شرح كتاب الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق لابن تيمية - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

مقدمة كتاب قاعدة عظيمة في الفرق

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - مقدمة كتاب قاعدة عظيمة في الفرق شيخ الإسلام ابن تيمية من الأئمة الأفذاذ الذين منّ الله تعالى لهم على هذه الأمة، وقد ولد في عصر كان العالم أحوج ما يكون إلى فقهه وعلمه، وذلك لما جاء به من حمل راية التجديد ومحاربة ما يخالف الدين، وأعانه على ذلك قوة علمه وحصافة فهمه كما شهد له بذلك علماء عصره، ومن كتبه الجديرة بالعناية كتاب: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق.

مقدمة تعريفية بشيخ الإسلام ابن تيمية

مقدمة تعريفية بشيخ الإسلام ابن تيمية

مولده ونشأته

مولده ونشأته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا:-} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الإخوة الكرام: نحن على موعد مع كتاب منهجي مهم جداً، يتكلم فيه مؤلفه على التوسل المشروع والتوسل الممنوع، ويتكلم فيه عن زيارة القبور، ولكن لا بد لنا من مقدمة بين يدي هذا الكتاب. واسم الكتاب: قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق، وهذا الكتاب هو من تأليف شيخ الإسلام أحمد ابن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية توفي سنة سبعمائة وثمانية وعشرين. إن ولادة الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية تظهر حكمة الله جل في علاه، وتظهر أن الله جل في علاه ما شرع هذا الدين إلا ليحفظه مصداقاً لقوله جل في علاه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فيوم مولد شيخ الإسلام هو يوم موت سلطان العلماء العز بن عبد السلام ففي سنة وفاته جعل الله تعالى شمس شيخ الإسلام تشرق على الدنيا. أيضاً الإمام أبو حنيفة كان موته ينبئ بولادة الإمام الشافعي، فـ الشافعي ولد بعد موت الإمام أبي حنيفة، وهذا يدل على أن الله جل في علاه يحفظ دينه، فـ العز بن عبد السلام كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت كسيرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام حذو القذة بالقذة. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يجهر بالخير آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، سواء كان باللسان أوبالسنان، وولد بحران.

مكانته العلمية

مكانته العلمية كان ابن تيمية عالماً نحريراً، ولو قلتُ: إنه العلم الأوحد الفرد والبحر الذي لا ساحل له ما أبعدتُ، فهو نحرير في اللغة، نحرير في البلاغة، نحرير في الحديث، نحرير في الفقه، نحرير في الفلسفة، نحرير في العقيدة، وما من علم إلا وغاص فيه شيخ الإسلام ابن تيمية، كما قال عنه ابن القيم: إنه بحر لا ساحل له. لقد كان الإمام ابن تيمية ينافح عن دين الله باللسان وبالسنان، وكان العلماء قاطبة يمدحون شيخ الإسلام، العدو منهم والحبيب. إن الإمام ابن تيمية حفظ كتاب الله جل في علاه من الصغر، ثم بعد ذلك حفظ الصحيحين، ثم تعلم فقه الإمام أحمد بن حنبل، ثم قرأ فقه الإمام الشافعي، ويقال: إنه أخذ هذا العلم على الإمام النووي لكن يُرجع للتاريخ في هذا؛ لأن في هذه النسبة نظراً. وأخذ أيضاً فقه المالكية وفقه الأحناف، ولذلك قالوا: كان إذا ناظر شافعياً تراه أعلم من هذا الشافعي بفقه الشافعي، وإذا ناظر المالكي كان أعلم بمذهب المالكية من المالكي، وكان شيخ الإسلام محرراً لمواطن النزاع، مرجحاً لأبواب الفقه والحديث. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية محدثاً حافظاً. لقد كان العلماء يختلفون في علومهم فمنهم من يكون مشتغلاً بالفقه، ومنهم من يشتغل بالنحو، ومنهم من يشتغل بالحديث، أما شيخ الإسلام فاشتغل بكل هذه العلوم، وفاق العلماء في كل هذه العلوم.

شهادة العلماء له

شهادة العلماء له دخل على شيخ الإسلام ابن تيمية علم من أعلام الأمة وكان هذا العلم مفخرة للمصريين في العصر المتأخر، وهو ابن دقيق العيد وكان ابن دقيق العيد عالماً نحريراً، وكان من العلماء في علم الحديث وعلم الفقه، كان مالكياً، ثم بعد ذلك انتقل إلى الفقه الشافعي، فأتقن علم المالكية وعلم الشافعية، وكان هو القاضي في مصر، وكان أحمد بن طولون على مذهب الإمام مالك، وكان الإمام ابن دقيق العيد هو المستشار الوحيد له، وهو قاضي القضاة في مصر. فسمع ابن دقيق العيد عن شيخ الإسلام ابن تيمية فرحل إليه إلى الشام، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شاباً يافعاً، فدخل ابن دقيق العيد على شيخ الإسلام ابن تيمية فسلم عليه وتكلم معه في مسألة علمية، فسكت ابن دقيق العيد وأخذ شيخ الإسلام يشرق ويغرب شمالاً وجنوباً في الكلام على ما يخص هذه المسألة بكل الأدلة من الكتاب ومن السنة ومن النظر ومن الأثر، فلما سمع ابن دقيق العيد ذلك منه لم يرد عليه بشيء وبعد أن سلم عليه خرج من مجلسه، فقام الناس صفوفاً يسألون ابن دقيق العيد: هل رأيته؟ قال: رأيته. قالوا: كلمته؟ قال: كلمته. قالوا: ماذا تقول فيه؟ قال: أقول: لم ير مثل نفسه. وهذه شهادة من ابن دقيق العيد لشيخ الإسلام ابن تيمية. وكفى فخراً لـ شيخ الإسلام أن كل الطوائف من أهل البدع يستدلون به. وكان الرجل كما يقول المؤرخون: لا يعرف الفرق بين الدرهم والدينار. وكان كما قال ابن القيم: إذا نزلت بنا الملمات نزلنا على مجلس شيخ الإسلام فاطمأنت قلوبنا. قالوا: وكنا ننظر إلى شيخ الإسلام فتطمئن قلوبنا. فهذا الرجل كأن الله لم يخلقه لهذه الدنيا، إذ لا يعرف شيئاً عن هذه الدنيا، ولذلك ابتلي ابتلاء شديداً ونزلت عليه النكبات تترا؛ لأنه كان ينافح عن دين الله جل في علاه. والإمام الذهبي ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية قريباً من ثلاثة أسطر، وذلك لأنه يقول: شيخ الإسلام ابن تيمية يغني عنه ترجمته. وقد كان الذهبي يقول: إن الحديث الذي لا يعرفه شيخ الإسلام ليس بحديث، وهذا يدل على سعة علم الرجل واطلاعه، ولذلك قالوا: إنه في عصر ابن تيمية لم يحفظ أحد مسند أحمد إلا ابن تيمية. والإمام ابن كثير يقول: رأيت في الدنيا ثلاثة: ابن تيمية وابن دقيق العيد والثالث المزي صاحب تحفة الأشراف، وكان المزي عالماً نحريراً في علم الرجال، قال ابن كثير: فدخلت عليهم، فرأيت أحفظهم لمتن رسول الله في الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية، ورأيت أعلمهم بالرجال المزي، ورأيت أفقههم في المتون ابن دقيق العيد. وكان هذا في صغر سن شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن لما كبر سن شيخ الإسلام ابن تيمية واتسعت العلوم والفهوم عنده أصبح لا نظير له ولا ند له.

محنته وكراماته ووفاته

محنته وكراماته ووفاته ابتلي شيخ الإسلام ابتلاء شديداً، فأولاً: سجن، ثم بعد ذلك نفي، ثم بعد ذلك مات في سجنه، وكان يقول: ماذا يريد أعدائي مني؟ إن سجنوني فسجني خلوة بربي، وإن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، لذلك حاروا فيه فاجتمعوا جميعاً وقال بعضهم: اقتلوه، وقال الثاني: لا، اقطعوا لسانه، وقال الثالث: عزروه. فانظروا إلى كرامات شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه ما لبث بعدما قالوا ذلك كثيراً إلا والذي قال: اقتلوه قد قتل، والذي قال: اقطعوا لسانه قد قطع لسانه، والذي قال عزروه قد عزر!! وهذه كرامة لشيخ الإسلام ابن تيمية. والكرامة الأعظم له حدثت عند موته، وذلك أنه نزل مصر -وهذه الرسالة تهتم بما قاله في مصر- ليبين لهم التوسل المشروع والتوسل الممنوع، والكلام على الأموات، والكلام على الحلف بغير الله، وشد الرحال للقبور، فأبطل هذه الأصول، فحسدوه، ثم سجنوه، ثم بعد ذلك عندما خرج من سجنه سجنوه في الشام حتى مات، وصدق فيه كلام الإمام أحمد حين قال: بيننا وبينهم الجنائز. فقال ابن القيم وابن كثير: وأما جنازة ابن تيمية فكانت أعظم ما تكون، اجتمع فيها الرجال والشيوخ والأطفال والنساء والنصارى واليهود، أو قال: والنصارى. فاجتمع هؤلاء جميعاً في جنازة ابن تيمية تكريماً من الله له كما كرم الله قبله صحابة رسوله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وكانت وفاته في سنة (728هـ) فرحمه الله رحمة واسعة.

مقدمة في قاعدة مهمة في العبادة

مقدمة في قاعدة مهمة في العبادة

الفرق بين التوسل والاستغاثة بغير الله

الفرق بين التوسل والاستغاثة بغير الله إن هذا الكتاب العظيم يختص بتوحيد العبادات. قبل أن أدخل على الكتاب أذكر قاعدةً مهمةً جداً ألا وهي: إن كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. وهذا قوام كل ما سنأتي عليه بالتفصيل، ومعنى (ثبت بالشرع) أي: بالكتاب أو السنة، وبالمثال يتضح المقال: قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فقوله: (ادعوني) فيه دلالة على أن الدعاء عبادة صرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. أولاً: نثبت أن الدعاء عبادة بالدليل، قال الله تعالى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، أو قال: (الدعاء مخ العبادة). إذاً: لدينا حديثان وآية، الآية قوله تعالى: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ))، والحديث: (الدعاء مخ العبادة) وهو حديث ضعيف، والحديث الصحيح هو: (الدعاء هو العبادة). ونريد تطبيق القاعدة السابقة على عبادة الدعاء، والمثال: لو أن رجل نزلت به البلايا فاعتكف في المنبر ودعا ربه عز وجل فقد أتى بالتوحيد عملاً بقول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]. لكن هناك رجل ذهب إلى البدوي يدعوه مخاطباً: فقال يا بدوي، أنت عند ربك الآن، وأنت ولي من أولياء الله الصالحين، وإن الكربة قد نزلت بي فأرجو أن تدعوَ الله لي أن يكشف عني هذه الكربة، وهذه كرامة لك؛ لأنك من أولياء الله الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهل هذا الرجل الآن صرف العبادة لغير الله، أم لم يصرفها لغير الله؟ قبل الجواب نتذكر القاعدة وهي: أن كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. نذكر مثالاً آخر ليتضح المقال أكثر: جاء رجل آخر إلى البدوي وقال له: يا بدوي! نزلت بي الكربة فاكشف عني هذه الكربة وأعطني. فما هو الفرق بين المثال الأول والمثال الثاني؟ A إننا قلنا: إن العبادة إذا ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، فالأول عندما قال للبدوي: يا بدوي! أنت قريب من ربك، ادع الله أن يكشف عني الكربة، فهو لم يدع البدوي، وهذه هي مسألة التوسل، وهي مسألة أخرى سنتكلم عنها، وواجب على طلبة العلم وغيرهم أن يعرفوا التفريق بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر، وبين التوسل والاستغاثة والطلب، فالأول لما ذهب إليه وقال: ادع الله لي ففعله هذا توسل وليس بدعاء، فهو ما طلب منه أنه يجلب له الخير، أو يدفع عنه الضر، بل طلب من الله أن يدفع عنه الضر ويجلب له الخير، ولكن عن طريق دعاء هذا الولي، فيعتبر هذا توسلاً وليس من الاستغاثة وإن كان بينهما عموم وخصوص. وفي الصورة الثانية: عندما قال الرجل: يا بدوي! اكشف عني الكربة، فقد صرف عبادة لغير الله، وهذه العبادة هي الدعاء.

الفرق بين الشرك في النذر والمعصية به

الفرق بين الشرك في النذر والمعصية به المثال الثاني: النذر عبادة، ومعروف مشهور بين العامة أنهم يقولون: نذرت للسيدة زينب شمعاً لنجاح ابنتي، فهل هذا يجوز أو لا؟ نرجع للقاعدة قبل أن نقول: يجوز أو لا يجوز، ونضبط المسألة أولاً ونقول: هل النذر عبادة أو لا؟ A النذر عبادة، الدليل على ذلك قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] ووجه الدلالة سنعرفه من خلال بيان تعريف العبادة، والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. وبعد هذا التعريف نقول: إن الله تعالى إذا مدح شيئاً فقد أحبه، وسياق آية النذر سياق مدح؛ لأن الله إذا مدح عباده بفعل شيء فقد دل ذلك على أن هذا الشيء عبادة؛ لأن الله يحبه وقد مدحه، فالله لا يمدح إلا ما يحب، وهذا هو وجه الدلالة استنباطاً. أما التأصيل الصريح فهو في قول الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، ووجه الدلالة في ذلك هو إقرار الله لها على النذر، فدل ذلك على أنه عبادة. وأيضاً في الآية الأخرى قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، وهي نذرت هنا للمسجد، وهذا فيه دلالة على أن النذر عبادة، فإذاً: النذر عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. مثال آخر: رجل قال: إن ابني مريض فإن شفي الله ابني فسأتصدق بألف درهم. والثاني قال: إن ابني إن نجح لأذبحن عند البدوي ذبيحة وأفرقها على الفقراء. والثالث قال: إن أتى أبي ورأيته بعيني، فامرأتي طالق. فالصحيح في ذلك أن نقول: إن النذر الأول توحيد؛ لأنه عبادة صرفه لله جل في علاه. والنذر الثاني فيه توحيد وفيه شرك، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الذبح في مكان يعبد فيه غير الله جل في علاه منهي عنه، ولما رأى رجلاً يذبح إبلاً ببوانة نهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد كان فيها صنم يعبد، وإنما نهاه لأنه ذريعة للشرك ولا يقال له: شرك؛ لأنه لم يصرف عبادة لغير الله جل في علاه، بل هو نذر أن يذبح لله، فإذا نذر أن يذبح لله فهو توحيد لله وليس شركاً، لكنه وقع في منهي عنه وهو أنه ذبح في مكان يعبد فيه غير الله جل في علاه. وأما الثالث فهو نذر ينزل منزلة اليمين المعلقة، على قول الجمهور، وأما على قول شيخ الإسلام ابن تيمية فينظر في نيته: إن كانت نيته تهديداً فلا تطلق زوجته، وإن كانت نيته الطلاق فتطلق امرأته. ختاماً لهذه المسألة نقول: إن العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. قال ابن القيم: وتدور رحى العبادة على خمسة عشر أمراً، وذلك أن المكلف يتكون من لسان وقلب وجوارح، وأحكام الشرع التكليفية خمسة: واجب، ومستحب، ومباح، ومكروه، ومحرم. فيتعلق بكل عضو من الأعضاء سواء القلب أو اللسان أو الجوارح خمسة أحكام. فالحاصل من ضرب ثلاثة أعضاء في خمسة أحكام يساوي خمسة عشر أمراً. فيجب على القلب التصديق، وهو قول القلب، ويجب عليه التوكل والإنابة والخوف والرجاء فكل ذلك من واجبات القلب، أما واجب اللسان فهو قول لا إله إلا الله، فلن يدخل أحد الإسلام إلا بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وأما واجبات الجوارح فالصلاة والجهاد وغيرها، فالثلاثة الأعضاء لكل عضو منها خمسة أحكام، فتكون الجملة خمسة عشر أمراً كما قال الإمام ابن القيم. وللعبادة ركنان: غاية الذل مع غاية المحبة. وشروط العبادة: الإخلاص ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. والعبادة عبادتان: عبادة عامة وعبادة خاصة. أو: عبادة القهر: وهي عبادة الربوبية. وعبادة الاختيار: وهي عبادة الإلهية، إذاً العبادة عبادتان: عبادة عامة ويدخل فيها المؤمن والكافر والمشرك, وعبادة خاصة وهي لا تكون إلا من المؤمن وهي العبادة الاختيارية. فعبادة القهر هي عبادة الربوبية التي قال الله عنها: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] فسواء كنت طويلاً أو قصيراً، أو أبيض أو أسمر، إذا أراد الله أن يقدر عليك المرض فلا تستطيع أن ترد هذا القدر، بل أنت فيه عبد لله رغم أنفك، قال الله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]، فهذه هي عبادة القهر. والعبادة الثانية خاصة بالمؤمنين: وهي عبادة الإلهية التي قال الله فيها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، فهل كل الناس عبدوا الله جل في علاه؟ لا، بل منهم من عبد ومنهم من لم يعبد الله جل في علاه، فهذه هي العبادة الاختيارية.

العبادة وأصناف الناس فيها

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - العبادة وأصناف الناس فيها إن العبادة لا تكون إلا لله جل وعلا، فما ثبت في الشرع أنه عبادة فصرفه لله توحيد وصرفه لغير الله شرك، وذلك كالنذر والدعاء، لكن ينبغي التفريق بين دعاء غير الله والتوسل في الدعاء. وأصناف الناس تجاه العبادة ثلاثة: المؤمنون والكافرون والمنافقون، فالمؤمنون: هم الذين حققوا عبوديتهم لله تعالى مع غاية الذل والمحبة، والكافرون: هم الذين عبدوا غير الله تعالى وأشركوا معه بعض مخلوقاته، والمنافقون: هم أهل الأهواء والضلال، عبدوا الله تعالى بغير التوحيد، واتبعوا أهواءهم، وقدموا العقل على النقل.

العبادة

العبادة

الفرق بين العبادة والشرك

الفرق بين العبادة والشرك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: القاعدة العظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان، وعبادات أهل الشرك والنفاق هي: كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، مثال ذلك الطواف.

تعريف العبادة وأركانها

تعريف العبادة وأركانها العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. ولها ركنان، وهما: غاية الذل مع غاية الحب. ولابد من اقتران الحب مع الذل؛ لأنه لو اختل ركن من الركنين لم تكن عبادة، فالذي يتعبد الله بالذل أو بالقهر دون المحبة، فإنه سيكون حرورياً يقنط من رحمة الله. مثال ذلك: الخوارج فقد قنطوا عباد الله من رحمة الله، فقالوا: فاعل الكبيرة كافر يخرج من الملة، فمن شرب الخمر فإنه خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله! فهؤلاء الخوارج تعبدوا لله بالذل فقط. والطرف الآخر: وهم المرجئة تعبدوا لله بالمحبة فقط، فصار عندهم غلو في الرجاء فلا يهتمون بأوامر الله، ولا يرجون لله وقاراً ولا تعظيماً، فمن تعبد لله بالذل فإنه لا يكون محباً لله، ومن تعبد لله بالحب دون الذل فإنه لا يكون معظماً لله جل في علاه. وفي بني البشر يمكن للإنسان أن يذل للإنسان وهو لا يحبه، كأن يكون مقهوراً له، أو يكون عليه دين له، فيكون المذل أبغض الناس إليه، فهذا الذل لغير الله. ويمكن للإنسان أن يحب إنساناً، ولا يكون له ذليلاً، بل يكون فوقه ومتكبراً عليه، فغاية الذل مع غاية المحبة لا تكون مجتمعة إلا لله.

أقسام الناس تجاه العبادة

أقسام الناس تجاه العبادة والناس على أقسام ثلاثة: مؤمنون خلص، وكافرون خلص، وبين بين وهم منافقون خلص. وقد بينها شيخ الإسلام فقال: أهل التوحيد والإيمان. وأهل الشرك والإلحاد. وأهل البدعة والضلالة.

تعريف أهل التوحيد والإيمان

تعريف أهل التوحيد والإيمان فأهل التوحيد والإيمان هم الذين عبدوا الله بالتوحيد الكامل، فلم يشركوا معه غيره، وعبدوه بما شرع، كما بين الله جل في علاه أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وما أرسل رسولاً إلا وبين أن الحكمة العظيمة والجسيمة لإرسالهم هي التوحيد، قال الله تعالى مبيناً لنا قول كل رسول بعثه إلى قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. وقد قال الله تعالى على لسان عيسى بن مريم: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51]. وعلى لسان نوح عليه السلام: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:1 - 3] فيعبدون الله أي: يوحدونه بما شرع على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، فكل رسول كان على الإسلام.

تعريف الإسلام

تعريف الإسلام والإسلام معناه: التوحيد الخالص. أي: أن توحد الله جل في علاه ولا تشرك به شيئاً، كما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة:131] أي: استسلمت {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]. وقال تعالى حاكياً عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وعن نوح عليه السلام: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]. وقال إسماعيل وإبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً} [البقرة:128]. وقال سحرة فرعون: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]. وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]. وقال جل في علاه عن بلقيس عندما أسلمت مع سليمان: {رب إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]. وقال عن أتباع المسيح عليه السلام: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]. وقال جل في علاه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19]. فما من نبي إلا وهو على الإسلام، ولكن اختلفت الشرائع، فكل الأديان دين واحد، وليست أدياناً متعددة، بل كلها دين سماوي واحد وهو الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فموسى ويوسف وعيسى ونوح وإبراهيم وشعيب وصالح وآدم كانوا على الإسلام. فالإسلام معناه: توحيد الله جل في علاه، والاختلاف بين الأديان كان في الشرائع، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] وصح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأنبياء إخوة لعلات) أي: إخوة من أب واحد، والأمهات شتى، مثال ذلك: الرجل الذي تزوج بأربع نساء فخلف من كل واحدة منهن أولاداً، فالأولاد يسمون إخوة لعلات، لأن أمهاتهم شتى، وأباهم واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وشرائعهم شتى). وهذا ظاهر جلي لمن تفحص في شرائع الذين سبقونا، فمثلاً: في شريعة التوراة أو الشريعة اليهودية إذا وقعت النجاسة على ثوب واحد منهم فتطهيرها بأن يقص ذلك الجزء من الثوب الذي وقعت فيه النجاسة. أما في ديننا وشريعتنا: إذا وقعت النجاسة فإنه يطهرها بالماء. وأيضاً: في شريعتنا أن الزاني المحصن حده الرجم حتى الموت، لكن في التوراة المحرفة حده الجلد والتحميم. وكذلك في شريعتنا: حل الغنائم للمجاهدين الذين يذبون عن الإسلام، وعن أهل الإسلام، فعندما يغنمون الغنائم فإنهم يأكلونها هنيئاً مريئاً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي) وكان في شريعتهم أن الغنيمة تؤخذ كلها فتوضع قرباناً فتنزل نار من السماء فتأخذها، ولذلك فإن بعضهم سرق شيئاً من الذهب فلم تقبل، فقال نبيهم: فيكم الغلول، فصافح مقدم كل قبيلة حتى لصقت يد واحد منهم فأخرجه من قومه، فجاءت نار من السماء فأكلتها. فالغنيمة في الشرائع التي سبقت لم تكن حلالاً، وفي شريعتنا حلت، فهذا مصداق لقول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]. إذاً: دين الأنبياء واحد وهو الإسلام، لكن الشرائع مختلفة، فهؤلاء هم الموحدون الخلص أو المؤمنون الخلص.

تعريف أهل الكفر

تعريف أهل الكفر الصنف الثاني: الكافرون الخلص: وهم عباد الأصنام الذين يشركون مع الله غيره في العبادة. فمنهم من عبد البقر، ومنهم من عبد البشر، ومنهم من عبد الأصنام، فهؤلاء عبدوا الله لا على التوحيد، ولا بما شرع الله جل في علاه، كما قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. وأيضاً: قال الله فيهم على لسانهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكذبهم الله في ذلك وبين أنها لا تملك شيئاً مع الله.

تعريف أهل النفاق

تعريف أهل النفاق أما الصنف الثالث: فهم بين بين، وهم أهل الأهواء والضلال، أو أهل النفاق. وهم الذين يعبدون الله بغير التوحيد، لأنهم أدخلوا هواهم في التوحيد، فكلما هووا شيئاً عملوه، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]. وأيضاً: قدموا العقل على النقل، فما عبدوا الله بالتوحيد الخالص، وما اتبعوا رسول الله الاتباع الخالص فلو خالف العقل النقل قدموا العقل على النقل. وقد ذمهم الله جل في علاه، وذمهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وصدق فيهم قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

التوسل [1]

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - التوسل [1] الدعاء عبادة لله تعالى فلا يجوز صرفها لغيره، ويشرع للداعي أن يقدم بين يدي دعائه وسيلة تكون سبباً لإجابة دعائه، ولكن يجب أن تكون هذه الوسيلة مشروعة، ومن الوسائل المشروعة التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء الأحياء أو حال الداعي.

تعريف التوسل

تعريف التوسل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: التوسل في اللغة هو: الشيء الموصل للغرض المقصود. والتوسل عموماً في الشرع هو: الوسيلة أو الطريقة المتخذة للوصول إلى رضا الله وجناته. وأما خصوصاً فهو: اتخاذ الوسيلة بين يدي الدعاء للاستجابة. والتوسل عبادة، قال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]. قوله: (ابتغوا) أمر من الله بابتغاء الوسيلة، والله عز وجل لا يأمر إلا بما يحب، إذاً: فالوسيلة يحبها الله عز وجل، فإذا كان الله عز وجل يحبها فهي داخلة تحت مسمى (العبادة)، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فسمى الدعاء عبادة، ولازم الدعاء اتخاذ الوسيلة بين يدي هذا الدعاء، ولازم الشيء يأخذ اسمه وحكمه. إذاً: إن كانت الوسيلة عبادة، فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، ومن هذا المنطلق فالتوسل على نوعين: توسل مشروع، وتوسل ممنوع.

أنواع التوسل

أنواع التوسل

التوسل المشروع وأنواعه

التوسل المشروع وأنواعه

التوسل بذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله

التوسل بذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله والتوسل المشروع على أربعة أنواع: الأول: التوسل بذات الله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله. فأما التوسل بأسماء الله تعالى، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، أي: اتخذوها وسيلة. وقال جل في علاه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فكان يتوسل بأسماء الله تعالى. ومنه: (وأعوذ بعزتك أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). و (مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يدعو في المسجد ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سأل باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب) فهذا توسل بأسماء الله تعالى وهذا لا يصل إليه إلا الفقيه المتدبر الذي اعتقد اعتقاداً صحيحاً في ربه. والمسلم إذا أراد أن يسأل الله ويتوسل بأسمائه فليأت بالاسم المناسب في المقام الذي يريده، فمثلاً: إذا أرا أن يطلب من الله الرحمة، فلا يقل: يا عزيز! يا جبار! يا منتقم! ارحمني، لأن هذا سوء أدب مع الله، لأن الجبار يناسبه أن ينتقم، لا أن يرحم، فهو قد وضع اسم الله في غير موضعه، لذا فمن الآداب التي لا بد أن يراعيها العبد وهو يتعبد لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى توسلاً: أن يأتي بالاسم الذي يوافق المقام. وكذلك إن أراد الرزق فلا يقل: يا مانع ارزقني، وإنما ليقل: يا رزاق ارزقني. وإن أراد النصر فيكون أنسب ما يقول: إنك نِعم المولى ونعم النصير. وإن أراد الموت قال: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يتوسل باسم من أسماء الله في مقام مناسب، وذلك في آخر الصلاة بقوله: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). إذاً: عند التوسل بأسماء الله جل في علاه تأتي بالاسم المناسب للمقام الذي تدعو له وتتوسل به. وأما التوسل بصفات الله جل في علاه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوسل بصفات الله جل وعلا فيقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم توسل بصفة من صفات الله الفعلية، وهي: الكلام. وأما التوسل بصفات الله تعالى الذاتية، فكأن يتوسل العبد بالرحمة فهي صفة ذاتية، لكن أصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد وأحاذر) فالصفة الذاتية هنا: العزة والقدرة والسلطان، وكلها صفات ذاتية لا تنفك عن الله جل في علاه. وأما التوسل بأفعال الله تعالى، فمعناها: أن ينظر النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينظر الصحابي، أو ينظر المؤمن التقي في فعل من أفعال الله في أمة من الأمم فيقول: يا رب كما فعلت كذا فافعل بي، أو كما هديت فلاناً فاهدني أو كما أنعمت على فلان فأنعم علي، أو كما رزقت فلان فارزقني. وأصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم عليك بهم اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) أي: اللهم ابتلى قريشاً بسنين كسني يوسف، لأنهم جحدوا وكفروا، فكان كل واحد منهم ينظر إلى الميتة فيطعمها من البلاء والجوع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انصرنا كما نصرتنا على الأحزاب). وأفعال الله تعالى لا تنتهي بحال من الأحوال.

التوسل بالأعمال الصالحة

التوسل بالأعمال الصالحة الثاني: التوسل بالأعمال الصالحة: وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة؛ فقال الله تعالى حاكياً لنا عن الحواريين عندما توسلوا لربهم بالأعمال الصالحة، فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]. وقوم محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193] فهم سألوا الله بأعمالهم الصالحة، وهي: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:193] وهل يصح سؤاله عز وجل بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ A نعم، يصح للمرء أن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لك ولدينك، وحبي لنبيك أن تحببني فيك وتحبب عبادك في، أو: أن تحببني إلى الصالحين وتحبب الصالحين إليّ، فتدعو الله جل وعلا بالعمل الصالح، وهو حبك لله وحبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصرح من ذلك فعلياً قصة الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار، وكيف أنهم توسلوا لله بالأعمال الصالحة. فأما الأول: فتوسل بأنه أخذ اللبن الذي أتى به لأمه وأبيه أولاً وأولاده حوله يبكون يريدون اللبن فما أعطاهم؛ فبقي هكذا حتى بزغ الفجر، فسقى أباه وأمه براً بهما، وترك أولاده وفلذات كبده. فهذا عمل صالح، فذكره ثم قال: (اللهم إن كان هذا العمل إخلاصاً لوجهك الكريم فافرج عنا فانفرجت فرجة ينظرون منها ولا يستطيعون الخروج. فجاء الثاني فقال: اللهم إنك كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها حباً جماً، فطلبت مني مالاً فراودتها عن نفسها، فلما تمكنت منها وكنت منها بمكان الزوج من زوجه، قالت: اتق الله لا تفض الخاتم إلا بحقه) فارتدع الرجل، وهنا انظر الدين والإخلاص، فإن الرجل جاءه الرادع فارتدع، قال: (فأعطيتها المال، وهي أحب إلي خوفاً منك، اللهم إن كان هذا إخلاصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ففرج الله عنهم. وجاء فقال: اللهم إنه كان لي أجراء فكان من هؤلاء أجير لم يأخذ أجره فأخذت أجره فنميته له، فلما جاء الرجل قال: أجري؟ قلت: انظر إلى هذا الوادي من الغنم والبقر، قال: لا تستهزئ بي واتق الله، قلت: والله إن هذا أجرك، ثم قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك إخلاصاً لوجهك فافرج عنا، ففرج الله عنهم). فهذا توسل بالأعمال الصالحة.

التوسل بدعاء الصالحين الأحياء

التوسل بدعاء الصالحين الأحياء الثالث: التوسل بدعاء الصالحين الأحياء: والتوسل بالصالحين على نوعين: إما توسل بالذات، وإما توسل بالدعاء، وسنبين أن التوسل الممنوع هو: التوسل بالذات، وأما التوسل بدعاء الصالحين فهو ثابت بالكتاب والسنة: أما من الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف:97]. وقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فهو قد دعا لهم. وأيضاً قول الله تعالى عن التابعين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]. وأما من السنة: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلس بين أصحابه فقال: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، فبات الناس يدوكون: مَنْ هؤلاء؟ لعلهم الذين أسلموا ولم يعبدوا صنماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون). وفي رواية: (لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) وقوله: (ولا يرقون) هذه الرواية عند مسلم، وهي شاذة؛ لأن الحديث المتفق عليه في البخاري ومسلم قال: (لا يسترقون)، وإلا لو قلنا: (لا يرقون) فقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بالرقية فقال: (أرقوها)، ورقى جبريل عليه السلام، فكيف نقول: (لا يرقون) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذه الرواية شاذة، أما القول بأنهم لا يرقون الرقية الشرعية فهذا كلام خطأ، وهو كلام المتأخرين. والشاهد: أن عكاشة بن محصن قال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، فقال: (أنت منهم) فوجه الدلالة: أنه طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: الاستسقاء، فيدخل الرجل فيقول: يا رسول الله! هلكت الأموال والزروع فاستسق لنا. وهناك حديث يحتج به شيخ الإسلام يقول: عندما ذهب عمر بن الخطاب إلى العمرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أخانا لا تنسنا من صالح دعائك)، وهذا حديث ضعيف، ويكفينا الأحاديث الصحيحة التي تكلمنا بها.

التوسل بحال المرء

التوسل بحال المرء الرابع: التوسل بحال المرء، وهذا تذلل يوافق كرم الله، فالله جل وعلا يرفع الكربة به، كأن يقول العبد: اللهم أنت تعلم ما نزل بي من البلاء، اللهم ارفع عني هذا البلاء. وأصل التوسل به ثابت في الكتاب والسنة: أما من الكتاب فقد قال الله تعالى حاكياً عن سيدنا أيوب أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. وعن موسى عليه الصلاة والسلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، أي: فقير إلى رحمتك، فقير إلى عطائك، فقير إلى كرمك. وأما من السنة: حالة الاستسقاء؛ لأنهم يخرجون على هيئة رثة يستعطفون ربهم جل في علاه. ولذلك نرى أن من السنة في صلاة الاستسقاء أن الحاكم، أو ولي الأمر، أو المهذب، أو المعلم، أو الإمام يعلم من يذهبون إلى الاستسقاء فيقول لهم: صوموا يوماً أو يومين وتصدقوا، ثم لا بد أن تذهبوا إلى ربكم بثياب بالية، وذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خالف بين ردائه، وفي ذلك إشارة إلى التحويل، وقد قال ذلك العباس عندما قال: (أيدينا مرفوعة إليك بالذنوب- أي: حالنا أننا من أهل الذنوب- لكنا نرجو رحمتك)، فكانوا إذا استسقوا بـ العباس سقاهم الله فضلاً منه ورحمة ونعمة.

التوسل [2]

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - التوسل [2] التوسل إلى الله بغير ما شرعه الله تعالى ممنوع عند أهل السنة، وهذا التوسل إما توسل شركي مخرج من الملة أو توسل بدعي، والبدعي منه ما هو مكفر ومنه ما هو مفسق كما بينه العلماء، وردوا على شبهات من يجوّز ذلك.

أقسام التوسل من حيث المشروعية

أقسام التوسل من حيث المشروعية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: والوسيلة والوصيلة تتشابهان وتتلازمان إذ السين قريبة من الصاد فتأخذ حكمها تحل محلها. وقد تقدم التوسل توسلان: توسل مشروع، وتوسل ممنوع، وقد تكلمنا عن التوسل المشروع، وسنتكلم هنا إن شاء الله عن التوسل الممنوع. وقد ذكرنا أن التوسل عبادة، بدليل قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فقوله: ((وَابْتَغُوا)) أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وإن الله لا يأمر إلا بما يحب، وما يحبه الله يدخل تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. قلنا بأن الدعاء التوسل عبادة، صرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، فالتوسل المشروع كالتوسل بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وبالإيمان به جل في علاه كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:16]. وكالتوسل بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاء الصالحين عموماً، وكالتوسل بالعمل الصالح كما صنع أصحاب الغار. وكالتوسل بحال المرء كما قال الله تعالى عن أيوب {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. وكذا موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] أي: فأنا أدعو بفقري ولا غنى لي عن بركتك. والتوسل الممنوع منبثق عن القاعدة المذكورة آنفاً عن الوسيلة: أن صرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، فهو من صرف الوسيلة لغير الله جل وعلا. والتوسل الممنوع نوعان أو قسمان: قسم شركي، وهذا شرك محض. وقسم بدعي. وليس الفرق بينهما كما يزعم البعض أن التوسل الشركي يخرج صاحبه من الملة، والتوسل البدعي لا يخرج صاحبه من الملة، بل بينهما عموم وخصوص، إذ إن كل بدعة شرك وليس كل شرك بدعة. والحاصل: أن التوسل الشركي يخرج صاحبه من الملة، أما التوسل البدعي فهو قسمان؛ لأن البدعة بدعة مكفرة وبدعة مفسقة، فالبدعة المكفرة ستدخل مع التوسل الشركي.

التوسل الشركي

التوسل الشركي

التوسل الشركي

التوسل الشركي أما التوسل الشركي: فهو صرف التوسل لغير الله: إذ إن كل عبادة ثبتت بالشرع فصرفها لله عبادة، وصرفها لغير الله شرك، وقد ثبت في الشرع أن التوسل عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. ونرى اليوم من صرف التوسل الذي هو عبادة لغير الله فأشرك في ذلك، كمن يذهب إلى البدوي فقول: يا بدوي! أنقذني من المهالك، أو المرأة تذهب إلى قبره فتقول: يا بدوي! ابنتي لا تنجب فاجعلها تنجب، أو كمن يذهب إلى ضريح عبد القادر الجيلاني فيقول: يا جيلاني! يا ولي الله! اجعل السماء تمطر، فهذا دعاء لغير الله، وصرف الوسيلة لغير الله شرك، فقد وقع من يفعل ذلك في الشرك والعياذ بالله. على أن هذا هو فعل الذين أشركوا في الجاهلية قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتعبدون لغير الله فيدعون ويستغيثون بغير الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فكذبهم الله. ومن يذهب إلى البدوي أو إلى الجيلاني فيصرف التوسل لغير الله كأن يدعوه ويستغيث به، فقد كفر من وجهين اثنين: الوجه الأول: أنه صرف التوسل وهو عبادة لغير الله، فكفر من جهة الإلهية؛ لأن القاعدة في الإلهية: كل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. الوجه الثاني: وهو وجه الربوبية؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله. قال ابن تيمية وتابعه ابن القيم: من اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد كفر. فمن يذهب إلى قبر البدوي فقد اعتقد في البدوي ما لا يعتقد إلا في الله، فاعتقد فيه أنه سينقذه من المهالك، واعتقد فيه أنه سيحيي له ابنته، أو يصلح له زوجه أن تنجب، وهذا لا يكون إلا لله. والقاعدة عند العلماء: من اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد كفر.

التوسل البدعي وأنواعه

التوسل البدعي وأنواعه إن إطلاق لفظ (بدعة) يفيد أن العمل لا يرتكز على دليل، إذ الأصل في العبادات التوقيف. ونعني بقولنا: الأصل في العبادة التوقيف، أنه لا يمكن أن ينشئ المرء عبادة إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله. فأي عبادة يريد المرء أن يتعبد الله بها فلا بد أن تكون خاضعة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قلت: التوسل عبادة، فلا بد لي من دليل حتى أتوسل به. التوسل البدعي: هو توسل جاء به صاحبه من غير دليل من الشرع، وهو أقسام: القسم الأول: توسل بذات الصالحين، أو بجاه الصالحين. القسم الثاني: التوسل بدعاء الأولياء الأموات. وإنما قيد بالأموات لأنه يجوز التوسل بدعاء الصالحين الأحياء.

التوسل بجاه الصالحين

التوسل بجاه الصالحين التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم مما انتشر بين العامة، فتجد أحدهم يقول: اللهم بحق جاه نبيك افعل كذا وكذا. وهذا التوسل عند أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة بدعة من البدع المنكرات، يحرم على الإنسان أن يفعله، فإن فعله جاهلاً فعلم فأصر على ما هو فيه، فهو آثم عند ربه، وهذه ذريعة للشرك والعياذ بالله. وهذا التوسل توسل بدعي لأمرين اثنين: الأمر الأول: أنه لم يأت عليه دليل من الكتاب، ولا من السنة، ولا من فعل الصحابة، والله قد أمرنا باتباع كتابه وسنة نبيه، ثم اتباع أصحاب نبيه من بعده. وإنما عطفت السنة على الكتاب بالواو لأنه لا بد من اقتران كتاب الله مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهما صنوان. أما الكتاب: فلم يرد في كتاب الله دليل يثبت التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. وأما السنة: فلم يرد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قوله ولا من فعله ولا من تقريره. وأما ما ورد عن أبي بكر وعمر أنهما استسقيا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من الكذب المفترى على الصحابة رضوان الله عليهم. وبما أنها لم ترد في كتاب ولا سنة ولا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي بدعة وإن قال بها بعض الفضلاء من أهل السنة والجماعة، وإن كانوا من العلم بمكان مثل: العز بن عبد السلام وغيره، فإن قولهم ليس بصحيح بحال من الأحوال، بل هو بدعة مميتة لأمرين اثنين: الأمر الأول: أنه لم يرد دليل. الأمر الثاني: أنه توسل بشيء أجنبي وهو جاه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاه النبي ينفع النبي لأنه صاحب الجاه ولا ينفع غيره، فمن يتوسل بجاه النبي يتوسل بشيء أجنبي، ولا يتوسل بشيء شرعه الله جل في علاه، وإنما ينفعك النبي بشفاعته لا بجاهه. ولو كان الجاه والتوسل بالجاه مشروعاً لبينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم يتم لنا البيان، ولم يتم لنا البلاغ. والرسول هو أحرص الأمة على أن يدل الأمة على كل خير، ولو كان في التوسل بجاه النبي خير، لكان لزاماً على رسول الله أن يبين لنا أن التوسل المشروع هو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن جاهه يمكن التوسل به، قلنا: هذه بدعة، ولا يصح لأحد أن يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.

التوسل بطلب الدعاء من الأموات

التوسل بطلب الدعاء من الأموات مما انتشر بين المسلمين اليوم التوسل بدعاء الأموات، فتجد المرء يذهب إلى قبر الولي من أولياء الله الصالحين، فيقول: أنت الآن بين يدي ربك، وأنت لك المكانة عند الله، فادع الله أن يغفر لي. وهذا تعلق به الصوفية عندما قالوا: قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]. فقالوا: إن لك أن تذهب إلى قبر النبي فتقول: يا رسول الله! أنت بين يدي الله جل في علاه وأنت في الجنات الآن، فاستغفر لي عند ربي، وادع الله أن يدخلني الجنة، وادع الله أن يجعلني في الفردوس الأعلى، ويحتجون بقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] فقالوا: هذه الآية فيها دلالة واضحة على التوسل وطلب الدعاء من الأموات. وهذا الكلام لا يصح بحال من الأحوال، وخطؤه بيّن، إذ إنه: أولاً: لم يرد دليل على ذلك من الكتاب ولا من السنة، ولا من فعل الصحابة رضوان الله عليهم. الأمر الثاني: أن الله قد نفى سماع الأموات، ونفى رسول الله أن ينتفع أحد بالأموات، بل الأموات هم الذين ينتفعون بالأحياء. قال الله تعالى ينفي سماع الأموات: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]. وقال أيضاً: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأثبت عدم السماع لهم. ومما يؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وولد يدعو له، وصدقة جارية) وليس فيها الدعاء للغير، بل هو الذي يحتاج للدعاء من غيره، فإن الميت إذا مات انقطع عمله، فلا يستطيع أن يتكلم مع ربه، ولا أن يطلب من ربه شيئاً، فهذه دلالة واضحة على أن هذه بدعة مميتة. والتوسل بطلب الدعاء من الأموات ذريعة للشرك؛ لأنهم اتخذوا سبباً لم يشرعه الله جل في علاه، والقاعدة عند العلماء: أن من اتخذ سبباً لم يسببه الله في الكتاب أو في السنة فقد أشرك. والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فهذه قاعدة جليلة جداً تبين لنا أن ما يصنعونه ذريعة إلى الشرك؛ لأن الإنسان إذا شرّع لنفسه فقد تأتيه الهواجس، فيضع نفسه في مقام الربوبية، ولذلك قال العلماء: التوسل بطلب الدعاء من الأموات شرك أصغر.

الغلو في الصالحين

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - الغلو في الصالحين لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو في الصالحين أشد التحذير، وحسم كل مادة تخدش جناب التوحيد، وسد كل ذريعة تؤدي إلى ذلك، وقد اقتدى به أصحابه رضوان الله عليهم.

التحذير من الغلو في الصالحين واتخاذ القبور مساجد

التحذير من الغلو في الصالحين واتخاذ القبور مساجد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأسوة وهم القدوة، وقد قال فيهم ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب الناس فوجد أفضل القلوب وأنقى القلوب هو قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطفاه نبياً ورسولاً، ونظر بعد ذلك في قلوب العباد فوجد أبر القلوب وأنقى القلوب قلوب الصحابة فاصطفاهم لصحبة نبيه، ونصرة دينه، ونشر دعوته، فهم أبر الناس قلباً، وأحسن الناس خلقاً، وأصدق الناس إيماناً، وأعمقهم علماً. علموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأمر وبم يأمر؟ فتأسوا به الله صلى الله عليه وسلم وأتمروا بأمره، وعرفوا ما ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، على مراد النبي صلى الله عليه وسلم في النهي، فحرموا على أنفسهم وعلى غيرهم ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ائتسوا برسول الله وهو يحفظ جناب التوحيد الخالص لله جل في علاه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الغلو في الصالحين، وعن بناء المساجد على القبور، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). ولما ذهب إلى بعضهم فقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) أي: لا تغلوا في أحد. وأيضاً: نهى سداً للذريعة وحسماً للمادة عن اتخاذ القبور مساجد كما سنبين.

الغلو في الصالحين سبب للوقوع في الشرك

الغلو في الصالحين سبب للوقوع في الشرك

أول شرك وقع في الأرض سببه الغلو في الصالحين

أول شرك وقع في الأرض سببه الغلو في الصالحين والصحابة رضوان الله عليهم عبدوا الله بالتوحيد الخالص كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسنرى كيف سدوا منابع الشرك، وكيف حسموا مادة الشرك ائتماراً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. إن أول الشرك في البشرية بأجمعها كان بسبب الغلو في الصالحين، وكما قال ابن عباس ومحمد بن كعب كما في تفسير ابن أبي حاتم وهو عند البخاري وابن جرير الطبري وابن كثير أن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد الخالص. أي: لم يشرك أحد بالله جل في علاه، ثم جاء قوم نوح وكان هناك بعض الناس يعني: من الفضلاء الكبراء الذين يتعبدون لله في ذلك الزمان فكانوا يعظمونهم، فلما ماتوا زين لهم الشيطان أن يصوروا لهم التصاوير، يعني: التماثيل من أجل أن يذهبوا إلى هذه التماثيل فيتذكروا شدة اجتهادهم في عبادتهم فيعبدون الله كما كان يعبده أولئك فكأنها تشد الهمم. وانظروا إلى فقه الشيطان، فإنه لا يفتح للإنسان باب الشر على مصراعيه، بل يستدرج الإنسان ويفتح له باب الخير ليفتح بعده مائة باب من الشر، ولذلك كان الصحابة يسألون عن الشر حتى يغلقوا أبوابه، قال حذيفة: كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الخير يقع فيه فمن لا يميز بين الخير والشر سيقع في الشر حتماً، ولهذا كان فضل العلم وفضل الفقه عظيماً، فإن الشيطان استدرج هؤلاء الأغرار الأغمار الجهلة حتى يجتهدوا في العبادة كما اجتهد أولئك، فلما اندرس العلم ومات الذين كانوا يفعلون ذلك جاء أقوام بعدهم فقالوا: إنهم اتخذوا وسائل بينهم وبين الله شفعاء كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فعبدوهم من دون الله جل في علاه. وهذا أول الشرك وأصله، وهو الغلو في الصالحين وبناء المساجد على قبور الصالحين.

أول شرك اليهود والنصارى سببه الغلو في الصالحين

أول شرك اليهود والنصارى سببه الغلو في الصالحين وإذا نظرت إلى اليهود والنصارى وجدت أن أول الشرك فيهم كان بسبب الغلو، فترى أن اليهود والنصارى عندما غلو في الأنبياء وفي الصالحين صوروا لهم الصور، ثم بنوا عليهم القبور، فلما بنوا عليهم القبور بلغوا بهم إلى درجة الربوبية ودرجة الإلهية، ففي الصحيح عن أم حبيبة أنها لما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم الكنيسة التي رأتها في الحبشة وفيها تلك التصاوير قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولئك شرار الخلق عند الله) لم يا رسول الله؟ قال: (لأنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا له تلك التصاوير وبنوا على قبره). فكان أول الشرك هو الغلو في الصالحين والبناء على القبور، وقد بين لنا شيخ الإسلام كيف حسم النبي صلى الله عليه وسلم المادة وكيف دافع عن التوحيد الخالص حتى لا تقع الأمة في الشرك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً حث الأمة على عدم بناء المساجد على القبور، وذم كل من فعل ذلك وهو في مرض الموت، كما في الصحيح عن عائشة أنه كانت هناك خميصة أو قطيفة في يد النبي، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها في رأسه ثم إذا أفاق قال: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك). ثم إنه حث الأمة على البعد عن ذلك بقوله: (لتتبعن) يعني: ينكر على الأمة، والأمة اليوم والله إنها قد تاهت وضاعت وفعلت كما فعل السابقون إلا من رحم الله قال: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة). وفي رواية أخرى قال: (شبراً بشر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). وفي رواية قال: (ولو نكح فيهم الرجل أمه لوجد في أمته من يفعل ذلك) وقد وقع فقد وجد في هذه الأمة من زنى بأمه والعياذ بالله. فالنبي صلى الله عليه وسلم يذم الفعل ويحذر ما صنعوا. وأيضاً: عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك).

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه وفي الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً) يعني: من العود، فلا تعتادوا وتنتابوا قبري ليل نهار، وهذا الذي نبينه للحجاج والمعتمرين لأن بعضهم إذا صلى الفجر قال: أنا سأسلم على النبي، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا عمر، ثم يأتي في الظهر يسلم وفي المغرب يسلم وفي العصر يسلم، وفي العشاء يسلم، فهو يقع في البدعة ولا يدري، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). وعلاقة الحديث بموضوعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد حسم المادة؛ لأنهم لو عاودوا الذهاب والإياب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم سيقعون في الغلو في رسول الله، وقد حدث الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال البوصيري: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم قال ابن رجب: هذا السفيه لم يترك لله شيئاً، أي: من جودك أنت الدنيا والآخرة، ومن علومك علم اللوح والقلم أي: علم اللوح المحفوظ من علمك يا رسول الله، وهذا من الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعضهم غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالوا: إن النبي خلق من نور. والأشد من هذا قولهم: صعد جبريل ليأخذ القرآن من أجل أن ينزل به إلى محمد فكشف الحجاب فقال محمد: منك وإليك. لقد جعلوا رسول الله الخالق وهو المخلوق. فالعود على قبر النبي صلى الله عليه وسلم سيصل بالإنسان إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم يصل به إلى الشرك بالله جل في علاه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حسماً للمادة: (لا تجعلوا قبري عيداً). وكان يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) والحمد لله قد كان. وقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على أقوام يتخذون القبور مساجد). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (شرار الخلق عند الله من تقوم عليهم الساعة، والذين يتخذون القبور مساجد) كل هذه النواهي كانت حسماً للمادة وسداً للذريعة وخوفاً من وقوع الأمة في الغلو في الصالحين ببناء المساجد على قبورهم.

اقتداء الصحابة برسول الله في حماية جناب التوحيد

اقتداء الصحابة برسول الله في حماية جناب التوحيد وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسموا المادة وسدوا الذريعة أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري يقول لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تجد تمثالاً إلا كسرته، أو قال: ألا تجد صنماً إلا كسرته، ولا تجد قبراً مشرفاً إلا سويته) فلا بد من تسوية القبور. والبدع الموجودة في المقابر التي نراها من تعلية القبور وتجصيصها، وكتابة الكلمات التي لا تصح، كلها بدع تصل بالإنسان إلى الغلو في الصالحين ثم الشرك، وعلي بن أبي طالب ينتصر للتوحيد ويأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إذا رأيت قبراً مشرفاً لا بد أن تسويه بالأرض. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما فتح الله بلاد العراق على يده بعث إليه أبا موسى الأشعري بقوله: وجدنا قبر دانيال. وهو نبي من أهل الإسلام لأن الأنبياء كلهم كانوا على الإسلام، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات) أي: لأب واحد والأمهات شتى يعني: دينهم واحد وشرائعهم مختلفة، ويصدق ذلك قول الله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] هذا هو الدليل الصريح الصحيح في أن الأنبياء كلهم كانوا على دين واحد وهو دين الإسلام. فعندما رأوا قبر دانيال عليه السلام في العراق بعثوا إلى عمر ماذا نفعل؟ انظروا إلى حسم المادة وسد الذريعة فقال عمر بن الخطاب: احفروا ثلاثة عشر قبراً ليعمي على الناس، ثم ادفنوه ليلاً في واحد منها؛ لأنه علم أن الناس كانوا يستسقون به، والاستسقاء بالأموات ممنوع. فإن قيل: هل هو شرك مخرج من الملة أم لا؟ A الصحيح الراجح أنهم إذا استسقوا بدانيال بأن يقولوا: أنزل علينا المطر، فقد كفروا، وإذا قالوا: اللهم بجاه دانيال أنزل علينا المطر فقد ابتدعوا في دين الله بدعة مميتة، وهي وسيلة إلى الشرك. لكن في الأول من أي وجه أشركوا عندما قالوا لدانيال: أنزل علينا المطر؟ لاشك أن فعلهم فعل كفري، ولا يتجرأ على مسألة التكفير إلا جاهل جريء عميق الجهل؛ لكن نقول: القول قول كفري والفعل فعل كفري، والقائل والفاعل ليسا بكافرين حتى تقام عليهما الحجة وتزال الشبهة. والذي يقول لدانيال: أنزل علينا المطر، أغثنا يا دانيال قد قال قولاً كفرياً صريحاً من عدة وجوه: الوجه الأول: أنه صرف العبادة لغير الله؛ لأن الدعاء عبادة لله وقد صرفها لغير الله، والقاعدة: أنه إذا ثبت في الشرع أنها عبادة لله فصرفها لغير الله شرك. الوجه الثاني وهو المهم: أنه أشرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فإذا اعتقد في دانيال أو اعتقد في محمد أو في إبراهيم أو في موسى أنه هو الذي ينزل المطر، فقد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وهذا شرك في الربوبية. فـ عمر بن الخطاب حسماً للمادة وحفاظاً على جناب التوحيد عمى على الناس خبره وحفر ثلاثة عشر قبراً، ثم دفنه ليلاً حتى لا يستسقي به الناس وحتى لا يصلوا إلى الشرك بهذا الغلو.

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر مسألة: لقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من بناء المساجد على القبور، فهل إذا صلى فيها المرء تصح صلاته أو لا تصح، وإن كان هذا الجانب جانباً فقهياً أكثر منه عقدياً؛ لكن لزاماً علينا أن نبين هذه المسألة. فهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: أن من صلى في مسجد فيه قبر فصلاته باطلة ويجب عليه إعادة الصلاة، وهذا قول الحنابلة. واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: فهو باطل ولا يمكن أن يكون صحيحاً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: باطل. وقالوا: مطلق النهي يقتضي الفساد، فلما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فهذا النهي يدل على أن هذا العمل ليس على سنة النبي، وكل عمل ليس على سنة النبي فهو باطل مردود، وهذا القول الأول. أما القول الثاني فهو قول جماهير أهل العلم من الشافعية والمالكية والأحناف؛ وهو أن الصلاة صحيحة ويأثم المصلي، والإثم يكون مع العلم، فلو دخل رجل مسجداً فيه قبر فصلى فيه وهو لا يعلم أن هذا المسجد فيه قبر لا يأثم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وقوله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. فمن دخل مسجداً فيه قبر وهو يعلم أن هذا المسجد فيه قبر فلا يصل فيه، فإن صلى فهو آثم؛ لأنه ارتكب نهياً؛ ولأنه تعدى حدود الله، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور، فقال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً). ووجه الدلالة من هذا الحديث هو: الأصل أن القبور لا يمكن أن يصلى فيها ولا يجوز أن يصلى فيها، فأنت إن لم تصل في بيتك شبهت بيتك بالقبر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل في البيت. وفي مسند أحمد بسند صحيح: أن السنة في البيت تساوي الفرض في المسجد، يعني: النافلة في البيت تضاعف على النافلة في المسجد بسبع وعشرين درجة، فكم ضيعنا من درجات، وكم فرطنا في صلاة النافلة في المسجد، وهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في البيت كصلاة الفرض في المسجد. فقال الجمهور: يأثم لأنه تعدى حدود الله، وصلاته صحيحة، لأن الجهة منفكة يعني: النهي منفك عن ذات الصلاة، فإن الصلاة لها أركان وشروط، فمن أتى بالأركان وأتى بالشروط تامة فقد صحت صلاته. يعني: من توضأ، واستقبل القبلة، وستر العورة، وقرأ الفاتحة في كل ركعة وركع، ورفع، وسجد، ورفع من السجود، فقد أتى بالأركان وبالشروط تامة فتصح صلاته بذلك. إذاً: فصلاته صحيحة لأنه أتم الأركان والشروط قالوا: ويأثم لأنه تعدى النهي وبعض الحنابلة يرون أن الجهة ليست منفكة. ومعنى قولهم (الجهة منفكة) يتبين من قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخذ الذهب والحرير: (هذان حلال لنساء أمتي حرام على ذكورها). فلو أن رجلاً لبس قميصاً من حرير ثم قام فصلى الظهر وقع في النهي فهل تبطل صلاته أم لا؟ قال أبو يعلى تبطل؛ لأن النهي عندهم يقتضي الفساد مطلقاً. والصحيح الراجح أنها لا تبطل لأن لبس الحرير في غير الصلاة لا يجوز، وفي الصلاة لا يجوز أيضاً، فليس له علاقة بذات الصلاة، الصلاة علاقتها أن يكون فيها أركان وشروط متوفرة من استقبال القبلة وغيرها، فمن أتى بالشروط والأركان وأتمها في الصلاة صحت صلاته، وهذا الراجح الصحيح. وأما الرد على من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: فهو باطل فنقول: قد عمل عملاً عليه أمرنا وهي الصلاة بالأركان والشروط التامة، فصحت صلاته، ثم اتخذ مكاناً ليس عليه أمرنا، وهو المسجد الذي فيه القبر، فأثم في التعدي وصحت صلاته التي تمت فيها الأركان والشروط، وهذا هو الراجح الصحيح، فتصح الصلاة حتى ولو علم أن فيه قبراً. هذه آخر مسألة، والمسائل القادمة إن شاء الله ستكون في العقيدة.

ذرائع الشرك

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - ذرائع الشرك لقد دب الشرك في الناس بسبب غلوهم في صالحيهم وعدم أخذهم بما قاله رسول الله وبما فعله الصحابة الكرام، ولقد بلغ بهم تعظيم الصالحين مبلغاً عظيماً حتى إنهم صوروا لهم تماثيل لأجل أن يذكروهم، فلما مات هؤلاء عبدت تلك التماثيل من دون الله عز وجل، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم التماثيل والتصاوير خشية أن يقع الناس فيما وقع فيه من كان قبلهم.

صور من سد الصحابة منابع الشرك

صور من سد الصحابة منابع الشرك

قطع شجرة الرضوان وإخفاء قبر دانيال

قطع شجرة الرضوان وإخفاء قبر دانيال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: انتهينا إلى أن الله جل في علاه علم نبيه حفاظاً على التوحيد، وحسماً لمادة الشرك، وسداً لذريعة الشرك عدة أمور، كما بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك وهو في مرض موته بقوله: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك). وبينا أن الصحابة اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وتعبدوا لله بالتوحيد الخالص، وابتعدوا كل البعد عن الشرك، وعن وسائل الشرك، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. الصورة الأولى: أن عمر بن الخطاب أخفى قبر النبي دانيال عندما وجدوه في العراق، وحفر ثلاثة عشر قبراً تعمية عليهم؛ لأنهم كانوا يستسقون بهذا النبي. وحفاظاً على التوحيد أيضاً نظر عمر بن الخطاب في أناس كانوا يقتفون الأماكن التي كان يصلي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فضربهم عليها، وقال: أتتبعون آثار الأنبياء؟ ولما علم أن الناس يقصدون الشجرة التي حدث عندها البيعة على الموت اجتثها عن بكرة أبيها وقطعها حسماً للمادة.

قصة عروس النيل

قصة عروس النيل وهناك قصة لطيفة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، وهي أن المصريين كانوا يعتقدون اعتقاد الفراعنة، وهو أن النيل لا يجري حتى يلقوا إليه بأجمل فتاة، وكانوا يسمونها عروس النيل، فدخل عمرو بن العاص وهم يعتادون ذلك ويفعلونه فمنعهم من ذلك، فتوقف النيل عن الجريان، فبعث إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام على أمير المؤمنين، الأمر كيت وكيت، فبعث عمر بن الخطاب بورقة مكتوب فيها: من أمير المؤمنين إلى نيل مصر -انظروا إلى التوحيد الخالص وحسم مادة الشرك- إن كنت تجري بنفسك فلا تجر، وإن كنت تجري بأمر الله فعليك أن تجري. لقد صنع عمرو هذا حسماً لمادة الشرك، وسداً لذريعة الاعتقاد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله. فإن كل من اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد أشرك. فهم اعتقدوا في النيل ما لا يعتقد إلا في الله، فالذي يوقف الماء هو الله جل وعلا فهو الذي أمر موسى أن يضرب البحر فكان كالطود العظيم، فهم حين اعتقدوا في النيل ما لا يعتقد إلا في الله وقعوا في الشرك، فحسماً لمادة الشرك وسداً للذريعة بعث إليهم عمر بهذه الكلمات، ليعلموا أن النيل لا يجري بنفسه حتى لا يعتقدوا فيه اعتقاداً باطلاً، فإن الاعتقاد الصحيح أن النيل لا يجريه إلا رب النيل جل في علاه. وأيضاً: عمر بن الخطاب كان دائماً يضرب من لا يعتقد في الله الاعتقاد الصحيح، كالذي اعتقد في القدر فإن عمر أخذه وضربه ضرباً مبرحاً حتى قال له: انتهيت انتهيت أي: رجعت إلى صوابي.

تسوية القبور المشرفة وبيان أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع

تسوية القبور المشرفة وبيان أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع وبعث علي بن أبي طالب أبا الهياج الأسدي وقال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تجد قبراً مشرفاً إلا سويته) أي: تسويه بالأرض حتى لا يعتقد في الولي ما يعتقد في الله جل في علاه. وسد الذريعة من الأبواب الصحيحة التي اتخذها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ترى كلاً منهم كان يقتفي أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيما هو شرع وعبادة، فكان عمر يطوف في البيت ويأخذ الحجر ويقبله ويقول: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). لأن البقاع لا تعظم إلا بتعظيم الله جل في علاه، فهو لم يقبل الحجر تعظيماً له، بل تعظيماً لله جل في علاه.

النهي عن استلام الركن الشامي من الكعبة

النهي عن استلام الركن الشامي من الكعبة لا يوجد أحد من الصحابة طاف حول مقام إبراهيم أو قبل مقام إبراهيم أو تمسح بمقام إبراهيم، بل من يفعل ذلك يضرب ويعلَّم أن هذا من أبواب الشرك. ولذلك لما دخل معاوية وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه البيت وابن عباس جالس، فنظر ابن عباس فوجد معاوية يطوف ويمسح الأركان كلها، فقال له ابن عباس: ألا يكفيك أن تمسح بالركنين اليمانيين: الحجر الأسود، والركن اليماني؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، وهذا في مسند أحمد بسند صحيح، فقال له ابن عباس: إن لكم في رسول الله أسوة حسنة، فاستلم ما استلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: صدقت! إن لكم في رسول الله أسوة حسنة. فـ ابن عباس يحرج على معاوية أن يمسح حجراً لم يمسحه النبي صلى الله عليه وسلم؛ وحتى لا يستدعيه ذلك إلى التعظيم، والتعظيم يصل بالإنسان إلى الغلو، والغلو يصل بالإنسان إلى الشرك. وقد اختلف العلماء هل يقبل الركن اليماني أو لا يقبل؟ والصحيح الراجح أنه لا يقبل إلا الحجر الأسود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قبل إلا الحجر الأسود، ونحن ما قبلناه لتعظيمه وإنما قبلناه لتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم له.

النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة

النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تشد الرحال إلى أي مكان في الأرض إلا إلى ثلاثة أماكن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وهذا من باب تعظيم البقاع وأنه لا تستحق بقعة في الأرض التعظيم، لا قبر ولي، ولا قبر غيره إلا المساجد الثلاثة: المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، والمسجد الحرام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). ولذلك كان ابن عمر يشد الرحال إلى بيت المقدس، فيدخل فيصلي ولا يشرب شربة من ماء، ثم يخرج قاصداً المدينة عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته لا يخرجه إلا الصلاة في بيت المقدس رجع كيوم ولدته أمه).

التحذير من التصوير

التحذير من التصوير فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع التصوير حسماً للمادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن المصور سيعظم، وأن الذي سيعظم سيغالى فيه، وإن غالى فيه القوم فإنهم سيعبدونه من دون الله جل في علاه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المصورين) وقد ذكرت أن أصل الشرك في الأمم السابقة هو الغلو في الصالحين، وسبيله إلى ذلك هو التصوير، فقد صنعوا تماثيل للصالحين صوروهم بها كود وسواع ويغوث وغيرهم. فكانت التصاوير سبيلاً للغلو فيهم، ثم بعد ذلك وصلوا إلى أن أشركوا بهم مع الله جل في علاه، وسواء الصور الفوتغرافية أو غير الفوتغيرافية، والخوف منها لأسباب كثيرة منها: شرك الغلو والتعظيم، فأنت عندما تصور رجلاً تعلق هذه الصورة في بيتك فإنك ستصل بالتعليق إلى التعظيم، وإن وصلت إلى التعظيم وصلت إلى الغلو وكانت ذريعة إلى الشرك. وحسماً لهذه المادة منع الله من التصوير على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المصورين) وهذه اللعنة معناها الطرد من رحمة الله جل في علاه. وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالمصور يوم القيامة فيؤمر بالنفخ في الصور بالروح وليس بنافخ)، لأنه يضاهي خلق الله بما فعل، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم هذه المادة، وحسم الصحابة ذلك بأنهم منعوا التصاوير والتماثيل. ومن حسم المادة وسد الذريعة أن كل صحابي منع أن يعلو قبره في وصيته، كما أوصى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. وقد اختلف العلماء في زيارة القبور هل هي مكروهة أم مستحبة أم هي مباحة؟ وهذا الذي سنعرفه لاحقاً إن شاء الله تعالى. ثم الكلام على القسم بالأنبياء على الله، هل يصح أو لا؟ وأنها أيضاً: وسيلة للشرك بالله جل في علاه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أقسام زيارة القبور وأحكامها

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - أقسام زيارة القبور وأحكامها زيارة القبور مشروعة للرجال، أما النساء فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كبيراً، ولكل فريق دليله، والراجح التحريم، وهناك زيارات بدعية للقبور وزيارات شركية يجب تجنبها.

أقسام زيارة القبور

أقسام زيارة القبور الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن أهل الإيمان يغلقون كل باب يصل بهم إلى الشرك والعياذ بالله، وأما أهل الأوثان فإنهم يفتحون كل باب يصل بهم إلى الشرك والعياذ بالله. ومن أعظم الأبواب الموصلة إلى الشرك في هذه الأمة الغلو في أصحاب القبور، ثم الغلو في القبور، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو في سكرات الموت: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن هذا). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). ومنع زيارة القبور ثم أباحها بعد ذلك عندما وجد أن الله قد أتم التوحيد للناس، فإذا عادت الذرائع فنحن نمنع من الزيارة، فزيارة القبور على ثلاثة أنواع: زيارة شرعية. وزيارة بدعية. وزيارة شركية.

الزيارة الشرعية للقبور

الزيارة الشرعية للقبور أما الزيارة الشرعية فهي التي كان قد منعها النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الاعتقاد في المقبور، كما كان أهل الجاهلية يعتقدون في بعض الأموات، كالذي كان يلت السويق للحجيج، وكما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، واتخذوا صنمه إلهاً يعبدونه من دون الله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحسم هذا الأمر في أول الإسلام، ثم بعد ذلك أباح لهم زيارة القبور وبين العلة فقال: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة أو تذكر بالموت). فيرق القلب وتدمع العين عند زيارة القبور، ولذلك أفسح النبي صلى الله عليه وسلم المجال لمن يزور القبور وهو معتقد الاعتقاد السديد بأن المقبور لا ينفع ولا يضر. ومن العلل أيضاً انتفاع الرجل المؤمن بالله جل في علاه وانتفاع الميت، أما انتفاع الموحد وذلك بأنه سيدخل إلى المقبرة فيؤدي حق الله وحق المقبور، أما تأدية حق الله فإنه عندما يذهب إلى المقبرة يعلم أن الموت بيد الله، وأن الله هو الآخر سبحانه وتعالى، وأن الله هو مكون الكون، ثم يرفع يديه ويدعو الله جل في علاه بالإحسان إلى أخيه، فيفوز بالتوحيد ويفوز بالإحسان إلى أخيه، ويرجع ذلك إليه لقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فينتفع المقبور بدعاء هذا الحي، والحي أيضاً يتذكر ويتدبر بأنه نازل إلى هذا القبر كما نزل صاحبه.

حكم زيارة القبور للنساء، وأقوال العلماء في ذلك

حكم زيارة القبور للنساء، وأقوال العلماء في ذلك هل الزيارة الشرعية عامة للنساء والرجال، أم خاصة بالرجال فقط؟ وهذا معترك قوي جداً بين العلماء، فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً شديداً: فالقول الأول: هو أن زيارة القبور خاصة للرجال محرمة على النساء، وهذا القول تبناه بعض الشافعية وبعض الحنابلة، وهو ترجيح لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وأدلتهم في ذلك كثيرة منها: حديث الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) وهذا الحديث فيه ضعف، فـ أبو صالح مولى أم هانئ راوي هذا الحديث عن ابن عباس رجل ضعيف اتفقوا على ضعفه، فالحديث ضعيف لكن يستدلون به. ووجه الدلالة من التحريم اللعن، فإنه لا يطرد أحد من رحمة الله إلا وقد فعل محرماً بل كبيرة، ومن العلماء من ضبط الكبائر بأنها ما رتب على فعلها لعن. الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) وهذا الحديث صحيح وليس فيه ضعف، فقد اتفق المخالف والموافق على صحة هذا الحديث. لكن هذا الحديث وجه الدلالة منه ضعيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله زوارات القبور) وهذه صيغة مبالغة وصيغة المبالغة فيها دلالة على التكرار، يعني: أن المرأة لو ذهبت مرة أو مرتين فليس في ذلك شيء، لكن إذا استمرت على زيارة القبور فهي ملعونة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور). لكن بعض الشافعية ضبطه لغة فقال: زوارات القبور بالضم بمعنى زائرات، وبهذا يعضد الحديث الأول. الدليل الثالث: حديث أم عطية قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز)، وجه الدلالة في هذا الحديث أن الأصل في النهي التحريم، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتباع الجنائز فمن باب أولى أن يمنع زيارة القبور، فهذه فيها دلالة من باب القياس الجلي أو من باب أولى. القول الثاني: قالوا بالكراهة: والفرق بين القول الأول والقول الثاني هو أن أصحاب القول الأول يؤثمون من زار، وأصحاب القول الثاني لا يؤثمون من زار، وعلى هذا عامة الشافعية والحنابلة. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فقالوا: إن قولها: (لم يعزم علينا) صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة. القول الثالث: يقولون بجواز زيارة القبور للنساء: واستدلوا بأدلة من السنة والكتاب أيضاً، فمنها أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح مر بامرأة على قبر وهي تبكي ولدها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني إنك لم تصب مصيبتي. فتركها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: أما علمتِ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذهبت إليه تعتذر فلم يقبل عذرها وقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى). ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهاها عن زيارة القبور، فلما لم ينهها عن ذلك دل على الجواز. واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والحديث في الصحيح والسنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ليلتها فانسل فذهب إلى البقيع فارتدت ثيابها وخرجت خلف النبي صلى الله عليه وسلم مسرعة، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل البقيع يرفع يديه ويدعو الله جل في علاه، فاستدار النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدارت، فأسرعت وأسرع النبي صلى الله عليه وسلم خلفها، حتى دخل خلفها صلى الله عليه وسلم فقال: أنتِ السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم يا رسول الله قال: أخفت أن يحيف عليك الله ورسوله؟ ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إني خشيت أن تذهب إلى زوجة من زوجاتك، فقال: إنه جاءني جبريل فقال: يأمرك ربك أن تذهب إلى أهل البقيع فتدعو لهم. فقالت: يا رسول الله ماذا أقول إذا أتيت القبور؟ قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أتاكم ما توعدون وإنا بكم إن شاء الله للاحقون) إلى آخر الروايات. الأمر الثاني: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها زارت قبر أخيها، وهذا فعل صحابي. والثالث: أن فاطمة كانت تزور قبر حمزة كل جمعة. القول الرابع: استحباب زيارة القبور للنساء: وهذا دليله من الأثر ومن النظر، أما الأثر فقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني كنت قد منعتكم من زيارة القبور ألا فزوروها) وهذا أمر، وهذا الأمر أقل أحواله أن يكون على الاستحباب، فالأمر أصلاً للوجوب إلا أن يصرفه صارف وقد ورد الصارف. الثاني من النظر: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين العلة، فقال: (فإنها تذكركم الآخرة) وهذا عام للرجال والنساء، وعليه فيستحب للمرأة أيضاً أن تذهب إلى القبر حتى تتذكر الموت وتتذكر الآخرة، فتكون من اللائي يسارعن في طاعة الله جل في علاه.

القول الراجح في حكم زيارة النساء للمقابر

القول الراجح في حكم زيارة النساء للمقابر والصحيح الراجح في ذلك تحريم زيارة القبور للنساء للأدلة الظاهرة جداً في التحريم: أولها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور). فأنا أقول: وإن كانت الصيغة صيغة مبالغة وأن التكرار هو الذي يدخلها في اللعن فإن ابتداء الذهاب ذريعة للتكرار والوسائل لها أحكام المقاصد، فلا بد أن تمنع من الأول. والدليل الأوضح من ذلك والأصرح هو حديث أم عطية قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) وظاهر النهي التحريم، ولا يحتاج تحريم النبي إلى تأكيد، فإذا قال لك النبي: لا تفعل، فعليك أن تقول: سمعت وأطعت وهذا حرام لا أفعله، فهذا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نهينا) يعني: لا تفعلن ولا تذهبن، فهذه دلالة واضحة من أم عطية على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور. الدليل الثالث: من النظر، وهو أن هناك مفاسد عظيمة عند ذهاب المرأة إلى القبور، فإن ذهاب المرأة إلى القبور يؤدي إلى فتنة الرجال، فينظرون إلى عينها، ووجهها، ويدها، أو ينظرون لبكاء المرأة، فيفتنون بها، وفي هذا مصادمة لمقاصد الشريعة. الأمر الثاني: أنها لو ذهبت فلن تتذكر الآخرة، بل لن تصبر على أقدار الله، وستتسخط على أقدار الله. وهذا الغالب في النساء، فالضعف فيهن معروف، ويظهر ذلك جلياً في قصة المرأة التي قالت للنبي: (إليك عني)، فهي وإن كانت لا تعرفه لكنها لم تقبل النصيحة، فهو يقول لها: (اتقي الله واصبري) وهي ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره. فالنساء الأصل فيهن الضعف، فيغلب على عقولهن التسخط على أقدار الله جل في علاه وينطقن بكلمات الكفر إذا ذهبن، وفي هذا أيضاً مصادمة لمقاصد الشريعة. الثالث: أنه لا فائدة من ذهابها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن الاتباع، فالنهي عن الزيارة أشد وأقوى. فهذه كلها أدلة تثبت أن الأقرب إلى الصواب هو تحريم زيارة المرأة للقبور.

الرد على المخالفين

الرد على المخالفين أما الرد على المخالفين في ذلك فنقول: أولاً: الذين قالوا بالكراهة قالوا بحديث: (نهينا ولم يعزم علينا) فنقول: نهي النبي لا يحتاج إلى تأكيد، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذهبي أو لا تتبعي فلا يحتاج أن يؤكد ذلك، ولا صارف هنا عن النهي إلى الكراهة، بل يبقى على أصله وهو التحريم. وأما الرد على الذين يقولون بالجواز، فإنهم استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي فلم ينهها. فنقول: الإجابة على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (اتقي الله) وتقوى الله فعل المأمور وترك المحظور، وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز ولعن من زارت القبور، فتقوى الله لا تكمل إلا بالانتهاء عن زيارة القبور التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون إجمالاً قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة عن زيارة القبور بقوله: (اتقي الله). الوجه الثاني: أن هناك مفسدتين: مفسدة الزيارة، ومفسدة خروج المرأة عن شعورها بشق الجيوب ولطم الخدود والتسخط على أقدار الله، فإذا تزاحما قدم أشدهما نكارة. فالنبي وجد المرأة عند القبر فعلت أمرين محظورين الأول: أنها زارت القبر، والثاني: أنها تبكي وتتسخط على أقدار الله جل في علاه، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الأهم على المهم وقال: (اتقي الله واصبري) يعني: لا تتسخطي، (إنما الصبر عند الصدمة الأولى). وإن قلنا بأنه لم ينه فهذه واقعة عين، ووقائع الأعيان لا تعمم، فلعله تركها لأنه لو نهاها عن زيارة القبور بعد أن قال لها: (اتقي الله واصبري) أن تسب أو تخرج عن شعورها فتتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق. واستشهدوا بحديث عائشة وأنها قالت: (ماذا أقول لهم؟) ففيه دلالة أنه لما علمها الدعاء أنها تزور، وهذه دلالة ليست أيضاً بقوية؛ إذ إننا نقول: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها إذا مرت بالقبور أن تقول هذا الدعاء، وليس بلازم أن نقول إنها تزور فتقول هذا الدعاء. وهناك دليل على أن الإنسان لو مر على المقابر ولم يدخل إليها أن يقول هذا الدعاء، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم بقبور المشركين فقولوا: أبشروا بما يسوءكم، ستجرون على وجوهكم وبطونكم إلى نار جهنم) فهذا فيه دلالة على أنك إذا تكلمت بهذا الكلام وأنت مار فسوف يسمع أصحاب القبور ما تكلمت به، إذاً هذا الحديث يحتمل أنه للمرور ويحتمل أنه للزيارة، وقد جاءت الأدلة تمنع الاحتمال الثاني، فيبقى الاحتمال الأول وهو المرور. أما دليلهم الثالث وهو زيارة عائشة لقبر أخيها، فالرد عليه: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما سافرت قاصدة قبر أخيها، وقد جاء في بعض الروايات -وإن كان فيها ضعف- أنها قالت: لو شهدته ما زرته، يعني: لو شهدت موته وصليت عليه مثلاً ودعوت له ما ذهبت إلى قبره. فيحتمل أنها ذهبت من لوعة الأسى الذي في قلبها من أجله لأجل أن تصلي عليه أو ذهبت تدعو له. وإن لم يرض المخالفون بهذا الرد فنقول: فعلت عائشة هذا، وفعل عائشة يصادم قول النبي، والحجة كل الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما حديث فاطمة وأنها كانت تذهب كل جمعة فهو حديث ضعيف لا حجة فيه. فإذاً: لا يبقى لهم حجة يحتجون بها. والذين قالوا بالاستحباب قالوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها). فنقول: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) هذا اللفظ نقل النووي قال: هذا اللفظ خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء بالاتفاق. لكن لمعترض أن يقول: هذا تغليب للرجال ويمكن أن يدخل تحته النساء لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (النساء شقائق الرجال في الأحكام) فهذا ظاهر جداً في أنهن يدخلن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزوروها). فنقول: نعم، يدخلن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزوروها)، لكن جاء المانع الذي يمنع دخولهن وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور)، وأيضاً قول أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز).

حكم صلاة المرأة على الجنازة

حكم صلاة المرأة على الجنازة فإذا قلنا بأن هذا هو الراجح وأن الأدلة الأخرى كلها أدلة محتملة، فإننا نقول: هل للمرأة أن تصلي على الجنازة إن منعت من الإتباع ومنعت من الزيارة؟ A نعم، لها أن تصلي وقد ورد عن الصحابة الكرام وعن نساء الصحابة أنهن كن يصلين على الأموات. فللمرأة أن تدخل المسجد قبل أن يصلي الرجال فتصلي على الميت، أو تكون المرأة في آخر المسجد أو في مكان مستور فتصلي بصلاة الإمام على الجنازة. فلهن الصلاة وليس لهن الزيارة واتباع الجنائز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم بالتصريح: (لعن الله زوارات القبور)، ولموافقة مقاصد الشريعة؛ لأن المرأة ضعيفة العقل والقلب، فإذا ذهبت وقعت في كل المحظورات من شق الجيوب، ولطم الخدود، والتسخط على أقدار الله جل في علاه. وهذا واقع نعيشه، وقد رأيت امرأة دخلت المقبرة وأبوها سيدفن فنظرت إلى السماء ففعلت فعلة كفرت بها في لحظتها ولو ماتت لدخلت النار خالدة مخلدة، فليس فيها حجة ولا شيء -والعياذ بالله- وهذه المرأة مسلمة، فانظروا كيف تفعل، فالمرأة لا يمكن أن تتمالك نفسها خاصة إذا وجدت الرعاع والجاهلات اللاتي يثرن الشغب في القبور، فهذه مصادمة صريحة لمقاصد الشريعة، وفيها إظهار بأن زيارة القبور للمرأة لا تصح ولا تجوز.

الزيارة البدعية للقبور وصورها

الزيارة البدعية للقبور وصورها النوع الثاني من الزيارة: الزيارة البدعية: والزيارة البدعية أصلها مشروع وهيئتها محدثة، فالأصل في زيارة القبور أن يرق فيها القلب، وتدمع بها العين، ويتذكر الموت والآخرة فهذه مشروعة، لكن يأتي أحدهم بهيئة مستحدثة مبتدعة كأن يشد الرحل إلى المقبور لزيارته، كالذين يذهبون إلى البدوي أو إلى أبي العباس، أو إلى أبي الدرداء، فهذا كله يعتبر من البدع المنكرات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فلا يمكن أن تعظم بقعة من بقاع الأرض لأحد فيها ولا لشيء فيها إلا ثلاثة مساجد: المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، ومسجد الكعبة. وأيضاً من المستحدثات: أن يدخل المرء إلى هذا القبر لبنائه وتعليته، ناهيك عن الكتابات التي تحدث كالمغفور والمرحوم المتصدق وغير ذلك من التفاخر المعلوم، فهذا أيضاً من البدع. وإيقاد السرج على القبور من المحدثات التي تجعل الزيارة بدعية. من هذه أيضاً: أن يذهب المرء للمقبور ليستغفر لهذا الزائر الذي يدخل عليه، كما يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! استغفر لي ربي، أو استغفر لي ربك. فهذه من الزيارة البدعية أو الشركية؛ لأنها مخالفة لفعل النبي والصحابة والسلف ولا دليل عليها. لكن أبى علينا الذين يفعلون ذلك وقالوا: عندنا أدلة من الكتاب ومن الأثر: أولاً: قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] فهذه الآية فيها دلالة على ما نريد، ووجه الدلالة من هذه الآية أنها على العموم سواء كان حياً أو ميتاً. ويرد عليهم في هذا بأن نقول: هناك فارق في اللغة بين إذ وإذا، فإذا ظرف زمان للمستقبل، أما إذ فظرف زمان للماضي، فقول الله جل في علاه: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) يعني في الماضي، وقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)) يعني: حال حياته؛ لأن إذ ظرف زمان للماضي، ويكون معنى الآية: لغفر الله لهم. واستدلوا من الأثر بأن الأعرابي الذي جاء للنبي في قبره وقال: يا رسول الله، إني أقرأ الآيات: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ)) ثم قال: يا رسول الله، استغفر لي الله. فكان هناك من ينام عند قبر النبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه في المنام فقال: (اذهب إلى هذا الأعرابي فقل له: قد غفر الله لك)، واحتجوا بهذه القصة. فنقول لهم: أحكام الشرع لا تناط بحال من الأحوال بهذه الرؤيا المنامية، بل أحكام الشرع تناط بقال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن أن الصحابة لم يفعلوا ذلك، والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لم يفعلوا ذلك. فثبت أن هذه التوسلات أو هذه الاستدلالات كلها باطلة، وأن هذه الزيارة بدعية، وأن الذي يذهب إلى رسول الله مدعياً حياة النبي نقول له: حياة النبي حياة برزخية لا تقاس على الحياة الدنيوية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه شيئاً حتى يملك لك شيئاً فيستغفر لك الله جل في علاه. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لأمته أن يذهبوا إلى قبره بعد مماته فيطلبوا منه الاستغفار لهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فلما لم يفعلوا دل ذلك على أنه ليس بمشروع.

الزيارة الشركية وصورها

الزيارة الشركية وصورها والزيارة الشركية هي أن يقصد بالرحلة إلى القبور الاستغاثة بالمقبور أو دعائه، فيصرف عبادة محضة لله لغير الله، بأن يسجد لهذا المقبور أو يستغيث به، أو يقول: اعف عني، اغفر لي، اشفني، ارزقني، أعطني، امنحني، أغثني. فكل هذه عبادات تصرف لله، فيصرفها لغير الله، فتكون هذه زيارة شركية. أو يحج لهذا المقبور؛ لأن الحج هو السفر قاصداً تعظيم البقعة التي سيسافر إليها، فالذين يسافرون إلى البدوي فهذا يعتبر حجاً للبدوي وتعظيماً لمكانه، فهذه زيارة شركية، ناهيك عن الطواف الذي يحدث. فالطواف بالقبر أيضاً من الشرك الأكبر، فلذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الطواف بالقبر بدعة. والدليل على أن الطواف بالقبر شرك أكبر هو أن الطواف بالكعبة عبادة، فإن كان هو عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، وهذه الزيارة الشركية تخرج من الملة، ولا بد أن يحفظ الإنسان جناب التوحيد، ويبعد عن أي مسجد فيه قبر أو فيه معظم غير الله وغير رسوله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - الشفاعة الشفاعة حق كامل لله سبحانه وتعالى، فلا أحد يشفع عنده إلا إذا وجد معه ركنا الشفاعة، فإن للشفاعة عند الله ركنين لا يمكن لأحد أن يشفع عنده إذا لم يتوافر هذان الركنان معه: الركن الأول: أن يرضى رب العالمين عن المشفوع له، فلا يمكن أن تكون الشفاعة في أهل الشرك والكافرين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عنهم. الركن الثاني: الإذن للشافع، فلا يشفع أحد عند الله سبحانه وتعالى إلا بإذنه.

تعريف الشفاعة لغة واصطلاحا

تعريف الشفاعة لغةً واصطلاحاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. نتكلم في هذا الدرس عن الشفاعة، فنقول: الشفاعة لغةً: مأخوذة من الشفع، وهو جعل الواحد اثنين، وضد الشفع هو الوتر. والشفاعة شرعاً أو اصطلاحاً: هي الواسطة أو التوسط للغير عند معظم؛ لجلب خير للمشفوع له، أو دفع ضر عنه.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف قبل أن أتكلم على الشفاعة أقول: إن صاحب القرن قد التقم القرن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التقم صاحب القرن القرن، وأصغى ليؤذن له)، فإذا نفخ النفخة الأولى، صعق جميع الناس، وإذا نفخ في الصور النفخة الثانية فإذا الناس قيام ينظرون. وكلهم يحشرون على أرض غير هذه الأرض وسماء غير هذه السماء، ويحشر الناس حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، ويبلغ العطش منهم مبلغه، ويشتد عليهم الكرب. وعائشة رضي الله عنها اندهشت عندما سمعت هذه الأوصاف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضنا إلى بعض، فقال: يا ابنة الصديق، الأمر أشد من ذلك). أي: أن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، فيبدأ العرق يتصبب من الناس، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. فيشتد الأمر عليهم، كما وصف الله جل في علاه ذلك الموقف فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. سكارى يتخبطون يقولون: ألا تدعون ربنا يكشف عنا هذه الكربة؟ ألا تشعرون بما نحن فيه من كرب شديد؟! فيجتمع رأيهم على أن يستشفعوا عند الله، ثم يقولون: من هو الذي يشفع لنا عند الله؟ فيذكرون آدم عليه السلام ويقولون: آدم عبد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم، أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغ بنا من الكرب، فاشفع لنا عند ربك؛ ليخفف عنا ويفصل بيننا؟ فيقول آدم: أنا لست لها، لكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسل إلى الأرض. فيذهبون إلى نوح عليه السلام، فيقول: لست لها، ويذكر خطيئته، لكن اذهبوا إلى إبراهيم أبي الأنبياء. فيذهبون إلى إبراهيم فيحيلهم على موسى، وموسى يحيلهم على عيسى، وكل نبي يقول: لست لها لست لها، اذهبوا إلى فلان، ثم يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا لها، أنا لها، فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى تحت العرش فيسجد، وهذا هو المقام المحمود؛ تكرمة من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم على رءوس الخلائق، أن الله جل في علاه لا يقبل أحداً يشفع لفصل القضاء بين الناس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم. فيأتي صلى الله عليه وسلم، فيخر ساجداً فيعلمه الله محامد يثني عليه بها، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، فعند ذلك يرفع رأسه صلى الله عليه وسلم ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يأتي لفصل القضاء بين العباد. ويأتي الله جل في علاه فيفصل بين العباد، وأول من يفصل الله جل في علاه بينهم الأمة الإسلامية. ثم يضرب الجسر على متن جهنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والجسر: هو الصراط الذي يعبرون عليه إلى الجنة فمنهم من يجتازه كطرفة عين، ومنهم من يهوي في جهنم والعياذ بالله. وهو أدق من الشعرة وأحد من السيف، فيه كلاليب -أي: خطاطيف- تخطف الناس، هذه الكلاليب وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كشوك السعدان، وهي إذا أخذت بيد أحد أو برجله، فلن يفلت منها، بل لا بد أن تنزل به إلى نار جهنم والعياذ بالله. وفي هذا الموقف العظيم لا أحد من الناس يتكلم إلا الرسل، يقولون: (اللهم سلم سلم)، هذه مقولة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وأولي العزم من الرسل. ويصف النبي صلى الله عليه وسلم عبور الناس على الصراط، فالمؤمنون الخلص الذين أطاعوا ربهم وأدوا الفرائض، وانتهوا عن المحرمات، فإنهم يمرون كطرفة عين، وكأجاويد الخيل، وكالريح المرسلة. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أول أمة يعبرون الصراط هي الأمة الإسلامية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وأمتي أول من يجيز الصراط) والحمد لله على أن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فمنهم من يجتاز الصراط كطرفة عين، ومنهم من يجتازه كالريح المرسلة، ومنهم من يجتازه كأجاويد الخيل، وكالطير، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، وآخر هذه الأمة عبوراً على الصراط هو من يحبو على الصراط، ومنهم المكردس، ومنهم الذي تخطفه الكلاليب، ومنهم الذي يخدش لكن ينجو بفضل الله عليه. وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] حيث قال: هو المرور على الصراط. إذاً: يأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع في الخلائق الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي وعده ربه جل وعلا.

معنى كون الشفاعة كلها لله جل وعلا

معنى كون الشفاعة كلها لله جل وعلا هناك أصل مهم في موضوع الشفاعة يجب أن يعلم، وهو: أن الشفاعة كلها لله جل في علاه، كما قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]. فالأصل أن الشفاعة كلها لله جل في علاه، فإذا كانت الشفاعة لله جل في علاه، فإنه لن يأذن الله سبحانه وتعالى لأحد أن يشفع إلا بالشروط التي بينها الله جل في علاه، ولا يمكن لأحد أن يشفع دون إذن من الله جل في علاه؛ للفارق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لك أن تشفع عنده دون أن تستأذنه لو كان لك الحظوة عنده ولك المكانة.

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة والشفاعة شفاعتان: شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية.

الشفاعة المنفية

الشفاعة المنفية الشفاعة المنفية: هي الشفاعة لأهل الشرك، لا يمكن أن يقبل الله الشفاعة لأهل الشرك، والأدلة على ذلك كثيرة وجلية من الكتاب والسنة. أما من الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فنفى جميع أنواع الشفاعة، سواء لأهل الشرك أو لغيرهم، ولكن المقصود هنا نفي الشفاعة للكافرين وأهل الشرك، لأن هذا مجمل سيفسر بعد ذلك بآيات أخر أنه لا شفاعة للكافرين، فلا يمكن أن تعمم الآية على الكافرين والمؤمنين. وأيضاً قول الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:47 - 48]، فقوله تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)) دل على عدم قبول الشفاعة، وهذا أيضاً متعلق بالشفاعة للكافرين، ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]. وأيضاً: قول الله على لسانهم وهم في النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] أعوذ بالله من غضب الله. إذاً: الشفاعة المنفية هي الشفاعة لأهل الشرك، فلا يمكن أن يقبل الله جل في علاه شفاعة لأهل الشرك. وأما كون إبراهيم سيأتي يوم القيامة ليشفع في أبيه، فنقول: إنه سيتبرأ منه، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، فهذا ظاهر في أن إبراهيم عليه السلام لا يمكن أن يشفع في أبيه.

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى أما الشفاعة المثبتة، فإنها تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: شفاعة خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إكراماً له من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أكرم الخلق على الله جل في علاه، وهذه الشفاعة على ثلاثة أنواع: النوع الأول: الشفاعة في أهل الموقف، وهذه خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس عندما يشتد عليهم الكرب فيذهبون إلى كل نبي يقول كل نبي لست لها لست لها، حتى يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يسجد تحت العرش، فيقال له: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع. فهذا هو المقام المحمود وهي الشفاعة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم تكرمة له من الله.

الشفاعة في فتح باب الجنة

الشفاعة في فتح باب الجنة النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بأن يدخلوها، أي: في فتح باب الجنة. وهذه الشفاعة تبين لنا كيف أن الإنسان لا يمكن أن يرضي ربه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقبله الله إلا إذا أتى خلف النبي صلى الله عليه وسلم مقتفياً أثره، فحتى بعدما قضى الله بين العباد وبعدما قضى لأهل الجنة بالجنة، ولأهل النار بالنار، إلا أن أهل الجنة لا يمكن أن يدخلوها ويكمل التمتع فيها إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي على باب الجنة فيشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فيقول الملك: من؟ فيقول: محمد، فيقول: نعم، بك أمرت ألا أفتح إلا لك)، فلا يدخل أحد الجنة حتى يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لأهلها أن يدخلوها. نسأل الله أن يشفعه فينا.

الشفاعة لأبي طالب

الشفاعة لأبي طالب النوع الثالث من الشفاعة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم: شفاعته لعمه الكافر أبي طالب: مع أن الله نفى الشفاعة عن الكفار، بل ونهى عن الشفاعة للكافرين إلا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في ذات مرة جاءه العباس فقال: (ماذا فعلت لعمك، كان ينافح عنك ويناصرك؟ فقال: لولا أنا -يعني: لولا شفاعتي- لكان في الدرك الأسفل من النار)، فإنه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في ضحضاح من النار، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يلبس نعلين من نار يغلي بهما دماغه). فهذه شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى هذه الشفاعة لم يقبلها الله كاملة؛ لأنها في أهل الشرك، فهي مستثناة هنا، وتكون في التخفيف عنه من العذاب وليس في العفو بالكلية. إذاً: الشفاعة في الأنواع الثلاثة الأولى اتفق العلماء عليها، إلا بعض المتصوفة الذين أنكروا أصالة أن يكون أبو طالب في النار، لكن سبقت كلمة أهل السنة والجماعة على الأقسام الثلاثة في الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة في عدم دخول النار

الشفاعة في عدم دخول النار أما الأقسام الثلاثة التي ستأتي فما أنكرها إلا المعتزلة والخوارج، وهي التي يشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وهي كالآتي: الشفاعة الأولى: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر الذين استحقوا النار ألا يدخلوا النار: بمعنى: أن الذين فعلوا الكبائر وغلبت سيئاتهم حسناتهم، وقد قضى الله أنهم من أهل النار، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم، ويأتي المؤمنون فيشفعون فيهم، ويأتي الأنبياء والمرسلون فيشفعون فيهم، فيقبل الله هذه الشفاعة فلا يدخلهم النار. هذه شفاعة عظيمة جداً في أهل الكبائر، والدليل العام على هذه المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وكانت له دعوة مستجابة، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي) فيدخل تحتها العصاة ويدخل تحتها الأبرار. أيضاً يستدل لها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ما من رجل يصلي عليه أربعون إلا شفعهم الله فيه). وجه الدلالة من هذا الحديث قوله: (إلا شفعهم الله فيه) أي: أنهم يشفعون لهذا الرجل ويقبل الله شفاعتهم له.

الشفاعة في رفع الدرجات

الشفاعة في رفع الدرجات الشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أناس جعل الله لهم منزلة في الجنة، أن تكون لهم منزلة أرقى وأعلى من هذه المنزلة، كرجل منحه الله منزلة عليا، وأبوه في منزلة دنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع ليصل هذا الأب إلى منزلة الابن. ويمكن أن يستدل لهذه الشفاعة بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] وهذه الشفاعة متفق عليها أيضاً.

الشفاعة في الخروج من النار

الشفاعة في الخروج من النار الشفاعة الأخيرة: الشفاعة في أناس من أهل الكبائر، غلبت سيئاتهم حسناتهم ودخلوا النار، مع أنهم موحدون لكن استحقوا دخول النار لذنوبهم، فصاروا فحماً، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة، والمؤمنون فيشفعون في هؤلاء فيخرجون من النار ثم يدخلون الجنة. حيث يأمر الله جل في علاه الملائكة أن تأخذهم فتلقي كل واحد منهم في نهر الحياة، فيحيا ثم يدخل الجنة بهذه الشفاعة. هذه الشفاعة اتفق أهل السنة والجماعة على أنها حاصلة للنبي صلى الله عليه وسلم وللأنبياء والملائكة والمؤمنين، غير أن المعتزلة والخوارج أنكروا هذه الشفاعة. والذي اشتهر في إنكار هذه الشفاعة هو مصطفى محمود، وهذا نتيجة لفكر الاعتزال، فإن المعتزلة يرون أن صاحب الكبيرة لا يمكن أن يخرج من النار، بل هو خالد مخلد في النار؛ لأن تأصيل الإيمان عند المعتزلة والخوارج تأصيل واحد، لكن يفترقان في الاسم، فالمعتزلة يقولون: صاحب الكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين، لا نقول مؤمن ولا نقول كافر، أما الخوارج فقالوا: صاحب الكبيرة كافر خارج عن الملة، فلا يصلون عليه ولا يقبر في مقابر المسلمين، ولا يمكن أن يشفع له أحد؛ لأنه يعتبر خالداً مخلداً في نار جهنم، والعياذ بالله. والمعتزلة أيضاً: نتيجتهم مثل هذه فإنهم يقولون: هو في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، أما في الآخرة فهو خالد مخلد في نار جهنم، والعياذ بالله. فهؤلاء أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر؛ لأنهم لو أقروا بها لهدمت الأصول التي بنوها على فاعل الكبيرة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد وهم قد أخرجوهم من دائرة أهل التوحيد بضلال منهم. إذاً: هذه الشفاعة الأخيرة يشترك فيها الأنبياء والمرسلون والملائكة والمؤمنون، والدليل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، يقول الله جل في علاه: (شفع النبيون وشفعت الملائكة وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط). نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الشفاعة، وأن يؤهلنا لشفاعة نبينا فينا.

النذر والحلف بغير الله

عبادات أهل الإسلام والإيمان وأهل الشرك والنفاق - النذر والحلف بغير الله لقد عظم الله عز وجل من شأن الأيمان، وجعل الحلف بغيره دليلاً على ضعف الإيمان وعدم توقير الله، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الحلف بغير الله وجعله شركاً، فلا يجوز للمسلم أن يحلف بغير الله تعالى.

حكم النذر

حكم النذر

النذر عبادة

النذر عبادة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة الكرام! نذكر مسألة تختص بالنذر، هل النذر عبادة أو ليس بعبادة؟ A نعم النذر عبادة. وهنا لسنا بصدد الكلام على النذر، لكن أريد مسألة متعلقة بسد الذرائع التي بيناها قبل ذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم سد ذريعة الشرك، وكذلك عمر، وأبو بكر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سدوا تلك الذريعة. وعلى كلٍّ فالدليل على أن النذر عبادة قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران:35]. ووجه الدلالة في الآية أنها لما نذرت طلبت من الله القبول، وقالت: ((فَتَقَبَّلْ مِنِّي)) فكان جوابها القبول، كما قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37]، وهذه الدلالة قوية جداً على أن النذر عبادة؛ وذلك أن الله لما تقبل منها النذر دل على أن النذر مقبول عند الله فهو عبادة. والدليل الآخر على أن النذر عبادة قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرا} [الإنسان:7]. وجه الدلالة أن سياق الآية يدل على المدح لهؤلاء، والمدح دلالة على محبة الله لهذا الفعل، وما أحبه الله فهو من العبادة.

حكم نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من القبور

حكم نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من القبور أقول: من نذر أن يزور قبر النبي أو قبر إبراهيم، أو قبر موسى فهل يفي بنذره أم لا؟ A لا. وسيأتي بيان ذلك. وهذه مسألة متعلقة بسد الذرائع، وهي هل يجوز السفر أو النذر بزيارة قبر رسول الله أو لا؟ قبل الجواب أقول: لو أن امرأة نذرت وقالت: نذرت لله إن شفى مريضي لأزورن قبر، أو قالت: لأوزرن قبر إبراهيم، فهل هذا النذر يجب الوفاء به أم لا وقد قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] فيجب على الإنسان إذا نذر نذراً أن يفي به؟ الجواب عما سبق: أنها إذا نذرت أن تذهب إلى المدينة، أو زيارة المدينة صح لها ذلك، أما إذا نذرت زيارة القبر فننظر إلى محل هذا النذر هل هو طاعة أم هو معصية؟ وعندي تأصيل علمي أصله لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر الله أن يعصي الله فلا يعصه). والجواب: أن ذلك النذر بشد الرحل لزيارة القبر معصية، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، إذاً: لا تشد الرحال إلى قبر، ولا إلى مكان يعظم إلا ثلاثة مساجد. فنقول: لو نذر الزيارة للقبر فقط دون المسجد فهذا قد عصى الله ورسوله، وقد وقع في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لشد الرحال إلى غير الثلاثة المساجد، فتكون معصية، فإن كانت معصية، فهو في الجانب الآخر: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). فهذه لا يجوز لها السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، سداً لذريعة الشرك؛ لأن النذر بالذهاب إلى قبر النبي فيه غلو في النبي وتعظيم له صلى الله عليه وسلم فوق قدره، وقد يصل به إلى الربوبية والألوهية كما بينا ذلك مراراً. فهذه المسألة من أشهر المسائل، وجمهور الفقهاء يقولون: يجوز النذر بالسفر إلى المدينة، فهل يشمل هذا الأمر زيارة القبر أم لا؟ إذاً فجمهور الفقهاء قالوا: يجوز أن ينذروا ذلك وواجب عليهم الوفاء بهذا النذر، فنوجه قول الجمهور بتفصيل، وهو أن نقول: إن نذر أن يذهب إلى المدينة ليزور مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وهو ذهب إلى المدينة لزيارة المسجد الحرام. أما إذا نذر أن يذهب إلى المدينة ليزور قباء، أو يزور البقيع، أو يزور شهداء أحد، أو يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنقول له: لا تف بنذرك، بل يحرم عليك.

كفارة نذر المعصية

كفارة نذر المعصية اختلف الفقهاء فيمن نذر المعصية هل عليه كفارة في هذا النذر أم لا؟ فجمهور العلماء يرون أنه لا كفارة عليه؛ لأن معصية الله جل في علاه لا يفي الإنسان بها ولا يطالب بالوفاء بها. وقال الحنابلة: إن عليه الكفارة، يعني: من نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه كفارة يمين؛ لأنهم أنزلوا النذر منزلة اليمين، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وكفارته كفارة يمين). ولكن هذه مجملة، فهل كفارة اليمين هنا على النذر الذي هو طاعة ولم يستطع أن يفيَ به أم هي أيضاً في نذر المعصية؟ فقول الجمهور قوي جداً، وإن كان ظاهر الحديث مع الحنابلة، لكن الجمهور عندهم وقائع أحوال ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة أو جاءه رجل فقال: إن أمي نذرت أن تمشي إلى الحج، فقال: (لتمش وتركب)، ولم يأمرها أن تكفر عن نذرها. وأيضاً الرجل الذي قام في الشمس وكان صائماً ولا يتكلم فقال: (مروه فليتكلم وليستظل)، ولم يأمره بكفارة اليمين. فهذه فيها دلالة على أن الكفارة لا تصاحب النذر في المعصية؛ لأن الرجل وقف في الشمس وضر نفسه فهذه معصية، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستظل. وأيضاً: لما قام الرجل ساكتاً فهذه معصية؛ فأمره ألا يفعل ذلك، وهذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة واضحة في وقت البيان أنه لا كفارة، فنقول: إن هذه الأحوال صرفت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكفارته كفارة يمين) من الوجوب إلى الاستحباب، فيستحب أن يكفر ولا يجب ذلك عليه. فالذي نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد نذر نذر معصية، فلا وفاء عليه، ويستحب له أن يكفر عن ذلك كفارة يمين تنزيلاً للنذر منزلة اليمين، وذلك بأن يطعم عشرة مساكين، فإن لم يكن من أصحاب المال فعليه أن يصوم ثلاثة أيام متتابعات وهو الأفضل أو يصومهن متفرقات، وهذه هي المسألة الأولى.

الحلف بغير الله تعالى

الحلف بغير الله تعالى المسألة الثانية التي تعرض لها شيخ الإسلام ابن تيمية: الحلف بغير الله، وهذه المسألة مسألة عظيمة، وينقسم الحلف إلى قسمين: قسم للخالق، وقسم للمخلوق.

لله تعالى أن يحلف بما شاء

لله تعالى أن يحلف بما شاء أما قسم الخالق: فيجوز أن يقسم الله جل في علاه بما شاء من خلقه؛ لأن خلق الله دلالة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فقد أقسم الله بالسماء وبالنجوم، وأقسم بالأنبياء وأقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق:1 - 2]. وقال الله جل في علاه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]. وأيضاً: أقسم الله جل وعلا بيوم القيامة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]. وأيضاً: أقسم بالشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4]. وأقسم الله جل في علاه بالجبل فقال: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]. وأقسم الله جل في علاه بعمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم الله بعمر أحد من أنبيائه إلا بعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. أقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً لعمره؛ لأن الدنيا كلها أشرقت بشمس الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فالله جل في علاه يقسم بما شاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. وأما القسم من المخلوق: فحرم الله عليه أن يقسم بأحد غير الله جل في علاه.

تعريف القسم لغة وشرعا

تعريف القسم لغة وشرعاً القسم معناه: التعظيم للمقسم به على شيء يؤكده صاحبه. والقسم شرعاً: تأكيد الحكم بذكر المعظم على وجه مخصوص، أو توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص. ويكون القسم بالباء أو التاء أو الواو؛ لأن حروف القسم أن تقول: بالله وتالله ووالله. فالقسم إذا كان تعريفه توكيد الحكم بذكر معظم فلا معظم فوق عظمة الرب جل في علاه، فعلى المرء أن يعظم الله في يمينه.

حكم القسم بغير الله تعالى

حكم القسم بغير الله تعالى القسم بغير الله شرك، وهذا الشرك هل هو شرك أكبر أو شرك أصغر؟ هذا الذي سنبينه. إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن القسم بغير الله شرك، فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). وفي رواية: (من حلف بغير الله فقد كفر)، هذه رواية الحاكم أو غيره. وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال له: (من كان حالفاً فليحف بالله). أو قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله)؛ ولذلك عمر قال: والله ما ذكرت ذلك آثراً ولا ذاكراً. وكان عمر يحلف بأبيه، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك تعظيماً للآباء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم زاجراً عمر: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله). وقول عمر (منذ أن قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ما حلفت بغير الله ذاكراً ولا آثراً) أي: لم يذكر أنه أقسم بغير الله جل في علاه. ولا آثراً: يعني لم يؤثر عن غيره القسم، يعني: ما حكى عن غيره أنه كان يقول: واللات والعزى، وذلك لتعظيم منزلة القسم. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: لأن أحلف بالله كاذباً خير لي من أن أحلف بغير الله صادقاً. لأن الحلف بالله كاذباً يعتبر معصية كبيرة، ولكن الحلف بغير الله يعتبر شركاً، فهذا الشرك أكبر من الكبيرة، مع أن الحلف بالله كاذباً معصية ليست بالهينة. وكان ابن عباس يفسر قول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] قال: يقول أحدهم: وحياتي وحياتك. وهذا فيه دلالة على أن القسم بغير الله من الشرك، والشرك أعظم من الكبائر، والقسم بغير الله هل هو شرك أكبر أم شرك أصغر؟ القاعدة عند العلماء: أنه إذا جاء الشرك أو الكفر تنكيراً لا تعريفاً فهذه تدل على أنه شرك أصغر، وهذا في الأصل إلا أن يدل الدليل على أنه من الشرك الأكبر. وإذا جاء معرفاً وقع على الشرك الأكبر ما لم تدل القرينة على أنه من الشرك الأصغر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء والكفر أو الشرك ترك الصلاة) فهنا الكفر أو الشرك جاء معرفاً، فيكون الأصل فيه هو الكفر الأكبر والشرك الأكبر. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر)، فهو منكر، فالأصل فيه أنه كفر أصغر، وهذا هو الراجح الصحيح، أن القسم بغير الله شرك أصغر.

الدلالة على أن القسم بغير الله شرك أصغر

الدلالة على أن القسم بغير الله شرك أصغر هناك دلالات تبين أنالحلف بغير الله شرك أصغر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له كفارة، والشرك الأكبر ليس له كفارة إلا أن يتوب منه ويعود إلى الإسلام؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وأصله في الصحيح: (من قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق، ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)، كفارة ذلك أن يقول: لا إله إلا الله. كذلك القسم بغير الله ذريعة للشرك الأكبر؛ لأنه وسيلة إلى تعظيم المحلوف به، فيكون شركاً أكبر إذا اعتقد في المقسم به ما لا يعتقد إلا في الله، كغلاة الصوفية الذين يظهر فيهم التعظيم لغير الله جل في علاه، فإذا قلت لأحدهم: احلف بالله على مسألة كذا حلف بالله كأنه لا يخشى الله، وكأنه لا يعتقد بأن الله قادر على أن يصرف لسانه، أو أن يقطع دابره، أو أن يؤذيه في نفسه إن حلف بالله كاذباً. ثم إذا قيل له: احلف بـ البدوي على هذه المسألة ارتجفت وارتعدت فرائصه ولم يفعل ذلك، كأنه يعتقد بأن البدوي يقدر أن يضره بقسمه به كذباً. فهذه فيها دلالة واضحة أنه اعتقد في البدوي ما لا يعتقد إلا في الله، فينتقل من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، ويكون الظاهر منه مرتبطاً بالباطن؛ لأنه إذا فعل ذلك دل بفعله الظاهر أنه لم يعظم الله في الباطن، فأخذناه بالظاهر وبالباطن. إذاً: الشرك أو القسم بغير الله شرك أكبر، وشرك أصغر، فالأصل فيه: أنه شرك أصغر لا يجوز بحال من الأحوال، والعارض: أن قد يكون شركاً أكبر، وهذا بالدلالة والقرائن. إذا قلنا بذلك: فهناك إشكال لا بد من حله، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الأعرابي فقال: (يا محمد! آلله بعثك؟ قال: الله بعثني. قال: آلله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة) إلى آخر هذا الحديث إلى أن قال: (والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق). والواو هذه واو القسم، فما هو حل هذا الإشكال: (أفلح وأبيه)، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)؟ الإشكال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجل بطعام من رقية شرعية قال: (كل فلعمري لمن أكل برقية باطل فلقد أكلت برقية حق)، الشاهد قوله: (فلعمري)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقسم هنا بعمره، والقسم بالحياة حرام؛ لأننا قلنا: إن ابن عباس يقول في قوله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] هو الذي يقول: وحياتي وحياة أمي وحياة أبي، فهذا كله لا يجوز، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلعمري) فأقسم بعمره فكيف الإجابة على هذه الإشكالات؟ نترك هذين الإشكالين إلى درس قادم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1