرهم عن ذلك قال: [وسمعت عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية فقال: لا تجالسوهم، ولا أصحاب الكلام، عليكم بأصحاب القماطر]. وأصحاب القماطر: هم أصحاب الدفاتر، وكأنه يريد أن يقول: عليكم بأصحاب الحديث؛ لأن أصحاب القماطر إنما معهم أحبار وألواح يكتبون فيها، وهي صفة أصحاب الحديث. وإياكم ومجالسة أصحاب الأهواء، وأصحاب الكلام، وأصحاب التصوف، قال: [عليكم بأصحاب القماطر، فإنهم بمنزلة المعادن مثل الغواص هذا يخرج درة، وذاك يخرج قطعة ذهب. قال: [وعن ابن سيرين: أنه كان إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: لا يحل لي أن أكلمه، حتى يقوم من مجلسه. قال: وعن صالح المري قال: دخل على ابن سيرين فلان -يعني: رجلاً مبتدعاً- وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه -أي: هذا المبتدع-، فقال له ابن سيرين: أحب لك أن تقوم وإما أن نقوم]. أي: إما أن تنصرف أنت الآن وإما انصرفنا. وأنا أريد أن أسأل سؤالاً: هل ابن سيرين لم يكن يستطيع أن يرد عليه ويلقمه حجراً؟ لا، فـ ابن سيرين تربية الصحابة، وهو من كبار التابعين في البصرة، فما الذي يمنعه أن يلقم هذا المبتدع حجراً إلا أنه علم أن الأصل عند سلفه من الصحابة هجران وترك مجالسة ومكالمة ومحادثة أصحاب الأهواء، فأراد أن ينهج سير أصحابه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن كبار التابعين. قال: [وقال ابن عون: من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع]. يعني: فأهل البدع أمرهم معروف ومفضوح، لكن الخشية كل الخشية من إنسان يجالسهم؛ لأنه لا يأمن أن ينجرف في هواهم. قال: [وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا لقيت صاحب بدعة قد أخذ في طريق فخد في طريق آخر]. وأنتم تعرفون حديث: (ما سلكت يا عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك)، وهكذا أصحاب البدع إذا رأيته في طريق فاسلك طريقاً آخر. قال: [وعن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته: يجالس؟ قال: لا يجالس، ولا يكلم؛ لعله يتوب. أي: ينبغي أن ينفض عنه جميع الناس؛ لعله يتأثر بذلك فيتوب]. قال: [وقال الإمام أحمد بن حنبل: أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم. قال: [وعن أيوب السختياني أنه دعي إلى غسل ميت فخرج مع القوم، فلما كشف عن وجه الميت عرفه -أنه من أهل البدع- فقال: أقبلوا قبل صحابكم، فلست أغسله، رأيته يماشي صاحب بدعة]. أي: أنه ليس مبتدعاً جزماً، وإنما رأيته يماشي أصحاب البدع، ولذلك ترك غسله، والصلاة عليه، لا لكفره، وإنما لبدعته، وحتى يكون في ذلك أعظم زاجر للناس عن أن يماشوا، أو يجالسوا أو يحاكوا أصحاب البدع.

بيان أن المرء يجالس ويألف من كان على شاكلته

بيان أن المرء يجالس ويألف من كان على شاكلته قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه، ومن هو مثله]. وفي الحديث: و (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل). وقال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فإن المقارن بالمقارن يقتدي وقال: [اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب من هو مثله. قال شعبة: وجدته مكتوباً عندي فإنما يصاحب الرجل من يحب]. أي: وجد في كتاب مكتوباً عنده: إنما يصاحب الرجل من يحب. [وقال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم -أي: برفقائهم وأقرانهم-؛ فإن الرجل لا يخادن إلا من يعجبه نحوه]. أي: من يعجبه طريقه ومنهجه ومسلكه. وقال: [اعتبروا الناس بأخدانهم، المسلم يتبع المسلم، والفاجر يتبع الفاجر]. قال: وعن المدائني قال: قيل للبيد -وهو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر الكبير- بعد ما أسلم: مالك لا تقول الشعر؟ -لأن لبيداً لما أسلم قلل جداً من الشعر- فقال: إن في البقرة وآل عمران شغلاً عن الشعر، إلا أني قد قلت بيتاً واحداً -أي بعد إسلامه-: ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح] والنبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب لذلك مثلاً فقال: (مثل الجليس الصلح وجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير)، مع أن نافخ الكير هذا ربما يكون في باب المعاصي، لكن الحديث محمول على جميع المعاصي والأهواء، (فأما الجليس الصالح -وهو حامل المسك- فإما أن تبتاع منه -أي: تشتري منه المسك والطيب- وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، وأما جليس السوء -هو نافخ الكير- فإما أن يحرق ثيابك)، فإنك لو جلست بجوار حداد ينفخ الكير فإنه لابد من شظايا تقع على ملابسك فتحرقها. قال: [قال محمد بن عبيد الله الغلابي: كان يقال: يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة]. أي: أن أهل الأهواء عندهم قدرة فائقة على كتم عندهم من فكر وضلال وهوى، لكن الذي يفضحهم هو التآلف والصحبة، فتجد الواحد منهم يميل إلى إلفه وشكله، فإذا كان فلان يماشي فلاناً فلابد أن هناك شيئاً لازماً، ووحدة فكر بينهم؛ لأن الألفة والصحبة دائماً تفضح ما وراءها. قال: [وقال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله، فصاحبوا الصالحين من عباد الله؛ لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم]. قال: [وقال مالك بن دينار: الناس أجناس كأجناس الطير، الحمام مع الحمام، والغرب مع الغراب، والبط مع البط، الصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله]. والصعو: طائر. قال: [وسمعت مالك بن دينار يقول: من خلط خلط له، ومن صفى صفي له، وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم]. أي: لئن أخلصتم في اتباع السنة فإن الله تعالى يوفقكم إلى ذلك. قال: [قال الأوزاعي: يعرف الرجل في ثلاثة مواطن: بألفته، ويعرف في مجلسه، ويعرف في منطقه]. فهذه ثلاثة أمور تبين من هذا الرجل. قال: [قال أبو حاتم: وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد فذكر لـ أحمد بن حنبل، فقال: انظروا على من نزل، وإلى من يأوي]. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما نزل المدينة نزل على بني النجار، وبنو النجار هم أفضل الأنصار، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على خيرة الأنصار، ولم ينزل على أي واحد منهم، وإنما نزل في بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. قال: [فقد فاض البحر العميق، فاستغني عن هذا التمييز والنظر والتدقيق، وفقدت تلك الأعيان، وصارت الزندقة يتفكه بها الأحداث والشبان، ظاهرة في السوقة والعوام، وصار التعريض تصريحاً، والتمريض تصحيحاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مسكنا الله وإياكم بعروته الوثقى، وأعاذنا وإياكم من مضلات الهوى، ولا جعلنا ممن باع آخرته بالدنيا؛ إنه سميع قريب].

تابع آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع

تابع آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع قال: [وعن هشام بن عروة: أن عمر بن عبد العزيز أخذ قوماً على شراب -أي: جلسوا يشربون خمراً -ومعهم رجل صائم -والصائم لا يشرب شيئاً- فضربه معهم، فقيل له: إن هذا صائم. فقال: قال الله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]. قال: [وقال الفضيل: ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من شاء؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]].

من نعمة الله على الشاب والأعجمي أن يهتدي على أيدي أهل السنة

من نعمة الله على الشاب والأعجمي أن يهتدي على أيدي أهل السنة قال: [وعن أيوب بن سويد عن ابن شوذب قال: من نعمة الله على الشاب والأعجمي إذا نسكا -أي: إذا تدينا- أن يوفقا لصحب سنة يحملهما عليها]. لأن الأعجمي يأخذه من يسبق إليه. وهذا الكلام يا إخواني! أحرى أن نقتدي به، فمن سعادة الشاب والأعجمي إذا دخلا في الإسلام أن يوفقا لرجل من أصحاب السنة يحملهما عليها، ويؤدبهما بآدابها، ويخلقهما بأخلاقها؛ لأن الغالب أن الشباب فيهم فورة وفتوة وقوة، ويحبون إظهار ذلك، فإذا لم تضبط هذه الشهوة في عقله وقلبه فلابد أنه سيفرط بها. والأعجمي غالباً إنما يوفق للإسلام على يد صوفي أو شيعي أو مرجئ أو خارجي أو أشعري، وهذا وإن كان شراً إلا أنه أفضل من أن يلقى الله بالكفر البواح، فالإنسان لما يلقى الله تعالى متأولاً لبعض الصفات فهذا بلا شك أرحم من أن يلقى الله بالكفر البواح، وإن كان شراً. ولذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الفرقان بين الحق والباطل، وهو كتاب عظيم جداً، وننصح دائماً بقراءته، وقبل قرائته ننصح بالصبر عليه؛ لأن هذا الكتاب من أصعب عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يؤصل فيه مذهب سلفنا رضي الله عنهم في الحق والباطل، وفي الخير والشر، وفي كثرة الذنوب وقلتها، وغلبة ذلك بالعمل الصالح، أو غلبته على العلم الصالح، فيقول: بعض الشر أهون من بعض، ولئن يلقى العبد الله تعالى ببدعة خير من أن يلقاه بالكفر البواح. وهذا كلام جميل ومتين، وهو كلام أئمة فتح الله عليهم، لكن بلا شك أن أسعد الأحوال أن يوفق الإنسان لمن يأخذ بيديه إلى الله عز وجل أخذاً طيباً، أخذاً مباركاً، أخذاً مستقيماً، ولذلك يحرص أهل البدع دائماً على أن ينزلوا في أماكن فيها شباب متعجل ومتسرع، فيرى أن التغيير مثلاً لابد أن يكون باليد وبالسلاح وغير ذلك، وما عندهم قط إلا الحمية التي في الغالب تهلك صاحبها؛ لأنها غير منضبطة بأصول شرعية أو علمية أو سلفية، فسرعان ما يكلف هذا الساخن بخط يركبه فيودي به إلى الهاوية، إذ إن هذا أمر لا يعنيه، ولم يفكر فيه، والمهم أن الشيخ أمره بكذا، أو العالم أمره بكذا، ولو أنه علم أن كلمة (عالم) لا تطلق على كل أحد ما تبعه، وإنما هو أخ مثله تماماً، وربما سبقه إلى إطلاق لحيته، وتقصير ثوبه بعام أو عامين، ولا يلزم منه أن يكون طلب العلم، بل جلهم لم يطلب العلم، وليس عنده استعداد قط لطلب العلم، وإذا ذكر العلم تندر وتفكه بمن يهتمون بطلب العلم، وهذا أمر فيه سوء أدب شديد جداً مع طلب العلم الذي أمرنا به شرعاً. قال: [وقال عمرو بن قيس الملائي: إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه]. أي: إذا رأيت الشاب في أول التزامه مع أهل السنة وأصحاب الاستقامة والفكر السليم؛ فارجو خيره. قال: [وإذا رأيته مع أهل البدع فايأس منه]، أي: لا تؤمل عليه، ولا تعقد عليه الأمل؛ لأن الأمل فيه قليل إن لم يكن نادراً. قال: [فإن الشاب على أول نشؤه. قال: وسمعت عمرو بن قيس يقول: إن الشاب لينشأ، فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يسلم، وإن مال إلى غيرهم كاد أن يعطب]. أي: يفسد ويتلف. قال: [فرحم الله أئمتنا السابقين، وشيوخنا الغابرين، فلقد كانوا لنا ناصحين، وجمعنا وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ولا جعلنا من الأئمة المضلين، ولا ممن خلف محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بمخالفته، وجاهده لمحاربته، والطعن على سنته، وشتم صحابته، ودعا الناس بالغش لهم إلى الضلال، وسوء المقال]. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قطع التعامل مع اليهود والأمريكان

حكم قطع التعامل مع اليهود والأمريكان Q كنت أجلس في المسجد فقال أحد الإخوة: لابد من مقاطعة الشراء من محلات مجدي ملت، وكنتاكي، وذلك بسبب ما يعاني منه إخواننا في فلسطين، وما تلاقيه إسرائيل من تأييد أمريكي، أرجو توضيح الأمر. A يا أخي الكريم! إذا كنت تسأل عن حكم شرعي فيما يتعلق بالحل والحرمة؛ فالتعامل مع أهل الكتاب بيعاً وشراء حلال، لكن في حقيقة الأمر إذا كنا نقول بحل الأمر فلا يلزم منه تنفيذ ذلك، أي: لا يلزم منه أن نتعامل معهم، وإن كنا نعتقد أن التعامل معهم حلال، وإن اضطررنا إلى التعامل معهم كان بها، وإلا فلابد أن تعلم أن شراءك أو أن دفع جنيه واحد لأمثال هؤلاء يساوي شراء رصاصة لقتل إخوانك في شرق الأرض وغربها، فأنا في كل المحاضرات أدعو لمقاطعة اليهود والنصارى تديناً، وإن كنت أعتقد جواز التعامل معهم، لكن لابد أن تعلم أن التعامل معهم إنما هو تأييد لهم، ودحر وقتل لإخوانك في فلسطين وفي غيرها. وأنتم تعملون بفضل الله عز وجل أن محلات سنتيبري قد تكبدت خسائر بلغت الملايين، وهذا من الله عز وجل أولاً، ثم من تسخير الله تعالى الدعاة لمحاربة هذا اليهودي الكافر الإنجلتري، وقد كتب على محلاته في إنجلترا: ممنوع دخول الكلاب والعرب! ونحن فعلاً كلاب وأوسخ من الكلاب لما يحصل لإخواننا في فلسطين هذا ونحن ننظر، فنحن لا نستحق أن نحيا كحياة الكلاب. لكن على أية حال من جهة الحل والحرمة: هو حلال، وأنا لا أحب ذلك، وأظن أن هذا البلاء لو وجد في القرون الخيرية لأمرنا السلف وأهل العلم في تلك الأزمنة بذلك. فهذا سنتبري -كما ذكرنا- بفضل الله أولاً ثم بدعوة الشيوخ بمقاطعته قد حصل له خسائر رهيبة، وهو جريء لا يضره ولا تهمه هذه الخسائر؛ لأنه مسنود من قبل معابد اليهود، ومن قبل الكنائس كذلك، وهو يهودي لكن غصب على النصارى أن يساعدوه؛ لأنهم يدركون -اليهود والنصارى- أن الحرب مع عدو آخر، فإذا تخلصوا -وهيهات أن يتخلصوا من هذا العدو- فإن الحرب تدور بينهما؛ إذ إن بينهم من العداء ما ليس بين المسلمين وبينهم، لكن فقه الدعوة وفقه الواقع عندهم يقول: لابد من الترابط ولو في الظاهر والأمور المادية؛ لأنهم يدركون أن العدو الأخطر على وجودهم على هذه الأرض هم المسلمون.

نصيحة لمن يتخلف عن صلاة الفجر

نصيحة لمن يتخلف عن صلاة الفجر Q الأخ يشكو من تخلف بعض الإخوة عن صلاة الفجر. A هذه بلا شك بلية عظيمة جداً ابتلى بها كثير من الإخوة، لذا لابد أن يعلموا أن أثقل صلاة على المنافقين هما صلاة العشاء والفجر، وأن صلاة الفجر بالذات فيها من الخير ما ليس في غيرها؛ إذ إنها صلاة مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، وأن من صلى الفجر فكأنما قام الليل كله، وغير ذلك من فضائل وخير هذه الصلاة، فليحرص عليها جميع الإخوة.

حقيقة حزب الله في جنوب لبنان

حقيقة حزب الله في جنوب لبنان Q ما رأيكم بقوات حزب الله الشيعي؟ ولماذا ينصرهم الله عز وجل على اليهود بجنوب لبنان؟! وما موقف المسلم منهم؟ وهل ندعو لهم؟ وهل يطلق عليهم: مجاهدون وشهداء؟ A على أية حال الحق حق، والباطل باطل، والتشيع باطل، ولا يلزم منه أن يهزمهم الله في كل موقع، وحزب الله في لبنان عندهم من الأخطاء العقدية ما ليس عند أهل إيران، وهم أشد تمسكاً بتشيعهم ربما من خميني إيران نفسه، وهم يعادون أهل السنة أيما عداء، فإذا نظرت إلى حربهم وإن شئت فقل: جهادهم المزعوم مع اليهود، فهذه والله يا إخواني! مسرحية يطول شرحها. والمهم أن عداء حزب الله الشيعي لأهل السنة في لبنان أعظم من عدائهم لليهود، وقد صنفت في ذلك كتب، وقد كان الشرطة في عهد الدولة الفاطمية في مصر يدخلون بيوت أهل السنة، فإذا وجدوا فيها مصحفاً أحرقوه، وإذا وجدوا فيها كتاباً للبخاري أو مسلم أو موطأ مالك قتلوا صاحبه، فهل فعل هذا الإنجليز مثلاً لما كانوا في فترة الاحتلال في هذه البلاد؟! لم يكن ذلك. لكن على أية حال النتيجة التي وصل إليها الحزب الشيعي في لبنان أمر طيب؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فلا شك إذا كان الترجيح بين الشيعة واليهود، فالشيعة أقرب إلينا، بل عامة الشيعة جهلة لا يعرفون شيئاً، ولذلك نقول: هم أقرب إلينا، وهم معذورون بنشوئهم في بقعة من الأرض لا تعرف إلا التشيع، وهذا بالنسبة للعامة، وأما بالنسبة للرءوس الكبار فإنهم غير معذورين، ولهم أحكام تختلف عن أحكام بقية عامة الشيعة، وهم بلا شك إذا احتاجوا إلى تأييد أو نصرة أو دعاء أو غير ذلك فعلنا، مع كرهنا لما هم عليه من بدعة وضلالة.

حكم دخول المسلم كنيسة النصارى

حكم دخول المسلم كنيسة النصارى Q أنا أعمل في وظيفة حكومية، وفي يوم من الأيام دعاني أحد زملائي أن أحضر حفل خطوبة، علماً بأن هذا الحفل في الكنيسة، فهل يجوز دخول الكنيسة؟ A دخول الكنيسة لرجل من أهل العلم لدعوة من فيها إلى الإسلام جائز، وإلا فلا.

توضيح حديث: (إن أبي وأباك في النار)

توضيح حديث: (إن أبي وأباك في النار) Q هل يوجد حديث يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (أبي وأبوك في النار)، أرجو التوضيح؟ A الحديث أخرجه مسلم: (أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، فولى الرجل مدبراً وهو يبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادعوه، فدعوه فقال: إن أبي وأباك في النار)، وهذا قطع منه عليه الصلاة والسلام أنه أباه في النار، وعلى أية حال نحن لا نحب أن نثير مثل هذه المسائل، ولكن إذا سئلنا عنها لا نألوا جهداً في بيانها، فالمقطوع به أن والد النبي عليه الصلاة والسلام كان مشركاً عابد وثن، وأنه مات على ذلك، وليس هو من أهل الفترة، أي: لم يكن موحداً على ملة إبراهيم، ولم يمت كما مات ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهما من أهل الفترة الذين كانوا على ملة إبراهيم عليه السلام فقد كان مشركاً ومات على شركه. ثم ما الفارق بين عم النبي عليه الصلاة والسلام، وبين أبي النبي عليه الصلاة والسلام، وبين جد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا فرق. إذاً: فالمرء إنما يحاسب بعمله هو، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا فاطمة بنت محمد اعملي صالحاً فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فهذه ابنته التي هي أعز عليه من أبيه، ودائماً أولادي أعز علي من أبي، وهذه فطرة وضعها الله تبارك وتعالى في قلوب الخلق، فإذا كان الأمر كذلك فالمرء إنما يعرض وحده، ويحاسب وحده، ويدخل الجنة وحدة، أو يدخل النار وحده، فهذه أمور مقطوع بها. ثم كونه في النار أو في الجنة؛ هذه مسألة بالنسبة لنا لا ينبني عليها عمل، والأحاديث التي رويت: (أن الله تبارك وتعالى إكراماً لنبيه أحيا والد نبيه، فآمن به ثم مات)، هذه أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم من الذي رآه وقد أحياه الله مرة أخرى، ثم آمن ثم مات بعد ذلك؟! فلم ترو لنا كتب الموضوعات حتى شاهداً على ذلك. وعلى أية حال لا أحب الخوض في هذه المسألة؛ فإن قول النبي عليه الصلاة والسلام إذا صح فإنه ترد به أقوال كثيرة.

من حلق لحيته بالموس لا يعد من أصحاب البدع

من حلق لحيته بالموس لا يعد من أصحاب البدع Q هل من حلق لحيته بالموس يعد من أصحاب البدع؟ A لا، هو من أصحاب المعاصي.

معنى قول الشافعي: من شرع فاستحسن فقد أشرك

معنى قول الشافعي: من شرع فاستحسن فقد أشرك Q نقلت عن الإمام الشافعي قوله: من شرع فاستحسن فقد أشرك، فأحياناً الواحد منا يعمل عملاً فيقال له: حسناً أو خيراً، ويسر بذلك، فهل هذا تشريع؟ A لا، ولذلك قال الإمام الشافعي: من شرع، أي: من قال قولاً واعتبره شرعاً، وألزم الناس به، وحملهم على العمل بهذا القول، فهذا باب من أبواب التشريع، وأما إنسان يعمل خيراً أو يعمل عملاً صالحاً، والناس يقولون له: والله أنت جيد، وربنا يوفقك، وينصرك وغير ذلك، فيفرح بهذا الكلام، فهذا ليس من باب التشريع.

حكم من قال لوالديه: لستما والدي

حكم من قال لوالديه: لستما والديَّ Q سيدة تشاجرت مع أخيها بسبب التنصت على التلفون، فجاء الوالد والوالدة ليفضوا الشجار، فقالت لهما: لستما أبويّ، وقد متما في نظري، فما حكم هذه الأخت، وما واجبها نحو والديها، وجزاكم الله خيراً؟ A بلا شك أن هذه معصية كبيرة جداً أن تقول البنت لوالديها: لستما أبويّ، إذ إن هذه براءة، وهي كبيرة من الكبائر، وعليها أدلة من الكتاب والسنة، وأغلب الظن أنها قالت ذلك في وقت غضب شديد سيطر عليها، فهذه الأخت يلزمها الاستغفار، واستسماح والديها فيما صدر منها، وأن تعتذر لهما، وتبين عذرها في ذلك، وأن ذلك كان في وقت غضب لم تتمالك نفسها فيه بسبب معصية أخيها.

حكم إجبار الرئيس لمرءوسه على إضاعة الصلاة

حكم إجبار الرئيس لمرءوسه على إضاعة الصلاة Q أعمل في وظيفة حكومية مندوب شرطة، وقد يجبرني رءوسائى على إضاعة الصلاة، فماذا أفعل، علماً بأني لو تركتها سيكون مصيري إما السجن أو الغرامة المعضلة؟ A لو كان الأمر بيدك فبإمكانك أن تقدم الاستقالة ولا نرى غيرها، وإن كان هذا ليس بإمكانك، أي: ليس من حقك قانوناً أن تفعل هذا، أو أنك ستتعرض للمساءلة أكثر مما كنت تتوقع؛ فإنك تجمع في نيتك بين الفرضين، فتصلي الفجر في المسجد أو في البيت، والسؤال إنما ينصب على الصلوات الأخرى، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس أن تجمع في نيتك بين الفرضين، أي: تؤخر الظهر إلى العصر، وتؤخر المغرب إلى العشاء إذا اضطررت إلى ذلك حسبما سألت، وإلا فالأصل ألا تضيع فرضاً حتى يدخل الفرض الآخر.

ما يلزم فعله عند دفن الميت، وحكم تلقين الميت وهو في القبر

ما يلزم فعله عند دفن الميت، وحكم تلقين الميت وهو في القبر Q أرجو توضيح ما ينبغي فعله عند القبر أثناء الدفن، وما حكم تلقين المتوفى وهو في القبر؟ A الذي ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان يقبر أصحابه ويقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله)، فإذا دفن على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة وفرغ من دفنه قام النبي عليه الصلاة والسلام على قبر هذا يدعو له خاصة، ويدعو كل واحد بما تيسر له من دعاء لهذا الميت، وأما الدعاء الجماعي فليس مشروعاً -إذا كنت تسأل عن هذا بالذات- لأنه حرمان لأجر كثير ممن شارك في الجنازة، ومخالف لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)، ولو كان الدعاء الجماعي مشروعاً لدعا النبي عليه الصلاة والسلام وأمن أصحابه، وإنما يدعو كل واحد على حاله بما تيسر له.

حكم الجلوس في أماكن أهل المعاصي

حكم الجلوس في أماكن أهل المعاصي Q عملي يضطرني للجلوس على ما تسمى بغرزة في الصباح، وأغلب من يجلس في هذا المكان مدخنون، وأصحاب بدع، وفيها الشيشة وما شابه ذلك، أرجو الإفادة. A الإفادة أن هذا المكان لا يحل لك أن تجلس فيه؛ لأنك مع الوقت ستألف هذا المجلس، وتألف أصحابه، ثم بعد ذلك تشاركهم فيما هم عليه من معاصي.

حكم من يقتل نفسه

حكم من يقتل نفسه Q هل الذي يقتل نفسه يكون كافراً أم عاصياً؟ A يكون عاصياً ومرتكباً لكبيرة من أعظم الكبائر، فإذا كان من أكبر الكبائر قتل المرء لأخيه، أي: قتل المسلم لأخيه المسلم، فما بالك بقتل المسلم لنفسه؟! إن هذا من أكبر الكبائر، وأغلظ المعاصي، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فمات، فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)، والخلود في هذا الحديث: هو المكث الطويل لا الخلود الأبدي الذي يضاهي خلود الكافرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [1]

شرح كتاب الإبانة - ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [1] لقد ذم الله سبحانه الذين يخوضون في آياته، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون من مجالستهم ومخالطتهم، فأصحاب الأهواء والخصومات قد باعوا دينهم، وتمت خسارتهم بكثرة خطاياهم، وانشغالهم بما لا يعنيهم حتى أكثروا التلون في الدين والتنقل والتحول، وواقع المسلمين اليوم يشهد بذلك.

باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام

باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: الباب الذي نحن بصدده هو باب: ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام. والمراء: هو الملاحاة والخصومات والجدال بالباطل، فإذا كان ذلك في دين الله عز وجل فإنه مذموم، بل هو أشد ذماً؛ لأن الجدال بالباطل في غير الدين أمر مذموم، فهو مذموم من باب أولى إذا كان في دين الله عز وجل، والخصومة والمراء والجدال لا يكون إلا في أصحاب الكلام والفلسفة، وأما أهل التقوى وأهل العلم الراسخون فيه فإنهم وقَّافون عند حدود القرآن، وحدود السنة الصحيحة. ولذلك فهذا الباب متمم للبابين اللذين قبله، وأقوال أهل العلم في هذا الصدد كثيرة لا تكاد تنتهي، وما من كتاب أُلِّف في السنة -كهذا الكتاب الذي بين أيدينا- إلا وعقد فصولاً متعاقبة متتابعة في أهمية هذا الأمر، والتحذير منه، أي: أهمية الوقوف عند حدود القرآن والسنة، والتحذير من الخصومات والجدال والمراء والملاحاة في دين الله عز وجل بغير علم.

الجدال وأقسامه

الجدال وأقسامه ولا بد أن تعلم -قبل البدء- أن الجدال منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم فالجدال المحمود هو كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فمعنى (التي هي أحسن): قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء، وهي حجة أقوى من حجة الخصم. فهذا هو الجدال بالتي هي أحسن. وأما أن تقصد بهذه المجادلة وهذه المنازعة الباطل، أو الانتصار للرأي، أو العصبية لفلان أو علان، أو قومك أو عشيرتك، أو انتصاراً لرأيك؛ فإن هذا هو الجدال المذموم. وأما ما يشهده بعض الناس، وخاصة في مكة والمدينة في موسم الحج والعمرة في رمضان، أنهم يؤجرون المنازل ويغلون جداً في أسعار السكنى أو غيرها، فإذا جادلتهم في خفض الأسعار قالوا: يا فلان! لا تجادل في الحج. كل من ذهب إلى مكة في موسم العمرة في رمضان، أو موسم الحج في ذي الحجة فإنه لا بد أن يسمع هذه الكلمة، فيعتبرون أن طلب خفض أسعار السكن، ومراجعة الملَّاك في هذه البلاد في مثل هذا الشأن جدالاً مفسداً للحج، أو يؤثر على ثواب الحاج!! وهذا بلا شك فهم مغلوط لمعنى الجدال المذموم، ومعنى الجدال الممدوح، فنتفق أولاً أن الجدال المذموم هو الجدال في دين الله عز وجل بالباطل، والذي يبتغى به رد آيات الله عز وجل، ورد أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

بيان أبغض الرجال إلى الله

بيان أبغض الرجال إلى الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم أو الألد الخصيم)، وفي رواية: (إن أبغض الرجال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هو الألد الخصم). والألد: هو الشديد، يعني: صاحب الخصومة الشديدة الذي يشار إليه أن فلاناً مجادل، وأن فلاناً منازع، وأن فلاناً مخاصم، فإذا كانت الخصومة والجدال والملاحاة علامة على شخص ما؛ فاعلم أن هذا الشخص إنما هو مبَغَّض إلى الله عز وجل، كما أنه مبَغَّض إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

تفسير الحسن البصري لقوله تعالى: (وهو ألد الخصام وبيان أنواع الكذب، وخطر الكذب على النبي

تفسير الحسن البصري لقوله تعالى: (وهو ألد الخصام وبيان أنواع الكذب، وخطر الكذب على النبي [وعن الحسن في قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، قال: كاذب القول]. يعني: لا يقول قولاً صدقاً، وأنتم تعلمون أن الكذب في اللغة وفي الاصطلاح هو القول الذي لا يطابق حقيقة الواقع، سواء كان قائله متعمداً، أو مخطئاً، أو ناسياً، فيقال: إنه قول كاذب، لكن هل يأثم قائله بذلك؟ إذا كان متعمداً فإنه يأثم، وإذا كان غير متعمد لذلك فإنه لا يأثم. والكذب منه ما هو مذموم أشد الذم، بل ذهب بعض أهل العلم إلى كفر قائله، كالكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، كما في قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فلم يرد مثل هذا التهديد والوعيد في الكذب في حديث الناس، ولما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد). وبهذا يتبين أن الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو دين يتعبد به إلى قيام الساعة؛ ولذلك لم يستو الكذب في حديث الناس مع الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لو كذبت على النبي عليه الصلاة والسلام فكأنك تقول: هذا دين الله عز وجل الذي قد أتى به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وبالتالي يلزمكم أيها الناس! أن تتقربوا إلى الله بمثل هذا الكلام، وفي حقيقة الأمر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا الكلام، بل هو مفترى عليه عليه الصلاة والسلام، ولكن من رحمة الله عز وجل ومن حفظ الله عز وجل لهذا الدين أن قيض لسنة النبي الأمين أناساً يذبون عنه، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فميزوا وغربلوا السنة غربلة، وميزوا وفرقوا بين ما صح وما ثبت عن صاحب الشريعة الغراء وما لم يثبت. فتعبدنا الله عز وجل بما ثبت عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وأما ما دون ذلك فإنه مردود لا يجوز العمل به قط، بل ولا حتى في فضائل الأعمال على أرجح الأقوال من كلام أهل العلم. والكذب مذموم كله، وهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. والكذب كله ما ورد في الكتاب والسنة، بل ولم يذكر في لسان العرب إلا في معرض الذم، ولم يستثن منه الشرع إلا مواطن محددة، كالكذب على العدو؛ لأن الحرب خدعة، والكذب على الزوجة؛ لاستقامة الحياة، وهو الكذب فيما يتعلق بالثناء عليها، والحث لها، وقبول أعمالها وغير ذلك، كأن تقول لها مثلاً: أنت جميلة، وهي في حقيقة الأمر دميمة، وكأن تقول لها: طبخك أو طهيك ما أجمله وما ألذه، وهو في حقيقة الأمر تأنف منه الكلاب، لكن على أية حال لو أنك قلت ذلك لدامت العشرة، وطاب الخاطر، فمثل هذه المسائل أجازها الشرع لمصلحة أعظم من الكذب، وهو كذب لا يؤثر على دين الله عز وجل لا أخذاً ولا رداً.

ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض، وضرورة إرادة الحق في الجدل

ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض، وضرورة إرادة الحق في الجدل قال: [وقال أبو أمامة: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالتها التكذيب بالقدر]. يعني: ينفون عن الله عز وجل علمه بما كان، وأنه لا يعلم ما كان إلا بعد أن كان ووقع، فعلمه بعد أن صار حدثاً، وأما قبل صيرورته حدثاً واقعاً فإن الله لا يعلمه، ويزعمون أن الله تعالى لم يكتب مقادير العباد قبل أن يخلق العباد، فمن نفى علم الله عز وجل السابق ونفى الكتابة؛ فإنه كافر عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا. قال: [وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]] يعني: مهنتهم الخصومة والملاحاة والجدال. [وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية، وينزع ذاك بآية)]. فانظروا إلى الملاحاة والخصومة! لا يريد أطراف الخصومة أن يصلوا إلى الحق، وإنما كل واحد يريد أن يصل إلى إثبات ما استقر عليه رأيه، وإن كان أمراً شرعياً في أصله، فتجد مثلاً بعض من الإخوة في الصحوة يتربون في قضية ما على رأي واحد، فهو يتبناها، لا لأنه درسها وقرأها وعرف أدلتها وتعبد بهذه المسألة، لكن لأن فلاناً من أهل العلم -المحبب والمقرب إلى قلبه- يميل إلى هذا الرأي؛ فهو كذلك يميل إليه بالعاطفة لا بعلم ولا بدراسة. ولذلك فكثير من المسائل التي استقرت لديكم ينبغي مراجعتها، ودراستها دراسة علمية؛ حتى تعبد الله تعالى على بصيرة؛ لأن البصيرة هي العلم لا العاطفة. فلو أننا أشرنا بالأصابع الآن إلى فلان وفلان من الناس الحاضرين وقلنا له: ماذا يترجح لديك في مسألة: كشف الوجه وتغطيته؟ فلا بد أنه يبادر إلى وجوب النقاب وتغطية الوجه. فإن قلنا له: اذكر دليلاً من القرآن، ودليلاً واحداً من السنة، ورأي من هذا؟ هل هو رأي الجمهور أم غيرهم؟ لتوقف وسكت؛ وذلك لأنه منذ نعومة أظفاره في المساجد وفي طلب العلم استقر عنده رأي وتبناه، وهذا الرأي هو أن النقاب فرض لازم، فربما اعتقد أن كشف الوجه سفور وفجور، فهو يهاجم ويسب ويلعن الرأي الآخر. والقائم على الرأي الآخر إذا سألته: من أين لك هذا؟ سكت، بل ربما هاجم. ولو سألت فلاناً من الناس: ماذا تقول في صلاة الجماعة: أهي سنة مؤكدة أم واجبة، أم أنها شرط في صحة الصلاة؟ وهذه هي في صلاة الجماعة، ولكل مذهب أدلته، فماذا درست أنت من أدلة في هذه المذاهب كلها؟ ثم ما الذي ترجح لديك؟ A أنك تحفظ من أول الأمر أن صلاة الجماعة واجبة، فإذا قلنا: اذكر لنا دليلاً من الكتاب أو من السنة؛ فإنك لا تذكر، ولكنك تربيت على مثل هذا، فأنت ليس عندك استعداد للمناقشة والإقناع. إذاً: إذا دخل مثل هذا في خصومة ومجادلة لإثبات الرأي الراجح من أقوال أهل العلم؛ أصر على رأيه؛ لأنه تربى عليه، ويصعب عليه جداً أن ينحرف عنه، وأن ينتقل إلى غيره؛ وذلك لأنه لم يدرس، ولما سئل في أول الأمر أظهر الذي ترجح لديه بالعاطفة والهوى، ومحبة للشيخ الذي أفتاه بذلك، فتجده يتعصب جداً ويغضب جداً، وربما يشتكي، وينقل هذا للغير. بل وربما يشير إلى أن هذا الشيخ يقره، فصار يقول: إن صلاة الجماعة سنة، والمستقر عنده أنها واجبة. وليس هذا من باب الجدال بالباطل، وإنما هو جدال بالحق، ولذلك نحن إذا فتحنا كتب الفقه -كالمغني والمجموع وغيرهما من الكتب- لوجدنا أن مسائل الإجماع في رأي معين أو علم قليلة جداً؛ ولذلك جمعت في كتيبات، وأما جل مسائل الفقه فمحل نزاع وأخذ ورد، وأصول تختلف من الجمهور إلى الحنفية وغير ذلك، وهم يبنون فتاواهم الشرعية على أساس هذه القواعد الكلية، أو الأصول العامة في علم أصول الفقه، فالأمر يحتاج إلى دراسة موسعة جداً، ورحابة صدر إذا كنا نتناقش لأجل الوصول إلى الحق. ولذلك ينبغي أن يبتغي كل مجادل الوصول إلى الحق، كما كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك. فـ الشافعي عليه رحمة الله يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وقال: وما ناظرت أحداً قط إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه ويده. أي: على لسانه هو لا لسان الشافعي، مع أن لسان الشافعي من أطيب الألسن، وأعلم الألسن، لكنه تجرد لله عز وجل. قال: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه هو؛ لأن هذا فيه فائدة عظيمة جداً للإمام الشافعي، كون الشافعي يظهر له أن الحق مع خصمه، فهذا يدل على أنه قد علم أدلة لم تكن لديه، فلو علمها قبل المناظرة لقال بها. وهو القائل: إذا تعارض قولي مع قول النبي عليه الصلاة والسلام فاضربوا بقولي عرض الحائط. رحمه الله تعالى ورضي عنه. وهكذا كل عالم مخلص كتب له القبول عند الله عز وجل وعند المؤمنين، إنما كانت هذه سيرته، فهي سيرة طيبة في إرادة إظهار دين الله عز وجل، بغير تعصب لمذهب، ولا تعصب لقول ولا لشخص، وإنما التعصب دائماً لله عز وجل ولرس

ضرورة التحلي بالعلم والحكمة في الدعوة إلى الله

ضرورة التحلي بالعلم والحكمة في الدعوة إلى الله وبعض الإخوة يقول: إذا كنا مأمورين بالدعوة إلى الله عز وجل؛ فكيف نوفق بين ما أُمرنا به وبين قولك: أننا لا نجادل ولا نماري ولا نخاصم ولا ندعو إلى الله عز وجل؟ و A أنا ما قلت هذا القول، ولم يَفهم أحد تقريباً من كلامي أني قلت هذا، لكن لا بد أن تعلم أنك مأمور بالدعوة إلى الله عز وجل إذا كنت على مستوى ذلك، فتدعو إلى الله عز وجل، فكم من الناس -وربما يكون عنده علم- إذا دعا إلى الله كاد أن يفسد أكثر مما يصلح؛ لأن شرط الدعوة أن تكون بالحكمة، وبعض الناس لا حكمة عنده ألبتة، فعندما يأمر كأنه يأمر بالعصا والسيف، فلا يقبل منه ذلك، بل ربما تأخذ المأمور العزة بالإثم فيرد الحق الذي معك؛ لغلظتك وفظاظتك، والله تعالى يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فلما لم ينفضوا من حوله، بل التفوا حوله؛ تبين أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فظاً، ولا غليظ القلب عليه الصلاة والسلام، بل كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان يحرص عليهم أكثر من حرصه على نفسه وعلى أهله وولده عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا هو الذي يدعو. وكذلك لا يدعو أحد بغير علم، وأنتم تعلمون أننا نعيب على الإخوان الذين يدعون إلى الله بزعمهم بغير علم، فينشرون البدع، وينشرون الخرافات في العقيدة والعمل؛ فهذا أمر لم يكلفنا الله عز وجل به؛ ولذلك قال الله تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ)) على ماذا؟ ((عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا)) أي: النبي ((وَمَنِ اتَّبَعَنِي)). فالذي يدعو إلى الله عز وجل لا بد أن يتحلى بالحلم ومكارم الأخلاق، ويكون عاملاً كذلك بما يدعو الناس إليه ويأمرهم به، ويكون منتهياً عما ينهاهم عنه، وكذلك يكون عالماً بالأمر الذي يأمر به، أو عالماً بالنهي الذي ينهى عنه. فربما ذهب ينهى الناس عن أمر ويغلب على ظنه أنه حرام؛ فإذا به واجب، وربما ذهب يأمر الناس بعمل معين، وإذا به منهي عنه في الشرع؛ ولذلك فالعلم شرط في الدعوة إلى الله عز وجل. فبهذه القيود وغيرها من القيود والشروط التي اشترطها أهل العلم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون الدعوة، أما أن يُفهم من كلامي ترك الناس للدعوة إلى الله عز وجل بالكلية؛ فهذا لا أقصده ولا أقوله قط.

تابع ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض بالجدل المذموم

تابع ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض بالجدل المذموم [قال أبو أمامة: (فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صب على وجهه الخل)] يعني: لما خرج عليهم ووجد أن هذا يأتي بآية وذاك يأتي بآية، وكل واحد يأتي بالدليل الذي يستطيعه من باب نصرة رأيه على رأي الآخرين؛ غضب وكأنه صب على وجهه الخل. فقال: [(يا هؤلاء! لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإنه يوقع الشك في قلوبكم، فإنه لن تضل أمة إلا أوتوا الجدل)]. وعند ابن ماجه بإسناد حسن: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)]. فاعلم أن الجدال والخصومة والمراء في دين الله بغير علم، وبغير هدى وكتاب منير؛ هو طريقك إلى ركوب الأهواء والضلالات والبدع.

بيان أن الصالحين والموعودين بالجنة لا يجادلون في دين الله تعالى

بيان أن الصالحين والموعودين بالجنة لا يجادلون في دين الله تعالى قال: [وقال أبو الدرداء وأبو أمامة وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً؛ فطوبى للغرباء)]. وطوبى قيل: هي منزلة في الجنة، وقيل: هي شجرة في الجنة وقيل غير ذلك. [قال: (فطوبى للغرباء، فقيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)] أي: يُصلِحون الناس حين فسدوا، أو يَصلُحون هم في وقت قد فسد فيه الناس. [قال: (لا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أهل القبلة بذنب)]، وهذه زيادة، وأصل الحديث عند مسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً). وقوله: (قيل: من الغرباء؟) إلى آخر الحديث هي زيادات متنوعة وكثيرة جداً لم يصح منها من جهة الإسناد شيء إلا ما يشهد له بعض النصوص، كما جاء (قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل)، وقيل: (هم الذين يصلحون عند فساد الناس) وقيل غير هذا. [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم لمن ترك المراء وهو محق ببيت في ربض الجنة)]. قوله: (أنا زعيم): يعني: أنا كفيل ومسئول، وربض الجنة: هو ما حواليها. [قال: (وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة)] أي: حوالي الجنة، فهذه ثلاثة بيوت لمن ترك المراء وهو محق؛ حتى لا يتمادى مع أصحاب الأهواء، وأصحاب الكلام، وأصحاب البدع؛ لأنه لو تمادى ربما وقع في قلبه ما يشككه، أو يعكر عليه صفوه. فهذه دعوة للحفاظ على القلوب، والحفاظ على العقول، فإذا أنت لم تفلح في رد هذا الخصم؛ فلا أقل من أنك تشوش في معلوماتك وفي عقيدتك، وتراجع نفسك مرة أخرى، وهذه المراجعة الذي دفعك إليها هو بداية الشك الذي أوقفك عليه ذلك المجادل. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيم لمن ترك الجدال وهو محق ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة)، فهذه ثلاثة بيوت لمن ترك الجدال وهو محق.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التخاصم والتنازع في القدر

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التخاصم والتنازع في القدر قال: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، يعني: يتخاصمون في القدر، هذا ينزع بآية وذاك ينزع بآية- فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -يعني: احمر وجهه وغضب غضباً شديداً لمَّا وجد ذلك- فقال: أبهذا أمرتم؟ أبهذا أوكلتم، تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا إلى ما أمرتم به فاتبعوه، وإلى ما نهيتم عنه فاجتنبوه)]. فهم قد أمروا بالإيمان بالقدر، لكن لما كان هذا أمراً شائكاً فالأصل فيه إذا ذكر الإمساك، (إذا ذكر القدر فأمسكوا)، وآمنوا به إيماناً جازماً، وسلموا له تسليماً مطلقاً. فعلينا إذاً: أن نعرف الحلال لنعمله، ونعرف الحرام الذي لا خلاف فيه لنجتنبه، فإنه في القديم لم يكن أحد ينازع قط في حرمة شرب الخمر؛ لأن حرمته أمر معلوم يقيناً، وهذه المسألة بالإجماع، ولا ينبغي أن يكون فيها خلاف، وأما الآن فيأتي من يقول: يا أخي! دعنا من الخمر، أنا أتكلم عن (الوسكي) و (الشمبانيا)، والمشروبات الروحية، والمشروبات الكحولية، كيف تكون حراماً؟! وواحد آخر يقول: ولم هذه الأشياء محرمة إذا كانت الحكومة مرخصة لها؟! وكأن هذه الحكومة حامية الحمى! ألا ترى الزنا والعري والفجور وبيوت الدعارة، ماذا ستقول في هذه الأمور؟ أحرام أم لا؟ يقول لك: لا لا، هذه تصرفات شخصية فردية، وكذلك هذه الأمور مرخص لها، أرأيتم الفلسفة؟! فإذا دخل الأمر إلى هذا الحد فقاطع الجدال والخصومة، فهذا دين الله عز وجل، فهذا أمر حرام ظاهر الحرمة، فيمنع أن يتكلم فيه أحد. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر؛ حتى كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم أقبل علينا فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)] يعني: أؤكد عليكم ألا تتنازعوا في مثل هذا الأمر.

الامتناع من الجدال والخصومات المؤدية إلى تكذيب القرآن

الامتناع من الجدال والخصومات المؤدية إلى تكذيب القرآن قال: [وعن أبي العالية قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]]. إذاً: فالجدال من صفات الكافرين. [وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]] أي: خلاف وتناحر ونفرة، ولذلك لن تجد أبداً اثنين من الجهلة جالسين يتكلمان في مسألة إلا وينصرفان على خلاف وتفرق في القلب، وهذا أكيد، فكل واحد منا قد دخل هذا الباب عدة مرات، وإن وافقه الخصم على ذلك قبل على مضض، وإن فارقه وتمسك بما عليه قام وبينهما قطيعة ربما لا تنتهي، ومردُّ ذلك كله إلى الجهل، فالاثنان مطلوب منهما أن ينصرفا إلى رجل من أهل العلم ليفصل بينهما، أو يعلمهما أصل هذه القضية من دين الله عز وجل كتاباً أو سنة. وأما أن يستند كل واحد منهما إلى ظاهر آية أو ظاهر حديث؛ فيفهم منه دون أن يرجع إلى كلام أهل العلم، أو إلى خلاف أهل العلم في هذه المسألة؛ فإن هذا ما لا يعرفه أحد من السلف. [وعن جابر قال: قال لي محمد بن علي -أي: أبو جعفر الباقر -: يا جابر! لا تخاصم؛ فإن الخصومة تكذب القرآن]. أي: لا تخاصم ولا تجادل؛ لأنها تؤدي إلى التكذيب بالقرآن الكريم، فأنت ستأتي بآية وهو سيأتي بآية، وهذا تكذيب بلسان الحال، لا بلسان المقال، فأنت لا تقول له: هذه ليست آية في كتاب الله، وإنما تقر أنها آية في كتاب الله، لكنك تريد أن تنتصر لرأيك؛ فترد العمل بما قد أتى به صاحبك من آيات وأحاديث، وتعمل جاهداً دائماً على رد كل الأدلة التي أتى بها خصمك؛ لعلة واحدة؛ انتصاراً لرأيك فقط ليس أكثر، ليس انتصاراً لدين الله عز وجل، وإن كانت أدلة الخصم أوضح من الشمس في رابعة النهار تقول: لا، أنا دليلي فقط هو الحق. [وعن أبي جعفر الباقر قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68]]. يعني: هذا يأتي بآية وذاك يأتي بآية، وكل إنسان يحاول أن يجمع أكثر عدد من الأدلة من القرآن والسنة؛ ليثبت صحة ما عليه هو، لا ليثبت أصل المسألة، أو يرجع إلى كلام أهل العلم وأفهام أهل العلم لهذه الآيات والأدلة، وإنما يجمع الأدلة ويحشدها حشداً لإثبات صحة ما عليه هو.

دخول الشيطان على العالم في ساعة الجدال والخصومة

دخول الشيطان على العالم في ساعة الجدال والخصومة قال: [وعن مسلم بن يسار قال: إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم]. يعني: لو مارى وخاصم عالم فإنه في هذه المرة ليس جاهلاً فهو عالم، لكن في لحظة ضعف منه أو غفلة تسلط عليه الشيطان، وجعله يناظر وينافح ويأخذ ويعطي، فأثبت أن ربا البنوك حلال، وأتى بأدلة أو شبه أدلة من هنا وهناك، وأتى بكلام لأناس مغمورين لا يعرف أحد أنهم من أهل العلم من القرون الأولى والقرون الوسطى إلى يومنا هذا، ثم يبلور من هذا كله رأياً: وهو أن الربا حلال، ويفتي بذلك للعامة، مع العلم أن هؤلاء العامة أفقه ممن قال بهذا الرأي، لكن لما أعجبهم هذا الرأي ووافق هواهم؛ قالوا به، وعملوا من خلاله، وهم إذا استوقفوا ليقسموا يمين الطلاق عما إذا كانوا يعتقدون صحة هذا القول من عدمه؛ فإنهم يقولون: إن هذا القول باطل عندما نضعه على المحك. أذكر أن شخصاً وضع أمواله في البنك، وصار يأخذ فوائد -وإن شئت فقل: ربا هذا المال- للإنفاق على نفسه وعياله في كل شهر، فاستفتاني ولده فقلت: هذا المال حرام، والآثم في ذلك أبوك، وإذا كنت في حل من المعاش معه فيحرم عليك هذا، وإلا فكل هنيئاً مريئاً على قدر الكفاف، والإثم عليه. فذهب ونقل إلى أبيه هذه الفتوى، فأتاني الأب في بيتي وقال: أنت تضلل الناس، وأنت تفعل كذا، وأنت تفعل كذا قلت: وما القصة؟ قال: قلت: كيت وكيت وكيت كيف تفتي بأن فوائد البنوك حرام؟ وهل أنت ند لفلان الذي يقول: إنها حلال؟ قلت له: أنا لست نداً، وأعوذ بالله أن أكون نداً، لكني أرتضي أن تحلف لي بقولك: امرأتي طالق امرأتي طالق امرأتي طالق؛ إذا كان هذا المال حراماً؟ قال: لا. أنا لا أستطيع أن أحلف، قلت له: لماذا؟ قال: أنت تضعني في طريق ضيق. قلت له: بما أنك تعلم أنه طريق ضيق ومغلق ومقفول فلماذا تدخله؟ إن الطريق المفتوح هو الذي يؤدي إلى الجنة، وأما المغلق ففي نهايته سقوط إلى الهاوية. قال: يكفي الشهادة لله إذا كنت تريد أن تحلفني اليمين، ثم قال: امرأتي طالق امرأتي طالق امرأتي طالق إذا كنت أعتقد أن هذا المال حلال، بل أعتقد أنه حرام. قلت: إذاً: يلزمك أن تذهب إلى صاحبك الذي قرنت بيني وبينه لتخبره بهذا. قال: هذا لا يعتقد بقول أحد قط إلا بقوله هو. يعني: أن العوام أنفسهم يفهمون هذه المسألة. إذاً: لم يخالف هذا الفهم؟ A لأن الأمر يوافق هواهم، ويتصورون أنهم في منجىً بقولهم: (ضعها في رقبة عالم واطلع منها سالم!). وهذا كلام باطل، وإنما إذا كنت فعلاً تريد الحق، وتبتغي الحق، فإنك تسأل أكثر من واحد من أهل العلم، ثم تأخذ بالأحوط، وحينئذ ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً، وهذا للجهال الذين ليس لهم نوع اجتهاد، ولا بحث ولا نظر في كتب وفي كلام أهل العلم وأدلتهم. قال: [إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وفيها يبتغي الشيطان زلته]. فيبدأ يزين له، ويزخرف له القول، وربما ذكره بالأدلة التي تعين على إثبات هذا الباطل الذي هو عليه.

الخائضون في الباطل أكثر الناس خطايا يوم القيامة، وسبب اتباع الأهواء

الخائضون في الباطل أكثر الناس خطايا يوم القيامة، وسبب اتباع الأهواء [وعن عبد الله بن مسعود قال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل]. أي: هم أعظم الناس إثماً يوم القيامة. [وعن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ -يعني: ما الذي جعل الناس يركبون الأهواء؟ - قال: الخصومات].

أثر الخصومات والجدال في الدين على الأعمال

أثر الخصومات والجدال في الدين على الأعمال [وعن إبراهيم النخعي في قول الله عز وجل: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] قال: أغرى بعضهم ببعض في الخصومات والجدال في الدين]. فما من أحد من أهل الأهواء والخصومات إلا ويخاصم بالمتشابه، أما المحكم فلا، فدائماً تجدون أن طريق أهل الأهواء هو في المتشابه، فالمتشابه هو مادة الخصومات لدى أصحاب الأهواء، والأصل في مجلس العلم الاجتماع لا التفرق، والأصل في مجلس العلم أن له آدابه العظيمة، والجدال ليس منها، بل هو ينافيها. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، ولم يقل ما تفرق قوم في بيت من بيوت الله، وإنما قال: (ما اجتمع)؛ فالأصل فيه الاجتماع. وأنتم تعلمون حديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد في حلقة علم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (أما أحدهم فأعرض فأعرض الله عز وجل عنه، وأما الثاني فوجد فرجة فسدها فسد الله عنه، وأما الآخر فاستحيا؛ فاستحيا الله منه) فالأصل في مجلس العلم الاستفادة. وأما الآن فتجد واحداً ينام على جنبه، وتجد آخر يشخر، وآخر يمد رجليه، والآخر يجلس على نصف رجل، بل كثير من الإخوة يجلس متكئاً على اليد اليسرى أو اليد اليمنى، أو يديه خلف ظهره كل هذا مما عم وطم، وإذا كان الواحد فيكم لا يعرف هذا، أو لا يعرف كيف يجلس في عموم جلساته -وخاصة في مجلس العلم- فكيف يكون طالب علم؟! قال: [لا أعلم أحداً من أهل الأهواء يخاصم إلا في المتشابه، أما المحكم فلا. وعن معاوية بن قرة قال: الخصومات في الدين تحبط الأعمال]. أي: أن هذا باب من أبواب فساد العمل، فقد تعمل عملاً ثم تخاصم؛ فإذا بك عند الله كأن لم تكن قد عملت هذا العمل، فهي محبطة للأعمال، أي: لثواب الأعمال.

أقوال عمر بن عبد العزيز في التحذير من الخصومات في الدين

أقوال عمر بن عبد العزيز في التحذير من الخصومات في الدين قال: [وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل]. يعني: أكثر التحول، فكلما أتاه خصم لجج حجته أقوى من حجة المخاصم الأول تحول، حتى يتحول مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشر مرات. فتجده اليوم من الإخوان المسلمين، ويوم غد من جماعة التكفير، فلو أنه اتقى الله عز وجل في دينه ونفسه من أول الأمر؛ لوفقه المولى عز وجل إلى المذهب الحق الذي كلف به من قبل الشرع، وثبت عليه، واستقام عليه إلى أن يلقى الله، لكنه إنسان دخل بهوى، أياً كان نوع هذا الهوى؛ لأن الأهواء متعددة وكثيرة، ومن أجل ذلك عاقبة رب العزة تبارك وتعالى بكثرة التحول والتنقل، وربما يكون هذا الهوى هو حب الرئاسة، أو الزعامة، أو الظهور، أو الصدارة في المجالس، أو حب الكلام أو غير ذلك من الأهواء. قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من عمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح]. وهذه هي صفة النصارى، والله سماهم ضلَّالاً، والنبي عليه الصلاة والسلام بين أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، فاليهود مغضوب عليهم لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى ضلال لأنهم عملوا بغير علم، والأصل في المسلم: أن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل. ولا يسعك علم بغير عمل، كما أن العمل بغير علم الأصل فيه الابتداع في الدين، فالذي يعمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. قال: [ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن كثرت خصوماته لم يزل يتنقل من دين إلى دين، ومن نحلة إلى نحلة، ومن مذهب إلى مذهب؛ بسبب كثرة الخصومات].

تحذير حذيفة لأبي مسعود الأنصاري من التلون في دين الله

تحذير حذيفة لأبي مسعود الأنصاري من التلون في دين الله قال: [وعن أبي مسعود الأنصاري أنه قال لـ حذيفة: أوصني! قال: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد]. أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهذه وصية عظيمة جداً، فهو يقول له: أوصني يا حذيفة! فقال له: (إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف). إننا الآن نجد إخوة أفاضل وملتحين وغير ذلك ولهم سنوات طويلة في حقل الدعوة، أو في حقل الالتزام، ثم بعد ذلك نفاجأ بأنه انزوى واختفى سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات فلا يراه أحد، فنذهب لزيارته فإذا به قد حلق لحيته، وتخلص من كل مظهر للإسلام على بدنه بعد أن كان من أشد الناس. وأذكر بهذه المناسبة عندما كنا في الأردن أن رضوان دعبول صاحب مؤسسة الرسالة -وهي مؤسسة كتبية كبيرة مشهورة- كان صاحب دين، وصاحب أياد بيضاء على طلاب العلم، وأنا عملت معه عامين في مؤسسة الرسالة تحت إشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط في مكتب التحقيق بالأردن بعمان، وكان أحد إخواننا من مصر مقيماً معنا هناك في عمان، وكان يجهل كثيراً جداً على الشيخ الألباني في مجالسه، وأذكر أنه عندما قال الشيخ: إن بيع التقسيط حرام؛ قام عليه هذا الأخ ولم يبق من كلامه إلا أن ينطق بكلمة الكفر لشيخنا رحمه الله. وكنت إذا ذهبت معه لنصلي في مسجد من المسجد ينطلق مسرعاً إلى الإمام قبل أن يكبر ويقول له: ماذا تقول في الإيمان؟ وماذا تقول في الإحسان؟ وماذا تقول في القرآن الكريم: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ فكنت أقول له: يا أخي الكريم! لا يصح هذا، هذا الفعل من البدع، وهذا من الأهواء. فيقول: لولا أني أعرفك لقلت فيك كلاماً غير ذلك، فكان معروفاً بشدته وحدته إلى أقصى حد، ودخل في باب التنطع من أوسع الأبواب. فالشاهد من هذا: أني زرت مؤسسة الرسالة في عمان يوماً مع هذا الأخ، فقلت له: تعال نسلم على رضوان فقال على مضض: السلام سنة، سلم عليه، وأنا أعرف أن هذا الأخ غلطان؛ لأنه دائماً غلطان، فدخل في منتهى العبوس وسلم عليه، فقال له رضوان: ماذا بك يا شيخ فلان؟! لماذا أنت غضبان هكذا؟ هل أحد أغضبك؟ إن غضبت من الزوجة؟ نزوجك!! ويمازحه بخفة دم لا نهاية لها، فقال: اسمع يا رضوان! لا بد أن تعلم أنك من أهل النار، ولست من أهل الجنة، قال رضوان: لماذا؟! قال: أنت حليق، ولابس قميصاً وبنطلوناً، ولا تصلي جماعة في المسجد! فقلت له: إن هذا الكلام لا يصح، قال: وهل أنت تشك في أن هذا يكفر؟! قلت: لا. أنا على يقين أن هذا لا يكفر، إن هذه المخالفات لا تكفر، بل هي معاص، فأنت الآن يا فلان! تقول بقول الخوارج، بل ربما لم يقل أحد على مثل هذه الأفعال الثلاثة من الخوارج: إنها كفر؛ فتكون قد أبعدت النجعة، وغاليت مغالاة لم يغالها الخوارج. فغضب غضباً شديداً جداً وانصرف وتركني معه، فلم تكد تمر الأيام حتى أثبت لنا أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فإما أن ترجع إلى أصل الدين، وهو الاعتدال والوسطية، وإما أن ترجع إلى ذروة الضلال، فلا تتمكن قط من الرجوع، وهذه سنة الله عز وجل في الخلق. فمرت حوالي عشر سنوات وإذا بهذا الأخ يأتي إلى المسجد المجاور لبيته في شارع الهرم، وعند أن كبر الإمام ودعا دعاء الاستفتاح ثم قرأ الفاتحة سكت، ثم قرأ الآيات، وما إن فرغ من الصلاة إلا وقام عليه، وكاد أن يضربه ويفسقه ويبدعه؛ لأنه سكت بين الفاتحة وبين القراءة، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، والراجح: عدم السكوت، لكن لا يعالج الخطأ بمثل هذا، ثم انتظرني حتى أتيت في وقت متأخر من الليل وبات معي، فلما رأيته اندهشت؛ فقد كان لابساً ملابس ضيقة، و (كرفتة)، وحالقاً لحيته، وخلع العمامة، فقلت في نفسي: مادام أنك حكمت من قبل بأن هذا كفر لكني استحييت أن أكلمه. ولما صلينا الفجر قال: أتيت لأن معي بعضاً من الكتب قد أعددتها للطباعة، ونريد أن نبيعها بما لك من صحبة مع بعض الناشرين، فقلت له: أنا أعرف ناشراً محترماً جداً، وهو الآن نازل في فندق الأمان، أنذهب إليه؟ فقال: لنذهب، قلت له: هو يصلي الفجر، ويقرأ الأذكار، ثم ينصرف إلى المعرض، فذهبنا إلى رضوان دعبول -وهو الذي كفره من قبل- فلما دخلنا عليه قال: أهلاً يا شيخ فلان! وما الذي ترتديه؟ ما الذي جرى يا شيخ فلان؟! ويشير إلى (الجلابية) التي يلبسها، ويقول: ما بك؟ قال: الضرورة، وتمر الأيام وقابلته على رصيف في محطة أتوبيس جالس، وبه من الغم ما الله به عليم، فقد جاء له جواب من مصر فيه: أن أباه قد تبرأ منه، وأمه تبرأت منه، وأخته تبرأت منه؛ فأشفقت عليه، وجلست بجانبه مخاطباً له: أنا أخوك فلان من مصر فجلس يسب مصر. فالشاهد: أن الخصومات في دين الله عز وجل لها ضريبة ويحكم ذلك نيتك في نصرة دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما إذا دخلت في طريق مغلق فإن هذا لا ينفعك بين يدي الله عز وج

أقوال إبراهيم النخعي ومالك وعطاء وعمر بن عبد العزيز في كراهة التلون في دين الله

أقوال إبراهيم النخعي ومالك وعطاء وعمر بن عبد العزيز في كراهة التلون في دين الله [وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التلون في الدين، وقال: كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله عز وجل. وقال مالك: الداء العضال التنقل في الدين. وقال كذلك: قال رجل: ما كنت لاعباً به فلا تلعبن بدينك]. يعني: إذا كنت ولا بد لاعباً فالعب بأي شيء ولا تلعب بالدين؛ لأن التنقل من دين إلى دين، ومن مذهب إلى مذهب، ومن ملة إلى ملة لعب يؤدي بك إلى الهلكة، ولا يؤدي بك إلى النجاة. [وعن عطاء قال: الساقط يوالي من شاء]. أي: أن الإنسان الساقط هو الذي يوالي من شاء، وأما الإنسان المعتدل المحترم فإنه يوالي الله ورسوله، ويوالي أهل العلم، فالإنسان الساقط المنحط علمياً وأخلاقياً وقلبياً يوالي كل يوم من راقت وتاقت نفسه إليه. [وعن إسحاق بن عيسى الطباع قال: كان مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرد ما جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام!! وعن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يوماً من المسجد وهو متكئ على يديَّ -يعني: خرج من المسجد متكئاً على يد معن بن عيسى -قال: فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك، وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، قال مالك: يا عبد الله! بعث الله محمداً بدين واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين؟! قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل].

ضرورة التأهل قبل مناظرة أهل البدع

ضرورة التأهل قبل مناظرة أهل البدع وكلمة (مناظرة) لم تكن على ألسنة السلف إلا عند نصرة دين الله عز وجل، فمثلاً رد الإمام أحمد بن حنبل على الجهمية، وكذلك رد الإمام الشافعي على بشر المريسي، وكتب الله تعالى النصرة لـ أحمد وللشافعي على رءوس البدعة والضلالة. ورد عبد الله بن عمر على معبد الجهني قال: بئس المعبد هو، رد عليه فيما يتعلق بالقدر. ومن العجب أن يأتي الأصاغر فيقولون: تعال نتجادل تعال نتناظر! نتناظر في ماذا؟ إنك لا تحمل شيئاً من العلم؟ إنك لا تعلم كيفية الوضوء ولا تصلي ولا تصوم ولا! فحالتك منحطة، وتقول: أناظر؟ من تناظر؟ والأدهى من ذلك أن يأتي جاهل يضرب بأطنابه في الجهل إلى عالم ويقول له: أناظرك!! ولا يقول: أتعلم، ولا يأتي للتعلم فيسأل تعلماً ولا يسأل تعنتاً.

الشيخ الألباني ومناظرته لبعض الجهاديين

الشيخ الألباني ومناظرته لبعض الجهاديين وفي ذات مرة أتى رجل إلى الشيخ الألباني وقال: أناظرك، فقال له الشيخ الألباني: أنا أناظرك في مسألة الجهاد، وكان هو إخوانياً، ثم تحول في السجن فصار تكفيرياً، فلما خرج من السجن تحول عن التكفير إلى جماعة الجهاد، وقال للشيخ: أناظرك، فالشيخ قال له: المناظرة ليست سهلة، فلما ألح عليه وأصر قبل الشيخ المناظرة، فقال للرجل: هات الذي عندك، قال له: حججي كيت وكيت وكيت، والشيخ قال له: وأسئلتي على هذه الأدلة كيت وكيت وكيت أجب؟ فلما سمع الأسئلة خنس كالشيطان، ثم قال للشيخ: لا بأس! دعني أراجع ذلك، قال له: أحسنت: تفضل راجع. فأخذ الشريط، وكان يأخذ سؤالاً واحداً من أدلة الشيخ ويسجله على الشريط، ويسجل رده على الشيخ في غرفة النوم، وأخذ يرد في الظلام، لكن الجهال عندما يسمعون الرد يقولون: ما شاء الله! إن فلاناً هذا أعلم من الشيخ الألباني، وقد حصلت بينهما مناظرة، وعندما رد فلان على سؤال الشيخ لم يستطع الشيخ التعقيب. وكيف يعقب الشيخ وهو ليس موجوداً؟! فهذا الرجل رد عليه في غرفته، وأنزل الشريط إلى السوق، لكن الله عز وجل يجعل الغلبة والتأييد والنصرة لدينه على لسان الشيخ الألباني، فإنه عندما علم أن هذه الأشرطة قد سجلت ودبرت له بليل قال: أنا أبرأ إلى الله عز وجل مما نسب إلي في الشريط الفلاني والفلاني، ثم دعا على الفاعل، وحصل انتقام الله عز وجل لأوليائه، فقد هرب هذا الفاعل من سجن في مصر إلى الأردن، فلما ضيق عليه في عمان أمنياً هرب إلى السعودية، ثم جيء به من السعودية عن طريق الأمن؛ فقضى أعواماً عديدة في سجون مصر مرة أخرى، ثم خرج قريباً من هذه الأيام، أو يبقى له عدة أشهر. فالذي يعرف أسلوب الشيخ في المناظرات والخصومات يعلم أن هذه الردود لا يسكت عليها قط، فالذين كانوا يسكنون معه في البيت بعمان هم الذين نقلوا للشيخ هذه المناظرة، وما كانوا يتصورون أن يتجرأ هذا الرجل على نشر هذه المفتريات والأكذوبات، فلما أرسلها إلى مصر وانتشرت في مصر عثروا على بعض أشرطة للشيخ، ففضح الأمر وفضح الفاعل، وهذا باب من أبواب دفاع الله عز وجل عن المؤمنين كما وعد في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].

دينك هو رأس مالك فاحرص عليه من كل ما يكدره

دينك هو رأس مالك فاحرص عليه من كل ما يكدره [قال الحسن: رأس مال المؤمن دينه، حيثما زال زال دينه، لا يخلفه في الرجال، ولا يؤتمن عليه الرجال]. يعني: احذر أن تؤمن رجلاً على دينك؛ لأنه رأس مالك، وتصور لو أن عندك مائة ألف جنيه هل يعقل أنك تتركه عند شخص بسهولة وتقول له: انتبه لهذا المال؟! لا يمكن، بل إن حزمة الجرجير لا تأتمن عليها أحد، فلماذا تعرض دينك لمن يريد أن ينهش فيه؟! فدينك أعز عليك من كل شيء. [قال هشام بن حسان: جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني -أي: أنا على يقين مما أنا عليه- اذهب وتكلم مع آخر شاك في دينه] وأما أنا فقد أبصرت ديني ولا حاجة لي في أن أجادل أحداً فيه. [قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: كان ذلك الرجل إذا جاءه بعض هؤلاء أصحاب الأهواء قال: أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاك؛ فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. وقال مالك: وقال ذلك الرجل: يلبِّسون على أنفسهم ثم يطلبون من يعرفهم] يعني: هم الذين أدخلوا أنفسهم في الأهواء ومضلات الفتن، ثم يطلبون من الناس أن يعرفوهم الطريق الحق. [وقال رجل لـ مالك: لقد دخلت في هذه الأديان كلها، فلم أر شيئاً مستقيماً، فقال رجل: فأنا أخبرك لم ذلك؛ لأنك لا تتقي الله، فلو كنت تتقي الله جعل لك من أمرك مخرجاً]. أي: أن هذا التيه والحيرة التي تعيشها هي بسبب البعد عن تقوى الله عز وجل.

من أراد الله به خيرا أغلق عنه باب الجدال

من أراد الله به خيراً أغلق عنه باب الجدال [وقال معروف: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شراً فتح عليه باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل]. وبعضهم طوال النهار ينصب المجلس، ويظل يجادل ويخاصم ويناظر، فإذا قلت له: لم لا تعمل؟ يقول لك: ليس هناك وقت! [وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: القرآن هو الإمام، فأما هذا المراء فما أدري ما هو] لا هو إمام ولا مأموم، إنما الإمام هو القرآن الكريم.

من كان كثير المراء والجدال فقد تمت خسارته

من كان كثير المراء والجدال فقد تمت خسارته قال: [وقال هلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً يعجب برأيه؛ فقد تمت خسارته]. أي: إذا رأيت الرجل مجادلاً ومماحلاً ومخاصماً ويصر على ذلك؛ فاعلم أن خسارته قريبة جداً، هذا إن لم يكن بالفعل قد خسر خسراناً مبيناً. [وعن يزيد بن أبي حبيب قال: إذا كثر مراء القارئ فقد أحكم الخسارة. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً]. وهذا النص قد شرحناه شرحاً مستفيضاً في كتاب الإيمان من صحيح البخاري عندما تعرضنا له.

الجلوس مع أهل الخصومات والجدال عدوى ينبغي الحذر منها

الجلوس مع أهل الخصومات والجدال عدوى ينبغي الحذر منها قال: [وقال محمد بن واسع: رأيت صفوان بن محرز رأى قوماً يتجادلون قريباً منه؛ فقام ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جرب إنما أنتم جرب]؛ فخشي أن يصاب أو أن يعدى بعدواهم. قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: لئن أرى في المسجد ناراً تضطرم -أي: من شدتها- أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير].

إفساد أصحاب الرأي والجدل والبدع لبيوت الله تعالى

إفساد أصحاب الرأي والجدل والبدع لبيوت الله تعالى قال: [وعن يونس بن عبيد قال: قال لي الشعبي: ما مجلس أجلسه أحب إلي من المسجد؛ إذ كنا نجلس فيه إلى أبيك، ثم نتحول إلى الربيع بن خثيم فيقرئنا القرآن، حتى نشأ هؤلاء الصعافقة]. والصعفوق: هو التاجر الذي ليس معه مال، فيدخل السوق ليبيع ويشتري وليس معه مال! فهو يقول: لم يكن هناك مجلس أحب إلى قلبي من الجلوس في بيت من بيوت الله، كنا نجلس نسمع لأبيك، ثم نتحول إلى الربيع بن خثيم، ثم إلى الثالث والرابع نتعلم؛ حتى ظهر هؤلاء المفاليس الذين لا علم عندهم. قال: [والله لأن أجلس على كناسة أحب إلي من أن أجلس إليهم]. يعني: لو جلست على مزبلة أحب إلي من أن أجلس في مسجد وأصحاب الكلام فيه. [وقال صالح بن مسلم: كنت مع الشعبي، فلما حاذينا المسجد -أي: كنا بحذاء المسجد وقبالته- قال: لقد بغض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد]. أي: أصحاب: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون؟ أو لو كان كذا ماذا يكون؟ وغير ذلك. قال: [لقد بغض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد حتى صار أبغض إلي من كناسة داري]. فـ الشعبي لم يقل ذلك إلا لأن هؤلاء أفسدوا أمر الشريعة، فهو لا يكره بيوت الله عز وجل، وإنما كان سبب كراهته دخول هذه البيوت تلك البدع التي أنشئت وأحدثت فيها، فمثلاً أنت الآن تمر على مسجد فيه قبر، فهل تريد أن تدخل فيه؟ هل تحب ذلك؟ فوجود القبر في هذا المسجد هو الذي بغَّض إليك المسجد. أو هناك إمام مبتدع يؤم الناس في مسجد، فلا شك أنك تبغض هذا المسجد لأجل هذا الإمام، وهكذا لا يبغض المسجد لكونه مسجداً، وإنما يبغض لما أحدثت فيه من البدع. نسأل الله تعالى أن يسلمنا وإياكم من كل بدعة وسوء، وأن يجنبنا وإياكم كل معصية. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [2]

شرح كتاب الإبانة - ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [2] لقد حذر السلف الصالح من مجالسة ومخاصمة وجدال أهل الباطل والبدع والأهواء؛ وذلك طلباً لسلامة القلوب، وحفظ الدين من الشك والاضطراب، فلا يصح لمسلم أن يذهب إليهم ويجادلهم إلا من كان له الأهلية في ذلك، وكان خبيراً بشبههم ومداخلهم، والحجج والبينات في الرد عليهم.

تابع باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام

تابع باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام

التحذير من الآرائيين

التحذير من الآرائيين إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن صالح بن مسلم قال: كنت مع الشعبي فلما حاذينا المسجد قال: لقد بغّض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد حتى صار أبغض إلي من كناسة داري. زاد ابن الصباح -وهو أحد الرواة في الإسناد- قال: وفي المسجد يومئذ قوم رءوس أموالهم الكلام، والجدال، والخصومات، والمماحلات في دين الله عز وجل بغير هدى ولا كتاب منير. وقال عبدة بن سليمان: نهاني أبو وائل -وهو شقيق بن سلمة الكوفي تلميذ ابن مسعود أن أجالس أصحاب: أرأيت أرأيت]، يعني: الآرائيين. [ولـ عمر رضي الله عنه قول عظيم جداً فيهم قال: إياكم والآرائيين؛ فإنهم أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا]. فهناك أمران: إما اتباع وإما ابتداع، فالمتبع دائماً رأس ماله: قال الله، وقال رسوله، وأجمع أهل العلم، فهذا هو رأس مال الأثري أو السني أو المهتدي. وأما رأس مال المبتدع: قال فلان وقال علان، من غير رجوع إلى سبيل من كتاب ولا سنة ولا إجماع لأهل العلم. ومن الناس من يقدم الرأي على السنة، وأقصد بالسنة الأثر، والأثر هو الدليل سواء كان في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع. ومن الناس من يعجبه رأيه، ويجعله حاكماً على النصوص، وحاكماً على الأدلة، وهذا في الأساس شيمة أهل البدعة. [عن الشعبي قال: ما من كلمة أبغض إلي من أرأيت أرأيت]. وربما يحمل هذا القول على الفرض الزمني، يعني: إنسان يسأل سؤالاً ولما يقع بعد؛ ولذلك مر بنا أن كثيراً من السلف كانوا إذا سئلوا في مسألة قالوا: أثم هي؟ يعني: هل وقعت؟ فإن قال السائل: نعم، أجابه فيها، وإلا قال: أجلنا عنها حتى تكون، فإذا كانت أعاننا الله عز وجل عليها. يعني: لا نجيب عن مسألة لم تقع بعد، وفي هذا كراهة توجيه الأسئلة لما ليس له واقع في حياة الناس، وكثير من الإخوة تجده يسأل الشيخ مثلاً أو المفسر فيقول: ما هو الحل الشرعي في مسألة كذا وكذا؟ فيجيب الشيخ، فيقول: هب أن كذا كان كذا وكذا، فما الحل؟ فيجيب على النحو الثاني، قال: ولكنها كانت كذا وكذا فما الحل؟ ففي مسألة واحدة يطرح الطالب عدة أسئلة، وكل واحد منها لم يكن له علاقة ولا واقع في حياة هذا السائل، وهذا بلا شك كله مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، وأئمة الدين.

الأخذ بالشرع وترك ما دونه

الأخذ بالشرع وترك ما دونه [قال مالك بن مغول: لقيت الشعبي فقال: ما حدثوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به، وما حدثوك عن غيره من هذه الآراء فألقه في الحش. وفي رواية عند ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وكذا الخطيب البغدادي قال: فبل عليه. أي: ما حدثوك عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً وسنة فخذ به؛ لأنه لا يسعك إلا الأخذ به، وما حدثوك عن غير السنة وغير الدليل والنص فألقه في الحش؛ لأنه هو الحل معهم؛ لأن الرأي يتغير ويتجدد وينظر فيه بخلاف النص، فالنص قاض على غيره، وهو الآمر الحاكم المسيطر المهيمن والقاضي، وكل هذا من خصائص النص، وأقصد بالنص الأدلة من كتاب وسنة وإجماع، وأما دون هذه الأدلة فاعلم أن الرجل يقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، وما الآراء إلا اجتهادات في مسائل من باب الفتوى، والمعلوم أن الحكم غير الفتوى، فالفتوى تتجدد وتتغير بتغير الزمان والمكان والحال والواقع، بخلاف الحكم فإنه ثابت لا يتغير.

الاجتماع للاختصام في دين الله سبيل إلى الافتراء على الله

الاجتماع للاختصام في دين الله سبيل إلى الافتراء على الله قال: [وقال ابن عباس: ما اجتمع رجلان يختصمان فافترقا حتى يفتريا على الله عز وجل]. أي: أنهما يتجادلان ويتماحلان بغير برهان ولا دليل، وليس قصدهم الوصول إلى الحق، وإنما هو التشبه بما يسمى في واقع الناس وحياتهم: المناظرات والمجادلات والمخاصمات، والنصرة للمذهب أو للرأي أو للشيخ الفلاني، أو للآباء والأجداد، أو للأعراف والعادات، فإذا كان هذا هو الهدف من المناظرة والمخاصمة فما اجتمع اثنان لأجل هذا إلا جرهم هذا الخلاف وهذه الخصومة إلى أن يفتري كل واحد منهما على الله عز وجل.

حرمان صاحب البدعة من التوبة حتى يدع بدعته

حرمان صاحب البدعة من التوبة حتى يدع بدعته قال: [وقال الحارث العكلي: أيما رجلين جلسا يختصمان فليعلما أنهما في أمر بدعة حتى يفترقا]. أي: فليعلما أنهما قائمان على البدعة حتى يفترقا. ويكفيك تهديد النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة، والطبراني بإسناد حسن. والمراد هنا البدعة الكبيرة في الدين، والبدعة في اعتقاد المسلمين، فمادام قائماً عليها فإن الله تعالى يحول بينه وبين التوبة، وهذا تهديد ووعيد كبير ينبغي الحذر منه.

من علامات الساعة اختصام الناس في ربهم

من علامات الساعة اختصام الناس في ربهم قال: [وعن ابن الحنفية رحمه الله قال: لا تقوم الساعة حتى تكون خصومة الناس في ربهم]. وهذا قد وقع، فقد اختلفوا في الله عز وجل في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، وهذا هو الافتراق في الأمة الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وربما يكون قد أخبر به ليس على سبيل التهديد، وإنما على سبيل الخبر الحتمي الذي لابد أن يكون، وقد كان. فقال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). فالمعلوم قطعاً أن هذه الفرق إنما خالفوا في أصل الدين، وأصل الدين متعلق بذات الله عز وجل، وبأسمائه وصفاته، وأفعاله، كما أنه متعلق كذلك بأصول الإسلام: من الشهادة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ومتعلق بأصول الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكذلك متعلق بالغيبيات: من البعث والنشر، والحساب والجزاء، والصراط، والجنة والنار، وكل هذا الذي ذكرناه وغيره من أصول الإسلام، وقد وقع النزاع فيه بين هذه الفرق الضالة من ناحية، وبين أهل السنة والجماعة من ناحية أخرى. فقول غير واحد من أهل العلم: إن الساعة لا تقوم حتى تكون خصومة الناس في ربهم، فالخصومة قد وقعت، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم قد بحث هذه القضية بحثاً مفيداً موسعاً وبيّن أن جميع الفرق الثنتين والسبعين كلها قد ظهرت، ومن شاء أن يقف على كلامه فإن ذلك موجود في كتاب مجموع الفتاوى، ومنهاج السنة.

مجالسة أصحاب الكلام والخصومات سبيل إلى إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة

مجالسة أصحاب الكلام والخصومات سبيل إلى إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة قال: [وعن أحمد بن جناب قال: سمعت عيسى بن يونس وقد سأله رجل عن الحور العين، فغضب غضباً شديداً وقال: مالكم ومجالسة أصحاب الكلام والخصومات، لقد شهدت من رجل -قد سماه- مجلساً وألجأه قومه إلى الكلام حتى قال: ما خلق الله جنة ولا ناراً، وددت أني ما شهدته]. يعني: أن هذا الرجل كان على الاستقامة، ولكنه أذن لنفسه أن يجالس، وأن يماحل، وأن يخاصم أهل البدع وليس أهلاً لهذا، فجره ذلك إلى أن أنكر أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار، وهذا دائماً مصير من تصدى لأهل البدع بالكلام دون أن يؤهل لذلك، ولذلك حذرنا علماء السلف من مخاصمات ومجادلات أهل البدع، مع أنهم هم قد تصدوا للمناظرة والمجادلة والخصومة، بل والتأصيل للرد على أهل البدع؛ وذلك لأنهم تأهلوا لذلك، ولا أدل على هذا الفعل من أن عمر رضي الله عنه أخذ صحيفة بعد إسلامه من صحف أهل الكتاب، فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام في يده غضب غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب!)، أي: أمتنطعون، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فلم يُر عمر بعد ذلك آخذاً بصحيفة من صحف أهل الكتاب حتى صار إماماً كبيراً من أئمة الدين، وخليفة من خلفاء المسلمين، فتصدى لأهل البدع تارة بالضرب، وتارة بالإقناع والمناظرة؛ لأنه صار أهلاً، وأما في أول إسلامه فلم يتأهل لذلك بعد، ولم يطلب العلم بعد، وهذه الحادثة -حادثة الإنكار عليه- مكية، وحادثة التصدي لأهل البدع كلها حوادث مدنية، وهذا يدل على أن عمر لما تأهل عرف أنه يجوز له ذلك دون الحالة الأولى. ونحن نجد كثيراً من الشباب الذي لا يحسن أصول الإيمان والإسلام؛ يتصدى لأهل البدع بالمناظرة والمجادلة وغير ذلك، وسرعان ما ينقلب فيتبنى رأي الخصم، يعني: يشرب البدعة شرباً في قلبه، ويدافع عنها ويتبناها، ويعمل لأجلها، وربما مات على ذلك، والسبب أنه خالف نصيحة السلف رضي الله عنهم في كراهة التصدي لهؤلاء قبل التأهل.

مجالسة أصحاب الأهواء ممرضة للقلوب وسبيل إلى ضرب القرآن بعضه ببعض

مجالسة أصحاب الأهواء ممرضة للقلوب وسبيل إلى ضرب القرآن بعضه ببعض قال: [وقال ابن عباس: لا تجالسوا أصحاب الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب]، أي: تسبب مرض القلب. [وقال أبو عبد الله الملائي: لا تجالسوا أصحاب الأهواء؛ فإنهم يمرضون القلوب. وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجل، ففطن له -ومحمد بن سيرين إمام من أئمة الدين، سيد من سادات التابعين، وهو تلميذ أنس بن مالك - فقال: إني قد أعلم ما تريد، ولو أردتَّ أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء]. فـ ابن سيرين نزه نفسه عن أن يماري وأن يخاصم أهل الأهواء مع قدرته على ذلك، ولكنه أنكر ذلك وقال: لو أنك تريد أن أخاصمك ما فعلت، فكأن ابن سيرين أراد أن يقول: لست مني ولست منك، فلا أهل الأهواء من أهل السنة، ولا أهل السنة كذلك من أهل الأهواء. [وقال عون بن عبد الله: لا تفاتح أصحاب الأهواء في شيء؛ فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض]. وهذا مفتاح من مفاتيح أهل البدع وأهل الضلال؛ أنهم يأتون بآية، ثم يأتون بآية أخرى يظنون أنها معارضة للآية الأولى، ولو استدللت عليهم بنص من الكتاب أو السنة أتوك بنصوص ظاهرها التعارض، وهذا قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم ذات يوم، فقد جلسوا في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام يجادلون في كتاب الله تعالى، فهذا يرد بآية وذاك يرد بآيتين، فسمعهم النبي عليه الصلاة والسلام من داخل غرفة عائشة؛ فخرج عليهم فقال: (أتضربون القرآن بعضه ببعض وأنا بين ظهرانيكم؟!) يعني: هل هذا يكون منكم، ولا زلت أنا حي بينكم؟! فأنكر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون هذا منهم، فاستغفروا ربهم، واعتذروا للنبي عليه الصلاة والسلام. فالمعلوم أن هذه الخصلة من شيم أهل البدع لا من شيم الصالحين. [وكان سليمان بن يسار إذا سمع في مجلس مراء قام وانصرف عنه]؛ لأنه لا ينبغي لصاحب سنة أو صاحب علم ودين أن يجلس في مجلس كله لغط وجهالة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من قوم جلسوا مجلساً، ثم لم يذكروا الله تعالى فيه إلا كان عليهم ترة يوم القيامة) والترة: هي الحسرة والندامة، فما من قوم جلسوا مجلساً إلا وجب عليهم أن يذكروا الله تعالى، وذكر الله تعالى لابد أن يقع في محل الرضا، لا في محل السخط والكراهية، فالجدال والخصومة والمماحلة والتفكه بكلام لا طائل تحته، ولا فائدة من ورائه؛ لا علاقة له بمرضاة الله عز وجل، والمجلس الذي انعقد على هذا النحو إنما هو وبال على أصحابه إلا أن يستغفروا الله تعالى فيه، ويتوبوا إليه منه، ويندموا على ما فعلوا، ثم يذكروا الله تعالى.

وجوب الإيمان بالقدر والتحذير من مجالسة المكذبين به

وجوب الإيمان بالقدر والتحذير من مجالسة المكذبين به قال: [وعن جبير بن نفير أنه كان يقول: إن التكذيب بالقدر شرك]. وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، وباب القدر من أعظم أبواب الإيمان، مع أنه من أيسر أبواب الإيمان، ولكن زلت أقدام كثير من الناس باب القدر. قال: [إن التكذيب بالقدر شرك فتح على أهل الضلالة، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم]. أي: فلا تمازحوهم ولا تجادلوهم في هذا الباب على جهة الخصوص؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذكر القدر أمسكوا، أي: آمنوا به دون أن يخوضوا فيه، والسلف كانوا إذا ذكر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أمسكوا عما شجر ووقع بينهم من مشاحنات وخلافات؛ فهم بشر، وكذلك إذا ذكرت النجوم أمسكوا ولم يتكلموا، وعلموا أن النجوم إنما هي خلق من خلق الله عز وجل.

إحداث أهل السنة لبعض الألفاظ التي لم تكن عند السلف عندما اضطروا إليها للرد على أهل البدع

إحداث أهل السنة لبعض الألفاظ التي لم تكن عند السلف عندما اضطروا إليها للرد على أهل البدع قال: [وعن ابن عباس قال: لا تجادلوا المكذبين بالقدر فيجري شركهم على ألسنتكم]. أي: من كثرة مجادلتهم ومناظرتهم ربما يجري على ألسنتكم بعض بدعهم، أو بعض كلامهم دون أن تشعروا بذلك. وقد تجد في كتب السنة بعض الكلمات التي أمسك عنها السلف، ولم يتكلموا بها قط، واضطر أهل السنة اضطراراً إلى أن يقولوا بهذه الكلمات وهذه المصطلحات؛ للبيان. وأضرب لذلك مثلاً: لما قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق، فإن السلف ما قالوا: مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما قالوا: القرآن كلام الله، ولكن اضطر أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى أن يزيدوا في معتقدهم ما لم يأت عن السلف، فقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلفظة: (القرآن كلام الله) هو كلام السلف الذي ورد إلى أهل القرن الثالث الهجري: قرن المعتزلة، وقرن أحمد بن حنبل وقرن الشافعي وغيرهم. فقال الإمام أحمد وغيره: القرآن كلام الله غير مخلوق، فزادوا مصطلح (غير مخلوق)؛ للرد على من يقول بأنه مخلوق، وأما أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة والتابعين فلم يقولوا: إنه مخلوق أو غير مخلوق؛ وذلك لأن الأمر قد استقر عندهم: أن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، فلابد أن تكون الصفات مخلوقة، ولذلك لم يكن بهم حاجة إلى أن يقولوا: مخلوق أو غير مخلوق، فلما دعت الحاجة في الرد على أهل الضلال والبدعة من المعتزلة وغيرهم لما قالوا: إنه كلام الله لكنه مخلوق؛ كان من الواجب على أهل السنة أن يقولوا: هو كلام الله غير مخلوق.

ضرورة التأهل عند الرد على أهل البدع ومناظرتهم

ضرورة التأهل عند الرد على أهل البدع ومناظرتهم إن تحذير أهل العلم من مجادلة أهل البدع أمر عظيم جداً، وهم بهذه المصالح الواجب الأخذ بها إنما يحافظون على ألا تزل ألسنتنا وأقدامنا في مجاري ومهاوي أهل البدع، وهذا أمر لابد أن يتفطن له الشباب. ومنذ ثلاثة أشهر أخذ أحد الإخوة بعض الكتب والرسائل، وذهب إلى مدينة نصر يناظر ما يسمون أنفسهم بالقرآنيين، فلقيته في الطريق؛ فسألته عن وجهته، وعما إذا كان يمكنني أن أخدمه بأن أدخله إلى المكان الذي يريد أن يذهب إليه، فقال: إنما أنا ذاهب لمجادلة ومخاصمة فلان وفلان، قلت: لمَ؟ قال: لأنهم يقولون بالقرآن فقط، وقد طبعوا كتاباً، وناولني نسخة من هذا الكتاب، وكان معه عدة كتب من كتبهم، وقال: الحمد لله قد ألممت بأفكارهم وكتبهم ومصادرهم وغير ذلك، وسينعقد بعد قليل المجلس لمناظرتهم، فنصحته مراراً ورجوته تكراراً، فأبى إلا أن يذهب فذهب، وإذا بهذا الرجل بعد أن رجع يقول: والله لقد ألقوا علي شبهات لم تكن في هذه الكتب، ولا في هذا المقرر، وبالتالي أجلنا هذا المجلس لبحث هذه المسائل، والرد عليها في المستقبل. فقلت: إنهم يفعلون في كل مجلس بك مثلما فعلوا بك في المجلس السابق، وفي كل مرة ستضطر إلى الاعتذار عن الجواب؛ لأنك لا علم عندك. وعلى أية حال هذه سمة من سمات أهل البدع؛ أنهم يُعنَون ويهتمون بمسألة واحدة، فيفتون على أصولها وعلى مدلولها وعلى أدلتها، ولذلك يتفوقون فيها أيما تفوق، فيجمعون الشبهات ويطرحونها على أهل الحق؛ فيقع فيها من لم يكن من أهل الحق محصناً بالعلم والإيمان. ولا تزال المناظرة قائمة بين هذا الرجل -وهو من أهل العلم أحسبه كذلك- لكنه لم يتأهل لمناظرة هؤلاء. فلابد أن تعلموا أن سيرة السلف كلها قاضية وشاهدة بأنه لم يتصد لأهل البدع أحد قط إلا من يشار إليه بالبنان في العلم، فلو أنك أتيت مثلاً على القرن الأول لوجدت أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسل للخوارج من يناظرهم أرسل ابن عباس، وابن عباس معلوم قدره في الدين، فهو حبر الأمة، فلم اختار ابن عباس مع أن جيشه كان فيه آلاف من الصحابة والتابعين؟ A لأنه كان فقيهاً، وانظر إلى الثمرة التي رجع بها ابن عباس: تاب على يديه أربعة آلاف شخص. وهذا قد حدث في زمن عمر بن عبد العزيز كذلك، فـ عمر اختار أن يناظر هو بنفسه أهل البدع، وأنتم تعلمون أن عمر بن عبد العزيز كان من كبار أهل العلم، وحتى بعد الخلافة كان مشهوراً بالرواية والتحديث، فهو من أهل العلم الأفذاذ، وكان يتصدى بنفسه لأهل البدع. فالمناظرة مهمة أهل العلم الأفذاذ الذين يرجع إليهم في الفتوى في زمنهم، ويشار إليهم بالبنان، فكان علماء السلف مع تأدبهم يناظرون، إلا أنهم كانوا يتهمون أنفسهم. فالذي ناظر المعتزلة هو أحمد بن حنبل، والذي ناظر بشراً المريسي هو الإمام الشافعي وهؤلاء هم رءوس البدع، وقد تصدى لهم رءوس الهدى والسنة في أزمنتهم، وأما أنت يا أخي المسلم! فما زلت على أول عتبة من عتبات طلب العلم؛ فينبغي الاهتداء بالسلف حتى تصل إلى مرادك في طلب العلم؛ ليصلح علمك ويصلح شأنك، وأما إن كنت تتصور بأنك إنسان ذو لحية طويلة، ولابس قميصاً وغير ذلك، وأنك ماهر بكل شيء؛ فهذا بلا شك باب عظيم جداً من أبواب الكبر والغرور. قال: عن ابن عباس أنه قال: لا تجادلوا المكذبين بالقدر؛ فيجري شركهم على أيديكم.

أحوال صحابة رسول الله والتابعين إذا ذكر لهم شيء من القدر أو الجدال والخصومة

أحوال صحابة رسول الله والتابعين إذا ذكر لهم شيء من القدر أو الجدال والخصومة قال: [وقال أبو بلال الأشعري: سألت أنس بن مالك: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرون القدر؟ قال: إنه لم يكن شيء أكره إليهم من الخصومات، وكانوا إذا ذكر لهم شيء من ذلك نفضوا أرديتهم وانصرفوا]. والأردية: جمع رداء. وكان من المحدثين من إذا سئل عن راوٍ لم يجب، كـ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم من أهل العلم النقاد، فـ أحمد بن حنبل يضرب كفاًّ على كف، والبخاري لما يسأل عن راو سواء كان كذاباً أو وضاعاً يتحول إلى الناحية الأخرى؛ إعراضاً. وكان يحيى بن معين إذا سئل عن أحد نفض ثوبه ثم قام، وقال: أخشى أن تنزل من السماء صاعقة، وأحرى أن تنزل الصاعقة الآن بذكر هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين يفترون على الله الكذب وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام. وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا ذكر القدر وغيره مما هو محل للجدال والمناظرة ينفضون أرديتهم، ثم يقومون فيسرعون؛ مخافة أن تنزل عليهم عقوبة من السماء. [وقال إبراهيم النخعي: ما خاصمت قط]، يعني: لم يتعرض يوماً للجدال، وإذا تعرض له تركه وانصرف. [وقال أهل العلم: ما خاصم وَرِع قط]. وكل هذا الكلام محمول على الجدال بالباطل، وأما الجدال لإظهار الحق فلا حرج فيه، كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، إذاً: فهناك جدال مذموم، وجدال ممدوح. وكل كلامنا هنا في جدال أصحاب أرأيت أرأيت، والآرائيون هم الذين لا يعنون بالسنة والأثر، وإنما يعتمدون على عقولهم، ويقدمون عقولهم على النص والدليل، فهؤلاء الجدال معهم هو الممحق للبركة، والممرض للقلوب وغيرها. [وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق. وقال وهب: دع المراء؛ فإنك لا تعجز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تماري وتجادل من هو أعلم منك؟! ورجل أنت أعلم منه فكيف تماري وتجادل من أنت أعلم منه ولا يطيعك؟! فاقطع ذلك عنه]. فأنت في الجدال والخصومة في كل الأحوال مخطئ؛ لأنك إما أن تجادل من هو أعلم منك وأنت جاهل، أو أنك تجادل من أنت أعلم منه وهو أقل منك علماً ولا يطيعك، ففي كل الأحوال أنت لا تطيع ولا تطاع، فلابد أن يئول الأمر إلى الخسار والبوار.

خوف عمر على الأمة من المنافق عليم اللسان

خوف عمر على الأمة من المنافق عليم اللسان [وقدم الأحنف بن قيس على عمر في وفد عظيم؛ فسرح عمر الوفد واستبقى الأحنف]. وكان الأحنف هذا ذكياً عاقلاً فطناً، وكان ذا لسان يقطر عسلاً، حتى شهد له الكثير منذ طفولته باللباقة، وحسن صياغة الكلام وصناعته على أحسن وجه. وكان يهضم نفسه دائماً، ويقدم مصلحة الجماعة على مصلحته الفردية، فلما قدم في الوفد على عمر [سرح عمر الوفد -أي: بعد قضاء حاجته- واستبقى الأحنف عاماً كاملاً بالمدينة. ثم قال له: يا أحنف! أتدري لم أبقيتك؟ قال: لا. قال: لأني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من كل منافق عليم اللسان، ولست منهم يا أحنف! فالحق بالوفد]. فـ عمر رضي الله عنه خشي أن يفتن الأحنف الناس بخفة لسانه، وصياغة ألفاظه؛ فاستبقاه عاماً كاملاً حتى يشعر الناس بعد مرور عام بمفارقتهم للأحنف، وأنه يمكن أن يحيوا ويعيشوا بدونه.

توضيح قولهم: إن الدعوة لا تعلق لها بشخص معين

توضيح قولهم: إن الدعوة لا تعلق لها بشخص معين ولذلك نجد كثيراً من أبناء الصحوة في كل زمان يقولون: الدعوة لا تعلق لها بشخص معين، وهذا الكلام من جهة الموضوع كلام جميل، لكن واقع الناس غير ذلك، فصحيح أن الدعوة لا علاقة لها بالأشخاص، وأقصد بالأشخاص دعاتها وحملة رايتها، لكن واقع الناس غير ذلك، فهم يقولون: نحن لا نعبد الأشخاص، فالشيخ الفلاني والعالم الفلاني والداعية الفلاني والواعظ الفلاني جنود مثلي، والدعوة كانت قائمة قبلهم بغيرهم، وستقوم من بعدهم بغيرهم أيضاً. إذاً: فالأشخاص يذهبون ويأتون والدعوة باقية وقائمة، لكن واقع الناس الآن أنهم يتعلقون تعلقاً تاماً بالأشخاص والدعاة، حتى سمعنا أكثر من واحد يقول: لو مات الشيخ الألباني ماذا سنعمل من بعده؟ ولو مات الشيخ ابن باز ماذا سنعمل من بعده؟ ولما مرض الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وانتقل إلى مدينة عنيزة للعلاج قالوا: افرضوا أن الشيخ ابن عثيمين مات؛ ماذا ستعمل الأمة من بعده؟ فالله تعالى يبعث فيها من هو خير من الألباني، وخير من ابن باز، وخير من ابن عثيمين، فهؤلاء الثلاثة كانوا تلاميذ لمن هم خير منهم، كانوا تلاميذ لأئمة فضلاء حملوا راية الدعوة إلى الله عز وجل حملاً أعظم مما حملوه هؤلاء، فهؤلاء كانوا في القرن الرابع أو في القرن الخامس عشر هجري، فأين كانت الأمة على مدار أربعة عشر قرناً؟ هل كان فيها ابن باز والألباني وابن عثيمين؟ كان فيها هؤلاء وأعظم وأفضل من هؤلاء بعدة مرات. والأمر قد تعقله وفهمه عبد المطلب، فقال: أما البيت فله رب يحميه، وما الذي يمنعك أن تقول: أما الدين فهو من الله عز وجل. إن جعل الدعوة معلقة بشخص يجعلك تقبل منه الغث والسمين، والحق والباطل، والخير والشر؛ لأنك متعلق بهذا الشخص لا غيره، ولكنك لو جعلت الحق هو الذي أمامك لأفلحت وما خسرت، فكل هؤلاء يقاسون ولا يقاس بهم، يقاسون بالحق ولا يقاس الحق بهم. فبلاء عظيم جداً أن تتعلق بالأشخاص، وهذا بلا شك ليس فيه أدنى مطعن في أحد، لكنه تصحيح للصحوة، وتصحيح للمسار والفكر؛ لأن تعلقك بالشخص يجعلك تنصدم أيما انصدام إذا مات، أو استبعد، أو سافر، أو مرض، ولكن الأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وهل نسيتم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم)؟ يعني: أن مهمتهم أنهم مبينون للحق في الأمة إلى قيام الساعة، فهذه الفئة وهذه الطائفة لا يمكن أن تزول إلى يوم القيامة. فكثير من الإخوة في مساجد معينة لما مات الشيخ الفلاني ترك المسجد بالمرة، ويقول: كنا نذهب من أجل فلان، والآن قد مات، فإلى أين نذهب؟ فنقول: اذهب إلى أي مكان، فلا يزال في الأرض منار للعلم والحق. والأعجب من ذلك أن الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت استل من كتاب لـ ابن عربي ثلاثين ورقة، واستل من كتاب لـ ابن تيمية ثلاثين ورقة، وعقد مجلساً لاختبار وامتحان الإخوة في الكويت، فقال لهم: أريد أن أعرف أي المجموعتين أحق شرعاً؟ وسأل سؤالاً: ما تقولون في ابن عربي؟ ولابد أنك تجد من يقول: هو كافر، ومن يقول: وفاسق، أو مجرم، فهذه الأشياء يحفظها طلاب العلم ويعرفونها، وقد تربوا عليها، مع أنهم لم يقرءوا مرة ترجمة لـ ابن عربي، ويحفظون أيضاً أن ابن تيمية هو شيخ الإسلام، ولا شك أنه كذلك، وابن تيمية هو رافع راية التوحيد، ومنارة السنة وو وإلى آخره. فكل كلام يأتي من الشيخ ابن تيمية فهو حق، وكل كلام يأتي من قبل ابن عربي فهو باطل، حتى وإن تلا كتاب الله غير مقبول منه؛ لأنه من أهل البدع! وبالفعل أخبرنا الشيخ أن 60 % من الممتحنين قالوا بأن الكلام الذي قاله ابن عربي -وهم لا يعملون أنه ابن عربي - كلام جميل وحق، فلما كان توزيع الجوائز قال لهم: هل تعرفون الورقة هذه لمن؟ قالوا: لمن؟ قال: هذا لـ ابن عربي، فالإخوة تفاجئوا، وتمنوا أنهم لم يقولوا ذلك. فالحق يقبل من كل من أتى به، والباطل يرد على كل من جاء به، فالحق حتى وإن أتى من قبل كافر كفراً أصلياًّ وليس مرتداً فقط لابد أن يقبل. فالواحد منا قد يسمع لشيخ واحد، وليس عنده أي استعداد ليتحول عنه، وربما يكون محقاً في ذلك من باب الفائدة أو من باب قلة من يستفيد منهم على الصعيد الآخر؛ لكن في نهاية الأمر لا يصلح أن يكون لك شيخ واحد، والأمر كما قال أحدهم: من كان له شيخ واحد كان كمن له امرأة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، فلابد من تعدد المشايخ. ويقول ابن المعتز: لا تعلم خطأ شيخك حتى تسمع من غيره. فلا تعلم خطأ ش

خوف عمر بن الخطاب على أمة محمد من جدال المنافق العليم بالقرآن

خوف عمر بن الخطاب على أمة محمد من جدال المنافق العليم بالقرآن قال: [عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واواً ولا ألفاً] أي: مثل واحد من الذين حفظوا القرآن، يأتيه من أوله إلى آخره لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً؛ لأنه حافظ متقن، وهل هناك أحفظ لكتاب الله، وأقوم لكتاب الله من الخوارج؟ فالخوارج معروف عنهم أنهم يتقنون حفظ القرآن، ويقومون الليل، وينتصبون إلى صلاة الفجر، وهم أكثر الناس عبادة، فعبادتهم هذه ليست دليلاً على صلاحهم، ولذلك حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم). قال: [إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واواً ولا ألفاً، يجادل الناس أنه أجدل منهم؛ ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة مضلون].

الورع يحمل صاحبه على ألا يخوض في الشبهات

الورع يحمل صاحبه على ألا يخوض في الشبهات قال: [وعن الضحاك بن مزاحم قال: كان أولهم يتعلمون الورع، أما إنه سيأتي عليكم زمان يتعلمون فيه الكلام]. يعني: السلف كانوا أول شيء يتعلمون الورع، والورع يحمل صاحبه على ألا يخوض في المشتبهات، وإنما يؤمن بها ويسلم، بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنهم لا يجادلون إلا في المتشابهات، ويخوضون فيها أخذاً ورداً، ليس لقصد الوصول إلى الحق فيه، وإنما لقصد إيقاع الشكوك والأوهام في قلوب عامة أهل السنة.

تفسير مجاهد لقوله تعالى: (لا حجة بيننا وبينكم)

تفسير مجاهد لقوله تعالى: (لا حجة بيننا وبينكم) [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى:15] أي: لا خصومة بيننا وبينكم] أي: لا جدال ولا مناقشة بيننا وبينكم، وكأنه أراد أن يقول: لكم دينكم ولي دين.

حكم جدال من يقبل الحق ويرجع عن الباطل

حكم جدال من يقبل الحق ويرجع عن الباطل قال: [وعن ابن سيرين: أنه كان ينهى عن الجدال، إلا رجل إن كلمته يرجع]. يعني: يغلب على ظنك أن هذا الرجل يريد الحق، ويحرص عليه، ويتحراه ويبحث عنه شرقاً وغرباً، فإذا اجتمع إلى ذلك حسن ظن بهذا فجادله، وأما أن تجادل إنساناً ليس يطلب الحق، وإنما يغلب على الظن -لمناظرات كثيرة سبقت وقرائن كثيرة سبقت- أنه لا يناظر من أجل طلب الحق، وإنما يناظر لأجل أن يناظر، ويضل الخصم ويجره إليه؛ فيحرم عليك الدخول في هذا الجدال.

الجدال والمراء من أسباب القطيعة وإفساد ذات البين

الجدال والمراء من أسباب القطيعة وإفساد ذات البين قال: [وعن عبد الله بن الحسن قال: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه -يعني: أقل مفسدة تأتي من قبله- أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة]. فكأنه يقول لك: احذر أن تخاصم أو تجادل؛ لأن الخصومة والمجادلة تفسد الصحبة القديمة، فإذا كان الجدل والمناظرة والمماحلة بالباطل يقدم على الصديق، فهذا يريد أن يغلب وينتصر لنفسه، وهذا جل أمره أن تكون له دائماً السيادة والريادة والغلبة على صديقه، فلابد أن يتأثر الصديقان بهذا الأمر، فإنه يعز على الصديق أن يكون في كل مرة مغلوباً، فالجدال يحل عقدة الصداقة القديمة، والإنسان يحرص على أن يكون غالباً لا مغلوباً، مع أن هذا يخالف ما كان عليه السلف. فـ الشافعي رضي الله عنه ورحمه يقول: ما ناظرت أحداً قط إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه. أرأيتم الأدب؟! والشافعي صادق في هذا، فالسلف يقولون ذلك بصدق، كما قال بعضهم: لو كانت للمعاصي رائحة لما استطاع أحد أن يجالسني. فعندما يقول هذا الكلام مثل الحسن البصري فإن هذا على سبيل الورع؛ فكان يعلم الأمة في زمانه الورع، وكان لا يؤخذ عليه مأخذة واحدة، فكل الذين ترجموا له لم يختلف أحد منهم في صلاحه وورعه وتقواه، لكن الآن من الناس من يجاهر الله بالمعاصي، وكلما تقلب صفحة تجدها أشد سواداً من التي قبلها، فقول أحدهم: (لو كانت للمعاصي رائحة ما استطاع) قول صحيح، لكنه لا يقول ذلك على سبيل الورع، وإنما يقول ذلك مجاهرة، بخلاف أن يقول هذا الكلام ابن سيرين أو الحسن البصري أو قيس بن أبي حازم أو عبد الله بن المبارك أو غيرهم فهؤلاء يقولون هذا الكلام ورعاً وتأدباً بين يدي الله عز وجل.

المراء والجدال بين التقصير والمبالغة

المراء والجدال بين التقصير والمبالغة قال: [وقيل لـ عبد الله بن الحسن: ما لك لا تماري إذا جلست؟ -يعني: حينما تجلس معنا في المجلس لا تتكلم ولا تناظر ولا تجادل؟ قال: ما تصنع بأمر إن بالغت فيه أثمت، وإن قصرت فيه خصمت]. يعني: لا خير فيما تصنعون؛ لأنه يدور بين أمرين: إما أن تنتصر، وهذا الذي يكلفك مزيداً من الخصومة التي يترتب عليها مزيد من الإثم، وإن قصرت فالخصم سيغلبك، وكلاهما شر، فأحدهما شر عند الله، والثاني شر عند الخلق.

الجدال والمخاصمة سبب لقلة المروءة، وذهاب الكرامة

الجدال والمخاصمة سبب لقلة المروءة، وذهاب الكرامة قال: [وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلت مروءته] مع العلم أن هذا أعرابي بدوي، لكنه رجل، يقول: من لاحى -يعني: من ناظر وجادل وخاصم- الرجال قلت مروءته [وهانت كرامته، ومن أكثر من شيء عرف به]. وأذكر بهذه المناسبة أن سفيان الثوري كان يجلس إلى رابعة العدوية، ورابعة العدوية شخصية حقيقية ترجم لها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وهو من أهل العلم النقاد، فكان سفيان الثوري يكثر أن يذهب إليها، وإذا ذهب إليها ذم الدنيا وأهلها بين يدي رابعة، فقالت: يا سفيان! من أكثر من ذكر شيء أحبه. فـ رابعة هذه معروفة بالزهد، وعندما يجلس معها سفيان يظل يذم الدنيا وأهلها، فقالت له: من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فأنت كلما تأتي تتكلم عن الدنيا وأهلها فقط، وهذا دليل على أنك تحب الدنيا، فمن أكثر من ذكر شيء فهو أحب الأشياء إليه.

تعليق الإمام ابن بطة على ما تقدم من ذم المراء والخصومات في الدين

تعليق الإمام ابن بطة على ما تقدم من ذم المراء والخصومات في الدين قال الشيخ: [فاعلم يا أخي! أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة، والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم، ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة، وتكذيب الآثار، وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة، وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس. عصمنا الله وإياكم من ذلك، وأعاذنا من مجالسة أهل الأهواء]. كل هذه البلايا بسبب الجدال بالباطل. [وقال ابن أبي الزناد: أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس -يعني: من السلف- يعيبون أهل الجدل والتنقيب، والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبرونا أنهم على ضلال، وتحريف لتأويل كتاب الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كره المسائل وعابها، وعاب التنقيب عن الأمور وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موضع، حتى كان من قوله عليه الصلاة والسلام في كراهية ذلك أن قال: (ذورني ما تركتكم)] يعني: إذا أخفيت شيئاً عنكم، أو لم أتكلم في اتباعه؛ فلا يجادلني ويخاصمني فيه أحد منكم. قال: [(ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم)] يعني: لابد أن تعلم أن الجدال مهلكة، وأن الخصومة مهلكة. قال: [(فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم -يقصد بني إسرائيل- فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) اجتنبوه كله؛ لأن النهي داخل في مقدور كل إنسان. قال: [(وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)]. وأنتم تعلمون ذلك الرجل الذي قام وقال: (يا رسول الله! الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت -أي: لو قلت: الحج كل عام لكان واجباً على كل مسلم أن يحج في كل عام- ولما استطعتم). [فأي: امرئ أكب على التنقيب لم يعقل من هذا، ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءاً من مائة جزء مما بلغوا اليوم، فهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم؟ فهم كل يوم على دين ضلالة وشبهة جديدة، لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين، وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأثر الذي حضهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إلزام الناس أنفسهم بأخذ الهدايا للأبناء والبنات في شهري رجب ورمضان

حكم إلزام الناس أنفسهم بأخذ الهدايا للأبناء والبنات في شهري رجب ورمضان Q هل هناك نهي عما اعتاده عامة الناس من الزيارات المحملة بالهدايا لأبنائهم وبناتهم في المناسبات كصيام رجب أو رمضان، وإن كان هناك نهي فهل هذا النهي منوط بتعظيم يوم لم يعظمه الله تعالى ورسوله، أم أنه يوم من أيام الإسلام؟ A لا شك أن هذا من البدع، وهذا معروف في الريف المصري بالذات، يقولون: هذا موسم، فأول رجب عندهم موسم، يعني: يلزم الأولياء أو الآباء أن يأخذوا هدايا عظيمة جداً ويهدونها لأبنائهم، وإن لم يفعلوا كانوا محل تعيير. وهذا كله ليس عليه دليل، وأظن أنه قد أخذ شكل العبادة الملزمة للناس.

الحكم على حديث (من قرأ قل هو الله أحد في يوم إحدى عشرة مرة)

الحكم على حديث (من قرأ قل هو الله أحد في يوم إحدى عشرة مرة) Q ( من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في يوم إحدى عشرة مرة بنى الله له بيتاً في الجنة) هل هذا حديث صحيح أم لا؟ A هذا حديث غير صحيح.

حكم سكن الرجل بزوجته في بيت يشترك معه فيه أخوه وزوجته

حكم سكن الرجل بزوجته في بيت يشترك معه فيه أخوه وزوجته Q لي أخت جاء لها رجل ليتزوجها، وهو عنده شقة شركة بينه وبين أخيه، حيث يسكن معه أخوه، وأخوه هذا متزوج، فهل يجوز هذا مع ملاحظة أن الشقة واسعة، لكن قد يقع شيء من الرؤية على الأزواج والمحارم في هذه الحالة، وجزاكم الله خيراً؟ A إن الإسلام قد شرط أن يكون لكل زوجة مسكن يخصها، وأن يكون هذا المسكن مسكناً صحياًّ مناسباً للحياة من دخول الشمس ودخول الهواء وغير ذلك. فإذا كان هناك رجلان متزوجين من امرأتين، وكلاهما يسكن في شقة واحدة، والحمام مشترك، وبالتالي سيكون المطبخ مشتركاً؛ فلابد أن يقع محظور من اختلاط، ونظر، ومباشرة، وأنتم تعلمون أن الإسلام من أسمى أهدافه أنه يدفع المفسدة ويجلب المصلحة، وهذا الاختلاط جلب للمفسدة ودفع للمصلحة، وهذا على غير أصل الشرع في بناء وإصلاح المجتمع الإسلامي؛ ولذلك لا يجوز للإنسان أن يسكن بزوجته في بيت فيه رجل آخر.

حكم تدريس الرجال للنساء في حلقات القرآن

حكم تدريس الرجال للنساء في حلقات القرآن Q هل يجوز عمل حلقة لتعليم القرآن للنساء، مع العلم بأن المعلم سوف يجلس بعيداً عنهن بحوالي مترين؟ A الحقيقة أن مساجد الجمعية الشرعية ابتليت بهذا، وأنا أريد أن أعرف سر شرط كشف المرأة وجهها أمام الشيخ، أو أن يجعل بين الشيخ وبين المتعلمة ستار، فلابد أنه سينظر إلى وجهها، وينظر إلى شكلية مخارج الحروف حين تخرج من لسانها؛ وكل ذلك بحجة أنه لا يوجد دليل صريح على مشروعية تغطية الوجه، مع أن أعظمها صراحة الأمر بغض البصر، وبالتأكيد هو لن يغض بصره. وقد تأتي شبهة أخرى إذ يقول: إن هذا الثوب كثيف، فنقول: نعم، كثيف، لكنه جميل، فهذا الرجل الجميل تفتن المرأة به، وهل تتصورون أن الفتنة متعلقة بالعين فقط؟ بل إن فتنة الصوت أعظم من فتنة الوجه، فالرجل يسمع على التلفون مثلاً امرأة صوتها ناعم، وكذلك هي تتكلف الرقة في كلامها وتخضع في قولها، فلا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الفتنة لا علاقة له بالنظر، فأرجو أن يدرس النساء النساء فقط. وأظن أن هذا إن شاء الله متوفر في كل حلقة، وفي كل مكان، وهذا من رحمة الله عز وجل بهن أنه جعل في كل حي أختاً حافظة للقرآن الكريم، وعندها شيء من السنن والفقه، فلا بأس أن يجتمع عليها النساء ويدرسن عندها. فالأصل من الأخت أن تحفظ من القرآن، ومن السنة، ومن الفقه ما ينفعها في حياتها؛ لأنه مع أول مولود تنتهي أسطورة التعليم، وإذا أصرت على مواصلة تعليمها على هذا النحو فلابد أن يكون على حساب بيتها، وعلى حساب زوجها، وعلى حساب أولادها، ولست أقول: صدوا الأخوات عن طلب العلم، لا، لكنني أقول: تأخذ الأخت من العلم قدر ما يقيم لها دينها، وهذا يصلح على يد امرأة لا على يد الرجل، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة الضاد ظاء في قوله تعالى (ولا الضالين)

حكم قراءة الضاد ظاءً في قوله تعالى (ولا الضالين) Q إمام مسجد عند قراءة الفاتحة يقول: (ولا الظالين) بدلاً من (ولا الضالين) أي: يقولها ظاء، فما حكم ذلك؟ A هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ففي كتاب طبقات القراء للإمام الذهبي ذكر الإمام الذهبي في تراجم كثير من القراء وأصحاب الحروف: أن الواحد منهم كان يقرأ الضاد ظاء، لكنها ليست ظاء صريحة، وإنما هي بين الضاد والظاء، ولكنها تكتب ضاداً، فيقول: وهذه المسألة محل خلاف بين القراء، والراجح أنها تنطق ضاداً كما تكتب. لكن على أية حال هذه المسألة فيها أخذ ورد بين الكثير من المختصين، حتى أحدثت فتناً عظيمة في مسائل كثيرة، والواحد منهم كان يصر على أن ينطق الضاد ظاء صريحة، وهذا لا يستقيم لا من جهة الخط، ولا من جهة المعنى مع كثير من الآيات التي فيها الضاد، فلابد من تحول المعنى، ويختلف تماماً عن مراد الله عز وجل. ثم لو سلمنا أن نطق الضاد متفق عليه، وأن الظاء لفظ مختلف فيه، فأي الفريقين أولى وأهدى: المتفق عليه أم المختلف فيه؟ المتفق عليه، فأنت تدعي أن الضاد تنطق قريبة من الظاء، مع أن كلمة (قريبة من الظاء) مسألة تقديرية، فهناك خلاف بين من يقولون: تنطق ظاء، ومن يقولون: تنطق أخف وأقل من ذلك. فالآن لو أنا قرأناها ضاداً فقط فهل هذا صحيح؟ A نعم، فإذا صححتم أنتم قراءتنا ونازعناكم في صحة قراءتكم فأي القراءتين أولى؟ بلا شك المتفق عليها، لكن كثيراً من الإخوة لا حكمة عنده ولا مراعاة للمفسدة والمصلحة، فهو يتكلف عند قراءتها الضوضاء إحداثاً للفتنة؛ وذلك لأنه يعلم أن من خلفه لا يراعي ولا يعتبر الخلاف، يعني: ليس عنده حكمة في وجود الخلاف بين أهل العلم. وهذه المسألة قد كتب فيها بعض أهل العلم كالشيخ عبد الباسط هاشم، والشيخ عبد الله الجوهري، والشيخ عرفان وغيرهم، وصنفت رسائل عصرية في الرد على من قال بهذا الرأي، كما صنفت رسائل سلفية قديمة في الرد على هذا وبطلانه، وأنا لا أقول بالبطلان، وإنما أقول: هو مذهب مرجوح.

تمييز المسجد الأقصى من مسجد قبة الصخرة

تمييز المسجد الأقصى من مسجد قبة الصخرة Q ما الفرق بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى؟ A هذه في الحقيقة مسألة مهمة جداً؛ لأن مسجد قبة الصخرة ترون قبته أحياناً تظهر فضية في الصورة، وأحياناً تظهر خضراء، فعلى مدار سنوات طويلة جداً أكثر من خمسين أو ستين سنة -أي: من سنة 1948م وإلى الآن- واليهود مجتهدون على أن يصوروا للأمة الإسلامية أن مسجد قبة الصخرة هو المسجد الأقصى، وفي الحقيقة مسجد قبة الصخرة ليس هو المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو مكان بجوار مسجد قبة الصخرة، فمسجد قبة الصخرة في جانب من جوانب المسجد الأقصى وليس من المسجد الأقصى، ودليل هذا أن اليهود أو أهل البدع عموماً وأهل الكفر والنفاق يصبرون على كفرهم وبدعهم كما صبر نوح على دعوة قومه وزيادة، لكن أهل الحق دائماً متعجلون، فهم يفهمون الحق ومع ذلك يسحب البساط من تحت أرجلهم بسبب استعجالهم، وأما أهل الباطل فإنهم يزينون هذا الباطل ويزخرفونه، ويصورن أن هذا هو الحق، ويتحملون في سبيل ذلك كل الأذى إذا وقع بهم أذى. فاليهود يعملون ذلك؛ حتى إذا تسنى لهم هدم الأقصى هدموه، وقد زرعوا في قلوب الأمة وصدورها أن هذا ليس هو المسجد الأقصى، وإنما مسجد القبة الذي أنتم ترونه هو المسجد الأقصى، وكل هذا بفعل اليهود ومن جاراهم من أهل العداوة والنفاق، حتى إذا هدم الأقصى لم يتحرك أحد المسلمين؛ باعتبار أنه لا يزال الأقصى قائماً، وليس الأمر كذلك.

حكم جلوس الحائض في المسجد

حكم جلوس الحائض في المسجد Q هل يجوز للحائض أن تجلس في المسجد؟ A إذا دعتها الضرورة إلى ذلك وإلا فلا، والأصل ألا يجلس المسلم أو المسلمة في المسجد إلا على أكمل طهارة؛ لأنه يزاور ويجالس ملائكة الرحمن، ولا يخلو الأمر من ذكر أو تسبيح أو قراءة للقرآن، ولا خلاف أن المسلم يستحب له أن يكون على أكمل هيئة في ملبسه وبدنه من الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، والخلاف هل للحائض والجنب المكث في المسجد؟ فالمسألة محل نزاع بين أهل العلم: فالجمهور على التحريم، والظاهرية على الإباحة، وإنما قالوا بالإباحة لضعف كل الأدلة التي اعتمد عليها جمهور الفقهاء. وفي الحقيقة من جهة الحل والحرمة والجواز وعدمه أنا أميل إلى هذا الأصل، ومن جهة الاستحباب فأنا مع رأي الجمهور، وأنا ألزم نفسي ومن يدخلون في ولايتي أن يكونوا على أكمل طهارة عند أخذهم القرآن الكريم، أو قراءتهم فيه، إلا إذا دعت الضرورة كامرأة حاضت، وهي منتظمة في درس، فيمنعها الحيض من درسين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة إذا كان الدرس يومياً، ولا شك أن هذا الدرس إذا امتنعت منه المرأة أثر على ربط حاضرها العلمي بماضيها، مما يرهق المعلم الذي يضطر لأن يعيد لها هذه الدروس، وهذا مرهق له، فلا بأس إذا دعت الضرورة.

حكم استعمال العطور التي فيها كحول

حكم استعمال العطور التي فيها كحول Q هل يجوز استعمال العطور التي فيها كحول، أو الموجودة في المحلات حالياً، أو بيعها؟ A أخبرنا شيخنا الألباني أن هذا الأمر مختلف فيه، فمن العلماء من حرم العطور إذا مسها شيء من الكحول مهما كان قليلاً، ومنهم من قال بالتفريق بين القلة والكثرة، فإذا كانت نسبة الكحول المضاف إلى العطر قليلة لا تكاد تذكر فالأصل الحل، وإذا كان كثيراً بحيث يغلب على نظر الناظر أو لمس اللامس لهذا العطر أنه يطير فور خروجه من زجاجته أو قارورته؛ فالأصل فيه الحرمة؛ لغلبة الكحول عليه. ولعل الرأي الثاني هو الذي يترجح لدي.

حكم قول الرجل: أنا عندي كذا منذ الجاهلية.

حكم قول الرجل: أنا عندي كذا منذ الجاهلية. وحكم بيع التلفزيون Q عندي تلفزيون قديم منذ الجاهلية هل يجوز أن أبيعه، وهو موجود عند الناس بكثرة؟ A كلمة الجاهلية الأصل فيها ألا تطلق إلا على الكفر أو الردة، فإطلاق ذلك باب من أبواب الخوارج، والمراد: الكفر، أو إطلاق لفظ الكفر على المعاصي، أو الجاهلية على المعاصي، ولا شك أن المعاصي معاصٍ، لكن الأصل أن يقول المرء: كنت كذا قبل الالتزام، ولا يقول: في الجاهلية؛ لأن الجاهلية عند الإطلاق تعني: الكفر والشرك. وهذا التعليق ليس هو في معرض رد السؤال. وأما بيع التلفزيون فقد طرحت هذا السؤال على الشيخ الألباني وقال: لا يجوز، وقال بحرمة اقتنائه كذلك، فقلت له: نبيعه للإخوان الملتزمين، فقال: إن الله لا يحب الفساد، هكذا أفادنا الشيخ يرحمه الله.

الحكم على حديث (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا)

الحكم على حديث (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً) Q ما صحة حديث: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)؟ A هذا الحديث حسنه الشيخ الألباني.

حكم العمل في الضرائب وشركات التأمين الأهلية

حكم العمل في الضرائب وشركات التأمين الأهلية Q ما حكم العمل في الضرائب، وشركات التأمين الأهلية، وكذلك مشاريع الصندوق الاجتماعي للتنمية؟ A أما العمل في الضرائب وشركات التأمين فالذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم أنه حرام، وهو باب عظيم من أبواب الربا. وأما مشاريع الصندوق الاجتماعي فلا أعرف كيفيتها؛ ولذلك أعتذر عن عدم الجواب عن ذلك.

حكم العمل في أماكن لا تخلو من شبهة

حكم العمل في أماكن لا تخلو من شبهة Q ما حكم العمل في تشييد نادي الزمالك، وكذلك العمل في مشاريع مختلطة: فنادق وعمارات وأبراج سكنية؟ A هذا العمل لا يخلو من شبهة، والشبهات محلها الورع، فإن أردت أن تأخذ نفسك بالورع فعليك بتركها، وأما إذا عملت في مثل هذا فأظن أنه لا يجرؤ أحد أن يقول بحرمة ذلك، حتى ولو كان العمل في فندق بغير عمارات سكنية؛ وذلك لأن من الناس من يدخل إلى هذا الفندق ليشرب الخمر أو ليزني أو غير ذلك، وفي نفس الوقت تجد فيها المسلمين الملتزمين، مع أن بناء الفنادق في كثير من البلدان العربية والإسلامية إنما يدار فيها الخمر والعري والزنا وغير ذلك، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.

لعبة الانتخابات والضحك على الذقون

لعبة الانتخابات والضحك على الذقون Q يقول: إن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس، هل هذا حديث أم آية؟ A أنت لا تعلم هل هو آية أو حديث؟! ليس هو بآية ولا حديث، وإنما هو كلام مذكور في كتب الموضوعات منسوباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يصح ذلك. وهذا الكلام كلام مرفوض، والناس يخرجون به في أيام الانتخابات! فهم حينما يريدون أن يحتجوا من السنة على مشروعية ما هم عليه فإنهم يحتجون بأحاديث موضوعة! ويثنون على شخص مع أنه كذاب ومبير، ويأتي إلى المسجد ولأول مرة نعرفه في المسجد في أيام الترشيح، فيدخل المسجد، ويصلي في الصف الأول، ويضع اليمين على الشمال، ويزيد خشوعاً وذلاً، ولا بأس أن يبكي أثناء قراءة الفاتحة، ثم يقول للشيخ: أخوكم في الله فلان الفلاني، فهؤلاء مفضوحون في تمثيلياتهم، فهو حين يمثل على المسرح فإنه سيجيد التمثيل تماماً، وأما في المسجد وهو يمثل الالتزام فإنه يصبح ممسوخاً جداً، وشكله غير مرغوب فيه، وتعرف أنه كذاب ودجال.

ذم الجدال والمتكلمين وترك آثار الصالحين

شرح كتاب الإبانة - ذم الجدال والمتكلمين وترك آثار الصالحين وردت آثار كثيرة عن السلف رحمهم الله تعالى في ذم الجدال والكلام، واتباع المتكلمين وترك آثار الصالحين، وما ذاك إلا لخطورة هذا المسلك على العبد في دينه ودنياه، ومن كان يزعم أنه متبع لآثار السلف تاركاً لابتداع الخلف فعليه بالوقوف على ما وقفوا عليه، فهم قد خاضوا لما كان الخوض مطلوباً، وامتنعوا لما كان الخوض ممنوعاً.

ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين

ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين

شرح أثر ابن الماجشون: (احذروا الجدل فإنه يقرب إلى كل موبقة)

شرح أثر ابن الماجشون: (احذروا الجدل فإنه يقرب إلى كل موبقة) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو صالح -وهو كاتب الليث بن سعد -: أملى علي عبد العزيز بن الماجشون قال: احذروا الجدل؛ فإنه يقربكم إلى كل موبقة -الموبقات: المهلكات- ولا يسلمكم إلى ثقة]. أي: ليس له أجل ينتهي إليه، فمن دخل في طريق الجدال والكلام والخصومات فإن له بداية، لكن ليست له نهاية. قال: [وهو يدخل في كل شيء، فاتخذوا الكف عنه طريقاً إليه]. أي: أن الجدال والخصومات بغير حق يجب أن تكف عنها. قال: [فإن الجدل والتعمق هو جور السبيل، وصراط الخطأ، فلا تحسبن التعمق في الدين رسخاً]. أي: لا تتصور أنه لا يكون المرء راسخاً في العلم، أو ليس عالماً إلا بكثرة الجدال والمناقشة والخصومة والمراء وغير ذلك، بل هذا هو الجهل بعينه. قال: [فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم]. أي: يقفون عند حد العلم الذي علمهم الله تعالى إياه، وأما ما دون ذلك فإنهم يؤمنون به على الظاهر، ويلقونه كما جاء ولا يخرجون عنه. قال: [واحذرهم -أي: أهل الكلام- أن يجادلوك بتأويل القرآن، واختلاف الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجادلهم فتزل كما زلوا، وتضل كما ضلوا، فقد كفتك السيرة -أي: سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم- مؤنتها، وأقامت لك منها ما لم تكن لتعدله برأيك]. أي: أن سيرة السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بالجدل والمناظرة وقيام الحجة على الخصم كفيلة أن تقف عندها ولا تتعداها؛ لأنهم خاضوا لما كان الخوض جائزاً، ووقفوا لما كان الخوض ممنوعاً، وإذا نت حقاً متبعاً لآثار من سلف، تاركاً لابتداع من خلف؛ فالسيرة الذاتية والعلمية لكل واحد من أئمة السلف قاضية بذلك. قال: [ولا تتكلفن صفة الدين لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك]. فبعض الناس قد يتصور أنه قد أوجب الله تعالى في حقك أن تبين له صفة الدين، مع أنه ليس في حاجة لذلك؛ لأنهم يعرفون الدين بسمته وصفاته ومميزاته وغير ذلك. لكنهم يريدون الجدال والمماحلة والخصومة؛ لأنهم وإن عرفوا أو علموا دين الله عز وجل، إلا أن هذه المعرفة لم تستقر في قلوبهم؛ ولذلك هم يريدون أن يظهروا ما عندهم من علم بالتأويل، وتحريف الكلم عن مواضعه. فهذا يدل على أنهم أرباب ضلال، وهل تتصورون أن إبليس اللعين لم يكن يعرف قدر الله تبارك وتعالى؟ إنه يعرفه جيداً، ويعرف أنه المعبود الأوحد، ولا معبود بحق سواه، لكنه عصى وفرط وبغى، وقاس قياساً فاسداً أوقعه وأورده المهالك، فهذا لا يدل على أنه لم يعرف الحق من الباطل، بل هو يعلمه تماماً وجيداً، لكنه زاغ وضل وانحرف عن الصراط، بل كان إبليس من أكثر العباد عبادة قبل أن يعصي، فهل تتصورون أن إبليس كان يعبد معبوداً أو إلهاً لا يعرفه ولا يعرف قدره؟! A كلا، فقد كان يعرفه جيداً. وهكذا أهل الكلام؛ لأن إمامهم وسلطانهم هو إبليس، ومنه أخذوا، وعلى يديه تربوا، وأشربوا منهجه في الجدال والمخاصمة والمماحلة، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحق ليعملوا به، أو ليتعبدوا به، وإنما يريدون أن يجادلوا لأجل الجدال فقط، أو للتشهي، أو للنصرة على الخصم، أو لكثرة الأتباع أو غير ذلك. وعلى أية حال سمات أهل الحق كما أنها واحدة إلى قيام الساعة، فكذلك سمات أهل البدع والضلال واحدة إلى قيام الساعة. قال: [ولا تتكلفن صفة الدين]. أي: لا تكلف نفسك أن تظهر الدين. [لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك]، أي: إذا أرادوا الظلم، وعرضوا عليك المجادلة والمناظرة، فلا تمكنهم من نفسك، فإذا جاءك عاص أو ضال مبتدع أو غيره وطلب المناظرة فهذا لا يجوز محادثته أو مناظرته إلا بشروط: الشرط الأول: أن يغلب على الظن أنه يبتغي الحق. الشرط الثاني: ألا يأتي للمناظرة، وإنما يأتي للتعلم. الشرط الثالث: أن تكون من أهل العلم المشهود لهم بذلك، وممن تعَيَّن عليه التصدي لإظهار الحق، وقمع الباطل. فهذه ثلاثة شروط، فإذا تخلف شرط منها اختلت المناظرة، ويحرم عليك أن تتصدى لأهل البدع؛ حتى لا تصاب بما أصيبوا، ولا تزل قدمك كما زلوا، ولا تضل كما ضلوا.

ضرر مناظرة أهل البدع والاستماع لهم

ضرر مناظرة أهل البدع والاستماع لهم قال: [إنما يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك؛ فلا تقعد معهم]، كما قال الله تعالى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. فإذا كانوا هم سعوا في كل واد لفتنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفتنة أصحابه الكرام، فكيف بك أنت يا مسكين! ولا علم لك، ولا معرفة لك بأساليب وألاعيب القوم، فأنت من باب أولى خليق وجدير بأن تقع في شباك أهل البدع إذا تعرضت لهم ولم تتأهل لذلك؛ لأنهم يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك، فقد تذهب لتدفع عنهم شبهة قد بلغتك؛ فإذا بشبه متتابعة متعاقبة يلقونها على مسامعك لم تستعد أنت لها؛ فتؤثر هذه الشبه في قلبك؛ فتكون أنت أحوج الناس إلى إزاحة هذه الشبه من قلبك، فأنت الذي ذهبت لتقيم عليهم الحجة فأوقعوك هم في شراكهم وحبائلهم وشبههم، حتى زعزعوا قواعد الدين الأصلية في قلبك. ولذا فالمناظرة مع أهل البدع من أخطر ما يمكن، وحذار أن تتصور أنه خذلان أو ضعف أو خوف أو خور أن تعتذر عن لقاء القوم، بل هذا هو عين الاستقامة، فكثير من أئمة السلف مع إمامتهم، ووفرة علمهم لم يسمحوا قط بسماع كلمة واحدة، ولا حرف واحد من أهل البدع، كما قال ابن سيرين: والله لو قرءوا القرآن لم أسمعه منهم، أو تلوا علي حديثاً ما سمعته منهم. مع أن قراءة القرآن وسماع الحديث لا شيء فيه. فانظر إلى ابن سيرين وهو إمام أهل البصرة في زمانه، وسيد من سادات التابعين، وتلميذه أنس بن مالك رضي الله عنه، ومع هذا لم يكن يأذن لنفسه قط أن يسمع كلمة واحدة من صاحب بدعة، حتى لو كانت هذه الكلمات آية في كتاب الله، أو حديثاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

مناهج التلقي عند أهل السنة والجماعة

مناهج التلقي عند أهل السنة والجماعة قال: [ولعمري! إن صفة الدين لبينة]، أي: إذا كانوا يريدون صفة الدين، فصفة الدين، ومعالم الدين، وسمات الدين، وخصائص الدين بينة وواضحة. قال: [وإن سبله لواضحة، وإن مأخذه لقريب]. ومأخذ الدين من كتاب الله، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن إجماع أهل العلم، وقياس صحيح يوافق العقل الصريح، ويوافق المنقول من كتاب وسنة، ويوافق كلام أهل العلم، فإذا كان كذلك فهو قياس صحيح، وإذا كان عكس ذلك فليس بصحيح؛ ولذلك فمصادر التلقي المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة هي: الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وما عداها مختلف فيها، والراجح أن هذه المصادر هي المصادر الأصلية التي يعتمد عليها المسلم في دينه، علماً وعملاً وعبادة وغير ذلك.

اضطراب وشك أهل الباطل

اضطراب وشك أهل الباطل قال: [وإن مأخذه لقريب لمن أراد الله هداه، ولم تكن الخصومة والجدل هواه، ولولا أن يأخذ الأمر من غير مأخذه، أو يتبع فيه غير سبيله؛ فإن الله تعالى لا بد كاشف عوراتهم، وإن حجتهم لداحضة، دانوا الله بغير دين واحد، بل دانوا بأديان شتى، يمسون على دين ويصبحون به كافرين]. يعني: يدينون الله تعالى في المساء بدين معين، فإذا أصبح عليهم الصباح اختلفوا فيما اتفقوا عليه بالأمس؛ فتفرقوا، فكفر بعضهم بعضاً، فهم يمسون على دين معين، ثم يصبحون بهذا الدين كافرين؛ لأنهم قد ضلوا السبيل، وضلوا منهج التلقي وهو الكتاب والسنة؛ فتلقوا هذا الدين الذي كفروا به بعد ذلك من وحي عقولهم، ومن وحي شياطينهم، وما وافق هواهم، ووافق شهواتهم، وأما إن وافق الكتاب والسنة، فإن هذا هو المصدر الحق، ولا يمكن أن يختلف؛ لأن الحق واحد، ومشكاة الحق واحدة لا تخطئ قط، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أي: القرآن الكريم، فلما لم يجدوا فيه اختلافاً كثيراً ولا قليلاً؛ تبين أنه من عند الله عز وجل.

ذم الشافعي لكل ما هو طريق إلى الكلام

ذم الشافعي لكل ما هو طريق إلى الكلام قال: [قال الربيع بن سليمان المرادي: جاء رجل يناظر الشافعي في شيء]. والشافعي مع علو قدره، وعظيم منزلته يأتيه رجل من أهل الكلام ومن أصحاب البدع يريد أن يناظره في مسألة، فهل تعتقدون أن الشافعي يعجز أن يناقش أهل البدع جميعاً؟ A لا، فـ الشافعي إمام الدنيا في زمانه، ولم يكن أحد في الأئمة الأربعة، لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا أحمد بن حنبل يضاهي الشافعي في العلم، ولو كان التمذهب مشروعاً أو مسنوناً؛ لكان التمذهب بمذهب الشافعي من أوجب الواجبات، لكن التعصب لمذهب ما، وأخذ كل ما جاء عن صاحبه حقاً وباطلاً أمر مذموم، والممدوح لك أن تتمذهب بمذهب إمام معين، لكن لا يسعك اتباعه إذا أخطأ، وإنما يسعك مخالفته والأخذ بالحق. وقد كان مجلسه رحمه الله تعالى يزدحم بالآلاف، فمنهم من يأتي ليستمتع بعلو إسناده، ومنهم من يأتي ليستمتع ببلاغته وفصاحته، حتى قال قائلهم -وهو إمام من أئمة اللغة-: كلام الشافعي في اللغة حجة، فهو رحمه الله تعالى إمام في البيان والفصاحة، وحجة على الأمة إلى قيام الساعة؛ لأنه من أنحى العرب، فقد تلقى لغته عن قبائل العرب كلها، ودفعت به أمه إلى قبيلة هذيل التي هي أعظم القبائل لغة وفصاحة وبياناً، فمكث بها الشافعي عدة أعوام حتى أتى على بلاغتها وفصاحتها، كما أنه محدث عظيم جداً، وأسانيده مرتفعة، وإن كان أحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، إلا أن أحمد فاقه حديثياً؛ لانشغال أحمد بالحديث. وأما الشافعي فكان جل اهتمامه بالفقه؛ ولذلك هو الفقيه حقاً، فيقدم في الفقه على كل الأئمة الذين تكلموا في الفقه إلى قيام الساعة، بخلاف أحمد، فإنه إمام الأئمة في زمانه في الحديث، وهكذا جمع القوم بين شتى فنون العلم: من الحديث، والفقه، واللغة، والتفسير، والقرآن وغير ذلك، لكن الواحد منهم اشتهر بعلم معين، وإن كان محصلاً لجميع العلوم الأخرى. قال: [فقال الشافعي: دع هذا، فإن هذا طريق الكلام]. أي: أن هذا الذي تسلكه هو منهج أهل الكلام، ونحن عندنا سنة وأثر، وإنما أنصحك باتباع الأثر وترك الكلام وذمه. قال: [وسمع الشافعي رجلين يتكلمان في الكلام، فقال: إما أن تجاورانا بخير، وإما أن تقوما عنا]. أي: إما أن تتكلما بخير، وإما أن تنصرفا عنا.

تهوين الشافعي لسائر المعاصي مقارنة بعلم الكلام خلا الشرك بالله تعالى

تهوين الشافعي لسائر المعاصي مقارنة بعلم الكلام خلا الشرك بالله تعالى قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لئن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك به، خير له من النظر في الكلام]. يعني: لو أن المرء ابتلي بكل كبيرة من الكبائر: كالسحر، والفرار من الزحف، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، وغير ذلك من سائر الذنوب والمعاصي؛ أحب إلى الله عز وجل من أن يبتلى بأن يتكلم في دين الله عز وجل بغير علم، أو أن يخوض في دين الله عز وجل على منهج أهل الكلام، وأصحاب الأهواء والبدع. وليس في هذا الكلام دليل على أن البدع أو المعاصي محببة إلى الله عز وجل، لكن هذا الكلام خرج مخرج الزجر الشديد عن اتباع طريقة أهل الكلام، وسلوك منهج أهل البدع.

تحذير الشافعي من ائتمان صاحب الكلام على الدين

تحذير الشافعي من ائتمان صاحب الكلام على الدين قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما لو رأيت رجلاً ارتكب كل ما نهى الله عنه خلا الشرك؛ كان أحب إلي من أن أراه صاحب كلام، قال: قلت: يا أبا عبد الله! -وهذه كنية الإمام الشافعي - وتدري ما يقول صاحبنا -أي: هل سمعت ما قال صاحبنا؟ أي: صاحب يونس بن عبد الأعلى، وصاحب الشافعي، وهو الإمام العلم الجبل المصري الليث بن سعد عليه رحمة الله- الليث بن سعد؟ قال: وما قال؟ قال: لو رأيت صاحب الكلام يمشي على الماء لا تأمنن ناحيته]. ومن الذي يستطيع أن يمشي على الماء؟ لا أحد، لكن لو تصورنا أن هذه الحادثة الخارقة للعادة وقعت في حق المتكلم، فتجمع الناس حتى سار على سطحه، ونظر الناس إليه. يقول الليث: لو رأيتم صاحب كلام على هذا النحو فلا تأمنوه على دينكم. [قال الشافعي: بل الأمر أعظم من ذلك، لو رأيت صاحب كلام يطير في الهواء فلا تأمننه على دينك]. إذاً: فالقضية كلها متعلقة بالاستقامة؛ ولذلك يقول ابن تيمية عليه رحمة الله في المجلد الحادي عشر من الفتاوى: إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء؛ فلا تحكمن عليه حتى ترى عمله، فإن كان موافقاً للكتاب والسنة؛ فإنما ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإلا فهو استدراج من الشيطان. أي: أن هذا العمل من الشيطان وليس من الرحمن، وهذا الكلام أيضاً مذكور في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومعناه: لو رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي في الماء، أو يأتي لك بأشياء هي كالسحر، بل السحر نفسه، حتى تكاد تجزم وتقسم أنك رأيت حقاً؛ فلا نحكم لهذا الرجل ولا عليه حتى نرى عمله هل هو مستقيم على منهج أهل السنة أم لا؟ فإن كان كذلك؛ فإن الذي جرى على يديه كرامة من الله تعالى له، وأنتم تعلمون أن كرامات الصالحين أمر مستقر في عقيدة المسلمين، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى قيام الساعة. والله تبارك وتعالى يمن على من يشاء من عباده الصالحين بالخوارق للعادات كرامة لهم، كما تجري هذه الخوارق على أيدي الأبالسة، وعلى أيدي السحرة والأفاكين الكذابين، لكنها ليست كرامات، وإنما هي استدراجات من الشيطان. قال: [قال أبو حاتم: حدثني بعض أصحاب الشافعي أنه سمع الشافعي يقول: كلمتني أم بعض أصحاب الكلام على أن أكلم ابنها ليكف عن الخوض في الكلام]. فالأم عقلت أن ابنها على ضلالة، فأتت إلى إمام المسلمين الإمام الشافعي، فقالت: كلم ولدي أن ينتهي عن علم الكلام. قال الشافعي: [فكلمته ليكف عن الكلام، فدعاني إلى الكلام]. يعني: كلمته ليكف عن الهوى واتباع الشهوات، فدعاني هو إلى الخروج عن حد الاستقامة، والدخول في حد البدعة والضلالة. قال: [وقال أبو حاتم: قال أبو ثور إبراهيم بن خالد: سمعت الشافعي يقول: ما ارتدى أحد الكلام فأفلح]. أي: ما سلك أحد سبيل الكلام والهوى؛ إلا ويخسر خسراناً مبيناً.

منهج أصحاب الكلام تجاه المخالف

منهج أصحاب الكلام تجاه المخالف قال: [قال حسن بن عبد العزيز الجروي: كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء، ويقول: أحدهم إذا خالفه صاحبه قال: كفرت، وإنما يقال فيه: أخطأت]. يريد أن يقول: إن أهل السنة -وهذا كلام قرره شيخ الإسلام ابن تيمية مراراً- أرحم من أهل البدعة بعضهم ببعض، فأهل السنة لهم حد يقولون فيه: لا يكفر من أصحاب الفرق الضالة إلا الغلاة الذين خرجوا عن أصول الديانة، أو بدلوا وحرفوا في دين الله عز وجل أو في هذه الأصول، وأما عامة أصحاب الأهواء والضلالات؛ فإنهم لا يكفرون بهذا. وهذا بلا شك غاية الاعتدال من أهل السنة والجماعة، لكن لو تأتي الآن وتنظر إلى أهل البدع أنفسهم ماذا يقولون فينا؟ فالشيعة مثلاً هل يحكمون لنا -أهل السنة- بالإسلام؟ A لا، بل نحن جميعاً عن بكرة أبينا -جاهل وعالم- عندهم كفار وصابئة، حتى إنهم لا يسموننا قط أهل السنة، وإنما يسموننا: الصابئة أو الناصبة، وليس لنا عند الشيعة إلا هذان الاسمان: الصابئة أو الناصبة، وهذا مشعر بالكفر، فضلاً عن أنه في لحظة صدق وصراحة يصارحونا بهذا، لكن لما كان دينهم التقية والكذب والنفاق؛ فإنهم يخفون هذا في غالب أحوالهم وأوقاتهم. وليس الأمر يقف عند ذلك، بل أكثر من ذلك، فإذا اختلف أهل البدع مع بعضهم البعض لم يقل أحدهم في صاحبه: إنك أخطأت، وإنما يقول له: إنك كفرت؛ ولذلك فالأحكام عند القوم: إيمان وكفر، ولا يعرفون طريقاً للفسق، وإنما عندهم -خاصة الخوارج- أن من ارتكب معصية فقد كفر بها، وغلاتهم يكفرون بالمعاصي كلها: صغيرها وكبيرها. فالواحد منهم لا يقول لمن عصى: لقد عصيت، أو فسقت، أو أخطأت، وإنما يقول له: لقد كفرت، وليس هذا فحسب، بل إذا وقع الواحد منهم -ممن يصدرون الأحكام على الآخرين- في معصية كفر نفسه، وحكم على نفسه بالكفر، وألزم نفسه الدخول في الإسلام من جديد، وإننا نعلم أناساً كثيرين يعيشون بيننا في هذه الأيام وفي هذا العصر، بل وفي هذه المدينة يطلِّق الواحد منهم امرأته لمعصية وقع فيها؛ ظناً منه أنه انتقل من الإيمان إلى الكفر، وبالتالي لا تحل له امرأته حتى يشهد من جديد، ويعقد عليها عقداً جديداً بمهر جديد، وغير ذلك مما يلزم العقد الشرعي من ولي وشهود، وغير ذلك من سائر شروط أحكام العقد الشرعي الصحيح. وأما أهل السنة فهم أرحم بأهل البدع من رحمة أهل البدع بعضهم ببعض، كيف لا وهم امتداد للنبي عليه الصلاة والسلام الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين: لعالم الإنس والجن، للأبيض والأسود، للأعجمي والعربي، فقد نهج أهل السنة نهجه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم مأمورون باتباعه، والتخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فإذا كنا حقاً نتابع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا بد أن نتمثل أخلاقه، وآدابه، وأحكامه، وطريقته، ومنهجه، وكل ما يتعلق بأمر الدين والدنيا مما ورد إلينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في كتاب الله، أو في سنته الصحيحة.

تعقيب الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى على موقف أهل الكلام من المخالف

تعقيب الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى على موقف أهل الكلام من المخالف قال الشيخ ابن بطة: [فأهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون؛ لأن اختلافهم في شرائع شرعتها أهواؤهم، وديانات استحسنتها آراؤهم؛ فتفرقت بهم الأهواء، وتشتت بهم الآراء، وحل بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق؛ فزلت أقدامهم عن محجة الطريق، فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب منهم على غير أصل ولا تحقيق]؛ لأنهم ليس لهم منهج يعتمدون عليه، بينما نحن منهجنا القرآن والسنة وإجماع أهل العلم، والذي عرفنا بالقرآن والسنة هم أهل العلم من السلف، وهم أدرى الناس بكلام الله عز وجل.

معنى السلفية وعلى من تطلق

معنى السلفية وعلى من تطلق ومعنى السلفية إجمالاً: اتباع السلف، وكلمة: (السلف) عند الإطلاق يقصد بها أهل زمن معين، وهم أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). والراجح أن أصحاب القرون الخيرية هم الثلاثة القرون الأولى، مع أن البدعة وقعت فيهم، فبدعة الخوارج وبدعة التشيع وبدعة القدرية -وهذه أسبق البدع ظهوراً في الإسلام- وقعت في نهاية القرن الأول، فهل هي المقصودة بالمدح؟ A لا، إنما المقصود بالمدح أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين وافقوا مراد الله من كتابه، ووافقوا مراد النبي عليه الصلاة والسلام من سنته: كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الصواب في عبارة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف

الصواب في عبارة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف فإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الكلام القائل: بأن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف؛ كلام يحتاج إلى تدقيق وتحقيق، وأرى أن الصواب في هذا الكلام يقال: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان في القرن الأول أو الثاني أو الثالث أو العاشر أو المائة؛ لأن القرون الخيرية الأولى وقع فيها من البدع ما وقع. فيكون انضباط هذا الكلام بقولنا: الخير كل الخير في الاتباع، أي: في اتباع السلف رضي الله عنهم. وليست العبرة أن تحتج بكلام لله عز وجل، أو بكلام قاله النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أو في غيرهما مما صح عنه عليه الصلاة والسلام، لكن العبرة: مَن فهم هذا الكلام كما فهمت أنت؟ هب أنك تحتج بآية من كتاب الله لم يسبقك أحد إلى هذا الفهم إلا الجهم بن صفوان، فهل يكون هذا الفهم صحيحاً؟ وهل يكون المراد صحيحاً؟ لا، فهذا فهم جهمي للآية. وأما لو كان الفاهم لمعنى الآية هو: أبو بكر أو عمر؛ فيا حبذا هذا الفهم، وهؤلاء هم حقاً سلف الأمة رضي الله عن الصحابة أجمعين، وعن الأئمة المتبوعين أئمة الدين، وأصحاب الاجتهاد المطلق في الفقه وأصول الدين وغير ذلك.

استمرار المنهج السلفي إلى قيام الساعة

استمرار المنهج السلفي إلى قيام الساعة فالسلفية لم تنقطع عند أصحاب القرون الخيرة الأولى، بل السلفية من جهة المعنى مستمرة إلى قيام الساعة؛ لأن العبرة من سار على نهجهم إلى يوم الدين، فـ ابن تيمية ممن سار على نهج الصحابة وهو سلفي، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية. وابن القيم سلفي؛ لأنه سار على نهج الصحابة، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية الأولى، وبالتالي فلا يخلو عقد ولا قرن من عالم وقائم لله بحجة على منهج السلف، والله تبارك وتعالى لا يمكن أن يترك الناس أو العباد بغير عالم يقيم عليهم الحجة؛ حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة. وإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الله تعالى له جنود ظاهرون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، والذي أحسبه من المجددين في هذا الزمان وفي هذا القرن هو شيخنا العلامة الألباني، وكذلك شيخنا العلامة ابن باز، وغيرهما من أهل العلم ممن هو باق على قيد الحياة، نسأل الله أن يطيل أعمارهم، وأن يحسن أعمالهم، وأن يحسن خواتيمنا وإياهم جميعاً، ومنهم من مات ولا يقل في الفضل والعلم عمن ذكرناه. فالسلفية لها معنى قديم متعلق بالقرون الخيرية الثلاثة، ومعنى حديث، أي: من جهة المعنى لا من جهة الزمن، وهذا مستمر إلى قيام الساعة، ولا يخلو منه عصر ولا مصر، فالذي أمرنا نحن به من قِبَل الله عز وجل، أو من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، أو من قبل الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين، أو من قبل أئمتنا في هذا الزمان: أن نكون تبعاً لأهل العلم الصادقين المخلصين، المتبعين لآثار من مضى، لا المتبعين لأهوائهم، ولا المتبعين للجدال والكلام والخصومات والمراء والملاحاة؛ إذ كل هذا ليس منهجاً للسلف، بل قد ذموه ونقدوه وحذروا الأمة منه، بل وتعرضوا له بالنقد حتى بينوا زيفه، وبينوا عجزه وتقصيره، وبينوا فساده ومخالفته لهذا المنهج الذي أمرنا ألا نتلقى إلا منه وعنه، وهو الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح. قال: [يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: العلم بالكلام جهل، والجهل بالكلام هو العلم].

بيان ضلال القرآنيين الطاعنين في السنة النبوية

بيان ضلال القرآنيين الطاعنين في السنة النبوية إن مادة أصول الفقه من أعظم المواد إظهاراً لمراد الله تعالى ومراد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وهذه المادة أنا أحبها غاية الحب، وأستمتع بالنظر في كتبها أيما استمتاع، وإن الدارس لهذه المادة بمجرد النظر في كتاب الله يعلم المراد، أو يعرف توجيه الآية. لكن قوماً اتخذوا هذه المادة منهاجاً، فقدموها على كتاب الله، وقدموها على سنة النبي عليه الصلاة والسلام، كما سبقهم إلى ذلك أبالستهم، مثل: القرآنيين. فالقرآنيون يقولون: نحن لا علاقة لنا بالسنة! وهذا أمر عجيب جداً، كيف يفهمون القرآن بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذه دعوى قديمة جداً، فقد ظهرت في زمن الصحابة، بل قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام منها، ولا يزال قوم منهم يستترون، ويعبثون بأدمغة وعقول شباب الأمة. وأذكر على سبيل المثال: الجاحد والمنكر للسنة جمال البنا، وهو أخو الشيخ الكبير العلم الشيخ حسن البنا رحمه الله، فهذا الرجل لم يكتف فقط بأنه أجهل من حمار أهله فيما يتعلق بالعلم، بل ذهب ليصنف مصنفات بلغت العشرات، يزعم أنه من المجددين، وهو لا يعلم شيئاً بالدين، وإنما منهجه الطعن في سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وهو من مدرسة ابن خلدون، وهو رفيق الطريق، وصديق الهوى للمدعو الدكتور: مصطفى محمود، ونصر أبو زيد وحسن حسني، وهذا الملحد العلماني الكبير في كلية الآداب، وبقية الملاحدة في كلية الألسن؛ كل هؤلاء جمعتهم دار تسمى: دار ابن خلدون، هذه الدار التي تنفق عليها أمريكا، كما تنفق عليها إيران بغير حياء، بل بكل بجاحة. والعجيب أن يلتحق بهذه الثلة الإجرامية المجرمة اسم لعلم من أعلام الدين وهو ابن الشيخ عبد اللطيف السوري الذي لا يخفى على أحد، وهو إمام من أئمة الذب عن السنة النبوية، وقد أفنى أبوه حياته في الدعوة إلى السنة ونبذ البدعة، وهذا اشتغل وجعل جل أمره واهتمامه إنكار السنة، ويزعم أنه قرآني فقط، فلا والله لا أنت قرآني، ولا أنت من أهل السنة كذلك، بل أنت من أهل البدع والضلال، وإنما يتكلم بكلام خفي؛ حتى لا يفتضح أمره، لكن الله تبارك وتعالى فضحه وكشف ستره، وهتك أمره على يد تلامذته رجالاً ونساءً، الذين تربوا على يديه إنكاراً للسنة، حتى أنكر بضع مائة حديث متفق عليهم عند البخاري ومسلم. فكيف يكون هذا آدمياً؟! بل هو إلى الحيوانية أقرب، فقد تربى في بيت علم وفي بيت سنة، ثم هو ينقلب رأساً على عقب ليحارب السنة تحت مسمى أنه قرآني فقط، فلم لم يزعم أحد من الصحابة هذا الأمر؟ فهل هذا هو الخير الذي كشفه الله تعالى لك وستره على نبيه، وعلى أصحابه الكرام، وعلى أئمة الدين؟ إن الصحوة الإسلامية الآن تمر بمخاطر عدة من أخطرها: ما يحاك خلف الكواليس وخلف الأسوار في الطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام. والعجيب أن بعض الشباب يقول: لا يعقل أن محمد بن عبد اللطيف يطعن في السنة، فلا بد أن نذهب إليه ونكلمه، فإذا ذهبت إليه إذا بك تمكث عنده، وتأبى أن تخرج من عنده؛ لأنك أصغيت أذنك لأهل الأهواء وأصحاب البدع، وخالفت ما حذرك منه سلف الأمة في هذه الكتب المسندة بأسانيد صحيحة، فلما خالفْتَ أوقع الله تبارك وتعالى عليك العقوبة؛ لأنه يعلم عدم صدقك، وعدم إخلاصك في الطريق، أو لعدم فهمك لمنهجية السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم في التعامل مع أصحاب الأهواء.

تحذير هشام بن عبيد من الكلام

تحذير هشام بن عبيد من الكلام قال: [قيل لـ هشام بن عبيد حين أدخل على المأمون: كلم بشرا المريسي -أي: أن المأمون قال للإمام: ناظر بشراً المريسي هذا الضال- قال هشام: أصلح الله الخليفة، لا أحسن كلامه]. أي: أنا لا أحسن أن أتكلم معه، مع أن هشام بن عبيد كان من أئمة الدين، فلما طلب منه المأمون أن يكلم بشراً المريسي ويقيم عليه الحجة ويناظره ويسكته؛ اعتذر الشيخ عن ذلك، وقال: إني لا أحسن الكلام، [بل من يحسن الكلام عندنا فهو جاهل]. يعني: من يحسن أن يكون كهذا فهو عند أهل السنة جاهل، أي: جاهل بالأصول السلفية التي منها: ترك المناظرة والجدال مع أصحاب الأهواء والكلام.

تحذير العتابي من الكلام والجدل وموقف المأمون من مناظرته مع بشر المريسي

تحذير العتابي من الكلام والجدل وموقف المأمون من مناظرته مع بشر المريسي قال: [وعن أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون وعنده بشر المريسي، فقال المأمون: ناظر بشراً في الرأي، فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! قبل المناظرة فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه، ولا يذم على خطئه؛ لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر، ولكنه يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمثاقبة، فقال له: ناظر بشراً في الرأي -أي: أن المأمون مصرٌّ على أن العتابي يناظر بشراً في الرأي- فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق]. أي: أنهم لا يتكلمون بصراحة، وإنما يلفون ويدورون، وديننا سهل وليس بصعب، والدليل على ذلك: أن الواحد من البادية كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيجلس في المسجد، ويسمع النبي عليه الصلاة والسلام، وبعدما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم وينطلق إلى باديته، فكل كلمة سمعها قد فهمها. لكن الآن تأتي لواحد يدرس الناس مادة أصول الفقه، أو مادة أصول الحديث، أو مادة اللغة العربية، أو يدرسهم معنى حديث، أو معنى آية، لكنه رزق شيئاً من الكلام والفصاحة والبيان، أو القواعد الكلية في اللغة العربية، أو في الدين أو غير ذلك، فتجده يتلاعب بهذه الألفاظ، وبهذا التراث الكلامي الذي لديه، حتى إن السامع يضرب كفاً على كف -ولا أقول: إنه يضرب كفه بوجهه- لأنه يحاول جاهداً أن يفهم كلام المتكلم، لكنه دائماً يبوء بالفشل، فإن علم المتكلم أن المستمع لم يفهمه؛ ازداد إعجاباً وفرحة بنفسه؛ لأنه يقول كلاماً على أعلى وأرقى مستوى، لدرجة أن أحداً لم يفهمه!! وهذا هو الجهل بعينه؛ لأن العلم النافع ما سمي نافعاً إلا لأن صاحبه قد انتفع به، كما أن المستمع له قد انتفع به أيضاً، فإذا كان لا ينتفع به أحد، ولا حتى المتكلم؛ لأن الذي يتقعر في كلامه، ويأتي بجمل حشوية في أثناء كلامه، ذلك يدل على عدم الإخلاص، والمرء إذا لم يكن مخلصاً في قوله وعمله فلا بد أن تنزل من السماء عليه عقوبة تدمره، عقوبة في ولده، في ماله، في امرأته، في نفسه، في صحته، في علمه الذي بين جنبيه وغير ذلك، لكن يرد على وجهه فينسي أن هذه عقوبة، وربما يصاب بأزمة نفسية يبقى بقية حياته مريضاً منها، ولا يذكر أن هذه عقوبة من الله نزلت عليه بسبب تفريطه في الإخلاص الذي هو مأمور به قبل تعلم العلم. وكم من إنسان لم يكن مخلصاً في طلبه للعلم، ولم يدعوه العلم لطلب الإخلاص؛ فباء أمره بالفشل، واستحب العلم لحصول أعراض الدنيا من مال وكرسي ومتاع وزينة وسيارات وأبهة ومنصب وغير ذلك؛ لأنه رضي من دينه وعمله أن يكتفي بكرسي يجلس عليه، أو بمال يحوزه، أو بأكلة شهية، أو بامرأة جميلة، أو غير ذلك من أعراض ومتاع الدنيا؛ فهذا حظه من العلم. بخلاف ما لو قرأت في كتب السلف وسير أهل العلم، كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، فوالله لكأنك تقرأ في سيرة الصديق رضي الله عنه، ولو أنك قرأت في سيرة الشافعي لكأنك تقرأ في سيرة عمر رضي الله عنه، فهؤلاء أئمة وأعلام بقيت سيرتهم نيرة تنير الطريق للسالك إلى يوم القيامة، مع أنهم ماتوا، وقوم بيننا أحياء يمشون على الأرض، لكنهم كالبهائم، فهم في عداد الموتى وإن كانت أجسادهم كأجسام البغال والحمير؛ لأن المرء بدينه، وإن المرء بإخلاصه، لا بتقعره بالكلام لإثبات العلم، أو بالمفاخرة والمباهاة وغير ذلك. قال العتابي: [يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق، واختلافاً في آرائهم، وأنا واصف لأمير المؤمنين ما أعتقده من ذلك، لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين]. أي: سأحكي لك حكايتي كلها، وبعد أن أحكيها لك ستعلم صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إلى مناظرته، وبالتالي إذا عرفت صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إليه؛ فأنت الذي ستقول: كف عن مناظرته. قال: [إن أمر الديانة أمران -أي: أن أمر التدين لله على قسمان-: أحدهما: لا يرد إلا جحداً -لأنه قرآن- وهو الأصل المعروض عليه كل حجة]. أي: لا ينكر أحد منه آية إلا كفر؛ لأن الإنكار جحود. قال: [وعلم كل حادث لا نرده أو لا يرد، من انتحله حجة عليه، فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اختلاف فيها، أو إجماع من العلماء، أو مستنبط تعرف العقول عدله؛ لزمهم الديانة به]. هو الآن يتكلم على مصادر التلقي، فيقول: إن مصادر التلقي هي: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح. قال: [ولو كان هذا الكلام متفقاً عليه، واجتمع الناس على تأويل آية على نحو معين؛ فلا يحل لأحد بعد هذا الإجماع أن يخالف هذا التأويل]. وهذا الكلام كما أجريناه في القرآن نجريه في الحديث، ونجريه في الإجماع الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه؛ لأن الإجماع كالنص، بل لا ينعقد الإجماع إلا ب

تحذير أبي يوسف من الكلام

تحذير أبي يوسف من الكلام قال: [قال أبو يوسف: لا تطلب ثلاثاً إلا بثلاث: لا تطلب العلم بالكلام؛ فإنه من طلب العلم بالكلام تزندق]؛ لأن الشرع يطلب من الأصول التي اتفقنا عليها، وأما أن تأخذه من علم الكلام أو من علم الفلسفة أو المنطق؛ فليس بعلم، بل هو زندقة وإلحاد. ولذلك قال ابن تيمية: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق. أي: أن الفلسفة تؤدي إلى المنطق، والمنطق يؤدي إلى الزندقة والإلحاد، ولذلك تجد معظم الملاحدة في هذا الزمان يحتجون بكلام الفلاسفة، والعجيب أنهم عندما يصنفون الكتب فإن معظم الأسماء التي في كتبهم هي أسماء أفرنجة ليسوا بعلماء، يقول لك: كيف والفيلسوف اليوناني قال كذا، والفيلسوف الإنجليزي قال كذا، والفيلسوف الفرنسي القديم قال كذا، والحديث قال كذا، فاعتمادهم كله على كلام الفلاسفة، وهذا يدل على أنه تلقى علمه عن هؤلاء. فأنت في رحمة من الله عز وجل أن وفقك وعصمك في الإسلام بالكتاب والسنة، وأنك تتلقى علمك في بيوت الله تعالى من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأما غير ذلك فألقه في الحش ولا حرج عليك؛ لأنه ليس ديناً ولا علماً، بل هو زندقة وإلحاد.

التحذير من طلب الغنى بالكيمياء وبيان معنى الكيمياء

التحذير من طلب الغنى بالكيمياء وبيان معنى الكيمياء قال: [ولا تطلب الغنى بالكيمياء؛ فإنه من طلب الغنى بالكيمياء افتقر]. وفي الحقيقة أن هذه المسألة معماة عندي، وأنا لا أحسن الكلام فيها، غير أن بعض أهل العلم سمعته يذكر رأيه ويقول: المقصود به السحر، إذ إن الساحر يستخدم مواد كيماوية وغير ذلك، فيأتي بعناصر مكونة للذهب، أو بعناصر مكونة للفضة؛ لأن هذا مصدر المال، أو هذا أصل المال: الذهب والفضة، فهو يأتي بعناصر كيميائية بإضافة أنساب منها إلى أنساب أخرى معينة، وهذا الخليط يخرج ذهباً وفضة، أو معدناً يباع ويشترى، فمن طلب الغنى بالكيمياء أفقره الله عز وجل.

الجرأة على العلماء لا تأتي إلا من الجهال

الجرأة على العلماء لا تأتي إلا من الجهال قال: [وجاء أبو بكر الأصم -وهو فعلاً أصم- إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين]. عاملك الله بما تستحق! ألم تجد إلا عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام الشافعي، فـ عبد الرحمن بن مهدي تورع، وأحمد بن حنبل تورع، وهؤلاء هم أئمة الدنيا، ودائماً الجرأة لا تأتي إلا من جاهل أو غبي، ولذلك قال عبد الله بن المعتز: لا يتصدر إلا فائق أو مائق. والفائق: هو المتفوق، فيكون له صدر في الأمة، وصدر في الناس، وعلم يشار إليه؛ لأنه طول عمره وهو رجل فاضل ومحترم، يحافظ على وقته، ويذاكر ويحفظ، ويستمع كلام أهل العلم، ويحاول أن يحصل العلم من مصادره؛ حتى يكتب له التفوق والتصدر في الناس، وإن لم يبغ هو التصدر لكن الناس يقدرونه، مع أن علماءنا ليس أحد منهم من أهل الدنيا، أو صاحب منصب، وما فرض علينا علمه من خلال منصبه. وأما أصحاب المناصب فهم أكبر سلاطين في الدنيا، لكن لما يدخلوا علينا نقول لهم: لا نريدكم؛ لأن عندنا أناساً أحسن منكم، وأنظف منكم، فنتلقى عنهم، وأنتم لستم أصحاب دين، بل أصحاب انحراف، والانحراف ثابت عنكم، وقد كنتم مستقيمين قبل الكرسي، وبعد الكرسي تغيرت أحوالكم، ومن أجل ذلك كلامكم عندنا غير معتمد، مع أنهم في العلم أناس جيدون، فهم ليسوا جهلة، لكننا لا نثق في علمهم أو في فتاواهم. فمثلاً: عندنا الشيخ الألباني رحمه الله، وابن باز وغيرهم من أهل العلم، هؤلاء أناس كتب لهم القبول والصدارة في العالم كله كافرهم ومؤمنهم، وليسوا أصحاب كراسي ووجاهات، ولا عندهم من الأموال الكثيرة لكي نتملق لهم من أجل أن نأخذ من دنياهم. بل أنا أذكر مراراً أن الجهلة كانوا يأتون إلى عمان الأردن، ويجهلون أيما جهل على الشيخ الألباني، حتى هم كثير من الطلاب أن يضربوهم؛ لأنه لا يمكن مناقشة العالم بهذا الأسلوب أبداً. فمثلاً: جاء رجل من مصر إلى عمان الأردن، وصلى الجمعة عند الشيخ الألباني في مسجد صلاح الدين في الدوار الرابع عند الشيخ أبي شقرة، وبينما أنا صاعد المسجد سمعته يقول: أين الأخ الألباني؟! فقلت له: لا يصح هذا يا فلان! من الخطأ أنك تخاطب عالماً مبرزاً في الأمة بلقب الأخ، فهل تدخل على أبيك فتقول له: يا أخ فلان؟! أو على أمك وتقول لها: يا أختي؟! المهم خرج الشيخ الألباني من المسجد الله يرحمه ويحسن إليه، فقال له: يا شيخ! أنا جئت لك من مصر مخصوص، قال له: لماذا؟ قال له: أنا ذهبت أقدم في الجامعة الإسلامية فقالوا: لا بد أن تأتي بتزكية من الشيخ الألباني، فقال له: قالوا لك: تزكية من الشيخ الألباني؟ قال له: نعم، قال له: ولكن أنت أول واحد ينقل إلي أن هذا الطلب من الجامعة موجه إليّ، وإلا فالأصل أنهم يقولون: اذهب وائت بتزكية من شخص معتبر عندهم وكفى، لكن أنهم عينوا لك الألباني فعجيب، قال: نعم عينوا الألباني، فقال: طيب يا أخي! إن التزكية شهادة، فكوني أشهد لك أنك من أهل الاستقامة في العلم والعمل والعقيدة وغير ذلك أمر مهم جداً، ثم قال له: أليس الواجب علي ألا أشهد إلا بما علمت؟ فقال الرجل: أنا الحمد لله أخ مسلم جئت من مصر، فكيف تردني؟ وهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يرد سائلاً؟ وأخذ يناقش بجلافة وقلة أدب مع الشيخ، ثم طلب من الشيخ المال الذي أنفقه في سفره إليه، فقال له الشيخ: ومن أين آتي لك بفلوس؟ هل أنا قلت لك: تأتي؟ فقال له: إما أن تعطيني الشهادة أو تعطيني الفلوس. ثم إن الإخوة الذين هم مختصون بهذه الأشكال قاموا وصرفوه من الشيخ، ثم أتى إلى هنا ولم يتعلم لا في الجامعة ولا في المدرسة، ولا يزال إلى الآن يحمل حملة شعواء على الشيخ الألباني.

قوة الشيخ الألباني في الحق وعدم محاباته لأقربائه

قوة الشيخ الألباني في الحق وعدم محاباته لأقربائه مثال آخر: ولده عبد المصور الذي تغيب في أمريكا عدة أعوام، هذا الولد إذا نظرت في وجهه استحييت من فرط أدبه، جاء عبد المصور من أمريكا وذهب إلى الجامعة، فقالوا له: ما معك تزكية وأنت ابن الشيخ الكبير؟! اذهب وأحضر إجازة من والدك؛ لأن هذا عندنا إجراء روتيني لا بد من استيفائه. فجاء إلى والده -ونحن جلوس في بيته- وتلطف غاية التلطف في طرح قضيته على والده، فالشيخ الألباني قال له: تريد تزكية؟ قال: نعم، قال: ائتني بورقة وقلم، ونحن أخذنا الأمر عادياً وطبيعياً أنه سيعطي لابنه إجازة، فكتب في الورقة: أما بعد: فهذا ولدي عبد المصور بن محمد ناصر الدين الساعاتي تغيب عني منذ أربعة عشر عاماً في بلاد الكفر، ولا أدري عن دينه ولا خلقه شيئاً، والسلام. فأخذها عبد المصور وأطبقها، ثم وضعها في جيبه ولم يقرأها حتى انصرف عن والده، فسألناه بعد ذلك عما كتب أبوه، فأخرج الورقة وقرأها علينا، وقال: هو محق في ذلك؛ لأنه بالفعل الإنسان يتغير في يوم وليلة، ويتغير في لحظة، وأنا قد تغيبت عنه، فالولد التمس لأبيه هذا، وهو يعرف منهجية أبيه وشدته في الحق، فالتمس له العذر، لكن ذاك المصري لا، حتى وإن كان طالب علم، لكن بمجرد أنه يريد منك شيئاً فلا بد أن تعمله له وإلا سيغضب منك. والشيخ يا إخواني قد وضعناه في مئات المرات الحرجة مع الجامعة الإسلامية، فأخ من الإخوة يأتي ويلح ثم يلح، ولا شيء غير الإلحاح، فتحت ضغط الأخ وإلحاحه يكتب له الشيخ تزكية إلى الجامعة الإسلامية، ثم يذهب الأخ هناك فيأتي بالموبقات والكبائر، فالجامعة ترسل رسالة للشيخ الألباني تقول له: لا ترسل إلينا أحداً من قبلك بعد ذلك، إي والله! والشيخ قد أطلعنا على مثل ذلك عدة رسائل من الجامعة موجهة إليه، وفي النهاية قال: أنا جعلت المسئولية على عاتق الغير، فيزكيه الغير، وأنا على تزكيته في نفس الورقة أزكيه؛ حتى يخلع مسئوليته أمام الجامعة. ثم وقع في نفس الحرج وزيادة، فالآن نحن يا إخواني! لا نزكي أحداً قط حتى وإن كنا نعرفه، لكن الأخ يأتي يلح مئات المرات، حتى يلحق الواحد في بيته وفي شارعه وفي سوقه وفي كل مكان، ولا يكون أمامنا إلا التزكية، فهل ترضون أن نزكي واحداً منكم، ثم من ورائه فوراً أتصل بالشيخ وأقول: له كذا وكذا وكذا، فلا تعتمدها يا شيخ؟! أيصح هذا؟! نرجع إلى أصل كلامنا وهو: أن منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة يكون من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وما دون ذلك فليس بمنهج، وما دون ذلك فهو الكلام والأهواء والجدل والملاحاة والخصومات، وليس هذا هو منهج السلف رضي الله عنهم.

احتقار الإمام ابن مهدي لأصحاب الكلام والجدل

احتقار الإمام ابن مهدي لأصحاب الكلام والجدل قال: [قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى ولم يثبت]. أي: بالنسبة لي فديني مستقر وكامل، ولا أحتاج فيه إلى مناظرة، وإذا كنت شاكاً في شيء من أمر دينك، فقف عند الباب ولا تدخل، حتى آتي إليك بعد أن أخرج إلى الصلاة، ثم سل عن مسألتك حتى أعلمك بأنك جاهل. قال: [وقال أبو يوسف: العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة، كما قال أبو يزيد السراج: قال لي أبو عمر الطويل: العلم بالكلام بمنزلة التنجيم، كلما كان صاحبه أزيد علماً كان أشد لفساده]. ولذلك حين يوصف الساحر بأنه معتق، فإن ذلك يعني: عتيق وقديم، أي: متمترس في الكفر والإلحاد والزندقة، وكل الأبالسة جنوده، بخلاف الساحر المبتدئ فلم يزل بعد غير متمكن، فمعه شيطان أحياناً يحضر له الحاجة ويفلح فيها، وأحياناً لا يفلح، فيحرج أمام المسحور، بخلاف الساحر القديم؛ فإنه يسحر ومعه أبالسة عدة، إن لم يأت هذا جاء آخر وهكذا، لكن هذا كفر، وإن رأيت أنه في الظاهر ينفع.

ذم الإمام أحمد للكلام

ذم الإمام أحمد للكلام قال: [وقال: أبو عبد الله أحمد بن حنبل: من أحب الكلام لم يخرج من قلبه -أي: من أحب الكلام واستهواه تمكن من قلبه، وتربع فيه ولم يخرج منه- ولا ترى صاحب كلام يفلح قط. وقال: عليكم بالسنة والحديث، وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء؛ فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاماً لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تئول إلى خير قط، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، وسلمنا وإياكم من كل هلكة. وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله فقلت: إن ها هنا رجلاً يناظر الجهمية ويبين خطأهم، ويدقق عليهم المسائل فما ترى؟ قال: لست أرى الكلام في شيء من هذه الأهواء، ولا أرى لأحد أن يناظرهم، أليس قال معاوية بن قرة: الخصومة تحبط الأعمال، والكلام الرديء لا يدعو إلى خير، لا يفلح صاحب كلام، تجنبوا أصحاب الجدال والكلام، وعليكم بالسنن، وما كان عليه أهل العلم قبلكم، فإنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل البدع، والجلوس معهم، وإنما السلامة في ترك هذا، لم يؤمر بالجدال والخصومات مع أهل الضلالة، فإنه سلامة له منه. وقال كذلك أحمد بن حنبل: صاحب الكلام لا يخرج حب الكلام من قلبه، إنه لا يفلح، كلما تكلم بمحدثة حمل نفسه على الذب عنها]. يعني: كلما ذكر بدعة تكلف الدفاع عنها؛ لأجل إثباتها.

غربة الدين في هذه الأزمان

غربة الدين في هذه الأزمان والمعلوم أنه ما أحدثت بدعة إلا وأهلكت سنة، فتصور أن تنتشر البدع حتى تكون هي السنن في نظر الناس، ولذلك الآن إذا فتح الله عليك بالعلم، وذهبت إلى قرية من القرى تعلمهم الوضوء الصحيح فإنهم يضحكون عليك؛ لأنك في نظرهم يا ابن الجامعة! صغير، فمثلاً: أنت من مواليد الثمانين، فيقول لك: أنا عمري مائة سنة، فكيف تعلمني الوضوء؟! ووضوءه عبارة عن حفنة ماء يرش بها وجهه من الأمام، ثم يقف إماماً أو خطيباً في الناس! والعجيب أنه الوحيد في البلد الذي عنده إلمام، وأما أنت فلا، ويا ليت أنك تدخله في باقي متاهات العقيدة، أو في التوحيد، أو في الأسماء والصفات، أو في فروع العلم الدقيقة؛ فإنه بذلك يقول لك: فلان جاء بدين جديد، يعني: جاء به من باريس. وكل واحد فينا من الفلاحين قد مر بهذه المرحلة، فقد كانوا يدعونني في قريتي -ووالدي موجود هنا يسمع- بـ حسن الكاذب، وكان الأهل والجيران والخلان هم الذين يحذرون أكثر تحذير، وهذا كان يذكرني بموقفهم من النبي عليه الصلاة والسلام في العهد المكي. فتصور أن أدعى حسن الكاذب، فعندما يسمع أحد أن هذا حسن كاذب هل سيأتي أحد ويأخذ منه شيئاً؟ لا، ثم إنني تركت البلد، وقام بالدعوة من بعدي أناس، مع أننا كنا من أحسن الناس أدباً، وألطف الناس ممن سكن معهم، فلم يكن فينا عنف ولا حدة، وقد كان الواحد منهم يجلس على سلم الجامع ويشرب شيشة، فيقال له: يا عم! هات الشيشة معك وادخل فصل، فيقول: لا، أنا لا أصلي، ثم بعد انتهاء الصلاة يقول: يا ليت أني صليت معكم، لقد كسلت. وآخر وجدته جالساً في بساطة المسجد الخارجية وراكن على جدار المسجد، فلما أنكرت عليه قال: أنا قيم المسجد! فهذا بلاء عظيم جداً. وفي يوم من الأيام كانوا قد عملوا عرساً على سطح المسجد؛ عملته الجمعية الزراعية، وهذا العرس فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفيه بلاء عظيم جداً، لكن من الذي سينكر! فأنا أقول: لو جاز أن يرسل الله تعالى نبياً؛ فإن مصر لا يكفيها إلا خمسة وعشرون نبياً من أولي العزم، ولا يكفيها شيخ ولا داعية إلى الله، مع أن الأصل فيهم الطيبة، لكن قلوب بعضهم أصلب من الصخر!

نهي ابن سيرين عن الجدال إلا إذا كانت وراءه فائدة مرجوة.

نهي ابن سيرين عن الجدال إلا إذا كانت وراءه فائدة مرجوة. قال: [وكان ابن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلاً إن كلمته طمعت في رجوعه] فهذا شرط: أن يغلب على ظنك أنك لو كلمته أنه سيرجع، وإلا فلا.

كلام الإمام أحمد في ذم الكلام

كلام الإمام أحمد في ذم الكلام نختم هذا الدرس بكلام نفيس جداً للإمام أحمد بن حنبل، يقول أحمد بن حنبل: لا تجالس صاحب كلام وإن ذبَّ عن السنة؛ فإنه لا يئول أمره إلى خير. أي: لا تجالس صاحب كلام وصاحب هوى وبدعة؛ حتى وإن تظاهر بأنه يدافع عن السنة، وهذا كلام واقعي، واذهب الآن إلى منكري السنة فإن أحدهم يقول لك: أنت فهمتني خطأ، نحن لم ننكر السنة، ولكن نقول: السنة هي فكرة في العقل؛ ولذلك لما اعتمدوا على عقولهم وجعلوا العقل حاكماً على السنن؛ صححوا أحاديث موضوعة، وردوا أحاديث متفق عليها؛ لأن القواعد التي وضعها أهل العلم ليست هي الحاكمة والحاسمة، وإنما الحاكم والحاسم هو العقل. يقول لك أحدهم: أنت إذا تصورت أنني أنكر السنة فأنت مخطئ، فتقول له: يا أخي! أنت رددت حديث الذبابة وهو وارد في البخاري، فيقول لك: هل حديث الذبابة معقول يا أخي؟! وتقول له: كذلك أنت رددت حديث فقء موسى لعين ملك الموت، فيقول لك: وهل هذا حديث؟

متى يجاب الإنسان إذا سأل عن بعض الأهواء والمحدثات

متى يجاب الإنسان إذا سأل عن بعض الأهواء والمحدثات قال: فإن قال قائل: قد حذرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، وقد علمنا أن هذا هو الحق، وأن هذا سبيل العلماء وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين، فإن جاءني ربي يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها، وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علماً بها، وبصراً نافذاً في كشفها، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته، ولا أرد عليه قبيح مقالته. أي: قد عرفنا الحق في هذا المنهج، لكن افرض أن شخصاً جاءني فسألني عن هذه الأهواء المضلة، وأنا ممن وهب علماً، وأستطيع أن أقيم الحجة عليه؛ وهذا هو الشرط الثاني. والشرط الثالث بعد ذلك: أنه يغلب على ظنك أنه سيقبل منك. قال: فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله! أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما رجلاً قد عرفت حسن طريقته، وجميل مذهبه، ومحبته للسلامة، وقصده طريق الاستقامة، وإنما سلك طريقاً سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم، وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به، والشفاء مما أوذي به، أضف إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته، وأمنت مخالفته، فهذا الذي قد افترض عليك -أي: افترض الله تعالى عليك أن توفقه للرشاد والسداد، وأن تبين له الحق الذي يسأل عنه ويسترشد فيه- توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين؛ وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي -أي: إياك أن تتكلف في أن تدخل في الرأي- والغوص على دقيق الكلام، فإن ذلك من فعلك -أي: إذا فعلته- بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإنَّ إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل، وكلامك على السنة من غير طريق السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك -أي: لا تداويه فتمرض أنت- ولا تطلب صلاحه بفسادك؛ فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره، ومن أراد الله وفقه وسدده، ومن اتقى الله أعانه ونصره. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله

التحذير من الاستماع لأقوام يريدون نقض الإسلام وشرائعه

شرح كتاب الإبانة - التحذير من الاستماع لأقوام يريدون نقض الإسلام وشرائعه لأهل الباطل والبدع مسالك شيطانية للطعن في الإسلام، إذ إنهم في كل زمان ومكان يتجملون ويتلطفون جداً مع العامة، ويظهرون من حسن الخلق الشيء الكثير؛ حتى يغتر بهم العامة، ولذا فقد حذر العلماء من الاستماع لهم؛ لما في ذلك من ضرر يعود على المسلم في دينه ودنياه، والتصدي لهم هو واجب العلماء وأئمة الدين.

التحذير من سماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام، ومحو شرائعه

التحذير من سماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام، ومحو شرائعه

تستر أهل الباطل في طعنهم للإسلام وشرائعه بطعنهم في العلماء والرواة

تستر أهل الباطل في طعنهم للإسلام وشرائعه بطعنهم في العلماء والرواة الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد. فقد توقفنا عند باب: التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام، ومحو شرائعه، فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين وعيبهم، وهذا هو المرض العضال، لكنهم لا يجرءون أن يطعنوا في أحكام الإسلام مباشرة؛ لأنهم لا يجدون آذاناً صاغية، فيسلكون مسالك شيطانية أخرى، منها: الطعن في علماء المسلمين، أو الطعن في الرواة، ولذلك تجد أن أكثر الصحابة يطعنون فيه هو أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة ليس هو راوي الحديث فقط، وإنما هو أكثر الصحابة رواية للحديث، وعنده المؤهلات الشرعية والعلمية التي أهلته لأن يكون أكثر الصحابة رواية لعلم النبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان مغنم القوم بزعمهم الطعن في جل الشريعة؛ لأنها جاءت من طريق أبي هريرة، عند ذلك لم يمكنهم التصريح بذلك، فلجئوا إلى الطعن في شخصية أبي هريرة؛ لأن سقوط الثقة في الراوي هو سقوط لمروياته، فلما انبرت أقلام الكثيرين من علماء السنة للذب عن أبي هريرة وعن إخوانه من الصحابة رضي الله عنه؛ لجئوا إلى حيلة أخرى وهي الطعن في علماء المسلمين عامة؛ لأن الاختلاف وقع بينهم، والله عز وجل إنما أمر بالاتحاد ونبذ الفرقة وذمها. فقالوا: الحق واحد، وما اختلفوا إلا لأنهم ليسوا على طريق الحق، وليسوا على طريق الاستقامة، ولو كانوا كذلك لما اختلفوا! ولا شك أن هذه الشبهة في ظاهرها لا بد أن تدخل وتلتبس على أذهان وأفهام العامة من الناس، والعامة ليسوا أهل شبه، فمع أنهم القطاع العريض والعظيم في الأمة، لكنهم ليسوا مدار ثبوت الأحكام ونشرها، وإنما مدار ذلك على أهل العلم؛ لأنهم أصحاب العلم، وهم أهل الاجتهاد، وعليهم مدار الفتوى، فأولئك يريدون أن يشوشوا عقائد عامة المسلمين، وصغار طلاب العلم بصرفهم عن طريق السلف.

واجب أهل العلم تجاه المسالك الشيطانية لأهل البدع ضد الدين

واجب أهل العلم تجاه المسالك الشيطانية لأهل البدع ضد الدين فالإمام ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الباب يحذر من سماع كلام أهل البدع والزيغ والضلال وإن تجملت شبهاتهم، وإن كان كلامهم في ظاهره مقبولاً، فإنه يحذر منه أشد التحذير، ونجد كلام أهل العلم في تحذيرنا من سماع كلام أهل الزيغ والضلال والأهواء، ومع ذلك نجدهم قد تصدوا لهم، مع أنهم قد حذرونا أن نسمع مجرد سماع لكلامهم. والتوفيق بين تحذير أئمتنا لنا من أن نسمع كلام أهل البدع وبين تصديهم لهم: أنه لا يتصدى لهم إلا أهل العلم، ويحمل تحذيرهم لعامة الناس، ولمن يظن أنه يقع في حبائلهم، وأما أهل العلم الذين أوجب الله عز وجل عليهم إظهار هذه الشبهات، والرد عليها، وتفنيد مزاعم أهل الباطل؛ فهذا من أوجب الواجبات عليهم، ولذلك تجد في كل عصر من ينصح الأمة ويحذرها من أهل البدع، وهو بنفسه الذي يفضح ألاعيبهم، ويكشف عوارهم، ويبين فساد أقوالهم؛ لأن هذا يتعين عليه هو، وأما عامة أهل العلم مثلاً وعامة الناس فمن الخطورة بمكان أن يصغي أحدهم إلى أقوال أهل البدع. وأهل البدع في كل زمان ومكان يتجملون ويتلطفون جداً مع العامة، ويظهرون من حسن الخلق الشيء الكثير حتى يغتر بهم العامة، ولا أدل على ذلك من أن النصارى -وهم النصارى وليس بعد الكفر ذنب- يتجملون جداً ويتلطفون، ويستخدمون أعلى أساليب الدهاء والمكر والخداع في استرضاء المسلمين، حتى إننا نجد جهلة المسلمين يلتقون بهم، ويصرحون أحياناً بأن النصارى أحسن من المسلمين، هكذا نسمع، وهذا ما هو إلا نقلة من مكائد أهل البدع، فيستخدمه أحدهم إذا أراد أن يعطيك شكوكاً، أو يوهمك في أصول الشريعة، أو يصرفك عن طريقك الذي تسلكه، فيصرفك بطريقة لبقة جداً مهذبة، وإن شئت فقل: بطريقة مقنعة لأهل الإيمان، مقنعة لمن كان قصده مبدأ لا عقيدة فيها ولا شريعة ولا فقه ولا علم. فكلامهم لا يقبله إلا عقل فارغ ليس فيه شيء من دين الله عز وجل، وأما أن هذا الكلام مقنع أو مستقيم على الأصول الشرعية التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح؛ فليس كذلك، فهذه هي الأصول التي بها نقبل وبها نرد الأخبار، فالإمام هنا يحذر من سماع كلام هؤلاء القوم.

الاختلاف الممدوح في فروع الشريعة لا في أصولها

الاختلاف الممدوح في فروع الشريعة لا في أصولها قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: قد ذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، وتحذيره أمته ذلك، وحضهم إياهم على الجماعة، والتمسك بالسنة -وهذا قد سبق في الأبواب السابقة- وقلت: إن ذلك هو أصل المسلمين، ودعامة الدين -أي: التمسك والاعتصام بحبل الله المتين- وأن الفرقة الناجية هي واحدة، والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة -أي: كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين) - ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضاً فيها اختلاف كثير، وتباين في المذاهب، ونرى فقهاء المسلمين مختلفين، فلكل واحد منهم قول يقوله، ومذهب يذهب إليه وينصره، ويعيب من خالفه. فـ مالك بن أنس رحمه الله إمام، وله أصحاب يعملون بقوله، ويعيبون من خالفه، وكذلك الشافعي، وكذلك أبو حنيفة، وكذلك أحمد بن حنبل، كل واحد من هؤلاء له مذهب يذهب إليه وينصره]. لكنه يزيد فيقول: ويعيب من خالفه، ولم يثبت عن واحد من هؤلاء الأئمة أنه عادى من خالفه، لكن هذه الكلمة كالسم، وضعها لأجل أن تأخذها وتبني عليها الآمال في تساوي الاختلاف بين هؤلاء الأئمة، وبينهم وبين غيرهم من أهل البدع، فيقول: هذا اختلاف وذاك اختلاف، ولما وقع بين هؤلاء الخلاف فما المانع أن يقع بينهم مجتمعين وبين غيرهم ممن ينسبون إلى البدعة! فيهون بعد ذلك الخلاف الناجم بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع. لذا لا بد أن تعلم أن الخلاف الذي وقع بين هؤلاء الأئمة إنما هو خلاف في الفروع لا في الأصول، فأصولهم في الاعتقاد والدين والشريعة واحدة، وإنما وقع الاختلاف بينهم في فروع الأحكام خاصة، وهذا الخلاف محل نظر عند العلماء، ولهم فيه مذهبان سنتعرض لهما في هذا الباب. وأما أن يكون الاختلاف واقع بين هؤلاء الأئمة المتبوعين في أصول الدين والشريعة؛ فليس الأمر كذلك، فالذي يعاب على أهل البدع ليس هو اختلافهم فيما يتعلق بفروع الشريعة؛ لأنه من نوع اختلاف علماء المسلمين، وإنما الذي يعاب عليهم، واستوجبوا به النار خلافهم لكتاب الله عز وجل، ولسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإجماع المسلمين فيما يتعلق بأصول الدين لا بفروعه. فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فالصحابة -وهم أعلم الناس بالخطاب النبوي، وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام- لما لم يصلوا إلى بني قريظة حتى كاد وقت العصر أن يخرج ويدخل وقت المغرب؛ اختلفوا: فبعضهم قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل ذلك على سبيل الأمر والإلزام، وإنما من باب الخبر والبشارة أننا سندخل بني قريظة قبل صلاة المغرب. وبعضهم قال: نلتزم ظاهر النص، فلا نصلي العصر إلا في بني قريظة وإن دخل وقت المغرب. فالذي أخذ الأمر على ظاهره لم يصل العصر إلا في بني قريظة بعد دخول وقت المغرب، والذي اعتبر أن هذا الكلام ليس أمراً وإنما هو خبر والمراد البشارة؛ صلى العصر في آخر وقته، ثم إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أنكر وعنف أحد الفريقين، وإنما أجاز هؤلاء على ما فهموه، وأجاز هؤلاء على ما فهموه. وهذا يدل على أن الاختلاف جائز، وأن الاختلاف سائغ، وما وقع الاختلاف إلا لاختلاف عقول المجتهدين، أي: أن النص واحد والاجتهاد فيه متعدد، وكل اجتهاد في النص مقبول، فهؤلاء لما حملوا الأمر على ظاهره كان كلامهم مقبولاً لا يرده أحد، ولذلك لم ينكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء لما فهموا فهماً آخر من النص، فهم لم يجتهدوا مع النص، وإنما وقع اجتهادهم في فهم النص، ولذلك فالاجتهاد عند أهل العلم نوعان: الاجتهاد مع وجود النص، والاجتهاد في فهم النص، فالثاني جائز؛ بل هو فرض كفاية، والأول باطل؛ لأنه لا اجتهاد مع النص. والشاهد: أن هذا الخلاف مرده إلى أصل من الأصول وهي السنة، وإذا اختلف المجتهدان فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة، وعند البخاري من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلم يجرمه ولم يؤثمه؛ لأنه إنما تعمد الحق واجتهد في الوصول إليه فأخطأ، فهو يأخذ أجر الاجتهاد وإرادة الحق. وأما الأول فإنه أخذ نفس الأجر، وأجراً زائداً وهو إصابة الحق، والكل من عند الله عز وجل، فهذا أصاب من عند الله، وهذا لم يصب من عند الله بقدر كوني.

الرد على شبهة: أن الحق واحد وقد اختلف الأئمة

الرد على شبهة: أن الحق واحد وقد اختلف الأئمة قال: [ونرى قوماً من المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونا بهذا الاختلاف، ويقولون: إن الحق واحد، فكيف يكون في وجهين مختلفين؟!]. هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم: هل الحق في قضايا الخلاف واحد أم متعدد؟ ولا بد قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نقول: الحق هذا ما المراد به: الحق في أصول الدين، أم في فروعه؟ فإذا قلنا: في أصول الدين؛ فلا بد أن يكون A الحق واحد في أصول الدين وأصول الشريعة، وإذا كان الجواب في فروع الشريعة وفي مسائل النزاع والاختلاف بين أهل العلم فأقول: الحق فيها يمكن أن يتعدد، بدليل ما ذكرت من إمكان الصلاة في بني قريظة، فلو كان الحق فيها واحداً لأنكر النبي عليه الصلاة والسلام على الفريق الثاني الذي خالف، وهناك مئات الأمثلة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة الخلفاء الراشدين تشهد بذلك، وسيذكر بعضها الإمام. قال ابن بطة مجيباً عن شبهة هذا الذي التبست عليه أقاويل أهل الزيغ والضلال: [فإني أقول له في جواب هذا Q أما ما تحكيه عن أهل البدع مما يعيبون به أهل التوحيد والإثبات من الاختلاف؛ فإني قد تدبرت كلامهم في هذا المعنى، فإذا هم ليس الاختلاف يعيبون، ولا له يقصدون، وإنما هم قوم علموا أن أهل الملة وأهل الذمة والملوك والسوقة والخاصة والعامة وأهل الدنيا كافة إلى الفقهاء يرجعون، ولأمرهم يطيعون، وبحكمهم يقضون في كل ما أشكل عليهم، وفي كل ما يتنازعون فيه، فعلى فقهاء المسلمين يعولون، وفي رجوع الناس إلى فقهائهم، وطاعتهم لعلمائهم ثبات للدين]. أي: أن أهل الزيغ لما علموا أن عموم طبقات الأمة يرجعون إلى فقهائهم، ما كان منهم إلا أن سلكوا مسلك الطعن في الفقهاء الذين هم مرجع للأمة، وكأن لسان حالهم: لا بد أن أهدم وأصدع ذلك الجدار الذي تستند إليه، ولا بد أن ينهار هذا الجدار الذي تركن إليه، وليس بإمكانهم أن يطعنوا في الإسلام، لذلك طعنوا في فقهاء الأمة، حتى إذا انهارت مكانة العالم في نفسك وقلبك؛ فلا بد أن ينهار كل ما يأتي منه من فتوى وعلم، وتكليف وبيان وغير ذلك.

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي عليه الصلاة والسلام

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي عليه الصلاة والسلام ولا بد أن تعتقدوا قضية مهمة جداً وهي: أن علماء المسلمين ودعاة المسلمين هم في نهاية أمرهم بشر ممن خلق الله عز وجل، فليسوا أنبياء ولا ملائكة، وهذا يعني أنهم ليسوا بمعصومين، فيقع منهم الحق والباطل، والخطأ والصواب؛ لأن كثيراً من أجيال الصحوة ينظر إلى شيخه وداعيته على أنه معصوم، فإذا ذكر منه الخطأ سقط برمته مهما كثرت حسناته، والخصم في هذه القضية هو المدعو لا الداعية؛ لأنه داعية منطلق في طريقه، يصيب مرة ويخطئ أخرى، لكنه على أية حال يفهم القضية ويفهم أنه غير معصوم، ويلزم نفسه بالاستقامة، وما وقع منه من ظلم أو غيره فإنما وقع عن سهو، أو خطأ، أو غفلة، أو عقوبة أو غير ذلك، فلا تنصرف أنت عنه، بل الأمر كما قال مالك: كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، قال هذا في وسط جلة من أتباع التابعين، فإذا وقع العالم في خطأ لا يهدم عمله كله بخطأ واحد، فليس هذا المنهج حقاً، أي: ليس هدم عمل العامل هو طريق الاستقامة، وإنما طريق الاستقامة أن تأخذ من كل أحد ما أصاب فيه، وأن ترد على كل أحد ما أخطأ فيه. وهذا كلام رائع جداً، وأروع منه أن تنزله من حياتك منزلة العمل لا منزلة الحفظ فقط، وهذه أصول درج عليها أهل السنة والجماعة منذ عهد الخلفاء الراشدين يستمر بإذن الله إلى قيام الساعة. فالأمر هنا أن الطالب الذي ينظر إلى شيخه أنه القدوة والأسوة فإن سقط مرة سقط كله؛ أنا أنصح هذا الطالب نصيحة مشفق ألا يقرب من شيخه قط، وإنما يأخذ منه خيره في مجلس العلم، وأما أن يلزمه ويصاحبه ويذهب معه ويعود معه ويأكل ويشرب وينام ويسافر ويعود معه، فيرى منه ما يرى هو من نفسه، فيقول: لا فرق بيني وبينه! فيقع هذا الإنسان في قلبه ما لا ينتفع بعد ذلك به، فأنا أنصحه والحالة هذه: أن يلزم بيته، وأن يلزم مجلس العلم ولا يقترب من الشيخ إلا أن يصافحه وينصرف، ولو ترك مصافحته لكان أولى؛ حفاظاً على الانتفاع بهذا الشيخ دائماً.

العلة التي جعلت أهل الأهواء يتكلمون في الفقهاء والعلماء

العلة التي جعلت أهل الأهواء يتكلمون في الفقهاء والعلماء قال: [وكل ذلك ففيه غيظ لأهل الأهواء واضمحلال للبدع، فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف؛ لتخرج الرعية عن طاعتهم]. وهذا كلام جميل، والذي يقع من بعض المشايخ من كلام بعضهم في بعض يكون التعامل معه بأن يؤخذ من كل شيخ أحسن ما عنده فقط، لأن الخطأ منهم وارد، لكن لا يمكن أن يكون ديدنه السباب والشتيمة؛ إذ لا يصبر على هذا الأذى من أي أحد فضلاً عن شيخ يتعامل مع كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أي: أنه قد يسب أحياناً، ويعلم الناس أحياناً، فخذ منه ما أصاب فيه من علم موافق للأصول، وخذ من الآخر العلم الذي وافق الأصول، وأما ما خالف الأصول فدعه، وعليك أن تصك أذنك عن سماع ما لا يليق بأهل العلم من سباب وغيره.

شؤم بعض الطلاب في نقلهم للأخبار والإفساد بين العلماء

شؤم بعض الطلاب في نقلهم للأخبار والإفساد بين العلماء وللأسف الشديد أنا نجد في أجيال الصحوة في كل مسجد، وعند كل شيخ طلاب فتنة، يجيدون نقل الأخبار على جهة الإفساد، بل ويشعلون النار أكثر مما أراد الساب أو الشاتم، لذا فينبغي على كل شيخ أن ينزه لسانه، وأن ينزه دينه وعرضه عن الوقيعة في المسلمين، وهذا بلا شك هو قصد الدين، لكن هب أن واحداً أو اثنين أو عشرة سقطوا هذه السقطة، فينبغي تجنبها وعدم استمرارها وكأنها لم تكن، بخلاف من ينقلون الأخبار، فهؤلاء جزاؤهم عند الله عز وجل عظيم، والمستفيد من هذا الأمر هم أعداء الإسلام، بل هذا بالنسبة لهم صيد ثمين، وغنيمة باردة دون، فإذا ما وجدوا أن علماء المسلمين يطعن بعضهم في بعض فهذه بلا شك غنيمة قدمت إليهم على طبق من ذهب خالص، فيسهل الأمر عليهم، والواقع والحاصل أن هذا الطبق إنما قدم بألسنة العلماء والدعاة والمشايخ. فالسعيد من ترك غيره وانشغل بنفسه، وكرس حياته في حفظ كتاب الله تعالى، وفي حفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومعرفة الأحكام الشرعية من الحلال والحرام وغيرها.

هدف أهل البدع من طعنهم على فقهاء وعلماء المسلمين

هدف أهل البدع من طعنهم على فقهاء وعلماء المسلمين قال: [فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف؛ لتخرج الرعية عن طاعتهم، والانقياد لأحكامهم؛ فيفسد الدين، وتترك الصلوات والجماعات، وتبطل الزكوات والصدقات والحج والجهاد، ويستحل الربا والزنا والخمور والفجور وما قد ظهر مما لا خفاء به على العقلاء. فأما أهل البدع -يا أخي! رحمك الله- فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون ما يأتون، ويجحدون ما يعلمون، ويبصرون القذى في عيون غيرهم وعيونهم تطرف على الأجذاع. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرى أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع أو الجذل في عينه)، فيرى أحدكم أقل الهفوات التي وقع فيها أخوه، ثم هو عنده من العيب كأصول النخل وأصول الشجر، لكنه لا يذكرها، فينسى ما عنده من عظائم ومن بلايا ويذكر هفوات أخيه، وكذلك أهل البدع ينظرون في فقهاء الملة وعلماء الشريعة إلى أقل الأخطاء، وينسون أنهم مخالفون لأصول الدين وأصول الشريعة، بل يتهمون أهل العدالة والأمانة في النقل، ولا يتهمون آراءهم وأهواءهم على الظن]. أي: أن الراوي يروي بيقين ومع هذا هو عند أهل الفرق مجتهد، وأهل البدع لا علاقة لهم بالنقل أصلاً، وإنما دينهم الرأي والنظر والظن والتخمين، فهم لا يرون هذه البلايا التي في أنفسهم، وإنما يتهمون الرواة مع أنهم أهل النقل.

بيان أن أهل البدع هم أكثر الناس اختلافا واضطرابا

بيان أن أهل البدع هم أكثر الناس اختلافاً واضطراباً قال: [وأهل البدع أكثر الناس اختلافاً، وأشدهم تنافياً وتبايناً، لا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول، ولا يجتمع رجلان من أئمتهم على مذهب، فـ أبو الهذيل، وهو محمد بن هذيل العلاف المعروف، معتزلي كبير من أئمة الاعتزال -يخالف النظام - والنظام كذلك معتزلي إن لم يكن هو أكبر منظري المعتزلة في زمانه، بل لم ينجب الاعتزال أذكى منه مع سوء الاعتقاد-، وحسين النجار يخالفهما -أي: يخالف أبا الهذيل والنظام - وهشام الفوطي يخالفهم جميعاً، وثمامة بن أشرس يخالف الكل، وهاشم الأوقص وصالح قبة -وهذا شيعي- يخالفهم جميعاً، وكل واحد منهم قد انتحل لنفسه ديناً ينصره، ورباً يعبده، وله على ذلك أصحاب يتبعونه، وكل واحد منهم يكفر من خالفه -ما عدا الأصول لأهل الاعتزال-، ويلعن من لا يتبعه، وهم في اختلافهم وتباينهم كاختلاف اليهود والنصارى]. بينما الواحد من هذه الأمة عندما يخالف في مسألة من مسائل الأحكام فإننا نقول: يكفي أنه من أهل السنة، لكن لا نقره على الخطأ، ولا نبدعه ولا نفسقه، وإنما نقول: تأول في القضية الفلانية وخرج بها عن حد الاعتدال الذي عليه أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بفروع الأحكام، ولا نزيد على ذلك بلعنه ولا سبه ولا شتمه ولا تفسيقه وتبديعه فضلاً عن تكفيره، ولعلكم تذكرون أن الإمام الشافعي قال: الفرق بيننا وبين أهل البدع أن الواحد منهم إذا خالف صاحبه قال: كفرت، وإذا خالف أحدنا صاحبه قال: أخطأت. فالمخطئ فينا مخطئ، ولا نزيد على ذلك، والمخطئ في أهل البدع مع بعضهم لبعض فاسق أو كافر، ولذلك قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله: أهل السنة لأهل البدع أرحم من أهل البدع بعضهم لبعض؛ لأن الواحد منهم إذا خالف صاحبه قال: كفرت، والواحد منا إذا خالف صاحبه قال: أخطأت، إذاً فأهل السنة أرحم بأهل البدع من أهل البدع بعضهم ببعض، وهذا كلام في غاية الأهمية. ولذلك ففي أهل البدع نوع شبه من قول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113].

اختلاف أهل البدع كاختلاف اليهود والنصارى وأهل الشرك

اختلاف أهل البدع كاختلاف اليهود والنصارى وأهل الشرك قال: [فاختلافهم -أي: أهل البدعة- كاختلاف اليهود والنصارى؛ لأن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله، وفي الكيفية، وفي قدرة الله وفي عظمته، وفي نعيم الجنة، وفي عذاب النار، وفي البرزخ، وفي اللوح المحفوظ، وفي الرق المنشور، وفي علم الله عز وجل، وفي القرآن، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب إلا بوحي من الله]. إذاً الاختلاف الذي ذكرناه الآن هو اختلاف في الأصول، وبالتالي من خالفنا في مثل هذا أو في بعضه استحق أن يكونوا من أهل الأهواء والبدع، وأما إذا خالفنا في مسألة تتعلق بالفروع الشريعة، أو بحكم من الأحكام العملية فلا يستحق عليه الوعيد بالنار، ولا يخرج من حد الاحتجاج.

الرافضة أشد الناس اختلافا وتباينا وتطاعنا

الرافضة أشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً قال: [وأما الرافضة فأشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً، فكل واحد منهم يختار مذهباً لنفسه يلعن من خالفه عليه، ويكفر من لم يتبعه، وكلهم يقول: إنه لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا جهاد، ولا جمعة، ولا عيدين، ولا نكاح، ولا طلاق، ولا بيع، ولا شراء إلا بإمام، فيعلقون كل هذا على وجود الإمام]. وأنا كنت أتصور أن هذا الكلام مبالغ فيه، لكن رأيت أن الشيعة كانت تكفر شاه إيران وهو ملكهم، ولم يكونوا يحجون إلى بيت الله الحرام، ولما تولى الخميني إيران أتت الأفواج بالملايين إلى مكة ليحجوا بيت الله الحرام، وأحدهم بل أكثر من واحد منهم صرح بأنه يعوض السنوات الماضية التي توقف فيها الجهاد والحج وصلاة الجمعة وغيرها مما يلزم فيها الإمام، فلما ظهر إمامهم رجعوا إلى العبادة التي توقفت على نزول الإمام، والمسلمون اليوم ليس لهم إمام، فهل يقول واحد منكم بتوقف صلاة الجمعة حتى يظهر الإمام أو خليفة عام للمسلمين أو المهدي المنتظر؟! وهل نعطل الجهاد مثلاً لعدم وجود الإمام أو الخليفة؟! A لا، فالجهاد ماض إلى قيام الساعة في كل وقت إذا احتاج المسلمون إليه، والرافضة يقلدون أهل السنة في هذا الكلام. قال: [وإنه من لا إمام له فلا دين له -هكذا يقولون-، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له، ثم يختلفون في الأئمة، فالإمامية لها إمام تسوده -أي: تجعله سيداً عليها- وتلعن من قال: إن الإمام غيره بل وتكفره، وكذلك الزيدية لها إمام غير إمام الإمامية، وكذلك الإسماعيلية، وكذلك الكيسانية والبترية، وكل طائفة تنتحل مذهباً وإماماً، وتلعن من خالفها عليه بل وتكفره. ولولا ما نؤثره من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره، وشرف قدره ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ، وقبيح أقوالهم ومذاهبهم التي تقشعر الجلود من ذكرها، وتجزع النفوس من استماعها، وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها؛ لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين، ولكنه قد روي عن طلحة بن مصرف رحمه الله أنه قال: لولا أني على طهارة لأخبرتكم بما تقوله الروافض]. وهذا الكلام خرج منه مخرج المبالغة في الإنكار على مقالات الرافضة والخوارج. قال: [ويقول كذلك ابن المبارك: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية]؛ لأن كلام الجهمية أشد قبحاً من كلام اليهود والنصارى، فكلام اليهود والنصارى رجس، وأما كلام الجهمية فهو أقبح من رجس. قال: [ولولا أنك قلت: إن أهل الزيغ يطعنون على أئمتنا وعلمائنا وعلمائها باختلافهم، فأحببت أن أعلمك أن الذي أنكروه هم ابتدعوه، وأن الذي عابوه هم استحسنوه، ولولا اختلافهم في أصولهم وعقودهم وإيمانهم ودياناتهم لما دنسنا ألفاظنا بذكر حالهم].

أقسام الاختلاف

أقسام الاختلاف ثم بعد ذلك يذكر الإمام ابن بطة أقسام الاختلاف وحكمه، فيقول رحمه الله: [فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين]، تعرض لمسألة الاختلاف وأقسامه حتى يبين لك أن الاختلاف نوعان، في أصول الدين، وفي فروعه، أما اختلاف أئمتنا الذي دخل عليك كشبهة فقلت لـ ابن بطة: لم تعيب يا ابن بطة على من تسميهم أهل الزيغ والأهواء لمجرد أنهم مخالفون لنا، مع أن الخلاف وقع في أئمتنا، فنحن نعيب عليهم ما وقعنا فيه، فـ ابن بطة يقول: لا، ليس هذا الكلام سليماً ولا صحيحاً، ومرد ذلك إلى معرفة نوع الاختلاف، وهو نوعان: اختلاف في العقائد والأصول، واختلاف في الفروع. فأما الذي وقع فيه فقهاؤنا فهو الاختلاف في الفروع، وأما الذي وقع من أهل الزيغ والضلال فهو الاختلاف في الأصول، وإن اتفقا في مصطلح الاختلاف إلا أنه شتان ما بين الاختلاف الواقع بين فقهائنا في فروع الشريعة، وبين اختلاف فقهائنا وغيرهم من أهل الزيغ والضلال في أصول الشريعة وأصول الدين. لكن أهل الزيغ لما أرادوا صرف القاعدة العامة عن فقهائها وعلمائها لم يذكروا هذه الأحكام، وإنما اكتفوا بما أسموه بالاختلاف، ونحن قد اختلفنا يا عامة الناس مع علمائكم، وهذا لا ينكر علينا؛ لأن فقهاءكم كذلك قد اختلفوا، فيلزمكم إذ تعيبوننا على هذا الخلاف أن تعيبوا أنفسكم، هكذا أراد أهل الزيغ أن يقولوا، وأن يلبسوا على عامة الناس فانتبهوا. قال: [فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين: أحدهما: اختلاف الإقرار به إيمان ورحمة وصواب، وهو الاختلاف المحمود الذي نطق به الكتاب، ومضت به السنة، ورضيت به الأمة، وذلك في الفروع والأحكام التي أصولها ترجع إلى الإجماع والائتلاف]. إذاً هذا هو الاختلاف المحمود الذي لا ينكر، وهو اختلاف علماء أهل السنة. قال: [واختلاف هو كفر وفرقة وسخطة وعذاب، يئول بأهله إلى الشتات والتضاغن والتباين والعداوة واستحلال الدم والمال، وهو اختلاف أهل الزيغ في الأصول والاعتقاد والديانة. فأما اختلاف أهل الزيغ فقد بينت لك كيف هو وفيما اختلفوا فيه، وأما اختلاف الشريعة الذي يئول بأهله إلى الإجماع والإلفة والتواصل والتراحم؛ فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد، وبالرسالة، بأن الإيمان قول وعمل ونية، وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما، وعلى أن الله يرى في القيامة، وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله، وأن الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بالأشياء، وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية]. أي: ولا حد، واسم القديم قال بعضهم: ثبت هذا في بعض النصوص، لكن ثبوت هذا الاسم محل نظر عند المحققين، مع أنه قد استخدمه بعض من أبناء المسلمين، ولما كانت أسماء الله تعالى توقيفية كان ينبغي الوقوف عند ما صح في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإمكاننا أن نستخدم اسم الأول مكان القديم؛ لأنهم أرادوا بالقديم الأول، والأول ثابت بالتواتر في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلم ندع ما ثبت بالتواتر وعليه إجماع المسلمين، وندخل في اسم آخر هو محل نزاع بين علماء المسلمين؟! ولفظة (أول) أقوى في الدلالة من القديم؛ لأن القديم قبله أقدم، أما الأول فليس قبله شيء، وبالتالي فنكتفي بالوقوف عنده. قال: [بصفاته التامة، لم يزل عالماً ناطقاً سميعاً بصيراً حياً حليماً، قد علم ما يكون قبل أن يكون، وأنه قدر المقادير قبل خلق الأشياء].

إجماع أهل السنة على خلافة الخلفاء الأربعة بالترتيب المعروف، واختلافهم في الأفضلية بين عثمان وعلي

إجماع أهل السنة على خلافة الخلفاء الأربعة بالترتيب المعروف، واختلافهم في الأفضلية بين عثمان وعلي قال: [ومجمعون -أي: أهل السنة- على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام]. وقوله: عليهم السلام، من جهة الاصطلاح (عليه السلام) خاصة بالأنبياء. قال: [وعلى تقديم الشيخين]. أي: لم يختلف أحد من أهل السنة فيما يتعلق بإمامة الأربعة الخلفاء الراشدين، وكذلك أجمعوا على أن الأول منهم هو أبو بكر، ثم عمر، والخلاف إنما وقع في الأفضلية لا في الإمامة بين عثمان وعلي، فبعضهم قال: عثمان أفضل من علي، وهؤلاء هم جمهور أهل السنة، وبعضهم قال: بل علي أفضل من عثمان. وقيل: إن من قال ذلك فقد رجع عن هذا القول، لكن الشاهد: أن الإجماع انعقد على تقديم أبي بكر وعمر بغير خلاف، ووقع الخلاف -حتى وإن رجع بعد ذلك- في الأفضلية بين عثمان وعلي. وهذا الخلاف في فرع من فروع الدين، وبالتالي فالمسألة تتعلق بالاعتقاد، إلا أن الخلاف فيها لا يبدع فيه صاحبها ولا يفسق.

بعض الإجماعات عند أهل السنة والجماعة

بعض الإجماعات عند أهل السنة والجماعة قال: [وعلى أن العشرة في الجنة -أي: العشرة المبشرون بالجنة- جزماً وحتماً لا شك فيه، ومجمعون على وجوب الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار لهم، ولأزواجه وأولاده وأهل بيته، والكف عن ذكرهم إلا بخير، والإمساك وترك النظر فيما شجر بينهم، فهذا وأشباهه مما يطول شرحه لم يزل الناس منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا مجمعون عليه في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها، وسهلها وجبلها، يرويه العلماء رواة الآثار، وأصحاب الأخبار، ويعرفه الأدباء والعقلاء، ويجمع على الإقرار به الرجال والنسوان، والشيب والشبان، والأحداث والصبيان، في الحاضرة والبادية، والعرب والعجم، لا يخالف ذلك ولا ينكره ولا يشذ عن الإجماع مع الناس فيه إلا رجل خبيث زائغ مبتدع محقور مهجور مدحور يهجره العلماء، ويقطعه العقلاء، إن مرض لم يعودوه، وإن مات لم يشهدوه. ثم أهل الجماعة مجمعون بعد ذلك على أن الصلاة خمس، وعلى أن الطهارة والغسل من الجنابة فرض، وعلى الصيام والزكاة والحج والجهاد، وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، والربا والزنا، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، وتحريم شهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وما يطول الكتاب بشرحه. فهم متفقون ومجمعون عليه؛ لأن هذا وإن كان متعلقاً بالشريعة لا بأصل الديانة، فهو أمر من أصول شرائعنا محل إجماع لم يخالف في ذلك أحد]. أي: لم يظهر في علماء المسلمين أو في علماء السنة من يقول مثلاً: الصلاة أربع فقط، ولو ظهر فلا بد أن ينتقل من أهل السنة إلى أهل البدعة فوراً؛ لأنه يقدح في الأصول، وليس هذا من منهج أهل السنة والجماعة، وإنما هذا مذهب أهل البدع، فمنهم من قال: الصلاة اثنتان: واحدة في أول النهار، والأخرى في نهاية النهار، ومنهم من يقول: الصلاة ما هي إلا الدعاء، ولا صلاة قط وينشرون هذا ويقولونه، وبالتالي فلا صلاة قط عندهم، وهؤلاء بلا شك هم أهل الزيغ والضلال.

اختلاف أهل السنة لم يقدهم إلى الفرقة والشتات

اختلاف أهل السنة لم يقدهم إلى الفرقة والشتات قال: [ثم اختلفوا -أي: اختلف أهل السنة- بعد إجماعهم على أصل الدين، واتفاقهم على شريعة المسلمين اختلافاً لم يصر بهم إلى فرقة ولا شتات، ولا معاداة ولا تقاطع وتباغض، فاختلفوا في فروع الأحكام والنوافل التابعة للفرائض، فكان لهم وللمسلمين فيه مندوحة ونفس وفسحة ورحمة]. والسنن الراتبة للفرائض الخمس: اثنتا عشرة ركعة، ومنهم من يقول: هي عشر ركعات، وهذا الاختلاف ناشئ من حديثين: أحدهما: حديث عبد الله بن عمر، والثاني: حديث عائشة رضي الله عنها فيما يتعلق بسنة الظهر كم ركعات. فمن قال بأن السنن الراتبة عشر اعتمد على حديث في الصحيحين، ومن قال: إنها اثنتا عشرة اعتمد على حديث في الصحيحين، فهل هذا الخلاف يفسق ويبدع به المخالف؟ لأنهما يردان إلى أصل واحد، وهو اعتبار ما ورد من اختلاف في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بهذه الجزئية. قال: [ولم يعب بعضهم على بعضهم ذلك، ولا أكفره، ولا سبه ولا لعنه، ولقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام اختلافاً ظاهراً علمه بعضهم من بعض، وهم القدوة والأئمة والحجة، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: إن الجد يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه الأب، فخالفه على ذلك زيد بن ثابت، وخالفهما علي بن أبي طالب، وخالفهم ابن مسعود. وخالف ابن عباس جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل من الفرائض، وكذلك اختلفوا في أبواب من العدة والطلاق، وفي الرهون والديون والوديعة والعارية، وفي المسائل التي المصيب فيها محمود مأجور، والمجتهد فيها برأيه المعتمد للحق إذا أخطأ فمأجور أيضاً غير مذموم؛ لأن خطأه لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له النار كما جاء ذلك في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران) الحديث].

كلام ابن بطة في اختلاف الفقهاء وأنواع الاختلاف غير المعتبر

كلام ابن بطة في اختلاف الفقهاء وأنواع الاختلاف غير المعتبر قال الشيخ ابن بطة: [وكذلك اختلف الفقهاء من التابعين -أي: إذا كان الخلاف وقع في زمن الصحابة فمن باب أولى أن يقع فيمن أتى من بعدهم- ومن بعدهم من أئمة المسلمين في فروع الأحكام، وأجمعوا على أصولها، وتركت الاستقصاء على شرحها لطولها، فكل احتج بآية من الكتاب تأول باطنها، واحتج من خالفه بظاهرها، أو بسنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان صواب المصيب منهم رحمة ورضواناً، وخطأه عفواً وغفراناً؛ لأن الذي اختاره كل واحد منهم ليس بشريعة شرعها، ولا سنة سنها، وإنما هو فرع اتفق هو ومن خالفه فيه على الأصل، كإجماعهم على وجوب غسل أعضاء الوضوء في الطهارة كما سماها الله في القرآن]. أي: أنهم أجمعوا على وجوب غسل الوجه، فليس هناك أحد من علماء المسلمين قال: ليس غسل الوجه شرطاً في صحة الوضوء. قال: [واختلافهم في المضمضة والاستنشاق، فبعضهم ألحقها بالفرائض، وألحقها الآخرون بالسنة]. إذاً ستقول: إذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد أمر بوجوب غسل الوجه، فلم وقع الخلاف إذاً؟ و A أن هذا اختلاف في الأفهام للنص، فلو كان هناك واحد فهم النص فهماً بعيداً جداً لا يمكن أن يحتمله النص؛ فسنقول: هذا الفهم خطأ، ولا يمكن أبداً أن يساعده الدليل، فاستنباطه للنص بهذا الفهم خطأ؛ لأن النص لا ظاهراً ولا باطناً يشهد له، لكن لو كان الاجتهاد يحتمله النص، فحينئذ يكون هذا الخلاف معتبراً، والخلاف المعتبر لا إنكار على المخالف فيه، وإنما ينكر على الخلاف غير المعتبر. وهو وجهان: الوجه الأول: أنه خلاف مع النص، أو خلاف ضد النص. والوجه الثاني: أنه خلاف لا يحتمله النص. فبعد أن أجمع علماء المسلمين على وجوب غسل الوجه في الوضوء؛ اختلفوا في المضمضة والاستنشاق: فبعضهم قال: المراد: ظاهر الوجه دون باطنه، ثم اختلفوا: هل باطن الأنف وباطن الفم من الوجه أم من غير الوجه؟ واعلم أن العلماء لم يختلفوا على جواز المضمضة والاستنشاق، وإنما اختلفوا في التكليف الشرعي للأمر هل هو الوجوب أم الاستحباب؟ فبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق مستحبان؛ لأنهما ليسا من الوجه، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية قد بينت أنه كان يتمضمض ويستنشق، لكن لم يرد أن ذلك كان على سبيل الإلزام والحث، فيبقى الأمر على الاستحباب. وبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق واجبان، أي: أن الأنف والفم باطنهما من الوجه، ومما يؤيد ذلك استمراره عليه الصلاة والسلام على المضمضة والاستنشاق، ولو لم يكونا من الوجه لتركهما النبي عليه الصلاة والسلام ولو مرة واحدة. فالكلام الأول وجيه لا نرده، والكلام الثاني أوجه، وهو الذي يحتمله النص احتمالاً ظاهراً. لكني أريد أن أقول: إن الخلاف في أن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه اختلاف يحتمله النص، ولذلك وقع الاختلاف بينهم بعد أن أجمعوا على وجوب غسل الوجه. قال: [وإجماعهم على المسح على الخفين، وهذه مسألة من المسائل العلمية، وقد دخلت في مسائل الاعتقاد لمخالفة فرقة من فرق الضلالة لأهل السنة والجماعة، ثم صارت علماً على فرقة من فرق الضلال وهي الشيعة. ولما اتخذتها الشيعة ديناً لهم كان لزاماً الرد عليها من قبل أهل السنة والجماعة، إذ إنها من مسائل الاعتقاد ومن مسائل العمل في آن واحد. والإجماع حاصل عند أهل السنة والجماعة على جواز المسح على الخفين، لكن الاختلاف وقع في كيفية المسح: هل المسح على ظهر الخف فقط، أم على ظاهره وباطنه؟ والراجح في هذه المسألة: هو المسح على ظاهر الخف؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان المسح على أسفل الخف أولى؛ لأنه مماس بالأرض أو بالنجاسة أو ما يمكن أن يكون كذلك. وأما الذين قالوا: المسح على ظاهر الخف وباطنه، فربما لم يبلغهم ذلك، أو ربما قالوا بالمسح على باطن الخف من باب الاحتياط والاحتراز، مع علمهم بحديث علي بن أبي طالب، وربما قالوا بالظاهر والباطن جمعاً بين الرأيين. ثم اختلف القائلون بالمسح على ظاهر الخف وباطنه في الكيفية، فبعضهم قال: الماسح يضع كفيه في الماء فيضع مؤخرة كفه عند أطراف أصابعه من فوق، ويده اليسرى في باطن كفه على هذا النحو والنسق، ثم يجريهما حتى يرتفع بها. ورأي آخر عندهم يقول: إنما يضع طرف أصابع يده اليمنى على أطراف أصابع رجله، وأما يده اليسرى فتكون من فوق الكعبين، ويمشي بهما على شبه دائرة، يعني: يضع أطراف أصابعه على قدمه هكذا ويده الشمال في مؤخرة القدم، ويأتي بهما هكذا مسحاً. وبإمكاننا أن نقول في هذه القضية: خطأ وصواب؛ لأن الاختلاف إما معتبر، أي: راجح ومرجوح، وإما خطأ وصواب، لكن العذر أن المخطئ قوله مرجوح لموافقته للأصول، وما وقع منه الاختلاف إلا في فرع من الفروع التي لا يبدع بها ولا يتهم.

اختلاف داود وسليمان في الحكم

اختلاف داود وسليمان في الحكم قال: [ولقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن نبيين من أنبيائه بقضية قضيا جميعاً فيها بقضائين مختلفين، فأثنى على المصيب وعذر المجتهد، ثم جمعهما في الثناء عليهما، ووصف جميل صنعه بهما فقال عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]]، والنفش لا يكون إلا بالليل. يعني: واحد عنده زرع، وآخر عنده غنم، فوقعت الغنم في الزرع، فعرض الأمر على داود وسليمان، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] يعني: أن سليمان -وهو ابن داود- أصاب أكثر من أبيه في هذه القضية؛ لأن داود عليه السلام حكم فيها بحكم وهو أنه حكم بالغنم لصاحب الحرث؛ عقوبة لصاحب الغنم، فلما تركوا داود مروا على سليمان فأخبروه بما قضى به أبوه، فقال: لي قضاء يخالفه، وذهب بهم إلى والده -وكلاهما نبي من أنبياء الله- فقال: بلغني أنك قضيت في أمر هؤلاء بكيت وكيت، قال: نعم، قال: ولكني أقضي فيها بخلاف ما قضيت، أقضي أن يأخذ صاحب الحرث الغنم ينتفع بأصوافها وأوبارها وألبانها، ويأخذ أصحاب الغنم الحرث حتى ينبت ويصير كما كان قبل أن تنفش فيه الغنم، فإذا كان كذلك أخذ صاحب الحرث حرثه، وأخذ صاحب الغنم غنمه. فأثنى الله تعالى على هذا القضاء فقال: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا)) أي: سليمان وداود ((آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا))، ولم يقل: أخطأ داود، وإنما لما أراد داود أن يصل إلى الحق فأخطأ أثنى عليه، ولم ينف عنه العلم والحكمة، وإنما أثبتهما له، مع أن سليمان أعلم وأفهم وأحكم منه. ولقد جاءت السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بمثل اختلافهما في نحو هذه القضية، فعن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بينما امرأتان معهما ابناهما، إذ جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت كل واحدة لصاحبتها: إنّما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى) فهذه نفس القضية، والقضاء هنا لداود عليه السلام، فتعجل القضاء فقضى به للكبرى، (فمرتا على سليمان بن داود فقصتا عليه القصة، فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينهما) فهذا القضاء إنما احتمله ذكاء سليمان عليه السلام، إذ إنه في الحقيقة لا يريد أن يشقه؛ لأنه ذلك لا يصح؛ لأنه إن شقه مات، وكان قاتلاً لنفس بغير نفس. قال: (فقالت الصغرى: يرحمك الله! هو ابنها)، ولا يمكن أن تقول المرأة هذا إلا إذا كان ولدها، فلئن يتربى في حجر غيرها خير من أن يموت، قال: (فقضى به لها)؛ لعلمه أنها أمه. قال أبو هريرة: فوالله ما سمعت بالسكين إلا يومئذ، وكنا نقول: المدية. قال: [فهذا رحمك الله! اختلاف الأنبياء عليهم السلام في الأحكام نطق به الكتاب، وجاءت به السنة، فماذا عسى أن يقوله أهل البدع في اختلافهم؟!].

الخلاف بين الصحابة والتابعين

الخلاف بين الصحابة والتابعين قال: [وأما الخلاف بين الصحابة والتابعين فقد قال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني لو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لم تكن رخصة]. وهنا كلام كبير جداً ذكره الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم، حيث إنه ذكر باباً عظيماً جداً وهو الباب الرابع والخمسون فقال: جامع بيان ما يلزم الناظر في اختلاف الفقهاء. وذكر بعد هذا الباب مباشرة: باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب، وأنه يلزم طلب الحجة عنده، وذكر بعض ما خطأ فيه بعضهم بعضاً، وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم. وكأنه يريد أن يقول: إن الخلاف بين الفقهاء ليس على نسق واحد، وهم كذلك موقفهم من الخلاف ليس واحداً، بل هم أصحاب مذاهب، وهما المذهبان السابقان، فبعضهم يقول: الحق واحد لا يتعدد، ولا بد أن يصحح أحد الرأيين ويخطأ الرأي الثاني. وبعضهم يقول: بل الخلاف راجح ومرجوح. والشاهد من هذين البابين أنه ذكر الأدلة الكثيرة التي لا ترد على أن الخلاف أحياناً يكون معتبراً بقسميه، ويكون الأمر فيه راجحاً ومرجوحاً. ومعنى ذلك: أن الخلاف صواب فيما يتعلق بوقوعه في بعض المسائل كما ضربت لكم مثلاً بالصلاة ببني قريظة، إذ لو كان أحد الاجتهادين خطأ لما سكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام ولبينه؛ لأن الأمر لا يحتمل التأخير في البيان، فلما سكت دل على أن ما وقع منهما مع الاختلاف كله صواب، وعليه فيجوز تعدد الحق. وبعضهم قال: الحق واحد، ولا بد من الذهاب إلى أحد الرأيين ورد الثاني، واستشهد بمسائل قد اختلف فيها أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وأنكر بعضهم على بعض. فهذه الأدلة فعلاً أخطأ فيها المخالف، وإني لا أسرد نفس الأدلة بعد أن أحلتك إلى الباب الرابع والخمسين والباب الخامس والخمسين من جامع بيان العلم وفضله، وإن ذهبت إلى هناك وقرأت هذين البابين لوجدت علماً غزيراً جداً. قال: [اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران العلم، فجعل عمر ربما جاء بالشيء يخالف به القاسم، فجعل ذلك يشق على القاسم، فتبين ذلك لـ عمر -أي: علم عمر أن حججه قوية، فربما شق ذلك على القاسم وغضب وتغير- فقال له عمر: لا تفعل فما أحب أن لي باختلافهم حمر النعم]. أي: أن اختلاف الصحابة إجمالاً أحب إلي من حمر النعم؛ لأن عمر يرى أن اختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة. قال: [وقال المعلى بن إسماعيل: ربما اختلف الفقهاء وكلا الفريقين مصيب في مقالته]. فاختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كان مبناه على فهم الدليل فلا شك أنه رحمة، أما إذا كان أحدهما فهم فهماً خالف فيه الدليل ظاهراً وباطناً فلا شك أنها ليست رحمة، بل لا بد من ثبوت خطئه، وأيضاً لو قرأت البابين اللذين أحلتك إليهما لوجدت أدلة ذلك. قال: [وقال أبو عون: ربما اختلف الناس في الأمر وكلاهما له الحق].

اختلاف الفقهاء يقال فيه: أخطأت، لا كفرت

اختلاف الفقهاء يقال فيه: أخطأت، لا كفرت قال: [فاختلاف الفقهاء يا أخي -رحمك الله- في فروع الأحكام, وفضائل السنن؛ رحمة من الله بعباده, والموفق منهم مأجور, والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور, وهو يحسن نيته, وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور على ذلك، وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الإتباع؛ كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت]. إذاً يقال للمخالف: أخطأت، إذا خالف مسألة مجمع عليها، ولا شك أن مخالفة الكتاب والسنة أولى في تخطئته من مخالفته للإجماع؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بدليل أو أمارة من الكتاب والسنة، وحينئذ لو خالف الكتاب والسنة فإثبات خطؤه أولى من مخالفته للإجماع، وفي كل قد أخطأ. والصورة الثانية من صور الخلاف: لو أن العلماء اختلفوا في الرأي اختلافاً مسوغاً فهل يقال في هذا الخلاف: إنه ليس برحمة؟ لا، بل هو رحمة، وهو خلاف رأي. ولذلك إذا اعتقدت أن الخلاف صواب وخطأ؛ فلا بد أنك ستقف في كل يوم على عشرات المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين أهل العلم، ويترجح لديك اليوم ما تبطله أنت غداً، فمثلاً: مسألة: هل قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة الجهرية أم لا؟ فمنهم من يعتقد وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ومنهم من يعتقد أن قراءة الإمام لهم قراءة، فهذا الخلاف ليس مرده إلى الهوى، وإنما إلى الدليل، فإذا كان مرد الخلاف إلى فهم الدليل فلا يقال للمخالف فيما ذهب إليه: أخطأت، وإنما كل واحد يلزمه العبادة بما ترجح لديه إن كان طالب علم. فأنت باعتبارك طالب علم لك نظر وبصيرة في الدليل، وقد أتيت بأصل المسألة وأدلتها، ونظرت في أقوال الفقهاء فترجح لديك وجوب القراءة، فلا يسعك بعد أن ترجح لديك وجوب قراءة الفاتحة أن تترك القراءة خلف الإمام، بل تبطل صلاتك لتركك ركناً متعمداً، وإن ترجح لديك بالدليل أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم فلا يسعك القراءة، فإن قرأت فهو سنة بلا شك، لكن لو أنك تركت القراءة لاعتقادك أن قراءة الإمام تحل محل قراءتك لا تبطل صلاتك. فلو أن اثنين يقفون في الصف، أحدهما: يعتقد الوجوب، والثاني: يعتقد عدم الوجوب، وكلاهما أدرك الإمام على حال معين، فهذا يقوم ويأتي بركعة، وذاك لا يأتي بركعة، وهذا هو خلاف الاجتهاد الذي بني على دليل واحد، أو على أدلة معناها واحد؛ لأنك طالب علم، فلا يسعك أن تقلد، بل لا تبرأ ذمتك إلا بالنظر في الدليل، والعمل بما ترجح لديك، وهو دين الله تعالى في حقك. وأما العامي الذي ليس له نظر، ولا يعرف فهم الدليل؛ فهذا يلزمه بل يجب عليه تقليد مفتيه إذا غلب على ظنه أن هذا المفتي مستقيم، أي: إذا غلب على ظنه أن هذا الرجل صاحب صلاح ودين وعلم، فالعامي لا يعرف ما هو الدليل، ولا من أين أتى الشيخ بهذا الكلام، ولا كيف ترجح لك هذا، فهو عامي لا يعرف شيئاً، فهو يقلد هذا المفتي. ولذلك انظر إلى الخليفة لما أرسل إلى الإمام مالك وقال له: مر طلابك أن ينسخوا من الموطأ نسخاً حتى أرسل بها إلى الأمصار؛ ليعملوا بها، قال: لا تفعل يا إمام المسلمين! فإنهم قد بلغهم من العلم ما لم يبلغنا، وبلغنا ما لم يبلغهم. فدل هذا على أن كلاً يعمل بما بلغه. والعلماء قالوا: إن هذه من أعظم مناقب الإمام مالك، وليست منقبة عادية، إذ إن الإمام مالك يسمح بوقوع الاختلاف في الفروع من هنا وهناك، وأن كلاً يعمل بما بلغه من علم. قال موسى الجهني: كان إذا ذكر عند طلحة الاختلاف قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة. أي: أن الاختلاف يقع من الفقهاء، وهو باب من أبواب السعة، وباب من أبواب الرحمة. قال الشيخ: [فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران، وأهل الأهواء اختلفوا في الله، وفي الكيفية، وفي الأبنية -أي: مباني الإسلام الخمسة- وفي الصفات، وفي الأسماء، وفي القرآن، وفي قدرة الله، وفي عظمة الله، وفي علم الله، تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً]. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك

شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن الأمم التي قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة؛ وذلك حين تبتعد الأمة عن المنهج القويم، وتفقد هويتها وشخصيتها، فتبحث عما يكملها عند غيرها من أمم الكفر، فلا تجد عندهم إلا الضلالة والبعد عن الله، فتتبع خطاهم في طريق لا يزيدها إلا بعداً وانغماساً في ظلمات التيه والغواية.

باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك

باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. مع درس جديد من كتاب الإبانة لـ ابن بطة، وهو: باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك. في أدلة هذا الباب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة -وهي أمة الخير- لابد أنها تنحرف عن سلوك طريق الخير وتركب طريق الشر، وطريق الشر إنما هو في التزام غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهو هدي الأمم السابقة وأخلاقها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أطلعه ربه على أن هذه الأمة لابد أن تنحرف عن المسار الطبيعي الذي خلقت له، حذر أمته من هذا البلاء العظيم، ومن فقدان هويتها؛ لأن لكل أمة هوية، فإذا فقدت أمة من الأمم هويتها فإنها تنسلخ من هديها تماماً وتذوب في بقية المجتمعات، حتى تتشبه ببقية هذه المجتمعات التي تخلقت بأخلاقها، أو سلكت سبلها واستنت بسننها. ولأجل هذا صرح النبي عليه الصلاة والسلام بخطورة ذلك، وأن ذلك تمييع للشخصية الإسلامية، وبالتالي هو ذوبان للمجتمع المسلم في بقية مجتمعات الكفر والضلال.

حديث شداد بن أوس: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن)

حديث شداد بن أوس: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن) ولما كان هذا أخطر أمر وأعظم وباء يمكن أن ينزل في المجتمع المسلم بأسره؛ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث، ففي حديث [شداد بن أوس أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة)] يعني: لتتبعن سنن من كان قبلكم. أي: هديهم وأخلاقهم وطريقتهم في كل شيء مهما دق وجل، فإنكم تبحثون عنه وتنقبون عنه وتعملون به، وتتركون سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر زائد عن البدع، أي: هو فوق البدع بدرجات، فالتخلق بأخلاق الأمم السابقة لابد أنها أمم الكفر؛ لأنه ليس هناك أمة مسلمة على وجه الأرض بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: من الكفار. وفي رواية: (فارس والروم يا رسول الله؟! قال: ومن الناس إلا هم؟) يعني: هؤلاء الذين تقلدونهم أنتم، أما فارس فقد أسلموا على عوج، وأما الروم فأسلموا ثم خرجوا، حتى صارت الروم الآن دار كفر بعد أن كانت دار إسلام أو شبه دار إسلام لإسلام معظم أهلها في وقت من الأوقات، ولكنها رجعت دار كفر، كما كانت تركيا كذلك دار إسلام في يوم من الأيام، ولكنها بسقوط الخلافة العثمانية التي اتخذت تركيا مقراً لها ثم سقطت سنة (1924م)، ورجعت مرة أخرى تركيا دار كفر بعد أن كانت دار إسلام. فالصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لتتبعن سنن الناس حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟)؛ لأن هاتين الدولتين أعظم مملكتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، قوة فارس وقوة الروم، وكانوا يقولون: هما قوتان لا تغلبان، والنبي عليه الصلاة والسلام، بل القرآن الكريم ذكر بأن هذه القوى قوى هشة لا تثبت أمام جحافل الإيمان وقد كان هذا غير مرة. فهنا لا أقول: فارس والروم الآن؛ لأن الروم الآن صارت ضعيفة أمام القوى العظمى، فقد كنا كذلك نقول: أعظم قوتين في العالم هم الروس والأمريكان، فسقطت الروس، وانشقت إلى دويلات كثيرة بعضها أضعف من بعض، حتى كاد زعيم الروس الأعظم أن يبحث عن عمل يتكسب منه قوت يومه. وما هذا إلا لتعلموا أن الأمور كلها تجري بمقادير الله عز وجل، وأن الله تعالى يذل من يشاء ويعز من يشاء، فهذه الدولة التي لم يكن أحد يتصور أنها تنهزم أو تضعف في يوم من الأيام، إذا بها تكون أمة ذليلة في ركاب أمريكا، ولا تزال القوة باقية في أمريكا، لكنها قوة تستند إلى الكفر كذلك، وتعتمد على الضلال، بل تقبل بالكفر والضلال والانحراف عن منهج الله سبيلاً لها، وأسطولاً لها، وسنة الله تبارك وتعالى الكونية أبت أن تكتب البقاء والنصر المؤبد لأمثال هؤلاء. فأمريكا في قبضة الله عز وجل، إذا شاء الله تعالى أن يذلها أذلها، في وقت لا يمكن لأحد أن يذكرها ولو بزلزال أو بركان، وهذا بإذن الله عز وجل، كما أن كل شيء بيده سبحانه وتعالى. فهذه القوة أنا أعتقد أنها قابلة للانهيار في أي وقت من الأوقات، كما أن من زار هذه البلاد أو هذه الولايات، ورأى ما فيها من فساد، علم يقيناً أن عمر أمريكا الافتراضي أوشك على الانتهاء. لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: إذا انهارت أمريكا كما انهارت روسيا من قبلها، بل وانهارت أوروبا كلها، فما هي الأمة القوية، وبأي شيء تتقوى؟ هل هي أمة الإسلام؟ أم تنهض أمم الكفر مرة أخرى؟ A أن كل أمة رسمت لها الدساتير لتقوى بها، وقد قويت وقامت، وبين أيدينا دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكننا فرطنا فيه، ومعذرة إذا عبرت عن القرآن والسنة بالدستور وهو اللفظ الدارج وإن كنت لا أحبه. فهنا الأمة الإسلامية ملكت مقومات الحضارة، ومقومات السيادة والريادة، ولكنها تخلت إما بفعلها وإما رغماً عنها؛ ولذلك ترى الآن المسلمين حكاماً ومحكومين على السواء يأبون ويرفضون أن يحكموا وأن يساقوا بأحكام الشرع، ليس هذا في الحكام فحسب، وما دامت الدفة في صالحك فإنك تقبل الإسلام على العين والرأس، وإذا كان الإسلام حاكماً عليك فإنك تهرب منه مهما طالت حياتك، ومهما طال انتظارك للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية المزعومة. ولذلك وقع في الأمة من البلاء والفساد ما لا يمكن لعاقل أن يتصور معه تمكين هذه الأمة في يوم من الأيام، والله تعالى وعدنا، وقبل أن يعد شرط علينا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ونصر الله تعالى بالتزام شرعه، وما دمنا أبعد الناس عن شرع الله فلن ننتصر، فاليهود والنصارى درسوا كتاب الله تعالى، ودرسوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما علموا أنه المنهج القويم الذي من تمسك به قام وثبتت أقدامه في الأرض، عملوا بالدين الإسلامي في الوقت الذي تخلينا نحن فيه عن دين الإسلام. ولذلك هم الآن رواد لنا، وكثير من المسلمين يعتبرون اليهود والنصارى -وإن شئت فقل بلاد الغرب- القدوة

حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط)

حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو واقد الليثي: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين -أي: ناحية حنين- ومررنا بالسدر -شجرة- فقلت: يا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها)]. ينوطون: أي يعلقون أسلحتهم على شجرة، فلما مروا بشجرة قالوا: يا رسول الله! اتخذ هذه لنا ذات أنواط، يعني: ائذن لنا أن نتخذ هذه الشجرة لتعليق سيوفنا عليها، وهذا أمر مباح؛ لكنهم قالوا: (كما للكافرين ذات أنواط)، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقطع العلاقة كلية بما هو خاص بأخلاق اليهود والنصارى. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم)] يعني: هدي الذين من قبلكم وأخلاقهم. انظر إلى طلب الصحابة رضي الله عنهم، أن تكون لهم شجرة يعلقون عليها سيوفهم، وهذا أمر مباح، لكنهم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكافرين، أي: تشبهاً بهم ولو في الأمر المباح قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر!) وهو تكبير استنكار عليهم إنكم تقولون نفس مقولة بني إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]. فالتشبه بالكافرين ربما أدى بكم في نهاية الأمر وتقادم العهد والزمان إلى أن تقولوا لأمرائكم وعلمائكم: اجعلوا لنا إلهاً كما كان لبني إسرائيل إلهاً.

حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن بني إسرائيل)

حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن بني إسرائيل) قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو كان الرجل من بني إسرائيل دخل جحر ضب لتبعتموه)]. فبنو إسرائيل كانوا أصحاب حضارة في ذلك الوقت، ودائماً الإنسان يتطلع إلى الحضارة ويظن أنها التقدم، لكن الحضارة الحقة والتقدم المتين هو التمسك بشرع الله وحبل الله، والاعتقاد بكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا هو التقدم حقاً؛ لأن الغاية من التقدم هي السعادة في الدارين، ولا سعادة إلا في دين الله عز وجل والتمسك به، والاعتصام بحبله المتين. هب أن واحداً حاز على أعظم التقنيات، ولكنه كان كافراً ومات بعد هذه الاختراعات التي سعد بها غيره، فماذا له عند الله عز وجل يوم القيامة وقد مات على كفره؟ ليس له إلا النار. فقد شقي في حياته الدنيا ليسعد غيره، أما في الآخرة فليس هو من أهل الجنة، بل هو من المخلدين في نار جهنم. وأصل التقدم الحضاري والرقي الفكري والاجتماعي أن يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فأي شيء لا يؤدي إلى هذا الغرض لا يكون تقدماً في حقيقة الأمر، وإنما يراه تقدماً من لا بصر له ولا بصيرة، ويرى أننا متخلفون، ولذلك تجد كثيراً من الكتاب والصحفيين وغيرهم من المفتونين بما عليه أوروبا الآن وأمريكا من تقدم تكنولوجي متعلق بالحياة الدنيا، وسيزول هذا التقدم كله قبل قيام الساعة حتى يرجع الناس إلى الإبل والحمير، وإلى القتال بالعصي والسيوف والنبال، لابد أن تفنى هذه الحضارة، ويرجع العالم كله إلى ما كان عليه وقت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: لا يبقى إلا السعادة الحقة، وهي التمسك بالكتاب والسنة، هذا هو البحث الحقيقي عن مرضاة الله عز وجل. هذا يذكرني برجل كل همه أن يتزوج امرأة جميلة مهما كانت أخلاقها وسلوكها وديانتها، المهم أن تكون جميلة، وهذا الجمال يوماً ما لابد أنه سيزول، فإذا كان سوء الخلق باقياً وسوء المعتقد باقياً، وكل صفات المرأة باقية فإنه يزول جمالها، وهو الذي كنت تبحث عنه، فإذا كنت من الآن تبحث عن هذا التقدم فاعلم أنه زائل، وسيبقى لك شرار الصفات، وهي التخلق بأخلاق هؤلاء، وبحثك عن تقليدهم في كل كبير وصغير، في النقير والقطمير؛ حتى تذوب في أخلاقهم وفي سلوكهم وفي معتقدهم، وإذا بهم ينسلخون منك ويتبرءون منك يوم القيامة كما يتبرأ الشيطان من أتباعه؛ ولذلك كانت السعادة الحقة في التزام شرع نبينا عليه الصلاة والسلام.

حديث أبي هريرة: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها)

حديث أبي هريرة: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله! كما فعلت فارس والروم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ومن الناس إلا أولئك؟)]. شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا خبر، أي: هذا خبر عن أمر مستقبل سيقع في الأمة، فلو أنك أتيت مثلاً وقلت لابنك: يا بني! أنت الآن ذاهب لتصلي الجمعة، فليس هناك داع لأن تلبس البدلة والكرفتة والبنطلون، وإنما يستحب لك في مثل هذا اليوم أن تلبس الثوب الأبيض، يقول: أنا أستحي من زملائي، وأستحي من المجتمع، وهذا الذي تعودت عليه، ويبدأ يناقشك واحدة واحدة، حتى يعتقد في المستقبل أن ما يلبسه أفضل مما يلبسه غيره. وهذا كلام خطير؛ لأنه يؤدي إلى ما هو أخطر منه؛ لكن ربما تهون هذه القضية أمام تخلقه بأخلاق غير المسلمين في الباطن، والشكل له تأثير في الجوهر، فالجندي الذي يلبس بدلة الجندية يشعر بالفتوة والشهامة والقوة، وكذلك الذي يتشبه بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهره يحجبه هذا الظاهر عن كثير من المعاصي. فإذا أراد أحد أن ينطلق بلا لوم في المعاصي حلق لحيته وغيَّر من منظره ومن زيه؛ لأنه يعلم أن الناس لا يدعونه بهذا الشكل، ولو تشكل بأشكال أخرى غير الشكل المطلوب لما لامه الناس، تصوروا لو أني في مثل حالتي هذه دخلت السينما، من الذي يأمرني وينهاني؟ الذي داخل السينما كلهم سينظرون إلي نظراً مزرياً، فيأتي إلي شخص ويقول لي: حرام عليك، اتق الله، ويذكرني بالله وهو معي في نفس المجلس؛ لأن منظري وشكلي لا يتناسب مع هذا، في الوقت الذي استجاز هو لنفسه أن يبقى في هذا المكان، وربما اصطحب معه عشيقته، لكن مجرد دخولي أنا السينما أمر منكر، أما بقاؤه هو في السينما أو في النادي أو غير ذلك ومعه عشيقته -والله أعلم بالمفاسد التي تتم بعد ذلك من شرب الخمر والسكر أمر لا ينكر على عامة الناس؛ لأنهم لم يعلنوا راية الالتزام، فكأنه أبيح لهم ما حرم على غيرهم، وهذا وضع طبيعي في الناس. ولذلك فإن الشكل له تأثير في القلب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، مع أن تسوية الصفوف أمر ظاهري، فما علاقة هذا الظاهر بالقلب؟ وجرب هذا بنفسك، لو أنك تعودت وفعلت ذلك تديناً وعبادة، ووضعت قدماً جوار قدم من يقف بجوارك، فكلما وضعت قدمك بقدمه ضم إليه قدمه، هل سيتغير قلبك عليه؟ نعم يتغير؛ لأنه لم يعنك على طاعة من الطاعات، ولم يلتزم سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، فلابد أن تخرج من الصلاة وأنت لا ترغب أن تنظر إلى وجهه، وهذا يدل على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وإن كان هو على شكل درجات ومراتب، ولكن في نهاية الأمر كل هذه الدرجات والمراتب داخلة في حد الإسلام، وفي حد الإيمان. قال: قال ابن تيمية: هذا خبر تصديقاً لقول الله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69]، ولهذا شواهد في الصحاح والحسان، وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله على أحوال الناس، يعني: تكون أنت عالماً بالدين الذي أنت عليه، فإذا علمت دين الإسلام وما هو المراد منه، وما هو المطلوب منك تجاه هذا الدين، ثم أسقطت ما عندك من علم على واقع الناس؛ لوجدت أن الناس في واد وأن الدين في واد آخر، هكذا أراد شيخ الإسلام أن يقول. قال: وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس؛ لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطرفي الأمتين: المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك، والصادق مع نفسه يتوقف مع نفسه في كل قول وفعل ونية وغير ذلك، ويفهم الإسلام أولاً، ثم لابد هو مع هذا العلم سيجد أنه قد تخلق أو تشبه ببعض أخلاق اليهود والنصارى، وهذا أمر يجعل كل واحد منا يكون حريصاً على نفسه، يراقبها ويعاتبها ويلومها ويوبخها على كل مخالفة انحرف بها عن سلوك الشرع القويم. وانظروا إلى قوله: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، فهذا تشبيه المراد منه ملازمة التشبه بهم؛ لقوله: (شبراً بشبر) يعني: يمشي خلف اليهود خطوة بخطوة، أو يمشي المسلم خلف اليهودي حتى في طريقة المشي، إذا رفع رجله رفع رجله مثله ووضعها في أثر قدم اليهودي. قال: (وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا ج

حديث حذيفة: (لتركبن سنن بني إسرائيل)

حديث حذيفة: (لتركبن سنن بني إسرائيل) قال: [وقال حذيفة]، وما أدراكم ما حذيفة؟! أدرى الناس بالفتن في زمانه، عالم بأخبارها، كما أنه خبير بالمنافقين في زمنه، وكانت له اهتمامات خاصة بهذا الجانب، لكن شتان بين ما كان يهتم به حذيفة من الفتن وما يهتم به بعض طلاب العلم الآن من الفتن، فهذا باب وذاك باب آخر، أما حذيفة فكان حريصاً على أشراط الساعة، والفتن التي تكون بين يدي الساعة، يحددها ويصف لها الدواء، أما بعض طلاب العلم الآن فالفتنة خامدة أو مخمودة، ومع هذا هو أحرص الناس على إنشائها وإشعال نارها حتى تستفحل وتكبر ولا يكون لها دواء، ثم هو حينئذ يستريح. قال: [قال حذيفة: لتركبن سنن بني إسرائيل، حذو القذة بالقذة، وحذو الشبر بالشبر، حتى لو فعل رجل من بني إسرائيل كذا وكذا فعله رجل من هذه الأمة، فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير فهل يكون فينا هذا؟ قال حذيفة: وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير]. قال: [وعن حذيفة قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وليصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم].

تعليق ابن بطة على أحاديث الإعلام بأمر الفتن

تعليق ابن بطة على أحاديث الإعلام بأمر الفتن قال: [قال ابن بطة رحمه الله: فلو أن رجلاً عاقلاً أمعن النظر اليوم في الإسلام وأهله، لعلم أن أمور الناس تمضي كلها على سنن أهل الكتابين وطريقتهم، وعلى سنة كسرى وقيصر، وعلى ما كانت عليه الجاهلية، فما من طبقة من الناس وما من صنف منهم، إلا وهم في سائر أمورهم مخالفون لشرائع الإسلام وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، مضاهون فيما يفعل أهل الكتابين والجاهلية قبلهم، فإن صرف بصره إلى السلطنة وأهلها وحاشيتها، ومن لاذ بها من حكامهم وعمالهم، وجد الأمر كله فيهم بالضد مما أمروا به، ونصبوا له، في أفعالهم وأحكامهم وزيهم ولباسهم، وكذلك في سائر الناس بعدهم من التجار والسوقة، وأبناء الدنيا وطالبيها من الزراع والصناع والأجراء والفقراء والقراء والعلماء إلا من عصمه الله. ومتى فكرت في ذلك وجدت الأمر كما أخبرتك في المصائب والأفراح، وفي الزي واللباس والآنية والأبنية والمساكن والخدام والمراكب والولائم والأعراس والمجالس والفرش والمآكل والمشارب وكل ذلك، فيجري خلاف السنة والكتاب بالضد مما أمر به المسلمون وندب إليه المؤمنون]. ومما يدل على ذلك أن الذين يصنفون مصنفات في كيفية العمارة القديمة تجد البيت نفسه مكشوفاً تماماً، ففي هذا الوقت وأنت تمشي في الشارع تجد الحرمات مكشوفة، وعندما تدخل منزلاً فيه حديقة، تجد أن أول شيء يقابلك من الباب المطبخ، وكان المطبخ من قبل بجوار غرفة الاستئذان، لكن في هذا الوقت أصبح المطبخ وغرفة الاستئذان شيئاً واحداً، فإذا دخل الضيف خرجت المرأة بأحدث زيها وأجمل زينتها من أجل أن تعمل للضيف كوب شاي، ولا سبيل لها إلا أن تمر فتسلم وتصافح، وربما جلست للمسامرة والمؤانسة، ثم انطلقت إلى مكان إعداد الشاي وغيره، حتى في المباني في داخل البيوت قد تشبهنا بالكافرين. قال: [وكذلك من باع واشترى، وملك واقتنى، واستأجر وزرع وزارع، فمن طلب السلامة لدينه في وقتنا هذا مع الناس عدمها]. أريد أن أقول شيئاً: هل تستطيع أن تأتي لي بعمل في هذا الوقت لا شبهة فيه؟ أو هل يعمل أحد منكم عملاً لا شبهة فيه؟ A لا أحد، وهذا من البلاء العظيم الذي حل بالأمة، وكأن الأمة لابد أن تأكل الحرام رغم أنفها، بل حتى الذي يخرج بالسلامة لا يتمكن من ذلك. قال: [ومن أحب أن يلتمس معيشة على حكم الكتاب والسنة فقدها، وكثر خصماؤه وأعداؤه ومخالفوه ومبغضوه فيها، فالله المستعان، فما أشد تعذر السلامة في الدين في هذا الزمان، فطرقات الحق خالية مقفرة موحشة، قد عدم سالكوها واندفنت محاجها، وتهدمت صواياها -أي: علاماتها وأعلامها- وفقد أدلاؤها -جمع دليل- وهداتها، قد وقفت شياطين الإنس والجن على فجاجها وسبلها تتخطف الناس عنها، فالله المستعان، فليس يعرف هذا الأمر ويهمه إلا رجل عاقل مميز قد أدبه العلم، وشرح الله صدره بالإيمان]، أما غير ذلك فلا. ولذلك دائماً نقول: طلب العلم نجاة من الهلاك، فالسبيل الوحيد لمن أراد أن ينجو مما حل بالعالم من خراب وفساد وضلال هو طلب العلم؛ لأنه العاصم بأمر الله. فطلب العلم نجاة من كل هلكة، فمن أراد أن ينجو وأن يرتفع بأنفه، ويعلو بنفسه على واقع العالم المر الباطل فليتعلم العلم، وبغيره لا يمكن لك أن تنجو من البلاء الذي نزل بالكون.

إنكار الصحابة تغير الناس في لزوم السنة من بعدهم

إنكار الصحابة تغير الناس في لزوم السنة من بعدهم

أثر عبد الله بن بسر: (لو نشروا من القبور ما عرفوكم)

أثر عبد الله بن بسر: (لو نشروا من القبور ما عرفوكم) قال: [وعن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبد الله بن بسر وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حالنا من حال من كان قبلنا؟] هذا ابن ضمير من التابعين كأنه يقول: اعقد لنا مقارنة بين حالنا نحن في زمن التابعين وبين حال من قبلنا؟ قال: [قال عبد الله بن بسر: سبحان الله! لو نشروا من القبور ما عرفوكم، إلا أن يجدوكم قياماً تصلون]. يعني: لو أن الصحابة بعثوا من قبورهم فنظروا في وجوه التابعين وفي بلاد المسلمين، ما عرفوا أن هؤلاء مسلمون، ولا عرفوا أن هذه البلاد إسلامية، إلا في وقت صلاة الجماعة؛ لأنه لا يصلي على هذا النحو إلا المسلمون، فلو لم يناد الإمام أو المؤذن بالصلاة، ودخل الناس المسجد، لا يكاد الصاحب أن يعرف المسلمين إلا بهذه الشعيرة.

أثر أنس: (ما من شيء كنت أعرفه على عهد النبي إلا قد أصبحت له منكرا)

أثر أنس: (ما من شيء كنت أعرفه على عهد النبي إلا قد أصبحت له منكراً) قال: [وعن أنس قال: ما من شيء كنت أعرفه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد أصبحت له منكراً]، كل ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام أدركه أنس، فرأى الأخلاق والصفات التي لم يجد منها شيئاً في زمن التابعين؛ ولذلك كان يبكي كثيراً على هذا؛ لأنه أنكر أخلاق التابعين. قال: [إلا أني أرى شهادتكم هذه ثابتة]، يعني: تقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كان يقول الصحابة رضي الله عنهم، فأنتم تشابهونهم في أصل الشهادة، لكنكم لا تعملون مقتضى هذه الشهادة كما كان يعمل بمقتضاها صحابة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [فقيل له: يا أبا حمزة! فالصلاة؟ قال: قد فعل فيها ما رأيتم]. يعني: قد انحرفتم عن هديه عليه الصلاة والسلام وعن سنته فيما يتعلق بالصلاة، وربما يكون أنس بن مالك أبو حمزة رضي الله عنه أشار إلى رفع الخشوع منها، والخشوع يا إخواني وإن كان عملاً قلبياً إلا أن القرائن الظاهرة تدل عليه، هب أن رجلاً دخل في صلاة فنقرها نقر الغراب، لا يكاد يتم فيها فاتحة الكتاب، ولا يكاد يستوي ظهره حتى يسبح ثلاثاً ولا حتى واحدة، فهذه كلها قرائن تدل على أن هذا الإنسان لم يصل صلاة صحيحة، فضلاً عن أن يكون خشع في صلاته؛ ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً أن يعيد الصلاة مرة أخرى، قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) لما وجده ينقر صلاته، حتى اعتذر إلى النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يحسن أكثر من ذلك، فعلمه النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة، وأذكار الصلاة، والحديث فيها طويل، وهو المعروف عند أصحاب الحديث بحديث المسيء صلاته. قال: [وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه إلا هذه الصلاة وقد ضيعت]. إذا كانت هذه المقولة من أنس بن مالك فلا غرابة أن يقول أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: دخلت مائة مسجد وصليت فيها ونظرت إلى أهلها، فما وجدت واحداً يصلي صلاة كصلاة رسول صلى الله عليه وسلم. بلاء عظيم جداً نزل بالأمة في زمن التابعين، فما بالكم بهذا الزمان؟!

أثر أبي الدرداء: (والله ما أعرف فيهم من أمر محمد)

أثر أبي الدرداء: (والله ما أعرف فيهم من أمر محمد) قال: [وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان. قلت له: ما أغضبك؟ قال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً]، أي: هذا المظهر الوحيد من مظاهر الإسلام: أن صلاة الجماعة لا تزال قائمة، أما بقية شعائر وشرائع الإسلام فالناس عنها في غفلة، الناس في واد وشرعهم في واد آخر. قال: [وعن ابن عباس: أنه كان يتمثل بهذا البيت: فما الناس بالناس الذين عهدتهم]، يعني: ليس هؤلاء هم الناس الذين عشنا في أكنافهم. قال: [فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف]

تعليق ابن بطة على ما ورد عن الصحابة من إنكار تغير الناس في لزوم السنة

تعليق ابن بطة على ما ورد عن الصحابة من إنكار تغير الناس في لزوم السنة قال ابن بطة: [هذا يا إخواني -رحمنا الله وإياكم- قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن بسر، وأنس بن مالك، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومن تركت أكثر ممن ذكرت، فيا ليت شعري! كيف حال المؤمن في هذا الزمان؟ وأي عيش له مع أهله، وهو لو عاد عليلاً -يعني: لو زار مريضاً- لعاين عنده وفي منزله وما أعده هو وأهله للعلة والمرض من صنوف البدع ومخالفة السنن، والمضاهاة للفرس والروم وأهل الجاهلية ما لا يجوز له معه عيادة المرضى؟] يقول: حتى المريض العليل عنده من البدع والمخالفات والبلايا المخالفة للكتاب والسنة ما يجعل العائد له يرجع ولا يعوده، مع أن المريض دائماً هو في أمس الحاجة إلى أن يتقرب إلى الله عز وجل، وهكذا حال الإنسان دائماً يلجأ إلى الله تعالى في وقت ضره، ويعصي حين يدفع عنه الضر. قال: [وكذلك إن شهد جنازة، وكذلك إن شهد إملاك رجل مسلم]، تصور أنك ذاهب لاتباع جنازة، فبين كل فترة وأخرى تسمع من يقول: وحدوه، فلا يصلح هذا، وهذا ليس من السنة، وليس من الهدي. كما أنك تجد مشايخ ودعاة وعلماء يشتغلون فقط بالدعاء الجماعي والتأمين الجماعي، وهذا ليس من هديه عليه الصلاة والسلام، فلم يثبت قط أنه دعا على المقابر جماعة، وإنما كان يقول: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، فلو أن الدعاء على هذا النحو مشروع لكان هو أولى بالدعاء من أصحاب التأمين، ولكنه أمر كل واحد أن يدعو حتى لا يحرم نفسه الدعاء، إذ إن الدعاء من أعظم العبادات، بل هو أصل العبادة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، فحينئذ لو سكت الناس جميعاً ودعا واحد وأمن الناس، فكأن الداعي للميت واحد فقط، ولو انفرد كل إنسان قدر أن تنحر جزور وتسلخ ويوزع لحمها -وهذا لا يكون إلا في ساعة من الزمان- لانتفع بها الميت في قبره، وكان هؤلاء جميعاً شفعاء يومئذ، ولو أنك أنكرت وقلت: يا إخواني! كل واحد يدعو في نفسه للميت لقالوا: نتبعك أنت أم فلاناً وفلاناً، وهؤلاء ليسوا من أهل البدع، بل هم من أهل السنة، أو يقولون: هؤلاء مشايخكم ودعاتكم وعلماؤكم يفعلون هذا! ونقول: هذا فيه مخالفة للشرع، لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، إنما وعظ مرة عليه الصلاة والسلام، والموعظة تختلف عن الدعاء، الموعظة تذكير للمؤمن بمآله، وأنه لا يبعد أن يكون في نفس اليوم في نفس المكان وفي نفس المقبرة، فالموعظة تختلف عن الدعاء، فلا بأس بالموعظة على المقابر، على أن لا يكون هذا ديدناً حتى لا يدخل في حد البدع، أما الدعاء بالإفراد فإنه مسنون مع كل دفن. قال: [وكذلك إن شهد له وليمة، وكذلك إن خرج يريد الحج، عاين في هذه المواطن ما ينكره ويكربه، ويسوءه في نفسه وفي المسلمين ويغمه]، في كل مناحي العبادات والعادات تجد انحرافاً عن الشرع، فإذا أردت أن تضع الأمر نصابه قوبلت بالإنكار والردود والملامة، وربما الاعتداء والضرب والشتائم، لا يمكن أبداً لهذه الأمة أن تفيق إلا أن ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها. قال: [فإذا كانت مطالب الحق قد صارت بواطل، ومحاسن المسلمين قد صارت مفاضح، فماذا عسى أن تكون أفعالهم في الأمور التي نطوي عن ذكرها؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون ما أعظم مصائب المسلمين في الدين وأقل في ذلك المفكرين!]. وقال: [أنشدني شيخ من أهل العلم بالبصرة في جامعها: الطرق شتى وطرق الحق مفردة والسالكون طريق الحق آحاد لا يطلبون ولا تبدو مآثرهم فهم على مهل يمشون قصاد والناس في غفلة عما يراد بهم فكلهم عن طريق الحق حواد] يعني: يحيدون عن طريق الحق. قال: [غمر الناس يا إخواني! البلاء، وانغلقت طرق السلامة والنجاء، ومات العلماء والنصحاء، وفقد الأمناء، وصار الناس داء ليس يبريه الدواء. نسأل الله التوفيق والعصمة والسداد]. قال: [قال عبد الله رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان يمتلئ فيه جوف كل امرئ شراً، حتى يجري الشر ولا يجد مفصلاً ولا يجد جوفاً يلج فيه]. أي: يدخل الشر في كل مكان من بدنه -عياذاً بالله- حتى يبحث عن مدخل وعن جوف فلا يجد؛ لأن البدن كله بجميع أجزائه امتلأ شراً، وامتلأ فساداً وضلالاً. قال: [لا جعلنا الله وإياكم من أهل الشر، ولا جعل لأهل الشر علينا سبيلاً. وقال أبو الدرداء: لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه]، أي: كان يعيش هم الإسلام ويهمه ما يقع بالمسلمين من بلاء وانحراف عن الطريق والصراط، [ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئاً]. سوكل هذا يحتاج إلى دراسة العلم دارسة متأنية حتى يعلم حقيقة الإسلام، وحقيقة كونه مسلماً، ثم إذا وقف على حقيقة الإسلام فأنزلها على واقع المسلمين اليوم لعلم أن البون شاسع جداً بين المسلمين وبين الإسلام، فهل من رجعة إلى الله عز وجل؟ وهل من توبة إلى الله عز وجل؟

نداء للعودة إلى الإسلام وإلى التمسك بتعاليمه وشرعه

نداء للعودة إلى الإسلام وإلى التمسك بتعاليمه وشرعه ولا سبيل إلى التمكين والنصر، والسيادة على الأمم كلها إلا بالتمسك بدين الله عز وجل وحبله المتين وكتابه القويم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] هل هناك دستور في الأرض كلها يهدي للتي هي أقوم؟ كنا من قبل نقول: هذه الدساتير الوضعية لا تصلح إلا في أرض نبتت فيها هذه القوانين، فلا يصح أن تحكم بلاد المسلمين بقانون فرنسا، ولا بقانون انجلترا، ولا بقانون أمريكا؛ لأن هذه القوانين لا تناسب الفطرة كما قلنا من قبل، وكنا من قبل ندرس هذا الكلام ونلقنه حتى غيرنا هذا المعتقد، وعلمنا أنه لا يصلح فرنسا ولا أمريكا ولا أوروبا ولا العالم كله إلا الإسلام، حتى هذه القوانين التي نبتت في أراض كفرية لا تصلح لهذه الأرض، ولا تصلح لنفس الأراضي، إنما يصلح للعالم كله بره وجوه وبحره الإسلام وتعاليم الإسلام، وبغير الإسلام الناس كلهم في حيرة وضلال كافرهم ومؤمنهم. فلابد من العودة إلى الإسلام حتى إذا تمسكنا بتعاليمه وشرعه تميزت شخصياتنا، وبالتالي تميز مجتمعنا فكان مجتمعاً له سمات، وله الخصال والصفات التي يتميز بها عن غيره من بقية المجتمعات، أما بهذا الوضع فلا يمكن إطلاقاً، ونحن دائماً نقول هذا الكلام وندندن حوله، ونتمنى لو أننا انتبهنا إليه، لكن القضية -يا إخواني- أن بعضكم يتصور باعتباره أتى إلى المسجد، وصلى صلاة الفرض وزكى وحج واعتمر أنه قد أدى ما عليه، وليس هذا هو دين الله عز وجل؛ ولذلك علماؤنا كثيراً ما يقولون: من وقف على حقيقة الإسلام علم أنه في واد والإسلام في واد آخر. إذاً: الذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج لم يعلم بعد حقيقة الإسلام؛ لأن الإسلام أعمق من ذلك بكثير، وهذا أشبه بإنسان لا فهم له، لكنه إذا سمع النداء ذهب إلى المسجد، وإذا أتى رمضان أخرج زكاة ماله؛ لأنها قد وجبت، وإذا أتى موسم الحج انطلق إلى المسجد الحرام، لكنه لا يعرف من الدين أكثر من ذلك، وليس في حياته طفرات ولا نقلات، فإذا دعوته إلى الالتزام وفهم المعاني الحقيقية للشرع يقول: أنا الحمد لله حياتي جيدة، هل تدعوني للصلاة؟ أنا أصلي، للصيام؟ أنا أصوم، للزكاة؟ أزكي، وأنا في كل سنة أحج، لكنه يقع في عظائم الأمور ويقع في المنكرات والبوائق؛ لأنه لم يتعلم الحلال والحرام، ولم يتعلم المعاني اللطيفة. يا إخواني! كتاب الزمخشري وكتاب الزركشي في التفسير رغم اعتزالهما إلا أن الواحد منهم يدندن على مواطن الجمال في كلام الله عز وجل، وأنا لا أنصح بكثرة القراءة فيها حتى لا يقع المرء في سوء المعتقد الذي في هذين الكتابين، وإنما الذي يميز بين الغث والسمين في هذا الباب فيستحب له ينظر حتى يعلو ويزداد إيمانه بمعرفة المعاني الدقيقة، والأسرار النفيسة لكلام الله عز وجل من واقع هذا الكلام، أو من واقع هذه التفاسير. يأتي مدرس لغة عربية -لا أقول مفسراً- فيفسر الآية لطلاب المدرسة تفسيراً جديداً، فيظهر ما في هذه الآية من إعجاز أو بيان أو فصاحة أو بلاغة يعجز عنها أي إنسان، فإذا ظهر وجه الإعجاز ازددت حباً وشوقاً إلى الاطلاع في كتاب الله عز وجل بالليل والنهار، أما الإنسان الذي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره لا يكاد يميز، ولا يعرف حلاله ولا حرامه، فهذا إنسان لم يشعر بعد بجمال الشريعة، ولا بحلاوة الدين، وحلاوة كلام رب العالمين، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام. الواحد منا ربما أخذ صحيح البخاري ليرويه، وسرده سرداً فيقرأ كل يوم مائة صفحة أو مائتين، يقرأ في هاتين المائتين خمسمائة حديث، فيقرأ البخاري في أسبوع واحد، لكنه لم يتوقف عند كل حديث ليعلم ما المراد من هذا الحديث، وما هو المطلوب منه، إنما كان غرضه سرد القراءة، كمن يحرص أن يختم القرآن كل ثلاث، فهو لا يتذوق العلم إلا أن يكون قد ذاق حلاوة القرآن من قبل، وعلم أسرار القرآن، فإنه يتذكر حلاوة القرآن طيلة قراءته وسرده للآيات، أما إذا كان لا علاقة له بهذا، ولا ماضي له في أن يبرك عند ركب أهل العلم فيتعلم تمام السنة؛ فإنه لا يظفر بجمال الدين ولا بحلاوة الشريعة، وكم من حديث حفظناه وقرأناه، وإذا سئلنا عنه سردناه، لكننا لا ندري المراد منه، حتى إذا وقعنا في بلاء، وبصرنا طفل من أطفال المسلمين بسؤال عن قوله عليه الصلاة والسلام كيت وكيت وكيت، حينئذ نشعر جداً بحلاوة السنة، وأن فيها النجاة، والتمسك بها عصمة من كل بلاء. ولعلي ذكرت لكم من قبل قصة وقعت في قريتي: أن رجلاً كان يبني بيتاً، وآخر كان يبني في مقابله بيتاً له، واختلفا على الطريق، وكانا أول من بنى في هذا الشارع، فجاء من يحدد سعة الشارع، فإذا بهما يختلفان، هذا لا يريد أن يترك، وذاك لا يريد أن يترك، فألهمنا الله عز وجل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعاً). فقلت لهم: يا إخواني! أنتم مستعدون أن تتحاكموا إلى شرع الله وإلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: نعم. فقلت لهم: صح أن النبي

الأسئلة

الأسئلة

حكم دلالة النصراني على مكان يؤدي فيه حفل زفاف

حكم دلالة النصراني على مكان يؤدي فيه حفل زفاف Q نصراني يسأل عن مكان معين؛ لكي يدعو أحد أقرانه إلى حضور حفل زفاف بالكنيسة، فهل أدله؟ A نحن ننصح السائل إذا كان موجوداً بيننا أن يسلم وجهه وقلبه لله عز وجل، وإذا لم يكن متزوجاً فنحن بإذن الله تعالى نسعى له في تزويجه بمسلمة بعد إسلامه وإيمانه، كما أننا نذكر هذا النصراني أنه ليس على دين؛ لأنه لا دين بحق إلا دين الإسلام، فإن يسلم يؤته الله تعالى أجره مرتين، وإن يكفر فالنار مثواه، أما كنيسة فإننا لا نحكم بالدلالة عليها، إنما نحكم بالدلالة على بيوت الله عز وجل، وأما الكنائس والبيع فليست من بيوت الله عز وجل، بل هي بيوت كفر وضرار.

بيان عقوبة من تطلب الطلاق من زوجها من غير حق

بيان عقوبة من تطلب الطلاق من زوجها من غير حق Q امرأة طلبت الطلاق ثم رجعت في طلبها، فهل يتحقق فيها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الحرمان من الجنة؟ A كأن هذه المرأة لما طلبت الطلاق طلبته بغير حق، و (أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها من غير ما بأس، فالجنة عليها حرام) كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، أما كونها تابت عن هذا الطلب ورجعت واعتذرت إلى زوجها، فإن الله تبارك وتعالى يتوب على من تاب.

حكم من نذر نذرا ولم يوف به

حكم من نذر نذراً ولم يوف به Q شخص نذر نذراً ولم يوف به، ماذا عليه من الإثم إذا لم ينو فعله بعد ذلك؟ A النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فإذا كان هذا نذر طاعة فيجب على الناذر أن يوفي بما نذر به، وإذا فرط فيه مع القدرة عليه فإنه آثم إثماً عظيماً عند الله عز وجل، أما إذا كان غير قادر على إنفاذ نذره أو أنه لا يملك ما يوفي به ندره، فإن ذلك في ذمته حتى يتيسر له، فإذا لم يتيسر فلا حرج عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.

حكم من أخرج كفارة يمين قبل الحلف ثم حلف على شيء آخر

حكم من أخرج كفارة يمين قبل الحلف ثم حلف على شيء آخر Q دفعت كفارة يمين ثم علمت أنه ليس علي فيه كفارة، ثم مضى زمن وجاءت علي كفارة يمين؛ فهل هذه تجزئ؟ A لا.

حكم أخذ مال فيه شبهة وحكم بيع الملابس الضيقة للمتبرجات

حكم أخذ مال فيه شبهة وحكم بيع الملابس الضيقة للمتبرجات Q أخي يبيع لتاجر مستلزمات الخمار والحجاب والنقاب، وأغراض النساء الداخلية، وفي نفس المحل يبيع شرابات الموضة القصيرة الشفافة، والبلوزات الضيقة، وهذه البلوزات الضيقة يبيعها للمتبرجات الغير منتقبات، وسيعطيني مبلغاً مقداره خمسمائة جنيه مساعدة منه في شراء غرض أثاث في زواجي، فهل نقوده هذه حلال أم حرام؟ وهل آخذها رغم احتياجي لها؟ A على أية حال هذا المبلغ هنيئاً مريئاً لك؛ لأن غاية الأمر أن مال أخيك فيه شبهة، والمال المشتبه حلاله وحرامه إذا غلب عليه الحل فهو حلال، وباب الورع مفتوح، فإذا أراد أحد أن يتورع عن التعامل بالمال الذي فيه شبهة فهذا بلا شك أولى، وأنا أنصح السائلة إذا كانت حاجتها ماسة إلى ضرورات النكاح فلا بأس أن تأخذ من المال، أما إذا أخذت هذا المال لشراء كماليات لا قيمة لها فالأولى ترك ذلك، كما أنصح أخاها -وهو محل السؤال- أن يلتزم بما لا شبهة فيه، وألا يبيع ما يمكن أن تتبرج به النساء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. بيع هذه الملابس الشفافة أو المخالفة للشرع إذا خرجت بها المرأة في الشارع فلا شك أن ذلك حرام، ولذلك في مثل هذه القضايا ينبغي على البائع أن يستر هذه الملابس التي تتبرج بها النساء في الشوارع، أن يسترها في مكان ولا يبديها إلا لأهلها المستحقين لها إذا طلبوها، أو أنه لا بأس أن يعرضها عرضاً، فلو ذهب أخ مثلاً بزوجته عند رجل يبيع هذه الملابس، فلا بأس أن يقول البائع: عندي ملابس داخلية، وعندي فساتين وغير ذلك، ويطلعه على ما عنده، أما إذا أتت امرأة على أحدث موضة فالمعلوم أنها إذا سألت عن شيء من ذلك أو أخذته شراء فإنها ستلبسه وتخالط به نفس الرجل في الغد، وتخالط به الناس جميعاً في الشوارع، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة خرجت من بيتها مستعطرة فكأنما استشرفها الشيطان) وفي رواية الترمذي: (فإنما هي كذا وكذا يقول أبو هريرة: يعني: زانية)، هذا بمجرد أن المرأة وضعت عطراً أو ما يقوم مقام العطر كالمكياج والبترة وغير ذلك مما له رائحة أو لون يلفت الأنظار، فحينئذ يحرم على هذا البائع أن يبيع لأمثال هذه المرأة شيئاً من ذلك.

حكم الخطأ في قراءة الفاتحة في الصلاة

حكم الخطأ في قراءة الفاتحة في الصلاة Q هل اللحن في الفاتحة يبطل الصلاة بتغيير الحركات بدون قصد، وإذا قرأ المأموم الفاتحة خطأ أو كان بها لحن فهل تجزئ عنه قراءة الإمام، وإذا أخطأ الإمام في حركات الفاتحة فهل صلاة المأمومين باطلة؟ A اللحن الجلي خاصة في فاتحة الكتاب يبطل الصلاة، قولاً واحداً بين أهل العلم لا أعلم في ذلك خلافاً. فلو قال الإمام: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتُ عليهم، غير المغضوب عليهم؛ فهذا لحن جلي، وهذا اللحن تتغير به المعاني، وتبطل به الصلاة، ولا سبيل إلى صحة الصلاة على هذا النحو خاصة، وإن أخطأ أعاد الصلاة بمجرد الخطأ، أو إذا كان هناك من يصحح له في داخل الصلاة، فإذا تمت الصلاة على هذا النحو وجب إعادتها على الإمام والمأموم، أما إذا كان المأموم جاهلاً لا يحسن فاتحة الكتاب فيجب عليه أن يتعلم، ويعفى عن جهله وخطئه بالقراءة بها طيلة فترة تعليمه، فإذا تعلم وأخطأ ولحن لحناً جلياً في فاتحة الكتاب وجب عليه أن يعيد الصلاة.

حكم تقبيل الرجل من عقد عليها قبل البناء بها

حكم تقبيل الرجل من عقد عليها قبل البناء بها Q هل يجوز تقبيل المعقود عليها فقط؟ A هل أنت تضمن أن تتوقف عند هذا الحد؟ المعقود عليها يا أخي الكريم! تختلف عن المبني بها سواء فيما يتعلق بحق العاقد تجاهها، أو بحق المعقود عليها تجاه الزوج، كما أن تقبيلها انتهاك لحرمة الولي، وهناك شروط كثيرة جداً متعلقة بالخطبة أولاً ثم العقد ثم البناء، ولكل واحدة من هذه أحكام كثيرة؛ ولذلك المعقود عليها زوجة تحل من وجوه وتحرم من وجوه أخرى، فلو تمت هذه القبلة لوقعت مفاسد عظيمة، وما كنت أحب أن أتكلم في هذه القضية، لكن فساد المجتمع الذي استشرى واعتقاد بعض المتنطعين من طلاب العلم أن ذلك جائز؛ جعلني أتكلم في ذلك، فمن الناس من يقول: هذه امرأة، والعقد زواج، فيحل لي منها كل شيء، فأقول: إذا كان يحل لك منها كل شيء، فلم لا تنقلها إلى بيتك بمجرد العقد؟ واسمحوا لي أن أقول: هناك حالات كثيرة جداً ترخص فيها العاقد، فأتى المعقود عليها وهي في بيت أبيها فحملت، ثم غير العاقد رأيه في إتمام هذا الزواج، فلك أن تتصور هذا البلاء، وعندما حدثت واحداً من هذه الأشكال قال: وماذا علي في ذلك، أهو حرام؟! قلت: تعريض هذه المرأة للألسنة الحداد في المجتمع أليس حراماً؟ قال: ومالي وما للناس؟ قلت: النبي عليه الصلاة والسلام احتاط لكلام الناس، فقال لـ عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم)، يعني: عمل بكلام الناس، ولما أشير إليه بقتل المنافقين قال: (أتريدون أن يصبح الناس فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه؟)، فهؤلاء تظاهروا بالصحبة وهم كفار منافقون، ولكن ظاهر الأمر أنهم مسلمون، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فترك قتلهم للمفسدة العظيمة التي يمكن أن تنجم عن هذا القتل. فتصور لو أن امرأة جامعها العاقد ثم غير رأيه في ذلك، لكن هذه المرأة حملت من هذا الجماع، فأنا لا أقول: إنه زنا، لكن أقول: إن العاقد تعدى حده وليس له الجماع في فترة العقد، وإنما الجماع في ليلة البناء، وهذا الكلام عليه أدلة من الكتاب والسنة، ومن واقع أفعال السلف رضي الله عنهم أجمعين. فهنا لو أن المرأة حملت وتقادم حملها حتى بلغت الشهر الخامس أو السادس أو السابع ولم يتيسر أمر الزوج لإتمام البناء، لا يوجد شقة لا يوجد نقود حتى يشتري غرفة نوم مستهلكة، فهو فقير لا يملك شيئاً؛ فماذا يقول الناس عن هذه المرأة؟ هل يقولون: إن هذه المرأة جامعها زوجها، أم يقولون: إن هذه المرأة زانية؟ لابد أنهم يقولون: زانية؛ ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يقول: من عرّض عرضه لكلام الناس فلا يلومن إلا نفسه، فلماذا أنا أعطي للناس هذه الفرصة؟ بل يجب أن أرتفع عن هذا الأمر الذي أرى أنه باطل، وأنظر إليه بعيني. كما أنه بلاء عظيم جداً حينما تكون هناك اثنتا عشرة مسلمة متزوجات من نصارى، وهذا في مدينة مصر، طبعاً هذا النكاح لا أقول: نكاحاً فاسداً، ولا نكاح شبهة، بل هذا النكاح باطل لم ينعقد من أصله، ويجب التفريق بين هؤلاء النسوة وبين هؤلاء النصارى.

النصح بدراسة بعض الكتب في علوم القرآن

النصح بدراسة بعض الكتب في علوم القرآن Q دلني على كتاب في علوم القرآن الكريم؟ A هناك كتاب للزركشي، وكذا كتاب للسيوطي، فكتاب الزركشي: البرهان في علوم القرآن، وكتاب السيوطي: الإتقان في علوم القرآن.

حكم قول المرء إن الله موجود

حكم قول المرء إن الله موجود Q هل يجوز أن أقول: إن الله موجود، وهل هي من الكلمات التي تخالف العقيدة؟ A إن هذا المصطلح لم يكن معروفاً عند السلف، لكن الحرج أن تقصد بقولك: (موجود) أنه مفعول، أي: أن الله لم يكن ثم كان؛ لأن موجود على وزن مفعول أي: مخلوق، وكلها على وزن واحد، فإذا كان هذا المعنى هو المقصود فهو بلا شك كفر ظاهر، أما إذا كنت تقول (موجود) بمعنى: واجد، وهذا الكلام ما أكثره في لغة العرب: مفعول بمعنى: فاعل، فإذا كان هذا هو القصد والغرض فلا بأس به، والأولى تركه؛ لأن هذا المصطلح لم يكن يعرفه السلف.

حكم ترقيع غشاء البكارة

حكم ترقيع غشاء البكارة Q ما حكم ترقيع غشاء البكارة -أي: إعادته مرة أخرى- مع العلم أنها عملية سهلة جداً، ويستطيع أن يقوم بها طالب في السنة الثالثة من كلية الطب؟ A السائلة نظرت إليها من جهة أنها عملية سهلة، من جهة معالجة البلاء الذي نزل بها، أو أنزلته هي بنفسها، لا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الغش والتدليس، أن يتزوج رجل امرأة على أنها بكر، ولها غشاء بكارة صناعي، حتى إذا دخل بها فض غشاء البكارة، ونزل منها الدم، وليس هو الغشاء الأول لها، فهذا بلا شك باب عظيم جداً من أبواب الغش، وهذا عيب لو اطلع عليه الزوج بعد البناء لجاز له أن أن يفسخ النكاح؛ لأن هذا عيب مؤثر في الزواج، كما لو أن امرأة تزوجت رجلاً فوجدته عنيناً -أي: لا يقدر على جماع النساء- فهذا غش أم لا؟ وإذا تزوجت امرأة رجلاً على هذا النحو فهل لها الحق في طلب الفسخ فوراً مع الاحتفاظ بجميع الحقوق الزوجية أم لا؟ A لها الحق؛ لأن هذا عيب مؤثر في إتمام الزواج، وأنت ستتزوج امرأة على أنها حرة محصنة عفيفة، فإذا بها غير ذلك، فهذا بلا شك عيب عظيم جداً، يهتك حرمة البيت من أول لحظة؛ فليست القضية متعقلة بأن هذه عملية سهلة أو صعبة، القضية أعظم من ذلك.

حكم جمع أكثر من نية في صوم نافلة

حكم جمع أكثر من نية في صوم نافلة Q هل يجوز جمع أكثر من نية في صيام النافلة؟ A نعم. تعدد النيات في النوافل أمر جائز، وهذا مذهب جماهير العلماء. فمثلاً أنت تصوم ستاً من شوال يوم الإثنين والخميس بنية الجمع بين الست من شوال وبين سنة الإثنين والخميس، كما أنك تصلي ركعتين في المسجد بنية تحية المسجد، وبنية السنة القبلية، وسنة الوضوء وغير ذلك، كل هذا جائز لك.

حكم رد السلام على المرأة في حالة عدم خشية الفتنة

حكم رد السلام على المرأة في حالة عدم خشية الفتنة Q هل يجوز رد السلام على المرأة في حالة عدم خشية الفتنة؟ A يجوز على أن يكون سراً، على اعتبار أن هذا السلام قد ألقي، ورد السلام مع خشية وجود الفتنة لا يجوز؛ لأن درء الفتنة هو من رفع الضرر عن العبد، فينبغي أن يرد السلام ليتحقق في حقه الواجب، ولكنه يخفض به صوته حتى لا تتأثر المرأة بصوته.

حكم مصافحة الرجل زوجة خاله

حكم مصافحة الرجل زوجة خاله Q هل يصح لي أن أصافح زوجة خالي؟ A لا يصح لك ذلك؛ لأنها امرأة أجنبية عنك، بل لا يصح لك أن تجلس معها ولا أن تنظر إليها.

حكم التحدث مع الأجنبيات وحكم مخالطة النساء الرجال

حكم التحدث مع الأجنبيات وحكم مخالطة النساء الرجال Q هل التحدث مع الأجنبيات في التلفون أو غيره محرم، وما هو الضابط إن لم يكن محرماً؟ A إن التحدث مع الأجنبيات في التلفون أو في غير التلفون مرهون بالحاجة والضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، ولا يجوز لأحد أن يتعدى حد الضرورة رجلاً كان مع امرأة أو امرأة مع رجل، والزيادة على حد الضرورة تحرم على المتكلم والمستمع، وأكثر من يخالف في ذلك النساء على الهاتف، وكان نساء السلف لا يتكلمن مع الرجال إلا على قدر الضرورة فقط، والمرأة التي عندها دين ينبغي عليها إذا حضرت إلى المسجد لتسمع الدرس أن تنصرف بعد الدرس وقبل أن ينصرف الرجال، وأي امرأة تدخل المسجد مع زوجها تواعده قبل انتهاء الدرس أو فور انتهاء الدرس في مكان بعيد خارج نطاق المسجد، على نفس الشارع، أو قارعة طريق بعيد؛ حتى لا تزاحم الرجال في الدخول والخروج، هذه المرأة المحترمة التي عندها دين وعندها أخلاق، وتربت في بيت أبيها وأمها، أما امرأة تزاحم، وتخرج وتشتري وتبيع، وتخالط الرجال وترفع صوتها فهذه أخلاق عجيبة! ونحن ما تربينا على هذه الأخلاق، إنما تربينا على أننا كنا نذهب إلى أصدقائنا وزملائنا أيام الابتدائية والإعدادية؛ فإذا رأتنا المرأة التي تقف أمام بيتها ونحن في أول الشارع تدخل بيتها وتغلق بابها، هذه الأخلاق التي تربينا عليها من قبل، بغير ديانة وبغير فقه ولا شرع، فما بالك لو طبق الخلق دين الله عز وجل؛ لكان ذلك في قمة التمام والكمال!

حكم جمع الرجل بين المرأة وزوجة أبيها

حكم جمع الرجل بين المرأة وزوجة أبيها Q هل يجوز الجمع بين الزوجة وزوجة أبيها؟ A نعم. يجوز، امرأة ماتت أمها فتزوج أبوها امرأة أخرى ثم مات عنها، فبقيت هذه المرأة زوجة لرجل، فأراد الرجل هذا أن يتزوج في وجود هذه المرأة تحته زوجة أبيها، يجوز له ذلك؛ لأنها ليست زوجة أبيه هو، ولا هي عمتها ولا هي خالتها، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما نهى أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، أما زوجة أبيها فيحل له أن يجمع بينها وبين هذه المرأة، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. أقول قولي هذا. وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية وأمره العقلاء بلزوم بيوتهم

شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية وأمره العقلاء بلزوم بيوتهم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستظهر فتن كقطع الليل المظلم، وحذر منها أشد تحذير، وأمرنا بالفرار منها إلى البيوت، وكسر السيوف، وتفادي الشر أينما كان، وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة بينة من معجزاته وعلامة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان القدوة الحسنة في كيفية التعامل مع هذه الفتن.

باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره بلزوم البيوت ولزوم العقلاء بيوتهم

باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره بلزوم البيوت ولزوم العقلاء بيوتهم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى: [باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره لهم بلزوم البيوت وفضل القعود، ولزوم العقلاء بيوتهم، وتخوفهم على قلوبهم من اتباع الهوى، وصيانتهم لألسنتهم وأديانهم]. هذا باب في غاية الأهمية، ويتعلق غالبه بموقف المسلم من الفتن، أي: إذا قامت فتنة عامة فماذا يكون على المسلم أن يتصرف، وكيف يتصرف والحالة هذه؟ الفتنة العامة بخلاف الفتن الخاصة، فالفتنة الخاصة لكل مسلم أن يتصرف فيها بمقتضى الشرع، لكن الفتن العامة هي البلاء العام الذي ينزل بالمسلمين يستأصل شأفتهم.

بيان كيف يتصرف المؤمن مع الفتن العامة

بيان كيف يتصرف المؤمن مع الفتن العامة فماذا على المؤمن؟ وكيف له أن يتصرف والحالة هذه؟ فمن الفتن العامة الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، كما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فماذا ينبغي أن يكون حال المسلم الذي ليس طرفاً بينهما؟ الأمر كما قال أهل العلم: إن المسلم حينئذ على ثلاثة أقسام: القسم الأول: إذا كان من أهل النظر والاجتهاد، فتيقن أن الحق مع فلان دون الآخر؛ فيجب عليه أن ينصر صاحب الحق. وإذا ترجح لديه أن الآخر هو الذي معه الحق، فينبغي عليه أن ينصر الآخر؛ لأن هذا هو الذي تجب الإعانة في حقه، وأما إذا لم يترجح له أيهما على الحق؛ فينبغي أن يتوقف، لا يلحق بهذا ولا بذاك، هذا لمن كان له نظر واجتهاد. أما لو أنه قعد ولم ينظر ولم يجتهد في الأمر في حال الفتنة العامة؛ فبلا شك هذا موقف، وحالة أحسن من سابقتها، حتى لو كان صاحب اجتهاد ونظر، ولكنه آثر ألا يجتهد، وألا ينظر في هذه القضية، ويلزم بيته، ويكون حلس بيته؛ فهذا بلا شك أفضل له بكثير، وأنجى له من الأمر الأول. أما عامة الناس فلا عبرة بعملهم وبأقوالهم، والواجب في حقهم أن يلزموا بيوتهم، وأن يسمعوا كلام أهل العلم وأن يطيعوا، هذا فيما يتعلق بالفتنة العامة في الزمن الأول. من الفتن العامة التي نزلت بالمسلمين حديثاً فتنة العراق والكويت. في الحقيقة يا إخواني! إذا وقعت فتنة عامة، أي: بلاء عام نزل بأهل الإسلام؛ فإن الأصل فيه أن الذي يتصدى له ويجتهد فيه هم أهل العلم الثقات الأثبات المجتهدون، لا طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس، وإذا قلت: (لا طلاب العلم) فلا أقصد جموع الملتحين؛ لأن غالب الملتحين ليسوا طلاب علم ابتداء، فإذا قلنا: طلاب علم، أي: من هم دون العلماء. أما عامة طلاب العلم وعوام المسلمين من الإخوة وغيرهم؛ فلا يحل لهم أن يتفوهوا ببنت شفة فيما يتعلق بفتنة عامة نزلت بالمسلمين. وهذا على خلاف ما رأيناه وسمعناه منذ عشر سنوات في فتنة العراق والكويت وبلاد الحجاز وغيرها، واستقدام الكفار إلى ديار المسلمين. الأصل: أن أهل العلم يتكلمون ونحن نسمع ونطيع، لكن هذه الفتنة التي نزلت بالمسلمين كان آخر من تكلم فيها أهل العلم، ليس لأنهم تقاعسوا ولم يؤدوا الواجب الذي أنيط بهم، ولكنها العجلة من الجهال وعامة الطلاب أن تصدروا، وكلفوا أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به، فمنهم من أفتى بالجواز، ومنهم من أفتى بالمنع، ومنهم من توقف وغير ذلك. حتى الذي اجتهد وتوقف جعل نفسه في دائرة التوقف، وهذا نوع من أنواع الاجتهاد كذلك، يعني: هو اجتهد فتوقف، والأصل ألا يجتهد، بل الأصل ألا يخطر على باله شيء؛ لأن هذه ليست مهمته. كما لو أنك رأيت مريضاً يتلوى من الألم، هل تفكر أن تجري له عملية وأنت لست طبيباً؟ A لا، لا تفكر في ذلك؛ فيلزمك أن تمسك في أمر الشرع، وكذلك عما لم يكلفك الله تعالى به. فنجد في هذه الفتن عامة أن الكل يسأل، والكل قد انشغل بحكم الشرع في هذه القضية، ليس لأنه يريد أن يعلم حكماً شرعياً، ولكنه يريد رأياً معيناً وفتوى بعينها، فإذا سمع غيرها اعترض، وربما أساء الأدب مع مفتيه، وهذا بلا شك خروج عن حد الشرع، وعن المألوف عند أهل العلم من الآداب التي يجب أن يتخلق بها طلاب العلم. فهذه آثار ذكرها الإمام ابن بطة في هذا الباب تبين حال المسلم إذا نزلت فتنة عامة، فكيف يتصرف؟

حديث محمد بن مسلمة أن الفتنة لا تضره

حديث محمد بن مسلمة أن الفتنة لا تضره قال: [قال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري: لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج محمد بن مسلمة] وهو رجل من كبار الأنصار ومن كبار الصحابة، [قال: خرج إلى البرية فضرب بها خباء، وقال: لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي بما تجلت]. أي: حتى تنقشع هذه الغمة، ومقتل عثمان رضي الله عنه كان بلية ورزية، وأي رزية نزلت بالأمة، أن يقتل خليفة راشد، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وهو زوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، وله من المنزلة ما له، رجل تستحي منه الملائكة، وله من الفضل والعلم والورع والذكر والعبادة بل هو من المبشرين بالجنة صراحة. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة) وغير ذلك من فضائله رضي الله عنه، فكونه يقتل وعلى يد المصريين بتحريك من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي زعم ظاهراً أنه أسلم، وليس الأمر كذلك. فخرج محمد بن مسلمة بعد مقتله وضرب لنفسه خباء في الصحراء، وقال: لا أدخل بلداً قط حتى تنقشع هذه الغمة، مع أن ابن مسلمة قد بشر في غير ما نص منه عليه الصلاة والسلام أن الفتنة لا تضره. يعني: لو بقي في المدينة -وهي محل مقتل عثمان بن عفان - لما كان داخلاً في الفتنة، أو متخوضاً فيها، ولكنه آثر أن يبتعد عن الفتنة كلها، فانظروا إلى موقف هذا الصحابي الجليل الفقيه العالم العابد؛ يهرب من الفتنة كالهروب من الأسد وزيادة. أما نحن فبجهلنا وجرأتنا نرى الفتنة خامدة نائمة، فنكون أول من يوقظها، دائماً نلج فيها، الواحد منا يسأل عن فتنة بعينها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، حتى يدخل فيها برأسه. كان لي أخ من ليبيا يحضر معنا منذ أعوام مضت في مسجد التوحيد لا يسألني إلا عن فتنة، ونصحته مراراً، قلت له: يا فلان! أرجو أن تستغل بقاءك هنا، أرجو أن تطلب العلم، الطريق الذي أنت فيه ليس هو الطريق الصحيح السليم، وكم نصحته مراراً حتى استبعد من البلاد، وذهب إلى بلد من بلاد أوروبا، وقد حدثني في الأسبوع الماضي رجل أتى من عنده، فقال: إنه فتن تماماً، وترك الصلاة والصيام، لم يصم رمضان الماضي، وأخذ يشرب الخمر ويأتي النساء. يا إخواني! سنن الله تبارك وتعالى الكونية لا تتبدل ولا تتغير، الله تعالى إذا أمرنا فخالفناه فإن جنود الله كثيرة، يسلط عليك جنداً من جنده يهلكك وأنت لا تدري. فهذا اختار طريقاً ليس هو طريق الطلب، وليس هو طريق العلم؛ فعاقبه الله تعالى بأن فتنه في دينه، كيف لا وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! هذا نموذج من نماذج متعددة كثيرة في مصر وفي غيرها، الذي يتنكب عن شرع الله لا بد أن تنزل به عقوبة آجلاً أو عاجلاً، وهو يتأول هذه العقوبة ويخفى عليه أنها نزلت من السماء بسبب انحرافه. وصدق النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه). الذي يتنطع في الدين لا بد أن يرجع إلى الطريق الجادة والاستقامة إذا كان صادقاً موفقاً مسدداً، وإلا فلا بد أن ينقطع به الطريق، ويضل السبيل. قال محمد بن مسلمة: (لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة بما تجلت)، أي: بما نزلت به من بلاء. قال: [وعن حذيفة قال: (ما أحد تدركه الفتنة إلا وأنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة لا تضره)]. كأنها خاصية لـ محمد بن مسلمة رضي الله عنه. قال: [وعن ابن ثعلبة قال: سمعت حذيفة يقول: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة: محمد بن مسلمة، قالوا: فخرجنا من الكوفة فإذا فسطاط -أي: خيمة- خارج منها، وإذا فيه محمد بن مسلمة، فأتيناه فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم]، أي: لا أريد أن أساكن أهل الفتنة في ديارهم، ولا في بلادهم، [حتى تنجلي الفتنة التي دخلوا فيها].

حديث سعد بن أبي وقاص في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه

حديث سعد بن أبي وقاص في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه قال: [وقال سعد بن أبي وقاص عند فتنة مقتل عثمان: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي. قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي أو بسط إلي يده ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم الذي قال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29])]. ولعل شبهة تطرأ على بعض العلماء، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، ليس هناك أدنى تعارض بين هذين؛ لأن هذا الحديث في الفتنة الخاصة، أما الأحاديث التي بين أيدينا ففي الفتنة العامة. فلو أن رجلاً دخل عليك ليغتصب امرأتك؛ وجب عليك الدفاع عنها وعن عرضك: إما أن تقتله، وإما أن يقتلك. وإذا أراد أحد أن يأخذ مالك حتى وإن كان مسلماً، فدخل عليك بيتك، فقاتلك ليأخذ مالك؛ فقاتلته، فإن قتلك فأنت شهيد، وإن قتلته فلا دية ولا قصاص عليك، فهذا كله في الفتنة الخاصة، أما الفتنة العامة فاهرب منها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وإن دُخِلَ عليك في بيتك فسلم نفسك للقتل، لا شيء عليك، بل أنت مأجور غير مأزور، وأما المأزور فهو الذي قتلك، هذا في الفتنة العامة؛ ولذلك قال له: (أفرأيت إن دخل علي بيتي، أو بسط إلي يده؟) فماذا كان الجواب؟ كان جواب سعد بن أبي وقاص أن قال: كن كابن آدم الأول الذي قال: ((مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ))، يعني: اقتلني إذا كنت تريد ذلك.

حديث أبي بكرة في كيفية التصرف مع الفتن العامة

حديث أبي بكرة في كيفية التصرف مع الفتن العامة قال: [وعن أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتن، ثم تكون فتنة؛ ألا فالماشي فيها خير من الساعي إليها، والقاعد فيها خير من القائم فيها، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله)]. انظر إلى هذا الحديث وجماله وروعته، يقول: إذا نزلت الفتنة العامة وأنت صاحب غنم؛ فانشغل بغنمك، تصور لو أن فتنة عامة نزلت الآن -نسأل الله السلامة- فماذا يكون؟ كل الناس يدعون أعمالهم ويتحولون للتفكير في هذه الفتنة، مع أنهم غير مطالبين بهذا، إنما المطالب بهذا هم العلماء. الآن إذا أتيت لأجهل الجهلاء، وهو شخص راسب في الابتدائية، وكل ما في الأمر أنه إنسان ملتح، ولابس ثوباً أبيض، فإذا نزلت فتنة عامة أو خاصة لا فرق في ذلك عنده؛ لأنه لا يميز بين الخاصة والعامة، لكنه يجعل نفسه مسئولاً أن يفتي في هذه النوازل؛ ولذلك يقول العلماء: لو سكت الجاهل لقل الكلام، لكن إذا نزلت نازلة تجد فيها ألف فتوى في كل حي؛ لأن كل واحد يقول ما يريحه، كما لو سئل عالم من العلماء في مسألة وحوله طلاب، لوجدت أن هذا الطالب يفتي فيها برأيه، وذاك يفتي فيها برأيه، والثالث برأي ثالث، وكل واحد من الموجودين -إلا من رحم الله- يفتي فيما سمع من فلان بفتوى معينة على حسب اجتهاده. والعالم لم يتكلم بعد، ينظر إليهم ويتعجب من سوء الأدب، مندهش من هذه الأخلاق الرديئة، والسؤال إنما وجه إلى العالم، والذي أجاب مجموع الطلاب، أمر عجيب جداً، أخلاق لا تتناسب حتى مع اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين، فضلاً عن طلاب علم. فينبغي على الجميع أن يتأدب بآداب العلم وأهله قبل أن يطلب العلم، فكم من إنسان طلب العلم وفقد الأدب، ففقد معه كل شيء. قال عليه الصلاة والسلام عن هذه الفتن: (القاعد فيها خير من القائم، والماشي خير من الساعي، والمضطجع خير من القاعد). كأنه يحض الناس جميعاً ألا يلجوا في هذه الفتن، وكلما تأخر المرء كان أفضل من غيره الذي تقدم وولج في هذه الفتن، ونصح كل واحد أن يلحق بعمله، وإن لم يكن له عمل إلا على غنمات أو إبل، أو أرض، أو زرع؛ فلينشغل بها ولا علاقة له بهذا. تصور أن هذا الحديث يوجه إلى أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه، أو يوجه إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا تشريع عام للأمة كلها. قال: [(فقال له رجل من القوم: يا نبي الله! جعلني الله فداك، أرأيت من ليس له غنم ولا أرض ولا إبل؟ قال: فليأخذ سيفه، ثم ليعمد إلى صخرة، ثم ليدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة)]. شخص ليس عنده غنم ولا إبل ولا زرع، يعني: جالس يفكر بالنوازل والبلاء، ماذا يصنع يا رسول الله؟! قال: يأخذ سيفه الذي أعده، ثم يأتي إلى صخرة قوية ويضرب بحد سيفه هذه الصخرة حتى يفسد سيفه؛ لأنك لو أتيت بالسكين وطفقت تضرب به البلاط أو الحائط بحده الذي يقطع؛ فإنه لا بد أن تكسر السكين؛ ولذلك قال: يأخذ سيفه فيضرب به الصخرة أو الحجر حتى يفسد لينجو حينئذ؛ لأن العرب ما كان يدخلون في قتال إلا ومعهم سيوفهم ورماحهم، وغير ذلك من آلات الحرب التي أعدوها لهذا الغرض. إن الفتنة أمر عجيب جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: أعدوا لها ما استطعتم، وإنما قال: اكسر سيفك والزم بيتك؛ هذا هو فقه الفتن، أن ينجو الإنسان منها بقدر الطاقة ويهرب منها. أيها الأخ الكريم! لك أن تتصور أن الفتنة هي عبارة عن سبع ضارٍ لم يطعم منذ أيام أو أسابيع، ثم أطلقوا هذا السبع عليك، فماذا يكون عملك؟! فينبغي أن يكون فرارك من الفتنة أعظم من فرارك من هذا السبع؛ لأن السبع مهما أكل سيأكل بدنك، أما الفتنة فإنها تأكل قلبك، وتأكل دينك، وهذا أخطر من أكل بدنك؛ لأنك لو مت مع سلامة قلبك، أو سلامة دينك؛ لكنت من الناجين. أما لو مات دينك، ومات قلبك وأنت حي، فأنتم تعلمون أن أكثر أهل الأرض على هذا النحو: أجسام كالبغال، وقلوب حمقى مغفلين، لا يحلون حلالاً، ولا يحرمون حراماً، لا يعرفون لماذا خلقوا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: [(ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! قال: يا رسول الله! جعلني الله فداك، أرأيت إن أخذ بيدي مكرهاً حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين، فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني، فماذا يكون من شأني؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يبوء بإثمك، فيكون من أصحاب النار)]. يقول: يا رسول الله! تصور لو أني لزمت بيتي وكسرت سيفي كما أمرتني، وأتى رجل وأكرهني، وأخذني من يدي حتى وضعني في الصف وأنا كاره، فأصابني سهم فقتلني، فماذا علي؟ قال: ليس عليك شيء، قال: فماذا على الذي أكرهني؟ قال: (يبوء بإثمك؛ فيكون من أصحاب النار).

حديث عبد الله بن مسعود في كيفية التصرف مع الفتن

حديث عبد الله بن مسعود في كيفية التصرف مع الفتن قال: [وعن عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه] وأبوه وابصة الأسدي من كبار الصحابة، [قال: إني لفي داري بالكوفة، إذ سمعت على باب الدار: السلام عليكم أألج؟]. وهذه العبارة كانت معروفة عند العرب، أما في الإسلام فيقال: أأدخل؛ ولذلك (أتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعد أن طرق الباب: أألج؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: اذهب فعلمه كيف يستأذن، فقال أنس للطارق: إذا أتيت قوماً فاطرق عليهم ثلاثاً وقل: أأدخل)، أي: لا تقل: أألج، لكن هذا الطارق الذي طرق على وابصة قال: [أألج؟ قلت: وعليكم السلام. فلج]، أي: فادخل. [قال: (فدخل فإذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أية ساعة زيارة هذه في نجد الظهيرة؟)]، ما الذي أتى بك في عز الحر، وليست هذه الساعة ساعة يتزاور فيها الناس، بل هذا وقت قيلولة وراحة، فقال: قد وقع أمر عظيم، ونزلت بلية عظيمة، آل علي النهار، فذكرت من أتحدث إليه. قال وابصة: (فجعل يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب خير من المجري، قتلاها كلها في النار، فقلت: يا رسول الله! فمتى ذلك فينا؟ قال: أيام الهرج. قلت: وما أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه)]، علامة من العلامات، أيام الهرج، والهرج: هو الفتن والافتراق والاختلافات والقتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك علامة قال: (حين لا يأمن الرجل جليسه). يعني: يجالس الرجل أخاه، لكنه يحذر منه كل الحذر، [(قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: اكفف يدك ونفسك، وادخل في دارك، قلت: أرأيت إن دخل علي داري؟ قال: فادخل بيتك)]، الرجل لو دخل في بستانه أو حديقته اللاحقة للبيت فقد دخل داره. قال: فإذا دخل علي داري؟ قال: (ادخل بيتك)، أي: ادخل المكان الذي أعد لأهل البيت، [(قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: فادخل مسجدك)]، والمسجد: هو المكان الذي اتخذه الرجل في بيته مكاناً لصلاته وسجوده. قال: [(فادخل مسجدك واصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع)]، يعني: ضم إليه يده ولم يطلقها؛ أي: حتى لا تؤذي الداخل، ولا تقاتل بها الداخل، كأنه يقول له: اضمم إليك جناحك، واضمم إليك نفسك، وكف لسانك وكف يدك. قال: [(وقل: ربي الله حتى تقتل على ذلك)]، أي: على هذه الحالة، فالنبي عليه الصلاة والسلام هنا يدل على النجاة بلا شك. والفرق بين الفتنة العامة والفتنة الخاصة: أن الفتنة الخاصة هي فتنة الرجل في ماله، وفي أهله، وفي ولده، وفي زوجه، وبينه وبين أهله. أما الفتنة العامة: فهي التي تنزل على عموم المسلمين، ليست متعلقة بكل شخص على حدة.

أحاديث أبي موسى الأشعري في أن هناك فتنا كقطع الليل المظلم

أحاديث أبي موسى الأشعري في أن هناك فتناً كقطع الليل المظلم قال: [وعن زيد بن وهب قال: أتينا أبا موسى الأشعري فذكر الفتنة، فقال: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فتركناه وأتينا حذيفة]. وأنتم تعلمون أن حذيفة متخصص في باب الفتن وأشراط الساعة. قال: [وأتينا حذيفة فقال: أتتكم الفتنة السوداء المظلمة المحبطة، ما أبالي في أيتها رأيتك. وربما قال: عرفت وجهك، قتلاهم قتلى الجاهلية. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة -أي: قرب قيام الساعة- فتناً كقطع الليل المظلم)]. انظر إلى هذا التصوير! الفتن كقطع الليل، وشبه الليل بالقطع والأجزاء، كلما ذهبت قطعة كانت الثانية في إثرها، ظلمة وسواد. قال: [(يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي؛ فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة؛ فإن دُخِلَ على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)]. (فإن دخل على أحد منكم)، أي: في بيته، فليكن موقفه من هذا أن يسلم نفسه، حتى ولو كان ذلك للقتل؛ لأن هذا هو النجاة، وهذا هو الخير. قال: [وعنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)]. هل تتصور هذا التقلب؟ رجل في أول النهار مؤمن، وفي آخره كافر، وفي آخر النهار مؤمن وفي الصباح كافر، لك أن تتصور هذا التقلب في أثناء الفتنة، فأنت في هذه الفتنة ملزم أن تدخل بيتك، وأن تغلق عليك بابك، وإذا دخل عليك بهذه الفتن العامة؛ فلا بأس أن تكون أنت المقتول، [(قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: كونوا أحلاس بيوتكم)]، فمهمتك في هذه الفتنة أن تدخل بيتك. والأحلاس: جمع حلس، والحلس: هو الغطاء الملاصق لظهر البعير. فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول: إذا وقعت فتنة فالزموا بيوتكم ولا تشاركوا فيها.

أحاديث الضحاك بن قيس والمقداد في تقلب المرء في دينه أثناء الفتن

أحاديث الضحاك بن قيس والمقداد في تقلب المرء في دينه أثناء الفتن قال: [وعن الحسن: أن الضحاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم: سلام عليك! أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع قوم خلاقهم -أي: حظههم من الآخرة- ودينهم بعرض من الدنيا). وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً)]. قلب ابن آدم أسرع في تقلبه من القدر إذا وضعت على النار فوصلت درجة الغليان، فانظروا إلى الذي بداخل القدر من تقلب واختلاف، فكذلك قلب ابن آدم، بل أسرع في تقلبه من القدر إذا استجمعت غلياناً. قال: [وقال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، يرددها ثلاثاً)]. وهذا الكلام لا يخرج إلا من النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: لا يصلح أن يكون إلا كلام نبوة: (إن السعيد لمن جنب الفتن)، أي: السعيد حقاً هو الذي يتجنب الفتنة، أو أن الله تعالى يلهمه أن يتجنب هذه الفتنة، أو يبعده عنها، هذا هو السعيد حقاً، ردد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً. قال: [وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن المقداد بن الأسود الكندي قال: جاءنا المقداد لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، فجلس ثم قال: العجب من قوم مررت بهم آنفاً يتمنون الفتنة، يزعمون ليبلينهم الله فيها ما أبلى رسوله وأصحابه]. وهذا دائماً أيها الإخوة! هو ما تحدثنا به أنفسنا، نقول: نحن لو كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام لنصرناه وعزرناه وأيدناه. أولاً: ماذا ستفعل مما فعل الصحابة؟ ولو أن الله تعالى علم فيك خيراً لجعلك من أهل ذلك القرن، فنحن لم نر النبي عليه الصلاة والسلام، لكننا آمنا به، وإيماننا يحتاج إلى إيمان آخر، وتصديقنا للنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تصديق؛ لأننا نأخذ من الدين ما وافق أهواءنا وأفئدتنا وأمزجتنا، هذا لا يصدق أن يكون من مؤمن إلى قيام الساعة، فضلاً أن تتمنى أن تكون من أهل القرن الأول، وأن تكون من أصحابه رضي الله عنهم. فقال المقداد: (عجبت لقوم مررت بهم الآن قبل أن آتيكم يتمنون الفتنة؛ يزعمون أنهم لو وقعوا في الفتنة لأبلوا فيها بلاء حسناً كما أبلى النبي وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين). قال: [والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السعيد لمن جنب الفتن ثلاثاً، ولمن ابتلي فصبر فواها، لايم الله لا أشهد على واحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه، لحديث سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام. قال: لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً)].

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو كيف يتصرف عندما يكون بين حثالة الناس

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو كيف يتصرف عندما يكون بين حثالة الناس قال: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس)]. والحثالة: هي ما يسقط من قشر الشعير والأرز، أو هو الحشف الرديء من التمر، أو سائر المطعومات. قال: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)، أي: في سقط الناس ورعاعهم، ليس فيهم أهل تقوى ولا أصحاب دين ولا غير ذلك، فماذا تصنع؟ [(قال: قلت: يا رسول الله! كيف ذاك؟)] سؤال فيه تعجب! أي: هل يبلغ الأمر بالناس إلى أن يكونوا حثالة؟ [(قال: مرجت عهودهم وأماناتهم؛ فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)]. يعني: اختلط الحابل بالنابل، واختلط الطيب بالخبيث، ولم يعرف الحرام من الحلال، وإن عرفوه لم يلتزموا الحلال، ولم ينتهوا عن الحرام؛ أمور كلها تداخلت، فكان الليل فيه نهار، والنهار فيه ليل، اؤتمن فيها الخائن، وخون فيها الأمين، وكذب فيها الصادق، وصدق فيها الكذوب، وغير ذلك كما هو واقع المسلمين اليوم. إن أحاديث هذا الباب علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، أخبر بالأمور الغيبية التي تكون فكانت، وتعيشها الأمة منذ زمن بعيد، ولا زالت تعيشها وتغرق في هذا البلاء. ٌ [(قال: قلت: فما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟! قال: اتق الله! وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك خاصتك، ودع عنك أمر العوام)]. أرأيت العلاج؟! النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اتق الله! هذه أول وصية، وهي وصية الله تعالى للأنبياء والمرسلين: (اتق الله، وخذ ما تعرف)، الذي تعرف أن الشرع قد عرفه فالزمه. (ودع ما تنكر) أي: الذي أنكره الشرع فأنكره واتركه، ولا تعمل به، (واجتهد في خاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام)، فهذه خمس وصايا نبوية للخروج من الفتن.

بيان معنى قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)

بيان معنى قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال: [وعن أبي أمية الشعباني قال: (أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]؟ فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)]؛ لأن هذه الآية لم يفهمها كثير من الناس، حتى قرأها أبو بكر رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هذه الآية فتفهمونها على غير وجهها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ))، أي: بعد أدائكم لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضركم شيء. وبعض الناس يفهم هذا أنه ملازمة البيوت، وترك الدعوة إلى الله عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: ما لي وما للناس وقد ضلوا، والله تعالى أمرني بخاصة نفسي! نقول: ومن خاصة نفسك أن تعتذر إلى الله عز وجل بتبليغ الناس دينهم، وحملهم على المعروف، ونهيهم عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضرك إذا ضل الناس، ولم تنفعهم دعوتك. قال: [(ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً)]، البخيل الشحيح الذي يطاع، [(وهوى متبعاً)]، كل واحد يتبع هواه، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]. [(ودنيا مؤثرة)]، الدنيا مقدمة على الدين، [(وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع أمر العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله! خمسين منهم؟ قال: بل منكم)]. ففي هذه الأيام وفي هذه الفتن الذي يأتمر بأوامر الشرع، وينتهي بنواهيه، ويدعو إلى الله تعالى، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويلزم الشرع ظاهراً وباطناً؛ له أجر خمسين من الصحابة. وهذا لا يعني أنه أفضل من الصحابة، فلا أحد في الأمم كلها بعد الأنبياء والمرسلين أفضل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.

إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هناك فتنة صماء بكماء عمياء

إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هناك فتنة صماء بكماء عمياء قال: [وعن الحكم بن مسعود البحراني أن أنس بن مزيد الأنصاري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتنة بكماء صماء عمياء، المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن أبى فليمد عنقه)]، يعني: من أبى أن يجتنب الفتن فليدخل فيها، لكنه لا بد أن يعلم أنها ستستأصل شأفته وتأخذ عنقه؛ لأنه قد خالف الأوامر النبوية الآمرة والقاضية بأن يلزم بيته، ويكون حلس بيته، وأن يجتنب هذه الفتن، فلو استشرف إليها استشرفته، ولو مد إليها يده قطعتها، ولو مد إليها عنقه لقطعته كذلك، وهذا شأن الفتن عموماً. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرف له)]، أي: لو تطلَّعْت إليها تطلَّعَت إليك وأخذتك. قال: [(ومن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به)]، أي: من وجد منها فراراً وهروباً فليهرب.

موقف الصحابة من الفتن والنهي عن الدخول فيها

موقف الصحابة من الفتن والنهي عن الدخول فيها

إرشاد عبد الله بن مسعود للناس في كيفية التصرف مع الفتنة

إرشاد عبد الله بن مسعود للناس في كيفية التصرف مع الفتنة قال: [وعن جعفر بن برقان قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلاً من حمير كان يتعلم القرآن عند عبد الله بن مسعود، فقال له نفر من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف؟] يعني: يقولون له: لماذا تدخل على عبد الله بن مسعود؟ قال لهم: لأجل أن أتعلم القرآن، قالوا له: تعال تعلم الكلام والفلسفة والجدل والمنطق قبل أن تتعلم القرآن، فإنك لو تعلمت الكلام فلك أن تتعلم بعده ما تشاء فجعلوا الكلام أصلاً والقرآن فرعاً، وهذا بلاء عظيم جداً، مثلما أننا الآن نمر بأزمات فكرية وفساد دعوي في قطاع كبير من أبناء الصحوة، كل يتبع هواه، ويتبع رأيه، ويعرض عن النصيحة. قال: [فذكر ذلك الحميري لـ ابن مسعود كلام القوم؛ فقال: بلى! فتعلمه؛ فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤّالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل]، أرأيت؟ هذا كلام صادر من ابن مسعود كأنه كلام نبي. قال الحميري: [وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائداً للعمل؟]، يعني: هل يعقل أن يأتي على الأمة يوم من الأيام يكون هواها هو القائد للعمل؟ قال: [قال ابن مسعود: نعم. قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة، وشيد البنيان، وظهرت الأيمان، واستخف بالأمانة، وقبلت الرشوة؛ فحينئذ النجاة النجاة. قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك]. يعني: لو استطعت أن تكون خرقة ملاصقة لبيتك فافعل. [قال: فإن لم أترك؟] اعتبر يا ابن مسعود! أنني جالس في البيت ودخلوا علي. [قال: تسأل دينك ومالك، فاحرز دينك وابذل مالك]. يعني: إذا دخلوا عليك سيقولون لك: تعال. شارك معنا في الفتنة أو أعطنا مالك، فيقول له: احرز دينك وادفع لهم مالك، فإذا كانت القضية قضية مال أو دين يحرز الدين ويبذل المال. [قال: فإن لم أترك؟ أي: بعد أن أخذوا مالي كذلك لم يتركوني. قال: تسأل دينك ودمك، فاحرز دينك وابذل دمك]. يعني: احفظ دينك ولا تشترك في الفتنة، وابذل لهم دمك إذا كانوا يريدون قتلك فدعهم وما يريدون. [قال: قتلتني يا ابن مسعود!] يعني: وصلت معي إلى القتل. [قال ابن مسعود: هو القتل أو النار]. أي: فماذا تختار، فـ ابن مسعود يقول: إن كلامي مبني على أمرين: إما أن تُقتل؛ فتكون من أصحاب الجنة. وإما أن تَقتُل؛ فتكون من أصحاب النار. [قال: هو القتل أو النار. قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي]. ومعناه: أن يكون حلس بيته. [قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع]، يعني: الشديد البائن على الفتن. قال: [وعن عبد الله بن رواع قال: ذكرت الفتنة عند عبد الله بن مسعود. قال: أما أنا فإن وقعت دخلت بيتي، فإذا دُخل علي كنت كالبعير الثقال الذي لا ينبعث إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً]. قوله: (كالبعير الثقال) يعني: بعير كبير في السن، إذا جلس وبرك لا يقوم إلا ثقيلاً، وهذا معنى قوله: (لا ينبعث إلا كارهاً) تضربه ليقوم، وتستخدم معه كل الطرق كي يقف في مكانه، لكن لا يقوم إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً لكبر سنه، هكذا يقول ابن مسعود: أنا في الفتنة أدخل بيتي، فإذا دُخل علي وحملوني على القيام؛ أقوم كما يقوم البعير الثقال، العليل، الكبير في السن، الذي لا يقوم لأول وهلة، ولا يقوم إلا كارهاً. قال: [وعن ابن رواع قال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نرى أموراً نخاف أن تكون لنا فتناً، فإن كان ذلك فكيف نصنع؟ فقال: تدخل دارك، قال: فإن دُخل علي داري؟ قال: تدخل بيتك، قال: فإن دُخل علي بيتي؟ قال: لا أحسبه إلا قال: ادخل مخدعك -أي: المكان الذي تنام فيه- فإن دخل عليك فكن كالجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً، ولا يمشي إلا كرهاً. وعن أبي الدرداء قال: نعم صومعة الرجل بيته]، أي: أحسن مكان للرجل عند الفتنة بيته، [يكف فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق؛ فإنها تلغي وتلهي].

تتابع الفتن حتى يقول الناس إنها سنة

تتابع الفتن حتى يقول الناس إنها سنة قال: [وقال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه. أي: لتصرف المؤمن عن دينه]. هذا شأن الفتن، فتجد الشخص طوال حياته وعمره في الفتنة الخاصة يسعى ويتحرك، ويصور له الشيطان أنه باحث عن الحقيقة، حتى سمى أحدهم نفسه سلمان الفارسي، فقلنا له: ما سبب تسمية نفسك بهذا الاسم؟ قال: لأنني باحث عن الحقيقة، ويقول: إن الله عز وجل ذكر في القرآن الذي هو منقول عندنا بالتواتر الأمر بإقامة الصلاة فقط، لكن أنا ما يدريني أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الظهر أربعاً، وصلى العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟ فهل يمكن أن نتفاهم مع هذا؟! قال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه. قال: [وعن حذيفة قال: إياكم والفتن؛ فوالله ما يشخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة متصلة، حتى يقول الجاهل: هذه سنَّة]. ترد الفتن الأولى وراء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فتكون فتناً متلاحقة إلى أن يألف الناس حياة الفتن. فتصور أن الفتن تنزل بك واحدة فالثانية فالثالثة فالرابعة فالعاشرة إلى أن تألف العيش طوال عمرك في الفتن، فتخرج من فتنة وتدخل في أخرى، فلما كثرت الفتن صارت هي الأصل، وهذا كالبدع تماماً، فالآن لو صدر قرار مثلاً من وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف في وقت واحد بإلغاء القبور من المساجد، وإخراج الموتى منها ونقل عظامهم إلى المقابر، وتطهير المساجد كلها من الشرك والبدع وإقامتها على التوحيد؛ فإن ثلاثة أرباع الأمة سيظل يبكي ويولول ويقول: إنهم خربوا الدين وخربوا الدنيا، وعملوا كذا وكذا، فبذلك تنعدم السنن؛ يقول ذلك لأن السنة بالنسبة له هي البدعة، وطن نفسه على أنها هي البدعة، فلما أزيلت البدع قال: ما بال السنن قد غيرت؟ يقول ذلك لأنه تربى على البدعة، وتربى على الفتنة حتى صارت الفتنة أصلاً، وصارت البدعة أصلاً، فلما غيرت وبدلت البدع والفتن؛ قيل: ما بال السنن قد بدلت وغيرت؟ وليس الأمر كذلك، لكن لإلف الناس للبدع، فقد ألفوها وصارت عندهم أصلاً. قال: [حتى يقول الجاهل: هذه سنة، وتتبين مدبرة، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، وقطِّعوا أوتاركم].

علامات الزمان الذي تظهر فيه الفتن

علامات الزمان الذي تظهر فيه الفتن قال: [وعن قتادة: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة، يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير]. وهذا يدل على أن هذه الفتنة بقيت مدة من الزمان طويلة، حتى إن الذي كان صغيراً أصبح كبيراً، والذي كان كبيراً أصبح شيخاً هرماً. قال: [فتتخذ سنة]، أي: تتخذ هذه الفتنة سنة، [فإذا غيرت يوماً قيل: هذا منكر]، أي: إذا غير هذا البلاء قيل على التغيير: هذا منكر، [وقالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: ذاك إذا قلَّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة]. يذكر أمارات وعلامات لهذا التغيير وهذا التبدل. متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (إذا قل أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم). فأمراؤنا اليوم كثير وكثير، ومنهم من عمره إحدى عشرة سنة، أو تسع سنين، أو ثمان سنوات، وعندنا في مصر كل واحد أمير نفسه، ممنوع على أحد أن ينصحه أو يكلمه أو يغير عليه، ممنوع على أحد أن ينكر عليه، ممنوع على أحد أن يعلمه، كل واحد فينا حر لوحده. قال: (وقل فقهاؤكم). يدل على ذلك مشروع الثقافة الذي بين أظهرنا، ظل هذا المشروع الثقافي شهراً وهو يبحث عن سبعة من المشايخ! قال: (وكثر قراؤكم) وهاهم من الكثرة بمكان. قال: (وتفقه لغير الدين) للرياء، للدنيا، للمال، للجاه، للشهوة، للسلطان لأي شيء. إن الورقة الرابحة الآن أنه يكون إنساناً مثقفاً ويدرس، ويحفظ قليلاً من الآيات وقليلاً من الأحاديث، ويقرأ كتاباً في الفقه ويجلس في المجالس ليفتي، ولا يتحرج من شيء؛ وهو لا يعرف الصحيح من الضعيف، ولا المتواتر من الآحاد، ولا أي شيء من ذلك، كما أنه يحرص كل الحرص على أن ينجح في هذه السنة، فيعطونه شهادة بأنه أصبح عالماً، وهناك من يأخذ الليسانس، فإن قيل له: من أنت؟ قال: أنا فلان الأزهري، فيعطونه جزئية من البحث أو فرعية من فرعيات المسائل، حضَّر فيها وألف فيها أقوال الفقهاء قديماً وحديثاً، ورجح ما كان مرجوحاً حتى وإن خالف القرآن؛ لأنه لا بد أن يرجح حتى يكون مجتهداً، فيرجح ويأخذ الرسالة، فبمجرد أن يأخذ الرسالة لا يستطيع أحد أن يكلمه نهائياً؛ لأنه دكتور في الجامعة، وإن شئت فقل: هو الكور من غير الدال والتاء.

وصية أبي هريرة لمن أظلته الفتن

وصية أبي هريرة لمن أظلته الفتن قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: يا أيها الناس! أظلتكم فتن كأنها قطع الليل المظلم، أنجى الناس منها -أو قال: فيها- صاحب شياه يأكل من غنمه، أو رجل من وراء الدرب آخذ بعنان فرسه يأكل من سيفه]. إذا وقعت هذه الفتن المظلمة الكلحاء السوداء؛ فأنجى الناس منها: شخص يأخذ غنمه، ويذهب إلى المرعى ويذبح ويأكل. أو شخص معه فرسه يستطيع أن يتكسب به.

موقف التابعين من الفتن وتحذيرهم من الدخول فيها

موقف التابعين من الفتن وتحذيرهم من الدخول فيها

الحث على اعتزال الفتن والابتعاد عن صفها

الحث على اعتزال الفتن والابتعاد عن صفها قال: [وقال أبو عقيل: (قلت لـ أبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج)]، يعني: إذا وقعت الفتنة، [قال: كان لا يقرب لها صفاً ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت. وعن الفضيل بن عياض قال: الزموا في آخر الزمان الصوامع -يعني: البيوت- فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه، قال: وسمعت الفضيل يقول: حتى متى لا نرى عدلاً يسر به ولا نرى لدعاة الحق أعواناً ثم بكى الفضيل وقال: اللهم أصلح الراعي والرعية. وعن ابن طاوس عن أبيه قال: لما وقعت فتنة عثمان قال لأهله: قيدوني فإني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلوا عني القيد، الحمد لله الذي عافاني من الذنوب وأنجاني من فتنة عثمان]. يدعي أنه مجنون من أجل أن ينجو من الفتنة، لما شعر بوقوع الفتنة، قال: قيدوني أنا مجنون، وطاوس بن كيسان هو من كبار التابعين، ومن سادة أهل اليمن علماً وعبادة ورواية. فقيدوه ثم بلغه وهو في القيد أن عثمان قد قتل وانجلت الفتنة، فقال: فكوا قيودي انتهت الفتنة؛ لأنه مأمور أن يكون حلس بيته؛ فعمل بالأمر وترك الناس. قال: [وعن سيار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن عبد الله بن الأشج: ما فعل عمك؟ قلت: لزم البيت منذ كذا وكذا، قال: أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم]. وهؤلاء من أهل بدر، فيا أخي الكريم! من أنت بجانب أهل بدر؟ هل نحن الآن نصل إلى ما وصلوا إليه؟ هل نفهم أكثر منهم؟ إذا كانت المسألة مسألة أفهام وعقول، فهل عقولنا مقدمة أم عقول أهل بدر؟ A عقولهم وأفهامهم مقدمة على أفهامنا، فضلاً عن وجود الأوامر النبوية باعتزال الفتن فهؤلاء أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم). فهؤلاء مع تقدمهم وعلمهم وإخلاصهم في الصحبة وبلائهم البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا سمعوا بفتنة لزموا بيوتهم حتى تنجلي. قال: [فالفتن على وجوه كثيرة، ودروب شتى، قد مضى منها في صدر هذه الأمة فتن عظيمة نجا منها خلق كثير عصمهم الله فيها بالتقوى، وجميع الفتن المضلة المهلكة المضرة بالدين والدنيا فقد حلت بأهل عصرنا، واجتمع عليهم -مع الفتن التي هم فيها التي أضرموا نارها وتقلدوا عارها- الفتن الماضية والسابقة في القرون السالفة، فقد هلك أكثر من ترى بفتن سالفة وفتن آنفة، اتبعوا فيها الهوى، آثروا فيها الدنيا؛ فعلامة من أراد الله به خيراً، وكان ممن سبقت له من مولاه الكريم عناية، أن يفتح له باب الدعاء باللجاء والافتقار إلى الله عز وجل بالسلامة والنجا، ويهب له الصمت، إلا بما لله فيه رضا، ولدينه فيه صلاح، وأن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بأهل زمانه، مقبلاً على شأنه، قد ترك الخوض والكلام فيما لا يعنيه، والمسألة والإخبار بما لعله أن يكون فيه هلاكه، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، فإن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقاً كثيراً، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه، وأشغلهم بدينه، وأتركهم لما لا يعنيه. [وقال سفيان: لما قتل الوليد بن يزيد، كان بالكوفة رجل يكون بالشام وأصله كوفي، سديد عقله، فقال لـ خلف بن حوشب لما وقعت الفتنة: اصنع طعاماً واجمع بقية من بقي، فجمعهم، فقال سليمان بن مهران الأعمش حينئذ للضيوف: أنا لكم النذير، كف رجل يده، وملك لسانه وعالج قلبه]. أي: أنا اليوم أنذركم، كفوا ألسنتكم، وأمسكوا بأيديكم، وعالجوا قلوبكم. أي: لا تدخلوا في هذه الفتنة. قال: [وقال سليمان بن عتيق لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من نور الله، رجاء ثواب الله]. انظروا إلى تفسير التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله -أي: على بصيرة- ترجو ثواب الله. قال: [وأن تترك معاصي الله، على نور من الله؛ خوف عقاب الله]. إذاً: التقوى فعل وترك؛ فعل للطاعة ببصيرة وعلم، ترجو بها ثواب الله، وترك للمعصية لعلمك أنها معصية، وهذا هو النور من الله، تخاف عقاب الله عز وجل. قال: [وقال سعيد بن جبير: قال لي راهب: يا سعيد! في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت]، يعني: الفتن هي المحك. قال: [وقال معقل بن يسار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كالهجرة إلي)]. والهرج: هي الفتن، فأن يلزم إنسان بيته في الفتنة، وأن ينشغل بطاعة الله تعالى: بقراءة القرآن والذكر والتسبيح والصلاة وغير ذلك، وأن يهجر هذه الفتنة؛ يكون كمن هاج

الانصراف عن الفتن بالقلب

الانصراف عن الفتن بالقلب قال: [وقال إبراهيم: قال شريح: ما أخبرت خبراً ولا استخبرت خبراً منذ وقعت الفتنة، ولا أصيب من مال رجل ولا من دينه. وقال لرجل: لو كنت مثلك ما كنت أبالي لو مت الساعة]. يعني: يقول: يا ليتني مثلك، مع أنه لم يتكلم، ولم يطلب من أحد أن يخبره بخبر الفتنة، ولم يصب من مال أحد ولا من عرضه، ولم يتكلم قط، وهو مع هذا يتمنى أن يكون كآحاد الناس الموجودين أمامه. يقول: لو أني مثلك لتمنيت أن أموت الساعة؛ لأنك على خير. قال: [وقال شريح: فكيف بقلبي وهواي ما التقت فئتان إلا وقلبي يهوى أن تظفر إحداهما]. يعني: رغم أنني ما أصبت من مال أحد ولا من عرضه وما تكلمت في أحد، وكما أنني كذلك لم أستخبر أحداً، ولم أخبر أحداً بشيء، إلا أنه إذا وقعت فتنة بين طائفتين هوى قلبي الظفر والنصر لإحدى الطائفتين، قال: هذه عقوبة وبلاء عظيم جداً. فهذا النص يا إخواني! نص خطير جداً، ومخوف إلى أقصى حد، حتى الإنسان ينصرف عن الفتنة بقلبه فلا يفكر فيها، ولا تخطر بقلبه ألبتة، بل يلزم بيته لزوماً، كما [قال حذيفة: إن كان الرجل يتكلم الكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات]، كان الرجل يتكلم بها في عمره مرة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام فيعد بها من المنافقين، فما بالكم تتكلمون في كل يوم بهذه الكلمة عشر مرات؟

الدخول على السلاطين وأثره على العلماء والدعاة

الدخول على السلاطين وأثره على العلماء والدعاة قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء]. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن). فقوله: (من بدا جفا)، أي: من سكن البادية كان فيه شيء من الجفاء والغلظة، وهذا أمر معلوم مشاهد. (ومن اتبع الصيد غفل)، أي: غفل عن الذكر والتسبيح والصلاة وغيرها؛ لأنه يهوى الصيد، فقد انشغل به واستحوذ على قلبه، مع أنه من المباح، لكن لا ينبغي الانشغال بالمباح عن الواجب. (ومن أتى السلطان افتتن)؛ لأن إتيان السلطان مرهون بالفتنة، إلا أن يكون سلطان خير ودين وتقوى وصلاح، فيجب على أهل العلم حينئذ إعانته على مسئوليته، وعلى المهمة التي أنيطت برقبته، أما إذا كان غير ذلك فيحظر على الرجل أن يقترب منه، وإلا فالفتنة على باب بيته. يذكر أن محمد بن واسع دخل على مالك بن دينار، وإذا برسول السلطان يعطي مالكاً صرة فيها مال، فقبل مالك هدية السلطان وأنفقها في الناس، ولم يأخذ منها شيئاً، فقال محمد بن واسع: أقبلت هدية السلطان؟ قال: أما رأيتني قد أنفقتها في طلاب العلم؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه بعد أن أخذت الصرة كقلبك عليه قبل أن تأخذها؟ قال: لا. والله إني حمار. وهذا فقه عظيم جداً؛ ولذلك أذكر أن أحد الدعاة قد أمات نفسه وهو حي، صعد المنبر في سنة (1981م)، وقال: إن لمصر إلهين: إلهاً في السماء، وإلهاً في الأرض، وهو مجلس الشعب، وكان يفتينا بأن حزب العمل والوفد وغيرها من الأحزاب أحزاب بدعية شركية، فإذا به يدخل في الحزب، ويدخل مجلس الشعب، فلما حدثناه في ذلك، قال: أنتم لا تدرون ما العلاقة التي بيني وبين فلان؟ إنها علاقة قوية نقية، وكلها خير، والرجل على صلاح وتقوى ودين وخلق؛ فقلنا له: لم كفرته آنفاً؟ إما أن تعرف عنه ما عرفته الآن، فتكون قد كفرت رجلاً أنت تعلم أنه على خير، وعلى دين، وإما أن تكون قد جهلت هذا؛ فتكون قد كفرت بغير علم، فأنت في حرج في الحالين. فأرسل الله تعالى إليه جنداً من السماء، وهو جند الحب والبغض؛ فأبغضه شباب الصحوة وانصرفوا عنه تماماً، فهو الآن حي ميت، لا يتكلم بكلمة قط لله عز وجل؛ لأنها غير مسموعة تماماً، وهذه عقوبة نزلت من السماء. وكان السلف رضي الله عنهم يتحرجون أشد التحرج من الدخول على السلطان، حتى وإن كان فيه نوع صلاح. سفيان الثوري كان من أشد الناس هرباً عن بيوت السلطان، فقد دعاه سلطان الكوفة مرة، وأرسل إليه مرات ومرات فلم يأته، فحملوه حملاً حتى وضعوه على بساط السلطان، فدخل وجلس ولاطفه السلطان وكلمه بكلام يليق بمنزلة أهل العلم وكرامتهم، وطلب منه أن يتولى قضاء الكوفة، فقال: أنا لا أعرف القضاء، فلما ضغط عليه أظهر أنه مريض أو مجنون، فلما رأى ذلك منه السلطان، وعلم أنه لن يصلح معه أي حيلة قال: انصرف على أن تأتينا. قال: أفعل. قال: أتعد بذلك؟ قال: نعم. فخرج سفيان الثوري وترك نعله، ثم عاد مرة أخرى ليأخذ نعله، ففطن لذلك أحد الجالسين وقال: يا فلان! إن سفيان لن يأتيك بعد ذلك، إنه قد وفَّى بما وعد، ودخل مرة أخرى. أرأيتم الهروب من السلطان إلى أين يصل؟ هي والله فتنة عظيمة جداً. قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء. قيل: لم يا أبا عبد الرحمن؟! قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله عز وجل عليه]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يجادلون بمتشابه القرآن

شرح كتاب الإبانة - تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يجادلون بمتشابه القرآن لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإصغاء إلى أهل البدع والأهواء؛ لأنهم يجادلون بمتشابه القرآن، ابتغاء الفتنة وابتغاء تحريفه، في حين أنهم يتركون المحكمات، وهذا مما يمحو نور آيات الله من قلب العبد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، وذلك لأن اللهجات العربية متعددة، وقد أنزله الله على سبعة أحرف رحمة بهذه الأمة، وكفى الله المؤمنين مئونة هذا الاختلاف بجمع عثمان رضي الله عنه له في مصحف واحد، وبقي اختلاف أهل الأهواء، فيرد عليهم العلماء.

باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم

باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع باب جديد وهو: [باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن، وما يجب على الناس من الحذر منهم]. [قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران:7] إلى آخر الآية]. من القراء من وقف على قول الله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على لفظ الجلالة، وهم جمهور القراء. فهكذا التقدير: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) ثم استأنف: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. وكلتا القراءتين لها وجه، ولكن الذي عليه جماهير القراء -بل جماهير علماء الأمة- أن الوقف الأفضل هو الوقف على لفظ الجلالة، ثم استئناف علم الراسخين في العلم، وإلمام الراسخين في العلم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]. فهنا إثبات أن في كلام الله عز وجل محكماً، وفي كلام الله عز وجل متشابهاً، فأما المحكم فلا إشكال فيه؛ لأنه محكم لا يستطيع أحد من أهل البدع أن ينازع فيه. وأما المتشابه وما ظاهره تعارض فإنه لا تعارض في كلام الله عز وجل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فلما لم يكن فيه اختلاف البتة دل على أنه من عند الله عز وجل. فأما أهل البدع فإنهم يتجادلون بالمتشابه من كلام الله عز وجل، وكذا بما ظاهره التعارض من كلام النبي عليه الصلاة والسلام. أما الراسخون في العلم من أهل الإيمان والسنة، فإنهم يعملون بالمحكم بغير نزاع بينهم، ويؤمنون بالمتشابه ويمرونه كما جاء، ولا يردون على الله عز وجل شيئاً من كلامه، ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من كلامه كذلك. وسنعرف ما هو المحكم في كلام الله، وما هو المتشابه بإذن الله تعالى.

بيان معنى قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)

بيان معنى قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) [قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] إلى قوله الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]؛ قال: (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل فاحذروهم). يعني: إذا رأيت واحداً يتجادل ويتماحل ويتخاصم بمتشابه القرآن، فاعلم أنه زنديق أو منافق أو ملحد، فاحذره وفر منه فرارك من الأسد. وفي نفس الآية يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7] أي: شك وضلال وحيرة وتيه ومرض {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] فهم دائماً لا يقصدون إلا المتشابه، ولا يسألون إلا عن المتشابه سؤال متعنت لا سؤال متعلم. قال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)) لماذا؟ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] أي: تحريفه، يعني: يطلبون الفتنة. ولقد رأيت أحد هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بالشفاعة، ثم أخذ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بعدة المرأة الحامل، وعدة المرأة المتوفى عنها، وبقية العدة في حق المرأة. وقال: هذا تضارب في قول الله عز وجل؛ مما يستبين معه للناقد البصير أن هذا الكلام ليس هو من عند الله عز وجل! هكذا تصور أنه ناقد بصير، فهو والله فقد بصيرته وبصره؛ لأن الكلام كلام الله عز وجل. [قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]. فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (هم أهل الجدل في القرآن، وهم الذين عناهم الله عز وجل فاحذريهم يا عائشة!)]. [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه -أي: من القرآن- فأولئك ذكر الله عز وجل فاحذروهم)]. [وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً في نفس الآية: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الراسخون في العلم الذين آمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه)]، حتى تعلم علامات أهل الصلاح أنهم إذا جاءتهم آية محكمة عملوا بمقتضاها ومفهومها وظاهرها، وإذا أتتهم آية متشابهة فوضوا وسلموا أمرها إلى الله، مع الإيمان الجازم بأنها كلام الله عز وجل، والله تعالى لا يتكلم عبثاً. [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذي يجادلون فيه -أي: في القرآن- فهم الذي عنى الله عز وجل فاحذروهم). قال أيوب بن أبي تميمة السختياني: ولا أعلم أحداً من أهل الأهواء يجادل إلا بالمتشابه]. [وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]. قال: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدود وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به]. فإذا كان الناسخ من المحكم فالمنسوخ من المتشابه، والناسخ محكم لأن الناسخ هو النص اللاحق للعمل به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة). فقول جرير أو جابر رضي الله عنهما: (أن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتوضأ مما مسته النار) يدل على أنه كان يتوضأ أولاً من كل طعام أعد في النار، ثم نسخ هذا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل مما مسته النار وطهي عليها ولم يتوضأ. وقد أعد العلماء كتباً للناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، والناسخ والمنسوخ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام. فالناسخ من المحكمات والمنسوخ من المتشابهات، كما أن من المحكمات أيضاً الحلال والحرام والحدود والكفارات، وما يؤمن به المرء إيماناً جازماً، وكذلك من المحكمات الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أمر بأن يعمل به. [فأما الذين في قلوبهم زيغ من أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم]، أي: يخلطون بين هذا وذاك، [ويلبسون] أي: على العامة، [كلام الله عز وجل، فيلبس الله تعالى عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: آمنا به]، مهما لبستم يا أهل البدع! فلن يعدو الإيمان الجازم بأن هذا الكلام من عند الله عز وجل منه الناسخ ومنه المنسوخ. [فيقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)، محكمه ومتشابهه]، أي: يقولون: المحكم من عند الله والمتشابه من عند الله. [وعن الحسن في قول الل

بيان أن صفات الله من المحكمات

بيان أن صفات الله من المحكمات كثير من الناس يعتقد أن صفات الله عز وجل من المتشابهات؛ اغتراراً بقول كثير من السلف: نؤمن بها ونمرها كما جاءت دون خوض فيها بتأويل أو تحريف أو تمثيل أو تكييف، فقالوا: هذا القول يشعر أن الصفات من المتشابهات، فمثلاً: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، ذهب أهل التمثيل والتشبيه إلى أن لله يداً كيد المخلوقات؛ لأن الله تعالى ما خاطب العباد إلا بما يدخل في أفهامهم وتدركه عقولهم، فلما قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] دل على أن له يداً، وهذه اليد مثلوها بيد الإنسان. قلنا: هذا الكلام لا يستقيم لا من جهة النقل ولا من جهة العقل، والدليل على ذلك أن نقول: لم جعلنا يد الله تعالى كيد الإنسان خاصة؟ لم لا تكون كيد الحيوان أو الطير أو الحشرات؟ ولو سلمنا أنها كيد إنسان فهل يد كل إنسان كيد أخيه الإنسان؟ A لا، بل أحياناً تجد في يد الإنسان الواحد قصوراً في يد وطولاً في الأخرى، وضموراً في يد وسمنة في الأخرى وغير ذلك، فإذا كانت اليد في الشخص الواحد أحياناً تختلف، فكيف نقول بأن يد الله تعالى كالإنسان؟ فأي إنسان هذا الذي تشبه يده يد الله عز وجل؟! لابد أن نتوقف في الجواب. الأمر الثاني: أننا لا نستطيع تكييف الذات العلية لله عز وجل، ونعجز عن وصفها؛ لأنها لم تر لنا، وليس لها مثيل نقيس عليه، ولو أني قلت: هل رأى أحد منكم إبراهيم؟ تقولون: لا، أقول: إن إبراهيم يشبه محمداً في العين أو الفم أو الأنف أو الوجه أو اليد أو الساق أو غير ذلك، فإذا قلت: إن إبراهيم شبيه محمد فقد فهم المخاطب أوصاف محمد وأوصاف إبراهيم، ومحمد معلوم لدينا، لكن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فلما لم يكن له مثيل من خلقه ولا شبيه من خلقه ولا كفؤ من خلقه، فلا يمكن معرفة الله تعالى عن طريق القياس، ولا رأينا الله تعالى في الواقع، وإنما يراه المؤمنون في الآخرة، كما أنه كذلك لا يمكن قياس الذات العلية على ذوات المخلوقين فإذا عجزنا عن كيفية الذات، لابد كذلك أن نعجز عن كيفية الصفات؛ لأن الصفات لازمة للذات. والفريق الآخر المقابل للممثلة والمشبهة والمكيفة هم النفاة الذين قالوا في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]: لا يصح أن يكون لله يد، وفي مقدمتهم الجهمية، قالوا: لأن إثبات اليد لله تعالى تستلزم المشابهة، والله تعالى منزه عن ذلك، فلابد من تحريف الكلم عن مواضعه، ولابد من تأويل اليد هنا، فأولوها بالقوة، فلما أرادوا تنزيه الله عز وجل وقعوا في شر مما هربوا منه، وهو التعطيل. لكن أهل السنة والجماعة اعتبروا أن الصفات من المحكمات؛ لأننا نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام، على المعنى اللائق بالله عز وجل. فالله تعالى أخبر أن له يداً وأخبر أن له قوة، فلا يستقيم قط أن أقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: قوة الله فوق قوتهم؛ لأنني لو قلت ذلك وأولت وحرفت النص عن ظاهره، للزمني تعطيل صفة اليد، بل أنا أثبت اليد على المعنى اللائق بالله عز وجل، وأثبت القوة كذلك على المعنى اللائق بالله عز وجل؛ لأنها من صفات أفعاله، والله تعالى واحد في أفعاله، كما أنه واحد في ذاته، وواحد في أسمائه، واحد في صفاته، فإذا أثبتُّ أن له قوة أثبت القوة التي لا علاقة لها باليد التي هي من صفات الذات لله عز وجل، أما القوة فمن صفات الفعل لله عز وجل، وقوة الله تعالى لا تدانيها قوة ولا تضاهيها قوة، فأثبت اليد على المعنى اللائق بالله، وأثبت القوة على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولم يخض أهل السنة والجماعة في معرفة كنه الصفة أو تكييف الصفة، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ذاته ويعلم صفاته على الحقيقة. أما البشر فالواجب عليهم أن يؤمنوا بأن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف، وكذلك فعل رسوله عليه الصلاة والسلام، فيجب عليهم أن يؤمنوا بها ويمروها كما جاءت، يفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل، أما علمها وحقيقتها فإننا نؤمن إيماناً جازماً أن الله تعالى له أسماء وله صفات. فتبين بعد هذا العرض السريع أن صفات الله عز وجل من المحكمات وليست من المتشابهات، وهذه جزئية لو لم نخرج هذه الليلة إلا بها لكفى؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -بل أهل العلم الذين يصنفون كتبهم- يزعمون أن الصفات من الآيات المشتبهات، وليس الأمر كذلك. أما قول من قال: إن الصفات من المحكمات، فهو قول المحققين والمدققين من أهل العلم من المحدثين وغيرهم.

تأديب عمر لصبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن

تأديب عمر لصبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن قال: [قال سليمان بن يسار: إن رجلاً من بني سعيد يقال له: صبيغ بن عسل قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث له وقد أعد له عراجين النخل -جريد النخل- فلما دخل عليه جلس فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ، فقال عمر: وأنا عمر عبد الله، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين حتى شجه -أي: قطع لحم رأسه- فجعل الدم يسيل على وجهه فقال: حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي]. وهكذا كثير من الملاحدة، لكن لما لم يكن لدين الله عز وجل حماة في هذا الزمان، لا من الحكام ولا من المحكومين، لجأ أهل العلم الغيورون على دين الله عز وجل إلى الجدال ورد الشبهة، حتى إني لأعتقد أن كثيراً من المحاضرات والدروس وخطب الجمعة إنما هي رد فعل لكلام الملاحدة، على أية حال هو ضرب من ضروب العلم: لأن العلم أن أعلمك الشيء ابتداءً دون أن تسأل عنه حتى تعلمه، والوجه الثاني: أن تسأل عن شبهة طرأت عليك فأعلمك إياها وأردها عنك وأقيمك على الجادة، لكنه أمر مخجل جداً أن ينشغل أهل العلم الآن بالرد على هؤلاء الملاحدة، مما يدل على أن كل واحد من هؤلاء رفع عقيرته؛ لأن الراية الخضراء أمامه: افعل ما تشاء فهذا هو وقت استباحة المحرمات، ووقت الطعن في الثوابت التي تعلمها أطفال المسلمين قبل كبارهم! فنجد من ينازع في أصول الحج، وفي أصول الصلاة، وفي أصول الصيام، وفي أصول الزكاة، وهذه ثوابت لا يجوز زعزعتها من قلوب المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً أو كباراً، فنجد الآن من ينازع ويزعزع هذه الثوابت، حتى يأتي الرجل فيسأل عن شيء لا تملك أمامه إلا أن تضرب رأسك بالأرض أو بالحائط، كيف يسأل عن هذا؟! فيقول: الزنا قضية شخصية فلماذا حرمها الله عز وجل؟ فماذا تقول لهذا؟ هذا لا يصلح معه إلا عراجين النخل، لكن من يملك هذه العراجين الآن؟ لا أحد، فكأن حماة الدين في هذا الزمان يتامى لا أب لهم ولا أم، فقدوا كل سلطان على هؤلاء الملاحدة، بل لو غضبوا لله عز وجل وتمعرت وجوههم ولو مرة؛ لنسبوا إلى الجهاد والتطرف والتزمت وغير ذلك. وعلى أية حال هذه خطط ظنوها محكمة، لكنها بإذن الله تعالى أوهن من بيت العنكبوت، والله تعالى هو الذي يحمي دينه، وأنا أذكر بهذه المناسبة مقولة عبد المطلب في مواجهه أبرهة الأشرم حينما أتى ليهدم الكعبة، فأخذ الإبل والمتاع، فخرج إليه عبد المطلب وقال: أما الإبل فهي لي وأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه، نعم. فنقول: إن دين الله عز وجل هو دينه الذي ارتضاه وأنزله من السماء، وهذا الدين لا يزال ظاهراً، وطائفة قائمة يظهرونه إلى قيام الساعة، لا يضرها من خالفها من هؤلاء الملاحدة، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون، وهم على ذلك.

إيجاد السبل في تعلم منهج السلف في الرد على الملاحدة

إيجاد السبل في تعلم منهج السلف في الرد على الملاحدة قال: [وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سيأتي أقوام يجادلونكم بشبه القرآن، فجادلوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل]. أناس سيأتونكم يقولون: الله تعالى يقول مرة: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، ومرة يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، ومرة يقول: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]. فيقول: هل هناك مشارق ومغارب؟ هو مشرق واحد ومغرب واحد، إذاً: فما معنى مشارق ومغارب؟ وإذا كانت المشارق والمغارب متعددة، فكيف يكون المشرق اثنين والمغرب اثنين؟ ولو أن ملحداً سألك هذا السؤال فماذا تصنع؟ فلابد أن تجيب بكلام أهل العلم، فتكون قد قرأت في الكتاب الفلاني من كلام أهل العلم كيت وكيت وكيت، وهذا هو طالب العلم؛ ولخطورة هذا الباب الذي نحن بصدده أفضل أن ندرس كتيباً صغيراً، مقداره (40) صفحة من القطع الصغير، لكنه من أمتع ما يمكن أن تقرأ في المتشابهات وكيفية الرد على الملاحدة، وهو كتاب الرد على الجهمية، وصاحب هذا الكتاب هو الإمام أحمد بن حنبل، وهو كتاب رائع، تقرأ فيه وأنت تبكي، من فرحتك برحمة الله بهذه الأمة أن جعل فيها هذا الإمام؛ لأن هذا الكلام كلام إنسان قد فتح الله عز وجل عليه يقينه. هذا نور إلهي بثه الله تعالى في قلب هذا العبد، ولذلك إن شاء الله تعالى في الدرس القادم سنتناول هذه الرسالة حتى نعلم حلاوة العلم، والتلذذ في طلبه، ونعرف كيف نرد على الملاحدة، وكيف يفكر الملاحدة؟ وما هي مادتهم؟ مادتهم المتشابهات، هي عندهم متشابهات لكنها عند أهل السنة من المحكمات، وسأبين هذا بإذن الله تعالى في الدرس القادم.

باب النهي عن المراء في القرآن

باب النهي عن المراء في القرآن الباب الثاني: [باب النهي عن المراء في القرآن]، أي: في باب الخصومة والمماحلة. [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مراء في القرآن كفر)]. [وعن عبد الله بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوا المراء في القرآن. فإن الأمم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن]، أي: في الكتاب الذي أنزل على نبيهم، [وإن مراء في القرآن كفر)]. [وعنه قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارءون في القرآن]، أي: يتجادلون في كتاب الله، [فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)]، أي: وما جهلتم منه فلا تسارعوا وتقولوا: هذا من المتشابه، بل قولوا: نحن لا نعلمه، فالذي تعلمه يقيناً وحقاً وصدقاً فقل به وأخبر به وعلم الناس، واعمل به أنت أولاً، والذي لم تبلغه العقول فينبغي أن تقول فيه: لا أعلمه، أو قل: الله أعلم. [وعن أبي عمران الجوني قال: (كتب إلي عبد الله بن رباح: إن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: ذهب إليه في الهاجرة، [فقعدنا بالباب، فسمع رجلين اختلفا في آية من كتاب الله عز وجل، فارتفعت أصواتهما، فخرج صلى الله عليه وسلم من بيته مغضباً يُعرف الغضب في وجهه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بالكتاب)] يعني: فعلتم مثلما فعل الأولون، كانوا يضربون كلام الله بعضه ببعض، ويضربون آيات الله بعضها ببعض، فكان ذلك سبباً في هلاكهم، فلا تفعلوا فعلهم. [وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية)]، في المجلس مذاكرة، كل واحد يتبنى في مسألة ما رأياً معيناً، فيأتي ليثبت صحة قوله بآية من كتاب عز وجل، والثاني يريد أن يثبت كذلك أن رأيه أصوب وأصح وأتم من رأي صاحبه، فيأتي بآية من كتاب الله عز وجل، فكأن هذا يضرب بآيته الآية الأولى، وذاك يضرب بآيته الآية الثانية، فهذا سبب لتضارب الآيات بعضها ببعض، وهذا جرى على يد الملاحدة والجهال، فمن كان جاهلاً فليكل العلم إلى الله عز وجل، ومن كان جاحداً أو منافقاً أو مبغضاً لكلام الله عز وجل يريد أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فليعلم أن لله تعالى جنوداً: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، تدافع عن كلامه، وتدافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(ينزع هذا بآية وهذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صب على وجهه الخل فقال: يا هؤلاء! لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه يوقع الشك في قلوبكم، فإنه لن تضل أمة إلا أوتوا الجدل)] يعني: أن الجدل علامة الضلال. [وعن جندب بن عبد الله البجلي قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه)]. [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) , وفي رواية: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)] أي: وإن أصاب. وهذا من باب القول على الله تعالى بغير علم، ومن باب تأويل كلام الله عز وجل بغير علم حتى وإن أصاب الحق؛ وذلك لأنه يحكم على كل إنسان أن يتكلم وأن يتأول وأن يفسر كلام الله عز وجل بغير علم، فمن تكلم بالقرآن برأيه واجتهاده، وليس من أهل الاجتهاد، ولا من أهل النظر والدراسة والبحث؛ فإن هذا معتد متجرئ على كلام الله عز وجل، حتى وإن أصاب. وإن ظن أن هذا ظاهر لكل أحد، وفسره بغير رجوعه لكلام أهل العلم، أو لسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإن هذا مخطئ وإن أصاب المراد من الآية، أو من الحديث النبوي؛ وذلك لأنه لا يجوز له أن يتكلم في دين الله عز وجل إلا ببينة قوية، وعلم أكيد متين. ألا ترون أن أحداً لا يجرؤ أن يصنع رسماً هندسياً لبناء عمارة، مع أن هذا أمر دنيوي لا يأثم فاعله، لكن تعارف الناس أن الذي يقوم بهذا العمل متخصص اسمه المهندس، كما لا يجرؤ أحد من عامة الناس وإن بلغ أعلى المراتب في الشهادات العلمية في الهندسة أو الكيمياء أو غير ذلك أن يدخل لإجراء عملية جراحية ليجري جراحة لإنسان، بل تراه يقول: ليس هذا عملي ولا تخصصي. فإذا كان الناس يحترمون هذه التخصصات في حياتهم العامة وحياتهم الدنيوية، فما بال الجميع الآن يعتقد أنه قد بلغ مرحلة الاجتهاد، فتجد الغبي والأحمق والعالم والجاهل، والمتخصص وغير المتخصص، لا يبرح مجلسه إلا وقد أجاب في مسائل هو غير متخصص فيها؛ هل الأدب قد غاب عن كثير من الناس، أو عن عامة المسلمين؟ فلا يتكلم أح

الأوجه التي ينصرف عليها المراء في القرآن

الأوجه التي ينصرف عليها المراء في القرآن [قال ابن بطة: المراء في القرآن المكروه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتخوف على صاحبه الكفر، والمروق عن الدين ينصرف على وجهين].

الوجه الأول قراءة القرآن على لهجات عربية متعددة، وكفى الله المؤمنين مئونته

الوجه الأول قراءة القرآن على لهجات عربية متعددة، وكفى الله المؤمنين مئونته [الأول: قد كان وزال وكفى الله المؤمنين مئونته، وذلك بفضل الله ورحمته، تم بجمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الناس كلهم على إمام واحد باللغات المشهورة المعروفة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان سأل الله عز وجل في القرآن فقال له: أقرئ أمتك على سبعة أحرف وكلها سيان -يعني: على سبع لغات العرب- كلها صحيحة فصيحة، إن اختلف لفظها اتفقت معانيها، فكان يقرئ كل رجل من أصحابه بحرف يوافق لغته، وبلسان قومه الذي يعرفونه، فكان إذا التقى الرجلان فسمع أحدهما يقرأ بحرف لا يعرفه وقد قرأ هو ذلك الحرف بغير تلك اللغة أنكر على الآخر، وربما قال له: حرفي خير من حرفك، ولغتي أفصح من لغتك، وقراءتي خير من قراءتك؛ فنهوا عن ذلك، وأقر الله عز وجل جميع هذه القراءات وقيل لهم: ليقرأ كل واحد منكم كما علم، ولا تماروا في القرآن فيقول بعضكم: حرفي خير من حرفك، وقراءتي أصوب من قراءتك، فإن كلاّ صواب، وكلام الله حق فلا تنكروه، ولا يرد بعضكم على بعض، فيكذب بالحق ويرد الصواب الذي جاء عن الله عز وجل، فإن رد كتاب الله والتكذيب بحرف منه كفر، فهذا أحد الوجهين من المراء الذي هو كفر قد ارتفع ذلك والحمد الله، وجمع الله الكريم المسلمين على الإمام الذي جمع المسلمون من الصحابة والتابعين على صحته وفصاحة لغاته، وهو المصحف الذي جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه المسلمين عليه، وترك ما خالفه، وذلك باتفاق من المهاجرين والأنصار وأهل بدر والحديبية الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وسأذكر الحجة فيما قلت، والله الموفق]. يذكر الحجة من حديث أبي بن كعب وهو في صحيح مسلم. [قال أبي: (كنت في المسجد، فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر فقرأ خلاف قراءة صاحبه، فقمنا جميعاً فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله! إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ خلاف قراءة صاحبه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءا لي. فقرءا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبتما)]، مع أن كل واحد منهما قرأ قراءة تختلف عن قراءة الآخر، ومع هذا فقد صوبهما النبي عليه الصلاة والسلام، [(فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كبر علي ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الذي غشيني ضرب في صدري ففضضت عرقاً كأني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، ثم قال: يا أبي! إن ربي أرسل إلي فقال: أن اقرأ على حرف، قال: فوددت أن أهون على أمتي، فأرسل إلي: أن اقرأ على حرفين، فوددت أن أهون على أمتي فأرسل إلي: أن أقرأ على سبعة أحرف، ولكل ردة مسألة يسألنيها. قال: قلت: اللهم اغفر لأمتي ثلاثاً، وأخرت الثالثة ليوم يحتاج فيه الخلق وحتى إبراهيم عليه السلام)]. هذا الحديث يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام شفع عند ربه رحمة بأمته في اختلافهم في القراءة، فأذن الله تعالى له أن يقرأ على حرفين، ثم يقرأ على ثلاثة حتى قال: فاقرأ على سبعة، وهذه هي القراءات المتواترة، وما دونها شاذ لا اعتبار به. [وقال أبو جهيم: (إن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: إن القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراءً فيه كفر)]. [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فدخلت المسجد فقلت: أفيكم من يقرأ؟ فقال رجل من القوم: أنا، فقرأ السورة التي أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ بخلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! اختلفنا في قراءتنا فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، فليقرأ كل امرئ منكم ما أقرئ)] أي: فليقرأ كل امرئ منكم ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم. [وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: (قلت لرجل: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقلت لآخر: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني الأول، فأتيت بهما رسول صلى الله عليه وسلم فغضب، وكان علي رضي الله عنه جالساً، فقال لهم: اقرءوا كما علمتم). قال الشيخ ابن بطة: فهذا بيان المراء في القرآن الذي يخاف على صاحبه الكفر، وقد كفي المسلمون بحمد الله المراء في هذا الوجه بإجماعهم على المصحف، الذي من خالفه ند وشرد وشذ، فلم يلتفت إليه ولم يعبأ الله عز وجل بشذوذه]. فهذا الوجه الأول: الاختلاف في القراءة، وإنكار كل

الوجه الثاني مراء أصحاب الأهواء والبدع في القرآن الكريم

الوجه الثاني مراء أصحاب الأهواء والبدع في القرآن الكريم الوجه الثاني: [وقد بقي المراء التي يحذره المؤمنون ويتوقاه العاقلون، وهو المراء الذي بين أصحاب الأهواء وأهل المذاهب المنحرفة والبدع الضالة، وهم الذين يخوضون في آيات الله، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، هذا التأويل لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم]، لكن أهل البدع والأهواء والمذاهب الضالة [يتأولونه بأهوائهم ويفسرونه بأهوائهم، ويحملونه على ما تحمله عقولهم، فيَضِلون بذلك ويُضِلُّون من اتبعهم عليه]. [قال الحسن: من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي نور تلك الآية من قلبه]. انظر إلى هذا التهديد والوعيد! من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب -أي: أصاب الحق- ليس له في ذلك أجر، وإن أخطأ فنور هذه الآية يمحى من قلبه، لماذا هذا كله؟ لأنه قال على الله تعالى بغير علم، وهذا حرام: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. [وعن ابن الحنفية محمد بن علي قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله]. [وعن مجاهد قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68] أي: يكذبون بآياتنا]. [وقال ابن سيرين: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68]. قال الشيخ: المراء في القرآن والخصومة فيه، والتعاطي لتأويله بالآراء والأهواء لإقامة دولة البدع وابتغاء الفتنة بغير علم كفر وضلال. نسأل الله العصمة من سيئ المقال]. [وقال عبد الله بن الزبير: لقيني ناس من أهل العراق]. ودائماً أهل العراق أهل فتن، وأيضاً أهل مصر. قال: [لقيني ناس من أهل العراق فخاصموني في القرآن، فوالله ما استطعت بعض الرد عليهم، وهبت المراجعة]، أي: خفت أن يراجعوني في القرآن، [فشكوت ذلك إلى أبي الزبير]، يعني: شكا ذلك إلى والده، [فقال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم، وأخطئوا مواضعه]. فالخوارج يقرءون الآية ويفسرونها على أهوائهم، والشيعة يقرءون نفس الآية ويفسرونها على أهوائهم وعلى النحو الذي يؤيد بدعتهم. وقد ورط أهل العراق مرة ابن الجوزي في درس، وابن الجوزي كان واعظاً، وشأن الوعاظ في كل زمان ومكان أنهم لا يحبون أن يميلوا ميلة واحدة ولو عن أصحاب الباطل؛ حتى يكسبوا جمهوراً عظيماً. فـ ابن الجوزي عليه رحمة الله ما كان يحب أن يتعرض لمثل هذه القضايا، فسئل ذات مرة: أيهما أفضل: عمر أم علي؟ فتصرف بذكاء وقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته. وسكت، فالشيعة قالوا: إنه يقصد علياً؛ وذلك لأن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت علي، والآخرون قالوا: إنما يقصد عمر؛ وذلك لأن حفصة ابنة عمر كانت تحت النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا أهل البدع يتأولون الكلام على ما يؤيد بدعتهم، وإذا كان الكلام محمولاً على الوجه الآخر فإنهم لا يحملونه إلا على وجه واحد، وهو ما يؤيد بدعتهم. [قال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم وأخطئوا مواضعه، فإن رجعوا إليك فخاصمهم بسنن أبي بكر وعمر، فإنهم لا يجحدون أنهما أعلم بالقرآن منهم. قال عبد الله بن الزبير: فلما رجعوا فخاصمتهم بسنن أبي بكر وعمر، فوالله ما قاموا معي ولا قعدوا]؛ وذلك لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أهل البدع يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا؛ لماذا؟ لأنهم قالوا بالرأي. ولذلك [قال ابن عباس: إياكم والرأي فإن الله عز وجل رد الرأي على الملائكة، وذلك أن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}

الأسئلة

الأسئلة

الحث على قراءة بعض التفاسير الميسرة لكتاب الله عز وجل

الحث على قراءة بعض التفاسير الميسرة لكتاب الله عز وجل Q نريد أن نفرد درساً في معاني أسماء الله تعالى، هذا لأنه قد كفر قوم بالله، وهم من أهل الضلال والبدع؟ A أكثر من واحد يتكلم في صفات الله عز وجل وفي أسمائه، فقلنا: يجوز أن يجلس مجموعة من الإخوة ثم يقرءون سورة من القرآن، وكل واحد يقول ما خطر بباله من تفسير لآياتها، وما الذي يعجزهم لو أنهم أتوا بتفسير ابن كثير، وإذا قرءوا سورة أو ربعاً من سورة يتعلمون تأويل هذه السورة أو هذا الربع من كلام أهل العلم. وإن أيسر تفسير وأوثق تفسير هو تيسير الكريم الرحمن للشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وهو في أربعة مجلدات بالخط الكبير، أو مجلد واحد مطبوع حديثاً يضم التفسير كله، وكذلك المصحف المفسر للشيخ حسنين مخلوف، لكن تفسير الشيخ السعدي أوثق وأيسر، وهو أيضاً يتكلم في العقيدة ويرد على أهل البدع، فيمكن أن يكون ورداً لأهل العلم، فهو كان عالماً سلفياً، يغفر الله للجميع، فلا بأس أن تجعل لك ورداً في كل يوم وليلة من كتاب الله عز وجل، وإذا كنت تؤم الناس في مسجد فالإمامة فرصة في أن تشتري هذا الكتاب بثمن زهيد من معرض الكتاب، وتقرأ بعض الآيات في صلاة الفجر مثلاً، ولا بأس أن تقرأ تفسيرها بعد الصلاة من هذا التفسير، فهو تفسير ميسر، واسمه: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

رد علي رضي الله عنه على الرجلين اللذين اختلفا في القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

رد علي رضي الله عنه على الرجلين اللذين اختلفا في القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم Q هل رد علي رضي الله عنه على الرجلين اللذين جاءا وقد اختلفا يعد تقديماً بين يدي الله ورسوله؟ A ألا تعلم أن معنى التقديم في قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] أي: لا تخالفوا كلام الله وكلام رسوله، فالتقديم بين يدي الله ورسوله هو المخالفة لقول الله وقول رسوله، وعلي بن أبي طالب رضي عنه لما اختلف هذان الاثنان بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قام وقال: ليقرأ كل واحد منكما كما علم. وهذا صح مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام، فليس هذا تقديماً من علي رضي الله عنه بين يدي نبينا عليه الصلاة والسلام.

لفظ (عليه السلام) مصطلح مخصوص بالأنبياء، وقد يكون لفظا عاما

لفظ (عليه السلام) مصطلح مخصوص بالأنبياء، وقد يكون لفظاً عاماً Q ذكر الإمام ابن بطة لفظ: (عليه السلام) بعد ذكر علي بن أبي طالب. نرجو تبيين ذلك؟ A إن لفظ (عليه السلام) في الحقيقة هو له ولغيره من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والصالحين من التابعين وغيرهم عليهم منا الرحمة والسلام. ولكن قلنا: إن هذا مصطلح مخصوص بالأنبياء، وتجوز بعض أهل العلم في إطلاقه على آل البيت أو على الخلفاء الراشدين أو غيرهم، لكن أن يطلق على آل البيت فقط فهذا بلا شك مخالف لجماهير علماء السنة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أمثلة على تعلق أهل البدع بمتشابه القرآن للطعن في الدين

شرح كتاب الإبانة - أمثلة على تعلق أهل البدع بمتشابه القرآن للطعن في الدين من أصول أهل البدع تعلقهم بمتشابه القرآن للطعن في الدين، وزعزعة الإيمان في قلوب عامة المؤمنين، ولذا فقد حذر العلماء من مجالسة أهل الأهواء والبدع واستماع شبهاتهم، وصنف أئمة أهل السنة كتباً نفيسة تدفع زيغ أهل الأهواء وشبهاتهم.

موقف أهل السنة وأهل البدع من المتشابه في القرآن والسنة

موقف أهل السنة وأهل البدع من المتشابه في القرآن والسنة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: في الدرس الماضي تكلمنا عن التحذير من الخوض في متشابه القرآن، وقلنا: إن الله تبارك وتعالى أوحى بكلامه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام عن طريق جبريل عليه السلام، فكان من كلام الله المتشابه، ومن كلامه سبحانه وتعالى المحكم الذي لا يلحقه تأويل ولا نقص. وعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالمتشابه: الإيمان به دون خوض فيه. وفيما يتعلق بالمحكم كعقيدة غيرهم أنهم لا يتأولونه من باب أولى، بل يعملون به. وقلنا أيضاً: إن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالمتشابه كما جاء، ويمرونه على المعنى اللائق بالله عز وجل، وذلك إذا كان هذا خاصاً بصفات المولى تبارك وتعالى. أما أهل البدع فإنهم يطنطنون ويدندنون حول متشابه القرآن، ويشككون عامة المسلمين في دينهم، وفي كلام ربهم من واقع هذه الآيات التي يبدو فيها التشابه، ويقولون: هذا اضطراب في كلام الله؛ ولذلك يعتبرون هذا حجة على أن هذا ليس من عند الله عز وجل، والأمر ليس كذلك، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أي: فلما لم يكن فيه أدنى اختلاف؛ دل على أنه كلام الله عز وجل، وكذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين حديث آخر -على هذا النحو- في الظاهر تعارض؛ فإنما ذلك مرده إلى العقل الذي يتعامل مع هذين النصين، فإذا صح النصان فلا بد من الجمع بينهما، ومشكاة الوحي واحدة: قرآن، وسنة، ولذلك قال حسان بن عطية رحمه الله: كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث كما ينزل عليه بالقرآن، والله تعالى زكى كلام نبيه فيما يتعلق بالوحي، فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، سواء كان ذلك في القرآن أو في السنة. وعادة أهل البدع دائماً أنهم يقفون عند المتشابه من القرآن ومن السنة على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. فأردنا أن نذكر أمثلة متممة ومبينة وموضحة فيما يتعلق بتعلق أهل البدع بمتشابه القرآن، إذ إن أهل البدع جعلوا التعلق بالمتشابه بوابة للطعن في كلام الله عز وجل، وزعزعة الإيمان في قلوب عامة المؤمنين والمسلمين. وقد اخترنا رسالة فيها نماذج طيبة، وهي منسوبة للإمام أحمد بن حنبل، وعنوانها: الرد على الزنادقة الجهمية. وفيها: الجزء الأول: الرد على الزنادقة، ثم بعد أن فرغ من شبه الزنادقة رد على شبه الجهمية، قال عبد الله بن الإمام أحمد: هذا ما أخرجه أبي رحمه الله في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويل، أي: صرفوا هذه الآيات عن ظاهرها، وعلى غير ما أراد الله تعالى منها. قال الإمام: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! هؤلاء العلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتن المضلين. انتهت مقدمة الإمام.

قوله تعالى: (بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب)

قوله تعالى: (بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) ثم يبدأ في المسائل التي أثارها الزنادقة: المسألة الأولى: قال أحمد في قول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. قالت الزنادقة: فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلوداً غيرها، فلا نرى إلا أن الله يعذب جلوداً لم تذنب حين يقول: (بدلناهم جلوداً غيرها)! فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض. قال الإمام: إن قول الله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، ليس معناه: جلوداً غير جلودهم، وإنما معناه: جددنا لهم نفس الجلود، أي: أن جلودهم التي احترقت أحياها الله تعالى وأعادها مرة أخرى، فهي نفس الجلود التي كانت تكسو عظامهم في وقت ارتكابهم للذنوب، واستحقوا بموجبها العذاب والحرق، فكلما احترقت جلودهم أرجعها الله عز وجل، وجددها لهم مرة أخرى. وهناك مسألة أخرى لم يذكرها الإمام، وهي: أن العذاب ليس على الجلود فقط، بل على الجلود والأبدان والنفوس والأرواح، وكما أن عذاب القبر يقع على هذا كله، فكذلك عذاب جهنم من باب أولى.

قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) وقوله: (عند ربكم تختصمون)

قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) وقوله: (عند ربكم تختصمون) المسألة الثانية: قوله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35 - 36]. ثم قال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]. ففي الآيتين الأوليين أثبت أنه لا كلام ولا خصومة مطلقاً، وفي الآية الثالثة: أثبت أن الخصومة قائمة، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟! فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضاً؛ فشكوا في القرآن. قال الإمام: أما تفسير: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:35]، فهذا أول ما تبعث الخلائق، أي: لا ينطقون ولا يتكلمون بكلمة واحدة، بل هم يدعون ويبعثون من قبورهم، فهذا أول ما جمعت الخلائق على مقدار ستين سنة، فلا ينطقون ولا يؤذن لهم في الاعتذار بين يدي الله عز وجل حتى يقدموا المعذرة، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون، فذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، أي: الآن أبصرنا العذاب وعقلناه؛ فارجعنا إلى الدنيا فإننا سنعمل صالحاً، فإذا أذن الله عز وجل لهم في الكلام فتكلموا اختصموا في ذلك، وذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]، أي: عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28]، أي: انتهت الخصومة الآن، فكل منكم يلوم الآخر ويلقي بالملامة عليه، فإن العذاب مع هذا القول سار، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نوقش الحساب عذب).

قوله تعالى: (عميا وبكما وصما) وقوله: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة)

قوله تعالى: (عمياً وبكما وصماً) وقوله: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) وأما قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]، وفي آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50]. ففي الآية الأولى: أنهم عمي وبكم وصم. وفي الثانية: ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، فقالوا: كيف يحشرهم الله يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وفي موضع آخر ينادي بعضهم على بعض؟! أي: موضع لا كلام فيه، وموضع فيه كلام، كيف يكون ذلك؟ فشكوا في القرآن من أجل ذلك. قال الإمام أحمد: أما تفسير: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، مع قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50]، فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ويقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم:44]، ويقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهم يتكلمون حتى يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، أي: اسكتوا، ولا يتكلم منكم أحد؛ فصاروا فيها عمياً وبكماً وصماً، أي: يتكلمون أولاً، ثم يضرب عليهم البكم والصم والعمى، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق؛ فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة من قول الله تعالى.

قوله تعالى: (ولا يتساءلون) وقوله: (يتساءلون)

قوله تعالى: (ولا يتساءلون) وقوله: (يتساءلون) وأما قوله: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وفي آية أخرى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]. فالآية الأولى: أثبتت أنه لا أنساب بينهم، وأنه لا يسأل أحدهم الآخر. والآية الثانية: أثبتت هذا التساؤل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟! فشكوا في القرآن من أجل ذلك. قال الإمام: أما قوله عز وجل وعلا: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، فهذا عند النفخة الثانية إذا قاموا من القبور، فلا يتساءلون ولا ينطقون في ذلك الموطن، فإذا حوسبوا ودخلوا الجنة والنار؛ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (ما سلككم في سقر) وقوله تعالى: (فويل للمصلين)

قوله تعالى: (ما سلككم في سقر) وقوله تعالى: (فويل للمصلين) المسألة الثالثة: قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]، وقال في آية أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]. فقالوا: إن الله قد ذم قوماً كانوا يصلون، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، وقال في قوم: إنهم إنما دخلوا النار لأنهم لم يكونوا يصلون؛ فشكوا في القرآن من أجل ذلك. وانظروا إلى أهل البدع كيف يشككون في القرآن؟! وما علموا أن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] مرتبطة بما بعدها، لكنهم أخذوها فقط، فقالوا: الصلاة إما مذمومة وإما ممدوحة، فقلنا: هي ممدوحة، فقالوا: فلم يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]؟ ووقفوا عند هذه الآية، ولم يذكروا قوله بعدها: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]، وإنما اجتزءوا من السورة هذه الآية فقط! و (ويل) هو وادٍ في جهنم كما هو معلوم من أقوال كثير من المفسرين. ثم قالوا: إذا كانت هذه الصلاة ممدوحة فلم جعل الله تعالى للمصلين الويل، وإذا كانت كذلك فلم جعل الله تعالى لهم دركة من دركات النار وهي وسقر، فقال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]. فقالوا: الله تعالى عذب المصلين في كل الأحوال، فإما أن يدخلهم سقر؛ لأنهم لم يصلوا، وإما أنه أدخلهم الويل لأنهم كذلك قد صلوا، فيقولون: هذا ليس من الكلام المحكم لله عز وجل. وهذه طريقة أهل البدع دائماً، أي: أن طريقة أهل البدع الخيانة في العلم، وترك الأمانة في العلم، فإذا أرادوا أن يستدلوا لشبهتهم ولأهوائهم بدليل من الكتاب أو من السنة، أو حتى من أقوال أهل العلم؛ إنما يأخذون من الكلام ما يتفق مع بدعتهم ولو في الظاهر، ويتركون سياق الكلام الذي يخدم القضية برمتها. فقال الإمام: أما قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، فعنى بها المنافقين، {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]، أي: يؤخرون الصلاة حتى يذهب وقتها. قال: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6]، أي: إذا رءوهم صلوا، وإذا لم يروهم لم يصلوا، فهم لا يصلون إلا رياءً وسمعة. وأما قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]، أي: من الموحدين المؤمنين. فهذه ردود على هذه الشبهة.

قوله تعالى: (خلقكم من تراب)، وقوله: (من طين)

قوله تعالى: (خلقكم من تراب)، وقوله: (من طين) المسألة الرابعة: قول الله عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، ثم قال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]، ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ} [المؤمنون:12]، ثم قال: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، ثم قال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]. فهم يشكون في كلام الله عز وجل فيقولون: هذه ملابسة، أي: هذا الكلام مشكل متشابه، ينقض بعضه بعضاً. قال الإمام: هذا بدء خلق آدم، فقد خلقه الله من تراب، ثم من طينة حمراء وسوداء وبيضاء، من طينة طيبة وسبخة، وكذلك ذريته: طيب وخبيث، أسود وأحمر وأبيض، ثم صار ذلك التراب طيناً؛ فذلك قوله: (من طين)، فلما لصق الطين بعضه ببعض صار طيناً لازباً، أي: متماسكاً. ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، أي: مثل الطين إذا عصر انسل من بين الأصابع. فأنت إذا أخذت قطعة من الطين فجعلتها في يدك، ثم عصرتها؛ انسل الطين من بين أصابعك. ثم نتن هذا الطين فصار حمأً مسنوناً. أي: خلق الله الخلق من الحمأ، فلما جف صار صلصالاً كالفخار، يقال: صار له صلصلة، أي: جرس كصلصلة الفخار، وله دوي كدوي الفخار، فهذا بيان خلق آدم. وأما قوله: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، فهذا بدء خلق ذريته من سلالة، أي: النطفة إذا انسلت من الرجل لا من آدم؛ لأن آدم لم يخلق من نطفة، وإنما خلق من طين.

قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب)، وقوله: (رب المشرقين)

قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب)، وقوله: (رب المشرقين) المسألة الخامسة: قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، وقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، فشكوا في القرآن وقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم لله عز وجل؟! أما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28]، فهذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، فقد أقسم الله بمشرقه ومغربه؛ لأنكم تعلمون أن الأيام والليالي على مدار السنة يطول فيها النهار ويقصر فيها الليل، أو يقصر فيها النهار ويطول فيها الليل، فقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، أي: رب مشرق هذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، فيكون النهار اثنتي عشرة ساعة، ويكون الليل اثنتي عشرة ساعة، فأقسم الله تعالى بهذا اليوم، والله تعالى يقسم بالعظيم من مخلوقاته، بخلاف المخلوق، فلا يقسم إلا بالله أو بأسمائه أو صفاته. وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، فهذا أطول يوم في السنة وأقصر يوم في السنة. فإذا قلنا: إن أيام السنة ولياليها تدور بين الطول والقصر؛ فلا بد أن هناك يوماً هو أقصر أيام السنة، ولا بد أن هناك ليلاً هو أقصر ليالي السنة. ففي هذا الموطن أقسم الله تعالى بأقصر أيام السنة، أو بأطول أيام السنة. وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، أي: مشارق السنة ومغاربها. وهذا ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (وإن يوما عند ربك)، وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه)

قوله تعالى: (وإن يوماً عند ربك)، وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه) المسألة السادسة: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أي: في أيامكم، وهذا يوم يساوي ألف سنة مما نعد. وقال في آية أخرى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، فهذا أيضاً يوم يساوي ألف سنة مما نعد. وقال تعالى في آية أخرى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]. فأثبت أن اليوم عند الله عز وجل يساوي ألف سنة مما نعد، كما أثبت أن الملائكة والروح تعرج إليه في يوم يساوي خمسين ألف سنة، فقالوا: كيف يكون هذا الكلام محكماً وهو ينقض بعضه بعضاً؟ قال الإمام في قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أي: أن هذه الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض كل يوم كألف سنة. وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5]. قال: ذلك أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويصعد إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة، وذلك أنه من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فهبوطه خمسمائة وصعوده خمسمائة، فذلك ألف سنة. وأما قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، قال: لو ولي حساب الخلائق غير الله عز وجل ما فرغ منه في يوم مقداره خمسين ألف سنة، لكن الله تعالى يفرغ منه في نصف يوم من أيام الدنيا، وذلك قوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، أي: سرعة في الحساب.

قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله: (ولا يكتمون الله حديثا)

قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله: (ولا يكتمون الله حديثاً) المسألة السابعة: قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، إلى قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، أي: أنهم أنكروا عند الله عز وجل أنهم اتخذوا شركاء وأنداداً له سبحانه وتعالى. وقال في آية أخرى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]. فهذه الآية صرحت أنهم لا يستطيعون إنكار ما كانوا عليه من شرك، بل يحدثون الله تعالى بما كانوا عليه من الشرك. وعليه فالزنادقة شكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض. قال الإمام: أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، وذلك أن هؤلاء المشركين إذا رءوا عفو الله عن أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض: إذا سألنا نقول لم نكن مشركين، فلما جمعهم الله وجمع أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دونه قال لهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. فلما كتموا الشرك ختم الله على أفواههم وأمر الجوارح فنطقت بذلك، وذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة. وانظر إلى الإمام فإنه يقول: هذا تفسير ما شكت، ولم يقل: ما تأولت، ولا ما توهمت، ولا ما جهلت، وإنما يقول: هذا تفسير ما شكت؛ لأن عادة أهل البدع الشك، كما قال المخبول طه حسين: الأصل عندي في كتاب الله الشك حتى يتميز لي، أي: أنه يشك في كلام الله؛ لأنه تربى على منهج الملاحدة والزنادقة.

قوله تعالى: (إن لبثتم إلا عشرا) (ما لبثوا غير ساعة) (إن لبثتم إلا يوما)

قوله تعالى: (إن لبثتم إلا عشراً) (ما لبثوا غير ساعة) (إن لبثتم إلا يوماً) أما قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، أي: يوم تقوم الساعة ويبعث الناس من قبورهم يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا في القبر غير ساعة واحدة، وقالوا: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]، أي: يتهامسون فيما بينهم يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم أكثر من عشر، فطائفة تقول: ساعة، وطائفة أخرى تقول: عشراً، وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، ومن أجل ذلك شك الزنادقة كم لبثوا؟ يوماً عشراً ساعة قليلاً يوماً. فقوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103] يقولون ذلك إذا خرجوا من قبورهم، وذلك إذا نظروا إلى ما كانوا يكذبون به من أمر البعث؛ لأن أول شيء تقع عليه أعينهم حين يبعثهم الله من قبورهم أنهم يرون ما كانوا يكذبون به في الحياة الدنيا، فيتجادلون ويختصمون ويتكلمون فيما بينهم، ويقول بعضهم لبعض: إن لبثتم في القبور إلا عشر ليال، ثم استكثروا العشر، فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، أي: في القبور، ثم استكثروا اليوم فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، ثم استكثروا القليل فأقسموا ما لبثوا غير ساعة من نهار، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (قالوا لا علم لنا) وقوله تعالى: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)

قوله تعالى: (قالوا لا علم لنا) وقوله تعالى: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) وأما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، أي: ماذا كان موقف الأمم منكم؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109]، هذا رد الأنبياء والمرسلين على الله عز وجل لما سألهم عن العلاقة التي كانت بينهم وبين أقوامهم. وقال تعالى في آية أخرى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، فقالوا: كيف يكون هذا، يقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109]، ثم يقولون: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، فزعموا أن القرآن متناقض ينقض بعضه بعضاً. يقول الإمام: أما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، فإنه يسألهم عند أول زفرة لجهنم، فيقول: ماذا أجبتم في التوحيد؟ فتذهل عقولهم عند زفرة جهنم، فيقولون: لا علم لنا. والذي يترجح لدي: أن الأنبياء إنما قالوا: لا علم لنا؛ تأدباً مع الله عز وجل. ثم ترجع إليهم عقولهم من بعد فيقولون: ((هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ))، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة)، وقوله تعالى (لا تدركه الأبصار)

قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة)، وقوله تعالى (لا تدركه الأبصار) المسألة الثامنة: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]. فقالوا: كيف يكون هذا؟ يخبر أنهم ينظرون إلى ربهم، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض لأجل ذلك. قال الإمام: أما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]، من النضرة والحسن والبياض والبهاء، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، أي: تعاين ربها عز وجل في الجنة، فهي تنظر إليه بأعينها، وهذا خاص بالمؤمنين دون غيرهم، وعلى هذا إجماع أهل السنة كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر، ليس دونه غيم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترون الشمس في رابعة النهار؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته). وفي رواية: (لا تضارون في رؤيته)، أي: لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا اختلاف دون رؤيته، فكما أنكم ترون القمر في ليلة البدر حقاً مستديراً نيراً مضيئاً؛ فكذلك سترون الله عز وجل، وليس هذا تشبيهاً لله عز وجل بالقمر، وإنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا تشبيه للمرئي بالمرئي، وهذه جزئية في غاية الأهمية، ودائماً أهل السنة يدندنون حول هذا الأمر. قوله: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر)، تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي وهو الله عز وجل بالمرئي وهو القمر، فالله تعالى ليس كالقمر، ولا نقول: إنه كالقمر، بل ذات الله تعالى وصفاته لا يعلم كيفيتها إلا هو، فنحن نؤمن بها ونثبتها لله كما أثبتها لنفسه كما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى. وأما التشبيه والتكييف والتمثيل فلا نقول به، كما لا نقول بالتعطيل والتحريف والتأويل من باب أولى. أما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فالإدراك بمعنى الإحاطة، فأنت عندما تنظر إلي لا تدركني؛ لأنك تراني من أحد جوانبي، ولا تراني من كل جوانبي. وإذا حملنا الإدراك على الرؤية فنقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: في الدنيا، فلا تستطيع العين أن تنظر إلى الله تعالى، والله تعالى مرئي، لكن في الآخرة وليس في الدنيا، ولذلك لما سأل موسى عليه السلام ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: أنا لا أُرى، وإنما قال: لن تراني، أي: لن تراني يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، لكن الجبل لم يستقر، بل {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وهذه آية من آيات الله عز وجل، لو قال الله تعالى لموسى: أنا لا أُرى؛ لكان هذا نفياً للرؤية في الدنيا والآخرة، لكنه قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، أي: لن تراني الآن وأنت في هذه الحياة، لكنك بعد موتك وبعثك ستراني يوم القيامة، وكذا تراني في الجنة. فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: لا تحيط به الأبصار حتى بعد أن تراه في الآخرة. ومن فسر الإدراك بالرؤية حمل الآية على: لن تراني، أو لا تراه الأعين والأبصار في الدنيا. فلا تعارض بين قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وبين قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. و (يومئذ) هو يوم القيامة باتفاق المفسرين وباتفاق أهل السنة. ولم يختلف أهل السنة والجماعة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة، أما الكافرون والمشركون فإنهم لا يرونه، بل يحجبون عن رؤيته. ووقع خلاف بين أهل العلم من أهل السنة في رؤية المنافقين لله عز وجل: فبعضهم يقول: يرون الله تعالى رؤية ذل وصغار، أي: يعاقبهم الله عز وجل فينظرون إليه، ويسمح لهم بالنظر إليه تحسراً على ما كان منهم من نفاق. ومنهم من يقول: بل هم كالكفار؛ لأنهم حقيقة كفار، فهم لم يؤمنوا بالله ولا برسوله، وهذه المسألة مما لا يبدع فيها المخالف. فقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء:153]، فماتوا وعوقبوا لقولهم: ((أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً))، وقد سأل مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّ

قول موسى: (وأنا أول المؤمنين) وقول السحرة: (إن كنا أول المؤمنين)

قول موسى: (وأنا أول المؤمنين) وقول السحرة: (إن كنا أول المؤمنين) المسألة التاسعة: قول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]. وقال السحرة: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]. فإذاً موسى قال: (أنا أول المؤمنين)، والسحرة قالوا: (إن كنا أول المؤمنين). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، فقالوا: كيف قال موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وقد كان قبله إبراهيم مؤمناً ويعقوب وإسحاق؟! وقالت السحرة وهم الذين آمنوا بموسى: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، وكيف جاز للنبي أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، وقد كان قبله مسلمون كثيرون مثل عيسى ومن تبعه؟ فشكوا في القرآن وقالوا: إنه متناقض. و A أن قول موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات، أي: صعق. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات. وقوله: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، أي: من هذا السؤال، فلا أسألك الرؤية مرة أخرى؛ لعلمي باستحالتها في الدنيا في حق المخلوقين. أما في الآخرة فالعقيدة قائمة وثابتة أنه يراه أهل الإيمان، ويحجب عنه الكافرون. وأما قول السحرة: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، أي: أول المصدقين برسالة موسى عليه السلام، فالإيمان بمعنى: التصديق، وهذا معناه اللغوي، ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: بمصدق لنا. وهذا بخلاف تفسير الإيمان عند أهل السنة والجماعة، إذ إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. ولذلك اغتر المرجئة بتعريف الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق فقط. والجهمية قالوا: الإيمان هو العلم. ومنهم من قال: الإيمان هو المعرفة. ولا شك أن تعريف الإيمان على هذا النحو لا يصدق مع مذهب الاستقامة عند أهل السنة والجماعة؛ لأنهم -أي: المرجئة- يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته، كما أن الجهمية يجعلون إبليس من المؤمنين؛ لأنه كان يعلم ويعرف ربه حق المعرفة، فهم يقولون: الإيمان هو المعرفة، أو الإيمان هو العلم، لكن إبليس يعلم أن الله تعالى رب، ويعرف حقيقة الله عز وجل، ويعلم ذلك تمام العلم، فهل يصير بذلك مؤمناً؟! لذلك كانت هذه التعريفات للإيمان من جهة الاصطلاح كلها تعريفات منابذة لتعريف أهل السنة والجماعة. وأحياناً الواحد منا يدخل في تحد، أو في مسابقة، أو غير ذلك، وهذا الكلام من كلام العرب، فيقول: لو أنك يا بني نجحت في الامتحان، وأتيت بدرجة (100%)؛ فأنا أول من يمنحك هدية، لكن سبقك إلى الإهداء غيرك، وكذلك قولي: لو أنكم فعلتم كذا وكذا لكنت أنا أول المطبقين، فلا يلزم أن أكون أول المطبقين على الإطلاق، لكن يلزم أنني من أوائل المطبقين لهذا الكلام، وغير ذلك من الأمثلة كثير، والمقصود هنا: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أنا أكون أول من يؤمن بهذا، ولا يلزم من ذلك الأسبقية المطلقة في الإيمان والتصديق، وإنما ذلك مثل ما تقول بالضبط: لو أنك يا فلان ذهبت إلى زيارة والديك فسوف تجدني أول من يدخل بيتك، ويحملك إلى والديك، وآخر مات أبوه وأمه فقال: الذي يمنعني من زيارتهما هو عدم وجود المواصلات، فقلت له: لو أنك مستعد لزيارة والديك فستجدني أول من ينتظرك بسيارتي عند بابك ليحملك إلى والدك، وعليه فإذا أبدى الموافقة فلا يلزمك أنك تكون أسبق الناس إليه، بل ربما سبقك غيرك. إذاً معنى كلامي: لو أنك مستعد لزيارة والديك ستجدني على أتم استعداد لحملك. وهكذا قول الأنبياء: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وقول السحرة {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، أي: من أوائل المؤمنين المتابعين المصدقين لهذا الوحي الذي نزل من السماء. وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، أي: من أهل مكة، أو يحمل على كلامنا السابق، وهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (أدخلوا آل فرعون)، وقوله: (فإني أعذبه عذابا)

قوله تعالى: (أدخلوا آل فرعون)، وقوله: (فإني أعذبه عذاباً) المسألة العاشرة: قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، وقال في آية أخرى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. قالوا: هذه الآيات كلها متناقضة؛ فشكوا في القرآن لأجل ذلك. كيف يقول الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أي: معناه أن فرعون ومن معه في أشد دركات العذاب، ثم يقول: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] ثم يثبت الله تعالى أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فكيف يكون فرعون ومن معه في أشد دركات العذاب؟ ثم كيف يكون المنافقين في الدرك الأسفل من النار؟ والمعلوم أن فرعون لم يكن منافقاً، بل كان كافراً كفراً بواحاً صريحاً. قال الإمام: قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أي: أشد العذاب في ذلك الباب الذي يدخلون فيه. ولذلك نحن قلنا: إن الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب، ولكل باب منها دركات، وفرعون ومن معه يدخلون من باب واحد، فهم يدخلون أشد دركات العذاب من هذا الباب، والمنافقون يدخلون من باب آخر، لكنهم يكونون في هذا الباب الذين يدخلون منه في الدرك الأسفل من النار. فهل بقي هناك شك؟ ليس هناك شك في ذلك. قال: وقوله: {عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] وذلك أن الله تعالى مسخهم خنازير؛ فعذبهم بالمسخ ما لم يعذب سواهم من الناس. وأما قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]؛ لأن جهنم لها سبعة أبواب: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية، أعاذنا الله وإياكم منها.

قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) وقوله: (شجرة الزقوم طعام الأثيم)

قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) وقوله: (شجرة الزقوم طعام الأثيم) أما قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أي: أن الضريع هو طعام أهل النار، ثم بين أنهم كذلك يأكلون من شجرة الزقوم، فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]. وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أسلوب حصر بإلا. يفيد حصر الطعام لأهل النار في الضريع، لكن كيف يقول مرة أخرى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:43 - 45]، فأخبر أن لهم طعاماً غير الضريع؟! فشكوا في القرآن لأجل ذلك. قال الإمام: أما قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أي: ليس لهم طعام إلا من ضريع في ذلك الباب الذي دخلوا منه -كما قلنا تماماً في المسألة الأولى- وهذا الضريع ليس في الباب الآخر، وإنما الذي في الباب الآخر هو الزقوم، وهكذا كل باب له طعام، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (أن الكافرين لا مولى لهم)، وقوله: (ثم ردوا إلى الله مولاهم)

قوله تعالى: (أن الكافرين لا مولى لهم)، وقوله: (ثم ردوا إلى الله مولاهم) المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]. ثم قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]، وهم مشركون كافرون، فكيف أثبت أن الله مولاهم الحق في الآية الثانية، وفي الآية الأولى قال: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]؟ إن هذا تناقض يرد به القرآن، فشكوا في القرآن لأجل ذلك. قال الإمام: أما قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11]، فالمولى هنا بمعنى: الناصر والمعين، أي: أن الله ناصر الذين آمنوا، ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ))، أي: لا ناصر لهم. وأما قوله: ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ))؛ لأنهم في الدنيا اتخذوا أرباباً وآلهة باطلة أولياء من دون الله عز وجل؛ فكان أحدهم يوالي من يعبده من غير الله عز وجل، فيتخذه ولياً وحميماً وناصراً ومولى؛ فبين الله عز وجل لهم في الآخرة أنه لا مولى على الحقيقة إلا هو سبحانه وتعالى، وهذا مما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين)، وقوله: (وأما القاسطون)

قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين)، وقوله: (وأما القاسطون) المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]، وقال في آية أخرى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، فكيف يجعل الله تعالى القاسطين لجهنم حطباً، مع أنه أخبر أنه يحبهم؟! حتى تعلم أن أصحاب البدع دائماً جهلة بأصول اللغة، فهم أجهل من دوابهم التي يركبونها؛ لأن المقسط غير القاسط، فالله عز وجل أثبت أنه يحب المقسطين، وأثبت أن القاسطين هم حطب جهنم، فهم قالوا في هذا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ واعلم أنه ما من صاحب بدعة يجتهد عليك، ويشكك فيما أنت فيه إلا من واقع هذه الأمثلة، وإذا كان الحق واحداً، فالذي تسمعه في القرن الأول الهجري ستسمعه في اليوم الذي يسبق قيام الساعة، والكلام الذي نقوله نحن الآن أخذناه من أسلافنا، وليس من أقوالنا نحن. وكذلك أنتم تبلغونه عني، وغيركم يبلغه عنكم، وهكذا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد. وأهل الباطل كذلك لهم شبهات وأهواء ومشارب فاسدة يتلقونها واحداً عن واحد، وخلفاً عن سلف، ولذلك انظر لأي إنسان من أهل البدع والأهواء، وقل له: هات ما عندك، فوالله لا يستطيع ولا يقوى أن يذكر لك شبهة لم يقل بها أحد من أسلافه، بل لا بد أن يذكر ما تقدمه به أسلافه، فلا تزال الشبة هي هي، ولا يزال الحق هو هو، فهذا له أبناؤه، وذاك له أبناؤه. ولذلك عمد العلماء من أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ألا يجيبوا عن أسئلة أهل البدع إذا كان ذلك الأمر يطرح على الملأ، وقد سأل واحد من أهل الأهواء والبدع مالكاً في مسألة فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه، فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه؛ فقال: يا فلان! سل تعلماًَ ولا تسأل تعنتاً، أي: أن الذي يمنعنا من الرد عليك ليس هو العي والجهل والعجز، وإنما أمرنا أن نضع العلم في أهله، فإن كان صاحب هوى لا يتكلم إلا في الفتن والشبهات وغير ذلك؛ فهذا خليق وجدير بأن لا يعلَّم، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والباطل عمره ومدته ساعة من زمان، فلا يصبر عليه صاحبه، وإنما تمل نفسه سريعاً، ولذلك أنا دائماًَ أوصي نفسي والآخرين على القوة والمتانة في حمل الحق والدعوة إليه بالليل والنهار؛ لأن أهل الباطل في هذا الزمان انتفشوا بصورة لم يسبق لها مثيل؛ لغياب الحاكم بهذا الدين وبهذه الشريعة، فتكلم كل ناعق بما عنده، ونضح كل قدر بما فيه، وأهل الحق قلَّ منهم من يتكلم، وهذه مفارقة عجيبة جداً، جديرة بأن تنزل عليهم من السماء صاعقة، لا أصحاب الباطل فحسب، بل تبدأ هذه الصاعقة بنا أهل الحق؛ لأن كثيراً منهم يعرف الحق ولا يتبعه، ويعلم أن هذا منكر ولا يجتنبه. قال الإمام: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، أي: العادلون بالله الجاعلون له عدلاً من خلقه، فيعبدونه مع الله؛ ولذلك المقسط هو العدل، يقال: أقسط يُقْسِط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يَقْسِط فهو قاسط إذا جار، فالقسط هو الجور والعدول عن الحق، والقاسطون هم الجائرون المائلون العادلون عن الحق. وكنا من قبل نسمع: (يد القاسط في النار وإن عدل)، وهو حديث موضوع. وليس في كتب الموضوعات، بل نحن الذين وضعناه، فالذي وضعه شخص منا، ومعناه في الحقيقة: وإن عدل عن الحق، فالكلام في هذا المتن مستو، لكن السند إلى النبي عليه الصلاة والسلام غير صحيح. فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]، أي: العادلين القائمين بالحق وعلى الحق. وقوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:15]، أي: المائلون عن الحق، وبذلك تنتهي هذه الشبهة.

قوله تعالى عن المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء)

قوله تعالى عن المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء) المسألة الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]. وقال في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضاً. قال الإمام: أما قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فالولاية هنا بمعنى: الإرث؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الأمر في أوله إخاءً بين المهاجرين والأنصار؛ فكان إذا مات أحد المهاجرين ورثه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه المهاجري. فكان الميراث يوزع على أساس الأخوة في الإيمان، وكان هذا أول الأمر، ثم نسخ في شريعة النبي عليه الصلاة والسلام بأن رد إلى الأنساب بعد ذلك. وكان في ذلك الوقت من آمن وبقي في مكة ولم يهاجر ليس له حق في الميراث، فلا يأتي شخص مثلاً آمن ثم يبقى في مكة، وله أخ آمن وهاجر، فإذا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا المهاجري وبين أحد الأنصار فمات المهاجري؛ فليس لأخ المهاجر في مكة إرث، بل إرثه لأخيه الأنصاري، دون من ترك الهجرة وبقي في مكة. فكان هذا هو الأصل في أول الأمر، حيث ترتب على هذه المؤاخاة حقوق منها: الإرث، أي: ثبوت الإرث بإخوة الإيمان بين المهاجرين وبين الأنصار، وهذا حكم نسخ بقول الله عز وجل: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6]. فقال: ((بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ))، فهذه الآية نسخت قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ} [الأنفال:72]، أي: من إرثهم، {حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فانتهت بذلك هذه الشبهة.

قوله تعالى لإبليس: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقول موسى: (هذا من عمل الشيطان)

قوله تعالى لإبليس: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقول موسى: (هذا من عمل الشيطان) المسألة الرابعة عشرة: قوله تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]. وقال موسى حين قتل النفس: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، وشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض؛ لأن موسى من عباد الله المخلصين، فكيف قتل هذه النفس، مع أن هذا من تسلط الشيطان، والشيطان لا سبيل له على المتقين؛ لقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]؟ والذي أريد أن أقوله: إن موسى قتل النفس قبل أن يكون نبياً، وهذا كفيل بإزالة الإشكال، وأهل الجاهلية منهم الصالح ومنهم الفاسد، وعلى أي حال فـ ابن كثير رحمه الله قد نقل الخلاف في هذه القضية، والذي ترجح لدى القرطبي وغيره: أن قتل النفس كان قبل البعثة، وأنه لم يرتكب نبي كبيرة قط بعد بعثته، وهذا الذي يترجح لدي؛ لإجماع أهل السنة والجماعة على ذلك؛ لأنكم تعلمون أن الأنبياء معصومون في تلقي الوحي، وفي تبليغ الوحي، ومعصومون من الكبائر، وليسوا كذلك فيما يتعلق بالصغائر، وهذا مذهب أهل الحق. وانظر إلى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أما قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، أي: الذين استخلصهم الله لدينه، ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في دينهم أو عبادة ربهم، لكن يصيب منهم من قبل الذنوب. أما الشرك فلا يقدر إبليس أن يضلهم عن دينهم؛ لأن الله تعالى استخلصهم لدينه وعبادته. وأما قول موسى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، أي: من تزيين الشيطان، كما زين ليوسف ولآدم وحواء وهم عباده المخلصون؛ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (اليوم ننساكم كما نسيتم)، وقوله (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى)

قوله تعالى: (اليوم ننساكم كما نسيتم)، وقوله (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) المسألة الخامسة عشرة: قول الله تعالى للكفار: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، واليوم هو يوم القيامة، وقال في آية أخرى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]. فأثبت الله تعالى في هذه الآية أنه لا ينسى، وفي الآية الأولى أثبت أنه ينسى. قال الإمام: أما قوله تعالى: ((الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا))، فالنسيان بمعنى الترك في النار، فيكون التقدير: فاليوم نقذفكم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، والإيمان بهذا اليوم. وأما قوله: ((فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، أي: لا يذهب من علمه ولا حفظه، ولا ينساه المولى عز وجل؛ لأن النسيان صفة نقص لا تليق إلا بالمخلوق، أما العلم التام الكامل المطلق فهو صفة من صفات الله عز وجل.

قوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى) وقوله تعالى: (فبصرك اليوم حديد)

قوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى) وقوله تعالى: (فبصرك اليوم حديد) المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:124 - 125]، أي: كنت أبصر بعيني في الدنيا، فلم حشرتني هنا أعمى؟ وقال في آية أخرى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فكيف يحشره الرب أعمى؟ وكيف يثبت أن بصره في ذلك اليوم حديد؟ قالوا: كيف يكون هذا من كلام الله المحكم؟ فشكوا في القرآن لأجل ذلك. قال الإمام: قوله تعالى: ((وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))، أي: أعمى عن حجته؛ لأن العمى نوعان: عمى البصر، وعمى البصيرة، وعمى البصيرة أشد من عمى البصر، فعبر الله عز وجل عن عمى البصيرة في يوم القيامة بالعمى. وقال: ((رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى))، أي: لم حشرتني أعمى عن حجتي، وقد كنت بصيراً بها، أي: بحجتي، مخاطباً بها؛ فذلك قوله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص:66]، أي: ضلت عنهم، والأنباء هي الكتب، فهم لا يتساءلون. وأما قوله: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ذلك أن الكافر إذا قرب من قبره شخص ببصره، ولا يصرف بصره قط حتى يعاين جميع ما كان يكذِّب به من أمر البعث. فلما عاين ببصره الذي ركبه الله تعالى فيه على نحو معين يدرك به الحقائق التي كان يكذب بها؛ قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، أي: بعد أن عاين الكافر ما كان يكذِّب به؛ قال الله تعالى كالمبكِّت له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، أي: كشفنا عنك غطاء الآخرة، فبصرك حديد لا يصرف حتى تعاين وترى جميع ما كنت تكذب به من أمر البعث؛ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.

قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى)، وقوله: (إنا معكم مستمعون)

قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى)، وقوله: (إنا معكم مستمعون) المسألة السابعة عشرة: قول الله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. وقال في موضع آخر: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، فقالوا: كيف قال: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا))، وقال: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}؟ فشكوا في القرآن لأجل ذلك. قال الإمام: أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، فهذا من مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، بصيغة الجمع، فيحمل على التعظيم، ومثله: قول الرجل للآخر: نحن نحبك في الله، وهو واحد، وإنما يقصد بذلك التعظيم. وأما قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فكذلك جائز في اللغة، يقول الرجل الواحد للرجل: سأجري لك رزقك، أو سأفعل بك كذا وكذا. هذه المسائل التي اختارها الإمام للرد على الزنادقة، وأما رده على الجهمية فهو رد طويل لا داعي له الآن، خاصة وأن الإمام يدخل في قضية خلق القرآن. لكن الإمام هنا يقول: إذا سمع الجاهل قول هؤلاء الزنادقة؛ يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله. وهذا دائماً مذهبهم، حتى يكسبوك للجهمية، وهم في الحقيقة معطلة ونفاة، إذ إنهم يقولون: نحن لا نثبت لله وجهاً ولا عيناً ولا يداً ولا ساقاً؛ لأننا لو أثبتنا نكون بذلك قد شبهنا الخالق بالمخلوق، فنحن ننزه الخالق عن مشابهته المخلوقين. فهم الآن عطلوا الله تبارك وتعالى عن صفاته تحت ما يسمونه بالتنزيه، أي: نزهوا المولى عز وجل أن يشابه مخلوقاته؛ فوقعوا في شر من ذلك وهو التعطيل. ومثلهم الأشاعرة ومن معهم من المتأولين، فقد أولوا الصفات. أما الفريق الذي يقابلهم فهم الممثلة والمشبهة الذين يقولون: يد الله تعالى كأيدينا، ووجه الله تعالى كوجوهنا، وساق الله تعالى كسوقنا؛ حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، لكنهم تأدبوا شيئاً ما، فقالوا: الله تعالى أفضل وأجمل ما يكون في المخلوق؛ فجعلوا الله تبارك وتعالى رجلاً جميلاً؛ لأنهم أثبتوا هذه الصفات على الحقيقة. وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا: نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات والأسماء، لكننا نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن على وجه لا يليق قط أن يكون بالمخلوقين، بل يليق بجلال الله تعالى وكماله وعظمته. يقول الإمام: فإذا سمع الجاهل قوله؛ يظن أنه من أشد الناس تعظيماً لله، ولا يعلم أنه إنما يعود قوله إلى ضلالة وكفر، ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله عز وجل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على شبهة أن قبر النبي وصاحبيه داخل المسجد

الرد على شبهة أن قبر النبي وصاحبيه داخل المسجد Q كنت أنصح شخصاًَ من إخواني بعدم الصلاة في المساجد التي فيها قبور، فأثار شبهة وهي: وجود قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه: أبي بكر وعمر في مسجد المدينة، ومع هذا لا قائل بترك الصلاة في هذا المسجد من علماء الأمة، فما ردكم على هذه الشبهة؟ A هذا كلام صحيح أنه لا قائل قط بترك الصلاة في مسجد المدينة، بل لا يقول ذلك إلا إنسان جاهل لا علم عنده. أما الجواب عن هذه الشبهة: فإن القبر لم يبن في المسجد، ولم يبن عليه المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). والمسلمون لم يتخذوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداًَ ابتداءً، والعلماء يفرقون بين بناء المسجد على القبر، وبين أن يبنى المسجد أولاً، ثم يبنى بداخله القبر، فلا هذا ولا ذاك في قبر النبي عليه الصلاة والسلام. لكن الوليد بن عبد الملك رحمه الله لما أراد توسعة المسجد النبوي، ونحن لسنا في حاجة إلى توسعة مسجد ما، بخلاف حاجة المسلمين عامة في العالم كله إلى توسعة هذه المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال: المسجد النبوي، والأقصى، والمسجد الحرام. فهذه المساجد في أمس الحاجة إلى توسعة في كل فترة من الزمن، ولذلك يقوم كل واحد في زمانه بتوسعة هذه المساجد شيئاً ما؛ لحاجة الناس. ولك أن تتصور الآن أن النبي عليه الصلاة والسلام حج في حجة الوداع أو في عام الوداع -وهي حجته الوحيدة- وكان معه (114000) من المسلمين، وهذا عدد مهول في ذلك الزمان، ولا يزال العدد الآن في ازدياد؛ حتى وصلوا إلى ثلاثة ملايين. وبلا شك لو كان المسجد الحرام على هيئته الأولى في زمن النبوة؛ فإنه لا يكفي لهذا العدد، ولذلك كانت هذه التوسعة أمراً لازماً ضروياً للحفاظ على حياة الناس، وأنت ترى في كل عام من مواسم الحج آلاف القتلى من الزحام، فلك أن تتصور أن هذه الأماكن النسكية كانت على هيئتها الأولى، فماذا كان سيصنع الناس؟! أقول هذا الكلام كالمقدمة إلى الضرورة الملحة التي جعلت الوليد بن عبد الملك بن مروان يوسع المسجد النبوي، ورغماً عنه دخل القبر في المسجد بسبب التوسعة، لكن بغير قصد، وائتني بمسجد من مساجد المسلمين عامة دخل فيه القبر بغير قصد، قبر الحسين دخل مسجد الحسين بقصد. وهكذا كل المساجد التي فيها قبور دخلت القبور فيها بقصد، بل بوصية مكتوبة أو شفهية. أما الذي حدث بقبر النبي عليه الصلاة والسلام فليس بقصد، فضلاً أن هذا المسجد له مكانة عظيمة، وهو محفوظ بحفظ الله. والنبي عليه الصلاة والسلام قد دعا فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). فلا زلنا إلى يومنا هذا لا نرى عابداً لقبر النبي عليه الصلاة والسلام، بل ولا تجد شخصاً مثلاً يأخذ تراباً ويضعه على رأسه مثل ما يفعل مثلاً عند قبر الإمام الشافعي، وأنتم تعرفون أن قبر الإمام الشافعي إلى الآن له يوم في السنة يزوره الناس، فيأتي إليه عباد القبور من شرق الأرض وغربها، حتى رأيت أناساً من أوربا وأمريكا يأتون ليشتروا التراب من كنس المسجد في هذا اليوم بمائة دولار؛ لأنهم يعتقدون في هذا التراب! فهل رأيتم ما الذي يجري حول هذه القبور من الاستغاثة والنذر والذبح والاستعاذة والتضرع والذل والطواف؟ وهل رأيتم مثل هذا عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام؟ ثم إن الأصل تحريم الصلاة في المساجد التي فيها قبور لنفي شبهة الشرك، وليست هذه الشبهة قائمة عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا فارق من الفوارق بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من المساجد. الفارق الثاني: أن هذا القبر محفوظ أن يكون وثناً، وهناك فرق كبير جداً بين القبر وبين الوثن، فالوثن: هو ما عبد من دون الله، أما القبر فلا، ولذلك مكان دفن الموتى هو القبور لا المساجد، ثم وجود القبر في مسجد على هذا النحو الذي نراه يحوله من قبر إلى وثن؛ لوجود هذه العبادات حوله، وكلنا يعرف ما يحصل في القبور بشكل واضح، فهذه ليست قبوراً وإنما هي أوثان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). وأنتم تعلمون أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، فسيبقى قبره عليه الصلاة والسلام قبراً فقط، لا وثناً إلى قيام الساعة؛ بدعوته عليه الصلاة والسلام. الفارق الثالث: أن هذا المسجد له خاصية، تختلف عن بقية المساجد، فشد الرحال إليه -أي: إلى المسجد النبوي- مشروع في الإسلام، والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

كتاب الإيمان - مقدمة كتاب الإيمان

شرح كتاب الإبانة - كتاب الإيمان - مقدمة كتاب الإيمان الإيمان قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد نزل القرآن بترتيب فرائض الإيمان، حتى اكتمل الدين وتمت النعمة، وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شعب مختلفة في المرتبة والأهمية، فمنها ما لو تخلف العبد عن الإتيان بها فلا يصح إيمانه، ومنها ما لو تخلف العبد عن الإتيان بها نقص إيمانه مع صحته في أصله.

باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل

باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع الجزء الخامس من كتاب (الإبانة) وهو جزء جديد وباب جديد يتعلق بالإيمان والإسلام، وقواعد الإيمان والإسلام وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالإيمان والكفر، وهو تقريباً سيكون أهم باب في هذا الكتاب، وما تقدم يعتبر كالمدخل لهذا الموضوع. قال المؤلف رحمه الله: [الجزء الخامس من كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) وهو الأول من الإيمان] يعني: هذا أول الكلام فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر. قال: [وفيه ثمانية أبواب: الأول: باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن، وترتيب الفرائض وأن الإيمان قول وعمل. الثاني: باب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية. الثالث: باب معرفة الإسلام وعلى كم بني. الرابع: باب معرفة الإسلام والإيمان، وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. الخامس: باب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم. السادس: باب كفر تارك الصلاة، ومانع الزكاة، وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك. السابع: باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق، وعلامات المنافقين. الثامن: باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارق الإيمان، فإن تاب راجعه] أي: رجع إليه الإيمان. ثم يتكلم ابن بطة عليه رحمة الله في مقدمته لمعرفة أصول هذا الكلام، أي: أصول هذه الأبواب فيقول: [بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بعونك، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي هو ربنا وبه نستعين، وإياه نسأل أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، الذي أنعم عليهم بهدى القرآن فاتبعوه واهتدوا، ومنَّ عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبسنته فسلكوا سبيله واقتدوا، متبعين غير مبتدعين، ومذعنين غير طاعنين، وموقنين غير شاكين ولا مرتابين، وهادين بدعوته غير ضالين ولا مضلين. فسلموا عاجلاً -أي: في الدنيا- من السخط والشك والارتياب، واستحقوا آجلاً -أي: في الآخرة- الرضا وجزيل الثواب، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. وصلى الله على من ختم به الرسالة، وأكمل به الحجة، وأوضح به المحجة، وأرسله إلى جميع عباده كافة على فترة من الرسل، ودروس من العلم -أي: وذهاب للعلم- فأنقذ به من عباده من سبقت له الرحمة في كتابه، ففتح أبواب السماء برحمته، وجعله الداعي إلى الحق، والهادي إلى الرشد، والقائم بالدين، ذاك -والله- محمد المصطفى، ونبي الله المرتضى، خير خلقه نفساً، وأكرمهم طبعاً، وأطهرهم قلباً، وأصدقهم قولاً، وأكملهم عقلاً، وأشرفهم خلقاً، النبي الأمين الزكي المرضي، فدعا الناس إلى الإقرار بتوحيد الله ومعرفته، والبراءة من الأضداد والأنداد، وأن محمداً رسوله الصادق، من اتبعه اهتدى فنجا، ومن خالفه هلك وغوى، جعلنا الله وإياكم ممن سبقت له الحسنى، فعُصم من متابعة الهوى، وموافقة أهل الزيغ والردى، ووفقنا وإياكم لاتباع الكتاب والسنة اللذين الدين فيهما مشروع -أي: لا يشرع شيء في الدين إلا من خلال الكتاب والسنة-، والحكم فيهما مجموع، وخير العاجلة والآجلة فيهما موضوع، قد قطع بهما عذر كل معتل، وسد بهما فاقة كل مختل، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم. أما بعد: وفقكم الله! فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين، وسماكم بها المؤمنين، وجعلكم إخوة عليها متعاونين، وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين، الذين زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة]. يتكلم رحمه الله في هذه المقدمة بكلام صريح في نبذ عقائد الفرق الضالة، وتثبيت وتأييد عقيدة الفرقة الناجية، فقال: [وميز المؤمنين من المبتدعين المرجئة الضالين الذين زعموا -وهذا أصل اعتقاد المرجئة، ماذا زعموا؟ - زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة] أي: إقرار بالقلب من غير عمل. ثم قال: [فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده] أي: أن الله تعالى كذبهم في كتابه، ورسوله عليه الصلاة والسلام كذبهم في سنته، وإجماع العلماء على بطلان عقائد المرجئة، ولكنه يتكلم كلاماً مجملاً هنا؛ لأن التفصيل سيأتي معنا في أثناء الكتاب. ثم قال: [فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه، وتبينوا علله ومعانيه، فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة]. يعني: الإيمان كالعقد الذي له حلقات مسلسلة. ثم يقول: [بأقوال صادقة، وأعمال صالحة، بنياتٍ خالصة، بسنن عادلة، وأخلاق فاضلة، جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم، ومراشد عاجلهم وآجلهم]. يعني: هذا هو مضمون الإ

سبب إرسال الرسل وإنزال الكتب على الخلق

سبب إرسال الرسل وإنزال الكتب على الخلق قال رحمه الله: [وذلك أن الناس قد جبلوا -في نقصان عقولهم وحجرها- عن الإحاطة بحقائق الأشياء، والوفاء بالإدراك لكل ما فيه الفائدة والمصلحة، ومن استيلاء شهواتهم واحتكام أهوائهم بعدت عليهم سبل مراشدهم، واستغمضت عليهم مخارج هداياتهم، وذلك موضوع كله في جبلتهم]. يعني: هم مفطورون ومجبولون على هذا. ثم قال: [فلو وكل كل منهم إلى نظره وفكره ورأيه وتدبيره واختياره فيما يؤثر من السير والمذاهب والشيم والخلائق، لكان واجباً لا محالة أن يظهر عجزه عن كفاية نفسه، وحاجتها من أبواب الرشاد، وإعطائها حظها من دواعي الصلاح الذي فيه رضا خالقها ونجاتها من هلكتها]. يعني: الإنسان بطبيعته يعجز عن أن يقوم تجاه نفسه بما يصلحها في معاشها، الواحد منا أحياناً يختار باباً من الأبواب، أو شيئاً من الأشياء، ويظن بل يعتقد اعتقاداً جازماً أن مصلحته التي ليس دونها مصلحة في الحصول على هذا الشيء، فإذا نظر وقيم هذا الشيء من واقع الشرع علم أنه ليس في صالحه؛ ولذلك يحرمه الله تعالى بفضله ورحمته ومنِّه من الحصول على ذلك الشيء، والواحد منا أحياناً يسعى سعياً حثيثاً إلى نكاح امرأة معينة، ثم يفاجأ أنها خطبت أو نكحت لغيره، فربما يصدم في مشاعره وفي قلبه وفي شهوته وهواه، فإذا ما تزوج بامرأة أخرى فظهر صلاحها ودينها، ونظر هو إلى سيرة المرأة التي كان يحبها آنفاً، فإذا بها في غاية فساد الأخلاق مع زوجها التي تزوجته، فحينئذ يحمد الله عز وجل أن لم تكن هذه المرأة من نصيبه، وعلم الله عز وجل أن هذه المرأة لو تزوجها هذا الذي كان يحبها لكانت سبباً في فساد دينه وانحرافه عن الجادة، فاختار له الخير، لكن من الذي يعلم هذا الخير؟ الله عز وجل، وفر له ما يصلح دينه ودنياه، ولكن هذا العبد لأول وهلة لما فوجئ بأن هذه المرأة فلتت منه أصيب في قلبه، وظن أن الخير كله قد فاته، وإذا بالخير كله قد خزن له في زواج من امرأة أخرى. وعلى هذا فقس كل حياتك، في واقع عملك، وتجارتك ومصنعك ومالك وأولادك وغير ذلك، ربما يتمنى المرء أن يرزق ولداً جميلاً أبيض، فيرزق بأولاد سود أو عندهم من الدمامة في خلقتهم الشيء الكثير والأُدمة وغير ذلك مما لا يرغب فيهم كثير من الناس، ثم يرزق بالولد الأبيض الجميل، فيكون هذا الولد هو مصدر تعاسته وشقائه، أما الأولاد الذين كره منظرهم ولونهم فهم أبر الأبناء به في كبره، فالله عز وجل علم أن الخير في هؤلاء، وأن الشر في ذاك الولد، فربما يحرم المرء ما يتمنى، ولأجل هذا جعل الله عز وجل لبعض الخلق بنين وبنات، وجعل لبعض الخلق البنات دون البنين والعكس في آخرين، ولم يجعل الله عز وجل لزوجين معينين أولاداً قط؛ لأن الخير فيما اختاره الله عز وجل. فينبغي الإيمان والرضا والتسليم لقدر الله عز وجل، واعتقاد أن كل قدر الله هو خير كله، ومصلحة كله، وإذا وجد الخير فثم دين الله عز وجل وشرعه. ثم قال: [فلما علم الله تعالى ذلك منهم كفاهم برحمته ورأفته المئونة] أي لما سبق في علم الله الأزلي مصالح العباد كفاهم ذلك، فاختار لهم. ثم قال: [وأعظم بلطفه وجوده المعونة، فأمدهم في كتبه وعلى ألسن رسله بوظائف من الأمر والنهي، بين لهم فيها ما يأتون وما يذرون، ووفقهم إلى ما يرتكبون ويجتنبون، ليكون كل أحد من عباده المؤمنين -قويت خبرته في النظر والاختيار أو ضعفت، وكملت آلته في المعرفة والتمييز أو نقصت- معرضاً لحظ يصل إليه من مراشده، ونصيب يتوفر عليه من منافعه، فيكون الجميع منهم في ضمن فضله ورحمته اللذين وسعا كل شيء، كما وصف الله تعالى نفسه فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83]. ولتكون حجته مع ذلك بالإرشاد والبينة لازمة لكل مأمور ومنهي]. يعني: الله عز وجل لم يخلقنا هملاً، ولم يخلقنا سدى، فإنه لما خلق الله تعالى الخلق أراد أن يقيم عليهم الحجة بمعرفة الخير والشر، فأمر ونهى في كتبه التي أنزلها على رسله، وركب فيك عقلاً تميز به بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين النافع والضار؛ وبهذه الثلاثة الأمور قد أقيمت عليك الحجة، حتى إذا هلكت هلكت عن بينة، وإذا حييت بنور الهدى حييت كذلك على بينة، ولذلك قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] أي: بعد إقامة الحجة عليه: {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] هذه الحجة مصدرها الهدى والنور الذي نزل من عند الله عز وجل في كتبه المنزلة على أنبيائه بواسطة جبريل عليه السلام. إذاً: عندي الكتاب وعندي الرسول، ولدي العقل، ولذلك لا يكلف إلا العاقل البالغ، أما الصبي الذي لم يبلغ فليس محلاً للتكليف، وكذلك البالغ لكنه غير عاقل لعرض الجنون أو غير ذلك ليس مكلفاً، حتى إذا كان بالغاً عاقلاً مميزاً لا يكون مكلفاً ولا يأثم إذا كان مكرهاً وغير ذلك من الأعذار المانعة للحوق الإثم. فالله عز وجل نفى عنك الإثم في كل هذا، وأثبت لك الإثم بعد

تفاوت الناس في معرفة الأوامر والنواهي والفرائض

تفاوت الناس في معرفة الأوامر والنواهي والفرائض قال: [والدين وإن كان قد انتظم في نفسه جميع ما وصفناه، فليس يقف أو يقع الكل على موضع هذه الفضائل فيه؛ لكنهم يستبقون من أحكامه وشرائعه، وموضع هذه المصالح من مفروضه -أي: من فرائضه- وأوامره في ذلك، ويتفاضلون على حسب مراتب المعقول، وتوفيق البارئ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لهم]. يعني: ليس كل الناس يوفق إلى معرفة الأوامر والنواهي والفرائض، بل هذا باب وطريق طلب العلم.

تابع باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل

تابع باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل قال: [باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن، وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل].

أثر ابن عباس في معرفة الإيمان

أثر ابن عباس في معرفة الإيمان قال: [عن ابن عباس في قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]]، وإن كان في سنده ضعف، إلا أن الشواهد كثيرة تشهد لهذا المعنى، [قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم لا يزال أمرهم في ازدياد حتى أكمل لهم الله تعالى دينه، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً]. وفي هذا إثبات أن الكافر يأتي بالعمل الصالح، لكن لا يثاب عليه إلا في الدنيا، أما في الآخرة فإنه لا ثواب له، يثاب على عمله الصالح في الدنيا، من الصدق ومكارم الأخلاق وحسن الضيافة وغير ذلك من أعمال البر والصلة وأعمال الصلاح كلها، وإذا أسلم كتب له ما كان قد عمل من عمل صالح في الجاهلية، وجوزي عليه في الإسلام. ثم قال: [فلما نزلت سورة (براءة) نفي المشركون عن البيت -أي: طردوا عنه- وحج المسلمون فقط، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك من تمام النعمة وكمال الدين، فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3] إلى قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]].

أثر عثمان بن حنيف في معرفة الإيمان

أثر عثمان بن حنيف في معرفة الإيمان قال: [عن عثمان بن سهل بن حنيف أنه سمع عمه عثمان بن حنيف يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامه بمكة يدعو الناس إلى الإيمان بالله، والتصديق به قولاً بلا عمل)] أي: في أول الأمر، وأنتم تعرفون أن التكاليف الشرعية نزلت في المدينة. فإذاً: إقام النبي عليه الصلاة والسلام في مكة سنوات طويلة يدعو إلى الإيمان وتوحيد الله عز وجل، لم تنزل التكاليف بعد. فقوله: (بلا عمل) أي: بلا عمل من أعمال الجوارح، وإلا فالإيمان نفسه عمل القلب، وعمل القلب بالاعتقاد والإقرار والإذعان، وكذلك هو عمل الجارحة وهو اللسان، أي: النطق بالشهادة، لكنه هنا تجّوز في اللفظ؛ لأنه يتكلم هنا عن أعمال الجوارح، أي: ولم يكن مطلوباً منهم عمل الجوارح. ثم قال: [والقبلة إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلينا -أي: إلى المدينة- نزلت الفرائض فنسخت المدينة مكة، والقول لها أم القرى، ونسخ البيت الحرام بيت المقدس، فصار الإيمان قولاً وعملاً] أي: أن الفرائض والأوامر والنواهي والحلال والحرام كل ذلك نزل في المدينة، والإيمان بعد أن كان قولاً بلا عمل صار قولاً وعملاً.

أثر سفيان بن عيينة في معرفة الإيمان

أثر سفيان بن عيينة في معرفة الإيمان قال: [قال: محمد بن عبد الملك بن مسلم أبو عبد الله المصيصي: كنا عند سفيان بن عيينة -وهذا في حديثه سنة (170هـ) فسأله رجل عن الإيمان فقال ابن عيينة: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله] يعني: يزيد إلى ما شاء الله لا منتهى لزيادته؛ لأن زيادة الإيمان متعلقة بالأعمال، فكلما ازداد المرء من العمل ازداد إيماناً. ثم قال: [يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار إلى إصبعه]. يعني: يزيد الإيمان في قلب العبد بسبب العمل والاعتقاد حتى يكون كالجبال الرواسي، وينقص بسبب ترك العمل حتى لا يبقى منه إلا ذرة أو شعيرة، أو لا يبقى منه شيء ألبتة. ثم قال: [قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده] يعني: القول بأنه قول بلا عمل كان قولاً صحيحاً في أول الأمر، وفي صدر الشريعة في العهد المكي. ثم قال: [إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله]. يعني: لم يكن مطلوباً منهم في العهد المكي غير التوحيد بلا عمل، تكاليف قلبية، من نبذ للأصنام، وهذا كله في الظاهر عمل، لكن يحمل كلامه على الفرائض والحدود، وعلى مباني الإسلام، وإن كان الإيمان والتوحيد في حد ذاته عملاً قلبياً يترجم في صورة ولاء وبراء لعبادة غير الله عز وجل. قوله: (فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها) أي: إلا ما ينقضها. وقوله: (وحسابهم على الله) أي: إذا نافقوا بهذا القول فحسابهم على الله، لكنهم إذا صرحوا بالإيمان والتوحيد بألسنتهم عصموا دماءهم وأموالهم، فكان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وأما هم عند الله عز وجل فهم منافقون كفار، يجازيهم الله عز وجل على النفاق النار، وهذا معنى قوله: (وحسابهم على الله). ثم قال: [فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة] أي: لما استقر الإيمان والتوحيد في قلوبهم، وعلم الله تعالى صدق هؤلاء، ولم يكن عندهم نفاق؛ لأن النفاق إنما نشأ في المدينة، أما أهل مكة فليس عندهم نفاق، ولذلك كان الواحد منهم يعذِبه مولاه في قول التوحيد، وكان بإمكانه أن ينافق، ويخرج من أذى سيده ومولاه بأن ينطق بكلمة الكفر، وعنده في ذلك الرخصة، ومع هذا آثر العزيمة، فلم يكن ينطق بها حتى يسحب على بطنه تارة وعلى ظهره تارة في حر الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد! ربما غلب على ظنه في ذلك الوقت أن العزيمة لها تأثير كبير في قلوب كل من رأى هذا العذاب؛ ولذلك أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما قد نزل بنا؟) أي: من أذى هؤلاء المشركين، (ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا)، يطلب دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أن يرفع عنهم هذا البلاء، ولكن هذا الطلب للنبي عليه الصلاة والسلام أثار غضبه وحفيظته، كان مسنداً ظهره إلى الكعبة فجلس، كأنه يعلّم خباباً ومَن وراء خباب إلى قيام الساعة سنن الله الكونية، وأن الحرب دائرة رحاها بين الإيمان والكفر، وأهل الضلال وأهل الاعتدال، وأن ذلك سنة الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، فالعداوة قائمة ومستحكمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من كان قبلكم كان يخد له الأخاديد فيوضع فيها، وينشر بالمناشير من رأسه إلى أخمص قدميه، حتى يلقى على الأرض شقين، لا يرده ذلك عن دينه). ثم يبشر خباباً والحالة هذه الناظر إليها يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، يعني: تصور قلة المؤمنين في ذلك الزمان، وكثرة المعاندين المحاربين والكائدين لهذا الدين، وما نزل بهذه الثلة المؤمنة القليلة من التعذيب والفتك والضرب والطرد والتشريد بلا شك بحسابات جميع البشر يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، ولا خروجه من حيز مكة. ثم تأتي البشارة وهي من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، قال: (وليظهرن الله عز وجل هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى لا يبقى بيت حجر أو مدر إلا دخله) أي: أخبار هذا الدين تدخل في كل بيت، وهل هناك بيت الآن على هذه الأرض لا يسمع بمحمد ودين محمد؟ A لا؛ ولذلك هذه بشارة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام ليطمئن أهل التوحيد والإيمان وأصحاب الدعوة إلى الله عز وجل على هدى وبصيرة من أهل السنة والجماعة أنهم ظاهرون إلى قيام الساعة. ويدل على ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) أي: من أهل البدع أو الشرك والكفر والإلحاد والقتال: (لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وهي

باب معرفة اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)

باب معرفة اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) قال: [باب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية] وهي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

أثر عمر في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم)

أثر عمر في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم) قال: [عن طارق بن شهاب قال: (قال يهودي لـ عمر: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) وعلمنا اليوم الذي أنزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً)] يعني: لكمال الدين وتمام النعمة، والرضا عن هذا الدين، فهي فرحة عظيمة جداً. قال: [(فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والساعة، وأين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت؟ نزلت ليلة جمع، ونحن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في عرفات)] ليلة الجمع هي ليلة الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، أي: نزلت بعرفات بعد غروب الشمس، ويقال لهذه الليلة: ليلة جمع؛ لمشروعية جمع المغرب والعشاء في المزدلفة، مع أن المغرب في يوم التاسع من ذي الحجة يؤذن له وأنت في عرفة، لكنك لا تصلي المغرب والعشاء إلا في المزدلفة، فتكون صلاة المغرب والعشاء في غير المكان الذي دخلت فيه وقت الأولى وهو عرفة، فهذه الآية نزلت ليلاً في عرفات ليلة جمع. قال: [وعن طارق بن شهاب: (أن اليهود قالوا: لـ عمر: إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت؟ أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة). قال سفيان: وأشك أكان يوم جمعة أم لا؟ يعني: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))]، لكن هذا الشك زال؛ لقول عمر في الطريق الثاني: (أنزلت يوم عرفة يوم جمعة). وهذه الآية ليست آخر آيات القرآن نزولاً، وبعض أهل العلم قال: هي آخر آية نزلت، لكن جماهير أهل العلم على أن آخر آية نزلت على الإطلاق هي: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. أما هذه الآية فهي آخر آية نزلت بمكة، نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة، وكان يوم جمعة.

أثر ابن عباس في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم)

أثر ابن عباس في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم) قال: [عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا في أي يوم نزلت هذه الآية جعلناه عيداً، فقال -أي: ابن عباس - لقد نزلت يوم عرفة، يوم الجمعة]. [قال عبيد الله بن محمد: لقد علم العقلاء من المؤمنين ومن شرح الله صدره ففهم هذا الخطاب من نص الكتاب وصحيح الرواية بالسنة، أن كمال الدين وتمام الإيمان إنما هو بأداء الفرائض والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب] هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة. فقوله: (لقد علم العقلاء من المؤمنين) الذين هم أهل السنة، بعد أن شرح الله صدورهم فهموا الخطاب من نص كتاب الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي صحت عنه، أن تمام الدين وتمام الإيمان إنما هو بثلاثة أشياء: الأول: أداء الفرائض والعمل بالجوارح مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب، فقد جمع لنا هنا أصول الإيمان التي هي معتقد القلب، أي: عمله قولاً وفعلاً، ثم قول اللسان وعمل الجوارح والأركان. ومراد ابن بطة هنا إثبات أن عمل الجوارح من الإيمان، للرد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. ثم قال: [وعلموا أيضاً المعنى الذي أنزلت فيه هذه الآية، ومراد الله تعالى فيها، واليوم الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبان لهم -أي: لأهل السنة- كذب من افترى على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله، وعلى صحابته والتابعين، والعقلاء من علماء المسلمين، فتأول هذه الآية بغير تأويلها، وصرفها إلى غير معانيها، وزعم أنها نزلت في غير المعنى الذي أراد الله بها، وفي غير اليوم الذي أنزلها فيه، فآثر هواه، وباع آخرته بدنياه، ويح من كان دينه هواه، فقد بارت بضاعته، وخسرت صفقته، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين]. هذه مقدمة رائعة جداً في إثبات أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح والأركان، فمحل الإيمان القلب واللسان لمن كان قادراً على ذلك، أي: على النطق، والجوارح كذلك. اختلف العلماء في تعلق الإيمان بالعمل، فأهل السنة والجماعة على أن العمل من الإيمان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة، أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). لو نظرنا في هذا الحديث لوجدنا قوله كما في مسلم: (أعلاه لا إله إلا الله) أي: أعلاه شهادة أن لا إله الله، والشهادة عمل اللسان، فالمرء يشهد بلسانه، فلو أن امرأً شهد بلسانه بهذه الشهادة ولم يعتقد قلبه صحة هذه الشهادة، فإنه يكون منافقاً بالإجماع. إذاً: هذه الشهادة إن تلفظ بها الإنسان ولم يكن لها رصيد في القلب لم يكن مؤمناً، بل كان منافقاً، وحينئذ نقول: إن هذه الشهادة لا بد لها من النطق إذا كان صاحبها قادراً على النطق، وإلا فتكفيه الإشارة، أي: الإشارة إلى السماء، كما في حديث الجارية: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أين الله؟) وفي رواية: (فأشارت إلى السماء) أي: جهة العلو والارتفاع لله عز وجل، قال: لو لم يكن لهذه الكلمة التي صدرت على اللسان رصيد في القلب لا تقبل من قائلها إلا فيما يتعلق بأحكام الدنيا. أما إذا كان يعتقد صحة هذه الكلمة بقلبه، ولم ينطق بها مع قدرته على النطق، فهل يثبت له الإيمان أو الإسلام؟ أنتم تعلمون أن أبا طالب كان يؤازر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحوطه من جميع جوانبه، وحينئذ لما صرح أبو طالب في غير ما مرة أن ابن أخيه على الحق، وإنما الذي يمنعه من الدخول فيه قوميته، كان أبو طالب رجلاً قومياً يضمر القومية العربية، فمنعه ذلك من أن يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يقال: صبأ أبو طالب، وترك دين آبائه وأجداده؛ ولذلك لما علم النبي عليه الصلاة والسلام منه إيمانه الجازم بصحة رسالته، قال: (يا عماه! قلها كلمة أشفع لك بها عند ربي، فقال: لو لم تعيرني بها العرب لقلتها) فهو يؤمن بها في قلبه، لكنه لم يتلفظ بها، فهل تنفعه حينئذ؟ أنا الآن ضربت صورتين، الأولى: أنه تلفظ بها بلسانه ولم يعتقدها بقلبه، فهذا منافق، والمنافق كافر معلوم، ومن اعتقدها بقلبه ولم يتلفظ بها بلسانه فلا يقبل ذلك منه، بل هو باق على أصل كفره في الدنيا والآخرة، فهاتان صورتان لإثبات أن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد القلب والنطق باللسان لمن كان قادراً على ذلك. يأتينا دور العمل، فكلمة التوحيد لها شروط ومقتضيات، سنتعرض لها بإذن

الأسئلة

الأسئلة

الرد على شبهة كون الله عز وجل خلق الخلق وجعل بعضهم معاندين للحق رافضين له

الرد على شبهة كون الله عز وجل خلق الخلق وجعل بعضهم معاندين للحق رافضين له Q لقد سبق في علم الله عز وجل أن هؤلاء الكفرة والملحدين لن يستجيبوا لرسوله، فكتب عليهم الشقاء الذي هم فيه، ولكن قد يقول القائل: هذه النفس العنيدة التي لا تستجيب للحق، أوليس الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها وأودعها في عباده، وجعلها متكبرة عنيدة تأبى الحق، ولو شاء الله سبحانه لجعلها نفساً صالحة طيبة تستجيب للحق إن جاءها، فكيف نرد على إشكالهم هذا؟ A هذا سؤال لا يعدو كونه شبهة من الشبهات، لكني أذكر لك مثالاً: لو أن غرضاً من الأغراض يؤدي إليه طريقان: أحدهما معبد ممهد، والثاني ليس كذلك، بل قد امتلأ بالشوك والحجارة الجارحة وغير ذلك، وأتينا بأقذر خلق الله وقلنا له: أمامك غرض يؤدي إليه هذان الطريقان، طريق سهل مرصوص معبد ممهد للسالكين، والآخر كما ترى قد امتلأ بالشوك والحجارة وغير ذلك من المعسرات، فعليك أن تصل إلى الغرض في مدة زمنية معينة، فماذا سيسلك هذا السالك؟ هل تتصورون أنه يدع الطريق الممهد؟ أنت يا أخي عندما تسير بسيارتك وأمامك طريق مكسر قريب، وطريق آخر ممهد وهو بعيد، فإنك ستسلك الطريق الممهد، وتقول: إنه طريق جيد نمشي عليه؛ لأن الطريق المكسر قد يكسر سيارتي ويكسر لي عظمي حتى وإن مشيت على رجلي، هل هذا الفعل الذي يقوله هذا الفاعل متعلق بالتمييز والإدراك، ممكن أن يأتي مجنون ويقول لك: أنا سأسلك هذا الطريق الذي به حفر، إنه حلو جداً وجميل جداً. نقول: هذا إنسان غير مكلف، لكن هذا الفاجر العنيد قد بينا له أن الهدف أمامه وهو ينظر إليه، ويؤدي إليه طريقان: أحدهما قد امتلأ بالشوك، والآخر معبد ممهد مرصوص وجميل، فماذا على هذا الفاجر أن يسلك؟ هل هناك أحد من العقلاء يمكن أن يقول: سيسلك الطريق الذي امتلأ شوكاً، لا يمكن، ولو فعل لحكمنا عليه بالجنون. وإذا كان الأمر هكذا في هذا المثل فلله المثل الأعلى، وقد أعذر الله عز وجل لجميع خلقه بأن أرسل لهم رسلاً، وهؤلاء الرسل كانت مهمتهم إثبات وحدانية الله عز وجل وربوبيته، وهداية الخلق إليه عز وجل الذي خلقهم ورباهم وتولى أمرهم وقام على شئونهم، وأنزل مع الرسل الكتب فيها الهدى والنور، هذا فيما يتعلق بالكتب والرسل، وجعل العباد مكلفين بشرط أن يكون عندهم عقل، فركب فيهم العقول التي تميز بين الخير والشر، بين النافع والضار، بين الحق والباطل، فعلموا أن هذا هو الحق، ولكنهم عاندوا من عند أنفسهم، كمن عاند وسلك الطريق الذي قد امتلأ شوكاً ليصل إلى الهدف، لكن هذا العنيد إن سلك طريق المعصية فإنه لا يصل إلى الجنة؛ لأنه لا حظ له فيها، كما أن سلوك هذا الطريق يؤدي به إلى النار التي خلقها الله عز وجل، وأعد لها من أعد من خلقه؛ لما سبق في علم الله عز وجل أن الحجة قد قامت. ثم هذا السائل الذي يسأل هذا السؤال، لو أني قلت له: لو كان لك ولد وقلت له: يا بني! أنا سآتي لك بالطعام والشراب، وأذهب بك إلى المدرسة ذهاباً وإياباً، وآتي لك بالمدرسين، وأسعى لك في كل واد في سبيل تحصيل التفوق في نهاية العام، ولكن هذا الولد آثر العناد وعدم الانتباه والامتثال لكلام المدرسين، ولم يعبأ بكل ما صنعه معه والده، وفي نهاية العام حقق رسوباً شديداً، ماذا يكون موقف الوالد، يضربه؟ يشتمه؟ يوقع به أشد العذاب؟ كل ذلك يمكن أن يكون من الوالد، لماذا؟ لأن الوالد يرى أنه ما قصر، وأن هذه النتيجة ليست من قدر الله عز وجل الشرعي، إنما هي من قدره الكوني نسبة إلى تقصير هذا الولد. إذاً: مرد ذلك إلى التقصير والعناد أم لا؟ وإلا فلماذا يضرب الوالد ولده؟ ونحن نؤمن أن الكل من عند الله، لكن ما كان من عند الله تعالى في ذات الخير والشرع والدين والمحبة، كل ذلك راجع إلى ما أمر الله تعالى به على ألسن رسله في باب المحبة والرضا والشرع، أما ما وقع من شر في الكون، فإنه وقع بسبب تقصير من العباد بعد قيام الحجة، فالله تعالى علم ذلك قبل أن يخلق الخلق، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) الله تعالى لا يحب الكفر، والكفر موجود، فهل وجد الكفر في الكون رغماً عن الله عز وجل؟ حاشا لله، إنما وجد الكفر في الكون بإرادة الله الكونية القدرية، ومعنى إرادته الكونية القدرية أنه قدر ذلك وشاءه كوناً لا شرعاً، وإلا فالله تعالى قدر تقديراً شرعياً الإيمان الذي هو في مقابلة الكفر، وأحبه ورضيه، ولما علم الله عز وجل سلفاً أن عبده فلاناً الذي يخلق في الساعة الفلانية واللحظة الفلانية إذا كبر اختار طريق الضلال، وعبده الآخر إذا كبر اختار طريق الهداية، بعد إفراغ الأعذار لجميع العباد؛ تجد أن بعض العباد سيختار طريق الهداية، وبعض العباد سيختار عناداً طريق المعصية أو طريق الكفر والإلحاد، فأعد الله عز وجل لهؤلاء الجنة في نهاية أمرهم، وأعد لهؤلاء النار في نهاية أمرهم، فهل هذا عدل من الله عز وجل أم جور؟ عدل؛ لأن الله تع

حكم من أدرك الإمام في الركوع

حكم من أدرك الإمام في الركوع Q من أدرك الركوع في الركعة الأولى، وهو يأخذ بمذهب أنه: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، فهل يلزمه أن يقوم بعد التسليم، أم تحسب هذه هي الخامسة، فتبطل معها الصلاة كلها، أم ماذا؟ A واضح أن السائل جاهل؛ لأنه إذا كنت صاحب مذهب فالأصل أنك تلم بفرعيات عظيمة. أما قراءة الفاتحة خلف الإمام ففيها مذاهب: المذهب الأول: أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الجهرية والسرية. والمذهب الثاني: قراءة المأموم ليست واجبة في حقه خلف الإمام في الجهرية. والمذهب الثالث وهو مذهب الأحناف: أن قراءة المأموم للفاتحة ليست واجبة عليه لا في الجهرية ولا في السرية. والذي يترجح لدي أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم في الجهرية والسرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين وغيرهما: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، ولحديث أبي هريرة وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى بغير فاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج خداج). وأمر عمر المأمومين أن يقرءوا بها خلف الإمام، قال رجل: أأقرأ بها يا أمير المؤمنين وأنت تقرأ؟ قال: نعم، اقرأ بها في نفسك يا فارسي. والأدلة كثيرة جداً على وجوب فاتحة الكتاب للمأموم في الجهرية والسرية. أما إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع فليركع معه وليعدها ركعة، ولا يطالب حينئذ بقراءة الفاتحة لفوات محلها، أي: لفوات وقت الوجوب، وهو إدراك القيام مع الإمام، والله تعالى أعلم.

حكم الحج نتيجة الفوز بمسابقات وجوائز

حكم الحج نتيجة الفوز بمسابقات وجوائز Q هل يصح الحج نتيجة الفوز بمسابقات وجوائز؟ A نعم يصح، إذا كانت مسابقة وأعلن أن الفائز فيها يكافأ بالحج، فلا حرج حينئذ أن يدخل من التمس في نفسه أهلية لهذا، فإذا فاز فهنيئاً له الحج.

حكم معالجة المريض على حساب الدولة

حكم معالجة المريض على حساب الدولة Q هناك امرأة مريضة تعالج على حساب الدولة، سواء كان في الداخل أو في الخارج، فهل هذا جائز؟ A نعم جائز، بل هو واجب على الدولة في حق الفقراء، إن لم تقم به الدولة يأثم جميع المختصين أو القائمين بهذا الشأن، فلا يصح أن يكون هذا العمل كله محسوبية، الذي له قريب في وزارة الصحة هو الذي يعالج، والذي ليس له قريب يموت، لا يصح ذلك، بل كل فقير غير قادر على النفقة أو العلاج أو التعليم أو غير ذلك، يجب على الدولة أن تقوم برعايته وحسن تدبير أمره، وإلا فيأثم جميع المختصين بذلك.

حكم استبدال الأدوية الزائدة لمريض بدواء آخر لمريض آخر

حكم استبدال الأدوية الزائدة لمريض بدواء آخر لمريض آخر Q هل يجوز استبدال بعض الأدوية الزائدة التي يصرفها التأمين الصحي أو الدولة لمريضة بدواء آخر لأمها المريضة؟ A نعم يجوز ذلك؛ لأنها تأخذ حكم البنت من جهة أنها فرد من أفراد المجتمع، وأنها فقيرة ليس في إمكانها علاج نفسها.

حكم لبس المرأة الذهب المحلق

حكم لبس المرأة الذهب المحلق Q هل الذهب المحلق من الذهب المحرم على النساء؟ A لا. ليس من الذهب المحرم، وأنا أعتقد أن مذهب شيخنا الشيخ الألباني رحمه الله مذهب مخالف لعلماء الأمة؛ ولذلك ليس محل اعتبار عندي، وأن الذهب كله حلال للنساء، حرام على الرجال.

حكم الجهاد في فلسطين أو غيرها

حكم الجهاد في فلسطين أو غيرها Q هل الجهاد في فلسطين أو غيرها فرض عين على الشباب في مصر أو غيرها؟ A الجهاد في الأماكن التي ترفع فيها راية الجهاد فرض كفاية على المسلمين لا فرض عين، فالجهاد فرض عين في نفس المكان الذي اعتدي فيه عليك، مثلاً: الجهاد في فلسطين فرض عين على الفلسطينيين هناك، وعلى من كان في فلسطين من غير أهلها فرض عين عليهم، ولا يكون فرض عين على من تلاهم من أهل البلدان إلا إذا عجزوا، فإذا عجز مجموع المسلمين من البلدين تعين على الثالث، فإذا عجزوا جميعاً تعين على الرابع وهكذا. أما الجهاد على الشباب في مصر فليس فرض عين، وإنما هو فرض كفاية، وشرط فرض الكفاية: سلامة الطريق، وأنتم تعلمون أن الطريق غير سالم وغير آمن. الشرط الثاني: أن يأذن الوالدان، وهذا شرط لصحة الجهاد في فرض الكفاية، فإذا لم يأذنا يأثم المجاهد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرجع بعض أصحابه لخدمة والديه، ولو تعين عليه الجهاد لم يرجعه، وستأتي هذه المسألة بالتفصيل بإذن الله تعالى في كتاب الجهاد في صحيح مسلم.

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [1]

شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [1] لقد ذكر الله تعالى الآيات الكثيرة التي تثبت أن العمل الصالح من الإيمان، وأن المدح لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، وأن العمل سبب في زيادة الإيمان أو نقصانه، وفي ذلك رد على الفرق المنحرفة كالمرجئة القائلين بعدم دخول العمل في مسمى الإيمان، أو الجهمية الذين جاءوا بأفحش من ذلك فقالوا بأن الإيمان هو المعرفة أو العلم دون النطق أو العمل.

الآيات القرآنية في إثبات أن العمل من الإيمان

الآيات القرآنية في إثبات أن العمل من الإيمان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن العمل من الإيمان، وكنا قد بدأنا هذا الموضوع في الدرس الماضي وتتمته في دروس متعاقبة بإذن الله. قال الإمام ابن بطة: [واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل، والنية بالإخلاص، وأن كل ذلك من الإيمان حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها عن بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، حتى صار الإيمان قولاً باللسان، وعملاً بالجوارح والأركان، ومعرفة -أي: إقراراً- ويقيناً بالقلب، خلافاً لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته]؛ لأن المرجئة قالوا: العمل ليس من الإيمان، وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل. [باب الآيات من كتاب الله عز وجل في إثبات أن العمل من الإيمان]، وأن اسم المدح لا يكون إلا لمن آمن وعمل عملاً صالحاً، لمن آمن بلسانه وقلبه وعمل بجوارحه، وأخلص العمل لله عز وجل، فهذا هو المستحق للمدح والمستحق للنعيم في الدنيا والآخرة. [قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]] لم يقل: بشر الذين آمنوا أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإنما قرن العمل الصالح بالإيمان. قال: [{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]. وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277]]. فقرن الإيمان بالعمل الصالح، والصلاة والزكاة من العمل الصالح، فهذا ذكر للخاص بعد العام لبيان أهميته، مع أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يمكن الاستغناء عن ذكرهما بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، ولكن ذكر الخاص بعد ذكر العام، وهو العمل الصالح؛ لبيان أهمية الخاص. فإذا قلت لك: لا تأخذ المال من جيبي ولا تأخذ هذا الجنيه، فهذا الجنيه يدخل ضمن المال، وأنا قد نهيتك عن أخذ شيء من جيبي مطلقاً والتنبيه على عدم أخذ هذا الجنيه بالذات للأهمية. فهذا يسميه الأصوليون ذكر الخاص بعد العام من باب التأكيد عليه. [وقال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. وقال عز وجل: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] إلى أن قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء:173]، فقرن العمل بالإيمان {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173]. وقال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام:48]، أي: عمل عملاً صالحاً {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48]. وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42]. وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [التوبة:20] والهجرة عمل والجهاد عمل وقرنهما بالإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:

اختلاف الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة في تعريف الإيمان والرد عليهم

اختلاف الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة في تعريف الإيمان والرد عليهم [قال الإمام: فتفهموا رحمكم الله هذا الخطاب، وتدبروا كلام ربكم عز وجل، وانظروا هل ميز الإيمان من العمل؟] يعني: هل جعل العمل شيئاً والإيمان شيئاً آخر؟ [أو هل أخبر في شيء من هذه الآيات أنه ورث الجنة لأحد بقوله دون عمله؟ ألا ترون إلى قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ولم يقل: بما كنتم تقولون]. لأن المرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق. والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة، ومنهم من يقول: الإيمان هو العلم. وإبليس عليه لعنة الله يعرف جيداً أن الله تعالى إله واحد، ويعلم ذلك علماً يقينياً، فهل يكون بذلك مؤمناً؟ فالجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة أو العلم، ولا يشترطون النطق به. والمرجئة يقولون: يشترط النطق باللسان الذي يدل على تصديق القلب، ويقولون الإيمان هو التصديق. وكلاهما في غاية البطلان والفساد، لأن المرجئة يقولون: إذا صدق المرء بقلبه ونطق بلسانه فلا علاقة للعمل حينئذ بهذا الإيمان، ويكفي أنه نطق بالشهادتين، فيثبت له كمال الإيمان وتمامه، فإيمانه كإيمان جبريل أو كإيمان الملائكة الذين فطروا على عبادة الله عز وجل. فلو أن الواحد صدق بلسانه وبقلبه فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان وإن ارتكب جميع الفواحش والمنكرات، والأمر أشد من ذلك ضلالاً عند الجهمية، فلو أنه ترك كل أمر وارتكب كل نهي، فلا يضره ذلك عندهم. فالمرجئة يناقشون أهل السنة ويقولون: هل ينفع مع الشرك عمل؟ الجواب عند أهل السنة: لا ينفع؛ لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] من الكبائر والصغائر، فهي في مشيئة الله تعالى. يقولون: كما لا ينفع مع الشرك عمل فإنه لا يضر مع الإيمان معصية، وانظروا إلى مدى قول المرجئة! فإن هذا كلام لا يستقيم أبداً. [وقال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، ولو كان العمل لا يضر الإيمان زيادة ونقصاناً أو إزالة من الأصل، فكيف يحاسبهم الله تعالى ويجازيهم على إساءتهم العمل في حياتهم الدنيا. قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ففرق الله تعالى بين المسيء والمحسن، وجعل الإساءة والإحسان متعلقين بالعمل، ورتب على هذا العمل ثواباً وعقاباً، أما من أساء فيعاقبه الله، وأما من أحسن في عمله فيجازيه الله عز وجل. [ولم يقل: بما قالوا]، أي: بل قال: ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا)) لأنه قد قال كلمة الإيمان وفرغ منها ولكنه أساء العمل، ومع هذا فإنه داخل في المحاسبة والمجازاة، ولو كان العمل لا علاقة له بالإيمان فإن الله لا يحاسبه عليه، ويكفي أنه تلفظ بهذا الإيمان، فلما جازاه الله تعالى على عمله دل أن العمل من الإيمان. [وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] ولم يقل: أحسن قولاً]؛ لأن القول لو كان هو المراد دون غيره، وأن العمل لا علاقة له؛ لما كان في محاسبة هذا العبد عدل، والله تبارك وتعالى متصف بكمال العدل، منزه عن الظلم والنقص. [وقال الله تعالى في قصة الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53]]، فالكفار يوم القيامة علموا أن سبب ورودهم جهنم ما كانوا يعملون، [ولم يقولوا: غير الذي كنا نقول]، أي: وإنما قالوا: {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53]. [وقال عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]]، الإيمان بالكتب والرسل يستلزم الإيمان بالأمر والنهي عملاً وتركاً. ومعنى أنك مؤمن بكتاب الله تعالى هو: أنك تعظم كتاب الله تعالى، وتشرف كتاب الله تعالى، وتحفظ كتاب الله تعالى، وتعمل بأوامره وتنتهي بنواهيه، وتؤمن أنه كله من عند الله، وهذا كله عمل. ومن قال: أنا أحب كتاب الله ولكني لا أعمل بهذه الآية، فإنه يكفر بهذا القول، فلو أنه جحد أو أنكر آية واحدة من كتاب الله كفر بهذا حتى وإن عمل بها، لأنه تلفظ بلفظ الكفر، كمن يقول: أنا لا أؤمن أن الله تعالى حرم الزنا وإن كنت لا أزني، فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو يقول: الله تعالى لم يحرم الخمر وإن كنت لا أشربها، فالكفر يكون بالقول كما يكون بالعمل. [فلم يفرد الإيمان حتى قال: ((كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ

حكم من زعم أن شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان

حكم من زعم أن شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان قال المؤلف: [فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن؛ فقد أعظم على الله الفرية]. ولو أن واحداً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فهذا عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، ولكنه يقول: لا توجد صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا جهاد، ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا ولا ولن أفعل شيئاً من ذلك، وأنا أزني وأشرب الخمر وأسرق وأقطع الطريق، وغير ذلك من سائر المعاصي والذنوب، وأنا متأكد أنني مؤمن كامل الإيمان، كيف ذلك؟ فمن لجهنم حينئذ؟ فيكاد الإجماع أن ينعقد على أن من ترك الصلوات الخمس كفر بالله عز وجل، بل ومنعقد عند الصحابة أن من ترك الصلاة كفر وخرج من الملة. ولم يأت عن صحابي واحد أن من ترك الصلاة لا يكفر بها، ووقع النزاع فيما دون ذلك، بل وقع النزاع بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال: [فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن؛ فقد أعظم على الله الفرية، وخالف كتاب الله، ونبذ الإسلام وراء ظهره، ونقض عهد الله وميثاقه، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]]. فلو قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: الجهاد عمل يا رسول الله أم ليس عملاً؟ فسيقول لهم: الجهاد عمل، ولو قالوا له: اذهب أنت وجاهد؛ لأنه حينما كان العمل ليس من الإيمان فليس عندنا استعداد أن نشارك معك في هذه الغزوة، أو على الأقل نحن شاركنا معك في غزوة أو غزوتين، فتفضل أنت وحارب والله معك ويعصمك!! لو أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك الجهاد مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون أن القرآن ينزل بمدحهم؟ لا يمكن أبداً، وهذا يدل على أن العمل من الإيمان. فتصور لو أن الجهاد في مصر مثلاً فرض عين، لأن اليهود دخلوا علينا وفوجئنا أن هناك رشاشات ودبابات مع جنود يهود أمام المسجد في هذا الوقت، فنقول: هيا لنجاهد، قالوا: نحن متأسفون، لأن الجهاد عمل، والعمل ليس من الإيمان على مذهب المرجئة؛ فأنا إن جاهدت أو لم أجاهد فأنا في الحالتين مؤمن كامل الإيمان فإذا كنت أنا في حال تركي للجهاد مؤمناً كامل الإيمان، فلماذا أجاهد؟ سأحرص على حياتي! فهذا القول قول المرجئة، وكلام المرجئة في الإيمان كلام بلا ذيل ولا يمكن ضبطه أبداً؛ لأنه كلام في غاية الفساد والبطلان. [{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. ثم قال الله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82]] أي: فمن تولى عن نصرة النبي عليه الصلاة والسلام حياً أو ميتاً إذا تعين عليه ذلك؛ فهو فاسق. وبعض أهل البدع الآن خرج بشبهات على السنة، حتى كاد أن يهلك الناس وأن يفتنهم في دينهم، وكان هناك عشرة من الناس بإمكانهم أن يدافعوا وأن يذبوا عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويبينوا مزاعم الأعداء وافتراءات المفترين، وأن يجلوا هذه الغمة عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يرشدوا الأمة إلى صالح عملها واعتقادها في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم تواطئوا واتفقوا على عدم الدفاع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم يصيرون بذلك من الفساق. فلا بد من نصرة النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً. [ثم قال الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]]، فبين أن الإيمان والعمل سواء بسواء يدخل تحت مسمى الدين، [ثم قال تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82] فجمع الله تعالى القول والعمل في هذه الآية، وقال: فمن زعم أنه يقر بالفرائض لكنه لا يؤديها ولا يعلمها، كما أنه مقر بتحريم الفواحش والمنكرات، ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن؛ فقد كذب بالكتاب وبما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومثله مثل المنافقين الذين {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فأكذبهم الله ورد عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار]. الإمام ابن بطة يقول: [على أن المنافقين أحسن حالاً من المرجئة]، وهذا كلام في غاية الأهمية، لأن المنافقين والمرجئة كلاهما قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كلاهما زعم أنه مؤمن، فالمرجئة آمنوا بأفواههم ولم يعملوا -أي: لم تعمل جوارحهم- أما المنافقون فإنهم آمنوا بأفواههم وعملوا قال: و

لا يقبل قول إلا بعمل

لا يقبل قول إلا بعمل [وعن الحسن البصري رحمه الله قال: قال قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنحب ربنا عز وجل]، والحب أمر قلبي، فزعم بعض الصحابة أنهم يحبون الله عز وجل، [فأنزل الله تعالى] آية أعظم ابتلاء واختباراً لمن زعم أن المحبة ظاهراً قال: [{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]] يعني: إذا كنتم صادقين في زعمكم وادعائكم المحبة، فاعلموا أن المحبة ليست كلاماً، وإنما المحبة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الممثل عملياً لكلام الله عز وجل وكلامه صلى الله عليه وسلم، [فجعل الله عز وجل اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم علماً لمحبته، وأكذب من خالفه، ثم جعل على كل قول دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه، يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من عباده الإيمان. قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. فأعلم الله تعالى نبيه في هذه الآية أن الإيمان بالله هو الإيمان بما أنزل عليه وبما أنزل على الذين من قبله من الرسل والأنبياء، وبما في كتبه من الشرائع والأحكام والفرائض، وأن ذلك هو الإيمان والإسلام، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. ففي هذا دليل على أن الإيمان قول وعمل، لا ينفصل الإسلام عن العمل في هذه الآية، وذلك أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لا يقبل قولاً إلا بعمل. قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]] أطيب كلمة هي كلمة التوحيد، وهذه الكلمة لو قالها إنسان ولم يعمل بمقتضاها لا تنفعه، فلو أن إنساناً لهج بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه لم يعمل بمقتضاها، بل عمل بما ينافيها وينقضها، لا تنفعه. أي: لو أنه قالها وهو كاره لها، أو قالها وهو غير عالم بحقيقتها، أو قالها وهو غير مخلص فيها فهناك ضوابط وشروط ومقتضيات لهذه الكلمة، أما لو فإنها مجردة لا تنفع. [فأخبرنا الله عز وجل أنه لا يقبل قولاً طيباً إلا بعمل صالح، أو عملاً صالحاً إلا بقول طيب؛ لأنه قال في آية أخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، ولكن لو عمل عملاً صالحاً وهو مشرك لا ينفعه ذلك، فلا بد من العمل الصالح مع الإيمان، [{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. قال: فلا قول أزكى ولا أطيب من التوحيد، ولا عمل أصلح ولا أفضل من أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإذا قال قولاً حسناً أو عمل عملاً حسناً رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً رد الله قوله على العمل، وذلك في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]]. [وعن أبي العالية رحمه الله قال في قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] قال: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل. قال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: الإيمان كلام، وحقيقته العمل، فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول] قول طيب.

العبادة والإيمان

العبادة والإيمان قال ابن بطة: [وحسبك من كتاب الله عز وجل بآية جمعت كل قول طيب وكل عمل صالح وهو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فإنه جمع في هذه الآية القول والعمل، والإخلاص والطاعة لعبادته وطاعته والإيمان به وبكتبه وبرسله، وما كانوا عليه من عبادة الله وطاعته]. فالعبادة عمل، والعمل من الإيمان، [فلو كانت العبادة التي خلقهم الله لها قولاً بغير عمل لما أسماها عبادة وسماها قولاً، ولقال: وما خلقت الجن والأنس إلا ليقولون]، فكونه قال ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) دل على أن العمل من الإيمان، وأنه عبادة. [وليس يشك العقلاء أن العبادة خدمة، وأن الخدمة عمل، وأن العامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض واجتناب المحارم، وطاعة الله فيما أمر به من شرائع الدين وأداء الفرائض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:77 - 78]. فهل يخفى على ذي لب أو عقل سمع هذا الخطاب الذي نزل به نص الكتاب، أن اسم الإيمان قد انتظم التصديق بالقول والعمل والمعرفة، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فدل على أن الصلاة والحج والنسك والذبح والهدي، بل المحيا والممات عموماً كلها لله عز وجل. وقال الله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام:71 - 72]. وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل الله تعالى به المرسلين وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: الصلاة ليست من الإيمان! وأن ترك الصلاة ليس شركاً! والله عز وجل يقول: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31]]. فهذا يدل على أن من ترك الصلاة قد أتى شعبة من شعب الشرك أو وقع في الشرك، [فجعل الله من ترك الصلاة مشركاً خارجاً من الإيمان؛ لأن هذا الخطاب للمؤمنين؛ تحذير لهم أن يتركوا الصلاة فيخرجوا من الإيمان ويكونوا كالمشركين. قال عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. فقوله: ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)) فلم يفرق بين الإيمان وبين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤمن لم تنفعه الصلاة، ومن لم يصل لم ينفعه الإيمان، واستبدل بمحل الصلاة من الإيمان ونزولها منه بالذروة العليا، وأن الله تعالى فرضها بالطهارة بالماء، فلا تجزئ الصلاة إلا بالطهارة، فإذا عجز عن الطهارة بالماء فإنه يجب عليه أن يتطهر بالتراب عوضاً من الماء؛ لئلا يجد أحد في ترك الصلاة مندوحة، ولا في تأخيرها عن وقتها رخصة، وكذلك فرض الله تعالى عليهم الصلاة في حال شدة الخوف ومبارزة العدو، فأمرهم بإقامتها على الحال التي هم فيها، فعلمهم كيف يؤدونها، فلا يكون أحد أعظم جهلاً، وأقل علماً، وأضل عن سواء السبيل، وأشد تكذيباً لكتاب الله وسنة رسوله، وسنة الإيمان وشريعة الإسلام؛ ممن علم أن الله عز وجل قد فرض الصلاة وجعل محلها من الإيمان هذا المحل، وموضعها من الدين هذا الموضع، وألزم الله تعالى عباده إقامتها هذا الإلزام في هذه الأحايين كلها مع الضيق والشدة والعنت، وأمر بالمحافظة والمواظبة عليها على هذه الشدائد والضرورات، فيخالف ذلك إلى اتباع هواه، وإيثاره إلى رأيه المحدث الذي ضل به عن سواء السبيل، وأضل به من اتبعه فصار ممن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. قال الإمام: فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل]، أي: هذه الأدلة من الكتاب التي يثبت بها أن الإيمان قول وعمل، وأن الإيمان بلا عمل لا ينفع صاحبه، وأن العمل بغير إيمان لا ينفع صاحبه حتى يؤمن ويعمل صالحاً. [وأن من صدق بالقول وتر

الأسئلة

الأسئلة

حكم التعامل بالربا

حكم التعامل بالربا Q أخذت مالاً من بعض الناس على أني سأشغله لهم وأعطيهم على الألف أربعين جنيهاً، وأنا جاهل بأن هذا من الربا، فأخذت عشرة آلاف، وبعد ذلك علمت أنه ربا، وقد خسرت هذا المال في تجارة ثم تبت بعد ذلك إلى الله، والآن أنا أريد سداد هذا المال، والأبواب مسدودة في وجهي، وأبواب الحرام مفتوحة، وأخشى أن أضعف فهل من الممكن أن يسلفني أحد هذا المبلغ أو بعضه ثم أعمل جمعية بالباقي على أن يسدد أربعمائة جنيه في الشهر؟ A عندما لا تجد من يساعدك فهذا دليل على أنك فتحت باب الحرب بينك وبين الله، ولو كنت صادقاً فيما تقول وأنك لا تعلم أن هذا ربا، وأنك فعلاً لم تبدأ الحرب مع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قال في المرابين: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، فلم يعمل أحد قط بالربا إلا خسر كل شيء؛ لأنها حرب مع الله، ومن حارب الله لا بد أن يُهزم. اليهود والنصارى يعلمون أن مثل هذا التعامل هو ربا، والعجيب أن أحداً من الناس في الأسبوع الماضي يقول لي: أنا وضعت مالي في بنك مصري وآخذ أرباحاً، فهل الأرباح هذه حلال أم حرام؟ فهو قابلني وأنا ذاهب لأصلي العصر فقلت له: حرام طبعاً، فقال: فأين أضع أموالي حتى آخذ المال الحلال؟ قلت له: ضعها في بنك فيصل أو في مصرف الإسلام الدولي. قال: لا أستطيع، قلت له: على أية حال هم أعلنوا ورفعوا راية الإسلام، فإن كان شيء يخالف هذه الراية فهم مسئولون أمام الله عز وجل إلى أن اقتربنا من باب المسجد فقال: بعد إذنك، قلت له: أين تذهب؟ ألا تصلي؟ قال: أصلاً أنا! أرأيتم أصحاب الربا؟ أنا رأيت من هذا أنه يعلم أن هذا التعامل ربا، فالقاعدة التي لا تنخرم أن الغرم بالغنم، أنت شريك في المكسب وشريك في الخسارة، فتدفع مبلغاً شهرياً أربعمائة جنيه أو ثلاثمائة جنيه عن العشرة آلاف جنيه كل شهر، والأصل أن هناك تجارة لهذا المال، وهذه التجارة معرضة للمكسب والخسارة، والمكسب قد يكون قليلاً أو كثيراً، وفي كل الأحوال أنت وصاحب المال شركاء في هذا الربح كل على حسب نسبته، أنت بالعمل وهو بالمال، أما أن تأخذ ربحاً مقطوعاً ابتداء فتأخذ ثلاثمائة جنيه على العشرة آلاف جنيه كل شهر، وافرض أنني خسرت وأظل أخسر باستمرار، وافرض أن رأس المال نفسه خسر وتدمر وذهب عني فماذا أعمل؟ هل أضمنه؟ الأصل أنك أتيت لي بهذا المال لثقتك أنني ماهر في التجارة، وإلا فأنت لو أتيتني بمال وأنت تعلم أنني لا علاقة لي بالتجارة، فخسرت، فلا شيء لك، فالمطلوب منك كرجل صاحب مال أن تتحرى من يجيد إدارة هذا المال، لكن حينما تعطيه صاحب محطة وتقول له: شغله لي! كرجل ركب الباخرة فتعرف على رجل في سطح الباخرة، وأعطاه كل أمواله وقال له: عندي ثلاثون ألف جنيه، فأعطني طقماً صينياً وطقماً آخر إيطالياً وغير ذلك قال: إن شاء الله حينما ننزل أنا أعرف ابن عمي من سكان مكة، وهو يستطيع أن يأتيك بكل شيء وأنت قاعد، فأول ما نزلوا عند الحرم، وأنتم تعلمون أنه ممنوع أن يدخل أي شخص بأي شنطة، فقال صاحبنا: اعتمر واترك متاعك وأنا أظل عندها، وحينما تعتمر تأتي عند الشنطة وأنا أدخل لأعتمر، قال: أنا متعب جداً ومرهق جداً وابدأ أنت فاعتمر ثم ارجع، طبعاً صاحبنا لا يزال لم يدخل من باب الحرم والآخر أخذ الشنطة وتوكل على الله، وكان فيها ثلاثون ألف جنيه، فأول ما وجدته وهو يطوف فرحت وسلمت عليه، وحضنته واطمأننت عليه، وقلت له: متى أتيت؟ قال: أتيت الآن، ولا يزال ينتظرني رجل من وزارة الزراعة في الجيزة تعرفت عليه في سطح الباخرة عنده الفلوس وهو في الخارج، قلت له: تعرفت عليه وهو من وزارة الزراعة، وينتظرك في الخارج؟ أين ينتظرك في الخارج؟ لو سمحت اقطع الطواف ولنخرج لنأتي بالشنطة أو أظل عندها، لأني أعرفه، فهو معروف لدي وهو من إخواننا، ثم خرجنا نبحث عنه ثلاثة أيام، فلم نجده لا في وزارة الزراعة ولا الصناعة أبداً، فحينما رجعنا إلى مصر سألنا جميع الوزارات، وذهبنا إلى التأمينات على اعتبار أن فيها تأمينات الجمهورية كلها، أي أساميهم جميعاً تأتي بها، قال: لا يوجد أحد بالاسم هذا نهائياً على شاشة الكمبيوتر، قال: ماذا أعمل؟ قلت له: لا نقاش في أنك ضامن لهذا المال، فهو لا يضمن في حالة واحدة، وهي أن صاحب المال يعرف إمكانيات صاحبنا ويعطيه المال، صاحبنا هذا رجل من أهل الصلاح والتقوى، لكنه لا يؤتمن على قلم رصاص؛ ليس لأنه يسرقه فهو صاحب دين، فأتى صاحب الأموال وظل يحقق في القضية إلى أن أيقن أن إمكانيات صاحبنا هذا لا تسمح بائتمانه على جنيه واحد، فالله سبحانه وتعالى أكرمه، وقال له: أنا قد سامحتك. الشاهد من أن هذا: لو أن أحداً من هؤلاء يسلفك، فأنا متأكد أنه لن يرجع إليه شيء أبداً، فهل منكم أحد مستعد أن يتبرع بعشرة آلاف جنيه؟

حكم صلاة تحية المسجد

حكم صلاة تحية المسجد Q تحية المسجد قبل إقامة الفريضة واجبة أو مندوبة أو مستحبة؟ A النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). وجمهور العلماء على أن جمع النيات في النوافل جائز، فلو أنك دخلت المسجد، وقبل إقامة الصلاة ليس هناك وقت إلا لأداء ركعتين، فلا بأس أن تنوي بهما أنهما سنة الفجر القبلية -مثلاً- وتحية المسجد، وتحية المسجد هذه من السنن الراتبة، فمنهم من ذهب إلى الوجوب، ومنهم من ذهب إلى الاستحباب. والذي ذهب إلى الوجوب قال بإثم تارك هاتين الركعتين مع القدرة، ومن ذهب إلى الاستحباب قال بالكراهة، أي: بكراهة ترك الركعتين. والذي يترجح لدي أن صلاة تحية المسجد من السنن المؤكدة فيمكن الجمع بينها وبين بقية الرواتب أو السنن المندوبات، فأنت إذا دخلت المسجد وليس هناك بين دخولك وبين إقامة الصلاة للفريضة إلا وقتاً يسع صلاة ركعتين فاجمع النية في هاتين الركعتين، وإذا كان هناك وقت طويل فلا بأس أن تصلي تحية المسجد ثم تصلي السنة الراتبة. وإن كنت أقول بأن صلاة ركعتين تجزئ في تحية المسجد حتى وإن كانت الفريضة، فلو أنك دخلت المسجد فوجدت الجماعة أقيمت فصليت ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً مع الإمام، فلست مطالباً بأداء ركعتين بعد الفراغ من الفريضة وهما تحية المسجد؛ لأن التحية سقطت بأداء الصلاة في المسجد أياً كانت هذه الصلاة. ولذلك يذهب الظاهرية وبعض الحنابلة إلى أن وقوع العبادة في محلها تغني عن شقيقتها، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر) أي: السنة، قالوا: فمن فاته صيام في رمضان فقضى ما فاته من رمضان في شوال، وكان ما فاته من رمضان ستة أيام، أجزأه عن صيام النافلة، لأنه حقق الصيام في شوال، وربما يكون هذا الكلام بعيداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر في أول الحديث من صام رمضان كله، ثم أتبعه من النوافل بست من شوال. الذي أردت أن أستشهد به أن بعض العلماء قال: المهم أن تقع العبادة في محلها وتغني عن مثيلتها، فأنت إذا أردت أن تصلي تحية المسجد وضاق بك الوقت، فلا بأس أن تجمع بين هذا وذاك في ركعتين اثنتين.

صلاة ذات السبب في أوقات الكراهة

صلاة ذات السبب في أوقات الكراهة Q هل تحية المسجد يكره أداؤها في أوقات معينة؟ A من ذهب إلى ترك الصلاة مطلقاً في أوقات النهي، وحمل النهي على الكراهة أو التحريم ولم يعتبر السبب؛ قال بترك الصلاة أبداً بين العصر والمغرب، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح، ووقت الظهيرة فهذه الأوقات نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيها وعن أن نقبر فيها موتانا، فمن اعتبر النهي مطلقاً قال بحرمة أو كراهة الصلاة في هذه الأوقات أبداً. والإمام الشافعي عليه رحمة الله قال: الصلاة في هذه الأوقات مكروهة إلا لسبب، كدخول المسجد وأداء التحية، والصلاة على الجنازة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وغير ذلك من الأسباب فقال: النهي محمول على تحري الصلاة في هذه الأوقات، أما صلاة لها سبب فهو جائز؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر قريش! يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً دخل هذا المسجد فصلى فيه ركعتين في أي وقت شاء من ليل أو نهار) فقوله: (في أي وقت شاء) يشمل أوقات الاستحباب وأوقات الكراهة، وهذا الذي يترجح لدي، وإن كنت في حرج بالغ من الوقت الذي تصفر فيه الشمس؛ لأن هذا وقت كراهة شديدة إن لم يكن وقت حرمة؛ لأن الشمس تشرق وتغرب بين قرني شيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتحروا لصلاتكم وقت طلوع الشمس ولا وقت غروبها، فإنما تشرق الشمس وتغرب بين قرني شيطان)، فالذي يصلي في هذين الوقتين فإنما يتشبه بعباد الشيطان على الحقيقة. هذا النهي إنما يتعلق بالنوافل، أما الفرائض فلا تدخل تحت هذا النهي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن يخرج وقتها فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا الذي يصلي ركعة قبل الصبح لا بد أنه سيصلي الركعة الثانية بعد خروج الوقت، ومع هذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على هذا النحو إدراكاً لها، وأنها صلاة أداء وليست قضاء، والله تعالى أعلم.

حكم من قدم تحية المسجد على صلاة النافلة

حكم من قدم تحية المسجد على صلاة النافلة Q أتيت المسجد لصلاة الفجر قبل إقامة الصلاة بقليل، فصليت ركعتي تحية المسجد ثم أقيمت الفريضة فصليتها، ثم صليت بعدها ركعتي سنة الفجر؟ A كان ينبغي أن تصلي ركعتي الفجر قبل الصلاة، وتجمع بين النيتين.

حكم تمزيق المصحف في حال الغضب

حكم تمزيق المصحف في حال الغضب Q ما حكم تمزيق المصحف متعمداً مع الغضب؟ A لو أنه وقف عند هذا الحد لقلنا كافر، أما قوله مع الغضب فنفرق كما فرق ابن تيمية عليه رحمة الله بين ثلاثة أنواع من الغضب، النوع الأول: الغضب البسيط، أي: لا بد للإنسان أن يغضب؛ لكنه غضب بسيط يملك معه المرء نفسه، أي: حينما يندفع يمسك نفسه ويكبح جماح نفسه، فهذا غضب بسيط. النوع الثاني: غضب شديد لا يملك الإنسان أن يكبح جماح نفسه؛ ولكنه يدرك ما يقول. النوع الثالث: غضب شديد جداً يُغلق معه المرء ولا يدري ما يقول، حتى لو ألقى ولده من شاهق فقيل له: لِم ألقيته؟ قال: والله ما ألقيته، وهذا الذي يسمى إغلاقاً، ولا طلاق مع إغلاق، فلو أن إنساناً بلغ في الغضب هذا الحد وهذه المرحلة، فإنه لو طلق امرأته مائة مرة فإنها لا تطلق، لأن هذا والمجنون شيء واحد، لقد فقد عقله تماماً. والله عز وجل أخبر عن موسى عليه السلام أنه ألقى الألواح وفي نسختها هدى ونور، ألقى التوراة على الأرض من شدة غضبه حينما رأى أن بني إسرائيل عبدوا العجل من بعده، فعندما أتى إلى أخيه هارون وجد الناس قد اتخذوا عجلاً جسداً له خوار، حيث جمعوا الذهب من بني إسرائيل وصهروه وصنعوه عجلاً، وجعلوه في جهة الهواء، فإذا دخل الهواء فيه سمعوا صوتاً، وهذا هو الخوار؛ فلما رأى أن الذين قد كانوا آمنوا من بني إسرائيل يعبدون العجل والنبي بينهم، ولمجرد أن ذهب إلى طور سيناء ورجع مرة أخرى وجدهم يعبدون العجل في حياته! هذا يا إخواني إذا كنا نسمعه الآن أو نقوله ونستهين به؛ فهو عند الأنبياء لا يستهان به ولا يسكت عنه، فهو عندهم هدم للرسالة من أساسها، فغضب غضباً شديداً جداً حتى أخذ أخاه بلحيته يجره إليه فقال: يا ابن أم لا تشمت بي الأعداء فأنا لا أعرف شيئاً، ففي ثورة غضب موسى عليه السلام ألقى الألواح، فهذا غضب يبلغ درجة الإغلاق؛ فهذا الذي لا يؤاخذ به المرء حتى وإن كان نبياً، أما غضب هو أقل من ذلك فالمرء محاسب على فعله. فانظر إلى هذه الثلاثة الأنواع من الغضب التي ذكرتها لك، وانظر من مزّق المصحف وكان مغضباً في أي درجة كان هو من هذه الدرجات الثلاث، ولكل من هذه الدرجات حكمه عند أهل العلم.

حكم الغش في الدراسة

حكم الغش في الدراسة Q أنا طالب في كلية الصيدلة، والدراسة عندنا فيها أشياء غير مفيدة وغير مهمة، وبالتالي يصعب حفظها جداً، فهل يمكن أن أصطحب معي أوراقاً فيها بعض هذه المركبات المتعسر علي حفظها؟ A يا أخي! هذا هو الغش بعينه، فأنا لا أجيز لك هذا أبداً.

كفارة الطلاق في حال الغضب

كفارة الطلاق في حال الغضب Q في حالة غضب قال لزوجته: أنت طالق، فما كفارة ذلك؟ A أي أنك حكمت أن هذا الطلاق لم يقع وتسأل عن الكفارة! إذاً: فأفت نفسك بالكفارة بعد ذلك.

التفصيل في أن العمل من الإيمان

التفصيل في أن العمل من الإيمان Q الكلام في أن العمل من الإيمان، هل هو من أصل الإيمان أو من كماله، أو أن الأمر فيه تفصيل؟ A الأمر فيه تفصيل، وعند الكلام عن زيادة الإيمان ونقصانه سيأتي معنا هذا التفصيل.

توحيد الحاكمية

توحيد الحاكمية Q هل توحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الإلهية؟ A إذا كنت تقصد معنى هذا الكلام فأنا أوافق عليه، أما إذا كنت تقصد أن التوحيد أنواع، منها: توحيد الذات، توحيد الأسماء والصفات، توحيد الأفعال، توحيد الحاكمية فأنا لا أوافق على أن توحيد الحاكمية من أنواع التوحيد، الحاكمية من خصائص المولى عز وجل، وأنه هو الحكم سبحانه وتعالى. فالحكم هو الله، ومن قال بغير ذلك كفر بالله عز وجل. وقد درجت الأمة على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة: توحيد الإلهية، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات. أما إذا كنت تريد أن تدخلني في دوامة أخرى، فعلى صفحات الجرائد جاءت منذ ثلاث سنوات، وكانت مثار حديث العلماء في هذه البلاد وفي غيرها؛ فأنا متأسف. وفي الحقيقة أنا أنصحك بما نصح به السلف تلاميذهم: إذا كانت الفتنة نائمة فلا تكن أول من يوقظها، فقد قامت الفتنة ثم نامت؛ فلماذا تأتي أنت وتوقظها، فلا حكم إلا الله، وفعلاً الحاكمية هي من توحيد الله عز وجل ومن توحيد الإلهية، وإذا كنت تعتقد أن الإله الحق هو الله تعالى فهو كذلك الحكم الحق، لا يحكم العباد إلا هو سبحانه وتعالى، ومن حكم العباد بغير شرع الله فقد تحاكم إلى غير شرع الله، واتخذ نفسه إلهاً ومعبوداً من دون الله عز وجل. فإذا كنت تعني معنى هذا الكلام فأنا أوافق عليه، أما إذا كنت تعني تقسيماً جديداً رباعياً لمعنى التوحيد، فأنا لا أوافق عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [2]

شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [2] الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، والسبب في زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، وقد وردت الآثار الكثيرة في أن العمل من الإيمان، خلافاً لما يعتقده المرجئة والجهمية من أنه لا علاقة للعمل بالإيمان.

مراتب الإيمان بالمقارنة إلى العمل

مراتب الإيمان بالمقارنة إلى العمل الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، والصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والجهاد من الإيمان، وسائر الأعمال من الإيمان. فمن الأعمال ما هو أصل في الإيمان، ومن الأعمال ما هو واجب في الإيمان، ومن الأعمال ما هو مستحب في الإيمان. وهذا يعني أن الأعمال التي هي من أصل الإيمان من تركها فقد خرج من الإيمان بالكلية وصار كافراً؛ كالصلاة على المذهب الراجح، ومن ترك الأعمال الواجبة في الإيمان فإنما أخل بالإيمان الواجب، ومن ترك الأعمال التي هي مستحبة في الإيمان فقد ترك ذروة الإيمان وكماله وتمامه المستحب. ولذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) أي: فلا يبصر إلا بي، ولا يسمع إلا بي، ولا يمشي إلا بي، فإذا حقق العبد هذه الدرجة وهي الكمال المستحب، يكون قد بلغ ذروة الإيمان وكماله وتمامه، وذلك بأن يأتي بالأعمال المستحبة بعد الأعمال الواجبة والأعمال الأصيلة في الإيمان، فالإيمان بالمقارنة إلى العمل على ثلاث مراتب: إيمان أصلي، ثم إيمان واجب، ثم إيمان مستحب. ولكل مرتبة من مراتب الإيمان أعمال تخصه، فمن فرط في أصل العمل الذي هو أصل الإيمان فلا يكون مؤمناً قط، بل لا يثبت له الإسلام. وإذا قلنا: الإيمان قول وعمل، فالقول قول اللسان، بمعنى أن من كان قادراً على النطق بالشهادتين ولم ينطق بهما مختاراً؛ فإنه لا يثبت له إسلام، لأن الإيمان قول وهو لم يتلفظ مع القدرة على القول والتلفظ، ولكنه ترك ذلك مختاراً غير مكره. والعمل عمل القلب من المحبة والرضا والقيام بمقتضيات هذه الكلمة وغير ذلك، ولذلك لو قال إنسان: لا إله إلا الله، فقد حقق القول، أما قول القلب فمحبة هذه الكلمة والرضا بها، والإيمان والتصديق والإقرار الجازم بها ولو أن ذلك كله انتفى عنده لا يثبت له الإسلام عند الله، ولذلك فالمنافقون في زمن النبوة قالوا كلمة الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم أبغضوا هذه الكلمة، ومع هذا حققوا العمل، فكانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بل ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم عند الله في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد عذاباً من الكفار، أما في حكم الدنيا فهم مسلمون؛ لأنهم نطقوا بكلمة الإسلام ظاهراً. فالإيمان قول وعمل، هذا القول وهذا العمل هو قول اللسان وعمل القلب وهو يزيد وينقص، فزيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل. أي: أن سبب زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، ولذلك إذا كان المرء محافظاً على الصلاة في الجماعة، محافظاً على أداء الزكاة، محافظاً على الحج في كل عام إن استطاع ذلك، محافظاً على النوافل وقيام الليل وقراءة القرآن وغير ذلك يشعر أن قلبه يحلق في السماء السابعة، ولو أنه فرط في شيء أو فاتته مثلاً صلاة الفجر وهو معتاد عليها في جماعة، فإنه يقوم في النهار وقد حشرج صدره، وضاق جداً، وشعر بالغم والهم طيلة النهار، وظن أن الدنيا قامت ولم تقعد؛ لأنه شعر بنقصان الإيمان في قلبه بفوات الطاعة التي اعتاد عليها، هذا الأمر يشعر به كل إنسان منا، والإيمان يزداد كما قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. هذه الآية تقول: إن أصل الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان، ولذلك حينما عاب الله تعالى على الأعراب قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هذا الإسلام لا بد أن يكون معه ما يسمى بأصل الإيمان، لأن الإسلام لا يصح للعبد إلا إذا كان معه الإقرار والإذعان والمحبة والرضا. ولذلك لو أن واحداً نطق بالشهادتين الآن ثم مات بعدها فوراً، نقول إن هذا مسلم معه أصل الإيمان؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بأصل الإيمان، وهي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان، حتى يكون هناك فارق بينه وبين المنافقين؛ لأن المنافق لو شهد بالشهادتين وهو منافق ومات، يكون في النار؛ لأنه قالها نفاقاً. كما يحدث للروس الآن؛ فهم قد عرفوا أصلاً من أصول الجهاد عند المسلمين، وهو أن واحداً منهم إذا وقع في عداد الأسر في جيش الإسلام نطق بالشهادتين فوراً، فهب أنه نطق بالشهادتين، ولنفترض أنه نطقها نفاقاً، فهو في النار؛ لأنه ما نطق الشهادة عن إيمان، وإنما نطقها نفاقاً، فهناك فرق بينه و

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق وأما يومنا هذا؛ فإن شاء الله تعالى سوف نتكلم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبار أصحابه والتابعين الكرام، وفقهاء المسلمين بما فيه شفاء وكفاية وغنية؛ لإثبات أنهم كانوا يعتقدون أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان أعمال. أصل الإيمان لا يتصور فيه النقصان، والفارق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، أن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل التام، أما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان. وقد قلنا إن الإيمان كالدائرة الصغيرة في وسط دائرة كبيرة هي الإسلام، فمن سقط من دائرة الإيمان لا يزال في دائرة الإسلام، ومثلنا بهذا. لكن هذه الدائرة الصغيرة من دوائر الإيمان فيها مرتبتان من مراتب الإيمان: مرتبة مطلق الإيمان، ومرتبة الإيمان المطلق. فالإيمان المطلق هو: الإيمان الزائد المتكامل المتناهي في الزيادة. أما مطلق الإيمان فهو: أصل الإيمان. ولا يتصور في مطلق الإيمان النقصان؛ لأن عقيدة أهل السنة أن مطلق الإيمان يزيد، فيبقى نقصان أصل الإيمان محل نزاع، والذي يترجح لي أن مطلق الإيمان لا يقبل النقصان؛ لأنه إذا قبل النقصان فإنما يكون إلى الزوال. وبعض أهل العلم يقولون: إذا كان الإيمان هو التصديق، والأصل في الإيمان أنه إقرار وإذعان -لكن هذا على مذهب المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق- فيقولون: لا يتصور نقصان الإيمان إلا إلى زوال. وبعض أهل السنة يردون عليهم كـ ابن تيمية وغيره ويقول: بل نفسه يزيد وينقص، كما لو دخل علينا واحد وهو من الثقات فقال: هناك حرائق خلف المسجد، فنحن نصدقه لأننا نعلم أنه ثقة، لكن لو دخل ثانٍ وثالث ورابع وعاشر ومائة وكلهم أجمعوا على نفس خبر الثقة الأول، فلا شك أننا نزداد بذلك تصديقاً ويقيناً، وهذا الذي يسمى عند أهل العلم التواتر الذي يفيد العلم اليقيني.

ما ورد في السنة مما يدل على أن الإيمان قول وعمل

ما ورد في السنة مما يدل على أن الإيمان قول وعمل

حديث علي في أن الإيمان قول وعمل

حديث علي في أن الإيمان قول وعمل قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بالله يقين بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان)]. (الإيمان بالله يقين بالقلب) واليقين هذا يسميه بعض العلماء التصديق، لكن لفظ التصديق ليس محل اتفاق، إنما الذي هو محل اتفاق إقرار القلب، وهذا الحديث ضعيف، وكل الأحاديث التي وردت بهذا المعنى في الإيمان ضعيفة، لكن يشهد بعضها لبعض؛ خاصة وأن معناها محل إجماع أهل السنة والجماعة، ولما كان مقتضى هذا الحديث ومعناه محل إجماع ذكرته مع ضعفه، وقد جاء من حديث أنس وعلي بن أبي طالب وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الإيمان بالله يقين القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح والأركان).

حديث وفد عبد القيس في السؤال عن الإيمان

حديث وفد عبد القيس في السؤال عن الإيمان قال: [وعن ابن عباس: (أن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع)]، وذلك حينما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم وقالوا: يا رسول الله! إن بيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك -أي: ولا نأتيك- إلا في هذه الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به وندعو به من وراءنا، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتؤدي الخمس من المغنم)]. مبنى الحديث أو المراد من الحديث إثبات أن أعمال الجوارح من الإيمان؛ لأنه قال: (آمركم بالإيمان أتدرون ما الإيمان؟) ثم عرف الإيمان بما عرف به جبريل عليه السلام الإسلام، حينما قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) فعرف الإسلام في حديث جبريل بالأعمال الظاهرة وهي أعمال الجوارح، وعرف الإيمان بالأعمال الباطنة وهي أعمال القلب؛ لأنه قال له: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه) كل هذه أعمال قلوب، والإسلام أعمال ظاهرة كما في حديث جبريل، وهذا أمر مقرر عندهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الإيمان هنا بأعمال الجوارح، ليدل على أن أعمال الجوارح من الإيمان. قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتؤدي الخمس من المغنم)، فكل هذه أعمال جوارح، ومع هذا أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها اسم الإيمان. والإيمان والإسلام كالفقير والمسكين وغيرها من سائر المصطلحات التي تشبه المترادفات، إذا ذكرا في دليل واحد كان لكل منهما مدلول، أي أنه إذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد فلكل واحد منهما مدلول، كحديث جبريل حينما ذكر الإيمان مع الإسلام، فكان للإيمان معنى وللإسلام معنى آخر، أما إذا ذكر الإيمان وحده فإنه يشمل معه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان. أما مصطلح الدين فإنه يشمل ذلك كله، ولذلك حينما تكلم جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان وأمارات الساعة وغير ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) لم يقل: أتاكم يعلمكم الإيمان والإسلام والإحسان وغير ذلك، وإنما قال: أتاكم يعلمكم دينكم، فمصطلح الدين يشمل كل ذلك. وفي حديث ضعيف كذلك: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإسلام في القلب، وكلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون)].

أحاديث أبي ذر وجرير بن عبد الله في تفسير الإيمان بالعمل

أحاديث أبي ذر وجرير بن عبد الله في تفسير الإيمان بالعمل [وعن مجاهد (أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:177] إلى آخر الآية)]. وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) ولم يقل الإيمان، لكن هل الإسلام إذا ذكر وحده في هذا الدليل شمل معه الإيمان أم لا؟ أنا قلت إنهما إذا ذكرا جميعاً في دليل واحد كان لكل منهما مدلوله، وإذا ذكر واحد اشتمل على الآخر. ففي حديث [جرير البجلي يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله)]، ولم يذكر شهادة أن محمداً رسول الله للزومها واقترانها؛ لأنه لا يقبل من أحد توحيد إلا إذا آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام [(وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)]. [وعن جرير قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق الشرك) أو كلمة هذا معناها]. وحديث [جرير قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا -أي: يسرع نحونا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأن هذا الراكب إياكم يريد، فانتهى إلينا الرجل فسلم، فرددنا عليه السلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: فأين تريد؟ قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: قد أصبته! قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت قال: قد أنذرت)].

حديث معاذ في أن رأس الأمر الأعمال

حديث معاذ في أن رأس الأمر الأعمال [وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (رأس هذا الأمر -أي: رأس هذا الإيمان والإسلام- أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قوام هذا الأمر)] أي: الشيء الذي لا يقوم هذا الأمر إلا به، ولا يثبت إيمان العبد ولا إسلامه إلا به، قال: [(إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن ذروة السنام من هذا الأمر الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)]، أي: إن قالوها نفاقاً قبلناها منهم وحسابهم على الله.

حديث أبي هريرة في أنه لا قول إلا بعمل

حديث أبي هريرة في أنه لا قول إلا بعمل وجاء [عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا باتباع السنة)]. هذا الحديث حديث ضعيف جداً، لكن هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي اتفقت كلمتهم عليها: لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم. أما قوله: (لا قول إلا بعمل) فاحتراز من مذهب المرجئة الذين يقولون: لا علاقة للعمل بالإيمان، وقد اضطروا أن يقولوا: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه لا علاقة للأعمال بالإيمان عندهم، فيستوي عندهم من عمل جميع المحرمات وترك جميع المأمورات مع جبريل عليه السلام. وأنتم تعلمون أن ترك الأمر وارتكاب النهي فسق وليس كفراً، ولو قلنا إن الوقوع في هذه الكبائر والمهلكات كفر، لوافقنا الخوارج في معتقدهم في تكفير مرتكب الكبيرة. ولذلك فإن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه لا قول إلا بعمل، أي: لا ينفع القول إلا ومعه العمل، ولا ينفع القول والعمل إلا بنية، وهي الإخلاص لله عز وجل. ولا يمكن لرجل أن يقول قولاً وأن يعمل معه عملاً وأن يخلص نيته، إلا إذا كان ذلك كله على منهاج النبوة، وعلى الصراط المستقيم، وذلك احترازاً من البدع؛ لأن المرء ربما يقول قولاً ويعمل عملاً صالحاً وينوي بذلك إخلاصاً، لكنه يقع في البدع، فيقع في الشرك، أي: أن هؤلاء الذين يطوفون حول المقابر وغيرها بلا شك أننا نقول: هؤلاء أناس جاهلون مخلصون، فالواحد منهم يتصور أن عمله هو ذروة الإيمان، وأنه عمل صالح يتقرب به إلى الله، ويأتي بالعجول من الأماكن البعيدة إلى تلك القبور ثم يذبحها، لا شك أن هذا عمل كفري شركي، لكن لا يكفر به! وهناك فارق كبير جداً بين الحكم على العمل بأنه كفر وبين الحكم على العامل، أما العمل فباتفاق، لأن هذا ذبح أو نذر، والذبح والنذر عبادة يجب صرفها لله عز وجل، فإن صرفت لغير الله كانت كفراً وشركاً. لكن المعطل لقيام هذا الحكم على العامل موانع أخرى، كقيام الجهل، فإذا كان عالماً بأن ما يعمله شرك كان مشركاً، أما إذا كان جاهلاً بذلك وهو يتصور أن هذه عبادة وهذا إخلاص لله وعمل صالح؛ فلا شك أن أحداً لا يجرؤ على إلحاق الكفر به. فالعمل شرك، وهذا أمر مفروغ منه، أما العامل فيتوقف عن إلحاق الحكم به حتى تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع. هب أنه رجل مجنون عمل هذا، وأنت أطلقت عليه لفظ الكفر، والجنون مانع من إلحاق الحكم؛ لأن المجنون ليس مكلفاً، وكذلك الصغير لا يعرف شيئاً ولا يعقل شيئاً، والإكراه مانع كذلك. فهذا الحديث المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بإخلاص لله عز وجل) هذا وإن كان حديثاً ضعيفاً إلا أن هذا صمام الأمان فيما يتعلق في الكلام عن الإيمان عند أهل السنة والجماعة.

ما جاء عن الصحابة والتابعين في أن الإيمان قول وعمل

ما جاء عن الصحابة والتابعين في أن الإيمان قول وعمل

أقوال علي وابن مسعود والسفيانين في أن الإيمان قول وعمل

أقوال علي وابن مسعود والسفيانين في أن الإيمان قول وعمل جاء عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنها أنهما قالا: [لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة]. وكذلك جاء عن الحسن البصري. [وقال الحميدي: حدثنا يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان؟] وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة هما من أئمة أهل السنة، أما سفيان بن عيينة ففي مكة والمدينة، وأما الثوري ففي الكوفة. سئل الثوري عن الإيمان؟ [فقال: قول وعمل]. وهذا فيه رد على المرجئة والجهمية. فالمرجئة يقولون: الإيمان قول فقط، فلو أن إنساناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ كان كجبريل وميكائيل، وإن ترك جميع المأمورات وارتكب جميع المحرمات، مع أن هذا ينقض الإجماع الذي انعقدت عليه كلمة أهل السنة والجماعة من أساسه. إبراهيم بن عيينة أخو سفيان بن عيينة حينما سمع أخاه يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال لـ سفيان بن عيينة قل: يزيد، فنظر إليه سفيان بن عيينة وقال: يا أحمق! بل والله ينقص الإيمان حتى لا يبقى منه في القلب شيء، أي: أنه يزول بالكلية.

أقوال نافع الجمحي وعبيد بن عمير ووكيع والحسن ومجاهد والزهري في أن الإيمان قول وعمل

أقوال نافع الجمحي وعبيد بن عمير ووكيع والحسن ومجاهد والزهري في أن الإيمان قول وعمل [وقال يحيى بن سليم: وسألت نافع بن عمر الجمحي، فقال: قول وعمل، وسألت مالك بن أنس، فقال: قول وعمل، وسألت سفيان بن عيينة، فقال: قول وعمل، وسألت جريجاً، فقال: قول وعمل، وسألت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال: قول وعمل، وسألت الفضيل بن عياض، فقال: قول وعمل. وقال الحميدي: وسمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: قول وعمل، والمرجئة يقولون: قول، والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة]. إذاً: تعريف الإيمان عند أهل السنة: قول وعمل يزيد وينقص. أحياناً يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، وأحياناً يقولون: قول وعمل وإخلاص وكلها معان واحدة ومردها إلى بعضها. المرجئة يقولون: قول بلا عمل، أو أن العمل ليس شرطاً في الإيمان. الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة. أي: أنهم لا يشترطون حتى مجرد التلفظ، فلو أن الإنسان عرف الله عز وجل بقلبه كان ذلك كافياً في إثبات كمال وتمام الإيمان عنده، حتى وإن ترك التلفظ مع القدرة عليه، وهذا كلام في غاية الفساد والنكران، بدليل أن إبليس عليه لعنة الله يعرف الله عز وجل، واعترف بربوبيته وإلهيته في غير ما آية من كتاب الله عز وجل، فهو الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] أي: أنه معترف بأن الله هو الرب وعارف بذلك موقن به. ولذلك ابن تيمية يقول: وعلى أصول مذاهب الجهمية فإن إبليس في قمة الإيمان. فهذا من لوازم قول الجهمية، أعني أنه يجب عليهم أن يقروا بأن إبليس عليه لعنة الله في قمة الإيمان، فهو وجبريل وميكائيل والأنبياء والمرسلون في مرتبة واحدة من مراتب الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة. [وقال عبيد بن عمير الليثي: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يفعل، وعمل يعمل]. [وعن الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال]. كلها معان واحدة تصب في بوتقة تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة. [وعن مجاهد قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص]. [وعن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل]. [وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: قال الزهري: نرى أن الكلمة الإسلام، والإيمان العمل]. هذا الكلام ينبغي الوقوف عنده؛ لأن الزهري من كبار أئمة السنة. فالإمام الزهري يقول: نرى أن الكلمة الإسلام، أي: أنه يثبت الإسلام للمرء بمجرد التلفظ والقول. كأنه يقول: الإسلام هو قول. قال: والإيمان العمل، أي أنه يثبت الإسلام عند الزهري لصاحبه بمجرد القول، ولا يثبت له الإيمان الواجب والإيمان المستحب إلا بالعمل، فجعل أصل العمل هو الإيمان، وجعل أصل الإيمان هو العمل، فهو لا يقول إن العمل متمم أو مكمل للإيمان، إنما يقول إن ذات العمل هو الإيمان، كما أن ذات الإسلام هي الكلمة، وهذا كلام في غاية الوجاهة.

كلام الأوزاعي والثوري في أن الإيمان قول وعمل

كلام الأوزاعي والثوري في أن الإيمان قول وعمل [قال الإمام الأوزاعي -وهذا إمام الشام في زمانه، وسيد من سادات المسلمين- قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين]. [وقال وكيع: كان سفيان يقول: الإيمان قول وعمل، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل]. [وقال سفيان: كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة].

حديث البراء بن عازب في تفسير الإيمان بالصلاة

حديث البراء بن عازب في تفسير الإيمان بالصلاة [وعن أبي إسحاق عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم]، وأنتم تعلمون الحديث الذي في الصحيحين حينما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة وصلى تجاه بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أتى الأمر بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، فأشفق الصحابة رضي الله عنهم على صلاتهم السابقة، وخافوا أن تكون هباء منثوراً هي وصلاة من صلى من إخوانهم الذين ماتوا، فقالوا: (يا رسول الله! هل صلاتنا لنا -أي: محسوبة لنا- أم أنها ضائعة؟ فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]) أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيماناً، فالصلاة هي من أعمال الجوارح وليست من أعمال القلوب، ومع هذا سماها الله إيماناً. وإذا رجعت إلى كتاب فتح الباري على كتاب صحيح البخاري لوجدت في كتاب الإيمان باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الصيام من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان وذكر أعمال الجوارح كلها ليثبت أن الإيمان قول وعمل، أما من قال لا علاقة للعمل بالإيمان فقوله من أبطل الباطل. [قال أبو رزين: (يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والحساب والبعث، والقدر خيره وشره، فذلك الإيمان كما يحب الظمآن الماء البارد في اليوم الصائف يا أبا رزين)].

حديث معقل بن عبيد الله عن قدوم سالم الأفطس بالإرجاء ونفور السلف منه

حديث معقل بن عبيد الله عن قدوم سالم الأفطس بالإرجاء ونفور السلف منه [وعن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء]، وسالم الأفطس كان زعيماً من زعماء المرجئة. قال: [فعرض ما معه من إرجاء، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً]. الكلام الجميل -يا إخواني- أنك إذا سمعت كلاماً منكراً فيجب عليك أن تنفر منه نفاراً شديداً، ولذلك فإن أهل العلم يحذرون من الجلوس إلى أهل البدع، فيقولون: إذا لقيت الرجل من أهل البدع ففر منه فرارك من المجذوم، أو فرارك من الأسد؛ لأنك لو سلمت نفسك للأسد فأكل بدنك، خير من أن تسلم نفسك لصاحب بدعة يأكل قلبك ويأكل إيمانك. وقد استوعبنا هذا الباب استيعاباً عظيماً جداً لأهميته في دروس الاعتقاد. [قال: فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم نفاراً ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله ألا يؤيه وإياه سقف بيت إلا المسجد]. أي: أن عبد الكريم قال: والله لا يمكن أن أجتمع مع هذا المبتدع إلا في بيت الله فقط، ولا يؤيني وإياه سقف بيت قط إلا بيت الله. [قال: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابه، فإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته قرأ هذا الحرف {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] قال: قلت: إن لي إليك حاجة فأخلنا]، أي: أني أريد أن أتكلم معك يا عطاء، فلو سمحت أريدك وحيداً بغير أن يحضرنا أحد. [قال: فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين]، أي: يريدون أن يقولوا: إن أعمال الجوارح ليست من الإيمان. [قال: أوليس الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]]، إذاً: فالصلاة والزكاة من الدين. أما قول هؤلاء إن الصلاة والزكاة وأعمال الجوارح ليست من الدين ولا من الإيمان؛ فهو قول فاسد، ويرد عليهم بهذه الآية. [قال: فقلت له: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة. فقال: أوليس الله تعالى قال فيما أنزل: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173] قال: قلت له: إنهم قد انتحلوك]، أي: إنهم يفترون عليك ويقولون: أنت الذي علمتهم أن أعمال الجوارح ليست من الإيمان، كما أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهم افتروا هذا الكلام عن عطاء. [فقال: إن ابن ذر دخل عليك يا عطاء في أصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقبلت هذا الأمر. فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما كان هذا مني. مرتين أو ثلاثاً. ثم قال: ثم قدمت المدينة فجلست إلى نافع الفقيه مولى ابن عمر فقلت: له يا أبا عبد الله! إن لي إليك حاجة. فقال: أسر أم علانية؟ فقلت: لا بل سر. فقال: رب سر لا خير فيه، بل كثير من السر لا خير فيه. قلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام ويده بيدي وخرج من الخوخة -أي: من الباب- ولم ينتظر القاص]، أي: لم ينتظر مجلس القصاص. [فقال: ما حاجتك؟ قلت: أخلني من هذا كان معه ولده عمر فقال له: تنح يا عمر حتى يتكلم عمك بما يريد. قال: فذكرت له بدو أمرهم]، أي: بداية ظهور أمر هؤلاء المرجئة. فقال نافع الفقيه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُمرت أن أضرب بالسيوف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله). قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك. قال: فنتر يده من يدي -أي: جذب يده من يدي- وقال: من فعل هذا فهو كافر! قال معقل: ثم لقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله! أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن). قال معقل: ثم لقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن ميموناً وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا قولهم فقبلت قولهم. قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلت: لا. قال: دخل علي منهم اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد! أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية؟ فقال: (يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، أفترى أن هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله عليه الصلاة و

ذكر فقهاء التابعين ومن بعدهم ممن يقول الإيمان قول وعمل

ذكر فقهاء التابعين ومن بعدهم ممن يقول الإيمان قول وعمل [جرير بن عبد الحميد قال: الإيمان قول وعمل، والإيمان يزيد وينقص، فقيل له: كيف تقول أنت؟ قال: أقول: أنا مؤمن إن شاء الله]. فمسألة: أنا مؤمن إن شاء الله، تدخل تحت باب ما يسمى بالاستثناء في الإيمان؛ لأن قوله (إن شاء الله) استثناء، فهل يجوز للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أم يقطع بأنه مؤمن؟ هذا باب مستقل اسمه باب الاستثناء في الإيمان، أي: جواز الاستثناء من عدمه، وسنتعرض له بإذن الله تعالى في الدروس المقبلة. [قال إبراهيم: وسئل الفضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان، فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان، والقبول بالقول، والعمل به. وسمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل]، وكذلك ابن جريج وأبو إسحاق الفزاري وابن المبارك والنضر بن شميل ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سليم وابن شهاب والحسن البصري ومالك بن أنس ومحمد بن الطيب وهشام بن حسان وعبد الرزاق ومعمر وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وابن عيينة وأحمد بن حنبل وأبو داود السجستاني وغير واحد ذكرهم. ولذلك [قال ابن بطة: سمعت بعض شيوخنا رحمهم الله يقول: سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ قال: هو قول ونية وعمل وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة]. هذا هو ملخص عقيدة أهل السنة والجماعة، فكلام سهل بن عبد الله التستري في الإيمان كلام رائع جداً، يكتب بماء من ذهب. [قال الشيخ ابن بطة: وحسبك من ذلك ما أخبرك عنه مولاك الكريم بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] أي: هذا هو الدين القويم. فإن هذه الآية جمعت القول والعمل والنية، فإن عبادة الله لا تكون إلا من بعد الإقرار به، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يكون إلا بالعمل، والإخلاص لا يكون إلا بعزم القلب والنية. وأبو عبيد القاسم بن سلام كان من أكابر علماء السنة في زمانه، وله تصانيف عديدة ممتعة ورائعة، وقد ذكرت ترجمته في محاضرة سابقة، أكثر من ثلاث ساعات وأنا أتكلم عن مناقب هذا الإمام، فإذا أردتم التعرف عن واقع هذا الرجل فمن كتاب سير أعلام النبلاء، أو التاريخ الكبير للذهبي، فالتاريخ الكبير قد استوعب ترجمة هذا الإمام استيعاباً عظيماً جداً، وكتاب التاريخ الكبير للذهبي أكثر من مائة مجلد. [قال القاسم بن سلام: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص]، ثم يبدأ بعد ذلك بذكر أسماء من قال من السلف: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.

ذكر بعض فقهاء الأمصار الذين روى عنهم القاسم بن سلام أن الإيمان قول وعمل

ذكر بعض فقهاء الأمصار الذين روى عنهم القاسم بن سلام أن الإيمان قول وعمل ثم ذكر أئمة أهل السنة وكلامهم في الإيمان من أهل مكة، ومن أهل المدينة، ومن أهل اليمن، ومن أهل مصر. فمن أئمة أهل السنة [من أهل مصر والشام: مكحول الشامي والأوزاعي الشامي وسعيد بن عبد العزيز الشامي والوليد بن مسلم الشامي ويونس بن يزيد الأيلي المصري ويزيد بن أبي حبيب المصري ويزيد بن شريح المصري وسعيد بن أبي أيوب المصري والليث بن سعد المصري وعبيد الله بن أبي جعفر ومعاوية بن صالح وحيوة بن شريح وعبد الله بن وهب]، وهؤلاء مصريون. قال: [وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة ميمون بن مهران ويحيى بن عبد الكريم]. ومن أهل الكوفة فلان وفلان، [ومن أهل البصرة الحسن البصري وابن سيرين وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وأيوب السختياني ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وعبد الله بن عون وحسان بن حسان وهشام الدستوائي وشعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأبو الأشهب]، وغير واحد من هؤلاء. [ومن أهل واسط: هشيم بن بشير وخالد بن عبد الله الواسطي وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وصالح بن عمر وعاصم بن علي. ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم وأبو جمرة نصر بن عمران وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل وجرير بن عبد الحميد الضبي هؤلاء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وهو قول أهل السنة والجماعة، والمعمول به عندنا، وبالله التوفيق]. قوله: (والمعمول به عندنا) أي: الذي نعتقده أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وقال أبو عثمان محمد ابن الإمام محمد بن إدريس الشافعي سمعت أبي -وهو محمد بن إدريس الشافعي - يقول ليلة للحميدي: ما تحتج عليهم بآية هي أحج من قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]]. أي: الإمام الشافعي يذكر لشيخه الإمام الحميدي إذا ناظر المرجئة ذات يوم، وطلبوا منه آية في كتاب الله ما يحتج به عليهم. فالمناظرة متعلقة بهل العمل من الإيمان أم لا؟ إذاً: الخلاف الذي بين المرجئة وأهل السنة في اعتبار أن الأعمال من الإيمان أم لا؛ فهذا هو بيت القصيد في مخالفة المرجئة لأهل السنة. فالإمام الشافعي مع جلالته يكلم شيخه الإمام الحميدي صاحب المسند ويقول له: إذا ناظرت المرجئة ذات يوم فطلبوا منك آية في كتاب الله، فاحتج عليهم بقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]؛ لأن الدين يشمل الإيمان والإسلام والإحسان. [وناظر حرملة بن يحيى رجلين بحضرة الشافعي بمصر في الإيمان، فقال أحدهما: إن الإيمان قول، فحمي الشافعي من ذلك، وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فطحن الرجل وقطعه]. أي: قام عليه بالأدلة من الكتاب والسنة حتى أفحمه. فالطحن في مذهب العلماء هو إفحام الخصم بالحجة. [قال الشيخ ابن بطة: فهذا طريق الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة هذا الدين، موافق ذلك لنص التنزيل وسنة رسوله الأمين، فنعوذ بالله من عبد بلي بمخالفة هؤلاء، وآثر هواه، ورد دين الله وشرائعه وسنة نبيه إلى نظره ورأيه واختياره، واستعمل اللجاج والخصومة يريد أن يطفئ نور الله {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]]. يبقى لنا إن شاء الله في الدرس القادم إثبات زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الله، ثم من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال الصحابة والتابعين وسائر فقهاء الملة.

الأسئلة

الأسئلة

التصرف في مال الربا

التصرف في مال الربا Q توفي أخ لي من أبي وترك أولاداً يحتاجون إلى النفقة، وترك ديناً لبنك ولأشخاص معينين، ومبلغاً لمصاريف الجنازة والتجهيز والسرادق وغير ذلك. فهل يجوز له أن يدفع مال الربا في هذه المصاريف؟ A يجوز له أن يدفع مال الربا للبنك؛ كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، فهو ربا أخذ منكم ورد إليكم، ويستغفر لأخيه الذي مات.

حكم العمل في الضرائب

حكم العمل في الضرائب Q ما حكم العمل بالضرائب؟ A العمل في الضرائب حرام. والسائل يسأل سؤالاً مهذباً في نهاية الأمر فيقول: وهل لو أخذت بقول من يبيح العمل في الضرائب، وقدمته على قولكم؛ فإني مؤاخذ بذلك ومحاسب عليه أم ماذا؟ ثم يقول: والله ما أريد إلا الوصول للحق في هذه المسألة؟ الشيخ: جزاك الله خيراً وقد صدقناك وإن لم تقسم؛ لأنك عندنا صادق ابتداء، في الحقيقة قولك: هل عليك من حرج إذا أخذت بقول غيري وتركت قولي؟ أقول: لا حرج عليك إذا لم تكن صاحب هوى، وأنت قد أقسمت أنك لست صاحب هوى بدليل أنك تريد الوصول للحق، والذي يريد الوصول للحق يكون أبعد الناس عن الهوى. فإما أن تكون رجلاً من أهل العلم؛ لأن هذه مسألة لها تعلق بالعلم، أو طالباً من طلاب العلم يستطيع أن يقرأ في كلام أهل العلم وأدلتهم ويرجح بين هذا وذاك، فما ترجح في حقك فهو دين الله تعالى بحق، إذا كنت طالباً من طلاب العلم الذين لهم نظر وتمييز ونظر ثاقب في الأدلة، والموازنة بين أقوال أهل العلم. فأقول: انظر في قولي وفي قول من سألتهم غيري، فإذا ترجح لديك قولي فهو دين الله تعالى في حقك يجب أن تعمل به، وإذا ترجح لديك قول الآخرين فهو دين الله تعالى في حقك، ولا حرج عليك أن تدع قولي، فأنت مسئول بين يدي الله عما غلب على ظنك أنه هو دين الله الذي نزل من السماء. أما إذا كنت لست طالباً للعلم ولا لك نظر ولا بصر ثاقب تنظر في الأدلة وفي كلام أهل العلم، فواجب عليك أن تسأل من هم أعلم الناس لديك وأوثق الناس ديانة لديك، فإن استووا فالاحتياط في حقك أوجه. إذا استوى عندك في العلم والديانة والصيانة من قال بالجواز ومن قال بالمنع، فلا شك أن القائل بالمنع في حقك أحوط؛ لأنه لا يختلف أحد أن المنع عن المشتبهات أحوط، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين، وبنيهما أمور مشتبهات) فلا أقل من أن تعد هذا الأمر من المشتبهات (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [3]

شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [3] الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت بذلك الأدلة الكثيرة من القرآن الكريم، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والآثار الواردة عن السلف الصالح، ولا يخالف ذلك ولا ينكره إلا مرجئي خبيث، مريض القلب، زائغ البصر والبصيرة، قد تلاعبت به الشياطين، فأغوته عن الدين.

باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول

باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فهذا الجزء السابع من كتاب الإبانة لـ ابن بطة، وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في زيادة الإيمان ونقصانه. الباب الثاني: في الاستثناء في الإيمان، أي: هل يجوز للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يسأل الإنسان أخاه فيقول له: هل أنت مؤمن؟ وما موقف السلف من هذه القضية. الباب الرابع: القول في المرجئة وما روي فيهم من إنكار العلماء في سوء مذهبهم. فالباب الذي يعنينا في هذه الليلة، هو باب إثبات أن الإيمان يزيد وينقص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل تفضل بالإيمان على من سبقت له الرحمة في كتابه -أي: في اللوح المحفوظ- ومن أحب أن يسعده الله عز وجل، ثم جعل المؤمنين في الإيمان متفاضلين]، أي: أن أهل الإيمان بينهم تفاضل، فهو عند فلان كثير وعند آخر قليل، فأهل الإيمان في إيمانهم يتفاضلون، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ثم جعله فيهم يزيد ويقوى بالمعرفة والطاعة، وينقص ويضعف بالغفلة والمعصية]. إذاً: الإيمان يزيد بطاعة الله عز وجل وبمعرفة الله تعالى والإيمان به، وينقص بالمعصية وبالبعد عن الله عز وجل. قال: [وبهذا نزل الكتاب، وبه مضت السنة، وعليه أجمع العقلاء من أئمة الأمة، ولا ينكر ذلك ولا يخالفه إلا مرجئ خبيث قد مرض قلبه، وزاغ بصره، وتلاعبت به إخوانه من الشياطين، فهو من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202].

الأدلة القرآنية على زيادة الإيمان ونقصانه

الأدلة القرآنية على زيادة الإيمان ونقصانه

الآيات التي ورد فيها ذكر زيادة الإيمان أو الهدى أو التقوى

الآيات التي ورد فيها ذكر زيادة الإيمان أو الهدى أو التقوى قال: [وأما ذكر الحجة في ذلك]، أي: في إثبات أن الإيمان يزيد وينقص: [ففي كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]] فقوله سبحانه: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) دليل على زيادة الإيمان، ولو كان الإيمان لا يزيد لم يكن لمنطوق هذه الآية أي دلالة، قال: [{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]]. [وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]]. فقوله: ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ)) هذا باب من أبواب الطاعة، أعني قراءة القرآن والذكر والتسبيح والتكبير، فإذا تلبس به العبد زاد إيماناً، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [آل عمران:173]. [وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]]. ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا)) أي: طلبوا الهداية وتمنوها، واتخذوا السبيل العملي لتحقيق الهدى والتقى، فيمتن الله تعالى عليهم بأن يمنحهم الهدى وأن يزيد في تقواهم. [وقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]]، فالهدى هو الإيمان. [وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]]، أي: أن الله تعالى يهدي بهذا القرآن أقواماً ويضل به آخرين.

قوله: (ولكن ليطمئن قلبي)

قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: [وقال عز وجل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يريد: لأزداد إيماناً إلى إيماني، بذلك جاء التفسير]، فقد أجمع المفسرون على أن الاطمئنان إنما هو طلب المزيد من الإيمان، لا أصل الإيمان. وهذه الآية وردت في حق سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))؛ فإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في أن الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، ولذلك لم يطلب من ربه أن يريه بعث الموتى، وإنما طلب من ربه أن يريه الكيفية التي يبعث بها الموتى، فهو سأل عن الكيفية ولم يسأل عن أصل القضية، لم يقل: يا رب من الذي يحيي الموتى؟ لأن إبراهيم عليه السلام يعلم ذلك علماً يقينياً لا يحتاج إلى دلالة، وإنما سأل عن الكيف يا رب أنا أريد أن أرى ميتاً تحييه أمامي، حتى يزداد بذلك إيماني ويقيني، وهذا لا ينفي أصل الإيمان وأصل اليقين عنده، فهو على يقين تام بأن الله هو الذي يحيي الموتى ويحيي العظام وهي رميم، لكنه طلب مزيد الإيمان ومزيد التقوى بآية وعلامة أمامه، ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى))، فالله تعالى يسأله وهو أعلم به، حتى لا يأتي من بعد ذلك من يقول: إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في أن الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، فالله هنا قطع هذه الشبهة فقال: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى))، أي: أنا مؤمن، فإذا أتى من يقول إن إبراهيم كان شاكاً نقول له: قد سأله الله هذا السؤال ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ))؟ ((قَالَ بَلَى)) ولا يصح أن يكون إبراهيم كاذباً في هذا الجواب، ومن قال إن نبياً من الأنبياء يكذب فقد كفر؛ لأن الكذب كبيرة والأنبياء مبرءون من الكبائر معصومون منها، وفي الصغائر خلاف ونزاع بين أهل العلم، والراجح من الأدلة في الكتاب والسنة أن الأنبياء يقعون في صغائر الذنوب، ولكنهم سرعان ما يتوبون منها، فيكونون بعد التوبة أحسن من حالهم قبل الذنب. فحينئذ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد إيماناً. [وقال سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: ليزداد، يعني: إيماناً].

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا)

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) قال: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ} [النساء:136]]، فالله تعالى خاطب أهل الإيمان وطالبهم بزيادة الإيمان، أن يسلكوا السبل المحصلة لزيادة الإيمان في القلوب، بدليل أنه لم يقل لهم يا أيها الناس ولا يا أيها المسلمون، وإنما قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأثبت لهم الإيمان، ((آمِنُوا)) أي: ازدادوا إيماناً بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل عليكم. قال: [فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وإنما أراد بقوله ((آمِنُوا)): دوموا على إيمانكم وازدادوا إيماناً بالله وطاعة، واستكثروا من الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم، وازدادوا يقيناً وبصيرة، ومعرفة بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك، في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه، كقولك للرجل يأكل: كل، تريد: زد أكلك]، أي: وهو في حقيقة الأمر يأكل؛ لكنك تطلب منه مزيداً من الأكل، أو اشرب يا رجل، وهو يشرب مثلاً (شاي) فتريد منه أن يشرب الآخر، أي: ازدد شرباً. وهذا في الأمر الذي لا منتهى له، والإيمان لا نهاية له، ولذلك مهما زاد فيه الإنسان يطالب بالزيادة، بخلاف الأمر الذي له نهاية، لو أن واحداً جالس فأقول له: اجلس، يقول لي: أنا جالس، وآخر قائم فأقول له: قم، يقول لي: أنا قائم، فالقيام له نهاية والجلوس له نهاية. فالأمور التي لها نهاية لا يطالب المرء فيها بالمزيد، أما الأمر الذي لا نهاية له فالإنسان مهما استزاد منه يطالب بالزيادة، فأعظم مثل لذلك هو الإيمان. قال: [فالإيمان لا منتهى له، وهو شيء لا يقبل الحد، حتى الأنبياء أنفسهم يطالبون بالزيادة، بدليل أن الله تعالى فضّل بعض الأنبياء على بعض، وإنما ذلك بالإيمان، ولا يجوز أن يكون ذلك في الأفعال المتناهية كما قلت. قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]] أي: بعض الأنبياء درجته فوق درجة بقية الأنبياء، بدليل أن تكليم الله عز وجل لبعض عباده شرف عظيم جداً، فالله عز وجل كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، فإن لموسى عليه السلام منزلة عظيمة جداً، ولإبراهيم منزلة عظيمة بهذه الخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق ذلك كله، وقد حباه الله تعالى بما لم يؤته أحداً من الأنبياء. ولذلك فإن الجعد بن درهم أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، كما أنكر أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فأتى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، وبعد أن خطب خالد خطبة العيد نزل وقال: أيها الناس! ضحوا فإني مضح بـ الجعد بن درهم، ونزل من المنبر، وقال له: ألست الذي تزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؟ قال: أعتذر أو أتوب، قال: هذا بينك وبين الله، والذي أمرنا به هو قتلك، وذبحه في أصل المنبر؛ لأن الذي يقول إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، لا بد أنه مكذب لله تعالى، ومكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ومكذب للصحابة الذين نقلوا إلينا هذا الكلام الرباني الإلهي. وهذا الرجل اختلف أهل العلم فيه، فمنهم من قال: إنما قتله القسري درءاً لفتنته، ولئلا يتمثل به أحد، ومنهم من قال: بل يكفر بذلك، وإنما قتله خالد ردة، وهذا الذي يترجح لدي.

الآيات الدالة على المفاضلة بين الرسل بسبب زيادة الإيمان

الآيات الدالة على المفاضلة بين الرسل بسبب زيادة الإيمان قال: [وقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]]، إذا كان التفضيل بين الأنبياء والمرسلين بسبب الإيمان، فلأن يكون في أتباع الأنبياء والمرسلين من باب أولى. [وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]]، أي: بسبب ما عملوا. إذاً: مناط الزيادة والنقصان في الإيمان هو العمل. [وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]]، أي: كلاً وعد الله تعالى دخول الجنة التي هي الحسنى، ولكن لا يستوون في الجنة، فبعضهم في الجنة في درجة أعلى من بعض، فالذين هاجروا وقاتلوا قبل الفتح، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم؛ فوق الذين آمنوا وهاجروا بعد الفتح.

الآيات الدالة على تفاضل المؤمنين بزيادة الأعمال

الآيات الدالة على تفاضل المؤمنين بزيادة الأعمال قال: [وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95]]؛ لأن هؤلاء مستثنون؛ لأن الذي منعهم من الجهاد هو الضرر؛ سواء كان الحاجة أو المرض أو صغر السن أو الأنوثة أو غير ذلك [{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95]]، والتقدير: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، [{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء:95]]، هؤلاء أحسن من هؤلاء بدرجة [{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]]، والأجر العظيم هو {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]]. [وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]]، الذين هاجروا أفضل من الأنصار، وهذه الآية كانت حجة عمر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، حينما اختلف المهاجرون والأنصار فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتى عمر بن الخطاب فذكرهم بفضل المهاجرين وفضل سبقهم في الإسلام، وفضل هجرتهم من مكة إلى المدينة، ثم بين فضل الأنصار، وأنه لم يثبت لهم إلا بعد أن ثبت الفضل للمهاجرين لأنهم السابقون الأولون؛ قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي: والأنصار من بعدهم، [{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}]. إذاً الترتيب في الفضل: المهاجرون، الأنصار، التابعون لهم بإحسان جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة. [وقال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]]، وهذه أعظم الدرجات. قال: [فقد علم أهل العلم والعقل أن السابق -أي: من المهاجرين- أفضل من المسبوق، والتابع دون المتبوع، وأن الله عز وجل لم يفضل الناس بعضهم على بعض بوثاقة الأجسام، ولا بصباحة الوجه، ولا بحسن الزي وكثرة الأموال، ولو كانوا بذلك متفاضلين، لما كانوا به عنده ممدوحين؛ لأن ذلك ليس هو بهم ولا من فعلهم، فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل؛ إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين، والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية، والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة].

الآيات الدالة على عدم المساواة بين الصالحين والفاسقين

الآيات الدالة على عدم المساواة بين الصالحين والفاسقين قال: [قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21]]، يعني: هل يتصور الناس أننا نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء مع الذين اجترحوا واقترفوا السيئات؟ ومدار هذا أن العمل إيمان، [{سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]]، أي: إذا كانوا يتصورون أننا نسوي بين الذي عمل عملاً صالحاً والذي عمل السيئات، فهذا بلا شك من سوء الحكم. ٌ [وقال الله عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]] يعني: هل يتصور أحد أن الفاجر والتقي عند الله سواء؟ لا يمكن ذلك، وكذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليسوا كالمفسدين في الأرض. قال: [فهذا وأشباهه في كتاب الله يدل العقلاء على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل المؤمنين بعضهم على بعض، وعلوهم في الدرجات. وبمثل ذلك جاءت السنة -يعني: لتؤكد هذا المعنى- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. ولو كان الإيمان كله واحداً لا نقصان له ولا زيادة، لم يكن لأحد على أحد فضل، ولاستوت النعمة فيه، ولا يستوي، وبطل العقل الذي فضل الله به العقلاء، وشرف به الحكماء والعلماء، وبإتمام الإيمان دخل الناس الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون في الدرجات في الجنان عند الله -أي: أنه بالإيمان دخل المؤمنون الجنة، فالدرجات بتفاضلهم- وبالنقصان منه -أي: من الإيمان- دخل المقصرون النار، فنعوذ بالله من النار. وإن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله، ومتى تأمل متأمل وصف الله للمؤمنين وتفضيله بعضهم على بعض، وكيف حزبهم إليه بالسباق]، أي: كيف حفز الله عز وجل المؤمنين للسباق إلى طاعته وزيادة الإيمان. قال: [وبذلك فضل الله أوائل هذه الأمة على أواخرها، ولو لم يكن للسابقين بالإيمان فضل على المسبوقين، للحق آخر هذه الأمة أولها، وربما فاق عليه]، ولو لم يكن للسبق فضل لربما كان المتأخر أفضل من السابق، وبالتالي فلنا أن نقول إن التابعين أفضل من الصحابة، وإن أتباع التابعين أفضل من التابعين، وهذا كلام لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة.

الآيات الدالة على زيادة الإيمان بالأعمال وتفاضل أهله فيه

الآيات الدالة على زيادة الإيمان بالأعمال وتفاضل أهله فيه قال: [قال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]]، فالله تعالى يحثنا على السبق في العمل الصالح حتى نحظى بمغفرته سبحانه وتعالى. [وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجاتهم في السبق، ثم ثنى بالأنصار على سبقهم، ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده سبحانه. ثم ذكر ما فضل به أولياءه بعضهم على بعض، فبدأ بالرسل والأنبياء فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]. وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتأمل ذلك، فقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ [الإسراء:20 - 21] أي: يا محمد [{كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]. وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]]، والدرجة لا تطلق إلا على العلو، بخلاف الدركة فإنها تطلق على الأسفل، فالجنة درجات والنار دركات، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ولم يقل: في الدرجات السفلى أو في أسفل درجة. [وقال تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]]، أي: يوضع كل إنسان في درجته ومنزلته على حسب ما عنده من أعمال وإيمان. [وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]]، وهذه الآية صريحة في زيادة الإيمان وزيادة الدرجات. [وقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20]. فهذه درجات الإيمان ومنازله، تفاضل الناس بها عند الله، واستبقوا إليه بالطاعة بها. فالإيمان هو الطاعة -أي: امتثال الأمر وترك النهي- وبذلك فضل الله المهاجرين والأنصار؛ لأنهم أطاعوا الله ورسوله، ولأنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم سائر الناس من خوف سيوفهم]. أي: أنهم أسلموا ابتداء لأنهم خافوا الله تعالى، لكن الناس أسلموا بعد ذلك خوفاً من القتل، ولذلك المهاجرون والأنصار استحقوا السبق على سائر الناس لأنهم سابقوا إلى مغفرة من الله ورضواناً، وأسلم سائر الناس من خوف سيوفهم. قال: [وفضل الله المهاجرين والأنصار بطواعيتهم لله ولرسوله. وكذلك قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقال: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] يعني في سنن الرسول]، أي: في سننه وأحواله وأيامه صلوات الله وسلامه عليه. قال: [وخلق الله الخلق لطاعته، إلا من سبق عليه القول في كتابه بشقوته، فقال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]]، وهذا أسلوب حصر وقصر. [وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18]، وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} [النحل:49]. وقال الله تعالى للسماء والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. فالإيمان يا أخي -رحمك الله- هو القول، والعمل هو الطاعة]، أي: الإيمان هو قول اللسان وقول القلب، والعمل هو الطاعة، [والقول تبع للطاعة والعمل، والناس يتفاضلون فيه على حسب مقادير عقولهم، ومعرفتهم بربهم، وشدة اجتهادهم في السبق بالأعمال الصالحة إليه].

الأدلة من السنة على ما ورد عن السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

الأدلة من السنة على ما ورد عن السلف في زيادة الإيمان ونقصانه قال: [وقد شرحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله بعضهم على بعض].

الأحاديث الدالة على تأثير المعاصي على الإيمان بالنقصان

الأحاديث الدالة على تأثير المعاصي على الإيمان بالنقصان قال: [من ذلك]، ما جاء [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى، حتى يعلوه الران)]، يعني: يختم على قلبه بهذا السواد. [ابن عباس كان يقسم بالله لو أنكم شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أو أبيض، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود]. والمقصود عند جماهير السلف أن السواد والبياض أمر معنوي يتعلق بالبصيرة. قال: [(إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14])] أي: بسبب ما كانوا يكسبون، علاه الران والسواد كما في [حديث حذيفة في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء؛ حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض لا يضره شيء ما دامت السماوات والأرض، وقلب أسود مرباد -أي: معكر- كالكوز مجخياً -أي: منكوساً ومائلاً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)]. فهذا حديث مرعب ومخيف جداً، فالقلوب قسمان: قلب أبيض بنور الإيمان لا يضره شيء ما دامت السماوات والأرض، وقلب أسود كلما عرضت عليه فتنة أشربها؛ لأنه صاحب هوى وليس صاحب سنة، حتى يعلوه الران، فبعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً للسواد الذي علاه، أطفأ الله تعالى عنه نور العلم والإيمان والبصيرة، فصار لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، بل ربما ظن أن المعروف منكراً أو أن المنكر معروفاً، أو ذهب ليأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. وهذه دركات وظلمات بعضها فوق بعض، نسأل الله السلامة لنا ولكم. [وعن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الإيمان يبدو لمظة] أي: كشيء يلمظ لمظة، أي: يرى دقيقاً يسيراً. قال: [إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما زاد الإيمان زاد البياض -أي: كلما زاد الإيمان بزيادة العمل زاد معه هذا البياض، حتى يكون قلباً أبيض ناصع البياض- فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، كلما زاد النفاق زاد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله. وأيم الله! لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود]. وهذا الإسناد فيه ضعف، إلا أن الروايات التي في الباب تشهد لهذا الكلام. [وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا أذنب الرجل الذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنب الذنب نكت في قلبه أخرى، حتى يكون لون قلبه لون الشاة الربذاء]، أي: الشاة المغبرة التي ليست إلى السواد ولا إلى البياض. قال: [وعن مجاهد قال: القلب مثل الكف؛ إذا أذنب الرجل الذنب انقبض بعضه -ثم قبض أصبعاً- وإذا أذنب الذنب انقبض بعضه -ثم قبض أصبعاً، حتى قبض أصابعه كلها- ثم يطبع عليه، فكانوا يرون ذلك الران، ثم قرأ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]]، يعني: زيادة الذنب ليست من الطاعة، فصاحب الذنب يحب أصحاب الذنوب ويواليهم، ويعادي أصحاب الطاعة ولا يحب رؤيتهم، إذا بلغ العبد هذا المبلغ فليعلم أن هذا خطر عظيم جداً عليه.

حديث حذيفة في نزول الأمانة في قلوب الرجال ورفعها

حديث حذيفة في نزول الأمانة في قلوب الرجال ورفعها [وعن حذيفة رضي الله عنه]، وهو صاحب أحاديث الفتن، وكان يحرص حرصاً تاماً على معرفة ما سيقع بين يدي الساعة، وما سيقع في هذه الأمة من فتن، فكان يسأل عليه الصلاة والسلام دائماً عن ذلك، [قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، والعلماء اختلفوا في الأمانة، فقال بعضهم: هي التكاليف الشرعية، وبعضهم يقول: هي الأمر والنهي، وبعضهم يقول: هي الدين كله. والراجح أن الأمانة هي الدين كله، وأصل الدين الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالله هو الذي يدفع صاحبه إلى العمل الصالح، ولا بأس من جمع هذا كله في تفسير الأمانة هنا. قال: [(حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر -أي: في أصل- قلوب الرجال)]، وذكر الرجال من باب التغليب، والأصل أن النساء يدخلن في هذا الخطاب. قال: [(ونزل القرآن، فتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة)]. ولذلك السلف رضي الله عنهم كانوا يتعلمون الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن تعلموه، وتعلموا السنة فازدادوا بها إيماناً، وهذا جاء صريحاً في حديث عبد الله بن عمر وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي. [ثم قال حذيفة: (ثم حدثنا النبي عليه الصلاة والسلام عن رفعها)]. إذاً: الحديثان هما: الأول: عن فضل نزول الأمانة، وأن ذلك كان في جذر قلوب الرجال، والكلام هذا رأيناه عياناً، وهذا فيه إثبات خيرية وأفضلية أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والحديث الثاني: عن رفع الأمانة، أي: كيف ترفع من قلوب الناس، وهذا لم يره حذيفة، وإن كان حذيفة من عند نفسه بالغ أنه في نهاية عمره قد رأى ذلك، وآخر عمر حذيفة بلا شك أنه أقل في الفضل من أول عمره؛ لأن حذيفة كان يعيش مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يعيش مع الخلفاء الراشدين فالأمر كان كله هناء وسعادة وإيماناً، لكن بعد ذلك دخلت الفتن بمقتل عثمان رضي الله عنه، وبالحروب التي قامت في نهاية زمن الخلافة وغير ذلك وهذه كلها فتن. ولذلك حذيفة تأثر تأثراً شديداً بما أدرك من فتن، فقال: كنت أبايع كل من لاقيت أي: إذا أردت أن أبيع وأشتري فأبيع وأشتري من أي أحد من غير أن أسأل عنه، لأنه أحد أمرين: لو كان مؤمناً رده علي دينه ولن يغشني؛ ولو كان يهودياً أو نصرانياً رده علي ساعيه، والساعي هنا هو السيد والوالي. أي: لو أنه باع من اليهود والنصارى وغشوه، فيستطيع أن يأخذ حقه مرة أخرى من السيد المسلم الذي هو ولي هذا اليهودي أو هذا النصراني. قال: أما الآن فلا أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً، قيل له: هل الأمانة ترفع يا حذيفة؟ قال: نعم، ترفع حتى يقال للرجل ما أظرفه وما أعقله وما أجلده، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. وهذا حديث مخيف، وأظن أنني خطبت عنه في جمعة على هذا المنبر. قال: [(ثم حدثنا عن رفعها، فقال: ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيظل أثرها كأثر المجل)] وهو الأثر الخفيف اليسير، أو اللون المخالف للون الأصلي. قال: [(كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء)]، يقول: كما لو أتيت بجمرة فبدحرجتها على فخذك، لا شك أن هذا الموضع الذي دحرجت عليه الجمرة سينتفط ويعلو ويمتلئ ماء، هذا الماء لا ينتفع به ولا قيمة له، ولذلك قال: (كجمر دحرجته على رجلك فنفط) أي: فعلا وارتفع هذا الجلد وتكون تحته الماء، فيترك أثراً كالمجل، [(أو قال: كالوكت، ثم ينام الرجل النومة الثانية، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل)] قال في الأولى: كالوكت وهو أثر يسير، والمرة الأخرى قال: كالمجل وهو عظيم وشديد. وضرب له مثلاً كالذي يأخذ الفأس ولا عادة له بهذا الفأس، لأنه منعم مترف حينما تعطيه الفأس وتقول له: شطب لي هذا الرصيف، ما الذي سيحصل؟ فربما يموت كمداً من أول ما يبدأ الشغل، لكن حينما يبدأ يشتغل، فأول ما يخبط خبطتين بالفأس على الأرض تهش الجلود الداخلية وتتشقق وتحمر وتنزل دماً، ويبقى منظر اليد كلها مشوهة، فهذا بلا شك أثر عظيم، فكذلك الإيمان ينزع من القلب شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى في القلب إيمان. فهكذا أصل نزول الإيمان كان في جذر قلوب الرجال، ولذلك أنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -أي: فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) وفي رواية مسلم: (أو يشركانه) أي: يجعلانه مشركاً. ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي: أنه سئل عن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وبعض النصوص قد وردت في أن أطفال المشركي

ما ورد عن الصحابة في زيادة الإيمان ونقصانه

ما ورد عن الصحابة في زيادة الإيمان ونقصانه قال: [قال أبو الدرداء: الإيمان يزداد وينقص]، وهذا قول أبي هريرة وابن عباس. [وقال عمير بن حبيب: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه]. كأنه يقول: زيادته ونقصانه بالعمل، فإذا كان العمل طاعة ازداد به الإيمان، وإذا كان معصية نقص به الإيمان. [وقال عبد الله بن عكيم: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً]. [وقال سعيد بن جبير: في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] أي: ليزداد إيماناً]. قال: [عن ذر بن عبد الله: أن عمر كان يأخذ بيده الرجل والرجلين في الحلق فيقول لهما: تعالوا نزدد إيماناً]. إذاً: ازدياد الإيمان ونقصانه كان أمراً مستقراً عند السلف، وكذلك [قال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة]، أي: نزداد إيماناً، لا أنهم كانوا كفاراً وكان يطالبهم بالإيمان كما فهم ذلك بعض الطلاب. [وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام غلماناً حزاورة -أي: صغاراً في سن واحدة- فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً)]. ٌ [وقال أبو الدرداء: كان ابن رواحة يأخذ بيدي فيقول: تعال نؤمن ساعة -أي: نزداد إيماناً- إن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً]، أي: أن القدر حين نضع فيه الماء، وحين تغلي يتقلب الماء بداخله، فكذلك القلب أسرع تقلباً، أي: أنه لا بد من تعاهد القلب. حينما تكون عندك سيارة، فحينما تريد أن تسافر بالسيارة تنظر إلى الماء والزيت وغير ذلك كل هذا من باب المتابعة، فقلبك أولى بهذا، وحينما يكون عندك حيوان، ولو كان حيواناً حقيراً لكنه مأذون فيه شرعاً ككلب الحراسة وكلب الصيد والماشية، فالمطلوب منك شرعاً أن ترعى هذا الكلب طعاماً وشراباً ومأوى وغير ذلك، حتى لو مرض وجب عليك تطبيبه، والله تعالى شكر لامرأة بغي وجدت كلباً يلهث، فنزلت وملأت خفها من البئر فناولته فشرب حتى ارتوى، فشكر الله لها ذلك وأدخلها الجنة وهي بغي، والله تعالى أدخل امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ودائماً الملاحدة لا تعجبهم مثل هذه الأحاديث، يقولون: هل يعقل أن باغية تدخل الجنة في كلب، وأخرى مؤمنة تدخل النار في هرة؟ فليست القضية قضية قطة، وإنما القضية أن هذه نفس، وأن المعذب بسببها قد قتل نفساً متعمداً، وكان بإمكانه ألا يفعل ذلك. وكان ابن رواحة يأخذ بيده فيقول: تعال نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً.

ما ورد عن التابعين في زيادة الإيمان ونقصانه

ما ورد عن التابعين في زيادة الإيمان ونقصانه [قال يعقوب بن إبراهيم: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنا أقول إن الإيمان يتفاضل]، وهذا مذهب السلف، [وكان الأوزاعي يقول: ليس هذا زمان تعلم هذا، هذا زمان تمسك]. الإمام الأوزاعي من سادات الدنيا في زمانه تمسكاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، كان إمام هدى وإمام سنة. قول عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول أن الإيمان يتفاضل هذا قول ثابت عن الأوزاعي أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاضلون فيه، والأوزاعي وهو إمام الشام في زمانه دخل في معترك عظيم جداً مع الحجاج بن يوسف الثقفي فكانت فتنة عظيمة جداً، وتفرد الأوزاعي في زمانه بتكفير الحجاج، أي: أن الأوزاعي في زمانه وحده هو الذي تفرد بإطلاق الكفر المخرج من الملة على الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت فتنة عظيمة جداً، أدت بالإمام الأوزاعي أن يقول هذا القول، وأن يقول: زيادة الإيمان ونقصانه كان من قبل، أي: في زمن التابعين وزمن الصحابة، أما في زمن الأوزاعي وهو من أتباع التابعين فقال: كل منا له قليل من الإيمان يجب أن يحافظ عليه، يعني: لا يطمع أحد في الزيادة، ولكن الذي عنده شيء من الإيمان يحافظ عليه هذا القول في ذاته يدل على أن الإيمان عند هذا الإمام يزيد، لأنه لو كان الإيمان عنده لا يزيد ولا ينقص لما قال: وهذا زمان تمسك. أي: هذا الزمان يجب فيه أن يتمسك المرء بما عنده من دين، لأنه لو لم يكن عند الإمام لا يزيد وينقص فلماذا يتمسك به؟ فهو سواء تمسك به أو لم يتمسك لا يزيد ولا ينقص، فلو أن الإيمان عند الإمام لا يقبل الزيادة ولا النقصان فما قيمة التمسك به والمحافظة عليه؟ إذا كان حافظ عليه أو لم يحافظ عليه فهو لا يزيد ولا ينقص! فهذا القول من الإمام يدل على الغالب الذي وصل إلى الإمام. [وقال الحسن في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]. قال: قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا]. أي: لو أن ربنا أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، [فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (الإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي)]، وهذا حديث مرسل، وهو من أحاديث الحسن المرسلة إلى النبي عليه الصلاة والسلام. [قال ابن بطة: وفي هذا الحديث ما يدل العقلاء على تفاضل الإيمان وزيادته، ودرجاته في قلوب قوم دون آخرين، وذلك أن الله عز وجل حينما علم من تمكن الإيمان من قلوب قوم اختصهم بزيادته على آخرين، قال: ((مَا فَعَلُوهُ)) ثم استثنى المفضلين بالإيمان، فقال: ((إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)) كما قال في أصحاب طالوت]. و [أن أبا الدرداء كان يقول: من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أم منتقص؟]، أي: أن من فقه العبد مع ربه أن يعلم هو في زيادة أم في نقصان، [وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه؟] أي: من أين تأتيه وكيف تأتيه؟ والأفضل في معرفة نزغات الشيطان وسبله ومداخله: إغاثة اللهفان لـ ابن القيم، وتلبيس إبليس لـ ابن الجوزي، فهذا له طعم وذاك له طعم، وأساليب الشيطان لا نهاية لها، ولا يزال العلماء يصنفون ويكتبون يحذرون الأمة من مداخل الشيطان.

ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينقص

ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينقص قال: [وقال ابن مسعود: ما رأيت ناقص الدين والرأي أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء]، أي: ترى الرجل حازماً وعاقلاً وشديد الصرعة، لكنه ينهزم أمام النساء، مع أن المرأة في أصلها ضعيفة لكنها بفتنتها في قولها وفعلها تفتن الرجل الحازم الرأي. [قالوا: يا أبا عبد الرحمن! وما نقصان دينها؟ قال: تدع الصلاة في أيام حيضها، قالوا: فما نقصان رأيها، قال: لا تجوز شهادة امرأتين إلا بشهادة رجل]. [وقيل لـ سفيان بن عيينة: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرءون {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] في غير موضع من كتاب الله؟ قيل: فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص]. والذي يدل على النقصان من السنة حديث أبي سعيد الخدري: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن)، والحديث مشهور ومعلوم. والحجة الثانية حجة عقلية؛ لأنه ما من شيء يقبل الزيادة إلا وكان ناقصاً قبل ذلك. فحينما تقول: إيمانك في زيادة، لا يدل على أنه كان زائداً، لكنه كان موجوداً فزاد، أو كان ناقصاً فزاد. فزيادة الإيمان تدل على أنه كان ناقصاً، والشيء الذي يقبل الزيادة لا بد وأن يقبل النقصان. [وقال سفيان الثوري: إن الإيمان يزيد وينقص، وأقول: إن الإيمان ما وقر في الصدر وصدقه العمل]. [وقال وكيع: الإيمان يزيد وينقص، وكذلك كان سفيان -أي: الثوري - يقول ذلك]. [وقال المروزي: سمعت أبا عبد الله وهو أحمد بن حنبل سئل عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل يزيد وينقص، قال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، قال: وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. ثم قال: هذا من الإيمان، وسمعته يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: الزيادة من العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق]، أي: إذا عمل الطاعات زاد إيمانه، وإذا زنى وسرق وارتكب المعاصي والفواحش نقص إيمانه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث. فالنقص هنا ليس من أصل الإيمان، وإنما هو من كمال الإيمان وتمامه، وهذا يدل على أن الإيمان ينقص بالمعاصي ويزداد بالطاعات. [قال أبو عبد الله: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال: إنما الزيادة والنقصان في العمل كيف تكون حاله إذا قتل النفس؛ أليس قد أوجب الله له النار؟ كيف حاله إذا ارتكب الموبقات؟] [وقال: هشام بن عروة عن أبيه: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فلا نافية لكمال الإيمان وتمامه، رجل كانت عنده الأمانة خامدة لا ينفى عنه الإيمان بالكلية، إنما ينفى عنه زيادة الإيمان.

حكم مرتكب الكبيرة

حكم مرتكب الكبيرة قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلى آخر الحديث، وفي نهايته (والتوبة بعد معروضة)] أي: لمن لم يقم عليه الحد؛ لأنكم تعلمون أن مرتكب الكبيرة عند الخوارج مخلد في النار، وعند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر، فهذا حكمه في الدنيا، وفي الآخرة يكون من المخلدين في النار، وعند المرجئة لا تضره الذنوب كلها، لأن الأعمال صالحها وطالحها لا علاقة لها عند المرجئة بالإيمان، وعندهم أن إيمان جبريل كإيمان أفسق الناس، أو إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه لا علاقة للعمل بالإيمان، ولا علاقة للإيمان بالعمل وهذا كله خبط عشواء، وكلام فاسد هالك. وعند أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأن المسلمين لا يسلبون عن الفاسق الملي الأخوة الإيمانية، ولو أن واحداً زنى فأنت تبطن عنه ذلك في الباطن، وفي الظاهر تعامله على أنه مسلم، ما دام هذا الرجل من ملة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو فاسق بكبيرته التي ارتكبها، ولا نسلب عنه مطلق الإيمان، وإنما نسلب عنه الإيمان المطلق، الذي هو الإيمان الزائد، وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق هو كمال الإيمان وتمامه، فهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيد لمرتكب الكبائر تنفي عنه الإيمان المطلق، أما مطلق الإيمان الذي هو أصله وقاعدته فيتصور نقصانه لا سلبه.

أقوال السلف في تفاضل أهل الإيمان فيه

أقوال السلف في تفاضل أهل الإيمان فيه قال: [وقال محمد بن علي: هذا الإسلام -ودور دائرة كبيرة- ثم قال: اعتبروا أن الإسلام هو هذه الدائرة الكبيرة -ودور دائرة في وسطها أصغر منها- ثم قال: وهذا الإيمان، فإذا سقط المرء من هذه الدائرة الصغيرة التي هي دائرة الإيمان استقر في الدائرة الكبيرة التي هي دائرة الإسلام]. والإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان. قال الشيخ ابن بطة: [وهذا القول من أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه من أوضح الدلائل وأفصحها على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعات فيحصنه الإيمان، وينقص بالمعاصي فيحرق الإيمان، ويكون غير خارج من الإسلام، وذلك أن الإسلام لا يجوز أن يقال فيه يزيد وينقص]؛ لأن الإسلام لا يتصور فيه الزيادة ولا النقص، إنما الزيادة والنقص في الإيمان. [قال ابن عيينة: الإيمان يزيد وينقص. فقال له أخوه وهو إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد! لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي -وفي رواية: يا غبي- بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء، وفي رواية قال: ينقص حتى ما يبقى منه مثل هذه، وأشار إلى فرث أنامله]. [وقال لوين: سمعت ابن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل، قال ابن عيينة: وأخذناه ممن قبلنا وأنه لا يكون قول إلا بعمل، قيل لـ ابن عيينة: يزيد وينقص؟ قال: فأي شيء إذاً؟] إذا كان الإيمان مرتبطاً بالعمل فلا بد أنه يزيد بالعمل. [وعن الحسن قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ينزع منه نور الإيمان كما يخلع أحدكم قميصه، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه)]. [وعن ابن عباس قال: إذا زنى العبد نزع منه نور الإيمان]. إن للطاعة في القلب نوراً، وإن للمعصية في القلب ظلمة، كما قال ابن عباس. [وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم]. فهذا الكلام يقوله عمر رضي الله عنه، وعمر مع الأمة. أرأيتم كلام الأقران بعضهم عن بعض؟ فهؤلاء أقران محترمون رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، والعلماء يقولون: كلام الأقران يطوى ولا يروى يعني: كلام الأقران بعضهم في بعضهم لا يلتفت إليه ولا يؤبه له ولا يؤمر به، لكن بلا شك أن الكلام الحسن والذكر الجميل أولى بالرواية من هذا التناحر، ولذلك كافأ الله عز وجل عمر رضي الله عنه بقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فيه قولاً عظيماً، قال حذيفة: لئن أعلم أن فيكم مائة مؤمن أحب إلي من حمر النعم وسودها]، يعني: لو كنت أعلم أن فيكم مائة مؤمن كما يريد الله، فهذا أحب إلي من أن تكون لي الأنعام والأبقار وغيرها من أموال العرب. [فقال: ما بهاجرتنا -أي: قرية هجر- ولا بشامنا ولا بعراقنا مائة]، أي: هذه البلدان كلها ليس فيها مائة مؤمن كامل الإيمان، أي: على أعلى درجات الكمال والتمام. [فقال: أفيكم رجل لا يخاف في الله لومة لائم، وما أعلمه إلا عمر بن الخطاب؟] أي: علامة الإيمان التام الكامل الذي قد بلغ القمة والنهاية، لو أن المرء بلغ إيمانه ذلك لو وضعوه في النار كما وضع إبراهيم عليه السلام في النار، لا يضره ذلك شيئاً. حذيفة يقول لهم: أنا لا أعرف أحداً فيكم بهذا الوصف إلا عمر، وهذا حين تأدب عمر مع أبي بكر تأدب الناس معه والجزاء من جنس العمل. [قال: فكيف أنتم لو قد فارقكم عمر؟ ثم بكى حتى سالت دموعه على لحيته].

ما ورد عن السلف في التحذير من المعاصي وأنها تنقص الإيمان أو تحبطه

ما ورد عن السلف في التحذير من المعاصي وأنها تنقص الإيمان أو تحبطه [وقال الحسن: ما يرى هؤلاء الناس أن أعمالاً لا تحبط أعمالاً، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]]، وهذه الآية ترد على من يقول إنه لا توجد أعمال تحبط أعمالاً، فهذه الآية تثبت أن رفعكم لأصواتكم على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدمكم بين يديه، واعتراضكم على سنته بالجحود، وزعمكم أنها مخالفة للقرآن تارة وأنها غير صحيحة أخرى، وأنها لا تتفق مع العقل ثالثة، وأنها وأنها هذا كله تقدم بين يدي الله ورسوله ورفع للصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإذا كانت لكم أعمال صالحة فقد حبطت بهذا القول. [وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود حينما رأى رجلاً صنع شيئاً من زي الأعاجم قال: ليتق الله رجل أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر]. يعني: لأنه مطالب أن يخالف كل من لم يكن على ملة الإسلام. [قال محمد بن عبد الرحمن: فظننته أخذ ذلك من هذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]]. [وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى عدي بن عدي رسالة بعض ما فيها: أما بعد: فإن للإسلام شرائع وحدوداً من استكملها استكمل الإيمان]، وهذا يدل على أن كل من أتى شرعة أو منهاجاً أو حداً من الحدود، يزيد إيمانه، قال: [ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أبينها لكم]. أي: إذا عشت أبين لكم هذه الحدود وهذه الشرائع، قال: [وإن أمت، فالله ما أنا على صحبتكم بحريص]. ثم أتت روايات كثيرة جداً عن كثير من السلف تثبت أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. [قال حذيفة: ليأتين عليكم زمان يصبح الرجل فيه بصيراً، ويمسي وما ينظر بشفر]. [وقال أيضاً: إن الرجل ليصبح بصيراً ثم يمسي وما ينظر بشفر]. وهذا يدل على أن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي كافراً كما في الحديث (يبيع دينه بعرض من الدنيا) أي: قليل. [وعن عبد الله قال: يأتي الرجل رجلاً لا يملك له ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً، فيحلف له أنك لذيت وذيت، ولعله لا يحلى منه بشيء، فيرجع وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:49 - 50]. [وقال عمران بن حصين حينما رأى رجلاً في يده حلقة من صفر -يعني: من نحاس- قال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، يعني: أنا اتخذتها حتى تقوي ضعف بدني ووهنه، قال: أما إنها لن تزيدك إلا وهناً، ولو مت وأنت ترى أنها نافعتك لمت على غير الفطرة]. والنص الآخر لـ[ابن مسعود يقول فيه: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول: إنك لذيت وذيت يثني عليه، وعسى ألا يحلى بحاجته بشيء، فيرجع وقد أسخط الله وما معه من دينه شيء]. فأنتم تعلمون أن معظم الشعب المصري بهذا الشكل هذا، حينما يكون له مصلحة عند واحد يذهب يقول له: يا سلام! أنت فيك كذا وكذا وكذا، وأنت الذي تملك النفع والضر، وأنت الذي بيدك أن تقضي هذه المصلحة أو توقفها، وأنت وأنت مع أن هذا كله ملك لله عز وجل، فهذا الحق لله يجعله هذا المنافق لغير الله تبارك وتعالى من خلقه الذين لا يملكون لأنفسهم في حياتهم نفعاً ولا ضراً، بل وبعض الناس يزيد فيجعل هذا في يد الأموات، فيتوسلون بالأضرحة ويطلبون منها الحاجات ودفع المضرات! وهذا ليس إلا لله عز وجل، وهؤلاء الموتى لا يملكون ذلك لأنفسهم وهم أحياء، فكيف يملكونه لغيرهم وهم أموات؟ وهم يعتبرون هذه الكلمات من باب المجاملة، بل هذا باب عظيم جداً من أبواب النفاق، كيف تزكي نفسك؟ وكيف تزكي غيرك وأنت تعلم أنه ليس أهلاً للتزكية؟ ولذلك الواحد يأتي يطلب شهادة أو تزكية للجهة الفلانية، ولو أن الشيخ لم يعطه فإنها تقوم الدنيا ولا تقعد على رأس الشيخ هل أنت تعتقد أن هذه شهادة أم لا؟ يقول لك: نعم هذه شهادة وأنت تسأل عنها يوم القيامة. تقول له: إذا كنت تعرف أنني أسأل عنها يوم القيامة، هل أنا أعرفك؟ يقول لك: أنا صرت شيخاً مثلك تقول له: أنت بستاني لا أعرفك، اذهب للشيخ الذي يعرفك فيزكيك، يقول لك: الشيخ الذي بجوار بيتنا، والشيخ الذي يعرفني بيني وبينه مشاكل وخلافات. إذاً: أنت إنسان قليل أدب لا تستحق التزكية، فأنت حكمت على نفسك أنك لا تستحق. فالذي يجعلك تختلف مع الشيخ الذي بجوارك، يجعلك تختلف مع أساتذتك وشيوخك في الخارج، في الجامعة الإسلامية مثلاً أو جامعة أم القرى التي أتيت

معرفة الإسلام وعلى كم بني

شرح كتاب الإبانة - معرفة الإسلام وعلى كم بُني أهل السنة والجماعة يطلقون اسم الإسلام على الإيمان والعكس، وذلك عند الانفراد، فإذا جاء الاسمان معاً في سياق واحد، كان لكل واحد معنى، وذلك كما في حديث جبريل عليه السلام، فإن فيه بيان معنى الإسلام والإيمان وغيرهما.

باب معرفة الإسلام وعلى كم بني

باب معرفة الإسلام وعلى كم بني بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: معرفة الإسلام وعلى كم بني]. والذي يجعلنا نتكلم عن ماهية الإسلام وما هو، يُلزمنا أن نعرف الإسلام لغة ثم نعرفه اصطلاحاً، فينبغي أن يضم إليه مصطلح الإيمان، فالكلام ليس فحسب على الإسلام، وإنما على الإسلام والإيمان معاً. [قال سالم بن أبي الجعد: عن رجل قال: (قيل لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الإسلام بني على خمس كلمات: الإخلاص، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)]. وهذا الرجل كان كفيفاً، فقال لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ كأن ابن عمر قال له: لا. وهذا الكلام محمول على طلب الجهاد في الفتنة، والمسلم العاقل الحازم إذا غلب على ظنه أن الحق مع إحدى الطائفتين وجب عليه أن يقاتل مع الطائفة التي غلب على ظنه -أو تيقن من باب أولى- أنها صاحبة الحق، ويحرم عليه أن يقاتل مع الطائفة التي في ظنه أو تيقن أنها جانبت الحق والصواب، وإذا لم يترجح لديه هذا ولا ذاك وجب عليه أن يكون حلس بيته، فيلزم بيته، ولا يشارك في هذه الفتنة. فلعل هذا السائل الذي سأل ابن عمر أن يجاهد -يعني: في الفتنة- مع أحد الطائفتين، كأنه أراد أن يقيم الحجة على ابن عمر أن الجهاد أمره عظيم وخطير، فلم لا تجاهد إذاً يا أبا عبد الرحمن؟ فأراد أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر أن يبين له أن الجهاد في هذا الموطن ليس من مباني الإسلام ولا من أسسه وقواعده، إنما مباني الإسلام كما سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام خمس: أولها الإخلاص، والإخلاص بمعنى التوحيد، ولذلك سميت كلمة التوحيد بكلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم قال: (وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)، وتقديره: من استطاع إليه سبيلاً، فهذه مباني الإسلام، والجهاد ليس منها، ويقيناً فإن الجهاد رغم أهميته إلا أنه ليس من مباني الإسلام، إنما هو ذروة السنام الذي يحفظ الله تعالى به البلاد والعباد؛ فضلاً عن حفظ الدين. وهذه المباني فرض عين على أهلها وأصحابها إلى قيام الساعة لا تزول قط، بخلاف الجهاد، فالجهاد فرض كفاية على الأمة بمجموعها، ولا يتعين إلا في حالات خاصة. إذاً: مباني الإسلام فرض عين، فلا يصح أن يصلي أحد لأحد؛ لأن الصلاة فرض عين على كل مسلم عاقل بالغ، بخلاف الجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأمة في مجموعها، إذا جاهد بعضها سقط الإثم على الباقين، وإذا نكلوا ونكصوا جميعاً عن الجهاد حتى أُضِرَّ بالدين والدنيا فإن الجميع يأثم، أي: جميع من تعين عليه القتال والجهاد ولم يجاهد، كما أن الجهاد سيسقط في آخر الزمان، وآخر الزمان موعود بنزول عيسى عليه السلام من السماء وقتله المسيح الدجال فحينئذ تضع الحرب أوزارها؛ لأنه لا يكون ملة على الأرض إلا ملة الإسلام، وسيدعو عيسى عليه السلام بعد قتله الخنزير وكسره للصليب إلى دين وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يكون هناك ملة إلا ملة الإسلام فحسب. فحينئذ يسقط الجهاد، بخلاف هذه المباني فإنها باقية حتى قيام الساعة. فـ ابن عمر أراد أن يقول: الجهاد ليس فرض عين علي؛ لأن فروض الأعيان معلومة، وقد جاءت في حديث سمعته عن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر حديث المباني. [وقيل لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ قال: إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله]، والتقدير: وأن محمداً رسول الله، للتلازم بين الشهادتين حتى وإن لم يذكر الشق الآخر من الشهادة في الرواية، فإنه معلوم يقيناً؛ لأن أحد الشقين لا يصح بغير صاحبه، فلو قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله ولم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر، ولو آمن بمحمد ولم يشهد بوحدانية الله عز وجل فكذلك هو كافر. فقوله هنا: شهادة أن لا إله إلا الله، يعني: وأن محمداً عبده ورسوله، [وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول]. قال: ثم الجهاد بعد حسن]، يعني: الجهاد بعد هذه المباني أمر حسن. وفي رواية [عن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس)]، وكلمة (بني) للدلالة على أن المذكور من مباني الإسلام وأسسه وقواعده التي لا يقوم بدونها؛ لأنها كالقواعد الراسيات الراسخات في الأرض التي يبنى عليها البناء، وبغير هذه المباني والقواعد لا يقوم البناء، أو يقوم على ضعف فيه. قال: [(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن م

باب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم

باب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم

حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية عمر بن الخطاب

حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية عمر بن الخطاب قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب معرفة الإسلام والإيمان، وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم]. وأنتم تعلمون هذا الحديث المشهور، وهو في الصحيحين من حديث [عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: جلوس عند النبي في مجلسه أو في مسجده، وهذا كان بالمدينة. [(إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم)]، هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، نزل في هيئة كانت مثار عجب من كل من رآه، لأن المدينة بعيدة المنأى عن البلدان المجاورة، ومن قصد المدينة من أرض الحجاز أو غيرها لابد أن يظهر عليه أثر السفر واتساخ ملابسه وشعث شعره وغير ذلك، ولكن هذا الذي أتى ليسأل عن أمور دينه، إنما هو رجل (شديد بياض الثياب) على غير عادة المسافر، (شديد سواد الشعر) على غير عادة المسافر الذي اغبر وجهه وتترب شعره وغير ذلك من آثار السفر، كما أنه ليس من أهل المدينة بدليل أن أحداً لم يعرفه. قال: [(حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركبته تمس ركبته)]، يعني: ركبة جبريل عليه السلام لامست ركبة النبي عليه الصلاة والسلام لما جلس أمامه عليه الصلاة والسلام، وجبريل تصور في صورة رجل ولم يظهر في صورته الحقيقية التي خلقه الله عز وجل عليها، لأن أحداً من البشر دون الرسل لا يطيق ولا يقدر أن يرى ملكاً في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها. فجاء وجلس بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام [(حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه)]، يعني: جعلهما بمحاذاة ركبتيه. [(ووضع كفيه)]، أي: وضع جبريل كفيه [(على فخذيه)]، والضمير يعود على جبريل، لأنه جلس جلسة المتعلم السائل، ومن سوء الأدب أن يضع السائل يده على كتف المسئول أو على ظهر المسئول أو على بطنه أو على فخذه، أو أن يسلم عليه من خلف ظهره، إنما الأدب ما فعله جبريل عليه السلام، فهو يعلم الصحابة إذا سألوا النبي عليه الصلاة والسلام كيف يسألون وكيف يقولون مرادهم من السؤال، وكيف يجلسون بين يدي أستاذهم وشيخهم صلوات الله وسلامه عليه. [(ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، فقال: صدقت)]. من شأن السائل أنه جاهل بما يسأل، وهذا الذي دعا الصحابة أن يتعجبوا من تصديق السائل للمسئول بأنه صادق فيما أخبر. عرف الإسلام بكلمة الإخلاص التي يحصن بها المرء دمه ونفسه وماله وعرضه، ثم الأعمال الظاهرة أعمال الجوارح، والأعمال المالية كالزكاة، والأعمال التي تجمع بين المال والبدن كالحج، فالصلاة من أعمال الجوارح، والزكاة متعلقة بالمال، والحج متعلق بالمال والبدن، فعرف الإسلام بالأعمال الظاهرة. قال: (أن تشهد) والشهادة لا تكون إلا بلسان، إلا لمن عجز عن النطق فإنه يعدل عن النطق إلى الإشارة. [(قال: صدقت. فتعجبنا من سؤاله وتصديقه، ثم قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وحده، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. ثم قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. قال: فأخبرني عن الساعة؟)]، أي: عن ميعاد ووقت قيامها [(قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما المسئول بأعلم من السائل؟)]، يعني: أنا وأنت فيها سواء لا نعلمها؛ لأنها من علم الله عز وجل الخاص به الذي لم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب ولا رسول مرسل [(قال: فأخبرني عن أماراتها)] أي: علاماتها وأشراطها [(قال: أن تلد المرأة ربتها)] أي: سيدتها. [وفي رواية: (أن تلد الأمة سيدها وربها)]، وهذه أمارة، وهي دلالة على كثرة السراري والإماء في آخر الزمان، وأن المرأة إذا كانت تحت حر وسيد فولدت له ولداً كان الولد سيد أمه تبعاً لأبيه؛ لأن ابن الأمة يكسب الحرية من حرية أبيه، أو ربما تكثر الإماء ويكثر بيعهن وشراؤهن في الأسواق حتى يشتري الولد أمه، فتكون أمة عنده، وهذا أيضاً من علامات الساعة. قال [: (وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)]، وهذه علامة ثانية، أن ترى البدو أي: الأعراب الأجلاف الذين قل مالهم ونفد زادهم، تفتح عليهم الدنيا فيبنون البنيان ويتطاولون فيه، وإذا كان ذلك فهو علامة على قرب الساعة [(قال: صدقت. ثم انطلق، فلما كان ثالثة -أي: في الليلة الثالثة-، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر د

رواية أخرى لحديث جبريل عن عمر بن الخطاب

رواية أخرى لحديث جبريل عن عمر بن الخطاب [وفي رواية: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ جاءه رجل هيئته مسافر وثيابه ثياب مقيم، أو ثيابه ثياب مسافر وهيئته هيئة مقيم، فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: نعم. قال: فدنا منه حتى وضع يديه على ركبتيه فقال: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم وجهك لله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، أخبره بعرى الإسلام، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟)]، أي: لو أنني فعلت هذه المباني وأتيت بهذه العرى، أكون قد حققت الإسلام لله عز وجل على الحقيقة. [(قال النبي: نعم. قال: صدقت. قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه)] أي: كيف يسأل الرسول ويقول له: صدقت. [(قال: يا رسول الله! فما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله أو تخشى الله كأنك تراه، فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه! قال: يا رسول الله! فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالموت والبعث، والجنة والنار وبالقدر كله، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه)]. قال الحافظ ابن رجب: الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بالقلب وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عياناً في الآخرة. أي: الجزاء من جنس العمل، إذا استشعر المرء أن الله تعالى ينظر إليه ويراه، فإن الله يكافئه في الآخرة، بأن يحقق له الرؤية كما كان يتخيلها ويتصورها في الدنيا. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه) والكاف للتحويل والتشبيه، يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما في رواية أخرى عن أبي هريرة: (أن تخشى الله كأنك تراه). وكذلك يوجب النصح في العبادة -والنصح بمعنى أن يخلص المرء في عبادة ربه- وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة بهذه الوصية، أي: أن يعبدوا الله كأنهم يرونه سبحانه.

حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية أبي هريرة

حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية أبي هريرة [وفي رواية عن أبي هريرة قال: (تؤمن بالقدر كله خيره وشره)]، أي: وأن الخير والشر من عند الله عز وجل. [(قال: صدقت. قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه. قال: يا رسول الله! متى الساعة؟)] وهذا يبين المراد من قوله: (أخبرني عن الساعة) أنه قصد بهذا السؤال الميعاد والوقت، لا الكيفية ولا الهيئة ولا الصورة، وإنما قال له: [(متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل، فنظروا فلم يوجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: جاء جبريل يعلم الناس أمر دينهم، أو يعلم الناس دينهم)].

حديث جبريل من رواية يحيى بن يعمر عن ابن عمر

حديث جبريل من رواية يحيى بن يعمر عن ابن عمر [وقال يحيى بن يعمر: قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً بالعراق يقولون: إن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا، وإن شاءوا دخلوا الجنة وإن شاءوا وإن شاءوا، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء]. وهذا سبب سرد عبد الله بن عمر للحديث الطويل، فإن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري لما أتيا من البصرة إلى مكة قالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوفقا إلى أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف حول الكعبة، قال يحيى بن يعمر: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي. أي: أيقنت أن حميداً سيدع تكليم عبد الله بن عمر إلي، أي لأجل أنه أفطن وأفصح منه بياناً، قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، قلت: أبا عبد الرحمن! إن أناساً ظهروا قبلنا بالبصرة يتعلمون العلم، أو قال: يقرءون القرآن ويتقفرون العلم. ومعنى (يتقفرون) وفي رواية (يتفقرون) أي: يطلبون دقائق العلم ومسائله المستعصية، ويتتبعون خباياه وخفاياه، كما أنهم قائمون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار. يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف. يعني: ينفون القدر، كما أنهم ينفون علم الله الأزلي؛ لأنهم يقولون: وأن الأمر أنف، يعني: أن الله تعالى لا يعلم العمل إلا بعد إيجاده، وبعد أن يعمله العبد، وهذا صريح معتقدهم، وهؤلاء هم شر خلق الله عز وجل، وقال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة) ينفون العلم عن الله عز وجل، يقولون: إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يكون. فقال أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: أوقد قالوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني. أي: لا أنا منهم ولا هم مني. وهذا الكلام محمول على تكفيرهم وإخراجهم من الملة، والأمر كذلك؛ فإن من نفى علم الله عز وجل وقال: إن الله لا يعلم الأمر إلا بعد أن يكون، أو نفى قدرة الله عز وجل، أو نفى الكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ؛ فلابد من كفره، وهذا أمر قد أجمع عليه العلماء. قال الإمام النووي: وهؤلاء -أي: الطائفة من القدرية الذين قالوا: لا مشيئة لله عز وجل، وإنما المشيئة مشيئة العبد، وأن الله لا يعلم ما العباد إليه عاملون وصائرون إلا بعد أن يكون- قال النووي: هؤلاء الصنف من القدرية قد انقرضوا تماماً. ولعل ذلك كان في زمان الإمام النووي، ولا يبعد أن يكون من هؤلاء أناس في هذا الزمان. [قال يحيى بن يعمر العدوي: (قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً في العراق يقولون: إن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا وإن شاءوا دخلوا الجنة وإن شاءوا وإن شاءوا، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء)، ثم قال: (إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله عز وجل ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإلا تراه فإنه يراك. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث من بعد الموت، والجنة والنار، والقدر كله. قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت)]. [وفي رواية عن ابن عمر قال: (جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فقال: ما الإسلام؟) إلى آخر الحديث]، ولكن هذا الحديث ضعيف جداً؛ لأنه يعارض الروايات السابقة أنه لا يعرفه منا أحد، ودحية الكلبي كان معروفاً لدى الصحابة.

رواية أخرى لحديث جبريل عن أبي هريرة

رواية أخرى لحديث جبريل عن أبي هريرة [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملأ من أصحابه إذ جاءه رجل فسلم)]، وهذا يدل على وجوب السلام للداخل على القوم. قال: [(فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الملأ)]، وهذا على وجه الاستحباب، وإلا فرد السلام على المذهب الراجح فرض كفاية، إذا رد البعض سقط عن الباقين، وإذا كان إلقاء السلام على العموم سنة مؤكدة، فإنه واجب على من دخل على قوم وهم جلوس، ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: إفشاء السلام. أو قال: إلقاء السلام). قال: [(فقال: يا محمد! ألا تخبرني ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والحساب، والميزان، والجنة والنار، والقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت هذا فقد آمنت؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً لقوله صدقت)]. إذاً: التعجب فضلاً عن كثير من الصحابة إلا أنه كان من شأنه عليه الصلاة والسلام كذلك؛ لأنه لم يعرف جبريل، ولو عرفه لما تعجب. قال: [(فقلت: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك. قال: فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: يا محمد! متى الساعة؟ قال: سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم! ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ استأثر الله بعلم خمس لم يطلع عليهن أحداً، ثم تلا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] حتى ختم السورة. ولكن سأخبرك بشيء يكون قبلها)]، أي: بأماراتها وعلاماتها التي تسبقها. قال: [(حين تلد الأمة ربتها -وفي رواية: ربها- ويتطاول أهل الشاء -أي: رعاة الغنم والإبل والأبقار- في البنيان، وتصير الحفاة العراة على رقاب الناس)]، والحفاة العراة أي: الفقراء تفتح عليهم الدنيا حتى يكونوا على قمة الناس. [(ثم ولى الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره طويلاً، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إليهم، ثم قال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم). وفي حديث أحدهما: (أو جاءكم يتعاهد دينكم)]، وهذه الروايات التي وردت في بيان الإسلام وكيف هو.

شرح الإمام النووي لحديث جبريل

شرح الإمام النووي لحديث جبريل هذا الحديث وهو المعروف بحديث جبريل الطويل، أنتم تعلمون أن هذا الحديث مخرج في الصحيحين، والإمام النووي له كلام رائع جداً ممتع إلى أقصى حد فيما يتعلق بشرح هذا الحديث، يتناول عدة مباحث: المبحث الأول: بيان ماهية الإيمان والإسلام. المبحث الثاني: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيماني. المبحث الثالث: هل الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ المبحث الرابع: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أم لا؟ المبحث الخامس: بم يدخل الكافر في الإسلام؟ وبم يخرج المؤمن من الإسلام؟ المبحث السادس: الاستثناء في الإيمان. المبحث السابع: حكم مرتكب الكبيرة، وهل هو من أهل القبلة أم لا؟ قال الإمام النووي: أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما. يعني: هل بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص أم لا؟ وهل كل مسلم مؤمن والعكس صحيح أم لا؟ فأنتم تعلمون أن الإيمان والإسلام بينهما عموم وخصوص، العموم أن كل مؤمن مسلم، وليس العكس، يعني: ليس كل مسلم مؤمناً أي: كامل الإيمان، وإلا فلابد أن يكون عند كل مؤمن قدر من الإيمان، وإذا قلت (قدر من الإيمان) يثبت به إسلامه، وقلنا: (ليس كل مسلم مؤمناً)؛ فهذا أمر يدعونا إلى ذكر مراتب الإيمان، فنفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق. فمطلق الإيمان هو: الجزء الذي لا يثبت عند الله عز وجل إسلام أحد إلا به، مع أننا نعلم يقيناً أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد عصم بها نفسه ودمه وماله. هب أنه شهد بالشهادتين تعوذاً وخوفاً من القتل، حقناً لدمائه وماله وغير ذلك، ولم ينعقد عليها قلبه، فهل يكون عند الله تعالى مسلماً؟ A لا، إنما هو منافق، والمنافق له في الدنيا حكم الإسلام بالشهادتين، أما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار. إذاً: إذا جاء رجل بنفسه مختاراً مذعناً، وقال: أريد الإسلام، فقلنا له: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله عز وجل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن عيسى هو رسول الله وكلمته وروحه إلى غير ذلك من أصول الإيمان والإسلام، فنطق وشهد بهذا؛ فهل يستقيم هذا الرجل أم هو في إيمانه كمن عاش في الإسلام عشرات السنين يصوم ويصلي ويزكي ويحج، ويفعل الطاعات، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ هل إيمان هذا الرجل كإيمان من مضى عليه عمر طويل ودهر مديد في الإسلام يعمل الطاعات ويبتعد عن المعاصي؟ A لا، لكن هذا الرجل الذي آمن الآن قد حصل مطلق الإيمان. فإذا قلنا: إن هذا العبد الذي أتى وشهد الشهادتين، لابد أن يتوفر لديه أصل الإيمان ولو واحد من عشرة، لابد أن يعتقد ما شهد به في قلبه، وأن يجزم على ذلك قلبه، فإذا عمل الطاعات ازداد هذا الإيمان حتى يصل إلى قمته، فهذا الذي وصل إلى قمة الإيمان هو الإيمان المطلق، فلابد أن تفرق بين الإيمان المطلق، وهو كمال الإيمان وتمامه، وبين مطلق الإيمان. فلو أن عبداً شهد الشهادتين بغير مطلق الإيمان، فهل يسمى مسلماً عند الله عز وجل؟ الجواب: لا يكون مسلماً، إنما هو مسلم عند الخلق، أي: تجري عليه في الدنيا أحكام الإسلام.

نقل النووي لكلام الخطابي في معنى الإسلام والإيمان

نقل النووي لكلام الخطابي في معنى الإسلام والإيمان فقال الإمام النووي هنا: بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص. أي: كل مؤمن مسلم، وليس العكس. قال: وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من الإيمان، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة، نقلاً عن الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق، في كتابه معالم السنن. قال: ما أكثر ما يغلط الناس فى هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة والإيمان العمل، واحتج بالآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]. فالله عز وجل أنكر على الأعراب ذلك، وقال: بل قولوا أسلمنا. فنفي الله عز وجل هنا لإيمان الأعراب نفيٌ للإيمان المطلق الذي هو الإيمان الكامل التام؛ لأنه لو لم يكن في قلوبهم إيمان بما شهدوا به لكانوا منافقين وكانوا كفاراً، فالله عز وجل قال لهم: بل قولوا أسلمنا. قال: وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد. يعني: أن كل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، وهذا كلام خطأ كالكلام السابق تماماً، هذا على فرض ثبوته عن الإمام الزهري. أما القائل الثاني، الذي قال بأن الإيمان والإسلام شيء واحد، فاحتج بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى أحد هذين، ورد الآخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المئين. قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق. الإمام الخطابي من عظماء وفحول أهل العلم، كما أن الذهبي كذلك في بابه، والحافظ ابن حجر في بابه، فهؤلاء أئمة علماء الاستقراء، إذا قال الخطابي: قلت، بعد ذكر خلاف العلماء في قضية ما، فعض على قول الخطابي بالنواجذ، واعلم أنه دين الله عز وجل الذي أنزله من السماء. وكذلك قول الذهبي: قلت، وقول الحافظ ابن حجر: قلت وغير ذلك من كلام سائر علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والتثبت والإمامة. الخطابي يقول: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، يعني: لا يقال: كل مؤمن مسلم، ولا كل مسلم مؤمن، بل لابد من تقييد الكلام. قال: وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها عليك. يريد أن يقول: إن المسألة تحتاج إلى تقييد: إذا كان الإيمان أعلى من الإسلام فلابد أن يكون المؤمن مسلماً، وليس العكس، فليس كل مسلم مؤمناً؛ لأن الإيمان درجة أعلى من درجة الإسلام، فالذي يحقق المرتبة الدون لابد أنه يقصر عن المرتبة العليا، أما الذي حقق المرتبة العليا فلابد أن يحقق بالتبعية المرتبة الدون؛ لأنه لا يرتقي هذه الدرجة إلا وقد حقق ما قبلها وهو الإسلام. ثم قال: وأصل الإيمان التصديق، والأصح من هذا القول الإقرار، أصل الإيمان هو الإقرار، وهو إقرار القلب واللسان، فهو عرف الإيمان بالتعريف اللغوي، كما في قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: وما أنت بمصدق لنا، فالإيمان بمعنى التصديق، فعرف الإيمان لغة بأنه التصديق. أما الإيمان في الشرع فإنه إقرار القلب وإقرار اللسان، أي: الشهادة باللسان، وأن اللسان عبر عن مكنون القلب، وعما انعقد عليه القلب. قال: وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد. إذاً: الإسلام هو الاستسلام والانقياد والإذعان والخضوع والذل لله عز وجل. فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، وهذا شأن المنافقين، كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون بيت الله الحرام، ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم غير منقادين في الباطن. وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر، يعني: يكون عاصياً، هو يحب الله ويحب رسوله، ولا يرضى أبداً بالكفر، وأنتم تعلمون عندما يقول شخص لشخص: يا نصراني! فيقول الآخر: أعوذ بالله من الشيطان، لأنه يكره الكفر ويحب الإيمان. وإذا بحثنا عن ظاهره نجده صاحب معاص، منها الكبا

نقل النووي لكلام البغوي في معنى الإسلام والإيمان

نقل النووي لكلام البغوي في معنى الإسلام والإيمان وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال. يعني: الإسلام يطلق على أعمال الجوارح، وهي الأعمال الظاهرة التي يعملها المرء بجوارحه. قال: وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد؛ لأنه قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالجنة والنار، والبعث بعد الموت، والجزاء والصراط، والثواب والعقاب، وبالقدر خيره وشره)، وهذه الأعمال من أعمال القلب. إذاً: جعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمال الإسلام هي الأعمال الظاهرة المتعلقة بالجوارح، وأعمال الباطن أعمال القلب المتعلقة بالإيمان، لا ينفي أن يكون المؤمن مسلماً؛ لأنه إذا آمن وعقد قلبه على شعب الإيمان فلابد أن يظهر هذا على جوارحه، وإذا أقر المسلم أو جاء المسلم بشعب الإسلام وخصاله ومبادئه، فلابد أن يكون ذلك مبنياً على حب الإيمان الذي في قلبه. وخلاصة القول في ذلك: بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص، فلابد أن يكون لكل مسلم أصل الإيمان أو مطلقه حتى يثبت إسلامه لا أقول يثبت إيمانه؛ أما الذي حقق الإيمان الكامل فقد حقق الإسلام من باب أولى. قال: وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين. يريد أن يقول: إن الدين هو عبارة عن الإسلام والإيمان والإحسان. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فالدين يطلق ويراد به الجزاء، وقد يراد به العمل أيضاً، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18] أي: ما يوم الجزاء. وقال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] والدين هنا بمعنى العمل، وقال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أي: يوم الجزاء، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران:85] أي: عملاً يتقرب به إلى الله، {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل، وهذا هو الدين الحق الذي أرسل الله تعالى به رسوله؛ أن يترجم التصديق القلبي إلى عمل الجوارح. هذا آخر كلام البغوي.

نقل النووي لكلام الإمام الأصفهاني في معنى الإيمان وزيادته ونقصه

نقل النووي لكلام الإمام الأصفهاني في معنى الإيمان وزيادته ونقصه وأما الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم فقال: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عمل به ذلك فلا يزيد ولا ينقص. فهو يريد أن يعرف الإيمان في اللغة: بأنه التصديق، وهو على هذا التعريف ليس فيه زيادة ولا نقصان، وهذا كلام يحتاج إلى نظر وتحرير، حتى لو عرفنا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فنقول: كذلك التصديق يقبل الزيادة والنقصان، فلو أن واحداً أخبرني خبراً وكان ثقة صدقته، ولو دخل رجلٌ آخر وأخبرني بنفس الخبر وهو ثقة ازددت تصديقاً لخبر الأول، حتى لو عرفنا الإيمان في اللغة بأنه التصديق فنقول: كذلك التصديق في اللغة يقبل الزيادة والنقصان. قال: لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه مرة، وهذا الكلام قد رددنا عليه. قال: أما الإيمان في لسان الشرع فهو التصديق بالقلب والعمل بالأركان. إن الكلام في مسائل الإيمان والكفر محل نزاع عظيم جداً على الساحة، فاسمعوا كلام أهل العلم. قال الإمام الأصبهاني: والإيمان في لسان الشرع -يعني: الإيمان الاصطلاحي- هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، والأركان هي الجوارح. إذاً: الأعمال داخلة في ماهية الإيمان وحقيقته ومسماه. وإذا فُسِّر بهذا، أي: إذا اعتبرنا أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ فلابد أن نتصور تطرق الزيادة والنقص إليه؛ لأنه إذا كان هو إقرار القلب وعمل الجوارح، فمعنى ذلك أن الإيمان يتوقف عليهما، فلو أن الإيمان ضعف في القلب نقص، ولو زاد في القلب ارتفع، كما أن العامل لو عمل بطاعتين ازداد إيماناً على قدر هذه الطاعات، ولو أنه نقص من هذه الطاعات نقص إيمانه على قدر نقصان عمله. إذاً: زيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل، ومن الأعمال ما ينقض الإيمان من أصله، ومن الأعمال ما يؤثر على الإيمان الواجب، ومن الأعمال ما يؤثر على كمال الإيمان وتمامه. فعندي الآن ثلاث مراتب: إيمان أصلي، وهو أصل الإيمان في القلب، لابد من توفر هذا القدر من الإيمان حتى يثبت به الإسلام، ولو كان ذلك قبل أن أعمل عملاً مطلقاً، ولذلك من نطق بالشهادتين مؤمناً بهما ثم مات يكون مؤمناً، لكنه لم يحقق كمال الإيمان وتمامه، لأن ارتباط الكمال والتمام بالعمل، وهو لم يعمل، ربما يجازيه الله عز وجل فضلاً من عنده درجات الكُمَّل الذين أتوا بالأعمال على وجهها وزيادة، وهذا فضل الله تعالى ورحمته يؤتيها من يشاء من عباده. أما هذا فقد حقق أصل الإيمان الذي يدخل به في مسمى الإيمان وإن لم يكن بلغ تمامه وكماله؛ لأن ذلك مرهون بالعمل، وهناك أعمال واجبة في الإسلام يقابلها الإيمان الواجب، فإذا أدى العبد هذه الأعمال الواجبة فقد حقق الإيمان الواجب، وهذه المرحلة الوسطى من مراحل الإيمان. وإذا أتى العبد بالنوافل والمستحبات والمندوبات وغير ذلك، وحافظ عليها، فقد حقق كمال الإيمان وتمامه، وهو الإيمان المطلق. إذاً: فمراتب الإيمان ثلاث، يقابل هذه المراتب أعمال. المرتبة الأولى: وهي مرتبة مطلق الإيمان وأساس الإيمان وقاعدة الإيمان، وجزؤه الذي لا يثبت للمرء الإيمان إلا به، وهو المصاحب لنطقه بالشهادتين وإقراره واعتقاده القلبي بما نطق به لسانه، وبغير هذا الجزء من الإيمان لا يكون مؤمناً على الحقيقة، بل يكون منافقاً. المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان الواجب، يقابلها الأعمال الواجبة في الإسلام، إذا أداها فقد حقق الإيمان الواجب الذي يأثم المرء بتركه. أما كمال الإيمان وتمامه ومطلقه فإن ذلك متعلق بالمستحبات والمندوبات وغير ذلك من أعمال النوافل. قال: والإيمان في لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة، أن العمل داخل في مسمى الإيمان. قال: فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو: أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان، هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟ والمختار عندنا: أنه لا يسمى به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)؛ لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق. هذا آخر كلام صاحب كتاب التحرير. ولو سلمنا أن الإيمان هو التصديق فإنه يتطرق إليه الزيادة والنقصان، وهذا غير مقصود في الشرع. والمرجئة قالوا: الإيمان هو التصديق. وإذا كان الإيمان هو التصديق فلا يتصور نزول التصديق إلا إلى الشك، فيقولون: الشاك ليس مؤمناً، وهو كذلك، لكن التصديق يتصور فيه الزيادة أو النقص، وقد ضربت لذلك مثلاً، وكذلك جاء في كتاب الله عز وجل أمثلة عن سيدنا إبراهيم وكيف مات وغير ذلك، ولا يتصور مسلم أن إبراهيم عليه السلام كان كافراً، ومع هذا قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، فإبراهيم عليه السلام سأل عن الكيفية، هل إبراهيم عليه السلام لا يوقن أن الله تعالى يحيي الموتى؟ فإبراهيم يوقن ذلك، ويوقن أن الله ت

نقل النووي لكلام ابن بطال في زيادة الإيمان ونقصانه

نقل النووي لكلام ابن بطال في زيادة الإيمان ونقصانه وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات في كتاب الإيمان عنده. قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] فقوله: ((مَعَ إِيمَانِهِمْ)) يعني: الأصل هو الإيمان، ثم ازدادوا عليه إيماناً آخر. إذاً: عندنا أصل الإيمان وهو مطلق الإيمان، ثم الإيمان المطلق وهو الإيمان الزائد. {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] يعني: أن معهم قدراً من الإيمان، وازدادوا عليه إيماناً بالعمل. وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقال تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة:124]، فقد أثبت لهم الإيمان، {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]. إذاً: المرء يكون معه أصل الإيمان، وكلما نزلت آية آمن بها وأقر وصدق أنها من عند الله وعمل بها؛ ازداد بذلك إيماناً. وقال تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، واعلم أن أي شيء يقبل الزيادة فلابد أن يقبل النقصان، ولذلك قال إبراهيم بن عيينة لأخيه سفيان لما قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: يا أبا محمد! قل يزيد، قال: اسكت، إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء. إذاً: الزيادة والنقصان في الإيمان متصوران، ومادام الإيمان يقبل الزيادة فلابد أن يقبل النقصان، هذا شيء طبيعي جداً، حتى في حياة الخلق، فالذي يقبل الزيادة لابد أن يقبل النقصان؛ لأنه قبل أن يزيد كان ناقصاً. قال: فإن قيل: الإيمان في اللغة هو التصديق، ف A أن التصديق يكمل بالطاعات، وهذا الكلام الذي قلته يحتاج إلى نظر أولاً؛ لأنه قال: إذا كان الإيمان هو التصديق فلا يتصور فيه الزيادة ولا النقصان؛ لأنه لا يزيد، يعني: هل سيصدق مرتين أو يصدق ثلاثاً؟ هو تصديق واحد، كما أنه لا يقبل النقصان؛ لأنه لا يقبل النقصان إلا إذا شك، والشاك ليس مؤمناً أصلاً، فهذا يعتبر التعريف اللغوي، مع أنه من جهة الشرع يحتاج إلى نظر، ولذلك قال ابن بطال: إذا كان الإيمان في اللغة هو التصديق، ف A أن التصديق يكمل بالطاعات، يعني: حتى التصديق يقبل الزيادة، ويكون بالطاعات كلها. فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر من المستحبات والمندوبات نقص معها كمال الإيمان. ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً وتماماً، هذا توسط القول في الإيمان. يعني: هذا هو القول المعتدل فيما يتعلق بتعريف الإيمان. وأما التصديق بالله تعالى ورسوله فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إذا نقص صار شكاً وخرج عن اسم الإيمان. وقال بعضهم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان وزيادته مثل جماعة أهل السنة، وقول مالك في ذلك مشهور، لكنه قال: الإيمان بالله ورسوله هو التصديق الذي لا يتصور معه النقصان. لأنني مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، والإيمان بالرسول هو التصديق بأنه أرسل من عند الله عز وجل، أيصح أنني في يوم من الأيام أشك في أن الله تعالى أرسله؟ لو شككت لحظة واحدة في أن الله أرسل محمداً لكفرت بذلك. فقالوا: إنكار مالك أن الإيمان هو التصديق في باب الإيمان بالله ورسوله فقط، وأن ذلك يتصور النقصان إلا إذا شك، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وعلى أية حال! ثبت أن الإمام مالكاً رحمه الله قال بنقصان الإيمان وزيادته كما قاله جماعة أهل السنة. قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا -الذين هم سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر و

نقل النووي لكلام ابن الصلاح في معنى الإسلام والإيمان

نقل النووي لكلام ابن الصلاح في معنى الإسلام والإيمان وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، (والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)؛ قال: هذا بيان لأصل الإيمان ولزيادة الإيمان وكمال الإيمان وتمام الإيمان إلى آخره. وأصل الإيمان هو مطلق الإيمان، إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) وهذا قبل العمل، إذاً: قد توفر فيه أصل الإيمان ومطلق الإيمان. قال: هذه الشعب الإيمانية بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين. وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال انقياده أو اختلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، وذلك عندما أتى وفد عبد القيس، وقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك مضر، وإنا لا نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، قال: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتؤدي الخمس من المغنم)، وهذه شعائر الإسلام، ومع هذا أطلق عليها هنا الإيمان؛ لأنها لابد أن تكون موجودة ومصاحبة لإقرار القلب. ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة. ويفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، نفى الإيمان عن الزاني، وهو نفي للإيمان الواجب الذي يأثم العبد بتركه، ومن سوء ما يخل به، ولو قلت: إن هذا نفي لأصل الإيمان للزمني أن أقول: إن من زنى كفر، وهذا الذي وقع فيه الخوارج وكادت المعتزلة أن تقع فيه، أي: كادت المعتزلة أن تذهب إلى مذهب الخوارج، ولكنهم ذهبوا مذهباً رديئاً أيضاً، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لا نثبت له الإيمان ولا نثبت له الكفر، بل نقول: هو في منزلة بين المنزلتين. قال: لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، يعني: لو قلت: فلان مؤمن، فمعناه أنه حقق كمال الإيمان، ولذلك في حديث سعد بن أبي وقاص قال: (يا رسول الله! إنك تعطي فلاناً ولا تعطي فلاناً، وهو مؤمن، فقال عليه النبي عليه الصلاة والسلام: أو مسلم؟)، يعني: يا سعد هذا الرجل يأتي بالشعائر الظاهرة، وعند أن رد النبي صلى الله عليه وسلم على سعد قال له: (أو مسلم) لم يكن يقصد نفي الإيمان المطلق، إنما يقصد نفي كمال الإيمان فيما يتعلق بعلم سعد؛ لأنه لا علم له بذلك، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها حين ينتهبها وهو مؤمن). إذاً: نفي الإيمان هنا، إنما هو نفي للإيمان الواجب، أما أصل الإيمان فهو باق؛ لأنه لا يتصور أن يقال: إن الزاني كافر، وإن السارق كافر، وإن القاتل كافر؛ لأن هؤلاء مرتكبون للكبائر، ومرتكب الكبيرة ليس كافراً، خلافاً للخوارج. نكتفي بهذا القدر، ولنا إن شاء الله تكملة بعد ذلك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم

فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو

شرح كتاب الإبانة - فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو يعتبر الإيمان بالله عز وجل أفضل الأعمال وأجلها عند الله عز وجل، وقد عد العلماء من أخلاقه وصنوف شعبه ما إذا سمعه العقلاء من المؤمنين دأبوا على رعاية أنفسهم باستعمالها، وكل هذه الأخلاق والشعب قد جاء بها الكتاب، وجاءت بها السنة، وشهد بصحتها العقل السليم.

باب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم

باب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم].

حديث أبي هريرة (الإيمان بضع وستون شعبة)

حديث أبي هريرة (الإيمان بضع وستون شعبة) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)]. الراجح من جهة الرواية والنص: (بضع وستون)، وهي المتفق عليها بين أهل العلم. أما من جهة الواقع وجمع شعب الإيمان من الكتاب والسنة، وتتبع الآيات والروايات؛ فقد وصل غير واحد إلى أن شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة. قوله: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله) يفيد أن التوحيد على قمة الإيمان، والتوحيد شهادة، ولذلك قال: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله)، أي: النطق باللسان بهذه الكلمة. وأدناها متعلق بعمل الجوارح، فقال: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). ومن شعب الإيمان: الحياء، والحياء هو انفعال نفسي أو غريزي يخلق في العبد أو يجبل عليه. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان سبعون باباً أو اثنان وسبعون باباً، أرفعه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)]، روايات مختلفة في هذا الباب، منها الصحيح ومنها الضعيف. [قال عبيد الله بن محمد، وهو أبو عبد الله بن بطة: وأنا أذكر من أخلاق الإيمان وصنوف شعبه ما إذا سمعه العقلاء من المؤمنين دأبوا على رعاية أنفسهم باستعمالها، لعل الله تعالى أن ينفعني وإياهم بها، فيحشرنا في زمرة المؤمنين الذين جمع الله الكريم فيهم هذه السبعين خصلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالله نستعين، فهو حسبنا ونعم الوكيل]. أراد الإمام أن يعدد خصال الإيمان التي وصل إليها بعض أهل العلم، ولذلك قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة. يعني: لقد اجتهد أقوام من أهل العلم في حصر شعب الإيمان، لكن هذا الأمر محل اجتهاد، ويصعب القطع بأن المراد بشعب الإيمان هي التي جمعها أهل العلم، خاصة وأن بعض هذه الشعب المجموعة أدلتها ضعيفة، بل ضعيفة جداً، بل موضوعة، فيصعب القطع بأن ما جمعه أهل العلم تحت باب شعب الإيمان هي المرادة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام. ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. وقال الحافظ ابن حجر: ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، فقد عدها ابن حبان، وعدها البيهقي، وغير واحد من أهل العلم، لكنهم لم يتفقوا على شعب واحدة، فعند كل واحد ما ليس عند الآخر، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، قال الحافظ: لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما سأذكره. ثم شرع في بيانها في فتح الباري المجلد الأول صفحة (52)، وقد ألف الحافظ البيهقي كتاباً كبيراً في شعب الإيمان، بلغ عدة مجلدات، والكتاب الآن مطبوع طبعتين، وقد اختصره القزويني في مجلد واحد اسمه: مختصر شعب الإيمان للإمام البيهقي، كما قد سبق البيهقي إلى ذلك شيخه الحليمي، فألف كتاباً في شعب الإيمان، وهو مطبوع، وقد اعتنى بشرح الآيات وشرح الأحاديث.

سرد المؤلف لشعب الإيمان

سرد المؤلف لشعب الإيمان أما اجتهاد ابن بطة في ذكر كلام أهل العلم في حصر هذه الشعب، فقد جاء بسنده عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: [إن أحق ما بدأ به العبد من الكلام أن يحمد لله ويثني عليه. الحمد لله نحمده ونثني عليه بما اصطنع عندنا أن هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، وأن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام]. وفي الحقيقة أن هذا عند التفرد، يعني إذا ذكر الإيمان وحده في نص أو في دليل شمل معه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده في نص شمل معه الإيمان، أما إذا ذكر الإيمان والإسلام في نص واحد فلكل واحد منهما مدلول يخصه، ولذلك يقول العلماء: الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا اجتمعا، أي: إذا اجتمعا في نص افترقا في المعنى والمدلول، وإذا افترقا، أي: ذكر كل واحد منهما لوحده اشتمل على الآخر. قال: [وبه أرسل المرسلون قبله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وهو الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، والتصديق والإقرار بما جاء من الله، والتسليم لقضائه، وحكمه، والرضا بقدره، وهذا هو الإيمان، ومن كان كذلك فقد استكمل الإيمان]. أي: من حقق هذا كله، فقد حقق كمال الإيمان وتمامه، إذاً: هو يشير إشارة إلى كمال الإيمان ونقصانه؛ لأن الشيء الذي يقبل الزيادة والكمال لا بد أن يقبل النقصان، وإلا فقبل أن يكمل كان ناقصاً، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان يزيد وينقص. قال: [ومن كان مؤمناً حرم الله ماله ودمه، ووجب له ما يجب على المسلمين من الأحكام]. يعني: إذا ثبت الإيمان -ومعه الإسلام من باب أولى لعبد- فقد حرم الله عز وجل دم هذا المؤمن وعرضه وماله إلا بحقه، قال: [ولكن لا يستوجب ثوابه ولا ينال الكرامة إلا بالعمل فيه، واستيجاد ثواب الإيمان عمل به]. أي: لا بد لمن زعم أنه مؤمن أن يأتي من العمل ما يوجب لصاحبه الثواب عند الله عز وجل، إذ إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، والأعمال جزء من الإيمان، ومن الأعمال ما ينقض الإيمان، بل وينقض الإسلام، ومن الأعمال ما له تعلق بالكمال الواجب، ومن الأعمال ما له تعلق بالكمال المستحب على التفصيل السابق. قال: [والعمل به]، أي: بموجبات الإيمان، [اتباع طاعة الله تبارك وتعالى في أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاقتداء بالصالحين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا]، هذا كله من الإيمان، [ومحافظة على أداء الجمعة، والجهاد في سبيل الله، والاغتسال من الجنابة، وإسباغ الطهور، وحسن الوضوء للصلاة، والتنظيف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وصلة ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وحسن الخلق مع الخطأ، واصطناع المعروف إلى الأقرباء، ومعرفة كل ذي حق حقه، من والد فوالدة فولده، فذي قرابة، فيتيم، فمسكين، فابن سبيل، فسائل، فغارم]، أي: المدين، [فمكاتب]، الذي يكاتب سيده على الحرية في مقابل ثمن مدفوع، [فجار، فصاحب، فما ملكت اليمين]؛ كل ذلك الإتيان به من الإيمان، [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله، والبغض في الله تعالى، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والحكم بما أنزل الله، وطاعة ولاة الأمر]، أي: ما داموا موحدين، وما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، [والغضب، والرضا، ووفاء بالعهد، وصدق الحديث، ووفاء بالنذور، وإنجاز الموعود، وحفظ الأمانة من كتمان السر أو المال، وأداء الأمانة إلى أهلها، وكتاب الدين المؤجل بشهادة ذوي عدل]، أي: كتابة الدين الذي بينك وبين أخيك من الإيمان، وكثير من الأخوة يتورعون عن ذلك! [والاستشهاد على المبايعة، وإجابة الداعي للشهادة، وكتابة بالعدل كما علم الله تعالى، وقيام الشهادة على وجهها بالقسط]، أي: بالعدل، [ولو على النفس والوالدين والأقربين، ووفاء الكيل والميزان بالقسط، وذكر الله تعالى عند عزائم الأمور، وذكر الله تعالى على كل حال، وحفظ النفس، وغض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ الأركان كلها عن الحرام، وكظم الغيظ، ودفع السيئة بالحسنة، والصبر على المصائب، والقصد في الرضا والغضب، والاقتصاد في المشي والعمل، والتوبة إلى الله تعالى من قريب]، أي: المبادرة والمسارعة إلى التوبة، [والاستغفار للذنوب، ومعرفة الحق وأهله، ومعرفة العدل إذا رأى عامله، ومعرفة الجور إذا رأى عامله كيما يعرفه الإنسان من نفسه إن هو عمل به، ومحافظة على حدود الله، ورد ما اختلف فيه من حكم أو غيره إلى عالمه]، إذا كان جاهلاً فمرد ذلك إلى أهل العلم الذين يستنبطون الأحكام من كتاب الله، [وجسور على ما لم يختلف فيه من قرآن منزل، وسنة ماضية، فإنه حق لا شك فيه، ورد ما يتورع فيه من شيء إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم، وترك ما يريب إلى ما لا يريب]، أي أن ترك المشتبهات من الإيمان، [واستئذان في البيوت، فلا يدخل البيت حتى

حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أكمل المؤمنين إيمانا)

حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أكمل المؤمنين إيماناً) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)]. قوله: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) لو أن واحداً سيئ الخلق، بأن يكون شخصاً كذاباً، فاحشاً بذيء اللسان، فهل تسلب عنه الإيمان حتى لا يبقى منه شيء، أم لا بد أن يكون عنده قدر من الإيمان؟ لا بد أن يكون عنده قدر من الإيمان، إذاً هذه الشعبة -أي: حسن الخلق- متعلقة بكمال الإيمان، والنص واضح، قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، فأثبت له الإيمان، لكنه يزداد إيماناً وكمالاً وتماماً بحسن الخلق، وكذلك قوله: (خياركم)، أي: أفضلكم وأحسنكم خلقاً وإيماناً من كان خيراً لنسائه وأهله. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله)]، إذاً: المعاشرة بالمعروف كما قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] من الإيمان يا إخواني! ومعاملة الرجل لزوجته معاملة حسنة ليس خدشاً في رجولته وإيمانه، بل يدل ذلك على كمال وتمام الإيمان في قلبه. قال: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)]، وهذا لا ينسحب على رجل يخاف من امرأته، إذ إنه مضطر أن يعاملها أحسن معاملة، ومنبع ذلك هو الخوف من زوجته! فهل يستويان؟!

حديث أبي هريرة (الحياء شعبة من الإيمان)

حديث أبي هريرة (الحياء شعبة من الإيمان) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)]، كلام جميل. والحياء نوعان: حياء مشروع، وحياء غير مشروع، فلو قيل لامرأة متبرجة: البسي خماراً استري نفسك قليلاً، تقول لك: أنا أستحي من الناس، ماذا أقول للناس؟ لو رآني الناس مرتدية النقاب أو الخمار فماذا أقول لهم؟ أين أذهب منهم؟ أنا ممكن في الحي أن أخرج باللباس العادي وأضع الخمار معي في الشنطة، فإذا خرجت من الحي لبسته! فهل هذا حياء؟ لا، هذا جبن وضعف وخور، فضلاً عن كونه معصية لله عز وجل ولرسوله. كذلك الرجل الذي يستحي أن يتزيا بزي الإسلام في وجهه أو في بدنه، يستحي أن يلبس عمامة، أو يلبس طربوشاً، أو يلبس ثوباً، مع أن اللباس هو دلالة على منهجية معينة، هذه المنهجية أولى من منهجية من تجلس معه، إذاً: فلم الحياء؟ إذا كان الشرع قد أذن لنا بأوصاف في الزي دون تحديد زي بعينه، يعني: لو نظرت إلى هذا النقاب تجده غير نقاب الحجاز، تجده غير النقاب في سوريا، تجده غير النقاب في بلاد المغرب، إذاً: لكل امرأة من هذه البلاد نقاب يخصها، فلو أنك رأيت امرأة مصرية في المغرب تلبس النقاب عرفت أن هذه مصرية في بلاد المغرب؛ لأنها ملتزمة بزيها الذي اقتنعت بأنه الزي الشرعي، فهل تأثم إحدى هؤلاء النساء؟ A لا تأثم ما دامت قد حققت شروطاً معينة اتفق عليها أهل العلم في زيها، ولا يلزم المرأة أن تلبس النقاب المصري، بل إذا لبست النقاب الحجازي أو المغربي أو الشامي تكون متبعة، والمهم تحقق الشروط التي اشترطها الشرع في لباس الرجل والمرأة، فإذا كان ذلك فهذا زي مشروع، وقلت هذه المقدمة لأن بعض الناس يستحي -بزعمه- أن يلبس الزي الأزهري، مع أن الزي الأزهري مشروع ولا بأس به؛ خاصة وأنه صار علامة ودلالة على أهل العلم، فالناس أول ما ينظرون إلى شخص يلبس عمامة حمراء أو طربوشاً أحمر، ويلبس جلابية -حتى وإن كان أجهل الجاهلين، حتى ولو لم يكن أزهرياً- يسرعون إليه يستفتونه في كل شيء؛ لأنه قد عرف عند الناس أن هذا الزي علامة ودليل على أهل العلم. إذاً: هذا الزي أخذ وقتاً معيناً، إذا قلنا إن المسبحة مشروعة، وقد جاءت أدلة كثيرة على مشروعيتها، ومن قال: بأنها غير مشروعة رجع عن قوله هذا إلى مشروعيتها، لكن بقيت الكراهة التنزيهية في استعمال المسبحة مع مشروعيتها؛ لأنها صارت علامة على أهل البدعة، يعني: صارت علامة على التصوف والدروشة والابتداع، فهي وإن كانت في أصلها مشروعة، لكن لما صارت علامة على أهل البدع كره العلماء استعمال هذه المسبحة. ولذلك نهينا أن نتشبه باليهود والنصارى، فأمرنا بإعفاء اللحى، مع أنهم الآن يطلقون لحاهم، فهل نقول: مخالفة لليهود والنصارى سنحلق لحانا؟! لا؛ لأن المخالفة فيما اختصوا به دوننا، كذلك اليهودي عنده طاقية سوداء يضعها على زاوية من رأسه جهة اليمين أو الشمال، فأنا أقول: أصل الطاقية مشروع، بل مسنون، ومن الذي يمنعني أن ألبس هذه الطاقية؟! افرض أن طاقية وقعت من يهودي وهو ماش أو راكب على الباص، فقمت أنا ولبستها وجعلتها في زاوية من رأسي، الذي يراني ماذا يقول عني إنني يهودي، صح أو لا؟ لأن لبس هذه الطاقية بعينها على نحو معين أو بهيئة أو كيفية معينة دليل على معتقد اللابس، والصلة بين المظهر والجوهر وثيقة، يعني: العلاقة بين الظاهر والباطن وثيقة جداً، فتجد مثلاً الذي يلبس زي النبي عليه الصلاة والسلام، أو يتمثل الزي الشرعي يتفاخر بذلك، أو يتعالى ويرتفع بإيمانه على هذا الواقع المر الباطل الذي يراه من حوله، ويشعر بقوة الإيمان، كما أن الجندي في المعركة وهو يلبس زي الجندية والعسكرية يشعر بالقوة والفتوة، كما إذا أتيت الآن بواحد وهو لابس للجلابية مثل حالتي هذه وتعطيه بندقية وتقول له: ادخل الصف وحارب، فسوف يقع مرة بالكل ثم يقع على وجهه، ومرة على ظهره، ومرة على جنبه، والعساكر الذين يلبسون زياً عسكرياً لا بد أنهم سيسبقونه، نفس الروح التي يشعر بها الجندي لا يشعر بها من لم يتجند، أو لم يشارك في حروب المجاهدين، وهكذا العلاقة القوية بين الظاهر والباطن.

بيان معنى حديث (الحياء شعبة من الإيمان) عند المؤلف رحمه الله

بيان معنى حديث (الحياء شعبة من الإيمان) عند المؤلف رحمه الله [قال ابن بطة: فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث، فقال: كيف يكون الحياء شعبة من الإيمان، والإيمان إنما هو قول وعمل ونية؟] هذا مذهب أهل السنة، والحياء هل هو قول؟ ليس قولاً، هل هو نية؟ ليس نية، هل هو عمل؟ منهم من قال: هو عمل، ومنهم من قال: ليس بعمل، قال: [والحياء سجية غريزية يطبع عليها البر والفاجر، والمؤمن والكافر]. يعني: أن الكافر يستحي، فهل تتصورون أن الجاهلية قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام لم يكونوا يفعلون خيراً قط؟ كان فيهم الخير والشر، لكن ليست لهم في الخير نية، وكذلك هذه الشعبة، أي: الحياء. قال الإمام: [فنقول في معنى ذلك والله أعلم: إن المؤمن يحول بينه وبين المعاصي والكبائر وارتكاب الفواحش الإيمان بالله عز وجل]، يعني: السد المنيع الذي يحول بينك وبين المعاصي هو إيمانك بالله، [والتصديق له فيما تواعد عليها من العقاب، وأليم العذاب]. إذاً: الذي يحول بينك وبين المعصية أمران: إيمانك بالله عز وجل، ووعده لك بالثواب إن تركت المعاصي، وخوفك من الله عز وجل الذي توعدك بالعقاب والجزاء إن اقترفت المعصية، قال: [وكذلك يقوده إلى البر، واصطناع المعروف، والإيمان بالله عز وجل، التصديق له فيما وعد، وضمن لفاعلها من حسن المآب وجزيل الثواب، وكذلك تجد المستحي ينقطع بالحياء عن كثير من المعاصي]. وربما اشتاقت نفس العبد إلى الوقوع في معصية وتهيأت له أسبابها، وكان في خلوة من الناس، لكنه يوقن أن الله تعالى مطلع عليه، ويعلم سره ونجواه، فمنعه حياؤه من الله عز وجل أن يقترف المعصية على هذا النحو، أليس هذا باباً من أبواب الحياء، إذاً: الحياء شعبة من شعب الإيمان. قال: [وإن لم تكن له تقية، فصار الحياء يفعل ما يفعله الإيمان من ترك المعاصي. وكذلك أيضاً ربما سئل الرجل في نوائب المعروف واصطناع الخير، فأجاب سائله حياءً منه وإن لم يكن له هناك نية سبقت فيه. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إن الرجل ليسألني وأنا أمقته فما أعطيه إلا حياءً]. أي: شخص يسأل الحسن البصري فيقول: يأتيني السائل وفي حقيقة الأمر أنا أبغضه، وأريد ألا أعطيه شيئاً، لكني أعطيه حياءً، مثل أن يحرجك واحد فتعطيه حياءً، فهل لك على هذه الكيفية نية؟ أنت لم تدفع إلا من أجل أن تتخلص منه. ولذلك يعتبر التسول غلطاً، ربنا يعافينا وإياكم من هذه الصنعة، فهي قد بلغت الكمال والتمام، يعني: تعرف كيف تأخذ من المسئول، فإذا كان الأمر كذلك فهل دافع الصدقة الحياء؟ لا، ليس الحياء. فقال: [فهل لي في ذلك من أجر؟ قال أبو سعيد: إن ذاك من المعروف، وإن في المعروف لأجراً]. رجل أراد أن يتخلص من ماله الحرام، كأن يكون عنده أموال من ربا، فهو يريد أن يتخلص منها امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان بإمكانه أن يحتفظ بهذا المال وينفقه حيث شاء؛ لكن حياءه من الله عز وجل هو الذي دفعه أن يتخلص من هذا المال، وإن لم يكن للعبد فيه نية الصدقة أو نية الإنفاق في سبيل الله إلا أنه مأجور، إذ إنه استحى من الله وتخلص من هذا المال الحرام؛ لأنه لو أبقاه لكان آثماً كما في قول الصحابة رضي الله عنهم للنبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (وفي بضع أحدكم صدقة)، والبضع هو الجماع، أو كناية عن الجماع، ولذلك قالوا (يا رسول الله! كيف يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها صدقة)، أي: مع أن هذا أمر غريزي يأتيه المرء بنية وبغير نية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له بها أجر)؛ لأنها من عموم المعروف، ومن عموم أداء الواجبات؛ لأن إتيان المرأة واجب على الرجل، وهناك خلاف بين أهل العلم في المدة التي يجب على الرجل أن يأتي فيها امرأته: فمنهم من قال: تجب مرة في كل أربعة أيام، قياساً على ما لو كان المسلم قد نكح أربعاً من النساء، فإن حظ كل واحدة مع التعدد ليلة يأتيها فيها الرجل. ومنهم من قال: يجب عليه وجوباً -يأثم بتركه- أن يأتيها في كل طهر مرة، وهؤلاء هم الظاهرية، واستندوا إلى قول الله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]. وكذلك المسافر إذا استأذن امرأته فيما لا يزيد عن أربعة أشهر إلا بإذن وطيب خاطر من المرأة، وأن يكون ذلك في سفر ضروري لطلب معاش أو رد عدو أو غير ذلك من الأغراض الشرعية للسفر. قال: [قال سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال]، وهذا إسناد مرسل، لكن معنى الحديث تشهد له نصوص شرعية كثيرة: [(إن قلة الحياء كفر)]. أي: كفر عملي لا يخرج به صاحبه من الملة، قال: [فهذا شبيه بقوله: (الحياء شعبة من الإيمان)] إذاً: هذا خرج مخرج مفهوم المخالفة، يعني: هذا تخريج على الأصل، فالأصل أن الحياء من الإيمان، فترك الحياء لا بد أن يكون

حديث أبي أمامة (من أحب لله وأبغض لله)

حديث أبي أمامة (من أحب لله وأبغض لله) قال: [عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)]. إذاً: هذه الشعب متعلقة بكمال الإيمان؛ لأنه قال: (من أحب لله)، فأنا أحب فلاناً لكن ليس لله بل لمصلحة دنيوية، وهذا لا يجوز، فأنا أحبك في الله لأنك رجل موحد، رجل تحافظ على دينك أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، رجل تغضب لغضب الله عز وجل وغضب رسوله، وتفرح لفرح الله ولفرح رسوله عليه الصلاة والسلام، رجل قائم بالكتاب والسنة؛ فهذا هو الحب في الله، لكن إن أحببت من أول نظرة، ولم أعرف ما هو دينك، ما هي أخلاقك، فهل هذا هو الحب في الله؟! لو أن واحداً أحب آخر على هذا النحو لا يؤجر عليه؛ لأنه لم ينعقد في الله عز وجل، لكنني لو أحببتك لله، لا يشرع لي أن أبغضك إلا لله عز وجل، ولذلك أهل السنة والجماعة يعتقدون أن المرء لا يحب لذاته ولا يبغض لذاته، وإنما يحب لعمله ويبغض لعمله، ومن الناس من يجمع الخير والشر، الطاعة والمعصية، الصلاح والفساد، فمن عقيدة أهل السنة أن المرء يحب على قدر ما فيه من طاعة، ويبغض على قدر ما فيه من معصية، وعندما تأتي وتبحث على أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة في هذه القضية، أي: قضية الحب والبغض، تجد أننا ليس لنا علاقة بأهل السنة والجماعة، كيف؟ فلان هذا يصوم ويصلي ويزكي ويحج ويعتمر ويتطهر من الجنابة، ويفعل كل الطاعات؛ لكن إن كان بيني وبينه قضية مبنية على الطمع فحرمني أبغضته، رغم ما فيه من طاعة، فهذا البغض يأثم به العبد؛ لأنه لم ينعقد في الله، ووقع على هذا العبد الطائع بغير ذنب منه ولا جريرة ارتكبها.

حديث (من أعطى لله ومنع لله)

حديث (من أعطى لله ومنع لله) قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه)]، أي: أن هذا أمر متعلق بكمال وتمام الإيمان، فقال: العطاء والمنع لا بد أن تنعقد في الله عز وجل، فمثلاً: عندما تسافر أو تذهب إلى الحج فترى كل أهل البلد منهم من جاء بوزة، ومنهم من جاء ببطة، ومنهم من جاء بعجل وغير ذلك، وهم في حقيقة الأمر لم يعطوه مساعدة وإنما ينتظرون نوالاً قادماً، ولو رجع هذا الحاج من الحج صفر اليدين، فانظر إلى السخط والغضب الذي ينصب عليه، واتهامه بالبخل والشح وغير ذلك، وهذا يدل على أن العطاء أولاً لم يكن لله؛ لأنك الآن عندما تأتي بهدية لفلان أو تذهب إلى فلان وتعطيه هدية، الأصل ألا تنتظر أن يردها إليك، لكنه من حسن إيمانه أن يرد إليك الهدية وزيادة، يعني: هذا من حسن الخلق، ومن أعظم البر، ولذلك لما (استلف النبي عليه الصلاة والسلام بعيراً، فلما جاء صاحب البعير ليأخذه من النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: التمسوا له بعيراً، فذهبوا ليلتمسوا له بعيراً فلم يجدوا إلا بعيراً هو أفضل من بعيره، قالوا: يا رسول الله! لم نجد إلا بعيراً هو أفضل من بعيره، قال: أعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً)، ولذلك هل هذا داخل في باب الربا أو في حسن القضاء؟ في حسن القضاء، فمثلاً: أنت عندما تعطيني ألف جنيه سلفاً، وتقول لي: خذ هذه الألف جنيه، ثم بعد سنة أتيت أردها لك ألف جنيه، فقلت لي: لا، الألف بألف ومائة، أعطني المائة قبل الألف، فهذا غير مشروع؛ لأنه ربا، وهو معروف في القرآن بربا النسيئة، أي: ربا التأخير، إذاً: التأخير في الزمن مقابل الزيادة لا يجوز، لكن لو أخذت منك الألف جنيه، وفي وقت القضاء أتيت بخمسمائة جنيه فوق الألف هدية، فلك أخذها، أي: الهدية؛ لأنك على يقين أن هذا ليس من باب الربا؛ لأنه ليس مشروطاً، ولم تصب إليه نفس الدائن، وإنما هو أعطاك قرضاً حسناً، فلو أتيت ترده له بنفس القدر فلا حرج عليك ولا عليه، لكن لو أعطيته زيادة من باب الهدية فهذا بلا شك من باب حسن القضاء لا من باب الربا، وإنما يفرق بين هذا وذاك أن يكون مشروطاً في عقد المداينة، مثل البنك بالضبط، فعندما تأخذ من البنك عشرة آلاف جنيه، ثم بعد عام أردت أن ترجع هذا المبلغ للبنك؛ فإنه يضع في يديك كلبشات الحديد، يعني: أن البنك حين التعاقد يقول لك: إقترض مني ما شئت في مقابل (16%) فائدة العام الأول، فإن تأخرت سيضاعف عليك هذه الفائدة حتى تصل إلى مئات في المائة، وهذا مصداق لقول الله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، فالربا بلاء عظيم جداً بخلاف الزكاة، فإن بعض الناس يتصور أن دفع الضرائب للحكومة زكاة، ويقول: لقد زكيت، وهذا خلط بين الإيمان والكفر، خلط بين ما هو مشروع وما هو ممنوع، وبعض الناس يتصور أن الزكاة تنقص المال، وهذا تصور لا يخرج إلا من قلب قد فسد إيمانه؛ لأنه يحاج الله تعالى في قوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وقال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فإخراج الزكاة إنما هو طهرة للبدن والمال، وزكاة للأنفس التي أخرجت هذا المال، أما أن يعتقد إنسان أن إخراج الزكاة منقصة للمال؛ فإن المال ليس بعدده ولا كيله، وإنما هو ببركته التي يطرحها الله عز وجل فيه، فكم من إنسان يتقاضى راتباً بالألف، لكنه يبكي بالليل والنهار، وكم من إنسان يأخذ بعض الدراهم، لكنه يعيش عيشة سعيدة بسبب إيمانه وتقواه، ويبارك الله له في ماله وفي ولده وفي رزقه، وكم من إنسان يأخذ الألف وفي كل شهر يبتلى جزاء هذا المال المحرم في ولده أو في امرأته أو في نفسه أو في قلبه، بخلاف إنسان تقي نقي صفي يأخذ مالاً قليلاً، ويمشي على قدر هذا المال طيلة الشهر، والعجب أنه يدخر منه، ولا يشعر بأي ضيق في الحياة، ويرى أن الحياة كلها سعادة وهناء، وإنما مرد ذلك إلى الإيمان والكفر، إلى السعادة والشقاء، إلى الطاعة والمعصية، إلى الصلاح والطلاح، وليس ذلك مرهوناً بإخراج بعض المال مما يملك الإنسان.

أثر كعب (من أقام الصلاة)

أثر كعب (من أقام الصلاة) قال: [عن كعب قال: من أقام الصلاة وآتى الزكاة وسمع وأطاع، فقد توسط الإيمان]. وهذا يدل على أن الإيمان منه ما هو دون، ومنه ما هو وسط، ومنه ما هو في القمة والكمال والتمام، قال: [ومن أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان].

حديث أبي رزين العقيلي (ما الإيمان)

حديث أبي رزين العقيلي (ما الإيمان) قال: [وعن أبي رزين العقيلي]، وإن كان الإسناد فيه ضعف، لكن يشهد له ما قبله وما بعده، [قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحرق بالنار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله)]. أي: تحب الغريب الذي لا تربطك به رابطة نسب، وهذا الحب لا يكون إلا في الله، قال: [(فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان قلبك كما دخل حب الماء قلب الظمآن في اليوم القائظ -أي: اليوم الشديد الحر - قلت: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: ما من أمتي أو من هذه الأمة من عبد يعمل حسنة فيعلم أنها حسنة والله جازيه بها خيراً منها، ولا يعمل سيئة فيعلم أنها سيئة، ويستغفر الله منها، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو فهو مؤمن)]. وهذا مصداق [قوله عليه الصلاة والسلام: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)]. فمثلاً: لو أن واحداً صلى وشعر بعد الصلاة بتوفيق الله عز وجل له في هذه الصلاة، وأنه كان على قدر لا بأس به من الخشوع والخضوع والذل بين يدي العزيز الجبار سبحانه وتعالى؛ فلا شك أن هذا العبد أفضل من آخر صلى بجواره وهو غافل لاه ساه، فخرج من صلاته ولا يدري هل قرأ فيها أم لا؟ وإذا كان قد قرأ فلا يدري ما قرأ؟ بخلاف الآخر الذي استحضر الخشوع، ونظر الله تبارك وتعالى إليه، فأتى بهذه الصلاة على وجهها، فأتمها بخشوعها، وأداء أركانها، وواجباتها ومستحباتها، ففرق عظيم بين هذا وذاك، فهذا العبد الثاني لما استشعر أن هذا من رحمة الله عز وجل فرح بهذه الحسنة التي أداها، وفرحه هذا إنما منبعه الإيمان؛ لأن المؤمن إذا عمل خيراً فرح به، وإذا بدت منه سيئة استاء واغتم أشد الغم لما بدر منه؛ لما قصر في جنب الله، ولذلك المؤمن الكامل الإيمان إذا قام ورأى الشمس قد أشرقت ولم يصل الصبح فماذا يكون حاله؟ لا شك أنه يكون في غاية الضيق والهم والغم، بل والكسل طيلة النهار، وكأنه وقع في ذنب لا يغفر أبداً، مع أن هذا قد حصل من النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون حديث بلال وأنس وغيرهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نام وأصحابه ورضي الله عنهم أجمعين حتى ضربت الشمس بحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تحولوا بنا عن هذا الوادي فإن به شيطاناً، ثم أمر بلالاً فأذن فتوضئوا وصلوا الفجر، ثم صلوا الظهر بعد ذلك). وهذا مصداق لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإنما ذلك وقتها). والشاهد أن المرء الذي عنده شيء من الإيمان -لا أقول: كمال الإيمان وتمامه- لو أنه سرق أنبه إيمانه وضميره وخوفه من الله عز وجل، وربما أخفى المال المسروق بين يديه؛ لشهوة أو ضعف في إيمانه أو حاجة إلى هذا المال أو غير ذلك، لكنه على أية حال غير مطمئن البال لما بدر منه؛ لأنه ساءته سيئته، وهذا بخلاف المنافق، فإنه لا تسره حسنته ولا تسوءه سيئته، بل إنه يتظاهر بالخير ويبطن الشر، يتظاهر بالإيمان ويبطن الكفر، ويظن أنه في مأمن من مكر الله عز وجل، واطلاع الله عز وجل على سره، كاطلاعه على علانيته سواء بسواء، فهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن إذا فعل سيئة استاء بها، وإذا فعل حسنة سر بها، ومصدر السرور بالحسنة والإساءة بالسيئة إنما هو الإيمان، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، أي: مصدر الإساءة ومصدر الإحسان هو الإيمان، فلو أنه فعل سيئة استاء منها، وهذا الاستياء دليل على إيمان العبد، وإذا فعل حسنة سر بها، وهذا السرور دليل على الإيمان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (علامة الإيمان حب الأنصار، وعلامة النفاق بغض الأنصار)، إذاً: حب الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وأنا لابد أن أسأل نفسي سؤالاً: لماذا أحب الأنصار؟ هناك من الأنصار مشركون، ومن أبناء الأنصار مشركون، لكنني أحببت الأنصار في الجملة؛ لأجل محبتهم لله عز وجل ولرسوله ونصرتهم لدينه، وتقديمهم الغالي والنفيس في سبيل نصر دين الله عز وجل. لكن لو أني -عياذاً بالله- منافق، فهل أحبهم لأجل نصرتهم لدين الله؟ A لا، إذاً: علامة الإيمان حب الأنصار، أي: بسبب نصرتهم لله ورسوله، لكن لو أن اثنين من الأنصار تخاصموا مع بعضهم البعض، أليس الأوس والخزرج من الأنصار؟ بلى، فلو أن شخصاً من الأوس تخاصم مع شخص من الخزرج؛ فلا شك أن هذا سيورث شيئاً من البغض بين الأوسي والخزرجي، فهل بغض الأوسي للخزرجي بسبب نصرة الخزرجي لله ورسوله؟ فلو أن أوسياً أبغض خزرجياً هل يكون هذا مؤثراً على إيمان الأوسي؟ لا؛ لأن بغضه للخزرجي ليس بسبب نصرة الخزرجي لله، ولرسوله وكذلك العكس بالعكس، فلو أنك عقدت قلبك ونيتك على حب الأنصار لأج

أثر يحيى بن معاذ (ما من مؤمن يعمل المعصية)

أثر يحيى بن معاذ (ما من مؤمن يعمل المعصية) قال: [قال يحيى بن معاذ الرازي: ما من مؤمن يعمل المعصية لله تبارك وتعالى إلا ويكون معها حسنتان: خوف العقاب، ورجاء العفو]. من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المرء يطير إلى الله بجناحين: جناح الخوف، وجناح الرجاء، وهما جناحان للعبد لا تصح عبادته إلا بهما، فإذا عبد المرء الله عز وجل بالخوف فقط أدى ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، وإذا عبد العابد الله تعالى بالرجاء فقط فلا بد أنه سيؤدي به إلى التقصير والتفريط في جنب الله عز وجل، ويوقعه في الإرجاء وترك العمل، فينبغي أن يسير السائر إلى الله عز وجل بهذين الجناحين على قدم وساق، خوف يحفزك إلى مزيد من العمل، ورجاء في أن الله عز وجل سيجازيك على عملك هذا خيراً. وبعض أهل العلم قال: ويستحب تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء إلا في مرض الموت، أو المرض الشديد الذي يغلب على الظن مفارقة الحياة الدنيا معه، فيغلب الرجاء حتى يلقى العبد ربه بحسن ظنه، لقول النبي الكريم كما عند مسلم وأبي داود: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ومصدر حسن الظن الرجاء بالله عز وجل. وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)، فينبغي تغليب الخوف في حال القوة والنشاط، بخلاف حال الضعف والمرض والإشراف على الهلاك، فيستحب أن يغلب جانب الرجاء.

أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (لا يؤمن العبد)

أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (لا يؤمن العبد) قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا يؤمن العبد كل الإيمان حتى لا يأكل إلا طيباً، ويتم الوضوء في المكاره، ويضع الكذب ولو في المزاحة]. أي: لا يكذب حتى وإن كان مزاحاً. قال: [وعن سالم عن أبيه: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء - يعني: واحد يقول للثاني: يا أخي! دعك من هذا الحياء - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن الحياء من الإيمان)]. قال: [وقال أبو هريرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء - أي: الفحش - من الجفاء، والجفاء في النار)]. قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يقذف به في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر)].

حديث أبي هريرة (من سره أن يجد طعم الإيمان)

حديث أبي هريرة (من سره أن يجد طعم الإيمان) قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب العبد لا يحبه إلا لله)].

حديث أبي هريرة (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة)

حديث أبي هريرة (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة) قال: [وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم)].

أثر علي في صفة المؤمن

أثر علي في صفة المؤمن قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صفة المؤمن قوة في دين، وجرأة في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، وكيس في رفق، وعلم في حلم، لا يغلبه فرحه، ولا تفضحه بطنه، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة؛ لا يغتاب ولا يتكبر]. وهذه خصال الإيمان.

حديث ابن مسعود (ليس المؤمن بالطعان)

حديث ابن مسعود (ليس المؤمن بالطعان) قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)]، أي: المؤمن كامل الإيمان، ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء.

أثر الحسن (إن من أخلاق المؤمنين)

أثر الحسن (إن من أخلاق المؤمنين) وفي بعض كلام أهل العلم قال: [إن من أخلاق المؤمنين قوة في الدين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وقصداً في غنى، وتجملاً في فاقة -أي: فقر- ورحمة للمجهود، وعطاءً في حق، ونهياً عن شهوة، وكسباً في حلال، وتحرجاً عن طمع، ونشاطاً في هدى، وبراً في استقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في الحب، ولا يدعي ما ليس له، ولا ينابز بالألقاب، ولا يشمت بالمصائب، ولا يضر بالجار ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت]، أي: لم يصب بغم بسبب صمته، [وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له، لا يجمح به الغيظ، ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم، وينطق ليفهم، إن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين، وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة].

آثار ابن عمر وأبي الدرداء والعباس في أعمال الإيمان وأثرها

آثار ابن عمر وأبي الدرداء والعباس في أعمال الإيمان وأثرها قال: [وقال عبيد بن عمير: الإيمان هيوب]. أي: أن المؤمن مهاب بسبب إيمانه، إذ يجعل الله تعالى هيبته في قلوب الخلق. قال: [قال أبو الدرداء: على الحق نور، وعلى الإيمان وقار]. قال: [وقال عباس بن عبد المطلب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)]. [قال ابن بطة: فهذه أخلاق الإيمان، وصفات المؤمنين، يزيد في العبد، ويقوى بقوتها وزيادتها، وينقص ويضعف بضعفها ونقصانها]، ثم قال: [وسأذكر الأفعال والأقوال التي تخرجه من إيمانه ويصير كافراً بها]. وهذا القول في غاية الأهمية؛ لأن بعض الناس يقولون: لا يكفر العبد إلا بالاستحلال، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن العبد يكفر بالاستحلال وبالأعمال، والاستحلال شيء قلبي، والعمل شيء ظاهري، ولذلك قال الإمام هنا: (وسأذكر الأفعال والأقوال التي تخرجه من إيمانه ويصير بها كافراً)، وهذا يدل على أن الكفر والردة تكون بالقول والعمل والاعتقاد، قال: [وكل ذلك في نص التنزيل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول العلماء الذين هم الحجة والقدوة، وذلك خلاف مقالة المرجئة الذين حجبت عقولهم، وصرفت قلوبهم، وحرموا البصيرة، وأخطئوا طريق الصواب، أعاذنا الله وإياكم من دخول مذاهبهم]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم

شرح كتاب الإبانة - كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم لقد وردت الأحاديث والآثار الكثيرة الدالة على كفر تارك الصلاة وحبوط عمله، وإباحة قتله وقتاله، والمتأمل فيها يجد أن تارك الصلاة يكفر كفراً مخرجاً من الملة، وهذا يدل على عظم مكانة الصلاة في الإسلام، فعلى المسلم أن يحذر من التهاون فيها، وأن يحرص على المحافظة عليها مع جماعة المسلمين في أوقاتها.

باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتلهم وقتالهم إذا فعلوا ذلك

باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتلهم وقتالهم إذا فعلوا ذلك الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك. عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين العبد والشرك أو الكفر إلا ترك الصلاة)]، والحديث أخرجه مسلم من حديث جابر. ثم قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة)]، ومن حديثه [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)]. قال النووي في شرح مسلم لهذا الحديث: (وأما تارك الصلاة فإن كان منكراً لوجوبها؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه) وهذا الكلام لا خلاف عليه، ليس في الصلاة فقط، بل في كل مباني الإسلام بل في الواجبات والمحرمات، فلو أن مسلماً يعيش في بلاد المسلمين، وأنكر أن الزنا حرام يكفر، مع أن الزنا كبيرة من الكبائر وليس من مباني الإسلام، بخلاف الصلاة والصيام والزكاة والحج، فإنها مباني الإسلام، فنحن نتكلم في قوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على كيت وكيت وكيت وعدَّ هذه المباني، أما سائر الواجبات والطاعات، وكذا سائر المحرمات؛ فإنها ليست من مباني الإسلام، بل هي واجبات أو منهيات متممات للإسلام والإيمان، فلو أن واحداً أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، والمعلوم كما عرفتم هو ما اتفق واستوى في علمه العامة مع الخاصة، فمن من الناس الآن يجهل حكم الزنا، أو حكم شرب الخمر؟ هل يتصور أن واحداً يعتقد أن شرب الخمر حلال؟ ربما يقع الخلاف في كون هذا خمراً أم لا؟ فلو أردنا معرفة حكم الإسلام في البيرة، فسنجد أقوالاً مختلفة، فمنهم من يقول: هي حرام، ومنهم من يقول: هي حلال، ومنهم من يقول: فيها شبهة، دعنا من هذا الخلاف، لكني أتكلم عن الخمر الذي يعرفه العامة والخاصة، هل يختلف اثنان على حرمته؟ لا، فلو أن مسلماً يعيش في بلاد المسلمين أتى الآن وقال: الخمر حلال، فماذا يكون بعد قيام الحجة عليه؟ يكون كافراً؛ لأنه قد أحل ما حرمه الله عز وجل في كتابه وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا من أصول الإيمان والثوابت في الإسلام، فلا يصح أن يهدر هذا. وقول الإمام النووي هنا فيما يتعلق بتارك الصلاة جحداً وعناداً إنه كافر، هذا كلام لا يحتاج إلى إجماع؛ فإجماع أهل العلم على ذلك أمر يعضد أصول الإيمان في هذه القضية، لكن إذا لم يكن هناك إجماع فإن جاحد الصلاة كافر؛ لأنه لو جحد ما دون الصلاة كفر به إذا أقيمت الحجة عليه.

حكم تارك الصلاة كسلا وتهاونا

حكم تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً وقع النزاع فيما يتعلق بحكم تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً، فمنهم من قال: تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً ليس بكافر؛ لأنه لا يستوي مع من جحد. والرد عليه أن الكفر أنواع، وإن شمل الجميع اسم الكفر: فالجاحد كافر، وتارك الصلاة عند جميع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بغير تفصيل كافر، وإن كان كفر الاثنين مختلفاً، لكن يجمعهم اسم الكافر. والكافر إنما يطلق في هذه القضية عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على كفر الخروج، أي: كفر الخروج من الملة، يقول عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله: ما كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة. ولا يمكن أن يُتصور أن هذا القول محمول على الكفر العملي؛ لأن الكفر العملي في كل الواجبات والمحرمات، وليس بابه الصلاة فحسب، وإنما بابه هذه المباني كلها، والواجبات الشرعية والمنهيات الشرعية. فلا يتصور أن عبد الله بن شقيق إنما أراد أنه ليس شيء عند الصحابة يكفر به صاحبه كفراً عملياً من الإسلام إلا الصلاة، هذا الكلام غير متصور نهائياً، ولا يستقيم مع فقه الصحابة رضي الله عنهم، والعجيب أنه لم يرد عن واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك، فالصحابة مجمعون على أن تارك الصلاة يكفر بهذا الترك كفراً يخرجه عن الملة، وأنا حرصت أن أقول: كفراً يخرجه عن الملة، لا أسميه اعتقادياً ولا عملياً حتى أبينه، وإن كانت الصلاة من المسائل العملية في الدين، إلا أن الكفر كما يقع في القول والاعتقاد، يقع كذلك في الفعل، فأسباب الكفر: إما الاعتقاد؛ وهو استحلال ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله الله. وإما القول الذي يكفر به صاحبه، سواء كان تهاوناً بدين الله واستخفافاً واستهزاء بدين الله، أو لعباً ولهواً وهزءاً بشيء من أحكام الشرع وهو عالم مختار غير مكره، على تفصيل بين أهل العلم في هذه الفرعيات، فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر. فأقول: إن الكفر يكون بالعمل كذلك، وكذا الصلاة قد ثبت أنها من أصول الإيمان؛ ولذلك الإمام البخاري وغيره من أهل العلم لما ذكروا حديث شعب الإيمان ذكروا بعض شعب الإيمان، فقالوا: باب الصلاة من الإيمان باب الزكاة من الإيمان باب الصيام من الإيمان. ونقل الإمام الحميدي وغيره: أن من ترك الخمس فهو كافر بإجماع المسلمين. أي: شعائر الإسلام الخمس. والصحابة رضي الله عنهم مجمعون على كفر تارك الصلاة كفراً يخرجه من الملة، وإن كانت الصلاة متعلقة بعمل الجوارح، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وبإجماع المفسرين أن الإيمان هنا هو الصلاة. إذاً: الصلاة متعلقة بالإيمان، بل هي جزء من الإيمان، والذي يترجح لدي هذا المذهب؛ لأن الإجماع المعتبر الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ووقع نزاع في الإجماع بعد الصحابة، والراجح ثبوته، لكن الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة، فإذا أجمعوا أن تارك الصلاة كافر؛ فلا أقل من أن يكون هذا هو المنهج الحق في هذه المسألة، وهو الرأي الذي يترجح لدي. وقال بعضهم: تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً يفسق بهذا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا بد من التفريق بين خلل في طاعة الله عز وجل فيما يتعلق بمبادئ الإسلام، وبين سائر الذنوب والمعاصي. قال ذلك هو يرد على من قال: لا يكفر المرء إلا بالاستحلال، فيثبت أن الكفر يكون بالعمل وبالقول دون ذكر للاستحلال، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن كانت الصلاة تؤدى بالجوارح فصاحبها إنما يكفر بتركها؛ لأنه ليس كل عمل لا يأتيه المكلف لا يكفر به. فمن الأعمال ما يكفر بها صاحبها، ومن الأعمال ما لا يكفر بها صاحبها، فيضع ضابطاً لذلك ويقول: إذا كان الفعل متعلقاً بالإيمان فتركه كفر كالصلاة، وإذا كان الفعل متعلقاً بسائر المعاصي، كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها؛ فلا يكفر صاحبها بذلك، إلا إذا أتاها مستحلاً لها؛ فيفرق بين المسائل المتعلقة بأصل الإيمان وإن كانت تؤدى بالجوارح، وبين المسائل التي لا تعلق لها بأصل الإيمان. والإمام ابن بطة إنما سار هنا على المذهب الأول، وهو تكفير تارك الصلاة. ويقول بعضهم: إن تارك الصلاة إنما يؤخذ ويعزر ويحبس ويستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل، وأنا لا أتصور قط أن واحداً يحبس حتى يصلي، ويشهر على رقبته السيف ثلاثة أيام وهو يقول: أنا لا أصلي كسلاً، ثم يقدم للإعدام أو للمشنقة أو لضرب عنقه وهو يقول أيضاً: لا أصلي، وإن كنت أعتقد أن الله أوجب الصلاة؛ هذا لا يمكن أن يتصور قط.

أهمية الصلاة عند سلف الأمة وحكم تاركها

أهمية الصلاة عند سلف الأمة وحكم تاركها قال: [عن المسور بن مخرمة أن ابن عباس دخل على عمر بعدما طعن، فقال: الصلاة، فقال أمير المؤمنين: نعم، لا حظ لامرئ في الإسلام أضاع الصلاة؛ فصلى والجرح يثعب دماً]. لو لم تكن الصلاة من أصول الإيمان، وأن تاركها تارك الإيمان؛ لما اهتم بذلك ابن عباس، فضلاً عن عمر رضي الله تعالى عنهما على هذا النحو وهذه الحال. ثم قال: [عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة: أن عمر لما أصيب جعل يغمى عليه، فقالوا: إنكم لن تفزعوه -أي: لن تفيقوه- بشيء مثل الصلاة إن كانت به حياة] يعني: لا يمكن أن تحصلوا على إفاقة لـ عمر إلا إذا ذكرتموه بالصلاة، إذا كان فيه رمق وبقية حياة. ثم قال: [فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين قد صُلّيت، قال: فانتبه، فقال: الصلاة! ها الله إذاً، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دماً]. فهذه نصوص تفيد أهمية الصلاة عند سلف الأمة. قال: [عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بيننا وبينهم ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)] أي: بيننا وبين الكفار ترك الصلاة، فالعلامة التي تميز المسلم عن غيره إنما هي الصلاة. وقوله: (فمن تركها فقد كفر)، لو كان هذا النص محمولاً على الكفر العملي؛ فما بالكم بمن ترك الزكاة، ومن ترك الصيام، ومن ترك الحج لا يكون كافراً كفراً عملياً؟! لو أن واحداً ترك الصيام، أو ترك الزكاة مع القدرة على إخراج الزكاة أليس هذا بإجماع المسلمين كافراً كفراً عملياً، ووقع نزاع فيما يتعلق بالزكاة. لكن هذا النص: (ليس بيننا وبينهم إلا الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، لا يتصور قط أن قوله: (فقد كفر)، أي: كفراً عملياً، لماذا؟ لأن الصلاة حينئذ تكون شريكة لغيرها من سائر الأعمال، فدل هذا الحصر في قوله: (ليس بيننا وبينهم إلا ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر) لا يتصور أن يكون هذا الكفر متعلقاً بالكفر العملي، وإلا فالكفر العملي في الزكاة والصيام والحج وغير ذلك من سائر الواجبات والمحرمات، فلم خص الصلاة إذاً؟ إلا أن الحكم المتعلق بالصلاة غير الحكم المتعلق بغيرها من سائر الذنوب والمعاصي، فهذا كفر أكبر، وذاك كفر أصغر.

حبوط عمل من ترك الصلاة وكفره

حبوط عمل من ترك الصلاة وكفره قال: [عن أبي المليح قال: (كنا مع بريدة في غزاة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بالصلاة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ترك الصلاة حبط عمله). والحبوط هو البطلان، فلو ترك الصلاة حبط عمله؛ لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] أي: ليبطلن عملك كله، إذا كنت تعمل صالحاً إنما تجازى عليه كما يجازى المشرك على عمله الصالح في الدنيا، حتى لا يكون له عند الله عز وجل جزاء ولا ثواب في الآخرة. أما تارك الصلاة فقد ورد النص صريحاً في حديث جابر: (بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر أو أشرك)، وفي رواية: (فقد كفر وأشرك)، لا يقال كفراً عملياً، ولا يقال شركاً عملياً؛ لأنه لو كان كذلك لما ساغ تخصيص الصلاة بهذا الحكم، إذا كان ترك الصلاة يختلف مع غيره من سائر الذنوب والمعاصي في أنه كفر عملي؛ فلا يكون حينئذ لذكر ترك الصلاة وتخصيصها بهذا الحكم مزية. ثم قال: [عن مجاهد بن جبر - المكي أبي الحجاج، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت له: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة]. يعني: مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس يسأل جابر بن عبد الله الأنصاري فيقول: ما هو العمل الذي كان يفرَّق به عندكم يا معشر الصحابة بين الكفر والإيمان من الأعمال؟ فقال جابر: الصلاة. فهل يتصور أن معنى قول مجاهد هنا: ما هو العمل الذي كنتم تفرِّقون به بين مسائل الكفر العملي والإيمان؟ لا يتصور، وإنما ذكر الكفر في مقابلة الإيمان، فيدل على أنه الكفر المخرج من الملة، وإن كان سبب الكفر عملاً من الأعمال؛ لأن الأعمال منها ما يخرج من الملة، ومنها ما لا يخرج من الملة. ثم قال: [عن الحسن قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر]. هذا من بلاغات الحسن، وعلى أية حال ليس في الباب هذا النص فحسب، بل هذا النص يشهد له كلام عبد الله بن شقيق العقيلي السابق، وهو سيد التابعين في البصرة، والحسن البصري سيد التابعين في البصرة أيضاً. فقول عبد الله بن شقيق: كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة. يوافقه الحسن بلاغاً عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر. ثم قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرم علي دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله تعالى)]. فهذا النص إنما أضاف إلى أصل الإيمان وكلمة التوحيد مبنيين: الصلاة، والزكاة، فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)، فلو كان إيمان المرء وإسلامه يثبت فقط بمجرد الشهادة؛ لما كان هناك مسوغ لقتالهم على الصلاة والزكاة، ولما قاتلهم أبو بكر الصديق على منع الزكاة، مع أنهم كانوا قائمين بالصلاة، ولكن قاتلهم على الزكاة. ولذلك احتج به عمر على أبي بكر لما أصرَّ أبو بكر رضي الله عنه على مقاتلة ومحاربة مانعي الزكاة، فقال: يا أبا بكر أما بلغك أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)؟ فقال: بلى، يعني: هذا الكلام قد بلغني، وإنهم كانوا يؤدون الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو منعوني عقالاً. وفي رواية: عناقاً. وهو حبل بعير، أو ابن الناقة لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقاتلتهم عليه، قال عمر: فلما رأيت أن شرح الله صدره لذلك؛ علمت أنه الحق. ومن حجة أبي بكر في ذلك أنه قال عمر: لو أن هؤلاء الناس تركوا الصلاة؛ كنت تقاتلهم أم لا؟ قال: أقاتلهم، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. إذاً: لا خلاف بين الصحابة أن من ترك الصلاة كفر وقتل بتركه لها، فقاس أبو بكر الصديق ما لم يكن معلوماً عند عمر وهو حكم الزكاة، على ما هو معلوم لديه فيما يتعلق بالصلاة، فقاس المجهول لديه على المعلوم لديه؛ فانشرح صدر عمر حينئذ أنه لا يفرق بين الصلاة والزكاة، خاصة وأن

حديث معاذ في رأس الأمر وقوامه وذروة سنامه

حديث معاذ في رأس الأمر وقوامه وذروة سنامه قال: [عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن رأس هذا الأمر: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإن ذروة السنام منه: الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل). أي: إذا شهدوا الشهادتين وصلوا وزكوا، فقد عصموا دماءهم.

بعث أبي بكر لخالد بن الوليد وأمره له أن يقاتل الناس على شعائر الإسلام الخمس

بعث أبي بكر لخالد بن الوليد وأمره له أن يقاتل الناس على شعائر الإسلام الخمس قال: [عن حنظلة بن علي بن الأسقع: أن أبا بكر بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناس على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وعن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان رضي الله عنه يبايعونه على الإسلام، وعلى من وراءهم، فبايعهم على ألا يشركوا بالله شيئاً، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويدعوا عيد المجوس -يعني: ألا يتشبهوا بغيرهم- فلما قالوا: نعم -أي: وافقوا على بنود هذه البيعة- بايعهم. وعن يزيد قال: قلت لـ أنس بن مالك: (إن ناساً يشهدون علينا بالشرك، فقال: أولئك شر الخليقة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بين العبد والشرك أو الكفر ترك الصلاة. أو: من ترك الصلاة كفر)] فهذا أنس بن مالك يرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما يبين التوجه العام في الحكم في هذه القضية أنه لا يحكم بالكفر ولا بالشرك في عمل من الأعمال إلا في الصلاة، وهذا إجماع الصحابة، ووقع بينهم نزاع فيما يتعلق بتكفير تارك الزكاة.

حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن

حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ثم قال: [عن عامر الشعبي: أن معاذ بن جبل لما بعثه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن اجتمع الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه]، أي: قام معاذ خطيباً ومذكراً ومعلماً لأهل اليمن، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: [وقال: يا أيها الناس! ألا إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً]، أي: أن تفردوه بالعبادة والوحدانية، [وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تطيعوني أهدكم إلى سبيل الرشاد، ألا إنما هو الله وحده، والجنة والنار بلا ظعن خلود فلا موت أبداً]. ثم بدأ في تعليمهم.

حديث بريدة (بكروا بالصلاة يوم الغيم)

حديث بريدة (بكروا بالصلاة يوم الغيم) قال: [عن بريدة الأسلمي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فقال: بكروا بالصلاة في يوم الغيم؛ فإنه من ترك صلاة العصر حبط عمله)]. يعني: بكروا بالصلاة في يوم شديد الضباب والغيم.

حديث أبي ذر (من ترك الصلاة عامدا فقد برئت منه ذمة الله عز وجل)

حديث أبي ذر (من ترك الصلاة عامداً فقد برئت منه ذمة الله عز وجل) قال: [عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة عامداً؛ فقد برئت منه ذمة الله عز وجل)] (من ترك الصلاة عامداً)، العامد يكون جاحداً ويكون غير جاحد، تصور أن واحداً تقول له: صل صلاة العصر، فيقول لك: لا، ما زال الوقت مبكراً، بقي للمغرب وقت طويل، فيقال له: صل يا بني! فيقول: نعم، حاضر، إلى أن سمع أذان المغرب. هو في إجاباته السابقة هل أظهر عناداً أو كفراً؟ لم يظهر، ولكنه أظهر استجابة، وكل ما فيها أن الوقت ممتد حتى دخل الوقت الثاني، وفات وقت العصر عمداً أم نسياناً؟ عمداً؛ لأن المذكر فوق رأسه يذكره في كل بضع دقائق بحق الله تعالى في إتيان الصلاة، حتى دخل وقت المغرب، لا شك أن هذا ترك للصلاة عمداً لا كسلاًَ ولا تهاوناً ولا نسياناً، فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله عز وجل، والذمة: هي العهد والأمان والضمان والحرمة والحق، ولذلك سمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.

حديث (قيل لابن مسعود: إن الله ليكثر ذكر الصلاة)

حديث (قيل لابن مسعود: إن الله ليكثر ذكر الصلاة) قال: [قيل لـ عبد الله بن مسعود: إن الله عز وجل ليكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، فقال عبد الله بن مسعود: ذلك على مواقيتها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال عبد الله: تركها الكفر]. لم يقل: تركها كفر، وإنما قال: تركها الكفر، والألف واللام للعهد في هذا النص الذي سمعت؛ لأنها لو كانت للجنس لأطلقت على جنس الكفر المخرج وغير المخرج. فهذا يدل على أن ابن مسعود صحح للتابعين خطأهم، وأنهم كانوا يتصورون أن هذا المذهب إنما ينطبق على من أتاها دون من تركها، فقال: ليس الأمر كما تظنون، وإنما ترك الصلاة هو الكفر المعهود لديكم. والعهد: هو الشيء المعهود. كما أقول لك: هل قابلت رجلاً؟ فتقول: نعم، قابلت رجلاً في أول الطريق، وآخر في وسط الطريق وآخر في نهايته؛ لأني سألتك عن جنس الرجال. فتقول: نعم، أنا قابلت رجالاً، فضلاً عن رجل، بخلاف ما لو قلت لك: هل قابلت الرجل. أي: الرجل المعهود لديك الذي أرسلتك إليه خاصة؟ مثلاً أرسلتك بجواب، وقلت لك: خذ هذا الجواب وسلمه لمحمد بن إبراهيم، عينته لك، فذهبت وسلمت الرسالة له، لكن لو سلمتها لرجل غير معين ولا معروف، فهذا لا يفيد عندي أنك أعطيتها للرجل المعهود الذي عاهدتك أن تختاره من بين الرجال فتعطيه الرسالة. فإذاً: الألف واللام تكون للعهد، أي: لشيء معروف لدى الكل. فقال هنا: (قيل لـ عبد الله بن مسعود: إن الله عز وجل ليكثر أن يذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]؛ فقال عبد الله: ذلك على مواقيتها). فربنا يمدح الذي يقيم الصلاة على وقتها، (قيل: يا رسول الله! ما أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة على وقتها أو لوقتها). (قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال: تركها الكفر) يعني: الكفر المعهود، وهو الكفر المخرج من الملة.

أثر أبي الدرداء (لا إيمان لمن لا صلاة له)

أثر أبي الدرداء (لا إيمان لمن لا صلاة له) قال: [عن عبد الله بن أبي زكريا أن أم الدرداء حدثته أنها سمعت أبا الدرداء يقول: لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له]. يعني: النفي متعلق بأصل الإيمان، فمن لا يصلي لا يكون عنده أدنى إيمان ولا ذرة إيمان. والقرينة على هذا أنه قال: (ولا صلاة لمن لا وضوء له)؛ لأنه لا يمكن أبداً حمل هذا النص على أنه لا صلاة كاملة الثواب لمن لا وضوء له، هذا الكلام غير مستقيم؛ لأن الذي ليس على وضوء لا تصح صلاته وإن صلى ألف ركعة؛ لأن الوضوء شرط صحة في الصلاة، وكذلك الصلاة شرط صحة في الإيمان، ليست شرط كمال، وإنما هي شرط صحة. فإذا صلى المرء بغير وضوء فلا صلاة له، وكذلك إذا ترك المرء الصلاة فلا إيمان له البتة، ولذلك قرنهما في نص واحد، قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له)، فقاس المجهول لديهم على المعلوم، ألا تعلمون أن الذي يصلي بغير وضوء لا صلاة له أصلاً، وأن قوله: (لا صلاة له)، أي: نفي الصلاة من الأساس، فإذا كنتم تعلمون أنه لا صلاة لمن لا وضوء له، فكذلك لا إيمان لمن لا صلاة له. ثم قال: [عن عبد الله بن مسعود قال: من لم يصل فلا دين له].

حديث الباقر (لو مات هذا مات على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم)

حديث الباقر (لو مات هذا مات على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم) [وعن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: (دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى، فجعل ينقر صلاته كما ينقر الغراب، فقال: لو مت على هذا مت على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم)]، مع أن هذا يصلي، لكنه لا يصلي الصلاة المشروعة التي تقبل عند الله عز وجل، ولذلك (لما دخل الرجل فصلى ركعتين ينقرهما نقراً، ويقعي فيهما إقعاء الكلب، ثم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام! ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، وهذا نفي للصلاة، ولو كان معنى هذا النص: إنك لم تصل صلاة كاملة تامة؛ لما أمره بالإعادة. فقوله: (ارجع فصل) دليل على أن الصلاة كلها لم تقع صحيحة، فكأنه لم يصل صلاة صحيحة؛ لأنه أمره أن يعيدها كذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً في قدمه موضع درهم لم يمسه الماء، قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار)؛ لأن العقب الذي فوق مؤخرة القدم وتحت الكعبين، هذا المكان في الغالب أن من لا يحرص على إتمام الوضوء يقصر في تتبع هذا الموضع، خاصة من كان عندهم نحافة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار)؛ وأمر الرجل بعد أن فرغ من وضوئه أن يرجع فيعيد الوضوء من أساسه.

أثر ابن مسعود (من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له)

أثر ابن مسعود (من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له) قال: [قال عبد الله بن مسعود: من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة؛ فلا صلاة له]. والزكاة ليست كالصلاة، الصلاة عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من تركها كفر إجماعاً، بخلاف الزكاة، فقد وقع بينهم نزاع في تكفير تارك الزكاة. ثم قال: [قال عبد الله: (ما تارك الزكاة بمسلم)]، فنفى عنه الإسلام.

أثر حذيفة في الإنكار على من لا يتم الركوع والسجود

أثر حذيفة في الإنكار على من لا يتم الركوع والسجود قال: [عن حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما انصرف دعاه حذيفة فقال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: أصليها منذ كذا وكذا -أي: منذ كذا وكذا سنة- قال: ما صليت، أو ما صليت لله عز وجل. قال أحد الرواة: وأحسبه قال: لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم]، والسنة هنا بمعنى: العقيدة والدين.

أثر ابن المبارك في تكفير من قال أصلي غدا

أثر ابن المبارك في تكفير من قال أصلي غداً ثم قال: [يقول ابن المبارك: من قال أصلي الفريضة غداً؛ فهو عندي أكفر من الحمار]. لا بد أن تحمل هذه النصوص كلها على الكفر المعهود، وهو الكفر المخرج من الملة. أنا لا أجرؤ على تكفير من صلى وترك، أو من ترك فرضاً أو فرضين، أو تكاسل وصلاهما بعد ذلك، إنما أجرؤ على تكفير من ترك الصلاة بالكلية، فأنا لا أشك أن من ترك الصلاة بالكلية كافر كفراً يخرجه عن ملة الإسلام، فإذا كفر أخذ حكم الكافرين، وإذا كانت امرأته تصلي فيجب التفريق بينهما؛ لأن الله تعالى حرم أن يكون للكافر سبيل على المسلم، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، وولاية الزواج من السبيل، فهذا لا يغسل ولا يكفن، ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين، وكل هذا مشروط بمسألة المصلحة والمفسدة، خاصة في هذا الزمان.

حديث عبد الله بن عمرو: (من حافظ عليها كانت له نورا)

حديث عبد الله بن عمرو: (من حافظ عليها كانت له نوراً) قال رحمه الله: [عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، ويأتي يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)]. هؤلاء كانوا كفاراً كفراً حقيقياً، فهم كفار مخلدون في نار جهنم، ويأتي يوم القيامة تارك الصلاة ويخلد معهم في النار، فإذا كان تارك الصلاة كافراً كفراً عملياً، أليس من الظلم أن يأتي مع هؤلاء؟ بلى! فلما تنزه الله تبارك وتعالى عن الظلم واتصف بصفات الكمال؛ لا بد أن نقول: إن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ ولذلك استوجب لنفسه أن يخلد في النار مع قارون، وفرعون، وهامان وأبي بن خلف.

تعقيب المصنف على الأحاديث والآثار المتعلقة بترك الصلاة والتهاون بها

تعقيب المصنف على الأحاديث والآثار المتعلقة بترك الصلاة والتهاون بها قال ابن بطة: [فهذه الأخبار والآثار والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، كلها تدل العقلاء ومن كان في قلبه أدنى حياة، على تكفير تارك الصلاة، وجاحد الفرائض، وإخراجه من الملة وحسبك من ذلك ما نزل به الكتاب، قال الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31]. ثم وصف الحنفاء، والذين هم غير مشركين به؛ فقال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. فأخبرنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: أن الحنيف المسلم هو على الدين القيم، وأن الدين القيم هو بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]]؛ فلو تابوا من الشرك ولكنهم تركوا الصلاة والزكاة فهل يجب علينا أن نخلي سبيلهم؟ عطف الله تعالى الصلاة والزكاة على التوبة من الشرك، فلو تاب المرء من الشرك بغير صلاة ولا زكاة؛ فإنه لا يزال قائماً على الشرك، ولذلك لا يخلى سبيله، بل يؤخذ ويعاقب بهذا الكفر الذي قد أتاه. ثم قال: [وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:11]-أي: المشركين- {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]]. وهذا يدل على أنهم إن تابوا من الكفر أو الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة؛ فليسوا إخوة لنا في الدين. ثم قال: [فأي بيان رحمكم الله! يكون أبين من هذا؟ وأي دليل على أن الإيمان قول وعمل، وأن الصلاة والزكاة من الإيمان، يكون أدل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع علماء المسلمين وفقهائهم، الذين لا تستوحش القلوب من ذكرهم]، وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، [بل تطمئن إلى اتباعهم واقتفاء آثارهم رحمة الله عليهم وجعلنا من إخوانهم]. إذاً! هذا الباب باب تكفير تارك الصلاة وقع فيه نزاع بين فقهاء المذاهب، وبين علماء الأمة من بعد الصحابة رضي الله عنهم، أما الصحابة فإجماعهم منعقد على أن تارك الصلاة كافر، وهو الذي يترجح لدي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم عصير الفواكه المخلوط المسمى بـ (الكوكتيل)

حكم عصير الفواكه المخلوط المسمى بـ (الكوكتيل) Q أسألكم عن فتوى زعم قوم أنها صدرت عنكم، فأريد أن أتثبت من صحتها ونسبتها إليكم! زعموا أنك قلت: إن عصير الفواكه المخلوط الذي هو (الكوكتيل) في محلات العصائر حكمه كحكم النبيذ المحرم، كنبيذ التمر مع الزبيب في إناء واحد، فهل قلتم ذلك؟ A نعم، قلت ذلك، وإذا كنت تريد زيادة بيان؛ فاقرأ في أي كتاب من كتب الفقه، لكني أدلك على باب مختصر في كتاب (نيل الأوطار) الجزء الأخير، (باب ما جاء في الخليطين) وبعده (باب ما جاء في النبيذ) وبعده باب ثالث، ثلاثة أبواب متتابعة في كتاب الأطعمة والأشربة، فإن شاء الله لو قرأت فيها لوافقتني، ثم أفتيت بذلك أنت.

حكم من لا يصلي إلا الجمعة فقط

حكم من لا يصلي إلا الجمعة فقط Q من صلى في الأسبوع فريضة هل نعده من الكافرين مثل: صلاة الجمعة؟ A للأسف الشديد بعض الناس يتصور أن صلاة الجمعة تنفي عنه إثم بقية صلوات الأسبوع، وهذا بلا شك خلط عظيم جداً، فمن صلى الجمعة ولم يصل غيرها؛ فإنه تارك للصلاة.

وجه دلالة الألف واللام في كلمة (الكفر) على الكفر المخرج من الملة

وجه دلالة الألف واللام في كلمة (الكفر) على الكفر المخرج من الملة Q يقول سائل: قلت: إن الألف واللام في قول ابن مسعود: (تركها الكفر) هو الكفر المعهود، أي: الكفر الأكبر، فلماذا لا يكون الأصغر؟ A أقول: الكفر الأصغر في كل شيء، وليس في الصلاة فقط، فكونه خص الصلاة بأنها كفر، وذكر أنها الكفر بالألف واللام التي هي للعهد؛ فهذا يدل على تخصيص الصلاة بالحكم، ولو قال: إن تارك الصلاة كافر كفراً عملياً، فما هو الجديد في هذا؟ كذلك تارك الزكاة وتارك الصيام وتارك الحج، بل من لم يؤد الواجب الذي عليه يكون كافراً كفراً عملياً؛ لأن هذه مسائل متعلقة بسائر المعاصي والذنوب من جهة النهي، وبسائر المعاصي من جهة الأمر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إني اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، قالت امرأة جزلة -عاقلة-: ولم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكفرن -وسكت- فقالت المرأة: يكفرن بالله يا رسول الله؟)، يعني: الكفر الأكبر العملي المخرج من الملة أو الكفر الاعتقادي؟ قال: (لا، إنكن تكفرن العشير) يعني: تكفرن الإحسان، وهذا كفر عملي. فالصحابة رضي الله عنهم يعتقدون أن المرأة التي تكفر عشرة زوجها قد كفرت كفراً عملياً. فلم لم يقل عبد الله بن شقيق العقيلي: ليس شيء تركه كفر عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا ترك الصلاة وترك الاعتراف بجميل وعشرة الزوج، فمسائل الكفر العملي كثيرة جداً، وأبوابها لا نهاية لها، وإنما تكلم عن نوع معين من أنواع الكفر، وهو الكفر المعهود، أي: الكفر الأكبر؟

ضرورة إقامة الحجة على من وقع في الكفر قبل تكفيره

ضرورة إقامة الحجة على من وقع في الكفر قبل تكفيره Q ما معنى: يبين له قبل أن يُكَفّر؟ A أن تقام الحجة عليه.

حكم تكرار صلاة الفجر بعد خروج وقتها

حكم تكرار صلاة الفجر بعد خروج وقتها Q من يستيقظ بعد وقت صلاة الفجر كل يوم، ولا يخاطب نفسه بالاجتهاد لصلاتها في وقتها؛ هل هذا متعمد، وهل يكفر، مع العلم أنه يصليها ولكن بعد خروج وقتها؟ وما الذي يترتب على تكفير تارك الصلاة من معاملة وغيرها؟ A قرأت فتوى للشيخ ابن باز عليه رحمة الله توزع في بلاد الحجاز، وإذا شئتم أتيت لكم بهذه الفتوى وهي عندي مكتوبة، يقول الشيخ: إن من ضبط المنبه في صلاة الصبح على ما بعد الشروق؛ فقد كفر، هذه فتوى الشيخ ابن باز، وهذه أيضاً فتوى ابن عثيمين، لكن على أية حال يمكن أن نصور لكم فتوى الشيخ ابن باز، وإن شاء الله في الدرس القادم سنأتي بها ونعلقها على الباب هنا وأنت تقرؤها.

حكم صيام الإثنين أو الخميس مع موافقتهما لعيد من أعياد النصارى

حكم صيام الإثنين أو الخميس مع موافقتهما لعيد من أعياد النصارى Q هل يجوز لنا صيام يوم الإثنين الذي يسمى بعيد شم النسيم؛ لكي نخالف النصارى؟ A أنا قد سألت أخاً لي، فقال: لا يجوز ذلك؛ نقلاً من كتاب الصراط المستقيم، ولعل ذلك من باب ألا نجعل لهم أهمية وقيمة، هم ليسوا أهلاً لها. على أية حال! إذا كان من عادة المسلم أن يصوم الإثنين والخميس فليصمهما، حتى وإن وافق شم النسيم يوم الإثنين أو الخميس. وأنتم تعلمون أن البدع كما تكون بالإتيان تكون بالترك، كيف؟ إن هذا العيد عيد شركي من أعياد الكفار، وأنا في الحقيقة خائف من نزول العقاب من السماء في هذا اليوم أو في هذه الليلة؛ وبالتالي أنا سأقوم الليل وأصوم النهار، لكن لا بد أن يثبت لدي دليل على جواز تخصيص عيد من أعياد المشركين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم نهاره ويقوم ليله، يعني: يخصه بصيام وقيام. فلما لما لم يثبت لدي ذلك؛ دل على أن الإتيان به بدعة، وإلا فعيد شم النسيم كان موجوداً على زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما كان أيامهم النسيم، فلم يكونوا يشمون، وهم إلى الآن لا يشمون على أية حال، لكن هذا العيد كان له اسم آخر، نحن المسلمين الذي سميناه: عيد شم النسيم، لكن له تسمية ومصطلح آخر عند النصارى، فهذا العيد كان موجوداً، وأعياد النصارى واليهود كانت موجودة على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بصيام ولا قيام. فكذلك نحن لا نخصه لا بصيام ولا بقيام، يكفي ما نحن فيه نحن الآن في عقاب لا نشعر به، نحن أمة لا هوية لها، فهل هناك عقوبة أعظم وأقسى من هذه العقوبة؟ أمة لا هوية لها، ماذا تريدون بعد ذلك؟ ما الذي سينزل بعد هذا؟ فالخسف والمسخ قد حدث في الأمة من قبل وسيحدث، وأنا أرى أن المسخ الذي نحن فيه الآن أعظم وأشد نكاية في قلوبنا من أن يمسخنا الله تعالى قردة وخنازير، أو حتى حميراً، نحن بهذا نظل موجودين على الأرض في صورة مسلمين وموحدين، وفي حقيقة الأمر لا هوية لنا، فهي عقوبة عظيمة جداً، يشعر المرء أنه في خير عظيم وهو ليس كذلك.

حكم صلاة من أخطأ في الفاتحة أو غيرها وفتح عليه

حكم صلاة من أخطأ في الفاتحة أو غيرها وفتح عليه Q يقول السائل: إنه نسي القراءة في الصلاة غير الفاتحة، فهل يجوز الرد عليه؟ وهل قراءة القرآن في الصلاة غير الفاتحة سنة أم واجب؟ وما الدليل؟ A على أية حال، إذا أخطأ الإمام في الفاتحة فصلاته باطلة، إلا أن يرد عليه فيصحح الخطأ، لكن إن استمر في صلاته مع عدم تصحيح الخطأ؛ فتبطل صلاته وصلاة المأمومين، أما إذا كان هذا الخطأ في غير الفاتحة؛ فينظر: هل يفتح عليه إذا أخطأ؟ وما سبب الخطأ الذي يفتح عليه فيه؟ نوع الخطأ إذا أبدل آية مكان آية يفتح عليه، وإذا غير المعنى يفتح عليه فيها، كما لو قال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم نار جهنم خالدين فيها)، ما هذا؟ هذا تغيير للمعنى، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات، وليس لهم نار جهنم، فلو أنه بدل وغير في مثل هذا وجب الرد عليه، وإن أصر على الاستمرار في الصلاة على هذا النحو بدون اعتبار رد الآخرين عليه؛ تبطل صلاته وصلاة المأمومين كذلك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

الأقوال والأفعال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين

شرح كتاب الإبانة - الأقوال والأفعال التي تُورث النفاق وعلامات المنافقين لقد ذم الله النفاق في كتابه وذكر له أوصافاً وخصالاً وحذر المؤمنين منها، وحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من ارتكاب صفة من صفات المنافقين، والنفاق قسمان: أكبر وأصغر، وقد بين العلماء كل قسم من هذين القسمين، وما يتميز به عن قسيمه.

باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين

باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين].

روايات ابن مسعود وعبد الله بن عمرو لحديث علامات المنافقين

روايات ابن مسعود وعبد الله بن عمرو لحديث علامات المنافقين قال: [عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً، وإن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)]. وفي رواية أبي وائل [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة المنافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]، ولم يذكر: (وإذا خاصم فجر). وفي رواية عنه قال: [(علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]. وفي حديث [عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً)] أي: أربع خصال إذا توفرت في عبد وكانت ديدنه كان منافقاً خالصاً، [(وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)]. قال النووي: قوله: (كان منافقاً خالصاً) أي: شديد الشبه بالمنافقين، لا أنه خارج عن الملة. وقال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال ظاهرة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً في معنى هذا الحديث. [وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)] فهذه خمس خصال. [وقال ابن مسعود: ثلاث من كن فيه فهو منافق: من حدث كذب، ووعد فأخلف، واؤتمن فخان، فمن كانت فيه خصلة منهن ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها].

كلام الإمام النووي على أحاديث علامات المنافقين

كلام الإمام النووي على أحاديث علامات المنافقين يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وهذا الحديث مما عده جماعة من العلماء من المشكلات. يعني: هذا الحديث ظاهره في غاية الإشكال، وهو أن علامات وخصال المنافقين توجد للمسلم المصدق الذي اطمأن قلبه بالإيمان. وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار؛ لأن إخوة يوسف عليه السلام كانت فيهم هذه الخصال ولم يحكم بكفرهم، فلأجل هذا كان الحديث فيه إشكال. قال: ولذلك اختلف العلماء في معناه، والذي قاله المحققون -أي: أصحاب الرأي السديد والقول الصواب والراجح وهم أكثر العلماء- أن معنى هذا الحديث: أن هذه خصال نفاق، ولكن لا يلزم من فعلها أن يكون الفاعل منافقاً مخلداً في النار؛ لأن أهل العلم يميزون بين الكفر والكافر، وبين النفاق والمنافق، وبين الفسق والفاسق، فربما يأتي المرء عملاً من أعمال الكفر وليس بكافر، وربما يأتي عملاً من أعمال الفسق وليس هو بفاسق، وكذلك النفاق. وهذه الخصال إنما هي خصال نفاق، وهي خصال المنافقين التي وردت في الكتاب والسنة، لكن لا يلزم من وجودها وجريانها على جوارح العبد المسلم الذي اطمأن قلبه بالإيمان قولاً وعملاً أن يكون منافقاً، بمعنى: أن يكون مخلداً في النار. قال: إن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام نفاقاً أكبر، بمعنى: أنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، هذا النفاق الذي يخلد صاحبه في النار، ويكون في الدرك الأسفل منها. أما هذه الخصال والخلال والأمارات والعلامات وإن كانت من أخلاق المنافقين، إلا أنها لو أتت على جوارح المسلم أو فعلها المسلم المصدق المؤمن؛ فإنه يكون قد تشبه بالمنافقين في بعض خصالهم، لا أنه منافق خالص، أي: خارج من ملة الإسلام وداخل في الكفر. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في النار. وقال القرطبي: إن اختلاف هذه الخصال في الروايات لا يقصد به الحصر، وإنما يقصد به ذكر بعض خصال المنافقين. ولذلك جاء في رواية عند مسلم: (من خصال المنافقين: أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فـ (من) هنا للتبعيض، يعني: هذه الخصال المذكورة إنما هي بعض خصال المنافقين، ولم يرد النبي عليه الصلاة والسلام حصر ذلك. ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أو غيرها، أنها منبهة على ما عداها. يعني: هناك خصال أخرى، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاثة: القول والفعل والنية، فنبه على فساد القول بالكذب؛ لأن الكذب متعلق باللسان، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري.

حديث (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب) وما في معناه كلام السلف

حديث (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب) وما في معناه كلام السلف قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعاً في قلب مؤمن، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعاً)]. قال: [وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب]. يعني: المرء يطوي قلبه ويعزم نفسه على أن يتخلق بجميع الأخلاق، وربما تكون في المرء المسلم خلال وخصال لا ينبغي أن يتخلق بها؛ لأنها من أخلاق غير المسلمين، لكن الذي ينبغي أن يتنزه عنه المسلم هو الكذب والخيانة. قال: [وعن عبد الله قال: المؤمن يطوى على كل خلة، إلا الخيانة والكذب]. قال: [وقال الحسن: كانوا يقولون: من النفاق اختلاف اللسان والقلب، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج]. يعني: كانوا يعدون هذه من خصال المنافقين؛ أن يختلف قوله عن مكنون قلبه، فيفصح بلسانه بضد ما استقر في قلبه، وكذلك اختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج. قال: [وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: يا أبا عبد الله! وكيف ذلك؟ قال: لأن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه]. يعني: كان المنافقون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لا تزال فيهم بقية من حياء، فكانوا يخفون نفاقهم، وينبغي أن تلحظ أن حذيفة رضي الله عنه القائل لهذا الكلام، إنما تكلم به في زمن التابعين، فتصور أنه يقول: المنافقون في زمن النبوة خير من المنافقين في زمانكم، فماذا لو أن حذيفة رضي الله عنه اطلع على منافقي وملاحدة هذا الزمان؟ قال الإمام الخطابي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا قد أسلموا، وإنما يظهرون الإسلام رياءً ونفاقاً، ويسرون الكفر عقداً وضميراً، فأما اليوم فقد شاع الإسلام وتوالد الناس عليه وتوارثوه -يعني: ولدوا في بيئة إسلامية- فمن نافق بأن يظهر الإسلام ويبطن خلافه فهو مرتد؛ لأن نفاقه نفاق كفر أحدثه بعد قبول الدين والإيمان. [وقال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: وكيف ذاك؟ قال: لأن أولئك أسروه وهؤلاء أعلنوه]. [وقال حذيفة: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فهو الكفر بعد الإيمان]. يعني: فهو الكفر الصريح بعد الإيمان، لأنه ردة. [وعن حذيفة لما سئل: ما النفاق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به]. أي: الذي يصف الإسلام للغير ولا يعمل به. فعمله مخالف لقوله، وهذا الذي بين لنا اختلاف الدخول والخروج، واختلاف اللسان مع عقد القلب، واختلاف السر والعلانية. [وقال حذيفة: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم في المجلس عشر مرات]. وهذا دليل على أن الناس في نقصان في إيمانهم إلى قيام الساعة. وروايات كثيرة يشهد بعضها لبعض لأن معناها واحد: [أن فلاناً وفلاناً وفلاناً كانوا جلوساً على باب حذيفة فتحدثوا بينهم بحديث، فخرج عليهم حذيفة فامتنعوا -أي: سكتوا عن الكلام- فقال حذيفة: ما كنا نعد النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا، أنكم تسرون أقوالكم أمام أهل الإيمان وتفشونها إذا انصرف عنكم أهل الإيمان. وفي رواية أنه قال: إنكم تتكلمون كلاماً إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق، وإنها ستكون فتن بين المؤمنين].

كلام السلف في الدخول على الأمراء والثناء بغير حق وأنه من النفاق العملي

كلام السلف في الدخول على الأمراء والثناء بغير حق وأنه من النفاق العملي وفي رواية [عن أبي الشعثاء: قال: قيل لـ ابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره. فقال: كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق]. وأنتم تعلمون أن كثيراً من العلماء والمشايخ إنما يدخلون على الأمراء والسلاطين، فيقولون لهم أقوالاً يعلمون أنها خلاف شرع الله عز وجل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ومن اقترب من السلطان افتتن)، فأعظم فتنة في دين المرء ودنياه أن يطرق باب السلطان، إلا أن يكون سلطان ديانة، أي: صاحب دين يحتاج إلى مؤازرة ومساندة أهل العلم من الصالحين والأتقياء الذين يبذلون له النصيحة في الليل والنهار كما كان الأمر في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. [وعن عروة قال: قلت لـ عبد الله بن عمر: إنا لندخل على الأمراء يقضي أحدهم بالقضاء نراه زوراً فنقول: وفقك الله]. أي: يدعون له مع أنهم يعلمون أنه ما نطق إلا بالزور، وهم مع ذلك يدعون له. [وننظر إلى الرجل منا فنثني عليه، قال: أما نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نعد هذا نفاقاً، فما أدري ما تعدونه أنتم؟!] وهذا كلام يخرج مخرج التقريع والتوبيخ والذم لهذا الفعل؛ لأن هذا كان هو النفاق على عهد النبي عليه الصلاة والسلام. [وعن إبراهيم النخعي قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: إنا ندخل على أمرائنا فنزكيهم ونثني عليهم، ثم نخرج من عندهم فنسبهم، قال: كنا نعد ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النفاق]. [وعن عبد الله قال: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ويخرج وما معه من دينه شيء]. يعني: يحل له الحرام، ويحرم عليه الحلال، يرضيه بسخط الله عز وجل، فيخرج وقد تأثر دينه جداً، ولذلك دخل أحد الصالحين في حلقة رجل من أهل العلم، فدخل عليه رسول السلطان فناوله صرة، فأنفقها العالم في الطلاب قبل أن يقوم من مقامه، فقال له ذاك الرجل الصالح: أقبلت هدية السلطان؟ قال: يا فلان! أما رأيت ما قد تصرفت فيها، إني أنفقتها في أهل العلم وطلابه. قال: أبالله عليك أقلبك على السلطان بعدها كقلبك عليه قبلها؟ قال: لا والله، وأشهدكم أني حمار! هذا كلام العالم، حتى وإن لم يكن صاحب منفعة أو وجاهة، المهم أنه اقترب من السلطان بنوع اقتراب. أنا أقول: إن الاقتراب كذلك من الأغنياء باب من أبواب الاقتراب من السلاطين، الغني لا يقبل منك إلا ما يوافق هواه وغناه، ويعلم الله عز وجل أن ظفر الأخ الفقير الذي لا يملك ثمن المواصلات إلى حضور مجلس العلم؛ لهو خير عندي من مائة غني، وإني لعلى يقين أن جل الأغنياء لا خير فيهم، إنما الخير كل الخير في الفقراء والمساكين، ولذلك هم أتباع الأنبياء، ليسوا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فأتباع الأنبياء هم الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، والواحد منهم يبذل روحه قبل أن يبذل ماله في سبيل نصرة دين الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن كل الأغنياء لا خير فيهم، بل جلهم لا خير فيهم، وإن الغني إنما يأخذ منك الفتاوى المفصلة على هواه وعلى شهوته، أما أن يقبل دين الله عز وجل كله ويطبقه على نفسه ويذل نفسه للمؤمنين، فهذا لا يكون من الأغنياء إلا في النزر اليسير جداً، إذا كان هذا في الأغنياء الذين لا سلطان لهم ولا وجاهة، ولا يملكون مقدرات الأمور كما يملك السلاطين بإذن الله تعالى، فما بالك بالسلطان الذي يؤذيه أن يسمع أمراً أو نهياً، حلالاً أو حراماً، فهذا بلا شك أمر خطير جداً أن يقترب العالم من السلطان، لابد للعالم -قبل أن يأخذ شيئاً من السلطان ينتفع به في دنياه- أن يعلم أن السلطان يأخذ من دينه أضعاف ما أعطاه من دنياه. قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ويخرج وما معه من دينه شيء. قيل: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله].

حديث حذيفة (القلوب أربعة)

حديث حذيفة (القلوب أربعة) قال: [وعن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلق]. أي: عليه غشاوة لا يقبل ولا يسمع الحق، [فذاك قلب الكافر، وقلب مصفح اجتمع فيه النفاق والإيمان]، ومعنى المصفح الذي له وجهان، يأتي أهل الكفر بوجه الكفر، ويأتي أهل الإيمان بوجه الإيمان. قال: [فذاك قلب المنافق. وقلب فيه إيمان ونفاق؛ فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل المنافق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيها غلب عليه غلب]. يعني: إذا مده الماء الطيب غلب إيمانه على نفاقه، وإذا كان المدد قيحاً وصديداً غلب عليه نفاقه. وفي رواية عند ابن أبي شيبة في جزء الإيمان قال: وقلب فيه سراج يزهر فذاك قلب المؤمن. وهذا السراج إنما هو سراج الإيمان والتوحيد.

حديث ابن عمر (مثل المنافق في أمتي مثل الشاة العائرة بين الغنمين)

حديث ابن عمر (مثل المنافق في أمتي مثل الشاة العائرة بين الغنمين) قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المنافق في أمتي مثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيتها تتبع)]، الشاة العائرة هي المتحيرة التي لا تميل إلى هذه الشياه ولا إلى تلك الشياه، ليست تابعة لهذه الغنم ولا لتلك، إنما تذهب إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة، فهي مذبذبة لا تستقر هنا ولا تستقر هناك، وكذلك المنافق يدور أمره بين إظهار وجه الكفر للكفار، وإظهار وجه الإيمان لأهل الإيمان، فلا هو يستقر مع الكفار ويكون صريحاً واضحاً، ولا هو يستقر مع أهل الإيمان فيكون صريحاً واضحاً. والحديث أخرجه مسلم.

حديث أبي هريرة (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى)

حديث أبي هريرة (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)].

حديث ابن المسيب (كيف سمعت رسول الله يقول في المنافق)

حديث ابن المسيب (كيف سمعت رسول الله يقول في المنافق) قال: [وعن أبي طوالة قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيب بالسوق، فمر به رجل فدعاه فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المنافق]، سعيد بن المسيب يسأل هذا الرجل وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. [قال: سمعته يقول: (إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف. فمر به آخر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فدعاه سعيد فقال مثل ذلك، ثم مر به آخر فسأله فقال مثل ذلك)].

آثار السلف في كثرة النفاق العملي وانتشاره

آثار السلف في كثرة النفاق العملي وانتشاره قال: [وعن أبي البختري قال: قال رجل: اللهم أهلك المنافقين. قال حذيفة: لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم]. يعني: أن نفاق العمل الذي لا يخرج به المرء من الإسلام قد كثر جداً، ولو أن هؤلاء المنافقين هلكوا -لأن الدعوة عامة، حيث قال: اللهم أهلك المنافقين- لبقي قلة قليلة جداً من أهل الإيمان الذين لم يتخلقوا بأخلاق المنافقين ولم يقعوا في خصال النفاق، وحينئذ يستوحشون جداً؛ لأنهم قلة. وأنا متصور لو أن الله تعالى يستجيب دعوة الإمام مثلاً وهو في المنبر عند أن يقول: اللهم أهلك المنافقين، وهو يشمل منافق العمل وغيره؛ فإن أول من يهلك هو الإمام ومن وراءه، ولن يبقى في المسجد أحد. ومع وجود هذا النفاق العملي لو قلنا: حي على الجهاد، كل هؤلاء الناس سيجاهدون، ففي هذه الحالة نكون انتصفنا من العدو وإن كان فينا من لا يستحق النصر، لكنها شعب وأخلاق، فهو هنا يتكلم عن النفاق العملي. ومرة من المرات قال لي شخص: أنا أتمنى أن يرسل الله عز وجل لي علامة إذا وقعت في معصية أن يحرق ثوبي على بدني. قلت له: إذاً ستمشي عرياناً دائماً؛ لأن المرء لا يخلو من معصية، إما باطنة وإما ظاهرة، فقلت له: هذا ستر الله عز وجل عليك. فقال: لو أن المنافقين هلكوا لما انتصرتم في القتال. أي: فلن تجدوا أحداً يجاهد معكم، فاجعلوا الأمر مستوراً. قال: [وقال الحسن: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرق]. يعني: سيكون أهل الإيمان ثلة قليلة جداً فقلَّ أن تجد من كل حارة أو شارع أو حي مؤمناً. وحديث حذيفة بن اليمان لما تكلم عن الأمانة -والحديث طويل- وفي نهايته قال: وأما اليوم فلا أتعامل إلا مع فلان وفلان. يريد أن يقول: إن الأمانة خرجت من قلوب الرجال، حتى لم تبق أمانة بالمرة، ولو أني أردت أن أتعامل مع أحد لتعاملت مع فلان وفلان من بني فلان وبني فلان. وهذا أمر عظيم وشديد على النفس أن حذيفة لا يختار لدنياه ولدينه من أمة بأسرها إلا شخصين اثنين أو ثلاثة يعاملهم ويتعامل معهم، أما الباقون فقد ضاعت منهم الأمانة، ومعلوم أن ضياع الأمانة خصلة من خصال النفاق، فحينئذ بقاء الأمر على ما هو عليه -ما دام أن الأمر لا يخرج به صاحبه من دائرة الإسلام- فيه مصلحة المجموعة الإسلامية أو الإيمانية. قال: [وعن الشعبي قال: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات]. قال: [وعن مالك بن دينار قال: أقسم لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضاً يمشون عليها]. يعني: لو أن الله عز وجل جعل علامة للمنافق، أو عاقب كل من كانت فيه خصلة من خصال النفاق العملي الذي لا يخرج به المرء من الملة، بأن جعل له ذيلاً وذنباً يظهر في بدنه؛ لاطلع كل منا على ذنب صاحبه، فإنه كلما ينظر في وجه صاحبه وأنه كان يظنه من الطيبين أو من الصالحين ويجد له ذنباً؛ يصب بإحباط ويستوحش، فيقول: ما الذي حدث، لم يبق في الناس خير؟ وعندما ينظر يجد نفسه في وسط أمة هو الوحيد الذي ليس له ذنب، فهذا مع من سيجلس؟ ويتكلم مع من؟ ويجاهد مع من؟ ويؤدي فروض العين مع من؟ وفروض الكفاية مع من؟ وهذا أمر عجيب جداً، وفيه وحشة شديدة جداً. فالمراد من هذه النصوص أن النفاق كثر في الأمة، وأن صاحبه لا يخرج به من الملة، إنما يخرج صاحب النفاق الأكبر -أي: نفاق الاعتقاد والجحود والعناد وغير ذلك- من ملة الإسلام، ويدخل في حظيرة الكفر. قال: [وعن الشعبي: ما أدري ما تقولون! من كان كذاباً فهو منافق]. الشعبي يوبخ قومه فيقول: الكذاب منافق، أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علامة المنافق: إذا حدث كذب)، فها هو النص يثبت النفاق للكذاب، لكن الشعبي يُبَكِّتُ من ظن أن هذا النفاق نفاق أكبر، وقال: أتظنون أن الكاذب منافق؟ يعني: هل يخرج بهذا الكذب عن دائرة الإسلام؟ A لا.

أقسام النفاق

أقسام النفاق قال: [وعن الحسن قال: النفاق نفاقان]. يعني: أكبر وأصغر. قال: [نفاق بالتكذيب ونفاق بالعمل]، فمن نافق بتكذيب الله ورسوله وتكذيب الشرع، فلا شك أنه خارج عن ملة الإسلام، ونفاق العمل كأن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخاصم إذا فجر، فكل هذا بلا شك لا يخرج به صاحبه من الملة. والفجور في الخصومة مثل أن نفترض أننا نقع في بعض ونختلف مع بعض، والذي سيحصل أنني أتكلم بكل المخازي التي عندك وأنت تقول كل المخازي التي عندي، وهذا نسميه فجوراً في الخصومة. أما أهل الإيمان فهم الذين يسترون على بعضهم البعض حتى إذا وقعت بينهم الخصومة، أما المنافقون فإن كل واحد منهم يتغاضى عن كل الأخطاء، حتى إذا وقعت بينك وبينه خصومة فإنه يخرج عيوبك كلها والفضائح، وهذا بلا شك خصلة من خصال المنافقين، لا أقول: إن من فعل ذلك يكفر، وإنما أقول: هذا خلق من أخلاق المنافقين ينبغي أن يتنزه عنه أهل الإيمان. قسم علماء السلف النفاق إلى قسمين: نفاق قلب، ونفاق عمل. فنفاق القلب هو نفاق التكذيب الذي يتصل بالمعتقد، أما نفاق العمل فهو معصية كسائر المعاصي، وخلق مشين يتصف به المنافقون، ولا يلزم من ذلك إخراجه من الملة. قال الحافظ ابن حجر معلقاً على ترجمة الإمام البخاري لهذا الحديث: (باب علامة المنافق)، قال: لما تقدم من إثبات أن مراتب الكفر متفاوتة. فهناك للكفر مراتب ودرجات، وكذلك الظلم. فالكفر كفران، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فالذي يحلف بغير الله عز وجل وأسمائه وصفاته لا يخرج من الملة، وهذا كفر العمل، فكما أن الكفر كفران، فكذلك الفسق فسقان، وكذلك النفاق نفاقان. قال: وكذلك الظلم. فقد تكلم الإمام البخاري عن أقسام الظلم ثم تكلم عن أقسام النفاق، قال: والنفاق نفاقان. قال الكرماني: مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان، أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون كفر، وبعض النفاق يخرج صاحبه من الملة. والنفاق لغة هو: مخالفة الظاهر للباطن، يعني: يتكلم المرء بكلام ويبطن خلافه. فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإذا كان متعلقاً بالعمل، فهو نفاق العمل الذي لا يخرج به صاحبه من الملة، وهذا هو الضابط. قال: ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه. قال الإمام البغوي: والنفاق ضربان، يعني: أنه قسمان ونوعان. أحدهما: أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين الذين كانوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام. والثاني: ترك المحافظة على حدود وأمور الدين سراً ومراعاتها علناً، فهذا يسمى منافقاً، ولكنه نفاق دون نفاق، لا يكفر به صاحبه ويخرج من الملة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان. والإسلام يشمل من نطق به وإن لم يكن في قلبه ذرة من إيمان، وهذا إسلام المنافقين، فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لكنهم عند الله كفاراً وعند الخلق مسلمين. قال: وهو النفاق المحض، كما أن الإسلام يتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكن لم يفعل الواجب كله، لا من هذا ولا في هذا، وهم الفساق، يعني: هو فعلاً محب لله ورسوله، بخلاف المنافق فإنه مبغض لله ورسوله، فهذا كالمنافق تماماً بتمام في إعلان كل واحد منهما للإسلام والنطق بالشهادتين، أما المنافق فقد أبطن خلاف ما أظهر، وأما هذا فإن باطنه كظاهره يحب الله تعالى ورسوله ولا يرضى بالإسلام بديلاً، لكنه فرط في الواجبات فارتكب المحرمات وترك المأمورات، فهذا فاسق. ويكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقاً تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرماً ظاهراً، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علماً وعملاً ما كانوا به مذمومين. وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف رضي الله عنهم على أنفسهم، وهو نفاق العمل، فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق. ويتعرض ابن القيم لهذا الموضوع قائلاً: وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، فأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق العمل كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أربع من كن فيه كان منافقاً) وذكر الأدلة التي بين أيدينا. قال: فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، وعلاماته: إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وهذه العلامات المذكورة لا تجتمع على جوارح العبد الذي قد اطمأن قلبه بالإيمان، فهو قد يأتي بجوارحه أفعالاً تخالف مكنون قلبه المطمئن بالإيمان، وهي خصال وأفعال المنافقين. فيقول: أصل الإيمان في قلبه وإن خالفت أفعاله ما كان في قلبه، لكن هذه الأفعال لا تبلغ به درجة الكفر، وهذا نفي للكمال الواجب. قال: لكن إذا استحكم وكمل فقد ينسل

الأحاديث الواردة في نفاق الرياء والمنافقين من القراء

الأحاديث الواردة في نفاق الرياء والمنافقين من القراء قال: [قال عمر: (عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أخوف ما أخاف عليكم منافق عالم اللسان، وفي رواية: (منافق عليم اللسان)] يعني: أنه فصيح وبليغ، يتكلم بكلام أحلى من العسل حتى يأخذ تلابيب القلوب. قال: (يجاء بالرجل يوم القيامة يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه) أي: تنزل أمعاؤه في النار أمامه. (فيدور به كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه الناس فيقولون: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فهذا جزاؤه يوم القيامة. فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان) يعني: إنساناً فصيحاً وبليغاً. [وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر منافقي أمتي قراؤها)]، يقصد بالنفاق هنا شعبة الرياء؛ لأن الرياء شرك أصغر، وهو باب من أبواب النفاق العملي. فقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثر منافقي أمتي قراؤها)؛ لأن القراء هم أصحاب الفضل، وإنما يزينون بعلمهم وقراءتهم ما عندهم من علم يستعطفون بذلك الناس ويستدرون مدحهم وأموالهم، لكنهم في حقيقة الأمر لا يبتغون بهذه القراءة ولا بهذا العلم وجه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: مجاهد، وعالم، وجواد)، وقد ذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم أصحاب الفضل، والناس يتطلعون إليهم، بل هم الذين يحرصون على حسن الثناء والذكر الجميل بين الناس، بخلاف غيرهم فإنهم لا يحرصون على ذلك أصلاً. فعامة الناس لا يحرصون على الثناء، وإنما الذي يحرص على الثناء رياءً وسمعة هو صاحب الفضل، ولذلك يجاء بهم يوم القيامة فيكونون أول الداخلين في النار حتى تسعر بهم، ويكونون هم وقود النار. فيجاء بهم يوم القيامة، حتى يقف هذا المجاهد بين يدي الله عز وجل وبعد أن يعرفه الله تعالى نعمته عليه يقول: ماذا فعلت فيها؟ يقول: يا رب! جاهدت فيك. فيقول: كذبت، بل جاهدت ليقال مجاهد، بل أنفقت ليقال جواد، بل تعلمت العلم ليقال عالم، فيؤمر بهم فيسحبون على وجوههم، حتى يلقوا في النار ولا كرامة، نسأل الله السلامة. قال الشيخ عبيد الله بن محمد وهو المعروف بـ ابن بطة: [فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) وقال: لم خص القراء بالنفاق دون غيرهم؟ فالجواب عن ذلك: إن الرياء لا يكاد يوجد إلا فيمن نسب إلى التقوى]، يعني: الرياء دائماً ينسب لأهل التقوى؛ لأنهم في حاجة إليه. قال: [ولأن العامة والسوقة قد جهلوه]، أي: لا يعرفون التقوى. [والمتحلين بحلية القراء قد حذقوه]، أي: صاروا فيه مهرة. [والرياء هو النفاق، لأن المنافق هو الذي يسر خلاف ما يظهر، ويسر ضد ما يبطن، ويصف المحاسن بلسانه ويخالفها بفعله، ويقول ما يعرف، ويأتي ما ينكر، ويترصد الغفلات لانتهاز الهفوات. وقال ابن المبارك رحمه الله: هم الزنادقة؛ لأن النفاق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام هي الزندقة فيمن كان بعده].

الأحاديث الواردة في أن الغناء والفواحش تنبت النفاق في القلب

الأحاديث الواردة في أن الغناء والفواحش تنبت النفاق في القلب قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب]. [وعن أبي وائل: أنه دعي إلى وليمة فرأى لعابين -أي: لهايين- فخرج وقال: سمعت ابن مسعود يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل]. قال الشيخ ابن بطة: [فهذا عبد الله بن مسعود رحمه الله يعلمك أن استماع الغناء ينبت النفاق في القلب، يعني: مجرد استماع الغناء ينبت النفاق في القلب]؛ لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا. فلو كان قلب المسلم نقياً صافياً، ما شبع من كلام الله عز وجل. قال: [فما ظنك بارتكاب الفواحش، والإصرار على الكبائر، والاستهانة بالموبقات التي تسخط الرب تعالى، فكم بقاء الإيمان المنزه معها سوءة لمن زعم أن الإيمان قول لا يضر قائله ترك الفرائض، ولا ينقصه ارتكاب الكبائر]؟ وهذا رد على المرجئة الذين يقولون: المؤمن هو المصدق، فمن صدق بالإيمان استوى إيمانه مع إيمان جبريل وميكائيل. ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا الكلام في غاية السقوط والبطلان. ونفاق العمل لابد وأنه واقع في الأمة، وليس يعني ذلك الإذن للأمة والرخصة بالبقاء على هذه الخصال المذمومة، وإنما هذا تحذير لهذه الأمة أن تتخلق بأخلاق المنافقين أو أن تتصف بصفاتهم.

داء النفاق وصفات المنافقين من كتاب مدارج السالكين

داء النفاق وصفات المنافقين من كتاب مدارج السالكين وفي كتاب تهذيب مدارج السالكين يقول تحت عنوان داء النفاق، في المجلد الأول: وأما النفاق فهو الداء العضال الباطل الذي يكون الرجل ممتلئاً منه وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي على الناس، وكثيراً ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح، وهو في حقيقة الأمر مفسد، وهو نوعان: أكبر وأصغر، فالنفاق الأكبر يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولاً للناس، يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه.

ضرر المنافقين واتصافهم بالفساد والإفساد

ضرر المنافقين واتصافهم بالفساد والإفساد وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائف العالم الثلاث في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية في أول ربع من سورة البقرة، وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد. والمنافق في هذه الأيام يتكلم من باب الدفاع عن الإسلام في كتاب الله، وفي أحاديث اتفقت كلمة الأمة على صحتها وقبولها بالتواتر، ومع هذا فإنه يقول: هذا كلام لا يتناسب مع العقل والتكنولوجيا والتمدن وغير ذلك، ومعظم ما تتناقله كتب السنة لا يتناسب مع روح العقل، ويجملون وجوههم القبيحة بأنهم يدافعون عن الإسلام لا يدفعون الإسلام، هكذا يقولون! فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوه، وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإٍسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، اتفقوا على مفارقة الوحي. أي: كلمة المنافقين وعلامتهم أنهم اتفقوا فيما بينهم على مفارقة الوحي. فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، كما قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]. وقال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولأجل ذلك: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها -يعني: ليسوا يعرفون علامات الإيمان- ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلتت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، ولم يرفعوا به رأساً، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأساً، خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فقالوا: ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئاً من اليقين، حسبنا ما وجد عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وأقوم بطرائق الحجج والبراهين، وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور، ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر، ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحذور، فطريقة المتأخرين أعلم وأحكم، وطريقة السلف الماضين أجهل لكنها أسلم هكذا يقولون. والأشاعرة إذا تكلموا في الصفات يقولون: طريقة السلف أحسن وأسلم، وطريقة الخلف أعلم؛ يعنون: طريقة الخلف الذين يؤولون ويفوضون العلم والمعنى، أما طريقة السلف فهي أسلم وأحكم. وهذا كلام في غاية السقوط والبطلان، لا يمكن أن يكون هذا أبداً، فطريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، أما طريقة الخلف فهي طريقة مردودة باطلة لا حاجة لنا بها. قال: قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون، كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].

صفات المنافقين عند سماع القرآن وحضور العبادات البدنية والتربص بالمؤمنين

صفات المنافقين عند سماع القرآن وحضور العبادات البدنية والتربص بالمؤمنين قال: أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن، وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]. لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلاً -يعني: من علامات المنافقين أنهم ليسوا مخلصين- كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، فهذه ثلاث علامات: إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراءون بهذه العبادة الناس، كما أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً. أحدهم -أي: هؤلاء المنافقين- كالشاة العائرة بين الغنمين، أي: المتحيرة بين مجموعتين من الغنم. تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، ولا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلاً، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143]. كما أن من علاماتهم: أنهم يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، يعني: يتربصون الدوائر وينتظرون السقطات والهفوات لأهل السنة والقرآن. فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كانت الدائرة لأعداء الكتاب والسنة ولهم نصرة ونصيب قال المنافقون: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم -يعني: يميلون إلى الكفار إذا كانت الدائرة لهم- وأن النسب بيننا قريب، فيا من يريد معرفتهم! خذ صفاتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلاً، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه. وهذه أيضاً من علامات المنافقين، وهي أنهم يتكلمون بكلام جميل جداً جداً، ولكن هذا على الجاهل، أما العالم فلا. قال: وكذلك يشهد الله على ما في قلبه من كذبه وتمويهه، فتراه عند الحق نائماً وفي الباطل على الأقدام واقفاً، فخذ وصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]. أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد. يعني: لا يأمرون بالمعروف، إنما يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. يقول: وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد. يعني: هم كذلك يصلون ويصومون ويحجون، بل ويجاهدون في صفوف الموحدين، ومع هذا قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، أي: كلما تقول لهم: ألسنا مأمورين عند الخلاف والنزاع أن نحكم الكتاب والسنة؟ فيقولون: معذرة، اترك هذا الكتاب على جنب، واترك السنة على جنب، واترك ربنا على جنب والرسول على جنب ولنحتكم إلى العقل! فحقيقة أن هذه النصوص كانت في الزمن الماضي، نزلت في مشركي مكة أو في يهود المدينة أو في نصارى الشام فهذا كفر يا إخوان وردة صريحة جداً لا تحتاج إلى اجتهاد، لو أتى جاهل وقال: هذا ردة والقائل بها مرتد لا نطالبه قط بثبوت الاجتهاد لديه أو العلم؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة. قال: إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمداً بعيداً، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضاً شديداً، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]، فيقول القائل منهم: لا أريد ديناً، ليس كلما أكلمك تقول: إن ربنا قال والرسول قال! وهذه علامة المنافق، نحن كلنا نقول ذلك، وآباؤنا وأمهاتنا وبلادنا وأمتنا كلها تقول هذا الكلام، إذاً: فعلاً لو خرج للمنافق ذنب سيستوحش المؤمن، بل إنه لن يجد أحداً، كلما تقع عينه على شخص يجد له ذنباً، وسيموت كمداً، والله عز وجل ساتر لنا.

صفات المنافقين في أجسامهم وكلامهم

صفات المنافقين في أجسامهم وكلامهم قال: تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه. يعني: يحلف لك أيماناً مغلظة على صحة قوله من غير أن تطالبه باليمين، بل هو يتبرع به ابتداء. لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2]، يعني: وقاية وستراً. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2] يعني: تباً لهم، برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا، وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم، فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا، فكيف حالهم عند اللقاء -أي: لقاء الله عز وجل- وقد عرفوا ثم أنكروا، وعموا بعدما عاينوا، وأبصروا الحق وأنكروه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]. وهم كذلك أحسن الناس أجساماً، وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخبثهم قلوباً، وأضعفهم جناناً، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]. ومن علاماتهم: أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب، إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، ولا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان. إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، لا يفرحون بذلك. وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، كما قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120] كره الله طاعتهم، يعني: الله تعالى لا يحب منهم الطاعة؛ بل يكرهها لخبث قلوبهم وفساد نياتهم، فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجواره؛ لميلهم إلى أعدائه، فطردهم عنه وأبعدهم، وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم، وأشقاهم وما أسعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم، فقال وهو أحكم الحاكمين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها، وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها، ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم، وضرب لعباده أمثالهم، واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، يعني: أن المنافقين باقون إلى قيام الساعة.

بيان الله لصفات المنافقين وأن المؤمنين يعرفونهم من فلتات ألسنتهم وتقاسيم وجوههم

بيان الله لصفات المنافقين وأن المؤمنين يعرفونهم من فلتات ألسنتهم وتقاسيم وجوههم قال: فذكر الله تعالى لذلك أوصافهم لأوليائه ليكونوا منهم على حذر، وبينها لهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان. أيها الإخوة! إن الشخص مهما كتم شيئاً لابد أن يظهر إما على وجهه أو لسانه، ولابد أن يفضح؛ لأن هذا حكم الله تعالى فيه. قال: ووسمهم لأجلها بسيم لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد. الصيارف والنقاد يعرفون العملات المزيفة من الصحيحة، لأنهم متخصصون، فهم يفهمونها مباشرة، كذلك أهل العلم والبصيرة والإيمان يجلسون مع المنافق جلسة واحدة فيقولون: هذا منافق، فهم مثل الصيارفة بالضبط، ولذلك قال بعض الطلاب لرجل من المحدثين: كيف تعرف أن الحديث معلول؟ قال: أن تأتيني به فأقول لك إنه معلول، فتذهب به إلى محمد بن وارة فيقول لك: معلول، فتذهب به إلى فلان فيقول لك: معلول، فإذا اجتمعت كلمتنا فاعلم أن الحديث معلول. وهذا لكثرة عناية أهل العلم بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فشخص مثل الدارقطني مجرد أن ينظر في الحديث يقول: هذا ثابت أو ليس بثابت، فإن الدارقطني إمام الدنيا في زمانه، ليله ونهاره مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى صارت عنده ملكة، كمثل من يجد نصرانياً في الشارع، فالذي عنده بصيرة يعرفه من مظهره أنه نصراني. فالله سبحانه وتعالى وضع في قلبك نوراً اسمه نور الإيمان والبصيرة، تعرف به أعداء الله عز وجل من المنافقين والكذابين والدجالين والنصارى واليهود. قال: كيف ذلك والناقد البصير قد كشفها لكم، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:29 - 30]، أي: مجرد ما تنظر في وجه الواحد منهم تعرف أنه منافق من غير أن يقول الله عز وجل لك: يا محمد! هذا منافق، فبمجرد العلامات والأمارات وتقسيمات الوجه تعرف أنه منافق، قال تعالى: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] فسماه لحناً، وطراوة وجمالاً في العبارة واللفظ، ودقة وأداء وحسن تعبير، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان)، يعني: كما يقال: معلم كبير جداً، يتكلم بكلام يأخذ قلبك ويسحبه معه، تقول: سبحان الله! ما هذا الجمال، أيعقل أن في هذا الزمن شخصاً يتكلم بالبلاغة والفصاحة هذه؟ وتجده عند الله لا يساوي تعريفة، لأنه منافق أو مراءٍ.

صفات المنافقين وجزاؤهم يوم القيامة

صفات المنافقين وجزاؤهم يوم القيامة قال: فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق -أي: يوم لقاء الله عز وجل- وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق، أي: ساق المولى عز وجل. ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون، قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]. أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام، وهو دحض مزلة مظلم، لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام، فقسمت بين الناس الأنوار، وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب، وأعطوا نوراً ظاهراً مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام، فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق. يعني: سيأتي المنافقون ومعهم بعض النور؛ لأنهم كانوا يصلون، ويصومون، ويزكون، ويحجون، ويجاهدون مع المؤمنين، فهم كذلك نورهم يسعى بين أيدهم مثل المؤمنين، لكن المؤمن يجوز الصراط كله بإيمان مستقر في قلبه، أما هؤلاء فإنهم يرزقون نوراً وإن كان ضعيفاً، لكن هذا النور لا يخدمهم إذا توسطوا الصراط، فتأتي عاصفة تذهب بنورهم، هذه العاصفة هي عاصفة النفاق، فسقطوا جميعاً في نار جهنم، والعياذ بالله. قال: فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح، فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب، ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح، باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة، ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]. يعني: أهل النفاق عندما تنطفئ عاصفة الإيمان أو عاصفة النور ينادون أهل الإيمان من بعيد: ((انْظُرُونَا)) أي: انتظروا، ((نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) فينادي عليهم أهل الإيمان أو ينادي عليهم الملائكة: ((ارْجِعُوا)) أي: انظروا وراءكم، ((فَالْتَمِسُوا نُورًا)) وهذا على سبيل التقريع. قال: لنتمكن في هذا المضيق من العبور، فقد أطفئت أنوارنا، ولا جواز اليوم إلا بمصابيح من النور: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]. فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل! قبل أن تنزل بك القاضية؛ إذا عاهدوا لم يفوا، وإن وعدوا أخلفوا، وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أعراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا. فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران، فلا تثق بعهودهم، ولا تطمئن إلى وعودهم؛ فإنهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه الإيمان

شرح كتاب الإبانة - ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه الإيمان وردت كثير من الآيات والأحاديث متوعدة بالعذاب على بعض المعاصي، وقد استدل أهل البدع بهذه الآيات والأحاديث على كفر مرتكب هذه الذنوب، أما أهل السنة والجماعة فقد أولوا هذه النصوص ولم يحملوها على ظاهرها، ليجمعوا بينها وبين بقية النصوص.

باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه

باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه] أي: رجع إليه الإيمان. هذا الباب متعلق بذكر الذنوب التي إذا وقع فيها المرء ذهب عنه الإيمان، فإذا تاب إلى الله عز وجل رجع إليه الإيمان مرة أخرى.

روايات حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

روايات حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، أي: في الوقت الذي يزني فيه لا يكون مؤمناً، أو ينزع عنه الإيمان، كما لو كان لابساً ثوباً فنزعه، ثم لبسه مرة أخرى، فهو حين ارتكابه لهذا الذنب ينزع عنه الإيمان كما يخلع ثوبه، فإذا تاب إلى المولى عز وجل عاد إليه الإيمان كما لو عاد هو للبس ثوبه. [(ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ولا ينتهب نهبة يرفع الناس أبصارهم إليه فيها وهو مؤمن حين ينتهبها]. وقد صحت هذه اللفظة مرفوعة من قوله عليه الصلاة والسلام. والنهبة هي أخذ الأموال غلولاً أو أخذ الأموال ظلماً أو غير ذلك، فيقال للشيء اليسير: نهبة إذا انتهبها، ويقال كذلك للشيء العظيم: نهبة إذا انتهبها، ولكن لما كان الشيء اليسير حقيراً لدى أهله ومجتمعه لم يكن داخلاً في هذا الوعيد. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا قطع في أقل من ربع دينار). فمن سرق أقل من ربع دينار فما دون ذلك لم يقطع، وإنما القطع في ربع دينار فما فوقه، وإن كان الكل يطلق عليه سرقة، ولكن ليس من سرق جنيهاً كمن سرق ألفاً، ولا من سرق ألفاً كمن سرق ملايين، وإن كانت كلها يطلق عليها سرقة، ولكن لا يقام على السارق الحد إلا إذا توفرت فيه شروط السرقة، ومنها: أن يبلغ المسروق بلغ ربع دينار فصاعداً، والدينار تقريباً حوالي مائة وثلاثين جنيهاً؛ لأن الدينار هو الدينار الذهبي، وأن يكون المسروق من حرز، يعني: في مكان محفوظ ومغلق عليه، وأتى هذا السارق وقطع هذا الحرز وأخذ منه ما بداخله. وأما لو وجده ملقى في الشارع فالتقطه فلا يقال لمثله: سارق، وإنما يقال له: ملتقط؛ لأنه التقط شيئاً من الأرض وهذا يدخل في حكم اللقطة. قوله: (ولا يشرب الخمر حين يشربها)، أي: حين يشربها عامداً عالماً بأنها خمر. (ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم)، أي: يقولون: إن فلاناً ينهب مال فلان، أو يأخذ مال فلان، وهذا شيء عظيم، بدليل أن الناس فزعوا لما وقع منه هذا، وجلسوا ينظرون إليه ويتطلعون إلى فعله. فهذا لا يكون مؤمناً في وقت فعله لهذا. ومن نفس طريق [أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن)]. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الحدود يعني الخمر)، أي: لا يشرب ما يستوجب الحد. [(حين يشربها وهو مؤمن، والذي نفس محمد بيده لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم). والغلول مهما قل فهو غلول، وهو يختلف عن النهبة وعن السرقة، وإن كان الكل أخذاً لمال الغير، فالنهبة أخذ مال الغير، والسرقة أخذ مال الغير، والغلول أخذ مال الغير، ولكن كل واحد منها له مصطلح يخصه، وأحكام تحدد معالمه. فالغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام مولى مجاهد، فلما قتل في المعركة قال الصحابة: (هنيئاً له؛ إنه مولى رسول الله، وإنه شهيد، وإنه في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده إني لأراه الآن في نار جهنم، قيل: ولم يا رسول الله ألم يمت شهيداً؟! قال: إنما حجزه بردة غلها)، أي: كساء أو ثوب أو عباءة غلها وأخذها من الغنيمة، قال: (وإني لأراها الآن عليه تشتعل ناراً). مع أن ثمنها قليل جداً، فالمرء يعذب بكل شيء مهما دق، حتى وإن كان عوداً من أراك، أي: ليس عوداً كاملاً من أراك، وإنما العود الصغير يعذب به المرء؛ لأنه نهبة أو سرقة أو غلول، قال: (فإياكم وإياكم)، يعني: احذورا هذه المعاصي. وفي رواية قال: (والتوبة معروضة بعد)، يعني: من وقع منه ذنب من هذه الذنوب أو من غيرها، فإن باب التوبة مفتوح أمامه، إما باب التوبة العامة أو الخاصة، فباب التوبة العامة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها على غير عادتها، وهذا من أواخر علامات الساعة الكبرى. وأما باب التوبة الخاصة فهو مالم تبلغ الروح الحلقوم وما لم يغرغر المرء، و (إن الله يقبل التوبة عن عبده ما لم يغرغر)، أي: فحينئذ لا تقبل توبته.

كلام السلف في معنى حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

كلام السلف في معنى حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن طاوس في هذا الحديث عن أبيه: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان]، يعني: قال طاوس اليماني: إذا وقع في هذه الذنوب زال عنه الإيمان، [وقال: الإيمان كالظل]، يعني: يذهب شيئاً فشيئاً، ولا يذهب دفعة واحدة، وإنما يذهب شيئاً فشيئاً، وهكذا الإيمان، فإذا أذنب العبد ذنباً ذهب عنه نور الإيمان شيئاً فشيئاً. [وعن الأوزاعي قال: قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، قلت له: إنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمناً فما هو؟ أي: إن المعتزلة والخوارج يقولون: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، فإذا نفى عنه النبي الإيمان لم يبق له إلا الكفر، فهنا الأوزاعي ينقل إلى الزهري قول الخوارج الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، والخوارج يقولون: هذا حكمه في الدنيا والآخرة، وهو من المخلدين في النار، والمعتزلة يقولون: هو في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، فلا يثبتون له الإيمان ولا الكفر، وأما في الآخرة فإنهم يقولون بتخليده في نار جهنم. وهذا يناقض ما عليه أهل السنة والجماعة، لأن المرء لا يمكن أن يحكم عليه بهذا، بل لابد أن يكون مؤمناً أو كافراً، يعني: إما أن يكون مؤمناً بإيمانه، أو فاسقاً بذنوبه التي أهلته لدرجة الفسق. ولذلك فأهل السنة والجماعة يقولون: إن المرء قد يجمع لنفسه إيماناً وفسقاً، فالطاعات مصدرها الإيمان، والذنوب تؤدي إلى الفسوق، والمؤمن يفعل الطاعة وقد يفعل المعصية، فيكون مؤمناً بطاعته فاسقاً بكبيرته، ولا يكفر. فلما [قال الأوزاعي للزهري: فإن لم يكن مؤمناً فما هو؟ أنكر ذلك وكره مسألته]. والإمام الأوزاعي من عظماء أئمة السنة، وهو بيروتي لبناني، وكان دائماً متصدياً للملاحدة والمنحرفين في تلك البقعة الطيبة من الأرض، ولم يكن في زمن الأوزاعي من يدانيه، فضلاً عن أن يساويه في العلم والعمل والورع، فلما سمع بـ الزهري وهو أكبر منه، قال: إنهم يقولون إذا لم يكن مؤمناً في حال وقوعه في الذنب، فماذا يكون؟ وكأنه يعرض بكلام الخوارج، كما قالوا لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا كنت رفضت أن تكون أمير المؤمنين فلا بد أن تكون أمير الكافرين. وجعلوا الكلام في مسائل الإيمان والكفر كالكلام في الرياضيات والحسابات، مثل 1+1=2، ولا يمكن إثبات أنهما أكثر من اثنين أو أقل من اثنين أحياناً، فالمسائل الإيمانية والفطرية لا تقاس بالطريقة الحسابية. وقوله: (حين ينتهبها) ظرف زمان، فيقولون: إن الإيمان يزول عنه في وقت ارتكابه لهذه الذنوب، فإذا خرج من ذنبه عاد إليه الإيمان وراجعه. [وعن الحسن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه الإيمان)] أي: يزول عنه الإيمان ما دام على الذنب. وإذا قال الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو مرسل، ومراسيل الحسن البصري من أضعف المراسيل. عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: ينزع منه الإيمان فإن تاب أعيد إليه الإيمان. [وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قال عبد الله بن الزبير: (بينما أنا عندها إذ مر برجل قد ضرب في الخمر على بابها)]، يعني: ضرب الحد في شرب الخمر. [(فسمعت حس الناس، فقالت: أي شيء هذا؟)]، أي: علام هذا الصياح؟ [(قلت: رجل أخذ سكراب من خمر فضرب، فقالت: سبحان الله! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن -تعني: الخمر- ولا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب منتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها رءوسهم وهو مؤمن، فإياكم وإياكم)]. [وعن ابن عباس موقوفاً عليه قال: (لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن)].

دائرة الإيمان ودائرة الإسلام

دائرة الإيمان ودائرة الإسلام [وعن محمد بن علي -وهو المعروف بـ ابن الحنفية - قال في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يزني ولا يسرق ولا يشرب قال: إذا أتى شيئاً من ذلك]، يعني: إذا قارف المؤمن ذنباً من هذه الذنوب، [نزع منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه]. فهذه كبيرة من الكبائر، والكبيرة إذا تاب صاحبها تاب الله عز وجل عليه، وإذا لم يتب منها فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن أقيم عليه الحد فالحدود كفارات لأهلها. [قال ابن الحنفية: هذا الإسلام، وأدار إدارة واسعة. وأدار في جوفها إدارة صغيرة وقال: هذا الإيمان]، يعني: في داخل هذه الدائرة الكبيرة التي سماها الإسلام، وقال: هذا الإيمان، فإذا قارف العبد ذنباً خرج من هذا، أي: خرج من هذه الدائرة أو من هذا الإيمان إلى الدائرة الكبيرة وهي الإسلام. وهذا كلام جميل جداً. وكلام محمد بن الحنفية والزهري وغيرهما من أهل العلم هو الذي يحل إشكالية الأحاديث التي ظاهرها الكفر؛ لأنه ليس مؤمناً، وإذا لم يكن مؤمناً لا بد أن يكون كافراً، وهذا فهم الخوارج، وأما فهم أهل السنة ففيه معادلة، فهم يقولون: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً. فهناك إيمان عام وإيمان خاص، فالإيمان العام هو أصل الإيمان الذي لا يدخل المرء الإسلام إلا به. والإيمان درجتان: الأولى: أصل الإيمان. والثانية: كمال الإيمان، ومنه الكمال الواجب والكمال المستحب. فنفي الإيمان المتعلق بالذنوب والمعاصي متعلق بالكمال، إما الكمال الواجب أو الكمال المستحب. وأما نفي الإيمان المتعلق بأصل الإيمان الذي هو الإيمان الضروري الذي لا يثبت إسلام المرء إلا به؛ فلا بد أن يكون كفراً؛ لأنه نزع لأصل الإيمان، وأما هذه الذنوب والمعاصي هنا فإنها متعلقة بكمال الإيمان وتمامه الذي يأثم المرء بتركه. ولما أدار في وسطها أخرى وقال: هذا الإيمان، فالإيمان أخص من الإسلام، قال: فقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا يزني حين يزني وهو مؤمن)، إذا أتى شيئاً من ذلك خرج من الإيمان إلى الإسلام، يعني: أنه يخرج من الإيمان الخاص إلى الإسلام العام، ويبقى معه أصل الإيمان. قال: فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه ورجع إلى الإيمان. والمقصود من قوله: (رجع إلى الإيمان) أي: الإيمان الثاني.

حديث أنس (لا إيمان لمن لا أمانة له)

حديث أنس (لا إيمان لمن لا أمانة له) قال: [وقال أنس: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)]. واللام هنا نافية. وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، يعني: من خان الأمانة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). وهذا عهد، وإذا خنت الأمانة ولم تراعها أو تحافظ عليها فإنك لا تخرج بذلك من الإيمان إلى الكفر، ولكنك تخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يبقى معك من الإسلام إلا الأصل الذي لا يسعك أن تأتي إلى الله عز وجل بدونه.

ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينزع كما ينزع القميص

ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينزع كما ينزع القميص قال: [قال ابن عباس: إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، وقال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه]، يعني: الذي يريد منكم أن يتزوج فسنزوجه، يعني: حتى لا يزني، فهو يضع أمامهم العلاج قبل الوقوع في الذنب، ثم قال: [لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده، وإن شاء أن يمنعه منعه]، أي: فاحذروا. [وقال الحسن: قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام -وهذا تعضده روايات كثيرة ستأتي بعد هذا، وتعضده كذلك روايات سابقة-: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ينزع منه الإيمان كما يخلع أحدكم قميصه، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه)]. [وقال عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: إن الرجل ليتفصل الإيمان كما يتفصل ثوب المرأة]، يعني: أن الإيمان يفصل على المرء كما أن المرأة تفصل ثوبها. [وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما الإيمان بمنزلة القميص يتقمصه مرة وينزعه أخرى)]. [وعن عمر رضي الله عنه: إنما الإيمان بمنزلة القميص، يتقمصه مرة وينزعه أخرى]. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرة ويخلعه أخرى].

حديث أبي هريرة (إن العبد إذا أخطأ خطيئة)

حديث أبي هريرة (إن العبد إذا أخطأ خطيئة) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة)]، يعني: إذا وقع في ذنب كبير، والخطيئة لا تقال لصغار الذنوب وإنما تقال للكبار، [(نكت في قلبه نكتة سوداء)]. والنكتة السوداء لا يمكن أن تجتمع مع الإيمان؛ لأن الإيمان نور في القلب يبصر به العبد طريقه، فإذا خالف هذا الطريق وخالف الطاعة وارتكب الذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، ولا بد أن هذه النكتة السوداء ينزع من مكانها نور الإيمان الذي كان آنفاً. قال: [(فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت)]، يعني: أن هذه الذنوب وهذه النقطة السوداء تمحى. [(وإن عاد زيد فيها)]، يعني: بعد أن كانت نكتة صغيرة تصبح نكتة كبيرة. [(وإن عاد زيد فيها، وإن عاد زيد فيها، حتى يعلو قلبه الران الذي ذكر الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14])]، أي: بسبب ما كانوا يكسبون من ذنوب ومعاص اسودت قلوبهم ونزع منهم الإيمان.

خوف أبي الدرداء على إيمانه أن ينزع منه

خوف أبي الدرداء على إيمانه أن ينزع منه قال: [عن معاوية بن قرة: أن أبا الدرداء كان يقول: نسأل الله إيماناً دائماً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، فقال معاوية بن قرة: كأن من الإيمان ليس بدائم]، أي: كان الإيمان يذهب ويجيء، ولذلك كان من دعائه: اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً، أي: مستقراً أكيداً لا يتزعزع ولا يزول، فكأن من الإيمان ما يزول ولا يزول إلا بالمعاصي. قال: [وكأن من اليقين ليس بصادق]؛ لأنه قال: ويقيناً صادقاً. قال: [وكأن من العلم علماً ليس بنافع]، يعني: ليس كل علم نافعاً، وإنما بعضه نافع والبعض الآخر غير نافع.

حديث أبي هريرة (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان)

حديث أبي هريرة (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان) [قال أبو هريرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا انقطع -أي: عن ذنبه- رجع إليه الإيمان)]. قال ابن بطة: [فهذه الأخبار وما يضاهيها]، يعني: الأخبار التي في نفس هذه المعاني، [وما قد تركت ذكره]؛ لأن الأخبار طويلة جداً، سواء في كتاب الله أو في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، [مما هو في معانيها؛ لئلا يطول الكتاب بها؛ كلها تدل على نقص الإيمان]، وإذا كان الإيمان يقبل النقصان فلا بد أنه يقبل الزيادة؛ لأن كل شيء يقبل الزيادة يقبل النقصان، والعكس بالعكس، فهذه الأدلة كلها تدل على نقص الإيمان، [وعلى خروج المرء منه عند مواقعة الذنوب والخطايا التي جاءت بذكرها السنة، وكل ذلك مخالف لمذاهب المرجئة التي قالت بعدم زيادة الإيمان، وقالت: إن أعظم الناس جرماً وأكثرهم ظلماً وإثماً إذا قال لا إله إلا الله فهو وجبريل وميكائيل وإسرافيل في الإيمان سواء]؛ لأنهم لا يقولون بأن الأعمال من الإيمان، فالمرجئة يصرحون ويتبجحون بأن الأعمال لا علاقة لها بالإيمان، [تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً]. يقول: وليس معنى مفارقة الإيمان لمرتكب هذه الذنوب هو الانتقال إلى الكفر، فنفي الإيمان عن مرتكب هذه الذنوب لا تعني الانتقال إلى الكفر؛ ولهذا استنكر الزهري سؤال الأوزاعي: إذا لم يكن المذنب مؤمناً فما يكون؟ فكأنه حكم عليه بالكفر، فاستنكر ذلك منه، وهذا أيضاً ما صرح به ابن الحنفية عندما ذهب إلى أن المذنب يخرج حال اقترافه للذنب من دائرة الإيمان الخاص إلى دائرة الإسلام، أي: أنه لا يكون كافراً.

كلام علماء أهل السنة في عدم تكفير مرتكب الكبيرة

كلام علماء أهل السنة في عدم تكفير مرتكب الكبيرة إن التابعين رضي الله عنهم لم يأخذوا لفظ هذه الأحاديث على ظاهرها، ولم يأخذوا الحكم فيها على الإطلاق، فلم يحكموا بالكفر على مرتكب الكبيرة بمقتضى ما ورد في هذه الأحاديث من نزع الإيمان، ولم يفهم أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المتبوعين هذا الذي فهمه الخوارج والمرجئة والمعتزلة، ولم يفهم أحد من علماء الأمة ما فهمه أهل البدعة. وقد توارد علماء السلف على هذا، وقدموا الأدلة على ذلك.

كلام الإمام النووي في عدم كفر مرتكب الكبيرة

كلام الإمام النووي في عدم كفر مرتكب الكبيرة قال النووي عند شرحه لحديث (لا يزني الزاني حين يزني): القول الصحيح الذي قاله المحققون إن المؤمن لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وإنما يفعلها وهو ناقص الإيمان، ويبلغ به النقص إلى أصل الإيمان. قال: وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي شيء ويراد نفي كماله، وهذا معروف في كلام العرب، أي: أن ينفى الشيء ويقصد نفي البعض، وهذا كما لو أكلت عند أحد إخوانك فقال: لم لم تأكل؟ فتقول: قد أكلت الطعام كله، وأنت في حقيقة الأمر لم تأكل الطعام كله، وإنما أكلت بعضه، ولكنك تعبر عن أنك قد أكلت حتى لم يبق في بطنك موضع. قال: وإنما أولناه على هذا -أي: نقص الإيمان- لأنه قد جاء في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق). وهذا قد جاء في حديث أبي ذر في الصحيح، فنفي الإيمان عن الزاني والسارق لا يجتمع مع هذا الحديث الذي يقول: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق)، وإنما المعنى أنه في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه أولاً ثم خرج من النار ودخل الجنة، فمن قال لا إله إلا الله، أي: من كان موحداً لله عز وجل فمآله إلى الجنة إما أولاً مع المؤمنين، وإما بعد أن يدخل النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، فهو لا محالة لا بد أن يدخل الجنة، إما مع الداخلين أولاً بغير عذاب ولا سابقة حساب، وإما أن يدخل النار فيتطهر من ذنوبه ثم يخرج منها ويدخل الجنة. وأما الجنة فمن دخلها فإنه لا يخرج منها. قال: وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، كما قال عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على أن لا نسرق ولا نزني ولا نشرب الخمر). فيدل على أن هذه المعاصي التي بايعوا على عدم اقترافها مؤثرة تأثيراً مباشراً في الإيمان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام مبيناً لهم بعد أن بايعوه على هذه الشروط: (فمن وفى منكم فأجره على الله)، يعني: الذي يفي ببنود هذه البيعة أجره على الله عز وجل، وهو سبحانه يوفيه حقه؛ لأنه قد وفى ببنود البيعة. قال: (ومن فعل شيئاً من ذلك)، أي: ومن قارف سرقة أو زناً أو شرب خمر أو غير ذلك، (فعوقب في الدنيا فهو كفارة له)، يعني: إن أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ولا يؤاخذه الله عز وجل به في الآخرة. (ومن فعل ولم يعاقب)، أي: ومن فعل منكم وتاب إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، فإن تاب وبلغ الأمر السلطان وجب إقامة الحد ولو بعد التوبة؛ لأن الحد إذا بلغ السلطان وجب إقامته، ولا مجال لاختيار السلطان في مثل هذا، فإن لقي العبد ربه مصراً على ذنبه مقراً بحرمته فهو تحت مشيئتة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، يعني: أن الكفر والشرك لا يغفران قط حتى وإن تلبس صاحبهما بالطاعة بالليل والنهار، فلا يقبل منه هذا قط حتى يكون موحداً، وإذا لم يكن موحداً فإن جاء بكل الطاعات التي أمر بها الله عز وجل وأمر بها رسوله، فسيجد هذا العمل كله هباءً منثوراً؛ لأن الله تعالى لا يقبل عملاً صالحاً إلا إذا كان مصدره الإيمان، فإذا كان مشركاً فلا يقبل منه ذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]. والذي دون الشرك هو الذنوب كبيرها وصغيرها، من السرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، ولما سئل ابن عباس: هل الكبائر سبع كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات وعد سبعاً من الذنوب الكبائر؟ فقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، ولكن هذا الحديث عد أعظم الذنوب، وهذا لا ينفي أن تكون هناك ذنوب عظيمة أخرى لم يعدها الحديث. قال: وقد أجمع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير المشرك لا يكفرون بذلك، مستدلين بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]. وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق). مع إجماع أهل العلم أن القاتل والسارق والزاني وغيرهم من أصحاب الكبائر لا يكفرون بهذه الكبائر؛ فهم يستدلون على عدم كفر مرتكب الكبيرة بالكتاب والسنة والإجماع. قال: بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر فهم في المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة.

كلام شيخ الإسلام في عدم كفر مرتكب الكبيرة

كلام شيخ الإسلام في عدم كفر مرتكب الكبيرة واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم كفر مرتكب الكبيرة بدليل عقلي في غاية الروعة والجمال، فقال: الدليل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً أنه لا زال بعد ارتكابه لكبيرته مخاطباً بأصول وفروع الشريعة التي يخاطب بها المؤمنون. قال: والتحقيق -يعني: الكلام الحق في تأويل هذه النصوص- أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. وقوله: (مؤمن بإيمانه) أي: بما عنده من طاعة وإيمان، فاسق بسبب معصيته؛ لأن الذي يرتكب كبائر الذنوب يفسق بذلك حتى وإن كان ذنباً واحداً. وقد قلت سابقاً: إنه يجتمع في العبد إيمان وفسق، أما الإيمان فمصدره الطاعة، وأما الفسق فمصدره المعصية، والعبد المؤمن يكون بين هذا وذاك، والصحابة رضي الله عنهم منهم من زنا، ومنهم من سرق، ومنهم من قتل، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لأحد منهم: أنت مرتد أو كافر، ولو كفر أحدهم بذلك لأقام عليه حد الردة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ماتت الغامدية التي زنت صلى عليها، ولو كانت مرتدة كافرة بهذا الزنا لما صلى عليها؛ لأنه لا تصح الصلاة على الكافر. وماعز الإسلمي لما زنا وأقيم عليه الحد سبه أحد الصحابة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل، فوالله إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة). والكافر لا يسبح في أنهار الجنة، والمسلمون اليوم يكفر بعضهم بعضاً بالمعاصي. قال: والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: فاسق بكبيرته. ولا يعطى اسم الإيمان المطلق، وإنما يعطى اسم مطلق الإيمان. الفرق كبير جداً بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان، وهو اليسير الذي يلزم من ثبوته الإسلام لمدعيه، فإذا قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه يلزم مع هذه الشهادة التي يثبت له بها الإسلام أن يكون معه أصل الإيمان الذي استقر في القلب بصحة هذه الشهادة التي شهد بها، وأن يعتقد حقيقة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. وأما كمال الإيمان فلا يكون إلا بالصلاة والصوم والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الطاعات. والإنسان إذا دخل في الإيمان أو في الإسلام ومات قبل أن يتمكن من العمل فهو كامل الإيمان، فإذا أسلم شخص ونطق بالشهادتين، ثم فاضت روحه، فقد مات على كمال الإيمان وتمامه. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ولا ينسب إليه اسم الإيمان المطلق -أي: السارق والزاني والقاتل وشارب الخمر- إنما ينسب إليه أصل الإيمان. فالإيمان الكامل لا يكون إلا بالعمل، وأما مطلق الإيمان فهو في أصل الإيمان، وهو يثبت للمرء بدخوله في الإسلام وإن لم يعمل. وعندما ننفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فإنما نقصد به الإيمان الكامل، أو الإيمان الوافي، ولو قصدنا بنفي الإيمان نفي أصله فإنه يلزمنا أن نخرجه من الإسلام. قال: فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه.

كلام ابن كثير في التفريق بين الإيمان والإسلام والإحسان

كلام ابن كثير في التفريق بين الإيمان والإسلام والإحسان قال ابن كثير عند قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]؛ قال: في هذه الآية دليل على أن الإيمان خير من الإسلام، يعني: الإيمان مرتبة أعلى من مرتبة الإسلام، كما أن الإحسان مرتبة أعلى من مرتبة الإيمان، كما في حديث جبريل في بيان مراتب الدين. فكل محسن مؤمن، ولا يلزم أن يكون كل مؤمن محسناً، وهكذا. قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فنفي الإيمان عنهم هنا إنما هو نفي لكماله، ولو قلت: إنها نفي للأصل فتكون الآية على هذا خطأ، ومن قال بذلك كفر. {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] أي: الإيمان الكامل، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: معكم أصل الإيمان، وأما كماله وتمامه وواجبه فلا؛ لأنكم لا تبلغون ذلك إلا إذا دخل الإيمان في قلوبكم، قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، ولا يدخل الإيمان في القلب إلا بالعمل. وكونه لا يعمل لا يزال من أهل الإسلام، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، وهذا دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام.

كلام ابن حجر في عدم كفر مرتكب الكبيرة

كلام ابن حجر في عدم كفر مرتكب الكبيرة استدل الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في الجزء الثاني عشر على عدم كفر مرتكبي الكبائر بدليل عقلي، فقال: اختلاف مقادير الحد. يعني: أن حد الشارب غير حد الزاني وغير حد السارق وغير حد القاتل، فليست الحدود واحدة، بل مختلفة. يقول: واختلاف مقادير الحد في الزنا مثلاً باختلاف أحوال الزاني ككونه حراً وعبداً، وكونه محصناً أو غير محصن، فلو كان الذين يرتكبون هذه المعصية كفاراً لتساوت في حقهم إقامة الحدود، أي: لو كفر بارتكابه الذنب فيستوي أن يكون حراً أو عبداً، رجلاً أو امرأة، محصناً أو غير محصن، لأن الكفر شيء واحد، فلا يختلف الحد، فاختلاف الحد دليل على أنه ليس بكافر، كما أن اختلاف الشهود في العقوبات يدل على أن الكبائر كلها ليست مخرجة من الإيمان. قال: فلو كان من يرتكبون هذه المعصية كفاراً لما اختلفت مقادير الحد عليهم؛ حيث يتساوى المكلفون جميعاً في حد الكفر، وهو القتل، كما قال عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه). وإذا كان السارق يكفر بسرقته، والقاتل يكفر بردته، والزاني يكفر بزناه، فكيف جعل الإسلام لهؤلاء الكفار جميعاً حدوداً مختلفة؟ والأصل أن من وقع في ردة أو كفر كان عقابه واحداً مهما اختلف العصاة واختلفت أوصافهم وأعدادهم. وأصحاب البدع أكثرهم يقول بكفرهم، مع أن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]. ولو كانوا كفاراً لقال تعالى: اقطعوا رقابهما؛ لأنهما كافران. والله تعالى يقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، فسماه أخاً رغم أنه قاتل. {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، وهذا الكلام لا يمكن أن يكون مع كافر، ولا أدري كيف يرد هؤلاء على هذه الآيات أو الأحاديث الصحيحة. قال الحافظ: ومن أقوى ما يحمل على ترك ظاهره إيجاب الحد بالزنا على أنحاء مختلفة في حق الحر المحصن والحر البكر وفي حق العبد، أي: فلو كان المراد بنفي الإيمان الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كانت العقوبة مختلفة دل ذلك على أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة.

كلام ابن أبي العز في عدم كفر مرتكب الكبيرة

كلام ابن أبي العز في عدم كفر مرتكب الكبيرة قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: وأهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قال الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص. فلو أنك قتلت فلاناً من الناس فأتى أولياء القتيل فعفوا فإنه يقبل منهم العفو، ولو كان القتل كفراً فلا يقبل منه الإيمان؛ لأنه يصبح من مسائل الإيمان والكفر التي لا متعلق لها بالمكلفين، وإنما هي حق الله عز وجل، ولما وجبت الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر؛ فهذا القول معلوم البطلان، وفساده في الضرورة معلوم.

تأويل علماء السنة للأحاديث التي تنفي الإيمان عن مرتكبي بعض المعاصي

تأويل علماء السنة للأحاديث التي تنفي الإيمان عن مرتكبي بعض المعاصي الأحاديث التي تكلمت في هذه الكبائر ونفت الإيمان عن أصحابها لأهل العلم فيها أقوال كثيرة جداً، يعني: حتى أهل السنة ليسوا على اتفاق في تأويل ظواهر هذه النصوص. وهذه الأقوال هي: القول الأول: يكون بذلك منافقاً نفاق معصية لا نفاق كفر، وأن نفي الإيمان هنا يثبت به النفاق، ولكن ليس النفاق العقدي الذي يخرج به صاحبه من الملة. وهذا مذهب في الحقيقة غير سليم؛ لأن الزاني ليس منافقاً، والسارق كذلك، والقاتل كذلك، فحمل نفي الإيمان على ثبوت النفاق العملي ليس سديداً. القول الثاني: أنه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، ولم يستحضر مراقبة الله تعالى ولا إجلاله، وإلا لم يفعل الذنب. يعني: كأنه أصابته غفلة عن مراقبة الله عز وجل، ولو كان متيقظاً لما أقدم على معصيته. ولكن هذا الكلام يقال في الورع، ولا يقال في تفسير هذا الحديث أو هذه النقطة. ويقول هذا المذهب: إن هذا كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة. القول الثالث: أنه شابه الكافر في عمله، ولا بأس باعتبار هذا الفعل؛ لأنه لا يزني حين يزني وهو مؤمن، يعني: يمكن أن يقال: إن عمله عمل الكافر ولكنه لا يكفر، ولكنه تخلق بأخلاق الكفار، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها). ومعنى (خبب): أفسد، كأن يتقرب إلى امرأة جاره إلى أن تحبه، ثم تبدأ تتقلب على زوجها وتطلب منه الطلاق، وفي النهاية يتزوجها ذاك الرجل. وهذا بلا شك من كبائر الذنوب، ولكن لا يكفر بهذا الذنب. والرأي الأول والثاني ليس لهما أدنى علاقة بالعلم الشرعي والتأصيل العلمي. ولو علم العبد أنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا يكفيه أن لا ينام بقية عمره، ولو أنك فعلت ذنباً استوجب اللوم أو العتاب أو الضرب أو الطرد من البيت، أو إيقاع الإيلام والعذاب على بدنك، من والدك أو من أستاذك أو ممن له الولاية عليك؛ فلا بد أنك ستبيت واقفاً تفكر ماذا سينزل بك من العذاب من صاحب هذا الحق، فما بالك بالله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، فلو أنك انتهكت حرمة من حرماته فتوعدك أنك صرت بين مشيئتين، يعني: دخولك النار أو الجنة، وليس هناك وعد وإنما هو وعيد، تدخل أو لا تدخل، يعذبك أو لا يعذبك، ولا شفيع يشفع لك ابتداء، وإنما الشفاعة تنفعك إذا دخلت النار، وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لا تنفعك إلا في المحشر، وشفاعة من دونه تنفع بعد ذلك في نار جهنم؛ فإنك ستبيت فرقاً ومرعوباً وخائفاً أن تكون من أصحاب هذا الوعيد، وأن تدخل النار. ولو كان أحد يتعامل بمنتهى الوحشية والقسوة، ويحرق بالنار أو يضرب بالجريد والنعال، فإنه إذا فعل أحد به ذنباً واستوجب عقاب ذنبه؛ فإنه لا يبيت هانئاً حتى ينزل به العقاب، ثم يعيش بعد هذا العقاب معيشة ذل وهوان. والله تعالى إنما يعذب بعدل ويرحم بفضل، فإذا كان ذلك منه سبحانه، فينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص على أن تكون أحواله وأفعاله وحركاته وسكناته، بل وأنفاسه كلها طاعة لله ورسوله. القول الرابع: أن المراد به -أي: المراد ينفي الإيمان- الزجر والتنفير. القول الخامس: أنه يسلب منه الإيمان حال تلبسه بالكبيرة فقط. يعني: في وقت ارتكابه الكبيرة. القول السادس: أن المراد منه النهي وإن ورد على صيغة الخبر. القول السابع: أنه على ظاهره، ويحمل على من فعل ذلك مستحلاً، ولا بأس بهذا إذا قامت عليه الحجة وعلم الحكم في هذا ولكنه استحل ذلك، فكل مستحل لما حرم الله كافر. القول الثامن: أن الكفر اللازم عن نفي الإيمان عن مرتكب المعاصي المذكورة إنما هو كفر النعمة. القول التاسع: وهو أرجح المذاهب، وهو مذهب جماهير علماء الحديث وعلماء السنة؛ أن المراد منه نفي الكمال. وقد رجحه النووي وتبعه ابن حجر وقبلهما ابن قتيبة وغيرهما من علماء السلف، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية قيداً على ما ذكره هؤلاء، وهو أن المراد نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه. فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أي: وهو مؤمن الإيمان الواجب الذي إذا تخلى عنه صاحبه استحق الذم واللوم والعذاب. ولعل أولى التأويلات بالقبول هو القول الأخير، وهو كذلك، وإنما ذهب هؤلاء العلماء إلى القول بنزع كمال الإيمان فقط وليس بنزعه كلية لبقاء أصل التصديق في القلب، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أجمل بيان فقال: ومن أتى الكبائر مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك؛ فلا بد أن يذهب ما في قلبه من الخشية والخضوع والنور وإن بقي أصل التصديق في قلبه. والعلماء لما قسموا الإيمان إلى مراتب استراحوا ولم يعد في الحديث أي إشكال، فإذا قلنا: إن الإيمان عبارة عن أصل وإيمان واجب وإيمان مستحب، فإن الآيات والأحاديث التي قالت بنفي الإيمان عن مرتكبي الذنوب والتي توعدت بالنار والكفر البواح؛ إنما تعني الإيمان الأصلي. قال: وهذا في الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي ع

الأسئلة

الأسئلة

حكم الأناشيد

حكم الأناشيد Q ما حكم الأناشيد؟ A الأناشيد قبيحها قبيح وحسنها حسن، وليس منها الأناشيد التي ينشدها الإخوة في الأفراح، بل هذه فيها الموسيقى، وأما التي لا بأس بها فهي التي لا إثارة فيها، وأنا لا أعلم دليلاً قط بجوازها للرجال من سنته عليه الصلاة والسلام، وهذه فتوى الشيخ الألباني، وأما ما يفعل من تحويل المقاطع الشعرية فهذا غير مرغوب، وإنشاد الشعر في الأعراس وغيرها إنما يكون للنساء، وأما الرجال فلا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير مخرج من الملة

شرح كتاب الإبانة - ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير مخرج من الملة تختلف الذنوب التي يقترفها العبد وتتفاوت، ومنهج أهل السنة في مرتكب الذنب أنه مؤمن عاص، وأن الذنوب التي ورد النص بكفر فاعلها إنما يقصد به الكفر غير المخرج من الملة إن لم يستحلها، وهذا المنهج خلاف منهج بعض فرق الضلال الذين يكفرون مرتكب المعصية.

ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملة

ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: فقد ذكرنا في الدرس الماضي حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث، وقلنا: إن أهل العلم اختلفوا في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهل يسلب عنه الإيمان بالكلية أم يسلب منه كمال الإيمان وتمامه؟ وذكرنا تسعة آراء وتأويلات لأهل العلم، وأرجحها: أن المنفي في هذه النصوص هو كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لو كان المعنى أن الإيمان يرتفع عن الزاني حين يزني ويزول عنه لدخل في الكفر، ثم لابد أن نقول بأن مرتكب الكبيرة كافر، والقائلون بذلك هم الخوارج، وأما المعتزلة فقالوا: ليس كافراً ولا مؤمناً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وهذا حكمه في الدنيا، وأما في الآخرة فإنهم جعلوه من المخلدين في النار، وهذا الكلام في غاية السقوط والتهافت. وذكرنا في الدرس الماضي كلام غير واحد من أهل العلم بأن الإسلام دائرة عامة كبيرة، وأن الإيمان دائرة في وسطها أخص. وقلنا: إن المرء حتى يدخل هذه الدائرة العظيمة وهي دائرة الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان. وقلنا: إن الإيمان درجات، فمنه أصل الإيمان الذي يعبر عنه أهل العلم بمطلق الإيمان. والنصوص التي تنفي الإيمان عن فاعل الكبائر أو المعاصي إنما تنفي عنه كمال الإيمان أو الإيمان المطلق، وأما مطلق الإيمان الذي هو الأصل والجزء الذي لا يتم إسلام المرء إلا به فلم تتعرض له النصوص التي ذكرناها، وأما النصوص الأخرى التي تحكم على الشخص بالردة مثلاً أو الكفر أو الجحود أو غير ذلك فإنها تخلع عن المرء الإيمان والإسلام بالكلية، وأما النصوص التي ذكرناها في الدرس الماضي فهي تخرج الفاعل لهذه المعصية من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة، وهذا لا ينفي أن يكون معه أصل الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به. الباب الثاني -وهو أول الجزء السادس من هذا الكتاب- يقول الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى: باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به عن الملة. وذكر فيه الذنوب والمعاصي التي إذا ارتكبها المرء فإنه يكفر بها، وهي من باب الكفر العملي لا الاعتقادي.

الكفر كفران

الكفر كفران الكفر كفران: كفر أكبر وأصغر، والشرك شركان: شرك أكبر وأصغر، والنفاق نفاقان: نفاق أكبر وأصغر، والفسق فسقان: أكبر وأصغر. فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وفي رواية: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، (أو) ليست للشك من الراوي، بدليل أن رواية أخرى قالت: (من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)، فهل هذا الكفر كفر أكبر اعتقادي وليس كفراً عملياً أصغر؟ والفارق بين الكفرين أن الكفر الاعتقادي يخرج المرء من الملة، فالكفر الأكبر هو الكفر الاعتقادي أو الكفر العملي الذي يأتي به المرء عملاً أو يقول قولاً يستلزم خروجه من الملة. والإيمان قول وعمل، والكفر كذلك قول وعمل فضلاً عن الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في أن من اعتقد أن لهذا الكون إلهين فقد كفر وخرج من الملة؛ لأنه جعل نداً وشريكاً لله عز وجل في ملكه وخلقه، فمن اعتقد ذلك خرج من الملة عند جميع أهل الأرض. فقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك) من الكفر الأصغر الذي لا يخرج به من الملة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فليقل كفارة ذلك: لا إله إلا الله). وأيضاً ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (واللات والعزى، فقال: لا تقل: واللات والعزى، من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). ولو كان الحلف على هذا النحو كفراً مخرجاً من الملة لأقام عليه النبي عليه الصلاة والسلام حد الردة أو استتابه، فإن تاب وإلا قتله. ولما لم ينقل إلينا هذا ولا ذاك علمنا أن هذا مثال الكفر العملي أو الأصغر.

حديث أبي بكر (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل)

حديث أبي بكر (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل) وقد ذكر الإمام هنا طائفة من النصوص التي تدل على أن بعض الذنوب التي يرتكبها العبد يكفر بها، وأثبت أن الكفر الثابت فيها ليس كفراً اعتقادياً، وإنما هو كفر عملي أصغر، كما في حديث [أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل)]، يعني: أن الشرك يسرع إلى قلوبكم؛ لأنه شرك خفي، وهو الرياء، فسمى النبي عليه الصلاة والسلام الرياء هنا شركاً. ومفاد النصوص التي وردت في هذا الباب أن من راءى بعمله فقد حبط عمله، ولكن لم تقض النصوص بكفره. وقد ذكر ابن الجوزي في باب التحذير من الرياء أن رجلاً كان يصلي، فدخل عليه إنسان آخر فبعد أن كان يسرع في صلاته ولا يعبأ بها ولا يقيم صلبه ولا يخشع أطالها، وأطال فيها الركوع والسجود وغير ذلك، فقال الداخل: ما أحسن صلاة فلان! فالتفت إليه هذا المصلي وقال له: ومع هذا فإني صائم، يعني: أضاف عبادة أخرى إلى عبادته التي راءى بها؛ ليثبت أنه من أهل الصلاح لمن نظر إليه. وقد اختلف العلماء في صحة عمل المرائي إذا بدأه بالرياء أو ختمه به، كأن تكون عادته أنه لا يصلي الليل، فإذا زاره إنسان أو صديق أو عزيز عليه نهض لقيام الليل وقراءة القرآن، وأطال ذلك وحسنه حتى يقول الزائر: إن هذا الإنسان من قوام الليل، مع أن الباعث له على العمل الرياء، أو أنه يصلي قيام الليل وهذا من عادته، ولكنه يصلي على نحو معين وكيفية معينة غير هذه الكيفية، فإذا زاره أحد غير الكيفية إلى الأحسن؛ رجاء المدح والثناء، ولكن هذا كان في أثناء الصلاة أو في آخرها، فمن اعتبر أن الأعمال بالخواتيم أبطل هذه الصلاة، ومن اعتبر أن الأعمال بمقاصدها الأولى قال: لا تبطل العبادة إلا إذا دخل فيها لغير الله ابتداء، والمسألة محل بحث طويل، وقد تعرض لها الحافظ ابن رجب في شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، في كتاب جامع العلوم والحكم، فمن شاء فليرجع إليه؛ ليقف على كثير من النصوص التي تحذر من الرياء في القول والعمل. قال: [قال عليه الصلاة والسلام: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل أو دبيب الذر)]. والذر: هو النمل، [(قال أبو بكر: يا رسول الله! أيكون شركاً لا يجعل مع الله إلهاً يعبد من دونه؟)]، يعني: هل هناك شرك غير الشرك الذي هو إشراك إله آخر الله تعالى في العبادة؟ [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا أبا بكر!)]. وهذه كلمة كانت تقولها العرب لا يقصدون بها الدعاء، وإلا لو قصد النبي صلى الله عليه وسلم بها الدعاء لمات أبو بكر فوراً، لكنه لم يقصد الدعاء، وهذا كما قال لـ أبي ذر: (ثكلتك أمك يا أبا ذر!)، فهذا من الكلام الدائر على ألسنة العرب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق). فهو لا يقصد به اليمين، أو أنه قبل ورود النهي في ذلك. قال: [(وقال يا صديق! الشرك أخفى من دبيب النمل أو دبيب الذر، ولكني سأدلك على ما يذهب صغار الشرك وكباره -أو قال: صغير الشرك وكبيره- تقول عند الصبح: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)]، أي: أن يستعيذ بالله مما وقع منه من شرك وهو يعلم، ومما وقع منه من شرك وهو لا يعلم.

حديث أبي بكر (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب)

حديث أبي بكر (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب) قال: [قال أبو بكر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب لا يعرف، وكفر بالله تعالى تبرؤ من نسب وإن دق)]. فلو أن شخصاً سئل عن اسمه فقال: اسمي كذا، فقيل: من أبوك؟ فقال: فلان وذكر رجلاً آخر غير أبيه، كأن يكون اسمه محمد بن أحمد فقال: محمد بن إبراهيم، فهو ملعون، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لعن الله من انتسب لغير أبيه). واللعن في حق المسلم يدل على الكبيرة، فالله تعالى لعن الكافرين في كتابه، ولعن من ارتكب ذنوباً معينة من المسلمين في كتابه، ولعن المذنب لا يخرجه عن الإسلام، وإنما هو علامة من علامات الكبائر، فمن علامات الكبائر أن يأتي فيها الوعيد الشديد، وللكبائر علامات تعرف بها، ويكفي ورود علامة واحدة ليكون هذا الذنب من الكبائر. ومن هذه العلامات هي: العلامة الأولى: أن يأتي فيه التهديد والوعيد الشديد بالنار أو العذاب أو السخط أو اللعن أو غير ذلك. العلامة الثانية: أن يقام عليه الحد في الدنيا؛ لأنه لا حد إلا في كبائر الذنوب. فاللعن دليل على أن هذا العمل من الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض). فلو أن الحكومة وضعت على مفترق طرق علامة مكتوباً عليها: المنصورة على بعد (50) كيلو نحو اليمين، فجاء شخص وغير هذه العلامة إلى مفرق طريق المنفية، وقال: المنصورة على بعد (50) كيلو من هنا، فإذا بالمار يجد نفسه في المنفية، فهذا بلاء عظيم جداً على من يقصد المنصورة أن يذهب المنفية، فمن فعل هذا فقد دخل في لعنة الله تعالى ولعنة رسوله والملائكة والمؤمنين، (لعن الله من غير منار الأرض)، وفي رواية: (من غير منار الأرض فليس منا). وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، يعني: أفسدها على زوجها، إلى غير ذلك من هذه الأحاديث أو النصوص التي حملت وعيداً شديداً فيما يتعلق ببعض الذنوب. وهذا الذي غير العلامة من مفرق المنصورة إلى مفرق المنفية لا يكفر بذلك، ولا يقول هذا إلا من كان من الخوارج. فهذه النصوص خرجت مخرج التهديد والوعيد الشديد لمن فعل ذلك في الحياة، فهو ذنب عظيم جداً يلزمه أن يتوب منه.

الكبيرة لا تستلزم الحد

الكبيرة لا تستلزم الحد ولا يلزم أن الكبيرة تستلزم الحد، والدليل على ذلك أن عقوق الوالدين كبيرة باتفاق أهل العلم، ولم يخالف في ذلك أحد، ولا يجب على الحاكم أن يقيم عليه الحد، وليس هناك نص يأمر بهذا، بل قد ورد الوعيد والتهديد الشديد لمن عق والديه بالنار، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما صعد درجات المنبر، فقال في كل مرة: (آمين آمين آمين، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تقول قولاً ما سمعناك تقوله من قبل، فقال: أتاني جبريل وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة). فقوله: (رغم أنف) للتهديد، وهذا دليل على الخسران والهوان والذل في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، فأخبر سبحانه وتعالى في هذا الكلام أن قطيعة الرحم متعلقة بالفساد في الأرض أو هي من الفساد في الأرض، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الله عز وجل. فالكبيرة لا تستلزم أن يكفر صاحبها كفراً أكبر، بل هذا مذهب الخوارج، كما أنه لا يلزم منها إقامة الحد. وقوله عليه الصلاة والسلام: (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب لا يعرف) هذا من الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لبيان عظم وهول هذا الأمر.

حكم التبني

حكم التبني وهناك سؤال يطرح كثيراً، وربما لا يمر أسبوع أو أسبوعان إلا وهناك من يسأله، وهو أنه يقول: أنا لم أرزق بأولاد، فذهبت امرأتي إلى الملجأ الفلاني وأتت بولد، أو ذهبت إلى الملجأ فوجدت ولداً على باب الملجأ في خرقته، وكان جميلاً، فعز عليها أن تتركه فأتت به، وأنا قد سميته باسمه ونسبته لنفسي، فهل هذا العمل حلال؟ و A هذا العمل حرام، وفيه من المحاذير الشيء الكثير، المحذور الأول: أنه نسبة إلى غير الأب الشرعي، وهذا باطل، فقد أبطل الإسلام التبني، وقد كان زيد يدعى زيد بن محمد ثم صار يدعى زيد بن حارثة، قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، يعني: انسبوهم لآبائهم؛ لأن هذا هو العدل الذي فرضه الله عز وجل. المحذور الثاني: أن هذا الولد سيتعامل مع هذا الرجل على اعتبار أنه أبوه باستمرار، وبالتالي ستكون امرأة هذا الرجل هي أمه باستمرار، فيتعامل معها ويدخل عليها بعد أن يبلغ السن التي يكلف فيها بغض النظر إلى النساء، وهو سيتعامل مع هذه المرأة الأجنبية عنه باعتبار أنها أمه، وربما قبلها أو حضنها أو نام بجوارها أو سافر معها أو غير ذلك. المحذور الثالث: ربما يرزق الأب بأولاد آخرين، فيدعون أخوة أو أخوات لهذا الأجنبي، وليس الأمر كذلك، وإنما هذا الولد حلال له أن يتزوج بهذه البنت التي رزق بها هذا الأب الدعي، ولكن الوضع القائم يحرم عليه أن يتزوج منها؛ لأنها أخته في الأوراق الرسمية وغير ذلك. المحذور الرابع: إذا مات الأب الدعي النسيب أو ماتت الأم فإن هذا الولد المتبنى هو الذي يرثهما، وحينئذ يأخذ هذا الولد مالاً ليس له، ويأخذه بغير حق، وكذلك إذا مات هذا الولد وكان له مال ورثه أمه وأبوه المزعومان، فيأخذان مالاً ليس لهما. وهذه كلها مخالفات وظلمات بعضها فوق بعض، وهذه المخالفات هي الإعراض عن شرع الله عز وجل أو الوقوع فيما نهى الله عز وجل عنه، وهذا من الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة، ولكنه كبيرة من الكبائر. قال: (وكفر بالله تعالى تبرؤ من نسب وإن دق)، أي: وإن كان صغيراً أو حقيراً يراه الإنسان. وإذا قال الأب لابنه: أنت لست ابني وأنا لا أعرفك، وقال هذا الكلام زجراً للولد أو تهديداً له، أو طرده من البيت أو غير ذلك فلا بأس به، ولا يترتب عليه أحكام، وأما لو أنكر في مجلس القضاء أنه ولده أو نفاه عن نفسه تماماً؛ فلا شك أن هذا نفي لنسب صحيح، فلا يحل له أن ينفيه عن نفسه، كما أنه قذف لأم الولد. وهذه المسألة خطيرة جداً.

حديث أبي هريرة (لا ترغبوا عن آبائكم)

حديث أبي هريرة (لا ترغبوا عن آبائكم) قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ترغبوا عن آبائكم)، أي: لا تزهدوا في النسبة إلى آبائكم الشرعيين. [(فإنه من رغب عن أبيه فإنه كفر به). والحديث رواه الشيخان، يعني: كفر بذلك، وهذا كفر عملي، والكفر العملي إن استحله المرء بعد قيام الحجة عليه وبلوغ العلم إليه خرج عن ملة الإسلام. والمهاجرون إلى أوروبا وأمريكا في أيامنا هذه يسعدهم ويشرفهم جداً أن يتخلصوا من نسبهم تماماً، فبعد أن كان اسمه محمد بن أحمد بن إبراهيم بن زيد يصبح اسمه هناك كذا ابن كذا، ويتسمى باسم إنجليزي أو أمريكي يشتهر في البلاد التي نزل فيها، وهذا يكون عند أخذ ما يسمى عندهم الكرت الأخضر أو التأشيرة النهائية أو الرخصة أو الجنسية، فيحلو له أن يغير اسمه تماماً، ثم إذا نزل في مطار القاهرة وسئل عن اسمه قال: اسمي ماركو بن شارون. وهذا دمه خفيف، ويعرف في أي مكان. فالتسمي بغير الأسماء الحقيقية في النسب هي رغبة عن النسبة للآباء الشرعيين، وفاعل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه قد قامت عليه الحجة، فيكون كفراً أكبر. قال الحافظ في شرح هذا الحديث: المراد من استحل ذلك، يعني: المراد أنه كافر كفراً مخرجاً من الملة إذا استحل ذلك مع علمه بالتحريم، أي: أنه إذا استحل ذلك مع قيام الحجة عليه وأصر عليه فإنه يكفر به ويقتل. قال: أو المراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلاً هو شبيه بأفعال الكفار فنسب إليهم ولم يكن منهم. وقال النووي في شرح هذا الحديث: له تأويلان: أحدهما: أنه في حق المستحل، يعني: يكفر به ويخرج من دائرة الإسلام، والثاني: أنه كفر النعمة والإحسان وحق الله تعالى وحق أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرج به من الملة. وإذا كان مستحلاً مع قيام الحجة عليه وبلوغ العلم إليه كفر كفراً أكبر. وإذا كان هذا النص على ظاهره ليس مراداً فيحمل على أنه كفر النعمة والإحسان، ويعني: الكفر بحق الله تعالى وحق الأب.

حديث ابن مسعود (سباب المسلم فسوق)

حديث ابن مسعود (سباب المسلم فسوق) قال: [عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)]. والسباب فوق الشتم، فالإنسان السباب طويل اللسان، بخلاف من سب مرة أو مرتين، وسباب المسلم فسوق، ولكن هذا الفسق لا يخرجه من الملة. وأما قوله: (وقتاله كفر) أي: إذا كان مستحلاً لذلك. وقتل المؤمن ليس كفراً، ولا يكفر القاتل، وقال ابن عباس: لا توبة لقاتل المؤمن، وهذا القول انفرد به ابن عباس ولم يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقيل: إن ابن عباس رجع عنه. والدليل على أن قاتل المؤمن ليس كافراً قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]. فسماه أخاً. وقال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9]، أي: بغت إحدى هاتين الطائفتين المؤمنتين على أختها، فسمى هذه مؤمنة وهذه مؤمنة مع أن بينهما قتالاً أو مقتلة، وهذا أمر لا ينجو فيه من قتل بعض الأفراد من الطائفتين أو قتل الطائفتين جميعاً، ومع هذا سماهم الله تعالى مؤمنين، وهذا يدل على أن قاتل المؤمن لا ينفى عنه الإيمان بالكلية، وإنما ينفى عنه كمال الإيمان وتمامه، ويبقى له أصل الإيمان. ولو أن أحداً ذهب إلى مؤمن ليقتله فقيل له: قتلك لهذا المؤمن ذنب عظيم جداً، فقال: ليس بذنب أصلاً، فقيل له: هل فعل ما يستوجب القتل؟ قال: لا، ولكني سوف أقتله، فقيل له: لقد حرم الله تعالى القتل بدليل قوله سبحانه كذا وقول رسوله كذا وإجماع أهل العلم وغير ذلك، فقال: ومع هذا فأنا سأقتله وذهب فقتله؛ فهذا مستحل، وقد قامت عليه الحجة بحرمة هذا الدم ولكنه لم يعبأ بهذه النصوص، فقتل من غير تأويل سائغ ولا اجتهاد مقبول، بل رأى أن قتل هذا الرجل ليس حراماً وإنما هو حلال. قال: [وقال ابن مسعود: سباب المؤمن فسوق وأخذ برأسه كفر]. وقوله: (أخذ برأسه) يعني: قطع رقبته.

حديث (من أتى عرافا أو كاهنا)

حديث (من أتى عرافاً أو كاهناً) قال: [وعن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)]. وهذا يشمل العراف والكاهن والساحر وغير ذلك، فلو أن إنساناً أتى أحداً منهم وصدقه بما يقول، فهذا منه ما يكون كفراً أكبر ومنه ما يكون كفراً أصغر، فأما الأصغر فمثل إنسان عز عليه ما ضاع منه فدله عليه هذا الساحر أو الكاهن أو العراف أو الدجال، فذهب إلى هناك وهو يعلم في نفسه أن هذا حرام، فهذا لا يدل على الاستحلال، وإنما ذهب رجاء الحصول على الشيء الذي ضاع منه فقط، وهو يكره ذلك جداً، وهذا من الغيب الذي أطلع الله عز وجل عليه بعض خلقه. وأهل العلم يقولون: حد الساحر ضربة بالسيف، وجماهير أهل العلم على أن الساحر لا يكفر، والبعض على أنه يكفر؛ لأنه لا يتعلم السحر إلا إذا كفر بالله عز وجل حتى يكون له من الأقران والجن والشياطين من يطيعونه في أمره ونهيه. والذهاب إلى الساحر أو العراف أو الدجال أو من يضرب الودع أو في الرمل وغير ذلك في حد ذاته كفر، وأما الذاهب إليه فإنه يكفر كفراً عملياً، فإن اعتقد أن هذا الساحر يعلم الغيب فقد كفر كفراً أكبر؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل. قال: [وعن صفية رضي الله عنها عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)].

حديث (ثلاث من الكفر بالله: النياحة وشق الجيب والطعن في النسب)

حديث (ثلاث من الكفر بالله: النياحة وشق الجيب والطعن في النسب) قال: [عن كريمة بنت الحسحاس المزنية قالت: سمعت أبا هريرة في بيت أم الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث هن من الكفر بالله: النياحة، وشق الجيب، والطعن في النسب)]. ولو أن كل من ناح خرج من الملة فربما لا يبقى في الأمة أحد، فالبلدة كلها تنوح على الميت، فمنهم من ينوح ليؤدي واجباً، ومنهم من ينوح ليرجع الجميل؛ لأنه قد نيح له من قبل، ومنهم من ينوح بإخلاص، يعني: أنه قد مسه ألم الموت ونزلت به المصيبة. والعرب تقول: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وكان العرب إذا مات لهم ميت يستأجرون نساء يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن، ويقفن على الباب ينحن؛ حتى يعرف الذي في الخارج أن هذا البيت فيه ميت، وكانوا يعتبرون أن النياحة على الأبواب هي النعي، ولذلك جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، أي: نعي الجاهلية. وقال هنا: (ثلاث هن من الكفر بالله)، أي: الكفر العملي، فواحدة تقول: يا جملي! يا سبعي! يا الذي كنت مالي في البيت! وهكذا، وهذا نوع من أنواع النياحة. والقائلة بهذا لا شك أنها واقعة في كبائر الذنوب، لكنها لا تكفر بذلك. وكذلك الشاقة لجيبها أو الشاق لجيبه يعني: الذي يدخل يده في الثوب أو تدخل يدها في الثوب وتشقه كله، وهذا عمل من أعمال الجاهلية، والمرء لا يكفر بهذا كفراً يخرجه عن الملة. وكذلك الطعن في النسب، مثل من يقول: فلان ليس ابن فلان، وإنما فلان هذا زنى بأمه وقد أخبرني بذلك، وحتى لو كان الأمر كذلك فلا يحل التكلم بهذا، وإقرار الزاني عندك لا قيمة له؛ لأن العبرة بإقرار المذنب أمام القاضي أو الحاكم والسلطان، وأما أمامك فلا عبرة به، بل لو تكلمت به لكنت قاذفاً، ووجب إقامة حد القذف في ظهرك. والشهادة بالزنا لا يقبل فيها إلا أربعة شهود، ويشهدون أنهم قد رأوا الإيلاج حقيقة، يعني: رأوا الذكر في فرج المرأة، وإلا لم يحل لهم أن يتكلموا بكلمة واحدة، وإذا تكلم ثلاثة وجب على الحاكم أن يقيم عليهم الحد. وقد رمي رجل في زمن عمر بن الخطاب باللواط بطفل، فشهد الأول عند عمر أنه رأى، وشهد الثاني أنه رأى، وشهد الثالث أنه رأى، فجاء الرابع فقال عمر: اتق الله عز وجل في أخيك هل رأيت؟ قال: يا أمير المؤمنين! رأيت شراً، قال: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن فلاناً وفلاناً قد التحفا بلحاف واحد يرتفع وينخفض، فقال عمر: الله أكبر، ثم أقام حد القذف على الثلاثة. والحدود تدرأ بالشبهات، وليس لازماً من كون الرجل مع المرأة في لحاف واحد، أو رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة؛ أنه قد تم بذلك الزنا أو اللواط أو السحاق. ولما كانت هذه من الأمور العظائم في الأمة وضع لها الشرع ضوابط دقيقة وسديدة، حتى لا تتهم الأعراض أو الأشخاص الذين هم في أصل أمرهم برآء من هذه الذنوب، وهذه الدساتير الواقية من انتشار الفواحش في المجتمع المسلم كفيلة بنقاء وصفاء هذا المجتمع، وأما نشر الأخبار هكذا بأن فلاناً زنا بأمه، وفلاناً يعمل كذا، والرجل مع بنته، والبنت مع أبيها، وغير ذلك على صفحات الجرائد، بل وتخصيص مجلات لنشر هذه الأخبار؛ فهذا باب عظيم من أبواب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك تجد الإنسان لا يعرف شيئاً عن هذه الحوادث، لكنه إذا قرأ جريدة الحوادث حصل عنده حب واستطلاع لممارسة هذه الحوادث بنفسه، وأنا أنكر على مثل هذه المواقف، ولا أريد الاستفاضة في هذا الباب؛ حتى لا أقع فيما أحذر منه.

حديث ابن عمر (من قال لأخيه يا كافر)

حديث ابن عمر (من قال لأخيه يا كافر) قال: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما)]، يعني: إما أن يكون كذلك وإما أن ترجع إليه، فإذا قال فلان عن فلان: إنه كافر، وقصد الكفر العملي لارتكابه ما قد يؤدي به حقاً إلى الكفر العملي فهو أولى بذلك، وإذا استوجب فاعل من اتهم بالكفر الكفر الأكبر كان أحرى وأولى أن يلحق ذلك به، ومثال ذلك: لو قال رجل الآن: نوال السعداوي كافرة ومرتدة فهذا اتهام، ولا بد أن ننظر في حيثياته، وما الذي جعل القائل يقول: نوال السعداوي مرتدة وكافرة؟ فيقول: نوال السعداوي تقول: الحج وثنية، مع نصوص الكتاب والسنة الآمرة به، وقد زعمت هذه المجرمة الملحدة المرتدة أنها قرأت القرآن أربعين مرة ودرسته على يد أبيها، ولا نعلم من أبوها هذا، ثم تقول: وأنا طلقت قبل زوجي هذا اثنين، وفي رواية لها تقول: وأنا خلعت قبل زوجي هذا اثنين، لو أنها اختلعت من زوجها فهذا قد أقره الشرع، ولكنها تقول: وأنا طلقت قبل هذا، والطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة. وثالثاً: أنها أنكرت الختان، واتهمت الشريعة، ورابعاً: أنها تكلمت على الفقهاء والعلماء وقالت: إن عندهم لوثة جنسية، وأنا لا أدري ما مصدر هذا القول، وهل فجر بها أحد مشايخ الدين أو علماء الشريعة؟ أو أن أحداً منهم طلب أن يجامعها أو يزني بها، أنا لا أظن أن كلباً أو خنزيراً تتوق نفسه ويشتاق إلى مواقعتها، فضلاً عن آدمي حتى وإن كان كافراً أو مرتداً، فضلاً عن أن يكون شيخاً من شيوخ الدين. وهذا بلا شك إهدار لكرامة الإسلام والمسلمين، وهو باب عظيم جداً من أبواب الكفر والردة، وقالت غير ذلك الشيء الكثير جداً الذي يهدم ثوابت وأصولاً في الدين. إذاً: قول القائل: إنها مرتدة وكافرة وخارجة عن الملة لا ينكر عليه، بل هي أولى به؛ لأنها قد أتت ما استوجب لحوق الكفر ونسبته إليها، وأما إذا لم تقل شيئاً من ذلك ولم تأت ما يستوجب الخروج من الملة ونسبها إلى الردة والكفر، فهو بلا شك أولى بهذا الحكم. وهذا واق من الوقيعة في أعراض آخرين إلا بحقها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عصم بها دمه وماله وعرضه إلا بحقها وحسابه على الله). قال: [وعن ابن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما)]. قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا قال الرجل للرجل: أنت عدوي فقد كفر أو فقد كفر أحدهما بالإسلام]، يعني: إما أن يكون المقول له هذا القول أولى بذلك أو أنها ترجع إلى القائل.

حديث ابن مسعود (أنه سئل عن الرشوة)

حديث ابن مسعود (أنه سئل عن الرشوة) قال: [عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال: هي من السحت، أي: من الحرام، قال: فقال: أفي الحكم؟ يعني: هذا من السحت في الحكم؟ قال: ذلك الكفر]، أي: أن الرشوة في الحكم أو السحت في الحكم من الكفر وليس من السحت فقط، ولكنه كفر عملي، وهذا كما لو كان شخص له شيك على أحد من الناس لا يقدر على أخذه، فلما عرف الدائرة التي ستعرض فيها قضيته وعرف القاضي الذي سوف ينظر في القضية -والقضاة معظمهم ذممهم خربة- ذهب إليه في بيته وقال له: أنا لي شيك بخمسة آلاف جنيه، فخذ منها ألفاً واحكم لي بسرعة وخلصني، فقال: نعم، وهو لما حكم بهذا حكم حكماً شرعياً، ولكنه يأثم لأخذه الرشوة، ولو أن الخصم هو الذي ذهب إليه وقال له: صحيح أن علي الخمسة آلاف جنيه هذه، وأنا لا أريد أن أدفعها، وسأعطيك نصفها لو أنهيت القضية وأخرجتني منها، والقاضي في حقيقة أمره يعلم أن هذا قضاء زور، وأن الله حرم هذا، وأن القضية من أولها إلى آخرها حرام في حرام، وأنها ظلمات بعضها فوق بعض، وهو لما حكم بهذا يعلم في حقيقة أمره أن حكمه باطل ومخالف للشرع، ويقول: أنا حكمت لأجل أن آخذ المال، أو لأنه من الجيران، فحكمت له لكي أتخلص من أبيه وعمه وخاله وجدته وأمه وأخته والذي يأتي والذي يذهب. وهناك من يجلس على كرسي في أي منصب ويقول: أنا أعرف أن هذا الكرسي كله ظلم وأني ظالم، وأن عملي الذي أعمله غلط مخالف للشرع، وسيحاسبني الله عز وجل عليه يوم القيامة، فإذا قلت له: فلماذا تجلس عليه قال: أنا أحب الكرسي، ولو وقفوني عن العمل فيمكن أن أموت، ولتعلق قلبي بالكرسي أنا جالس عليه، والمهم أن لا أتركه. فأنت تقول له: هذا ظلم، وهو يقول لك: أنا أعلم منك، فأنا أعمل كذا من البلاء، فهذا لا يكفر ولا يخرج من الملة، بل هذا كفر عملي. وهناك من غير كون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد أو المصدر الأول من مصادر التشريع، وقال: هذا كلام ليس له أساس، بل القانون الفرنسي هو المصدر الأوحد للقضاء في مصر، يعني: زحزح الشريعة جانباً وأحل محلها تشريعاً يتصف بالتبديل والتغيير المطلق، وقال: هذا هو دين ربنا، وخمسة وتسعون في المائة منه يتطابق تمام المطابقة مع الشرع، والذي يقول هذا القول هو شيخ من أهل العلم، ويقول هذا، وإذا كان هذا كلامه هو فسيقول الآخرون: مائتين في المائة، مع أننا نرى الفرق بين أحكام الشريعة وهذه القوانين في قضايا الزنا والسرقة وشرب الخمر والعري والبلايا وغيرها، فهذه القوانين لا توافق شرع الله ولا حتى في خمسة في المائة أبداً، وما وافق من هذه القوانين شرع الله فلا نأخذ به، وإنما نأخذ بشرعنا. والتغيير العام لحكم الله عز وجل وشرعه كفر أكبر، وأما التغيير في بعض المسائل بناء على الشهوة أو حب المال أو المنصب أو مخافة عدو أو غير ذلك لا يكفر به الفاعل. ولكن الفاعل يكفر إذا غير وجه الأرض في مكان يستطيع هو بكلمة واحدة أن يطبق شرع الله فيه، ولكنه عدل عن ذلك إلى شريعة بني صهيون، ولذلك قال مسروق: قلنا لـ عبد الله: ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم، قال عبد الله: ذاك الكفر، أي: الكفر العملي.

حديث ابن عباس (أنه سئل عن الذي يأتي امرأته في دبرها)

حديث ابن عباس (أنه سئل عن الذي يأتي امرأته في دبرها) قال: [عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: هذا يسألني عن الكفر]، وهذا من الكفر العملي لا من الكفر الاعتقادي، الذي يخرج به المرء من الملة. ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، كما أنه ليس كل من وقع في البدعة يكون مبتدعاً، وذلك مثل شخص رأى أناساً يعملون عملاً معيناً، فدخل معهم في هذا الشيء ظناً منه أن هذه طاعة لله عز وجل، ثم بعد ردح من الزمن وسنوات طويلة اكتشف أن هذه بدعة فانتهى عنها، فهذا ليس مبتدعاً عندما كان يفعل البدعة، ولكنه لا يكون بذلك متبعاً لظنه أن هذه طاعة، وهو لم يأتها ظناً منه أنها بدعة، ولم يخبر بأنها بدعة، فلما أخبر بأنها بدعة انتهى عنها. وأما هؤلاء المبتدعة فإنهم وإن ظنوا أنهم على صواب وحق إلا أنهم نوقشوا مراراً أنهم على الباطل، وأن ما هم عليه هو باب من أبواب البدع، ومع هذا لم ينتهوا، بل كان منهم الصدود عن قبول النصيحة، (الدين النصيحة)، كما قال عليه الصلاة والسلام. فليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، كما أنه ليس كل من وقع في البدعة يكون مبتدعاً. وهناك من يسأل: بأن هناك شخصاً مبتدعاً، فهل تجوز الصلاة خلفه؟ فهو يحكم عليه أنه مبتدع مع أنه لم يجالسه ويبين له أن ما هو عليه أمر مبتدع وليس من دين الله، وأن دين الله في هذه المسألة كيت وكيت، وكان الأولى أن يشغل نفسه بذلك بدلاً من أن يشغل نفسه بفلان كافر وفلان مؤمن وفلان فاسق، فالأولى به أن يشغل نفسه بنفي الكفر عن الناس وإحلال الإيمان محله، وهذا واجب، خاصة والسؤال يدل على أن صاحبه من طلاب العلم.

حديث أبي الدرداء (سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها)

حديث أبي الدرداء (سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها) [قال أبو الدرداء لما سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها: لا يفعل ذلك إلا الكافر]، أي: الكافر كفراً عملياً وليس اعتقادياً. وقد سألتني امرأة في هذا اليوم بعد صلاة العصر وقالت: زوجي يأتيني في دبري وأنا لم أوافقه إلى لحظتي هذه، فسألتها هل يريد أن يأتيها من دبرها في قبلها أو من دبرها في دبرها؟ فقالت: يأتيني من دبري في دبري، قلت: هذا حرام، قالت: يهددني بالطلاق، قلت: حتى وإن وقع الطلاق، فينبغي أن تتوكلي على الله عز وجل وألا تمكنيه من ذلك وإن وقع الطلاق، فإنك باختيارك طاعة الله عز وجل لا بد أن يبدلك الله خيراً منه، وهذا اعتقاد، وإذا لم تكوني على يقين من هذا فانتظري عقوبة أخرى، يعني: إذا لم يتعقد المرء أنه إذا ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه فلينتظر عقوبة أخرى، وهي عقوبة ترك التوكل على الله عز وجل، فعلى المرء أن يفعل ما أمره الله به وينتهي عما نهاه عنه، ثم يحسن الظن بربه. وهذا هو منتهى الرجاء الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم. وهناك من تقول: أنا مضطرة لأن أبقى متبرجة؛ حتى يراني الشباب ويتقدموا لي، وبعدها سوف أتغير، وهي لا تعرف أنها ما دامت متبرجة فلن يتقدم لها إلا من كان على شاكلتها، ثم ربما إذا صارحته بنيتها هذه بعد العقد أو بعد الزواج قال: لا، أنا لن أتزوج واحدة تلبس خيمة. وهذا مثل الشخص الذي كان من قبل يسمي الحجاب الذي أنزله الله من السماء خيمة؛ استهزاء بشرع الله عز وجل. فيجب على كل امرأة أن تلتزم منذ بلوغها شرع الله من أوامر ونواه، وحلال وحرام، وعقائد وأحكام، وسلوك وأخلاق، ثم تحسن الظن بربها بأنه سوف يأتيها برزقها. وهذه المرأة المتبرجة تتصور أنها سوف تتزوج رجلاً غير الذي كتب لها في اللوح المحفوظ، وكذلك الرجل الذي يحلق لحيته حتى إذا تقدم لامرأة يقولون له: نعم، أنت شكلك جميل، فنقبلك يا رجل! فهو يتصور أنه يمكن أن يقبل في بيته إلا في البيت الذي كتب له في اللوح المحفوظ. وعلي بن أبي طالب لما قيل له: ما القدر؟ وضع إبهامه على لسانه هكذا، وأطبقه في كفه وقال: القدر أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، أي: أن الذي عملته مكتوب في اللوح المحفوظ أن علي بن أبي طالب سوف يعمله في وقت كذا في لحظة كذا. وقال أحمد بن حنبل لما سئل: ما القدر؟ قال: إن الله على كل شيء قدير، وفي رواية عنه قال: القدر هو قدرة الله عز وجل. وقدرة الله لا منتهى لها، وأعمال العباد واقعة تحت مشيئة الله وقدرته، سواء المشيئة الشرعية الدينية أو الكونية القدرية، وأنت لا تتزود ولا تعمل ولا تذهب ولا تجيء ولا تروح إلا بقدرة الله، والله تبارك وتعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقد جفت به الأقلام وطويت عليه الصحف، فلا يخاف المرء على رزقه أو على عمره أو على مستقبله، فكل ذلك مكتوب، وما هي إلا أسباب أمر أن يلتمسها. ولا بد أن يعلم أن السبب يجب أن يكون مشروعاً. والقول بأن الغاية تبرر الوسيلة ليس كلام المسلمين، بل هذا كلام الصهاينة واليهود، وأما عند المسلمين فلا بد أن تكون الغاية والوسيلة مشروعتين، فإذا أردت أن أصل إلى غرض نبيل معين لكني سوف انتهك الحرمات في سبيل الوصول إلى هذا الغرض، فهذا الطريق غير مشروع، ولا أطالب بسلوكه أبداً، فمثلاً الصدقة على الأيتام مشروعة، وهي عمل حسن، ولكن هذا العمل الحسن لا يحل له أن يسرق أموال الناس، بل لابد أن يكون الغرض مشروعاً والسبيل إليه كذلك مشروعاً، وكلام اليهود لا علاقة لنا به. فهذه المرأة التي يحملها زوجها على إتيانها من الدبر يحرم عليها تمكينه من ذلك، وهذا كفر عملي. وبعض البلاد الإسلامية ابتليت بهذا البلاء العظيم جداً، حتى صار إتيان النساء من أدبارهن سجية عندهم، وقد ذهبت أخت من أخواتنا -جزاها الله خيراً- طبيبة إلى أحد المستشفيات في تلك البلاد، وجلست عشرين يوماً ورجعت فارة بسرعة، وأنا في الحقيقة كنت قد أدخلت أناساً إلى تلك البلاد، ولا أعرف هذا البلاء، فسألتها: لماذا رجعت؟ قالت لي: الله يسامحك، كيف أدخلتني إلى هناك وأنا لا أعرف شيئاً؟ قلت لها: ماذا هناك؟ هل تعاملوا معك معاملة ليست طيبة؟ قالت: عاملوني معاملة طيبة، وكنت أظل طول النهار واقفة في غرفة العمليات ولابسة القفاز ويدي في أدبار النساء، فما دخلت امرأة المستشفى إلا وزوجها يأتيها من دبرها، والبلد كلها هكذا، وهذا بلاء عظيم جداً. وهذا كفر عملي بالله عز وجل، وقد انتشر هذا البلاء في البلد حتى صار وضعاً عادياً جداً.

حديث أبي بكرة (لا ترجعوا بعدي كفارا)

حديث أبي بكرة (لا ترجعوا بعدي كفاراً) قال: [عن الحسن وابن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً -قال أحدهما: أو ضلالاً- يضرب بعضكم رقاب بعض)]، فقوله: (كفاراً) يعني: الكفر العملي وليس الكفر الاعتقادي.

حديث جرير (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة)

حديث جرير (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) قال: [عن عمر السعدي قال: كان جرير يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة، وإن مات مات كافراً)]، لكن يجب أن نفرق بين العبد والأجير، فمرة كان هناك شخص يبني بيتاً ثم هرب منه الصانع، فجاء الرجل وهو غضبان إلى المسجد يقول: أريد فلاناً، وهو في المسجد موجود معنا، فقلت له: لماذا أنت غاضب؟ قال: إنه عبد آبق، تركني منذ خمسة وعشرين يوماً، ولم يأت لينهي عمله، وتركني وذهب يعمل عند هذا يومين وهذا يومين وهذا يومين، قلت: صحيح هو مقصر في العمل، ويحتاج إلى ضرب على رأسه، لكن التوصيف الفقهي الذي تقوله ليس صحيحاً، فالأجير يأخذ أجرة، والعبد لا يأخذ أجراً، وهذا هو الفارق بين العبد وبين الأجير، فلو قال السيد لعبده: ابن لي هذا الحائط فهو ملزم ببنائه، والسيد ليس ملزماً بأن يعطيه أجراً، فقال الرجل: أحد المشايخ قال لي لما أخبرته القصة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق العبد من سيده فمات على ذلك مات كافراً)، وأنا والله -يا شيخ- لا أخفي عنك أني جئت لأقتله على اعتبار أنه كافر، وهذا والله ما حدث، لتعلموا ماذا في الأمة، قلت له: وأنت جئت لتقتله بيدك؟ هذا رجل صنائعي وأنت رجل لست قوياً، قال: من الذي قال لك ذلك؟ وأخرج لي شيئاً كأنه سيقتل به جملاً وليس شخصاً، قلت له: أنت أتيت بقوة، قال: ومعي كذا كذا، ثم جلس حتى هدأ، وكان الصنائعي يسمع هذا الكلام كله، فقال لي: كثر الله خيرك يا شيخ! هل أنت متأكد أنني لست آبقاً؟ فحتى هو أيضاً متشكك هل هو آبق أم لا؟ فالعبد الآبق هو الهارب، والأبوق أو الإباق: هو الهروب. وهذا يدلنا على حكمة الإسلام، وأن الإسلام خاطب القلوب والعقول، ولو لم يكن هناك أي عقوبة دنيوية أو أخروية على الإباق والهروب؛ لكان كل عبد قد هرب من سيده وذهب إلى أي بلد آخر وجلس فيه، ولكن الإسلام خاطبه وقال له: لو أبقت فيوم القيامة سوف تدخل النار. فالعبد يجلس مع سيده مراقبة لله عز وجل، والإسلام يريد قلوباً وعقولاً نظيفة تتعامل معه، ليس مثل عقل مصطفى محمود وغيره، فهذه العقول لا تصلح مع الإسلام أبداً، فالإسلام يحتاج إلى قلوب وعقول تقول لأوامر الله: سمعنا وأطعنا، وإن خفيت حكمة الأمر والنهي على هذه العقول والقلوب؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والإذعان لأوامر الله تعالى، كإذعان العبد لسيده والمريض بين يدي الطبيب، والطفل بين يدي أمه. واليوم يخرج علينا كل يوم إناء ينضح بما فيه، ويقول: هذا الحديث لا يعجبني شكله وإن كان في الصحيحين، ويقول: لازم نعرض كل حديث على العقل، مع أن عقله ليس نظيفاً، ولن يفهم هذا قط. ونحن لما كانت عقولنا نيرة بنور الإيمان فهمنا هذا وعلمنا أنه حق، ويكفي في كونه حقاً أننا نعتقد أن النبي قد قاله عليه الصلاة والسلام قد قاله، حتى وإن خفيت علينا العلة. قال: [وعن جرير البجلي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أبق العبد إلى العدو برئت منه الذمة). وقال -أي جرير -: مع كل أبقة كفرة، يعني: لو أن العبد أبق مرة كفر مرة، وإن أبق الثانية كفر الثانية، وهكذا، فمع كل مرة يأبق فيها العبد يكفر بها كفراً عملياً يلزم منه التوبة واسترضاء سيده.

حديث ابن مسعود (أنه دخل على امرأته فلمس صدرها، فإذا في عنقها خيط مثل التميمة)

حديث ابن مسعود (أنه دخل على امرأته فلمس صدرها، فإذا في عنقها خيط مثل التميمة) قال: [عن أبي عبيدة قال: دخل عبد الله -أي: عبد الله بن مسعود - على امرأته فلمس صدرها، فإذا في عنقها خيط مثل التميمة قد علقته في صدرها أو في عنقها، فقال: ما هذا؟ قالت: شيء رقي له فيه من الحمى] تعني: فيه رقية مكتوبة أعلقها على رقبتي لكي تذهب الحمى، [فنزعه وقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك]. والذي يعلق هذه التميمة على صدره ويعتقد أن هذه التميمة تنفع وتضر بنفسها من دون الله عز وجل مع قيام الحجة عليه يكفر ويخرج من الملة، ومن اعتقد أن النفع والضر بيد الله عز وجل، وأنه الشافي، وأنه المحيي المميت، وأنه لا ينفع ولا يضر غيره سبحانه وتعالى، ولكنه ظن أن هذه التميمة سبب من الأسباب فعلقها، فهو كافر كفراً عملياً لا يخرج به من الملة، ولذلك [قال علي بن أبي طالب: إن كثيراً من هذه التمائم والرقى شرك بالله عز وجل، فاجتنبوها]. قال: [وعن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرقى والتمائم والتولة شرك)]، والمقصود بالرقى التي هي شرك الرقية الغير شرعية، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رقى ورقاه الناس، ولكنها رقية شرعية بلسان عربي مبين، وبكلمات الله عز وجل وآياته وأسمائه وصفاته، فهذه رقية مشروعة، وأما الرقية بغير العربية كالسريانية وغيرها وبتمتمات وكلام غير مفهوم، وغير ذلك من ضرب الودع والرمل وغير هذا؛ فهذا بلا شك شرك بالله عز وجل. والتميمة: هي التي يعلقها المرء. والتولة: ضرب من ضروب السحر، وهي خاصة بعمل تعمله المرأة لأجل أن تتحبب إلى زوجها ويتحبب إليها زوجها. يعني: إذا رأت المرأة أن زوجها بدأ يفكر في الزواج ثانية تقول: سأعمل له عملاً حتى أجعله يحبني ولا يتزوج امرأة أخرى، فتذهب إلى ساحر يعمل لها ما يحببها إلى زوجها، وهذا العمل يسمى تولة إذا كان خاصاً بمحبة الزوج لامرأته أو محبة رجل لامرأة، ولا يسمى رقى ولا تمائم ولا شيئاً من هذا، وهو من الشرك بالله عز وجل.

حديث أبي ذر (ليس من رجل ادعى لغير أبيه)

حديث أبي ذر (ليس من رجل ادعى لغير أبيه) قال: [عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ معقده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر]، أي: ومن نسب رجلاً إلى الكفر، [أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه)]، أي: رجع إليه مرة أخرى.

حديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)

حديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أمطرت السماء: (قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال مطرنا بفضل الله، فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو مؤمن بالكوكب كافر بي، أو كافر بي مؤمن بالكواكب)]. فمن زعم أن المطر إنما ينزل بفعل الكواكب، وأن الكواكب مؤثرة في نزول الأمطار ورفعها بغير فضل الله عز وجل ولا إذنه وأمره، فلا شك أنه قد كفر كفراً اعتقادياً، وأما من زعم أن الكواكب لها تأثير في المطر بفضل الله عز وجل فهو كلام غير صحيح، والقائل بذلك يكفر كفراً عملياً لا كفراً اعتقادياً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والأثر من ألف وثلاثة وأربعين إلى آخر الباب يضاف إلى باب الخوف والرجاء، وهو الباب التالي بإذن الله تعالى؛ لأنه منه، ولكن سر جعله في هذا المكان أنه وقع للراوي في هذا الكتاب عن ابن بطة وجادة، بخلاف غيره فوقع سماعاً. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

الإيمان خوف ورجاء

شرح كتاب الإبانة - الإيمان خوف ورجاء الإيمان خوف ورجاء، والخوف والرجاء بمثابة الجناحين للسائر إلى الله عز وجل، فلا يصح أن يعبد الله بالخوف فحسب؛ لأنه يؤدي إلى القنوط واليأس من رحمة الله عز وجل، كما لا يصح أن يعبد بالرجاء فحسب؛ لأنه يؤدي إلى الاتكال وترك العمل.

باب الإيمان خوف ورجاء

باب الإيمان خوف ورجاء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع باب جديد من أبواب الإيمان، وهو باب: الجمع بين الخوف والرجاء، إذ إن الخوف والرجاء بمثابة الجناحين للسائر إلى الله عز وجل، بل لا يصح للمؤمن أن يعبد الله تعالى بالخوف فحسب، كما أنه لا يصح منه أن يعبد الله تعالى بالرجاء فحسب. فالخوف من الله بغير رجاء يؤدي إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، كما أن الرجاء دون الخوف من الله يؤدي إلى التفريط والتقصير في جنب الله عز وجل. ولذا عقد الإمام هنا باباً في أن الإيمان خوف ورجاء، إذ إن الخوف من شعب الإيمان، كما أن الرجاء من شعب الإيمان، فلا يستكمل إيمان العبد إلا بالخوف والرجاء معاً.

الآيات القرآنية الدالة على أن الإيمان خوف ورجاء

الآيات القرآنية الدالة على أن الإيمان خوف ورجاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتخوف العقلاء من المؤمنين على أنفسهم سلب الإيمان]. أي: هكذا أهل الإيمان يتخوفون على أنفسهم من أن يسلبوا الإيمان. قال: [وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه]. أي: خافوا أن يكون الذي أمن مكر الله عز وجل، وأمن عذاب الله عز وجل، أن يؤدي به ذلك إلى النفاق. قال: [وبذلك نزل القرآن وجاءت به السنة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]]، (يرجون رحمته) يمثل جانب الرجاء، (ويخافون عذابه) يمثل جانب الخوف، ومحل ذلك كله إنما ظهر في أنهم يدعون ربهم، ولذلك قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، ولهذا فالسنة شاهد فيما أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني قبلتك على ما كان منك ولا أبالي). قال العلماء: الدعاء بسبب الخوف، وهذا النص في الحديث شمل الخوف والرجاء، (إنك ما دعوتني ورجوتني قبلتك على ما كان منك ولا أبالي)؛ لأن الله عز وجل إليه عاقبة الأمور فلا يحاسبه أحد، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. [وقال الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]]، أي: خوفاً من عذابه ومن ناره وعقابه، وطعماً في جنته ومغفرته ورضوانه. [وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9]]، وهذا الخوف، والرجاء: [{وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]]، فهذه الآيات وغيرها كثير جداً إنما تحمل هذين الجناحين: الخوف والرجاء معاً، كما أن أحاديث كثيرة ذكرت الخوف فقط، أو ذكرت الرجاء فقط، فالذي يقف على آيات وأحاديث الخوف دون أن يقف على آيات وأحاديث الرجاء، ربما هلك من فرط خوفه وفزعه من عذاب الله عز وجل، والذي يقف على آيات وأحاديث الرجاء فقط، ربما اتكل على رحمة الله عز وجل فترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر الطاعات، ووقع في سائر المحرمات اتكالاً على رحمة الله عز وجل، فلا هذا قد حقق الإيمان، ولا ذاك قد حقق الإيمان، وإنما يحقق الإيمان من حقق الخوف والرجاء معاً، وإنما يحقق الرجاء من حقق الخوف، ويحقق الخوف من حقق الرجاء، أما إذا اقتصر على أحدهما فليس بمؤمن على الحقيقة.

ذكر بعض الأحاديث في أن الإيمان خوف ورجاء

ذكر بعض الأحاديث في أن الإيمان خوف ورجاء قال: [وعن أنس بن مالك قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في مرض الموت فقال: كيف تجدك؟]، أي: ما هي أخبارك؟ [قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي)]، (أرجو الله) جانب الرجاء، (وأخاف ذنوبي) جانب الخوف، وحتى في هذا الموطن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)؛ لأن الله تعالى عند حسن ظن العبد، قال: [(فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمع هذا في قلب عبد في مثل هذا الموطن)]،أي: موطن القدوم على الله عز وجل، وترك الدنيا والإقبال على الآخرة، [(إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف)؛ لأنه حقق جانبي الإيمان: الخوف والرجاء.

آثار في خوف السلف من ذهاب إيمانهم وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه

آثار في خوف السلف من ذهاب إيمانهم وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه إلا ذهب]. وكأنه أراد أن يقول: ليس من أحد إلا ويجب عليه أن يحذر فوات إيمانه، وأن من أمن فوات الإيمان فلا بد أن يفوته حقيقة، إذ المرء إنما يعمل على تحصيل الإيمان وزيادته وكماله وتمامه، أما من أهمل إيمانه فهو كمن أهمل في زرعه أو في صناعته أو حرفته، فلا بد أنها إلى زوال، والإيمان من باب أولى. إذ إن الإيمان كالشجرة التي تنبت في القلب، والمعلوم أن الشجرة ما لم تحطها برعاية ولطف لا بد أنها إلى زوال، وكذلك الإيمان ينبغي أن يراعيه صاحبه في قلبه. قال: [وعن الحسن البصري قال: والله ما مضى من مضى، ولا بقي من بقي إلا يخاف النفاق]. حتى المبشرون بالجنة كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق، فهذا عمر رضي الله عنه المبشر بالجنة يلقى حذيفة، وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر حذيفة بأعلام وأعيان وأسماء المنافقين، فيقول له: أنشدك الله يا حذيفة! أعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟! عمر يخاف على نفسه من النفاق، فمن باب أولى أن يخاف أحدنا من ذلك، أو أن يقف الواحد منا مع نفسه وقفة جادة لمعرفة ما إذا كان منافقاً أو فيه شعبة أو خصلة من خصال النفاق، فيراجع نفسه ويتخلص منها، ويعمل على كمال وتمام وزيادة الإيمان في قلبه بإتيان الطاعات واجتناب المنهيات. فقال حذيفة لـ عمر رضي الله عنهما: لا يا عمر! ولا أزكي أحداً بعدك، أي: لم يذكرك النبي عليه الصلاة والسلام في المنافقين، ولكني أرجوك ألا تفتح هذا الباب حتى لا يسألني أحد غيرك فيكون منهم، فاضطر اضطراراً إلى إخباره بأنه من المنافقين، فتكون الفتنة بعد ذلك بيني وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وما أمنه إلا منافق]. أي: ما أمن النفاق على إيمانه إلا إنسان قد استهتر بهذا الإيمان. وقد ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. وهذا يدل على وجود الإيمان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو كذلك حقاً، ولذلك قال غير واحد: ما سبق أبو بكر الأمة بكثير صلاة ولا صيام، وإنما سبقها بشيء وقر في قلبه، ألا وهو الإيمان. قال: [وقال طريف بن شهاب: قلت للحسن البصري: إن أقواماً يزعمون ألا نفاق]، أي: أنه ليس هناك شيء اسمه نفاق، قال: [ولا يخافون النفاق! قال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً]. أي: يرد عليه فيثبت النفاق، بدليل أن الحسن يتمنى لو أنه أخبر أنه ليس فيه شعبة من النفاق، وأن ذلك أحب إليه من أن تنبت الأرض ذهباً، فيقول الحسن: فيشتري الخبر بطلاع الأرض كلها ذهباً، على أن يخبر أنه ليس من المنافقين، أو أنه ليس على شعبة من النفاق. قال: [وعن الحارث بن معاوية قال: إني لجالس في حلقة وفيها أبو الدرداء وهو يومئذ يحذرنا الدجال]. وكما تعلمون أن الدجال أعظم فتنة إلى قيام الساعة، وما من نبي إلا حذر أمته الدجال، فـ أبو الدرداء رضي الله عنه في حلقته يحذر الأمة الدجال. قال: [فقال له الحارث بن معاوية: والله لغير الدجال أخوف على نفسي من الدجال]، أي: أنا أخاف على نفسي شيئاً هو أعظم من الدجال. [فقال أبو الدرداء: وما الذي أخوف في نفسك من الدجال؟ قلت: إني أخاف أن يسلب مني إيماني ولا أدري]. أي: أخاف أن يذهب إيماني دون أن أدري. [قال: لله أمك يا ابن الكندية!] أي: كأنك أتيت بشيء عظيم حقاً، وجدير بالاهتمام، فقال: [لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس مائة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس خمسين يتخوفون مثل الذي تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس عشرة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس ثلاثة يتخوفون ما تتخوف؟ والله ما أمن رجل قط أن يسلب إيمانه إلا سلبه، وما سلبه فوجد فقده]. أي: إذا سلب الإيمان فإنه يصعب جداً أن يعود إلى صاحبه مرة أخرى، وكأن أبا الدرداء أقر الحارث بن معاوية على أن رعاية الإيمان أعظم بكثير جداً من الانشغال بفتنة المسيح الدجال. قال: [وعن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء كثيراً ما يقول: إذا هلك الرجل على الحال الصالحة هنيئاً له، ليت أني بدله]! أي: إذا مات المرء على حال صالحة مرضية فهنيئاً له. [فقالت أم الدرداء -وهي ا

ذكر الآثار عن السلف في الخوف والرجاء

ذكر الآثار عن السلف في الخوف والرجاء

أثر أبي بكر الصديق: (والله لو قيل: لا يدخل الجنة)

أثر أبي بكر الصديق: (والله لو قيل: لا يدخل الجنة) وهذا الباب يكمله بعض النصوص التي سبقت هذا التبويب مباشرة. قال: [وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لو قيل لا يدخل الجنة إلا رجل واحد لرجوت أن أكون أنا هو]. في هذا الموقف الرهيب يحقق جانب الرجاء، قال: [ولو قيل: لا يدخل النار إلا رجل واحد لخفت أن أكون أنا هو]. أيضاً في هذا الموقف الرهيب يحقق جانب الخوف، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

أثر عون بن عبد الله: (قال لقمان لابنه: (يا بني أرج الله)

أثر عون بن عبد الله: (قال لقمان لابنه: (يا بني أرج الله) قال: [وعن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني ارج الله رجاءً لا تأمن فيه مكره]. أي: أرجه؛ لكن لا تأمنه أن يمكر بك، إذ إن الله عز وجل يمكر بالعبد إذا رجاه بغير عمل، لكن إن حقق العمل أولاً ثم رجا الله تعالى كان رجاؤه رجاءً شرعياً صحيحاً، فرجاء بغير عمل إنما هو تمن، أما عمل يعقبه رجاء فهو الرجاء الشرعي الممدوح عند أهل السنة. قال: [يا بني ارج الله رجاءً لا تأمن فيه مكره، وخف الله خوفاً لا تيأس فيه من رحمته]. أي: لا بد أن يحقق العبد جانب الرجاء، لكن رجاءً لا يعطله عن العمل، كما أنه يجب عليه أن يخاف الله تعالى، لكن خوفاً منضبطاً بضوابط الشرع لا يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، فالأول شكر، والثاني كفر. [فقال ابن لقمان لوالده: كيف أستطيع ذلك يا أبت! وإنما لي قلب واحد؟ قال: يا بني! إن المؤمن هكذا له قلبان: قلب يرجو به، وقلب يخاف به]. وهو في الحقيقة قلب واحد، لكنه يقوم بالوظيفتين: وظيفة الرجاء، ووظيفة الخوف.

أثر بكر المزني: (لو انتهيت إلى هذا المسجد)

أثر بكر المزني: (لو انتهيت إلى هذا المسجد) قال: [وعن بكر بن عبد الله المزني قال: لو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال]، أي: قد امتلأ بالرجال، [فقيل لي: أي هؤلاء خير؟ لقلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه خيرهم، ولو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله، مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء شر؟ لقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه شرهم، وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان، ولو شهدت له بذلك شهدت أنه في الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان، ولو شهدت عليه بذلك شهدت أنه في النار]، ثم قال: وهذا الموقف الثاني: [ولكني أخاف على خيرهم، فكم عسى خوفي على شرهم، فإذا رجوت لشرهم فكم رجائي لخيرهم؛ هكذا السنة]! فهذا الإمام يقعد قاعدة إيمانية عظيمة جداً كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، هذه القاعدة هي: أن أهل السنة لا يشهدون لأحد بالجنة إلا من شهد له القرآن والسنة بذلك، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة الكرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد شهد لهؤلاء جميعاً بالجنة، فلا أتوقف أنا قط في دخول هؤلاء الجنة، ولو شهد القرآن والسنة بأن فلاناً في النار فلا أتوقف في اعتقادي أن فلاناً في النار، مثال ذلك: أبو طالب في النار، مع أنه عم النبي عليه الصلاة والسلام، وعبد المطلب في النار، وأبو لهب في النار؛ لأن القرآن والسنة قد شهدا بأن هؤلاء في النار، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن بعض من كان يجاهد معه أنه في النار بسبب بعض المعاصي التي وقع فيها وارتكبها، فأشهد أنه دخل النار لكنه لا يخلد فيها؛ لأن المؤمن أو المسلم العاصي إنما يدخل النار فيأخذ جزاءه أو يعفو الله عز وجل عنه، بخلاف المنافق فإنه في الدرك الأسفل من النار، ونحن نعتقد أن هذه الثلة المنافقة الذين كانوا في زمن النبوة خمسة عشر أو ستة عشر رجلاً كانوا من المنافقين، وهم في الدرك الأسفل من النار، وقد عدهم الإمام مسلم عدداً مجملاً ستة عشر شخصاً، وهؤلاء هم رءوس النفاق في زمانه عليه الصلاة والسلام. لكن يبقى بعد ذلك أنني أرى أن هذا الرجل من أهل الصلاح؛ فهل ذلك يستوجب له القطع بالجنة؟ ولذلك أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يحل لنا أن نزكي على الله أحداً، لكن نقول: فلان نحسبه على الخير والله حسيبه، أي: إلى الله تعالى سره، فظاهره يحتمل الصلاح، وأعماله أعمال الخائفين، لكن هل هو محق في هذا؟ والأعمال القلبية كما قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، والعكس بالعكس، ففيما يبدو لي أن فلاناً من أهل الصلاح، لكن هل هو كذلك عند الله؟ أنا أرجو ذلك، ولا أقطع بهذا؛ لأني لو قطعت بأنه من الصالحين فلا بد أن أقطع له بالجنة؛ لأنه صالح، والجنة يدخلها الصالحون، فأقول: هو صالح، لكن الله حسيبه، وأما إن كان فاسداً فهل يحكم له بالفساد، وبالتالي يحكم له بالنار؟ لا أدري، فأنا أخاف عليه ذلك، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يزكون على الله عز وجل أحداً، وإنما يرجون الثواب للطائع ويخافون على العاصي، يرجون رحمة الله عز وجل للطائع، ويخافون على العاصي، أقول لك: يخافون على العاصي، ولا يتهمونه ولا يسبونه ولا يدعون عليه، وإنما يخافون عليه العذاب، ويتمنون لو أنه انتقل من حال الفساد إلى حال الصلاح والطاعة، أما الحكم له بجنة أو نار فهذا ليس لأحد. ولذلك لما رأى أحد الصالحين رجلاً من أصحاب المعاصي على معصية فقال: والله لا يغفر الله لفلان، غضب الله تعالى من هذا القول غضباً شديداً وقال: (من ذا الذي يتألى عليَّ؟)، والتألي هو: الحلف والقسم، أي: من ذا الذي يحلف على الله أنه لا يغفر لفلان؟ وقال الله تعالى: (أشهدكم أني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)، أي: أن الله تعالى غفر لهذا المذنب، وأحبط عمل هذا الصالح؛ لأنه خالف منهج أهل السنة والجماعة في أنهم يتمنون الرأفة بالصالح، ويخافون على العاصي، ولا يقطعون عليه بحكم؛ لأن هذا القطع ليس لأحد إلا لله عز وجل، فمن باب التألي على الله عز وجل أن يقال: إن فلاناً من أهل النار، وإن فلاناً من أهل الجنة، كما أن منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يقطعون لأحد بعينه بمثل هذا، وإنما يرجون أن يكون شهيداً، وهذا لا يمنع إطلاق الشهادة العامة لا الخاصة، فنقول: شهداء بدر، شهداء أحد، شهداء الثورة؛ لأنه ليس في هذا قطع لفلان بعينه أنه من أهل الجنة، لكن لو قلت: فلان شهيد، فبهذا أكون قد قطعت له بالجنة، وبالتالي فلا بأس بإطلاق الحكم العام الذي لا يخص به أحد من بين هذه العموم، دون بقية من شاركه في ذلك. ولذلك فهذا باب عظيم جداً من معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا

أثر معاوية بن حرمل: (لو نادى مناد من السماء)

أثر معاوية بن حرمل: (لو نادى منادٍ من السماء) قال: [وقال معاوية بن حرمل: لو نادى مناد من السماء: لا يدخل الجنة غير رجل واحد لرجوت أن أكون أنا هو، ولو نادى مناد من السماء: لا يدخل النار إلا رجل واحد لم أزل أخاف أن أكون أنا هو، حتى أعلم أأنجو أم لا]، أي: حتى يأتيني الخبر اليقين المتعلق بي أنا، قال: [ولو نادى مناد من السماء أن معاوية بن حرمل من أهل النار لم أزل أعمل حتى تعذرني نفسي]. وهذا كلام عظيم جداً يرد به على الذي يتكلون على المكتوب والمقدر ويتركون العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام أجاب عن هذا السؤال فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، أي: أنت مهدي إلى طريقك الذي كتبه الله عز وجل لك في اللوح المحفوظ، إذ كل يعمل بهذا الأجل المحفوظ، وبهذا القدر المكتوب، والله عز وجل ما كتبه عليك ظلماً، فحاشاه سبحانه أن يظلم عباده ذرة أو أقل من ذلك، ولكن الله تعالى أعذر العباد من أنفسهم بأن جعلهم عقلاء، ولما مدحهم مدحة العقل كلفهم، ولم يكلفهم إلا بعد أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، فقامت الحجج على الخلق، وليس للمرء إلا أن يجتهد في الطاعة بإتيان الأمر وترك النهي، ولازم عليه بعد ذلك أن يرجو رحمة الله تعالى وأن يخاف عذابه.

أثر وهب بن منبه: (الرجاء قائد)

أثر وهب بن منبه: (الرجاء قائد) قال: [وعن وهب بن منبه أنه كان يقول: الرجاء قائدك]، أي: يقودك إلى الله، [والخوف سائق]، أي: يسوقك من الخلف، [والنفس حرون]، أي: تحرن عليك وتمتنع عن العمل، كما يقال: هذا الحمار حرن مني، أي امتنع عن السير والعمل، وهكذا النفس، فالرجاء يقودها إلى الله، والخوف يسوقها من الخلف، إذاً النفس في الوسط، أمامها الرجاء وخلفها الخوف. قال: [إن فتر قائدها]، وهو الرجاء، [صدت عن الطريق فلم تستقم لسائقها، وإن فتر سائقها لم تتبع قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعاً وكرهاً]. وكأنه قال: الخوف والرجاء لا بد منهما للنفس التي ترغب أن تصل إلى الله عز وجل؛ خوفاً من عذابه وناره، وطمعاً في جنته ورحمته.

أثر علي بن أبي طالب: (ألا أخبركم بالفقيه)

أثر علي بن أبي طالب: (ألا أخبركم بالفقيه) قال: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟] أي: ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قال: [من لم يقنط الناس من رحمة الله]، وهذا كلام الدعاة والوعاظ، [ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله. وذكر الحديث]. فالذي يكون كل كلامه في الجنة حتى يوقن الرجل أنه ليس هناك شيء اسمه: عذاب ولا عقاب ولا نار، وأن الله غفور رحيم، وبالتالي فلماذا نصلي ونصوم ورحمة الله قد وسعت كل شيء حتى اليهود والنصارى؟ هكذا يقول! بل هكذا اعتقد أحد المسلمين وقال لي: أتظن أن رحمة الله تعالى لا تشمل اليهود والنصارى؟ قلت: والله لا تشملهم، قال: يلزمك التكفير عن هذه اليمين! فقلت: الذي لا يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، وإن كان يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويزعم أنه مسلم؛ لأنه قد كذب الله تعالى في آياته، وكذب النبي صلى الله في حديثه، والقرآن والسنة قد ملئا بالآيات والأحاديث التي تدل على أن كل من لم يؤمن بالله رباً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً، ويعمل بمقتضى هذا الإيمان؛ فإنه كافر، ولعل الوقت يسمح بسرد ذلك بإذن الله إذا تكلمنا عن الإيمان. فالفقيه الحق هو الذي يعطي الناس جرعة خوف مع جرعة رجاء، فيخرج المرء من مجلس الوعظ بين الخوف الذي يحمله على العمل، وبين الرجاء الذي لم يقنطه من رحمة الله عز وجل، النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من تنشق عنه الأرض، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو سيد الأولين والآخرين، ومع هذا كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فلما قالت عائشة: (يا رسول الله! أليس الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً)، والشكر باب من أبواب الرجاء لله عز وجل، كما أنه باب من أبواب الخوف لله عز وجل.

دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله

دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله قال: [وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل، ووضع يده على رأسه عليه الصلاة والسلام)]. يا إخواني! مهما عمل العاملون، فإنهم لا يكافئون الله تعالى في أدنى نعمة أبداً. وعند الحاكم من حديث أنس بسند لا بأس به أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كان رجل فيمن كان قبلكم عبد الله ستمائة عام)، فهل هناك أحسن من هذا؟ ستمائة عام وهو في عبادة مستمرة، ما بين قائم وراكع وساجد وداع وتال وغير ذلك. قال: (فقال الله له: تمن، فتمنى أن يموت وهو ساجد، فمات وهو ساجد، ثم أمر به فجاء بين يدي الله عز وجل، فقال الله: أدخلوا عبدي الجنة بفضلي، فقال العبد: لا يا رب! بعملي، فأمر الله تعالى الملائكة أن يزنوا عبادة ستمائة سنة في مقابل نعمة البصر فقط، فلما وضعوا البصر في كفة والعمل في كفة طاشت عبادة ستمائة عام، فقال الله عز وجل: أدخلوا عبدي النار، فقال: يا رب! أدخل الجنة بفضلك، فدخل الجنة بفضل الله عز وجل). فلا بد أن يحاسب الواحد منا نفسه، وأن يرد الفضل إلى الله، إذ إنه الذي قواه على العبادة، وإذا استمر هذا العبد في عبادة الله ستمائة سنة فمن الذي قواه عليها؟ ومن الذي هداه إليها؟ إنه الله تعالى مصدر كل خير، فلا يغتر المرء بعمله؛ لأن المرء لا يدخل الجنة بعمله، إنما العمل سبب لدخول الجنة أو دخول النار، أما دخول الجنة فهو بفضل الله عز وجل، ودخول النار بعدل الله عز وجل.

موقف السلف من المرجئة وتخويفهم من معتقدهم

موقف السلف من المرجئة وتخويفهم من معتقدهم قال: [وعن ابن أبي مطيع قال: شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة]. وأيوب هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الكبير، والمرجئة يقولون في الإيمان إنه تصديق القلب، والعمل ليس من الإيمان، ولذلك دفعهم هذا إلى أن يقولوا لزاماً بهذا النص: إن إيمان أفسق الخلق كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له بالإيمان عندهم، فيستوي مع جبريل عندهم من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصدق بهذه الكلمة بقلبه، ولو ترك كل الأوامر وارتكب كل النواهي؛ فهذا إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا كلام دعاة الفساد والمجلات، فالعمل عندهم لا علاقة له بالإيمان البتة. قال: [فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان]، أي: أن هذا المرجئ يقول لـ أيوب إمام السنة في زمانه: الإنسان إما كافر! وإما مسلم، وليس هناك غير هذا. قال: [وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: أرأيت قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]]، فهذه الآية هل يمكن أن تكون نزلت في الكافرين؟ أليست المسألة كلها عند المرجئة إيماناً أو كفر؟ أيضاً هل هذه الآية موافقة للقواعد التي قعدها المرجئة لأصل مذهبهم، أم أن هذه الآية تشهد لمذهب أهل السنة والجماعة؟ ((وَآخَرُونَ))، أي: من الخلق ((مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ))، أي: يوم القيامة ((إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)). ثم مستحيل أن هذه الآية في صفات الكفار؛ لأن الكفار في عذاب الله يقيناً، وأنه لا تلحقهم التوبة أبداً إذا ماتوا على الكفر، فهذه الآية وردت للعقوبة أو العفو عنهم يوم القيامة، وهل يكون عن الكافر عفو يوم القيامة؟ لا يمكن العفو عن الكافر يوم القيامة، وقد يأتي من يقول: أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى، ونحن مؤمنون بهذا؛ لكن الله عز وجل الذي هو على كل شيء قدير خلق الجنة وخلق النار، وجعل لكل منهما قسماً، وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت! والله عز وجل أخبرنا أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فإذا جاء شخص وقال: هل يمكن أن الله لا يجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار؟ نقول: نعم؛ الله عز وجل قادر على كل شيء، لكنه لما كان قادراً أخبرنا أنه بقدرته سيجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار. إذاً: هناك أمور تدل على المستويات الأخرى أبداً؛ لأن القرآن والوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن تستقر مسائل الإيمان والكفر في قلب العبد وذهنه. فهذا النص: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)) معناه: مؤخرون بمشيئة الله عز وجل يوم القيامة، ((إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)) أي: فإما أن يعذبهم بعدله، وإما أن يتوب عليهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة بفضله. وهذه مسألة متعلقة بالعمل، ولذلك أرجأهم الله تعالى، وأخرهم إلى يوم القيامة، وهم في مشيئته، إن شاء عذب وإن شاء غفر، وهذا بسبب أعمالهم المخالفة لأوامر الشرع، وارتكابهم لما نهى عنه الشرع. فهم في مشيئة الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وإنما كان ذلك بسبب أعمالهم، إذاً: هذا العمل متعلق بالإيمان. [قال أيوب: أمؤمنون أم كفار؟] أي: هل هذه الآية أنزلت في المؤمنين أم في الكفار؟ [فسكت الرجل. فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي]. أي: أنه يخاف أن يكون من أهلها، لكن ليس صحيحاً أن يعتقد أنه من أهل النفاق. يأتي أخ يقول لك: والله العظيم أنا منافق، طيب هذا النفاق هل هو أكبر أم أصغر؟ يقول لك: أكبر. إذاً: لماذا لا تتوب إلى الله عز وجل؟ يقول لك: أنا يئست! أقول: فماذا ستعمل؟ يقول: أنا من أهل النار فلن أعمل إذاً! فهو يوطن نفسه على أن يترك طاعة الله عز وجل ثم يقع في معاصيه، وهذا على أية حال خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. قال: [وقال ابن أبي مليكة: قد أتى علي برهة من الدهر وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن]. أي: أن ابن أبي مليكة قد أدرك عدة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يجد أحداً منهم يقول: أنا مؤمن، وإنما رجل يخاف على نفسه من النفاق. قال: [وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن، فما رضي بذلك حتى قال: إيماني مثل إيمان جبريل]. وهذا يخوف المرجئة، إذ يقول: حينما لقيت الصحابة كلهم لم أجد فيهم أحداً قال: أنا مؤمن، وإنما كان كلهم خائف على نفسه من النفاق، وأنت غارق في المعاصي وتقول: أنا مؤمن وتتبجح بذلك، كما تترك الأوامر وتقع في النواهي وتزعم أنك مؤمن! هذا شيء عجيب جداً، وليس عليه مذهب السنة. قال: [وما كان محمد صلى الله عليه وسلم يتفوه بذلك، وما زال الشيطان يتقلب بهم حتى قال: مؤمن وإن نكح أمه وأخته وابنته!] أي: أن نكاح الأم والبنت والأخت عندهم معاص، وعندهم أن صاح

كلام علماء أهل السنة في الخوف والرجاء

كلام علماء أهل السنة في الخوف والرجاء

كلام الطحاوي في الأمن والإياس

كلام الطحاوي في الأمن والإياس قال الإمام الطحاوي في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام. والأمن مصدره الرجاء فقط، والإياس مصدره الخوف فقط، والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، واعلم أن هذا ليس كفراً أصغر، بل هو كفر أكبر. يعني: لو أن المرء أمن مكر الله عز وجل لابد أنه يوقن أنه من أهل الجنة وإن ترك العمل، كما أن المرء لو خاف الله عز وجل بغير رجاء في رحمته وطمع في ثوابه وجنته، فلا شك أن سييأس ويقنط من رحمة الله عز وجل. قال: وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة. أي: وسبيل الحق بين الخوف والرجاء، فلا الرجاء فقط مذهب أهل السنة، ولا الخوف فقط مذهب أهل السنة، وإنما مذهب أهل السنة الجمع بين الخوف والرجاء.

كلام ابن أبي العز الحنفي في الخوف والرجاء

كلام ابن أبي العز الحنفي في الخوف والرجاء قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية: يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً -وهذا أمر واجب ليس مندوباً ولا مستحباً- فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله. فهذا هو الخوف الحقيقي، وليس الخوف أنك تخاف ثم تترك الصلاة، إنما الخوف الحق هو الذي يحملك على طاعة الله عز وجل. قال: فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. أي: الخوف الحقيقي هو الذي يحول بينك وبين معاصي الله عز وجل، فمثلاً: لو أن امرأة اعترضتك ذات منصب وجمال، فقلت: إني أخاف الله، فهل هذا هو الخوف الحقيقي أم أنه كذب؟ هذا هو الخوف الحقيقي. وخوف يوسف عليه السلام لما اعترضته امرأة العزيز كان خوفاً حقيقياً. قال: والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله. أي: أنه عمل أولاً بطاعة الله، ولم يقل: والله أنا أملي في الله أن يغفر لي كبير جداً، فإذا سألته عن العمل يقول لك: والله أنا لا أصلي، وفي شهر رمضان أدخن في النهار! فإذا قيل له: يا فلان! اتق الله، يقول لك: أنت ليس لك علم بمقدار رحمة الله، يا سلام! وهل رحمة الله قالت لك: أن تترك الفرائض والأركان؟ قال: والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:218]، أي: أول شيء حققوه هو الإيمان، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، فهم لم يؤمنوا فقط، بل بعد أن آمنوا هاجروا وجاهدوا، والهجرة عمل، والجهاد عمل، إذاً هم ضموا إلى الإيمان العمل الذي هو مقتضى الإيمان، وأجازوا الإيمان، أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا والذنوب والمعاصي، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. إذاً الواحد لا يقول: أنا راج إلا بعد تقديم العمل أولاً. قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه. أي: أن الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا، كأن يكون جانب الرجاء مثلاً (70 %)، والخوف (70 %)، وإذا حقق جانب الرجاء على أعلى درجاته (100 %)، وحقق جانب الخوف (100 %)، فهذه منزلة الأنبياء والمرسلين، وقل أن يصل عبد من العباد إلى هذه المنزلة، لكن المرء يتعبد بالخوف والرجاء، فيغفل ويسهو عن عذاب الله أحياناً، وعن رحمة الله أحياناً، ولذلك أنتم تعلمون حديث حنظلة لما قال لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: نافق حنظلة، فقال له: وما ذاك؟ قال: نكون بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام كأننا نرى الجنة والنار رأي العين، فإذا رجعنا إلى دورنا وعافسنا الأزواج والضيعات، نسينا ذلك. فظن أن غفلته عن ذكر الجنة والنار في انشغاله المباح بأعراض الدنيا شعبة من شعب النفاق، فقال أبو بكر: وأنا مثل ذلك. وتعال بنا نذهب إلى المعلم الكبير النبي عليه الصلاة والسلام لنقص عليه هذه القصة، فلما ذهبا إليه وأخبراه بما كان من الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: (لو دمتم على ذلك لصافحتكم الملائكة)، وهذا شيء جميل جداً، لكن هل غفل النبي عليه الصلاة والسلام عن الجنة والنار للحظة واحدة؟ A لا. ولذلك كان كثيراً ما يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)، فمصدر الضحك رحمة الله عز وجل، ومصدر البكاء عذاب الله عز وجل، وهذا تأصيل علمي لقاعدة استواء الرجاء والخوف، وأنهما يمثلان الجناحين للطائر أو السائر إلى ربه، ولا يصح من العبد أن يعبد الله بجناح واحد، وهو جناح الرجاء، أو بجناح الخوف. قال: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت. أي: إذا ذهب الخوف والرجاء من قلب العبد فإنه هو والموت سواء. قال: وقد مدح الله عز وجل أهل الخوف والرجاء فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه. لأن الواحد إذا أراد أن يهرب من ظالم يذهب إلى رئيسه، ثم إلى الرئيس الأعلى، ثم الأعلى، ثم الأعلى، حتى إذا انتهت أسباب اللجوء إلى من يمكن أن يدافع عن حقه لا بد أن يلجأ المرء إلى الذي لا يخاف وهو سبحانه وتعالى، فكل إنسان يهرب من الظالم

كلام ابن القيم في الرجاء

كلام ابن القيم في الرجاء وقال صاحب المنازل وعقب عليه كذلك ابن القيم عليه رحمة الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد. أي: السائر إلى الله عز وجل. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء). وعند مسلم من حديث جابر قال: سمعته عليه الصلاة والسلام يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه). ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، لأنه مودع، ولأن العبد في المرض لا يرجى منه العمل، إذ إن عمله في هذه الحال قليل جداً، ولذلك ينبغي أن يزداد رجاءً. والعلماء يقولون: في حال الصحة ينبغي أن يزيد جانب الخوف على جانب الرجاء زيادة طفيفة تحمله على العمل، أما إذا كان مريضاً فيستحب أن يزيد رجاؤه على خوفه؛ لأن العمل منه غير مرجو والحالة هذه، وأنه قادم على الله عز وجل، فينبغي أن يحسن الظن بربه. وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق. أي: يقول لك أنا لا أصلي ولا أصوم ولا أزكي ولا أحج، ولكن قلبي مفعم بالإيمان! وأنت إذا كنت تصلي فأنا أحب الله أكثر منك، ما هذا الحب؟! الحب الحقيقي هو الذي يحملنا على العمل، وأنت لو أحببت عبداً عملت كل ما يمكن القيام به مما يحبه المحبوب، والله عز وجل فوق كل محبوب، فيجب أن يتقرب إليه من أحبه بكل ما يحبه سبحانه وتعالى. والله تعالى إنما أخبرنا بما يحب في كتابه وفي سنة نبيه، كما أخبرنا بما يكره في كتابه وفي سنة نبيه، فمراد الله تعالى من العباد محدود، أي: مراد العباد من العباد لا حدود له، أما مراد الله تعالى منا فمحدود بالأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة، فإذا فعلت الأمر واجتنبت النهي فقد حققت المراد لله عز وجل، وأتيت بالعبادة على أكلمها وأتمها.

كلام الإمام الهروي في الخوف والرجاء

كلام الإمام الهروي في الخوف والرجاء ويقول كذلك الإمام الهروي في كتابه منازل السائرين: إن القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل طائر وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف، وهذه طريقة أبي سليمان وغيره. قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد. وقال أيضاً: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف. أي: أكمل أحوال العبد أن يكون الخوف والرجاء عنده معتدلين؛ لأن تغليب جانب الرجاء يؤدي إلى التفريط في حق الله، وتغليب جانب الخوف يؤدي إلى اليأس من رحمة الله عز وجل. قال: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه سبحانه وتعالى. وهناك كلام كثير جداً في الخوف والرجاء بإمكانك أن تطلع في أي كتاب من كتب الاعتقاد المشروحة أو غير المشروحة، والنصوص كثيرة في هذا الباب، وإنما أردنا التنبيه على أصل أصيل من أصول أهل السنة والجماعة، وهذا هو منهج أهل السنة، أن الإيمان فلا يصلح أن يكون خوفاً فقط، كما لا يصلح أن يكون رجاءً فقط، بل الإيمان خوف ورجاء، ولا بأس أن يزداد الخوف في حالة الصحة شيئاً يسيراً على الرجاء ليحمل المرء على العمل، ولا بأس أن يزداد الرجاء في حال المرض والقدوم على الله، حتى يلقى العبد ربه وهو حسن الظن به، لكن على أية حال أكمل أحوال السائر إلى الله عز وجل اعتدال جناحي الخوف والرجاء، خوف يؤدي به إلى العمل أو يحمله على مزيد العمل، ورجاء لا يقنطه من رحمة الله عز وجل. إذاً: خوف لا يقنطه ولا يجعله يترك العمل، ويقول: علام العمل إذاً؟ إذا كان الله تعالى قد أعد ناراً فيها كيت وكيت من أنواع العذاب، إذاً فلم العمل؟! أنا من أهل النار، وداخل النار لا محالة! نقول: من الذي أخبرك بأنك من أهل النار ابتداء؟ فربما تكون من أهل الجنة، ثم من الذي أخبرك بأنك من أهل الجنة؟ فربما تكون من أهل النار، فإذا اختار المرء بين المنزلتين عمل لأفضلهما وأشرفهما، وهي جنة عرضها السماوات والأرض. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

خلاف أهل العلم في خلود الثنتين والسبعين فرقة في النار

خلاف أهل العلم في خلود الثنتين والسبعين فرقة في النار Q هل الاثنتان والسبعون فرقة في النار مخلدون فيها؟ A هذا محل نزاع عظيم بين أهل العلم، مع أن هناك فرقاً كاملة في نار جهنم خالدة فيها، وهؤلاء الذين خالفوا الأصول والفروع لأهل السنة والجماعة، أما بقية الفرق التي شاركت أهل السنة في كثير من المسائل فإن المنظرين لهؤلاء أو أصول هذه الفرق بلا شك من أهل النار، ويغلب عليهم الكفر، أو هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، بخلاف عامة الناس.

حكم مقولة: (فلان رحمه الله)

حكم مقولة: (فلان رحمه الله) Q ما الحكم في قولنا: إن فلاناً رحمه الله، أو يرحمه الله؟ A هذا الكلام -يا أخي- من باب الدعاء وليس من باب القطع، فإذا قلت: فلان رحمه الله أو فلان يرحمه الله فليس هذا قطعاً بأنه قد أدركته رحمة الله عز وجل، وإنما هذا من باب الدعاء فقط، فقولك: فلان رحمه الله، أي: أرجو أن يرحمه الله عز وجل.

حكم قراءة الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول

حكم قراءة الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول Q ما هو الراجح لديكم في التشهد الأول هل تقرأ فيه الصلاة الإبراهيمية؟ A النبي عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التشهد أولاً إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فلما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، (قالوا: يا رسول الله! هذا السلام عليك فما بال الصلاة عليك؟ أي: كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إلى آخر الدعاء، وقال: واجعلوها في صلاتكم). فذهب الجمهور إلى أن التشهد يقرأ إلى حده الأول في التشهد الأول، وإلى قوله: إنك حميد مجيد في التشهد الثاني في الصلاة الرباعية. وذهب الظاهرية والشافعية: إلى وجوب قراءة التشهد كاملاً إلى قولك: إنك حميد مجيد في التشهد الأول، أي: في الصلاة التي فيها تشهدان. وفي الحقيقة هذا هو المذهب الراجح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم أصحابه أن يسموا الصلاة الإبراهيمية تشهداً، فمن قال: إنما ذلك في التشهد الثاني، فنقول له: ائتنا بالدليل الذي يفرق بين التشهدين، فإنهم كانوا يقرءون أولاً التشهد الأول فقط دون الصلاة الإبراهيمية قبل أن يعلمها إياهم في التشهدين الأول والثاني. فينبغي أن يلحق الصلاة الإبراهيمية بالتشهد الأول والثاني كذلك، ومن فرق بين الاثنين فليأتنا بالدليل.

حكم زواج الرجل من زوجة أخيه بعد طلاقها

حكم زواج الرجل من زوجة أخيه بعد طلاقها Q هل يجوز زواج الرجل من زوجة أخيه بعد طلاقها من أخيه، سواء كان لها أبناء من أخيه أم لا؟ A نعم يجوز، وذلك إذا انقضت عدتها من زوجها الأول.

بيان معنى حديث: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، وحديث: (لا ضرر ولا ضرار)

بيان معنى حديث: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، وحديث: (لا ضرر ولا ضرار) Q ما معنى هذين الحديثين: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، ثم يسأل عن حديث: (لا ضرر ولا ضرار)؟ A الحديثان صحيحان ابتداءً، ومعنى (اللحد لنا): اللحد هو شق الأرض شقاً رأسياً ثم حفره أفقياً، وأن يكون الدفن باتجاه القبلة على الجانب الأيمن، ويهال التراب في هذا الشق، ويبقى هذا اللحد بجانبه الذي حفر باتجاه القبلة, ووضع الميت على جنبه الأيمن باتجاه القبلة. أما الشق الذي هو لغير المسلمين فإنما هو شق الأرض شقاً رأسياً دون اللحد الأفقي الذي هو إلى جهة القبلة، فالميت يرمى فيه إلقاءً ويهال عليه التراب. أما معنى (لا ضرر ولا ضرار)، أي: يحرم الضرر والضرار في الإسلام، فالضرر الذي يوقعه الإنسان على نفسه حرام؛ لأنه ليس ملكاً لنفسه، كما أنه يحرم عليه أن يلحق الضرر بالغير، وهو الضرار، فلا ضرر يوقعه الإنسان على نفسه، كما أنه يحرم عليه أن يوقع الضرر على غيره. وإذا أردت مزيد بيان وتفصيل فعليك بكتاب جامع العلوم والحكم.

حكم لعن المعين وإن كان كافرا

حكم لعن المعين وإن كان كافراً Q هل يجوز لعن المعين وإن كان كافراً؟ A لا يجوز لعن المعين حتى وإن كان كافراً، وقد ذكر الإمام النووي اختلاف أهل العلم في المسألة وقال: لا يدعى عليه إلا إذا مات على الكفر، أي: لا نلعنه إلا إذا مات على الكفر. وعلى أية حال أليس اللعن هو الطرد من رحمة الله، أو الحكم بالطرد من رحمة الله؟ تصور لو أن شارون دخل علينا في هذا الوقت المسجد وقال: أنا أريد أن أسلم، فماذا نعمل؟ أما نفرح جميعاً بهذا؟ إذ إنها ضربة قاصمة للكفر وأهله، وأعظم منها قصماً أن يدخل علينا مثلاً بابا الفاتيكان ويقول: يا إخواني! أنا أريد أن أسلم، فماذا نعمل؟ أما نفرح بذلك جميعاً؟ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح إذا دخل في الإسلام صنديد من صناديد الكفر، وهو الذي أرسل رسالة إلى هرقل ملك الروم وقال له: (أسلم تسلم)؛ لكن لماذا لم يوجه الرسالة إلى أي جندي من الجنود؟ لأن هذا كبيرهم، ولو أسلم لأسلم من وراءه، والنبي لم يلعنه ولم يسبه، وإنما قال له كما في البخاري: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، أجرك أنت وأجر الأريسيين، أي: الفلاحين الذين يمشون خلفه، والرهبان الذين يمشون معه، والجند الذين حوله، فأنت لو أسلمت أسلم الكل، وكاد أن يسلم إلى أن جمع البطارقة وقوات الجيش، ووضعهم في بيت في الشام وقال لهم: إن محمداً قد بعث إلي برسالة وقال فيها: كيت وكيت، فما رأيكم في هذا الرجل؟ أنا أرى أنه صادق. ولذلك العلماء اختلفوا: هل أسلم هرقل أم لم يسلم؟ لأن كلامه هذا يدل على أنه أسلم، لكن هناك كلاماً آخر ناقضاً لهذا الإسلام وهذا الإيمان. وانظر إلى المكر والخداع، وكيف أن هذه السلطة بلاء ومحنة؟! فقال لهم: ما هو رأيكم في الذي يقوله محمد؟ أما أنا فأرى أن الرجل صادق، وقال لهم: على أية حال هو يضرنا! فلما رأى البطارقة أن هرقل يميل إلى جهة محمد قاموا عليه، قال لهم: كفى كفى، إنما أنا أردت أن أختبركم، يريد أن يخرج من المأزق، أنا أريد أن أختبركم، وهو في الحقيقة لو أنهم شجعوه على الإسلام لأسلم، لكن لما قاموا عليه قومة رجل واحد قال: لا. فأنا في الحقيقة أريد أن أتأكد من موقفكم، وبقي على الكفر حتى مات عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بيان أن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح ولا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث

شرح كتاب الإبانة - بيان أن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح ولا يكون العبد مؤمنًا إلا بهذه الثلاث مذهب عامة السلف الصالح أن الإيمان قول وعمل، فهو إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث، والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، وكلها تدل على أن العمل من الإيمان، وأنه لا بد فيه من الإخلاص، وبذلك يتبين المؤمن من المنافق والكافر.

بيان أن الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث

بيان أن الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. هذا بداية الكلام عن الإيمان، والكلام في الإيمان ومسائله كلام خطير وشائك، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، ومنهج أهل السنة والجماعة في بيان مسائل الإيمان، والفرق بينها وبين مسائل الكفر أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن يعمى على بعض الدعاة وطلاب العلم -ومن ينتسبون إليه بل هم من أهله حقيقة- بعض هذه المسائل، وإن شئت فقل: أصول الإيمان أحياناً مما أوقع شباب الصحوة في حيرة شديدة جداً. فالإمام ابن بطة -كغيره من أئمة السلف- عقد أبواباً متعددة في بيان ماهية الإيمان، وبيان مسائله، وأعظم مسألة فيه: هل العمل من الإيمان أو ليس من الإيمان؟ وهل هو شرط فيه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل هو شرط كمال أو شرط صحة؟ وإذا كان شرط كمال فهل الكمال هنا المقصود به الكمال الواجب، أم الكمال المستحب؟ وإذا كان الإيمان شرط صحة، فهل يكفر من ترك هذا العمل؟ هذه بعض مسائل الإيمان، وهي أخطر المسائل التي تثار إذا ذكرنا مسائل الإيمان والكفر. والإمام قد عقد باباً عظيماً جداً في كتاب الإبانة فقال: [باب بيان الإيمان وفضله، وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث]، فقد بوب الإمام بهذا التبويب؛ ليثبت بداءة أن الإيمان قول وعمل، هو قول القلب واللسان، فاللسان ينطق بالشهادتين، والقلب يحب هذه الكلمة ويرضاها ويصدق بها ويذعن لها وينقاد، فهذا قول القلب. فالإيمان قول، أي: قول باللسان والقلب. وعمل، أي: عمل القلب والجوارح. ومنهم من زاد فقال: الإيمان قول وعمل ونية، أي: وإخلاص لله عز وجل، ولا تعارض بين هذا التعريف وبين التعريف السابق: أن الإيمان قول وعمل، والمقصود بكونه قولاً وعملاً، أي: وإخلاصاً؛ لأن القول إذا لم يكن صاحبه مخلصاً لله عز وجل، وكذا العمل؛ فإنه لا يقبل منه، بل يرد عليه، ولكن زيادة (ونية) للدلالة على أن الإخلاص أمر لازم في الإيمان، وأن العبد لا يقبل منه العمل ولا القول إلا إذا كان مخلصاً لله عز وجل. فقال: (باب بيان الإيمان وفضله)، أي: وفضائل الإيمان، ثم قال: (وأنه تصديق بالقلب) هذه واحدة، (وإقرار باللسان) هذه الثانية، (وعمل بالجوارح والحركات)، أي: الأبدان، وهذه هي الثالثة. ثم قال: (ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث). أما قوله: (لا يكون العبد مؤمناً)، فهل يستلزم نفي الإيمان عنه بالكلية، أو أنه أراد بذلك نفي الكمال؟ على تفصيل سيرد معنا بإذن الله تعالى. قال المحشي: ما ذهب إليه المصنف -وهو ابن بطة - من أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان هو مذهب عامة السلف في الحقيقة، فلم يقل: هو إجماع السلف؛ لأن الأحناف خالفوا في هذا، فكان محقاً أن قال: وهذا التعريف والتبويب أطبق عليه عامة السلف، وخالف بعضهم، وليس في خلافه لعامة السلف حجة، بل كل من خالف السلف في أصل الإيمان ومسائله فقوله مردود عليه. قال: وهو من شعائر أهل السنة، بل وقع الإجماع عليه، أي: وقع الإجماع على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال: بل وقع الإجماع عليه، وحكاه غير واحد، كما في كتاب الأم للإمام الشافعي، قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركنا يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، ولا تجزئ واحدة من الثلاث إلا بالأخرى. فلو قال قائل: قول وعمل، أي: بغير نية؛ فقوله مردود عليه، ولو قال: قول ونية بغير عمل؛ فمردود عليه، ولو قال: عمل ونية بغير قول؛ فقوله مردود عليه، وهذا معنى قوله: لا يكون مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث. وفي كتاب الإيمان لـ ابن تيمية نقلاً عن الإمام البخاري أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والمعلوم أن الإيمان لو قبل الزيادة فلا بد أن يقبل النقصان، بل هو قبل أن يكون زائداً كان ناقصاً. وكذلك الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة قال بعنوان: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وقد جمع الثلاث، وأثبت أن العمل من الإيمان، ثم أورد عشرات الأدلة على ذلك من الآيات والأحاديث، وذكر ابن جرير في عقيدته بسنده إلى الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز رحمهم الله ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: ل

الدليل على أن الإيمان إقرار بالقلب

الدليل على أن الإيمان إقرار بالقلب قال: [فأما فرض المعرفة على القلب فما قاله الله عز وجل في سورة المائدة]. أي: دليل أن الله تعالى فرض على القلب وظيفة معينة متعلقة بالإيمان، قول الله تعالى: [{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]]. فإيمان القلب هو التصديق والإذعان، وكفر القلب عدم التصديق وعدم الإذعان، فالله عز وجل يسلي رسوله عن كلام هؤلاء المنافقين الذين شهدوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم: [((قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ))]، وهذا يدل على أن الإيمان طهارة في القلب، [{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]]. [وقال الله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]]، فهذا يدل على أن القلب له علاقة وثيقة جداً بالإيمان، وهو أنه مقر ومذعن ومصدق بكلام الله عز وجل. [وقال الله عز وجل: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ))]، والفؤاد: أصل القلب. قال: [{كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، أي: عن الإيمان وعن العلم. فالقلب يسأل عما فرض الله عز وجل عليه من الإيمان، آمنت؟ صدقت؟ أذعنت أم لا؟ قال: [فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان، لا يرده ولا يخالفه ولا يجحده إلا ضال مضل].

الدليل على أن الإيمان إقرار باللسان

الدليل على أن الإيمان إقرار باللسان قال: [وأما بيان ما فرض على اللسان من الإيمان]، أي: من النطق والكلام، [فهو ما قاله الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]]، فعل أمر يدل على الوجوب. و ((قُولُوا))، أي: بألسنتكم. [{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:136 - 137]. وقال الله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [آل عمران:84]]. (قُلْ آمَنَّا)، والقول هو قول اللسان. [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا)]، لم يقل: حتى يصدقوا أو يذعنوا، وإنما قال: (حتى يقولوا)، وهذا القول يستلزم الاعتقاد، والاعتقاد يستلزم التصديق والإذعان والذل والامتثال لله عز وجل، فقال هنا: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله)]. [وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)] أي: وأني رسول الله؛ لأن هذا من اللازم. قال: [(فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)]، أي: إذا نطقوا بشهادة التوحيد؛ كانت هي العاصمة لهم من إراقة دمائهم وسلب أموالهم وذراريهم. قال: [(إلا بحقها)]، أي: إلا إذا أتى واحد منهم بعد أن نطق بهذه الكلمة بما يستوجب قتله، كأن يكون زانياً محصناً، أو تاركاً لدينه مخالفاً للجماعة، أو قاتلاً لنفس بغير حق، أو غير ذلك مما يستوجب قتله. قال: [(وحسابهم على الله عز وجل)]، أوكل سرائرهم إلى الله، والتقدير: إذا قالوها نفاقاً يتعوذون بها من القتل فحسابهم على الله عز وجل؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم المنافقين في زمانه بأسمائهم وأعيانهم وذواتهم، ولم يقتلهم وهم أكفر الخلق؛ حتى لا يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه. أما حسابهم فقد أنزل الله عز وجل الوعيد الشديد والتهديد الأكيد في كفر هؤلاء، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وهذا جزاؤهم في الآخرة. أما في الدنيا فهم مسلمون في الظاهر، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا سبيل لأحد عليهم حتى وإن عرف نفاقهم، ما لم يتحيزوا ويتميزوا وتعظم فتنتهم ويطر شررهم وشرهم، ويحاربوا الإسلام؛ فحينئذ يجب على الإمام أن يحاربهم.

الدليل على أن الإيمان عمل بالجوارح

الدليل على أن الإيمان عمل بالجوارح قال: [وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل على الجوارح؛ تصديقاً بما أيقن به القلب ونطق به اللسان، وذلك في كتاب الله تعالى كثير جداً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]]، فرتب الله تعالى الفلاح على العمل، ولكنه خاطب المؤمنين أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ما المطلوب منا؟ {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77]، أربعة أوامر تدل على أن الإيمان عمل بالجوارح. فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:77]، نداء لأهل الإيمان بما كلفهم الله عز وجل به، وبما لا يصح إيمانهم إلا به، ما هو ذاك؟ قال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، فرتب الفلاح المتعلق بالإيمان على العمل، وضرب لذلك أمثلة بالركوع والسجود وسائر العبادة، مع أن الركوع والسجود من العبادة، فبعد أن ذكر الخاص ذكر العام، مع أن الخاص أحد أفراده. ثم قال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77]، أي: وافعلوا الخير بنية العبادة والطاعة، وهو كذلك ذكر للخاص بعد ذكر العام؛ ليدل على أهميته. [وقال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]]، وهذا في أكثر من سبعين موطناً في كتاب الله عز وجل يأمر الله تعالى بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. في مواضع كثيرة من القرآن أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله، وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان ونفقة الأموال؛ فهذا كله من الإيمان، والعمل به فرض لا يكون المؤمن مؤمناً إلا بتأديته.

الأحكام المترتبة على أن الإيمان قول وعمل

الأحكام المترتبة على أن الإيمان قول وعمل وكل من تكلم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتوحيد، وأقر أنه مؤمن بجميع الفرائض غير أنه لا يضره تركها، ولا يكون خارجاً من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها، مثل الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت مع الاستطاعة، وترك الغسل من الجنابة، ويرى أن صلاة النهار إن صلاها في الليل أجزأه ذلك، وصلاة الليل إن صلاها في النهار أجزأه ذلك، وأنه إن صام في شوال أجزأه ذلك، وإن حج في المحرم أو صفر أجزأه ذلك، وأنه متى اغتسل من الجنابة لم يضره تأخيره، ويزعم أنه مع هذا مؤمن مستكمل الإيمان عند الله عز وجل على مثل إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين؛ فهذا مكذب بالقرآن، مخالف لله ولكتابه ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فرق، قد نُزع الإيمان من قلوبهم، بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، كما قال الله تعالى فيهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. [فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه، أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بيِّن الكفر، لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر]. هذا كلام جميل، من فرض الله عز وجل عليه شيئاً فجحده جاحد؛ إلا كفر بهذا الجحود إلا كفر بجحده لما فرض الله عز وجل، بل من أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله عالماً بأدلة الحرمة والحل، وبعد قيام الحجة عليه، وهذا فيما يتعلق بهذه الثوابت الإيمانية لمن كان مؤمناً في ديار الإيمان والإسلام، بل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، ومن أنكر شيئاً ثابتاً في دين الإسلام؛ فإنه يكفر بذلك وإن لم تقم عليه الحجة، ما دام أنه في دار الإسلام، كما لو قال أحد: أنا لا أعرف ما هذه الصلاة التي يصليها الناس؟ وهو في هذه البلاد -مثلاً- التي ينتشر فيها العلم، ويكثر فيها قال الله وقال رسوله، هذا الإنسان لا بد أنه يكفر بالله، وكمن أدرك شهر رمضان وقال: أنا لا أصوم رمضان، ولا أعرف هذا الصوم الذي يصومه الناس، أو يقول: أنتم تصومون في رمضان بالنهار، وأنا سأخالفكم وأصوم بالليل، فأنا أصوم من أول غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهل هذا يقال له: إن الله تعالى فرض علينا الصيام في نهار رمضان، وهو في بلاد المسلمين؟ لا يقال له، بل هو بهذه المعاندة وهذا الجحود لأصل مواقيت هذا الفرض يكفر ويخرج من الإسلام، وأنا أقول هذا في ثوابت الإسلام ومبادئه ومؤكداته التي علمها الأطفال قبل الكبار، أما المسائل التي تحتاج إلى نوع اجتهاد؛ فإن المرء لا يكفر إلا إذا أقيمت عليه فيها الحجة، ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاوناً فإنه يكفر بالإجماع، أما من أقر بذلك وقاله بلسانه، ثم تركه تهاوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعاً لمذاهبهم؛ فهو تارك الإيمان، ليس في قلبه منه قليل ولا كثير، وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة. [سئل حذيفة رضي الله عنه: من المنافق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. وعن حذيفة قال: المنافقون فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: يا أبا عبد الله! وكيف ذاك؟ قال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه]، يعني: كان عندهم شيء من الحياء رغم نفاقهم، لكن النفاق في هذا الزمان لا يستحي أهله ولا أصحابه. الدكتورة منى أبو سنة هذه -أم ناب أزرق- عدوة للإسلام، عقدت مؤتمراً بالأمس من بعد صلاة العصر واستمر إلى ما بعد العشاء في بيت محمد مشهور بالزمالك، واستدعت فيه إمام الضلال الكبير الدكتور أحمد عبد المعطي حجازي، هذا الرجل الذي زعزع ثوابت الإسلام من قلوب الحاضرين، وجلُّ من حضر لديهم كانوا من حزب العمل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد وجهت دعوات سرية جداً للحاضرين، مكتوب على كل مظروف: (دعوة سرية جداً لمؤتمر هام جداً) ويسمونه المنتدى الفلسفي، والهدف منه هو زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين، فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم له هدف، وتبعه على ذلك الصحابة وأتباع الصحابة، وغيرهم إلى قيام الساعة؛ فكذلك عبد الله بن أبي ابن سلول كان رأس النفاق في زمان النبوة، فهؤلاء هم أتباع عبد الله بن أبي ابن سلول. أما الذي قيل وأثير في هذا المؤتمر فله وضع خاص، وهو مطبوع في شريط، والشريط موجود معي الآن، فـ أحمد عبد المعطي حجازي هذا ترجمته سوداء كلحاء، لا خير فيه أبداً.

فرض الإيمان على جوارح ابن آدم

فرض الإيمان على جوارح ابن آدم قال ابن بطة رحمه الله: [وفرض الإيمان على جوارح ابن آدم]. كيف فرض الله الإيمان على الجوارح؟ بالعمل. قال: [وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، فهذا فرض الله تعالى الإيمان في القلب. ومنها: اللسان الذي ينطق به، ومنها عيناه التي ينظر بهما، ومنها سمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما، وفرجه الذي يصدق هذا كله أو يكذبه، فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب وتشهد به السنة]. ففرض الله عز وجل على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين؛ وهكذا. ثم يقول: [وأما ما فرض على القلب فالإقرار]، أي: إيمان القلب يتعلق بالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق، والعقل عن الله والفهم والرضا والتسليم، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب؛ كل هذا عمل القلب. [فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرنا أدلته ونعيدها الآن: كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وقال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]. فذلك ما فرضه الله عز وجل على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، فهو رأس الإيمان، بل هو عمل القلب. وأما ما فرضه الله عز وجل على اللسان فهو القول والتعبير عما كمن واستقر في القلب، كما قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة:136]]، إذا كان الإيمان محله القلب من جهة التصديق والإقرار والإذعان؛ فإن الإيمان لا بد أن يعبر عما في مكنون القلب بالتلفظ، لما كان قادراً على التلفظ. [{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [البقرة:136]. وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. وأما ما فرض على السمع: فهو أن يتنزه السمع عن الاستماع إلى الخنا والزنا، وإلى ما حرم الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]]، فأنت مطالب ألا تسمع شركاً، وألا تسمع معصية، وهذا هو الإيمان؛ ولذلك تصور أن رجلاً يغتاب وآخر يشجعه على الغيبة، أليس هذا قادحاً في إيمانهما، منقصاً للكمال الواجب عندهما؟ A نعم، بخلاف ما لو قال رجل لجليسه: إن لم تكف عن الغيبة تركتك وانصرفت، فهذا قد نهى عن المنكر وأمر بالمعروف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان. فلا شك أن المرء كلما عمل عملاً بجارحة من جوارحه يزدد به إيمانه، وكلما قصر في عمل بجوارحه كان من الواجب عليه أن يأتي به نقص إيمانه. وقال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، أي: فيستجيبون لأحسن الأقوال. [وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، أي: عن اللهو والزور من القول. [وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]]، أي: مروراً سريعاً لا يقفون عنده. فهذا ما فرض الله على السمع: التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له، وهو عمل السمع، وذلك من الإيمان. وكذلك فرض الله على البصر ألا ينظر إلى محارم الله عز وجل وإلى حرماته، وأوجب عليه أن يغض بصره عما لا يحل مما نهى الله تعالى عنه، كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، فإن لم يفعلوا نقص إيمانهم، هذا هو التقدير. فنظرك إلى امرأة تسير في الطرقات أو في الشوارع لا شك أن له تأثيراً مباشراً على القلب، وكلنا نشعر بذلك، إذا علق الإنسان نظره على مفاتن امرأة جميلة؛ فإنه يهواها ويشتهيها، وكذلك المرأة تشتهي الرجل وتهواه، فلو أن كل امرأة وكل رجل علم أن هذا مما حرم ال

تبيين الله لعباده وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن الإيمان قول وعمل

تبيين الله لعباده وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن الإيمان قول وعمل قال: [فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه: أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبيَّن ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرحه في سنته، وعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل، وأن العمل من الإيمان ما قال في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]]، وهذا عمل، فقوله: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ))، حتى قال: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ))، يعني: تصدق به رغم محبته إياه. قال: [{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]]. فهذه الآية انتظمت أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص، وهي أصول الإيمان وشرائطه. ولقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؛ فتلا عليه هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال رجل لـ أبي ذر يسأله نفس المسألة التي سألها أبو ذر للنبي عليه الصلاة والسلام، فأجاب أبو ذر بنفس الإجابة فقال له: (ليس عن البر سألت)، أنا لست أسألك عن البر، فقال أبو ذر: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله كما سألتني، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال: ادن مني، فدنا منه، فقال: المؤمن الذي يعمل حسنته فتسره؛ فيرجو بها -أي: وجه الله- ومن عمل سيئة فتسوءه ويخاف عاقبتها)، أي: أن المؤمن هو من سرته حسنته وساءته سيئته؛ لأنه يلقى جزاءها عند الله عز وجل يوم القيامة. وأنتم تذكرون قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه لما تخلف عن غزوة تبوك، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأغلقت الدنيا تماماً في وجهه؛ وذلك لأن سيئته ساءته، فهذا دليل عظيم على الإيمان، والصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم الشيطان في ذات الله عز وجل قالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء، لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك صريح الإيمان)، على أنهم ساءتهم هذه الوساوس، فهذا دليل على إيمانهم. أما الذي يأتي المعاصي، وينكر المعروف، ويعرف المنكر، ويستهزئ ويستهتر، ولا يتعامل مع الله ولا مع رسوله ولا كتابه وسنته وشرعه إلا بكل استهزاء وسخرية، فكيف يكون هذا في قلبه ذرة من إيمان؟ ليس هناك فرق، فهذا مسلم وذاك كافر أبداً. قال الشيخ: [وقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين]. وهذا تعريف راجع لمعنى الإيمان، أو لماهية الإيمان، ومرد ذلك كله: إلى أن الإيمان قول وعمل: قول اللسان والقلب، وعمل بالقلب والجوارح، فقال هنا: دلت آيات القرآن على أن الإيمان قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة؛ لأن البلاء كله الذي يمكن أن يقع فيه المرء يدور بين أمرين: شبهة أو شك. أما علاج الشبهة فهو العلم، ولا سبيل إلى علاج الشبهات إلا بالعلم، ولا مصدر صحيح للعلم إلا قال الله وقال رسوله كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه قال الله وقال رسوله وأجمع العلماء؛ هذه هي مصادر العلم، ولا مصدر رابع لهذه المصادر الثلاث، إلا أن يكون القياس صحيحاً، وإذا كان العلم هو علاج الشبهات، فإن علاج الشهوات تقوى الله. فعندي الآن مرضان وعلاجان: المرض الأول: هو الشبهة، وعلاجها العلم، فبالعلم تنزاح الشبهات عن القلوب. والمرض الثاني: هو الشهوة، وعلاجها تقوى الله عز وجل، واستحضار مراقبة المولى عز وجل، ومخافة الله عز وجل، وكل ما يمكن أن تجمعه كلمة تقوى الله هي علاج الشهوات، أما علاج الشبهات فهو طلب العلم المستمد من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. قال: [وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريبة؛ لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين]، ولكن الله عز وجل جعله شفاءً ورحمة للمؤمنين لا لغيرهم، الله عز وجل يهدي بهذا الكتاب أقواماً، ويض

التصور العقلي للواقع إذا لم يكن العمل من الإيمان

التصور العقلي للواقع إذا لم يكن العمل من الإيمان إن الذين يقولون: العمل لا علاقة له بالإيمان، إذا كان هذا الكلام هو الحق، فهل يتصور غياب ذلك عن الصحابة؟ A لا يتصور، فإذا كان هذا هو الحق -وعياذاً بالله أن يكون حقاً، أو قريباً من الحق، بل هو عين الباطل- فلنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام لما علَّم أصحابه الإيمان كما قال جرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن استزدنا به إيماناً، وكان الواحد منا يقرأ العشر الآيات فلا يتجاوزها حتى يتعلم ما فيها من إيمان وزواجر وأوامر ونواهٍ؛ فيزداد بذلك إيماناً. لنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب هؤلاء الأصحاب الذين يقولون إن العمل ليس من الإيمان: هيا بنا نجاهد المشركين يا إخواننا! قالوا: اذهب لوحدك، لن نأتي معك، فسيقول لهم: لماذا؟ أليس الجهاد هذا عملاً؟ فيقولون: نعم. هو كذلك، والعمل ليس من الإيمان. وإن قيل لهم: أنتم مأمورون بالصيام. لا يقبلون، بل يقولون: لأن الصيام عمل، والعمل ليس من الإيمان. كذلك نفعل الخير نأمر بالمعروف ننهى عن المنكر ندعو إلى الله؛ كل هذه أعمال، فلو أن الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا عن هذا هل يكون ديناً؟ A لا، بل لك أن تختار شيئاً أعظم من ذلك، وهو: إذا كان العمل ليس من الدين هل هذا يخفى على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا يخفى عليه، وإذا لم يكن العمل من الإيمان فلم أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، بل لم أمر به اللطيف الخبير في كتابه؟ فلا بد أن نوقن أن العمل من الإيمان، وأن المفرط فيه ينظر إلى أصل العمل، فإذا قام النص على أنه من أصل الإيمان كفر بتركه، وإذا قام النص أو الإجماع في كل عمل على أنه من واجبات الإيمان؛ كان المفرط في هذا العمل قد فرط في الإيمان الواجب، وإذا كان العمل مستحباً بالكتاب والسنة؛ فمن فرط فيه فقد فرط في كمال الإيمان والكمال المستحب، والله تعالى أعلم. ولذلك استحق الصحابة رضي الله عنهم اسم الرشاد بإكمال الدين، وذلك أنهم كانوا في فسحة وسعة، ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام، ولا كان حرم عليهم كثير مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم؛ لأن التكاليف نزلت في المدينة، وهم استحقوا اسم الإيمان لما كانوا في مكة وقبل أن تنزل معظم التكاليف، لكن الله تبارك وتعالى امتدحهم بكمال إيمانهم، وتمام انصياعهم بإيمانهم الذي آمنوا به في مكة، ثم استقبلوا التكاليف الشرعية أحسن استقبال؛ وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم بالتصديق ترفقاً بهم؛ لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب هي الإيمان المفترض يومئذ؛ لأنه لم يكن هناك تكليف بعد، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم؛ تواترت أوامره فيهم، أي: نزلت أوامر الله تعالى بالحلال والحرام والتكليف والأحكام. قال: [وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه، فكلما أحدث لهم فريضة -عبادة- أو زاجرة عن معصية؛ ازدادوا إليه مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان، وزادهم فيه بصيرة، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فخاطبهم بالإيمان، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]. وكل الخطاب في الفرائض موجه لأهل الإيمان، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]. فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى، وأباح وحظر، وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول قبل هذا، إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد -أي: بعد هذا- وجب عليهم التزام فرضها، والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء بسواء]، الله عز وجل سماهم

الاستثناء في الإيمان

شرح كتاب الإبانة - الاستثناء في الإيمان الاستثناء في الإيمان من المسائل العويصة التي حصل فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة، فأهل السنة يقولون بالاستثناء في الإيمان على خلاف بينهم، فإذا كان القصد من الاستثناء أصل الإيمان الذي يخالف فيه المؤمن الكافر فلا يجوز؛ لأن أصل الإيمان إذا زال لا يبقى إلا الكفر، أما إذا كان الاستثناء متعلقاً بحقيقة وكمال وتمام الإيمان المبني على العمل فإنه يجوز، فيكون الاستثناء في الأعمال إذ فيها يكون التقصير.

الاستثناء في الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة

الاستثناء في الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد. فموضوعنا عن جواز الاستثناء في الإيمان، ومعنى الاستثناء في الإيمان هل للرجل إذا سئل: أأنت مؤمن؟ أن يقول: نعم على القطع واليقين، أم يقول: نعم إن شاء الله؟ فتعليق الإيمان على المشيئة يعبر عنه أئمة السلف بالاستثناء في الإيمان. الجهمية والمرجئة قالوا: لا يكون الاستثناء في الإيمان، فمنعوه منعاً باتاً. وحجتهم في ذلك ترجع إلى أصل كلامهم في معنى الإيمان، فهم يقولون: الإيمان هو التصديق، ويعدون أنفسهم أنهم مصدقون، فلِمَ يعلقون هذا الأمر على المشيئة إذا صدقوا؟ وإذا سئلوا: أأنتم مؤمنون؟ يقولون: نعم، دون أن يعلقوا ذلك على المشيئة؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم مصدقون، إذاً ما فائدة التعليق أو ما قيمة الاستثناء حينئذ؟! والجهمية كذلك يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة، فإذا عرفوا الله تعالى فهم مؤمنون كاملو الإيمان، فإذا سئل الواحد منهم: أأنت مؤمن؟ يقول: نعم، ولا يقول: إن شاء الله. فهذه أولاً حجة الإرجاء. إذاً: الإيمان عندهم إما تصديق وإما معرفة، والتصديق والمعرفة إما أن يكون بالقلب أو بالقول فيقولون: نحن نوقن تمام اليقين بما وقر في قلوبنا، ونعرف ذلك من أنفسنا، وإذا كان بالقول فالقائل يعلم ذلك من نفسه. ولذلك ينكرون تماماً أن يعلق المرء إيمانه على المشيئة، أو يستثني في إيمانه إذا سئل: أأنت مؤمن؟ الحجة الثانية لهم: أن تعليق الإيمان على المشيئة من باب الشك، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنك شاك في إيمانك، والإيمان عندهم لا يتصور نقصانه، كما يقولون: نحن نعرف الله تعالى، وهذا قول الجهمية، إذ إن الإيمان عندهم هو المعرفة، والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، فإذا شك المرء في معرفته بالله، أو في تصديقه بالله، فلا يخرج المرء عندهم من التصديق إلا إلى الكفر، ومن المعرفة إلى الجهالة التامة بالله عز وجل، وهذا كفر، ولذلك يقولون: لا يجوز لمسلم أن يستثني في إيمانه أبداً، بل لا بد أن يجزم بأنه مؤمن. أما أهل السنة والجماعة فيقولون بمشروعية الاستثناء في الإيمان، وأنتم تعلمون أن الأمر المشروع ينقسم إلى: واجب ومندوب، كما أن الأمر الممنوع ينقسم إلى: محرم ومكروه. ولذلك أهل السنة والجماعة مجمعون على جواز ومشروعية الاستثناء في الإيمان، لكن منهم من أوجب الاستثناء، وبالتالي لا يحل لمسلم أو لمؤمن أن يقول: أنا مؤمن، بل يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلا بد أن يعلق إيمانه على المشيئة أو أن يستثني في إيمانه بالمشيئة. ومنهم من يقول: الاستثناء جائز وليس بواجب. إذاً: مدار كلام أهل السنة والجماعة في الاستثناء على المشروعية، لكنهم اختلفوا في الاستثناء: هل هو واجب أو جائز؟ فبعض أهل السنة -كما ذكرنا- قالوا بوجوبه، ومنهم الإمام اللالكائي، وصرح بهذا الرأي هناك، بل بوب في كتابه أصول الاعتقاد: باب وجوب الاستثناء في الإيمان. أما الإمام ابن بطة فقال: [باب الاستثناء في الإيمان]، ولم يذكر وجوباً ولا جوازاً ولا استحباباً، وإنما سار كما سار الإمام البخاري في صحيحه، إذ لم يكن قاطعاً بحكم المسألة التي بوب لها في الصحيح، حيث قال: باب كذا. وذكر المسألة، أي: باب خلاف أهل العلم أو باب حكم المسألة التالية، ثم يذكر الإمام الحافظ ابن حجر خلاف أهل العلم في هذه المسألة. وجمهور أهل السنة والجماعة على جواز الاستثناء في الإيمان، ومرد هذا الجواز إلى أمرين: الأمر الأول: إذا كان القصد من الاستثناء أصل الإيمان الذي يخالف فيه المؤمن الكفار، فلا يجوز حينئذ الاستثناء، أي: إذا كان الجواب بالمشيئة متوجهاً إلى قصد الإيمان بالله عز وجل ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر وبالقدر، فلا يجوز فيها الاستثناء؛ لأن أصل الإيمان إذا زال لا يبقى إلا الكفر. الأمر الثاني: إذا كان الجواب متعلقاً بحقيقة الإيمان وكماله وتمامه المبني على العمل، فحينئذ يجوز، إذ إن كل مسلم ينبغي عليه أن يتهم نفسه أنه ما أدى حق الله تعالى عليه، فيكون الاستثناء بالأعمال إذ فيها يكون التقصير، أي: أنه يستثني في كونه مؤمناً ولا يستثني في صحة إيمانه.

شأن المؤمن الخوف من أن يسلب إيمانه

شأن المؤمن الخوف من أن يسلب إيمانه قال: [اعلموا رحمنا الله وإياكم أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم، ودوام الإشفاق على إيمانهم، وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب]، أي: أن قلوب المؤمنين العابدين خائفة دائماً من أن يسلبهم الله عز وجل هذا الإيمان؛ لأن قلب العبد بين يدي الله عز وجل يصرفه كيف شاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على ديني، ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حقق كمال الإيمان وتمامه، ومع هذا ما كان يأمن على نفسه، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا في قمة الإيمان، ومع هذا كانوا يخافون على أنفسهم النفاق، ولا يأمنون مكر الله عز وجل، مع ثبوت البشرى بالجنة في حقهم وخاصة العشرة المبشرين. قال: [قد أحاط بهم الوجل لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمالهم، حذرين من التزكية، متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. خائفين من حلول مكر الله بهم في سوء الخاتمة، لا يدرون على ما يصبحون ويمسون، قد أورثهم ما حذرهم تبارك وتعالى الوجل في كل قدم حين يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34]]، أي: هل تكسب في إيمانها إيماناً أو كفراً، [فهم بالحال التي وصفهم بها عز وجل حيث يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]]، فهل هذا الإتيان الذي أتوه من خير أو شر؟ ولذلك لما تلت [عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قالت: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف ألا يقبل منه)]؛ لأن العبرة في العمل بالقبول لا بمجرد الإسلام أو الاستسلام المجرد. حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل).

وجود الإشفاق في قلوب المؤمنين حملهم على الاستثناء في كلامهم

وجود الإشفاق في قلوب المؤمنين حملهم على الاستثناء في كلامهم قال: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله]. وهذه المشيئة في الإيمان متعلقة بكماله وتمامه، وهذا الكمال لا يتحقق للعبد إلا بالعمل، إذاً الاستثناء في الإيمان مرده إلى عدم التزكية على الله تعالى في تحقق كمال الإيمان وتمامه. فحين أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنني قد عملت العمل، لكني لا أدري أقبله الله عز وجل مني أم لا؟ كما أنني لا أدري هل هذا العمل في قمة الكمال والتمام أو في وسطه أو في أول مراحله؟ إذاً إذا كان الكلام موجهاً إلى أصل الإيمان فنعم أنا مؤمن؛ لأنني آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا أكفر بشيء من ذلك، بل أعادي من يعادي ذلك، وأحب من يحب ذلك، وأنا موقن تمام اليقين من نفسي بما أقول؛ لأن هذا هو الأصل الذي لا ينزل إلا إلى الكفر البواح. وأما إذا كان السؤال متوجهاً إلى كمال الإيمان وتمامه فأنا لا أعرفها؛ لأن ذلك لا يكون إلا بالعمل، وأنا قد عملت، لكني لا أدري أقبل مني أم لا؟ وإذا قبل هل قبل كله أم بعضه؟ لأنه ربما يصلي المرء الصلاة فيعجب بصلاته، وقد أداها كاملة بقيامها وركوعها وسجودها وخشوعها، وربما ظن أن هذا هو عين المراد من تشريع الصلاة، لكن لو نظر المرء إلى صلاته وإلى صلاة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي فهل يستويان؟ بل لو نظر المرء بين عبادته وعبادة من سلفه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إذ لا يمكن أبداً أن يزعم المرء بأن صلاته كصلاة أحمد بن حنبل، ولا أن صيامه كصيام أحمد بن حنبل، نعم، نصوم لأننا نؤمن بأن الله تعالى فرض علينا الصيام، لكن في هذه العبادة من لغو وغيبة ونميمة الشيء الكثير، وبالتالي فلا يمكن أن يكون صيامي كصيام أحمد بن حنبل، وإن صدق على كل واحد منا أنه قد صام رمضان، لكن هيهات أن يكون عملي كعمل أحمد، أو تكون عبادتي كعبادة أحمد رحمه الله تعالى. ولذلك نحن نقول: المرء يعمل، لكن هل العمل الذي أتى به العبد قد توفرت فيه قمة المطلوب والمراد من هذا العمل؟ لا يستطيع المرء أن يزعم أنه صلى صلاة ما بعدها صلاة، ولا صام صياماً ما بعده صوم، ولا حج حجاً ما بعده حج، ولذلك المرء يقول: أنا عملت، ومع عملي كنت مقصراً، وحجم العمل أين يكون في الميزان؟ هذا أمر لا يعرفه العبد، وحجم التقصير في ميزان العمل أين يكون؟ هذا أمر لا يعلمه كذلك إلا الله عز وجل. فإذا كانت طاعتي من جهة الكمال والتمام فإنه لا يعلمها يقيناً إلا الله، وتقصيري في جنب الله عز وجل لا يعلمه يقيناً إلا الله عز وجل. إذاً: فحينئذ ينبغي الاستثناء في الإيمان إذا كان المراد منه الكمال والتمام، وأن المرء إذا قال: أنا مؤمن جزماً، وانصرفت نيته إلى كمال الإيمان وتمامه، فإنه قد زكى نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. قال الشيخ: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على جهة الشك، ونعوذ بالله من الشك في الإيمان؛ لأن الإيمان إقرار لله بربوبيته، وخضوع له في العبودية، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى]. وكما نقول وقلناه مراراً: الإيمان ينقسم إلى أصل وفرع، والإيمان كالشجرة لها أصل ثابت وفروع تتفرع في السماء، فإذا كان الاستثناء في أصل الإيمان، فهذا خلع له من جذوره، وإذا كان الاستثناء في هذه الفروع المتعلقة بالعمل، فهذا جائز أو واجب في نفسه. قال: [فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة]. أي: لو أنه قال: أنا مؤمن بالملائكة، لكن لا أعلم هل جبريل من الملائكة أم لا؟ فهذا شك، وآخر يقول: أنا مؤمن بأن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، لكني لا أدري أهذه الكعبة في مكة أم في اليمن أم في الهند؟ فإنه يكفر بذلك، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، أي: لا يعرف عن الإسلام ولا عن ثوابته شيئاً، فحينئذ يُعلَّم ويُعرَّف، فإن أنكر وأصر كفر.

توجيه الاستثناء في الإيمان

توجيه الاستثناء في الإيمان قال: [ولكن الاستثناء يصح من العبد من وجهين: الأول: نفي التزكية]، أي: يصح الاستثناء بشرط ألا يزكي نفسه؛ [لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك، ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له الرجل: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، فأنا رجل زكي مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة]. فهذا الرجل شهد لنفسه، وكأنه أعرف بنفسه من الحاكم، ولله المثل الأعلى، فهذا الرجل لم يستثن في الإيمان، بل قال: أنا مؤمن، ولم يقل: إن شاء الله. وهذا كما حصل مع جحا حينما ذهب يريد أن يشتري حماراً من السوق، فقالت له زوجته: إلى أين يا جحا؟ قال: أنا ذاهب إلى السوق لأشتري حماراً، قالت له: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول إن شاء الله؟ هذه فلوسي معي، فلما ذهب إلى السوق سرق منه المال، ثم رجع إلى زوجته فسألته: أين الحمار يا جحا؟ قال: ضاعت مني الأموال إن شاء الله! قال: [أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه، فما ظنك بمن قطع لنفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم]. ولو أنك قلت: أنا مؤمن وقصدت كمال الإيمان وتمامه -الذي هو البر والتقوى- فكأنك قلت: أنا من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين الصادقين الأبرار المتقين بالجنة، وأن الله تعالى يتقبل عمل المتقين، فكان لزاماً على الله أن يدخلني الجنة؛ لأنني محقق لحقيقة الإيمان وكماله. قال: [ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال، وعلى الخاتمة وبقية الأعمار]. الثاني: أن الاستثناء يصح على مستقبل الأعمال؛ إذ تعلمون أن الأعمال بالخواتيم، ولا يدري الإنسان بماذا سيختم له؟ بل لا أحد منا على يقين أنه سيخرج من باب هذا المسجد مؤمناً كامل الإيمان، فربما خرج الواحد منا مبغضاً لله ورسوله قبل أن نقوم من مقامنا، وربما يقوم الواحد منا مؤمناً كامل الإيمان، فهل نملك قلوبنا؟! ولا ندري ما الله تعالى صانع بنا؟ فإذا كنا لا ندري ما الله صانع بنا في الأفعال والأعمال، فينبغي أن نعلق فيما يتعلق بمستقبل الأعمال على التصديق بالله عز وجل. قال: [ويريد إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على إيماني أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده، فقال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله، وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء، أن تقول قولاً جزماً حتماً: إني أصبح غداً مؤمناً، ولا تقول: إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء، فتقول: إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين].

بعض الأحاديث والآثار الواردة في الاستثناء في الإيمان

بعض الأحاديث والآثار الواردة في الاستثناء في الإيمان

أثر أبي هريرة: (ما أحب أن أحلف)

أثر أبي هريرة: (ما أحب أن أحلف) قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما أحب أن أحلف لا أصبح كافراً ولا أمسي كافراً. قال الشيخ: والاستثناء يكون على الشيء اليقيني كما قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]]، مع أن الله تعالى علم يقيناً أنهم سيدخلونه، ومع هذا علق ذلك على المشيئة. [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله)، مع أنه على يقين أنه أتقاهم لله عز وجل].

دعاء زيارة المقابر

دعاء زيارة المقابر قال: [ومر صلى الله عليه وسلم بأهل القبور فقال: (وإنا بكم إن شاء الله لاحقون)، مع أنه يعلم أنه سيموت لا محالة]، وأن كل من عليها فان لا محالة: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فعلق الموت على مشيئة الله عز وجل مع أنه أمر يقيني. [ولكن الله تعالى بذلك أدب أنبياءه وأولياءه ألا يقولوا قولاً أملوه وخافوه وأحبوه أو كرهوه إلا شرطوا مشيئة الله تعالى فيه، قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام:80]، مع أن إبراهيم على يقين أنه إمام الحنيفية، لكنه يعلم أن قلبه بيد الله عز وجل. وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]. فهذا طريق الأنبياء والعلماء والعقلاء، وجميع من مضى من السلف والخلف والمؤمنين من الخلف، الذين جعل الله عز وجل الاقتداء بهم هداية وسلامة واستقامة وعافية من الندامة]. قال: [وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)].

حديث عامر بن سعد: (أن النبي أعطى رجالا)

حديث عامر بن سعد: (أن النبي أعطى رجالاً) وعن عامر بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، فقال أبوه سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً -أي: من الغنائم- فلم تعطه وهو مؤمن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو مسلم؟ فسكت سعد، ثم قال: وحزبني -أي: دفعني- ما أعرف من الرجل فقلت: يا رسول الله -مرة أخرى- أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، قال عندها: أو مسلم؟ فحزبني ما أعرف من الرجل أن أقول للنبي مرة ثالثة: يا رسول الله! أنت أعطيت فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا سعد هل لك في أن تقول: مؤمن؟). فنحن نعرف من قبل يا إخواني! أن المسلم لا يصح له الإسلام إذا كان معه أصل الإيمان، فلو قال رجل: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لكني لا أؤمن بالملائكة ولا بالنبيين ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره، ولا بعذاب القبر ونعيمه، ولا بالبعث، ولا بالحساب، ولا بالجزاء، ولا بالصراط، ولا بالجنة، ولا بالنار، فهذا الرجل ليس مسلماً؛ لأنه ليس معه أصل الإيمان. وفي هذه الحالة حينما رد النبي عليه الصلاة والسلام على سعد في عدم إعطاء هذا الرجل من الغنائم، كان قصد سعد بكلمة: (مؤمن) كمال الإيمان لا أصله، فلما أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على سعد أنكر شهادته له بكمال الإيمان. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم مخافة أن يكبهم الله في النار على مناخرهم)]. أرأيتم العلم والحكمة؟! يقول له: يا سعد! ما معنى أني أعطيت فلاناً وطردت فلاناً؟ هل أنه مؤمن أو غير مؤمن؟ لا، فأنا قد أعطي فلاناً ولا أعطي فلاناً آخر، والذي لم أعطه أحب إلي، وإيمانه أعدل إلي من إيمان من أعطيته، ولذلك شرع الله عز وجل سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، مع أن هناك ناساً في كمال الإيمان، والمؤلفة قلوبهم أحب إلى الله أم أبي بكر وعمر؟ أبو بكر وعمر، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما يعطي المؤلفة قلوبهم ولا يعطي أبا بكر وعمر، فهل يدل على أن المؤلفة أحسن من أبي بكر وعمر؟ أبداً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى هؤلاء مخافة أن يبغضوا رسول الله، أو أن يبغضوا الدين، فهم حينما يعالجوا بالمال يكون هذا عوناً لهم على الثبات، فيقول: لماذا لم تعطني؟ فيقول لك: أنت ليس وراءك خير! لكن النبي عليه الصلاة والسلام بحكمة الداعية وبحكمة الأنبياء إنما دعاهم لشيء يعجبهم ويسرهم، وكان السائل يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله فيعطيه غنماً بين جبلين برعاتها وكلابها ومرعاها، فيذهب الرجل إلى قومه ويقول: أتيتكم من عند من لا يخشى الفقر أبداً، محمد عبد الله ورسوله، فيأتي بعد برهة من الزمن مع قومه قد آمنوا بالله ورسوله، بسبب قليل من الأغنام زائلة فانية، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت الدنيا في يده لا في قلبه، وما كانت به حاجة أن يكون رجلاً من أهل الدنيا؛ لأنه غني بالله تعالى، وغني بالإيمان بالله، فحينئذ النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على سعد أن يتكلم في حقيقة وكمال وتمام إيمانه لأحد، حتى وإن كان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا إنما يعلمه الله عز وجل، ولو قال سعد: إنه مؤمن إن شاء الله يا رسول الله! ما أنكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أنكر على سعد أنه جزم بذلك.

إنكار ابن مسعود على من يقول عن نفسه: إنه مؤمن

إنكار ابن مسعود على من يقول عن نفسه: إنه مؤمن قال: [وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن لقيت ركباً فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن المؤمنون، قال عبد الله بن مسعود: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة]. أي: أن عبد الله بن مسعود يريد أن يقول: إذا كنتم أنتم المؤمنون حقاً فينبغي أن تقولوا: نحن أهل الجنة حقاً، وبذلك تلزمون الله تبارك وتعالى بدخولكم الجنة، ولذلك أهل السنة لا يقولون عن فلان بعينه شهيد إلا من شهد له الشرع بأنه شهيد، وإنما يقولون على العموم: شهداء بدر، شهداء أحد، شهداء الخندق، شهداء غزوة كذا، وغزوة كذا؛ لأن الشهداء يقيناً في الجنة، فلو قلنا: بأن فلاناً على جهة اليقين شهيد، لكان لزاماً على الله أن يدخله الجنة، ولا يلزم الله تبارك وتعالى أحكام العباد. ولذلك ينبغي أن نقول: فلان نحسبه شهيداً والله تعالى حسيبه، ونقول: فلان رجل صادق لا نزكيه على الله، والله تعالى يتولى أمره، لكن الذي يبدو لنا منه الصلاح والتقوى والعمل الصالح وغير ذلك، ما يدرينا أن الله تعالى يقبل هذا؟ ما يدرينا أنه يفعل ذلك رياء وسمعة؟ ما يدرينا أنه يفعل ذلك شهرة وتصدراً في المجالس؟ ما يدرينا أن الله تعالى قبل عمله؟ ما يدرينا أن هذا العمل قد حقق كمال الإيمان وتمامه؟ كل ذلك نحن لا نعلمه، الله تعالى يعلمه. قال: [وعن الحسن أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود: إني مؤمن، فقيل لـ ابن مسعود: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أم في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم]. أي: سألوه: هل أنت يا أخي! مؤمن أم لا؟ قال: مؤمن، إذاً هل أنت في الجنة أم في النار؟ قال: الله أعلم، فلم لم تقل في الأولى: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: تعلق الأولى كما علقت الثانية. قال: [فسألوه فقال: الله أعلم، فقال له عبد الله: فهل وكلت الأولى كما وكلت الآخرة؟]. أي: هلا قلت في الأولى: أنا مؤمن إن شاء الله، كما قلت: الله أعلم، حينما سئلت: أأنت في الجنة أم في النار؟ قال: [وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]. فقال الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو، أي: أرجو أن أكون عند الله مؤمناً. قال: وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في خطبته: من يتأل على الله يكذبه]، أي: من يحلف على الله عز وجل بأنه مؤمن فهو كذاب؛ لأن علم ذلك راجع إلى الله عز وجل.

أسماء بعض السلف الذين يعيبون على من لا يستثني

أسماء بعض السلف الذين يعيبون على من لا يستثني قال: [وعن جرير بن عبد الحميد الضبي قال: كان الأعمش ومنصور ومغيرة والليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لا يستثني]. فهؤلاء من السلف ذهبوا إلى وجود الاستثناء في الإيمان، والسبب أن بعض أهل السنة يقول: يجب الاستثناء في الإيمان، والبعض يقول: يجوز، والبعض يقول: يستحب، وهؤلاء جمهور أهل العلم.

كلام ابن مهدي وأحمد والثوري في الاستثناء في الإيمان

كلام ابن مهدي وأحمد والثوري في الاستثناء في الإيمان قال: [قال المروذي: وسمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا تُرك الاستثناء فهو أصل الإرجاء]. قال: [وعن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: ما أدركت أحداً من أصحابنا إلا على الاستثناء. قال يحيى: وكان سفيان يكره أن يقول: أنا مؤمن]، أي: أنه إذا سئل: أأنت مؤمن؟ يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله. قال: [وقال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث]، أي: في الأحكام التي هي الأوامر والنواهي، الحلال والحرام وغير ذلك، والمواريث، فيورثون العبد ويرثون من العبد؛ لأنه مات على الإسلام الذي نعلمه منه يقيناً، ومع هذا الإسلام أصل الإيمان. قال: [الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ونرجو أن يكون ذلك ولا ندري ما حالنا عند الله؟] أي: من كمال الإيمان وتمامه.

سبيل المؤمنين الاستثناء والخوف والرجاء

سبيل المؤمنين الاستثناء والخوف والرجاء قال: [فهذه سبيل المؤمنين وطريق العقلاء من العلماء لزوم الاستثناء والخوف والرجاء، لا يدرون كيف أحوالهم عند الله، ولا كيف أعمالهم، أمقبولة هي أم مردودة؟ قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وأخبر عن عبده الصالح سليمان عليه الصلاة والسلام في مسألته إياه: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]. أفلا تراه كيف يسأل الله الرضا منه بالعمل الصالح؛ لأنه قد علم أن الأعمال ليست بنافعة وإن كانت في منظر العين صالحة، إلا أن يكون الله عز وجل قد رضيها وقبلها]، أي: ممكن أن يكون العمل في أعين الناظرين إليه عمل صالح، لكن الله تعالى لم يتقبله، فكيف ينتفع به العامل؟ ولذلك قال سليمان: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا)) أي: يا رب! ارزقني أن أعمل عملاً صالحاً. قال: [وهذا لا يقدر على حتمه وجزمه] بالقبول [إلا جاهل مغتر] كالمرجئة، [نعوذ بالله من الغرة بالله والإصرار على معصية الله، أما ترون رحمكم الله عز وجل إلى الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها، وربما كانت في جماعة وفي وقتها، وعلى تمام طهارتها، فيقال له: صليت؟ فيقول: نعم إن قبلها الله]. مع أنه بإمكانه أن يقول: نعم صليت، فيذكر بأنه قد صلى، لكنه حينما قال: صليت إن قبلها الله؛ لأنه يعلم أن حقيقة الصلاة هي المقبولة. قال: [وكذلك القوم يصومون شهر رمضان فيقولون في آخره: صمنا إن كان الله قد تقبله منا]، وإلا فلا ينفعنا وإن كنا قد صمنا. قال: [وكذلك يقول من قدم من حجه بعد فراغه من حجه وعمرته وأداء جميع مناسكه إذا سئل عن حجه إنما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم عند انقضاء شهر رمضان وفي الأعياد وغير ذلك، وبهذا مضت سنة المسلمين، وعليه جرت عاداتهم، وأخذه خلفهم عن سلفهم، فليس يخالف الاستثناء في الإيمان ويأبى قبوله إلا رجل خبيث مرجئ ضال قد استحوذ الشيطان على قلبه، نعوذ بالله منه]. قال: [وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كان سليمان بن حرب يحمل الاستثناء على التقبل]، أي: إذا سئل: أأنت مؤمن؟ يقول: نعم إن شاء الله، يقصد بالمشيئة القبول لا التمام والكمال، [ويقولون: نحن نعمل ولا ندري أيتقبل منا أم لا]. قال: [وقال الوليد: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز لا ينكرون أن يقولوا: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله]. فالذي جزم من السلف بأنه مؤمن بغير استثناء إنما تكلم عن أصل الإيمان، وجماهير أهل السنة على الاستثناء. قال: [قال جرير بن عبد الحميد: الإيمان قول وعمل]. يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه تتعلق بالعمل. وكما قلنا من قبل: الرجل يعمل العمل ولما يدري أقبله الله تعالى منه أم لا، فينبغي أن يعلق زيادة الإيمان ونقصانه على مشيئة الله عز وجل. قال: [وكان الأعمش ومنصور ومغيرة والليث وعطاء وإسماعيل بن السائب وابن أبي خالد وعمارة والعلاء وغير واحد يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لا يستثني]. قال: [وقال أحمد بن حنبل: إذا قال الرجل: إني مؤمن إن شاء الله فليس هو بشاك]، خلافاً لقول المرجئة الذين يقولون: إذا قال الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله فهو يشك. قال: [فقيل له: إن شاء الله ليس هو شكا. قال: معاذ الله، أليس الله تعالى يقول: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]]؟ أي: هل الله تعالى شك في دخوله؟ A لا. قال: [وصاحب القبر إذا قال عليه: أبعث إن شاء الله، فأي شك هاهنا. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)]، فلا يمكن أن يكون هذا شكاً. قال: [وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا كانت ليلة عائشة، إذا ذهب الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)]. والنبي صلى الله عليه وسلم على يقين من كلامه. قال: [وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)]. قال: [وقال أحمد بن حنبل لما سئل عن الاستثناء: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثني مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثني للعمل]. أي: أنه يستثني

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول الاستثناء في الإيمان

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول الاستثناء في الإيمان فـ ابن تيمية في كتاب الإيمان في الجزء السابع من مجموع الفتاوى يقول: وأن الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من أوجبه حتى لا يزكي نفسه؛ لأنه لا يقول ذلك على جهة الشك، والذين أوجبوا الاستثناء قالوا: دفعاً للتزكية، وأنهم يقولونها لا على سبيل الشك بل على سبيل تفويض كمال الإيمان وتمامه لله عز وجل. ومنهم من يحرمه، وهم المرجئة والجهمية، وذلك على أصلهم في تعريف الإيمان بأنه التصديق أو المعرفة، وأنه لا يتصور الاستثناء؛ لأن الاستثناء عندهم شك في أصل الإيمان، ومن شك في أصل الإيمان لا يتصور إلا إلى الكفر. ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، أي: باعتبار كمال الإيمان وتمامه لا بد أن يستثني، وباعتبار أصل الإيمان فلا يستثني. قال: وهذا أصح الأقوال، أي: المذهب الذي يقول: إنه أحياناً يكون الجزم بالإيمان واجباً، وأحياناً يكون الاستثناء في الإيمان واجباً أو جائزاً. والذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه. فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب الله ورسوله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وأنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها من نفسي يقيناً وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، لا يجوز: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموهم الشاكة. والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان، واعلم أن هناك بعض الناس من أهل البدع أوجبوا الاستثناء، لكن ذهبوا في الوجوب إلى علة أخرى غير التي عند أهل السنة والجماعة، أي: أن فريقاً من أهل البدع قالوا بأن الاستثناء في الإيمان واجب، وذلك لعلة تسمى الموافاة، وهي: أن يفي الرجل إلى الله عز وجل يوم القيامة بالأعمال، أي: العمل الذي يقدم به العبد على ربه. كما قالوا كلاماً هو شراً من ذلك، فقالوا: الله عز وجل سبق في علمه أن فلاناً سيموت على الكفر، ولا خلاف عندنا أن الله تعالى يعلم ذلك من عبده، فهو مؤمن الآن يعمل الصالحات، لكنه يختم له بالكفر والردة، أي: أن عمله هذا كله لا قيمة له، وأنه لا يثاب عليه؛ لأنه قد سبق في علم الله أنه سيوافيه يوم القيامة مرتداً وكافراً. وكذلك الصورة العكسية أن هذا العبد كافر عابد للأصنام والأوثان. قال: فلا يزال الله تبارك وتعالى يحبه حتى وإن كان عابد وثن؛ لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا العبد سيموت على الإيمان أو سيوافيه بالإيمان. ولذلك يقولون: لا بد من الاستثناء في الإيمان، وذلك لعلة الموافاة التي لا يعلمها العبد من نفسه، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: باعتبار قدومه على الله، هل يقدم عليه كافراً أو يقدم عليه مؤمناً؟ وعلة الموافاة هذه لم يقل بها إلا المبتدعة. ولذلك يقولون: محبة الله تبارك وتعالى لعبده لا تتغير، وسخط الله تبارك وتعالى على عبده لا يتغير، فلا يزال الله تبارك وتعالى ساخطاً على عبد من عباده أبداً، عمل صالحاً أو سيئاً؛ لعلم الله تعالى أنه سيختم له بالكفر والردة. كذلك فالله تعالى يرضى عن عبده وإن كان عابد وثن؛ لعلمه أن هذا العبد سيوافيه على الإيمان. فهذه عند المبتدعة اسمها: علة الموافاة، ونحن قلنا: إن فريقاً من أهل السنة قالوا بوجوب الاستثناء في الإيمان، فهل لعلة الموافاة؟ لا، وإنما عدم تزكية، وأنهم لا يقولون ذلك على سبيل الشك، بل على سبيل إيكال حقيقة الإيمان لله عز وجل، أما الاستثناء في الإيمان فينبغي أن يكون في كمال الإيمان وتمامه وحقيقته، أما أصل الإيمان الذي هو محل الردة ومحل الكفر، فلا استثناء فيه. وهذا الوجه الأول من الأوجه التي أوجب الله تبارك وتعالى لها الاستثناء، وهذا الوجه عند أهل البدع. الوجه الثاني كذلك في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله تبارك وتعالى به وترك المحرمات، إذ إن الإيمان المطلق أو الإيمان الكامل متعلق بالعمل، والعمل عبارة عن أمر ونهي.

كلام الإمام أحمد في الاستثناء

كلام الإمام أحمد في الاستثناء فإذا كان كمال الإيمان وتمامه مرتبطاً بالعمل الذي هو الأمر والنهي، وأنا غير متأكد من قيامي بواجب الأمر والنهي، ففي هذه الحالة إذا سئلت عن كمال الإيمان وتمامه أكل الأمر إلى الله عز وجل وأقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولذلك قال رجل لـ أحمد بن حنبل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ فقلت له: نعم، وهل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد بن حنبل غضباً شديداً وقال: هذا كلام الإرجاء؛ لأن الله تعالى قال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]، وذلك لما ذكر الله تعالى أهل الإيمان وأهل الكفر ذكر فئة ثالثة فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يفصل بينهم. فإذا كان الناس مؤمناً وكافراً فليس هناك داع لهذا الفريق الثالث الذي يرجئ أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وهم أصحاب الكبائر، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وليس بكافر بكبيرته، ولذلك أصحاب الكبائر مؤمنون بإيمانهم فساق بكبائرهم، وفي يوم القيامة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم. إذاً مشيئة الله تبارك وتعالى في أهل الكبائر في الآخرة، ومعنى (مرجون): مؤخرون. وبالتالي ليس الناس مؤمناً وكافراً فحسب، بل مؤمن وفاسق وكافر. قال: إن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم. أما قول أحمد قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: الأمر لله، أي: ومن يجرؤ أن يأتي يوم القيامة ويقول: أنت أمرتني بالقول والعمل، ووعدتني على القول والعمل بالجنة، وأنا قد آمنت بالله، وما كنت أمل ولا أكل من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكنت أصوم وأصلي وأزكي، فهيا أدخلني الجنة الآن! هل أحد يستطيع أن يقول هذا لله؟ مع أن الله وعد بأن من قال وعمل دخل الجنة، لكن هل هذا يلزم الله تعالى؟ لا يلزمه؛ لأن العبد لا يزعم أنه قد عمل، وإن زعم أنه قد قال؛ فلأن القول محقق ولا يقبل منه إلا إذا كان معه أصل الإيمان، أما العمل فلا يسع إنساناً أن يزعم أنه قد حقق كمال الإيمان وتمامه بتمام العمل وكماله. قال: فهل جئنا بالعمل؟ قال الرجل: لا، قال: فكيف نعيب أن يقول: إن شاء الله ويستثني؟ وقال أبو داود: أخبرني أحمد بن أبي شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن نستثني في العمل. إذاً أنا حينما أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فإني أستثني في العمل. قال: والقبول متعلق بفعله كما أمر، فكل من اتقى الله في عمله ففعله كما أمر، فقد تقبله الله منه، لكن هل العمل يجزم بالقبول؟ A لا. وعن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: لا نجد بداً من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاء بالقول، وإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول. وعن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان قول وعمل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثنى العبد في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وسمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، الاستثناء هاهنا على أي شيء يقع؟ قال: على البقاع، لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهل البقيع: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ولم يدفن في البقيع، وإنما دفن في الموضع الذي مات فيه، فعلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائداً إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة؛ لما فيه من الحكمة. قال: وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى الشك، مخافة واحتياطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهذا مذهب الثوري، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَا

باب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت، وكيف الجواب له، وكراهية العلماء هذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك

باب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت، وكيف الجواب له، وكراهية العلماء هذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك وبقيت مسألة متممة لهذا الأمر وهي: هل يجوز توجيه هذا السؤال أم لا؟ أي: هل لك أن تسأل الآخر فتقول له: هل أنت مؤمن؟ A لا، قولاً واحداً عند السلف، وبالتالي فجوابنا أو كلامنا في المسألة السابقة جواز الاستثناء أو وجوب الاستثناء فيما إذا وجه السؤال، مع الحكم على السؤال بأنه بدعة؛ لأن السلف لم يتوجهوا بهذا السؤال قط بل ذموه، وقد [سأل رجل ميمون بن مهران فقال: قال لي: أمؤمن أنت؟ قال: قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه. قال: لا يرضى مني بذلك، قال: فردها عليه. فقال: لا يرضى، فردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد]. أي: أن واحداً يقول لـ ميمون بن مهران: واحد سألني فقال لي: أمؤمن أنت؟ ماذا أقول له؟ قال: قل له آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، فهو يريد جواباً محدداً، فقال: أعدها عليه، يعني: قل له: آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، قال: ردها عليه، قال: إذا رددتها لا يرضاها مني، قال: ردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد، أي: حينما يسألك: أنت مؤمن؟ قل له: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. [وكان طاوس إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته ورسله وكتبه، لا يزيد على ذلك]. [وقيل لـ إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله]. [وقال ابن سيرين: إذا قيل لك: أنت مؤمن؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق]. [وقال إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا أنت]. [وقال إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو]، أي: أن أكون كذلك. [وقال إبراهيم النخعي: سؤال الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة]. [وقال: إذا سئلت: أنت مؤمن؟ فقل: لا إله إلا الله، فإنهم سيدعونك]، أي: لو قلت لهم: لا إله إلا الله سيتركوك. [وقال إبراهيم: سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة]. [وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا سئلت أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه وسؤالك إياي بدعة]، أي: إن شاء أن يجيبه بالاستثناء، وإن شاء أن يدع الجواب، بل يتهمه في سؤاله ويقول: وسؤالك إياي بدعة، [ولا أشك في إيماني]، الذي هو أصل الإيمان، [ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص أو قال: مؤمن إن شاء الله وليس يكره، وليس بداخل في الشك]. [وقال روح بن عبادة: كتب رجل إلى الأوزاعي: أمؤمن أنت حقاً؟] وكلمة (حقاً) هذه تفهم بأن السؤال متوجه لكمال الإيمان. قال: أمؤمن أنت حقاً؟ أي: أن هذا الغبي لم يجد غير الأوزاعي إمام الدنيا في زمانه في ديار الإسلام، ووالله لو كان الأوزاعي يعيش لما كان أحد من اليهود يجرؤ أن يقرب جهة لبنان أو سوريا أبداً، لكن الأوزاعي قد مات، [قال: فكتب إليه: كتبت تسألني أمؤمن أنت حقاً؟ والمسألة في هذا بدعة، والكلام فيه جدل، ولم يشرحه لنا سلفنا، ولم نكلفه في ديننا]. أي: نحن لسنا بمكلفين شرعاً أن نسأل هذا السؤال. قال: [سألت أمؤمن حقاً؟ فعلمري لئن كنت على الإيمان فما تركي شهادتي لها بضائري]. أي: لو أنك حققت كمال الإيمان وتمامه حقاً، فلو أني تركت الجواب عليك فهذا لا يضرني؛ لأني عند الله مؤمن إذا كان الله يعلم ذلك مني. قال: [وإن لم أكن عليه]، أي: على الإيمان الكامل التام عند الله، ويعلم الله ذلك مني، [فما شهادتي لها عندك بنافعتي، فقف حيث وقفت بك السنة]. وهذه كلمة جميلة جداً، وقد كان سفيان الثوري يقول: قف حيث وقفت بك السنة، ولا تحكن جلدك بظفرك إلا بدليل، أي: إن شئت ألا تحك جلدك بظفرك إلا بدليل فافعل؛ لأن هذا دين، وهذا إيمان. قال: [فقف حيث وقفت بك السنة، وإياك والتعمق في الدين، فإن التعمق ليس من الرسوخ في العلم؛ إن الراسخين في العلم قالوا حيث تناهى علمهم: آمنا به كل من عند ربنا]. ولم يزيدوا ولم يتكلفوا ولم يتنطعوا في العلم. [وقال أبو إسحاق الفزاري: قال الأوزاعي في الرجل يسأل الرجل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل عنه بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث]، أي: أمر محدث، [ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم تكن كذلك عند الله، وتركك الشهادة لنفسك بها بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك عند الله، وإن الذي يسألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد لينازع الله عز وجل علمه في ذلك حتى تزعم أن علمه وعلم الله في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذ

القول في المرجئة وإنكار العلماء مذاهبهم

شرح كتاب الإبانة - القول في المرجئة وإنكار العلماء مذاهبهم بدعة المرجئة من شر ما ابتدع في الإسلام، فقد عطلوا أحكام الشريعة وجعلوا الأعمال لا علاقة لها بالإيمان، وقد ورد في ذمهم والإنكار عليهم الكثير من النصوص والآثار، وقد أنكر عليهم الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب وعلماء الأمصار.

ما ورد في ذم المرجئة

ما ورد في ذم المرجئة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [القول في المرجئة وما روي فيه، وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم]. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث ولم يصح في ذم المرجئة مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام شيء. منها حديث [أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله عز وجل نبياً قط قبلي اجتمعت له أمته، إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون عليه أمر أمته من بعده، ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أنا آخرهم)]. ومن طريق [أنس رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي أو لا يدخلون في شفاعتي: المرجئة والقدرية)]. وكلا الحديثين ليس بصحيح.

فتنة المرجئة أشد على الأمة من فتنة بعض فرق الخوارج

فتنة المرجئة أشد على الأمة من فتنة بعض فرق الخوارج قال: [وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: لفتنتهم عندي -أي: فتنة المرجئة عندي- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة]، والأزارقة هم قوم من الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق الذي قُتل في زمن عبد الله بن الزبير وقد خرج عليه. [وقال الزهري: ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه، أي: الإرجاء. وعن الأوزاعي قال: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم]، أي: عند أهل السنة، [على هذه الأمة من الإرجاء]. [وعن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة]. [وقال حجاج سمعت شريكاً وذكر المرجئة، فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله عز وجل]. [وقال عبد الله بن حبيب يروي عن أمه قالت: سمعت سعيد بن جبير: وذكر عنده المرجئة فقال: مرجئة هذه الأمة كاليهود]؛ لأن اليهود ضالون كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، قال: (المغضوب عليهم هم اليهود، والنصارى ضالون). قال: والله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عملوا بغير ما علموا، وهذا نوع من أنواع الضلال، بل هو أعظم أنواع الضلال أن يتقرب المرء إلى الله عز وجل بهواه بغير نص أو أثر. فالله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم علموا الحق فلم يتبعوه، وكذلك المرجئة علموا أن دين الله تعالى بعد القول مبني على العمل، وهم يزعمون أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وليس من الإيمان في شيء، فإيمان من قال: لا إله إلا الله وإن ترك جميع الأوامر وارتكب جميع النواهي كإيمان جبريل وميكائيل، فهذا من حيث الضلال ضلال عظيم جداً؛ ولذلك شبههم علماء السنة باليهود. [وقال المغيرة بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود القبلة]، يعني: هم كاليهود في صفاتهم، غير أنهم لا يزالون من أهل القبلة. والعلماء يفرقون بين مصطلح أهل السنة وأهل القبلة، فالرجل من أهل السنة أي: أنه عامل بأصول الإيمان وفروعه، معتقد لذلك، داع إليه. أما من كان من أهل القبلة وليس من أهل السنة فهذا الذي هو قائم على بدعة غير مكفرة، فهو لا يزال من أهل الإسلام ومن أهل القبلة؛ لكن هيهات أن يكون من أهل السنة. [وقال سعيد بن جبير: المرجئة مثل الصابئين]، الصابئون في زمان نبي من الأنبياء، هم الذين زاغوا ومالوا عن طريق الحق، وسلكوا طريق الزيغ والضلال. [وعن حذيفة قال: إني لأعلم أهل ذينك الدينين في النار]، أي: أصحاب بدعتين في النار، كما قال عليه الصلاة والسلام، قال: [قوم يقولون: إن الإيمان كلام]، يعني: لو قال المرء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذا هو منتهى وكمال وتمام الإيمان. قال: [وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟] يعني: من أين أتيتم بأن الصلوات خمس؟ [إنما هما صلاتان]، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار، وهاتان الصلاتان كل صلاة منهما ركعتان فحسب، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فاستدل بالقرآن على أن الصلاة صلاة في أول النهار وفي آخره. [وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة فضرب لهم مثلاً، فقال: مثلهم كمثل الصابئين أتوا اليهود فقالوا لليهود: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى فقالوا: من أنتم، وما دينكم؟ قالوا: نحن النصارى وديننا النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قال: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بين ذين]، يعني: لا نحن يهود ولا نحن نصارى، نحن بينكما. كيف يدخل الجنة رجل لا يرضى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما اختار لنفسه ديناً وسطاً بين هذين الدينين؟ هذا الدين وسط بين الملتين وبين الدينين، ليس هو دين السماء ولا شريعة السماء ولا تابعاً لنبي، ولا عنده عهد موثق وميثاق غليظ بدخول الجنة، فكيف لرجل يختار لنفسه ديناً وهوى ومذهباً لم يكن به أدلة من السماء؟ [وقال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة].

عيب أئمة الإسلام على المرجئة كثرة التحول في الدين

عيب أئمة الإسلام على المرجئة كثرة التحول في الدين [وقال وكيع: حدثني القاسم بن حبيب عن رجل يقال له: نزار عن عكرمة عن ابن عباس، قال: صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية]. [وقال أيوب بن أبي تميمة السختياني: قال لي سعيد بن جبير: ألم أرك مع طلق؟] وهو طلق بن حبيب المرجئ الكبير المعروف، وهو من رواة السنة، [قلت: بلى فما له؟] يعني: ما عيبه؟ [قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه]. يعني: ولم أكن قد استشرته في ذلك، وإنما يجب على المسلم إذا رأى أخاه على معصية أو على خطر أو على ضلالة أن يحسن به الظن، وربما أنه لا يعرف أن هذا ضلال، وليأمره ولينهه ولو بغير طلب منه. [وقال قتادة: إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث]. [وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك]، يعني: أنا لا يمكن أقول بهذا القول، وهذا القول عندي فاسد بين الفساد، لا أقول به وأنا أكبر من ذلك. [وقال العلاء بن عبد الله بن رافع: إن ذراً أتى أبا عمرو وسعيد بن جبير في حاجة له فقالا: لا] أي: لا نقضي لك حاجتك [حتى تخبرنا على أي دين أنت اليوم]. ولذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: من لم يتخذ السنة ديناً أكثر التحول، يعني: يكون كل يوم على مذهب، اليوم خارجي، غداً معتزلي، بعد غدٍ مرجئي، قدري، إباضي، شيعي وهكذا؛ لأن كل هذه الفرق فرق ضلال، وضلالها سواء، فهو متى أعجبته فكرة ينتقل إليها. وقد رأينا رجلاً أكاديمياً صنف كتاباً في الفلسفة الإسلامية، أي: الاعتقاد، خلط فيه بين جميع ملل الإسلام غير مذهب أهل السنة والجماعة، إذا تكلم في قضية من القضايا أتى فيها بأقوال أهل البدع كلهم ولم يذكر مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، رجل يأخذ بما يناسب عقله، فالذي يعجبه من أي ملة من الملل يقصه ويلصقه أو يخطه في هذا الكتاب، فهذا كلام عجيب جداً! أن يعمى المرء عن الحق ثم يتخبط في غياهب الظلام بالليل والنهار. قال: [لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم؟ فإنك لا تزال تلتمس ديناً قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه؟]. [وقال محمد بن ذكوان لـ حماد: كان إبراهيم يقول بقولكم في الإرجاء، فقال: لا، كان شاكاً مثلك. [وقال جعفر الأحمر عن أبي جحاف قال سعيد بن جبير لـ ذر: يا ذر! مالي أراك في كل يوم تجدد ديناً؟] يعني: تنتقل من دين إلى دين، ومن ملة إلى ملة، ومن مذهب إلى مذهب، ومن فرقة إلى فرقة، غير أنك بعد لم تلتمس طريق الحق، وهو طريق أهل السنة والجماعة. [وقال أبو المختار: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد علي]، أي: فلم يرد علي السلام، مع أن رد السلام أمر واجب، ومع هذا أجمع العلماء على أنه إذا كان الرجل المُسَلِّمُ صاحب بدعة وخطره محقق فالمقاطعة أولى حتى وإن كان في الواجبات، مثل رد السلام. [فقال أبو البختري لـ سعيد بن جبير فقال سعيد: إن هذا يجدد في كل يوم ديناً، لا والله لا كلمته أبداً]. [ومر إبراهيم التيمي بـ إبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه]، أي: لأنه مرجئ. [وقال رجل: رآني أبو قلابة وأنا مع عبد الكريم]، وهو ابن عجرد زعيم العجاردة، كان إمام مذهب من مذاهب الضلال. [فقال: مالك ولهذا الهزء]، يعني: هذا الإنسان السخيف المبتدع، كأنه يحذره المشي معه. [وقال أبو حمزة التمار الأعور: قلت لـ إبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ قال: أوه]، كأنه يستعظم ذلك، وهي كلمة تقولها العرب، ثم قال: [لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة والشر من أمرهم، فإياك وإياهم]، فهو يحذره، ويبين له أنهم شر طائفة على الإسلام. [وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيهم، ثم قال: إني أخاف أن يتخذ ديناً، فلما أتته الكتب من الآفاق قال: فسمعته بعد يقول: فهل أمر غير هذا!]. يعني: لما دعا ذر إلى مذهب الإرجاء، ونشر أمره هنا وهناك، فأتى عليه الرد من هنا وهناك، فلما وقف على الردود المكتوبة بأقلام العلماء، قال: لو كان غير ذلك، أي: لنجحنا وأفلحنا، كأنه يظهر استياءه الشديد لرد العلماء عليه وأنهم عطلوا عليه نشر دعوته. قال: أو شيء غير ذلك؟ يعني: كان يتمنى أن

ما لم يكن دينا في عهد الصحابة فليس دينا لمن بعدهم

ما لم يكن ديناً في عهد الصحابة فليس ديناً لمن بعدهم قال: [وقال إبراهيم: إن القوم لم يدخر الله عنهم شيئاً خبئ لكم لفضل عندكم]. ولذلك نحن دائماً نقول: إن المقياس في ميزان الحق والباطل ما كان عليه السلف، وما وسع السلف يسعنا، وما لم يسع السلف لا يسعنا، وهذه أصول لأهل السنة والجماعة. ولذلك لو نظرنا إلى أي فرقة من فرق الإسلام لا نجد عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فـ أبو بكر رضي الله عنه لم يكن معتزلياً، ولا قدرياً، ولا شيعياً، ولا مرجئاً، ولا خارجياً، ولا إباضياً، ولا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: لا يمكن أبداً، وهذه حجة عقلية وإذا كان الإرجاء خيراً فلماذا يخفيه الله على نبيه وعلى أصحاب نبيه ثم يظهره لنا، أنحن أكرم على الله من هؤلاء؟! ولذلك قال مالك: وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، وهذا مالك الذي مات سنة (174) أو (185) هجرية، يقول: وما لم يكن يومئذ -يعني: عند الصحابة- ديناً فليس اليوم ديناً، يعني: لا يصلح أن يكون ديناً أبداً، وهذا في القرن الثاني الهجري، فما بالكم بالقرن الخامس عشر الهجري، من باب أولى ألا يكون ديناً. ما رأيكم فيمن صنف النبي عليه الصلاة والسلام أول صوفي في الإسلام، أيصح هذا؟ وأبو بكر الصديق ثاني صوفي في الإسلام، وعمر بن الخطاب ثالثهما وهكذا، هذا يخلط في الموازين التي هي عندنا، ألا تعلمون بهذه الكتب؟ هذه سلسلة من الكتب. وكذا تكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك تكلم عن الخلفاء الراشدين، ثم العشرة المبشرين بالجنة، فأصابته المنية فمات، الحمد لله الذي أراحنا منه.

التحذير من مجالسة المرجئة والتأثر بأقوالهم في الإيمان

التحذير من مجالسة المرجئة والتأثر بأقوالهم في الإيمان قال: [فاحذروا رحمكم الله مجالسة قوم مرقوا من الدين، فإنهم جحدوا التنزيل وخالفوا الرسول، وخرجوا عن إجماع علماء المسلمين، وهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل]، يعني: فإن هذا هو أس البلاء عند المرجئة؛ وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، وهذا كلام متين جداً، الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. عند المرجئة الإيمان قول بغير عمل، والأحمق فيهم ينص على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وخطورة هذا الكلام أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة لزاماً، وإن ارتكب جميع الموبقات وترك جميع الأوامر؛ لأن الأوامر والنواهي أعمال تحتاج إلى امتثال. إذاً: ليستا بواجب؛ سيستوي عندهم من امتثل مع من عصى. قال: [ويقولون: إن الله عز وجل فرض على العباد الفرائض ولم يرد منهم أن يعملوها]، أتتصور أن هذا كلام عاقل؟ وهو أن الله عز وجل لم يرد منا الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة، ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، أي: أن الله أمرنا بأوامر ونهانا عن أشياء، لكن لم يرد حقيقة الأمر ولا حقيقة النهي! هذا الكلام تخريف، هذا الكلام لا يقبله صاحب العقل المريض، فما بالك بالعقل السليم؟! قال: [وليس بضائر لهم]، أي: لا يضرهم، [أن يتركوها، وحرم عليهم المحارم فهم مؤمنون وإن ارتكبوها]. يعني: الواحد يقول: ربنا حرم علي إتيان المحارم، والجمع بين الأختين، وأنا سأجمع بين الأختين، أمرني ألا أنكح ابنتي أو أمي، وأنا سأنكح ابنتي وأمي، هل هذا ممكن؟! أو يقول: أنا أعلم يقيناً أن الله تعالى حرم علي نكاح الأم من النسب أو من الرضاعة، وهذه أمي من النسب وأنا أشهدكم أني سأتزوجها، مع علمي بالتحريم، لأن الله ما أراد مني حقيقة هذا التحريم، هل يكون هذا مسلماً؟ لا يمكن. كمن يطأ المصحف بقدمه وهو يقول: أنا أؤمن أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، وهو كلامه الذي نزل من اللوح المحفوظ بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لا يكون هذا مسلماً، وهو ما زاد على كونه عمل عملاً. ئإذاً: من الأعمال ما يكفر بها العامل، ومن الأعمال ما يفسق بها العامل. قال: [وإنما الإيمان عندهم أن يعترفوا بوجوب الفرائض وإن يتركوها، ويعرفوا المحارم وإن استحلوها، ويقولون: إن المعرفة بالله إيمان يغني عن الطاعة]، وهؤلاء هم الجهمية، يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط. والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، وهو قول بلا عمل. والنطق بالشهادتين عند الجهمية لا يلزم في ثبوت الإسلام والإيمان، بل يكفي أن يكون عارفاً بقلبه، وفرعون عارف بقلبه، وإبليس شيخ العصاة كان عارفاً بقلبه، وقد أقر بربوبية الله عز وجل، فهل يكون إبليس على هذا المذهب مؤمناً كامل الإيمان، أو فرعون مؤمناً كامل الإيمان؟ قال: [وإن من عرف الله تعالى بقلبه فهو مؤمن، وإن المؤمن بلسانه والعارف بقلبه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل، وإن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سيان]. يعني: الذي يصلي مثل الذي لا يصلي، والذي يصوم مثل الذي لا يصوم، والذي يقوم الليل مثل الذي لا يقوم الليل، والطائع كالعاصي؛ لأن الإيمان ليس له تفاضل. التفاضل في الإيمان باعتبار العمل، فلما لم يكن العمل عندهم من الإيمان دل على نفي التفاضل في الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سواء عند المرجئة وعند الجهمية. قال الشيخ: [وهذا كله كفر وضلال، وخارج بأهله عن شريعة الإسلام، وقد أكفر الله القائل بهذه المقالات في كتابه، والرسول عليه الصلاة والسلام كفره في سنته، كما كفره جماعة العلماء باتفاقهم، وكل ذلك فقد تقدم القول فيه مفصلاً في أبوابه. وللقائل إن المعرفة إيمان فقد افترى على الله عز وجل، وفضل الباطل على الحق، وجعل إبليس وإبراهيم خليل الرحمن وموسى الكليم في الإيمان سواء]، يعني: جبريل مثل إبراهيم ومثل موسى ومثل محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم جميعاً يعرفون أن الله تعالى حق. قال: [لأن إبليس قد عرف الله فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، فهو يعترف لله بربوبيته، [وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر:36]، وكذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260]]، فالذي قاله إبليس قاله إبراهيم، والذي قاله إبراهيم قاله إبليس، وهو الاعتراف بالربوبية. [وقال موسى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17]]، أي: فكل هذا إقرار بربوبية الله عز وجل، اشترك فيه الأنبياء وإبليس كذلك. [ويلزمه على أصل مذهبه الخبيث أن يكون من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأهل بيته ومن جاهد معه، وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وهاجروا إليه، والذين كذبوه وحاربوه في الإيمان عندهم سواء]. أي: لأن هؤلاء أطاعوا محمداً، وهؤلاء عصوا

الرد على استدلال المرجئة بمثل حديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)

الرد على استدلال المرجئة بمثل حديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) قال: [هذا أبو جهل قد عرف بقلبه وعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزم صاحب هذه المقالة]، وهي: الإيمان قول بلا عمل، أو الإيمان معرفة بلا قول، [أن يلحقه في الإيمان بأهل بدر والحديبية وأصحاب الشجرة من أهل بيعة الرضوان، غضب الله على صاحب هذه المقالة، وأصلاه ناراً خالداً فيها، فإنه لم يفرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الصالح والطالح]. [وعن الزهري قال: قال لي هشام] لعله هشام بن سالم الجواليقي أو هشام بن سالم بن الحكم وهما من أصحاب البدع، [أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)]، أي: يا من تظن أنك إمام من أئمة أهل السنة، ألم تسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر منادياً في الناس ينادي: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة). فـ هشام الجواليقي يحتج عليه بأنه على حق؛ بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عملاً من الأعمال. قال الزهري: [فقلت: نعم وذاك قبل نزول الفرائض]، أي: هذا الكلام كان بمكة قبل نزول الفرائض، [ثم نزلت الفرائض، فينبغي للناس أن يعملوا بما افترض الله عز وجل عليهم]. [وعن الضحاك بن مزاحم قال: ذكروا عنده: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، فقال الضحاك: هذا قبل أن تحد الحدود، وتنزل الفرائض]، أي: فلابد من التزام ما أمر وترك ما نهى. [وقال الحسن البصري: لو شاء الله عز وجل لجعل الدين قولاً لا عمل فيه، أو عملاً لا قول فيه، ولكن جعل دينه قولاً وعملاً، وعملاً وقولاً، فمن قال قولاً حسناً، وعمل سيئاً رد قوله على عمله، ومن قال قولاً حسناً وعمل عملاً صالحاً رفع قوله عمله، يا ابن آدم، قولك أحق بك]. [وعن مبارك بن حسان: قال: قلت لـ سالم الأفطس]، وهو صاحب بدعة الإرجاء، [رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا، فذكرت ذلك لـ عطاء فقال: سلهم، الإيمان طيب أم خبيث؟ فإن الله تعالى قال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، قال: فسألتهم فلم يجيبوني]. يعني: الإيمان شيء طيب أم شيء خبيث؟ فإن قالوا: خبيث، فصاحب الخبيث من الخاسرين، ويحتج عليهم بالآية، وللعلم أن هؤلاء كانوا علماء، ولم يكونوا جهلة، كان الواحد منهم ينظر في وجه العالم من أهل السنة فربما يعرف حجة صاحب السنة قبل أن يقولها، فيعد لها جواباً ملتوياً بعيداً عن الحق. عند أن تقرأ لشخص مثل أبي إسحاق النظام الذي هو إبراهيم بن سيار المعتزلي صاحب البدعة، يحتار عقلك وتحتاج أن تقف عند كل جملة، وتترحم على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي فضحه وعراه وأظهر فساد قوله، وكان ابن تيمية يصطدم معه بمواقف ويناظره فيها فغلبه، فتقول: أكان إبراهيم النظام يقصد هذا الكلام؟ وكيف فهم ابن تيمية هذا الفهم؟ فتدرك حقيقة ما كان عليه ابن تيمية من إيمان وتقوى وعلم وعمل، ابن تيمية فضح جميع الفرق، ما ترك فرقة من فرق الضلال إلا وعراها، وبين فسادها وعوارها، وأن بضاعة جميع الفرق مزجاة كاسدة لا قيمة لها؛ لأنها مخالفة للكتاب والسنة. قال: [فقال سالم: إنما الإيمان منطق ليس معه عمل]، يعني: الإيمان هذا طيب أم خبيث؟ لا تقل لي: الإيمان منطق، أنا أريدك أن تقول: إما طيب وإما خبيث. فلو قال طيباً فالناس يتفاضلون في الطيب، ولو قال خبيثاً لكفر؛ لأن الإيمان لا يكون خبيثاً، فقال هروباً من الإجابة: إن الإيمان منطق ليس معه عمل، يريد أن يقول: الإيمان قول ليس معه عمل. قال: [فذكرت ذلك لـ عطاء فقال: سبحان الله! أما تقرءون الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]. فالآية الأولى حجة للمرجئة، وهي أن البر هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه وغير ذلك، فهذا هو كلام المرجئة، لكن الله عطف على ما ذكر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177]، ليس البر أن تولوا، ولكن البر أن تؤم

التحذير من مقولة المرجئة بكمال إيمان عصاة المسلمين

التحذير من مقولة المرجئة بكمال إيمان عصاة المسلمين قال: [فاحذروا -رحمكم الله- من يقول: أنا مؤمن عند الله وأنا مؤمن كامل الإيمان، ومن يقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل فإن هؤلاء مرجئة، أهل ضلال وزيغ وعدول عن الملة]. إن الصحابة رضي الله عنهم، مع أنهم بشروا بالجنة، فالذي بشر بالجنة بالاسم والعين كان يخشى على نفسه النفاق، ولا يأمن عاقبة الأمور. قال: [قال الأوزاعي: ثلاث كلهن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان]، أي: من قال ذلك فهو مبتدع؛ ومذهب أهل السنة والجماعة الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا سئلت: هل أنت مؤمن؟ فقل: أرجو أن أكون مؤمناً، أو قل: نعم إن شاء الله، ليس على سبيل الشك. قال: [وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله عز وجل]. [وقال شريح بن النعمان سألت يحيى بن سليم الطائفي ونحن خلف المقام: أي شيء تقول المرجئة؟ قال: يقولون: ليس الطواف بهذا البيت من الإيمان]؛ يعني: لأنهم يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته. قال: [وعن نافع بن عمر بن جميل القرشي قال: كنت عند عبد الله بن أبي مليكة، فقال له بعض جلسائه: يا أبا محمد! إن ناساً يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل. قال: فغضب ابن أبي مليكة وقال: والله ما رضي الله لجبريل حين فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19 - 22] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟]. أي: وفهدان رجل ممن أدرك ابن أبي مليكة وكان يعيش في زمانه، وكان رجلاً ماجناً يشرب الخمر ولا يكاد يفيق من السكر، فهو يقول لهم: أتتصورون أن إيمان فهدان مثل إيمان جبريل وميكائيل؟ أي: أترضون لي أن أقول أن إيمان شخص لا يكاد يفيق من السكر كإيمان جبريل وميكائيل؟ [وقال نافع: وقد رأيت فهدان رجلاً لا يصحو من الشراب]، يعني: لا يكاد يفيق من السكر، والمرجئة يزعمون أن فهدان كجبريل وميكائيل! ليس بينهما أي تقارب في الإيمان. [وقال نصر بن المثنى الأشجعي كنت مع ميمون بن مهران فمر بجويرية]، أي: ببنت صغيرة، [وهي تضرب بالدف وتقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟] أي: اللوم والتوبيخ: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، يعني: متنكراً لحكم الله عز وجل، ومع هذا هو لحب الخير الذي يأتي من عند الله لشديد، فإذا وصلته النعمة تنكر لها، وظن أن ذلك باجتهاده وعمله. فهذه الجويرية عند أن ضربت بالدف تقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟ أي: هل يستطيع أحد منكم أن يقول: هذا القول فيه عتاب أو ملامة؟ [فقال ميمون: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران]، يعني: هل إيمان هذه الجويرية التي تغني وتضرب بالدف كإيمان مريم ابنة عمران [قال: والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل]. [وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبداً، ويقولون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل، قال: قال الوليد: قال سعيد بن عبد العزيز: هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس؛ لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام]. [وعن حذيفة أنه قال: تفترق هذه الأمة حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا؟] يعني: فرق الضلال تأتي وتقول: ما هذه الصلوات الخمس؟ إنما هما صلاتان فقط! قال: [وتقول الأخرى: إنا مؤمنون كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله تعالى أن يحشرهم مع الدجال]، يعني: هؤلاء دجاجلة وهم يستحقون أن يكونوا أتباعاً للدجال، لا للنبي محمدٌ عليه الصلاة والسلام. [وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقولون: ما فينا كافر ولا منافق؟! جذ الله أقدامهم]، يعني: قطع الله أقدامهم. [وقال وكيع: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، إن الله لم يقدر المصائب والأعمال]. أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يكتب أعمال العباد إلا بعد أن وقعت، أليست القدرية هم الذين يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف؟ أي: مستأنف، والله تعالى لا يعلمه إلا بعد أن يقع، هكذا تقول القدرية، يقولون: الله تعالى لا يعلم الأعمال إلا بعد وقوعها، أما قب

موقف السلف من المرجئة

موقف السلف من المرجئة قال: [وقال سفيان عندما ذكروا له المرجئة: رأي محدث أدركنا الناس على غيره]، يعني: الكلام المرجئي الذي أسمعه منكم؛ وهو أن العمل لا علاقة له بالإيمان ولا بأصل الإيمان ولا حقيقته ولا تمامه وكماله، هذا قول محدث أدركنا الناس على خلاف ذلك، وإن ذكر الناس فالمقصود بهم العلماء أهل السنة. [وقال أيوب: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء من أهل المدينة رجل من بني هاشم يقال له: الحسن]، أي: ابن محمد. [وقال أبو مليح: سمعت ميمون بن مهران يقول: أنا أكبر من الإرجاء]. [وعن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد الهاشمي فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟] أي: الحسن بن محمد الهاشمي أول من تكلم في الإرجاء، وكذلك ذر. فصنف كتاباً يؤصل فيه الإرجاء، ووضع القواعد ومنهج الإرجاء في هذا الكتاب، فلما قرأه زادان وميسرة أتيا إليه فقالا له: [ما هذا الكتاب الذي وضعت. قال: وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، قال زاذان قال لي: يا أبا عمر! لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو قبل أن أضع هذا الكتاب]، يعني: هو قد وضع أصول البدع وتاب، لكن هذه السنة عمل بها من أتى بعده، فإذا تاب وصحت توبته وتقبلها الله عز وجل، فلا عبرة بمن أتى بعده. وأنتم تعلمون أن الذي وضع أصول الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري وتاب، والأشاعرة إلى الآن متمسكون جداً بمذهب أبي الحسن الأشعري السابق، ويزعمون أن أبا الحسن لم يتب، ويعتبرون أن ما هم عليه من أشعرية وتأويل وصرف للنصوص عن ظاهرها هو المنهج الحق الذي ينزه البارئ تبارك وتعالى. فهم يتصورون أنهم على الحق فيقولون: إذا كان أبو الحسن قد تاب فمن أي شيء تاب؟ من الحق الذي كان عليه، فبعضهم يقول: هو تاب إلى الضلال، وهو التشبيه والتجسيم، يعني: انتقل من التأويل إلى التشبيه والتجسيم، وهذا عندهم ضلال؛ ولذلك صنف ابن الجوزي رحمه الله كتاباً لعله أشأم كتاب في الإسلام سماه: دفع شبه التشبيه، أشأم كتاب متعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته. فهو يرد فيه على الحنابلة رغم أنه حنبلي في الفروع، إلا أنه لا يرضى مذهب أحمد بن حنبل في العقيدة، وكان مؤولاً أشعرياً، وكان يرد على الحنابلة ويقول: إثباتكم للصفات يعني التمثيل والتشبيه، إذا أثبتم لله اليد والعين والوجه وغير ذلك، فأنتم تجعلون الله تبارك وتعالى في صورة رجل، فلما تصور ذلك وعجز أن يدرك حقيقة معتقد أهل السنة والجماعة، والحنابلة على جهة الخصوص؛ ذهب ليرد عليهم بزعمه درءاً ونفياً للتشبيه والتمثيل، فسمى الكتاب دفع شبه التشبيه. وقد نصح مراراً من أهل السنة والجماعة في زمانه فلم يرجع عن ذلك، ولكنه صنف بعد ذلك رسالة لا تزال في حيز المخطوطات، وهي عندي، وقد بدأت العمل فيها، ويذهب فيها الإمام ابن الجوزي مذهباً عظيماً جداً هو مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات، فالذي أبحث عنه الآن بصورة جدية هل هذه الرسالة التي معي صحيحة النسبة إليه بعد كتابته دفع شبه التشبيه أو قبلها؟ فلو صح أنه صنف هذه الرسالة التي بين يدي بعد شبه التشبيه لكان رجلاً من أهل السنة والجماعة، ومات على ذلك. ولو أن دفع شبه التشبيه بعد هذه الرسالة لقلنا: إنه كان متأثراً أولاً بمذهب أهل السنة والجماعة، حتى ضحك عليه القوم فترك مذهب أهل السنة اعتقاداً منه أنه يدل على التشبيه والتمثيل، وذهب إلى مذهب التأويل أو مذهب الأشاعرة. [وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: الولاية بدعة، والشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة]. وأما البراءة من أهل الإيمان فهي بدعة، والمقصود بالبراءة أن يبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة، يقول لك: هؤلاء أهل سنة، لا أريد أن أقرب منهم ولا هم يقربون مني، إن هؤلاء السنيين متعصبون ومتشددون، يقول: أول ما نظرت بعيني الصباح بعد أن قمت من النوم على شخص لحيته ربع متر أعوذ بالله! فمن عند أن وضعت عيني عليه علمت أن هذا اليوم من أوله غم وهم. هذه براءة من أهل السنة، وهذا القول في غاية الخطورة، بل أنت مأمور بموالاة الموحدين ومعاداة الكافرين، فأنت الآن توالي الكفار وتعادي أهل الإيمان. شخص يقول: أقوم من النوم الصبح فلا أغسل وجهي ولا أصلي الصبح ويكون يوماً مثل الفل، بينما اليوم الذي أصلي فيه الصبح لا أحصل فيه على شيء من المال، ويكون يوم غم علي وعلى عائلتي بالكامل. وإذا سألته وقلت له: أتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ يقول لك: نعم، أصليهن عند أن أنام، لأنني أخاف إن صليتهن أثناء النهار أن الرزق ينقطع. ما هذا الخذلان يا إخوة!! والله العظيم لا يصلح أن يكون هذا معتقد يهود، اليهود ل

الكلام في الإيمان من واقع الصحوة الإسلامية

شرح كتاب الإبانة - الكلام في الإيمان من واقع الصحوة الإسلامية تعتبر مسائل الإيمان والكفر من أهم مسائل العقيدة، وقد ضلت فيها أفهام وزلت فيها أقدام، وقد أوضح العلماء رحمهم الله تعالى مسائل الإيمان والكفر، ومنها: دخول العمل في مسمى الإيمان وماهيته، وتأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً، وأن العمل وحده كاف للتكفير، وغيرها من المسائل المتعلقة بهذا الباب.

خطأ بعض أهل العلم في فهمه لمسائل الإيمان

خطأ بعض أهل العلم في فهمه لمسائل الإيمان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فقد فرغنا من الكلام عن مسائل الإيمان فيما يتعلق بهذا الجزء الخاص بالإيمان من كتاب الإبانة للإمام ابن بطة، ويبقى موضوعان خطيران جداً وهما: موضوع القدرية، وموضوع الجهمية، ولكل موضوع من هذين الموضوعين مجلدان تقريباً من هذا الكتاب، لكن يحسن بنا قبل أن نفتح واحداً من هذين الموضوعين أن نتم الكلام عن مسائل الإيمان خاصة فيما يتعلق بواقع الصحوة الإسلامية على الأقل في مصر. ولو أردت أن أدخل في الموضوع مباشرة سأقول: إن بعض أهل العلم وضع تصوراً لمسائل الإيمان والكفر، وهذا التصور لم يوافقه عليه أحد من السلف، وإن شئت فقل: هذا التصور مخالف لتعريف السلف للإيمان أو لحد الإيمان، مما حدا به أن ينسب قولاً للسلف لم يقولوه، وأن يتهم الآخرين بأنهم حادوا عن منهج السلف، وفي حقيقة الأمر أنهم ليسوا كذلك، كما أنني لا أقول: إنه بهذا المعتقد صار من أهل البدع، وإنما أقول: لما جهل المسألة أتى بالطامات، وهو يظن أنه على الحق. وليس ظن الشخص أنه على الحق لازم لإصابة الحق، فالمرء أحياناً يظن أنه على الحق، أو يتيقن على الأقل عند نفسه أنه على الحق المبين، وهذا لا يلزم منه أن يكون ما هو عليه هو الحق، بل ربما يكون الباطل الذي ليس بعده بطلان، والأمر كذلك في بعض مسائل الإيمان التي أخذت جدلاً عظيماً جداً في هذه البلاد وفي غيرها بين منهج المرجئة ومنهج السلف، والعجيب أننا نجد أن من تبنى مذهباً في مسائل الإيمان يوافق مذهب المرجئة يزعم أن المخالف له من الخوارج، وهذا الكلام ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن من تبنى تعريف الإيمان يقول فيه: الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الكلام هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة. أما عند ذاك القائل به فإنما حفظ ذلك حفظاً ولم يقدر أن يطبق ذلك عملاً، ولذلك يقول: العمل ليس من الإيمان، وأحسن أحواله أن يقول: العمل من الإيمان، لكنه شرط كمال فحسب، وهو جاهل بهذه المقولة وبأصل هذه المقولة.

تجلية بعض الحقائق في بعض مسائل الإيمان

تجلية بعض الحقائق في بعض مسائل الإيمان وعلى أية حال لنا أن نجلي بعض الحقائق في بعض مسائل الإيمان، فنقول:

المسألة الأولى: دخول العمل في مسمى الإيمان وماهيته

المسألة الأولى: دخول العمل في مسمى الإيمان وماهيته المسألة الأولى: وقوع سوء الفهم في هذا الأمر من منطلق تعريف الإيمان، فالإيمان: قول وعمل؛ قول باللسان وبالقلب، وعمل بالقلب والجوارح. ومن أهل العلم من يطلق أن القول باللسان والقلب، والعمل باللسان والقلب والجوارح؛ لأن نطق اللسان بالشهادتين ما هو إلا كلام وعمل، وهذه حركة اللسان، فهي من حيث كونها حركة هي عمل، فالشاهد من ذلك أن هذا التعريف هو التعريف الحق، وهو تعريف أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول وعمل؛ قول اللسان وقول القلب، وعمل القلب والجوارح، وهذا التعريف يدلنا على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وماهيته، وأن العمل ركن من أركان الإيمان.

المسألة الثانية: تأثر الإيمان بالعمل وجودا وعدما

المسألة الثانية: تأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً المسألة الثانية -وهي مترتبة على المسألة الأولى-: إذا كان العمل داخلاً في ماهية الإيمان وفي مسمى الإيمان فلابد أن يتأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً. لماذا؛ لأنكم تعلمون أن الركن هو ما كان داخلاً في ماهية الشيء، والشيء مكون منه، فإذا انعدم الركن انعدم الشيء، وإذا وجد الركن وجد هذا الشيء، فإذا اتفقنا في المسألة الأولى على أن العمل داخل في ماهية الإيمان، فلابد أن نقول بأن العمل ركن من أركان الإيمان، وإذا كان العمل ركناً من أركان الإيمان فلا بد أن الإيمان يتأثر به وجوداً وعدماً. ولذلك تقرأ لأهل العلم -وسيأتي معنا كلام هؤلاء الأعلام-: أن من ترك العمل كله وأتى المنكرات كلها خرج من الملة بالإجماع، وإذا كان الإيمان لا يتأثر بالعمل -وهو مذهب المرجئة- فكيف يكفر من ترك العمل؟ لابد أنه لا يتأثر بذلك، وهذا الذي حدا بالمرجئة أن يقولوا: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن الفاسق هو الذي ترك الأمر وارتكب النهي، أي: ترك الأمر الذي يفسق به، وارتكب النهي الذي يفسق به، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن الإيمان لا علاقة له بالعمل. وعند أهل السنة والجماعة: أن العمل داخل في ماهية الإيمان، وأن الإيمان مكون منه ومن القول والاعتقاد. إذاً عندنا مكونات الإيمان: قول وعمل واعتقاد، وأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً قادر على النطق، فهل يقبل منه الدخول في الإسلام والإيمان دون أن ينطق بالشهادتين، أو يقبل منه أن ينطق بهما في سره؟ لا يقبل؛ لأنه قادر على النطق، أيضاً: لو أن إنساناً نطق بالشهادتين وأتى بكل الأعمال الصالحة وتجنب كل الأعمال السيئة، لكنه لا يعتقد ذلك، فهل يقبل منه ذلك؟ لا يقبل، إذاً كما يكون الكفر بالقول فكذلك يكون الكفر بالاعتقاد. كذلك: إنسان يشك في الله عز وجل، أو في رسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، أو في خلق الله للسماوات والأرض، فهل يقبل منه إيمان أو إسلام؟ A لا يقبل منه ذلك؛ لأن هذا مناف لأصل الاعتقاد، فإذا كنا نكفر هذا بأنه لم يعتقد أو نكفر سابقه بأنه لم ينطق مع القدرة على النطق؛ فكذلك نكفر تارك العمل.

المسألة الثالثة: بيان ما يكفر به المرء من الأعمال

المسألة الثالثة: بيان ما يكفر به المرء من الأعمال المسألة الثالثة: أي عمل يكفر به المرء؟ هل يكفر المرء بمجرد المعصية؟ A لا، لكن من مسائل الإجماع أن من ترك العمل بالكلية، أي: لم يصم، ولم يصل، ولم يزك، ولم يحج، ولم يفعل شيئاً من أوامر الإسلام، ويعبر عنه الإمام الحميدي في رسالة الاعتقاد: ومن ترك الخمس كفر، أي: أركان الإسلام الخمسة. لكن لابد أن نفرق بين مسألتين في العمل: هل الكلام على جنس العمل أم أفراده وآحاده؟ فالصيام من أفراد العمل، الصلاة من أفراد العمل، الزكاة من أفراد العمل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفراد العمل، الإتيان ببعض المأمورات من أفراد العمل، الوقوع في بعض المحظورات من أفراد العمل، فهل إذا قلنا: إن العمل من الإيمان، أو هو أصل في الإيمان بمعنى: أن الإيمان يزول بزواله ويوجد بوجوده؟ هل نقصد بذلك عملاً من الأعمال بعينه، أو نقصد بذلك جنس الأعمال؟ نقصد جنس العمل، أي: مجموع الأعمال، فإذا أتى إنسان بعمل يخالف الإيمان فلينظر إلى هذا العمل بعينه، هل هذا العمل داخل في أصل الإيمان، أو في الإيمان الواجب، أو الإيمان المستحب؟ فمثلاً: رجل سب الله تعالى، هل هذا العمل من أصل الإيمان، أو من الإيمان الواجب، أو من الإيمان المستحب؟ من أصل الإيمان، إذاً: إذا سقط فيه المرء لابد أن يخلع الإيمان من جذوره. وبالتالي أنا عندما أقول: هل العمل شرط كمال أو شرط صحة؟ أتصح الإجابة بكلمة نعم أو لا؟ لا تصح، بل لابد من التفصيل؛ لأنه إذا كنت تسأل عن عموم العمل وعن جنس العمل فنقول: نعم جنس العمل شرط صحة في الإيمان، أما إذا كنت تسأل عن عمل بعينه -أي: من أفراد وآحاد الأعمال- فينظر إلى كل عمل على حدة، كما ضربت لك مثلاً بهذا الرجل الذي سب الله تعالى، إذ إنه بعد أن تحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع يكفر؛ لأن هذا العمل الفرد من أعمال الإيمان الذي نقضه كان تعلقه بأصل الإيمان. أيضاً: رجل وقع فيما حرم الله عز وجل، أو ترك أمراً واجباً من أوامر الله أو أوامر رسوله عليه الصلاة والسلام، فأقول: بالنظر إلى هذا العمل إتياناً أو تركاً، هل هو من أصل الإيمان أو الإيمان الواجب أو المستحب؟ فإذا كان من الإيمان الواجب فأقول: إن نفي الإيمان في النصوص إنما هو متعلق بنفي الإيمان الواجب عنه، لا نفي لأصل الإيمان، فيكون المقصود بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث: نفي الإيمان الواجب. بخلاف من سب الله، أو سب الرسول، أو سب الشريعة، فهذا يأتي على أصل الإيمان من القلب فيجعله هباء منثوراً، فيحتاج إلى دخول في الإسلام من جديد. ولذلك لو أن واحداً أخل بعمل من الأعمال المستحبة أو المندوبة وغيرها من أعمال العبادات أو الطاعات، فنقول: قد أخل بالإيمان المستحب الذي يعبر عنه العلماء بأنه الإيمان الكامل، ونفي الإيمان في الأعمال المستحبة إنما هو نفي للكمال لا نفي لأصل الإيمان. والشاهد من هذا الكلام أنه لا يصح أن نقول: هل العمل شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان؟ لأن هذا سؤال يحتاج إلى تفصيل. وأكثر منه خطأً أن يجيب المفتي أو المسئول إجابة واحدة فيقول: العمل شرط صحة، أو العمل شرط كمال، هذه إجابة غير سديدة، بل السديد أن يقول للسائل: أتقصد بهذا السؤال جنس العمل أم آحاده؟ فإن كنت تقصد جنس العمل فجنس العمل أصل في الإيمان وركن من أركانه، وإذا ترك المرء العمل في الجملة كفر بذلك، أما إذا كنت تقصد آحاد العمل فلا شك أن آحاد العمل من الإيمان، لكن من آحاد العمل ما يكفر به صاحبه ومنه ما لا يكفر به صاحبه، بل يفسق أو يترك الكمال المستحب، يعني: يفوت على نفسه مرتبة الصديقين وغير ذلك.

العمل وحده كاف للتكفير عند أهل السنة والجماعة

العمل وحده كاف للتكفير عند أهل السنة والجماعة فهذه بعض المسائل التي لها تعلق بالإيمان، ونلخص من ذلك إلى أن الكفر كما يكون بالقول وبالاعتقاد يكون بالعمل، وهذا بيت القصيد في الخلاف الدائر على الساحة، هل الردة تكون بالعمل أم لا؟ السلف رضي الله عنهم أجمعوا على أن من الأعمال ما يكفر بها فاعلها، ومنها ما لا يكفر بها فاعلها، خلافاً لمن يزعم أن العمل شرط كمال، وأن العامل لا يكفر بعمله إلا إذا استحل، كيف ذلك؟ أنا رجل -عياذاً بالله- أسب الله تعالى، أو أسب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع هذا أنا أقر دائماً أني أحب الله، وأحب الرسول عليه الصلاة والسلام وأحب الشرع، وأحب الإسلام، كما أقر أن هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل، وهو كلامه المنزل من السماء المتلو الذي نزل بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام؛ وفي الوقت الذي أقر فيه بهذا الكلام آخذ المصحف بيميني فأمزق أوراقه وأبصق عليه وأرميه في الأرض وأطؤه بقدمي، لكن هذا الشخص لم يستحل ذلك، بل هو مثبت لتبجيله وتعظيمه بلسانه وقوله، لكنه عملاً قد أهان القرآن، فهل هذه الإهانة لكتاب الله عز وجل تؤهله للكفر؟ A نعم، فيكفر بهذه الإهانة لكتاب الله حتى وإن قرر في الظاهر بلسانه أنه غير ذلك. وبعض أهل العلم يقولون: لا يكفر بمجرد الفعل، أي: بإهانته للقرآن أو سبه لله أو للرسول أو للشريعة أو غير ذلك، ويقولون: هو ما فعل ذلك إلا لأنه مبغض للقرآن لا لمجرد الفعل، وهذا استنتاج المرجئة والجهمية، وهو كلام فاسد لا يعرفه السلف، وجاء على ألسنة متأخري الأحناف، إذ إنهم يقولون: إذا ارتكب الإنسان ما يكفر به أو ما يؤدي به إلى الكفر فليس العمل وحده كافياً في الحكم عليه بالكفر، وإنما نحكم عليه بالكفر لأن عنده من الضغينة ما يؤهله للكفر، كيف ذلك؟ قالوا: لو أن شخصاً الآن يهين القرآن الكريم، فمجرد الإهانة لا يكفر بها، قالوا: بل إن علامة كفره أنه مبغض للقرآن ولذلك أهانه، وأوردوا هذا الكلام أو الاستنتاج الباطل لكي يقولون: لا يكفر المرء بالعمل، وإنما يكفر بالاستحلال، من أين أتيتم بالاستحلال؟ قالوا: هو ما أهان القرآن إلا لأنه مبغض له، فنكفره لأجل بغضه القرآن، لا لأنه أهان القرآن، أما أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا أن العمل بمفرده يكفر به العامل. هذه بعض المسائل التي أردت أن أنبه عليها قبل الشروع في شرح هذه الأصول، ثم ذكر أقوال العلماء سلفاً وخلفاً في إثبات أن الكفر يقع بالقول والاعتقاد والعمل، وهذا الذي أريد أن أؤكد عليه من أن الكفر كما يقع بالقول يقع بالعمل. يعني: لو قام رجل الآن في المسجد وقال: أيها الناس! اشهدوا أنني كفرت وخرجت من الملة، وهو في حقيقة الأمر لم يعتقد ذلك، بل هو في قلبه محب للإسلام والمسلمين، هل لنا أن نكفره؟ نعم، بل يجب علينا جميعاً أن نكفره؛ لأنه نطق بكلمة الكفر مختاراً لها غير مكره عليها، وقد انتفت عنه الموانع كالجنون والسفه والسكر وغير ذلك، أما من نطق بكلمة التوحيد وعمل بمقتضاها، لكنه في نفسه يكره هذه الكلمة، فهل يكون هذا مؤمناً؟ A هو عند الله ليس مؤمناً وإنما هو مسلم؛ لأن أحكام الإسلام تجري على الظاهر. فإذا كانت هذه قاعدة أصيلة عند أهل الإسلام، أي: أن أحكام الإسلام تجري على الظاهر، فإن من أتى عملاً ينقض به إسلامه وإيمانه أجريناه كذلك على الظاهر، ومن المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلمة (ينقص بالمعصية) إشعار بأنه لا ينقض بالمعصية، وهناك فرق بين كلمة: ينقص بالمعصية، وينقض بالمعصية، فينقض يعني: من أصله، فلا يبقى منه شيء، ولعلكم تذكرون نص إبراهيم بن عيينة أخي سفيان لما قال سفيان: الإيمان يزيد وينقص، قال: قل: يزيد، قال: اسكت يا غبي! فإنه ينقص حتى لا يبقى منه شيء، أي: أنه ينتهي تماماً، إما بالقول أو بالاعتقاد أو بالعمل؛ لأن هذه مكونات الإيمان وأركان الإيمان. وتارة يقول السلف: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان -الجوارح- واعتقاد بالجنان -القلب- وتارة يقولون: قول وعمل ونية، ولهم عبارات لا تختلف عن هذه في معناها.

الإجماع على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل

الإجماع على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل قد حكى غير واحد إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين على ذلك، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، فقد حكى الإجماع على أن الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وكذلك البغوي، قال ابن تيمية في كتاب الإيمان من مجموع الفتاوى نقلاً عن الإمام الشافعي رحمه الله: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعده ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر، أي: إلا مع الآخر، فكيف يقال لمن ترك العمل بالكلية أو ترك عملاً أثبت النص أن تاركه كافر أو انعقد الإجماع عليه إنه مؤمن؛ لأن الضابط لمسائل الإيمان والكفر هو النص أو الإجماع. وقال البغوي في شرح السنة: اتفقت الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لكن منها ما هو أصل في الإيمان، ومنها ما هو في الإيمان الواجب، ومنها ما هو في الإيمان المستحب. قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، وكذلك نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، فقال في التمهيد: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، بل أصبح هذا مما يميز أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، فإذا كان هذا من الأمور المقطوع بها وهي محل إجماع السلف، فكذلك من المقطوع به عندهم أن من الأقوال والأعمال ما هو كفر أكبر؛ لأنه في الحقيقة محفوظ عند الإخوة أن الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر، أما الكفر الأكبر فهو المتعلق بمسائل الاعتقاد، وأما الكفر الأصغر فهو المتعلق بمسائل العمل، وهذا الإطلاق يحتاج إلى نظر، بل من مسائل الاعتقاد الصغيرة ما لا يكفر بها قائلها، ومن مسائل العمل الكبيرة ما يكفر بها فاعلها.

خطأ مقولة: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف

خطأ مقولة: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف كما يطلق الناس شعارات أخرى تحتاج إلى نظر، ومنها أنهم يقولون: (كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف) وهذا كلام محفوظ لدينا جميعاً، لذا لابد أن أقف عند هذا النص فأقول: ماذا تقصد بكلمة السلف؟ إذا كنت تقصد بهذه الكلمة أهل تلك الحقبة الزمنية والقرون الخيرية الأولى فهذا كلام فاسد؛ لأن من هذه القرون: المرجئة والخوارج والمعتزلة والأشاعرة وغير ذلك من الفرق الضالة، إذ إنهم ظهروا في زمن الصحابة رضي الله عنهم. فالقدرية ظهرت في أواخر عهد الصحابة، والمعتزلة ظهرت سنة (110هـ)، وكانت لها جذور قبل ذلك، والخوارج والشيعة ظهروا في زمن الخلافة الراشدة، فإطلاق لفظة: (السلف) على أصحاب القرون الثلاثة إطلاق يحتاج إلى تقييد. والسلف هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، أي: المحسنون في اتباعهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وللخلفاء الراشدين خاصة من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. أما أهل البدع الذين عاصروهم فليس اتباعهم خيراً، ولذلك هذا الكلام المطلق: (كل خير في اتباع من سلف) يحتاج إلى تقييد، إذ إن كل من سبقك هو سلفك، فالذي مات منذ عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً من أهل العلم هم لنا سلف، ونحن لهم خلف، فنحن يطلق علينا: الخلف، وسلفنا المباشرين بالنسبة إلى سلفهم هم خلف لهم، ولذلك هذا الإطلاق: (كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف) يحتاج إلى ضبط، وضبطه أن يقال: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان هذا الاتباع في أسلافنا أو فينا أو فيمن يأتي بعدنا إلى قيام الساعة. والابتداع مذموم مردود على كل من أتى به حتى وإن كان ذلك في زمن الصحابة، لا أقول: إنه جاء من الصحابة مثل هذا، وإنما أقول: ظهرت البدع في زمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يعني ذلك أن هذا الابتداع الذي حصل في زمن السلف أمر محمود وممدوح؟ A لا، فيكون الذي هو أوثق -على الأقل عندي- أن الخير كل الخير في الاتباع، وأن الشر كل الشر في الابتداع، سواء جاء هذا الخير عن السلف رضي الله عنهم أو عنا أو عمن أتى بعدنا. وكذلك هذا الابتداع مردود على كل من جاء به، سواء من الأزمنة المتقدمة أو المعاصرة، أو التي ستأتي بعد ذلك إلى قيام الساعة.

الإجماع على كفر من سب الله أو رسوله

الإجماع على كفر من سب الله أو رسوله ومن المقطوع به أيضاً عند أهل السنة: أن من الأقوال والأعمال ما هو كفر أكبر يخرج من الملة، وقد حكى غير واحد الإجماع على أن سب الله ورسوله كفر مخرج من الملة، ومن هؤلاء الإمام إسحاق بن راهويه، ومحمد بن سحنون وغيرهما، وقد ظن بعض الناس أن الكفر العملي لا يخرج صاحبه من الإسلام، وأن سب الله ورسوله مستثنى من ذلك، ولا دليل على هذا الاستثناء. فلو قلت: سب الله يعتبر عملاً، وسب الرسول عمل، قالوا: الكفر العملي لا يخرج به صاحبه من الملة، وسب الله؟ قالوا: إلا سب الله ورسوله فهذا مستثنى. إذاً: ما تقولون في سب الشريعة أكفر أم إيمان؟ كفر، فسيضطرون أن يزيدوا هذا في الاستثناء؛ لأنه لا ضابط لهذا الاستثناء، ومنهم من يقول: الضابط في تكفير العامل بعمله أن يتعلق أو تتعلق المسألة التي خالف فيها بمسائل الإيمان. لكن ذكرنا لهم أن بعض مسائل الإيمان لو خالف فيها العامد لا يكفر بذلك، فلابد أن تضطرب هذه القاعدة، إذاً فما هو الضابط؟ لابد أن يكون هناك ضابط جامع مانع حتى يستقيم الأمر؟ الضابط: نص أو إجماع؛ لأن الأمر لا يستقيم إلا بهذا، فإما أن يأتي النص فيقول: هذا العمل من الإيمان، وأن تارك هذا العمل كافر بالله، وإما أن ينعقد إجماع العلماء على أن من فعل كذا كفر، فإذا كان عندي نص أو إجماع حلت القضية، لكن شخص يجتهد ويقول: إذا كانت المسألة من مسائل الإيمان وفرط فيها العامل فإنه يكفر بذلك! فيرد عليه: هناك من مسائل الإيمان ما إذا فرط فيها العامل لا يكفر، ومن مسائل العمل ما إذا فرط فيها العامل كفر بذلك. إذاً: تقسيم الكفر إلى: كفر اعتقادي وكفر عملي، وأن العملي لا يكفر به العامل لأنه من مسائل العمل، كلام غير سليم؛ لأن من الأعمال ما يكفر بها العامل. قال: فظن بعض الناس أن الكفر العملي لا يخرج صاحبه من الإسلام، وأن سب الله ورسوله مستثنى من ذلك، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، بل حكى غير واحد الإجماع على أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ومن هؤلاء: ابن حزم، والشيخ سليمان آل الشيخ، وعبد الله أبا بطين، والشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية، فسقطت دعوى الاستثناء. ومن فرق بين سب الله أو رسوله وبين أي قول أو عمل أجمع المسلمون على أنه كفر كالذبح لغير الله، فقد أخطأ. والذبح لغير الله عمل، فهل هذا العمل في ذاته كفر أم لا؟ كفر؛ لأنه قربة لغير الله عز وجل، وأن هذا العمل لا يجوز صرفه إلى الناس، كذلك: الطواف حول الكعبة عبادة وطاعة وقربة، لكن حول القبر شرك وكفر، لكن هل هذا الطواف قول أم عمل؟ عمل، فلو طاف إنسان حول غير بيت الله، وقصد بذلك الطواف القربة، فإنه يكفر بذلك، لكن لو أن رجلاً طاف بعمود يبحث عن حذائه، فهل تقول له: أنت طفت بغير بيت الله فتكفر بذلك؟! لا، فالطواف حول غير بيت الله لابد أن يكون بقصد القربة، والذي يطوف حول البدوي والحسين والسيدة وغيرهم، إنما يفعل ذلك قربة وطاعة، ولذلك الطواف حول غير بيت الله كفر مع أنه من الأعمال. والنذر لغير الله تعالى كفر، كأن يقول أحدهم: يا حسين لو نجَّحت ابني فسيكون لك في ذمتي مائة جنيه! وكذلك السجود لصنم، إذ إن السجود عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تعالى، فلو أن إنساناً سجد لصنم فإنه يكفر بذلك، بشرط أن يكون عارفاً وعالماً بما يفعل، فلو أنني الآن سجدت وجاء شخص وأنا ساجد وواضع أمامي صنماً، فهل أكفر بذلك؟ لا أكفر بذلك، إلا إذا ذهبت راضياً مختاراً مع علمي أن هذا صنم وسجدت له، فهنا يكفر به الفاعل في هذه الحالة. فإن كان هناك صنم قائم، وأردت أن أصلي لله تعالى، فوافق سجودي محاذاة هذا الصنم وأنا لا أعلم أنه صنم، وربما ما علمت ذلك بعد الفراغ من الصلاة، فهل يكفر بهذا العمل؟ A لا يكفر؛ لأن هناك مانعاً من موانع الكفر وهو الجهل، إذ إنه لما صلى إلى هذا الصنم لم يكن يعلم أنه صنم. قال: فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، إذ لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من علماء أهل السنة والجماعة خلاف ذلك، وزعم بعض الناس أنه لا يكفر إلا من اعتقد الكفر، أما من تلفظ به أو عمل ما هو كفر صراحة فلا يكفر، إذ الكفر عنده هو الاعتقاد فقط، وهذا مذهب المرجئة كما تعلمون، إذ إنهم يستدلون بتقسيم بعض العلماء للكفر إلى: كفر عملي واعتقادي، وأن الأول كفر أصغر، والثاني كفر أكبر، دون تفريق بين الكفر العملي الذي يعنيه العلماء، والكفر بالعمل أو الأعمال المكفرة.

موانع التكفير

موانع التكفير مما تقدم نشأت شبهة عند بعض الناس وهي: أن المرء لو عمل عملاً كفرياً كالسجود لصنم أو صليب أو قال قولاً كفرياً كسب الله ورسوله، أو استهزأ بآيات الله لشهوة أو غرض دنيوي فإنه لا يكفر ما لم يعتقد، أي: ما لم يستحل ذلك -وهذا كلام في غاية الفساد- وعدوا ذلك مانعاً من موانع التكفير؛ لأنه ما فعل ذلك معتقداً ولا مستحلاً ولا جاحداً، إنما فعل ذلك لغرض دنيوي كشهوة أو غير ذلك، مع أن علماء السنة أجمعوا أن موانع التكفير أربعة: المانع الأول: الجهل، أي: الجهل بأن هذا القول كفر أو أن هذا العمل كفر، فلو قال القائل قولاً وهو لا يعلم أنه كفر، أو عمل عملاً وهو لا يعلم أنه كفر فلا يكفر. المانع الثاني: الخطأ، كأن يقول المرء قولاً خطأً لم يقصده ولم يتعمد النطق به أو العمل، لكن بادر إلى النطق به أو إلى عمله على سبيل الخطأ، لا على سبيل العمد والإصرار والتأويل أو الشبهة؛ لكن لو انتفت عنه الشبهة وذهب عنه التأويل لا يقول هذا ولا يفعله، فإذا قاله متأولاً أو بشبهة فإنه لا يكفر بذلك، ولا زالت الشبهات كلها رافعة للإثم، ولذلك عند الأحناف أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا كانت بالغة رشيدة مختارة للكفء، فيجوز الزواج بهذه الشروط بغير ولي، وهذا الرأي مصادم مخالف للنصوص الشرعية في وجوب وفرضية الولاية في النكاح. لكن لو أن امرأة نكحت بغير إذن وليها، فهل نحكم على هذا الزواج بالبطلان، وأن نتاج هذا الزواج أو هذا النكاح الزنا؟ لا نقول بذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنحاكها باطل باطل باطل)، تأكيد ثلاث مرات، فلا نبطله نحن لوجود شبهة الأحناف؟! خاصة وأن هذه الدساتير والقوانين في باب المعاملات الشرعية أو الأحوال الشخصية أخذت بمذهب الأحناف في هذا، وليس كل الناس يذهبون إلى المساجد لكي يتعلموا العلم، كما أن هذه الوسائل المرئية والمقروءة والمسموعة تضلل الناس في الليل والنهار في أمر دينهم، فربما سمعوا كلمة من إمام مضل في باب الولاية في النكاح فظنوا أن هذا هو دين الله تعالى، وذهبوا إلى المأذون فقالوا: هل يلزم الولي؟ فيقول المأذون متبرعاً ومتفضلاً: لا يلزم؛ لأن عنده القانون الذي يعمل من خلاله والذي يقول: لا يلزم الولي. فهل إذا تزوجت المرأة على اعتبار هذه الشبهة -شبهة الأحناف- نقول: نكاحها باطل وأنها زانية، وإذا قلنا: زانية، فهل يقام عليها الحد، أم يدرأ بالشبهة؟ أنتم تعملون أن هذه كلها مسائل فرعية، ولو قلنا ببطلان هذا النكاح لكان لزاماً علينا أن نقول: إن ثلث نكاح الأمة باطل، أو أكثر من ذلك. إن منطقة شرق آسيا بأكملها على مذهب الأحناف، وتصور أنك تذهب إلى ملايين مملينة من الناس وتبطل أنكحتهم، وتثبت أن هذا النكاح ما هو إلا زنا، هل هذا يتصور؟ A هذا النكاح صحيح، وإن كنا لا نعتقد ذلك، لكن هو صحيح على أصل شبهة الأحناف، وتبني هذه الحكومات لمذهب الأحناف، فلا نبطل أنكحة الناس والحالة هذه، وإن كنا نأمر كل واحد ألا يتزوج إلا بولي وشاهدي عدل وإشهار وإيجاب وقبول، وغير ذلك من أركان النكاح الصحيح على مذهب جماهير العلماء. لكن دائماً أقول: الشبهة دارئة للإثم، ولذلك لو وقع إنسان في الكفر قولاً أو عملاً بشبهة أو بتأويل هل يكفر بذلك؟ لا، إذاً: من موانع التكفير: الجهل والخطأ والشبهة أو التأويل. المانع الرابع: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فإن أكره على النطق بكلمة الكفر، فهل يكفر بذلك؟ لا يكفر بذلك، وأنتم تعلمون أن صناديد الكفر والشرك كانوا يعذبون بلالاً، وصهيباً، وعماراً وغيرهم رضي الله عنهم حتى ينطقوا بكلمة الكفر، لكنهم لم يفعلوها، هل لأن فعلها والنطق بها غير جائز لهم أو أخذاً بالعزيمة؟ أخذاً بالعزيمة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإيمان

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإيمان وهنا باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من غلب على ظنه أن نهيه عن المنكر يسبب له مضرة عظيمة تذهب بماله أو بنفسه، والمصلحة في التغيير راجحة وعامة، كانت العزيمة أن يضحي بنفسه، لكن لو كانت المضرة ستلحق العامة فلا يفعل، فمثلاً: لو أنني ذهبت لكسر صنم بوذا، فهل هذه المصلحة العائدة عامة أو خاصة؟ عامة، لكني على يقين أن حراس هذا الصنم سيقتلونني وحدي، فهل يجوز لي والحالة هذه أن أذهب وأنا على يقين أو غلبة الظن بالهلكة؟ يجوز؛ لأنني سأضحي بنفسي في مقابل نفع العامة، لكن لو أنني عملت عملاً سيجر علي وعلى من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، ويرميهم في السجون أو غير ذلك من المضرة العامة؛ ففي هذه الحالة لا يجوز لي أن أغير هذا المنكر، مع اعترافي وإقراري واعتقادي بأنه منكر، لكن ربما لا يتغير هذا المنكر، ولا تتصور أنك بمجرد ما تذهب لتكسير ملهى ليلي أنك بذلك تكون قد غيرت المنكر. ولذلك نحن نقول: من أصول الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهي عن المنكر يقتضي تغييره، أي: تغييره حتى يصير معروفاً، أما إن ذهبت وكسرت الملهى الليلي الفلاني فأنا بذلك لم أغير المنكر، بل إنه سيبنى على أحدث طراز، فكانت هذه بركة أتت منك؛ لأنهم كانوا من زمن يريدون هدمه ولم يستطيعوا، فعندما ذهبت وعملت الذي عملته، قاموا هم وأكملوا بقية الملهى، يعني: كأني لم أكسره وأفجره، إذ إنهم بأنفسهم أصحاب الملهى فجروه؛ حيث أنه عندما يأتي بعد ذلك التعيين، أي: تعيين المكان، فالإرهابيون هم الذين كسروا الملهى الفلاني، إذاً فهذا يبنى على نفقة الدولة، على نفقتي أنا وأنت، ألم أقل: إننا نكون الدولة؟ ألسنا بمجموعنا نمثل الدولة؟ إذاً: فالملهى الفلاني بني على نفقة الدولة، يعني: على نفقتي ونفقتك، والسؤال الآن: هل زال المنكر؟ لم يزال، بل أدى إلى منكر أعظم، وهو إرجاع هذا المنكر على أحدث طراز، والمنكر الثاني أنهم لما قبضوا علي قبضوا على من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، فالمصلحة هنا ليست متحققة أبداً، ولا حتى مظنونة، إذاً فما المتحقق؟ الضرر العام. ففي هذه الحالة هل أنا مكلف شرعاً أن أغير هذا المنكر؟ A لا، إذ إنني مكلف أن أغيره بقلبي أو بلساني، فأقول: أيها الناس! حرام عليكم، أيها الناس! لا يجوز هذا، أيها الناس! ربنا قال كيت والرسول قال كيت، فإن سمعوا فخير وبركة، وإن لم يسمعوا فقد أديت الذي عليًّ. ويبقى بعد ذلك أن أغير بقلبي، ولذلك العلماء يقولون: إذا جلست في مجلس فيه منكر، فإما أن تأمر وتنهى، أي: تزيل هذا المنكر، وإما أن تزول أنت عنه، فمثلاً: أنا عندما أجلس على مائدة، وبعد ذلك يأتي أناس يوزعون على الجالسين قوارير من خمر، فأنا لو كنت أعلم أنه سيكون كذلك لم أذهب، ثم سألت: ما هذا؟ قالوا: هذا خمر، لكن خمر على مستوى رفيع، فأقول: هذا حرام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، والله عز وجل قال كذا وكذا، فيقولون لك: ساعة لقلبك وساعة لربك! كيف هذا الكلام؟ النبي عليه الصلاة والسلام لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر، سواء من شرب أو لم يشرب، فقبل أن أقوم قلت لهم: حرام عليكم، وأقمت عليهم الدليل من القرآن والسنة وقول العلماء، وخوفتهم فلم يرتدعوا، فما المطلوب إذاً؟ أخرج من عندهم، فإما أن تزيل المنكر وإما أن تزول أنت عنه.

فهم العبد للنصوص شرط في قيام الحجة عليه

فهم العبد للنصوص شرط في قيام الحجة عليه وعلى أية حال أنا أريد أن أقول: إن موانع الكفر أربعة: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، فمن وقع في كفر عملاً أو قولاً، ثم أقيمت عليه الحجة، وبين له أن هذا كفر يخرج من الملة، فأصر على فعله طائعاً غير مكره، متعمداً غير مخطئ ولا متأول؛ فإنه يكفر بذلك، ولو كان الدافع إليه غرضاً دنيوياً؛ لأنه قد علم أن هذا العمل كفر، أو هذا القول كفر، وقد قاله مختاراً غير مكره، راضياً به غير محمول عليه، وغير مخطئ في الإتيان به، وغير متأول ولا شبهة له، بل قامت عليه الحجة وفهمها؛ لأن الحجة لا تقوم على العبد إلا بالفهم؛ لأن بعض الناس يتصور أن مجرد سرد النصوص حجة، وهذا خطأ، بل الحجة هي فهم هذا المحجوج لهذه النصوص، فأنا الآن أقول لك: هذا الذي تعمله حرام، بدليل أن الله قال كذا وكذا، والرسول قال كذا وكذا، ولكن هذا الشخص لا يفهم آية ولا حديثاً، فهل بمجرد سرد هذه النصوص والأدلة تكون الحجة قد قامت عليه؟ A لا، إذ إن الحجة لا تقوم على العبد إلا بعد أن يفهم هذه الحجة وهذا النص. كذلك: لو قال الولد لأبيه: يا أبت تعليق هذه الصور حرام، ولابد أن تنزل صورتك أنت وأمي من على الجدار، وإلا فسوف أنزلها وأكسرها على رأسك أنت وهي! والرسول قال كيت وكيت، والأب سيقول: لم أفهم شيئاً، فهل تعتقد أنك بهذا السرد للأدلة قد أقمت الحجة؟ لا، بل لابد أن يفهم كلامك الذي نسميه (الحجة)، كلامك هذا نقلاً عن كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال العلماء وفهمهم لهذه النصوص، عندما تبلغ هذا كله لأبيك سرداً لا تقوم الحجة بذلك حتى يفهم. فإن فهم وأصر على العمل، أو أصر على القول، فننظر إلى هذا العمل وإلى هذا القول، هل هو من الأقوال أو الأعمال المكفرة؟ إذا كان الأمر كذلك فيكفر به. أنا أتكلم على قيام الحجة العامة والمعتبرة، وليس مجرد أن هذا بينك وبين أبيك وكفى؛ لأن قيام الحجة لها شروط وضوابط ليس هذا محلها؛ لكني أقول: لا يكفر المرء إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه -حتى ينتفي عنه مانع من موانع التكفير وهو الجهل- والحجة الرسالية: قال الله وقال الرسول وأجمع أهل العلم، وأن يفهم ما يتلى عليه شرحاً وبياناً وإيضاحاً؛ حتى لا يكون له يوم القيامة عذر بين يدي الله عز وجل، إلا إصراره على ما هو عليه من قول أو عمل، وإذا كان هذا العمل ليس من الأعمال المكفرة فينظر: هل هو من الأعمال التي يأثم بها في باب الواجبات أو المحرمات، أو أن هذا العمل في باب الكمال والاستحباب أو في المباحات، وأنه فوت على نفسه -وإن لم يأثم- فضلاً عظيماً وثواباً عميماً. يحتاج إلى معرفة أن هذا صنم، وقد سجد رجل أمامي لصنم في أمريكا، وهذا الصنم على عمود من الأعمدة، والذي لا ينظر إلى قمة العمود يتصور أنه عمود قائم؛ لأن رأس الصنم فوق، فالذي لا ينظر إلى فوق لا يعلم أن هذا صنم. إذاً: هذا الباب باب واسع، بل أوسع من باب الفقه، إذ إن باب الفقه عندما نتكلم فيه عن مسألة من مسائل الفقه؛ كل واحد منا يدور في ذهنه فرعية من الفرعيات. بينما مسائل الإيمان والكفر أوسع من ذلك بكثير، وأنا قلت في أول المحاضرة: اعتبروا أن هذا أول درس في مسائل الإيمان والكفر، ويبقى معنا بعد ذلك دروس عديدة، فأرجو ألا يتسرع الإخوة بتوجيه الأسئلة، وربما يأتي الجواب عن سؤالك دون أن تسأل. ونخلص مما ذكرناه إلى أن مجمل أقوال العلماء تنحصر في عبارات أو في كلمات وتعريفات: أن الكفر يكون بالقول أو الفعل كما يكون بالاعتقاد، ولذلك لم يقيده عامة السلف بالاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل وإن لم يعتقد، وهذا كفر المنافقين، أي: أن هذا هو النفاق لأول وهلة. فلو أن رجلاً قد أتى بكلمة الإسلام وعمل في الظاهر بمقتضى هذه الكلمة، لكنه لم يعتقد صحة هذه الكلمة، فهل ينتفي تمام الإيمان بذلك؟ A لا؛ لأن العلماء هنا قد نصوا على عدم شرطية الاعتقاد؛ لأن المرء يكفر بمجرد العمل إذا كان متعلقاً بأصل الإيمان، وأن الكفر بالقول والعمل يثبت للمرء، ولو أنه قال ذلك أو عمل ذلك لغرض من أغراض الدنيا. نكتفي بهذا القدر، وإن شاء الله تعالى لنا لقاءات كثيرة في مسائل الإيمان والكفر. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

قواعد وأصول في مسائل الإيمان والكفر

شرح كتاب الإبانة - قواعد وأصول في مسائل الإيمان والكفر منهج أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان والكفر ينبني على أصول وقواعد، هذه الأصول والقواعد تمنع من إطلاق الكفر على المسلمين، إلا إذا أتى المسلم ناقضاً من نواقض الإسلام، أو عملاً نص الكتاب أو السنة على أنه كفر، مع تحقق الشروط وانتفاء موانع التكفير.

سبب اختلاف الناس في مسائل الإيمان والكفر اختلافهم في تعريف الإيمان

سبب اختلاف الناس في مسائل الإيمان والكفر اختلافهم في تعريف الإيمان إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. في الدرس الماضي تكلمنا عن قواعد ومسائل، قلنا إنه ينبغي أن نقف عليها قبل أن ندخل في سرد أقوال السلف فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر، وقد اتفقنا تقريباً على بعض القواعد والأصول، ونكمل في هذه المحاضرة بقية هذه القواعد التي ينبغي أن نتفق عليها، وإلا فإننا إذا اختلفنا في الأصول فلابد أن نختلف في الفروع. من هذه القواعد: أن علة الاختلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً فيما يتعلق بمسألة الإيمان والكفر اختلافهم في حقيقة الإيمان ومعناه، فلو أنهم جميعاً اتفقوا على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص لما كان هناك خلاف، ولكنهم اختلفوا في تعريف الإيمان. فمنهم من قال: الإيمان هو التصديق، وهذا قول المرجئة. ومنهم من قال: الإيمان هو الإقرار. ومنهم من قال: الإيمان هو المعرفة، يعني: معرفة الإنسان لله عز وجل بقلبه، ولاشك أنه على هذا التعريف يكون إبليس مؤمناً، وفرعون مؤمناً؛ وذلك لأنهم مقرون داخلاً بالله عز وجل. ومنهم من قال: الإيمان هو العلم، أي: العلم المجرد بعيداً عن النطق، وبعيداً عن الاعتقاد، فهم يعلمون في أنفسهم أن الله إله واحد، ولكنهم لم ينطقوا ولم يعملوا بذلك، فهم عند الجهمية مؤمنون. فلما اختلف تصور الناس، واختلف تصور العلماء حول حقيقة الإيمان فلابد أن يقع الاختلاف فيما يتعلق في المسائل المتعلقة بالإيمان سلباً وإيجاباً، فعلة الاختلاف: هي الخلل الواقع في تعريف الإيمان.

معرفة الإيمان وحقيقته عند أهل السنة والجماعة

معرفة الإيمان وحقيقته عند أهل السنة والجماعة الذي يعنينا من هذا كله هو معرفة الإيمان عند أهل السنة والجماعة. إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة)، الصحابة رضي الله عنهم لما علموا سلفاً أن هذه الفرق لا تعنيهم وإنما الذي يعنيهم هو معرفة الحق سألوا عنه؛ ولذلك لما قال: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟!)، ولم يقولوا: من هم؟ فلم يسألوا عن الضلال وإنما سألوا عن الحق؛ لأنه هو الذي يلزمهم، وإذا عرف الإنسان الحق عرف أن ما عدا هذا الحق هو الباطل الذي يجب عليه أن يتجنبه وأن يحذره، ولذلك من المناهج الفاسدة الخاطئة في هذا الزمان وعلى الساحة الدعوية أن يعلم الشيخ تلاميذه ومدرسته أصول الفرق الضالة قبل أن يعلمهم أصول أهل السنة والجماعة، فمن الأصول التي ينبغي على طالب العلم أو على المسلم عموماً أن يتعلمها وأن يعتقدها اعتقاداً جزماً: معرفة الإيمان وحقيقته. فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل. ومنهم من قال: قول وعمل ونية. ومنهم من قال: قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان. وهذه التعاريف مؤداها واحد، وهو أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وعمل بالقلب والجوارح. هذا تعريف الإيمان.

دخول العمل في الإيمان واختلاف الأعمال في تأثيرها على الإيمان

دخول العمل في الإيمان واختلاف الأعمال في تأثيرها على الإيمان والإيمان على هذا النحو يشمل العمل، وإذا كان الإيمان يشمل العمل فلابد أن يزداد وينقص على حسب عمل العامل، فإذا كان عاملاً بالطاعة ازداد إيمانه، وإذا كان عاملاً بالمعصية نقص إيمانه، فينقص ثم ينقص حتى لا يبقى منه شيء، وكما قلنا من قبل: إن دائرة الإيمان ضيقة في وسط دائرة عظيمة واسعة اسمها دائرة الإسلام، وإذا انتفى الإيمان عن العبد فلا يعني ذلك أنه قد خرج من الملة، وإنما يعني ذلك: أنه سقط من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام. وإذا قرأنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)، علمنا أن نفي الإيمان هنا هو نفي للإيمان الواجب، فعندي أن الإيمان ثلاثة كما أن الأعمال ثلاثة، فارتباط الأعمال بالإيمان وارتباط الإيمان بالأعمال ارتباط وثيق، فإذا كان العمل متعلقاً بأصل الدين الذي إذا انتفى هذا العمل انتفى معه الدين، فهذا يدل على ردة من أتى هذا العمل، كمن سب الله تعالى، أو سب الشريعة، أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بآيات الله عز وجل، هذا كله عمل، فمن فعل ذلك خرج من الملة وارتد عن دين الإسلام بالكلية. إذاً: نفي الإيمان هنا إنما هو نفي لما هو أصل الإيمان لا للإيمان الواجب، أما الإيمان المستحب أو المندوب فهو المتعلق بالسنن والنوافل وغيرها، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وقال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به -أي: لا يسمع إلا بي، ولا يحب أن يسمع إلا ما يرضيني- وكنت بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) إلى آخر الحديث. فلو أن واحداً قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فبلا شك أن هذا في الظاهر يثبت له الإسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، لكن إن قال هذه الكلمة وهو يبغضها، أو لا ينقاد لها ولا يذعن لها، أو يشك فيها ويرتاب؛ فلا شك أنه عند الله منافق وإن ثبت له الإسلام ظاهراً، حتى وإن عمل ظاهراً بمقتضى هذه الكلمة ولكنه يشك فيها، أو لا يؤمن بها، أو قالها تعوذاً، فهذا شأن المنافقين. إذاًَ: عندي تفريق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان الذي إذا جاء ذكر النفي له فهو نفي لحقيقة الإسلام، أما الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل التام، وإذا جاء ذكر لنفي هذا الإيمان فإنما هو نفي الكمال والتمام، ونفي الإيمان الكامل لا ينفي أصل الإيمان. شخص يقتل، أو يزني، أو يسرق، أو ينتهب نهبة أو غير ذلك من المعاصي، فنقول له: أنت لست مؤمناً. نعني: لست مؤمناً كامل الإيمان، أما قولنا: لست مؤمناً بمعنى أنه كافر فهذا لا يكون إلا فيما يتعلق بأصل الديانة، أو ارتكاب ما يخل بأصل الدين، أو عمل عملاً أثبت النص أن من عمله فقد خرج من الملة، أو انعقد الإجماع على ذلك، فإننا كما قلنا من قبل: إن هذه المسائل لابد أن يكون فيها نص أو إجماع، فإذا قال لي شخص: ما هو الفارق والضابط بين اعتباري لهذا العمل أنه من أصل الإيمان أو من الإيمان الواجب؟ سأقول له: الضابط لذلك أن يأتيني نص يثبت هذا أو إجماع انعقد على أن من فعل ذلك فقد ارتد.

إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة على أن العمل من الإيمان

إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة على أن العمل من الإيمان القاعدة الثانية: إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن العمل من الإيمان. هذا الإجماع نرد به على المرجئة الذين يقولون: لا علاقة للعمل بالإيمان، ويقولون: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا كلام في غاية البطلان والتهافت والسقوط؛ وذلك لأن الإيمان عندهم هو التصديق، فإن قيل: لماذا وقع المرجئة في هذا؟ أقول: للخلل في معرفة حقيقة الإيمان، فإذا بالمرجئة يقولون: هذا الإيمان ليس قولاً ولا عملاً ولا يزيد ولا ينقص، إنما هو التصديق، فإذا صدق المرء بقلبه، ويا حبذا لو نطق ذلك بلسانه؛ فقد ثبت له الإيمان الكامل وإن لم يعمل شيئاً، أي: وإن ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وارتكب جميع الموبقات، قالوا: لأن العمل خيره وشره ليس من الإيمان، ولا علاقة له بالإيمان، فأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان وعن حقيقة الإيمان، فسواء عمل هذا المصدق الطاعة أو ارتكب المعصية فسيان، وعند المرجئة لو أن العامل أو المؤمن عمل صالحاً وانتهى عن السيئات فهذا فضل منه، يعني: يثاب على ذلك فوق الكمال والتمام، وهذا بلا شك تجن وتأل على الله عز وجل. نحن قلنا من قبل: إن الإجماع من مصادر التشريع، ويا حبذا لو كان هذا الإجماع هو إجماع الصحابة، فلا يجرؤ أحد أن يطعن في الإجماع، خاصة إجماع الصحابة؛ لأن إجماع الصحابة محل اتفاق، فإذا أجمع الصحابة والتابعون على أن العمل من الإيمان كان هذا دليلاً في وجه الجهمية وفي وجه المرجئة في آن واحد؛ لأنهم أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان.

الكفر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي، ولكل منهما ضوابط

الكفر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي، ولكل منهما ضوابط القاعدة الثالثة: الكفر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي، وضابط الكفر العملي والاعتقادي كذلك النص والإجماع؛ لأن بعض الناس تصور أن الضابط لمعرفة الناقض للإيمان -كفرياً أو عملياً- أن يكون هذا المنقوض متعلقاً بالإيمان، أو متعلقاً بالعمل؛ فهكذا اجتهد، وهذا كلام لم يقله أحد من أهل العلم، وإنما هذا من بنات أفكاره، والصواب: أن الضابط لمعرفة ما إذا كان هذا كفراً اعتقادياً أو عملياً، هو ورود النص أو وجود الإجماع المنعقد على أن هذا كفر عملي أو كفر اعتقادي. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (قتال المسلم كفر، وسبابه فسوق) هذا نص، فإذا قلت: هل هذا الكفر اعتقادي أم عملي؟ لابد أن أقول: إن هذا الكفر كفر عملي ليس مخرجاً من الملة، وذلك لوجود النص ووجود الإجماع، أما النص فقال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فسمى الله تعالى القاتل أخاً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ)، وقال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فأثبت أن القتال يكون بين طائفتين من أهل الإيمان، فالقتال لم ينف عنهما صفة الإيمان، كذلك إجماع الأمة على أن المسلم إذا قتل صاحبه فلا يكفر بهذا القتل، وإلا لو كان كافراً للزم قيام الحد عليه ردة، لكن قيام الحد يكون قصاصاً، فالذي يقام عليه الحد قصاصاً هل يكون مرتداً أو كافراً؟ لا يكون كذلك، وانعقد الإجماع على أن قاتل المسلم لا يكفر بذلك.

التفريق بين الكفر العملي المخرج من الملة والكفر العملي غير المخرج منها

التفريق بين الكفر العملي المخرج من الملة والكفر العملي غير المخرج منها عند هذه النصوص: (قتال المسلم كفر)، أريد أن أعرف: هل هذا الكفر اعتقادي؟ إذا كان اعتقادياً كفر به صاحبه وخرج من الملة والإسلام، أما إذا كان عملياً فينظر: إذا كان من العمل الذي إذا ارتكبه العامل أخرجه من الإسلام، أم أنه من الأعمال التي لها مكفرات وحدود حدها الشرع كحد الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك من الحدود لم يخرج من الإسلام؛ لأن بعض الناس انطبع في ذهنه أن الكفر الاعتقادي مخرج من الملة، وهذا كلام سديد، أما الذي ليس كذلك فهو ما انطبع في أذهانهم أن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة، وهذا هو الخطر، بل هذا بيت القصيد بين أهل السنة ومن عداهم، فغير أهل السنة يعتبرون أن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة، ويقولون: هو كفر عمل -أي: كفر دون كفر- ليس هو الكفر الذين تذهبون إليه المخرج من الملة. والحقيقة أن الكفر العملي لابد أن ننظر فيه إلى نوع العمل الذي انتهشه وارتكبه العامل، فإن كان متعلقاً بالدين نصاً أو إجماعاً فإن الكفر العملي حينئذ معناه بالخروج من الملة، وإذا كان متعلقاً بالإيمان الواجب، بالحلال والحرام والواجبات في الإسلام وغير ذلك، فلاشك أن نفي الإيمان هنا إنما هو نفي للإيمان الواجب وليس الكامل، أما الكامل فهو المستحبات والمندوبات وغير ذلك، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع، فقد خصص هذا المجلد كله من أوله إلى آخره فيما يتعلق بقضايا الإيمان والكفر، وهذا الكتاب لا يشبع منه القارئ، وهو مجلد متعلق بالإيمان ومسائل الإيمان، لا يمل منه طالب العلم أبداً؛ لأنه كلام أحلى من العسل، كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فضلاً عن تلميذه البار ابن القيم عليه رحمة الله في غالب كتبه، إذا تكلم عن مسائل الاعتقاد فإنه يقرر ما سمعتموه الآن، وهو ما تلقاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية. إذاً: الذي يعنيني في هذا الأصل: أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي لا يلزم منه أن العملي لا يكفر به صاحبه، بل لابد من النظر إلى أصل هذا العمل، فإذا كان متعلقاً بأصل الدين فلابد أننا سنحمل نفي الإيمان هنا على نفي الإيمان الأصلي، وإذا كنا نقول: إن العمل عملان: عمل يكفر به صاحبه؛ وعمل لا يكفر به صاحبه، فلا شك أن العمل الذي لا يكفر به صاحبه ليس متعلقاً بأصل الديانة، وإنما هو متعلق بأصل الإيمان. مثال: الذبح لغير الله عمل، فإذا كان الكفر العملي لا يخرج به صاحبه مطلقاً من الملة، إذاً: الذبح لغير الله ليس كفراً مخرجاً من الملة، وكذلك السجود لغير الله، فإذا قلنا: إن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة يلزمنا أن نقول: إن من سجد لغير الله لا يكون كافراً، وأنتم تعلمون يقيناً أن من سجد لغير الله كفر وخرج من الملة مع أنه عمل، وكذلك من سب الله أو سب الرسول أو سب الشرع أو سب الدين، أو استهزأ بآيات الله أو غير ذلك؛ كل هذا من الأعمال أو الأقوال، ومع هذا فقد أجمعت الأمة أن من ارتكب شيئاً من ذلك خرج من دائرة الإسلام ودخل في حظيرة الكفر. إذاً: الذي يعنيني في هذا الأمر أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي تقسيم سديد وقال به كثير من السلف، أما اعتقاد أن الكفر العملي هو الذي لا يخرج به صاحبه من الملة فلا، فمن العمل ما يكفر به صاحبه -وقد ذكرت لكم أمثلة- ومن العمل من لا يكفر به صاحبه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ليس منا من فعل كذا وكذا وكذا، ولفظ (ليس منا) قد ورد في أحاديث كثيرة: قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها) (خبب) بمعنى: أفسد. وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض)، أي: علامات وإشارات الأرض والدلالات على قوارع الطرق أو غير ذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا) المقصود به العملي أم الاعتقادي؟ العملي، وهذا العمل لا يخرج صاحبه من الملة. عندما يقف شخص عند كبري (المنصورة) ويجد لافتة فيها سهم إلى جهة الغرب يؤدي إلى المنصورة، وسهم إلى الجنوب يؤدي إلى الإسكندرية فقام هذا الشخص بتغيير هذه اللافتة؛ فأصبح طريق الإسكندرية هو طريق المنصورة والعكس، هذا الذي قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض)، فهل قوله: (ليس منا) يعني أن من عمل ذلك كفر وخرج من الملة؟ هل (ليس منا) نفي للإسلام والإيمان، أو نفي لأخلاق النبوة وآدابها، وأخلاق المسلمين وما هم عليه من التزام أوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه وغير ذلك؟ فهذا بلا شك من العمل الذي لا يكفر به صاحبه، خلافاً للأعمال السابقة التي ذكرتها، وقد انعقد الإجماع فضلاً عن هذا النص على أن من ارتكب شيئاً منها خرج من الملة. ونقل غير واحد الإجماع كـ ابن حزم على أن الكفر يكون بالقول والفعل كما يكون بالاعتقاد، لا خلاف بين أحد من الناس أن الكفر يكون بالاعتقاد، كما أنه لو قال كفراً متعمداً غير جاهل ولا متأول ولا مكره كفر بالله. يعني

ضوابط الكفر بالقول ومذهب الفرق الضالة فيه

ضوابط الكفر بالقول ومذهب الفرق الضالة فيه والكفر الثاني: وهو كفر القول، لو أن قائلاً قال قولاً كفراً مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع كفر بالإجماع؛ لكن الخلاف وقع في الكفر بالعمل على النحو السابق الذي ذكرت في تقسيم الكفر العملي إلى مخرج وغير مخرج، ومنهم من يقول -وهم المرجئة والجهمية على جهة الخصوص- لا يكفر العامل بعمله البتة حتى وإن كان العمل في ذاته كفراً؛ وذلك لأنهم يقولون إن العمل لا علاقة له بالإيمان، ولذلك سواء تعلق هذا العمل بالكفر أو لم يتعلق بالكفر؛ فإنه لا يؤثر على إيمان العبد بل على كمال إيمانه وتمامه، وهذا ضلال مبين، إذا رجعنا شيئاً إلى الوراء وقلنا: الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، فلا شك أننا نقول: إن القول جزء من الإيمان لا يكون إلا به، وكذلك العمل جزء من الإيمان لا يكون إلا به، فإذا اختل العمل لابد أن يختل الإيمان، واختلال الإيمان المتعلق باختلال العمل يتوقف على نوع العمل. الشاهد من ذلك أنني أقول: الإيمان قول وعمل، فإذا كان يتكون الإيمان من هذين فلابد لي أن أقول: وجود الإيمان مرتبط بوجود أمرين إذا انعدم أحدهما انعدم الإيمان، وأحياناً يكون القول ليس شرطاً في حق أحد الناس، فقد يكون شخصاً أخرس غير قادر على النطق، فالنطق ليس شرطاً في حقه، فإشارته إلى السماء بسبابته كافٍ، أو حتى مجرد إعرابه عن فهمه للكلام أو الإشارات الموجهة إليه كافية في إثبات ذلك؛ لأن عجزه عن الكلام والنطق وصممه أدى به إلى عدم النطق، فمن عجز عن القول كمن عجز عن بعض الأعمال، فالذي أخرج به من هذه القاعدة: إذا كان الإجماع قد انعقد على أن الكفر يكون بالاستحلال، والاعتقاد، والتكذيب، والجحود، فكذلك يكون الكفر بالقول ويكون الكفر بالعمل؛ لأن بعض الناس يقولون: العمل لا يكفر به العامل إلا إذا استحل، وهذا كلام المرجئة وكلام الجهمية، يقولون: مهما عمل العامل من عمل وإن كان ظاهره الكفر إلا أن الفاعل لا يكفر إلا إذا استحل، فمن أين يعرف أنه استحل؛ لأن الاستحلال شيء قلبي؟ ننظر لمتأخري الأحناف وبعض أهل العلم، قالوا: نعم. سب الله كفر. نقول: سب الله عمل، إذاً: أنتم تناقضتم مع أنفسكم؛ لأنكم قلتم: إن العامل لا يكفر بعمله إلا إذا استحل، فإن قالوا: لا، خالفوا الإجماع، كما خالفوا النص: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66] وغيره من النصوص، فالإجماع انعقد على أن من سب الله أو الرسول أو الشرع أو وطئ المصحف بقدمه أو سجد لصنم أو لغير الله كافر خارج من الملة، هذه مسائل من مسائل الإجماع لم يختلف عليها أحد. فإذا قالوا: من سب الله لم يكفر؛ لأن هذا عمل، قلنا: خالفتم النص والإجماع، ومن خالف النص والإجماع فقوله غير معتبر، وإذا قالوا: نعم. قلنا: هذا عمل، ومن أصول مذهبكم أنكم لا تكفرون بالعمل إلا إذا استحل العامل هذا العمل. قال القائل منهم: نعم. من أصولي أن العامل إذا عمل عملاً ظاهره الكفر لا يكفر بذلك إلا إذا استحل. نقول: لم كفرته هنا؟ قال: لقرينة، فانظر إلى الكلام الفاسد. قال: لقرينة. فأنا لم أكفره بمجرد العمل، وإنما سبه لله تعالى يدل على بغضه الداخلي لله، وهكذا رد المسألة للاستحلال والاعتقاد؛ وذلك لأن العامل عندهم لا يكفر إلا إذا اعتقد، أي: استحل، وهذا كلام في قمة الفساد، ولم يقل به واحد من أهل العلم من سلف الأمة.

يسر الإسلام باعتبار موانع التكفير

يسر الإسلام باعتبار موانع التكفير من موانع التكفير الجهل، وأنتم تعرفون أنه لو لم يكن الجهل من موانع التكفير لوقع معظمنا في هذا المحظور، فنحن نخطئ كثيراً في المسائل العملية، بل نخطئ في المسائل الاعتقادية، بل نخطئ في الأسماء والصفات وبما يتعلق بالذات العلية، فإذا لم نكن معذورين بهذا الخطأ أو بهذا الجهل، فإن الله تعالى كان ينبغي أن يكون له معنا شأن آخر، فمن رحمة الله عز وجل ويسر هذه الشريعة أن جعل الجهل مانعاً من موانع التكفير. وكذلك الخطأ أو الشبهة: شخص يعمل عملاً خطأً أو متأولاً، عنده شبهة يعتقد أنه على الحق، فإذا به على الخطأ المبين؛ لذلك هو يقول قولاً ويرجع عنه غداً، يقول قولاً اليوم، فإذا تعلم وبانت له الحقائق رجع عن قوله وذم التعصب. وكذلك الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وهذه طبعاً الرخصة، أما العزيمة فهي أن يثبت المرء على إيمانه وإن قتل؛ وذلك لأنه يضحي بأمر عام، خاصة إذا كان من أصحاب الوجاهة، وممن يشار إليه بالبنان. ابتُلي أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بفتنة خلق القرآن، فـ أحمد بن حنبل طيلة عمره كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فقد كفر، وإذا بالخليفة يحبسه ويضربه ويركبه على دابة، ويجعل ظهره في مكان وجهه، ووجهه في مكان ظهره، فيكون وجهه في دبر الدابة، ويطوف به بغداد، ويقول له: يا أحمد! قل للناس: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أحمد بن حنبل، فلا يزيد أحمد إلا أن يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك كفر. إصرار منه إلى آخر لحظة، فطافوا به على بغداد، وجيء به فأدخل السجن، ودخل عليه رجل يشفق عليه. قال: يا إمام! كلمة قلها تنج بها من الأسر؛ فنظر أحمد إلى ثلاثين ألفاً قد وقفوا بمحابرهم وأقلامهم، وقال: أقول كلمة يكتبها هؤلاء فتكون ديناً إلى قيام الساعة، لا والله لا أقولها، فخرج وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. وجاء أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطة في ذلك الزمان، فقال: يا أحمد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أليس الله عز وجل خالق كل شيء؟ قال: بلى. قال: إذاً: الله تعالى خالق لهذا القرآن. قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] أتقول: أن هذا القرآن يدمر؟ فسكت أحمد بن أبي دؤاد؛ لأنه لو قال: نعم. كفر وهو يعلم ذلك، وإن قال: لا. أقيمت عليه الحجة، وانصرف الناس جميعاً وقد أخذوا قول أحمد، ولا يزال أهل السنة والجماعة يعتقدون صحة قول أحمد إلى أن تقوم الساعة، فإمام الفتنة في ذلك الزمان هو أحمد بن أبي دؤاد، وإمام الهدى والتقى والعلم هو أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه، رجل علم أن مدار كلمة الأمة وصحة اعتقادها على قوله، فلابد أن يثبت وإن كان ثمن ذلك ذهاب روحه وخروج نفسه، فهذه من العزيمة في حقه، إذ لا يحل لـ أحمد بن حنبل أن يأخذ بالرخصة حينئذ، أما إنسان آخر من غثاء الناس لا يؤبه بقوله ولا يعبأ به، فلا بأس أن يقول كلمة الكفر حين الإكراه. إن يحيى بن معين إمام من أئمة العلم في زمن أحمد بن حنبل، بل هو شيخ أحمد بن حنبل في الرجال، سقط هذه السقطة. قال: القرآن كلام الله مخلوق، فخاصمه أحمد ولم يكفره، وهذا أمر سنتعرض له بعد قليل، فلما دخل يحيى بن معين لزيارة أحمد أشاح عنه أحمد بوجهه، فقال يحيى: يا إمام! والله إنك لتعلم أني لا أعتقد ذلك، وأنت تعلم أني أعتقد أنه غير مخلوق؛ ولكني قلت ذلك مخافة السوط. اقرأ ترجمة يحيى بن معين تجده رجلاً نحيف البدن، هزيل الجسم، فضربة بسوط أو سوطين تنهي أمره ويكون ميتاً، ما قال ذلك إلا هروباً من الضرب، فهو معذور في هذا، والإكراه له شروط ليس هذا أوان سردها. فموانع التكفير: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، حيث إن التكفير حكم شرعي له ضوابطه، وأحكامه وحدوده يجب مراعاتها، فلابد من قيام الحجة وفهمها، وفي الدرس الماضي قلنا: ليست العبرة في قيام الحجة على الشخص، بل العبرة في أنه يفهم هذه الحجة. مثال ذلك: لو أنك قلت لشخص: الذي تعمله هذا حرام؛ لأن ربنا قال كيت وكيت وكيت، والرسول قال كيت وكيت، وهو لم يفهم نصاً واحداً، هل أقمت عليه الحجة بهذا؟ فهو لم يفهم معنى كلام الله ولا معنى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يفهم ما معنى إجماع الأمة، فلابد أن يفهم الرجل الحجة، كما يجب أن تتوفر الشروط المؤدية إلى إلحاق الكفر به، وتنتفي عنه الموانع المانعة من إلحا

الفرق بين القول: العمل الفلاني كفر، والعامل كافر

الفرق بين القول: العمل الفلاني كفر، والعامل كافر إثبات الفارق بين قولنا: العمل الفلاني كفر، وقولنا: العامل كافر، هناك فرق بين القولين، وهذا أدى بكثير من الناس إلى إطلاق أحكام التكفير، فلو قلنا: إن سب الدين كفر، فلا شك أن هذا من مسائل الإجماع، لكن بشرط أن تتوجه إرادة الساب إلى قصد سب الدين، أما إذا كان هذا الساب عاملاً بأحكام الشرع ظاهراً وباطناً في الليل والنهار، وسبق لسانه في غير قصد منه إلى سب الدين فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد هذا السباب، ولم تتوجه إليه إرادته. ولو أن شخصاً قصد بالدين الخلق كخلق المسبوب، إذ لم تتوجه إرادته قط إلى الدين الذي نزل من السماء، وإنما قصد بالدين خلق هذا المسبوب، فإن هذا لا يكفر حتى وإن كان سب الدين في ذاته كفراً، فنقول: القول الذي قلته كفر، لكن هل تكفر به؟ هذا موطن النزاع، القول قول كفر بلا نزاع، والنزاع: هل يكفر القائل أو العامل أو لا؟ ولذلك ليس كل من وقع في الكفر كافراً، كما أنه ليس من وقع أو تلبس ببدعة مبتدعاً. ولذلك جاء عن بعض السلف أنهم كانوا متلبسين ببعض البدع ظناً منهم أنها السنن، فلما علموا أنها بدع انتهوا عنها، وذموا ما كانوا عليه سلفاً، وعملوا بالسنن عملاً مستأنفاً، وتحسروا وندموا أشد الندم على ما كان منهم، لكنهم يعلمون يقيناً أنهم غير آثمين بذلك؛ لأنهم ظنوا أن ما كانوا عليه قربة إلى الله عز وجل. إذاً: عندما أرى شخصاً على بدعة لا أبادر إلى تبديعه أو تفسيقه أو الحكم عليه حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فربما وقع فيه بجهل أو بخطأ أو بتأويل أو بشبهة أو إكراه، وهذه هي الموانع، فلا أبادر بإلحاق الكفر عليه إلا بعد قيام الحجة عليه وفهمه لهذه الحجج، إذاً: هذا الأصل الذي نذهب إليه ونقرره دائماً: أن الفارق قائم بين كفر العمل وكفر العامل، والعمل البدعي وبدعية العامل، فليس كل من ارتكب الكفر كافراً، كما أنه ليس كل من تلبس ببدعة مبتدعاً. الأصل الذي يلحق بهذا، لو أن قائلاً قال بمقولة قال بها بعض أهل الفرق الضالة متأولاً أو مجتهداً يظن أن هذا هو الحق، ولو علم أن الحق في خلافه لانتهى عنه، يا إخواني كم من عالم من علماء السنة عميت عليه مسائل اعتقادية على طور التاريخ وعرضه، ولك أن تنظر في كتب التراجم كسير أعلام النبلاء، أو تهذيب الكمال، أو غير ذلك من الكتب التي ترجمت لعلماء السلف والخلف معاً، ستجد أن الرجل كانت إليه الرحلة من أقطار الأرض، ومع هذا له زلة، وهذه الزلة في العلم أو العمل أو العبادة أو العقيدة، وأياً كانت لكن السؤال الآن: هل يخرج هذا الرجل بهذه الزلة عن حظيرة أهل السنة والجماعة؟ A لا، لماذا؟ لأنه لابد من صناعة الموازنة في حق هذا الرجل بين إصابته وخطئه، فمن غلبت إصابته على خطئه كان الأصل فيه الاستقامة، ويُرَدُّ شره لخيره. فلو ضربنا مثلاً لذاك لوجدنا أن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله ذاك العلم الذي يشار إليه بالبنان، ولا يفهم أحد كلام النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري إلا من طريق الحافظ ابن حجر، ولا يقول بغير ذلك إلا متكبر بطر الحق وغمط الناس، هذا الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله إمام من أئمة الهدى، وداعية من دعاة السنة أخطأ في مسائل من أقوال الأشاعرة؛ فقال بقول الأشاعرة، فهل يعد بهذا أشعرياً؟ A لا؛ قولاً واحداً؛ لأننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدنا أن الأصل فيه الاستقامة على منهج السلف، والدعوة إلى منهج السلف وعقيدة الصحابة رضي الله عنهم علماً وعملاً، وهذا موجود في كل كتابات الحافظ ابن حجر فنقول: عميت عليه هذه المسائل بعينها، والقول فيها على غير عقيدة السلف لا يخرج الحافظ من دائرة أهل السنة؛ لأن الأصل فيه الاستقامة. كما أنه لا يصلح أبداً أن نقول في رجل معروف بالبدعة، والأصل فيه الانحراف والزيغ عن عقيدة أهل السنة: إن هذا رجل من أهل السنة، فلو أن محيي الدين بن عربي -إمام من أئمة الضلال- قال قولاً وافق فيه أهل السنة، فهل هذا القول يخرجه عن حد البدعة؟ لا يخرجه؛ لأن الأصل فيه الانحراف عن عقيدة أهل السنة، ولو أن ابن تيمية عليه رحمة الله الآن وقفنا له على قول يخالف فيه أهل السنة، ويوافق فيه قول بعض أهل البدع، فهل يكون مبتدعاً بهذا القول؟ لا يكون مبتدعاً بهذا القول؛ لأن النظر إلى أصله هو الاستقامة، فلابد من صناعة موازنة في حق كل إنسان على حدة، إذا كان خطؤه عظيماً كان الأصل فيه الانحراف، وإن أصاب فإن إصابته لا تخرجه عن طريق الانحراف، والعكس بالعكس، إذاً: لا يلزم من الوقوع في الكفر أن يكون الشخص كافراً، كما لا يلزم من الوقوع في البدعة أن يكون صاحباً مبتدعاً. إن الحافظ ابن حجر شن حملة شعواء في المجلد الأول والثالث عشر على الأشاعرة، وبين فساد معتقدهم، وانحرافهم عن الجادة والصواب، ثم وقع فيما وقعوا فيه؛ لكن بالنظر إلى ما أصاب فيه لا يساوي شيئاً، فيبقى أن الأصل فيه الاستقامة، وأن هذا الانحراف مغفور له بإذن

الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافرا

الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافراً الأصل الثاني الذي هو محل اتفاق: أن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافراً، والباطل يرد على كل من جاء به وإن كان شيخ الإسلام، فهذا الأصل لا علاقة له بالأشخاص؛ لأن الحب يعمي ويصم، وكما يقال: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) فهذا يا إخواني! ليس فيه أدنى موضوعية ولا تجرد لله عز وجل، فأنا حبي لله عز وجل وحبي للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة ينبغي أن يفوق كل محبوب؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، إذاً: تحب الله وتحب رسوله، وإذا كنت صادقاً في هذه المحبة فاعلم أن حبهما اتباع واقتداء وعمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران:31]. الشاهد من هذا: أنني أحب فلاناً ولا أحب فلاناً آخر، فهل عدم حبي لفلان يحملني على رد قوله وإن كان حقاً، فمن كان هذا شأنه فإن هذا باب من أبواب الزندقة والإلحاد، وكما يقولون: الطالب الذي له شيخ واحد كالرجل الذي له امرأة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها. يقول ابن المعتز: لا تعلم الحق إلا إذا سمعته من غير شيخك، فلو دخل علينا الآن رجل وأخبرنا بخبر وكان ثقة عندنا صدقناه، فإن دخل الثاني وأخبرنا بنفس الخبر ازددنا به تصديقاً، وكذلك الثالث والرابع؛ حتى نستطيع أن نقسم على صحة هذا الخبر، لماذا؟ لأن هذا الخبر قد بلغنا بالتواتر والعلم اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى تصديقه بغير نظر ولا بحث، بخلاف خبر الآحاد. إذاً: في هذه الحالة يا إخواني! نتفق على ترك التعصب؛ لأنه لا يصلح أن يكون التعصب خلقاً لمسلم فضلاً عن أن يكون خلقاً لطالب العلم، والحق يؤخذ من كل من أتى به لأنه الحق، وأنا محاسب عليه سلباً وإيجاباً -إيجاباً أثاب فيه، وسلباً أعاقب عليه لتركه- تصور لو أن شنوده أو شارون وجد مسلماً يزني أو يسرق أو يقتل وقال: يا فلان! اتق الله أليس الله قد حرم عليك هذا؟ فقال المسلم: من أجل أنك شارون لن آخذ بنصحك، وسأستمر في معصيتي. هل يقول بهذا عاقل يا إخواني؟ لا؛ لأن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان شارون، طبعاً هو لا يأتي بالحق مطلقاً، لكن على فرض أنه أخطأ مرة وجاء بالحق. فهل يقبل منه؟ نعم، لأن هذه قواعد مقررة لا خلاف عليها. إذاً: التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام، والتعصب للكتاب والسنة، والتعصب لسلف الأمة، أما ما دون ذلك فعار أن تتعصب له أياً كان هذا الشخص؛ لأنه يخطئ ويصيب. كما أن المسلم يتعصب للإجماع؛ لأن الأمة معصومة من الوقوع في الضلال، وإذا قلت: إن هذه المسألة من مسائل الإجماع، فمعناه إجماع علماء الأمة المعصوم في الجملة، فالتعصب لا يكون إلا لأمثال هؤلاء. فنفرق بين فعل الكفر أو البدعة وبين من وقع فيها، فلا يلزم من إثبات كفر الفعل إثبات كفر الفاعل، ولا يلزم من إثبات بدعية الفعل بدعية الفاعل، فربما قام بينه وبين الكفر والبدعة مانع من موانع التكفير أو التفسيق أو التبديع. وهذا أصل من أصول أهل السنة، أنهم يفرقون دائماً بين إطلاق القول بالكفر وكفر المعين، فالإمام أحمد بن حنبل كان دائماً يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق في زمان أحمد بن حنبل هم المعتزلة ومن خاف من بطشهم من علماء السنة، كـ يحيى وغيره، ومع هذا لم يكفر أحمد بن حنبل الحكام في زمانه بأعيانهم، ولم يكفر العلماء ومنهم يحيى بن معين كما سبق؛ وذلك لأن هناك فارقاً عظيماً بين كفر العمل وكفر العامل أو كفر المعين، وقد سئل أحمد بن حنبل: ألست تقول يا أحمد إن من قال القرآن مخلوق فقد كفر؟ قال: بلى. قيل له: فلم لم تكفر فلاناً وفلاناً من حكام المعتزلة وأمراء المؤمنين؟ قال: أليسوا قالوا ذلك ابتغاء وجه الله وإقامة دينه؟ يعني: هم ما فعلوا ذلك إلا جهلاً منهم، وهم يتصورون أنهم يقيمون بذلك الدين، فالمعتزلة في ذلك الزمان كانوا يحاربون أحمد بن حنبل من باب أن أحمد بن حنبل يقول: القرآن غير مخلوق؛ ظناً منهم أنه يخرب عقيدة المسلمين، فهم كانوا يتهمون أحمد بن حنبل بأنه خرب عقيدة المسلمين، وما قاموا عليه قومة رجل واحد إلا من باب حماية الدين وحراسته، فما فعلوه مع الإمام أحمد بن حنبل كان مصدره ومنشؤه الجهل، وما كان حرصهم على ذلك إلا لتثبيت مسائل الاعتقاد لدى المسلمين، فعملوا كل ذلك لأنهم يحبون الله ورسوله والقرآن، فعندما يأتي عالم كـ أحمد بن حنبل ويقول: القرآن ليس مخلوقاً فإنه سيقلب الموازين ر

أحكام الدنيا تجري على الظاهر بخلاف أحكام الآخرة فإن مردها إلى الله

أحكام الدنيا تجري على الظاهر بخلاف أحكام الآخرة فإن مردها إلى الله الأصل الأخير في المحاضرة: هو أن أحكام الدنيا تجري على الظاهر بخلاف أحكام الآخرة فإن مردها إلى الله عز وجل. لو قال رجل الآن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه قد أسلم ما لم يأت بناقض من نواقض الإسلام، وهذا يعني أن كل من ثبت له الإسلام باليقين فإنه لا يزول عنه بالشك أو الظن المحتمل؛ وذلك لأن الشك لا يزيل اليقين قط، ولا يزول اليقين إلا بيقين مثله، ما لم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام القولية أو العملية، كأن يقول: أنا كافر بالله، مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع، أو يعمل عملاً نص الشارع على أن من عمله خرج من الإسلام، أو أجمعت الأمة أن هذا العمل ردة وكفر. نكتفي بهذا القدر. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

سرد أقوال السلف في أن العمل ركن في الإيمان

شرح كتاب الإبانة - سرد أقوال السلف في أن العمل ركن في الإيمان الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا الفرق الضالة كالمرجئة والمعتزلة وغيرهم، وبناء على منهج السلف فإن العمل المجرد بقول أو فعل يمكن أن يخرج بصاحبه من الإيمان إلى الكفر حتى لو لم يصاحب ذلك الاستحلال القلبي.

أركان الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة

أركان الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيما يتعلق بالكلام عن مسائل الإيمان فقد تكلمنا عن مسائل وأصول قد اتفقنا عليها ولم نختلف فيها، والحمد لله تعالى. وقلنا: إن الإيمان عند السلف بالإجماع قول وعمل، أو هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، أو هو قول وعمل ونية، أو هو قول وعمل ونية واتباع للسنة، وكل هذه مصبها في نهاية الأمر إلى أن العمل ركن من أركان الإيمان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا المرجئة، بينما المعتزلة جعلوا العمل كله شرطاً في الإيمان، ولذلك يكفرون من لا يأتي به كالخوارج تماماً بتمام، لكن جعلوا له حكماً في الدنيا وحكماً في الآخرة، فجعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة خلدوه في النار، والخوارج الذين جعلوا العمل كله ولم يفرقوا بين جنس العمل وآحاد العمل، خلافاً لما كان عليه السلف رضي الله عنهم، إذ إنهم فرقوا بين جنس العمل، وأنه ركن من أركان الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وبين آحاد العمل، فينظر إلى آحاد العمل كل على حسبه، فإن كان العمل في أصل الإيمان فيبطل الإيمان بنقض هذا العمل، أو بترك هذا العمل، أو بمخالفة هذا العمل، وإذا كان من العمل الواجب كان من الإيمان الواجب، وإذا كان من العمل المستحب كان من الإيمان المستحب، وكلاهما يسمى بكمال الإيمان، أي: الإيمان الواجب والإيمان المستحب كلاهما يسمى بكمال الإيمان، فمنه الكمال الواجب ومنه الكمال المستحب، خلافاً لأصل الإيمان وهو جنس العمل، وأظننا قد اتفقنا على ذلك. والليلة بإذن الله تعالى موعدنا مع سرد نصوص لكثير من علماء السلف يبينون في هذه النصوص أن العمل ركن من أركان الإيمان، وعليه فيمكن أن تكون الردة بمجرد ترك هذا العمل، أو الوقوع في مخالفة العمل. يعني: السلف عندما يقولون: إن الإيمان قول وعمل، فهل يمكن أن يكون الإيمان عملاً دون أن يكون قولاً؟ إذا كان الإيمان لا يمكن أن يكون عملاً بغير قول محل اتفاق فكيف يكون قولاً بغير عمل؟! لأن هذا ركن وذاك ركن، وأنتم تعلمون أن الركن ما كان داخلاً في ماهية الشيء، ولا يكون الشيء إلا به، فإذا كان العمل من أركان الإيمان فلا بد من الإتيان به، كما أن القول لابد من الإتيان به، كما أن الاعتقاد القلبي لابد من الإتيان به، فهذه أركان الإيمان عند السلف، فلا يمكن أن يثبت الإيمان لأحد إلا بثبوت هذه الثلاث: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح. ويمكن أن ينقض الإيمان من أصله ويرتد المرء عن دين الإسلام بالقول؛ لأن القول ركن، فثبت القول، أو التقول بما يكفّر يكفر به صاحبه، وكذلك الاعتقاد، وكذلك العمل، لكن مناط البحث كله والإشكالية الدعوية المطروحة على الساحة: هل يمكن ثبوت الردة بالعمل المجرد أم لا بد من الاستحلال القلبي؟ يعني: هل يمكن أن يعمل الإنسان عملاً يكفر به من غير استحلال، أو من غير نظر وسؤال هل هو مستحل أم لا؟ هذه هي القضية كلها. A نعم، إذ إنه عند السلف من الأعمال ما يكفر بها العامل دون نظر واشتراط للاستحلال، والمرجئة قالوا: لا بد من الاستحلال، وهذا القول بلا شك قول مخالف لما كان عليه سلف الأمة رضي الله تعالى عن الجميع، لكني أذكر بما قلت آنفاً في الدرس الماضي: أنه لا يلزم من القول ببعض ما كانت تقول به بعض الفرق الضالة النسبة إلى هذه الفرقة، أي: ليس كل من وقع في البدعة مبتدع، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، ولذلك إذا قال بعض من ينسب إلى العلم مقولة وافق فيها الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة أو الخوارج فلا يكون مرجئاً ولا معتزلاً ولا خارجياً إلا أن يتبنى أصول الخوارج، أو يتبنى أصول المعتزلة؛ لأن المرء لا ينسب إلى الفرقة التي يقول هو بأحد أقوالها إلا إذا كانت أصوله هي أصول هذه الفرقة، يعني: أنا الآن يمكن أن أقول قولاً ثم أفاجأ بعد ذلك بأن هذا هو قول المرجئة، أو هو قول المعتزلة، فهل يلزم من هذا القول أو من قولي بقول المعتزلة أن أكون كذلك؟ لا يلزم؛ لأنه يمكن أن يكون هذا الكلام خرج مني مخرج الجهل وأنا لا أدري، وظني أنه معتقد أهل السنة والجماعة، فلا بد أن ينظر إلى أصل استقامة هذا الرجل، هل هو مستقيم على السنة فخالف في هذا؟ فإن خالف فلا تعد هذه المخالفة هي السبب في نسبته لهذه البدعة، أو أن الأصل فيه الابتداع والانحراف حتى وإن وافق أهل السنة لا يكون منهم. كما في الدرس الماضي ضربت مثلاً بإمامين عظيمين: أحدهما في البدعة، والآخر في السنة، وهما: أبو حامد الغزالي وابن تيمية، إذ إن الأصل في ابن تيمية الاستقامة على منهج السلف، فإذا قال ابن تيمية قولاً وافق فيه الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة -حاشاه أن يكون كذلك- فهل هذا يسوغ أن يكون هو من أهل هذه الفرق أو منسوباً إليها؟ لا يمكن أبداً، لكننا نحمل هذا الكلام على الخطأ البشري الذي لابد وأن لكل إنسان نصيباً فيه. أما أبو حامد الغزالي فالأ

سرد أقوال السلف في أن العمل المجرد ربما أدى بصاحبه إلى الردة أو الكفر

سرد أقوال السلف في أن العمل المجرد ربما أدى بصاحبه إلى الردة أو الكفر ويبقى في هذه الليلة أن نسرد كلاماً لبعض أهل العلم لبيان مسألة واحدة وحقيقة واحدة وهي: أن العمل المجرد ربما أدى بصاحبه إلى الردة والكفر، حتى وإن لم يصحب ذلك استحلال قلبي.

قول نافع رحمه الله تعالى

قول نافع رحمه الله تعالى قال التابعي الجليل نافع الفقيه مولى ابن عمر رضي الله عنه كما روى ذلك عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: إن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء -وكان إماماً في الإرجاء فعلاً- فعرضه على الناس، قال: فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً -أي: أنهم قالوا: هذا الكلام غريب علينا وعلى عقيدتنا فلم يقبلوه منه- قال: فجلست إلى نافع فقلت له: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، ونقر بأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام وننكحها، يعني: أن الأمر فيه صراحة لفظيه بما هو مكنون في القلب، فإذا كان الأمر على الاستحلال فنحن لا نستحل ترك الصلاة؛ لأننا نقر بأن الصلاة مفروضة لكننا لا نصلي، ونعلم يقيناً من قلوبنا أن الخمر حرام لكننا نشربها، ونعلم أن الله حرم نكاح المحارم ونحن ننكح المحارم، قال: فنفر يده من يدي ثم قال: من فعل هذا فهو كافر. ولم يعلق الكفر على الاستحلال، وإنما أوقع الكفر على مجرد الفعل، أو على الفعل المجرد من غير استحلال، وإلا فهو قد قال: نحن نقر بكيت وكيت وكيت لكننا نخالف ولا نعمل، ومع هذا قال نافع الفقيه: من قال هذا فهو كافر.

قول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى

قول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال الهروي: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مقراً بقلبه على ترك الفرائض، أي: أنه يقول لهم: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الجنة واجبة لمن نطق بكلمة التوحيد وإن كان مصراً في قلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض كلها ومباني الإسلام مجرد ذنوب كمن نكح المحارم، أي: كمن تزوج المحارم وليس بسواء، يعني: يريد أن يقول لهم: لكن هذا ليس صحيحاً بأن نكاح المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر كفر.

قول الشافعي رحمه الله تعالى

قول الشافعي رحمه الله تعالى وعن الإمام الشافعي: سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، أي: يقول ذلك من باب اللعب وعدم الاعتقاد بشيء من آيات الله عز وجل، وأذكر أني كنت ذات مرة في باص، فأتى أحدهم بنكتة سخيفة جداً فضلاً عن سابقتها من النكت التي تقدم بها وأعانه عليها شيطانه، فإذا به ينكت على الأنبياء فقال: وكذلك في سورة الأعلى: صحف إبراهيم وموسى وعلي، فقلت: ومن أين أتيت بـ علي؟ فقال: هكذا، فضحك كل من في الباص عن بكرة أبيهم، ضحكوا علي لاعتراضي على هذا الظريف الذي أضحك كل من في الباص حوالي ساعتين مسافة الطريق؟! فقلت له: أما تعلم أنك تكفر بذلك وتخرج من الملة؛ لأنك تستهزئ بآيات الله عز وجل؟! قال: وما أدراك بالكفر؟ قلت: وما أدراك أنت بالإيمان؟ فبهت، ولا بد أن يبهت لأنه ليس عنده جواب، فالذي ينكت مستخدماً آيات الله تعالى لا بد وأنه سيدخل في باب الاستهزاء، سواء استحل ذلك في قلبه أو لم يستحل، فإنه يكفر ويخرج من الملة؛ لأن كلام الله تعالى وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي صح عنه لا بد أن يصان عن العبث واللهو واللعب. سئل الشافعي عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى؟ فقال: هو كافر، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66]، ولم يقل: قد أذنبتم، أو أخطأتم، أو جهلتهم، وإنما قال: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، وهذا يسوغ وقوع الكفر بعد الإيمان كما يسوغ وقوع الإيمان بعد الكفر، وهكذا فالمرء يتردد بين الإيمان والكفر.

قول الحميدي رحمه الله تعالى

قول الحميدي رحمه الله تعالى والإمام الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير قال: أخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، قال: فقلت: هذا هو الكفر الصراح. مع أنه معتقد ومقر بذلك كله، لكنه ترك ذلك كله متعمداً غير مستحل ولا جاحد ولا مكذب، ومع هذا فمجرد إقراره بهذه الفرائض ومباني الإسلام قال: هذا هو الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين. وقال في كتاب له -أي: الإمام الحميدي - اسمه: مسند الحميدي تحت عنوان: أصول السنة والجماعة: وألا نقول كما قالت الخوارج: من أصاب كبيرة فقد كفر. والإمام الحميدي هو الذي نقل الإجماع على أن تارك مباني الإسلام الخمسة كافر، ومع هذا يقول: ولا نقول كما قالت الخوارج: من ارتكب كبيرة كفر، وهذه إشارة من الإمام الحميدي إلى التفريق بين جنس العمل وآحاد العمل، أما جنس العمل فهو أصل وركن من أركان الإيمان، وأما آحاده كارتكاب بعض الكبائر، فهو يذهب كما يذهب أهل السنة جميعاً إلى أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك، قال: ولا تكفير بشيء من الذنوب، إنما الكفر في ترك الخمس التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).

قول إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى

قول إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى وقال الإمام العظيم إسحاق بن راهويه المروزي: ومما أجمعوا على تكفيره -يعني: ومما أجمع أهل السنة على أنه كافر- من قتل نبياً. فقد حكموا عليه كما حكموا على الجاحد سواء بسواء، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وآمن بما جاء من عند الله تعالى، ثم قتل نبياً فإنه كافر، مع أنه جاء عن الله تحريم قتل المسلم عموماً، والأنبياء أشد حرمة من عامة المسلمين، إذ إن حرمة الأنبياء ليست كغيرهم، كما أن للعلماء حرمة ليست كعامة الناس، فمن باب أولى تكون حرمة الأنبياء أعظم من حرمة العلماء؛ لأنهم أفضل الخلق، ولذلك قال: لو أقر بكل ما جاء من عند الله، لكنه قتل نبياً، أو أعان على قتله وإن كان مقراً بأن هذا نبي أرسله الله عز وجل، يعني: تصور شخصاً الآن يذهب إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ويقول له: ألست مؤمناً بك، ومقراً بنبوتك؟ فيقول له: نعم، ثم يخرج السيف من غمده ويقول له: أشهد أن الله تعالى أرسلك، وأنك نبي ورسول، ثم يرفع سيفه فيقتل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون أن الصحابة رضي الله عنهم يتوقفون في تكفير ذلك الرجل؟ هل تتوقعون ذلك؟ ومع هذا قبل أن يقتله بل في اللحظة التي قتل فيها النبي قال: أنا مقر بما جاء من عند الله، وأنك من عند الله، يعني: أنه عبر عن مكنون صدره أنه ليس جاحداً بالرسالة ولا بالنبوة، وإنما ارتكب مجرد فعل يكفر به، ولو أن واحداً قال للنبي: لو أن معي سيفاً لقتلتك، فسمعه أحد الحاضرين وقال: خذ هذا السيف وناوله إياه، فكلاهما يكفر؛ لأنه أعان على قتل نبي، وإن تأذى وحزن صاحب السيف وقال: والله ما حزنت أكثر من حزني لوفاة هذا النبي أو لقتله، وأنا كنت أحبه وكنت متبعاً ومقتدياً به، وأنا مقر بنبوته ورسالته، فهل هذا ينفعه بين يدي الله؟ لا ينفعه، مع أنه لم يرتكب إلا مجرد فعل، إذاً الردة والخروج عن الإسلام يمكن أن يكون بالفعل المجرد، وليس كل الأفعال المجردة تخرج الفاعل من الإسلام إلى الردة، فهناك من الأعمال ما تتناقض مع الإيمان، فإذا وقع فيها المرء خرج من الإيمان، ومن الأعمال ما هو ذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً، كما أن من الأعمال ما هو واجب ومنها ما هو مستحب. قال: قتل نبياً، أو أعان على قتله وإن كان مقراً بنبوته ورسالته، ومع هذا قال إسحاق بن راهويه: هو كافر، وكذلك من شتم نبياً أو رد عليه قوله من غير تقية ولا خوف، ثم قال: أجمع المسلمون. وانظروا إلى نتائج الإجماع، فعندما تسمع إماماً عظيماً مثل ابن تيمية وإسحاق وغيرهم ينقل الإجماع على قضية من القضايا فلا بد أن تنتبه جداً، إذ الإجماع مصدر من مصادر التشريع، قال: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً من ما أنزل الله عز وجل فما بالك بمن دفع الشرع كله، والدين كله، والأحكام كلها، واستغنى عنها واستبدل مكانها بكيت وكيت؟! أو قاتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله. فانظر إلى هذا الكلام الجميل لـ إسحاق بن راهويه.

قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل في الرد على الجهم بن صفوان إمام الجهمية الذي يقول: العمل ليس من الإيمان؛ لأن الإيمان عند الجهم هو عبارة عن المعرفة، فإذا كان يعرف الله تعالى فهو مؤمن كامل الإيمان، ولا علاقة أبداً للعمل بالإيمان، ولذلك الإمام أحمد بن حنبل يقول له: يا جهم! إذا كنت تقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان، وليس داخلاً في مسماه، فيلزمك أن تقول: لو أن رجلاً أقر بالشهادتين، وشد على وسطه بالزنار، أو سجد للصليب، وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها، إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون مؤمناً؛ لأن كل هذه أعمال، وهو في حقيقة الأمر مقر بأن هذا باطل، قال: وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم، أي: من أشنع ما يمكن أن يرد به عليهم. وفي كتاب السنة لـ لخلال كلام كثير ربما نقلناه قبل ذلك، لكن الإمام أحمد بن حنبل قال: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به. وقال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: سألت أبي عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك، يعني: أنه يسب المخلوق وخالقه، فقال: هذا مرتد عن الإسلام، مع أن هذا قول، إذاً الردة تدخل في القول وإن لم يصحبه استحلال، والردة تدخل في العمل وإن لم يصحبه استحلال كمن سجد للصليب، أو ألقى المصحف في القاذورات، أو شد على وسطه بالزنار، أو دخل الكنائس من باب تأييد أهلها ومودتهم وموالاتهم وغير ذلك، فهذا كله كفر بالله تعالى، قال: فقلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم تضرب عنقه، من باب الردة؛ لأنه قال له: هو مرتد.

قول محمد بن سحنون رحمه الله تعالى

قول محمد بن سحنون رحمه الله تعالى وقال محمد بن سحنون المالكي فقيه المغرب: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر؛ لأن هذه ردة صريحة عن دين الإسلام بسب النبي أو قتله أو تنقصه أو غير ذلك، ومن كفر بذلك فهو كافر كما قال ابن سحنون المالكي.

قول أبي بكر الجصاص رحمه الله تعالى

قول أبي بكر الجصاص رحمه الله تعالى وقال أبو بكر الجصاص إمام من أئمة الحنفية: قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، فيه دلالة على اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه، يعني: لو قالها وهو غير مكره من باب اللعب أو الاستهزاء وغير ذلك فيكفر؛ لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم إنما قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله عن كفرهم بهذا اللعب.

قول محمد بن الوليد السمرقندي رحمه الله تعالى

قول محمد بن الوليد السمرقندي رحمه الله تعالى وقال محمد بن الوليد السمرقندي -إمام من أئمة الحنفية- في كتابه: (الجامع الأصغر): إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمداً لكنه لم يعتقد الكفر، أي: إذا أطلق الرجل كلمة الكفر متعمداً غير مكره، قال: قال بعض أصحابنا: لا يكفر؛ لأن الكفر يتعلق بالضمير، وهو لم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم: يكفر، وهو الصحيح عندي؛ لأنه استخف بدينه، واستغرب ممن لم يقل بكفره. فإذا قال شخص: أنا كافر. فهل نعذره بجهله؟ لا. إذ إن الجهل والتأويل مسائل أصولية كلية لا يمكن أن تدخل تحت باب العذر، حتى الذين يعذرون بالجهل يعلمون هذه المسائل الكلية؛ لأنها معلومة من الدين بالضرورة.

قول ابن حزم رحمه الله تعالى

قول ابن حزم رحمه الله تعالى قال الإمام ابن حزم في كتاب الفصل: وأما قولهم -أي: المرجئة-: إن شتم الله تعالى ليس كفراً، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فهذا مجرد دعوى، يعني: لا دليل عليها؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]، فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر، فيخرج الإنسان من الإيمان بمجرد الكلمة وإن لم يستحل، باستثناء المكلف؛ لأن الأصل أنه يعرف ماذا يقول. أما الغضب فله مراتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. فمنه الإغلاق، أي: الذي لا يدري معه المرء ماذا يقول، ولا ماذا يفعل، حتى مثل بعض أهل العلم على ذلك: بأنه إذا ألقى ولده من مكان شاهق، أو نزل إلى الوادي فقتله، فلما أفاق من غضبه قيل له: لم قتلت ولدك؟ قال: والله ما قتلته، فكذلك لو أن واحداً بلغ به الغضب هذا المبلغ بحيث لا يدري ما يقول؟ فإنه لو قال كلمة كفر فلا يكفر بها؛ لأنه غير مكلف؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق)، وهذا الذي بلغ به الغضب هذا المبلغ هو كالمجنون سواء بسواء، ولذلك لو نكح لا ينعقد نكاحه، ولو طلق لا يقع طلاقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق)، أي: شدة الغضب. وهناك غضب بسيط يستطيع الإنسان فيه أن يكبح جماح نفسه، وهذا الغضب يسميه ابن تيمية: الغضب البسيط، وهذا النوع من الغضب تترتب عليه الأحكام، فإذا طلق رجل امرأته في هذا الغضب فإنه يقع. وهناك غضب بين هاتين المرحلتين، أو بين هذين الغضبين: الإغلاق والبسيط، وهو غضب شديد يدرك معه المرء ما يقوله، ويستطيع أن يكبح جماح نفسه، فالجمهور على أن هذا الرجل إذا نطق بكلمة الكفر كفر، وإذا طلق وقع طلاقه، والأحناف بخلاف ذلك، ولذلك عندما تذهب إلى الأزهر وتقول: طلقت امرأتي وأنا غاضب؟ فيقولون لك: لم يقع الطلاق؛ لأنهم يأخذون بالأنفع لحياة الناس، والأزهر عندهم مذهب الأحناف، وهذا الذي تتبناه لجنة الفتوى بالأزهر، بينما بعض أهل العلم في الأزهر يقولون بمذهب الجمهور، وبهذا التقسيم الذي قسمه ابن تيمية في الغضب، لكن تجد العوام الذين عرفوا توجه الأزهر من أمكر خلق الله! فتجد أحدهم يدخل على العالم فيقول: يا شيخ أنا كنت غضبان. من غير أن يقول له: أنا طلقت، أو لم يطلق، أو أي شيء آخر، ثم يقول له العالم: أنت كنت غضباناً إلى درجة أنك ممكن تقتل ابنك؟ فيقول له: لا، أنا كنت غضباناً وغير مرتاح، وكنت أصيح وغير ذلك، فيقول له: ومن الذي أغضبك؟ فيقول له: فلان وفلان، يعني: أنت كنت في أتم عقلك وإدراكك أن فلاناً وفلاناً كانوا موجودين؟ فيقول: نعم، إذاً طلاقك قد وقع، فيقول له: يا شيخ هم يقولون لي: إن الأزهر يقول: إن الغضبان لا يقع طلاقه، يعني: هو أتى ومعه فتواه، فيفاجأ بأن الأزهري يقول له: إن طلاقه قد وقع، ويقول له: اذهب وتزوج واحدة أخرى، ويذهب فيتزوج واحدة أخرى وهكذا، والشيخ إذا قلت لهم أي شيء يقول لك: ما دام هكذا خيرنا في مذهب الأحناف. وقال تعالى: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، فنص تعالى على أن الكلام في آيات الله تعالى منه ما هو كفر بعينه، يعني: بمجرده هو كفر، وأمرنا بترك مجالستهم. وقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:65 - 66]، فنص الله تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى، أو بآياته، أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، يعني: لم يعلق الكفر على معرفته بما في قلوبهم، وإنما على مجرد الاستهزاء، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى. ثم قال: الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر، وهذا باتفاق، فالصلاة من الإيمان وجحودها كفر، والنطق بشيء مما قام البرهان بأن النطق به كفر كفر، إذاً ترك العمل المتفق على أنه من الإيمان جحوداً كفر، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج من الإيمان، فمن جحد شيئاً من ذلك فقد كفر. وبالتالي فيكون هذا كفر بالعمل والاعتقاد أننا نقول: جحد، لكن هل يمكن أن يقع الكفر بالقول؟ نعم، وهذا القول جاء بالنص أو انعقد الإجماع على أن قائله كافر، قوله: والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر كذلك، يعني: يريد أن يقول لك: عندي الآن ثلاثة إجماعات: إجماع أن من اعتقد شيئاً هو كفر

تفسير الهراسي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)

تفسير الهراسي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) وقال عماد الدين الهراسي الشافعي في أحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] فيه دلالة على أنه اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه؛ لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك، ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر، فلو أتى شخص الآن يستهزئ بآية من آيات الله عز وجل، فنقول له: أنت كافر بذات الاستهزاء لا بعلامة قلبية تدل على كفرك، يعني: الاستهزاء وحده الذي هو إما عمل جوارح أو قول لسان يكفر به القائل أو العامل، وإن لم يكن مستحلاً لذلك اعتقاداً.

تفسير أبي بكر بن العربي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)

تفسير أبي بكر بن العربي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) وقال أبو بكر بن العربي إمام المالكية في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، يعني: إذا استهزءوا بآيات الله، وخاضوا ولعبوا فيها، إما أن يكون هذا الخوض واللعب على سبيل الجد أو على سبيل المزح، وليس هناك أمر ثالث غيرها. قال: وهو كيف ما كان كفراً، سواء كان جداً أو هزلاً، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، يعني: أن هذه من مسائل الإجماع عند الأمة، فإذا حصل الاستهزاء بآيات الله تعالى وأحكامه، وشرعه، ورسله، وأنبيائه، فإن ذلك كفر بالإجماع، سواء قالها أو فعلها جاداً أو هازلاً، {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66]، أي: لا تنفعكم المعذرة، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، هل يمكن أن يطلق الكفر هنا على الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة؟ إذا كان كذلك فما معنى قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، فذكر الكفر في مقابل الإيمان الذي يدل على زوال الإيمان بالكلية.

قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى

قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى وقال ابن عبد البر بعد أن نقل كلام إسحاق بن راهويه -الإجماع السابق- أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر، أي: أن ابن عبد البر أيضاً ينقل الإجماع على أن من وقع في شيء من ذلك حتى وإن كان مقراً به فهو كافر.

قول الجويني رحمه الله تعالى

قول الجويني رحمه الله تعالى وقال الإمام الجويني إمام الحرمين نقلاً عن الأصوليين: إن من نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً وباطناً إذا كان هذا بغير إكراه، أي: أن من نطق بكلمة الكفر أو الردة فهو كافر مرتد، وإن زعم أنه ورى في كلامه، أي: استخدم التورية.

تفسير الرازي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)

تفسير الرازي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) وقال فخر الدين الرازي في كتاب مفاتيح الغيب عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، الآية دالة على أحكام: الحكم الأول: أن الاستهزاء بالدين أياً كان كفر بالله تعالى، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف بدين الله تعالى، أو بشيء منه. الحكم الثاني: أنه يدل على بطلان قول من يقول: الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب، يعني: أن هذا رد على من يزعم أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال أو التكذيب أو الجحود، مع أن هذا هو مذهب المرجئة، فهم يقولون: لا كفر إلا بالجحود والاستحلال والتكذيب! وليس كذلك، بل يكفر المرء بالقول المجرد إذا كان كفراً، وبالفعل المجرد إذا كان من أفعال الكفر. الحكم الثالث: أن قولهم هذا الذي صدر منهم كفر في الحقيقة، وإن كانوا منافقين من قبل، إذ إن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحال. الحكم الرابع: أن كفر هؤلاء إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين، أي: أنهم قد خرجوا من الملة بعد إيمانهم.

قول الكاساني رحمه الله تعالى

قول الكاساني رحمه الله تعالى أما الإمام الكاساني إمام من أئمة الحنفية فقال: وأما بيان أحكام المرتدين فالكلام فيه في مواضع: في بيان ركن الردة، وفي بيان شرائط صحة الركن، وفي بيان حكم الردة، فقال: أما ركنها -أي: ركن الردة الذي تتكون منه الردة-: فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، أي: إجراء كلمة الكفر على جارحة اللسان، وهذا عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال، وإن لم يصحب ذلك استحلال قلبي أو عقدي، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان، فالرجوع عن الإيمان يسمى ردة في عرف الشرع.

قول فخر الدين الفرغاني رحمه الله تعالى

قول فخر الدين الفرغاني رحمه الله تعالى وقال فخر الدين الفرغاني الحنفي في فتاويه: رجل كفر بلسانه طائعاً وقلبه على الإيمان يكون كافراً ولا يكون عند الله مؤمناً. يقول له: رجل تكلم بكلمة الكفر فهل يكفر بذلك؟ قال: هو كافر ظاهراً وباطناً، أي: كافر عند الناس وعند الله، وإن لم يعتقد كلمة الكفر بقلبه؛ لأن الأحكام في الدنيا تجري على الظاهر، والرجل ليس مجنوناً ولا سكران، وإنما أتى إلي وقال: أنا مرتد، أنا كافر، أو أنه سب الله، أو سب رسوله، أو سب الدين، أو سب الشرع، أو سجد لصنم، أو رمى المصحف في القاذورات، أو وطئه بقدمه، فهذه كلها أفعال مسلم، ومع أنها أفعال فهو يفعل ذلك ويقول: أنا مقر بأن هذا هو كتاب الله، وأنا أحب كلام الله، مع أنه مستمر في أثناء مدحه لكلام الله في وطء المصحف! والحقيقة في الامتحان العام الماضي في جامعة الأزهر أنا أعجبت بشهامة أحد الأساتذة، فقد حكم على طالب بالردة، وذلك أن هذا الطالب عندما ذهب إلى الحمام من أجل أن يخرج الربع الذي جاءه في الامتحان من المصحف، ويضعه في جيبه ويذهب يغش منه على عادة كثير من طلبة الأزهر، ثم لما شعر بأن المراقب يراقبه ألقى المصحف في الحمام وشغل السيفون من أجل أن يذهب المصحف مع المياه إلى المجاري، ومع هذا ضبط وانتزع المصحف من عين الحمام، ولا شك أن إدارة الأزهر إنما نظرت إلى القضية قضية غش في الامتحان، لكن أحد الأساتذة -فتح الله عليه- نظر إليها من منظور إيماني آخر وقال: هذه من مسائل الإجماع التي انعقد الإجماع على كفر فاعلها، وحكم على الطالب بالردة، وأثارت هذه القضية جدلاً عظيماً جداً حتى على صفحات الصحف في شهر خمسة الماضي، وانتصر هذا الأستاذ على بقية أساتذة الأزهر الذين نظروا نظرة إدارية إلى هذه المقولة التي ذكرناها: أن هذه من مسائل الإجماع، وقال لهم: أنا أين أذهب بالإجماع؟! وقال لهم: هذا استهزاء بكتاب الله، وهذا الإجماع على كفر من فعل ذلك.

قول أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى

قول أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى وقال أبو الفرج بن الجوزي: إن عبد الله بن أبي -زعيم المنافقين- ورهطاً معه كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، يعني: يا محمد سامحنا نحن لم نكن نقصدك، نحن كنا نلعب مع بعضنا، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [التوبة:65]، أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء، {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] أي: نلهو بالحديث، فقل لهم يا محمد: {قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:66]، أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان، وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.

قول جلال الدين بن نجم رحمه الله تعالى

قول جلال الدين بن نجم رحمه الله تعالى وقال جلال الدين بن نجم المالكي: وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه. وانظر إلى هذا الكلام الجميل، يعني: لو ذهبت إلى كتب الفقه في باب الردة، أو إلى أي كتاب من الكتب التي صنفت في الردة فستجد هذه النصوص وهذه الإجماعات، والواحد منا إذا وقف أمام هذه الإجماعات كلها فيجد الأمة مجمعة على كفر من قال قولاً هو ردة من غير عذر، أو تلفظ بلفظ يقتضي الكفر، أو عمل عملاً يتضمن الكفر. قوله: وظهور الردة، أي: كيف تظهر الردة؟ قال: إما أن يكون بالتصريح بالكفر، كأن يقول الرجل: أنا كافر، وقد تحققت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، فهل ستقول: لا عليك أنت مؤمن؟! لا، بل لو صرح بالكفر وإن كان في عقيدة نفسه ليس يعتقد الكفر فقد كفر بذلك، كذلك لو أتى الآن شخص وقال: يا شيخ! أنا مرتد عن دين الإسلام، فهل أقول له: تعال، كيف ارتديت؟ وما هي القصة والرواية؟ لا، فهذا ليس من شأني، أنا ما علي إلا أن أتحقق من الشروط وانتفاء الموانع فقط، فإذا تحققت فيه الشروط من التكليف، والعقل، والتمييز، والإدراك وغير ذلك أنظر بعد ذلك في الموانع، هل هو مكره؟ هل هو مجنون؟ ثم تنتهي القضية على هذا، مع بقية البحث في الشروط والموانع، فإذا تحققنا من هذا وذاك حكمنا عليه بالردة. بل الذي حكم على نفسه بالردة، أو أنه تلفظ بلفظ يقتضي الكفر، أو بفعل يتضمنه، فقد انعقد الإجماع على أنه يكفر بذلك.

قول برهان الدين محمد بن أحمد رحمه الله تعالى

قول برهان الدين محمد بن أحمد رحمه الله تعالى وقال برهان الدين محمد بن أحمد الحنفي في كتابه المحيط: من أتى بلفظة الكفر مع علمه بأنها لفظة كفر -انظر الكلام الجميل- عن اعتقاده فقد كفر ولو لم يعتقد. أي: لو أن رجلاً قال: أنا كافر، وهو يعتقد أن من قال هذه الكلمة كفر بها وإن لم يعتقد هو، إذاً كيف تجري الأحكام في الدنيا على الظاهر؟! الرجل هذا يعلم أن من نطق بكلمة الكفر كفر بها، وهو قد نطق بها وإن لم يعتقدها فهو مع ذلك كافر؛ لأن الأصل الظاهر. قوله: ولو لم يعتقد، أي: لم يعلم أنها لفظة الكفر، لكن أتى بها عن اختيار، فقد كفر عند عامة العلماء، وهذه المسألة التي سألني عنها الأخ في الدرس الماضي: لو أن واحداً سب الله تعالى وهو لا يعلم أن سب الله كفر، فهل يكفر بذلك؟ قلنا: نعم يكفر بذلك، قال: يا شيخ! أنت قلت: من موانع التكفير: الجهل فكيف ذلك؟ A أن سب الله ليس من المسائل الخاضعة للعذر بالجهل، وإنما يكفي أن يعلم أن هذا اللفظ وهذا السب حرام، وهذا عند عامة العلماء، وبعضهم قال: لا يكفر إلا إذا علم أن هذا كفر. قال: أو لم يعلم أنها لفظة الكفر، ولكن أتى بها عن اختيار فقد كفر عند عامة العلماء، ولا يعذر بالجهل، ومن كفر بلسانه طائعاً، أي: غير مكره، وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر، ولا ينفعه ما في قلبه، يعني: لو كفر بالقول وهو معتقد بالإيمان لا ينفعه ما كان في اعتقاده، وإنما يكفر بالقول الصريح.

قول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى

قول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى وقال ابن قدامة المقدسي الإمام الحنبلي عن المرتد: يفسد صومه، وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت -وهذا الشاهد- ردته في اعتقاده ما يكفر به أو بشكه فيما يكفر بالشك فيه. أي: أن الرجل إذا ارتد في أثناء النهار وهو صائم، فعليه أن يعيد صيام هذا اليوم، وهذه ليست قضيتنا، وإنما قضيتنا هي قوله: والردة تحصل باعتقاده ما يكفر به. أي: أنا رجل من أهل العلم وأعتقد أن من سب الله كفر، أو أنا رجل أطلب العلم وسمعت علماء يقولون: إن من سب الله كفر، إذاً تكونت لدي العقيدة أن سب الله كفر، ومع هذا لو سببت الله تعالى فإنني أكفر بذلك؛ لأنني اعتقدت آنفاً أن من سب الله كفر. قال: ويكفر بشكه فيما يكفر بالشك فيه، أي: لو أن واحداً الآن قلت له: كم إلهاً للكون؟ يقول: والله أناس يقولون: إله، وأناس يقولون: اثنان، وأنا في الحقيقة أمشي مع الناس وخلاص، ولا أعرف هو له إله أو اثنان، فإننا في مثل هذا نقول: إنه كافر؛ لأن هذه من مسائل الإجماع. قال: وتكون الردة باعتقاد ما يكفر به، أو بالشك فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئاً أو غير مستهزئ، أي: العالم والجاهل كلاهما سواء في ذلك. وقال ابن الحاجب المالكي: الردة هي الكفر بعد الإسلام -هذا تعريف الردة- وتكون بصريح وبلفظ يقتضيه، وبفعل يتضمنه، يعني: إما أن يتلفظ بقول صريح في الكفر، أو يفعل فعلاً يتضمن الكفر.

قول النووي رحمه الله تعالى

قول النووي رحمه الله تعالى وقال الإمام النووي في كتابه العظيم وعمدة فقه الشافعية (روضة الطالبين): الردة هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول المجرد الذي هو كفر، وتارة بالفعل المجرد الذي لا علاقة له بالاستحلال القلبي ولا الجحود. قال: والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء -الجد واللعب- كالسجود للصنم، أو الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، وذكر كلاماً طويلاً.

قول شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى

قول شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى وقال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي: الكفر قسمان: متفق عليه، ومختلف فيه، فالمتفق عليه نحو الشرك بالله، وجحد ما علم من الدين بالضرورة، كجحد وجوب الصلاة والصوم ونحوهما، والكفر الفعلي: نحو إلقاء المصحف في القاذورات، وجحد البعث أو النبوات، أو وصفه تعالى بكونه لا يعلم ولا يريد أو ليس بحي ونحو ذلك، فهذا الكفر المتفق عليه صوره على نوعين: منه ما هو متفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه. قال: وأما المتفق عليه فمنه ما هو اعتقادي، ومنه ما هو عملي يكفر، ونحن قبل هذا قد قلنا في الدرس الماضي: من الأخطاء الشنيعة الشائعة بين الناس تقسيم الكفر إلى نوعين: اعتقادي وعملي، أما الاعتقادي فلا يخرج المرء من الملة إلا به، وأما العملي فكله ليس مخرجاً من الملة، وهذا خطأ عظيم جداً في الاعتقاد؛ لأن الكفر الاعتقادي كله مخرج من الملة مع انتفاء الموانع وتحقق الشروط. والكفر العملي منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما ليس بمخرج من الملة. قال هنا: الكفر قسمان: متفق عليه اعتقادي وعملي، وذكر أمثلة للعملي، فقال: إنكار النبوات، وإنكار البعث، أو إلقاء المصحف في القاذورات، ووصفه تعالى بأنه لا يعلم ولا يريد، وغير ذلك من إنكار صفات الله تعالى. أما المختلف فيه فقد توقف عند هذا الحد في أنواع الفروق كأنه باب طويل. قال: وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلى، ويكون الكفر بفعل كرمي المصحف في القاذورات، أي: يقع الكفر بمجرد الفعل أو بالفعل المجرد، مثل: إلقاء المصحف في القاذورات، أو السجود لصنم، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم. قال: الردة عبارة عن قطع الإسلام من مكلف -وفي غير البالغ خلاف- إما باللفظ، أي: الردة إما أن تكون باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء.

قول ابن تيمية رحمه الله تعالى

قول ابن تيمية رحمه الله تعالى أما شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فقد تكلم في كلام طويل اجتزئ منه قوله: أن من سب الله، أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرماً، أو كان مستحلاً له، أو كان جاهلاً عن اعتقاده، ثم قال: وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين: بأن الإيمان قول وعمل. وقال: إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: أنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وهذا كلام المرجئة، وإنما نقله القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوه عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جارياً على أصولهم، أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء، وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل ألبتة. وأنا أرى أننا قد قرأنا كل النصوص، وبالتالي لا نخرج إلا بالنتيجة التي خرجنا بها الآن وهي: أن الكفر كما يكون بالاعتقاد يكون بالقول وإن لم يستحل أو يجحد أو يكذب، وكذلك بالفعل وإن لم يصحبه استحلال ولا تكذيب ولا جحود، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد رأيتم على ذلك نصوصاً من إجماعاتهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

كتاب القدر - مراتب القدر وبيان أن الله خالق الخير والشر

شرح كتاب الإبانة - كتاب القدر - مراتب القدر وبيان أن الله خالق الخير والشر القدر سر من أسرار الله في خلقه، فالله عز وجل خلق الخلق وقدر أعمالهم وأعمارهم، وكتب في اللوح المحفوظ مآل كل واحد من خلقه ومصيره، فجعل الهداية طريق بعضهم إلى جنته برحمته، وجعل الضلالة طريق البعض الآخر إلى النار بعلمه وحكمته.

نشأة القدرية وما أنكروه من مراتب القدر

نشأة القدرية وما أنكروه من مراتب القدر الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: ففي أول شرحنا لكتاب ابن بطة عليه رحمة الله قلنا: إن الكتاب مكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الكلام عن الإيمان وما يتعلق به من مسائل، وهو يقع في مجلدين، وقد فرغنا منهما والحمد لله تعالى، ثم لخصنا الكلام فيما يتعلق بالإيمان ومسائل الكفر في محاضرتين أو ثلاث تلخيصاً بإذن الله تعالى لا يكون مخلاً بالمقصود. الجزء الثاني من الكتاب وهو الذي يبدأ في الجزء الثامن: ما هو القدر؟ وما هي مسائله ومراتبه؟ ثم معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر، ثم الرد على من أنكر القدر، أو الرد على من قال: إن الإنسان مخير مطلقاً أو مسير مطلقاً. وهذا الكلام كله يقع في مجلدين كذلك. الجزء الثالث من الكتاب: الرد على الجهمية، ويقع في مجلدين كذلك. وبالتالي فيكون مجموع الكتاب ستة مجلدات، اثنان منهم في الإيمان، واثنان في القدر، واثنان في الرد على الجهمية. وموعدنا بإذن الله تعالى الليلة في الكلام عن القدر، وكل مسألة من هذه المسائل الثلاث أخذها طالب كرسالة دكتوراه أو ماجستير وبحثها، وكمنهج أكاديمي في الجامعة وفي الدراسة، إذ إنه لا بد من صناعة مقدمة لكل رسالة، فنجد -مثلاً- في هذا المجلد الثالث -وهو الأول من كتاب القدر- أكثر من مائتين وخمسين صفحة مقدمة، أظن أننا نكتفي بالدخول على المراد مباشرة من كلام المصنف، ولا حاجة بنا أن نعرج على كلام هذا الدارس أو هذا الطالب الذي صار دكتوراً أو أستاذاً كبيراً الآن، لكن على أية حال إنما يكفينا أن ندخل في القدر مباشرة. والقدر تعلمون أنه سر من أسرار الله تعالى في خلقه، فقد ضلت فيه طوائف كثيرة خاصة في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ذلك من الصحابة، لكن هذه البدعة أول ما ظهرت في البصرة على يد الجعد بن درهم، وذلك لما قال: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فأتى حميد بن عبد الرحمن وغير واحد إلى المدينة فقالوا: لعلنا نوفق إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أن وفقهم الله تعالى لـ أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر: فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فقلت: لعل صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم. أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة. يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف. وكأن أبا عبد الرحمن قال: أوقد فعلوها؟ أوقد ظهروا؟ وكأن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرهم من ذلك، فقال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: لست منهم وليسوا مني، وقد أخبرني أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -هذا هو الإسلام- قال: صدقت. قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) وأعجب من ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن القدر وعن الكتابة والعلم السابق أخرج إبهامه فوضعه على لسانه ثم طبع به في كفه وقال: إن هذه لمكتوبة في اللوح المحفوظ، وإن الله تعالى علم أن علياً سيفعل ذلك في الأزل. ولذلك ذهب الإمام النووي إلى نقل الإجماع على أن من أنكر علم الله تعالى فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة.

مراتب القدر

مراتب القدر أما قوله: (إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) فهذا يعني: أنهم كفار وليسوا بمسلمين ألبتة؛ لأنهم أنكروا المرتبة الأولى والعظمى من مراتب القدر، وهي: إثبات علم الله عز وجل لأفعال المخلوقين، فالله تبارك وتعالى علم ما الخلق عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فلما علم الله تعالى أن عباده سيفعلون الخير قدر لهم ذلك ويسره لهم، وعلم أن من عباده من سيختار طريق الشر ويعمل له، فقدر له الشر ويسر له طريق الشر، وفي المقابل جعل للفريق الأول الجنة وللثاني النار، فخلق الجنة وخلق النار، وجعل لكلٍ أهلاً وسكاناً، وقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت). فالله تعالى علم ذلك في الأزل، فلما علم ذلك كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، كتبه في اللوح المحفوظ فهو عنده تحت العرش، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). فهل يكتب الله تعالى ما لا يعلمه؟ وهل يخفى على الله تعالى شيء؟ إن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فلما علم الله تعالى ذلك في الأزل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتبه كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ، بخلاف الكتابة التي في أيدي الملائكة وفي أيدي الحفظة وفي أيدي الكتبة، فإنها تقبل المحو والإثبات، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. فقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، أي: بأيدي الملائكة في هذه الكتب التي معهم، أما الكتاب الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما أثبته الله تعالى فيه بقلم القدرة: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما أمر)، أي: كتب القلم ما أمره الله عز وجل، وهذا الكتاب الذي كتبه الله عز وجل بقلم القدرة عنده تحت العرش لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما فيه، وهو الذي يستقر عليه الأمر. أما الكتب التي بأيدي الملائكة فإنها تقبل المحو والإثبات على حسب أعمالهم أو أعمال العباد، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر. المرتبة الثانية: مرتبة علم الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد الذين لم يخلقهم بعد، فكيف بمن خلقهم سبحانه وتعالى، فهو العليم وهو البصير وهو الخبير، علم ما العباد عاملون قبل أن يخلق العباد فكتب ذلك، والعلم ثم الكتابة مرتبتان من مراتب القدر من أنكرهما كفر باتفاق. المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة أو المشيئة على خلاف ونزاع بين العلماء فيما يتعلق بحقيقة المشيئة وحقيقة الإرادة، والإرادة إرادتان: إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أمرك الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد وغير ذلك من الأوامر، فإذا فعلت ذلك فأنت محبوب عند الله عز وجل؛ لأنك عملت بفضل الله وقدرته ما أمرك به شرعاً، فإذا فعلت ذلك وامتثلت الأمر واجتنبت النهي فإنك حينئذ تدخل في محبة الله عز وجل، فهذه هي الإرادة الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، من وفق لها فقد وفق للخير ودخل في مرضاة الله عز وجل. الإرادة الثانية: إرادة كونية قدرية، لا أقول: مبناها على المحبة والرضا، فمنها ما يحبه الله، ومنها ما يغضب الله ويسخط على فاعله، لكن هل هذا الفاعل للشر يمكن أن يفعل الشر بغير إرادة الله؟ لا، إذ لا يمكن لأحد قط من المخلوقين أن يفعل فعلاً إلا وقد أذن الله به إما إذناً شرعياً دينياً -كما هو المرتبة الأولى من مراتب الإرادة- أو إذناً كونياً قدرياً، وكونياً أي: وقع في الكون، وقدرياً أي: بقدرة الله عز وجل وإرادته، لأن العبد لا يستطيع أن يفعل شيئاً رغماً عن الله، أو بغير إرادة الله، فكل ما يقع في الكون من خير أو شر يكون بإرادة الله، أما الله تعالى فيثيب من فعل خيراً ويعاقب من فعل شراً، ويعاقبه وقد قدره عليه لأنه أفرغ له العذر ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، والعقل الذي هو مناط التكليف، فلو أنك الآن أردت أن تذهب إلى بلد ما من البلدان، ويؤدي إلى هذا البلد طريقان: أحدهما معبد ممهد، والآخر مليء بالحجارة والتكسير وغير ذلك مما يعرقل حركة السير، فأي الطريقين تسلك حينئذ؟ لا شك أنك ستسلك الطريق المعبد، وهو طريق الأنبياء إلى الله عز وجل. ثم من منا لا يعلم أن الزنا حرام؟ ومع هذا يختار لنفسه الزنا، من منا لا يعلم أن القتل حرام؟ ومع هذا يقترفه، ومن منا لا يعلم أن شرب الخمر حرام؟ ومع هذا يقع فيه باختياره، فلما علم الله تعالى سلفاً أن هذا العبد يخالف طريق الأنبياء، وكان عاقلاً مكلفاً مميزاً وقت ارتكابه للفعل الحرام، ومع هذا قد اختاره على الحلال وجعل الحلال خلف ظهره، كتب الله عز وجل ذلك عليه، فكيف يكون الإنسان حينئذ مسيراً؟ لا بد أن العبد قد اختار هذا الفعل بمحض إرادته؛ لأنه يعلم أ

مقدمة المؤلف في أول جزء في القدر

مقدمة المؤلف في أول جزء في القدر

هداية البشر وضلالهم بإرادة الله عز وجل

هداية البشر وضلالهم بإرادة الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله، أهل الحمد ووليه، المنان الجواد، الذي ثوابه جزل -أي: كثير- وعطاؤه فضل، وأياديه متتابعة، ونعماؤه سابغة، وإحسانه متواتر، وحكمه عدل، وقوله فصل، حصر الأشياء في قدرته]، أي: جعل كل شيء في قدرته ومشيئته، فلا يكون في الكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته، وهكذا السلف رضي الله عنهم إذا أراد أحد منهم أن يكتب رسالة أو يصنف كتاباً جعل مقدمة الكتاب دليلاً للموضوع، فإذا أراد أن يتكلم عن الإيمان جعل لهذا الكتاب مقدمة طويلة جداً في الإيمان ومسائل الإيمان واختلاف أهل العلم في بعض قضايا الإيمان وغير ذلك، ومثله إذا تكلم في القدر، أو في الملائكة، أو في الإنس، أو في الجن جعل المقدمة مناسبة للموضوع ودليلاً عليه ومدخلاً له. قال: [حصر الأشياء في قدرته، وأحاط بها علمه] إذاً: تكلم هنا عن مرتبة العلم، وأيضاً مرتبة الإرادة. قال: [ونفذت فيها مشيئته] وهذه مرتبة من المراتب. قال: [وصلى الله على خير خلقه محمد النبي وآله وسلم. أما بعد: يا إخواني! وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها]، وأقصد الطريق بمعنى: أقصرها وأقربها، ولذلك أنت دائماً تقول لآخر: أنت تكلمني كثيراً، أنا أريد أن تعطيني الموضوع مباشرة، أي: تدخل في الموضوع مباشرة من أقصر وأقرب طريق. قال: [وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها، وأرشد السبل وأسواها، فهي طريق الحق التي اختارها وارتضاها، واعلموا أن طريق الحق أقصد الطرق]، أي: أن طريق الحق أقصر وأقرب الطرق في الوصول إلى الله عز وجل. قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله في كتابه وجاءت به رسله]، انظر مراد الله تعالى يتحقق في العباد بأمرين اثنين لا ثالث لهما: بالكتاب والسنة، فهل يمكن لأحد أن يزعم أو يدعي أن الله تعالى أراد منا غير ما طلبه في كتابه وفي سنة رسوله؟ وهل يزعم أحد أن مراد الله تعالى من عباده خارج عن نطاق الكتاب والسنة؟ إذاً: أنت عندما تريد أن ترضي إنساناً مستحيل أن ترضيه أبداً؛ لأنه يتلوى ويتلون ويتلطف في مراداته ولا يكاد يفرغ منها، فكلما أرضيته بشيء طلب المزيد، وكلما أرضيته بالمزيد طلب أكثر من المزيد، بحيث تعجز أنت في النهاية عن تحقيق مراده ومرضاته، وإذا رضي عنك اليوم سخط عليك غداً، والعكس بالعكس. أما الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- ورسوله عليه الصلاة والسلام فمرادهما في الكتاب والسنة، والله تعالى لا يطالبنا بشيء ليس في الكتاب، وكذا الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطالبنا بشيء ليس في السنة، وأريد أن أقول: إن مراد الله تعالى من العباد مذكور بغير زيادة ولا نقص في الكتاب والسنة، ويمكن بلوغ المرضاة وبلوغ الرضا لله عز وجل بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله تعالى في كتابه وجاءت به رسله، ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً]، أي: الدين ليس رأياً متبعاً من آراء الرجال، أو هوىً مبتدعاً، فدين الله تبارك وتعالى كله حق وصدق، والذي جاء في الكتاب وصحت به السنة ليس هو من الأهواء ولا البدع، وكل ما دون الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لا شك أنه إما قول لا دليل عليه، وإما هوىً مبتدعاً يأثم به صاحبه، كما قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فبين ابن القيم -عليه رحمة الله- أن العلم في الكتاب والسنة والإجماع، خاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليه. قال: [ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً، ولا إفكاً مخترعاً، وهو الإقرار لله بالملك والقدرة والسلطان، وأنه هو المستولي على الأمور]، أي: ليس أمراً من الأمور يكون في الكون إلا بإرادة الله عز وجل. قال: [سابق العلم بكل كائن] إثبات لمرتبة العلم، أي: أن الأشياء لا تقع إلا بعلم الله عز وجل، وأن الله لما علم ذلك كتبه في اللوح المحفوظ. قال: [ونافذ المشيئة فيما يريد سبحانه وتعالى، كان الخلق كله وكل ما هو فيه بقضاء وقدر وتدبير، ليس معه شريك ولا دونه مدبر ولا له مضاد سبحانه وتعالى، بيده تصاريف الأمور، وهو الآخذ بعقد النواصي، والعالم بخفيات القلوب ومستورات الغيوب، فمن هداه بفضل منه]، أي: من هداه الله فذلك بفضله سبحانه وتعالى. قال: [فمن هداه بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر] أي: ومن خذله الله تعالى فهو الضلال بعينه بلا حجة ولا عذر، وأثبت الله تعالى أن أهل الهداية إنما كانت هدايتهم بفضله ورحمته وطوله، وأثبت أن أهل الضلال لا عذر لهم بين يدي الله؛ لأن الله تعالى أفرغ لهم العذر ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وميزهم بالعقل على غيرهم، فقامت عليهم حجة الله تعالى، وحينئذ فليحيا من حي عن بينة، وليهلك من هلك عن بينة، لأن الله تعالى أفرغ عذرهم فلا عذر لهم بين يديه يوم القيامة، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. فمن لم ي

خلق الله ذرية آدم وإحصائه لأعمارهم وأعمالهم ومنتهى كل واحد منهم

خلق الله ذرية آدم وإحصائه لأعمارهم وأعمالهم ومنتهى كل واحد منهم قال: [فمن هداه الله بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر، خلق الجنة والنار] والجنة والنار مخلوقتان الآن، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فوجد أكثر أهلها المساكين والفقراء، واطلع في النار فوجد أكثر أهلها النساء. قال: [وخلق لكل واحدة منهما أهلا هم ساكنوها، أحصاهم عدداً، وعلم أعمالهم وأفعالهم، وجعلهم شقياً وسعيداً، وغوياً ورشيداً، وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة]، وهذا معروف في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] وهذه الآية معروفة بآية الميثاق، وهو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله عز وجل من ذرية آدم، وذلك لما خلقه أخرج ذريته من صلبه، وما ترك في ظهره أحداً إلا وقد أخرجه مؤمنهم وكافرهم، ثم أخذ الله تعالى عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، فهم قد شهدوا على أنفسهم بربوبية الله عز وجل وإلهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه الإله الحق وما دونه آلهة مزعومة باطلة لا تستحق العبادة، ولذلك أخرج الله ذرية آدم من ظهره كالذر وأخذ عليهم العهد وهم على هذه الصورة، أي: على صورة الذر، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً. قال: [وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة، وقدر أعمالهم، وقسم أرزاقهم، وأحصى آجالهم، وعلم أعمالهم، فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: أن كل واحد يسعى في رزق مقسوم من قبل، ومقدر ومعلوم لله عز وجل، ولذلك سأل غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! فيم العمل، في أمر قد قدر وفرغ منه، أم في أمر سيكون؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: في أمر فرغ منه. فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن قد يقول قائل: أنا من أهل النار! فما عرفك أنك مكتوب في اللوح المحفوظ من أهل النار؟! وحتى وإن كنت شقياً فالأعمال بالخواتيم، ولذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار)، أي: في حياته كلها. (حتى ما يكون بينه وبينها)، أي: النار. (إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: (والأعمال بالخواتيم) فالإنسان لا يدري ماذا سيختم له، أو فيم يختم له، وإذا كان الإنسان لا يعلم أهو شقي أم سعيد، فالصحابة رضي الله عنهم -بل المبشرون منهم بالجنة- ما كانوا يأمنون من مكر الله. فهذا عمر يقول: لو أن الناس نودوا يوم القيامة: ادخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد. مع أنه مقطوع له بدخول الجنة. وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. مع أن أبا بكر يعلم أن إيمانه يساوي إيمان الأمة وزيادة، لكن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، وهذا عنوان المؤمن: يعبد الله تعالى بالخوف والرجاء، الخوف من ناره وعذابه، والرجاء في رحمته والطمع في جنته. أما الذي يعبده بالخوف فقط فإنه يذهب في آخر أمره إلى اليأس من رحمة الله، وربما ينتحر؛ لأنه آيس من رحمة الله، والذي يعبد الله تعالى بالرجاء فقط لا بد أن يفرط في فرائض الله تعالى وأوامره، فإذا قيل له: صل أو صم أو زك أو حج أو افعل ما أمر الله أو انته عن ما نهاك الله عنه، قال: رحمة ربك وسعت كل شيء! الله تعالى سيرحمنا! فيترك كل شيء ويفرط في كل شيء؛ اتكالاً على رحمة الله وعلى عفو الله، ولا شك أن هذا عبد هالك، وربما أدى به ذلك إلى الكفر بالله عز وجل، ويدخل في إجماع أهل العلم: أن من نطق بالشهادتين ولكنه ترك العمل كله، وارتكب النهي كله فهو كافر بالإجماع؛ لأنه ترك جنس العمل وقارف جنس النهي. قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: معلوم لله تعالى، وعلم الله ذلك في الأزل، وفي الحديث الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فانظر الملك يكتب الرزق والأجل والعمل وإذا كنت من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، وبالتالي إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أمران: الأول: ألا نتكل على ذلك؛ لأن الذي كتب ذلك أمرنا بالسعي في تحصيل أسباب السعادة والهروب من أسباب الشقاء، وإلا لكان بإمكان النبي -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- أن يمكث في مكة ويدعو على أهل مكة، وأنتم تعلمون أن دعاء النبي مستجاب، وكان بإمكانه عليه

السعي والعمل بين الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها

السعي والعمل بين الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم، وعمل محتوم إلى أجل معلوم]، أي: أن كل أحد يسعى إلى رزق مقسوم الله تعالى قسمه وعلم ذلك، لكن لا بد أن تسعى، وقديماً قال السلف: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد، فلو مرض أحدنا ثم ذهب إلى الطبيب، واعتقد أن هذا العلاج هو الشافي، فهذا شرك مع الله عز وجل، إذ إن العلاج سبب لحصول الشفاء وليس هو الشفاء، أو ليس هو الشافي، لأن الشافي هو الله عز وجل. أيضاً: واحد يظن أن هذا الطعام الذي يأكله هو الشبع بعينه، لا، إذ الطعام سبب للشبع، والشراب سبب للري، ولذلك اثنان أحدهما يأكل أكثر من الآخر، أو يأكل أضعافه ولا يشبع، كأن يقعد على المائدة فيأكل عشر دجاجات ويقوم وهو مقهور، والآخر يأكل في أول الطعام نصف رغيف فيشبع، بل ولا يجد له مسلكاً أو موضعاً. إذاً: الطعام سبب، أما أنه يحصل به الشبع مجرداً فلا، إذ إن هذا بقدرة الله عز وجل، ولذلك المريض يقعد أسبوعاً وأسبوعين لا رغبة له للطعام والشراب، ولا يريد أحداً أن يرغمه على الأكل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإنما يطعمهم الله تعالى ويسقيهم). وقول السلف: وترك الأسباب قدح في التوحيد. فلو أن مريضاً ذهب إلى الدكتور وصرف له علاجاً، ثم قال: هذا العلاج هو الشافي، فقلت له: أنت بهذا تكون مشركاً، لكن لو أن المريض لم يذهب إلى الدكتور أبداً، وأقعد في المرض حتى مات، فإن هذا قدح في التوحيد، إذاً ما المطلوب مني؟ مطلوب مني أن أقول: الخير كله من عند الله عز وجل، والذي بيده الخير والشر هو الذي أمرني بالسعي والبحث. كذلك: آخر يقول: الله ربنا قادر على كل شيء، قادر من جهة القدرة أن يرزقني ولداً بغير زوجة، إذ إنه خلق عيسى عليه السلام بغير أب، وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهذا دليل القدرة، ونحن لسنا في حاجة إلى دليل لقدرة الله عز وجل؛ لأننا نعتقد أن الله على كل شيء قدير بغير نماذج ولا أمثلة، لكن الله تعالى أعطانا نماذج حتى تكون نبراساً لنا، لكن هذا الرجل قاعد ومعه فلوس ولا يعمل شيئاً، فإذا قلت له: تزوج يا فلان، قال: لا، وبعد الصلاة قعد في البيت يقول: يا رب! ارزقني الولد الصالح! كيف يرزقه الولد الصالح وهو لم يتزوج بعد؟! يقول: الله قادر على كل شيء! إذاً: ترك الأسباب قدح في التوحيد، أي: من توحيد الله عز وجل أن تسعى لتحصيل أسباب الحياة، فمن أجل الولد لا بد أن تسعى في الحصول على زوجة، ومن أجل الشبع والري لابد أن تسعى في الحصول على الطعام والشراب، ولا تقول: يا رب! أشبعني! وأنت لم تتناول الشراب أو الطعام، وتقول: أنا لا آكل ولا أشرب؛ لأن ربنا قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]! وقد يقولون: العمل شرك بالله! مع أن الأنبياء كانوا يعملون، وربنا أمر المؤمنين بالعمل، وليس هناك آية في كتاب الله عز وجل إلا وجمعت بين الإيمان والعمل، آمنوا وعملوا، فالعمل من الإيمان. لذا فلا يصح لأحد أن يقول: أنا أترك العمل لأنه شرك! إن ترك العمل وترك الأسباب قدح في التوحيد، أنا ممكن أن أشتغل كل النهار، ثم يأتي إلي رب العمل فيضحك علي، وما أكثر الذين يضحكون على الناس، ثم في الأخير يعطيك خروجاً نهائياً من بلده، لكن على أية حال أنت قد شرعت في الأخذ بالأسباب، والله تعالى حينئذ لا يضيعك، بل يفتح لك أبواباً أخرى أفضل من الأبواب التي أغلقت؛ لأن كل الأبواب بإذن الله تعالى وبيديه سبحانه وتعالى، فربما فتح لك وأغلق على من أغلق عليك حقك، لأن كل هذا بيد الله سبحانه وتعالى، فحينئذ يجب على العبد أن يسعى في تحصيل أسباب الحياة وأسباب الطاعة، لكن أنت تقول: أنا لا آكل ولا أشرب ولا أتزوج ولا ولا ولا، فربما يصل بك الأمر إلى أن تقول: أنا لن أصلي ولن أصوم ولن أزكي ولن أحج، وربنا قادر أن يدخلني الجنة! بل ربنا قادر على أن يدخل شارون الجنة! لكن القادر هو الذي أخبر وبين في كتابه وعلى لسان رسوله أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، إذاً شارون لن يدخل الجنة إذا مات على ما هو عليه، وهو ممكن أن يموت على الإسلام والتوحيد ويصير أحسن مني ومنك؛ لأن ذلك بيد الله عز وجل. والعجيب أن رجلاً من جنوب أفريقيا كان قد بلغ في التنصير أشده، فمكافأة له عينوه رئيس مكتب البابا الفاتيكان في روما، وقد أسلم منذ أكثر من خمسة وعشرين يوماً تقريباً، فتصور هذا الرجل وقد عين رئيساً للمكتب مكافأة له على مجهوده في التنصير في جنوب أفريقيا وشرق آسيا، وكانت له طائرة معدة خاصة تنقله من مكان إلى مكان، ومن دولة إلى دولة؛ لفرط نشاطه ومجهوده الخارق الذي يبلغ مجهود أمة، وفي يوم أن أسلم أسلم معه ثلاثون ألفاً من جنوب أفريقيا، وقد اطلعت على دعوته القساوسة والعمد الذين هم رءوساء القرى في جنوب أفريقيا، فإذا بها دعوة بسيطة جداً يستطيع أن يدعو بها أي مسلم حتى وإن لم يكن له كثير حظ من علم، فقد كان يذهب للملك أو العمدة أو شيخ القبيلة أو الق

خلق الله للخير والشر وإيجاده للعاملين بكل واحد منهما

خلق الله للخير والشر وإيجاده للعاملين بكل واحد منهما قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم وعمل محتوم إلى أجل معلوم، قد علم الله ما تكسب كل نفس قبل أن يخلقها]، إثبات مرتبة العلم. قال: [فلا محيص لها عما علمه منها، وقدر حركات العباد وهممهم]، أي: الهم بالأعمال. قال: [وهواجس القلوب وخطرات النفوس، فليس أحد يتحرك حركة ولا يهم همة إلا بإذنه، وخلق الخير والشر]، أي: أن ربنا خلق الشر، وأنت لا تذوق حلاوة الخير إلا إذا رأيت الشر، كما أنك لا تشعر بحلاوة التوبة إلا بوجود الذنب، ولكن الشر المحض ليس من أفعال الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله، لكن ما هو الشر؟ الشر الذي يحمل معه الخير، فالقتل شر، فلو أن قاتلاً قتل وأقيم عليه الحد على ملأ من الناس، وما أعظم الملأ في هذا الزمان، ملأ الإنترنت وملأ الدش وملأ التلفزيون وملأ الراديو، فتصور لو أن العالم كله -كما يجتمعون على المباريات والمغنيات وغير ذلك- يجتمعون لإقامة الحد في فلان؛ لأنه قتل بغير حق، فهل سيفكر أحد رأى هذا المشهد أن يقتل؟ لا يمكن، ولذلك يكون من الخير أن يقتل هذا ويراه طائفة من المؤمنين، وهذه الطائفة ربما سولت لها نفسها أن تقتل، لكن المرء سيفكر مليون مرة قبل أن يقتل أنه سيعرض في نفس المكان ويقام عليه الحد ويتفرج عليه الخلق، ولذلك يحجم فوراً. كذلك: النار شر وفيها الخير، فنقضي بها مصالحنا ويعذب بها من استحق العذاب وغير ذلك. أيضاً: خلق إبليس هل هو خير أم شر؟ إنه لا خالق إلا الله، فله الخلق والأمر سبحانه وتعالى، وحينئذ نقول: الله تعالى لما خلق إبليس يكون قد خلق الشر، فيكون الشر والخير من خلق الله عز وجل، ولذلك قال هنا: [وخلق الخير والشر، وخلق لكل واحد منهما عاملاً يعمل به، فلا يقدر أحد أن يعمل إلا لما خلق له، وأراد قوماً للهدى]، انظر مرتبة الإرادة. قال: [وأراد قوماً للهدى، فشرح صدورهم للإيمان وحببه إليهم وزينه في قلوبهم، وأراد آخرين للضلال]، قوله: وأراد آخرين للضلال، إرادة كونية قدرية. قال: [وأراد آخرين للضلال فجعل صدورهم ضيقة حرجة، وجعل الرجاسة -أي: الرجس والنجس- عليهم، وأمر عباده بأوامر وفرض عليهم فرائض، فلن يؤدوها إليه إلا بتوفيقه ومعونته]، حتى تعرف لما تصلي أو تصوم أو تزكي أو تحج أو تطلب العلم أن ذلك بفضل الله وتوفيقه لك. قال: [وحرم محارم وحد حدوداً، فلن يكفوا عنها إلا بعصمته]، من الذي يعصمك من الشر؟ الله عز وجل. قال: [فالحول والصول والقوة له سبحانه، وواقعة عليهم حجته، غير معذورين فيما بينهم وبينه]، أي: أنهم غير معذورين بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

سلامة الصدر الأول من المسلمين من استعمال الآراء والميل للأهواء ووقوع من بعدهم في ذلك

سلامة الصدر الأول من المسلمين من استعمال الآراء والميل للأهواء ووقوع من بعدهم في ذلك قال: [يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلم يزل الصدر الأول]، أي: القرون الأولى، خاصة قرن الصحابة رضي الله عنهم. قال: [على هذا]، أي: على هذا المعتقد جميعاً. قال: [على ألفة القلوب واتفاق المذاهب، كتاب الله تعالى عصمتهم وسنة المصطفى إمامهم، لا يستعملون الآراء، ولا يفزعون إلى الأهواء، فلم يزل الناس على ذلك والقلوب بعصمة مولاها محروسة، والنفوس عن أهوائها بعنايته محبوسة، حتى حان حين من سبقت له الشقوة]، أي: حتى جاء وقت البدعة والأهواء. قال: [وحلت عليه السخطة، وظهر الذين كانوا في علمه مخذولين]، أي: الذين سبق في علم الله أنهم مخذولون من أصحاب البدع والأهواء. قال: [وفي كتابه السابق]، أي: اللوح المحفوظ. قال: [أنهم إلى أعدائهم من الشياطين مسلمون، ومن الشياطين عليهم مسلطون، فحينئذ دب الشيطان بوسوسته فوجد مساغاً لبغيته، ومركبا وطياً إلى ظفره بحاجته، فسكن إليه المنقاد إلى الشبهات، والسالك في بليات الطرقات، فاتخذها دليلاً وقائداً، وعن الواضحة حائداً]، أي: عن الملة والشريعة حائلاً. قال: [طالب رياسة وباغي فتنة] أي: أن الذي يحيد عن الشريعة تجده إما أن يكون طالب رياسة أو زعامة، أو باغي فتنة، وأهل البدع والشرور أكثر من ذلك، فإما أن تحمله الرياسة على تنكب الطريق، أو يحمله حبه للفتن على تنكب الطريق. قال: [معجب برأيه وعابد لهواه، عليه يرد وعنه يصدر، قد نبذ الكتاب وراء ظهره، فلم يستشهده ولم يستشره، ففي آذانهم وقر وهو عليهم عمى]، يقول لك: رأيي صحيح ولن أتراجع عنه! وكأن رأيه قرآن أو سنة؛ لأنه تعود أن رأيه لا يرد ولا ينتقد. قال: [كأنهم إلى كتاب الله لم يندبوا، وعن طاعة الشيطان لم يزجروا، فهم عن سبيل من أرشده الله متباعدون، ولأهوائهم في كل ما يأتون ويذرون متبعون، واستحوذ الشيطان على من لم يشرح الله صدره للإسلام، وأورده بحار العمى، فهم في حيرة يترددون، فجاروا عن سواء السبيل، فقالوا: بيد الشيطان من أمر الخلق ما لا يجوز أن يكون بيد الله ومشيئته]، أي: أنهم قالوا: إن الشيطان يملك ما لا يملك الله تعالى! قال: [ومشيئته فيهم حائلة تدون مشيئة الله لهم] أي: مشيئة الشيطان في العباد نافذة أكثر من مشيئة الله عز وجل -هكذا يقولون- وهذا كفر بواح. قال: [فضعفوا أمر الله ووهنوه، وردوا كتاب الله وكذبوه، وقووا من أمر الشيطان ما ضعفه الله حين قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله عليهم يكرهون الكلام في القدر]، أي: قد كان السلف رضي الله تعالى عنهم يكرهون الكلام في القدر، ولهذا الموضوع أدلة ونصوص كثيرة أظن لو اكتفينا بهذا القدر لكان فيه كفاية حتى نبدأ الموضوع في الدرس القادم من أوله بإذن الله تعالى. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم سب الدين

حكم سب الدين Q هل سب الدين كفر مخرج من الملة؟ A الإجماع على أن سب الدين كفر مخرج من الملة، أما الساب فهل يخرج من الملة أو لا يخرج؟ هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فجمهور السلف على أن ساب الدين يكفر بذلك، وابن تيمية له تفصيل في ذلك، قال: إن أراد بالدين: شرع الله الذي نزل من السماء، فيكفر بالإجماع، وإن أراد به أخلاق المسبوب فلا يكفر، لكن ينبغي أن يعزر ويؤدب حتى لا يتعود أن يسب الدين.

ما جاء من الآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر

شرح كتاب الإبانة - ما جاء من الآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر ورد في الأحاديث النبوية وآثار الصحابة كراهة الخوض في القدر والكلام فيه؛ وذلك لأن القدر من أسرار الله عز وجل، نمره كما جاء عنه سبحانه من غير خوض فيه؛ لأن الخوض فيه هو سبيل إلى الشك والكفر بالله عز وجل.

الأحاديث والآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر

الأحاديث والآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن القدر وكان هو بداية الكلام عن القدر، وبينا هناك أن الله تعالى خالق الخير والشر بدليل أنه خلق إبليس الذي هو رأس الشر. وأن للقدر مراتب أربعاً: المرتبة الأولى: مرتبة العلم. والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة ومن أنكرهما كفر بالإجماع. والمرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة، وقيل: المشيئة على خلاف بين أهل العلم فيما يتعلق بمعنى الإرادة والمشيئة. والمرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، والمقصود بها: أن الله تعالى خالق الخير والشر، وأن العبد مكتسب الخير والشر. إذاً: الأفعال والأعمال في حق العبد اكتساب، وفي حق الرب تبارك وتعالى خلق وإيجاد، الله تعالى خلق وأوجد الخير والشر، ولكن الذي باشر ومارس الخير والشر بنفسه هو العبد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله تعالى عليهم يكرهون الكلام في القدر، وينهون عن خصومة أهله ومواضعتهم القول في ذلك أشد النهي، ويتبعون في ذلك السنة وآثار المصطفى]. هناك أحاديث جاءت في القدر، لكن بعضها ضعيف والآخر صحيح أو حسن، فمن الضعيف قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه عنه [عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)]، وهو حديث ضعيف، والحسن: هو حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يتذاكرون شيئاً من القدر -أي: يتباحثون في بعض مسائل القدر- فخرج عليهم مغضباً صلى الله عليه وسلم، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان) أي: من شدة الغضب احمر وجهه عليه الصلاة والسلام، فقال: (أبهذا أمرتم؟) أي: أنا أمرتكم أو أن الله أمركم أن تخوضوا في مسائل القدر؟ (أوما نهيتم عن هذا؟ إنما هلكت الأمم من قبلكم في هذا، إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا). نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوض في هذه المسائل الثلاث؛ لأن الخوض فيها يؤدي إلى الهلكة، (إذا ذكر القدر فأمسكوا) أي: لا تتحدثوا فيه ولا تقولوا: لم؟ وكيف؟ لم فعل الله هذا؟ وكيف فعل الله هذا؟ ولم لم يفعل الله هذا؟ قال: (فإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي) أي: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام (فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا) هذه الثلاثة أشياء نحن مطالبون ومأمورون ألا نخوض فيها أبداً، وإنما نؤمن بها كما جاءت. قال: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ -أبهذا وكلتم؟ - انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه)]، كأنه عليه الصلاة والسلام قال: لقد نهيتهم عن الكلام في القدر، فما بالكم تخالفون هذا النهي؟ قال: [وعن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع ناساً يتذاكرون القدر، فقال: إنكم قد دخلتم في شعبتين بعيدتي الغور -يعني: قعرهما بعيد ومهلك- فيهما هلك أهل الكتاب)] كأنه يذكر القدر والنجوم. قال: [وعن مسلم بن يسار رحمه الله تعالى لما سئل عن القدر فقال: واد عميق لا يدرك غوره -أي: قعره وبعده- قف عند أدناه. واعمل عمل رجل يعلم أنه يجزى بعمله، وتوكل توكل رجل يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له. وعن محمد بن إبراهيم القرشي عن أبيه قال: كنت جالساً عند ابن عمر فسئل عن القدر فقال: شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه]. كأن القدر هذا هو سر الله تعالى، وهذا قد جاء صريحاً عن علي بن أبي طالب: القدر سر الله تعالى في خلقه. فلما سئل ابن عمر عن القدر قال: [شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه. فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم. وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث ارفضوهن -أي: ارفضوا الكلام فيهن- ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجوم، والنظر في القدر]، فكأن هذه من مسائل الإجماع عند السلف؛ لأن الكل أجمع على النهي عن الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، والإمساك عن النجوم وأن لها عملاً وتأثيراً في الخلق، وكذلك الكلام عن القدر. قال: [وسئل يحيى بن معاذ الرازي عن القدر فقال: من أحب أن يفرح بالله ويتمتع بعبادة الله فلا يسألن عن سر الله، يعني: القدر].

الكتاب والسنة يخرجان من مشكاة واحدة

الكتاب والسنة يخرجان من مشكاة واحدة قال الشيخ ابن بطة رحمه الله يشرح موقف السلف القديم الذي ذكرناه هذا: [فإن قال قائل: قد رويت أحاديث في الإمساك عن الكلام في القدر والنظر فيه، ومع هذا فقد روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وعن جماعة من التابعين وفقهاء المسلمين أنهم تكلموا فيه]، فكأن الإمام ابن بطة عليه رحمة الله يقول: ظاهر النصوص في باب القدر فيها تضارب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن القدر ونهى عن الكلام في القدر، والصحابة نهوا عن القدر وتكلموا في القدر، وكذلك التابعون وأتباع التابعين وفقهاء المسلمين نهوا عن الكلام في القدر ومع هذا تكلموا فيه، بل صنفت كتب كثيرة جداً في القدر، منها ما كان بأيدي سلفنا رضي الله عنهم، ومنها ما هو بيد المعاصرين لـ ابن بطة أو حتى ممن جاء بعد ابن بطة، فظاهر الكلام التضارب والتعارض، وأنتم تعلمون إذا كان الله تعالى نهانا عن الكلام في القدر وتكلم فيه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان قد نهانا عن القدر وتكلم فيه فلا شك أن مشكاة الوحي واحدة، وإذا كانت مشكاة الوحي واحدة ومصدرها السماء، والكلام كلام الله عز وجل فلا يمكن أن يكون فيه تضارب ولا تعارض: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فلما لم يكن فيه أدنى اختلاف كان ذلك يقيناً أن هذا الكلام من عند الله عز وجل، أما هذا الكلام الذي ظاهره التعارض فمآله إلى ما يسمى عند أهل العلم بتأويل مختلف الحديث، وتأويل ما ظاهره الاختلاف وليس الائتلاف، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى وهو سيد المسلمين وشيخ المحدثين في زمانه: أشهد أنه ما بين نصين وردا عن الله ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام أدنى تعارض، ومن وجد شيئاً من ذلك فليأتني به لأؤلف له بينهما. فلا تعارض قط بين نصوص الوحي خاصة إذا كانت صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان قد ورد في القدر إباحة الكلام فيه والنهي عن الكلام فيه، وكذلك الصحابة وكذلك النجوم فمآل ذلك إلى التأويل.

بيان ما يجوز فيه ذكر النجوم وما لا يجوز فيه ذكر النجوم

بيان ما يجوز فيه ذكر النجوم وما لا يجوز فيه ذكر النجوم قال: [أما النجوم فقد ورد فيها كلام بالإباحة وكلام بالمنع فأحدهما واجب علمه والعمل به، فأما ما يجب علمه والعمل به فهو أن نتعلم نحن من النجوم ما نهتدي به في ظلمات البر والبحر كما أمر الله عز وجل، ونعرف به القبلة والصلاة والطرقات، فبهذا العلم من النجوم نطق الكتاب ومضت السنة. إذا نظرنا إلى الآيات المتعلقة بالنجوم في الكتاب والسنة لكان مدار هذه الآيات وهذه الأحاديث بأن نتعلم من النجوم ما نستنير به في طرقاتنا في البر والبحر، ونعرف به القبلة، ونعرف به مواقيت الصلوات وغير ذلك، فلا يجوز لنا بعد ذلك أن نتعلم من النجوم شيئاً غير الذي أمرنا الله تعالى به، وأمرنا به رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ما لا يجوز النظر فيه -أي: في النجوم والتصديق به- ويجب علينا الإمساك عنه من علم النجوم فهو ألا نحكم للنجوم بعمل، لا نقول: إن النجوم لها تأثير في الأعمال؛ لأن النجوم لا تعمل شيئاً. أفل نجم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لأصحابه: ما كنتم تقولون في مثل هذا؟ قالوا: والله يا رسول الله! كنا نقول: لا يكون ذلك إلا لموت عظيم أو لميلاد عظيم، فبين النبي عليه الصلاة والسلام فساد هذه العقيدة، وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا تنخسف لموت أحد ولا لميلاده) فالخسوف والكسوف آيتان من آيات الله تتم بقدر الله عز وجل، فلا تسأل: لماذا وكيف؛ لأن هذا مما نهيت عنه أيضاً، ولا يقضى لها بالحدود في أمره كما يدعي الجاهلون من علم الغيوب بعلم النجوم ولا قوة إلا بالله، فهذا الذي نهينا عن الكلام فيه].

بيان ما يجوز فيه أن يقال عن الصحابة إذا ذكروا وما يجب الإمساك عنه عند ذكرهم

بيان ما يجوز فيه أن يقال عن الصحابة إذا ذكروا وما يجب الإمساك عنه عند ذكرهم قال: [وكذلك أمر الصحابة رضي الله عنهم، فكذلك أمرهم على وجهين. الأول: فرضي علينا علمه والعمل به، والثاني: يحرم علينا الخوض فيه. فأما الواجب علينا علمه والعمل به فهو ما أنزله الله في كتابه من وصفهم وما ذكره من عظيم أقدارهم وعلو شرفهم ومحل رتبتهم، وما أمرنا به من الاتباع لهم بإحسان مع الاستغفار لهم، وعلم ما جاءت به السنة من فضائلهم ومناقبهم، وعلم ما يجب علينا حبهم لأجله من فضلهم وعلمهم ونشر ذلك عنهم؛ لتنحاش القلوب إلى طاعتهم]، أي: لتنحاز وتميل القلوب إلى طاعتهم. قال: [وتتألف على محبتهم، فهذا كله واجب علينا علمه والعمل به. ومن كمال ديننا طلب ذلك]، كما أنه من كمال ديننا معرفة فضائل الصحابة رضي الله عنهم ونشر هذه الفضائل والمناقب في الناس؛ حتى يتحلوا بهذه الأخلاق الكريمة التي هي أخلاق سلفنا رضي الله عنهم خاصة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وأما الذي يجب علينا تركه ويحرم علينا الخوض فيه وفرض علينا الإمساك عنه هو النظر فيما شجر بين الصحابة] النظر فيما اختلف فيه الصحابة خلافاً أدى إلى النزال والوقاع والحروب بينهم لا أن ذلك في الفروع، فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في فروع المسائل العملية التي هي مسائل الأحكام الفقهية، فهذا لم ننه عن النظر فيه بل نحن مستفيدون من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل العملية هذه. أما ما شجر بينهم من خلاف ونزاع وحروب فنحن قد أمرنا أن نمسك عن هذا؛ ولذلك لما سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه عن الفتنة التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فقال: فتنة نزه الله منها سيوفنا، فلم لا ننزه منها ألسنتنا؟ فهذا كلام الإنسان الفقيه البصير بما وجب عليه وما نهي عنه، فيحرم علينا النظر فيما شجر بينهم. قال: [والخلف الذي كان جرى منهم؛ لأنه أمر مشتبه، ونرجئ الشبهة إلى الله عز وجل، ولا نميل مع بعضهم على بعض، ولا نظلم أحداً منهم، ولا نخرج أحداً منهم من الإيمان، ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، فرضي الله عنهم]. فإذا وقع بينهم السباب والشتائم فهل هذا حجة لنا أن نسب أحد الفريقين؟ ليس في ذلك حجة، ولذلك كلام الأقران يطوى ولا يروى، فضلاً عن أن هذا السب فيما يبدو للقائل أو الناظر أنه سب، لكن لو أخذنا مثالاً لقول عائشة رضي الله عنها في أبي هريرة رضي الله عنه. تقول: كذب أبو هريرة لم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يسرد الحديث كسرده هذا؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يجلس تحت جدار غرفة عائشة رضي الله عنها في المسجد، ويسأله الصحابة والتابعون، فيسرد لهم الحديث سرداً، وكان مكثراً وأمة في العلم كما تعلمون. فقالت عائشة رضي الله عنها: (كذب أبو هريرة. والله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرد كسرده، وإنما كان إذا أراد العاد أن يعد كلامه لأحصاه؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لتفهم عنه) وفي رواية: (لتعقل عنه)، ولما سئلت عائشة عما قال عبد الله بن عمر في شأن تعذيب الميت ببكاء أهله وأنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، قالت: كذب أبو عبد الرحمن، إنما ذلك الكافر هو الذي يعذب ببكاء أهله عليه. فالشاهد هنا: أنها قالت: كذب أبو عبد الرحمن، وفي الحقيقة لو نظرنا إلى معنى الكذب في اللغة والاصطلاح لوجدنا أن الكذب: هو إخراج الكلام على غير الحقيقة، وأرادت عائشة رضي الله عنها بإطلاق لفظ الكذب أن أبا عبد الرحمن تكلم بكلام على غير جهة الحقيقة، كأنها قالت: أخطأ أبو عبد الرحمن، فالكذب بمعنى: الخطأ. أخطأ أو ظن ظناً لا يوافق الواقع أو الحقيقة. فالصحابة رضي الله عنهم إذا وقع منهم شيء من ذلك فلا يحل لنا نحن أن نقول: كذب أبو عبد الرحمن أو كذبت عائشة، وإنما يجب علينا تركه كما قلنا. قال: [ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، ولا نسب أحداً منهم بسبه صاحبه، ولا نقتدي بأحد منهم في شيء جرى منه على صاحبه، ونشهد أنهم كلهم على هدى وتقوى وخالص إيمان؛ لأنا على يقين من نص التنزيل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أفضل الخلق، وخير الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولأن أحداً ممن أتى بعدهم ولو جاء بأعمال الثقلين الإنس والجن من أعمال البر، ولو لقي الله تعالى ولا ذنب له ولا خطيئة عليه؛ لما بلغ ذلك أصغر صغيرة من حسنات أدناهم، وما فيهم دني، ولا شيء من حسناتهم صغير. والحمد لله].

ما يجوز الكلام فيه في القدر وما لا يجوز الكلام فيه

ما يجوز الكلام فيه في القدر وما لا يجوز الكلام فيه قال: [وأما الكلام عن القدر فعلى وجهين كذلك]، فقد بينا الوجهين في النجوم والوجهين في الصحابة، يبقى أن نبين الوجهين في القدر. قال: [فالقدر الواجب علينا علمه والتصديق به والإقرار بجميعه أن نعلم أن الخير والشر من الله -هذا الذي يجب علينا علمه في باب القدر الذي قد ورد به النص في الكتاب والسنة- وأن الطاعة والمعصية بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، علمهم بأسمائهم وأسماء آبائهم قبل أن يخلقهم، ووفقهم لأعمال صالحة رضيها سبحانه، وأمرهم بها؛ فوفقهم لها وأعانهم عليها وشكرهم بها، وأثابهم الجنة عليها]. يعني: الأعمال سبب، لكن دخول الجنة بفضل الله عز وجل منه ورحمة. قال: [وخلق النار وخلق لها أهلاً أحصاهم عدداً، وعلم ما يكون منهم، وقدر عليهم ما كرهه لهم، خذلهم بها وعذبهم لأجلها غير ظالم لهم، ولا هم معذورون فيما حكم عليهم به]. يعني: ليس لهم عذر؛ لأن الله تعالى أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وجعلهم مكلفين مميزين عاقلين. قال: [فكل هذا وأشباهه من علم القدر الذي لزم الخلق علمه، والإيمان به والتسليم لأمر الله وحكمه وقضائه وقدره: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]، هذا الذي يجب علينا الإيمان به في باب القدر. قال: [وأما الذي يحرم علينا الخوض فيه في باب القدر هو أن نقول في باب القدر: كيف ولم]، كأن نقول: لم خلق الله إبليس؟ والله تعالى قبل أن يخلقه يعلم أنه رأس الشر فلم خلقه إذاً؟ هذا لا يحل لنا أن نتوجه إلى الله تعالى بالسؤال عنه. قال: [كيف ولم وما السبب؛ لأن القدر هو سر الله تعالى المخزون وعلمه المكتوم، الذي لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وحجب العقول عن تخيل كنه علمه، والناظر فيه كالناظر في عين الشمس -الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس- كل ما ازداد فيه نظراً ازداد فيه تحيراً، ومن العلم بكيفيتها بعداً، فهو التفكر في الرب عز وجل: كيف فعل كذا وكذا؟ ثم يقيس فعل الله عز وجل بفعل عباده، فما رآه من فعل العباد جوراً يظن أن ما كان من فعل مثله جور، فينفي ذلك الفعل عن الله، فيصير بين أمرين: إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره، ويرى أنه جور من فعله، وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور فينفي عنه قضاءه وقدره]. فينفي ذلك الفعل عن الله يقول: ليس ممكناً أن الله يعمل هكذا؛ لأن هذا ظلم؛ لأنه لو كان من عند خلقه لكان ظلماً. يعني: يقول مثلاً: الله تعالى يلقي الكافر في النار وهو الذي قدر عليه الكفر أولاً فكيف يعذبه آخراً؟ قال: ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا هو الذي استدرج عبيده إلى الوقوع في الخطأ والبعد عن الصواب ثم عاقبهم على ذلك لكان هذا منه ظلماً، يقيسون فعل العبد على أفعال الله عز وجل. يقولون: الله تعالى خلق إبليس وهو يعلم أنه رأس الشر ثم يعذبه بعد ذلك، هذا من الظلم؛ لماذا وقعوا في هذا؟ لأنهم قاسوا أفعال الله على أفعال العبيد. والمعلوم أن الله تعالى واحد في أفعاله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، هذا الذي حدا بالقدرية إلى الكفر بالله عز وجل: قياس أفعال الخالق على أفعال المخلوق.

حكم من قال: (لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه)

حكم من قال: (لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه) قال: [فيصير القدري بين أمرين: إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره، ويرى أنه جور من فعله -أي: يرى أن فعل الله تعالى فيه ظلم وتعد على العباد- وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور؛ فينفي عنه قضاءه وقدره -وكلاهما شر- فيجعل مع الله آلهة كثيرة يحولون بين الله وبين مشيئته، فبالفكر في هذا وشبهه، والتفكر فيه والبحث والتنقير عنه هلكت القدرية؛ حتى صاروا زنادقة وملاحدة ومجوساً، حيث قاسوا فعل الرب بأفعال العباد، وشبهوا الله تعالى بخلقه، ولم يعوا عنه ما خاطبهم به، حيث يقول تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]، ولما كانت هذه الجزئية من الجزئيات العظيمة أراد ابن بطة أن يضرب مثلاً. قال: [فمما لا يحل لأحد أن يتفكر فيه ولا يسأل عنه ولا يقول فيه: لم لا ينبغي لأحد أن يتفكر؟ لم خلق الله إبليس؟] وأنتم تعلمون أن كثيراً من الناس يسأل هذا السؤال. قال: [لم خلق الله إبليس وهو قد علم قبل أن يخلقه أنه سيعصيه، وأنه سيكون عدواً له ولأوليائه؟ ولو كان هذا من فعل المخلوقين إذا علم أحدهم أنه إذا اشترى عبداً يكون عدواً له ولأوليائه ومضاداً له في محابه، وعاصياً له في أمره، ولو فعل ذلك لقال أولياؤه وأحباؤه: إن هذا خطأ وضعف رأي وفساد نظام الحكمة، فمن تفكر في نفسه وظن أن الله لم يصب في فعله حيث خلق إبليس فقد كفر]. يعني: لو أن واحداً قال: لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه وسيكون عدواً له ولأوليائه؟ وقاسوا ذلك على رجل عظيم أو ملك من ملوك الدنيا اشترى عبداً وهو يعلم أن هذا العبد سيئ الخلق وسيكون عدواً له ولبقية العبيد عنده. قالوا: هذا الملك لابد أنه سيكون سفيهاً حينئذ، فقارنوا فعل الملك بفعل الله عز وجل. قال الإمام: من قاس أفعال المخلوقين بأفعال الخالق فنتج عن ذلك السفه والغفلة فقد كفر، وهذا كلام في غاية الثبات؛ لأن الله تعالى واحد في أفعاله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى. قال: [ومن قال: إن الله لم يعلم قبل أن يخلق إبليس أنه يخلق إبليس عدواً له ولأوليائه فقد كفر، ومن قال: إن الله لم يخلق إبليس أصلاً فقد كفر]. لأنه لابد أن يقول: إن مع الله آلهة أخرى خلقت إبليس، والله تعالى واحد في خلقه فهو الخالق أو يقول: إن إبليس خلق نفسه، وكل هذا كفر وضلال. قال: [وهذا قول الزنادقة والملاحدة. فالذي يلزم المسلمين من هذا أن يعلموا أن الله خلق إبليس وقد علم منه جميع أفعاله؛ ولذلك خلقه]. يعني: لما علم الله تعالى ما سيكون عليه إبليس من الفساد في الأرض وإفساد العباد على الله عز وجل خلقه. قال: [ويعلم أن فعل الله ذلك عدل وصواب] يعني: لابد أن تعلم أن الله تعالى علم ماذا سيصنع به ومع هذا خلقه، وما خلقه الله تعالى إلا من باب الحكمة والعدل. قال: [وأن الله تعالى في جميع أفعاله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. ومما يجب على العباد علمه وحرام عليهم أن يتفكروا فيه ويعارضوه في آرائهم، ويقيسوه بعقولهم وأفعالهم، لا ينبغي لأحد أن يتفكر: لم جعل الله لإبليس سلطاناً على عباده وهو عدوه وعدوهم مخالف له في دينه، ثم جعل له الخلد والبقاء في الدنيا إلى النفخة الأولى؟]. أي: لم جعل الله كل هذا السلطان لإبليس وأعوانه وهو قادر على ألا يجعل له ذلك؟ لو شاء الله تعالى أن يهلكه من ساعته لفعل؛ فلم لم يفعل؟ ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً؛ لأن الملك إذا أخطأ عبد مرة أو اثنتين أو ثلاثة -وربما لا يتحمل خطأه من أول وهلة- لقتله ليستريح منه. فمن قال: فلم لم يقتل الله تعالى إبليس ويريح منه العباد؟ فقد كفر؛ لأن هذا اعتراض على الله تعالى في أفعاله وفي عدله وحكمته. قال: [ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً، وكان يجب في أحكام العدل من العباد أن إذا كان لأحدهم عبد وهو عدو له ولأحبائه ومخالف لدينه ومضاد له في محبته أن يهلكه من ساعته، وإذا علم أنه يضل عبيده ويفسدهم؛ ففي حكم العقل والعدل من العبادات ألا يسلطه على شيء من الأشياء، ولا يجعل له سلطاناً ولا مقدرة، ولو سلطه عليهم كان ذلك من فعله عند الباقين من عباده ظلماً وجوراً؛ حيث سلط عليهم من يفسدهم عليه ويضادهم فيه وهو عالم بذلك من فعله] إلى آخر هذا الكلام.

حكم مقولة: لم جعل الله لإبليس وذريته سلطانا أن يأتوا بني آدم

حكم مقولة: لم جعل الله لإبليس وذريته سلطاناً أن يأتوا بني آدم قال: [ومن ذلك نوع آخر أن الله عز وجل جعل لإبليس وذريته أن يأتوا بني آدم في جميع أطراف الأرض]. ليس في مكان بعينه، بل مهما ذهبت في باطن البحر أو في قعر الصحراء فإن إبليس معك، جعل الله تعالى لإبليس سلطاناً على بني آدم في جميع أطراف الأرض، كما أنه جعل له سلطاناً أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم كما ذكر الله تعالى. قال: [وجعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، ولم يجعل للرسل من بني آدم ذلك السلطان]. يعني: تصور أن الله تعالى كان قادراً أن يجعل للرسل سلطاناً، ويجرون في عروق ودماء بني آدم كما جعل ذلك لإبليس؛ فلم جعل الله تعالى ذلك لإبليس ولم يجعله لعباده الصالحين من الأنبياء والمرسلين؟ قال: [ولو كان هذا في أحكام العباد لكان من العدل بينهم أن يكون مع إبليس وذريته علامة كعلامة السلطان، أو يكون عليهم أجراس يعرفونهم بها]. يعني: يقولون: لماذا لم يجعل الله لبني آدم علامة وأمارة يعرفون بها إبليس، أو يجعل مع العبد جرساً يكون نذيراً له عندما يقترب منه إبليس؟ لو حصل ذلك فإن الجرس لن يتوقف ولا يكاد ينتهي، بل يضرب باستمرار؛ فيكون في ذلك إزعاج، فيكفيك يا أخي المسلم! أن يبين الله تبارك وتعالى لك في القرآن أن معك قريناً من الشياطين وقريناً من الملائكة، حتى النبي عليه الصلاة والسلام كان معه قرين، إلا أن الله تعالى أعانه عليه فأسلم، فأكبر علامة لوجود إبليس أنه جاثم على صدرك بالليل والنهار لا يبرحك أبداً، وكلما فرغ من وسوسة ذهب إلى وسوسة أخرى، وهذا الذي بينه القرآن وبينته السنة. ومن الناس من يقول: لو كان الله عز وجل جعل لنا علامة القبول والرد في الأعمال والأقوال لعلمنا ما هو المقبول من أعمالنا وما هو المردود، ولو وقع ذلك لعنت عنتاً شديداً، وواجه مشقة شديدة جداً. فهذا من رحمة الله عز وجل بك أنه لم يخبرك بهذا، وإلا لكان كل واحد منا الآن إلا من رحم الله في ضيق وعنت شديدين جداً، كلما عمل العبد عملاً رد عليه. لو وقعت أنا في ضائقة، وأحببت أن أتوسل إلى الله بصالح عملي؛ فإني أقسم بالله العظيم أنني لا أجد لي عملاً صالحاً واحداً، وهذا بلاء عظيم جداً، فمن رحمة الله عز وجل أن أرجع ذلك للآخرة، وبين لك علامات قبول الأعمال وعلامات رد الأعمال في الكتاب والسنة، فشرط قبول العمل الإخلاص لله عز وجل وعدم الشرك والرياء، ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك البدع في الدين. لو أنك تعمل عند رجل صاحب عمل، وكلما اجتهدت في تحسين العمل رده وقال لك: العمل هذا لا يعجبني. أعد العمل مرة أخرى، لو أنه فعل بك ذلك مرتين أو ثلاث مرات في عمل واحد وقد بذلت الوسع في إرضائه ولم يرض؛ ليئست من العمل معه وتركته. فلو أنك يئست من رحمة الله ماذا ستفعل؟ وإلى أين تذهب؟ لابد أنك ستذهب إلى الجحيم باليأس من رحمة الله عز وجل، فمن رحمة الله عز وجل أن ترك ذلك لنا إلى الآخرة، أما أن تطالب الله تبارك وتعالى أن يجعل لك علامات من الآن تعرف بها الخير من الشر، وتعرف بها القبول من الرد فهذا من العنت الذي نهينا عنه كذلك؛ ولذلك هؤلاء لو طالبوا أن يكون لهم علامة كعلامة السلطان، أو يكون عليهم أجراس يعرفونهم بها، ويسمعون حسهم، فيأخذون حذرهم منهم؛ حتى إذا جاءوا من بعيد علم العباد أنهم هم الذين يضلون الناس فيأخذون حذرهم، حينئذ سيكون هذا كلاماً مردوداً، أو يجعل الرسل يصلون إلى صدور الناس، ويزينون طاعة الله لهم، كما يوسوس الشيطان وذريته لهم، ويزين لهم المعصية، وهذا أيضاً من العنت. كذلك لا ينبغي لأحد أن يقول: لم سلط الله الكفار على الرسل في الدنيا؟ أليس الله قادراً على أن يجعل مع النبي ملكاً من أول لحظة، حتى إذا آذى شخص النبي قتله الملك؟ أليس الله قادراً على هذا؟ لو أن أهل مكة أطبقوا على مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام فقام ملك الجبال وأطبق عليهم الأخشبين. أليس هذا ممكناً؟ A نعم. لكن هذا مخالف للسنن يا إخواني! كذلك الله قادر على أن ينجحك من غير أن تذاكر، لكن هذا مخالف للسنن، والله قادر على أن يوفقك في الامتحان دون أن تنظر في الكتاب ولا أن تحضر المحاضرات؛ لأنه على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، قادر على أن يجعل المرأة رجلاً والرجل امرأة، قادر على أن يجعل السماوات والأرض في بيضة، لكن كل هذا مخالف للسنن؛ فلم يفعله الله عز وجل، وحذرنا أن نسأل مثل هذه الأسئلة؛ لأن هذا هو الضلال بعينه.

حكم من قال: لم سلط الله الكفار على الرسل والمؤمنين وهو قادر على إبادتهم؟

حكم من قال: لم سلط الله الكفار على الرسل والمؤمنين وهو قادر على إبادتهم؟ ومن الناس من يقول: لماذا ربنا سبحانه وتعالى سلط الكافرين في البوسنة والهرسك وفي الشيشان وفي روسيا وفي أمريكا وفي فلسطين وغيرها على المسلمين؟ A هذا لحكمة عظيمة جداً لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، فهو يسلط الكافرين على المؤمنين؛ فيموتون شهداء، فهل أجر الشهيد الذي قتل كأجر الذي قتله في الدنيا؟ هذا في الجنة وذاك في النار، فالله تبارك وتعالى علم أن هذا العبد له من الذنوب ما لا يغفره إلا الشهادة في سبيل الله، فجعله عرضة لذلك، وسلط عليه الكافر حتى يموت شهيداً، وهذه حكمة لا يعلمها إلا الله عز وجل. قال: [ومما لا ينبغي لأحد أن يتفكر فيه لم سلط الله الكفار على الرسل في الدنيا، وسلط الكافرين على المؤمنين حتى قتلوهم وعذبوهم، وقتلوا الذين يقومون بالقسط من الناس، وإنما سلط الله أعداءه على أوليائه ليكرم أولياءه في الآخرة بهوان أعدائه، وهو قادر على أن يمنع الكافرين من المؤمنين، ويهلك الكفار من ساعته، ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك لحكمة، ولو كان هذا من أفعال بعض ملوك العباد كان جوراً عند أهل مملكته؛ حيث سلط أعداءه على أنصاره وأوليائه وهو قادر على هلكتهم]. لو أن حاكماً من حكام المسلمين الآن أذن للكفار بدخول بلاده ومملكته وتسلطوا على من كانوا تحت يده من رعيته؛ فلابد أننا سنقول: إن هذا ظلم وجور وخيانة. وعندما يكون الحاكم جالساً على كرسي ويقول لليهود مثلاً: تعالوا ادخلوا البلاد واقتلوا من شئتم واسبوا من شئتم؛ لابد أن هذا ظلم بين وجور وعمالة، لا يختلف على ذلك أحد، والله تبارك وتعالى سلط إبليس وأعوانه على أوليائه، وسلط أعداءه على أوليائه. فهل يستوي فعل الله مع فعل ذلك الحاكم أو الملك؟ لا يستويان، الأول جور وظلم وعمالة، والثاني: حكمة وعدل من الله عز وجل.

حكم من قال: لم مكن الله لأعدائه في البلاد بالقوة والعتاد وأمر أولياءه أن يقاتلوهم

حكم من قال: لم مكن الله لأعدائه في البلاد بالقوة والعتاد وأمر أولياءه أن يقاتلوهم قال: [وخصلة أخرى من الخصال التي نهينا عنها: أنه لا ينبغي لأحد منا أن يتفكر لم مكن الله لأعدائه في البلاد؟] هذه من المسائل التي أمرنا بالإمساك عنها. قال: [لم مكن الله تعالى لأعدائه في البلاد وأعانهم بقوة الأبدان ورشاقة الأجسام وأيدهم بالسلاح والدواب، ثم أمر أنبياءه وأولياءه أن يعدوا لهم السلاح والقوة، وأن يحاربوهم ويقاتلوهم، ووعدهم أن يمدهم بالملائكة، ثم قال هو لنفسه: إني معكم على قتال عدوكم، وهو قادر على أن يهلك أعداءه من وقته بأي أنواع الهلاك شاء من غير حرب ولا قتال، وبغير أنصار ولا سلاح]. هذا الكلام وارد، بل هو من عقيدتنا، فالله تعالى قادر على أن يهلك من في الأرض، ويجعلها ملساء جرداء بفعل منه سبحانه وتعالى، فلم يمكن الله تعالى لهؤلاء الكفار، ويمدهم بالسلاح والعتاد والقوة ورشاقة الأجسام وغير ذلك، ويجعل المؤمنين ضعفه أذلة قلة ويأمرهم بإعداد ما استطاعوا؟ هذه المسألة في قمة الأهمية، فهي مسألة اعتقادية. إن الله تبارك وتعالى مكن للكفار في البلاد، ومكن لهم عن طريق السلاح والعدد والعدة وغير ذلك، ولم يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نعد للقتال مع الكفار بنفس ما هم عليه من إعداد، وإنما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، فإعداد العدة سبب لابد منه، وأنتم تعلمون أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب مخل بتوحيد الله عز وجل. فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نعد لأعدائنا ما استطعنا، ولم يأمرنا أن نعد لهم كما أعدوا هم، وإنما جعل ذلك على قدر استطاعتنا، والله تبارك وتعالى لا يحاسبنا على ما هو فوق قدراتنا وطاقاتنا، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به من توخي الحذر وإعداد ما في استطاعتنا ومقدورنا، وبعد ذلك الله تعالى معنا ونصيرنا، وإذا كنت تريد أن توجه هذا السؤال الآن في مواجهة اليهود في فلسطين أو في غيرها من سائر البلدان الإسلامية في العالم كله فلابد أن نرد عليك بنفس Q لم لم يمكن الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في مكة؟ ولم لم يمكن له في غزوة أحد أو في غيرها من الغزوات التي أوذي فيها النبي عليه الصلاة والسلام؟ A لأن هذه سنن ربانية في الكون لابد من إتمامها لحكمة عظيمة جداً. علمها من علمها وجهلها من جهلها. قال: [فلو كان هذا من أفعال العباد وأحكامهم لكان جوراً وفساداً أن يقوي أعداءه على أوليائه، ويمدهم بالعدة، ويؤيدهم بالخيل والسلاح والقوة، ثم يندب أولياءه لمحاربتهم]؛ أي: ثم يدعو أولياءه لمحاربتهم، تصور لو أن دولة اليمن أو عُمان أو غيرها من البلدان الصغيرة جداً التي لا جيش لها، أمر الحاكم فيها أهل بلده أن يدخلوا في حرب ضروس مع إيران؛ فهل الكفة متعادلة؟ A ليست متعادلة نهائياً، ويغلب على الظن أن النصر لإيران، فلما أدخل أنا الآن في حرب وأنا على يقين أنني خسران فأنا إنسان مجنون لست عاقلاً ألبتة، هذا في أفعال العباد. أما في أفعال الله عز وجل فالأمر يختلف والموازين تختلف تماماً؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمرك أن تقاتل عدوك وهو أكثر منك عدداً وعدة، وقد جعل الله تبارك وتعالى لك ملائكة مؤيدين، كما أن الله تعالى معك يسددك ويؤيدك وينصرك ويقويك، وهو تبارك وتعالى في الوقت نفسه ضد أعدائه وخصم لهم، والحرب بين الله تعالى وبينهم، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15 - 16]. إذاً: الحرب معلنة ومنشورة بين الله تعالى وبين أعدائه، ومن كان الله معه لا يغلب قط، حتى وإن هزم في نظر الناس فإنه ليس عند الله مهزوماً؛ لأن المؤمن يدور أمره في القتال بين أمرين: إما النصر وإما الشهادة، وكلاهما خير، وكلاهما مراد العبد من هذا القتال، فإذا كان الأمر هكذا في أفعال العباد فلا شك أن هذا ظلم وجور، أما في أفعال الله عز وجل فهو عدل وحكمة.

الحكمة من خلق الله سبحانه للحيات والأفاعي والعقارب والهوام والسباع

الحكمة من خلق الله سبحانه للحيات والأفاعي والعقارب والهوام والسباع قال: [ومما لا ينبغي كذلك لأحد أن يتفكر فيه أنه لا ينبغي أن يضمر في نفسه فيقول: لم خلق الله الحيات والعقارب والهوام والسباع التي تضر بني آدم ولا تنفعهم وسلطها عليهم؟]، الحية أو الثعبان قد ملئت سماً، لكن الله خلقها، مع أن الله قبل أن يخلقها يعلم أن سمها يضر بني آدم، وأنها عدو من أعدائه، لكن العبد حين يذكر جهنم يقول: لو لم يكن في جهنم إلا الحيات والعقارب لكفى! ومعلوم أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فلو لم يكن في النار إلا ثعبان واحد يدور على أهل النار لكفى، فيقول هذا السائل: لم خلق الله الحيات والعقارب والهوام والسباع التي تضر بني آدم ولا تنفعهم، وسلطها على بني آدم، ولو شاء ألا يخلقها ما خلقها؟ ولا يجوز أن يوجه هذا السؤال لله عز وجل. قال: [ولو كان هذا من فعل ملوك العباد لقال أهل مملكته: هذا غش لنا ومضرة علينا بغير حق؛ حيث جعل معنا ما يضر بنا، ولا ننتفع نحن ولا هو به، فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حيث خلق الحيات والعقارب والسباع، وكل ما يؤذي بني آدم ولا ينفعه؛ فقد كفر، ومن قال: إن لهذه الأشياء خالقاً غير الله فقد كفر. وهذا قول الزنادقة والمجوس وطائفة من القدرية، فهذا مما يجب على المسلمين الإيمان به، وأن يعلم أن الله خلق هذه الأشياء كلها، وعلم أنها تضر بعباده وتؤذيهم هو عدل من فعله، وهو أعلم بما خلق: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]].

حكم من قال: لم ترك الله العباد يشركون ويجحدون وهو قادر على هدايتهم

حكم من قال: لم ترك الله العباد يشركون ويجحدون وهو قادر على هدايتهم قال: [وكذلك يسأل السائل يقول: لم ترك الله العباد حتى يجحدوا ويشركوا به ويعصوه؟] لم جعل الله تعالى العباد يقعون في الشرك والجحود، وبيد الله تعالى أن يجعلهم مؤمنين، أليس ذلك في مقدور الله؟ بلى، لكن لم جعل الله تعالى الشرك والكفر في العباد مع أنه قادر على أن يجعل كل الخلق به مؤمنين، ولم خلق الله تعالى الشرك أصلاً وجعل له أهلاً وهو قادر على أن يمنع قلوبهم أن تدخلها شهوة شيء من معصيته أو محبة شيء من مخالفته، وهو القادر على أن يبغض للخلق أجمعين معصيته ومخالفته، وقادر على أن يهلك من هم بمعصيته مع همته، وهو قادر على أن يجعلهم كلهم على أفضل عمل عبد من أوليائه فلم لم يفعل الله ذلك؟ قال: [فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل؛ حيث لم يمنع المشركين من أن يشركوا به، ولم يمنع القلوب أن يدخلهم حب شيء من معصيته، ولم يهد العباد كلهم؛ فقد كفر، ومن قال: إن الله أراد هداية الخلق وطاعتهم له، وأراد ألا يعصيه أحد ولا يكفر أحد فلم يقدر على ذلك؛ فقد كفر، ومن قال: إن الله قدر على هداية الخلق وعصمتهم من معصيته ومخالفته فلم يفعل ذلك وهو جور من فعله؛ فقد كفر، وهذا مما يجب الإيمان به والتسليم له، وترك الخوض فيه والمسألة عنه، وهو أن يعلم العبد أن الله عز وجل خلق الكفار، وأمرهم بالإيمان، وحال بينهم وبين الإيمان، وخلق العصاة، وأمرهم بالطاعة، وجعل حب المعاصي في قلوبهم، فعصوه بنعمته وخالفوه بما أطاعهم من قوته، وحال بينهم وبين ما أمرهم به، وهو يعذبهم على ذلك، وهم مع ذلك ملومون غير معذورين، والله عز وجل عدل في فعله ذلك بهم وغير ظالم لهم، ولله الحجة على الناس جميعاً، له الخلق والأمر تبارك وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فهذا من علم القدر الذي لا يحل البحث عنه ولا الكلام فيه ولا التفكر فيه، وبكل ذلك مما قد ذكرته وما أنا ذاكره إن شاء الله نزل القرآن وجاءت السنة، وأجمع المسلمون من أهل التوحيد عليه، لا يرد ذلك ولا ينكره إلا قدري خبيث مشئوم، قد زاغ قلبه وألحد في دين الله وكفر بالله، وسأذكر الآيات في ذلك من كتاب الله عز وجل الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]]، وكذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا موعدنا في الدرس القادم بمشيئة الله. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستثناء في الإيمان

حكم الاستثناء في الإيمان Q قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أهل السنة والجماعة أجازوا قول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً ولا على سبيل الاستثناء؟ A هذا النقل عن ابن تيمية نقل خطأ، ومسألة الاستثناء في الإيمان نحن قد ذكرناها من قبل وقلنا: إن بعض أهل العلم قالوا: إذا كان المراد الشك في الإيمان فحينئذ يقول المؤمن: أنا مؤمن جزماً لا تعليقاً، يعني: لا يعلق ذلك على مشيئة الله، فلا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الإيمان هو عبارة عن إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأنت مؤمن بذلك تحقيقاً، فإذا كان المجال مجال شك في الإيمان لا تعليقاً فأنت مؤمن. أما إذا كان من باب التزكية أو غير ذلك أو من باب معرفة المآل فكل ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل، والأعمال بالخواتيم كما قلنا من قبل، فيستحب للمسلم أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

الفرق بين الشيطان والعفريت

الفرق بين الشيطان والعفريت Q ما الفرق بين الشيطان والعفريت؟ A الشيطان والعفريت والمارد كلهم من جنس الجن، وما هم إلا درجات في الشيطنة والعفرتة، تكلمنا سابقاً في مسجد خولة أن الجن درجات، فمن الجن من إذا زادت شقوته فكان شيطاناً، فإذا زادت شيطنته صار عفريتاً، فإذا زاد في شيطنته صار مارداً، فإذا زاد كان كما قال الحافظ ابن حجر: كان عفريتاً نفريتاً، جمع الوصفين. يقال: هذا فلان عفريت نفريت، يعني: بلغت الشيطنة والأذى والفساد فيه مبلغاً عظيماً جداً ليس بعدهن شيء، وهذه هي الدرجات.

حكم زواج الإنسان من الجن

حكم زواج الإنسان من الجن Q هل يجوز للإنسان أن يتزوج من الجن أم لا؟ A لا يحل للإنسي أن يتزوج من الجنية، وكذلك الجني لا يتزوج من الإنسية، وهذا يقع، لكنه ليس مشروعاً، فالزنا ممكن حدوثه، والقتل ممكن حدوثه، كل هذه المعاصي ممكنة الوقوع لكنها غير مشروعة. ومذهب الإمام مالك عليه رحمة الله وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: أن التزاوج مع الجن ممكن مع عدم مشروعيته، ففهم بعض من يعالج بالقرآن أن كلمة (ممكن) في كلام مالك وابن تيمية أنه ممكن شرعاً، وكان هذا في عام (1987) م وظل يدعو الناس في مسجد الرحمة في شارع الهرم: سنزوج إن شاء الله فلاناً من واحدة من أخواتنا من الجن، وفي كل أسبوع يقول: الجنية اعتذرت، أو أن الأخ لم يأت، وكان يجمع الحمقى وما أكثرهم، والناس لا تجتمع إلا لمثل هذه الأشياء التي لا فائدة منها، وذات مرة قلت له: يا سيدنا! إما أن تزوجه الليلة وإلا فقد أعددت رسالة عن منهجك كله سميتها: دليل المحتار في الرد على الشيخ فلان، وسأقرؤها الآن على الجمهور. قال لي: أرجوك. قلت له: قل للناس: إن هذا العمل غير مشروع وأنا ما قلت ذلك إلا لجمعكم، فقال ذلك للناس لكن بطريقة لف ودوران، فقلت: لا مشكلة في ذلك. وقلت له: الشرط الثاني: ألا تدخل هذا المسجد مرة أخرى، فانطلق لا يلوي على شيء، ثم بدأت الدعوة السلفية في هذا المسجد وامتدت بعد ذلك؛ لأن هذا المسجد كان يعج بالتصوف والرقص والطبل في كل ليلة، وأسأل الله أن يحفظ الحاج شعبان صاحب المسجد، الحقيقة أنه رجل فاضل جداً، وأحسبه من الصالحين، ولا أزكيه على الله. ويذكر أن الشيخ الألباني رحمه الله جاءه أحد الإخوة ونحن في الأردن سنة 1983م فقال له: يا شيخ! لقد اتفقت مع واحدة من الجن أن أتزوجها، وأرجو منك أن تعقد الزواج، فقال الألباني: هذا الزواج لا يمكن أن يتم. قال: لماذا لا يتم، وقد ذكرتك بالاسم أن تعقد لها؟ قال له: متى العقد؟ قال: لقد تركت ذلك لك من باب احترام أهل العلم، قال: لا مشكلة في ذلك، يوم الخميس القادم في مسجد فلان إن شاء الله، ولا أدري كيف سمع الناس بالخبر وجاءوا من كل حدب وصوب حتى بلغوا الآلاف، فقال الشيخ للرجل: مخطوبتك وصلت يا ولدي؟! قال: لم تصل. قال: اذهب وادعها، فدخل غرفة الإمام ثم خرج وقال: وصلت يا شيخ! فقال الشيخ: اجعلها تظهر لنا. قال: لا، سامحني يا شيخ! هذا أمر لا أرضاه لنفسي. قال: هل تحب هي القرآن؟ قال: كلما قابلتني قالت لي: اقرأ علي القرآن، فقال الشيخ الألباني رحمه الله: ليست العبرة في أن تسمع القرآن، إنما العبرة في أن تقرأ هي القرآن، فإن قرأت عليك القرآن زوجتك وإلا فلا، فدخل الرجل يترجاها ساعتين أن تقرأ آية واحدة أو تقرأ البسملة فأبت. قال الشيخ: ألم أخبرك أن هذا لن يتم وأنها كافرة وليست مؤمنة، فانظر إلى هذا الموقف، وإلى المواقف التي كانت في مسجد الرحمة، والفرق بينها شاسع، فالشيخ الألباني رجل فتح الله عليه وعلمه، فالعلم نور السماء، أما الذي في مسجد الرحمة فهو إنسان مهرج يجمع الأمة على الغثاء والبدع والضلالات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ذكر ما أخبرنا به الله أنه ختم على قلوب من شاء من خلقه

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أخبرنا به الله أنه ختم على قلوب من شاء من خلقه لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز بأن خلقاً من خلقه لا يهتدون للحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه، بل يختارون الكفر على الإيمان، والضلال على الهدى، وهذا داخل في إرادة الله الكونية، فهو قد كتب قبل أن يخلق خلقه أن من عباده من هو من أهل الإيمان والسعادة، ومنهم من هو من أهل الكفر والشقاوة.

ذكر ما أخبرنا الله تعالى به في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده

ذكر ما أخبرنا الله تعالى به في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فالباب الأول من كتاب القدر في ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده. إذاً: الختم بإرادة الله عز وجل، فهم لا يهتدون للحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه، فقد طبع على قلوبهم؛ لأن هناك ختماً، وقفلاً، وإغلاقاً، وطبعاً، وكل ذلك بإرادة الله عز وجل. وهنا إن أراد الله تعالى أن يطبع على قلب العبد، ويختم على سمعه وغير ذلك فعل سبحانه وتعالى، إذ إن الله تعالى يعلم أن عبده فلاناً لن يسمع كلام الله، بل لن يطيع الله تعالى، ولن يكون متبعاً لأنبيائه ورسله، فختم الله تبارك وتعالى على قلبه وسمعه بناءً على علمه الأزلي السابق سبحانه وتعالى، وأن هذا العبد إذا بلغه العلم فإنه لا يقبله، وهذا من عدل الله عز وجل.

ذكر بعض الآيات الدالة على ختم الله على قلوب من أراد من عباده

ذكر بعض الآيات الدالة على ختم الله على قلوب من أراد من عباده قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6]، الله تعالى يتكلم عن الكافرين، وسواء عليك يا محمد! أأنذرتهم أم لم تنذرهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنذرهم؛ لأن البلاغ واجب: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، لماذا؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]. فالله عز وجل هو الذي ختم على قلوبهم، وطبع على أعينهم حتى إنهم لا يسمعون الحق: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فالناظر إليهم يجد أنهم بكامل حواسهم، لكن هذه الحواس في حقيقة الأمر غير عاملة، وغير منقادة لله عز وجل. وقال الله عز وجل: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، الباء هنا سببية، أي: بل طبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم. إذاً: هم اختاروا الكفر أولاً، وذلك أن الله عز وجل قد علم أزلاً أنهم سيختارون الكفر على الإيمان، وأنهم سيختارون عصيان الرسل على الانقياد والإذعان والتسليم لهم، فطبع الله تعالى على قلوبهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً. وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، فهذه إرادة كونية قدرية، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]. وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25]، والأكنة جمع كنان وهو الغطاء، {أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام:25]، يعني: هم لا يفقهونه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25]. وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، هذه إرادة شرعية دينية؛ لأن الإرادة الشرعية الدينية مبنية على المحبة والرضا، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وهذه الأخرى إرادة كونية قدرية. وقال عز وجل: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:93]. وقال أيضاً: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]. وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل:108]. وقال عز وجل: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]. أي: ساتراً، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]. وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57]. وقال عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:198 - 201]. وقال عز وجل: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم

هل الإنسان مخير أم مسير؟

هل الإنسان مخير أم مسير؟ قال: [فهذا ونحوه من كتاب الله عز وجل مما يستدل به العقلاء من عباد الله عز وجل المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء]. قوله: (أراد بهم الشقاء)، الإرادة هنا إرادة كونية قدرية، لكن قد يتوجه سؤال وهو: إذا كان الله تعالى قبل أن يخلق العبد كتبه من أهل الشقاء، وأراد به الشقاء، ولأجله خلق النار، فلم يعذبه على ذلك؟! على أية حال الإرادة إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين والإحسان إلى الجيران وغير ذلك، ومع هذا فإنها إرادة كونية، بمعنى: أنها تقع في الكون، وعليه فكل إرادة شرعية دينية هي كذلك قدرية كونية، وليس العكس. وكأن السؤال المطلوب على ألسنة العامة: هل الإنسان مسير أم مخير؟ هو في حقيقة الأمر مخير بعد البلاغ، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده بعد البلاغ سيختار الضلال كتبه مع الأشقياء، وهذا منتهى العدل، فالله تعالى قبل أن يخلقك وهو العليم الخبير يعلم كل شيء في الأزل، بلا أول ولا آخر؛ لأن علمه يختلف عن كل مخلوق من المخلوقين. فالله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا يختار طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يختار طريق الضلالة والغواية والكفر، مع أن الشرع قد بلغه، لكنه اختار غيره، كأن اختار طريق النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها من الديانات، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده فلاناً لا يكون منصاعاً ومنقاداً للنبي عليه الصلاة والسلام كتبه من الكافرين الأشقياء، ولأجله خلق النار سبحانه وتعالى. والله تعالى لما عذبه بإرادته سبحانه وتعالى لم يظلمه، وإنما ذلك قمة ومنتهى العدل؛ لأنه سبحانه علم أزلاً أن هذا العبد لا يؤمن فكتبه أنه من الكفار، كتبه من أول ذنب شقياً، إذ إن الله علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلا إشكال حينئذ، لكن قد يقول قائل: أنا أعمل هذه المعصية، ثم أنا ذاهب إلى النار! ما أدراك أنك ذاهب إلى النار؟ من الذي قال لك هذا؟ إذ إن الأعمال بالخواتيم، وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس، فالعبد لا يدري بماذا يختم له، فكيف يقطع لنفسه بالجنة أو بالنار؟ إذاً: كل ميسر لما خلق له، وكل إنسان يجتهد في طاعة الله عز وجل، ولا يقول: أنا من الأشقياء! قد قضي الأمر. لا، بل لابد أن يسلك طريق الخير والفلاح. فلو أن طريقاً معبداً وطريقاً غير معبد، يعني: طريق سهل والآخر عسير جداً، وقلنا: كلا الطريقين يؤدي إلى الهدف الذي تريد أن تصل إليه، فحيئذ أي الطريقين ستختار؟ بلا شك المعبد، وهذا موقف العقلاء. أما الطريق المكسر والمليء بالشوك والحجارة وغير ذلك فإنها لا يختارها أحد. فكذلك طريق النار وطريق الجنة، فطريق الجنة محفوف بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، والله تبارك وتعالى بين لك هذا في كتابه، وبينه لك رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته. فقال: لا تدخل الجنة إلا إذا صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأتيت بسائر الطاعات، ونهاك عن المعاصي، فإن وقعت فيها فأنت من أهل النار، فالذي يزني أو الذي يعصي وهو يعلم أن غاية المعصية تؤدي به إلى النار ثم هو لا يتوب فهو على خطر عظيم، وإن كانت المعصية شركاً بالله أو كفراً فهو مخلد في النار. وإن كانت معصية كبيرة أو صغيرة وهو قائم على الإسلام وتوحيده، أو يقصر بالأوامر، فإنه بمشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

نفوذ علم الله السابق الأزلي

نفوذ علم الله السابق الأزلي قال الإمام: [فهذه الآيات ونحوها من القرآن الكريم مما يستدل به العقلاء من عباد الله المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء، فكتب ذلك عليهم في أم الكتاب]. وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ، فعلم الله تعالى أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن به، بل يبقى على اليهودية، فكتبه في الأشقياء في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل النفي ولا الإثبات إلا ما أثبته هو سبحانه، فقال {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، أي: في الكتب التي بأيدي الملائكة والحفظة الكرام، أما اللوح المحفوظ فإنه لا يمحى منه شيء كما لا يثبت فيه شيء. فلما علم الله تعالى أن عبده فلاناً يكفر ويموت كافراً كتبه في اللوح المحفوظ، وهذه مرتبة من مراتب القدر وهي الكتاب، والمرتبة الأولى: مرتبة العلم الأزلي لله عز وجل، وأن الله تعالى كتب هذا العلم في اللوح المحفوظ، فهو لا يتبدل ولا يتغير، والعبد لا يدري ماذا كتب له، إذاً فماذا عليه؟ عليه أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، ثم يتقرب إلى ربه بجناحي الخوف والرجاء، الخوف من الله تعالى ومن عذابه وناره، والرجاء في رحمته وجنته، وأن يقبض العبد على الإيمان والإسلام. قال: [فختم على قلوبهم، فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه، وغشى أبصارهم عنه فلم يبصروه، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه، وجعل قلوبهم ضيقة حرجة، وجعل عليها أكنة ومنعها الطهارة، فصارت نجسة؛ لأنه خلقهم للنار، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها، فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]. وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]]، أي: نفذ علم ربك السابق الأزلي، ففي فلان أنه مسلم، وفي فلان أنه كافر. وانظر لحديث ابن مسعود الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)، كيف يكتب عليه الشقاء وهو لم يفعل ما يستوجب هذا الشقاء؟ الله تعالى علم أن هذا العبد إذا ولد وعاش فإنه لا يكون طائعاً ولا منقاداً، وإنما يكون شارداً عنيداً زنديقاً ملحداً كافراً، فلما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتب هذا، بمعنى: سجله عليه بأن عبده سيفعل ذلك، وفي نهاية الأمر سيكون مآله إلى جهنم. والله تعالى ليس بظالم لعبده مع هذا؛ لأن الله تعالى أفرغ عذره بإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب التي فيها هدى ونور، ثم جعله محلاً للتكليف؛ لأن الصبي ليس محلاً للتكليف، والمجنون ليس محلاً للتكليف، والناسي ليس محلاً للتكليف. لكن على أية حال هذه الموانع تجعل الله تعالى لا يحاسب العبد، فتصور طفلاً نشأ نصرانياً ومات، أو طفلاً مات قبل أن يبلغ، فأين هو في الآخرة؟ في الجنة، لذلك فأطفال المشركين قد اختلف فيهم أهل العلم، و (النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أطفال المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)، ولما سئل بعد ذلك قال: (هم في الجنة)؛ لأنه لم يبلغ سن التكليف حتى يعاقب ويحاسب. وكذلك لو أن طفلاً نصرانياً مصاب بالجنون، ومات في سن الخمسين، فهل يحاسبه الله عز وجل؟ لا يحاسبه؛ لأن مناط التكليف قد ذهب عنه وهو العقل، فإذا كان الله تعالى أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب وجعلك عاقلاً بالغاً مميزاً مكلفاً فلا بد أن يحاسبك حينئذ، وهذا من تمام عدل الله عز وجل ورحمته بعباده.

الشر المحض ليس في أفعال الله تعالى

الشر المحض ليس في أفعال الله تعالى قال: [فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به -أي: هذا الذي قلناه وذكرناه فرض على أهل الإيمان أن يؤمنوا به- وأن يردوا علم ذلك ومراد الله تعالى فيه إلى الله، ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه ولا يقولوا: لم فعل الله ذلك؟ ولا كيف صنع ذلك؟ وفرض على المؤمن أن يعلم أن ذلك عدل من فعل الله]. لأنك لو لم تثبت العدل في أفعال الله تعالى فلا بد أن تثبت الجور والظلم، والله تعالى منزه عن كل صفات النقص ومنها الظلم والجور. قال: [لأن الخلق كله لله عز وجل، والملك ملكه والعبيد عبيده، يفعل بهم ما يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويشقي من يشاء، ويذمه على الشقاء]، أي: أن الله تعالى يشقي من يشاء، ومع هذا يذمه على الشقاء، فيريد الله تعالى به الشقاء إرادة كونية قدرية، الله تعالى يكره الكفر، ومع هذا خلقه، فالله تعالى يكره إبليس ويلعنه ومع هذا خلقه، فلا نقول: لم خلق الله إبليس؟ وكيف خلق الله إبليس؟ وما الحكمة من خلق الله لإبليس؟ الحكمة عظيمة جداً من خلق هذه الأشياء التي تضر ولا تنفع في نظر العبد، لكن نفعها كامن في حكمة الله عز وجل؛ ولذلك ليس من أفعاله تبارك وتعالى خلق الشر المحض، بل الشر الذي معه الخير. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: والشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي معه الخير من أفعاله سبحانه، فلو أن قاتلاً قتل، ثم أقمنا الحد على القاتل بالقصاص، فأزهقنا روح الرجل، فكان في ذلك العبرة العظمى لكل من سولت له نفسه أن يقتل، فإنه سيفكر مليون مرة أنه سيقتل في مقابل قتلته. إذاً: لو رفعت هذه الحدود من حياة الناس فإن الجرائم سترتكب بصورة فظيعة جداً؛ لأن القاتل يعلم أنه لا يقتل، والزاني يعلم أنه لا يرجم، والسارق يعلم أنه لا يقطع، ولو كان ذلك قائماً في الأمة لفكر كل إنسان في جريمته قبل أن يرتكبها، وبالتالي تراجع عنها قبل الإقدام عليها. فهذا في حد ذاته خير عام للأمة كلها، وإن كان شراً بالنسبة للفرد. ولو قلنا: إن أولياء القتيل قد تنازلوا عن القصاص، فالذي يتنازل عن القصاص يرجع إلى الدية، والدية مائة ناقة، ولو قلنا الآن أن الناقة بثلاثة آلاف جنيه، إذاً تكون دية هذا المقتول ثلاثمائة ألف جنيه. فلو أن أهل القتيل فقراء، فإن ثلاثمائة ألف جنيه تغنيهم، وهذا في حد ذاته خير، وكان من العرب من يختار الدية في القتل العمد؛ لأن المسلم مخير بين ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، يعني: العفو أفضل، والقصاص والدية كلام الله عز وجل، والدية هذه يسميها العامة: العوض، إذاً هذا الشر الذي قدره الله تعالى في الكون فيه جانب من جوانب الخير، حتى بالنسبة للقاتل، فهو دفع ثلاثمائة ألف جنيه، وهذا يعتبر خراب بيوت، لكن فيه أنه سيرتدع ولا يفكر فيها ألبتة؛ لأنه ربما قتل في المرة القادمة. المهم هناك فوائد كثيرة جداً، وأنه ليس في أفعال الله تبارك وتعالى الشر المحض، بل فيه الخير، ومن أعظم الخير للقاتل إذا دفع الدية أن يمشي آمناً على الأرض، مع أنه قد ارتكب كبيرة من الكبائر، فهذه فائدة عظيمة جداً، وخير عظيم جداً، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، والقصاص دم مقابل دم، ونفس مقابل نفس، ورقبة مقابل رقبة، بينما لو ترك القاتل دون قصاص فانظر ما يحدث، يقول لك: فلان قتل من بني فلان أو من أسرة فلان، ونحن والله لا نرضى أن نقتل منهم فلاناً، بل لا بد أن نقتل منهم عشرة، والعشرة هؤلاء هم فلان وفلان وفلان، ويعدون أشراف العائلة التي منها القاتل، ويقولون: هذا الذي قتل ليس إنساناً معروفاً، ولا قيمة له، وإنما نختار زينة العائلة، وأكثر من هذا من يقول لك: والله لن ندع رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في العائلة إلا قتلناه؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]! نعم النفس بالنفس لا النفس بالأنفس، أو الأنفس بالنفس، فهي نفس واحدة وهي القاتلة، فلو أن القاتل قتل لانتهت القضية، وطهرت ساحة أهل القتيل، فيمشون على الأرض مطمئنين آمنين، إذاً فما قيمة الاعتداء بعد ذلك على الآخرين الأبرياء؟ هذا مما حرمه الله عز وجل، وحرمه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فليس من أفعال الله تعالى الشر المحض، بل فيه خير وفيه شر. أما الشر فإن الله تعالى قدره تقديراً كونياً قدرياً، ولم يرض عنه شرعاً ولا ديناً، وإن كان الله تعالى أذن في وجوده من جهة الخلق، أما من جهة الكسب فإن المكتسب لذلك هو العبد.

اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده

اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده قال: [واختص برحمته من يشاء من عباده، فشرح صدورهم للإيمان به، وحببه إليهم، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وسماهم راشدين، وأثنى عليهم بإحسانه إليهم]. يعني: هو الذي أحسن إليهم، ومع هذا أثنى عليهم بعد ذلك، كما أن الله تعالى كتب الشقاء على الأشقياء كتابة قدرية كونية، وذمهم على ذلك؛ لأن الله تعالى علم أنهم سيختارون طريق الغواية والضلال. ثم الطريق المقابل -نسأل الله أن يجعلنا منهم- أهل الإيمان الذين حبب الله تعالى إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأحسن إليهم، ثم مدحهم وأثنى عليهم، مع أن ذلك من فضل الله عز وجل، ولو أراد الله تعالى أن يضيق صدورنا لفعل، ولكن الله تعالى رحمة منه وفضلاً جعلنا مؤمنين. قال: [لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه رحمة منه لهم، وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على إحسانه إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]]. مع أنه في حقيقة الأمر هم لا يقدرون على أن يدفعوا ثمن الجنة، فربنا سبحانه وتعالى جعل الجنة دار نعيم يجزي بها أولياءه، وأنا لو عملت كيت وكيت وكيت فلن أستحق أدنى نعيم في الجنة، يعني: ليس على قدر ما تأخذ على قدر ما تعطي، فإن الجنة أحسن من ذلك بكثير، ويكفي فيها النظر إلى وجه الله الكريم، ولو أعطى ربنا أحدنا مليون سنة فعبد الله تعالى فيها بالليل والنهار، فهل يبلغ في المكافأة رؤية المولى عز وجل؟ أبداً، بل لا يزال المهر بسيطاً، بل والله إن الواحد منا لا يستحق الحور العين التي هي مخلوقة من المخلوقات، الحور العين التي ترى مخ ساقها من تحت سبعين ثوباً، وإذا نظرت في خدها رأيت صورتك فيها، فضلاً عن الجنة وما فيها، إذ فيها غرف يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، (أقل أهل الجنة نعيماً: رجل أخرجه الله تعالى من النار، وجعله يسلك الطريق المؤدي إلى الجنة، فلما رأى شجرة من بعيد قال: رب أدنني من هذه الشجرة، قال: لعلك لو دنوت منها سألتني شيئاً غيرها، قال: لا وعزتك وجلالك لا أسألك غير ذلك، فلما أدناه منها رأى شجرة أخرى على باب الجنة فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة التي عند باب الجنة، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم أقل كذا وقلت: كذا؟ فقال: يا رب! إن أدنيتني منها لا أسألك شيئاً بعدها، فلما أدناه من الشجرة التي على باب الجنة نظر إلى الجنة ونعيمها فقال: رب! أسألك برحمتك أن تدخلني الجنة؟ قال: ما أغدرك يا ابن آدم!)، وفي نهاية الحديث: فأدخله الله الجنة فقال له: (تمن)، فتمنى العبد كيت وكيت وكيت وكيت، (فإذا خلصت أمنياته ذكره الله تعالى، قال: تمن كذا وتمن كذا وتمن كذا وتمن كذا)، والله تعالى يذكره أن يتمنى، فلما تمنى كل شيء من عند نفسه ومما ذكره الله تعالى به قال النبي عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: (فلك مثل الدنيا وعشرة أمثالها)، وفي رواية: (لك مثل الدنيا ومثلها ومثلها ومثلها ومثلها) حتى عد عشرة أمثالها، ليس مصر ولا القاهرة ولا الجيزة ولا الإسكندرية، بل الدنيا بأسرها، وهذا نعيم آخر رجل يدخل الجنة، فكيف بأعلى نعيم لأهل الجنة؟! أولئك الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون وحسن أولئك رفيقاً، نسأل الله أن يجعلنا منهم. قال: [وأثنى عليهم بإحسانه إليهم؛ لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه رحمة منه لهم وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على إحسانه إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، فقالوا حين قبضوا ثمن ابتياعه منهم ووصلوا إلى ربح تجارتهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]. فيسأل الجاهل الملحد المعترض على الله تعالى في أمره والمنازع له في ملكه، الذي يقول: كيف قضى الله علي المعصية؟]. أي: لماذا كتب الله علي المعصية؟! إذا قلنا: إن العبرة بالخواتيم، ساعتها يا إخواني! الواحد منا دائماً بعد الذنب وبعد التوبة منه يكون أحسن حالاً من قبل الذنب؛ ولذلك العلماء يقولون: رب معصية أدخلت صاح

الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة

الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة لكن السؤال هنا: هل يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ فلو أن واحداً زنا، ثم سئل: لماذا زنيت يا فلان؟ يقول: كان ذلك مقدر علي! فهو يحتج بالقدر على المعصية، مع أنه لا يكون شيء في الكون إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ففعل الزنا مكتوب في اللوح المحفوظ، وإقامة الحد كذلك من تقدير الله ومكتوب في اللوح المحفوظ. ولذلك عمر رضي الله عنه لما أراد أن يدخل الشام وكان قد بلغه أن بها طاعوناً جلس يستشير أصحابه: ماذا نعمل؟ فقال بعضهم: لا ندخل، وبعضهم قال: ندخل، فرجع عمر رضي الله عنه ولم يدخل القرية، فقال له أحدهم: يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله؟ يعني: توكل على الله وادخل القرية، فقال: أفر من قدر الله إلى قدر الله، يعني: هذا الذي نحن فيه كذلك مكتوب علينا. وسئل علي بن أبي طالب عن القدر فقال: هو سر الله تعالى المكنون، أي: المكتوب فلا يسأل عنه أحد، كما سئل رضي الله عنه عن القدر والكتابة في اللوح المحفوظ فبل إبهامه وطبع به في باطن كفه الأخرى وقال: هذا والله مكتوب في اللوح المحفوظ، أن علي بن أبي طالب سيفعل هذا في المكان الفلاني، في اللحظة الفلانية، بالطريقة الفلانية. فإيمان علي بن أبي طالب إيمان الأثبات الأولياء، يعلم أنه ما من شيء في الكون إلا ويكون في قدرة الله عز وجل، لكن هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟ A لا، وبعض الناس يظن أن الاحتجاج بالقدر على المعصية أمر لا حرج فيه. ويحتج بما ورد عن آدم أبي البشر الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأدخله الجنة، إذ قال عليه السلام لموسى: أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة بيده، أترى أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ؟ أي: المعصية التي عملتها -الأكل من ورق الشجر- كانت مكتوبة علي في اللوح المحفوظ، فحج آدم موسى، أي: انتصر آدم على موسى. فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر قبل أكل الشجرة، وإنما احتج بالقدر بعد أكله من الشجرة، وهذا نهج أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يحتجون بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة، أما قبلها فهذا مسلك أهل البدع، فالواحد إذا وقع في زلة أو معصية أو حتى في كبيرة من الكبائر فإن الواجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يمتلئ قلبه من الهم والغم والبكاء والحزن، وإذا كان هناك حد بادر إلى إقامة الحد عليه، ويقدم الاستغفار والتسبيح والتهليل والذكر والصدقة وغير ذلك مما يمحو هذا الذنب، ثم هو لا يتمادى في التأثر بهذا الذنب حتى يكون هذا التأثر سبباً في هلاكه، لأن هذا ليس مطلوباً منه، وإنما المطلوب منه التوبة والرجوع إلى الله، لا أنه يجلس في غم وهم ونكد طيلة حياته الباقية مما يعجزه عن القيام بأدنى مهامه التي خلق لها، أو أنه يمتنع عن الطعام والشراب، أو يمتنع عن الجهاد إذا نودي إلى الجهاد، وإنما يجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يستغفر من ذنبه الله تعالى وغير ذلك. ويقدم من الطاعات والأعمال ما يكون سبباً لكفارة ذنبه الذي ارتكبه. وعلى أي حال ما وقع ذنب إلا بقدر، وإذا كان الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة فهو أمر مشروع، أما إذا كان قبل التوبة فهي طريقة أهل البدع. قال: [قال الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ} [الحجرات:17]]، من الذي يهدي؟ من الذي يضل؟ يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، يهدي من يشاء مشيئة وإرادة شرعية دينية، ويذل من يشاء إرادة ومشيئة كونية قدرية. قال: [قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، فهذه طريقة من أحب الله تعالى هدايته إن شاء الله، ومن استنقذه من حبائل الشياطين، وخلصه من فخوخ الأئمة المضلين]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

التوفيق بين كفر من ألقى المصحف إلى الأرض استهزاء وبين إلقاء موسى للألواح

التوفيق بين كفر من ألقى المصحف إلى الأرض استهزاءً وبين إلقاء موسى للألواح Q ذكرت إجماع أهل العلم على كفر من ألقى المصحف في النجاسة أو وطئه بقدميه، فكيف نرد على من حكى نفس القصة التي ذكرت فيها عالم الأزهر، لكنه قال: إنه قطع المصحف ووضعه في دورة المياه، ثم عندما لاحظه المراقب ألقى به ووطئه بقدميه، وقال هذا الشيخ: إنه لا يكفر، واستدل بإلقاء موسى للألواح، فكيف نرد على هذا؟ A هذا الذي فعله الطالب إنما فعله من باب الخوف على مستقبله، وما كان ينبغي قط أن يفعل ذلك. أما هل هناك وجه للمقارنة بين هذا الفعل وبين فعل موسى عليه السلام؟ A لا؛ لأن موسى ألقى الألواح من شدة الغضب، وفي نسختها هدىً ونور، فموسى عليه السلام غضب غضباً أخرجه في هذه اللحظة عن إدراك ما يفعله، فألقى الألواح وهو غضبان. ثم لما هدأ ورجع إلى رشده أخذ الألواح بيده، فموسى عليه السلام معذور لفرط غضبه، والمرء لو بلغ درجة الإغماء من الغضب لا يترتب على أفعاله وأقواله أحكاماً، فلو أنه ألقى ولده من أعلى، أو ألقى أحداً من الناس من أعلى، فإنه لا يحاسب على ذلك، أي: لا يقتص منه، ولو أنه أغلق إغلاقاً وقال لامرأته في الإغلاق: أنت طالق، فإن الطلاق لا يقع منه، وغير ذلك من الأحداث.

الإمساك عن الكلام في القدر أمر واجب

الإمساك عن الكلام في القدر أمر واجب Q بما أن المولى عز وجل يعلم الغيب، وكله مكتوب في اللوح المحفوظ، فلماذا يغضب الله من ذنب أو معصية يفعلها عبد من عباده، على الرغم من علمه المسبق لوقوع هذا الذنب أو المعصية، أيكون غضب الله تعالى عند اقتراف العبد لهذا الذنب وما يعقبه من عذاب هو أيضاً قدر مكتوب؟ A إذا ذكر القدر فأمسكوا، والإمساك عن الكلام في القدر هو من مثل هذه الأسئلة، فلا يحل لمسلم أن يسأل هذا السؤال.

من السنة تصويب النظر إلى محل السجود في الصلاة

من السنة تصويب النظر إلى محل السجود في الصلاة Q أرى كثيراً من الإخوة الفاضلين يتهاونون في أمور كثيرة في الصلاة وبالأخص تصويب النظر، فما نصيحتكم لهم؟ A على أية حال النبي عليه الصلاة والسلام في سنته العملية بين أن موضع السجود هو محل النظر، وهذا مذهب جماهير العلماء. وبعض العلماء قال: لا مانع أبداً أن ينظر المصلي أمامه، واحتجوا بظاهر قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، أي: اتجاه أو مقابل.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) Q قرأ الإمام قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، فهل هذه الآية من المتشابهات أم المحكمات؟ A هذه الآية من المحكمات، والذي نريد أن نصححه إجمالاً أن آيات الصفات ليس فيها متشابهات، والذي يقول بذلك هو في الحقيقة معتقد أهل البدع. أما معنى الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: أن عيسى عليه السلام يقول: إذا كنتم تزعمون أني ولد الله وأني ابن لله عز وجل فأنا أبرأ إلى الله من هذه التهمة وهذه الفرية، وعلى فرض ثبوت كلامكم فأنا أول العابدين لله، وليس في الآية إثبات الولد لله، بل هي من أقوال المشركين الكفار، وعيسى عليه السلام الذي هو نبي الله تعالى في ذلك الزمن تبرأ من هذه المقولة، وقال: إذا كنتم تزعمون أن لله ولداً، فأنا أبرأ إلى الله تعالى من ذلك، بل أنا أقر بأني أول العابدين، ولست ولداً كما تزعمون.

حكم إتيان الزوجة في حال حيضها

حكم إتيان الزوجة في حال حيضها Q ما حكم من أتى زوجته وهي حائض وهو يعلم وهي تعلم؟ A كلاهما آثم، ويجب في حقهما التوبة والكفارة، والكفارة أن يتصدق كل منهما بنصف دينار، ونصف الدينار حوالي ثمانين جنيهاً تقريباً.

كيفية التوفيق بين ما كتب في أم الكتاب وبين أن الدعاء يرد القدر

كيفية التوفيق بين ما كتب في أم الكتاب وبين أن الدعاء يرد القدر Q كيف نوفق بين ما كتب في أم الكتاب وبين أن الدعاء يرد القدر؟ A على أية حال أنا قلت: ما كتب في اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا الإثبات. والإمام ابن القيم في الداء والدواء يقول: الدعاء مع البلاء على ثلاثة أنواع: فإذا كان الدعاء أقوى من البلاء رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء على العبد، وإذا كان الدعاء والبلاء في قوة واحدة فهما يعتلجان في السماء، هذا كلام ابن القيم عليه رحمة الله. وكون الله تعالى قدر البلاء ثم رفعه الدعاء، يعني: كان الدعاء أقوى من البلاء، وقرب العبد لمولاه كان قريباً، فهذا قد علمه الله تعالى أزلاً فكتب في اللوح المحفوظ أن هذا البلاء لا يصيب العبد، فإنه أحياناً تأتي الأوامر الشرعية ولا يكون المراد منها حقيقة الابتلاء والاختبار فقط، أي: لما أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم أن يذبح ولده، هل أراد الله لهذا الأمر أن ينفذ أم هو للابتلاء والاختبار؟ لو أراد إنفاذه فكان لا بد أن ينفذ، حتى ولو أن الله تعالى أنزل ألف كبش فداء، فلا بد أن ينفذ؛ لأن الله تعالى أراد إنفاذه، ولو أراد الله تعالى إنفاذه لما أنزل كبشاً. إذاً: أمر الله تعالى أمراً مفاده الابتلاء والاختبار، مع أن الله يعلم أن هذا موقف إبراهيم، والله يختبر إبراهيم عليه السلام، وموقف إبراهيم عليه السلام معلوم لله عز وجل منذ الأزل، وإبراهيم عمل ذلك حتى يكون سنة للأمة إلى قيام الساعة، فيقال: هذا سيد الأنبياء قد فعل به كيت وكيت وصبر، وقدم ولده فداء.

استئناف ثلاث طلقات لرجل طلق امرأته ثم تزوجها بعد زوج آخر

استئناف ثلاث طلقات لرجل طلق امرأته ثم تزوجها بعد زوج آخر Q إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر، فهل يكون بذلك قد هدمت الطلقات الثلاث، بحيث لو طلقها الثاني أو مات عنها وتزوجها الأول كان له ثلاث طلقات؟ A لو أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فتزوجت من بعده رجلاً آخر ثم طلقها فتزوجها الأول، فإن له عليها ثلاث طلقات، وهذا إجماع، وكذلك لو أن رجلاً طلق امرأته طلقة واحدة وتزوجها الثاني، ثم طلقها طلقة واحدة فتزوجها الأول، فكذلك له عليها ثلاث طلقات، وهذه أيضاً من مسائل الإجماع.

حكم من قال: لا تجعلوني أكفر

حكم من قال: لا تجعلوني أكفر Q ما حكم امرأة قالت في حالة غضب: لا تجعلوني أكفر، تعني بذلك أن تشق ثيابها أو أن تلطم وجهها، وماذا تفعل كي تتوب؟ A على أية حال إذا بلغ منها الغضب مبلغاً عظيماً جداً فلا حرج عليها، وهذا أمر لا تكفر به إذا كان في حالة الغضب، أما إذا لم تكن في حالة غضب فإن ذلك قد يكون حرجاً، لكنها لا تكفر به أيضاً؛ لأنها قالت: لا تجعلني أكفر؛ يعني: أنا لم أقل قولاً ولم أفعل فعلاً حتى أكفر به، فهي تنهاه أن يكون سبباً في كفرها مستقبلاً، كما لو قال رجل لامرأته: سأطلقك، فهل كلمة (سأطلقك) يقع بها الطلاق؟ لا يقع بها؛ لأنه يقول لها: سأطلقك، أي: في المستقبل. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ذكر ما أعلمنا به الله في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء

شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أعلمنا به الله في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء الله عز وجل هو الهادي المضل، كتب لمن شاء من عباده الهداية والسعادة، وقدر على من شاء منهم الغواية والشقاوة، والرسل الذين يرسلهم الله بالتوحيد ليسوا مكلفين إلا بالبلاغ، أما الهداية فهي أمر اختص الله عز وجل به، وجعل أمره إليه، وهذا من إحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر أو يخوض فيه بالجهل والهوى.

مراتب القدر

مراتب القدر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا يمكن لأحد أن يفهم سر القدر إلا بمعرفة مراتب القدر، ومراتب القدر: العلم، والكتابة، والإرادة، والخلق. فالمرتبة الأولى: العلم، وهو علم الله تعالى الأزلي السابق بما كان وبما سيكون. المرتبة الثانية: الكتابة، وأن الله عز وجل كتب كل ما سيكون في اللوح المحفوظ. ومرتبة العلم أدلتها من الكتاب والسنة كثيرة جداً، ومنها اسم الله تعالى العليم. وأما الكتابة فمن الأدلة عليها قول الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]. والمحو والإثبات يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو، كما قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))، أي: الذي لا يقبل بعد ذلك محواً ولا إثباتاً. وجاء في مسلم: (إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). والمرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة، والإرادة إرادتان، شرعية دينية، ومبناها على المحبة والرضا، مثل قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. فمن صلى حقق محبة الله عز وجل ووافق إرادة الله تعالى الشرعية. وإرادة كونية قدرية، وهي كل ما يقع في الكون من خير وشر، فإذا كان خيراً فقد وافق مراد الله عز وجل كوناً وشرعاً، وإذا كان شراً فقد وافق مراد الله تعالى القدري الكوني، وخالف الإرادة الشرعية، فالزنا والسرقة والقتل وفعل المعاصي كل ذلك يقع بإرادة الله عز وجل ومشيئته تعالى؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله تعالى وقدر، فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً رغماًَ عن الله عز وجل، فكل ما يكون في الكون من خير وشر هو بإرادة الله تعالى ومشيئته، ولا يعني ذلك أن الله تعالى يحب هذا، بل إنه تعالى يحب الخير ويبغض الشر، كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]. ومع هذا أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي، الكبائر منها والصغائر، ونهى عنها، فمن امتثل النهي فقد وافق الإرادة الشرعية، ومن خالف النهي ووقع في المحذور فقد خالف الإرادة الشرعية ووقع في الإرادة الكونية القدرية. المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ فلا خالق إلا الله، فهو تعالى الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، ولا يصح أن نقول: لم خلق الله إبليس؟ ومرتبة الخلق تعني: أن أفعال العباد من خلق الله عز وجل، وكتب الأفعال بأيدي الملائكة، فالسارق الذي ينطلق من مكانه إلى موضع السرقة ثم يكسر الحرز ويأخذ المال المسروق لو أن الله تعالى أراد ألا يسرق لما مكنه من ذلك، فنقول: الله تعالى مكن هذا السارق من إيقاع السرقة، ولكن الذي باشر السرقة هو العبد. فأفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وقوع السرقة من باب الخلق والإيجاد، وأما من باب الكسب والمباشرة فالذي اكتسب السرقة هو العبد. والله عز وجل هو خالق الخير والشر، والهدى والضلال، وبعض الناس استشكل ذلك، وسأل: كيف خلق الله تعالى الشر؟ ونقول: الشر ليس شراً محضاً، فما من شر إلا ومعه خير، إما للعبد وإما لغير العبد، وهذا الخير الذي مع الشر إما أن ينتفع به الشرير أو ينتفع به المجتمع بأسره، فمثلاً الزنا والسرقة والقتل شرور، بل كبائر تتلو بعضها بعضاً، ولكن لو أن سارقاً سرق فأقيم عليه الحد بقطع اليد ورأى ذلك طائفة من الناس، فكل واحد ممن رأى أو سمع لابد أنه سيفكر مليون مرة إذا سولت له نفسه السرقة، وبالتالي يكف عن السرقة، ولذلك لما رفعت الحدود تجرأ القاصي والداني على السرقة وعلى القتل والزنا؛ لأنه يعلم أنه لن يقام عليه حد. وفي ظل هذه المدنية والتقنية العظيمة جداً نقول: إن الحدود خيرها ونفعها متعد إلى أقصى حد، فلو أقيم على الهواء حد على الزاني أو السارق لفكر العالم بأسره فيما لو أراد أن يسرق أو يزني أنه سيفعل به مثلما فعل بفلان من الناس في البلد الفلاني، فالأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، ولكن الشر الذي يبدو للناس أنه شر وفيه وجه من وجوه الخير فهذا مما أذن الله تعالى في وقوعه ووجوبه وخلقه، والذي باشر ذلك وكسبه هو العبد.

تابع ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده

تابع ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الأول: ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده] أي: أن الله تعالى أراد أن يختم على قلوب فريق من عباده ففعل. قال: [فهم لا يهتدون إلى الحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه]، وأنه طبع على قلوبهم، أي: ختم عليها وطبع عليها، فهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرونه ولا يهتدون إليه؛ لأن الله تعالى بعلمه السابق الأزلي علم أن هذا العبد الذي طبع على قلبه بعد ذلك عبد شقي وليس عبداً سعيداً، فعلم الله تعالى ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، وطبع على قلب العبد حتى لا يسمع ولا يهتدي إليه، وهذا من أفعال الله عز وجل، ولذلك من المسائل المهمة جداً في باب القدر نفي القياس بين أفعال الله وأفعال الخلق؛ لأن أفعال المخلوقين فيها عدل وفيها ظلم، مثلما لو قلنا لشخص: لن نعقد الاختبار في الأسبوع القادم، ثم فاجأناه بالاختبار فهذا ظلم؛ لأننا وعدناه بعدم الاختبار، ثم فاجأناه بذلك وطالبناه به، وهو غير مستعد له، فهذا نوع ظلم وقع من الإنسان على بني جنسه. في حين أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه سيبتلي وسيختبر العباد في الدنيا والآخرة، فمن آب وتاب دخل الجنة وإلا فلا.

الأدلة من القرآن على أن الله يختم على قلب من أراد من عباده ويجعله من أهل الشقاء

الأدلة من القرآن على أن الله يختم على قلب من أراد من عباده ويجعله من أهل الشقاء قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6]. وهذا الخطاب موجه لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يقول: يا محمد! هؤلاء الكفار ((سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، أي: عندهم، {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، والسبب {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]. فإذاً: الختم على القلب والسمع، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]. والشخص إذا كان أعمش فإنه لا يرى الشيء رؤية واضحة، فضلاً عن أن يكون أعمى فإنه لا يرى شيئاً أصلاً، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]. والله عز وجل هو الذي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، ومع هذا أعد لهم يوم القيامة عذاباً أليماً؛ لأنهم اختاروا الكفر على الإيمان، فالآية في أولها تقول: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، يعني: عندهم ((أَأَنذَرْتَهُمْ)) يا محمد! ((أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، وذلك بسبب تمكن الكفر من قلوبهم، واختيارهم للكفر على الإيمان، وعلامة ذلك: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)). هذا في الدنيا، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً أليماً. ولو أن هذا وقع من العبد على العبد لقلنا أن فيه نوع ظلم، بل هو الظلم بعينه، ولكن لا نقول: إن هذا فعل من أفعال الله مبني على ظلم العباد؛ لأن الظلم صفة نقص، والله تبارك وتعالى منزه عن صفات النقص ومتصف بصفات الكمال، فلا يجوز توجيه السؤال ابتداء؛ لأن هذا من أفعال الله، وأفعال الله تبارك وتعالى كلها مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فالله تبارك وتعالى يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء، مع أن العقل يقول: الحسنة تقابل الحسنة، والسيئة تقابل السيئة، ولكن هذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء. وقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]. والباء للسببية، والضمير في عليها يعود على القلوب، ((بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ))، أي: بسبب كفرهم، {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]. وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]. والإرادة هنا إرادة كونية قدرية؛ لأنها متعلقة بالفتنة، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]. وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25]، أي: أغلفة وأغطية، {أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، أي: ثقلاً في آذانهم، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25]. وهذه إرادة كونية قدرية كذلك؛ لأنهم يسمعون، لكن ليس سماع المجيب، والسماع أنواع، فهناك من يسمع ولا يلقي بالاً لما يسمعه، وهناك من يسمع ويستجيب وينفذ فوراً، وأنت تقول في صلاتك: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله تبارك وتعالى حمد من حمده، فالثناء في قوله: سمع الله لمن حمده سماع إجابة، ولو أنك فتحت الراديو أو المذياع على أغنية وسمعتها بمحض إرادتك فإنك تأثم بذلك، ولو فتحها أحد بجوارك وليس في إمكانك أن تنهاه عن ذلك، أو نهيته فلم يستجب، وهو قريب منك أو جار لك، بحيث لا يمكنك أن تقول: أنا ما سمعت الأغاني أو الموسيقى؛ لأنك قد سمعتها بالفعل، فهذا سمع غير إرادي وقع على أذنك، والأول سمع إرادي أنت قد اقترفته. فأنت في الحالين قد سمعت، فمرة سمعت بإرادتك وأنت آثم، ومرة سمعت بغير إرادتك ولا تأثم بذلك. فهناك فرق بين سماع الإجابة وسماع الإعراض. وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]. وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأن مبناها على المحبة والرضا، فالله تعالى يحب الإسلام والإيمان، فمنهم من سمع واستجاب، ومنهم من سمع وأعرض، فأما من سمع واستجاب فهذا قد شرح الله تعالى صدره للإسلام. وهذا الشرح من إرادة الله تعالى الشرعية الدينية. قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125]. والناس هم الذين اختاروا طريق الضلال، ولا عذر لهم في ذلك؛ لأن الله تعالى أراد ابتداء هداية الخلق جميعاً، ولذلك جعلهم عقلاء، ولم يكلف المجنون ولا الصبي الصغير، ثم أرسل إليهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وأقام عليهم الحجة، فمن أعرض عن دعوة الأنبياء والمرسل

علم الله مطلق وعلم الخلق محدود

علم الله مطلق وعلم الخلق محدود أنت الآن لا تعلم إلا بعض ما مضى عليك، وأما المستقبل فلا تعلمه، فربما تنزل علينا صاعقة من السماء فلا يقوم منا أحد، فلا تقل: بعد خمس دقائق سأقوم وأتوضأ أو أنطلق إلى المسجد، فهل ضمنت أن تحيا خمس دقائق؟ وما مضى من أحداث لا تذكر منها إلا اليسير. وأما علم الله عز وجل فهو مطلق، وهو على الكمال التام في كل أسمائه تعالى وصفاته، فالله تعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وما لو كان كيف يكون، ويعلم الفعل وكيف يكون الفعل، ويعلم القول وكيف يكون بالقول، فهو علم مطلق شامل لا يحده حد. وعلم العباد لا يتساوى مع علم الله عز وجل، وكذلك بقية الأسماء والصفات، فالله تبارك وتعالى مالك الملك، فهو المالك سبحانه وتعالى، وهو المتصرف فيما يملك بكل أنواع التصرف، وهذا هو الأصل في الملك، والإنسان ليس مالكاً حقيقياً؛ لأن مالك الملك يملكك وما تملك، ولذلك أمرك أن تصنع في مالك المعروف، ونهاك أن تصنع فيه المنكر، فلا تقل: سأشرب بمالي الخمر؛ لأنك تأثم بذلك وهو محرم عليك، فلا تتصرف في مالك إلا على وفق الشرع الذي شرعه مالك الملوك سبحانه وتعالى، وأما الله تبارك وتعالى فيتصرف في ملكه كيف شاء، فهو يهدي فلاناً ويضل فلاناً، ويسعد فلاناً ويشقي آخر. وإذا أسعد فلاناً فهذا فضل الله عز وجل، وإذا أشقى فلاناً فهذا عدل من الله عز وجل؛ لأن أفعال الله تعالى تدور بين الفضل والعدل، وكلها متصفة بالحكمة.

ختم الله على قلوب الكفار

ختم الله على قلوب الكفار قال: [فختم على قلوبهم -أي: الأشقياء- فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه، وغشى أبصارهم عنه فلم يبصروه، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه، وجعل قلوبهم ضيقة حرجة، وجعل عليها أكنة، ومنعهم الطهارة فصارت رجسة؛ لأنه خلقهم للنار، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها، فإنه قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]]، أي: أضل من الأنعام، والأنعام أشرف منهم. وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. وهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به]، أن يؤمنوا أن الهداية بيد الله ومن عنده، وأن الشقاء بيد الله ومن عنده، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، وكل ذلك داخل في مشيئته عز وجل، فهدايته للخلق محض فضل الله تعالى على من هداه، وإضلاله وإتعاسه وإشقاؤه لبعض خلقه عدل من الله عز وجل. قال: [فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به، ويرد علم ذلك ومراد ذلك إلى الله تعالى، ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه]. يعني: أنت لا يحق لك أن تقول: لماذا أضل الله فلاناً؟ والله قادر على أن يجعل شارون مسلماً؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، وهو قادر على ذلك، ولو أراد الله عز وجل لقذف الإيمان في قلب شارون، وسيكون هذا حدث من الأحداث التي يتكلم عنها القاصي والداني، والتي ستغير وجه الأرض ووجه العالم، وهذا فيما يتعلق بنظري ونظرك، ولكن علم الله عز وجل مقدم على ذلك، وقد علم أن الحكمة في بقاء شارون على الكفر، ومعلوم أن اليهود والنصارى كفار، وهذا معلوم بالضرورة، وقد نوقشت. رسالة في جامعة القاهرة منذ عدة أيام، ولما قال الطالب: وقد قال فلان من الكفار، قالوا له: إنه ليس من الكفار، فقال: أليس هذا كاتب إنجليزي؟ قالوا: نعم كاتب إنجليزي، وهو نصراني، فكيف يكون كافراً؟ فقال: الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فقال له المناقش: هؤلاء إخواننا في الإنسانية، ولا داعي لأن نسميهم كفاراً. والأمر بيننا وبين اليهود والنصارى إيمان وكفر، وليس هناك وسط بيننا وبينهم، وهو إما أن يكون مؤمناً أو كافراً، فلما نفى الله عز وجل عنهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بسبب إعراضهم عن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كفروا قولاً واحداً، ومن قال غير ذلك فهو جاهل غبي أحمق، لا علم له بالكتاب ولا بالسنة كذلك.

حكم الزواج من اليهودية أو النصرانية

حكم الزواج من اليهودية أو النصرانية لا يحل للمسلم أن يتزوج إلا امرأة مؤمنة أو امرأة نصرانية أو يهودية، والمرأة المؤمنة خير من ملء الأرض من اليهوديات والنصرانيات، والشرع أجاز لنا أن نتزوج الكتابية، ولا تقل: إن كتب اليهود والنصارى قد حرفت، فقد حرفت من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنصرانية إذا زعمت أن عيسى هو الله أو ابن الله لا يحل الزواج منها، وإنما النصرانية التي تؤمن أن عيسى رسول الله هي التي يحل الزواج منها، وأما التي تزعم أن عيسى ابن الله أو هو الله فهذه امرأة مشركة ولا يحل لنا أن نتزوج المشركات.

أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة

أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة لا ينبغي للمخلوقين أن يسألوا: لم فعل الله ذلك؟ ولا كيف فعل الله ذلك؟ فالله يفعل هذا بعلم وحكمة، ولست مطالباً بالكيفية أبداً، بل إنك منهي عن الخوض فيها، وقد فرض الله تعالى على المؤمن أن يعلم أن ذلك الفعل عدل من الله، يعني: إذا فعل الله تعالى فعلاً ولم تعلم حكمته فعليك التسليم، سواء علمت الحكمة من ورائه أو لم تعلم، لأن عندك أصلاً أصيلاً، وهو أن أفعال الله تعالى كلها مبنية على الحكمة. فإذا جاء شخص معتزلي عقلاني من المدرسة العقلية يقول: إن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر والتعقل، فقال: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ))، ((أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ))، فنقول له: نعم أمرك بهذا، ولكنه جعل لعقلك حداً لا تتعداه، فإذا شرع الله تبارك وتعالى شرعاً وأعلمك وأطلعك على الحكمة منه فهذا خير وبركة، ولا يلزم من ذلك أن تعلم الحكمة من كل فعل من أفعال العباد، ولا من كل تشريع من تشريعات الله عز وجل.

فضل الله سبحانه على عباده

فضل الله سبحانه على عباده قال: [قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]. فأخبر أنه حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وسماهم راشدين، وأثنى عليهم بإحسانه إليهم]. يعني: أنه سبحانه وتعالى أحسن إليهم وهداهم وأرشدهم إلى الحق، ومع هذا يمدحهم؛ لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه؛ رحمة منه لهم وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على الإحسان إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. والجنة: مخلوقة لله عز وجل. ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. فثمن الجنة أن أبيع نفسي ومالي لله عز وجل، فالله عز وجل هو الذي رزقك هذا المال، وهو الذي هدى نفسك للإيمان وحببه إليها، فهو تبارك وتعالى يمن عليك ثم يشكرك على ذلك، ويجزيك داراً عرضها السماوات والأرض سبحانه وتعالى. ولو أن العبد عمر مليون عام في عبادة الله عز وجل فإنه لا يستحق الجنة على ذلك، لأن هذه العبادة الله عز وجل هو الذي قواه عليها، وقد كان من الأول قادراً أن يسلبه القدرة عليها. ولو أن العباد عمروا ملايين الأعوام فقضوها في عبادة الله لما استحقوا جزاء أفعالهم وعبادتهم هذه الدار، ولكن الله تبارك وتعالى حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم جازاهم على إحسانه إليهم الجنة. فلا يمكن أبداً أن تساوي عبادتهم فضل الله عز وجل، ولكنه فضل الله تعالى، وهم لما قبضوا ثمن ابتياعه منهم ووصلوا إلى ربح تجارتهم لابد أن يشكروا الله حق الشكر، فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. فالهداية بيد الله عز وجل، والذي يملك الهداية لابد أنه يملك الشقاء، لأنه لا يوجد إله يملك الهداية وإله آخر يملك الشقاء، وإنما الذي بيده الهداية هو الذي بيده الضلال، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو إله واحد، يملك هذا وذاك، ويملك العالمين سبحانه وتعالى.

بعض اعتراضات الملحدين على قدر الله والجواب عليها

بعض اعتراضات الملحدين على قدر الله والجواب عليها الجاهل الملحد المعترض على الله عز وجل في أمره والمنازع له في ملكه يقول: كيف قضى الله علي بالمعصية ثم يعذبني عليها؟ وأحياناً يورد الواحد منا في ذهنه هذا Q لم لم يهد الله فلاناً وهو قادر على هدايته؟ وإذا كان ربنا سبحانه وتعالى هو الذي يملك الضلال وهو الذي أوجبه على هذا العبد فلم يعذبه مادام أنه هو الذي فرضه عليه؟ وهذا السؤال من أعظم أوجه الإلحاد، والذي يسأل هذا السؤال لا علم له بالإيمان بالقضاء والقدر أبداً؛ لأنه لو علم مراتب القدر أو بعضاً مما ذكرناه فلا يمكن أن يخطر بباله هذا السؤال. ويقول: وكيف حال بين قوم وبين الإيمان؟ وكيف يصليهم على ذلك في النيران؟ ثم يعترض عليه في هدايته لأنبيائه وأصفيائه وأوليائه، فيقول: لم خلق الله آدم بيده، وأسجد له الملائكة؟ ولم اتخذ إبراهيم خليلاً وآتاه رشده من قبل؟ ولم كلم الله موسى تكليماً؟ ولم خلق عيسى من غير أب وجعله آية للعالمين وخصه بإحياء الأموات، وجعل فيه الآيات والمعجزات؛ من إبراء الأكمه والأبرص وأن يخلق من الطين طيراً؟ تعالى الله عن اعتراض الملحدين علواً كبيراً. ونحن نقول: إن لله المنة والشكر فيما هدى وأعطى، وهو الحكم العدل فيما منع وأضل وأشقى، يعني: بحكمة الله عز وجل وعدله أشقى فلاناً ولم يظلمه؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، فله الحمد والمنة على من تفضل عليه وهداه، وله الحجة البالغة على من أضله وأشقاه. قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، فالهداية بيد الله عز وجل. فقوله: ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا))، أي: الإسلام أنت لا تملكه، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]. فالذي شرح صدرك للإسلام هو الله، فهو الذي هداك إليه، فلا تمن على الله بأنك مسلم، بل هو الذي يمن عليك بهذا الإسلام والإيمان؛ لأنه هو الذي شرح صدرك إليه ووفقك لاتباع الإسلام وقبول الإيمان، فهو من عند الله، والله تعالى هو الذي وفقك إليه وإلى الإيمان. وقال أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فحتى أهل النار يوم القيامة سيعترفون أن هذا الشقاء بسبب أفعالهم هم، فلن يقولوا: ربنا غلبت علينا شقوتك لنا وإضلالك لنا؛ لأنهم نسبوا الشقاء إلى أنفسهم بسبب أفعالهم الكفرية واعتراضهم على الله عز وجل {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، يعني: بسبب الضلال أوجب الله تبارك وتعالى عليهم في الآخرة الشقاء في النار. وكما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]. وهم قد سمعوا وعقلوا، ولكنهم سمعوا سماع إعراض، بل كانوا يجلسون ويسمعون القرآن والنبي يقرؤه في الكعبة عليه الصلاة والسلام، فيضحكون ويتمايلون ويتبخترون ويستهزئون بكلام الله عز وجل وبدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فاستحقوا بذلك أن يكونوا في أصحاب السعير. والكفر له أئمة، كما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]. وكما أن للهداية أئمة فكذلك للضلال أئمة.

باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء

باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء قال: [الباب الثاني: في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء]، أي: يهدي من يشاء مشيئة دينية شرعية، ويضل من يشاء إرادة كونية قدرية، وأنه لا يهتدي بالمرسلين والكتب والآيات والبراهين إلا من سبق في علم الله أنه يهديه، ولذلك بين الله تعالى لنبيه أنه لا يهدي من يحب، ولكن الله يهدي من يشاء، ومهما حرص الناس على ذلك فإنه لا يكون إلا ما يريده الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان أبي لهب، وكان حريصاً كل الحرص أن يسلم جميع الخلق، وقد علمه ربه من فوق سبع سماوات أن الخلق جميعاً لن يكونوا مؤمنين، وإلا فلم خلق الله تعالى النار؟ والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (اطلعت في النار فرأيت فيها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وذكر أشياء، وقال: ووجدت أكثر أهلها النساء، فقالت امرأة جزلة -عاقلة-: يا رسول الله! ولم؟ قال: لأنهن يكفرن، قالت: يكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان ويكفرن العشير؛ يحسن الرجل إليهن الدهر كله، فإذا بدا منه شيء قالت: ما رأيت منك خيراً قط). وهذا شأن النساء.

بعض الآيات الدالة على هداية الله لمن يشاء من عباده وإضلاله لمن يشاء

بعض الآيات الدالة على هداية الله لمن يشاء من عباده وإضلاله لمن يشاء قال الله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88]، أي: يا محمد! أتريد أن تهدي من كتب الله تعالى وقدر عليه الضلال؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88]. فلا يمكن أبداً أن تسلك إلى قلبه مسلكاً، فالقلوب لها أقفال ومفاتيح أعظم من أقفال ومفاتيح أي باب، فإذا كان الله تعالى طبع على قلب فلان فلا يمكن لجميع الأنبياء والمرسلين مجتمعين أن يفتحوا هذا القلب، ومهمة الأديان والأنبياء والمرسلين هي تبليغ دعوة الحق إلى الخلق فقط، أي: إرشادهم إلى الله، والذي يملك الهداية والضلال هو الله عز وجل. وقال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ} [النساء:143]، أي: المنافقين مترددين، {بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، أي: لا هم مع أهل الإيمان قولاً واحداً، قلباً وقالباً، ولا مع الكافرين قولاً واحداً، وإنما هم مع الكافرين بقلوبهم ومع المؤمنين بأبدانهم، فهم يصومون ويصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويقتلون في الحروب في معسكر الإيمان، ولكنهم ليسوا مؤمنين؛ لأن قلوبهم لم يدخلها الإيمان، بل الكفر لازال مستقراً فيها، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]. اللهم اجعلنا منهم. وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]. وتصور شخصاً يخرج من تحت الأرض، إن هذا لشيء مرعب، وينزل إليك ملك من السماء، وكل شيء بجوارك يحشر إليك من الشجر والدواب والطير والحشرات والهوام وغير ذلك من آيات الله عز وجل، فإنك يقيناً لابد أن تقول: آمنت بالله، وإذا كان الواحد من الكفار إذا وقع في ساحة القتال بيد مجاهد من المجاهدين قال: أسلمت؛ بسبب خوفه من السيف، فكيف يكون الحال إذا حشر كل شيء في السماء والأرض، إنه أمر مرعب، فلابد أن يسلم في هذه الحالة، ويخرج من الكفر إلى الإيمان، وهو في هذه الحال لن يخرج من الكفر إلى الإيمان إلا بمشيئة الله. وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35]، أي: لا تغضب يا محمد! إن كانوا معرضين، فقد كتب الله تعالى عليهم الضلال، فاعلم هذا ولا تأخذ نفسك بشيء، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]. وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]. {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]. فهدايتهم بيد الله، وليس عليك يا محمد! إلا البلاغ المبين، هذه مهمة المرسلين. وقال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، أي: أنت المنذر يا محمد! ولكن الهادي هو الله تعالى. وقال: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]. وقال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} [الرعد:33]. فقال: ((وَصُدُّوا))، وليس وصَدّوا، وإنما ((وَصُدُّوا)) بالبناء للمجهول، والذي صدهم عن السبيل هو الله؛ لأن هذا نوع ضلال والله تعالى يملكه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراه

الهداية والضلال بيد الله وحده

الهداية والضلال بيد الله وحده قال الإمام ابن بطة: [ففي كل هذه الآيات التي مضت يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل الذي يملك الهداية والضلال، وأن الرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله]، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يهدي أحداً من الناس، وإنما الذي يملكه هو الله، والنبي عليه الصلاة والسلام سبب موصل لهداية الله، فالرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن العبرة بمجيء الرسول إليهم، والرسول جاء إلى أبي بكر وإلى أبي لهب، ونفس الذي بلغه رسول الله لـ أبي بكر بلغه لـ أبي لهب، فيقال حتى من جهة اللغة: جاء الرسول إلى أبي بكر وجاء الرسول إلى أبي لهب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ الاثنين، لكن الله تعالى أراد الهداية لـ أبي بكر وأراد الضلال والشقاء لـ أبي لهب. إذاً: الهداية والشقاء بيد الله عز وجل، يريدها لعبد ويمنعها من عبد، ولو كان الرسل هم الهادون لكان كل من أرسل إليهم المرسلون مهتدين، سواء تبعوه أو لم يتبعوه. ولذلك قال: [ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هداية الله لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم لما ضل أحد جاءوه]، يعني: لو كانت الهداية بيد الرسل لما أفلت من أيديهم أحد، لكن الهداية بيد الله. أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا صلى الله عليه وسلم وحرصه على إيماننا حين يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، وفي قراءة: (من أنفَسكم)، يعني: من أحسنكم نسباً وأعظمكم شرفاً، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128]، يعني: يعز عليه عنتكم ومشقتكم، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] يعني: يقول لهم: أنا ما علي إلا البلاغ، ((وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ)) قد سبق في علمه أنه يضلكم، وأنكم ضُلال، وكتب عليكم الشقاء، فإنكم لا تقبلون نصيحتي مطلقاً، يعني: أنه هو لا يملك الهداية للخلق ولا الشقاء، وإنما الذي يملكهما هو الله عز وجل. وهذا من عدل الله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن في ربه غير العدل، فلا يحل لك أن تظن بربك غير العدل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). والله عز وجل لا يقول هذا من باب التخيير، وإنما من باب التهديد، كما قال عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. فهذا صيغة أمر، والأمر يفيد الوجوب إلا أن يصرفه صارف، والأمر في اللغة على نحو اثنين وعشرين وجهاً، فقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] كلمة (فليؤمن) فعل أمر يدل على الوجوب، وهو على ظاهره؛ لأن المطلوب من العباد أن يؤمنوا بالله؛ لأن هذا أمر الله تعالى إليهم، وقوله: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، يعني: الذي يريد أن يؤمن يؤمن، والذي يريد أن يكفر يكفر، فالآية ظاهرها التخيير، ولكنه غير مراد هنا، وإنما هو تخيير تهديد، وهذا كما تقول لابنك: إذا أردت أن تذاكر فذاكر، وإذا لم ترد أن تذاكر فلا تذاكر، وقد نويت ضربه إن لم يذاكر، فأنت هنا لا تخيره في هذا، وإنما تهدده، بدليل أنك ستضربه إن لم يذاكر. وكذلك قوله تعالى: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، فللكفار نار لا تهدأ ولا تنطفئ أبداً. قال: [هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على نفسه، ولا يقول: كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه، وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته، والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه حتى كذبوه وردوا ما جاء به؟ ولقد حرص نوح على هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه مع أهله، فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب حين قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، أي: إنه ليس من أهل الإيمان، وهو وإن كان من أهلك -أي: من ولدك ومن نسلك- إلا أنه ليس في معسكر الإيمان، فهؤلاء هم الأهل الحقيقيون، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَ

بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده

شرح كتاب الإبانة - بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده لقد أحصى الله عز وجل كل ما هو كائن قبل أن يكون، وأرسل المرسلين إلى الناس يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك به ومعصيته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم وتؤزهم على تكذيب المرسلين، والمقام على الكفر والمعاصي، وكل ذلك لا يكون منه شيء إلا بقدر الله تعالى وتحت مشيئته.

باب بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده

باب بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن القدر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث: ذكر ما أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه أرسل المرسلين إلى الناس يدعونهم إلى عبادة رب العالمين، ثم أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم وتؤزهم على تكذيب المرسلين]. إذاً: فالأمر أن الله تعالى أرسل الأنبياء والمرسلين وأرسل الشياطين، أرسل الأنبياء والمرسلين إلى الناس كافة يدعونهم إلى عبادة الله، وأرسل الله تعالى الشياطين على الكافرين ليمنعوهم من الدخول في شريعة المرسلين، كما أن مهمة الشياطين أنهم يدعون الكافرين إلى تكذيب المرسلين، وكل ذلك يتم بقدر الله عز وجل ومشيئته، فمنه ما يتم بمشيئته الشرعية الدينية والكونية القدرية في آن واحد، ومنه ما يتم بمشيئته الكونية القدرية دون الشرعية، ومن أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة، أي: من أنكر أن الله تعالى خلق الخير والشر، وجعل لأهل الخير جنة عرضها السماوات والأرض، (وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت)، وأن الله خلق النار وجعل لها قسماً ألقاهم فيها غير مبال بهم، وقال: (يا أهل النار خلود بلا موت)، من أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة، وأن كل ذلك إنما تم بعلم الله السابق الأزلي.

وجوب الإيمان والتصديق بأن علم الله قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم

وجوب الإيمان والتصديق بأن علم الله قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم قال: [وفرض على المسلمين أن يؤمنوا ويصدقوا بأن علم الله عز وجل قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم]. أي: قد سبق أن الله تعالى عليم بما كان وما سيكون، وكل شيء يكون إلى أبد الآبدين، فالله تبارك وتعالى قد علمه أزلاً وقبل أن يخلقه. قال: [كيف خلقهم، وماذا هم عاملون]، الله يعلم كيف يخلق عبده فلاناً، وماذا هو عامل، هل هو عامل بأسباب النجاة، أم بأسباب الهلكة، هل هو شقي أم سعيد، ذكر أم أنثى، من أهل الجنة أم من أهل النار، كل ذلك يعلمه الله تعالى في جميع خلقه قبل أن يخلقهم. قال: [وإلى ماذا هم صائرون، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب]. إذاً المرحلة الأولى: مرحلة العلم الأزلي، المرحلة الثانية: مرحلة كتابة علم الله عز وجل في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب. قال: [ويصدق ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]-أي: اللوح المحفوظ- {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].

إحصاء الله تعالى لما هو كائن قبل أن يكون

إحصاء الله تعالى لما هو كائن قبل أن يكون قال: [أحصى الله تعالى ما هو كائن قبل أن يكون -علم الله عز وجل ما سيكون قبل أن يكون- فخلقهم على ذلك العلم الأزلي السابق فيهم -أي: على مقتضى علمه خلق الخلق- ثم أرسل بعد العلم بهم والكتاب الرسل -أرسل الرسل بعد العلم وبعد الكتاب- إلى بني آدم يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك بالله ومعصيته، يدلك على تصديق ذلك قول الله عز وجل لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فهذه دعوة الرسل جميعاً: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فاعبدوني ولا تعبدوا أحداً سواي]، دعوة كل نبي إلى أمته: أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئاً، أن يفردوه بالوحدانية ولا يشركوا معه إلهاً آخر.

إرسال الله للرسل لدعوة الناس إلى عبادته، وإرسال الشياطين على الكافرين تحرضهم على المعاصي

إرسال الله للرسل لدعوة الناس إلى عبادته، وإرسال الشياطين على الكافرين تحرضهم على المعاصي قال: [فالرسل في الظاهر تدعوهم إلى الله وتأمرهم بعبادته وطاعته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين يدعونهم إلى الشرك والمقام على الكفر والمعاصي -أي: البقاء والاستمرار على الكفر والمعاصي- كل ذلك ليتم ما علم، ولا يكون إلا ما أمر]. إذ إن الله تعالى لا يأمر بالشر، وإنما يأمر بالخير والطاعة، وهذا المقصود منه أمر التكوين وليس التفريق. قال: [ولا يكون إلا ما أمر -أي: أمراً كونياً قدرياًَ لا شرعياً دينياً- فسبحان من جعل هذا هكذا، وحجب قلوب الخلق ومنعهم على مرادهم في ذلك وجعله سره المخزون -أي: القدر هو سر الله تعالى المخزون- وعلمه المكتوم، ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]]. أي: أن الله عز وجل هو الذي أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم على المعصية، وتأمرهم بأن يقيموا عليها ولا يتركوها. قال: [وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، أي: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]-أي: أن الشياطين يعلمون أن هذا السحر كفر- {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]].

التعليق على قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)

التعليق على قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) قال: [أما ترى كيف أعلمنا أن السحر كفر، وأنه أنزله على هاروت وماروت]؟ إذاً: من الذي أذن في وجود الكفر في الكون؟ الله عز وجل، وهل يكون في الكون شيء على غير مراد الله؟ أي: هل ممكن أن يكون هناك شيء في الكون رغماً عن الله عز وجل؟ لا يمكن حاشى لله عز وجل. قال: [وجعلهما فتنة ليكفر من كتبه كافراً بفتنتهما، وأن السحر الذي يعلمانه الناس كفر، وأنه لا يضر أحداً إلا من قد أذن الله أن يضره السحر]. أي: ممكن أن يسحر ساحر امرأ فلا يضره ولا يأتي مفعوله؛ لأن العبد قد تحصن بالأذكار والأوراد والقرآن والذكر وغير ذلك، ويمكن أن يكون المرء من أذكر الناس لله عز وجل، ومع هذا يصاب بالسحر ويصاب بشتى أنواع البلاء؛ لأن السحر نوع من أنواع البلاء ينزل بالعبد، كيف لا وقد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أذكر الخلق لله عز وجل، وأكثرهم تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً صلوات ربي وسلامه عليه، ليرفع الله به درجاته، ثم ليجعله أسوة وقدوة للخلق. نعم قد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أثر فيه السحر، حتى أنه كان يهيأ إليه أنه قد أتى امرأته ولم يأتها، وغير ذلك مما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام، مما ينكره أتباع المدرسة العقلية في هذا الزمان، وهم أذناب العقلانيين أو المعتزلة في القديم، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين فلا نرده بالعقل، فالسحر لا يضر أحداً إلا إذا أذن الله عز وجل في وقوع الضرر بالمسحور. قال: [وذلك عدل منه سبحانه وتعالى. وقال الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163]]. أي: إلا من كتب عليه أن يدخل فيها، وأن يصلى بنارها، وأن يتقلب فيها، نسأل الله العافية لنا ولكم. قال: [قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36]. والذي يقيض هو الله عز وجل، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37].

إخبار الله في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول

إخبار الله في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول قال: [فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول، ومن سبقت عليه الشقوة]. أي: ومن سبق في علم الله أنه شقي، فلابد أن يهيئ له الأسباب، ومنها: إرسال الشياطين عليه حتى يؤزوهم أزاً، ويحرضوهم على الكفر تحريضاً، ويزينوا لهم سوء أعمالهم، وكذلك أخبرنا أنه تعالى فتن قوم موسى حتى عبدوا العجل وضلوا عن سواء السبيل. قال الله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]. والمتكلم هو الله عز وجل، إذاً الله تعالى هو الذي فتن بني إسرائيل؛ لأنه قد سبق في علمه الأزلي أنهم سيختارون الضلال فكتبه عليهم، رغم وضوح الحجة وقيام المحجة عليهم على لسان موسى عليه السلام، لكنه لما تخلف عنهم في طور سيناء عبدوا العجل من دون الله عز وجل، وكانت هذه أعظم فتنة لقيها موسى عليه السلام مع بني إسرائيل. وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. فالخير من المال والدنيا والولد والزوجة والصحة والعافية، كل ذلك فتن عظيمة جداً؛ لينظر الله عز وجل أيصبر المرء فيشكر أم يكفر ويجزع. قال عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168]، أي: يتوبون إلى الله عز وجل، ((وَبَلَوْنَاهُمْ))، أي: ابتليناهم واختبرناهم بالحسنات والسيئات، فأحياناً يغتر المرء بطاعته، فإذا وقع منه ذلك كان الغرور سبباً إلى زوال النعمة عنه ودخوله النار، ولذلك نظر رجل من العباد في عمله فرأى أنه طائع لله عز وجل، ثم نظر إلى عمل رجل من أهل المعاصي فقال: والله لا يغفر الله تعالى لفلان -أي لصاحب المعصية- فقال الله عز وجل: (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك)، كما تجد في بعض الكتب قول كثير من أهل العلم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة. فقولهم: (رب طاعة أدخلت صاحبها النار)، أي: بسبب أنه اغتر بذلك وركن إليها، ولعله قطع على الله عز وجل حقاً أن يدخله الجنة بسبب هذه الطاعة، وأنتم تعلمون أن الطاعات كلها لا تساوي نعمة واحدة من نعم الله عز وجل على العبد، فلا يغتر العبد بحسن عمله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فربما يعمل المرء عملاً طيلة حياته هو من عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس. لذا فالمرء ينبغي أن يكون خائفاً من قدومه على الله عز وجل، ولا يأمن أن يلقيه في الجنة أم في النار، يكلمه أم يشقيه ويبعده، فإذا كانت هذه عقيدة المرء أو عقيدة المسلمين فينبغي ألا يغتر طائع بطاعته؛ لأن طاعته لله عز وجل هي أيضاً من نعم الله عز وجل، فلا فضل له في هذه الطاعة قط، وإنما الله تعالى هو الذي وفقه، ولذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة: أننا نرجو الله تعالى لأهل الطاعة أن يدخلهم الجنة، ونحسن الظن بالله تعالى أن يلقى أهل طاعته بقبول حسن، وأما أهل المعاصي فإننا لا نقطع لهم بجنة ولا نار، كما لا نقطع كذلك بالجنة لأهل الطاعة وإنما نرجو الله، وكذلك أهل المعاصي لا نقطع لهم بالنار؛ لأنهم لا زالوا في دائرة الإسلام ما دامت هذه المعصية لا تخرجهم عن حد الإسلام، وإنما نرجو الله تعالى لأهل المعاصي أن يغفر لهم، وأن يستر عليهم في الدنيا والآخرة، وكلنا أصحاب معاص، من منا ليس ملوثاً ملطخاً بالكبائر والصغائر؟ كلنا أصحاب ذنوب، ولكنا ذلك الرجل الذي نرجو له جميعاً أن يعفو الله تعالى عنه في الدنيا والآخرة وأن يستره، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة. وقولهم: (ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة)، أي: لانكساره وذله وندمه وتوبته بعد فعلها. قال: [وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:37]]، هذه بلية عظيمة جداً، إذ إن المرء يعمل عملاً سيئاً ويعلم أن هذا العمل سيئ وبلية، والأعظم منه أن تعمل السيئات ثم تزين وتجمل لك، وتلمع لك حتى تصدق أنك عملت عملاً حسناً لا سيئاً. إذاً: عمل السيئات بلاء عظيم، والأعظم منه بلاء أن يهيأ لك أن هذا العمل عمل حسن، إنه عمى يتلوه عمى، وضلال يعقبه ضلال.

إخبار الله عن فعله في خلقه

إخبار الله عن فعله في خلقه قال: [فهذا كلام الله عز وجل، وإخباره عن فعله في خلقه، يعلمهم أن المفتون من فتنه -أي: أن المفتون في دينه ودنياه هو الذي فتنه الله عز وجل- والهادي من هداه، والضال من أضله وحال بينه وبين الهدى، وأن الشياطين هو خلقها وسلطها، والسحر هو الذي أنزله على السحرة، وأنه لا يضر أحداً إلا بإذنه، فتعس عبد وانتكس سمع هذا الكلام الفصيح الذي جاء به الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم من كتاب ربه الناطق فيتصامم عنه ويتغافل، ويتمحل لآرائه وأهوائه المقاييس بالكلام المزخرف والقول المحرف؛ ابتغاء الفتنة وحب الأتباع والأشياع، كما قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]].

كلام بعض الصحابة والتابعين في قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين)

كلام بعض الصحابة والتابعين في قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين) قال: [وعن إبراهيم النخعي في قول الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: بمضلين، إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]. أي: إلا من كتب الله له أزلاً أنه من أهل الشقوة، وأنه من أهل النار. قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: لا تفتنون إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]. إذاً الهداية بيد الله عز وجل، والفتنة والضلال بيد الله عز وجل، وما عليك إلا أن تدعو الله تعالى بالهداية. قال: [وعن الحسن في نفس الآية قال: إلا من قدر له أن يصلى الجحيم. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله عز وجل لو أراد ألا يعصى ما خلق إبليس]. أي: أن رأس المعصية، والذي يحض عليها، ويؤزك عليها أزاً، هو إبليس، والله عز وجل أراد أن يعصى فخلق إبليس، وإرادة الله هنا إرادة كونية قدرية، لا شرعية دينية؛ لأن الله تعالى خلق الكفر ونهى الناس عن الوقوع فيه.

باب ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته

باب ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته قال: [الباب الرابع: ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل]. ومعنى ذلك: أن الله أذن أن يكون للعبد مشيئة، وله تعالى مشيئة، لكن شتان بين مشيئة العبد ومشيئة المعبود سبحانه وتعالى، والشاهد: أن الله تعالى أثبت أن لعبده مشيئة، وأن لعبده إرادة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فكلمة (تريدون) فيها إثبات الإرادة للعبد، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، أثبت الله للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله، بمعنى: أن العبد لا يشاء شيئاً إلا إذا قدره الله تعالى وشاءه للكون، فإذا كان خيراً فمشيئة شرعية، وإذا كان شراً فمشيئة كونية، على خلاف بين أهل العلم، هل المشيئة هي الإرادة، أم أنهما متباينان مختلفان؟ وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل.

آيات من القرآن في بيان أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله

آيات من القرآن في بيان أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، والقتل أو القتال قد نهى الله عنه، ومع هذا أذن الله تعالى في وقوعه، ومعنى: أذن الله في وقوعه. أي: خلقه وأوجده، وهذا في باب الإرادة الكونية القدرية. وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، أي: ولو شاء الله لجمع الناس جميعاً على الهداية والإيمان، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]. وقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، فقوله تعالى: (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ)، أي: يجعله ضالاً، والضلال لا يكون إلا بقدر الله ومشيئته، وكذلك الهداية، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فالهدية والضلال بيد الله عز وجل. وقال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:106 - 107]، أي: لو أراد الله عز وجل أن يؤمن هؤلاء لآمنوا، ولكن الله تعالى أراد غير ذلك، فقد أراد لهؤلاء بالذات -لسابق علمه فيهم- الشرك، فهيأ أسباب الشرك، وأراد الله عز وجل للفريق الآخر الإيمان، فهيأ أسباب الإيمان لهم، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107]. وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، أي: لو أن هؤلاء اتخذوا جميع الأسباب للإيمان فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله لهم الإيمان، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يرى الله تعالى من عباده تضرعاً وذلاً وخشوعاً وإقبالاً وتوبة وإنابة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]. وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، أي: أمة واحدة مؤمنة، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119]، فقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] جملة اعتراضية، ولكن الناس في أصل الخلق مختلفون في الإيمان والكفر، في الشقوة والسعادة، في الجنة النار، ولذلك وردت تفاسير أهل العلم على هذه الآية.

كلام أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)

كلام أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) قال: [وعن منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن البصري: قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]؟ قال: من رحم ربك غير مختلف]. وانتبهوا، أتظنون أن خلاف الإخوان مع السلفيين، والسلفيين مع التبليغ هو المعني والمقصود في هذه الآية؟ لا، فكما أن الإخوة ينزلون أحاديث الفرق على الجماعات الموجودة على الساحة فكلام غير سليم، وفهم غير سليم، إنما ذلك في الفرق الضالة، أما هذه الآية فمتعلقة بالإيمان والكفر، بالمؤمنين والكافرين، بأهل الشقاء وأهل السعادة، بأهل الجنة وأهل النار، والله عز وجل من رحمته لم يجعل في أهل الإيمان اختلاف، أما أهل الكفر فإنهم خالفوا أهل الإيمان، قلت: ولذلك خلقهم، أي: خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار. إذاً: الكلام على المؤمنين والكافرين لا على الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة. قال: [وعن خالد الحذاء قال: قدم علينا رجل من الكوفة، فكان مجانباً للحسن لما كان يبلغه عنه في القدر]. أي: أن واحداً جاء من الكوفة إلى البصرة، وكان قد بلغه كلاماً على سبيل الوشاية: أن الحسن البصري إمام السنة في زمانه يتكلم في القدر! فلما أتى هذا الكوفي جانب الحسن، أي: تباعد عنه ولم يسمع منه شيئاً؛ لأنه بلغه أن الحسن يتكلم في القدر، قال: حتى لقيه وسأله الرجل أو سئل عن هذه الآية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال الحسن: خلق أهل الجنة للجنة، وأهل النار للنار، قال: فكان الرجل بعد ذلك يذب عن الحسن]، أي: بعد أن علم الكذب والافتراء على الحسن، وأن الحسن لو كان من القدرية لا يقول في تفسير هذه الآية أنه خلق هؤلاء للجنة، وخلق هؤلاء للنار؛ لأن القدرية يقولون في هذه الآية كلاماً في قمة القبح. قال: [وعن الحسن {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119]، قال: للاختلاف]. أي: بين الإيمان والكفر، بين الشقوة والسعادة.

مشيئة الله تعالى غالبة في نصوص القرآن

مشيئة الله تعالى غالبة في نصوص القرآن قال: [وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]]، فهذا هو الشاهد: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]، إذاً الهداية والضلال بيد الله، وبمشيئة الله العزيز الحكيم. قال: [وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]]، لو شاء الله عز وجل يا أخي الكريم! ألا يجلسك في هذا المجلس ما جلست، ولجعلك في أهل الشقوة والتعاسة، ولو شاء الله عز وجل الآن أن يجعلنا جميعاً كفاراً لما قمنا من مقامنا إلا ونحن كفار عياذاً بالله، ولو شاء الله أن تعالى أن يأتي بالكفار الآن فيدخلهم علينا أفواجاً وجماعات لفعل سبحانه وتعالى، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فهذه باختصار عقيدة السلف في الإيمان بالقدر كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، وهو سر الله تعالى المكتوم الذي يحرم على المسلم أن يماحل وأن يجادل فيه. قال: [قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]]، أي: يا محمد! لا يمكن أن يهتدي على يديك أحد مهما حاولت إلا أن يشاء الله ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحب شيء له أن يهتدي أبوه، وعبد المطلب، وأبو طالب، أهله وأقرب الناس إليه، لكن الله تعالى أراد غير ذلك، فما تم لمحمد عليه الصلاة والسلام ما أحب؛ لأن مشيئة الله تعالى أنهم من أهل الشقاء، ولذلك قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، أي: وقد سبق في علمه الأزلي من يهتدي. قال: [وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:22 - 23]]، أي: يا محمد مهمتك: النذارة والبشارة، {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [الأعراف:188] فقط لا غير، نذير من النار، وبشير بالجنة. قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8]. وقال عز وجل: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]. وقال عز وجل حين دعا إلى الجنة وشوق إليها، وحذر من النار وخوف منها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]]، (فمن شاء) أثبت لك مشيئة، وأثبت لك إرادة، لكن مشيئتك وإرادتك داخلة تحت مشيئة الله، بمعنى: ألا تشاء شيئاً إلا أن يشاءه الله، ولا تريد شيئاً إلا أن يريده الله عز وجل، ولذلك رد الله تعالى مشيئة الخلق إلى نفسه وإلى مشيئته فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:30 - 31]]، أي: المرء لا يستطيع أن يدخل نفسه في رحمة الله إلا أن يشاء الله تعالى ذلك، {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، ثم قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].

قول ابن عباس وأبي العالية في تفسير قوله تعالى: (كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)

قول ابن عباس وأبي العالية في تفسير قوله تعالى: (كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة) قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30] ولذلك خلقهم حين خلقهم، فجعلهم مؤمناً وكافراً -أي: جعل الخلق مؤمناً وكافراً- وسعيداً وشقياً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاً]. أي: كما كانوا في الدنيا بين مهتد وضال، وشقي وسعيد، فكذلك الله تعالى يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم، بدأهم أتقياء يعيدهم أتقياء، بدأهم سعداء يعيدهم يوم القيامة سعداء، وهكذا. قال: [وعن أبي العالية في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: عادوا إلى علمه فيهم]. أي: أنه علم أنهم أشقياء أو سعداء، فعادوا إلى علمه الأزلي السابق، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ} [الأعراف:30] و (حَقَّ): بمعنى: كتب وأوجب.

رد ابن عباس على من يزعم أن الشر ليس بقدر

رد ابن عباس على من يزعم أن الشر ليس بقدر قال: [وعن ابن طاوس عبد الله عن أبيه طاوس بن كيسان اليماني أن رجلاً قال لـ ابن عباس: أن أناساً يقولون: إن الشر ليس بقدر]. أي: ما أراد الله تعالى وقوع الشر، إنما الشر هذا من عندنا، فلا علاقة له بقدرة الله، ولا بقدر الله. قال: [فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]]، حتى المشركين أنفسهم أنظف وأحسن عقيدة من القدرية؛ لأنهم يعتقدون أن الشرك وقع فيهم بمشيئة الله عز وجل، فقولوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، أي: كل هذا الذي نعمله بمشيئة الله عز وجل، لكن هل المشركون معذورون بشركهم أم لا؟ وهل أقيمت عليهم الحجة أم لا؟ أقيمت عليهم الحجة، كما أنهم لا يحتجون بالقدر على المعصية، وإنما يحتج بالقدر بعد التوبة منها، كما في حديث: (احتج آدم وموسى) والحديث طويل.

تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)

تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) قال: [وقال أبو حازم في قول الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8]]، أي: النفس، {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]]، إذاً الفجور والتقوى بقدر الله عز وجل وبمشيئته، وهذه النفس إن كان سبق في علم الله أنها نفس تقية ألهمها تقوها، وإن كان سبق في علم الله أنها نفس فاجرة ألهمها فجورها. قال: [الفاجرة ألهمهما الفجور، والتقية ألهمها التقوى]، أي: رزقها التقوى.

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه) قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، أي: يجعل حائلاً بين المرء وبين قلبه، وبين ما يشتهي ويهوى]، قال: يحول بين المؤمن والمعصية، وبين الكافر والطاعة، ولذلك في هذا الوقت أنت رجل مؤمن عندك تقوى، وعندك دين، فإذا خرجت من هذا المسجد الطيب المبارك ورأيت معصية في الشارع، ماذا تعمل؟ هل ستصوب نظرك إلى الأرض أم تأذن لنظرك بالانطلاق؟ بلا شك أن ضميرك والوازع الديني الذي في قلبك يقول لك: هذا عيب، فأنت قبل ساعتين وعظت، فلا يصح أن تنظر إلى الحرام، في الحقيقة قلبك يهوى النظر، لكن ما الذي حال بينك وبين النظر؟ ألهم الله نفسك تقواها، وإذا اخترت الفجور عياذاً بالله، فإن الله تعالى يهيئ أسبابه لك، فيبعث لك امرأة متبرجة، وأول ما تجاوز عينيك يبعث لك واحدة أخرى، وهكذا ثالثة ورابعة وخامسة حتى تدخل بيتك، فتبدأ في بيتك بغض بصرك عن امرأتك، فتمشي بالعكس ما دمت تمشي في الشارع وعينك شمال ويمين شمال ويمين وتقع في المعصية، وأول ما تدخل البيت فتنظر إلى امرأتك فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتنظر إلى الأرض، هذه التقوى التي عندك أن تغض بصرك عن الحلال وأن تطلقه في الحرام! وهذا شغل أهل الفجور.

تفسير الحسن لقوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)

تفسير الحسن لقوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال: [وعن الحسن في قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين الإيمان]، أي: جعل الله تعالى حائلاً بينهم وبين أن يكونوا في الإيمان؛ لأنه قد سبقت لهم من الله الشقوة والتعاسة والنار والعياذ بالله.

تفسير الحسن لبعض الآيات المتعلقة بمشيئة الله وغلبتها لكل مشيئة

تفسير الحسن لبعض الآيات المتعلقة بمشيئة الله وغلبتها لكل مشيئة قال: [وعن حميد قال: قرأت القرآن كله على الحسن البصري في بيت أبي خليفة ففسره لي أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]، قال: الشرك سلكه في قلوبهم]. أي: أن ربنا هو الذي دب الشرك في قلوب المشركين. قال: [وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صال الجحيم]. وتصور أن واحداً يسرد تفسير الكلمات هذه ربما يكون بنفس الكلمات، لكن أنا أعتبر أن هذا هو التفسير المبارك للقرآن الكريم، وفي هذا الوقت ممكن خطيب يصعد المنبر فيمكث يفسر هذه الآية ساعتين وثلاث وهو على المنبر، وكلام كثير ينسي بعضه بعضاً، والسلف كانوا أقل الناس تكلفاً، وأقل الناس كلاماً، وأكثرهم عملاً وعبادة.

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه) قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] قال: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان بالله، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]]، في الحقيقة القلب لا يضيق ولا يتسع، إنما هذا ضيق الكفر واتساع الإيمان. قال: [يقول: شاكاً كأنما يصعد في السماء]، يقول: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يقدر أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله عز وجل في قلبه. إذاً الله عز وجل بيده الإيمان والكفر.

كلام مالك وزيد بن أسلم في القدرية

كلام مالك وزيد بن أسلم في القدرية قال: [وقال مالك: ما أضل من كذب بالقدر]. أي: ليس هناك ضلال من التكذيب بقدرة الله عز وجل، ولذلك الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: عن القدر ما هو؟ قال: القدر هو قدرة الله عز وجل، وكل شيء في قدرة الله حتى الإيمان والكفر. قال: [لو لم تكن عليهم فيه حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]]. أي: جعل منكم مؤمناً وجعل منكم كافراً. قال: [وعن زيد بن أسلم قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس. إذ إن إبليس أخو القدرية]، والدليل على أنهم لم يقولوا كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، فما من إنسان يشاء إيماناً إلا لابد أن يكون الله تبارك وتعالى قد شاء له الإيمان، وما من إنسان يريد كفراً إلا قد سبق علم الله في إرادة الكفر لهذا الإنسان. وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، أي: ننزهك يا رب! عن كل نقص، ونصفك بكل كمال، ومنه العلم، فالله تبارك وتعالى عليم، وعلام الغيوب سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، أي: نسبوا العلم إلى الله عز وجل. بينما القدرية قالوا: لا قدر وأن الأمر أنف، وهناك حديث في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، قال معبد الجهني: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: لا يوجد شيء اسمه قدر؛ لأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فلا يعلم شيئاً، وهذا معنى قول القدرية: وأن الأمر أنف، أي: مستأنف، وهذا كفر بواح، ولذلك قال عبد الله بن عمر لـ حميد بن عبد الرحمن، ويحيى بن يعمر البصريان: فإذا لقيتموهم فأخبروهم أني بريء منهم، وهم برآء مني، قال النووي عليه رحمة الله: وكلام عبد الله بن عمر ظاهر في تكفيرهم، وأجمع أهل السنة والجماعة على أن منكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة كافر بلا نزاع. وقال شعيب عليه السلام، وهو قول الأنبياء: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا} [الأعراف:89]، أي: لا يمكن أن نرجع إلى ما كنا عليه قبل النبوة والرسالة من ضلال إلا أن يشاء الله ربنا. وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فنسبوا الهداية لله عز وجل. وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]. وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، أي: اعترف بربوبية الله عز وجل، كما اعترف أن هذا الرب يملك القدر، والإغواء، والضلال، وأن الله تعالى أراد ذلك لإبليس، وأن إبليس مهما أراد الضلال فإنه لا يملكه إلا أن يأذن الله تعالى بوقوعه.

انحراف القدرية في القدر رغم سماعهم للآيات الدالة عليه

انحراف القدرية في القدر رغم سماعهم للآيات الدالة عليه قال: [فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه، ويتلونه ويتلى عليهم، فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله، ويجحدونه بغياً وعلواً، وأنفة من الحق وتكبراً على الله عز وجل وعلى كتابه، وعلى رسوله، وعلى سنته، وللشقوة المكتوبة عليهم، فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]، هم كما قال الله عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. وهكذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين يمدونهم في الغي مداً ثم لا يقصرون، تزجره بكتاب الله تعالى فلا ينزجر، وبسنة النبي رسول الله فلا يدّكر، ويقول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا ينحسر -أي: تذكره بأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام فلا ينحسر- وتضرب له الأمثال فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين، والملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود -فالقدري شبيه باليهود والنصارى- والنصارى والمجوس والصابئين، فلم يجد أنيساً في طريقته، ولا مصاحباً على مذهبه غير هؤلاء، أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية، والأهواء الرديئة، والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته، فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، يدعونه تضرعاً وخفية كما أمرهم به من مسألته: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]].

إكثار النبي في قوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)

إكثار النبي في قوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) قال: [وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)]، ومن منا يعتقد أن قلب النبي يزيغ؟! لا أحد يعتقد ذلك، لكن القدرية يقولون بإمكان وقوع الكفر على الأنبياء، وهذا مكتوب في كتبهم، بل وفي كتب الملل والنحل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لاعتقاده: (أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وقلبه إنما هو قلب من القلوب، فكان دائماً يدعو ربه، إذ إن الدعاء هو العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ثم قرأ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. قال: [وعن أم المؤمنين قالت: (كانت دعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله هل تخاف؟ -أي: نخاف نحن، أما أنت فهل تخاف؟! - قال: وما يؤمنني وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل -أي: ما هو الداعي لأن آمن من مكر الله؟ وكيف لي بذلك؟! - إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، يقلب أصبعيه عليه الصلاة والسلام)، فتأمل هذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام.

كلام أبي شامة في حكم من شبه شيئا من صفات الله بما يقابله من جوارحه

كلام أبي شامة في حكم من شبه شيئاً من صفات الله بما يقابله من جوارحه قال: [وقال: أبو شامة رحمه الله تعالى: من ذكر شيئاً من أوصاف الله عز وجل، وأشار إلى ما يقابل ذلك من جوارحه عوقب ببتره، قال ذلك في كتاب: الحوادث والبدع، وأبو شامة من أئمة أهل السنة، ومعنى كلامه هذا: أن من ذكر شيئاً من أوصاف الله عز وجل كالعين مثلاً، فإذا ذكر المؤمن قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وأشار إلى عينه، قال: فحكمي فيه أن تفقأ عينه]، وهذا لما أراد بهذه الإشارة تشبيه الخالق بالمخلوق، وإذا أراد بالتمثيل التقريب، أي: تقريب المعنى إلى أذن السامع مع استقرار الفارق بين أوصاف الخالق والمخلوق فلا بأس بذلك، ولذلك (دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يهودي أو حبر من أحبار اليهود فقال: يا محمد! إنا لنعلم أن الله عز وجل خلق الخلق فجعل الأرض على ذه، والسماء على ذه، والجبال على ذه، والبحار على ذه وأشار إلى أصابعه، ثم ضحك النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ألم تسمعوا إلى ما يقول هذا اليهودي؟! فقال رجل من المسلمين: ماذا قال يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه أتاني وقال: إنا لنعلم يا محمد -عليه الصلاة والسلام- أن الله تعالى خلق الخلق فجعل السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال على ذه، والبحار على ذه، ثم قبض اليهودي قبضته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67])، وتلا آيات من صفات الله عز وجل، والشاهد أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أصابعه، كأن الله تعالى جعل السماء على أصبع، والأرض على أصبع، والبحار على أصبع، وغير ذلك من سائر مخلوقاته، وكل ذلك مطوي في يمين الله عز وجل: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] سبحانه وتعالى، فما أنكر عليه الصلاة والسلام على اليهودي، بل تبسم لما سمع قوله؛ لأنه قد استقر في أذهان الصحابة والسامعين أن أصابع الخالق تختلف عن أصابع المخلوقين، ولكنه ما أشار إلا لتقريب المعنى وإظهار مكانه فحسب، أما من أشار إلى أصبعه ليبين أن أصابع الخالق سبحانه وتعالى كأصابعه فهذا حكمه كما قال أبو شامة: أن تقطع أصابعه. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله هل تخاف؟ قال: وما يؤمنني وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، يقلب أصبعيه عليه الصلاة والسلام) فهذا التشبيه لتقريب المعنى، لا لأن التقليب هو التقليب.

عمل العباد من طاعة أو معصية لا يخرج عن إرادة الله وقدره

عمل العباد من طاعة أو معصية لا يخرج عن إرادة الله وقدره قال: [وعن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد]. أي: أن هؤلاء الخلق لو اجتمعوا في صعيد واحد مؤمنهم وكافرهم، وأرادوا أن يعصوا الله تعالى بمعصية ما أرادها أن تقع في الكون فلا يقدرون على المعصية، وقوله: (الخلق أدق شأناً)، أي: أهون على الله عز وجل من أن يعصوا الله طرفة عين فيما لا يريد، إذاً المعصية والطاعة ما وقعتا في الكون إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته. قال: [قال ابن عباس: كلام القدرية، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة، وقال: ولا أعرف الحق، أو لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله -وهذا الحق أنك ترد علم الغيب إلى الله عز وجل- ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله، وفوضوا أمرهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقدر الله]. وهذا كلام أهل الحق.

اقتصار دعوة الرسل على البلاغ واختصاص الله بالهداية والتوفيق

اقتصار دعوة الرسل على البلاغ واختصاص الله بالهداية والتوفيق قال: [فاعلموا رحمكم الله تعالى أن هذه طريقة الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وبذلك تعبدهم الله -هذا الذي أمرك الله عز وجل أن تعبده به- وأخبر به عنهم في كتابه أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم، وقوتهم، ومن استطاعتهم، بذلك أخبر عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} [هود:32 - 33]]. لأنهم قالوا له: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، فقال لهم: ليس في يدي أن آتيكم بما وعدكم، وإنما الذي يأتيكم به هو {اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:33 - 34]، (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) أي: دعوتي، (إِنْ أَرَدْتُ) أي: ذلك، ومعنى الآية: وما ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد شيئاً غير ذلك، فمهما نصحتكم إذا كان الله يريد شيئاً غير هذا فإنه لا يتم إلا ما أراد الله عز وجل، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]. قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة تظهر على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده، فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89]. ثم قال شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]]، أي: ما أنا بموفق ومسدد إلا بمشيئة الله، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. قال: [وقال إبراهيم في محاجته لقومه: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، إذاً الله تعالى هو الذي بيده الهداية، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80]. وقال أيضا فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]]، فإبراهيم عليه السلام صاحب الملة الحنيفية السمحاء يخاف أن يتحول قلبه! فدعا الله عز وجل أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. قال: [وقال فيما أخبر عن يوسف، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته، {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} [يوسف:33]، إذاً الذي يصرف الشر هو الله عز وجل، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]. ثم أخبر تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة كانت بالعناية الإلهية من مولاه الكريم به، فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بألا يؤمنوا، وعن استجابته له وإعطائه ما سأل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89]. وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْ

قول بعض السلف في تفسير بعض آيات القدر

قول بعض السلف في تفسير بعض آيات القدر قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] قال: وما أورثوا من الضلالة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب. وعن جابر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الآية: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، قال: تقضي على القرآن كله، أي: كافية وحاكمة بأن الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء]. قال: [وعن سفيان عن عبد العزيز بن رفيع عمن سمع عبيد بن عمير يقول: (قال آدم عليه السلام: يا رب! أفرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا، بل شيء قدرته عليك من قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفر لي، فلذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]). وعن مجاهد: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم إبليس المعصية وخلقه لها]. قال: [فاعلموا رحمكم الله أن من كان على ملة إبراهيم، وشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن كان دينه دين الإسلام، ومحمد نبيه، والقرآن إمامه وحجته، وسنة المصطفى نوره وبصيرته، والصحابة والتابعون أئمته وقادته، وهذا مذهبه وطريقته، وقد ذكرنا الحجة من كتاب الله عز وجل، ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين وغيظ للجاحدين]. ثم يذكر الإمام مقدمة بعد ذلك نرجئها للدرس القادم بمشيئة الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

دعاء للمجاهدين الأفغان في قتالهم مع الروس

دعاء للمجاهدين الأفغان في قتالهم مع الروس في أفغانستان أظن أن الحرب قد بدأت منذ ساعة، ولذلك جاءت الأخبار سواء في الصحافة المقروءة أو المرئية أو المسموعة بأن الحرب ضروس وقد حمي الوطيس. فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينصر إخواننا. اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا في أفغانستان. اللهم كن لهم ولا تكن عليهم. اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، مهزومون فانصرهم. اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم. اللهم اغلب الكفر والكافرين، اللهم اغلب الكفر والكافرين. اللهم عليك بالروس، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم جميعاً فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم جميعاً فإنهم لا يعجزونك. اللهم أرجعهم إلى ديارهم حسرى وندامى مخذولين مهزومين. اللهم كن لإخواننا ولا تكن عليهم. اللهم قو إيمانهم، اللهم ثبتهم يا رب العالمين، اللهم ثبتهم في أوطانهم، اللهم ثبت الإيمان في قلوبهم. اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم. اللهم قو إيمانهم، اللهم سدد رميهم، اللهم سدد رميهم ووحد كلمتهم، وائت بقلوب الموحدين، اللهم ائت بقلوب الموحدين إليهم. اللهم مدهم بمدد من عندك، اللهم أنزل عليهم ملائكتك، اللهم أنزل عليهم ملائكتك، اللهم أنزل عليهم سكينتك، اللهم أنزل عليهم سكينتك. اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم حتى يخافوا كل شيء. اللهم أنزلن سكينة على عبادك الموحدين حتى يأمنوا من كل شيء. اللهم أنزلن سكينة على عبادك الموحدين حتى يأمنوا من كل شيء، ويكون الكفار في أعينهم كالجرذان، والجعلان، والقطط، والفئران. اللهم كن لهم ولا تكن عليهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مشروعية الدعاء في النوازل وآدابه

مشروعية الدعاء في النوازل وآدابه عبادتكم يا إخواني! في هذه الليالي الدعاء لإخوانكم فلا تنسوا، والدعاء سلاح فتاك، وخير ما يتقرب به العبد الضعيف إلى الله عز وجل أن يدعو في الأوقات المستجابة خاصة ثلث الليل الآخر حين ينزل الرب تبارك وتعالى فيقول: (ألا هل من داع فأستجيب له؟ ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ ولا يزال كذلك حتى يطلع الفجر)، وفي رواية: (حتى تطلع الشمس)، فالدعاء سلاح عظيم جداً، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه عين العبادة، فقال: (الدعاء هو العبادة)، أي: هو عين العبادة، والله تعالى قد وعد بالاستجابة فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وكثير من الناس يظن أن الدعاء هو لغة المتكلين أو لغة الضعفاء المخذولين وغير ذلك، ونسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بدعاء ضعفائكم وصلاتهم وصيامهم)، أي: إنما يرزق المرء بطاعته ودعوته، وكذلك ينصر بدعاء الشيوخ والنساء والأطفال، وكان عمر رضي الله عنه إذا لقي طفلاً في الطريق طلب منه أن يدعو له بالمغفرة، فإذا قيل له: يا أمير المؤمنين! طفل يدعو لك؟ قال: إنه مجاب الدعوة خاصة وأنه لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم. كما لا ننسى القنوت في الصلوات الخمس في الركعة الأخيرة قبل الركوع لا بعد الركوع، وذلك لمن كان منكم إماماً، أو مصلياً في الليل، أو حتى في صلاة النافلة أو الرواتب، فالقنوت من أقرب القربات إلى الله عز وجل، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا في كل مكان من بقاع الأرض، فإن الخطب جلل، ولكن النصر بإذن الله تعالى لعباده الصالحين، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وقال الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، فهذا وعد الله عز وجل الذي لا يتخلف، وهذه عقيدتنا في الله.

الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء)

الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء) وأما حديث: (يا علي! لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء: قراءة القرآن، والتصدق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك في الجنة، وإرضاء الخصوم) فهو حديث موضوع لا أساس له من الصحة.

ذكر أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله وأنهم لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل

شرح كتاب الإبانة - ذكر أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله وأنهم لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، فما من طاعة طائع إلا وهي بقدر الله، وما من معصية عاصٍ إلا وهي بإرادة الله، فالله عز وجل مالك الملك، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، شهد بذلك لنفسه سبحانه وتعالى، وشهد به ملائكته المقربون، وأنبياؤه والمرسلون، وعباده المؤمنون.

مجمل الكلام في مراتب القدر ونشأة القدرية

مجمل الكلام في مراتب القدر ونشأة القدرية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. كنا توقفنا عند الباب الرابع من المجلد الثالث من كتاب الإبانة لـ ابن بطة عليه رحمة الله، وهذا المجلد والذي يليه هو في مسألة القدر، وكيف أن القدرية خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمراتب القدر وأحكامه، وفي الحقيقة كنا وصلنا إلى الباب الرابع: وهو في علم ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل. وتكلمنا من قبل أن الله تعالى هو خالق الخير والشر، وهو الذي خلق إبليس، ولا خالق غيره، ولا يكون في الكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر من خير وشر، فالله عز وجل خلق الخير وأمر به وأحبه وارتضاه لعباده، وخلق الشر فتنة لعباده ونهى العباد عنه، ولكنهم خالفوا ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتب، وركب فيك العقل الذي هو مناط التكليف، وبين لك الطريق، ووعدك الجنة على الطاعة، وتوعدك بالنار على المعصية، ففرغت حجتك. وقلنا: إن مراتب القدر أربعاً، أول مرتبة: مرتبة العلم، أي: أن الله تعالى علم كل شيء كان ويكون وسيكون إلى قيام الساعة، وعلم ما قبل ذلك وما بعد ذلك، وعلم ذلك فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده مكتوب في اللوح المحفوظ والرق المنشور، لم يغادر هذا اللوح كبيرة ولا صغيرة. والمرتبة الثانية: هي مرتبة المشيئة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء الله كان شرعاً أو كوناً، فإذا كان شرعاً فهذا ما أحبه واصطفاه وأمر به، أما ما وقع في الكون مخالفاً للمشيئة الشرعية فقد أراده الله تعالى بمعنى: أنه أذن في وقوعه في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وشاء. وأثبت الله تعالى لنفسه المشيئة، وأثبت لعبده المشيئة، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أن للعبد إرادة وله مشيئة، لكنها مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، وتحت إرادة الله عز وجل، فلا يعمل العبد عملاً، ولا يفعل فعلاً، ولا يقول قولاً، ولا يحرك ساكناً إلا بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى. المرتبة الثالثة: كانت فيصلاً بين من يفهم القدر ومن لا يفهمه، بين من يوجه الأسئلة التي لا يجوز له ولا يحل له أن يوجهها، وبين إنسان آمن بكل ما أخفاه الله عز وجل عنه، وعلم أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه كما قال علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم. أما المرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق، أنه ما من شيء إلا وخالقه الله عز وجل، فالله تعالى خلق أفعال العباد: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يدبر الكون، وهو مالك الكون سبحانه وتعالى. هذا إجمال لما سبق من تفصيل في بيان مراتب القدر الأربعة، والتي ضل كثير من الناس فيها؛ لأنهم لم يقسموا القدر إلى هذه المراتب، بل نظروا إلى القدر بعين العلل، لابد أن يعلموا العلة من هذا، والعلة من ذاك، وبالتالي وقعوا فيما وقعوا فيه من إنكار وجحد، والقدرية من أوائل الفرق التي ظهرت في الإسلام، وأوائل ظهورها كانت في البصرة، والعراق على سبيل الإجمال هو مهد الفتن في الإسلام، ما من فتنة إلا ولها جذور عراقية أو مصرية. ولذلك أتى يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، وقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوفقا إلى عبد الله بن عمر أبي عبد الرحمن رضي الله عنهما، فاكتنفاه، وسأله أحدهما: إن أناساً ظهروا قبلنا في البصرة يقولون: لا قدر. وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم ما سيكون إلا بعد أن يكون، وأن الأمر مستأنف لا يعلمه الله قبل وقوعه حاشى لله. قال: إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون القرآن، وفي رواية: يتقفرون العلم، أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني. قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وهذا كلام ظاهر ينص على أن عبد الله بن عمر كان يكفرهم، وغير واحد قال: قد عقد الإجماع على أن منكر مرتبة العلم والكتابة كافر مرتد عن ملة الإسلام. إن الخلاف فيما يتعلق بمرتبة الإرادة والخلق خلاف نكير، ولم يظهر في الأمة من ينكر هذا أو ذاك، حتى رأيت في زمننا هذا بعض الكتاب والصحفيين من ينكر القدر، وينسب الإرادة وا

باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله

باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الرابع: في ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته]، فلا يريد العبد إرادة ولا يشاء مشيئة إلا وهي تابعة لمشيئة الله، فإن كانت في الطاعة فإن الله هو الذي أنشأها، وأمر بها، ورضيها لأصحابها، ووفقه لها، وأثابه عليها، وإذا كانت شراً فإن الله تعالى أرادها كوناً وقدراً، يعني: أرادها أن تقع في الكون بقدرته سبحانه وتعالى، وأذن للعبد أن يفعلها وأن يتلبس بها؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد؛ إما إرادة شرعية أو كونية، وفي محصلة ذلك أن العبد لا يعمل عملاً إلا بإذن الله، فإما أن يأذن الله برضا، وإما أن يأذن بسخط، فإن كانت طاعة يأذن فيها برضا، وإن كانت معصية فهو يأذن في وقوعها من العبد في الحياة الدنيا وهو ساخط عليه، متوعد له بالعذاب في الدنيا والآخرة. قال: [أن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل]. لابد أن نراجع الباب من أوله حتى نثبت أن الخير والشر بيد الله عز وجل، وأن السعادة والشقاء بيد الله عز وجل، وأن الطاعة والمعصية بيد الله عز وجل، وأن الجنة والنار بيد الله عز وجل: (خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً وقسماً، وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وخلق النار، وجعل لها من عباده قبل أن يخلقهم قسماً) وعلم الله عز وجل ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فخلق لهم النار، وقال: (يا أهل النار! خلود بلا موت)، وهكذا قضى عليهم بالخلود فيها.

تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) قال: [قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} [البقرة:213]]، اختلف أهل العلم في هذه الآية، فبعضهم قال: كان الناس أمة واحدة على الإيمان، وأخذوا ذلك من الميثاق الأول، أخذه الله عز وجل على بني آدم من ظهر أبيهم آدم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -أي: فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي رواية عند مسلم: (أو يشركانه) يجعلانه مشركاً، فأصل الخلق على الإيمان والتوحيد، ولكن الله عز وجل إذا كان قد خلق الخلق على الإيمان والتوحيد، ولم تظهر فيهم شائبة شرك فلم أرسل النبيين مبشرين ومنذرين؟ لكن الناس خلقوا على أصل الفطرة وهو الإيمان والتوحيد، ثم ادخلهم الشرك بعد ذلك، فأرسل الله تبارك وتعالى إليهم النبيين مبشرين ومنذرين. حتى قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، إذاً: الهداية لا تقع للعبد إلا بمشيئة الله وإرادته.

وجوب تعلق العبد بالله الذي بيده الهداية والضلال

وجوب تعلق العبد بالله الذي بيده الهداية والضلال قال: [وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]]، إذاً: القتال رغم أنه منهي عنه، وقد جاء فيه الوعيد الشديد إلا أنه ما وقع إلا بإرادة الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253] ولكن القتال وقع؛ ولذلك قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] أي: أن القتال وقع بإرادة الله، بمعنى: أن الله أذن في وجوده، وأذن في خلق القتال بين البشر مع أنه قد نهى عنه. قال: [وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]]. إذاً: الضلال يقع بمشيئة الله، والهداية تقع بمشيئة الله، إذاً: الذي يملك الهداية ويملك الضلال هو الله عز وجل، فهو الذي يهدي وهو الذي يضل، لكن لا تقل: إذا كان الأمر كذلك ففيم العمل إذاً؟ هل أنت متأكد أنك من أهل الضلال عند الله؟ أو هل أنت متأكد أنك من أهل الهداية؟ إذا كنت تعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأنت لا تدري بما يختم لك؛ بالسعادة أو الشقاء، بالجنة أو النار، بعمل صالح أو طالح، أنت لا تعلم عن نفسك شيئاً، فإذا كان الأمر كذلك فلا أقل من أن تكون كالمعصوم صلى الله عليه وسلم الذي علم ذلك بفطرته وبوحي السماء، ومع هذا عصمه الله عز وجل من الضلال، وكل هذه المؤهلات وغيرها ما جعلته ينثني عن أن يذل ويخضع لربه، وكان دائماً يقول: (اللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك) مع أنه معصوم من الضلال عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يقول ذلك إكثاراً لحسناته، وإثقالاً لميزانه، وتعليماً لأمته، أن يعلموا أنهم بين يدي الله عز وجل. تعجبت من قوله إحدى نسائه وقالت: (أتقول هذا وأنت رسول الله؟! قال: أما علمت أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) يجعل من يشاء كافراً ويجعل من يشاء مؤمناً، يجعل من يشاء سعيداً، ويجعل ومن يشاء شقياً، يجعل من يشاء في النار، ويجعل من يشاء في الجنة، فإذا كانت هذه بيد الله عز وجل وأن المرء لا يدري بما يختم له، فينبغي أن يتعلق المرء بالله عز وجل، وأن يعلق قلبه بالله تعالى؛ لأنه هو الذي يوفقه للطاعة، وهو الذي يضله عن سواء الصراط، ويهديه إلى سواء الجحيم؛ فلما كان ذلك كله بيد الله فينبغي للعبد أن يتعلق بربه الذي يملك الهداية والضلال.

الشرك والإيمان لا يقعان إلا بإرادة الله عز وجل

الشرك والإيمان لا يقعان إلا بإرادة الله عز وجل قال: [وقال الله عز وجل: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:106 - 107]، إذاً: الشرك يقع بإرادة الله أم لا، وبمشيئة الله أم لا؟ لكن الشرك وقع في العباد بمشيئة الله الكونية، بمعنى: أن الله أراد أن يقع الشرك في الكون، وأذن في وقوعه وخلقه، ولكنه لا يرضاه، بل نهى عنه ولم يأذن فيه شرعاً، ولذلك ما أرسل الله تبارك وتعالى من نبي ولا رسول إلا أمره أن يأمر أمته {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107]. قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]]، إذاً: فإيمان العبد لا يقع بشطارة العبد، وإنما يقع بمشيئة الله. قال: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].

اعتقاد أن الله هو الذي خلق العباد على الطاعة والمعصية وأن هدايتهم بيده وحده

اعتقاد أن الله هو الذي خلق العباد على الطاعة والمعصية وأن هدايتهم بيده وحده قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، اللام في قوله: (وَلِذَلِكَ) بمعنى: على، أي: وعلى ذلك خلقهم، خلقهم على الطاعة والمعصية، على السعادة والشقوة، على الجنة والنار، وهذا تفسير غير واحد من السلف، كتفسير الحسن البصري ومن قبله ابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال: [قال منصور بن عبد الرحمن: قلت للحسن قوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]، قال: من رحم ربك غير مختلف -أي: لا يقع فيهم الخلاف- قلت: ولذلك خلقهم؟ قال: نعم. خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وخلق هؤلاء لرحمته وهؤلاء لعذابه ونقمته]، وهكذا جاء عن خالد الحذاء وغير واحد من سلف الأمة في تفسير هذه الآية. قال: [وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. وقال عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23]. وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8] أي: بإرادته. وقال عز وجل: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56]]، أي: أهل لأن يتقى؛ لأنه شديد العذاب، وهو أهل أن يرحم وأن يغفر {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]. وقال عز وجل حين دعا إلى الجنة وشوق إليها، وحذر من النار وخوف منها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29]، (فَمَنْ شَاءَ): أي أثبت المشيئة للعبد، ثم رد مشيئتهم إلى نفسه. أي: أنهم لا يشاءون شيئاً إلا إذا شاءه الله وأراده وقدره وأذن بوقوعه، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31]. قال: [وقال عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]-فأثبت للعبد المشيئة- قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]]، يعني: لو أن العبد أراد أن يكفر لا يقع الكفر منه إلا بإرادة الله، ولو أن العبد أراد الإيمان لا يقع منه الإيمان إلا بإرادة الله ومشيئته جل وعلا. قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، قال: يبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً].

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (كما بدأكم تعودون) وإثباته أن الله خلق الشر

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (كما بدأكم تعودون) وإثباته أن الله خلق الشر قال: [وعن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30]، قال: ولذلك خلقهم حين خلقهم، فجعلهم مؤمناً وكافراً، وسعيداً وشقياً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاً، وعن أبي العالية كذلك في نفس الآية. وعن طاوس: أن رجلاً قال لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون: إن الشر ليس بقدر -يعني: الله لم يخلق الشر، وليس هو من قدر الله عز وجل- فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]]، يعني: هذه حجة المشركين، يقولون: لماذا يعذبنا الله على شركنا والشرك يقع بمشيئة الله؟ قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، أي: لَوْ شَاءَ اللَّهُ ألا يجعلنا مشركين، وأن يجعلنا مؤمنين لفعل، إذاًَ: نحن مشركون بمشيئة الله عز وجل، والله هو الذي شاء لنا ذلك، فلم يعذبنا؟ إن الفرق بين المشركين في ذلك الوقت، وبين القدرية الذين يتظاهرون بالإسلام: أن المشركين يعلمون أن الشرك واقع بمشيئة الله، يعني: المشركون يفهمون ويعتقدون أن الشرك مخلوق لله عز وجل، لكنهم يقولون: لماذا يعذبنا؟ وذلك لأنه قد غاب عنهم أن المشيئة مشيئتان أو أن الإرادة إرادتان: شرعية دينية، وكونية قدرية، أما الشرعية الدينية فمبناها على المحبة والرضا، وأما الكونية القدرية فلا يلزم أن تبنى على المحبة والرضا، بل المعاصي والذنوب من مشيئته وإرادته الكونية القدرية. ولذلك قال المشركون: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، إلى قوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] فشرككم أيها المشركون! وكفركم أيها الكافرون! مكتوب في اللوح المحفوظ والرق المنشور، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، علم أنكم ستختارون الشرك والكفر؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل المحو والإثبات: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، أي اللوح المحفوظ الذي لا يقبل بعد ذلك محواً ولا إثباتاً.

تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)

تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) قال: [وقال أبو حازم في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8] أي: النفس {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] قال: الفاجرة ألهمها فجورها، والتقية ألهمها التقوى]، النفس الفاجرة التي علم الله عز وجل أزلاً أنها تختار الفجور خلق لها الفجور، فلما علم الله تعالى من نفس عبده فلان ذلك كتبه فاجراً، وكتب أن نفسه فاجرة فألهمها فجورها. وعبد اختار طريق الطاعة، واتباع الأنبياء والمرسلين، والعمل بوحي السماء، وتقرب إلى الله تعالى بما شرع من غير بدعة ولا معصية، فلما تأهلت نفس العبد لذلك، علم الله عز وجل ذاك أزلاً قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فكتب عبده فلاناً من النفوس الطيبة فألهمه تقواه.

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه) قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، قال: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته]، الله تعالى هو الذي يحول بين القلوب وبين العمل، إذا أراد الله إرادة كونية ألا يؤمن العبد حال بينه وبين الإيمان، وإذا أراد الله إرادة شرعية أن يؤمن هذا العبد قربه إلى الإيمان وقرب الإيمان إليه: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، فإذا كنت أنا على يقين بأن قلبي بيد الله عز وجل، وأن الله يحول بيني وبين ما أشتهي، فينبغي أن يخضع المرء لله عز وجل، وأن يذل، وأن يتودد، وأن يتزلف إلى مولاه وسيده؛ حتى يوفقه للطاعة ويجنبه المعصية. كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين الإيمان.

تفسير الحسن لبعض الآيات في القدر

تفسير الحسن لبعض الآيات في القدر قال: [وعن حميد قال: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة، ففسره لي أجمع على الإسناد، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]، قال: الشرك سلكه في قلوبهم]، والضمير يعود على الشرك، (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ): أي: المشركين الكافرين. قال: [وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صال الجحيم].

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]-والهداية هنا إرادة شرعية- وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]-إرادة كونية قدرية. قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]- قال: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان بالله]. تصور أنك وقفت تدعو الكفار الأصليين إلى الإيمان بالله عز وجل، وهم جالسون ينظرون إليك ويسمعون لك، وينصتون إليك غاية الإنصات، ثم لا تخرج من هؤلاء إلا بواحد فقط، هذا الواحد هو الذي قال الله تعالى فيه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، فهذا الذين انشرح صدره وانفتح للتوحيد والإيمان، أما الباقون فجعل الله تعالى صدورهم ضيقة حرجة كأنما يصعدون في السماء. قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] يقول: شاكاً كأنما يصعد في السماء؛ لأنه يشك في مصداقية هذا الكلام وفي صحته. يقول: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يقدر أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله عز وجل. وإذاً: الذي يدخل الإيمان في القلوب هو الله، والذي يخرج الإيمان من القلوب هو الله عز وجل، فإذا كنت أنا أعلم أن ذلك كله بيد الله عز وجل فينبغي أن أتزلف إلى سيدي ومولاي.

احتجاج مالك بن أنس على القدرية بقوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)

احتجاج مالك بن أنس على القدرية بقوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) قال: [قال مالك بن أنس: ما أضل من كذب بالقدر لو لم تكن عليهم فيه حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ} [التغابن:2]]. يعني يوم أن خلقكم جعلكم مؤمناً وكافراً، يعني: أنت مسجل عند الله عز وجل أزلاً من أهل الإيمان أو من أهل الكفر، لكن لا تركن على هذا؛ لأنك لا تعلم العاقبة ولا تعلم بما يكتب لك فاحرص أن تكون من أهل الطاعة، ولذلك (سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ -ففيم العمل إذا كنا نعمل لأمر قد كان، وقد فرغ منه، وجف به القلم، وطويت به الصحف- قال: اعملوا. فكل ميسر لما خلق له) فأما أهل الطاعة فييسرون إلى الطاعة، وأهل الشقاوة ييسرون إلى الشقاوة، ولما غابت الشقوة والسعادة عني فينبغي أن أعمل لسعادتي؛ لأن كل عاقل وكل ذكي يعمل لسعادته في دينه ودنياه، فكل عاقل يجب عليه أن يفعل ذلك، فإذا كنت لا أعلم بما يختم لي فلابد أن أحرص على أن يختم لي بخاتمة الإيمان والسعادة؛ ولذلك قال بعض أهل العلم في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، قالوا: هل يملك العبد أن يموت مسلماً؟ (وَلا تَمُوتُنَّ) أمر، قالوا: الجواب عن ذلك: إن العبد يكتب له بما كان عليه في حياته، فإذا كان عاملاً بعمل الطاعة والإسلام، مقتدياً بما فيه، فإن الله تعالى يوفقه إلى أن يموت على الإسلام والإيمان والتوحيد.

مخالفة القدرية لما أثبته الملائكة والنبيون وأهل الجنة وأهل النار وإبليس من المشيئة لله

مخالفة القدرية لما أثبته الملائكة والنبيون وأهل الجنة وأهل النار وإبليس من المشيئة لله قال: [وقال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس]، ثم بين مخالفة معتقد القدرية بالدليل. قال: [قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]]، فهذا إثبات من الله أن مشيئة العباد تابعة ومندرجة تحت مشيئة الله عز وجل. قال: [وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]]. فنفوا أنهم قد حصلوا العلم إلا من طريق الله عز وجل، وفي هذا إثبات أنه لا يقع في الكون إلا ما أراده الله تعالى. قال: [وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]]. يعني: لا يمكن أن نخرج من الإيمان إلى غيره أو إلى ما كنا عليه قبل البعثة والرسالة إلا إذا شاء الله تعالى ذلك؛ فأثبت أن الهداية والثبات على الإيمان بيد الله، وأن الانحراف عن الهدى بيد الله عز وجل. قال: [وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]]. فالهداية بيد الله عز وجل بإقرار وشهادة أهل الجنة. قال: [وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]. وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، إذاً: إبليس نفسه يعرف أن الغواية والضلال بيد الله، ولم يقل: ربي بما أغويت نفسي، وإنما قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39].

إنكار القدرية للقدر على الرغم من علمهم بالأدلة المتكاثرة الدالة عليه

إنكار القدرية للقدر على الرغم من علمهم بالأدلة المتكاثرة الدالة عليه قال: [فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه -يعني: يسمعون هذه النصوص وأضعافها الكثير في الكتاب والسنة- ويتلونه -بل ويتلى عليهم- فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله ويجحدونه بغياً وعلواً وأنفة، وتكبراً على الله عز وجل وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته؛ وللشقوة المكتوبة عليهم، فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]، هم كما قال عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. وهذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين {يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202]، تزجره بكتاب الله تعالى فلا ينزجر -وهذا دائماً شأن أهل البدع- وبسنة رسول الله فلا يذكر، وبأقوال الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا ينحسر -أي: فلا يكل ولا ينقطع- وتضرب له الأمثال فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين، والملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فلم يجد أنيساً في طريقته ولا مصاحباً على مذهبه غير هؤلاء -أي: اليهود والنصارى والصابئين- أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية والأهواء الردية، والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه، واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته، فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، يدعونه تضرعاً وخفية كما أمرهم به من مسألته. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]].

إثبات النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه أن الله يقلب القلوب فيثبتها أو يزيغها

إثبات النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه أن الله يقلب القلوب فيثبتها أو يزيغها قال: [عن أم سلمة: أن النبي كان يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك ثم قرأ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8]) إلى آخر الآية. وعن عائشة قالت: (كانت دعوة من رسول صلى الله عليه وسلم: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله! هل تخاف؟ -هل تخاف على نفسك وعلى قلبك- قال: وما يؤمنني -يعني: ما الذي يجعلني أطمئن- وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه)].

إرادة الله عز وجل تخضع لها كل أعمال العباد

إرادة الله عز وجل تخضع لها كل أعمال العباد قال: [وقال محمد بن كعب: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد]. يعني: الخلق أحقر وأدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل بشيء هو لا يريده أن يقع، لو أراد الزاني أن يزني، وأراد الله تعالى ألا يقع منه الزنا فأي الإرادتين تنفذ؟ إرادة الله عز وجل. قال: [وعن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: كلام القدرية وكلام الحرورية ضلالة -والحرورية: نسبة إلى قرية حروراء بالكوفة في العراق وهي أشد فرق الخوارج- وكلام الشيعة هلكة. وقال ابن عباس: ولا أعرف الحق ولا أعلمه إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله]. ولا شك أن مسألة القدر مما غاب عن العقول والقلوب وغاب عن الخلق، فينبغي أن نسلم فيه الأمر إلى الله عز وجل، ومن الأخطار الفادحة أن تحتج على معصيتك بالقدر، يعني: تفعل ما تشاء من المعاصي، ثم تقول: أليست المعصية تقع بمشيئة الله وإرادته؟ قال: [وقال ابن عباس: ولا أعرف الحق ولا أعلمه إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم إلى الله عز وجل، ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله، وفوضوا أمرهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقدر الله]، يعني: علموا أن الطاعة والمعصية والخير والشر بقدر الله عز وجل.

إقامة دعوة الأنبياء على البلاغ والإرشاد

إقامة دعوة الأنبياء على البلاغ والإرشاد قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام]. طريقة الأنبياء أن الأمر إذا كان معلولاً -أي: له علة ظاهرة قالوا بها- وإذا خفيت عنهم العلة آمنوا بما جاءهم من عند ربهم ولم يخوضوا في إثبات علته. كثير جداً مما جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم بين لنا علله، وكثير جداً منه كذلك لم يبين لنا علته، ولكنا نعلم أنه ما من شرع إلا وقد شرعه الله تعالى لحكمة وعلة عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ لأن الله تعالى هو الحكيم، ولا يمكن أن يشرع لعباده شرعاً إلا لحكمة، وأفعاله كلها مبنية على الحكمة سبحانه وتعالى، لكن أحياناً يخفي هذه الحكمة، وأحياناً يظهرها، فإذا أخفاها آمنا بها ولا يجوز لنا أن نخوض فيها؛ لأنه أراد إخفاءها، وإذا أظهرها لنا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام، وبذلك تعبدهم الله، وأخبر به عنهم في كتابه، أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم وقوتهم ومن استطاعتهم، وأن ذلك لا يكون منهم إلا بعد مشيئة الله وإرادته. قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32]، فقال نوح عليه السلام مجيباً لهم: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود:33]]. يعني: إذا شاء الله تعالى أن يرد عليكم أنزل الوحي، وإلا فأنا لا أستطيع أن آتيكم بشيء بغير مشيئة الله. قال: [{وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]]، يعني: رغم دعوتي لكم بالليل والنهار على مدار عقود من الزمن إلا أن هذا الكلام وهذا النصح لا ينفعكم إذا كان الله تعالى قد قدر لكم الضلال في اللوح المحفوظ. قال: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود:34] هو الذي علم ما أنتم إليه صائرون، وما أنتم به في حياتكم فاعلون، فإذا أردت أن أنصح لكم، وأراد الله تعالى إضلالكم فلا ينفعكم نصحي حينئذ، ولكنه يقيم عليهم الحجة، ولا يحل له أن يمكث بغير دعوة قومه. قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولكن الحجة قائمة بقول الله تعالى حاكياً عن نوح على قومه، ولم تقم من قومه على نوح]. قال: [ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89] ثم قال شعيب في موضع آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]]، يعني: أنا إذا أردت التوفيق فلا يكون ذلك مني إلا بإرادة الله عز وجل. قوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] أي: ليس من عند نفسي، بل توفيقي وتسديدي هو من عند الله عز وجل، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. قال: [وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، من الذي هداه؟ الله عز وجل، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80]، وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]]، يعني: إبراهيم عليه السلام إمام الملة السمحاء يخاف على نفسه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وهذا الكلام معناه: أنه يعلم أن ذلك بيد الله عز وجل، لو أراد أن يزيغهم أزاغهم، ولو أراد أن يضلهم أضلهم، فطلب منه الهداية والبقاء على العبادة

تفسير بعض السلف لآيات في القدر

تفسير بعض السلف لآيات في القدر قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] وما أورثوا من الضلالة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب]. وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: هذه الآية تقضي على القرآن كله، ومعنى تقضي على القرآن كله أي: تحكم على ما ورد في القرآن في باب القدر، فهي قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]. قال: [وقال عبد العزيز بن رفيع عمن سمع عبيد بن عمير: قال آدم عليه السلام: يا رب! أفرأيت ما أتيت؟ أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي، أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا. بل شيء قدرته عليك من قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفر لي. فذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37]]، سبحانه وتعالى. لكن لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية كما قلنا من قبل، فتراه يفعل ما يشاء من المعاصي، وينتهك الحرامات ثم يقول: أليس كل شيء بإرادة الله ومشيئته؟ فأنا سأزني وأسرق وأقتل وأشرب الخمر وأفعل ما يقدره الله عز وجل علي، وليس في ذلك عتب ولا ملامة؛ لأن كل شيء يقع بقدر الله وإرادته. نقول: نعم. نحن نؤمن ببعض هذا الكلام ونكفر ببعض، نؤمن بأن الطاعة والمعصية بقدرة الله تعالى ومشيئته، وأنه لا يكون في الكون إلا ما قدره الله تعالى وشاءه، ولكننا نكفر بالقول الثاني وهو: جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية؛ لأن آدم عليه السلام ما احتج بالقدر على معصية إلا بعد أن تاب منها. شخص في هذا الوقت وقع في ذنب، ثم تاب من هذا الذنب بقيام الحد عليه مثلاً، أو بتوبة صادقة بينه وبين الله، أو برد المظالم إلى أهلها، ودائماً ضميره يؤنبه، ومعنوياته الإيمانية دائماً تلومه، حتى ظن أن الله لن يغفر له ذلك الذنب، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، فتاب هذا الشخص من هذا الذنب، ورد المظالم إلى أهلها، وعزم على ألا يرجع إلى هذا الذنب أبداً عزماً أكيداً صادقاً بينه وبين الله، وفعلاً له عشرون سنة لم يرجع إلى هذا الذنب، وهذا دليل على صدق التوبة، ودليل على أن الله تعالى قد غفر له ذنبه، ووعد الله لن يخلف؛ فحينئذ أقول لك: لا تستيئس بما وقع منك آنفاً، فإنه ما وقع إلا بقدر الله عز وجل وإرادته ومشيئته، وكان لابد أن تراه وأن ترتكبه وأن تتلبس به، وشيء عظيم جداً أن يمن الله عز وجل عليك بالتوبة من هذا الذنب وبغيره من الذنوب، حينئذ الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة أمر جائز، وهذا ما فعله آدم عليه السلام، أما أنني أراك على معصية وذنب، وأقول لك: اعمل ما تريد، فكل شيء بقدر الله، وإذا لم يكن هذا مكتوباً لما فعلته؛ فهذا ضلال مبين جداً. فلا نحتج بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة الصادقة أو قيام الحد. قال: [وعن مجاهد: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم إبليس المعصية وخلقه لها]، يعني: علمه كيف يعصي وخلقه لها. قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن من كان على ملة إبراهيم وشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن كان دينه دين الإسلام، ومحمد نبيه، والقرآن إمامه وحجته، وسنة المصطفى نوره وبصيرته، والصحابة والتابعون أئمته وقادته، وهذا مذهبه وطريقته، وقد ذكرنا الحجة من كتاب الله عز وجل؛ ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين وغيظ للجاحدين].

وجوب اتباع كتاب الله وسنة نبيه والوقوف عند أمرهما ونهيهما

وجوب اتباع كتاب الله وسنة نبيه والوقوف عند أمرهما ونهيهما ثم يقول: [ونحن الآن وبالله التوفيق نذكر الحجة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعين الله تعالى على ذكره]. يعني: سيذكر من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ما يبين أن الهداية والضلال بيد الله وأن الشقاوة والسعادة بيد الله، وأن الجنة والنار مخلوقتان لله، وأن الخير والشر من عند الله، وأن الله تعالى هو الذي يوفق عباده لطاعته، ويهديهم ويمن عليهم بالإيمان، وأن الله تعالى هو الذي هدى قوماً من عباده إلى الضلالة، ويسر لهم سبل الضلال، ثم هو في الآخرة يجزيهم جهنم وساءت مصيراً، غير ظالم لهم. قال: [فإن الحجة إذا كانت في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلم يبق لمخالف عليهما حجة إلا بالبهت والإصرار على الجحود والإلحاد]، يعني: العلم قال الله قال رسوله. هذا الدين، ليس قول من يلعب بعقلك ورأسك بقال فلان وقال علان من أهل الوجاهة ومن أهل العلم، فإن من دون النبي عليه الصلاة والسلام ليس معصوماً، فهو يقبل الخطأ والصواب، وما دام الشأن في عباد الله الخطأ والصواب، وأنهم غير معصومين، فلا نستبعد عن أحد الخطأ مهما بلغ قدره من العلم، لكن كيف نخطئ أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو الشافعي أو هؤلاء العظماء من فحول العلم وأئمة المسلمين إذا خالفوا كتاباً أو سنة باجتهاد غير سائغ؟ للاجتهاد السائغ وغير السائغ أصول وآداب وأحكام. وأنتم تعلمون أن مالكاً وهو أحد الفحول يقول: كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر. وأشار إلى قبره عليه الصلاة والسلام، وكأنه ينقد على نفسه وعلى من سبقه من أهل العلم كـ أبي حنيفة وأئمة التابعين وأتباع التابعين، يقول عنهم جميعاً: إنهم يقبلون الخطأ والصواب، لكن التخطئة والتصويب لا يكونان إلا لشخص له في العلم باع طويل وعلم مداخل أهل العلم. أما علمتم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتاه جبريل عليه السلام يسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والشرع، وفي كل مرة يقول له: صدقت صدقت، قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ وذلك لأنه ليس من شأن الجاهل أن يصدق ما علمه، فجبريل عليه السلام لما كان عنده من العلم ما عنده قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (صدقت)؛ وذلك لأنه وافق ما عنده من علم -أي: من وحي السماء- فصدقه على ما قال؛ ولذلك أئمة العلم قديماً ما كانوا يتصدرون للتدريس والفتوى إلا بعد أن يجيزهم العلماء وليس الطلبة، لكن مشائخ هذا الزمان الذين يرفعونهم ويصدرونهم هم الطلبة، لكن هذا انتكاس في طريق الصحوة؛ لأن الأصل ألا يتصدر أحدهم إلا أن يجيزه العلماء والمشائخ الكبار، والواحد في هذا الزمان يجيز نفسه ويتصدر، ولا يجد مساراً يتصدر به إلا الشتائم والسباب والتهكم على أهل العلم، وعلى المجاهدين في شرق الأرض وغربها، ويتخذ ذلك ذريعة للظهور، وحب الظهور يقصم الظهور كما يقولون. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تطلبوا العلم لتماروا به السفهاء، ولا لتجادلوا به العلماء، فمن طلبه ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء فالنار النار)، تهديد ووعيد، فلابد من الإخلاص لله عز وجل في القول والعمل، ولابد أن يندم المرء أشد الندم ويتحسر أشد الحسرة. ولذلك قال أبو علي الأبار فيما أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته: رأيت رجلاً تجاوز البحار حتى دخل في بلاد الأهواز، فقد حف شاربه وأطلق لحيته واشترى كتباً، وتعين للفتوى، يعني: عين نفسه إماماً ومفتياً، فلما جلس قيل له: ماذا تقول في أصحاب الحديث؟ قال: ليسوا بشيء ولا يساوون شيئاً؛ فقام إليه رجل من أصحاب الحديث قال: يا فلان! إن مثلك كمثل رجل أوجب الله تعالى عليه أن يصلي الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والفجر ركعتين، ليس لك إلا ذلك، قال: أنا؟ قال: نعم. أنت، ماذا تحفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرمت بالصلاة قبل قراءة الفاتحة؟ فسكت. قال: ماذا تحفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغت من التسبيح في الركوع؟ فسكت. قال: ماذا تحفظ إذا قلت: سمع الله لمن حمده؟ فسكت، قال: ماذا تحفظ إذا سجدت وفرغت من التسبيح؟ فسكت. قال: ماذا تحفظ إذا جلست بين السجدتين؟ فسكت. قال: ماذا تحفظ إذا فرغت من التشهد وقبل أن تسلم؟ فسكت. قال: أما قلت لك: إن مثلك كمثل رجل أوجب الله تعالى عليه أن يتعلم كيف يصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم تركه وانصرف. فهكذا إنسان لا يجد طريقة للشهرة والسيادة والإشارة بالبنان إلا بالنيل من أعراض العلماء، وبالحط من أعمال المجاهدين، وهذا بلا شك مسلك في غاية الخطورة، وهو يجعل طلاب العلم وشباب الصحوة في بلبلة عظيمة جداً؛ ولذلك إذا أردت أن تريح نفسك وأن تريح غيرك فاعلم أن لطلب العلم أصولاً لا يمكنك الحياد عنها، وأن من حاد عنها فقد تنكب الطريق، هذه الأصول هي مصدر التلقي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الصحاب

احتجاج آدم وموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى

شرح كتاب الإبانة - احتجاج آدم وموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى في الحديث النبوي الذي حكى محاجة آدم وموسى عليهما السلام إثبات للقدر، وأن العبد لا يقع منه عمل من خير أو شر إلا بقدر الله الكوني الذي لا يتخلف، ولا يلحقه التغيير أو المحو، وأن العبد ليس له أن يحتج بالقدر على المعائب، وإنما يحتج به على المصائب، أو على الذنوب بعد التوبة منها.

حديث احتجاج آدم وموسى وقول النبي الكريم: فحج آدم موسى

حديث احتجاج آدم وموسى وقول النبي الكريم: فحج آدم موسى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً في ذكر حديث احتجاج آدم وموسى، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليه، بأنه غلب موسى بالحجة، والحديث نذكر به سريعاً، ثم نسرد مذاهب أهل العلم مع الترجيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. قال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى). وفي رواية: (تحاج آدم وموسى، فحج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء - أي: علم كل شيء في التوراة- واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق). وفي رواية (احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: هل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).

موقف المعتزلة من حديث: (احتجاج آدم وموسى)

موقف المعتزلة من حديث: (احتجاج آدم وموسى) قد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة، وهم أول ناس ردوا هذا الحديث؛ لأنهم دائماً يقدمون العقل على النقل، إذ إن هذا أصل من أصولهم، ولا شك أن النقل الصحيح دائماً يوافق العقل الصريح، وهذه قاعدة وأصل عند أهل السنة والجماعة. بينما هؤلاء المعتزلة يقولون: النقل يوافق العقل، لكن القضية ومحل النزاع بين أهل السنة والمعتزلة عند التعارض، أي: إذا تعارض العقل مع النقل فأيهما نقدم؟ أهل السنة يقدمون النقل، أما المعتزلة فيقدمون العقل، ويحكمون على النقل بالبطلان والرد، ولذلك لما قصرت عقولهم عن فهم هذا الحديث ردوه. قال: [وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كـ أبي علي الجبائي] وأبو علي الجبائي شيخ الاعتزال، وهو زوج أم أبي الحسن الأشعري، وكان يعتمد في الاعتزال على أبي الحسن الأشعري أيما اعتماد، فلما ترك أبو الحسن الأشعري مذهبه في الاعتزال وتبنى مذهباً جديداً وهو مذهب الأشاعرة، أفلس المعتزلة في ذاك الزمان. قال: [ومن وافقه على ذلك، وقال: لو كان هذا الحديث صحيحاً لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي]، وفي ظنهم أن آدم عليه السلام احتج بالقدر على المعصية، وأن هذا الأمر المقدر مكتوب قبل خلق السماوات والأرض، ولا بد للإنسان أن يعمله، فحينئذ ما قيمة النبوة والرسالة والكتب إذا كان المقدر قبل ذلك سيكون لا محالة؟! وهذا بلا شك يساوي عندهم إهدار النبوات. قال: [فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر -يعني: إذا صح له أن يحتج بالقدر- السابق ارتفع اللوم عنه]. ثم قال: [وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم قرناً بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومن عرف بعداوتها، وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة وحشوية وهذا الشأن؟!] أي: ما بال أصحاب الاعتزال وهذا الحديث ليس من صنعتهم، وإنما هو من صنعة المحدثين، وهو ثابت باتفاق البخاري ومسلم على إخراجه، وبتلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول، وبتوفر شروط الصحة في هذا الحديث، فما بالهم يردونه لمجرد أنه يخالف عقولهم؟! قال: [ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام]. وهذا كلام جميل جداً، إذ إنه ما من مبطل في زمن من الأزمنة، أو في قرن من القرون إلا وعمدته رد الأحاديث؛ لأنها لا تتفق مع عقله. قال: [ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية -رؤية الله عز وجل- وأحاديث علو الله عز وجل على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به سبحانه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للحكم بين عباده، وأحاديث تكلمه بالوحي كلاماً يسمعه من شاء من خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك] من الأحاديث التي جحدها هؤلاء المبتدعة الضالون، وكلهم ينضوي وينطوي تحت فرقة المعتزلة. قال: [وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها]، إذ قالوا: كل صاحب كبيرة مخلد في النار. قال: [وكما ردت الرافضة -الشيعة- أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات، والأفعال الاختيارية لله عز وجل، وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق. وكل من أصل أصلاً لم يؤصله الله ورسوله قاده قسراً إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلاً غير ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون]، إذاً كل أصل ليس له دليل في الكتاب أو السنة فهو أصل باطل.

مذهب الناس في مفهوم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فحج آدم وموسى)

مذهب الناس في مفهوم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فحج آدم وموسى) وبعد هذه المقدمة فقد اختلف الناس في فهم هذا الحديث إلى مذاهب شتى؛ وأهل العلم لهم نظر آخر ثاقب لهذا الدليل، واستنباط الأحكام والفوائد منه، ولهم في ذلك مذاهب: المذهب الأول: أنهم قالوا: إنما حجه لأن آدم أبوه، يعني: يريدون أن يقولوا: عيب على موسى وهو ابن آدم أن يحاجج أباه، وهذا لا يتناسب مع منزلة النبوة، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا الكلام لا محصل فيه ألبتة، وليس له قيمة في التحقيق العلمي فهل مرتبة الأبوة تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً؟! لا؛ لأن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن، أو العبد، أو السيد، أو المرأة، أو الرجل، ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة، وعليه فهذا الرأي باطل من جهة التخصيص العلمي؛ لأنه يجب المصير إلى الحجة والدليل، سواء كانت مع الأب، أو مع الابن. المذهب الثاني: قالوا: إنما غلب آدم موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى، فالذنب وقع من آدم في شريعة آدم، واللوم وقع من موسى في شريعة موسى، فقالوا: آدم غلب موسى لأن الذنب وقع في شريعة آدم، واللوم وقع في شريعة موسى، وهذا أيضاً أفسد من الذي قبله، إذ لا تفسير بهذا للحجة بوجه من الوجوه، وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة كلها، يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام تلوم جميع الأمم السابقة لها، واللوم هذا يقع في شريعتنا والذنب قد وقع في الشرائع السابقة، ولذلك لما أخرج البخاري قال: (يجيء بنوح يوم القيامة فيقول الله تعالى له: يا نوح هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فيؤتى بأمته فيسألهم: هل بلغكم نوح؟ قالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيؤتى بنوح مرة أخرى فيقول الله تعالى: يا نوح من يشهد معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143])، إذن اللوم يقع يوم القيامة في دار أخرى لا في شريعة أخرى، فيقع بعد الحياة والممات والبعث ويوم القيامة وفي عرصات القيامة، والذنب قد وقع في الدنيا، فلا بأس أبداً أن يقع الذنب في شريعة واللوم في شريعة أخرى، ولذلك هذا المذهب كسابقه من المذاهب الفاسدة. المذهب الثالث: قالت فرقة ثالثة: إنما حجه لأنه قد كان تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يصح أن يوجه إليه اللوم؛ لأنه قد تاب، والذي يتوب من الذنب كأنه لم يفعله أصلاً، إذاً فعلام اللوم؟ وآدم هنا ما احتج بالقدر إلا بعد التوبة لا قبل التوبة، وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه، ذكرها الإمام ابن القيم في كتاب: شفاء العليل، يقول: الوجه الأول: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه، ولا جعله حجة على ابنه، أي: أن آدم لم يقل لموسى: أتلومني على ذنب قد تبت منه. الوجه الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلاً عن موسى كليم الرحمن سبحانه وتعالى. الوجه الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه، وأنا شخصياً لست مقتنعاً بهذه الأوجه الثلاثة، وابن القيم عليه رحمة الله تبعاً لشيخه ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: هذا مذهب مرجوح أو لا يصح، وذكر الثلاثة الأوجه، وأنا شخصياً ليس عندي أدنى قناعة ولا بوجه واحد، لكن أرجوا أن تذكروا هذا المذهب؛ لأننا سنحتاجه بعد ذلك. المذهب الرابع قالوا: إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، وقد قلنا فيما مضى: إن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يحيي له آدم فيكلمه، فأحيا الله تعالى آدم فكلمه فلامه على ذلك، وفي أثناء الكلام لامه على الذنب، أو على المعصية التي جعلته يخرج من الجنة وتخرج ذريته إلى الأرض، فقالوا: هذا لوم ليس في دار التكليف، والأصل أن المرء يلام في دار التكليف، وإرجاع آدم وإحياؤه مرة أخرى للمحاجة والمناظرة بينه وبين ولده موسى عليه السلام لم تكن بالنسبة لآدم دار تكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه، قال ابن القيم: وهذا أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أن آدم لم يقل له: في غير دار التكليف، وإنما قال: (أتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق. الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة، والشاهد أن ابن القيم عليه رحمة الله أبطل هذا المذهب كذلك. المذهب الخامس: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا راد لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم

مواضع احتج فيها المشركون بالقدر وإنكار الله عز وجل عليهم في ذلك

مواضع احتج فيها المشركون بالقدر وإنكار الله عز وجل عليهم في ذلك وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم: أن هؤلاء القدرية أو هؤلاء الملاحدة كـ ابن سينا وغيره حجتهم بلا شك إنما هي حجة المشركين أعداء الرسل الذين قالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] أي: أن هذا شرك وقع بإرادة الله تعالى، وأن الله تعالى يحب أن نشرك، وهذا كلام باطل، وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47]، أليس الله قادراً على أن يطعم الفقراء والمساكين وابن السبيل؟ بلى، فنحن لن نطعمهم ما دام هو قادراً على أن يطعمهم، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]، فهذه أربع مواضع حكي فيها الاحتجاج بالقدر من أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس، حيث احتج على الله تعالى بقضائه فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، أي: أنت الذي أغويتني. فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول -هذا الكلام مهم جداً- صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، وفعلاً صحيح، أليس الشرك وقع في الكون بإرادة الله تعالى الكونية القدرية؟ بلى، إذاً الفخ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، إذ إن الإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا والأمر، أي: أمر الله تعالى، والإرادة الكونية القدرية لا يلزم فيها المحبة والرضا، إذ منها ما هو محبوب إلى الله، ومنها ما هو مبغض كالمعاصي والذنوب، وكل يقع بإذن الله تعالى وقدره. فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:35]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]-وهذا على الوجه الأقرب- لكن هم فعلوه، إذاً شاء الله لهم أن يفعلوه، لكنها مشيئة كونية قدرية، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، إذاً: الله تعالى هو الذي شاء غوايتهم وإضلالهم، قال: فكيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الكذب فيما هم فيه صادقون، وأهل السنة والجماعة جميعاً يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون؟ وهذا السؤال مهم جداً. قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقاً ولا حقاً، نعم الشرك وقع منهم بمشيئة الله، فلم أنكر الله تعالى عليهم ذلك؟ قال: بل أنكر عليهم أبطل الباطل، فإنهم لم يذكروا ما ذكروه -أي: لم يحتجوا بالقدر على معاصيهم إثباتاً لقدرة الله تعالى وربوبيته ووحدانيته وافتقاراً إليه وتوكلاً عليه واستعانة به لأمره، ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، أي: هم لم يحتجوا بالقدر على المعصية، أو بالمشيئة على الشرك الذي وقعوا فيه من باب الذل والافتقار والخضوع لله تعالى، وإثبات أنه لا يكون شيئاً في الكون إلا بمشيئته وإرادته، وإنما قالوا معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر، وأيضاً فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال، معارضة الأمر بالقدر ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم، أي: أنهم قالوا: لو كان الله لا يحب الشرك لم يكن يجعلنا مشركين، قال: ويرضاه حيث شاءه وقضاه -أي: لكونه شاءه وقضاه وقدره وأذن في خلقه وإيجاده، إذاً هو يحبه، هكذا قالوا- وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.

كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان أوجه الفعل والاحتجاج بالقدر

كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان أوجه الفعل والاحتجاج بالقدر وفي كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري ما يوهم هذا الكلام، وقد أعاذه الله منه، فإنه قال في باب التوبة من كتاب (منازل السائرين): ولطائف التوبة ثلاثة أشياء: أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف مراد الله فيها، إذ خلاك وإتيانها، فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين: الأول: أن يعرف عبرته في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته، وهذا كله معنى واحد. والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.

أوجه فعل العبد

أوجه فعل العبد وقال كلاماً كثيراً جداً مفاده وتلخيصه: أن للفعل وجهين: الأول: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره له، وعلمه به، وأن الله تعالى علم أن عبده سيفعل كذا، ويختار الشر على الخير، ويقدم عليه، ويتلبس به، فلما علم الله تعالى من عبده ذلك أزلاً قدره عليه، أي: كتبه، لا أنه جبره على المعصية، وإلا فلو كان العبد مجبوراً على المعصية فلم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً؟ هذا هو الوجه الأول، وهو متعلق بالله تعالى. الثاني: وجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال وكسب، وهذه المنزلة هي المنزلة الرابعة من منازل القدر. ومنازل القدر أربعة: المنزلة الأولى: منزلة العلم، أي: أن العلم الأزلي ثابت لله تعالى، فعلم الله ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون. المنزلة الثانية: منزلة الكتابة، أي: لما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتبه وقدره، فهو مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، الذي لا يأتيه زيادة ولا نقصان. المنزلة الثالثة: منزلة الإرادة أو المشيئة. المنزلة الرابعة: منزلة الخلق، أي: أن الأفعال خيرها وشرها بإذن الله تعالى وإرادته، ومشيئته من جهة الخلق والإيجاد، أما من جهة الكسب والفعل فإن العبد هو الذي يكسب الخير والشر، فمثلاً: القتل من جهة الخلق والإيجاد فالله تعالى هو الذي خلق وأوجد، والفعل فعل هذا العبد، وذلك لما أخذ السكين وانطلق إلى غريمه فقتله، وكل ذلك ما وقع إلا بعلم الله، وإرادة الله، ومشيئة الله، وإيجاد الله لهذا الفعل، وإلا فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة إلا بإذن الله، ولا يسكن سكنة إلا بإذن الله تعالى، لكن من الذي باشر القتل؟ من الذي أراق الدم؟ إنه العبد، إذاً هذا الفعل سواء كان خيراً أو شراً حتى لو كان صلاة التي هي رأس العبادات، لو شاء الله لك ألا تصلي، لكنك لو تركت الصلاة فإنما يقول: إنما ذلك وقع منك بقدر الله الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه في الشرع وفي الدين أمرك بالصلاة، وأنت اقترفت النهي وارتكبت الإثم بترك الصلاة، وكذلك القتل، فقد وقع منك من جهة الكسب والفعل، فأنت الذي باشرت هذا القتل، لكنه من جهة الخلق والإيجاد والإذن في الوقوع في الكون كل ذلك من الله عز وجل. ولذلك يقول هنا: فكل فعل له وجهان: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره، وعلمه به سبحانه وتعالى. ووجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال، والعبد له ملاحظتان كما سيأتي. إذاً: اتفقنا أن ما يقع في الكون من أقوال وأفعال لها وجهان: وجه متعلق بالرب تبارك وتعالى، ووجه متعلق بالعبد، من أجل ألا تقول بعد ذلك: أنا مسير في فعل هذا الفعل، والسؤال هذا دائماً يطرح كثيراً: هل أنا مسير أم مخير في أقوالي وأفعالي؟

اختلاف العباد في نظرهم إلى الوجه القائم بالرب والوجه القائم بالعبد وأهمية الجمع بينهما

اختلاف العباد في نظرهم إلى الوجه القائم بالرب والوجه القائم بالعبد وأهمية الجمع بينهما العبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، أي: القائم بالرب تبارك وتعالى، وملاحظة قائمة بفعله هو، فمن غلب النظر إلى الوجه الأول إنما يعتمد على القدر، وأنه مجبور على الأفعال، فيقول: الله هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي جبرني على هذا، إذاً فلم يلومني؟ وملاحظة للوجه الثاني، والكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته، وطاعته ومعصيته. فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فهو يريد أن يقول لك: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فلا بد أن تنظر إلى أن الفعل الذي فعلته جانب منه متعلق بالله تعالى، وجانب منه آخر متعلق بالعبد، فلا ترم الحمل كله على القدر؛ لأنك لو رميته كله على القدر فلن ترى نفسك مذنباً قط، بل تستمر في المعصية وتنتقل من معصية إلى ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، وحجتك في ذلك: أن هذا مقدر لك في اللوح المحفوظ، وإلا لما كان قد وقع منك أبداً، فأنت لا ترى نفسك مجرماً، ولا مذنباً، ولا عاصياً أبداً، وإنما ترمي بثقلك ومعاصيك على القدر، ولا تنظر أبداً إلى نفسك، ولا بد للعبد من هاتين الملاحظتين: أن ينظر إلى كل فعل وقع منه على أن له ملاحظتان وبابان: باب منه متعلق بالسماء، أي: متعلق بالله تعالى، وباب منه متعلق بالأرض، أي: بفعل العبد، ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الآخر، ولو غاب أحد الأمرين عن الآخر لحمل العبد على الضلال وفساد الاعتقاد، ولذلك الكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته. فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت الله تعالى لنفسه مشيئة، وأثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة المولى عز وجل، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:54 - 56]، حتى الذكرى بمشيئة الله تعالى. فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين- أي: الملاحظتين- ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، أي: بالقدر، وهذا متعلق بفعل العبد -كلام جميل- ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الثاني، وإلا هلك العبد وضل وساء اعتقاده في الله تعالى. وبعد ذلك يقول لك هنا: ومن الناس من يتسع قلبه لهاتين الملاحظتين فيراهما جميعاً، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما؛ لقوة الوارد عليه وضعف المحل، أي: أن صدره يضيق، فلا يستطيع أن يستوعب مسألة القدر؛ لقوة الشبهة الواردة عليه وضعف المحل، أي: ضعف القلب والعقل، ومثل ابن القيم لذلك بمثال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء يرد القضاء)، قال: ومن العباد من يقول: ومع هذا ندعو الله ولا يرد عنا القضاء، فلم؟ قال: لأن البلاء النازل من السماء، والدعاء الصاعد إلى السماء يلتقيان في السماء، فإذا كان الدعاء أقوى وبحرارة وبحضور القلب رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء، وإذا كانا في مستوى واحد فهما يعتلجان إلى قيام الساعة، أي: يتصارعان مع بعضهما البعض، وكلما هذا يغلب يرجع هذا مرة ثانية، فهما يعتلجان، أي: يتصادمان في السماء فلا يقوى البلاء على الدعاء ولا الدعاء على البلاء، إذ كل منهما في قوة صاحبه، فكذلك هنا قال: إنما يضيق صدر العبد عن متابعة أن الفعل له ملاحظتان: الأولى: متعلقة بالقدر بفعل الله تعالى، والثانية: متعلقة بفعل العبد، فيضيق صدره لقوة الوارد، أي: لقوة الشبه مثلاً وضعف المحل، مثل أن تأتي برجل طيب ودائماً يغير رأيه فتقول له: فلان هذا يعد لك كميناً وسوف يعمل فيك كذا وكذا، فانتبه حتى لا يغلبك، وأنا لك ناصح، ثم هل جربت علي كذباً وغشاً من قبل؟ فيقول: لا، إذاً أنا أحذرك منه، وأنا لا أغتابه وإنما أقول: احذر، فإنه يعد لك كذا وكذا، وقد أخبرني بنفسه أنه يعد لك كذا وكذا، وبذلك تكون الحجة قد قامت عليه والعلم قد بلغه، ثم يقابله هذا الذي كان يعد له هذه البلية فيكلمه بأدب واحترام، فينسى الذي مضى ويشرب المقلب؛ لأن العلم وإن توفر إلا أن المحل ضعيف، ولذلك عمر بن الخطاب قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني، أي: أننا لا نخادع أحداً ولا نسمح لأحد قط أن يخدعنا، فإذا أتى شخص ليخدعنا فنحن نفهم ذلك سلفاً، ولا نمكنه من ذلك؛ لأن المحل قوي، فلا يستطيع أحد أن يغلبنا، ولذلك إبليس نفسه لما كان يرى عمر يسلك فجاً يسلك هو فجاً آخر؛ لقوة المحل، فـ ابن القيم عليه رحمة الله يقول: ومن الناس من يضيق قلبه عن اجتماع الملاحظتين، لقوة الوارد عليه وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب، وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالله، أي: لو أن شخصاً يقول:

تعليق أبي إسماعيل الهروي على حديث احتجاج آدم وموسى

تعليق أبي إسماعيل الهروي على حديث احتجاج آدم وموسى وبعد هذا البيان والتفسير كله يقول: إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، والمعلوم يا إخواني! أن القضاء والقدر إنما يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، فيحتج المرء بالقدر على المصيبة التي تنزل به، فمثلاً: إذا سئل المريض: لماذا أنت مريض؟ فيرد عليك قائلاً: يا أخي! هذا قدر الله، ومثله: يا فلان! لماذا أنت أعمى؟ لأن الله كتب وقدر علي العمى، فهذا احتجاج بالقدر في باب المصائب، وهذا محل إجماع، أي: أن القدر يحتج به في باب المصائب، ولا يحتج به في باب المعائب التي هي الذنوب، وهذا الكلام مطلق، أي: قولهم: يحتج بالقدر في باب المصائب ولا يحتج به في المعائب، لكن الخلاف هل يحتج بالقدر في باب المعائب بعد التوبة منها أم لا؟ هذا تحرير المسألة. قال: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، وهذا رأي عبد الرزاق وابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين على الجميع رحمة الله. ولذا فموسى كان يلوم آدم على المصيبة لا على الذنب؛ لأن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم أحداً على ذنب قد تاب منه، وهو يعلم أن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، وكذلك آدم لا يمكن أن يكون محتجاً بالقدر على الذنب، لكن ما هي القصة؟ نحن متفقون على أن هناك لوماً، فما مصدر هذا اللوم؟ قالوا: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المعصية، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، ولم يقل له: أخرجتنا من الجنة، وإنما قال له: أنت فعلت خطيئة تسببت في مصيبة، وهذه المصيبة لحقتك ولحقت ذريتك، فأخرجت من الجنة إلى الأرض، فهذه مصيبة عظيمة جداً، ومصدر هذه المصيبة الذنب، فهو ما لامه على الذنب وإنما لامه على المصيبة التي حلت به وبذريته، وأنا غير مقتنع بهذا الرأي أبداً، والذي أقتنع به تماماً أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وهذه من مسائل الاعتقاد التي لا يحل لطالب علم يستطيع أن يميز بين أقوال أهل العلم أن يقلد رأياً بغير قناعة؛ لأن هذا دين، ودين الله تبارك وتعالى إذا ترجح لدى طالب علم في قضية من القضايا أصبح ديناً في حقه الذي يحاسبه عليه الله يوم القيامة، وفي لفظ: (خيبتنا). قال: فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة. هذا جواب شيخنا: أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى.

الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع

الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع وقد يتوجه جواب آخر -انظر هذا الكلام- وهذا الذي كنت أريد أن أخبرك عنه وأقول لك: احفظ هذا المذهب، أي: المذهب الثالث، فإننا سنحتاجه. والمذهب الثالث: أنه إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز له لومه حينئذ، قال ابن القيم: وهذا وإن كان أقرب مما قبله -يعني: الآراء الفاسدة السابقة- إلا أنه لا يصح لثلاثة أوجه، ثم ذكرها، أي: أنه قال: هو أهون من المذاهب الأخرى، لكنه مع ذلك غير صحيح؛ لثلاثة أوجه، ثم قال هنا: وقد يتوجه جواب آخر، أي: قد يكون الجواب الآخر وجيهاً، وكلمة: (يتوجه) من الوجاهة، أي: قد يصير مذهباً آخر وجيهاً. قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم. لكن هذا المذهب يقول لك: أنا يستقر في ذهني وينصرف في عقلي أنه مذهب راجح، يقول: وقد يتوجه. لا والله أنا عندي أن هذا الرأي هو الأوجه. قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وعدم العودة إليه قد يكون وجيهاً في موضع ومذموماً في موضع آخر, ثم قال: وهذا هو الرأي الوجيه، أي: أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك -أي: في هذا التوقيت بعد وقوع الذنب والتوبة منه- من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب رجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج بالقدر فيه ففي الحال والمستقبل، أي: أن القدر يحتج به في المصائب التي تنزل بالعبد، والذنوب التي يرتكبها فيما يتعلق بالماضي التائب منه، أما الاحتجاج بالقدر على الذنب الحال، كأن يرى شخص آخر يزني، فقال له: ما هذا يا فلان؟ فرد عليه: لا تتكلم فإن هذا مقدر علي! وأيضاً سأفعل هذا غداً وبعده، والأسبوع الذي سيأتي، والشهر الذي سيأتي وهكذا، وإذا كان مقدر علي فلا بد أن يقع مني! فهل يصح ذلك منه؟ لا، لكن يصح منه في الماضي وبعد التوبة منه. قال: وأما الموضع الذي يضر في الاحتجاج بالقدر ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله تعالى فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، أي: نحن قائمون على الشرك، وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم، وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله. ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

المراد بالتقدير في قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي

المراد بالتقدير في قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي المراد بالتقدير في قول آدم عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم من كلمة (قدره): أنه مجبور على ذلك؛ لأن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة، والمعنى الصحيح لكلمة: (قدره)، أي: كتبه الله علي. إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال له: الذكر، قال: أنت نفسك قرأت في الذكر أنني أفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً. قال: وفي صحف التوراة وألواحها، هل كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة؟ وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أن التوراة التي نزلت على موسى قد كتب فيها أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة. قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، فهذه الرواية مصرحة بالمراد بالتقدير، وأنه الكتابة، إذاً (أتلومني على أمر قدره الله علي)، أي: كتبه الله علي، والكتابة مرتبة ثانية متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر، وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر. ولم يزل سبحانه مريداً بما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر، (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة، وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلا بد من وقوعي فيه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لن نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ واللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل، فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي. لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تقول لشخص يشرب الخمر: يا فلان ماذا تعمل؟ فيقول لك: هذا مقدر علي! فهل تحتج بالقدر على المعصية؟ المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، مثل أن يقول شخص لمريض: لماذا يا أخي! أنت مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن المرض هذا لا أملكه، ولست سبباً فيه، كما لو حصلت حادثة لأناس فماتوا، فلا نقول: لماذا؟ فهذه مصيبة نزلت بهؤلاء، فيجوز أن يحتج على المصائب والبلايا، والأمراض، والأوجاع، والأسقام بالقدر، أما المعائب والذنوب فلا، لكن كلمة (لا) انتبه منها؛ لأنها محل نزاع، والنزاع فيها متعلق بمن تاب من الذنب، فهل يجوز له أن يحتج بالقدر فيقول: هو قدر الله عز وجل. كأن يزني شخص وهو غير محصن ثم يأتي الإمام فيقول: يا إمام! أنا زنيت، أقم علي الحد، طهرني، فهو أتى تائباً، وأنتم تعلمون أن الحدود كفارات لأهلها، فأقمنا عليه الحد مائة جلدة وتغريب عام. فهل يجوز لهذا التائب إذا سئل أو ليم على هذا الفعل أن يقول: هو قدر الله عز وجل؟ أنا أعتقد -المسألة محل نزاع- أن التائب من الذنب يجوز له أن يحتج بالقدر بعد التوبة، أما قبل التوبة وفي أثناء التوبة فلا.

لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي في الماضي والحاضر والمستقبل

لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي في الماضي والحاضر والمستقبل قال: [فإن قيل فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك]؛ لأننا لو قلنا إنه يجوز أن يحتج بالقدر على المعاصي كلها في الماضي والحاضر والمستقبل، إذاًَ فلا شيء هناك اسمه: حدود؛ لأن ربنا هو الذي أمر بذلك، فهو سبحانه علم ذلك، وكتبه علي، وقدره علي، ولذلك لما أتى هذا الزاني إلى عمر بن الخطاب فاحتج بالقدر على المعصية، ثم أمر به عمر فكتف، قال له: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم، نضربك بقدر الله، مثلما أنت تقول: إن المعصية وقعت منك بقدر، فنحن نقول: إن الحد أيضاً بقدر، ودليل ذلك: قف مكانك، وجلده مائة جلدة، ولو لم يكن مقدراً أن يضربه مائة جلدة لم يكن يستطيع عمر أن يضربه، فتبين أن المعصية بقدر، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها إلا بعد التوبة منها، وأن الحد من قدر الله عز وجل، ونحن قد قلنا: إن هذا القدر هو ما قدر في الكون من خير وشر، وأن ذلك لا يقع في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته، إذاً الحدود أيضاً من قدر الله وفي قدرة الله تعالى. قال: [فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة]، أي: لنا أن نلومه ونوبخه، وأيضاً نعاقبه ونقيم عليه الحد، وإن كان صادقاً فيما قال أن ذلك لم يقع إلا بقدر الله، لكن لا يجوز الاحتجاج به، ف A أن هذا العاصي باقٍ في دائرة الخير، وهذا فرق بينه وبين آدم، فآدم لما وقع فيما وقع فيه وتاب منه، وانتقل بعد الموت إلى دار أخرى، لكن الله بعثه جواباً لطلب موسى: أنا أريد أن أقابل آدم، خلق له آدم مرة أخرى ثم تناقشوا، لكن في الحقيقة لما لام موسى آدم عليهما السلام لامه في دار ليست محل تكليف؛ لأن الأصل في آدم أنه انتقل إلى دار لا لوم فيها ولا تكليف فيها، لكن العاصي الذي وقع في معصية في الدنيا إذا تاب منها بينه وبين الله تاب الله عز وجل عليه؛ لأنكم تعلمون أن الحد لا يجب قيامه إلا إذا بلغ السلطان، وهذا من الأساسيات الجوهرية في قيام الحد، وليس للأفراد أن يقيموه، حتى الوالد على ولده، والسيد على عبده، والرجل على امرأته، فلا يقيم أحد من عامة الناس الحد على أحد، وإنما يقيمه السلطان أو من ينوب عن السلطان، وكذلك إذا بلغ الحد للسلطان فلا يجوز للسلطان أن يقدم فيه ولا أن يؤخر، ولا أن ينزل من قدر العقوبة، ولا أن يزيد فيها؛ لأنها محددة من عند الله عز وجل، أما التعزيرات فهذه للرجل على امرأته، والوالد على ولده، والسيد على عبده وغير ذلك، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، وما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً في حد أقل من عشر، وما زاد النبي في تعزير أكثر من عشر، وقد تجد شخصاً آخر يعمل نفسه شهماً وهو أصلاً بخيل، فتأتي امرأته فتسقط طبقاً من الكئوس، فيعمل نفسه شهماً -وهو يغلي من الداخل- فيقول لها: أهم شيء سلامتك، وبعد ذلك يخرج ولا يستطيع أن يتحمل، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ثم يعود إلى بيته فيسألها عن صلاة الظهر، فترد عليه: أنها لم تصل، فيقوم بتوبيخها وتأنيبها، وهو في حقيقة الأمر أول مرة يسألها عن الصلاة؛ لأنه لا يستطيع أن يبيت، فلا بد أن يأخذ قيمة الكئوس. قال: [فهو في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة، واللوم، والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل]، فهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فإذا مات فلا نظل نوبخه، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في الوقت المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخذيل، والله أعلم. وهذا رأي واحد من أراء كثيرة ومتعددة، يقول: هذا اللوم والتوبيخ الذي وقع من موسى لآدم متعلق برجل خرج من دار التكليف ثم رجع إليها لمهمة وضرورة، فهو في الحقيقة لا يلام ولا يوبخ، ولذلك لما رد عليه آدم الحجة غلبه؛ لأنه ما كان ينبغي أن يلومه موسى عليه السلام.

كلام الإمام الخطابي في حديث احتجاج آدم وموسى

كلام الإمام الخطابي في حديث احتجاج آدم وموسى قال الإمام الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى: القدر من الله والقضاء منه معنى: الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، أي: أنه يقول لك: انتبه أن تفهم قول آدم عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله)، أن هذا فيه لغة الجبر من الله على هذه المعصية، لا، وإلا ستكون جبرياً من الفرق الهالكة الضالة. قال: ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كانت من هذا الوجه، يعني: ليس معناه أنه يقول له: أنت تلومني على أمر وأنا مجبور عليه، فليس في المسألة جبر. قال: وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله في الحال بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم -انظر الكلام الجميل- فهو يقول له: يا موسى! الأمر الذي وقعت فيه قد سبق في علم الله أني سأعمله، وأني سأرتكبه. وهنا آدم أثبت مرتبة العلم لله عز وجل، ومرتبة الكتابة كذلك؛ فآدم كان يؤمن بمراتب القدر. قال: وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد ومعاصيهم وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها. يقول لك: وصدور هذه الأفعال وإن كانت معاصي لكنها لا تصدر إلا بخلق وإيجاد الخالق سبحانه وتعالى، يعني: هذا الشر الذي وقع إنما وقع بإذن من الله، وإيجاد من الله، وخلق من الله، لكن المكتسب للشر، والذي قارف الشر بيده هو العبد، إذاً الشر يقع في الكون من العباد كسباً، ومن الخالق إذناً وإيجاداً وخلقاً. قال: والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] أي: فخلقهن، إذاً: القضاء الذي قضاه الله تعالى على آدم أو قدره على آدم بمعنى: أذن الله تعالى في خلقه وإيجاده، لكن الذي اكتسبه هو العبد. ولو كان المكتسب والمباشر لهذا الشر عياذاً بالله هو الله عز وجل لما احتاج آدم إلى التوبة؛ لأنه في الحقيقة لم يفعل شيئاً، فمن ماذا يتوب وهو لم يذنب؟ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، والمعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، أي: إذا كان علم الله سبحانه وتعالى أزلياً سابقاً، فلا يبقى إلا أن يكتسب العباد أفعالهم وأقوالهم، وحركاتهم وسكناتهم الموافقة لعلم الله الأزلي، فهو يريد أن يقول له: ما فعلت إلا شيئاً وافق علم الله الأزلي وكتابة الله تعالى الأزلية. قال: وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، أي: ومع هذا يلامون، ويوبخون، وجماع القول في هذا الباب -أي: خلاصة الأقوال في هذا الباب-: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه. انتبه من هذين الأمرين: أمر يسمى: الأساس، وأمر يسمى: البناء، والأساس هو علم الله عز وجل، والبناء هو أفعال العباد المطابقة لعلم الله الأزلي. وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك؟ إذا كان سبق في علم الله الأزلي أن آدم سيأكل من الشجرة فلا بد أن يوافق فعل آدم ما سبق في علم الله أنه سيأكل، ولو تحرى آدم والخلق أجمعون المخالفة لعلم الله الأزلي السابق لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه، ومع هذا فليس لهم حجة في أن يحتجوا بهذا على القدر إلا بعد التوبة. قال: وبيان هذا في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، لكن لما خلق آدم، هل خلق في الجنة أو في الأرض؟ في الجنة، إذاً سبق علم الله عز وجل بأن آدم سيخرج من الجنة إلى الأرض، وأخبر الملائكة بذلك، وعليه فعلم الله أزلي، وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها -أي: إلى الأرض- وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها، وليكون فيها خليفة ووالياًَ على من فيها، فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، فهو يريد أن يقول له: عملي هذا ما وافق إلا علم الله، فلم تلومني إذاً؟ ولذلك قال: (أتلومني على أمر قدره الله)، أي: كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، لكن إذا كان فعل آدم ليس فيه إلا موافقة علم الله الأزلي السابق، فإذاً لماذا فرض الإسلام؟ والجواب على ذلك: اللوم ساقط من قبل موسى، أي: أن الذي حصل لموسى ليس من باب اللوم، لكن النص صريح في اللوم: (أتلومني)، يعني: أن آدم فهم أن هذا لوم، قال: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ لي

القضاء والقدر

شرح كتاب الإبانة - القضاء والقدر لله تبارك وتعالى عاقبة الأمور، وهو خالق جميع الخلق، وقد كتب على من شاء منهم أن يكون من أهل الجنة، وقضى على من شاء منهم أن يكون من أهل النار، ويسر هؤلاء للعمل للجنة، ويسر أولئك للعمل للنار، وفي هذا أن قدر الله عز وجل سر من أسراره في خلقه، وما على العبد إلا التسليم له، والاجتهاد في العمل، فكل ميسر لما خلق له.

حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي

حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي الحمد لله، نحمده ونستهديه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: في الدرس الماضي قدم إلي أخ كريم تعليقاً على ما قلته في الاحتجاج بحديث آدم وموسى، وأني احتججت بهذا الحديث أو جعلته دليلاً وحجة لمن احتج بالقدر على المعاصي بعد التوبة منها، ونقل إلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أنه لا يصح الاحتجاج على هذا النحو. وأقول: إن هذه الأوراق المقدمة قد اطلعت عليها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وجزى الله تعالى خيراً الأخ المقدم لهذه النصيحة. وعلى أية حال فإن الذي ترجح لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يترجح عندي، وربما قصر فهمي وإدراكي عن فهم كلامه، وأما ابن القيم فقد اضطرب في هذه المسألة بين رأيين، فنصر المذهب الأول لـ ابن تيمية وضلل من قال بالرأي الثاني، ثم قال: وفي المسألة رأي آخر وجيه أو حسن، وذكر الرأي الثاني الذي كان قد ضلله منذ قليل، وضلل أصحابه وأهله. وهذا الرأي الثاني هو الذي ترجح لدي منذ سنوات طويلة. وقد سألت الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الرأي الثاني فقال: إنه وجه حسن. وأصل القضية هي: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟ والجواب إجماعاً: لا، فلا يحتج بالقدر على مجرد المعصية، ولا يحتج الزاني بأن الزنا مكتوب عليه، ولا السارق بأن السرقة مكتوبة عليه. وهذه مسألة من مسائل الإجماع، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويجوز الاحتجاج بالقدر على البلاء. وكما يقول أهل العلم: لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، يعني: إذا نزلت بك بلية أو مصيبة فقل هذا من قدر الله عز وجل. وهذا من مسائل الإجماع التي لا خلاف عليها، ويفهمها كل أحد. وأساس القضية وأصل الخلاف هو: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؟ اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: يجوز، والذي قال يجوز احتج بحديث احتجاج آدم وموسى، وأن موسى عليه السلام لام أباه آدم على أنه أخرج ذريته من الجنة بسبب معصيته وأكله من الشجرة، وهذا بلا شك بلاء عظيم، وأصل هذا البلاء معصية وقعت من آدم، وتاب آدم منها، فلما تاب منها وفرغ من هذا الأمر احتج على موسى عليه السلام وقال: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً)، يعني: إن هذا الأمر مكتوب في اللوح المحفوظ، فمن العلماء من فهم كلام آدم على أنه احتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؛ لأنه قد تاب منها، وهذا الذي يستقيم مع سياق الحديث ومع سياق القصة، وهو الذي أذهب إليه، ومن أراد أن يذهب إلى الرأي الأول وهو أن آدم لم يحتج بالقدر على المعصية وكذلك موسى، وإنما احتجا جميعاً على المصيبة، وهي أن آدم أخرج نفسه وذريته من الجنة، وهذه مصيبة وليست ذنباً، وسبب هذه المصيبة الذنب، فلو لم يأكل آدم من الشجرة ما خرج ولا خرجت ذريته، وهذا أمر مقدر ومكتوب على آدم قبل أن يخلقه الله عز وجل بأعوام وأعوام. والذي أفهمه أنا من هذا الحديث أن هذا احتجاج بالقدر على المعصية ولكن بعد التوبة منها، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية قبل التوبة منها فهذا ضلال مبين. وهذه من مسائل الإجماع كما قلت.

باب ما روي في أن الله تعالى خلق خلقه كما شاء لما شاء

باب ما روي في أن الله تعالى خلق خلقه كما شاء لما شاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في أن الله تعالى خلق خلقه كما شاء لما شاء]، أي: خلق الأبيض والأسود، والمؤمن والكافر، والشقي والسعيد لما شاء، للجنة أو للنار، للشقاء أو للسعادة، فمن شاء الله تعالى خلقه للجنة ومن شاء خلقه للنار، وقد سبق بذلك علمه سبحانه وتعالى ونفذ فيه حكمه وجرى فيه قلمه، ومن جحده -أي: ومن جحد هذه العقيدة السابقة- فهو من الفرق الهالكة الضالة.

كيفية الجمع بين آية الميثاق وبين الأحاديث الواردة في إخراج الذرية من ظهر آدم وحده

كيفية الجمع بين آية الميثاق وبين الأحاديث الواردة في إخراج الذرية من ظهر آدم وحده قال: [عن مسلم بن يسار الجهني: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. قال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره -أي: ظهر آدم- فاستخرج ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ -يعني: لم نعمل إذا كان أهل النار معروفين وأهل الجنة معروفين أزلاً، وهم باقون على حالهم أبداً حتى يخلدوا في الجنة أو النار؟ -فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة- أي: لابد من العمل؛ لأنه سبب- حتى يموت على عمل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار، فيدخله الله به النار)]. وهذا الحديث وقع بين أهل العلم نزاع عظيم في فهمه؛ لأن سياق الآية -وهي في الميثاق- يختلف عن سياق الأحاديث الواردة في تفسيرها، فربط الآية بالأحاديث الواردة هو الذي أحدث الإشكال؛ لأن الأحاديث تقول قولاً يختلف عن ظاهر الآية، فالآية تقول: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172]، أي: وليس من آدم، وتقول: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، ولم تقل: من ظهره، وتقول: {وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف:172]، ولم تقل: وأشهده، وتقول: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا} [الأعراف:172] ولم يقل: قال. إذاً: استخراج الذرية كان من ظهور بني آدم وليس من ظهر آدم، وأما الحديث فيقول: (إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية أخرى)، فأما الأولى فأهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون حتى يموتوا على ذلك، وأما المسحة الثانية فهم أهل النار، وبعمل أهل النار يعملون، حتى إذا أدركهم الموت أدركهم وهم يعملون بعمل أهل النار. وهذه الآية معروفة في التفسير بآية الميثاق، أي: الميثاق الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين استخرجهم من ظهره، أو من ظهورهم، وهل استخرجهم من ظهره أو من ظهورهم؟ هذا محل نزاع، فالنصوص النبوية وآثار الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن الله تعالى إنما استخرج الذرية من ظهر آدم، والآية ظاهرها أن الله استخرج الذرية التي تكون إلى يوم القيامة من ظهور بعضهم بعضاً، والجمع بين هذا وذاك أنه لا مانع أن تكون الأحاديث مبينة أن أول استخراج الذرية إنما كان من ظهر آدم، ثم أخرج الله بعد ذلك بنص القرآن ذرية آدم بعضهم من بعض، فيكون هناك إخراجان، الإخراج الأول إخراج الذرية التي تكون إلى يوم القيامة من ظهر آدم، وهذا بنص الأحاديث النبوية كلها، وأما الإخراج الثاني فهو المذكور في الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، أي: بعد أن أخرجهم من ظهر آدم كالذر أخرج من هذا الذر نسله، ثم النسل الثاني والثالث والرابع إلى يوم القيامة، فهناك إخراجان إذا صح هذا، وهذا التفسير أراه ضرورياً للجمع بين النصوص التي وردت في السنة التي ظاهرها يخالف ظاهر الآية وبين نص الآية، فالنصوص النبوية أثبتت إخراجاً من ظهر آدم، ولم تثبت إخراجاً من ظهور بني آدم، والآية أثبتت إخراجاً من ظهور بني آدم ولم تثبت إخراجاً من ظهر آدم، فلا بد من القول بالإخراجين معاً. والله تعالى أعلم.

كل إنسان ميسر لما خلق له

كل إنسان ميسر لما خلق له قال: [وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما انتهينا إلى بقيع الغرقد -وهو مكان المقابر بجوار المسجد النبوي- قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فأخذ عوداً فنكت به في الأرض -أي: ضرب به في الأرض- ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من نفس منفوسة أي: مولودة- إلا قد علم مكانها من الجنة والنار، وشقية أو سعيدة، فقال رجل من القوم: يا رسول الله! ألا ندع العمل ونعمل على كتاب ربنا)؟ أي: نعمل بمقتضى الكتاب الذي كتب تحت العرش في اللوح المحفوظ؟ وليس هناك من يعلم إذا كان مكتوباً شقياً أو سعيداً؟ وهل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان من أهل الجنة عمل بعمل أهل الجنة وصار إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة عمل بعمل أهل الشقوة وصار إلى الشقوة. قال: [(قال النبي عليه الصلاة والسلام: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له)]، أي: على كل واحد منا أن يعمل، فإنه إذا خلق للجنة فإنه ييسر لعمل أهل الجنة، وإذا خلق للنار في علم الله السابق فإنه ييسر لعمل أهل النار ويعمل به حتى يدخل النار، فمن كان من أهل الشقوة يسر لعملها، ومن كان من أهل السعادة يسر لعملها. قال: [(ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]). وفي رواية: قال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: يا رسول الله! ألا نتكل؟ -يعني: ألا تأذن لنا أن نتكل على هذا الكتاب المكتوب؟ - قال: لا، بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له)] وهذا النص عن علي بن أبي طالب في الصحيحين. وأما نص عمر السابق فتشهد له بقية الروايات وإن كان في الإسناد إليه انقطاع. قال: [وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (أخذ بيدي علي رضي الله عنه فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نفس منفوسة إلا قد سبق لها من الله عز وجل شقاءٌ أو سعادة، فقام رجل فقال: يا رسول الله! ففيم إذاً نعمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ هذه الآيات: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5])].

إثبات قدر الله السابق على العبد

إثبات قدر الله السابق على العبد قال: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل النار)]، أي: إن الرجل ليعمل في الدنيا بعمل أهل الجنة وهو عند الله تعالى أزلاً من أهل النار. ونحن نرى الآن من الكفار من يعمل عملاً صالحاً، وهذا قد ورد في النصوص، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام أثنى على عمل بعض الكفار، فقد كانوا يقرون الضيف، ويلقون السلام، ويطيبون الكلام، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وهذا بلا شك من عمل أهل الجنة وهم من أهل النار، وترى بعض الناس يعمل بعمل أهل النار ويعيش على هذا ردحاً من الزمان وفترة من عمره طويلة، ولكن يختم له بالتوبة وعمل الصالحات. قال: [(فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار، فمات فدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة، فمات فدخل الجنة)]. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان له قبل الإسلام أعمال كثيرة جداً، وهي من أعمال أهل الإيمان، فجوزي بها خيراً في الإسلام، وفي الحديث: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا). وأصدق رجل في الأمة ينطبق عليه هذا الحديث هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وفي ذلك الوقت كان عمر يعمل بعمل أهل النار مثل وأد البنات، ولكنه تاب بالإسلام فجب الإسلام ما كان منه من معاص وكفر قبل ذلك، وحسن إسلامه فتحولت سيئاته إلى حسنات، فهذا الرجل سبق في علم الله أنه من أهل الجنة وإن كان أحرص الناس على قتل النبي عليه الصلاة والسلام. وقتل الأنبياء من أكفر الكفر. قال: [قال أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل البرهة من عمره -أي: الفترة من عمره- بعمل أهل الجنة، فإن كان قبل موته تحول)] وكلمة تحول تصيب الشخص بالفزع، والنبي عليه الصلاة والسلام لما علم هذه الحقيقة كان يفزع من ذلك، وكان دائماً يقول: (اللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك). وهذه الحقيقة معلومة يقيناً لدى كل مسلم، فينبغي لكل واحد منا أن يذل ويتذلل ويخضع لمولاه ويسأله أن يثبت قلبه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل ربه التثبيت والتصريف إلى الطاعة، حتى قيل له: (يا رسول الله! أوتخشى على نفسك؟ قال: وكيف لا أخشى على نفسي والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وتصور أن الرجل قد يظل عمراً طويلاً يعمل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخل النار، هذا شيء عجيب وعظيم جداً، والله تبارك وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، وهو قد علم ما العباد عاملون وما هم إليه صائرون، وهو غير ظالم لمن أدخله النار، وهو المتفضل على من أدخله الجنة سبحانه وتعالى. قال: (فإذا كان قبل موته تحول)، أي: من كان يعمل بعمل أهل الجنة تحول فعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار. قال: [(وإن الرجل ليعمل البرهة من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات فدخل الجنة). وعن عمران بن حصين قال: (قال رجل: يا رسول الله! أعلم الله أهل الجنة من أهل النار؟ -أي: هل يعلم ربنا أهل الجنة وأهل النار؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ -يعني: ما لزوم العمل وقيمته؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)]. فمن كان في علم الله أنه شقي وأنه من أهل النار وإن عمل برهة من الزمان بعمل أهل الجنة فسيختم له بعمل أهل النار، وتصور لو أن رجلاً عمل مائة عام بعمل أهل الجنة، وقبل موته بلحظات ارتد عن دين الله عز وجل، فهذا يكون في النار مع أنه طيلة عمره كان يعمل بعمل أهل الجنة، والإنسان لا يملك لنفسه الردة كما لا يملك لنفسه الإيمان، وكل ذلك بقدر من الله عز وجل، وقد سبق في علم الله تعالى أن فلاناً سيرتد، وأن فلاناً سيثبت على الإيمان، وفلاناً سيفتن، وفلاناً لن يفتن، فإذا كان هذا كله بيد الله عز وجل -يعني: إذا كان النفع والضر والسعادة والشقاء بيد الله- فلا أقل من أن تتعلق بحبل الله المتين، وبسؤال الله أن يثبتك على الإيمان، حتى تفارق هذه الدنيا، كما تتعلق بآحاد الخلق لمصلحة لك عنده، ولله المثل الأعلى. قال: [عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل من عمره أو كل عمره بعمل أهل الجنة، وإنه لمكتوب عند الله من أهل النار، وإن العبد ليعمل الزمن الطويل من عمره أو أكثره بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب عند الله من أهل الجنة)].

خطر الرياء على خاتمة العبد

خطر الرياء على خاتمة العبد قال: [وعن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)]، وهذا الحديث يحل إشكالات كثيرة في بقية النصوص. قال: [(إن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار)]، أي: أنه مراء وغير مخلص في هذا العمل، ولا قيمة لعمله، ولا يقبله الله مهما طاب وتعدى نفعه للآخرين، فهو ليس مخلصاً في هذا العمل لله عز وجل، وإنما فعله نفاقاً أو رياءً أو سمعة أو طلباً للمدح أو تصدراً للمجالس أو غير ذلك، فلا يقبل عند الله، ويأتي هذا الإنسان في آخر حياته مفلساً، وقد يكون عمل هذا العبد العمل الصالح خالصاً لله تعالى، ولكنه يأتي مع هذا العمل أعمالاً أخرى سيئة، فيخصم هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه حتى يطرح في النار، وهذا هو المفلس الذي عرفه النبي عليه الصلاة والسلام. وحديث سهل بن سعد هذا أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح. وانظروا إلى هذا الرجل الذي كان يقاتل قتالاً أعجب جميع الصحابة، وما استطاع أحد أن يقاتل مثله قال فيه الصحابة: والله إنا لنراه من أهل الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هذا؟ قالوا: فلان يا رسول الله! إنه يقاتل العدو قتالاً وقتالاً وظلوا يصفون قتاله، قال: (والله إني لأراه من أهل النار). فهم يرونه فيما يبدو لهم من أهل الجنة، وهو يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو لهم، وفيما اطلعوا عليه، ولكن الذي لم يطلعوا عليه أطلع الله عز وجل عليه نبيه، فقال: (والله إني لأراه من أهل النار، فقال رجل: أرمق الرجل)، يعني: سأنظر ماذا يعمل؛ لأنهم رأوه من أهل الجنة والنبي صلى الله عليه وسلم رآه من أهل النار، ولا بد أنه من أهل النار، فأراد أن يتعرف حقيقة هذا الرجل، فظل يتتبعه، إذا أسرع أسرع خلفه، وإذا وقف وقف، يرمقه من قريب ومن بعيد، حتى أصيب هذا الرجل بسهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه واتكأ عليه فخرج من ظهره فمات، أي: قتل نفسه، فأتى هذا الرجل الذي كان يتتبعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! الرجل الذي قلنا فيه كذا وقلت فيه كذا قد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).

حكم الجزم لأحد بجنة أو نار

حكم الجزم لأحد بجنة أو نار ونحن مأمورون بحسن الظن، فنقول: هذا الرجل يعمل عملاً صالحاً، ولا نزكيه على الله، وهذا الرجل نحسبه من الصالحين، ولا نزكيه على الله، والله تعالى هو الذي يعلم عباده وما هم إليه صائرون، إلى الجنة أم إلى النار، ولا نقطع لأحد بشيء، وهذا أصل من أصول اعتقاد أهل السنة، فلا نقطع لأحد قط بجنة ولا نار إلا إذا قطع له القرآن أو قطعت له السنة، وينبغي أن يعقد الإجماع على ذلك، وما دون ذلك فلا. ومن الأخطاء الفادحة كذلك أن نقول: فلان شهيد، ومعنى هذا أننا نشهد له بالجنة ولكن من طرف خفي، والأصل أن نقول: فلان نحسبه عند الله شهيداً، أو نسأل الله أن يتقبله من الشهداء، وأما شهيد فلا، فكلمة شهيد قطع له بالجنة، وهذا ممتنع في عقيدة أهل الحق وأهل السنة والجماعة، ونرجو الله تعالى أن يتقبله شهيداً، وأن يكون من الشهداء. ويجوز أن نقول: شهداء أحد، وشهداء بدر، وشهداء اليرموك، وشهداء أي حرب على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل لكل أحد، وإن كان حتى هذه الجزئية فيها نزاع، أي: إطلاق الشهادة العامة. (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة)، أي: يختم له بعمل أهل الجنة، ولكن لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.

بيان تقدير الله لأعمال العباد

بيان تقدير الله لأعمال العباد وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا نبي الله! أرأيت ما نعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نستقبله استقبالاً)، يعني: هذه الأعمال التي نعملها أهي مكتوبة عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ أم لا؟ وقد قسم الله خلقه إلى الجنة والنار، وهذا أمر معلوم لا خلاف عليه ولا مناص منه. (قال: بل لأمر قد فرغ منه)، يعني: إنك تعمل لأمر قد فرغ منه، وجفت عليه الأقلام وطويت الصحف. (قال: ففيم العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كل لا ينال إلا بالعمل، أما من كان من أهل الشقاء فلا يشقى إلا بالعمل، وأما من كان من أهل الجنة فلا يدخل الجنة إلا بالعمل) فالعمل سبب. قال عمر: (إذاً: نجتهد)، يعني: إذا كان دخول النار والجنة متعلق بالعمل فلا بد أن نجتهد في العمل الذي ندخل به الجنة. قال: [وعن ابن عمر عن أبيه قال: (قال يا رسول الله! أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ منه أو أمر مبتدأ أو مبتدع؟ -وقوله: مبتدأ يعني: سيطول- فقال: لا، في أمر قد فرغ منه، اعمل يا ابن الخطاب! فكل ميسر، من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء). وعن هشام بن حكيم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ابتدئت الأعمال أم قد قضي القضاء؟ -يعني: هل الله تعالى يكتب لنا أعمالنا إذا عملناها أم أنه قد كتبها قبل أن نعملها وفرغ منها وانتهى بها القضاء؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه -أي: ثم وضعهم في كفيه- ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار)]. يعني: قسم عباده إلى قسمين: أحدهما إلى الجنة والآخر إلى النار، فأهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار.

كتابة الله عز وجل لأهل الجنة وأهل النار

كتابة الله عز وجل لأهل الجنة وأهل النار وفي السنن ومسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده كتابان فقال: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم)، أي: جمل أفراده وجمعت وكملت عن آخره، فلا يتطرق إليهم زيادة ولا نقصان. (ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)، أي: الكتاب الأول الذي هو اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب كتاب محسوس، وكل النصوص الواردة تبين أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون معنى أو مجازاً، وإنما هو كتاب محسوس. قال: (وقال: هذا كتاب أهل النار)، أي: الكتاب الثاني، (بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه: يا رسول الله! إذاً: فيم العمل إن كان أمراً قد فرغ منه، فقال: سددوا وقاربوا). وسددوا أي: ابلغوا بأعمالكم درجة السداد والصلاح، فإن عجزتم فلا أقل من أن تقتربوا من هذه الدرجة، فكأنه يقول: اعملوا بعمل الطاعة ما أمكنكم ذلك حتى تبلغوا كمال الطاعة وتمامها، فإن لم تبلغوا كمال الطاعة فلا أقل من أن تقتربوا من الكمال. هذا معنى (سددوا وقاربوا)، أي: سددوا في أعمالكم إلى درجة الكمال، فإن لم توفقوا إلى الكمال فلا أقل من أن تقاربوا الكمال. قال: (فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فنبذها)، أي: ثم إنه عليه الصلاة والسلام ألقى الكتابين اللذين كانا في يديه مكتوب فيها أهل الجنة وأهل النار. ثم قال: (فرغ ربكم من العباد)، أي: من كتابة من كان من أهل الجنة ومن كان من أهل النار من العباد. (فقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]). قال: [وعن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع ناساً يذكرون القدر -يعني: يجادلون فيما يتعلق بالقدر، والقدر ممنوع الخوض فيه- فقال: إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغور)، يعني: إنكم تتكلمون في مسألة ربما تؤدي بكم إلى جهنم؛ لأن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، ولا يحل لأحد أن يتكلم فيه، ولا يخوض فيه. قال: [(فيهما أهلك أهل الكتاب)]، يعني: بسبب الكلام في القدر أهلك الله تعالى أهل الكتاب؛ لأنه حرم عليهم أن يتكلموا في القدر فتكلموا. (ولقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً كتاباً فقال: هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه تسمية أهل النار بأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمل على آخرهم، لا ينقص منهم شيء، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، ثم أخرج كتاباً آخر فقرأ عليهم: هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه تسمية أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمل على آخرهم، لا ينقص منهم، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]). فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج وفي يده كتابان فقرأهما عليهم وهم يسمعونهما منه ثم نبذهما عليه الصلاة والسلام، ولا يصح المجاز في مثل هذا، فهما كتابان حقيقيان محسوسان، فيهما أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار وأسماء قبائلهم وآبائهم وعشائرهم، والنبي قرأ عليهم مقدمة الكتابين، وفيهما: (هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم)، وتوقف عند هذا، ثم قال: (وهذا كتاب أهل النار من الرحمن الرحيم، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وقبائلهم)، ثم توقف عليه الصلاة والسلام ولم يقرأ الأسماء؛ لأن النصوص لم ترد بقراءة الأسماء. وهذا يفيد أن الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا أدخل عبداً من عباده الجنة فبرحمته وفضله، وإذا أدخل منهم أحداً النار فبعدله غير ظالم له. والجنة والنار مخلوقتان الآن، ومالكهما هو الله عز وجل، فهو مالك الجنة ومالك النار، فهو عز وجل الذي خلقهما، وهما ملكه، وهؤلاء العباد عبيده، فإذا شاء أن يدخل بعض عباده الجنة فعل، وإذا شاء أن يدخل بعض عباده النار فعل، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى. هذا مجمل الباب.

باب الإيمان بأن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم فجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير

باب الإيمان بأن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم فجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير قال: [باب: الإيمان بأن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم فجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير. عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله عز وجل آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى -أي: أن الكتف المضروب هو كتف آدم- فأخرج ذرية بيضاً كأنهم الذر، والذر هو صغار النمل، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم أو الحمم -أي: كأنهم قطع فحم من سوادهم- فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للتي في يساره إلى النار ولا أبالي)]. ففي الآية قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]، وهذا الحديث يقول: خلق الله عز وجل آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى ثم ضرب كتفه اليسرى، فأخرج جميع الذرية التي تكون إلى قيام الساعة، فلا بد أن هناك استخراجان، استخراج من آدم واستخراج من ذرية آدم.

خلق الله لآدم من جميع الأرض

خلق الله لآدم من جميع الأرض قال: [وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض)] أي: من جميع تراب الأرض، وتراب الأرض منه الأبيض والأسود والأحمر والأخضر وغير ذلك. قال: [(فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض والسهل والحزن -وهو الصعب- وبين ذلك، والخبيث والطيب)]، إذ إن من الأرض أراض طيبة، ومنها أراض خبيثة، كما جاء في القرآن الكريم: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].

إخراج الله لذرية آدم من ظهره

إخراج الله لذرية آدم من ظهره قال: [وعن ابن عباس قال: (مسح الله ظهر آدم عليه السلام فأخرج في يمينه كل طيب، وأخرج في يده الأخرى كل حبيت)]، وهي يمين أيضاً كما في الحديث: (وكلتا يديه يمين). وأما الحديث الذي أخرجه مسلم والذي فيه أن اليد الأخرى لله هي الشمال فحديث شاذ، وإن كان في صحيح مسلم. وهذا الحديث عن ابن عباس له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مستحيل أن يعلم ابن عباس ذلك من نفسه، إنما لا بد أن يكون سمعه من المعصوم عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا أمر لا يصح فيه الاجتهاد، فليس لـ ابن عباس أن يجتهد ليقول: إن الله مسح على ظهر آدم أو على كتف آدم وأخرج الذرية، ولا يمكن أن يقول هذا إلا إذا كان عنده خبر من المعصوم، ولكنه كسل أو فتر أن يذكر أنه سمع ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي يسميه العلماء موقوف في حكم المرفوع. قال: [وقال أبو بكر ورضي الله عنه: (خلق الله الخلق فكانوا قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي، فذهبتا إلى يوم القيامة)]، يعني: هذا قضاء مبرم من الله عز وجل، فقد خلق الخلق وقسمهم فريقين، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وهذا قضاء مبرم من الله عز وجل، وليس لأحد أن ينفك عنه، فمهما عمل صاحب الجنة بعمل أهل النار فإنه لا بد أن تدركه التوبة فيعمل قبل الموت بعمل أهل الجنة، ومهما عمل الإنسان بعمل أهل الجنة فإنه إذا كان قد قضي له قبل أن يخلق الله الخلق بأنه من أهل النار فلا بد أن يختم له بعمل أهل النار ويدخلها. قال: [وعن ابن عباس قال: (لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام أخذ ميثاقه وأخرج من ظهره ذريته كهيئة الذر -أي: أخرج الذرية من ظهر آدم كما لو كانوا كالنمل- وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم التي تصيبهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا)]. فهذه شهادة منهم بربوبية الله عز وجل. قال: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه في قول الله تعالى: ({وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أزواجاً، ذكراناً وإناثاً ثم صورهم ثم استنطقهم -يعني: طلب منهم أن يتكلموا- فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على ذلك أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، قال: فإني سأرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا برسلي وصدقوا بوعدي، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم، ثم رفع أباهم آدم عليهم -أي: أظهر لهم أباهم آدم فوقهم- فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب! لو شئت سويت بين عبادك) أي: فلا يكون هذا أسود وهذا أبيض، وهذا حسن الصورة وهذا قبيح الصورة وغير ذلك. قال: [(فقال الله عز وجل: إني أحببت أن أشكر)]، فاختلاف الناس يؤدي إلى الشكر، فلو أنك رأيت رجلاً دميماً فإنك تقول: اللهم لك الحمد أن عافيتني من هذه الصورة، ولك الحمد أن حسنت خلقي، فهذا باب من أبواب الشكر. قال: [(والأنبياء فيهم يومئذ مثل السرج)]، يعني: ظهر الأنبياء في وسط هذا الذر كما لو أنهم مصابيح هداية وإنارة لهذا الظلام، وهم كذلك. قال: [وقد خصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها، قال: فهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7]]، أي: أخذ الله تعالى من النبيين ميثاقاً آخر غير الميثاق الذي هو اعتراف الربوبية، بل هو ميثاق خاص بالأنبياء، وهذا الميثاق هو تبليغ الرسالة. قال: [(وهو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]-وهم عامة الذر- قال: وذلك قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة:7]-أي الأولى- {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:7]-أي: الذي أخذه عليكم من ظهر أبيكم آدم- فكان في علم الله يومئذ من يكذبه ومن يصدقه- يعني: كان في علم الله لما كنا ذراً في ظهر آدم وقبل ذلك وقبل أن يخلق الله آدم من يع

الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم

الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم قال: [قال ابن عباس: ({وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ} [الأعراف:172]، قال: خلق الله آدم فأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم). وعن أبي نعامة السعدي: قال: كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله وأثنينا عليه ودعوناه، قال: فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -يعني: يقول له: والله أنا مرتاح من الميثاق الذي أخذه الله علي؛ لأني مطمئن أنني أقررت بين يدي الله عز وجل في اللحظة التي أخرجني فيها من صلب آدم أن الله تعالى ربي- لأنني لا أعلم ماذا سيختم لي، هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار -يعني: أنه خائف من المستقبل- فقال أبو عثمان النهدي: ثبتك الله -أي: ثبتك الله على الميثاق الأول، الذي أنت أشد فرحاً به من آخره- قال أبو عثمان النهدي: كنا عند سلمان الفارسي فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت -أي: أبو عثمان النهدي -: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -يعني: نفس الذي قلته أنت أنا قلته- فقال لي سلمان: ثبتك الله -أي: فدعوت لك بما دعا لي به سلمان - إن الله عز وجل لما خلق آدم عليه السلام مسح ظهره فأخذ من ظهره كهيئة الذر إلى يوم القيامة، أي: ما هو خالق إلى يوم القيامة، فخلق الله الذكر والأنثى والشقوة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، فمن علم الله منه الخير فعلى الخير ومجالس الخير -يعني: سيعيش ويحيا على فعل الخير ومجالس الخير- ومن علم منه الشقوة فعلى الشر ومجالس الشر]، يعني: هذا أمر قد فرغ منه. وقد كنا نستأنس جداً ببعض طلاب العلم، ثم بعد أن طلبوا العلم تركوا صلاة الجماعة، ثم تركوا الصلاة بالكلية، ثم ماتوا على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية. وكانوا من أنبل طلاب العلم، ولكن هذا حدث. قال: [وعن أبي صالح: أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض وخلق الجنة وخلق النار، وخلق آدم، ثم نشر ذريته -أي: أخرج ذريته من صلب آدم أو من كتفه في كفه سبحانه وتعالى- ثم أفضى بهما -أي: بسط بهما يداه- ثم قال: هؤلاء لهذه ولا أبالي -أي: للجنة- وهؤلاء لهذه ولا أبالي -أي: للنار- وكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون، ثم طوي الكتاب ورفع]، بمعنى: أنه لا يزاد فيه ولا ينقص منه، ورفع فهو عند الله تعالى تحت العرش، وهذا هو اللوح المحفوظ والكتاب المكنون. وهذان البابان متعلقان بمسألة واحدة، وهي مسألة أن الله تبارك وتعالى له عاقبة الأمور، وأن الخلق جميعاً خلقه، فمن شاء خلقه للجنة ومن شاء خلقه للنار، ومن قضى الله تعالى عليه بالنار فسيعمل بعمل أهل النار حتى يموت على ذلك ويدخل النار، ومن قضى الله تعالى له بالجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة حتى وإن عمل بخلاف ذلك ابتداء، وسيختم له بعمل أهل الجنة حتى يموت على ذلك ويدخل الجنة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الأعمال بالخواتيم). نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم بخاتمة السعادة أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الأصل في العبادة وثمرتها

الأصل في العبادة وثمرتها Q هل الصحيح أن نعبد الله تعالى من أجل الجنة والهرب من النار، أم ينبغي أن نعبده مخلصين لوجهه الكريم دون طلب هذين المطلبين؟ A الجنة ثمرة الطاعة، وأصل العبادة أنها لوجه الله تعالى، والغاية العظمى من العبادة هي طلب رضوان الله عز وجل، والمكافأة هي الجنة.

ما تقوم به الحجة على الإنسان

ما تقوم به الحجة على الإنسان Q هل شهادة الإنسان وهو ذر هي التي أقامت الحجة عليه فحسب، أم ثم حجج أخرى؟ A هذا بيان وإخبار من الله عز وجل ومن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الإقرار الأول هو أول الشهادات وأول الحجج والإقرارات من بني آدم على أنفسهم أن الله تعالى هو الذي خلقهم ورباهم ورزقهم وكتب آجالهم وأعمالهم ومصائبهم وما هم إليه صائرون إلى الجنة أو إلى النار. ثم لا بد لبني آدم أن يتذكروا ذلك، خاصة بعد خروجهم من صلب آدم بعد ذلك للتكليف والعبادة وغير ذلك، ولذلك أقام الله تعالى عليهم الحجة مرة أخرى بالرسل والكتب، وهذه الشهادة الثانية هي محل التكليف، وهي التي بعد بعث الرسل وإنزال الكتب، بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. ومنذ حوالي خمس سنوات تقريباً اكتشفوا أن هناك جزيرة من الجزر في البحر لا يعلم أهلها شيئاً قط عن الأنبياء ولا المرسلين، ولم يسمعوا بهذا، وقد بقيت الدول على مدار السنوات الماضية تعتني عناية فائقة بمعرفة لغة هذه الجزيرة التي ظهرت في البحر -وقرأت هذا بعيني رأسي- حتى يفهموهم أن هناك أنبياء ورسلاً وكذا، واجتهد في ذلك بابا الفاتيكان، واجتهد في ذلك اليهود، وتأخر المسلمون عن الاجتهاد كعادتهم. والله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. فلا ينال الإنسان العذاب إلا إذا بلغته الرسالة، وقامت عليه الحجة الرسالية الإيمانية. وقيمة الإقرار الأول أنه إقرار بالربوبية، وأن الله تعالى هو الذي خلق الخلق ورباهم ورزقهم وكتب آجالهم وأعمالهم وغير ذلك. وأما الإقرار الثاني فلا يكون إلا بعد التكليف وإرسال الرسل، واليوم أصحاب جماعة التكفير يقولون: الولد الصغير مكلف، ولا بد أن يعمل الخير وينتهي عن الشر، ويأتون إلى الطفل الرضيع ويطالبونه بذلك، ويعتمدون في هذا على الميثاق الأول، ولم يعلموا أن الميثاق الأول إقرار بالربوبية، وقد قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، أي: أنا الذي خلقتكم؟ قالوا: بلى، فهذا إقرار بالربوبية، فقد عرفوا أن لهذا الكون رباً، ولكن التكليف الذي يئول بصاحبه إلى الجنة أو إلى النار لا يقوم إلا بالرسل والكتب.

سبب نبذ الرسول صلى الله عليه وسلم للكتابين اللذين فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار

سبب نبذ الرسول صلى الله عليه وسلم للكتابين اللذين فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار Q لماذا نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابين من يديه؟ هل اختفيا أم ماذا حدث؟ A لقد أدركت أن سؤالاً سيوجه إلي بهذا الشكل، ولكني لم أشغل نفسي بهذا، وما قرأت أو سمعت أن أحداً من أهل العلم شغل نفسه بهذا.

تقييم كتاب تربية الأولاد للشيخ عبد الله علوان

تقييم كتاب تربية الأولاد للشيخ عبد الله علوان Q ما رأيكم في كتاب تربية الأولاد للشيخ عبد الله علوان، وما هي الكتب المهتمة بهذا الموضوع؟ A الكتاب في مجمله كتاب جيد، لولا أن الشيخ جعل الأسوة والقدوة في أقطاب الصوفية، يعني: أن الشيخ دائماً يذكر النكتة التربوية ويقول: وقائل هذا الكلام أو صاحب هذه الفائدة فلان الفلاني، فإنه كان قدوة، وغير ذلك، ويثني على أهل البدع. فلو أن السائل تغاضى عن هذه الجزئية لانتفع بالكتاب، ولو أنه علم من نفسه أنه سيفتن بأصحاب البدع فالأفضل أن لا يقرأ في هذا الكتاب ولا ينظر فيه. وأنا في الحقيقة ليس عندي عناية بهذا الباب، وليس عندي معرفة بالكتب التي تتحدث عنه.

حكم صرف الصدقة في طباعة الكتب

حكم صرف الصدقة في طباعة الكتب Q هل يجوز صرف الصدقة في طباعة كتيبات يتم نشرها وتوزيعها أم الأفضل التصدق بالمال؟ A هذا من الصدقات الجارية.

بعض المخالفات التي تقع أثناء الخطبة

بعض المخالفات التي تقع أثناء الخطبة Q ما هي الضوابط الشرعية لرؤية الخاطب مخطوبته، وما الذي يباح له أن يراه من المخطوبة، وبعد أن يراها ماذا عليه أن يفعل؟ وهل يصلي صلاة الاستخارة فحسب، وهل للاستخارة مدة معينة أم يكفي مرة فيها أو مرتان أو ثلاث؟ وكيف يفعل إذا لم تقع المخطوبة في قلبه؟ وكيف يفعل إذا لم يحس بشيء في قلبه؟ أرجو الاهتمام بالرد المفصل؟ A سنرد رداً مجملاً، فالسلف رضي الله عنهم ما كانوا يفعلون هذا الذي نفعله، فالواحد اليوم يذهب إلى ولي المرأة ويقول له: سمعت أن لك بنتاً وأريد أن أتزوجها، ثم تخرج البنت ومعها كشف أسئلة، وهو يأتي بكشف أسئلة، ثم يطرح كل واحد أسئلته ثم يتعاركان في الإجابات، ثم تقول له: أنت تحفظ القرآن كله وأنا لا أحفظه، وهو يقول: أنا لست حافظاً للقرآن، فتقول له: إذاً أنت لا تصلح أن تكون زوجاً؛ لأن في مذهبنا أنه لا يصح الزواج من رجل إلا إذا كان حافظاً للقرآن، وهذا الكلام لا يستند إلى أي كتاب، فضلاً أن يستند إلى كتاب الله أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل باطل باطل). يعني: أن الذي ليس حافظاً للقرآن الكريم سيضيع ولن يتزوج، وسيذهب يزني ويفجر، ثم تقول له: اذهب إلى الشيخ، فيقول لها: أنا سأخطبك من أبيك ووليك، فتقول له: ولاية أبي بعد ولاية الشيخ، ثم بعد أن يتم شبه اتفاق على الأسئلة والأجوبة يقول لها: اخلعي النقاب من أجل أن أنظر إليك، فتخلعه، وكل هذا لم يكن يفعله السلف، وإنما كانوا من أراد أن ينكح منهم امرأة اختبأ لها حتى يرى منها ما يسره، وفي الحديث قال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! إني نكحت امرأة، قال: أرأيتها؟ قال: لا، قال: اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وفي رواية: (فإن في أعين الأنصار صفراً). والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه أحب أن يتزوج امرأة فاختبأ لها حتى رأى منها ما يسره. وهل لما اختبأ المغيرة بن شعبة أو ابن مسلمة رأيا ممن يريدان الزواج بهما الوجه والكفين أم ما يظهر منهما في العادة؟ والآن من يريد الخطبة يختبئ في الشارع، وفي الحالة لن يرى منها ما يسره، وربما يرى بعض ما يسره من الطول والوزن والعرض، وكذا، لكن محل الجمال والخصوبة الوجه والكفان. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخاطب لا يرى من مخطوبته إلا الوجه والكفين فقط، وهذا الكلام ليس عليه دليل، وذهب ابن حزم مذهباً أبعد من ذلك فقال: يجردها، أي: يجردها من ملابسها. وتصحف على بعض من نقل عن ابن حزم كلمة يجردها فجعل الدال باء، فقال: يجربها. وذهب بعضهم إلى أنه يرى منها ما يظهر عادة، يعني: يرى منها كما ترى أنت من أمك وأختك، والذي يظهر من المرأة في العادة إذا كانت لابسة في بيتها ملابس محتشمة الرأس والوجه وشيء من الرقبة وشيء من الصدر وشيء من الساق والقدم والذراع. وهذا الرأي الثالث هو أرجح الأقوال التي تشهد له الأدلة. قال: (اذهب فانظر إليها؛ فإنه عسى أن يؤدم بينكما)، أو (اذهب فانظر إلى ما يسرك منها؛ فإنه عسى -أو حري- أن يؤدم بينكما)، يعني: يديم بينكما العشرة، ففي هذه الحالة إذا وقعت في قلبه استخار، ثم انطلق للخطوبة. والمسألة الآن صار يحكمها العرف أكثر؛ لأن الاختباء صار مسألة صعبة؛ لأنها أول ما تدخل البيت تغلق النوافذ والأبواب فكيف سيراها؟ وعلى هذا يلزم الخاطب استئجار شقة مقابلة لشقتها، ثم يفتح نافذة شقته فتحة صغيرة، وينتظر سنة أو سنتين أو ثلاث حتى تغلط وتفتح النافذة ويراها، وحتى تأتي هذه اللحظة تكون قد خطبت لشخص آخر، فهذه مسألة صعبة جداً، ولذلك ألف العرف أن من أراد أن يعقد على امرأة أو ينكحها أو يخطبها يدخل مباشرة من الباب ويكلم أمها، ولا يجلس على النافذة، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189]. فيذهب الخاطب إلى الولي ويخطب إليه ابنته، ويجلس معها في حضور وليها وينظر إليها. وهناك من يظل ينظر طول الوقت، وهناك من هو حيي جداً كالعذراء في خدرها، فأول ما تدخل بالنقاب يطرق بوجهه إلى الأرض، ثم يخرج بعد ساعة وما رآها، بل حتى لا يعرف ما كانت تلبس، فهو لم يرها أبداً. وعدد مرات النظر التي يجوز للخاطب فيها أن يرى مخطوبته ليست محدودة بحد في النصوص، بل يراها حتى تقع في قلبه أو ينصرف عنها، ثم إذا انصرف عنها لم يحل له أن يراها مرة أخرى؛ لأنه قد تركها، وقد قطع وجزم بأنه لن يتزوجها، وكذلك لو رآها في المرة الأولى ووقعت في قلبه وسر برؤيتها فلا يراها الثانية حتى يعقد عليها، ولو تردد أهي جميلة أم قبيحة، أو بينهما؟ ويرى أنه لو نظر إليها مرة ثانية أنه قد يتأكد فلا بأس أن يرجع مرة ثانية وثالثة ورابعة وأكثر من ذلك، ما دام أنه متعلق بها ولم يتحقق من رؤيتها.

حكم الصلاة في مكان فيه نصارى

حكم الصلاة في مكان فيه نصارى Q هل تجوز الصلاة في مكان فيه امرأة نصرانية، حيث إني أعمل في جهة حكومية يوجد فيها بعض النصرانيات؟ A يجوز لك أن تصلي في الكنيسة، ومن باب أولى أن تصلي في مكان فيه نصارى رجالاً كانوا أو نساءً.

الحالة التي أجاز فيها شيخ الإسلام ابن تيمية التخلي عن الهدي الظاهر

الحالة التي أجاز فيها شيخ الإسلام ابن تيمية التخلي عن الهدي الظاهر Q هل صحيح أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم: إنه يجوز التخلي عن الهدي الظاهر، أي: مثل اللحية في مثل هذه الأيام؟ A شيخ الإسلام ابن تيمية قال في اقتضاء الصراط المستقيم: وإذا كان المسلم في بلد من بلاد الحرب -أي: من بلاد الكفار المحاربين- وخشي على دينه وخشي الفتنة على نفسه وأمن ذلك بالتخلي عن الهدي الظاهر فله ذلك، وإلا فلا. ولكنه شرط أن يسارع في الخروج من هذه البلاء، وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يقل: إنه يجوز للمسلم التخلي عن الهدي الظاهر لمصلحة الدعوة، ولم يثبت عنه ذلك أبداً، ثم ما هي هذه الدعوة التي تجعل صاحبها يلبس الجنز والكرفتة والقميص المضغوط والبنطلون المضغوط، ويلبس سلسلة ذهب ويمشي مغلوباً على أمره في الشارع؟ ومن الذي سيقبل هذه الدعوة؟ ثم ما الذي يحملنا على ترك الهدي الظاهر والدعوة -والحمد لله- قائمة، ونحن الآن مجتمعون ومتمسكون بالهدي الظاهر، نسأل الله تعالى أن يصلح بواطننا.

معنى إسباغ الوضوء على المكاره

معنى إسباغ الوضوء على المكاره Q ما معنى إسباغ الوضوء على المكاره؟ A المكاره مثل أوقات البرد، فالشخص عندما يقوم من النوم من تحت اللحاف الدافئ في البرد القارس من أجل أن يصلي الفجر، ويتوضأ بالماء البارد فإن هذا مكروه عنده، وكذلك عندما يلبس ويخرج إلى المسجد فإن هذا مكروه عنده، وهذا هو معنى إسباغ الوضوء على المكاره، أي: في الأوقات التي يكره فيها المرء هذا، فإذا ضغط على نفسه وأدى هذه المستحبات أو الواجبات الشرعية فلا شك أن هذا أعظم أنواع إسباغ الوضوء، وليس معنى الإسباغ أن تغسل الأعضاء مرتين أو ثلاثاً، أو أن تسبح في الماء، أو تغسل وجهك وتدلكه تدليكاً جيداً، ولا أن يهرب من هذا الماء البارد، بل يتوضأ كما كان يتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: يغسل الأعضاء ثلاثاً، ولا يقل: أغسلها مرة فقط؛ لأن فرض الوضوء مرة واحدة، والإمام أحمد بن حنبل كان إذا توضأ لا يبل الأرض، يعني: أنه كان يتوضأ بنصف الكوب، وهذا الماء البارد لن يؤثر فيه، وستبقى حرارة بدنه في بدنه، فالمقصود بإسباغ الوضوء أن يتوضأ على السنة ثلاثاً ثلاثاً في وقت يكره فيه هذا الماء البارد.

معنى حديث: (لا تأتوا نساءكم مثل البهائم)

معنى حديث: (لا تأتوا نساءكم مثل البهائم) Q هل هذا حديث: (لا تأتوا نساءكم مثل البهائم)؟ A نعم، هذا حديث أخرجه ابن ماجة قال: (إذا أتى أحدكم امرأته فلا يقع عليها كما تقع البهائم)، يعني: بل يروضها ويداعبها حتى تتهيأ للوقاع والجماع، ولا يقع عليها كما يقع الذكران من البهائم على الإناث.

حكم استعمال الأدوية المعينة على الاستمتاع بالزوجة

حكم استعمال الأدوية المعينة على الاستمتاع بالزوجة Q هل يجوز للإنسان أن يأخذ وسائل خارجية للاستمتاع بزوجته؟ A نعم يجوز له ذلك، وهو باب من أبواب العلاج والطب.

حكم أخذ الولي دية قتيله الذي توفي بحادث سيارة

حكم أخذ الولي دية قتيله الذي توفي بحادث سيارة Q توفي بعض الناس في حادث سيارة، وأصيب البعض الآخر فأخذوا تعويضاً على ذلك، فهل هذا التعويض حرام أم حلال؟ A هذا التعويض حلال، وقد سماه الشرع دية، والمصريون لا يأخذون تعويضاً، مع أن هذا دين وشرع.

طلب العلم والزواج، وأهمية التربية

طلب العلم والزواج، وأهمية التربية Q أنا رجل خاطب وأريد أن أرحل لطلب العلم ولا أستطيع أن أطلبه الآن؛ لأن عملي يتعارض مع طلب العلم، فهل أترك خطيبتي وعملي وأرحل، أم أنتظر حتى أتزوج، أم بماذا تنصحني؟ علماً بأن أهلي يرفضون ذلك، وجزاكم الله خيراًًَ. A أنت عملت مثل الذي يقول لامرأته: أنت طالق على مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل حتى على مذهب جمال عبد الناصر، فإذا حللها أحد حرمها الآخر، فأنت قد أغلقت المسألة من كل ناحية، وتريدني أن أحلها لك، وأنا أنصحك أن تعيش حياتك بالطريقة التي تحلو لك، وأن تحافظ على دينك حتى وإن لم تطلب العلم، وهؤلاء الإخوة -ما شاء الله- متزوجون، ولهم آباء وأجداد، ولا يعطلهم ذلك عن طلب العلم. وقد ثبت عن سفيان الثوري أنه قال: إذا تزوج الرجل فقد ركب البحر، فإذا ولد له فقد غرق، وهذه حقيقة فعلاً، وإبراهيم النخعي لم يتزوج ولم يكن له ولد، فقيل له: إنك تقوم الليل وتقرأ القرآن، فقال: والله إن بعض الهم الذي يقع بأحدكم على ولده لهو أحب إلى الله تعالى من عبادة مائة عام، يعني: أن تربية الأولاد رسالة عظيمة جداً. ونحن عندما نتكلم عن عظيم من عظماء التاريخ الإسلامي سنجد أن أول من رباه أمه وأباه، فالذي يبدأ التربية هما الأب والأم، ولا شك أنهما لو ربيا ولدهما على غرس الفضائل وترك الرذائل فتربى ونشأ وترعرع في هذا الجو الطيب مع طلب العلم وحفظ المتون وغير ذلك، وجمع إلى أصالة المنبت العلم الشرعي رجي خيره للأمة كلها بعد ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة). فالولد مبخلة يعني: إذا أراد أن يتصدق قال: لا أولادي أولى، وهم مجبنة، فإذا أراد أن يتكلم كلمة الحق يقول: أخاف أن أذهب إلى السجن وأترك أولادي، فيجبن عن قولها، وهم مجهلة؛ لأنهم يصرفونه عن طلب العلم. ولما ولد ولدي الأول أحسست بأن حياتي كلها ضاعت، وما فرحت به كما يفرح الأب بأبنائه؛ لأني شعرت أن هذا الولد فتنني وصرفني تماماً عن كتبي ومكتبتي، ولما جاء الثاني والثالث والرابع تعودت على هذا.

حكم من أدرك الإمام وهو راكع

حكم من أدرك الإمام وهو راكع Q دخلت صلاة الجماعة وهم في الركوع وقلت: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فهل تحسب لي ركعة كاملة أم أعيدها؟ A هذه من مسائل النزاع بين أهل العلم، فجمهور العلماء يرى أن من أدرك الركوع أدرك الركعة، والبعض يقول: من أدرك الركوع لم يدرك الركعة لركنية الفاتحة. وهذه المسألة من أعوص المسائل الخلافية بين أهل العلم، فلا تجد أحداً يذهب إلى احتسابها ركعة إلا وكان يذهب مذهباً آخر غير ذلك قبل ذلك، والعكس بالعكس، فهذه من مسائل الخلاف، وقد تسألني عنها اليوم فأقول لك: هي ركعة، وتسألني عنها غداً فأقول لك: لا ليست بركعة، فإن شئت فخذ بهذا، وقد أخذ بهذا وذاك كثير من أهل العلم.

حكم العمليات الفدائية

حكم العمليات الفدائية Q هل العمليات الفدائية عمليات استشهادية؟ A الذي يترجح لدي أنها كذلك، والأحكام الشرعية لا تؤخذ بالعاطفة.

حكم البيع والشراء مع اليهود والنصارى

حكم البيع والشراء مع اليهود والنصارى Q يقول: أنت من واقع عاطفتك جوزت التعامل بيعاً وشراءً مع اليهود والنصارى، وهذا محرم شرعاً، فما رأيك؟ A التعامل مع اليهود والنصارى بالبيع والشراء فيما أحله الله عز وجل، إذا كان أصل البيع والشراء حلالاً فهو حلال، ولا يوجد دليل واحد يحرم التعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً، وأنا لا أستند في ذلك إلى العاطفة، ومن زعم غير هذا فليأتني بنص واحد يحرم التعامل بيعاً وشراءً مع اليهود والنصارى. والمؤتمر الذي عقد هنا في شهر (9) الماضي أنا كنت صاحب الفكرة في انعقاده، وكنت حريصاً جداً على الدعوة إلى مقاطعة اليهود والنصارى في كل باب من الأبواب، وهناك من يتصور أن المقاطعة تعني ألا يشرب البيبسي فقط، وإذا ذكرت المقاطعة انطلق ذهنه مباشرة إلى البيبسي، مع أن البيبسي هذا واحد من مليون سلعة غرقت فيها السوق الإسلامية والسوق العربية، ونحن نطالب بالمقاطعة من إبرة الخياطة إلى برميل البترول، فتكون المقاطعة عامة كلية، ونطالب بالمقاطعة الدولية قبل المقاطعة الفردية؛ لأن المقاطعة الدولية منفعتها أعم، فالدولة إذا قاطعت إسرائيل في منتجاتها خلت السوق من المنتجات، ولن توجد إلا المنتجات المحلية، وإذا وجدت المنتجات الأوروبية أو اليهودية أمامنا في السوق ونحن في حاجة إليها وليس هناك بديل فسنشتريها، فالمقاطعة الدولية أهم، بل هي السبيل إلى المقاطعة الفردية، وأنا طرحت هذا الأمر مراراً وبتكلف على المحاضرين في أثناء المؤتمر، وتعمدت إعادته مراراً على المحاضرين في الندوة التي كانت في آخر يوم، وتكلمت في البيان الأخير عن وجوب المقاطعة الدولية والفردية للمنتجات الأوروبية، وليس اليهودية فحسب، وأنا دعوت وتكلمت عن الحكم الشرعي فقط، ومن قال: إنني أستند إلى العاطفة فليرني نفسه، وأنا سأقول له: الثوب الذي عليه منتج يهودي أو نصراني، فهو لا يعجبه إلا الجلابية الأصيلة والدفة، ولازم تكون آتية من اليابان، ولو كانت أمامه صناعة سعودية ويابانية لاختار اليابانية؛ لأن اليابان لا تصنع شيئاً رديئاً، والعرب كلهم صناعاتهم رديئة، والسيارة التي يركبها هذه صناعة ألمانية أو أمريكية أو غير ذلك. فنحن معذورون ومجبورون أن نشتري هذه الحاجات؛ لأنها لا بديل لها، هذا إضافة إلى الاستهتار التام في الصناعات العربية والإسلامية، وغلائها كذلك، فأنت قد تشتري قطعة الغيار المصرية بمائة جنيه، والمستوردة التي هي أفضل منها بمليون مرة بثمانين جنيهاً فقط، ولو اشتريت المصري فسيخرب بعد أسبوع، وستشتريه مرة أخرى بمائة جنيه، وأجرة الاستشاري الذي يصلحها ثلاثمائة جنيه، وأنت راتبك مائتا جنيه فقط، فهناك حيثيات كثيرة جداً تبيح للمسلم أن يتعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً. والشيخ أحمد المحلاوي حفظه الله كان سنة (1981م) في الجمعية الشرائية في المنصورة، وتكلم عن وجوب مقاطعة اليهود والنصارى في منتجاتهم، وقال: نصرة الإسلام وهزيمة الصليب واجبة أم لا؟ قلنا: نعم واجبة، قال: لا يكون ذلك إلا بالمقاطعة. وهذه نظرة رائعة وبعيدة جداً، ولكنها لم تتم في الوقت، وكان هذا قبل عشرين سنة، أو ثنتين وعشرين سنة، ولم تكن السوق الإسلامية في ذلك الوقت قد غزيت بهذه الطريقة، ولا خاب المسلمون بهذه الطريقة، ومع هذا كان الشيخ يرى أن سبب الهزيمة التي لحقت بالمسلمين هي اعتمادهم وركونهم على السوق الأوربية، وغير ذلك. فأنا لم أعتمد على العاطفة، ولم أدع إلى التعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً، ولكني تكلمت عن الحكم الشرعي فيما لو تعامل معهم به رجل، فهذا لا يحرم عليه، ولا يوجد أحد يقول: يحرم. وهناك عمال في الشركات الأوروبية أو اليهودية أو النصرانية يعملون فيها، فقد يكون مثلاً شغالاً في شركة بيبسي، ويأخذ خمسمائة جنيه في الشهر، وهو يدعو لمقاطعة البيبسي، فلا يترك الشركة، بل يستمر فيها، وإن أفلست الشركة لا يتركها إلا إن أخرجوه منها، ولو أفلست الشركة فهو المستفيد منهم، وليسوا هم المستفيدين منه.

حكم منع الزوج زوجته من زيارة والديها أو خدمتهما

حكم منع الزوج زوجته من زيارة والديها أو خدمتهما Q هل يجوز للزوج منع زوجته من زيارة والديها المسنين وخدمتهما؟ وماذا تفعل الزوجة لو منع عنها زوجها أي مصروف حتى لا تتمكن من زيارة والديها؟ وهل يجوز للزوجة أن تخالف زوجها في هذا وتذهب إليهما دون موافقته؟ A هذه من الجلافة والغلظة، فأنت غداً ستكبر وتعجز، وستصبح كهلاً وتحتاج إلى من يطعمك، وقد لا تقدر أن ترفع الطعام إلى فيك، وتتمنى لو أن شخصاً من الشارع طرق الباب عليك ليطعمك، فما بالك بالوالد والوالدة وهما أعز الناس على قلب الابن أو الابنة، فما بالك تمنع الزوجة من خدمة أبويها، وكيف سيطيب خاطر المرأة وتهنأ بعيشها تحت رجل يمنعها أن تبر والديها في آخر أيامهما؟ فهذا باب عظيم جداً من أبواب الفساد في العلاقات الزوجية بين الرجل وامرأته، ويلزم هذا الأخ لزوماً شرعياً الإذن لزوجته بخدمة والديها، وإذا اضطر الوالدان إلى ذلك اضطراراً يهلكان بسببه إذا لم يكن لهما خادم أو خادمة إلا هذه البنت فلا بأس أن تستأذن زوجها وتخرج، أو أن تعلمه بالخروج وتخرج، كما أنه لا يحل له أن يمنعها من ذلك.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

حكم صلاة المنفرد خلف الصف Q هل تجوز صلاة المنفرد خلف الصف، وما العمل إذا كان وحيداً خلف الصفوف؟ A إذا لم يكن له مكان في الصف المقدم جازت صلاته، وإذا كان له مكان في الصف المقدم وآثر أن يقف صفاً وحده فيجب عليه أن يعيد الصلاة. والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده -أي: وله مكان في الصف- أمره بإعادة الصلاة، وقال مرة: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف). كما أنه لا يجوز له إذا لم يجد مكاناً أن يجذب إليه رجلاً من الصف ويقف معه؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، فالشرع قد جوز له إذا لم يجد مكاناً في الصف أن يقف وحده وصلاته صحيحة، ولا تكون باطلة وتلزمه الإعادة إلا إذا كان بإمكانه أن يلحق بالصف المقدم ولكنه آثر أن يقف وحده، فليس هناك فائدة للجذب، وليس هناك حديث صحيح في الباب. وأما اختراق الصفوف والوقوف بجانب الإمام فهذه المسألة صعبة جداً، وإن قال بجوازها بعض أهل العلم، وتصور لو جئت إلى المسجد وفيه أربعة أو خمسة صفوف، أو عشرة أو عشرين صفاً، ولم يكن هناك مكان في الصف الأخير، فهل ستخترق هذه الصفوف كلها وتحدث خللاً من أجل أن تقف خلف الإمام؟ والذين سيأتون هل سيكون لهم نفس الحكم، وفي هذه الحالة سينشئون صفاً جديداً خلف الإمام.

حكم استهلاك المال العام

حكم استهلاك المال العام Q ما حكم استهلاك الكهرباء حتى تأتي المصلحة بالعداد؟ A تاريخ الإسلام لم يعهد استحلال المال العام إلا من جهة الخوارج، والمواصلات مال عام، والكهرباء مال عام، والمجاري مال عام، والمياه مال عام. وقد تجد شخصاً موظفاً في الحكومة وهو في الليل والنهار ينهب ويسرق، ويقول: هذا مال عام! والمال العام أشد حرمة من المال الخاص، وهذا مذهب أهل الحق. ومن المال العام الكهرباء، فلو قالوا لك: العداد سيأتي بعد أسبوع أو عشرة أيام وأنت في أمس الحاجة إلى الكهرباء فلا بأس أن تستأذن صاحب الكهرباء، وفي الماضي كان إذا استأذن أحدهم يقولون له: لازم عداد، والآن يقولون: سنوصلها لك وسنحسب لك اليوم بخمسة جنيهات، فاكتب طلباً وسنختم عليه، وسنحسب لك اليوم بخمسة جنيهات، وهذا مخرج جميل، وهو غال جداً، ولكن هذا في الأماكن الراقية، وأما الأماكن الشعبية فتكون بخمسين قرشاً أو بسبعين قرشاً. ولو قلنا: إنك كعضو من أعضاء المجتمع من حقك أن تنتفع بالمنافع العامة في مقابل مال تدفعه، ولا يقبل منك المال إلا بأوراق رسمية وليس لك أوراق رسمية في هذا الوقت، وأن هذا جائز لك لتوقفنا عن هذا الجواز للمضرة التي يمكن أن تلحق بك، لو أن أحداً كشفك فستحبس، فلا ضرر ولا ضرار. وتجد في الأعمال الحكومية وغير الحكومية الموظفين كل واحد يعد الشاي، وهذا من المسائل اليسيرة جداً، وهي من ضمن خدمات المكان، وهذا أمر يسير يتعافاه الناس فيما بينهم، وهذا مثل إذا كان عليك خمسة جنيهات ونصفاً، وأنت معك ستة جنيهات، وهو ليس معه شيء، فإذا دفعتها له وذهبت فليس هذا من باب الرشوة، ولا يكون حراماً على من أخذه إلا إذا كان عنده ما يدفع، ولكنه اعتذر بأنه ليس عنده ما يدفع؛ لأنه قاصد أخذه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتاك مال من غير إشراف نفس منك فخذه). وقد قال هذا لـ عمر، فالموظف الذي يأبى أن يأخذ شيئاً قليلاً أو كثيراً، ولكنه لن يقفل مكتبه أو الخزينة من أجل أن يقوم ليصرف الجنيه حتى يرد لك نصفه، وأنت في نفس الوقت تقول: أنا لا أريد النصف جنيه، فهذا من المال الطيب الذي يهبه الله تعالى بعض عباده. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

بيان أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض

شرح كتاب الإبانة - بيان أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض يجب على كل مسلم الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في النصوص، هذه هي العقيدة السليمة الموافقة للكتاب والسنة وقد أنكر القدرية علم الله عز وجل بالمقادير وكتابته لها، وقالوا: إن الله لا يعلم شيئاً إلا بعد أن يكون، ولا يكتب شيئاً إلا بعد علمه به، فأنكروا بذلك مرتبتي العلم والكتابة من مراتب القدر، وهذا ضلال مبين وانحراف عظيم.

باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين، ومن خالف ذلك فهو من الفرق الهالكة

باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين، ومن خالف ذلك فهو من الفرق الهالكة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب السابع: باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين]. السماوات: جمع سماء، والأرضون: جمع أرض، وكما أن السماوات سبع فكذلك الأرضون سبع. قال: [ومن خالف ذلك فهو من الفرق الهالكة]. أنتم تعلمون أن أهل الإسلام اختلفوا إلى فرق، وهذا قد أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي). فالفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة هي فرقة أهل السنة والجماعة، والفرق التي دون هذه الفرقة تسمى الفرق الهالكة أو الفرق الضالة، فمن قال: إن الله تعالى لم يقدر المقادير، ولم يكتب آجال العباد ولا أرزاق العباد ولا أعمال العباد ولا شقاوة العباد ولا سعادة العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ فهو من الفرق الهالكة الضالة. دليل ذلك من السنة: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي أخرجه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). وأنتم تعلمون أن منكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة -وهما أعظم مرتبتين من مراتب القدر- كافر بالله العظيم، حكم جل الصحابة رضي الله عنهم بكفره، كما جاء ذلك صريحاً من حديث عبد الله بن عمر لما قيل له: إن أناساً قبلنا بالبصرة يقرءون العلم ويتقفرون القرآن، وفي رواية: ويتفقرون القرآن يقولون: لا قدر، وأن الأمر أُنف، قال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. قال النووي: وهذا ظاهر في تكفيرهم. ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك من قبله الإمام النووي وغير واحد: أما منكر مرتبة العلم -أي: أن الله تعالى يعلم كل شيء كان وسيكون- ومنكر مرتبة الكتابة -أي: كتابة مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة- فإنه كافر، يقولون: منكر هاتين المرتبتين لا وجود له الآن، وكان ذلك في الأزمنة الأولى، فهذا حديث عظيم يدل على عظم المرتبة الثانية من مراتب القدر وهي مرتبة الكتابة، كتب الله تعالى ما سيكون وما كان من أمر الخليقة إلى قيام الساعة؛ كتب ذلك في اللوح المحفوظ فهو في كتاب عنده تحت العرش.

كل عبد ميسر لما خلق له

كل عبد ميسر لما خلق له قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ -هل هؤلاء معلومون وهؤلاء معلومون لله عز وجل؟ - قال: نعم. قال: ففيم العمل؟ أو ففيم يعمل العاملون؟)] يعني: إذا كان الله تعالى قسم عباده إلى قسمين وجعل قسماً في النار والآخر في الجنة، فلم نعمل إذاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اعملوا. فكل ميسر لما خلق له)]، اعملوا فكل مهدي إلى ما خلقه الله تعالى لأجله، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قال: [وعن أبي الأسود الدؤلي -وهو من سادات التابعين ومن أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت عليهم به الحجة؟ قال: لا. قلت: بل شيء قد قضي عليهم ومضى عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟]. عمران بن حصين يقول لـ أبي الأسود الدؤلي: العمل الذي يعمله العاملون الآن هل لأمر قد قضي ومضى وانتهى، أو لأمر سيأتي بعد ذلك قد أتاهم به نبيهم؟ قال: بل لأمر قد مضى وانتهى وكتب في اللوح المحفوظ. قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ أي: الله تعالى أدخل ناساً النار، وأدخل ناساً الجنة قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة. قال: فهل يا أبا الأسود! تعد ذلك ظلماً؟ قال: [ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون]، يعني: لا يقال: إن هذا الفعل من أفعال الله تعالى ظلم، وإن كان ظاهره الظلم، لكن هذا الظاهر فيما يتعلق بأفهام العباد، لا ما يتعلق بحقيقة الأمر في علم الله عز وجل. قال: [لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: سددك الله، إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك]، أي: ما قلت لك هذا من باب إثبات أن هذه شبهة عندي، لكني والله ما أردت إلا أن أتأكد من صحة عقلك وقوة إيمانك. قال: [(أن رجلاً من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أن رجلين من مزينة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه يا رسول الله! أشيء قضي عليهم ومضى عليهم أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت به عليهم الحجة؟ فقال: لا. بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم)]، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بل هو شيء قد كتب في اللوح المحفوظ، وهم يعملون بمقتضى المكتوب في علم الله عز وجل. قال: [(فلم نعمل إذاً؟)] السائلان يسألان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان هذا أمراً قد قضي علينا وانتهى الأمر به وأبرم في الكتاب، فلم نعمل إذاً؟ فقال: [(من كان خلقه الله لواحدة من إحدى المنزلتين فهو مهيئه لذلك)]، يعني: الله تعالى يهيئه ويهديه إما إلى سواء الصراط أو إلى سواء الجحيم؛ لأن الهداية على نوعين، وكذلك البشارة. قال: [قال ابن بهية: فهو مهيئه لعملها؛ وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]]، أي: ألهمها طريق الفجور، وألهمها طريق التقوى كذلك. إذاً: إذا ألهم الله نفساً فجورها بعد أن سواها وخلقها وقدر لها مقاديرها؛ أذن في خلق هذه النفس، وأذن له بوقوع الفجور منه باختياره هو بعد أن بين الله تبارك وتعالى له الحق من الباطل، وأنزل له الكتب وأرسل إليه الرسل، وميزه على بقية المخلوقات بالعقل، وكلفه بما لم يكلف به بقية المخلوقات، فقد قامت عليه حينئذ الحجة. ومعنى أنه خلق للفجور: أنه قدر له أن يقع منه الفجور تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً؛ لأن أعمال الطاعات إنما تقع موافقة لشرع الله عز وجل، وأعمال المعاصي والفجور إنما تقع بقدر الله تعالى، أي: تقع بقدرة الله وبإذن الله، أذن الله في وقوعها في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد، فهذه المعاصي تقع بإرادة الله وبعلم الله وبخلق الله، لكن باكتساب العبد. فمعنى أن الله تعالى أراد المعصية إرادة كونية قدرية، أي: أراد خلق المعصية وأذن في وجوبها إذناً قدرياً كونياً، وإن كان الله تعالى يكرهها ويحذر منها في الكتاب، ويحذر منها على ألسنة رسله، ويعاقب الفاعل على فعله وجرمه وفجوره، وحذر من ذلك في غير ما آية من الكتاب، وفي غير ما حديث من أحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكن لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر، وإن كان للعبد مشيئة فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فما شاء العبد وما أراد العبد شيئاً لا يمكن أن يكون إلا إذا أراده الله تعالى، إما إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا وموافقة الشر

حكم اتكال العباد على المكتوب

حكم اتكال العباد على المكتوب قال: [وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجالاً قالوا: (يا رسول الله! أرأيت ما نعمل، أفي شيء قد فرغ منه، أم في شيء نستأنفه -أي: نستقبله-؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل في أمر قد فرغ منه)، كما قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أوكلما نعمل الآن كتبه الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فبلَّ إبهامه وطبع به في بطن كفه وقال: أرأيتم هذه؟ قالوا: نعم. قال: والله إنها لمكتوبة في الكتاب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، انظروا إلى إيمان علي بن أبي طالب وفهمه لمسألة القدر، قال: وهذا الذي فعلته أنا الآن والله إنه لمكتوب في اللوح قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: [(قالوا: هل الذي نعمله قد فرغ منه أم في شيء نأتنفه؟ فقال: بل في أمر قد فرغ منه، فقالوا: فكيف بالعمل بعد القضاء؟) يعني: ما قيمة أن نعمل؟ والأمر ببساطة شديدة جداً يا إخواني! أن الله تعالى كتب أن عبده من أهل الجنة أو من أهل النار، فهذا العبد هل له علم بالمكتوب عند الله عز وجل؟ لا علم له، إذاً: المطلوب مني: أن أعمل لمصلحتي ولمنفعتي، فعملي لمصلحتي ومنفعتي هو اتباع الكتاب والسنة، لعل الله عز وجل يختم لي بالباقيات الصالحات، هذا رجائي في الله عز وجل. إذاً: المطلوب مني أن أجد فيما ينفعني في آخرتي، أما الذي هو عند الله تعالى فلا يعلمه إلا الله، إذاً: إذا عملت عملاً صالحاً سيغلب على ظني أن الله تعالى مهد لي ويسر لي هذا حتى أحصل على الجنة بسبب العمل، وإن كان دخول الجنة ابتداءً بفضل الله عز وجل؛ لأنه مهما يعمل العاملون لا يستحقون به دخول الجنة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن العبد ليأتي يوم القيامة وكان من أبأس الناس -من الفقر والمصائب والبلايا والأمراض والتعذيب والسجون وكبت الحريات- فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك يا رب! ما رأيت بؤساً قط) غمسة واحدة في الجنة تنسيه كل مآسي الدنيا. وكذلك (يؤتى بأنعم أهل الدنيا -ممن كان يتنعم بالمحرمات والملذات والشهوات- فيغمس في النار غمسة واحدة، ويقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا وعزتك يا رب! ما رأيت نعيماً قط). إذا كانت غمسة واحدة في الجنة تنسي العبد ما كان فيه من ضنك وجحيم وعذاب، والدنيا على أية حال سجن المؤمن وجنة الكافر. الحافظ ابن حجر له موقف عظيم من هذا الحديث، أنتم تعلمون أن الحافظ ابن حجر كان يسكن على النيل في القاهرة فيما يسمى الآن بالمنيل، وكان قاضي القضاة في مصر، وأنتم تعلمون أن قاضي القضاة له موكب وصولجان وغير ذلك، له موقف الأبهة والعظمة، لكن ابن حجر لقيه رجل من اليهود في هذا الهملجان وهذا الصولجان، وكان اليهودي يبيع الزيت فقال: يا قاضي القضاة! أليس قد قال نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: بلى. قال: أما تراني بهذا المنظر وترى نفسك بهذا الموكب، فأنت في جنة وأنا في نار؟ كأنه يزعم أن نبينا كذب في ذلك وقال غير الحق، فأنار الله تعالى بصيرة الحافظ وقال له: أنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة في جنة، وأنا بالنسبة لما أعد الله لأهل الإيمان في الآخرة في نار رغم ما ترى. انظروا إلى هذه البصيرة، فأسلم اليهودي في الحال، فهذا كلام عجيب ونور إلهي. فلا الحافظ ابن حجر ولا غير الحافظ ابن حجر يعلم بما يختم له؛ ولذلك قال: وأنا بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان ولم يقل: بالنسبة لما أعد لي، وإنما قال: بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان أنا الآن في نار؛ لأن المرء لو دخل الجنة لحظة واحدة يعلم أن هذه الدنيا مهما كان فيها من نعيم هي دار شقاء ومتاعب ومصائب وبلايا وأمراض وهموم وأحزان وغير ذلك. فدخول الجنة برحمة الله تعالى والعمل سبب لذلك، فإذا كان العمل سبباً لسعادة سرمدية أبدية لا نهاية لها ولا انقطاع فيها فينبغي أن يعمل المرء وأن يجد ويجتهد، وإذا كان يعلم أن السعادة والشقاء بيد الله عز وجل فليتضرع ويتذلل إلى مولاه وسيده الذي يملك الشقاء والسعادة والضر والنفع أن يجعله من أهل السعادة. لكن عندما يتكل الإنسان على المكتوب ويقول: فيم العمل إذاً؟ فهذا لا يمكن أبداً، وليس هذا ديناً، ولا حتى دين اليهود والنصارى ولا دين المجوس، فلا يصح أن يذكر هذا الكلام إنسان عاقل أبداً: نعتمد على المكتوب! وما أدراك ما المكتوب لك؟ هل أنت أيقنت لكونك مسلماً أنك من أهل الجنة، فربما خُتم لك بالردة عياذاً بالله، فدخلت النار وخُلدت فيها مع الخالدين فيها، فما أدراك بما كتب الله تعالى لك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأعمال بالخواتيم)، ويقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح

حرص الصحابة على السؤال عن أمر القدر والعلم به

حرص الصحابة على السؤال عن أمر القدر والعلم به قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر -أي: بعد انتهاء غزوة بدر وهم راجعون إلى المدينة، فقال:- أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه؟)]، هذا عمر يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، وكأن أمر القدر هذا كان يشغل كل الصحابة؛ ولذلك قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه)، فهذا السؤال سأله فوق العشرين صحابي للنبي عليه الصلاة والسلام، فكأن الأمر يشغلهم جداً. قال [{فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لأمر قد فرغ منه. قال عمر: ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟! فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: كل ميسر لما كتب له وعليه)]، كل ميسر يعني: مهدي لما خلق له، إن كان خلق للنار فييسر لعمل النار، وإن كان خلق للجنة فييسر لعمل الجنة. قال: [عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال: (سمعت أبي يذكر أنه سمع أبا بكر الصديق رحمه الله -والأصل رضي الله عنه- وهو يقول: قلت: يا رسول الله! أنعمل على ما قد فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟)]، هذا أبو بكر يسأل، ومن قبله عمر، وقد سأل عمران بن حصين، وقد سأل غير واحد من الصحابة. قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل على أمر قد فرغ منه. قلت: ففيم العمل يا رسول الله؟! قال: كل ميسر لما خلق له). وعن هشام بن حكيم: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنبتدئ الأعمال -أو- أتبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟)]، يعني: هذه الأعمال التي نعملها يا رسول الله! تبتدأ على الله عز وجل، يعني: الله تعالى لا يكتبها علينا إلا بعد أن نعملها، أم قد قضي فيها القضاء من قبل، وعلمها الله تعالى، وعلم ما العباد عاملون وما هم إليه صائرون، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ؟ وأنتم تعلمون أن القدرية كان أول ظهورهم في البصرة، فأتى بعض أهل العلم من البصرة، وقالوا: لعله يوفق لنا أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فكان الذي وفق لهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال حميد بن عبد الرحمن: فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف. ومعنى أنف أي: مستأنف، أي: أن الله لا يعلمه حتى يقع؛ لأجل ذلك كفرهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فسلوك القدرية إنكار العلم وإنكار الكتابة، وأن الله لا يعلم شيئاً إلا بعد أن يكون، ولا يعلم ما يكتبه إلا بعد العمل، ولذلك سأل الصحابة رضي الله عنهم مراراً: (يا رسول الله! أترى ما نحن فيه من عمل، أهذا لأمر قد فرغ منه؟) يعني: أن الله عز وجل كان يعلمه قبل ذلك وكتبه، أم أن ذلك لا يُكتب إلا بعد العمل؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل أمر قد فرغ منه، ثم قال: إن الله خلق ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار). قال: [وعن جابر بن عبد الله: أنه قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نأتنفه؟ فقال: بل لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة بن مالك -وهو السائل كثيراً- يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟)]، لماذا نعمل إذا كان العمل كله لأمر قد فرغ منه؟ لأن الله تعالى ما كتبك من أهل الجنة إلا لعلمه أنك تعمل بعمل أهل الجنة، وما كتبك من أهل النار في الأزل إلا لعلمه الأزلي السابق أنك تعمل بعمل أهل النار. ولذلك سأل شخص الحسن البصري وقال له: يا أبا سعيد! أليس ظلماً أن يقضي الله تعالى لنا بالنار قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: الجنة والنار لمن؟ قال: لله، قال: من خلقهما؟ قال: الله، قال: هل أنت خالق الجنة أو مالكها؟ قال: لا. قال: هل أنت خالق النار أو مالكها؟ قال: لا. فقال: المالك في دار الدنيا يدخل داره من يشاء ويصد عنها من يشاء، فلا تستغرب هذا في حق الله تعالى، فإنه يدخل من يشاء الجنة ويدخل من يشاء النار، فهو الذي خلقهما وهو المالك لهما، وهذا كلام عقلي، لكنه على أية حال كلام متين جداً يوافق معنى النصوص. قال: [عن جابر بن عبد الله: أنه قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نأتنفه؟ فقال: بل لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كل امرئ ميسر لعمله)].

حكم الاحتجاج بالقدر على المعصية

حكم الاحتجاج بالقدر على المعصية يا إخواني! لا يجوز أبداً الاحتجاج بالقدر على المعصية، إنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، أما الذنوب والمعاصي والمعايب فلا يجوز قط الاحتجاج بالقدر عليها؛ ولذلك نقول: لو أن طريقاً ممهداً معبداً سهلاً ميسوراً، وطريقاً آخر قد امتلأ بالحجارة والشوك والصعوبات، وكلا الطريقين يؤدي إلى غرض واحد، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين، فأيهما تسلك؟ فلابد أنك ستسلك الطريق المعبد. ولو أتيت برجل مجنون فضلاً عن العاقل، وقلت له: هذان الطريقان يؤديان إلى الغرض؛ فلابد أنه سيسلك الطريق المعبد الممهد الذي لا شوك فيه ولا حجارة ولا تعثرات ولا مطبات ولا غير ذلك، فإذا كان العبد قد اختار هذا بعقله الذي هو مناط التكليف؛ فكيف تستبعدون أن يدخل الله عز وجل عبده النار بعد أن أرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، وحرم عليه المحرمات وبينها له، وأحل له الحلال وبينه له، وجعل له العقل المميز لهذا وذاك، حتى ميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، فاختار بإرادته الباطل، واختار بإرادته الشر، وهو يعلم أنه في نهاية المطاف سيدخل النار. فكيف تستبعدون دخوله النار، وقد علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً فكتبه، وقضاه عليه؟ وليس ذلك من باب أن الله تعالى ظلمه؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، وإنما سبق في علم الله الأزلي أن هذا العبد رغم فراغ كل حججه اختار طريق النار، فمعنى مهده له أي: يسر له ذلك، ألا تعلم أن هذه طريق النار؟ تفضل هذه طريق النار اسلكها وفي نهايتها النار، ومع هذا يتجرأ العبد على المعاصي فيسلكها، فلا غرو حينئذ أن يدخل النار. ولذلك الله تعالى لا يظلم الناس شيئاً، أما إذا كنت تتصور أن الله تعالى خلق الخلق قبل أن يعملوا خيراً أو شراً، فقضى بأن هؤلاء العباد في الجنة، وأن هؤلاء العباد في النار بغير عمل عملوه. لا والله، إنما قضى عليهم بذلك لعلمه الأزلي السابق أنه بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل والتكليف بالعقل السليم يختارون طريق النار، وهؤلاء يختارون طريق الجنة، لما علم الله تعالى ذلك منهم أزلاً كتب ذلك وقضاه، وجعل هذا من أهل الجنة وذاك من أهل النار، إنما كتب الله تعالى الجنة والنار لمن استحق الجنة ولمن استحق النار؛ لما علم أن هذا العبد اختار طريق الجنة، ولما علم أن هذا العبد اختار طريق النار، لكيلا يقول قائل: مادام أن الله كتبني من أهل النار قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ فهذا يعد ظلماً، فأنت لم تعمل شيئاً صحيحاً في ذلك الوقت، لكن الله تعالى علم أزلاً أنك ستعمل الشر فكتبك من أهل النار، وعلم أنك ستعمل الخير فكتبك من أهل الجنة؛ لعلمه الأزلي السابق سبحانه وتعالى، ليس من باب الظلم؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً.

وجوب الإيمان بخلق الله لأفعال العباد خيرها وشرها

وجوب الإيمان بخلق الله لأفعال العباد خيرها وشرها قال: [وعن جابر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! فيم العمل؟ أفي شيء قد سبق أم شيء نستأنفه؟ قال: بل في شيء قد سبق)]، أي: أعمالكم التي تعملونها من خير أو شر موافقة لما في الكتاب، الله تعالى علم ذلك أزلاً فيسركم لذلك: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، ألهمها فجورها الذي اختارته، وتقواها الذي اختارته، فيسرك للفجور ويسرك للتقوى؛ لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلقك أنك تحب طريق التقوى هذا، فجعل الأمور ميسرة ممهدة لك تسلكها؛ لأنك محب لذلك مقبل عليه، وأما هذا العبد فإنه يأنف من أعمال التقوى ولا يحبها، وإنما يختار طريق الفجور فمهده لذلك، ومعنى مهده لذلك: أذن له في وقوع الفجور منه، وهذا الذي يسميه العلماء بمرتبة الخلق والإيجاد، من مراتب القدر مرتبة الخلق والإيجاد، فالله تعالى خالق كل شيء حتى الشر، نعم. حتى الشر فإنه من خلق الله؛ لأنه لا خالق إلا الله، فالله تعالى هو الذي خلق الخير وخلق الشر، من الذي خلق إبليس رأس الشر؟ هو الله عز وجل، فالله تعالى خالق كل شيء. وهكذا خلق الله تعالى الشر أي: أذن في وقوع الشر في كونه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر سبحانه وتعالى، إرادة كونية قدرية. فلما قدر الله تبارك وتعالى وقوع الشر قدره من باب الإيجاد والخلق، يعني: هو الذي أذن في وجوده وأذن في خلقه، لكن الذي اكتسب الشر، وباشره وعمله بجوارحه هو العبد، هل للعبد أن يعمل شيئاً من خير أو شر إلا بإذن الله وقدرة الله وخلق الله وإرادة الله؟ لو قال زانٍ: أنا سأزني أذن الله في ذلك أو لم يأذن، هل يصح ذلك منه؟ لا يصح؛ لأن كل حركات العبد وأعمال العبد مخلوقة لله تعالى، إن كانت خيراً فخير، وإن كانت شراً فشر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته). فالذي صنع هذا المسجل هو الله عز وجل؛ لأن الله تعالى خالق مَن صَنعه، فمعنى (أن الله تعالى خالق هذا المسجل وصانع لهذا المسجل): أنه أذن في إيجاده وفي خلقه وتكوينه، أي: أذن لصانعه أن يصنعه، ولو أراد صانعه أن يصنعه بإرادته دون إرادة الله لا يكون ذلك أبداً. إذاً: فالله تعالى هو الذي أذن في خلق هذا وفي وجود هذا وفي صنع هذا، لكن من الذي باشر الصنع وباشر الإيجاد لهذا؟ هو الصانع الذي صنعه: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) أي: وصنعته مخلوقة لله تعالى. لو أردت أن تتكلم وما أراد الله لك الكلام لا تستطيع أن تتكلم، لو أردت أن تمشي وما أراد الله لك المشي لا يمكن أن تمشي، لو أردت أن تسكت وأراد الله لك النطق لابد أن تنطق. إذاً: كل أعمالك من خير وشر مخلوقة لله تعالى، ومعنى (مخلوقة): أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن العبد هو الذي باشر الوجود بنفسه وباشر العمل بجوارحه، فهذا معنى أن العبد يحاسب على عمله. إن الله تعالى لما شرع شرعه حث الناس عليه، وبين لهم فضل الطاعة، وذم المعصية وحذر منها، وبين لهم مغبتها وعاقبتها، لينتهي الناس عن المعاصي ويقبلوا على الطاعة، الله تعالى أذن في خلق الكفر، وفي إيجاد الكفر في الكون، فهل الله تعالى يحب الكفر؟ A لا يحبه، بل ويمقته، ويدخل أصحابه النار مخلدين فيها ومع هذا أذن في وجوده. ولما أذن الله تعالى أزلاً في وجود الكفر؛ لأنه علم أن بعض عباده وخلقه يختارون طريق الكفر مع وجود الإيمان وظهوره، وظهور طريقه وأهله، وما الحرب الضروس التي تدور بين كُتَل مجتمع المعمورة كلها إلا مرده إلى الإيمان والكفر، أهل الإيمان يعلمون أنهم على الحق المبين، وأنهم أصحاب الرسل وأتباعهم، وأن هؤلاء الكفار هم الذين خرجوا عن الرسل؛ فيستحقون بذلك القتل، دليلهم في ذلك: قال الله، وقال الرسول، وأجمع أهل العلم. أهل الكفر يعلمون أنهم على الكفر المبين، عرفتها أنفسهم وجحدتها ألسنتهم علواً واستكباراً. وللأسف الشديد بعض أهل العلم الآن عندهم علم ومنسوبون إلى العلم، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أهل العلم المعتبرين، وإنما هؤلاء يفتون الفتاوى مدفوعة الأجر مسبقاً ومقدماً؛ يستنكرون على أبناء الصحوة وشباب الدين أنهم يقولون: أهل الكتاب كفار، يستنكرون علينا أننا نقول ذلك، مع أن هذا القول لا نعلم لأحد من السلف خلافه، بل ولا حتى الخلف، لا نعلم أن أحداً ممن له اتصال من قريب أو بعيد بأهل العلم يقول: إن أهل الكتاب ليسوا كفاراً بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام. أما قبل ذلك فإن أتباع الأنبياء مسلمون على شرائع أنبيائهم، منهم العاصي والمفرط، ومنهم المتبع المقتدي والمهتدي، وأما بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إلى العالمين فإن من خالف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن تابعاً له لا شك أنه من الكفار؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده ما من أحد يهودي ولا نصراني من هذه الأمة يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وعيسى عليه السلام ي

وجوب الجد والاجتهاد في العمل والنهي عن الاتكال

وجوب الجد والاجتهاد في العمل والنهي عن الاتكال قال: [وعن بشير بن كعب العدوي قال: (سأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت فيه المقادير، أم شيء يستأنف؟ فقال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقالا: ففيم العمل إذاً؟ فقال: كل عامل ميسر لعمله الذي هو عامل. قالا: فالآن يَجِدُّ أن نعمل -وفي رواية-: يجب أن نعمل)]، إذا كان كل منا ميسراً لما خلق له ويعمل على مقتضى المكتوب، وانظر إلى هذين الغلامين! الغلام: اسم للطفل الذي لم يبلغ الحلم، والجارية: اسم للطفلة التي لم تبلغ الحلم. تصور أن غلامين سألا النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! هذا الذي سنعمله لأمر قد فرغ منه أم لأمر مستأنف؟ قال: لا، لأمر قد فرغ منه، قالا: ففيم العمل إذاً؟ فوضح لهم أن كل واحد ميسر لما خلق له، ولما هو مكتوب في الكتاب الأول، فقالوا: إذاً: يجب علينا أن نعمل. والعجيب أنك تجد بعض الشباب يقول: نحن من أهل النار، فلم نعمل؟ أنا أريد أن أعرف من الذي قال لك أنك من أهل النار؟ كما أنه من الذي قال لك أنك من أهل الجنة؟ بل ينبغي أن تعض على الطاعة بالنواجذ حتى يختم لك بعمل أهل الجنة، لكن عندما تقطع بأنك من أهل الجنة! فهذا تألٍ على الله عز وجل، وافتراء وكذب على الله عز وجل، لو أنك أردت أن تدخل النار وأراد الله لك الجنة دخلت الجنة، فانظر! حتى هذه ليست لك، ولو أردت أن تكفر وأراد الله لك الإيمان لا يمكن أن تكفر، أي: لو أردت الإيمان وأراد الله لك الكفر إرادة كونية قدرية لا يمكن أن يكون إلا ما أراد الله عز وجل. إذاً: كيف تقطع لنفسك بجنة أو نار، بسعادة أو شقاء إذا كنت تعلم أن هذا كله بيد الله تعالى؟ إذاً: لابد أن تجد وأن تجتهد في العمل الذي يوصلك إلى دار النعيم. قال: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت يا رسول الله ما نعمل فيه، أفي أمر مبتدأ أو مبتدع -يعني: جديد- أو فيما قد فرغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه، قال: أفلا نتكل؟)]، نتكل على هذا يا رسول الله! ونجلس وننام، لأن الكتاب قد فرغ منه ففيم العمل؟ قال: [(أفلا نتكل؟ قال: اعمل يا ابن الخطاب! فكل ميسر، أما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل عمل أهل الشقاء، وأما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة)].

باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق القلم فقال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة

باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق القلم فقال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة [الباب الثامن: باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق القلم فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن -أي: ما هو كائن في ذلك الوقت، وكتب ما يكون إلى قيام الساعة- فمن خالفه فهو من الفرق الهالكة]. فمن قال: إن الله لم يكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة فهو من الفرق الهالكة، ومن قال: إن الله لم يخلق القلم فهو من الفرق الهالكة. بل ثبت عن ابن عباس: أن الله تعالى خلق القلم وكان قدر القلم كما بين السماء والأرض، ولم يثبت أن الله تعالى أخذ القلم بيمينه، وإنما أمر الله القلم فقال له: (اكتب، -فنطق القلم- فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة)، حتى لا تتصور أن الله تعالى أخذه بيمينه فكتب به كل شيء، بل جرى القلم بالكتابة بأمر الله تعالى، قال له: اكتب، فكتب كل شيء، وركب الله تعالى فيه تمييزاً وإدراكاً؛ حتى يسمع الكلام ويفهمه، ويأتمر بالأمر وينتهي عن النهي، من خالف في ذلك فهو من الفرق الهالكة. قال: [قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله تعالى القلم. فجرى بما هو كائن إلى قيام القيامة)]، أي: إلى وقت قيام الساعة.

اختلاف أهل العلم في أول المخلوقات هل هو القلم أو العرش؟

اختلاف أهل العلم في أول المخلوقات هل هو القلم أو العرش؟ وقع خلاف بين أهل العلم: هل أول المخلوقات القلم أم العرش؟ فبعضهم يقول: أول المخلوقات القلم، وبعضهم يقول: أول المخلوقات العرش، ومعنى أول ما خلق الله القلم أي: من أول ما خلق الله القلم، وهذا قد جرت به ألسنة العرب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). فهل خير الناس على الإطلاق من تعلم القرآن وعلمه؟ A لا، التقدير: من خيركم من تعلم القرآن وعلمه، من أفاضلكم، من أحاسنكم، وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لنسائه)، وهذا حديث صحيح، فإذا قلت: خيركم خيركم لنسائه، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه، لابد أن يحدث تصادم بين النصوص. إذاً: من خيركم خيركم لنسائه، ومن خيركم من تعلم القرآن، ومن خيركم أحاسنكم أخلاقاً وغير ذلك، إذاً: النصوص فيها تقدير محذوف، وهو (من) التي تفيد التبعيض. إذاً: في هذه الحالة أول ما خلق الله القلم، أي: من أول ما خلق الله، يعني: من أوائل المخلوقات القلم، ولا يلزم من ذلك أن يكون القلم هو أول المخلوقات. وفي رواية: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أول ما خلق الله العقل. فقال له: أقبل فأقبل، فقال له: أدبر فأدبر، قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز علي منك، فبك أعطي وبك أمنع وبك أعاقب وبك أثيب) إلى نهاية الحديث. قال ابن تيمية عليه رحمة الله في الفتاوى، وقال ابن القيم عليه رحمة الله في الصواعق المرسلة وغيرها من كتبه التي تتعلق بالقدر، وقال في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف: كل أحاديث العقل التي تدل على أن العقل أول المخلوقات أحاديث ضعيفة ومنكرة؛ ولذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالاً خاصاً فيما يتعلق بالعقل في كثير من كتبه. على أية حال الخلاف قائم بين أهل العلم من السلف في أيهما أسبق، وذلك بعد اتفاقهم أن أحاديث العقل موضوعة ومختلقة ومكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وقع الخلاف بين أهل العلم من السلف في أول المخلوقات: هل هو العرش أم القلم؟ أتت نصوص في الكتاب والسنة تدل على أن العرش كان أول المخلوقات: (خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء)، كلمة (وكان عرشه على الماء) تدل على أن العرش أسبق، والعرش مخلوق؛ لأنه لا خالق إلا الله، خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، يعني: وكان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء. قال ابن عباس: والماء فوق السماء السابعة، وقبل خلق السماوات كان الماء على الريح. قال ابن عباس: وكان عرشه على الماء -أي: على الماء فوق السماء السابعة قبل خلق السماوات السبع وخلق الأرضين السبع- قيل لـ ابن عباس: كان على ماذا؟ قال: كان على الريح. أي: الماء كان على الريح، والعرش فوق الماء، والكرسي فوق العرش، مخلوقات عظيمة جداً، فلا تتصور أن هذه المسألة هرمية؛ لأنه لا يصح في الأذهان أن تتصور هذا، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الكرسي في العرش كحلقة في فلاة). يعني: تصور أنك ترمي حلقة في صحراء! لا شيء، فالكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والكرسي أعظم من السماوات والأرض، وهو لا يساوي في العرش إلا كحلقة في فلاة، إذاً: كيف يكون حجم العرش؟! مخلوقات عظيمة لا يمكن أن تتصورها، إذا كنت أنا ضربت الآن مثلاً بأن القلم الذي كتب مقادير الخلائق قدره كما بين السماء والأرض، والمعلوم أن ما بين كل سماء وسماء أو السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فهذه مخلوقات عظيمة جداً لا يمكن لأحد أن يتصورها مع أنها مخلوقة. لو قلنا لك الآن: صف ثمار الجنة، تعجز؛ لأن ثمار الجنة ليس لها مثيل في ثمار الدنيا إلا في الاسم فقط، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا تفاح وهذا تفاح، لكن شتان بين هذا وذاك. فإذا كان الأمر كذلك فيحرم جداً أن نتصور في الأذهان صورة لله عز وجل، وإنما نثبت أن لله تعالى صورة، كيف هي؟ لا يعلمها إلا الله، إذا كنا نحن نعجز عن إدراك بعض المخلوقات وهي مخلوقات، فكيف بالخالق الذي خلقها؟ ولذلك يروى -كما في كتب ابن الجوزي عليه رحمة الله- أنه قد خرج رجل في زمانه ممن يتعالم، فصعد المنبر وقال: سلوني ما شئتم. فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام إليه أعرابي جلف، فقال: يا فلان! أين تجد أمعاء النملة؟ فأسكته. فهذه النملة مخلوقة أم لا؟ إذاً: هل نحن نعلم أن لها أمعاء أو عينين أو رجلين، أو عرضاً أو طولاً؟، هل نعلم خصائصها وأوصافها؟ عجز عنها هذا المتفيهق المتحذلق بكلمة أعرابي جاء من البادية، ليس له في العلم شيء ومع هذا أسكته، وهذه النملة من أحقر وأدق المخلوقات، فكيف بأعظم المخلوقات العرش والكرسي والسماوات والأرض والجنة والنار؟ لا يمكن لأحد أن يصفها. والمعلوم أننا لا نستطيع أن نصف شيئاً إلا إذا رأيناه أو علمنا له مثيلاً، وليس هذا في بعض المخلوقات ممكناً بالنسبة

كتابة القلم لما علمه الله عز وجل إياه

كتابة القلم لما علمه الله عز وجل إياه قال: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى قيام القيامة)]، أي: كتب ما سيكون إلى قيام الساعة. هل هذا القلم عنده العلم اللدني أم هذا بعلم الله؟ A جرى القلم بما علمه الله. قال له: اكتب أنني سأخلق عبدي فلاناً، وأنه سيعمل بعمل أهل السعادة أو بعمل أهل الشقاء، يعمل كيت، في ساعة كيت في لحظة كيت، في المكان الفلاني. وهكذا علم الله تعالى ما سيكون من الخلق جميعاً، ليس فقط من بني آدم، وإنما من الخلق جميعاً، فكتب ذلك في كتاب، فهو عنده تحت العرش.

الفرعيات لا يبدع فيها المخالف وإنما يؤخذ بالترجيح عند الاختلاف

الفرعيات لا يبدع فيها المخالف وإنما يؤخذ بالترجيح عند الاختلاف إن الخلاف الذي وقع بين السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أو العرش؟ اتفقنا أنهم استبعدوا أن يكون العقل؛ لأن هذا الكلام مردود ومنكر قولاً واحداً، إذاً: لا يبقى عندنا خلاف إلا فيما يتعلق بالعرش والقلم، أيهما أول المخلوقات. فقال بهذا بعض السلف وقال بذاك بعض السلف، وهنا لابد أن نعرج على أمر، وهو أن السلف إذا اختلفوا في مسألة -ولو كانت من مسائل الاعتقاد- فإن الأصل أنه لا يبدع المخالف. وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل رأى النبي محمد عليه الصلاة والسلام ربه في ليلة المعراج أو لا؟ وتعلمون أن السلف رضي الله عنهم اختلفوا في أفضلية عثمان على علي وفي أفضلية علي على عثمان، وهذه من مسائل الاعتقاد، ومع هذا لم يبدع أحد الفريقين صاحبه، لا الذين فضلوا علياً بدعوا من فضل عثمان، ولا العكس، ولم يبدع الذين قالوا بثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج من قال غير ذلك ولا العكس، وهذه المسائل من مسائل الخلاف سماها العلماء الخلاف الفرعي في العقيدة، فهذه فرعية من فرعيات الاعتقاد، لا أصل من الأصول، أي: ليست متعلقة بالإيمان بالله، إذ إن الإيمان بالله أصل، والإيمان بالملائكة أصل، والكتب كذلك، والرسالات، والجنة والنار والصراط والجزاء، هذا كله أصول، أما الفرعيات فلا يبدع فيها المخالف. لكن نشأ هذا الخلاف في السلف رضي الله عنهم، وكان لكل دليله، ونحن نعرف أن مسألة الرؤية هذا معه أدلة وهذا معه أدلة وإن كانت الأدلة مؤولة، لكن على أية حال وقع الخلاف، فينظر إذا كان الخلاف وقع في أصول الاعتقاد فلا يحتمل، بل يبدع المخالف ويضلل، وهذا بفضل الله لم يقع في سلفنا رضي الله عنهم، إنما وقع الخلاف في فرعيات مسائل في الاعتقاد، فهذا لا يبدع فيه المخالف. عندما أقول لك: اعمل لي بحثاً فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أم العرش؟ وائتني بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، ثم رجح أحد الفريقين، ما الذي ستفعله؟ ستتبع الكتاب والسنة وستأتي بأدلة القائلين بأن العرش أول المخلوقات، وأدلة القائلين بأن القلم أول المخلوقات، ومن السنة ومن أقوال الصحابة، والسلف عموماً رضي الله عنهم، وبعد أن تأتي بالأدلة ستأتي بكلام الشراح في هذا وذاك، وتأتي بكلام أهل التأويل الذين يجمعون بين النصوص. وطريقة الجمع كما قلت لك: (وكان عرشه على الماء) منهم من يقول: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، وهذا تأويل، ومنهم من يقول: أول ما خلق الله القلم أي: من أول ما خلق الله القلم، ومنهم من يبقيه على ظاهره يقول: أول المخلوقات القلم بنص الحديث، وكان عرشه على الماء، قالوا: التقدير: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، فيقول: إن العرش مخلوق قبل السماوات والأرض، وفريق آخر يقول: لا. كان العرش بظاهر الآية قبل خلق السماوات والأرض، وأول ما خلق الله تعالى ضمن ما خلق السماوات والأرض القلم، كل هذه الآراء ستجدها. فإنك بعد أن تكون مشدوداً ومتعصباً جداً لمسألة أن القلم أول المخلوقات؛ تفاجأ بأن هناك رأياً آخر يقول: إن العرش أول المخلوقات وهذا كلام لا يمكن دفعه، وإذا كنت تقول: إن العرش أول المخلوقات تفاجأ بأن هناك رأياً آخر، وهو أن القلم أول المخلوقات، وكذلك لهم أدلتهم من الكتاب والسنة لا تستطيع ردها ولا صدها ولا تستطيع تأويلها، فإذا كنا نريد الترجيح فإن الترجيح أيها الإخوة! له طريقان: الطريق الأول: إثبات الدليل الذي يؤيد ما أنت عليه، والنظر في أدلة المخالف وتأويلها تأويلاً لا يتعارض مع ما رجحته أنت، فأنا عندما أقول: القلم أول المخلوقات بنص الحديث، فإذا بشخص آخر يقول: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، فإنه لابد أن أجد صرفة لهذه الآية؛ لأن هذه الآية ستقف في طريق مسألتي، وأنا قد وصلت إلى النتيجة أن القلم أول المخلوقات، فإن هذه الآية ستعترضني، فلابد أن أجد لها صرفة، فإذا لم أجد لها صرفة فأنا مهزوم. والذي يقول: وكان عرشه على الماء العرش أول المخلوقات لابد أن يتصرف في أدلة من يقول بأن القلم أول المخلوقات، فإذا لم يتصرف فكذلك لا يستطيع الترجيح، فاعلم أن العلم بالمناقشة والنظر والاستدلال والتأويل، فلا يصح أن تقول: العرش هو أول المخلوقات وحسب، أعجبك هذا الأمر أم لم يعجبك، فهذا ليس كلام أهل علم، فلابد من البحث في مراجع كتب الاعتقاد. ولكي تعرف كيفية الترجيح لابد أن تعرف كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للإمام الحازمي، فقد ذكر أن وجوه الترجيح اثنان وخمسون وجهاً، وعندها ستصل إلى كيفية الترجيح، وهذا الكلام موجود ومذكور في كتاب تأويل مختلف الحديث لـ ابن قتيبة، وتأويل مختلف الحديث للإمام الشافعي، وكتاب مشكل الآثار للإمام الطحاوي، وكل هذه الكتب كتب تأويل، وكذل

رواية الوليد وعبادة بن الصامت في أن أول المخلوقات القلم

رواية الوليد وعبادة بن الصامت في أن أول المخلوقات القلم قال: [عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله عز وجل القلم ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة -أي: بمجرد أن خُلق- ما هو كائن إلى يوم القيامة). وعن الوليد بن عبادة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب! وما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)].

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون)

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون)]، وهي الدواة التي لا يستغني عنها القلم، والقلم قد يستغني عن الدواة إذا أراد الله تعالى أن يكتب القلم من غير دواة، لكن الله تعالى قدر أن يكون للقلم دواة. فقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] منهم من فسر النون بالحوت؛ لأن النون اسم من أسماء الحوت، ومنهم من فسر النون بأنها الدواة لعلاقتها بذكر القلم بعدها. قال: [(ثم قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة)]؛ لأن القلم قد جرى بما هو كائن، فكتب كل شيء.

تفسير ابن عمر لقوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)

تفسير ابن عمر لقوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول شيء خلقه الله عز وجل القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين)]، وهذا يرد على ما أخرجه مسلم وأثبت فيه أن لله يداً أخرى وهي الشمال، فإن هذه الرواية شاذة. قال: [(فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول، بر أو فجور، رطب أو يابس، فأمضاه عنده في الذكر -أي: كتبه عنده في الذكر- ثم قال: اقرءوا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]-أي: نكتب ما كنتم تعملون- فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه)]، يعني: قد تقول: عندي نسخة البخاري الأصلية، ثم تذهب بي إلى البيت وتعطيني مجموعة أوراق فارغة لا كتابة فيها، فسأقول لك: أين هذه النسخة؟! لكن عندما تريني مخطوطاً للبخاري سأقول: نعم. هذه نسخة، وسميت نسخة لما وقع فيها من النسخ، والنسخ بمعنى: الكتابة، فلا يقال للورقة الفارغة البيضاء نسخة، لكن عندما تكتب فيها كتاباً تقول: لقد نسخت الكتاب أو صورت الكتاب، أو كتبت الكتاب. فقال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: نأمر بكتابة أعمالكم.

التسليم بالقضاء أصل من أصول الإيمان بالقدر

التسليم بالقضاء أصل من أصول الإيمان بالقدر قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أصابتني العزبة)]، يعني: شق علي العزوبية، أنا من غير زوجة. وهذا قد شق علي يا رسول الله! قال: [(أصابتني العزبة وليس بيدي شيء فأنكح النساء)]. إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، لم يقل: يا معشر الشباب تزوجوا، أو لابد أن تتزوجوا، فإن ترك الزواج ترك للتوكل على الله، أتريد أن تسيء الظن بربك؟ إن الله يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، لا. لم يقل ذلك، وإنما شرط الزواج بالاستطاعة. قال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، فلم يقل: على المسلم الزواج استطاع أم لم يستطع، إنما قال له: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: وقاية من فتن العزوبة. قال: [(أصابتني العزبة وليس بيدي شيء فأنكح النساء، وأنا أتخوف على نفسي فتأذن لي فأختصي؟)]، والاختصاء: هو أن يأخذ شهوته من مبيضه، أو ينزع المبايض فلا يكون له بعد ذلك شهوة، فيرى أذم امرأة كما يرى أجمل امرأة، الثنتان عنده سواء؛ فلا يبالي بالنساء. قال: [(فتأذن لي فأختصي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة! جف القلم، فاختص على ذلك أو اترك)]، يعني: الله سبحانه وتعالى كتب أن أبا هريرة سيختصي أو لا يختصي، فإذا اختصيت يا أبا هريرة! فقد وافقت ما في الكتاب الأزلي، وإذا تركت الاختصاء فقد وافقت ما في الكتاب الأزلي، فكأنه يقول: أتستشيرني في الاختصاء؟ فلو أني أفتيتك بالاختصاء فسيوافق ما قلته لك ما قد كتب أولاً، وإذا منعتك عن الاختصاء فسيوافق المنع لما قد كتب أولاً، ولا بأس يا أبا هريرة! سأتركك لاجتهادك، تختصي أو لا تختصي. افعل ما تشاء. ففي هذه الحالة لو أن أبا هريرة اختصى هل يخالف المكتوب له أزلاً؟ A لا. ولو ترك الاختصاء كذلك لا يخالف؛ لأن الله تعالى علم أن أبا هريرة سيتردد في هذه المسألة وسيسأل النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم سيجيبه بذلك، وأن أبا هريرة يجتهد في أن يختصي أو يدع، وفي نهاية الأمر ترك أبو هريرة الاختصاء، وهذا بلا شك موافق لما في الكتاب الأزلي. أنت عندما تقول: يا رب! أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان زواجي من فاطمة خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله؛ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كان أمر زواجي من فاطمة شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله؛ فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان. وفجأة تقول: ولكن يا رب! أنا أريد فاطمة، وقلبي في النهاية يا رب! يتقطع، ولو أن فاطمة تزوجت شخصاً آخر قد أقتلها وأقتله، معذرة يا رب! يقتضي الأمر هذا يا رب! وفي النهاية لا يتزوج فاطمة إلا إذا كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أنه سيتزوجها، فيذهب لأبيها، وأبوها يوافق، ويقول له: وافقت يا بني! فادفع مبلغاً معيناً، فدفع المبلغ، وذهب وأتى بمهر وأمهرها وعقد عليها فهل أحد يستطيع النزاع، أو يستطيع التقدم لفاطمة؟ ثم في ساعة خلاف قال لها: أنت طالق، وانتهت القضية، فقد كتب في اللوح المحفوظ أن فاطمة لا يتزوجها علي أو لا يتزوجها إبراهيم، أو سعد أو محمد أو زيد أو عبيد، مع أنه قد استقر لديه أن فاطمة امرأته، لكنه مكتوب في اللوح المحفوظ أنها ليست امرأته ولا يبني بها، فلا يكون في علم الله وقدره إلا ما قدره وأذن في وقوعه في الكون مهما تمنى العبد، فإن ما يختاره الله تعالى لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه. ولو أن العبد آمن بذلك وسلم لاطمأن إلى قدر الله، فكيف يكون حال الشخص الذي يحب امرأة وتتزوج غيره؟ فإن حياته كلها ترتبك وتنقلب رأساً على عقب، ولا يريد الصلاة ولا يريد الصوم، وفي نفسه مغضب من إخوانه، ولا يريد السلام على أحد، ولا يريد أن يصلي جماعة مع الإمام، وكل شيء لا يعجبه، ودائماً تراه في نقد وسخط وعدم رضا، لماذا كل هذا؟ لأنه اكتشف أن فاطمة خطبها غيره. وعندما يتزوج امرأة أصلح من فاطمة يقول: الحمد لله أن ذهبت فاطمة، الحمد لله أني لم أتزوجها. أقول: هذا كلام محمود، لكن أقررت بذلك بعد أن اكتشفت أن زوجتك هذه ظفرها يساوي قيمة فاطمة؛ فلمَ لم تسلم من أول لحظة؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، ومضمون الحديث: إنما الصبر عند أول الصدمة، فمن الناس من يفهم أن الصبر عند الصدمة الأولى يعني: عند أول صدمة يصدمها الإنسان في حياته يكون الصبر عندها، وليس مطلوباً منه أن يصبر بعد ذلك. وهذا خطأ. إنما الصبر عند أول الصدمة، هذا هو الت

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)

تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) قال: [وعن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة. وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: ألستم قوماً عرباً؟ هل تكون نسخة إلا من كتاب؟ وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: ألستم قوماً عرباً أو عُرْباً؟ هل تكون نسخة إلا من أصل كتاب قد كان قبل؟]، أي: قد كان من قبل، وهذا فيه إثبات أن القلم كتب كل شيء. قال: [وعنه في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، ثم النون وهي الدواة، ثم خلق الألواح، فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى من كل خلق مخلوق، أو عمل معمول من بِر أو فجور، وما كان من رزق حلال أو حرام، ومن كل رطب ويابس، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا وبقاءه فيها، كم إلى كم شاء، ثم وكل بذلك الكتاب ملكاً، ووكل بالخلق ملائكة، فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة الكتاب فينسخون ما يكون في يوم وليلة مقسوماً على ما وكلوا به، وتأتي ملائكة الخلق فيحفظون الناس بأمر الله، ويسوقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ، فإذا انتفت النسخ عن شيء لم يكن هاهنا بقاء ولا مقام. قال: فقال رجل لـ ابن عباس: ما كنا نرى هذا إلا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال: ألستم قوماً عُرْباً؟ {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟]. مراد ابن عباس: أن اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي كُتب بقلم القدرة، وهو أول المخلوقات، وهذا القلم كتب نسخة لا زيادة فيها ولا نقص، وهذا المكتوب مقدر لكل مخلوق خلقه الله عز وجل، والملائكة الذين يحفظونك بأمر الله، الموكلون بك وبأعمالك ورزقك وأجلك يذهبون إلى الملائكة القائمين على الكتاب الأول في كل يوم وليلة، فتقول ملائكة الحفظ لملائكة الكتاب: انسخوا لنا عمل العبد اليوم، ورزق العبد اليوم، فتستنسخ ملائكة الحفظ أعمال العبد في اليوم الواحد، فملائكة الرزق ينسخون الرزق، وملائكة العمر ينسخون العمر، وملائكة العمل ينسخون العمل، حتى إذا ذهبوا في يوم ليستنسخوا ما هو مقدر لك في يومك وليلك لا يجدون في كتاب الله شيئاً، أي: انقطع الكتاب، وهذا الانقطاع يدل على نهاية العمر ونهاية الأجل. وهذا الكلام من علم الغيب، فلا يمكن إلا أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبعض أهل العلم يقول: هذا الكلام من ابن عباس مع صحة السند له حكم المرفوع، يعني: هو موقوف له حكم المرفوع؛ لأن هذا الكلام لا يعلمه أحد إلا من طريق الصادق المصدوق المعصوم عليه الصلاة والسلام. وبعضهم يقول: لم يسمع ابن عباس هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس له حكم المرفوع؛ لأن الشرط في اعتبار الكلام في أمر الغيب موقوفاً في حكم المرفوع: ألا يُعلم أن صاحبه كان يتلقى عن أهل الكتاب، وابن عباس في الحقيقة كان ممن يتلقى عن أهل الكتاب، فقالوا: لعل ابن عباس أخذ هذا من أهل الكتاب، والله تعالى أعلم. قال: [وعن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم خلقه عن هجاء]، يعني: خلقه للكتابة، فقال: قلم! فتصور قلماً من نور ظله ما بين السماء والأرض. وهذا كلام نقول فيه ما قلناه آنفاً. قال: [فقال: اجر في اللوح المحفوظ. قال: يا رب! بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة، فلما خلق الله عز وجل الخلق وكل بالخلق حفظة يحفظون عليهم أعمالهم، فإذا كان يوم القيامة عرضت عليهم أعمالهم فقيل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]-أي: في اللوح المحفوظ- فيعارضون بين الكتابين فإذا هما سواء]. يعني: يضعون الكتاب الذي في أيدي الحفظة بجوار كتاب العبد في اللوح المحفوظ، فيجدون أن الكتابين بالضبط منطبقان على بعض. وهذا يدل على أنه لا زيادة فيها أو نقص؛ لأنها نسخة طبق الأصل؛ ولذلك يقال: صورة طبق الأصل، يعني: ليس فيها زيادة ولا نقصان، فلا يصح أن تختم البطاقة بعد أن تصورها، فيكون الأصل غير مختوم والصورة مختومة، إذاً: هنا لا توجد مطابقة ولا معارضة، وصحة المعارضة هي الموافقة بين المنسوخ والمنسوخ منه.

صفة السلام على غير المسلمين والرد عليهم

صفة السلام على غير المسلمين والرد عليهم وعن الحسن بن علي هنا قال: عليهما السلام، فنقول: عليهما السلام، لكن ليس هما فحسب، ولا آل البيت فحسب، بل كل الصحابة والصالحين والتابعين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً؛ كلهم عليهم من الله ومن عباده السلام. إذا كان هذا هو المعنى اللغوي فيصدق أن نقول عن أي واحد نظنه من الصالحين خاصة الصحابة أجمعين: عليه السلام، وعليه مني السلام، كما أنك تقول: تعال ولك مني الأمان، أو ولك مني السلام؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، فإنما يقولون: السام. والسام الموت)، والموت علينا وعليهم حق، لكنهم يسبوننا. (أتى رجل من اليهود فقال: السام عليك يا محمد! فقال: وعليك، فقالت عائشة: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! قال: يا عائشة! ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه. قالت: يا رسول الله! أما سمعت ما قال؟ قال: أما سمعت ما رددت به عليه؟). قالت: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! هذا هو الرد اللائق، ولو كان بإمكانها أن تضربه بنعلها لفعلت، لكن هذا لا يليق بقدر عائشة رضي الله عنها. وكان بعض اليهود يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: (السلام عليك يا محمد! ورحمة الله وبركاته) فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام ولا يذكر ورحمة الله وبركاته. يقول ابن القيم في ذلك: إذا سلم أهل الكتاب على المسلمين فبان في سلامه سلام، يعني: لا يوجد عندي شك أن هذا الرجل عند أن دخل علي قال لي: السلام عليكم -بالألف واللام- ورحمة الله وبركاته؛ يقال له: وعليك السلام، أي: وعليك مني السلام، أما رحمة الله وبركاته فأنت أبعد الناس عن رحمة الله وبركاته. فـ ابن القيم يقول: النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن إلقاء السلام عليهم هل قصد بالنهي الألفاظ الواردة في التحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أم قصد مطلق التحية؟ ذكر الخلاف بين العلماء في هذا، ثم رجح ابن القيم عليه رحمة الله أن المنهي عنه هو السلام، وأن مطلق التحية جائزة، وهذا كلام جيد.

الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه

شرح كتاب الإبانة - الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه لقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونهاه عن أكل الشجرة، وعلم أنه سيأكل منها قبل أن يخلقه، وهكذا سائر المعاصي والشرور علمها الله تعالى قبل أن يخلقها؛ لأنه لا يكون شيء في ملكوت الله تعالى إلا بعلمه وتقديره، خيراً كان أو شراً، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده، وأن العبد يخلق فعل نفسه، وهم القدرية الذين شابهوا المجوس، ومن نحا نحوهم، ولذلك لما تحاج موسى وآدم حج آدم موسى؛ لأنه احتج بقدر الله على معصيته بعد أن تاب منها، أو على مصيبة خروجه من الجنة، فذكر أن كل ذلك كان بقضاء الله تعالى وقدره.

ذكر مجمل مسائل القدر الواردة في المجلد الرابع من كتاب الإبانة

ذكر مجمل مسائل القدر الواردة في المجلد الرابع من كتاب الإبانة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. لقد انتهينا من المجلد الثالث من كتاب الإبانة، وهو المجلد الأول في باب القدر، ونحن الآن مع المجلد الثاني في كتاب القدر، والمجلد الرابع في كتاب الإبانة، وهذا المجلد كله يتعلق بالكلام عن عشر مسائل من مسائل القدر.

الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه

الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه وأولى هذه المسائل أو الأبواب: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه] أي: اعتقاد أن الله عز وجل كتب المعصية على آدم قبل أن يخلقه، ومعصية آدم كانت الأكل من الشجرة، وقد نهاه الله عز وجل عن الأكل منها، لكن الشيطان سول له أن هذه شجرة الخلد، وأنه إذا أكل منها فإنه سيخلد ولا يموت أبداً، فانصاع آدم لكلام اللعين إبليس عليه لعنة الله، فأكل من الشجرة، فكان ما كان بعد الأكل أن طرد من الجنة وكثرت ذريته وانتشر نسله في الأرض. والراجح أن هذه الجنة التي طرد منها آدم كانت في السماء ولم تكن في الأرض، وقد جاءت بذلك بعض النصوص، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة، أي: من قال: إن الله لم يكتب المعصية على آدم قبل أن يخلقه فهو من الفرق الهالكة والضالة، وكما تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، أي: من كان على الهدي النبوي وعلى سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين. ولا يلزم من قولنا أن هذه الفرق ضالة وأنها في النار أنها مخلدة؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، والدليل على أن هذه الفرق رغم ضلالها وهلاكها إلا أنها ليست كافرة ولا تخلد في نار جهنم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وستفترق أمتي)، فسماهم من الأمة، ومفاد البحث في هذا الحديث أو في هذه الجزئية من الحديث أن الأمة الإسلامية ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وغير واحد ممن تعرض لشرح هذا الحديث أن هذه الفرق كلها قد ظهرت في الأمة، والخوارج أول الفرق ظهوراً حتى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل: ذلك الرجل الذي يدعى بـ ذي الخويصرة التميمي: (لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، فلما أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام قال: والله ما أريد بهذه القسمة وجه الله، فقال النبي: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! فلما ولى مدبراً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، فانظر إلى أوصاف أهل البدع، فتجد أنهم يجتهدون جداً في العبادة، وهذا هو الذي يغر العامة؛ فيرى رجلاً من أهل البدع يصلي ويصوم أكثر منه، ويقرأ القرآن باستمرار لا يمل ولا يتعب، فيغتر به فيقول: هذا رجل من أهل الصلاح، لكن لا يعلم أنه من أهل البدع إلا أهل العلم، ولذلك العلم نور وبصيرة، وقوله في الحديث: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، أي: أن القراءة من اللسان والفم ولا علاقة لها بالقلب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخوارج كلاب النار)، وغير ذلك من الوعيد الذي ورد فيهم. ثم ظهرت بعدهم -بعد الخوارج- القدرية الذين أنكروا القدر، وقالوا: إن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فنفوا العلم الأزلي لله عز وجل، كما نفوا الكتابة في اللوح المحفوظ وغير ذلك. وبلا شك أن غلاة الفرق كفار خارجون عن الملة، وفي بعض فروع هذه الفرق فرق أخرى، فتجد أن القدرية انقسموا إلى أقسام كثيرة، وتجد الشيعة أو الرافضة انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة داخلية، فيندرجون تحت فرقة واحدة وهي الشيعة أو التشيع، لكنهم انقسموا فيما بعد على أنفسهم، وكل انقسام أخذ فرقاً داخلية في داخل الفرقة الواحدة، ومن هذه الفرق الفرعية ما أتى بأقوال تنقض الإيمان والإسلام والتوحيد من أساسه، وبلا شك لو وجدنا أن في بعض الفرق من يقول: الله تعالى رجل جميل المنظر! أن هذا القول كفر بواح، ومن قال به أو اعتقده فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه ليس له مثيل ولا شبيه ولا كفء ولا ند: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالذي يقول: إن الله تعالى على صورة الرجل، أو أنه رجل جميل المنظر غير أنه مجوف أو مصمت -هكذا قالوا- فهو كفر، ولولا أن الله حكى مقالة الكافرين في الكتاب ما جرؤت أن أحكي مقالة هؤلاء، ولكن اقتداء بالقرآن الكريم لما حكا الله تعالى أقوال الكافرين جوز لنا أن نحكي أقوال الكافرين كذلك. قال: [الباب الأول: الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].

الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه وخلق الله للنطفة وإن عزل صاحبها

الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه وخلق الله للنطفة وإن عزل صاحبها قال: [الباب الثاني: باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قبل أن يظهر إلى الوجود، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة. الباب الثالث: الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً -أي: إذا قدر للنطفة أن تكون خلقاً وإنساناً مكوناً- كان، وإن عزل صاحبها]، أي: وإن عزل عن امرأته، ولكن الله تعالى قدر للنطفة أن تكون ولداً كانت، ولذلك أنتم تعلمون ما ورد في السنة: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، والعزل هو أن يجامع الرجل امرأته فإذا أراد أن يقذف قذف ماءه خارج الرحم، والحرة تستأذن في ذلك ولا تستأذن الأمة؛ لأن هذا باب من أبواب الإيلام، فالحرة تستأذن فيه خلافاً للأمة، والعزل جائز مع الكراهة، كما أن الخصاء مكروه؛ ومن عزل لا يأثم بذلك؛ لأن الصحابة كانوا يعزلون في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، (واستأذنه رجل في العزل، فقال: اعزل أو لا تعزل، فإذا قدر الله تعالى للنطفة أن تكون كانت)، أي: أنه يريد أن يبين أن هذه المسألة لا تعلق لها أبداً بمشيئتك، فإذا شاء الله تعالى أن تكون نطفة كانت وإن عزلت. ونحن الآن نسمع كثيراً في الأبحاث الطبية أن امرأة تحمل دون جماع، وأنا لا أريد أن أفتح هذا الباب؛ لأنكم تعلمون خطورته؛ فالباب هو أن كل زانية تأتي وتقول: أنا حملت بغير جماع، كما فتح الباب من قبل على مصراعيه لما انتشر أن الجن يجامعون النساء، فكل امرأة فاجرة زنت تقول: لقد جامعني الجني! وهذا خارج عن إرادتي، ولا شك أن هذا باب لو فتح على مصراعيه فالأمر فيه خطير.

التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد حتى يؤمن بالقدر

التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد حتى يؤمن بالقدر قال: [الباب الرابع باب: التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن المكذب بذلك إن مات عليه -أي: على التكذيب بالإيمان بالقدر خيره وشره- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة]، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله).

الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم

الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم قال: [الباب الخامس: باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق] والذي خلق الخلق هو الله عز وجل، ومن بين المخلوقات إبليس، وهو رأس الشر، والخير والشر من عند الله، والخير والشر مخلوقان لله عز وجل. قال: [باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم يجري منهم مجرى الدم]، أي: كما يجري الدم في العروق، فكذلك الشيطان يجري منك كما يجري الدم، فما هو الدليل؟ أليس قول النبي الكريم: (إن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط)؟ والحديث في الصحيحين، لكن هل هو في المسألة التي ذكرتها؟ لا، ولذلك الدليل الذي يصح الاحتجاج به يشترط فيه شرطان: الأول: أن يكون صحيحاً، والثاني: أن يكون صريحاً في النزاع. ومن قبل قلت لكم: لو أن امرأة أتت الآن وقالت: طلقني زوجي، أي: قال لها: اذهبي فأنت طالق، فهل هذا الطلاق يقع أم لا؟ A نعم يقع، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر)! فهذا الدليل صحيح أم لا؟ A الدليل ليس صريحاً في النزاع؛ لأنه ليس له علاقة بالقضية، ما لقضية الصيام بقضية الطلاق؟! إذاً: الدليل الذي يجوز الاحتجاج به في قضية ما شرطاه: أن يكون صحيحاً، وأن يكون صريحاً في محل النزاع، وأنا الآن أطالب الطلبة بأن يأتوا بحديث يثبت أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فقال الأخ الكريم بحديث توفر فيه شرط واحد وفقد الشرط الثاني، إذاً هذا يهدم من أساسه ولا يصح للاحتجاج به. كما لو أتى إنسان فقال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق)، أخرجه فلان، وفيه فلان الضعيف، فأقول له: أنت الآن حكمت بأن هذا الدليل لا يصلح للحجة، وإن كان صريحاً في النزاع أو في الطلب، لكنه لا يصلح أن يكون دليلاً لضعفه. والحجة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فأتت صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ولعن الله أباها، ثم أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقلبها إلى بيتها، فخرج من المعتكف ليردها إلى البيت، فرآه صحابيان، فناداهما النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنها صفية بنت حيي، فقالوا: سبحان الله! يا رسول الله! أوفيك نشك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق)، والحديث في الصحيحين، وهو صريح في أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق. وهناك حديث صحيح وصريح من جهة العموم لا من جهة فصل النزاع في قضية فرعية، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، والوجاء الوقاية من الشيطان، ويوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (فضيقوا عليه بالصيام). فتبين أن الصائم يهبط في بدنه جريان الدم، وبالتالي يهبط معه الشيطان ويخمد، وأنتم تعملون أنه إذا دخل رمضان غلقت أبواب النيران وفتحت أبواب الجنان وصفدت الشياطين بسبب الصيام وغير ذلك.

الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين

الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين قال: [الباب السادس: باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين]، أي: ما من مولود من بني آدم إلا ويولد على الفطرة كما جاء في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على فطرة الإسلام، أي: ما من مولود إلا ويولد مسلماً- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه)، أي: يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مشركاً، مع أنه ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام، وهذا الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم لما استخرجهم من ظهور آبائهم؛ يوم أن أخرجهم ووضعهم في كفه سبحانه وتعالى وقال: هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة، أو العكس. وكذلك ذراري المشركين، أي: أن كل الكفار إذا أنجبوا أولاداً صغاراً فإنهم يولدون على الإسلام وعلى الإيمان والتوحيد؛ للميثاق الأول الذي أخذ عليهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، أي: شهدوا بربوبية الله عز وجل، والشهادة بالربوبية عند الإطلاق تعني توحيد الربوبية والإلهية، وإذا ذكر التوحيدان كان لكل منهما مضمون ومراد يختلف عن الآخر، وقد اختلف العلماء في أبناء المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ هل هم كفار؟ فقال أقوام من أهل العلم: إنهم كفار تبعاً لآبائهم، وقال بعض أهل العلم: هم مؤمنون، وهم من أهل الجنة مع أطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ؛ لأن أطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ يدخلون الجنة ولا أعلم في ذلك خلافاً؛ لأنه لم يجر عليه القلم، ولم يبلغ الحلم، فلا ذنب اقترفه ولا إثم فعله، وحينئذ هو من أهل الجنة، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا باباً من أبواب الشفاعة فقال: (من مات له ثلاثة من الولد قبل أن يبلغوا الحنث فاحتسبهم دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان). صلى الله على نبينا محمد، وقد جاء في الحديث: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)، حتى تعلم منشأ الخلاف عند أهل العلم؛ لأن أهل العلم اختلفوا على مذاهب شتى، فمنهم من قال: هم كفار، ومنهم من قال: هم مؤمنون، ومنهم من توقف، ومنهم من قال: يبتلون يوم القيامة باختبار وامتحان، فإن نجحوا وفازوا دخلوا الجنة، وإن رفضوا دخلوا النار، وهذا الامتحان في التوحيد، إذاً منشأ الخلاف قوله عليه الصلاة والسلام: لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أي: لا أعرف ماذا كانوا سيعملون؟ فلما توقف النبي توقف الناس فيهم، أو اختلف الناس فيهم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام (سئل في آخر حياته عن أطفال المشركين فقال: هم في الجنة مع إبراهيم عليه السلام)، ولا شك أن هذا القول ينسخ القول الأول، وهذا الذي استقر عليه مذهب جماهير العلماء من أهل السنة والجماعة، أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل بلوغ الحلم وقبل أن يجري عليهم القلم فهم مع أطفال المسلمين في الجنة، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي نرجو ونود أن يكون موافقاً لرحمة الله عز وجل؛ لأن هؤلاء لا يحاسبون.

ما روي في المكذبين بالقدر وما روي عن الصحابة في ذلك

ما روي في المكذبين بالقدر وما روي عن الصحابة في ذلك قال: [الباب السابع باب: ما روي في المكذبين بالقدر. الباب الثامن: باب ما روي في ذلك عن الصحابة ومذهبهم في القدر رحمهم الله] وذكر أبا بكر الصديق ثم عمر ثم علي بن أبي طالب.

باب الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه

باب الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه قال: [باب: الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة]. والباب فيه عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، وكدت أقول: إن الطرق التي ورد بها هذا الحديث تكاد تكون متواترة، لكن ليست متواترة على الحقيقة، لكنها بلغت مبلغاً من الشهرة والذيوع بالمكان العالي.

شرح حديث عمر: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)

شرح حديث عمر: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة) قال: [عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)]، أي: أرني آدم الذي أخرجنا نحن الذرية وأخرج نفسه من الجنة، فهذه مصيبة حلت بآدم قبل أن تحل بالذرية. قال: [(فأراه الله عز وجل آدم)]، كلمة (فأراه) تصدق على رؤية المنام كما تصدق على رؤية العين، ولذلك تقول: رأيت فيما يرى النائم وتسميها رؤية، مع أنها في الحقيقة ليست رؤية بمعنى الكلمة، فلما احتملت هذه الكلمة وغيرها من الكلمات المنصوصة في هذا الحديث اختلف أهل العلم في لقاء موسى بآدم، فمنهم من قال: كان لقاء موسى بآدم لقاء أرواح، ومنهم من قال: أحيا الله لموسى آدم فلقيه وكلمه، ومنهم من قال: إن الله عز وجل إنما أرى موسى آدم في قبره، أو أرى آدم موسى في قبره عند الكثيب الأحمر في فلسطين، وغير ذلك من الأقوال، والذي يترجح لدي ما رجحه الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله فقال: وهذا من أبواب الابتلاء في الإيمان. فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الأنبياء في ليلة الإسراء وصلى بهم، ولا يجوز أن نتنازع كيف صلى بهم ولا كيف رآهم؟ لكننا نقول: إن هذا باب من أبواب الابتلاء في الإيمان، فإذا عجزنا عن البلوغ والوصول إلى الحكمة من النصوص فلا أقل من أن نسلم في ذلك، ولذلك قال الحافظ ابن حجر قولاً ممتعاً جداً في الفتح في شرح هذا الحديث: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، فينبغي الإيمان بذلك، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر. لكن ممكن أن يقول شخص: أنا مؤمن بعذاب القبر، لكني أريد أن أعرف كيف يقع عذاب القبر؟ وكيف يجلس الميت في قبره وهو ضيق جداً؟ لا تنظروا إلى هذه الغرف الكبيرة، وإنما أصل القبر لحد كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، فاللحد ضيق جداً لا يكاد الإنسان يتقلب فيه حركة واحدة، فما بالك أن يأتي ملكان ويجلسانه ويسألانه وهو يجيبهم؟! ثم إذا تلعثم في الجواب ضرب بمرزبة فغاص في الأرض سبعين ذراعاً، كيف يتم ذلك كله في هذا القبر الضيق الصغير؟ كل ذلك نؤمن به، وأنه على الحقيقة، وأن الله على كل شيء قدير، فإذا كنت أؤمن أن الله على كل شيء قدير، إذاً: أنا أؤمن بأن الله قادر على أن يجمع هذا الكون في بيضة صغيرة، بل يجمع هذا الكون ويدخله سم الخياط، أي: خرم الإبرة؛ لأنه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا أقيس قدرة الخالق بقدرتي، إذ إن قدرتي محدودة ضعيفة، ولها قوانين أرضية سفلية تحكمها، أما الله عز وجل ففوق كل القوانين، وأفعاله لا منتهى لها ولا مثيل لها. ولذلك نحن نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية يعني أن الله هو الرب الخالق المدبر لشئون خلقه القيوم على شئون عباده، ومعنى توحيد الأفعال، أي: يفعله الله ولا يفعله أحد، كيف ذلك؟ الله تعالى يسمع، فهل يسمع العالم كله منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة كسمع الله؟ لا يسمعون، وإن اجتمعت أسماعهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يخلق ولا خالق غيره ولا رب سواه، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا رجلاً أو امرأة أو طفلاً رضيعاً؛ فهل يستطيعون أن يخلقوا طفلاً رضيعاً كما يخلق الله؟ لا، إذاً: هو واحد في أفعاله، ولو قلت لي: هل بإمكانك أن تدخل هذا السلك في خرم الإبرة؟ أقول لك: أنا أعجز عن ذلك، لكن الله يجمع الدنيا كلها إذا أراد ويدخلها من سم الخياط؛ لأنه على كل شيء قدير. قال: وليس هو -أي: لقاء آدم لموسى- أول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه. واعلم أن هذا الكلام بمثابة الأصول القوية المتينة لأهل السنة والجماعة. قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات، أي: في بيان الحكمة من الأمر أو النهي إذا ضاقت علينا، مثل: لماذا أمرنا الله بصلاة أربع ركعات في الظهر والعصر والعشاء؟ لماذا أمرنا الله بصلاة ركعتين في الصبح والمغرب ثلاثاً؟ وما الحكمة من هذا العدد؟ ولم لمْ يجعل الظهر خمساً أو ثلاثاً؟ خفيت علينا الحكمة ولم يبق لنا إلا وجوب التسليم لله عز وجل. قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم، أي: التسليم والإذعان لله عز وجل. وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي -أي: مثل لقاء آدم بموسى- يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً، أي: لأنا لم نؤت في بيان المشكلات وحل الغامض من هذا إلا شيئاً نادراً جداً، إذ إن معظم أمور الغيب يجب فيها التسليم ويمتنع السؤال عن الحكمة، وليس هذا في مسائل الغيب فقط، بل من المسائل العملية التي يعملها الناس بالليل والنهار لا يعلمون لها حكمة، ولذلك المني في مذهب جماهير العلماء طاهر ويوجب الغسل، والبول بالإجماع نجس ولا يوجب الغسل، لكن قد يقول قائل: لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أقول لك السبب، لكن الذي أس

شرح حديث أبي هريرة: (احتج آدم وموسى) من عدة طرق

شرح حديث أبي هريرة: (احتج آدم وموسى) من عدة طرق قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت الذي أدخلت ذريتك النار؟ قال آدم لموسى: أصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت أني أهبط؟ -أي: هل وجدت هذا في الكتاب؟ - قال: نعم، فحجه آدم)]، أي: غلبه بالحجة. [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى)]، أي: كانت بينهما مناظرة، والمناظرة أيها الإخوة! تجوز حتى بين الابن وأبيه؛ لأن موسى ابن وآدم أب، ومع هذا فموسى هو الذي طلب آدم للحجاج والمناظرة، والمناظرة بين الولد ووالده ليست من سوء الأدب؛ لأن بعض الناس يظن أن الولد إذا أراد تبيين الحق لأبيه قالوا: كيف يتكلم مع أبيه بهذه الطريقة؟ إن إبراهيم عليه السلام ناقش والده، ونوح عليه السلام ناقش ولده. فالمناظرة بين الوالد وولده جائزة إذا كان المراد منها الوصول إلى الحق، وإنما يعاب على من يناقش والده التعدي في الأدب، واختيار الألفاظ غير اللائقة بمقام الأبوة، أما المناظرة لأجل الوصول إلى الحق ومرضاة الرب فهذا أمر محمود في الشرع، والطريقة نفسها التي تكون أحياناً مذمومة وأحياناً محمودة حسب أدب الولد. وكذلك المناظرة بين العبد والسيد، وبين الزوجة وزوجها، وبالتالي فلا بأس أن تذكر المرأة زوجها بالله، وأن تشير عليه بأمر ربما خفي عليه، كما أشارت أم سلمة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وذلك لما خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (اذبحوا الهدي وحلوا من إحرامكم، فلم يفعلوا، فدخل مغموماً خيمته، فلما علمت أم سلمة بذلك قالت: يا رسول الله! اخرج فاذبح الهدي واحلق، وإذا رأوك قد فعلت ذلك فعلوا، فلما خرج وفعل فعلوا رضي الله عنهم)، فهذه من باب المشورة. لكن لا يأتي شخص الآن على خط مستقيم ويقول لامرأته: إن رأيك عندي استشاري، وأنت ليس لك قيمة عندي، أنت امرأة، أنت أنثى، حتى ولو وافق رأيك القرآن والسنة فكذلك أنت امرأة! ماذا يعني بهذا الكلام؟ إن الحق يا أخي! يقبل من كل من جاء به وإن كان يهودياً، والسلف يقولون: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها وأخذها، وهذه ليست هي القضية، وإنما القضية في هذا الكلام الذي نسمعه أحق أم باطل؟ موافق أم مخالف؟ مردود أم مقبول؟ فهذه هي القضية وهي الفيصل، أما أن تقول: ما دام أنك نصراني فلن آخذ منك شيئاً، فلا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب)، أي: أن كلامه صدق، فهل يرد الكلام الصدق؟ ولو كان يرد الصدق -وإن أتى من إبليس- لما أقر النبي عليه الصلاة والسلام إبليس على أن نصح أبا هريرة أن يقرأ آية الكرسي عند نومه، فإذا قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، وإنما أقر النبي إبليس في هذا لأنه صدق، وليس له مصلحة في أن يكذب في هذا الموطن، فقال: (يا أبا هريرة! صدقك وهو كذوب، أتدري من يخاطبك منذ ثلاث؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك شيطان). فالحق يؤخذ من كل من أتى به، أما أن تقف مع امرأتك على خط مستقيم فلا تقبل لها قولاً وتنهرها وتسفه أحلامها وغير ذلك، فليس هذا ديناً، وبعض الناس يتصور أن هذا باب من أبواب الشهامة والرجولة؛ أنه دائماً يضربها ويرد أقوالها، ويقول لها: وإن وافقك الكتاب والسنة. يا أخي! إنك جبار عنيد، والحق يؤخذ منها إذا نطقت به.

معنى قول آدم لموسى: (أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء)

معنى قول آدم لموسى: (أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء) قال: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟ -أغويت: من الغواية وهي الضلال- فقال له آدم: أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء)]، وهل الله سبحانه وتعالى بالفعل أعطى لموسى علم كل شيء؟ لا، إذاً: هذا يسمى عند الأصوليين من العام المخصوص، وكلمة (كل) من ألفاظ العموم، أي: علم كل شيء قد ورد في الكتاب الذي أنزله عليه، بدليل أنه ما أحاط بشر قط بالعلم كله، وأعلم العلماء في الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. إذاً: قوله: (وأعطاك الله علم كل شيء)، أي: علم كل شيء قد جاء في التوراة، ومصداق ذلك: أن موسى عليه السلام لما سئل: أتدري أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فعاتبه الله عز وجل على ذلك لأنه تعجل الجواب، فقال: يوجد عبد من عبادي هو أعلم منك، اذهب إليه في مكان كذا، والقصة طويلة وقد شرحناها من قبل، والشاهد منها: أن موسى عليه السلام لما التقى بـ الخضر قال له الخضر: أنت على علم علمكه الله لم يعلمنيه، وأنا على علم علمنيه الله لم يعلمك. إذاً: موسى عليه السلام لم يحط بالعلم، وإنما أحاط بالعلم الذي نزل إليه، فهذا يسمى في الأصول من العام المخصوص، أي: وإن كان اللفظ عاماً، لكن المراد من النص ليس العموم المطلق، وإنما العموم الخاص بالكتاب المنزل عليك يا موسى! قال: [(أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس -أي: اختارك- برسالته؟ قال موسى: نعم، قال: أفتلومني على أمر قد كتب علي قبل أن أفعله، أو قال: قبل أن أخلق؟ قال: فحج آدم موسى)].

اختيار الألفاظ المناسبة من محاسن اللغة العربية

اختيار الألفاظ المناسبة من محاسن اللغة العربية [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التقى آدم وموسى)]، وفي كلمة (التقى) مغزى لغوي مفاده: أنه لا يصح استعمال لفظ آخر مكانه يربط بين آدم وموسى، ولذلك أنا لا أستطيع أن أقول: الشمس خرجت، وإنما: الشمس طلعت. وكذلك لما قال عمر رضي الله عنه: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل)، فقوله: (إذ طلع)، هذا اللفظ لا يصلح أن يكون لحقيقة الآدميين، وإنما الذي يصلح للآدمي: خرج أو دخل علينا رجل، أما (طلع) فلا هو قمر ولا هو شمس، ولذلك قال: (هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فربطنا قوله: (هو جبريل) بالقول الأول (طلع)، فـ عمر ما قال: طلع علينا رجل إلا لما علم أنه جبريل، فاختار لفظاً يتناسب مع جبريل ولا يتناسب مع حقيقة الآدمي، فقال: طلع، ولم يقل: خرج أو دخل، فكذلك قوله هنا: (التقى آدم وموسى).

معنى قول موسى لآدم: (أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة)

معنى قول موسى لآدم: (أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة) قال: [(التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت الذي أشقيت الناس -من الشقاء والتعاسة، وهو ضد السعادة- وأخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال آدم لموسى)] وفي الحقيقة يذكر الأمر باعتبار ما سيكون؛ لأن الذي خرج من الجنة هو آدم وحواء دون الذرية، إذ إن الذرية ما كانت إلا على الأرض، أي: لم يكن لآدم نسل في الجنة، وإنما لما نفخ الله فيه الروح وأمره بهذه الأوامر وقعت المخالفة بعدها فوراً من شدة إغواء الشيطان وإبليس له، فكان الخروج فوراً من الجنة إلى الأرض، فلم يحصل لآدم تناسل في الجنة، وإنما أول التناسل حصل بعد أن نزل إلى الأرض، فقوله هنا: (أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة)، هو في الحقيقة يريد أن يقول: أنت الذي خرجت من الجنة، وبالتالي كانت ذريتك حاصلة على الأرض وليس في الجنة، بدليل أن الإجماع منعقد على أن آدم لم ينجب في الجنة، وإنما أنجب في الأرض، فقوله: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة، هو في الحقيقة ما أخرجهم، وإنما أخرج نفسه، وهو أس النسل عليه السلام. قال: [(فقال آدم لموسى: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل وجدته كتب علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)]، أي: غلبه بالحجة. [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى عليهما السلام، فقال آدم لموسى: أنت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)]، في كل مرة موسى هو الذي يقول لآدم، وهذه المرة بدأ آدم، قال: (أنت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)، وأنتم تعلمون أن موسى عليه السلام قتل نفساً، وكان ربما وقع في النفس الثانية، لولا أنه استرجع ما كان منه بالأمس: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، أي فما الخبر يا موسى؟ أو كلما تلقى شخصاً تريد قتله أم كلما يصرخ عليك شخص من قومك تقوم مباشرة بقتله؟ قال: [(فقال موسى: أنت آدم أبو الناس الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، فلولا ما صنعت دخلت ذريتك الجنة؟ قال آدم لموسى: أتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى). ومن طريق أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقي آدم موسى عليهما السلام، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ثم فعلت ما فعلت، فأخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته، وكلمك وقربك نجياً؟ قال: نعم، قال: فأنا أقدم أم الذكر؟)]، انظروا إلى الحجة، يقول له: أيهما خلق أولاً أنا أم اللوح المحفوظ؟ [قال: بل الذكر] الذي هو اللوح المحفوظ. [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)]، وكأن آدم أراد أن يقول لموسى: أنا أقدم أم الذكر؟ قال موسى: الذكر، والذكر مكتوب فيه كل شيء إلى قيام الساعة، وبالتالي مكتوب فيه أن آدم سيأكل من الشجرة.

أثر ابن عباس: (قد أخرج الله آدم من الجنة)

أثر ابن عباس: (قد أخرج الله آدم من الجنة) قال: [وعن ابن عباس قال: (قد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يسكنه إياها)]، أي: قد قضى عليه بالهبوط منها قبل أن يدخلها، لا أنه ما دخل الجنة ابتداء، فهو قد دخلها، ولكن الله تعالى علم أنه سيخالف الأمر ويرتكب النهي فيهبط بسبب ذلك إلى الأرض، ثم يتوب فيتوب الله عز وجل عليه. قال: [(ثم قرأ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30])]، وكلمة (خليفة) تعني: أنه يخلف قوم قوماً، لا أن الله تعالى يُخلِف عنه أحداً من خلقه؛ لأن بعض أهل العلم فهموا ذلك، فقالوا: (إني جاعل في الأرض خليفة) أي: خليفة عن الله عز وجل، قالوا: ومفاد ذلك أن الله تعالى هو العدل، وهو الحكم الذي يحكم بين عباده بالعدل، لكن الله لا يحكم بينه وبين عباده مباشرة، وإنما بواسطة رسله، فآدم أول نبي بعثه الله عز وجل، وأول رسول أرسله الله هو نوح عليه السلام، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً كما تعلمون. فقالوا: فناسب أن يكون لله تعالى خليفة في الأرض ليحكم بين الذرية بالعدل نيابة عن الله عز وجل، وهذا الكلام بعيد، والصحيح أن معنى (خليفة) أي: يخلف بعضهم بعضاً، ويكون بعد كل قرن قرن، لا أنه أراد آدم على جهة الخصوص.

أثر عبيد بن عمير: (قال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت)

أثر عبيد بن عمير: (قال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت) [وعن عبيد بن عمير قال: (قال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت، أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا، بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفره لي، قال: فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]]، أي: هذه هي الكلمات التي كانت بين آدم وبين الله عز وجل.

أثر خالد بن مهران: (قلت للحسن: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء)

أثر خالد بن مهران: (قلت للحسن: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء) [وقال خالد بن مهران الحذاء: قلت للحسن -أي: الحسن البصري أبو سعيد -: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء؟ -أي: هل الأصل في خلق الله لآدم أنه للأرض أم للسماء؟ - فقال: ما هذا يا أبا المبارك]! أي: ما هذه الأسئلة الغريبة التي تسألها، الأصل أن هذه المسائل مستقرة عندك. [قال: فقال: خلق للأرض] أي: خلق للأرض ولم يخلق للجنة، وإن دخلها وخرج منها، فهذا المخلوق الوحيد الذي دخل الجنة وخرج منها، ولا يدخل بعده أحد قط الجنة بعد البعث ويخرج منها، بل من دخلها فإنه يخلد فيها أبداً، وهذا خلافاً للنار، فإنه من دخلها من الكفار والمنافقين خلد فيها أبداً، أما من دخلها من عصاة الموحدين فيخرج منها بشفاعة الشافعين أو بشفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، إذاً النار تختلف عن الجنة، وبين الجنة والنار فروق كثيرة جداً. منها: أن للجنة ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب، ولا تظن أن الباب شيء سهل، فباب الجنة بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، والقائمون على عتبتي الباب أحدهم في المشرق والآخر في المغرب، ومع هذا يتزاحم فيه الناس حتى يكادوا يختنقون، اللهم اجعلنا منهم، ولكن لا نخنق، فيكفي الزحام الذي نحن فيه. وقوله: قلت للحسن: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء؟ هذا إشارة إلى أن الجنة التي كان فيها آدم كانت في السماء لا في الأرض. قال: [فقال: ما هذا يا أبا المبارك! قال: فقال: خلق للأرض، قال: فقلت: أرأيت لو استعصم فلم يأكل من الشجرة؟] أي: ألست تقول لي: إنه خلق للأرض، إذاً فما رأيك لو أن آدم لم يأكل من الشجرة، أيكون للأرض أم للسماء؟ وهذا فرض جدلي، والمطلوب طرحه ورده وعدم الجواب عليه. [قال: فقلت: أرأيت لو استعصم -أي: استعصم بالله واستعاذ به- فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له بد من أن يأكل منها؛ لأنه للأرض خلق]. انظر إلى جواب الحسن البصري، يقول له: انس هذا الأمر. وتذكرون قبل حوالي سبع أو ثمان سنوات عندما قالوا في مجلة العلمانيين المجرمة: إن إبليس ذهب إلى الشيخ علي جاد الحق في مشيخة الأزهر، وقال له: يا مولانا! أنا أريد أن أتوب، وأريد أن أسلم لله، ولا أدري ماذا أعمل؟! أي: أن إبليس ذهب إلى الأزهر من أجل أن يشهر إسلامه! لأن هذا شرط، والآن الأزهر عمل شرطاً جديداً للنصراني الذي يريد أن يسلم، وهو أنه لابد أن يحفظ خمسة أجزاء من القرآن من أجل أن يعطيه الشهادة، يعني: أنتم تكفروه حتى يحفظ خمسة أجزاء؟ فيظل على كفره حتى يحفظ القرآن؟ فأنت إذا قلت اليوم: لابد من خمسة أجزاء، فيمكن أن يأتي غيرك ويقول: عشرة أجزاء، ولو أن نصرانياً طلع من هذا الباب، أو من عند هذا المنبر فيجب علينا أن يدخل في الإسلام أولاً، ثم يذهب فيغتسل، والمسافة قريبة، ويحرم علينا أن نقول له: اغتسل أولاً ثم تعال وانطق بالشهادتين؛ لأنه لو مات في الطريق فمن الذي يتحمل إثمه؟ أيضاً افرض يا أخي! أن ذاكرته ضعيفة، يحفظ كل سنة جزءاً، فهل يظل خمس سنوات كافراً؟ هذا شيء عجيب جداً. فالمجرمة روز اليوسف قالت: إن إبليس ذهب إلى سيدنا جاد الحق وقال له: يا مولانا! أنا أريد أن أشهر إسلامي وأتوب إلى الله، فقال له سيدنا جاد الحق: اذهب حتى نرى حلاً لمشكلتك! انظروا إلى هذا الكلام الفارغ، إنه استهزاء بالدين. والجواب على هذه الشبهة: أنه مستحيل أن يطلب إبليس هذا الطلب، ولو من باب إحراج القرآن والسنة؛ فمستحيل أن يخطر ببال إبليس هذا، أو أن يخطر بباله الدخول في الإسلام؛ لأن الله قد قضى عليه في الأزل الكفر حتى نهاية العالم، فإذا كان الله تعالى قال في حياة أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ} [المسد:1 - 4]، أي: أم جميل بنت حرب كذلك في نفس المصير، فلو كان أبو لهب يريد أن يحرج النبي، أو أن يظهر أن هذا القرآن كذب، وأن الأمر لا يجري على مراد الله وعلمه السابق الأزلي فقال: مادام أن القرآن يقول ذلك، إذاً فأنا أسلمت، لكن حتى ما قالها نفاقاً، فكيف يقولها إبليس؟! إذاً: هذا الذي يحدث على صفحات هذه المجلة الشيطانية ما هو إلا استهزاء بالإسلام، ولذلك نحن لا نتوقف مطلقاً في تكفير قائل هذه المقالات، والمستهزئ بالدين في أحكام أهل العلم كافر بالإجماع. [قال: فقلت له: أكان له أن يستعصم؟ قال: لا] أي: هل كان ممكن أن يقع منه الاعتصام بالله أم لا؟ قال: مستحيل أن يقع منه ولا يخطر على باله؛ لأن الله كتب ذلك في علمه الأزلي السابق في اللوح المحفوظ فلا يمكن.

تعليق ابن بطة على أحاديث وآثار احتجاج آدم وموسى وتعلقها بالقدر

تعليق ابن بطة على أحاديث وآثار احتجاج آدم وموسى وتعلقها بالقدر [قال الشيخ ابن بطة] يشرح هذه الأحاديث الطويلة بكلمتين في منتهى الاختصار، وهذا هو وضع السلف أنهم كانوا قليلي الكلام كثيري العمل، أما نحن فعلى العكس تماماً، كلام كثير جداً والعمل صفر. [قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه]، وانتبه إلى قوله: قد علم، فهذا فيه إثبات مرتبة العلم. ونحن قد قلنا: إن مراتب القدر أربع: مرتبة العلم، ومرتبة الكتابة، ومرتبة الإرادة والمشيئة، ومرتبة الخلق. فانتبه إلى هذه المراتب، إن لم تحفظها وتلم بها وبأحكامها وبأدلتها ستضيع في باب القدر. ومرتبة العلم، إي: إثبات العلم الأزلي لله عز وجل، وأنه علم كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة، فعلم ذلك من خلقه فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش، وفي الحديث: (أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة) وهذا قلم القدرة، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر، وهي مرتبة الكتابة، التي كتبت على مقتضى علم الله عز وجل. إذاً: المرتبة الأولى: العلم الأزلي، ولا نقول كما قالت القدرية: إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها وبعد حدوثها، بل علمها في الأزل، فلما علمها الله عز وجل كتبها، ولا أقصد بقولي: (فلما) أنه لم يكن يعلم فعلم، إنما قصد الكلام الدارج. ثم إن الله عز وجل جعل للعبد مشيئة وإرادة، والله سبحانه مشيئة وإرادة، وما تشاءون إلا أن يشاء الله، فجعل للعبد مشيئة ولله مشيئة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فأثبت للعبد إرادة ولله تعالى إرادة، لكن العبد لا يريد إلا ما أراده الله، ولا يشاء إلا ما يشاؤه الله، بمعنى: أنه لا يقع من العبد عمل أو قول أو فعل أو حركة أو سكون إلا أن يأذن في خلقها وإيجادها الله عز وجل، وهذه هي المرتبة الرابعة التي تسمى: مرتبة الخلق والإيجاد، فلا يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدر وشاء، لكن الأعمال التي تتم في الكون منها ما هو خير وطاعة موافق للشرع وموافق لمحبة الله ورضاه وأمره، ومنها ما وقع وهو شر ومعصية، والله تعالى هو الذي أذن فيه وفي وقوعه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد، فإما أن تكون إرادة شرعية مبناها على المحبة والرضا، فأنا الآن أصلي، فهل يمكن أن أصلي على غير مشيئة الله وإرادته؟ أي: هل للعبد أن يقول: أنا أصلي أربع ركعات شاء الله أم أبى؟ هل يقع منه ذلك؟ لا يقع منه ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يميته في مكانه وقبل أن يتم كلامه لفعل سبحانه وتعالى. فلا يضمن العبد أن يدخل في عمل أو أن يتكلم بقول أو أن يضمن حياته، ولا أن يضمن أيتم ذلك منه أم يخرص ويصم قبل أن يتم؟ ولذلك الإرادة الشرعية هي الموافقة للشرع، سواء كانت من الله عز وجل في أوامره التي أمر الله بها العباد، أو من العبد الذي تقرب إلى الله بفعل هذه الطاعات. فنقول: هذا العبد يصلي، فهو قد أراد ما أراده الله شرعاً وقدراً، والقدر هو القدر الكوني أو القدر الشرعي، فالله تعالى أراد أن يقع منه في الكون ما أراد شرعاً، وهو تحقيق الصلاة. ونقول: إن الإرادة الكونية القدرية دون الشرعية تكون من العبد إرادة واكتساباً، وتكون من الرب تبارك وتعالى إيجاداً وخلقاً، فالله تعالى هو الذي أذن في وقوع الكفر في الكون، ولو أراد الله تعالى أزلاً ألا يقع في الكون كفر لما وقع، وما استطاع أحد أن يكفر، حتى وإن أراد الناس الكفر لا يكفرون إلا بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد، لكن بعض الناس يخلط بين الإرادة الشرعية التي مبناها على المحبة والرضا الموافقة للشرع، وبين الإرادة الكونية القدرية، فالله تعالى أذن في هذا وأذن في ذاك، أذن في الشرعية لأنه أحبها ورضيها وأمر بها، وأذن في القدرية ومنها الموافق للشرع ومنها المخالف؛ والمخالف أذن فيه الله تعالى ابتلاء للعبد، حتى إذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وإذا لم يتب فهو في مشيئة الله إن كان موحداً، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وإذا كان كافراً اختار الكفر اختياراً بإرادته، وهذا هو الذي يجاب به عن Q هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأنت تختار الطريق بإرادتك، ومن قبل قلنا: لو أن إنساناً أمامه هدف، والموصل إلى الهدف طريقان: أحدهما: معبد، والآخر غير معبد، وقلنا له: اسلك أحد الطريقين فوراً، فإنه سيسلك الطريق المعبد الممهد بعيداً عن الشوك والحجارة والطوب وغير ذلك، والذي سيوصله إلى الهدف بسرعة، وهذا هو اختيار العقل، إذاً فلم تختار طريق المعصية في حياتك وأنت تعلم أنها معصية، وأنها تؤدي إلى النار؟ ثم تقول: الله تعالى هو الذي قدر علي ذلك؟ لم لمْ تسلك هذا الطريق الممتلئ بالشوك وتقول: هو الذي قدر علي ذلك؟ إذاً أنت مختار مريد للمعصية، ووقعت منك بإذن من الله تعالى؛ لأنه لا يكون في ملك الله من خير أو شر إلا بإرادته وإذنه وخلقه وإيجاده، فالمعصية في باب الخلق والإيجاد لله عز وجل، وفي با

معنى قول المؤلف: (فقد علم الله المعصية من آدم قبل أن يخلقه)

معنى قول المؤلف: (فقد علم الله المعصية من آدم قبل أن يخلقه) قال: [فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه، ونهاه عن أكل الشجرة، وقد علم أنه سيأكلها]، أي: أن الله عز وجل علم علماً أزلياً قبل أن يخلق آدم أن آدم سيأكل من الشجرة، وبعد علم الله عز وجل خلق آدم، وبعد خلقه نهاه أن يأكل من الشجرة، والله تعالى يعلم أزلاً أنه سيأكل منها بغواية الشيطان له. قال: [وخلق إبليس لمعصيته -أي: أن الله خلق إبليس من أجل أن يعصيه- ولمخالفته فيما أمره به من السجود لآدم]، ومعنى ذلك: أن الله تعالى خلق إبليس وهو يعلم أنه إذا أمره بالسجود لآدم فإنه لن يسجد، كما علم أن آدم لن يمتثل الأمر بل سيقع في النهي، قال: [وقد علم أنه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما أمر]، أي: فكان من الله ما علم ولم يكن منه ما أمر، فهو أمر بالسجود لآدم ونهى عن الأكل من الشجرة، فخالف إبليس الأمر، وخالف آدم النهي، والله تعالى يعلم هذه المخالفة، ومع هذا أمر، فالذي كان من الله عز وجل الأمر والنهي، والذي وقع على آدم هو النهي، والذي وقع على إبليس هو الأمر، فخالف إبليس في الأمر وارتكب آدم النهي. وهذا النهي الذي وقع فيه آدم والأمر الذي خالفه إبليس كان في علم الله تعالى الأزلي أنهما لا يمتثلان. قال: [فكان ما علم ولم يكن ما أمر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم أنه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وأرسل إليه موسى يأمره بالتوحيد لله والإقرار له بالعبودية، وهو يعلم أنه لا يقبل]. وهذا في ميزان البشر، فإذا كان هو يعلم أنه لن يقبل فلماذا يبعثه؟ من أجل أن يقيم عليه الحجة، فلا تظن أن الله عز وجل يظلم عباده أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله تعالى أرسل إليك الرسول، وأنزل معه الكتاب، ومنحك العقل الذي هو مناط التكليف، فماذا تريد بعد ذلك؟ الآن -ولله المثل الأعلى- عندما يقول لك أبوك: أنا أأكلك وأشربك وأصرف عليك وأعطيك دروساً خصوصية، لكن لابد أن تكون النتيجة آخر السنة مرضية، فأنت على مدار السنة تكون مرعوباً إن لم تأت بالنتيجة المرضية، وتعمل جاهداً على أن تحقق أعلى نسبة نجاح ترضي الوالد، والله تعالى أحق بالرضى، فهو الذي ربى جميع الخلائق وقام على شئونهم، وهو الذي خلقهم وسواهم وعدلهم، أفلا يستحق بأن يُرضى؟! وغير ذلك فوق الطعام والشراب والمسكن والمأوى مما لا يملكه إلا الله، فقد أرسل إليك الرسل من أجل أن يبين لك طريق الهداية من الغواية، وأنزل معهم الكتب التي فيها هدى ونور أو كلها هدى ونور، ومنحك العقل لتميز بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الجنة والنار، بين الطاعة والمعصية؛ وتعلم ذلك يقيناً من نفسك.

العمل سبب لدخول الجنة

العمل سبب لدخول الجنة إذاً: لو خالفت الأمر أو ارتكبت النهي تستحق دخول النار، والأكثر من ذلك أيها الإخوة! أننا مهما عبدنا الله لا نستحق الجنة، إذ إن دخول الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، إلا أنه سبحانه جعل العمل سبباً لدخول الجنة، أما أن العمل يكافئ الجنة ويوازيها ويساويها فلا والله، ولذلك أخرج الحاكم في المستدرك من حديث أنس: (أن رجلاً عبد الله ستمائة عام)، تصور شخصاً قائماً صائماً لله تعالى ستمائة سنة، قال: (فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب! بعملي، قال: زنوا عمل عبدي ونعمي عليه)، انظروا إلى الاختبار والابتلاء، أي: ضعوا عمله في كفة، وضعوا نعمي عليه في كفة أخرى، واعلم أن هذا الكلام ليس له علاقة بالجنة والنار، فالآن نحن سنضع النعم في كفة والعمل في كفة، فإذا غلبت النعم فعملك ليس بنافع، وإذا غلب العمل -ومحال أن يغلب العمل- فلا أقل من أننا نقول لك: شكراً لك، لكن أنعمنا عليك وأنت عملت، ليس لك لا جنة ولا نار، فيكون مثلك مثل الأعراف، أليس كذلك؟ لأنه لن يكون إلا ذلك. قال: (فوضعت الملائكة نعمة واحدة؛ نعمة البصر في كفة، ووضعوا عمل ستمائة سنة في كفة، فطاش العمل -أي: ثقلت به كفة النعمة الواحدة- فقال الله تعالى: أدخلوا عبدي النار)؛ لأن عمله لم ينقذه، وهذه نعمة واحدة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكيف إذا كانت نعماً كثيرة؟! قال: (فقال الله: أدخلوا عبدي النار، قال: يا رب! أدخلني الجنة برحمتك)، لماذا لم يكن هذا الكلام أولاً؟

المؤمن بين الخوف والرجاء

المؤمن بين الخوف والرجاء إذاً: فلا يغتر أحدنا بطاعته، ولا يقنط أحد من معصيته؛ لأنكم تعلمون أن جناحي المؤمن في السير إلى الله: الخوف والرجاء، الخوف الذي يزيده عملاً، والرجاء الذي لا يقنطه من رحمة الله، فهل هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد؟ لا، بل لو انكسر أحد جناحيه لسقط، وكذلك المؤمن لو فقد الخوف من الله ارتكب المعاصي، ولو فقد الرجاء في الله قنط من رحمة الله وأيس، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون، ولذلك العلماء يقولون: من عبد الله بالخوف فقط كفر، ومن عبده بالرجاء فقط كفر، إذ إنه لا يمكن أن يستقيم العبد إلا إذا مشى الاثنان سوياً، فلا يغلب الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف، ولذا قالوا: إذا كان المرء في شبابه فلا بأس أن يزيد عنده الخوف الذي يؤدي إلى مزيد العمل، وعند الموت أو كبر السن فلا بأس أن يغلب الرجاء عليه حتى يلقى الله تعالى وهو حسن الظن به، أما أن يغتر الإنسان بعمله فهذه مصيبة عظيمة، ولذا من الكبائر أن ترى لنفسك عملاً مع نعم الله عز وجل، فمهما عبدت الله عز وجل فليست بشيء ولا تؤهلك لأي شيء، فإياك أن تغتر وتقول: أنا رجل سني وملتحي وألبس جلبية بيضاء قصيرة إلى غير ذلك من التزكية للنفس، فإياك أن تغتر بهذا والله لا ينفعك، ولذلك العلماء يقولون: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة؛ فالأول لأنه اغتر وتعالى وافتخر بها على الناس، كأن يقول: أنا أصلي الخمس، وأصوم رمضان، وأحج كل سنة وأعتمر كذا وكذا، ويظل يفاخر بأنه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتصدق، وأنه حل قضايا فلان ومشاكل فلان وغير ذلك، مع أن الذي وفقه لهذا العمل هو الله تعالى، ولو أن الله تعالى تخلى عنه لحظة ما فعل شيئاً من ذلك. إذاً: مرد العمل كله لله عز وجل، ولو أنه سبحانه أوكلك إلى نفسك طرفة عين لهلكت، فأنت في كنف الله ورعايته فلا تغتر، ولا تنسب شيئاً من ذلك لنفسك، فإذا فعلت طاعة فاحمد الله عليها، ولا تحمد نفسك، وإذا فعلت معصية فاستغفر الله منها، ورب معصية أورثت صاحبها ذلاً وانكساراً وتوبة، فكان بسببها أن دخل الجنة. شخص التقى بأناس كثيرين وقال: أنا أبو المعاصي، والله تعالى يسترني ويستركم جميعاً، لكن أحياناً يأتي إنسان ويقول: يا شيخ! أنا قتلت وزنيت وشربت الخمر وأكلت الخنزير، وهو يتقطع ويتمزق ألماً، ثم منهم من يهيم على وجهه بسبب هذه المعصية، وينقطع للعبادة، ولا يرى أنه يعبد الله تعالى ويكافئه بأي شيء من نعمه، فهذا بلا شك معصية أورثت صاحبها خيراً.

نزول المصائب والبلايا بالعبد منحة لا محنة

نزول المصائب والبلايا بالعبد منحة لا محنة ولذلك أيها الإخوة! كثير من البلايا تنزل بالعبد فيراها محنة، وهي في حقيقتها منحة من الله عز وجل، فتكون في هذه البلايا إفاقة ورجوع وإنابة إلى الله عز وجل. والمصائب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: أن الشر المحض الذي لا مصلحة فيه ليس من أفعال الله عز وجل، وإنما الشر الذي يراه الناس شراً وهو فيه خير، فهذا من أفعال الله عز وجل، أي: من أفعال الله التي أذن في خلقها وإيجادها، فلو أن إنساناً قتل آخر، فهذا القتل يراه جميع الناس شراً محضاً، لكن لو أن القاتل أقيم عليه الحد على الهواء مباشرة، ورآه العالم، وقيل: فلان هذا قتل فلاناً، وأولياء القتيل يطالبون بالقصاص، وهذا هو القصاص، ويضرب عنقه ويقتل كما قتل، لفكر كل سفاح أو مصاص للدماء أو قاتل مليون مرة في العالم كله قبل أن يقتل أنه ممكن في يوم من الأيام أن يعرض هذا المعرض ويشهده الناس في هذا المشهد، وبالتالي تقل الجريمة أو تنعدم. ولذا لو أردنا أن نعد الحدود التي وقعت في زمن النبوة فلن نستطيع أن نعدها على أصابع اليد الواحدة، فكم امرأة أقيم عليها الحد؟ أو كم شخص أقيم عليه الحد بالزنا؟ قلة قليلة جداً، اثنان أو ثلاثة؛ المرأة الغامدية، وماعز الأسلمي، والمرأة التي وقع عليها العسيف الأجير، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله بن أنيس! اذهب إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فهؤلاء ثلاثة قتلوا أو رجموا في الزنا، وهذا الأجير العسيف أقيم عليه حد الجلد؛ لأنه لم يكن محصناً، وقد وردت السنة بهذا. أما القتل فقلة قليلة جداً، بل أقل من ذلك، وكذلك شرب الخمر قلة قليلة، مع أن الصحابة رضي الله عنهم ما أتى إليهم النبي إلا وهم يرزحون تحت نير الخمر، لكن لما نزلت آيات التحريم الصريحة سالت أودية المدينة بقدور الخمر، لكن قد يقول قائل: أنا أشرب سجائر ولا أستطيع تركها، أشربها وعمري سبع سنوات، وأنا الآن في ثلاث وخمسين سنة، وماذا يعني ذلك؟ ألا توجد عزيمة وإرادة؟! ألا تخاف من الله يا أخي؟! ثم أيها أعظم: الخمر أم السجائر؟ إن الصحابة رضي الله عنهم كان شرابهم الخمر، لكن عند أن نزل التحريم استجابوا لله تبارك وتعالى، وانتهى الكل عن شرب الخمر، مع أن كل واحد منهم كان عنده قدور من الخمر، ومع ذلك أخذها وصبها في سكك المدينة، حتى أصحبت الشوارع كلها مبتلة هنا وهناك؛ لأنهم يعلمون قدر الله عز وجل، وعظم الأمر الموجه إليهم من السماء، ويعلمون من الإله الحق الذي يعبدونه؟ إنه صاحب الأمر والنهي، ولو أمر الله تعالى الصحابة أن يخرجوا من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم والله لخرجوا وما توقفوا، بل وقد خرجوا، فهناك حالات خروج، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن اسلول خرج من أبيه، وهو الذي طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل أباه المنافق الذي قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، فوقف عبد الله لأبيه على مشارف المدينة، وقال: أأنت الذي قلت: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ ثم قال له: والله إنك الذليل ورسول الله هو العزيز، ولد يكلم أباه بهذا الخطاب؛ لأنه قد خرج منه وباعه لله عز وجل: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، هذا هو الإيمان الحق. [قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه، ونهاه عن أكل الشجرة، وقد علم أنه سيأكلها، وخلق إبليس لمعصيته ولمخالفته فيما أمره به من السجود لآدم وأمره بالسجود، وقد علم أنه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما أمر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم أنه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وأرسل إليه موسى يأمره بالتوحيد لله والإقرار له بالعبودية، وهو يعلم أنه لا يقبل، فحال علمه فيه دون أمره]. أي: فنفذ في فرعون علم الله ولم ينفذ فيه أمره. قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها]، أي: الطاعة بعد التوبة.

كلام الإمام النووي في المراد بالتقدير في قوله عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)

كلام الإمام النووي في المراد بالتقدير في قوله عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي) لما ذكر الإمام النووي عليه رحمة الله هذه الأحاديث التي ذكرناها قال: المراد بالتقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم منه أنه مجبور على ذلك، إذ إن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة. وإنما معنى التقدير في قوله: (أتلومني على أمر قدره الله علي) أي: كتبه الله علي، إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أأنا أقدم أم الذكر؟ قال: الذكر، إذاً أنت قرأت في الذكر أنني سأفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً. قال: وفي صحف التوراة وألواحها، أي: كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة، وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه، فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أنه في التوراة التي نزلت على موسى أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة. قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)، فهذه الرواية مصرحة ببيان المراد بالتقدير، وأنه الكتابة. والكتابة مرتبة من مراتب القدر، وهي متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ. ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر. ولم يزل سبحانه مريداً لما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر. قال: (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا قد كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلابد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل. فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي، لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تجد شخصاً يشرب الخمر فتقول له: يا فلان! لماذا تعمل ذلك؟ فيقول: هذا مقدر علي! فيحتج بالقدر على المعصية، والمتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، كأن يمرض شخص فيقول له آخر: لماذا يا أخي! مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن هذا المرض لا يملكه وليس سبباً فيه.

السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

شرح كتاب الإبانة - السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه كتب الله سبحانه وتعالى السعادة أو الشقاء لعبده وهو في بطن أمه، وقدر له رزقه وأجله وخَلقه وخُلقه كذلك وهو في بطن أمه، فيجب الإيمان بذلك، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة، والكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان أوضح من الشمس في رابعة النهار في ذلك.

باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة

باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني: باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه]، أي: من كان مكتوباً له السعادة والشقاء وهو في بطن أمه [ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].

رواية عبد الله بن مسعود أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

رواية عبد الله بن مسعود أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه اعتمد الإمام في صحة هذا التبويب على حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: [(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه الملك بأربع كلمات: رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، قال النبي عليه الصلاة والسلام: فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب -أي: في اللوح المحفوظ- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)]. وفي رواية: [(إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة) -ففي الرواية الأولى: (أربعين يوماً)، وفي الرواية الثانية: (أربعين ليلة) - (ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً؛ فيؤمر بأربع كلمات فيقول: اكتب عمله، وأجله ورزقه وشقياً أو سعيداً، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع -يعني: في آخر أيام حياته-، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيختم له بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة). ومن طريق أبي داود صاحب السنن قال: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا حسين بن محمد عن فطر بن خليفة عن سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. قال أبو داود: قلت لـ أحمد: حديث: (يجمع المرء في بطن أمه)؟ قال: نعم]. كأن الإمام أحمد قال في طريقه: قال ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق وسكت، فسأله أبو داود: أتقصد حديث: يجمع المرء في بطن أمه أربعين يوماً نطفة؟ قال: نعم. قال: [قال أحمد: قص حسين -أي: حسين بن محمد - نحو حديث الأعمش]. وبعض الناس يتصور أن حديث ابن مسعود ليس له إلا طريق واحدة، وهي طريق سليمان بن مهران الأعمش الكوفي، وفي الحقيقة أنه قد تابعه كثرة من الرواة. [وفي رواية: (إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه لأربعين، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيكتب أربعاً: أجله وعمله ورزقه وشقياً أو سعيداً، قال عبد الله -أي: ابن مسعود -: فوالذي نفس محمد بيده! إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه عمل أهل السعادة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه عمل أهل الشقوة فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). وعن أبي داود السجستاني قال: حدثنا محمد بن يزيد الأعور -وهو الإمام الزاهد- قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جالساً مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقلت: يا رسول الله! حديث عبد الله بن مسعود الصادق المصدوق، وأريد حديث القدر؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا -والله الذي لا إله إلا هو- حدثته به)]. وهذه رؤيا منامية. [قال: (فأعادها ثلاثاً -أي: أعاد الأعور نفس السؤال ثلاث مرات على النبي عليه الصلاة والسلام- وهو يقول: أنا -والله الذي لا إله إلا هو- حدثته به). قال: [(غفر الله للأعمش كما حدث به، وغفر الله لمن حدث به قبل الأعمش، وغفر الله لمن حدث به بعد الأعمش)]. وهذه رؤيا منامية، ولا شك أننا لا نتكل عليها؛ لأن الرؤى مبشرات فقط، ولا يعتمد عليها في إثبات حكم أو رد حكم، فضلاً عن مسائل الاعتقاد.

رواية حذيفة بن أسيد أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

رواية حذيفة بن أسيد أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قال: [وعن حذيفة بن أسيد الغفاري -بعض الناس يقول: أُسَيد وهو أَسِيد مكبر- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استقرت النطفة في الرحم بعث الله إليها ملكاً موكلاً بالأرحام، فيقول: يا رب! ما أكتب؟! أذكر أو أنثى؟ قال: فيقضي الرب ويكتب الملك، ثم يقول: رب! أشقي أم سعيد؟ قال: فيقضي الرب ويكتب الملك، ثم يكتب مصائبه ورزقه وأجله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء خمس يكن في الرحم -يعني: يكتبن على ابن آدم وهو في رحم أمه- لا يزاد فيهن ولا ينقص منهن). وعن أبي الزبير أن عامر بن واثلة أبا الطفيل حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره -يعني: اعتبر بما نزل على غيره-. قال: فأتى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثته بذلك من قول ابن مسعود، فقلت: كيف شقي بغير عمل؟! -شقي وسعيد وهو لا يزال في بطن أمه! فكيف يكتب عليه الشقاء بغير عمل؟ - قال: فقال: تعجب من ذلك؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها)]. وكل ذلك بعد اثنين وأربعين، وهذا يؤيد من ذهب إلى أن نفخ الروح عند الأربعين، وبعضهم قال: نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وهذه المسألة فيها نزاع عظيم جداً، والطب الحديث -وإن كنا لا نعتمد عليه- لما كان هذا ميدانه معظم التقارير الطبية في هذا الزمان تثبت أن نفخ الروح يكون بعد الأربعين، ويصورون الأجنة عن طريق تلك المكينات الحديثة وهو يتحرك بعد الأربعين؛ مما يقوي هذا الرأي. وقد سمعت الشيخ ابن عثيمين عليه رحمة الله وقد سألته امرأة حملت -وتعدى حملها أربعين يوماً- فقالت: أنا حامل وعندي عذر في إسقاط الجنين بالإجهاض، فهل يحل ذلك لي؟ قال: إذا كان حملك قبل الأربعين ودعتك الضرورة للإجهاض؛ فبها ونعمت، وإذا كان ذلك بعد الأربعين فلا يحل لك مع قيام العذر حتى وإن تسبب الحمل في موتك. فهذه المسألة محل نزاع، ولا نستطيع أن نقضي بأرجحية أحد الرأيين على الآخر: هل نفخ الروح بعد المائة والعشرين يوماً، أو بعد الأربعين، ولا شك أن الاحتياط لدين المرء اعتباره أن نفخ الروح يكون بعد الأربعين، هذا هو الاحتياط؛ لأنه سيترتب عليه أحكام شرعية لا يمكن الاحتياط لها إلا باعتبار هذا الرأي، وعدم رد الرأي الثاني. قال: [إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، فقال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي الرب ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على أمره ولا ينقص). وعن سفيان عن عمرو بن دينار أنه سمع أبا الطفيل - عامر بن واثلة الأسقع - يخبر عن حذيفة بن أسيد الغفاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعد ما استقرت في الرحم أربعين أو خمساً وأربعين -أي: أربعين يوماً أو خمسة وأربعين يوماً- فيقول: يا رب! أذكر أو أنثى؟ فيقول الله عز وجل؛ فيكتب، ثم يقول: يا رب! أشقي أو سعيد؟ فيقول الله؛ فيكتب، ثم يكتب مصيبته -أي: المصائب والبلايا التي تنزل بالعبد- وأثره ورزقه وعمله، ثم تطوى الصحف؛ فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص). قال حذيفة بن أسيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقضي الله عز وجل ويكتب الملك)]. جاء اثنان وأربعون، وثلاثة وأربعون، وخمسة وأربعون، ونيف وأربعون، فكل هذه اختلافات تحتمل، والأمر فيها سهل؛ ولذلك أتت رواية بضع وأربعين.

رواية جابر بن عبد الله أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

رواية جابر بن عبد الله أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قال: [وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت النطفة في الرحم؛ مكثت فيها أربعين يوماً أو أربعين ليلة، فإذا أذن الله عز وجل بخلقها -يعني: قدر لها الخلق أن تكون ولداً: بنتاً أو غلاماً- قال الملك: رب! أجله؟ قال: كذا وكذا، قال: رب! رزقه؟ قال: كذا وكذا، قال: رب! شقي أو سعيد؟ قال: كذا وكذا)]. يعني: إما أن يكتب الملك: شقي أو سعيد.

رواية أنس بن مالك أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

رواية أنس بن مالك أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قال: [وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وكَّل بالرحم ملكاً، فيقول: يا رب! نطفة، يا رب! علقة، يا رب! مضغة، فإذا أراد الله خلقه قال: أي رب! ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك كله في بطن أمه)]. أي: فيكتب ذلك كله ولا يزال في بطن أمه.

رواية عبد الله بن عمرو أن الله خلق خلقه في ظلمة

رواية عبد الله بن عمرو أن الله خلق خلقه في ظلمة قال: [وعن عبد الله بن الديلمي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل؛ فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل). وذلك لأن هذا موجود في الظلمة لا يعلمه أحد، وإنما يعلمه الله عز وجل. [وعن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو في حائط له بالطائف يقال له: الوهط، فقلت: خصال بلغتنا عنك أردت مساءلتك عنها، وفي رواية: فقلت: خصال بلغتنا عنك تحدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أريد أن أستوثق منك فيها- أنه قال: (الشقي من شقي في بطن أمه؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل خلق خلقه في الظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه من النور يومئذ شيء فقد اهتدى، ومن أخطأه ضل؛ فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام معرضاً -أي: متوجهاً للسؤال إلى الله، يقال: اعترض فلان فلاناً، أي: اعترضه بالسؤال، وقام إليه بالاستفسار، فاعتراض الملك إنما هو في السؤال- يا رب! أذكر أم أنثى؟! فيقضي الله إليه أمره، ثم يقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها)]، يعني: حتى المصيبة والبلاء الصغير يكتبه الملك.

رواية أبو هريرة أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه

رواية أبو هريرة أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه)]. أي: السعيد من كتبت له السعادة ولا يزال في بطن أمه، والشقي من كتبت عليه الشقوة وهو لا يزال في بطن أمه بغير عمل؛ لأن الله تعالى علم قبل أن يخلق هذا العبد أنه سيختار طريق الشقاوة؛ فكتبه شقياً، وعلم الله تعالى قبل خلق هذا العبد أنه سيختار طريق السعادة ويهتدي فكتبه سعيداً، وهذا راجع إلى علم الله الأزلي، وأنتم تعلمون أنه لا يصح للعبد أن يقول: لم كتبني شقياً؟ لأنه على المقابل إذا جوزنا للشقي أن يسأل؛ فلابد أن نجوز للسعيد أن يسأل، فلما لم يكن هذا من السعيد فكذلك يمتنع أن يكون من الشقي. وقد أفرغ الله تعالى حجة الشقي في اعتماده واتكاله على القدر، وأن شقاوته بقدر؛ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمييز المتعلق بالتكليف، فلما كان هذا كله بين يدي العبد فلا يحل له بعد ذلك أن يعترض على الله عز وجل.

رواية ابن مسعود أن الله كتب السعادة ليحيى بن زكريا والشقاء لفرعون

رواية ابن مسعود أن الله كتب السعادة ليحيى بن زكريا والشقاء لفرعون قال: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله عز وجل يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً)]. يعني: كلاهما مكتوب عنه: هذا من أهل السعادة، وذاك من أهل الشقاوة، علم الله ذلك من فرعون، ومن يحيى بن زكريا، أي: علم الله تعالى أن من عباده يحيى بن زكريا، وأنه سيكون مؤمناً؛ فكتبه مؤمناً، وعلم الله تعالى أن من عباده فرعون، وأنه سيختار طريق الشقاء؛ فكتبه شقياً كافراً قبل أن يخلقه، فلما علم الله ذلك كتبه وقدره على يحيى وعلى فرعون.

قول عبد الله بن عمرو في أن الله يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه أنه شقي أو سعيد

قول عبد الله بن عمرو في أن الله يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه أنه شقي أو سعيد قال: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين يوماً جاءها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل، فقال: اخلق يا أحسن الخالقين! فيقضي الله عز وجل فيها ما شاء من أمره، ثم تدفع إلى الملك، فيسأل الملك عند ذلك: أسقط أم تم؟ -يعني: هل هذا سيكتب له التمام ويولد أم أنه سينزل سقطاً؟ -فيبين له، ثم يقول: يا رب! أواحد أم توأم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! اقطع برزقه مع خلقه، فيهبط بهما جميعاً. فوالذي نفسي بيده! ما ينال من الدنيا إلا ما قسم له، فإذا أكل رزقه قبض]. يعني: إذا أكل كل ما كتبه الله تعالى له من رزق؛ قبضه الله إليه. وهذا الأثر وغيره مما يدور في فلكه لا أدري ما صحتها.

أقوال عبد الله بن مسعود في أن الشقي من شقي في بطن أمه

أقوال عبد الله بن مسعود في أن الشقي من شقي في بطن أمه وكذلك ثبت [عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الشقي من شقي في بطن أمه، وإن السعيد من وعظ بغيره. وعنه قال: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا -أي: فاتبعوا الكتاب والسنة، ولا تبتدعوا في دينكم- فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. وقال أيضاً: يا أيها الناس! إنكم لمجموعون في صعيد -أي: في ناحية واحدة- يسمعكم الداعي، وينفذكم البصر، ألا إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. وعن عبد الله بن ربيعة قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود فذكر القوم رجلاً، فذكروا من خلقه، فقال عبد الله: أرأيتم لو قطعتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تعيدوه؟! قالوا: لا، قال: فيده؟ قالوا: لا، قال: فرجله؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تستطيعون أن تغيروا خُلُقَه حتى تغيروا خَلْقَه، إن النطفة لتستقر في الرحم أربعين ليلة، ثم تنحدر دماً، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم يبعث الله إليه ملكاً؛ فيكتب رزقه وخَلْقه وخُلُقه وشقياً أو سعيداً. وقال عبد الله: عجب للنساء اللاتي يعلقن التمائم تخوف السقط]. فـ عبد الله بن مسعود يتعجب من المرأة التي تضع التمائم الشركية على صدرها؛ حتى يتم لجنينها الخلق وينزل ولادة لا سقطاً حسب زعمها. قال: [والذي لا إله غيره لو بطحت -يعني: لو أن أحداً أخذها وبطحها في الأرض وهي حامل- ثم وطئت عرضاً وطولاً ما أسقطت؛ حتى يكون الله عز وجل هو الذي يقدر ذلك لها. ثم قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم التي يكون منها الولد طارت تحت كل شعرة وظفر، فتمكث أربعين ليلة، ثم تنحدر فتكون مثل ذلك دماً، ثم تكون مثل ذلك علقة، ثم تكون مثل ذلك مضغة].

ما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن رسول الله أنه يكتب الشقاء أو السعادة للجنين وهو في بطن أمه

ما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن رسول الله أنه يكتب الشقاء أو السعادة للجنين وهو في بطن أمه [وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة أتاها ملك الأرحام معرضاً فقال: أي رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره، ثم يقول: أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق؛ حتى النكبة ينكبها)]. [وقال عبد الله بن عمر: مكتوب بين عيني كل إنسان ما هو لاق حتى النكبة ينكبها].

سبب نزول قول الله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)

سبب نزول قول الله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في القدر -يعني: جادلوه في القدر-، فنزل قول الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49])].

حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد الأربعين يوما

حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد الأربعين يوماً ساق الإمام مسلم عليه رحمة الله جملة عظيمة جداً من أحاديث هذا الباب، وأظن أن معظم ما في مسلم قد أورده ابن بطة في هذا الكتاب. وهناك روايات عند الإمام مسلم مختلفة في السياق والتمام والنقصان عما في هذا الكتاب، وأعظم نكتة في الحديث يعتمد عليها من قال بأن الروح تنفخ بعد الأربعين قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، فتوقفوا عند قوله: (ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، فيقولون: تنفخ الروح قبل هذه الأطوار، ويقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ويعتمدون على هذا النص الزائد: (ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، يعتمدون على الاختلاف في هذه الرواية في إثبات أن الروح تنفخ بعد الأربعين، والإمام النووي عليه رحمة الله يرد ذلك. قال: (ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث. فلما اختلفت الروايات بين الثلاثة أشهر أو هذه الأطوار، ورواية الأربعين يوماً أو نيف وأربعين؛ قال العلماء: طريق الجمع بين هذه الروايات: أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة، وأنه يقول: يا رب! هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها، ولا يعني ذلك: أن الروح تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، وهذا ظاهر النص، فالملك فقط يقول ذلك من باب الإخبار، والله تعالى أعلم بحال خلقه، فإذا كان نطفة قال الملك: يا رب! هذه نطفة، لا من باب أنه يخبر الله تعالى، وإنما هو يخبر عن حالها: هذه نطفة هذه علقة هذه مضغة، فهذا لمجرد الخبر، فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى؛ وهو أعلم سبحانه.

حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد المائة والعشرين يوما

حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد المائة والعشرين يوماً ولكلام الملك وتصرفه أوقات: أحدها: حين يخلقها الله تعالى نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد؛ لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، فمنها ما يكون سقطاً، وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته، ثم للملك فيه تصرف آخر، وفي وقت آخر، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه، وكونه ذكراً أم أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته، هذا ما ترجح لدى الإمام النووي، وأن الروح لا تنفخ إلا بعد أربعة أشهر، أو يقل قليلاً أو يزيد قليلاً، ويعتمد في ذلك على قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:12 - 14]، ثم يكون للملك فيه تصوير آخر، وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة، حين يكمل له أربعة أشهر. ثم يزعم الإمام النووي اتفاق أهل العلم على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وفي الحقيقة نقل اتفاق أهل العلم على ذلك ليس سديداً، فهناك من العلماء من خالف ذلك. ووقع في رواية البخاري: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه)، فاعتمد على قوله: (ثم ثم ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي.

سبيل معرفة باب القدر التوقيف على ما ورد في الشرع

سبيل معرفة باب القدر التوقيف على ما ورد في الشرع يقول النووي: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر -أي: وعدم رده وإنكاره- وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره: خيرها وشرها، ونفعها وضرها، وقد سبق في أول كتاب الإيمان قطعة صالحة من هذا، في قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء. يعني: هذا الخلق جميعاً والكون جميعاً ملك لله يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو المالك الحقيقي لهذا الكون. قال: ولا اعتراض على المالك في ملكه؛ ولأن الله تعالى لا علة لأفعاله. هكذا قال الإمام النووي، فإذا كان يقصد من ذلك: أن أفعال الله تعالى لا تعتمد على الحكمة؛ فهذا بعيد جداً، وإذا كان يقصد أنه لا يجوز لأحد أن يسأل عن علة القدر، وأن القدر كله معلوم لله تعالى، وقد قدره قبل أن يخلق الخلق، ولكنه أخفى العلة عن الخلق؛ فهذا المعنى صحيح. قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب -أي: باب القدر- التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول. فاحفظ هذا؛ لأنه أقوى كلام في القدر، وهو مذهب سلف الأمة. قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة. يعني: لا تتعدى قال الله وقال رسوله، وقد قال رسوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يرسل الملك فيؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، آمنَّا بأن الشقاوة والسعادة في بطن الأم؛ وذلك لأننا اعتمدنا على النص، والنص توقيف؛ فلا يجوز لنا بعد ذلك أن نقحم عقولنا في هذا الباب؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل. قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه -أي: من انحرف عن الكتاب والسنة- فقد ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار -يعني: ستر الله تعالى عنَّا سره في القدر- واختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة. إذاً: كل أفعال العباد إنما صدرت لحكمة علمها الله عز وجل. قال: وواجبنا أن نقف حيث حد لنا. أي: حيث جعل الله لنا حداً نقف عنده، ولا نخوض بعد ذلك لا بالقياس ولا بالعقل خاصة في باب القدر، فيجب الإيمان والتسليم بغير سؤال عن الحكمة. قال: ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم -أي: عالم الإنس والجن- فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. أي: لا الأنبياء ولا الملائكة يعلمون سر الله في القدر؛ لأن هذا مما اختص الله تعالى به نفسه. قال: وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، والله أعلم.

العمل مطلوب، ولا يجوز الاتكال على القدر

العمل مطلوب، ولا يجوز الاتكال على القدر وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال، كما في الحديث: (يا رسول الله! ندع العمل ونعتمد على القدر المكتوب؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له). قال: ففيها النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له -فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة- لا يقدر على غيره، ومن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعملهم، كما قال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]، وكما قال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، وكما صرحت بذلك الأحاديث. وفي روايات: (جفت الأقلام، وطويت الصحف)، ومعنى (جفت الأقلام) أي: مضت المقادير، وذهبت وانتهى أمرها. قال: وسبق علم الله تعالى به، وتمت كتابته في اللوح المحفوظ، وجف القلم -أي: قلم القدرة- الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان. يعني: هذا المكتوب يمتنع فيه الزيادة والنقصان. قال: قال العلماء: وكتاب الله تعالى، ولوحه، وقلمه، والصحف المذكورة في الأحاديث؛ كل ذلك مما يجب الإيمان به. وأما كيفية ذلك وصفته فعلمها إلى الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].

الأسئلة

الأسئلة

حكم من صلى الوتر بعد العشاء وأراد قيام الليل

حكم من صلى الوتر بعد العشاء وأراد قيام الليل Q شخص خاف ألا يستيقظ ليصلي الوتر، فصلى الوتر ثم نام، ثم استيقظ، فهل يجوز له أن يصلي بعد الوتر صلاة قيام الليل؟ A هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، ولم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي بعد الوتر شيئاً إلا أنه كان يصلي ركعتين وهو جالس صلى الله عليه وسلم، فالسنة فيهما الجلوس حتى في القادر على القيام، ومن شاء المزيد فليرجع إلى فقه السنة، أو صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام في باب قيام الليل. وبعض أهل العلم أجاز الصلاة بعد الوتر، وأنه لا يوتر في آخر صلاته، وإنما يكتفي بالوتر الذي أوتر به في أول الليل؛ لأنه لابد أن يتم في الليلة وتر واحد، فمن صلى ركعة أو ثلاث ركعات في أول الليل ثم نام واستيقظ فأتى بركعتين؛ فيكون مجموع الصلاة ثلاث ركعات، أو أتى بأربع فيكون مجموع الصلاة خمساً، أو أتى بست فيكون مجموع الصلاة سبعاً، وهكذا حتى يكون في آخر الليل قد صلى وتراً، بمعنى: أنه صلى سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة، أو زاد على ذلك، المهم ألا يتجاوز العدد الفردي. قالوا: وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة)، وهذا قد أوتر، وصلاته كلها وتر، بمعنى: أنها عدد فردي، هكذا فهموا الحديث على أن الصلاة لا تتجاوز الوتر، بمعنى: ألا تكون شفعاً: عشراً أو اثنتي عشرة أو أربع عشرة بل تكون وتراً: ثلاثاً، خمساً، سبعاً، تسعاً، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، خمس عشرة وهكذا، فهذه الصلاة يطلق عليها الوتر. لكن جمهور أهل العلم على أن قوله: (واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). أي: ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات مجموعات، ويفسره قوله الصريح عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الفجر فأوتر بواحدة)، وهذا هو الرأي الذي يترجح لدي.

حكم من قال لزوجته: إذا فعلت كذا كان هذا فاصلا بيني وبينك

حكم من قال لزوجته: إذا فعلت كذا كان هذا فاصلاً بيني وبينك Q قلت لزوجتي: إذا أخذت هذه الحقنة فإن هذا سوف يكون فاصلاً بيني وبينك، وكنت أقصد الطلاق، فهل إذا أخذت زوجتي هذه الحقنة تكون طالقاً؟ A الحقيقة أن الأخ دخل في باب لا يحسنه، وقوله هذا يحتاج إلى النية، فهو يقول لامرأته: لو أخذت الحقنة فإن هذا سيكون فاصلاً بيني وبينك، فهل كلمة (فاصل) من ألفاظ الطلاق الصريحة؟ لا، ألفاظ الطلاق الصريحة مثل: أنت طالق. فقوله: (هذا فاصل بيني وبينك) أرجح الأقوال فيه: أنه طلاق ضمني يحتاج إلى نية الحالف، كأن يقول الرجل لامرأته: اخرجي من بيتي، فقوله هذا إعلام وإخبار بأن هذا البيت بيته هو وليس بيتها، فربما يقصد هذا، وربما يقصد الطلاق، فلا يعرف المعنى إلا بالنية؛ ولذلك يسأل الذي قال هذا الكلام عن نيته فيه. ورد في السنة أن ابنة الجون قالت لها عائشة وحفصة: (إذا دخل عليك النبي عليه الصلاة والسلام فقولي: أعوذ بالله منك؛ فإنه يحب ذلك، فلما دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك)، وكان هذا منه طلاقاً عليه الصلاة والسلام. فكلمة: (الحقي بأهلك) على مقصود القائل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد طلاقها فطلقت، لكنه إذا قصد شيئاً آخر فلا يعد طلاقاً، فالألفاظ الضمنية تحتمل وقوع الطلاق وتحتمل وقوع غير الطلاق، فإذا كان اللفظ يدور بين احتمالين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة فلا بد أن يحدد الغرض والقصد من هذا اللفظ، ولا يكون ذلك إلا عن طريق المتكلم، فيسأل هذا الرجل: إن كنت تقصد بهذه الكلمة الطلاق -حيث قال: إنه يقصد الطلاق- فإنه إذا أخذت زوجتك هذه الحقنة تكون طالقاً؛ لأنك قصدت الطلاق، فالطلاق المعلق على شرط يقع بوقوع الشرط، وهذا الطلاق لا كفارة له، وهو الشيء الوحيد الذي لا كفارة له، فلو فعل الرجل بامرأته أي شيء من ضرب أو شتم أو غير ذلك كل ذلك له علاج، إلا لفظة الطلاق، لو أراد المطلق أن يكفر عن ذنبه لا يمكن، ولو قدم مائة ألف شاة، فالطلاق قائم ومعلق على شرط، وأما إذا قال: إنه لم يقصد الطلاق فنقول له: لا يجوز التلاعب بألفاظ الشرع.

كيفية صلاة من كان يعمل مندوبا ويسافر باستمرار

كيفية صلاة من كان يعمل مندوباً ويسافر باستمرار Q أعمل مندوباً، وأسافر باستمرار، ويؤذن المؤذن أثناء السير في الطريق، فهل ننزل ونصلي مع الجماعة أم ننتظر أنا والسائق ونُصلي قصراً؟ وهل في صلاة المغرب والصبح صلاة سنة وأنا على سفر؟ وهل يجوز أن أجمع الظهر مع العصر حتى وإن أذن علينا هنا في القاهرة في وطننا الأصلي؟ A النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن لصلاة الظهر قبل السفر صلى الظهر وأخر العصر إلى أن يؤذن، فينزل في منزله ويصلي العصر، لكنه كان يصلي الظهر في وقته صلاة تامة في بلد الإقامة، وكان يؤخر العصر ويصليه قصراً في طريق السفر، أو في البلد الذي وصل إليه. وإذا أردت أن تؤخر الظهر إلى العصر فإنما يكون ذلك في حال السفر قبل أذان الظهر، فإذا انطلقت في السفر قبل أذان الظهر وأذن المؤذن للظهر فلك أن تؤخره حتى تجمعه مع العصر. وأما السنة في السفر عموماً لا تصلى إلا سنة الفجر والوتر وقيام الليل، ومن صلاها فلا إثم عليه ولا حرج. وإذا كان لا يمكنه صلاة العصر في وقتها بسبب طول السفر فلا بأس أن يجمع في الحضر ويصلي أربعاً، يصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً، ونعتمد لذلك على حديث ابن عباس، وشيخنا الشيخ محمد عبد المقصود يذهب إلى أن الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ولكن مذهب كثير من أهل العلم أنه جمع حقيقي، أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: حتى لا يحرج أمته، يعني: حتى يرفع عنها الحرج.

الحكمة من تكليف الله عز وجل للملائكة بمراقبة أعمال العباد

الحكمة من تكليف الله عز وجل للملائكة بمراقبة أعمال العباد Q إذا قدر أن العبد سعيد أو شقي حتى النكبة كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فلم كلف الله عز وجل الملائكة بمراقبة أعمال العبد بعد ولادته؟ A حتى تقام عليه الحجة من صحيفته، فهو يأخذ صحيفته بيده يوم القيامة مكتوباً فيها أعماله جميعاً وأقواله، فيقرؤها ولا يستطيع أن ينكر شيئاً منها، فإن هم بالإنكار؛ ختم على فيه ونطقت جوارحه. وقد قلنا سابقاً: إن الأصل ألا يسأل أحد في القدر.

الحكم المترتب على من حلف أيمانا متعددة على شيء واحد

الحكم المترتب على من حلف أيماناً متعددة على شيء واحد Q شخص حلف يمينين متتاليين على شيء واحد في وقت واحد، فهل يكفر عن يمين واحدة أم عن ثنتين؟ A الواجب عليه أن يكفر عن كل يمين حلفها، فلو حلف على شيء واحد عشرة أيمان يكفر عن عشرة أيمان إذا حنث، وهذا الذي استظهره ابن قدامة في المغني.

حكم العمل كصحفي في مجلة قطر الندى

حكم العمل كصحفي في مجلة قطر الندى Q ما حكم الإسلام في العمل كصحفي في مجلة قطر الندى؟ A من اسمها أرى أنها مجلة جيدة، أو كذلك مجلة الوعي الإسلامي، وأما صحف الأهرام وأخبار الجمهورية وأمثالها فلا يجوز العمل فيها، وإذا كان الله سبحانه وتعالى وقد بسط لك في الفكر والفهم وبسط قلمك؛ فساعد أخاك أبا إسلام أحمد عبد الله في صوت بلدك، فهي مجلة رائعة، نسأل الله أن يوفق القائمين عليها.

حكم قصر الصلاة لمن هو مقيم في بلد ويريد السفر إلى بلد أخرى

حكم قصر الصلاة لمن هو مقيم في بلد ويريد السفر إلى بلد أخرى Q أنا مقيم في القاهرة، وأهلي مقيمون في الغربية، فكيف أقصر الصلاة، وما هي مسافة القصر؟ A مسافة القصر فيها نزاع بين أهل العلم، والذي يترجح لدي مذهب المحققين من المحدثين أن مسافة القصر متعلقة بالعرف، فإذا قال أهل العرف: إن هذه المسافة سفر وإن قلت عن ثمانين كيلو؛ استخدمت الرخص، وإن قال العرف عن مسافة: ليس سفراً؛ وإن زادت عن ألف كيلو امتنعت الرخص، هذا الذي يترجح لدي. وبعض أهل العلم يذهب إلى أن الرجل له عدة مواطن، لكن هذا ليس موطنك وإنما هو موطن أهلك، فأنت تبيت في الغربية يوماً ويومين وثلاثة وأربعة، فإذا نويت المكوث أكثر من أربعة أيام أتممت من أول يوم؛ لأن مذهب الجمهور أن مدة القصر أربعة أيام، وهو الراجح عندي. فإذا كنت تريد أن تمكث أسبوعاً أو أكثر من أربعة أيام على العموم تتم من أول لحظة، ولا يحل لك القصر إلا في أثناء الطريق، لكن لو كنت ذاهباً لزيارة أهلك يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة بالكثير ثم ترجع بعد ذلك؛ ففي هذه الحالة لك أن تقصر في الغربية وفي أثناء الطريق، وأما أكثر من ذلك فلا. والبعض اعتمد على حديث لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لرجل أن يقصر صلاته في بلد له فيه أهل أو مال)، وهذا حديث ضعيف باتفاق المحدثين.

حكم من أدرك التشهد الأخير مع الإمام

حكم من أدرك التشهد الأخير مع الإمام Q صليت خلف الإمام وأدركت التشهد الأخير؛ فهل تحسب لي صلاة الجماعة؟ وما هي أعلى درجات الحديث صحة: المتفق عليه أم المتواتر؟ A بل المتواتر، وأما إدراك الصلاة إذا أدركت الإمام في التشهد الأخير؛ فهذا محل نزاع بين أهل العلم، والذي يترجح لدي أن من أدرك الإمام قبيل التسليم ولو بلحظة تحسب له جماعة. وبعضهم يقول: لا تحسب للمرء جماعة إلا إذا أدرك ركعة كاملة من الصلاة.

حكم العمل في مجال الديكور لرجل نصراني

حكم العمل في مجال الديكور لرجل نصراني Q أنا أعمل في مجال الديكور، فهل يجوز أن أعمل ديكوراً لرجل نصراني في بيته أو في محله؟ مع العلم أنني لا أنفذ شيئاً قد نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام؟ A لا بأس بذلك.

الآثار المترتبة على تسلط الكفار على المسلمين

الآثار المترتبة على تسلط الكفار على المسلمين Q منذ ثمانية أشهر بدأت النكبات والفتن، وكنت أقابلها بجهالة وضيق؛ حتى أحسست بوحشة في القلب، وأخذت أعود إلى الله حتى أحسست بعودتي مرة أخرى، ولكن غلبتني نفسي وعدت إلى الحالة الأولى ومنها تبلد تام: وضيق وألم في الصدر، وفتور في العزيمة، وعدم القدرة على تحديد الهدف، وضعف في القدرات العقلية، وكثرة الوساوس؟ A كل هذا بسبب تسلط الكفار على المسلمين، فضيق الصدر جداً لما حل بالأمة من فتن ونكبات وغير ذلك من تسلط الكافرين. وخطبة الجمعة الماضية فيها الكفاية للإجابة عن هذا السؤال.

حكم تلف بضاعة اؤتمن عليها شخص

حكم تلف بضاعة اؤتمن عليها شخص Q أعمل في مصنع، ويقوم صاحبه بخصم ثمن ما قد يفسد من البضائع أثناء العمل نتيجة خطأ غير متعمد، أو نسيان أو إهمال، فهل هذا جائز في كل هذه الحالات؟ A يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم قرر لنا قاعدة، وهي أن الأمين غير ضامن، فأنت عندما تأتي وتضع عندي شيئاً فأنا غير ضامن لهذا الشيء إذا تلف أو فسد؛ لأنني متصدق عليك بالحفاظ على هذا الشيء، فلا يقابل هذا بالغرم إلا في حالة الإهمال، والإهمال أو عدمه مرده إلى العرف. فإذا كنُت أعمل في هذا المحل لديك، وبغير تقصير مني مطلقاً فسدت البضاعة؛ كأن صرف الله عنك قلوب الناس وجيوبهم فأنا لا أضمن هذه البضاعة. لكن عندما أترك المحل مفتوحاً مثلاً، وأذهب إلى المسجد ثم أرجع إلى المحل فأجده قد سرق؛ فأنا أضمن هذا؛ لأنني قصرت عرفاً في المحافظة على البضاعة. فالأمين لا يضمن إلا في حالة الإهمال، والإهمال المتعمد من غيره يظهر لدى القانونيين.

حكم ابتلاع المصلي بقايا طعام كانت بين أسنانه

حكم ابتلاع المصلي بقايا طعام كانت بين أسنانه Q ما الحكم إذا ابتلع المصلي بقايا طعام كانت بين أسنانه؟ A لا حرج عليه، وصلاته صحيحة؛ لأن هذا لا يقصد به الطعام لا عرفاً ولا شرعاً، شخص يحرك لسانه بين أسنانه فاستخرج حبة رز أو نحوها فلا شيء عليه.

حكم إتيان الرجل زوجته في دبرها حائضا كانت أو غير حائض

حكم إتيان الرجل زوجته في دبرها حائضاً كانت أو غير حائض Q رجل جامع امرأته في دبرها بدون إنزال، فما الحكم إن كانت حائضاً أو غير حائض؟ A لا علاقة للحيض بإتيان المرأة في دبرها، فسواء كانت حائضاً أم غير حائض؛ فإتيان المرأة في دبرها إثم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك. قال: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها)، وقال: (من أتى امرأة في دبرها فليتصدق بنصف دينار)، وفي رواية: (بدينار)، كأن اختلاف الكفارة متعلق بحال من أتى امرأته في دبرها، فهذه كبيرة من الكبائر، وإثم عظيم من الآثام، ويغفر الله عز وجل لعبده الذي وقع في هذا الإثم إذا تاب من ذلك؛ سواء كان ذلك في حيض أو في غير حيض، ومن المعروف أن المرأة تحيض في قبلها، فلا علاقة لسؤال السائل إذا كان الإتيان هذا في الحيض أم في غير الحيض، ونصف الدينار مائة جنيه تقريباً.

بيان معنى معية الله

بيان معنى معية الله Q ما معنى: في معية الله؟ A يعني: أن الله تعالى معك: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]. معية الله تعالى لعبده لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، ولكن على أية حال معية الله تعالى معية علم وسمع وإحاطة ورعاية وغير ذلك، هذا كله من معاني المعية، ولا يبعد أن يكون الله تعالى مع عبده معية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

حكم تكفير الشيعة

حكم تكفير الشيعة Q هل يجوز تكفير الشيعة؟ A لا؛ لا يجوز إطلاق التكفير أو إطلاق هذا الحكم على عموم الشيعة، وإنما يكفر من الشيعة أئمة الضلال كـ الخميني وغيره.

حكم قصر الصلاة لمن كان سائق سيارة يسافر ويرجع في نفس اليوم

حكم قصر الصلاة لمن كان سائق سيارة يسافر ويرجع في نفس اليوم Q أنا سائق أسافر وأرجع في نفس اليوم، فهل يجوز لي القصر في أثناء الطريق وهذه طبيعة عملي؟ A نعم. يجوز، حتى لو كنت سائق (قطار) أو (تكسي) بين المحافظات، فتنزل وتصلي قصراً؛ لأنك في كل الأحوال مسافر، وإن شئت أن تفطر فلك ذلك؛ لأن الشرع جوز لك ذلك.

حكم من لا يصلي الصلاة إلا بعد انقضاء الجماعة لعذر شرعي

حكم من لا يصلي الصلاة إلا بعد انقضاء الجماعة لعذر شرعي Q أعمل في محل أمن ولا أصلي الصلاة إلا بعد انقضاء الجماعة، فما حكم ذلك خاصة أني لا أستطيع أداءها في وقتها؟ A الأصل هو صلاة الجماعة، لكن إذا منعك العذر حقاً أن تلحق بالجماعة؛ فنرخص لك بمذهب الجمهور وهو أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة.

حكم جلوس الخاطب مع خطيبته أو الاتصال بها

حكم جلوس الخاطب مع خطيبته أو الاتصال بها Q هل يجوز للخاطب أن يجلس مع خطيبته مع ذي محرم؟ وإذا جاز فما حكم غض البصر إذاً؟ A الذي نعلمه من كلام أهل العلم أن المخطوبة أجنبية؛ فلا يجوز الجلوس معها، حتى إن الشيخ الألباني رحمه الله وكذلك الشيخ ابن عثيمين لما سئلا: هل يجوز للخاطب أن يتصل بخطيبته هاتفياً أو مراسلة؟ قالا: لا.

حكم عمل المرأة خارج البيت

حكم عمل المرأة خارج البيت Q ما حكم عمل المرأة خارج البيت؟ وهل هناك ضرورة؟ A في الحقيقة يا إخواني! عمل المرأة من أخطر ما يمكن أن يهدد المجتمع، وليس المرأة العاملة فحسب، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، والمرأة في كل الأحوال عاملة، لكن عملها في بيتها، وفي تربية أبنائها، والأصل ألا تخرج المرأة قط من بيتها إلا لضرورة، فإذا خرجت لضرورة جاز لها ذلك مع التزامها بالهيئة والمنظر والآداب الشرعية. وأما إذا خرجت المرأة للعمل تحت هذه الضرورة فالأصل في ذلك الجواز؛ بشرط أن تعمل في مكان تأمن فيه على دينها وعفتها وصيانتها، وألا تخالط الرجال، وتعمل عملاً يتناسب مع طبيعتها ومع هيئتها. أما أن تخرج وتعمل في مدرسة مثلاً فيها مدرسون ونظَّار ومفتشون وهذا ذاهب وهذا آت، وهذا يغمز وهذا يشتم، وهذا يستهين بها وبعفتها وبنقابها وغير ذلك؛ فلا شك أن هذا لا يصلح أبداً، والعجيب أن المقابل لهذا العمل مائة جنيه أو مائتين، والأعجب من ذلك أن المرأة مصرة على العمل، والراتب لا يساوي شيئاً (200) جنيه! هل هذا مرتب مقبول؟ انظر إلى لبسها وحاجتها ومواصلاتها وغير ذلك، فهذا الراتب لا يساوي شيئاً مقابل ذلك. وقد تكون هناك نساء مضطرات للعمل كفقيرة، أو من مات عنها زوجها، أو أي علة من العلل، وعندها ثوب واحد فقط تخرج به كلما حصلت لها مناسبة، أو احتاجت للخروج مثلاً في كل شهرين مرة، فإنه يستمر معها هذا الثوب عشر سنين أو عشرين سنة، وأما أنها تعمل فإنها ولا ترضى بثوب واحد ولا بثوبين ولا بعشرة؛ لأن لها زميلات وأصدقاء، فكلما استلمت راتبها فكرت في حذاء أو في خمار أو في ثوب تلبسه. إذاً: الراتب يذهب في ملابس وعزومات ومواصلات. وبالأمس قلت لأخت تعمل في مكتبة في المقطم ما دمت تلبسين النقاب، وأنت حريصة جداً عليه لماذا خرجت من بيتك؟ قالت: بسبب الظروف، فقلت لها: كم راتبك؟ قالت: ثمانون جنيهاً؛ فقلت لها: هذا الراتب هو الذي أخرجك من بيتك؟! ماذا تفعلين بها؟ إذاً: هذه المرأة واهمة في الخروج، وهمت أنها مضطرة، وهل الشرع فعلاً يقول: إن هذه الحالة التي فيها هذه المرأة حالة اضطرار؟ A لا، وأنتم تعلمون قول أهل العلم: الضرورات تقدر بقدرها، ويقدرها الشرع وليس الإنسان؛ لأن الإنسان لو أطلق له العنان لقال عن كل شيء: ضرورة؛ حتى يبيح لنفسه ولهواه كل ما تشتهي. فالضرورة لا بد أن يقرها الشرع، وأما دون ذلك فلا.

حكم إعطاء الفقير الذي يعمل المنكرات من أموال الزكاة

حكم إعطاء الفقير الذي يعمل المنكرات من أموال الزكاة Q هل يجوز إعطاء أخ فقير لا يعمل من أموال الزكاة، ولكنه ليس ملتزماً ولا يصلي، بل ويعمل المنكرات؟ A لا؛ لا تعطه من أموال الزكاة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـ قبيصة: (يا قبيصة! اعلم أن الصدقة -أي: الزكاة- لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي)، يعني: ذي قوة وساعد يستطيع أن يضرب في الصخر ويأتي بقوته وقوت أولاده، فما بالك بالذي يترك الصلاة ويأتي المنكرات؟! وأنتم تعلمون خلاف أهل العلم فيما يتعلق بتارك الصلاة، وأن مذهب جماهير الصحابة إن لم يكن إجماعاً: أن تارك الصلاة على كل نحو كافر، وهذه المسألة قد استوعبناها، واستوعبها شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين بحثاً، وأظن أنكم قد سمعتم هذه المحاضرات. وأما أخذ الكافر من أموال الزكاة فلا إلا على سبيل التأليف، ومنهم من منعه مطلقاً. وأما حديث: خرج رجل بصدقته، فوضعها في يد زانية في يد غني في يد سارق؛ فهذا في عموم الصدقة وليس في أموال الزكاة.

حكم من مات بسبب الجوع مع أنه قد أعطي طعاما

حكم من مات بسبب الجوع مع أنه قد أعطي طعاماً Q بالأمس كنت أسمع المحاضرة هنا، وفي طريقي إلى المدينة الجامعية وجدت رجلاً مستلقياً على الأرض ذا جلباب أصابته شحوم السيارات وزيوتها، فأشفقت عليه، واشتريت له طعاماً ليأكل فلم يأكل، وظل يقول: إن نعم الله كثيرة، ولم تنجح محاولاتي في أن يأكل، فماذا أفعل له؟ وأنا منذ ذلك اليوم أتألم من منظره وبؤسه، وفي الصباح لم أجده بجوار سور الجامعة، مع العلم أنه كانت هناك حالة كحالته في العام الماضي وتوفي بعد أربعة أيام، فماذا أفعل عند مقابلة هؤلاء؟ وجزاكم الله خيراً! A كأني أفهم من السؤال أن هذا الرجل مات كذلك، فإذا كان قد مات بسبب الجوع وقد عرض عليه الطعام فلم يأكل؛ فقد مات منتحراً. وإذا كان امتناعه عن الطعام أنه ليس جائعاً أو لعلة أخرى؛ فأمره إلى الله عز وجل.

حكم من عليه كفارة وأراد تأديتها لزوجته التي عقد عليها

حكم من عليه كفارة وأراد تأديتها لزوجته التي عقد عليها Q علي كفارة، فهل يجوز لي أن أعطيها لزوجتي المعقود عليها وهي محتاجة، علماً بأنها إذا أخذتها ستأتي بأشياء تعود علي بعد الزواج؟ A لا يجوز لك ذلك؛ لأن أرجح الأقوال أن المعقود عليها نفقتها تلزم العاقد؛ لأنها زوجته، ولا يجوز للمرء أن يعطي كفارته لنفسه؛ لأنه إذا أعطاها للمعقود عليها فإنها تعود إليه، وهذا هو الذي صرح به.

كيفية معالجة الحالات النفسية الناتجة عن فتن شخصية

كيفية معالجة الحالات النفسية الناتجة عن فتن شخصية Q كيف يتم معالجة الفتن الشخصية التي أدت بي إلى حالة نفسية، وعدم القدرة على السيطرة على النفس؟ A ثبت في البخاري: أن عمر بن الخطاب قال: (أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج). فهذا الأخ عليه بتقوى الله عز وجل، سواء كانت فتناً داخلية أو خارجية فعليه بتقوى الله عز وجل، والمحافظة على الفرائض وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، وأن يتعاهد دائماً إيمانه، وأن يكثر من النوافل، وإذا كان ذا مال يكثر من الصدقات، فإن شاء الله تعالى ينفعه ذلك بعد فضل الله تعالى.

حكم إعطاء رجل كافر أشرطة قرآن ومحاضرات

حكم إعطاء رجل كافر أشرطة قرآن ومحاضرات Q قعد رجل غربي كافر في السيارة مع رجل مصري مسلم ليعمل معه، فسمع صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فطلب من المسلم أن يعطيه شريطاً للشيخ؛ ليأخذه معه إلى بلده، فما حكم ذلك؟ وهل يطلب منه الطهارة قبل سماعه وإمساك الشريط؟ A يعطيه الشريط، ولا بأس أن يعطيه شيئاً أكثر من ذلك، فلو كانت عنده معان للقرآن مترجمة، أو كتب تدعو إلى الإيمان وذكر محاسن الإسلام مترجمة إلى لغته؛ فلا بأس أن يتكبد المشاق؛ لتوفير هذه المادة وإعطائها لهذا الكافر، لا بأس بذلك، ولا يطالبه بالطهارة، فهو خبيث العقيدة فقط، فلو نزل في بئر أو غير ذلك لا تزول عنه نجاسة الشرك.

حكم السلام على المسيحي، وبيان كيفية الهوي للسجود

حكم السلام على المسيحي، وبيان كيفية الهوي للسجود Q هل السلام على المسيحي يفسد الوضوء؟ وما هي كيفية الهوي للسجود؟ A السلام على المسيحي لا ينقض الوضوء؛ لأن نجاسة الكافر نجاسة معنوية، فلو كانت النجاسة حسية حتى لو أسلم يبقى نجساً، إذاً: هي نجاسة معنوية متعلقة بعقيدته، فإذا أسلم طهرت عقيدته. وأما النزول إلى السجود: هل هو على اليدين أم على الركبتين، فهذا محل نزاع بين أهل العلم: فـ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد رجح النزول على الركبتين من عشرين وجهاً، والذي يترجح لدي النزول على اليدين؛ لحديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك البعير، ولينزل على يديه قبل ركبتيه)، أو (ليسجد على يديه قبل ركبتيه)، وفي رواية: (ولينزل على ركبتيه قبل يديه)، وتفصيل هذا في اللغة أن ركبتي البعير في يديه، وهذا الذي اختلط على شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

بيان ما يفعله العبد فيما حصله من مال غير شرعي إذا تاب

بيان ما يفعله العبد فيما حصله من مال غير شرعي إذا تاب Q خالتي تعمل مذيعة في قناة النيل للأخبار، ولديها سيارة ثمنها من عملها، وهي تزعم أنها ستترك هذا العمل وأخبرتني بذلك، فهل عند التوبة تتصدق بثمن السيارة أو بجزء منها بعد بيعها؟ A هذه المسألة محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم، فلجنة الفتوى في السعودية أنزلوا رسالة سموها: حكم التوبة من العمل الحرام، يقصدون آثار التوبة من المال وغير ذلك، ورجحوا أن من تاب يلزمه أن يتخلص من الحرام. ورأي آخر عند بعض علماء اللجنة قالوا: لا يلزمه ذلك، وإنما التوبة تجب ما قبلها. والرأي الذي ترجح لدي من أقوالهم وهو الثالث: أنه يلزمه أن يتخلص مما زاد عن حاجته، فالذي مثلاً لديه شقتان يبيع شقة، أو كان لديه سيارتان يبيع واحدة ويكتفي بواحدة، على حسب حاجته وضرورته. وفي الحقيقة الإنسان الصادق المخلص في توبته يتخلص ولو من جلده، فالذي يخاف الله عز وجل وكان صادقاً في خوفه وفي توبته ورجوعه إلى الله؛ لا ينتظر أن يسأل أحداً من أهل العلم؛ لأنه يعرف أن هذا من حرام، فسيتركه مباشرة، حتى وإن أفتاه أهل العلم بجواز الإمساك يقول: لا، فهو طبيب نفسه، وهو أعلم بحاله.

المعقود عليها ليس لها قسم

المعقود عليها ليس لها قسم Q هل المعقود عليها لها قَسْم؟ A لا، إذا كان رجل متزوجاً من امرأة، وعاقداً على أخرى فليس. لها قسم؛ لأن القسم لا يكون إلا بعد البناء، وأما قبل البناء فلا، والقسم المقصود به هنا: العدل في المبيت.

حكم زواج رجل من امرأة ما زالت متزوجة

حكم زواج رجل من امرأة ما زالت متزوجة Q ما حكم زواج رجل من امرأة ما زالت متزوجة؟ A إنا لله وإنا إليه راجعون! هذا بلا شك جرم عظيم جداً، وهذا الزواج باطل، بل كيف يسمونه زواجاً؟!

التقدير في الدعاء (اللهم أصلح لي شأني كله)

التقدير في الدعاء (اللهم أصلح لي شأني كله) Q في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي شأني كله)، كلَه بالفتح أم كلُه بالضم؟ A كلَه بالفتح، والتقدير: اللهم أصلح كل شأني.

حكم العمل في شركة يملكها نصارى

حكم العمل في شركة يملكها نصارى Q ما حكم العمل في شركة يملكها نصارى، وهذه الشركة تقوم بتوزيع بعض المنتجات الأمريكية كصابون إريال وغيره، مع العلم بأن عملي فيها محاسب؟ A لا بأس بذلك، ونحن نحذر من إرباح هذه الشركات الأجنبية، وهذا على سبيل العقوبة وليس على سبيل الحرمة، فإذا كان وجودك في هذه الشركة مكسباً لك؛ فهنيئاً مريئاً، فنحن نفرق بين مسألتين، أنا لن أشتري هذا الإريال، بل سأشتري غيره، مع أنه لا يوجد بديل للإريال، فكل الشركات يهودية أو نصرانية، حتى الشركات التي كانت مسلمة بيعت للنصارى. فعلى فرض أن شركة إريال هذه شركة أمريكية نصرانية أو يهودية أياً كانت، فالكفر كله ملة واحدة: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، فإذا كان الأمر كذلك فوجودك فيه نفع لك، ولا يوجد فيه ضرر على المسلمين، بل فيه نفع، وأنت أحد المنتفعين، فلا حرج عليك في بقائك في هذه الشركة.

الحرص على الزواج بامرأة صالحة ذات دين

الحرص على الزواج بامرأة صالحة ذات دين Q أنا خاطب، وظننت أن الله سيجعلني سبباً لهداية خطيبتي وأهلها، ومرت الشهور وأنا قد مللت دعوتها إلى الله، مع تقدم خطيبتي إلى الله شيئاً فشيئاً، ولكني لا أظن أنها قد تتحمل الحياة الزوجية بعد الزواج، مع العلم أنها أكبر مني سناً؟ A لماذا هذا يا أخي؟! النبي صلى الله عليه وسلم أمرك ابتداءً ألا تتزوج إلا امرأة صاحبة دين، قد تقول لنفسك: سأتزوج امرأة مقصرة ثم أدعوها، أقول لك: هذا باب فتنة عظيم جداً، فإذا كنت تجوز لنفسك أن تتزوج امرأة متبرجة لأجل جمالها، أو لأجل مالها، أو لأجل حسبها ونسبها؛ فجوز للمرأة المنتقبة أن تتزوج رجلاً لا يصلي ولا يصوم، ويفعل المنكرات، وذلك من باب أنها ستكون سبباً لهدايته، فأقول: في النهاية أنت تستطيع أن تهدي هذه المرأة بإذن الله؛ لأن هذا بيد الله.

الإيمان بأن الله إذا قضى من النطفة خلقا كان وإن عزل صاحبها

شرح كتاب الإبانة - الإيمان بأن الله إذا قضى من النطفة خلقًا كان وإن عزل صاحبها الله سبحانه وتعالى هو خالق الخير والشر؛ لأنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بإرادة الله ومشيئته النافذة، وإذا أراد الله تعالى شيئاً وقدره كان ولابد، ومن ذلك خلق الولد وتكوينه في رحم أمه، فمهما حاول الرجل بشتى الأسباب ألا يكون له ولد -كأن يعزل عن امرأته ونحو ذلك- والله تعالى قد قدر وأراد أن تحمل المرأة ويكون الولد، فإن قدر الله تعالى هو الكائن لا محالة، فإنه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.

باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقا كان وإن عزل صاحبها

باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً كان وإن عزل صاحبها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث -أي: من كتاب القدر- باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً كان وإن عزل صاحبها، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة]. أي: لو أراد الله عز وجل للنطفة التكوين والخلق مع محاولة صاحبها ألا تكون لكانت؛ لأن إرادة الله تعالى غالبة، وهو القادر على كل شيء، القادر أن يخلق الأشياء بغير سبب، القادر ألا يخلق الأشياء وإن اتخذ الناس الأسباب. فلو أن رجلاً عزل عن امرأته وقذف ماءه خارج رحمها، وأراد الله عز وجل مع ذلك أن تكون النطفة علقة كانت مهما حاول صاحبها، وإذا أراد الله عز وجل ألا يخلق تلك النطفة وإن لم يعزل صاحبها مائة عام لا تكون.

حديث أبي سعد الخير: (ما يقدر الله عز وجل في الرحم فسيكون)

حديث أبي سعد الخير: (ما يقدر الله عز وجل في الرحم فسيكون) قال: [قال أبو سعد الخير: (سأل رجل من أشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل. فقال: ما يقدر الله عز وجل في الرحم فسيكون)]، أي: ما كان الله تعالى قد كتبه في الأزل أن هذه النطفة ستكون ولداً كانت وإن عزل صاحبها.

حديث جابر بن عبد الله: (أنت تخلقه؟)

حديث جابر بن عبد الله: (أنت تخلقه؟) [وعن جابر بن عبد الله قال: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما ترى في العزل يا رسول الله؟ فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره مقره، فإنما هو القدر)]، قوله: (أقره مقره)؛ أي: اقذفه حيث أمرك الله عز وجل؛ فإن قدر الله تعالى له أن يخلق تخلق، وإن قدر له عكس ذلك لا يكون وإن قذف في رحم المرأة.

حديث أبي سعيد الخدري: (لا عليكم ألا تفعلوا)

حديث أبي سعيد الخدري: (لا عليكم ألا تفعلوا) [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، إنما هو القدر، يعني: العزل)]، أي: إن شئتم فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن ما قدره الله عز وجل لهذا الماء سيكون.

حديث أنس: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد)

حديث أنس: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد) [وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد يبيت على صخرة لأخرج الله منه ولداً، ليخلقن الله كل نسمة هو خالقها)]، أي: لو أراد الله عز وجل لماء أو لنطفة أن تخلق ولداً لابد أن تكون، ولو ألقاها صاحبها على صخرة ملساء؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء.

حديث جابر بن عبد الله: (سيأتيها ما قدر لها)

حديث جابر بن عبد الله: (سيأتيها ما قدر لها) [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! لي جارية -أمة- أفأعزل عنها؟ قال: سيأتيها ما قدر لها)]، أي: سواء عزلت أو لم تعزل. قال: [(فذهب، ثم جاء فقال: يا رسول الله! ألم تر إلى الجارية التي سألتك عنها فإنها قد حبلت)]، أي: حملت حملها. [قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قدر الله لنفس أن تخرج إلا وهي كائنة)]؛ أي: لابد أن تكون كائنة. فكم من امرأة وضعت لولباً وحملت مع وجود اللولب، بل نزل الوليد وهو آخذ باللولب في يده قابض عليه، وكم من إنسان كان يحرص ألا يكون له ولد فمنع الحمل سنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً ثم فوجئ بأن امرأته تأتي في البطن الواحد باثنين وثلاثة وأربعة، وتفعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، وكأن الله تبارك وتعالى قد جمع لها ما قد فرقته في الأعوام الماضية، فالحرب مع الله تعالى لا تصلح أبداً.

تقدير الله تعالى وخلقه للخير والشر

تقدير الله تعالى وخلقه للخير والشر [قال الشيخ: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته، والإيمان به، والإذعان لله عز وجل، والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه -أي: قبل أن يكون، فالله تعالى علمه في الأزل- ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافاً لمشيئته فيهم، فكان ما شاءوا ولم يكن ما شاء الله، ومن قال ذلك فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله]. أي: من يتصور أن الكفر وقع منه على مشيئته وليس على مشيئة الله، وأن المعصية وقعت منه بمشيئته وليست على مشيئة الله، وأن الطاعة والإيمان وقع منه بالخيار وبمشيئته دون مشيئة الله وقدرته وإرادته فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولا يكون في كونه إلا ما أراد وقدر وشاء من خير وشر، وكما أن الله تعالى خلق الخلق فهو كذلك خالق الشر، لكنه خلق الشر ونهانا عنه ولم يرضه لعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، فهو سبحانه قد نهانا عنه وحذرنا منه، ولأهله خلق النار، لكن كما قلنا فإن كثيراً من الناس يفرقون بين إرادة الله ومشيئته الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، والمشيئة والإرادة الكونية القدرية التي تضم الخير والشر، إذ ما من خير على الأرض إلا وقد أراده الله وقدره وشاءه مشيئة شرعية دينية وأحبه وأمر العباد به، وأما ما يقع في الأرض من شر فلا يقع إلا بمشيئة الله، لكن بمشيئته الكونية القدرية، وليس بلازم أن الله تعالى يحبها، بل من الأفعال التي تقع في الأرض بمشيئته الكونية القدرية منها ما هو خير ومنها ما هو شر، فلا تبنى المحبة أو فلا تبنى المشيئة الكونية القدرية على المحبة. وإنما فيها ما يحبه الله، وفيها ما يبغضه الله من الكفر وسائر المعاصي، لكنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله وقدر، ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن الله تعالى إذا كان قد قدر الخير والشر، وجبر الخلق عليه، وقهرهم على فعل الشر والتلبس بالكفر، إذاً فلم يعذبهم ولم يعاقبهم؟ هذا الكلام من أبطل الباطل، وقد رددنا عليه مرات، لكننا نذكر به دائماً حتى لا يدور في خلدات أحد من السامعين أن الله تعالى قدر المعصية على العبد، وجبره وقهره عليها، وأن العبد مسلوب الإرادة، وقد قلنا من قبل في الجواب عن هذا السؤال أو على هذا الوهم: أن الله تعالى له مشيئة، وللعبد مشيئة، فهو ليس مسلوب الإرادة، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فأثبت في هذه الآية للعبد إرادة، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [التكوير:29]، فأثبت في هذه الآية أن للعبد مشيئة، على خلاف وقع بين أهل العلم: هل المشيئة هي الإرادة أو أنهما شيئان مختلفان؟ ليس هذا أوان بحثه، وقد بحثناه من قبل أيضاً. لكن الله تعالى خلق الشر ونهانا عنه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعلنا عقلاء مميزين وعفا عن المجانين والنائمين والناسين أصحاب الأعذار، والله تعالى لا يحاسب إلا من وقع تحت طائلة التكليف، ومعنى أن الله تعالى قدر علي الشر أو قدر علي المعصية: أنه علمها أزلاً فكتبها في اللوح المحفوظ، والتقدير هنا بمعنى العلم والكتابة، والله تعالى أذن في خلقها وفي إيجادها، فالله تعالى أذن فيها خلقاً وإيجاداً، واكتسبها العبد فعلاً وعملاً. فهذا معنى أن الله تعالى أراد وقدر الشر، أي: أنه علمه أزلاً قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ.

الرد على الذين يزعمون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده

الرد على الذين يزعمون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده قال: [ومن قال ذلك فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله، وأنهم أقدر على ما يريدون منه على ما يريد، فأي افتراء على الله يكون أكثر من هذا؟! ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه]، أي: لو علم الله عز وجل أن عبده فلان سيعمل خيراً وطاعة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فإنه لو أراد ألا يعمل هذه الطاعة لما استطاع؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل. فلما علم الله تعالى أن عبده سيسلك عمل الطاعة يسرها وقدرها له، وأذن في خلقها ووجودها، والعبد هو الذي باشرها وهو الذي عملها، فإذا أراد العبد شيئاً غير ما أراد الله لا يقدر، وإذا شاء العبد شيئاً ما شاءه الله له لا يقدر، بل لابد أن تنفذ مشيئة الله تعالى، وعلم الله تعالى وقدرة الله تعالى في عبده مهما حاول العبد معاكسة ذلك ومخالفة ذلك والإتيان بنقيضه، فإن العبد لا يستطيع أن يغير أبداً. قال: [ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منه، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل، وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر]. أي: ومن زعم أن الزنا يقع من العبد بغير قدر الله ومشيئته الكونية القدرية فقد أخطأ؛ لأن الله قدرها أن تقع في الكون، ومعنى قدرها، أي: علمها من عبده قبل أن يخلقه، وقبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقبل أن يخلق هذه النسمات، علم أن عبده فلان ابن فلان سيزني بفلانة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فلما علم الله تعالى ذلك منه كتبه في اللوح المحفوظ، وبالتالي فلابد أنه واقع منه. ولا يعني ذلك جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية كما قلنا من قبل؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المعاصي سبيل أهل البدع، والاحتجاج بالقدر على المصائب والنوازل سبيل المؤمنين، فإذا نزل بك مرض أو علة أو آفة أو يقتل ولدك أو غير ذلك، كل هذا إذا سألك أحد فقل: قدر الله وما شاء فعل. أما أن تزني وتقتل وتسرق وغير ذلك، ثم يقال لك: لم ذلك؟ فتقول: قدر الله وما شاء فعل! فتحتج بالقدر على المعصية، هذا سبيل أهل البدع، وكما رجحنا من قبل أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة منها، أما قبل التوبة فهذا مسلك أهل البدع. قال: [ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟]، مع أنه نتاج من الزنا، فهل هذا الولد خلق بمشيئة الزاني أم بمشيئة الله عز وجل؟ [وهل مضى هذا في سابق علم الله أم لا؟] أي: هل سبق في علم الله أن فلاناً سيزني بفلانة، وأنها ستحمل منه ذكراً أو أنثى؟ A نعم، [وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟]، وذلك لما أخرج الله تعالى ذرية آدم من صلب آدم فقال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. وهذا هو الميثاق الأعظم الذي أخذه الله تعالى على عباده لما استخرجهم كالذر من ذرية آدم، ووضع بعضهم أو قسماً منهم في يمينه، وجعل القسم الآخر في يده الأخرى وهي اليمين كذلك، وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، فهل ترون أن هذا الولد من الزنا ممن أخرج من صلب آدم وأخذ الله تعالى عليه الميثاق، أو أنه لم يخرج؟ والميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم قوله: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، أي: شهدوا بالربوبية والألوهية في وقت واحد. و A أن هذا الولد من الزنا لما أخرج الله عز وجل ذرية آدم من صلب آدم كان فيهم، ومن أخرجه من الميثاق فيلزمه أن يأتي بدليل ولا دليل، إذاً: فلابد من القول: بأن هؤلاء قد خرجوا من صلب آدم، وأخذ الله عليهم العهد والميثاق، وحينئذ فلابد أن نقول: بأن هذا الولد سبق في علم الله أنه سيكون، وأن الله تعالى قدر له ذلك، وشاء له أن يخلق في بطن أمه من هذا الماء الهدر، ولما كان كل ذلك لابد أن نسأل أنفسنا: هل استطاع هذا الزاني أن يزني بتلك الزانية على غير مراد الله وعلى غير مشيئة الله، أم أن ذلك وقع بمشيئة الله؟ لا يستطيع أحد في الكون أن يتحرك حركة، أو إذا كان متحركاً أن يسكن سكنة إلا بمشيئة الله، سواء كان ذلك من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، وهذه سنة التدافع الكونية القدرية في الكون بين الخير والشر. وما كان يصلح أن يخلق الله عز وجل جميع الخلق مؤمنين، وما كان يصلح كذلك أن يخلق جميع الخلق كفاراً وملحدين، بل لابد أن يكون هناك إيمان وكفر، خير وشر، حق وباطل، حتى تقوم سنة التدافع بين الخلق، ولا تحلو الحياة إلا بهذا، وهذا أعظم ميدان وأفسحه لطلب الجنة، أي: أن يوجد مع الإيمان كفر، ومع الخير شر، ومع الحق باطل، حتى ترفع راية الجهاد فيؤخذ من يؤخذ من أهل الإيمان بناصيته إلى جنة عرضها السموات والأرض، إنه م

إقدام العبد على المعصية والذنب بإرادته وبقدر الله عز وجل

إقدام العبد على المعصية والذنب بإرادته وبقدر الله عز وجل قال: [وعن يونس بن بلال، عن يزيد بن أبي حبيب أن رجلاً قال: (يا رسول الله! يقدر الله عز وجل علي الذنب ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم، وأنت أظلم)]، ولو أجابه بـ (نعم) فحسب لدار في نفس السائل أن هذا ظلم، وأنتم تعلمون أن الظلم صفة نقص، والله تعالى منزه عن كل صفات النقص، إذ إنه متصف بكل صفات الكمال سبحانه وتعالى. فحذار أن تظن أن الله تعالى قد جبرك على المعصية، وأنه الذي اختارها لك، بل أنت الذي اخترتها، فلما اخترتها وسلكت سبيلها، وإن كان ذلك قبل أن تخلق، وقبل أن تكون نطفة، لكنه سبق في علمه أن ذلك سيكون منك، فأذن في وقوعها منك، وكلمة: (أذن في وقوعها منك)، أي: أراد الله تعالى لها أن تقع في الأرض، وأن تكون في الأرض، أما الذي باشرها فهو العبد، وهو أظلم.

الزنا بقدر وشرب الخمر بقدر والسرقة بقدر

الزنا بقدر وشرب الخمر بقدر والسرقة بقدر قال: [وعن ابن عباس قال: (الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر)]. وبالتالي فجميع المعاصي تقع بقدر، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحب الزنا، أو أن الزنا يقع في الكون رغماً عنه، أو أن جميع المعاصي في الكون تقع رغماً عن الله، فلو أراد السارق أن يسرق وما أراد الله له السرقة فهل يسرق؟ لا والله أبداً، ولو أن رجلاً أراد أن يسرق خزينة في محافظة المنصورة مثلاً، واتخذ الأسباب المعينة له على ذلك، وتهيأ وأخذ العدة والمطارق وغيرها ووضعها في حقيبة، وركب السيارة ونزل حتى صار عند باب الخزينة، لكن الله تعالى علم ذلك منه أزلاً فصرفه عن ذلك، وكتب أنه مصروف عن السرقة في اللوح المحفوظ، فهل يمكن أن تقع منه السرقة؟ وما الذي سوف يحصل؟ إنه سيرجع القهقرى، حتى وإن تمكن من سرقة الأموال فإنه سوف يدعها وينصرف؛ لأن الله قد كتب له هذه الخطوات فقط في طريق المعصية، لكن الله تعالى قدر له وعلم أزلاً أنه لن يأخذ مال غيره حتى وإن قطع بعض الأشياء إلا أنه سوف يتوقف عند البعض الآخر ويرجع، وربما يكون هذا باباً من أبواب التوبة. وتعلمون المرأة التي كانت في أمس الحاجة إلى الدريهمات لكي تطعم أولادها أو تنفي عنها فقرها، فقد سلكت كل سبيل للحصول على ما تقتات به، وما وجدت إلا أن تطلب من ابن عم لها أو قريب لها، فخيرها بين أن يمنعها أو أن يعطيها على أن تمكنه من نفسها، ففعلت حتى جلس بين شعبها الأربع. والواحد منا أيها الإخوة الكرام! إذا تصور هذا المنظر قال: لابد من وقوع الزنا، لكن هذه المرأة قالت له كلمة حولت مساره من شرير عاص لله عز وجل منتهك للحرمات إلى رجل طائع يخاف الله تعالى، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرف عنها -وقد أعطاها الدراهم والدنانير- لما خالط قلبه بشاشة الإيمان، وترك المال مستغفراً وتائباً إلى الله عز وجل، فانظروا إلى هذا الرجل لم يكن بينه وبين المعصية إلا قاب قوسين أو أدنى، ثم انصرف عنها. فهل تعتقدون أن ما حدث منه لم يكن يعلمه الله قبل خلق السموات والأرض، ولم يكتبه الله عز وجل قبل خلق السموات والأرض؟ بل قد علم الله تعالى ذلك وكتبه؛ إذ إن كل شيء يقع في هذا الكون من خير وشر إنما هو بقدر الله عز وجل، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، أي: بعلم وكتابة، وأن الله تعالى علم ذلك وقدره وكتبه. قال: [وعن عمرو بن محمد قال: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني عليه؟ قال: فأخذ له سالم الحصباء]. وكان هذا منهج السلف، فقد كان إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا كما جاء ذلك في الأثر، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يؤثرون أبداً الخوض في باب القدر؛ لأنهم يعلمون أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، فكانوا يمسكون إذا ذكر القدر، فهذا سالم بن عبد الله بن عمر يسأله رجل: الزنا بقدر؟ فيجيبه بـ (نعم)، فيعترض الرجل ويقول: إذاً فلم يعذبنا الله على أمر قدره علينا؟! فأخذ سالم حصيات من الأرض يريد أن يلقيها في وجهه؛ لأنه سوف يبدأ الخوض في باب عظيم من أبواب الإيمان؛ إذ إن الإيمان يدل على مكنون القلب وعلى الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا نقول فيه: لم كذا؟ وكيف يعذب الله الأموات في قبورهم؟! ولم يعذب الله الأموات في قبورهم؟ وكيف خلق الله الجنة؟ وكيف خلق النار؟ وكيف الصراط؟ وكيف مرور الناس على الصراط؟ وكيف وكيف وكيف؟ إن كل مسائل الغيب يحرم على المؤمن أن يقول فيها: لم؟ وكيف؟ لأن مسائل الإيمان في الغالب مسائل ابتلاء؛ لينظر الله تعالى هل يؤمن بها العبد أم لا؟ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس في السماء موضع قدم)، وفي رواية: (موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد أو قائم أو راكع)، فتصور هذا الأمر، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة)، فلا يأتي شخص يقول: نحن جالسون في مجلس علم، وأنا أريد أن أرى هذه السكينة، يا أخي! هل أنت محتاج لأن ترى السكينة؟ قال: (وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة)، فهل تعتقدون أن الملائكة معنا الآن، ويسمعوننا ويحضرون هذه المجالس؟ إن من لم يؤمن بذلك فقد رد على الله تعالى أمره، ورد على الله تعالى خبره، وكذلك رد على الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا لابد أن يراجع إيمانه، بل أن يراجع إسلامه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، حتى إذا مروا بحلق الذكر)، أي: بحلق العلم، (نادى بعضهم على بعض: ألا هلموا، فيجتمعون فيعلو بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا)، فتصور لو أن فوقنا ملائكة تحفنا بأجنحتها -نسأل الله الرحمة والرضوان- وفوقهم طبقة أخرى من الملائكة، ثم ثالثة، ث

العزل وما يتعلق به من تقدير الولد

العزل وما يتعلق به من تقدير الولد قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: (أصبنا نساء يوم خيبر)]، أي: أسرنا نساء يوم خيبر، [(فكنا نعزل عنهن ونحن نريد الفداء)]، أي: كنا نريد أن نرجع هؤلاء النساء ونأخذ عليهن مالاً، وذلك حتى لا يخرج الولد كافراً يتربى في غير أحضان والديه، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: [(ليس من كل الماء يخلق الولد)]، بل من أقل شيء من الماء، قال: [(وإن الله عز وجل إذا أراد شيئاً لم يمنعه شيء)]، أي: حتى وإن عزلتم فإن الله تعالى لو قدر أن يخلق من هذا الماء ولداً لكان ذلك. قال: [وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: النطفة التي قدر منها الولد لو ألقيت على صخرة لخرجت تلك النسمة منها]. لأن الله تعالى قدر لها أن تكون.

باب العزل وأحكامه عند أهل العلم والمصنفين

باب العزل وأحكامه عند أهل العلم والمصنفين باب العزل في الحقيقة باب عظيم، وله في الاعتقاد ميدان فسيح، كما له كذلك في باب الفقه ميدان فسيح، ولذلك منهم من يذكر أحاديث العزل في أبواب الاعتقاد كـ ابن بطة، ومنهم من يذكرها في أبواب الطلاق أو النكاح أو الرضاع أو يخصها بباب حكم العزل كما فعل مسلم والبخاري. أما مسلم فقد أخرجه في كتاب الطلاق، وأما البخاري فقد أخرجه في كتاب النكاح، وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (سألني أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد! هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم، غزونا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب -أي: أعظم نساء العرب- فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا عليكم ألا تفعلوا)، أي: إن شئتم استمتعتم وإن شئتم تركتم، إن شئتم عزلتم وإن شئتم أفرغتم ماءكم في أرحام هؤلاء، قال: (ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)، ومفهوم المخالفة: وإذا قدر الله لها ألا تكون فلن تكون، بل لو اجتمع أهل الأرض على ذلك، وفي رواية: (فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)، وفي رواية: لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل قال: (لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر).

روايات أبي سعيد الخدري في العزل

روايات أبي سعيد الخدري في العزل قال: [وعن أبي سعيد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر)، قال محمد بن سيرين: وقوله: (لا عليكم) أقرب إلى النهي]. أي: مثل ما يقول رب العالمين: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فهذه الآية جاءت على سبيل التهديد، وليس على سبيل التخيير، أي: أن ربنا يخيرنا بين من أراد أن يؤمن فليؤمن، ومن أراد أن يكفر فليكفر، وإنما الله سبحانه وتعالى يهددنا ويتوعد، وكذلك قوله هنا: (لا عليكم ألا تفعلوا)، أي: تريدون أن تعزلوا اعزلوا، لكن والله لو أراد الله بما عزلتم أن يخلق فلابد أن يكون ذلك، فـ ابن سيرين رحمه الله فهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا عليكم): النهي؛ لأنها تدل عليه من باب الإشارة لا من باب صريح العبارة. [وعن أبي سعيد قال: (ذكر العزل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما ذاكم؟ -أي: ماذا تقصدون بالعزل؟ - قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها)]، أي: يا رسول الله! امرأتي ترضع ولو أني جامعتها حملت، والعرب كانوا يعدون لبن الحامل مضراً بالولد، فنحن نعزل في أثناء الرضاع مخافة أن تحمل المرأة. قال: [(الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له أمة فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه)]؛ لأن الأمة لو حملت كان ولدها تبعاً لها في الرق، وربما تكون كافرة من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية، وكفر أهل الكتاب بالإجماع لا على القول الراجح! إذاً: الذي دفعنا يا رسول الله! إلى أن نعزل أمران: الأول: أن هذه امرأتي الحرة ترضع، وأنا لو أصبت منها حملت، فكان في ذلك المضرة على الرضيع، الثاني: أن الواحد منهم تكون له أمة ويريد أن يستمتع بها، لكنه يخشى أن تحمل فيتبعها ولدها في الرق، وهذا أمر لا يشرف صاحب النطفة، أو أنه إذا حملت الأمة صارت أم ولد، ومن أحكام أم الأولاد أنها لا تباع ولا تشترى، فإذا حملت امتنع عليه بيعها للآخرين، وبالتالي تفوته المصلحة في ذلك. فلما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك قال: [(لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم)]، أي: إذا أردتم أن تعزلوا فاعزلوا، (فإنما هو القدر)، أي: حتى وإن عزلتم فلا يكون إلا ما قدره الله تعالى. قال ابن عون: فحدثت به الحسن البصري فقال: والله لكأن هذا زجر. أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يزجرهم أن يعزلوا. قال: [وعن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -وهذا إنكار- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)]، أي: إلا ولابد أن يخلقها الله عز وجل. قال: [وعنه قال: سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل فقال: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)]، أي: لم يمنعه العزل.

حديث جابر في العزل من عدة طرق

حديث جابر في العزل من عدة طرق وعن جابر: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت يا رسول الله! فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها). وعن جابر قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! إن الجارية التي كنت ذكرتها لك قد حملت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا عبد الله ورسوله)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أنا وعبد الله ورسوله) ليس معناه: أنه لم يكن يعرف أنه عبد الله ورسوله، بل كان يعرف، لكنه أراد أن يقول له: أنا عبد الله ورسوله الذي أؤمن بالقدر، وأؤمن أن ما قدره الله لابد أن يكون، ولقد أخبرتكم بذلك. وعن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، كأن هذا كان أمراً مباحاً، وإلا لو كان حراماً لكان النهي قد ورد، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن. وعن جابر قال: (لقد كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا).

تحريم وطء الحامل المسبية

تحريم وطء الحامل المسبية وفي رواية يزيد بن خمير قال: سمعت عبد الرحمن بن جبير يحدث عن أبيه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أتي بامرأة مجحاً على باب فسطاط)، والمرأة المجحية هي المرأة الحامل، وباب فسطاط، أي: على باب خيمة، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله يريد أن يلم بها)، أي: أن يصيب منها وأن يجامعها، (فقالوا: نعم يا رسول الله! فقال: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره)؛ لأن هذا الرجل أراد أن يجامع امرأة ليست امرأته، وإنما سباها في الحرب وهي حامل، فيحرم عليه جماعها إلا بعد وضع حملها، فقال: (لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟)؛ لأنه لو جامعها فربما يقال: إن هذا الولد نتاج ذلك الجماع، خاصة لو كان بعد الجماع بستة أشهر، أي: لو نزل الحمل بعد الجماع بستة أشهر وهي أقل مدة للحمل كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ لأنه حينئذ سيكون ولده، والولد لا يكون خادماً لوالده، وفي ذاك أيضاً جواز الغيلة، والغيلة هي وطء المرضع.

جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل

جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل قال: [عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة)]، أي: لقد هممت أن أنهاكم أيها الناس! أن يجامع أحدكم امرأته وهي مرضع. قال: [(حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم)]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تذكر أن فارس والروم يفعلون ذلك، أي: يجامع أحدهم امرأته في أثناء إرضاعها لابنها ولا يضر ذلك الولد، وأن القول المزعوم بأن اللبن حينئذ يضره ليس حاصلاً. قال: [وقالت جدامة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي)]. والمعنى: أنهم كانوا يعزلون والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وما كان ينهاهم، والوأد الخفي حرام، لكن الوأد لا يكون حراماً إلا بعد أن تخلق النطفة، وهذا هو الإجهاض، وأشد حرمة منه الوأد بعد الميلاد مخافة العار أو مخافة الفقر أو تبعاً لأخلاق الجاهلية وغير ذلك، فهذا كله حرام، وقد نهى عنه القرآن نهي تحريم وشنع على فاعله. وهنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن العزل وأد خفي، ومع هذا لم ينهنا عنه فكيف يكون ذلك؟ الوأد عموماً -كما قلنا- هو بعد التخليق، لكن هذا وأد دون الوأد الذي نهى عنه القرآن؛ لأنه وأد للنطفة، وليس للعلقة ولا للمضغة المخلقة، ولا بعد أن تنفخ فيه الروح، ولا بعد الميلاد ذكراً كان أم أنثى، وإنما ذلك وأد للنطفة منذ تكوينها؛ لأن العبد المجامع لامرأته إذا قارب الإنزال أنزل ماءه خارج الرحم أو خارج فرج المرأة، وهذا معنى العزل، فالنطفة لم تبلغ مرحلة من المراحل بعد، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاً وأداً خفياً، وليس الوأد الذي يستلزم قيام الحد. قال: [وعن سعد بن أبي وقاص: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لو كان ذلك ضاراً ضر فارس والروم)، وفي رواية: (إن كان لذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم)]. يقول العلماء: العزل جائز مع الكراهة لعدم وجود النهي من النصوص، والعزل عن الزوجة والأمة هو أن يجامع الرجل حليلته، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وسبب ذلك: العزوف عن علوق المرأة وتكوين حمل في رحمها، وإما لأسباب صحية تعود إلى المرأة أو إلى الجنين -وهو ما يسمى بالغيلة- أو إلى الطفل الرضيع، أو ربما يكون بسبب فساد الزمان، فقد يقول شخص: نحن في زمن شر، وأنا أخشى على أولادي أن يكونوا فاسدين في المجتمع، أو أن يتأثروا بفساد المجتمع، لكن صلاح النية وحده لا يكفي في أغلب الأحوال، بل لابد من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا لو أن هذا الرجل عزل بهذه النية وقدر الله تعالى له الولد جاء الولد. وقد ذهب جمهور من الفقهاء إلى جواز عزل السيد عن أمته مطلقاً، سواء أذنت له في ذلك أو لم تأذن؛ لأن الوطء حق له وليس للأمة، فللرجل الذي له أمة أن يبيعها في أي وقت شاء، أو يعتقها في أي وقت شاء، فهي ملك له كأي متاع، فإذا شاء أن يستمتع بها استمتع، لكن إن استمتع بها فحملت صارت أم ولد وانتقلت إلى أحكام أخرى، لكن لو أراد السيد أن يستمتع بأمته وما أراد منها الولد لأي عذر من الأعذار، كأن يريد أن ينتفع بها في يوم من الأيام بالبيع أو الشراء، أو ربما يخشى من سوء أخلاقها فيتأثر بها ولدها، وغير ذلك من الأعذار الكثيرة، وهي كذلك، أي: وإن لم يكون لها حق على سيدها في الوطء فليس لها حق على سيدها في الحمل، فكل ذلك له. أما العزل عن الحرة المحصنة العفيفة فهل يلزم فيه إذنها أم لا يلزم؟ وهل الوطء حق له هو أم حق لهما؟ وهل هناك فرق بين الوطء والاستمتاع؟ هذا محل نظر واختلاف بين أهل العلم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين: الرأي الأول: إباحة العزل مطلقاً عن الحرة سواء أذنت في ذلك أو لم تأذن، أي: أنها تماماً كالأمة، إلا أن ترك العزل عن الحرة أفضل، وهو الراجح عند الشافعية، وذلك لأن حقها الاستمتاع دون الإنزال إلا أنه يستحب استئذانها. وفي الحقيقة هذا المذهب ضعيف، والذي أعتقده أن الحرة لابد من استئذانها؛ لأنها شريكة زوجها في الاستمتاع والولد، كما أنها شريكته في الوطء، فهي صاحبة الحق في هذا، والاستمتاع في أثناء الجماع لا يغني عن استمتاع المرأة في لحظة الإنزال، فهذا حقها لا يجوز لزوجها أن يعزل عنها بغير إذنها، فإن أذنت حل له ذلك وإلا فلا. الرأي الثاني: يباح العزل عن الحرة بإذنها، فإن كان لغير حاجة فمكروه، والحاجة هي الأعذار التي ذكرت من قبل، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر

أدلة القائلين بإباحة العزل والقائلين بكراهيته

أدلة القائلين بإباحة العزل والقائلين بكراهيته وقد استدل القائلون بإباحة العزل مطلقاً بغير إذن الزوجة بما روي عن جابر: (كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل، ولم ينهنا النبي عليه الصلاة والسلام)، واستدل القائلون بالإباحة بشرط إذن الحرة بمرويات كلها ضعيفة، ومنها ما جاء عند أحمد وابن ماجه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها). وعند عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال: (نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها)، وكلاهما ضعيف. وأما أدلة الكراهة: فإن العزل إن كان بدون عذر فلأنه وسيلة لتقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطئة، ولذلك الكفار يحرصون كل الحرص على تكثير نسلهم، وفي نفس الوقت يدفعون الأموال الطائلة للمسلمين لتحديد النسل، ولما علموا أن (التحديد) لفظ جارح وخادش لمعتقد كثير من المسلمين، جاءوا بلفظ (التنظيم)، والبلاء واحد لكن الأسماء مختلفة بحيث يستحلون محارم الله بأدنى الحيل. ويبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حث على تعاطي أسباب الولد فقال: (تناكحوا تكثروا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).

الأعذار المبيحة للعزل

الأعذار المبيحة للعزل والعذر في العزل يتحقق في الأمور التالية: إذا كانت الموطوءة في دار الحرب وتخشى على الولد الكفر، كما هو الحاصل في فلسطين، فلو أن فلسطينياً عزل عن امرأته مخافة أن يتأثر ولده بدين اليهود أو بالفساد فهذا عذر، كذلك: إذا كانت أمة ويخشى الرق على ولده؛ لأن الرق نقص وهو لا يريد النقص لولده، أيضاً: إذا كانت المرأة يمرضها الحمل أو يزيد في مرضها، كما لو قرر ذلك أكثر من طبيبة مسلمة حاذقة صاحبة دين وثقة، وبالتالي إذا غلب ذلك على الظن جاز للرجل أن يعزل عنها إذا كانت المرأة يمرضها حملها، أو أنها مريضة والحمل يزيد في مرضها، أو أن الحمل يؤخر برأها، وحينئذ فهذا عذر للعزل، لكن ليس على مذهب أبي حامد الغزالي رحمه الله، إذ إنه يقول: إذا خافت المرأة على جمالها فهذا عذر في العزل! وهذا كلام ما له أصل ولا يصح؛ لأن لكل امرأة أن تقول: أنا أخاف على جمالي، حتى الدميمة تقول: أنا أيضاً خائفة على جمالي! لكن الجمال مسألة نسبية، فهي دميمة عندك وليست دميمة عند غيرك، فإذا رأيت امرأة سوداء فستزهد فيها، لكن لا يزهد فيها غيرك بل يطلبها ويبتغيها، ولو نظرت إلى امرأة بيضاء اشتهيتها، لكن لو نظر لها رجل أسمر اللون لا يشتهيها. إذاً: مسألة الجمال والحسن والوجاهة مسألة نسبية، فإذا كانت المرأة تريد العزل بعذر المحافظة على جمالها ورشاقتها فهذه مسألة نسبية. وهذه المسائل كلها يا إخواني! تريد رجالاً أصحاب تقوى؛ لأن الكلام مكتوب في الورقة وبإمكان كل إنسان أن يقرأه، لكن الذي يطبقه على نفسه يحتاج إلى تقوى الله عز وجل، والعجب أنه في هذه الأيام كثير من المثقفين يقول: أنا أريد ولداً وبنتاً فقط! وكأنه يشترط على الله قبل أن يتزوج، ولذلك أنا أذكر قصة للعبرة: كان معنا في الإعدادية أستاذ لغة عربية، وكان على مشارف المعاش، وكان أول رجل رفع الراية في نصرة مذهب الغرب في تحديد النسل، وكان يحارب لأجل هذا الغرض في كل واد وميدان، وما كان يعجبه قط رفض المشايخ لهذه الدعوة الخبيثة، ثم أنجب هذا الرجل ولداً واحداً بإرادته، أي: أنه اتخذ الأسباب لمنع النسل بعد الحصول على الولد الأول، ورباه تربية حميدة، حتى أصبح مثالاً للأدب والأخلاق الحسنة، وهو أستاذ في كلية الآداب في جامعة عين شمس، لكن الرجل لما كبر ولده وذهب إلى جامعة السوربون ليحصل على الدكتوراه شعر بالوحدة بينه وبين امرأته، فلما أراد الولد كان الوقت قد فات، فنصحه الناس أن يتزوج امرأة أخرى، فهاجم هجوماً جديداً في قضية تعدد الزوجات، وما أن كبر وذهب عنه الناس وماتت امرأته ترك الرجل التدريس وأحيل على المعاش، فمكث في بيته بقية عمره وحيداً فريداً، قد كرهه أهل بلدته كلهم بسبب الحملات التي حملها عليهم من قبل، وبقي الرجل في بيته حتى جن وفقد عقله، وأنا أذكر لما كنت في الجامعة زرته؛ لأنه رجل صاحب فضل ومنة علي، فأخذت أذكره بما كان منه من حملات ضد النسل في ذلك الوقت، فكان الرجل يبكي بكاء شديداً، فبكينا لبكائه حزناً عليه وعلى ما وصل إليه حاله، وكان دائماً يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لتزوجت أربعاً من الزوجات. وكان دائماً يدعو لنا بدعوة واحدة: أسأل الله تعالى ألا تروا ما قد رأيت، ولما كبرنا عرفنا الوحدة وكيف هي؟ وإن كنا لم نجربها، لكن الإنسان دائماً لا يستغني أبداً أن يجتمع بالناس، أما تعلمون أن الرجل إذا كبر في سنه وفارقته امرأته أو ماتت عنه يحب أن يتزوج امرأة أخرى ولو أكبر منه، لا لأجل اللذة والفراش، وإنما لأجل المؤانسة. وهذا رجل قد هرم وماتت عنه امرأته منذ أقل من سنتين، وهو صاحب جاه ومال وأولاد أربعة، أطباء، والرجل احتال على أصدقاء أولاده هنا وهناك حتى رفعنا الأمر إلى أولاده وقلنا لهم: حقه الشرعي لا تمنعوه، فتفهموا أخيراً للأمر وأذنوا له بالزواج، والله يا إخواني! الرجل يتصل بي في أي وقت من الليل الساعة الواحدة الثانية الثالثة الرابعة قبل صلاة الفجر ويقول: والله يا شيخ! ما نمت، أنا سوف أجن، ويقول: كدت أفقد عقلي، أنا أريد امرأة تؤنس وحدتي، ولا تحصل هذه المرأة مني على شيء، لكني أريد أن تؤنس وحدتي فقط. وكذلك المرأة أشد حاجة للرجل من الرجل إليها ولو من باب المؤانسة فحسب، وهذه سنة الله عز وجل لا يحل لأحد أن يمنع فيها، فإذا فسد الزمان وحرص الرجل ألا يكون له ولد مخافة أن يفسد مع فساد أهل الزمان فذلك له. نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره

شرح كتاب الإبانة - لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يصح إيمان العبد إلا به، فلا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره، ومن كذب بذلك كان من الخاسرين، وكان من الفرق الهالكة، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من بعده واضحة في ذلك.

باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره

باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره

أقوال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن الحصين في إثبات القدر

أقوال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن الحصين في إثبات القدر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الرابع: باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن المكذب بذلك إن مات عليه -أي: على التكذيب- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة]. دليل ذلك: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر -كأنه شك في شيء من القدر أو التبس عليه أمر من أمور القدر- فأتيت أبي بن كعب رضي الله عنه فسألته، فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت أحداً ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لمت على غير الفطرة التي فُطر عليها محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن الديلمي: فخرجت من عنده -أي: من عند أبي بن كعب - فأتيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فسألته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك]. هذا الحديث يشير إلى ما حاك في نفس ابن الديلمي، وربما يكون الذي حاك في نفسه: أنه إذا كان الله تعالى قدر كل شيء، وعلم كل شيء قبل خلق هذه الأشياء؛ فلم قدر علي المعصية؟ وإذا كان هو المقدر لذلك فلم يعذبني إذاً؟ ولم يدخلني النار؟ أليس هذا من الظلم؟! والظلم منفي عن الله عز وجل، وكل صفات النقص لا تليق بالله عز وجل؛ لأنه متصف بصفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى، فقال لما حاك في نفسه شيء من القدر: أتيت أبي بن كعب، وهذا مسلك أهل العقل والعدل دائماً، فالذي يحيك في نفسه شيء أياً كان هذا الشيء ما دام متعلقاً بالحلال والحرام، ومتعلقاً بمسائل الشرع؛ فإنه يجب عليه أن يهرع إلى أهل العلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. فهذه الآية أوجبت على طائفتين واجبات: أوجبت على أهل الجهل أن يسألوا أهل العلم، وأوجبت على أهل العلم أن يجيبوا أهل الجهل بما قد سألوهم عنه، فلا يحل لجاهل أن يخفي سؤاله ولا يسأل عنه، ولا يمنعه من ذلك كبر ولا حياء، كما أنه أوجب على العالم إذا سئل في شيء أن يجيب ولا يكتم علمه، ومن كتمه فإنه يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، والجزاء من جنس العمل. قال ابن الديلمي: لما حاك في صدري ذلك الشيء أتيت أبي بن كعب رضي الله عنه -وهو من كبار الصحابة وسيد من سادات المسلمين- فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم. أي: لو أن الله تعالى كتب على أهل السموات -أي: الملائكة- وأهل الأرض العذاب السرمدي الأبدي؛ لكتب ذلك غير ظالم لهم، وأنا أدلك على مصداق ذلك: لو كان العذاب والرحمة والجنة والنار متعلقات بالعمل فحسب في مقابل نعم الله عز وجل عليك؛ لما كافأت عبادتك نعمة واحدة من نعم الله عليك، وإذا كانت المسألة مسألة موازين العمل الصالح وغير الصالح، وأن من عمل صالحاً دخل الجنة ولابد؛ فإن الأمر لا بد أن يكون فيه شيء من العدل، فستوضع نعم الله تعالى على العبد في كفة وعبادة العبد في كفة أخرى، فينظر: هل تزن هذه الأعمال نعم الله عز وجل عليه أم لا؟ A لا؛ لأنه قد جاء بسند لا بأس به عند الحاكم: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فجيء به يوم القيامة فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. قال: لا يا رب! بل بعملي -فقد تصور أنه بهذه العبادة استحق الجنة- فقال الله تعالى: زنوا عمل عبدي وزنوا نعمي عليه -وفي رواية-: وزنوا نعمة البصر) وهي نعمة واحدة، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. قال: (فلما وضعوا نعمة البصر في كفة وعبادة الرجل ستمائة سنة في كفة؛ طاشت تلك العبادة) يعني: لم تثبت هذه العبادة أمام نعمة واحدة من نعم الله عز وجل، فلو كان الأمر متعلقاً بالعمل فحسب فإن الله تعالى لو عذب العابدين فضلاً عن العصاة، وفضلاً عن الكافرين، فهو غير ظالم لهم؛ لأن عبادتهم لا يمكن أن تكافئ نعمه عليهم، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى هي الدليل والقائد للعبد الطائع إلى جنة الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله

الإيمان الجازم بالقدر راحة للعبد في الدنيا والآخرة

الإيمان الجازم بالقدر راحة للعبد في الدنيا والآخرة قال: [وعن عطاء بن أبي رباح قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ فقال: دعاني فقال: يا بني! اتق الله. واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده]. أول شيء يا بني اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولا تعلم حقيقة الإلهية إلا إذا آمنت بالقدر خيره وشره. قال: [يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله، ولن تبلغ العلم بالله حتى تؤمن بالله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبت! كيف لي إلى الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك -تعلم أن ما قدره الله عليك لا بد أنه واقع بك مهم حاولت دفعه- وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا بالقدر] أي: أن تؤمن إيماناً جازماً أن ما قدره الله عليك واقع بك، وما صرفه الله عنك لا يمكن لأهل الأرض جميعاً أن يلحقوه بك، والذي يؤمن بالقدر ويعلم أن كل شيء من عند الله سواء كان خيراً أو شراً؛ يستريح جداً. فالإيمان بالقدر هو الذي يجعل المرء شجاعاً في كل ميدان، وذلك إذا كان يعتقد اعتقاداً جازماً أن أهل الأرض لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لا يضرونه إلا بشيء هو مكتوب أزلاً، ولا يمكن صرفه؛ ولذلك كثير من الناس يتودد وينافق ويداهن ويماري ويرائي حتى يصرف بلاءً ظن أنه واقع به، ولا ينصرف هذا البلاء أبداً، فمع فقدان الدين بالنفاق والرياء وغير ذلك يقع به ما قد قدره الله، ومع الصدق واليقين والتوكل على الله عز وجل يفاجأ أن العزة في هذا الموقف كانت مكتوبة له قبل ذلك، ولعل من علم ذلك أو عاش ذلك في بعض مواقفه يشعر بصحة ما قلت، وهذا لا يحتاج إلى تجارب، والإيمان بالله لا يحتاج إلى تجارب، وإنما الإيمان بالله يكون ابتداءً قبل أي تجربة، أؤمن بأن القدر كله من عند الله: أن الخير من عند الله، وأن الشر من عند الله، وأن الله تعالى هو النافع الضار، ولا يمكن لأحد قط هددك بضر أن يوقع هذا الضر بك إلا إذا كان مكتوباً قبل خلق السموات والأرض، وإذا وعدك واعد بجلب نفع إليك لا يمكن له ذلك إلا إذا كان مكتوباً لك قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فإذا كان كل ذلك بيد الله، وأن الخلق جميعاً في قبضة الله، وهم ملك الله تعالى؛ إذاً: فلم تحرص على الدنيا؟! ولم تخاف من ذي سلطان وهو نفسه في قبضة الله عز وجل، وتحت سلطان الملك الجبار سبحانه وتعالى؟! أنت وهو سواء، وربما تكون أنت أقرب إلى رحمة الله منه، بل هو المهدد بالعذاب والنكال والانتقام، إذاً: فلم تخالف أنت وأنت صاحب الحق؟! لا بد للمسلم أن يكون له عزة في كل موقف، وينبغي لكل منا أن يثبت موقف عزة لله عز وجل في موقف يظن فيه أنه مهان، ولا بد أن يستعمل المؤمن دائماً إيمانه وإسلامه، ولا تجعل إيمانك دائماً في الوحل والرغام والطين، بل لا بد في كل موقف يستحق الاستعلاء بالإيمان أن تستعلي بإيمانك على هذا الواقع الباطل، وعلى هؤلاء المبطلين الذين يوجهون أكاذيبهم فيستعلون عليك، وهم والله لا يملكون شيئاً منك: لا في روحك، ولا في بدنك إلا ما قد قدره الله عز وجل عليك، ولو أراد أحد أن ينزل بك العذاب وينتقم منك أشد الانتقام، فلا يقدر على شيء من ذلك، فإذا كنت تؤمن بهذا إيماناً جازماً فسر قُدُماً على بركة الله عز وجل، واعلم أن الأرض كلها لو اجتمعت على أن يضروك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو اجتمع العالمون على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فكل أمر مقدر، وما عليك إلا أن تكون ناصراً لدينك. واعلم أن هؤلاء جميعاً كلهم في قبضة الله عز وجل، وتحت سلطانه وسيطرته وقهره وملكوته وجبروته سبحانه وتعالى، فهم مهددون بالعذاب قبل أن يهددوك، ولو كان لهم شيء فبقدر، ولو كان لهم سلطان على شيء منك فإنما سلطانهم على بدنك، ومعنى (سلطانهم على بدنك): أنهم لا يملكون منك إلا السوط الأول، وما دون ذلك لا تشعر به، وهل تستعظم على الله عز وجل أن تنال في سبيله سوطاً؟ لا والله، كل ذلك قليل في حق الله وجنب الله.

وصية عبادة بن الصامت عند الموت لابنه الوليد بالإيمان بالقدر

وصية عبادة بن الصامت عند الموت لابنه الوليد بالإيمان بالقدر [عن عطاء بن أبي رباح: قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ فقال: دعاني فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتي! كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. هذا القدر، أظنه قال: فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: أي رب! وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى القلم تلك الساعة بما هو كائن إلى الأبد)]. فلو هددك طاغية بشيء من العذاب والنكال وأردت أن تصرفه عن نفسك وقد كتب في اللوح المحفوظ أنه واقع بك؛ هل يمكنك دفعه؟ لا، وإذا لم يكتبه الله تعالى عليك هل يمكن لهذا الطاغية إلحاق الأذى بك؟ لا، فإن تؤمنوا بذلك فأنتم على خير، لكن الإيمان الحقيقي يظهر ساعة المحك والعمل، فإن قال لك سلطان: افعل كذا، قل له: هذا حرام، فإن قال: تفعل وإلا فعلت، قل له: لا تستطيع إلا بقدر، وكل شيء بقدر، قدر الله وما شاء فعل. هذه الكلمات تقتله قتلاً؛ لأنه لا يؤمن بالقدر كما تؤمن أنت، وإن أوقع شيئاً من الأذى فبقدر ومكتوب، وهو في علم الله منذ الأزل. [وعن أيوب بن زياد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وأنا أتخيل فيه الموت، فقلت: يا أبا الوليد! -وهي كنية عبادة بن الصامت - أوصني واجتهد لي؟ قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: يا بني! إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله عز وجل حتى تؤمن بالقدر خيره وشره -أي: إنك لن تطعم طعم الإيمان، وتذوق حلاوته حتى تؤمن بالله، وتعلم الله تعالى، وتؤمن بالقدر خيره وشره- فقلت: يا أبتاه! وكيف لي أن أعلم ما خير القدر من شره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول شيء خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيام) يا بني فإن مت ولست على هذا -أي: ولم تؤمن بهذا- دخلت النار.

نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره

نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره [وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق وبالبعث بعد الموت، وحتى يؤمن بالقد). وعن علي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ويؤمن بالبعث بعد الموت)] أي: يؤمن أن الناس يبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء.

حكم عبد الله بن عمر على من أنكر القدر وقال إن الأمر أنف

حكم عبد الله بن عمر على من أنكر القدر وقال إن الأمر أنف [وعن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر معبد الجهني البصري، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلت: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء القوم -يعني: يا ليتنا! نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نسألهم عن القول الذي يقوله معبد الجهني - فلقينا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله (اكتنفته) -يعني: أحطت به من جانبيه- فعلمت أنه سيكل الكلام إلي -يعني: فعلمت أن صاحبي قد خولني في أن أتكلم مع عبد الله بن عمر - فقلت: يا أبا عبد الرحمن! - وهي كنية عبد الله بن عمر - إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم -أي: يطلبونه طلباً حثيثاً، وفي رواية (يتفقرون) بالفاء قبل القاف، أي: يطلبون فقار العلم، ودقائقه ومسائله الغامضة العويصة- يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف]. فأول بدعة القدرية كانت من العراق من البصرة. وهم يقولون: (لا قدر، وأن الأمر أنف)، يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، والله تعالى لم يقدر شيئاً بل إنه لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع، هذا معنى قولهم: (لا قدر وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف غير معلوم لله قبل أن يقع. وهم بهذا يكذبون الله تعالى في إثبات العلم له، ويكذبون أن الله تعالى كتب مقادير الخلائق كما في الحديث: (إن أول شيء خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة) هؤلاء يكذبون مثل هذه النصوص في القرآن والسنة؛ لأنهم يقولون: ليس هناك شيء اسمه قدر، كما أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وإجمال ذلك في كلمتين: لا قدر وأن الأمر أنف، فأنكروا مرتبة العلم، وأنكروا مرتبة الكتابة. [فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أوقد قالوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: ليست منهم وليسوا مني]. قال النووي: ورد عبد الله بن عمر هذا دليل على تكفير هؤلاء. قال: وعلى ذلك انعقد إجماع أهل العلم: أن من أنكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة كفر بالله عز وجل؛ لأنه ينفي العلم عن الله، ومن نفى العلم عن الله يلزمه أن يثبت الضد وهو الجهل، فكأنه يسب الله تعالى. قال عبد الله بن عمر: [إني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه)]. لأنه ليس من عادة السائل الجاهل أن يصدق العالم، أو المفتي؛ وذلك لأن التصديق لا يأتي إلا من رجل عالم، ثم اكتشفوا بعد ذلك أن هذا السائل هو جبريل وليس سائلاً عادياً، وكذلك مظهره ومخبره يدل على أنه ليس رجلاً قادماً من البادية إلى المدينة. [(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشر)] وهذه حجة عبد الله بن عمر في الرد على معبد الجهني الذي تكلم بهذا الشيء. [حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال رجل لـ عبد الله بن عمر: إن ناساً من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر -أي: لا يأذن في وجوده وخلقه-، قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه برآء، والله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره]. أي: حتى يؤمن بأن الخير والشر من عند الله، وأن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون. والقدر هو سر الله تعالى في خلقه، ولا ينبغي لأحد أن يتكلم في هذا الأمر، ولا أن يبحثه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، الشاهد قوله: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) أي: لا تخوضوا في مسائله خوض المجادلين فيه بغير علم ولا طلب للحق. [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشر)].

أقوال عبد الله بن مسعود في أن العبد لا يذوق طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر

أقوال عبد الله بن مسعود في أن العبد لا يذوق طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: والذي لا إله غيره لا يذوق أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه. وعنه قال: لن يجد طعم الإيمان -ووضع يده في فيه- حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث]، أي: حتى يؤمن بالبعث بعد الموت. [وعنه قال: ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق -أي: الكذب والمماحلة والمجادلة بالباطل وهو يعلم الحق، ولكنه يماري ويجادل بالباطل- والكذب في المزاحة] وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمزح ولكن لا يقول إلا حقا، (أتت امرأة تسأله عن الجنة، فقال النبي: لا يدخل الجنة عجوز، فولت المرأة وهي باكية) وهو صلى الله عليه وسلم صادق في ذلك؛ لأنهن لن يدخلنها إلا عرباً أتراباً، أي: في سن واحدة، فلما قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة عجوز) كان صادقاً؛ فولت المرأة باكية حزينة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت لها أنه صادق، ثم أتت امرأة وقالت: (يا رسول الله! أتعرف بعلي؟ قال: نعم، أليس الذي في عينيه بياض؟ - وكل الناس في عينيه بياض - فقالت المرأة: نعم. يا رسول الله!). وكان رجل من البادية يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي له بخيرات البادية، وذات يوم قدم المدينة وليس معه شيء، فاستحيا أن يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير شيء؛ فذهب إلى السوق، فلحقه النبي عليه الصلاة والسلام وأتى من خلفه فأغمض عينيه وقال: (من يشتري العبد؟ فقال الرجل: فلما وضعت يدي على يد النبي عليه الصلاة والسلام علمت أنه هو، فما يد أنعم من يده ولا أطيب، فقلت: يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً). فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب الممازحة والملاطفة: (من يشتري العبد؟ قال الرجل: إذاً: يجدني كاسداً يا رسول الله! قال: بل أنت رابح، بل أنت رابح، بل أنت رابح)، وهذه بشارة عظيمة لهذا الرجل بالربح الحسن يوم القيامة، وغير ذلك من ممازحاته عليه الصلاة والسلام. (ومر النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة في الطريق فقال: أتعلمين من أمر قريش شيئاً، ومن أمر أبي سفيان؟ فقالت: لا، قال: بل تعلمين من أمره شيئاً فأخبرينا، وأخبرينا عن ذاك الرجل الذي خرج في قريش يزعم أنه نبي، فقالت المرأة: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لا نخبرك حتى تخبرينا أنت؟ فلما أخبرتهم بخبر قريش وبخبر أبي سفيان -وكان ذلك في غزوة بدر- قالت: هذا خبر قريش وخبر أبي سفيان، فمن أنتما ومن أين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام). فقوله: (نحن من ماء) لم يكذب فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه عرض به، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. (قال: نحن من ماء، قالت المرأة: من أي ماء أنتم؟ فانطلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجب المرأة). وهذا كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]. قال: [ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذب في المزاح، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال ابن مسعود: لأن يعض الرجل على جمرة حتى يبرد -يبرد ويسكن ويموت وينام كلها بمعنى واحد- خير له من أن يقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه]. يعني: إنسان لو يمسك جمرة هكذا، ويظل قابضاً عليها بفمه إلى أن تخرج روحه خير له من أن ينطق بهذه الكلمة: ليت الله لم يفعل هذا: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فكل أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فحينئذ لا يجوز لأحد قط أن يعترض على الله تعالى في أفعاله.

أقوال علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر في إثبات القدر

أقوال علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر في إثبات القدر قال: [وعن يعلى بن مرة قال: ائتمرنا -يعني: اتفقنا- أن نحرس علي بن أبي طالب كل ليلة عشرة، قال: فخرج فصلى كما كان يصلي، ثم أتانا فقال: ما شأن السلاح؟ -وساق حديثاً طويلاً- ثم قال: إنه لن يجد عبد أو يذوق حلاوة الإيمان حتى يستيقن يقيناً غير ظان -يعني: غير شاك]. وهذا شرط في إيماننا بالقدر، وكلنا يؤمن بالقدر، والقدر باختصار شديد: أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، يعني: أن ما قدره الله لك لا بد أن ينزل، وما صرفه الله عنك لا يمكن أن ينزل، فحينئذ إذا وقع بك البلاء فاعلم أنه من عند الله، وإذا صرف عنك الخير الذي تظن أنه خير فاعلم أن هذا الصرف من عند الله، فلماذا أنت غضبان؟! لو أن شخصاً يريد أن يتزوج امرأة جميلة وطيبة ومتدينة فإنه يستخير الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستخير حتى في شراك نعلنا، فبعد أن يصلي هذا الشخص يقرأ هذا الذكر الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم) إلى آخر الدعاء، والعجيب أن أحدنا يسمي هذه المرأة ويقول في النهاية: يا رب أنا أريدها، قدرها لي، أنا سأموت يا رب! إذا لم أتزوجها، وكذلك من النساء من تقول عن رجل من الناس هذا القول، لماذا كل ذلك؟! أنت كونك استخرت ربك فقد فوضته في أن يختار لك، فإذا قدر لك ألا تتزوج تسخط وتغضب على ربك؟! هذه قسمة ضيزى، وليس إيماناً يساوي فلساً في ميزان الإيمان بالله عز وجل، فالله سبحانه جعل لك الخير في غيرها، وكم مرة ظن الإنسان أن العمل القادم عليه خير فيصرفه الله، ثم يكتشف العبد أنه كان شراً، والعكس بالعكس، فما عليك يا أخي المؤمن إلا أن تعلن الإيمان بالله، وتعلن الإيمان بالقدر خيره وشره، وقل: الذي أتمناه هو الذي يقدره الله عز وجل، وما قدره الله لي ينبغي أن يكون أمنيتي فيه، إيجاباً أو سلباً. قال: [إنه لن يجد عبد أو يذوق حلاوة الإيمان حتى يستيقن يقيناً غير شاك: أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظان: أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويؤمن بالقدر كله. وقال أبو بكر الكلبي: رأيت شيخاً يزحف عند قصر أوس، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري رحمه الله يقول: لو أن عبداً أقام الليل وصام النهار، ثم كذب بشيء من قدر الله عز وجل لأكبه الله في النار على رأسه، أسفله أعلاه، قال: قلت له: أنت سمعته من أبي سعيد؟ قال: أنا سمعته من أبي سعيد. وعن عبد الله بن عمر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشر). وعن ابن عباس: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال جبريل عليه السلام: قال الله عز وجل: من آمن بي ولم يؤمن بالقدر خيره وشره فليلتمس رباً غيري)، وهذا على سبيل التقريع والتهديد.

باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم

باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم قال: [الباب الخامس: باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم]. مخلوق وهو رأس الشر، واتفقنا من قبل أن الخير والشر من عند الله، وأن الله خالق للخير والشر، وأن الله أراد من عباده الخير إرادة شرعية دينية، وأحب ذلك وأمرهم به، وأراد منهم الشر إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنه لا يقع في كون الله إلا ما أراد، وما شاء وقدر، ولو أراد العصاة معصية الله تعالى ما قدروا على ذلك إلا بعد أن يأذن الله في ذلك، فالله سبحانه لا يحب الشر بل يبغضه، وحذر منه، وخلق لأجله النار، وتوعد عباده العصاة. إذاً: إبليس رأس الشر، فنؤمن بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم يجري منهم مجرى الدم في العروق إلا من عصمه الله عز وجل، ومن أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة. ففي البخاري عن أنس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فالشيطان يجري من ابن آدم كما يجري منه الدم، فالدم يجري في كل أعضاء البدن، فكذلك الشيطان يجري في جميع أعضاء البدن، وهو يجري من ابن آدم كما يجري الدم في العروق. [وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلجوا على المغيبات -أي: لا تدخلوا على النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن، (لا تلجوا) أي: لا تدخلوا خلسة على النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن- فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، والعلة وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). قال: [(قالوا: ومنك يا رسول الله؟! -الشيطان يجري منك مجرى الدم؟ - قال: ومني -أي: يجري مني كما يجري منكم- إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير). وكلمة (فأسلم) ضبطت مرة بالفتح ومرة بالضم، فالضم معناه: فأسلم أنا منه ومن وسوسته، ورواية الجمهور -وهي الصحيحة- بالفتح، أي: فأسلم الشيطان وترك الكفر، فصار مسلماً لا يأمرني إلا بخير، ولا يأمرني إلا بالإسلام].

تقديم المرء حسن الظن إذا رأى ما يبعث على الشبهة في أخيه

تقديم المرء حسن الظن إذا رأى ما يبعث على الشبهة في أخيه قال: [وعن صفية بنت حيي قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره -وفي هذا استحباب زيارة النساء لأزواجهن في المعتكف- فحدثته ثم قمت فانقلبت -أي: تكلمت معه شيئاً ثم استأذنته لأنصرف- إلى بيتي، قولها: (فانقلبت) -أي: أرجع إلى بيتي- فقام ليقلبني -أي: فقام ليوصلني إلى بيتي- وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر النبي برجلين من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما -أي: على مهلكما، لماذا تجريان؟ - إنها صفية بنت حيي. قالا: سبحان الله! يا رسول الله -يعني: هل سنشك فيك أنت؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال: شيئاً)]. أي: خشيت أن يتسلط عليكما الشيطان فيحدثكما بسوء أو شر، فتعتقدان أني آتي هذا الخنا فتكفران بذلك، فانظر إلى رأفة النبي عليه الصلاة والسلام وشفقته ورحمته بأصحابه، أنه عليه الصلاة والسلام قدم المعذرة بين أيديهم: تعالوا؛ لماذا تجرون؟ هذه صفية بنت حيي امرأتي التي تعرفونها وتعرفون أنها امرأتي، قالوا: يا رسول الله! هل نحن سنشك فيك؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فهو معكم وهو يراكم ولكنكم لا ترونه، وربما سول لكم شيئاً فتقعون في إساءة الظن بنبيكم؛ فتكفرون بذلك، فأنا أريد ألا تقعوا في شيء من ذلك، رحمةً منه ورأفة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]. [وعن أنس قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة من نسائه إذ مر رجل فقال: يا فلان! هذه زوجتي فلانة)]. فالأصل في مثل هذا الأمر حسن الظن، فتخيل أني لم أقل لك: مهلاً هذه امرأتي معي في السيارة؟ أو لو أن امرأة محترمة جالسة معي في السيارة وأنت رأيتها معي؛ فالأصل حسن الظن، كما أن الأصل حسن الظن بإخوانك من طلبة العلم، فقد أرى طالب علم ومعه امرأة متبرجة وسافرة، فالأصل هنا حسن الظن، لكن ربما يكون في ذلك شيء من العتاب في أسلوب رقيق لطيف مهذب مؤدب إلى أقصى حد، وهذا الذي حدث لي ذات مرة عند النقابة في مدينة مصر وأنا قادم من أجل درس شرعي، فرأيت رجلاً وامرأة والرجل يشير إلى السيارات بجنون فتوقفت له، فإذا بامرأته مغمى عليها، فماذا يكون موقفي؟ ولو أنت مكاني ماذا تفعل؟ هل تحمله أم لا تحمله؟ A تحمله، ولو كانت هي متبرجة، وهكذا حملتها بسيارتي وزوجها، وقلت له: إننا نذهب إلى المستشفى، فلما نزلت المرأة وزوجها هنا أمام المسجد حملها زوجها ورفعها على صدره، وصعد بها إلى أعلى وأنا صعدت خلفه، وحجزت لهما التذكرة، ودخلت معهما عند الدكتور، وأوصيت الدكتور بهما خيراً، وكان من حسن هذه المعاملة أن التزم الرجل والمرأة بالصلاة واللباس الشرعي كلاهما، وأنا لا أريد أن أحرجه؛ لأنه الآن صار صديقاً لي، وامرأته صارت صديقة لأهل بيتي.

دعوة الناس إلى دين الله تعالى بالحكمة

دعوة الناس إلى دين الله تعالى بالحكمة وبعض الإخوة انزعج جداً وقال: كيف تحترم المتبرجات؟ قلت: نعم أحترمها؛ إن الكافر مع أنه لا قدوة فيه لكنه لو كان على سرعة مائة وخمسين كيلو متر ورأى شخصاً قاطعاً الطريق لوقف له، فنحن أولى بهذا الخلق، فهذا خلق كريم ينبغي أن نتخلق به، فكم من إنسان كان عاصياً وبكلمة واحدة تاب ورجع، وكم من كافر آمن بكلمة، فحسن الخلق يجد طريقه إلى القلوب، وهذا هو خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أخلاق النبوة. وقد ثبت في الأثر: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أريد أن أسلم لكن على أن تأذن لي في الزنا -وأظن لو أن هذا السؤال كان مطروحاً عليك لقمت بضربه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟ لابنتك؟ لزوجك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ وفي كل سؤال يقول الرجل: لا، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام صدره من جهة قلبه وقال: اللهم طهر قلبه)، فقام الرجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم معترفاً أن أبغض شيء إليه هو الزنا، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهره لما انتفع الرجل بهذا الموقف الإيماني الرائع؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام له مع أصحاب المعاصي مواقف رائعة، وأما مواقفه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهؤلاء الصحابة الأجلاء الكبار من أئمة الدين فهي مواقف أخرى، وعندما نأتي الآن لنسرد أخلاقيات النبي صلى الله عليه وسلم مع العصاة والزناة والسُّراق، والذين كانوا يسبونه ويشتمونه لعلمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن ينتقم من أحدهم كأهل مكة لما فتحها، فـ أبو سفيان قال له: (يا رسول الله! أبيدت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، فكف عنهم النبي عليه الصلاة والسلام)، فلو كان صلى الله عليه وسلم من أهل الانتقام كما ننتقم نحن فلن يقوم لهذا الدين قائمة، فاتقوا الله عز وجل في العصاة. ولا بد أن تعلموا أننا على معاص، فهم معصيتهم ظاهرة ونحن معاصينا مستورة، والله تعالى سترها عن الخلق لحسن مظهرنا، أو لحبنا لله ورسوله مع وجود المعاصي فينا. ولو قرأت يا أخي المسلم! في حياة السلف كما هو في كتاب (سير أعلام النبلاء) في ترجمة أدنى رجل من أهل العبادة والعلم والعمل وقست نفسك عليه لوجدت نفسك ضائعاً أمام أعمالهم؛ لأن السلف بلغوا المجد في كل باب من أبواب العلم والعمل، والزهد فنحن بجوار السلف لا شيء، وليس لنا من السلف إلا حب السلف، وأما العمل فبيننا وبينهم بون شاسع، فهناك أناس أدنى منك وأقرانك في العلم والعمل والعبادة، وأعلى منك، والناس درجات، فقد جعل الله تعالى هؤلاء أهل معصية؛ حتى تؤجر أنت فيهم، وحتى تدعوهم إلى الله عز وجل، وحتى يستمر باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان كل الناس مؤمنين موحدين فكيف يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! قال: [(بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة من نسائه إذ مر رجل فقال: يا فلان! هذه زوجتي فلانة، فقال: يا رسول الله! من كنت أظن به فإني لم أكن أظن بك! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)].

بيان أن لكل إنسان قرينا من الجن

بيان أن لكل إنسان قريناً من الجن قال: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وكل به قرينه من الجن)، فأنت معك قرينان أحدهما يأمرك بالخير والثاني يأمرك بالشر، أما الذي يأمرك بالشر فهو قرين الجن، والذي يأمرك بالخير فهو قرين الملائكة، (قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فليس يأمرني إلا بخير). وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وله قرينه من الجن، قال: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أني آمره فيطيعني). وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وله شيطان، قال: ولك يا رسول الله؟! قال: ولي؛ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم)] وله شاهد عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.

أقوال الصحابة والتابعين في أن لكل إنسان قرينا وتحذيرهم من وسوسته

أقوال الصحابة والتابعين في أن لكل إنسان قريناً وتحذيرهم من وسوسته قال: [وعن ابن عمر قال: كيف تنجو من الشيطان وهو يجري منك مجرى الدم؟!] والاستفهام هنا إما للتعجب، أو للنفي، فاجتهد قدر الإمكان أن تنجو. [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: أرأيتم لو أن رجلاً رأى صيداً فجاءه من حيث لا يراه الطير يوشك أن يأخذه؟ قالوا: بلى]. وذلك لأنه ينقض عليه في حين غفلة منه، وهذا أمكن في السيطرة. [فقال مطرف: فكذا الشيطان يراك ولا تراه]، فهو يتحين منك لحظة غفلة ينقض عليك ويوقعك في المعصية. وعن عبد الله بن عبيد بن عمير: (أن إبليس قال: أي رب! أخرجتني من الجنة من أجل آدم، وأني لا أستطيعه إلا بسلطان)] أي: أنا لا أستطيع أن أتسلط عليه إلا أن تمكنني من ذلك، فهذا إبليس يعلم أن كل شيء من عند الله تعالى. [قال: (قال: فإنك مسلط عليه -أي: على آدم- قال: أي رب! زدني؟ قال: لا يولد له ولد إلا لك مثله)] فالشياطين يتناسلون خلافاً للملائكة. قال: [(قال: أي رب! زدني؟ قال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، قال آدم: أي رب! إنك سلطته علي ولا أمتنع منه إلا بك) أي: لا أستطيع العصمة منه ومن حبائله ووسوسته إلا بك. [(قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من يد السوء - أي: من إبليس والشيطان - قال: أي رب! زدني؟ قال: حسنة عشراً وأزيد، والسيئة واحدة)] يعني: إذا وقعت في السيئة كتبتها واحدة، وإذا فعلت الحسنة كتبتها حسنة إلى عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء. [(قال: أي رب! زدني؟ قال: باب التوبة مفتوح ما دام الروح في الجسد، قال: أي رب! زدني؟ قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]) وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس]، إذاً: لما خلق إبليس أراد أن يعصى، أي: أذن في وجود المعصية وفي خلقها، وأرادها إرادة كونية قدرية لا إرادة شرعية دينية. قال: [فقد فصل لكم وبين لكم: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162]-أي: بمضلين- إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم]. [وعن مجاهد: في قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27] أي: الشيطان والجن يراكم هو وقبيله وأبناؤه وولده من حيث لا ترونهم]. قال الشيخ ابن بطة: [فهذه الأحاديث كلها موافقة لما نطق به التنزيل من تسليط الله إبليس وجنوده على بني آدم، وما قد ذكرناه في أول هذا الكتاب].

الأسئلة

الأسئلة

توفيق الله سبحانه لنبيه دون غيره في أن قرينه أسلم

توفيق الله سبحانه لنبيه دون غيره في أن قرينه أسلم Q كيف نعمل نحن مع ضعفنا في مجاهدة الشيطان لكي يسلم؟ A إياك أن تتعشم أن الشيطان سيسلم، فهذا للنبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان شيء من ذلك كائناً لآحاد الأمة لكان الصحابة أولى بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الصحابة -بل أشراف الصحابة- فيقول لهم: (غير أن الله أعانني عليه فأسلم)، أما أن يسلم شيطان أحدنا فهذا أمر لا يعلمه أحد إنما يعلمه الله عز وجل. فما عليك إلا أن تجاهد مكائد الشيطان، فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.

حكم صيام يوم عاشوراء ويوم بعده

حكم صيام يوم عاشوراء ويوم بعده Q شخص لم يصم يوم التاسع من محرم فماذا يفعل: هل يصوم العاشر والحادي عشر، أم كيف يخالف اليهود؟ A في الحقيقة صيام الحادي عشر مع العاشر لمن فاته التاسع دليله ضعيف بل ضعيف جداً، وإنما يكفيك أن تصوم يوم العاشر فحسب، لكن إذا صمت يوم الحادي عشر على أنه يوم الإثنين فإنك تصومه بنية أنه من الأيام المسنونة، وليس ملحقاً بعاشوراء.

الجمع بين قولنا: إنه لا راد لما قضى الله وقدره، وبين الحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء)

الجمع بين قولنا: إنه لا راد لما قضى الله وقدره، وبين الحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) Q ما وجه الجمع بين ما قلت وبين ما نعلم من أن الدعاء يرد البلاء، وأن الدعاء والقدر يعتلجان في السماء، وكيف أدعو الله عز وجل أن يصرف عني بلاءً وأنا أعلم أنه لو قدره الله تعالى علي فلن يصرفه عني؛ فلم الدعاء إذاً؟ A هذا كلام جميل، ونفس سؤالك هذا قد سأله الصحابة رضي الله عنهم، فأقول: هل تعلم أنت بنزول البلاء أم لا؟ وهل تعلم أن الله كتب عليك البلاء أم لا؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كان يعلم من ربه أنه منصور؛ بدليل أنه قال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وظل يعدد مصارع صناديد الشرك والكفر، ومع هذا رفع يديه عليه الصلاة والسلام في ليلة الجمعة إلى الله عز وجل، وظل يدعو ربه طوال الليل، ويستغيث الله عز وجل أن ينصره مع أن الله ناصره، وهو يعلم ذلك، فكان ينبغي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا منصور، وينام طوال الليل حتى يستعد للحرب بعد الفجر، كان له ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب ومن أعظمها الدعاء. قال الحافظ ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الداء والدواء): الدعاء والبلاء يعتلجان في السماء، البلاء نازل والدعاء صاعد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) هذا حديث صحيح. ومعنى ذلك: أن الله تعالى قدر لي البلاء، ومع تقديره البلاء في اللوح المحفوظ قدر أنه لن يصل إلي، أو سيصل إلي، أو يعتلج مع الدعاء إلى قيام الساعة، فالحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) والدعاء هذا لقوته وقوة حرارة الإيمان فيه رد عنك البلاء، فلم يخف على الله تعالى لما كتب عليك البلاء أنك ستدعوه بإخلاص ويقين، فيرفع هذا الإخلاص وهذا اليقين البلاء، إذاً: فهو قدر البلاء وقدر لهذا البلاء أن يصعد مرة أخرى، لكنك أنت لا تعلم ذلك، ولا تدري أن الله قدر لك البلاء أم لا. فلو أنك خرجت من هذا المسجد وصدمتك سيارة، فدقت السيارة ذراعك فانكسرت؛ فهذا بلاء، وهو مقدر في السماء، ومع ذلك يحتاج إلى الدعاء؛ فإنه ربما يبرز هذا الدعاء بحرارة إيمان ويقين جداً، فيتقبله الله فيصرف عنك هذا البلاء، فإذا صرفه عنك فاعلم أنه مكتوب في اللوح المحفوظ أن من القدر نزول البلاء، ومن القدر كذلك رفع البلاء بسبب الدعاء، هذا مكتوب وذاك مكتوب. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم تزيد في العمر) مع أن الله تعالى يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. فأنت مكتوب لك أنك تعيش خمسين سنة مثلاً على التمام والكمال بغير زيادة ولا نقصان، لكن هل تعرف أن هذا مكتوب لك؟ لا، ولو كنت تعرفه لاستمررت في العصيان طوال عمرك، وعندما يصل عمرك إلى (49) سنة تتوب من ذلك؛ لأنك تعرف أن الموت لم يبق له إلا سنة واحدة، وتعرف أن معادك الساعة كذا في الدقيقة الفلانية، وقد تقعد على القبر لتستعد للموت، لكن من حكمة الله تعالى أنه أخفى عليك يومك حتى تجتهد طول عمرك؛ لأن الموت ينزل بك وبساحتك في أي وقت وأنت شاب أو شيخ أو كهل أو رجل أو امرأة، صغيراً كنت أو كبيراً، الموت يأتي بغتة، فإذا كان هذا اعتقادك اجتهدت في الطاعة، واجتهدت في العبادة والدعاء الذي هو رأس العبادات، وبهذا الدعاء يرفع الله عنك البلاء. فالله تعالى قدر لك في اللوح المحفوظ أنك ستعيش (50) سنة، وهذا اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا الإثبات: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فالمحو والإثبات إنما هو في الصحف التي في أيدي الملائكة، فالله تعالى يقول للملائكة الذين يكتبون، أو لملك الأرحام الذي يكتب عمرك: اكتب إذا كان واصلاً لرحمه فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير ذلك فسيعيش خمسين سنة، والله تعالى علم أنك لن تكون واصلاً؛ فكتبك في اللوح المحفوظ -الذي لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً- أنك ستكون قاطعاً للرحم، وأن عمرك ينتهي عند الخمسين، ولكنه أمر الملائكة: اكتبوا إذا كان واصلاً فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير واصل فسيعيش خمسين سنة، فهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرم تزيد في العمر) أي: هي سبب في زيادة العمر المعلوم في علم الله الأزلي، والله تعالى علم منك قبل أن يخلق السموات والأرض أنك ستكون واصلاً أو قاطعاً، وهذا من العلم الذي أخفاه الله عن جميع الخلق حتى الملائكة والأنبياء، فالملك الذي كتب عمرك لا يدري متى تموت بالضبط على الكمال والتمام؛ لأن الله تعالى قال له: اكتب: إن هذا سيموت وعمره (50) أو (60) سنة حسب عمله الصالح أو الطالح، فالملك لا يعلم عين التوقيت الذي تقبض فيه روحك، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، فهذا معنى أن الأعمال الخيرية تزيد في العمر. وربما يكون المعنى: أنها تزيد في العمر بركة، فشخص عاش (60) سنة، لكنه لم يعمل خيراً قط، وشخص عاش (30) سنة أو (4

بيان أن كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين

شرح كتاب الإبانة - بيان أن كل مولود يُولد على الفطرة، وذراري المشركين لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولود يولد على الفطرة، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالفطرة، وانعقد الإجماع على أن من مات من أبناء الموحدين قبل البلوغ فهو في الجنة، ووقع الخلاف في أبناء الكفار الذين ماتوا قبل بلوغهم الحلم على مذاهب عدة تجدها مبسوطة في هذه المادة.

باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين

باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: الباب الثالث من أبواب القدر: باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين. أي: والكلام عن أطفال المشركين.

شرح حديث (كل مولود يولد على الفطرة)

شرح حديث (كل مولود يولد على الفطرة) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من كل بهيمة جمعاء، هل تحس من جدعاء؟)]. ومعنى الحديث: أن البقرة تلد بقرة مثلها، والبعير يلد بعيراً مثله، فإذا ولدت الناقة ولداً فهل تشعر بأدنى فرق بين هذا المولود وبين أمه؟ لا، إنما هو بضعة منها قد اجتمعت أعضاؤه كلها، والناظر إلى ولد الناقة يقول: هذا ولد الناقة، والناظر إلى مولود الآدمي يقول: هذا آدمي، ولا يمكن أبداً أن تلد ناقة إنساناً، أو تلد امرأة ناقة. ولذلك كل مولود ينتج مثيله وشكيله، (جمعاء) أي: قد جمع جميع الأعضاء، وقوله: (هل تحس من جدعاء؟) الجدع: قطع الأنف، أو قطع الأذن، أو قطع اليد، أي: قطع الأطراف عموماً، فإذا ولدت الناقة فولدها مثلها في الشبه والأعضاء. قال: [(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، أو يشركانه)]، أي: يجعلانه مشركاً، كالبهيمة التي تلد بهيمة مثلها قد جمعت جميع الأعضاء، (هل تحس فيها من جدعاء؟) أي: هل فيها نقص؟ ليس فيها نقص، بل كلها مثل أمها.

مذاهب العلماء في أبناء المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ

مذاهب العلماء في أبناء المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ [(قالوا يا رسول الله: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)]. قولهم: (أرأيت من يموت وهو صغير؟) هذا يتعلق بأبناء المشركين والكفار؛ لأن الإجماع قد انعقد -مع وفرة النصوص من الكتاب والسنة- على أن من مات قبل البلوغ، وقبل أن يجري عليه القلم، وقبل أن يبلغ الحلم من أبناء الموحدين والمسلمين فهو في الجنة، لا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في أبناء الكفار لو أنهم ماتوا قبل البلوغ أين هم؟ على أربعة مذاهب. المذهب الأول: أنهم في الجنة. المذهب الثاني: أنهم تبع لآبائهم، أي: أنهم في النار. المذهب الثالث: التوقف، أي: عدم القطع لهم بجنة ولا نار. المذهب الرابع: أنهم يؤتون يوم القيامة فيعقد لهم اختبار، فإن أطاعوا الله تعالى أدخلهم الجنة، وإن عصوا الله تعالى أدخلهم النار. وهذا الاختبار عبارة عن قول الله تعالى لهم: ادخلوا النار، فإن أطاعوه ودخلوا النار كانت برداً وسلاماً عليهم، وهذا يدل على أنهم لو كانوا عاشوا حتى بلغوا لكانوا من الطائعين لله عز وجل، فالذي يطيعه تعالى في هذا الموطن حري به أن يكون مطيعاً له في الدنيا لو أنه عاش، ولو أن الله تعالى أمره أن يدخل النار فأبى وعصى كان حرياً به ألا يطيعه في الدنيا لو أنه عاش بعد البلوغ. فهذه المذاهب الأربعة فيما يتعلق بذراري المشركين أو بأبناء الكفار أيها أرجح؟ سنتعرض لهذا بإذن الله تعالى.

حجة من يقول بأن أبناء الكفار كفار

حجة من يقول بأن أبناء الكفار كفار قال: [وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه -أي: يجعلانه مجوسياً- والبهيمة تنتج البهيمة)، أي: والبهيمة تلد البهيمة، ومعنى هذا القول: أن المؤمن يلد مؤمناً، والكافر يلد كافراً، وهذا هو الذي حدا ببعض أهل العلم إلى أن يقول: إن أبناء الكفار كفار، والبهيمة تنتج البهيمة. [ثم قال: (هل تكون فيها جدعاء؟)] أي: هل فيها نقص؟ هل فيها عوج؟ هل فيها التواء؟ هل فيها انحراف عن أصل فطرتها؟ A لا، إذاً: أبناء الكفار كفار، وهذه حجة من يقول: إن أبناء الكفار كفار. قال: [وعن الأسود بن سريع التميمي السعدي -نزل البصرة ومات في أيام الجمل- قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية -أي: بعث النبي سرية للجهاد فجاهدوا وقاتلوا حتى قتلوا أبناء المشركين الذين كانوا يقاتلونهم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ -أي: ما الذي دعاكم إلى قتل الأطفال؟ - قالوا: يا رسول الله أوليسوا أولاد المشركين؟ قال: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ -أي: إن خياركم الآن هم أبناء المشركين، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً فقال: ألا كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه)]، أي: حتى يصبح باختياره مؤمناً أو كافراً، وهذا لا يكون إلا بعد البلوغ.

معنى الفطرة في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) عند ابن بطة رحمه الله

معنى الفطرة في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) عند ابن بطة رحمه الله قال الشيخ ابن بطة: [وما أكثر من عشيت بصيرته عن فهم هذا الحديث -أي: أصابه العشى- فتاه قلبه، وتحير عقله، فضل وأضل به خلقاً كثيراً، وذلك أنه يتأول الخبر على ما يحتمله عقله من ظاهره، فيظن أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كل مولود يولد على الفطرة): أراد بذلك أن كل مولود يولد مسلماً مؤمناً]. وهذا الذي نفهمه جميعاً من الحديث، بل لو سألت شخصاً فقلت له: ما المقصود بالفطرة في قول النبي الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة؟) فالكل سيقولون: الإسلام، لكن انظر إلى كلام الشيخ ابن بطة عليه رحمة الله، يقول: ما أكثر من عشيت بصيرته عن فهم هذا الحديث، فتاه قلبه وتحير عقله فضل وأضل. وهذا زجر شديد جداً، فهو ينعى على من فهم أن الفطرة هي الإسلام، فيقول: هذا كلام غير صحيح. قال: [وإنما أبواه يهودانه وينصرانه، فمن قال ذلك أو توهمه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل وعلى رسوله، ورد القرآن والسنة، وخالف ما عليه المؤمنون من الأمة]. إذاً: نحن بذلك ضائعين؛ لأننا نفهم أن الفطرة هي الإسلام. قال: [وزعم أن اليهود والنصارى يضلون من هداه الله عز وجل من أولادهم، ويشقون من أسعده الله، ويجعلون من أهل النار من خلقه الله للجنة، ويزعمون أن مشيئة اليهود والنصارى والمجوس في أولادهم كانت أغلب، وإرادتهم أظهر وأقدر من مشيئة الله وإرادته وقدرته في أولادهم، حتى كان ما أرادته اليهود والنصارى والمجوس، ولم يكن ما أراده الله، تعالى عما تقوله القدرية المفترية على الله علواً كبيراً]. إذاً: هو بذلك جعلنا قدرية!

تفسير الفطرة في هذا الحديث بما جاء في كتاب الله والأحاديث الأخرى من أخذ الميثاق في ابتداء الخلق

تفسير الفطرة في هذا الحديث بما جاء في كتاب الله والأحاديث الأخرى من أخذ الميثاق في ابتداء الخلق قال: [فأما هذا الحديث فإن بيان وجهه في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند العلماء والعقلاء بيان لا يختل على من وهب الله له فهمه، وفتح أبصار قلبه؛ وذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]]. يريد أن يقول: إن الفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هي المذكورة آية الميثاق: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، فهو فسر الفطرة بالميثاق الذي ابتدأه الله تعالى فاطر السماوات والأرض، أي: مبتدئ السماوات والأرض، فقال: الفطرة هي الابتداء، أي: ابتدأه الله تعالى. ففسر الفطرة بالابتداء، والابتداء هو الخلق، ولما خلقهم الله تعالى على هيئة الذر في ظهور آبائهم أخرجهم من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق أنه ربهم، ولا رب لهم إلا هو سبحانه وتعالى، وهو المستحق للإلهية؛ لأن الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت يستحق أن يعبد دون سواه، فلما أخذ الله تعالى عليهم العهد بذلك: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. قال: [ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك أن الله عز وجل أخذهم من صلب آدم كهيئة الذر، فأخذ عليهم العهد والميثاق بأنه ربهم، فأقروا له بذلك أجمعون، ثم ردهم في صلب آدم، ثم قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]-أي: التي ابتدأ خلق الناس عليها- فكانت البداية التي ابتدأ الله عز وجل الخلق بها، ودعاهم إليها؛ وذلك أن بداية خلقهم الإقرار له بأنه ربهم، وهي الفطرة]. إذاً: فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) بأنه الإقرار الأول الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم لما أخرجهم من صلب أبيهم آدم، قال: [والفطرة هاهنا ابتداء الخلق]، أي: أنه فسر الفطرة بابتداء الخلق وليس بالإسلام. قال: [ولم يعن بالفطرة الإسلام وشرائعه وسننه وفرائضه، ألا تراه يقول: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))، ومما يزيدك في بيان ذلك ووضوحه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] يعني: أنه بدأ خلقها، أي: بدأ خلق السماوات والأرض، فالفطرة بمعنى: الخلق والبداية، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على تلك البداية التي ابتدأ الله عز وجل خلقه بها، وأخذ مواثيقهم عليها من الإقرار له بالربوبية، ثم يعرب عنه لسانه بما يلقنه أبواه من الشرائع والأديان؛ فيعرب بها وينسب إليها، ثم هو من بعد إعراب لسانه واعتقاده لدين آبائه؛ راجع إلى علم الله تعالى في العلم الأزلي الذي كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومن سبق له في أم الكتاب عنده أنه كان ممن سبقت له الرحمة؛ لم تضره أبوته]. فانظر إلى الحجج العقلية، فهو يقول: إذا كان الله تعالى علم أن هذا مرحوماً فلن تضره أبوة أبويه وإن كانا كافرين، ولو سبق في علم الله لعبده أنه معذب فلن تنفعه أبوة أبويه وإن كانا من أتقى أهل الأرض، وهذا كلام جميل. قال: [ولا ما دعاه إليه وعلمه أبواه من دين اليهودية والنصرانية والمجوسية، فما أكثر من ولدته اليهود والنصارى والمجوس ونشأ فيهم ومعهم وعلى أديانهم وأقوالهم وأفعالهم، ثم راجع بدايته وما سبق له من الله ومن عنايته بهدايته، فحسن إسلامه، وظهر إيمانه، وشرح الله صدره بالإسلام، وطهر قلبه بالإيمان، فعاد بعد الذي كان عليه من طاعته لأبويه عاصياً، ومحبته لهما بغضاً، وسلمه لهما وذبه لهما حرباً، وعليهما عذاباً صباً، ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: على دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما]. وهذه حجة عقلية، فهو يريد أن يقول: لو كانت الفطرة هنا بمعنى الإسلام؛ فإن كل أبناء المشركين إذا ماتوا تجرى عليهم أحكام الإسلام: من الغسل، والتكفين، والصلاة عليهم، والدفن في مقابر المسلمين، ويرث أباه، وأبوه يرث منه، وهذا الكلام معقول، والأوضح منه أمر المنافقين؛ إذ إن الله قد قطع بكفرهم؛ لأنهم كفار في الحقيقة، فقد أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ولكونهم أظهروا الإسلام جرت عليهم أحكام الإسلام في الدنيا، وهم عند الله كفار، وكذلك أطفال المشركين ما المانع أن يكونوا في حقيقة أمرهم مسلمين، وتجرى عليهم في الدنيا أحكام الكفار تبعاً لآبائهم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام صلى على زعيم المنافقين وهو على يقين من ربه أنه منافق، وأنه كافر، ومع هذا

رد المؤلف على مذهب القائلين بأن الفطرة هي الإسلام

رد المؤلف على مذهب القائلين بأن الفطرة هي الإسلام قال: [ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما، وكذلك إن ماتا لم يرثاه؛ لما عليه الأمة مجمعون أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وقد كان من سبيل الطفل من أولاد أهل الكتاب إذا مات في صغره أن يتولاه المسلمون، ويصلوا عليه، ولا يدفن إلا معهم وفي مقابرهم]. أي: أنه يريد أن يقول لك: لو كان النبي والصحابة يفهمون أن الفطرة هي الإسلام لأخذوا أولاد المشركين بعد موتهم وصلوا عليهم، وأجروا عليهم أحكام الإسلام، لكن لما لم يفعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه الكرام دل على أن الفطرة ليست هي الإسلام، وإنما هي ابتداء الخلق، وأخذ الميثاق على العباد. قال: [فإن كان الحكم في معنى هذا الحديث كما تأولته القدرية -وليس هو كذلك والحمد لله- فقد ضلت الأمة، وخالفت الكتاب والسنة حين خلت بين اليهود والنصارى وبين الأطفال من المسلمين]. أي: لو كان الأمر كذلك -أن الفطرة هي الإسلام- فقد أجمعت الأمة على الضلال؛ لأنها مكنت اليهود والنصارى والمجوس والمشركين من دفن أبنائهم، وفي حقيقة الأمر هم منا، لكن هذا محال، فالأمة لا يمكن أبداً أن تجتمع على ضلال. قال: [يأخذون مواريثهم ويلون غسلهم والصلاة عليهم والدفن لهم، لكن المسلمين مجمعون، وعلى إجماعهم مصيبون: أن من مات من أطفال اليهود والنصارى والمجوس ورثه أبواه وورث هو أبويه، ووليا غسله ودفنه، وأن أطفالهم منهم ومعهم وعلى أديانهم -أي: في الدنيا-، وإنما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) إنما أراد أنهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم عليه السلام من الإقرار لله بالمعرفة، ثم أعربت عنهم ألسنتهم ونسبوا إلى آبائهم، فمنهم من جحد بعد إقراره الأول من الزنادقة الذين لا يعترفون بالله ولا يقرون به، وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون ديناً، وسائر الملل، فهم يقرون بتلك الفطرة التي كانت في البداية، فإنك لست تلقى أحداً من أهل الملل -وإن كان كافراً- إلا وهو مقر بأن الله ربه وخالقه ورازقه، وهو في ذلك كافر حين خالف شريعة الإسلام]. ونخلص من ذلك كله إلى أن ابن بطة عليه رحمة الله فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: على أصل الخلق الذي خلقه الله تعالى عليه؛ حين أخذ العهد والميثاق عليه لما أخرجه كالذر من صلبه أبيه آدم، ففسر الفطرة بالابتداء، وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم الميثاق: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، فهم يقرون بربوبية الله عز وجل، ثم تجد بعد ذلك من يجحد ويكفر ومن يؤمن. ثم يستدل على صحة هذا التفسير [بما رواه الحجاج بن منهال عن حماد بن سلمة قال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))]. إذاً: ابن بطة لم يأت بكلام من عنده، وإنما له سلف في هذه المسألة، وسلفه فيها هو حماد بن سلمة، ومثل قول حماد قال قتيبة رحمه الله تعالى.

بيأن أن الأدلة الشرعية لا يقع فيها التضاد والتناقض حقيقة

بيأن أن الأدلة الشرعية لا يقع فيها التضاد والتناقض حقيقة قال: [وأدل من ذلك ما جاء من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التتضاد]. أي: لا يمكن أن يحصل فيها تضارب؛ لأنها من مشكاة واحدة وهي مشكاة الوحي، قال: [وأقواله وكلامه صلى الله عليه وسلم لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والتناسخ، فكان ذلك في التحليل والتحريم، والتخفيف والتشديد]. هو يريد أن يقول: إن كلام الله عز وجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام منه ما هو خبر، ومنه ما هو إنشاء، والإنشاء بابه طويل وعظيم جداً، ومتفرع منه الحلال والحرام، والتخفيف والتشديد، ومنه المنسوخ وغير المنسوخ، والنسخ يلحق الإنشاء ولا يلحق الخبر، فغير الأخبار معرضة للنسخ، والنسخ إنما يكون في زمن النبوة، أي: أنه لا نسخ بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الطريق الدال على النسخ. قال: [فكان ذلك في التحليل -أي: مسألة النسخ- والتحريم، والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، والعذر يحضر، فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال]. أي: هل يمكن أن يأتي النسخ فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، فبعد أن كان رحيماً نسخت رحمة الله عز وجل؟ لا يمكن؛ لأن الله تعالى أخبر عن نفسه بأنه رحيم، وأنه رحمان، وأنه غفور، وأنه ودود، فلا يمكن لهذه الأخبار أن يلحقها النسخ، لكن الإنشاء مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، فهذا أمر، والأمر نوع من أنواع الإنشاء، إذاً: فالإنشاء بجميع فروعه ومسائله يمكن أن يلحقه النسخ، وأما الأخبار فليست قابلة للنسخ، وبالتالي الإنشاء لا يلحقه تصديق ولا تكذيب، لكن يلحقه نسخ، والأخبار يلحقها التصديق ويلحقها التكذيب، فيقال: هذا خبر صادق، وهذا خبر كاذب. ولذلك قال: [اعلم رحمك الله أن أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التضاد، وكذلك أقواله وكلامه لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام بالاختلاف والتناسخ، لكن ذلك في التحليل والتحريم -وهو الإنشاء- والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، وللعذر يحضر. فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال، وإنما أتى من أتى فيها وافتتن من افتتن بها من اشتباه لفظها -هل هي خبر أم إنشاء؟ -، وضيق الأعطان، وسوء الأفهام، وضعف طبيعته عن معرفتها، وإلا فكيف يجوز لمتأول أن يتأول أن كل مولود على الفطرة، وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان؟!]. يريد أن يقول: إن هذا كلام في منتهى السفه والغفلة؛ أي: من فسر ذلك بأن كل مولود يولد على فطرة الإسلام. قال: [وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان، وصريح قول النبي عليه الصلاة والسلام وفصيح إعرابه الذي لا يحتمل التأويل، ولا يتولد فيه التعطيل؛ أتى بغير ما تأولته أصحاب هذه المقالة]. يريد أن يقول: إن الكلام الصحيح لتفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) هو بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن الفطرة هي الإسلام. قال: [ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (الوائدة والموءودة في النار)، والوائدة: هي القاتلة لابنتها، والموءودة هي الصبية الطفلة التي قتلها أبواها، فلو كانت الموءودة مسلمة]. أرأيتم من أين أتت الشبهة؟ فهو يقول لك: الوائدة والموءودة كلاهما في النار، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، والوائدة هذه بالغة ومشركة وكافرة فتستحق النار، فإن لم يكن للوأد فلكفرها أو العكس، والأصل أن الموءودة وئدت، أي: دفنت في التراب حية حتى ماتت، فلو كانت مسلمة فكيف تدخل النار؟ والنبي هنا قد قضى لها بالنار! قال: [فلو كانت الموءودة مسلمة لما كانت في النار، وبالأحرى أن تكون في الجنة لا محالة على ما تتأوله القدرية؛ لأنها طفلة مسلمة ومقتولة مظلومة، وبقوله أيضاً حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: (مع آبائهم في النار)]. فالنبي عليه الصلاة والسلام سئل مرة عن أطفال المشركين فقال: (هم في الجنة)، وسئل مرة أخرى عن أطفال المشركين فقال: (مع آبائهم في النار)، وسئل مرة ثالثة عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). فهذه أخبار، ونحن قد اتفقنا على أن الخبر لا يلحقه النسخ، فلماذا اختلفت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ سيأتي معنا الجواب. قال: [ثم سئل عنهم ثانية، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أن السؤال الثاني خرج مخرج الاستفهام: لم صاروا في النار؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين].

تفسير الفطرة في حديث: (كل مولود يولد عل الفطرة) بالإسلام مذهب القدرية عند ابن بطة رحمه الله

تفسير الفطرة في حديث: (كل مولود يولد عل الفطرة) بالإسلام مذهب القدرية عند ابن بطة رحمه الله لقد اعتبر الإمام ابن بطة أن من فسر الفطرة بالإسلام فهو قدري، أي: من القدرية؛ لأن الفطرة بمعنى: ابتداء الخلق وأخذ الميثاق، ومن قال: إن الفطرة هي الإسلام فقد حاد الله تعالى، وحاد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحديث يقول: (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه). إذاً: الذي يكون في يده التهويد هو الأب إذا كان يهودياً، وينصره إذا كان نصرانياً، ويمجسه إذا كان مجوسياً بغير إرادة الله وقدرته. ولذلك قال: [الذي يقول بأن الفطرة هي الإسلام يقول: إن مشيئة الأبوين أغلب من مشيئة الله]، أي: أراد الله له الإسلام وأراد الوالدان له اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشرك، وكأنه -أي: من يقول: إن الفطرة هي الإسلام- يقدم قدرة الوالدين على قدرة الله، ويغلب إرادة الوالدين على إرادة الله؛ لأن الله أراد له الإسلام وخلقه على الإسلام، لكن مشيئة الأبوين كانت أغلب من مشيئة الله، بدليل: أنهما هوداه أو نصراه أو مجساه أو شركاه، هذا فهم ابن بطة لهذه القضية.

تفسير الفطرة بغير الإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب لبعض علماء السنة

تفسير الفطرة بغير الإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب لبعض علماء السنة وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى من القول بأن أولاد المشركين في النار، وتفسير معنى الفطرة فيما تقدم بغير معنى الإسلام، وأن تفسير الفطرة بالإسلام غير صحيح؛ هو مذهب لبعض علماء السنة. واعلم أننا لا نعرف من قال بقول ابن بطة غير قتيبة، وحماد بن سلمة، وأبي يعلى، هؤلاء الأربعة فقط، فأين علماء الأمة على مدار هذه القرون كلها من هذه القضية؟ فعلماء الأمة هم آلاف مؤلفة على مدار القرون، فهل يمكن أن يصار إلى رأي هؤلاء الأربعة وتترك اجتهادات علماء الأمة على مدار هذه القرون؟ لا.

الفطرة ليست بمعنى الإسلام عند أبي يعلى الحنبلي

الفطرة ليست بمعنى الإسلام عند أبي يعلى الحنبلي قال أبو يعلى الحنبلي: ليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين: الأول: أن معنى الفطرة: ابتداء الخلق، كما قال الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، ولم يقل أحد مطلقاً: إن فاطر السماوات والأرض بمعنى: جاعل السماوات والأرض مسلمة، بل إن (فاطر) بمعنى: مبتدئ وخالق، وإذا كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة، وجرت في فطرة المعقول، وهو استخراجهم ذرية؛ لأن تلك حالة ابتدائهم، ولأنها لو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلاً؛ لأنه مسلم، كما أنه لا يجوز للمسلمين أن يفرطوا في هؤلاء الأطفال، ولا يمكنوا آباءهم من الصلاة عليهم على مذاهبهم الكافرة، ولا دفنهم في مدافن الكفار، ولا أن يمكنوهم من الميراث. كذلك اختلاف الدين يمنع الإرث، ولوجب ألا يصح استرقاقه -وهذه شبهة عقلية جديدة- فإذا حارب المسلمون المشركين، فسبوا ذراريهم فمن حق أهل الإسلام أن يسترقوهم. فهو يريد القول: إذا كانت الذرية -أي: أبناء المشركين مسلمين- وقامت الحرب بين المسلمين والكافرين، وسبى المسلمون هؤلاء الذراري فلم يسترقوهم مع أنهم مسلمون؟ فالأصل أن المسلم لا يقع تحت الرق إلا إذا كان أسيراً لدى الكفار، أما الذي يقع تحت الرق عند المسلمين فهم الكفار كذلك، وأما من أسلم فإسلامه هو ثمن حريته، فإذا كان الأطفال وذراري المشركين مسلمين أصلاً؛ فكيف استرقهم المسلمون في القرون الخيرية؟ فالواجب ألا يصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه؛ لأنه مسلم.

اختلاف حكم الدنيا عن الآخرة بالنسبة لذراري الكفار

اختلاف حكم الدنيا عن الآخرة بالنسبة لذراري الكفار أي: عندما يأتي الآن كافر فإننا نقول: إن ابنه هذا تبع له في أحكام الدنيا، فلو أسلم الرجل الكافر فلا شك أن أبناءه يأخذون حكمه، فمثلاً: عندما يأتي نصراني ويقول: أريد أن أسلم، فنسأله: ألديك أولاد؟ فيجيب: نعم، فنقول: كم أعمارهم؟ قال: ولد عمره سنة، وولد عمره ثلاث سنين، وولد عمره خمس سنين، فنقول له: تعال وأشهر إسلامك، فأول ما يشهر إسلامه يأخذ أبناؤه حكم الأب، وبالتالي فالحكم عندنا يختلف، فهل اختلف موقف هؤلاء الأولاد عند الله؟ لا، إذاً: فمحل النزاع والخلاف في الآخرة، ولذلك الخلاف في أن أبناء المشركين مسلمون أو غير مسلمين من أحكام الدنيا، والخلاف فيها نادر جداً، وإنما الخلاف القوي بين علماء السنة: هل هؤلاء الأطفال في الجنة أم في النار؟ وهذا الخلاف من أحكام الآخرة، والأمة مجمعة على أن الأولاد تبع لآبائهم في الأحكام، يعني: أن الرجل هذا نصراني، إذاً هؤلاء الأولاد نصارى، فهذا فيما يتعلق بأحكام الدنيا، أما الآخرة فلا، إذ إن لها وضع آخر، وهنا يأتي الخلاف ويحتد ويقوى جداً، أما في الدنيا فلا، فهذا الولد إذا مات فالذي يكفنه ويغسله ويصلى عليه ويرثه هو أبوه؛ لأن هذه أحكام الدنيا، فالدنيا لها أحكام والآخرة لها أحكام أخرى. وهذا كما أخبر الله عز وجل نبيه بأعيان المنافقين وأسمائهم، ومع هذا كان إذا مات واحد منهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، ولذلك لما جاء إليه مشرك وقال له: (يا محمد! أريد أن أقاتل معك، قال: أمسلم أنت؟ قال: لا، قال: ارجع فلن نستعين بمشرك)؛ لأن أحكامه ظاهرة، فهو يقول: أنا مشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يمكن أن نستعين بمشرك، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأذن للمنافقين معلومي النفاق بالاشتراك في القتال؛ لأنهم أظهروا الإسلام، مع أنه لم يخف على النبي عليه الصلاة والسلام أنهم كفار، وأن مردهم إلى قعر جهنم، ولذلك فالمنافقون تحكمهم في الدنيا أحكام، وفي الآخرة لهم أحكام أخرى، وكذلك العكس، يعني: أن أبناء المشركين والكفار تحكمهم في الدنيا أحكام، وهي أحكام الكفر تبعاً لآبائهم، وأما في الآخرة فهم في الجنة بإذن الله تعالى، أو على ما سنذكر من الخلاف بإذن الله. ومن أحكام هؤلاء: أن الرجل النصراني إذا أسر في الحرب واسترق كان ابنه تبعاً له في الحكم، يعني: يصير رقيقاً هو كذلك، ولو كان مسلماً لما جاز استرقاقه. هذه حجة ابن بطة ومن معه هذا مذهب هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى، ولكن كثيراً من الأئمة رجح خلاف ما ذهبوا إليه في تفسير معنى الفطرة، وعندما قرأتم كلام أبي يعلى أو كلام قتيبة أو كلام ابن بطة قلتم: والله هؤلاء عندهم حق، وهذا كلام جميل جداً ومعقول، ولا يمكن رده، وأنا أقول: بل لابد من رده، فهو المذهب الضعيف في المسألة، وهذه الحقيقة يا إخواني! حلاوة الفقه، أو حلاوة مسائل الخلاف، ولذلك العلماء كانوا يقولون: لا يحل لأحد أن يفتي الناس إلا إذا علم مسائل الخلاف. فأنت عندما تقرأ في: فقه السنة مسألة من المسائل تجد مثلاً الشيخ سيداً رحمه الله رجح مذهباً واحداً، وأحب أن يخرج من الخلاف ويضع الشباب على الرأي الراجح، لكن هذا الرأي الراجح هو راجح عنده، فلو قرأنا كلام ابن بطة فقط فسيترجح لدينا، ونقول: نحن فعلاً كنا على الضلال والانحراف والزيغ كل هذه السنين! وأنا عندما قرأت من قبل كلام الإمام النووي في شرح مسلم، وكلام الحافظ ابن حجر في الفتح فيما يتعلق بهذه المسألة كان كالكلام المسلّم، وبعد ذلك عندما قرأت كلام ابن بطة -وكان هذا منذ أكثر من عشر سنوات- قلت: كيف هذا؟ أنا أفهم أن الفطرة هي الإسلام، أهذه الأوصاف كلها في؟! أي: الضلال والزيغ والانحراف، والناس الذين قلت لهم: إن الفطرة هي الإسلام كيف أصحح لهم هذا الخطأ؟ فلابد في المسائل الخلافية من النظر في جميع الأقوال، وتتبع أدلتها والترجيح بينها، والخروج بالقول الراجح، ولا يكتفى بمعرفة قول واحد فقط دون معرفة بقية الأقوال.

تفسير الفطرة بالإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب جماهير علماء الأمة

تفسير الفطرة بالإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب جماهير علماء الأمة وقول ابن بطة الذي تابع فيه حماد بن سلمة وقتيبة وأبا يعلى، خالفهم فيه جماهير علماء الأمة ففسروا الفطرة بالإسلام -وهذا المذهب الذي شنع عليه ابن بطة - كما نقل ذلك عنهم ابن عبد البر في كتاب التمهيد، والقرطبي في التفسير، وممن ثبت عنهم من السلف تفسير الفطرة بالإسلام: أبو هريرة، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، والإمام البخاري، والإمام أحمد وإليه ذهب كل من شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة مخصوصة بعنوان: الفطرة، وابن القيم نصر هذا المذهب جداً في كتاب له اسمه: شفاء العليل. وفسر آخرون من الأئمة الفطرة بغير هذين التفسيرين، لكنها أقوال ضعيفة جداً أو منكرة أو مردودة فنعرض عنها. ومن الجدير بالذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية نصر مذهب القائلين: بأن المراد بالفطرة الإسلام، ورد على المخالفين -وسماهم مخالفين، مع أن ابن بطة يسمينا: مخالفين- وأورد أدلة صحيحة صريحة في الدلالة على أن المراد بالفطرة الإسلام، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى، وقد استوفى كل واحد منهما، الكلام على مسألة الفطرة، ورجحا أن المراد بالفطرة فطرة الإسلام لا غير.

بيان ابن القيم أنه لا يلزم من تفسير الفطرة بالإسلام القول بالقدر

بيان ابن القيم أنه لا يلزم من تفسير الفطرة بالإسلام القول بالقدر وقد بين ابن القيم رحمه الله بأنه لا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية. أي: لا يلزم منه عندما أقول: إن الفطرة هي الإسلام، وإن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ أنني قدري، ومعنى أني قدري: أني قدمت إرادة الأبوين على إرادة الله، وقدرة الأبوين على قدرة الله، ومشيئة الأبوين على مشيئة الله، بدليل أن الله أراد له الإسلام وجعله مسلماً، لكن أبويه هوداه ونصراه ومجساه. قال: ولا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية التي تستدل بحديث الفطرة على مذهبها الباطل. وابن القيم بدأ يتكلم عن أصحاب المذهب الأول؛ حيث يزعمون أن كل إنسان مفطور على الإسلام، وأنه تعالى لا يقضي ولا يقدر المعاصي على العباد، وهذا كلام القدرية، وأن العباد هم الذين يحدثون الكفر والمعاصي من قبلهم دون إرادة الله السابقة وعلمه الأزلي عز وجل، وأن الأبوين هما اللذان يضلان أولادهما دون مشيئة من الله وإرادته السابقة سبحانه، فالله لا يضل ولا يسعد أحداً من خلقه في زعمهم. وقد رد السلف على هذا المذهب الباطل، فبينوا أن أحاديث الفطرة لا تدل على مذهبهم، بل إنها دليل عليهم، وهي أقوى حجة، فعندما يعتمد المخالف نصاً ويعتبره دليلاً وحجة له؛ فأقوى حجة للرد عليه: أن تكون من نفس النص. وبالتالي نريد أن نعرف رد السلف على المذهب الذي ذهب إليه أبو يعلى وابن بطة من نفس الدليل الذي احتجوا به، فماذا قالوا؟ قال الإمام مالك وغيره من أهل السنة لما بلغهم: إن القدرية يحتجون على مذهبهم بأول الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، قالوا: احتجوا عليهم بآخر الحديث؛ لأنه لا يمكن أن يأتي الخبر متناقضاً في أوله وآخره، إذ إن الأخبار كلها وحي من مشكاة واحدة، ولذلك كان ابن خزيمة رحمه الله يقول: الوحي كله من مشكاة واحدة، ومادام أنه من مشكاة واحدة فلا يمكن أن يلحقه التعارض ولا التضارب؛ لأنه كلام الله عز وجل، ومن وقع عنده الإشكال فإنما وقع الإشكال في فهمه وذهنه وعقله، قال: ومن كان عنده نصان مختلفان ظاهراً فليأت إلي أؤلف له بينهما، فالتعارض قد يكون ظاهراً، لكنه لا يمكن أبداً أن يلحق الوحي: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وإن وجد الاختلاف ففي ذهن العبد، والنص في حقيقته وتأويله عند أهل العلم ليس فيه اختلاف، ولذلك ألف بعض أهل العلم مصنفات جمعت بين ما ظاهره التعارض والتضارب. فهذا كلام الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الزنادقة والملحدة، وهذا ابن قتيبة له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الشافعي له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الطحاوي له مشكل الآثار، فيأتي لك في الباب الواحد بدليل، ثم بدليل آخر يتعارض مع الدليل الأول في قضية واحدة، ويقول: ها هو الاختلاف ظاهر أمامك، وفي الحقيقة ليس هناك اختلاف، وإنما تأويل النصين على النحو الفلاني، ويأتي بأدلة من القرآن والسنة للدلالة على أن هذا الباب لا تعارض فيه ولا تضارب، بل وجه الحق فيه كيت وكيت وكيت. فكذلك هنا جماهير السلف ردوا على من قالوا: بأن الفطرة هي فطرة الخلق وابتداء الخلق، وقالوا: الفطرة هي الإسلام، وإذا كان أصحاب المذهب الأول القائلين بأن الفطرة هي ابتداء الخلق قد احتجوا بأول الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفسروا الفطرة بقول الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: مبتدئ خلقهما، فنحتج عليهم بآخر الحديث، وآخر الحديث يقول: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ففيه إثبات العلم الأزلي لله عز وجل، لكن القدرية يقولون: إن الأمر أنف -أي: مستأنف- وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، أي: أن الله تعالى لا يعلم ماذا سنصنع بعد خروجنا من هذا المجلس! كذلك أنا لا أعلم ماذا أتكلم بعد كلمتي هذه، وهم يقولون: وكذلك الله لا يعلمها إلا بعد أن أقولها. فسووا الله تعالى بخلقه، وكأنهم قالوا: ليس الله بعالم ولا عليم، مع أن الله تعالى أثبت لنفسه العلم الأزلي، فهو علام الغيوب، وهذه غيوب هو يعلمها وليست شواهد، وعلم المشاهدة مع علم الغيب عند الله سواء، ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: الذي غاب والذي هو مشاهد في علم الله سواء، فالله يعلم هذا كما يعلم هذا. إذاً الذي يقول: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها ينفي العلم الأزلي عن الله عز وجل، وكلام ابن بطة: أن من فسر الفطرة بالإسلام ضال مضل ومنحرف عن منهج السلف وكلام السلف؛ كلام مردود؛ لأن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة الإسلام حتى أخذ منهم الإقرار بذلك، ثم منهم بعد ذلك من اختار الكفر على الإسلام، وكان ذلك في سابق علم الله عز وجل

تفسير الإمام أحمد للفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)

تفسير الإمام أحمد للفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) أما الإمام أحمد بن حنبل فيقول: أنتم تقولون: هؤلاء القوم إذا احتجوا بأول النص فنحتج عليهم بآخرة، لا والله! وإنما نحتج عليهم كذلك بأول النص، وهذه الحجة أقوى. والإمام أحمد بن حنبل كان أكثر إنارة في قلبه وبصيرته، فيقول: لا، بل بنفس الكلام والنص الذي تحتجون به أنا سأرد عليهم به. ففسر رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: على السعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، ويكون إقراره بين يدي الله لما أخرجه من صلب أبيه آدم حجة عليه في الربوبية، ولذلك نجد أن المشركين الأولين كلهم كانوا مقرين بالربوبية، أي: بالخلق والابتلاء والرزق وغير ذلك، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فهم بذلك يعرفون هذه القضية. ولذلك كانت المهمة العظمى والأولى في إرسال الرسل هي توحيد الإلهية، لأن الشرك وقع في الإلهية لا في الربوبية، بينما الأمة الآن وقعت في الشرك في الربوبية، ووصلت لمرحلة من الجاهلية لم يكن عليها أهل الجاهلية الأولى، فيقول أحدهم اليوم: يا فلان ارزقني! وأبو جهل لم يقل ذلك، وفلان هذا سيقطع رزقي، إذاً لابد أن أسمع كلامه! صحيح أن الخمر حرام، لكن مادام أن مديري في العمل قال لي: اشرب الخمر، إذاً لابد أن أشرب الخمر. أو يقول: زميل لي أو مديري أو رئيسي نصراني، لكن عنده عرس فأحببت أن أجامله وأذهب إلى عرسه، فوضع الخنزير وأحرجت وأكلت منه، ووضعوا الخمر وأحرجت فشربت منها، يا أخي! لو أنك شربت السم في بدنك لكان خيراً لك، فقد جعلت الله تعالى أهون الناظرين إليك! قال الإمام أحمد: الفطرة هنا هي ما علمه الله تعالى أزلاً من عبده هذا من السعادة أو الشقاء، أي: أن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون من السعادة والشقاوة، ففطر بعضهم على السعادة، وفطر بعضهم على الشقاوة، وليس هذا ظلماً للعباد؛ بدليل أن الله تعالى أرسل إليهم الرسل، وجعل لمن لم تبلغه الرسالة حكماً خاصاً. كما جعل للمجانين والسفهاء ومن لم تبلغهم الدعوة، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، لكن كان من الممكن أن يقول الله عز وجل: إنما أكتفي بالسعادة والشقاوة بالميثاق الأول، ولو فعل لكان عادلاً في ذلك، ولكن الله تعالى علم أزلاً أن جميع العباد ينسون هذا الميثاق، فأرسل الأنبياء والمرسلين؛ يذكرون العباد والخلق بما أخذ عليهم في صلب أبيهم آدم. إذاً: فمهمة الأنبياء هي تذكير العباد بهذا الميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على عباده وهم في صلب أبيهم آدم. ففسر الإمام أحمد الفطرة بالسعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، المكتوبتين عنده في أم الكتاب قبل أن يخلق الجنين، وبعد أن خلق في بطن أمه؛ لأن القدرية تنكر الفطرة بهذا المعنى مع ثبوتها بأدلة من الكتاب والسنة، فأراد الإمام أحمد أن يرد عليهم بتفسير الفطرة بهذا المعنى مع تفسير الفطرة أيضاً بمعنى الإسلام، ولا منافاة بين التفسيرين كما بينه ابن القيم عليه رحمة الله تعالى.

توضيح ابن القيم لسبب اختلاف العلماء في تفسير الفطرة في الحديث والرد على القدرية

توضيح ابن القيم لسبب اختلاف العلماء في تفسير الفطرة في الحديث والرد على القدرية وقد وضح مذهب الإمام أحمد في تفسير الفطرة بهذين المعنيين ابن القيم في كتابه شفاء العليل نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك. وخلاصة ذلك قال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله. أي: أن الكفر والمعاصي إنما أحدثها وأنشأها العباد، ولا علاقة لإرادة الله وقدرته بذلك، وإنما هذا بقدرة العباد وإرادتهم ومشيئتهم، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك. فالإمام أحمد بن حنبل يريد أن يقول لك: لما قالت القدرية: بأن الكفر والمعاصي لا دخل لله تعالى فيهما، وأنهما بإحداث العبد لهما بغير إرادة الله تعالى ومشيئته؛ لأن الله تعالى لا يريد ولا يشاء الكفر ولا المعاصي، فمن أين جاء هذا اللبس؟ A من عدم التفرقة بين المشيئة الشرعية الدينية والمشيئة الكونية القدرية، إذ إنهم قالوا: الله تعالى ما أراد الكفر، ولكن الكفر وقع في الأرض، وما أراد الشرك وما أراد المعاصي، لكن في الحقيقة والواقع أن ذلك واقع في الخلق وفي الكون. فالله تعالى أراد من العباد إيماناً وإسلاماً وتوحيداً، لكن العباد أرادوا كفراً وشركاً ومعصية، فكانت إرادة الكفار والعصاة أقوى وأغلب من إرادة ومشيئة الله، فمن هنا أتى الضلال. وضبط هذه المسألة: أن الله تعالى أراد الخير والشر، وخلق الخير والشر، وأذن في وجود الخير والشر، لكن يفرق بين إرادة ومشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا؛ كالإيمان والطاعة، فقد أمر الله بها في كتابه، وأراد الكفر والشرك والمعاصي إرادة كونية قدرية -أي: أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي- لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر وشاء، لكن هذه الإرادة ليست مبنية على الطاعة والمحبة والرضا، وإنما مبنية على البغض والسخط واللعن. ولذلك توعد الله الكافرين مع أنه هو الذي أذن في خلق وإيجاد الكفر، وعلم الله تعالى أزلاً من عبده قبل أن يخلقه أنه سيختار طريق الكفر والمعصية والشرك، مع أنه جعله عاقلاً يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الطاعة والمعصية، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، فقامت الحجة على العبد ليس بالميثاق الأول، وإنما بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعلوهم محلاً للتكليف، فلما اختار العبد طريق المعصية علم الله ذلك منه قبل أن يخلقه. إذاً: العبد هنا مخير، وعلم الله تعالى أن عبده سيختار طريق الكفر قبل أن يخلقه فكتبه عليه، ومعنى: كتبه وقدره عليه: أن الله تعالى علم بعلمه الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق الكفر، والآن في واقع الناس وحياة الناس عندما نأتي بطريقين: أحدهما: مليء بالشوك، والآخر: ممهد معبد، وقلنا لاثنين: هذان الطريقان سيؤديان إلى مكان فيه ألف جنيه، وقلنا لهما: نقطة الانطلاق من هاهنا والطريق يتفرع إلى طريقين، ثم يلتقيان عند نقطة معينة عندها مكافأة وجائزة، ونقول لهما: كل واحد منكما يسلك الطريق المناسب للحصول على الألف الجنيه، فهل في هذين الاثنين من سيسلك طريق الأشواك؟ لا يمكن أبداً؛ لأنه يريد أن يحصل على الجائزة والمكافأة، ولا يمكن له البلوغ أولاً إلا إذا سلك طريقاً معبداً، فهذا الطريق المعبد هو طريق الأنبياء والمرسلين، والذي يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه يعصيه، وهؤلاء المكذبون الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، واليهود الذين كذبوه في المدينة وغيرهم ممن كان يقاتله ويحاربه كانوا يعلمون أنه نبي من عند الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فكانوا يجحدون نبوة نبيهم مع أنهم يوقنون أنه نبي مرسل. فالذي يزني يعلم أنه يعصي الله عز وجل، ويعلم أن الشرع قد نهى عن هذه المعصية، ويعلم أن النهي محله الزجر، وربما بلغ الزجر إلى دخول النار والعياذ بالله. وبالتالي فهو بهذا العلم قد قامت عليه الحجة، ومع هذا فقد اختار طريق المعصية التي ناسبت هواه ورأيه، وعلم الله ذلك كله منه قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولما علم أنه سيختار طريق المعصية كتب في اللوح المحفوظ أن عبدي فلاناً عرضت عليه الطاعة وعرضت عليه المعصية فاختار طريق المعصية، إذاً: هو في هذه الحالة مختار. قال: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام.

الرد على من يفتي الناس بما يوافق أهواءهم

الرد على من يفتي الناس بما يوافق أهواءهم ووالله يا إخواني! لا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى في الأرض إلا الحق، فهذا داعية مشهور جداً، ويستمع له الآلاف، ولا أريد أن أقول: الملايين كيلا يقال عني: أبالغ، ونقول له: لماذا يا فلان! تفتي الناس -الذين يحضرون لك- بأن المرأة بالاسترتش أو بالشرت صلاتها صحيحة؟! بل المرأة التي فيها خير قد تذهب إلى إحدى الصالات فتجد النساء عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، وتخيلوا أنها تقول لهن: اتقوا الله! البسوا المايوه! فأمثل امرأة فيهن الطاعة عندها تساوي لبس المايوه. وبعد ذلك يقول لهم: إن مصافحة الرجال للنساء حلال، وليس فيها أي شيء! وكلام طويل، وفتاوى سيئة للغاية، فسألناه فقلنا له: ألست قلت هذا الكلام وهو مسجل؟ قال: نعم، قلنا: هذا الشيء حرام أم حلال؟ قال: حرام، قلنا: سبحان الله! حرام علينا حلال لهؤلاء الناس! يعني: أنت تشدد علينا الآن وتتساهل مع هؤلاء الناس، فلماذا قلت لهؤلاء الناس: إنه حلال؟ قال: من أجل أن أحببهم في الإسلام، ولو كانت هذه حجة محترمة لكان أولى الناس بها النبي عليه الصلاة والسلام. لكن الله تعالى عاتبه لما قرب صناديد الشرك والكفر وأبعد بعض أصحابه، إذ إن هؤلاء هم الذين سيأخذون دعوتك وينشرونها في الأرض، وأما هؤلاء فلا خير فيهم. وأنت الآن عندما تقول لهذه للمرأة: الصلاة بالاسترتش صحيحة وليس فيها أي مشكلة، وأنا في مسجد العزيز أذكر خلاف العلماء في جواز أن تكشف المرأة باطن القدم في الصلاة، فعلى هذا الفهم يكون هذا إرهاب، أليس كذلك؟ فهناك شخص يجيز لها الصلاة عريانة، وأنا هنا أقول لها: لماذا ظهرت أصابع رجليك من تحت؟! فصلاتك باطلة، ولابد أن تعيدي الصلاة! لأن العلماء اختلفوا على مذهبين اثنين لا ثالث لهما: جواز أن تصلي المرأة بغير جورب، ووجوب أن تصلي المرأة بالجورب، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يظهر من المرأة في صلاتها إلا الوجه والكفان. وأنت تأتي الآن وتجردها من ثيابها وتقول لها: صلي بهذا الشكل! فإذا كانت هناك أخت من أخواتنا مسكينة ومبتدئة وسمعت كلامي في مسجد العزيز، وسمعت هذا يقول: صل بالاسترتش ولا حرج عليك، وما سئل عن شيء إلا وقال: افعل ولا بأس، افعل ولا حرج! إذاً: ماذا أعمل؟ وما هو موقفي عندما تتصل بي وتقول لي: يا متشدد! يا إرهابي! من ضيقت علينا وجعلتنا نكره ربنا، فماذا أقول لها؟!

خطر أن يتقدم لدعوة الناس من كانت فيه صفتان

خطر أن يتقدم لدعوة الناس من كانت فيه صفتان إذاً من الخطورة بمكان أن يقدم إنسان فيه صفتان: الصفة الأولى: أن يقدم للناس الدين على حسب أهوائهم وآرائهم، وعلى حسب ما يحلو لهم، وما يتوقع أنهم يقبلونه به، فالله تعالى يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فهذا حق الله الذي نزل من السماء، تقبله أو العاقبة عليك. ثانياً: أن يتقدم للناس إنسان جاهل لا يعلم مسائل الحلال والحرام، ويريد أن يعظ الناس، وقد يتأثر الناس به، ونحن نحب ذلك، وبالفعل هؤلاء قد وصلوا إلى فئات من الناس لا يمكن أن يأتوا إلى مسجد العزيز، والعجيب أن التي تأتي منهن إلى مسجد العزيز فهؤلاء الأخوات في مسجد النساء يمسكنها فينشرن عظمها، ويجعلنها تخرج كارهة نفسها وكارهة الإسلام والمسلمين؛ لأن كثيراً من الأخوات المنتقبات لا حكمة عندهن في الدعوة إلى الله عز وجل. فأول ما تدخل امرأة لابسة استرتش تجد النظرات الحادة موجهة إليها، وكان الأولى الرفق، ثم ألم تكوني بالأمس لابسة استرتش؟! والأخوات اهتمين بك حتى أصبحت أختاً لابسة للنقاب ومتشددة ومتزمتة مثلي! لكن هي نسيت أنها كانت بالأمس هكذا: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فتمسكها وتنشر عظمها! وتقول لها: ما هذا الذي أتيت به؟ ما هذه الجرأة؟ وتصلين بعد ذلك؟! والله العظيم تتصل بي نساء يقلن: لا يمكن أن ندخل مسجد العزيز؛ لأنه حصل من الأخوات أنهن قلن: كيت وكيت وكيت! فرفقاً بهؤلاء. فتقول أحداهن: لكن يا شيخ! الصلاة بالبنطلون صحيحة أم غير صحيحة؟ نقول لها: ليست صحيحة، فتقول: كيف ذلك؟ إن فلاناً يقول: إنها صحيحة! فماذا أقول لها؟ فلان هذا جاهل، أنا لا أريد أن أسقطه في نظرها؛ لأنه صار رمزاً شئنا أم أبينا، لكن قدم للناس على أن هذا هو الإسلام، وهنا تكمن الخطورة، فنصحنا هذا الرجل بأنه لا داعي لأن يفتي الناس، وإنما عليه بالوعظ والكلام الرقيق وكلام القلوب والتأثير في الناس، ويأخذ معه فقيهاً، وكنت أظن أنه سيأخذ أحد مشايخنا المحترمين، لكن واضح أنه كان يلعب هذه اللعبة على منهجه، فقد أخذ فقيهاً لا يحرم شيئاً، إذاً فما الفائدة؟! كنت ستوفر وتفتي الناس أنت، والقضية كلها قضية مائعة، وعندما تذهب وتجلس مع هؤلاء الناس عقلك سيضل ويشك أهذا دين ربنا؟ أهؤلاء الناس مسلمون، أم أننا نحن الذين زدناها قليلاً؟! والله شيء غريب جداً، وأنا قد جلست في مجلس من هذه المجالس حتى إنني أشفقت على نفسي لا على هؤلاء الناس؛ لأنهم ما سألوني عن شيء إلا وقلت: حرام، وما أخبروني عن أحد في هذه المسائل إلا وقال: حلال، فقلت: لا أدري أأشفق على نفسي أم أشفق على هؤلاء الناس؟! ثم هؤلاء الناس أين سيذهبون؟! إذاً فهؤلاء فيم ينفعون في الكلام في القلوب والرقائق ومن هذا القبيل، وأما حلال وحرام فمادام أننا مختلفون فاجعلوها فيما بعد؛ حتى تتهيأ قلوب هؤلاء الناس لتحمل الإسلام. ومن كان فيهم صادقاً كتب له الثبات على الدين والحق، وكان ينتج نتاجاً طيباً جداً، ونسأل الله تعالى أن يهدي الجميع.

تنبيه ابن القيم وغيره من أهل العلم على عدم إجراء أحكام الإسلام في الدنيا على ذراري المشركين

تنبيه ابن القيم وغيره من أهل العلم على عدم إجراء أحكام الإسلام في الدنيا على ذراري المشركين كما نبه ابن القيم وغيره من أهل العلم كـ البيهقي في كتاب الاعتقاد على عدم إجراء أحكام الإسلام في الدنيا على ذراري المشركين -وقد ذكرت لك الفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة- وإنما يعاملون معاملة الكفار في الدنيا تبعاً لآبائهم حسب الظاهر؛ إذ كان هذا موضع اتفاق بين علماء الأمة، حيث ثبت ذلك في عهده، وتواتر من فعله عليه الصلاة والسلام. أي: لم نسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول في مرة من المرات: ائتوني بابن المشرك الذي لم يبلغ بعد حتى أصلي عليه، وأدفنه في مقابر المسلمين. فكان هذا هو حكم أطفال المشركين في الدنيا، وبيان معنى كلمة الفطرة في الحديث، وأما حكمهم في الآخرة فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك أيضاً على عدة مذاهب حسب اختلاف الأدلة في المسألة، وأقوى المذاهب دليلاً مذهبان: الأول: أنهم من أهل الجنة، والمذهب الثاني: مذهب الاختبار، وأما مذهب من يقول: إنهم في النار؛ فهذا كاد أن يكون مذهباً باطلاً، ومذهب التوقف مذهب ضعيف. إذاً: أقوى المذهبين في المسألة: أنهم في الجنة، والمذهب الثاني: مذهب جماهير علماء السلف، وهو مذهب الابتلاء أو الاختبار، فيؤتى به يوم القيامة فيختبر. وقد أوردوا نصاً فيه: أن الاختبار عبارة عن قول الله تعالى له: ادخل النار، فإن دخل كانت برداً وسلاماً عليه، وكانت إشارة وعلامة على أنه كان من الطائعين لو أنه عاش، ولو أنه عصى لكان من العصاة لو أنه عاش. والكلام في هذه المسألة طويل جداً، وبإمكانك أن تراجع في ذلك كتب التفاسير، وكتاب التهذيب لـ ابن القيم الجوزية، وكذلك كتاب شفاء العليل، ورسالة الفطرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي رسالة جامعة احتوت على كلام سهل ميسور بعيد عن التعقيد، وكذلك فتح الباري، ومجموعة الرسائل الكبرى لـ ابن تيمية، وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي، وغير ذلك من كتب أهل العلم.

سؤال الصحابة للنبي عن أطفال المشركين وأين هم بعد موتهم

سؤال الصحابة للنبي عن أطفال المشركين وأين هم بعد موتهم قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوائدة والموءودة في النار)، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن ذراري الكفار قال: (مع آبائهم)، فقالت له عائشة: (يا رسول الله! بلا عمل؟ -أي: يدخلون النار بلا عمل؟ - قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)]. وعن عائشة: (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين، فقال: هم يتعاوون في النار) -أي: يبكون ويصيحون-، وفي رواية البراء: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين، فقال: هم مع آبائهم، فقيل: إنهم لم يعملوا، قال: الله أعلم) -أي: بما كانوا عاملين-، وقالت خديجة: (يا رسول الله! أين أولادي منك؟ قال: في الجنة، قالت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قالت: فأولادي من المشركين؟ قال: في النار، قالت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين). وعن ابن عباس قال: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].

الهداية والإضلال من الله تعالى

الهداية والإضلال من الله تعالى قال الشيخ ابن بطة: [فجميع الذي ذكرناه من القرآن، ورويناه من السنة والآثار، وما لم نذكره ولم نروه يدل العقلاء المؤمنين الذين سبقت لهم من الله العناية والهداية أن الأشياء كلها بقضاء الله وقدره ومشيئته سابق ذكرها في علم الله تعالى، وأنه لا مضل لمن هداه الله عز وجل، ولا هادي لمن أضله، ولا مانع لمن أعطاه، ولا معطي لمن منعه، وكذلك خطبه صلى الله عليه وسلم وكلامه، وخطب الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وكذلك في كلامهم ومحاورتهم، وكل ذلك دليل على أن القدرة والمشيئة والإرادة هي قدرة الله تعالى ومشيئته وإرادته]. [فعن عبد الله بن مسعود قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له -والشاهد هنا-، ومن يضلل فلا هادي له) إلى آخر الحديث. وعن البراء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلاً كثير الشعر صلى الله عليه وسلم، وهو يرتجز رجز عبد الله بن رواحة يقول: لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا)].

كل شيء بقضاء وقدر

كل شيء بقضاء وقدر قال: [وعن أيوب السختياني قال: أدركت الناس وما كلامهم: إلا وإن قضى وإن قدر]. أي: أن كل كلامهم: وإن قضى الله تعالى شيئاً كان، وإن قدر الله شيئاً كان. [وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: ليس كما أريد، ولكن كما تريد]. أي: كان يقول لله: ليس الأمر كما أريد، ولكن الأمر كما تريد أنت. قال: [وليس كما أشاء، ولكن كما تشاء. وقال ابن مسعود: كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخف لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمراً ويريد الناس أمراً، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مقرب لما باعد الله، ولا مبعد لما قرب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وعن زيد بن أسلم قال: اشتد غضب الله على من يقول: من يحول بيني وبينه؟ قال الله عز وجل: أنا أحول بينك وبينه]. أي: بينك وبين مرادك. [وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه يوم أصيب وعليه ثوب أصفر، فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]]. أي: يعلم أن هذا الذي حدث له سابق في علم الله، وأنه بقدر. [وعن الحسن قال: لما رمي طلحة بن عبيد الله يوم الجمل؛ جعل يمسح الدم عن صدره وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]. وعن أنس بن مالك قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط فلم تتهيأ إلا قال: لو قضى كان، أو قدر كان)]. أي: يبعث أنساً كي يأتي له بشيء، فيأتي أنس فيقول له: يا رسول الله! هذا الشيء لم يجهز، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قضى الله كان)، أي: لو أراد الله ذلك لكان، ولو قدره لكان. [وعن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]]. فـ (شيء) نكرة في السياق الإثبات فتفيد العموم، و (كل) من ألفاظ العموم. وهذا يدل على أن كل ما هو مخلوق قد خلقه الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، حتى العجز والكسل، بل وكل شيء.

طلب العون والهداية من الله في كل حال

طلب العون والهداية من الله في كل حال قال: [وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس يقول في دعائه: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، ولا تنصر علي من بغى علي، اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطيعاً، لك مجيباً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي -أي: اغفر ذنبي-، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وثبت حجتي -أي: قوي حجتي-، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي -أي: أزل حقد قلبي-)]. قال الشيخ: [فهذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل بقي لمن يزعم أن المشيئة والاستطاعة بيديه حجة يحتج بها إلا البهتان والجحد للتنزيل، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالشقاء والخذلان اللذين كتبهما الله عليه؟! ونحمد الله على ما وفقنا له من معرفة الحق، وهدانا إليه].

حديث ابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات)

حديث ابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات) قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام ألا أعلمك شيئاً لعل الله عز وجل أن ينفعك به؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله عز وجل، وإذا استعنت فاستعن بالله عز وجل، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك عند الشدة، وجف القلم بما هو كائن، فلو أن الناس اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك -أي: قد كتبه الله في أم الكتاب قبل أن يخلق الخلق-، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، واعلم أن لكل شيء شدة ورخاء، وأن مع العسر يسراً، وأن مع العسر يسراً)].

عاقبة من ضل في مشيئة الله

عاقبة من ضل في مشيئة الله قال: [وعن حماد بن زيد: أن رجلاً بايع رجلاً على أن يعبر نهراً -كأن تتحدى آخر بأن يعبر النهر وله مكافأة أو جائزة- فسبح حتى قارب الشط، قال: قد بلغت والله، فقال له رجل: قل: إن شاء الله، قال: إن شاء وإن لم يشأ، قال: فغاص ولم يخرج]. وهذا جزاؤه. أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

أحسن كتاب في الفقه للمبتدئ

أحسن كتاب في الفقه للمبتدئ Q ما هو أحسن كتاب للمبتدئ في الفقه؟ A أحن كتاب للمبتدئ بلا شك هو كتاب فقه السنة.

حكم استخدام التوصية والوساطة للسفر إلى الحج

حكم استخدام التوصية والوساطة للسفر إلى الحج Q أنا ضابط في الجيش، وأريد الذهاب إلى الحج، وفي الجيش يكون السفر للحج على حساب الشخص الخاص، والأولوية لصاحب الوساطة، فهل يجوز استخدام التوصية في هذا الأمر؟ A نعم يجوز.

حكم المظاهرات

حكم المظاهرات Q ما حكم المظاهرات؟ A الذي أعتقده أنها غير مشروعة، ومع ذلك لا أؤثم من يفعل ذلك، لكن اعلم أن الأمر قد وصل إلى مرحلة لا ينفع معها المظاهرات ولا غير المظاهرات، فأنت وفر عليك بلاء عظيماً جداً تقدم عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ما روي في المكذبين بالقدر

شرح كتاب الإبانة - ما روي في المكذبين بالقدر مجوس هذه الأمة هم القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله خلق الخير ولم يخلق الشر، وقدر الخير ولم يقدر الشر، وقد شابهوا المجوس في قولهم بثانوية الإله: إله الخير وإله الشر، وقد أنكر الصحابة والتابعون وسلف الأمة عليهم أشد الإنكار، وردوا عليهم وكفروهم، وآثارهم في ذلك كثيرة.

ما روي في المكذبين بالقدر

ما روي في المكذبين بالقدر

القدرية مجوس هذه الأمة

القدرية مجوس هذه الأمة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في المكذبين بالقدر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاءه رجل فسأله عن القدر، فقال: من هؤلاء القدرية؟ قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هم مجوس هذه الأمة)]. هذا الحديث روي من طرق متعددة عن ابن عمر، ورواه غير ابن عمر جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وفي كل طريق من هذه الطرق راوٍ كذاب، أو متروك، أو ضعيف، أو ضعيف جداً، وبالتالي اختلفت كلمة المحدثين في إثبات هذا الحديث من عدمه، فبعضهم يرى أن مجموع هذه الطرق والشواهد يرتقي بها الحديث إلى درجة الحسن أو الصحيح، وبعضهم يقول: لا يزيد الحديث بذلك إلا ضعفاً. [وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، وفي رواية: (وإن ماتوا فلا تشيعوهم، ولا تناكحوهم)] أي: لا تنكحوا إليهم ولا منهم. [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله عز وجل أن يلحقهم بـ الدجال). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية، لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا)، وفي رواية: (وإن ماتوا فلا تشيعوهم). وعن ابن عمر قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر)]، وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن القدرية هم مجوس هذه الأمة. [وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي مسخ، وذلك في القدرية والزنديقية)]. والزنديقية: من الزندقة وهي النفاق، والزنديق هو المنافق. [وعن محمد بن أيوب المكي قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لما ذكر عنده القدرية يقول: هذا أول شرك هذه الأمة] يعني: أول شرك وقع في الأمة هو قول الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، وكان أول ظهورهم في البصرة. قال: [ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني بنسائهم يطفن حول ذي الخلصة)]. يعني: كأني بنساء القدرية الذين يقولون: لا قدر؛ يطفن حول ذي الخلصة، وذو الخلصة كما في كتاب النهاية لـ ابن الأثير بيت كان فيه صنم لدوس باليمن يسمى: الخلَصَة بفتحات، أراد لا تقوم الساعة حتى ترجع دوس عن الإسلام، وذلك قبل يوم القيامة، فلا تقوم الساعة حتى ترتد دوس على أعقابها وتشرك بالله عز وجل، فتطوف النساء بذي الخلصة، وتضطرب أعجازهن وألياتهن كما كن يفعلن بالجاهلية. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كأني بنسائهم يطفن حول ذي الخلصة، تصطك ألياتهن مشركات -أو ألياهن-، والذي نفسي بيده لا ينتهي سوء رأيهم -أي: لا يذهب سوء رأيهم فيما يتعلق بمسألة القدر- حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير كما أخرجوه من أن يقدر الشر)]. لأن بعض فرق القدرية قالت: إن الله تعالى خلق الخير ولم يخلق الشر، وقدر الخير ولم يقدر الشر، وشاء الخير ولم يشأ الشر، فشابهوا تماماً المجوس الذين قالوا: بثنائية الإله، إله الخير وإله الشر، إله الظلمة وإله النور، فسماهم النبي عليه الصلاة والسلام مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس قالوا بأن للعالم إلهين: إله للخير وإله للشر، إله للظلمة وإله للنور، وكذلك كادت القدرية أن تقول: لهذا الكون كذلك إلهان: إله للخير وإله للشر، وذلك بقولهم: إن الله شاء الخير ولم يشأ الشر، قدر الخير ولم يقدر الشر، فإذا كان الشر مخلوقاً وموجوداً في واقع الناس وفي هذه الحياة فلا بد أن يكون له خالق، فإذا كنتم تقولون: إن الشر لم يخلقه الله فلا بد أن يكون لهذا الشر خالق غير الله، وهذا باب عظيم من أبواب مشابهة القدرية للمجوس؛ لأنهم قالوا بثانوية الإله. إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة) علة ذلك أن المجوس يقولون بثانوية الإله، وأن القدرية كادوا أن يقولوا بثانوية الإله، لأنهم قالوا: إن الله قدر الخير ولم يقدر الشر، والشر مخلوق فلا بد له من خالق، وإلا فك

حكم من أنكر مرتبتي العلم والكتابة من القدر

حكم من أنكر مرتبتي العلم والكتابة من القدر والمكذب بالقدر إذا كان من الغلاة، وكان من علماء القدرية فإنه يكفر بهذا خاصة إذا أنكر مرتبة العلم والكتابة، فإن من أنكر مرتبة العلم الأزلي لله عز وجل، وأن الله لم يكتب ذلك في اللوح المحفوظ فقد كفر بذلك، وأما من أنكر المرتبتين التاليتين وهما: مرتبة الإرادة ومرتبة الخلق ففيه نزاع كبير جداً بين أهل العلم في تكفيره؛ خلافاً للمرتبتين السابقتين: العلم والكتابة فقد اتفقت كلمة الأمة على تكفير من أنكرهما؛ لأنه ينفي العلم عن الله عز وجل، ويصفه بالجهل، وأن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد أن يقع، وأنه لا قدر، وأن الأمر أنف كما ذكرنا مراراً من قبل. فقوله: (لا يدخل الجنة مكذب بالقدر) هذا التكذيب إن حصل في المرتبة الأولى والثانية فالكلام على إطلاقه، وأنه كافر بالله العظيم مخلد في نار جهنم مع الكافرين، وإذا كان هذا التكذيب منصب على المرتبة الثالثة والرابعة ففيه نزاع مشهور معروف لأهل العلم ذكرناه مراراً من قبل. فمن كان مستحلاً لهذا العقوق مع قيام الحجة بالدليل عليه، فيسب ويضرب والديه، فإذا قيل له هذا حرام، قال: ليس بحرام، وإذا تلونا عليه آيات وأحاديث تبين حرمة العقوق وأنها كبيرة من الكبائر أنكرها وجحدها؛ فقد كفر بالله عز وجل، وكذلك إذا كان يشرب الخمر ويجحد حرمة ذلك مع قيام الحجة عليه: باجتماع الشروط، وانتفاء الموانع؛ فلا شك أنه يكفر بالله عز وجل.

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والخوارج والمعتزلة

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والخوارج والمعتزلة وظاهر الحديث أنه لا يدخل الجنة لأول وهلة مع الداخلين الأوائل: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمكذب بالقدر، فيكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة أولاً، والخوارج والمعتزلة أجروا هذه النصوص على ظاهرها فقالوا: لا يدخل الجنة، أي: لا يدخلها أبداً بل يخلد في النار؛ لأن الخوارج يكفرون صاحب الكبيرة، بل غلاة الخوارج يكفرون بالصغائر، وأنتم تعلمون أن الكبائر إن أقيم على صاحبها الحد فهو كفارته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة لأهلها)، فمن أقيم عليه الحد في أمر قد استوجب الحد فالحد ينفي عنه ما كان منه، وإذا تاب إلى الله عز وجل تاب الله تعالى عليه، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، وإذا مات مصراً عليها غير مستحل لها فهو في مشيئة الله عز وجل: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، هذا حكم الكبيرة عند أهل السنة والجماعة. وأما الخوارج فقالوا: مرتكب الكبيرة يخرج من الملة ويكفر بكبيرته، ويخلد في النار مع المخلدين. والمعتزلة قالوا: ليس مؤمناً ولا كافراً، هذا حكمه في الدنيا، وأما حكمه في الآخرة فهو مخلد في النار مع المخلدين، وهذا كلام لا دليل له؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكافر الأصلي والمنافق؛ لأنه عند الله كافر، ولكنه تجرى عليه أحكام الإسلام في الدنيا لإظهاره شعائر الإسلام، ونطقه بكلمة التوحيد، وأما هو في حقيقة الأمر فقد أبطن الكفر، والله تعالى مطلع على باطنه، فهو عند الله كافر مخلد في النار مع الكفار، فحينئذ يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة عاق) أي: لا يدخل الجنة لأول وهلة، وإنما يدخلها بعد أن يطهر في النار، أو يعفو الجبار تبارك وتعالى.

انتشار السحر والتنجيم بين المسلمين

انتشار السحر والتنجيم بين المسلمين [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أتخوف على أمتي ثلاثاً: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة)]. والتصديق بالنجوم: هو أن تعتقد الأمة في النجوم، وأن تعمل بالسحر والشعوذة، والأمة قد وقعت في هذا، وهو من المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - أي: المهلكات - الشرك بالله عز وجل، والسحر)، والأمة فيها كثير من السحرة بل منها ولايات ودول لا تحسن إلا أعمال السحر والتنجيم، واعتمدت على ذلك في كل أقوالها وأفعالها، حتى في تعاملاتها مع الدول المجاورة وغير المجاورة، وحتى مع الدول الكافرة إنما تعتمد على السحر والتنجيم، كبلاد المغرب كلها: المغرب، تونس، الجزائر، ليبيا، فيعتمدون على السحر والتنجيم، وأما زعماء العالم الغربي الكافر والعالم العربي المسلم فغالباً ما يعتمدون على التنجيم والسحر والشعوذة، ولقد اتخذ كل منهم ساحراً له، لا يصدر إلا عن أمره، وينبئوه كذباً بما سيكون في غد، فيتخذ لذلك الحيطة. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فبدلاً من أن يستمطروا السماء بالدعاء والعمل الصالح؛ يستمطروها بالنجوم، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي، وأما من قال: مطرنا بفضل الله فقد أصبح مؤمن بي كافراً بالكوك) فبين الله عز وجل في هذا الحديث أن هذه المسألة متعلقة بالإيمان والكفر، فهي من مسائل الإيمان وليست من مسائل العمل. قال: (والتكذيب بالقدر)، وقد تكلمنا عنه كثيراً.

صلاح الأمة بصلاح علمائها وحكامها

صلاح الأمة بصلاح علمائها وحكامها قوله: (وحيف الأئمة) الحيف هو: الظلم، والميل والعدول عن الحق، والأئمة المقصود بهم أئمة الحكم والسلطة، وأئمة العلم، فالأئمة عند الإطلاق في نصوص الشرع يعني بهم أئمة السياسة، أو إمام الدولة وإمارة البلاد، ويعنى بهم كذلك أئمة العلم، فهذان إذا هلكا هلكت بهلاكهما الأمة، وإذا صلحا صلحت بصلاحهما الأمة، السلطان والعالم إذا صلحا صلحت بصلاحهما الأمة، وإذا فسدا فسد بفسادهما الأمة، ولقد فسد الكل وأضاعوا الأمة معهما، فلا سلاطين على منهاج النبوة، ولا علماء على منهاج النبوة إلا من رحم الله وقليل بل نادر جداً ما هم، وهم مبعدون مغضوب عليهم، لا يسمع لهم القول، وحري إذا تكلموا ألا يسمع لهم، وإذا نكحوا ألا ينكحوا، هذا حالهم في هذا الزمان، لكنهم عند الله تبارك وتعالى مباركون مقبولون بإذن الله تعالى، فهذا الحديث مخيف إلى أقصى حد لمن كان يخاف الله عز وجل. [وعن ابن محيريز قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة، وإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر)].

الأدلة على إثبات القدر

الأدلة على إثبات القدر قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -يعني: يجادلونه ويناظرونه فيما يتعلق بالقدر- قال: فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49])]. وهذه آية عظيمة احتج بها جميع الأئمة في إثبات القدر، وأن كل شيء بقدرة الله عز وجل، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} [القمر:49] (كل) من ألفاظ العموم، و (شيء): نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ} [القمر:49] فلا خالق إلا الله {بِقَدَرٍ} [القمر:49] أي: بعلم سابق، وبقدرة إلهية على الخلق، فكل شيء في الكون بقدر الله عز وجل، وهذا يشمل في عمومه الخير والشر، والصالح والطالح. [وعن محمد بن كعب القرظي أنه قرأ هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49] قال: ما نزلت إلا تعييراً لأهل القدر] أي: تبكيتاً لهم فيما يزعمون إنكاره ورده. وكثير من أهل العلم لما سئل عن القدرية قال: صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية، وقتالهم أحب إلينا من قتال الروم وفارس والديلم.

تكفير السلف ولعنهم للقدرية الأولى

تكفير السلف ولعنهم للقدرية الأولى [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: ما كان كفر بعد نبوة إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر]، يعني: أن التكذيب بالقدر رأس الشر، وناقض لرسالات الرسل، ونبوة الأنبياء، وما كان كفراً بعد نبوة إلا بدأ بالتكذيب بالقدر. [وعن محمد بن يزيد الرحبي قال: قلت لـ نافع مولى ابن عمر: إن قبلنا -أي: ناحيتنا- قوماً يقولون: إن الله عز وجل لم يقدر الذنوب على أهلها، والناس مخيرون بين الخير والشر، قال: أولئك قوم كفروا بعد إيمانهم]. أي: الذي يقول هذه المقولة يكفر بعد إيمانه. [وعن نافع قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: ناس يتكلمون بالقدر؟ فقال: أولئك القدريون، وأولئك يصيرون إلى أن يكونوا مجوس هذه الأمة]. وهم الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها. وهؤلاء القدرية أناس بلغوا في العلم مبلغاً وشأناً عظيماً جداً، والذين تكلموا في القدر كـ معبد الجهني، وكذلك الجهم بن صفوان من الجهمية وغير واحد من أعلام أهل البدع كانوا في غاية العلم والذكاء والفطنة ولم يكونوا جهالاً، وفرق كبير جداً بين العلم والهداية، ولذلك فالعلماء يقولون: العلم علمان: علم بالله، وعلم بأحكام الله عز وجل، فالعلم بالله على رأسه مخافة الله عز وجل، وإجلال الله تبارك وتعالى وعبادة الله تبارك وتعالى، بذل وإخبات وخضوع وخشوع، فهذا هو العلم الذي ينتفع به صاحبه يوم القيامة. وأما العلم الثاني: فهو العلم بالأحكام الشرعية، وبالحلال والحرام، فمن أهل هذا العلم من جمعوا إلى علمهم العلم الأول، فهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أما عالم بالحلال والحرام يلوي بالحرام لسانه حتى يجعله حلالاً، ويلوي بالحلال لسانه حتى يجعله حراماً، فإذا كان التوجه العام والسياسة العامة تريد تحريم هذا الشيء فيذهبون ويأتون بأدلة باطلة وموضوعة وغير ذلك لإثبات أن هذا الشيء على هوى السائل، وإذا كان العكس فبالعكس كذلك، كما سئل أحدهم وكان قد سأله كافر فقال: أليس نبيكم قد حرم مصافحة النساء؟ وقد رأيناك تصافح النساء بنفسك، وبعض الناس منكم يقول: إن النبي لم يصافح النساء في بيعة كذا، قال: مصافحة النساء حلال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء؛ لأنه كان قادماً من سفر متعباً فاعتذر عن مصافحة النساء! أنا أظن أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون قد خطر على بال إبليس، فهذا المفتي ليس له حظ ولا نصيب إلا النار إن لم يتب؛ لأنه يقول على النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يقله، ويتأول النصوص الشرعية على غير مراد الله عز وجل، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليضل الناس بما عنده من علم، وهو يعلم أن ذلك حرام، ولو طلب منه وكان التوجه العام إثبات حرمة مصافحة النساء، ووجوب لبس النقاب؛ لأتى بأدلة هائلة لإثبات هذا؛ لأنه غاب عنه أن يرضي الله عز وجل، وإنما أتى بمهمة عظيمة وهي إرضاء التوجه العام في البلاد الإسلامية، فأنا لا أدري كيف يبيع المرء دينه بعرض من الدنيا قليل لا ينفعه، فهو لا يأكل إلا كما كان يأكل، ولا يلبس إلا كما كان يلبس، ولا ينام إلا كما ينام، وسيترك هذا كله ولا يخرج من دينه ودنياه إلا بالخسران والبوار، فكيف يقدم على ذلك رجل عنده مسكة من عقل، ثم هو قد بلغ من العمر أرذله، فإذا كان يخشى سجن أو تعذيب فإنه ليس من أهل السجن ولا من أهل التعذيب، والناس عندهم نظر لهذا السن، ولا يسمح بذلك، وأقصى ما يقال فيه: إنك قد بلغت السن القانوني فاخرج لا نريدك، وقد قيل لسابقه هذا القول، فعجيب جداً أن يبيع المرء دينه بفتات من فتات الدنيا، فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تثبتنا على إيماننا. [وعن نافع عن ابن عمر قال: إن لكل أمة مجوساً، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر. وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يعني: يأخذ منه بالدلو- قد ابتلت أسافل ثيابه -يعني: أطراف ثيابه من أسفل- فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال ابن عباس: أوقد فعلوها؟! قلت: نعم، فقال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن أريتني أحداً منهم فقأت عينه بأصبعي هاتين]، يعني: إن أريتني واحداً منهم سأفقأ عينيه ولا دية له ولا يقاد مني في ذلك. [وعن عكرمة بن عمار اليمامي قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يلعن القدرية. وق

الطاعة تسلم إلى الطاعة والبدعة والمعصية يسلمان إلى البدعة والمعصية

الطاعة تسلم إلى الطاعة والبدعة والمعصية يسلمان إلى البدعة والمعصية [وعن مجاهد قال: يبتدءون فيكونون مرجئة]. فالطاعة تسلم إلى الطاعة، فكذلك البدعة تسلم إلى بدعة، والمعصية تسلم إلى معصية، وهذه سنة الله تعالى في الكون، فالذي يحرص على أن يصلي إذا ما فرغ من صلاته انشغل بالأذكار، وإذا فرغ من الأذكار انشغل بالتسبيح، ثم انشغل بقضاء حوائج المسلمين، أو بأي طاعة من الطاعات حتى تأتيه الصلاة مرة أخرى. والمعصية تسلم إلى معصية أخرى، والمرء يخرج من ذنب فيدخل في آخر، وهو في الذنب الأول يفكر ماذا يصنع في الذنب الثاني وغير ذلك، فكذلك البدعة تسلم إلى بدعة أخرى.

مداخل الشيطان على العبد

مداخل الشيطان على العبد والبدع أخطر من المعاصي بكثير جداً، والشيطان يحبها حباً جماً، ولذلك يجتهد عليك الشيطان في باب الكفر والخروج من الإيمان، وفي الغالب أنه لا يفلح في الردة، فيجتهد عليك في باب البدع ولا يجتهد عليك في باب المعصية، فإن فشل معك في باب البدع فإنه يجتهد آسفاً عليك فيما يتعلق بالمعصية؛ لأن البدعة وسط بين الإيمان والكفر، وأما الذنب فليس كفراً فهو في المرتبة الثالثة. ولذلك تجد صاحب البدعة يبتدع وهو يزعم أنه يتقرب إلى الله، وأما صاحب الذنب فلا يمكن أن يزعم ذلك، فلو سألت شخصاً يشرب الخمر وتقول له: أنت تشرب الخمر لماذا؟ فسيقول: هذه معصية، وربنا يتوب علي وادع لي، لكن لو ذهبت إلى شخص يطوف حول قبر الحسين، وقلت له: هذا شرك، لماذا تعمل هذا؟ يقول لك: لا تتكلم، هؤلاء أولياء الله عز وجل، سوف يحصل لك ويأتي إليك ويعمل فيك! فأصحاب البدع دينهم الكذب على الله وعلى رسوله، فصاحب البدعة يبتدع وهو يعتقد أنه يتقرب من الله عز وجل، ولذلك تجده متمسكاً جداً ببدعته ومجاهراً بالبدعة؛ لأنها في نظره دين. لكن صاحب المعصية يعصي الله، وإذا ناقشته أو اطلعت عليه في حال معصيته خزى واستحى، ووضع وجهه في الأرض؛ لأنه يعلم أنه على معصية، فالشيطان يهتم دائماً أن يجتهد عليك في باب البدعة.

ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر

ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر وقد روي عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين مواقف مشهودة لهم فيما يتعلق بحكمهم على القدرية.

أثر أبي بكر الصديق في إثبات التقدير السابق

أثر أبي بكر الصديق في إثبات التقدير السابق قال: [فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: خلق الله عز وجل الخلق وكانوا قبضتين، فقال للتي عن يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال للتي في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي]. ومعنى هذا الكلام أن الله تعالى لما أخرجهم من صلب آبائهم جعلهم فريقين: فريقاً في يده اليمنى، وفريقاً في يده الأخرى، وقال للذين في يده اليمنى: أنتم من أهل الجنة، وقال للذين في يده الأخرى: أنتم من أهل النار، وهذا يدل على علم الله الأزلي السابق. والقدرية هم الذين أنكروا العلم الأزلي لله عز وجل، فقول أبي بكر هنا: إن الله تعالى قسم خلقه إلى قسمين: أحدهما في النار والآخر في الجنة؛ ليدل على أن كل شيء بقدر، وأن كل شيء كان معلوماً لله عز وجل قبل أن يكون، وفي هذا أعظم رد على القدرية. [ويقول: (قلت: يا رسول الله! أنعمل على عمل قد فرغ منه؟ أم على أمر مؤتنف؟)]. يعني: هذا الذي نحن نعمله يا رسول الله! نحن مطلوب منا أن نعمله، أم أنه أمر قد فرغ منه؟ يعني: أن الله عرفه وكتبه وقدره علينا، أم أمر مؤتنف لا يعلمه الله إلا بعد أن يقع منا، فإذا أوقعناه كتب الله عز وجل لنا أو علينا. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل على أمر قد فرغ منه، قلت: يا رسول الله! إذا كان هذا الأمر قد فرغ منه ففيما العمل إذاً؟ -وهذا السؤال سأله أيضاً عمر رضي الله عنه وغير واحد من الصحابة- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق، فأما من خلق للجنة فييسر لعمل أهل الجنة، وأما من خلق للنار فييسر لعمل أهل النار). ولعل شخصاً يقول: ما دام الأمر قد فرغ منه فأنا لن أعمل، فنقول له: أنت الذي حكمت على نفسك بأنك من أهل النار، فالذي يجعلك قدرت أنك من قبضة أهل النار يجعلك تقدر أنك من قبضة أهل الجنة، فاعمل ولابد، فإذا كان خلق للجنة بعلم الله الأزلي السابق فسييسر لعمل أهل الجنة، والأخرى بالأخرى.

أثر عمر بن الخطاب في إثبات قدر الله والرد على جاثليق النصارى في إنكاره إضلال الله لمن يشاء

أثر عمر بن الخطاب في إثبات قدر الله والرد على جاثليق النصارى في إنكاره إضلال الله لمن يشاء وأما عمر رضي الله عنه: فقد جاء [عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية -يعني: في الشام- فحمد الله وأثنى عليه، فلما أتى على قوله: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له -يعني: من كتب الله تعالى له الهداية في الأزل فلا يمكن أن يضل، ومن أضله الله في الأزل فلا يمكن أن يهتدي- فلما قال ذلك عمر والجاثليق بين يديه -وهو زعيم من زعماء النصارى- قال بقميصه فنفضه وقال: بركست بركست -يتكلم بكلام عبري- فقال عمر: ما يقول عدو الله؟ فقالوا: لم يقل شيئاً يا أمير المؤمنين! دعك منه وواصل كلامك، ثم أعادها فتشهد فقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق بقميصه فنفضه]، يريد أن يقول: إن هذا كلام غلط. وهذا كما جاء عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما عندما كانوا يذكرون راوياً منكر الحديث أو كذاباً أو وضاعاً بين يدي أحدهم فإنه يقوم ينفض ثيابه ويترك المجلس وينصرف ولم يقل شيئاً، وهذا الفعل أعظم مما لو قال: كذاب أو وضاع. فهذا الجاثليق لما قال عمر: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نفض ثيابه وقال: بركست بركست. قال: [فقال عمر: ما يقول عدو الله؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله عز وجل يهدي ولا يضل -يعني: يخلق الخير ولا يخلق الشر- فقال عمر: كذبت يا عدو الله! بل الله عز وجل خلقك، وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله]. فلم يقل واحد من المسلمين: يا أمير المؤمنين أنت زدت فيها، كان المفروض أن تتلطف مع هذا الرجل النصراني لعل الله أن يهديه، فهل نحن نخفي الحق من أجل هداية فلان أو فلان؟! قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأما من ذهب منا إليهم فأبعده الله) أي: لا نريده، أما أنك تخفي الحق من أجل فلان أو علان فليس هذا منهجاً للسلف أبداً، فلا بد من قول الحق. فقال: [كذبت يا عدو الله! بل الله عز وجل خلقك، وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله]، فاستثنى وذكر المشيئة لأنه ربما يهتدي ويتوب. ثم قال: [والله لولا لوث عهد لك -أي: لولا عهد بينا وبينك- لضربت عنقك، إن الله عز وجل لما خلق آدم عليه السلام نثر ذريته في يده، فكتب أهل الجنة وأعمالهم، وأهل النار وأعمالهم، وقال: هذه لهذه -أي: لأهل الجنة- وهذه لهذه -أي: لأهل النار- فتفرق الناس يومئذ وهم لا يختلفون في القدر]، أي: فتفرق الناس في يوم أن قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. [وعن عبد الله بن الحارث قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثليق يترجم له ما يقول، فقال: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، قال: فنفض جبته كالمنكر لما يقول عمر، فقال عمر رضي الله عنه: ما يقول هذا؟ قال ذلك ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين! يزعم أن الله عز وجل لا يضل أحداً، قال عمر: كذبت يا عدو الله! بل الله خلقك، وقد أضلك، ثم يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا لوث من عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون -أي: من خير- وخلق أهل النار وما هم عاملون -أي: من شر-]. إذاً: فخالق الخير والشر هو الله عز وجل، لكنه لا يحب الشر ولا يرضى به، ويأذن في وجوده؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد الله. فقال: [هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه، قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر].

القدر قدرة الله فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله تعالى

القدر قدرة الله فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله تعالى قال: [وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: القدر قدرة الله عز وجل]. والإمام أحمد بن حنبل عندما سئل: ما القدر؟ قال: إن الله على كل شيء قدير. قال: [القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله عز وجل]. فالذي يقول: لا شيء هناك اسمه قدر كأنه نفى علم الله، ونفى قدرة الله، فالله تعالى عليم، وموصوف بالعلم، وقادر وموصوف بالقدرة، والذي ينكر القدر ينفي عن الله تعالى بعض أسمائه وبعض صفاته.

يقظة السلف عند التعامل مع الألفاظ المخالفة

يقظة السلف عند التعامل مع الألفاظ المخالفة [وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن رجلاً قال لـ عمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم]. فالسلف كانوا متيقظين جداً لأهل البدع، وكانوا في غاية اليقظة لكلمات أهل البدع، فهذا الشخص يقول له: يا عمر أعطني يعطيك من لا يمن ولا يمنع، فـ عمر قال له: كذاب، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]. إذاً: فالله تعالى يمن، والمن في حقنا منقصة، لكن المن في حق الله صفة كمال، والله تعالى يحرم الكافر من الجنة ويدخله النار، والحرمان في حقنا صفة عيب ونقص لكنه في حق الله صفة كمال في مقابلة من يستحق الحرمان، ولا يسمى الله تعالى: المان، كما لا يسمى: المحرم، أي: الذي يحرم عباده؛ لأنه لا يؤخذ من أفعال الله عز وجل أسماء له، كما قال الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يسمى: المنتقم. وأما الحنان المنان فهما من أسماء الله، فقد ورد في ذلك نص صريح (يا حنان يا منان)، وأما المان فهو ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه مستخرج من أفعاله، وكل أفعال الله تعالى التي لم يثبت منها أسماء لا تستخرج منها الأسماء، كما في قول الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يسمى الله تعالى المنتقم، فالانتقام في العموم صفة نقص في حق المخلوقين، وهي في حق الله عز وجل صفة كمال؛ لأنه لم ينتقم إلا ممن يستحق الانتقام، وكما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] فلا يسمى الله تعالى: الكائد، وعندما نقول: فلان كياد فهذه صفة نقص، ولا يوصف الله تعالى بذلك ابتداءً، وإنما يوصف بها على سبيل الكمال في مقابلة كيد الكائدين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، والمكر في حق المخلوق صفة نقص، لكن في حق الله عز وجل مهما مكر الماكرون فمكرهم عند الله عز وجل، وفي قدرة الله عز وجل، وسابق في علم الله عز وجل قبل أن يخلقه. إذاً: إحاطة المولى عز وجل بكيد الكائدين، وإجرام المجرمين، وانتقام المنتقمين، وغير ذلك صفة كمال لله عز وجل، ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن أسماء الله عز وجل الثابتة له التي ظاهرها النقص أنها لا تقال على سبيل الإفراد، بل تقال على سبيل المقابلة، فتقول: النافع الضار، والضار من أسماء الله عز وجل، لكن لا تقل: الله تعالى هو الضار؛ لأن الاسم عند الإطلاق والإفراد يوحي بشيء من النقص، لكن تقول: الله تعالى هو النافع الضار. ولا تقل: الله تعالى المعيد، بل قل: هو المبدئ والمعيد، فهو الذي بدأ الخلق ثم يعيدهم؛ لتجمع الأمر من أوله إلى آخره لله عز وجل، وأما لو قلت: هو المبدئ؛ فربما قيل: ومن المعيد؟ ولو قلت: هو المعيد؛ لتوهم بعض السامعين أنه لم يبدأ الخلق، بل هناك خالق بدأ وخالق ثانٍ يعيد هذا الخلق، وهذا من قواعد الأسماء والصفات. قال: [إن رجلاً قال لـ عمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم. فقال له عمر: كذبت، بل الله يمن عليك بالإيمان، ويحرم الكافر الجنة]. وابن عباس عندما قيل بين يديه: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل قال: نعيم الجنة لا يزول. وهذا فيه رد على قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، فنعيم الجنة دائم سرمدي أبدي لا نهاية له، فلما صدق في شطر بيته الأول أقره، ولما كذب في الشطر الثاني كذبه فوراً؛ حتى توضع النقاط على الحروف. [وقال ثابت: إن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني، فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك، فقال أمير المؤمنين عمر: لم؟ قال: لأن الله عز وجل هو الذي يعطي وهو الذي يمنع]، أي: أن المعطي الحقيقي والمانع الحقيقي هو الله. قال: [أدخلوه بيت المال ليحضره -أي: أدخلوا الرجل بيت المال إلى أن يرى المال بعينيه- وليأخذ منه ما يشاء]، وشكره عمر. وهذا القول رغم أنه توحيد لكن لا يخلو من شيء من الجفاء مع الأئمة والوجهاء، والأصل فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (دعوا الناس يزرق الله بعضهم من بعض) يعني: لو أعطاه عمر لكان رازقاً له بإذن الله، وينبغي تأدباً شكر من أنعم عليك، فالله تعالى يقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فسمى الله النبي صلى الله عليه وسلم منعماً وهو مخلوق؛ لأنه أنعم ومنّ على

إيمان عمر الجازم بأن الذي يملك السعادة والشقاوة والخير والشر هو الله تعالى

إيمان عمر الجازم بأن الذي يملك السعادة والشقاوة والخير والشر هو الله تعالى قال: [وقال أبو عثمان النهدي: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يطوف بالكعبة يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت علي الذنب والغضب في الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب]. وأنتم تعلمون أن مسألة المحو والإثبات وإنما تكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما أم الكتاب واللوح المحفوظ ففيها القضاء المبرم الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فـ عمر رضي الله عنه يدعو ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في الصحف التي بأيدي الملائكة شقياً فامحني من الشقاء وأثبتني في أهل السعادة، وأعني على ذلك، وهذا إيمان جازم من عمر رضي الله عنه أن الذي يملك السعادة والشقاء هو الله عز وجل، وأن الذي يخلق الخير والشر هو الله عز وجل. [وعن عمرو بن ميمون: أن عمر سمع غلاماً وهو يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحل بيني وبين الخطايا فلا أعلم بشيء منها]، يعني: يا رب! اجعل بيني وبين الذنوب والخطايا حاجزاً وساتراً، واجعلني في غفلة عن الذنب حتى إني لا أعلم ما الذنب. [فقال عمر: رحمك الله! ودعا له بخير. وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر يوم أصيب وعليه ثوب أصفر، فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]]. وكان أمر الله مقدراً في الأزل، (مقدوراً) أي: مخلوقاً وموجوداً لا محالة، وكأنه يريد أن يقول: إن الذي حل بي اليوم علمه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ. فهذا الخبر يذكره عمر في أخريات لحظات حياته، ويبرز لنا قضية مهمة وهي قضية الإيمان بالقدر، ويقول: إن الذي حل بي إنما هو مقدر في اللوح المحفوظ ولا بد أن يقع، ولذلك عمر رضي الله عنه ما كان يخفى عليه أن أبا لؤلؤة المجوسي كان غلاماً مجوسياً للمغيرة بن شعبة، وكان يصنع الرحى، وقد ضرب عليه سيده المغيرة مبلغاً من الدنانير يدفعها في كل عام، فأتى أبو لؤلؤة المجوسي إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يشكو له غلاء الضريبة التي ضربت عليه من سيده، فقال: كم يأخذ منك؟ قال: أربعة دنانير، قال: ما عملك؟ قال: أصنع الرحى، وأنا فوق ذلك حداد نجار، قال: ما خراجك بكثير، أتصنع رحى؟ قال: نعم. قال: اصنع لي رحاً. فقال الغلام: سأصنع لك رحاً تتكلم عنها العرب والعجم، فلما وقع الذي وقع من أبي لؤلؤة المجوسي -عليه لعنة الله- قال عمر: لقد تهددني العلج آنفاً، والعلج بمعنى القبيح. فـ عمر فهم مراد أبي لؤلؤة ولم يكن غافلاً، وعمر كان ذكياً جداً، وقد كان قبل الإسلام سفير قريش مع بقية القبائل وعنده من العمر ستة وعشرون عاماً، فلا يعقل أن قريشاً مع مكانتها وفصاحتها وذكائها وخدمتها للحجيج؛ تتخذ رجلاً لا عقل له، أو رجلاً غبياً، أو لا يدرك أبعاد المسائل؟ هذا لا يمكن، وفي الغالب أن كل أمة إنما تختار سفراءها من أذكى الناس فيها، وأنا أتكلم هنا عن سفراء العرب قديماً، وأما الآن فالسفير قد يقول: خطب شارون خطاباً بالأمس وكان في خطابه إيجابيات، وهناك في خطابه أمور ليست إيجابية، لماذا لا تقول: سلبية؟ خائف ممن؟ فحتى هذه الكلمة يخاف من قولها، وهو يحاول أن يخرج من أسئلتك شمالاً ويميناً، ويقول: فيه أشياء غير إيجابية. والكذاب الكبير حق أمريكا يتصل بـ شارون ويقول له: لا عليك، من أجلنا تصالح مع العرب، فـ شارون يقول له: إلى الآن والكتائب اليهودية لم تحقق أهدافها العسكرية، فيقول له: افعل ذلك من أجلنا، فاليمن والسودان والخليج كلهم أتباعنا، واليهود والصليبيون في أرض الجزيرة العربية، وفلسطين ملكنا، لكن أريد أن أقول: إن البيع المعلن لم يتم، وهو سيتم ولا بد، ولا حل لهذه الأمة إلا أن ترجع إلى ربها. فانظروا إلى عمر بن الخطاب عندما كتب رسالة إلى سعد بن أبي وقاص قال له: يا سعد! اتق الله في الخاصة من نفسك، وفيمن معك من الجند، فإنك إن عصيت الله كان جند العدو خيراً منك؛ لأنك لا تنتصر إلا بتقوى الله، فإذا كنت على غير ذلك فاقك العدو بالعدد والعدة، فكان خيراً منك في أرض المعركة؛ لأنك صاحب معاص وذنوب، فإما أن تتوب الأمة إلى الله عز وجل وترجع إلى ربها، وإما فسيأتي شارون إلى هذه البلاد بل وإلى كل بلد من بلاد الإسلام، وسيكون هناك أسماء كثيرة جداً كلها تمثل شارون، لكن هذا شارون عربي وهذا شارون ليبي، وهذا شارون مغربي، وهذا شارون سعودي وهكذا، فلا بد أن ترجع الأمة إلى ربها. أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، اللهم انصر المجاهدين

ما روي عن الصحابة في التشنيع على المكذبين بالقدر

شرح كتاب الإبانة - ما روي عن الصحابة في التشنيع على المكذبين بالقدر لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يشنعون على المكذبين بالقدر، وينكرون عليهم أشد الإنكار، ويتبرءون من معتقدهم، ويحاجونهم بكتاب الله وسنة رسوله، ويحذرون الناس من مجالستهم والاستماع إليهم.

تابع ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر

تابع ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر

إثبات علي بن أبي طالب للقدر

إثبات علي بن أبي طالب للقدر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد: فإن أفضل الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب العاشر: ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم فيما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام من التشنيع على المكذبين بالقدر]. وقد روينا فيه عن أبي بكر الصديق، وعن عمر رضي الله عنهما وغيرهما، وأما اليوم فنذكر الكلام الثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة والتابعين. [قال يعلى بن مرة: إن أصحاب علي قالوا: إن هذا الرجل في حرب، وإلى جنب عدو، وإنا لا نأمن أن يغتال، فلو حرسه منا كل ليلة عشرة، قال: وكان علي إذا صلى العشاء لزق بالقبلة، فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى أهله، فصلى ذات ليلة ثم انصرف، فأتى عليهم -يعني: ذهب إلى أصحابه الذين اجتمعوا- فقال: ما يجلسكم هذه الساعة؟ قالوا: جلسنا نتحدث، قال: لتخبرونني! فأخبروه -أي: أخبروه الخبر أنهم قد اتفقوا أن يحرسه في كل ليلة منهم عشرة؛ مخافة أن يغتال- فقال: من أهل السماء تحرسوني أو من أهل الأرض؟ قالوا: نحن أهون على الله من أن نحرسك من أهل السماء، بل نحن نحرسك من أهل الأرض. قال: فلا تفعلوا، إنه إذا قضي أمر من السماء عمله أهل الأرض، وإن علي من الله جنة -أي: وقاية- حصينة إلى يومي هذا ثم تذهب، وإنه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يستيقن غير ظان -أي: شاك- أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه]. وهذا ربما يشير ظاهره إلى عدم الأخذ بالأسباب، والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتخذ لنفسه الحراس والخدم والعبيد والموالي، وغير ذلك، فإذا كان الاغتيال بقدر الله؛ فكذلك الحراسة من قدر الله عز وجل، ولكن الإمام علي رضي الله عنه أراد أن يعلمهم درساً عظيماً جداً في التوكل على الله تعالى، والإيمان بما قدره الله تعالى. وقال -أي علي بن أبي طالب -: [ما آدمي إلا ومعه ملك يقيه ما لم يقدَّر عليه، فإن جاء القدر خلاه وإياه] أي: تركه حتى ينفذ فيه القدر. [وعن أبي البحتري: أن علياً كان يقول: إياكم والاستنان بالرجال -أي: إياكم أن تستنوا بآراء الرجال، فإنما ذلك بالكتاب والسنة، من كان مستمسكاً فليستمسك بالكتاب والسنة- فإن كنتم مستنين لا محالة فعليكم بالأموات] أي: عليكم برأي من مات، فإن الحي يقول الرأي اليوم ويرجع عنه غداً، وإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أما الميت فقد نجا من الفتنة وانقطعت عنه بموته. قال: [لأن الرجل قد يعمل الزمن من عمره بالعمل الذي لو مات عليه دخل الجنة، فإن كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات؛ فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته بعام تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات؛ فدخل الجنة]. وهنا لا يلزم أن نذكر كل ما ورد في ترجمة الإمام، وفي كلامه عن القدر، بل نجتزئ بالبعض دون البعض الآخر. [وعن علي بن أبي طالب أنه ذكر عنده القدر يوماً فأدخل أصبعيه في فيه السبابة والوسطى -أي: لما ذكر عنده القدر ذات يوم أدخل السبابة والوسطى في فمه وبلهما بريقه- فأخذ بهما من ريقه فرقم بها في ذراعيه -أي: طبع بهما على ذراعيه- ثم قال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب]. يعني: أن كل شيء إلى قيام الساعة مكتوب عند الله تعالى في أم الكتاب، وفي اللوح المحفوظ. [وعن عمر بن سلام عن إسحاق بن الحارث من بني هاشم وذكر عنده القدرية، فقال الهاشمي: أعظك بما وعظ به علي بن أبي طالب رضي الله عنه صاحباً له، فقال: إنه قد بلغني أنك تقول بقول أهل القدر، قال: إنما أقول: إني أقدر على أن أصلي وأصوم وأحج وأعتمر. قال علي: أرأيت الذي تقدر عليه -أي: هذا الذي ذكرت من الصلاة والصيام والزكاة والحج- أشيء تملكه مع الله، أم شيء تملكه من دون الله؟ -يعني: هل تستطيع أن تعمل ذلك مع الله تعالى، أو بدون الله تعالى؟ - قال: فارتج الرجل، فقال علي رضي الله عنه: مالك لا تتكلم؟ أما لئن زعمت أن ذلك شيء تملكه مع الله عز وجل؛ فقد جعلت مع الله مالكاً وشريكاً، ولئن كان شيئاً تملكه من دون الله؛ لقد جعلت من دون الله مالكاً، قال الرجل: قد كان هذا من رأيي، وأنا أتوب إلى الله عز وجل منه توبة نصوحاً لا أرجع إليه أبداً]. يعني: هو في الحالين مشرك، ورأيه يوافق رأي المجوس. [وعن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده قال: أتى رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: أخبرني عن القدر، قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: أخبرني عن القدر، قال: س

ما قاله عبد الله بن سلام في إثبات القدر

ما قاله عبد الله بن سلام في إثبات القدر قال: [عن عبد الله بن سلام قال: خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد والإثنين، وقدر فيها أقواتها، وجعل فيها رواسي -أي: جبالاً- من فوقها في يوم الثلاثاء، والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها يوم الخميس والجمعة، وأوحى في كل سماء أمرها، وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم تركه أربعين ينظر إليه ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين، ثم نفخ فيه من روحه، فلما دخل في بعضه الروح ذهب ليجلس -أي: تعجل آدم الجلوس. قال الله عز وجل: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]- فلما تبالغ فيه الروح -أي: اشتد أمر الروح فيه- عطس؛ فقال الله عز وجل له: قل: الحمد الله، فقال: الحمد لله، قال الله له: رحمك ربك! ثم قال: اذهب إلى أهل ذاك المجلس من الملائكة فسلم عليهم، ففعل، فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك، ثم مسح ظهره بيديه فأخرج فيهما من هو خالق من ذريته إلى أن تقوم الساعة، ثم قبض يديه ثم قال: اختر يا آدم، قال: اخترت يمينك يا رب، وكلتا يديك يمين، فبسطها وإذا فيها ذريته من أهل الجنة، فقال: ما هؤلاء يا رب؟ قال: هو ما قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة، فإذا فيهم من له وبيص -أي: لمعان وضياء- قال: ما هؤلاء يا رب؟ قال: هم الأنبياء، قال: فمن هذا الذي له فضل وبيص؟ -أي: نور ساطع- قال: هذا ابنك داود، قال: فكم جعلت عمره؟ قال: ستين، قال: فكم عمري؟ قال: ألف سنة، قال: فزده يا رب من عمري أربعين سنة -أي: أعطه من عمري أربعين سنة، فيكون عمر آدم ألف سنة إلا أربعين، ويكون عمر داود مائة عام- قال: إن شئت، قال: يا رب! قد شئت -وفي هذا إثبات أن للعبد مشيئة- قال: إذاً يكتب ثم يختم ثم لا يبدل]. يعني: كأن الله تعالى يقول: انظر يا آدم ما تقول! فإننا لو أخذنا منك الأربعين فوضعناها في عمر ابنك داود؛ فهذا القول لا يبدل، وسيكتب في اللوح المحفوظ ولا رجعة فيه. قال: [ثم رأى في آخر كف الرحمن آخر له فضل وبيص، قال: فمن هذا يا رب؟ قال: هذا محمد، هو آخرهم وأولهم أدخله الجنة. فلما أتاه ملك الموت ليقبض نفسه -أي: أتى آدم- قال: إنه قد بقي من عمري أربعون سنة، قال: أولم تكن وهبتها لابنك داود؟! قال: لا، قال: فنسي آدم فنسيت ذريته، وعصى آدم فعصت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، فذلك أول يوم أمر بالشهداء] أي: أول يوم استدعى الله تعالى فيه الشهود على آدم. هذا الحديث وإن كان موقوفاً على عبد الله بن سلام؛ فإن له في صحيح مسلم شواهد كثيرة.

موقف ابن مسعود وابن عمر ممن كذب بالقدر

موقف ابن مسعود وابن عمر ممن كذب بالقدر قال: [وعن ابن مسعود قال: ما كان كفر بعد نبوة قط إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر. وعنه قال: لئن أعض على جمرة حتى تبرد أحب إلي من أن أقول لشيء قد قضاه الله: ليته لم يكن. وعن أبي حازم قال: ذكر عند ابن عمر قوم يكذبون بالقدر، فقال: لا تجالسوهم، ولا تسلموا عليهم، ولا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تشهدوا جنائزهم، وأخبروهم أني منهم بريء، وأنهم مني براء، وهم مجوس هذه الأمة. وعن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً بالعراق يقولون: إن شاءوا عملوا، وإن شاءوا لم يعملوا -يعني: أرجعوا الأمر كله إلى مشيئتهم دون مشيئة الله تعالى- وإن شاءوا دخلوا الجنة، وإن شاءوا دخلوا النار -يعني: حتى دخول الجنة والنار بمشيئتهم- وإن شاءوا وإن شاءوا وذكر أشياء أخرى، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء. وقال رجل لـ عبد الله بن عمر: إن ناساً من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر، قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء، وأنهم منه براء، والله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره] أي: أن الخير والشر من عند الله عز وجل.

موقف ابن عباس ممن يتكلم في القدر

موقف ابن عباس ممن يتكلم في القدر قال: [وعن أبي الزبير قال: كنا نطوف مع طاوس -أي: طاوس بن كيسان اليماني - فمررنا بـ معبد الجهني -وهو زعيم القدرية- فقيل لـ طاوس: هذا معبد الذي يقول في القدر -أي: الذي ينكر القدر- فقال له طاوس: أنت الكاذب على الله عز وجل بما لا تعلم؟ قال: فقال: يكذب علي! -أي: هم يفترون علي، فهذا الذي وصلك وبلغك عني كذب وافتراء- فدخلنا على ابن عباس فقال له طاوس: يا أبا عباس! الذين يقولون في القدر -يعني: هنا أناس قاعدون في هذا المجلس يتكلمون في القدر- قال ابن عباس: أروني بعضهم، قال طاوس: صانع ماذا؟ -يعني: لو أريناكهم ماذا ستصنع بهم؟ - قال: أدخل يدي في رأسه ثم أدق عنقه]. وابن عباس كان كفيفاً في كبره. [وعن مجاهد قال: ذكر القدرية عند ابن عباس، فقال: لو أريت أحداً منهم عضضت أنفه]. أي: عضضت أنفه حتى أقطعه. [وذكروا عند ابن عمر فقال: من لقيهم منكم فليبلغهم أني منهم برئ، وأنهم مني براء]. يعني: ليسوا منا ولسنا منهم؛ لأنهم مجوس وليسوا مسلمين، فالذي يقول: إن الله لم يقدر الشر، وما علمه إلا بعد أن وقع، وأن هذا لم يكن مكتوباً في اللوح المحفوظ؛ فهو كافر وخارج عن ملة الإسلام، وهذا ظاهر كلام عبد الله بن عمر في الحديث الطويل؛ حديث جبريل عليه السلام عند الإمام مسلم، وقال النووي: ظاهر كلام عبد الله بن عمر أنه يكفر القدرية. [وعن ابن عباس قال: الإيمان بالقدر نظام التوحيد -يعني: أصل التوحيد- فمن وحد الله وكذب بالقدر؛ كان تكذيبه بالقدر نقضاً للتوحيد -يعني: لم يكن موحداً، بل كان مشركاً مجوسياً، وقد شابه المجوس في جعلهم للكون إلهين: إلهاً للخير، وإلهاً للشر- ومن صدق بالقدر كانت العروة الوثقى التي لا انفصام لها]. قوله: (ومن صدق بالقدر) أي: من آمن به، وأن كل شيء بقدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وأن الله تعالى قدر الخير وأراده وشاءه، وأمر به وأحبه وأحب أهله، وقدر الشر، وأذن في وجوده وخلقه ولم يرضه، بل توعد فاعله بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة. [وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]-يعني: الله يمنع العبد من أن يأتي خيراً أو شراً- قال: يحول بين المؤمن وبين المعاصي، وبين الكافر وبين الإيمان]. فالله تعالى يحول بين المؤمن وأن يقع في المعصية، ويحول بين الكافر وأن يؤمن بالله تعالى. [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، قال: أضله على علم قد علمه عنده]. أي: أضله الله تعالى على علم منه بأن عبده هذا سيكون عبداً ضالاً. [وجاء عبد الله بن عباس في ثلاثة نفر يتماشون، فقالوا: هيه يا ابن عباس! حدثنا عن القدر، قال: فأدرج كم قميصه حتى بدا منكبه] يعني: كأنه يقول: تريدون أن نتكلم عن القدر؟ ثم شمر عن ذراعيه إلى حد المنكب، وهذه حركة ظريفة جداً من ابن عباس مع أنه كفيف، فأبدى الاستعداد لمحاربة أهل البدع. [ثم قال: لعلكم تتكلمون في القدر؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده! لو علمت أنكم تتكلمون فيه لضربتكم بسيفي هذا ما استمسك في يدي] يعني: سأضربكم بسيفي إلا أن تغلبوني فتأخذونه مني. [وعن طاوس قال: كنا جلوساً عند ابن عباس وعنده رجل من أهل القدر، فقلت: يا أبا عباس! كيف تقول فيمن يقول: لا قدر؟ -يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، وأن الله ما قدر شيئاً، بل ما علم شيئاً إلا بعد وقوعه- قال: أفي القوم أحد منهم؟ قلت: ولم؟ -يعني: لماذا تسأل؟ - قال: آخذ برأسه، ثم أقرأ عليه آية كيت وآية كيت -أي: الآيات المثبتة للقدر- حتى قرأ آيات من القرآن؛ حتى تمنيت أن يكون كل من تكلم في القدر قد شهده، فكان فيما قرأ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]]. وهذا الذي تمر به الأمة اليوم هو العلو الثاني والأخير لبني إسرائيل، فلا علو بعد هذا العلو أبداً، وآية ذلك أن العلو الثاني علامته وأمارته أن جاء الله تعالى بهم لفيفاً -أي: جماعات وأفواجاً من الأرض كلها- حتى نزلوا أرض فلسطين؛ ليتم وعد الله الأخير في هلاك بني إسرائيل، وفي هلاك دولة اليهود. فالله تعالى لما قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ

أقسام الإرادة والمشيئة

أقسام الإرادة والمشيئة وفي الآية الثانية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، ولم يقل: كأنما يصعد، وإنما أتى بصيغة مبالغة: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. فهذه الآية أثبتت قدر الخير وقدر الشر، وأثبتت المشيئة الشرعية الدينية والمشيئة الكونية القدرية، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، هذه إرادة شرعية دينية، ومبناها على المحبة والرضا. فقوله: {أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125]، هذه هداية. وقوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] يعني: يقبل الإسلام فيكون مسلماً، والإسلام محبَّب إلى الله تعالى، وقد أمر الله به، وألزم العباد به، وإرادته الإسلام للعبد مبناها على المحبة والرضا، إذاً: فهذه مشيئة شرعية وإرادة شرعية. والإرادة الثانية: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125]، والضلال لا يحبه الله، والذي خلق الضلال هو الله! لأنه لا خالق إلا الله. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ} [الأنعام:125] فهو الذي يجعل، {صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] يعني: روحه تصعد، أي: ومن أراد الله تعالى له الضلال أضله حتى جعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء. إذاً: الذي أراد الهداية هو الله، والذي أراد الضلال هو الله، والذي خلق الهداية والضلال هو الله. والله تعالى أذن في وجود الضلال وفي خلق الضلال، ولكن الله تعالى حذر منه، وتوعد عليه بالنار والعذاب والعقاب، وهذا الضلال مبغض إلى الله، والله تعالى يمقته ويغضب عليه ويسخط منه، ولأجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ لأجل أن يهرب الخلق من الضلالة إلى الهداية. والله تعالى بعلمه الأزلي علم أن بعض العباد مع إنزال الكتب وإرسال الرسل لا يَقبلون الإسلام، وإنما يُقبلون على الضلال، فخلقه لهم، أي: أذن في وقوع الضلال لهؤلاء؛ لأن الله تعالى بعلمه الأزلي السابق علم أنهم لا يقبلون هداية الإسلام، وإنما يَقبَلون ويُقبِلون على الضلال؛ فخلق الله بعلمه الأزلي السابق الضلال، وخلق كذلك بعلمه الأزلي السابق الهدى، وكل ميسر لما خلق له.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي [وعن ابن عباس قال: الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر]. وهذا يدل على أن جميع المعاصي بقدر، ولا يعني أن هذه المذكورات فقط بقدر وما دونها ليس كذلك، بل هذه المذكورات على سبيل المثال في المعاصي، فكذلك سائر المعاصي كلها بقدر، أي: أن الله تعالى علمها، وعلم أن العبد الفلاني سيشرب الخمر ويزني ويسرق ويقتل ويأكل الخنزير، ويخالف بذلك آيات التنزيل؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، فكتب ما علم سبحانه وتعالى، وهذا لا يعني أن الله تعالى يحب الزنا أو شرب الخمر. كما أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي، ويقول: كتب الله تعالى علي الزنا فزنيت، وكتب السرقة فسرقت، وكتب شرب الخمر فشربت؛ لأنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب، وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، فلان مرض عنده حمى عمل عملية جراحية، لأن الله تعالى قدر عليه ذلك؛ فيجوز لك أن تحتج بالقدر على المصائب. أما إنسان يزني أو يسرق أو يقتل، فإذا سئل: لم فعلت هذا؟ يقول: أليس هذا مقدراً؟ طرح هذا السؤال بهذا النحو في هذا الموطن ليس من دين الإسلام ألبتة، وإلا لبطل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، وهدمنا الدين كله؛ ولذلك أهل العلم يقولون: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر، وأن كل شيء بقدر، لكن لا يجوز الاحتجاج به قط على وقوع المعصية، اللهم إلا أن يتوب منها، فيوقن حينئذ أنه بعد التوبة لم يكن قد ارتكب ما ارتكبه إلا بقدر، والتوبة تستجلب الحد، يعني: إذا أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإلا فإن كان هناك عجز عن قيام الحد -كما هو حال أمة الإسلام اليوم- فلا أقل من أن يتوب توبة نصوحاً بينه وبين ربه؛ فحينئذ يتوب الله تعالى عليه. [قال ابن عباس: ما في الأرض قوم أبغض إلي من قوم من القدرية؛ يأتونني يخاصمونني -يعني: يجادلونني وينازعوني- وذاك أنهم أحسب لا يعلمون قدرة الله عز وجل] يعني: أنا على يقين أن هؤلاء لا يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ويشكون في قدرة الله.

معنى قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)

معنى قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، هذه الآية تشير إلى أفعال الله تعالى: إدخال الله تعالى لبعض خلقه الجنة، وللبعض الآخر النار، فهذا من أفعال الله، فهو قادر على ذلك، ولو أن الله تعالى أدخل الطائعين النار، وأدخل العصاة الجنة لا يكون ظالماً لأحد الطرفين، بل فعل ذلك لحكمة وعدل، لأن اليقين أن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وأن الله تعالى منزه عن جميع صفات النقص، متصف بجميع صفات الكمال، ولما كان الأمر كذلك؛ جل ربنا تبارك وتعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل المؤمنين النار، فجعل الجنة لأهل الإيمان والتوحيد، وجعل النار لأهل الكفران والإلحاد والعصيان. وهذا من تمام وكمال عدل الله عز وجل في أهل النار، ومن كمال وتمام فضل الله عز وجل على أهل الجنة، وإلا فلو عمل العاملون بطاعة الله تبارك وتعالى منذ أن خلقوا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا يستحقون بذلك الجنة، ولكنها فضل الله عز وجل؛ ولذلك قال ابن عباس في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]: السر هو ما أسره الإنسان في نفسه، ولم يطلع أحداً عليه؛ فهذا يسمى: سراً، والله تعالى هو الذي يعلمه، وهناك من الأمور في حياتي ما لا أعلمها أنا، وما فكرت فيها أصلاً، والذي يعلم أني غداً سأفكر في كيت وكيت هو الله. فهذا خفي علي من أمري ومصالحي وحياتي، وأنا ما فكرت فيها، ولا أعلم منها شيئاً، وقد علم الله أني سأفعل كذا غداً وبعد غد حتى آخر لحظة في حياتي، فعلم الله تعالى وسجل حياتي قولاً وعملاً حركة وسكوناً، وأنا لا أعلم من حياتي إلا ما قد وقع بالفعل؛ فيصلح في حقي أني لا أعلم شيئاً، وأن الأمر بالنسبة لعلمي وإرادتي أنف، أي: لا أعلمه إلا بعد الوقوع، وأما الله تعالى فإنَّ علمه الأزلي سابق في خلقه، فقد علم ما كان منهم وما يكون، وما سيكون منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

معنى قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى)

معنى قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى) [قال ابن عباس في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر: هو ما أسره الإنسان في نفسه، {وَأَخْفَى} [طه:7] أي: ما لم يكن وهو كائن] يعني: ما لم يكن في الماضي وهو كائن الآن وفي المستقبل؛ يعلمه الله عز وجل. [وعن ابن عباس قال: كلام القدرية كفر]. أي: أن نفي العلم عن الله، ونفي الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ والرق المنشور كفر بالله تعالى. قال: [وكلام الحرورية -أي: الخوارج- ضلالة، وكلام الشيعة هلكة]، وستأتي هذه الفرق معنا بإذن الله تعالى. قال: [لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله] يعني: هذا هو عين الحق، فالذين يكلون أمورهم كلها إلى الله عز وجل هم قوم قد آمنوا بالله. قال: [وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره] وكل شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك، يعني: أو عبثك بلحيتك، كل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، فشخص الآن جالس يريد أن ينام لأنه مرهق هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، وآخر قعد وهو منتبه وحريص جداً على سماع كل كلمة مكتوب في اللوح المحفوظ؛ ليدل على تمام علم الله تعالى، وتمام قدرة الله، وأنها نافذة في خلقه لا محالة.

إثبات عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم للقدر

إثبات عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم للقدر [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: من كان يزعم أن مع الله قاضياً أو رازقاً، أو يملك لنفسه ضراً أو نفعاً؛ أخرس الله لسانه، وجعل صلواته هباء، وقطع به الأسباب، وأكبه على وجهه في النار. وقال: إن الله عز وجل خلق الخلق وأخذ منهم الميثاق وكان عرشه على الماء]. [وقال أبو سعيد الخدري رحمه الله: لو أن رجلاً صام النهار وقام الليل ثم كذَّب بشيء من القدر؛ لأكبه الله في جهنم رأسه أسفله] يعني: يكبه في جهنم بحيث يكون رأسه إلى الأسفل، اللهم سلم يا رب! [وعن أبي الدرداء قال: أي رب! لأزنين، أي رب! لأسرقن، أي رب! لأكفرن. وقال أبو هريرة: أي رب! لأسرقن ولأزنين؛ فقيل: يا أبا هريرة! أتخاف؟ قال: آمنت بمحرف القلوب]. أي: آمنت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يجعل العفيف خبيث النفس، ويجعل الخبيث طيب النفس؛ كل ذلك بقدر، الإنسان يجاهد نفسه ألا يزني فيزني، ويجاهد ألا يسرق فيسرق، وغير ذلك من أعمال الطاعة وأعمال المعصية، ويذهب إنسان ليسرق؛ فيصرفه الله، ويحاول إنسان ألا يقع في المعصية فيقع في المعصية، فإذا كانت الطاعة والمعصية بيد الله عز وجل، وأن الله تعالى هو الذي يقدرها لعباده وعلى عباده؛ فينبغي أن يكون الملجأ والملاذ إلى الله عز وجل. وإذا كان الله تعالى هو الذي يملك الجنة والنار، والثواب والعقاب، والخير والشر، والطاعة والمعصية؛ فينبغي ألا يكف المرء في قيامه، ولا في نومه وحركاته وسكناته أن يتضرع إلى الله عز وجل أن يعصمه من الذنوب، وأن يوفقه دائماً للطاعات، فنؤمن حقيقة أن كل شيء بقدر، وأن الله تعالى هو الذي قدر الأمور كلها، وقدر لها أسبابها. [وقال عمرو بن دينار: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي والفاتن]. أي: أن الله تعالى هو الذي يهدي العباد وهو الذي يفتنهم، فالهداية مخلوقة خلقها الله، والفتنة مخلوقة خلقها الله. [وعن طاوس قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، حتى العجز والنشاط]. أي: الإنسان لما يشعر بأن عنده فتوراً، ولا يقدر أن يقضي مصالحه وهو يسير بالعافية، فهذا مكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا مخلوق في العبد، بسبب أو بغير سبب، والنشاط والقوة بسبب أو بغير سبب، والذي خلقها وركبها فيك هو الله عز وجل. والعجز في ظاهر النص هو الضعف أو الخمول، والخمول هذا مخلوق، والله تعالى هو الذي خلقه وركبه فيك، ومهما اتخذت من أسباب فلن تنجو من هذا إلا بأن يكون الله تعالى كتب لك الانتقال من العجز إلى النشاط. واحد يقول: أنا لم أنم طوال الليل، ولما صليت الفجر ورحت أنام لم يأتني النوم، وأحسست بمنتهى القوة والنشاط فأنا مستعد أن أواصل اليوم بدون نوم؛ فالنشاط هذا مخلوق، مع أنه مناف لأسباب النشاط ومنها: أن تنام جيداً، وأن تأكل جيداً، وأن تمارس الرياضة جيداً. وليس معنى ذلك أن يقول شخص: أنا سأترك الأكل والشرب، وسأرى هل النشاط سيأتي أو لا؟ لا، ليس بلازم، وإنما أردنا أن نبين أن العجز والكيس مخلوقان، فالذي خلقهما هو الله عز وجل، فالله هو الذي خلق الطاعة والمعصية والإيمان والكفر، وما من شيء إلا وخالقه الله عز وجل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، طاعة أو معصية إيماناً أو كفراً ثواباً أو عقاباً جنة أو ناراً ملكاً أو نبياً أو شيطاناً؛ كل ذلك فالله تعالى هو الذي خلقه وأراده وقدره، وأما الخير فأراده الله تعالى إرادة شرعية دينية، وأحبه ورضيه وأمر به، والشر أراده إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، لكن هذا محل سخط الله عز وجل، وتحذيره ووعيده وعقابه، ويقذف أهله في النار ولا يبالي غير ظالم لهم، فلا بد أن تعتقد صحة ما قلنا؛ لأن هذا هو الإيمان بالقدر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم نظر الرجل إلى فرج امرأته

حكم نظر الرجل إلى فرج امرأته Q ما صحة هذا الحديث: (يا أيها الناس! إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني، وأؤدبكم مما أدبني، فلا يكثرن أحدكم الكلام عند الجماع؛ فإنه يكون منه خرس الولد، ولا ينظرن أحدكم إلى فرج امرأته إذا هو جامعها؛ فإنه يكون منه العمى، ولا يقبلن أحدكم امرأته إذا هو ضاجعها؛ فإنه يكون منه صمم الولد، ولا يديمن أحدكم النظر في الماء؛ فإنه يكون منه ذهاب العقل)؟ وما رأيكم في كتاب: وصايا الرسول للشيخ محمد خليل الخطيب؟ A أنا لا أعرف صاحب الكتاب ولا الكتاب، وأما الحديث الأول فهو حديث موضوع، والصواب -وهو مذهب جماهير العلماء- أنه لم يصح حديث في النهي عن نظر الزوج إلى فرج زوجته، فالنظر إلى فرجها جائز بلا خلاف بين من يعتد برأيه.

حكم كشف بطن قدم المرأة وهي في الصلاة

حكم كشف بطن قدم المرأة وهي في الصلاة Q إذا صلت امرأة في بيتها؛ وفي أثناء الصلاة كشف بطن القدم ولا يراها أحد، فهل تصح الصلاة أم تبطل؟ A هذا محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب تغطية باطن القدم.

حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين

حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين Q الشباب الفلسطيني الذين يفجرون أنفسهم هل هم شهداء؟ A نعم، نحسبهم عند الله تعالى شهداء، وهذه العمليات عمليات استشهادية جهادية وليست عمليات انتحارية، هذا الذي يترجح لدي، وأما الدليل عليه فقد سبق أن تكلمنا عنه بالتفصيل في محاضرة المؤتمر الذي انعقد في هذا المكان في شهر أغسطس الماضي.

حكم العادة السرية

حكم العادة السرية Q أنا شاب عندي تسعة عشر عاماً؛ أفعل العادة السرية، كيف أمتنع من هذه العادة؟ وكيف أحافظ على الصلاة وأترك المعاصي؟ A العادة السرية محرمة في أرجح أقوال أهل العلم، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، فقد اعتمد في ذلك على قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فهذا اعتداء على أعضاء الإنسان بما لم يجزه الشرع؛ لأن الشرع ما أجاز هذا إلا في إتيان الزوجة أو في إتيان ملك اليمين، وما فوق ذلك فهو حرام. وأما ما جاء عن عبد الله بن عباس وابن عمر أنهما سئلا عن ذلك فأجازاه في رواية، ومنعاه في أخرى، فالجواز والمنع متعلق بالضرورة، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أيجلد أحدنا عضوه في الجهاد؟ وذكر الجهاد لأن النساء لا يخرجن إلى الجهاد؛ فيكون في ذلك شيء من العنت والمشقة، وربما أوقع الإنسان في حرج، أو ربما طلب الإنسان العودة إلى أهله وترك الجهاد؛ فأذن في ذلك ابن عباس، كما أذن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في أن يجلد الإنسان عميرة، هكذا سماه. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! أيكون أحدنا في الفتنة -أي: تعرض عليه فتنة النساء- فإما أن يزني وإما أن يجلد؟ قال: أجلد عميرة؟ قالوا: نعم، قال: اجلد عميرة. ولكن لو أنك نظرت إلى أصل المسألة: إما أن يزني، وإما أن يستمني؛ فحينئذ على قاعدة ارتكاب أخف الضررين الاستمناء أرحم بكثير، ولا مقارنة بينه وبين الزنا، فلو أن المرء فعل ذلك فانطفأت نار شهوته، وابتعد عن الزنا؛ لكان ذلك أولى، وليس هذا يعني أن الاستمناء حلال أو جائز، هو جائز إذا كان هناك خروج من مأزق شرعي خطير كارتكاب كبيرة الزنا، وأما في الأصل فالأصل أنه حرام. ويستعين الإنسان على ذلك بأنه لا ينظر في المجلات المتخصصة في هذا البلاء المجلات التي تعرض الصور العارية، وهذه المجلات أمثال الصحف القومية الآن، فمثلها مثل أي مجلة جنسية، ومن ذلك تلك المجلات التي تزعم أنها مجلات إسلامية، فقد عرضت كثير من المجلات الشرعية والإسلامية بعض الصور لفاتنات وغير ذلك تحت باب الدعاية والإعلان وغير ذلك، فهذا بلا شك بلاء عظيم جداً أوشك أن يدخل إلى تلك الجرائد والصحف الإسلامية، فنسأل الله العافية والسلامة. فحينئذ يستعين المرء على ترك هذه العادة بألا ينظر في هذه الصور والمجلات والجرائد مطلقاً؛ لأنها تؤدي به إلى المحظور الشرعي، ومجرد النظر إلى هذه الصور محظور شرعي، بل إن ابن القيم عليه رحمة الله ما ألف كتابه العظيم: (الداء والدواء) أو (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) إلا لبيان أمراض القلوب خاصة عشق الصور. وإخواننا -الله يغفر لهم- في بلاد أوربا وأمريكا مفتونون بالصور، فالمجلات القبيحة تلقى إليهم على أبواب العمارات وأبواب الشقق حتى صار الوضع عندهم مألوفاً جداً، وأنا أستغرب جداً أن تصير المعصية مألوفة، ففي إحدى الزيارات للإخوة في مدينة شيكاغو وجدت بعض الإخوة أتوا بمجلة جنسية، وفي الغالب لا يوضع عليها دبابيس، وصاروا يفرشون سفرة الطعام بهذه المجلة، وفيها صور لا يمكن النظر إليها، فقلت لهم: ماذا تفعلون؟! فلما ألفوا ذلك قالوا: أنت زعلان من هذه الصور! قلت: هذا شيء مقبول عندكم أم ماذا؟ قالوا: نحن متأسفون، فهم ناسون تماماً احترام شعور الضيوف، قالوا: لو قعدت هنا سنة أو سنتين فستألف هذا الوضع ويكون طبيعياً جداً. ثم قام واحد منهم وشقق الستارة وقال: تعال انظر إلى هذه الصور صورناهم وهم يمشون في الشوارع، فقلت: والله ليس لكم إلا الهجرة من هذه البلاد، وهم في الحقيقة يقبلون كل شيء إلا أن تأمر أحدهم بأن يترك البلاد إلى بلاد الإسلام، ومهما كان في بلاد الإسلام من بلاء وفتن فيبقى فيها الرحمة، وتبقى فيها شعائر الإسلام قائمة، وهذا يكفيك، فأنت لما تروح دولة مثل أمريكا تقعد عشر سنين لا تسمع أذاناً، فماذا سيكون حال قلبك لما تقعد عشر سنين لا تصلي جمعة ولا غير جمعة؟ لأنك ذهبت إلى مدن ليس فيها مساجد، ولا حتى شقة يجتمع فيها المسلمون نهائياً، فقلت لهم: كيف تصلون صلاة الجمعة؟ قالوا: نحن لا نصلي الجمعة، وكل واحد يصلي في بيته، ويكون يوم المنى لما يجتمعون على الغداء يوم السبت يوم الإجازة أو الأحد في بيت أحدهم، فتجتمع ثلاث أو أربع أسر فتصير هذه فرحة ما بعدها فرحة، وأما هذا الاجتماع الذي نحن مجتمعين فيه هذا الوقت لو اجتمعوه هناك يمكن ألا يتمالكوا أنفسهم من الفرحة، فالحمد لله نحن في نعمة عظيمة جداً والله.

حكم صلاة الجمعة على المسافر

حكم صلاة الجمعة على المسافر Q هل يجوز قصر صلاة الجمعة أثناء رحلة جامعية بغرض الدعوة؟ A كم عدد ركعات صلاة الجمعة حتى تسأل عن قصرها؟! هي كلها ركعتان، والقصر لا يكون إلا في الصلاة الرباعية، فإذا كنت في سفر فأبشر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا جمعة على مسافر)، فالمسافر إذا صلى الجمعة فيكون هذا من باب الاستحباب، وليس من باب الوجوب، خلافاً للمقيم. والرحلة الجامعية بغرض الدعوة مشروعة، وسبيل الدعوة لا بد أن يكون مشروعاً، ولا يمكن قصر الجمعة إلى ركعة واحدة.

الرد على من يخصص الإمام عليا وأولاده بالسلام

الرد على من يخصص الإمام علياً وأولاده بالسلام Q يا شيخ! مع المعذرة، تخصيص سيدنا علي وأولاده إحدى عشرة مرة بلفظ الإمام يوحي بالتشيع، كقول المرء عنهم: عليهم السلام، وفضيلتك يعلم أنه يجب البعد عن ذلك، وذلك ورد في فتوى هيئة كبار العلماء في الرد على أشرطة طارق السويدان؟ A أنا لم أقل هذا، وقد ذكرت هذا ورديت عليه، فواضح أن الأخ كان نائماً وصحا على كلمة الإمام.

حكم متابعة الإمام إذا زاد ركعة ناسيا

حكم متابعة الإمام إذا زاد ركعة ناسياً Q هل يتابع الإمام في صلاته إذا زاد ركعة ناسياً؟ وماذا على المأموم في ذلك إذا فعل؟ A لا يتبع المأموم الإمام في الزيادة إذا قام إلى الخامسة مثلاً، بل ينبه الإمام بأن يجلس في التشهد، فإذا لم يجلس واستمر في صلاته؛ بطلت صلاته وصلاة المأمومين، وهذا الذي استظهره ابن قدامة في المغني، وهو الراجح.

حكم من نذر أن يذبح ثم رأى أن يتصدق بثمن الذبيحة

حكم من نذر أن يذبح ثم رأى أن يتصدق بثمن الذبيحة Q نذر شخص أن يذبح، ثم رأى أن يخرج ثمن الذبيحة لذوي الحاجات أفضل، فهل يجوز ذلك؟ وما عليه في هذه الحالة؟ A لا يجوز له ذلك، بل الذي يجب عليه أن يفي بعين النذر ما دام قادراً ومستطيعاً.

حدود اللحية

حدود اللحية Q ما حدود لحية الوجه، هل هي شعر اللحيين فقط؟ A اللحية هي شعر اللحيين مع العارضين، أي: الخدين مع الذقن، هذه هي حدود اللحية.

حكم النقاب

حكم النقاب Q فتاة تريد أن تنتقب، وقد كانت متبرجة سافرة، فهل تنتقب مباشرة أم ماذا؟ A الذي أعتقد أن النقاب واجب، فلو أنها فعلت ذلك لأدت ما عليها، نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياها.

درجة حديث: (لا راد لقضاء الله لا حيلة في الرزق)

درجة حديث: (لا راد لقضاء الله لا حيلة في الرزق) Q حديث قدسي: (لا راد لقضاء الله لا حيلة في الرزق لا شفاعة في الموت لا سلامة من ألسنة الناس لا راحة في الدنيا) هل هناك راحة في الدنيا أم لا؟ A لا راحة للمؤمن حتى يضع رحله في الجنة، هذا كلام أهل العلم، وأما هذا الحديث فهو حديث غير ثابت عن الله عز وجل؛ فهو حديث ضعيف.

حكم دعاء القنوت قبل الركوع وبعده

حكم دعاء القنوت قبل الركوع وبعده Q رجل يقصد القنوت -يعني: الدعاء- فقنت بعد الركوع في الركعة الثانية، ثم تذكر وأتم القنوت، ثم صلى الركعتين الباقيتين ثم سلم، فما صحة صلاته؟ A الصلاة صحيحة، وإن كان الأصل أن يتم ذلك قبل الركوع من الركعة الأخيرة، وإذا تم بعد الركوع فلا بأس.

حكم أداء أذكار الصباح والمساء جماعة بصوت واحد

حكم أداء أذكار الصباح والمساء جماعة بصوت واحد Q ما حكم أذكار الصباح والمساء جماعة بصوت واحد؟ A هذه بدعة لم يكن عليها السلف، إلا أن يكون ذلك على سبيل التعليم.

حكم تلاوة ورد الرابطة قبل صلاة المغرب

حكم تلاوة ورد الرابطة قبل صلاة المغرب Q وما حكم تلاوة ورد يسمى الرابطة، يفعله بعض الملتزمين قبل صلاة المغرب كل يوم؟ A أنا أشعر أن هذا منهج المتصوفة، وليس من الملتزمين، ثم ما هو ورد الرابطة؟ فالأوراد المشروعة هي التي جاءت في الكتاب والسنة.

حكم تصرف المستأجر بالعين المؤجرة إذا أذن المؤجر

حكم تصرف المستأجر بالعين المؤجرة إذا أذن المؤجر Q استأجر رجل مع شريك له محلاً تجارياً منذ عشر سنوات، ثم دفع أحدهما للآخر مبلغاً من المال وأصبح هو المستأجر بمفرده، ثم أنفق على هذا المحل حوالي عشرة آلاف جنيه، فهل يجوز أن يعطي هذا المحل لمستأجر جديد ويأخذ مالاً مقابل هذا مع علم صاحب العقار؟ A إذا أذن في ذلك صاحب العقار وإلا فلا.

حكم استعمال العقاقير الطبية لمنع نزول الحيض عند أداء العمرة

حكم استعمال العقاقير الطبية لمنع نزول الحيض عند أداء العمرة Q امرأة تريد أن تذهب إلى أداء العمرة، وهي تعلم أنها أثناء العمرة سوف تكون حائضاً، فماذا تفعل: هل تذهب أم لا؟ مع العلم أنها إذا لم تذهب الآن لا تتوفر لها ظروف أخرى للسفر؟ A تذهب وتأخذ عقاقير طبية تمنع نزول الدورة؛ حتى تؤدي العمرة.

معنى كلام شيخ الإسلام: من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات

معنى كلام شيخ الإسلام: من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات Q ما معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد السابع في كتاب الإيمان: من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات؛ سواء جعل فعل تلك الواجبات لازماً له أو جزءاً منه؛ كان مخطئاً خطأً بيناً، وهذه بدعة الإرجاء؟ A هذا الكلام جميل جداً، وحاصل ذلك: أنه إذا كان الإيمان قولاً وعملاً فكذلك الردة تكون بالقول وبالعمل، وهذا شرحه يطول، وأظن أننا قد تكلمنا فيه مراراً لما كنا نتكلم عن الجزء الأول والثاني من كتاب الإبانة.

حكم من يصلي ويسب أمه

حكم من يصلي ويسب أمه Q رجل يصلي ويسب أمه، ويسب جدته ويضربها، ويغيظ إخوته، فهل تقبل صلاته؟ وكيف يمنع من ذلك؟ A إذا كان هذا الرجل يصلي ويصوم لكنه يسبُّ أمه التي لا دخول له الجنة إلا بها وبرضاها، وكذلك يسبُّ جدته ويضربها ويغيظ إخوته هذا إنسان سيئ الخلق، وينبغي أن يؤدب بالطريقة اللائقة.

حكم العمل في شركة سياحة

حكم العمل في شركة سياحة Q أعمل محاسباً في شركة سياحة، مع العلم أنني كنت لا أعمل لفترة طويلة ولم أجد عملاً غيره، فهل مرتبي حلال أم ماذا؟ A مسألة الحل والحرمة متعلقة بنوع العمل الذي تعمله، أو بالعمل الذي تقوم به الشركة، وشركات السياحة على ألف لون في العمل، فهل هذه الشركة تقوم بالعمل السياحي المشروع المأذون فيه شرعاً، أم أنها غير ذلك؟

حكم الاستخارة في الحضور لأحد المشايخ الذي يحذر من بعض العلماء

حكم الاستخارة في الحضور لأحد المشايخ الذي يحذر من بعض العلماء Q هل يجوز الاستخارة في الحضور لأحد المشايخ وهو يحذر من بعض الشيوخ، ويقول: إنهم ليسوا من أهل السنة، وأنا لا أعرف من هو على الحق؛ لأني لا زلت مبتدئاً في الالتزام؟ A لا يا أخي! احذر ممن حذرك منهم، فإنهم أهل السنة وليسوا بخوارج.

حكم حلق اللحية لمن كان في الجيش

حكم حلق اللحية لمن كان في الجيش Q أنا شاب ملتح وسأذهب إلى الجيش إن شاء الله تعالى، فهل أحلق لحيتي أم ماذا؟ A لا خيار لك، فهذا أمر مفروض علينا وعليكم.

الرد من زعم أن أمريكا هي المسيح الدجال

الرد من زعم أن أمريكا هي المسيح الدجال Q لماذا لا تكون أمريكا هي المسيح الدجال، خاصة وأن قسوتها وفتنتها بدأت في أفغانستان، أي: في المنطقة التي تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بظهوره وسطوعه وخروجه منها، وأن بعض المفسرين الإسلاميين الكبار من علماء الأزهر الشريف سبق وأن أكدوا أن المسيح الدجال ليس بالضرورة أن يكون رجلاً من لحم ودم، بل من الجائز أن يكون ظاهرة أو قوة؟ A هذا كلام باطل، وحتى لو قال الأزهريون ذلك فهو كلام باطل، والمسيح الدجال له أوصاف وعلامات، وهو من لحم ودم، فقد يكون ابن صياد وقد يكون غيره، وهذه المسألة محل نزاع: هل المسيح الدجال هو ابن صياد المذكور في صحيح مسلم في كتاب الفتن أم غيره، هذا محل نزاع بين أهل العلم، فلا نجزم بواحد من القولين، والعلم عند الله تعالى. ويؤسفني جداً أني سمعت بعض المشايخ في أحد الأشرطة يقول: أمريكا هي المسيح الدجال، فسألته: لم؟ قال: لأن المسيح الدجال ليس شخصاً، وإنما هو قوة عظمى، واحتج بكلام بعض علماء الأزهر الذين ماتوا، فقلت له: هم قد أفضوا إلى بارئهم، ولا شك أن كلامهم خطأ.

حكم تخصيص علي بن أبي طالب بعبارة: كرم الله وجهه

حكم تخصيص علي بن أبي طالب بعبارة: كرم الله وجهه Q عند ذكر الإمام علي يقال كرم الله وجهه دون باقي الصحابة، لم ذلك؟ A نحن لا نوافق على ذلك، فـ علي بن أبي طالب وأهل بيته من الصحابة، وحكمهم كبقية الأصحاب، فيقال عنهم: رضي الله عنهم.

حكم العمل في الإدارة العامة للأمن المركزي

حكم العمل في الإدارة العامة للأمن المركزي Q يقول: أعمل محاسباً مدنياً في الإدارة العامة للأمن المركزي، مع العلم أني جاهدت حتى انتسبت إلى هذا العمل بلحيتي، فهل يجوز العمل هناك؟ A نعم يجوز.

الحكم على حديث: (عمار بيت المقدس خراب يثرب)

الحكم على حديث: (عمار بيت المقدس خراب يثرب) Q ( عمار بيت المقدس خراب يثرب)، هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح؟ A نعم، وكأن المعنى: أن علامة خراب يثرب -أي: المدينة- سيوافق عمارة بيت المقدس.

حكم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب

حكم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب Q أعمل في الوردية الليلية؛ ولذلك أجمع الظهر والعصر، وأحياناً المغرب، فهل هذا حلال أم حرام؟ وما الحل؟ A جمع الظهر والعصر والمغرب ليس مشروعاً ولا مسنوناً، بل المشروع جمع الظهر والعصر في وقت أحدهما، والمغرب والعشاء في وقت أحدهما، وأما أن تجمع ثلاثة فروض فلا وألف لا، فلو أنك فصلت السؤال لفصلنا الجواب.

حكم التحدث تلفونيا بين الرجل وخطيبته

حكم التحدث تلفونياً بين الرجل وخطيبته Q ما حكم التحدث بين الرجل وخطيبته في التلفون، هل هو خلوة غير شرعية؟ A بلا شك أنه ليس خلوة، لكنه كلام مع أجنبية لغير ضرورة.

المبرر للحملة الشعواء ضد كتاب هرمجدون

المبرر للحملة الشعواء ضد كتاب هرمجدون Q هل هناك مبرر للحملة الشعواء ضد كتاب هرمجدون ومؤلفه، رغم اعتماد المؤلف في كتابه على أحاديث معظمها في الصحيح، وعلى بعض الآثار للإمام نعيم بن حماد شيخ البخاري، والتي قد حدث الكثير منها بالفعل، فما القول الفصل في هذا الأمر؟ A الحقيقة طرح السؤال بهذا الأسلوب يدل على سوء أدب الكاتب أو السائل. أما كتاب هرمجدون فليس بأفضل من كتبه السابقة، فهو كتاب قد امتلأ بالتزوير الشرعي والتاريخي للأحداث والنصوص الشرعية، فمؤلفه قد حشد وجيش الجيوش في أول الصفحات؛ حتى لا ينتقده أحد، وهذا ليس منهجاً علمياً ولا أدبياً، ثم ذهب يمدح نعيم بن حماد بما يخالف به جماهير النقاد من حكمهم على نعيم بن حماد بأنه ضعيف في الرواية، ولكنه يبرز نعيم بن حماد دائماً ويقول: وهو شيخ البخاري، وما معنى قوله: شيخ البخاري؟ يعني: لا يكون ضعيفاً، وقد حدث البخاري عن كل الثقات، وليس في مشايخه أحد من الضعفاء، وهذا غير صحيح، فـ نعيم بن حماد عند جماهير النقاد ضعيف، وهو القول المعتمد، ولا يحتج بروايته خاصة إذا انفرد. ثم هذه المخطوطات وهذه المصادر التي اعتمد عليها الكاتب أو المؤلف أين هي في عالم الكتب وعالم التوثيق؟ لا ندري، ويقول: المخطوط عندي، فأقول: ماذا تصنع به؟! لمَ لمْ تخرجه إلى الوجود؟ ثم إن هذا المخطوط مداره على نعيم بن حماد، ويذكر فيه حديثاً طويلاً جداً للنبي عليه الصلاة والسلام يبين فيه أحداث آخر الزمان، فيأخذ من الصدام أنه صدام، ويأخذ من السادات أنه أنور السادات، ويأخذ من الناصر أنه عبد الناصر! وهو بهذا قد ظلم مبارك؛ لأنه لم يذكره مع هذه الإنجازات العظيمة، ولا حتى بالشر فضلاً عن الخير، فلم يذكره بشيء. ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتكلم إلا عن مصر فقط، فلم تكن هناك دولة من دول الإسلام إلا مصر فقط، وكان الناقص في هذا المخطوط أن يأتي بعناوين وتلفونات هؤلاء الرؤساء، هذا ما نقص هذا المخطوط! فهذا كلام سخيف وبارد جداً، ولا أتصور أن عاقلاً يكتب هذا الكلام. وللأسف الشديد أن هذه الكتب لها من يهتم بها كثيراً؛ لخلو هؤلاء من التأصيل العلمي، بل أكثر من ذلك، ولا أريد أن أستفيض في هذا.

الحكم على حديث: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)

الحكم على حديث: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) Q ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، هل هذا حديث صحيح؟ A هذا الحديث ضعيف.

حكم المظاهرات الجماهيرية

حكم المظاهرات الجماهيرية Q في جامعة الأزهر هناك بعض الشباب يسمون بجند النصر المنشود، يشددون على قضية فلسطين عند دعوة بعض الشباب الذين يدعونهم، وأكثرهم لا يصلون، فهل طريقتهم في الدعوة صحيحة؟ A جيل النصر المنشود في جامعة الأزهر أو في غير جامعة الأزهر هم جيل المظاهرات، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن المظاهرات عمل غير مشروع، ولا مستند لها في الشرع لا من كتاب ولا من سنة، ولا حتى في فعل السلف، فليس عليها أي دليل، هذا من جهة الشرع. ومن جهة الواقع وقياس المصلحة والمفسدة؛ هذه المظاهرات ليس من ورائها أي مصلحة، فلم تحقق شيئاً، فالأمة لها الآن فوق الخمسين سنة تتظاهر، فماذا أثمرت من مصالح عامة أو خاصة هذه المظاهرات؟ ليس هناك أي مصلحة. وأما المفسدة فهناك مفاسد كثيرة جداً، وآخرها موت اثنين من المتظاهرين في الإسكندرية، فلحساب من ولمصلحة من؟ هذا أمر ينبغي الوقوف عنده، وهذا مخالف لقاعدة: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، فما بالك وليس هناك مصلحة! ثم الأصل الثالث وهو: من المتظاهر؟ شاب ماجن فاسق مطارد للبنات تارك للصلاة والصيام محاد لله ورسوله، وكذلك الفتاة، حتى في المظاهرات نفسها تجد الولد يأخذ البنت فوق كتفه وهو يظاهر! فماذا نصنع بهؤلاء؟! أنا أريد أن أعرف ماذا تريدون؟ هو حماس وعاطفة فقط، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فالجهاد ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو مطلوب لأجل أن نحقق العبودية الكاملة لله عز وجل، فلماذا تظاهر وأنت تارك للصلاة والصيام، وأنت إنسان فاجر في أقواله وأفعاله، ولو رأيته في الأيام العادية لوجدته قاعداً في أحضان ثلاث أو أربع من البنات، وفي المظاهرات نفسها ترتكب أشياء كثيرة من ذلك، فماذا تريد من المظاهرة يا بني؟ هذا تشويش. ولذلك قلَّ أن نجد واحداً منكم في مظاهرة؛ لأنها لو كانت طاعة لكنا نحن أولى الناس بهذه الطاعة، ومهما ترتب عليها من نتائج فهي طاعة ويكفي، فمجيئنا نصلي في المسجد مغامرة، وكذلك قعودنا في هذه الدروس مغامرة أيضاً، فلو كانت هذه المظاهرات مشروعة لغامرنا فيها وليحصل ما يحصل، لكن لما كان اعتقادنا أنها غير مشروعة فلا مشاركة لنا فيها، ولا موافقة لنا عليها، فهذا عمل غير مشروع. والجهاد لا يراد لذاته، وإنما يراد للتمكين في الأرض الذي يؤدي إلى عبودية الله تبارك وتعالى العبودية الحقة، وهؤلاء لا لهم علاقة بالعبودية، ولا بالصلاة والصيام، وهم شباب تافه جداً، لكن كوننا ننكر على هؤلاء الشباب أفعالهم غير المنضبطة على أصول الشرع؛ كذلك ننكر الطريقة الهمجية جداً التي تقابل بها تلك المظاهرات، فننكر على الطرفين، ولا بد من فتح مائدة المفاوضات، ولماذا مائدة المفاوضات ليست فاضية ودائماً مشغولة، ويقابل هؤلاء بالقنابل المسيلة للدموع، وأحياناً بضرب النار؟! مع أن القانون يقول: إن ضرب النار في المظاهرات لازم يكون تحت الرجلين، فما الأمر الذي جعل ضرب النار يكون في الصدر وما قابله؟! وهل يأمن الذين تصدوا لهذه المظاهرات أن يقابلوا من هؤلاء الشباب بمثل أعمالهم فتكون هناك مجزرة دموية؟ ومن المستفيد منها في النهاية؟ فهذا أمر لا نوافق عليه ألبتة لا من هنا ولا من هناك. وأريد أن أقول لك: لا تفترض فرضاً نظرياً، فأنت تقول: ربما يكون فيها تأثير؟ فأقول: هل هذا التأثير وليد اليوم، أم أنه نتج من تتبع العادات؟ فالأمة لها خمسون سنة تتظاهر فماذا عملت؟ ومن الذي استجاب لها؟ فلم تثمر إلا الحنظل، وبعد كل مظاهرة نجد الثمرة مرَّة، فلماذا لا نتعلم؟ إن الحكومات الإسلامية لا تحترم شعوبها، ولا تحترم شعور الشعوب، ولا أعراف الشعوب، ولا أخلاق الشعوب أبداً، هؤلاء في واد والحكومات في واد آخر، ولا يوجد أي ثمرة حصلت نهائياً على مدار الخمسين سنة إلا ثمار الحنظل المر، فعلى الأقل نستفيد من التجارب السابقة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين

شرح كتاب الإبانة - ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، وقد أطبق التابعون على إثبات القدر خيره وشره من الله، وأنه لا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فهو الفعال لما يريد، خلافاً للقدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم من خير وشر، فقد جعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، مع أنه سبحانه هو خالق الخير والشر، وإرادته للخير إرادة شرعية، وإرادته للشر إرادة كونية قدرية، فهو يقدر الكفر كوناً ولا يرضاه شرعاً سبحانه وتعالى.

باب ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين

باب ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الجزء العاشر من كتاب (الإبانة) وهو الثالث من كتاب القدر] وذكر فيه الإمام ثلاثة أبواب: قال: [باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين، وقول ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، ووهب بن منبه، وطاوس اليماني، ومكحول، وعكرمة، وعطاء، وقتادة وغيرهم. الباب الثاني: بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية، وفيه رسالة لـ عبد العزيز بن الماجشون. الباب الثالث: باب فيما يروى عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر، وقول الأوزاعي].

نسبة القدرية القول بالقدر إلى الحسن البصري وبطلان ذلك

نسبة القدرية القول بالقدر إلى الحسن البصري وبطلان ذلك قال: [الباب الأول: باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين. اعلموا رحمكم الله! أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه] يعني: ليس معهم دليل من الكتاب على إثبات مذهبهم. ثم قال: [ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال من أهوائهم مخترعة، وفي أنفسهم مبتدعة، فحجتهم داحضة -أي: ذاهبة لا قيمة لها- وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم -أي: أحكام الله تعالى بأحكام العباد-، ومشيئته بمشيئتهم، وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؟ فيدعي أن إمامه في ذلك هو الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين، وسيداً من ساداتهم وعالماً من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان، ويرميه بالإثم والعدوان؛ ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه. وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر، ورده على القدرية ما يسخن الله به عيونهم، ويظهر للسامعين قبيح كذبهم إن شاء الله تعالى وبه التوفيق]. أي: أن أهل البدع دائماً يتشبثون بقول لرجل من أهل السنة، وهذه سمة وعلامة تميز أهل البدع دائماً: أنهم لا يركنون في الغالب في مواجهة الخصم إلى علمائهم؛ لأنهم يعتقدون أننا لا نعتبر علماءهم، فمثلاً: لو أراد شيعي أن يحاججنا في مسألة من مسائل النزاع لا يحتج بكلام أئمته، وإنما يحتج بكلام لإمام معتبر عندنا، وهذا المبتدع إما أن يكون فهم الكلام فهماً غير مراد، وإما أن يكون هذا النص عن إمامنا غير ثابت، وإما أشياء أخرى. ولذلك إذا كان هناك نص في البخاري يدعو إلى محبة أهل البيت، فالشيعة يتشبثون جداً بهذا النص، ويلزموننا أن نكون وإياهم سواء في محبة أهل البيت، بدليل ما قد ورد في البخاري عندنا من وجوب محبة أهل البيت، نعم، نحن نحب أهل البيت، ونتقرب إلى الله بحبهم؛ فهم عترة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بحبهم واتباعهم ما داموا على الكتاب والسنة، فالشيعة يحتجون بهذا. ودائماً نقول لهم: لم تحتجون بحديث في البخاري؟ يقولون: لأنه كتاب معتمد عندكم، إذاً: إذا كان معتمداً عندنا فنحن الذين نحتج به لا أنتم، وإذا جاز لكم أن تحتجوا بما عندنا من أدلة؛ فإما أن تحتجوا بما في البخاري كله، وإما ألا تركنوا إلى دليل يوافق هواكم. ولذلك من شأن أهل البدع أنهم ينتقون من كلام الخصم ما يوافق هواهم، ويغضون الطرف عن بقية كلامه، حتى وإن كان مناقضاً لما قد يحتج به الخصم، أو صاحب البدعة. ظهر من الحسن البصري عليه رحمة الله كلام يفهم على وجهين، فقد تكلم في القدر بكلام محتمل، يعني: له وجه حسن ووجه غير حسن، وجه يوافق القدرية، ووجه يوافق أهل السنة فيما يتعلق بمسألة في القدر. وإذا كان كلام الإمام الحسن البصري يفهم على وجهين فإنه يصار لما صرح به مراراً وتكرارً على جهة الإثبات، فهو له كلام في إثبات القدر لا نهاية له، وكلام محتمل يحتمل النفي ويحتمل الإثبات، فكلامه الذي يحتمل وجهين لا بد أن يحمل على كلامه الذي يحتمل وجهاً واحداً. فأهل البدع احتجوا بكلام للحسن يحتمل وجهين، والقاعدة العلمية تقول: إذا كان الكلام يحمل عدة معان ولا مرجح ولا قرينة؛ فحينئذ هذا الموطن موطن نزاع ينبغي اعتباره واحترامه، لكن إذا كان الكلام يحتمل عدة معان، ولي كلام آخر ليس له إلا معنى واحد، فلا بد أن يحمل كلامي الغامض على كلامي الصريح الواضح. هذه جزئية من الدفاع عن الإمام. الجزئية الثانية: أنه قد ثبت بالنص الصريح الصحيح أن الحسن قال هذا الكلام في وقت غضب، ولا شك أن الرجل إذا قال كلاماً في وقت الغضب فإنه لا يدرك معناه، أو لا يقصد المراد منه ظاهراً، وهذا الكلام معفو عنه، ولذلك قال الأعرابي الذي فقد راحلته في الصحراء ثم وجدها: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهل يحق لأحد أن يتشبث بهذا؟ لا، فكذلك لا يحق لأهل البدع أن يتشبثوا بكلام الحسن البصري عليه رحمة الله إمام البصرة في زمانه، وسيد معظم من سادات التابعين؛ لا يحل لهم أن يحتجوا بكلامه، وإلا لو جاز لهم أن يحتجوا بهذا لقلنا لهم: يجب عليكم أن تحتجوا ببقية كلامه، فلماذا انتقيتم منه هذا النص فحسب، بل له في القدر ما يزيد على مائة نص، فلم تحتجون بواحد وتنسون بقية هذا العدد؟ لا شك أن الحامل على ذلك هو مرض قلوبهم. الأمر الثالث: أن الحسن قال ذلك في موعظة، وليس في مجلس علم، ليس في مجلس تقرير المسائل العلمية بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، وإنما قال ذلك في مجلس وعظ، وذلك في مكة، والمعلوم أن مجالس الوعظ يتساهل فيها المرء في الوعيد الشديد، ويتعدى ربما الحد أو الخط ا

أقوال الحسن البصري في إثبات القدر

أقوال الحسن البصري في إثبات القدر قال: [عن حميد قال: كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: إن الأمر في يدي أصنع به ما شئت]، وهذا نص يبين اعتقاد الحسن أن الأمور كلها بيد الله عز وجل. [وقال: من كذب بالقدر، فقد كذب بالقرآن]. والمعلوم أن من كذب بالقرآن فقد كفر. [وعنه قال في قول الله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119] قال: خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار]. أي: قبل أن يخلقهم علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، فجعل قسماً من خلقه في النار، وجعل قسماً من خلقه في الجنة قبل أن يخلقهم. قال: [وعن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت مع الحسن، فقال لي رجل إلى جنبه: سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، قال: فسألته عنها فقال: ومن يشك في هذا؟ ما من مصيبة بين السماء والأرض إلا في كتاب من قبل أن تبرأ النسمة] أي: من قبل أن يخلق الله تعالى فاعلها، علمها فكتبها، فهي عنده في كتاب مكنون وفي رق منشور. قال: [وعن قرة بن خالد قال: سمعت رجلاً يسأل الحسن عن قول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] قال: خلقهم للاختلاف] أي: لاختلاف مصائرهم: فهذا في الجنة وذاك في النار. [وقال حميد: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله! وهل خالق غير الله؟ الله خلق الشيطان، والله خلق الخير، والله خلق الشر فقال الشيخ: قاتلهم الله كيف يكذبون على هذا الشيخ؟!] يعني: كيف يفتري القدرية الكذب على هذا الإمام الذي لم يقل يوماً من الأيام: إن الله تعالى لم يخلق الشر؟! [وقال ابن المبارك: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة، فما سمعته يفسر شيئاً من القرآن إلا على إثبات القدر. وعن يونس وحميد قالا: كان تفسير الحسن كله على الإثبات. وعن منصور بن ذازان قال: سألت الحسن ما بين (الحمد لله رب العالمين) إلى (قل أعوذ برب الناس) ففسره على الإثبات]. يعني: سألته عن القرآن كله من أوله إلى آخره فما فسره إلا على جهة إثبات القدر. [وقال حميد: كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أقول: الأمر بيدي، ولكن أقول: إذا أذنب أحدكم ذنباً فلا يحملنّ ذنبه على ربه، ولكن يستغفر الله ويتوب إليه] يعني: لا يحل لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية، وهذا الكلام قررناه من قبل، وقلنا: الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب التي تنزل بالعبد دون المعايب التي تصدر منه. قال: [وقال كثير بن زياد: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] قال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل] يعني نحن لنا مشيئة، ولا علاقة لله تعالى بأفعال العباد. [وعن يونس بن عبيد عن الحسن في قول الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:8 - 10] قال الحسن: قد أفلحت نفس أتقاها الله، وقد خابت نفس دساها الله]. يعني: الذي يلهم النفس تقواها وفجورها ويزكيها ويدسيها هو الله عز وجل. قال: [وعن يحيى بن كثير العنبري قال: كان قرة بن خالد يقول لنا: يا فتيان لا تغلبوا على الحسن؛ فإنه كان رأيه السنة والصواب]. يعني: لا يضحك عليكم أحد ويقول: إن الحسن كان قدرياً، بل كان في باب القدر من أهل السنة، فلا يفتننكم أحد في هذا الإمام. قال: [وقال عوف: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى]. فمن يقول: إن الأمور كلها بيديه لا بد أنه سيبطل الأمر والنهي، ومن يقول: إن الله تعالى ما شاء الشر وما أذن في خلقه وإيجاده؛ فلا بد أنه يصل في نهاية الأمر إلى أن الأمر والنهي في الكتاب والسنة لا قيمة لهما. قال: [وعن ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن ونحن عنده، فقال: يا أبا سعيد أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها ل

احتجاج أهل الباطل بالمتشابه والمحتمل من كلام العلماء والرد عليهم في ذلك

احتجاج أهل الباطل بالمتشابه والمحتمل من كلام العلماء والرد عليهم في ذلك وهناك جماعة مبتدعة من الجماعات العاملة على الساحة لو أتيتهم وقلت لهم: إن عملكم هذا غير مشروع، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة؛ قالوا: الشيخ ابن باز أفتى بمشروعية هذا العمل. نقول لهم: هل تأخذون بكلام الشيخ ابن باز كله وبفتاواه كلها؟ لا، ونقول: لم لم يردوا إلى عالم من علمائهم؟ لأنهم يعلمون أنهم لا عالم عندهم ابتداء، ولكنهم يقولون: عندنا علماء، لكن حين النقاش والنزاع والمناظرة يعجزون أن يثبتوا أن في جماعتهم عالماً. والعجيب كيف يكون هذا العمل صحيحاً وليس له رجل من أهل العلم يحله ويجيزه لهم؟! وأنا لا أتصور أن جماعة تحترم عقلها وتحترم منهجها لا يكون من بين أبنائها علماء، وبدل العالم عشرة وعشرون ومائة، لكنهم يحتجون بكلام رجل معتبر عندنا، ولا يحتجون بكلامه كله؟ وإنما يحتجون بكلام مشتبه يحتمل الرأي والرأي الآخر لهذا الإمام. وأذكر أنه في عام (1983م) ذهب بعض الطلبة يسأل الشيخ ابن باز عن حكم عمل الجماعة الفلانية؟ قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي. وهذا كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدخل الجنة عجوز). قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي، ثم هرعت إليه الجماعة، وقالوا: يا شيخ بلغنا أنك قلت كذا وكذا؟ قال: نعم أنا قلت هذا، قالوا: كيف، نحن لسنا سلفيين؟ قال: ألا تحبون السلف؟ قالوا: نعم، نحن نحب السلف، قال: هل يسعكم مخالفة السلف في العقيدة؟ قالوا: لا، لا يسعنا، بل لا بد أن نكون على مذهبهم في الاعتقاد، قال: أليس تتبعونهم فيما أحلوا وفيما حرموا؟ قالوا: نعم، نتبعهم، قال: إذاً: أنتم سلفيون. هذه هي شهادة الشيخ، وقالها مداعبة، فيحتجون بها علينا ويقولون بمشروعية العمل الذي هم فيه، ودائماً يحيلون هذا الكلام للشيخ ابن باز. والشيخ ابن باز رحمه الله يذكرنا بالإمام البخاري؛ فقد كان لطيف العبارة جداً، ولطيف النقد إلى أقصى حد، فما دام يرى احتمال العمل، وأنه يمشي ولا بأس به، وله من جوانب الخير الشيء الكثير؛ كان يترفق جداً في نقد العمل، فقال هذه الكلمة التي تحتمل معان متعددة، فهم قد يحتجون بها أو يحتجون به. قال: [كذب على الحسن ضربان من الناس: قومُ القدر رأيهم، فهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم. وقوم في قلوبهم له حسد وبغض، يقولون: ليس من قوله كذا وكذا، وليس من قوله كذا وكذا]. فينتقون من كلام الحسن كلاماً يوافق أهواءهم. قال: [وعن خالد الحذاء قال: قدمت من سفر فإذا هم يقولون: قال الحسن: كذا وكذا، فأتيته فقلت: يا أبا سعيد، أخبرني عن آدم خلق للسماء أم للأرض؟ قال: بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة، قال: لم يكن منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله له ذلك]. يعني: الشياطين لا تضل أحداً إلا إذا كتب الله تعالى له الضلال من قبل في الأزل. ثم قال: [وعن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر: فقلت: سمعت الحسن يقول: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48] قال: نجّى الله نوحاً والذين آمنوا معه وأهلك الممتعين، فجعلت أستقريه الأمم -أي: أمة أمة، ونبياً نبياً- قال بلال: وما أراه إلا كان حسن القول في القدر]. يعني: ما أجاب إلا بإجابة موافقة لكلام الصحابة والتابعين في القدر. [وعن حمزة بن دينار قال: عوتب الحسن في شيء من القدر فقال: كانت موعظة فجعلوها ديناً]. انظر هذا الكلام الجميل، فالكلام الذي فيه شيء من التجوز في الموعظة لا نتوقف عنده، وإنما يكون غرض الواعظ أن يعظ الناس في باب من الأبواب، والموعظة تكون في الغالب ارتجالية خاصة عند السلف، فما كانوا يحتاجون إلى ما نحتاج إليه نحن اليوم من الإعداد والحفظ والمدارسة، أو المراجعة والسؤال والجواب وغير ذلك، كان الواحد منهم إذا جاء إلى مجلس مثل هذا ليعظ في باب من الأبواب، كما كان ابن الجوزي يفعل، كانت بغداد كلها تجتمع له، فيقولون: يا إمام عظنا والملوك والأمراء والسلاطين وكل أصحاب الوجاهات والهيئات موجودون، فكان يقيم واحداً من مجلسه فيقول له: اضرب بيتاً من الشعر -وانظر إلى براعة ابن الجوزي - فيضرب بيتاً فينسج ابن الجوزي على قافية هذا البيت أي: على آخر حرف في البيت ينسج موعظة عظيمة شعراً أو نثراً لبعض الوقت، لا يخطئ هذه القافية. وهذا لا يوجد في هذا الزمان، لكن قد يق

إثبات السلف أن القدرية تكذب على الحسن في نسبة مذهبها إليه

إثبات السلف أن القدرية تكذب على الحسن في نسبة مذهبها إليه ثم قال: [وعن ابن عون قال: كنت أسير في الشام فناداني رجل من خلفي، فالتفت فإذا هو رجاء بن حيوة، فقال: يا ابن عون! ما هذا الذي يذكرون عن الحسن؟ قلت: إنهم يكذبون على الحسن كثيراً]. [وعن ابن عون قال: لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت؛ لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً -حتى يبرأ الحسن من هذه الكلمة- ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل]. يعني: نحن تصورنا أن هذه الكلمة كلمة يسيرة، ولا أحد يتوقف عندها؛ لما ينقضها من نصوص عدة لنفس الإمام، وما كنا نتصور أنها تبلغ الآفاق، وهذا أمر ملاحظ بيننا تجد الواحد لما يقعد يتكلم كلاماً صحيحاً لا أحد يقول له شيئاً، وعندما يقول كلمة واحدة فيها غلط وخطأ ترى من ينشرها ويشيعها بين الناس من المنصورة ومن البحيرة ومن سنغافورة، فلماذا الإخوة المستمعون ما نبهوه. إذاً فالخطأ في المحاضرة أو عند الأسئلة كان بإمكان أحد السامعين للخطأ أن يقول لي: هل يجب علينا الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به أم لا؟ فقد أكون أخطأت فهم السؤال. فالإيمان بالقضاء والقدر والرضا به واجب، ولكننا لا نرضى بالقدر الكوني، فمن القضاء ما هو قضاء شرعي، ومنه ما هو قضاء كوني، أو قدر شرعي ديني مبني على المحبة والرضا، وقدر قدري كوني، وهذا في باب المعاصي، فهل نحب المعاصي ونرضاها؟ لا. إذاً: الإجابة المحكمة: أننا نؤمن بالقضاء والقدر، والإيمان به واجب، وهو ركن من أركان الإيمان. وأما الرضا فنحن نرضى بالقضاء الشرعي، ولا نرضى بالقضاء الكوني في باب المعاصي؛ لأن المعاصي يبغضها الله عز وجل؛ ولذلك قال ابن عون: [لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً، ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل، وكان ابن عون يقول: بيننا وبينكم حديث الحسن]. أي: مجالس التحديث العلمي التي كان الحسن يحدث فيها، وليس إذا طلعت منه كلمة في مجالس الوعظ نجعلها ديناً ونحتج بها، لا، بيننا وبينكم كلامه العلمي المؤصل في مجالس التحديث، وأما دون ذلك فلا. ثم قال: [وقال أبو هلال: رفعت إلى حميد بن هلال وأيوب وهما قاعدان عند باب عمرو بن مسلم فذكرا الحسن وفضله، فقال حميد: لوددت أنه أسهم على أهل البصرة غرم كثير يؤخذون به وأن الحسن لم يتكلم بتلك الكلمة] يعني: التي طار بها أهل البدع. [قال سفيان: سمعت أبي - وكان ثقة - عن العلاء بن عبد الله بن بدر قال: دخلت على الحسن وهو جالس على سرير هندي فقلت: وددت أنك لم تتكلم في القدر بشيء، فقال: وأنا وددت أني لم أكن تكلمت فيه بشيء]. ألا يكفي هذا النص الصحيح على اعتبار أنه تكلم بكلام خالف فيه أهل السنة؟ ألا يكفي هذا برجوعه وتوبته، إذاً فلماذا نحتج بكلام مخالف للأصول بعد التوبة. [قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: إن قوماً جعلوا غضب الحسن ديناً. وعن المبرك عن الحسن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف:179] قال: خلقنا]. [وعن الحسن في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قال: عهد ربك ألا تعبدوا إلا إياه. وعن عاصم الأحول قال: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالحق -قال ذلك مرتين-، إن الله عز وجل قدر خلقاً، وقدر أجلاً، وقدر بلاءً، وقدر مصيبة وقدر معافاة، وقدر معصية] يعني: قدر تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً. ثم قال: [فمن كذب بشيء من القدر؛ فقد كذب بالقرآن]. [وعن خالد الحذاء قال: قدم علينا رجل من أهل الكوفة، وكان مجانباً للحسن لما كان بلغه عنه في القدر، حتى لقيه فسأله رجل أو سئل الحسن في حضرة الكوفي عن قول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، قال الحسن: لا يختلف أهل رحمة الله، (ولذلك خلقهم) قال: خلق أهل الجنة للجنة، وخلق أهل النار للنار، فكان الرجل يذب عن الحسن]. فالكلمة السابقة إما أن تكون صدرت من الحسن في مكة كما جاء في بعض الروايات، وإما في البصرة حيث موطنه ومنزله، فطارت إلى الكوفة فسمعها رجل من أهل السنة في الكوفة، ولما سئل الحسن في حضرته، وتكلم بكلام منضبط في القدر؛ كان هذا الكوفي بعد ذلك يدفع عنه كل من ينال من عرض

مناظرة بين رجل من أهل السنة مثبت للقدر وغيلان الدمشقي القدري

مناظرة بين رجل من أهل السنة مثبت للقدر وغيلان الدمشقي القدري [وعن غالب بن عبيد الله العقيلي عن الحسن قال: اختلف رجل من أهل السنة وغيلان الدمشقي في القدر، فقال: بيني وبينك أول رجل يطلع من هذه الناحية، قال: فطلع أعرابي قد طوى عباءة فجعلها على عاتقه، فقالا للرجل: قد رضينا بك فيما بيننا، قال: قد رضيتما؟ قالا: نعم، قال: فطوى كساه وربعه ثم جلس عليه، ثم قال: اجلسا بين يدي، فقال للسني: تكلم فتكلم، ثم قال لـ غيلان تكلم فتكلم، قال: قد فهمت قولكما -يعني: قد فهمت أصل الخلاف الذي بينكما- فأيداني بثلاث حصيات، قال: فصفهن بين يديه وفرق بينهن، ثم قال للسني: قلت أنت: لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، ولا يزحزحه من النار إلا برحمة الله؟ قال: نعم. ثم قال لـ غيلان: قلت أنت: لا يدخل الجنة إلا بعمله، ولا يدخل النار أحد إلا بعمله؟ قال: نعم، قال: فهذا رجل قال: لا أعمل خيراً قط ولا شراً قط، ولا أدخل هذه ولا هذه أفمتروك هو بلا جنة ولا نار]. يعني: أنت قلت: يدخل الجنة والنار فقط بالعمل، وهذا يقول: يدخل الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، فقال لـ غيلان: الرجل لا يعمل خيراً ولا يعمل شراً، فإذا كان دخول الجنة والنار متعلقاً بالعمل إذاً فهذا لا يدخل الجنة ولا يدخل النار، فأين سيذهب؟! ثم قال: [وقد قال الله عز وجل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]؟! فقال غيلان: لا، فقال لـ غيلان: قم مخصوماً؛ فقال الحسن: ذلك هو الخضر عليه السلام]. يعني: أن الرجل الذي كان يقضي بينهما هو الخضر عليه السلام، سواء كان الخضر أو غير الخضر فهذه مسألة نزاع، وإذا قلنا هو الخضر فسنتوصل بعد ذلك إلى مسائل أخرى متعلقة بـ الخضر، لكن ابق على ما أنت عليه ولا تخرج عن ذلك، واعتقد أنه الخضر إذا كنت تعتقد ذلك، أو أنه غير الخضر، سواء كان ذلك في مجال الإثبات والتدقيق العلمي صحيحاً أو غير صحيح، فهذا غير مهم الآن. قال: [وقال الحسن: جف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتبرئة من الله للمشركين].

ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير في القدر

ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير في القدر قال: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: نظرت في بدء الأمر ممن هو -يعني: في أصل الخليقة بخيرها وشرها ممن هو- فإذا هو من الله، ونظرت على من تمامه؛ فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه؛ فإذا ملاكه الدعاء]. يعني: إذا كان ابتداء الأمر وانتهاؤه من الله عز وجل بخيره وشره؛ فنحن لا نملك إلا الدعاء أن يصرف الله عنا البلاء والشر، وأن يرزقنا الخير. [عن مطرف قال: ليس لأحد أن يصعد فوق بيت فيلقي نفسه، ثم يقول: قدر لي]؛ لأن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المعصية. [ولكنا نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء؛ علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا]، وهذا كلام جميل وقوي. [وعنه قال: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه، حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه. وعنه قال: إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر وإليه يصيرون]، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام دائماً يقول لأصحابه الذين يسألونه: (يا رسول الله، أترى ما نحن عاملون ألشيء مضى وانتهى، أم لشيء أنف؟ قال: بل لأمر قد فرغ منه، جف به القلم، وطويت به الصحف، قالوا: يا رسول الله، فلم العمل إذاً؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له). فقوله: (إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر، وإليه يصيرون) أي: يصيرون إلى ما قدر وكتب في اللوح المحفوظ، وهم عاملون بعلم الله السابق الجلي.

ما روي عن محمد بن سيرين في القدر

ما روي عن محمد بن سيرين في القدر قال: [عن محمد بن سيرين قال: إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قبله يأمره وينهاه. وقال ابن سيرين: ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علماً جعله كتاباً]. يعني: ليس بمستغرب إثبات علم الله تعالى الأزلي، ولا بد من إثبات علم الله؛ لأن من أنكر هذه المرتبة ورد علم الله، وقال: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها؛ فقد خرج من الملة. ويلزم من ذلك إثبات أن الله تعالى علم في الأزل كل ما يعمله العاملون، فكتبه عليهم، وسجله في صحائفهم، فما هي الغرابة في هذا، ألا تثبتون علم الله وأنه أزلي سابق على خلق الخلق؟ بلى، ألا تثبتون أن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش؟ فإما أن تقولوا: إن الله لم يكن عالماً ثم علم، وإما أن تقولوا: إن الله تعالى عليم وعلمه أزلي ليس مخلوقاً ولا حادثاً؛ لأن صفات الله تعالى كلها غير مخلوقة، فحينئذ نقول: إن الله تعالى في باب القدر علم ما العباد عاملون، فكتبه في اللوح المحفوظ ليس ظلماً للعباد؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وتمييزه بالعقل عن بقية الحيوانات والمخلوقات، وتركيب الهدى والضلال فيه والخير والشر؛ علم أنه إذا عرض عليه الخير يأنف منه ويمقته ويقدم على الشر، فلما علم الله تعالى أن عبده هذا سيختار الشر مع قيام الحجة عليه؛ كتب ذلك عليه، فلا غرابة ولا ظلم حينئذ. [وقال ابن سيرين: يجري الله الخير على يدي من يشاء، ويجري الشر على يدي من يشاء] أي: أن الخير والشر بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى شاء الشر، وأذن في وجوده وخلقه، وأن المرتكب لذلك والعامل والمباشر والمكتسب للشر والخير بجوارحه هو العبد. [وعن عثمان البتي؛ قال: دخلت على ابن سيرين فقال لي: ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت به عليه، قال: فرفع شيئاً من الأرض فقال: ما يزيد على ما أقول لك مثل هذا، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً وفقه لمحابه وطاعته، وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك اتخذ عليه الحجة، ثم عذبه غير ظالم له]. يعني: من أراد به شراً أقام عليه الحجة بالكتب والرسل وبالعقل المميز، ثم أهلكه بعد ذلك غير ظالم له.

ما روي عن سعيد بن جبير في القدر

ما روي عن سعيد بن جبير في القدر قال: [عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: كما كتب عليكم تكونون؛ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة]. يعني: كما كتب عليكم في الأزل تكونون؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر. قال: [وعنه في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] قال: ألزمها فجورها وتقواها. وعنه في قوله: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. وفي قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37] قال: ينالهم ما كتب عليهم من شقوة أو سعادة، من خير أو شر].

ما روي عن مجاهد بن جبر المكي في القدر

ما روي عن مجاهد بن جبر المكي في القدر [عن مجاهد بن جبر المكي في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27] قال: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها. وعنه في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها. وفي قول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:30] قال: الدين والإسلام، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] قال: لدينه. وعنه في قوله تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:117] قال: بمن قدر له الهدى والضلالة قبل أن يخلقهم. وعن مجاهد في قوله: [{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب]. و (كل) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم، (وكل شيء) أي: من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهدى وضلال، وإيمان وكفر، كل ذلك في أم الكتاب مكتوب قبل أن يخلق الله تعالى الخلق. قال: [وعن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] قال: ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها: شقي، أو سعيد. وعن مجاهد في قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] قال: لهم أعمال لا بد لهم أن يعملوها] أي: خطايا من دون تلك الكبائر هم لها عاملون. [وعن حميد بن قيس الأعرج قال: صليت إلى جنب رجل يتهم بالقدرية، فلقيت مجاهداً فأعرض عني، فقلت له، فقال: ألم أرك صليت إلى جنب فلان؟ قلت: إنما ضمتني وإياه الصلاة] أي: أنا لم أعرف أنه بجانبي، وإنما هذا بسبب الصلاة.

ما روي عن محمد بن كعب القرظي في القدر

ما روي عن محمد بن كعب القرظي في القدر قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد]. يعني: أن الخلق منذ آدم إلى قيام الساعة لو اجتمعوا على أن يعصوا الله تعالى بمعصية لم يأذن فيها ما قدروا على ذلك، وهذا معناه: أن المعاصي لا تكون إلا بقدر الله عز وجل، وأنه أرادها إرادة كونية قدرية، وليست إرادة شرعية دينية؛ لأن الله تعالى يبغض المعاصي، ولا يأذن سبحانه أن يكون في الكون إلا ما أراد من خير أو شر، فلو أراد إنسان أن يطيع الله تعالى طاعة لم يأذن الله بها لا يستطيع أن يفعلها مع أنها طاعة. فمثلاً: لو ذهبت في قضاء حاجة أخيك وأنت في غاية الحماس، ولكن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن هذه الطاعة وهذه الخطوات لا تتم؛ فسيبعث الله لك أي شيء يصرفك عن هذه الطاعة؛ لأن الله لم يأذن بها مع أنها طاعة. والشر كذلك؛ يذهب الإنسان من هنا إلى هناك لأجل ارتكاب معصية معينة، ولكن الله تعالى بعزه وسلطانه وجبروته ما أراد أن تقع هذه المعصية فيصرفه عنها، وإذا أراد الله تعالى أن تكون منك المعصية قدرها عليك، ويسر لك أسبابها؛ لأنه علم أزلاً أنك ستختار هذا الطريق، وليس في هذا أدنى احتجاج بالقدر على المعصية أبداً، ولا يقول قائل: ربنا هو الذي قدرها علي. قال: [وعن ابن وهب قال: قال رجل لـ محمد بن كعب القرظي: ما أبعد التوبة! قال: فتبسم، قال: بل ما أحسن التوبة وأجملها] يعني: كان عليك أن تقول: ما أحسن التوبة لا ما أبعد التوبة؛ لأن معنى قولك: (ما أبعد التوبة) أنك أنت الذي تملك التوبة، يعني: إذا كنت أريد أن أتوب أتوب، وإذا ما أريد أن أتوب لم أتب، لا؛ التوبة بيد الله عز وجل، والذي بيد الله لا يصح وصفه بالبعد. [فقال الرجل: أرأيت إن قمت من عندك فأتيت المنبر فعاهدت الله عنده ألا آتي الله بمعصية أبداً، قال: فمن أعظم ذنباً منك، أو أعظم جرماً منك إذا تأليت على الله ألا ينفذ فيك أمره]. أي: كأن يقول شخص: أقسم بالله ثلاثاً لا أعصي الله أبداً، فما يدريك بذلك؟! وقد كان الشيخ الألباني يقول بعد كل خطبة جمعة: قولوا ورائي: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا على ألا نفعل. فأنت مطلوب منك أن تستغيث وتجأر إلى الله عز وجل بالدعاء أن يحول بينك وبين المعصية، أما أن تحلف بينك وبين الله ألا تأتيه بمعصية أبداً فإذاً هو لمن يغفر؟ ومن يرحم؟ ويتوب على من؟ فستعطل كثير من أسمائه وصفاته، وإلا فالمعصية تقع بقدر الله، والطاعة تقع بقدر الله عز وجل، لكن الله تعالى يعاقب على المعصية، ويثيب على الطاعة. ومعنى كونه قدر المعصية أي: أذن في خلقها وإيجادها، ولكنه يبغضها ويكرهها ويحذر منها، ورتب عليها العقوبات المناسبة، فلكل معصية عقوبة تناسبها؛ حتى لا يأتي شخص ويقول: ألست تقول: إن كل شيء بقدر؟ فأنا زنيت وسرقت وقتلت وشربت الخمر، فلماذا تضربونني وتعذبونني على ذلك؟ كما حصل في زمن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما شرب شارب الخمر، فقال له عمر: ما الذي حملك على ذلك وأمر بضربه؟ قال: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟! قال: نعم نضربك بقدر الله. يعني: الذي قدر عليك المعصية أيضاً قدر عليك العقوبة. قال: [قال محمد بن كعب القرظي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو على المنبر بيده اليمنى، قال: (هذا كتاب بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، قال: ثم قبض يده اليمنى ومد اليسرى فقال: هذا كتاب الله بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينتقص منهم، وليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاء حتى يقال: كأنهم هم هم، بل هم هم، ثم يستنقذهم الله عز وجل قبل الموت ولو بفواق ناقة، حتى يسلك بهم طريق أهل السعادة، وليعمل أهل النار بعمل أهل السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ثم يسلك بهم ولو بفواق ناقة طريق أهل الشقاوة، والشقي من شقي بقضاء الله، والسعيد من سعد بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم)]. يعني: لا أحد منا يضمن على الله تعالى الجنة، ولكن يجتهد المرء قدر طاقته في طاعة الله عز وجل، والذي يختم له به هو في علم الله، وكم من إنسان عمل بطاعة الله دهراً من عمره، ثم ارتد قبل موته ومات على الردة، وكم من إنسان حارب الله تعالى ورسوله، وأراد الله تعالى له الهداية قبل موته بأيام أو بلحظات؛ فتاب وآمن، وربما لم يصل ولم يصم ولم يزكِ، تاب ومات فصار من أهل الجنة وكأنه لم يعمل شراً قط، بل نطق بشهادة التوحيد ومات على ذلك، فإذا كانت الأعمال بالخواتيم، وكلنا مرهونون بعلم الله عز وجل، وعلم الله تعالى نافذ لا محالة في الخلق؛ فعلينا بملاك الأمر وهو الدعاء والتضرع أن يجعلنا الله تعالى وإياكم من أهل السعادة، ولا يجعلنا من أهل الشقاوة. ثم قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت الأقوات قبل الأجساد -يعن

ما روي عن وهب بن منبه في القدر

ما روي عن وهب بن منبه في القدر قال: [وعن وهب بن منبه قال: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله عز وجل وفي التوراة: إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الخير وخلقت من يكون الخير على يديه، فطوبى لمن خلقت الخير أن يكون على يديه، وإني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الشر وخلقت من يكون الشر على يديه، فويل لمن خلقت الشر أن يكون على يديه]. هذا النص موجود في التوراة، فقد كان رحمه الله كثير الرواية من الكتب السابقة. [وعنه قال: الكتب بضع وتسعون كتاباً -يعني: الكتب السماوية التي نزلت من السماء بضع وتسعون كتاباً- قرأت منها بضعاً وسبعين كتاباً، فوجدت في كل كتاب منها: من يزعم أن إليه شيئاً من المشيئة فقد كفر]. يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين الخلائق، ولم يخالف في ذلك إلا المجوس ومن بعدهم من القدرية. [وعن يزيد الخرساني قال: بينما أنا ومكحول إذ قال: يا وهب بن منبه! أي شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرم محمداً بالنبوة لقد قرأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتاباً، منه ما يسر ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئاً من قدر الله فهو كافر بالله، فقال مكحول: الله أكبر]. يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين جميع الشرائع.

ما روي عن طاوس بن كيسان اليماني في القدر

ما روي عن طاوس بن كيسان اليماني في القدر قال: [عن طاوس اليماني قال: اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم] أي: هذا مسلك خطير جداً، والكلام فيه بحساب دقيق جداً؛ فحين تكلم الحسن البصري، وكذلك مكحول حمل أهل البدع كلامهما في القدر على حسب أهوائهم، ولم يلتفتوا إلى ما جاء عنهما من الإثبات للقدر. [وعن ابن طاوس عن أبيه في قول الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] قال: وأنا قدرتها عليك]. أي: وما أصابك من سيئة فمن نفسك كذباً واختلاقاً، ومن الله عز وجل خلقاً وإيجاداً؛ ولذلك قال: (وأنا قدرتها عليك).

ما روي عن مكحول الشامي في القدر

ما روي عن مكحول الشامي في القدر قال: [وعن أيوب قال: سمعت مكحولاً يقول لـ غيلان: لا تموت إلا مفتوناً] أي: غيلان الدمشقي، وسيأتي الكلام عن هذا. قال: [وعن محمد بن عبد الله الشعيثي قال: سمعت مكحولاً يقول: بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده]. أي: بئس ما خلف غيلان الدمشقي محمداً عليه الصلاة والسلام على قومه وأمته. ثم قال: [وحلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق فيخرج منه]. يعني: كان مكحول إذا رأى غيلان يمشي في السوق يرجع من السوق ويخرج منه. قال: [قال أبو داود السجستاني: كان غيلان نصرانياً. عن إبراهيم بن مروان قال: قال لي أبي: قلت لـ سعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد! إن الناس يتهمون مكحولاً بالقدر، قال: كذبوا، لم يكن مكحول بقدري. وعن الأوزاعي قال: لم يبلغنا أن أحداً من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن، ومكحول، فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل]. يعني: افتراء وكذب على الحسن ومكحول. قال: [وقال الأوزاعي: لا نعلم أحداً من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن، ومكحول، ولم يثبت ذاك عنهما. قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولاً ويدفعه عن القدر].

ما روي عن عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وغيرهم في القدر

ما روي عن عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وغيرهم في القدر قال: [عن عكرمة في قول الله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] قال: لا يرجعون إلى التوبة. وعن عطاء الخراساني في قول الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] قال: من عظامهم وجلودهم، وذلك كتاب حفيظ. وعن قتادة في قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] قال: حكيم في أمره، خبير بخلقه. وعن سعيد بن أبي عروبة قال: جاء رجل إلى قتادة فقال: يا أبا الخطاب ما تقول في القدر؟ فقال: رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم؟ قال: بل رأي العرب، قال: إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم أنشده بيتاً من شعر. قال أبو داود: وحدثت عن الأصمعي عن وهيب عن داود بن أبي هند قال: اشتقت القدرية من الزندقة، وأهلها أسرع شيء ردة، هكذا قال الأصمعي. وقال زياد بن يحيى الحساني: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى]. وإن كنا نفرح بكل من يأتي بأسباب العتق من النار، لكن لنعلم أن البلايا والفتن ما ظهرت في الأمة إلا من كثرة من دخل في الدين من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم؛ فمعظم الشر كان منهم.

ما روي عن زيد بن أسلم وأبي صالح وسعيد بن عبد العزيز وأبي حازم في القدر

ما روي عن زيد بن أسلم وأبي صالح وسعيد بن عبد العزيز وأبي حازم في القدر قال: [عن زيد بن أسلم قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس. قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. وقال الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]. وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]. وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]] أي: التي كتبتها علينا في اللوح المحفوظ. ثم قال: [وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، فإبليس يعترف بأن الغواية بيد الله عز وجل، والقدري يقول: لا، نحن إذا شئنا أغوينا، وإذا شئنا أرشدنا، يعني: أن الغواية بأيدينا. قال: [عن أبي العالية في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30]. وعن أبي صالح في قوله: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37] قال: نصيبهم من العذاب] أي: العذاب المذكور في الكتاب. [وعن سعيد بن عبد العزيز: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] قال وأبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا] أبو جهل مع أنه فصيح أضله الله وأعماه عن المراد، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فظاهر الآية أن الله عز وجل يخيرنا بين الإيمان والكفر، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد من ذلك التهديد والوعيد، فالحق واضح والباطل واضح، فالذي يريد أن يختار يختار، مع أنه لا يختار إلا بقدر. قال: [لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزلت: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]]. فأهل البدع أخذوا أول الآية وتركوا آخرها، فنقول لهم: إما أن تأخذوا آخرها مع أولها، وإما أن تتركوا النص كله، وقد صنف في قضايا الإيمان والكفر في هذا الزمان أناس، ولم ينصفوا فيما كتبوا؛ فإنهم أخذوا من الآيات ومن أقوال أهل العلم ما يوافق مذهبهم الذي يذهبون إليه، وهذه هي طريقة أهل البدع، مع أن هؤلاء الكتاب ليسوا من أهل البدع. قال: [عن أبي حازم قال: إن الله عز وجل علم قبل أن يكتب، وكتب قبل أن يخلق]. أي: علم سبحانه ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فالعلم والكتابة أسبق من العمل والعامل لها، علم سبحانه ذلك بالعلم الأزلي السابق. ثم قال: [فمضى الخلق على علمه وكتابه]. يعني: جرى من الخلق أعمال الخير والشر التي علمها الله تعالى منهم، فكتبها في اللوح المحفوظ. [وعن الحسن بن محمد بن علي قال: لا تجالسوا أهل القدر. وقال حماد: ولا أعلمني إلا قد سمعته من ثابت مراراً أن الحسن بن علي كان يقول: قضي القضاء، وجف القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا]. يعني أن كل الذي يعمله العباد ما هو إلا ترجمة عملية لعلم الله السابق، وكتابة هذا العلم في اللوح المحفوظ. أقولي قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

مذهب عمر بن عبد العزيز في القدر وسيرته في القدرية

شرح كتاب الإبانة - مذهب عمر بن عبد العزيز في القدر وسيرته في القدرية لقد حفلت كتب العقيدة الإسلامية بذكر عقائد الأمة والسلف رحمهم الله تعالى في أهل الأهواء والبدع، وذلك لكشف عوارهم، وبيان فساد وبطلان مذهبهم، حتى يحذر المسلمون من ذلك الضلال فلا يقعوا فيه، وحتى يصير دين الله صافياً نقياً، لا يعكره دخيل، ولا يلصق به ما ليس منه.

بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في إثبات القدر

بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في إثبات القدر

رسالة عمر بن عبد العزيز إلى من سأله عن القدر

رسالة عمر بن عبد العزيز إلى من سأله عن القدر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني في كتاب القدر هو: بيان مذهب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية. قال سفيان الثوري: كتب عامل لـ عمر بن عبد العزيز إلى عمر يسأله عن القدر فكتب إليه: أما بعد -أي: بعد الحمد والثناء على الله، والصلاة والسلام على رسوله-: أوصيك بتقوى الله عز وجل، والاقتصاد في أمره -أي: التوسط، وهو درجة بين الإفراط والتفريط- واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة -ما التزم أحد بالسنة إلا عصمته من كل بلية- ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها]. أي: ما من بدعة إلا وقد رأى الناس آثارها السيئة في حياتهم، وكان على قبحها وسوئها دليل من الكتاب أو السنة. قال: [فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما قد رضي به القوم لأنفسهم]. أي: ارض لنفسك أن تسلك في كل باب من أبواب الدين والشريعة ما قد رضيه أسلاف هذه الأمة لأنفسهم. قال: [فإنهم عن علم وقفوا -أي: توقفوا بعلم- وببصر نافذ قد كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر]. أي: هذا الخوض الذي يخوضه الناس اليوم فيما يتعلق بمسائل القدر، والأسئلة التي تنم عن زعزعة الإيمان في قلوب أصحابها؛ كان السلف -لو كانت هذه الأسئلة محمودة وممدوحة- هم أولى بطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كان هذا أمراً مذموماً كفوا عنه، وآمنوا به. قال: [وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه]. أي: إن كان الهدى هو الذي أنتم عليه اليوم من الخوض فيما لا يعنيكم، فاعلموا أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد! وهذا مستحيل. كما قال عبد الله بن مسعود لأولئك الذين تحلقوا حلقاً في المسجد، وجعلوا على كل حلقة كبيراً لهم يلقي لهم الحصى، ويقول: سبحوا مائة، احمدوا مائة، كبروا مائة، فوقف على رءوسهم وقال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. ولا شك أن الأولى مستحيلة؛ أن يخفي الله تعالى الهدى والحق والخير والنور عن نبيه وعن أصحابه نبيه ثم يظهره لنا، ثم هذا مخالف لأصل من أصول الدين، وهو: أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا ضلالة ولا باطل، فلأن يدعي رجل اليوم أنه قد وقف على خير وهدى قد حرمته الأمة على مدار أربعة عشر قرناً؛ لهو ضال مضل؛ لأن نتيجة هذا الكلام يهدم أصلاً من الأصول التي عليها اعتماد الإسلام، وهو أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا على ضلالة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم؛ ما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم السابقون -والله تعالى قد مدح السابقين- فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر]. أي: إما أن يكون إنساناً مفرطاً جداً فيما كانوا عليه غير تابع لهم، وإما أن يكون إنساناً جريئاً جداً يرتكب مخالفة الهدي، ويتبع سبيل غير المؤمنين. قال: [قد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام -أي: رغب عنهم أقوام- فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم]. أي: أن طريق السلف بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والجسور، ولم تكن الجرأة والتبجح من طريقهم، وإنما كانوا يلتزمون عند حدود النقل.

تواتر الشرع وكلام السلف في إثبات القدر

تواتر الشرع وكلام السلف في إثبات القدر قال: [كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر -أي: أن عمر بن عبد العزيز قال لعامله: لقد كتبت إلي تسألني عن الإقرار بالقدر- فعلى الخبير بإذن الله وقعت -أي: أنك لا تجد أكفأ مني تسأله عن هذا، فأنا بإجابة هذا السؤال خبير- ما أعلم أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أمراً ولا أثبت أثراً من الإقرار بالقدر -ليس هناك أعظم في الإسلام من بدعة القدرية-، لقد كان ذكره -أي: أمر القدر- في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم -أي: من الخير-، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه، فمنه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله عز وجل آية كذا؟ ولم قال الله عز وجل كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم]. أي: إذا سألتم: ما معنى هذه الآية؛ على سبيل الاعتراض، أو على سبيل رد مسائل القدر، فتقولون: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال الله كذا؟ ف A أن السلف رضي الله عنهم قد قرءوا هذه الآيات التي تعتمدون أنتم عليها، وتحتجون أنتم بها، فهل كان موقفهم من هذه الآيات مثل موقفكم أنتم؟! A لا. إذاً: فيسعكم ما وسع السلف، ولا يسعكم ما لم يسع السلف، فالسلف قرءوا هذه الآيات وهذه الأحاديث، فآمنوا بها وأمروها كما جاءت، ولم يخوضوا فيها بتأويل، ولم يصرفوها عن ظاهرها، بل آمنوا بها. قال: [لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر]. أي: أن كل ذلك مذكور في الكتاب الأول في اللوح المحفوظ، والله تعالى قد علمه وقدره. يعني: بعد أن قرءوا هذه الآيات، وعلموا تأويل وتفسير هذه الآيات؛ سلموا بعد ذلك لله تعالى في باب القدر، وقالوا: ما أصابنا إلا ما كتبه الله لنا من خير أو شر. قال: [وما قدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً]. أي: أن الذي يملك النفع والضر هو الله عز وجل؛ ولذلك سمى نفسه النافع الضار سبحانه وتعالى. قال: [ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا]. أي: بعد علمهم بهذا كله عبدوا الله تعالى بجناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء، ولا حيلة للعبد أبداً في عبادته لله عز وجل إلا بهذين الجناحين، فمن غلب عليه الخوف أيس من رحمة الله، ومن غلب عليه الرجاء فرط في جنب الله.

موافقة عبد العزيز بن أبي سلمة لكلام عمر بن عبد العزيز في إثبات القدر

موافقة عبد العزيز بن أبي سلمة لكلام عمر بن عبد العزيز في إثبات القدر وعبد العزيز بن أبي سلمة رحمه الله تعالى ذكر عنه نفس هذا الكلام الذي ذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولعله كلام أدخل بعضه في بعض، أو لعل عبد العزيز بن أبي سلمة حفظ كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما يتعلق بالقدر فأجاب به سائلاً سأله هو، ثم زاد عليه. قال: [ثم رغبوا مع قولهم هذا ورهبوا، وأمروا ونهوا]. أي: لم يتكلوا على قضية القدر، وإلا من كان يعتقد اعتقاد القدرية فإنه في نهاية أمره يقول بمذهب الجبرية وهو: تعطيل الأمر والنهي. وبالتالي فكل شيء مجبول ومجبور عليه العبد، إذاً: فلم نؤمر ولم ننه؟ ولا غرو إذ يقول أهل العلم: إن أعظم مفسدة للقدرية: إبطال الشريعة؛ لأن الشريعة قامت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يقول: بأن أفعال العباد أو أن العباد مجبورون مقهورون على أفعالهم لا حيلة لهم في ذلك؛ فلابد أنه يقول: لم الأمر إذاً؟! ولم النهي إذاً؟! وأما السلف فمع إيمانهم بهذه الآيات وعلمهم بتأويلها؛ إلا أنهم عبدوا الله تعالى رغبة ورهبة [وأمروا ونهوا، وحمدوا ربهم على الحسنة، ولاموا أنفسهم على الخطيئة، ولم يعذروا أنفسهم بالقدر -أي: لم يحتجوا بالقدر على المعصية- ولم يملكوها فعل الخير والشر -أي: ما قال واحد منهم: بيدي وبمشيئتي وإرادتي أن أفعل الخير والشر، وإنما رد ذلك كله إلى الله تعالى- فعظموا الله بقدره، ولم يعذروا أنفسهم به، وحمدوا الله على منه، ولم ينحلوه أنفسهم دونه، وقال الله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85]، وقال: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]]، فلما ذكر الخير بين الله تعالى أن هذا الخير نال المؤمنين بما كانوا قد أحسنوا في الدنيا، فبين أن إحسان العباد في الدنيا يستوجب على الله أن يكرمه، وأن الله تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، ومن أساء في الدنيا فإن الله تعالى يعاقبه في الآخرة بما كان عنده من فسق. [فكما كان الخير منه، وقد نحلهم عمله -أي: قد وهبهم ومن عليهم أن يعملوه- فكذلك كان الشر منه، وقد مضى به قدره سبحانه وتعالى. وإن الذين أمرتك باتباعهم في القدر لأهل التنزيل]. أي: أنه يقول له: أنا آمرك أن تتبع أهل العلم من أهل السنة والجماعة في فهمهم لباب القدر، لا أن تكون تابعاً للقدرية. قال: [الذين تلوه حق تلاوته -أي: الذين قرءوا القرآن كما أراد الله عز وجل -فعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه]، ولم يخوضوا فيه، ولم يصرفوه عن ظاهره، ولم يقولوا فيه: لم؟ وكيف؟ وإنما آمنوا به وأمروه كما جاء، [وكانوا بذلك من أهل العلم في الراسخين]. يعني: مع إيمانهم بالمتشابه، وإمرارهم له، وعدم الخوض فيه؛ كانوا من الراسخين في العلم. قال: [ثم ورثوا علم ما علموا من القدر وغيره من بعدهم -يعني: هكذا علم السلف بعضهم بعضاً، فالصحابة علموا التابعين، والتابعون علموا تابعي التابعين وهكذا- فما أعلم أمراً شك فيه أحد من العالمين أعلى ولا أفشى ولا أكثر ولا أظهر من الإقرار بالقدر، لقد آمن به الأعرابي الجافي، والقروي القاري، والنساء في ستورهن، والغلمان في حداثتهم، ومن بين ذلك من قوي المسلمين وضعيفهم، فما سمعه سامع قط فأنكره، ولا عرض لمتكلم قط إلا ذكره، لقد بسط الله عليه المعرفة، وجمع عليه الكلمة، وجعل على كلام من جحده النكرة -أي: النكارة- فما من أحد جحده ولا أنكره فيمن آمن به وعرفه من الناس إلا كأكلة رأس. فالله الله، فلو كان القدر ضلالة ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت بدعة ما علم المسلمون متى كانت، فقد علم المسلمون متى أحدثت المحدثات والبدع والمضلات. وإن أصل القدر لثابت في كتاب الله تعالى، يعزي به المسلمون بعضهم بعضاً في مصائبهم بما سبق منها في الكتاب عليهم، يريد بذلك تسليتهم -الله تعالى يسلي عباده الموحدين-، ويثبت به على الغيب يقينهم، فسلموا لأمره وآمنوا بقدره، وقد علموا أنهم مبتلون، وأنهم مملوكون غير مملكين ولا موكلين، قلوبهم بيد ربهم، لا يأخذون إلا ما أعطى، ولا يدفعون عن أنفسهم ما قضى، قد علموا أنهم إن وكلهم إلى أنفسهم ضاعوا، وإن عصمهم من شرها أطاعوا هم بذلك من نعمته عارفون، كما قال نبيه وعبده الصديق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33]-فبين يوسف عليه السلام أن الذي يملك صرف الشر هو الله عز وجل- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، وقال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]، فتبرأ إلى ربه من الحول والقوة، وباء مع ذلك على نفسه بالخطيئة، كانت لهم فيه أسوة، وكانوا له شيعة].

رأي عمر بن عبد العزيز فيما يستحقه القدرية من العقوبة

رأي عمر بن عبد العزيز فيما يستحقه القدرية من العقوبة قال: [عن مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال: ما رأيك في هؤلاء القدرية؟ قال: أرى أن تستتيبهم -أي: تحبسهم ثلاثة أيام حتى يتوبوا فيها، ويرجعوا عن قولهم- فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف]. وهذه إشارة إلى قتلهم، يعني: فإن تابوا وإلا قتلوا. [فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، وتلك سيرة الحق فيهم. قال معن وقتيبة: قال مالك: وذلك أيضاً رأيي]، يعني: أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا. [وقال عمر بن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر -أي: يزجروا زجراً شديداً- فإن كفوا وإلا سلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالاً]. يعني: يخرجون ألسنتهم من رقابهم بعد قتلهم، وهذا الكلام فيه إشارة إلى القتل. [وقال عمر بن عبد العزيز في أصحاب القدر: يستتابون، فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين].

مناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي وإظهار غيلان للتوبة وما آل إليه أمره

مناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي وإظهار غيلان للتوبة وما آل إليه أمره [وعن محمد بن عمرو الليثي: أن الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري الدمشقي -وهذا زعيم القدرية- فقال: يا غيلان! بلغنا أنك تقول في القدر -أي: لك قول سيء رديء في القدر- فقال: يا أمير المؤمنين! إنهم يكذبون علي]. أي: أنه جبن عن الاعتراف بعقيدته أمام أمير المؤمنين، ثم يتهم غيره الذي تكلم بالحق ونقل الصدق إلى أمير المؤمنين بأنه كاذب يفتري عليه. [قال: يا أمير المؤمنين! يكذبون علي، فقال: يا غيلان! اقرأ علي يس، فقال: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:1 - 4]، حتى بلغ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:8 - 10]]، وهذه الآية هي الشاهد، أي: أن الله علم منهم الكفر فكتبه عليهم. قال: [فقال غيلان: يا أمير المؤمنين! والله لكأني لم أقرأها قبل اليوم]. أرأيتم إلى النفاق؟! فهو يقول: لقد ذكرتني بالذي غاب عني، فأنا فعلاً كان عندي شك، لكن لما قرأت هذه الآية علمت أن الإيمان والكفر بيد الله عز وجل، وأن الخير والشر من عند الله، وأن الله علم ذلك في الأزل، وكتبه وقدره على العباد، ((وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، فعلمت أن إيمان هؤلاء بيد الله، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. ثم قال: [أشهدك يا أمير المؤمنين! أني تائب إلى الله عز وجل مما كنت أقول في القدر]. أي: أنني قد تبت من شيء قلته واعتقدته! إذاً: هذا يرد به على قوله الأول: إنهم يكذبون علي يا أمير المؤمنين! فهو ابتداءً رد القول الذي قيل فيه بحق؛ رده بباطل وبافتراء وبهتان على الصادقين. ثم نافق وبين أنه لأول مرة يسمع هذه الآيات، بينما هو قد سمعها وقرأها مراراً، ووقف عندها، وله فيها تأويل غير سائغ ولا معتبر، لكنه خشي السيف. فقال: [إني تائب يا أمير المؤمنين! مما كنت قلته في القدر، فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته -أي: فثبته على هذا الصدق واليقين- وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين]. أي: عبرة وعلامة. قال: [فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق]. وهذه آية، فقد أصابته دعوة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. قال: [قال عمرو بن المهاجر: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً -أي: حبسه عنده أياماً- ثم أدخله عليه، فقال: يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه ألا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:1 - 3]]. وهذا هو الشاهد: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ))، فهو إما أن يختار الشكر، وإما أن يختار الكفر، وإما أن يختار الإيمان أو الكفر، فهذه مشيئتي، فأنا حر أختار الكفر فلا علاقة لله بي، أو أختار الإيمان فلا علاقة لله بي، ما على الله إلا أن يهديني السبيل، وأنا بعد ذلك أقبله أو أرده، هذا من عندي بغير إرادة الله وبغير مشيئة الله، هكذا فهم غيلان الدمشقي. [فقال له: اقرأ آخر السورة]. ونحن قد قلنا في الدرس الماضي: إن أهل البدع دائماً يحتجون بأول الآية ويتركون آخرها أو العكس، ولا يحتجون بآية كاملة. فقال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الذي بدا لك من هذه الآية هو ما قلت فاقرأ آخر السورة، وآخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31]. إذاً: فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، والأصل في ذلك هي مشيئة الله تعالى، وأن العبد لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه وقدره وأراده الله عز وجل. قال: [ثم قال: ما تقول يا غيلان! قال: قد كنت أعمى فبصرتني -وهو خائف من القتل- وأصم فأسمعتني، وضالا

منهج عمر بن عبد العزيز في مسألة كتابة أعمال العباد وقدر الله السابق

منهج عمر بن عبد العزيز في مسألة كتابة أعمال العباد وقدر الله السابق وخطب عمر بن عبد العزيز فقال: يا أيها الناس! من أحسن منكم فليحمد الله -أي: من وفق للطاعة فليحمد الله تعالى على ذلك-، ومن أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، مع أني قد علمت أن أقواماً سيعملون أعمالاً وضعها الله في رقابهم، وكتبها عليهم]. وهذا يدل على أن الخير والشر من عند الله عز وجل. قال: [وعن عمر بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس]. لأن إبليس وراءه الشر، لكن الذي خلقه هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره، ولا رب سواه، فهو رب كل شيء ومليكه، إذاً: أراد الله تعالى أن يعصى، ومعنى أراد أن يعصى: أنه لا يعصيه أحد إلا إذا أراد هو سبحانه وقوع هذه المعصية، وقدر هذه المعصية قدراً كونياً لا شرعياً دينياً. قال: [فقد فصل لكم وبين لكم ما أنتم عليه (بفاتنين) بمضلين، إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]. قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في دعائه: وإنك إن كنت خصصت برحمتك أقواماً أطاعوك فيما أمرتهم به، وعملوا لك فيما خلقتهم له؛ فإنهم لم يبلغوا ذلك إلا بك -أي: فإنهم لم يوفقوا إلى هذه الطاعة والعمل بالمشروع إلا بك -ولم يوفقهم لذلك إلا أنت، كانت رحمتك إياهم قبل طاعتهم لك]. يعني: أنت كتبت لهم الطاعة والرحمة قبل أن تخلقهم، وقبل أن يعملوا من الأعمال شيئاً.

تحذير عمر بن عبد العزيز من القدرية والتفريق بين دعاتهم وعامتهم

تحذير عمر بن عبد العزيز من القدرية والتفريق بين دعاتهم وعامتهم قال: [وقال عمر بن عبد العزيز: لا تغزوا مع القدرية؛ فإنهم لا ينصرون]. أي: أن القدرية إذا دخلوا في قتال لا ينصرهم الله عز وجل؛ لأنهم أعداؤه، وهم مجوس هذه الأمة كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. وهذا يدل على أن تقوى الله عز وجل، والتزام السنة، واتباع الأنبياء وأتباع الأنبياء، عليها مدار النصر، وهم الذين يكتب لهم الغلبة والنصر، وأما أهل البدع والزندقة والإلحاد فإنهم لا ينصرون، وإن نُصروا لا يثبتون على هذا النصر؛ فسرعان ما ينحدر؛ لأنه لا أساس لهم يركنون إليه، ولا قاعدة متينة سليمة يستندون إليها. قال: [قيل لـ عمر بن عبد العزيز: إن قوماً ينكرون من القدر شيئاً، فقال عمر: بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا]. أي: أن الأصل في الدعوة أولاً: البيان والرفق؛ حتى يرجعوا عن مقالتهم السوء. قال: [فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين! لقد اتخذوه ديناً يدعون إليه الناس، ففزع لها عمر، فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم -أي: آن أن يقتلوا- هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار؟!]. وهنا ملحظ عظيم جداً في هذا النص لأمير المؤمنين رضي الله عنه، وذلك لما قيل له: إن قوماً ينكرون شيئاً من القدر، قال: ادعوهم وبينوا لهم حتى يرجعوا عن هذه المقالة، قال قائل: يا أمير المؤمنين! هيهات، أي: هذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم قد اتخذوا هذه النحلة ديناً وصاروا يدعون إليها الناس، فانتقل الأمر من الشبهة المجردة في قلوبهم إلى العقيدة الراسخة التي صارت ديناً، وخروجاً على جماعة المسلمين، فذكر أن الأمر هنا يختلف. لذلك فأهل السنة والجماعة دائماً في كل بدعة من البدع يفرقون بين دعاة البدعة وبين أتباع البدعة، فدعاة البدعة غالباً ما نجد أن أهل السنة والجماعة يكفرون الغلاة فيهم، كما كفر علماء العصر بالإجماع خميني إيران، ولا أعلم أحداً من أهل العلم المعتبرين تأخر عن تكفيره للخميني، وقد صنفت في ذلك رسائل، وسجلت في هذا التكفير أشرطة لأهل العلم: كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، واللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية، فقد أصدرت بالإجماع فتوى بتكفير الخميني، وحيثيات التكفير كثيرة جداً، وليس هذا مكانها. وهؤلاء الذين كفروا الخميني لم يكفروا الشعب الإيراني، ولذلك لو قرأت في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وفي ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لوجدت كلاماً رائعاً جداً للإمام الذهبي. فقال: ما ذنب أناس ولدوا في الشام، ورضعوا حب معاوية؟! ومعلوم أن الذي رضع حب معاوية لابد أن يسب علياً، والذي نشأ في الكوفة ورضع حب علي وحب آل البيت يدفع الثمن بلعن وسب معاوية. يقول: ما ذنب هؤلاء، فهم قوم نشئوا هكذا، فما وجدوا مقالة أخرى، وإنما نشئوا لم يسمعوا إلا شيئاً واحداً، وهو تفضيل علي على معاوية، أو في الشام تفضيل معاوية على علي. يقول: ما ذنب هؤلاء إلا أن يتخصصوا في العلم ويطلبوا ذلك هنا وهناك، ويتبين لهم الحق فيصروا على ما هم عليه، ثم يصل بهم الأمر إلى مرحلة التنظير لهذا المذهب الباطل، والتنظير يعني: أن يكون هناك عالم متفنن في بدعته، فحيئذ لابد أنه قد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد نظر في كتب الخصم فعلم الحق، لكنه أصر على بدعته، فحينئذ يكفر بهذا، وأما أتباع أهل البدع ورعاع أهل البدع فإنهم لا يكفرون.

تأييد علماء السلف لهشام بن عبد الملك في قتله لغيلان الدمشقي

تأييد علماء السلف لهشام بن عبد الملك في قتله لغيلان الدمشقي قال: [وعن رجاء بن حيوة: أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك: بلغني يا أمير المؤمنين! أنه وقع في نفسك شيء من قتل غيلان وصالح -وهو صالح الدمشقي]، وذلك لما أمر هشام بن عبد الملك بقتلهم وصلبهم ثم ندم بعد ذلك، فأرسل إليه رجاء بن حيوة وهو سيد من السادات، فقال: [فوالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الروم]. يعني: لا تندم على قتل هؤلاء. قال: [وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كنت عند عبادة بن نسي فأتاه رجل فأخبره أن أمير المؤمنين هشام قطع يد غيلان ولسانه وصلبه، فقال له: حقاً ما تقول؟ قال: نعم، قال: أصاب والله السنة والقضية ولأكتبن إلى أمير المؤمنين فلأحسنن له ما صنعه]. يعني: أنا سأكتب إليه كتاباً أحسن فيه فعله، وأمدحه على قتله لـ غيلان الدمشقي.

باب ما روي عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر

باب ما روي عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر قال: [باب: ما روي عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر].

أثر الأوزاعي: (القدرية خصماء الله)

أثر الأوزاعي: (القدرية خصماء الله) الإمام الأوزاعي رجل من أهل السنة، بل هو من كبار أهل السنة، وهو الذي قال: [القدرية خصماء الله عز وجل في الأرض]. أي: أن القدرية ينازعون الله تعالى في القدر. [قال الليث بن سعد في المكذب بالقدر: ما هو بأهل أن يعاد في مرضه، ولا يُرغب في شهود جنازته، ولا تُجاب دعوته]. يعني: إذا دعاك فلا تُجبه.

الآثار الواردة عن مالك بن أنس في القدر

الآثار الواردة عن مالك بن أنس في القدر [وقال مالك بن أنس: ما أضل من يكذب القدر، لو لم تكن عليهم حجة إلا قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]]. أي: قبل أن يخلقكم علم الله أن منكم الكافر، ومنكم المؤمن. [وعن مروان بن محمد قال: سألت مالك بن أنس عن تزويج القدري -أي: إذا تقدم إلي رجل يقول بالقدر ليتزوج ابنتي هل أزوجه؟ - قال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة:221]]. يعني: أن القدري مشرك، ويكفينا في ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة). [وعن محمد بن إسحاق الصاغاني قال: قرأت على أصبغ بن الفرج عن ابن وهب عن مالك سمعه، وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع من القدرية، فقال مالك: ولا أرى أن يُصلى خلفهم -إذاً: لا نزوجهم ولا نصلي خلفهم- قال: وسمعته وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع؟ فقال: لا، ونهى عنه]. أي: أنه نهى عن الصلاة خلف أهل البدع.

حكم الصلاة خلف أهل البدع

حكم الصلاة خلف أهل البدع وقال رجل لبعض السلف: يا إمام! لقد صليت خلف رجل من أهل القدر، أو ممن ينكر القدر؟ قال: منذ كم وأنت تصلي خلفه؟ قال: منذ خمسين سنة، قال: أعد صلاتك منذ خمسين سنة! إنه شيء عجيب وعظيم جداً، ولذلك نجد كثيراً جداً من أهل البدع وهم أئمة للمسلمين، فمنهم الأشعري المؤول، ومنهم المعتزلي العقلاني، ومنهم القدري، ومنهم المرجئ، ومنهم الخارجي، ومنهم ومنهم، فيتحرج المرء أشد الحرج أن يصلي خلف أحد، لكن لابد أن تعلم أن هذا أيضاً يجرنا إلى بدعة الخوارج، وأنهم لا يصلون إلا خلف أنفسهم فقط، ومن أشر البدع كذلك أن تتعنت أنت في اختيار إمامك الذي لا تعرفه. فيدخل أحدهم مسجداً من المساجد -كما يفعله بعض أهل الحجاز ولعلهم تلقوه من أهل البدع في مصر- ثم يخترق الصفوف حتى يصل إلى الإمام فيسأله عن الصفات، ويسأله في القدر، ويسأله في تقديم النقل على العقل، ويسأله عدة أسئلة، فإذا أحسن الإمام الجواب صلى خلفه وإلا فلا، وهذه أيضاً بدعة. فإذا كنت تعلم يقيناً بغير بحث ولا تنقيب أن هذا الإمام من أهل البدع المكفرة فلا تصلي خلفه، وأما إذا كانت بدعته ليست مكفرة فهو فاسق بذلك، وأنت تعلمون أن الصلاة تصح على كل فاسق وخلف كل فاسق، كما قال أهل السنة والجماعة بجواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر. وأما الفجور الذي يؤدي به إلى الكفر فلا، لكن فجور يؤدي به إلى الفسق أو الظلم فحسب فالصلاة خلفه جائزة، وعليه كذلك جائزة، إلا لإمام يشار إليه بالبنان فيستحب ألا يصلى عليه؛ حتى يكون عبرة لأمثاله من الأحياء ألا يفعلوا فعله، ولا يصنعوا صنيعه. أما أن تتعنت وتسأل عن الإمام فهذا لم يكن عليه أهل السنة والجماعة، إذا كنت تعلم أنه من أهل البدع فابتعد عنه، وإذا كان أمره على الستر فلا يحل لك أن تسأل، وإنما صل وانصرف. وقد عانينا من أهل البدع في هذا الباب في مصر والشام سنوات عديدة في أوائل الثمانينات، فقد كان الواحد منهم وخاصة من أهل مصر يدخل مسجداً من مساجد الشام فلا يصلي خلف الإمام إلا أن يوجه إليه الأسئلة، حتى علم أئمة البدعة والضلالة في الأردن وسوريا ولبنان هذه الأسئلة فحفظوها، وحفظوا الجواب المريح، فإذا سئلوا في القبلة بعد الإقامة أجابوا بما يريح السائل، وهم يعتقدون غير ذلك، وكانت فتنة عظيمة جداً عمت البلاد في ذلك الوقت تقريباً منذ سنة (1982م) أو (1983م) حتى سنة (1987م) حتى جاء الأمر من السماء بطرد هؤلاء من الشام؛ لأن أرض الشام أرض مباركة، فلا يكاد يظهر فيها مبتدع أو تظهر فيها بدعة إلا ويفضح الله تعالى أمرهم، ويشتت شملهم، وأبعدهم عن هذه الديار والأراضي المباركة.

الآثار الواردة عن الثوري في القدر

الآثار الواردة عن الثوري في القدر قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان وقد قال له رجل: يا أبا عبد الله! أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبر، قد علمت أن ما عمل العباد لم يكن لهم بد من أن يعملوا]. فقوله له: ما أجبرهم. جواب ذكي، واعلم أن سفيان الثوري عاش في القرن الثاني الهجري، وكان يعيش في الكوفة، وقد امتلأت الكوفة بأهل البدع، وسفيان في هذا الميدان يكاد يكون لوحده يدعو إلى السنة، وكان في قمة الغضب والعصبية. وقد سئل الخليل بن أحمد من امرأة: لقد رأيت أهل العلم أحد الناس كلاماً، وأسرعهم غضباً، لم يا إمام؟ قال: لأن الحق معهم والباطل مع غيرهم، ومع هذا هم مصرون على باطلهم، رادون للحق الذي مع غيرهم. فهذا هو السر الذي يجعل أهل الحق دائماً في غضب وعصبية؛ لأنهم أصحاب حق، يرون العالم بأكمله في ضياع، والعالم كله ليس صاحب قضية، وهم يعلمون القضية، فلا شك أن هذا أمر يثير جداً حفيظتهم؛ لأنهم يعلمون الحق من الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فحيئذ يدخلهم من الهم والغضب والحزن ما الله به عليم. وأما غيرهم فلا يفكر ولا يعلمون شيئاً، وبالتالي لا غرض ولا هدف لهم، وأما أهل العلم الصادقون فلهم غرض ولهم هدف من هذه الحياة، ويعلمون سنن الله تعالى الكونية في الخلق. فقال: [أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبرهم]. أي: إذا كنت تريد أن تعثرني فلن تستطيع؛ لأن الذي يقول: إن الله أجبر العباد على المعاصي ينفي قدرة العبد على الفعل، وينفي استطاعة العبد على الفعل، وينفي أن يكون للعبد مشيئة وإراده، مع أن الله أثبت أن له إرادة وأن له مشيئة، لكنها إرادة ومشيئة مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، قال: ما أجبرهم، لكن لابد أن تعلم أن أعمال العباد كلها في علم الله، وتمت بقدرة الله. والناظر في الكلامين -أي: في النفي والإثبات- يتصور أن النفي والإثبات شيء واحد، وبينهما فرق دقيق، وهو: نفي الجبر؛ لأن سفيان لو قال لهذا المبتدع: نعم جبر الله العباد على المعاصي؛ فلابد أن يكون السؤال التالي مباشرة: إذاً فلم يعذبهم؟ فهناك فرق بين الأمرين. قال: [قال بشر بن المفضل: رأيت سفيان الثوري في المنام، فقال لي: يا بشر! أنا مدفون هاهنا في وسط القدرية]. فتصور أن واحداً طول عمره مستمر في محاربة التبشير أو التنصير وهي التسمية الصحيحة، وحياته كلها يتنقل من بلد إلى بلد لمحاربة هذا المذهب الضال، وهذه الديانة الفاسدة، ثم في نهاية مطافه يموت في بلد من بلاد الكفر فيدفن في مقابر النصارى، بلا شك أن هذا أمر يعز عليه حتى بعد موته. فـ سفيان الثوري عليه رحمة الله عاش حياة طويلة يحارب أمرين اثنين: الأول: أهل الرأي، فيرد الناس إلى الأثر بدلاً من اتباع قول فلان وعلان، فهذه كانت قضية من قضايا سفيان الثوري في الكوفة؛ ولذلك مدرسة سفيان كلها في الكوفة تسمى مدرسة: الأثر أو مدرسة الحديث، ومدرسة الأحناف تسمى: مدرسة الرأي، فكان بين الأحناف وبين أهل الحديث ما الله به عليم من الفتن والمشاكل في الكوفة. الثاني: نبذ القدرية، وإظهار فساد هذا المذهب وبطلانه، ومع ذلك يختم به الأمر أن يدفن بين أقوام يتكلمون في القدر ويقولون بالقدر! فقال: يا بشر بن المفضل أبعد هذه الحياة الطويلة في حرب أهل البدع تدفنوني في وسط أهل القدرية؟! يعني: لا ينجو منهم لا حياً ولا ميتاً، كأنه أراد أن يقول ذلك.

تكفير السلف لمن زعم أنه يستطيع أن يفعل في ملك الله ما لا يشاؤه الله

تكفير السلف لمن زعم أنه يستطيع أن يفعل في ملك الله ما لا يشاؤه الله قال: [قال أبو محمد الغنوي: سألت حماد بن سلمة وحماد بن زيد ويزيد بن زريع وبشر بن المفضل والمعتمر بن سليمان عن رجل زعم أنه يستطيع أن يشاء في ملك الله ما لا يشاء الله! فكلهم قال: كافر مشرك -أي: الذي يقول: أنا أستطيع ما لا يستطيعه الله، وأشاء ما لا يشاؤه الله؛ كافر مشرك- إلا معتمر بن سليمان التيمي قال: الأحسن بالسلطان استتابته، فإن تاب وإلا قتله]، ولو أن القدري استتابه الإمام ثلاثة أيام فلم يتب فقتله، أيكون هذا القتل ردة أم حداً؟ هذا قتل ردة وليس قتل حد.

رد ربيعة الرأي على غيلان الدمشقي في عقيدته في القدر

رد ربيعة الرأي على غيلان الدمشقي في عقيدته في القدر قال: [وعن سفيان قال: وقف غيلان على ربيعة]، وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي، وكان شيخاً للإمام مالك في المدينة، وقد ورد في ترجمته قصة طويلة أنكرها الإمام الذهبي في السير، ولا داعي لسردها، أي: في طريقة تربية الإمام، ولا داعي لسردها ما دامت باطلة، ويكفي في ردها بطلانها. قال: [وقف غيلان الدمشقي على ربيعة الرأي -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني - فقال: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال ربيعة: ويلك يا غيلان! أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟]. وللعلم هذا النص من أغلى النصوص عند أهل السنة والجماعة، فهي مناظرة تمت بكلمتين بين غيلان الدمشقي المبتدع القدري، وبين ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي إمام السنة. قال غيلان: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يُعصى؟ أليست هذه المعصية تمت بقدر الله عز وجل، وبإرادة الله عز وجل، أم هناك أحد يستطيع أن يعصي الله تعالى قسراً ورغماً عن الله؟ أيستطيع أحد فعل ذلك؟ أيستطيع أحد أن يقول: أنا سأزني أو أقتل أو أسرق أو أشرب الخمر رضي الله أم أبى، شاء أم أبى، أيستطيع أحد أن يقول ذلك؟ لا، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والصلاة بقدر، والصيام بقدر، وكل ما يكون في الكون بقدر، علمه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ، سواء كان خيراً أو شراً، ولا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الخير والشر من عند الله عز وجل. فهو يقول له: ألستم تقولو يا أهل السنة: ما من شر في الأرض إلا والله يحبه؟ وهذا الكلام خطأ، فنبعد كلمة: (يحب)، ونضع بدلها كلمة (يريد). والعجيب أنني وجدت هذا النص بهذا السياق هنا، وهو في كل كتب السنة: يا ربيعة أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ وهو نص صحيح، وأنا أتصور أن هذا تصحيف في هذه النسخة، لأن هذا خطأ عظيم جداً، ولا يمكن لـ ربيعة أن يقع في هذا الخطأ العظيم. وفي الدرس الماضي سألت سؤالاً فقلت: لو أنك بقيت سنة وأنت تدرس القدر، وفهمت ما قلت لك فإنك ستجيب الجواب الصحيح، وقلت لك: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به؟ فاختلطت أقوال الناس، فبعضهم قال: لا، وبعضهم قال: نعم، والجواب التفصيل: أما السؤال الأول: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر؟ ف A نعم، يجب الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله. وأما الرضا بالقدر فإننا نرضى بما قدره الله شرعاً، ولا نرضى بما قدره كوناً، فلا نرضى بالمعاصي؛ لأننا لو رضينا بالمعاصي فقد رضينا بما أسخط الله وبما سخطه الله، فالله تعالى أراد القتل، وأراد الزنا، والسرقة وسائر المعاصي، ومعنى كلمة (أراد) أي: أذن في وقوعها في الكون، وعلم أن هذا العبد عامل لها، مقترف لها، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن العبد مدرك ذلك لا محالة، هذا معنى: أن الله تعالى أراد المعصية، أي: أذن في خلقها ووجودها في الكون. ولذلك ليست هي إرادة شرعية دينية، وإنما إرادة كونية قدرية، وبين الإرادة الشرعية الدينية والكونية القدرية عموم وخصوص، فكل إرادة شرعية دينية كونية قدرية، وليس كل إرادة كونية قدرية شرعية دينية، فالصلاة إرادة شرعية دينية ومع هذا هي كونية قدرية، فنحن نحب مِن قدر الله الذي وقع في الكون ما أراده ورضيه شرعاً، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، ونسخط ما وقع بإرادة الله تعالى في الكون من معاصي وكفر وفسق وظلم وغير ذلك من كبائر وصغائر، وإن كنا نؤمن أنه وقع بقدرة الله عز وجل، لكن نسخطه لأن الله تعالى سخطه وأبغضه، وحذر منه، ونهى عنه ورتب عليه العقوبات. قال: [يا ربيعة! أنت تزعم أن الله يريد أن يعصى؟!]. وكلمة: (يريد أن يعصى) أراد بها ربيعة أن الله أراد ذلك إرادة كونية قدرية، لا شرعية دينية. فقال ربيعة: [ويلك يا غيلان! وأنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟!] يعني: أيستطيع أحد أن يعصي الله رغماً عن الله؟ فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة ولا يسكن سكنة إلا بإرادة الله. فهذه المناظرة مناظرة عزيزة جداً تكتب بماء الذهب عند أهل السنة والجماعة.

الأسئلة

الأسئلة

تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء والبدع وسماع كلامهم

تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء والبدع وسماع كلامهم Q في الدرس الماضي كان الكلام على أن القدرية استغلوا كلام الحسن البصري في الوعظ في ترجيح مذهبهم في القدر، وقد تم إيضاحه والدفاع عن الحسن البصري، والسؤال هو: ما هو نص كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى؟ A إخفاء نص الحسن البصري عنك نعمة من نعم الله تعالى عليك، فلماذا تنقب عنه؟! وما الفائدة من أن تعلم ما قال الحسن؟ مع أنه قد مر بنا في الدرس الماضي كلام الحسن، لكني ما أردت أن نقف عنده حتى لا يعلق بقلب أحد ولا بذهن أحد شيء من البدعة، وأنا يحلو لي ألا أذكره أيضاً الآن، ويحلو لي أكثر ألا ترجع إليه. وقد ذكرنا من قبل وفي هذا الكتاب: أن أهل السنة والجماعة كانوا إذا رءوا أو سمعوا واحداً من أهل البدع يتكلم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم؛ حتى ينصرف أهل البدع. فهذا الإمام ابن سيرين فعل ذلك، فلما سئل عن سبب ذلك قال: القلب ضعيف! ومن هو محمد بن سيرين؟ إنه سيد التابعين في البصرة في زمانه، فهو لا يريد أن يسمع كلام أهل البدع؛ خشية أن يعلق في قلبه شيء من كلامهم، وأنت تريد أن تقتحم، فاتق الله عز وجل، فأنت لم تدرك معنى منهج أهل السنة والجماعة منذ أول الكتاب، ففر من أهل البدع ومن كلامهم فرارك من الأسد. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

باب جامع في القدر وما روي في أهله

شرح كتاب الإبانة - باب جامع في القدر وما روي في أهله القدر سر من أسرار الله عز وجل، لا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وقد ضل وزل فيه أقوام؛ لخوضهم فيما لا علم لهم به، وقد تصدى لهم سلف الأمة، فبينوا عوارهم، وكشفوا أستارهم، وبينوا المنهج الحق في هذا الباب.

باب جامع في القدر وما روي في أهله

باب جامع في القدر وما روي في أهله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذا الجزء الحادي عشر من كتاب الإبانة، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: باب جامع في القدر وما روي في أهله، وفيه حديث العنقاء مع سليمان، وما تلته من الأخبار والأفعال. الباب الثاني: ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر، وأول من ابتدعه وأنشأه ودعا إليه. الباب الثالث: ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر، والخوض فيه والجدال، وفيه حديث موسى وعزير وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام. الباب الأول: باب: جامع في القدر وما روي في أهله.

إنكار السلف على من أحدث حدثا في الدين

إنكار السلف على من أحدث حدثاً في الدين قال: [وعن سليمان بن جعفر العدوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيفتح على أمتي في آخر الزمان باب من القدر، فلا يسده شيء، ويكفيهم أن يقرءوا هذه الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]]. [وعن نافع قال: بينما نحن عند ابن عمر قعود إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام؛ لرجل من أهل الشام، فقال ابن عمر: بلغني أنه قد أحدث حدثاً -أي: ابتدع بدعة- فإن كان كذلك فلا تقرأ عليه السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي خسف ومسخ، وهي الزندقة والقدرية)]. والخسف والمسخ سيكون في أهل البدع لا في أهل السنة والجماعة. فقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70] هذا إثبات للمرتبة الأولى من مراتب القدر، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] إثبات للمرتبة الثانية؛ أي: علم الله تعالى ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].

ما من عبد قدر له أن يقبض في أرض إلا هيأ له الله بلوغها

ما من عبد قدر له أن يقبض في أرض إلا هيأ له الله بلوغها قال: [وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان أجل عبد بأرض هيئت له الحاجة إليها)] أي: إذا كان انتهاء أجل العبد في الحجاز وهو مصري؛ هيئت له حاجته ويسر له السفر إلى بلاد الحجاز؛ حتى تقبض روحه هناك. وإذا كان رجل من أقصى الأرض وكتب له أن تقبض روحه في أدنى الأرض؛ فإنه لابد أن يصل إلى أدنى الأرض لتقبض روحه هناك، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فليس بلازم أن المصري يموت في مصر، والحجازي يموت في الحجاز، والأمريكي يموت في أمريكا، والأوربي يموت في أوروبا، وإنما لكل نفس أجل في الزمان وأجل في المكان، فلابد من استيفاء المكان واستيفاء الزمان. ثم قال: [(حتى إذا بلغ أقصى أجله قبض، قال: فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا عبدك كما استودعت)] أي: قد أديت الأمانة كما أمرتني أن تقبض روح العبد هاهنا في هذه البقعة. قال: [قال ابن مسعود: إذا قدر الله عز وجل لنفس أن تموت بأرض؛ هيئت له إليها الحاجة]. قال: [وعن خيثمة قال: كان ملك الموت صديقاً لسليمان بن داود عليهما السلام، فأتاه ذات يوم فقال: يا ملك الموت! تأتي أهل الدار فتأخذ أهلها كلهم وتذر الدويرة -أي: البيت الصغير جداً إلى جنب هذه الدار- إلى جنبهم لا تأخذ منهم! قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما أكون تحت العرش، فتلقى إلي صكاك فيها أسماء، أي: صحائف فيها أسماء- فجاء ذات يوم وعنده صديق له فنظر إليه ملك الموت فتبسم ثم ذهب -أي: جاء ملك الموت إلى سليمان وعنده رجل آخر فتبسم ملك الموت ثم انصرف- فقال الرجل: من هذا يا نبي الله؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته يتبسم حين نظر إلي، فمر الريح فلتلقني بالهند، فأمرها؛ فألقته بالهند، قال: فعاد ملك الموت إلى سليمان فقال: أمرت أن أقبضه بالهند فرأيته عندك!]. قال: [وعن خيثمة قال: قال سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما هي كتب تلقى إلي فيها تسمية من يموت]، وهي تلك الصحائف.

سابق علم الله في خلقه

سابق علم الله في خلقه قال: [وعن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: (قلت: يا رسول الله! متى خلقت نبياً؟ قال: إذ آدم بين الروح والجسد)]، أي: في الوقت الذي كان فيه آدم جسداً، وقبل أن تنفخ فيه الروح، فعلم الله تعالى في الأزل أنه سوف يخلق محمد بن عبد الله، وأنه سيكلفه الرسالة والنبوة، وآدم بين الماء والطين، أو بين الروح والجسد، لكن هذا لا يعني صحة ما يقولون: يا أول خلق الله! ونور عرش الرحمن! إذ إن كل هذه أشعار وأوراد شركية والعياذ بالله قال: [وعن ابن شقيق قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى كنت نبياً؟ فقال الناس: مه -أي: ما هذا السؤال؟ إنه سؤال عجب لا ينبغي أن يوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة: (مه) كلمة تعجب واستغراب- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعوه، كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)]، وهذا يدل على سابق علم الله عز وجل في خلقه. قال: [وعن سليمان بن موسى قال: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، قال أبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا: إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم]، أي: أن الله تعالى ليست له مشيئة نافذة في الخلق، وإنما الخلق يشاءون ما شاءوا وما أرادوا، فإن شاءوا الهداية اهتدوا، وإن شاءوا الشقاوة شقوا، وإن شاءوا الغنى صاروا أغنياء، وإن شاءوا الفقر صاروا فقراء، هكذا قال أبو جهل، وهو يعتمد على قول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فجعل المشيئة إليه، فقال: الله تعالى جعل المشيئة إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا ضللنا، إذاً فالهداية والضلالة بيد أبي جهل!! هكذا قال. قال: [فأنزل الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]]. قال: [وعن الأعمش قال: استعان بي مالك بن الحرث في حاجة] أي: أن مالكاً بن الحرث أتى يستشفع بالإمام الأعمش عند صاحب الحاجة حتى يقضيها له. قال: [قال: فجئت وعلي قباء مخرق -عباءة مخرقة- فقال لي: لو لبست ثوباً غير هذا] أي: لا يصح أن تلبس هذا الثوب المخرق وندخل على العظماء، بل لابد أن تلبس أفضل ما عندك، وأحسن ما عندك، وتتهيأ للقاء هؤلاء الأفاضل. قال: [قال: قلت: امش، فإنما حاجتك بيد الله عز وجل]، فانظروا إلى هذا التوكل، إذ إن حاجته بيد الله عز وجل لا بيد هذا الملك أو الزعيم أو السلطان أو الكبير، إنما هي بيد الله عز وجل، إن شاء أمضاها وإن شاء منع، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، فليس الثوب المخرق هو الذي يمنع، وليس الثوب الجديد هو الذي يجلب.

بيان معنى الجور والظلم في كلام العرب

بيان معنى الجور والظلم في كلام العرب قال: [وعن إياس بن معاوية قال: ما كلمت بعقلي كله من أهل الأهواء إلا القدرية -أي: ما استجمعت عقلي كله إلا مع القدرية- قلت: أخبروني عن الجور في كلام العرب ما هو؟ قالوا: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قلت: فإن الله عز وجل له كل شيء]. فإذا كان الظلم والجور في كلام العرب هو أن يأخذ الرجل ما ليس له، فهل إذا حرم الله تعالى عبداً من عباده الهداية ورزقه الشقاء والضلالة؛ هل يكون الله تعالى قد ظلمه؟ A لا؛ لأن الهداية والضلال ملك لله عز وجل، يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، فلا ظلم على أحد قط. قال: [وعن حبيب بن الشهيد قال: جاءوا برجل إلى إياس بن معاوية فقالوا: هذا يتكلم في القدر، فقال إياس: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله عز وجل قد أمر العباد ونهاهم -أي: أمرهم بالخير ونهاهم عن الشر- وأن الله لا يظلم العباد شيئاً، فقال له إياس: خبرني عن الظلم تعرفه أو لا تعرفه؟ قال: بلى أعرفه، قال: فما الظلم عندك؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال الرجل: لا، قال: الآن عرفت الظلم]. أي: أن الله تعالى إذا أخذ من العباد نعمة أو منحهم نعمة فإنه لم يأخذ ما لهم، والكل يدور بين فضل الله تعالى وبين عدله سبحانه وتعالى.

مناظرة الخليل بن أحمد مع رجل شك في القدر

مناظرة الخليل بن أحمد مع رجل شك في القدر قال: [وجاء رجل إلى الخليل بن أحمد -وهو إمام كبير من أئمة اللغة، وله كتاب اسمه: العين، وهو من أعظم ما كتب في اللغة ومخارج الحروف- فقال للخليل بن أحمد: قد وقع في نفسي شيء من أمر القدر، فقال له الخليل: أتبصر من مخارج الكلام شيئاً -أي: هل تستطيع أن تبصر مخرج الحرف من الفم أو الشفتين أو اللسان أو الحلق؟ - قال: نعم، قال: فأين مخرج الحاء؟ قال: من أصل اللسان -أي: من أقصى اللسان- قال: فأين مخرج الثاء؟ قال: من طرف اللسان -الحاء في آخر اللسان من جهة الحلق، والثاء من طرف اللسان من جهة الفم- قال: فاجعل هذا مكان هذا وهذا مكان هذا، قال: لا أستطيع، قال: فأنت مدبَّر]، أي: أنت سائر بتدبير الله عز وجل لك، والأمر لا علاقة له بمشيئتك وإرادتك، وإنما بمشيئة الله تعالى وإرادته.

كلام لبعض السلف في القدر

كلام لبعض السلف في القدر قال: [وعن الأصمعي قال: من قال: إن الله عز وجل لا يرزق الحرام فهو كافر]؛ لأنه جعل في الرزق إلهاً آخر، وكأن الله تعالى يرزق الحلال، وهناك إله آخر يرزق الحرام، فلما كان الرزاق واحداً إذاً فهو الذي يرزق الحرام ويرزق الحلال. قال: [وعن أرطأة بن المنذر قال: ذكرت لـ أبي عون شيئاً من قول أهل التكذيب بالقدر، فقال: أما تقرءون كتاب الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]]. ثم قال: [وكتب أبو داود الديلي إلى سفيان الثوري: أما بعد: فما تقول في رب قدر علي هداي وعصمتي وإرشادي، فخذلني وأضلني، وحرمني الصواب، وأوجب علي العقاب، وأنزلني دار العذاب؛ أعدل علي هذا الرب أم جار؟ قال: فكتب إليه سفيان: أما بعد: فإن كنت تزعم أن العصمة والتوفيق والإرشاد وجب لك على الله فمنعك ذلك فقد ظلمك -أي: إذا كان هذا واجب لك عند الله، وواجب على الله أن يوفيك هذا، لكنه منعك وحرمك؛ فلا شك أن هذا ظلم، ومحال أن يظلم الله عز وجل أحداً، وإن كنت تزعم أن ذلك من فضل الله؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم]. فهل هذا فضل من الله أم حق للعبد عند الله؟ لاشك أنه فضل من الله تعالى.

مناظرة بين مجوسي وقدري

مناظرة بين مجوسي وقدري قال: [وعن عمر بن الهيثم قال: خرجت في سفينة إلى الأبلة أنا وقاضيها هبيرة العديس، وصحبنا في السفينة مجوسي وقدري؛ قال: فقال القدري للمجوسي: أسلم -أي: انطق بالشهادتين- فقال المجوسي: حتى يريد الله -أي: إذا أراد الله لي الإسلام أسلمت- قال: فقال القدري: الله يريد، والشيطان لا يدعك]، أي: أن الله أراد منك الهداية والإسلام، لكن الشيطان هو الذي أضلك، هكذا أراد القدري أن يبلغ الرسالة للمجوسي. [فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي]، أي: أنه أقوى من الله عز وجل، فانظروا إلى المجوسي هو أصح اعتقاداً من القدرية، فالمجوسي يوقن أن الهداية والضلال بيد الله، والقدري يقول: الهداية من عند الله والضلال من عند الشيطان أو من عند العبد.

مناظرة بين أبي عصام العسقلاني وقدري

مناظرة بين أبي عصام العسقلاني وقدري قال: [وقال أبو صالح: قال رجل من القدرية لـ أبي عصام العسقلاني: يا أبا عصام أرأيت من منعني الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ثم عذبني يكون لي منصفاً؟ قال أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً لك عنده فمنعك إياه؛ فما أنصفك، وإن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء].

بدعة عمرو بن عبيد أمام فطرة أعرابي

بدعة عمرو بن عبيد أمام فطرة أعرابي قال: ووقف رجل على حلقة فيها عمرو بن عبيد القدري المبتدع، فقال: إني قدمت بلدكم هذا، وإن ناقتي سرقت، فادع الله أن يردها علي]، فهذا رجل أعرابي أتى من البادية وهو غريب في البصرة، فقال: يا عمرو بن عبيد! ادع الله لي أن يرد علي ناقتي فقد سرقت في بلدكم. [فقال عمرو بن عبيد: يا هؤلاء -يا طلاب يا تلاميذ- ادعوا الله لهذا الذي لم يرد الله أن تسرق ناقته فسرقت أن ترد عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بدعائك -أي: لا تدع لي- قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد ألا تسرق فسرقت؛ أن يريد أن ترد علي فلا ترد!]. لأن الشيطان حينئذ أقوى من الله عز وجل في الإرادة والمشيئة عياذاً بالله، فهذا الأعرابي الذي أتى من البادية لا علم له بالعلوم الشرعية، وقد علم قضية القدر أكثر من عمرو بن عبيد الذي كان منظراً لمسائل القدر والقدرية، وهو سيد أهل البدع في زمانه.

دعاء مطرف بن الشخير بأن يعصمه الله من شر ما تجري به الأقلام

دعاء مطرف بن الشخير بأن يعصمه الله من شر ما تجري به الأقلام قال: [وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير يدعو بهؤلاء الدعوات الخمس الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان -أي: ألجأ إليك وأتضرع إليك أن تعصمني من شر الشيطان- ومن شر السلطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك من أن أقول حقاً هو لك رضى، أبتغي به حمد سواك، وأعوذ بك من أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحد هو أسعد بما علمتني مني].

ثمرة الفهم الصحيح للقدر

ثمرة الفهم الصحيح للقدر قال: [وقال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت -أي: يا رب أترى ما قد اقترفته- أشيء ابتدعته من نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ -ومعنى: قدرته: أي: علمته مني فكتبته- قال: بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: فكما قدرته علي فاغفر لي]. فانظروا إلى الفهم الصحيح؛ فإنه لم يقل: فكما قدرته علي فلم تعذبني إذاً؟ وإنما قال: فاغفر لي. وأما حديث العنقاء ففي النفس منه شيء، وهو حديث طويل، وأفضل ألا أسرده، وإن كان المعنى في هذا الحديث يدور في فلك هذا الكلام الذي ذكرناه آنفاً، وسنذكره مستقبلاً بإذن الله تعالى.

آثار عن السلف في بيان سابق علم الله في عباده

آثار عن السلف في بيان سابق علم الله في عباده قال: [وقال أبو سليمان الداراني: والله لقد أنزلهم الغرف قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه]، أي: أن الله تعالى علم أهل الجنة وعلم أهل النار، فأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قبل أن يخلقهم، وهذا يدل على سابق علم الله الأزلي في الخلق. قال: [وقال أبو سليمان أيضاً: كيف يخفى على الله عز وجل ما في القلب ولا يكون في القلب إلا ما ألقي فيه، فكيف يخفى عليه؟ وقال: أنا بمنزلة الحجر إن لم أحرك لم أتحرك]، أي: لابد أن يتصرف في الذي خلقني، وهو الله سبحانه وتعالى. قال: [وعن الخشني قال: ما في جهنم واد ولا دار ولا مغار ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبه عليه مكتوب قبل أن يخلق -أي: أن هذه العقوبات كلها مكتوب عليها أنه يغل بها فلان، ويسلسل بها فلان، ويقيد بها فلان- قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان فبكى، ثم قال: ويحك؛ فكيف به لو قد اجتمع عليه هذا كله، فجعل الغل في عنقه، والقيد في رجليه، والسلسلة في عنقه، وأدخل النار، وأدخل الدار، وجعل في المغار؟]. أي: فكيف بك لو اجتمع هذا كله عليك؟! نسأل الله السلامة والعافية. قال: [قال أحمد بن أبي الحواري لـ أبي سليمان الداراني: من أراد الحظوة -أي: الرفعة والمكانة- فليتواضع في الطاعة، وقال لي: ويحك وأي شيء التواضع؟ إنما التواضع في ألا تعجب بعملك، وكيف يعجب عاقل بعمله، وإنما يعد العمل نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكر الله عليها ويتواضع له، إنما يعجب بعمله القدري الذي يزعم أنه يعمل، فأما من زعم أنه يستعمل فكيف يعجب؟!]، فالله تعالى هو الذي قدر لك العمل، وأعانك عليه. قال الشيخ ابن بطة: [فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله! فاعقلوه وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية الذين أزاغ الله قلوبهم -فالله تعالى هو الذي يزيغ القلوب- فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً؛ حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاءوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاءوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاءوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده؛ حتى ما شاءوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاءوه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون. فإن القدري الملعون لا يقول: اللهم اعصمني -القدري لا يدعو بهذا قط، بل ينكر على من دعا بهذا- اللهم وفقني، ولا يقول: اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب، ولا يضل أحداً، ويجحد القرآن، ويعاند الرسول عليه الصلاة والسلام، ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله -بل يقول: الحول والقوة بيديه- ولا يقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه، والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر، وإن شاء استغنى. وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر، وهو يعلم أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]-إذاً: هو الذي خلق الشر- وهو الذي يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]-أي: من خير وشر- ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]-إذاً: هو الذي خلق الإيمان وخلق الكفر- فالقدري يجحد هذا كله، ويزعم أنه يعصي الله قسراً، ويخالفه شاء أم أبى]. فهذا دين القدرية، وهو بلا شك كفر بواح.

إعادة بعض السلف للصلاة خلف القدرية

إعادة بعض السلف للصلاة خلف القدرية قال: [وقال معاذ بن معاذ: صليت أنا وعمر بن الهيثم الرقاشي خلف الربيع بن بزة -وهو سيد من سادات أهل البدع- قال معاذ: فأخبرني عمر بن الهيثم أنه حضرته الصلاة مرة أخرى، فصلى خلف الربيع بن بزة، قال: فقعدت أدعو، فقال: لعلك ممن يقول: اعصمني، قال معاذ: فأعدت تلك الصلاة بعد عشرين سنة. والربيع بن بزة من كبار مشائيم القدرية بالبصرة، وكان من العباد المجتهدين في هذا الخذلان، عصمنا الله وإياكم منه ومن كل بدعة].

مسلك في المناظرة يقطع القدري

مسلك في المناظرة يقطع القدري قال: [وقال بعض العلماء: مسألة يقطع بها القدري -أي: إذا أردت أن تناظر قدرياً فاسلك معه هذا السبيل، فإنك إن سلكت معه هذا السبيل انقطعت حجته وانهزم- يقال له: أخبرنا؛ أراد الله من العباد أن يؤمنوا به ويطيعوه ولا يعصوه فلم يقدر، أم قدر فلم يرد؟ فإن قال: قدر فلم يرد، قيل له: فمن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ وإن قال: أراد فلم يقدر، قيل له: لا يشك جميع الخلق أنك قد كفرت يا عدو الله!]، أي: أنه في كلا الحالين والأمرين ضلال مبين. فهل الهداية ملك للعبد عند الله، وواجبة في حق الله، وأن الله منعه حقه؟ لا شك أنه لا يقول بذلك، فإن قال بذلك فقد كفر، وإن قال: بأن الملك كله لله تعالى؛ فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فهذه حجة أقوى من حجة بعض العلماء التي نحن بصددها.

إيمان أهل الجاهلية ومن بعدهم من الأعراب بالقدر

إيمان أهل الجاهلية ومن بعدهم من الأعراب بالقدر قال: [وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أهل السماوات والأرضين من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، ومن دونهم من الخليقة أعجز في حيلتهم، وأضعف في قوتهم من أن يحدثوا في ملك الله عز وجل وسلطانه طرفة بعين، أو خطرة بقلب، أو نفساً واحداً من روع من لم يشأه الله لهم، ولم يعلمه منهم، ولقد أذعنت الجاهلية الجهلاء بالقدر]. أي: حتى أهل الجاهلية قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يؤمنون بالقدر، وكذلك المجوسية يعلمون قضية القدر، وأما فرقة القدرية التي تنسب إلى الإسلام فليست أفهم من هؤلاء أصحاب الجاهلية والمجوس وعبدة البقر والأصنام، فإن القدرية أضل من هؤلاء جميعاً. قال: [ولذلك قال بعض الرجاز من أهل الجاهلية: يا أيها المضمر هماً لا تهم إنك إن تقدر لك الحمى تحم ولو علوت شاهقاً من العلم كيف يوقيك وقد جف القلم] أي: لابد أنه واقع بك ما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ. قال: [وأتى علي بن أبي طالب رجل فشكا إليه تعذر الأشياء، والتياث الدهر عليه -اختلاطه عليه- فتمثل علي رضي الله عنه بهذه الأبيات: فإن يقسم لك الرحمن رزقاً يعد لرزقه المقضي بابا وإن يحرمك لا تسطع بحول ولا رأي الرجال له اجتلابا فقصر في خطاك فلست تعدو بحليتك القضاء ولا الكتابا]. أي: ما كان مقضياً مكتوباً لك فسيأتيك، فتمهل في طلبه. قال: [وكتب الخليل بن أحمد إلى سليمان بن علي: أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال سحى بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال وقال بعض الشعراء: هي المقادير فلمني أو فذرني إن كنت أخطأت فما أخطا القدر] وهذا شعر جاهلي، أي: إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر، وانظر وقارن بين قول هذا الجاهلي وبين هذا الذي ينسب إلى الإسلام، والذي يقول قولاً قبيحاً، وشركاً وكفراً صريحاً. [وقال لبيد بن ربيعة] وهو صاحب إحدى المعلقات، وقد أسلم، وهو صاحب البيت المشهور: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل فقال ابن عباس عندما سمع قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل: صدق، ولما قال: وكل نعيم لا محالة زائل: قال: كذب، فنعيم الجنة لا يزول. ولبيد كان يقصد أن كل نعيم من نعيم الدنيا سيزول، فهو على قصده، والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون، وهو صادق فيما أراد، لكن ابن عباس كان أدق منه. [قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل]. إذاً: الهداية والضلال بيد الله عز وجل. قال: [وقال النابغة الذبياني -وهو شاعر جاهلي-: وليس امرؤ نائلاً من هواه شيئاً إذا هو لم يكتب]. أي: مهما يهوى المرء شيئاً فإنه لا يأخذه مادام أنه لم يكتب في اللوح المحفوظ. قال: [وهناك نص عن رجل يذكره الأصمعي، لكن هذا النص عندي فيه بعض الشيء، [قال الأصمعي: وقع الطاعون بالبصرة، فخرج أعرابي فاراً منه على حمار له- أي: يهرب من الطاعون- فلما صار في جانب البر سمع هاتفاً -أي: صوتاً من بعيد- يقول: لن يسيق الله على حمار والله لا شك إمام الساري فرجع الأعرابي إلى البصرة وهو يقول: قدر الله واقع حين يقضي وروده قد مضى فيه علمه وانقضى ما يريده وأخو الحرص حرصه ليس مما يزيده فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده وقال الفرزدق: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت جنة فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار ولو منت بها كفي ونفسي لكان علي للقدر الخيار]. وهناك أشعار كثيرة في القدر لأهل الجاهلية وغيرهم.

أثر سهل بن عبد الله التستري في إثبات القدر

أثر سهل بن عبد الله التستري في إثبات القدر وهناك نص مهم جداً لـ سهل بن عبد الله التستري، وهو يعتبر نصاً جامعاً فيما يتعلق بمسألة القدر. قال: [قال سهل بن عبد الله التستري: ليس في حكم الله عز وجل أن يملك علم الضر والنفع إلا الله عز وجل -أي: ليس هناك نزاع في ذلك، فإن الله تعالى هو الذي يملك الضر والنفع- ولكن حكم العدل في الخلق إنكار فعل غيرهم من الضر والنفع، وهو حجة الله علينا، أمرنا بما لا نقدر عليه إلا بمعونته، ونهانا عما لا نقدر على تركه والانصراف عنه إلا بعصمته، وألزمنا بالحركة بالمسألة له المعونة على طاعته، وترك مخالفته في إظهار الفقر والفاقة إليه، والتبري من كل سبب واستطاعة دونه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، قال: فخرجت أفعال العباد في سرهم وظاهرهم على ما سبق من علمه فيهم، من غير إجبار منه لهم في ذلك أو في شيء منه -أي: أن أفعال العباد خيرها وشرها وقعت منهم على ما سبق في علم الله عز وجل في الأزل قبل أن يخلق الخلق، من غير إجبار منه لهم، لا على فعل الطاعة ولا على فعل المعصية- ولا قسر ولا إكراه، ولا تعبد ولا أمر، بل بقضاء سابق ومشيئة وتخلية منه لمن شاء، كيف شاء، لما شاء، فله الحجة على الخلق أجمعين، فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة]. أي: أن الله تعالى شاء من فلان الطاعة، وشاء من فلان المعصية مشيئة كونية قدرية في باب المعصية، لن نرضاها ولا نحبها، لكن نؤمن بها أنها من عند الله عز وجل، وقد طرحنا السؤال من قبل: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به؟ A يجب أن نؤمن بالقدر خيره وشره، لكن لا نرضى بالشر؛ لأن الله تعالى نهانا عنه، وحذرنا منه، ورتب عليه العقوبة في الدنيا والآخرة. قال: [فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة، فيها معنيان: فما كان من خير فالله أراد ذلك منهم، وأمرهم به، ولم يكرهم على فعله، بل وفقهم له -إذاً: الطاعة ليس فيها إكراه، لكنها توفيق من الله- وأعانهم عليه، وتولى ذلك الفعل منهم وأثابهم عليه، وما كان من فعل شر فالله عز وجل نهى عنه، ولم يجبر عليه، ولم يتول ذلك الفعل، بل أراد العبد به والتخلية بينه وبينه، وشاء كون ذلك قبيحاً فاسداً؛ ليكون ما نهى ولا يكون ما أمر، ويظهر العلم السابق فيه: (فمنهم شقي وسعيد)، فهو من الله مشيئة، ومن الشيطان تزيين، ومن العبد فعل]. فالشر من الله مشيئة، شاء الله تعالى لهذا الفعل القبيح الفاسد الشر أن يكون موجوداً في الكون مخلوقاً، فالله تعالى يشاء الخير والشر، ويقدر الخير والشر، ويأذن في حق الخير والشر، والشيطان يزين الشر، والعبد هو الذي يجترح ويقترف ذلك بجوارحه. وأما الخير فالله تعالى أراده إرادة شرعية دينية، وأحبه وتولاه، وأثاب عليه في الدنيا والآخرة، ولم يجبر العبد عليه وإنما وفقه، وفي المقابل لم يجبر العبد على المعصية، لكن الله تخلى عنه، فزين له الشيطان الشر فاقترفته يداه.

آثار عن السلف في القدرية

آثار عن السلف في القدرية قال: [قال الحسن بن علي: قضي القضاء، وجف القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا]. أي: جفت الأقلام وطويت الصحف. قال: [وقال أبو حميد الخرساني -وكان مؤذن مسجد سماك، ومات شهيداً في سبيل الله غرقاً في البحر- بينما أنا في المنارة قبل أذان الصبح وأنا قاعد فخفقت رأسي، إذ مر رجلان في الهواء، فقال قائل لأحدهما: ما تقول في الذين يزعمون أن المشيئة إليهم؟ قال: أولئك الكفار، أولئك الكفار، أولئك هم وقود النار]، وهذه رؤية منامية. قال: [وقال أبو داود بن أبي هند: اشتق قول القدرية من الزندقة، وهم أسرع الناس ردة]. قال: [قال ابن مسعود: المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، ولا يسبق بطيئاً رزقه، ولا يأتيه ما لم يقدر له]. قال حماد بن زيد: سألت أبا عمرو بن العلاء عن القدر، فقال: ثلاث آيات في القرآن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ} [عبس:11 - 12]-أي: فمن شاء الله- {ذَكَرَهُ} [عبس:12]. وعن إسحاق بن إبراهيم بن طلحة عن أبيه عن جده أنه قال: كان عبد الله بن جعفر وعمر بن عبيد الله في موكب لهما فذكروا القدرية، فقال ابن جعفر: هم والله الزنادقة، فقال عمر بن عبيد الله: إنما يتكلمون في القدر -أي: ليسوا زنادقة، فهم مسلمون، لكن يتكلمون في القدر- فقال عبد الله بن جعفر: هم والله الزنادقة].

حكم العمل بالرؤى المنامية والإسرائيليات

حكم العمل بالرؤى المنامية والإسرائيليات والرؤى والمنامات لا يؤخذ منها اعتقاد، وإنما هي مبشرات أو محذرات، أي: محطات يقف عندها العبد، فإذا كانت خيراً يستبشر بها، وإن كانت شراً يتوقف عندها، ويحاول أن يراجع حساباته مع الله عز وجل. فالرؤى والمنامات لا يؤخذ منها شيء، لكن إذا وافقت الرؤية ما كان في واقع هذا الرأي، وكانت منضبطة على الأصول الشرعية فلا شك أنها تكون أقرب إلى الحقيقة؛ خاصة إذا كانت لها الشواهد والأدلة والأصول في الكتاب والسنة أو إجماع أهل العلم، وحينئذ يستأنس بها ويسترشد بها، ولا يقف المرء عندها، ولا يقول: إذاً سينزل بي كذا وكذا، أو سينالني من الخير أو الشر كذا وكذا؛ لأنه عند ذلك قد حول الرؤية إلى عقيدة عنده، وهي في الحقيقة استئناس ومبشرات فقط، أو تحذيرات للعبد، لذا لا يتوقف عندها، ولا تنبني عليها أحكام ولا أعمال. وكذلك تلك الروايات التي تنقل من كتب أهل الكتاب من الإسرائيليات، والمعلوم أن هذه الكتب لا تمثل أحكاماً انفرادية عندنا، وإنما ما وافق منها ما كان عندنا قبلناه من باب الاستئناس، على أن يكون الأصل هو كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمة الإسلام، وما كان من كتب أهل الكتاب يوافق هذه الأصول أخذنا به استئناساً لا تأصيلاً، وما خالفها نرده ولا نقبله، بل يغلب على الظن أنه من الكلام المحرف في كتب بني إسرائيل. وما كان مسكوتاً عنه في كتب بني إسرائيل فإننا لا نقبله ولا نرده، أي: لا علاقة لنا به، لكننا لا نكذبه كما أننا لا نصدقه، وهذا باختصار حكم الإسرائيليات، وقد ذكرنا منها كثيراً، فهل رأيتم فيما ذكرنا شيئاً يخالف عقيدة أهل الإسلام في القدر؟ ما وجدنا شيئاً يخالف عقيدة أهل الإسلام في القدر.

حديث العنقاء والحكم عليه

حديث العنقاء والحكم عليه وإذا كان الأمر كذلك فحديث العنقاء يدور في هذا الفلك وفي هذا المضمار، والعبرة منه كالعبرة من غيره من النصوص، سواء في كتب السلف أو في كتب بني إسرائيل، وقد تحرف أو تصحف في كتاب ابن بطة حيث قال: حديث العقاد، وهو تصحيف، والصحيح: حديث العنقاء. وعلى أية حال العنقاء أفضل وأحسن من العقاد، فإن العنقاء أفضل من عباس العقاد؛ وما لقب العقاد بهذا اللقب إلا لأنه كان يتعمد عقد مجلسه في ساعة صلاة الجمعة، فصالونه الأدبي الذي كان يعقده فيما يسمى الآن: بمحطة الإسعاف؛ كان يتعمد عقد هذا الصالون الأدبي في ساعة صلاة الجمعة، فكان تاركاً للصلاة ولصلاة الجمعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ترك صلاة الجمعة ثلاث مرات متواليات طبع الله على قلبه)، فكيف بمن تركها طيلة عمره؟! وحديث العنقاء يرويه داود بن أبي هند قال: [كانت العنقاء عند سليمان بن داود وكان سليمان قد علم كلام الطير، وسخرت له الشياطين، وأعطي ما لم يعط أحد، فذكر عنده القضاء والقدر، وكانت العنقاء حاضرة، فقالت العنقاء: وأي شيء هذا القضاء والقدر، ما يغني شيئاً، قيل لسليمان بن داود: إنه يولد بالمشرق جارية ويولد في المغرب غلام في يوم واحد وساعة واحدة، وأنهما يجتمعان على الفجور -الزنا- فقالت العنقاء: إن هذا لا يكون، وكيف يكون وهذا بالمغرب وهذه بالمشرق؟ فقال لها سليمان: إن ذلك يكون بالقضاء والقدر، قالت: لا أقبل ذلك]، وهذا الكلام لا يستقيم مع العقل. وهناك شخص مجرم سوري ساكن في أمريكا، وأمريكا لا تنضح علينا إلا بالبلاء، واسمه: أنور إسحاق، وهو لا أنور ولا حتى هو إسحاق، وهو ينادي بالتجديد منذ أكثر من عشر سنوات، وهو إنسان جاهل أحمق غبي لا يعرف شيئاً، بل بمجرد أن تراه تلمح فيه الغباء؛ لأن هناك أناساً هكذا؛ أعمالهم تظهر على وجوههم، وهذه سنة، فعندما ترى شخصاً نصرانياً تشعر بأنك تنظر إلى رأس خنزير، وكذلك عندما ترى شخصاً يكتب المحاضرات وراءك تعرف إن كان هذا طالب علم أو طالب شيء آخر، فتميز الاثنين من بعض، وغير ذلك. فهذا شكله -أستغفر الله العظيم- عليه الغباء، والعجب أنه يدخل في نقاش، وهو من الناس الهمج الرعاع الذين لا علاقة له بالعلم والأدب، وقد التقيت به منذ أربع سنوات هناك ينادي بالتجديد. ولعلكم تذكرون أني قلت لكم من قبل: وما مظهر التجديد عندك؟ قال: أن يظهر في الأمة من يكذب القرآن ويكذب السنة، ثم نحكم بالرد عليه! فتصور أن هذا مظهر من مظاهر التجديد؛ إذ إنه يظهر في الأمة أناس يطعنون في القرآن ويطعنون في السنة، وهذا يعتبر عندهم مجدد، أرأيت إلى هذه الخيبة؟! وقد فوجئت بأنه كتب كتاباً وأنزله إلى الأسواق، وقد أتتني منه نسخة أمس البارحة، واسمه: جاهلية العنف، والصورة التي على الغلاف هي صورة البرج! واعلم أنه أغبى وأحقر وأقل مما تظن، ويقيناً أن هذا تلقفته الأيدي العابثة التي تعبث بالشرع، وفرصة أن وجدوا لهم ضالة في بقعة من بقاع الأرض، فيصير إنساناً معترضاً على كل شيء، فلا يوجد عنده شيء اسمه: علماء تفسير، ولا شراح أحاديث، ولا رواة للسنة، ولا مصنفين للسنة، وما بقي إلا أن يقول: ولا قرآن، ولا رواة للقرآن! ويرفض أي تفسير للقرآن أو السنة، فهذه السنة قد هدمها من أساسها، لكن القرآن كلام ربنا، فلا يتجرأ على ذلك، لكن هذا الرجل ذكر نموذجاً فقال: لا نريد هذا التفسير، وأخذ مسألة التقوى وأحضر تفسير فلان للتقوى، وفلان للتقوى، وترك تفسير هؤلاء كلهم، وقال: كل هذا كلام فارغ وتخريف ليس له أصل، وقال: أنا سافرت العالم كله، ودخلت مكتبات العالم في أوروبا وأمريكا والبلاد الإسلامية، وقابلت العلماء الكبار مثل الشيخ شحرور! والشيخ شحرور هذا هو رافع لواء الطعن في السنة في سوريا، وهو ليس شيخاً ولا شيئاً من هذا القبيل، وإنما هو رجل مهندس لا علاقة له بالشرع ولا بالدين، وشحرور له كتابات إن لم يكفر بها فعلى الأقل يسقط بها في الطامات، لكن على أية حال تصور أن هذا يقول: أنا قابلت الشيخ شحرور! وسألته عن القدر، فما أقنعني بشيء يشفي غليلي، فعلمت أن الهداية والظلام بيد العبد لا بيد الله! ويحضر لك بآيات من القرآن الكريم، ونحن متفقون على أنه ليس له علاقة بالسنة، فإما أن يأتي بأولها ويترك آخرها، أو يأتي بآخرها ويترك أولها، على عادة أهل البدع كما ذكرنا وكررنا ذلك. وأنا متأسف أنني ذكرت هذا الكتاب، لكن أريد أن أقول لك: إن أهل البدع يعملون بجد في ضلالهم وعماهم، والله تعالى قد أعمى بصيرتهم وأراد لهم الشقاء والضلال، وأسأل الله تعالى أن يهديهم، فإن كان سبق في علمه أنهم لن يهتدوا فنسأل الله أن يأخذهم ويريحنا منهم. وهذا الرجل ما جلس إلى رجل محترم من أهل العلم يشار إليه باتباع السنة، وإنما كل من لقيهم إما من أهل البدع، وإما جهال مغمورون لا علاقة لهم كذلك بمناظرات أهل البدع، والواضح أنه لم يق

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاحتفال بأعياد النصارى

حكم الاحتفال بأعياد النصارى Q هل من التشبه أن يحتفل بعض المسلمين بأعياد النصارى، كعيد شم النسيم وغيرها من الأعياد؟ A ليس للمسلمين إلا عيدان اثنان: عيد الفطر وعيد الأضحى، أما شم النسيم فهو عيد النصارى وليس من أعياد المسلمين، وأنتم تعلمون أن الأعياد عبادة من العبادات، وعقيدة من العقائد، وليس من الأحكام الشرعية فقط، فمن شارك النصارى في هذا العيد فإنما يشاركهم في جزء من اعتقادهم. وقد صنف الإمام الذهبي كتاباً رائعاً جداً أسماه: نهي الخسيس عن التشبه بأهل الخميس، وهذا العيد يسمى عندهم بـ: عيد الخميس، والذهبي سمى كتابه هذا بـ: نهي الخسيس، يعني: أن من شاركهم فهو خسيس في عقيدته. وهذا باب عظيم جداً من أبواب الولاء والبراء، فاتقوا الله عز وجل فلا تشاركوهم في شيء من أعيادهم قط لا بشم النسيم ولا بغيره، وإذا كان الأصل في البيض والكيك وغير ذلك الحل إلا أنه في هذا اليوم لا ينبغي للمسلم أن يتعمد شراءه؛ حتى لا يكون في هذا وجه من وجوه التشبه بهؤلاء. كما أنه من البدع كذلك أن يخصص هذا اليوم بصيام أو قيام مخالفة لأهل الكتاب كما يزعم الزاعم، فيقول: إذا كان المشركون يحتفلون بشيء شركي من أعيادهم أو غير ذلك؛ فإنا نخالفهم بقيام الليل وصيام النهار! فهذا أيضاً بدعة، وإنما اجعل الأمور طبيعية جداً، فإذا كنت تصوم الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من الشهر فطبيعي: (إلا أن يكون صوم أحدكم فليصم)، لكن شخص طول عمره تارك للصيام وتارك للقيام، ثم يأتي في هذا اليوم بالذات ويقول: مخالفة للنصارى أنا أصوم! ومعاندة للنصارى أنا أقوم الليل! أو مخافة أن ينزل عذاب من السماء فيصيب الكل، فإذا نزل يدركني وأنا قائم أو أنا صائم! كل هذا من التخريف والبدع وإن قال بها من قال. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر

شرح كتاب الإبانة - ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر لقد بليت الأمة الإسلامية بأئمة مضلين أحدثوا في الأمة أقوالاً غريبة عنها، أدت إلى تفرقها وتشتتها، ومن أولئك أئمة القدرية، فقد افتتحوا باب ضلالة، وتكلموا بكل جهالة، فضلوا وأضلوا.

ذكر الأئمة المضلين الذي أحدثوا الكلام في القدر

ذكر الأئمة المضلين الذي أحدثوا الكلام في القدر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني: ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر، وأول من ابتدعه وأنشأه، ودعا إليه. [عن شيخ أهل البصرة عبد الله بن عون بن أرطبان المزني الحافظ قال: أمران أدركتهما وليس بهذا المصر منهما شيء -أي: وليس في البصرة من هاتين البدعتين شيء-: الكلام في القدر، إن أول من تكلم في القدر رجل من الأساورة يقال له: سيسويه]، وفي رواية: سنسويه، وفي رواية: سوسن، وهو سوسن النصراني الذي أسلم ثم ارتد وتنصر مرة أخرى، ثم أخذه عنه معبد الجهني، ثم أخذه عن معبد غيلان الدمشقي. فأول من تكلم في القدر رجل كان نصرانياً ثم أسلم ثم تنصر، فتكلم في القدر، وكان أستاذاً في الضلالة، ثم أخذه عنه معبد الجهني وهو من أهل البصرة، ثم أتى إليه غيلان وتعلم منه ذلك. قال ابن عون في سنسويه: [وكان دحيقاً -يعني: إنساناً طريداً شريداً غير محترم، ولم يكن أحد يقبل عليه، وإنما كان إذا أتى إلى أهل مدينة طردوه عن المجلس، أو قاموا وتركوا له المجلس، فقد كان دحيقاً، أي: طريداً- وما سمعته قال لأحد دحيقاً غيره. قال: فإذا ليس له عليه تبع إلا الملاحون -وهم أصحاب السفن]. يعني: أول من تكلم في القدر سوسن النصراني، وأول من اتخذ لدعوته أناساً لا حظ لهم من العلم، وبهذا يعلم أن أهل البدع دائماً إنما يتخذون لرواج بدعهم الجهلاء، وأما أهل العلم فيصعب جداً السيطرة عليهم، ولذلك اختار أهل الجهل بدينهم وبشريعتهم، فكان له فيهم تأثير عظيم. [ثم تكلم فيه بعده رجل كانت له مجالسة -يعني: رجل كان يجالسه- يقال له: معبد الجهني، فإذا له عليه تبع. ثم قال: وهؤلاء الذين يدعون المعتزلة].

ترتيب الخلفاء في الأفضلية

ترتيب الخلفاء في الأفضلية [عن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان رضي الله عنهما]. وقول ابن عون: (أدركت الناس) أي: أهل العلم لا يتكلمون إلا في التفضيل بين علي وعثمان، وأيهما أفضل؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها السلف، يعني: حتى أهل السنة اختلفوا في هذه القضية في أول الأمر، ثم أجمعت الأمة على أفضلية عثمان على علي، وقد انعقد الإجماع إلى يومنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة؛ لأن الشيعة ابتداء يكفرون عثمان بن عفان، كما يكفرون أبا بكر وعمر. وقد انعقد الإجماع بغير خلاف في أحقية عثمان في الخلافة، وإنما الذي وقع بين أهل السنة الخلاف فيه هو في الأفضلية، وإمامة المفضول تجوز مع وجود الفاضل، حتى لا يقال: إذا كان علي أفضل من عثمان فلم تقدم عثمان في الخلافة؟ لأنا نقول: الخلافة إمامة، وإمامة المفضول تجوز مع وجود الفاضل، وإن كنا نعتقد اعتقاداً جازماً -كما انعقد على ذلك الإجماع بعد ذلك- أن الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الأفضلية على نفس ترتيبهم في الخلافة.

تلطف بعض الأئمة في الكلام

تلطف بعض الأئمة في الكلام [قال ابن عون: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان رضي الله عنهما؛ حتى نشأ ها هنا هني]. والهن: اسم لما يستقبح ذكره، وقديماً كانوا يقولون لنا في الإعدادية: الأسماء الخمسة، ويقولون: باب الأسماء الخمسة، وفي الحقيقة هي الأسماء الستة، ولكنهم كانوا يحجبون عنا اسماً من الأسماء الستة وهو: الهن؛ لأن (الهن) اسم لما يستقبح ذكره، وإن شئت فقل: هو اسم من أسماء الدبر، ولما لم يكن ذلك مناسباً لعقول الصغار حذفوه من الأسماء الستة، وقالوا: هي أسماء خمسة، وهي في الحقيقة أسماء ستة. [قال ابن عون: حتى نشأ ها هنا هني حقير يقال له: سيسويه البقال، فكان أول من تكلم في القدر، قال حماد: فما ظنكم برجل يقول له ابن عون: هني حقير]. فـ ابن عون في الحقيقة كان إماماً في الفضل والعلم والورع والتقى، وكان يشار إليه بالبنان، وكان مشهوراً في زمانه وبعد زمانه بالإمامة والعلم، وكان عفيف اللسان جداً لا يكاد يتكلم في أحد مطلقاً، فما بالك أنه يتجرأ ويقول عن رجل: (هني حقير؟!) فهذا بمثابة رميه بالكفر، وهذا قد جرى من كثير من أهل العلم كالإمام أحمد بن حنبل، فقد كلامه في الرجل كالمسمار في الصاج لا يمكن أن يثنى عنه. والإمام البخاري عليه رحمة الله يقول: إذا قلت في رجل ضعيف؛ فلا تحل الرواية عنه، وهذه الكلمة لم يستخدمها عامة النقاد، وإنما الضعيف عند النقاد ضعيف، ولكن إذا قال البخاري عن راو: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن الضعيف عند البخاري يساوي عند غير البخاري كذاب، ولكن الإمام البخاري كان عفيف اللسان جداً، وعلى أي حال هذه مصطلحات، ولكل ناقد مصطلحاته الخاصة.

أول من تكلم في القدر

أول من تكلم في القدر قال: [عن الأوزاعي قال: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن -وربما يكون سيسويه أو سنسويه، وهو اسم فارسي معرب إلى سوسن - وقد كان نصرانياً فأسلم -أي: أثناء فتح العراق- ثم تنصر -أي: ارتد عن دين الإسلام- فأخذ عنه معبد الجهني -وبئس المعبد هو معبد الجهني -، وأخذ غيلان عن معبد]، أي: غيلان الدمشقي. [وعن يونس بن عبيد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سيسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوانة]. وقوله: (وآخر معلون) هذا اللعن إنما جاء على حكم سابق عليه وهو التكفير، وإذا قرأت في كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي في هذا الباب: باب أول من أنشأ بدعة القدر؛ لوجدت لعناً وسباً لـ سنسويه ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي وسائر من تكلم في مسألة القدر وغيرها من مسائل الابتداع العظيمة، وقد أنكر علي بعض أهل العلم -ومنهم شيخنا الشيخ مصطفى محمد شيخ حلوان- أني لعنت معبداً في محاضرة من المحاضرات، وقال: لا يجوز لعنه، فأرسلت إليه بكتاب الإبانة لـ ابن بطة وكتاب أصول الاعتقاد للالكائي في نفس الباب، وقد سبه أكثر من عشرة من أهل العلم ولعنوه لعناً صريحاً بقولهم: لعنة الله على معبد، وقولهم: الملعون، وقولهم: معبد لعنه الله، وغير ذلك من ألفاظ اللعن المختلفة التي انصبت من سلف الأمة على هذا الرجل، ولا يلزم من اللعن الكفر، كما أنه لا يلزم من القتل الكفر، وربما يقتل الرجل لبدعة عظيمة ابتدعها طار شررها، وعظم خطرها في الأمة، فيقتل من باب المحافظة على الأمة، ولخطورة البدعة، لا لكونه كافراً. وخالد بن عبد الله القسري -رحمه الله- لما خطب خطبة عيد الأضحى نزل من على المنبر وقال: ضحوا أيها الناس! تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فلما سئل خالد القسري عن الجعد بن درهم أكافر هو؟ قال: لا، مع أنه ذبحه ذبحاً كما تذبح الشاة في أصل المنبر والناس وفرة في هذا الوقف في صلاة العيد، وما أنكر عليه أحد؛ لبدعته العظيمة جداً والقصيرة جداً التي انتشرت في الناس، وجل السلف كفروا هؤلاء. ثم إن سوسن قد ارتد واختار طريق الكفر، وأما معبد الجهني فعامة السلف على تكفيره، وعلى تكفير أئمة الضلال في كل بدعة من البدع، وفي كل فرقة من تلك الفرق. قال ابن عون: أدركت البصرة وما بها أحد يقول هذا القول -أي: في القدر- إلا رجلان ما لهما ثالث معبد الجهني، وسيسويه، وكان محقوراً ذليلاً]. أي: كان طريداً لا يعبأ به أحد، [وهذه القدرية والمعتزلة كذبوا على الحسن -وهو إمام السنة الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري أبي سعيد - ونحلوه ما لم يكن من قوله]، يعني: نسبوا إليه كلاماً ليس من قوله. قال: [قد قاعدنا الحسن وسمعنا مقالته، ولو علمنا أن أمرهم يصير إلى هذا لو أثبتناهم عند الحسن رحمه الله، وليكون لأمرهم هذا غب -أي: خطر-، وإني لأظن عامة من أهل البصرة إنما يصرف عنهم النصر لما فيهم من القدرية]. يعني: أن النصر ليس حليف أهل البصرة لما فيهم من القول بالقدر، وهذا يدل على أن صاحب البدعة لا ينصر حتى يدع بدعته، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).

سبب انتشار القدرية

سبب انتشار القدرية قال: [عن داود بن أبي هند قال: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى]، أي: حتى انتشر من أسلم من النصارى، فقالوا بقولهم الذي كانوا يعتقدون في أيام نصرانيتهم. وهكذا دخول كل غريب على الإسلام وبعيد عنه لا بد أن يحدث فيه أثراً سلبياً، وقد تكلمت من قبل عن خطورة ترجمة كتب فلاسفة اليونان في عصر المأمون في الدولة العباسية، فإنه لما ترجمت هذه الكتب دخل على الأمة من الفلسفة والمنطق والبدع والخرافات ما كانوا عنه في غنىً، وكان المأمون حسن القصد في ذلك، ولكن حسن القصد وحده دائماً لا يكفي.

الحث على العقيدة الصحيحة وهي عقيدة الفطرة

الحث على العقيدة الصحيحة وهي عقيدة الفطرة قال: [عن أنس بن عياض قال: أرسل إلي عبد الله بن هرمز فقال: أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل من جهينة يقال له: معبد، فعليكم بدين العواتق اللاتي لا يعرفن إلا الله عز وجل]. وكم من شخص من أئمة الضلال بعدما صال وجال وقرأ الكتب وصنف المصنفات؛ وهو على فراش الموت أيقن أن الحق في خلاف ما قال، فكانت وصيته لأبنائه ولتلاميذه وللأمة من بعده: أن عليكم بدين آبائكم وأمهاتكم. وحقيقة الواحد منا يشعر أحياناً بأن أمه وجدته اللتين لا حظ لهما من العلم، ولم تجلسا إلى عالم، ولا سمعتا الخطب الرنانة، ولا درستا كتب السنة ولا غيرها؛ أصح اعتقاداً منه، وأعظم توكلاً على الله تعالى منه، فهذا هو أصل الدين المفطور والمركوز في فطر آبائنا وأجدادنا وأمهاتنا. وقد كان الواحد منهم على فراش الموت يقول: دعوكم من قولي، فإني أبرأ إلى الله من كل قول قلته يخالف قول السلف، وعليكم بدين العجائز، أي: عليكم بدين كبار السن من الآباء والأمهات، وهذا اعتراف منهم بفرط ضلالهم، وأن من لم تتلوث فطرته من عامة الناس أحسن حالاً منهم.

الضرر الذي أحدثه غيلان الدمشقي في الأمة

الضرر الذي أحدثه غيلان الدمشقي في الأمة قال: [قال مكحول: حسيب غيلان الله -يعني: الله تعالى حسيبه، وهو الذي يحاسبه-؛ لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار] أي: في الفتن والاختلافات أعظم من اضطراب أمواج البحر؛ وذلك بقوله في القدر. [وعن ثابت بن ثوبان قال: سمعت مكحولاً يقول: ويحك يا غيلان! ركبت في هذه الأمة مضمار الحرورية -أي: طريق الحرورية، وهي فرقة ضالة من فرق الخوارج- غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف -أي: والحرورية خرجوا على علي بن أبي طالب وعلى من أتى بعده بالسيف، فأنت أعظم خطراً على الأمة من الحرورية، غير أن الحرورية إنما خرجوا بالسيف وأنت لم تخرج بالسيف -والله لأنا على هذا الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر]، أي: الذين يأخذون الخمر في الزق، والزق: وعاء من جلد يشرب فيه الخمر.

خطورة الغزو الفكري

خطورة الغزو الفكري صنف أكثر من شخص في خطورة الفكر والغزو الفكري، وأن خطره أعظم من خطورة السيف والدبابة والطائرة، ولقد تنبه العدو مؤخراً إلى أن هذه الشعوب المؤمنة المسلمة وقت النزال والحروب العسكرية يجتمعون وتجتمع كلمتهم، وأن أهل الكفر والغرب لا قبل لهم بأبناء الإسلام حين النزال العسكري، فوضعوا أوزار الحرب وتركوا هذا اللون منها، وبحثوا بعد ذلك عن ألوان أخرى أشد فتكاً بأمة الإسلام من البندقية والطائرة والدبابة، وهذا هو الغزو الفكري، مع أن الغزو العسكري سريع التأثير جداً، وهو يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً في لحظة واحدة، ولا يحتاج إلى وقت ودراسة، بخلاف الغزو الفكري فإنه يحتاج إلى وقت طويل جداً، والعدو أصبر على مراده من أبناء المسلمين. فالانقلاب العسكري يقلب الدولة رأساً على عقب في لحظة واحدة، فبعد أن كانت علمانية تصبح مسلمة، وبعد أن كانت مسلمة تصبح علمانية في لحظة واحدة، فالتكتيك العسكري لا يحتاج إلى وقت، وإنما التكتيك الفكري هو الذي يحتاج إلى وقت. ولو ناقشت رجلاً الآن في أي مسألة شرعية يقول لك: أنا منذ (60) سنة أصلي وأصوم فكيف تأتي وتصحح لي قولاً قد أخذته عن آبائي وأجدادي؟ وهو في الحقيقة لم يأخذه عن آبائه وأجداده، ولكنه شرب السم في العسل، فهو يتصور أنه هنيء وهو رديء، ويتصور أنه حق وهو باطل، ويتصور أنه خير وهو شر، ولكنه تربى على أنه هنيء وخير وحق، فيصعب جداً زحزحته عما يعتقده إلا مع الصبر عليه وطول الوقت، أو فناء هذه الأجيال ونشوء أجيال أخرى تتربى على غير ما تربى عليه الآباء والأمهات. فالغزو الفكري طويل الأمد، وعظيم التأثير؛ بخلاف الغزو الاقتصادي أو الغزو العسكري أو غير ذلك من الغزو السريع المؤقت.

إهانة السلف لأهل البدع

إهانة السلف لأهل البدع قال: [عن عمرو بن دينار قال: بينما طاوس -وهو طاوس بن كيسان اليماني - يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني، فقال له طاوس: أنت معبد؟ قال: نعم، قال: فالتفت طاوس إلى تلاميذه وقال: هذا معبد فأهينوه]. وهذه الإهانة أين كانت حول الكعبة، ولا يقال: كيف يهان رجل حول الكعبة مع حرمة الكعبة والمسجد؟ لأن المسجد مع حرمته له رسائل في الإسلام عظيمة وكبيرة جداً ومنها: إقامة الحدود، ومحاربة البدع، والمناظرات، وإرجاع المبطل عن باطله، وغير ذلك. وعمرو بن عبيد المعتزلي والقدري كان من سادات أهل الضلال والبدع، [قال حماد بن زيد: كنت مع أيوب ويونس وابن عون -وهؤلاء الثلاثة من أئمة السنة- فمر بهم عمرو بن عبيد فسلم عليهم ووقف، فلم يردوا عليه السلام]. والعامة اليوم تقول: السلام حق الله، وما لنا والمبتدع سواء قدرياً أو غير ذلك.

شؤم الاعتراض والكلام بغير علم

شؤم الاعتراض والكلام بغير علم وفي يوم الإثنين الماضي لما كنت أنبه أن المشاركة في عيد شم النسيم هي مشاركة لأهل الخميس، وقد صنف الإمام الذهبي عليه رحمة الله كتيباً صغيراً قدر الكف لكنه مركز جداً في قضية الولاء والبراء، وسماه: نهي الخسيس عن التشبه بأهل الخميس، نهي الخسيس أي: من المسلمين الذي يتشبه بالنصارى، والأعياد بإجماع المسلمين ليست من الأحكام الشرعية وإنما هي من باب العقائد، وهذا عيد من أعياد النصارى، ولما قلت: لا يجوز لمسلم أن يشارك النصارى في هذا اليوم، وهذا عيد من أعيادهم؛ قام إلي رجلان أحدهما استنكر هذا القول جداً وقال: الأعياد ليست من العبادات، وهو قد تربى في أحضان أمريكا سبعة وعشرين عاماً، حتى تعلموا أن الذي يذهب إلى هناك وإلى دول أوروبا مهما حرص على التزامه لا بد أن يحصل له شيء من التفلت، والإنسان جزء من المجتمع، والإخوة في مصر جزء من المجتمع المصري، وبلايا المجتمع المصري يتلطخ بها الإخوة. ولذلك من الخطأ العظيم جداً أن تقول لرجل من الناس أو أخ من الإخوة: كيف تفعل هذا؟ وأنت تفعله! وكونك علمت أن هذا الفعل لا ينبغي منه إذاً: فلا ينبغي منك أنت كذلك، ولا ينبغي للمدخن أن يقبل أن يدخن هو ولا يقبلها من أخ ملتح، فالتدخين حرام على الحليق وعلى الملتحي، فلم يقبله الحليق على نفسه ويستنكره على الأخ الملتحي ويقول: هذا شيخ؟! وإذا دخل شيخ السينما فكل الناس ينظرون إليه ويتلفتون شمالاً ويميناً ويقولون: كيف يدخل شيخ سينما؟! يعني: أنهم عارفون أن دخول السينما حرام؟ ويقولون: نعم دخول السينما حرام، فإذا سألتهم فلماذا دخلتم؟ يقولون: هذا شيخ، وقد يأتيه داخل السينما أكثر من مائة يلومونه مع أنهم أولى باللوم، وكل واحد منهم يقول: أنا لست شيخاً، وكأنه يقول: أنا لست مسلماً، ولست مطالباً بالحلال والحرام، بل كل شيء لدي جائز ومباح، فيكون هو الذي حكم على نفسه ولم يحكم عليه أحد. وقام الثاني إلي وقال: أنا أختلف معك؛ لأن هذا عيد الفراعنة، قلت: ولو سلمنا أنه عيد فرعوني فهل يجوز الاحتفال به؟ وقصده أن الفراعنة هؤلاء قد آمنوا وتركوا الكفر، وأن الفرعنة أيضاً ليست كفراً، يعني: أن فرعون هذا كان مؤمناً، وهناك من يقول: إن فرعون كان مؤمناً، وقد صُنف في ذلك كتاب اسمه: إثبات إيمان فرعون، واستدل بقوله تعالى: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].

الفرق بين الوعد والوعيد في كلام العرب

الفرق بين الوعد والوعيد في كلام العرب [قال الأصمعي: كنا عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو! يخلف الله وعده؟ -يعني: هل يمكن أن يخلف الله وعده؟ - قال: لا، قال: أرأيت من وعده الله على عمل عقاباً؟] ولم يقل: أريت من توعده، وهناك فرق بين الوعد والوعيد، فالوعد لا يخلفه الله، وأما الوعيد فتحت مشيئة الله، فإذا توعد الله عبداً على فعل بعقاب فإما أن ينفذ فيه عقابه أو يعفو عنه، ونحن نقول: إن مرتكب الكبيرة يوم القيامة إذا لم يتب ولم يقم عليه الحد؛ أنه في مشيئة الله: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. فهناك فرق بين الوعد والوعيد، والله لا يخلف الميعاد، أي: لا يخلف الوعد؛ لأن وعده لا يتخلف، وإنما إذا أوعد أو توعد الله عبداً على فعل شر فهو في مشيئته إن شاء أوقعه به، وإن شاء عفا وأصلح سبحانه وتعالى. فهنا عمرو بن عبيد يقول لـ أبي عمر بن العلاء: هل يمكن أن يخلف الله وعده؟ قال: مستحيل؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]. قال له: [أرأيت لو أن الله وعد على عمل عقاباً، وهذا الكلام لا يجوز والأصل أن يقول: أرأيت لو أن الله توعد، فأتي عمرو بن عبيد من الخلط واللبس لديه بين الوعد والوعيد، ولذلك قال له: أرأيت من وعده الله على عمل عقاباً أليس هو منجزه له؟ فقال له أبو عمر: يا أبا عثمان من العجمة أتيت -أي: هذا ليس من كلام العرب، وهذا في اللغة لا يستقيم- لا يعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً ثم لا تفي به، بل تعده فضلاً وكرماً، إنما العار أن تعد خيراً ثم لا تفي به]. يريد أن يقول له: إنه جاء في كلام العرب أن الواحد إذا وعد خيراً وفى به، ولو تخلف عن الوفاء بالخير والفضل والكرم لكان هذا عاراً في حق الآدمي، فما بالك بالله عز وجل؟! ولله المثل الأعلى، ومن وعد من الخلق شراً فعفا عنه عد ذلك من الكرم، ولا يقال: إنه أخلف الوعد، وهذا كما تقول لابنك: لو لم تذاكر لأضربنك، فلو لم يذاكر ولم تضربه فلن يقول لك: يا من وعدتني وأخلفت! يا من لست قادراً على تنفيذ قولك! بل يعد هذا من كرم أبيه وسماحته، ثم هو بعد ذلك يحاول أن يجتهد في أن يفي بما يرضي والده. [فقال عمرو بن عبيد لـ أبي عمر بن العلاء: أهذا في كلام العرب؟ -يعني: الفرق بين الوعد والوعيد، وأن الوعد لا يتخلف والوعيد يتخلف موجود في لغة العرب؟ - قال: نعم، قال: أين هو؟ قال قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي] فقوله: (وإني وإن أوعدته) أي: توعدته، (أو وعدته) أي: في الخير والفضل، (لمخلف إيعادي) يعني: سوف أتوعده وأخلف هذا الوعيد، (ومنجز موعدي) أي: منفذ وعدي؛ فهذا الفرق بين الوعد والوعيد موجود في كلام العرب، فالوعيد يتخلف أحياناً حسب المشيئة، وأما الوعد فلا يتخلف، وهذا فضل من الله وكرم.

لا أسوة في الشر

لا أسوة في الشر كان الحسن البصري مبتلى بأهل البدع، فقد كان بصرياً، وأرض العراق أرض الفتن والبلايا خاصة البصرة والكوفة، والفتن فيها تموج موج البحر في كل زمان وفي كل عصر إلى اليوم. أحدهم كان مشهوراً، واسمه على الكتب له وزنه، وقد بلغنا أنه لا يصلي، فجاء إلى الأردن سنة (1985م)، والتقيت معه في مكة عند الشيخ سامي الأرناؤوطي حفظه الله، فقلت: يا فلان! بلغني عنك شيء قد غم كل من سمعه، قال: ادع لي ربنا يوفقني، قلت: وهل هذا الكلام صحيح؟ أنا أقول لك هذا الكلام لكي تكذب الخبر، فضحك، فقلت له: تضحك وأنت عالم وتارك للصلاة كيف ذلك؟! قال: أنا أحببت أن أتأكد أنها الصلاة، فقد يكون الأمر شيئاً آخر غير الصلاة. فقال: يا شيخ! ادع لي، وكل إنسان مبتلى، وقد كان من السلف فلان وفلان وفلان لا يصلون، قلت له: لا أسوة في الشر، وقد ورد في ميزان الاعتدال في أسماء الرجال للإمام الذهبي ترجمة أحد الأعلام الكبار، وله مصنف في أصول الفقه في أربع مجلدات، فقال: ويغلب على الظن أنه كان تاركاً للصلاة، حتى كان ذلك محل نظر الطلاب، فاختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه يصلي وقال البعض الآخر: لا يصلي، فقالوا: إذا نام لطخنا قدمه بالحبر الأسود فننظر هل يذهبه ماء الوضوء أم لا؛ حتى نتيقن من دون أن نسأله؟ فبقي الحبر في قدمه يومين لم يذهب، وهذا بلاء عظيم جداً، ولكن لا أسوة في الشر وإن أجمع الناس جميعاً على ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، فلا يحل لمسلم قط أن يترك ذلك ويقول: فلان ترك كذا وفلان ترك كذا، وأنا كذلك أترك هذا، فهذا لا يجوز، وأنا في الحقيقة متأسف أني ذكرت ذلك. وعمرو بن عبيد كان من رءوس البدع بعد واصل بن عطاء، ودائماً أهل البدع يجلسون مع بعضهم البعض حتى في الدرس، فالطيور على أشكالها تقع، في حين أن الأخ الذي يأتي إلى الدرس فقط يجلس يستمع إلى الدرس ولا يهمه من هو جالس عن يمينه وعن شماله، ومن ورائه ومن أمامه. وكان في مجلس الشافعي جماعة من أهل اللغة العربية، وهؤلاء ما كانوا يأتون لكي يسمعوا العقيدة ولا السنة ولا الأحكام ولا الحلال والحرام، وإنما كانوا يأتون لكي يستمتعوا بجمال وروعة لسان الشافعي، فقد كان الشافعي في اللغة حجة، وهذا قول أشهر من أن يذكر، فكانوا يجلسون في آخر المسجد وفي آخر الخيمة لكي يستمتعوا بكلام الشافعي، ولكي يرووا الأدبيات والفصاحة والبلاغة واللغة والكلمات التي تخفى عليهم في اللغة العربية، وهؤلاء جاءوا لغرض معين، وأما الحلال والحرام فليس طريقهم، وهؤلاء مثل شخص يقول: كلما تتكلم في الإسناد أنام، وإذا تكلمت في المتن أستيقظ، أو مثل من يقول: أنا آتي بسبب كلمة واحدة وهي حلال أو حرام، ولما تتكلم في المسألة أبقى حريصاً على سماع الكلمة النهائية حلال أو حرام، ولذلك استوقفك إذا تعديتها وأقول لك: يا شيخ! هذه المسألة حلال أم حرام؟ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهو صاحب حق فيما يطلب، فهو يقول: أنا أريد أن أعرف هل هذه المسألة حلال أم حرام، ثم تسأله عنها بعد عشرين سنة فيقول لك: أنت قلت في مسجد الرحمة في شارع الهرم سنة كذا: إنها حرام.

رأي واصل بن عطاء في مرتكب الكبيرة

رأي واصل بن عطاء في مرتكب الكبيرة جاء الحسن البصري شخص يسأله: يا أبا سعيد! ما تقول في مرتكب الكبيرة، وتصور لو أن شخصاً يسألني الآن سؤالاً وقام كل أحد من الجالسين يجيب، فهذا ليس من أدب العلم، ولا من أدب المجلس مهما كان ضعفي؛ لأن السؤال موجه لي وأنا صاحب المجلس. إذاً: أنا الذي أجيب أو أطلب الجواب من الحاضرين، فقام واصل بن عطاء وقال: لا هو مؤمن ولا هو كافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ثم أشار إلى جماعته فقاموا وذهبوا إلى آخر المجلس، فقال الحسن رحمه الله: اعتزلنا واصل، فسميت هذه الفرقة بالمعتزلة إلى يوم القيامة، وهي من أعظم فرق الضلال في الأمة، وكان منشؤها في أوائل القرن الثاني الهجري على يد واصل، فهو أول من اعتزل، وأول من تكلم في مرتكب الكبيرة بكلام يخالف فيه كلام أهل السنة والجماعة.

حال عمرو بن عبيد المعتزلي

حال عمرو بن عبيد المعتزلي [وغضب الحسن مرة على عمرو بن عبيد فعوتب فيه فقال: تعاتبوني في رجل رأيته -والله الذي لا إله إلا هو- في النوم يسجد للشمس من دون الله عز وجل!] أي: أنه وثني. [وعن ثابت البناني قال: رأيت عمرو بن عبيد فيما يرى النائم وهو يحك آية من المصحف]. والرؤى مبشرات أو منفرات، وهي لا يؤخذ منها عقائد، ونحن لا نحكم على عمرو بن عبيد من واقع رؤية رآها الحسن ولا أيوب ولا يونس ولا أحد من هؤلاء، لكن هذه منزلة هذا الرجل عند هؤلاء أهل الإيمان والشفافية المطلقة في الإيمان، وهم قد رأوه في النوم وصحت الأسانيد بذلك. [قال مطر الوراق: لقيني عمرو بن عبيد فقال: إني وإياك لعلى أمر واحد -يعني: عمرو بن عبيد أراد أن يخدع مطراً - فقال له مطر: لا والله كذب عمرو، وإنما عنى: على الأرض]، أي: على كوكب الأرض، وهذا من المعاريض التي يستخدمها أهل العلم. وجاء رجل أيضاً إلى الحسن البصري وقال له: يا إمام! لقد داينت فلاناً بدين وأنا أريده وهو يمنعني، فجاء الرجل إلى الحسن فقال الحسن: أعطه ماله، قال: سأدفعه له اليوم أو غداً. فتبسم أبو سعيد فقيل له: ماذا فهمت؟ قال: فهمت أنه يقصد أنه سوف يدفعه له في الدنيا أو في الآخرة، فالمقصود باليوم الدنيا، وغداً الآخرة، فهؤلاء أئمة لا يمكن لأحد أن يضحك عليهم؛ لأن الله نور بصيرتهم. وأول من تكلم في القدر هو سوسن الذي كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، ثم أخذ عنه معبد الجهني، وهو رجل من أهل البصرة، ثم أخذه رجل من دمشق يسمى غيلان الدمشقي، وهؤلاء هم أئمة هذه البدعة في القدر، وأما واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فإنهما إماما الاعتزال، وعمرو بن عبيد له كلام كذلك في القدر.

ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر والجدال والخوض فيه

ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر والجدال والخوض فيه قال: [الباب الثالث: ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير في مسائل القدر، والخوض والجدال فيه. عن أبي ذر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتذاكرون شيئاً من القدر، فخرج مغضباً كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟! أوما نهيتم عن هذا؟ إنما هلكت الأمم قبلكم في هذا، إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا)]. فهذه الثلاثة لا يحل لأحد أن يخوض فيها، والنجوم ليس لنا منها إلا معرفة الأوقات والشهور وحساب الزمان ومعرفة الطرق وغير ذلك، وأما استخدامها في السحر والعرافة والشعوذة فهذا شرك بالله عز وجل. وأما الصحابة رضي الله عنهم فنذكرهم بكل خير، ونتجاوز عن كل ما كان دون ذلك بينهم، فهم أولاً وآخراً بشر يجري عليهم ما يجري على البشر، وهم أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، ومذهب أهل السنة عامة الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم ذكر ذلك إلا لعالم يريد أن يذكر معتقد أهل السنة والجماعة في مثل هذا، ونعتقد أنه إذا كان قد بدر منهم شيء يشين في الظاهر فلهم من الفضل والعلم والعبادة والجهاد وغير ذلك أمثال الجبال مما يكفر ما قد ورد مما كان بينهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين. [وعن أبي هريرة قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى أحمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، ثم أقبل علينا فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا أرسلت إليكم؟! -وهذا سؤال استنكاري- إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر -أي: في القدر- عزمت عليكم -أي: أوجبت عليكم- ألا تنازعوا فيه). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عمرو بن العاص - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر؛ هذا ينزع آية وذاك ينزع آية -يعني: هذا يأتي بآية يثبت فيها القدر، وذاك يأتي بآية ينفي فيها القدر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبهذا أمرتم؟! أبهذا وكلتم؟! تضربون كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه)].

ما جاء عن السلف في النهي عن الكلام في القدر

ما جاء عن السلف في النهي عن الكلام في القدر [وقال ابن أبزى: بلغ عمر أن ناساً تكلموا في القدر، فقام خطيباً وقال: يا أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفسي بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما -وكان عمر يأتي للأمر من جذوره، رضي الله عنه- فأمسك الناس حتى نبغت نابغة في الشام]. وهو غيلان. [وعن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله وإياك وذكر أصحاب النبي]. فإذا ذكرت الخلاف بين معاوية رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه، وإذا كنت تعتقد هذا الشيء فينبغي أن تذكر جبال الطاعات والحسنات التي كانت لـ معاوية ولـ علي؛ [فإنك لا تدري ما سبق لهما من الفضل، وإياك وعمل النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر؛ فإنها تدعوا إلى كهانة]، يعني: أنها تؤدي بك إلى العرافة والكهانة والسحر، [وإياك ومجالسة الذين يكذبون بالقدر، ومن أحب أن تستجاب دعوته، وأن يزكى عمله ويقبل منه؛ فليصدق حديثه، وليؤد أمانته، وليسلم صدره للمسلمين]. [وعن أبي الخليل قال: كنا نتحدث عن القدر فوقف علينا ابن عباس فقال: إنكم قد أفضتم في أمر لم تدركوا غوره]، يعني: أن الذي يدخل ويتكلم في القدر فقل أن يرجع سالماً. [وقال مسلم بن يسار في الكلام عن القدر: هما واديان عريضان -أي: القضاء والقدر- عميقان، يسلك الناس فيهما، لم يدرك غورهما -يعني: مهما سلكوا فيهما فلن يصلوا- فاعمل عمل رجل يعلم أنه لن ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له]. وهذا كلام جميل ومريح. [وقال زياد بن عمر القرشي عن أبيه: كنت جالساً عند ابن عمر فسئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه -أي: هو شيء ستره الله عنكم، وهو سر الله في الخلق- فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم] أو ما أخفى عنكم. [وعن عبدة بن أبي لبابة قال: علم الله ما هو خالق، وما الخلق عاملون، -أي: أن الله تعالى علم قبل أن يخلق الخلق أنه سيخلق الخلق، وأنهم سيعملون الخير والشر- ثم كتبه -أي: كتب ذلك في اللوح المحفوظ- ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]]. قال الشيخ ابن بطة رحمه الله: [فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر -أي: أن الإيمان بالقدر واجب-، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره]، أي الرضا بقضاء الله وقدره الشرعي، وأما الكوني: فنحن نبغض ما يبغضه الله، ونحب ما يحبه الله. قال: [وترك البحث والتنقير، وإسقاط لم وكيف وليت ولولا]، يعني: لا تقل: لماذا ربنا خلق هذا ولم يخلق هذا؟ ولم أثاب الله فلاناً؟ ولم قتل فلاناً؟ ولم أحيا فلاناً؟ فهذا لا يمكن أن يكون خطاباً مع الله عز وجل، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه، ومن الجاهل على العالم معارضة، ومن المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى -أي: أن ترضى بما قضاه الله وقدره، وأن تسلم لله عز وجل في أمره ونهيه، هذا طريق الهدى- وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله، جرى بذلك العلم والقلم، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء؛ ويهدي من يشاء فقد سلك سبيل الرشاد، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وسأزيد من بيان الحجة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته، وعن التابعين وفقهاء المسلمين في ترك مجالسة القدرية، ومواضعتهم القول ومناظرتهم والإعراض عنهم، وقد تكلمنا في هذا من قبل]. يعني: قد تكلمنا ونقلنا نقولات عظيمة جداً عن السلف في عدم مناكحة القدرية، ومجالستهم ومناظرتهم، وعدم الصلاة خلفهم، وعدم عيادة مرضاهم، وعدم تشييع جنائزهم، ومقاطعتهم مقاطعة تامة؛ لما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة).

يشترط في المناظر لبيان الحق إجادة فن المناظرة

يشترط في المناظر لبيان الحق إجادة فن المناظرة [عن الليث بن سعد المصري عن عبد الله بن عمر العمري قال: كنا نجالس يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - فينشر علينا مثل اللؤلؤ]، يعني: يحدثنا بحديث كاللؤلؤ، وهذا ثناء على يحيى بن سعيد عالم المدينة في العلم. ولما ذهب الأعمش إلى المدينة -وكان في الكوفة- اجتمع الناس عليه، فقال أهل المدينة: من هذا؟ قالوا: هذا سليمان بن مهران الأعمش الكوفي، فقالوا: من هو؟ فقالوا: هذا عالم الكوفة، فقالوا: إذاً: نسمع من حديثه، فجلس الأعمش للتحديث فانبهر علماء المدينة بما عنده من العلم، وقالوا: هذا علم الكوفة؟ أي: هل أحد في الكوفة عنده هذا العلم؟ قال: [فإذا اطلع ربيعة -وهو ابن أبي عبد الرحمن صاحب الرأي- قطع يحيى الحديث؛ إعظاماً لـ ربيعة] وقد كان السلف لا يتحدثون في مجلس أو في قرية وهم يعلمون أن في القرية من هو أعلم منهم. قال: [فبينما نحن يوماً عنده وهو يحدثنا فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] قال له جميل بن بنانة العراقي وهو جالس معنا: يا أبا محمد! -يعني: يكلم يحيى بن سعيد - أرأيت السحر من تلك الخزائن؟ قال يحيى: سبحان الله! ما هذا من مسائل المسلمين -يعني: ما ينبغي للمسلم أن يسأل هذا السؤال- فقال عبد الله بن أبي حبيبة: إن أبا محمد ليس بصاحب خصومة، ولكن علي فأقبل]. يعني: أن يحيى بن سعيد رجل عالم، وليس من أصحاب الكلام الذي تذكرون؛ فتعال إلي، ودع أبا محمد يحيى بن سعيد الأنصاري، وهذا يدل على أن الرجل ربما يكون عالماً لكنه لا يجيد المناظرة مع أهل البدع، فقد يخدعه أهل البدع، فلا يستحضر ما عنده من علم، ولو استحضر لا يعرف يرتبه، فلا بد للمناظر أن يكون عالماً، والمناظرة فن. وقد تمكن من هذا الفن في هذا الزمان الشيخ الألباني رحمه الله، وأكثر من يعجبني بعد الشيخ الألباني في المناظرة الشيخ محمد بن عبد المقصود، فإنه كالسبع يلتهم من أمامه، ولا يجادله إلا خاسر، وقد تجد الواحد يتكلم عن الشيخ محمد بن عبد المقصود بكلام غير مقبول؛ فإذا أتى أمامه طأطأ رأسه، وقد كان بالأمس يتكلم وهو رافع صوته، ولا يوجد أحد يرد عليه، فتراه يجلس على الكرسي أو تحت الكرسي ولا يريد أحداً أن يراه، ولا يتكلم بشيء أبداً، والشيخ جالس ينتظر أن يتكلم أي كلمة، ولكنه لا يريد أن يتكلم، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت. قال: [إن أبا محمد! ليس بصاحب خصومة ولكن علي فأقبل، أما أنا فأقول: إن السحر لا يضر إلا بإذن الله، هذا الذي عندي، أفتقول أنت غير ذلك؟ فسكت فكأنما سقط عن جبل. وقال رجل من الشيعة: قلنا لـ جعفر بن محمد رحمه الله: إن المعتزلة تنافرنا نفاراً شديداً -يعني: يناظرونا ويجادلونا حتى لا نقدر أن نتكلم معهم- فقل لنا شيئاً حتى نقاتلهم به -يعني: نغلبهم- فقال: اكتبوا: إن الله عز وجل لا يطاع قهراً، ولا يعصى قسراً]. يعني: أن ربنا لا يقهر الطائع على طاعته، كما أنه لا يمكن أن يعصى بغير إرادته، ولكنها إرادة كونية قدرية، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإذا عذب فبحق، وإن عفا فبفضل. [قال أبو عمر: وسمعت أبا العباس ثعلباً يقول: قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] خصوص وليس عموماً، ولو كان عموماً لما كفر به أحد. [وقال عمر بن محمد العمري: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: رجل زنا، فقال سالم: يستغفر الله ويتوب إليه، فقال له الرجل: الله قدره عليه، فقال سالم: نعم. ثم أخذ قبضة من الحصى فضرب بها وجه الرجل، وقال: قم] أي: يا مبتدع!

كل شيء بقدر

كل شيء بقدر قال: [وقال أبو هريرة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: (فقلت: إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فائذن لي يا رسول الله! أن أختصي، قال: فسكت عني، فأعدت عليه فسكت عني أربع مرات، ثم قال: يا أبا هريرة! قد جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)]. أي: اختصي أو اترك الخصاء فما تفعله يا أبا هريرة! مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السموات والأرض. [وعن عبد الله بن مسعود قال: (قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، فلن يعجل شيء قبل أجله، لو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، وعذاب في القبر؛ كان خيراً وأفضل)]. [عن الأصمعي قال: مر أعرابي -وكان فصيحاً فاضلاً، وكان من أهل الخير- بقوم من أهل القدر يختصمون ويتناظرون، فقيل له: ألا تنزل فتجري معهم؟ -يعني: ألا تنزل تتكلم معهم في مسألة القدر، وتنظر في أي فريق فيهم تجلس؟ - فقال: هذا أمر قد اشتجرت فيه الظنون، وتقاول فيه المختلفون، والواجب علينا أن نرد ما أشكل من حكمه إلى ما سبق من علمه]. هذا القول هو ختام مسألة القدر، وبذلك يكون قد تم كتاب القدر، ويليه الكتاب الثالث وهو: الكلام عن الجهمية. وإن شاء الله تعالى إذا فرغنا من كتاب الإبانة نبدأ في كتاب آخر من كتب السنة، وهو موسوعة في السنة، جمع كل كتب السنة المصنفة والمخطوطة بفضل الله عز وجل، ويبلغ خمسة عشرة مجلداً، وهو من تصنيف محدثكم العبد الفقير إلى الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

حال الدكتور مصطفى محمود

حال الدكتور مصطفى محمود Q هل الدكتور مصطفى محمود من المعتزلة؟ A هو من المعتزلة تارة، ومن القدرية تارة، ومن الشيعة تارة، ومن الصوفية تارة، وكلما أعجبته فكرة أو مسألة في أي فرقة من فرق الضلال قال بها، إلا فرقة واحدة لا علاقة له بها وهي: فرقة أهل السنة والجماعة، وهذا يذكرني بقول ابن حبان في نوح بن أبي مريم، ونوح بن أبي مريم كان كذاباً، فقد أخذ القرآن الكريم وألف حديثاً ونسبه للنبي عليه الصلاة والسلام وذكر فيه فضلاً لكل سورة من سور القرآن، فلما سئل عنه أبو حاتم قال: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الخير، أي: أنه جمع الشر كله ولم يجمع من الخير شيئاً، وقوله هذا أولى به الدكتور مصطفى محمود.

نصاب الذهب، وعياره المعتبر في النصاب

نصاب الذهب، وعياره المعتبر في النصاب Q هل نصاب الزكاة يكون إذا زاد عن خمسة وسبعين جرام ذهب؟ وهل عيار الذهب المعتبر في القياس هو واحد وعشرين أو أربعة وعشرين؟ A عيار الذهب المعتبر هو أربعة وعشرين؛ لأن هذا هو الذهب الخالص، والزكاة لا تجب إلا في الذهب الخالص إذا بلغ خمسة وثمانين جراماً؛ لأن الذهب -كما في الحديث- لا تجب فيه الزكاة إلا إذا بلغ عشرين مثقالاً، والمثقال الواحد أربعة جرامات وربع، وأربعة وربع في عشرين تصير خمسة وثمانين، فإذا كانت المرأة عندها مثلاً ذهب عيار سبعة عشر أو عيار واحد وعشرين فعليها أن تحسب العيار في مجموع ما عندها من جرامات على أربعة وعشرين، فيكون الناتج للجرام أربعة وعشرين، فتضيفه إلى ما عندها من أربعة وعشرين، فإذا بلغ مجموع ما عندها خمسة وثمانين جرام ذهب أو ما فوق فيجب فيه ربع العشر: اثنان ونصف في المائة.

المصنفات في القدر

المصنفات في القدر Q هل كتاب الإبانة هو أصل ما صنف في باب القدر أم هناك مصنفات أخرى أفضل؟ A لا شك أنه أكثر استيعاباً، وهناك كتاب السنة للخلال، وكتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل، ولكن بتفاوت بينها في ذكر النصوص.

معنى السنة الحسنة الواردة في حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)

معنى السنة الحسنة الواردة في حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة) Q قرأت حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم معناه: (أن من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها) إلى آخر الحديث، فما معناه؟ A هو حديث صحيح، والقرآن لا يفهم إلا بأسباب النزول، وكذلك السنة لا تفهم إلا بأسباب الورود، ولو نظرنا في المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث لوجدنا أن القصة التي قيل فيها هي: أن قوماً أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجتابي النمار تعلوهم مناظر الجوع والكآبة والفقر، فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام غضب لذلك وحزن واغتم، فلمح ذلك في وجهه رجل من أصحابه، فقام إلى بيته فأتى بما عنده من طعام وغذاء، فلما رأى الصحابة ذلك تنبهوا وقام كل منهم إلى بيته، فأتى أحدهم بما عنده من طعام، وبما عنده من غذاء، وبما عنده من شراب ووضعوه في نطع -أي: قطعة من الجلد المفروشة- حتى أصبح كومة عظيمة، فحملوها حتى كادت أيديهم أن تكل، بل قد كلت، أي: عجزت عن حمل هذا المتاع الذي جمع من هنا وهناك، فحينئذ تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، والذي سنها هو الأول الذي ذهب إلى بيته وفطن لمراد النبي عليه الصلاة والسلام. وهذه السنة كانت مشروعة في الإسلام، فأصل الصدقة قد حث عليها القرآن وحثت عليها السنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً)، وبالمقابل من سن في الإسلام سنة سيئة أو أحيا بدعة أميتت فعليه وزرها ووزر من عمل بها. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جمع الناس على صلاة الليل والقيام والتهجد في رمضان على أبي بن كعب؛ نظر إليهم وقال: نعمت البدعة. وقيام رمضان جماعة في المسجد سنة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام هو المشرع لها أصلاً، بدليل ما صح عنه أنه صلى أول يوم في بيته فصلى بصلاته الناس في المسجد، وفي اليوم الثاني ازداد الناس وكثروا حتى امتلأ المسجد، وفي اليوم الثالث لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ لأنه قد خرج في اليوم الثاني، وخرج في صلاة الفجر، وقال: (لقد علمت ما كان منكم)، أي: ولكني لم أخرج متعمداً؛ مخافة أن تفرض عليهم. فالأصل فيها أنها سنة مؤكدة مستحبة، فالنبي عليه الصلاة والسلام فعلها، وإن فعلها مرة فقد ثبت بذلك سنيتها واستحبابها، وكم من أمر مندوب فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة لبيان استحبابه أو لبيان الجواز، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما كلم في هذا قال: والله ما كنت لأفعل شيئاً تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد وخرج، وكان آخر الأمرين منه الترك فتركه أبو بكر. وعمر اجتهد في هذه المسألة وخالف أبا بكر، فجمع الناس على صلاة القيام في المسجد، وقال: نعمت البدعة هي، وعلى فرض صحة هذا اللفظ عن عمر رضي الله عنه فإنه لم يبتدع في دين الله شيئاً محدثاً جديداً، وإنما رجعت الأمة إلى الأمر الأول الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً. فحينئذ لا يقال: إن عمر ابتدع في الدين، وإنما هو سن فيه سنة حسنة، ومعنى سنة حسنة أي: أن أصلها بإقرار الشرع، والبدع المذمومة هي التي أحدثت في الدين على غير مثال سابق، وليس لها دليل في الكتاب والسنة، ومع ذلك يراد بها التقرب إلى الله عز وجل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الرد على الجهمية باب التعريف بالجهم والجهمية

شرح كتاب الإبانة - كتاب الرد على الجهمية باب التعريف بالجهم والجهمية الجهمية هي فرقة سميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها الجهم بن صفوان، وهي على رأس الفرق الضالة الهالكة؛ لأنها خالفت أهل الإسلام في أصول معتقدهم، وأصل هذه البدعة يعود إلى اليهود، وهذا شأن أكثر البدع أنها تعود إلى أمم الكفر من اليهود والنصارى والمجوس؛ الذين لم يستطيعوا مواجهة الإسلام بالسيف، فبثوا فيه الأفكار الضالة، والمعتقدات المنحرفة لإفساده.

التعريف بالجهم والجهمية

التعريف بالجهم والجهمية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فهذا هو الجزء الثالث من كتاب الإبانة، وكان الأول بعنوان: الإيمان، والثاني بعنوان: الرد على القدرية، والثالث بعنوان: الرد على الجهمية، ويحسن بنا قبل الدخول في هذا القسم أن نميز الجهمية عن أهل السنة والجماعة؛ لأن الجهمية على أغلب أقوال أهل العلم إنما هم فرقة من الفرق الضالة الهالكة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فالجهمية على رأس هذه الفرق الهالكة الضالة؛ لأنها خالفت أهل السنة والجماعة في أصول معتقدهم، وكل شر لابد له من منشئ، ولابد له من مؤثر، ولابد له من رجل قال بقول عليك يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة، فكما أن المعتزلة لهم إمام في الاعتزال، والخوارج لهم إمامهم في مذهبهم، والشيعة لهم إمامهم، وغير ذلك من سائر الفرق، فكذلك الجهمية لهم إمام ينتسبون إليه وهو صاحب أصل هذا الضلال، وما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة كما قلنا من قبل مراراً، فما من أحد يقول قولاً إلا وله في الخلق أتباع مهما كان قوله. والذي قرأ منكم أخبار يوم السبت في جريدة (أخبار اليوم) يعلم أن هناك رجلاً قد ادعى الألوهية وله أتباع كثر، وقد تسلح وتحدى العالم أجمع أن يقاتل ويفعل الأفاعيل؛ لأجل فرض إلهيته في الأرض، وهناك شخص قال: أنا نبي! فهذا الجهم إنما خرج على حين غفلة، فقد انتهز اضطراباً واختلافاً فخرج بأقواله، وغالباً إن لم يكن هذا أصل في أهل البدع أنهم لا ينشرون كلامهم علناً، وإنما يسلكون مسلك الدعوة الفردية، فيجلس معك على انفراد، ومع الآخر على انفراد، حتى إذا استقر له الأمر واستتب بدأ يعلن هذا هنا وهناك، ويبحث دائماً عن الشبهات ثم يلقيها على الناس الذين ليس عندهم جواب، ولذا فما من شبهة تلقى على قلبك ليس لها جواب إلا ولابد أن يتعلق شيء منها بقلبك، فيحسن بنا قبل الدخول في الرد على الجهمية أن نتعرف على الجهم الذي تنسب إليه هذه الفرقة، وعلى سيرته وتاريخه الطويل، وكيف خرج بهذه البدعة؟ وما هي أصول أفكاره التي خالف بها أهل السنة والجماعة؟ ثم ما هي فرقة الجهمية؟ وما هو كلامها؟ وما هي مخالفتها لأهل السنة والجماعة؟

اسم وكنية الجهم بن صفوان

اسم وكنية الجهم بن صفوان الجهمية تنسب إلى رجل يسمى: الجهم بن صفوان، وهو الذي أظهر هذا المذهب، ودعا إليه، وجادل من أجله، وتوسع في مسائله، حتى قال الإمام أحمد: إنه وضع دين الجهمية، وهذا يدل على أن أحمد عنده أن الجهمية لهم دين يختلف عن دين المسلمين، وإن كان هناك من الآراء التي دعا إليها الجهم قد سبق إليها، لكنه هو الذي أظهرها وتبناها وجمع لها الشبهات وغير ذلك، وقبل الحديث عن آرائهم نتعرف على مؤسس الجهمية. اتفق كل من ترجم للجهم أن اسمه: الجهم بن صفوان، وكنيته: أبو محرز، ويقال له: الراسبي، فقد كان مولاً لبني راسب من الأزد.

نسبة الجهم ولقبه

نسبة الجهم ولقبه وكان الجهم من أهل خراسان، ودائماً يأتي البلاء من جهة العراق وخراسان ومرو وترمذ ونسا وإيران وغيرها، فهذه البقاع كلها بقاع شر وفساد، والتاريخ كله يقول: ما قامت بدعة إلا من العراق وإيران مروراً بهذه البلاد الفرعية، والقرى والنجوع كلها، فهي أرض قد امتلأت بالفتن قديماً وحديثاً، فكان الجهم من أهل خراسان، وينسب تارة إلى مدينة سمرقند، وتارة إلى مدينة ترمذ، فيقال له: السمرقندي أو الترمذي، ويقال له: الخراساني نسبة إلى الإقليم الكبير خراسان، وهذا لا يعني أن هذا الإقليم كله إقليم شر؛ فقد أخرج أئمة أفذاذاًَ من أئمة العلم والهدى، كالإمام الترمذي، والإمام النسائي، وعبد الله بن المبارك، والبخاري وغيرهم من أئمة العلم.

نشأة الجهم وخروجه على بني أمية

نشأة الجهم وخروجه على بني أمية أصل الجهم كان من مدينة بلخ، ثم انتقل منها إلى سمرقند وترمذ، ثم انتقل إلى الكوفة -ونزول شخص من أهل البدع في الكوفة فإنه يدل على أن الحرب ستبدأ من هناك ثم رجع إلى خراسان، وفي الكوفة التقى بشيخه الجعد بن درهم، ولا يعرف عن نشأة الجهم شيء في أيام صغره، فلا هو من بيت علم، ولا من بيت صلاح ودين وتقوى وعبادة، وإنما كانت شهرة الجهم بعد ظهوره بآرائه، وقتاله لبني أمية مع الحارث بن سريج، فقد كان الجهم قاضياً، وكاتباً، وخطيباً للحارث بن سريج الذي خرج على الأمير في دولة بني أمية في خراسان، وذلك في آخر دولة بني أمية، فكان الجهم يقرأ على الناس كتاباً فيه سيرة الحارث في الجامع والطرقات، فاستجاب له خلق كثير، ووقع القتال بين الحارث ونصر بن سيار أمير خراسان لبني أمية، فانهزم الحارث ومن معه، وأسر الجهم بن صفوان؛ لأنه كان تبعاً للحارث، وأحضر وأوقف بين يدي سلم بن أحوز والي الشرطة -أي: وزير الداخلية في هذه الأيام لدولة بني أمية- فقال له جهم: إن لي أماناً من أبيك، أي: إياك أن تقتلني أو تؤذيني فأنا صاحب أمان، فقال سلم: ما كان له أن يؤمنك -أي: ما كان لوالدي أن يؤمنك- ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم ما نجوت من يدي، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، وأمر بقتله فقتل.

الناحية العلمية عند الجهم بن صفوان

الناحية العلمية عند الجهم بن صفوان لم يكن الجهم من أهل الرواية للحديث، مع أن العصر الذي عاش فيه كان العلماء فيه متوافرين على تحمل الحديث وآثار الصحابة ومروياتهم، أي: أن العلم كان في قمة الانتشار والازدهار، لكنه ما طلب العلم يوماً ما، وما جلس العلماء السنة يوماً من حياته، وقد أعرض الجهم عن ذلك، وآثر علم الكلام والفلسفة على علم الحديث والسنة، ودائماً ننصح أبناءنا وتلاميذنا ألا يدخلوا أبداً كلية التجارة والتربية قسم الفلسفة والمنطق، أو علم الكلام أو غير ذلك، كما ننصحهم كذلك ألا يدخلوا قسم العقيدة، سواء في جامعة الأزهر أو في غيرها من الجامعات، أو الكليات المتخصصة كالآداب، بل ودار العلوم كذلك؛ لأنهم يعتقدون أن عقيدة الأشاعرة والماتريدية هي عقيدة أهل السنة والجماعة، مع أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة، ولا الماتريدية، فأهل السنة لهم خصائص وعلامات ومميزات يتميزون بها عن غيرهم، وقد دخلنا الأزهر ودرسنا عقيدة الأشاعرة فيه، ونافحنا عن عقيدة أهل السنة، وبيتنا أن هذه العقيدة الأشعرية ليست عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي يدرسونها للطلاب على اعتبار أنها عقيدة أهل السنة والجماعة ما هي إلا خليط من عقيدة الأشاعرة والماتريدية، وهذا خلط للحقائق. قال الذهبي: الجهم بن صفوان الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، لكنه زرع شراً عظيماً. أي: زرع في الأمة شراً عظيماً. وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إن كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم. ومما يدل على جهله بأحكام الشريعة ما روي أن جهماً سئل عن رجل طلق قبل أن يبني بها، فقال: عليها العدة، فخالف كتاب الله تعالى بجهله، قال الله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].

مناظرة الجهم لقوم من الزنادقة وبيان عقيدته

مناظرة الجهم لقوم من الزنادقة وبيان عقيدته وقال خلف بن سليمان البلخي: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحاً، ولم يكن له نفاذ في العلم -أي: أنه كان صاحب لسان لكنه ليس عالماً- فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج مدة من الزمان ثم خرج، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء! أي: أن الإله الذي يعبده إنما دخل في ذرات الهواء، وبالتالي فإله الجهم ليس هو إلهنا الذي استوى على العرش، وهذا نفس معتقد النصارى، فقد قام طالب وقال القسيس في كنيسة: أين الإله؟ فأتى ببعض السكر وأذابه في كوب من الماء، فقال القسيس للطالب: أين السكر؟ قال: في الماء، قال: وكذلك الرب في كل شيء! فعقيدة الجهم بن صفوان هي نفس عقيدة النصارى، بل ليس كل النصارى يعتقدون ذلك، وإنما وافق جل النصارى في إثبات أن الله تعالى في كل مكان، وهذا نفس قول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله في كل مكان، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل على عرشه، وهذا هو الحق الذي نطق به الكتاب وجاءت به السنة، وعمل به اعتقاداً وعملاً أئمة الدنيا من سلف الأمة، وما خالف في هذه القضية إلا خلف ليس له في ذلك سلف إلا سلف ضلالة وبدعة، والله تعالى على العرش استوى، بائن من خلقه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية صغيرة ترعى غنماً لا حظ لها من العلم فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). وأعجب من ذلك منذ عدة سنوات أني دخلت الجمعية الشرعية الرئيسية؛ لأنهم كانوا يوزعون كتباً مجاناً، فذهبت لآخذ بعضها لتوزيعها على الطلاب، فلما رأى هيئتي ليست كهيئة الجمعية الشرعية قال: أنا أسألك سؤالاً واحداً: أين الله؟ قلت: على العرش، فتبرم وقال: هو في كل مكان، وفي أثناء نزاعنا دخل حمال كان ينزل بالكتب إلى تحت، فقلت له: ما اسمك؟ قال: محمد، قلت: يا محمد! أين الله؟ قال: في السماء، فقلت: حمال يفهم ما لا يفهمه زعماء في الجمعية الشرعية! فهذه عقيدتهم، فهم يقولون: الله تعالى في كل مكان، وليس الأمر كذلك، ولا دليل معهم قط، بل ناقشني زعيم وكبير من كبرائهم يرحمه الله ويعفو عنه، فقال: أنت الذي تقول: إن الله على العرش استوى؟! فهو جالس على الكرسي! ما رأيكم أن تلبسوا ربنا عمامة؟! فقلت: لا والله، الله تعالى هو الذي أثبت في كتابه أنه على العرش استوى، وجميع الأنبياء والمرسلين وأهل العلم الصادقين المخلصين العاملين بشرائع الله، وبدين الله الواحد يعتقدون ذلك، فلا عقيدتكم في القرآن، ولا في السنة، ولا في عقيدة الأنبياء، ولا في عقيدة سلف الأمة، وكفى بها مخالفة، فهذه عقيدة الجهم بن صفوان! وقال أبو معاذ البلخي: لم يكن للجهم علم ولا مجالسة لأهل العلم، فقيل له: صف لنا ربك؟ فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء! إذاً فالذي يقول: إن الله تعالى بذاته في كل مكان؛ يلزمه أن يقول: بأنه في أماكن القاذورات، وأماكن النجاسات والحمامات، وغير ذلك من البرك والمستنقعات المنتنة، وهذا قول يحمل بين طياته الكفر البواح، تعالى الله عما يقوله الملحدون علواً كبيراً. وقد كان الجهم من أهل الجدل والخصومات كما سيتبين لنا بإذن الله تعالى.

هلاك الجهم بن صفوان

هلاك الجهم بن صفوان قتل الجهم سنة ثمان وعشرين بعد المائة الهجرية، وكان قتله على يد سلم بن أحوز المازني على المشهور كما تقدم. والإمام القاسمي كان له بعض الدفاع عن الجهم بن صفوان، فكان مما قال: إنما قتل الجهم لأمر سياسي لا لأمر ديني؛ لأنه كان مع الحارث بن سريج ضد دولة بني أمية، فخرج مع الخارجين على الإمام الحق في ذلك الزمان، فلما أسر قتله سلم بن أحوز المازني، فكان قتله لأمر سياسي لا لأمر ديني، وليس الأمر كذلك، ولا يمنع أن يكون قد جمع بين الأمرين، لكن أصل فكرة القتل انبنت على مخالفته الدينية، وكذلك لا يمنع أن يكون قتله لأمر سياسي، وإن كان قد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك بقتله قبل ذلك لأمر ديني، وهو ما اشتهر عنه من شكه وتركه الصلاة أربعين يوماً، أي: أنه شك في وجود الإله لما سئل: صف لنا إلهك؟ فشك في إلهه فتوقف عن عبادته أربعين يوماً، ثم نفيه لصفات الرب عز وجل واشتهار ذلك عنه، فكان ذلك سبباً قوياً في أن يأمر الخليفة هشام بن عبد الملك عامله على خراسان نصر بن سيار أن يقتله، ولكنه لم يظفر به، وإنما ظفر به سلم بن أحوز فقتله. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد، فقد نجم -أي: ظهر- قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية، فإن ظفرت به فاقتله. إذاً كان قتله بسبب أنه يقول بقول الدهرية، وهذا أمر ديني لا أمر سياسي. ومما يؤكد أن قلته بسبب ما صدر عنه من إنكار صفات الله تعالى: ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال: أخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه: يا جهم؟ إني لست أقتلك لأنك قاتلتني -فهذا تصريح بأن القتل لم يكن لأمر سياسي- فأنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهداً ألا أملكك إلا قتلتك، فقتله. وقد جاء البيان عن سبب قتله له، فقد أخرج عن ابن أبي حاتم من طريق خلاد الطفاوي، قال: بلغ سلم بن أحوز -وكان على شرطة خراسان- أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليماً، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؟ فسكت الجهم، فقام إليه سلم فقتله، إذاً أصل قتله كان لأمر ديني، ولو كان لأمر سياسي فلا بأس بذلك، لكن لابد من تقرير الحقائق. وقال بكير بن معروف: رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم، فاسود وجه جهم. نعم لابد أن يسود: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والضلالة. ولهذا من إهانة الله عز وجل لأهل البدع في حياتهم وبعد مماتهم أنهم ليس لهم ترجمة، ولو أردنا أن نقرأ ترجمة أحمد بن حنبل لوجدنا أنها في سير أعلام النبلاء جل المجلد الحادي عشر، حوالي أربعمائة أو خمسمائة صفحة، بل وفي ترجمته صنفت مجلدات وكتب أخرى؛ لأن الله أبى إلا أن يعلي ذكر أحمد في الدنيا والآخرة، وأما هؤلاء فقد أبى الله تعالى إلا أن يجعلهم في أسفل سافلين، فليس لهم ترجمة إلا ترجمة السوء والضلال، ترجمة اللعنة والغضب والسخط من الله عز وجل ومن عباده.

من شيوخ الجهم بن صفوان: الجعد بن درهم

من شيوخ الجهم بن صفوان: الجعد بن درهم أما شيخ الجهم بن صفوان فاسمه: الجعد بن درهم، وبئس الدرهم هو، وكان مولى من موالي بني مروان، وأصله من خراسان، لكنه سكن دمشق، وانتقل ببدعته من خراسان إلى دمشق، فبذر البذرة هناك، ثم رجع إلى الكوفة، فالتقى بـ الجهم في الكوفة، وكان الجعد بن درهم مؤدباً لآخر ملوك بني أمية وهو مروان بن محمد بن مروان، وكان يقال له: مروان الجعدي؛ لتقريبه للجعد بن درهم، فنسب إليه وبئس النسبة هي، كما كان له لقب آخر وهو: مروان الحمار. قال الذهبي في الجعد: عداده في التابعين، مبتدع ضال. وفي هذا دليل على أنه ليس كل التابعين أهل صلاح، بل منهم المبتدع، ومنهم الثقة، ومنهم الإمام في الهدى، ومنهم الإمام في الضلالة، وكل ما هنالك أنه رأى بعض الصحابة، والمعلوم أن التابعي: هو من لقي الصحابة أو بعضهم. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن الجعد كان يتردد إلى وهب بن منبه، ووهب بن منبه إمام من الأئمة، فهو رجل هدى وتقوى وعلم، لكن كان يعاب عليه أنه كان ينظر في كتب السابقين، أي: في كتب اليهود والنصارى والصحف وغيرها، فوجد الجعد ضالته عند وهب، فكان يتردد إليه ويحمل عنه، وكان كلما راح الجعد إلى وهب اغتسل وهب وقال وهب: إن هذا الغسل أجمع للعقل، أي: كأن لقاء جعد كان يذهب بعقل وهب بن منبه، وكان يسأل وهباً عن صفات الله تعالى، فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد! أقصر المسألة عن ذلك، أي: لا تسأل عن هذا، واسأل عن الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأركان الدين، لكن هو أراد أن ينطلق ببدعته من هذا الباب، فقال وهب للجعد: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك. وكان هذا آخر كلام في الصفات؛ من أجل أن تنتهي الجولة مع الجعد بن درهم. قال: والله لا نقول إلا بما قاله الله في كتابه، وما قاله الرسول في سنته، فلا تسألني عن شيء بعد ذلك. ولما أقام الجعد بدمشق أظهر القول بخلق القرآن، أي: قال: هذا القرآن مخلوق وحادث، وأن الله لم يكن متكلماً فتلكم، ولم يكن عالماً فخلق لنفسه العلم، فعلم بعد أن كان غير عالم، وغير ذلك من بقية صفات المولى عز وجل التي يمكن أن يتصف بها المخلوق، من العلم والكلام والقدرة وغير ذلك، فطلبه بنو أمية لما أظهر القول بخلق القرآن، فهرب وسكن في الكوفة -مأوى الضلال- وفيها لقيه الجهم بن صفوان وأخذ عنه مذهبه في التعطيل -أي: تعطيل الصفات عن الله عز وجل، وتعطيل الذات أن تتصف بالصفات- وقال بقوله في القرآن.

سلسلة التجهم المظلمة

سلسلة التجهم المظلمة قال ابن تيمية عليه رحمة الله: إن الجعد أخذ بدعته وتلقاها عن أبان بن سمعان -انظر إلى هذه السلسلة السوداء- وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً الجهم عن الجعد عن أبان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم، خمسة في سلسلة واحدة، لكنها ليست كسلسلة مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه سلسلة الذهب، سلسلة اللؤلؤ والمرجان، أما تلك فسلسلة الضلال والبدع، وتصور أن يأتيك إسناد كهذا: حدثني الجهم، قال: حدثني الجعد، قال: حدثني أبان بن سمعان، قال: حدثني طالوت، قال: خالي لبيد بن الأعصم اليهودي!! ويغلب على ظني أنه ما أحدثت محدثة، ولا ابتدعت بدعة في الإسلام إلا وكان أصلها إما من اليهود، وإما من النصارى، وإما من المجوس، أي: لابد أن يكون لها جذور يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، وأتحدى أي رجل يأتيني ببدعة في الإسلام ليس له أصل من هذه الأصول الثلاثة.

نسبة الجعد ومذهبه وهلاكه

نسبة الجعد ومذهبه وهلاكه وكان الجعد من أهل حران -وهي بلد ابن تيمية الحراني الشامي السوري- وتصور أن حران تنبت هذا الجعد، وتنبت شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تعيش الأمة في كنفه، وفي بحر علمه في هذه الأيام، وقد سألني أستاذ في كلية اللغة العربية منذ أسبوع تقريباً فقال: أنا أريد أن أعرف لماذا كل الجماعات الإسلامية معتمدة على ابن تيمية في هذه الأيام، وأظهرت علم ابن تيمية في هذه الأيام؟ قلت: هذا رزق ابن تيمية، فمع سنه وعلمه ومكانته وجهاده الطويل إلا أنه كان أقرب للشباب من سائر علماء زمانه، وتكلم بكلام معتمداً على الكتاب والسنة، وحارب الفلاسفة، وحارب التتار، وحارب بسيفه وقلمه، وحارب جميع المعتقدات، ورد على الفرق الضالة، وقال كلاماً لا يمكن لأحد قبله ولا بعده أن يقوله، فكان إماماً فذاً، وهو جدير وخليق أن يكون مجتهداً مطلقاً، وهذا معظم من ترجم لـ ابن تيمية، قال هذا الكلام: هو جدير أن يكون مجتهداً مطلقاً، وابن تيمية عليه رحمة الله في مسائل الفكر والسياسة الشرعية على جهة الخصوص، والرد على الخصوم والفلاسفة، وجهاده للصوفيين، وجهاد سائر فرق الضلال؛ كانت له ميادين كل ميدان منها تهلك فيه أمة من العلماء، فكان رجلاً بمعنى الكلمة، أي: أن هذا الرجل لم يسبقه في قوته إلا عمر رضي الله عنه، وابن تيمية جدير بالاحترام والتبجيل، ولذلك كتب الله تعالى له في قلوب المؤمنين الذكر الجميل والثناء الحسن. كان الجعد من أهل حران، وكان فيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، وكانوا يسمون: صابئة الإسلام وصابئة الشرك، والعلماء صنفوا الصابئة على نوعين: صابئة كانت تابعة لإبراهيم عليه السلام، وصابئة كانت مشركة تعبد الأصنام في زمن إبراهيم عليه السلام، وكان في حران خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين، وكانت الصابئة -إلا قليل منهم- إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، لكن كثيراً منهم كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، أي: مركبة من السلبية والإيجابية. ولما أظهر الجعد مقالة التعطيل حبسه أمير العراق خالد بن عبد الله القسري، ثم خرج به في يوم عيد الأضحى وخطب خالد في الناس، فقال في خطبته: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من التابعين، وقصة قتله مشهورة ذكرها أهل التراجم ودونها السلف في كتبهم، ولم ينكر على خالد القسري أحد من أهل العلم، بل أثنوا عليه خيراً، لكن في هذا الوقت دع واحداً يقوم على ضال من هؤلاء، أو مبتدع من هؤلاء ربما تكون بدعته أخطر من بدعة الجعد بن درهم؛ فيقتله على الملأ، والنساء تنظر في التلفاز، لقالوا: حرام، لماذا هذه القسوة؟! هل الدين هكذا؟! وهل الإسلام هكذا؟! هل النبي قال هكذا؟! بينما العلماء أثنوا على ما قام به خالد القسري. قال الدارمي: ذبحه خالد بواسط -أي: بمدينة واسط في العراق- يوم عيد الأضحى، على رءوس من حضر من المسلمين، لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه. قال: ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب النونية في العقيدة: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان أي: يثني على خالد القسري أنه ذبح الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وقد شكره كل صاحب سنة.

كلام العلماء في بيان ضلال الجهمية وكفرهم

كلام العلماء في بيان ضلال الجهمية وكفرهم قال: ابن تيمية: اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقةن وذكروا أن قوله أشر من قول اليهود والنصارى. أي: قول الجعد بن درهم أشر من قول اليهود والنصارى، فرجل قوله شر من قول اليهود والنصارى الذين حكم الله تعالى بكفرهم في كتابه، إذاً يكون كفره أعظم من كفر اليهود والنصارى، فلماذا إذاً نصفه بأنه كان داعية للكتاب والسنة؟ لأن الإمام القاسمي للأسف الشديد قال: كان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة! وهذه زلة عظيمة جداً من القاسمي. قال الإمام القاسمي: وكان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة، مجتهداً في الصفات خاصة، هكذا قال القاسمي، لكن ليس للجاهل أن يجتهد، وإنما الاجتهاد وقف على أهل العلم، وليس كل أهل العلم لهم هذا الحق وهذا الحظ، بل الاجتهاد له أهله، بأركان وشروط. قال القاسمي: له أجر المجتهدين المخطئين! والخطأ في العقيدة أمر مردود، ولهذا نهى السلف عن مذهب الجهمية، وحذروا من سلوك سبيلهم، وشددوا في ذلك. قال الإمام البخاري: ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي الشيعي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني! فلا يسلم عليهم، ولا يعادون إذا مرضوا، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم. أي: أنهم كفار؛ لأن هذه أحكام الكفار. وقال البخاري أيضاً -وانتبه فقد كان البخاري متلطفاً جداً في العبارة- فقال: إذا قلت عن أحد: ضعيف، فلا تحل الرواية عنه. أي: أن الذي يقول عنه غيره: كذاب وضاع يقول عنه الإمام البخاري: ضعيف، وتصور أن الإمام البخاري يقول هذا كله-: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم -أي: من الجهمية- وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. أي: أنه يقول: إن كلام الجهمية أشر من كلام اليهود والنصارى والمجوس، وليس ذلك بعجب، وإنما العجب ممن عرف كلامهم ولا يكفرهم، إلا أن يكون إنساناً لا يعرف ماذا يعني الكفر؟ وماذا يعني الإيمان؟ ولا شك فالجاهل ليس مطلوباً منه أن يظهر أحكام الكفر، أو التفسيق أو التبديع، بل هذا تعد منه، وإنما له أن يقلد أهل العلم والمجتهدين. وقال ابن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وللدارمي كلام عظيم جداً، بل له كتاب اسمه: الرد على الجهمية، قال: وصدق ابن المبارك، فإن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى. أي: إذا قرأه إنسان يشعر بوحشة في صدره ربما لا يشعرها إذا نظر في التوراة أو الإنجيل. وذكر سعيد بن عامر الضبعي الجهمية فقال: هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، قد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله عز وجل على العرش. أي: أن عقيدة اليهود والنصارى والمسلمين أصلاً أن الله تعالى مستو على العرش، لكن الجهمية هم أول من أحدث أن الله تعالى ليس على العرش، وقالوا: ليس على شيء. وقد كفر السلف جهماً ومن قال بقوله في الله، وفي صفاته، وفي القرآن، وكتبهم مملوءة بذلك.

أهم آراء جهم

أهم آراء جهم

نفيه لأسماء الله تعالى

نفيه لأسماء الله تعالى آراء الجهم هي آراء الجعد بن درهم، وآراء الجعد بن درهم هي الأصول التي اعتمدت عليها الجهمية، ولم يصنف الجعد بن درهم ولا الجهم بن صفوان كتاباً في معتقدهم، ولكن العلماء ناظروا الجعد وناظروا الجهم فصنفوا أصول المخالفات بين الجهمية وأهل السنة والجماعة، ومن هذه المخالفات: نفي الأسماء والصفات، فأول شيء اعتمد عليه دين الجهمية أنهم جردوا ذات الإله من الأسماء والصفات، فقالوا: ذات بلا صفة وبلا اسم، ولابد أن تعلموا أن الذي ينفي الصفات والأسماء إنما ينفي القرآن كله؛ لأن القرآن أثبت الأسماء وأثبت الصفات، فالذي ينفي عن الذات الأسماء والصفات كأنما ينكر القرآن الكريم، فكثير ممن كتب عن مذهب جهم يذكرون أنه يقول بنفي الصفات، ولم يتعرضوا لمذهبه في الأسماء إلا القليل، ولكن الجهم في الحقيقة ينكر الأسماء والصفات، فلا يسمي الله باسم من الأسماء التي يمكن أن يسمى به المخلوق كالحي؛ لزعمهم أن هذه الصفة مشتركة بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق موصوف بالحياة لأنه حي، وكذلك المولى عز وجل موصوف بالحياة لأنه حي. فقالوا: لا يمكن أن يستقيم هذا؛ لأننا إذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، فنفى الجهم عن الله عز وجل اسم الحي، والعالم، والسميع، والبصير، وغير ذلك من الأسماء، قال: لأن المخلوقين يتسمون بهذه الأسماء، واشتراك الخالق مع المخلوق في هذه الأسماء يوجب التشبيه، أي: أن يكون المخلوق كالخالق، والعكس بالعكس، لكنه يسميه: المحيي، المميت، الموجب، الفاعل، الخالق؛ لأن هذه الصفات لا تطلق على العباد ولا على المخلوقين، ويسميه القادر، لكن العبد يوصف بأنه قادر، وعند الجهم بن صفوان والجعد بن درهم ليس قادراً؛ لأنه مجبور في جميع أفعاله، لذلك يقولون: الفاعل الحقيقي لأفعال العباد هو الله، والعبد ما هو إلا صورة تجرى عليه تلك الأفعال والأقوال، فهم الذين يقولون بفكرة الجبر، أي: أن الإنسان مجبور في أقواله وأفعاله، فينفون عن العبد الإرادة والمشيئة بالكلية، فلا إرادة ولا مشيئة ولا قدرة له على الأفعال والأقوال أبداً، وإنما الفاعل الحقيقي لذلك كله هو الله عز وجل، والعبد ما هو إلا صورة، ولذلك يقولون: بفناء الجنة والنار، فالدوام عندهم مستحيل.

نفيه لصفات الله تعالى

نفيه لصفات الله تعالى وأما مذهبه في الصفات: فهو ينفي الصفات عن الله تعالى؛ لأن إثباتها يقتضي التشبيه كما هو مذهبه في كثير من الأسماء، وقال ابن تيمية: أصل قول الجهم هو نفي الصفات. أي: العمدة الذي يعتمد عليه مذهب الجهم: هو نفيه لصفات المولى عز وجل. ولـ أبي الحسن الأشعري كلام في ذلك، وهو قد تاب من بدعته، حيث إنه تربى في حجر أبي علي الجبائي شيخ الاعتزال في ذلك الزمان، وكان زوجاً لأم أبي الحسن الأشعري، فتربى أبو الحسن في حجر أبي علي الجبائي صغيراً، فرضع من أدب الاعتزال حتى صار منظراً في الاعتزال، وحتى قيل: أفلس المعتزلة لما اعتزلهم أبو الحسن، وصار له مذهب سيئ كذلك في مذهبه الجديد وهو المذهب الأشعري، فلم يكن للمعتزلة في ذلك الزمان منظر قوي وفصيح وبليغ يقيم الحجة على الخصم كما كان في أيام أبي الحسن. وأبو الحسن رحمه الله انخلع كذلك من مذهبه الثاني وتاب منه على المنبر أمام الملأ، وقال: أخرج من كلامي كما أخرج هذا السيف من غمده، وسل سيفه من غمده على المنبر، وتوبته مذكورة عند كل من ترجم له إلا أهل البدع؛ فإنهم يخفون هذه التوبة، بل قد صنف أبو الحسن كتباً في عقيدة أحمد بن حنبل، وعقيدة أهل السنة على مذهب أهل السنة، مع أنه قد أخطأ في مسألة أو مسألتين بعد توبته، وذلك أن للبدعة رواسب، وآتوني بصاحب بدعة في هذا الزمان تاب من بدعته إلا وله رواسب، كأن يدعو إلى مذهب التكفير والهجرة مثلاً وقد تاب منذ عشرين عاماً فلا بد أن لديه رواسب. وصاحب البدعة نشيط، وصاحب السنة خامل للأسف الشديد، فـ أبو الحسن الأشعري صنف كتاب الإبانة في أصول الديانة بعد توبته، وتأتي تكلم الأشاعرة فيقولون لك: نسبة الإبانة لـ أبي الحسن نسبة مشكوك فيه، وكذلك كتابه: مقالات الإسلاميين، وهو كتاب رائع جداً وممتاز، لكن لا يجوز لأحد من طلبة العلم الصغار أن ينظر فيه؛ لأنه أصعب من كتب أهل الكتاب، والذي يقرأ فيه وليست عنده أرضية متينة قوية في باب الاعتقاد فلابد أنه سيزل؛ لأنه سيفهم الأمور خطأ، وأما كتاب الإبانة فسهل جداً ويسير، ويصح أن يكون مقدمة في علم الاعتقاد للطلاب، لكن أيضاً لا أحب ذلك؛ لأجل أن هذه العقيدة لم تكن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار كعقيدة الإمام أحمد بن حنبل، وعلى أية حال هو معذور في مسألة أو مسألتين أخطأ فيهما، وقد قال: فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله عز وجل، وهو توفيق الله وهدايته، يهدي من يشاء، فيكفي أنه قال: وإن كان خطأ مني فإني أبرأ إلى الله منه، وأصير فيه إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، والأئمة كلهم يقولون: لا يحل لأحد أن يقبل قولنا ما لم يعلم من أين أخذنا؟ فالتقليد والتعصب للمذهب بدعة وضلالة مع ظهور الدليل في مخالفة قول الإمام، وكل يتبرأ من قوله إذا كان قوله مخالفاً للكتاب والسنة، وليس لأحد حجة ولا عذر أن يقول: أنا حنفي أو شافعي أو مالكي أو غير ذلك؛ لأن هؤلاء تبرءوا من أخطائهم، ولابد أنهم يخطئون؛ لأنهم بشر، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم. والكلام عن الأشاعرة سيأتي معنا بإذن الله، وأنا لا أريد أن أسبق الأحداث، لكن على أية حال متأخرو الأشاعرة مثل الشيعة، فتقول للشيعة: الأئمة الاثنا عشرية تبرءوا منكم، والبراءة ثابتة في النص الصحيح، فيقول لك: تبرأ هؤلاء تقيه! فتقول لهم: لكن علي بن أبي طالب أثنى على عمر وأثنى على أبي بكر وأثنى على عثمان وقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين، قالوا: قال ذلك تقيه! فنقول: لكن أنتم شرطكم في الإيمان: أن يكون شجاعاً مقداماً، والتقية تتنافى مع الشجاعة، يقول لك: نعم علي بن أبي طالب كان أشجع الخلق، لكنه قال ذلك تأدباً وتواضعاً! فنقول: لكن أنتم تكفرون أبا بكر وعمر، فكيف يحترم علي رجلاً كافراً ويتأدب معه؟! ألا يستحق القتل؟ لأنهم قالوا في كتبهم: لو كان أبو بكر -قال هذا الكلب الهالك الخميني -وعمر في زماننا، ثم يقول: ومعاذ الله أن يذكرا على لساني! -أي: أنه أطهر من أنه يذكر أبا بكر وعمر - ما وسعني إلا قتلهما. قال أبو الحسن: قال جهم: إن علم الله محدث هو أحدثه، أي: لم يكن ثم كان، فمن الذي علمه؟ قالوا: هو الذي خلق علم نفسه، ثم اختلفت الأخبار عن الجهم: متى خلق الله العلم؟ هل خلقه في الأزل، أم خلقه بعد العمل، أم في أثناء العمل، أم قبيل العمل؟ قال بكل قول من هذه الثلاثة إلا أن يكون علم الله أزلياً، قال: ليس علمه أزلياً، بل علمه حا

الإيمان عند الجهمية

الإيمان عند الجهمية ولهم كلام في الإيمان، فقد قالوا: الإيمان عند الجهمية هو المعرفة بالله فقط، فما دام الرجل يعرف بقلبه أن الله تعالى موجود؛ فهذا كاف، وإن نطق الكفر بلسانه، أو ترك جميع الأركان والفرائض ما ضره شيء من ذلك! لأن الأصل في الإيمان عندهم معرفة القلب. إذاً تعريف الإيمان عند الجهمية لابد وأن يدخل فيه إبليس، أليس إبليس يعرف الله تعال؟ بلى، وهل إبليس أنكر ربوبية الله عز وجل؟ أبداً ما أنكرها، بل أقرها في القرآن مراراً وتكراراً، فإبليس مؤمن، ولذلك ما استحت الجهمية أن يحكموا لإبليس ولفرعون بالإيمان، ثم صنفوا رسائل وذكروا كلاماً فيما يتعلق بالرد على الناصبة -أي: أهل السنة- مع أنهم هم الذين يناصبونهم العداء في إثبات إيمان فرعون وإثبات إيمان إبليس، فالإيمان عندهم هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله. قال جهم: من أتى بالمعرفة -المعرفة تختلف عن العلم- ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد. مثل أن يأتي شخص فيقول لك: تعرف النظرية الفلانية؟ تقول له: نعم أعرفها، لكن لو أنك جحدت النظرية بعد إقرارك بمعرفتها فلا يستلزم أنك فعلاً قد جهلت هذه النظرية، ولذلك يقولون: الذي يقر بالربوبية والإلهية ثم جحد بعد ذلك؛ فهذا الجحود لا يؤثر على المعرفة. وقال: الإيمان لا يتبعض، أي: لا ينقسم إلى عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان، ولا يتفاضل أهله فيه، أي: لا يزيد مؤمن على مؤمن، بل كل المؤمنين في ذلك سواء، سواء في ذلك الملائكة أو البشر أو الجن أو سائر المكلفين، فكلهم في مسألة الإيمان على مرتبة واحدة، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل، وهذا غير صحيح؛ فعموم المعارف عند أهل السنة وليست المعرفة بالله فقط تتفاضل، فليست معرفة زيد بالله عز وجل كمعرفة عمر.

قول الجهمية بالجبر، وإنكارهم الشفاعة والكرسي والاستواء وغير ذلك

قول الجهمية بالجبر، وإنكارهم الشفاعة والكرسي والاستواء وغير ذلك ولهم قول كذلك بالجبر، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده؛ إذ إنه هو الفاعل الحقيقي، والعبد مسلوب الإرادة، مسلوب المشيئة، ولذلك من الظلم أن يعذب في الآخرة هكذا يقولون، وهذا بعض ما أنكر الجهم، فقد أنكر أن يكون الله تعالى على العرش، وأنكر أن يكون لله تعالى كرسي، وأنكر أن يكون الله تعالى في السماء دون الأرض، وأنكر أن يكون لله تعالى وجه وسمع وبصر ويد، وأنكر أن الله استوى إلى السماء، وأنكر أن الله تعالى يتكلم أو أنه كلم موسى تكليماً، وأنكر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكر النظر إلى الله تعالى، وأن يكون لله حجاب، وأنكر أن ملك الموت يقبض الأرواح، وأنكر عذاب القبر، وأنكر منكراً ونكيراً، وأنكر الميزان، وأنكر الكرام الكاتبين، وأنكر الشفاعة. فانظروا حتى لا تتصوروا أن الكلام عن الجهمية كلام ليس له قيمة وليس له داعي في هذا الزمن؛ إذ إن التوحيد منتشر، والإسلام منتشر، ومصرنا أحسن بلد في العالم، ونحن الحمد الله جيدين! لا، نحن لسنا جيدين، فقد صنفت كتباً في إنكار الميزان والصراط وعذاب القبر وإنكار الشفاعة، فهذه أصول من أصول الجهمية، فهناك أستاذ في جامعة الأزهر أنكر الصراط والميزان والحساب؛ لأن هذه كلها معنويات، ثم يتهكم بعد ذلك ويقول: عليهم أن يثبتوا هل للميزان كفة أم كفتان؟ وإذا كان له كفتان فهل يكون مثل ميزان الدنيا؟! إذاً ونحن قائمون من قبورنا وقادمون على الله نأخذ معنا البطاطس والطماطم من أجل أن نوزنها! فهو يتهكم ويسخر، مع أنه أستاذ في جامعة الأزهر! كما أنكر الجهم الشفاعة، وأنكر أن قوماً يخرجون من النار، وأنكر أن الجنة والنار مخلوقتان، وزعم أنهما تفنيان بعد خلقهما.

مناظرة الجهم لقوم من السمنية

مناظرة الجهم لقوم من السمنية وقد ناظر جهم قوماً من السمنية الدهرية المجوسية الذين جحدوا الإله، وهذه المناظرة تبين بعض آراء جهم، وهي مناظرة كبيرة مشهورة، قال السمني لـ جهم: نناظرك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، قالوا له: أنت تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا =مع أن من كلام الله عز وجل القرآن الكريم- قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟! ولولا أن الله تعالى حكى في القرآن مقالة الكافرين ما تجرأت على أن أقول حرفاً واحداً من هذا، وما نذكرها إلا على سبيل فضحهم وبينان ضلالهم. فعند ذلك تحير الجهم، وتحيره دليل على جهله واغتراره بالله عز وجل، فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة والنصارى، وذلك أنه جلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول لهؤلاء القوم؟ ومثل ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال السمني: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فهل وجدت له حساً؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.

الآيات التي بنى عليها الجهم أصل مذهبه

الآيات التي بنى عليها الجهم أصل مذهبه وذكر الإمام أحمد أن الجهم بنى أصل كلامه على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: الأولى: آية نفي الإدراك، قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وقلنا من قبل في هذه الآية: إن الإدراك يعني الإحاطة والشمول. الثانية: آية نفي المثل؛ لينفي بها الصفات، ويجعل من أثبتها مشبهاً. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقد أخذنا في الكلام عن القدرية: أنه ما من صاحب بدعة إلا ويحتج بأول الآية ويترك آخرها، أو يحتج بآخرها ويترك أولها، فمثلاً: هذه الآية كلها توحيد لله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: لا تشبهه الأشياء ولا تماثله، وليس له في الأشياء والمخلوقات مثيل ولا شبيه ولا ند ولا كفؤ، ثم أثبت أنه السميع البصير، فسمعه يختلف عن أسماع الأشياء، وبصره يختلف عن أبصار الأشياء، إذاً هو سميع بسمع يليق بجلاله، وبصير ببصر يليق بجلاله؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فأهل السنة يحتجون بأول الآية وآخرها، وأهل البدعة يحتجون ببعض الآية ويتركون البعض الآخر. الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، فقالوا: ما دام في الأرض فهو في الأرض بذاته، وما دام في السماء فهو في السماء كذلك، وهو ما بين السماء والأرض، حتى في الأراضين السبع، لكن كل هذا يقولون: بذاته، وهذا الذي جعل أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله بذاته مستو على العرش، فلم يكونوا يقولون: بذاته في أول الأمر، لكن لما تطرق المبتدعة إلى القول في الذات اضطر أهل السنة والجماعة أن يقولون: بالذات كذلك، فأهل السنة والجماعة يقولون دائماً: الله على العرش استوى، ولا يقولون بذاته ولا بغير ذاته، وإنما يسكتون عن هذا؛ لأن الله تعالى قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لكن لما قالت المبتدعة: هو في كل مكان بذاته؛ قال أهل السنة: لا، بل هو بذاته على العرش، وبعلمه وسمعه وإحاطته ورعايته في جميع الخلق، ومع جميع الخلق، فمعيته معية علم وسمع وبصر وإحاطة ورعاية وقيومية وغير ذلك من سائر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى، فلم يكونوا يقولون: بالذات أولاً؛ لأن الأدلة ليس فيها ذكر للذات، وما كانوا يتمنون أن يلجئوا لمثل هذا، وإنما ألجأهم واضطرهم إلى ذلك الرد على أهل البدع.

الأسئلة

الأسئلة

معنى الاستواء في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)

معنى الاستواء في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) Q قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فنؤمن ونشهد بذلك، لكن ما معنى الاستواء؟ A الاستواء له في اللغة عدة معانٍ، وكل معنى من هذه المعاني إنما يفهم من السياق، فإذا كان متعلقاً بالله عز وجل فمعناه: العلو والارتفاع، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: علا وارتفع، وقد حاضرنا مراراً وتكراراً في هذه الجزئية بالذات، وسيأتي معنا إن شاء الله في الرد على الجهمية عند الكلام على فوقية الله تعالى وعلوه على عرشه.

بيان عقيدة علماء دار العلوم

بيان عقيدة علماء دار العلوم Q عفواً، ليست عقيدة أهل الفلسفة الإسلامية في دار العلوم عقيدة أشعرية، بل هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ويحفل هذا القسم بعلماء سلفيين نافحوا ودافعوا عن العقيدة الصحيحة، مثل الشيخ: مصطفى حلمي، والدكتور: حسن الشافعي. A لا يا أخي! وإذا قبلت ذلك في الدكتور مصطفى حلمي؛ فأنا متأسف جداً أن أقبل هذا في الدكتور حسن الشافعي، فإن كتبه موجودة بين أيدينا، فتارة يصير إلى مذهب الخوارج، وتارة إلى الشيعة، وتارة إلى المعتزلة، ومعظم أقواله هي أقوال الأشاعرة، بل يرى كل شيء إلا أن يرى سلفياً أمامه، وإذا كان هذا موطن خلاف بيني وبينك فتفضل، وأنا عندي كتب الأستاذ حسن الشافعي وقد درسني، وأنا أعلم أنه ليس موجوداً في هذه البلاد، لكنه قد درسني في الدراسات العليا في دار العلوم وقال كلاماً في غاية الغرابة في وجود أخي الدكتور جمال السنوتي، والدكتور أكرم أستاذ موجود حي يرزق، والأستاذ الشيخ: محمد عارف السجوري في أنصار السنة وهو معنا، وبقية الدفعة لا أذكرها الآن. قال الدكتور حسن الشافعي: أما قول مالك: الاستواء معلوم فأنا أوافقه على ذلك، والكيف مجهول أنا أوافقه على ذلك، فقلت له: يا دكتور حسن! ما معنى الكيف مجهول؟ فأقسم بالله الذي في السماء أنه قال: الكيف مجهول على الله! فقلت: كيف يجهل الله تعالى ذاته؟ قال: إما أن تسكت وإما أن تخرج من المحاضرة، فقلت: بل أخرج، فخرجت فتلقاني من هو شر منه أحمد شلبي، فقال: اهدأ يا رجل! وأخذني إلى المكتبة، وقال لي: أنت لم تر آخر الأبحاث؟ فقلت له: لا، فقال لي: آخر الأبحاث في عيسى بن مريم، قلت له: وماذا فيها؟ قال: ألم تسمع أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن عيسى قد قتل، قلت له: هذه أبحاثك، وأنت لا يأتي منك إلا كل شر، فوقف وانتفض، قلت له: إذا تكلمت كلمة سأرد عليك، فجلس يصيح، وأنا إذا أردت أن أنسحب من قولي فأنسحب منه فعلاً؛ لأنني متأكد أن معظم أساتذة ودكاترة العقيدة في دار العلوم الآن سلفية وأفاضل جداً، ويكفي وجود الدكتور مصطفى حلمي بالقسم، وهذا دين لا يحابى فيه أحد، ورغم بعض الزلات للدكتور مصطفى حلمي التي وافق فيها الأشاعرة، لكن الرجل محب للسلف وعقيدة السلف، فإذا أخطأ في شيء فأظن أنه أخطأ فيه بغير علم، والله تعالى يعفو عنا وعنه.

من صفات الدجال أنه أعور

من صفات الدجال أنه أعور Q هل من المحتمل أن يكون الرجل الذي ادعى الألوهية هو المسيح الدجال؟ A لا؛ لأنه ليس بأعور، وإنما هو أعور القلب.

حكم الصلاة في مكان أهله أشاعرة

حكم الصلاة في مكان أهله أشاعرة Q هل تجوز الصلاة في مسجد الجمعية الشرعية بعد أن عرفنا أنها تقول بقول الأشاعرة؟ A نعم تجوز. والسؤال هذا ما كان ينبغي طرحه، يقول: من علماء الجمعية الشرعية من صنف كتاباً في العقيدة وسماه: هذه عقيدتنا، وإذا بها عقيدة الأشاعرة، وأنا يا إخواني لم آت بهذا من عندي، وكتاب (الدين الخالد) للشيخ: محمود خطاب السبكي، انظر إلى المجلد الأول في العقيدة ففيه عقيدة الأشاعرة، وإن كنا نعتقد أن معظم القائمين على الجمعية الشرعية أيضاً إخوة سلفيون، لكن أصل منهج الجمعية أشعري، والعجيب أنهم لا يريدون أبداً أن يتخلوا عن هذا.

حكم التجارة بالعملة

حكم التجارة بالعملة Q هل يجوز التجارة بالعملة؟ A نعم، هي جائزة شرعاً محرمة قانوناً.

حكم تكفير الجماعات

حكم تكفير الجماعات Q هل يجوز تكفير الجماعات كجماعات الشيعة؟ A جماعات الشيعة أو الخوارج أو المعتزلة أو القاديانية أو الجهمية الأمر فيها يحتاج إلى تفصيل، فغلاة هذه الفرق أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وأما عامة هذه الفرق فلا يكفرون إلا من نقض أصلاً عظيماً من أصول الإيمان.

نفي بعض الفرق لأسماء الله وصفاته لا يستلزم الخلود في النار

نفي بعض الفرق لأسماء الله وصفاته لا يستلزم الخلود في النار Q هل القدرية والأشاعرة والجهمية والفرق التي نفت الصفات والأسماء مخلدون في النار؟ A الأمر يحتاج إلى تفصيل، ولا يلزم كون هذه الفرق ليست من أهل السنة والجماعة أنهم كفار، بل هم من أهل القبلة، ولذلك نسبهم النبي إلى أمته، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار)، ولا يلزم من دخولهم النار الخلود فيها، ونحن قبل أن نبدأ في شرح كتاب ابن بطة تكلمنا عن حديث افتراق الأمة بكلام طويل في محاضرات عدة، وفصلنا بعض التفصيل، وربما يكون لنا ختام في نهاية الكتاب بذكر الكلام العام في هذه الفرق، وفي الدعاة إليها، وفي أتباعهم.

حكم استعمال السبحة

حكم استعمال السبحة Q هل يجوز استعمال المسبحة أم هي بدعة؟ A الذي أعتقده جواز استخدامها، وأنها ليست بدعة، وإن كنت لا أحب ذلك؛ لأنها صارت علامة على أهل البدع، فالذي يراك بمسبحة وأنت ماش في الشارع تسبح بها يعتقد أنك صوفي، فهي صارت علامة على أهل البدع، وكم من أمور مباحة يتركها الرجل مخالفة الوقوع في التهمة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

نبذة عن تاريخ الجهمية وأعلامها

شرح كتاب الإبانة - نبذة عن تاريخ الجهمية وأعلامها لقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فكان الدين كاملاً والسنة قائمة، إلى أن خلفت خلوف فابتدعت في دين الله ما ليس منه، وحرفوا وبدلوا، وكان من أوائلهم ظهوراً فرقة الجهمية المارقة، التي تكلمت في الدين، وعطلت ونفت أسماء الله وصفاته، ولقد بين السلف رحمهم الله ضلالهم وزيغهم، وحذروا من سلوك سبيلهم واعتقاد ما يعتقدون من الباطل والضلال.

ظهور البدع في الدين

ظهور البدع في الدين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم بن صفوان وعن شيخه الجعد بن درهم، وفي الجملة تكلمنا عن سلسلة أهل النار التي هي سلسلة مشايخ الجهم بن صفوان الذي هو زعيم الجهمية، وأن أصل بدعة التجهم إنما نشأت في الإسلام عن طريق سوسن النصراني العراقي والذي كان شيخاً للجعد بن درهم، وأصل هذه البدعة هو لبيد بن الأعصم، ذاك اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدنا أن نتكلم عن مذهب الجهمية. إذا كنا في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم الذي هو مؤسس هذا المذهب، فالكلام في هذه الليلة وما يتلوها بإذن الله تعالى عن الجهمية. لقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فبلغ البلاغ المبين، وأوضح للناس المنهج القويم الذي يجب أن يسيروا عليه في هذه الحياة، حتى يلقوا ربهم تبارك وتعالى، فتركهم عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها أحد بعده إلا هالك، وبالتالي لم يكن هناك خلاف ولا اختلاف في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان من شيء ينشأ عند الصحابة إلا ويبادرون بسؤال النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيقيمهم على الجادة. فهؤلاء الذين سول ووسوس لهم الشيطان في ذات الله عز وجل -لأن أعظم البدع المتعلقة بذات الله أو بأسمائه وصفاته- أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم فيه) ومع هذا لم ينقلوا أصل الوسوسة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما فهم عليه الصلاة والسلام ما عنه يتحدثون، فقال: (ذاك صريح الإيمان) أي: خوفكم أن تتلفظوا به يدل على إيمانكم الكامل والتام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق الجبال؟ من خلق الأنهار؟ من خلق السموات؟ من خلق الأرض؟ فتقولون: الله، فيقول: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟!)، هذا هو عين الوسوسة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وبين العلاج فقال: (فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا -أي: جاهدوا أنفسكم ألا يستقر هذا الوسواس في قلوبكم- وقولوا: آمنا بالله ورسوله)، فهذه ثلاث علاجات حددها النبي عليه الصلاة والسلام. إن الشيطان قد جثم على صدور أهل البدع والأهواء من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن أصول هذه البدع قد ظهرت بوادرها في زمنه عليه الصلاة والسلام كالخوارج مثلاً، فالخوارج جاء زعيمهم وهو التميمي المعروف، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم: اعدل يا محمد! هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم ولى الرجل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يخرج من ضئضئ هذا - أي: من صلب هذا ومن ظهره- أناس تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). فهذا كان أصل الخوارج، وهذا الرجل هو جدهم الأكبر وأبوهم الأعظم. انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل البدع أنهم من أشد الناس اجتهاداً في العبادات: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) أنتم يا أهل السنة! ويا معشر الصحابة! إذا رأيتموهم في حال عبادتهم احتقرتم صلاتكم وصيامكم وزكاتكم وقراءتكم للقرآن، ولذلك ينطلي على كثير من العامة بدع المبتدعين إذا رأوهم قد تنسكوا وتمسحوا بمسوح أهل العبادة والزهاد، ويقولون: كيف ذلك؟ هذا الرجل يصلي ويصوم ويزكي، بل ويحج كل عام، ومتصدق جواد ينفق على الفقراء والأيتام، وإذا رأيته في قيام الليل فحدث ولا حرج، بل وفي الجهاد وغير ذلك! إن المنافقين كانوا يجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام وهم من أهل النار، وكان يعرضون أنفسهم لبريق السيف مع نفاقهم، فليست العبادة دليلاً على صلاح العابد، بل ربما يكون من أعبد الناس، وقلبه أقسى من الحجارة، ويأتي بنواقض الإسلام كلها. وهذا رجل آخر -وهو من الخوارج كذلك- كان يجمع الناس فيجعلهم حلقاً في المسجد، فيجعل على كل حلقة أميراً وكبيراً يلقي لهم الحصى، فيقول: كبروا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فلما رأى ذلك أبو موسى الأشعري -وكان ذلك في الكوفة- قال: أتيت إلى ابن مسعود رضي الله عنه فانتظرت على باب بيته حتى خرج قال: ما شأنك يا أبا موسى؟! قلت: رأيت شراً، قال: هل أنكرت؟ قلت: لا، فجاء عبد الله بن مسعود

تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة وفي مضمونها الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع

تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة وفي مضمونها الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع لقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام الأمة على المحجة البيضاء ناصعة البياض لا اختلاف فيها ولا تفرق ولا تشرذم، ولم يتركنا ونحن في حاجة إلى معرفة شيء من أمر ديننا إلا بمستجدات الحياة التي لها أصول في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إما بها تلحق أو عليها تقاس، والفقه متجدد في كل زمان ومكان، ولذلك أصوله في الكتاب والسنة، أما أن تجد لكل حادثة في حياة الناس نصاً يخصها في الكتاب والسنة فلا، فإنما الكتاب أصول وعمومات بينته وشرحته وفصلته وقيدته السنة المطهرة، وعلى هذين الأصلين انبثق الإجماع، ومن الإجماع كان قياس الفرع على الأصل لاتحاد العلة، وهذا حال الناس إلى أن تقوم الساعة. أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد ترك هذه الأمة لا ينقصها شيء، وقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم ما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم بغير لم؟ ولا كيف؟ ما سمعنا واحداً يقول للنبي النبي عليه الصلاة والسلام: لم كذا يا رسول الله؟ وكيف كذا يا رسول الله؟ بل آمنوا بما ذكره الله تعالى من نصوص الأسماء والصفات للرب تبارك وتعالى خاصة، وأثبتوها كما جاءت، واتفقوا على إقرارها وإثباتها والإيمان بها وإمرارها مع فهم معانيها، فانظر إلى هذا القيد: (مع فهم معانيها)، حتى لا نقع فيما وقع فيه أهل البدع من تأويل أو تفويض للمعنى، وإنما نفهم المعاني كما نثبت الحقائق، ومع نفي العلم بكيفيتها نثبت حقيقة الصفة، وننفي العلم بكيفية هذه الصفة؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، فقد وصف الله تعالى نفسه بصفات، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فأخبر أنه يحب ويكره، ويمقت ويغضب، ويسخط ويجيء ويأتي، وينزل إلى السماء الدنيا، واستوى على العرش، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، كل ذلك من الصفات الخبرية وغير الخبرية أثبتها الله تعالى لنفسه. وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب من عباده، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، ومع الصابرين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى. كل ذلك قد آمن به الصحابة ومن بعدهم التابعون بغير أن يسألوا: كيف يده يا رسول الله؟! وكيف وجهه يا رسول الله؟! وكيف نفسه يا رسول الله؟! وكيف سمعه؟ وكيف إرادته؟ وكيف مشيئته؟ وإنما آمنوا بذلك كله على الوجه اللائق بالله عز وجل. فوصفه الصحابة بهذه الصفات الكاملة من غير تشبيهه بأحد من خلقه، ولا تعطيل له عن صفاته، ولا تمثيل له بغيره، ولا تأويل وصرف عن ظاهر هذه النصوص، آمنوا بذلك، وفروا من الابتداع في الدين، وأعظم الابتداع ما كان في أصل الدين، وفي ذات الإله وفي أسمائه وصفاته، وأمروا بالاقتداء لا الابتداع. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي. هذا ابن مسعود وهو سادس ستة في الإسلام -أي: من كبار الصحابة، ومن المهاجرين الأوائل- قال: إنا نقتدي ولا نبتدي، أي: لا ننشئ أمراً جديداً، وإنما نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نتبع أمراً من عند أنفسنا. قال: ونتبع ولا نبتدع، أي: نتبع النهج القويم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ولا نبتدع في دين الله. قال: (ولن نضل) لن: لنفي الحاضر والمستقبل، قال: (ولن نضل ما تمسكنا بالأثر) أي: ما دمنا قد تمسكنا بقال الله وقال الرسول، كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه هكذا قال ابن القيم يحدد أصول العلم الشرعي. لما سألني أحد السائلين المتفلسفين عن حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام قلت: أليس أصل العلم الكتاب؟ قال: بلى. ومن بعده السنة؟ قال: بلى. ومن بعده الإجماع؟ قال: بلى. قلت: هل جاء الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام في القرآن؟ قال: لا. في السنة؟ قال: لا. هل احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بميلاده؟ قال: لا. احتفل الصحابة بميلاده؟ قال: لا. التابعون؟ قال: لا. هل أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من ذلك؟ قال: لم يقع منهم شيء من ذلك حتى يقر أو يثبت. قلت: لو كان خيراً هل يصح أن يحجبه الله عن نبيه والصحابة الكرام ويظهره لنا؟ قال: مستحيل. قلت: إذاً: قد أجبت. قال: أنا ما أجبت. قلت: أنت قلت: هذا بدعة وحرام؛ لأن الحرام هو فعل ما لم يكن في القرآن ولا في السنة، ولا أجمع عليه العلماء خاصة الصحابة رضي الله عنهم، فقال: لكن هذا شيء لابد لنا منه، قلت: هذه مقولة المبتدعة في كل زمان يقولون هذا، ويقولون: ما الضرر من هذا إنما يذكرنا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنتهى البلاء أن تتذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كل عام مع أنك لا تنسى أباك، ولا تنسى أمك ولا صاحبك، بل ربما تستيقظ من النوم قبل ميعادك لتنظر في وجه صاحبك؛ لفرط محبتك له، فهل

خطر كتب اليونان والفرس على عقيدة المسلمين

خطر كتب اليونان والفرس على عقيدة المسلمين ثم دخل الشر بعد ذلك لما ترجمت كتب اليونان في زمن العباسيين، وكتب الفرس؛ لأن الفرس كانوا أصحاب حضارة، واليونان كانوا أصحاب حضارة، فلما ترجمت كتب حضارة الفرس وحضارة اليونان إلى الإسلام، دخلت الفلسفة والثقافات الغربية على المسلمين، فأفسدت عليهم أمر دينهم، واشتغل بعضهم بدراستها لاعتقادهم أنها تزيدهم معرفة ويقيناً، في الوقت الذي أعرضوا فيه عن كتاب الله عز وجل. فلو أخرجنا مثلاً من الأمثلة لوجدنا أن طه حسين أعمى البصر والبصيرة، ذهب ليدرس الفلسفة الغربية في فرنسا، ورجع بالشك في كل ثوابت الإسلام وأصوله، حتى قال: لابد من الشك في كتاب الله حتى نصل إلى الحقيقة، وبكل وقاحة أثبت هذا في كتابه، بل في بعض كتبه قال: لابد من الشك، وكان اتخاذ الشك مصدراً أساسياً لتعطيل العلوم عنده، فكان مذهب التعطيل والشك دائماً في كل النصوص الشرعية وفي الإجماع، وأنكر كثيراً من الأصول الشرعية. ثم أعلن ولده من بعده تقريباً سنة (1988م) تنصره في الكنيسة العظمى في باريس، فكان تعليق المشايخ وأهل العلم: وماذا تنقمون على ابن طه حسين إذا كان هو شر خلف لشر سلف، فهو قد سار على نهج أبيه؟ ولكن هناك تلميع لمثل هذه الشخصيات حتى تكون القدوة في بلاد المسلمين، إذ كانوا يضيفون عليهم ألقاباً عظيمة جداً مخيفة ومهولة، بحيث لا يقدر الواحد أن يخترق هذا الجدار من هذا الأدب العربي، ومن يستطيع أن يتكلم كلمة واحدة مع عميد الأدب العربي؟ وهكذا الإمامة لفلان الفلاني، والكاتب الإسلامي الكبير، والمفكر الإسلامي الكبير، وهكذا كل من سار على نهج هؤلاء المستشرقين وأتوا إلى هذه البلاد وصاروا على نهجهم، ثم اتخذوا لهم أذناباً في هذه البلاد عندما فارقوا بلاد الإسلام، فبقي بيننا من يتكلم بألسنتنا ويدين ظاهراً بديننا، وهو أطعن لنصوص الشرع، وأبعد الناس عن دين الله عز وجل. قصص في كل زمان ومكان تتم بمشيئة الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر سبحانه وتعالى، لما ترجمت هذه الدراسة اعتقدها الدارسون، واعتقدوا أنها تزيدهم علماً ومعرفة ويقيناً في الوقت الذي أعرضوا فيه عن كتاب الله وسنة رسوله، وزهدوا فيهما، فعند ذلك دخلت عليهم الشبه والضلالات، عندما يكون الإنسان حصيلته من الثقافة الغربية مذهلة، ورصيده من الإيمان صفراً أو فوق الصفر بشيء يسير؛ لاشك أن الشبه والضلالات تدخل عليه، واستغل ذلك أعداء الإسلام من اليهود والفرس واليونان وغيرهم، فأخذوا في ترويج باطلهم مستخدمين في ذلك من لم يتشبع بعلم الكتاب والسنة، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه ممن دخل الإسلام؛ ليطعنه في صميم عقيدته، وكانت بعض مقالات الضلالات قد ظهرت ذيولها في أواخر عصر الصحابة كما قلنا من قبل. ولكنها كانت محصورة في نطاق ضيق، وكانت في مسائل محدودة يسيرة، ثم استفحل الشر، وانتشر بعد ذلك بعد أن ترجمت كتب الضلال، وتطورت الخلافات وتعددت علوم الفلسفة والكلام. إن أقسام العقيدة في الجامعات الآن يسمونها: قسم الفلسفة، أو قسم علم الكلام، حتى تعلموا أن هذه التسمية نفسها تسمية غربية لا تسمية شرعية، فعلم الكلام أو المتكلمين، أو قسم الفلسفة، كل هذه مصطلحات غربية لا علاقة للإسلام بها.

المنهجية التي سلكها علماء السلف في الرد على طوائف الضلال والانحراف

المنهجية التي سلكها علماء السلف في الرد على طوائف الضلال والانحراف وانبرى علماء السلف لما انتشر الفساد؛ للرد على طوائف الضلال، وبيان الحق من الباطل، وكشف الشبه، والتحذير من الخروج عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. وحثوا على الالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قال أبو العالية الرياحي: تعلموا الإسلام؛ لأنك لو تعلمت الإسلام استرحت وعرفت الحق من الباطل، والخير من الشر، والضلال من الهدى، وما سلمت رقبتك لآحاد الناس، وإنما الأمر كما قال العلماء: اعرف الحق تعرف أهله، إن الدين لا يعرف بالرجال ولا بالمناصب ولا بالوجاهات ولا بالزعامات ولا بالإمارة، إنما الدين بمعرفته ومعرفة أبنائه وأهله المخلصين العاملين. إن الدين لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالدين، فالدين هو القاضي والحاكم في الناس، وليس الناس يحكمون في دين الله عز وجل. قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فتعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فتعلموا السنة. إذاً: الخطوة الأولى: دخولك في الإسلام. الثانية: أن تتعلم القرآن بعد الإيمان؛ ولذلك قال عبد الله بن عمر: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً. إذاً: توحيد الله تعالى هو أهم شيء؛ لأن الإسلام هو النطق بالشهادتين واعتقادهما، والعمل بمقتضاهما، ولكن الصحابة الأوائل لما نطقوا بكلمة التوحيد في أول بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كان لهم من الإيمان والكمال والتمام فيه ما لهم بغير عمل؛ لأنه لم تنزل الأعمال حينئذ، فلم تشرع الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة ولا الحج، ولا الأمر بالمعروف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً أن يدعو سراً، فلم يكن هناك شيء من العمل في أول الأمر، ومع هذا كانوا في كمال الإيمان وتمامه؛ لأن هذا هو المفروض عليهم في ذلك الوقت. فلما أتوا به كاملاً كانوا على درجة عالية من كمال الإيمان والإسلام، فقوله: (تعلموا الإسلام) أي: تعلموا توحيد الله، تعلموا الإيمان الحق بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالأنبياء والكتب، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وغير ذلك من مسائل الإيمان، والتي منها: الغيب، وغيره. فإذا تعلمتم هذا واستقر الإيمان في قلوبكم، فتعلموا القرآن؛ لأن القرآن مع هذه الأرض الصالحة الطيبة ينفع، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58] والتقدير: لا يخرج منه إلا نكداً. فإذا كانت الأرض صالحة والإيمان قد استقر في القلب، فحينئذ لا يسمع القلب آية من كتاب الله إلا وينتفع بها، يقف عندها فيقول: ما المراد من هذه الآية؟ وما المطلوب مني؟ وما الواجب؟ فلا يمر بآية إلا ويعمل بها؛ ولذلك جاء عن الصحابة أنهم كانوا يتعلمون القرآن عشر آيات عشر آيات، يحفظونها علماً وعملاً واعتقاداً، ولا يتعدونها إلا إذا عملوا بمقتضاها، فازدادوا بهذا العمل إيماناً؛ لأن الإيمان يزيد بالعمل -أي: بالطاعة- وينقص بالمعصية، فحينئذ قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فتعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فتعلموا السنة، فإن سنة نبيكم صراط مستقيم. وإياكم وهذه الأهواء المؤذية -أي: البدع والأهواء والضلالات والانحرافات عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. إياكم وإياهم- فإنها تلقي بين الناس العداوة، وعليكم بالأمر الأول العتيق، أي: سنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام مالك: إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله! وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته. أي: على جهة النفي أو التأويل أو التحريف أو التمثيل، أما الذي يتكلم في أسماء الله وصفاته على سبيل الإثبات اللائق بالله عز وجل فهم أهل السنة والجماعة. قال: أهل البدع هم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه -أي: ينفون عن الله تعالى أنه يتكلم- وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.

قول الإمام الأوزاعي في لزوم السنة وترك البدعة

قول الإمام الأوزاعي في لزوم السنة وترك البدعة وقال الإمام الأوزاعي عالم الشام: اصبر نفسك على السنة -يعني: ألزم نفسك على اتباع السنة- وإن كان يخفى عليك شيء منها ففوض أمرها إلى الله عز وجل، فليس بلازم أن تفهم كل شيء، ومن من الناس يفهم حتى في مجال عمله كل شيء، الذي يقتات منه في كل يوم، ويمارسه في كل يوم عدة ساعات، تخفى عليه مسائل في عمله، فمن باب أولى أن يسكت عما لم يفهمه فيما يتعلق بأمور الغيب، ويؤمن به كما جاء ويمره إمرار الكرام إيماناً وإقراراً وإثباتاً على ما يليق بالله تعالى بكماله وجلاله، فصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم. وإذا قلنا: (قف حيث وقف القوم) فإن القوم هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والتابعون لهم بإحسان الذين ساروا على نفس الخط ونفس النهج، الذين لم يختلفوا في صفات ذاته تبارك وتعالى، صفات الذات من اليد والعين والساق والقدم وغير ذلك. أو الخبرية: كالمجيء والإتيان، والغضب والرضا والسخط، وغير ذلك من الصفات فهذه الصفات هل قرأها الصحابة في كتاب الله أم لا؟ A قرءوها، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأها التابعون، فإن قيل: هل نحن أحسن من هؤلاء؟ A لا. السؤال الثاني: هل النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: كيف عينك؟ كيف قدمك؟ كيف تنزل إلى السماء الدنيا؟ كيف استويت على العرش؟ الجواب: لا. فإن قيل: هل يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ الجواب: لا. لا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا يعرفه إلا الله، أي: لا يعرف كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى. ولذلك لم يثبت أن واحداً من الأنبياء أو المرسلين أو الحواريين أو الأصحاب أو آحاد الناس ومن سار على نهجهم ورضي بمنهجهم أنه سأل عن الكيف مطلقاً، وإنما آمن به، وأمره كما جاء، وما خاض فيه بشيء من ذلك. وهذا يدل على أن الذي خاض سلك سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وغير سبيل المرسلين، فهو من أهل الضلال والبدع؛ لأن الأنبياء والمرسلين ما تركوا خيراً إلا وقد دلوا أممهم عليه، وخيرهم نبينا عليه الصلاة والسلام، فما ترك شيئاً فيه خير لنا وصلاح لنا ونفع لنا وتقريب إلى الله وإلى جنته إلا وقد أمرنا به وحثنا عليه، وما ترك شيئاً فيه شر لنا، وفساد لنا، وإبعاد لنا عن ربنا، وإدخال لنا في النار إلا وقد نهانا عنه عليه الصلاة والسلام. قال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، إذا تكلموا في شيء فتكلم فيه؛ لأنهم عن علم تكلموا، فلا بأس أن تتكلم بما تكلموا به، وكف عما كفوا -الذي أمسكوا عنه يجب عليك الإمساك عنه- واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم، ولو كان خيراً ما خصكم الله تعالى به دون أسلافكم. لو قلنا: ناهيكم عن نصوص الشرع، لو وزناها بالمنطق والعقل لقلنا: لا يمكن أن يخفي الله خيراً على نبيه ويظهره لنا! هذا مستحيل، والقول بذلك يلزم منه: أن الأنبياء ما عرفوا الحق وما عرفوا الخير، وإن كانوا قد عرفوه وما بلغوه إلى أممهم فقد خانوا الله وخانوا الرسالة، إذاً: الرسل والأنبياء بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على سائر الخلق أجمعين، فلو كان الخوض في الصفات خيراً لما أخفاه الله على نبيه وأصحاب نبيه، ثم يبلغ الله به من بعدهم، والقائل بهذا يلزمه أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى يومنا هذا أجمعوا على الضلال، والأمة معصومة من ذلك. قال: ولو كان خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم، وإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم في فضل عندكم. أنتم لستم أفضل منهم، وهم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام اختارهم الله وبعثه فيهم.

قول أبي حنيفة فيما أحدثه الناس من الأعراض والأجسام

قول أبي حنيفة فيما أحدثه الناس من الأعراض والأجسام وقال نوح بن أبي مريم. وهو أبو عصمة المروزي القرشي هذا كذاب ووضاع، وهو الذي وضع في فضل سور القرآن سورة سورة، وضع حديثاً في فضل كل سورة، والحديث الواحد عبارة عن كراسة أو (كشكول)، وهذا لا يمكن أن يقوله النبي عليه السلام، فإن أعظم خطب النبي عليه الصلاة والسلام هي خطبة حجة الوداع، وخطبة فتح مكة، ولا تبلغ ثلاث صفحات. لكن عندما يأتي شخص في هذا الوقت بدفتر كامل ويقول: هذا دعاء أربعة من الصحابة، فلا شك أن هذا الكلام ليس من دين الله عز وجل أبداً، فالدين قال الله قال رسوله قال الصحابة، وليس هذا منه أبداً، فقد كثرت هذه الأوراق في هذه الآونة الأخيرة، حيث يأتي في ذيلها أو في عقبها تحذير ووعيد شديد، ثم يتبع هذا الدعاء أو الحديث سبع وسبعون أمراً، منها: قد يحرق الله لك مرادك، ويحرق لك ابنك، وأنت ليس لك في ذلك فائدة؛ لأنه ليس فيه من علم ابن تيمية عليه رحمة الله شيء، فإن ابن تيمية إذا ذكرنا اسمه فذكره كفاية، كما قال سفيان الثوري: عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات. وكان ابن تيمية يناقش الصوفية الرفاعية، وهم من شر الخلق، وشر الناس ابتداعاً في الدين، وفاقوا حد التصوف بحدود كثيرة متناهية؛ حتى كان الواحد منهم يمسح بدنه بشحم الثعبان أو بنوع معين من الشحوم لا يتأثر هذا الشحم بالنار، كشحم الضفدع والثعبان، وكلاهما عجيبان، ثم يدخلون في النار ولا تضرهم، فقال ابن تيمية: ندخل النار نحن وأنت فمن أكلته النار فهو على الباطل، ومن نجا من النار فهو على الحق. ولما وقفوا على النار قال ابن تيمية: يغتسل كل منا قبل دخول النار؛ لأن الماء يزيل هذا الشحم. فرفضوا الاغتسال، فرفض ابن تيمية أن يدخل النار؛ لأنهم رفضوا أصل التحدي. وفي رواية: أنه دخل النار وخرج منها ولم يحترق، ولما دخلوا هم أحرقتهم النار؛ لأنه صاحب حق، وقد كان أعلم الناس في زمانه بالله عز وجل، فإن العلم الخشية، والعلم علمان: علم بالأحكام من الحلال والحرام، وعلم بالله وهو الخشية والرجاء. والرجاء بعد العمل لا قبل العمل، فإن الرجاء قبل العمل غرور واغترار بالله تعالى، أما بعد العمل فهو رجاء صحيح في الله عز وجل. قال نوح الجامع، وهو نوح بن أبي مريم الذي يعرف بـ نوح الجامع، وقد لقب بـ الجامع؛ لأنه جمع كل شيء إلا الخير، جمع الشر كله. قال نوح: قلت لـ أبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ الأعراض: كل ما هو معنوي من إثبات النفس لله عز وجل، والأجسام: هي الجوارح من إثبات اليد والعين والساق وغير ذلك من صفات ذاتية له سبحانه وتعالى. قال: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: هي مقالات الفلاسفة، أي: من منهج الفلاسفة، وليس من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام. ثم قال له: يا نوح! عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة. أي: كلام الفلاسفة والمتكلمين كله بدعة حتى ما وافق منه الشرع، فإنه لا يجوز لأحد المسلمين أن يحتج به، وإنما يحتج بما جاء في الشرع؛ لأن هذا هو الطريق الحقيقي الذي يستجلب رضا الله عز وجل، فهذا أبو حنيفة رحمه الله ينصح نوحاً الجامع بسلوك سبيل السلف، والتزام الأثر، وسلوك ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من نهج وأصحابه الكرام.

جواب الإمام مالك على من سأله عن الكلام والتوحيد

جواب الإمام مالك على من سأله عن الكلام والتوحيد وسأل رجل إسماعيل الرياحي المزني عن شيء من الكلام فقال: إني أكره هذا -أنا أكره الخوض في هذه المسائل- بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، فلقد سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقال مالك: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد. محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: توضئوا كذا وصلوا كذا، وزكوا كذا وصوموا كذا، ولم يعلمهم الإيمان بالله وتوحيده في الأسماء والصفات وتوحيد الذات وتوحيد الأفعال، محال أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك وعلمهم كيف يتوضئون وكيف يصلون؛ لأن هذه العبادة كلها لا تصح إلا بعد صحة التوحيد وصحة الاعتقاد، فكيف ينطق النبي صلى الله عليه وسلم بالفرع ويترك الأصل؟ ومن خلال هذا الكلام نعلم أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم خاضوا في شيء من ذاته أو صفاته أو أسمائه، إذاً: يسعنا ما وسعهم، فلما لم يتكلموا في توحيد الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته وآمنوا بها وأخذوها كما جاءت فإنه يلزمنا ما لزمهم، ويحرم علينا الخوض فيه كما كان يحرم عليهم الخوض فيه. قال: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فهذا هو أصل الأصول، فالله سبحانه لا يقبل من أحد ديناً إلا بهاتين الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ولا يسمى العبد مسلماً إلا إذا أتى بهاتين الشهادتين ظاهراً وباطناً عند الله عز وجل، وأما عند الخلق فيأتي بهما ظاهراً، وإن كان هناك نفاق في قلبه فله حكم الإسلام في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه عند الله كافر، ومن المخلدين في النار؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وما عصم الدم والمال والأعراض حقيقة إلا بهذه الكلمة.

مناظرة الشافعي لبشر المريسي وإخباره بأنه لن يفلح لأنه مبتدع ضال

مناظرة الشافعي لبشر المريسي وإخباره بأنه لن يفلح لأنه مبتدع ضال دخل بشر المريسي -وهو سيد من سادات أهل البدع والضلال- على الإمام الشافعي، فقال الشافعي لـ بشر: أخبرني عما تدعو إليه. وهذه المناظرات يا إخواني! وإن كانت تنتهي بكلمتين أو ثلاث إلا أنها مقنعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قال الشافعي لـ بشر: أخبرني عما تدعو إليه. أكتاب ناطق -يعني هل تستند فيما تقول إلى كتاب الله عز وجل- أو سنة قائمة -حجتك فيما تقول قال الله قال الرسول- ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ ومعلوم أن بشراً سيجيب كما يجيب أهل الضلال؛ لأنه مبتدع فهو يقولها بلسان الحال، فيجيب عن أسئلة هذا مفادها. قال: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه. فهو يعلم أن المرد والملجأ دائماً إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول وإلى الصحابة رضي الله عنهم، لكن إن قيل له: فلم تسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة؟ قال: لأنه أمر ضروري لابد لنا منه، ولا يسعنا السكوت عنه، فإن قيل له: أليس ما وسع السلف يسعك؟ لا شك أن الجواب عنده: لا، بدليل أنه تكلم وقال: هو أمر ضروري لنا؛ فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ، يعني: أنت حكمت على نفسك أنك مخطئ؛ لأن ما أتيت به إنما هو قول اتبعته وأتيت به من عند نفسك لا من عند الله عز وجل. قال: فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار تواليك الناس عليه فتترك هذا؟ قال بشر: لي نبذ فيه، وهكذا شغل بشر نفسه بما حرم الله عز وجل عليه أن يشتغل به. قال: فلما خرج بشر من عند الشافعي قال الشافعي: لا يفلح. فهو من الخاسرين الهالكين لا يمكن أن ينال الفلاح أبداً.

قول الإمام أحمد في الحارث المحاسبي

قول الإمام أحمد في الحارث المحاسبي وكتب الإمام أحمد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال له: لست بصاحب كلام. أي: إذا كنت أرسلت إلي بشيء من هذا تريد أن أناظرك فيه وأجادلك فاعلم أني لست بصاحب كلام، ولا أحسنه ولا أجيده. هذا الباب للإمام أحمد بن حنبل، لما كان يسأل في شيء لم يكن عنده فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: أنا لا أفهم هذا ولا أعرفه، فاسأل أحداً غيري عن هذا، وليس معنى (لا علم لـ أحمد به): أنه يعجز عن الرد، ولكن أحمد كان ينزه لسانه وسمعه أن يسمع شيئاً من تلك الفلسفات. أضرب لكم مثالاً: الحارث المحاسبي رجل له كلام متين جداً في الزهد وفي محاسبة النفس وغيرها، وله كتاب اسمه: التوهم، لو قرأه أحد لأيقن أنه هالك، حتى وإن كان أعبد الناس، وكان في مجلسه الآلاف؛ فقالوا لـ أحمد بن حنبل: ما تقول في الحارث؟ قال: لا أعرفه. أي: لا أعرف عنه شيئاً، وأصم أذني عن سماع كلامه، فقالوا: يا إمام! لابد لك من أن تسمع كلامه، قال: إذا دعوتموه فآذنتموني سمعت كلامه من خلف الستار أو الجدار، فدعوه في الليل في بيت أحدهم، فلما جاء أحمد وسمع الحارث، سمع أصحاب الحارث لـ أحمد نشيجاً وبكاءً حتى أشفقوا عليه، فلما قدموا على أحمد وجدوا أنه قد بل الثرى بدموعه تأثراً من كلام الحارث، فلما قالوا له: يا أحمد! ما تقول في الحارث؟ قال: لا تسمعوا منه حرفاً واحداً. إن أحمد رضي الله عنه فهم كلام الحارث ومن أين جاء به، وما مراده بهذا الكلام فتأثر منه، وله أن يتأثر، بل لـ أحمد أن يطلع على كتب أهل الكتاب، وكتب الفلاسفة واليونانيين والفرس والترك والروم، لكن ليس لآحاد الأمة ذلك. إن ابن تيمية عليه رحمة الله درس كتب الفلاسفة ورد عليهم بمنطقهم، لكن لا يجوز لآحاد الأمة أن يدرس ما درسه ابن تيمية، فإن كثيراً من الطلاب دخلوا ودرسوا علم الفلسفة والمنطق فكانوا نقمة وحرباً على دينهم؛ لأنهم تعلموا التجرؤ على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبارهما كتباً من الكتب قابلة للنقل، وقابلة للتجريح وللأخذ والرد. هكذا تعلموا؛ لأن هذا أصل في الفلسفة. فاعتبار كتاب الله تعالى من آحاد الكتب وبأنه لا فرق بين كتاب الله وبين غيره من الكتب اعتقاد معروف عند الفلاسفة. قال الإمام أحمد: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، فإن كنت تريد أن تناقشني فائتني بقول الله، أو بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود أبداً. وللأسف الشديد من المفكرين الإسلاميين اليوم من يريد أن يناقش الغربيين بمنهج الغربيين؛ ويقول: لأنهم كفار، ولا يريدون أن يسمعوا القرآن والسنة، ويرفضون الاحتجاج به، سبحان الله! هم يرفضون الاحتجاج بالقرآن والسنة، وأنت تقبل الاحتجاج بهذا الكلام التافه السخيف. ذات مرة تأخر خطيب عن الخطبة، فاضطر أحد الحاضرين أن يصعد، وليس أهلاً لذلك، لكنه قال كلمة عجيبة جداً، قال: لابد أن تطبقوا شرع ربنا، وكل واحد يلتزم بشرع ربنا، لأنه لا يمكن أبداً أن يستوي شرع ربنا مع شرع أبيه وأمه. هكذا قال! سبحان الله! قال كلمة أجمل فيها، وتذكرت أن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه وقال: (يا رسول الله! إني أقول: اللهم أدخلني الجنة وأعذني من النار) ولم يأت بدليل على قوله. قال: (أما دنددنتك ودندنة معاذ فإني لا أحسنها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) يعني: نحن ندعو الله عز وجل، ونصل في نهاية الأمر إلى ما وصلت إليه، ونتمنى ما تتمناه أنت. فهذا الرجل أجمل ما قاله الدعاة منذ عشرات ومئات السنين في كلام مختصر جداً. قال: لست بصاحب الكلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود. إذا كان الله تعالى غنياً عن إيمان المؤمنين وإسلام المسلمين، فمن باب أولى أن الله تعالى غني عن العالمين، والله هو الغني الحميد، الغني عن جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، فإن طاعة الطائعين لا تنفعه، ولا معصية العاصين تضره سبحانه وتعالى؛ لأنه الغني بذاته عن عباده وعن خلقه، فهؤلاء من أئمة الأمة ينهون عن الخوض في علم الكلام والتعدي في الأسئلة، فأهل البدع يقولون: نحن ننزه الله تعالى عما تنزهونه، يقولون: نحن ننزه الله أن يكون له يد، وأن يكون له رجل وساق وعين ووجه ونفس وغير ذلك، وننزهه أن يضحك ويغضب ويسخط ويرضى ويأتي ويجيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس بعقل ولا جسم، ولا لون، ولا له عين، ولا أذن ولا سمع يتكلم به، ولا لسان وليس

شرح قاعدة النفي المجمل والإثبات المفصل لأسماء الله وصفاته

شرح قاعدة النفي المجمل والإثبات المفصل لأسماء الله وصفاته إن من منهج أهل السنة والجماعة: أنك تثبت لله تعالى الكمال تفصيلاً، وتنفي عنه النقص إجمالاً، فمنهج أهل السنة النفي المجمل، والإثبات المفصل. هذه قاعدة تتعلق بالأسماء والصفات. وشرح هذه القاعدة: أن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذا نفي مجمل، لأنه قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، فأنا نفيت عن الله عز وجل مشابهته للأشياء كلها من جميع المخلوقات، فهو يختلف عن جميع المخلوقات، ولا شيء منها يماثله ولا يكافئه ولا يشبهه سبحانه وتعالى. فالنفي المجمل دليله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، والإثبات المفصل دليله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3]. فهو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وغير ذلك من أسماء الله تعالى وصفاته، أما إثبات ما لله إجمالاً، ونفي ما ليس له تفصيلاً، فهو منهج المجرمين المبتدعين من الجهمية وغيرهم، يقولون: الله تعالى ليس بذات، ولا عرض ولا جسم، ولا له أنف ولا أذن ولا عين، ويظنون أنهم بذلك ينزهون الله. ولو دخلت على ملك من ملوك الدنيا فهل ستقول له: أيها الملك! أنا أؤمن أنك لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا قطاً سبعاً! فهذا الأسلوب في حق المخلوقين مرفوض، بخلاف قولك له: أنت ملك عادل، وليس في ملوك الدنيا أعدل منك، فهذا أسلوب مدح ولا شك، وتقول: وعدلك قد ظهر في كيت وكيت وكيت، وهذا إثبات على سبيل التفصيل، وتقول: وباعد الله بينك وبين أهل السوء، فهذا نفي مجمل وإثبات مفصل، فالمنهج يا إخواني! مع المخلوقين منهج محمود، النفي المجمل والإثبات المفصل، وهو منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الكمال لله عز وجل تفصيلاً، ونفي النقص عنه سبحانه وتعالى. إن لأهل السنة والجماعة خمساً وعشرين قاعدة، كانت سبباً لعصمة أهل السنة والجماعة من أن يقعوا في بدعة من البدع على طول التاريخ وعرضه. أما أئمة المسلمين فهم ينهون عن الخوض في علم الكلام من العرض والجوهر والجسم، والتعدي في البحث والسؤال عما لم يرد عن سلف الأمة، فلابد من التسليم والاتباع، وترك التكلف والتعمق فيما فيه خطر على القلوب من الزيغ والضلال. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

مذاهب ودرجات الجهمية والاختلاف بينها

شرح كتاب الإبانة - مذاهب ودرجات الجهمية والاختلاف بينها الجهمية فرق ضالة منحرفة، كثير من عقائدها مأخوذ عن اليهود والنصارى، وهي تجتمع في النفي والتعطيل لأسماء الله وصفاته وأفعاله وما ينبغي له من الطاعة والعبادة، والجهمية على درجات؛ فأشدهم وأشنعهم الجهمية الغالية النفاة، ثم المعتزلة، الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، ثم الصفاتية الذين لم يثبتوا إلا بعض الصفات ونفوا أكثرها.

حكم أهل السنة والجماعة على الجهمية وتقسيمهم لهم إلى درجات

حكم أهل السنة والجماعة على الجهمية وتقسيمهم لهم إلى درجات إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: في الدروس الماضية تكلمنا عن مؤسس فرقة الجهمية وهو الجهم بن صفوان، وذكرنا طرفاً من شيوخه، ويحلو للإنسان أن يسميها سلسلة أهل النار، وتكلمنا في المحاضرة الأخيرة عن طرف من تاريخ الجهمية. وقد أطلق أهل السنة وعلماء السنة لقب الجهمية على الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته. فمعتقد الجهمية متعلق دائماً بالأسماء والصفات، والجهمية ليسوا جميعاً على درجة واحدة، وليسوا مذهباً واحداً فبينهم اختلافات، فالجهمية فرقة أساسية كبيرة، تفرقت فيما بينها إلى فرق داخلية، وهذا شأن أي فرقة من الفرق؛ ولذلك كثير من أهل العلم لما تعرض لشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في افتراق الأمة ذكر من الفرق فرقتين وثلاث فرق وأربع فرق خطأً؛ لأن هؤلاء جميعاً يدخلون تحت مسمى الشيعة مثلاً، فالشيعة فرقة أساسية افترقت فيما بينها إلى ثلاث: غلاة، وإمامية، وزيدية، فهو عد الغلاة فرقة، والزيدية فرقة، والإمامية فرقة، وفي الحقيقة أن هؤلاء جميعاً فرقة واحدة، وكذلك فرق الجهمية الفرعية التي تندرج في نهايتها تحت فرقة واحدة وهي الجهمية ظن بعض أهل العلم أنها كذلك فرق، فجعل فرق الأمة أكثر من مائتي فرقة، وهذا خطأ، ويصطدم مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما الخطأ في فهم من تصور أن الفرع الذي انبثق من الأصل في داخل الفرقة الواحدة يعد فرقة لوحدها؛ ولذلك فالجهمية درجات:

الجهمية الخالصة الغالية (النفاة)

الجهمية الخالصة الغالية (النفاة) الدرجة الأولى من الجهمية: هم الذين يسميهم العلماء: الغلاة أو الجهمية الغالية، وقولنا: الغالية، من الغلو، أي: المغالية في تجهمها، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، يجردون ذات الله عز وجل من كل اسم ومن كل صفة، ويقولون: الله بلا أسماء وبلا صفات. وأحياناً يريدون أن يحسنوا وجههم القبيح، فيقولون: لله أسماء لكنها ليست مرادة، ولله صفات ولكنها ليست مرادة، ولهم فلسفات سنتعرف عليها بإذن الله تعالى. ولذلك يقول الشيخ هنا: وهم أشر درجات الجهمية، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي، ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم، فحقيقة قولهم: أنهم لا يثبتون شيئاً لله. إذا أردت أن تنظر إلى حقيقة قولهم فلا بد أن تعلم أنهم ينفون عن الله تعالى الأسماء والصفات مطلقاً. قال: ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ -هل تعبدون رباً لا اسم له ولا صفة له- قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فإذا قيل لهم: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هل هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. فإذا قيل لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم- ثم عللوا بأن الله تعالى لا يتكلم ولن يتكلم بقولهم: لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة. يعني: الكلام لا يكون إلا بلسان وفم ولهاة، والله تعالى منزه عن ذلك. إذاً: فقد آلة الكلام فلا يتكلم، إذ كيف يتكلم والعقلاء قد علموا أن المتكلم لا بد له من جارحة يتكلم بها، ونقول: هذا في حق المخلوقين، أما في حق الخالق فإن القياس منتفٍ، فالله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، وما زال كلام الله تبارك وتعالى قائماً، ولا زال الله تعالى متصفاً بالكلام لا ينتفي عنه ذلك سبحانه وتعالى، وصفة الله تعالى ليست مخلوقة أياً كانت هذه الصفة، الكلام أو غير الكلام، ولكنهم يقولون: لا بد للمتكلم من جارحة، مع أن الله تعالى في القرآن أخبر أن بعض مخلوقاته يتكلم بغير جارحة، كقوله تعالى عن السماوات والأرض: {َقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا -أي: تكلمتا السماوات والأرض- أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. إذاً: السماوات والأرض تكلمتا بغير جارحة، أم أن للأرض لساناً وفماً ولهاة، وللسماوات لساناً وفماً ولهاة؟ هل أحد منا يعتقد أن للأرض لساناً أو فماً أو لهاة؟ لا أحد يعتقد ذلك، ومع هذا أثبت الله تعالى أن السماوات والأرض تكلمتا. وقال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13]، من من الناس يعلم أن الرعد له لسان يسبح به؛ لأن التسبيح لا يكون إلا بجارحة؟ وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وكذلك الجبال، هل رأى أحد منا جبلاً له لسان، أو بحراً له لسان؟ إن الله تبارك وتعالى سخر الجبال مع داود يسبحن والطير، هل الطير له لسان يسبح به ويتكلم كما نتكلم؟ إذاً: لا يلزم دائماً لكل متكلم أن يتكلم بجارحة، وإذا كان هذا في حق بعض المخلوقين فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى، فهو قادر على أن يتكلم كيفما شاء وبما شاء. قالوا: والجوارح عن الله منتفية. نقول: نعم. الجواح عن الله منتفية. قال الشيخ: وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى. الجاهل يقول: هؤلاء ما أرادوا إلا تنزيه المولى عز وجل أن يكون شبيهاً بمخلوقاته أو مثيلاً لمخلوقاته، ولكن عند النظر والتدقيق يتبين أن هؤلاء ليسوا معظمين لله عز وجل، وإنما هم معطلون لأسماء الله عز وجل ولصفاته. قال: وقد أفصح عن هذا المذهب رجل منهم يسمى ابن الإيادي. أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية، وربما لا يكون هو الذي أخطأ حينما الناسخ لكتابه هو الذي أخطأ أنه قال: ابن الأباري، وابن الإيادي وابن الأباري في الرسم شيء واحد، وهو أقرب إلى التصحيف. فالذي يقرأ عن تاريخ الفرق سواء كان في كتاب موسوعة الفتاوى لـ شيخ الإسلام أو في درء تعارض العقل والنقل، أو في كتاب منهاج السنة لـ ابن تيمية يجد ابن الأباري، وفي الحقيقة ليس هناك أحد بهذا الاسم، إنما هو ابن الإيادي، فالصواب: أنه ابن الإيادي. قال: وكان ابن الإيادي ينتحل قول الجهمية، فزعم أن البارئ عالم، قادر، سميع، بصير في المجاز لا في الحقيقة. يعني: أن الله تبارك وتعالى عالم مجازاً، وكلمة (مجاز) تنفي العلم الحقيقي عن الله عز وجل؛ لأن المجاز ضد الحقيقة، فإذا قلنا: إن الله تعالى عالم مجازاً لا حقيقة؛ لزمنا أن نقول: إن الله تعالى بذاته ليس عالماً، وإنما أودع علمه بعض مخلوقاته؛ ولذلك الجهمية أخذوا كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره، كلما مروا على اسم أو صفة جعلوه مجازاً لا ح

المعتزلة

المعتزلة أما الدرجة الثانية من درجات الجهمية: فهم المعتزلة، وهم الذين تبنوا مذهب الجهمية أو شيئاً منه؛ ولذلك ربما تجد في الشخص الواحد متناقضات وأضداداً في عقيدته لا تدري كيف كان ذلك منه! ولكن ربما لانحرافه عن طريق السلف عاقبه الله عز وجل بأن جعل في عقله الأضداد، حتى يحيره في حياته، وقد شاهدنا في هذا الزمان كثيراً من أهل العلم لا نظر له في الكتب ولا يحسن أن يفتح الكتب فضلاً عن أن يفهم ما فيها، قد شاهدناه يقرأ في الباب الواحد كلاماً للمعتزلة، فإذا أعجبه قصه من الكتاب وألصقه في كتاب آخر يريد إخراجه، فإذا قرأ في نفس الباب كلاماً للجهمية أعجبه وضعه تحت الكلام الأول، وللخوارج تحت الكلام الأول، وللمرجئة تحت الكلام الأول، فيجمع في مسألة واحدة بين عدة عقائد، إلا عقيدة أهل السنة والجماعة. وللأسف الشديد بعض هذه الكتب يدرس الآن في بعض معاهد إعداد الدعاة هنا وهناك. فالمعتزلة فرقة لا علاقة لهم في الأصل بالجهمية؛ إذ إن المعتزلة فرقة أسسها واصل بن عطاء المعتزل البصري في زمن الإمام الحسن البصري، وقصة الاعتزال معروفة، وتاريخ واصل معروف، وربما لو تسنى لنا دراسة مذهب المعتزلة لتعرفنا عليه أكثر من ذلك. والجهمية كما علمتم من المحاضرتين السابقتين لهم مؤسس ولهم أصول ثابتة يتكئون عليها، ولهم إنكارات ونفي للأسماء والصفات، فهم يعتمدون في أصل دعوتهم على خمسة أسس، فحينئذ مذهب المعتزلة في أصله له أصول يتكئ عليها، وينافح عنها، هذه الأصول -وإن كانت في الظاهر أصول الجهمية- تخالف الجهمية.

أصول المعتزلة

أصول المعتزلة أما أصول المعتزلة فهي خمسة: الأصل الأول: التوحيد. هذا أصل أصيل يتكئ عليه أهل الاعتزال، والذي يسمع أن كلمة التوحيد أصل من أصول المعتزلة يقول: لماذا تنكرون على المعتزلة؟ أنتم تدعون إلى التوحيد وهم يدعون إلى التوحيد؟ بل حتى صار التوحيد شعاراً من شعارهم، لكن التوحيد عند المعتزلة إنما هو إبطال الصفات؛ بزعمهم أنهم ينزهون الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، فيقولون: الله تعالى ليس له يد، ولا ساق ولا وجه، وليس له نفس، ولا يغضب ولا يسخط ولا يفرح ولا يضحك، قالوا: لأن هذا كله لا يصدر إلا من المخلوق، والخالق منزه عن ذلك، فنحن نوحده في ذاته أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، هذا هو التوحيد عندهم، والتوحيد عندهم فيه كلام كثير. لكن على أية حال: إذا علمت أن هذا هو التوحيد عند المعتزلة فاعلم أن هذا عند أهل السنة إنما هو نفي وتعطيل، وقد سمى المعتزلة هذا النفي وهذا التعطيل لصفات الله تعالى توحيداً، ولا مشاحة في الاصطلاح، فكل إنسان يصطلح لنفسه مصطلحاً، ويفعل لنفسه ما يشاء، لكن أهل السنة والجماعة إنما ينظرون إلى معنى هذه المصطلحات، يقولون: نحن نتفق معكم في نفي المماثلة ونفي المشابهة، لكننا نثبت الأسماء والصفات وأنتم تنفونها، وتظنون أن التوحيد لا يكون إلا بالتعطيل، ونحن لا نقول بالتعطيل، وإنما نقول بالتوحيد الذي هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على المعنى اللائق بالله عز وجل، دون استلزام مشابهته بالمخلوقات؛ لأن المخلوقات فيما بينها مختلفة في هذه الأسماء والصفات، فلو قلنا: للحمامة جناح، ولليمامة جناح، وللعصفور جناح، ولكل طائر جناح، ولجبريل عليه السلام جناح، فهذه كلها أشياء مخلوقة تطير، وتطير بأجنحتها، لكن هل جناح العصفور كجناح جبريل؟ A لا. إذاً: العصفور يتفق مع جبريل في مجرد الاسم، أما الكنه والحقيقة فشتان وهيهات، وكذلك الله تعالى له يدان وله عينان وله نفس، ويضحك ويغضب ويسخط وغير ذلك من صفاته الخبرية التي أخبر بها، وصفاته الذاتية التي أخبر بها سبحانه وتعالى، وأخبر بها رسوله، وكذلك شتان بين ضحك المولى عز وجل وضحك المخلوقات، حتى الحيوانات فيما بينها تضحك وتغضب وتبكي وتحزن، وليس حزنها كحزن بعضها البعض، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى. فالمعتزلة فضلاً عن أصولهم الخمسة تجهموا، أي: مالوا إلى مذهب الجهمية، فصاروا يضبطون أصولهم الخمسة على مذهب الجهمية ويخالفون الجهمية في بعض المسائل، لكن المعتزلة في نهاية أمرها أشربت مذهب الجهمية، وكثير من الناس يقول: هذا معتزلي جهمي، أو هذا جهمي معتزلي، وفي الحقيقة أن كل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، وهنا نقول: بين الجهمية والاعتزال عموم وخصوص، فكل معتزلي قد أشرب منهج التجهم، وليس كل جهمي يقبل مذهب الاعتزال. قال: الدرجة الثانية: هم تجهم الاعتزال، أو المعتزلة الجهمية. قال: وهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى -هناك النفاة لا يقرون بهذا، لكن هؤلاء يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، وكلمة (في الجملة) لها معنى، فقد قلنا بالأمس: إن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الصفات على سبيل التفصيل والإجمال من باب أولى، فأهل السنة والجماعة إذا أرادوا إثبات الأسماء والصفات أثبتوها تفصيلاً، والذي يثبت تفصيلاً من باب أولى أنه يثبت إجمالاً، وإذا أرادوا أن ينفوا عن الله تعالى صفة النقص نفوها إجمالاً. إذاً: نفي النقص عن الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة يكون إجمالاً، ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. أما إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فيكون على سبيل التفصيل؛ ولذلك بينها الله تعالى إجمالاً، قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ثم أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه وأثبت رسوله في سنته عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، فهذا إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته على سبيل التفصيل، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الكمال إجمالاً، وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بذات ولا جسم، ولا طويل ولا قصير، ولا أبيض ولا أسود، وغير ذلك. مع أن هذا الكلام لا يصلح أن يكون منهجاً للمخلوقين، فلو أردت أن تمدح واحداً أو ملكاً أو شريفاً أو وجيهاً، فلا يصح منك أن تقول له: لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا غبياً ولا كيت وكيت وإنما تأتي بإثبات المدح مباشرة، فإذا كان هذا لا يصح في حق المخلوقين فمن باب أولى أنه منكر في حق المولى عز وجل. فهؤلاء المعتزلة الجهمية يقرون بأسماء الله الحسنى إجمالاً، لكن ينفون عنه صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وهم الذين اعتنى العلماء بالرد عليهم. ولذلك معظم ردود ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الجزء الخاص

الصفاتية

الصفاتية إذاً: الدرجة الأولى: النفاة الغالية، والدرجة الثانية هم المعتزلة الجهمية، أي: المعتزلة الذين أشربوا منهج الجهمية، وأصل الرد على هذه الطائفة من بين الطوائف الثلاث. أما الدرجة الثالثة فهم الصفاتية، وهم: المثبتون المخالفون للجهمية، وكلمة (المثبتون) عند الإطلاق تعني: أنهم يثبتون الأسماء والصفات في الجملة، والنفاة: هم الذين يعطلون الأسماء والصفات كذلك في الجملة، فهؤلاء هم الصفاتية، والصفاتية تعني: أنهم يثبتون الصفات في الجملة، وهم بذلك مخالفون للجهمية وللمعتزلة الجهمية. قال: لكن هذه الدرجة فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من الأسماء والصفات الخبرية أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها. يعني: يقولون: نحن نثبت الصفات، فنقول: يد الله فوق أيديهم، لكن المراد باليد: القوة، فهم أثبتوا الصفة لكنهم أولوها، وهذا التأويل باطل. وإذا كان بعض الشر أهون من بعض، فهل هؤلاء الصفاتية الذين يثبتون الصفات ويؤولونها على غير ظاهرها المراد منها أقرب إلى الحق أم النفاة الذين لا يثبتون أسماء ولا صفات؟ وللتقريب نقول: هل الذي يموت كافراً كفراً بواحاً لم يدخل في الإسلام قط يكون كالشيعي أو القدري يوم القيامة مع أن كليهما شر؟ A بعض الشر أهون من بعض، والذي لا يصدق كلامي هذا يقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين الحق والباطل، فقد قال: لأن يموت الرجل جهمياً أو قدرياً أو شيعياً أو مرجئاً أو أشعرياً خير له من أن يأتي ربه كافراً كفراً بواحاً لم يدخل الإسلام. هذا قول الإمام ابن تيمية شيخ الصحوة منذ زمانه، وإن شاء الله تعالى يكتب له ذلك إلى يوم القيامة. والعجيب أن ابن تيمية رجل واحد في الأمة، وهو الذي يقود الأمة الآن إلى قيام الساعة، أو إلى وقتنا هذا على الأقل، فأي شخص من الناس إذا التزم بحث عن كلام ابن تيمية وابن القيم، وكأن الله تعالى لم يخلق علماء قبله؛ لأن العلماء قبله كانوا مصنفين ومؤصلين ومقعدين لهذه المسائل التي أخذها ابن تيمية وفهمها فهماً جيداً موافقاً لمنهج السلف، فنشرها هنا وهناك بالقول والعمل، وكان مجاهداً حقاً؛ إذ لا خلاف في شجاعته وجهاده الأعداء المبطلين في الداخل والخارج في ذلك الوقت؛ ولذلك كتب له القبول، وربما يكون سر هذا القبول الإخلاص، فكم من عالم جليل عنده من العلم ما ليس عند غيره ولم يكتب له شيء من ذلك. إذاً: هؤلاء يثبتون الصفات لكن يؤولونها, ويحلو لنا أن نقول: إن هؤلاء من طرف خفي هم الأشاعرة، والماتريدية، فهم يثبتون الأسماء ويثبتون الصفات، لكن يقولون: ليس المراد من الصفة ظاهرها وإنما لا بد من التأويل، وابن تيمية عليه رحمة الله يقول: وهؤلاء هم أقرب الناس لأهل السنة. ولا يعني ذلك: أنهم أهل سنة، لا والله بل هم أهل بدعة، بدليل أنهم درجة من درجات الجهمية، لكننا إذا قارناهم بالنسبة للمعتزلة الجهمية لكانوا هم أقرب الناس إلى الحق، لكن لا يعني هذا: أنهم أصابوا الحق، بل هم بعيدون عن الحق، لكنهم بالنسبة لغيرهم من أهل النفي الأصلي الكلي أو الاعتزال التجهمي هم أقرب الناس إلى الحق، ولم يصيبوا الحق بعد، فهم الصفاتية الذين يثبتون الصفات، فبلا شك أن الذي يثبت الصفة ويؤولها خير من الذي لا يثبتها، وكلاهما شر، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، لكن لا يمكن أن يستوي الخيران، فكذلك هنا: كلاهما شر لكن شتان بين المثبت والنافي، والذي نفى نفى بزعمه تنزيهاً لله عز وجل، والذي أول الصفة قال: قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، هل الله له يد؟ أستغفر الله، لا. اليد: هي القوة؛ لأننا نثبت لله القوة، والطرف الآخر يقول: ليس الله تعالى بسميع ولا عليم ولا حي ولا قادر ولا قوي، فينفون الاسم والصفة في آن واحد، فكأنهم في نهاية الأمر يذهبون إلى أن الله عدم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! فالله تعالى ذات، ولا بد لكل ذات من صفات، حتى هذه الورقة التي بين يدي، إذا أردنا أن نصفها نقول: مستطيلة وبيضاء، وفيها كلام مكتوب بالأزرق، ورقة جديدة أو ورقة قديمة، فهذه كلها صفات لهذه الذات، فكل ذات لها صفات، وهذا أمر مستقر في عقول العقلاء أنه لا يمكن أن يكون هناك ذات إلا بصفات، فالعجيب أن الجهمية الغالية ينازعون في أن الله تعالى ذات، والذي يقول منهم: له ذات يقول: له ذات بلا صفات، وإذا أثبتنا الصفات فإنما نثبتها على سبيل المجاز لا الحقيقة، وهو في حقيقة الأمر إلحاد وزندقة؛ لأنه يلزمهم أن يقولوا: إن الله تعالى ليس متصفاً بصفات على الحقيقة، إذاً: هو ذات عدمية، ولا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه ذات عدمية، فلا بد أن يقولوا في نهاية قولهم: إن الله تعالى عدم، خلافاً للمغالين في الإثبات أو في التشبيه أو ف

أصول الجهمية التي خالفوا فيها أهل الإسلام

أصول الجهمية التي خالفوا فيها أهل الإسلام ما هي الأصول التي خالف فيها الجهمية أهل السنة والجماعة؟ في الجملة: قولهم بخلق القرآن، وإنكارهم رؤية المولى عز وجل بالأبصار في الآخرة، وإنكارهم أن يكون لله تعالى وجه ويدان، وأنكروا شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. قد يقول قائل: لماذا ندرس الجهمية والمعتزلة والقدرية، هل ما زالوا موجودين؟ A كل الفرق الضالة موجودة في الأمة بأسماء غير الأسماء المعروفة، وستظل موجودة في الأمة، فهم يسمون في كل عصر ومصر بأسماء تختلف عن أسمائها الواردة في النصوص، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يستحلونها يسمونها بغير اسمها) يأتي الواحد منهم فيقول: الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] لم يقل: (الوسكي) ولم يقل: (الشنبانيا) ويبدأ بذكر عشرات ومئات الأسماء للخمر، ثم يقول: إن الله حرم الخمر ونحن مقرون بذلك، والذي ينكر أن الله حرم الخمر يكفر، لكنه لم يذكر (الشنبانيا) ولا (الوسكي)، ويقول: الربا حرام، لكن ليس في البنوك ربا، إنما هي فوائد، فما حرم الله في القرآن نقول بتحريمه، فالله قصد بتحريم الربا نوعاً معيناً ليس هو ما تتعاطاه البنوك اليوم؛ ولذلك البنوك حلال. فنقول: البنوك قول المبطلين الأفاكين، حتى لا يفهم أحد أني أقول: إن فوائد البنوك حلال أبداً. قال: وجحدوا علم الله وقدرته، قالوا: ليس بعالم ولا قادر، ونفوا عن الله تعالى الصفات التي نطق بها القرآن من السمع والبصر والحلم والرضا والغضب والعفو والمغفرة والصفح والمحاسبة والمناقشة -كل هذا نفوه عن الله عز وجل- وأثبتوا لأنفسهم من القدرة والاستطاعة والتمكن ما لم يثبتوه لله تعالى؛ وذلك لأنهم يقولون في هذا الباب بمذهب القدرية الذين يثبتون لأنفسهم القدرة على الفعل، وأن العبد مختار لفعله ولا علاقة لله تعالى بأفعاله البتة، وزعموا أنهم يقدرون على ما لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، ويخلقون ما لا يخلقه الله تعالى من الأعمال والأقوال، وزعموا أنهم يفعلون ويقدرون على ما لا يفعله الله ولا يقدره، ويريدون ويشاءون ما يستحيل أن يكون من تدبير الله ومشيئته، ويزعمون أنهم يريدون لأنفسهم ما لا يريده الله، ولم يشأه لهم خالقهم، فيكون ما يريدون ولا يكون ما يريده ربهم. عندما تكلمنا عن القدر الشرعي والقدر الكوني قلنا: إن الله تعالى أراد الخير والشر وخلقهما وأذن في وجودهما، ولا يكون في الكون إلا ما أراده الله عز وجل، لكنه أراد الحق وأراد الطاعة والخير إرادة شرعية دينية وأعان عليها، وأراد الشر إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنها لا تكون في الكون إلا بإذن الله خلقاً وإرادة وكسباً من العبد، فالله تعالى أذن في وجود الشر؛ ولذلك هو الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، فهو الذي أذن في خلقه ووجوده، مع أن الله تعالى يبغض إبليس ولا يحبه، وكذلك الله تعالى هو الذي خلق الزنا والسرقة وشرب الخمر، ونهى عنه، وقدره في الكون تقديراً، وأذن في وجوده خلقاً، والذي باشر هذا الشر هو هذا الإنسان؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه وتعالى مشيئة، فالعبد مختار لفعله بعد قيام الحجة عليه؛ ولذلك خلق الله تعالى الجنة والنار. قال: وزعموا أن الجنة تفنى وتبيد ويزول نعيمها، وأن النار تزول وينقطع عذابها، هذا آخر ما زعموا من أصول مسائل الاختلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة، ولهم أقوال في غاية الغرابة.

مغالطات الجهمية المعتزلة وبعض عقائدهم

مغالطات الجهمية المعتزلة وبعض عقائدهم قال ابن بطة: ومن مغالطات الجهمية المعتزلة -الدرجة الثانية- وتمويههم على الناس قولهم: إن الله تعالى منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود. هذا كلام جميل في الجملة في الظاهر، لكن مقصودهم غير ذلك. قال: ومقصودهم بذلك: نفي الأفعال ونفي مباينة الله تعالى للخلق، وعلوه على العرش، فإذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد. الأعراض كالصحة والسقم والمرض وغير ذلك، فلا شك أن الله تعالى لا يفسد ولا يمرض فهو منزه عن الأعراض، فكل ما يصيبني من أعراض الحياة من غنى وفقر، وصحة وسقم، وطلوع ونزول وغير ذلك من صفات المخلوقين الله تعالى منزه عنها، أي: لا يصيبه آفات كما تصيب المخلوقين، فلا شك أن هذا كلام جميل، ولا ريب أن الله تعالى منزه عن ذلك، لكن مقصودهم بهذا القول: (إن الله منزه عن الأعراض) أنه ليس له علم؛ لأن العلم بالنسبة لي عرض، كنت جاهلاً فتعلمت، كنت عدماً فأحدثت بعد ذلك، كنت عدماً فصرت بعد العدم كائناً حياً، كنت ميتاً ثم صرت حياً. قال: ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً. إذاً: قولهم: إن الله منزه عن الأعراض أي: منزه عن صفاته التي وردت في القرآن والسنة. ونقول لهم: كيف يثبت الله تعالى لنفسه الصفة وأنفيها أنا زاعماً التنزيه، هل أنا أعلم بالله من الله؟ إن الله تعالى أعلم بذاته من سائر المخلوقين؛ ولذلك وصف نفسه بصفات، فلا يحل لآحاد الخلق أو للخلق أجمعين أن ينفوا هذه الصفات من باب التنزيه زعماً. قال: وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات). أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك: أنه لا تحصره المخلوقات، ولا شك أن هذا الكلام في ظاهره كلام جميل، أن الله تعالى حقاً لا تحصره المخلوقات ولا تحيط به المخلوقات، هذا كلام حق، لكن قولهم: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أنه ليس مبايناً للخلق، ولا منفصلاً عنه، يعني: أن الله تعالى داخل في مخلوقاته، يعني: لو سألنا: أين الله؟ لبادر جل الناس بقولهم: الله تعالى في كل مكان، أليس هذا الذي حفظناه وتعلمناه من آبائنا وأجدادنا والناس في الشوارع والمساجد؟ أليس هذا الذي تعلمناه؟ أين الله؟ A في كل مكان، الجواب محفوظ وأسرع من السؤال، وهو أبطل البطلان، وأفسد الفساد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل جارية -بنتاً صغيرة- ترعى الأغنام: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله) جارية ترعى الأغنام تعقل عن الله عز وجل علوه واستواءه على عرشه على الحقيقة والمعنى اللائق به تعالى، جارية تفهم ما لا يفهمه معظم الأمة في هذا الزمان، ويبدو أنها لم يكن لها مجالس مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت مجالسها مع سيدها الذي لطمها على خدها، ثم بعد ذلك أراد أن يكفر عن هذه اللطمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لطمت جاريتي؛ لأنها فعلت كيت وكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية! أين الله؟ قالت: في السماء، ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة). فأثبت لها الإيمان لصحة اعتقادها في علو الله تعالى وفوقيته واستوائه على العرش؛ ولو سألت أحد الناس الآن: أين الله؟ لقال: في كل مكان، والذي يقول: على العرش، هذا كذاب ومفتر، أليس الذي قال: إنه على العرش هو الله سبحانه وتعالى؟ ونبيه عليه الصلاة والسلام هو الذي أثبت له العلو على العرش والفوقية؟ فهل الله تعالى كذاب ومفتر؟! وهل رسوله كذاب ومفتر؟! بل الكذاب والمفتري هو الجاهل الذي قال على الله بغير علم كذباً وزوراً وافتراءً: إن الله تعالى ليس على العرش، بل هو مع خلقه في كل مكان، حتى إنهم أثبتوا أن الله تعالى في الحمامات وفي القاذورات وفي الحش وغير ذلك من الأماكن المستقذرة. قالوا: لا يخلو منه مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله تعالى مستو على عرشه، مع خلقه بعلمه وسمعه وإحاطته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، أي: بمقتضى أسمائه وصفاته هو مع خلقه، فمعيته ثابتة له، معية علم وسمع وإحاطة وإرادة ومشيئة وغير ذلك، أما الله تعالى فهو مستو على العرش، مباين لخلقه، أي: الله تعالى فوق السماوات السبع، مختلف عن خلقه، ليس الله تعالى بذاته في المكان الذي فيه خلقه، وإنما الله عز وجل مستو على العرش، استواءً يليق بجلاله وعظمته. قال: ومقصودهم بذلك: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب هو إلى شيء، ولا ترتفع إليه الأيدي في الدعاء، ونحو ذلك من معاني الجهمية. كل هذا كلام قالت به الجهمية المعتزلة. قال: وإذا قالوا: إنه ليس بجسم ب

تشعب آراء الجهمية وتعدد أقوالهم

تشعب آراء الجهمية وتعدد أقوالهم قال ابن بطة رحمه الله: [ومع ذلك فإن الجهمية كغيرهم من الفرق ليسوا على رأي واحد، فقد تعددت أقوالهم وتشعبت آراؤهم]. دائماً المبتدع لا يمكن أن يستقر على بدعة واحدة إلى نهاية أمره؛ ولذلك يقول ابن الجوزي: وأصل البدع إما من المجوس أو من اليهود أو من النصارى، ودليل ذلك أن أهل البيت الواحد من النصارى إذا كانوا عشرة إذا اجتمعوا على مسألة فقال كل واحد منهم رأيه؛ تفرقوا على أحد عشر رأياً، وشيء غريب أن يكونوا عشرة فيخرجون بأحد عشر رأياً، فهل من الممكن أن يختلف شخص مع نفسه فيقول رأياً ثم يقول نقيض هذا الرأي في المجلس الواحد؟ A نعم. كاليهود فقد قالوا في عبد الله بن سلام: أنت سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا فلما قال لهم: أسلمت، قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا وحقيرنا وابن حقيرنا، هكذا قالوا بالقول وضده في مجلس واحد. وهذا شأن أهل البطلان والزيغ والضلال، لا يثبتون على رأي، بل يختلفون مع بعضهم البعض، وهذا شأن جماعة التفكير في هذا الزمان، يكفرون لأدنى معصية، فإذا قلت لهم: هل أنا أكفر بحلقي للحيتي؟ يقولون: نعم؛ لأنها معصية، فإن قلت أنت لأحدهم: وأنت ألست تلبس ثوباً قد نسجه الكفار؟ قال: نعم. فإن قلت: هذه معصية أم لا؟ قال: نعم. وإن قلت له: وما حكمك إذاً؟ قال: أنا كافر، وهذا كلام لا طعم له ولا لون ولا رائحة؛ ولذلك دائماً تسيطر على أهل البدع والضلال غياهب الجهالة فيكون منطلقهم في المناظرات والمناقشات الجهل، لا يحبون العلم، بل بينهم وبين العلم عداء، ولو تعلموا حقاً لاهتدوا؛ لأن العلم أعظم عاصم من هذه الأهواء والمضلات والفتن؛ ولذلك جعله الله عز وجل فريضة، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ لأن المسلم لا نجاة له من هذه الأهواء والفتن إلا بطلب العلم على منهج السلف. الجهمية كذلك ليسوا على مذهب واحد، ولا على كلام واحد؛ بل تعددت أهواؤهم وآراؤهم، وقد قسمهم العلامة الملطي حسب آرائهم إلى ثمانية أصناف، إذاً هم من حيث الدرجات ثلاثة ومن حيث الأصناف ثمانية على مذهب الملطي، لكل صنف منهم عدة آراء، وليس ما ذكره الملطي هو جماع آراء الجهمية، لكن هذه أصول المخالفات؛ والعلماء دائماً عندما يردون على المبتدعة يذكرون أصل الخلاف، لكن عندما يصنفون في الفروع تجد أن لهم أقوالاً لا يمكن أن تتصور أنهم قالوها! فلو نظرت إلى كتاب أبي الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين)، لوجدته كتاباً رائعاً جداً جداً جداً، ويحتاج كل سطر منه أن يشرح في ورقتين أو ثلاث ورقات، وأنا أسأل الله تعالى أن يسخر لهذا الكتاب رجلاً من أهل العلم يشرحه باستفاضة، ويضبطه على منهج أهل السنة والجماعة، فيخرج في أكثر من عشرين أو ثلاثين مجلداً مع أنه مجلد واحد؛ كما أنه لا ينصح أهل العلم قط بقراءة هذا الكتاب إلا رجلاً قد تمكنت من قلبه عقيدة أهل السنة والجماعة، ففي هذا الكتاب العجب من فروع الخلاف بين أهل الأهواء وأهل السنة والجماعة. قال: للجهمية آراء كثيرة غير ما ذكرنا، ومن أهمها: منهم صنف من المعطلة يقولون: إن الله لا شيء، وما من شيء، ولا في شيء، ولا يقع عليه صفة شيء، ولا معرفة شيء، ولا توهم شيء، ولا يعرفون الله فيما زعموا إلا بالتخمين، فوقعوا عليه اسم الألوهية، ولا يصفونه بصفة يقع عليه الألوهية. إن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وبسط كثير جداً، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام سمى الله شيئاً، فقد قال في دعائه: (اللهم يا أحسن الأشياء! لا تجعلنا أهون الأشياء عليك)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ربه شيئاً، لكن ليس كبقية الأشياء، وشيء صفة في الله عز وجل، وهي تأخذ حكم بقية الصفات، فنقول: إن الله شيء لكن ليس كبقية الأشياء، وإنما يقع التوحيد في مجرد الاسم، فأنا شيء والله شيء، لكن شتان ما بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى. فهؤلاء المعطلة زعموا أن الله ليس بشيء، أو لا شيء ولا منه شيء، ولا يكون في شيء وغير ذلك، وهذا كلام يحتاج إلى ضبط وتفنيد. قال: ومنهم صنف زعموا أن الله شيء وليس كالأشياء، لا يقع عليه صفة ولا معرفة ولا توهم ولا نور ولا سمع ولا بصر. إذاً: قولهم: أولاً: أن الله تعالى شيء ليس كالأشياء يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا، أما قولهم بعد ذلك: أنه شيء ليس كالأشياء فهذا يعني عندهم: أنه ليس نوراً ولا سميعاً ولا بصيراً فهذا كلام يحتاج كذلك إلى ضبط وتفنيد سيكون في أثناء الشرح بإذن الله تعالى. قال: ومنهم صنف زعموا أنه ليس بين الله وبين خلقه حجاب ولا خلل، وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر في آخر خلقه ممتزج به إلى آخر كلام كثير جداً، ولولا أن الله تعالى حكا في كتابه مقالة الكافرين ما تجرأ الواحد منا أن يتكلم هذا الكلام. قال: ومنهم صنف أنكروا أن يكون ا

ما جاء من الآيات أن القرآن كلام الله غير مخلوق

شرح كتاب الإبانة - ما جاء من الآيات أن القرآن كلام الله غير مخلوق لقد أثبت الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن القرآن الكريم كلام الله منه بدأ وإليه يعود، تكلم به على الحقيقة بحرف وصوت، كلاماً يليق بجلاله سبحانه، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة حتى ظهر المبتدعة القائلون بخلق القرآن من الجهمية وغيرهم، فانبرى لهم علماء السلف فدحضوا بدعتهم، وحذروا من اتباعهم والقول بقولهم؛ لأن ذلك كفر مخرج من الملة.

بيان أن القديم والباقي ليس من أسماء الله

بيان أن القديم والباقي ليس من أسماء الله إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. بقي في مقدمة كتاب الرد على الجهمية جزء ليس بالقليل، وهذا الجزء ما هو إلا دراسة مستفيضة أو شارحة ومبينة للنصوص التي وردت في الجزء الثاني عشر وهو هذا المجلد، ووصف للمخطوطة ومنهج التحقيق، ثم التفصيل الطويل جداً فيما يتعلق بتكفير الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات، خاصة صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن الذي ينكر صفة الكلام لله عز وجل لابد أنه سينكر بقية الأسماء والصفات، لأن أسماء الله تعالى وصفاته موجودة في كلامه، فالذي ينكر أن هذا الكلام هو كلام الرب تبارك وتعالى لزاماً عليه أن ينكر كذلك بقية الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم، فالشارح أو المحقق قد استفاض في هذا الأمر، لكن لا بأس أن نبدأ في الجزء المحقق مباشرة فإذا مر بنا شيء غامض شرحناه بإذن الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: [الجزء الثاني عشر قال فيه الشيخ: وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم. أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر بن الزاغواني بمدينة السلام -التي هي بغداد- بنهر معلى في الخريم]، ونهر المعلى نسبة إلى المعلى بن طريف، وهو نهر يسير من تحت الأرض حتى يدخل قصر الخلافة المسمى بالفردوس، وكان يقال: هو جنة الموحدين لجماله وروعته، وقربه كذلك من دجلة [في الخريم] وهو المكان الذي كانوا يخزنون فيه السلاح. [قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن البسري بباب المراتب -وهو اسم لموضع ببغداد- قال: أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة إجازة -يعني: أجازه برواية هذا الجزء ولم يسمعه منه- الحمد لله الأول القديم]. فبلا شك أن الأول من أسماء الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3]. وقال أهل السنة: أول بلا ابتداء، آخر بلا انتهاء، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء سبحانه وتعالى. أما القديم فأنتم تعلمون أن من قواعد وأصول الأسماء والصفات أنها توقيفية، بمعنى أننا نتوقف في إثبات الاسم لله عز وجل أو في إثبات الصفة لله عز وجل إلا إذا ورد الاسم أو الصفة في الكتاب أو في السنة؛ لأن الله تعالى أعلم بذاته وأسمائه وصفاته، وأعلم الخلق بالله تعالى هم الأنبياء والمرسلون وما دون ذلك من الخلق لا يعلمون عن الأسماء والصفات شيئاً إلا ما جاء في الكتب وفي الوحي، فالقديم إذا بحثنا عنه في الكتاب والسنة لم نجد له ذكراً، حتى في كلام السلف ليس له ذكر، ولكن بعض أهل العلم استعملوا اسم القديم للدلالة على الأول، مع أن بين الأول والقديم من الفروق ما بينهما، فالأول معلوم أنه لا شيء قبله، أما القديم فقبله أقدم، ولذلك تقول: قديم وأقدم، ولكنهم لا يقصدون هذا، الذين قالوا: إن الله قديم أو موصوف بالقدم لا يقصدون أن هناك من هو أسبق من الله في القدم. وعلى آية حال ما وسع السلف في باب الاعتقاد يسعنا، وما لم يسعهم لا يسعنا، فالأولى فيما يتعلق بالأسماء والصفات الوقوف عند الوارد في النصوص، وليس في النص إثبات أن القديم من أسماء الله تعالى، ولا من صفات الله تعالى، ولذلك نقول: (الحمد لله الأول الذي لم يزل). قال: [الدائم الباقي]. الدائم من أسماء الله تعالى، وأما الباقي فليس من أسماء الله تعالى، وإن كان المعنى صحيحاً، لكن القضية الآن في ثبوت هذا من عدمه، كما لو أنك أخذت حديثاً موضوعاً أو ضعيفاً أو منكراً فوجدت معناه جميلاً جداً، وفي غاية الروعة والجمال، ويدعو إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، فإذا قلت لحامل الحديث هذا حديث موضوع أو مكذوب، أو حديث ضعيف لا يجوز العمل به قال لك: وما بال هذا الحديث؟ إنه حديث جميل، وألفاظه طيبة تدعو إلى مكارم الأخلاق وإلى الفضائل وغير ذلك، فليست القضية في معنى الحديث، وإنما القضية في ثبوت نسبة الحديث إلى قائله. وكذلك إذا كان القديم معنى من المعاني اللائقة بالله عز وجل، والباقي معنى من المعاني اللائقة بالله عز وجل إلا أن القضية هي أن الأسماء توقيفية، وهذا ليس منها، فكأنك تقول أنا أعلم بالله من الله، ولذلك أنا أثبت له ما لم يثبته لنفسه، وهذا بلا شك ضلال مبين فلا نثبت إلا ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وهذا كلام عام يحفظه جميع أبناء الصحوة في هذا الزمان عن سلفهم، نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. فإذا كنا نحفظ هذا الكلام فعند التطبيق

منهج أهل السنة في إثبات صفات الكمال لله ونفي النقائص عنه سبحانه

منهج أهل السنة في إثبات صفات الكمال لله ونفي النقائص عنه سبحانه قال: [الحمد لله الأول القديم الذي لم يزل، الدائم الباقي إلى غير أجل، خلق الخلق بقدرته، حجة لنفسه، ودلالة على ربوبيته فإنه ليس كمثله شيء]. وكما قلنا من قبل: منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الكمال لله عز وجل على سبيل التفصيل لا الإجمال، أما نفي النقص عن الله تعالى فعلى سبيل الإجمال، إذا أردنا أن ننفي النقص عن الله عز وجل قلنا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا أردنا أن نثبت الكمال قلنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى وأثبت، نفى المشابهة، والمماثلة، والأنداد، والأضداد، وكل مشابهة بين الخالق والمخلوق، فقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس شيء مثيلاً له ولا شبيهاً به ولا كفؤاً ولا عدلاً لله عز وجل، فكل شيء مهما عظم هو دون الله عز وجل، لا يمكن قيام المشابهة والمماثلة بينه وبين الله عز وجل. وإذا أردنا أن نثبت الكمال أثبتناه على التفصيل، فقلنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي أثبتت الأسماء متعددة مسرودة تفصيلاً على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير مشابهة سمعه لسمع المخلوقين، أو علمه بعلم المخلوقين، أو قدرته بقدرة المخلوقين، وقل في كل أسمائه وصفاته مثل ما قلنا في هذه الصفات أو الأسماء، فإثبات الكمال تفصيلاً لله، ونفي النقص إجمالاً عن الله هو منهج أهل السنة والجماعة. ومنهج المعتزلة والجهمية عكس ذلك تماماً يثبتون الكمال إجمالاً وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بطويل ولا قصير ولا عريض ولا نحيف ولا مصمت ولا مجوف وغير ذلك من أقوالهم الكفرية تعالى الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً، وهذا لا يصلح أن يكون أسلوب مدح لآحاد المخلوقين. أي: نفي النقص تفصيلاً عن المخلوقين غير مقبول، لو دخلت على عظيم من عظماء الدنيا وقلت له: أنت لست بالطويل ولا بالقصير ولا بالمصمت ولا المجوف ولا أنت كلب ولا حمار ولا خنزير، ولا أنت غبي ولا أحمق، لابد أنه سيقوم عليك؛ لأنه لا يقبل هذا منك، إنما يقبل منك المدح ابتداءً، إنما المدح عن طريق نفي النقص فلا شك أن هذا أسلوب غير مقبول، فما بالك بالله عز وجل ولله المثل الأعلى؟

إثبات القدرة لله تعالى

إثبات القدرة لله تعالى قال: [خلق الخلق بقدرته]. فأثبت لنفسه القدرة وهو الذي خلق الخلق، وما ادعى أحد قط أنه خلق نفسه، ولا يقبل من أحد قط أن يزعم أنه خلق نفسه أو خلق شيئاً من الأشياء؛ لأن جميع الخلق متفقون على أن الخالق الواحد الأحد هو الله عز وجل، حتى المشركين قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كانوا متفقين على أن الله هو الخالق الذي خلق الخلق أجمعين، وهو رب العالمين، كانوا يعتقدون ذلك، ولكنهم كانوا قد أشركوا في عبادة الله عز وجل فعبدوا المخلوقين من دون الله زعماً منهم أنها توصلهم وتبلغهم إلى الله زلفى، مع علمهم أن الله خلق الخلق أجمعين، فالله تعالى هو الذي خلق الخلق بقدرته. قال: [حجة لنفسه]. وجعل ذلك حجة لنفسه أي: [ودلالة على ربوبيته]. أي: ليدل العالمين على أنه رب كل شيء ومليكه [فإنه ليس كمثله شيء] سبحانه وتعالى. قال: [تفرد بالإنشاء]، والإنشاء: هو الابتداء، أي ليس أحد يزعم أنه خلق آدم عليه السلام، باعتبار أن آدم أول البشر، ولم يزعم أحد أنه خلق العرش، أو خلق الكرسي، أو خلق السماوات، أو خلق الأرض أو الجبال أو الأنهار أو تلك الأشياء المخلوقة العظيمة التي كانت في مبتدئ خلق هذا الكون، فالله تبارك وتعالى هو الذي أنشأها وهو الذي أبدعها على غير مثال سابق، فهو الذي أنشأ الجبال قبل أن تكون الجبال، وهو الذي خلق الأرض قبل أن تكون، وخلق آدم قبل أن يكون هناك إنسان على وجه الأرض، فالله تعالى هو الذي أنشاء المخلوقات ولم يكن هناك مخلوقات. قال: [تفرد بالإنشاء، وجل عن شبه الأشياء]، أي: الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق جميعاً خلقهم على صورة فيها شيء من العجز والنقص الذي يليق بطبائع المخلوقات، ففي كل خلق عجز ونقص يليق به كمخلوق، وتنزه الله تبارك وتعالى عن كل نقص؛ لأنه الموصوف بالكمال والجلال سبحانه وتعال. فلو نظرنا إلى طبيعة خلق النساء فربما وجدت المرأة أجمل النساء، واشتهاها القاصي والداني ولكن هذه المرأة لا تخلو من نقص أخبر عنه الوحي: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين مثلكن، قالت امرأة جزلة)، وهي أم عطية الأنصارية على أرجح الأقوال: (يا رسول الله! ولم؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير). يعني: المرأة تغلب الرجل بنقصان عقلها، ولابد في كل امرأة من عوج، ومن عوجها: أنها تحب أن تخرج من البيت بغير إذن، أو امرأة لا ترتب البيت ولا تقوم على شئون الأولاد، وامرأة أخرى تريد الخروج إلى العلم مع غناها واستغنائها عن ذلك، فكل امرأة عندها شيء من العوج ولابد، وهذا قد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام، والمطلوب تقويم هذا العوج، أما من رام إزاحة وإزالة هذا العوج من أصله فإنما يصادم النصوص ويصادم الفطرة، فالعوج لابد أن يكون موجوداً، لكن المطلوب كفكفته وتخفيف حدته أو تقويمه، أما إزالته بالكلية فمحال وهيهات هيهات؛ لأنك تصادم الوحي وتصادم الفطرة التي فطر الله تعالى عليها ذلك الجنس من الخلق، وأحياناً عوج المرأة في غالب أحوالها يعتبر في حقها كمال. والله تبارك وتعالى لما خلق المرأة ناقصة عقل ودين أثبت أن هذا نقصان يليق بها، وأنها صالحة على هذا النحو للمهمة التي خلقها الله لأجلها، فهذه المرأة لا يمكن أبداً أن تصلح لتربية الأولاد إلا على هذا النحو، ولذلك الرجل أكمل منها عقلاً ولو كلف بتربية طفل فلا يمكث معه إلا ثلاث ساعات ويقتله ويستريح منه، لأنه لا يقوى عليه، فالطبيعة التي خلق عليها تتناسب مع شيء آخر لا تتناسب مع تربية الأولاد، ولذلك المرأة إذا خرجت من بيتها ترجلت واكتسبت صفة الرجولة، وتخشنت في أفعالها وأقوالها، لمخالطتها للرجال؛ لأنها خرجت عن حد الفطرة. والرجل إذا كان يعمل في أي مؤسسة أو شركة في مكتب وفيه نسوة فبعد مضي فترة من الزمان تجده قد اكتسب صفات الأنوثة في كلامه وأفعاله وحركاته وهكذا، حتى إنه ليقلد النساء اللاتي معه في المكتب فيأتي في الصباح وقد أتى من الأسواق بالخضار وغير ذلك ووضعه تحت المكتب كما تفعل زميلاته من النساء، يقلدهن في كل شيء ويتنازل عن دينه حتى يذهب عقله ربما بالكلية، فهن لا زلن يحتفظن بنص العقل أو بربعه، وهو قد فقد عقله بالكلية؛ لأنه خرج عن حد الفطرة التي فطره الله عز وجل عليها. ولو أنك نظرت إلى المرأة الأم وهي تدلل وليدها وتنظر إليه مع الأقوال والأفعال والحركات التي تصدر منها فلابد أنك ستقول: الحمد لله الذي كملني وخلقني رجلاً؛ لأنه يصدر منها أشياء يستحي المرء أن يقلدها. ودور الأم في تربية الأطفال إلى سن معين ثم تأتي مهمة الأب بعد ذلك، ولذلك الأم لا تصلح مع الصبية، تربية الأم للصبية تربية عاجزة وقاصرة جداً فلابد أن يتولى أمره بعد السابعة والثامنة الأب وإلا هلك الولد وضاع وتاه؛ لأن الزمام من الأم يفلت في هذا السن فإذا لم يكن الأب هو الحازم والرقيب على تصرفات أولاده ضاع الولد في هذا السن الصغير. قال: [خلق الخلق بقدرته، حجة لنفسه، ودلالة على ربوبيته، فإنه ليس كمثله شيء، تفرد بالإنشاء، وجل عن شبه الأشياء سبح

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى توحيد الله

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى توحيد الله قال: [وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة من أخلص لربه، وخلع الأنداد من دونه]. الند: هو الشريك والعدل والمثيل، فإن الله تعالى لا ند له، ولا مثيل له، ولا شريك له. قال: [وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على فترة من الرسل]. الفترة: هي انقطاع الوحي بين الرسولين، وكان بين عيسى عليه السلام وبين نبينا عليه الصلاة والسلام حوالي ستة قرون، ولا شك أن هذا زمان طويل كفيل بأن ينسى الناس اتباع عيسى بن مريم عليه السلام، ولذلك اختلط الحابل بالنابل في هذه الفترة، وسمي بالجاهلية لاندراس وغياب العدل بين الناس، وكان القوي يأكل الضعيف، والشريف لا يقام عليه الحد، والضعيف يقام عليه الحد، وانتشرت بدع الجاهلية وشركياتها، فلما كان الأمر كذلك أرسل الله تبارك وتعالى على حين فترة من الرسل -أي: انقطاع الوحي- رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. قال: [ودروس من الوحي في أعقاب المرسلين، وحجة على العالمين، والخلق في جاهلية جهلاء]. أي: أرسل الله رسوله حجة على العالمين، وكانوا في جاهلية جهلاء. قال: [صم بكم عن الهدى]. أي: لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يفهمونه [متمسكون بعروة الضلالة والردى]، والعروة: مقبض الدلو، وهو الذي يمسك ويتحكم بالدلو من خلاله، فهم يتمسكون بالضلالة في الجاهلية تمسكهم بهذا الدلو من عروته. قال: [متمسكون بعروة الضلالة والردى -أي: الهلاك- فدعاهم -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد الله عز وجل]. تصوروا أنهم متمسكون بعروة الضلالة فيخرج من بينهم رجل يعرفونه ويعرفون أمانته وصدقه يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ جميع هؤلاء الآلهة المزيفة والأنداد الباطلة! بلا شك أنها دعوة في قمة الغرابة، ولذلك لما كان منه عليه الصلاة والسلام ما كان من دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ جميع هذه الأنداد والآلهة المزيفة الباطلة، قالوا: عجباً لك أجعلت الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب. يعني: هذه الدعوة منك يا محمد غير مقبولة بالمرة، أتجعل جميع هذه الآلهة إلهاً واحداً؟! إذا كان لكل واحد أربعة آلهة، واحد في الحرم وثلاثة في البيت، وإذا أراد أن يسافر أخذ أحد الثلاثة معه حتى لا يحرم من العبادة والشرك في سفره حتى يرجع إلى بلده مرة أخرى، أتجعل كل هذا باطلاً ثم تدعونا إلى إله واحد؟! نحن نؤمن بهذا الإله الواحد ونحن نعبده لكن عن طريق هذه الآلهة؛ لأنه لا يصح لنا أن نعبد الله مباشرة، فإنما نتخذ الأنداد والشركاء؛ ليقربونا إلى الله تعالى، ونحن نوقن أن الله تعالى هو الذي خلقنا ورزقنا وسوانا وغير ذلك من سائر صفات الربوبية لله عز وجل!! والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أتاهم بتوحيد الله عز وجل وحده، فهو الذي يستحق العبادة وحده سبحانه، فهؤلاء الآلهة المزعومة يقطعون الصلة بينكم وبين الإله الواحد، فدعاهم إلى توحيد الله عز وجل والإقرار له بالربوبية -وهم كانوا يقرون بالربوبية- واتباع أمره، وإفراده بالعبادة، فأبوا ذلك فصبر منهم على الأذى. بلا شك أن هذه الدعوة لم تلق قبولاً مطلقاً، بل ولقي صاحبها عليه الصلاة والسلام منتهى الأذى من السب والضرب والشتم والجنون والسحر وغير ذلك من سائر ما رماه به المشركون، حتى ظهرت حجة الله على خلقه، وهذه هي النتيجة الحتمية! من صبر على الحق الذي معه ظفر بالنتيجة المرجوة، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى بالعديد من مخلوقاته، فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من الوحي إلا هذه السورة لكفى. والله تبارك وتعالى بين فيها نوعاً من القسم، وأن لله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالعصر على اختلاف بين أهل العلم فيه، فقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] أي: كل بني الإنسان في خسارة وهوان في الدنيا والآخرة، فاستثنى الله تبارك وتعالى من عموم الهلاك والخسارة أصنافاً أو صنفاً قد اتصف بصفات أربع هي: الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، التواصي بالصبر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] لم يقل: آمنوا أو عملوا الصالحات؛ لأن الإيمان بغير عمل لا ينفع، والعمل بغير إيمان لا ينفع، فعطف هذا على ذاك لتلازمهما. ولا شك أن الإيمان حق، والعمل الصالح حق، فلا بد من التواصي بالتمسك بهذا الحق، فأعقب الإيمان والعمل الصالح بتواصي أهل الحق فيما بينهم بهذا الإيمان وبهذا العمل، قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، أي: الصبر على طاعة الله، وعلى التمسك بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بهذا فيما بينهم! الصبر على الأذى في هذا الحق وفي هذا الإيمان! الصبر على الأذى والتمسك بالدين! الصبر على الدعوة إلى الل

نصيحة للمسلمين بالتمسك بالكتاب والسنة

نصيحة للمسلمين بالتمسك بالكتاب والسنة قال: [ثم على إثر ذلك فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين]. يعني: أنه أراد أن ينصح المسلمين قبل الدخول والشروع في المراد والمقصود. قال: [فإني أجعل أمام القول -يعني: في مقدمة القول- إيعاز النصيحة -أي: تقديم النصيحة- لإخواني المسلمين: بأن يتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين] هذه النصيحة من أغلى ما نصح به ناصح منصوحاً، فأغلى نصيحة يمكن أن يقدمها الناصح للمنصوح أن ينصحه بالتمسك بالكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة في فهم الكتاب والسنة، أعز ما يملك المرء لأخيه من نصح أن ينصحه بهذا، وبهذا بيان أن المنهج الحق الذي يتمسك به المسلم هو أن يتمسك بالكتاب والسنة على منهاج سلف الأمة؛ لأن الكل يزعم أنه على الكتاب والسنة، وإن أتيت بأفجر فاجر على وجه الأرض وسألته: ما منهجك؟ لقال: الكتاب والسنة. وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا كل يدعي أنه يحب ليلى، ولاشك أنها تحب واحداً، ويقولون: ليست العبرة أنك تحب الله، وإنما العبرة أن يحبك الله عز وجل؛ لأن هذا هو الحب الذي ينفعك، وإن الله تعالى لا يحب الظالمين ولا المفسدين، ولا الكافرين وإنما يحب الصالحين، الصابرين، المؤمنين، الصائمين وغير ذلك من سائر صفات الطائعين لله عز وجل، فالعبرة أن يحبك الله عز وجل، ولا يحبك الله إلا إذا كنت عاملاً بالكتاب والسنة على منهاج سلف الأمة. ولذلك لو أتيت برجل صاحب بدعة، وتصور لو أنك أتيت بجهمي وقلت له: ما هي مصادرك فيما تقول؟ سيقول: الكتاب والسنة. ولو أتيت بجهمي أو معتزلي أو أشعري أو خارجي أو حتى أتيت بـ خميني إيران ما منهجك؟ يقول: الكتاب والسنة. لكن العبرة ليس بالكتاب والسنة فحسب، بل العبرة وبيت والقصيد أن يفهم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، ولذلك كثير من الناس يأتي بآية من كتاب الله ويفهمها على غير مراد الله، أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمه على غير مراد النبي ثم هو في نهاية الأمر يزعم أنه على الكتاب والسنة. نعم. أنت على الكتاب والسنة لكن بفهم الخلف لا بفهم السلف، وما أظن أن واحداً من المبتدعة أو الضلال يزعم أنه لا علاقة له بالكتاب والسنة، وإنما الكل يدعي وصلاً بالكتاب والسنة، وأنه يأخذ منهما غضاً طرياً، وليس الأمر كذلك إلا أن يكون فهمه للكتاب والسنة على منهاج الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولذلك يقولون: الدعوة السلفية امتداداً لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وسميت سلفية؛ لأن مناط البحث فيها ومناط الأخذ عنها إنما هو عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن التابعين لهم بإحسان، وعن الأئمة المتبوعين، فالسلفيون لا يفهمون الكتاب من عند أنفسهم، ومن فهم منهم آية من عند نفسه ولم يرجع فيها إلى فهم السلف لم يكن متبعاً لمنهج السلف في هذه الآية، فلابد من الرجوع في كل آية من كتاب الله، وفي كل حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لفهم علماء الأمة وسلف الأمة لهذا الكتاب ولهذه السنة، وما دون ذلك خرط القتاد، لا يصح منك أبداً ولا يقبل منك حتى يستقيم فهمك للكتاب والسنة كما استقام فهم سلف الأمة للكتاب والسنة. قال: [ثم على إثر ذلك فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين: بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، الذين شرح الله بالهدى صدورهم، وأنطق بالحكمة ألسنتهم، وضرب عليهم سرادق عصمته]. السرادق: هو الذي يحيط بالشيء، وسرادق العصمة بالنسبة للأنبياء معلوم وهو العصمة في تلقي الوحي، وفي إبلاغ الوحي، والعصمة من الكبائر، أما العصمة لمن بعدهم فهي العصمة من البدع، والعصمة لعلماء الأمة من السلف، أن الله عصمهم من الوقوع في البدع، أما الكبائر فليسوا معصومين منها، بل تقع منهم الكبيرة كما تقع ممن هو دونهم. قال: [وأعاذهم من كيد إبليس وفتنته، وجعلهم رحمة وبركة على من اتبعهم، وأنساً وحياة لمن سلك طريقهم، وحجة وعمى على من خالفهم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]]. وهذه الآية تدعو إلى التمسك بالمنهج السلفي؛ فهي من أعظم قوانين القرآن للسلفيين، والمشاقة: هي البعد والمحادة. ومعنى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115]، أي: تبين له الوحي والعلم والطريق المستقيم: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] هو سبيل الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقوبة: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي: نمهد له السبيل للوقوع في الفتن والبدع؛ لأنه شاقق الرسول واتبع غير سب

التحذير من مقالة جهم بن صفوان

التحذير من مقالة جهم بن صفوان قال: [وأحذرهم مقالة جهم بن صفوان وشيعته]. ولا تزال النصيحة دائمة مستمرة، فهو يقول: وأحذر إخواني المسلمين أن يقعوا في مقالة الجهم بن صفوان وشيعته [الذين أزاغ الله قلوبهم، وحجب عن سبل الهدى أبصارهم، حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعر منه الجلود، وأورث القائلين به نار الخلود]، أي: هم كافرون خارجون من الملة، مخلدون في نار جهنم أبد الآبدين، وسيأتي معنا باب إثبات كفر الجهمية، وأن القائل من علماء الأمة بكفرهم كفراً مخرجاً عن الملة أكثر من ستمائة عالم من علماء الأمة. قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق]، وهذا أول باطل خرجوا به [والقرآن من علم الله تعالى، وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى]، يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى خلق هذا الكلام فهذا يعني أنه لم يكن موجوداً فأوجده الله، كان عدماً فأحدثه الله، فهو محدث في ظن الجهمية والمعتزلة، مخلوق أي: حادث، ومعنى حادث أنه لم يكن موجوداً من قبل، فالقرآن في ظن الجهمية والمعتزلة وأهل البدع لم يكن موجوداً فوجد بعد ذلك، وهذا القرآن الذي هو كلام الله فيه إثبات الأسماء والصفات، وهذا يعني أن ذات الله تعالى ذاتاً بلا أسماء ولا صفات، ثم خلق الله تعالى الأسماء والصفات؛ لأن القرآن إذا كان مخلوقاً وهو الذي حوى الأسماء والصفات وكان حادثاً ومخلوقاً فإن كل ما فيه مخلوق، والذي فيه هو الأسماء والصفات. إذاً: كلها مخلوقة لله، والله تعالى لم يكن مسمى بأسماء ولا متصفاً بصفات، فخلق الأسماء والصفات بعد ذلك، وهذا من أخطر الباطل، وأكفر الكفر. قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق، والقرآن من علم الله تعالى وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى، فمن زعم أن القرن مخلوق فقد زعم أن الله كان ولا علم]؛ لأن الله تعالى أثبت أنه علام الغيوب، وأثبت أنه عليم بذات الصدور، عليم بكل شيء: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]، وأثبت أنه عالم غيب السماوات والأرض، فأثبت الله تعالى العلم في القرآن، فإذا كان هذا القرآن مخلوقاً، فالله تعالى لم يكن عليماً فصار عليماً، لم يكن سميعاً فصار سميعاً، لم يكن قديراً فصار قديراً، لم يكن حليماً ولا غفوراً، وغير ذلك من سائر أسمائه وصفاته، لأنها في ظن هؤلاء وزعمهم أنها مخلوقة، ومعنى مخلوقة أنه لم يكن مسمى ولا متصفاً بهذا ولا بذاك. قال [: ومن زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة فقد زعم أن الله مخلوق محدث]، أي: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله لم يكن قد تسمى بأسماء ولا اتصف بصفات، وكل هذا حادث، ولا يتصور أن ذاتاً بغير صفات ولا أسماء، وبالتالي فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله تعالى مخلوق. قال: [وأنه لم يكن ثم كان -تعالى الله عما تقول الجهمية الملحدة علواً كبيراً- وكلما تقوله وتنتحله، فقد أكذبهم الله تعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال أصحابه، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأن الله عز وجل لم يزل عليماً سميعاً بصيراً متكلماً، تاماً بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وسنذكر من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين -أي: وهذه هي المصادر الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع- ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه، ما إذا سمعه المؤمن العاقل العالم ازداد به بصيرة وقوة وهداية، وإذا سمعه من قد داخله بعض الزيغ والريب وكان لله فيه حاجة وأحب خلاصه وهدايته نجاه ووقاه، وإن كان ممن قد كتبت عليه الشقوة زاده ذلك عتواً وكفراً وطغياناً. ونستوفق الله لصواب القول وصالح العمل]. أي: نطلبه التوفيق في ذلك كله. ثم يبدأ الباب الأول من القرآن الكريم في سوق الآيات التي تثبت أن الله تعالى لا يزال متصفاً بالكلام، يتكلم بأي كلام شاء، في أي وقت شاء، وفي أي زمان شاء سبحانه وتعالى، فالله تبارك وتعالى تكلم بما شاء في أي مكان شاء وفي أي وقت شاء. أما الواقفة، فهم الذين قالوا: لا نقول: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. أي: نحن نشك في أنه مخلوق أو غير مخلوق. قال الإمام أحمد: وهؤلاء أكفر وأشر ممن قالوا بأنه مخلوق. ثم يثلث الإمام باللفظية: وهم الذين قالوا ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. إذاً: هنا ثلاثة أبواب: الباب الأول: إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإثبات ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. الباب الثاني: الرد على الواقفة وتكفيرهم. الباب الثالث: الرد على اللفظية وتكفيرهم كذلك، وهم الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. وهنا مسألة وهي: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال أنه مخلوق فهو كافر، إذا كان عالماً بما يقول فيكفر ابتداءً، وإذا كان جاهلاً يُعلَّم؛ فإن عُلِّم استتيب فإن تاب وإلا قتل، وسنذكر خطورة القول، ومعنى القول بأن القرآن مخلوق فيما سيأتي.

باب ذكر ما نطق به نص التنزيل من القرآن بأنه كلام الله

باب ذكر ما نطق به نص التنزيل من القرآن بأنه كلام الله قال المصنف رحمه الله في الباب الأول: [باب ذكر ما نطق به نص التنزيل من القرآن بأنه كلام الله، وأن الله عالم متكلم: قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]]، أي: أن الله متصف بالكلام، فالكلام صفة من صفات الله عز وجل. [وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف:158]. وقال عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]]، والمداد: الحبر الذي يكتب به، فلو أن البحر ومثله معه ومثله معه ومثله معه وسبعة أمثاله مداد، وهذه الأشجار التي خلقها الله عز وجل أقلام، فأخذنا تلك الأقلام ووضعناها في هذه المحابر التي هي البحار السبعة، وكتبنا كلام الله عز وجل ما نفدت كلمات الله، تنفد الأقلام وتنفد البحار ولا تنتهي كلمات الله عز وجل. إذاً: الله تعالى متكلم عليم قدير سميع بصير سبحانه وتعالى، والذي يظن أن الله تبارك وتعالى تكلم بهذا القرآن فحسب فقد أخطأ؛ لأن هذا القرآن إنما هو جزء وشيء من علم الله عز وجل، هذا القرآن الذي بين أيدينا الذي هو كلام الله إنما هو علم من علم الله تعالى وليس هو كل علم الله تعالى، فعلم الله تعالى لا يمكن الإحاطة به، ولذلك قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ} [لقمان:27]. [وقال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]. وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]، وفي الدرس الماضي قلت لكم أن الجهمية حرفوا هذه الآية، فقالوا: وكلم اللهَ موسى تكليماً، ولم يقولوا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ} [النساء:164] فجعلوا المتكلم هو موسى، حتى لا يقولون أن الله تعالى يتكلم، فجعلوا الله تعالى في هذه الآية المخاطب لا المخاطب، فإذا كان الأمر كذلك فماذا يقولون في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ لا يستطيع أحد أن يحرف هذه الآية، إلا أن يفعلوا كما فعل الجهم، حيث أتى على هذه الآية فمحاها من مصحفه، فلما قيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: إني أكرهها؛ لأنه لا يعرف أن محرف، فلما اصطدم بهذه الآية ولم يكن بد من محوها محاها لأنها حجة عليه، ولا يمكن تحريفها. [قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]]، والحديث هو الكلام، ولم يقل: أصدق من الله خلقاً وإنما قال حديثاً، وهذا يدل على أن حديث الله أو كلام الله ليس مخلوقاً. [وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]]، ولم يقل: وإذ خلق ربك؛ لأن الجهمية يقولون في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:30] أن الله تعالى خلق كلاماً في السماء فسمعته الملائكة، وليس المتكلم حقيقة هو الله، وإنما الله تعالى خلق الكلام في الأشجار أو في البحار أو في الجبال، أو في الهواء بين السماء والأرض فتكلم هذا المخلوق بكلام الله فسمعته الملائكة أو سمعه موسى أو غير ذلك ممن كلمهم الله عز وجل. [وقال عز وجل: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115]]، الشاهد هنا: (قَالَ اللَّهُ) إذاً: الله تعالى يقول. [وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116]]، إذاً: الله تعالى كلم عيسى. [وقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]]، وهو يوم القيامة. [وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وقال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]. وقال تعالى فيما أعلمناه في كتابه أن القرآن من علمه -وليس هو كل علم الله تعالى- فقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا} [البقرة:255]. وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ

الأسئلة

الأسئلة

حكم إطلاق لفظ القديم على الله عز وجل

حكم إطلاق لفظ القديم على الله عز وجل Q هل يجوز إطلاق لفظ القديم على الله عز وجل؟ A اسم القديم ليس من أسماء الله عز وجل، قال بعض أهل السنة: يجوز إطلاق لفظ القدم على الله عز وجل؛ لأنه قد ثبت في النص، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح ولكن المقصود بالقدم هنا سلطان الله، فالموصوف بالقدم هو السلطان وليس ذات الله عز وجل، فهذا وصف للسلطان، وليس وصفاً لله عز وجل.

حكم حديث الترمذي في سرد أسماء الله الحسنى

حكم حديث الترمذي في سرد أسماء الله الحسنى Q الأخ يسأل عن الحديث الذي أخرجه الترمذي وفيه إثبات أسماء الله تعالى الحسنى؟ A هو حديث ضعيف، لأنه من زيادات بقية، وبقية إذا تفرد فهو ضعيف، وللأسف الشديد أنه مشهور جداً، وكثيراً ما نجد حتى الإخوة من أهل السنة يعلقون الورقة المكتوب فيها أسماء الله عز وجل في برواز فاخر في بيوتهم أو في محلاتهم أو غير ذلك، في حين أن هذه الأسماء فيها أسماء ليست من أسماء الله عز وجل، فحديث الترمذي الذي سرد تسعة وتسعين اسماً فيها أربعة أسماء ليست من أسماء الله عز وجل، وهي: الباقي، والستار، والمنعم، والمنتقم. وباب الإخبار باب عظيم جداً، وباب واسع وطويل، ولا بأس به، إنما باب الإثبات يحتاج إلى توقف ودليل، فإذا قلت إن الله هو المنتقم فهذا إثبات لاسم من أسمائه، ولم يذكر الله تعالى في الكتاب أنه منتقم، ولكنه أخبر عن نفسه أنه ينتقم، ولا يذكر الله الانتقام إلا في مقابلة إجرام كما قال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، ولذلك لم يجوز أهل العلم إطلاق اسم المنتقم على الله عز وجل مطلقاً؛ لأن الله تعالى لم يتسمى بهذا ولم يسمه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرك له ذلك إلا في مقابلة إجرام المجرمين، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، فلا يسمى الله تعالى بالكائد، ولكن الله تعالى ذكر أنه يكيد لمن كاد، وهذا إثبات لعظمة الله عز وجل، وهو في هذا السياق صفة كمال، وكذلك الانتقام من المجرم صفة كمال لله. تصور أن الله تعالى لا ينتقم من المجرمين فهذا ليس عدلاً! لما تقابل شخصاً مجرماً، وأنت تعتقد أن الله تعالى لا ينتقم من هذا المجرم ستتحسر، لكن لو أن عندك يقين أن الله سينتقم من هذا المجرم إن لم يتب وأنه لن يفلت من قبضة الله عز وجل ومن عذابه ومن سطوته وجبروته سبحانه وتعالى، فأنت ترتاح جداً أن الله تعالى عنده من العذاب ما ليس عندك، وعنده من الانتقام ما ليس عندك، فهذا يتناسب مع عظمته وكماله سبحانه وتعالى. وكما قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فلا يسمى الله تعالى بالماكر ابتداءً، إنما يوصف بالمكر في مقابلة مكر الماكرين. يعني: مهما تمكرون فإن الله تعالى أشد مكراً منكم، فأين المفر من الله؟ فهذه صفة كمال لله، لا يمكن أن يشتق من هذه الأخبار أسماء، ولكنها أخبار، أو تسمى صفات المعاني، وبابها واسع جداً. والله تعالى يقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] فلو قلنا: إن الله تعالى من أسمائه المنعم، لكان لزاماً أن نقول أن من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً المنعم؛ لأن الآية تقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، فعطف إنعام الرسول على إنعام الله، فحينئذ ليس من أسماء الله المنعم، ولكن الله تبارك وتعالى أخبر عن نفسه أنه أنعم على عباده، فهذا خبر وليس صفة ولا اسماً. ولذلك اتفقت كلمة أهل السنة أن الاسم المجرد إذا كان ظاهره النقص فلا ينسب لله عز وجل لوحده وإنما ينسب في المقابل كما تقول: هو النافع الضار، فلا تقل: هو الضار فقط؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالضار ابتداءً، وإنما يوصف بالنفع والضر، فهو الذي يملك النفع والضر في آن واحد، فإذا ذكرت هذا، فاذكر الأول مع الثاني حتى تثبت أن النفع والضر بيد الله، فالصفات التي ظاهرها السلب والنقص لله وإن كانت ثابتة لا تذكرها إلا مع ما يقابلها.

حكم وصف الله تعالى بالبقاء والقدم ومخالفة الحوادث

حكم وصف الله تعالى بالبقاء والقدم ومخالفة الحوادث Q كثير من الإخوة يسأل: هل الله تعالى موصوف بالقدم والبقاء، والمخالفة للحوادث وغير ذلك من سائر هذه التصانيف التي صنفها الأشاعرة؟ الجوابك هذا كلام الأشاعرة وليس كلام أهل السنة، ومعاني هذه الأوصاف ثابتة لله عز وجل. والأشعري لما يبحث في الكلام لكي يثبت وجود الله عز وجل يلف الكلام فيقول: بما أن هذا الكون مخلوق لله عز وجل، وأن الله تعالى هو الذي خلقه ولم يدع أحد أنه خلق هذا الكون، إذاً: الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، وما دام الله تعالى خلق هذا الكون فإن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، وكلام ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولما تأتي إلى كلام السلف تجده كلاماً جميلاً مرتباً حلواً ومقنعاً موافقاً للعقل، وإن لم يوافق العقل فاعلم أن العقل هو القاصر، وتنتهي القضية هكذا. فالله تعالى أنزل شرعه ليتفق مع العقل والفطرة وإذا اصطدمت معك آية في كتاب الله أو حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فاتهم نفسك فوراً، إما أن هذا النص لم يثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن العقل قاصر عن إدراك حقيقة هذا النص؛ لأنه لا يتصور إنسان عاقل يحترم عقله يقول: إن الله تعالى أنزل كلاماً يصادم به الفطرة ويصادم به العقل الصحيح، ولذلك صنف ابن تيمية كتاباً جليلاً عظيماً من أعظم ما ألف وهو: (درأ تعارض العقل والنقل). يعني: استبعاد أي تعارض ينشأ بين النص الصريح والعقل الصحيح، مستحيل أن يكون بينهما تعارض، إنما التعارض ينشأ إذا لم يكن النص ثابتاً فحينئذ يصدم بالعقل، لأنه ليس من مشكاة النبوة، وهذا لا يتهم به الشرع ولا الوحي؛ لأنه ليس من الوحي، فكيف ننسبه إلى الشرع ابتداءً، أو أنه صحيح لكن العقل عجز عن إدراك معناه، ولا يمكن أن تعجز جميع العقول، فالذي عجزت أنت عنه أفهمه أنا، والذي عجزت عنه تفهمه أنت، وهكذا الناس في العلم يكمل بعضهم بعضاً.

أحسن نسخة لكتاب فتح الباري

أحسن نسخة لكتاب فتح الباري Q ما هي أحسن نسخة أو طبعة لكتاب فتح الباري؟ A أحسن نسخة لفتح الباري هي نسخة المطبعة السلفية، والنسخة السلفية مشهورة بذلك، وأحسن نسخة لكتاب صحيح مسلم هي نسخة قرطبة، وأنا لست بذلك تاجراً بل ناصح فقط، والريان هي نسخة سلفية أيضاً، والنسخة السلفية هي نسخة الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله، كان رجلاً من علماء السلف، والمكتبة السلفية في المنيل، لكن للأسف الشديد على عادة الناشرين السرقة إلا من رحم الله، فهناك ألف مكتبة سرقت النسخة السلفية الأصلية وصورتها، فإذا كانت هذه النسخة مصورة تباع في المكتبة هذه أو في تلك المهم أنها تكون موافقة لأصل الطبعة السلفية، إنما الذين أخذوا الطبعة السلفية وأحبوا أن يلفوا حولها فصفوها من جديد فقد وقعوا في أخطاء لا نهاية لها فلا تخلو صفحة من خطأ، وأنا لا أنصح الإخوة بشراء النسخة السلفية؛ إلا لكون نسخة المطبعة السلفية هي الأصل، وقد اعتنوا بها عناية فائقة، فيبيعونها بحوالي أربعمائة جنيه، وهي تستحق أكثر من ذلك، لكن المصورة تباع بمائة جنيه.

حكم مقاطعة منتجات اليهود والنصارى

حكم مقاطعة منتجات اليهود والنصارى Q أحد الشيوخ يقول: لماذا نقوم بمقاطعة بضاعة اليهود والنصارى والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك مع الفرس والروم أثناء محاربتهم؟ فكيف نرد على مثل تلك الشبهات؟ A هذه لا يمكن أن تكون شبهة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حاصر يهود بني النضير، أليست هذه من باب المقاطعة الاقتصادية؟ هل كان يمدهم النبي عليه الصلاة والسلام بطعام وشراب أم أنه حاصرهم للجلاء؟ (ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم وكان يرسل من بلده الطعام والشراب إلى قريش في مكة، فلما أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قال له: يا رسول الله! إني كنت قد نويت عمرة فماذا تأمرني؟ قال: اعتمر، وأرسل معه بعض أصحابه من المدينة حتى دخل مكة، فالتقى به المشركون في مكة، قالوا: يا ثمامة! أصبوت -يعني: تركت دين آبائك- قال: ما صبوت ولكني آمنت مع محمد بالله رب العالمين، ووالله لا تأتيكم حبة قمح حتى يأذن فيها رسول الله)، وهذه مقاطعة، والحديث في الصحيحين. والذي يقول: بأن المقاطعة ليست مشروعة، لو أنه ناقش في الوجوب أو في التحريم لقلنا له ذلك، ونحن ما قلنا أبداً بوجوب المقاطعة ولا بحرمة الصلة أبداً، نحن نقول بالمقاطعة من باب النكاية في العدو كما هو يجتهد في النكاية لنا بكل ما استطاع من قوة وسلاح، فإذا كان العدو يعلم أن النكاية فينا تحصل بالطعام والشراب منعهما عنا، ألا تعلمون أن أمريكا تلقي ملايين الأطنان من القمح في المحيط ولا ترسل بها إلى جنوب أفريقيا؟ أما بلغكم أن بابا روما وشنود في مصر لما ذهبا إلى جنوب أفريقيا كانا يأخذان الإنجيل بأيديهما اليمنى، والرغيف باليد اليسرى، كانا يعرضان الإنجيل على المسلمين الجوعى هناك الذين ماتوا جوعاً فيقولان لهم: لا تأخذوا الرغيف حتى تأخذوا الإنجيل أولاً وتعتقدون ما فيه وتتنصرون، فلو قلنا في مقابل هذا وذاك مما طرحناه مراراً، والعالم كله يعلم ماذا يصنع الصليبيون واليهود في هذا الزمان وفي هذه الأرض بالمسلمين هنا وهناك، فلو قلنا بالمقاطعة فهذا أقل القليل مما نملكه، ومع هذا ما قلنا أن المقاطعة واجبة، ولا أن من اشترى سلعة من اليهود أو النصارى آثم، ما قلنا ذلك أبداً، ولكن من باب النكاية في العدو، ولكن هذا الغبي إنما يؤثر في نفسه أن نشتم اليهود أو النصارى مع أنه ما كف في ليله ولا في نهاره عن سب الموحدين، وهذا يذكرنا بما ورد في السنة من أن أهل الأهواء والزيغ والضلال يتركون أهل الأوثان ويسبون أهل الإسلام، فهذا ما كف أبداً عن سب علماء المسلمين، ولا طلاب العلم هنا وهناك، ويعز عليه جداً أن يتكلم واحد منا في اليهود والنصارى بكلمة. أهم إخوانك؟ أهم آباؤك؟ أهم أصدقاؤك؟ أهم منك وأنت منهم أم ماذا؟ لا ندري، فالله تعالى يهدي الجميع.

حكم قراءة الفاتحة على الأموات

حكم قراءة الفاتحة على الأموات Q هل يجوز قراءة الفاتحة على الأموات؟ A هذه المسألة مما اختلف فيه سلف الأمة، والذي يترجح لدي: أنه لا يجوز قراءة القرآن مطلقاً على الأموات، وأن ذلك من البدع.

أيهما أفضل الكافر أم الجهمي

أيهما أفضل الكافر أم الجهمي Q لقد ذكرتم في الدرس الماضي أن ابن تيمية قال: لأن يموت الإنسان جهمياً أو معتزلياً خير من أن يموت كافراً على سبيل أخف الشرين، فكيف يكون هذا الجهمي مخلداً في النار مع أنه أفضل من هذا الكافر الذي لم يدخل الإسلام؟ أرجو التوضيح. A السؤال وجيه، ولكن نفرق بين دعاة الجهمية وعامة الجهمية، فأما الدعاة فتنطبق عليهم تلك النصوص التي كفرتهم وخلدتهم في النار وهذا الكلام ذكرناه مراراً، وفيه تفصيل سنذكره بإذن الله تعالى، ولكنهم على أية حال ليسوا كفاراً قولاً واحداً. يكفينا ما ذكرنا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ما جاء في السنة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

شرح كتاب الإبانة - ما جاء في السنة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق القرآن كلام الله غير مخلوق، وبذلك جاءت الأدلة من الكتاب والسنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بكلمات الله التامات، ويعوذ الحسن والحسين ببعض سور القرآن، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق، فدل ذلك على أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته غير مخلوق.

خطورة القول بخلق القرآن

خطورة القول بخلق القرآن إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. تكلمنا في الدرس الماضي في إثبات أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن الله تعالى متكلم ولا يزال متكلماً بما شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، لا ينتهي كلامه، وبينا ذلك من آيات الكتاب المبين. ودرسنا في هذه الليلة في إثبات أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه غير مخلوق من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فقال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه -أي: من المرفوع والموقوف- بأن القرآن كلام الله]. في الدرس الماضي بعض الإخوة كتبوا إلي رسالة وقالوا: ما قيمة هذا الكلام؟ ما قيمة ذكر هذه الفتنة خاصة وأن الناس لا يعرفونها؟ وهذه حقيقة، وقد أتتني رسائل في الدرس الماضي بعد أن شرحت أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبينت خطر القول بخلق القرآن، لكن لا يزال الأمر غامضاً على بعض الناس، وقد سألوا عن خطورة القول بخلق القرآن، خاصة وأن بعض الوعاظ -كما ذكر بعض السائلين- يصعدون على المنابر يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، فأما الصيام فيقول: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أي رب! أسهرت ليله فشفعني فيه)، ويسأل عن صحة الحديث. الحديث صحيح، لكن بدون لفظة: (وقال القرآن أي رب!) القرآن ما قال ذلك، ولكن الحديث: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، أما الصيام فيقول: أي رب!)؛ لأن الصيام مخلوق، والصيام فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة، (فيقول الصيام: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أسهرت ليله فشفعني فيه) ولم يقل القرآن: أي رب! ومن الخطأ الفادح فعلاً قول بعض الأئمة أو الخطباء في هذا الحديث: أي رب!، كما أن من الخطأ الشائع على ألسنة الناس إذا أراد أن يقسم يميناً مغلظاً أخذ القرآن بيمينه وقال: (ورب هذا القرآن) فجعل القرآن مربوباً، والمربوب مخلوق، فهذا يمين خطأ في الاعتقاد، ولا يصح؛ لأن القرآن ليس مربوباً، ولو كان مربوباً لكان حادثاً، ولو كان حادثاً للزم أن نقول: إن الله لم يكن متكلماً حتى خلق لنفسه الكلام، كما أنه لا بد أن يفنى إذا كان حادثاً؛ لأن كل حادث يطرأ عليه الفناء لا محالة. ولذلك قامت مناظرة في زمن المعتصم في مجلسه، وكانت في فتنة خلق القرآن، وكان الذي تولى كبرها عالم من علماء السلطة في ذلك الزمان يسمى أحمد بن أبي داود أو أحمد بن أبي دؤاد، ينطق هكذا وهكذا، وهو الذي وشى بالإمام أحمد عند الخليفة في زمن العباسيين وقال: إن أحمد يقول: إن القرآن ليس مخلوقاً وهو مخلوق؛ لأن القرآن شيء، والله تعالى خلق كل شيء، فلما كانت المناظرة بين الإمام أحمد وبين إمام الضلالة أحمد بن أبي دؤاد بين يدي المعتصم قال ابن أبي دؤاد: يا أحمد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أوليس الله تعالى خلق كل شيء؟ قال: بلى. قال: إذاً: القرآن مخلوق. فقال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى. قال: أوليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]؟ قال: بلى. قال: هل تقول: إن القرآن يدمر؟ -أي: يفنى ويزول- إذا قلت ذلك فقد كفرت، فسكت أحمد بن أبي دؤاد ولم يعر ابن حنبل جواباً. وانتهت المناظرة وكل مسلم ومسلمة ينتظر هذه الصولة وهذه الجولة لمن تكون: لـ أحمد بن حنبل أم لـ أحمد بن أبي دؤاد؟ فلما انهزم ابن أبي دؤاد ولم يعر أحمد بن حنبل جواباً انصرف الناس وقد كتبوا عن أحمد بن حنبل في هذه اللحظة: القرآن كلام الله غير مخلوق. ولا زال أهل السنة إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة يعتقدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق. والقرآن هو كلام الله عز وجل، والمخلوق منا لم يكن متكلماً، فلما خلق الله له الكلام تكلم، والمخلوق منا جاهل، فلما خلق الله له العلم صار عالماً، والمخلوق منا جهول، فلما خلق الله الحلم صار حليماً، وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها المخلوقين لم يكونوا يتصفون بها ابتداءً، فلما خلقها الله اتصفوا بها؛ ولذلك قال النبي عليه السلام: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) فلم يكن المرء منا عالماً حتى خلق فيه

ما جاءت به السنة عن النبي وعن أصحابه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

ما جاءت به السنة عن النبي وعن أصحابه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق في هذا الدرس نثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

حديث: (فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)

حديث: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي) قال: [عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف)] أي: يعرض نفسه على القادمين لأداء نسك الحج، وأنتم تعلمون أن أهل الجاهلية كانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، ويعظمون شعائر البيت، ولكن على غير ما سنه لنا الله تبارك وتعالى ورسوله، فإنهم كانوا يحجون، فمنهم من كان يحج على ملة إبراهيم، ومنهم من كان يحج على غير ذلك، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على الناس بالموقف، أي: على مداخل مكة أو مشارفها أو في عرفات أو مزدلفة أو غير ذلك. [فيقول: (هل من رجل يحملني إلى قومه؟ -أي: يأخذني إلى قبيلته وقومه- فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)]. وهذا الشاهد: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي). إذاً: الرب يتكلم؛ ولذلك كان من بعض حجج أهل التوحيد على أهل الشرك وعباد الأصنام: أنهم كانوا يقولون لهم: أتعبدون أصناماً لا تتكلم ولا تعي ولا تعيركم جواباً ولا ولا ولا؟ وثبت في السنة أن أم سليم لما هلك زوجها مالك بن النضر والد أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم لها أبو طلحة، فقالت: يا أبا طلحة! مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك وأنا امرأة مؤمنة، يا أبا طلحة! أتعبد أصناماً لا تسمع ولا تعقل ولا تتكلم؟ ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟ قال: يا أم سليم! أنظريني ثلاثة أيام -أي: أعطيني مهلة ثلاثة أيام لأنظر في كلامك هذا- فأتاها بعد ثلاث وقال: يا أم سليم! جزاك الله خيراً، لقد فكرت في كلامك فوجدت أنه شرك، وأن ما أنت عليه توحيد وإيمان. قالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بين يديه، فذهب وأعلن إسلامه، ثم أتى إليها وقال: يا أم سليم! هل لك في نكاحي؟ قالت: نعم. ومهري إسلامك، فلم تأخذ شيئاً في صداقها غير إسلام أبي طلحة، فكانت أم سليم تفاخر النساء. تقول: زوجكن آباؤكن على الدينار والدرهم وتزوجت على الإسلام، وهو بلا شك شرف عظيم جداً، وأثمن مهر، ويكفي أنه سبب للعتق من النار ودخول الجنة. فقوله: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي) فيه إثبات أن الرب تبارك وتعالى يتكلم.

حديث: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة)

حديث: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة) قال: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي -إذاً: كلام الله تعالى وحي- سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا)] إذا تكلم الله تعالى بكلامه بالوحي سمع أهل السماء من الملائكة للسماء جرساً وأصواتاً عالية كجر السلسلة على الصفا وهو الحجر الأملس، أي: كما لو أتيت بسلسلة أو جنزير ووضعتها على حجر أملس ناعم لا يستقر عليه شيء، ولو أجريت السلسلة على هذا الحجر لا بد أنك تسمع صوتاً عالياً، فكذلك إذا تكلم الله تعالى بالوحي [(سمع الملائكة في السماء لهذا الوحي صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون)]، وهذا من شدة الوحي. وأنتم تعلمون حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة شديدة البرد، فما ينفصم عنه الوحي إلا وهو يقطر عرقاً) عليه الصلاة والسلام من شدة الوحي. وكذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يتغير لونه تماماً إذا نزل عليه الوحي، فكان وجه يصفر أو يحمر، وذلك من شدته عليه عليه الصلاة والسلام، فكذلك يصعق الملائكة جميعاً [(حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم -أي: كشف عنهم الفزع- فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ -وفي هذا إثبات أن الرب يتكلم- قال: يقول الحق)] قول الله تعالى هو الحق، وقوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال: [(فينادون: الحق الحق)]. أي: فيتنادون فيما بينهم: الحق الحق، أي: تكلم الله تعالى بالحق، تكلم الله تعالى بالحق. ومصداق ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. وله شاهد من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)، فوصفوا كلام الله تعالى بأنه قول الحق.

حديث: (إذا تكلم الله سمع صوته أهل السماء)

حديث: (إذا تكلم الله سمع صوته أهل السماء) قال: [عن عبد الله قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم نادى أهل السماء أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا)] ويتكلمون بما تكلم الله تبارك وتعالى به.

حديث: (القرآن كلام الله)

حديث: (القرآن كلام الله) قال: [عن عبد الله بن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القرآن كلام الله). قال وسمعت الدغشي يقول: قال مجالد: قال عامر: قال مسروق: قال عبد الله: من قال غير ذا فقد كفر]. فهذا نص بعضه مرفوع والبعض الآخر موقوف. أما المرفوع: (القرآن كلام الله) وأما الموقوف فقول ابن مسعود: من قال غير ذا أي: من قال غير أن القرآن كلام الله فقد كفر.

حديث: (فأحسن الكلام كلام الله)

حديث: (فأحسن الكلام كلام الله) [عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هما اثنتان: الكلام والهدي -أي: الكلام والسنة والطريقة والهداية- فأحسن الكلام كلام الله)] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] إذاً: الله تعالى يتكلم ويتحدث، فأحسن الكلام كلام الله، [(وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)]. وأما قوله: (إنما هما اثنتان) من قول ابن مسعود، فالكلام هو كلام الله عز وجل وهو أحسن الكلام، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. قال: [(ألا وإياكم -أسلوب تحذير- ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)]. قال البيهقي: والظاهر أن ابن مسعود أخذ هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أخذ هذا القول: (إنما هما اثنتان الكلام والهدي) من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حجر: هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفاً على ابن مسعود. وقد ورد بعضه مرفوعاً من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود وأخرجه صاحب السنن، وجاء أكثره مرفوعاً من حديث جابر، وهو عند مسلم وأبي داود والنسائي وأحمد وابن ماجه، وذكر الحافظ هذا في الفتح. ثم قال في شرحه للحديث في كتاب (الاعتصام) أن هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن هذا الكلام لا يقال من قبل الرأي، أي: لا مدخل للرأي فيه، فلا بد أن يكون مستنده المعصوم عليه الصلاة والسلام. ولذلك قال: لأن فيه إخباراً عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم، وهو أن هديه خير الهدي، وهو أحد أقسام المرفوع. وقل من نبه على ذلك. وأما حديث جابر المرفوع في صحيح مسلم: (إنما هي اثنتان: الكلام والهدي) فهو كذلك في باب تخفيف الصلاة والخطبة من كتاب الجمعة عند الإمام مسلم.

وصية خباب بن الأرت لفروة بن نوفل بالتقرب إلى الله تعالى

وصية خباب بن الأرت لفروة بن نوفل بالتقرب إلى الله تعالى قال: [عن فروة بن نوفل قال: قال خباب بن الأرت] وخباب بن الأرت هو ابن جندلة بن سعد التميمي صحابي جليل رضي الله عنه، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، وكان يعذب في الله عذاباً أليماً، ويصبر على ذلك، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد. [عن فروة قال: قال خباب بن الأرت وأقبلت معه من المسجد إلى منزله فقال: إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه]. خباب بن الأرت ينصح فروة بن نوفل من التابعين: إذا أردت يا فروة! أن تتقرب إلى الله فليس هناك أحب إلى الله عز وجل من كلامه أن تتقرب به إليه، من تلاوته وتعظيمه وتشريفه والعمل به، والدعوة إليه، وغير ذلك. [قال ابن أبي العوام: اشهدوا عليَّ أن ديني الذي أدين الله عز وجل به: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذه كانت مقالة أبي]. فهذا قول ابن مسعود وابن أبي العوام، وكذلك قول أبي العوام نفسه. قال: [عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: كنت جاراً لـ خباب فقال: يا هناه -أي: يا صاحبي أو يا صديقي- تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه] سبحانه وتعالى.

أثر عمر: (إن هذا القرآن إنما هو كلام الله)

أثر عمر: (إن هذا القرآن إنما هو كلام الله) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غيرما طريق عنه: [إن هذا القرآن إنما هو كلام الله فضعوه مواضعه]. أي: قدروه حق تقديره.

حديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)

حديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) قال: [عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)]، يعني: من أفضلكم من تعلم القرآن لنفسه وعلمه الناس. [قال أبو عبد الرحمن - أبو عبد الرحمن السلمي الذي روى ذلك عنه-: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا]. أي: طلبي لأن أكون من خير خلقه هو الذي جعلني أتعلم القرآن وأعلمه إياكم مما أجلسني في هذا المكان، طلباً للخيرية والرفعة. قال: [فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا. وكان يعلم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة]. أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي كان يعلم القرآن في مسجد الكوفة الكبير أربعين سنة طلباً للخيرية.

أحسن الحديث كلام الله

أحسن الحديث كلام الله قال: [وقال ثابت بن قطبة: كان عبد الله بن مسعود يذكر كل عشية -يعني: كل يوم بعد صلاة المغرب أو العشاء يذكر الناس بكلمة يسيرة- فيحمد الله ويثني عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر باقي الحديث]، وهو المعروف بخطبة الحاجة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبدأ بها كلامه وخطبه ودروسه وغير ذلك.

تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين بكلمة الله

تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين بكلمة الله قال: [عن ابن عباس قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً رضي الله عنهما)] كان يعوذهما يعني: يرقيهما. يرقي الحسن والحسين. وفي هذا بيان استحباب أن يعوذ الرجل أولاده أو المرأة أولادها، خاصة عند الصباح وعند المساء حتى لا يمسه الشيطان لا في نهاره ولا في ليله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً رضي الله عنهما، ويقول: [(أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة، ثم يقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ اسماعيل وإسحاق)] يعني: كان إبراهيم يعوذ بنفس هذه الكلمات ولديه إسماعيل وإسحاق. قال: (أعيذكما بكلمة الله التامة) الكلمة التامة هي كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله. أما الكلمة التامة في زمن إبراهيم عليه السلام فهي: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إذ لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام قد بعث في ذلك الوقت، فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعوذ إسماعيل وإسحاق بكلمة التوحيد، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة) أي: التي تلم الفساد، من اللم: وهي التي تجمع أنواع الشرور والفساد.

حديث: (لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)

حديث: (لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله) [عن رجل من أسلم قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل -وهذا الحديث عند مسلم - فقال: إني لدغت الليلة يا رسول الله! فلم أنم حتى أصبحت قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما لدغك؟ قال: عقرب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)]، لو أنك قلت هذه الكلمة ما كان للعقرب عليك من سلطان، وما لدغك، بل ربما نام العقرب بجوارك لا يقدر على لدغك؛ لأنك تعوذت واستعذت ولجأت واعتصمت بالله تعالى وبكلماته التامة. قال: [(أما إنك لو قلت حين أمسيت -وهذا في أذكار المساء- أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق -والعقرب منها- من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)].

حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذات)

حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذات) [عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين-: (كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات)]، أي: بالمعوذتين، وبعض أهل العلم أدخل في المعوذات: الإخلاص تجوزاً، أطلقوا عليها معوذة؛ لأن المرء عندما يقرؤها يستعيذ بالله تعالى من الشرور والآثام. والغالب أن من تعوذ بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] يجمع معهما سورة الإخلاص وهي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي اشتملت كل آياتها على توحيد الله عز وجل، فكل سور القرآن ربما تجد فيها الأمر بالتوحيد وقد لا تجد، وربما تجد فيها أحكاماً حلالاً وحراماً، أخلاقاً وآداباً، لكن سورة الإخلاص هي التي تكلمت عن التوحيد من أولها إلى آخرها، وقالوا: هذه السورة هي نسب الله عز وجل. وقد جاء في الأثر: (أن قريشاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! انسب لنا ربك) فأخذوا على نسب آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فلو أنهم سئلوا: انسبوا لنا اللات أو العزى لاستطاعوا نسبة آلهتهم؛ لأنها من حجر أخذوه من جبل كذا، والذي صنعه ونحته وجعله على هذه الصورة فلان بن فلان، والذي حمله من مكان كذا إلى مكان كذا هو فلان بن فلان، وتم صنعه في ساعة كذا وفي يوم كذا، وتم تنصيبه وعبادته في ساعة كذا، وأول من عبده فلان، وهكذا يستطيعون أن ينسبوا آلهتهم. ولذلك أجروا عادتهم مع آلهتهم مع النبي عليه الصلاة والسلام: (انسب لنا ربك) فنزل قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] الذي تلجأ الخلائق كلها إليه سبحانه وتعالى رغم أنوفهم في سرائهم وضرائهم، حتى المشرك يلجأ إليه في وقت الضر، فإذا كشف عنه الضر رجع لعبادة الأصنام، وهذا دليل فطري أنه لا يكشف الضر ولا يسوق النفع إلا الله عز وجل، علم ذلك المشركون، {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:2 - 3]، ليس أباً لأحد، {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، ليس ابناً لأحد، فليس له ولد ولا والد، هذا نسب الله عز وجل. عن عائشة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات).

التعوذ بكلمات الله

التعوذ بكلمات الله [قال الشيخ: فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق؟] لو كان القرآن هذا مخلوقاً فهل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بالمخلوق؟ حاشا وكلا أن يتعوذ بالمخلوق، فمن تعوذ بالمخلوقين قلنا: هذا عمل عملاً شركياً، فمن تعوذ بفلان أو بقبر جده أو بتربة النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالكعبة أو غير ذلك قلنا: هذا شرك بالله عز وجل؛ لأنه قد تعوذ بمخلوق، والأصل لمن تعوذ أن يتعوذ بالخالق وأسمائه وصفاته؛ لأنها غير مخلوقة. فإذا كان القرآن مخلوقاً فكيف يتعوذ به النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: [ويتعوذ هو عليه الصلاة والسلام بمخلوق ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟] هذا كلام عظيم جداً وافتراء عليه صلى الله عليه وسلم. قال: [وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟] يعني: هل أقول: أعوذ بنفسي من شر ما نزل بي؟ هل يصح ذلك؟ A لا يصح؛ لأني مخلوق، لا يصح التعوذ بالمخلوق، ولا أقول: أتعوذ بـ البدوي أو بـ الحسين أو بالسيدة أياً كانت السيدة، أو غير ذلك من سائر وسائل الشرك التي يقع فيها كثير من الخلق، فهذا كله من الأعمال الشركية، والتوسل غير المشروع، فيقول: أعيذ نفسي بالسماء، السماء لا ترقى، بالجبال؟ بالأرض؟ بالأنهار؟ بالبحار؟ بالأنبياء؟ بالعرش؟ بالكرسي؟ كل ذلك مخلوق أم لا؟ كل ذلك مخلوق، هل سمعنا أحداً تعوذ بالسماء أو تعوذ بالأرض أو الجبال؟ ما سمعنا ذلك، أو بالكرسي والعرش؟ ما سمعنا ذلك. قال: [وإذا جاز أن يتعوذ المخلوق بمخلوق مثله فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي]، وإذا كان لأحد أن يعوذ بنفسه فليس هناك أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هناك أشرف مخلوق منه عليه الصلاة والسلام؛ ومع ذلك ما كان يعوذ أحداً بنفسه، وإنما كان يقول: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، ولم يقل: أعيذك بنفسي، وكان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، ولم يكن يعوذهما بنفسه، فلو كان التعوذ بالمخلوق جائزاً لكان من أفضل الأعمال والقربات أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنفسه؛ لأنه أشرف مخلوق، فلما لم يكن ذلك منه دل على حرمة التعوذ بالمخلوقات جميعاً وإن عظمت كالسماء والأرض والجبال والأنبياء والملائكة وغير ذلك، كما أن التعوذ بالقرآن تعوذ بغير مخلوق؛ وذلك لأننا نفينا مشروعية التعوذ بالمخلوقين، وثبت التعوذ بالقرآن الكريم إذاً: القرآن غير مخلوق. هذا الذي يريد أن يذهب إليه الإمام.

الكفارة المترتبة على من حنث في حلفه بكتاب الله دليل على أنه كلام الله

الكفارة المترتبة على من حنث في حلفه بكتاب الله دليل على أنه كلام الله قال ابن بطة: [أوليس قد أوجب عبد الله بن مسعود رحمه الله على من حلف بالقرآن بكل آية كفارة؟ فهل يجب على من حلف بمخلوق كفارة؟] إنما كفارته أن يقول: لا إله إلا الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فليقل: لا إله إلا الله). فقد أوجب ابن مسعود على من حلف بكتاب الله عز وجل في كل آية كفارة؛ لأنه يمين مشروع، والكفارة تترتب على اليمين المشروع دون اليمين الممنوع، إذ إن اليمين الممنوع يحتاج إلى توبة، كما لو حلف إنسان بالكعبة أو بأبيه أو بتربة جده أو بـ الحسن أو البدوي فإنما يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل؛ لأن هذا شرك، لكن لو أن إنساناً حلف بالله فحنث فعليه الكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فحينئذ الكفارة تترتب على اليمين المشروع دون اليمين الممنوع، فإن اليمين الممنوع يحتاج إلى توبة؛ ولذلك أوجب ابن مسعود على من حلف على كتاب الله عز وجل وحنث بكل آية كفارة، انظروا إلى خطورة الأمر، وفي هذا إثبات مشروعية الحلف بكتاب الله عز وجل، لا على أنه كتاب، وإنما على أنه كلام الله، وأنه صفة من صفاته؛ لأن اليمين المشروعة تكون بالله وأسمائه وصفاته، فلك أن تحلف بقدرة الله وعزة الله وجلال الله وعظمة الله، وغير ذلك من سائر صفات الله عز وجل فهو يمين عظيم منعقد، ولكن من حلف بكتاب الله عز وجل فقد أوجب ابن مسعود عليه في وقت الحنث بكل آية كفارة إما أن يطعم (10) مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة، فإن لم يجد شيئاً من ذلك أطعم عن كل آية (10) مساكين. عد كم آية في كتاب الله عز وجل؟ (6236) إذاً: (6236) × (10) مساكين، فالحانث يحتاج إلى وزارة شئون اجتماعية كاملة تقف بجواره لأداء هذه الكفارات؛ وذلك لأنه حلف يميناً منعقدة مشروعة على كتاب الله الذي هو كلام الله، والذي هو صفة من صفات الله عز وجل، وهذه اليمين مشروعة، أما لو كان صادقاً فإنه لا كفارة عليه، ولا حنث عليه؛ لأنه صادق فيما حلف عليه. قال: [عن عبد الله بن مرة عن أبي كنف عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلاً يحلف بسورة البقرة فقال: أما إن عليه بكل آية منها يميناً]. يعني: قد حلف (286) يميناً؛ لأنه حلف بسورة البقرة فقط، وهي: (286) آية، قال: عليه (286) كفارة إذا كان حانثاً في هذا اليمين، وإذا لم يكن حانثاً فلا شيء عليه. وقد أورده كذلك الإمام اللالكائي في كتاب أصول الاعتقاد من طريق حنظلة بن خويلد العنزي قال: أخذ عبد الله بن مسعود بيدي فلما أشرفنا على السدة -أي: وصلنا إلى الباب- إذ نظر إلى السوق فقال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هذا السؤال إذا نزل قرية، قال: (اللهم إنا نسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ومن فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن فيها). وكذلك قد ثبت في السنة: أن شر البقاع الأسواق، وخير البقاع المساجد. قال ابن مسعود لما أشرف على باب السوق: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن، فقال ابن مسعود: أما إن عليه بكل آية منها يميناً. قال: [عن الحسن -وهو من مراسيل الحسن - قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بسورة من القرآن فبكل آية منها يمين)]، ولا شك أن مراسيل الحسن ضعيفة، لكن عمل بمقتضى هذا النص سلف الأمة ومنهم عبد الله بن مسعود، ولم يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وروي كذلك عن مجاهد مرفوعاً كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ثم قال البيهقي: هذا الحديث إنما روي من وجهين جميعاً مرسلاً: عن مجاهد وعن الحسن. وروي عن ثابت بن الضحاك موصولاً مرفوعاً، لكن في إسناده ضعف، ثم ذكر حديث ابن مسعود السابق لهذا، ثم قال: فقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع الحديث المرسل فيه دليل على أن الحلف بالقرآن يكون يميناً في الجملة، ثم التغليظ في الكفارة متروك بالإجماع. [عن إبراهيم وهو - النخعي - أنه كان يقول: من حلف بسورة من القرآن فبكل آية يمين]. وهذا قد سبق. وقول إبراهيم قد رواه كذلك موقوفاً عن ابن مسعود: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. والحرف إما أنه بمعنى الآية من القرآن الكريم، أو بمعنى: طريقة النزول؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف، فمن كفر بحرف منه فكأنما كفر بجميع الأحرف، أي: بالقرآن، وقد جاء من طرق متعددة مو

إثبات أبي بكر رضي الله عنه أن القرآن كلام الله

إثبات أبي بكر رضي الله عنه أن القرآن كلام الله قال: [عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة- قال: (لما نزلت {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] قالت قريش لـ أبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة! لعل هذا من كلام صاحبك -أي: سورة الروم هذه لعلها من كلام محمد عليه الصلاة والسلام- قال: لا ولكنه كلام الله عز وجل)] فلا زال الله تعالى متكلماً.

قول الإمام الشافعي في الحلف بأسماء الله والحلف بالمخلوقات

قول الإمام الشافعي في الحلف بأسماء الله والحلف بالمخلوقات قال: [كتب لي أبو محمد بن أبي حاتم الرازي أجازني الرواية عنه، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المصري في أول لقاء لقيه في المسجد الجامع، فسألته عن هذه الحكاية، وذلك أني كتبتها عن أبي بكر بن القاسم عنه قبل خروجي من مصر، فحدثني الربيع قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة]. كما لو قلت: والعزيز والسميع والبصير، فمن حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، وأنتم تعلمون أن الكفارة لابد أن تكون في اليمين المشروع. قال: [لأن اسم الله غير مخلوق]. وأسماء الله تعالى قد وردت في كتابه الكريم، والكتاب كله ليس مخلوقاً وكلام الله تعالى كله ليس مخلوقاً. إذاً: الأسماء الواردة في القرآن الكريم لكونه كلام الله ليس مخلوقاً، وكذلك بقية الأسماء الواردة في السنة. قال: [ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق]. أي: أن أسماء الله غير مخلوقة، وما دون ذلك من الكعبة أو الصفا والمروة أو الأنبياء أو السماء أو الأرض أو الجبال أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها مخلوقة ولا كفارة فيها، وبالتالي يلزم الحالف بها أن يتوب إلى الله عز وجل. تعليقاً على كلام الشافعي رحمه الله: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة -يعني: اسم الله غير مخلوق- ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق. قال: حكى الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، فإن قال: وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله، يريد بها اليمين أو لا نية له فهو يمين، ثم ذكر باقي الكلام. قال: ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى لما ورد في الحديث: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله -أي: بغير الله وأسمائه وصفاته- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا بلا شك كفر عملي، أو شرك عملي؛ لأنه لو كان كفراً اعتقادياً فهو مخرج من الملة، فأنتم تعلمون أن يمين المصريين بالنبي صلى الله عليه وسلم عن بكرة أبيهم إلا من تعلم، سواء كانوا يقصدون به اليمين أو لا يقصدون، المهم أن يمينهم يسبقه الواو أو التاء أو الباء، وهذه أحرف القسم. قال ابن عمر: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). قال الترمذي: وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: (فقد كفر أو أشرك) على التغليظ، يعني: المراد بهذا النص ليس ظاهره وإنما هو التغليظ، والحجة في ذلك: حديث ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وأبي وأبي -كالمنكر على من قال ذلك- فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) فمن الناس من يقول: ورحمة أبي، فيقال: ما دام قد حلف برحمة أبيه فهو صادق. فإن قلت له: وإن حلف بالله؟ لقال: محتمل قد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، وإن قلت له: فإن حلف بتربة أبيه؟ لقال لك: هي أعز من رحمة أبيه، فلا يمكن أبداً أن يكون كاذباً في هذا اليمين. وهذا هو شأن العراقيين، فالعراقي يحلف بالله فيكون كذاباً، وإن حلف بشرف صدام وكان كاذباً فيه فمصيره الإعدام لا محالة، عجيب! كان لدينا صاحب عام (1983) م في الأردن، أخذ سيارته وسافر إلى العراق، وجلس هناك فترة من الزمن، وجاء بدولارات معه، وكان يمنع خروج الدولارات في تلك الأيام من العراق، فجاء صاحبنا بحبل من الحبال المغلفة بالبلاستيك، ووضع مكان السلسلة دولارات، فكانت الدولارات داخل الغلاف البلاستيك غير ظاهرة؛ لأن الغلاف سميك، فخرج من العراق بسيارته، فأخبر عنه من أخبر أنه قد خرج بالدولارات -طبعاً هذه جريمة لا تغتفر- فتبعه أربعة من الضباط الكبار، فأدركوه على الطريق، فقالوا: معك دولارات؟ قال لهم: لا. ليس معي دولارات. قالوا: جنب السيارة. فجنب السيارة على اليمين، وأخذوا يفتشون السيارة شمالاً ويميناً، إلى أن فكوا العجلات وما وجدوا شيئاً، ونزعوا الكراسي وقطعوها قطعاً فما وجدوا شيئاً، فلما فتحوا شنطة السيارة أخذوا هذا الحبل ورموه على الأرض، واستمر التفتفيش ثلاث ساعات أو أربع ساعات وما وجدوا شيئاً. قالوا: أمعك دولارات؟ قال لهم: لا. قالوا: أتحلف بشرف صدام أنه ليس معك دولارات. قال لهم: إذا حلفت بشرف صدام أنه ليس معي دولارات؟ قالوا: إذا حلفت بشرف صدام سنتركك. فقال: وشرف صدام معي دولارات. قالوا: أين؟ قال لهم: في الخرطوم الذي رميتموه على الأرض، فأخذوا الخرطوم ومزقوه حتى أخرجوا الدولارات كلها، ولم يجرءوا قط أن يمسوه بأدنى أذى؛ لأن الذي سيتو

مس القرآن على طهارة دليل على أنه كلام الله

مس القرآن على طهارة دليل على أنه كلام الله قال الشيخ ابن بطة: [ومما يحتج به على الجهمي الخبيث الملحد أن يقال له: هل تعلم شيئاً مخلوقاً لا يجوز أن يمسه إلا طاهر طهارةً تجوز له بها الصلاة؟ -أي: هل تعلم شيئاً مخلوقاً لا يجوز للمحدث مسه، ويصح بها الصلاة؟ - فلولا ما شرف الله به القرآن، وأنه كلامه وخرج منه لجاز أن يمسه الطاهر وغير الطاهر، ولكنه غير مخلوق، فمن ثم حظر الله تعالى أن يمس المصحف أو ما كان فيه مكتوب من القرآن إلا طاهر، فقال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]]. ولكن الإمام في الحقيقة يخالف جماهير العلماء الذين يقولون في هذه الآية: {لا يَمَسُّهُ -أي: اللوح المحفوظ- إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] يعني: الملائكة، والإمام بهذا يخالف، وكأنه يجمع الأدلة من هنا وهناك لإثبات صحة ما يقول، ونحن نعتقد صحة ما قال وما يقول بدون التكلف الذي تكلفه في تأويل قول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]. وفي حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر -وهو ابن عمرو بن حزم - قال: [(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجدي -أي: أبي بكر بن عمرو بن حزم - إن القرآن كلام الله، فلا يمس القرآن إلا طاهر)]، وليس في الروايات: إن القرآن كلام الله وإنما النص الثابت في كتابه عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر بن عمرو بن حزم: أنه قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر). وهذا الكتاب قد روي بطرق متعددة، وفي كل طريق منها ضعف، فمنهم من يثبته من جهة الإسناد ومنهم من يرده، وإن كانت الأمة أجمعت على وجوب العمل بهذا الكتاب؛ لأنه من قبيل الوجادة، والوجادة نوع من أنواع صيغ التحمل الثمانية التي منها: التحديث، والسماع، والإجازة، والعرض، وكذلك منها الوجادة، وصورة الوجادة: أن يجد الراوي كتاباً مكتوباً فيه شيء من العلم، بخط فلان يعرفه جيداً، ويثبت أن هذا من حديثه، فحينئذ لا يقول: سمعت ولا حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: وجدت في كتاب فلان قال: كذا وكذا، وهذه الوجادات موجود منها شيء ليس باليسير في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله بن الإمام: أنه وجد كتاباً في بيت أبيه. وهو يعرف أنه لأبيه، فقال: وجدت في كتاب أبي أنه قال: حدثنا فلان، ثم يذكر الإسناد ويذكر المتن. فقول الراوي: وجدت في كتاب فلان؛ هذا يعبر عنه العلماء بالوجادة، فكذلك الكتاب الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمرو بن حزم كتاب وجده أبو بكر بن عمرو بن حزم، أو وجده موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم؛ فهو عند أهل العلم من باب الوجادة. [عن نافع عن ابن عمر: أنه كان لا يأخذ المصحف إلا طاهراً]. أي: لا يمس المصحف إلا وهو على طهارة. وفي الصحيحين من حديثه أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) وفي رواية زيد فيها: (مخافة أن يناله العدو)، والمقصود بالعدو هنا: العدو المحارب لا العدو المسالم؛ لأن العدو منه من يكون محارباً، ومنه من يكون مسالماً، فالعدو الذي لا يقاتلني عدو مسالم، والعدو الذي رفع راية الحرب عدو محارب، وكذلك هناك عدو بيني وبينه عهد وأمان، وعدو ليس بيني وبينه عهد، فالأعداء كثيرون، ولكن لكل منهم حكمه، منهم من كان معاهداً، أو بيني وبينه عهد وأمان، ومنهم من نقض العهد فصار حربياً، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) إنما قصد العدو المحارب، وأنتم تعلمون أن نقض العهد يكون لأدنى شيء، وما وجد الكفار قط أحفظ ولا أرعى للعهود والمواثيق من المسلمين على مر التاريخ، ما نقض المسلمون عهداً قط، وإنما الذي كان ينقض دائماً هو العدو وخاصة إذا كان العدو يهودياً، فإن اليهودي ما حفظ وما رعى عهداً قط، فاليهود قوم غدر، وأظن أن غدرهم لا يخفى على أحد، حتى الساسة أنفسهم يعلمون بغدر اليهود بالليل والنهار؛ لأنهم إذا نقضوا العهد مع المسلمين فإنما ينقضون العهد مع الساسة المسلمين أولاً، فهم أعرف الناس في المسلمين بغدر اليهود وبحيلهم وألاعيبهم، فالساسة أعلم بهم منا، إذ نحن نعلم أنهم أهل غدر وخيانة من القرآن والسنة، ولكن غدرهم وخيانتهم في الواقع واقعة على السياسين بالدرجة الأولى. فقوله: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو) أي: إذا خيف وقوع المصحف بأيديهم. [عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو)]، وأنتم تعلمون أن العدو إذا نال المصحف أو استهزأ به أو سخر منه أو ضربه بقدمه أو بعصاه فقد انتقض العهد؛ لأنه لا يحت

تنزيه القرآن من قراءته في الأماكن المستقذرة دليل على أنه كلام الله

تنزيه القرآن من قراءته في الأماكن المستقذرة دليل على أنه كلام الله قال ابن بطة: [ولأجل أنه كلام الله وخرج منه أمر القارئ بتنزيهه والإمساك عن قراءته عند الروائح المنتنة، وفي الأماكن المستقذرة]. [فعن ذر -وقيل: ذر بن صهيب: قال: سألت عطاءً: أقرأ فتخرج مني الريح؟ قال: أمسك عن القراءة حتى تذهب]. أي: أمسك عن القراءة حتى تذهب عنك الريح أو تخرج من الأماكن المستقذرة. و [عن عبد العزيز بن أبي رواد عن مجاهد: أنه كان إذا صلى فوجد ريحاً أمسك عن القراءة]. قال ابن بطة: [فهذا ومثله كثير مما أمرنا به من إعظام القرآن وإجلاله، وتنزيهه وإكرامه لفضله على سائر الكلام، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]. وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الحلف بالتوراة والإنجيل

حكم الحلف بالتوراة والإنجيل Q هل يجوز الحلف بالتوراة والإنجيل على أنهما كلام الله قياساً على الحلف بالقرآن الكريم؟ وكيف يكون ذلك؟ A ما سمعنا أن أحداً من أهل العلم قال ذلك قط ولا أجازه، وإنما التوراة والإنجيل كتابان محرفان، حرفهما اليهود والنصارى؛ ولذلك لا يجوز الحلف بهما قط، وإن كان الأصل أنهما من كلام الله عز وجل، لكن بعد أن دخلهما التحريف فلا يجوز الحلف بهما، والقرآن الكريم ناسخ لهذين الكتابين، فلا يجوز الحلف بهما أبداً.

حمل كلام ابن مسعود في كفارة الحلف بكل آية من كتاب الله على التغليظ

حمل كلام ابن مسعود في كفارة الحلف بكل آية من كتاب الله على التغليظ Q ما معنى قول البيهقي: (ثم التغليظ بالكفارة متروك بالإجماع) عند كلامه على أثر ابن مسعود؟ A كلام الإمام البيهقي على قول ابن مسعود: من حلف بكتاب الله عز وجل فعليه بكل آية كفارة؛ لأن الكفارة لا تكون إلا في اليمين المشروع. قال: (انعقد إجماع أهل العلم على جواز الحلف بكلام الله عز وجل على أنه صفة من صفاته، وقد ترك العلماء الكفارة وحملوها على التغليظ). يعني: لا يلزم الحالف بكتاب الله حين الحلف أن يكفر عن كل آية كفارة، وإنما يكفر كفارة واحدة، فحمل كلام ابن مسعود على التغليظ والوعيد الشديد للاحتياط في الحلف بكلام الله عز وجل كذباً، وليس المقصود منه الظاهر، وإنما المقصود منه: التغليظ.

الحكم على حديث: (يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي) وبيان معناه

الحكم على حديث: (يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي) وبيان معناه Q يقول الرسول عليه الصلاة والسلام (يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي بغير حساب ولا سابقة عذاب -وذكر من أوصافهم أنهم- لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)، فهل هذا الحديث صحيح؟ A نعم. الحديث في الصحيحين، ومعنى هذا الحديث: أن هؤلاء السبعين يدخلون بغير حساب ولا سابقة عذاب، وأوصافهم: أنهم لا يكتوون، والكي مشروع، لكنه آخر الدواء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث فيهن الشفاء: شرطة بمحجم -وهي الحجامة- أو شربة عسل - {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]- أو كية بنار). وقال: (آخر الدواء الكي) قيل: هو حديث، والحقيقة أنه ما روي من طريق إلا وفيه ضعف، فمنهم من قال: ليس بحديث أصلاً، ومنهم من ضعفه، وبعض المتساهلين قد أثبته حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من أوصاف هؤلاء السبعين الذين يدخلون الجنة ومع كل واحد سبعون ألفاً قال: (هم الذين لا يكتوون) أي: لا يكتوون لأول وهلة، أو أنهم يدعون الكي توكلاً على الله عز وجل، وأملاً في الشفاء من عنده؛ حتى يدركهم الموت بغير كي، فجمعوا بين ترك التداوي والتوكل على الله عز وجل، ولا شك أن هذه درجة عظيمة، والتداوي مشروع وجائز؛ ولذلك قال ابن القيم: ما كنا نتداوى إلا إذا مر على الداء ثلاثة أيام، وكنا نسترقي بفاتحة الكتاب وغيرها، فوالله لقد وجدنا أنها نافعة في الرقية. ذكر هذا الكلام في بداية كتاب الداء والدواء، كما أنه ذكره في كتاب زاد المعاد، في الجزء الثالث: الطب النبوي. قال: (هم الذين لا يسترقون ولا يرقون)، وقوله: (ولا يرقون) رواية شاذة؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى، كان يرقي الحسين ويعوذ الحسن والحسين بالمعوذتين. أما قوله: (هم الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية، لكن هذا لا يمنع أن تقع عليهم الرقية بغير طلب، فالذي يطلب الرقية يسترقي؛ لأن الألف والسين والتاء للطلب، فاسترقى فلان أي: طلب الرقية، فكونه استرقى خرج من السبعين ألفاً، وبعض الناس يفهم من هذا الكلام أنه لو استرقى دخل فيهم، وهذا خطأ، إنما المفهوم أنه خرج من الفئة التي تدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب. إذاً: النص الصحيح: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب. قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون). أما الرواية القائلة: (هم الذين لا يرقون) فهي رواية شاذة، والصحيح أنهم: (الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم.

التوسل المشروع

التوسل المشروع Q ما هو التوسل المشروع؟ A التوسل المشروع يكون بأسماء الله تعالى وصفاته، وكذلك التوسل بالعمل الصالح، والدليل على ذلك: حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة. وكذلك يشرع التوسل بدعاء الصالحين الأحياء والدليل على ذلك: حديث عمر عندما استسقى بدعاء العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بدعاء نبيك وقد مات نبيك والآن نستسقي بدعاء عم نبيك العباس. إذاً: الاستسقاء والتوسل بدعاء الصالحين من الأحياء من التوسل المشروع، وما دون ذلك من التوسل الممنوع.

نسبة الأشاعرة إلى أهل السنة والجماعة أم إلى أهل القبلة

نسبة الأشاعرة إلى أهل السنة والجماعة أم إلى أهل القبلة Q أريد أن أعرف بكل دقة: ما حكم أصحاب العقيدة الأشعرية؟ وهل هم من الفرق الضالة التي في النار التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟ وهل يصح القول بأنهم فاسدو العقيدة أم لا؟ A بلا شك أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، وكوننا ننفي عنهم ذلك لا يلزم منه الحكم بتكفيرهم، لكن إذا قلنا: فلان ليس من أهل السنة لا يمنع أن يكون من أهل القبلة، فالأشاعرة من أهل القبلة مسلمون، ولكنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة.

حكم الاتكاء على اليد اليسرى في الجلوس

حكم الاتكاء على اليد اليسرى في الجلوس Q هل نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الاتكاء على اليد اليسرى في الجلوس؛ لأنها جلسة أهل النار؟ A نعم نهى عن الاتكاء على اليد اليسرى، والحديث ثابت عند أبي داود، وقال: (إنما هي جلسة أهل النار). والحديث الذي عند أبي داود فيه النهي عن الاتكاء على اليدين: اليد اليسرى واليد اليمنى، ومن باب أولى أن يكون النهي شاملاً لليد الواحدة، فهذا النهي ثابت والحديث فيه صحيح، وهي جلسة أهل النار، وفي رواية: (أنها جلسة الشيطان).

النهي عن تسريح الشعر كل يوم

النهي عن تسريح الشعر كل يوم Q هل نهى النبي عن تسريح الشعر والاغتسال في كل يوم. وما صحة ذلك؟ A نعم. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً، أي: نهى عن تسريح الشعر ودهنه إلا غباً، والغب: هو اليوم بعد اليوم أو الأيام بعد الأيام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (زر غباً تزدد حباً) يعني: عندما تحب أن تزور شخصاً لا ينبغي لك أن تزوره كل يوم من باب المحبة في الله إلى أن يكرهك في الله. والمقصود: أن تزوره كل فترة من الزمن إذا تطلب الأمر ذلك، لا أن تقلقه في عائلته، كل وقت تطرق عليه الباب إلى أن تؤثمه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد عن ذلك فهو صدقة). وكان عبد الله بن عمر إذا زار أحداً أخذ مولاه نافعاً معه، فكان إذا انتهت الثلاثة أيام قال: يا نافع! أخرج طعامنا من الكيس. لأنه انتهى حقهم في الضيافة. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يحل لأحدكم أن يؤثم أخاه)، يعني: بعد الثلاثة أيام ترحل بنفسك، ولا توقع أخاك في الإثم بكراهة وجودك، أو بتقديم الطعام لك على غير نية صالحة، أو بأنك ثقيل على قلبه، أو توقعه في بغضك، ولا شك أن المسلم لا يتصف بهذا كله إلا لعلة وضرورة، فلا تكن أنت السبب في إيقاع أخيك في هذا الإثم، فقوله: (ولا يحل لأحد أن يؤثم أخاه) أي: يوقعه في الإثم بسبب المكث عنده أكثر من ثلاثة أيام، لكن هل هذا الحديث في البادية أم في المدينة؟ اختلف أهل العلم، والذي يغلب على ظني أن هذا في البادية؛ لأن البادية لا يتمكن المرء من مكان يقيم فيه، ولا من مطعم يطعم فيه، لكن في المدينة هناك المطاعم والفنادق وغير ذلك، فبإمكانك أن تنزل فيها. كما أن في القاهرة والمدن الكبيرة هذه العادات مسألة في غاية العسر، خاصة إذا كان الضيف صعيدياً؛ لأن هذه أعراف، والحقيقة الإخوة الصعايدة المقيمون في القاهرة في غاية العنف والمشقة من هذا الأمر، إذ يأتيه أخوه من خارج البلد فيمكث عنده شهراً كاملاً. وعندما يذهب للعمل يأخذ أخاه معه، فلو أنه أخذ أخاه ثلاثة أيام أو أربعة أيام معه في العمل فإن أصحاب العمل سيتحرجون جداً، فلا يقدمون طعاماً ولا شراباً، فيصبح قاعداً على الكرسي، وهكذا يثقل على أخيه؛ فلذلك ينبغي أن يكون حريصاً على خفته، فلا يجلس شهراً بلا هدف ومن غير مصلحة، إن جاء للزيارة مكث شهراً، وإن جاء لمصلحة مكث السنة كلها، وأخوه ماذا يفعل؟ هل يتركه مع امرأته في البيت؟ إذاً تقع المحاذير والانتهاكات الشرعية، وانتهاك الحرمات وغير ذلك، وإن قلت له: تعال معي العمل قال: هذا لا يأمنني، بل يعتبرني خائناً! فنقول: أفضل شيء هو تطبيق الشرع حتى وإن وجد في نفسه وغضب، فهذا دين الله سبحانه وتعالى، فلابد أن يقول المضيف: أكرمتك ثلاثة أيام وقدمت فروض الطاعة لك، وقد انتهت الثلاثة أيام. والأنكى من ذلك أن الأسرة في البلد تتفق مع أسرة أخرى أو مع بعضها البعض أن كل ثلاثة أيام يزورون شخصاً! وصلى الله على نبينا محمد.

الرد على الواقفة الذين قالوا القرآن كلام الله ولم يقولوا مخلوق ولا غير مخلوق

شرح كتاب الإبانة - الرد على الواقفة الذين قالوا القرآن كلام الله ولم يقولوا مخلوق ولا غير مخلوق لقد حذر العلماء من اتباع سبيل الجهمية وغيرهم من المبتدعة القائلين بخلق القرآن، وبينوا أن العقيدة السليمة في ذلك هي عقيدة أهل السنة والجماعة وهي إثبات أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، تكلم به سبحانه على الحقيقة بحرف وصوت يليق بجلاله سبحانه، وأنه غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن كلام الله، وسكت، فلا قال: هو مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو شر من الجهمية.

باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق خلافا للطائفة الواقفة والشاكة

باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق خلافاً للطائفة الواقفة والشاكة الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي عن إثبات أن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وبينا ذلك من الكتاب والسنة؛ إذ إنه في الأحاديث القدسية أن الله يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى، فحينئذ القرآن الذي تكلم الله عز وجل ويتكلم به ولا تنفد كلماته ليس مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة من صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى غير مخلوقة. ولو قلنا: إن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه لكان لزاماً أن نقول: إنه كان ليس قادراً على الكلام أولاً، فخلق في نفسه القدرة على الكلام فتكلم، وهذا القرآن إنما يحمل الأسماء والصفات، إذاً: كل الأسماء والصفات مخلوقة، فما يقوله الإنسان في صفة يلزمه أن يجري هذا الكلام في بقية الصفات؛ لأن الكلام في صفة هو كالكلام في جميع الصفات، فإذا كان الكلام مخلوقاً فجميع الأسماء والصفات مخلوقة، والذي يقول هذا مع إثبات كفره وإلحاده في أسماء الله تعالى وصفاته نقول له: إنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى ذات بغير صفات، وقلنا: إنه لا يتصور مطلقاً أن تكون ذات بغير صفات. إذاً: إذا قال ذلك فإننا نقول له: كيف نتصور ذاتاً ابتداء بغير صفات؟ لابد أنه سيعجز عن الرد، ثم نقول له: لقد جعلت الله عدماً، والمعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً حتى يصير ذاتاً، وغير ذلك من هذه الفلسفات التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم. كما قلنا في الدروس الماضية: إن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، والسلف رضي الله عنهم -أي: في زمن الصحابة وزمن التابعين- ما اضطروا إلى هذه الزيادة -غير مخلوق- لكن لما تكلم الجهمية بهذا الكلام الإلحادي الكفري اضطر السلف اضطراراً أن يقولوا: غير مخلوق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، ولم يقل لها: بذاته أم لا، فلما جاء الخلف وقالوا: الله تعالى في كل مكان، اضطر السلف أن يقولوا: الله تعالى في السماء بذاته، فهو استوى على العرش بذاته، وهو مع خلقه معية سمع وإحاطة ورعاية، وغير ذلك من بقية معاني صفاته سبحانه وتعالى. إذاً: السلف ما قالوا: الله تعالى على العرش بذاته -وهم يعلمون أنه على العرش بذاته- ولم تكن هناك حاجة إلى أن يذكروا مصطلح: بذاته، حتى أتى من نفى أن الله تعالى استوى على العرش بذاته، فاضطر السلف أن يزيدوا في الرد على المبتدعة قول: بذاته، فقالوا: الله تعالى استوى على العرش بذاته، وكذلك السلف كانوا يقولون: القرآن كلام الله، وما كانوا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأن الأمر مستقر عندهم أن القرآن صفة، وأن الكلام صفة من صفات الله، وهي غير مخلوقة، ولم ينازع في ذلك أحد من السلف، فما كان هناك حاجة إلى أن يقولوا: مخلوقة أو غير مخلوقة، فلما أتى من قال: القرآن كلام الله مخلوق، اضطر السلف أن يقولوا: بل القرآن كلام الله غير مخلوق، فاضطروا اضطراراً إلى ذلك، فمن الناس من قالوا: القرآن كلام الله مخلوق، ومنهم من قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من توقف، فلم يتكلم لا في مسألة القرآن ولا في مسألة اللفظ، وقالوا: لا نقول: مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما نقول: القرآن كلام الله، وربما يتوهم السامع بهذا أن هؤلاء الواقفة أخذوا بالأصل الأصيل الذي ورد في كلام سلف الأمة من الصحابة؛ أنهم ما كانوا يقولون: لا مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأنهم قالوا: القرآن كلام الله، وهذا كلام لا يختلف عليه أحد من أهل السنة، لكن هيهات أن يكون الأمر كذلك، إذ إنهم شر ممن صرحوا بأنه مخلوق؛ لأن بقية العلامات والأمارات لهؤلاء الواقفة تنبئ عن أنهم جهمية؛ لأنهم تبنوا أصول الجهمية فيما يتعلق بنفي رؤية الله عز وجل ونفي عذاب القبر وغير ذلك، أي: قالوا بما قالت به الجهمية، فلا يمكن حمل توقفهم في كلام الله عز وجل مخلوقاً أو غير مخلوق على بقية منهج الجهمية، ولذلك عقد الإمام ابن بطة الباب السابق والذي قبله لإثبات عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله وأنه غير مخلوق، وساق الأدلة من القرآن في الباب الأول، وساق في الباب الثاني الأدلة من السنة النبوية وكلام الصحابة رضي الله عنهم على أن القرآن كلام غير مخلوق، لا يقول بغير ذلك إلا كافر. ثم عقد الباب الذي نحن بصدده الآن للرد على الواقفة الذين توقفوا في قولهم مخلوق أو غير مخلوق، وإنما قالوا: القرآن كلام الله، ولم يقولوا: هو مخلوق أو غير مخلوق، فقال رحمه الله: [باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، خلافاً للطائفة الواقفة التي وقفت وشكت وقالت: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق].

الآثار عن بعض السلف في أن القرآن كلام الله غير مخلوق

الآثار عن بعض السلف في أن القرآن كلام الله غير مخلوق قال: [عن معاوية بن عمار سألت جعفر بن محمد -وهو ابن علي بن أبي طالب - فقلت: إنهم يسألوننا عن القرآن أمخلوق هو؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله. حدثنا ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]، قال: غير مخلوق]. وهذا من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، والمعلوم أن علي بن أبي طلحة يروي التفسير عن ابن عباس، لكن روايته صحفية، أي: أن رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس صحفية يرويها علي عن ابن عباس، وابن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس ولم يره، ولذلك قال ابن كثير في هذه الآية: ((غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)): هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وهذا ربما يكون أحسن الأقوال. قال: [حدثنا حموية بن يونس إمام مسجد جامع قزوين: بلغ أحمد بن حنبل هذا الحديث]. أي: عن ابن عباس في قول الله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)). أي: غير مخلوق، [فكتب إلى جعفر بن محمد بن فضيل الرسعني: اكتب إلي بإجازته]. أي: أن الإمام أحمد يطلب من جعفر بن محمد أن يجيزه بهذا. قال: [فكتب إليه بإجازته، فسر أحمد بن حنبل بهذا الحديث وقال: كيف فاتني عن عبد الله بن صالح هذا الحديث؟]؛ لأن الإمام أحمد تلميذ لـ عبد الله بن صالح، وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، وكأن الإمام أحمد أخذ كل ما عند عبد الله بن صالح من حديث، فكيف فاته هذا الحديث؟ قال: [سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: الواقفة شر من الجهمية بعشرين مرة، هؤلاء شكوا في الله]. أي: الذين توقفوا وقالوا: لا نقول مخلوقاً ولا غير مخلوق، فهؤلاء شر من الجهمية الذين صرحوا وقالوا: القرآن كلام الله مخلوق بعشرين مرة؛ لأنهم شكوا في الله عز وجل. إذاً: التوقف في إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق هو شك في صفات الله عز وجل، هل الله تعالى يتكلم أو لا يتكلم؟! هل يقدر على الكلام أو لا يقدر على الكلام؟! وبالتالي ما الفرق بين من شك في قدرة الله على الكلام ومن شك في قدرته على العلم أو الإرادة أو السمع أو البصر؟ ما الفرق بين أن يشك المرء في صفة من صفات ربه أو في كل الصفات؟ لا فرق، ولذلك فالواقفة شر من الجهمية الذين صرحوا بأن القرآن مخلوق عشرين مرة؛ لأنهم شكوا في قدرة الله عز وجل على الكلام. وفي رواية من طريق أبي داود: هؤلاء يقولون: القرآن كلام الله عز وجل ويسكتون شر من هؤلاء، يعني: الذين قالوا: القرآن مخلوق. وفي رواية عن السلف: من وقف في القرآن أنه كافر، وقالوا: جهمي. لأن الشك في الصفة شك في الموصوف؛ لأن الذي يشك في صفة من صفات الله فقد شك في الله، وكانوا يستحقون بذلك أن يكونوا شراً من الجهمية؛ لأن كلامهم يتضمن نوعاً من الخداع حيث يحتمل اعتقادهم بأن القرآن مخلوق، ولكنهم أخفوا هذا الاعتقاد بستار التوقف، ولأن مجرد توقفه عن التصريح بأن القرآن غير مخلوق، يعني: أنه شاك في الأمر، فهو يشك في هذا الأمر وفي هذه الصفة.

الآثار الواردة عن أحمد بن حنبل في إنكاره على الواقفة واعتقاده أن القرآن كلام الله غير مخلوق

الآثار الواردة عن أحمد بن حنبل في إنكاره على الواقفة واعتقاده أن القرآن كلام الله غير مخلوق

الحكم على الواقفة

الحكم على الواقفة قال: [وعن أبي بكر بن هانئ -وهو من أكابر تلاميذ الإمام أحمد - قال: أتينا أحمد بن حنبل أنا والعباس بن عبد العظيم العنبري -وهو كذلك من كبار تلاميذ أحمد - فسألناه عن أشياء فذكر كلاماً، فقال العباس: وقوم هاهنا قد حدثوا -أي: قد ظهر قوم في بغداد قد أحدثوا أمراً عجيباً- يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وهؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم؛ فإن تقولوا: ليس بمخلوق، فقولوا: هو مخلوق، فقال أبو عبد الله: قوم سوء هؤلاء، قوم سوء، فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: والذي أعتقده وأذهب إليه -أي: وهو معتقدي- ولا أشك فيه: أن القرآن غير مخلوق، ثم قال: سبحان الله! ومن يشك في هذا؟]. أي: ومن يشك في أن القرآن كلام الله غير مخلوق؟! [ثم تكلم أبو عبد الله بكلام مستعظماً للشك في ذلك، فقال: سبحان الله! في هذا شك؟ قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، ففرق بين الخلق وبين الأمر، وقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فجعل يعيدها] ولم يقل: الرحمن خلق القرآن، وإنما قال: علم، إذاً: القرآن من علم الله، وعلم الله ليس مخلوقاً، إذ إن علم الله أزلي أبدي لا أول له ولا نهاية، أما المخلوق فقال الله تعالى فيه: {خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:3]، إذاً: الإنسان مخلوق، أما القرآن فليس مخلوقاً. قال: [فالقرآن من علم الله، وفيه أسماء الله لا نشك أنه غير مخلوق، وهو كلام الله، ولم يزل الله متكلماً].

الواقفة أشد خداعا للعامة من الجهمية

الواقفة أشد خداعاً للعامة من الجهمية قال: [حدثنا أبو الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فقلت: إن بعض الناس يقول: إن هؤلاء الواقفة شر من الجهمية؟ قال: هم أشد تربيثاً -أي: خداعاً وتمويهاً وتدليساً على العامة- من الجهمية، وهم يشككون الناس؛ وذاك أن الجهمية قد بان أمرهم]. كما أن المنافق أخطر على الإسلام وأهله من الكافر؛ لأن الكافر قد علم أمره وبان وظهر، وللناس أن يعاملوه على هذا الأساس، لكن لو أن الإنسان منافقاً ظاهره الإسلام، فليس لنا منه إلا الظاهر، أما الباطن فيحاسبه عليه الرب يوم القيامة، لكن المضرة قادمة من قبله. قال: [وذاك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذ قالوا: لا يتكلم؛ استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية]. أي: الذي يقول: القرآن كلام الله ثم يتوقف ولا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، مآلهم أن يقولوا في نهاية أمرهم إذا فضحوا: مخلوق. [قال أبو الحارث: وسمعت أبا عبد الله سئل عمن قال: أقول: القرآن كلام الله وأسكت. قال: هذا شاك، لا، حتى يقول: غير مخلوق]. يعني: لا نقبل منه التوقف حتى يصرح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى لا يقول أحد من الإخوة: أنا سأعمل مثل ما عمل الصحابة، فقد كانوا يقولون: القرآن كلام الله ويسكتون، نعم سكتوا إذ لم تكن هناك فتنة، فلما قامت الفتنة كان لابد من التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، وبالتالي لا يقبل منك حتى تصرح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما لا يقبل منك حتى تقول: الله استوى على العرش بذاته، وينزل ويجيء؛ ينزل إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر، ونزوله إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه سبحانه وتعالى، وهذه لابد أن تكون هذه عقيدة المسلمين.

أصناف المبتدعة في القرآن

أصناف المبتدعة في القرآن قال: [قال: حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد قال لي أبو عبد الله: صاروا ثلاث فرق في القرآن]، أي: صار الناس المبتدعة في القرآن ثلاث فرق [قلت: نعم هم ثلاث: الجهمية والواقفة واللفظية]. الجهمية المصرحة بأن القرآن كلام الله مخلوق. والواقفة الذين ما قالوا: مخلوق ولا غير مخلوق. واللفظية الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. [فأما الجهمية فهم يكشفون أمرهم، يقولون: مخلوق. قال: كلهم جهمية] أي: المصرحة والواقفة واللفظية [هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم كشفوا الجهمية] أي: أن الواقفة يستترون خلف التوقف، ويتمسكون بظاهر الأمر على ما كان عليه سلف الأمة [فإذا أحرجتهم كشفوا أمرهم فكلهم جهيمة، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]، فهل يتصور أن هذا الكلام لم يعرفه الله تبارك وتعالى ولم يعلمه قبل ذلك حتى خلقه وكلم موسى؟ أو هل يتصور أن الله تعالى خلق كلاماً في الهواء أو في الشجر أو فوق الجبل فسمعه موسى؟ لا يتصور، بل المتصور هو العقيدة السليمة الصحيحة أن الله تعالى تكلم مع موسى، فسمع موسى صوت الله عز وجل، والله تعالى تكلم بحرف وصوت. قال: [وقال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فيسمع مخلوقاً وجبريل جاء إلى النبي بمخلوق!]. أي: هل جبريل عليه السلام لما جاء إلى النبي بالوحي أتاه بمخلوق أم بصفة من صفات الله؟ بصفة من صفات الله عز وجل. قال: [قال أبو طالب: وسمعته، يعني أحمد يقول: من شك فقد كفر]. وفي رواية عنه قد ذكرناها: من قال: مخلوق فقد كفر. إذاً: الكفر يلحق كل من توقف في القرآن الكريم أو صرح بأنه كلام الله مخلوق. قال: [قال أبو طالب: وجاء رجل إلى أبي عبد الله وأنا عنده، فقال: إني لي قرابة يقول بالشك]. أي: لي أحد الأقارب يشك في أن القرآن كلام الله أو غير كلام الله. قال: [فقال وهو شديد الغضب: من شك فهو كافر، وقال رجل: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، قال: فقال: هذا قولنا: من شك فهو كافر، فقال له الإمام أحمد بن حنبل: جزاك الله خيراً]. وكأنه يقره على هذه العقيدة. قال: [سمعت أحمد بن حنبل يقول: اللفظية والواقفة زنادقة عتق]. أي: قديمين في الزندقة والإلحاد. قال: [قال عباس الدوري: كان أحمد بن حنبل يقول: الواقفة واللفظية جهمية]. أي: الذين توقفوا فلم يقولوا مخلوق أو غير مخلوق، وكذلك الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. قال: [حدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت الإمام أبا عبد الله يقول: من لم يقل: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يحل محل الجهمية]. قال: [المروذي أبو بكر: قال لي أبو عبد الله: أول من سألني عن الوقف علي الأشقر]. وفي الحقيقة المحقق يقول: لم أجد له ترجمة، ولو قرأ النص في المخطوط صحيحاً لعرف ترجمته، إذ إنه علي الأشتر بالتاء لا بالقاف، فتصحف للتاء عند قارئ المخطوط قافاً، فلا شك أنه لم يتوصل إلى ترجمة علي الأشتر، وعلي الأشتر من كبار المبتدعة ومن كبار الجهمية. قال: [فقلت له: القرآن غير مخلوق]. قال: [قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: افترقت الجهمية على ثلاث فرق: الذين يقولون مخلوق، والذين شكوا، والذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة].

الموقف من الشاك في كون القرآن غير مخلوق

الموقف من الشاك في كون القرآن غير مخلوق قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لا تقل هؤلاء الواقفة، هؤلاء الشاكة]. يعني: أن الاسم الصحيح لهم أنهم الشاكة، فقد شكوا في الله عز وجل. قال: [قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عمن وقف لا يقول غير مخلوق، وقال: أنا أقول: القرآن كلام الله، قال: يقال له: إن العلماء يقولون: غير مخلوق، فإن أبى، فهو جهمي]. أي: من أتاك وقال لك: أنا أقول: القرآن كلام الله، وهذا الذي يجب علي، فقل له: إن العلماء بعد الفتنة صرحوا بأنه غير مخلوق، فإذا توقف في ذلك ولم يقل: غير مخلوق، فقل له: إنك جهمي. قال: [قال أبو بكر المروذي: قدم رجل من ناحية الثغر] والثغر هو آخر نقطة بين ديار الإسلام وأرض العدو، ويتوقع أن يدخل منها العدو، وتسمى أيضاً بأرض الرباط. قال: [قال: قدم رجل من ناحية الثغر فأدخلته على الإمام أحمد، فقال: ابن عم لي يقف وقد زوجته ابنتي]. أي: ابن عم لي يتوقف فلا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، وقد زوجته ابنتي. قال: [وقد أخذتها وحولتها إلي]. أي: لما بلغني أنه توقف أخذت ابنتي منه وأدخلتها في داري على أن أفرق بينهما. قال: [فهل أنا مصيب حينئذ؟ قال الإمام: لا ترضى منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما]. إذاً: هذه المسألة ليست مسألة سهلة، فقد حكم الإمام أحمد بالكفر وأنه جهمي ومخالف ومحاد لله ورسوله وشاك في الله عز وجل وفي صفاته، وأنه لا يحل له أن يتزوج المسلمة، وإذا كان متزوجاً لها فيجب التفريق بينهما، وأنه لا يصلى عليه ولا يجهز ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومن صلى خلفه وجبت عليه إعادة الصلاة، وهذه أحكام المرتد. قال: [قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد بن عبدة يقول: ما أبالي شككت في القرآن غير مخلوق أو شككت في الله عز وجل]. أي: أنه يقول: ما الفرق بين أن أشك في ذات الله وأن أشك في صفة من صفاته؟ قال: ما أبالي إذا كنت أشك في صفة أو في ذات الله عز وجل؟ فهذا كفر وذاك كفر. قال: [قال أبو داود: وسمعت إسحاق بن راهويه -وهو من أئمة السلف- يقول: من قال: لا أقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو جهمي. وقال قتيبة بن سعيد [قيل له: الواقفة؟ فقال: هؤلاء الواقفة شر من الجهمية] أي: من الجهمية الذين صرحوا بأنه مخلوق، [قال: هؤلاء الذين يقولون: كلام الله ويسكتون شر من هؤلاء] يعني: ممن قال: مخلوق.

إنكار أحمد بن صالح المصري على من قال القرآن كلام الله وسكت

إنكار أحمد بن صالح المصري على من قال القرآن كلام الله وسكت قال: [قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح المصري]. وأحمد بن صالح من كبار أئمة السلف، وصاحب سنة، ثقة إمام جليل، آذى النسائي نفسه بالكلام فيه، وأين النسائي من أحمد بن صالح؟ وليس من باب العصبية؛ لأن أحمد بن صالح مصري، لكن أحمد بن صالح المصري كان في زمانه كـ الليث بن سعد، فقد كان يأتيه الناس من بلاد العالم، لكن لم يكن يأذن لأحد في مجلسه إلا بعد أن يختبر عقيدته، فقد كان شديداً في السنة وشديداً على أهل البدع، وكان إذا بلغه أن رجلاً أتى من خراسان أو الشام أو المغرب أو الأندلس أو من أي مكان اختبره وخاصة في مسائل الفتن، في مسألة القرآن، في مسألة الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، إذ ربما يكون عدواً لـ علي بن أبي طالب، أو عدواً لـ معاوية أو غير ذلك، فإذا كان ممن يتكلم في هذه المسائل بغير ما تكلم به السلف كان يطرده عن مجلسه ولا يأذن له قط. ولذلك الإمام النسائي كان يعرف قدر أحمد بن صالح المصري، والإمام النسائي صاحب السنن كان فيه شيء من التشيع، وقيل: إنه رجع عنه، لكن الذي ثبت عنه أولاً أنه كان فيه شيء من التشيع، فلما قدم النسائي من بغداد إلى مصر وبلغ أمره إلى أحمد بن صالح المصري قال: يا أبا عبد الرحمن! لا تجلس في مجلسي قط ولا تحدث عني، فكان يجلس الإمام النسائي خارج المسجد ويقول: قرئ على أحمد بن صالح وأنا أسمع؛ لأنه يحرم عليه أن يقول: حدثني أحمد بن صالح؛ لأنه لم يحدثه، أو سمعنا أو سمعت؛ لأن ذلك لم يحدث، وإنما كان يقرأ المستملي على الإمام أحمد بن صالح ويسمع الإمام النسائي وهو خارج المسجد، فكان يقول: قرئ على أحمد بن صالح وأنا أسمع، وما أجازه بالرواية عنه قط؛ لأنه طرده، فلما طرده أطلق الإمام النسائي لسانه في أحمد بن صالح المصري. قال الذهبي: أحمد بن صالح المصري إمام ثقة جليل ثبت، قد أخطأ من تكلم فيه، وآذى النسائي نفسه بالكلام فيه، وهو صاحب سنة. قال: [قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح المصري عمن يقول: القرآن كلام الله، ولا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، قال: هذا شاك].

تواطؤ أقوال السلف على تكفير الواقفة وأنهم شر من الجهمية

تواطؤ أقوال السلف على تكفير الواقفة وأنهم شر من الجهمية قال: [وعن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن مقاتل العباداني، وكان من خيار المسلمين يقول في الواقفة: هم عندي شر من الجهمية]. فانظر إلى هذا الكلام الكثير جداً من كلام السلف يدل على مسألة واحدة حتى تكاد ألفاظهم أن تكون متقاربة، إذ إن الكل متفق على أن الواقفة شر من الجهمية، والواقفة كفار، واللفظية جهمية، والجهمية كفار، وكلهم يقولون قولاً واحداً، وبإمكاننا أن نسرد ألف نص عن السلف بلفظ واحد: الواقفة شر من الجهمية، وكلهم يقولون هذا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، والباطل كثير. [قال أبو بكر المروذي: سألت عباساً النرسي عن القرآن، فقال: نحن ليس نقف؛ نحن نقول: القرآن غير مخلوق]. أي: لا نتوقف في ذلك، بل نقول: هو كلام الله غير مخلوق. قال: [وسألت عبيد الله بن عمر القواريري عن الواقفة، فقال: شر من الجهمية، وسألت يحيى بن أيوب عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية، وسألت إبراهيم بن أبي الليث عن الواقفة، فقال: هم كفار بالله العظيم، لا يزوجوا ولا يناكحوا]. أي: إذا أتاك واحد منهم لينكح ابنتك فلا تفعل. قال: [وسألت محمد بن عبد الله بن نمير عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية، وقال: هذا والوقف زندقة وكفر. وسألت أبا بكر بن أبي شيبة عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية. وسألت عثمان بن أبي شيبة -أخو أبي بكر - عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية]. وهكذا كلما ننقل عن واحد من السلف نجد نفس الكلام: الواقفة شر من الجهمية. قال: [وسألت ابن أبي معاوية الضرير عن الواقفة، فقال: هم مثل الجهمية أي: هم منهم. قال: [وسألت هارون بن إسحاق الهمداني فقال: هم شر من الجهمية، وسألت أبا موسى الأنصاري عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية، وسألت سويد بن سعيد الأنباري فقال: هم أكفر من الحمار]. وهذا مصطلح جديد، لكننا بلا شك لا نقول بكفر الحمار، وأنا قلت لكم قبل ذلك أن رجلاً سأل وقال: أنا أريد أن أعرف هل الحمار مسلم أم كافر؟ فقال: الحمار على ملة صاحبه، وهذا كلام لا ذيل له ولا رأس، وإنما خرج مخرج الضجر الشديد، والضيق الشديد جداً، ربما لاحتدام الفتنة، ثم هل الحمار كفر من أجل أن نقول: أكفر منه؟ لا، يريد أن يقول: هؤلاء أغبى من الحمار، وإذا جاز للحمار أن ينطق ويتكلم بعقيدته ما قال قولهم ولا توقف مثل توقفهم، وهذا معنى: أنه أكفر من الحمار. قال: [وسألت أبا عبد الله بن أبي الشوارب عن رجل من الواقفة سئل عن وجه الله]. أي: هل الوجه صفة من صفات الذات أم لا؟ [سئل رجل من الواقفة عن وجه الله عز وجل أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقال: لا أدريس]. أي: أنه كذلك شاك في وجه الله عز وجل، والذي يشك في كلام الله يشك في ذات الله، وهو طريقه لابد. قال: [قال: لا أدري، فقال: هذا من الشاكة، أحب إلي أن يعيد الصلاة]. يعني: من صلى خلفه. [وقال سلمة بن شبيب: دخلت على أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن يقول: القرآن كلام الله؟ فقال أحمد: من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق فهو كافر، ثم قال لي: لا تشكن في كفرهم، فإنه من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، فهو كافر]. أي: الذي يتوقف في أنه غير مخلوق لابد أنه يلزمه أن يقول: مخلوق، وإذا قال: مخلوق، فقد كفر. ولا شك أن النصوص الواردة عن الإمام أحمد بن حنبل فيما يتعلق بفتنة القرآن الكريم كثيرة جداً، فربما تبلغ المئات أو يزيد عن ألف نص، ولك أن تتصور أنه في أيام المحنة يدخل عليه الواحد تلو الواحد، والرجل تلو الرجل، والمرأة تلو المرأة، والصبي تلو الصبي، والسلطان تلو السلطان، يسألونه ما تقول في القرآن؟ سؤال واحد والسائلون مئات وآلاف، فماذا يكون موقفه؟ وكيف تكون نفسيته عندما يسأله الآلاف سؤالاً واحداً؟ إن الواحد منا عندما يسأل سؤالاً ويجيب عنه مرة بالتفصيل، ويسأل بعده مباشرة عن نفس السؤال، فإذا به يقول: قد أجبنا عليه فلا داعي للإعادة مرة أخرى، فيضيق صدر الشخص منا لإعادته، وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الخلق، حتى في الكتابة، وانظر في أي جهد لأي عالم من العلماء. وانظر إلى الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم إذ تجد فيه الكلام عن الإيمان والصلاة والوضوء والطهارة وغير ذلك، وهو كلام متين جداً وطويل، ويستوعب الإسناد بحثاً وإسناداً وترجمة وغير ذلك، وذكر مناقب الرواة، ثم بعد ذلك بدأ الإمام النووي يتساهل ويختصر، حتى تأتي إلى الحديث الذي يحتاج إلى كلام في عشرات الورقات يختصره في صفحة واحدة أو نصف صفحة؛ لأنه مل، وهذه طبيعة الخلق. وانظر إلى جهد الحافظ ا

بعض كلام الإمام أحمد في الواقفة

بعض كلام الإمام أحمد في الواقفة قال: [قال أبو بكر أحمد بن هارون: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد، قال: سمعت أبي رحمه الله وسئل عن الواقفة، فقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي]. أي: من كان منهم يعرف معنى ما يتكلم به، ويقصد حقيقة الكلام، فهو جهمي، مع أن هذه المسألة مقطوع بها عند السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر. قال: [لما قيل لـ أبي عبد الله: ما الواقفة؟ قال: أما من كان لا يعقل فإنه يبصر]. أي: أن الإنسان الجاهل الذي لا يعلم خطورة هذا القول يعلم ويبصر بحقيقة الأمر، وقد تجد أناساً كثيرين جداً لا يفهمون، وهنا الآن أرسل شخص برسالة يقول فيها: نريد أن نعلم ما معنى لفظية؟ وقبل أن نتكلم عن مسألة خلق القرآن شخص يتكلم ويقول: ما معنى القرآن مخلوق؟ وما خطورة أنه مخلوق؟ وحينئذ ينبغي أن يعلم الجاهل، وأن يعذر حتى يعلم، فإن تعلم لم يكن له عذر بعد ذلك في التوقف أو في إثبات أن القرآن كلام الله مخلوق. قال: [وقال مهنا بن يحيى: قلت لـ أحمد بن حنبل: أي شيء تقول بالقرآن؟ قال: كلام الله وهو غير مخلوق. قلت: إن بعض الناس يحكي عنك أنك تقول: القرآن كلام الله وتسكت]. فانظروا إلى المفترين في زمن الإمام أحمد! ولذلك فإن أعظم فتنة تعرض لها الإمام هي مسألة الوقف واللفظ ومخلوق: وقوله: (وتسكت). أي: أنه من الواقفة. قال: [قال الإمام: من قال علي ذا فقد أبطل]. أي: تكلم بالباطل. قال: [يقول الدورقي: سألت أحمد بن حنبل فقلت: فهؤلاء الذين يقولون: نقف ونقول كما في القرآن، كلام الله ونسكت، قال: هؤلاء شر من الجهمية، إنما يريدون رأي جهم]. [وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يقف، قال: هو عندي شاك مرتاب]. [قال محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية: سألت أحمد بن حنبل عن القرآن، فقال: إياك ومن أحدث -أي: ابتدع- فيه، فقال: أقول: كلام الله ولا أدري مخلوق أو غير مخلوق؟ من قال: مخلوق فهو ألحن بحجته من هذا -أي: قد أبان حجته وإن كانت باطلة، لكن على أية حال فلديه حجة- وإن كانت ليست لهما حجة ولله الحمد]. قال: [عن الحسن بن ثواب المخرمي قال: قلت لـ أبي عبد الله أحمد بن حنبل: الواقفة؟ قال: صنف من الجهمية استتروا بالوقف]. وأنتم تعلمون أن التوقف دائماً شر، وتعلمون أن جماعة من الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة اسمها: جماعة التوقف والتبين؛ وسميت بالتوقف لأنها تتوقف عن إثبات حكم الإيمان أو الكفر لأي أحد مهما كان إلا إذا تبين لها أنه مؤمن، وهذا بلاء عظيم جداً لا ندري من أين جاءوا بهذا؟! وهذا الذي يتوقف في إثبات حكم إسلامي للمسلمين لا شك أنه فرع عن التكفير، أي: أن التوقف والتبين فرع عن التكفير. وتصور أنه يرى الناس وقت الأذان يخرجون من بيوتهم ويدخلون في بيوت الله عز وجل، ومع هذا لا يحكم لهم بالإسلام إلا أن يتبين له بعد نقاش وحجج وسوق أدلة أنهم مسلمون، ويرى الناس يصلون في بيوت الله عز وجل فلا يحكم لا للإمام ولا للمأمومين بالإسلام إلا أن يتبين له شخصياً أنهم من أهل الإسلام! بلاء عظيم جداً، والحمد لله أن هذه الفتنة كثير منكم لم يدركها، كثير من الشباب الصاعد لم يدركها، بل كان هذا في وقت من الأوقات في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات! كان بلاءً وشراً مستطيراً، ولذلك أحداث (1981م) بفضل الله عز وجل رغم ما كانت تحمل من محن شديدة جداً إلا أنها أسفرت عن معادن الناس في ذلك الزمان، والذي تربى حقيقة إنما تربى قبل هذا التاريخ، ومن تربى بعده فلا شك أنه لم يدرك تلك المعارك التي صقلت أبناءها في ذلك الوقت، ولذلك لما دارت فتنة التوقف كنا قبل (1981م) يمشي الواحد منا في طريق وعلى الجانب الآخر من الطريق أخ أو شبه أخ، فيمر الواحد إلى الناحية الأخرى ويعرض نفسه للطيارات والخطر من أجل أن يقابله ويقول: السلام عليكم يا أخي! كيف حالك؟ ما هو اسمك؟ وأين تسكن؟ وإلى أين تذهب؟ فيتعرف عليه وعلى أبيه وأمه وزوجته وأولاده وشغله، وإلى أين هو ذاهب، ومن أين أتى في الطريق، والآن الأخ ربما يصطدم رأسه برأس أخيه ولا يقول له: السلام عليكم، فهذا حاصل الآن؛ وما هذا إلا أثر طبيعي في التوقف، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، يعني: من المسلمين، إلا أن يتبين لك أو تعلم مطلقاً أن هذا كافر، أي: أن هذا الرجل ليس من المسلمين، بل هو من الكفار، فلا تبدأه بالسلام، وإن سلم عليك فقل: وعليك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في أهل الكتاب، أو في الكفار عموماً. فالذي يقابلني وهيئته ومنظره يدل على أنه مسلم فهو أحسن مني، ثم ما الذي يمنعني أن أسلم عليه، وقد ترى أخاً ينظر إليك بمنتهى الغلظة والجفاء والخشونة حتى لو أنك ناو أن تقول له: السلام عليكم، إن الدين هو المعا

فتوى الإمام أحمد بمقاطعة ذوي الأرحام القائلين بالوقف

فتوى الإمام أحمد بمقاطعة ذوي الأرحام القائلين بالوقف قال: [حدثنا محمد بن أبي حرب الجرجرائي قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له والد واقفي -أي: عن رجل له والد ممن يتوقف في القرآن- قال: يأمره ويرفق به -أي: يأمره بكلام أهل الحق ويرفق به؛ لأنه أبوه- قلت: فإن أبى؟ قال: يقطع لسانه عنه] أي: يهجره ويخاصمه مع أنه أبوه. قال: [وسألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة ولها زوج واقفي؟ قال: يأتيها ويسلم عليها -أي: له أن يذهب إلى بيتها ويسلم عليها- قلت: فإن كانت في الدار له -أي: لزوج العمة أو لزوج الأخت- قال: يقف على الباب ولا يدخل]. فانظروا إلى أي درجة؟! يقف على الباب ولا يدخل! قال: [حدثنا أحمد بن أصرم المزني المغفلي، قال: سمعت أبا عبد الله وقال له رجل له أخ واقفي: فأقطع لساني عنه؟ قال: نعم، مرتين أو ثلاثاً]. أي: أنه قال: نعم مرتين أو ثلاثاً. [قال حدثني الحسين بن حسان، سمع أبا عبد الله، سأله الطالقاني عن الواقفة فقال أحمد: لا يجالسوا ولا يكلموا]. ونحن قبل ذلك عندما كنا نتكلم عن الموقف من أهل البدع في أول الكتاب قلنا: إن أئمة الدين أبوا الجلوس مع أئمة البدع والضلالة، بل والتحادث إليهم، لكن الآن عندما يظهر شخص من أهل البدع ترى الناس يقولون: لماذا يا شيخ لا تذهب وتناقشه؟! يا أخي! لا يصح أن نناقشهم ولا أنت، ولذلك افرض أن عنده شبهات وضلالة، فماذا ستكون النتيجة؟ مع أنه ليس مطلوباً منك كل هذا، وإنما المطلوب منك أن تهرب من مواطن الفتن، وأنا قد أخذت ما هو واجب علي، فلا أتعرض له ولا أجالسه ولا أحدثه؛ لأنني أخاف على نفسي، أما أنت كطالب فما زلت مبتدئاً لا شيء عندك من الحصانة العلمية، ثم تريد أن تناقش رأساً في الضلالة؟ أنت كذلك ستقول: لا، لابد من المناظرة، ثم لماذا يا شيخ تخاف من ذلك؟ يا أخي لست خائفاً منه، لكني خائف على نفسي، هو لن يقتلني ولن يؤذيني إلا في عقيدتي، فأنا أهرب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، يقول: لا، إن الواجب عليكم أن تبينوا الحق للناس، فأقول له: وهل هذه الفلسفة التي تقولها خفيت على سلف الأمة عندما امتنعوا عن محادثة أهل البدع؟ لم تخف عنهم، لكنه الأصل الأصيل الذي هو بناء السد بينك وبين الفتن، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

هجر أهل العلم للواقفة وعدم السلام عليهم

هجر أهل العلم للواقفة وعدم السلام عليهم قال: [قال يوسف بن موسى القطان: قيل لـ أبي عبد الله: فمن وقف ماذا نصنع معه؟ قال: يقال له في ذلك -أي: يعلم- فإن أبى هجر]. [قال أبو عبد الله لما سئل عن الواقفي إذا كان يخاصم -أي: إذا كان صاحب حجة ولسان وبيان- لا يكلم ولا يجالس]. فإذا كان صاحب حجة وبيان ومستعد لأن يناظر فهذا الذي لا يناظر ولا يكلم، بل يهجر ويخاصم. إذاً: الذي يكلم الجاهل المغرر به، هذا الذي يقال له: أنت جاهل، وهذا الذي تسلكه إنما هو كلام أهل البدع وأهل الضلال، أما كلام أهل الحق فهو كيت وكيت، فهذا الجاهل الذي لا حجة لديه، وإنما هو من عموم رعاع أهل البدع، أما الذي يخاصم ويجادل ويماحل عند العجز فهذا لا يجالس ولا يكلم. قال: [وقال: على كل حال من الأحوال؛ القرآن غير مخلوق، وسأله رجل عن الشاكة: هل يسلم عليهم؟ أو أيرد على الرجل منهم؟ قال: إذا كان ممن يخاصم ويجادل فلا أرى أن يسلم عليه]. قال: [قال إسحاق: وشهدت أبا عبد الله وسلم عليه رجل من الشاكة، فلم يرد عليه السلام، فأعاد عليه السلام، فدفعه أبو عبد الله ولم يسلم عليه]. أي: دفعه في صدره دفعة قوية ولم يسلم عليه. قال: [قال داود بن رشيد: من زعم أن القرآن كلام الله وقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فهذا يزعم أن الله عز وجل لم يتكلم ولا يتكلم]. قال: [قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: ولا نرضى أن يقول: كلام الله ويسكت حتى يقول: إنه غير مخلوق]. وجاء عن عبيد الله بن معاذ: [لو علم الواقفة أن ربهم غير مخلوق لما وقفوا]؛ لأن الكلام يا إخواني! في الصفة فرع عن الكلام في الذات، فالذي يقول: القرآن كلام الله مخلوق كأنه يقول: الله مخلوق، والذي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق يثبت أن الله تعالى غير مخلوق، والله تعالى هو خالق كل شيء وليس مخلوقاً: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، ((لَمْ يَلِدْ)) أي: ليس أباً لأحد، ((وَلَمْ يُولَدْ)) أي: ليس ابناً لأحد؛ لأنه الخالق سبحانه وتعالى الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم وحاجاتهم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين الآثار الواردة عن السلف في مناظرة أهل البدع والآثار المحذرة من ذلك

الجمع بين الآثار الواردة عن السلف في مناظرة أهل البدع والآثار المحذرة من ذلك Q قلتم: إنه لابد من عدم مجالسة ومخاطبة المبتدعة، فما حكم المناظرات كمناظرة الشيخ أحمد في ذلك؟ A يا أخي الكريم لو أنك أدركت معنا شيئاً من مقدمة الكتاب في حكم التعامل مع أهل البدع لوجدت أن سلف الأمة أحياناً ينهون عن مجالسة أهل البدع، وأحياناً يجالسون أهل البدع ويناظرونهم، وفي الوقت نفسه يحذرون منهم، فهم لهم مواقف عدة مع أهل البدع، أحياناً يذهب الرجل إلى موطن أهل البدع فيناظرهم، كما فعل ابن عباس عندما ذهب إلى الخوارج ورجع بألفين منهم وقيل: أربعة آلاف، أيضاً عمر بن عبد العزيز ناظر أهل البدع وخاصمهم وألزمهم الحجة، والإمام الشافعي خاصم بشر المريسي وناظره وأقام عليه الحجة، والإمام الدارمي ناظر أهل البدع وصنف كتاباً في الرد على الجهمية، وغير ذلك من مواقف السلف الكثيرة جداً. وأحياناً نجد أن ابن سيرين لا يرضى قط بسماع أهل البدع فضلاً أن يناظرهم؛ لأن ابن سيرين يعلم أن هذا ليس فرض عين عليه؛ لكثرة العلماء في زمانه، وأن الحق ظاهر دائماً، فلا يلزمه حينئذ، والأمر على الكفاية، أي: دحض حجج أهل البدع، فإذا قام به فلان وفلان وفلان فهل يلزم بقية أهل العلم؟ لا يلزمهم، وأحياناً هذه النصوص التي ترد بالنهي عن مجالسة أهل البدع محمولة على هذا المعنى؛ وذلك أن كبار أهل العلم في الزمان الفلاني والمكان الفلاني قد قاموا بهذا الواجب فلا يلزمني أن أقوم به، إذ لا يلزم الناس جميعاً أن يردوا على صاحب البدعة، فإذا ظهر هذا على لسان عالم واحد فقط كفى، وإذا لم يظهر إلا بثلاثة أو أربعة وجب على الناس أن يتكلموا في ذلك حتى يظهر الحق ويخمد الباطل. وهذه الكلمات التي قد أتتنا تنهى عن مجالسة أهل البدع إنما هي من باب أن الرد عليهم فرض كفاية، وقد قام وسقط الحرج عن الأمة، فلا ينبغي بعد ظهور الحق وبيان الباطل أن يتصدى الناس لسماع الباطل، وهذا وجه. الوجه الثاني: أن نهيهم لنا عن مجالسة أهل البدع والتصدي لهم إنما هو نهي للعامة دون الخاصة، ولذلك الآن جماعة التكفير أكثر جماعة تطلب المناظرة، وأكثر جماعة كانت أهل مجادلة ومخاصمة ومماحلة في الباطل؛ لأنهم يناقشون بلا دليل، بلا عقل، بلا أدب، وقد أخذوا حقهم من المناظرة وبيان الحجة ما لو كان في عالم الكلاب أو الحمير لسلمت الكلاب والحمير بأن المخاصم معه الحق، وهم إلى الآن لم يقولوا بأن أهل السنة على الحق إلا من تاب منهم ولنا منه الظاهر، فمثلاً في ناظرهم الإمام أحمد بن حنبل يقولون: نحن نقول كما قال الله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ونحن نقول: إن القرآن هذا كلام الله فقط، ولم يأت في القرآن أنه مخلوق ولا غير مخلوق، فنحن نتوقف عند الحد الذي توقف عنده القرآن الكريم، وهذا كلام ظاهره جميل، لكن الإمام أحمد بن حنبل يفهم مغزى هذا الكلام، إذ إنه يؤدي إلى التجهم، وما كان لينطلي عليه هذا، لكن هذا ينطلي على العامة؛ لأن صاحب البدعة دائماً يزين كلامه وينمقه ويحسنه ويجمله؛ لأنه يعلم أن بضاعته أو أن وجهه القبيح لا يدخل على العامة إلا بهذا التزييف وهذا التجميل والتحسين. أما أهل العلم فهم يعلمون الخطر بمجرد أن يسمعوا الخبر، فلا يتوقفون في إثبات أن هذا من أمور البدع والمحدثات، فيسأل العامة أهل العلم فيقولون: كيف هو من البدع؟ إنكم تسيئون الظن بأهل العلم، وغير ذلك من الكلام الفارغ، كما لو أن رجلاً من الناس كبير جداً ويشغر منصباً عظيماً ويتكلم بلباقة، فإنه لا ينطلي على أهل العلم. وأضرب لذلك مثالاً: رجل في هذا الزمان رحمه الله مات منذ عدة سنوات، كان بليغاً حصيفاً له في تفسير وشرح كلام الله عز وجل باع طويل، لكن لا علاقة له بالحديث ألبتة، فلو أتيت له بكلام من كتاب شرشر وصدرته: بقال رسول الله، وعقبته: بصدق رسول الله، وألقيت إليه الورقة، لذهب في التلفزيون وعلى حلقتين أو ثلاث يشرح هذا الكلام على أنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سألك العامة عنه، ماذا تقول في فلان؟ إذا قلت: هو في الحديث حاطب ليل، سينظرون إليك على أنك عدو لأهل العلم، وإذا قلت: إنه صوفي درويش يسرج المساجد التي فيها القبور، أو لا علاقة له بالحديث، أو لا علاقة له بالفقه، أو شيء من هذا، قامت عليك الدنيا ولم تقعد؛ لأن حبهم لهذا الشيخ أعماهم عن ذكر مثالبه، فهم لا يحبون أن يسمعوا كلمة واحدة تسيء إليه، وهي في الحقيقة لا تسيء، وإنما هي شهادة: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، فأنت تسألني، وأنا شهدت بما أعلم، فيقول لك: أبداً، هذا رجل من كبار أهل العلم في الحديث والفقه والبيان والتفسير والأصول، وهو ليس له علم إلا في مجال واحد. إذاً: السلف رضي الله عنهم لما نهونا عن مجالسة أهل البدع حفاظاً علينا ألا نقع في حبائلهم وشراكهم؛ وتعرضوا لهم لأنهم أهل لذلك، فهم أه

وجوب صلة الأرحام ولو كانوا من أصحاب المخالفات الشرعية

وجوب صلة الأرحام ولو كانوا من أصحاب المخالفات الشرعية Q مع الفساد الموجود في الأهل والأقارب والجيران وغيرهم، لا أتمكن قط من زيارة محارمي لما عندهم من مخالفات عظيمة جداً وأن أخاف على نفسي منها، فهل لي أن امتنع عن زيارتهم؟ A قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بلوهم ولو بالسلام)، أي: بروهم ولو بإلقاء السلام، فلك أيها الأخ الكريم أن تتصل بهم دائماً وتطمئن عليهم، ولا بأس أن تكون زيارتك على مسافات بعيدة؛ في كل شهرين أو ثلاثة تذهب وتطرق الباب: السلام عليكم، كيف أخباركم؟ ولا يلزم أن تذهب إليهم، وهم عندما يعلمون أنك على هذا المبدأ سيتركونك، وكلهم قد تركونا.

واجب المسلم تجاه الجماعات المنتشرة في الساحة اليوم

واجب المسلم تجاه الجماعات المنتشرة في الساحة اليوم Q ما هو الواجب علي تجاه الجماعات المنتشرة في هذا الوقت إن كنت قد نصحت لهم ولم ينتهوا عما هم فيه، وكان أحدهم جاراً لي أو نزيلاً عندي أو قريباً مني؟ A أنت تعلم أن رجلاً قام إلى الأمير والسلطان عبد الملك بن مروان عندما خطب خطبة العيد قبل الصلاة، مع أنه كان لديه حجة فيما يرى، وذلك أنه عندما يصلي الناس قبل الخطبة فإنه ينصرف أكثر من نصفهم، فكانت هذه حجة عبد الملك بن مروان، فقام إليه رجل في حضرة أبي سعيد الخدري فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة قبل الخطبة، قال: اسكت لا أب لك، قال: يا أمير المؤمنين! الصلاة قبل الخطبة، قال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد أدى ما عليه.

حكم إلقاء السلام في شوارع بلد عامة أهله مسلمون

حكم إلقاء السلام في شوارع بلد عامة أهله مسلمون Q هل عدم معرفة المسلم من النصراني يمنع من إلقاء السلام؟ A المسلم له علامات وأمارات تميزه، وشخصية المسلم تختلف عن شخصية الكافر، لكن لو قلنا بعموم البلوى، وأنك في طريق لا تعرف الكافر من المسلم، فألق السلام مادمت في بلد أهله مسلمون، أما إذا كنت في بلد أهله كفار فلا، مثل أن تكون مثلاً ماشياً في روما أو في باريس أو في نيويورك، فالأصل في هذه البلاد الكفر، إذاً: الأصل أن كل من فيها كفار إلا من علمنا أنه مسلم، والأصل في بلاد الإسلام أن من بها على الإسلام حتى نعلم أن هذا كافر، وأنا حقيقة عندما يقابلني قسيس لا يمكن أشك أن هذا قسيس، ولا يمكن أشك أن هذا كافر، ولا يكون عندي في ذلك أدنى شك، ولا يلزم أن يكون أبوه كافراً، بل يمكن أن يكون أبوه من المسلمين، لكن الذي أمامي كافر، وإذا شكيت فأنا جاهل، ونحن قد تكلمنا الآن عن الواقفة، فهل واحد يقول: لا، يمكن أن يكون مسلماً فنظلمه! نحن لا نطالبك بباطنه، نحن طالبناك بالظاهر، هذا الرجل يضع صليباً على صدره، ويلبس السواد -على عينه وعين أهله- حتى ترجع مصر قبطية كما كانت، فيمشي محزوناً ومغموماً ومهموماً من أجل أن تعود مصر بلد قبطية، وهيهات أن ترجع إلى مرادهم، فهذا الرجل كافر بلا شك، قد تبين لي أنه كافر من منظره وعندما أقف مع رجل آخر: ما اسمك؟ قال: أنا جبريل، عزرائيل، ميخائيل، فقد ظهر لي من اسمه أنه كافر. إذاً: هذا يستثنى من عموم الحديث: (ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، فهذا الرجل ظهر لي بأمارات وعلامات. وانظر إلى الحيلة: من حوالي شهر أيها الإخوة -وهذا شيء عجيب جداً- في مدينة نصر، شخص من الفلاحين جاء من آخر الدنيا ويريد أن يشتري سيارة نوع مرسيدس -لكن انظر فقط إلى الدهاء الشديد والمكر الذي يتمتع به الفلاحون- فسأل عن ثمنها، قالوا له: بخمسة وستين ألف جنيه. قال: أين صاحب هذه السيارة، قالوا له: ذاك الذي يجلس في الظل، قال: من هذا؟ قالوا له: ذاك الرجل القسيس الذي يجلس هناك. قال: أهذه له؟ فماذا عمل هذا الرجل؟ لم يذهب إليه، بل دخل حمام المسجد وعمل صليباً بقلم معين على يده، ثم ذهب إليه تحت الظل، وقال له: يا أبانا! أأنت صاحب السيارة؟ قال له: نعم. قال له: والله إنني رأيت في النوم هذه الليلة أن الرب راضياً عنك! فظل يتكلم ويشير بيده من أجل أن يلفت نظر القسيس إلى يده لرؤية الصليب، قال له: أتريدها؟ قال: نعم، قال له: من أين أنت؟ قال: أنا من مدينة كذا، قال له: أتعرف القديس فلان، قال: نعم، هو حبيبي وكل يوم وهو عندي، وهذا رقم تلفونه اتصل به، قال له: لا داعي، مبروك عليك بخمسة وأربعين! فجاء هذا الرجل وسألني، هل بفعله هذا قد كفر أم لا؟ قلت له: اذهب واسأل القسيس، ثم قلت له: هذه المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر. أرأيت إلى مكر ودهاء هؤلاء الفلاحين، من أجل أن يكسب عشرين ألف جنيه؟! ربما أنه بعد أخذه للسيارة يخرج إلى السوق فيصطدم في السوق ويموت وتذهب السيارة، فلم تبيع دينك؟ أمن أجل عشرين ألف جنيه؟ ومثل هذا كمثل رجل ذهب إلى محل تجاري وهو صاحب صحة أو تموين، فيقول له صاحب المحل التجاري: باختصار أنا سأعطيك مائة جنيه كل شهر وتبعد عني نهائياً ولا تأتي إلي. فيقول: لا. أأدخل جهنم من أجل مائة جنيه؟! إذاً بكم تريد دخول جنهم؟ قل لي بكم؟ بمليون؟ هل تكفي؟ تدخل جهنم مقابل مليون جنيه؟ قال له: كم تريد؟ قال له: لا. زد قليلاً، أي: أنت تعلم أن هذا يُدخل جهنم، وكأنك تقدم على جهنم وأنت تعلم أنها جهنم، فانظروا إلى الناس كيف ابتلوا ببلادة الحس، وخراب العقائد، وصاروا في حالة مزرية لم تمر بالأمة في زمن من الأزمنة، ولا في مكان من الأمكنة أبداً، نسأل الله السلامة والعافية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1