شرح كتاب سيبويه

السيرافي، أبو سعيد

[مقدمة المحقق]

المقدمة لقد مدح أبو عثمان الجاحظ أنواع العلوم، ومنها علم النحو، حيث سئل عنه، فقال: " يبسط من العي اللسان، ويجزي من حصر البيان، وبه يسلم من هجنة اللحن وتخريف القول، وهو آلة لصواب المنطق، وتسديد لكلام العرب (¬1). ومن هنا كانت المكانة الرفيعة التي حظي بها كتاب سيبويه، أو (أبو النحو العربي) كما يطلقون عليه، الذي يعتبر تصنيفه (الكتاب) أشهر كتاب في النحو، فكان جديرا بالتربع- دون منازع- على قمة علم النحو، إذ أن مكانة سيبويه وأهميته ترجع إلى أنه أول من سجل قواعد النحو العربي، وأرسى أسس معالمه واتجاهاته. وقد اقتضت الأمانة العلمية أن نذكر فضل المستشرق الفرنسي (هرتويج دبرنبورج) على كتاب سيبويه، حيث نشره في العام 1881، أي قبل أن تظهر طبعة بولاق بمصر بعشرين عاما، وذلك في ألف صفحة مع مقدمة وحواش في مجلدين، مع ترجمته إلى الفرنسية (¬2). ومن هذه المكانة الرفيعة التي اعتلاها (الكتاب) استمد (شرح أبي سعيد السيرافي) شهرته وتفرده بالصيت دون سائر الشروح التي تعرضت للكتاب؛ لأنه أقدم شرح وصل إلى أيدينا، فكان محور اهتمام الباحثين والدارسين في الشرق والغرب على السواء. ولعل المستشرق الألماني (يان) من أسبق الذين نشروا مقتطفات من (شرح السيرافي)، عند ما نقل كتاب سيبويه إلى اللغة الألمانية .. وهي ذات المقتطفات التي استعانت بها مطبعة بولاق بمصر عند ما نشرت كتاب ¬

_ (¬1) كتاب الحكم والأمثال، لأبي أحمد العسكري. (¬2) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، د. الطناحي.

السيرافي

سيبويه، فكانت- بحق- إشراقة فجر التعريف ب (السيرافي) في البيئة العربية اللغوية، حيث اطلع القراء على بعض من شروحه للكتاب عند ما تداولته الأيدي من مطبعة بولاق. ومع هذه المبادرة المبكرة التي كنا نأمل أن تكون فاتحة للمزيد، إلا أن (شرح السيرافي) لم يحظ بوضوح النهار الذي بدأ فجره الألماني (يان) فاستمرت النسخ المخطوطة لشرح السيرافي حبيسة الأسر والظلمات عشرات السنين، إلى أن تنبهت إليه الأوساط البحثية في الثلث الأخير من القرن العشرين.!! إلى أن شاءت المقادير أن نتعرض- مرة أخرى- بعد هذه الصحوة المتأخرة، لنعيد قراءة (شرح السيرافي) ندلو بدلونا في هذا المضمار مسترشدين بمحاولات من سبقونا، آملين أن نضيف بعضا مما نراه يسهم في اقتراب النص إلى الكمال، ولله الكمال وحده، وهي غاية البحث والتحقيق أن يصلا بالنص إلى الصورة التامة التي قصدها المؤلف. السيرافي: ترجمت له كتب التراجم والطبقات، ولكن أقدم هذه التراجم، ما ورد في كتاب (الفهرست) لابن النديم الذي ألفه عام 377 هـ، حيث يقول: " قال الشيخ أبو أحمد، أمده الله: أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان، وأصله من فارس، مولده ب (سيراف)، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين من عمره، ومضى إلى عمان وتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف، ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة ولقي محمد بن عمر الصيمري المتكلم، وكان يقدّمه ويفضله على جميع أصحابه، وكان فقيها على مذاهب العلماء العراقيين، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم الجانبين، وكان الكرخي الفقيه يقدمه ويفضله، وعقد له حلقة يفتي فيها، ومولده قبل التسعين، وتوفي في رجب لليلتين خلتا من سنة ثمان وستين وثلاث مائة " (¬1). وكتب التراجم والطبقات- على رحابتها- التي ذكرت السيرافي قد تراوحت بين أمرين من حياة الرجل: ¬

_ (¬1) كتاب الفهرست، لابن النديم، طبعة فليجل.

السيرافي العالم

فمنها ما اهتم بذكر المصنفات والمؤلفات، كما هو مستفاد من كتاب (ابن النديم) الفهرست، ومنها ما اهتم بذكر حياته الإنسانية والعلمية، كما أخبرنا (البغدادي) المتوفى (464 هـ) في كتابه: تاريخ بغداد. ثم أن ما تلا هذين المصنفين من كتب التراجم والطبقات، قد اقتفى آثارهما واعتمد عليهما في ثبت المعلومات، عن حياة السيرافي وتاريخه العلمي. نذكر منها: - كتاب الأنساب للسمعاني (ت 562 هـ). - نزهة الألباء، لابن الأنباري (ت 577 هـ). - إرشاد الأريب، لياقوت الحموي (ت 620 هـ). ويعتبر إرشاد الأريب من أهم المصادر المتأخرة التي اعتنت بحياة السيرافي. ثم توالت المؤلفات والمصادر التي تعني بتراجم الأعلام، وهي على تواترها- أي المؤلفات والمصادر- لا ترقى إلى مرتبة كتابي: الفهرست، لابن النديم، وتاريخ بغداد، للبغدادي. السيرافي العالم: السيرافي، نسبة إلى مكان ميلاده (سيراف) وهي مدينة من مدن بلاد فارس حيث تربطها علاقات تجارية مع بلاد الهند بحكم موقعها الجغرافي، الواقع جنوبا من بلاد فارس. وقد أتاحت له نشأته أن يتقن الفارسية، لغة قومه وعشيرته، واللغة العربية، التي كانت- إذا صح التعبير- لغة المراسم والدواوين، فضلا عن كونها لسان التخاطب بين سائر الناس من سكان البلاد. وكان السيرافي قد أتمّ بعضا من معارفه وعلومه اليسيرة في مدينته (سيراف) حيث إنها لم تكن بيئة علمية، وإنما كانت- كما ذكرنا- مركزا للتجارة والمال. ثم انصرف عن (سيراف) مسقط رأسه قبيل بلوغه عامه العشرين من عمره قاصدا بلاد (عمان) لدراسة علوم الفقه، ثم ارتحل إلى (عسكر مكرم) حيث انتظم في حلقات الصّيمري المعتزلي، المتوفى سنة 315 هـ، فكان السيرافي نابغة الحلقة وفارسها الذي يشار إليه بالبنان. ونظرا لأن بغداد- حاضرة حواضر الدنيا- كانت ذاخرة بالمعارف والعلوم

شيوخه

والعلماء، فأحبّ أبو سعيد أن يسبح في موجات معارفها وعلومها، إذ كانت بغداد مطمح العلماء ومقصد المتعلمين وقبلتهم. فوصل السيرافي إلى بغداد لينهل من روافدها، التي صنعت منه- فيما بعد- لغويّا عالما بأسرار العربية، فذاع صيته حتى أفاء الله عليه بوضع شرحه المستفيض لكتاب الكتب (الكتاب) لإمام النحويين سيبويه، الذي كان محور الدراسات اللغوية وعمدتها في بغداد، ثم طارت شهرة السيرافي وملأت الفضاء على رحابته، فعرف كمدرس وقاض. ولكنهما- كمهنة- لم يكفياه مؤنة العيش، فقد كان زاهدا لا يعتاش إلا من كدّ يده، فكان يعتمد على مهنة النسخ حيث ينسخ في اليوم بعض وريقات تكفيه دراهمها المعدودات متطلبات الحياة فحسب، فقد كان يرى- وهو الزاهد- ضرورة التدريس بدون مقابل، كما كان يرفض أجره عن عمله كقاض؛ لأن نشر العدالة، ورد المظالم، وإعادة الحقوق يجب أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، هكذا كانت حياته وفلسفته ورسالته، ولعلها كانت سمة من سمات السلف؛ لأن التاريخ العربي الإسلامي حافل بالأعلام الذين لم يتقاضوا أجرا مقابل التدريس والقضاء ... ! شيوخه: - أبو بكر محمد بن السري، المعروف ب (ابن السرّاج). - أبو بكر محمد بن علي، المعروف ب (مبرمان). - أبو بكر بن دريد. - أبو بكر بن مجاهد (عالم القراءات). - الصيمري المعتزلي. تلاميذه: - إبراهيم بن علي إسحاق الفارسي. - أحمد بن بكر العبدي. - إسماعيل بن حماد الجوهري. (ت 313 هـ). صاحب معجم الصحاح. - أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزبيدي الأندلسي. - أبو حيان التوحيدي. (ت 414 هـ). - الحسين بن محمد بن جعفر. (ت 388 هـ).

مؤلفاته

- ابن خالويه، اللغوي. (ت 370 هـ). - عبد الله بن الرقاق. (ت 387 هـ). - عبد الواحد بن رزمه. - عبيد الله بن أحمد العراري. (ت 382 هـ). - علي عبد الله السمعي. (ت 415 هـ). - علي بن عبيد بن الرقاق. (ت 345 هـ). - علي بن عيسى الربعي، النحوي. (ت 420 هـ). - علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار. (ت 323 هـ). - محمد بن أحمد بن عمر الحلال. - محمد بن محمد بن عباد. (ت 334 هـ). - معز الدولة ابن بويه. مؤلفاته: 1 - شرح شواهد سيبويه. 2 - كتاب ألفات الوصل والقطع. 3 - كتاب أخبار النحويين البصريين. 4 - كتاب الوقف والابتداء. 5 - كتاب صنعة الشعر والبلاغة. 6 - الإقناع في النحو. 7 - شرح مقصورة ابن دريد. 8 - المدخل إلى سيبويه.

هذا باب «علم ما الكلم من العربية»

بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو سعيد: قال سيبويه: هذا باب «علم ما الكلم من العربية» هذا موضوع كتابه الذي نقله عنه أصحابه، ويسأل في ذلك عن أشياء: فأولها: أن يقال: إلام أشار سيبويه بقوله: " هذا ". والإشارة بها تقع إلى حاضر؟ فالجواب عن ذلك أنه يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون أشار إلى ما في نفسه من العلم، وذلك حاضر، كما يقول القائل: " قد نفعنا علمك هذا الذي تبثه، وكلامك هذا الذي تتكلم به ". والثاني: أن يكون أشار إلى متوقّع قد عرف وانتظر وقوعه في أقرب الأوقات إليه. فجعله كالكائن الحاضر تقريبا لأمره، كقوله: " هذا الشتاء مقبل ". و " هذا الخليفة قادم "، ومثله قول الله عز وجل: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (¬1). والثالث: أن يكون وضع كلمة الإشارة غير مشير بها؛ ليشير بها عند الحاجة. والفراغ من المشار إليه. كقولك: " هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب " وإنما وضع ليشهدوا وما شهدوا بعد. وأما " علم " فمصدر، إما أن يكون مصدر أن تعلم أو أن يعلم، لأن المصادر العاملة عمل الأفعال تقدر بأن الخفيفة والفعل بعدها. فإذا قدّر " علم " بأن تعلم، كان الكلام على " ما " من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون استفهاما، فإذا كانت كذلك كان لفظها رفعا، لو تبين الإعراب فيه، ويكون ارتفاعه بالابتداء، ويكون " الكلم " خبره، أو يكون " الكلم " الابتداء، و " ما " خبر مقدمة، ويكون موضع الجملة التي هي ابتداء وخبر نصبا، ويكشف هذا المعنى لك أنك لو جعلت مكانها " أيّا " لقلت " هذا باب علم أي شيء الكلم من العربية، فترفع " أيّ " ويكون موضعها مع الكلم نصبا، لأنك أردت: هذا باب أن تعلم. فإذا لم تكن استفهاما قلت: هذا باب علم مسألتك، وتبين الإعراب فيه؛ لأنه ليس باستفهام يمتنع عمل ما قبله فيه، وإنما لم يعلم ما قبل " أيّ " و " ما " والأسماء التي يستفهم بها فيها، من قبل أن هذه الأسماء المستفهم بها نائبة عن ألف الاستفهام، متضمنة لمعناها، ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، آية 43.

وليس بجائز أن يعمل ما قبل ألف الاستفهام فيما بعده؛ لأن حرف الاستفهام يقع صدر الكلام، كما تقع " ما " النافية، و " إنّ " المؤكدة، والحروف الداخلة على الجمل لها صدور الكلام. والوجه الثاني من وجوه " ما " أن تكون بمعنى " الذي " ويكون صلتها هو " الكلم " و " هو " محذوفة، وحذفها جائز، كأنك قلت: هذا باب علم الذي هو الكلم " من العربية "، والدليل على جواز حذفها قول الله تعالى في قراءة بعضهم ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (¬1) يريد الذي هو أحسن. وكما قرأ بعضهم: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها (¬2) أراد ما هو بعوضة وكما قرأ بعضهم: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (¬3) أراد أيهم هو. بمعنى: الذي هو. وحكى " الخليل " (¬4): " ما أنا بالذي قائل لك شيئا " أراد: بالذي هو قائل لك شيئا. والوجه الثالث: أن تكون " ما " صلة، ويكون دخولها كخروجها في تغيير إعراب غيرها، إلا أنها تؤكد المعنى الذي تدخل فيه، فيكون اللفظ: هذا باب علم، ما الكلم من العربية. وإذا كان " علم " مصدر " أن يعلم " كان الكلام فيه كالكلام في " أن تعلم " إلا في موضعين: أحدهما: موضع " ما " إذا جعلناه منصوبا هناك جعلناه مرفوعا هاهنا. والوجه الثاني: إذا جعلنا " ما " صلة هناك، فنصبنا الكلم رفعناه هاهنا. ويجوز إضافة " علم " وترك التنوين منها، و " ما " محتملة لوجوهها الثلاثة، فإذا كانت استفهاما، كان لفظها رفعا على ما قلنا آنفا وموضعها بما بعدها خفضا، وإذا كانت بمعنى " الذي " كانت مخفوضة بالإضافة، وصلتها على ما وصفنا، وإذا كانت صلة كان " الكلم " خفضا، ولفظه: هذا باب علم ما الكلم من العربية. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية 154. (¬2) سورة البقرة، آية 26. (¬3) سورة مريم، آية 69. (¬4) الخليل بن أحمد، أبو عبد الرحمن البصري، أخذ عنه سيبويه وهو واضع علم العروض. توفي سنة 160 هـ، وقيل: 170 هـ. نزهة الألباء: 45.

وفي صحة إضافة " علم " إلى " ما " - وهي استفهام- نظر؛ لأنه يجوز أن يفرق بين وقوع الخافض على الاستفهام، وبين وقوع الناصب، وذلك أن الناصب قد يعلّق ويبطل عمله؛ ألا ترى أنّا نقول: قد علمت " أزيد في الدار أم عمرو " و " علمت أيهم في الدار "، " وأتيت أيهم في الدار "، ولا نقول: " أنبئت بأيّهم في الدار، وأنبئت أيهم في الدار ". ويجوز تنوين " الباب "؛ فإذا نوّن جاز في " العلم " الرفع والنصب، فإذا نصبت فعلى التمييز، كأنك لما قلت: " هذا باب " احتمل أن يكون بابا من العلم وغيره، كما أنك إذا قلت: " أخذت عشرين " احتمل أن يكون من الدراهم وغيرها، فإذا ذكرت نوعا مما تحتمله نصبته، كذلك إذا ذكرت نوعا مما يحتمل " الباب " نصبته. وإذا رفعته ففيه ثلاثة أوجه مرضيّة: أحدها: أن يكون " هذا " مبتدأ، و " باب " خبره، و " علم " خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت: هذا باب، هذا علم، أو قلت: هذا باب هو علم ما الكلم. والثاني: أن يكون " باب " خبر " هذا "، ويكون " علم " بدلا منه واقعا موقعه، كأنك قلت: هذا " علم " ما الكلم. والثالث: أن يكون " باب " و " علم " جميعا خبرين ل " هذا " كما تقول: " هذا حلو حامض " تريد: قد جمع الطعمين، ومثله قول الشاعر: من يك ذا بت فهذا بتي … مصيّف مقيّظ مشتى تخذته من نعجات ست … سود جعاد من نعاج الدست (¬1) ويجوز هذا بابا علم ما الكلم، فيكون " هذا " مبتدأ، وبابا منصوبا على الحال، والخبر علم، و " بابا " في معنى مبوّبا، والعامل في نصبه ما في هذا من التنبيه والإشارة، كقول الشاعر: أترضى بأنا لم تجف دماؤنا … وهذا عروسا باليمامة خالد (¬2) وأما " الكلم " فقد يسأل السائل فيقول: لم لم يقل: الكلام، أو الكلمات؟ لجواب أن الكلام يقع على القليل والكثير، والواحد والاثنين والجمع، والكلم: جماعة كلمة، كما ¬

_ (¬1) الرجز لرؤبة بن العجاج، انظر ديوانه 189، والدرر اللوامع 1/ 78؛ 2/ 84، والهمع 1/ 108. (¬2) البيت بلا نسبة، انظر تثقيف اللسان 103.

تقول: خلفة وخلف وخربة وخرب، وإنما أراد سيبويه أن يبين الاسم والفعل والحرف، وهي جمع، فأراد أن يعبر عنها بأشكل الألفاظ بها وأشبهها بحقيقتها، ولم يقل " الكلمات "؛ لأنها جمع مثل الكلم. والكلم أخف منها في اللفظ، فاكتفى بالأخف عن الأثقل، إذ لم يكن في أحدهما مزية على الآخر. ووجه ثان: أن الكلم اسم ذات الشيء، والكلام اسم الفعل المصرّف من الكلم، كما أن النعل الملبوسة اسم ذات الملبوس، والانتعال والتنعيل والإنعال، وما أشبهه اسم الفعل المصرّف منها، والفعل قبل ما صرّف منها، فكذلك الكلم قبلما يصرّف منها، وأقدمها في الرتبة اسم الذات، فذكره دون اسم الحدث، والمصدر الذي هو فرع، ولو ذكر الكلام، ما كان معيبا، ولكنه اختار الأفصح الأجود لمعناه الذي أراده. وفي ذكرنا هذا ونحوه، والبحث عنه، مما يدرّب به المتعلم، وينشرح به صدر العالم. وللسائل أن يسأل فيقول: لم قال: " الكلم من العربية "، والكلم أعمّ من العربية، لأنها تشملها والعجمية، وبعض الشيء أقل من جمعه، والذي يتصل بمن هو المبعّض لا البعض، وهو الكثير الذي يذكر منه القليل؟ قيل له: في ذلك جوابان: أحدهما: أنه ذكر " الكلم " التي هي شاملة على جميع موضع الكلام، وأراد بعضها، لأنه رائز سائغ ذكر اللفظ العام وإرادة البعض، ثم بيّن البعض المراد، خشية اللبس، فكأنه لما قال: " ما الكلم " وهو مريد لبعضها خشي ألا يفهم المعنى الذي هو مراده، فقال: " من العربية "، تبيينا لما أراد، وتلخيصا لما قص!، لئلا يبقى للسائل مسألة ولا للطاعن متعلّقا، ومثله قوله عز وجل: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (¬1) لما كان الرجس يقع على الأوثان وغيرها بين الذي أراد بالنهي من ضروب الرجس. والوجه الثاني: أن يكون أراد بالكلم الاسم والفعل والحرف الذي جاء لمعنى، وهو ما ضمنه هذا الباب الذي ترجمه به، وهذه الجملة هي اسم وفعل وحرف، هن بعض العربية؛ لأن العربية جملة وتفصيل، وليست هذه الجملة كل العربية، والدليل على ذلك أنه ليس من أحاط علما بحقيقة الاسم والفعل والحرف أحاط علما بالعربية كلها، والدليل ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية 30.

على هذا التأويل الثاني من قول سيبويه قوله: " هذا باب علم ما الكلم من العربية " ولم يقل: هذا كتاب علم، فقد أنبأك هذا عن صحة ما بينا، فجملة اللفظ في ترجمة هذا الباب: هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا باب علم ما الكلم من العربية. هذا بابا علم ما الكلم من العربية هذا بابا علم ما الكلم من العربية هذا بابا علم ما الكلم من العربية هذا بابا علم ما الكلم من العربية هذا بابا علم ما الكلم من العربية فذلك خمسة عشر لفظا. وأما إدخال الفاء في " الكلم " فلوجهين: أحدهما أن يكون جوابا للتنبيه الذي في قوله: " هذا " لأن التنبيه في معنى انظر وتنبه، فكأنه قال: انظر، فالكلم: اسم وفعل وحرف. والوجه الثاني: أن كل جملة فهي مفيدة معنى ما، وعلى ذلك موضوعها، وقوله: " هذا باب علم ما الكلم " إلى آخر السطر، جملة مفيدة معنى، والجمل كلها يجوز أن تكون أجوبتها بالفاء كقولك: " زيد أبوك فقم إليه " فكأن الفاء في قوله: " فالكلم " جواب الفائدة التي في الترجمة، ودخول الفاء هاهنا كدخولها في الجواب من المجازاة وغيرها. وإن سأل سائل فقال: لم قال: وحرف جاء لمعنى، وقد علمنا أن الأسماء والأفعال جئن لمعان؟

قيل له: إنما أراد: وحرف جاء لمعنى، في الاسم والفعل، وذلك أن الحروف إنما تجيء للتأكيد، كقولك: " إن زيدا أخوك "، وللنفي كقولك: " ما زيد أخاك " و " لم يقم أبوك "، وللعطف كقولنا: " قام زيد وعمرو " ولغير ذلك من المعاني التي تحدث في الأسماء والأفعال، وإنما تجيء الحروف مؤثرة في غيرها بالنفي والإثبات، والجمع والتفريق، وغير ذلك من المعاني. والأسماء والأفعال معانيها في أنفسها، قائمة صحيحة، والدليل على ذلك أنه إذا قيل: ما الإنسان؟ كان الجواب عن ذلك أن يقال: الذي يكون حيّا ناطقا كاتبا، وإذا قيل ما الفرس؟ قال: الذي يكون حيّا له أربع قوائم وصهيل، وغير ذلك من الأوصاف، التي تخص المسمى. وإذا قيل: ما معنى " قام "؟ قيل: وقوع قيام في زمان ماض فعقل معناه في نفسه قبل أن يتجاوز به إلى غيره، وليس كذلك الحروف؛ لأنه إذا قيل ما معنى " من "؟ كان الجواب: أنه يبعّض بها الجزء من الكل، الجزء غير " من " وكذلك الكل، ولم يعقل معنى تحتها غير الجزء والكل، فعلمنا أنها تؤثر في المعاني، ولا يعقل معناها إلا بغيرها. ووجه آخر، وهو أن قوله: وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل. أي جاء لمعنى ذلك المعنى ليس باسم، أي: ليس بدال عليه الاسم، " ولا فعل " أي: بدال عليه الفعل. وفيه جواب آخر، وهو أن حروف المعاني، لما كانت تدخل لتغيير معنى ما تدخل عليه، أو إحداث معنى لم يكن فيه، فإذا انفردت لم تدل على ذلك، صارت بمنزلة الياء والتاء والنون والهمزة، اللاتي يدللن على الاستقبال، والألف التي تدخل في " ضارب " زائدة على حروف " ضرب " وتدل على اسم الفاعل، وحروف المضارعة، وألف ضارب وما يجري مجراه- كبعض حروف ما دخلن عليه، لتغييرها معنى إلى معنى كتغيير حروف المضارعة، وألف " ضارب ". وأما " الاسم " فإن سيبويه لم يحده بحد ينفصل به عن غيره، وينماز من الفعل والحرف، وذكر منه مثالا اكتفى به عن غيره، فقال: " الاسم رجل وفرس ". وإنما اختار هذا؛ لأنه أخف الأسماء الثلاثية، وأخفها ما كان نكرة للجنس، وهذا نحو " رجل وفرس ".

إن سأل سائل عن حد الاسم، فإن الجواب في ذلك أن يقال: كل شيء دل لفظه على معنى غير مقترن بزمان محصّل، من مضىّ أو غيره فهو اسم. فهذا الحد الذي لا يخرج منه اسم البتة، ولا يدخل فيه غير اسم. وتوهم بعض الناس أن " مضرب الشّول "، وما جرى مجراه، قد دل على الضّراب، وعلى الزمان الذي يقع فيه، وأراد بذلك إفساد ما ذكرناه من حد الفعل بدلالته على الحدث والزمان، وقد وهم فيما توهم؛ لأن الذي أردناه من الدلالة على الزمان، هو ما يدل عليه الفعل بلفظه من زمان ماض أو غير ماض، كقولك: " قام، ويقوم " و " مضرب " اسم للزمان الذي يقع فيه الضّراب دون الضرّاب، كقولنا: مشتى ومصيف، وقولك: " أتى مضرب الشول "، و " انقضى مضرب الشول ". كما يقال: جاء وقته، وذهب وقته. ولو كانت الأسماء المشتقة توجب ألا ينفرد المشتق له بالاسم إلا أن ينضم إليه المعنى الذي اشتق منه اللفظ، لكان الزاني يقتضي الرجل والزنى جميعا، وكنا إذا قلنا لعن الله الزاني فقد أدخلنا الزنى معه في اللعن، وهذا بيّن الفساد. وأما الفعل فللسائل أن يسأل فيقول: لم لقّب هذا بالفعل وقد علمنا أن الأشياء كلها أفعال لله تعالى ولخلقه: فالجواب في ذلك أن الفعل في حقيقته ما فعله فاعله فأحدثه، وإنما لقّب النحويون أشياء من ألفاظهم ليرتاض بها المتعلمون ويتناولوها من قرب، وجعلوا لكل شيء مما خالف معناه معنى غيره من الألفاظ التي يحتاجون إلى استعمالها كثيرا لقبا يرجع إليه: لئلا تتسع عليهم الألفاظ، فيدخل الشيء في غير بابه احتياطا، فلقبوا بالفعل كل ما دل لفظه على حدث مقترن بزمان، ماض، أو مستقبل، أو مبهم في الاستقبال والحال، لينماز مما لقبوه بالاسم والحرف. فقال سيبويه: " وأما الفعل فأمثلة ": وقصد إلى هذا الجنس الذي ذكرناه، وقوله: " أمثلة " أراد به: أبنية؛ لأن أبنية الأفعال مختلفة، فمنها على " فعل " نحو " ضرب " ومنها على " فعل " نحو " علم " و " فعل " نحو " ظرف " وغير ذلك من الأبنية، وهي تسعة عشر بناء لما سمّي فاعله، ولا يعد فيها ما يلحق من الثلاثي بالرباعي كبيطر وحوقل وسلقى ونحو ذلك، وإنما بعد الثلاثة غير الملحقة، والرباعية يدخل فيها ما ألحق بها.

وقال: " أخذت من لفظ أحداث الأسماء ". يعني أن هذه الأبنية المختلفة أخذت من المصادر التي تحدثها الأسماء وإنما أراد بالأسماء أصحاب الأسماء وهم الفاعلون. فإن سأل سائل، فقال ما الدليل على أن الأفعال مأخوذة من المصادر؟ قيل له في ذلك ثلاثة أوجه: أولها: أن الفعل دال على مصدر وزمان والمصدر يدل على نفسه فقط، وقد علمنا أن المصدر أحد الشيئين اللذين دل عليهما الفعل وقد صح في الترتيب أن الواحد قبل الاثنين، فقد صح أن المصدر قبل الفعل؛ لأنه أحد الشيئين اللذين دل عليهما الفعل. والوجه الثاني: أن الفعل يصاغ بأمثلة مختلفة، نحو " ضرب ويضرب واضرب " والمصدر في جميع ذلك واحد فصار المصدر هو الذي يصاغ منه أمثلة الفعل المختلفة؛ لأنه واحد يوجد فيها كلّها، ويبين ذلك أن الفضة والذهب وغيرهما، مما يصاغ منه الصور الكثيرة المختلفة أصل للصور لوجوده في كل واحد منها، وكذلك المصدر أصل الأفعال؛ لوجوده في كل واحد من أمثلتها المختلفة. والوجه الثالث: أن الفعل أثقل من الاسم، وهو فرع عليه، من قبل أنه لا يقوم بنفسه، والفرع لا بد له من أصل يؤخذ منه، يكون حكم ذلك الأصل أن يكون قائما بنفسه، غير محتاج إلى سواه، فعلمنا بذلك أن الفعل فرع، ولا أصل له غير المصدر. فإن قال قائل: إذا كان المصدر قد يعتل باعتلال الفعل ويصح بصحته، فهلا دلكم ذلك على أن المصدر فرع على الفعل الذي يعتل باعتلاله ويصح بصحته قيل له في ذلك جوابان: أحدهما: أن الأصل قد يعتل باعتلال الفرع إذا كان كل واحد منهما يؤول إلى الآخر، وينبئ كل واحد منهما على صاحبه؛ ليتسق ولا يختلف؛ من ذلك أنا قد بنينا الفعل المضارع في فعل المؤنث نحو " يضربن " وأشباه ذلك على " ضربن "، وهو فرع؛ لأن المستقبل قبل الماضي. ومنه ما زعم " الفراء "، الذي ينازعنا أصحابه- في هذا الأصل- أن فعل الواحد الماضي فتح لانفتاح فعل الاثنين، والواحد أصل الاثنين، فحمل الأصل على الفرع. والوجه الثاني، أن أصل المصادر التي لا علة فيها ولا زيادة لا يجيء إلا صحيحا، وهو " فعل " نحو " ضربته ضربا " و " وعدته وعدا ". وإنما يجيء معتلا ما لحقته الزيادة، وإنما الكلام في أصول المصادر، لا في فروعها، فتبين ذلك.

فإن قال قائل: إذا كان الفعل يعمل في المصادر، وحكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، فهلا دلّكم ذلك على أن الفعل قبل المصدر؟ قيل له هذا ساقط من وجهين: أحدهما: أنه لا فعل إلا وهو عامل في اسم، ومع هذا فالأسماء قبل الأفعال في الرتبة، لقيامها بأنفسها، واستغنائها عن الأفعال، ولا يعمل اسم في فعل، فلو كان جنس عمل العامل في المعمول فيه في غير ترتيب عمله، يوجب أن يكون العامل قبل المعمول فيه، لوجب أن تكون الأفعال قبل الأسماء، ووجب من ذلك ما هو أقبح من ذلك، وهو أن تكون الحروف قبل الأسماء والأفعال؛ لأنها تكون عاملة في الأسماء والأفعال، ولا يعملان فيها، وهذا محال فاسد؛ لأن الحروف جاءت لمعان في الأسماء والأفعال، ولا يقمن بأنفسهن. والوجه الثاني: أن قولنا: " ضربت ضربا " معناه أوقعت ضربا، وفعلت ضربا كقولك: " قتلت زيدا " أعني من جهة أنهما مفعولان. وإن كان " زيد " موجودا قبل قتلك إياه، والضرب معدوما، قبل إيقاعك إياه: إلا أنك تعرفه وتقصد إليه وتأمر به، فلما كان معناها أوقعت ضربا وقد كان الضرب معقولا مقصودا إليه مذكورا، يصح الأمر به- صح أنه- قبل إيقاعك معلوم، فإذا صح ذلك فهو الفعل. فإن قال قائل: إذا قلنا: " ضربت زيدا ضربا " فالمصدر تأكيد للفعل، وإذا كان تأكيدا له فهو بعده، وما كان بعد الشيء فالأول أصل له، إذ كان الثاني متعلقا به. قيل له: قد قلنا إن معنى ضربت ضربا أوقعت ضربا. وليس في ذلك دليل على أن الفعل قبل الاسم، كما لم يكن في قولك " ضربت زيدا " ما يدل على أن زيدا بعد " ضربت " وكذلك الأسماء كلها. ومما يدل على صحة قولنا في المصدر، اجتماع النحويين على تلقيبه مصدرا، والمصدر المفهوم في اللغة هو الموضع الذي يصدر عنه كقولهم: " مصدر الإبل وموردها " وللموضع الذي تصدر عنه وترده، فعقلنا بذلك أن الفعل قد صدر عن المصدر، حين استوجب بذلك، أن يسمى مصدرا، كما وصفنا في المصدر وبالله التوفيق. وأما قوله: " وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، ولما هو كائن لم ينقطع ". اعلم أن " سيبويه " ومن نحا نحوه يقسم الفعل على ثلاثة أزمنة: ماض ومستقبل

وكائن في وقت النطق وهو الزمان الذي يقال عليه الآن الفاصل بين ما مضى ويمضي. وأما الماضي فإنه يختص مثالا واحدا والحال والمستقبل الذي ليس بأمر يختصان بناء واحدا، إلا أن يدخل عليه حرف يخلص له الاستقبال وهو سوف والسين وأن الخفيفة. إن طعن طاعن في هذا فقال: أخبرونا عن الحال الكائن، أوقع وكان، فيكون موجودا في حيز ما يقال عليه: كان، أم لم يوجد بعد فيكون في حيز ما يقال عليه: " لم يكن "؟ فإن قلتم: هو في حيز ما يقال عليه: لم يكن، فهو مستقبل، وإن كان قد وقع ووجد فهو في حيز الماضي، ولا سبيل إلى ثالث، فدلوا على صحة هذا. فالجواب في ذلك- وبالله التوفيق- أن الماضي هو الذي أتى عليه زمانان: أحدهما: الزمان الذي قد وجد فيه، وزمان ثان يخبر أنه قد وجد وحدث وكان، ونحو ذلك، فالزمان الذي يقال: وجد الفعل فيه وحدث غير زمان وجوده، فكل فعل صح الإخبار عن حدوثه في زمان بعد زمان حدوثه فهو فعل ماض، والفعل المستقبل هو الذي يحدّث عن وجوده، في زمان لم يكن فيه ولا قبله. فقد تحصل لنا الماضي والمستقبل، وبقى قسم ثالث، وهو الفعل الذي يكون زمان الإخبار عن وجوده هو زمان وجوده، وهو الذي قال سيبويه: " وما هو كائن لم ينقطع ". فإن سأل سائل فقال: أي الأفعال أقدم في الرتبة؟ فإن لأصحابه في ذلك قولين، أحدهما: إن المستقبل أول الأفعال، ثم الحال، ثم الماضي، وهذا شيء كان يذهب إليه الزجاج (¬1) وغيره، والحجة فيه أن الأفعال المستقبلة تقع بها العدات، ثم توجد بعد تقدم الميعاد وانتظار الموعود، فيكون حالا، ثم يأتي عليه غير زمان وجوده، فيكون ماضيا. والقول الثاني: إن الحال هو أول الأفعال، ويكون الأقرب إليه في الترتيب المستقبل، وتاليه الماضي. والحجة في ذلك أن الميعاد بما يستقبل لا يصح إلا بما عرف وشوهد، حتى يتصوره الموعود، ويكون على ثقة مما وعد، وإلا فليس وراء العدة معنى يرغب فيه ولا يرهب منه؛ لأن القلب لا يتعلق منه برغبة ولا رهبة، ويكون المستقبل أقرب إلى الحال، من قبل أن المستقبل يجوز مصيره إلى الحال الذي هو أول، والماضي قد بعد، حتى ¬

_ (¬1) أبو إسحق إبراهيم بن السري بن سهل، المعروف ب (الزجاج)، توفي سنة 311 هـ.

لا يجوز مساواته الحال في شيء من الأزمنة. فإن قال قائل: فلم يخصّ الماضي ببناء واحد، لا يشركه فيه غيره، وشورك بين الحال والمستقبل فجعل اللفظ الواحد لفعلين في زمانين؟ فإن الجواب في ذلك: أن الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع، لما شابهت الأسماء وضارعتها في أشياء، شبّهن من بعد بالأسماء وصرفت تصريف الاسم، فجعل اللفظ الواحد لأكثر من معنى، كما أن اللفظ الواحد في الاسم لأكثر من معنى، فمن ذلك أن " العين " عين الإنسان، وعين الركبة، وعين القبلة، وعين الميزان، وعين من عيون الماء وغير ذلك، " والرّجل " رجل الإنسان والرّجل القطعة من الجراد، وأشياء غير ذلك كثيرة من هذا النحو، فجعل ما ضارع من الأفعال الأسماء مضارعة تامة في اللفظ لزمانين. فإن قال قائل: فهلا كان أحد الزمانين الماضي؟ فالجواب في ذلك: أن أول الأفعال يكون إما أن يكون المستقبل وإما أن يكون الحال، على القولين اللذين ذكرنا، فلا بد أن يكون أحد هذين اللفظين اللفظ الذي في أوله الزوائد الأربع، ويكون الآخر أقرب الباقين منه، وكل واحد من المستقبل والحال أقرب إلى صاحبه من الماضي إليه فاعرفه إن شاء الله. وأما قول سيبويه: " وأما ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ". فإن جملة الحروف تجيء لمعان أنا أذكرها. فأولها: للإشراك بين اسمين أو فعلين، وذلك حروف العطف التي تدخل الثاني في إعراب لفظ الأول ومعناه، وهي الواو، والفاء، وثم، وغيرها، كقولك: " قام زيد وعمرو " و " انطلق بكر فخالد "، و " لقيت أخاك ثم أباك ". والثاني: أن تكون لتعيين اسم أو فعل، فأما تعيين الاسم فبالألف واللام، كقولك: الرجل والغلام، وأما تعيين الفعل، فبالسين وسوف، وتكون لنفي الاسم والفعل هو: " ما، ولا، ولن، ولم، وما أجري مجراهن، تقول: ما زيد أخاك، ولا يقوم عبد الله، ولم يقم عمرو، ولن يذهب أخوك. وتجيء لتأكيد الاسم والفعل، فأما تأكيد الاسم، فنحو " إن زيدا أخوك ". وأما تأكيد الفعل فلتقومنّ، ولأنطلقن وتدخل لربط الاسم بالفعل، وإيصال الفعل إلى الاسم، كقولك: " مررت بزيد " وقمت إلى أخيك.

هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية

وتدخل لإخراج الكلام عن الواجب إلى غيره، مثل حروف الاستفهام كقولك: هل زيد قائم؟ وتدخل أيضا لعقد الجملة بالجملة كقولك: " إن يقم أقم " فإن " يقم " جملة، " وأقم " جملة، وانعقدت إحداهما بالأخرى بدخول حرف الشرط. وما لم نذكره فهو يجري مجراه. هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية أما قوله: " مجاري " فإنما أراد به الحركات، حركات أواخر الكلم، والدليل على ذلك قوله: " وهي تجري على ثمانية مجار على النصب والرفع ". فأبدل " النصب والرفع " وما بعدهما من " ثمانية "، والبدل هو المبدل منه في هذا الموضع، وأبدل بإعادة العامل، كما قال الله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (¬1) فأبدل من " الذين " وأعاد اللام. وقوله: " وهي " كناية عن أواخر الكلم، كأنه قال: باب حركات أواخر الكلم، وأواخر الكلم تجري على ثماني حركات. فإن قال قائل: فلم سمى الحركات " مجاري "، وهنّ يجرين، والمجاري يجرى فيهن؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما: أن الحركات- لما كانت أواخر الكلم قد تنتقل من بعضها إلى بعض، كما تنتقل الحركة من حرف إلى حرف- جاز أن يسمّي الحركات مجاري، من حيث تنتقل فيهن أواخر الكلم، وجعل كل واحدة منهن " مجرى "، ثم جمعها على " مجار ". والوجه الثاني: أن يكون " مجرى " في معنى جرى، وهو مصدر، والمصادر قد يلحق أوائلها الميم، كما يقول: " مضرب " في معنى الضرب و " مفر " في معنى الفرار، فكأن واحد المجاري في هذا الوجه " مجرى " في معنى " جري ". فإن قال قائل: فلم جمع، والمصادر لا تجمع؟ قيل له: قد تجمع المصادر إذا كانت مختلفة أو ذهب بها مذهب الخلاف، وقال الله عز وجل: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (¬2) أراد: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية 75. (¬2) سورة الأحزاب، آية 10.

ظنونا مختلفة، ويقال: العلوم والأفهام، في أشباه لذلك كثيرة، فجعل جري كل واحدة من الحركات خلاف جري صواحبها؛ لأن جريها ليس شيئا أكثر منها، وهي مختلفات في ذواتها، فكأنه قال: هذا باب جري أواخر الكلم وهي تعني أواخر الكلم تجري على ثمانية أنحاء من الجري، ثم بين ذلك بما بعده. فإن قال قائل: فقد يروى عن المازني (¬1) أنه غلّط سيبويه في قوله: " على ثمانية مجار "، وزعم أن المبنيات حركات أواخرها كحركات أوائلها؛ وإنما الجري لما يكون مرة في شيء يزول عنه، والمبني لا يزول عن بنائه، وكان ينبغي أن يقول: على أربعة مجار على الرفع والنصب والجر والجزم، ويدع ما سواهن. فالجواب في ذلك- وبالله التوفيق- أن أواخر الكلم لا يوقف على حركاتهن، وإنما تلزمهن الحركات في الدّرج، وليس كذا صدور الكلام وأوساطها فجاز أن تصنف حركات أواخر الكلم من الجري بما لا تصنف به أوائلها وأوساطها؛ لأن حركات الأوائل والأوساط لوازم في الأحوال كلها. ووجه ثان: أن أواخر الكلم هن مواضع التغير، فيجوز إطلاق لفظ المجاري عليهن، وإن كان بعض حركاتهن لازما في حال، ومثل ذلك تسمية " سيبويه " لأواخر الكلم عامة " حروف الإعراب ". وقد علمت أن المبنيات لا يعربن، وإنما سماهن حروف الإعراب لأن الإعراب يكون فيهن إذا أجريت الكلمة. وقوله: " وإنما ذكرت لك ثمانية مجار، لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة، لما يحدث فيه العامل، وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه، وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول " إلى آخر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه لقّب الحركات والسكون هذه الألقاب الثمانية- وإن كانت في الصورة أربعا- ليفرق بين المبني الذي لا يزول، وبين المعرب الذي يزول- وإنما أراد بالمخالفة بين تلقيب ما يزول وما لا يزول إبانة الفرق بينهما؛ لأن في ذلك فائدة جسيمة تقريبا وإيجازا، لأنه متى قال: هذا الاسم مرفوع، أو منصوب، أو ¬

_ (¬1) أبو عثمان بكر بن محمد بن بقية. وقيل: بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني العدوي، من قبيلة بني مازن بن شيبان. توفي سنة 247 هـ. انظر نزهة الألباء 182.

مخفوض، علم بهذا اللفظ أن عاملا عمل فيه يجوز زواله، ودخول عامل آخر يحدث خلاف عمله، فيكتفي " بمرفوع " عن أن تقول هذه ضمة تزول، أو تقول: عمل فيه عامل فرفعه، ففي هذا حكمة وإيجاز فاعرفه؛ فإن كثيرا من النحويين الكوفيين يخالفونه، ويسمون الضمة اللازمة رفعا، وقد عرفتك وجه الحكمة في تسمية هذا رفعا. وقال جماعة من النحويين: غلط سيبويه في قوله " وإنما ذكرت لك ثمانية مجار؛ لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة "، قالوا: من قبل أن ما يدخله ضرب من هذه الأربعة هو حرف، لأن هذه الأربعة أراد بها الحركات والسكون، وما يدخله ضرب منها حرف، لأن الحركات لا تدخل إلا على الحروف، ثم قال: " وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول ". والذي بني عليه الحرف هو الحركة، فكأنه في التمثيل قال: لا فرق بين الحرف والحركة، وهذا بعيد جدّا؛ لأن الفرق واقع بين الحروف والحركات بلا لبس ولا شبهة، ولا يشك في الفرق بينهن أحد، ولا يلتبس عليه، إنما الوجه أن يفرق بين الحركة والحركة، ألا ترى أن قائلا لو قال، لا فرق بين جسم زيد وحركة عمرو، لكان واضعا للفرق في غير موضع الحاجة إليه، وإنما يفرق بين زيد وعمرو أو بين حركة زيد وحركة عمرو. فالجواب في ذلك: أن " سيبويه " إنما أراد: لأفرق بين إعراب ما يدخله ضرب هذه الأربعة وبين الحركة التي يبنى عليها الحرف بناء لا يزول، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها (¬1). وتصحيح اللفظ فإنما ذكرت لك ثمانية مجار، يعني: النصب والجر والرفع والجزم والفتح والضم والكسر والوقف، لأفرق بين حركات ما يدخله ضرب من هذه الضروب الأربعة: يعني بين حركة ما يدخله رفع أو نصب أو جرّ أو جزم، فكأنه قال: لأفرق بين المرفوع والمنصوب والمخفوض والمجزوم، وهو ما يتغير من الكلم بالعوامل التي تثبت مرة وتزول مرة أخرى، وبين ما بني عليه الحرف بناء لا يزول، يعني صيغت عليه الكلمة صياغة لا يزيلها شيء من العوامل المختلفة، نحو: فتحة " أين "، وضمة " حيث "، وكسرة " هؤلاء " ووقف " من " فاعرف ذلك، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية 82.

قال سيبويه " فالنصب والرفع والجزم والجر لحروف الإعراب " إن سأل سائل فقال: ما حروف الإعراب؟ فإن مذهب سيبويه يحتمل وجهين: أحدهما: أن حروف الإعراب ما كان الإعراب فيه ظاهرا أو مقدرا، فالظاهر كقولك: الرجل، والفرس، والغلام، والمقدر نحو قولنا: هذه الرحى والعصا، ورأيت الرحى والعصا. والوجه الآخر: أن حروف الإعراب هي أواخر الكلم، معربة كانت أم غير معربة، وإنما سميت حروف الإعراب لأن الإعراب متى كان لم يوجد إلا فيها، ومثال هذا قولنا: الحروف الزوائد عشرة يجمعها (اليوم تنساه)، والزوائد ما زيد على أصل الكلمة في موضعها مثل قولنا: " كوثر " للرجل الكثير العطية، الواو زائدة لأنه من الكثرة، وليس في الكثرة واو بعد الكاف، و " ضارب " الألف زائدة لأنه مشتق من الضرب، وقد تكون هذه الحروف أصولا غير زائدة، وإنما يراد أن الزوائد منها تكون دون غيرها، فسميت الحروف الزوائد وإن لم تكن زوائد على كل حال، وكذلك سميت أواخر الكلم حروف الإعراب وإن لم تكن معربة على كل حال، لأن الإعراب يكون فيها دون غيرها، ومثل ذلك حروف المد واللين، وهي الواو والياء والألف، وقد يكون بعض هذه الحروف في مواضع لغير المد واللين. وإنما سميت حروف المد واللين؛ لأن المد فيها دون غيرها، وإنما المد لازم في الألف منها وشرط المد في الواو والياء اللتين للمد أن يكونا ساكنين، وقبل الواو ضمة وقبل الياء كسرة، مثل " كافور " و " قنديل ". والواو والباء إذا حركتا فليستا للمد، كقولك غزو وظبي ووحوحته (¬1) ويهيّرى (¬2). وكذلك الكلام في حروف البدل وما جانس ذلك. فإن قال قائل: فإذا كانت حروف الإعراب هي ما ذكرتم، فلم قال سيبويه: فالرفع والنصب والجر والجزم لحروف الإعراب، وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة، كيف خص ذلك من جملة الكلم، وقد زعمتم أن حروف الإعراب للكلم كلها معربها ومبنيها؟ قيل: قد يحتمل ذلك الوجهين اللذين ذكرناهما، فإن حمل الكلام على ¬

_ (¬1) انظر اللسان، مادة (وحح) 3: 470. (¬2) انظر اللسان، مادة (هير) 7: 131.

الوجه الأول- وهو أقواهما- كان ذلك على أن حروف الإعراب ما كان فيه إعراب لفظا أو مقدرا، والمقدر ما كان مستحقا للإعراب ومنه من اللفظ به استثقال اللفظ به، أو تعذره، فالاستثقال نحو: القاضي، ومررت بالقاضي، والتعذر نحو: العصا، والرحى، لأنه يستثقل الضم والكسر في القاضي وتتعذر الحركة في ألف عصا ورحى. وإن حمل كلامه على الوجه الثاني، احتمل ذلك معنيين: أحدهما: أن يكون سيبويه أراد بقوله: " لحروف الإعراب ": لإعراب حروف الإعراب، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقوله: وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة أراد: وإعراب حروف الإعراب للأسماء المتمكنة. والوجه الثاني: أن يكون أراد بقوله: فالرفع والنصب والجر والجزم لحروف الإعراب أي لحروف الإعراب التي فيها الإعراب، ويكون اللفظ عاما والمراد به البعض، كما تقول الناس بنو تميم وأنت تريد بعضهم مجازا واتساعا. وقوله: " وحروف الإعراب للأسماء المتمكنة ". إن سأل سائل فقال: ما الأسماء المتمكنة؟ قيل له: كل اسم مستحق للإعراب فهو متمكن، ثم ينقسم قسمين: قسم مستوف للتمكن كله، وهو ما تعتقب عليه الحركات الثلاث: الضم، والفتح، والكسر، ويدخله التنوين، وقسم ناقص عن هذا وهو ما منع التنوين والخفض فلم يعتقب عليه إلا الرفع والنصب. وكان بعض أصحابنا يسمي الاسم المستوفي للحركات الثلاث، الاسم الأمكن، فيخصه بذلك، ويجعل كل ما استحق الإعراب متمكنا. وقوله: " والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين التي في أوائلها الزوائد الأربع: الهمزة والتاء والنون والياء: مثل أفعل، وتفعل، ونفعل، ويفعل ". والألف التي في " أفعل " هي في الحقيقة همزة؛ لأن الألف لا تكون متحركة في حال، وإنما سمى النحويين الهمزة ألفا لأنها تصور صورة الألف في الخط إذا كانت أوله، والهمزة لا صورة لها، وإنما تصور بصورة غيرها. فإن سأل سائل فقال: كيف صارت هذه الحروف أولى بالأفعال المضارعة من غيرها؟ قيل له: أولى الحروف بالزيادة في أوائل هذه الأفعال حروف المد واللين، وهي

الحروف المأخوذة منها الحركات: الواو، والياء والألف، فأما الألف فلا سبيل إلى جعلها أولا، من قبل أنها لا تكون إلا ساكنة، والأول لا يكون ساكنا؛ فجعل مكانها أقرب الحروف منها، وهي الهمزة، فاجتمع فيها- أعني الهمزة- قربها من الألف، وكثرة وقوعها زائدة أولا، فكانت أولى الحروف بالوضع مكان الألف. وأما الواو فإنها لا تقع زائدة أولا في حكم التصريف، فأبدل منها حرف يبدل من الواو كثيرا، وهو التاء، ومواضع بدلها من الواو كثير، منها قولهم: " تخمة " وهي من الوخامة وتهمة، وتقي، وتراث، واتعد، إذا أردت " افتعل " من الوعد، وقولهم: " تالله " مكان " والله ". واحتاجوا بعد هذه الحروف إلى حرف رابع، فكان أقرب الحروف من حروف المد واللين " النون "؛ وذلك أنها غنة في الخيشوم تجري فيه كما تجري حروف المد واللين في مواضعها، وتكون إعرابا في قولك: تفعلان، ويفعلون، وتفعلين، تكون لضمير جماعة المؤنث في قولك: " قعدن " في مكان " قعدوا "، و " قمن " في مكان " قاموا "، وتبدل منها الألف في الوقف، في قولك: " رأيت زيدا " فجعلوا النون هو الحرف الرابع والله أعلم. قال: " وليس في الأسماء جزم؛ لتمكنها، وإلحاق التنوين بها فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا عليه ذهابه، وذهاب الحركة ". إن سأل سائل فقال: لم دخل التنوين الاسم؟ قيل له من قبل أن الأسماء على ثلاثة أقسام: منها أن تكون على خفتها غير داخل عليها ما ينقلها إلى شبه الفعل، ومنها ما يشبه الأفعال، ومنها ما يشبه الحروف، فوجب أن ترتب على هذه المراتب الثلاث، فنون أخفها ليكون حذف التنوين علامة لما يشبه الفعل عندهم، وحذف الحركة والتنوين، ولزوم طريقة واحدة علامة لما يشبه الحرف. وسنبين كل ما يشبه الحرف في موضعه إن شاء الله. فإن قال قائل: فهلا اقتصروا على الإعراب في الاسم الأخف وسكنوا ما يشبه الفعل؟ قيل له: لو فعلوا ذلك لم يكن فرق بين ما يشبه الفعل أو بين ما يشبه الحرف. فإن قال قائل: فكيف صارت النون أولى بذلك من سائر الحروف؟ قيل له: لأن النون غنه في الخيشوم، وهي أقرب الحروف وأشبهها بحروف المد واللين. فإن قال: فلم لم يدخل الجزم الاسم؟ فإن الذي قال " سيبويه " في ذلك: أنه لو دخل

الجزم الاسم لأبطل الحركة، وإذا أبطل الحركة زال بدخوله التنوين الذي هو لاحق بالاسم. فإن قال: فهلا حذفوا بدخول الجزم التنوين دون الحركة، لأنه أول ما يصادف فحذف، إن صادف حركة حذفها، وإن صادف حرفا ساكنا حذفه؟ قيل له: يمنع من هذا شيئان: أحدهما: أن التنوين لو حذفه الجزم لالتبس ما ينصرف بما لا ينصرف. والوجه الثاني: أن التنوين شيء يصحب الحركات كلها، والعوامل إنما تغير الحركات التي يختلف بها الكلم، والدليل على ذلك أنك تقول: " رأيت زيدا " و " مررت بزيد " " وهذا زيد "، فالتنوين موجود في الأحوال كلها. واختلفت الحركات باختلاف العوامل، فلو جاز دخول الجزم على الاسم لكان لا بد من تأثير في الاسم بإزالة الحركة التي تختلف باختلاف العوامل، ولا يؤثر فيما لا يختلف باختلاف العوامل، وهو التنوين. فإن قال قائل في العلة الأولى: فهلا أذهب الجزم التنوين في المنصرف وحذف الحركة مما لا ينصرف؟ قيل له: لأنه لو فعل ذلك لكان الاسم الذي لا ينصرف في حال دخول الجزم عليه مشبها للمبنى. فإن قال قائل: فقد رأينا الفعل المجزوم يشبه في الصورة الفعل المبني على السكون وهو فعل الأمر- فإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز أن يدخل الجزم في الأسماء المعربة، فيستوي لفظها ولفظ الأسماء المبنية، كما استوى لفظ الأفعال المجزومة، والمبنية على السكون؟ قيل له: بينهما فرق ظاهر واضح، وذلك أن الموضع الذي ينجزم فيه الفعل لا يقع فيه الفعل المبني، والفعل المبني لا يقع في الموضع الذي ينجزم فيه الفعل فإذا كان كل واحد منهما لا يقع في موضع صاحبه لم يضر تشابه لفظيهما، والأسماء المبنية تقع مواقع الأسماء المعربة، فمتى تشابه لفظاهما اختلطا والتبسا. فإن قال قائل: فهلا حذفتم الحركة وحدها، بدخول الجزم، وبقيتم التنوين، ثم حركتم الحرف المجزوم، لالتقاء الساكنين؟ قيل له: هذا يفسد من وجهين: أحدهما: أن التنوين فرع، وإنما أتى به لقوة المتحرك ومزيته على غيره، فإذا دخل

ما يحذف الحركة ويزيلها، كان أولى بحذف التنوين. والوجه الثاني: أنا لو حذفنا الحركة ثم حركنا، لالتقاء الساكنين لعاد لفظه إلى لفظ غير المجزوم فلم يصح الجزم فيه؛ لأنه لا يسلم سكونه، لما يوجبه التنوين من الحركة إذا سكنا، ولم نكن لندخل عاملا على اسم فيحدث فيه ما لا يسلم له أبدا. فإن قال قائل: أليس المجزوم قد يتحرك لالتقاء الساكنين إذا قلت: " لم يقم الرجل "؟ قيل له: بلى، وليست هذه الحركة بموجودة في كل حال، وإنما هي عارضة توجد فيه إذا وليه ما فيه الألف واللام، أو ساكن غير ذلك، ولو فصلت بينهما سلم الجزم، ولم يضطر إلى تحريكه. والتنوين لازم للاسم في أوليته، فلو دخل الجازم وحذف الحركة لم يسلم السكون؛ لما يوجبه التنوين من الحركة فلم يصح دخوله؛ لأنه لا يصح تأثيره في أولية الأسماء. واحتج بعض أصحابنا، وحكى عن " المازني " أنه قال: لم يدخل الأسماء الجزم؛ لأنه لا يكون إلا بعوامل، يمتنع دخولها على الأسماء من جهة المعنى، نحو: " لم " و " لما " و " إن " للمجاز وما جرى مجراهن فاعرف ذلك إن شاء الله. قال سيبويه: " والنصب في المضارع من الأفعال " لن يفعل "، والرفع " سيفعل "، والجزم " لم يفعل " وليس في الأفعال المضارعة جر، كما أنه ليس في الأسماء جزم لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال ". قال أبو سعيد: قد اشتمل هذا الفصل على أشياء محتاجة إلى تفسير وتعليل، فنبدأ منها بشرح إعراب الأفعال المضارعة، وبالله التوفيق. اعلم أن الأفعال كلها حكمها التسكين ووقف الأواخر، من قبل أن العلة التي من أجلها وجب إعراب الأسماء غير موجودة فيها؛ لأن العلة في إعراب الأسماء هي الفصل بين فاعليها ومفعوليها الذين يجوز أن يكونوا فاعلين ولغير ذلك من الفصول لا توجد في الأفعال إلا أن الأفعال، تنقسم ثلاثة أقسام: منها: الفعل المضارع الذي قصدنا إلى إبانة علة إعرابه وقد شابه الأسماء من جهات: منها أنك إذ قلت: " زيد يقوم " فهذا يصلح لأحد زمانين مبهما فيهما، كما أنك إذا قلت: " رأيت رجلا " فهو لواحد من هذا الجنس مبهما فيهم غير متحصل على معين، ثم

يدخل على الفعل المضارع المبهم في الزمانين ما يقصره على أحدهما ويخلصه له كقولك: " زيد سيقوم " و " سوف يقوم " كما أنك إذا أدخلت على الواحد المبهم في جنسه من الأسماء الألف واللام قصراه على واحد بعينه واشتبها بوقوعهما أولا مبهمين وتعينهما بحروف تبينهما. ووجه ثان من المضارعة: وهو أن الفعل المضارع إذا وقع خبرا صلح دخول اللام عليه كقولك " إن زيدا ليذهب " كما صلح دخول اللام على الاسم إذا قلت: " إن زيدا لذاهب ". فإذا كان الخبر فعلا ماضيا امتنع ذلك فيه، لا تقول " إن زيدا لذهب " فلما اشترك الاسم والفعل المضارع في دخول اللام في هذا الموضع وامتنع دخولها على غيره من الأفعال، علمنا أن بين الفعل المضارع والاسم ملابسة غير موجودة لسائر الأفعال. ووجه ثالث: وهو أن الفعل توصف به النكرات كقولك: " مررت برجل يقوم " ويكون خبرا كقولك: " إن زيدا يقوم " و " كان زيد ينطلق " كما يكون ذلك في الاسم إذا قلت: " مررت برجل قائم " " كان زيد منطلقا " فلما وقع موقعه صار مثله في هذا الوجه. فاجتمع للفعل المضارع مشابهة الاسم من هذه الوجوه التي ذكرناها دون غيره من الأفعال ففضل على سائر الأفعال، بأن أعرب، لما بان به من هذه المشاركة للاسم واختص به دون نظائره. هذه ثلاثة أوجه من المضارعة، وبقى وجهان: المساواة في العدة والرتبة، وأن ألف الوصل لا تدخل على المضارع كما دخلت على الماضي والأمر. فإن قال قائل: كيف صار الفعل أولى بالإعراب لمشاركة الأسماء المعربة دون أن تبنى الأسماء التي حقها أن تعرب لمشاركة الأفعال المبنية؟ فإن الجواب في ذلك: أن الأفعال إنما شاركت الأسماء في معان هي للأسماء دونها؛ لأن الأصل في الصفات والأخبار إذا قلت: " مررت برجل يقوم " و " إن زيدا لا يقوم "، هو الاسم، والأفعال داخلة عليه، فلما شابهت الأفعال الأسماء فيما للأسماء دونها، أعطيت ما للأسماء ولم تعط الأسماء ما للأفعال. ووجه آخر: وهو أنا لو بنينا الأسماء على السكون، لمضارعة الأفعال بطل الإعراب الذي يضطرنا إليه الفصل بين المعاني في الأسماء. فإن قال قائل: فإذا أعطيتم الأفعال الإعراب لمضارعتها الأسماء، فلم أعربتموها في المواضع التي لا تقع الأسماء فيها، إذا قلتم: " لن يقوم " " ولم يذهب "، وغير ذلك من

المواضع التي لا يحسن وقوع الأسماء فيها؟ فإن الجواب في ذلك: أن عوامل الأفعال في كل موضع مخالفة لعوامل الأسماء في المواضع كلها، فإذا وجب إعراب الأفعال، فليس يجوز أن تعربها بما أعربنا به الاسم، وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد من عوامل لها، لا تقع الأسماء بعدها. ووجه ثان: أن الفعل المضارع قد شابه الاسم بالزوائد التي في أوله، فاستحق بذلك أن يكون معربا، وأين وجد على هذه الصورة وبهذه الصيغة استحق الإعراب، للزوائد في أوله، وليس الزائد هو الذي أعربه، ولكن هو الذي سوغ أن يدخل عليه العوامل فتعربه، ونظير هذا أنا نقول: إن ما لا ينصرف إذا دخل عليه الألف واللام، أو أضيف، حرك بالحركات الثلاث، فليس الألف واللام والإضافة هن اللاتي حركنه، ولكنهن سوغن دخول الحركات الثلاث عليه، وهيأنه لذلك. فإن قيل: فهلا أعطيتم الفعل جميع ما للاسم، من الرفع والنصب والجر، والتنوين، لمضارعته الاسم، كما أعطيتم الأسماء المبنية، لمضارعة الحروف- السكون الذي للحرف- نحو " من " و " كم " وأشباه ذلك؟ فإن الجواب في ذلك: أن الحروف هي ساكنة فقط، والسكون هو وجه واحد، فإذا ضارعها اسم، أعطى بحق المضارعة شيئا هو في الحروف، وليس فيه إلا السكون، فسكن فقط، والأسماء فيها ثلاث حركات وتنوين، فإذا ضارعها الفعل أعطى بحق المضارعة بعض ما في الاسم، ولم يبلغ من قوته، وهو فرع على الاسم، ومشبه به أن يكون مثله في جميع أحواله، وقد أمكن أن يعطي بعض ما فيه، ليدل على موضع المشابهة. فإن قال قائل: فبماذا ترفع الأفعال المضارعة؟ قيل له: لوقوعها في موقع الأسماء، سواء كانت الأسماء التي وقعت موقعها، مرفوعة، أو منصوبة، أو مخفوضة، وذلك قولك: " جاءني رجل يضحك " و " رأيت رجلا يضحك "، و " مررت برجل يضحك ". فإن قال قائل: فلم كانت الأفعال مرفوعة بوقوعها موقع أشياء مختلفة الإعراب، من مرفوع، ومنصوب، ومخفوض؟ قيل له: من قبل أن العوامل التي للأسماء، لا تعمل في الأفعال، ولا تسلط عليها، فلم يعتبر اختلاف إعراب الأسماء في إعراب الأفعال، إذ كان لا تأثير لذلك في الأفعال، ورفع الفعل، لوقوعه موقع الاسم. فإن قال قائل: فلم صار الرفع أولى به؛ بوقوعه موقع الاسم؟

قيل له: من قبل أن وقوعه موقع الاسم، ليس بعامل لفظي، فأشبه الابتداء الذي ليس بعامل لفظي. فإن قال قائل: فإذا زعمتم أن الأفعال ترتفع بوقوعها مواقع الأسماء، فلم قلتم: " كاد زيد يقوم "، و " جعل زيد يقول "، و " أخذ زيد يقول كذا وكذا "، وهذه مواضع لا تقع الأسماء موقعها، لا تقول: " كاد زيد قائما " ولا " جعل زيد قائلا "، ولا " أخذ زيد ذاهبا "؟ قيل له في ذلك وجوه: منها أن " كاد زيد يقوم " في موضع " كاد زيد قائما "، وإن كان لا يستعمل الاسم بعده، كما أن قولك: " عسى زيد أن يقوم " في تقدير " عسى زيد القيام "؛ لأن أن الخفيفة والفعل، بمنزلة المصدر، وفي تقديره وإن كان المصدر غير مستعمل في " عسى "، وكما أن قولك: " لا تأتني فأشتمك " ينتصب على تقدير: فأن أشتمك ولا يجوز إظهاره والتكلم به، وإن كان الفعل معربا على تقديره، كذلك الفعل في " كاد " مرفوع على تقدير وقوعه موقع الاسم، وإن كان الاسم لا يجوز استعماله وإظهاره فيه. ومنها أن ارتفاع الفعل- في هذه المواضع التي ذكرناها- غير ناقض لما أصّلناه؛ وذلك أنا إذا قلنا: إن الفعل يرتفع، بوقوعه موقع الاسم فلا يلزمنا بهذا ألا يرتفع إلا بوقوعه موقع الاسم، كما أن نقول: إن الفعل ينجزم بلم، وينتصب بلن، ولا يلزمنا ألا ينجزم إلا بلم ولا ينتصب إلا بلن، وذلك إنا إذا ذكرنا أحد العوامل في رفع، أو نصب، أو جزم، لم يلزم ألا يكون في الكلام عامل غيره لذلك الشيء، ولكن يجب متى جعلنا عاملا لشيء من الإعراب في حال، أن نجعله عاملا أين وجد على تلك الشريطة، وبذلك الوصف. فإن قال قائل: فهبكم غير ناقضين لما أصلتم، ولا تاركين لما قلتم، فلم رفعتم الفعل بعد " كاد " وأخواته اللاتي ذكرناها؟ قيل له في ذلك- غير ما تقدم- وجهان آخران: أحدهما: أن " كاد " لما لم يكن عاملا في الفعل تعرّى الفعل من العوامل اللفظية، فناسب الأفعال التي تقع مواقع الأسماء، في تعرّيها من ذلك، فرفع بهذه المناسبة. والوجه الثاني: أن " كاد " لا تستغنى باسمها- إذا أردت هذا المعنى- ولا أخواتها، فأشبه " كان " وأخواتها، و " إن " وأخواتها، وكل ما يحتاج إلى خبر، فرفع الفعل الذي لا يستغني اسم " كاد " عنه، كما رفع في " كان " وأخواتها، وسائر ما ذكرنا.

ووجه ثالث أيضا: وهو أن " كاد زيد يفعل " إنما أصله: " يفعل زيد "، ودخلت كاد تقريبا لهذا بعينه، ومشارفة له، ولم يكن مما يجوز أن يعمل فيه فبقي على أصله. فإن قال قائل: فلم رفعتم الفعل بعد السين وسوف ولا يقع الاسم بعدها؟ قيل له: السين وسوف إذا دخلا على الفعل صارا من صيغة الفعل بمنزلة الألف واللام إذا دخلا على الاسم، وذلك أنهما إذا دخلا على الفعل خلصاه للمستقبل بعينه كتخليص الألف واللام الاسم لواحد بعينه، ولم يدخلا لتغيير معنى فيما دخلا عليه، وإنما دخلا لتحصيل المعنى لنا، وتعريفه إيانا، ولم يتغير المعنى في نفسه، وإنما العوامل هي الأشياء التي تدخل على الألفاظ بعد حصول معانيها، فتقرها على ما كان يعرفه المخاطب من معانيها، فاعرف ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: بماذا تنصبون الأفعال المضارعة؟ قيل له: جملة ما ينصب به الأفعال المضارعة أربعة أحرف، وهي: أن الخفيفة، ولن، وكي، وإذن، أما أن الخفيفة فهي أم الحروف في هذا الباب، والغالبة عليه، والقوية فيه، وهي إذا وقعت على الأفعال المضارعة خلصتها للاستقبال ونصبتها، فأما علة نصبها، فمن قيل أن " أن " وما بعدها من الفعل بمنزلة المصدر كما أن " إنّ " المشددة وما بعدها من الاسم والخبر، بمنزلة اسم واحد، فلما كانت المشددة ناصبة للاسم جعلت هذه ناصبة الفعل. فإن قال قائل: فلم لا تنصبون بما، إذا جعلتموها والفعل كالمصدر في قولك: " يعجبني ما تصنع "؟ فإن الجواب في ذلك: أن أصحابنا قد اختلفوا في " ما " إذا كان الفعل بعدها، فكان الأخفش (¬1) لا يجيز أن تكون " ما " إلا اسما، إذا كانت كذلك، فإن كانت معرفة فهي بمنزلة " الذي " عنده والفعل في صلتها، كما يكون في صلة " التي " فترفع كما يرفع الفعل إذا وقع صلة للذي، أو تكون نكرة في تقدير شيء، فيكون الفعل صفة لها فيرتفع كما يرتفع الفعل إذا كان صفة لشيء لا يجعلها حرفا، مثل " أن " فلا يلزمه هذا السؤال. وأما سيبويه فقد أجاز أن تكون " ما " بمنزلة " أن " ويكون الفعل الذي بعدها صلة ¬

_ (¬1) أبو الحسن سعيد بن مسعدة، الأخفش الأوسط، أخذ عن سيبويه، وعنه عرف كتاب سيبويه. توفي سنة 215 هـ. نزهة الألباء 133.

لها، والجواب على مذهبه في الفصل بينهما، أنّ " أن " المخففة، شبهت في الفعل بالمشددة في الاسم لفظا ومعنى، وإن كان لفظها ناقصا مخففا، والدليل على ذلك أنهم يستقبحون " أنّ أن تقوم خير لك " كما يستقبحون: " إنّ أنّ زيدا قائم يعجبني " في معنى: إن قيام زيد يعجبني، فلما كان المعنى الذي نصبنا به ما بعد " أن " الخفيفة من التشبيه مفقودا في " ما " لم ينتصب بها. ومما يفرق بين " ما " و " أن " أنّ " أن " لا يليها إلا الفعل و " ما " يليها الاسم والفعل في معناها مصدرا، فالفعل قولك: " يعجبني ما تصنع " أي: يعجبني صنيعك، والاسم " يعجبني ما أنت صانع " أي: صنيعك، وكل حرف يليه الاسم مرة والفعل مرة، لم يعمل في واحد منهما. وأيضا فإنا إذا جعلنا " ما " حرفا، وجعلنا الفعل بعدها صلة لها أدت عن معناها، إذا جعلناها اسما، وجعلنا ما بعدها صفة لها أو صلة، إذا قلت: " يعجبني ما صنعت " فلما كانت مؤدية حرفا، معناها اسما، لم تخالف بينهما وليس لأن إلا حالة واحدة. وبعض العرب ربما رفعوا ما بعد (أن) تشبيها " بما " وقد روي عن " ابن مجاهد " (¬1) أنه قرأ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (¬2). قال الشاعر: يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما … وحيثما كنتما لاقيتما رشدا أن تحملا حاجة لي خف محملها … وتصنعا نعمة عندي بها ويدا أن تقرآن علي أسماء ويحكمها … مني السّلام وألّا تشعرا أحدا (¬3) والمعنى فيه: أسألكما أن تحملا. وأما " لن " فزعم سيبويه أنه حرف ناصب، بمنزلة أن وهو نقيض " سوف " وذلك أنك إذا قلت " سوف أقوم " فضد هذا أن يقول القائل: " لن تقوم " وإنما نصبت تشبها ب " أن " ... وشبهها " بأن " أنهما يقعان للمستقبل في الأفعال المضارعة، التي في أوائلها الزوائد الأربع. ¬

_ (¬1) أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد. توفي سنة 324 هـ. غاية النهاية في طبقات القراء. (¬2) سورة البقرة، آية 233. (¬3) غير منسوبة: الخزانة 4/ 380، شواهد المغني للسيوطي 37، ابن يعيش 7/ 15، الإنصاف 329.

وروي عن " الخليل " روايتان في " لن "، إحداهما مثل القول الذي ذكرناه، والثانية أنها كانت " لا أن " فحذف وخفف لكثرته، كما قالوا: " أيش " و " يلمّه " والأصل " أي شيء " و " ويل أمه ". واحتج سيبويه مبطلا لهذا القول فقال: لو كان معنى " لن " لا أن، لما جاز أن نقول: " زيدا لن أضرب "، كما لا يجوز " زيدا لا أن أضرب "؛ لأن ما في صلة أن لا يعمل فيما قبله. وللمحتج عن " الخليل " أن يقول: إن الحرفين إذا ركّبا قد يتغير معناهما منفردين، من ذلك أنك تقول: " لو جئتني لأكرمتك " فإنما امتنعت من إكرامه؛ لامتناع مجيئه، و " لو " يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، فإذا أدخلت على " لو " " ما "، أو " لا "، استحال معناها الأول، وصارت بما بعدها للتحضيض، نحو قول الله عزّ وجل: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ (¬1) وقوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (¬2) والمعنى: هلا، و " لولا " قد يكون لها معنى آخر، وهو أن يمتنع الشيء بها لوقوع غيره، كقولك: " لولا عبد الله أتيتك " فإنما امتنع الإتيان من أجل المحذوف بعد عبد الله، والمعنى لولا عبد الله قائم، أو عندك، أو نحو ذلك، فبذلك المعنى المضمر، ومن أجله امتنع إتيانه، فقد رأينا حروفا يتغير معناها، بتركيب غيرها معها. فيقول المحتج للخليل: إن معنى " لن " لا أن، إلا أنا إذا ركبنا أن مع " لا " لم يكن الفعل صلة لها، كما يكون صلة لأن، وصارت بمنزلة " لم " في أن الفعل الذي بعدها ليس بصلة لها. فإن قال قائل: فإذا كان أصلها: " لا أن "، فهل جاز استعمالها على أصلها، كما جاز أن يقال: " أي شيء "، و " ويل أمه "، فيستعملا على أصولهما؟ قيل له المخفف والمحذوف على ضربين: أحدهما: يجوز استعماله على أصله، والآخر متروك استعماله، غير جائز إجراؤه على أصله، لترك العرب لذلك، ولغيره من العلل التي لا يتسع الموضع لها، فمن المحذوف الذي يجوز رد ما حذف منه ما ذكرناه وهو " أي شيء " و " ويل أمه " وما لا أحصيه كثرة. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية 7. (¬2) سورة المنافقون، آية 10.

وما لا يجوز استعماله على أصله قولنا: " كينونة " و " قيدودة " (¬1) و " ميلولة " وما كان من المصادر نحو ذلك، والأصل فيه عندنا " فيعلولة " " كيّنونة " و " ميّلولة " و " قيّدودة " وخفف كما يخفف في " سيد " فيقال: " سيد "، وفي " لين " فيقال: " لين "، إلا أنه لا يجوز في " كينونة " وبابها إلا التخفيف، وترك الإجراء على الأصل، ومن ذلك ما ينصب بإضمار " أن " مع الفاء والواو في قولنا: " لا تأتنا فنهينك "، و " لا تقرب الأسد فيأكلك "، و " لا تنه عن شيء وتأتي مثله " (¬2) هذا كله بإضمار " أن " ولا يحسن إظهارها. فقد وضح بما قلنا أن المحذوفات تنقسم قسمين: أحدهما جائز ردّ ما حذف منه، والآخر قبيح، وكذلك " لن " على ما ذكرنا من حجة هذا المحتج مخففة من " لا أن " وقبيح استعمال " لا أن " والقول هو الأول لأن " لن " إذا أفردت لها حكم غير متعلق بحكم " أن " كحرف واحد موضوع لمعناه. وزعم الفراء أن " لن " و " لم " و " لا " أصلها واحد، وأن الميم والنون مبدلتان من الألف في " لا " وهذا ادعاء شيء لا نعلم فيه دليلا، فيقال للمحتج عنه، ما الدليل على ما قلت؟ فلا يجد سبيلا إلى ذلك. فأما " كي " فإن الذي ينتصب بعدها من الفعل المضارع على وجهين: أحدهما: أن تكون هي الناصبة، وهي حرف، وإنما نصبت من قبل أن الذي يقع بعدها مستقبل، فشابهت " أن " في وقوع " ما " بعدها مستقبلا، وفي جعل " كي " حرفا بمنزلة " أن " ونصب بها نفسها، أدخل عليها اللام، كما يدخلها على " أن " فيقول " أتيتك كي تكرمني " و " أتيتك لكي تكرمني "، كما تقول: " أتيتك لأن تكرمني "، فدخول اللام عليها دلالة على أنها بمنزلة " أن ". ومن العرب من يقول " كيم " فيدخل على " كي " " ما " في الاستفهام، ويحذف الألف من " ما " كما يدخل حروف الجر على " ما " في الاستفهام، ويحذف ألفها نحو: لم وبم وعم ومم وفيم، فلذلك قال: " كيم " جعل " كي " بمنزلة اللام، وفي، وعن، وسائر حروف الجر، ونصب الفعل بعدها بإضمار " أن " كما ينصب بعد اللام بإضمار " أن " إذا ¬

_ (¬1) انظر اللسان، مادة (قدد) 4/ 345. (¬2) صدر بيت، وعجزه: عار عليك إذا فعلت عظيم.

قال " أتيتك لتكرمني " وإنما المعنى " أتيتك لأن تكرمني "، كذلك " كي " في هذا القول إذا قلت: " أتيتك كي تكرمني " والمعنى: كي أن تكرمني والدليل على ذلك قول " جميل " في إحدى الروايتين: فقالت أكلّ الناس أصبحت مانحا … لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا (¬1) ويروى: " لسانك هذا كي تغر وتخدعا ". و" ما " زائدة في إنشاد من أنشده " كيما أن ". وروى " أبو عبيدة " عن " الخليل " أنه قال: لا ينتصب شيء من الأفعال المضارعة، إلا بأن مضمرة أو مظهرة، في: كي، وإذن، ولن، وغير ذلك، فاعرفه إن شاء الله. وأما " إذن " فإنها إذا وقعت أولا نصبت، وإنما ينصب بها لأنها تكون جوابا، وما بعدها مستقبل لا غير، وذلك إذا قال لك إنسان: أنا أودّك. قلت: " إذن أكرمك " وإنما أردت إكراما توقعه في المستقبل، فصارت بمنزلة " أن " في وقوعها للمستقبل من الأفعال، إلا أنّ " إذن " لها ثلاثة أحوال: حال تعمل (فيه) لا غير، وحال يجوز إعمالها وإلغاؤها، وحال يقبح إعمالها. فأما الحال التي تعمل (فيه) لا غير، فأن تقع مبتدأة، ليس قبلها ما يعتمد عليه ما بعدها، مثل قولك: إذن أكرمك، إذن أسرّك قال الشاعر: أردد حمارك لا تنزع سويته … إذن يردّ وقيد العير مكروب (¬2) وأما الحال التي يجوز إعمالها وإلغاؤه فأن يكون قبلها واو أو فاء، وذلك قولك: " أنا أخوك فإذن أذبّ عنك، وأذبّ عنك ". وكذلك قال الله عز وجل: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (¬3)، وفي قراءة ابن مسعود: " لا يلبثوا " فشبّه أصحابنا " إذن " في الحروف الناصبة ب " ظننت " وأخواتها في الأفعال العاملة، وذلك أن " ظننت " متى قدمت على مفعوليها عملت لا غير، كقولك: " ظننت زيدا قائما " وإذا قدم عليها المفعولان أو أحدهما فيها جاز الإعمال والإلغاء جميعا، وكذلك (إذن) إذا قدمت عملت لا غير، وإذا تقدمتها الواو والفاء جاز فيها ¬

_ (¬1) ديوان جميل 62، الدرر اللوامع 2/ 5، الخزانة 3/ 584. (¬2) ينسب ل (عبد الله بن عنمة الضبي). المقتضب 2/ 10، ديوان الحماسة 2/ 148. (¬3) سورة الإسراء، آية 76.

الإعمال والإلغاء. فإن قال قائل ما العلة التي من أجلها جاز الإلغاء في " ظننت " و " إذن " إذا كان على الحد الذي وصفته؟ فالجواب في ذلك: أنك إذا قلت: " ظننت زيدا منطلقا " فقد بدأت بفعل لا بد من إعماله؛ لأنه واقع على ما بعده، وذلك قولك: " ظننت زيدا منطلقا " فإذا قدمت زيدا فقد بدأت به على لفظ اليقين والإخبار، فجاز على أن يجري على سنن ابتدائك، ويلغى الفعل المتأخر إذا كان مما يلغى؛ لأن الأول قد تعلق لمعنى يوجب رفعه، وذلك قولك: " زيد ظننت منطلق "، و " زيد منطلق ظننت "، كأنك قلت: زيد منطلق في ظني، كما تقول: زيد منطلق عندي، وأنت تريد في رأيي واعتقادي. وهذا كلام مستعمل، أعني إذا قلت: زيد منطلق عندي وأنت تريد: في ظني واعتقادي، فإذا نصبت مع التقدم فقلت: " زيدا ظننت منطلقا، وزيدا منطلقا ظننت "، فكأنك قدمت اللفظ مريدا لتأخيره معتمدا على الظن الذي أخرته. وكذلك " إذن " بعد الواو والفاء تجري هذا المجرى، وذلك لأن الواو والفاء لا تكونان إلا متعلقتين بما قبلهما و " إذن " إذا كان قبلها محتاجا إلى ما بعدها لم تعمل، وذلك قولك: " زيد إذن يقوم "، و " إنّ زيدا إذن ينطلق "، " والله إذن لا يقوم " ألغيت " إذن " لحاجة ما قبلها إلى ما بعدها، فإذا كان قبلها واو أو فاء، وجعلت الكلام الذي بعدها في تقدير الحاجة إلى ما قبلها ألغيت " إذن "؛ لأن الواو للعطف، فكأن ما بعد " إذن " من تمام ما قبلها وإذا جعلت الواو مستأنفة جعلت لها حكم نفسها وصارت كجملة معطوفة على جملة. ونبيّن هذا المعنى بمسألة تقول: " زيد يقوم وإذن يكرمك ". إذا عطفت " وإذن يكرمك " على " يقوم " الذي هو الخبر ألغيت إذن من العمل، وصار بمنزلة قولك: " زيد إذن يكرمك "، لأن المعطوف على الشيء يقع موقعه، ويصير خبرا لزيد، بمنزلة " يقوم "، فكأنك قلت: " زيد يقوم ويكرمك "، في تقدير اللفظ. وإذا لم تعطف " وإذن يكرمك " على الخبر، وجعلته عطفا على الجملة المتقدمة نصبت ما بعدها وصار لها حكمها إذا ابتدأت ولم يتقدمها كلام، وكان بمحل قولك: " زيد قائم وعمرو منطلق " " زيد منطلق وأبوه يكرمك " جعلت الثانية جملة قائمة بنفسها، غير معطوفة على خبر الأول، ولكنها معطوفة على جملة الكلام، وأما الحال التي تلغى فيها إذن فأن يتقدم اسم

يحتاج إلى خبر كقولك: " إن زيدا إذن يقوم "، أو شرط يحتاج إلى جواب كقولك: " إن تأتني إذن أكرمك "، أو قسم يحتاج إلى مقسم عليه، كقولك: " والله إذن لأضربك "، وأما " والله إذن لأقومن إليك " فإنما ألغيت في هذه الوجوه؛ لأن ما بعد " إذن " معتمد على ما قبلها وما قبلها محتاج إلى ما بعدها، وهي قد تلغى في حال، فوجب إلغاؤها هاهنا. فإن قال قائل: فما معنى قول الشاعر: لا تتركني فيهم شطيرا … إني إذن أهلك أو أطيرا (¬1) فالجواب أن هذا شاذ، ومتى صح فإنه على أحد وجهين: إما أن يكون جعل " إذن أهلك أو أطيرا " جملة في موضع خبر إن، كقولك: " إني لن أقوم " فشبه إذن بلن، وإن كانت " لن " لا تلغي لها حال، و " إذن " تلغي. والوجه الثاني: أن يكون حذف خبر " إني "، وابتدأ " إذن " بعد تمام الأول بخبره، وجاز حذف خبر الأول؛ إذن كان في الثاني عليه دليل، كأنه قال: " لا تتركني فيهم غريبا بعيدا إني أذل، إذن أهلك أو أطيرا " فكان في الثاني دلالة على الأول المحذوف، فاعرفه إن شاء الله تعالى. فإن سأل سائل فقال: إذا حملتم هذه الحروف على " أن " فنصبتم بها، لمشاركتهن " أن " في وقوع ما بعدهن مستقبلا، فينبغي على قياس هذا القول واطراده أن تنصبوا بما بعد " لا " في النهي، وما بعد " لام " فعل الأمر وما بعد حروف الجزاء؟ قيل له: قد كان ذلك قياسا لازما، وقولا مطردا، لولا علل دخلن عليه، فوجب من أجلها الجزم والسكون. أما لام الأمر فإن ما بعدها ضارع فعل الأمر المبني الموقوف، ووقع في موقعه، فلما كان في معناه، وواقعا موقعه له ثقل ذلك، ونقص عن منزلة نظائره من الأفعال المستقبلة، وأعطى أضعف الإعراب، وهو الجزم، وحمل المجزوم على فعل الأمر، كما حمل فعل الأمر في المعتل الناقص عليه، نحو: اغز، وارم، واخش، وإنما حذف أواخر هذه الحروف؛ بعلامة الجزم وحمل الأمر عليه، وإن كان مبنيّا. وأما النهي فإنه نقيض الأمر، فلما كان الأمر على الحد الذي وصفناه بالعامل الذي ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 7/ 7، والدرر اللوامع 2/ 6.

ذكرناه كان النهي مثله. وأما حروف المجازاة والشرط فإنما جزمت ما بعدها؛ لأنها محتاجة إلى أجوبة من أفعال وجمل، فاستطالوا الكلام فأعطوه الجزم تخفيفا له؛ من أجل طوله، وذلك أنك إذا قلت: " إن تكرمني " لم يكن كلاما تاما، حتى تجيء له بجواب فتقول: " أكرمك "، أو فأنا مكرم لك أو نحو ذلك من الأجوبة، فلذلك آثروا الجزم، والله أعلم. فإن قال قائل: إذا قلتم: " إن تكرمني أكرمك " بماذا جزمتم الأول والثاني؟ قيل له. أما الأول فلا اختلاف بين أصحابنا- أعلمه- في أنه مجزوم " بأن " واختلفوا في الجواب على ثلاثة أنحاء: فكان أبو العباس محمد بن يزيد (¬1) يقول: إنه جزم بإن والفعل الذي بعدها جميعا، وإنهما عاملان فيه، وكان يقول: هو بمنزلة الخبر والابتداء، والعامل والمبتدأ الرافع له الابتداء، والابتداء والمبتدأ عاملان في الخبر، وكذلك " إن " هي العاملة فيما بعدها، وهي وما بعدها عاملان في الجواب، وحجته في ذلك أن الثاني الذي هو الجواب- لا يصح أن يتقدم الأولين، فلا جائز لأحد أن يجعل العامل أحد الأولين إلا جاز لآخر أن يضادّه في دعواه، وليس أحدهما أولى من صاحبه بالعمل في الجواب فجعلنا العامل اجتماعهما جميعا؛ من حيث لا يصح الثاني الذي هو الجواب إلا بتقدم الأولين واجتماعهما. والقول الثاني: أنّ " إن " هي العاملة في الشرط والجواب جميعا، كما يعمل الفعل في الفاعل والمفعول به جميعا، إلا أن العوامل تختلف إعمالها ومعمولاتها، فمنها ما يعمل فيه بأن يكون إلى جنبه وملاصقا له. ومنها ما يعمل فيه بواسطة بينهما. وقد كان بعض أصحابنا يشبه هذا بالنار التي تعمل فيما في القدر يتوسط القدر بينهما، وتؤثر فيه تأثيرا ما، وتؤثر في القدر الإحماء والتسخين، فقد أثرت في القدر بلا واسطة، وأثرت فيما فيها بواسطة، وهي القدر، وهذا تقريب، وجملة الاعتلال لهذا القول، أنا رأينا الأول ينجزم بالحرف فقط، بلا اختلاف وكذلك الجواب ينجزم بمثل ما انجزم به الشرط، إلا أن الحرف الذي يعمل فيهما، يقبل في كل شيء، منهما في موضعه الذي رتب فيه لمعناه. ¬

_ (¬1) أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي، المعروف ب (المبرد). توفي سنة 285 هـ. نزهة الألباء 217.

والعمل لا يختلف. والقول الثالث: وهو شيء يحكى عن أبي عثمان المازني أنه قال: الشرط والجواب غير مجزوم وإنما هو مسكّن على حكم الأفعال في أصلها من التسكين، وحكي عنه أنه اعتل أن الفعل إذا وقع في موقع لا يقع فيه الاسم، ردّ إلى حكمه الأصلي، وهذا قول فاسد، وما أظن أن " أبا عثمان " في علمه وثقوب معرفته، وجلالة محله، كان يذهب عليه هذا المعنى الواضح، ويختار هذا القول الفاسد البين الفساد، وذلك أنه لو ردت الأفعال إلى أصلها يحلو لها في غير محل الأسماء، لم يجز أن ينصب بلن وأن وسائر نواصب الأفعال؛ لأنهن صيغ، لا تقع بعدهن الأسماء، ولكان يلزم أيضا أن يكون إعراب الأفعال وجها واحدا إذا حلت محل الأسماء، فكان ينتج من هذا ألا تكون الأفعال معربة؛ لأن الإعراب هو اعتقاب الحركات أو: حركات وسكون على أواخر الكلام، وما لزم طريقة واحدة فليس بمعرب. فإن سأل سائل فقال: ما قولكم في فعل الأمر، أمعرب هو أم غير معرب؟ قيل له هو عندنا مبني على السكون على أصل ما يستحقه. فإن قال: وما الذي أبطل أن يكون مجزوما؟ قيل له: امتنع أن يكون مجزوما من قبل إن الصورة الموضوعة للأمر من الفعل إذا لم يكن في أولها الزوائد الأربع لا تكون إلا على طريقة واحدة وشريطة المعرب أن يعتقب على آخره أكثر من حركة، والمبني لا يتغير عما يصاغ عليه من حركة أو سكون، فقضينا بذلك أن فعل الأمر الذي ليس في أوله الزوائد الأربع مبني على السكون، ونكشف هذا بمثال فنقول: إذا قلت: " زيد يذهب أو أنا أذهب " أو " أنت تذهب " أو " نحن نذهب " فالباء من يذهب تكون مرة مضمومة، ومرة مفتوحة، ومرة موقوفة، ما صحب " يذهب " أحد هذه الحروف الزوائد تقول: " أنا أذهب، ولن أذهب، " ولم أذهب " فإذا أمرت منه قلت: " اذهب "، فغيرت الصورة، ونزعت حرف المضارعة، ولزم السكون، فلما لزم السكون عند ما بني هذه البنية، علمنا أن هذه البنية هي التي أوجبت أن تكون مبنية على حال واحدة. فإن قال قائل: فهلا جعلتموه مجزوما بلام محذوفة هي لام الأمر كأنكم قلتم " لتذهب " فحذفتم اللام؟ قيل له: هذا لا يجوز؛ من قبل أنا رأينا عوامل الأفعال ضعيفة، لا يجوز حذفها نحو: لن، لم، وأشباه ذلك، فلم يجز أن نضمر اللام ونعملها؛ لضعف ذلك،

وأيضا فإنا رأينا الأسماء المعربة هي أقوى من الأفعال وأشد تمكنا، وقد رأينا العوامل فيها تنقسم قسمين. أحدهما يجوز حذفه، والآخر لا يجوز. فالذى يجوز حذفه ما عمل فيه الفعل، كقولك: " هلا زيدا "، تريد " هلا ضربت زيدا "، ونحو ذلك على ما جرى عليه الكلام كقولك: " أزيدا ضربته " تريد أضربت زيدا ضربت وكنحو المبتدأ المحذوف المبقي خبره، كقولك: " الهلال والله " تريد هذا الهلال. وإنما يرتفع خبر المبتدأ بما تقدم على نحو ما ذكرناه من الاختلاف فيه، فهذا القسم من الأسماء يجوز حذف عامله، وكذلك ما جرى مجراه. والذي لا يجوز حذف عامله، ما كان العامل فيه حرفا، نحو قولك: " إن زيدا قائم " و " لعل بكرا منطلق "، و " أخذته من زيد "، " ومررت بعمرو " وأشباه ذلك، وهذا القسم الذي لا يجوز حذف عامله هو أقوى وأمكن من الأفعال، وعوامله أمكن من عوامل الأفعال، ومع ذلك لا يجوز حذفها، فإذا لم يجز حذفها، لم يجز حذف ما هو أضعف منها عملا. فإن قال قائل: فأنتم تنصبون الأفعال بإضمار " أن " مع " الواو "، و " الفاء " و " أو " وتضمرون " أن "؟ قيل له: إنما جاز ذلك عندنا؛ لأنه قد بقي من الحروف ما يكون بيانا عما ألقي ومثاله في الأسماء قولهم: ومهمه بآلة مؤزّر وقولهم: بل بلد ذي صعد وأضباب (¬1) ونحو ذلك في معنى " ربّ " جعلوا " الواو " و " بل " و " الفاء " بدلا من المحذوف وهو " ربّ " وكذلك الفاء والواو و " أو " عوض من المحذوف. ولما يحذف ويعوض منه باب نتقصّاه إن شاء الله. وإنما ذكرنا منه نبذا غير متقصين؛ لأن القصد في الباب إلى غيره لا إليه. ووجه ثان مما يبطل أن تكون اللام الجازمة لفعل الأمر محذوفة، كما تحذف أن أنها لو كانت محذوفة، لبقي حرف المضارعة، وكان يقال: تذهب في معنى " لتذهب " كما بقي ¬

_ (¬1) منسوب لرؤبة بن العجاج. ديوانه ق 1: 52، الخزانة 4/ 204.

حرف المضارعة لما حذفت " أن " مع الفاء والواو، والدليل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر إلى حذفها حذفها، وبقي سائر الكلام على حاله، أنشد الأخفش: محمد تفد نفسك كلّ نفس … إذا ما خفت من أمر تبالا (¬1) أراد لتفد نفسك كل نفس. وقال آخر: فقلت ادعي وأدع فإن أندى … لصوت أن ينادي داعيان (¬2) أراد: ولأدع وقد أنكر " أبو العباس محمد بن يزيد " البيت الأول، وقد أنشده كثير من الناس إلا أنا أردنا أن نبين أن حذف العامل لو كان على ما زعموا، لم يوجب تغيير الصورة من المعمول فيه. فإن قال قائل: " إنما كان الأصل فيه: " لتقم "، و " لتذهب " في فعل الأمر إلا أنه كثير في كلامهم، فحذفوه استخفافا، كما قالوا: " أيش " و " يلّمة "، والأصل " أي شيء "، و " ويل أمّه "، وقالوا: عم صباحا، والأصل: أنعم صباحا من نعم ينعم، ويقال: نعم ينعم، ونعم ينعم " و " عم صباحا " من المكسور العين، وحذفوا النون التي هي فاء الفعل استخفافا، لما كثر في كلامهم التحية بهذا، وغير ذلك من المحذوفات. قيل هذا قياس مطرح، وتشبيه بين شيئين لا يشتبهان؛ وذلك من قبل أن المحذوف إنما يكون في شيء إذا كثر الكلام (به) والترداد له، ولا يكون في نظائره إذا نقص عن مثل حاله في الكثرة التي جاز معها الحذف، وقد رأينا فعل الأمر فيما كثر استعماله وما قل من الأفعال إذا أمروا به صاغوه هذه الصيغة نحو قولهم: اعرنزم، واحرنجم، ونحو هذا من الأفعال التي هي أقل من ذا أو مثله في القلة، يطرد فيه الحذف، فلو كان ذا على ما زعم الزاعم، لاختص الحذف بالكثير الدائر المستعمل في كلامهم، وما كان يتعدى الحذف إلى ما يقل ويشذ حتى يصير بابا مطردا وقياسا لازما. ألا ترى أنا لا نقول قياسا على: " لم يك "، في معنى: لم يكن: " لم يص " " ولم يه " في ¬

_ (¬1) في شرح الكافية منسوب إلى حسان بن ثابت 2/ 252، ونسبه صاحب الشذور إلى أبي طالب. الخزانة 3/ 629، شرح ابن يعيش 7/ 35. (¬2) اختلفوا في نسبته. شرح ابن يعيش 7/ 33، سيبويه 1/ 426.

معنى: لم يصن، ولم يهن؛ لكثرة لم يكن. ولا نقول قياسا على " لم يبل "، في معنى: يبال: " لم يعط "، " ولم يجز " - في معنى لم يعاط، ولم يجاز، فتبين الفصل فإنه واضح إن شاء الله ". فإن قال قائل: فلم قالوا: " اقض "، فحذفوا الياء كحذفهم إذا قالوا: " لم يقض "، وهذا الحذف يكون للجزم، و " اضربا " كما كقالوا: " لم يضربا "، و " اضربوا " كما قالوا: لم يضربوا "؟ فإن الجواب في ذلك أنه لما استوى المجزوم غير المعتل، وفعل الأمر، غيّر المعتل كقولك: " لم يذهب " و " اذهب يا زيد "، وإن كان أحدهما مجزوما معربا، والآخر مسكنا على أصله، سوىّ بينهما في المعتل وفي التثنية والجمع، وحمل ذلك أجمع على الواحد الصحيح. وذكر " المازني " لفظا يؤول إلى ما قلنا، فقال: إنما قالوا اقض، وارم؛ لمضارعة الجزم السكون، وهذا هو المعنى الذي أردناه، إلا أنا لخصنا هذا المعنى وبيناه. فإن قال قائل: لم جعلوا في إعراب الأفعال الجزم دون الأسماء؟ قيل له: قد تقدم قولنا في امتناع دخول الجزم على الأسماء، ونبين الآن: لم ساغ دخوله على الأفعال، فنقول وبالله التوفيق: إن الاسم لما كان هو المستحق للإعراب في أصل الكلام، استحق جميع الحركات؛ لقوته، ولما ستراه في موضعه، إن شاء الله. وضارع الفعل الاسم فجرى مجراه، واستحال دخول الحركة التي هي الجر عليه؛ لما تبين لك من فساد ذلك في موضعه، فجعل مكان تلك الحركة- التي هي الجر- الجزم؛ ليكون معادلا للاسم في إعرابه؛ لتمام مضارعته له. قال سيبويه: " وليس في الأفعال المضارعة جرّ، كما أنه ليس في الأسماء جزم ". قال أبو سعيد: إن سأل سائل: فقال لك لم لم يكن في الأفعال المضارعة جر؟ فإن في ذلك أجوبة منها: إن الجر إنما يكون بأدوات يستحيل دخولها على الأفعال، وهي حروف الجر، وبالإضافة المحضة، وليس لدخول ذلك على الأفعال معنى يعقل. ألا ترى أنك لو قلت: هذا غلام يضرب، أو مررت بيضرب، ونحو ذلك فسد الكلام. ووجه ثان: إن المضاف إليه يتعرف به المضاف، أو يخرج به من إبهام إلى

تخصيص على مقدار خصوصه في نفسه، كقولك: " هذا غلام زيد " فيتعرف الغلام بزيد وتقول: " هذا غلام رجل صديق لك "، فيخرج الغلام عن حد الإبهام الذي في قولك: " هذا غلام " حتى ينحصر ملكه على صديق له، دون سائر الناس، وصديق له أخص من واحد من الناس مبهم. ووجه ثالث: إن الفعل لا يكون إلا نكرة، ولا يكون شيء منه أخصّ من شيء، فإذا كانت الإضافة إنما ينبغي لها زيادة معرفة المضاف، ولا سبيل إلى أن يعرف المضاف إليه، حتى يكون مقصورا إليه معروفا، فيتعرف المضاف بذلك، لم يصح. ووجه رابع: وهو أن الفعل والفاعل جملة، ولا يجوز أن تقول: " هذا غلام زيد يقوم، كذلك لا تقول: " هذا غلام يقوم زيد "؛ لأنه جملة كالابتداء والخبر. ووجه خامس: إن الفعل إنّما هو اللفظ الدال على حدث في زمان ماض أو غير ماض، فلو أضفنا إلى الفعل كنا قد أضفنا إلى الحدث والزمن، لا إلى أحدهما، ولا يصح الإضافة إلى زمان غير متحصل، وإنما يضاف إلى الزمان الدال على وقت منه بعينه؛ لأن الزمان الماضي يقع على " أمس " وما قبله، من الأزمنة التي لا يحصلها وقتا وقتا، وعلى ما بعده من الأوقات إلى ما يلينا من أقربها، فلا يتبين المضاف إليه من الزمان، ولا يتخلص من غيره. ويدل على صحة هذا الوجه أن الزمان المستقبل قد يكون ماضيا، وقد كان الماضي مستقبلا، فلا معنى للإضافة إلى زمان لا يختص لنفسه حالا يتبين بها من غيره، والإضافات إنما حكمها والفائدة فيها: إخراج المضاف من حالة مبهمة إلى ما هو أخصّ منها. وذكر أبو الحسن الأخفش في ذلك علّتين: إحداهما: أنه قال: لو أضفنا إلى الفعل لاحتجنا بعده إلى الفاعل، وقد علمنا أن المضاف إليه يقوم مقام التنوين، ولم يبلغ من قوة التنوين عنده أن يقوم مقامه شيئان. والعلة الثانية، زعم أن الأفعال أدلّة على غيرها، يعني على الحدث والزمان وعلى فاعليها ومفعوليها. وزعم أن المضاف إليه مدلول عليه؛ قال: والأفعال أدلة، وليست بمدلول عليها، فلا يضاف إليها؛ لأن الإضافة إلى المدلول عليه لا إلى الدليل.

فإن قال قائل: فقد أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال، كقولك: " هذا يوم يقوم زيد، وساعة يذهب زيد ورأيته يوم قام زيد "! فإنما جازت إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال؛ لأن الأفعال لا بد لها من فاعلين، والفعل والفاعل جملة، والزمان يضاف إلى الجمل، كقولك: " رأيته يوم زيد أمير "، " ورأيته زمن أبوك غائب "، ونحو ذلك، فأضيف اسم الزمان إلى الفعل والفاعل، كما يضاف إلى الابتداء والخبر، ويكون المعنى في ذلك كالمعنى في إضافة الزمان إلى المصدر، فإذا قلت: هذا يوم يقوم زيد فكأنك قلت: هذا يوم قيام زيد. فإن قال قائل: فلم خصّ الزمان بالإضافة إلى الجمل دون غيره؟ فالجواب في ذلك أنا رأينا الزمان قد تشتق له أفعال، تدل على وقوع الجمل في أوقاته المختلفة، نحو: كان، ويكون، اللذين هما عبارتان عن الماضي والمستقبل من الزمان، وتليهما الجمل: ونحو: أصبح وأمسى اللذين هما عبارتان عن وقتين معلومين من الزمان ويليهما الجمل، فمن حيث جاز أن يضاف المكان والزمان والمصدر وغير ذلك إلى الفاعلين، وكانت الجملة كالفاعل من حيث صيغ لها من لفظ الزمان ما يدل، عليها أضيف الوقت إليها- أعني الجمل- كما صيغ للوقت ما يدل عليه. وزعم " الأخفش " أنهم أضافوا أسماء الزمان إلى الأفعال؛ لأن الأزمنة كلها تكون ظروفا للأفعال والمصادر، لا يمتنع شيء منها من ذلك فعوّضوا من كون جميعها ظروفا أن أضافوها إلى الجمل والأفعال. ومما يدل على هذا: أن الزمان الماضي بمعنى " إذ ". والزمان المستقبل بمعنى " إذا " والأزمنة ماضية ومستقبلة، فلما كانت " إذ " تضاف إلى الجمل: المبتدأ والخبر والفعل والفاعل، أضيف الزمان الذي في معناها إلى الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر. ولما كانت " إذا " تضاف إلى الفعل والفاعل فقط، أضيف الزمان الذي في معناها إلى الفعل والفاعل فقط، فلا تقول: أتيتك زمان زيد قائم؛ لأنك لا تقول: أتيتك إذا زيد قائم. ومما يدل على صحة ما بينا أن الفعل مشتق من المصدر في زمان ماض أو مستقبل، وليس بدال على وقت من الماضي معين ولا من المستقبل، فصار الزمان كبعض الفعل؛ إذ كان الفعل يدل على شيئين: أحدهما: الزمان، والآخر: المصدر، فإذا أضفنا

الزمان إليه فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا: " ثوب خزّ " " وخاتم حديد " وفي إضافتنا إليه فائدة، إذ كان يتحصل فيها غير الزمان ولا يضاف إليه المصدر؛ لأن الفعل معه الفاعل، فقد دل على أن المصدر له، فلم يضف إليه. فإن قال قائل: فقد يضاف إلى الفعل غير الزمان، وهو قولهم: ائتني بآية قام زيد، أراد: بعلامة قام زيد، قال الشاعر: بآية يقدمون الخيل زورا … كأن على سنابكها مداما (¬1) وقولهم: " اذهب بذي تسلم "، و " اذهبا بذي تسلمان "، " واذهبوا بذي تسلمون "، " واذهبي بذي تسلمين "، و " اذهبا بذي تسلمان "، و " اذهبن بذي تسلمن ". فالجواب في ذلك أن يقال: أما " آية " فإنما جاز إضافتها؛ لأنها بمنزلة الوقت، وذلك أن الوقت إنما جعل؛ ليعلم ترتيب الحوادث في كونها، وما يتقدم منها، وما يتأخر، وما يقترن وجوده بوجود غيره، والمقدار الذي بين وجود المتقدم منها والمتأخر، فصار ذكر الوقت علما له، وقع أم لم يقع، وما يقرن وجوده بوجود غيره، يكون كون أحدهما علامة لكون الآخر وقتا له. ويدل على هذا أنك قلت: " إذا أذّن المؤذن فأتنى " فيصير أذان المؤذن وقتا لإتيانه وعلامة له، كما أنك لو قلت: " إذا كان يوم كذا فأتنى " فقد جعلت ذلك اليوم وقتا لإتيانه، وعلامة متى وجدها امتثل أمرك عند كونها، وكذلك إذا قال: " بآية يقوم " فقد جعل " يقوم " وقتا لما يريده فيصح أن يضيف العلامة إلى الفعل، كما تضيف الوقت؛ لأنهما في التحصيل فيؤولان إلى شيء واحد. وأما قولهم: " اذهب بذي تسلم " ففسر العلماء معناه، فقالوا: معناه: اذهب بسلامتك، والذي جوّز عندي إضافته إلى الفعل، أن معنى: ذي، إنما هو لذات الشيء، كما تقول: مررت برجل ذي مال، فذي هو الرجل وهو نعت له، وأضفته إلى " مال "، فإذا قلت: " اذهب بذي تسلم " فكأنك قلت: اذهب بيوم ذي تسلم، أو بوقت ذي تسلم، فذو هو اليوم والوقت، فلذلك جاز إضافته إلى تسلم، وأقمته فقام اليوم، فافهم هذا فإنه لطيف جدا. ¬

_ (¬1) اختلفوا في نسبته. الخزانة 3/ 135، سيبويه 1/ 460.

وقال بعض أهل العلم: إن " ذي " بمنزلة " الذي " كأنك قلت: " اذهب بالذي تسلم " والهاء محذوفة وهو مصدر تقديره بالسلامة التي تسلمها، وذكر لأنه أراد السلامة وإن لم يستعمل. وجملة قول " سيبويه " أن الأفعال لم يضف إليها؛ لأن المضاف داخل في المضاف إليه: فقد أضفناه كما يضاف البعض إلى الكل كقولنا: ثوب خزّ، وخاتم حديد، وفي إضافته إليه فائدة؛ إذ كان يتحصل منها غير الزمان، ولا يضاف إليه المصدر؛ لأن الفعل معه الفاعل، فهو يدل على أن المصدر له فلم يضف إليه، فاعرف ذلك إن شاء الله. وأيضا فإن الأول يضم الثاني إليه، وزيادته عليه تدل على ما يدل عليه منفردا، غير أنه في الإضافة له اختصاص بشيء قد كان متوهما فيه وفي غيره كالألف واللام، ويكون اختصاصه على حسب ما للثاني من التعريف والتخصيص، فلما لم يختص المضاف بإضافته إلى الفعل- كما ذكرنا- بطلت الإضافة. فإن سأل سائل فقال: أخبرونا عن قوله: " وليس في الأفعال المضارعة جر، كما أنه ليس في الأسماء جزم " لم منع دخول الجر على الأفعال، حيث امتنع دخول الجزم على الأسماء؟ وكيف صار امتناع دخول الجزم على الأسماء أصلا لمنع دخول الجر على الأفعال، وما وجه رد أحدهما على الآخر؟ فإن الجواب في ذلك أنه لم يجعل امتناع الجزم في الأسماء علة منع بها دخول الجر على الأفعال، وإنما أراد أن كل واحد منهما ممتنع في بابه للعلة التي تمنعه، والمعنى الذي يحيله، فتعرّف ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: فما معنى قوله: " لأن المجرور داخل في المضاف إليه "؟ إلام عادت الهاء في إليه؟ وكيف تلخيص هذا الكلام وترتيبه؟ فإن الجواب في ذلك: أن قوله: " لأن المجرور "، يريد: المضاف إليه، وهو الثاني، داخل في المضاف إليه، يعني: داخلا في الصف الأول الذي قد أضيف إلى المجرور. والهاء تعود إلى المجرور؛ فكأنه قال: لأن الثاني المجرور داخل في الأول المضاف إلى الثاني، فاعرفه إن شاء الله. فإن سأل سائل، فقال: لم عاقبت الإضافة التنوين؟ فالجواب في ذلك أن التنوين إنما دخل عندنا؛ للفرق بين ما ينصرف

وما لا ينصرف، ومتى أضيف الاسم أخرجته الإضافة إلى حكم المنصرف، فزال المعنى الذي له دخل للفرق. وقوله: " وليس ذلك في الأفعال "، يعني: وليس المعنى الذي تجر به الاسم في هذه الأفعال، يعني في الأفعال المضارعة، وقد ذكرنا المعنى الذي ينفرد به الاسم في الجر بما أغنى عن إعادته. قال سيبويه: " وإنما ضارعت أسماء الفاعلين ". يعني ضارعت الأفعال المضارعة أسماء الفاعلين، وأضمرها لتقدم ذكرها أنك تقول: " إن عبد الله ليفعل "، فيوافق قوله: " لفاعل "، حتى كأنك قلت: إن عبد الله لفاعل، فيما تريد من المعنى. إن سأل سائل، فقال: إذا قلنا: " زيد فاعل " و " إن زيدا لفاعل "، أو " فاعل "، هل دل هذا على وجود المعنى الذي ذكره في وقته، أو هو مبهم لا يوقف عليهم؟ فإن الجواب في ذلك أن الإخبار عن الأشياء كلها أولى الأوقات بها الوقت الذي وقع فيه الخطاب في المعنى؛ لأن اللفظ صيغ له، وذلك أن المتكلم إذا قال: زيد قائم، فإنما يريد إفادة المخاطب، وتعريفه من أمر زيد ما خفي عليه، وإن لم يكن في حاله قائما، فهذا الوصف غير لازم له، والمعتاد في الخطاب أن يكون للحال، فعلم من جهة المعنى أن الوصف متى ما عرّي من النسبة إلى وقت بعينه، كان مقصورا على وقت التكلم به والإخبار؛ لما بينا أن حكم الخطاب إفادة المخاطب به ما يحتاج إلى معرفته. فإن قال قائل: فإذا قلت: " إنّ زيدا ليقوم " فهل الفعل لأحد وقتين مبهمين، أم هو للحال؟ فالجواب في ذلك: إن أصحابنا على قولين، قال بعضهم: اللام تقصر الفعل المضارع في خبر إن على الحال، واستدل على ذلك بقول سيبويه: حتى كأنك قلت " إن زيدا لفاعل " فيما يريد من المعنى، فقال: قد علمنا أنا إذا قلنا: " إن زيدا لفاعل " فإنما يريد به الحال؛ وقد قال لنا: إن قولنا: " إن عبد الله ليفعل "، كقولك: " إن عبد الله لفاعل "، فصح بهذا الكلام أن اللام تقصر الفعل المضارع على الحال. وقالت طائفة أخرى من أصحابنا: إن اللام تقصر الفعل المضارع على الحال، وأجازوا أن تقولوا: " إن عبد الله لسوف يقوم " واستدلوا على صحة ذلك بقوله عز وجل:

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬1) فقالوا: لو كانت اللام تقصر الفعل على الحال لم يجز أن تقول: " ليحكم بينهم " كما أن السين وسوف لما قصرتا الأفعال المضارعة على الاستقبال، لم يجز أن يقول القائل: " إن زيدا سوف يقوم الآن " لأنه يجمع بين معنيين متضادين. فإن قال قائل: فأنت تقول: إنا إذا قلنا " زيد قائم " فأولى الأشياء بهذا الكلام أن يكون للحال، ومع ذلك فقد يجوز أن تقول: " زيد قائم غدا " وكذلك: " إن زيدا ليقوم "، هو للحال، ومع ذلك يجوز؛ أن تقول: " إن زيدا ليقوم غدا ". فإن الجواب عن ذلك أن قول القائل: " زيد قائم " لم يدخل عليه لفظ لوقت دون وقت، وهو مبهم الصيغة يجوز أن يكون للماضي والحال والمستقبل، غير أنا نجعله للحال، إذا عرّي من غيره، لما ذكرنا من فائدة المخاطب به. واللام فيما زعم هذا الزاعم تدخل على الفعل المضارع الذي يصلح لوقتين، فتقصره على أحدهما، كما تدخل السين وسوف عليه فتقصره على الآخر، فقلنا: لو كانت اللام هي التي قصرت الفعل على أحد الوقتين، فإذا قصرته على أحد الوقتين لفظا لم يجز أن تجعله للآخر، فتقول: " إن زيدا ليقوم غدا " مع دخول اللام، كما لا يجوز أن تقول: " إن زيدا سوف يقوم الآن ": لأن " سوف " قد أخرجت الفعل إلى المستقبل وقصرته عليه، وهذا القول الثاني أقرب عندي. فإن قال قائل: فما معنى قول سيبويه: " حتى كأنك قلت إن زيدا لفاعل فيما تريد من المعنى " فالجواب في ذلك أنا إذا قلنا إن زيدا ليفعل، صلح أن تريد به الحال وصلح أن تريد به المستقبل، فإذا أردنا به الحال فكأنما قلنا إن زيدا لفاعل الآن، وإذا أردنا به المستقبل، فكأنا قلنا إن زيدا لفاعل بعد، فجاز أن يقع (فاعل) مكان (يفعل) وإن كنت في أحدهما تحتاج إلى زيادة لفظ للبيان فاعرف ذلك إن شاء الله. قال سيبويه: " وأما الفتح والضم والكسر والوقف، فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير ". إن سأل سائل فقال: أخبرونا عن النصب والرفع والجر والجزم، هل يقال لها فتح وضم وكسر ووقف؟ فالجواب في ذلك أن يقال: نعم. ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية 124.

فإن قال: فلم خصّ سيبويه تسمية الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء غير المتمكنة، وقد زعمتم أن المعرب يقال له ذلك؟ فالجواب في ذلك: أن سيبويه وسائر النحويين فصلوا بين الضم الذي بعامل والضم الذي بغير عامل في التسمية والتلقيب، إنما أرادوا تقريب معرفته على المخاطب ليتناول علم ذلك من قرب، ولا فرق بين المعرب والمبني في النطق، ولكنهم جعلوا الفتح المطلق لقبا للمبني على الفتح، والضم المطلق لقبا للمبني على الضم، وكذلك الكسر والوقف، وجعلوا النصب لقبا للمفتوح بعامل، وكذلك المرفوع والمجرور والمجزوم، لا يقال لشيء من ذلك مضموم مطلقا، وإنما يخبر عنه بتقييد لئلا يدخل في حيز المبنيات المسميات بهذه الأسماء المطلقة، والدليل على أن كل ذلك يجمعه اسم الفتح والضم والكسر والوقف، أن سامعا لو سمع لفظين مفتوحين أحدهما بعامل والآخر بغير عامل لم يفصل بينهما بنفس السمع واستويا عنده في النطق، حتى يرجع فيعرف ما أوجب ذلك له من عامل أو غير ذلك. وقوله: " فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير ". قوله: " فللأسماء غير المتمكنة "، فهي للأسماء المبنية عندهم، يعني المشابهة عندهم الحروف التي جاءت لمعنى ليس غير. فإن قال قائل كيف تعرب " غير " في هذا الموضع؟ فإن أبا العباس كان يقول: " غير " مبني على الضم، مثل قبل وبعد، كذلك إذا قلنا لا غير، وكذلك القول في سائر الحروف التي جرت مجرى هذا إذا حذف منها المضاف إليه وكان معرفة مثل: قدام، وخلف، وتحت، وأمام، ووراء، وفوق، قال الشاعر: ينجيه من مثل حمام الأغلال … وقع يد عجلى ورجل شملال قبّا من تحت وريّا من عال (¬1) وقال آخر: ... ولم يكن لقاؤك إلا من وراء وراء (¬2) ¬

_ (¬1) اللسان 14/ 15، 19/ 36 نسبه لدكين بن رجاء السعدي. (¬2) قائله عتي بن مالك العقيلي. شرح ابن يعيش 4/ 87.

وهو كثير. فإن قال قائل: فما معنى قوله: ليس غير، وما موضع غير؟ فإن الجواب في ذلك أن ليس دخلت هاهنا للاستثناء، كقولك: " جاءني القوم ليس زيدا " تريد: ليس بعضهم زيدا، واسم ليس مضمر في النية، وموضع غير منصوب بخبر ليس، كما كان زيد منصوبا في قولك: أتاني القوم ليس زيدا، كأنك قلت ليس شيء غير ذلك، فحذف منه المضاف وبني على الضم، والعرب تفعل ذلك فيما عرف معناه، يقولون: " أتاني زيد ليس إلا "، " وأتاني القوم ليس إلا " أي ليس إلا هذا الذي ذكرت. وتقدير قوله: " المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير "، كأنه قال: المشابهة للحروف التي جاءت لمعنى ليس غير ذلك المعنى، أي ليس ما جاءت فيه غير ذلك المعنى، فجعل الاسم في النية وحذف المضاف إليه وغيّر بناؤه. وأما الزجاج فإنه كان يقول إذا قلت: " ليس غير " أو " لا غير " فأدرجته، نونته، ويكون التقدير: مما جاء لمعنى ليس فيه غير، وهو يريد: غير ذلك المعنى، وكذلك لا غير، يريد لا فيه غير لذلك المعنى، ويحذف الخبر، وحجته في ذلك أنه بمنزلة أي وكل وبعض أنهن منونات، وإن حذف ما أضفن إليه: كقولك: أي قام، وكقولك: تخلّف بعض وجاءني بعض، ونحو ذلك. وفي القولين جميعا نظر، والله الموفق. قال: " والأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة ". الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة هي الأفعال الماضية المبنيّة على الفتح وأفعال الأمر المبنية على الوقف، فأما أفعال الأمر فقد مرت، وأما الأفعال الماضية فسنراها إن شاء الله. قال: " وللحروف التي ليست بأسماء ولا أفعال ولم تجئ إلا لمعنى "، يعني: الفتح والضم والكسر والوقف للأسماء المبنية وللأفعال غير المضارعة وللحروف. وقوله: " فالفتح في الأسماء نحو قولهم حين وأين وكيف ". قال أبو سعيد: اعلم أن الأسماء المبنية كلها لا يخرج بناؤها من أن يكون لمشابهة الحروف ومضارعتها، أو للتعلق بها وملابستها، أو لوقوع المبني موقع فعل مبني، أو لخروجه عما عليه نظائره وخلافه لباب أشكاله، وأنا مبين جميع المبنيات بما يحضر لي من شرحها وإبانتها بعللها، وبالله التوفيق.

فنبدأ من ذلك ما ذكره سيبويه في هذا الباب ونشفعه بسائر المبنيات، فأول ذلك " حيث " اعلم أن حيث فيها أربع لغات، يقال حيث وحيث، وحوث، وحوث، وهي مبنية في جميع وجوهها والذي أوجب بناءها علتان: إحداهما أنها تقع على الجهات الست، وهي: خلف، وقدام، ويمنة، ويسرة، وفوق، وأسفل، وتقع على كل مكان. وكل واحد من هذه الجهات تقع مضافة إلى ما بعدها، وأبهمت " حيث " فوقعت عليها كلها ولم يخص مكانها دون مكان، فشبهوها لإبهامها في الأمكنة " بإذ " المبهمة في الزمان الماضي كله، فلما كانت " إذ " مضافة إلى جملة موضحة لها، أوضحت " حيث " بالجملة التي أوضح بها " إذ " من ابتداء وخبر وفعل وفاعل، فلما استحقت الإضافة ومنعتها، صارت بمنزلة قبل وبعد، إذ حذف المضافتان إليه وبنيت كما بنيتا. والعلة الثانية: أنه ليس شيء من غير الأزمنة، وما في معناها يضاف إلى الجمل إلا " حيث "، فلما خالفت أخواتها " حيث " بأنها قد أضيفت إلى الجملة بنيت لمخالفتها أخواتها ودخولها في غير بابها، أعني في مشابهة إذ من الإضافة إلى الجمل، واستحقت أن تبنى على السكون؛ لأن المبني على حركة من الأسماء هو ما كانت له حالة في التمكن، مثل: قبل، وبعد، وأول، ومن حل، ويا زيد، وكان حكم آخره أن يكسر لالتقاء الساكنين. وسنبين لما وجب الكسر في التقاء الساكنين دون غيره إذا انتهينا إلى موضعه إن شاء الله- فلم يكسر وفتح استثقالا للكسرة مع الباء. فإن قال قائل: فقد قالوا: جير وويب ووهيت فكسروهن، فإن الجواب في ذلك أن الحرف على مقدار كثرة استعماله تختار خفته وتؤثر سهولته، فلما كثر استعمال حيث مع العلة التي ذكرنا من اجتماع الكسر والياء آثروا الفتحة لذلك، فأما من ضم " حيث " فإنما ضمها لما كانت مستحقة للإضافة ومنعتها كما فعل بقبل وبعد، ونحن نبين علة الضم في قبل وبعد إذا انتهينا إليه إلا أن الضم في حيث لالتقاء الساكنين، وفي قبل وبعد للبناء في أول أمره. وقد حكى الكسائي عن بعض العرب أنهم يكسرون " حيث " فيقولون مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (¬1) فيضيفونها إلى جملة ويكسرونها مع ذلك، والأمر في هذه اللغة عندي أنهم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية 16. سورة القلم، آية 44.

شبهوها بأسماء الزمان إذا أضيفت إلى غير متمكن، فيجوز بناؤها وإعرابها، كقوله عز وجل: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ (¬1) ويومئذ كما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصّبا … وقلت ألمّا تصح والشيب وازع (¬2) ويروى: على حين، فمن قال: على حين، جره بعلى، ومن قال: على حين بناه؛ لأنه أضافه إلى غير متمكن. وفي كسرة " حيث " وجه آخر يجوز عندي، أن يكون الذين كسروها فعلوا ذلك لالتقاء الساكنين، لا للعامل على ما يجب في التقاء الساكنين من الكسر، فاعرف ذلك إن شاء الله. ومن العرب من يضيف حيث فيجرّ ما بعدها، أنشد ابن الإعرابي بيتا آخره: حيث ليّ العمائم (¬3) فهذا بناه وأضافه كما قال: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (¬4). فإن قال قائل: إنما ضم " حيث " لأنها يشتمل معناها على شيئين، كما ضم " نحن " حين دلت على التثنية والجمع، وكما ضمت الضاد من " ضرب " حين اشتملت على الفاعل والمفعول. فالجواب في ذلك أن ما ذكره كله خطأ لا يثبت في حجاج، ولا يستمر على نظر؛ لأنه لو كان على ما زعم لوجب أن تضم " إذ " لاحتياجها إلى شيئين بعدها واشتمالها عليهما كقولك: قام زيد إذ قام عمرو، ووجب أن لا يضم: قبل، وبعد إذ بنيا. لاشتمالهما على شيء واحد. يدل على فساد هذا القول أيضا أنا متى أضفنا شيئا من أسماء الزمان إلى فعل وفاعل فبنيناه لم يجز ضمه، وإن كان قد اشتمل على شيئين، ولو تقصينا الوجوه التي تفسد هذا القول لطال الكتاب، بينما الغرض غيره. وأما " أين " فإنه اسم من أسماء المكان، وهو يستوعب الأمكنة كلها، متضمنة لمعنى الاستفهام، والحكمة في ذلك أن سائلا لو سأل عن مكان فقال: " أفي الدار زيد؟ أو في ¬

_ (¬1) سورة هود، آية 66. (¬2) قائله: النابغة الذبياني، ديوانه: 18، الخزانة 3/ 151. (¬3) الخزانة 3/ 154. (¬4) سورة النمل، آية 6.

السوق، أو في المسجد ". ولم يكن في واحد منها، قال المسؤول " لا " ويكون مجيبا، ويكون صادقا في ذلك، وليس عليه أن يجيب عن مكانه وإن كان عالما به لأنه لم يسأل إلا عن كونه في هذه الأمكنة فقط، ولو ذهب السائل فعدد الأمكنة مكانا مكانا في الاستفهام قصّر عن استيعابها وطال عليه بلوغ غايتها، فأتى بلفظة تشتمل على الأمكنة كلها وتقتضي الجواب عن كل واحد منها، وتتضمن معنى الاستفهام، وهي " أين " ووجب أن تبنى على السكون لوقوعها موقع حروف الاستفهام، إلا أنه التقى في آخره ساكنان، الأول منهما ياء فآثروا الفتح من أجل الياء التي قبلها ولأنها كثيرة الدّور في كلامهم، ولم يحملوه على قياس ما يجب في التقاء الساكنين من الكسر استثقالا للياء والكسرة بعدها؛ لأن الكسرة كبعض الياء ألا ترى أنك إذا أشبعت الضمة صارت واوا، وإذا أشبعت الكسرة صارت ياء، وإذا أشبعت الفتحة صارت ألفا. وقد اختلف الناس في الحركات والحروف المأخوذة منها الحركات؛ فقالت طائفة إن الحروف مركبة من الحركات، كأنهم جعلوا الواو مركبة من ضمة مشبعة وكذلك أختاها، وقالت طائفة: إن الحركات مأخوذة من الحروف، قالوا: والدليل على ذلك أنا رأينا هذه الحروف الثلاث لها مخارج كمخارج سائر الحروف، فعلمنا أنها غير مركبة من شيء سواها، والحركات مأخوذة منها، ويدل على أن الحركات مأخوذة منها أنا إذا أردنا تحريك حرف بإحدى الحركات الثلاث، أملنا ذلك الحرف إلى مخرج الحرف المأخوذة منه تلك الحركة. فإن قال قائل: ولم زعمتم أن التقاء الساكنين يوجب كسر أحدهما، دون أن يوجب ضمه أو فتحه؟ قيل له: في ذلك علتان: إحداهما: أنا رأينا الكسرة لا تكون إعرابا إلا باقتران التنوين بها، أو ما يقوم مقامه، وقد تكون الضمة والفتحة إعرابين فيما لا ينصرف بغير تنوين يصحبهما. ولا شيء يصحبهما يقوم مقام التنوين، وإذا اضطررنا إلى تحريك الحرف حركناه بحركة لا يوهم إنها إعراب وهي الكسرة. والعلة الثانية: أنا رأينا الجر مختصا بالأسماء، ولا يكون في غيرها، ورأينا الجزم الذي هو سكون مختصا به الأفعال دون غيرها. فقد صار كل واحد منهما في لزوم بابه والاختصاص به مثل صاحبه، فإذا اضطررنا إلى تحريك الساكن منهما حركناه

بحركة نظيره. ووجه آخر وهو أن المجزوم الساكن قد تلقاه ساكن بعده، فلو حركناه بالضم أو بالفتح لتوهّم أنه فعل مرفوع أو منصوب. فإن قال قائل: قد رأينا الساكنين إذا اجتمعا حرك الأول منهما أو حذف إن كان مما يحذف، ورأينا التغيير يلحق الأول منهما فألا ألحقتم التغيير الياء من أين دون غيرها؟ قيل له: لعمري كان حكم اجتماع الساكنين أن يلحق التغيير الأول، إذا لم تكن علة مانعة، نحو قولك: قامت المرأة ولم يذهب الرجل، وقد يلحق الثاني التغيير إذا لم يمكن في الأول، كقولك: رجلان، وغلامان، ومسلمون، وصالحون، وما أشبه ذلك. والذي منع الأول في " أين " من التحريك هو أنا لو كسرنا الياء كانت الكسرة فيها مستثقلة، ولو فتحناها فقلنا " أين " وجب أن نقلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على حكم التصريف، كقولنا: باع وجاد، ولو قلبناها ألفا وجب تحريك النون أو حذف الأول، فكان يلزم فيه تغيير بعد تغيير، فتجنبوا ذلك. فإن قال القائل: فلم وجب في التقاء الساكنين تغيير الأول دون الثاني؟ قيل له: من قبل أن سكون الأول يمنع من التوصل إلى الثاني، وبتحريكه يتوصل إلى النطق بالثاني، فصار بمنزلة ألفات الوصل التي تدخل متحركات ليتوصل بها إلى ما بعدها من الساكن. فإن قال قائل: فقد رأينا في كلامهم، نحو: جير، وحيص بيص في بعض اللغات، وحروف قد جاءت مكسورة على مثال أين وفيه من استثقال الكسر بعد الياء مثل ما ذكر تموه في أين، فكيف ساغ لكم الاحتجاج في فتح أين وأخواتها بما ذكرتموه، وقد جاء ما ينقض ذلك من هذه الأسماء الذي ذكرناها؟ قيل له: إنما كسرت هذه الأسماء على أصل ما يجب لالتقاء الساكنين، وقلّت في كلامهم فلم يحفلوا بكسرها لقلتها وقلة معالجتهم لها، وأين وأخواتها كثيرات الدور في الكلام؛ لأنها يستفهم بها عن الأشياء العامة، فاختير لها أخف الحركات لما فيها من الياء، وثقل الكسر معها على ما وصفنا، فاعرف ذلك إن شاء الله. وأما " كيف " فإنه يستفهم بها عن الأحوال، ووقعت موقع ألف الاستفهام، كأنك إذا قلت كيف زيد فقد قلت: أصحيح زيد أم سقيم؟ أم غير ذلك من أحواله؟ إلا أنك لو نطقت بأحواله واحدة واحدة طال عليك أن تأتي على آخرها، ولم تكن مستوعبا للغرض

المقصود، ألا ترى أنك لو قلت: أأسود زيد؟ أم أبيض؟ أم أشقر؟ جاز أن يكون على لون خلاف هذه الثلاثة، فلا يجب على المسؤول إجابتك عنه ولا شرحه لك؛ لأنك لم تأت بلفظ يقتضي جوابه، فجاءوا بكيف مشتملة على الأحوال كلها جملة وتفصيلا، ووقعت موقع الحال متضمنة ألف الاستفهام فوجب بناؤها على السكون والتقى في آخرها ساكنان: الياء والفاء، فحركوا الفاء إلى الفتح استثقالا للياء والكسرة، وقد بيّنا هذا مستقصى في أين. فإن قال قائل: أليس إذا قلنا: أين زيد؟ وجب على المسؤول أن يخبر عن مكانه الذي هو فيه لا يجزم شيئا مما اشتملت عليه المسألة إذا أراد أن يوفيها حقها. قيل له: نعم، فإن قال: فينبغي إذا قيل: كيف زيد، أن يجيبه عن أحواله التي هو عليها في وقت المسألة، لأن له أحوالا كثيرة، قيل له قد- لعمري- يجب ذلك في ظاهر المسألة كما وجب في " أين "، وكما يجب في " متى "، إلا أن الشيء لا يكون له إلا مكان واحد في حال المسألة، وكذلك لا يكون له إلا وقت واحد في حال المسألة، فالجواب منه يمكن غير متعدد ولا مستثقل، ويكون له أحوال كثيرة لا يأتي المحصي على تعدادها في حالة واحدة إلا بعد طول ومشقة، ألا ترى أنه في وقت واحد: أسود طويل صحيح متكلم سميع بصير؛ وغير ذلك من الأحوال، ولا يكون في حال واحد في السوق وفي المسجد، ولا يحدث الشيء الواحد في زمانين مختلفين حدوثا واحدا، فيجب أن يكون الجواب لكيف ما يقّر المسؤول أنه غرض السائل من أحوال المسؤول عنه. فإن قال قائل: ألستم تقولون: من أين جئت؟ وإلى أين تذهب؟ وكذلك: منذ متى؟ وإلى متى؟ فتدخلون حروف الجر على الأسماء المستفهم بها، فلم امتنع دخول ذلك على كيف؛ فتقولون: من كيف، وإلى كيف، فالجواب في ذلك- وبالله التوفيق- أن " أين " لما كانت استفهاما عن الأمكنة ونائبة عن اللفظ بها، وكنا متى ذكرنا الأمكنة جاز أن يدخل عليها الحروف فنقول: أمن السوق جئت أم من البيت؟ وإلى السوق تذهب أم إلى المسجد؟ جاز أن تدخلها على ما قام مقام هذه الأشياء التي يجوز دخول الجر عليها، وكذلك سائر الأشياء المستفهم بها، هي نائبة عن أسماء تدخل عليها حروف الجر فجاز أن تدخل الحروف عليها هي. وأمّا " كيف " فإنما هي مسألة عن الأحوال، والأحوال لا يجوز دخول حروف الجر

عليها في الاستفهام، لا تقول: أمن صحيح أم من سقيم؟ وكذلك سائر الأحوال، فلم تدخل على كيف، كما لما لم تدخل على ما ناب عنه كيف. فإن قال قائل: ولم لم يدخل على ما ناب عنه كيف، كما دخل على ما ناب عنه أين وأخواتها؟ فإن الجواب في ذلك أن كيف هو الاسم الذي بعده، وأين هو غير الاسم الذي بعده، وإنما هو مكانه وفي تقدير الظروف له، ومعنى ذكرنا اسمين وأحدهما هو الآخر. فإن الكلام غير محتاج إلى حرف، كقولك: زيد أبوك وزيد قائم، وإذا كان أحدهما غير الآخر فلا بد من حرف ظاهر أو مقدر، كقولك: زيد في الدار، وعمرو من بني تميم، وخالد خلفك، والتقدير: في خلفك، والقتال يوم الجمعة، والتقدير: في يوم الجمعة. قال قائل: لم يكون الجواب عن الأسماء التي يستفهم بها معرفة ونكرة؟ كقولك: أين زيد؟ فيقول المسؤول عنه: مكانا طيبا، وتقول في حال: خلفك فيكون معرفة مرة ونكرة أخرى، ولا يكون الجواب في كيف إلا نكرة. فالجواب في ذلك أن " كيف " على ما بينا هو الاسم الذي بعده، فلو جعلناه معرفة لكان السائل إذا قال: كيف زيد، فقال: المسؤول: القائم أو الصحيح، كان قد أجابه عن إنسان بعينه لا عن حال، وإنما هو جواب من إذا قلت: " من زيد " فيقول: القائم أو القاعد، ونحو ذلك. فلما كان التعريف يخرجه إلى الجواب عن الذوات، بطل أن يجاب عن " كيف " بمعرفة، وأما " أين " فإنما يجيب عن مكانه، وقد يكون مكانه معرفة ونكرة كما بينا. وفي كيف لغة أخرى، يقال: كيف، وكي في معنى كيف، قال الشاعر: أو راعيان لبعران لنا شردت … كي لا يحسّان من بعراننا أثرا (¬1) أراد كيف لا يحسان، فمنهم من يقول: أنه حذف للشعر، ومنهم من يقول: إنها لغة. فإن قال قائل: لم جاز أن يجازي بالأسماء التي يستفهم بها، ولا يجوز المجازاة بكيف؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما أن الأسماء التي يجازي بها ويستفهم بها لا شيء منها إلا ويجوز أن يكون معرفة ونكرة، ويكون جوابه معرفة ونكرة، والمجازاة به على تقدير ¬

_ (¬1) غير منسوب، الخزانة 3/ 195، شرح ابن يعيش 4/ 110.

حرف الجزاء فيه، وذلك أنك إذا قلت: أين زيد آته، فكأنك قلت: أين زيد إن أعرف مكانه آته، ففي أيّ مكان كان وجب عليك إتيانه بعد معرفته، وكذلك إذا قلت: أين تكن أكن، كأنك قلت: إن تكن في السوق أكن فيها، أو تكن في مكان غيرها أكن فيه، فلمّا كانت مشتملة على الأسماء التي تقع بعد حرف المجازاة جاز أن يجازي بها، إذا كانت مساوية لها. وأما كيف فلا يقع إلا على نكرة، ولا يكون جوابها إلا نكرة، فخالفت حروف الجزاء فيما يقع عليه فلم يجاز بها لقصورها عن بلوغ معاني حروف الجزاء، فهذه علة أبي العباس. والجواب الثاني: أنك إذا قلت: " أين يكن زيد أكن "، فقد شرطت على نفسك أنك تساويه في مكانه، وتحل في محله، وهذا معنى ممكن غير متعذر وقوع الشرط عليه، وإذا قلت: " كيف تكن أكن "، فقد ضمنت أن تكون عن أحواله وصفاته كلها، وهذا متعذر وقوعه، وبعيد اتفاق شيئين من جميع جهاتهما في جميع أوصافهما. قال سيبويه: " والكسر فيها نحو ألاء وحذار وبداد ". قال أبو سعيد: يعني الكسر في الأسماء المبنية، فأما ألاء: ففيه ثلاث لغات أشهرها ألاء ممدود مكسور على مثال غراب، وألى مقصور على وزن هدى وقد زادوا فيه هؤلاء. فإن قال قائل: لم وجب الكسر في ألاء؟ قيل له: في ذلك وجهان: أحدهما أنه إشارة إلى ما بحضرتك مادام حاضرا فإذا زال لم يسمّ بذلك، والأسماء موضوعة للزوم مسمياتها، ولما كان لهذا غير لازم لما وضع له صار بمنزلة المضمر الذي يعتقب الذكر إذا جرى ولا يؤتى به قبل ذلك، فهو اسم المسمى في حال دون حال، فلما وجب بناء المضمر وجب بناء المبهم لذلك. فإن قال قائل: فأنت إذا قلت متحرك وساكن وآكل وشارب، فإنما يقع هذا الاسم عليه في حال أكله وشربه وحركته وسكونه، فإذا زال عن ذلك لم يسم به، فكذلك المشار إليه يسمى بأسماء الإشارة ما دام حاضرا فإذا زال لم يسم بها، فلم بال أسماء الإشارة وفيها ما في المتحرك والساكن من زوال التسمية عنه إذا زال عن الفعل؟ قيل له: الفصل بينهما أن المتحرك والساكن اسمهما لازم لهما في كل أحد حاضر وغائب، والمشار إليه لا يجوز أن يقول له " هذا " إلا من كان حاضرا، ومن غاب عنه لم تسمه بذا، فعلمنا أن هذا الاسم غير لازم له فصار بمنزلة الضمير الذي يضمره من ذكر الاسم إذا ذكر عنده ولا

يسميه به غيره. ووجه ثان: أن الإشارة مبهمة واقعة على كل شيء من حيوان وجماد وإنسان فوجب أن سكن آخر " أولاء "، فالتقى فيه ساكنان، فكسر الثاني منهما لامتناع كسر الأول. فإن قال قائل: ولم وجب بناء هذه الأسماء لمشاكلة الضمير؟ قيل له: إنما وجب بناؤها وبناء الضمير معها لمشاكلتها لحروف المعاني؛ لأنه لا شيء إلا وحروف المعاني داخلة عليه غير ممتنعة في شيء دون شيء، فلما كان الضمير والإشارة داخلين على الأشياء كلها لدخول الحروف عليها، وجب بناؤها. فإن قال قائل: فأنت قد تقول: " شيء " فيكون واقعا على الأشياء كلها؛ فهذا وجب بناؤه لوقوعها على الأشياء كلها. قيل له: الجواب عن ذلك أن شيئا هو اسم المسمى لازم له في أحواله كلها، والكناية والإشارة والحروف هي أعراض تعرض في الأشياء كلها، وليس شيء منها إلا يزول فافترق المعنيان وتباين الحكمان، وصار " شيء " للزومه ما سمى به وإن كان عاما كلزوم رجل وفرس وسائر الأشياء المنكورة لما سمي بهن وتصرف في وجوه الإعراب كتصرف الأشياء المنكورة، وأما من قصر فإنه بناء لمثل العلة التي ذكرنا إلا أنه لم يلتق في آخره ساكنان. وأما من قال: " هؤلاء "، فإنه كان الأصل: هاؤلاء، فها للتنبيه، وأولاء للإشارة، وكثر في كلامهم حتى صار ككلمة واحدة، فخففوه، وقالوا هؤلاء، قال الشاعر: تجلّد لا يقل هؤلاء هذا … بكى لما بكى ألما وغيظا (¬1) ويقال في واحد " أولاء "، للمذكر: ذا، وللمؤنث: تا، وتي، وذي، وذه. والكلام في بنائهن كالكلام في بناء أولاء. فإن قال قائل: أخبرونا عن هذه الوجوه التي في المؤنث، هل هي أصول كلها؟ أم بعضها أصول وبعضها فروع؟ فالجواب في ذلك أن: تا، وتي، وذي هي أصول، و " ذه " هاؤها مبدلة من الياء، وهو الشائع من قول أصحابنا، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: رأينا التأنيث قد يكون بالياء في ¬

_ (¬1) غير منسوب. الخزانة 3/ 47، شرح ابن يعيش 3/ 136.

حال، في قولك: اضربي، ولم نر الهاء تكون للتأنيث، فإذا جاءت اللغتان في شيء الهاء والياء فيه، وقد رأينا الياء للتأنيث في أصل، ولم أر الهاء للتأنيث في شيء جعلنا الياء هي الأصل في التأنيث. فإن قال قائل: فقد رأيناهم جعلوا الهاء للتأنيث في قولهم: قائمة، وشجرة، إذا وقفوا عليها. قيل له: ليست هذه هاء في أصلها وحقيقتها، وإنما تأنيث الاسم بالتاء، وإنما يوقف عليها بالهاء ليفرق بين تأنيث الاسم وتأنيث الفعل، وأيضا فإن هذه الهاء تنقلب تاء في الدرج، والكلام إنما هو في حقيقته على ما يدرج عليه الكلام، ألا ترى أنا نقلب من التنوين ألفا في النصب، وحقيقته تنوين على ما يدرج عليه الكلام. ويدل على ذلك أيضا أن من العرب قوما وهم من طيئ يقفون على التاء في مثل هذا، فيقولون: شجرت، وحجفت، يريدون: شجرة، وحجفة، فإذا ثنيت شيئا من هذا أدخلت حرف التثنية، وهو ساكن، فاجتمع ساكنان وليس الألف مما تحرك بحال لإبهامها فسقطت، فتقول: ذا، وذان، وتا، وتان، وذي، وتان، وذه، وتان يجتمعن في التثنية على تا وسقط الحرف الأول لاجتماع الساكنين ولأنه مبهم لا يحرك بحال. فإن قال قائل: فأنتم تقولون: رحا ورحيان، وقفا وقفوان فتقلبون الألف واوا أو ياء في التثنية لاجتماع الساكنين وتحركونها، فهلا فعلتم ذلك في تثنية ذا وتا؟ قيل له: إنما فعل هذا برحا وقفا؛ لأن الألف منهما في موضع حركة، والدليل على ذلك أن مثلهما في الصحيح متحرك كقولهم حمل وجبل وأشباه ذلك. فإن قال قائل: فأنتم تقولون: حبلى وحبليان وحباري وحباريان، وألف التأنيث لا حركة لها في أصلها فهلا فعلتم في ذلك في تين وذين؟ فالجواب في ذلك أنا رأينا ألف التأنيث في حكم الحركة، ولو كانت متحملة للتحريك لكانت محركة ولم تكن مسكنة كما تسكن المبهمات، والدليل على ذلك أن حمراء وصفراء وخنفساء متحركات الهمزة، وهمزتهن مبدلة من ألفات التأنيث، فلما كان الهمز محتملا للحركة حركته بما كان يستحق الألف من الحركة وليس ذلك في ذين وتين. فإن قال قائل: فأنتم إذا صغرتم: ذا، وتا، قلتم: ذيا، وتيا، فقلبتم هذه الألف ياء وحركتموها، فهلا فعلتم ذلك في التثنية؟ فإن الجواب في ذلك أن باب التصغير لا يشبه شيئا مما ذكرناه، وذلك أنا إذا

صغرنا اسما على أقل من ثلاثة أحرف رد التصغير الحرف الذاهب، فلما صغرنا " ذا " لم يكن بد من تتمة ثلاثة أحرف وتحريكهن، ولم تكن هذه الألف بأضعف من حرف ليس في الاسم يرده التصغير ويوجب تحريكه، فكأنما جعلناه بمنزلة حرف معدوم فرده التصغير وحركه، ولا توجب التثنية ذلك، ألا تراهم قالوا: يد، ويدان، وقالوا: يديّة، وقالوا: دم، ودمان، ودمي. فإن قال قائل: لم أجمعوا في تثنية المؤنث على إحدى اللغات الثلاث، فقالوا: تان. فالجواب في ذلك أنهم لو قالوا تان وذان في تثنية ذي التبس المذكر بالمؤنث في لغة الذين يقولون ذي، فاستعملوا في التثنية لغة الذين يقولون: تا، لزوال اللبس وإيضاح المقصود بالتثنية. فإن قال قائل: فلم استوى المذكر والمؤنث في قولك: أولاء عند الإشارة؟ فالجواب في ذلك أن أولاء وقع على جمع أو جماعة، فكأنه قال: أشير إلى هذه الجماعة، أو إلى هذا الجمع، فلما كانت في مذهب الجمع والجماعة، وكان الجمع والجماعة يقع على الرجال والنساء والحيوان والجماد والمذكر والمؤنث والأجسام والأعراض وقع على ذلك كله أولاء وهؤلاء، فاستوى المذكر والمؤنث، قال جرير: دم المنازل بعد منزلة اللوى … والعيش بعد أولئك الأيام (¬1) وقال بعض الأعراب: ياما أميلح غزلانا شدن لنا … من هؤليائكن الضال والسمر (¬2) فجاء بأولاء للأيام وللضال والسمر، ومما يشبه هذا المعنى أن جمع المذكر والمؤنث إذا كان مكسرا فهو مؤنث ولا يختلف باختلاف واحده؛ لأنه ذهب بهما مذهب الجماعة، فكذلك ذهب بالإشارة مذهب الجماعة والجمع، فاعرف ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: فلم دخلت النون في تثنية: ذا، فإن في ذلك جوابين، أحدهما: أن النون عوض مما حذف لالتقاء الساكنين وهو الألف التي كانت في ذا، وكذلك المبهمات ¬

_ (¬1) قائله: جرير، ديوانه 551، الخزانة 2/ 467. (¬2) اختلفوا في نسبته. شرح ابن يعيش 1/ 73، الخزانة 1/ 47.

التي تدخل عليها النون في التثنية، نحو: تا، والذي وغير ذلك. فإن قال قائل: ولم إذا حذف حرف لالتقاء الساكنين وجب أن يعوض منه؟ قيل له: من قبل أن التثنية لا يسقط بها شيء من آخر الاسم لالتقاء الساكنين إلا المبهم، فلما خالف المبهم الصحيح، فمنع ما يكون في نظيره من جهة التثنية، ونقص منه حرف لا ينقص من غيره من المثنى عوض من ذلك. والوجه الثاني: أنا رأينا التثنية لا تختلف طريقتها ولا تكون إلا على منهاج واحد لأنه يرد فيها صيغة المفرد وتزاد عليه علامة التثنية فقط، فلما كانت التثنية على ما وصفنا استوى المبهم وغيره في التثنية لاستواء طريقة التثنية واتفاق منهاجها فأعرب جميعها، وقد شدد بعضهم النون في تثنية المبهمات، فقالوا: هذان واللذان فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ (¬1). فأما هذان واللذان. ففيه وجهان: أحدهما أن هذه النون جعلت عوضا من المحذوف الذي ذكرنا، في الوجه الأول فصار بمنزلة الميم المشددة في آخر اللهم عوضا من (يا) ويحتمل أن يكون في هذا الوجه شددت النون، ليفرقوا بين النون التي هي عوض من حرف محذوف والنون التي تدخل عوضا من الحركة والتنوين، فجعلت للمعوضة من الحرف مزية فشددت؛ لأن الحرف أقوى من الحركة والتنوين. والوجه الثاني أنه شددت النون للفرق بين المبهم وغيره ليدلوا بتشديد النون على أنه على غير منهاج المثنى الذي ليس بمبهم، ولأنه لا تصح فيه الإضافة، وغيره من المثنى يصح أن يضاف فتسقط نونه وكان ما لا يسقط بحال أقوى مما يسقط تارة ويثبت أخرى فشددت لذلك. وأما ذانك ففيه الوجهان اللذان في " هذان واللذان "، وفيه وجه آخر، قالوا أبو العباس: الذي يقول في الواحد ذلك فيدخل اللام للزيادة في البعد، يقول في التثنية: ذانك مشدد النون والذي يقول ذاك في الواحد يقول في التثنية ذانك بالتخفيف. فإن قال قائل: كيف صار تثنية ذلك ذانك؟ فإن في ذلك وجهين: أحدهما: أنا ثنينا ذا فصار ذان، ثم أدخلنا اللام بعد النون للمعنى الذي أردنا من زيادة البعد فصار ذانلك، فاجتمع حرفان اللام والنون وكل واحد منهما يجوز إدغامه في ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية 32.

صاحبه فقلبنا الثاني إلى الأول فصار الثاني الذي هو اللام نونا وأدغمنا فيه النون الأولة. ونظير هذا " مذكر " بالذات المعجمة مفتعل من الذكر، وكان أصله مذتكر فقلبنا من التاء دالا فصار مذدكر، والدال والذال كل واحد يدغم في صاحبه، فقلبنا الثانية إلى جنس الأولة فصارت الدال غير المعجمة ذالا معجمة، وأدغمت الذال الأولى فيها فكان قلب الثاني إلى لفظ الأول أولى؛ لأن لفظ النون يدل على التثنية ولفظ اللام لا يدل على شيء. والوجه الثاني: أنا أدخلنا اللام قبل النون فصار ذالنك، ثم قلبنا اللام نونا وأدغمناها في النون، وهذا نظير مدكر بالدال غير المعجمة، وهو القياس؛ لأن حكم الحرف الأول أن يكون هو المدغم في الثاني؛ لأن الثاني هو المتحرك الظاهر. إلا أن إدغام اللام في النون ليس بذاك القوى كإدغام الذال في الدال، فكذلك القائل بالقول الأول في ذانك إلى ما وصفناه. فإن قال قائل: فإذا زعمت أن ذانك هو تثنية ذلك فيجب أن تكون الألف والنون بعد اللام فيكون ذا لانك؟ فالجواب في ذلك أن هذه اللام دخلت بعد التثنية للتوكيد الذي ذكرناه في البعد كما دخلت على الواحد بعد تمام صياغته ومعناه فوقعت أخيرا بعد الألف كما وقعت بعد حروف الواحد، فاعرف ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: أخبرونا عن الألف التي في ذان أهي الألف في ذا أم هي ألف التثنية؟ فالجواب في ذلك أنها ألف التثنية، وقد عطف الألف الأولة، والدليل على ذلك أنها تنقلب ياء في الجر والنصب كألف التثنية فعلمنا أنها هي، وأن ألف ذا هي الساقطة، فاعرف ذلك إن شاء الله. وأما " حذار " و " بداد " فإن ما كان على بنائهما مما يستحق البناء على الكسرة على أربعة أقسام: الأول: ما وضع موضع الفعل نحو حذار ونزال. والثاني: ما كان واقعا موقع المصدر نحو فجار وبداد. والثالث: ما كان معدولا عن صفة غالبة، نحو قولهم: حلاق للمنية وفساق للفاسقة. والرابع: ما كان معدولا عن فاعله علما كقولك حذام وقطام، وأنا مبين هذه

الأقسام قسما قسما بتعليله وما فيه إن شاء الله. فأما فعال في الأمر إذا وقع موقع فعل الأمر فإن حكمه أن يقع مسكنا في الأمر فإنه وقع موقع فعل الأمر، وهو مسكن فاستحق مثل حال الذي وقع موقعه، والتقى في آخره ساكنان الألف الزائدة ولام الفعل، فوجب تحرك اللام لالتقاء الساكنين، وكان الكسر أولى بها لعلتين إحداهما أن نزال مؤنثة والكسر من علم التأنيث فأعطي أشكل الحركات بها، والدليل على ذلك قول زهير: ولأنت أشجع من أسامة إذ … دعيت نزال ولج في الذعر (¬1) فأنث نزال. والعلة الثانية: أنه لما التقى في آخره ساكنان كسرنا على حد ما يوجبه التقاء الساكنين من الكسر. وزعم سيبويه أنه يطرد في هذا الباب من الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها فعال بمعنى افعل فما كان افعل منه غير متعد لم يتعد فعال الذي وقع موقعه وما كان افعل متعديا تعدى فعال منه نحو حذار ونزال ومناع، كما تقول: اترك، احذر، امنع، قال الكميت: نعاء جذاما غير موت ولا قتل … ولكن فراقا للدعائم والأصل (¬2) أراد أنع جذاما، وقال آخر: تراكها من إبل تراكها … أما ترى الموت لدى أوراكها (¬3) وقال آخر: مناعها من إبل مناعها … أما ترى الموت لدى أرباعها (¬4) وقد يكون مثل هذا في الفعل الرباعي إلا أنه قليل لا يجعل أصلا ولا يقاس عليه، قالوا قرقار في معنى قرقر، وعرعار في معنى عرعر وعرعار لعب، قال الشاعر: قالت له ريح الصبا قرقار … واختلط المعروف بالإنكار (¬5) وقال النابغة: ¬

_ (¬1) ديوانه 89، الخزانة 3/ 61. (¬2) سيبويه والشنتمري 1/ 139، الصاغاني 8. (¬3) قائله: طفيل بن يزيد الحارثي. شرح ابن يعيش 1/ 515. (¬4) شرح ابن يعيش 1/ 515، الخزانة 2/ 354. (¬5) ابن خالويه 40، منسوب لأبي النجم العجلي. المخصص 9/ 105.

متكنفي جنبي عكاظ كليهما … يدعو وليدهم بها عرعار (¬1) فإن قال قائل: أخبرونا عن فعال هذه أهي اسم أم غير اسم؟ قيل له: هي عندنا اسم معرفة مؤنث، والدليل على أنها اسم أنه ليس في أبنية الأفعال مثله؛ لأنه ليس أبنية الأفعال فعال وهو في الأسماء كثير، ومع ذلك فإن زهيرا جعلها فاعلة وأنثها بقوله: " دعيت نزال "، وذلك لا يكون إلا في الأسماء والدليل على أنها معرفة أنك لو قلت دعيت نزال فإنما يراد انزل أو انزلوا، وهذا اللفظ هو معروف لا ينكر، وقد ذكر بعض النحويين أن فعال في معنى افعل لا تكون مطردة في الأفعال الثلاثية كلها وكما لا يطرد في الأفعال الرباعية كلها إنما يقال من ذلك ما قالته العرب حسب، فلا يقال قوام في معنى قم ولا قعاد في معنى اقعد، ومع ذلك فإن فعال اسم وضعته العرب موضع افعل وليس لأحد أن يبتدع اسما لم تقله العرب ولا تكلمت به، وذهب سيبويه في الفصل بين الثلاثي والرباعي إلى أن فعال في الثلاثي قد كثر في كلامهم جدا واستمر ولم يسمع من الرباعي إلا في الحرفين اللذين ذكرناهما أو غيرهما من القليل الشاذ النادر، وإنما يعرف استمرار الشيء واطراده في القياس بكثرته على منهاج واحد فلما كثر ذلك في الثلاثي على المنهاج الذي ذكرناه جعله أصلا وقاس عليه. وأما القسم الثاني من فعال إذا كانت في معنى المصدر فليست تكون مبنية إلا أن تكون معرفة مؤنثة معدولة. وذلك نحو فجار وبداد. قلنا فجار فكأنا أردنا الفجرة والفجرة مؤنثة معرفة وفجار معدولة عنها واجتمع فيها العدل والتأنيث والتعريف، فزعم سيبويه أن الذي أوجب بناءها مشابهتها لفعال التي تقع في الأمر ومشابهتها إياها أنهما معرفتان مؤنثتان. وزعم أبو العباس أن الذي أوجب بناءها أنها لو كانت مؤنثة معرفة غير معدولة لكان حكمها أن لا تصرف فلما عدلت زادها العدل ثقلا فلم يبق بعد منع الصرف إلا البناء فبقيت لذلك، وهذا قول مدخول من قبل أن الشيء إذا اجتمع فيه علتان يمنعان الصرف أو ثلاث وأربع كانت القصة واحدة في منع الصرف حسب، فلا يجاوز به اجتماع العلل إلى البناء: لأن البناء يقع بمشاكلة الحروف ومناسبتها والوقوع موقعها ومنع ¬

_ (¬1) ديوانه 102، المخصص 17/ 66.

الصرف، إنما يكون لاجتماع علتين فصاعدا في الاسم من العلل التي تمنع الصرف، والدليل على ذلك أن صحراء ونحوها لا تنصرف وهي نكرة، وإذا سمينا بها مؤنثا لم يزدها التعريف ثقلا يخرجها إلى البناء وكذلك مساجد لو سمي بها رجل لم يصرف من أجل هذا البناء وهو مذكر معرفة ولو سمي بها امرأة لم تنصرف وكان حالها في تسمية الرجل والمرأة بها سواء وإن كانت في تسمية المرأة بها علّة زائدة. فهذا يبين لك ما ذكرناه من صحة قول سيبويه وفساد قول غيره، وقال النابغة: إنّا اقتسمنا خطتينا بيننا … فحملت برّة واحتملت فجار (¬1) يريد الفجرة: قال أبو سعيد: ويجوز عندي أن يكون أراد فاجرة معرفة فعدل فجار عن فاجرة معرفة مثل قطام وجعلها علما للخطة. والدليل على ذلك قوله فحملت برّة فجعل الخطة برّة ولقّبها بهذا وجعلها معرفة فلم يصرفها ونقيض برة فاجرة لا الفجرة وكأن الخطط خطتان: إحداهما يقال لها برة والأخرى فجار اسم لها معدول عن فاجرة، فتبيّن ذلك إن شاء الله، وقال آخر: وذكرت من لبن المحلّق شربة … والخيل تعدو بالصعيد بداد (¬2) يعني بددا في معنى متبددة. وحقيقة هذا أنّ بداد في موضع مصدر مؤنث معرفة وإن كان لا يتكلم به كأنه في التقدير البدّة لا يتكلم بالبدة ولكن هذا حقيقتها. فإن قال قائل: وكيف يجوز هذا التقدير، وبداد في موضع الحال، والحال لا تكون إلّا نكرة، قيل له قد يجوز أن تجيء الحال إذا كان المصدر معرفة بالألف واللام أو بالإضافة، كما تقول فعلته جهدي وطاقتي، وكما قال لبيد: فأرسلها العراك ولم يذدها … ولم يشفق على نغص الدّخال (¬3) ويروى على نغص الدّخال. والقسم الثالث الصفة الغالبة، وذلك نحو قوله للمنية حلاق وللمنية أيضا جباذ، ¬

_ (¬1) البيت منسوب للنابغة الجعدي في مجالس ثعلب 396، وخزانة الأدب 3/ 65، اللسان (برر). (¬2) البيت بلا نسبة في المقتضب 3/ 371، وشرح ابن يعيش 4/ 54 واللسان (بدو). (¬3) البيت في ديوانه: 11/ 41، وسيبويه 1/ 187، والمخصص 14/ 227.

وللشمس حناذ، ومعناها أن تشوي ما يقع عليه لحرارتها، ومنه قول الله تعالى: (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، وقال الشاعر في المنية: لحقت حلاق بهم على أكسائهم … ضرب الرّقاب ولا يهمّ المغنم (¬1) ويدخل في هذا الباب قولهم يا فساق ويا خباث ويا لكاع، وبابه أن يكون في النداء إلا أن يضطر شاعر فيذكره في غيره مضطرا. قال الشاعر: أطوّف ما أطوّف ثم آوي … إلى بيت قعيدته لكاع (¬2) والعلة في بناء هذا على الكسر كالعلة فيما قبله، والاختلاف فيه كالاختلاف فيه. والوجه الرابع: ما كان معدولا عن فاعله نحو حذام وقطام، فأما أهل الحجاز فإنهم يجعلونها كالأبواب الثلاثة التي قبلها فيبنونها ويكسرونها لاجتماع التأنيث والعدل والتعريف، كما كان ذلك فيما قبل، وعلة أبي العباس أنها قبل العدل غير منصرفة فإذا عدلت زادها العدل ثقلا فبنيت، وقد ذكرنا هذا المعنى، قال الشاعر: إذا قالت حذام فصدّقوها … فإن القول ما قالت حذام (¬3) وقال آخر: أتاركة تدلّها قطام … وضنّا بالتحية والسّلام (¬4) وأما بنو تميم فإنهم يجرونها مجرى ما لا ينصرف من المؤنث نحو زينب وعمرة، فيقولون جاءتني قطام ومررت بقطام ولقيت قطام إلا ما كان آخره راء فإنّ أكثرهم يوافق أهل الحجاز فيكسر الراء، وذلك أن الراء لها حظ في الإمالة ليس لغيرها من الحروف فيكسرونها على الأحوال من جهة الإمالة التي تكون في الحرف ليكون الكسر من جهة واحدة، وذلك نحو حضار اسم لكوكب عظيم في مجرى سهيل وقربه، وجعار اسم للضبع ووبار موضع، ويزعمون أنه بلد للجن ويذكرون فيه أحاديث وقصصا ليس هذا موضع ذكرها. ¬

_ (¬1) البيت للأخزم بن قارب في اللسان (حلق)، وبلا نسبة في سيبويه 2/ 35 والكامل 4/ 207. (¬2) البيت للحطيئة في ديوانه 148، وابن يعيش 1/ 518، ومعاني القرآن 146. (¬3) البيت منسوب لزهير بن جناب ولجيم بن صعب وجرير في معاني القرآن 1/ 215. وشرح الأشموني 3/ 268، وشرح ابن يعيش 1/ 524. (¬4) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه 158 وفيه (الكلام) مكان (السّلام).

وبعض بني تميم يجعل ما آخره راء كغيره من نحو حذام وقطام فلا يصرفها ويرفعها في الرفع، ويفتحها في النصب والجر، قال الشاعر: ومرّ دهر على وبار … فهلكت جهرة وبار (¬1) وهذا البيت للأعشى وهو من بني قيس بن ثعلبة إلا أن منزله باليمامة وفيها بنو تميم وغيرهم من قبائل العرب والمتجاورون قد يغلب على جماعتهم لغة أصلها لبعضهم. قال سيبويه: " والضم نحو حيث وقبل وبعد ". قال أبو سعيد: أما حيث فقد مرّ تفسيرها وأما قبل وبعد فإن أصلهما في الكلام أن يكونا مضافتين وكذلك حقهما في معناهما، كقولك جئتك قبل يوم الجمعة وقبل وبعد يوم التقينا فيه فحذف ما أضيفتا إليه واكتفى بمعرفة المخاطب فصارا بمنزلة بعض الاسم؛ لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد، فلما بقي المضاف دون المضاف إليه وتضمن معنى الإضافة وجب أن يبنى، لأن بعض الاسم مبني فإذا نكرا لحقهما الإعراب، كقولك " جئتك قبلا يا هذا "، ومن قبل ومن بعد، لأنهما إذا نكرا لم يتضمنا معناهما مضافين، لأن المخاطب لم يعرف معناهما مضافين فلم يصيرا كبعض الاسم، قال الشاعر: فساغ لي الشراب وكنت قبلا … أكاد أغصّ بالماء الفرات (¬2) فإن قال قائل: ولم لم يبن على سكون؟ قيل له المبنيات على ضربين: ضرب لا ملابسة بينه وبين المتمكن ولا تعلق له به. وضرب يلابسه ويتعلق به، فإذا كان كذلك فلا بد من ترتبهما في البناء فيجعل لكل واحد منهما مرتبة غير مرتبة صاحبه، فلما كان السكون أنقص من الحركة بنينا عليه كل مبني لم يتعلق بالمتمكن ولم نلابسه وجعلنا المبني الملابس للمتمكن مبنيا على حركة، ليكون له بذلك فضيلة على المبني الآخر لفضل الحركة على السكون، فوجب من أجل ذلك أن يبني قبل وبعد على حركة لأنهما متمكنان في الإضافة وتمكنهما في حال الإضافة فضيلة لهما في حال البناء وتعلّق منهما بالمتمكن. فإن قال قائل فلم وجب بناؤهما على الضمة من بين الحركات دون غيرها؟ ¬

_ (¬1) البيت للأعشى في ديوانه 218. (¬2) البيت منسوب لعبد الله بن يعرب ويزيد بن عمر الكلابي في معاني القرآن 2/ 320، وخزانة الأدب 1/ 204.

فإن الجواب في ذلك أن كل واحد منهما لما كانت منصوبة ومخفوضة في حال الإضافة والتمكن في قوله " جئته من قبلك " و " رأيته قبلك " أعطيت في حال البناء حركة لم تكن لها في حال التمكن وهي الضمة. وعلة ثانية: أن قبل وبعد قد حذف منهما المضاف إليه وتضمنا معنى الإضافة، فحركا بأقوى الحركات ليكون عوضا من الذاهب كما يعوض من المحذوفات في مواضع كثيرة حروف وحركات، ألا ترى أن سيبويه جعل السين في اسطاع عوضا من ذهاب الحركة من الواو في أطوع، فإذا جاز أن يبدل الحرف من الحركة ويجعل عوضا، جاز أن تبدل الحركة من الحرف وتجعل عوضه. وعلة ثالثة: وهي أن قبل وبعد يشبهان الاسم المنادى المفرد، والشبه بينهما أن المنادى المفرد متى نكر أو أضيف أعرب، كقولك " يا راكبا " و " يا عبد الله " وإذا أفرد بنى إذا كان معرفة وقد كان متمكنا قبل أن يبنى، فكذلك قبل وبعد إذا أضيفا أو نكرا أعربا وإذا أفردا غير نكرتين بنيا فلما أشبها المنادى المفرد بالشبه الذي ذكرناه وكان المنادى مضموما ضما كما ضم. فإن قال قائل: فما وجه كونهما منكورين في حال ومعروفين في حال إذا كانا مفردين؟ قيل له: أما كونهما معروفين فأن يكون المضاف إليه المحذوف منهما معرفة فيتعرفان به فإذا حذفته لمعرفة المخاطب به فقد فهم بهما مفردين ما كان يفهمه بهما مضافين فهما على حدهما في التعريف، ومن ذلك قوله عز وجل: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (¬1) أراد من قبل الأشياء ومن بعدها، فحذف الأشياء وفهم المعنى، وإذا كانا منكورين فكأنهما أضيفا إلى منكور وحذف المضاف إليه فبقيا على التنكير. فإن قال قائل فلم لم يبنيا منكورين؟ قيل له لأنهما لم يتضمنا معنى الإضافة، فإذا كان كذلك لم يكونا كبعض الاسم وصارا بمنزلة قولك: " مررت بعبد وغلام "، ونحو ذلك، وإنما كانت العلة التي وجب من أجلها البناء أنهما كبعض الاسم لتضمنهما معنى الإضافة، والذي قلناه في قبل وبعد هو العلة في أوّل وفي وراء وقدام، وهذه الظروف إذ حذفت المضاف إليه حكمهن حكم قبل وبعد كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة الروم، آية 4.

ولم … يكن لقاؤك إلا من وراء وراء وقد مر هذا. والنحويون يسمون قبل وبعد إذا ضمّنا معنى الإضافة بعد حذف المضاف إليه غاية. والمعنى في ذلك أنه لما كان حد الكلام أن ينطق بهما مضافين فحذف المضاف إليه واقتصر بهما، وقد كان تمام الكلام وغايته هو الشيء الذي بعدهما، صيّرا غاية الكلام في النطق وتم الكلام بلفظهما دون المضاف إليه في النطق فصارا غاية ينتهي عندها المتكلم فاعرف ذلك إن شاء الله. قال سيبويه: " والوقف قولهم من وكم وقط وإذ ". قال أبو سعيد: أما من فهي اسم، والدليل على ذلك أنها تقع مواقع الأسماء فاعلة ومفعولة ولها ضمير يعود إليها ويدخلها حروف الجر، ولها ثلاثة مواضع هي فيها كلها مبنية لعلل أوجبت ذلك لها، فأولها أنه يستفهم بها عن ذوات ما يعقل من الثقلين والملائكة كقولك " من جبريل؟ " و " من زيد؟ " و " من إبليس؟ " فوقعت موقع حرف الاستفهام في هذا الوجه فبنيت من أجل ذلك. والثاني أنها تقع في المجازاة على ذوات ما يعقل فبنيت لوقوعها موقع حرف الجزاء، وهو " إن " وذلك قولك: " من يأتني آته " كأنك قلت: " إن يأتني زيد آته " " وإن يأتني عمرو آته " وكذلك غيرهما من سائر ما يعقل. والثالث أن يكون بمعنى الذي لذوات ما يعقل فيحتاج في هذا الموضع خاصة دون الموضعين الأولين من الصلة إلى مثل ما احتاجت إليه (الذي) وتكون مبنية مثل ما كانت (الذي)؛ لأنها والصلة في موضع اسم واحد فهي بعض الاسم وبعض الاسم لا يكون إلا مبنيا. وهي تفارق (الذي) في شيئين: أحدهما: أنها لا توصف كما توصف الذي. وثانيهما: أنه لا يوصف بها، كما يوصف بالذي: تقول: " جاءني زيد الذي قام " و " جاءني الذي قام بالعاقل " فتصف الذي، وتصف بها، ولا تقول: " جاءني زيد من قام " تريد الذي قام على النعت ولا جاءني من قام العاقل، فإن قال قائل لم زعمت أنها لا تقع إلا على ذوات ما يعقل من الثقلين والملائكة، فقد قال الله عز وجل: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ

يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ (¬1) والذي يمشي على بطنه ليس مما يعقل ولا الذي يمشي على أربع، لأن الذي يمشي على بطنه هو ما ينساب من الحيات ونحوها، والذي يمشي على أربع نحو الخيل والبغال والحمير والأنعام وسائر ذوات الأربع؟ قيل له: إنما جاز إجراء " من " على هذه الأشياء وإن لم تكن مما يعقل لما خلطن بمن يعقل وذكرن معه، كقول لبيد: فعلا فروع الأيهقان وأطفلت … بالجلهتين ظباؤها ونعامها (¬2) والنعام لا تطفل وإنما تبيض، فكأنه قال: وباضت نعامها، وقال آخر: علفتها تبنا وماء باردا … حتى شتت همّالة عيناها (¬3) والماء البارد لا يعلف ولكنه قد دل العلف على السقي فكأنه قال وسقيتها ماء باردا، وقال آخر: يا ليت زوجك قد غدا … متقلدا سيفا ورمحا (¬4) فالرمح لا يتقلد ولكن لما كان تقلد السيف هو حمله فكأنه قال حاملا سيفا ورمحا. وكذلك يجعل (من) في معنى الذي، فكأنه قال: الذي يمشي على بطنه، وإنما سوغ ذلك حين قال: " فمنهم " لأنه إذا جمع كناية ما يعقل وما لا يعقل كان على لفظ كناية ما يعقل، فلما كان الجمع الذي فيه ما يعقل وما لا يعقل كنايته على مثل كناية الجمع الذي ليس فيه ما لا يعقل، كان تفصيل الجمع الذي فيه ما يعقل وما لا يعقل على مثال الجمع الذي فيه ما لا يعقل، فلما قال عز وجل: " فمنهم " صاروا كأنهم كلهم يعقلون، فأجرى على كل واحد منهم " من " في التفصيل. وأعلم أن من لفظها واحد مذكر إلا أنها تقع على الواحد والاثنين والجماعة من المؤنث والمذكر، فإذا وقع على كل شيء من ذلك كنت فيه بالخيار، وإن شئت أجريت اللفظ عليها في نفسها، وإن شئت على معناها في التثنية والجمع والتأنيث، تقول: " من الناس من يكرمك " " وإن شئت من يكرمونك " إذا أردت الجماعة، وإذا أردت الاثنين ¬

_ (¬1) سورة النور، آية 45. (¬2) البيت في شرح القصائد السبع في معلقة لبيد 524. (¬3) البيت بلا نسبة في معاني القرآن 1/ 14، ولسان العرب (زجج) وخزانة الأدب 1/ 499. (¬4) البيت لعبد الله بن الزبعري في معاني القرآن 1/ 121، وخزانة الأدب 1/ 330.

قلت: " من الناس من يصحب فتحمد صحبته " وإن شئت " من يصحبان فتحمد صحبتهما " وتقول: " في النساء من يكتب ويحسب " وإن شئت " من تكتب وتحسب " قال الله عز وجل في الجمع: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (¬1) وقال في موضع آخر وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬2) وقال تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً (¬3) فذكر أحد الفعلين وأنت الآخر، وقال الفرزدق: تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني … نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (¬4) وقد زاد الكسائي في معاني (من) وجها رابعا، فزعم أنها تكون صلة، وأنشد في ذلك: آل الزّبير سنام المجد قد علمت … ذاك العشيرة والأثرون من عددا (¬5) أراد الأثرون عددا. وأنشد أيضا (قول عنترة): يا شاة من قنص لمن حلت له … حرمت عليّ وليتها لم تحرم (¬6) فجعل من في هذين البيتين بمنزلة ما في الصلة. فأما البيت الأول فقد زعم بعضهم أن معناه الأثرون من يعد عددا، فحذف الفعل واكتفى بالمصدر منه، كما يقول ما أنت إلا سيرا، وأما البيت الثاني فإن رواية أكثر الناس (يا شاة ما قنص لمن حلت له) فإن كانت الرواية صحيحة في من فهي لعمري زائدة وقد يحتمل أن لا تكون زائدة وتجعل من نكرة بمنزلة إنسان. قنص بمعنى قانص وهو نعت له كما قال: وكفى بنا فضلا على من غيرنا. وأما كم فإنها مبنية على السكون، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها وقعت موقعين شابهت في كل واحد منهما حرفا؛ فالأول وقوعها موقع ألف الاستفهام، ويسأل بها عن جميع الأعداد كقولك: " كم غلاما لك " و " وكم مالك؟ " فتصير بمنزلة قولك ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية 25. (¬2) سورة يونس، آية 42. (¬3) سورة الأحزاب، آية 31. (¬4) البيت في ديوانه 870، وسيبويه 2/ 31. (¬5) البيت بلا نسبة في الخزانة 2/ 548. (¬6) معلقة عنترة في شرح القصائد السبع 353.

" أعشرون غلاما لك " " أثلاثون مالك؟ " فتغنى عن حرف الاستفهام والاسم الذي بعده. والثاني: أنها تقع في الخبر موقع ربّ، وربّ حرف فضارعتها كم في الخبر فبنيت وهي- أعني وكم- في هذين الموضوعين تقع صدر الكلام؛ لأنها وقعت موقع شيئين يقعان صدر الكلام إلا أنها وإن وقعت موقع ربّ فإنها نقيضة ربّ في القلة والكثرة، لأن ربّ يقلل بها ما بعدها ولم يكثر بها ما بعدها، فإن قال قائل: لم وقعت رب في صدر الكلام وهي من حروف الجر، وحروف الجر لا يقعن صدرا لأنهن يوصلن الأفعال إلى ما بعدهن؟ فالجواب في ذلك وبالله التوفيق، أن رب قد ضارعت حرف النفي وهي لا التي تنفي الجنس ومضارعتها إياها أنها تقلل، والتقليل يشبه النفي فجعلت صدرا كما جعلت لا صدرا. ومما يدل على أن التقليل يشبه النفي أنهم قد يستعملون التقليل في معنى النفي البتة، من ذلك قولهم: " قل من يقول ذلك إلا زيد " " وأقل رجل يفعل ذلك إلا زيد " يريدون لا يقولون ذاك ولا يفعل ذاك إلا زيد. وقال الشاعر: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة … قليل بها الأصوات إلّا بغامها (¬1) أراد ليس بها أصوات إلا بغامها. فإن قال قائل: ولم جعلتم كم بمحل رب واقعة موقعها وقد زعمتم أنهما نقيضتان؟ فالجواب في ذلك أن كل جنس فيه قليل وكثير لا يخلو جنس من ذلك، فالجنس يشمل القليل والكثير ويحيط بهما ويقعان تحته فليس يخرج أحدهما كثرته من جنس الآخر؛ لأنهما معا يقعان تحت كل جنس؛ ولأن الكثير مركب من القليل؛ والقليل بعض الكثير. ولكم أحكام ستبين في مواضعها، إلا أن الغرض المقصود هاهنا الإبانة من علة بنائها، وقد أبنّاها. وأما قط فهي مسكنة مبنية على ذلك، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها اسم وقع موقع فعل الأمر في أول أحواله، وفعل الأمر مبني على السكون فبني قط لذلك، وذلك قولك: قطك درهمان؛ يريد ليكفك درهمان واكتف بدرهمين، ونحو ذلك من ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في ديوانه 638، وسيبويه 1/ 370.

التقدير. وفي معناها قد تقول قدك درهمان، كما تقول قطك درهمان، فإذا أضافهما المتكلم إلى نفسه زاد نونا، فيقول " قطني درهمان " و " قدني درهمان " وإنما زاد النون ليسلم سكون البناء؛ لأنه على حرف لا يدخله الكسر بحال كما قالوا منّي وعنّي، قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني … مهلا رويدا قد ملأت بطني (¬1) وربما حذفوا النون في الشعر فأضافوا وكسروا الحرف الساكن كما حكي عن بعض العرب أنه يقول مني وعني وقدي، قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي (¬2) ويروي الخبيبين قدي فمن روى الخبيبين أراد عبد الله ومصعبا ابني الزبير، وكان عبد الله يكني أبا خبيب بابن له يقال له خبيب، فلما قرن معه مصعبا قال الخبيبين. والذي قال الخبيبين نسبهم إلى عبد الله كما قالوا الأشعرين أرادوا الأشعريين. والشاهد في هذا حذفه النون من قدي الأخيرة، وقال الشاعر في حذف النون من من وعن، قال: أيها السائل عنه وعني … لست من قيس ولا قيس مني (¬3) وسنذكر قط مشددة في موضعها إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل. فإذا بنيتم قط للعلة التي ذكرتموها فهلا بنيتم حسبك وهو في ذلك المعنى؟ فالجواب في ذلك أن حسب اسم صحيح أريد به معنى الفعل بعد أن وقع متصرفا ولم يصغ في أول أحواله ليوضع موضع الفعل كما فعل ذلك بقط. والدليل على ذلك أنك تقول: أحسبني الشيء إحسابا إذا كفاني، واحتسبت بالشيء إذا اكتفيت به، قال امرؤ القيس: كحقف النّقا يمشي الوليدان فوقه … بما احتسبا من لين مسّ وتسهال (¬4) ويقال هذا لك حساب أي كاف، قال الله عز وجل: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 318، وإصلاح المنطق 377. (¬2) منسوبه لأبي نخيلة السعدي أو لأبي بهدلة أو لحميد الأرقط في شرح ابن يعيش 1/ 318، وسيبويه 1/ 287، وخزانة الأدب 2/ 449. (¬3) البيتان في خزانة الأدب 2/ 448. (¬4) البيت في ديوانه ق 2/ 15 ص 30.

حِساباً (¬1) أي كافيا، فمعنى حسبك أي كافيك في أصل موضوعه من جهة اللغة لما بيناه من تصرفه، فلعلة لم يبن فاعرفه إن شاء الله تعالى. وأما إذ فإنها مبنية على السكون، والذي أوجب بناءها على ذلك أنها تقع على الأزمنة الماضية كلها وهي محتاجة إلى إيضاح كقولك: " جئتك إذ زيد قائم " " وإذ قام زيد ". فلما كانت محتاجة إلى إيضاح وإيضاحها يصحح معناها ويفهم موضوعها صارت بمنزلة الذي، والأسماء الناقصة المحتاجة إلى الصلات لأن الأسماء في أصل موضوعها للدلالة على المسميات والتمييز بين بعضها وبعض، فإذا صار بعض الأسماء إلى حد لا يدل بنفسه على معناه واحتاج ما يوضحه ويكشف فحواه، حل بما بعده من تمامه محل الاسم الواحد، وصار هو بنفسه كبعضه وبعض الاسم يبنى. وإذ توضح بالابتداء والخبر، والفعل والفاعل، فأما الابتداء والخبر فقولك " جئتك إذ زيد قائم " وأما الفعل والفاعل فقولك " جئتك إذ قام زيد ". " وإذ يقوم زيد ". فإذا كان الفعل مستقبلا حسن تقديمه وتأخيره فتقول: " جئتك إذ يقوم زيد " و " إذ زيد يقوم " وإذا كان ماضيا قبح التأخير لا يقولون " جئتك إذ زيد قام " إلا مستكرها من قبل أن إذ للماضي فإذا كان في الكلام فعل ماض اختاروا إيلاءه إياها، لمطابقتها ومشاكلة معناهما. وإذ عند أصحابنا اسم مضاف إلى موضع الجملة التي بعدها كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل التي هي الابتداء والخبر والفعل والفاعل كقولك " جئتك زمن زيد أمير " و " زمن يقوم زيد " و " زمن قام زيد " ويكون موضع الجملة خفضا بالإضافة. واعلم أن إذ لا يجازي بها لأنها مقصورة على وقت بعينه ماض، فإذا دخل عليها ما وركبت معها صارت مبهمة وجاز المجازاة بها وحلت محل متى فيجازي بها مع ما، فهي إذا جوزي بها حرف وليست باسم، وسنبين ذلك في باب المجازاة إن شاء الله تعالى. قال الشاعر: إذ ما تريني اليوم مزجى مطّيتي … أصعد سيرا في البلاد وأفرع فإني من قوم سواكم وإنما … رجالي فهم بالحجاز وأشجع (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النبأ، آية 36. (¬2) البيتان منسوبان لعبد الله بن همام السلولي في خزانة الأدب 3/ 638.

وقد يكون لإذ موضع آخر، وهو قولك: " بينما زيد قائم إذ رأى عمرا " واختلفوا في ذلك؛ فقال بعضهم: معناه، في هذا الموضع للحال، كما تقول: " خرجت فإذا زيد قائم ". وقال بعضهم: هي زائدة، قال الشاعر: بينما هنّ بالأراك معا … إذ أتى راكب على جملة (¬1) ونحن نذكر " إذا " مع " إذ " إذ كانت مؤاخية لها في هذا الموضع وإن لم يذكرها سيبويه. واعلم أن " إذا " اسم من أسماء الزمان وهي ظرف من ظروفه، وتقع فيها الأفعال المستقبلة، وهي موضحة بما بعدها كما كانت " إذ " غير أنها لا يليها إلا أفعال مظهرة كانت أو مضمرة، كقولك: " أجيئتك إذا قام زيد " يعني الوقت الذي يقوم فيه، وفيها معنى المجازاة؛ فلذلك لا يقع بعدها إلا الأفعال. وإذا رأيت الاسم بعدها مرفوعا فعلى تقدير فعل قبله لأنه لا يكون بعدها الابتداء والخبر. قال الشاعر: إذا ابن أبي موسى بلال بلغته … فقام بفأس بين وصليك جازر (¬2) ومعناه إذا بلغت ابن أبي موسى بلال بلغته، فأضمرت فعلا لم يسم فاعله كما قال الآخر: ليبك يزيد ضارع لخصومة … ومختبط مما تطيح الطوائح (¬3) ولا يجازي بإذا عند أهل البصرة من قبل أنها لوقت معلوم آت، والمجازاة والشروط هي معقودة على أنها يجوز أن تكون ويجوز أن لا تكون. والدليل على ذلك قوله عز وجل: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (¬4) وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (¬5) ونحو ذلك في القرآن. أراد الوقت الذي تكور فيه الشمس وتنشق فيه السماء. ولو قال قائل: " إن الشمس كورت "، " إن السماء انشقت " كان قبيحا؛ لأنه جعل المعلوم مبهما، وأوهم أنه يجوز ألا يكون. ولو قال قائل: " إذا أقام الله القيامة عذّب الكفار " كان كلاما مستقيما حسنا. فإن ¬

_ (¬1) البيت لجميل بثينة في ديوانه 188، وخزانة الأدب 4/ 199. (¬2) البيت لذي الرمة في ديوانه 253، وخزانة الأدب/ 450. (¬3) البيت لنهشل بن حرى بن حمزة النهشلي في خزانة الأدب 1/ 147. (¬4) سورة الانشقاق، آية 1. (¬5) سورة التكوير، آية 1.

قال قائل: " إن أقام الله القيامة عذّب الكفار " كان كلاما ناقصا. فلما كانت إذا لوقت معلوم لم يجاز بها، وإن كان فيها معنى المجازاة إلا أن يضطر الشاعر فيجازي بها في الشعر لكون معنى المجازاة فيها، قال الشاعر الفرزدق: ترفع لي خندف والله يرفع لي … نارا إذا اغمدت نيرانها تقد (¬1) وقال آخر: إذا قصرت سيوفنا كان وصلها … خطانا إلى أعدائنا فنضارب (¬2) فإن قال قائل: ما معنى قولكم فيها معنى المجازاة ولا يجازي بها؟ فالجواب في ذلك أن معنى المجازاة فيها هو أن جوابها يقع عند الشرط كما تقع المجازاة عند وقوع الشرط، ولم يجاز بها في اللفظ فتجزم ما بعدها لما ذكرناه من توقيتها وحصولها على وقت معلوم. ومثل ذلك قولك: " الذي يأتيني فله درهم " فيه معنى المجازاة ولا يجازي به. وإنما كان فيها معنى المجازاة لأن بالإتيان استحق الدرهم. ووجه الكلام أن ترفع شرطها وجوابها كما قال ذو الرّمة: تصغى إذا شدّها بالكور جانحة … حتى إذا ما استوى في غرزها تثب ولإذا موضع آخر تكون فيه اسما للمكان وظرفا من ظروفه، وذلك قولك: " خرجت فإذا زيد قائم " ويجوز أن تقول: " خرجت فإذا زيد قائما " ويجوز: " خرجت فإذا زيد "؛ فمن قال: " خرجت فإذا زيد قائم " أراد خرجت فحضرني زيد قائم، والمعنى فيه أنه فاجأني عند خروجي وهو بمنزلة قولك: في الدار زيد قام. وإذا قلت: " خرجت فإذا زيد "؛ قائما " فكأنك قلت خرجت فحضرني زيد قائما رفعت زيدا بالابتداء، وجعلت الخبر فإذا ونصبت قائما على الحال وهو بمنزلة قولك في الدار زيد قائما. وإذا قلت: " خرجت فإذا زيد " كأنك قلت خرجت فحضرني زيد جعلت زيدا ابتداء، وفإذا هو الخبر بمنزلة قولك في الدار زيد. ولإذا موضع آخر وهو جواب الشرط وتكفي من الفاء، تقول: " إن تأتني فأنا مكرم لك " وإن شئت قلت " إن تأتني إذا أنا مكرم لك " قال الله عز وجل: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (¬3) ومعناه فهم يقنطون. ¬

_ (¬1) ديوانه 216، وخزانة الأدب 3/ 162. (¬2) يروي البيت بكسر الباء من (فنضارب) وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه 33، كما يروى يرفع التاء للأخنس بن شهاب التغلبي في الخزانة 3/ 165، وسيبويه 1/ 434. (¬3) سورة الروم، آية 36.

قال سيبويه: " والفتح في الأفعال التي لم تجر مجرى المضارعة قولهم ضرب، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه فعل ". إن سأل سائل فقال: لم وجب فتح أواخر الأفعال الماضية؛ فهلا أسكنت أو حركت بغير الفتح؟ فالجواب عنه وبالله التوفيق أن الأفعال كلها من حقها أن تكون مسكنة الأواخر والأسماء كلها من حقها أن تكون معربة وقد بينا هذا فيما مرّ من التفسير. غير أن الأفعال انقسمت ثلاثة أقسام؛ فقسم منها ضارع الأسماء مضارعة تامة استحق بها أن يكون معربا وهو الأفعال المضارعة التي في أوائلها الزوائد الأربع، وقد بينا كيفية المضارعة واستحقاق المضارعة للإعراب بما أغنى عن إعادته. والضرب الثاني من الأفعال ما ضارع الأسماء مضارعة ناقصة وهو الفعل الماضي. والضرب الثالث ما لم يضارع الأسماء بوجه من وجوه المضارعة وهو فعل الأمر. فرأينا الأفعال قد ترتبت ثلاث مراتب: أولها الفعل المضارع المستحق للإعراب، وقد أعرب، وآخرها الثالث فعل الأمر الذي لم يضارع الاسم البتة فبقي على سكونه، وتوسط الفعل الماضي فنقص عن درجة الفعل المضارع لنقصان مضارعته، وزاد على فعل الأمر لما فيه من المضارعة، فلم يسكن كفعل الأمر لفضله عليه، ولم يعرب كالفعل المضارع لقصوره عنه، وبني على حركة واحدة إذ كان المتحرك أمكن من الساكن، وجعلت تلك الحركة فتحة دون غيرها من أربعة أوجه: أولها: أنّ الفتحة أخفّ الحركات، وإنما القصد والمغزى في تحريكه إلى أن يخرج عن مرتبة الساكن الذي هو فعل الأمر، فلما كانت الفتحة تخرجه من ذلك وهي أخف الحركات لم يتجاوز إلى غيرها. والوجه الثاني: أن الضمة لا تصلح فيه لما يقع فيه من اللبس بين فعل الواحد والجماعة؛ لأن من العرب من يقول: " ضرب "، في معنى " ضربوا "، " والقوم قام " في معنى " قاموا "، فيحذف الواو ويكتفي بالضمة منها، وقد قال الشاعر: فلو أنّ الأطبّا كان حولى … وكان مع الأطبّاء الأساة (¬1) يريد: كانوا. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في معاني القرآن 1/ 91، وخزانة الأدب 2/ 385، وشرح ابن يعيش 9/ 80.

وقال الآخر: لو أنّ قومي حين أدعوهم حمل … على الجبال الصمّ لأرفضّ الجبل (¬1) أراد: " حملوا " فحذف الواو، فصار حمل: ثم وقف عليه، وهو يضمه في الدرج بلا واو، ويقف عليه بالسكون، لأن كل متحرك يلحقه السكون في الوقف. ولم يصلح أن يكون آخر الفعل الماضي مكسورا؛ لأن الكسر اختص الأسماء ولم يدخل في شيء من الأفعال، فبقي الفتح فبني عليه الماضي. والوجه الثالث: أن الفعل الماضي قد يثنى ضمير فاعله بالألف، والألف توجب فتح ما قبلها، فلما كان أقرب الحركات التي يلحق الماضي الفتحة باجتلاب ألف التثنية لها، وقد وجب تحريك آخره حرك بأقرب الحركات إليه. والوجه الرابع: أن الفعل الماضي يكون على فعل وفعل، فلو بنوا آخره على ضمة خرجوا في فعل من كسرة إلى ضمة وليس ذلك في كلامهم، ولو بنوه على كسرة خرجوا في فعل من ضمة إلى كسرة وهذا قليل مستثقل. فإن قال قائل: فما المضارعة التي بها استحق الفعل الماضي الحركة والمزية على رتبة الساكن؟ قيل له وقوعه موقع الأسماء والأفعال المضارعة في النعت والخبر، كقولك: " مررت برجل قام "، و " زيد قام " وقع موقع قولك " مررت برجل قائم "، أو " وبرجل يقوم "، و " وزيد قائم "، " وزيد يقوم ". ووقوعه موقع الفعل المضارع في أبواب الجزاء كقولك: " إن قمت قمت "، وقع موقع قولك: " إن تقم أقم "، فهذا قول سيبويه في مضارعة الفعل الماضي. وقد أنكر أبو العباس المبرد على سيبويه الوجه الأخير من مضارعة الفعل الماضي للمضارع في أبواب الجزاء، فقال: إذا قلنا " إن قمت قمت " فإن هي التي قلبت المستقبل إلى الماضي في اللفظ والمعنى على الاستقبال كما تدخل لم على الأفعال المضارعة فتنفيها وتقلب ألفاظها إلى المستقبل، كقولك: " لم يقم " و " لم ينطلق عمرو " والمعنى " ما قام زيد " و " ما انطلق عمرو " غير أن لم هي المغيرة للفظ فكذلك إن عند أبي العباس، مغيرة لفظ المستقبل إلى الماضي في اللفظ والمعنى على حاله. وزعم أنه لا حجة لسيبويه فيما ذكره ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في شرح ابن يعيش 9/ 80.

لهذا الاعتلال الذي أورده. قال أبو سعيد: والوجه الذي ذهب إليه سيبويه عندي صحيح وهو غير مشبه لما شبهه به أبو العباس، وذلك أن لم وغيرها من الحروف التي تغير الألفاظ وتدخل له لا يصلح دخولها إلا مغيّرة، ولو كانت " إن " هي التي غيّرت اللفظ، وقلبت المستقبل إلى الماضي لما جاز أن يوجد إلا كذلك، لأن هذا بمنزلة عمل تعمله وتأثير تؤثره، فلا تدخل إلا كذلك، كما أنّ " لم " إذا دخلت على الفعل الماضي، لم يصح أن يبقى على مضيه وقلبته إلى المستقبل، فاعرف فرق ما بينهما إن شاء الله. قال سيبويه: ولم يسكنوا آخر الحروف، وهو يعني آخر الفعل الماضي؛ لأن فيها بعض ما في المضارعة، تقول: " هذا رجل ضربنا " فتصف بها النكرة وتكون في موضع ضارب إذا قلت: " هذا رجل ضارب " وتقول: " إن فعلت فعلت " فتكون في موضع: " إن تفعل أفعل "، فهي فعل- يعني الماضي- كما أن المضارع فعل وقد وقعت موقعها في أن ووقعت موقع الأسماء في الوصف كما تقع المضارعة. قال (أبو سعيد): وقد مضى تفسيرها بما فيه. قال سيبويه: " ولم يسكّنوها كما لم يسكّنوا من الأسماء ما ضارع المتمكن ولا ما صير من المتمكن في موضع، بمنزلة غير المتمكن ". قال أبو سعيد: قوله، فلم يسكّنوها، يعني لم يسكّنوا الأفعال الماضية كما لم يسكّنوا من الأسماء التي حكمها البناء ما كان مضارعا للمتمكن ولا ما كان متمكنا في حال ثم بني لعلة داخلة. فإن قال قائل: ولم لم يسكّنوا من الأسماء المبينة ما ضارع المتمكن منها، أو ما كان متمكنا في حال؟ قيل له من قبل أن الأسماء في حكمها أن تكون معربة كما تقدم من تفسير ذلك، وقد تدخل بعضها علل وتخرجها عن حكمها إلا أن ذلك البعض الذي يدخله من الحال ما يوجب بناءه ينقسم قسمين: أحدهما: لم يوجد قط إلا في الموضع الذي ثبت بناؤه فيه. والآخر: قد كان معربا في حال ثم وجب بناؤه في حالة ثانية، ففرق بينهما فيما يبنى عليه لأن الذي قد كان معربا في نفسه أشد تمكنا بزواله عن البناء في حال أخرى، وأعطي في حال البناء إذا كان قد يزول عنها فضيلة على المبني الذي لا يزول لما فيه من التمكن.

وعلة أخرى وهو أن المبني الذي لا يكون متمكنا بحال لما كان لا يوجد إلا ثقيلا أعطوه أخف ما يقع في النطق وهو السكون، ولما كان المتمكن الذي يبنى في حال قد يوجد خفيفا ويقع المواقع التي لا يستثقل فيها لم يستثقلوها حين بنائه إذ كانت حالا عارضة، وليس العارض كالراتب الذي لا يزول، وسنبين الأسماء التي حكمها البناء على حركة. قال سيبويه: " فالمضارع من عل حركوه لأنهم يقولون من عل ". قال أبو سعيد: اعلم أن " عل " إذا قلت: " جئته من عل " معناه من فوق، قال الفرزدق: ولقد سددت عليك كلّ ثنيّة … وأتيت فوق بني كليب من عل (¬1) وفيه لغات: يقال جئتك من عل يا هذا، ومن عل، ومن علو، ومن علو، ومن علو، قال الشاعر: إني أتتني لسان لا أسرّ بها … من علو لا عجب منها ولا سخر (¬2) ومن علا، قال الراجز: فهي تنوش الحوض نوشا من علا … نوشا به تقطع أجواز الفلا (¬3) وجئتك من عال ومن عال كما قال: قباء من تحت وريّا من عال (¬4) ويروى: تظمأ من تحت وتروى من عال. ومعنى هذه الألفاظ كلها واحد وهي فوق. وفوق لا بد أن يكون مضافا إلى شيء: إما ظاهر، وإما باطن مقدر، وكذلك الألفاظ التي في معناها، فوجب أن تكون عل وعل وما ذكرنا بعدهما في تقدير الإضافة، فإذا حذفت المضاف إليه لم يخل من أن يكون معرفة أو نكرة، فإن كان المحذوف نكرة ¬

_ (¬1) ديوانه 723. (¬2) البيت لأعشى باهلة في الكامل للمبرد. (¬3) الرجز لغيلان بن حارث الربعي أو أبي النجم العجلي. انظر. شرح ابن يعيش 1/ 532، وخزانة الأدب 4/ 126، واللسان (علا). (¬4) البيت في اللسان (علا).

تنكر عل وما كان في معناه ونوّن، وإن كان معرفة بني لأنه بمنزلة اسم قد اكتفى ببعضه إذ كان المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، وأدّى عن معنى الإضافة، فإذا كان عل في تقدير مضاف إلى معرفة كان مبنيا على الضم، وإن كان في تقدير مضاف إلى منكور كان معربا كما ذكرنا في فوق بما يوجب ذلك من العلل. فإن قال قائل: فما معنى قول سيبويه: ولا ما ضارع المتمكن، وهو يعني: مضارعة " عل " هذا " لعل " المنكور المنون، ولا يقال إن الشيء يضارع كما لا يقال: إن زيدا في حال النداء إذا قلت: " يا زيد "، قد ضارع زيدا في حال الإعراب، إذا لم تكن منادى؟ قيل له: معنى مضارعة " عل " لعل هو أنهما يقعان بمعنى واحد على تقديرين مختلفين؛ فكل واحد منهما مضارع للآخر لاشتراكهما في معناهما واختلافهما في تقديرهما وحركاتهما، كما يكون المبتدأ مضارعا للفاعل في أنّ معناهما سواء وإن كان عاملاهما مختلفين. فإن قال قائل: وكيف يستوي معناهما على اختلاف تقديرهما، وأحدهما معرفة والآخر نكرة؟ قيل له: هذا جائز وله نظائر في العربية، منها أن " غدا " منكور ويعرف به اليوم والذي يلي يومك حتى لا يظن السامع غيره، وكذلك أسماء ساعات اليوم، نحو " عتمة " " وعشيّة " متى ما ذكرت شيئا منها كان المعنى مصروفا إلى يومك دون سائر الأيام فإن كن نكرات فيستوي في فهم المخاطب " آتيك غدا "، و " آتيك الغد "، " وآتيك العشيء " " وآتيك عشيا "، وكذلك " عتمة " وإن كان تقديرهما مختلفا، وكذلك القول في " عل " فاعرف ذلك إن شاء الله. قال سيبويه: " فالمضارع من عل حرّكوه؛ لأنهم يقولون من عل فيجرّونه "، وقد مرّ تفسيره، وقول: فيجرّونه، أي فينونونه ويصرفونه. قال: " وأما المتمكن الذي جعل بمنزلة غير المتمكن في موضع قولهم أبدا بهذا أوّل ويا حكم ". قال أبو سعيد: اعلم أنّ ما كان متمكنا في حال ثم دخلته علة أوجبت له البناء هو الأسماء المفردة المناداة؛ كقولك " يا زيد " و " يا حكم " والغايات التي تكون معربة في

حال الإضافة والتنكير وتكون مبنية في غير ذلك، نحو " قبل " و " بعد "، و " أبدأ بهذا أوّل " فأمّا الغايات فقد أحكمنا شرحها وأبنّا عن عللها بما أغنى إعادته. فأما الاسم المنادى المفرد المعرفة فإنه يستحق البناء على حركة، ويجب أن تكون تلك الحركة ضمة. فأما الدليل على أنه يجب بناؤه فهو أنّ المنادى مخاطب، والنداء حال خطاب، والدليل على ذلك أنّ رجلا لو قال: " والله لا خاطبت زيدا "، ثم قال له " يا زيد "، كان حانثا وكان هذا منه خطابا، وأسماء المخاطب تقع مكنية في الخطاب، فكان ينبغي أن يكون مكان الاسم المنادى مكنيّ، غير أن المنادي إذا أراد أن ينادي واحدا من جماعة ليعطفه عليه حتى يصغي إليه، فلابد من ذكر اسمه الظاهر الذي يخصه دون غيره، إذ كانت الكنايات يشترك هو فيها والذي معه فلما احتيج إلى الاسم الظاهر لهذه الضرورة التي ذكرنا؛ وكان الموضع موضع كناية وجب أن يبنى لما صار إليه من مشاركة المكني الذي يجب بناؤه؛ لأن الأسماء إنما تبنى على حسب وقوعها موقع المبينات، والدليل على ذلك أن من العرب من ينادي صاحبه إذا كان مقبلا عليه أو ذكر من حاله ما لا يلتبس نداؤه بالمكني بغيره، فيكنى عن اسمه الظاهر فيقول: " يا أنت " و " يا إياك "، قال الشاعر أنشده أبو زيد: يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا … أنت الذي طلّقت عام جعتا (¬1) فقد ناداه: " يا أنت "، وقد أنكر الأصمعي ذلك، وفسّر معنى البيت على غير هذا التفسير، فقال: إنما أراد " يا " التي تقع في صدر الكلام للتنبيه، وكان تقديره: " يا مر يا ابن واقع أنت الذي طلقت "، و " يا " زائدة ومثله أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ (¬2) وقال الشاعر: يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي … بسمسم وعن يمين سمسم (¬3) ومثله: يا لعنة الله على أهل الرّقم … أهل الحمير والوقير والخزم (¬4) ولم يناد اللعنة، ولو ناداها نصبها. والشواهد في هذا كثيرة. ¬

_ (¬1) منسوب للأحوص وسالم بن دارة في شرح ابن يعيش 1/ 157، وخزانة الأدب 1/ 289. (¬2) سورة النمل، آية 25. (¬3) الرجز لرؤبة أو العجاج، ديوان رؤبة 183 ممم 18، شرح ابن يعيش 1/ 89. (¬4) الرجز لابن دارة، انظر: خزانة الأدب 1/ 47.

والمعنى الذي قاله أبو زيد صحيح، وهو موجود في كلام العرب، ذكره النحويون وحكاه العلماء بالعربية وقد يقولون أيضا: " يا إياك "، فينصبون لما أضافوا على غير قول من يرى " إياك " مضافا وقد حكى قولهم: " يا إياك " سيبويه. وقد ذكر عن الأحوص في خبر له ذكره أبو عبيدة أنه وفد على معاوية مع أبيه فقام فخطب فوثب أبوه ليخطب فكفه، وقال: يا إياك قد كفيتك، وقال أبو عبيدة في قوله: " يا إياك " أنّ " يا " تنبيه و " إياك " منصوب بفعل مضمر والمعنى الأول أظهر وأجود، فإن كان هذا جائزا فقد صح بما حكينا أن الاسم الظاهر في النداء وقع موقع المكني فوجب بذلك أن يبنى. وفي بنائه علة أخرى وهي أن نداءك المنادى إنما هو صوت تصوّت به لتنبه إليك وهو بمنزلة الأصوات التي تقع للزجر، كقولك للغراب: " غاق " وللبغل: عدس "، قال الشاعر: عدس ما لعبّاد عليك إمارة … نجوت وهذا تحملين طليق (¬1) فشبّه لفظ المنادى بالأصوات التي يزجر بها؛ لأنّه لا يقع إلا العطف المنادى على المنادي كما تقع الأصوات لدعاء البهائم وزجرها. فإن قال قائل: وكيف وجب أن يكون بناؤه على حركة؟ هلا بني على السكون؛ لأنّ الأشياء المبنية أصلها أن تبنى على السكون؟ فالجواب في ذلك مثل ما مر في بناء عل على الحركة. فإن قيل: فلم وجب أن يبنى على الضمّ من بين الحركات؟ ففي ذلك علتان: إحداهما: أن المنادى المفرد يشبه: " قبل "، و " بعد " من قبل أنه إذا أضيف أو نكر أعرب، وإذا أفرد بني كما أنّ " قبل " وبعد " تعربان مضافتين ومنكورتين، وتبنيان في غير ذلك، فكان هذا تشبيها لازما وصحيحا فلما بني قبل وبعد على الضمّ: جعل المنادى المفرد كذلك. والعلة الثانية أنّ المنادى إذا كان مضافا إلى مناديه، كان الاختيار حذف ياء الإضافة ¬

_ (¬1) البيت منسوب ليزيد بن مفرغ الحميري في شرح ابن يعيش 1/ 536، ومعاني القرآن 1/ 138، وخزانة الأدب 2/ 216.

والاكتفاء بالكسرة منها، وإذا كان مضافا إلى غائب كان منصوبا وكذلك إذا كان منكورا، فلما كان الفتح والكسر له في غير حال البناء فبني، جعل له في حال البناء من الحركات ما لم تكن له في غير حال بنائه. فإن قال قائل: إذا زعمتم أن المنادى المفرد المعروف وجب بناؤه، لأنه مخاطب وأسماء الخطاب مبنيّات، أو لأن المنادى كمن جر به، فقد لزمكم بهذا الاعتلال أن تبنوا المضاف والمنكور في النداء في قولك: يا " عبد الله أقبل "، و " يا راكبا عرّج "؛ لأنهما قد وقعا الموقع الذي ذكرتموه. ففي ذلك جوابان: أحدهما: أن المنادى المفرد مع وقوعه الموقع الذي وصفناه إنما بني لأنه في التقدير بمنزلة " أنت "، و " أنت " لا يكون إلا معرفا غير مضاف، فخرج المنكور والمضاف من شبه المكني الذي يوجب شبهه بناء المفرد. والجواب الثاني أنّ المفرد يؤثر فيه النداء حتى يكون معرفة به، كقولك " يا رجل " إذا قصدت واحدا بعينه صار معروفا بالنداء، لإقبالك عليه وقصدك إياه بحرف النداء كما قال الأعشى: قالت هريرة لما جئت زائرها … ويلي عليك وويلي منك يا رجل (¬1) وإنما قصدت قصده، والمضاف والمنكور لا يغيرهما النداء ولا يحيلهما عن حالهما إلى غيره، لأنك إذا قلت: " يا عبد الله " و " يا راكبا " فعبد الله معرفة بالإضافة لا بالنداء، وراكبا منكور على حاله فلمّا لم يؤثر النداء في نفس معناهما لم يؤثر في بنائهما. فإن قال قائل: أمّا رجل وسائر المنكورات، فقد علمنا أنّه يصير معرفة بالنداء إذا قصد قصده، فما الدليل على بناء زيد وسائر المعارف المفردة قبل النداء؟ قيل له: المعارف المفردة كلها إذا نوديت نكرت، ثم تنادى فتكون معارف بالنداء فهذا قول أبي العباس محمد بن يزيد، وقد أنكر عليه ابن السراج هذا وزعم أنه قول فاسد من قبل أنه قد وقع في الأسماء المفردة ما لا يشاركه غيره في اللفظ نحو: فرزدق، وغير ذلك من الأسماء المفردة، وزعم أن تنكير اللفظ هو أن تجعله من أمة كل واحد منهم له ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 57.

مثل لفظه، قال: والفرزدق لا يلتبس به غيره. والقول عندي ما قاله أبو العباس وما أدخله عليه أبو بكر غير لازم من جهات، إحداهن: أنهم لم يختلفوا أن الاسم العلم يجوز أضافته ومتى أضيف تعرف بالإضافة، وغير جائز أن يعرف بالإضافة إلا وقد نزع عنه التعريف الذي كان فيه ونكر كقولك: " قام زيدكم " و " قعد زيدكم " وأشباه ذلك. والأخرى أن هذه الأسماء المفردة التي لا إشكال لها فيما نعلم، غير جائز أن يجعل ذلك قضية لازمة لا إشكال لها، لأنه ليس لعاقل أن يقول ليس في العالم من اسمه الفرزدق أو لم يكن في العالم من اسمه الفرزدق سوى رجل واحد، لان أسامي الناس لا يحاط بها ولا يؤتى عليها، ولا يدّعي أحد علم ذلك، على أن كنية العجير السلولي أبو الفرزدق ويقال أبو الفيل. والجهة الثالثة: أنه غير مستحيل أن يسمى الرجل ولده الساعة الفرزدق، أو ينبز بعض الناس به، فأعرفه إن شاء الله. ومن الطريف أن الفرزدق الذي مثّل به لا شك أن تعريفه بالألف واللام اللتين فيه وإذا نزعتا عنه تنكر، ونحن متى نادينا نزعناهما عنه وقلنا يا فرزدق، فقد تنكر بنزع الألف واللام وتعرف بالنداء. فإن قال قائل: لم مثل سيبويه بأول ويا حكم دون غيرهما من الأسماء، فإن الجواب في ذلك، وإن كان التمثيل لا مسألة فيه لسائل أن هذا التمثيل تضمن فائدة لطيفة وهو أنه لو جعل مكان أول: قبل ومكان يا حكم: يا زيد؛ لجاز أن يخالج النفس الفكر بأن حركة قبل وزيد لالتقاء الساكنين، دون أن يكونا مستحقين للحركة في أصل بنائهما كما تضم الثاء من " حيث " لالتقاء الساكنين وأصلها السكون، وكما تفتح أواخر كيف وأين وأشباهها، فمثل سيبويه مثالا يزيل الشك وينفي التوهم. قال سيبويه: " والوقف قولهم اضرب في الأمر لم يحركوها؛ لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة ". قال أبو سعيد: يعني أن فعل الأمر يكون موقوفا غير مجزوم وذلك من قبل أن الأفعال كلها كان حكمها في الأصل أن تكون وقد مر تفسيرها. وقوله: " لم يحركوها لأنها لا يوصف بها ولا تقع موقع المضارعة " يعني لم يجعلوها بمنزلة الفعل الذي بني

آخره على حركة؛ لأن فعل الأمر لا يوصف به كما يوصف بالفعل الماضي؛ ألا ترى أنك لا تقول: " مررت برجل قم إليه " كما تقول: " مررت برجل قائم " ولا يقع فعل الأمر موقع الفعل المضارع كما وقع موقعه الماضي ألا ترى أنك تقول: " إن قمت قمت " مكان " إن تقم أقم " ولا يصلح في موضعه فعل الأمر ولم يكن لفعل الأمر وجه يوجب بناءه على الحركة فترك على أصله. وقد يكون الأمر خبرا للمبتدأ واقعا موقع الاسم وغيره من الأفعال وذلك " زيد قم إليه وعمرو اضرب عبده ". فإن قال قائل " فهلا حرك بهذه المضارعة؟ قيل له هذه مضارعة ضعيفة وذلك أن مضارعته الاسم ووقوعه موقعه في هذا الموضوع خاصة وقد شاركه فيه الفعل الماضي، وزاد عليه الفعل الماضي بوقوعه في الصفة ووقوعه موقع المضارعة، فلما كان الفعل الماضي غير معرب وكان مبنيا على حركة وفعل الأمر أنقص منه، جعل له الوقف بناء لأنه ليس حال أنقص من البناء على الحركة إلا البناء على السكون، فترك فعل الأمر على أصله الذي له من الوقف. فإن قال قائل: إذا قلتم زيد قم إليه وجعلتم زيدا مبتدأ، فقد وجب أن يكون قم إليه خبره؛ لأن المبتدأ لا بدّ له من خبر، والخبر ما صح فيه الصدق والكذب، وفعل الأمر لا يكون صدقا ولا كذبا فكيف صحّ أن يكون خبرا؟ فالجواب في ذلك أن قولك: " زيد قم إليه " ليس بخبر في الحقيقة عن زيد، وإنما هو واقع موقع خبره ومغن عنه وليس بخبر حقيقي، غير أنه يحتمل في المعنى وجهين: أحدهما أن يكون معناه زيد يجب عليك أن تقوم إليه أو نحو ذلك، فيكون الأمر في موضع ما ذكرناه، أو يكون تقديره أنك أردت قم إلى زيد، فلما قدمته وشغلت الجار بضميره وقع معرّى من العوامل اللفظية، فرفع بالابتداء وصار هذا الكلام الذي جاء بعده وإن لم يكن خبرا، متما لفائدة الكلام. قال سيبويه: " فبعدت من المضارعة بعدكم وإذ من المتمكنة، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه أفعل ". قال أبو سعيد: يعني فعل الأمر من الأفعال المضارعة المعربة التي في أوائلها الزوائد الأربع: بعد كم، وإذ من الأسماء المعربة المتمكنة أنهما اسمان مبنيان على السكون، والأسماء المتمكنة متحركة متصرفة، وأبعد الأشياء من المتحرك المتصرف مبني على

السكون وأقرب من المبني الساكن إليه ما كان مبنيا على حركة؛ وكذلك فعل الأمر الذي هو مبني على السكون أبعد الأشياء من الأفعال المضارعة المعربة، وأقرب منه إليها الفعل الماضي الذي هو مبني على حركة. فصارت الأفعال ثلاث مراتب: الأفعال المضارعة المعربة، وبعدها الفعل الماضي المبني على الفتح، وبعد ذلك كله فعل الأمر المبني على السكون، والأسماء ثلاث مراتب أيضا: فأولها المعربة نحو زيد وعمرو وكل اسم معرب، وبعدها الأسماء المبنية على حركة كقولك: يا زيد ويا حكم وجئتك أوّل، وبعد ذلك الأسماء المبنية على السكون كقولك: من، وكم، وإذ، فأبعد الأفعال من الأفعال المضارعة فعل الأمر، وأقربها إليها الفعل الماضي، وأبعد الأسماء من الأسماء المتمكنة ما كان مبنيا على السكون نحو كم وإذ، وأقر بها إليها يا حكم وأبدأ بهذا أوّل، وكل بناء من الفعل يؤمر به فحكمه أن يكون موقوفا وإن اختلفت أمثلته كقولك: انطلق، استغفر، وما أشبه ذلك، فاعرفه إن شاء الله تعالى. وقال سيبويه: والفتح في الحروف التي ليست إلا لمعنى وليست بأفعال ولا أسماء، قولهم: " سوف " و " ثمّ ". قال أبو سعيد: فإن قال قائل: ولم فتح الفاء والميم في " سوف " و " ثم "؟ قيل له: إنما كان من حكمهما أن يكونا ساكنين، إلا أنه التقى ساكنان في آخر الحرفين، وهما الواو والفاء في " سوف " والميم الأولى والثانية في " ثم " وكانت الفتحة أخف، لأن الفاء في " سوف " قبلها واو، فكرهوا كسرها للواو قبلها، والميم الأخيرة في " ثم " قد أدغم فيها ميم أخرى وقبلها ضمة، فكرهوا كسرها للتضعيف فيها، والضمة قبلها. فإن قال قائل: فهلا أجزت: و " ثمّ "، و " ثمّ " و " ثمّ "، كما تقول: " ردّ " و " ردّ " و " ردّ "، كقول جرير: فغضّ الطّرف إنك من نمير … فلا كعبا بلغت ولا كلابا ويروى " فغضّ " و " غضّ "؟ وقال آخر: قال أبو ليلى بحبل مده … ثم إذا مددته فشدّه

إن أبا ليلى نسيج وحده (¬1) قيل له: إنما تصرفوا في " ردّ " بهذه الحركات الثلاث على مقدار تصرفه في نفسه، فضمّه بعضهم لاتباع الضمة الضمة، وكسره بعضهم لالتقاء الساكنين على ما يجب في ذلك من الكسر لالتقاء الساكنين، وفتحه بعضهم فرارا إلى أخف الحركات عند التضعيف والضمة؛ لأن " ردّ " مأخوذ من: " ردّ يردّ "، وهو فعل متصرف، فتصرفوا فيه بهذه الحركات على حسب ذلك. و" ثم " حرف لازم لموضع واحد غير مشتق من شيء، ولا تصرف فيه، فألزم أخف الحركات؛ لما ذكرناه. فأعرفه إن شاء الله. قال سيبويه: والكسر فيها قولهم في باء الإضافة ولامها: " بزيد " و " لزيد ". قال أبو سعيد: اعلم أن الحروف التي جاءت لمعنى وهي على حرف واحد، حكمها أن تكون مفتوحة كواو العطف وفائه، إذا قلت: " قام زيد وعمرو " و " قام زيد فعمرو ". وألف الاستفهام كقولك: " أزيد عندك؟ ". وإنما كان الأصل في هذه الحروف أن تجيء مفتوحة، من قبل أنها حروف يضطر المتكلم بها إلى تحريكها لابتدائه بها. وقد كان حكمها لو أمكن فيها السكون أن تكون حروفا ساكنة؛ لأنها حروف معان، فلما أوجبت الضرورة تحريكها ليمكن النطق بها حركوها بأخف الحركات. وهي الفتحة، وبها يمكنهم النطق بها، فلم يحتاجوا إلى تكلف ما هو أثقل منها. فإن قال قائل: فلم كسروا الباء وفيها من العلة الموجبة للفتح ما ذكرته في الحروف المفتوحة؟ قيل له: من قبل أن الحروف التي ذكرناها غير عاملة عملا يختص به، ولا يكون في غيره. والباء عاملة الجر لا تكون إلا فيه، فألزموها الكسر لمشاكلة موضعها من الجر. فإن قال قائل: فلم كسروا لام الإضافة؟ قيل له: للفرق بينها وبين لام التأكيد في الموضع الذي يلتبسان فيه، فهو مع الاسم الظاهر؛ وذلك أن تقول: " إن هذا لزيد "، إذا أخبرت أنه زيد فإذا أخبرت أنه مملوك لزيد ¬

_ (¬1) الرجز بلا نسبة في مجالس ثعلب 2/ 553.

قلت: " إن هذا لزيد ". فإن قال قائل: فإن الجر والرفع يفرّق ما بينهما، إذا قلت: " إن هذا لزيد " علم أنه مملوك لزيد، وإذا قلت: " إن هذا لزيد ". ففي ذلك جوابان: أحدهما: أن في الأسماء ما لا يبين الإعراب فيه، نحو؛ موسى وعيسى، وما أشبههما، فلا يدل على فصل ما بين هذين المعنيين إلا فتح اللام وكسرها. والثاني: أن الكلام إذا وقف عليه لم يعرب، فلما كان الاسم المعرب لا يتبين فيه الإعراب عند الوقف عليه، لم يوقف على فصل ما بينهما، فلزم بما ذكرناه كسر اللام مع الظاهر كله. وإذا أضمر الاسم فتحوا اللام كقولك: " هذا لك، وهذا له " من قبل أن الضمير الذي يقع بعد اللام الجارة بخلاف صورة الضمير الذي يقع بعد اللام المؤكدة، تقول: " إن هذا لك " إذا أردت أنه يملكه، و " إن ذاك لأنت " إذا أردت أنه هو، فإذا أدخلت ياء المتكلم كسرت اللام؛ لأن كناية المتكلم تكسر ما قبلها من الحروف المتحركة، فتقول: " إن هذا لي " كما تقول: " إن هذا غلامي ". وقد يفتح بعض العرب لام الإضافة مع غير المكني، أنشد بعضهم: أريد لأنسى ذكرها فكأنما … تمثّل لي ليلى بكل مكان (¬1) ففتح اللام، وهذه لام كي، وهي لام الإضافة عندنا. واعلم أن هذه اللام لما اطرد كسرها في الظاهر، وقع لبس بين ظاهرين في موضع، ففتحت اللام في أحدهما لزوال اللبس بينهما، ولم تزل اللام عن معناها مكسورة وعملها خافضة في حقيقة معناها، وذلك في المستغاث له، والمستغاث به، والمدعو له، والمدعو إليه؛ تقول: " يا لزيد " إذا كنت تدعوه إلى نصرك، وتستغيث به، و " يا لزيد " إذا كنت تدعو غيره إلى نصره وتستصرخ له ولشيء أصابه. وفتحت لام المستغاث به؛ لينفصل من المستغاث له، وهي على معناها في الإضافة وذلك أنك إذا دعوت رجلا، فقد فعلت به الدعاء فإذا كنت تدعوه لآخر، فقد فعلت به الدعاء من أجل الآخر، فكلاهما مفعول في ¬

_ (¬1) البيت لكثير عزة في ديوانه ق 4/ 3 ص 108، وفيه: بكل سبيل.

المعنى واللام تدخل على المفعولات، كقولك: " ضربي لزيد " و " دعائي لزيد "، أي: " ضربي واقع بزيد "، ودعائي واقع به. وتقول: " ضربي لزيد " إذا كنت ضربت غيره لأجله. فإذا قلت: " يا لزيد " فهو المدعو فيشبه هذا قولك: " دعائي لزيد " إذا كان هو المدعو به فإذا قلت: " بالزيد " فقد دعوت غيره من أجله، فهو يشبه قولك: " دعائي لزيد " أي من أجله. فلما كان المدعو والمدعو له يقعان في لفظ النداء، قوى اللبس بينهما إلا بفاصل، ففتحوا اللام من أحدهما، وبقوها من الآخر على حالها. وربما كان الشيء الواحد يصلح فيه المعنيان جميعا، يقولون: " يا للعجب " و " يا للعجب " فإذا قالوا: " يا للعجب " بكسر اللام، فكأنك قلت: " يا قوم تعالوا للعجب "، فهو بمنزلة المدعو إليه. وإذا قالوا: " يا للعجب " فكأنهم نادوا العجب، فقالوا: " يا عجب تعال "، فإن هذا من زمانك ووقتك فهو بمنزلة المدعو. وأما قول الشاعر: يا لبكر أنشروا لي كليبا … يا لبكر أين أين الفرار (¬1) فإن كثيرا من الناس يروي الأول بالفتح والثاني بالكسر. فإن قيل: فكيف يكونون مدعوين ومدعوا إليهم غيرهم في حال؟ فالجواب في ذلك أن الشاعر في الأول يهزأ بهم، كما يقال للمنهزم: " إلى أين أرجع؟ " وقد قيل في قوله عز وجل: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ ... (¬2) إن هذا توبيخ لهم حين فروا، وبخوا على ما كان منهم. وقال قتادة: هذا هزء من ربنا جلّ وعزّ. وإذا استغثت بقوم ففتحت اللام منهم، ثم عطفت على ذلك، فإن اللام من المعطوف مكسورة، كقولك: " يا للرجال وللنّساء "، اللام من الرجال مفتوحة، ومن النساء مكسورة؛ وإنما كسرت هذه اللام وهي في موضع المستغاث به، من قبل أن اللام في المستغاث به، إنما فتحت وأصلها الكسر. لئلا يقع اللبس بين المدعو والمدعو إليه. فإذا فتحناها ثم عطفنا عليها، فقد علم أن الثاني مدعو ومستغاث به، ولم يقع بينه وبين ¬

_ (¬1) البيت منسوب لمهلهل بن ربيعة في خزانة الأدب 1/ 300، وسيبويه 1/ 318. (¬2) سورة الأنبياء، آية (12 - 13).

غيره لبس، فردّت لامه إلى أصلها من الكسر. قيل له: من قبل أن لام المستغاث له هي على معناها غير مغيرة ولا مزالة؛ لأنك إذا قلت: " يا لزيد " فمعناه: أدعوكم لزيد، فكأنك قلت: يا قوم أدعوكم لزيد، ومن أجل زيد وبسببه ناديتكم. وإذا قلت: " يا لزيد " فكأنك قلت: ندائي لزيد، كما تقول: ضربي لزيد، وكرامتي لزيد، فلهذا التأويل دخلته اللام، فالمدعو له على ما بينا لا يصلح نزع اللام منه؛ لأن معناه: من أجله وسببه والمدعو قد كان الأصل ألا تدخل فيه اللام لأنك إذا قلت: " ضربي لزيد "، و " كرامتي لزيد " فأنت تريد أن ضربك واقع بزيد، وكرامتك لاحقة به. والأصل: ضربي زيدا وكرامتي زيدا، فكان إجراء اللام على أصلها، فيما لا بد له من اللام أولى من إجرائها فيما لا تلزم اللام فيه في معناه، فاعرف ذلك إن شاء الله. فإن قال قائل: فهلا كسرت كاف التشبيه؛ لأنها تلزم الخفض كما كسرت الباء للزوم الكاف الإضافة والجر، كما زعمتم ذلك في الباء؟ قيل له: إن الباء لا تكون إلا جارة، ولا تستعمل إلا حرفا، وقد تكون الكاف بمنزلة المثل تستعمل اسما حتى تدخل عليها حروف الجر من ذلك قول الشاعر: وصاليات ككما يؤثفين فأدخل الكاف الأولى وهي حرف جار على الكاف الثانية، فعلمنا أن الكاف الثانية ليست بحرف؛ لأن حروف الجر لا تدخل إلا على الأسماء. ومنه قول الأعشى: هل تنتهون ولن ينهى ذوي شطط … كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل (¬1) في هذا البيت قولان: أحدهما: أن يكون تقديره؛ ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن. والقول الثاني: أن تكون الكاف اسما بمنزلة: " مثل "، وتكون هي الفاعلة لينهى، وهذا أجود القولين، وهو قول المبرد. وإنما صار أجود القولين من قبل أنه لا بدّ لينهى من فاعل، ولا يصلح أن يكون فاعله محذوفا، لأن الفعل لا يصلح إلا بفاعل. قال سيبويه: " والضم فيها " منذ " فيمن جر بها؛ لأنها بمنزلة " من " في الأيام ". قال أبو سعيد: اعلم أن " منذ " و " مذ " جميعا في معنى واحد، وهما يكونان اسمين ¬

_ (¬1) البيت للأعشى في ديوانه ق 6/ 61 ص 63 وخزانة الأدب 4/ 132.

وحرفين، غير أن الغالب على " منذ " أن تكون حرفا، وعلى " مذ " أن تكون اسما: وأنا مبين جملة كافية في ذلك إن شاء الله. تقول: " ما رأيته منذ يوم الجمعة " و " ما رأيته منذ اليوم ". وإذا قلت: " ما رأيته منذ يوم الجمعة " كان معناه: انقطعت رؤيتي له من يوم الجمعة، فكان يوم الجمعة لابتداء غاية انقطاع الرؤية، فمحل ذلك من الزمان كمحل " من " في المكان. إذا قلت: " ما سرت من بغداد "، أي ما ابتدأت السير من هذا المكان، فكذلك: ما وقعت رؤيتي عليه من هذا الزمان، غير أن " من " على ما ذكرها البصريون تستعمل في غير الزمان، ويستعمل مكانها في الزمان: " منذ ". فإن قال قائل: فقد قال الله عز وجل: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ (¬1)، و " أول يوم " من الزمان، فقد دخلته " من " على الزمان. ثم قال زهير: لمن الدّيار بقنّة الحجر … أقوين من حجج ومن دهر (¬2) وحجج معناها: سنون، وقد دخل عليها: " من ". فالجواب في ذلك: أن قوله: " من أول يوم " يجوز أن يكون معناها: من تأسيس أول يوم، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقول زهير: " من حجج " أي من مر حجج. والكوفيون يزعمون أن " من " تصلح للمكان والزمان، و " منذ " لا تصلح إلا للزمان، وتعلق بعضهم بما ذكرناه وقد أنبأنا عما فيه. وتقول: " ما رأيته مذ يوم الجمعة " و " ما رأيته مذ السبت " وإن شئت قلت: " مذ السبت ". فأما من ضم الذال فإنه اتبع الضمة الضمة. ومن كسر فلالتقاء الساكنين على ما يجب من الكسر لالتقاء الساكنين. وفي الضم وجه آخر، وهو أن " مذ " مخففة من: " منذ "، كما خففت " رب " من: " ربّ "، وقد كانت الذال من " منذ " مضمومة، فلما اضطر إلى تحريك الذال في " مذ " ضم بحركته في: " منذ ". ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية 108. (¬2) البيت لزهير في ديوانه ص 86، وخزانة الأدب 4/ 126.

فإن قال قائل: فما حكم " مذ " في هذا الوجه وتقديرها؟ قيل له: حكمها أن تكون اسما، وتقديرها أن تكون مبتدأة، ويكون ما بعدها خبرها، كأنك قلت: " ما رأيته مدة ذلك يوم السبت: فيكون على كلامين ". فإن قيل: فهلا خفضت بمذ، وجعلتها مثل: " من " كما فعلت ذلك بمنذ؟ قيل له: لما كانت " منذ " تكون اسما وتكون حرفا، وكانت الأسماء أجمل للحذف من الحروف، آثروا الحذف لها في حالها اسما. فإذا جعلت: " منذ " لما أنت فيه صار حرفا بمنزلة " في "، وانخفض ما بعدها؛ وذلك أنك إذا قلت: " ما رأيته مذ يوم الجمعة "، فإنما معناه: انقطاع رؤيتي له ابتداؤه يوم الجمعة، وانتهاؤه الساعة؛ فتضمنت " مذ " معنى الابتداء والانتهاء. وإذا قلت: " ما رأيته مذ اليوم "، فليس فيه إلا معنى ابتداء الغاية، وهي في معنى " في " وانخفض ما بعدها. وزعم بعض أصحابنا أن " منذ " و " مذ " هما اسمان على كل حال. فإذا رفعنا ما بعدهما كان التقدير على ما مرّ، وإذا خفضنا ما بعدهما كانا في تقدير اسمين مضافين، وإن كانا مبنيين كقوله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (¬1) نضيف " لدن "، وإن كان مبنيا، إلى حكيم عليم، وإن كان ما بعدهما مرفوعا، فتقديرهما تقدير اسم مبتدأ، وما بعدهما خبرهما، ويكون من كلامين على النحو الذي قد تقدم. ومثله في خفض ما بعده ورفعه: " كم " تقول: كم رجل جاءني " فتكون ": " كم " بمنزلة عدد مضاف في الخبر. وتقول: " كم دراهمك " فتكون اسما في موضع الرفع خبرا لما بعدها، ويكون ما بعدها مرفوعا على الابتداء. واستدل أصحابنا على خلاف هذا القول، وأنها حرف إذا انخفض ما بعدها بأن قالوا: رأيناها في الزمان تقوم مقام " من " وتكون لابتداء الغاية، و " من " حرف، فلا يجوز أن يكون ما في معناها وواقعا موقعها إلا حرفا. فإن قال قائل: فإذا كانت: " منذ " و " مذ " على ما وصفتم من أمرهما، فلم كان الغالب على " منذ " أن يكون ما بعدها مخفوضا، وعلى: " مذ " أن يكون ما بعدها مرفوعا في الماضي؟ ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية 6.

قيل له: لما كانتا مستعملتين اسمين وحرفين، وكان الأصل فيهما: " منذ " و " مذ " مخففة، غلبوا الاسمية على " مذ "، بسبب الحذف الذي لحقها؛ لأن الحذف إنما حقه أن يكون في الأسماء، وهي بذلك أولى لتصرفها وتمكنها ولحاق التنوين بها في تصريفها. فإن قال قائل: لأية علة ضمت منذ؟ وما كان أصلها في البناء؟ قيل له: كان أصلها أن تكون الذال منها ساكنة اسما كانت أو حرفا. أما إذا كانت حرفا، فالحروف حقها السكون، وإذا كانت اسما فهي اسم في معنى حرف وينوب عنه، فوجب بناؤها على السكون، ثم التقى فيها ساكنان: النون والذال، فضمت الذال اتباعا للميم؛ لأن ما بينها حرف ساكن، وهو نون، والنون خفية جدا إذا كانت ساكنة؛ لأنها غنّة في الخيشوم، فلو بنوها على حد التقاء الساكنين، لكانوا قد خرجوا من ضمة إلى كسرة؛ وذلك قليل في كلامهم. ومثله في الإتباع: قالوا: " منتن " و " منتن ". ومنهم من يقول: " منتن " فمن قال: " منتن " أراد: " منتن " ثم اتبع التاء الميم وضمها؛ لأن الذي بينهما نون خفية، وليست حاجزا قويا. والذي يقول: " منتن " بكسر الميم والتاء على وجهين: أحدهما: أن يكون أراد: " منتن " ثم كسر الميم فأتبعها كسرة التاء. ويجوز أن يكون من: " نتن " لأنه يقال: أنتن ونتن؛ فيكون " مفعل " من ذلك، كما تقول: " منخر ". ويجوز أن يكون أصله في هذا الوجه " منتن " وأتبعوا الميم التاء، كما قالوا: منخر ومنخر. ويجوز أن يكون: " مفعل " من " نتن " ثم اتبع التاء الميم، فكسر فاعرفه إن شاء الله. قال سيبويه: " والوقف منها قولهم: من، وهل، وبل، وقد ". قال أبو سعيد: اعلم أن هذه حروف جئن سواكن على ما يجب أن تجيء عليه الحروف. فأما " من " فإنها تجيء عند سيبويه لثلاثة معان: لابتداء الغاية، وهو قولك: " سرت من البصرة ". وللتبعيض، كقولك: " يريد زيد من زيد "، و " أخذت من مال عمرو ثلثيه " وتكون زائدة في النفي، كقولك: " ما جاءني من أحد " في معنى؛ ما جاءني أحد. فأما إذا قلت: " ما جاءني من رجل " فإن فيه فائدة ومعنى زائدا على قولك: " ما جاءني رجل "؛ وذلك أنك إذا قلت: " ما جاءني رجل " احتمل أن تكون نافيا لرجل مفرد، وقد جاءك أكثر من رجل،

ويحتمل أن تكون نافيا لجنس الرجال. فإذا أدخلت " من " أزالت " من " أحد المعنيين من الكلام وقصرته على المعنى الآخر، وهو معنى الجنس. وقال أبو العباس: " من " لها معنيان: ابتداء الغاية والزيادة، وكان يجعل كونها مبعضة داخلا في معنى الابتداء للغاية، بحجج كثيرة تأتيك في موضعها إن شاء الله. وأما " هل " فإنها تكون استفهاما، كقولك: " هل زيد قائم "، وتكون بمعنى: " قد "، كقوله عز وجل: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (¬1) ومعناه: قد أتى على الإنسان. واعلم أن " هل " وإن كانت استفهاما، تدخل عليها ألف الاستفهام فيما ذكره أبو العباس المبرد، ولا تقع في مواقع الألف كلها، وإنما لها مواضع مخصوصة. قال الشاعر: سائل فوارس يربوع بشدّتنا … أهل رأونا بسفح القفّ ذي الأكم (¬2) ونحن نبين مواضع (هل) في الاستفهام إذا أتينا عليها إن شاء الله. و (بل) لتحقيق ما بعدها؛ كقولك: " قام زيد بل عمرو "، فربما كان إبطالا للأول، وربما كان تحقيقا لما بعدها، ولا يراد بها إبطال الأول. و (قد) إذا كانت حرفا فهي تدخل على الفعل المتوقع كقول القائل: " هل قام زيد " فتقول له: " قد قام ". وقد بينا أمرها إذا كانت اسما. قال سيبويه: " ولا ضم من الفعل لأنه لم يجئ ثالث سوى المضارع ". قال أبو سعيد: يعني أن الأفعال منها ماض، وحكمه البناء على الفتح، ومنها فعل الأمر، وحكمه البناء على الوقف. والمضارع حكمه أن يكون معربا، فلم يجئ ثالث بعد الماضي وفعل الأمر، مما حكمه أن يكون مبنيا، فيبنى على الضم. قال سيبويه: " وعلى هذين المعنيين بناء كل فعل سوى المضارع. يعني على الماضي وفعل الأمر، لا يوجد سوى ذلك ". قال أبو سعيد: قد ذكرنا تعليل ما ذكره سيبويه من المبنيات من الأسماء والأفعال، ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، آية 1. (¬2) البيت لزيد الخيل الطائي في ديوانه ق 56/ 1 ص 100، وخزانة الأدب 4/ 506.

وشرحناه بما حضرنا. وأنا أتبع ذلك بما يحضرني من المبنيات التي لم يتقدم ذكرها وأتقصاه بمبلغ قوتي فيه. وبالله أعتصم من الزيغ والزلل وما توفيقي إلا بالله. اعلم أن الأسماء المضمرة وهي الأسماء المكنيات، مبنيات كلها وهي تنقسم قسمين: متصل ومنفصل. فالمتصل لا حاجة بنا إلى إيضاح علة بنائه؛ لأنه لا يقوم بنفسه ولا ينطق به مفردا من غيره، وإنما يجئ متصلا باسم أو فعل أو حرف، فيصير كبعض حروفه. وأما المنفصل من المضمر، فهو لا يقوم بنفسه في المعنى، وإن جاز النطق به مفردا. وإنما لم يقم بنفسه لأنه لا يخلو من أن يكون للمتكلم وللمخاطب وللغائب، ولا يذكر إلا بعد تقديم اسمه الظاهر الذي هو سمته، ويعرف به، فكان احتياج المكني المضمر إلى ما يتقدمه من الاسم الظاهر يخرجه من شبه الأسماء المتمكنة، ويدخله في شبه الحروف؛ لأن الحروف لا تدل بأنفسها على المعاني، وإنما هي تأثيرات في الأسماء والأفعال القائمة بأنفسها لمعانيها، وضمير المتكلم والمخاطب في مثل هذا المعنى، وذلك أن حضورهما بمنزلة ذكر الغائب، فلم تكن الأسماء المكنية دالة عليها إلا بحضورهما، كما لم تدل على الغائب إلا بحضور ذكره. وأما الأسماء المبهمة؛ نحو: " هذا " وما تفرع منه، فمبني لما تقدم من ذكره. وأما الأسماء الموصولة، وهي " الذي " وما يجري مجراه فمبنيات. وقد مر علة بناء " من " إذا كانت موصولة. وكل موصول في معنى ذلك. وأما الأصوات فتجري على ضربين: معرفة ونكرة؛ فالمعرفة منها مبنية على السكون، إلا أن يلتقي في آخره ساكنان، فيحرك على قدر ما يستوجبه، لالتقاء الساكنين فما جاء منه ساكنا ولم يلتق في آخره ساكنان: " صه " ومعناه: اسكت، و " مه " ومعناه: انته وكفّ، و " عدس "، وهو زجر البغل. قال الشاعر: عدس ما لعّباد عليك إمارة … نجوت وهذا تحملين طليق (¬1) وما التقى في آخره ساكنان فحرّك، فنحو: " إيه " و " غاق ". قال ذو الرمة: وقفنا فقلنا إيه عن أمّ مالك … وما بال تكليم الدّيار البلاقع (¬2) وكان الأصمعي يخطّئ ذا الرمة في هذا البيت، ويزعم أن العرب لا تقول إلا ¬

_ (¬1) البيت منسوب ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري في ديوانه ص 223 وخزانة الأدب 2/ 216. (¬2) ديوانه ص 356 وفيه (أم سالم) مكان (أم مالك). وخزانة الأدب 3/ 19.

" إيه " بالتنوين. والنحويون البصريون صوبوا ذا الرمة، وقسموا: " إيه " على ضربين، فقالوا: " إيه " استزاده، فإذا استزاده منكورا كان منونا، وكان التنوين علامة التنكير، غير أن التنوين ساكن فيكسر له الهاء. وإذا كان استزاده معروفا زال التنوين، فبقي الحرف الأخير ساكنا، فالتقى ساكنان في آخره، فكسر الأخير منهما لالتقاء الساكنين. وإذا نكّر شيء من الأصوات نوّنت، لعلامة التنكير، ثم كسر آخره؛ لسكونه وسكون التنوين؛ كقولك: " صه " و " مه ". وربما لم يكسروا آخره لعلة عارضة؛ فمن ذلك قولهم: " إيها " في الكف، أدخلوا التنوين للتنكير، ثم فتحوا آخره لالتقاء الساكنين؛ لئلا يلتبس " بإيه " الذي هو استزادة. غير أن هذه الأصوات منها ما استعمل معرفة ولا ينكر نحو: " عدس " و " تشتو " للحمار، إذا دعوته ليشرب. ومنها ما يستعمل نكرة فقط، كنحو: " إيها " و " ويها ". ومنها ما يستعمل معرفة ونكرة؛ نحو: " غاق " و " غاق " و " إيه " و " إيه "، وكنحو قولهم: " أفّ وأفّ وأفّ " وهي كلمة للضجر في المعرفة. وفي النكرة: " أفّ وأفّا وأفّ "؛ فمن قال: " أفّ " فضم، أتبع الحركة، كما تقول: " مدّ ". ومن قال: أفّ كسر لالتقاء الساكنين على حسب ما يوجبه التقاء الساكنين. ومن قال: " أفّ " فتح استثقالا للتضعيف وضمة الهمزة، كما تقول: " مدّ يا هذا ". وإذا نكرت أدخلت التنوين على اختلاف هذه الحركات، للعلل التي ذكرناها. وما أتاك من الأصوات فهذا قياسه. ومن المبنيات قولهم: " أيّان يقوم " في معنى: " متى يقوم "، وهي مبنية على الفتح، وقد كان أصلها أن تكون ساكنة؛ لأنها وقعت موقع حرف الاستفهام، غير أنها التقى في آخرها ساكنان، فآثروا تحريك آخرها بالفتح؛ لأن قبلها ياء وهي مع ذلك مشددة، وبينها وبين الياء الألف وليست حاجزا حصينا، فلم يحفلوا بكونها- أعني كون الألف، ففتحوا النون كأنها وقعت بعد ياء مضاعفة. وعلة أخرى وهي أن الأسماء التي يستفهم بها، كل ما وجب التحريك فيه منها مفتوح، نحو: " أين " و " كيف " فأتبعوها: " أيّان "؛ إذ كانت مستحقة لتحريك الآخر، حتى لا يخرج من جملتها. ومن المبنيات قول الشاعر: طلبوا صلحنا ولات أوان … فأجبنا أن ليس حين بقاء (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لأبي زيد الطائي في ديوانه ق 2/ 14 ص 30. =

فكسر " أوان " ونوّن. قال أبو العباس. إنما نون من قبل أن الأوان من أسماء الزمان، وأسماء الزمان قد تكون مضافات إلى الجمل، كقولك: " هذا يوم يقوم زيد " و " أتيتك زمن الحجاج أمير ". فإذا حذفت الجمل عوضت منها التنوين، كما فعلت فيما أضيف على غير متمكن؛ كقولك: " يومئذ " و " حينئذ ". فهذا معنى ما قال أبو العباس، وأظنني قد زدت فيه شرح دخول التنوين؛ لأن الغالب في ظني عن أبي العباس، وهو الذي حكاه أصحابه عنه أنه قال: هو بمنزلة: " قبل " و " بعد " حين بني لما حذف عنهما من المضاف إليه، فرأيت هذا القول يختل من جهة أن " قبل " و " بعد " وما جرى مجراهما، متى حذف عنهما المضاف إليه، لم يخل من أن تكون معرفة أو نكرة، فإذا كان معرفة كان مبنيا على حالة واحدة؛ كقولك: " جئتك من قبل "، و " جئتك قبل "؛ فإن كان نكرة كان معربا، كقولك: " جئتك قبلا وبعدا " و " جئتك من قبل ". والصحيح في " أوان " عندي أنه نوّن، وبني لعلتين اثنتين: إحداهما: أنه كان مضافا إلى جملة حذفت عنه، فاستحق التنوين عوضا من حذفها، بمنزلة: " إذ "، ولم تكن بمنزلة: " قبل " و " بعد "؛ لأن " قبل " و " بعد " كان مضافا إلى اسم واحد، وبني إذ قد صيرت في معنى: " إذ " حين حذفت الجملة منها، وبقي فيها عوضها وهو التنوين، فصار كاسم حذف بعضه، وبقي بعضه، والتقى في آخره ساكنان: التنوين الذي دخل عوضا، والنون الذي ينبغي إسكانه للبناء، فكسرت. ويجوز عندي أن تكون النون لم تكسر لالتقاء، ولكنها بنيت في أول أحوالها على الكسر، ثم دخل التنوين لم ذكرنا. فإن قال قائل: ولم أجزت ذلك؟ قيل له: من قبل أني رأيت " الأوان " متمكنا في غير هذه الحال؛ كقولك: " هذا أوان المطر "، وقولك: " هذا الأوان طيب ". ورأيت سيبويه ومن بعده من النحويين البصريين يقولون: إن المبني متى ما كان متمكنا قبل حال بنائه، وجب أن يبنى على حركة، كما قالوا في المنادى المفرد: " يا حكم " و " يا جعفر "، وكما قالوا: قبل ¬

_ = وخزانة الأدب 2/ 144، ومعاني القرآن 2/ 398.

وبعد وأول. والعلة الثانية في كسر: " أوان " أنا رأينا: " لات " قد يقع بعدها الأزمنة منصوبة ومرفوعة، إذا لم يكن محذوفا منها شيء، فلو قيل: لات أوانا، أو: لات أوان، كانا معربين، ولم يكن دليلا على حذف شيء، وصار بمنزلة قوله: " لات حينا " و " لات حين " بلا تقدير حذف من " حين " فنونوا لما ذكرنا، وكسروا لأن يخرج هذا من اللبس. وقد زعم بعضهم في: " لات أوان " أن " لات " جارة للأوان، بمنزلة حرف من حروف الخفض، وهو قول بعض الكوفيين. ولو كان كما قال، جاز أن تقول: " ولات حين مناص "؛ لأنه جر فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك: " هنا "، وهو إشارة إلى ما خص من المكان. وفيه ثلاث لغات: هنّا، وهنّا، وهنّا، وهي أردؤها. قال ذو الرمة في التشديد: هنّا وهنّا ومن هنّا لهن بها … ذات الشمائل والإيمان هينوم (¬1) ويجوز إدخال حرف التنبيه عليه كما تدخله على: " ذا " إذا أشرت إليه، تقول: " ها هنّا " و " ها هنّا " و " ها هنّا ". واستحق البناء للإشارة والإبهام، كما استحق: " هذا " و " هؤلاء " وما جرى مجراهما. ولا تجوز الإشارة به إلى شيء غير المكان، إلا أن تجريه مجرى المكان مجازا؛ كقولك: " قف حيث أمرك الله "، وإنما " حيث " للمكان، و " زيد دون عمرو في مرتبته وفوقه فيها ". و " دون " و " فوق " يستعملان في حقيقة اللغة لما علا شيئا أو انحط عنه. وقد جاء في الشعر للزمان. قال الأعشى: لات هنّا ذكرى جبيرة أو من … جاء منها بطائف الأهوال (¬2) أراد: ليس هذا أوان ذكرى جبيرة، وهي امرأة. فإذا أشرت إلى مكان منتح متباعد، قلت: " ثمّ " إذا وصلت الكلام، فإذا وقفت عليه وقفت بالهاء، فقلت: " ثمّة ". وإنما ألحقت الهاء إذا وقفت؛ لأن كل متحرك ليست حركته إعرابا، جاز أن يلحق آخره هاء في الوقف؛ نحو: " كيف " و " أين " و " هي " و " هو "؛ فتقول: " كيفه " و " أينه " و " هيه " و " هوه ". قال حسان: ¬

_ (¬1) انظر ديوانه ص 576. (¬2) انظر ديوانه ق 1/ 3 ص 3.

إذا ما ترعرع فينا الغلام … فما إن يقال له من هوه (¬1) ويجوز ألا تلحق هاء؛ فتقول: " جئتك من ثمّ ". وإنما وجب أن تفتح آخره من قبل أن " ثمّ " يشار به إلى متباعد، فوجب بناؤه على سكون للإشارة التي فيه، ولإبهامه على ما تقدم في المبهمات، فالتقى في آخره ساكنان، ففتح للتشديد الذي فيه، ولا يستعمل إلا للمكان المتنحي أو ما يجري مجراه. فإن قال قائل: فهلا زادوا على إشارة الحاضر من المكان كافا، فتكون إشارة إلى المتنحي منه، كقولهم: " ذا " إذا أشاروا إلى حاضر، وإذا أشاروا إلى متنح زادوا كافا للمخاطب، وجعلوه علامة لتباعد المشار إليه فقالوا: ذاك؟ قيل له: قد فعلوا مثل ذلك في الإشارة إلى المكان، فقالوا: " هنا " ثم قالوا: " هناك " فدلّوا بزيادة الكاف على المكان المتنحي المشار إليه، ثم جعلوا للمكان المتباعد لفظا تدل صورته على تباعده، ولم يحتاجون إلى الكاف، وهو قولهم: " رأيته ثمّة " فثّمة صورتها تدل على تباعد المكان. فإذا قالوا: " رأيته هناك " دلت الكاف على مثل ما دلت عليه " ثمّة " بغير كاف. والدليل على ذلك أنهم لو نزعوا الكاف فقالوا: " رأيته هنا " بغير كاف، صارت الإشارة إلى مكان حاضر. وقد علمت أن الكاف مع " هنا " بمنزلة: " ثمّ " بصيغتيها، ويدخلون اللام لتأكيد التباعد، فيقولون: " هنالك "، كما يقولون: " ذلك "، ولا فرق بينهما في الإشارة، غير أن " هنالك " وبابها إشارة إلى مكان، و " ذلك " إشارة إلى كل شيء فاعرفه إن شاء الله. قال أبو العباس: " ذلك " أشد تراخيا من: " ذاك ". فقال أبو إسحاق: دخلت اللام عوضا من سقوط حرف التنبيه؛ ذلك أنه لا يقال: " هذا لك " وانكسرت اللام؛ لأنها زيدت ساكنة وكسرت لالتقاء الساكنين. ومن ذلك: " الآن " وهي مبنية على الفتح. قال أبو العباس المبرد: الذي أوجب بناءها أنها وقعت في أول أحوالها بالألف واللام، وحكم الأسماء أن تكون منكورة شائعة في الجنس، ثم يدخل عليها ما يعرفها من ¬

_ (¬1) انظر: ديوانه ص 422.

إضافة أو ألف ولام، فخالفت " الآن " سائر أخواتها من الأسماء، بأن وقعت معرفة في أول أحوالها ولزمت موضعا واحدا، فبنيت لذلك المعنى. قاله أبو العباس أو نحوه. وأقول: إن لزومها في هذا الموضع في الأسماء قد ألحقها بشبه الحروف، وذلك أن الحروف لازمة لمواضعها التي وقعت فيها في أوليتها، غير زائلة عنها، ولا بارحة منها، واختاروا الفتح لأنه أخف الحركات، وأشكلها بالألف، وأتبعوها الألف التي قبلها، كما أتبعوا ضمة الذال التي في: " منذ " ضمة الميم، وإن كان حق الذال أن تكسر لالتقاء الساكنين. وقد يجوز أن يكونوا أتبعوا فتحة النون فتحة الهمزة، ولم يحفلوا بالألف، كما لم يحفلوا بالنون التي بين الميم والذال في: " منذ ". وقد يجوز في فتحها وجه آخر، وهو ما ذكرنا من أمر الظروف المستحقة لبناء أواخرها على حركة لالتقاء الساكنين، كأين، وأيّان، وقد بنيا على الفتح، وأحدهما من ظروف الزمان والآخر من ظروف المكان، وشاركتهما: " الآن " في الظرفية، وآخرها مستحق للتحريك لالتقاء الساكنين، ففتح تشبيها بهما. ومعنى " الآن " أنه للزمان الذي كان يقع فيه كلام المتكلم، وهو الزمان الذي هو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة. وقال الفراء: فيه قولان: أحدهما: أن أصله من آن الشيء يئين، إذا أتى وقته، كقولك: " آن لك أن تفعل " و " أنى لك أن تفعل " و " أنى لك أن تفعل كذا " أي أتى وقته. وآخر " آن لك " مفتوح؛ لأنه فعل ماض. وزعم الفراء أنهم أدخلوا الألف واللام على " آن " وهو مفتوح فتركوه على فتحه، كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن قيل وقال. وقيل وقال فعلان ماضيان، وأدخل عليهما الخافض، وتركهما على ما كانا عليه. والقول الثاني: أن الأصل فيه: " أوان " ثم حذفوا الواو فبقي " آن " كما قالوا: رياح وراح. والذي قاله الفراء خطأ، أعني الوجه الأول من الوجهين؛ لأن الألف واللام وإن كانتا للتعريف، كدخولهما في " الرجل "، فليس لآن الذي هو فعل فاعل، وإن كانتا بمعنى " الذي " لم يجز دخولهما إلا في ضرورة، كاليجدّع، واليتقصّع. وقد ذكرناهما.

فإن قال قائل: يكون فيه ضمير المصدر كما أضمر في قيل وقال؟ فإن قال قائل: إذا فرقتم بين اللامين بالكسر والفتح، فلم صارت لام المستغاث به أولى بالفتح من لام المستغاث له؟ فالجواب في ذلك: أن ما يحكى تدخل عليه العوامل، ولا تدخل عليه الألف واللام؛ لأن العوامل لا تغير معاني ما تدخل عليه، كتغيير الألف واللام، ألا ترى أنّا نقول: نصبنا اسم إن بإن، ورفعنا بكان، ولا نقول: نصبنا بالإن، ورفعنا بالكان. وأما ما شبّهه به من نهيه عليه السّلام عن قيل وقال، فغير مشبه له؛ لأنه حكاية والحكايات تدخل عليها العوامل فتحكى، ولا تدخل عليها الألف واللام، ألا ترى أنك تقول: " مررت بتأبط شرا " و " برق نحره ". ولا تقول: " هذا التأبط شرا ". وإنما حكي: قيل وقال عندي، من قبل أن فيهما ضميرا قد أقيم مقام الفاعل، ومتى ورد الفعل ومعه فاعله، حكي لا غير، كما ذكرنا في: " تأبط شرّا " و " برق نحره ". وأما ما ذكره من الراح والرياح، وأن أصله: " أوان " فليس ذلك تعليلا لبنائه على الفتح. وإنما كلامنا في بنائه. ومن ذلك: " شتّان " وهو مبني على الفتح، ومعناه: بعد كقولك: " شتان زيد وعمرو "، من الشّتّ، وهو التفريق والتباعد؛ يقال: " شتّان زيد وعمرو و " شتّان ما زيد وعمرو "، فمعناه: تباعد وتفرق أمرهما. قال الشاعر: شتّان هذا والعناق والنّوم … والمشرب البارد في الظلّ الدّوم (¬1) ويروى: في ظلّ الدّوم. وقال الأعشى: شتّان ما يومي على كورها … ويوم حيّان أخي جابر (¬2) وكان الأصمعي يأبى: " شتان ما بين زيد وعمرو " وينشد بيت الأعشى الذي ذكرناه، ويرد قول ربيعة الرقي، ويقول: ليس بحجة، وهو قوله: ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في شرح ابن يعيش 4/ 37، ولسان العرب (دوم). (¬2) انظر: ديوانه ق 18 / ص 147، وشرح ابن يعيش 1/ 502.

لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى … يزيد سليم والأغرّ بن حاتم (¬1) قال أبو سعيد: والقياس لا يأباه، من قبل أن " شتان " إذا كان معناه: شتّ، وهو بعد، فغير ممتنع أن تقول: بعد ما بين زيد وعمرو، وتفرق ما بينهما والذي أوجب بناء " شتان " أنه وقع موقع الفعل الماضي، والفعل الماضي مبني، فبني وكانت الفتحة أولى به كما تكون في الفعل الماضي. ويجوز أن تكون النون فتحت إتباعا للتاء التي قبلها، كما ذكرناه في: " الآن ". وزعم الزجاج أن الذي أوجب له البناء أنه مصدر جاء على " فعلان " فخالف أخواته، فبني لذلك. قال أبو سعيد: وقد وجدنا فعلان في المصادر، قالوا: لوى يلوى ليّانا، قال الشاعر: تطيلين ليّاني وأنت مليّة … وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا (¬2) ولقائل أن يقول: إن " ليّانا " مصدر فعل مستعمل له وهو قولك: لوى يلوى ليانا، وليس كذلك: شتان، لأنك لا تقول: شتانا يشت شانا، فهو مع خروجه عن أمثلة المصادر غير منطوق بالفعل المأخوذ منه. وفي ليّان كلام يأتي بعد هذا في موضعه وذكر أهل العلم باللغة أن " شت " الذي " شتان " في معناه، إنما هو فعل كان أصله: " شتت " فنزعوا الضمة وأدغموا. ومثل قولهم: " شتان " قولهم: " سرعان ذي إهاله " يريدون: سرع هذه إهالة فجرى " سرعان " مجرى " سرع " ففعل به ما فعل بشتان حين كان في معنى؛ شتت. و" سرعان ذي إهالة " مثل، وذلك أن بعض حمقى العرب يقال إنه اشترى شاة وسال رغامها، فتوهمه شحما مذابا، فقال لبعض أهله: خذ من شاتنا إهالتها، فنظر إلى مخاطها فقال: " سرعان ذي إهالة ". والإهالة: الشحم المذاب. وزعم أبو حاتم السجستاني، وقد ذكر " شتان "، وزعم أنه بمنزلة: " سبحان " وهذا وهم؛ لأن: " سبحان " عند النحويين منصوب معرب إلا أنه لا ينصرف؛ لأنه معرفة ولأن في آخره نونا وألفا زائدتين. وانتصب لأنه مصدر، ولم ينون لأنه لا ينصرف. قال ¬

_ (¬1) البيت منسوب لربيعة الرقي في شرح ابن يعيش 4/ 37، وخزانة الأدب 3/ 45. (¬2) البيت لذي الرمة في ديوانه ق 87/ 17 ص 651، وشرح ابن يعيش 4/ 36، ولسان العرب (لوى).

أمية بن أبي الصلت: سبحانه ثم سبحانا يعود له … وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (¬1) الجودي والجمد: جبلان. و " سبحانا " فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون نوّن للضرورة، كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر، والآخر أن يكون نكرة، فاعرفه إن شاء الله. وأما " إبّان ذلك " و " إفّان ذلك " والمعنى فيهما متقارب، فهما معربان مضافان إلى ما بعدهما؛ كقولك: " جئت على إفان ذلك " و " جئت في إبّانه " أي في وقته فإذا لم يدخل الجار نصبت على الظرف فقلت: " جئت إبان ذلك ". ومن ذلك: " هلمّ "، تقول: " هلمّ ذاك " و " هلم إلى ذاك " والمعنى الدعاء إليه. وهو " ها " ضمّ إليها: " لمّ ". وفيها لغتان: فأما أهل الحجاز فيقولون للواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث بلفظ واحد، كقولهم: " هلمّ يا رجل " و " هلّم يا رجلان " و " هلّم يا رجال " و " هلم يا امرأة " و " هلم يا نسوة ". قال الله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا (¬2) والمخاطبون بهذا جماعة، وإنما جعلوا اللفظ واحدا في كل حال؛ لأنهم بنوه معه، فخالفوا مجراه في لغتهم؛ لأنهم يقولون للواحد: " المم "، فلما غيّروا قياسه وبنوه مع غيره، ألزموه طريقة واحدة في أحواله كلها. وأما بنو تميم فيثنون ويجمعون ويؤنثون؛ كقولهم: " هلّم يا رجل " و " هلمّا يا رجلان " و " هلمّوا يا رجال " و " هلمّي يا امرأة ". واختلف عنهم في فعل جماعة النساء. فذكر البصريون وبعض الكوفيين: " هلممن يا نسوة " بفتح الهاء وتسكين اللام، وضمة الميم الأولى، وتسكين الثانية وفتحة النون بلا تشديد؛ وإنما جعل كذلك لأن هذه النون لا بد لها من تسكين ما قبلها؛ كقولك: " قعدن " و " قمن " للنساء، فلما كانت هذه النون التي هي ضمير جماعة النساء، توجب تسكين ما قبلها بطل الإدغام؛ لسكون الحرف الذي يلي النون، وصار عندهم بمنزلة: " أرددن ". ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 60، وخزانة الأدب 2/ 37، وشرح ابن يعيش 1/ 37. (¬2) سورة الأحزاب، آية: 18

وزعم الفراء أن الصواب في هذه اللغة: " هلمّن " فتحة الهاء وضمة اللام وتشديد الميم وفتحها وفتحة النون وتشديدها. وزعم أن الذي أوجب ذلك أن هذه النون التي هي ضمير الجماعة لا توجد إلا وقبلها ساكن، فزادوا نونا أخرى، لئلا تسكن الميم الأخيرة، وتركوا الميم الأخيرة على حالها، وجعلوا النون المزيدة توقية لتغيير الميم الأخيرة. ويشبه هذا قولهم: " مني " و " عني " حين زادوا نونا أخرى توقي سكون النون الأولى: لأن النون الأولى لا تكون إلا ساكنة، وياء المتكلم يكسر ما قبلها، فزيدت نون لتكسر لدخول الياء، وتسلم النون الأولى. واحتج الفراء لذلك بما يروى في بعض اللغات من زيادة الألف في: " ردّات "؛ وذلك أن من العرب من يقول مكان: " رددت ": " ردّت " فيدغم، كما كان قبل دخول تاء ضمير المتكلم، فمن أهل هذه اللغة من يقول: " ردّات " فيزيد ألفا، ليسكن ما قبل هذه التاء؛ لأن ذلك حكمها، ويبقى التضعيف على حاله. وكذلك تزاد نون قبل نون جماعة المؤنث، ليكون ما قبل النون ساكنا ويسلم التضعيف. والذي ذكره الجماعة سوى الفراء هو القياس. وما قاله الفراء من زيادة الألف في هذه اللغة، فهو شاذ من شاذ لا يعبأ بمثله. وقد حكي عن بعضهم: " هلمّين يا نسوة " في هذه اللغة، بجعل الزائد ياء وهذا شاذ أيضا. وتقول: " هلمّ يا رجل إلى كذا وكذا "، فيقول: " لا أهلمّ إليه " و " هلمّ كذا وكذا "، فيقول: " لا أهلمّه " بفتحة الألف والهاء وضمة اللام وتشديد الميم وضمها. والأصل في ذلك: " لا ألم "، كما تقول: " لا أردّ " والهمزة مفتوحة؛ لأنها للمتكلم في فعل ثلاثي، والفاء مزيدة مفتوحة، فهي على أصل فتحتها، واللام فاء الفعل والميم مرفوعة؛ لأنه فعل مستقبل، وتقديره: " لا ألمه "، ثم أدخلت الهاء بين الألف واللام مفتوحة وتركت سائر الكلام على حاله، فاعرفه إن شاء الله. ومما يؤمر به من المبنيات قولهم: " هاء يا فتى " ومعناه: تناول ويفتحون الهمزة، يجعلون فتحها علم المذكر، كما تقول: " هاك يا فتى " فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر، ويصرفونها تصريف الكاف في التثنية، والجمع، والمؤنث. وتقول للاثنين المذكرين والمؤنثين: " هاؤما "، وللجماعة المذكرين: " هاؤموا " و " هاؤم ". وقال الله تعالى: هاؤُمُ

اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (¬1) والمؤنث الواحدة: " هاء يا امرأة " همزة مكسورة بغير ياء، ولجماعة النساء: " هاءون يا نسوة " وهذا أجود اللغات وأكثرها وبها جاء القرآن. ومنهم من يقول: " هاء يا رجل " على وزن: عاط يا رجل والأصل؛ " هائي "، ومثاله من الفعل: فاعل، كما تقول: " قاتل يا رجل "، وسقطت الياء للأمر، ومثله: " هات يا رجل ". ويتصرف كما يتصرف " هات ". ويقول للاثنين؛ " هائيا "، كما تقول: " هاتيا "، وللجماعة المذكرين: " هاءوا "، كما تقول: " هاتوا "، وللمرأة؛ " هائي يا امرأة " بهمزة بعدها ياء، كما تقول: " هاتي "، وللجماعة من النساء: " هائين يا نسوة "، كما تقول: " هاتين يا نسوة ". فأما ما يروى أن عليا رضي الله عنه قال: أفاطم هاء السيف غير مذمّم … .... (¬2) فيحتمل أن يكون من هذه اللغة، وسقطت الياء منها للام الساكنة بعدها. ويحتمل أن يكون من اللغة الأولى وقال آخر من هذه اللغة: وقلت لها هائي فقالت براحة … ترى زعفرانا في أسرّتها ورد (¬3) ومنهم من يقول: " هاك يا رجل " و " هاكما يا رجلان " و " هاكما يا امرأتان " و " هاكموا وهاكم يا رجال " و " هاك يا امرأة " و " هاكنّ يا نسوة ". ومنهم من يقول: " ها يا رجل " بهمزة ساكنة، و " هاءا يا رجلان " مثل؛ خف يا رجل، وخافا يا رجلان، و " هاءوا يا رجال " و " هائي يا امرأة " مثل: خافي، و " هأن يا نسوة "، مثل: خفن يا نسوة. ومن هذه اللغة ما حكاه الكسائي من قول الرجل منهم، إذا قيل له ذلك: " إلام أهاء وإهاء "، كما تقول: أخاف وإخاف. وتقدير هذا الفعل أن يكون على: فعل يفعل؛ ولذلك جاز كسر همزة المتكلم في: إهاء. ويجوز أن يكون البيتان الأولان من هذه اللغة. ومنهم من يقول: " هاء يا رجل " و " هاءا يا رجلان " كما تقول: طاء يا رجل، وطاءا ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، آية 19. (¬2) ورد الشطر هكذا في شرح ابن يعيش 4/ 44. (¬3) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 4/ 42.

يا رجلان، وهب يا رجل، وهبا يا رجلان، و " هاءوا يا رجال " و " هئي يا امرأة " كما تقول: هبي يا امرأة، و " هأن يا نسوة " كما تقول: هبن يا نسوة. وهذه اللغة تشبه أن يكون فاء الفعل منها واوا سقطت، كما سقطت في: وهب يهب. ومنهم من يقول: " هاءك يا رجل "، بهمزة بعد الألف مفتوحة، وتغير الكاف على حسب المخاطبين، تقول للواحد المذكر: " هاءك يا رجل " وللاثنين: " هاء كما " وللجماعة: " هاءكم " وللمؤنث: " هاءك " وللجماعة من المؤنث: " هاءكن ". والكاف للخطاب لا موضع لها، كما تقول: " أرأيتك " فالتاء مرفوعة، والكاف للخطاب. وتلزم التاء حالة واحدة، وتتغير الكاف، فتقول للرجل: " أرأيتك يا رجل "، وللاثنين: " أرأيتكما يا رجلان " وللجماعة: " أرأيتكم " وللمرأة: أرأيتك " ولجماعة النساء: " أرأيتكن " وذلك أنهم استغنوا بما يظهر من التثنية والجمع والتأنيث، عن تغيير التاء في: " أرأيتك " والهمزة في: " هاءك ". ونظير: " أرأيتك " وبابه في توحيد التاء وتذكيرها، وإن كان الفاعل جماعة أو مثنى: " حبذا زيد " و " حبذا الزيدان " و " حبذا هند ". وتوحد " حبذا " وإن كانت الأسماء جماعة أو مؤنثا. وشبيهه: " هلّم " في لغة أهل الحجاز في قولهم: " هلّم " للواحد والجماعة والمؤنث والمذكر، ولفظ: " هلمّ " موحد. ومنهم من يقول: " هاء- مهموزا وغير مهموز- يا رجل "، و " ها يا رجلان " و " ها يا رجال " و " ها يا امرأة " و " ها يا نسوة "، جعلوه صوتا لم يلحقوا فيه علامة الخطاب، كقولهم: " صه يا رجل " و " صه يا رجلان " وكذلك الجماعة والمؤنث وجماعتها. ومن المبنيات العدد من " أحد عشر " إلى " تسعة عشر " يكون النيف والعشرة مفتوحين جميعا، تقول: " أحد عشر "، و " ثلاثة عشر " و " تسعة عشر ". والذي أوجب بناءهما أن التقدير فيها؛ خمسة وعشرة، فحذفت الواو وتضمنتا معناها، فاختير لهما الفتح؛ لأنه أخف الحركات. وبعض العرب يقول: " إحدى عشر " و " خمسة عشر "، فيسكن العين. وإنما فعل هذا لأن " إحدى عشر " قد اجتمع فيها ست متحركات، وليس في كلامهم أكثر من ثلاث متحركات متواليات إلا ما كان مخففا، والأصل غيره، كقولهم: " علبط "

و " جندل " و " زلزل ". وليس في كلامهم أكثر من أربع حركات متواليات في كلمة كانت أصلا أو مخففة. فلما صار: " أحد عشر ". بمحل اسم واحد، خففوا الحرف الرابع الذي بتحريكه يكون الخروج عن ترتيب حركات الأصول في كلامهم. ومن يسكن العين في اللغة التي ذكرناها، لا يسكنها في " اثني عشر " لئلا يجتمع ساكنان، وليس في كلامهم جمع بين ساكنين، إلا أن يكون الساكن الثاني بعد حرف من حروف المد واللين مدغما في مثله؛ نحو: " دابة " وما أشبهها. فإن قال قائل: هلا بنيتم؛: " اثني عشر " على حد واحد، فلا يتغير في رفع ولا نصب ولا جر، كما فعلتم ذلك في أخواته؟ قيل له: من قبل أن الاثنين قد كان إعرابهما بالألف والياء، وكانت النون على حالة واحدة فيهما جميعا، كقولك: " هذان الاثنان " و " رأيت الاثنين " و " مررت بالاثنين ". فإذا أضفت سقطت النون، وقام المضاف إليه مقامها، ودخل حرف التثنية، من التغير في حال الرفع والنصب والجر مع المضاف إليه، ما كان يدخله مع النون. ولما كان: " عشر " في قولك: " اثنا عشر " حل محل النون وعاقبها، صار بمنزلة المضاف إليه، ولم يمنع تغير الألف إلى الياء في النصب والجر. وتقول في المؤنث: " إحدى عشر " و " ثنتا عشر "، وإن شئت " " اثنتا عشرة ". وتقول في: " ثماني عشرة ": " ثماني عشرة " بفتح الياء وهو الاختيار عند النحويين. وقد يجوز: " ثماني عشرة " بتسكين الياء. فأما من فتحها فأجراها على أخواتها؛ لأنها جميعا في عدة واحدة وترتيب واحد. وأما من سكّنها فشبهها " بمعدي كرب " و " أيادي سبأ " و " قاليقلا " وأشباه ذلك. وفي عشرة لغتان: فأما أهل الحجاز فيقولون: إحدى عشر بتسكين الشين. وأما بنو تميم فيقولون: " إحدى عشر " بكسرها. وهذا عكس ما يعرف من اللغتين؛ لأن الغالب على بني تميم تسكين العين من فعل وفعلة، وعلى أهل الحجاز كسرها. واعلم أنك إذا سميت رجلا بخمسة عشر، جاز أن تضم الراء، فتقول: " هذا خمسة عشر "، و " رأيت خمسة عشر " و " مررت بخمسة عشر " تجريه مجرى اسم لا ينصرف.

ولك أن تحكيه فتفتحه على كل حال. والأخفش كان يرى إعرابهما إذا أضفتها وهي عدد، فتقول: " هذه الدراهم خمسة عشرك ". وقد ذكر سيبويه أن هذه لغة رديئة. والعلة في ذلك أن الإضافات ترد الأشياء إلى أصولها، وقد علمت أن خمسة عشر درهما، هي تقدير التنوين، وبه عمل في الدرهم. فإذا أضفتها إلى مالكها لم يجز تقدير التنوين فيها، لمعاقبة التنوين الإضافة، فصار بمنزلة اسم لا ينصرف، فإذا أضيف انصرف، وأعرب بما كان يمتنع من الإعراب قبل حال الإضافة. والكلام على هذا القول وعلته وتفصيله، له موضع نذكره فيه، إن شاء الله. وقال الخليل بن أحمد: من يقول: " هذا خمسة عشرك " لم يقل: " هذا اثنا عشرك " في العدد، من قبل أن عشر قد قام مقام النون، والإضافة تسقط النون، فلا يجوز أن يثبت معها ما قام مقام النون، ولكن تقول: " هذا اثنا عشرك ". فإن قال قائل: فأضف وأسقط " عشرة " كما تسقط النون. قيل: هذا لا يجوز، من قبل أنا لو أسقطناه كما تسقط النون، لم ينفصل في الإضافة " اثنان " من " اثني عشر "؛ لأنك تقول في اثنين: هذان اثناك، فلو قلت في: " اثني عشر ": " هذا اثناك " لالتبسا، فإذا كان اسم رجل، جازت إضافته بإسقاط " عشر ". ومن قال في رجل اسمه: " مسلمان ": " هذا مسلمان ومسلمانك "، جاز أن يقول: " هذا اثنان عشرك "؛ لأنه يجعل هذه النون كنون " سعدان ". واعلم أن الفراء ومن وافقه يجيز إضافة النيف إلى العشرة؛ فتقول: " هذا خمسة عشر ". وأنشدوا فيه: كلّف من عنائه وشقوته … بنت ثماني عشرة من حجّته (¬1) وهذا لا يجيزه البصريون ولا يعرفون البيت. وإذا كان عشر مضافا، وجب عند الفراء إضافة النيف على عشر، كقولك: " هذا خمسة عشرك "، وللاحتجاج له وعليه موضع غير هذا. ¬

_ (¬1) الرجز بلا نسبة في خزانة الأدب 3/ 105.

واعلم أن العرب تقول: " هذا ثاني اثنين " و " ثالث ثلاثة " و " عاشر عشرة ". وقد يقال: " ثاني واحد " و " ثالث اثنين " و " عاشر تسعة "؛ لأنه مأخوذ من ثنى الواحد، وثلث الاثنين، وعشر التسعة. فإن نونت فهو بمنزلة قولك: " ضارب زيدا ". وإن أضفت فهو بمنزلة قولك: " ضارب زيد ". ولا يجوز التنوين في الوجه الأول، إذا قلت: " ثالث ثلاثة "؛ لأنك أردت به: أحد ثلاثة، وبعض ثلاثة. ولا يجوز التنوين مع هذا التقدير في قول أكثر النحويين؛ لأنه لا يكون مأخوذا من فعل عامل. وإذا قلت: " هذا عاشر عشرة " قلت: " هذا حادي عشر " بتسكين الياء. ومنهم من يقول: " هذا حادي عشر " بفتح الياء. فأما من سكن الياء من " حادي "، فتقديره: هذا حادي الأحد عشر، كما تقول: " هذا قاضي بغداد "، وحذف " أحد " تخفيفا لدلالة المعنى عليه. وأما من فتح فإنه بنى " حادي " مع " عشر " حين حذف " أحد "، فجعل " حادي " قائما مقامه، ومنهم من يقول: " هذا الحادي أحد عشر ". فإذا قالوا ذلك لم يجز في الياء إلا التسكين؛ لأن ثلاثة أشياء لا يجوز أن يكن اسما واحدا، وتقول فيما جاوز أحد عشر من هذه اللغة: " هذا ثاني عشر " و " ثاني عشر " و " ثاني اثنى عشر " و " ثالث عشر " و " ثالث ثلاثة عشر " لا غير، على تسعة عشر، على ما بيناه. فإن قال قائل: فلم قيل: " حادي عشر " وهو فاعل من واحد؟ وهلا قالوا: " واحد عشر " أو " آحد عشر " من لفظ " أحد "؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما: أنه مقلوب من " واحد "، والواو من " واحد " في موضع الفاء منه، فجعلت الفاء في موضع اللام، فانقلبت الواو ياء، لانكسار الدال، كما قيل: " غازي "، وتقديره من الفعل: عالف والقلب في كلامهم كثير، كقولهم: " شائك السلاح " و " شاكي السلاح "، وكقولهم: " لائث " و " لاثي ". وكما قال الشاعر: خيلان من قومي ومن أعدائهم … خفضوا أسنّتهم وكلّ ناعي (¬1) ¬

_ (¬1) البيت للأجدع بن مالك الهمداني في الأمثال لأبي عكرمة الضبي 66.

قال أبو عبيدة: أراد " نائع " أي: مائل، أو عطشان، من قولك: جائع نائع. وقال الأصمعي: إنما أراد " الناعي " من: نعى ينعي. والقول الثاني في: " حادي " أنه يتبع الإبل ويحدوها، مثل: حادي الإبل، وهو الذي يتبعها ويسوقها. وتقول في المؤنث من هذا: " هذه حادية عشرة " و " حادية عشرة " و " حادية إحدى عشرة " بالضم لا غير، و " ثانية عشرة " و " ثانية عشرة " و " ثانية اثنتي عشرة " بالضم لا غير إلى: تسع عشرة، على هذا المنهاج. وعلة وجوه الإعراب فيها كعلة المذكر. فإذا أدخلت الألف واللام في شيء من هذا تركوه على حاله، تقول: " الحادي عشر " و " الحادي عشر " " الحادي أحد عشر " بتسكين الياء لا غير، وكذلك الباب على هذا المنهاج. والألف واللام لا تخرج هذا من لفظه ولا تزيله عن بنائه، كما لا تزيل خمسة عشر؛ إذا قلت: أخذت الخمسة عشر درهما، وكما لا يزيل " الخازباز " عن بنائه، إذا قلت: هذا الخازباز فاعلم. وسنذكر " الخازباز " في موضعه إن شاء الله. فأما من يقول: " هذا ثالث اثنين " و " عاشر تسعة "، فإن كثيرا من النحويين يمنعون أن يقولوا فيما جاوز العشرة من هذا، وذلك أن القوم إذا كانوا تسعة، فصرت عاشرهم، جاز أن تقول: " عشّرتهم "، وإذا كانوا عشرة وكملتهم أحد عشر، لا يكون من هذا فعل مشتق في تكميلك العشرة أحد عشر، كما كان لك فعل مشتق في تكميلك التسعة العشرة، فلم يكن لك اسم فاعل فيما جاوز العشرة. وهذا هو القياس. ومنهم من يجيزه ويشتقه من لفظ النيف، فيقول: " هذا ثاني أحد عشر " و " ثالث اثني عشر " وينّونه وإنما جاز له أن يشتق من لفظ النيف، من قبل أن العشرة معطوفة على النيف، فإذا قلت: " ثلاثة عشر " فمعناه: ثلاثة وعشرة، ويشتقه من الأول، ويجعل الثاني عطفا عليه. وقد حكى نحو من هذا عن العرب؛ قال الراجز: أنعت عشرا والظليم حادي أراد: الظليم حادي عشر، فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك: العدد من واحد إلى عشرة، تقول: واحد، اثنان، ثلاثه، أربعة، بتسكين أواخر الأعداد إلى العشرة. فإن قال قائل: ولم سكّنت؟

فالجواب في ذلك: أن هذه الأعداد إذا عددتها لم تقع فاعلة، ولا مفعولة، ولا مبتدأة ولا خبرا ولا في جملة كلام آخر، والإعراب في أصله للفرق بين اسمين في كلام واحد ولفظين مجتمعين في قصة، لكل واحد منهما معنى خلاف معنى صاحبه؛ فيفرق بين إعرابهما للدلالة على اختلاف معناهما، أو يكون الإعراب لشيء محمول على ما ذكرنا، فلما لم تكن هذه الأعداد على الحد الذي يستوجب الإعراب، ولا على الحد الذي يحمل- على ما استوجب الإعراب- سكّنّ وصرن بمنزلة الأصوات، كقولك: صه، ومه، وبخ بخ. ويجوز أن تقول: " واحد اثنان " فتكسر الدال من: واحد. فإن قال قائل: لم كسرت الدال من واحد؟ أللتقاء الساكنين؟ أم ألقيت كسرة الهمزة على الدال فكسرتها؟ قيل له: بل ألقيت كسرة الهمزة على الدال، ولا يصلح أن تكون الكسرة لالتقاء الساكنين، من قبل أن كل كلمة من هذه المقضية عليها بالوقف واستئناف ما بعدها، كأن لم يتقدمه شيء. وألف القطع والوصل يستويان في الابتداء ويثبتان، فألف اثنان ثابتة، إذا كان التقدير فيهما أن تكون مبتدأة، فهي بمنزلة ألف القطع، وألف القطع يجوز إلقاء حركتها على الساكن قبلها؛ فلذلك كانت الكسرة في الدال من: " واحد " هي الكسرة التي ألقيت عليها من همزة: " اثنان "، ويدل على صحة ذلك أنهم يقولون في هذا إذا خففوا الهمزة: " ثلاثة أربعة "؛ فيحذفون الهمزة من أربعة، ولا يقلبون الهاء في ثلاثة تاء من قبل أن الثالثة عندهم في حكم الوقف، والأربعة في حكم الكلام المستأنف، وإنما تنقلب هذه الهاء تاء إذا وصلت، فلما كانت مقدرة على الوقف بقيت هاء، وإن ألقيت عليها حركة ما بعدها، كما تكون هاء إذا لم يكن بعدها شيء. فإن قال قائل: لم قالوا: " اثنان "، فأثبتوا النون في العدد، ومن قولهم إنما تدخل النون عوضا عن الحركة والتنوين، وهذا موضع يسكن فيه العدد؟ فالجواب في ذلك أن " اثنان " صيغ بثبات النون على معناه، ولم يقصد إلى " اثن " فتضمه إلى مثله؛ إذ كان لا ينطق " باثن "، ولكنه لما كان حكم التثنية في الأشياء التي ينطق بواحدها، متى ثنيت أن تزاد النون فيها عوضا من الحركة والتنوين. وقد جاء اثنان وإن لم ينطق بإثن، على ما يجيء عليه الشيء المنطوق بواحده، حمل عليه وإن لم يكن له

واحد فيه حركة وتنوين وتثبت هذه النون على كل حال إلا أن تعاقبها الإضافة. ومن ذلك حروف التهجي وهي مقصورة، إذا تهجيت بها؛ تقول: آ، با، تا، ثا تقصرها. وفي " زاي " لغتان؛ منهم من يقول؛ " زاي " بياء بعد ألف، كما تقول: " واو " بواو بعد الألف. ومنهم من يقول " زي ". وإنما وقعت هذه الحروف إذا قطعتها على هذا النحو؛ لأنها تشبه الأصوات، ولأنك لم تحدث عنها ولم تحدث بها، ولا جعلت لها حالة تستحق الإعراب لها، كما قلنا في العدد، وإن تهجيت اسما فإنك تقطع حروفه وتبنيها على الوقف، كقولك إذا تهجيت: " عمرا ": عين، ميم، را، واو. فإن كان شيء من هذه الحروف بعده همزة جاز أن تلقى حركة الهمزة عليه، وتحذفها؛ كقولك في هجاء: " عامر ": عين، ألف، ميم، را، ويجوز أن تقول: عين ألف، ميم، را؛ فتحذف الهمزة، وتحرك النون من: عين. قال الراجز: أقبلت من عند زياد كالخرف … تخطّ رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف ويروى: تكتبان، فألقى الهمزة من " ألف " على الميم من: " لام " وحذف الهمزة. فمن روى: " تكتبان في الطريق " يعني؛ تؤثران لام ألف، ومن روى: " تكتبان " أراد: تتكتبان، أي تصيران هما كلام ألف. قال سيبويه: إذا قلت في باب العدد: واحد اثنان، جاز أن تشم الواحد الضم، فتقول: واحد اثنان، ولا يجوز ذلك في الحروف إذا قلت لام ألف أو نحوها. قال: والفصل بينهما أن الواحد متمكن في أصله والحروف أصوات مقطعة، فاحتمل الواحد من إشمام الحركة لما له من تمكن الأصل، ما لم يحتمله الحرف. فإذا جعلت هذه الحروف أسماء، وخبرت عنها، وعطفت بعضها على بعض، أعربتها، ومددت منها ما كان مقصورا، وشددت الياء من: " زي " في قول من لا يثبت الألف. قال الشاعر يذكر النحويين:

إذا اجتمعوا على ألف وباء … وتاء هاج بينهم القتال (¬1) وإنما فعلوا ذلك من قبل أنها إذا صيرت أسماء، فلا بد من أن تجري مجراها وتعطي حكمها، وليس في الأسماء المفردة التي تدخلها الإعراب اسم على حرفين الثاني من حروف المد واللين- واوا أو ياء أو ألفا؛ لأن التنوين إذا دخله أبطله لالتقاء الساكنين، فيبقى الاسم على حرف واحد، وهو إجحاف شديد. وقد جاء من الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني من حروف المد واللين، غير أن الإضافة تلزمه، فيمتنع التنوين، كقولهم: " هذا فو زيد " و " رأيت فا زيد ". وربما اضطر الشاعر، فيجيء به غير مضاف. قال العجاج: خالط من سلمى خياشيم وفا (¬2) وإنما فعل ذلك؛ لأنه في آخر بيت في موضع لا يحتاج فيه إلى تنوين. فلما كان الأمر على ما وصفنا، وجعلت هذه الحروف أسماء زيد في كل واحد منها ما يكمل به اسما، وجعلت الزيادة مشاكلة لآخر المزيدة فيه، تقول في: با: " باء " تكون الهمزة مشاكلة الألف، وفي: زي: " زيّ ". ومما يدل على صحة هذا المعنى قول الشاعر في ليت و " لو " التي هي حرف، حين جعلها اسما: ليت شعري وأين منّي ليت … إنّ ليتا وإنّ لوا عناء (¬3) وقال النمر بن تولب: علقت لوّا تردّده … إنّ لوّا ذاك أعيانا (¬4) ويجيز الفراء في هذه الحروف، إذا جعلت أسماء: القصر والمد، فتقول: " هذه حا فاعلم " و " يا فاعلم " وتثنى فتقول: " حيان " و " بيان " ولا تزيد فيهما شيئا. وقد بينا صحة القول الأول. ويفرق الفراء بين هذه الأسماء المنقولة عن أحوال لها هي غير متمكنة فيها وبين ما ¬

_ (¬1) البيت ليزيد بن الحكم في شرح ابن يعيش 6/ 29، وخزانة الأدب 1/ 53. (¬2) البيت في ديوانه 82، وخزانة الأدب 2/ 62. (¬3) البيت لأبي زيد الطائي في ديوانه ق 1/ 6 ق ص 24. (¬4) البيت في ديوانه ق 45/ 2 ص 120.

يصاغ من الكلام متمكنا في أول أحواله. والقول الأول أقوى. والله أعلم. وهذه الحروف تذكر وتؤنث، إذا جعلت أسماء تقول: " هذه يا مخطوطة " وإن شئت قلت: " هذا ياء مخطوط "، فمن أنثها ذهب بها مذهب الكلمة، وهو الأغلب عليها، ومن ذكّرها ذهب بها مذهب الحرف. قال الشاعر في التأنيث: ... … كما بيّنت كاف تلوح وميمها (¬1) وقال آخر في التذكير: كافا وميمين وسينا طاسما ومن ذلك: " خاز باز " وفيه سبع لغات، وله خمسة معان. فأما اللغات التي فيها؛ فيقال: خازباز، وخازباز، وخازباز، وخازباز وخازباز، وخازباء، على مثل: قاصعاء ونافقاء، وخزباز؛ مثل: كرباس. وأما معانيها، فخازباز؛ عشب، وهو أيضا؛ ذباب يكون في العشب، وقال بعضهم: هو صوت الذباب، وهو أيضا داء يكون في اللهازم وقالوا الخازباز: السّنور، وهو أغرب ما فيه. والحجة على أنه العشب قول الشاعر: والخازباز السّنم المجّودا (¬2) وقال آخر: تفقأ فوقه القلع السّواري … وجنّ الخازباز به جنونا (¬3) فهذا يحتمل أن يكون: العشب، ويحتمل أن يكون: الذباب؛ يقال: جن النبت إذا خرج زهره، وجن الذباب إذا طار وهاج. وقال المتلمس: فهذا أوان العرض جنّ ذبابه … زنابيره والأزرق المتلمّس (¬4) ويروى: حي ذبابه. ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت وصدره: أهاجتك آيات أبان قديمها، وهو منسبوب للراعي النميري في المقتصب 1/ 237. (¬2) البيت في خزانة الأدب 3/ 110، ولسان العرب (خوز). (¬3) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في معاني القرآن 1/ 468. (¬4) البيت منسوب له في لحن العوام للزبيدي 33.

وقال آخر في الداء: مثل الكلاب تهر عند درابها … ورمت لهازمها من الخزباز (¬1) وقال آخر: يا خازباز أرسل اللهازما (¬2) فأما من قال: خازباز، فإنه جعلهما اسمين، ثم كسر كل واحد منهما لالتقاء الساكنين، مثل قوله: غاق غاق، وحاب حاب. ومن فتحهما، شبههما بخمسة عشر، وحضرموت، إذا فتحت آخره. ومن ضم آخره وفتح أوله، فإنه يشبهه ببعلبك، وحضرموت، إذا جعلت الإعراب في آخره؛ تقول: " هذه بعل بك " و " حضرموت ". قال امرؤ القيس: لقد أنكرتني بعلبكّ وأهلها … ولابن جريج في قرى الشام أنكرا (¬3) ومن قال: " الخازباز " فإنه بنى أوله على السكون، ثم كسره، لالتقاء الساكنين، وضم آخره حين صيرهما كشيء واحد. ومثله: " معد يكرب "، فمن أعرب آخره، فقال: هذا معد يكرب، ورأيت معد يكرب، ومررت بمعد يكرب، يجعل الإعراب في آخره ويبنى أوله على السكون، إلا أنه اضطر إلى تحريك الأول حين التقى ساكنان، ولم يكن ذلك في معد يكرب؛ لأن ما قبل الياء الساكنة في معد يكرب متحرك. وأما من قال: " خازباز " فإنه أضاف الأول إلى الثاني، كما يقول: " بعل بك " و " حضرموت " و " معد يكرب " فيمن أضاف، وجعل: كربا مذكرا، و " معديكرب " فيمن أضاف وجعل كرب مؤنثا. ومثل هذا في الكلام أنا لو لقّبنا رجلا معروفا بلقب لأضفنا اسمه إلى لقبه، كقولك: " هذا سعيد قفة "، فأضيف اسمه إلى " قفة " حين لقب بها، وكذلك كل اسم مفرد إذا لقبته. واعلم أن " الخازباز " في هذه الوجوه التي يبنى فيها متى دخلت الألف واللام عليه، ترك على بنائه، كما قال: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (خزبر). (¬2) خزانة الأدب 3/ 109، اللسان (خوز). (¬3) انظر: ديوانه 68.

… وجنّ الخازباز به جنونا وكما تقول: " هذه الخمسة عشر درهما " فتدخل الألف واللام عليها وتدعها على بنائها. وأما من قال: " خازباء " فإنه بناء اسما على فاعلاء، وجعل الهمزة للتأنيث. وأما من قال: " الخزباز " فإنه بناء مثل: كرباس، ويكون متصرفا في جميع وجوه الإعراب، كما يكون الكرباس. ومن ذلك قولهم عند الدعاء، وسؤالك الإجابة: " آمين ". وفيه لغتان: و " أمين " و " آمين " مقصور وممدود. قال الشاعر: تباعد مني فطحل وابن أمّه … أمين فزاد الله ما بيننا بعدا (¬1) وقال آخر في المد: يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا … ويرحم الله عبدا قال آمينا (¬2) وإنما فتح آخرهما، وبنيا على ذلك من قبل أنهما صوتان وقعا موقع فعل الدعاء، وهو أنك إذا قلت: " أمين "، فمعناه: استجب يا ربنا، كما وقع: " صه " و " مه " في معنى؛ اسكت، وكف. فلما كان " أمين " على ما وصفنا كان من حقه أن يبنى على السكون، فالتقى في آخره ساكنان، ففتح ولم يكسر من قبل الياء التي قبلها، استثقالا للكسر مع الياء، كما قالوا: " مسلمين " وكما قالوا: " أين " و " كيف " حين كان قبل آخره ياء، فاعرفه إن شاء الله. ومما جاء من الاسمين اللذين جعلا اسما واحدا، وآخر الأول منهما ياء مكسور ما قبلها: " معدي كرب " و " أيادي سبأ " و " قالي قلا " و " ثماني عشر " و " بادي بدا ". فأما " معدي كرب " فهو اسم علم. وفيه لغات؛ يقال: " معدي كرب " و " معدى كرب " و " معدي كرب " فأما من قال: " معدي كرب " فإنه جعلهما اسما واحدا، وجعل الإعراب في آخره ومنعه الصرف لعلتين، إحداهما؛ التعريف، والأخرى؛ جعل الاسمين اسما ¬

_ (¬1) بلا نسبة في شرح ابن يعيش 4/ 34، واللسان (أمن). (¬2) ينسب لمجنون ليلى في اللسان (أمن).

واحدا، وهو أحد موانع الصرف. وسواء قدرته في هذا الوجه مذكرا أم مؤنثا تجعله كاسم لا ينصرف، وتقول: " جاءني معدي كرب " و " رأيت معدي كرب " و " مررت بمعدي كرب ". وأما من قال: " هذا معدي كرب "، فإنه جعل: " معدي " مضافا إلى " كرب " وجعل كربا اسما مذكرا. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما ذكرت، فهلا قالوا: " رأيت معدي كرب "، كما تقول: " رأيت قاضي واسط "؟ قيل له: " معدي كرب " لا يشبه: " قاضي واسط " من قبل أن الياء في " معدي " قد كانت ساكنة في الموضع الذي يجب فتح الحرف الصحيح فيه، وذلك إذا جعلته مع " كرب " بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك تقول: " هذا حضرموت " و " بعل بك "، فيفتح آخر الاسم الأول في الصحيح، ويسكن الياء في " معدي "، فكما وجب تسكين هذه الياء في الموضع الذي ينفتح فيه غيرها من الصحيح، وإن كان فتحها بناء، أسكن في الموضع الذي يكون فتحها إعرابا؛ لأنه قد لزمها السكون في موضع الفتح. ووجه ثان يؤيد هذا المعنى، وهو قولهم: " أرض وأرضون ". ويقال " أرضون " بتسكين الراء، وفتحها أكثر وأجود. وإنما فتحت هذه الراء في الجمع، وإن كانت في الواحد مسكنة من قبل أنهم يقولون: " أرض وأرضات "، كما يقولون: " دعد ودعدات وتمرة وتمرات " فلما كانت " أرضات " جمعا سالما قد لزمت فيه فتحة الراء التي كانت مسكنة في الواحد على علة " تمرات " و " دعدات "، فتحوها في: " أرضون "، ليعلموا أن لها حالا تنفتح فيها في جمع سالم مثل: أرضات. ومن قال: " معدي كرب " على كل حال، فإنه على وجهين: أحدهما: أن يكون بجعلهما اسما واحدا، فيكون مثل: " خمسة عشر " و " حضرموت " فكأنهما كانا مبنيين على الفتح قبل التسمية ثم حكى في التسمية. والثاني: أن يجعل " معدي " مضافا إلى " كرب " ويجعل كربا اسما مؤنثا فلا ينصرف ويكون في موضع مخفوض. وأما " قالي قلا " فإنك تجعله غير منون على كل حال إلا أن يجعل: " قالي " مضافا إلى " قلا " ويجعل " قلا " اسم موضع مذكر فتنونه، فتقول على هذا " قالي قلا " فاعلم.

والأكثر ترك التنوين. قال الشاعر: سيصبح فوقي أقتم الرّيش كاسر … بقالي قلا أو من وراء دبيل (¬1) وتفسير " قالي قلا "، كتفسير " معدي كرب ". والوجه الذي ينون فيه كالوجه الذي ينون فيه " معدي كرب ". وأما " أيادي سبأ " ففيه لغتان: " أيادي سبأ " و " أيدي سبأ " ومعناه: متفرقين، يقول: " ذهب القوم أيدي سبأ " و " أيادي سبأ "، إذا تبددوا وتشتتوا. والأصل أن سبأ بن يشجب لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد؛ فقيل لكل جماعة تفرقت؛ " ذهبوا أيدي سبأ ". وموضعه من الإعراب نصب بالحال، وفيه وجهان: أحدهما: أنه معرفة وقع موقع الحال كما قال: فأرسلها العراك ولم يذدها … ... (¬2) يريد: معتركة. كما قالوا: " القوم فيها الجماء الغفير " يريد مجتمعين، وغير ذلك مما وقعت المعرفة فيه موقع الحال. والوجه الثاني: أن يجعل " سبأ " في تقدير منكور، وتضيف " أيدي " إليه فتكون منكورة، فإذا كانت كذلك فلا كلام في وقوعها حالا. وللسائل أن يسأل فيقول؛ كيف يكون " سبأ " منكورا حالا وهو اسم رجل، فقد صارت له حالة في التفرق يجوز من أجلها أن يشبه غيره به، كما قيل: " قضية ولا أبا حسن لها "، وإنما القصد فيه إلى علي بن أبي طالب عليه السّلام. كما قال الشاعر: لا هيثم الليلة للمطى فإنه وإن كان أراد عليّا رضي الله عنه قصد الهيثم، فإن تقدير الكلام: لا مثل علي ولا مثل الهيثم؛ لأن (لا) لا تنصب إلا منكورا، فإنما جاز تقدير " مثل " وإن كان القصد إلى واحد؛ لأن التأسف إذا وقع لفقد إنسان، فإن وجود مثله يزيل ذلك، ويصير كأنه هو الأول المطلوب، فكذلك: تفرق القوم أيدي سبأ، يجوز أن يكون في التقدير: أيدي مثل سبأ، وسبأ في هذا الموضع على هذا التقدير معرفة؛ فلذلك لم ينون. ¬

_ (¬1) لسان العرب (دبل). (¬2) البيت للبيد في ديوانه 86، وخزانة الأدب 1/ 524.

فإن قيل: ولم صار معرفة و " أيدي " المضاف إليه نكرة؟ قيل له: إذا رتبنا الكلام على ما ذكرناه، فأيدي هي مضافة إلى " مثل " ومثل منكور وإن كان مضافا إلى " سبأ "، كما تقول: " لا عبد الله الليلة " فتعمل (لا) في (عبد الله) وإن كان معرفة؛ لأن تقدير عملها في " مثل " ونقل ذلك إلى " عبد الله ". و" سبأ " مهموز في الأصل، وترك همزه في: " أيادي سبأ " لكثرته، وطوله، كما قيل: " منساة "، وهي من: " نسأته ". فأما " ثماني عشرة " فقد ذكرناها فيما تقدم. وأما " بادي بدا "، ويقال: " بادي بديء " فمعناه أول كل شيء، وهو مأخوذ من الابتداء. وكان الأصل فيه: " بادي بداء " أو " بادي بديء "، غير أنهم خففوا الهمزة فيه، قلبوها ياء، وسكنوها كما سكنوا ياء " معدي كرب ". قال الشاعر: وقد علتني ذرأة بادي بدي … ورثية تنهض في تشدّدي (¬1) و" بادي بدي " منكور بمنزلة: " خمسة عشر " لأنه حال، كأنه قال: وقد علتني مبتدئا، يعني أول كل شيء. وقد قيل: " بادي بدي " أي ظاهرا، من قولك: بدا يبدو. والأول أجود. فإن قال قائل: ولم وجب إسكان هذه الياءات من أواخر الأسماء الأولى؟ قيل له: من قبل أن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا، وكان الأول منهما صحيح الآخر بنيا على الفتح، والفتح أخف الحركات، وقد علمنا أن الياء المكسور ما قبلها أثقل من الحروف الصحيحة، وأعطيت أخف مما أعطى الحرف الصحيح، وليس أخف من الفتحة إلا السكون، فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك قولهم: " وقع الناس في حيص بيص "، إذا وقعوا في اختلاط وهذا الكثير المعروف. قال الهذلي: قد كنت خرّاجا ولوجا صيرفا … لم تلتحصني حيص بيص لحاص (¬2) وقيل: " حيص بيص " وقيل: " حيص بيص " وقد يكسر هذا فيقال: " حيص بيص ". ¬

_ (¬1) الرجز لأبي نخيلة السعدي في خزانة الأدب 1/ 79، ولسان العرب (نهض). (¬2) البيت لأمية بن أبي عائذ الهذلي في ديوان والهذليين 2/ 192.

وحكي في هذا كله التنوين مع كسر الصاد. وأقول: إن " حيص " يجوز أن يكون مشتقا من؛ حاص يحيص، وإذا فر، و " بيص " من: باص يبوص، إذا فات؛ لأنه إذا وقع الاختلاط والفتنة، فمن بين الناس من يحيص عنها أو يبوص منها، وكان ينبغي أن يقال: " حيص بوص "، غير أنهم أتبعوا الثاني الأول كما قال الشاعر: أزمان عيناء سرور المسرور … عيناء حوراء من العين الحير (¬1) والكلام: العين الحور؛ لأنها جمع حوراء، غير أنهم اتبعوها؛ العين. وكما قالوا: " العدايا والعشايا "، فقالوا: " الغدايا " من أجل: " العشايا ". والغداة وحدها لا تجمع غدايا. والذي أوجب بناء: " حيص بيص " تقدير الواو فيهما؛ كأنك قلت: " في حيص وبيص "، فلما حذف الواو، وتضمنتا معناها بنيتا كما تبنى " خمسة عشر " لما كان فيها معنى الواو. ومن كسر فلالتقاء الساكنين. ويجوز أن تجعله صوتا، فتحكى به ما يقع في الاختلاط والفتنة، ولا تجعله مشتقا من شيء فتكسره كما تقول: " غاق غاق " إذا قدرته تقدير المعرفة وتنونه، كما تقول: " غاق غاق " إذا قدرته تقديرا كنكرة فاعرفه إن شاء الله. وقولهم: " ذهب الناس شغر بغر "، إذا تفرقوا تفرقا لا اجتماع بعده، و " ذهب الناس شذر مذر " في ذلك المعنى. ويقال: " شذر مذر، ويقال: " شذر بذر " و " شذر بذر " وكله في معنى التفرق الذي لا اجتماع بعده. وإنما بنيت هذه الحروف لأن فيها معنى الواو، كأنه في الأصل: " ذهب الناس شغرا وبغرا "، فلما حذفت الواو وتضمنتا معناها بنيتا على الفتح مثل: " خمسة عشر ". وشغر بغر عندي مشتق من قولهم: " شغر الكلب " إذا رفع إحدى رجليه فباعدها من الأخرى، و " بغر " من قولهم: " بغر الرجل " إذا شرب فلم يرو لما به من شدة الحرارة، فجعل من شغر في التفرق الذي هو لا اجتماع بعده، كما يكون البغر في العطش الذي لا ري معه. وسائر هذه الحروف فيها معنى الواو على ما قدرت لك في " شغر بغر " ومن ذلك ¬

_ (¬1) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في تهذيب إصلاح المنطق 59.

قولهم: " ذهب فلان بين بين ". والمعنى: بين هذا وبين هذا، فلما اسقطت الواو بنيا. قال الشاعر: ... … وبعض الناس يذهب بين بينا (¬1) ومن ذلك: " لقيتك صباح مساء " و " يوم يوم " على هذا المعنى الذي ذكرناه من تضمن الواو، فكأنك قلت: " صباحا ومساء " أو " يوما ويوما " ولست تقصد صباحا واحدا ولا يوما واحدا. ويجوز أن تقول: " أتيتك صباح مساء " فتضيف الصباح إلى المساء وتجعل " صباح " منسوبا. وإنما جاز إضافته إلى " مساء " من قبل أنك أردت إتيانه في صباح مقترن بمساء، فلما اصطحبا في الإتيان، جاز إضافة أحدهما إلى الآخر، كما يضاف الشيء إلى ما يصحبه. فإذا أدخلت عليهما شيئا من حروف الجر لم يكن إلا مضافا مخفوضا، تقول: " أتيتك في كل صباح مساء "؛ لأنهم إذا أدخلوا عليه شيئا من حروف الجر خرج عن باب الظروف وصار اسما وتمكن أكثر من تمكنه الأول، فلم يقدر فيه الواو. فإن قال قائل: فهلا أعربتم " خمسة عشر " ونحوها، وكل اسمين جعلا اسما واحدا إذا أدخلتم شيئا من حروف الجر عليه؟ فالجواب في ذلك أن " خمسة عشر " نحوها على كل حال لا يخلو من تقدير الواو فيه، فلم يجز غير البناء، و " صباح مساء " قد كان مرة يجوز بناؤه قبل دخول الجار على تقدير الواو، وإضافته على ما بينا، فإذا دخل الجار وصار اسما، وخرج عن حد الظرف، وتمكن لم يكن فيه إلا الإضافة التي توجب الإعراب له، إذ كانت الإضافة جائزة قبل دخول الجار. ومن ذلك قولهم: " لقيته كفة كفة " وفيها معنى الواو، وأصله كفة وكفة. وإنما المعنى: كفة مني وكفة منك، وإن شئت: كفة على كفة، أو: كفة عن كفة. وذلك أن المتلاقيين إذا تلاقيا، فقد كف كل واحد منهما صاحبه عن مجاوزته إلى غيره في دفعه التقائهما، فكفة وكفة: مصدران وضعا موضع الحال، كأنك قلت: لقيته متكافّين، مثل ¬

_ (¬1) البيت لعبيد الأبرص في ديوانه 136، ومعاني القرآن 1/ 177.

قولك: لقيته قائمين. قال الشاعر: متى ما تلقني فردين ترجف … روانف أليتيك وتستطارا (¬1) وقال آخر: تعلقت ليلى وهي ذات موصّد … ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا … إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم (¬2) وتقول: " هذا جاري بيت بيت "، والمعنى: بيت إلى بيت. وإن شئت: بيت لبيت، فحذفت حرف الجر، وتضمنا معناه فبنيا لذلك، وجعلا في موضع: متلاصقا، كأنك قلت. هو جاري ملاصقا، ويكون جاري هو العامل في موضع " بيت بيت ". ولو قلت: " هو بيت بيت جاري " لم يجز؛ إذ كان العامل ليس بفعل ولا اسم فاعل. ويجوز في " كفة كفة " أن تقول: " كفة كفة لقيته "؛ إذ كان العامل فعلا. ولو قلت: " هو مجاوري بيت بيت " أو " جاورني بيت بيت " جاز التقديم وأن تقول: " بيت بيت جاورني " و " بيت بيت مجاوري " فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك ما أضفته من المعرب إلى غير المتمكن، من مثل قوله: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ (¬3). فأما قوله عز وجل: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (¬4) ففيه وجهان: أحدهما: أن (مثل) مبني بإضافته إلى غير متمكن، وهو: ما أنكم تنطقون، كما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصّبا … فقلت ألما تصح والشّيب وازع (¬5) وينشد بالخفض. فإن قال قائل؛ ولم إذا أضيف إلى غير متمكن بني؟ ¬

_ (¬1) البيت لعنترة بن شداد في ديوانه 108، وخزانة الأدب 2/ 200 وشرح بن يعيش 2/ 55. (¬2) البيتان لمجنون ليلى في ديوانه 238. (¬3) سورة المعارج، آية 11. (¬4) سورة الذاريات، آية 23. (¬5) البيت للنابغة الذبياني في معاني القرآن 1/ 327 وخزانة الأدب 3/ 151.

قيل له: من قبل أن ما أضيف إليه ليس باسم في لفظه، وإنما هو اسم في معناه، والإضافة الصحيحة ما كانت اللام مقدرة فيه، أو من، فهذه الأشياء التي أضيفت إلى غير متمكن لا يصح تقدير اللام في لفظ ما أضيفت إليه ولا تقدير " من " ألا ترى أنك إذا قلت: " هذا يوم يقوم زيد " كان معناه: هذا يوم قيام زيد. ويصلح هذا يوم لقيام زيد. وإذا قلت: " هذا يوم يقوم زيد " لم يجز أن تدخل اللام فتقول: يوم ليقوم زيد. وإذا قلت: " هذا يوم قيام زيد " جاز أن تدخل اللام، فعلمنا أن الإضافة إلى ما لا يتمكن ضعيفة فلذلك أجازوا البناء في المضاف إليه. والوجه الثاني: في قوله: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (¬1) أن (مثل) منصوب على الحال، كأنه قال: إنه لحق مشبها لذلك. وقوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ (¬2) على قراءة من نصب على وجهين: أحدهما: ما ذكرناه من الإضافة إلى غير متمكن. والثاني: على الظرف، أي: هذا في ذلك اليوم، ويكون المشار إليه غير اليوم في هذا الوجه. وفي الوجه الأول المشار إليه هو اليوم. وقوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ (¬3) على قراءة من قرأ بالنصب، لا يجوز إلا أن يكون بناء حين أضيف إلى غير متمكن. رأيت بعض أصحابنا يقول في قول النابغة. على حين عاتب المشيب على الصبا … ... لو قال: على حين أعاتب، ما كان يجوز أن يفتح (حين)، لأن أعاتب- زعم- معرب، وليس هذا بقول مرضى لقوله تعالى؛ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ إنما يبنى هذا وما شاكله؛ لأنه أضيف على ما ليس باسم في لفظه. ومن ذلك قولك؛ " ما نفعني غير قيام زيد " رفع غير عند أصحابنا البصريين. فإذا قلت: " ما نفعني غير أن قام زيد "، فلك أن ترفعه على ما يستحقه من الإعراب، ولك أن ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية 23. (¬2) سورة المائدة، آية 119. (¬3) سورة هود، آية 66.

تبنيه وتفتحه؛ لأنك أضفته إلى (أن) وهي حرف. قال الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت … حمامة في غضون ذات أو قال وزعم أهل الكوفة أنه يجوز نصبها في كل موضع تحسن فيه (إلا) سواء كان مضافا إلى اسم متمكن أو غير متمكن، فأجازوا: " ما جاءني غير زيد " و " ما غمني غير أن قمت "، ولم يفصلوا بينهما، ولم يجيزوا: " جاءني غير زيد " لأنه لا يقع موقعها (إلا). قال أبو سعيد؛ واستشهدوا في جواز النصب في الاستثناء بالبيت الذي أنشدناه، فقال البصريون؛ لو قلنا: " ما قام غير زيد " كان قد بقي " قام " بغير فاعل، ولا يجوز خلو الفعل من فاعل. وإذا قلت: " ما غمني غير أن قمت " فهذا مبني موضعه رفع. فإن قال قائل: فاجعلوا (غير) إذا كان مضافا إلى اسم في الاستثناء مبنيا وموضعه رفع. قيل له: لا يجوز ذلك من قبل أن الإضافة إلى الاسم المحض لا توجب بناء الاسم المضاف. ولو أوجبت ذلك لفتحت (غير) في الاستثناء وغيره للإضافة التي فيها، وليس الاستثناء موجبا للبناء فتبينه بسبب الاستثناء. وقد رأينا لما ذكرنا من بناء المضاف إلى غير متمكن نظائر، وهي ما ذكرناه فحملناه عليه. فإن قال قائل: اجعلوا (غير) في الاستثناء مبنيا، لأنه وقع موقع (إلا) و (إلا) حرف، والأسماء إذا وقعت موقع الحروف بنيت. قيل له: لو جاز ذلك لجاز أن تقول: " زيد مثل عمرو " لأنا نقول: " زيد كعمرو " فتبنى " مثل " لوقوعه موقع الكاف، فلما بطل هذا بطل ما ادعاه هذا المدعي. فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك ما ذكره بعض النحويين: " ما لقيته يوم يوم " وهذا نادر شاذ، وتفسيره أنه يجعل (يوم) الأول بمعنى: منذ، و (اليوم) الثاني معلوما قد حذف منه ما أضيف إليه، كأنه قال: " ما رأيته منذ يوم تعلم " وتبنيه كما بني: قبل وبعد، حين حذف ما أضيف إليه. فإن قال قائل: فلم بني يوم الأول؟ قيل له: من قبل أنه حين جعلته بمعنى: مذ، ومذ إذا كان ما بعدها مرفوعا، كانت

فيهما على أحد تقديرين، هي فيهما جميعا في تقدير إضافة إلى شيء، وذلك أنك إذا قلت: " لم أره مذ يومان " أو " مذ شهران " أو نحو ذلك مما يكون جوابا لكم، فتقديره: " لم أره وقتا ما "، ثم فسرت ذلك فقلت؛ أمد ذلك شهران، أو: مدة ذلك شهران، فقولك: " مذ شهران " جملة ثانية، هي تفسير للوقت المبهم في الجملة الأولى، فهذا أحد تقديري: " مذ " إذا رفعت ما بعدها. والتقدير الآخر أن تقول: " ما رأيته مذ يوم الجمعة " فيكون تقديره: فقدت رؤيته وقتا أوله يوم الجمعة فمذ في هذين الوجهين بمنزلة اسم مضاف، إما على تقدير؛ أمد ذلك، أو: أول ذلك. فإذا حذفت المضاف إليه من (يوم) الذي هو في معناه في قولك: " ما رأيته يوم يوم " بنيته على الضم كما فعلت بقبل، وبعد، وحين حذفت المضاف إليه ولا يجوز أن تقول: " ما رأيته شهر شهر " ولا: " دهر دهر " من قبل أن (يوم) اسم يستعمل للأوقات كلها ليلها ونهارها، والشهر اسم مؤقت لشيء من الزمان والدهر لما كثر منه، وإن لم يكن مؤقتا. والدليل على أن اليوم اسم يقع لكل جزء من الزمان ليل أو نهار قول الله جل ذكره: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (¬1) فهذا زجر عن الفرار في كل وقت من آناء الليل والنهار. ومن أبين ما يدل على هذا قول الشاعر: يا حبذا العرصات يو … ما في ليال مقمرات أراد وقتا؛ فلما كان (يوم) يقع على كل شيء من الزمان كما يقع (مذ)، أقاموه مقامه، فاعرفه إن شاء الله. ومن ذلك: لدن. وفيه ثماني لغات، وهي: لدن، ولدن، ولدن، ولدن، ولدا، ولد، ولد، ولد. ومعناها: عند، وهي مبنية مع دخول حرف الجر عليها. فإن قال قائل: فهلا أعربت كما أعربت " عند "؟ فالجواب في ذلك: أن " عند " توسعوا فيها، وأوقعوها على ما بحضرتك، وما يبعد. وإن كان أصلها للحاضر، فقالوا: " عندي مال " وإن كان بخراسان، وأنت بمدينة السّلام. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 16.

و " فلان عنده علم " وإن لم يعنوا به الحضرة. وقد كان حكم " عند " في البناء حكم " لدن " لولا ما لحقها من التصريف الذي ذكرناه، و " لدن " لا يتجاوز بها حضرة الشيء؛ فلذلك بني. فأما من قال: لدن ولدن ولدا، فإنه يبنى آخره على السكون من جهة البناء. وأما من قال: لد، فهو محذوف النون من: لدن. فإن قال قائل: ولم زعمتم ذلك؟ وهلا كانت حرفا على حياله؟ فالجواب في ذلك أنها لو كانت حرفا على حياله، ولم تكن مخففة من " لدن " لكانت مبنية على السكون لا غير، لحكم البناء الذي ذكرناه. ومثل ذلك قولهم: رب، وربّ، مخففة ومشددة. ولو كانت المخففة كلمة على حيالها لكانت ساكنة لا غير؛ إذ كانت حرفا جاء لمعنى. ومثل ذلك: " منذ " و " مذ "، والأصل: منذ، و " مذ " مخففة منها. وعليها دليلان. أحدهما: أن من العرب من يقول: " مذ ". والثاني: أنّا نضم الذال لالتقاء الساكنين بالحركة التي كانت فيها مع النون في قولك: منذ. وأما من قال: لدن، ولدن، فكسر النون لالتقاء الساكنين. وأما من سكن الدال، فإنه بنى باقي الكلمة بعد الحذف والتخفيف. واعلم أن حكم " لدن " أن تخفض بها على الإضافة؛ لأن النون من أصل الكلمة بمنزلة الدال من " عند " كما قال الله عز وجل: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (¬1) غير أن من العرب من ينصب بها " غدوة " فيقول: " من لدن غدوة ". قال الشاعر: لدن غدوة حتى ألاذ بخفّها … بقية منقوص من الظلّ قالص (¬2) وإنما يفعل ذلك، لأنه ينزع النون عنها، فيقول: " لد " ويدخلها فيقول: " لدن "، فشبهت بنون " عشرين " حين قالوا: " عشر وزيد " و " عشرون درهما "، إلا أن نون " عشرين " ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية 6. (¬2) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 4/ 100.

زائدة، ونون " لدن " أصلية، فشبهت الأصلية بالزائدة حين ثبتت في حال وسقطت في حال، كما ثبتت الزائدة في حال وسقطت في حال. وأما قول الشاعر: من لد شولا فإلى إتلائها فهذا فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الشول مصدر: شالت بذنبها شولا. والناقة تشول بذنبها إذا لقحت. والإتلاء: أن تلد فيتلوها ولدها، ومعناه يتبعها. وقد أتلت فهي متلية، إذا تلاها ولدها؛ فيقول: مذ كانت في وقت شول ذنبها إلى وقت إتلائها، وحذف الوقت وجعل الشول ظرفا، كما تقول: " أتاني مقدم الحاج " و " خفوق النجم " وإنما تعني: في وقت مقدم الحاج، ووقت خفوق النجم. وصحة التقدير من طريق العربية: مذ لد وقت أن شالت شولا إلى وقت إتلائها؛ لأنه لا يصح أن تقول: مذ لد أن كانت الناقة في وقت شولها إلى وقت إتلائها؛ لأن ظروف الزمان لا تتضمن الجثث. والقول الثاني: أن يكون الشول جمع شائل، وهي التي قل لبنها وليس من رفع الذنب. تقول: ناقة شائلة، ونوق شول، إذا قلت ألبانها. كما تقول: امرأة زائرة ونسوة زور. وناقة شائل إذا رفعت ذنبها ونوق شول. قال أبو النجم: كأن في أذنا بهن الشّول … من عبس الصيف قرون الأيل فيكون تقدير هذا: مذ لد وقت أن كانت النوق شولا إلى وقت إتلائها، أي إلى وقت أن ولدت وكثرت ألبانها. والاختيار عند أصحابنا للأول، فاعرفه إن شاء الله. قال سيبويه: " اعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان، الأولى منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون، يكون في الرفع ألفا، ولم يكن واوا ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية، ويكون في الجرياء مفتوحا ما قبلها، ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع الذي على حد التثنية، ويكون في النصب كذلك، ولم يجعلوا النصب ألفا ليكون مثله في الجمع، وكان مع ذا أن يكون

تابعا لما الجر منه أولى؛ لأن الجر للاسم لا يجاوزه، والرفع قد ينتقل إلى الفعل، فكان هذا أغلب وأقوى ". قال أبو سعيد: اعلم أن العرب إذا ثنت اسما باسم زادوا على أحد الاسمين زيادة تدل على التثنية. وكان ذلك أخصر وأوجز من أن يذكروا الاسمين. فيعطفوا أحدهما على الآخر، كقولك: " زيد وزيد " و " رجل ورجل "، وجعلوا العلامة الدالة على ذلك حروفا؛ إذ كانت الحركات قد استوعبها الواحد، وجعلوا تلك الحروف هي الحروف المأخوذة منها الحركات؛ لأن حكم العلامات أن تكون بالحركات؛ إذ كانت أقل وأخف. فإذا كانت الحركات ممتنعة لما ذكرناه، فأولى العلامات الحروف التي تشبه الحركات، فإذا كانت والواو والألف، فكان حكم الواو أن تكون في تثنية المرفوع، وحكم الياء أن تكون في تثنية المجرور، وحكم الألف أن تكون في تثنية المنصوب. وكذلك الجمع الذي على حد التثنية، لما لم يمكن إبانته إلا بالحروف على حسب ما ذكرنا في التثنية، غير أنه لا بد من فصل بين التثنية والجمع، فلم يمكن الفصل بينهما بنفس الحروف؛ لأنها سواكن، فجعل الفصل بين التثنية والجمع بالحركات التي قبل الحروف. فكان ينبغي على الترتيب الذي رتبنا أن تكون تثنية المرفوع بواو مفتوح ما قبلها؛ كقولك: " مسلمون "، وتثنية المجرور: " مسلمين " وتثنية المنصوب " مسلمين ". وجمع المرفوع بواو مضموم ما قبلها كقولك: " مسلمون " وجمع المجرور بياء مكسور ما قبلها، كقولك: " مسلمين " وجمع المنصوب بالألف، والألف لا يمكن أن يكون ما قبلها إلا مفتوحا كقولك: " مسلمان ". وإنما وجب أن يكون ما قبل هذه الحروف في التثنية مفتوحا، وفي الجمع على غير ذلك، من قبل أن حرف التثنية لما أضيف إلى الواحد- لعلامة التثنية- أشبه الهاء التي تضاف إلى الواحد لعلامة التأنيث، وهي تفتح ما قبلها، ففتح ما قبل حرف التثنية لهذه المشابهة. ووجه آخر، وهو: أن بعض علامات التثنية ألف لازمة لها مستعملة فيها، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، ففتحوا ما قبل غيرها من الحروف، لئلا يختلف؛ إذ ليس علة تضطر إلى المخالفة. ووجه ثالث، وهو: أن التثنية أكثر في الكلام من الجمع السالم؛ لأنها على منهاج

واحد، والجمع يقع فيه مكسر وسالم، والمكسر لا علامة فيه من هذه العلامات، نحو: " ثياب " و " مساجد " و " أفلس " و " أكلب "، فلما كانت التثنية أكثر اختاروا لها حركة خفيفة. ووجه رابع، وهو: أنهم لما احتاجوا إلى تحريك ما قبل حرف التثنية لسكونه حركوه بأخف الحركات إذ كان ذلك يوصلهم إلى ذلك ولم يتكلفوا أثقل منها لاستغنائهم عنه، ثم غيروا في الجمع الحركات التي قبل هذه الحروف، لئلا يقع لبس، غير أنهم لما فعلوا ذلك وقع الفرق بين التثنية والجمع في المرفوع والمجرور؛ لأن ما قبل الياء والواو في التثنية مفتوح، وفي الجمع على غير ذلك، وما قبل الألف في التثنية والجمع مفتوح فالتبس تثنية المنصوب بجمعه، فأسقطوا علامة النصب لما ذكرنا من اللبس، فبقي النصب بلا علامة، فلم يكن بد من إلحاقه بأحدهما، إما بالرفع وإما بالجر. وكان إلحاقه بالجر أولى من أربعة أوجه: أولها: أن الجر يختص به الاسم، ولا يكون إلا فيه والرفع يكون فيه وفي الفعل، وما لزم شيئا واحدا واختص به فهو أقوى فيه، فلما قوي الجر في الاسم للزومه له، كان إلحاق النصب به أولى في المعنى الذي لا يكون إلا في الاسم وهو التثنية. والوجه الثاني: أن المنصوب والمجرور يستويان في الكتابة، ويخالفهما المرفوع، وذلك قولك: " هذا غلامك " و " ضربتك "، فالكاف في: " غلامك " موضعها جر، وفي: " ضربتك " موضعها نصب، وصيغتهما واحدة. والوجه الثالث: أن المنصوب والمخفوض جميعا مشتركان في وصول الفعل إليهما ووقوعه عليهما، غير أن وقوعه على المنصوب بلا واسطة، وعلى المجرور بواسطة، وذلك قولك: " تعلقتك " و " تعلقت بك " و " نصحتك " و " نصحت لك " و " جئتك " و " جئت إليك "، فالفعل يكون مرة واصلا بحرف ومرة بغير حرف، والمعنى واحد، فلما اشتركا في معنى الكلام دون المرفوع، اشتركا في اللفظ دونه. والوجه الرابع: وهو أنا لما احتجنا إلى إلحاق المنصوب بالمرفوع أو المجرور لزوال حروفه على ما تقدم من بيان ذلك، وكانت الياء التي هي علامة المجرور أخف من الواو التي هي علامة المرفوع، كان إلحاقه بالأخف أولى إذ لا علة تضطر إلى الإلحاق بالأثقل، فتبقى علامة التثنية " مسلمون " للمرفوع بفتحة الميم، و " مسلمون " في الجمع المرفوع بضمة الميم، و " مسلمين " و " مسلمين " المجرور والمنصوب. فأزالوا الواو من التثنية، وجعلوا

مكانها ألفا، فصارت تثنية المرفوع بالألف. وإنما فعلوا ذلك لعلل منها: أنهم كرهوا أن يستعملوا حرفين من حروف المد واللين، ويطرحوا الثالث، وقد كانت الحركات المأخوذات منهن مستعملات في الواحد، واستعملوا الألف في التثنية دون الجمع، لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح مشاكل للألف واستعملوه في المرفوع دون المجرور لثلاث علل. إحداها: أن المجرور قد الحقوا به المنصوب فلو استعملوها فيه للحق به المنصوب وكان يعود المنصوب بالألف وقد أزيلت علامته بالألف لما وصفنا. والعلة الثانية: أن المجرور ألزم في الاسم من المرفوع وأخص به وكان تغيير ما ليس بلازم أولى من تغيير اللازم. والعلة الثالثة: وهي أنهم لما احتاجوا إلى إبدال الياء: أو إبدال الواو وبالألف وإزالة إحداهما كانت إزالة الواو وإبدالها أولى لأنها أثقل. ومما أوجب أن تستعمل الألف أن تثنية المرفوع إذا استعملت بالواو فقيل: مسلمون يشبه ما جمع من المقصور جمع السلامة نحو مصطفون ومعلون، وأشباه ذلك. فإن قيل فأنتم إذا قلتم مسلمين، فهو يشبه معلين ومصطفين. قيل له إذا وقع الفرق في وجه من التثنية، كان الفرق الواقع فيها دلالة على ما لم يفترق في اللفظ وما قل في اللبس كان أولى مما كثر واتسع، فإذا أبدلنا الألف من الواو في التثنية لئلا يشبه مصطفون وتركنا الياء في التثنية، وإن أشبهت في اللفظ " مصطفين " فقد فرقنا في المرفوع بين التثنية والجمع الذي على حدها وإن لم يفعل ذلك وقع اللبس بين المرفوع والمجرور جميعا. فإن قال قائل: فهلا استعملوا النصب بالألف في التثنية أو الجمع، وأسقطوه في الآخر لأن اللبس إنما يقع باستعماله فيهما. قيل له: لما كان جمع السلامة كالتثنية في تسليم لفظ الواحد وزيادة ما يدل على التثنية والجمع وقد وجب ما ذكرناه من إسقاط النصب من أحدهما، كرهوا استعماله في الآخر، لئلا يختلف طريقهما، وهذا مثله كثير في العربية، منها أنهم قالوا: " يعد ويزن " والأصل يوعد ويوزن لأن فاء الفعل واو فحذفوها لوقوعها بين ياء وكسرة في يوعد ويوزن ثم اتبعوا الحذف بسائر الأفعال المضارعة فقالوا تزن وتعد وإن لم تقع الواو بين ياء وكسرة حتى لا تختلف الأفعال المضارعة إذا كانت طريقتها واحدة.

فإن قال قائل: فهلا جعلوا الألف للنصب في التثنية والواو له في الجمع وأسقطوا الرفع وألحقوه بالجر؟ قيل له: إن الرفع له المرتبة الأولى فلا بد له من علامة تسبق إليه على النحو الذي تكون فيه حركته وتلك العلامة الواو، وقد أمكن فيها الفصل على ما وصفنا فلم تكن بنا حاجة إلى إسقاطه وإلحاقه بغيره. واعلم أن الألف والياء في التثنية والواو والياء في الجمع عند جمهور مفسري كتاب سيبويه هن حروف الإعراب بمنزلة الدال من زيد والراء من جعفر والألف من قفا وعصا. واحتجوا في ذلك بحجج، منها: أنهم قالوا: حكم الإعراب أن يدخل الكلمة بعد دلالتها على معناها؛ لاختلاف أحوالها في فعلها، ووقوع الفعل بها، وغير ذلك من المعاني ومعنى ذاتها واحد، ألا ترى أنك تقول: " مررت بالرجل " و " رأيت الرجل "، و " هذا الرجل "، فمعنى " الرجل " واحد في هذه الأحوال، واختلف إعرابه لاختلاف ما يقع منه وبه، فلما كان الواحد دالا على مفرد وبزيادة حرف التثنية دل على اثنين، كان حرف التثنية من تمام صيغة الكلمة للمعنى الذي وضعت له فصارت الألف بمنزلة الهاء في " قائمة "، والألف في " حبلى "، لأن الهاء والألف زيدتا لمعنى التأنيث، كما زيد حرف التثنية لمعنى التثنية: قالوا: فإن قال قائل: إذا كانت هذه الحروف هي حروف الإعراب، كالألف في " حبلى " والنصب والهاء في " قائمة " وغير ذلك من الحروف التي هي أواخر الكلمة، فينبغي أن لا يتغيرن في حال الرفع والجر، لأن حروف الإعراب لا تتغير ذواتها في هذه الأحوال. فالجواب في ذلك أن التثنية والجمع خاصة ينفردان بها، فاستحقا من أجلها التغيير وهي أن كل اسم معتل لا تدخله الحركات فله نظير من الصحيح تدخله الحركات نحو قفا وعصا وحبلى وسكرى، نظير قفا وعصا جبل وجمل، ونظير ألف التأنيث في حبلى وسكرى حمراء وفقهاء. لأن هذه الهمزة في حمراء وفقهاء هي ألف التأنيث، والتثنية وجمع السلامة لا نظير لواحد منهما إلا تثنية أو جمع فامتنع التثنية والجمع من نظير يدل إعرابه على مثل إعرابهما، كدلالة جمل وجبل وحمراء وفقهاء، على إعراب أمثالهن من المعتل فعوض التثنية والجمع من فقد النظير الدال على مثل إعرابهما تغيير الحروف فيهما.

ومما يدل على أن تغيير الحروف لا يدل على إعراب، أنا قد رأينا أسماء مبنية وقد تتغير صورها في حال النصب والجر والرفع، وهي الكنايات المنفصلة والمتصلة؛ تقول في المنفصلة أنا وأنت في حال الرفع وإياك وإياي في حال النصب، وتقول في المتصلة " هذا غلامك " فتكون الكاف في موضع الخفض، وهي اسم المخاطب، و " رأيتك " فتكون في موضع نصب وتقول " قمت " وذهبت فتكون التاء في موضع الرفع وقد تغيرت صورة هذه الحروف في حال الرفع والنصب والجر، وهي مبنية مع ذلك فغير مستنكر أن تتغير حروف التثنية والجمع، وإن لم يكن تغيرها إعرابا. فإن قال قائل: أخبرونا عن هذه الحروف هل فيهن حركة في النية وإن لم ينطق بها، استثقالا كما تكون في قفا وعصا حركة منوية فإن في هذا جوابين؛ أحدهما: أن فيه حركة مقدرة وإن لم ينطق بها استثقالا، كما تكون في قفا وعصا حركة منوية من قبل أن هذه الحروف لما دلت على تمام معنى الكلمة في ذاتها، وأشبههن ألف حبلى وقفا وعصا جرين مجراهن في نية الحركة فيهن إذ لا موجب للبناء. والجواب الآخر أن لا حركة منوية فيه من قبل أن الحركات وضعن في أصولهن لدلالة على اختلاف أحوال ما دخلن عليه، ولا سبيل إلى إدخالهن في المثنى والمجموع، ولا في نظير لهما يبين اختلافهما في النظير لهما عن اختلافهما ويدل عليه كما أنبأت الحركة في حبل وجمل عن حركة قفا وعصا. ومما احتج به الذاهبون إلى هذا الذين يقولون: إن الألف والياء في التثنية ليستا بإعراب من قول سيبويه أن قالوا: رأينا الإعراب المجمع عليه يجوز سقوطه من الشيء المعرب حتى لا يكون فيه، نحو الحركات في " زيد " والرجل وما أشبه ذلك، إذا وقفت عليه وكنحو النون في تثنية الفعل وجمعه وتأنيثه كقولك: " تفعلان " و " تفعلون " إعراب وهي علامة الرفع ثم تسقط في النصب والجزم فتقول " لم يفعلا " " ولن يفعلا ". واحتجوا أيضا فقالوا: ليس يخلو القول في هذه الحروف من أن تكون بمنزلة الدال من زيد، والألف من عصا، كما قلنا، أو تكون بمنزلة الضمة في الدال من زيد، والفتحة والكسرة، كما قال قطرب ومن تابعه أو تكون دليلا على الضمة والكسرة والفتحة كما قال الأخفش ومن تابعه قالوا: ففاسد أن تكون هذه الحروف بمنزلة الحركات من قبل أن ارتفاع الحركات من الاسم حتى يبقى متعريا منها غير مخل بمعناه

وارتفاع الحروف من التثنية والجمع مبطل لمعناهما وفاسد أن تكون هذه الحروف دليل الإعراب من وجهين أحدهما أن الدليل إنما يدل على معنى في شيء، فإذا قلنا: الزيدان أو الرجلان أو رجلان فليس تخلو هذه الألف أن تكون دالة على حركة فيها أو حركة في غيرها فغير جائز أن تكون دالة على حركة في غيرها، لأنه لا شيء في الكلمة سواها يمكن تقدير الإعراب فيه. وإن كانت تدل على حركة فيها فهي الضمة، فينبغي أن يكون التغيير إذا وقع دل على حركة أخرى في الألف ولا تتغير الألف لأن الألف الدالة إنما دلت على حركة فيها كما تكون ألف عصا في حال واحدة في حال الرفع والنصب والجر وتقدير الإعراب مختلف فيها، فيكون الدليل دالا على اختلاف الحركات في موضع واحد. فإن عارض معارض في هذه الوجه فقال: الألف تدل على إعراب فيها والياء تدل على إعراب أيضا فيها سوى الإعراب الأول. قيل له: فإذا كانت صورتا الألف والياء قد اختلفا وليس في غيرهما شيئان يدلان على اختلافهما باختلاف صورتيهما فلم لا يكونان إعرابين في أنفسهما وما الحاجة الداعية إلى أن تجعلهما دليلين على شيء في أنفسهما وهما قد أغنيا عنه بصوريهما. والوجه الثاني: أن الإعراب دال على المعنى فإذا جعلنا هذه الحروف دليلة على الإعراب، والإعراب دال على المعنى، فهذه الحروف غير دالة على معنى الكلمة، وإنما الدال على معناها ما ليس في الكلام، وبعيد أن يجعل معنى الكلمة معلوما من غير لفظ الكلمة مع إمكان الاستدلال بلفظها على معناها. قالوا: فإن قال قائل فإذا زعمتم أن هذه الحروف بمنزلة الدال في زيد والألف في عصا، وأنه لا إعراب فيها فلم سماها سيبويه حروف الإعراب؟ فالجواب في ذلك أن حروف الإعراب هي أواخر الكلم دخلها الإعراب أو لم يدخلها؛ لأنها في الموضع الذي يحل فيه الإعراب إذا وجد، ونظير هذا قول النحويين: الحروف الزوائد عشرة ويجمعها: " اليوم تنساه "، وهذه الحروف قد تكون زائدة وأصلية؛ ألا ترى أن الألف في " أكل " أصلية، واللام في " لمح " كذلك، وسائر هذه الحروف العشرة تكون أصولا ثم سموها زوائد إذ كانت الحروف الزوائد لا تخرج عنها، فاعرفه إن شاء الله. وذكر قوم مذهب سيبويه أن الألف والياء في التثنية، والواو والياء في الجمع، هن

إعراب بمنزلة الضمة والكسرة والفتحة في دال " زيد ". فاحتج عليهم الآخرون فقالوا هذه الحروف إذا حذفت بطل معنى التثنية، والإعراب إنما يدخل الكلمة بعد تمام معناها. فقال لهم أهل هذه المقالة: قد يجوز أن يكون الحرف من الكلمة نفسها ويكون أيضا إعرابا، وذلك أنا لا نختلف أن الأفعال التي في أواخرها الياء والواو والألف جزمها بسقوط هذه الحروف منها، كقولك: " لم يقض " و " لم يغز " و" لم يخش "، فإذا جاز أن يكون الإعراب بحذف شيء من الكلمة نفسها جاز أن يكون بإثباته. وقال أهل المقالة الثانية: ويدل على صحة ما قلت قول سيبويه: اعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان الأولى منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون يكون في الرفع ألفا، والرفع لا يكون إلا إعرابا، وقد جعله سيبويه رفعا فصح أنه إعراب. فإن قال قائل: فإن سيبويه قد سمى الضمة رفعا في نداء المفرد كقولك: " يا زيد " وليست بإعراب. فإن الجواب في ذلك: أنه إنما سماها رفعا من حيث كانت ضمة لتشابه الصورتين ضمة الرفع وضمة البناء، والألف لا تكون علامة للرفع فيسمى ألف الاثنين رفعا لمشابهتهما، فصح أن نفس الألف هي الرفع. قالوا: وقول سيبويه: " وهو حرف الإعراب " هو أيضا دليل على ما قلنا؛ لأن معناه الحرف الذي به أعرب الاسم، كما تقول: " الرجل " فضمة الإعراب التي على اللام دون الضمة الأخرى، وهي الإعراب، كذلك حرف الإعراب هو الحرف الذي أعرب به الاسم. ثم نعود إلى تفسير الفصل من كلام سيبويه حرفا حرفا، وإن كنا قد أتينا على تفسير قوله " أعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زائدتان " يعني لحقته ألف ونون أو ياء ونون؛ وإنما أنث " زائدتان "، لأن حروف المعجم تؤنث وتذكر، والتأنيث أغلب فيها. وقوله: " الأولى منهما حرف المد واللين وهو حرف الإعراب " يعني الأولى ألف أو ياء فأيهما كان فهو حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب، يعني حرف المد واللين الذي ذكر هو حرف الإعراب. وقد ذكرنا فيه قولين أحدهما أنه بمنزلة الدال من زيد

والآخر أنه بمنزلة حركة الدال. وقوله: " غير متحرك ولا منون " يعني أن حرف الإعراب الذي ذكره غير متحرك، لأنه ألف والألف لا تكون متحركة. أو ياء سبيلها سبيل الألف في علامة التثنية. ومعنى: " ولا منون " يعني أن حرف الإعراب لا يدخل عليه التنوين كما يدخل على ألف قفا وعصا من قبل أن النون قد جعلت بمنزلة التنوين. وقوله: " يكون في الرفع ألفا " يعني حرف الإعراب الذي ذكره وقد وصفنا أن منهم من يقول إنها هي الإعراب، ومنهم من يقول إنها بمنزلة الدال فيتأول قول سيبويه: " يكون في الرفع ألفا " أي في الموقع الذي يقع فيه المرفوع وإن لم يكن هو مرفوعا، كما يقول ضمير المنصوب المنفصل إياك وإياه، وضمير المرفوع هو وهي، وفي التثنية هما، وفي الجمع هم وهن، وليس شيء من هذا بمرفوع ولا منصوب ولكن ما يقع موقعه من الأسماء المعربة يكون مرفوعا ومنصوبا. وقوله: " ولم يكن واوا ليفصل بين الاثنين والجمع الذي على حد التثنية " يعني ولم يكن حرف الإعراب في تثنية المرفوع واوا، وحكمه أن يكون واوا، لأن الضمة مأخوذة من الواو ليفصل بين التثنية إذا ثنيت مسلما على مسلمون بفتح ما قبل الواو وبين الجموع المعتل في حال الرفع، تقول مصطفون جمع مصطفى، وقد مر هذا. وقوله: " ويكون في الجر ياء مفتوحا ما قبلها " يعني حرف الإعراب. وقوله: " ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع " لأنك لو كسرت فقلت في التثنية " مسلمين " بكسر ما قبل الياء وفي الجمع " مسلمين " لالتبس التثنية بالجمع. وقوله: " الذي على حد التثنية " يعني الجمع السالم لأن الجمع على ضربين سالم ومكسر؛ فالسالم ما سلم فيه لفظ واحده وزيد عليه واو ونون أو ياء ونون كقولك: " مسلم ومسلمون ومسلمين " والمكسر ما تغير فيه لفظ واحده كقولك " غلام وغلمان " و " درهم ودراهم " والتثنية لا تكون إلا على وجه واحد، وهو أن يسلم لفظ واحدها وتزاد عليه علامة التثنية فإنما قال: " الجمع الذي على حد التثنية " أي الذي يسلم لفظ واحده " ويكون في النصب كذلك " يعني ويكون حرف الإعراب في النصب كالجر الذي تقدم ذكره. وقوله: " ولم يجعلوا النصب ألفا ليكون مثله في الجمع " يعني لو جعلوا النصب

بالألف في التثنية؛ لأن الألف مأخوذ منها الفتحة، للزمهم أن يجعلوا النصب بالألف في الجمع فكانت تلتبس التثنية بالجمع، وقد مر نحو هذا. فإن سأل سائل فقال: ما معنى دخول اللام في: " ليكون " وأي لام هي؟ وما تقدير الكلمة؟ فإن الجواب في ذلك أن معناه تركوا جعل النصب بالألف لئلا يكون مثله في الجمع، كأن تركهم جعل النصب بالألف في التثنية أن تلزمهم جعله بالألف في الجمع كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (¬1) ومعناه كراهة أن تضلوا وبعضهم يقول: لئلا تضلوا وكذلك لم يجعلوا النصب ألفا لكراهة أن يكون مثله في الجمع، وإن شئت: لئلا يكون مثله في الجمع. وظاهر أن تركهم الألف في تثنية المنصوب علة أن يكون مثله في الجمع، وليس كذلك؛ لأنهم ما تركوه في التثنية ليثبتوه في الجمع كما أن الله تعالى ما بين لهم ليضلوا. وهذه اللام هي لام المفعول له، وتكون داخلة على علة وقوع الفعل والسبب الفعل فكان هذا أغلب وأقوى " يعني إتباع النصب بالجر أولى؛ لأن الجر لا يكون إلا في الاسم والرفع قد يكون في الاسم والفعل وقد أحكمنا هذا فيما مضى. قال أبو الحسن الأخفش بعد الفصل الذي أمللناه من كلام سيبويه ولم يتبع الجر الرفع. لأنه أول ما يدخل الاسم، فقد ثبت الرفع قبل الجر وقد مر تفسير هذا. وقال سيبويه: " وتكون الزائدة الثانية نونا كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين وهي النون وحركتها الكسر، وذلك قولك الرجلان ورأيت الرجلين ومررت بالرجلين ". قال أبو سعيد: إن سأل سائل فقال ما الدليل على أن النون عوض من الحركة والتنوين؟ قيل له: الدليل على ذلك أنا رأينا الاسم المنفرد فيه حركة، وتنوين بحق التمكن والاسمية، فلما ضم إليه غيره وثني معه، زيد عليه حرف لمعنى التثنية، فامتنع ما قبل حرف التثنية من الإعراب والتنوين وألزم حركة واحدة، ولم تزل التثنية عنه ما كان له من الاسمية والتمكن، فعوض النون من الحركة والتنوين؛ لأن المعنى الذي أوجبها لم تزله التثنية. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية 176.

فإن قال قائل: فلم يجعل النون عوضا؟ قيل له: قد كان ينبغي في القياس أن يكون ذلك العوض أحد حروف المد واللين والألف أو الياء أو الواو، غير أنهم لو جعلوا ذلك ألفا أو ياء أو واوا للزمهم قلبها أو تغيير ما قبلها أو حذفه، لأن علامة التثنية في الرفع ألف فلو وقعت الألف بعدها أو الياء أو الواو، انقلبت همزة وكذا حكمه في التصريف ألا تراهم قالوا: " أحمر وحمراء " الهمزة في " حمراء " منقلبة من ألف التأنيث وقالوا " سقاء " و " عطاء " والأصل " سقاي " و " عطاي ". وفي حال النصب والجر لو جعل العوض ألفا تحركت الياء التي هي علامة التثنية وانفتحت؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا. ولو جعلت واوا أو ياء في حال النصب والجر، قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء الأولى فتنكبوا هذه الحروف لهذا التغيير الذي ذكرنا. فلم يكن بعد هذه الحروف حروف أشبه بها ولا أقرب منها من النون، لأنها قد تكون إعرابا في الرفع إذا قلت: " يضربان " وتزاد مع الإعراب علامة للتمكن في قولك: " زيد " و " فرس " وغير ذلك من مواضعها. وكسروا هذه النون لالتقاء الساكنين. فإن قال قائل فإذا زعمتم أن النون عوض من الحركة والتنوين فلم تثبت مع الألف واللام ولا تنوين معهما؟ فإذا جاز أن يوجد في موضع ليس فيه تنوين فكيف صار عوضا من التنوين ولا تنوين؟ فإن في ذلك جوابين كلاهما مقنع، أحدهما: أن النون دخلت قبل دخول الألف واللام عوضا من الحركة والتنوين ثم دخلت الألف واللام للتعريف والدليل على ذلك أن ما فيه الألف واللام لا تجوز تثنيته لأنه معرفة بالألف واللام معين مقصود إليه، فإذا ثنيناه زال التعين وصار من أمة كل واحد منهم له مثل اسمه، ألا ترى أنه لو قيل: ثن زيدا وبقي فيه التعريف لقلت الزيدان، وذلك أنك قصدت إلى " زيد " الذي هو معرفة بالتسمية، فلما ثنيته قلت: " زيدان " فزالت التسمية والتلقيب الذي كان من أجله معرفة؛ لأنهما لم يسميا معرفة في موضع تلقيبهما وتسميتهما بالزيدين مثنى، ثم أدخلت الألف واللام عليهما فتعرفا بها لا بالتسمية والتلقيب؛ فصح بما ذكرنا أن النون حين أدخلوها دخلت عوضا من الحركة والتنوين، ثم لم تزلها الألف واللام، كما أزالت التنوين؛ لأن التنوين ساكن ساقط في

الوقف والنون متحركة ثابتة في الوقف وسلم قولنا من المناقضة والدخل؛ لأنا نقول إن النون تدخل عوضا من الحركة والتنوين فلم تدخل إلا كذلك. والوجه الثاني من الوجهين أن النون لما دخلت عوضا من الحركة والتنوين، ثم رأيناها تسقط في المضاف مع ثبوت أحد بدليها وهي الحركة إذا قلت: " هذان غلاما زيد " فكان المضاف في سقوط النون عنه بمنزلة ما ليس فيه حركة؛ إذ قد سقطت عنه النون التي هي عوض من الحركة والتنوين، فجعلوا الحركة التي في المضاف ولم يعوض منها شيء مع الحركة التي في الألف واللام بمنزلة حركتين فعوضوا منها النون، وجعلوا سقوط النون في المضاف مع ثبوت أحد بدليها، كثبوت النون في الألف واللام مع سقوط أحد بدليها للاعتدال. فإن قال قائل: فهلا أثبتوها مع المضاف وأسقطوها مع الألف واللام؟ فإن في ذلك ثلاثة أجوبة أحدها: أن المضاف إليه محله محل التنوين وجعلت الألف واللام في أول الكلام فكان حذف النون وإحلال المضاف إليه محلها أحسن وأجود. والوجه الثاني أن المضاف إليه مع المضاف كالشيء الواحد، والنون والتنوين يفصلان الكلمة عما بعدها، والألف واللام تفصل الكلمة أيضا عما بعدها كفصل النون والتنوين، فكان زيادة النون مع الألف واللام تأكيدا لمعناها، ومع الإضافة نقصا لفحواها. والوجه الثالث أن الألف التي هي مثل علامة التثنية قد تلحق الواحد مع الألف واللام في القوافي، وفي أواخر الآي كقول الله تعالى: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (¬1) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (¬2) قال الشاعر: أقلّى اللوم عاذل والعتابا … وقولي إن أصبت لقد أصابا (¬3) فلو أسقط النون مع الألف واللام لجاز أن يظن في حال أنه واحد. فإن قال قائل: فلم تدخل النون ما لا ينصرف إذا ثنيته كقولك: " أحمر وأحمران " ولا تنوين في الواحد؟ فإن الجواب في ذلك أن ما لا ينصرف من الأسماء أصله الصرف وإنما دخلته علة ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية 67. (¬2) سورة الأحزاب، آية 10. (¬3) البيت لجرير في ديوانه 64 / وشرح ابن يعيش 4/ 15. وخزانة الأدب 1/ 34.

أشبه بها الفعل، والتثنية تزيل عنه تلك العلة، فيعود إلى مثل حكم سائر الأسماء. فإن قال: فلم دخل المبهمات النون إذا ثنيت، كقولك: " هذا " و " هذان " و " الذي " و " اللذان " ولا حركة ولا تنوين في شيء من ذلك. فإن الجواب في ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن هذه الأسماء المبهمة متى ثنيت فدخل عليها حرف التثنية سقط بدخوله آخر حرف فيها لالتقاء الساكنين كقولك في ثنية " ذا ": " ذان " و " ذين " في حال النصب والجر، و " اللذين " و " اللذان " في ثنية " الذي " فلما سقط في التثنية ما ذكرنا جعلوا النون عوضا من الساقط، ومن العرب من يشدد النون المدخلة على المبهمات فيجعل تشديدها فرقا بين النون الداخلة عوضا من الحركة والتنوين، وبين النون الداخلة عوضا من حرف ساقط وبذلك قرأ ابن كثير إِنْ هذانِ لَساحِرانِ (¬1) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ (¬2) إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى (¬3). وقال بعض النحويين إن تشديد النون في هذا فرق بين ما يضاف من المثنى فتسقط النون للإضافة كقولك: " غلاما زيد " وبين ما لا يضاف كنحو ما ذكرنا من المبهمات. والوجه الثاني من الجوابين الأولين أن هذه المبهمات، كما جعلت في تغيير حرف التثنية منها كالأسماء الصحيحة المعربة، جعلت في إلحاق النون بمنزلتها، ولأن البناء إنما يلحق الواحد والجمع، ومنها جمع التثنية غير مختلف، فزال بالتثنية الفرق الذي كان يوجب البناء في الواحد؛ لاشتراك الجمع في علامة التثنية. وكسرت نون الاثنين لعلتين إحداهما التقاء الساكنين وهما الألف أو الياء في قولك " مسلمان ومسلمين " والنون. وحكم التقاء الساكنين أن يحذف الأول منهما إن كان حرفا من حروف المد واللين كقولك: " هذان غلاما القاسم " و " هؤلاء بنو القاسم " و " مررت بقاضي البلد "، أو بكسر الأول إن لم يكن حرفا من حروف المد واللين كقولك قامت المرأة و " مررت بعبدي الله " غير أنهم في التثنية لم يحذفوا الأول وهو حرف من حروف اللين وكسروا الثاني. فأما ترك حذفهم الأول؛ فلأنه علامة التثنية والنون لازمة لها أو ما يقوم مقامها من ¬

_ (¬1) سورة طه، آية 63. (¬2) سورة النساء، آية 16. (¬3) سورة القصص، آية 27.

الإضافة، فلو حذفوه بطل علامة التثنية، فلم يتبين المثنى من غيره. فإن قال قائل: فأنتم إذا قلتم " غلاما القاسم " فقد سقط علامة التثنية في اللفظ، وإن كانت تراد؛ فإن الفصل بينهما واضح بين وذلك أن " غلاما القاسم " غير واجب إضافته إلى ما فيه الألف واللام دون غيره؛ لأنك تقول: " غلاما زيد " كما تقول: " غلاما القاسم " والذي يسقط الألف فيما يثني عارض غير لازم، فهي وإن سقطت في قولك: " غلاما القاسم " فهي ثابتة في قولك: " غلاما زيد وعمرو "، وما لا يحصى من الأسماء كثرة، فلم نحفل بسقوطها لالتقاء الساكنين إذا كان الساكن الثاني من كلمة أخرى، كما لم نحفل بتحريك اللام في قولك " لم يقل القاسم " في رد الواو التي كانت سقطت لالتقاء الساكنين، وليس نون الاثنين كذلك؛ لأنها من نفس الحرف والفصل بين ما كان من الحرف نفسه، وبين ما عرض له من غيره بين واضح في أشياء كثيرة من العربية، سنقف عليها في مواضعها إن شاء الله ولم يكسروا الأول لالتقاء الساكنين على ما ينبغي كسره؛ لأن الألف لا سبيل إلى تحريكها وحكم الياء حكم الألف. فإن قال قائل: ولم وجب الكسر لالتقاء الساكنين دون غيره من الحركات؟ فإن في ذلك جوابين، أحدهما: أن الضم والفتح قد يكونان إعرابا ولا تنوين معهما، وذلك قولك فيما لا ينصرف: " جاءني عمر " و " رأيت عمر " ولا يكون الكسر إعرابا إلا والتنوين مقترن به، أو ما يقوم مقامه من الألف واللام والإضافة، كقولك: مررت برجل وغلام وبالرجل والغلام وبرجلكم وغلامكم، فلما اضطروا إلى التحريك لالتقاء الساكنين، أتوا بحركة لا يتوهم أنها حركة إعراب إذ لا تنوين معها وهي الكسرة. والجواب الثاني: أن الكسر يشاكل الجزم لأن الكسر لفظه لفظ الجر، وتشاكلهما أن الجر يختص بالأسماء ولا يتعداها إلى غيرها، والجزم يختص بالأفعال ولا يتعداها على غيرها فلما اضطررنا إلى تحريك الساكن الذي هو في لفظ الجزم، حركناه بحركة نظيره الذي هو الجر، وكذلك نفعل في القوافي إذا كانت مجرورة ووقع في آخرها حرف مجزوم أو ساكن غير مجزوم. فأما المجزوم فمثل قول زهير: أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم … بحومانة الدّراج فالمتثلم (¬1) ¬

_ (¬1) ديوانه ص 4.

وأما كسر الحرف الساكن، فقول النابغة: أزف التّرحّل غير أن ركابنا … لم تزل برحالها وكأن قد (¬1) والآخر من وجهي كسر النون، هو الفصل بين حركة النون الداخلة على المثنى وحركة النون الداخلة على الجمع؛ وذلك أنهم لما فصلوا بين الحروف الداخلة على التثنية والجمع باختلاف حركات ما قبلها واختلافها في أنفسها؛ كقولك في التثنية مسلمين وفي الجمع مسلمين فصلوا بين النونين أيضا، فكسروا نون الاثنين، وفتحوا نون الجمع. فإن قيل: فإذا كان الأمر على ما وصفت، فلم وجب أن يكون الكسر لنون الاثنين والفتح لنون الجمع دون أن يكون الأمر على الضد من هذا؟ قيل له: لما كانت حركة النون فتحة أو كسرة، وكانت الكسرة أثقل من الفتحة والجمع أثقل من التثنية، جعلوا الأثقل للأخف، والأخف للأثقل؛ حتى يعتدلا، ولا يجتمع عليهم في شيء واحد أثقال مترادفة. ووجه ثان: وهو أن الجمع يقع فيه واو مضموم ما قبلها وياء مكسور ما قبلها علامة له، فلو كسرت النون فيه لخرجوا في حال الرفع من واو مضموم ما قبلها إلى كسرة، وليس في كلامهم الخروج من ضمة إلى كسرة إلا فيما لم يسم فاعله من الأفعال، كقولك: " ضرب وشتم " وهذا مستثقل قليل منفرد به هذا البناء، ولخرجوا في حال النصب والجر من ياء مكسور ما قبلها إلى كسرة، فكان يتوالى عليهم ما يستثقلون، فكانت الفتحة أخف عليهم في البناء الأثقل لما وصفنا، ولم يضموا النون لأن الضمة أثقل الحركات، وقد استغنوا عنها بالحركتين الأخريين. فإن قال قائل: قد ذكرت أن حروف التثنية لا تدخلها الحركة وأنت تقول: " رأيت عبدي الله " و " مررت بعبدي الله " وتقول في الجمع أيضا: " هؤلاء مصطفو " القوم " وبعضهم يقول " مصطفو القوم " ومررت " بمصطفي القوم " فحركت هذه الحروف بالضم والكسرة مع القول الذي قدمته. فإن الجواب في ذلك أن هذه الحركات هي عارضة، وقد قلنا إن ما أوجبه من التحريك ساكن من كلمة أخرى غير معتد به في حكم تغير الحرف، كقولك: " لم يقل القاسم " والواو والياء إذا انفتح ما قبلهما خف ضمهما وكسرها فلذلك ¬

_ (¬1) ديوانه 30.

جاز الضم والكسر فيما ذكرنا وأيضا فلو حذفت هذه الحروف لالتقاء الساكنين لزالت علامة التثنية في وجوه إضافتها إلى ما فيه الألف واللام أو ألف وصل. فإن قال قائل: فأنت تقول: " هذان غلاما القاسم " و " هؤلاء بنو القاسم " " ومررت ببني القاسم " فتحذف هذه الحروف وتزول علامة التثنية والجمع. قيل إن سقوط هذه الحروف في هذه المواضع قد يدل عليها ما يثبت في مثلها إذا كان ما قبلها مفتوحا، كما ذكرنا، فيكون الثابت منها دليلا على الساقط، فلو سقط الجميع ما كان على شيء منها دليل، فأسقطوا ما استثقلوا فيه الضم والكسر، وهو الياء المكسور ما قبلها والواو المضموم ما قبلها وأثبتوا الباقي. وزعم الفراء أن النون إنما كسرت لأن الألف في نية الحركة في التثنية، وفتحت في الجميع؛ لأن الياء والواو ليستا في نية الحركة. وزعم أن ما كان في نية الحركة أو متحركا، فإن الساكن الذي بعده إذا حرّك كسر في نحو هذا؛ كقولك: " دمنة لم تكلم " هذا متحرك قد كسر الساكن بعده، والألف في نية الحركة، وقد حرك الساكن بعدها وما لم يكن في نية الحركة فإن الساكن يفتح بعدها كقولك أين وكيف وأشباه ذلك. وهذه دعاوى يحتاج عليها إلى براهين، على أنها قد صح فسادها، فمن ذلك أنّا نقول: " أمس " والميم ليست في نية حركة و " جير " وليست الياء في نية الحركة وتقول: " حيث " وليست الياء في نية الحركة وليت شعري ما الذي فصل بين التثنية والجمع حتى صار آخر أحدهما في نية حركة وآخر الآخر في نية سكون، ولا يعلم الغيب إلا الله على أن من العرب من يفتح نون الاثنين، قال الشاعر: إنّ لسلمى عندنا ديوانا … أخزى فلانا وابنه فلانا كانت عجوزا عمّرت زمانا … وهي ترى سيّئها إحسانا أعرف منها الأنف والعينانا … ومنخرين أشبها ظبيانا (¬1) أراد العينين فجعل مكان الياء ألفا، وفتح النون وأراد: منخري ظبيين، فجعل المضاف إليه مكان المضاف، ومن روى أشبها ظبيانا فقد صحف، ومن قال " ظبيان " اسم إنسان فقد أخطأ؛ لأن المنخرين لا يشبهان الإنسان إنما أراد المبالغة في قبحه فشبهه ¬

_ (¬1) الأبيات اختلفوا في نسبتها، انظر: خزانة الأدب 3/ 336.

بمنخري الظبي، كما قال الآخر: وقد علمت ياقفي التتفله … ومرسن العجل وساق الحجله أراد بمرسن العجل الأنف منه، وعلى هذا كلام العرب ومذاهبها فاعرفه إن شاء الله. وعلى أنه يلزم الفراء بفتح نون الاثنين في النصب والجر؛ لأن الذي قبلها ياء ساكنة نحو رجلين وفرسين وهو في اللفظ كأين وكيف. قال سيبويه: " وإذا جمعت على حد التثنية لحقتها زائدتان: الأولى منهما حرف المد واللين والثانية نون، وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنها حرف الإعراب حال الأولى في التثنية، إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع، وفي النصب والجر ياء مكسور ما قبلها، ونونها مفتوح، فرقوا بينهما وبين نون الاثنين، كما أن حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما ". قال أبو سعيد هذا فصل قد أتينا على تفسيره في الفصل الذي قبله، واحتججنا لمعانيه ما أغنى عن إعادته، غير أنا نذكر مطابقة كلامه في هذا الفصل لما قدمناه من تفسيره مرتبا إن شاء الله. قوله: " وإذا جمعت على حد التثنية " يعني جمعت الاسم جمع السلامة، فبقي لفظ واحدها، إنما قال: على حد التثنية، لأن التثنية لا تكون إلا مسلمة، يبقى لفظ واحدها ثم تلحق علامة التثنية، السلامة لا يكون في كل مجموع ألا ترى أنك لا تقول: " مسجد ومسجدون " ولا " مسجدات " ولا تقول مررت برجل أحمر ورجال أحمرين. وإنما يجمع بإلحاق الزيادتين ضروب من الجمع سنبينها إذا انتهينا إلى مواضعها إن شاء الله. وقوله: " لحقتها زائدتان " يعني الواو والنون أو الياء والنون، الأولى منهما حرف المد واللين وهي الواو والياء. وقوله: " وحال الأولى في السكون وترك التنوين وأنهما حرف الإعراب حال الأولى في التثنية " يعني حال الياء والواو في الجمع في أنها ساكنة، وأنها لا يلحقها تنوين كما تلحق ياء قاض ورام، وفي أنها حرف الإعراب. وقد بينا المعنى في حرف الإعراب، واختلاف التفسير فيه كاختلاف الألف والياء في التثنية. وقوله: " إلا أنها واو مضموم ما قبلها في الرفع، وفي النصب وفي الجر ياء مكسور ما قبلها " يعني أن الزيادة الأولى في الجمع، وإن كان مثل الزيادة الأولى في التثنية فيما ذكر من

سكونها وترك التنوين فيها، وأنها حرف الإعراب، فهي مخالفة لها لأن في الجمع واوا مضموما ما قبلها وياءا مكسورا ما قبلها. وقوله: " ونونها مفتوحة فرّقوا بينها وبين نون الاثنين، كما أن حرف اللين الذي هو حرف الإعراب مختلف فيهما ". يعني أنهم فرقوا بين النونين بالفتح، والكسر كما فرقوا بين حرف اللين فيهما جميعا، في أن جعلوا ما قبل حرف اللين من المثنى مفتوحا، وجعلوا فيه ألفا، وجعلوا ما قبل حرف اللين في الجمع مضموما أو مكسورا. فإن قال قائل: وما في تفريقهم بين حرفي اللين منهما مما يوجب التفريق بين النونين؟ فإن الجواب في ذلك أن سيبويه لم يجعل أحدهما حجة للآخر وإنما عرفنا ما تكلمت به العرب من التفريق بين النونين، والتفريق بين حرفي اللين، وإذا كان أحدهما غير موجب للآخر، كما يقول القائل للمسؤول: " أعطني كما أعطى زيد عمرا " و " كن لي مكرما كما أن زيدا مكرم لعمرو " وإن كان إكرام زيد لعمرو غير موجب إكرام المسؤول للسائل، ولكنه يسأله أن يشبه زيدا في إكرامه. وقد بينا الاحتجاج له فيما سلف. قال سيبويه: " ومن ثم جعلوا تاء الجمع في النصب والجر مكسورة، لأنهم جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب، كالواو والياء والتنوين، بمنزلة النون، لأنها في التأنيث نظير الواو والياء في التذكير ". قال أبو سعيد اعلم أن جمع المؤنث على ضربين: سالم ومكسر كما كان جمع المذكر، وكذلك ما ألحق بالمؤنث مما لا يعقل كقولك " جبل راس " و " جبال راسيات " و " جمل قائم " و " جمال قائمات " والمكسر من جمع المؤنث كقولك " امرأة مرضع " و " نساء مراضيع " و " امرأة قاعد " و " نساء قواعد ". والجمع السالم للمؤنث وما جرى مجراه بزيادة ألف وتاء فيه بعد سلامة لفظ الواحد؛ كقولك: " مسلمة ومسلمات " و " اصطبل واصطبلات " وقصدنا في هذا الموضع إلى إبانة الإعراب فيه دون تقصي جميعه، فإذا زيدت فيه الألف والتاء، صار بزيادة الألف والتاء بمنزلة جمع المذكر السالم. وخالفت الألف والتاء في جمع المؤنث السالم الواو والنون، والياء والنون في جمع المذكر السالم في أشياء، ووافقتها في أشياء، فأما ما خالفتها فيه فإن التاء في جمع المؤنث يجري عليها حركات الإعراب؛ كقولك: " هؤلاء مسلمات " و " رأيت مسلمات " " ومررت بمسلمات "، ولا تتغير الزيادة الأولى من جمع المؤنث التي هي الألف وتثبت التاء

في الإضافة؛ كقولك: " هؤلاء مسلماتك " و " مررت بمسلماتك ". فهذه وجوه يختلفان فيها ويستويان في سلامة لفظ الواحد وزيادة الزائدين لعلامة الجمع؛ فبالمعنى الذي استويا فيه حمل أحدهما على الآخر، وكذلك طريقة القياس؛ لأن الشيء يقاس على الشيء، إذا كانا مشتبهين في معنى ما، وإن كانا مختلفين في أشياء أخر، فحمل جمع المؤنث على جمع المذكر، في أن جعل للرفع علامة يفرد بها وللنصب والجر علامة واحدة اشتركا فيها كقولك: " جاءني مسلمات " و " رأيت مسلمات " و " مررت بمسلمات " وصارت التاء في مسلمات هي آخر ما صيغت عليه الكلمة لمعنى الجميع؛ لأن بزوالها يتغير المعنى كما صارت الواو والياء آخر ما صيغ عليه الجمع لمعناه، وبزوالهما يزول معنى الجمع، والتاء حرف إعراب كما أن الواو والياء حرفا إعراب وليست النون في جميع المذكر بمنزلة التاء في جميع المؤنث؛ لأن زوال النون في جميع المذكر إذا أضفت فقلت: " مسلموك " لا يزيل معنى الجمع كما يزيله زوال التاء، ودخل الإعراب والتنوين على التاء فلم يحتج إلى عوض من التنوين والحركة كما احتجنا إلى تعويضهما النون في جمع المذكر فصارا التنوين فيه يعاقب الإضافة، كما عاقبت النون الإضافة، فالتنوين في هذا الجمع بمنزلة النون. فإن قال قائل: فما معنى قول سيبويه: " ومن ثم جعلوا تاء الجميع في النصب والجر مكسورة " قيل له: معناه في ذلك أنهم جعلوا تاء الجميع في النصب والجر مكسورة؛ لأنهم قد جعلوا هذه التاء والحرف الذي قبلها، علامة لهذا الجمع كما جعلوا الواو والياء علامة لجمع المذكر، ولاجتماعهما في هذا المعنى أشركوا بين النصب والجر في هذا الجمع، كما أشركوا بينهما في ذلك الجمع. فإن قال قائل: لما جعل التنوين بمنزلة النون والتنوين في هذا الجمع لا يثبت مع الألف كما يثبت النون في ذاك الجمع. فالجواب في ذلك أنه جعل التنوين بمنزلة النون لأن التنوين زيد على هذا الجمع بعد التاء، التي هي حرف الإعراب فيه، كما زيدت النون على الواو والياء، التي هي حرف الإعراب في ذلك الجمع، ولم يعرض لما يلحق التنوين والنون من أحكام ثبوتهما وسقوطهما.

وقال الأخفش: ليس فيها في موضع النصب إعراب ولا حذف إعراب يعني ليس في التاء إذا قلت: " رأيت مسلمات " إعراب، وهذه الكسرة عنده كسرة بناء. قال أبو سعيد: والذي عندي من الاحتجاج له، أن هذه الكسرة اتبعت كسرة الخفض وكسرة الخفض إعراب وكسرة النصب بناء، وصارت متبعة لتلك، كما قالوا " يا زيد بن عبد الله " فيمن فتح الدال من زيد، واتبعوا حركة الدال إعراب الابن وإن كانت إحدى الحركتين إعرابا والأخرى بناء. ومثل هذا قولهم " امرؤ " و " ابنم " و " رأيت امرأ وابنما " و " مررت بامرئ وابنم " فتكون حركة ما قبل الهمزة والميم تابعة لإعرابهما وليست بإعراب. واحتج عليه أبو عثمان المازني فقال: لو كانت الكسرة في " رأيت مسلمات " بناء، لكانت الإضافة تبطلها وترد الكلمة إلى أصلها في التمكن، ونحن نقول في الإضافة: " رأيت مسلماتك " بالكسر كما تقول في غير الإضافة، ثم رجع أبو عثمان على نفسه بإبطال هذا الاحتجاج، وأنه غير لازم بأن قال: إذا بنى الشيء في حال تنكير لم ترده الإضافة إلى الإعراب كما لم يوجب له التنكير الإعراب نحو قولك في خمسة عشر إذا أضفتها قلت: " هذه خمسة عشرك " ومررت " بخمسة عشرك " " وهذه الخمسة عشر " إذا أدخلت عليها الألف واللام. ويلزم أبا الحسن الأخفش أن يجعل فتحة ما لا ينصرف في حال الجر بناء كقولك " مررت بعمر " و " ذهبت إلى مساجد " وأشباه ذلك لأن هذه الفتحة للنصب، والجر داخل عليه فيها كما كانت الكسرة في التاء للجر ودخل النصب عليها. قال أبو سعيد: والذي فيه عندي أن الكسرة في التاء في النصب والفتحة فيما لا ينصرف في الجر هما إعرابان؛ وذلك أن الإعراب هو تعاقب الحركات على أواخر الكلم لاختلاف العوامل، وهذه الكسرة والفتحة تدخلان معاقبتين للضمة، لعوامل توجب ذلك لهما، وقد وجد فيهما شرط الإعراب. قال أبو الحسن: التاء المكسورة والمضمومة ليست بمنزلة الياء والواو وإنما الضمة نظيرة الواو، والكسرة نظيرة الياء، ألا ترى أنك لو سمعت " مسلمات " لم تدلك التاء على رفع ولا جر، كما تدلك الواو والياء ولو سمعت الحركة تدلك على الرفع والجر كما تدلك الواو والياء. وإنما قال أبو الحسن هذا لأن سيبويه قال في الفصل الذي تقدم " لأنهم جعلوا التاء

الأفعال الخمسة

التي هي حرف الإعراب كالواو والياء " وكأنه خطأ سيبويه فيما قال، ولم يذهب سيبويه حيث قدر أبو الحسن والله أعلم: لأن سيبويه إنما أراد أنهم زادوا للجمع في المؤنث ألفا وتاء، كما زادوا في المذكر واوا وقد أحكمنا هذا فيما ذكرنا قبل، ويحتمل أيضا أن يكون أراد سيبويه بقوله: " جعلوا التاء التي هي حرف الإعراب " حركة التاء وحذفها كما قال الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1). الأفعال الخمسة قال سيبويه: " اعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة، علامة للفاعلين، لحقتها ألف ونون، ولم تكن الألف حرف الإعراب؛ لأنك لم ترد أن تثنّى " يفعل " هذا البناء، فتضمّ إليه " يفعل " آخر، ولكنه إنّما ألحقته هذا علامة للفاعلين، ولم تكن منوّنة ولا تلزمها الحركة؛ لأنه يدركها الجزم والسكون، فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كالتنوين، فلمّا كانت حالها في الواحد، غير حال الاسم وفي التثنية لم تكن بمنزلة، فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون؛ ليكون له في التثنية علامة للرفع، كما كان في الواحد؛ إذ منع حرف الإعراب، وجعلوا النون مكسورة حالها في الاسم، ولم يجعلوها حرف إعراب؛ إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم. قال أبو سعيد: اعلم أن الفعل لا يثنّى ولا يجمع؛ لأن المثنى والمجموع هو الذي يدخل في نوع يشاركه فيه غيره، فيشتمل النوع على آحاد منكورين، فتضمّ بالتثنية واحدا من النوع إلى آخر منه، وتضم بالجمع واحدا من النوع إلى أكثر منه، كقولك: رجل ورجلان ورجال، وفرس وفرسان وأفراس، وليس الفعل كذلك، لأن اللفظ الواحد من الفعل يعبّر به عما قلّ منه وكثر، وما كان لواحد ولجماعة، كقولك: " أكل زيد " و " ضرب زيد عمرا "، فيجوز أن يكون أكل لقمة ويجوز أن يكون أكل مرارا ويجوز أن يكون ضربه مرة ويجوز أن يكون ضربه مرارا؛ وكذلك تقول: " قام زيد "، و " قام الزّيدان " و " قام الزّيدون ". ولو كان الفعل مثنّى في قولك: " الزّيدان قاما " ومجموعا في قولك: " الزّيدون قاموا "؛ لأنّ فعل كلّ واحد منهما غير فعل الآخر، لجاز أن يقال: " زيد قاما " و " زيد قاموا " إذا كان قد قام مرّتين أو مرارا. فإذا صح أن الفعل لا يثنّى صح أن الألف ¬

_ (¬1) سورة يوسف، 82.

التي تلحقه في التثنية، والواو التي تلحقه في الجمع لغير تثنية الفعل وجمعه. وزعم سيبويه أن الألف والواو قد يكونان مرّة اسم المضمرين والمضمرين، وقد يكونان مرّة حرفين دالّين على التثنية والجمع، فإذا قلت: " الزّيدان قاما " فهذه الألف اسم، وهي عنده ضمير الزّيدين المذكورين فإذا قلت: " الزّيدون قاموا "، فهذه الواو هي اسم وهي ضمير الزيدين، وإذا قلت: " قاما أخواك " فهذه الألف هي حرف وليست باسم، دخلت علامة مؤذنة بأن الفعل لفاعلين، وكذلك إذا قلت: " قاموا إخوتك "؛ فإن الواو حرف، دخلت مؤذنة بأنّ الفعل لجماعة، ومثل الألف والواو في التثنية والجمع: النون لجماعة المؤنّث والياء للمؤنث المخاطبة، تقول: " الهندات قمن " فتكون النون ضميرا الجماعة وهي اسم؛ " وقمن الهندات " فتكون حرف علامة، والياء في المخاطبة للمؤنث لا تكون إلا ضميرا، كقولك: " قومي " للمرأة، و " انطلقي " و " هل تذهبين ". وهذه الياء كثير من النحويين يذهبون إلى أنها علامة بمنزلة التاء في قولك: " قامت ". وسيبويه يذهب إلى أنها ضمير في آخر الكتاب، في: " باب الأبنية وغيرها ". والذي يدل على ما ذكرنا من حكم هذه الحروف في كلام العرب وأشعارها، قولهم " أكلوني البراغيث " وقول الشاعر: يلومنني في اشتراء النّخي … ل أهلي فكلهم يعذل وأهل الذي باع يلحونه … كما لحي البائع الأوّل (¬1) وقال آخر: ألفيتا عيناك عند القفا … أولى فأولى لك ذا واقية (¬2) وقال الفرزدق: ولكن ديافيّ أبوه وأمه … بحوران يعصرن السّليط أقاربه (¬3) فهذه الحروف عند سيبويه في وقوعها أسماء مرة وحروفا مرة بمنزلة التاء في قولك: " قلت " و " قالت "، فالتاء في " قلت " اسم المتكلم، والتاء في " قالت " علامة تؤذن بأن ¬

_ (¬1) البيتين غير منسوبين في شرح ابن يعيش 3/ 87. (¬2) البيت منسوب لعمرو بن ملقط الطائي في شرح شواهد المغني 113، وهو بلا نسبة في شرح ابن يعيش 3/ 88. (¬3) ديوانه ص 80، واللسان (سلط) وشرح ابن يعيش 3/ 89.

الفعل للمؤنث. وقد قال أبو عثمان وغيره من النحويين: إن الألف في " قاما "، والواو في " قاموا " حرفان لا يدلان على الفاعلين والفاعلين المضمرين، وأن الفاعل في النّية، كما أنك إذا قلت: " زيد قام " ففي " قام " ضمير في النّية، وليست له علامة ظاهرة، فإذا ثنى وجمع فالضمير أيضا في النّية، غير أنّ له علامة. قال أبو سعيد: القول فيه عندي ما قاله سيبويه؛ وذلك أنه لا خلاف بينهم أن التاء في " قمت " هي اسم المتكلم وضميره، وقد يكون للمتكلم فعل لا علامة للضمير فيه، كقولك: " أنا أقوم "، و " أذهب "، فإذا جاز أن يكون له فعلان، أحدهما يكون ضميره في النّية، وهو: " أقوم "، و " أذهب "، والآخر يتّصل به ضمير المتكلم، وهو: " قمت "، و " ذهبت "، جاز أن يكون ذلك في الغائب، وأيضا فإنك إذا قلت: " زيد قام، والزّيدان قاما " فقد حلّت هذه الألف والضمير الذي في " قام " محل " أبوه " إذا قلت: " زيد قام أبوه "، فلما حلّ محلّ ما لا يكون إلا اسما وجب أن يكون اسما. فإن قال قائل: لم كان الواحد المضمر المرفوع بلا علامة لضميره، كقولك " زيد قام " والاثنان والجماعة بعلامة، كقولك: " الزّيدان قاما " و " الزّيدون قاموا " و " الهندات قمن "؟ فإن الجواب في بذلك أنّ الفعل معلوم في العقول أنه لا بدّ له من فاعل، كالكتابة التي لا بدّ لها من كاتب، وكالبناء الذي لا بد له من بان، وما أشبه ذلك، ولا يحدث شيء منه من تلقاء نفسه، فقد علم فاعل لا محالة، ولا يخلو منه الفعل، وقد يخلو من الاثنين والجماعة، فلما لم يخل بالفعل من واحد، لم يحتج إلى علامة له، ولما جاز أن يخلو من الاثنين والجماعة احتاج إلى علامة. فإن قال قائل: إذا جعلت الألف والواو والنون في: " قاما أخواك " و " قاموا إخوتك " و " قمن الهندات " علامة تؤذن بعدد الفاعلين، كما جعلت التاء في: " قامت هند " مؤذنة بالتأنيث، فلم لا يكون الاختيار " قاما أخواك "، كما كان الاختيار " قامت هند " ولا يحسن " قام هند "؟ فالجواب في ذلك أنهما يفترقان؛ لعل منها: أن التأنيث لازم للاسم، موجود فيه، وليست التثنية كذلك؛ لأنها قد تفارق الاسم فيصير إلى الواحد فللزوم التأنيث لزمت علامته؛ ولزوال التثنية لم تلزم علامتها.

وعلة أخرى: أن علامة التأنيث لا تمنع ضمير الاثنين. كقولك: " الهندان قامتا "، وعلامة الاثنين تمنع ضمير الاثنين وتشبهه، فكان ما لا يمنع شيئا من تصاريف الكلام أولى باللزوم مما يمنع. وعلة أخرى: وهو أنك إذا قلت: " قاما أخواك " جاز فيه أن تكون الألف علامة، وجاز أن تكون خبرا مقدما، وأن يرتفع " أخواك " بالابتداء، فيكون التقدير " أخواك قاما "، فلمّا كان في تقديم علامة الاثنين والجماعة ما ذكرناه من اللبس، لم يلزمه تقديمه؛ لأنه لا يعلم أنه علامة فقط، والتاء علم التأنيث، تقدمت أو تأخرت. وعلة أخرى: وهو أنه قد تشترك الرجال والنساء في أسماء كثيرة، نحو " هند وأسماء وجعفر ". قال الشاعر: تجاوزت هندا رغبة عن قتاله … إلى مالك أعشو إلى ذكر مالك (¬1) وهند هاهنا رجل. وقال آخر: يا جعفر يا جعفر يا جعفر … إن أك دحداحا فأنت أقصر (¬2) فجعفر هاهنا امرأة. فلما اشترك الرجال والنساء في أسماء لزم علامة التأنيث؛ لئلا يظن أن الفاعل مذكر، ولحقت النون علامة للرفع؛ لأن ضمير الفاعلين، وهو الألف، منع الإعراب الذي كان يكون في آخر الفعل، وانفتح للألف ما قبلها، والمضارعة الموجبة للإعراب قائمة في هذا الفعل، فوجب إعرابه لها، ولم يكن سبيل إلى إعراب ما قبل الألف، فجعل الإعراب بعدها، وجعلت النون هي الإعراب؛ لما ذكرنا من مشاكلتها حروف المدّ، وكسرت لالتقاء الساكنين، وجعل سقوطها علامة للنصب والجزم، والأصل في سقوطها للجزم. والنصب محمول عليه، كما حمل النصب على الجرّ في الأسماء؛ لأنّ الجرّ والجزم نظيران. وجعلت النون علامة للرفع في خمسة أفعال، وهي: تفعلان، ويفعلان، وتفعلون، ويفعلون، وتفعلين، للمؤنث، والعلّة في ذلك كلّه واحدة؛ لأن الواو في الجمع والياء في المؤنث قد منعتا الإعراب الذي كان في الفعل توجبه المضارعة، والمضارعة الموجبة ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 5/ 93. (¬2) البيتان غير منسوبين في شرح ابن يعيش 5/ 93.

للإعراب موجودة، وفتحت النون في الجمع والمؤنث استثقالا لكسرها مع الواو والياء. وقد مر نحو هذا مستقصى وجعلوا سقوط النون في هذه الأفعال كلّها علامة للجزم والنصب، والنصب محمول على الجزم. ولم تكن هذه النون في هذه الأفعال بمحلها في تثنية الأسماء وجمعها؛ لأنها في الأسماء بدل من الحركة والتنوين وهي في الفعل علامة للرفع؛ ولم تكن بدلا؛ لأنه لا تنوين في الأفعال ولا حركة لازمة؛ لأنها تسكن في الجزم. فإن قال قائل؛ إذا قلت إن الألف في تثنية الفعل والواو في جمعه، إنما هو ضمير الاثنين والجماعة الفاعلين، فلم وقعت النون علامة لرفع الفعل، وقد فصلت بينها وبين الفعل بالفاعلين؟ وهل في الكلام إعراب شيء ليس فيه؟ فإن الجواب في ذلك أن الإعراب إنما يكون في المعرب إذا كان حركة؛ لأن الحركة إنما تكون في المتحرّك وتوجد فيه لا غير، فإذا كان حرفا فهو قائم بنفسه متصل بما أعرب به، وقد صارت الألف التي هي ضمير الاثنين والواو التي هي ضمير الجماعة، بمنزلة حرف من حروف الفعل؛ لأنه لا يقوم بنفسه، فلما كان كذلك لحق الإعراب بعدهما، وقد يفعل العرب نظير هذا في الأسماء الظاهرة، من ذلك قولهم: " هذا حبّ رمّاني "، فإنما يريد المتكلم إضافة الحبّ إلى نفسه لا الرمّان؛ لأنه لا يملكه ولكنه أضاف الرمان لما كان الحب مضافا إليه، والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، وإذا كان هذا من كلامهم كان ما ذكرناه أولى. قال أبو سعيد: ثم نرجع إلى كلام سيبويه في الفصل الذي قدمناه. قوله: " واعلم أن التثنية إذا لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين "، يعني تثنية الفاعلين المضمرين المتصلين بالفعل، وليس يعني تثنية الفعل. وقوله: " لحقتها ألف ونون " يعني لحقت الأفعال المضارعة ألف ونون. وقوله: " ولم تكن الألف حرف الإعراب "، يعني لم تكن الألف حرف الإعراب في الفعل؛ لأن آخر الفعل قبل الألف، وحرف الإعراب هو الحرف الأخير من الكلمة الذي بتمامه يتم معنى الكلمة، والألف هاهنا هي ضمير الفاعلين. وقوله: " لأنك لم ترد أن تثني (يفعل) هذا البناء، فتضم إليه (يفعل) آخر "، يعني لأنك لم ترد تثنية الفعل فتضم فعلا إلى فعل، كما تضم الاسم إلى الاسم، فتزيد ألفا لعلامة

التثنية، وتكون الألف فيه حرف الإعراب، فليست تثنية الفعل كذلك. وقوله: " ولكنك إنما ألحقته هذه للفاعلين "، يعني ولكنك إنما ألحقت الفعل هذا الحرف، وهو الألف ضميرا للفاعلين لا للتثنية. وقوله: " ولم تكن منونة ولا تلزمها الحركة "، يعني ولم تكن الأفعال قبل هذه التثنية منونة كالاسم، ولا لها حركة لازمة كالاسم؛ لأنه يدركها الجزم والسكون، إذا قلت: " لم يذهب " و " لم يقم ". وقوله: " فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كالتنوين "، يعني: أن الأفعال لو كانت منونة لا تفارقها الحركة قبل التثنية، ثم ثنّيت كانت الألف فيها حرف والإعراب والنون فيها كالتنوين، مثل الاسم. وقوله: " فتكون " جواب لقوله: " لم تكن منونة ". وقوله: " فلما كانت حالها في الواحد غير حال الاسم، وفي التثنية، لم تكن بمنزلته "، يعني: كما خالف الفعل الاسم في الواحد؛ لأن الاسم منوّن لازم الحركة، وليس الفعل كذلك، وخالف أيضا في التثنية؛ لأن الاسم إذا ثني ضم إلى مثله، وليس الفعل كذلك، فلما خالفه في الواحد، وفي التثنية أيضا خالفه، لم يكن بمنزلته. وقوله: " لم يكن بمنزلته " جواب لاختلافهما في حال التوحيد والتثنية. وقوله: " فجعلوا إعرابه في الرفع ثبات النون؛ ليكون له في التثنية علامة الرفع كما كان في الواحد "، وقد مر الاحتجاج لهذا ولفظه فيه بيّن. وقوله: " إذ منع حرف الإعراب " يعني: إذ منع الفعل حرف الإعراب، وإنما منع؛ لأن الألف التي هي علامة التثنية فتحت آخر الفعل؛ لأنها يفتح ما قبلها، وحرف الإعراب آخر الفعل. وقوله: " جعلوا النون مكسورة كحالها في الاسم "، يعني: جعلوها مكسورة لالتقاء الساكنين كما فعلوا ذلك في الاسم. وقوله: " ولم يجعلوها حرف الإعراب "، يعني: النون. وقوله: " إذ كانت متحركة لا تثبت في الجزم "، يعني: إذا كانت متحركة لا تثبت في الجزم، وذلك أن حرف الإعراب لا يسقط إذا كان متحركا في الفعل بدخول الجزم عليه، كقولك: " يذهب "، ثم تقول: " لم يذهب "، وإذا كان حرف الإعراب ساكنا في الفعل أزاله الجزم، كقولك: " لم يقض " و " لم يغز " و " لم يخش ". وهذه النون متحركة تذهب في

الجزم، إذا قلت: " لم يذهبا " فعلمنا أن النون ليست بحرف إعراب. قال سيبويه: " ولم يكونوا ليحذفوا الألف: لأنها علامة الإضمار والتثنية، فيمن قال: " أكلوني البراغيث "، وبمنزلة التاء في: " قلت " و " قالت ". يعني أن الألف التي تلحق الفعل في التثنية، إمّا أن تكون علامة للإضمار، كقولك: " الزّيدان لم يذهبا " أو علامة التثنية، كقولك: " لم يذهبا الرّجلان "، ولا تحذفها في الجزم، فيبطل الضمير أو العلامة. ولم يرد بقوله: " علامة الإضمار والتثنية " في حال واحدة، إنما أراد: لأنها علامة الإضمار، إذا تقدم المضمرون، أو التثنية، في لغة من قال: " أكلوني البراغيث "؛ لأن هؤلاء عند سيبويه جعلوا الواو في: " أكلوني " علامة تؤذن بالجماعة، وليست ضميرا. وفي: " أكلوني البراغيث " ثلاثة أوجه؛ أحدهما: ما قال. والثاني: أن تكون " البراغيث " مبتدأ، و " أكلوني " خبرا مقدّما، تقديره " البراغيث أكلوني ". والوجه الثالث: أن تكون الواو في " أكلوني " ضميرا على شرط التفسير، " والبراغيث " بدل منه، كقولك: " ضربوني وضربت قومك "، فتضمر قبل الذكر على شرط التفسير. وقد كان الوجه في: " أكلوني البراغيث " على تقديم علامة الجماعة، أن يقال: " أكلتني البراغيث "؛ لأن " البراغيث " مما لا يعقل وما لا يعقل جمعه وضمير جمعه كالمؤنث، وإن كان مذكرا؛ تقول: " ثيابك مزّقن " و " جمالك يمشين ". قال الشاعر: فإن تكن الأيّام فرّقن بيننا … فقد بان محمودا أخي يوم ودّعا (¬1) ولا يحسن أن يقول: فإن تكن الأيام فرّقوا بيننا؛ لأن الجمع بالواو لما يعقل، وهم الثّقلان والملائكة، وربما ذكر لما لا يعقل فعل يكون الأغلب فيه أن يكون لما يعقل، فيجعل لفظه كلفظ ما يعقل تشبيها، فمن ذلك قوله عز وجل: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (¬2)، فجمع الشمس والقمر والكواكب ¬

_ (¬1) البيت منسوب لمتمم بن نويرة في المفضليات ق 67/ 22 ص 535. (¬2) سورة يوسف، آية 4.

بالياء والنون؛ وذلك لأنه وصفها بالسجود، الذي يكون مما يعقل، ولو أجراها على معناها وحقها من اللفظ لقال: " ساجدات " وقال تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ (¬1) ولم يقل: " ادخلن مساكنكن "؛ لأنه أخبر عنهنّ بالخطاب الذي يكون لما يعقل. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن وغيره. قال الشاعر: شربت بها والدّيك يدعو صباحه … إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (¬2) ويروى: " شربت بهم ". وقال: " دنوا فتصوّبوا "، وكان حقّه أن يقول: " دنونن فتصوّبن "؛ لأنها مما لا يعقل، إلا أنه أجراها مجرى ما يعقل، إذ كان دورها على تقدير لا يختلف، كقصد العاقل الشيء الذي يعمله، فجعلوا " البراغيث " مشبّهة بما يعقل، حين وصفت بالأكل، وصارت الألف إذا كانت إضمارا، بمنزلة التاء في: " قلت "، وإذا كانت علامة بمنزلة التاء في: " قالت "؛ لأن التاء في: " قلت " ضمير المتكلم، وفي: " قالت " علامة للتأنيث. قال سيبويه: " فأثبتوها في الرفع وحذفوها في الجزم ". يعني النون، " كما حذفوا الحركة في الواحد ". وقال: " ووافق النصب الجزم في الحذف ". يعني: في حذف النون في الاثنين. وقد ذكرنا في كم شيء يوافقه، وأنبأنا عن العلة في ذلك. وقال: " كما وافق النصب الجرّ في الأسماء؛ لأن الجزم نظير الجرّ في الأسماء، وليس لها في الجزم نصيب، كما ليس للفعل في الجرّ نصيب؛ وذلك قولك: " هما يفعلان " و " لم يفعلا " و " لن يفعلا " و " لن تفعلا ". وقد مر تفسير هذا كله، وبيان علته. قال: وكذلك إذا ألحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان، إلا أن الأولى واو مضموم ما قبلها، لئلا يكون الجمع كالتثنية ونونهها مفتوحة بمنزلتها في الأسماء كما فعلت في ذلك في التثنية؛ لأنهما وقعتا في التثنية والجمع هاهنا، كما أنهما في الأسماء كذلك، ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية 12. (¬2) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه 10، والخزانة 3/ 421، واللسان (نعش).

وهو قولك: " كم يفعلوا " و " لن يفعلوا ". وكذلك إذا ألحقت التأنيث في المخاطبة، إلا أن الأولى ياء مكسور ما قبلها وتفتح النون؛ لأن الزيادة التي قبلها بمنزلة الزيادة التي في جمع الأسماء في الجرّ والنصب، وذلك قولك: " أنت تفعلين " و " لن تفعلي " و " لم تفعلي ". وقد مر تفسير ذلك كله. وقال سيبويه: فإن أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع، ألحقته للعلامة نونا، وكانت علامة الإضمار والجمع، فيمن قال: " أكلوني البراغيث ". قال أبو سعيد: يعني أن جمع المؤنث بالنون، كما أن جمع المذكر بالواو، وتكون النون لضمير جماعة المؤنث في حال، وفي حال تكون علامة الجمع فيمن يقدم العلامة، وهم الذين يقولون: " أكلوني البراغيث ". قال: وأسكنت ما كان في الواحد حرف الإعراب، كما فعلت ذلك في " فعل " حين قلت: " فعلت " و " فعلن ". قال أبو سعيد: اعلم أن ضمير المتكلم والمخاطب وجماعة النساء، إذا اتصل بالفعل الماضي، سكن آخر الفعل؛ كقولك: " جلست " و " جلسن "، وإنما سكن آخر الفعل من قبل أن هذا الضمير متحرك؛ لأنه نائب عن معرب وهو اسم، فإذا انضم إلى الفعل، والفعل لا بدّ له منه، ولا يصّح معناه إلا به، ولا يجوز انفراده عنه إذا كان متصلا- صار الفعل والضمير كالشيء الواحد، واجتمع أربع متحركات، وذلك غير موجود في شيء من كلامهم وأشعارهم، إلا بحذف، فلم يكن سبيل إلى تسكين الحرف الأول؛ لأنه لا يبدأ بساكن، ولا إلى تسكين الحرف الثاني؛ لأنه بحركاته توجد الأبنية المختلفة؛ كقولك: فعل وفعل وفعل فلزم الحرف الثالث التسكين. وكان أولى به لعلتين، إحداهما: أن الحرف الثالث قد يوقف عليه بالسكون. والعلة الأخرى: أنا لو لم نسكن الحرف الثالث، وجب تسكين الرابع، والرابع نائب معرب يستحق الحركة من أجل ذلك، فكان تسكينه أولى، ومع ذلك كان يلتبس المتكلم بالمؤنث الغائبة، إذا قلت: " جلست " قال: " وأسكن هذا هاهنا، وبني على هذه العلامة، كما أسكن " فعل "؛ لأنه فعل كما أنه فعل، وهو متحرك كما أنه متحرك ". قال أبو سعيد: قوله: " فأسكن هذا "، يعني: أسكن لام الفعل من " يفعلن ". وهو الذي قال في أول هذه الفصل: " فإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع ألحقته

للعلامة نونا ". وقوله: " وبني على هذه العلامة "، يعني: بني اللام في " يفعلن " على السكون. وقوله: " كما أسكن فعل " يعني: كما تسكن اللام من " فعل " في الماضي، إذا قلت: " فعلن ". وقوله: " لأنه فعل كما أنه فعل، وهو متحرك كما أنه متحرك ". قال أبو سعيد: يعني أن الفعل المضارع قد شارك الماضي في الفعلية، وشاركه في أن آخر كل واحد منهما متحرك، فلما لزم سكون اللام في " فعلن " الماضي، وجب سكون اللام في المستقبل؛ للشركة التي بينهما من الفعلية والحركة. فإن قال قائل: فإن العلة التي من أجلها وجب تسكين الماضي، هو ما ذكرت من اجتماع أربع متحركات، وليس ذلك في المستقبل؛ لأن الفاء من " يفعلن " ساكنة. فالجواب في ذلك أن العلة إذا لحقت شيئا من الأفعال لمعنى، فإنه قد يحمل عليه سائر الأفعال التي ليس فيها ذلك المعنى؛ لئلا يختلف منها وجه. وقد مر هذا في مثل قولنا: " وعد يعد "، تسقط الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم تقول: " نعد " و " أعد " و " تعد "، فتتبع الياء سائر حروف المضارعة، وتسقط الواو فيها، وإن لم تقع بين ياء وكسرة؛ لينتظم منهاج الأفعال. قال سيبويه: " فليس هذا بأبعد فيه- إذا كانت هي و " فعل " شيئا واحدا- من يفعل؛ إذا جاز فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء، وليست بأسماء ". يعني: ليس هذا التسكين في الفعل المضارع، وهذا الحمل على الماضي، بأبعد فيها، وهما مشتركان في الفعلية، من حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب؛ لأن الأفعال المضارعة إنما أعربت، ولم تكن مستحقة للإعراب، لما فيها من مشاكلة الأسماء المستحقة للإعراب، فإذا جاز لهم حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب، كان حملها على الأفعال الماضية في تسكين أواخرها، عند لحاق النون بها، أولى وأوجب؛ لأن مشاكلة الفعل المضارع الماضي أكثر من مشاكلة الاسم. ثم قال: " وذلك قولك: هن يفعلن، ولن يفعلن ". قال أبو سعيد: أراد بهذا التمثيل ما قدمته في أول الفصل، كأنه قال: فإذا أردت جمع المؤنث في الفعل المضارع، ألحقته للعلامة نونا، وذلك قولك: " هن يفعلن " و " لم

يفعلن " و " لن يفعلن ". واعترض بالاعتلال بين الجملة الممثلة وبين التمثيل. ثم قال: " تفتحها؛ لأنها نون جمع ". يعني تفتح هذه النون، التي هي لجماعة المؤنث لأنها نون جمع. وقد تقدم الكلام في نون الجمع أنها مفتوحة، فحملت هذه عليها؛ لاشتراكهما في الجمع، لا لاشتراكهما في العلة الموجبة في الأصل لفتح تلك النون؛ لأن العلة التي فتحت تلك من أجلها استثقال الكسرة والضمة عليهن في " مسلمين " و " مسلمون "، ولكنه شاركها في الجمع. وعلة أخرى توجب فتحها، وهي أنها ضمير، وأثقل الأسماء الضمائر، وإذا احتجنا إلى تحريكها حركناها بأخف الحركات. ثم قال: " ولا تحذف لأنها علامة إضمار وجمع، فيمن قال: أكلوني البراغيث ". يعني: لا تحذف هذه النون؛ لأنها تذكر لأحد معنيين؛ إما أن تكون ضمير الفاعلات، فلا سبيل إلى حذف الفاعل، وإما أن تكون علامة تؤذن بجماعة تأتي من بعد، فلا سبيل إلى حذفها أيضا؛ لأن الذي يقدمها للعلامة، غرضه وقصده، تبين ما بعدها بها، فإذا حذفها، فقد أبطل ما قصد له. وقد تقدم الكلام في استقصاء هذا بما يغني عن إعادته. ثم قال: " فالنون هاهنا في يفعلن بمنزلتها في فعلن ". يعني النون في " فعلن " و " يفعلن " بمنزلة واحدة في تسكين ما قبلها. ثم قال: " وفعل بلام يفعل من التسكين ما فعل بلام فعل، لما ذكرت لك ". يعني فعل بها من التسكين، لاتصال النون بها، ما فعل بلام فعل من التسكين للعلة التي ذكرها. ثم قال: " ولأنها قد تبنى مع ذلك على الفتحة في قولك: هل تفعلن ". قوله: " ولأنها " علة أخرى لسكون اللام في " يفعلن "، وذلك أن نون التأكيد المشددة أو المخففة، إذا دخلت على الفعل المضارع، سكن لها لام الفعل، ثم تفتح اللام لالتقاء الساكنين، ويبطل الإعراب الذي كان فيه بدخول هذه النون، فإذا كانت نون التوكيد التي يستغنى عنها تؤثر في الفعل هذا التأثير، كانت النون التي لا يستغنى عنها وهي ضمير جماعة المؤنث أولى بهذا التأثير. ثم قال: " وألزموا لام فعل السكون، وبنوها على هذه العلامة وحذفوا الحركة،

لما زادوا عليها؛ لأنها ليس في الواحد آخرها حرف الإعراب، لما ذكرت لك ". يعنيي: ألزموا لام " فعل " السكون، وبنوها على العلامة التي هي السكون، وحذفوا الحركة التي كانت فيه للنون التي زادوها؛ لأن اللام قبل اتصال هذه النون بها في قولك: " فعل " لم تكن حركتها حركة إعراب، وإذا كانت الحركة بناء، فهي إلى السكون أقرب، فإنما أراد أن يسهل الأمر في تسكين هذه اللام، إذ كانت الحركة المتروكة فيها حركة بناء، لا حركة إعراب، والسكون الذي صيرت إليه هو أيضا سكون بناء، فالأمر بينهما قريب، وقد أحكمنا علة ذلك فيما مضي من غير هذا الوجه. وقوله: " لأنها ليس في الواحد آخرها حرف إعراب ". يؤيد قول من يقول إن آخر حرف في التثنية في تقدير حركة هي إعراب، وأن التثنية والجمع معربان؛ لأن سيبويه قد جعل آخر حرف فيهما- أعني التثنية والجمع- حرف إعراب. وقد ذكر هاهنا أن اللام في (فعل) ليس بحرف إعراب إذ لا إعراب فيه ولا يستحقه فعلم أنه لم يسم آخر حرف في التثنية والجمع حرف إعراب إلا والإعراب مقدر فيه. قال سيبويه: " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء؛ لأن الأسماء هي الأولى وهي أشد تمكنا، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون، وهي من الأسماء، ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلام، والاسم قد يستغنى عن الفعل؛ تقول: " الله إلهنا "، " وعبد الله أخوك ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه قدم هذه المقدمة ليرى خفة الأسماء المنصرفة، وأن الصرف فيها هو الأول، وأن الذي منع الصرف علل من بعد ذلك دخلت عليه حادثة فرعية فبدأ فدل على أن الفعل أثقل من الاسم في الأصل؛ لأن الاسم يستغنى به عن الفعل، كقولك: " الله ربنا "، ولا يجوز أن يقول قائل: " قام " أو غيره من الأفعال من غير أن يأتي بالفاعل، واستدل أيضا على ذلك بأن الفعل مأخوذ من المصدر والمصدر اسم، فالاسم إذا أصل للفعل، فلما دل على أن الاسم أخف والفعل أثقل، ذكر أن نقصان تمكن الفعل عن الاسم لثقل الفعل وخفة الاسم؛ لأن الاسم لخفته تدخله الحركات الثلاث والتنوين بعد ذلك، والفعل لا يدخله إلا حركتان ولا يدخله تنوين، والعلة الفاصلة بينهما

الخفة والثقل، فجعل هذه العلة علة في كل ما ثقل من الأسماء، بدخول العلل المثقلة لها عليها، في منع التنوين وتمام الحركات التي تكون في الأسماء الخفيفة، تشبيها لما ثقل من الاسم بالفعل، وأشرك بينما لاشتراكهما في الثقل ونقصانهما عن تمكن الاسم الأخف. فهذه جملة مقدمة لهذا المعنى، وستقف على شرحها من كلامه في هذا الباب، وعلى تفصيل مسائلها وتعرفها في باب ما ينصرف وما لا ينصرف، إن شاء الله. قال أبو سعيد: أما قوله: " اعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض " فقد فهم هذا فيما تقدم. وقوله: " والأفعال أثقل من الأسماء؛ لأن الأسماء هي الأولى " وقد مر الدليل على أن الأفعال أثقل من الأسماء، ومعنى قوله أن الأسماء هي الأولى، أنها مقدمة في الرتبة على الأفعال؛ لأنها أصل الأفعال. وقوله: " وهي أشد تمكنا " يعني الأسماء أشد تمكنا من الأفعال لخفتها وما خف كان أشد احتمالا لزوائد. قال أبو سعيد: قوله: " فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون " يعني فمن ثم لم يلحق الأفعال. فقوله: " هي من الأسماء " يعني الأفعال من الأسماء، فقولك: " قتل " مشتق من " القتل ". وقوله: " ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم وإلا لم يكن كلاما " يعني أنك متى ذكرت فعل ولم تذكر فاعله لم يكن كلاما. وقوله: " والاسم قد يستغني عن الفعل، تقول: الله إلهنا " و " عبد الله أخونا " وهذا بين. قال سيبويه: " واعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام، ووافقه في البناء، أجري لفظه مجرى ما يستثقلون، ومنعوه ما يكون لما يستخفون، وذلك نحو " أبيض " و " أسود " و " أحمر " فهذا بناء " أذهب " و " أعلم " فيكون في موضع الجر مفتوحا، استثقلوه حيث قارب الفعل في الكلام، ووافقه في البناء ". قال أبو سعيد: " ينبغي أن نقدم العلل المانعة للصرف المحلة الأسماء محل الأفعال ليكون توطئة للجملة التي ذكرها سيبويه في هذا الباب، ونفسرها تفسيرا شافيا كاشفا لما استبهم منه، ولا توفيق إلا بالله.

اعلم أن الاسم لمعنى الاسمية فيه يستحق الحركات الثلاث، ويستحق التنوين أيضا، وقد تقدم في أول تفسير علة ذلك، ثم يعتور الأسماء بعد ذلك معان مختلفة، يحدث ذلك فيها نقصانا عن تمكنها، وتلك المعاني على ثلاثة أقسام؛ فقسم منها ينزلها منزلة الحروف فتوجب لها البناء نحو قولك: " يا حكم " و " من قبل " و " من بعد " و " من " و " كم "، وقد استقصينا ذلك في أول التفسير. والقسم الثاني: أن يدخل عليه ما لا يغيره عن تمكنه، كقولك: " زيد قائم " و " مررت برجل قائم " و " هذه امرأة "، ف " زيد " لم يثقل لفظه بما دخل عليه من التعريف فقط، وبقي على تمكنه، و " قائم " لم يثقل بأن كان نعتا فقط، والنعت فرع، و " المرأة " لم تثقل بأن كانت مؤنثة فقط. والقسم الثالث: وهو الذي قصدنا له، دخلت عليه من حوادث الأشياء ما أحله محمل الفعل المضارع في منع الجر والتنوين، ولم يمنعه الإعراب البتة، كما كان في القسم الأول. وجملة ما يمنع الصرف، وينزل الاسم منزلة الفعل المضارع، هي تسع علل: التأنيث، والصفة، والجمع، ووزن الفعل، والعدل، والعجمة، وأن يجعل الاسمان اسما واحدا، والتعريف، وشبه التأنيث باللفظ والزيادة، فهذه التسع العلل متى اجتمع منها ثنتان فصاعدا، أو واحدة في معنى ثنتين، امتنع الاسم من الصرف، ولم يلحقه جر ولا تنوين، وإنما كانت هذه عللا حادثة من قبل أن الواحد قبل الجمع من غير وجه؛ من ذلك أن الجمع مركب من الواحد، فالواحد أصل له، ومنها أن الواحد يدل على العدد والجنس، كقولك " رجل " وكذلك الاثنان كقولك: " رجلان "، وإذا جمعت فقلت: " رجال " دل على الجنس، ولم يدل على العدد، فالواحد أخف من الجمع؛ لأن الجمع يحتاج إلى معنى ثان يكشف عدده، والصفة أثقل من الاسم الذي ليس بصفة؛ لأن الصفة لا تكون صفة حتى يكون فيها معنى الفعل، والفعل فرع على الاسم والاسم قبله، وذلك قولك: " مررت برجل قائم " و " رأيت رجلا منطلقا " وهو في معنى " يقوم " و " ينطلق "، ويدل أيضا على ذلك أن الصفة لا تحسن إلا أن يتقدمها الاسم، ألا ترى أنك إذا قلت: " جاءني طويل "، لم يكن في حسن " جاءني رجل طويل "، فاحتياج الصفة إلى تقدم الاسم حتى يحسن، كاحتياج الفعل إلى الاسم حتى يجوز.

ووزن الفعل معنى حادث؛ لأن الفعل حادث فوزنه لا محالة حادث. والتعريف حادث؛ لأن الاسم نكرة في أول أمره، مبهم في جنسه، ثم يدخل عليه ما يفرده بالتعريف، حتى يكون اللفظ له دون سائر جنسيه، كقولك: " رجل "، فيكون هذا اللفظ لكل واحد من الجنس، ثم يحدث عهد المخاطب لواحد من الجنس بعينه، فتقول: " الرجل ". فيكون مقصورا على واحد بعينه، وتقول: " زيد " ومعناه الزيادة، وهي نكرة من قولك: " زاد يزيد زيدا ": كقول الشاعر: وأنتم معشر زيد على مائة … فأجمعوا أمركم طرا فكيدوني (¬1) ثم سمي به رجل، فتعرف حيث جعل لشخص بعينه فكان التعريف حادثا والعدل فرع؛ لأن العدل إنما هو إحداث شيء في الاسم يغيره عن اللفظ الأول، فيصير معدولا. والعجمة فرع؛ لأنها دخيلة في كلام العرب؛ لأن أول ما يعتادون التكلم به كلامهم العربي، ثم الكلام العجمي بعد ذلك. وجعل الاسمين اسما واحدا هو فرع؛ لأنه تركيب الاسم الواحد، فهو بعد الاسم المفرد. وشبه التأنيث باللفظ والزيادة من أبين الأشياء أنه فرع؛ لأن المشبه به فرع؛ والتأنيث بعد التذكير، من قبل أن كل معلوم يصح الإخبار عنه؛ لأنه يصلح أن يعبر عنه بشيء والشيء مذكر، وفي الأشياء ما لا تصلح العبارة عنه بلفظ مؤنث، ألا ترى أنك تقول: " الله كريم " و " الله يغفر لمن يشاء " و " هو أعز الأشياء " و " هو شيء لا كالأشياء " كما قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ (¬2) وكما قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (¬3)، أراد كل شيء هالك إلا الله، ولا يقع عليه عز وجل لفظ كلفظ المؤنث. ويدل على ذلك أيضا أن التأنيث قد يكون بعلامات حادثة في الاسم؛ كقولك: " قائم " و " قائمة " فولولا أن التأنيث معنى حادث في الاسم، لم يحتج له إلى لفظ زائد ¬

_ (¬1) البيت منسوب لذي الإصبع العدواني في شرح المفضليات 323، وهو بلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 30. (¬2) سورة الأنعام، آية: 19. (¬3) سورة القصص، آية: 88.

يدل عليه. فهذه الأشياء المانعة للصرف مشبهة بثقل الأفعال، والأسماء الممنوعة الصرف مشبهة بالأفعال؛ لاشتراكهما في النقل، وليست الواحدة من هذه العلل تبلغ الاسم إذا دخلته مبلغ الفعل في الثقل، فلا تؤثر تأثيرا إذا انفردت في الاسم؛ لأن للاسم خفة قوية بالاسمية، فلا يزيلها إلا علتان فصاعدا. فإن قال قائل: إذا قلتم إن الأسماء التي لا تنصرف مشبهة بالأفعال، فلذلك أزلتم عنها الجر والتنوين، فهلا أسكنتموها لمشابهة الفعل؛ لأن الفعل لا يدخله الجر والتنوين، ويدخله السكون!؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما أن ما شبه بالشيء لا يجب أن يساوى به في جميع أحواله المشبهة، فلما أشبهت هذه الأسماء الأفعال بما شملها من الثقل، سوى بينهما في اللفظ الذي لا يكون إجحافا بالاسم، فمنع التنوين والجر فقط، وجعل مكان الجر الفتح، فحصل الحذف على شيء واحد، وهو التنوين؛ لأن الجر قد جعل مكانه الفتح ولو سكنا الاسم لأجحفنا بحذف التنوين والحركة منه، وتسكين الفعل في حال الجزم لا يكون إجحافا به، وذلك أنه غير منون في الأصل، فلم يذهب منه إلا شيء واحد. والجواب الثاني: أن الاسم كان محركا بحركات ثلاث يتبع كل واحدة منهن تنوين، فلو سكنا الاسم الذي لا ينصرف في حال، وحركناه في حال، كان التسكين لا يخلو أن يكون في حال رفع أو جر أو نصب، وتكون الحركة في غيرها، ولو فعلنا هذا لكنا قد خالفنا بين أشياء كانت منتظمة على حال واحدة؛ لأن هذه الحركات الثلاث قد كانت مقترنة بالتنوين، فإذا دخلت عليها علة فغير جائز أن تزيل التنوين عن بعضها فقد، وتزيل الحركة والتنوين عن البعض الآخر. قال أبو سعيد: فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون الذي أزاله ثقل الاسم الذي لا ينصرف هو التنوين فقط، وفتح الاسم في حال الجر؛ لئلا يشبه المضاف إلى المتكلم؟ فإن الجواب في ذلك أن يقال: الذي أزال التنوين هو الثقل الذي دخل عليه حتى أحله محل ما ليس فيه تنوين، فإذا أزلنا عنه التنوين لحلوله محل ما ليس فيه تنوين أزلنا عنه الكسر، لحلوله محل ما ليس فيه كسر؛ لأن طريقهما واحد، وليس لمدع أن يدعي خلاف ما ظهر إلا ببرهان، وقد ظهر الثقل وظهر التغيير؛ فقلنا: التغيير الظاهر للثقل الظاهر.

فإن قال قائل: لو كان زوال الجر عن الاسم الذي لا ينصرف، لما ذكرت من الثقل، لكان الرفع أولى بزواله عنه؛ لأن الضم أثقل من الكسر. فيقال: ليس كون الضم أثقل من الكسر بمانع أن يدخل الضم ما لا يدخله الكسر؛ لأن الفعل أثقل من الاسم؛ ولذلك نقص عن حركاته وتنوينه، ويدخله الضم، ولا يدخله الكسر، وكذلك ما شبه به، وجرى مجراه في الثقل، وأعطى لفظه حركات الفعل لمشاكلتهما في الثقل. ثم نرجع إلى الفصل الذي قدمنا من كلام سيبويه: قوله: " اعلم أن ما ضارع الفعل المضارع من الأسماء في الكلام، ووافقه في البناء "، أراد به باب " أفعل " الذي مؤنثه " فعلاء "، وهو اسم مضارع للفعل، ومضارعته أنه صفة والفعل يوصف به أيضا، كقولك: " مررت برجل أحمر " و " مررت برجل يأكل "، ويضارعه أيضا أن الفعل لا يكون إلا بفاعل، والنعت لا يحسن إلا بمنعوت، ومشاركته له في البناء أن " أحمر " الهمزة فيه زائدة، كما هي زائدة في " أذهب " ووزنها " أفعل ". وقوله: " أجرى لفظه مجرى ما يستثقلون "، يعني لفظ " أحمر " وبابه، مجرى الفعل وهو ما يستثقلون، و " منعوه ما يكون لما يستخفون " يعني منعوه التنوين والجر، الذي يكون للاسم المستخف. وقوله: " وذلك نحو: أبيض وأحمر وأسود، فهذا بناء: أذهب، وأعلم ". وقوله: " فيكون في موضع الجر مفتوحا "، يعني فيكون الاسم الذي لا ينصرف في موضع الجر مفتوحا، ولا يجوز أن يقال: فيكون في موضع الجر منصوبا؛ لأن هذه الفتحة لم يحدثها في هذه الحال عامل النصب، وإنما حمل الجر على النصب في هذا الموضع، إذ قد سقط لفظه، لما قدمنا ذكره من مشاكلة الفعل، فاحتيج إلى حمله على غيره. وكان حمله على النصب أولى؛ لما بينهما من المشاكلة التي أنبأها في الموضع الذي ذكرنا فيه حمل النصب على الجر في تثنية الأسماء وجمعها. وقال سيبويه: " وأما مضارعته في الصفة ". يعني مضارعة " أحمر " الفعل في كونه، أعني كون " أحمر " صفة. " فإنك لو قلت: أتاني اليوم قوي، أو ألا باردا، ومررت بجميل، كان ضعيفا، ولم يكن في حسن: أتاني رجل قوي، وألا ماء باردا، ومررت برجل جميل ".

ثم قال: " ألا ترى أن هذا يقبح هاهنا، كما أن الفعل المضارع، لا يتكلم به إلا ومعه الاسم؛ لأن الاسم قبل الصفة، كما أنه قبل الفعل ". يعني: أن النعت لا يحسن إلا بذكر المنعوت، كما أن الفعل المضارع لا يستغني عنه الاسم. وإنما خص المضارع. وإن كان الماضي قد شاركه في هذا المعنى؛ لأن التشبيه الذي ذكره وقع بين المضارع وبين الاسم. وقد مر هذا المعنى. ثم قال: " ومع هذا أنك ترى الصفة تجري في معنى يفعل ". يعني: أنك تقول: " هذا ضارب زيدا " و " هذا يضرب زيدا " و " مررت برجل ضارب زيدا " و " يضرب زيدا ". ثم قالي: " فإن كان اسما كان أخف، نحو أكلب وأفكل، ينصرفان في النكرة ". يعني: فإن كان الذي وزنه وزن الفعل من الأسماء وليس بنعت، نصرف في النكرة، وذلك أنه ليس فيه إلا علة واحدة، وهي وزن الفعل. فإن قيل: فأكلب هي جمع على وزن أقتل، فينبغي أن تمنعه من الصرف بهاتين العلتين. فالجواب: أن الجمع إذا كان يجمع، أو يتأتى فيه الجمع، كان محله محل الواحد، ولم يعتد به ثقلا. وسنبين ذلك إن شاء الله في باب ما لا ينصرف. " فأكلب " قد يقال فيه: (أكالب)، لو كسرت، فلم يعتد بجمعها وانصرفت في النكرة. ثم قال: " ومضارعة أفعل الذي يكون صفة للاسم أنه يكون وهو اسم صفة ". يعني: أن " أحمر " وبابه يكون صفة على هذا المثال، وهو اسم، كما يكون الفعل صفة في قولك: " مررت برجل يضرب زيدا ". فشاركه في حال اسمية الفعل، في كونها صفة وانضم إلى ذلك وزن الفعل فامتنع من الصرف. ثم قال: " وأما يشكر، فإنه لا يكون صفة وهو اسم، إنما يكون صفة وهو فعل ". يعني أن " يشكر " و " يزيد " و " تغلب " و " أحمد " و " يعمر " والأسماء الأعلام التي على مثال الفعل لا تنصرف لوزن الفعل والتعريف، فمتى نكّرت انصرفت، كقولك: " مررت بيشكر ويشكر آخر "، و " ما كلّ يزيد أبا خالد "؛ لأن هذه الأسماء متى نكرت زال التعريف عنها، وحصل لها من الثقل وزن الفعل فقط، فانصرفت، وقد كانت هذه الأسماء ينعت بها في حال ما كانت أفعالا، كقولك: " مررت برجل يشكر زيدا "، و " هذا رجل يزيد في

البر "، فلما سمي بها بطل المعنى الذي كان من أجله يقع النعت بها وهو الفعلية، فلم يبق له في حال التنكير إلا وزن الفعل، وليس كذلك " أحمر " من قبل أن " أحمر " وقع في أول أحواله صفة على وزن الفعل، فشارك الفعل في حال فعليته في الوزن وفي معنى الصفة، فمنع الصرف لذلك. وقال سيبويه: " اعلم أن النكرة أخف عليهم من المعرفة، وهي أشد تمكنا؛ لأن النكرة أول، ثم يدخل عليها ما تعرّف به، فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة ". قال أبو سعيد: قد تقدم من تفسيرنا ما دل على أن النكرة أخف من المعرفة، وهي أشد تمكنا منها؛ لأنها لخفتها تحتمل ما لا تحتمله المعرفة، واحتمالها ما لا تحتمله المعرفة أنها تحتمل التنوين في الموضع الذي توجد الأسماء المعارف فيه غير منصرفة، نحو " أحمد " و " طلحة " و " عمر " و " إبراهيم "، إذا نكرت انصرفت، فاحتملت حين خفت بتنكيرها ما لا تحتمله حين عرفت. وتمكن الشيء المتمكن هو وجوده متصرفا في أكثر من حركة، إذا كان اللفظ يتصرف في حركتين، ولفظ آخر يتصرف في أكثر من ثلاث حركات وتنوين، فالذي يتصرف في ثلاث حركات وتنوين أشد تمكنا؛ لأنه أكثر تصرفا. وقد استعمل سيبويه لفظ التمكن في الظروف ولم يرد بها الإعراب، قال: كل ظرف يكون مرفوعا في حال ومنصوبا في حال فهو متمكن، نحو قولنا اليوم والليلة وخلفك وأمامك: لأنك تقول: قمت اليوم، وقمت الليلة، وقمت خلفك وأمامك فتكون ظروفا، ثم تقول: اليوم طيب، والليلة باردة، وخلفك واسع، وأمامك ضيق، فتكون أسماء مرفوعة، فيقال ما جرى هذا المجرى من هذه الظروف ظرف متمكن، فليس يراد به أنه متمكن بمعنى متصرف أنه معرب، إنما يراد أنه يدخله الرفع، وكل ظرف لا يدخله الرفع فهو غير متمكن، وإن كان معربا نحو " قبل " و " بعد " و " عند "؛ تقول: " أنا عندك " و " خرجت من عندك " و " رأيته قبلك " و " من قبلك "، ولا تقول: عندك ولا قبلك ولا بعدك مرفوعا بوجه من الوجوه، فهذه غير متمكنة من الظروف، وإن كانت معربة بدخول الجر والنصب عليها. وأما المتمكن من الأسماء فهو كل ما دخله الإعراب منصرفا كان أو غير منصرف وإنما كان غير منصرف متمكنا؛ لأنه تصرف ضربا من التصرف، وهو تنقله من فتحة إلى

ضمّة ومن ضمة إلى فتحة. وقول سيبويه في آخر هذا الفصل: " فمن ثم أكثر الكلام ينصرف في النكرة ". يعني: من أجل خفة التنكير وتمكن النكرة، يكون أكثر الكلام الذي لا ينصرف متى نكر انصرف، كنحو ما ذكرنا من " طلحة " وما بعده من الأسماء. والأسماء التي لا تنصرف في المعرفة والنكرة هي خمسة أسماء فقط؛ أفعل، إذا كان صفة، نحو " أحمر " و " أشقر "، وفعلان الذي مؤنثة فعلى، نحو " سكران " و " غضبان "، ومؤنثهما " غضبى " و " سكرى "، وما كان في آخره ألف التأنيث ممدودة كانت أو مقصورة، نحو " حمراء " و " حبلى "، وما كان من الجمع على مثال ليس للواحد، نحو " مساجد " و " قناديل "، وما كان معدولا من العدد نحو " ثناء " و " ثلاث " إلى " عشار "، وفيه لغتان: " فعال " و " مفعل " من الواحد إلى العشرة، وكلتاهما لا تنصرف، وسائر الأسماء منصرفة في حال التنكير. فإن قال قائل: لم قال سيبويه " فمن ثمّ أكثر الكلام ينصرف في النكرة " ونحن نعلم أيضا أن أكثر الكلام ينصرف في المعرفة؟ فالجواب في ذلك: أنه أراد فمن ثم أكثر الكلام الذي لا ينصرف إذا نكّر انصرف لأن ما لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة أكثر مما لا ينصرف في المعرفة ولا في النكرة. قال سيبويه: " واعلم أن الواحد أشد تمكنا من الجمع؛ لأن الواحد الأول، ومن ثم لم يصرفوا من الجمع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد نحو " مساجد ". و" مفاتيح ". قال أبو سعيد: وقد تقدم من التفسير ما دل على أن الواحد أشدّ تمكّنا من الجمع. وأما قوله: " فمن ثم لم يصرفوا من الجمع ما جاء على مثال ليس يكون للواحد نحو " مساجد ومفاتيح ". فإن " مساجد " و " مفاتيح " وما جرى مجراهما لا ينصرف، من قبل أنه جمع، وأنه لا نظير له من الواحد، وقد علمت أن الجمع على ضربين: جمع له نظير من الواحد، وجمع لا نظير له من الواحد، فالجمع الذي لا نظير له من الواحد هو " مساجد " ونحوها، والجمع الذي له نظير من الواحد نحو " كلاب " و " فلوس " ونظيرهما من الواحد " كتاب " و " سدوس "، والجمع إذا كان له نظير من الواحد لا يعتد به ثقلا، فالجمع الذي لا

نظير له من الواحد قد اجتمع فيه معنيان يمنعان الصرف: أحدهما أنه جمع، والآخر أنه لا نظير له من الواحد؛ لأن نفس الجمع لا يمنع شبه الواحد في اللفظ، فإذا رأيناه جمعا ورأيناه مخالفا للواحد، ومخالفة الواحد هو معنى ثان، صار كأنه جمع آخر، كأنه جمع مرّتين، منع الصرف لذلك. فإن قال قائل: فقد رأينا هذا البناء في الواحد، وهو قولهم للضّبع " حضاجر ". قال الحطيئة: هلا غضضبت لرحل جا … رك إذ تنبّذه حضاجر (¬1) قيل له: " حضاجر " جمع " حضجر " و " الحضجر " العظيم البطن، وإنما لقّبت الضبع بهذا اللقب، وصار علما لها لعظم بطنها، وبولغ لها في هذا الوصف، فجعلت كأنها ذات بطون عظام. والدليل على أن " حضاجر " جمع " حضجر ". قول الشاعر: حضجر كأمّ التّوأمين توكّأت … على مرفقيها مستهلّة عاشر (¬2) أراد أنه عظيم البطن كامرأة في بطنها ولدان، وتم لها تسعة أشهر ودخلت في العاشر، واتكأت على مرفقيها، فنتأ بطنها وعظم، فذلك أعظم ما يكون. فإن قال قائل: إذا كنت تمنع الصرف في الجمع الذي لا نظير له في الواحد، فينبغي ألا تصرف " أكلبا "؛ إذ لا نظير له من الواحد. قيل له: لم يرد سيبويه بقوله: " على مثال ليس يكون للواحد " ما ذهبت إليه، إنما أراد: على مثال لا يجمع جمعا ثانيا؛ لأن ما كان على مثال يتأتّى فيه جمع ثان، فهو بمنزلة الواحد. فإن اعترض معترض فقال: في الكلام أفعل نحو " آنك " و " أسنمة "، فإن سيبويه قد نفى أن يكون في الواحد أفعل. ونحن نستقصي ما ينصرف وما لا ينصرف، إذا صرنا إليه إن شاء الله. قال سيبويه: " واعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث؛ لأن المذكّر أول، وهو ¬

_ (¬1) ديوانه ص 168، وبلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 37. (¬2) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 36، واللسان (حضجر).

أشدّ تمكنا ". وقد مر الكلام في تفسير ذلك، والاحتجاج له. ثم قال: " وإنما يخرج التأنيث من التذكير ". يعني أن كلّ شيء مؤنث فله اسم مذكر، وفي الأشياء ما لا يسمى باسم مؤنث، والتأنيث يخرج من التذكير؛ لأن المؤنث نفسها هي مذكّر بغير اللفظ الذي أنثتها به. وقوله: " يخرج من التذكير " كقولك: يتفرّع من التذكير، ومثله في الكلام كثير، كقولك: الإنسان يخرج من النّطفة، والكبير يخرج من الصغير، وقد خرج من زيد شجاع، أي تفرّع ونشأ. ثم قال: " ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه ". وهو الذي ذكرناه؛ إذ كان هذا اللفظ واقعا على كل مذكر ومؤنث بلفظ واحد. ثم قال: " والتنوين علامة للأمكن عندهم والأخف عليهم ". يعني أن التنوين علامة لما ينصرف من الأسماء؛ لأن المتمكن يقع على ما ينصرف وعلى ما لا ينصرف، وما ينصرف أمكن مما لا ينصرف، فسمى المنصرف الأمكن، إذ كان غاية في استيفاء الحركات والتنوين. ثم قال: " وتركه علامة لما يستثقلون "، يعني ترك التنوين علامة لما منع من الصرف. قال سيبويه: " وجميع ما لا ينصرف، إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف، انجرّ؛ لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرف، وأدخل فيها المجرور، كما يدخل في المنصرف، ولا يكون ذلك في الأفعال، فأمنوا التنوين ". قال أبو سعيد: إن سأل سائل فقال: إذا كان الاسم الذي لا ينصرف، متى دخل عليه الألف واللام أو أضيف، انصرف؛ لأنه بالإضافة والألف واللام يخرج عن شبه الفعل، فينبغي أن تكون حروف الجرّ متى دخلت على اسم لا ينصرف، انصرف بدخولها، كقولك: " مررت بأحمر " وما أشبه ذلك، ففي ذلك أربعة أجوبة: الأول منها: أن يقال إنّ الإضافة والألف واللام، متى دخلت واحدة منهما على الاسم غير المنصرف، أخرجته عن شبه الفعل، ثم تدخل عليه بعد ذلك العوامل، وقد خرج عن شبه الفعل، فيعمل فيه ما يعمل في الأسماء المنصرفة؛ لأنها صادفت شيئا لا شبه

للفعل به، وحروف الجرّ إذا دخلت على ما لا ينصرف، دخلت على شيء مشبه للفعل، فلم يكن لها فيه تأثير؛ لأنها صادفت ما يشبه الفعل. والجواب الثاني: أن يقال قد رأينا الفعل تضاف إليه أسماء الزمان كقولك: " هذا يوم ينفع زيد " والإضافة بمحلّ حروف الجر، ولم نره يضاف ولا يدخل عليها الألف واللام، فلما جاز أن يضاف إلى الفعل في حال، لم يكن دخول حروف الجر على الاسم المشبه له مما يخرجه عن شبهه. فإن قال قائل: فقد رأينا الألف واللام يدخلان على الفعل، كقول الشاعر: فيستخرج اليربوع من نافقائه … ومن حجره ذي الشيخة اليتقصّع (¬1) أراد: الذي يتقصّع. قيل له: هذا شاذّ من أقبح ما يكون في ضرورة الشاعر ولا يحتج بمثله. والذي دعا الشاعر إلى ذلك، مع الضرورة، أنه رأى الألف واللام تكون بمعنى " الذي " كقولك: " مررت بالقائم "، أي بالذي قام، فجعل " اليتقصّع " بمعنى الذي يتقصّع، وأخطأ في ذلك؛ لأن الألف واللام إذا كانتا بمعنى " الذي " نقل لفظ الفعل إلى اسم الفاعل. والجواب الثالث: هو أن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال، وعوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء، فلو صرفنا الاسم بدخول حرف الجر عليه، لوجب أن تصرفه في كل حال، من قبل أنه لا بدّ له في شيء من أحواله من دخول عامل عليه من عوامل الأسماء، نحو إن وأخواتها، وكان وأخواتها، وظننت وأخواتها، والابتداء والفعل وهذه الأشياء كلها لا تدخل على الأفعال، فلو صرفنا الاسم لأجل هذه العوامل، لبطل منع الصّرف البتّة. والجواب الرابع: هو أن الصّرف إنما هو جواز الجرّ والتنوين في الاسم، ولا ينفرد أحدهما من صاحبه، ومتى دخله التنوين جاز فيه الجر، ومتى جاز فيه الجر دخله التنوين، فإذا أضيف الاسم، أو دخله الألف واللام، فالإضافة والألف واللام يقومان مقام التنوين، فكأن الاسم قد نوّن، وإذا نوّن جاز دخول الجر عليه، وليس كذلك إذا دخله حرف من ¬

_ (¬1) منسوب لذي الخرق الطهوي في خزانة الأدب 1/ 16، وهو بلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 25.

حروف الجر؛ لأن دخوله لا يقوم مقام التنوين الذي هو علامة الصرف. قوله: " وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام أو أضيف انجرّ ". يعني جاز دخول الجر عليه بدخول عامله، ليس أنه بالإضافة ودخول الألف واللام ينجرّ لا محالة، وهذا كلام مفهوم. وقوله: " لأنها أسماء أدخل عليها ما أدخل على المنصرف ". يعني الألف واللام. وقوله: " أدخل فيها المجرور، كما يدخل في المنصرف ". يعني أضيف كما أضيف المنصرف، والمجرور هو المضاف إليه. وقوله: " ولا يكون ذلك في الأفعال ". يعني ولا يكون الألف واللام والإضافة في الأفعال. وتقدير لفظ اعتلاله هو أن يقال: لأنها أسماء دخل عليها من الإضافة والألف واللام ما لا يكون في الأفعال. وقوله: " فأمنوا التنوين " يعني بدخول الألف واللام والإضافة أمنوا أن يكون في الاسم تنوين مقدر يكون حذفه علامة لمنع الصرف؛ لأن ما لا ينصرف فيه تنوين مقدر محذوف، وليس ذلك فيما ذكر. قال سيبويه " فجميع ما يترك صرفه يضارع به الفعل؛ لأنه إنما فعل ذلك به لأنه ليس له تمكّن غيره، كما أن الفعل ليس له تمكن الاسم ". يعني جميع ما يترك صرفه من الأسماء يضارع الفعل بالثقل الذي دخله. وقد وصفنا كيفيته. وقوله: " وإنما فعل ذلك به "، يعني: وإنما فعل منع الصرف به، يعني بالاسم الذي لا ينصرف؛ " لأنه ليس له تمكن غيره " يعني تمكن الاسم المنصرف، " كما أن الفعل ليس له تمكن الاسم ". ثم قال: واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع، حذف في الجزم؛ لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع، فحذفوا كما حذفوا الحركة ونون الاثنين والجمع، وذلك قولهم: " لم يرم " و " لم يغز " و " لم يخش "، وهو في الرفع ساكن الآخر، تقول: " هو يغزو ويرمى ويخشى ". قال أبو سعيد: إن سأل سائل فقال: إذا قلت " لم يرم " فما علامة الجزم فيه؟ قيل له: حذف الياء.

فإن قال كيف جاز أن يكون حذف حرف من نفس الكلمة علامة إعراب؟ قيل له: إنما جاز ذلك؛ لأن هذا الحرف مشبه للحركة، وذلك أن الحركة منه مأخوذة، وعلى قول بعضهم: هو حركة مشبعة، ومع ذلك فقد كان في حال الرفع لا يدخله حركة، كما لا تدخل الحركة حركة، فلما أشبه الحركة، والجزم يحذف ما يصادفه من الحركات، حذف هذه الياء؛ إذ كانت بمنزلة الحركة فكان حذفها جزما، كما يكون حذف الحركة جزما. فإن قال قائل: فما قولكم في الياء والواو في حال الرفع، هل تقولون: إن سكونها علامة الرفع، أم علامة الرفع ضمة محذوفة؟ فإن الجواب في ذلك أن يقال: علامة الرفع ضمة محذوفة، استثقل اللفظ بها على ياء قبلها كسرة، أو واو قبلها ضمة، والنية فيها الحركة، كما أنّا إذا قلنا: " يخشى " فليست علامة الرفع سكون الألف؛ لأن الألف لا تكون إلا ساكنة، وهي في حال النصب أيضا بألف، والحركة فيها مقدرة، وإن لم يكن اللفظ بها، وكذلك الأسماء التي أواخرها ياء قبلها كسرة؛ نحو " القاضي " و " الرامي " إذا قلت: " هذا القاضي " و " مررت بالقاضي "، فليس علامة الجر والرفع فيها سكون الياء، وكذلك ما كان في آخره ألف، نحو " العصا " و " الرّحى " تكون في حال النصب والرفع والجر ساكنة الألف، والحركات المختلفة مقدّرة فيها على حسب أحواله، ولو كان سكون الحرف علامة الإعراب؛ لوجب أن تكون " العصا " و " الرحى " وما جرى مجراهما مبنيّا؛ لأن رفعه وجره ونصبه بسكون الألف وهذا لا يقوله ذو لبّ. وقوله: " واعلم أن الآخر إذا كان يسكن في الرفع "، أراد: " يغزو " و " يرمي "، ولم يرد بقوله: " يسكن في الرفع " أن السكون هو علامة الرفع، وإنما أراد: يسكن في حال الرفع بالضم المقدّر. وقوله: " حذف في الجزم؛ لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع "، يعني: حذف الحرف الساكن علامة للجزم؛ لأنهم لو اقتصروا على حذف الضّمّ المقدر، لاستوى لفظ الجزم والرفع، فحذفوا شيئا ليفرق بينهما في اللفظ. وقوله: " فحذفوا كما حذفوا الحركة، ونون الاثنين والجمع "؛ يعني: حذفوا الياء في " يرمي " كما حذفوا الحركة في " يذهب "، ونون الاثنين والجمع في يقومان، ويقومون.

هذا باب المسند والمسند إليه

هذا باب المسند والمسند إليه " وهو ما يستغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدّا قال أبو سعيد: أما قوله: " المسند والمسند إليه " ففيه أربعة أوجه أجودها وأرضاها: أن يكون " المسند " معناه " الحديث " و " الخبر "، و " المسند إليه " المحدّث عنه، وذلك على وجهين: فاعل وفعل: كقولك: " قام زيد " و " ينطلق عمرو " واسم وخبر: كقولك: " زيد قائم " و " إنّ عمرا منطلق "، فالفعل حديث عن الفاعل، والخبر حديث عن الاسم، فالمسند هو الفعل، وهو خبر الاسم، والمسند إليه هو الفاعل، وهو الاسم المخبر عنه. وإنما كان المسند الحديث، والمسند إليه المحدّث عنه، كقولنا في الحديث الذي يحدّث به عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الحديث مسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فالحديث هو المسند، ورسول الله هو المسند إليه. والوجه الثاني: أن يكون التقدير فيه: هذا باب المسند إلى الشّيء، والمسند ذلك الشّيء إليه، وحذف من الأول، اكتفاء بالثاني، وذلك هو الاسم والخبر، والفعل والفاعل، وكل واحد منهما محتاج إلى صاحبه، وكل واحد منهما مسند إلى صاحبه؛ لاحتياجه إلى صاحبه، إذ لا يتم إلا به؛ كقولك لمن تخاطبه: " إنّما أمري مسند إليك "، أي أنا محتاج إليك فيه وأنت قيّمه. والوجه الثالث: أن يكون المسند هو الثاني في الترتيب على كلّ حال، والمسند إليه هو الأول، فإذا كان فعلا وفاعلا، فالمسند هو الفاعل، والمسند إليه هو الفعل، وإن كان مبتدأ وخبرا، فالمسند هو الخبر، والمسند إليه هو المبتدأ، ويكون بمنزلة المبني والمبنىّ عليه، فالمبني هو الثاني فعلا كان أو خبرا، والمبنىّ عليه هو الأول، وإنما كان الأول هو المسند إليه، والمبنى عليه، من قبل أنّك جئت به، فجعلته أصلا لما بعده، ولم تبنه على شيء قبله، ثم جئت بما بعده، وهو محتاج إلى ما قبله، فصار فرعا عليه، فلذلك قيل: مبنيّ للثاني، إذ كان هو الفرع، وقيل الأوّل مبنيّ عليه، إذ كان هو الأصل، كما تبنى الفروع على الأساس. الوجه الرابع: وهو أن يكون المسند هو الأوّل على كل حال، والمسند إليه الثاني على كلّ حال، فإن كان فعل وفاعل، فالفعل هو المسند والفاعل هو المسند إليه، وإن

كان مبتدأ وخبرا فالمبتدأ هو المسند، والخبر هو المسند إليه، ويكون المسند والمسند إليه بمنزلة المضاف والمضاف إليه، في أن المضاف هو الأول، والمضاف إليه هو الثاني، وذلك أن معنى الإضافة والإسناد واحد تقول: " أسندت ظهري إلى الحائط "، و " أضفت ظهري إليه ". قال امرؤ القيس: فلمّا دخلنا أضفنا ظهورنا … إلى كلّ حارىّ قشيب مشطّب (¬1) أي أسندناها؛ فعلى هذا الوجه يكون مسندا إلى الثاني، وذلك أنك جئت بالأول، فعلم أنه لا بدّ له من غيره، وأنه محتاج إلى ما بعده، فأسندته إلى الثاني فتمّ، فتبيّن هذه الوجوه فإنها محتملة كلّها. قال سيبويه: " فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه "، يعني الخبر " وهو قولك: عبد الله أخوك، وهذا أخوك، ومثل ذلك: يذهب عبد الله ". يعني: فمن باب المسند والمسند إليه الذي أحكمنا معانيه، المبتدأ وما بعده إلى قوله: " يذهب عبد الله ". ثم قال: " فلا بد للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بد من الآخر في الابتداء ". يعني: لا بد للفعل من فاعل، كما لا بد للابتداء من خبر، وكل واحد منهما محتاج إلى صاحبه. ثم قال: " ومما يكون بمنزلة الابتداء والخبر: كان عبد الله منطلقا، وليت زيدا منطلق؛ لأن هذا يحتاج إلى ما بعده كاحتياج المبتدأ إلى ما بعده ". قال أبو سعيد: اعلم أن الأسماء التي لا بد لها من أخبار هي أربعة: المبتدأ لا بدّ له من خبر وهو أصل هذه الأربعة. واسم كان وأخواتها، كقولك: كان زيد منطلقا، وأصبح زيد ذاهبا، وليس عمرو عندنا، واسم إنّ وأخواتها، كقولك: إن زيدا منطلق، وليت أباك قائم، والمفعول الثاني من مفعولي ظننت وأخواتها كقولك: ظننت عبدك ذاهبا، وحسبت أباك منطلقا. غير أن ظننت وأخواتها يجوز أن يكتفى بها وبفاعليها عن المفعولين فتقول: ظننت، وحسبت وتسكت، كما قالت العرب في مثل لها: " من يسمع يخل "، أي: يظن ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 53، واللسان (ضيف).

ويتهم، يقوله الرجل إذا بلّغ شيئا عن رجل فاتّهمه. ويخل من خال يخال، ولم يأت بمفعوليه، فإذا أتيت بالمفعول الأول فلا بدّ له من الثاني، وسنحكم هذا بأكثر من هذا الشرح إن شاء الله، و " كان " و " إنّ " متى أتيت بها، أو بواحدة من أخواتهما فلا بدّ أن تأتي بالاسم والخبر. فهذه الأربعة التي ذكرناها داخلة في باب المسند والمسند إليه؛ لأن كل واحد من الاسم والخبر، محتاج إلى الآخر؛ فلذلك جعل سيبويه " كان عبد الله منطلقا، وليت زيدا منطلق "، بمنزلة المبتدأ والخبر، وأدخله في جملة ما انعقد عليه الباب. ثم قال: " واعلم أن الاسم أوّله الابتداء: وإنما يدخل الناصب، والرافع سوى الابتداء، والجار على المبتدأ ". قال أبو سعيد: أما قوله: " اعلم أن الاسم أوله الابتداء " فهو كلام بيّن، من قبل أن المبتدأ معرّى من العوامل اللفظية، وتعرّى الاسم من غيره في التقدير قبل أن يقترن به غيره؛ لأن الكلام يوضع كل كلمة منه تدل على معنى ما، ثم تركّب فيقترن بعضها ببعض، فيقع بها الفوائد المستفادة باقترانها، وإن كانت كل واحدة منها قد دلّت على معنى بعينه، ثم يدخل الناصب على المبتدأ إمّا تأكيدا، وإمّا لتغيير معنى؛ فالتأكيد: " إنّ زيدا قائم " والمعنى زيد قائم، وتغيير المعنى " ليت زيدا منطلق " والأصل زيد منطلق، مبتدأ وخبر، فدخلت ليت فنصبت ما كان مبتدأ وغيّرت المعنى، والرّافع الذي دخل على المبتدأ كان وأخواتها، وظننت وأخواتها إذا لم يسمّ فاعلوها؛ كقولك: " كان عبد الله منطلقا "، و " ظنّ بكر أخاك "، وهذان الرافعان هما غير الابتداء، ودخلا على الابتداء فأزالاه. وقد يدخل الجار على المبتدأ في قولك: " ما عندي من أحد " و " هل عندك من مال؟ "، والمعنى " ما عندي أحد "، و " هل عندك مال؟ "، فأحد، ومال يرتفعان بالابتداء، ثم دخل عليهما الجار، ومن ذلك أيضا قولك: " حسبك زيد "، فيكون حسب مبتدأ، وزيد الخبر، ثم تقول: " بحسبك زيد "، فيدخل الجر على ما كان مبتدأ قبل دخوله. وقد ظن بعض الناس أن (الباء) في " مررت بزيد " و (من) في " أخذت من زيد " هو ما عناه سيبويه من دخول الجرّ على المبتدأ، وظن أن قوله: " المبتدأ " ما يكون مبتدأ في حال، وهو على غير ما ظن؛ لأن ما يدخل على المبتدأ هو الذي إذا نزع صار مبتدأ، وليس ذلك في " مررت بزيد ".

هذا باب اللفظ للمعاني

قول سيبويه: " اعلم أن الاسم أوله الابتداء " يعني: المبتدأ لأن المبتدأ هو الاسم المرفوع، والابتداء هو العامل فيه، وستقف على هذا، غير أنه اكتفى بالمصدر عن الاسم، كقولك: " أنت رجائي " أي مرجوّى. وقوله: " إنما يدخل الناصب "، يعني كان وأخواتها، وظننت وأخواتها، " والرافع سوى الابتداء "، يعني كان وأخواتها، وظن وأخواتها، ورفعهما غير الرفع الذي يوجبه الابتداء والجار، وهو الباء في " بحسبك زيد " وما ذكر معه، تدخل هذه العوامل على المبتدأ، فتزيل الابتداء ويصير الاسم معربا بها دون الابتداء. قال سيبويه " ألا ترى أن ما كان مبتدأ قد تدخل عليه هذه الأشياء حتى يكون غير مبتدأ ". يعني: أن الاسم المبتدأ المعرّى من العوامل اللفظية قد تدخل عليه كان وإنّ وحروف الجر فيصير غير معرّى من العوامل، وإذا كان غير معرّى فقد صار غير مبتدأ. قال: " فلا تصل إلى الابتداء ما دام مع ما ذكرت لك إلا أن تدعه ". يعني: لا تصل إلى الابتداء، وهو تعرّيه من العوامل اللفظية، وقد اقترنت به العوامل إلا أن تحذف العوامل فيصير الاسم مبتدأ؛ وإنما ذكر سيبويه ذلك مستدلا على أن المبتدأ هو الأول، إذ كان لفظ المبتدأ هو موجود مع هذه العوامل، وإنما الابتداء الرافع له زوال هذه العوامل. وقوله: " ما دام مع ما ذكرت لك " يعني: ما دام المبتدأ مع ما ذكرت لك من العوامل إلا أن تدع العوامل. ثم قال: " وذلك أنك إذا قلت: " عبد الله منطلق "، إن شئت أدخلت عليه " رأيت " فقلت: " رأيت عبد الله منطلقا ". وقد مر نحو هذا؛ لأن قوله: " رأيت عبد الله منطلقا " بمنزلة ظننت عبد الله منطلقا. ثم قال: " فالمبتدأ أول كما أن الواحد أول العدد، والنكرة قبل المعرفة ". قال أبو سعيد وقد ذكرنا أن المبتدأ أول في هذا الباب، وذكرنا في الباب الذي قبله أن الواحد أول العدد، وأن النكرة قبل المعرفة. هذا باب اللفظ للمعاني قال سيبويه: " اعلم أنّ من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين،

واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وسترى ذلك إن شاء الله ". قال أبو سعيد: هذا آخر الباب من كلام سيبويه. قوله: " اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين " يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون أراد باللفظين الكلمتين، ويحتمل أن يكون أراد الحركتين؛ فإن كان أراد الكلمتين، فهو نحو " دار " و " ثوب " و " إنسان " وما أشبه ذلك مما يخالف بعضه بعضا في اللفظ والمعنى، وعليه أكثر الكلام، وإن كان أراد باللفظ الحركة، فهو قولك: " ما أحسن زيدا " إذا أردت التعجّب، و " ما أحسن زيد "، إذا أردت أنه لم يحسن، و " ما أحسن زيد " إذا استفهمت أيّ شيء منه أحسن، أعينه، أم أنفه، أم وجهه، أم خدّه؟ وكذلك " ضرب زيد عمرا " اختلفت حركة زيد وحركة عمرو، لاختلاف المعنيين، إذ كان أحدهما فاعلا والآخر مفعولا. وأما قوله: " واختلاف اللفظين، والمعنى واحد " فهو على الوجه الذي جعلنا فيه اللفظين هما الكلمتين، نحو: " الجلوس " و " القعود " ومعناهما واحد، ولفظاهما مختلفان، ونحو: " هلمّ " و " تعال " و " أقبل "، وعلى الوجه الذي جعلنا فيه اللفظين هما الحركتين، فهو قولك: " إنّ زيدا قائم " و " زيد قائم " معناهما واحد، ولفظهما مختلف، ومثله قوله: " زيدا ظننت قائما " و " زيد ظننت قائم "، حركاتهما مختلفة ومعناهما واحد. وقوله: " واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين " على الوجه الذي جعلنا فيه اللفظين الكلمتين؛ قولك: " عين " يصلح لمعان شتىّ مختلفة، منها: العين التي تبصر بها، ومنها عين الرّكبة، وعين الميزان، والعين من عيون الماء، ودينار عين، ومطر العين الذي من نحو القبلة، وعين القوم يكون الرئيس ويكون الذي يبحث لهم عن الأخبار، و " جلس " إذا قعد، و " جلس " إذا أتى نجدا، وهو جلس، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. وعلى الوجه الذي جعلنا اللفظين فيه هما الحركتين قولك: " ضرب عمرو زيدا "، فيكون " زيد " مفعولا و " عمرو " فاعلا، ثم تقول: ضرب زيد فيكون مفعولا، مرفوع اللفظ كلفظ الفاعل، فاتفق لفظ الفاعل ولفظ المفعول به والمعنى مختلف. فإن قال قائل: لم أتى سيبويه بهذا الباب، وما الفائدة فيه من طريق الإعراب؟ فإن بعض النحويين أجاب عن هذا بأن قال: أراد سيبويه باختلاف اللفظين اختلاف

الكلمتين، وجعل هذا دليلا على اختلاف الإعرابين، لاختلاف المعنيين ودليلا على اختلاف الإعرابين والمعنى واحد، واتفاق الإعرابين والمعنى واحد، واتفاق الإعرابين والمعنى مختلف، وهذا يذكر عن أبي العباس المبرّد، وكان ينكر الوجه الآخر، وهو أن يقول القائل: إن سيبويه أراد اختلاف الحركتين فقط، ويقول: لم يذهب إليه سيبويه. قال أبو سعيد: والذي عندي في ذلك أن الذي قصده سيبويه على ما يتوجه القول في صحته- والله أعلم- أنه أراد الإبانة عن هذا المعنى بعينه، لا أنه جعله دليلا على شيء سواء، وذلك أن في الناس من يزعم أنه لا يجيء لفظان مختلفان إلا ومعناهما مختلف، علمناه أو جهلناه، وهو قول جماعة من النحويين، ويحكي هذا عن ثعلب عن ابن الأعرابي، وإليه كان يذهب ثعلب فيما حكى لي، وعاب قوم من الناس اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، وقالوا: هذا يوقع اللبس، فأراد سيبويه إبانة مذهب العرب، وجعلهم اللفظين مختلفين لمعنى واحد، واللفظين متفقين للمعنيين المختلفين. فإن قال قائل: لم قلتم إنّ اللفظين قد يجوز أن يختلفا، ويكون معناهما واحدا؟ فإن الجواب في ذلك: إنا رأينا العرب، ربما يتكلم القبيل منهم بلفظ ما لمعنى بعينه، ويتكلم غيرهم بلفظ سواه، لذلك المعنى بعينه، كقول بني تميم: " ثلاث عشرة " وقول أهل الحجاز " ثلاث عشرة "، وكقول بعضهم للطلع " طلع " وبعضهم يقول للطلع بعينه " إغريض "، وأهل المدنية يقولون للزّئبق " زاووق " وغيرهم يقول: " زئبق " لذلك المعنى بعينه، فيما لا يحصى كثرة. ورأينا العرب بعضهم يأخذ عن بعض، على حسب المخالطة لهم، والإلف لكلامهم، كمثل ما نعرفه من أنفسنا أنّا نتكلّم بلغة من اللغات في وقت، ثم ندعها ونألف غيرها، حتى يكون أكثر كلامنا بغيرها، إمّا أن يكون غيرها أخفّ منها لفظا، وإمّا أن نسمع قوما يتكلمون بها فنألفها على طول السّماع لها. وليس تخرج اللغة الثانية اللغة الأولى أن تكون في معناها، فكذلك العربية، ومثل ذلك أن أهل العراق يسمّون البرّ " برّا " وأهل مكة يسمونها " حنطة " وأهل مصر يسمونها " القمح "، فلو أن عراقيّا أتى مكة فتكلم " بحنطة " ليفهموا عنه، فألفها، أو كلّم أهل مصر على لغتهم " بقمح " ثم ألف ذلك واعتاده، ما كان يتغيّر " البرّ " عنده عما كان، ولو أن قمحا حمل من مصر إلى مكة، لسمّوه بعينه حنطة، وهذا أبين من أن يطال فيه الكلام.

هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض

ويقال لمن يخالف هذا: أخبرنا عن قولهم: " عليهم " و " عليهم " و " عليهمو " و " عليهمو " و " عليهمى "، هل هذه الألفاظ المختلفة لشيء واحد، أو لأشياء؟ فإن قال لأشياء، فينبغي أن يكون الضمير العائد في " عليهم " يعود إلى قوم غير الذين عاد إليهم الضمير في " عليهم "، وهذا ما لا أظن أحدا يستجيزه؛ لأن الضمير يعود إلى ما تقدم وهم قوم بأعيانهم. ويلزمه أيضا أن تكون سائر اللغات في " عليهم " يختلف القوم الذين يعود إليهم الضمير. وأما الذي عاب العرب في جعل المتفقين لمعنيين مختلفين، فهو المعيب عليه في عيبه، وذلك أنّا قد بيّنّا أن العرب لحاجتها إلى اتفاق القوافي في شعرها وانتظام السجع في خطبها وكلامها، جعلوا الإعراب دالا على معانيها باختلاف الحركات، فقدّموا وأخّروا للتوسيع في الكلام، وكذلك أيضا جعلوا للشيء الواحد أسماء، وللشيئين المختلفين لفظا واحدا، ولم يقتصروا على ذلك الاسم فقط حتى لا يكون للمعنيين المختلفين اسم غير هذا الواحد، ألا ترى أنّا إذا قلنا " العين " التي يبصر بها، وقلنا " العين " السحابة التي تنشأ من القبلة، فقد عبرنا عنها بلفظ آخر، وقد عبرنا عنها بالعين، وكل ذلك فعلته العرب، لما ذكرنا فاعرف ذلك إن شاء الله. وفي الباب من كلام غير سيبويه ما قد أتينا على شرحه، وبالله التوفيق. هذا باب ما يكون في اللفظ من الأعراض قال أبو سعيد: قوله: " من الأعراض " يعني ما يعرض في الكلام، فيجيء على غير ما ينبغي أن يكون عليه قياسه. قال سيبويه: " اعلم أنهم مما يحذفون الكلم، وإن كان أصله في الكلام غير ذلك، ويحذفون ويعوضون، ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل حتى يصير ساقطا، وسترى ذلك في بابه إن شاء الله ". قال أبو سعيد: قوله: " مما يحذفون " أراد ربما يحذفون، وهو يستعمل هذه الكلمة كثيرا في كتابه، والعرب تقول: " أنت مما تفعل كذا " أي ربّما تفعل، وتقول العرب أيضا: " أنت مما أن تفعل كذا " أي من الأمر أن تفعل، فتكون " ما " بمنزلة الأمر، و " أن تفعل " بمنزلة الفعل ويكون " أن تفعل " في موضع رفع بالابتداء، وخبره " مما " وتقدير: " أنت فعلك كذا وكذا من الأمر الذي تفعله ".

قال الشاعر في الوجه الأول: وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة … على وجهه تلقي اللّسان من الفم (¬1) وقال آخر في المعنى الثاني: ألا غنّنا بالزّاهريّة إنّني … على النّأي ممّا أن ألمّ بها ذكرا (¬2) أي من الأمر أن ألم بها ذكرا، أي من أمري إلمامي بها. قال سيبويه: " فمما حذف وأصله في الكلام غير ذلك: " لم يك " و " لا أدر "، وأشباه ذلك ". قال أبو سعيد: أما قوله " لم يك " فأصله " لم يكن "؛ لأن الأصل فيه قبل دخول " لم " أن يقال: " يكون " فدخلت عليها " لم " فسكنت النون لدخول الجزم، والتقى ساكنان الواو والنون، فسقطت الواو لالتقاء الساكنين، وكثر في كلامهم هذا الحرف، لأنه عبارة عن كل ما كان ويكون، والنون تشبه- إذا كانت ساكنة- حروف المدّ واللّين؛ لأنها غنّة في الخيشوم. وقد ذكرنا شبهها بحروف المدّ واللّين فيما تقدم، فشبّهوها في هذا الموضع وقد دخل عليها الجازم بقولهم: " لم يغز " و " لم يرم " فإذا لقيها ألف ولام، أو ألف وصل، لم يكن فيها إلا الإثبات والتحريك، كقولهم: " لم يكن الرّجل عندنا " قال لله عز وجل: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ (¬3) وإنما لم يحذفوها إذا لقيها ساكن من قبل أنها إذا تحرّكت لالتقاء السّاكنين، زال عنها شبه حروف المدّ واللّين، ويكون مخرجها من الفم لا من الأنف، فأقرّت على ما ينبغي لها. فإن قال قائل: فينبغي أن يقال على قياس " لم يك ": " لم يص " و " لم يه " في " لم يصن " و " لم يهن "، قيل له: قد بيّنا أن القياس في " لم يكن " إثبات النون، وإنما شبّهوا النون بحروف المدّ واللّين، لما كثر في كلامهم هذا الحرف، وطلبوا خفّة اللفظ به، فالذي أوجب الحذف اجتماع معنيين: أحدهما شبه النّون بحروف المدّ واللين، والآخر كثرته في الكلام. وإذا انفرد أحدهما لم يجب الحذف، ولهذا نظائر: منها: أنّا نقول: " من الرّجل " ¬

_ (¬1) البيت لأبي النميري في كتاب سيبويه 1/ 74. (¬2) البيت بلا نسبة في المقتضب 4/ 75. (¬3) سورة البينة، آية: 1.

فنفتح النون، لالتقاء الساكنين، ثم يقول: " إن الله أمكنني فعلت " فنكسر النون لالتقاء الساكنين، وقبل كل واحدة منهما كسرة، وذلك من قبل أنّ " من " كثرت في كلامهم، وكثر دخولها على ما فيه الألف واللام، فطلبوا خفّة اللفظ بها، فلم يكسروا النون فتجتمع كسرتان مع كثرة اللفظ بها، ففرّوا إلى الفتح، وقلّت " إن " مع الألف واللام، فكسروها على ما ينبغي من الكسر لالتقاء الساكنين. وقوله: " ولا أدر " كان ينبغي أن يقال: " لا أدري "؛ لأنه في موضع رفع، والأصل " لا أدري " فاستثقلت الضمة على الياء؛ لانكسار ما قبلها، فسكنت، فأشبهت بسكونها المجزوم؛ لأن المجزوم ساكن. فحذفوا الياء منها كما تحذف من المجزوم مع كثرة الكلام بها، ودلالة الكسر عليها. فإن قال قائل: لم خص سيبويه هذا الحرف بالشّذوذ، ونحن نرى الياء قد تحذف من أواخر الأسماء والأفعال، إذا كان ما قبلها مكسورا في غير هذا الحرف، كما قرأ بعضهم: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ (¬1) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (¬2) والْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (¬3)؟ قيل له: إنما أراد سيبويه في هذا الموضع- والله أعلم وأحكم- أن يبيّن أن كثيرا من العرب، الذين لغتهم إثبات الياء في مثل هذا، يحذفونها من " لا أدر " ولغتهم: " لا أرمي " و " لا أبري " و " لا نشتري "، فخصوا هذا الحرف بالحذف لكثرته في كلامهم، وإن كان من لغتهم الإثبات. ولقول سيبويه وجه آخر، وهو أنه أكثر من غيره في الحذف، فإن جاز في كل ما كان نظيرا لهذا الحرف حذف الياء منه، فليس يخرجه ذلك من أن يكون على غير القياس، الذي ينبغي أن يكون الكلام عليه. قال سيبويه: " وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء، فإنهم يقولون: يدع، ولا يقولون: ودع، استغنوا عنه بترك. وأشباه ذلك كثيرة ". قال أبو سعيد: اعلم أن " يدع " في معنى " يترك " و " يذر " مثلها. غير أنهم يقولون: ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: 64. (¬2) سورة الفجر، آية: 4. (¬3) سورة الرعد، آية: 9.

" ترك يترك تركا فهو تارك "، ولا يقولون: " ودع يدع ودعا فهو وادع " ولا " وذر يذر وذرا فهو واذر " وإنما يقولون: " يدع " و " دع " في الأمر، و " يذر " و " ذر "؛ لأن الأمر مستقبل أيضا، وخصّوا المستقبل؛ لأن الكلام بالمستقبل أكثر منه بالماضي: لأن الاستقبال يصلح لزمانين، وفعل الأمر مستقبل أيضا، فكان استعماله فيما كثر أولى، وقد جاء في الشّعر ماضيا. قال الشاعر، وهو أبو الأسود الدؤلي: ليت شعري عن خليلي ما الذي … غاله في الحبّ حتى ودعه (¬1) وقال سويد أبي كاهل: فسعى مسعاته في قومه … ثم لم يبلغ ولا عجزا ودع (¬2) وقد قيل في البيتين جميعا إن " ودع " بمعنى: " ودّع " مخفف من التشديد. قال سيبويه: " والعوض قولهم: زنادقة، وزناديق، وفرازنة وفرازين، حذفوا الياء وعوضوا الهاء ". قال أبو سعيد: اعلم أن كل اسم على خمسة أحرف، ورابعها حرف زائد من حروف المدّ واللين؛ فإنك إذا جمعته جمع التكسير، فتحت أوّله، ودخلت ألف الجمع ثالثة، وكسرت ما بعد ألف الجمع، وقلبت ذلك الحرف الذي كان رابعا في الواحد ياء ساكنة، إن كان في الواحد واوا أو ألفا، وأقررته ياء إن كان في الواحد ياء كقولك في " صندوق ": " صناديق "، وفي " كرباس ": " كرابيس " وفي " قنديل ": " قناديل ". وهذا القياس المطّرد، وقد أبدلوا من هذه الياء هاء، فقالوا: " زنديق " و " زنادقة "، والأصل " زناديق " مثل " قنديل " و " قناديل "، وقالوا: " فرازنة " و " فرازين " والأصل " فرازين "؛ لأن الواحد " فرزان " مثل " سرحان " و " سراحين " و " كرباس " و " كرابيس ". قال سيبويه: وقولهم: " أسطاع يسطيع، إنما هو أطاع يطيع، زادوا السّين عوضا من ذهاب حركة العين، وقولهم: اللهم، حذفوا " يا " وألحقوا الميم عوضا ". قال أبو سعيد: أما قوله أسطاع يسطيع ومصدره إسطاعة، فإن فيه أربع لغات: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 36، واللسان (ودع). (¬2) البيت منسوب لسويد بن أبي كاهل في خزانة الأدب 3/ 120، واللسان (ودع).

أسطاع يسطيع إسطاعة والألف في هذه مقطوعة في الفعل الماضي منه وفي المصدر، وحرف المضارعة مضموم؛ واستطاع يستطيع استطاعة، والألف موصولة في الفعل الماضي والمصدر والأمر وأول المستقبل مفتوح؛ واسطاع يسطيع اسطاعة، فالألف موصولة في الفعل الماضي والمصدر والأمر، وأول المستقبل مفتوح، واستاع يستيع استاعة، بوصل الألف فيهما. ومعنى الجميع القدرة على الشيء واشتقاقه من الطاعة؛ لأنك إذا استطعت الشيء، وقدرت عليه، فالشيء منقاد لك، فكأنه مطيع، وتصريف الفعل من ذلك. أما أسطاع يسطيع، فأصله أطوع يطوع، ومن حكم أفعل في الفعل، إذا كان موضع العين منه واوا أو ياء أن تلقى حركة العين على الفاء، فتقلب الواو ألفا والياء ألفا، كقولك " أجار يجير وأقام يقيم " و " ألان يلين " والأصل: أقوم وألين، فألقوا حركة الياء والواو على ما قبلهما، وقلبتا ألفين؛ فلهذا القياس وجب أن يقال في " أطوع " " أطاع "، ثم زادوا السين في " أطاع " عوضا من إلقاء حركة الواو على الطاء. وقد طعن قوم على سيبويه في قوله: زادوا السين عوضا من ذهاب حركة العين، والعين هي الواو في " أطوع "؛ لأنها عين الفعل؛ فقالوا: الحركة ما ذهبت، وإنما ألقيت على ما قبلها. والجواب عن سيبويه: أنه أراد جعلوا السّين عوضا من ذهاب حركة العين من العين والحركة قد ذهبت منها، وإن وجدت في غيرها، فكأنّ تحصيله أنهم جعلوا السين عوضا من نقل الحركة. ومن قال: " استطاع " فهو استفعل، من الطاعة، كما تقول: " استجار " و " استمال ". ومن قال: " اسطاع " فإنه حذف تاء الاستفعال، لما كثر الكلام بهذا الحرف، وكان الطاء والتاء من مخرج واحد، وثقل موالاتهما بلا فاصل. ومن قال: " استاع " فإن الأصل أيضا " استطاع " وحذف الطاء؛ لأن الطاء أثقل من التاء، لما فيها من الإطباق. وقال يعقوب بن السكيت: استاع واسطاع من القلب والإبدال، جعلوا التاء مكان الطاء؛ وهذا بعيد جدّا، وذلك أن قولنا: اسطاع، إن لم نجعله من استطاع، خرج من أن يكون له نظير في الفعل، ولا يكون له اشتقاق، وهو قول فاسد

بيّن الفساد، ولم يجئ في استفعل حذف التاء الزائدة وفاء الفعل إلا في هذا الحرف، ولا يجيء التعويض من إلقاء حركة العين على الفاء إلا في أسطاع يسطيع، ونظيره " أهراق " " يهريق "، ولم يجئ غيرهما. وفي " أهراق " ثلاث لغات: يقال: هراق يهريق هراقة، وأهراق يهريق إهراقة. وأراق يريق إراقة؛ فمن قال: أهراق يهريق، فإن الأصل: أروق يروق، ثم ألقى حركة الواو- على ما قدمنا- على الراء، وقلب الواو ألفا، وعوض لنقل حركة الواو إلى الراء الهاء. ومن قال: هراق يهريق، فإنه أراد به: أراق، فجعل مكان الهمزة هاء، كما قالوا إياك وهيّاك، وأما والله وهما والله. فإن قيل فينبغي أن تسقط الهاء التي هي عوض من الهمزة في المستقبل، كما يسقطون الهمزة؛ لأنك تقول في المستقبل: يريق بإلقاء الهمزة التي في أراق. قيل له: إنما حذفنا الهمزة في يريق من أراق، لئلا يجتمع همزتان في فعل المتكلم إذا قال أؤريق وأؤكرم، كما تقول: " أدحرج "، والهاء ليست كذلك، فإذا عوّضوا من الهمزة هاء في الماضي فإنّ المستقبل ليس يجتمع فيه همزتان، فيحتاج إلى حذف. ومن قال: أراق يريق فهو بمنزلة أقام يقيم. فإن قيل: لم كان العوض في أسطاع سينا، والعوض في أهراق هاء؟ فإن الجواب في ذلك أن يقال: السين والهاء هما من الحروف الزوائد والبدل، فإذا عوّضوا حرفا فقد وصلوا إلى ما أرادوا من التعويض، أي حرف كان؛ لأن الغرض التعويض، لا الحرف بعينه، ومع ذلك فمحتمل أن تكون زيادة السين للعوض في أسطاع، لأن يشاكل سائر اللغات فيها التي السّين مزيدة في بنائها، وزيادة الهاء في " أهراق " ليشاكل " هراق " الذي الهاء فيه مبدلة من الهمزة. وأما قولهم: " اللهم " فإن الميم زيدت عوضا من " يا " وشدّدوا الميم، لأن يكون على عدة " يا "، لأن " يا " حرفان، وخصوا الميم؛ لأنها تقع زائدة في أواخر الأسماء نحو: " زرقم " و " ستهم " و " دلقم ". ولا يقع هذا الحرف إلا في النداء. وقال الفراء: إن الأصل في هذا الحرف: يا الله أمنّا بخير، وكثر في كلامهم حتى ألقوا الهمزة وطرحوا ضمتها على الهاء، وحذفوا حركة الهاء. وهذا عند البصريين غير جائز، من قبل أن هذا الاسم يستعمل في المواضع التي

هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة

لا يحسن فيها هذا التقدير؛ من ذلك أنا نقول: اللهمّ أمّنا بخير، ولا نقول: يا الله أمّنا بخير، ونقول في الدعاء على غيرنا: اللهم عذّب الكفّار ودمّر عليهم، ولا يحسن في مبدأ مثل هذا الدعاء: يا الله أمنّا بخير عذّب الكفّار. واحتج الفراء في إبطال من يقول: إن الميم عوض من " يا " بأن قال: قد يجيء في الشعر " يا " مع " اللهمّ " كقول الشاعر: وما عليك أن تقولي كلّما … سبّحت أو صلّيت يا اللهمّا اردد علينا شيخنا مسلّما (¬1) وهذا عند البصريين في ضرورة الشعر جائز أن يعوّضوا من حروف، ثم يردونه مع بقاء العوض، فمن ذلك قولهم: يا رجل، ويا غلامان، فتكون " يا " عوضا من الألف واللام، ويتعرّف المنادى بيا، كما يتعرف بالألف واللام، ثم يضطر الشاعر فيجمع بينهما، فمن ذلك قوله: فيا الغلامان اللذان فرّا … إيّاكما أن تكسباني شرّا (¬2) وقوله: من أجلك يا التي تيمت قلبي … وأنت بخيلة بالودّ عنّي (¬3) ومن ذلك أنهم جعلوا الميم في فم بدلا من الواو، ثم يضطر الشاعر فيردّ الواو مع بقاء الميم. قال الفرزدق: هما نفثا في فيّ من فمويهما … على النّابح العاوي أشدّ رجام (¬4) هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة قال سيبويه: " فمنه مستقيم حسن، ومحال، ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب ". ¬

_ (¬1) وردت الأبيات في الخزانة 1/ 359، واللسان (أله). (¬2) البيتان في شرح ابن يعيش 2/ 9، والخزانة 1/ 358. (¬3) البيت في خزانة الأدب 1/ 358، وشرح ابن يعيش 2/ 8. (¬4) البيت في ديوانه ص 771، والخزانة 2/ 269.

ثم فسر ذلك فقال: " فأما المستقيم الحسن، فقولك، أتيتك أمس، وسآتيك غدا ". وهذا كما قال؛ لأن ظاهره مستقيم اللفظ، والإعراب غير دالّ على كذب قائله، وكذلك كل كلام تكلّم به متكلّم، فأمكن أن يكون على ما قال، ولم يكن في لفظه خلل من جهة اللغة والنحو، فهو كلام مستقيم في الظاهر، وقد تبيّن في مثل هذا أن قائله كاذب فيما قاله، فتحكم على كلامه أنه كذب غير مستقيم من حيث كان كذبا، إلا أنه مستقيم اللفظ. ويلحق بقوله: " حملت الجبل " و " شربت ماء البحر " و " صعدت السّماء " في أنه كذب، غير أن الذي استعمله سيبويه في المستقيم، أن يكون مستقيم اللّفظ والإعراب فقط، وعنى بالمستقيم اللفظ والإعراب أن يكون جائزا في كلام العرب؛ دون أن يكون مختارا. ثم قال: " وأما المحال فأن تنقض أوّل كلامك، فتقول: أتيتك غدا، وسآتيك أمس ". فهذا كلام محال. ومعنى المحال أنه أحيل عن وجهه المستقيم، الذي به يفهم المعنى إذا تكلّم به. وزعم قوم أن المحال إنما هو اجتماع المتضادّات، كالقيام والقعود، والبياض والسواد، وما أشبه ذلك؛ قالوا: لأن المحال هو ما لا يصحّ وجوده، والكلام الفاسد الذي ذكرتموه من قول القائل: " أتيتك غدا "، " وسآتيك أمس " كلام موجود، على ما فيه من الفساد والخلل، والمحال لا يوجد. والذي نقول في هذا، وبالله التوفيق: إنّ المحال هو الكلام الذي يوجب اجتماع المتضادات، وقولنا إن القعود والقيام اجتماعهما محال، إنما نريد به الكلام الذي يوجب اجتماعهما محال، قد أحيل عن وجهه، ألا ترى أنك تقول لمن تكلّم به: قد أحلت في كلامك، فالكلام هو المحال، كما أن الكلام هو الكذب. ثم قال: " وأما المستقيم الكذب فقولك: حملت الجبل، وشربت ماء البحر، ونحوه ". وإنما خصّ " حملت الجبل " و " شربت ماء البحر " بالكذب؛ لأن ظاهرهما يدلّ على كذب قائلهما، قبل التصفّح والبحث، وإلا فكل كلام تكلّم به، وكان مخبره على

خلاف ما يوجبه الظاهر فهو كذب، علم أو لم يعلم، كقول القائل: " لقيت زيدا اليوم " و " اشتريت ثوبا " إذا لم يكن الأمر على ما قال، فهو مستقيم كذب. ثم قال: " وأما المستقيم القبيح، فأن تضع اللفظ غير موضعه، نحو قولك: " قد زيدا رأيت " و " كي زيد يأتيك ". وإنما قبح هذا، لأنّ من حكم " قد " أن يليها الفعل، ولا يفارقها؛ لأنها جعلت مع الفعل بمنزلة الألف واللام مع الاسم، وكذلك " سوف " مع الفعل، فقبح أن يفصل بين " قد " وبين الفعل بالاسم؛ لما ذكرنا من شبه الألف واللام. و " كي " قد جعلت بمعنى " أن " أو بمعنى اللام، إذا قلت: " جئتك كي يأتيك زيد "، فهو بمعنى: ليأتيك زيد، ولأن يأتيك زيد، فحكم الفعل أن يليها دون الاسم؛ إذ كانت بمحل أن، فإيلاؤهم إياها الاسم وضع الكلام في غير موضعه. فإن قال قائل: كيف جاز أن يسميه مستقيما قبيحا؟ وهل هذا إلا بمنزله قوله: حسن قبيح؟؛ لأنّ المستقيم هو الحسن. فإن الجواب في ذلك أن الكلام ينقسم قسمين: كلام ملحون، وكلام غير ملحون؛ فالملحون هو الذي لحن به عن القصد، وكذلك معنى اللّحن، إنما هو العدول عن قصد الكلام إلى غيره، وما لم يكن ملحونا فهو على القصد، وعلى النحو، ومن ذلك سمي النحو نحوا، والمستقيم من طريق النحو هو ما كان على القصد سالما من اللّحن، فإذا قال: " قد زيدا رأيت " فهو سالم من اللّحن، فكان مستقيما من هذه الجهة، وهو مع ذلك موضوع في غير موضعه فكان قبيحا من هذه الجهة. ثم قال: " وأما المحال الكذب فهو أن يقول ": " سوف أشرب ماء البحر أمس ". فهو محال كذب؛ فأما استحالته؛ فلاجتماع " سوف " و " أمس " فيه، وهما يتناقضان ويتعاقبان. وأما الكذب فيه، فإنا لو أزلنا عنه " أمس "، الذي يوجب المناقضة والإحالة لبقي كذبا. وكان الأخفش ينكر أن يقال في المحال صدق أو كذب. فأما إنكاره الصّدق فبيّن، وأما إنكاره أن يكون كذبا؛ فلأنّ الكذب نقيض الصّدق، والمحال لا يجوز أن يكون صدقا بحال، فإن استحال أن يقال فيه صدق بوجه من الوجوه، استحال أن يقال كذب. قال أبو سعيد: والقول عندي ما قاله سيبويه، وذلك أنّ قائلا لو قال: " زيد جمع

هذا باب ما يحتمل الشعر

بين القيام والقعود في حال "، كان قد خبّر باجتماع هذين المعنيين، وقد علمنا أن الاجتماع الذي خبر به على غير ما خبّر، والكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو به، وإن كان ذلك الشيء مما لا يجوز فيه الصّدق البتّة، ألا ترى أنك تقول للمشرك الذي يدّعي أن لله شريكا في ملكه وسلطانه، جل الله وعز: إنه كاذب، وإن كان هذا لا يجوز أن يكون البتة، وكذلك الذي يقول: " إن لله ولدا " كاذب. قال الله عز وجل: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (¬1). وقد ذكر سيبويه المحال في موضعين؛ فقال في أحدهما: " وأما المحال فأن تنقض أول كلامك، فتقول: " أتيتك غدا " و " سآتيك أمس ". وقال في الموضع الآخر: " وأما المحال الكذب فأن تقول: " سوف أشرب ماء البحر أمس " فقال في الموضع الأول: " فأما المحال " ولم يقل: المحال الكذب. وقال في الثاني: " المحال الكذب " غير أنه مثل الأول بشيء هو محال كذب أيضا، وإنما أبهم الأول؛ لأن المحال قد يكون كذبا وغير كذب، غير أن الذي يجمع ذلك كلّه تناقض اللفظ فيه. فأما المحال الذي ليس بكذب، فاللفظ الذي يستحيل في الأمر، وفي الاستفهام، وفي: موضع لا يقع فيه الكذب؛ كقولك لمن تأمره: " قم أمس "، ولمن تستفهمه: " أستقوم أمس؟ " و " هل قمت غدا "؟ والمحال الكذب قد مرّ، فحصل من ذلك أن المحال على ضربين: كذب وغير كذب. والكذب على ضربين: محال وغير محال. وقال أبو الحسن الأخفش: ومنه الخطأ، وهو ما لا تعمّد فيه؛ نحو قولك: " ضربني زيد " وأنت تريد: " ضربت زيدا "، وهذا من جهة اللفظ مستقيم، فيقال فيه على قياس ما مضى: مستقيم خطأ، كما قيل: مستقيم كذب، ومستقيم قبيح. هذا باب ما يحتمل الشّعر قال سيبويه: " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام، من صرف ما لا ينصرف يشبّهونه بما ينصرف من الأسماء؛ لأنها أسماء كما أنها أسماء ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الباب جملة من ضرورة الشعر؛ ليري بها الفرق بين الشّعر والكلام، ولم يتقصّه؛ لأنه لم يكن غرضه في ذكر ضرورة الشاعر ¬

_ (¬1) سورة الصافات، آية: 151، 152.

قصدا إليها نفسها، وإنما أراد أن يصل هذا الباب، بالأبواب التي تقدمت فيما يعرض في كلام العرب ومذهبهم في الكلام المنظور والمنثور. وأنا أذكر ضرورة الشاعر مقسّمة بأقسامها، حتى يكون الشاذ منها مستدلا عليه بما أذكره إن شاء الله وبالله التوفيق. اعلم أن الشّعر لما كان كلاما موزونا، تكون الزيادة فيه والنقص منه، يخرجه عن صحة الوزن حتى يحيله عن طريق الشعر المقصود مع صحّة معناه، استجيز فيه لتقويم وزنه من زيادة ونقصان وغير ذلك ما لا يستجاز في الكلام مثله، وليس في شيء من ذلك رفع منصوب ولا نصب مخفوض، ولا لفظ يكون المتكلم فيه لاحنا. ومتى وجد هذا في شعر كان ساقطا مطّرحا، ولم يدخل في ضرورة الشعر. وضرورة الشعر على سبعة أوجه وهي: الزّيادة، والنّقصان، والحذف، والتّقديم، والتأخير، والإبدال، وتغيير وجه من الإعراب إلى وجه آخر على طريق التشبيه، وتأنيث المذكر وتذكير المؤنث. فأما الزيادة، فهي زيادة حرف، أو زيادة حركة، أو إظهار مدغم، أو تصحيح معتلّ، أو قطع ألف وصل، أو صرف ما لا ينصرف. وهذه الأشياء بعضها حسن مطّرد، وبعضها مطرد ليس بالحسن الجيد وبعضها يسمع سماعا ولا يطّرد. فأوّل ذلك ما يزاد في القوافي للإطلاق، فإذا كانت القافية مرفوعة مطلقة، جاز إنشادها على ثلاثة أوجه: أحدها أن يجعل بعد الضمة واوا مزيدة. كقول زهير: صحا القلب عن سلمى وقد كان لا يسلو … وأقفر من سلمى التعانيق فالثّقلو (¬1) فتلحق آخر " الثّقل " واوا إتباعا لضمّة لام الثقل. ويجوز أن يجعل مكان الواو التنوين فينشد: ... … وأقفر من سلمى التعانيق فالثّقلن وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا … على صير أمر ما يمرّ وما يحلو (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 96. (¬2) ديوان زهير ص 96، واللسان (صير).

ومن يجعل الإطلاق تنوينا فهو يقلب الواو الأصلية تنوينا، فيقول: ما يمرّ وما يحلن. وكنت إذا ما جئت يوما لحاجة … مضت وأجمّت حاجة الغد ما تخلو (¬1) والوجه الثالث في الإنشاد أن ينشد البيت على خفّة من الإعراب، كقول جرير: متى كان الخيام بذي طلوح … سقيت الغيث أيّتها الخيام (¬2) فتسكن الميم إذا وقفت، وتضمّها بلا واو ولا تنوين إذا وصلت، فتقول: " أيّتها الخيام " بنفسي من تجنّبه عزيز … عليّ ومن زيارته لمام (¬3) فإذا وصل " لمام " نوّن، فقال: " لمام ". ومن أمسى وأصبح لا أراه … ويطرقني إذا هجع النّيام (¬4) والذي ينون في إنشاد المطلق، لا يقف على التنوين، وإنما ينوّنه في الوصل، والذي يزيد الواو للإطلاق، قد يقف عليها؛ لأنه ليس في الكلام شيء آخره تنوين في الوقف، وقد يكون الوقف على حرف يبدل من التنوين، ألا ترى أنك تقول: " رأيت زيدا " فتبدل الألف من التنوين ولا يجوز: " رأيت زيدا " بالتنوين في الوقف، وبعضهم يقول: " هذا زيدو " و " مررت بزيدي " فيبدل من التنوين واوا أو ياء في الكلام، وليس أحد يقف على التنوين، فقد علمت أن الذي ينشد بالتنوين، لا يقف عليه منونا. وإذا كانت القافية مطلقة مخفوضة، ففيها الأوجه الثلاثة، غير أنهم يجعلون مكان الواو في المرفوع، ياء في المخفوضة، كقول الأعشى: ما بكاء الكبير بالأطلال … وسؤالي فما يرّدّ سؤالي دمنة قفرة تعاورها الصّي … ف بريحين من صبا وشمال (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 97. (¬2) البيت في ديوانه ص 512، وشرح ابن يعيش 4/ 15. (¬3) البيت في ديوانه ص 512. (¬4) البيت في ديوانه ص 512. (¬5) البيتان في ديوانه ص 2، والخزانة 4/ 155، واللسان (عور)

وإذا كانت منصوبة، ففيها تلك الأوجه، وتجعل مكان الواو في المرفوعة، ألفا فيها، كقول الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبال … حمد وولي الملامة الرّجلا (¬1) وإنما جازت هذه الزيادة في الشعر في القوافي؛ لأنهم يترنّمون بالشعر، ويحدون به، ويقع فيه تطريب، لا يتمّ إلا بحروف المدّ، وأكثر ما يقع ذلك في الأواخر، وكان الإطلاق بسبب المدّ الواقع فيه للترنّم. وقد شبهوا مقاطع الكلام المسجّع، وإن لم يكن موزونا وزن الشّعر بالشّعر في زيادة هذه الحروف، حتى جاء ذلك في أواخر الآي من القرآن، كقوله تعالى: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (¬2) وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (¬3) قَوارِيرَا. قَوارِيرَا (¬4) و " قوارير " لا ينصرف، وقد أثبت في الوقف منها ألفا؛ لأنها رأس آية. وهذا مذهب أبي عمرو. وبعضهم ينون الأول من " قوارير " تشبيها بتنوين القوافي، على مذهب من ينشدها منوّنة. وهذه الزيادة غير جائزة في حشو الكلام، وإنما ذكرناها؛ لاختصاص الشّعر بها دون الكلام، وهي جيّدة مطّردة، وليست تخرجها جودتها عن ضرورة الشّعر؛ إذ كان جوازها بسبب الشّعر. ومن ذلك صرف ما لا ينصرف، وهو جائز في كلّ الأسماء، مطرد فيها؛ لأنّ الأسماء أصلها الصّرف ودخول التنوين عليها، وإنما تمتنع من الصرف، لعلل تدخلها، فإذا اضطر الشاعر ردّها إلى أصلها، ولم يحفل بالعلل الدّاخلة عليها، والدليل على ذلك: أن ما لا أصل له في التنوين لا يجوز للشاعر تنوينه للضرورة، ألا ترى أن الشاعر غير جائز له تنوين الفعل؛ إذ كان أصله غير التنوين، وليس يردّه بتنوينه إلى حالة قد كانت له. فمما جاء منوّنا مما لا ينصرف قول النابغة: فلتأتينك قصائد وليركبن … جيش إليك قوادم الأكوار (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 155، والخزانة 4/ 384، واللسان (أثر). (¬2) سورة الأحزاب، آية: 67. (¬3) سورة الأحزاب، آية: 10. (¬4) سورة الإنسان، آية: 15، 16. (¬5) البيت في ديوانه ص 99، والخزانة 3/ 68.

فنون " قصائد " وهي لا تنصرف. وقال أبو كبير: ممّن حملن به وهنّ عواقد … حبك النّطاق فعاش غير مهبّل (¬1) فصرف " عوائد " وهي لا تنصرف. وقال الكسائي والفراء: يجوز صرف كل ما لا ينصرف إلا " أفعل منك " نحو: " زيد أفضل منك " فإنهما لا يجيزان صرفه في الشّعر، وزعما أن " من " هي التي منعت من صرفه. وأبي أصحابنا البصريون ذلك، فأجازوا صرفه، وذكروا أن العلّة المانعة لصرف " أفضل منك " وزن الفعل، وأنه صفة، فيصير بمنزلة " أحمر " فكما جاز صرف " أحمر " في الضرورة، جاز صرفه، وليس " لمن " في منع صرفها تأثير؛ لأنهم قد قالوا: " زيد خير منك " و " شرّ منك " فينونون لمّا لم يكن على وزن أفعل، ولم يمنعوهما الصرف بدخول " من " عليهما. ومما جاء من صرف ما لا ينصرف، على غير البناء الأول قول أمية بن أبي الصلت: فأتاها أحيمر كأخي السّه … م بعضب فقال كوني عقيرا (¬2) فصرف " أحيمر ". وقد ينوّن أيضا ما بني من الأسماء، التي قد استعملت منونة في حال، إذا اضطر الشاعر إليه، كقولك: " يا زيد " في ضرورة الشّعر، قال الشاعر: سلام الله يا مطر عليها … ولي عليك يا مطر السّلام (¬3) وينشد بالنصب، فيمن نصب ردّ الكلمة إلى أصلها؛ لأن الأصل في النداء منصوب. ومن رفع ونوّن، زاد التنوين على لفظه، كما تفعله فيما لا ينصرف من المرفوع. واعلم أن ما لحقه التنوين مما لا ينصرف في ضرورة الشّعر، لحقه الجرّ؛ لأنه يردّ الكلمة إلى أصلها، فتحرّكها بالحركة التي تنبغي لها، كقول النابغة: ¬

_ (¬1) ديوان الهذليين ص 1072، الخزانة 3/ 466، واللسان (هبل)، ابن يعيش 6/ 74. (¬2) البيت في ديوانه ص 44. (¬3) البيت للأحوص الأنصاري في الخزانة 1/ 295.

إذا ما غدوا بالجيش حلّق فوقهم … عصائب طير تهتدي بعصائب (¬1) فخفض " عصائب " لما ردّها إلى أصلها. وقد أجاز الكوفيون والأخفش ترك صرف ما ينصرف وأباه سيبويه وأكثر البصريين؛ لأنه ليس يحاول بمنع صرف ما ينصرف أصل يردّ إليه. وأنشدوا في ذلك أبياتا كلها تتخرّج على غير ما أوّلوه، وتنشد على غير ما أنشدوه. فمن ذلك إنشادهم قول عباس بن مرادس السلمي: فما كان حصن ولا حابس … يفوقان مرداس في مجمع (¬2) فلم يصرف " مرداسا " وهو أبوه، وليس بقبيلة. ومن ذلك أيضا قول الآخر: وممّن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض (¬3) فلم يصرف " عامرا " ولم يجعله قبيلة؛ لأنه قد وصفه فقال: " ذو الطول وذو العرض " ولو كان قبيلة، لقال: ذات الطّول وذات العرض. وأنشدوا أيضا: ومصعب حين جدّ الأم … ر أكثرها وأطيبها (¬4) فأما بيت عباس بن مرادس، فإن الرواية عند أصحابنا: " يفوقان شيخي في مجمع " وشيخه هو مرادس، ورأيت في شعر عباس بن مرادس في نسخة عمرو بن أبي عمرو الشيباني: " يفوقان شيخي ". وأما: " عامر ذو الطول وذو العرض " فإن عامرا أبو القبيلة فيجوز أن يعني بلفظه القبيلة، فلا يصرف. ثم يردّ الكلام إلى لفظه، فيصرف، كما قال عز وجلّ: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (¬5) فصرف الأول، وترك صرف الثاني، على قراءة ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 57، وابن يعيش 1/ 68. (¬2) البيت في الخزانة 1/ 71، وابن يعيش 1/ 68. (¬3) البيت لذي الإصبع العدواني في ابن يعيش 1/ 68، وبلا نسبة في اللسان (عمر). (¬4) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 124، وبلا نسبة في الخزانة 1/ 72، وابن يعيش 1/ 68. (¬5) سورة هود، آية: 68.

أكثر القرّاء، فصرف الأول على لفظ أبي القبيلة، وترك صرف الثاني؛ لأنه أريد بلفظه القبيلة نفسها. قال الشاعر في هذا المعنى: قامت تبكّيه على قبره … من لي من بعدك يا عامر تركتنى في الدار ذا غربة … قد ذلّ من ليس له ناصر (¬1) فأنث المبكّية، وحكى عنها أنها قالت لعامر: تركتني في الحيّ ذا غربة، وكان حكمها أن تقول: ذات غربة، ولكنه ردّ الكلام إلى معنى الإنسان؛ لأنها إنسان، فكأنها قالت: تركتني إنسانا ذا غربة. وكذا قوله: ذو الطول وذو العرض، ردّه إلى نفس عامر. وأما قوله: " ومصعب حين جدّ الأمر "، فإن أصحابنا يروونه: " وأنتم حين جدّ الأمر " وقد يروى في نحو هذا بيت لدوسر بن دهبل القريعيّ: وقائلة ما بال دوسر بعدنا … صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند (¬2) والجيّد الصحيح في إنشاد هذا البيت: " وقائلة ما للقريعي بعدنا ". قال أبو سعيد وكان ابن السّرّاج يقول: لو صحّت الرواية في ترك صرف ما ينصرف، ما كان بأبعد من قولهم: فبيناه يشري رحله قال قائل … لمن جمل رخو الملاط نجيب (¬3) فإنما هو: " فبينا هو يشري رحله " فحذف الواو من هو، وهي متحركة من نفس الكلمة، وليست بزائدة، فإذا جاز أن يحذف ما هو من نفس الحرف، جاز أن يحذف التنوين، الذي هو زائد، للضرورة. قال أبو سعيد: والذي قاله وجه، غير أن حذف التنوين عندي، وإن كان زائدا أقبح من حذف الواو في " هو "؛ لأن التنوين علامة تفرّق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وسقوطه يوقع اللّبس، وحذف الواو من " هو " لا يوقع لبسا، ولا يلحقه بغير بابه. وممّا زيد عليه حرف للضرورة قولهم في الشعر: " رأيت جعفرّا " و " مررت بجعفر " و " هذا جعفرّ "، وذلك أنهم يقولون في الوقف: " هذا جعفرّ " و " مررت بجعفرّ " ليدلّوا على ¬

_ (¬1) بلا نسبة في ابن يعيش 5/ 105، واللسان (عمر). (¬2) البيت في الأصمعيات ص 168، والخزانة 4/ 366. (¬3) البيت منسوب للعجير السلولي في الخزانة 2/ 396، وبلا نسبة في ابن يعيش 1/ 68.

أن آخره متحرّك في الوصل؛ لأنهم إذا شدّدوا اجتمع ساكنان في الوقف، الحرف الذي كان في الأصل، والحرف المزيد، وقد علم أن الساكنين لا بدّ من تحريك أحدهما في الوصل، فشدّدوا؛ ليدلّوا بالتشديد على التحريك في الوصل. وإنما يفعلون هذا فيما كان قبل آخره متحرّك مثل: " خالد " و " جعفر " إذا وقفوا عليه، ولا يفعلون في زيد وعمرو، لئلا تتوالى ثلاثة سواكن، فإذا وصلوا ردّوا الكلام إلى أصله فقالوا: " مررت بجعفر يا فتى "، و " هذا جعفر فاعلم " استغنوا عن التشديد بتحريك آخره؛ إذ كانوا إنما شدّدوه؛ ليدلّوا على التحريك في الوصل، فإذا اضطر الشاعر إلى تشديده في الوصل شدّده، وأجراه مجراه في الوقف فقال: " رأيت جعفرّا " و " مررت بجعفرّ " و " هذا جعفرّ ". قال الشاعر: مهر أبي الحبحاب لا تشلّي … بارك فيك الله من ذي ألّ ومن موصّى لم يضع قيلا لي … خوارجا من لغط القسطلّ إذ أخذ القلوب بالأفكلّ (¬1) وإنما هو: " الأفكل "، و " القسطل " مخففان. ونظير هذا قولهم: " الضّاربونه والقاتلونه " إذا وقفوا عليه، يزيدون الهاء، لبيان حركة النون، وكذلك كلّ حركة ليست للإعراب يجوز أن تلحقها هذه الهاء؛ فتقول: " أينه "، و " كيفه " في الوقف. فإذا اضطر الشاعر جاز أن يجرى هذه الهاء في الوصل مجراها في الوقف، ويجعلها كهاء من نفس الكلمة داخلة للضمير. قال الشاعر: هم القائلون الخير والآمرونه … إذا ما خشوا من معظم الأمر مفظعا (¬2) وقال آخر: ولم يرتفق والنّاس محتضرونه … لديه وأيدي المعتفين رواهقه (¬3) والصحيح الجيد في هذا أن تكون الهاء هي هاء الوقف، وجعلها في الوصل على ¬

_ (¬1) الأبيات منسوبة لأبي الخضر اليربوعي في اللسان (ألل). (¬2) البيت بلا نسبة في الخزانة 2/ 187، وابن يعيش 2/ 125، وتاج العروس 10/ 453. (¬3) البيت في الخزانة 2/ 186، وابن يعيش 2/ 125. وفيهما: (جميعا وأيدي).

حكمها في الوقف وحرّكها كما قال: " القسطلّ " و " الأفكلّ ". وقال بعضهم: هذه الهاء هي ضمير المفعول، وضمير المفعول متى اتصل باسم الفاعل لم يجز فيه إلا حذف التنوين في الواحد والنون في الاثنين والجماعة، ألا ترى أنك تقول هذا ضاربك، وهذان ضارباك، وهؤلاء ضاربوك، ولا يقال: هذا ضاربك، وهذان ضاربانك، غير أن سيبويه قد أجاز هذا في ضرورة الشعر. وأنشد البيتين اللذين أنشدنا، وضعّفهما وجعلهما موضوعين. ومن ذلك أنهم قد يزيدون في آخر الاسم نونا مشدّدة؛ كقولهم في " القطن ": " قطننّ " وهذا من أقبح الضرورة. وقال الراجز: كأن مجرى دمعها المستنّ … قطننّة من أجود القطننّ (¬1) ويروي: القطنّ فزادوا نونا أخرى في القطنّة، وأصلها بنون واحدة، وإنما زادها إتباعا للنون الأولى، وستقف على ما يزاد للإتباع، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك قول الراجز لابنه: أحبّ منك موضع الوشحنّ … وموضع الإزار والقفنّ (¬2) والأصل: الوشح: جمع وشاح، والقفا. وزاد نونا مشددة، وفتح لها ما قبلها، تشبيها بالنون المشدّدة، التي تزاد في آخر الأفعال للتأكيد، وكسرها بحقّ الاسمية، كما تدخل هاء التأنيث فيفتح لها ما قبلها، ثم تعرب هي. ودخلت هذه النون على " قفا " فالتقى ساكنان، الألف التي في " قفا "، والنون الأولى من النونين، وليس زيادة النون في هذين البيتين، كزيادتها فيما قبل. وأما زيادة الحركة، فإنهم قد يحرّكون الحرف الساكن بحركة ما قبله، إذا اضطرّوا إلى ذلك، فمن ذلك قول رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق … مشتبه الأعلام لمّاع الخفق (¬3) وإنما هو: " الخفق "، فحرك الفاء، بحركة الخاء. ¬

_ (¬1) الرجز لقارب بن سالم المري في اللسان (قطن) (¬2) الرجز لدهلب بن قريع في اللسان (وشح). (¬3) البيتان في ديوانه ص 104، والخزانة 1/ 39، واللسان (خفق).

ومثله قول زهير: ثم استمروا وقالوا إنّ موعدكم … ماء بشرقيّ سلمى فيدأو ركك (¬1) واسم الماء- فيما ذكروا: ركّ، فاضطرّ الشاعر إلى تحريك الكاف الأولى، بحركة الراء، ومثله في هذه القصيدة: كما استغاث بسيء فزّ غيطلة … خاف العيون فلم ينظر به الحشك (¬2) وإنما هو: " الحّشك " ومعناه: الدّرّة، وامتلاء الضرع، من قولك: حشك يحشك حشكا. قال الهذلي: إذا تجرّد نوح قامتا معه … ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا (¬3) فكسر اللام من " الجلد " إتباعا للجيم، والقصيدة من الضرب الأول من البسيط، موضع اللام من " الجلد " متحرّك. وأولها: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما … لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا (¬4) وأما قول الراجز: علّمنا أخوالنا بنو عجل … شرب النبيد واعتقالا بالرّجل (¬5) فليس من هذا الباب، وإنما هو من باب إلقاء حركة الحرف الأخير على الساكن الذي قبله، وهو جيّد بالغ في الكلام والشّعر، كقولك: " مررت ببكر "، " وهذا بكر "؛ كقول أوس: ... … كما طرّقت بنفاس بكر (¬6) أراد: " بكر " ومثله: عجبت والدّهر كثير عجبه … من عنزيّ سبّني لم أضربه (¬7) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 167، واللسان (قيد). (¬2) البيت في ديوانه ص 177، واللسان (حشك). (¬3) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي في ديوان الهذليين ص 672، واللسان (لعج) (¬4) البيت في ديوان الهذليين ص 671، واللسان (غير). (¬5) البيتان في اللسان (عجل). (¬6) البيت في ديوانه ص 31، واللسان (لمم) برواية أخرى. (¬7) البيت لزياد الأعجم في اللسان (لمم) وابن يعيش 9/ 70.

وإنما هو: " أضربه " في الوصل، فألقي ضمة الهاء على الباء. ومن ذلك زيادة الحركة على ما ينبغي أن يكون استعمال اللفظ عليه، وهو إظهار المدغم؛ كقولك في " رادّ ": " رادد "؛ لأنه فاعل، فأدغمت الدال الأولى في الثانية، لأن تنطق بهما في مرة واحدة طلبا للتخفيف، ولأنه يثقل أن يتكلم بالحرف ثم يعاد إليه فيتكلم به من غير فاصل. وستقف على علة استثقال ذلك إن شاء الله تعالى. فإذا اضطر شاعر رده إلى الأصل، فأظهره وحرّكه بما يكون له من الحركات، فمن ذلك قول قعنب بن أمّ صاحب: مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي … أنّي أجود لأقوام وإن ضننوا (¬1) والذي يستعمل: ضنّوا فردّه إلى أصله؛ إذا كان أصله: ضنن، فمن ذلك: الحمد لله العليّ الأجلل (¬2) والذي يستعمل: الأجلّ. ومنه: تشكو الوجى من أظلل وأظلل (¬3) أراد: من أظل وأظلّ ومن نحو هذا: تحريك المعتلّ فيما حقّه أن يكون اللفظ به على السّكون، ورده إلى أصله في التحريك الذي ينبغي له مع ما فيه من الاستثقال، لتقويم اللّفظ، فمن ذلك قول ابن قيس الرقيات: لا بارك الله في الغواني هل … يصبحن إلا لهنّ مطّلب (¬4) ومنه قول جرير: فيوما يجارين الهوى غير ماضي … ويوما ترى منهنّ غولا تغوّل (¬5) وإنما الوجه ألا تكسر الياء المكسورة ما قبلها، ولا تضمّ؛ لاستثقال الضم والكسر عليها وإن كانت النية فيها التحريك، فكان الوجه: لا بارك الله في الغواني، بتسكين الياء ¬

_ (¬1) البيت في اللسان (ظلل). (¬2) البيت لأبي النجم العجلي في الخزانة 1/ 401، واللسان (جلل). (¬3) البيت للعجاج في ديوانه ص 47، واللسان (ظلل). (¬4) البيت في ديوانه ص 3، وابن يعيش 10/ 101. (¬5) البيت في ديوانه ص 455، وخزانة الأدب 3/ 534، واللسان (غول).

وغير ماض، بسقوط الياء لدخول التنوين؛ لأنها تسكن والتنوين ساكن، فتحذف لالتقاء الساكنين. وأما قول جرير؛ فإن أكثر رواة الشعر ينشدونه: " غير ما صبى "؟ والمعنى: يجارين الهوى بالحديث والمجالسة، دون التخطي إلى ما لا يجوز. ومن ذلك قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي … بما لاقت بني لبون بني زياد (¬1) والوجه فيه: " ألم يأتك " تسقط للجزم الياء؛ لأنها ساكنة في الرفع غير أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن يقول: " يأتيك " في حال الجزم، إذا كان من قوله: يأتيك في حال الرفع فلحق هذه الضرورة جزم أسكنها، وكان علامة الجزم حذف الضمة. وفي الناس من يتأوله على غير هذا فيقول: نحن إذا قلنا: " يأتيك " في حال الرفع تقدّر ضمّة محذوفة، فإذا جزمناه قدرنا حذف تلك الضمة، وإن لم يظهر شيء من ذلك في اللفظ، كما تقول: " رأيت العصا " و " مررت بالعصا "، " وهذه العصا " فتكون في النيّة حركات مختلفة لا تظهر في اللفظ ويشدّ هذا قراءة ابن كثير: " إنّه من يتّقي ويصبر " في بعض الروايات عنه. وهذا قليل في الكلام جدّا. وهذا النحو قول عبد يغوث بن وقّاص الحارثي: وتضحك مني شيخة عبشميّة … كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا (¬2) ويروى: " ترى " على خطاب المؤنث؛ فمن قال: " ترى " على الخطاب، فلا ضرورة فيه، ومن قال: " ترى " فهو على التقدير الثاني في البيت الذي قبله، وهو أنه جعل الجزم حذف الحركة المنويّة في الألف. فإن قال قائل: فقد قرأ حمزة: لا تخف دركا ولا تخشى (¬3) وليس في القرآن ضرورة. قيل له: في ذلك وجهان سوى هذا، أحدهما: أنه جعل الأول نهيا، والثاني خبرا، ¬

_ (¬1) البيت لقيس بن زهير العبسي في الخزانة 3/ 533، وابن يعيش 8/ 24، واللسان (أتى). (¬2) البيت في الخزانة 1/ 316، وابن يعيش 10/ 106، واللسان (شوس). (¬3) سورة طه: آية: 77.

كأنه قال: ولا تخف دركا وأنت لا تخافه امتثالا لما أمرناك به، وانزجارا عمّا زجرناك عنه، ومثله كثير في الكلام. والوجه الثاني: أن تكون الألف في: " تخشى " زيدت لإطلاق الفتحة إذ كانت رأس آية كما تزاد في القوافي والكلام المسجوع. مثل الآية قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (¬1) يجوز أن يكون خبرا كأنه قال: سنقرئك ونزيل عنك النسيان، فلست تنساه، وذلك أنه عليه السّلام قد كان قبل نزول هذه الآية يتلقى الوحي بإعادة ما أوحي إليه قبل استتمامه مخافة النسيان، ويعجل في تلقّيه، فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (¬2) وبشره بأنّه لا ينساه، فهذا وجه. والوجه الثاني: لا يكون نهاه عن التشاغل والإهمال المؤديين إلى النسيان لما أقرئ؛ لأن النسيان ليس هو بفعل النّاسي، فينهى عنه، وإنما هو من فعل الله تعالى، يحدثه عند إهمال ما ينسى وترك مراعاته. وفي الآيتين التقدير الذي ذكرناه في البيتين، وفي القراءة المروية عن ابن كثير. واعلم أن الاعتلال قد يلحق البناء الذي لا ينصرف، ولا يدخله التنوين؛ فيدخله التنوين بسبب لحاقه؛ فمن ذلك: " جواري " وبابها ومن ذلك رجل يسمى " بيرمي " و " يعيلي " والوجه في ذلك في حال الرفع والجر أن يقال: " مررت بجوار " و " هذه جوار يا فتى " و " مررت بيرم "، " وهذا يرم يا فتى " ومثاله من الصحيح: " مررت بضوارب " و " هؤلاء ضوراب " و " مررت بيزيد " " وهذا يزيد "، غير أن الياء لما انكسر ما قبلها وأسكنت دخل البناء نقصان، فلزمه هذا التغير؛ لعلل سنذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى. فإذا اضطر الشاعر فحرك هذه الياء في حال الرفع والجر لزمه أن لا يصرف إلا أن يضطر إلى الصرف، فيجريه مجرى ما لا ينصرف إذا اضطر إلى صرفه، فمن ذلك قول الفرزدق: فلو كان عبد الله مولى هجوته … ولكنّ عبد الله مولى مواليا (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الأعلى، آية: 6. (¬2) سورة طه، آية: 114. (¬3) البيت منسوب للفرزدق في الخزانة 2/ 374، وابن يعيش 1/ 64، واللسان (ولي).

وكان الوجه أن يقول: مولى موال ويلغي الياء لسكونها وسكون التنوين، فلمّا اضطرّ إلى تحريكها لم يصرف لتمام حركات البناء المانع من الصرف. وقال آخر: قد عجبت مني ومن يعيليا … لما رأتني خلقا مقلوليا أراد: " من يعيل " والكلام فيه كالكلام في الذي قبله؛ لأن " يعيلى " لا ينصرف مثاله من الصحيح لأنه يفيعل، وهو تصغير " يعلي ". وربما حملهم على هذا الفرار من الزّحاف في الشعر، وإن كان البيت يتقوم في الإنشاد على ما ينبغي أن يكون عليه الكلام؛ فمن ذلك قول المنتخل: أبيت على معارى فاخرات … بهن ملوّب كدم العباط (¬1) ولو أنشد: على معار، لكان مستقيما غير أنه يصير مزاحفا؛ لأن الجزء على " مفاعلتن " من الوافر، فيسكن خامسه ويصير على " مفاعيلن ". ويسمى هذا الزحاف: العصب. وذكر المازني أنه سمع أعرابيّا ينشد: أبيت على معار فاخرات، واحتمل قبح الزحاف لاستواء الإعراب. وقال آخر: ما إن رأيت ولا أرى في مدّتي … كجواري يلعبن في الصّحراء (¬2) فجمع بين ضرورتين، إحداهما: أنه كسر الياء في حال الجرّ، والثانية: أنه صرف ما لا ينصرف، وقد ينشد هذا البيت بالهمز: كجواري، وأنا مبين ذلك في باب البدل من ضرورة الشاعر إن شاء الله تعالى. ... … سماء الإله فوق سبع سمائيا (¬3) فأتى بثلاثة أوجه من الضرورة، منها: أن " سماء " ونحوها يجمع على " سمايا " كما تجمع " مطيّة " على " مطايا " و " خطيّة " على " خطايا " فجمعه على " سمائي " كما تجمع " سحابة " على " سحائب " وإنما يجمع هذا ¬

_ (¬1) البيت في ديوان الهذليين ص 1268، واللسان (عبط). (¬2) البيت في شرح ابن يعيش 10/ 101، والخزانة 526. (¬3) الخزانة 1/ 119، اللسان (سما).

الجمع في الصحيح دون المعتلّ. ثم حرّك الياء في حال الجرّ، وكان حكمه أن يقول: " سبع سماء " كما تقول: " سبع جوار " بحذف الياء، لدخول التنوين. والثالث: أنه جمع " سماءة " على " سمائي " كما تجمع " سحابة " على " سحائب "، والعرب لا تجمع " سماءة " على هذا الجمع، إنما تقول: " سماءة " و " سماء " كما تقول: " سمامة " و " سمام "، مثل " تمرة " و " تمر " و " سماوة " و " سموات "، كما تقول: " سمامة " و " سمامات ". على أن جماعة من النحويين منهم يونس وعيسى بن عمر والكسائي يرون أن ما كان من المعتل الذي لا ينصرف إذا سمّي به، يجعل خفضه كنصبه من غير ضرورة، بل هو الحق عندهم: فيقولون في رجل اسمه " جوار ": " مررت بجوارى " قيل: ولا ضرورة عندهم فيه. ومن ذلك قطع ألف الوصل، وأكثر ما يكون في أوّل النصف الثاني من البيت. قال حسان: لتسمعنّ وشيكا في دياركم … ألله أكبر يا ثارات عثمانا (¬1) فقطع الألف في قوله " الله أكبر ". وقال آخر: ولا يبادر في الشّتاء وليدنا … ألقدر ينزلها بغير جعال (¬2) وكان بعض النحويين يزعم أن الألف واللام للتعريف هما جميعا بمنزلة " قد " وأن الألف قد كان حكمها أن لا تحذف في الكلام، غير أنهم حذفوها لما كثرت استخفافا لا على أنها ألف وصل. وقائل هذا ابن كيسان واحتج بقطعهم إياها في أوائل الأنصاف الأخيرة من الأبيات. ولا حجة له في هذا عندي؛ لأنهم قد يقطعون غير هذه الألف، من ذلك قول الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 410، والخزانة 3/ 238، واللسان (وشك). (¬2) بلا نسبة وبرواية أخرى في اللسان (جعل)

لا نسب اليوم ولا خلّة … إتسع الخرق على الرّاقع (¬1) فقطع ألف " اتّسع "، وليس هي مع اللام. وإنما يكثر هذا في النّصف الأخير؛ لأنهم كثيرا يسكتون على النّصف الأول، فيصير كأنّه مبتدأ. قال قيس بن الخطيم: إذا جاوز الإثنين سرّ فإنّه … بنشر وإفشاء الحديث قمين (¬2) فقطع الألف من " الاثنين " في حشو البيت قبل النصف الأخير. فإن قال قائل: إذا جاز في الشعر قطع ألف الوصل، وهي زيادة، فلم لا يجوز مد المقصور عندكم، وقد قلتم إنّ الذي أبطل مدّ المقصور أنه زيادة، وليس للشاعر أن يزيد في الكلام ما ليس منه؟ فإنّ الجواب في ذلك: أنّ ألف الوصل قد يكون لها حال تثبت فيها وهي أن تكون مبتدأ بها، فإذا اضطرّ الشاعر، ردّها إلى حال قد كانت لها، كما يصرف ما لا ينصرف، فيردّه إلى أصله في الصرف، وليس كذلك مدّ المقصور؛ لأنه لا أصل له في ذلك. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. وقد تزيد العرب في الشعر ياء في الجمع، فيما ليس حكمه أن يجمع بالياء نحو قولهم: " مسجد " و " مساجيد " في الشعر و " درهم " و " دراهيم " و " صيرف " و " صياريف ". قال الفرزدق: تنفي يداها الحصا في كل هاجرة … نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف (¬3) وإنما الوجه في الكلام: نفي الدراهم، والصيارف، وإنما زاد الياء هاهنا؛ لأن دخولها في الجمع في غير الضرورة على وجهين؛ أحدهما: أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف، ورابعه حرف من حروف المدّ واللّين، فتقلبه ياء في الجمع، كقولهم: " صندوق " و " صناديق " و " قنديل " و " قناديل " و " كرباس " و " كرابيس ". والوجه الثاني: أن يكون الاسم الواحد على خمسة أحرف أو أكثر، وليس رابعه ¬

_ (¬1) البيت لأنس بن عباس بن مرداس السلمي في سيبويه 1/ 349، وبلا نسبة في ابن يعيش 2/ 101. (¬2) البيت في ديوانه 105، واللسان (قمن). (¬3) البيت في ديوانه ص 570، والخزانة 2/ 255، واللسان (هجر).

حرفا من حروف المدّ واللّين، فيحذف من الواحد حرف، حتى يبقى الاسم على أربعة أحرف، ثم يجمع، فإذا جمع فأنت مخيّر بين التّعويض من المحذوف، وبين تركه؛ فمن ذلك أنك إذا جمعت " فرزدق " حذفت القاف منه؛ لأنه على خمسة أحرف، فبقى " فرزد " فتجمعه على " فرازد "، وإن شئت عوّضت من القاف المحذوفة الياء، فقلت: " فرازيد "، وكذلك لو جمعت " منطلق " جمع التكسير، لجاز أن تقول: " مطالق " و " مطاليق " تعوّض الياء من النون المحذوفة في " منطلق ". فإذا اضطر الشاعر زاد هذه الياء التي تزاد للتعويض، لأنهما جميعا ليس في أصلهما ياء فتكون الضرورة بمنزلة التعويض. ومن ذلك أنهم يزيدون النّون الخفيفة والثقيلة في الشعر في غير الموضع الذي ينبغي أن تزاد فيه، وذلك أن موضع زيادتهما فيما لم يكن واجبا؛ مثل الأمر والنهي والاستفهام والجزاء، كقولك: " اضربنّ زيدا " و " لا تأتينّ بكرا " و " هل تقومنّ عندنا " و " إما تذهبنّ أذهب معك " و " لئن أتيتني لأكرمنّك ". ولا يجوز أن تقول: " أنا أقومنّ إليك " لأن هذا واجب، وقد قال الشاعر؛ ويقال إنّه لجذيمة الأبرش: ربّما أوفيت في علم … ترفعن ثوبي شمالات في فتوّ أنا رابئهم … من كلال غزوة ماتوا (¬1) فأدخل النون في " ترفعن " وهي واجبة. وقال بعض النحويين: إنما أدخلها في الموضع بسبب " ما "؛ لأنها في لفظ " ما " الجحد، فأشبهت- وإن كانت موجبة- المنفيّ لفظا. قال أبو سعيد: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن " ربّ " تدخل للتقليل، وما كان مقلّلا فهو كالمنفي، حتى أنهم يستعملون " قلّ " في معنى ليس؛ قال: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة … قليل بها الأصوات إلا بغامها (¬2) أي ليس بها صوت إلا بغامها، فلما أشبهت " ربّ " بالتقليل الذي فيها المنفيّ، ¬

_ (¬1) البيتان في خزانة الأدب 4/ 567، واللسان (شمل). (¬2) البيت لذي الرمة في ديوانه 638، واللسان (بغم)، والخزانة 2/ 52.

باب الحذف

أدخلوا النون على الفعل الذي بعدها، كما أدخلوها على ما بعد حرف النفي. ومن ذلك أنهم يقولون: " أنا " إذا وقفوا عليه ومنهم من يقول: " أنه " فإذا وصلوا حذفوا الألف والهاء، فقالوا: " أن قمت " بحذف الألف وفتح النون؛ لأن الألف المزيدة إنما كانت لبيان حركة النون، وكذلك الهاء، فإذا وصلت بانت الحركة، فاستغني عن الألف. وربما اضطر الشاعر فيثبتها وهو واصل. قال الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني … حميد قد تذرّيت السّناما (¬1) وقال الأعشى: فكيف أنا وانتحالي القواف … ي بعد المشيب كفى ذاك عارا (¬2) وكان أبو العباس ينكر هذا، وينشد بيت الأعشى: " فكيف يكون انتحالي القوافي ". ولم ينشد البيت الأول. فإن قيل: كيف يكون هذا ضرورة، وفي القرّاء من يثبت هذه الألف في الوصل، فيقرأ: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ (¬3)، وما كان في القرآن، مثله لا يقال له ضرورة. قيل له: يجوز أن يكون هذا القارئ وصل في نيّة الوقف، كما قرأ بعضهم: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً (¬4) وما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ (¬5)، فأثبتوا هاءات الوقف في الوصل، على نية الوقف، وإن كان الفصل بين النطقين قصير الزمان. باب الحذف قال أبو سعيد: اعلم أن الشاعر يحذف ما لا يجوز حذفه في الكلام، لتقويم الشعر، كما يزيد لتقويمه. ¬

_ (¬1) البيت منسوب لحميد بن حريث بن بحدل في الخزانة 2/ 390، وبلا نسبة في ابن يعيش 3/ 84. (¬2) البيت في ديوانه 41، واللسان (نحل). (¬3) سورة الممتحنة، آية: 1. (¬4) سورة الأنعام، آية: 90. (¬5) سورة القارعة، آية: 10.

فمن ذلك ما يحذفه من القوافي الموقوفة من تخفيف المشدّد، كقول امرئ القيس؛ أو غيره: لا وأبيك ابنة العامريّ لا يدّعي القوم أنّي أفر (¬1) وكقول طرفة: أصحوت اليوم أم شاقتك هر … ومن الحبّ جنون مستعر (¬2) فأكثر الإنشاد في هذا حذف أحد الحرفين، لتتشاكل أواخر الأبيات، ويكون على وزن واحد؛ لأنك إذا قلت: لا يدّعي القوم أنّي أفر، صار آخر جزء من البيت: " فعل " في وزن العروض؛ لأنه من المتقارب من الضرب الثالث، وإذا شددت الراء صار آخر أجزائه " فعول " من الضرب الثاني من المتقارب، فهو مضطرّ إلى حذف أحد الحرفين، لاستواء الوزن، ومطابقة البيت لسائر أبيات القصيدة، ألا تراه يقول بعد هذا: تميم بن مرّ وأشياعها … وكندة حولي جميعا صبر (¬3) فهذا من الضرب الثالث لا غير، ولم يكن بالجائز أن يأتي في قصيدة واحدة بأبيات من ضربين. ومن ذلك: تخفيف المشدّد وتسكينه، مع حذف حرف بعده، كقولهم في " معلّى ": " معل " وفي " عنّى ": " عن ". قال الشاعر وهو الأعشى: لعمرك ما طول هذا الزّمن … على المرء إلا عناء معن (¬4) أراد معنّى، فحذف الياء وإحدى النونين: وقال أيضا في هذه القصيدة: وعهد الشّباب وثاراته … فإن يك ذلك قد زال عن (¬5) يريد: عنّي. وقال لبيد: ¬

_ (¬1) البيت في ديوان امريء القيس 154، والخزانة 4/ 489. (¬2) البيت في ديوانه 45. (¬3) البيت في ديوان امريء القيس 154، والخزانة 4/ 489. (¬4) البيت في ديوانه 14. (¬5) البيت في ديوان 14.

وقبيل من لكيز شاهد … رهط مرجوم ورهط ابن المعل (¬1) أراد: المعلّي. وأول هذه القصيدة: إنّ تقوى ربّنا خير نفل … وبإذن الله ريثي وعجل (¬2) وإذا كان ما ذكرناه من الحذف جائزا، فحذفهم ياء المتكلّم، وتسكين ما قبلها أجوز، كما قال لبيد في البيت الذي أنشدته: " ريثي وعجل "، أراد: عجلي. وقد يحذفون أيضا من القصائد المطلقة على إنشاد من ينشدها بالوقف، الحذف الذي ذكرناه في المقيد. قال النابغة: إذا حاولت في أسد فجورا … فإنّي لست منك ولست من (¬3) أراد: مني، والقصيدة مطلقة، وإنما هذا إنشاد بعضهم. ومن ذلك الترخيم، والترخيم على ثلاثة أوجه؛ أولها: ترخيم النداء، وهو أن تحذف من آخر الاسم المنادى تخفيفا ما تقف على تقصّيه في باب الترخيم، غير أنا نذكر ما يتصل به ضرورة الشاعر. وهذا الترخيم يجيء على ضربين؛ أحدهما: أن تحذف من آخر الاسم المنادى ما يجوز حذفه، ويبقى سائر الاسم على حاله، كقولك في ترخيم " حارث ": " يا حار " وفي " حنظلة ": " يا حنظل " وفي " هرقل ": " يا هرق " بتسكين القاف. والضرب الثاني: أن تحذف للترخيم ما يجوز حذفه، وتجعل باقي الاسم كاسم غير مرخّم، فتجريه في النداء على ما ينبغي للاسم المفرد، غير المرخم، كقولك في " حارث ": " يا حار "، وفي " حنظلة ": " يا حنظل " وفي " هرقل ": " يا هرق ". وهذا الترخيم إنما يكون في النداء، فإذا اضطر الشاعر، فليس بين النحويين خلاف أنه جائز له في غير النداء، على أنه يجعله اسما مفردا، ويعربه بما يستحقّه من الإعراب، فيقول: هذا حنظل، و " مررت بحنظل " و " رأيت حنظلا ". ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 199، واللسان (رجم). (¬2) ديوانه 174. (¬3) ديوانه 199.

قال الشاعر: ألا هل لهذا الدّهر من متعلّل … عن النّاس مهما شاء بالنّاس يفعل وهذا ردائي عنده يستعيره … ليسلبني عزّى أمال ابن حنظل (¬1) وقد اختلف النحويون في الوجه الأوّل من الترخيم في غير النداء لضرورة الشعر؛ كقولك: " هذا حنظل قد جاء " و " هذا هرق قد جاء " و " مررت بهرق وحنظل " تحذف آخره وتبقي ما قبل المحذوف على حاله، فكان سيبويه وغيره من المتقدمين البصريين والكوفيين يجيزونه، وأنشدوا في ذلك أبياتا منها: خذوا حذركم يا آل عكرم واحفظوا … أواصرنا والرّحم بالغيب تذكر (¬2) ففتح الميم من " عكرم "؛ لأن أصله عكرمة، فحذف الهاء، وبقّى الميم على حالها. وأنشدوا أيضا: ألا أضحت حبالكم رماما … وأضحت منك شاسعة أماما (¬3) أراد: أمامة، فحذف الهاء وبقّى الميم على حالها، وهي غير مناداة. وأنشدوا أيضا لابن أحمر: أبو حنش يؤرّقني وطلق … وعبّاد وآونة أثالا (¬4) فذكر سيبويه أن أثالا معطوف على " أبو حنش وطلق "، غير أنه قد حذف الهاء منه وأصله: " أثالة " وبقّي الّلام على فتحها. ومن ذلك: ألا يا أمّ فارع لا تلومي … على شيء رفعت بهذا سماعي أراد " فارعة ". وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر هذا ولا يجيزه في الشعر، ويعلل الأبيات، فذكر أن قوله: " خذوا حظّكم يا آل عكرم "، يذهب بعكرم مذهب القبيلة، ففتح الميم؛ لأنه لا ينصرف، لا للترخيم. ¬

_ (¬1) البيتان للأسود بن يعفر في سيبويه 1/ 332. (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 214، والخزانة 1/ 373. (¬3) البيت لجرير في ديوانه 502، والخزانة 1/ 389. (¬4) البيت في اللسان (حنش).

وذكر أن الرواية في البيت الثاني: ألا أمست حبالكم رماما … ولا عهد كعهدك يا أماما (¬1) وذكر أن " أثال " في بيت ابن أحمر، معطوف على النون والياء في " يؤرّقني "، فموضعه نصب لذلك. قال أبو سعيد: والذي عندي في " أثال " غير ما قال الفريقان، وهو أن " أثال " لم يحذف منه هاء؛ لأنّه ليس في الأسماء " أثالة "، وإنما هو " أثال ". ولم ينصبه للعطف على النون والياء، في " يؤرّقني ": لأن ابن أحمر يبكي قوما من عشيرته ماتوا أو قتلوا، فيهم أبو حنش وطلق وعبّاد وأثال، فرفع الأسماء المرفوعة بيؤرقني فدلّ يؤرّقني على أنه يتذكّرهم؛ لأنهم لا يؤرقونه إلا وهو يذكرهم، فنصب " أثالا " " بأذكر " الذي قد دلّ عليه يؤرّقني، وهذا قول أظن الأصمعي قاله في تفسير شعره. ومثله: إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني … ولو تعزّيت عنها أمّ عمّار (¬2) نصب " أمّ عمار " بفعل مضمر، كأنه قال: فذكّرني أمّ عمار؛ لأن التهيّج لا يكون إلا بالذكر. وأما قوله: " ألا يا أمّ فارع " فلم يذكره أبو العباس. والقول عندي ما قاله سيبويه وسائر المتقدمين؛ لعلتين؛ إحداهما الرواية في " أماما "، والثانية: القياس، وذلك أن هذا الترخيم أصل جوازه في النداء، فإذا اضطّر الشاعر إلى ذكره في غير النداء، أجراه على حكمه في الموضوع الذي كان فيه؛ لأن ضرورته في النقل من موضع إلى موضع. وأما قول ذي الرّمّة: ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا … ولا ترى مثلها عجم ولا عرب (¬3) ففيه قولان؛ أحدهما: أنه رخم " ميّة " للضرورة، على ما تقدّم القول فيه. والثاني: أن المرأة تسمى بميّ وميّة، وهما اسمان لها، فمرة يسمّيها بهذا، ومرة يسمّيها بهذا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 144. (¬3) البيت في ديوانه 3، واللسان (عجم)، وخزانة الأدب 1/ 378.

والوجه الثاني من الترخيم: أن ترخّم الاسم، فيبقى من حروفه ما يدلّ على جملة الكلمة من غير مذهب ترخيم الاسم المنادى. وهذا أيضا من ضرورات الشعر. قال لبيد: درس المنا بمتالع فأبان … ... (¬1) وقال علقمة بن عبدة: كأنّ إبريقهم ظبى على شرف … مفدّم بسبا الكتّان ملثوم (¬2) أراد: بسبائب الكتان. وقال آخر: عليّة ما عليّة ما … عليّة أيّها الرّجل علّيّة بالمدينة وال … مطا مرحولة ذلل يريد: المطايا. ومنه أيضا: قلنا لها قفي لنا قالت قاف … لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف (¬3) فاكتفى بالقاف من " وقف ". وقال آخر: لو شئت أشرفنا كلانا فدعا … الله جهرا ربّه فأسمعا بالخير خيرات وإن شرّا فآ … ولا أريد الشّرّ إلا أن تآ وقوله: " فآ " أراد: فأصابك الشّرّ، وأطلق الهمزة بالألف؛ لأنها مفتوحة. قال أبو زيد: فأراد فالشرّ إن أردت، فأقام الألف مقام القافية. والذي ذكرته آثر في نفس؛ لأن فيه همزة مفتوحة. والذي ذكر أبو زيد ليس فيه همزة إلا أن تقطع ألف الوصل من الشر، وفيه قبح. وقوله: " إلا أن تآ "، قال أبو زيد: أي إلا أن تشاء، فحذف الشين والألف، واكتفى بالهمزة والتاء، وأطلقها للقافية، والهمزة مكسورة من " تشائي "؛ لأن الخطاب لمؤنث، وهي مفتوحة من " تأ ". وأحب إليّ مما قاله ما قال بعضهم: " إلا أن تأبى الخير ". وقال العجاج: قواطنا مكة من ورق الحمى (¬4) ¬

_ (¬1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه 138. (¬2) البيت في ديوانه 113، واللسان (برق). (¬3) البيتان للوليد بن عقبة بن أبي معيط في الأغاني 4/ 181. (¬4) ديوانه 59، واللسان (ألف)، والخزانة 3/ 554، وابن يعيش 6/ 75.

وهو يريد الحمام، فرخمها. وفي كيفيّة ترخيمها ثلاثة أوجه؛ يجوز أن يكون حذف الألف والميم من الحمام؛ للترخيم الذي ذكرناه، فبقى: " الحم " فخفضه وأطلقه للقافية. والوجه الثاني: أن يكون حذف الألف، فبقي " الحمم " فأبدل من الميم الثانية ياء استثقلالا للتضعيف، كما قالوا في " تظنّنت ": تظنّيت، وفي " أمّا ": " أيما "، ويحتمل أن يكون حذف الميم، وأبدل من الألف ياء، كما تبدل من الياء ألف، كقولهم في " مداري " " مدارى " وفي " عذاري ": " عذارى ". والوجه الثالث من الترخيم ترخيم التصغير، وهو جائز في الكلام وفي الشعر وهو أن تصغّر الاسم على حذف ما فيه من الزوائد، كقولهم في تصغير " أزهر ": " زهير "، وفي تصغير " حارث ": " حريث "، وفي " فاطمة ": " فطيمة " ولا حاجة بنا إلى استقصائه هاهنا؛ لأن الشعر غير مختص به دون الكلام. ومن ذلك قصر الممدود، وقد أجمع على جوازه النحويون، غير أن الفراء يشرط فيه شروطا يهملها غيره، فمن ذلك قول الراجز: لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر (¬1) وإنما هو: " صنعاء " ممدود. وقول الأعشى: والقارح العدّا وكلّ طمرّة … ما إن تنال يد الطّويل قذالها (¬2) وإنما هو " العداء " فعّال من العدو. وقال شميت بن زنباع: ولكنما أهدي لقيس هديّة … بفيّ من اهداها لك الدّهر إثلب (¬3) وزعم الفراء أنه لا يجوز أن يقصر من الممدود ما لا يجوز أن يجيء في بابه مقصورا، نحو " حمراء " و " صفراء " لا يجوز أن تجيء مقصورة؛ لأن مذكّرها " أفعل "، وإذا كان المذكر " أفعل " لم يكن المؤنث إلا " فعلاء " ممدودة. وكذلك لا يقصر " فقهاء "، لأنه ¬

_ (¬1) البيت في اللسان (صنع). (¬2) البيت في ديوانه 25، واللسان (قرح). (¬3) البيت بلا نسبة في اللسان (ثلب).

جمع " فقيه "، وما كان من " فعلاء " جمع " فعيل " لم يكن إلا ممدودا، نحو " كريم "، و " كرماء " لم يجئ غير ذلك. فقد منع القياس الذي ذكرنا مجيء الممدود الذي وصفناه مقصورا، فلا يجوز عنده في الشعر أن يجيء مقصورا، وكذلك ما كان من المقصور له قياس يوجب قصره، لم يجئ في الشعر ممدودا عنده. وهو يجيز أن يمدّ المقصور، وإنما يجيز قصر الممدود الذي يجوز أن يجئ في بابه مقصورا، نحو " الحداء "، و " الدّعاء "، لأنه قد جاء " البكا " مقصورا أو نحو " الغطاء " و " الكساء " و " العطاء "؛ لأنها أسماء لأشياء لا يوجب القياس مدّها، ولها نظائر مقصورة نحو: " المعا "، و " العصا "، و " الهدى ". ولا يجيز أيضا مدّ " سكرى "، و " غضبى "؛ لأن مذكّرهما: " سكران " و " غضبان " وهما يوجبان قصر مؤنثهما. ويجوز عنده مد " الرّحا " و " العصا "؛ لأن مثلهما في الأسماء " العطاء " و " السّماء ". وأهل البصرة يجيزون قصر كلّ ممدود، ولا يفرقون بين بعضه وبعض، ولا يجيزون مد المقصور إلا الأخفش ومن تبعه. وكان الأخفش يجيز مدّ كلّ مقصور كما أجاز قصر كل ممدود من غير استثناء ولا شرط. والحجة في جواز قصر كل ممدود على خلاف ما قال الفراء الأبيات التي أنشدناها، وذلك أن قول الأعشى: " القارح العدّا وكلّ طمرّة " لا يجوز أن يجيء في بابه مقصور، وذلك أنه " فعّال " لتكثير الفعل، كقولك: " قتّال " و " ضرّاب " ولا يجيء في هذا " فعّل " فيكون مقصورا من المعتل. وقول شميت: " بفيّ من اهداها " وهو مصدر من " أهدى يهدي ". ولا يكون " الإهداء " إلا ممدودا، مثل " أكرم إكراما " و " أخرج إخراجا " ولا يجيء في هذا الباب " إفعل " في مصدر " أفعل "، ليس في الكلام مثل: " أكرم إكرما "، فيكون مثاله من المعتلّ مقصورا. وذكر الفراء قوله: لا بدّ من صنعا وإن طال السّفر (¬1) فقال إنما قصرها؛ لأنّها اسم، وليس بمنزلة " حمراء " التي لها مذكّر يمنع من قصرها، ولم أره ذكر البيتين الآخرين، على أنه قد أنشد في بعض شواهده قوله: ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه.

فلو أنّ الأطبّا كان حولي … وكان مع الأطبّاء الأساة (¬1) و" الأطبّا " جمع " طبيب " والقياس يوجب مدّه ويمنع من قصره. وأنشد الأخفش وغيره من البصريين في مد المقصور قوله: سيغنيني الذي أغناك عنيّ … فلا فقر يدوم ولا غناء (¬2) والغنى مقصور. وليس له في ذلك حجة من وجهين؛ أحدهما: أن البيت يجوز إنشاده بفتح الغين: " فلا فقر يدوم ولا غناء ". و " الغناء " ممدود، ومعناه معنى " الغنى ". ويجوز أن يكون " غناء " مصدر " غانيته " أي فاخرته بالغنى عنه، كما قال: كلانا غني عن أخيه حياته … ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا (¬3) أي غنيّ بعض عن بعض. وأنشد الفراء أو غيره من الكوفيين في مد المقصور: قد علمت أخت بني السّعلاء … وعلمت ذلك مع الجراء أنّ نعم مأكولا على الخواء … يا لك من تمر ومن شيشاء ينشب في المسعل واللهاء (¬4) فمد " السّعلا " وهو مقصور، وكذلك: " الخواء ". وهذه أبيات غير معروفة، ولا يعرف قائلها، وغير جائز الاحتجاج بمثلها. ولو كانت صحيحة لم يعوزنا تأوّلها على غير الوجه الذي تأوّلوه عليه. فإن قال قائل: ما الفرق بين جواز قصر الممدود ومد المقصور؟ قيل له: قصر الممدود تخفيف؛ وقد رأينا العرب تخفّف بالترخيم وغيره، على ما تقدّم وصفنا له، ولم نرهم يثقّلون الكلام بزيادة الحروف، كما يخفّفونه بحذفها، فذلك فرق ما بينهما، وشيء آخر وهو أنّ قصر الممدود، إنما هو حذف زائد فيه، وردّه إلى أصله، ومد المقصور ليس برادّ له إلى أصل. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في شرح ابن يعيش 7/ 5. (¬2) البيت بلا نسبة في اللسان (غني). (¬3) البيت للمغيرة بن حبناء التميمي يف اللسان (غني). (¬4) الأبيات بلا نسبة في اللسان (حدد)، وشرح ابن يعيش 6/ 42.

ومن ذلك حذف النّون الساكنة من الحروف التي بنيت على السكون، نحو " من " و " لكن " وإنما تحذف لالتقاء الساكنين، كما قال الشاعر: فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك … اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (¬1) أراد: ولكن اسقني، فلم يتّزن له. ومنه قول الأعشى: وكأنّ الخمر المدامة مل إس … فنط ممزوجة بماء زلال (¬2) ومثله كثير في الشعر، وإنما ألقوها لالتقاء الساكنين؛ لأن النون تشبه حروف المدّ واللّين، وحروف المدّ واللين تحذف لاجتماع الساكنين، ومع ذلك فإنهم يحذفون التنوين الذي هو علامة الصرف، لاجتماع الساكنين وإن كان الاختيار فيه التحريك، والتنوين نون ساكنة، فشبّهوا هذه النون التي وصفنا بالتنوين، غير أن حذف التنوين لالتقاء الساكنين جائز في الكلام وفي الشعر. فأما في الكلام: " فقد قريء: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ (¬3). قال: وحدثني غير واحد من أصحابنا عن أبي العباس محمد بن يزيد أنه سمع عمارة ابن عقيل يقرأ: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ (¬4) فقلت له: لو قلت سابق النهار، فقال: لو قلت سابق النهار لكان أوزن، يعني أثقل. قال أبو سعيد: حضرت أبا بكر بن دريد وقد أنشد أبياتا تنحل آدم، وهي: تغيّرت البلاد ومن عليها … فوجه الأرض مغبرّ قبيح تغيّر كلّ ذي لون وطعم … وقلّ بشاشة الوّجه المليح (¬5) فقال أبو بكر: أول ما قال أقوى. فقلت له: إنشاد البيتين على وجه لا يكون إقواء، وإنما هو: وقلّ بشاشة الوجه المليح، على تقدير: وقلّ بشاشة الوجه المليح، فطرح التنوين، لالتقاء الساكنين، ومعنى: قلّ بشاشة الوجه المليح، كمعنى: وقلّ بشاشة الوجه ¬

_ (¬1) البيت للنجاشي الحارسي في الخزانة 4/ 367، وبلا نسبة في اللسان (لكن). (¬2) البيت في ديوانه 5، واللسان (اسفنط). (¬3) سورة الإخلاص، آية: 1، 2. (¬4) سورة يس، آية 40. (¬5) البيتان منسوبان لآدم في تاريخ الطبري 1/ 145.

المليح، غير أنه نقل الفعل إلى الوجه، ونصب بشاشة على التمييز، كما قال الله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (¬1) وإنما هو: واشتعل شيب الرأس، غير أنه حوّل فعل الشّيب إلى الرأس، ونصب شيبا على التمييز. ويجوز أن يكون جعل بشاشة، وهي مصدر، في معنى الحال، فكأنّه قال: وقلّ باشّا الوجه. ومما ينشد من الشعر في حذف التنوين لالتقاء الساكنين قول حسان: لو كنت من هاشم أو من بني أسد … أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد أو من بني زهرة الأخيار قد علموا … أو من بنى خلف الخضر الجلاعيد (¬2) أراد: من بني خلف الخضر. وقال أبو الأسود: فألفيته غير مستعتب … ولا ذاكر الله إلا قليلا (¬3) وأنشد الفراء: لتجدنّي بالأمير برّا … وبالقناة مدعسا مكرّا إذا غطيف السلميّ فرّا (¬4) أراد: غطيف السّلمىّ. وحذف التنوين غير داخل في ضرورة الشّعر؛ لالتقاء الساكنين. وإنما ذكرناه للفصل بينه وبين نون " من " و " لكن "؛ لأن حذفها لاجتماع الساكنين، في ضرورة الشعر. وقد رأيت بعض من ذكر ضرورة الشعر أدخل فيه حذف التنوين وليس هو عندي كذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأ: قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (¬5) ويذكر أنه اسم عربي، وأنه حذف التنوين منه لالتقاء الساكنين. فهذا أبو عمرو يختاره على غيره ويفسّره هذا التفسير، فكيف يدخل في ضرورة الشعر؟ ومن ذلك حذف الياء في حالة الإضافة ومع الألف واللام، تشبيها بحذفهم إيّاها مع التنوين كقولهم " هذا قاض بغداد قد أقبل "، في الشّعر، و " هذا القاض ". والوجه في هذا أن يقال: " هذا قاضي بغداد قد أقبل " و " هذا القاضي ". ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية 4. (¬2) البيتان في ديوانه ص 133. (¬3) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 123، والخزانة 4/ 554، واللسان (عتب). (¬4) الأبيات في اللسان (غطف). (¬5) سورة التوبة، آية: 30.

وذلك أن قولنا: هذا قاض ورام وغاز، إنما حذفت منه الياء؛ لأنها سكنت لاستثقال الضم والكسر عليها، ولقيت التنوين، وهو ساكن، فسقطت لالتقاء الساكنين، فإذا أضيف زال التنوين، فعادت الياء، غير أن الشاعر إذا اضطرّ حذفها تشبها بحذفهم لها مع التنوين، وذلك أن التنوين والإضافة يتعاقبان، فكلّ واحد منهما يشبه صاحبه في النيابة عنه والقيام مقامه. وقال خفاف: كنواح ريش حمامة نجديّة … ومسحت باللّثتين عصف الإثمد (¬1) ويقال: إن هذا البيت مصنوع، وما وجدته في شعر خفاف. وأما حذف الياء مع الألف واللام، فإن سيبويه قد ذكره في باب ضرورة الشاعر فأنكره كثير من الناس وقالوا: قد جاء في القرآن بحذف الياء في غير رؤوس الآي. وقرأ به عدد من القراء كقوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (¬2) وفي آي غيرها. وما جاء في القرآن وقرأت به القراء لم يدخل مثله في ضرورة الشعر. والذي أراد سيبويه عندي غير ما ذهبوا إليه، وذلك أن حذف الياء مما ذكرنا يتكلم به بعض العرب، والأكثر على إثباتها كما قال كثير: على ابن العاصي دلاص حصينة … أجاد المسدّى سردها وأذالها (¬3) فأثبت الياء في " العاصي " فإنما أراد سيبويه أن الذين من لغتهم إثبات الياء يحذفونها للضرورة، تشبيها بالتنوين، إذ كانت الألف واللام والتنوين يتعاقبان. ومن ذلك هاء الكناية المتصلة حكمها إذا اتصلت بحرف مفتوح أو مضموم أن تضم وتزاد عليها واو في الوصل كقولك: " رأيتهو " و " ضربت غلامهو يا فتى ". وإذا اتصلت بحرف مكسور كان فيه وجهان: إن شئت ضممتها وألحقتها واوا، وإن شئت كسرتها وألحقتها ياء، كقولك " مررت بغلامهي وغلامهو يا فتى ". ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 106، وسيبويه 1/ 6. (¬2) سورة الكهف، آية: 17. (¬3) البيت في ديوانه 2/ 52، واللسان (ذيل).

وإنما ألحقوها هذه الواو والياء؛ لأن الهاء خفيّة، فأرادوا إبانة حركتها، والأصل فيها الضم، وسوف نشرح هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. فإذا كان قبلها ساكن فأنت بالخيار: إن شئت ألحقت واوا أو ياء فيما كان قبل الهاء منه ياء وألحقت واوا فيما كان قبل الهاء منه غير الياء، وإن شئت لم تلحق، كقولك: " عليه " و " عليهي " و " عليه " و " عليهو " و " منه " و " منهو " وكلاهما جيد بالغ. وإذا وقفت على ذلك أجمع كان ساكنا. ولا يجوز حذف الواو والياء مما قبله متحرك إلا في الشعر كقول الشاعر: أو معبر الظّهر ينبي عن وليّته … ما حجّ ربّه في الدنيا ولا اعتمرا (¬1) وقال آخر: وأيقن أنّ الخيل إن تلتبس به … يكن لفسيل النّخل بعده آبر (¬2) فهولاء حذفوا الواو فقط وبقوا ضمة الهاء. وقال الآخر: فإن يك غثّا أو سمينا فإنّني … سأجعل عينيه لنفسه مقنعا (¬3) والوجه أن يقول: " لنفسهي " فحذف الياء، وبقّى الكسرة على حالها. وإنما جاز حذف هذه الحروف؛ لأنها زوائد تسقط في الوقف. فإن قال قائل: فهلا أجزتم حذف التنوين مما ينصرف؛ لأنه زائد لا يثبت في الوقف، كما أجزتم حذف الواو والياء من الهاء؟ قيل له: الفرق بينهما بيّن، وهو أن الياء والواو اللاحقتين بالهاء إنما أريد بهما بيانها في اللفظ، فإذا وصل الكلام قام ما بعدها مقام الياء والواو في إبانتها، وإن كانتا أبلغ في البيان، ومع ذلك فإن حذفهما لا يخلّ بمعنى ولا يدخل شيئا في غير بابه، وما ينصرف متى ترك صرفه دخل في غير بابه، ووقع اللبس، فلم يشبه حذف الواو ترك الصرف. وربما اضطر الشاعر فحذف الحركة أيضا. قال: فظلت لدى البيت العتيق أخيله … ومطواي مشتاقان له أرقان (¬4) ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب في اللسان (عبر) (¬2) البيت لحنظلة بن فاتك في سيبويه 1/ 11. (¬3) سيبويه 1/ 10. (¬4) الخزانة 2/ 401، واللسان (مطا).

وأقبح من هذا حذف الواو والياء من " هو وهي " وذلك أن الواو والياء فيهما متحركتان يثبتان في الوقف. قال: دار لسلمى إذه من هواكا (¬1) أراد: إذ هي من هواكا. وقال آخر: فبيناه يشري رحله قال قائل … لمن جمل رخو الملاط نجيب أراد: فبينا هو يشرى. وقال آخر: بيناه في دار صدق قد قام بها … حينا يعلّلنا وما نعلّله (¬2) أراد: بينا هو. ومن ذلك أنهم يحذفون الواو الساكنة والياء الساكنة إذا كان قبلها ضمة أو كسرة، فيكتفون بالضمّة من الواو وبالكسرة من الياء، سواء كانت الواو ضميرا أو لم تكن، نحو قول الشاعر: فلو أنّ الأطبّا كان حولي … وكان مع الأطبّاء الأساة أراد: " كانوا "، فاكتفى بالضمّة من الواو. وربما وقع مثل هذا في آخر بيت مقيّد، فتحذف الواو ويسكن ما قبلها: كقول الشاعر: لو أنّ قومي حين أدعوهم حمل … على الجبال الصّمّ لا رفضّ الجبل فهذا البيت فيه وجهان: أحدهما أن يكون أراد " حمل " على لغة من يحذف الواو فيكتفي بالضمة، فلما وقف سكّن. والوجه الثاني أن يكون أراد: لو أن من أدعو من قومي حين أدعوه حمل، وكان تقدير اللفظ فيه: لو أنّ جمع قومي حين أدعوهم حمل، فحذف جمع، وأقام مقامه القوم ووحّد على لفظه. ¬

_ (¬1) البيت غير منسوب في الخزانة 1/ 237، وسيبويه 1/ 9. (¬2) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 12.

ومما يشبه هذا قوله: كفّاك كف ما تليق درهما … جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما أراد: تعطي، فحذف الياء واكتفى بالكسرة منها. وأما قوله: اضرب عنك الهموم طارقها … ضربك بالسّوط قونس الفرس (¬1) فإن الخليل يقول في هذا: إنّه حذف النون الخفيفة منه؛ أراد " اضربا عنك ". فحذف النون لأنها زائدة، وحذفها لا يخلّ بمعنى، ولا يدخل شيئا في غير بابه، كما ذكرنا في حذف الياء والواو من هاء الضمير. وقال الفرّاء: أراد: اضرب عنك. فكثر السواكن، فحرك للضرورة، فهذا على قول الخليل من باب الحذف، وعلى قول الفرّاء من باب الزيادة. ومما يشبه الترخيم قول الشاعر: أو راعيان لبعران لنا شردت … كي لا يحسّان من بعراننا أثرا (¬2) أراد: " كيف لا يحسّان ". ولا يجوز أن يكون في معنى: " كي "؛ لأن الراعيين لم يفعلا شيئا كيلا يحسّا أثرا من البعران. ومن ذلك حذف الفاء في جواب الشرط كقولك: " إن تأتني أنا أكرمك " تريد: فأنا أكرمك. قال الشاعر: يا أقرع بن حابس يا أقرع … إنّك إن يصرع أخوك تصرع (¬3) أراد: فتصرع. وقال آخر: من يفعل الحسنات الله يشكرها … والشّرّ عند الله مثلان (¬4) أراد: فالله يشكرها. وإنما كانت الفاء واجبة هاهنا؛ لأن جواب الشرط متى كان جملة أو فعلا مرفوعا لم ¬

_ (¬1) البيت لطرفة في اللسان (قنس)، وابن يعيش 9/ 44. (¬2) البيت لابن يعيش 4/ 110، والخزانة 3/ 195. (¬3) البيتان لجرير بن عبد الله البجلي في خزانة الأدب 3/ 643، وبلا نسبة لابن يعيش 8/ 158. (¬4) البيت لحسان بن ثابت في سيبويه 1/ 435، وبلا نسبة في ابن يعيش 9/ 3.

يكن بدّ من الفاء؛ لأنهما إنما أتي بها لئلا يتسلط ما قبلها على ما بعدها، ألا ترى أنك تقول: " إن تقم أقم " فتجزم " أقم " بما تقدم، ولو أدخلت الفاء عليها بطل جزمها، لا تقول. " إن تقم فأقم " فحذف الفاء مع الحاجة إليها لما ذكرنا من ضرورة الشعر. وقد كان سيبويه يجيز هذا الوجه، ويجيز أيضا تقدير الجواب على تقديم اللفظ، كأنه قال: تصرع إن يصرع أخوك. وكان الأصمعي ينشد: " من يعمل الخير فالرحمن يشكره " وكان أبو العباس محمد بن يزيد يأبى أن يقدر الجواب مقدما؛ لأنه قد وقع في موقعه الذي ينبغي له؛ والشيء إذا وقع في موقعه لم ينو به التقديم. ومثله: فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها … مطبّعة من يأتها لا يضيرها (¬1) أي فلا يضيرها. واستقصاء هذا والاحتجاج لسيبويه في إجازة الوجهين له موضع ستقف عليه، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك حذفهم الفتحة من عين " فعل " كقولهم في " هرب ": " هرب " وفي " طلب " " طلب ". قال الراجز، أنشده الأصمعي: على محالات عكسن عكسا … إذ تسدّاها طلابا غلسا أراد: غلسا. وليس في وجه الكلام؛ لأن الفتحة غير مستثقلة، وإنما يفعلون مثل ذلك في الضمة والكسرة؛ كقولهم في " فخذ ": " فخذ " وفي " عضد ": " عضد ". ولا يقولون في: " جبل ": " جبل "، ولكنهم قد يضطرون فيفتحون الساكن، كما تقدم ذكرنا له من قولهم في: " خفق ": " خفق "، وفي " حشك "؛ " حشك "، فلما زادوا هذه الفتحة على الساكن، والسكون أخف من الفتح، كان حذف الفتحة أجدر؛ لأنهم يحلّونه بالحذف محلا له هو أخف من محلّه. ¬

_ (¬1) البيت لأبي ذؤيب في ديوان الهذليين 208، والخزانة 3/ 447، واللسان (ضير).

ومن ذلك: حذف الضمّة والكسرة في الإعراب: كقولهم: " قام الرّجل إليّك "، وذهبت جاريتك و " أنا أذهب إليه ". وكان سيبويه يجيز هذا، وأنشد فيه أبياتا، وأنشد غيره أيضا ممن يوافقه على هذا الرأي؛ فمما أنشد سيبويه في ذلك قول امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب … إثما من الله ولا واغل (¬1) فسكّن الباء من " أشرب ". والوجه أن يقول: " أشرب " بالرفع. وقال أبو نخيلة: إذا اعوججن قلت صاحب قوّم … بالدّوّ أمثال السّفين العوّم (¬2) ولم يقل: " صاحب "، ولا " صاحب "، وهما الوجه. وقال: وأنت لو باكر مشمولة … صهباء مثل الفرس الأشقر رحت وفي رجليك ما فيهما … وقد بدا هنك من المئزر (¬3) وقال: " هنك " وسكّن النون. وقال لبيد: ترّاك أمكنة إذا لم أرضها … أو يرتبط بعض النّفوس حمامها (¬4) وقال جرير: ما للفرزدق من عزّ يلوذ به … إلا بنو العمّ في أيديهم الكرب سيروا بني العّمّ فالأهواز منزلكم … ونهر تيري فما تعرفكم العرب (¬5) والوجه: " فما تعرفكم ". قال سيبويه: " شبهوا هذه الضّمّات والكسرات المحذوفة بالضمة من عضد، والكسرة من فخذ، حين قالوا: عضد وفخذ، غير أن حذفها من عضد وفخذ حسن مطّرد في الشّعر والكلام جميعا؛ من قبل أنّه لا يزيل معنى ولا يغيّر إعرابا، وفيما ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 122، وخزانة الأدب 3/ 530، واللسان (حقب). (¬2) البيتان غير منسوبين في سيبويه 2/ 297. (¬3) البيتان منسوبان للأقيشر الأسدي في الخزانة 2/ 279،. (¬4) البيت في ديوانه 313. (¬5) البيتان في ديوانه 48، واللسان (شئث).

ذكرناه يزول الإعراب الذي تنعقد به المعاني، إلا أنه شبّه اللفظ باللّفظ ". وكان أبو العباس محمد بن يزيد والزجاج ينكران هذا؛ ويأتيان جوازه وينشدان بعض ما أنشدنا، على خلاف الرّواية التي ذكرنا؛ فأما بيت امرئ القيس فأنشداه: فاليوم أسقى غير مستحقب … و " فاليوم فاشرب غير مستحقب وأما بيت أبي نخيلة فأنشداه: إذا اعوججن قلت صاح قوّم. وأنشدا موضع: هنك من المئزر: … وقد بدا ذاك من المئزر وموضع: فما تعرفكم العرب: فلم تعرفكم وأما بيت لبيد فإن الجزم فيه صحيح؛ لأن المعنى: تراك أمكنة إذا لم أرضها وإذا لم يأتني موتي ". وأراد بالموت هاهنا أسباب الموت التي لا يمكن معها براح المكان ومفارقته من العلل الحابسة له والضرورات الدافعة إلى المقام، وقد تسمّى أسباب الموت موتا؛ قال الله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (¬1). وقد يجوز أن يكون الجزم أيضا على المجاورة للمجزوم، كما قالوا: " هذا جحر ضبّ خرب " و " يرتبط " لو حرّك كان منصوبا على التأوّل الذي تأوّله من يرى تسكينه للضرورة، ويجعل " أو " في معنى " حتى " وإلى أن؛ كأنه قال: حتى يرتبط بعض النفوس حمامها، أو " إلى أن يرتبط ". وهو يعني نفسه. قال أبو سعيد: والقول عندي ما قاله سيبويه في جواز تسكين حركة الإعراب للضرورة؛ وذلك أنّا رأينا القراء قد قرءوا: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ (¬2) وخطه وكتابه في المصحف بنون واحدة، ووافقهم النحويون على جواز الإدغام فيه وفي غيره، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 143. (¬2) سورة يوسف، آية: 11.

مما تذهب فيه حركة الإعراب للإدغام. فلما كانت حركة الإعراب يجوز ذهابها للإدغام، طلبا للتخفيف، صار أيضا ذهاب الضّمّة والكسرة طلبا للتخفيف، وليس لقول من يأبى ذلك، ويحتج في فساده بأنه تذهب منه حركة الإعراب- معنى؛ لأن الإدغام أيضا يذهب حركة الإعراب. وقد حكى قوم من النحويين أن كثير من العرب يسكنون لام الفعل، إذا اتصلت بها الهاء والميم، أو الكاف والميم، كقولهم: " أنا أكرمكم " و " أعظّمكم ". وقد حكي عن بعض القراء: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ (¬1) وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ (¬2). وهذا يدل على جواز ما قلناه ويقويه. ومن ذلك أيضا أنهم يدخلون جزما على جزم، إذا لم يلتق فيه ساكنان، وذلك أنهم يجزمون: " يشتري " و " يتّقي "، فيسقطون الياء. وربما اضطر الشاعر، فحذف الكسرة التي تبقى بعد حذف الياء. فيقول: " لم يشتر زيد شيئا " و " لم يتّق زيد ربّه ". وذلك أنه قد رأى المجزوم مسكّنا للجزم، والجازم يوجب ذلك، فلما كان " يشتري " و " يتّقي " لا سبيل فيه إلى التسكين إلا بحذف الياء، ثم تسكين ما قبلها، جعل الحذف والتسكين جميعا علامة الجزم؛ لأن التسكين لا يحصل إلا بهما، وقد يجوز أن يكون هذا على لغة من يحذف الياء في الرفع، ويكتفي بكسرة ما قبلها، كقوله تعالى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ (¬3)، فلما جزم حرفا متحرّكا سكّنه. قال الراجز أنشده أبو زيد في نوادره: قالت سليمى اشتر لنا دقيقا … وهات خبز البّرّ أو سويقا (¬4) آخر: ومن يتّق فإنّ الله معه … ورزق الله موتاب وغادي (¬5) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 67. (¬2) سورة البقرة، آية: 151. (¬3) سورة الكهف، آية: 64. (¬4) لم نستدل عليه في المصادر التي بين أيدينا. (¬5) البيت بلا نسبة في اللسان (وقى).

ومن ذلك أنهم قد يجرون هاء التأنيث في الوصل مجراها في الوقف، فلا يقلبونها تاء، ولا سبيل إلى هذا إلا بالتسكين؛ لأنهم متى حرّكوا وجب القلب قال الشاعر: لمّا رأى أن لادعه ولا شبع … مال إلى أرطاة حقف فاضّطجع (¬1) وقال آخر: لست إذا لزعبله إن لم أغيّر … بكلتي إن لم أساو بالطّول ومن الحذف: إقامتهم الصفة مقام الموصوف في الشّعر في الموضع الذي يقبح في الكلام مثله. قال الشاعر: فيا الغلامان اللّذان فرّا … إياكما أن تكسباني شرّا أراد: فيا أيّها الغلامان، فأقام: " الغلامان " مقام " أيّ " وقبح هذا؛ لأنّ حرف النداء لا يليه ما فيه الألف واللام، لأنه يعرّف المنادى إذا قصد، والألف واللام يعرّفانه؛ فلا يجتمع تعريفان في اسم واحد. ومثله: من أجلك يا التي تيّمت قلبي … وأنت بخيلة بالودّ عنّي يريد: " يا أيتها التي ". وأما قوله: إني إذا ما حدث ألمّا … دعوت يا اللهم يا اللهمّا (¬2) فليس هذا من ضرورته، يعني: إدخال " يا " على اسم الله تعالى، وإنما الضرورة الجمع بين " يا " وبين " الميم " في هذا الاسم، وذلك أن العرب لا تنادي اسما فيه الألف واللام إلا اسم الله تعالى، فيقولون: " يا الله اغفر لي " ويبدلون الميم في آخره من حرف النداء عوضا، فيقولون: " اللهمّ اغفر لنا "، فإذا اضطرّ الشاعر ردّ الحرف المحذوف، مع وجود عوضه. وقد مر نحو من هذا. ومن ذلك: إقامتهم الفعل في موضع الاسم، إذا كان الفعل نعتا؛ كما قال النابغة: ¬

_ (¬1) البيتان غير منسوبين في اللسان (ضجع)، وابن يعيش 2/ 82. (¬2) ينسبان لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين 1346، وبلا نسبة في اللسان (إله)، وابن يعيش 2/ 16.

باب البدل

كأنّك من جمال بني أقيش … يقّعقع خلف رجليه بشنّ (¬1) أراد: جمل يقعقع. وقال آخر: لو قلت ما في قومها لم تيثم … يفضلها في حسب وميسم (¬2) أراد: أحد يفضلها. وهذا الحذف يحسن ويكثر مع " من " كقولك: " منّا ظعن ومنّا أقام " في الكلام والشعر، وذلك أنهم جعلوا " من " بمعنى " البعض "، فكأنك قلت: " بعضنا ظعن وبعضنا أقام ". قال الله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ (¬3). أي بعض أهل المدينة. باب البدل قال أبو سعيد: اعلم أنهم يبدلون الحرف من الحرف في الشعر في الموضع الذي لا يبدل مثله في الكلام لمعنى يحاولونه من تحريك ساكن أو تسكين متحرك؛ ليستوي وزن الشّعر به، أو ردّ شيء إلى أصله أو تشبيه بنظيره؛ فمن ذلك قول شميث بن زنباع في قصيدته: فأقسم لو لاقى هلالا وتحته … مصكّ كذئب الرّدهة المتأوّب لأدّاها كرها وأصبح بيته … لديه من الإعوال نوح مسلّب ولكنّما أهدي لقيس هديّة … بفيّ من اهداها لك الدّهر إثلب فهمز الألف في " أدّاها "؛ لأنه لو تركها ساكنة لم يستقم البيت. ومثله: قد كان يذهب بالدّنيا ولذّتها … مواليء ككباش العوس سحّاح (¬4) ويروى: شحّاح، فهمز الياء من " موالى " لاستقامة البيت. ومثله: ¬

_ (¬1) ديوانه 198، والخزانة 2/ 312. (¬2) ينسبان لحكيم بن معية الربعي في الخزانة 4/ 71، وبلا نسبة في سيبويه 1/ 375. (¬3) سورة التوبة، آية: 101. (¬4) البيت لابن يعيش 10/ 103.

يا عجبا لقد رأيت عجبا … حمار قبّان يسوق أرنبا خاطمها زأمّها أن تذهبا (¬1) فهمز: زأمّها، والأصل فيه: زامّها، فهمز الألف ليمكّن دخول الحركة عليها، وإنما همزها دون أن يبدلها حرفا آخر؛ لأن أقرب الحروف من الألف الهمزة، وربما تكلّم بعض العرب بمثل هذا فرارا من التقاء الساكنين، كنحو " دأبة " و " ضألّ "؛ لأن الألف ساكنة، والحروف الأول من الحرف المشدّد ساكن، فيكرهون الجمع بين ساكنين. وروي عن أبي زيد أنه قال: صلّيت خلف عمرو بن عبيد في الفجر فقرأ: وَلَا الضَّالِّينَ فقلت: ولم فعلت هذا؟ فقال: كرهت أن أجمع بين ساكنين. ومن ذلك قوله: لها أشارير من لحم تتمّره … من الثّعالي ووخز من أرانيها (¬2) أراد: " أرانبها " و " من الثعالب " غير أنه كره إبقاء الباء في الحرفين، فيلزمه تحريكها، وتحريكها يكسر الشعر، فأبدل منها حرفا لا يحرّك، وشبّهها بقولهم: " تظنّيت " و " تقصّيت " في معنى: " تظنّنت " و " تقصّصت "، أبدلوا ياء من الحرف الأخير، لما كرهوا التضعيف، وكذلك أبدلوا " ياء " مما ذكرنا لما احتاجوا إلى استقامة الوزن وسلامة الإعراب. ومثله: وبلدة ليس لها حوازق … ولضفادي جمّها نقانق (¬3) أراد: ولضفادع جمّها. ومن ذلك قولهم: والله أنجاك بكفّي مسلمه … من بعد ما وبعد ما وبعدمه (¬4) فأبدل الألف هاء في " بعدمه "؛ لأنّهما متقاربتا المخرج، وهما بعد من حروف الزيادة، والهاء شبيهة بالألف، ألا ترى أنه يفتح ما قبلها في التأنيث، كما أن الألف ¬

_ (¬1) الأبيات بلا نسبة في شرح ابن يعيش 9/ 130، واللسان (زمم) (ضلل). (¬2) البيت في اللسان (رنب). (¬3) البيتان بلا نسبة في سيبويه 1/ 344. (¬4) البيتان لأبي النجم العجلي في الدرر اللوامع 2/ 214، وبلا نسبة في ابن يعيش 5/ 89.

لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا. ومن ذلك قول الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشيّة … فارعى فزارة لا هناك المرتع (¬1) وأراد: " لا هنأك المرتع " فقلب الهمزة ألفا، حين احتاج إلى تسكينها، كما تقلب الألف همزة إذا احتاج إلى تحريكها. ومثله: ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي … ولا أختتي من صولة المتهدّد وإنّي وإن أوعدته أو وعدته … لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (¬2) أراد: " ولا أختتئ " فقلب من الهمزة ياء حين احتاج إلى تسكينها. وإنما جعلنا هذا في ضرورة الشعر؛ لأن الهمزة المتحرّكة إذا كان قبلها فتحة، أو كانت مضمومة وقبلها كسرة، كان تليينها أن تجعل بين بين، ولا تبطل حركتها، وقد تبطل حركتها في مواضع غير هذه، وستقف عليها إن شاء الله تعالى. وأما قول حسان: سالت هذيل رسول الله فاحشة … ضلّت هذيل بما قالت ولم تصب (¬3) وقول الآخر: سالتاني الطّلاق أن رأتاني … قلّ ما لي قد جئتما بنكر ويكأن من يكن له نشب يح … بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (¬4) فإن هذا ليس من تخفيف الهمز، وذلك أن من العرب من يقول: " سلته أساله "، " وهما يتساولان " فلا يهمز، وإنما أتى به الشاعر غير مهموز على هذه اللغة. قال أبو العباس محمد بن يزيد: ومن أقبح الضرورات التي ينبغي أن لا يجوز مثلها ولا تصح، أبيات تروي عن بعض المتقدمين: إذا ما المرء صمّ فلم يناج … ولم يك سمعه إلا ندايا ولا عب بالعشيّ بني بنيه … كفعل الهرّ يلتمس العطايا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 508. (¬2) البيتان لعامر بن الطفيل 155، واللسان (ختأ). (¬3) البيت في ديوانه 67، وابن يعيش 4/ 122. (¬4) البيتان منسوبان لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي في سيبويه 1/ 290.

يلاعبهم وودّوا لو سقوه … من الذّيقان مترعة ملايا فأبعده الإله ولا يؤبّى … ولا يشفى من المرض الشّفايا (¬1) فقال أبو العباس: هذه أبيات لو أنشدت على الصواب لم تنكسر، فلا وجه لإجازتها. قال أبو سعيد: وقد ذكرها المازنيّ ولم يطعن في روايتها، وقال: جعلوا ألف الإطلاق بمنزلة هاء التأنيث، وأنت تقول في هاء التأنيث: " عظاية " و " شكاية " و " نهاية ". قال أبو سعيد: عندي في جوازها وجه آخر، وهو أنه لما أدخل ألف الإطلاق وقعت الهمزة بين ألفين، والهمزة تشبه الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فاستثقل ذلك، فقلب من الهمزة ياء، كما فعلوا ذلك " بخطايا " و " مطايا " وقد كان: " خطاأا " " مطاأا " قبل أن تقلب ياء. ووجه آخر، وهو أن الكسائي حكى أن بعض العرب يقلب من الهمزة ياء في التثنية، وبعضهم يقلبها واوا، وبعضهم يدعها همزة على حالها؛ كقولهم في تثنية " رداء ": " رداءان " و " ردايان " و " رداوان "، فشبه الشاعر ألف الإطلاق بألف التثنية. ومن ذلك بدل أسماء الأعلام، وهو يجيء في الشعر على ثلاثة أوجه: وجه جائز في الشعر والكلام، ووجه جائز في الشعر دون الكلام، ووجه لا يجوز في الشعر ولا في الكلام. فأما ما يجوز في الشعر والكلام، فنحو تصغير الاسم العلم الذي يعرف بغير التصغير؛ كقولهم في " عبد الله ": " عبيد الله "، وفي " زيد ": " زبيد ". وهذا جائز في الشعر والكلام. قال الراعي: ولا أتيت نجيدة بن عويمر … أبغي الهدى فيزيدني تضليلا (¬2) أراد: " نجيدة بن عامر الخارجي ". وقد ينشد هذا البيت على التكبير: " ولا أتيت نجدة بن عامر " وهو مزاحف جائز. ¬

_ (¬1) اللسان (حما). (¬2) البيت في ديوانه 136، واللسان (ضلل).

وقال النابغة في هذا: مقرّنة بالعيس والأدم كالقطا … عليها الخبور محقبات المراجل وكلّ صموت نثلة تبّعيّة … ونسج سليم كلّ قضّاء ذائل (¬1) أراد سليمان، فإمّا أن يكون رخّم، فأسقط الألف والنون، كما تقدّم من حكم الترخيم، وإما أن يكون صغّر تصغير الترخيم، وهو أن تحذف منه الزوائد، ثم يصغّر. والزوائد في " سليمان " الياء والألف والنون، فحذفن كلّهن، ثم صغّر ما بقي، كما يقال في " عمران ": " عمير "، وفي " أزهر ": " زهير " بحذف الزوائد. وأما ما يجوز في الشعر، ولا يجوز في الكلام فأن يبدل اسم من الاسم المعروف به، كما أبدلوا " معبدا " من " عبد الله "، و " سلّاما " من " سليمان " على غير قياس يوجب ذلك. قال الحطيئة: وما رضيت لهم حتّى رفدتهم … من وائل رهط بسطام بأصرام فيه الرّماح وفيه كلّ سابغة … بيضاء محكمة من نسج سلّام (¬2) أراد: " سليمان " عليه السّلام. وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه عبد الله. فإن تنسأ الأيّام والدّهر تعلموا … بني قارب أنّا غضاب بمعبد ثم قال: تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا … فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي (¬3) فسمّاه " معبدا " واسمه " عبد الله "؛ لأنه رجع إلى معنى العبودة، وكذلك سمى الحطيئة " سليمان " " سلّاما "؛ لأن سليمان وسلّاما اشتقاقهما من السلامة. وأما ما لا يجوز في الشعر ولا في الكلام، فالغلط الذي يغلطه الشاعر في اسم أو غيره مما يظن أن الأمر فيه على ما قال: كقوله: والشّيخ عثمان أبو عفّان ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه ص 71، واللسان (صمت). (¬2) البيتان في ديوانه ص 227. (¬3) البيتان في الأصمعيات ص 112.

فظن أن " عثمان " يكنى " أبا عفّان "؛ لأن اسم أبيه " عفّان "، وإنما هو " أبو عمرو "، فهذا مما لا يجوز. وكقول آخر: مثل النّصارى قتلوا المسيحا وإنما اليهود على ما قالت النّصارى قتلوا المسيح، وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ (¬1). وموضع الإنكار على الشاعر أن الذين اعتقدوا قتله اعتقدوا أن الذين قتلوه هم اليهود، غير أنه ظنّ لما كان اليهود والنّصارى مخالفين للإسلام وجاحدين لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنهم جميعا مشتركون في سائر من ينكرونه من الأنبياء. ومثل هذا كثير في الشّعر، وربما جاء منه ما يظن بعض الناس أنه غلط، وعند غيره ليس بغلط، كقول زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم كلّهم … كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (¬2) فقال الأصمعي وغيره من أهل اللغة: إنه غلط في قوله: " كأحمر عاد "، وإنما هو: " أحمر ثمود " الذي عقر الناقة، فنزل العذاب على قومه بعقره، وصار مشؤوما عليهم. والعرب تضرب به المثل وتذكره. قال أمية بن أبي الصلت يصف عاقر الناقة: فأتاها أحيمر كأخي السهّ … م بعضب فقال كوني عقيرا أي فعقرها، يعني الناقة. وقال بعض أهل اللغة، العرب تسمي " ثمود " " عادا الآخرة "، وتسمي قوم هود " عادا الأولى "؛ لأن ثمود هي عاد الأخرى، فقول زهير صحيح على هذا. وفي نحو هذا قول أبي ذؤيب: فجاء بها ما شئت من لطميّة … يدوم الفرات فوقها ويموج (¬3) فقال الأصمعي: هذا غلط؛ وذلك أنه ظنّ أن الّلؤلو يخرج من الماء العذب، لبعده ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 157. (¬2) البيت في القصائد السبع 169، واللسان (شأم). (¬3) البيت في ديوان الهذليين 134، واللسان (لطم).

عن مواضع اللؤلؤ. ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج، أي يسكن مرة ويهيج أخرى بالريح أو زيادة الماء. وذكر بعض أهل اللغة أن هذا صحيح، وأن الأصمعي هو الغالط، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب، وهو من هذيل، ومساكنهم جبال مكّة المطلّة على البحر ومواضع اللؤلؤ؟ وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها، وجعله فراتا؛ إذ كان أعلى المياه ما كان فراتا. وقوله: يدوم الفرات، أي يسكن ويموج، أي يضطرب، وإنما أراد أنه يسكن في عين النّاظر مرّة ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة. وكقول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة … غذاها نمير الماء غير محلّل (¬1) ذكر بعض أهل اللغة أنّ " البكر " هاهنا الّلؤلؤة، وجعلها بكرا لأنها أول شيء يخرج من الصدف، وذكروا أنّ اللؤلؤة الكبيرة النفيسة تكون في طرف الصّدفة، فأول ما تشقّ تخرج، فلذلك سمّيت بكرا. وأما قوله: " غذاها نمير الماء " - والنمير: العذب المشروب- فإنه لم يرد أنها في العذب المشروب، وإنما أراد أنّ ماء البحر الذي هي فيه غذاء لها، كغذاء الماء العذب لنا، والنمير: العذب، فماء البحر نميرها. وقوله " غير محلّل " أي لا يحلّه أحد مستوطنا مقيما. وقد تبدل بعض العرب حروفا من حروف لا يجري ذلك مجرى الضرورة؛ لأنّ ذلك لغتهم كإبدال بني تميم العين من الهمزة. كما قال ذو الرمة: أعن ترسّمت من خرقاء منزلة … ماء الصّبابة من عينيك مسجوم (¬2) وإنما أراد: أأن ترسّمت. وإنما يفعلون هذا في الهمزتين إذا اجتمعتا كراهية اجتماعهما. وهذا الذي نسميه عنعنة تميم. وربما أبدلوا من الهمزة الواحدة مع النون، وأكثر ذلك في " أن "؛ وسمّى " عنعنة " لاجتماع العين والنون، فركبوا منهما فعلا. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 16، واللسان (قنا). (¬2) البيت في ديوانه 567، واللسان (رسم).

وقد يبدل بعضهم من كاف المؤنث شينا كقولهم " منش يا امرأة "، يريد: منك. قال الشاعر: فعيناش عيناها وجيدش جيدها … سوى أنّ عظم السّاق منش دقيق (¬1) وهذه اللغة في بكر بن وائل، وتسمى كشكشة بكر. ومنهم من يبدل مكان الياء المشدّدة والمخفّفة جيما في الوقف. وأكثر ما يكون ذلك في المشددة. قال: خالي عويف وأبو علجّ … المطعمان اللّحم بالعشجّ وبالغداة فلق البرنجّ (¬2) وقال في المخفقة: يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج … فلا يزال شاحج يأيتك بج أقمر نهّات ينزّى وفرتج (¬3) وقد يبدلون من تاء المخاطب كافا؛ كما قال الراجز: يا ابن الزّبير طال ما عصيكا … وطال ما عنّيتنا إليكا لنضربن بسيفنا قفيكا وكما أبدلت خيبر والنّضير من الثّاء تاء في كثير من الحروف، كقولهم في " الثوم ": " توم " وفي " المبعوث ": " مبعوت "، وفي " الخبيث ": " خبيت ". قال الشاعر: ينفع الطّيّب القليل من الرّز … ق ولا ينفع الكثير الخبيت ويروى أن الخليل قال للأصمعي: لم قال الخبيت؟ فقال: هذه لغتهم، يجعلون مكان الثاء تاء، فقال الخليل: فلم جعل الكثير بالثّاء؟ فسكت الأصمعيّ. قال أبو سعيد: وهذا عندي يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون إبدالهم التاء من الثاء في حروف ما بأعيانها، و " الخبيث " منها، ولا يبدلونها في جميع المواضع، كما أبدل من الثاء الفاء في " مغفور " و " مغثور " و " فوم " و " ثوم "، ولا يجب البدل في كلّ موضع. ¬

_ (¬1) البيت لمجنون ليلى في ديوانه 207، واللسان (كشش)، وابن يعيش 10/ 8. (¬2) الأبيات في سيبويه 2/ 288، وابن يعيش 10/ 50، واللسان (عجج). (¬3) الأبيات في شرح ابن يعيش 10/ 50، واللسان (الجيم).

والوجه الثاني: أن يكون الشاعر قاله: " الكتير " بالتاء، غير أن الرواة نقلوا بالثاء على ما تتكلم به العرب، ولم ينقلوا " الخبيث " بالثاء، للقافية التائية، وفيها: ليت شعري وأشعرنّ إذا ما … قرّبوها منشورة ودعيت ألي الفضل أم عليّ إذا حو … سبت إنّي على الحساب مقيت (¬1) وقد يبدل الشاعر بعض حروف الجرّ مكان بعض، وليس ذلك من الضرورة، كإبدالهم " على " من " عن " كما قال الشاعر: إذا رضيت علىّ بنو قشير … لعمر الله أعجبني رضاها (¬2) أي " عنيّ ". وقال النابغة الجعدي: كان رحلي وقد زال النهار بنا … بذي الجليل على مستأنس وحد (¬3) أراد: " زال عنّا ". ومثل هذا كثير، وليس من الضرورة فأستقصيه. وقد يبدلون من كلام العجم، إذا تكلموا به فعرّبوه، وربما اختلفوا في البدل من كلمة واحدة؛ فمن ذلك أنهم يقولون في الحانوت: " قربق " و " كربج " والأصل فيه: " كربه "، فبعضهم يجعله بالقاف، وبعضهم يجعله بالجيم. وكذلك: " الفالوذج " و " الفالوذق ". والأصل فيه بالفارسية: " بالوذه " بين الفاء والباء. و" دختنوس " و " دختنوش " و " تختنوس " و " تختنوس " والأصل فيه: " دخت نوش ". وقال العجاج: كأنّه مسرول أرندجا … كما رأيت في النّبيط البردجا (¬4) أراد: " البرده " وهم الرقيق. وقال أيضا: ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه 12، واللسان (قوت). (¬2) البيت للقحيف العقيلي في الخزانة 4/ 247، وبلا نسبة في شرح ابن يعيش 1/ 120. (¬3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه 6، والخزانة 1/ 521. (¬4) البيتان للعجاج في ديوانه 7، واللسان (بردج).

فهنّ يعكفن به إذا حجا … عكف النّبيط يلعبون الفنزجا (¬1) وإنما هو: " البنجكان ". قال أبو حاتم: البنجكان: الدّستبند. وقال أيضا: يوم خراج يخرج السّمرّجا (¬2) وأصله بالفارسية: " سامرّه "، يعني: يخرج في كل سنة ثلاث مرّات. وقال آخر: لو كنت بعض الشّاربين الطّوسا (¬3) أراد: " أذرنطوس " وهو دواء. قال آخر وهو رؤبة: بارك له في شرب أذرنطوس فعرّب مّرة بالطّوس، ومرة بأذرنظوس. وقال آخر: في جسم شخت المنكبين قوش (¬4) أراد: كوجك، فغيّر. ولهذا أشباه كثيرة لا أحصيها، وليس في شيء مما ذكرناه من تعريب العجمية، والتكلم بها في الشعر معربة، ولا في إبدال حرف جر من غيره، مما تقدّم ذكره، ضرورة وإنما ذكرناه ليعلم أنه مما يجوز في الكلام والشعر، ولا ينسب قائله إلى دخول في ضرورة. ومما لا يجوز إلا في الشعر جعل الكاف في موضع " مثل " اسما، وإدخال حروف الجر عليها، كإدخالها على مثل؛ مثل قولهم: " زيد ككعمرو "، يريدون به: كمثل عمرو، فجعلوا الكاف الثانية في موضع مثل، وجعلوا الكاف الأولى حرف جرّ دخل عليه. قال: ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه 8، واللسان (عكف). (¬2) البيت في ديوانه 8، واللسان (سمرج). (¬3) البيت لرؤبة في ديوانه 70. (¬4) البيت لرؤبة في ديوانه 79، واللسان (قوش).

وصاليات ككما يؤثفين (¬1) يعني: كمثل ما يؤثفين، والكاف الأولى زائدة وهو كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬2)؛ المعنى ليس مثله، والكاف زائدة لا غير. والدليل على ذلك أنّا لو لم نجعلها زائدة لاستحال الكلام، وذلك أنها إذا لم تكن زائدة، فهي بمعنى مثل وإن كانت حرفا فيكون التقدير: ليس مثل مثله شيء، وإذا قدّر بهذا التقدير، فقد أثبت له مثل ونفي الشّبه عن مثله وهذا محال من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى لا مثل له ولا نظير. والثاني: أن نفس اللفظ به محال في كل أحد وذلك أنّا لو قلنا " ليس مثل مثل زيد أحد " لاستحال وذلك أنا لو أثبتنا لزيد مثلا، فقد جعلنا زيدا مثلا له. لأن ما ماثل الشيء فقد ماثله ذلك الشيء، ويجوز أن يكون زيد مثلا لعمرو وعمرو ليس مثلا لزيد، فإذا نفينا المثل عن مثل زيد وزيد هو مثل مثله فقد أحلنا. ومن ذلك وضعهم الاسم مكان الاسم على سبيل الاستعارة، وقد يجري مثله في الكلام حتى لو أخرجه مخرج عن باب الضرورة، لم يكن بالمخطئ؛ فمن ذلك قول الحطيئة: قروا جارك العيمان لما جفوته … وقلّص عن برد الشّراب مشافره (¬3) أراد: شفتيه، والمشافر للإبل. وقال آخر: سأمنعها أو سوف أجعل أمرها … إلى ملك أظلافه لم تشقّق (¬4) أراد عقبيه. والأظلاف للبقر والغنم في موضع عقبى الإنسان وقدمه. وقال آخر يصف إبلا: تسمع للماء كصوت المسحل … بين وريديها وبين الجضحفل (¬5) والجحفل لذوات الحافر، وهو من الإبل المشفر. ¬

_ (¬1) البيت لخطام المجاشعي في سيبويه 1/ 13، والخزانة 1/ 367، واللسان (أثف). (¬2) سورة الشورى، آية: 11. (¬3) البيت في ديوانه 184،. (¬4) البيت في اللسان (ظلف). (¬5) البيتان بلا نسبة في اللسان (جحفل).

وقال أيضا في هذه الأرجوزة: والحشو من حفّانها كالحنظل (¬1) والحفّان صغار النعام، فجعلها هاهنا لصغار الإبل. وقال آخر، وهو أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها … تصمت بالماء تولبا جدعا (¬2) أراد بالتولب: طفلا من الناس، والتّولب: ولد الحمار، وقد كان المفضّل روى " جذعا " وأنكره الأصمعي وقال: جدع أي سّيّئ الغذاء. قال: فناظره المفضل وصاح، فقال الأصمعي: تكلم بكلام النمل وأصب. وقال آخر: لها حجل قد قرّعت عن رؤوسه … لها فوقه ممّا تحلّب واشل (¬3) والحجل: إناث القبج، فوضعها لصغار الإبل. ويقوي أن هذا خارج من باب الضرورات ما يروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: " لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو فرسن شاة " والفرسن للبعير، لا للشاة. ومن أقبح الضرورات جعل الألف واللام بمعنى الذي مع الفعل، كقول طارق بن ديسق: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا … إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع (¬4) أراد: الذي يجدّع، ولو قال: المجدّع للزمه أن يخفض فيقوي؛ لأنّ القصيدة مرفوعة ففرّ من الإقواء إلى ما هو أقبح. وفيه عندي وجه آخر، وهو أنه لم يرد الألف واللام التي بمعنى الذي، ولا الألف واللام التي للتعريف، ولكنه أراد، الذي نفسها، فحذف الذّال والياء وإحدى اللامين، لأنه قد رأى الذي يلحقها حذف كقولهم: اللّذ والّلذ، كما قال: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في اللسان (حفن). (¬2) البيت في ديوانه 55. (¬3) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه 260. (¬4) البيت لدينار بن هلال في الخزانة 1/ 14، واللسان (جدع)، وبلا نسبة لابن يعيش 3/ 144.

كالّلذ تزبّى زبية فاصطيدا (¬1) وربما حذفوا فأحجفوا وبقّوا من الكلمة الحرف منها والحرفين كقوله: بالخير خيرات وإن شرّا فآ … ولا أحبّ الشّرّ إلا أن تآ أراد إلا أن تشا فحذف الشين والألف. ومن روى: " إلا أن تا " بغير همزة غلط؛ لأن أول هذه الأبيات: إن شئت أشرفنا كلانا فدعا … الله جهرا ربّه فأسمعا بالخير خيرات وإن شرّا فآ والأبيات هي من مشطور الرجز، وهو: مستفعلن مستفعلن مستفعلن، كقول العجاج: ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (¬2) والقافية العين، والألف وصل في " دعا " و " أسمعا "، ثم جعل الهمزة مكان العين، كما قال: حدّث حديثين امرأه … فإن أبت فأربعه وإنما يستجاز هذا لأن العين والهمزة من موضع واحد، كما قال: أنا لها بعيرها المذلّل … أحملها وحملتني أكثر فجعل الرّاء مكان الّلام؛ لتجاورهما في المخرج. ومن الضرورة قوله: ألا يا أمّ فارع لا تلومي … على شيء رفعت به سماعي وكوني بالمكارم ذكّريني … ودلّي دلّ ماجدة صناع فجعل " ذكّريني " في موضع " مذكّرة "، وهذا قبيح، وذلك لأن فعل الأمر لا يقوم مقام الاسم، وإنما يقوم الفعل المستقبل والماضي، كقولك: " كان زيد يقوم " أي قائما، و " كان زيد قد انطلق " أي منطلقا، ولكنه اضطر فوضع فعل الأمر موضع الفعل المستقبل في خبر كان؛ لأن ابتداء كلامه أمر، وهو قول: " كوني " ومحصول الأمر إنما وقع منه لها ¬

_ (¬1) البيت في ديوان الهذليين 154، واللسان (زبى)، وابن يعيش 3/ 140. (¬2) البيت في ديوانه ص 7.

على التذكير، فلما كان في المعنى أمرا لها بتذكيره استعمل فيه لفظ الأمر، إذ كان المعنى عليه. وهذا يشبه قولهم: " أنت الّذي قمت " وذلك أنه لما كان الاسم المبدوء به للخطاب، والثاني للغائب، ومعناه معنى الأول، لم تحفل به، وردّ الضمير إلى الأوّل، فقام ردّ الضمير إلى الأول مقام ردّه إلى الثاني، إذ كان هو هو في المعنى. وكذلك قوله: " وكوني بالمكارم ذكريني " أراد: وذكريني بالمكارم، أي كوني مذكرة لي بالمكارم. وأدخل: " كوني " ليتوصل بها إلى ما بعدها، إذ كانت الفائدة فيه. ومن ذلك قوله: مهما لي اللّيلة مهما ليه … أودى بنعليّ وسر باليه إنكّ قد يكفيك بغي الفتى … ودرأه أن تركض العاليه (¬1) ومهما لا تكون إلا في الشرط والجزاء كقولك: " مهما تفعل أفعل " وهذا الشاعر لم يرد ذلك، وإنما أراد: " مالي الّليلة "، مستفهما، ثم زاد " ما " الأخرى، كما تزاد صلة في مواضع، وكره اجتماع اللفظين، فقلب من الألف الأولى هاء، ولو لم يقلب لم ينكسر البيت ولم يفسد، ولكنه استقبح تكرير اللفظين، ففعل فيه ما يفعله في غير الضرورة، لتشاركهما في القبح عنده. ومن ذلك أن كاف التشبيه لا يتّصل بها مكنيّ في الكلام؛ لا تقول: " أناكك " ولا " أنت كي "؛ وذلك أن معنى الكاف ومثل سواء، فإذا كنّي عن المشبّه استعملوا " مثلا " فقط، فإذا اضطر الشاعر جاز أن يأتي بعد الكاف بمكنى، إذ كان معناها معنى " المثل ". وقد يجوز اتصال المكني بمثل. قال العجاج: وأمّ أوعال كها أو أقربا (¬2) وقال امرؤ القيس: فلا ترى بعلا ولا حلائلا … كه ولا كهنّ إلا حاظلا (¬3) ¬

_ (¬1) البيتان لعمرو بن ملقط الطائي في الخزانة 3/ 631، وبلا نسبة في ابن يعيش 7/ 44. (¬2) البيت في ملحق ديوانه 74، والخزانة 4/ 477، واللسان (وعل)، وابن يعيش 8/ 16. (¬3) البيتان منسوبان لرؤبة بن العجاج في ديوانه 266، والخزانة 4/ 274.

باب التقديم والتأخير

باب التقديم والتأخير قال أبو سعيد: اعلم أن الشاعر قد يضطر حتى يضع الكلام في غير موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيزيله عن قصده الذي لا يحسن في الكلام غيره، ويعكس الإعراب، فيجعل الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا، وأكثر ذلك فيما لا يشكل معناه. فمن ذلك قول الأخطل: أمّا كليب بن يربوع فليس لها … عند المفاخر إيراد ولا صدر مثل القنافذ هدّا جون قد بلغت … نجران أو بلغت سوآتهم هجر (¬1) أراد: بلغت نجران سوآتهم أو هجر، وذلك وجه الكلام؛ لأن السّوآت تنتقل من مكان فتبلغ مكانا آخر، والبلدان لا ينتقلن، وإنّما يبلغن ولا يبلغن. وقال النمر بن تولب: فإنّ المنيّة من يخشها … فسوف تصادفه أينما وإن أنت حاولت أسبابها … فلا تتهّيبك أن تقدما أراد: فلا تتهيّبها؛ لأنّ المنيّة لا تهاب أحدا. وقال آخر وهو ابن مقبل: ولا تهيّبني الموماة أركبها … إذا تناوحت الأصداء بالسّحر (¬2) أراد: ولا أتهيّب الموماة. وقال آخر: كانت فريضة ما تقول كما … كان الزّناء فريضة الرّجم (¬3) ويروى: كما كان الزّناء يحدّ بالرّجم. أراد: كما كان الرّجم فريضة الزّناء. وليس هذا من جعل المفعول فاعلا، ولكنه حذف اسم كان وهو " فريضة "، وأقام مقامها ما كانت مضافة إليه، وهو " الزّناء " وجعل فريضة الرجم هي خبر كان، وهو كلام على نظمه، وتلخيصه: كما كان فريضة الزنا فريضة الرّجم؛ لأنّ الفريضة هي الواجبة والذي يجب بالزنا هو الرجم، فأضفت الفريضة إلى الزنا وإلى الرجم جميعا؛ لأنها من أجل الزنا تجب، والواجب هو الرّجم، فأضيف إلى الشيء وإلى سببه، وحذف من الأول وأقيم ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه 109. (¬2) البيت في ديوانه 79. (¬3) البيت للنابغة الجعدي في ملحق ديوانه 160، واللسان (زنا).

مقامه كما يفعل بالمضاف إليه. ومثل هذا في إضافة شيء واحد إلى شيئين لتعلقه بهما المصدر الذي يضاف إلى الفاعل لوقوعه منه، وإلى المفعول لوقوعه به، وإلى الزمان أيضا لوقوعه فيه، كقول الله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬1) وأما قول الشاعر: ... … وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (¬2) ففيه وجهان؛ أحدهما: ما ذكرناه من التقديم والتأخير، وذلك أنا الضياطرة هم الذين يشقون بالرماح لقتلهم بها. والوجه الثاني: أنّ الرّماح تشقى بالضياطرة؛ لأنه لم يجعلهم أهلا للتشاغل بها، وحقّر شأنهم جدّا، فجعل طعنهم بالرّماح شقاء للرماح، كما يقال: " شقي الخّزّ بجسم فلان " إذا لم يكن أهلا للبسه. قال الشاعر: بكى الخّز من عوف وأنكر جلده … وضجّت ضجيجا من جذام المطارف (¬3) ولو قال قائل: إن التقديم والتأخير فيما ذكرناه ليس من الضرورة، لم يكن عندي بعيدا؛ لأنها أشياء قد فهمت معانيها، وليست بأبعد من قولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، والخاتم في إصبعي. كما قال الشاعر: ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه … وسائره باد إلى الشّمس أجمع (¬4) وإنما يدخل الرأس في القلنسوة، والإصبع في الخاتم، ورأس الثور في الظل. قال الله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (¬5) وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح. وفيها قول آخر، وهو أنها على غير التقديم والتأخير، وذلك أن معنى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة سبأ، آية: 33. (¬2) اللسان (ضطر). (¬3) البيت بلا نسبة في سيبويه 2/ 25. (¬4) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 92. (¬5) سورة القصص، آية: 76.

" تنوء بالعصبة " أي تنيئها، كما تقول: " ذهب بزيد " و " أذهبه "، وكذلك: " ناء به " و " أناءه ". ومعنى هذا عند الفراء: تثقل العصبة وتميلهم من ثقلها. ويقال في قول القائل: " ساءك وناءك " ومعنا: " أناءك "، وأتبعه " ساءك "، كما يقال: " هنأني الطّعام ومرأني " إتباعا. وإذا أفردوه قالوا: أمرأني. ومن ذلك تأخير المضاف إليه عن موضعه الذي ينبغي أن يكون عليه من مجاورة المضاف بلا فصل، كقولك: " غلام زيد " و " ضارب بكر ". فإذا اضطرّ شاعر جاز أن يفصل بينما بالظروف وحروف الجر، فتشبهها بإن وأخواتها، حيث فصل بينها وبين أسمائها بالظروف فقط. قال الشاعر ذو الرمة: كأن أصوات من إيغالهنّ بنا … أواخر الميس أصوات الفراريج (¬1) أراد: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا. وقال أبو حية: كما خطّ الكتاب بكفّ يوما … يهوديّ يقارب أو يزيل (¬2) أراد: بكف يهودي يوما. وقال آخر: لما رأت ساتيدما استعبرت … لله درّ اليوم من لامها (¬3) أراد: لله در من لامها اليوم. وقالت امرأة من العرب: هما أخوا في الحرب من لا أخا له … إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (¬4) ولا يجوز هذا عند البصريين إلا في الظروف. وقد أنشد فيه ما لا يثبته أهل الرواية وهو: فزججتها بمزجّة … زجّ القلوص أبي مزاده (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 76، وخزانة الأدب 2/ 119، واللسان (نقض)، وابن يعيش 1/ 103. (¬2) البيت لأبي حية النميري في سيبويه 1/ 91، والخزانة 3/ 470. (¬3) البيت لعمرو بن قميئة في سيبويه 1/ 91، والخزانة 2/ 247، وابن يعيش 3/ 20. (¬4) البيت منسوب لدرنا بنت عبعبة في سيبويه 1/ 92. (¬5) البيت في الخزانة 2/ 51، وابن يعيش 3/ 19.

أي زجّ أبي مزادة القلوص، وليست القلوص بظرف. وقال آخر: تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت … غلائل عبد القيس منها صدورها (¬1) أراد: وقد شفت عبد القيس منها غلائل صدورها، وهذا قبيح جدّا. وأما قراءة بعضهم، وهو ابن عامر: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (¬2) أراد: قتل شركائهم أولادهم، وهذا خطأ عند النحويين. والذي دعاه إلى هذه القراءة أنّ مصحف أهل الشام فيه ياء مثبتة في شركائهم فقدر أن الشركاء هم المضلون لهم الداعون إلى قتل أولادهم، فأضاف القتل إليهم، كما يضاف المصدر إلى فاعله، ونصب الأولاد؛ لأنهم المفعولون، ولو أضاف المصدر إلى المفعولين فقال: قتل أولادهم، للزمه أن يرفع الشركاء فيكون مخالفا للمصحف، فكان اتباع المصحف آثر عنده. ووجه الآية أن يخفض " شركائهم " بدلا من الأولاد ويجعل الأولاد هم الشركاء؛ لأن أولاد الناس شركاء آبائهم في أحوالهم وأملاكهم. ووجه آخر وهو: أن تكون الياء المثبتة في المصحف مضمومة، وقد تكون بدلا من الهمزة، على لغة من يقول: شفاه الله يشفيه شفايا، وهذه لغة غير مختارة في القرآن. والقول الأول أجود، وتقدير هذا: وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، يرفعهم بزّين، وهذان الوجهان على تخريج خط مصحف أهل الشام. وقراءة ابن عامر لا وجه لها. وأما قوله: كميت يزلّ اللّبد عن حال متنه … كما زلّت الصّفواء بالمتنزّل (¬3) ففيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون من المقلوب، وتقديره: " كما زلّ المتنزّل بالصّفواء "، وهي الصّفاة الملساء. ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 2/ 250. (¬2) سورة الأنعام، آية: 137. (¬3) البيت لامريء القيس في ديوانه 20.

والوجه الآخر: أن يكون من قولك: " ذهبت به " في معنى: " أذهبته " فيكون " زلّت به " في معنى: " أزلّته ". وقد كان بعض أصحابنا يذهب إلى أن قولك: " ذهبت بزيد " معناه على غير معنى " أذهبت زيدا "؛ وذلك أن قولك: " أذهبت زيدا " معناه: أزلته، ويجوز أن تكون أنت باقيا في مكانك لم تبرح. وإذا قلت: ذهبت بزيد، فمعناه ذهبت معه، وهذا يحكي عن أبي العباس المبرد. وبعض الناس ينكر هذا، ويقول: معناهما سواء؛ لأن الله تعالى قد قال: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ (¬1) في معنى أذهب الله سمعهم وأبصارهم، وهو تعالى غير ذاهب، ويحتج بالبيت الذي أنشدناه أنّ الصّفواء غير زالّة. وللمحتج عن أبي العباس أن يقول في الآية: إن الله تعالى وإن لم يكن ذاهبا، فقد وصف نفسه في مواضع من القرآن بالمجيء والإتيان، فهو أعلم بحقيقة ذلك، فقال: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (¬2) وقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ (¬3). وأما قول النابغة: كأنّ رحلي وقد زال النّهار بنا … بذي الجليل على مستأنس وحد فإنما يريد غابت الشّمس، وذهب النهار، وهم ما زالوا. والمعنى عندي أن النهار أزالهم من مكان كانوا فيه إلى مكان صاروا إليه، وزال أيضا معهم بأن غابت شمسه وذهب وقته، فصار بمعنى قولك: " ذهبت بزيد "، بمعنى " أذهبته " و " ذهبت معه ". وقد كان قوم من أهل اللغة يجعلون " الباء " هاهنا في معنى " على "، فيقولون: زال النهار بنا في معنى علينا، وهذا غير متحصّل، والقول فيه ما خبّرتك به. وأما قول قيس بن الخطيم: ديار التي كادت ونحن على منى … تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 20. (¬2) سورة الفجر، آية: 22. (¬3) سورة البقرة، آية: 210. (¬4) البيت في ديوانه 24.

فإن بعض الناس يتأوله على معنى: تحلّنا وتنزلنا. من غير أن تنتقل إلينا، على المذهب الذي ذكرناه في: ذهبت به، من غير أن تذهب معه. قال أبو سعيد: والأمر عندي على خلاف ذلك، من قبل أنهم لما رأوا ديارهم اشتاقوا إليها، وتصوروها، فصارت بالتصوّر كأنها معهم نازلة في الديار، فهي قد أنزلتهم ونزلت معهم. وأما قول الفرزدق: وما مثله في النّاس إلا مملّكا … أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه (¬1) فإن فيه ضروبا من العيوب من التقديم والتأخير. وحق الكلام على ما ينبغي أن يكون عليه اللفظ؛ وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه؛ وذلك أن الفرزدق مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك، وأبو أم هشام بن عبد الملك أبو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقال: " وما مثله "، يعني إبراهيم الممدوح، " في الناس حي يقاربه "، أي أحد يشبهه، " إلا مملك "، يعني خليفة، " أبو أمه "، يعني أبو أم الخليفة، " أبوه "، يعني أبو الممدوح؛ فالهاء في " أمه " تعود إلى الملك، وهو هشام بن عبد الله، والهاء في " أبوه " تعود إلى إبراهيم بن إسماعيل، ففرق بين المبتدأ والخبر بما ليس منه، وذلك أن قوله: " أبو أمه " مبتدأ في موضع نعت الملك، ففرق بينهما بقوله: " حيّ " و " حيّ " هو خبر " ما "، وفرق بين قوله: " حيّ " وبين قوله: " يقاربه " وهو نعت " حيّ " ب " أبوه " وهو خبر مبتدأ، وقدم الاستثناء، وترتيب الكلام مع تقديم الاستثناء أن يقال: " وما مثله في النّاس " إلا مملّكا أبو أمّه أبوه حيّ يقاربه "، كما تقول " ما مثل زيد إلا عمرا أحد ". فلو لم يكن في هذا البيت إلا تقديم الاستثناء فقط ما كان معيبا، والذي فيه عيبان، أحدهما: الفصل بين المبتدأ وخبره بخبر " ما "، والآخر: الفصل بين خبر " ما " ونعته بخبر المبتدأ. ومن ذلك قول الفرزدق: هيهات قد سفهت أميّة رأيها … فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها حرب تردّد بينهم بتشاجر … قد كفّرت آباؤها أبناؤها (¬2) وتقديره: هيهات قد سفهت أميّة حلماؤها رأيها، فاستجهلت سفهاؤها، فأبدل ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 108، واللسان (ملك). (¬2) البيتان للفرزدق في اللسان (كفر)، ولا يوجد منهما إلا الأول في ديوانه ص 8.

حلماؤها من أميّة، ورفع سفاؤها باستجهلت، ووضع الكلام في غير موضعه؛ لأن قوله: " فاستجهلت " هو جواب لقوله: " قد سفهت "، وفاعل الفعل الأول حكمه أن يأتي بعد الذي يعمل فيه الفعل الثاني. الذي يعمل فيه الفعل الثاني. قال أبو سعيد: وكان حكمه في الظاهر أن يعمل أحد الفعلين، إما سفهت، وإما استجهلت، فأعملهما جميعا بعد الفعل الثاني، وهذا كقولك: " ضربني وضربت زيدا " و " أعطاني وأعطيت زيدا درهما "، إذا أعملت الفعل الثاني، وإن أعملت الأول قلت: " أعطيت وأعطاني إيّاه زيدا درهما "، فالذي تعمله في الظاهر أحد الفعلين، ولا يحسن أن تقول: " أعطيت وأعطاني إيّاه زيد درهما " ترفع زيدا بالفعل الثاني، وتنصب الدّرهم بالفعل الأول. وتقول أيضا على هذا: " ظنّ عمرو أو قال زيد منطلق ". إذا أعملت قال، فإذا أعملت الظن فالوجه أن تقول: " ظنّ عمرو أو قال هو هو زيد منطلقا " ولو قلت: " ظنّ عمرو أو قال زيد هو إيّاه منطلقا " لم يحسن، لأن الظاهرين إما أن يفعل فيهما الأول أو الثاني، ولا يحسن أن يعمل كلّ واحد من الفعلين في واحد من الظاهرين، وهذا كله إذا وقعت الأسماء بعد الفعلين جميعا، فإذا وقع كل واحد من الأسماء في موضعه، لم يحتج فيه إلى هذا واستعمل كما ينبغي، فلما كانت " حلماؤها وسفهاؤها " بعد " سفهت " و " استجهلت " لم يحسن أن يكونا ظاهرين بعد الفعلين جميعا، وأحدهما غير الآخر، ولو كان أحدهما هو الآخر لكان أقرب إلى الجواز؛ لأنه كان يجعل ظاهره مكان مضمره، وذلك أنك إذا قلت: " قام فانطلق زيد " ورفعت زيدا بقام، وجعلت في " انطلق " ضميرا منه، صار التقدير: " قام زيد وانطلق ". قال أبو سعيد: يجوز على القياس: " قام فانطلق زيد زيد " على أنك ترفع زيدا الثاني بقام، وترفع الأول بانطلق، فيكون التقدير: قام زيد فانطلق زيد، والوجه الإضمار، وإن كان هذا جائزا. والدليل على جوازه قوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء … نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (¬1) والوجه أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء. ¬

_ (¬1) البيت منسوب لسوادة بن زيد في سيبويه 1/ 30، واللسان (نغص).

وقوله: " قد كفّرت آباؤها أبناؤها "، فآباؤها يرتفع بكفرت، ومعناه: لبست السلاح وتغطت به، ويرتفع " أبناؤها " بتشاجر، كما يرتفع الفاعل بالمصدر، كأنه قال: حرب تردّد بينهم بأن يتشاجر أبناؤها فلبست الآباء السلاح بتشاجر الأبناء، وقد كان ينبغي أن لا يفرق بين ما قد ارتفع بتشاجر وبين تشاجر بقوله: " قد كفرت "؛ لأن ما يعمل فيه المصدر بمنزلة الصلة فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. وفي هذين البيتين وجه أقرب من هذا من غير ضرورة، وهو أن يجعل " حلماؤها " ابتداء و " سفهاؤها " خبرا له، ومعناه أن حليمهم صار سفيها، وكذلك " أبناؤها " و " آباؤها " مبتدأ وخبر، يعني من طول ترددها قد صارت أصاغرها، ومن نشأ فيها، كبارا. قال الفرزدق: فليست خراسان الّتي كان خالد … بها أسد إذ كان سيفا أميرها فهذا البيت يدخله النحويون في ضرورة الشعر، ويذكرون أنه يمدح " خالدا " ويذمّ " أسدا، وكانا واليين بخراسان، و " خالد " قبل " أسد "، وتقديره: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان أسد أميرها، ويكون رفع " أسد " بكان الثانية، و " أميرها " نعت له، وكان في معنى وقع، ويجوز أن يكون في كان ضمير الأمر والشأن، ويكون " أسدا " و " أميرها " مبتدأ وخبرا في موضع خبر الضمير. وقال أبو سعيد: وهذا عندي كلام فاسد؛ لأن الاسم لا يرتفع بكان وهو قبله، والمعنى فيه على غير ما قدّروه، وليس في البيت ضرورة، على أنّا نجعل " أسدا " بدلا من " خالد " ونجعله هو خالد، على سبيل التشبيه له بالأسد، فكأنه قال: فليست خراسان التي كان بها أسد إذ كان سيفا أميرها، وتجعل " سيفا " خبرا لكان الثانية، وتجعل " أميرها " الاسم، وإن شئت جعلت في كان الثانية ضميرا من أسد وجعلت أميرها بدلا من الضمير و " سيفا " هو الخبر. وقال الفرزدق: وترى عطيّة ضاربا بفنائه … ربقين بين حظائر الأغنام متقلّدا لأبيه كانت عنده … أرباق صاحب ثلّة وبهام (¬1) ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه ص 580.

باب تغيير الإعراب عن وجهه

أراد: متقلدا أرباق صاحب ثلّة وبهام كانت عنده، فقدم النّعت على المنعوت، ولم يكن النعت باسم فيقع الفعل عليه، وهو " متقلّد " ويجعل المنعوت بدلا منه. وقال آخر: صددت فأطولت الصّدود وقلّما … وصال على طول الصّدود يدوم (¬1) ووجه الكلام؛ وقلّما يدوم وصال على طول الصّدود، وذلك أن الأصل في هذا أن يقال: قلّ وصال يدوم على طول الصدود؛ لأن " قل " قبل دخول " ما " من حكمها أن لا تليها الأفعال؛ لأنها فعل، ولا يلي الفعل فعل، فأدخلوا عليها " ما " ليوطئوا للفعل أن يليه؛ لأن الفعل لا يمتنع أن يلي " ما "، وكان الحكم أن يولوها ما دخلت " ما " من أجله، وهو الفعل، فلما اضطرّ قدّم الاسم الذي كان يفعل بعد " قلّ " قبل دخول " ما " وإذا قلت: " قلّ ما يدوم وصال "؛ فإنّ " قلّ " لم تزل عن فعليتها، غير أن الذي يرتفع بها: " ما " وهي اسم مبهم، يجعل في هذا الموضع للزمان، فكأنه قال: قلّ وقت يدوم فيه وصال، ويحذف العائد كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (¬2) يريد، تجزي فيه نفس عن نفس. وقد يجوز في " قلّ ما " أن تجعل " ما " زائدة، ويرتفع " وصال " بقلّ، فكأنك قلت: قلّ وصال يدوم، كما قال عز وجل: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (¬3). باب تغيير الإعراب عن وجهه قال أبو سعيد: فمن ذلك قول الشاعر: سأترك منزلي لبني تميم … وألحق بالحجاز فأستريحا (¬4) والوجه في هذا الرفع، وذلك أن قوله: " سأترك " هو مرفوع موجب، وما بعده معطوف عليه داخل في معناه، فحكمه أن يكون جاريا على لفظه، وإنما ينصب ما كان جوابا لشيء مخالف لمعناه كقولك: " ما تجلس عندنا فنحدّثك "، وما أشبه ذلك مما يحكم في موضعه، ولا يقال في الكلام: " أنا أجلس عندكم فأحدّثكم " إنما هو " فأحدّثكم ". وإذا اضطر الشاعر فنصب فيما ذكرنا أن الوجه فيه الرفع يؤوّل تأويلا يوجب ¬

_ (¬1) البيت منسوب لعمر بن أبي ربيعة في سيبويه 1/ 12، وبلا نسبة في اللسان (طول). (¬2) سورة البقرة، آية: 48؛ 123. (¬3) سورة النساء، آية: 155. والمائدة، آية: 13. (¬4) البيت منسوب للمغيرة بن حبناء الحنظلي في خزانة الأدب 3/ 600.

النصب، كالتأويل الذي يتأوّل فيما يخالف آخره أوّله؛ وذلك أنك إذا قالت: " ما تجلس عندنا فنحدّثك " فتأول: ما يكون منك جلوس فحديث منا، غير أن المصدر قد يجوز أن يقع موقعه " أن " الخفيفة وفعل ذلك المصدر، ألا ترى أنك تقول: " يعجبني قيامك "، و " يعجبني أن تقوم " في معناه. وإذ قد وضح هذا فأنت إذا قلت: " ما تجلس عندنا فنحدّثّك " إنما تنفى جلوسه، ولست بناف للحديث على كل حال، كما نفيت الجلوس، وإنما نقدر في ذلك أحد تقديرين، إما أن يكون على معنى قولك: " ما تجلس عندنا فكيف نحدّثك " فتكون نافيا للجلوس ومخبرا أن الحديث يتعذر وقوعه مع عدم الجلوس، أو يكون على تقدير: ما تجلس عندنا محدثين لك، وقد تجلس عندنا على غير حديث بيننا فتكون نافيا للجلوس الذي يقرن به الحديث، ولم تعمد لنفي الحديث، فلمّا خالف الأول الثاني هذه المخالفة، كرهوا أن يعطفوا الثاني على الأول في لفظه، فيكون داخلا في معناه؛ لأنك إذا قلت: " ما تجلس عندنا فتحدّثنا " فأنت ناف لكل واحد من الجلوس والحديث من غير تعلق أحدهما بالآخر، كما أنك إذا قلت: " ضربت زيدا وعمرا " كنت ضاربا لكل واحد منهما، من غير تعلق أحدهما بالآخر، فلما كان الفعل الثاني في " ما " جوابا تضمن معنى يخالف الأول، وإن كان معطوفا عليه في المعنى، فقدّر الأول تقدير المصدر، كأنه قال: ما يكون منك جلوس، وقدر في الثاني " أن " فنصب بها الفعل، ثم كره أن يكون الأول في لفظ الفعل، والثاني يقترن به ما يصيره اسما وهو " أن "، فحذفت " أن " ليشاكل الأول الثاني في الفعلية، ولم يبطل النصب الذي أثّرته " أن "؛ لئلا يدخل الثاني فيما دخل فيه الأوّل، فإذا اضطر الشاعر في المتّفقين، ردّه إلى التقدير الذي يوجب النصب هنا. ومثل هذا قول طرفة: لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها … ويأوي إليها المستجير فيعصما (¬1) والوجه فيعصم. وقال الآخر: هنالك لا تجزونني عند ذاكم … ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 159، وسيبويه 1/ 423، واللسان (دلك). (¬2) البيت للأعشى في ديوانه ص 9، وسيبويه 1/ 423.

والوجه: الرفع. ومن ذلك قوله: قد سالم الحّيات منه القدما … الأفعوان والشّجاع الشّجعما (¬1) وكان الوجه أن يقول: الأفعوان الشجاع الشجعم، غير أنّ قوله: " قد سالم الحيّات منه القدما " يوجب أن القدم أيضا قد سالمت الحيات؛ لأن باب المفاعلة يكون من اثنين كل واحد منهما يفعل بصاحبه مثل ما يفعل به صاحبه. فلما ذكر مسالمة الحيات للقدم دلّ أن القدم أيضا قد سالمت فكأنه قال: وسالمت القدم الشّجاع الشجعما، فحذف لما ذكرنا. وكان بعض النحويين يروي هذا البيت بنصب " الحيات " منه ويجعل " القدما " في معنى القدمان، ويحذف النون، كما قال تأبط شرّا: هما خطّتا إمّا إسار ومنّه … وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (¬2) أراد: خطتان، فحذف، وحمل حذف النون على قوله: ... إنّ عمّيّ اللّذا … قتلا الملوك وفكّكا الأغلال (¬3) أراد: اللذان؛ لأنّ اللّذان يحتاج إلى صلة، وهي والصّلة كالشيء الواحد فاستطال فحذف. ومن ذلك: فكرّت تبتغيه فصادفته … على دمه ومصرعه السّباعا (¬4) على تقدير: صادفت السّباع على مصرعه، وكان الوجه أن يقول: على دمه ومصرعه السّباع؛ لأنه لم يعطف السباع على الهاء التي في " صادفته "، ولو فعل هذا لكان النصب جيّدا، وكان يقول: صادفته السباع على دمه ومصرعه، ثم يؤخّر. فلما لم يعطف كان الوجه أن يجعل الجملة الثانية في موضع الحال، فوجب أن يرفع السّباع لذلك، فإذا نصبه فهو على مثل الأول الذي جرى ذكره، وكان أبو العباس المبرد يروي هذا البيت: فكرّت عند فيقتها فألفت … على دمه ومصرعه السّباعا ¬

_ (¬1) البيت منسوب لعبد بني عبس في سيبويه 1/ 145، وبلا نسبة في اللسان (شجع). (¬2) البيت في الخزانة 3/ 356. (¬3) البيت للأخطل في ديوانه 44، والخزانة 3/ 473. (¬4) البيت للقطامي في ديوانه 45 برواية مختلفة، وسيبويه 1/ 143.

ومن ذلك قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة … ومختبط مما تطيح الطوائح فبدأ بفعل لم يسمّ فاعله، ثم أتى بالفعل أن بنى الفعل بناء ما لم يسمّ فاعله، وكان الوجه أن يقول: ليبك يزيد ضارع لخصومة. وتقدير الرفع في الثاني وهو " ضارع ": ليبكه ضارع لخصومة، وذلك أنه لما قال: ليبك يزيد دلّ هذا الفعل على أنه أمر قوما يبكونه، فقال: ضارع لخصومة، يعني من أمره بالبكاء، فأضمر: " لبكه ". ومثل ذلك قراءة بعضهم: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (¬1) على تقدير: زيّنه شركاؤهم؛ لأنه قد دلّ " زيّن " على قوم قد زيّنوا، فرفعهم على ذلك الفعل، وهم الشركاء، وليس هذا بالمختار في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا يجري مجرى ضرورة الشاعر. ومن ذلك قوله: وجدنا الصّالحين لهم جزاء … وجنّات وعينا سلسبيلا (¬2) فنصب جنّات وما بعدها، وكان الوجه الرفع عطفا على قوله: " جزاء "، وإنما فعل هذا واستجازه؛ لأنه حين قال " وجدنا الصّالحين لهم جزاء "، دلت على أنه قد وجد الجزاء لهم، فأضمر وجدنا ونصب " جنات " وما بعدها. ومن ذلك بيت أنشده سيبويه على وجه الضرورة ويجعله غيره على غير ضرورة، وهو قول الشماخ: أمن دمنتين عرّج الرّكب فيهما … بحقل الرّخامي قد عفا طللاهما أقامت على ربعيهما جارتا صفا … كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما (¬3) قال سيبويه: هذا هو مثل " هند حسنة وجهها " وهذا قبيح، ولا يجوز في الكلام، وإنما الوجه أن تقول: " هند حسنة الوجه " أو " حسنة الوجه " وما أشبه ذلك، إذا لم ترفع ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: 137. (¬2) البيت لعبد العزيز الكلابي في سيبويه 1/ 146. (¬3) البيتان في ديوانه 307.

باب تأنيث المذكر وتذكير المؤنث

" الوجه " لم تجعل فيه ضميرا من الأول، وإن رفعته جعلت فيه ضميرا من الأوّل فقلت: " حسن وجهها " فإذا اضطر الشاعر فلم يرفع وجعل فيه ضميرا، فقد وضع الإعراب في غير موضعه، واحتمل له ذلك للضرورة، والبيت تقديره على هذا: جونتا مصطلاهما، بمنزلة: حسنتا أوجههما، فجونتا بمنزلة حسنتا، ومصطلاهما بمنزلة: أوجههما. وكان الوجه أن يقول: جونتا المصطلى أو المصطلين، ولا يجعل فيه ضميرا، وسنذكر أحكام هذا إن شاء الله تعالى. باب تأنيث المذكر وتذكير المؤنث قال أبو سعيد: فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: وكان مجنى دون من كنت أتّقي … ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (¬1) فحذف الهاء من ثلاثة، وكان ينبغي أن يقول، ثلاثة شخوص، من قبل أنّ الشخص مذكّر، ولكنه ذهب به مذهب النسوة؛ لأنهن كن ثلاث نسوة. وقال آخر: وإنّ كلابا هذه عشر أبطن … وأنت بريء من قبائلها العشر (¬2) أراد بالأبطن القبائل، فذهب مذهب القبائل في تأنيثها، وإلا فقد كان الوجه أن يقول: عشرة لتذكير البطن. ومما يجري مجرى الضرورة عند كثير من النحويين، ويذهب أبو العباس إلى تجويزه في غير الشعر: تأنيث المذكّر المضاف إلى المؤنث، كقولك: " ذهبت بعض أصابعه "، " واجتمعت أهل اليمامة ". قال الشاعر: وتشرق بالقول الّذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدّم (¬3) وإنما الوجه أن يقول: كما شرق صدر القناة، لأن الصّدر مذكّر، والفعل له. ومثله: إذا بعض السّنين تعرّقتنا … كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (¬4) وإنما الوجه أن يقول: تعرّقنا؛ لأن الفعل للبعض وهو مذكّر. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 100. (¬2) البيت بلا نسبة في المذكر والمؤنث للمبرد 108. (¬3) البيت للاعشى الكبير في ديوانه 94، واللسان (شرق). (¬4) البيت لجرير في ديوانه 507، والخزانة 2/ 167، وابن يعيش 5/ 96، واللسان (عرق).

وقد ذكر سيبويه هذه الأبيات وغيرها مما يشاكلها في باب بعد هذا. ونحن نستقصى الكلام فيها إذا صرنا إليها. واحتج أبو العباس في تجويز هذا المعنى، وجودته في غير الشعر بقوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (¬1) فذكر أنه أجرى " خاضعين " على الهاء والميم التي أضيفت إلى الأعناق، واعتمد على أصحابها فقال: فظلوا لها خاضعين، فكذلك إذا قلت: شرقت صدر القناة، كأنك لم تذكر الصدر واعتمدت على ما أضيف إليه الصدر. وهذه الآية فيها تأويلات غير ما تأول أبو العباس، منها: أن الأعناق هم الرؤساء، كما يقال: " هؤلاء رؤوس القوم " و " هؤلاء وجوه القوم " يراد به الرؤساء والمنظور إليهم، وليس القصد إلى الرؤوس المركّبة على الأجساد، ولا إلى الوجوه المخلوقة في الرؤوس، فكأنه قال: فظلّت رؤساؤهم خاضعين. ومنها أن أبا زيد حكى وغيره أن العرب تقول: " عنق من النّاس " في معنى جماعة. قال الهذلي: تقول العاذلات أكلّ يوم … لرجلة مالك عنق شحاح كذلك يقتلون معي ويوما … أؤوب بهم وهم شعث طلاح (¬2) فجعل العنق الجماعة. وقال الشاعر في تذكير ما ينبغي تأنيثه: فلا مزنة ودقت ودقها … ولا أرض أبقل إبقالها (¬3) أراد: ولا أرض أبقلت إبقالها، وقد كان يمكنه أن يقول: ولا أرض أبقلت ابقالها، فيخفف الهمزة غير أنه آثر تحقيقها، فاضطره تحقيقها إلى تذكير ما يجب تأنيثه، وتأوّل في الأرض المكان؛ لأن الأرض مكان، فذكّر لذلك. ومن ذلك قوله: فإمّا ترى لمّتي بدّلت … فإنّ الحوادث أودى بها (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، آية: 4. (¬2) البيتان في ديوان الهذليين 237. (¬3) البيت لعامر بن جوين الطائي في سيبويه 1/ 240، والخزانة 1/ 21، وابن يعيش 5/ 94، واللسان (ودق). (¬4) البيت للأعشى في ديوانه 120، وسيبويه 1/ 239، والخزانة 4/ 578، وابن يعيش 5/ 95.

ذهب بالحوادث مذهب الحدثان. وهذا الباب إذا تقدم الفعل فيه لم يستقبح تذكير المؤنث فيما ليس بحيوان، كقوله تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ (¬1) وقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (¬2) لأن الفعل إذا تقدم، فهو عار من علامة الاثنين والجماعة، فشبهوا تعرّيه من علامة التأنيث بذلك. وإذا كان الفاعل مؤنثا حيوانا، وتقدّم الفعل، لم يحسن التذكير إلا في الشّعر، لا يحسن أن تقول: " ذهب هند " ولا " ذهب امرأة ". قال جرير: لقد ولد الأخيطل أمّ سوء … على جار استها صلب وشام (¬3) وقال آخر: إذ هى أحوى من الرّبعىّ خاذله … والعين بالإثمد الحاريّ مكحول (¬4) وكان ينبغي أن يقول: مكحولة؛ لأن العين مؤنثة، فتأول تأويل الظروف. وقال آخر: أرى رجلا منهم أسيفا بماله … يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا (¬5) قال سيبويه: " اعلم أنه يجوز في الشّعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء، لأنها أسماء كما أنها أسماء، وحذف ما لا يحذف، يشبّهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا ". قال أبو سعيد: أما قوله: " يجوز في الشعر صرف ما لا ينصرف " فقد ذكرناه. وقوله: " يشبهونه بما ينصرف من الأسماء " يريد أنهم يشبهون ما لا ينصرف بما ينصرف وتشبيههم له به أنهم يردّونه إلى أصله الذي هو من الصرف بحق الاسمية. والدليل على أن الاسم الذي لا ينصرف أصله الصرف، أن الشاعر لا يجوز له أن ¬

_ (¬1) سورة هود، آية: 67. (¬2) سورة البقرة، آية: 275. (¬3) البيت في ديوانه 515، وخزانة الأدب 2/ 368. (¬4) البيت لطفيل الغنوي في ديوانه 49، وسيبويه 1/ 240. (¬5) البيت للأعشى الكبير في ديوانه 89، وخزانة الأدب 3/ 156، واللسان (خضب).

يعمل بالفعل عند الضرورة من التنوين والجر ما يعمله بالاسم الذي لا ينصرف، فعلمنا أن الذي فرق بينهما أنه يرد الاسم إلى حالة قد كانت له، وليس للفعل أصل في التنوين والجر يردّه إليه عند الضرورة، وقد ذكرنا حذف ما لا يحذف في الشعر بما أغنى عن إعادته. وأنشد سيبويه لخفاف بن ندبة: كنواح ريش حمامة نجديّة … ومسحت بالّلثتين عصف الإثمد استشهد في حذف الياء من " كنواح " وكان ينبغي أن يقول: " كنواحي "، وإنما حذف الياء تشبيها بالياء التي تسقط في الواحد، لدخول التنوين، كقولك: " قاض " و " رام "، والإضافة والألف واللام معاقبتان للتنوين، فسقطت الياء للإضافة، كما سقطت مع التنوين. وزعم أبو محمد التّوّزيّ، وهو من متقدّمي أهل اللغة من أصحاب أبي عبيدة، أنه بلغه أن ابن المقفع وضع هذا البيت. وقال أبو عمر الجرمي: هو لخفاف. وأنشد سيبويه: فطرت بمنصلى في يعملات … دوامي الأيد يخبطن السّريحا (¬1) والوجه: الأيدي. وإنما يصف أنه مضى بسيفه. وهو المنصل، في نوق فعقرهنّ، ودميت أيديهن فخبطن السّيور المشددة على أرجلهن، وهي السّريح الذي ذكره. وأنشد سيبويه للنجاشي: فلست بآتيه ولا أستطيعه … ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد: ولكن. وأنشد سيبويه لمالك بن حريم الهمداني، وحريم هو اسم أبيه، المعروف عند الرواة وأهل اللغة. وكان أبو العباس المبرد يقول: خزيم، وينسب في ذلك إلى التصحيف. قال أبو سعيد: وأخبرني أبو بكر بن السراج أنه وجد بخط بعض اليزيديين: حريم وخريم جميعا. قال: فإن يك غثّا أو سمينا فإنّني … سأجعل عينيه لنفسه مقنعا أراد: لنفسهي، وهو يصف ضيفا؛ يقول: إن كان ما عندي غثّا أو سمينا، فإنني ¬

_ (¬1) البيت لمضرس بن ربعي الأسدي في اللسان (يدى).

أبذله وأقدمه إليه كلّه حتى يقنع به. وقوله: " عينيه " يريد: ما تراه عيناه. وأنشد سيبويه لرؤبة: ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا (¬1) ويروى: " الإضخمّا "، و " الضّخمّا " فمن قال: " الضّخمّا " جعله على مثال: " خدبّ " و " هجفّ ". ومن قال: " الإضخمّ " جعله على مثال: " إرزبّ "، وليس الشاهد في واحد منهما، وإنما الشاهد في " الأضخمّا " لأنه كان ينبغي أن يقول " الأضخم " مثل قولك: " الأعظم " و " الأكبر ". وأنشد لحنظلة بن فاتك: أيقن أنّ الخيل إن تلتبس به … يكن لفسيل النخل بعده آبر أراد: " بعد هو " وهو يصف رجلا بالشجاعة والإقدام، يريد أنه قد علم أنه إن قتل أو مات لم تتغيّر الدّنيا، وكان للنخل من يقوم بها ويصلحها. والآبر: الملقح للنّخل. وأنشد لرجل من باهلة: أو معبر الظّهر ينبي عن وليّته … ما حجّ ربّه في الدنيا ولا اعتمرا يريد: " ربّهو في الدنيا ". وهذا رجل لصّ يتمنى سرقة جمل معبر الظهر، وهو الذي على ظهره وبر كثير، وهو سمين لسمنه ينبي عن وليّته وهي البرذعة. وينبي عنها: يزيلها ويرفعها. وقوله: " ما حج ربّه " يريد أن صاحبه لم يحج عليه فينضيه، فهو يتمناه في أحسن ما يكون. وأنشد سيبويه للأعشى: وما له من مجد تليد وما له … من الرّيح فضل لا الجنوب ولا الصّبا (¬2) أراد: " وما لهو ". ومعنى البيت أنه يهجو رجلا ويقول إنه لا خير عنده قليل ولا كثير؛ وذلك أن الجنوب أغزر الأرواح عندهم خيرا؛ لأنها تجمع السحاب وتلقح المطر، والصّبا أقل الأرواح عندهم خيرا، لأنها تقشع الغيم، فليس لهذا المهجو خير قليل ولا كثير. وقال بعضهم: الأرواح التي فيها الخير ونماء الأشياء: الجنوب والصّبا، فالجنوب ¬

_ (¬1) البيت في ملحق ديوانه 183، وسيبويه 1/ 11، واللسان (ضخم). (¬2) البيت في ديوانه ص 90، وسيبويه 1/ 12.

تلقح السحاب، وتدرّ الأمطار، والصّبا تلقح الأشجار وتنمّها، والدّبور تثير العجاج، والشّمال تطيب النّسيم وتبرد المياه. فالخير إنما هو في الجنوب والصّبا، فنفى حظّه منهما. وقال بعضهم: المطر يكون بالجنوب والصّبا وهو الخير، فنفى حظه منها. والدليل على ذلك قول بشير بن النّكث الكلبي: الله أسقاك غزيرا بؤقه … جاءت به ريح الصّبا تصفّقه وأنشد سيبويه للمرار بن سلامة العجلي: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم … إذا جلسوا منا ولا من سوائنا وكان ينبغي ألا يدخل " من " على سواء؛ لأنها لا تستعمل إلا ظرفا، ولكنه جعلها بمنزلة " غير " في إدخال " من " عليها. وكذلك قول الأعشى: ... … وما قصدت من أهلها لسوائكا (¬1) و" سواء " و " سوى " معناهما واحد، فإذا فتحت السين مددت، وإذا كسرتها قصرت. وأنشد سيبويه لخطام المجاشعي: وصاليات ككما يؤثفين جعل الكاف الثانية بمنزلة " مثل " وأدخل عليها الكاف الأولى. وأما قوله: " يؤثفين " أي يجعلن أثافيّ. وقد اختلف النحويون في وزن " يؤثفين " فقال قائلون: إنه يؤفعلن، والهمزة زائدة، والثاء فاء الفعل، وكان ينبغي أن يقول: " يثفين " كما تقول: " يبلين " و " يرضين " غير أنه ردّ الهمزة الزائدة، التي هي في الماضي للضرورة، كما يضطر الشاعر فيقول: " يؤكرم " مثل قوله: فإنه أهل لأن يؤكرما (¬2) ومن قال هذا، قال: " أثفيّة " وزنها أفعولّة، ويستدلّ على ذلك بقول العرب: ثفيت القدر: إذا جعلتها على الأثافي. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 66 وصدره: " تجانف عن جو اليمامة ناقتي " في اللسان (جنف). (¬2) البيت بلا نسبة في اللسان (كرم).

هذا باب الفاعل

وقال آخرون: " يؤثفين " وزنه يفعلين بمنزلة " يسلقين ". ومن ذلك " سلقى " " يسلقي "، فالهمزة فاء الفعل. ومن قال هذا، قال: " أثفيّة " وزنها فعليّة، واستدل على ذلك بقول العرب: تأثّفني القوم إذا صاروا حولك كالأثافي. قال النابغة: لا تقذفنّي بركن لا كفاء له … وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد (¬1) تأثفك، تفعّلك، والهمزة أصلية، وهي فاء الفعل. هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولا تعدّى فعله إلى مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى مفعول، وما يعمل من المصادر ذلك العمل، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها، وما أجري مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوّته، وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت لك ولا الصّفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء وتكون لأحداثها أمثلة لما مضى ولما لم يمض، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوّة كأسماء الفاعلين والمفعولين، التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها، وليست لها قوّة أسماء الفاعلين التي ذكرت ولا هذه الصفات، كما أنّه لا يقوى قوّة الفعل ما جرى مجراه وليس بفعل. قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب يشتمل على تراجم أبواب تجيء مفصّلة بعده بابا بابا بما يتضمّنه من أصوله ومسائله، ولكنّا نفسّر معنى باب باب جملة، إلى أن نجيء إلى تفصيله، فنضع كل شيء في موضعه الذي ذكره فيه. قوله: " هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول " بريد به: " قام زيد " و " ذهب عمرو " وسائر ما كان من الأفعال التي لا تتعدى. والمفعول الذي يعنيه هاهنا هو المفعول به، الذي يصل الفعل إليه بغير حرف جرّ؛ كقولك: " ضرب زيد عمرا "، ولا يدخل في معنى ذلك: المفعول فيه، ولا المفعول معه، ولا المفعول له، ولا المفعول ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 21.

المطلق، وهو المصدر. وأنا أفسر هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقوله: " والمفعول الذي لم يتعد إليه فعل فاعل، ولا تعدى فعله إلى مفعول آخر "، يريد به: " ضرب زيد " فزيد هو مفعول في الحقيقة، و " ضرب " هو فعل له. وليس يريد أنه على الحقيقة: فعل له أوقعه، وإنما يريد أنه فعل بني له ورفع به، وإن كان قد وصل إليه من غيره، كما يبنى الفعل للفاعل، وربما لم يكن هو الموقع له؛ كقولنا: " مات زيد " و " طلعت الشّمس "، فزيد لم يفعل موته، ولا الشمس طلوعها، وإنما الله تعالى أماته وأطلعها، وقد ينسب الفعل إليهما. ومما يسوّغ هذا أن الفعل أصله مصدر، والمصادر قد تنسب إلى فاعليها ومفعوليها، فنسبتها إلى فاعليها؛ كقولك: " قيام زيد " و " بناء عمرو "، ونسبتها إلى مفعوليها قولك: " بناء الحائط " و " دقّ الثّوب ". فمعنى قوله " والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل " يعني لم يذكر له فاعل بني الفعل له، ولا تعدّى هذا الفعل المبنيّ للمفعول إلى مفعول آخر منصوب: كقولك: " كسى عمر جبّة " و " أعطي زيد درهما "، فقولك: " أعطى زيد درهما " و " كسي عمر وجبّة " فعل مفعول تعدّى إلى مفعول آخر، فأراد أن يفصل بين " ضرب زيد " و " أعطي زيد درهما " في أن " ضرب " لا يتعدّى المفعول إلى مفعول آخر، و " أعطى " يتعدّى المفعول إلى مفعول آخر. وقوله: " وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدّى إلى مفعول ". واعلم أن اسم الفاعل المشتقّ له من الفعل يعمل عمل الفعل: كقولك: " هذا ضارب زيدا "، فضارب ينصب زيدا، كما ينصبه " يضرب "، إذا قلت: " هذا يضرب زيدا "، وإذا قلت: " هذا معط زيدا درهما " و " هذا حاسب أخاك منطلقا "، و " معلم زيدا عمرا قائما " فهو بمنزلة: " يعطي " و " يحسب " و " يعلم ". وإذا قلت: " هذا معطى درهما " فهو بمنزلة قولك: " هذا يعطي درهما " فيعطي هو فعل مفعول تعدّى إلى مفعول آخر، و " معطى " اسم المفعول المشتق من هذا الفعل، فيعمل عمله. وكذلك تقول: " هذا مكسوّ أبوه ثوبا " فيعمل " مكسوّ " عمل " يكسى " ويصير بمنزلة قولك: " هذا يكسى أبوه ثوبا ". وقوله: " وما يعمل من المصادر ذلك العمل ". اعلم أن المصدر يعمل عمل الفعل المشتق منه، كقولك: " أعجبني ضرب زيد عمرا " و " دقّ الثّوب القصّار " و " إعطاء عمرو

زيدا درهما " و " عجبت من حسبان أخوك منطلقا ". فهذه المصادر تعمل عمل أفعالها، فتصير بمنزلة قولك: أعجبني أن ضرب زيد عمرا، وأن دقّ الثّوب القصّار، وأن أعطى عمر زيدا درهما، وعجبت أن حسب أخوك أباك منطقا، تقدّرها أبدا بأن والفعل بعدها. ويجوز أن تضيفها، فتخفض الذي تضيفها إليه فقط، وتجري الباقي على ما يوجبه معناه، فإن كان فاعلا رفعته، وإن كان مفعولا نصبته؛ كقولك " أعجبني ضرب زيد عمرا " و " دقّ الثّوب القصّار "، وإذا أدخلت عليها الألف واللام، فهي بمنزلتها منّونة. وقوله: " وما يجري من الصّفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدّي إلى مفعول مجراها "، يريد: حسن الوجه وبابه؛ كقولك: " مررت برجل حسن الوجه " و " حسن الوجه "، فتعمل حسنا في الوجه، كما تقول: " مررت برجل ضارب زيدا "، فتعمل ضاربا في زيد، " وهذا حسن الوجه " كما تقول: " هذا ضارب زيدا " و " معطى درهما " و " مكسوّ جبّة "، غير أنك لا تقول: " هذا الوجه حسن " فتقدم الوجه، وتقول: " هذا زيدا ضارب " و " جبّة مكسوّ "، فالصفة هي قولك: " حسن الوجه "، وأسماء الفاعلين: " ضارب زيدا "، وأسماء المفعولين: " مكسوّ جبّة ". ولم يبلغ " حسن الوجه " أن يكون في القّوة كضارب زيدا، ومكسوّ جبّة؛ لأن هذا يجوز فيه التقديم والتأخير، والصّفة لا يجوز فيها ذلك، وأسماء الفاعلين والمفعولين تجري مجرى الفعل في جميع تصرفه. والهاء في قوله: " مجراها " تعود إلى أسماء الفاعلين، وتقدير اللفظ: وما يجري من الصفات مجرى أسماء الفاعلين، وهي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول. وقوله: " وما أجرى مجرى الفعل، وليس بفعل ولم يقو قوّته "، يعني: إنّ وأخواتها وذلك لأن (إنّ وأخواتها) حروف قد عملت عمل الأفعال المتعدّية إلى مفعول، وذلك أنك إذا قلت: " إنّ زيدا قائم " كلفظ: " ضرب زيدا قائم "، بمنزلة فعل قد تقدّم مفعوله على فاعله، وليس له قوة الفعل؛ لأنه لا يتقدم الاسم عليه، ولا يتقدم المرفوع الذي هو خبره على المنصوب. وقوله: " وما جرى من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين .. " إلى آخر الباب؛ يعني

هذا باب الفاعل

به: ما ينصب من الأسماء على طريق التمييز، كقولك: " هذه عشرون درهما " و " ما في السّماء موضع راحة سحابا "، فهذا أضعف عوامل الأسماء؛ لأنه لا يعمل إلا في منكور ولا يتقدّم عليه ما يعمل فيه، فهذا ليس بمنزلة أسماء الفاعلين، ولا بمنزلة الصفات، ولا هي بمنزلة المصادر؛ لأن المصادر تعمل في المعرفة والنكرة، ويتقدّم فاعلوها على مفعوليها، فليست لعشرين درهما وبابه زيادة قوّة شيء من العوامل التي قبلها، ثم عاد إلى العوامل فقال: " عشرون درهما " وهي ناصبة ولم تبلغ أن تكون في القوة كالنواصب التي قبلها، فاعرف ذلك. هذا باب الفاعل الذي لم يتعدّه فعله إلى مفعول والمفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل ولم يتعدّه فعله إلى مفعول. وقد فسرنا هذه الترجمة. قال سيبويه: " والفاعل والمفعول في هذا سواء، يرتفع المفعول كما يرتفع الفاعل؛ لأنّك لم تشغل الفعل بغيره، وفرّغته له كما فعلت ذلك بالفاعل ". قال أبو سعيد: إن قال قائل: لم كان الفاعل مرفوعا، دون أن يكون منصوبا أو مخفوضا؟ قيل له: في ذلك وجوه؛ منها: أن الفاعل واحد والمفعول جماعة؛ لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول ومفعولين وثلاثة، ويتعدّى إلى المفعول له، والمفعول معه، ويتعدى إلى ظرف الزمان والمكان والحال والمصدر، فكثر فاختير لهم أخفّ الحركات، وجعل للفاعل إذ كان واحدا أثقلها؛ لأن إعادة ما خفّ تكريره في الأسماء الكثيرة أيسر مئونة مما يثقل. ووجه ثان: وهو أن الفاعل أوّل؛ لأنّ ترتيبه أن يكون بعد الفعل؛ لأن الفعل لا يستغني عنه، ويجوز الاقتصار عليه دون المفعولين، والمفعول بعد الفاعل في ترتيبه، فلما كان كذلك، وكانت الحركات مختلفة المواضع، لاختلاف مواضع الحروف المأخوذة منها هي، وذلك أن الحركات ثلاث: والفتحة مأخوذة من الألف، ومخرج الواو من بين الشفتين، ومخرج الياء من وسط اللسان، ومخرج الألف من الحلق فأوّل هذه المخارج وأقربها متناولا الواو، فجعلوا الحركة المأخوذة منها لأوّل الأسماء رتبة، وآخرها لآخرها رتبة، وهاتان علتان مرضيتان.

وربما احتجّ بعض النحويين بأن يقول: الفاعل من المفعول؛ لأنه محتاج إليه، فجعل له أقوى الحركات للمشاكلة. وقد احتج بعضهم بأن قال: أوّل ما يرد من الأسماء الفاعل، فيرد والنفس جامّة، فاستعمل له أقوى الحركات؛ لقوة النّفس عند وروده على إتمام النطق، وجعل أخفّ الحركات لما بعده. وقد احتج بعضهم بأن الفاعل مضارع للمبتدأ؛ لأنه يخبر عنه بفعله الذي قبله، كما يخبر عن المبتدأ بخبره الذي بعده، فالفعل والفاعل كالمبتدأ والخبر، إلا في التقديم والتأخير والزّمان الذي يدلّ على صيغة الفعل، ألا ترى أنّك إذا قلت: " قام زيد " فمعناه " زيد قائم " إلا أن " قام زيد " قد دلّ على زمان متقدّم، والقيام الذي به خبّرت عن زيد ملفوظ به قبله. وإذا قلت: " زيد قائم " فهو غير دالّ على زمان متقدّم أو متأخر. واعلم أن قولنا: فاعل وفعل ليس المقصد فيه إلى أن يكون الفاعل مخترعا للفعل على حقيقته، وإنما يقصد في ذلك إلى اللفظ الذي لقّبناه فعلا في أول الكتاب الدال بصيغته على الأزمنة المختلفة، متى ما بنيناه لاسم ورفعناه به، سواء كان مخترعا له أو غير مخترع رفعناه به وسمّيناه فاعلا من طريق النحو، لا على حقيقة الفعل، ألا ترى أنا نقول: " مات زيد "، ولم يفعل موتا، ونقول من طريق النحو: " مات " فعل ماض و " زيد " فاعله، و " طلعت الشّمس " و " انتصبت الخشبة " و " نظف ثوبك "، وما أشبه ذلك من الأفعال التي لا تحصى. وقد ينقل الفعل عن الاسم الذي سميناه فاعلا، ويحذف الفاعل، ويغير لفظ الفعل، ويرفع به ما كان مفعولا في اللفظ، كقولنا: " ضرب زيد عمرا "، تحذف زيدا وتغير الفعل، وتبنيه لعمرو. وسبيل هذا سبيل الفاعل الذي بنينا له الفعل، ورفعناه به، غير أنّ النحويين يسمّون هذا الفعل: فعل مفعول به؛ لأنه قد كان له فاعل حذف وغيّر لفظ الفعل بالحركات، والعمل فيها واحد، فالذي يرتفع بالفعل هو الذي يشغل الفعل به سواء كان فاعلا أو مفعولا أقيم مقام الفاعل. ومعنى شغل الفعل به أنّك تجعله خبرا غير مستغن عنه. وذلك معنى قول سيبويه: " لأنّك لم تشغل الفعل بغيره " يعني إذا قلت: " ضرب زيد " لم تشغل الفعل بغيره، ولو شغلت الفعل بغيره لنصبته كقولك: " ضرب عمرو زيدا ". ثم قال سيبويه بعد أن مثّل فعل الفاعل وهو: " ذهب زيد "، وفعل المفعول وهو: " ضرب زيد " فقال: " والأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى وعلى ما لم

هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول

يمض من المحدّث به عن الأسماء، وهو الذهاب والجلوس والضّرب ". يعني أنك إذا قلت: " ذهب زيد " و " جلس عمرو " و " يضرب أخوك " فقد دللت على ذهاب في زمان ماض كان من زيد، وجلوس كان من عمرو، وضرب يقع بالأخ في زمان مستقبل، فحدثت عن زيد بذلك الذهاب الماضي، وحدّثت عن الأخ بالضرب الذي يقع به، والأمثلة هي أمثلة الأفعال التي منها ماض وغير ماض، والمحدّث به عن الأسماء هو المصادر والأسماء هاهنا هم المسمّون الفاعلون، كأنه أراد أصحاب الأسماء. وقد مضى هذا في أول الكتاب. فإن قال قائل: لم قال سيبويه: " فالأسماء المحدّث عنها والأمثلة دليلة على ما مضى، وعلى ما لم يمض "، ونحن نعلم أن الأمثلة وحدها هي الدالة على الأزمنة الماضية وغير الماضية، والأسماء لا تدل على ذلك؟ فالجواب عنه أن يقال: إن الفعل بنفسه إذا عري من الاسم لم يكن كلاما، وإنما يتمّ الكلام بذكر الفاعل معه، فإذا ذكر الفعل والفاعل دلّ حينئذ على المصادر المحدّث بها عن الأسماء، غير أن الدلالة على الأزمنة للأفعال وخلط الأسماء بها لاحتياجها إلى الأسماء أعني احتياج الفعل. ثم قال سيبويه: " وليست الأمثلة بالأحداث، ولا يكون ما كان منه الأحداث ". يعني أن قولك: " قام ويقوم " و " انطلق وينطلق " و " ضرب ويضرب " وما أشبه ذلك من أمثلة الفعل ليست هي المصادر، وذلك أن هذه الأمثلة تدل على المصادر والأزمنة، فليست هي المصادر وحدها ولا هذه الأمثلة الفاعلين الذين يكون منهم الأحداث، كزيد وعمرو وسائر الأسماء التي يقع منها الأحداث. وقوله: " هي الأسماء ". يريد أصحاب الأسماء الفاعلين. هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعول قال سيبويه: " وذلك قولك: ضرب عبد الله زيدا، فعبد الله ارتفع هاهنا كما ارتفع في ذهب، وشغلت ضرب به، كما شغلت به ذهب ". وقد فسرنا هذا. وشبه سيبويه رفع الفاعل الذي يتعدى فعله في " ضرب ". برفع الفاعل الذي لا يتعدى فعله في " ذهب "، لاجتماعهما في أنهما فاعلان قد شغل الفعل بهما، وإن كانا قد اختلفا في التعدّي.

ثم قال: " وانتصب زيد، لأنه مفعول تعدّى إليه فعل الفاعل ". وقد بينا هذا. ثم قال: " إن قدّمت المفعول وأخّرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأوّل، وذلك قولك: ضرب زيدا عبد الله؛ لأنك إنما أردت به مؤخّرا ما أردت به مقدّما، ولم ترد أن تشغل الفعل بأوّل منه، وإن كان مؤخّرا في اللفظ، فمن ثمّ كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما وهو عربيّ جيّد كثير، كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم ". قال أبو سعيد: أمّا قولهم: " ضرب زيدا عبد الله "، فإنهم قدّموا المفعول على الفاعل لدلالة الإعراب عليه، فلم يضرّ من جهة المعنى تقديمه، واكتسبوا بتقديمه ضربا من التوسّع في الكلام؛ لأن في كلامهم الشّعر المقفّى والكلام المسجّع، وربما اتفق أن يكون السجع في الفاعل فيؤخّرونه. فإذا وقع في الكلام ما لا يتبين فيه الإعراب في فاعل ولا مفعول قدّم الفاعل لا غير، كقولهم: " ضرب عيسى موسى "، فعيسى هو الفاعل لا غير، وإن بان الإعراب في أحدهما جاز التقديم والتأخير، كقولك: " ضرب زيدا عيسى " و " ضرب عيسى زيدا ". والفاعل كيفما تصرفت فيه الحال، فهو الذي يبنى له الفعل، والمفعول كالفضلة في الكلام؛ للاستغناء عنه، والفاعل وإن كان مؤخرا في اللفظ فإن تقديره التقديم؛ لأن الفعل لا يستغنى عنه. وقول سيبويه: " فمن ثم كان حدّ اللفظ أن يكون فيه مقدّما ". يعني إنما أردت أن تشغل الفعل بالفاعل وتبنيه له، وإن كان في اللفظ مؤخرا، أو لم ترد أن يبنى الفعل لاسم قبل الفاعل، وهو قوله: " أن تشغل الفعل بأوّل منه " يعني بالمفعول الذي هو قبله، لأن حدّ اللفظ أن يكون مقدّما، وليس يريد بقوله: " حد اللفظ " أن يكون تقديم الفاعل هو حدّ اللفظ الذي لا يحسن غيره، وإنما نريد بحد اللفظ: ترتيبه وتقديره. وقوله: " وهو عربي جيّد كثير ". يريد به تقديم المفعول، وردّ كلامه هذا إلى قوله: " وإن قدّمت المفعول وأخّرت الفاعل ". وقوله: " كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهم ". معنى ذلك أنه قد تكون أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه به، كمثل ما يريده الناس من قتل

خارجي مفسد في الأرض، ولا يبالون من قتله، فإذا قتله زيد فأراد مخبر أن يخبر بذلك قدم الخارجي في اللفظ؛ لأن القلوب متوقعة لما يقع به من أجله، لا من أجل قتله، فتقول: " قتل الخارجيّ زيد ". وإن كان رجل ليس له بأس، ولا يقدّر فيه أن يقتل أحدا، فقتل رجلا، فأراد الخبر أن يخبر بهذا المستبعد من هذا القاتل، كان تقديم القاتل في اللفظ أهمّ؛ لأن الغرض أن يعلم أنه قتل إنسانا، فيقال: " قتل زيد رجلا ". وهذا الكلام إنما هو على قدر عناية المتكلم، وعلى ما يسنح له وقت كلامه وربما فعل هذا لطلب سجع أو قافية أو كلام مطابق، ولأغراض شتي اكتفاء بدلالة اللفظ عليه. ثم قال سيبويه: " واعلم أن الفعل الذي لا يتعدّى الفاعل، يتعدّى إلى اسم الحدثان الذي أخذ منه؛ لأنّه إنما يذكر ليدل على الحدث ". يعني أنّ الفعل يعمل في مصدره، وإن كان لا يتعدّى الفاعل، كقولنا: " قام زيد قياما ". والمصدر أصحّ المفعولات؛ لأن الفاعل يحدثه ويخرجه من العدم إلى الوجود، وصيغة الفعل تدلّ عليه، والأفعال كلها متعدّية إليه عاملة فيه، كقولك: " ضرب زيد عمرا ضربا " و " قتل بكر خالدا قتلا ". وأنا أذكر الأشياء التي تشترك الأفعال في تعدّيها إليها، والأشياء التي تختلف فيها، إن شاء الله: فأما الأشياء التي تشترك في تعدّي الأفعال إليها، وعملها فيها، فهي المصادر وظروف الزمان والمكان والحال، والمفعول معه، والمفعول له. فأما المصدر فقد ذكرناه، وظروف الزمان كقولك: " قام زيد يوم الجمعة "، وظروف المكان: " قام زيد خلفك ". والحال: " قام زيد ضاحكا " أي في حال ضحكه، والمفعول معه قولك: " ما صنعت وأباك "؟ و " جاء الشّتاء والطّيالسة "، تريد: ما صنعت مع أبيك؟، وجاء الشتاء مع الطيالسة، والمفعول له: " قام زيد حذر الشّرّ "، يريد لحذر الشّر ومن أجله. وأما اختلاف الأفعال في غير هذه الستة، فمن الأفعال ما لا يتعدّى إلى شيء سوى هذه الستة، كقولك: " قام زيد " و " ذهب عمرو ". ومنها ما يتعدى إلى مفعول سواها، كقولك: " ضرب زيد عمرا ". ومنها ما يتعدّى إلى مفعولين وهو على ضربين: أحدهما يجوز الاقتصار على أحد المفعولين فيه، كقولك: " أعطى زيد عمرا درهما "، ويجوز أن تقول: " أعطى زيد عمرا " و " أعطى زيد درهما " وتسكت والضرب الآخر: لا يجوز فيه الاقتصار على أحدهما، وهو

قولك: " حسب زيد عمرا منطلقا " ولا يجوز أن تقول: " حسب زيد عمرا " ولا " حسب زيد منطلقا ". ومنها ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين سوى الستّة؛ كقولك: " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا ". والنحويون يذكرون تعدّي الأفعال إلى أربعة من الستة، واشتراكها فيها، وهي المصادر، وظروف الزمان، وظروف المكان، والحال، ولم يذكروا المفعول معه، ولا المفعول له مع هذه الأربعة، وذلك أن كلّ فعل لا بدّ له من مصدر، وظرف زمان، وظرف مكان، وحال، وقد تخلو من المفعول له، والمفعول معه، وذلك أن المفعول له هو الذي وقع الفعل من أجله وهو الغرض الداعي للفاعل إلى إيقاع الفعل، والمفعول معه هو الذي يشاركه الفاعل ويلابسه فيه، تقول: " قام زيد حذر الشّرّ "، فكأنه قام، وكان غرضه في قيامه أن يكفى الشر الذي يحذره و " قام زيد ابتغاء الخير " أي لابتغاء الخير وكان قصده إلى ذلك. ولو أن إنسانا تكلّم وهو نائم، أو فعل فعلا وهو ساه، ولم يكن له فيه غرض، لم يكن في فعله مفعول له، ولو فعل فعلا لم يشاركه فيه غيره لم يكن مفعول معه، فذكر النحويون الأربعة التي يحتاج الفعل إليها، ولا يستغني عن واحد منها مذكورا أو محذوفا، وهذه المفعولات تجيء واحدا واحدا مشروحا إن شاء الله تعالى. فقول سيبويه: " إن الفعل الذي لا يتعدّى، يتعدّى، إلى اسم الحدثان " نحو " ذهب زيد ذهابا "، فذهب هو فعل لا يتعدّى، والحدثان هو الذّهاب، واسمه هذا اللفظ؛ أعني لفظ الذهاب. وقوله: " ألا ترى أنّ قولك: " قد ذهب " فيه دليل على أنه قد كان منه ذهاب ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه يجعل المفعول الذي تدلّ صيغة الفعل عليه أقوى من المفعول الذي لا تدلّ صيغة الفعل عليه، والمفعول الذي تدل صيغة الفعل عليه اثنان: المصدر وظروف الزمان، فبدأ سيبويه بالمصدر؛ لأنه أقوى من ظروف الزمان؛ لأن الفاعل قد فعله وأحدثه، ولم يفعل الزمان، وإنما فعل فيه. ثم قال سيبويه: " وإذا قلت ضرب عبد الله، لم يتبيّن أن المفعول زيد أو عمرو ". يريد أن " ضرب عبد الله " في تعدّيه إلى " زيد " ليس بمنزلة " ذهب عبد الله " في

تعدّيه إلى الذهاب، وذلك أنك إذا قلت: " ذهب عبد الله " فقولك: " ذهب " يدلّ على ضرب من المصادر والأحداث دون سائرها، وهو " الذّهاب "، فإذا قلت: " ضرب عبد الله " أمكن أن يكون الضرب واقعا بجميع الأسماء نحو " زيد " و " عمرو " و " بكر " و " خالد "، فمفعول الضرب لم تدل عليه صيغة فعله، كما دلت على المصدر. ثم مثّل فقال: " وذلك قولك: ذهب عبد الله الذّهاب الشديد، وقعد قعدة سوء، وقعد قعدتين، لمّا عمل في الحدث عمل في المّرّة منه والمرّتين، وما يكون ضربا منه، فمن ذلك: قعد القرفصاء، واشتمل الصّمّاء، ورجع القهقرى؛ لأنّه ضرب من فعله الذي أخذ منه ". وقال أبو سعيد: اعلم أن المصادر على ثلاثة أنحاء: فنحو منها يدلّ على نوع المصدر فقط، كقولك: " ضرب زيد ضربا " و " قعد قعودا " فضربا وقعودا يدلان على نوع الضرب والقعود، ولا يدلان على مرّة، ولا مرّتين، ولا على صفة دون صفة. والنحو الثاني: يدل على الكمية والعدد، كقولك: " قعد زيد قعدتين " و " ضرب زيد عمرا ضربة ". والضرب الثالث: يدل على كيفية المصدر، كقولك: " قعد القرفصاء " و " اشتمل الصّمّاء " و " رجع القهقرى " و " قعد قعدة سوء "، وذلك أن " القرفصاء " هو ضرب من القعود على وصف لا يقع على كل قعود، وهو أن يقعد مجتمعا متداخلا، وتقديره: قعد القعود القرفصاء، فحذف القعود، وأقام القرفصاء مقامه، و " اشتمل الصّمّاء " معناه: الاشتمالة الصّمّاء، وهو أن يتجلّل بثوب، ويكون يداه داخل الثوب، وليس كلّ اشتمال كذلك، و " رجع القهقرى " ومعناه: رجع الرجوع القهقرى، كأنه رجع كما ذهب متوجّها الوجه الذي كان منه الذهاب، وليس كل رجوع كذلك. وكذا " قعد قعدة سوء "، القعدة هي حال قعوده ووصفه، فقد يكون قعدة سوء وقد يكون قعدة صدق، وليست من باب " قعدة "؛ لأن قعدة تقع على مرّة فقط. وهذه الأنحاء التي ذكرناها يتعدّى الفعل إليها؛ لأنها كلها مصادر وإن كانت مختلفة في أنفسها، فقوله: " الذّهاب الشّديد " هو من باب يدل على النّوع، غير أنه أدخل الألف واللام فيه، وعرّفه، ووصفه بالشّدة. وقوله: " لمّا عمل في الحدث عمل في المرّة منه والمرّتين " يعني لمّا عمل " قعد " في

" قعود " من قولك: " قعد قعودا " عمل في " قعدة " و " قعدتين " إذا قلت: " قعد قعدة " و " قعدتين " وعمل في " القرفصاء "، و " الصّمّاء " و " القهقرى "، لأنه صفة المصدر وضرب منه، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " ويتعدّى إلى الزّمان نحو قولك: ذهب؛ لأنّه بني لما مضى منه وما لم يمض، فإذا قال: ذهب، فهو دليل على أنّ الحدث فيما مضى من الزمان، وإذا قال: سيذهب، فهو دليل على أنه سيكون فيما يستقبل من الزّمان، ففيه بيان ما مضى وما لم يمض منه، كما أن فيه استدلالا على وقوع الحدث ". قال أبو سعيد: وقد بينا أن أولى المفعولات بعمل الفعل فيه، ما دلّت صيغة الفعل عليه مجملا. وقد ذكرنا المصادر التي قد دلّت صيغة الفعل عليها، وقد دلّت صيغة الفعل على الزمان مجملا أيضا، فكان عمله فيه كعمله في المصدر. فإن قال قائل: الفعل يدلّ على الزمان كدلالته على المكان؛ لأنه قد علم أنه لا يقع إلا في مكان، كما أنه لا يقع إلا في زمان. قيل له: هذا المعنى وإن كان مفهوما منهما جميعا من طريق المعنى فإنّ صيغة الفعل تحصّل لنا زمانا دون زمان بذاتها؛ لأنا إذا قلنا: " ذهب " حصل لنا زمان ماض دون غيره، وإذا قلنا: " يذهب " حصل لنا زمان غير ماض بلفظ الفعل، ولا يحصل لنا مكان بعينه دون مكان، فلذلك كانت ظروف الزّمان أولى بالفعل. قال سيبويه: " وإن شئت لم تجعلها ظرفا، فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان، كما كان في كل شيء من أسماء الحدث ". قال أبو سعيد: اعلم أنّ الظروف على ضربين: منها متمكّن، وغير متمكن فالمتمكّن منها ما يجوز أن يكون مرفوعا في حال، نحو " اليوم " و " الّليلة " و " خلفك "، و " قدّامك "؛ لأنك تقول: " اليوم طيّب "، و " الّليلة مظلمة "، و " خلفك واسع ". وغير المتمكّن ما لا يدخله الرفع ولا يستعمل إلا ظرفا نحو: " قبل " و " بعد " و " عند "؛ لأنّك لا تقول: " قبلك قديم " ولا " بعدك متأخّر " ولا " عندك واسع ". وهذان النوعان يستقصيان في باب الظروف، وإنما قدّمنا ذكرهما؛ لأنّ الظرف المتمكن يجوز أن يجعل مفعولا على سعة الكلام ويقام مقام الفاعل، والظرف الذي لا يتمكّن لا يجعل مفعولا على السّعة ولا يقام مقام الفاعل، فإذا قلت: " صمت اليوم "

جاز أن يكون ظرفا وجاز أن يكون مفعولا على السعة، واللفظان واحد، والتقديران مختلفان، فإذا جعلته ظرفا فتقديره " صمت في اليوم "، قدّرت وصول الصوم إلى اليوم بتوسط " في "، فأنت تنويها، وإن لم تلفظ بها، وإذا جعلته مفعولا على السّعة، فأنت غير ناول " في "، ولكنك تقدّر فعل الصوم باليوم، كما تفعل الضرب بزيد، إذا قلت: " ضربت زيدا "، وهذا على المجاز؛ لأنّ اليوم لا يؤثّر فيه الصوم، كما يؤثر الضّرب في زيد. وقد جاء مثل ذلك في القرآن، ثمّ في الشّعر، قال الله عز وجل: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬1)، وليس لليل والنهار مكر، وإنما المكر يقع فيهما، فجعل ما يقع فيهما بمنزلة ما يوقعانه، أو يوقع منهما؛ لأن المصادر إنما تضاف إلى الفاعل أو المفعول. وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً (¬2)، والنهار لا يبصر، وإنما يبصر فيه. وقال الشاعر: أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة … واللّيل في جوف منحوت من السّاج (¬3) فإذا قلت: " صمت اليوم " وجعلته ظرفا، ثم كنّيت عنه قلت: " صمت فيه "؛ لأنك تردّ الحرف المحذوف، وإنما رددته؛ لأنّ الكناية لا تقوم بنفسها، ولا تقوم مقام " في " كما قام الظاهر وإذا كنّيت عنه فقد جعلته مفعولا على السّعة، فقلت: " صمته " لأنّك لست تنوي حرفا، كما تقول: " ضربته ". قال الشاعر: ويوم شهدناه سليما وعامرا … قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (¬4) وجعل: " صمت اليوم " مفعولا على السّعة، فإذا جعلت الفعل لما لم يسم فاعله واستعملته مفعولا على السّعة قلت: " صيم اليوم "، ولا يجوز أن تردّه إلى ما لم يسمّ فاعله حتى تنقله عن الظرف إلى المفعول على السّعة، فإذا قلت " صمت عندك " لم يكن فيه إلا وجه واحد؛ لأنه ظرف غير متمكن، ولا يكون مفعولا على السّعة، ولا ينقل إلى ما لم ¬

_ (¬1) سورة سبأ، آية: 33. (¬2) سورة النمل، آية: 86. (¬3) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 80. (¬4) البيت لرجل من بني عامر في سيبويه 1/ 90.

يسمّ فاعله، فيقال: " صيم عندك ". وأما قول سيبويه: " فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزّمان "، فإنه أراد لأكثر؛ لأن في الزمان ما لا يستعمل إلا ظرفا، كسحر يومك، إذا لم يكن فيه ألف ولام كقولك: " سير عليه سحر " إذا أردته من يومك، وكذلك: صحوة، وعشيّة، وعتمة، إذا أردتهنّ من يومك. وهذا يستقصى في بابه إن شاء الله تعالى. ولفظ سيبويه عام ومراده الأكثر. وقد ذكرنا جواز هذا المعنى فيما مضى. وقوله: " كما كان في كل شيء من أسماء الحدث "، يعني أنه يجوز أن يجعل الظرف من الزمان مفعولا على السّعة، كما جاز أن تجعل المصادر مفعولة على السعة، والمفعول على السعة يراد به أن يجعل بمنزلة المفعول به كزيد وعمرو. والمصادر تجيء على ضربين: منها ما يراد به تأكيد الفعل فقط، ومنها ما يراد به إبانة فائدة فيه، فما أردت به تأكيد الفعل فقط، لم تجعله مفعولا على سعة الكلام، وما كان فيه فائدة جاز أن تجعله مفعولا على السّعة، إلا أن يكون متمكنا، فإذا لم يكن متمكنا لم يقم مقام الفاعل، ولم يكن إلا منصوبا، كقولهم: " سبحان " و " شتان " ألا ترى أنك تقول: " سبّح في هذه الّدار تسبيح لله كثير " و " تسبيح الله كثيرا "، ولا يجوز أن تقول: " سبّح في هذه الدار سبحان الله "، وإن كان معناه معنى التّسبيح. وسوف نذكر المصادر المتمكنة، وغير المتمكنة، في بابها إن شاء الله تعالى. وأما قول سيبويه: " كما كان في كلّ شيء من أسماء الحدث "، فهو على ما عرّفتك من إرادة الأكثر باللّفظ العامّ، ويجوز أن يكون قوله: " فهو يجوز في كل شيء من أسماء الزمان "، يعني تعدّي الفعل إليه على سبيل الظرف، لا على سبيل المفعول، كما كان في كل شيء من أسماء الحدث على طريق المصدر، لا على طريق المفعول. قال سيبويه: " ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسما للمكان، وإلى المكان، لأنه إذا قال: ذهب، أو قعد، فقد علم أنّ للحدث مكانا، وإن لم تذكره، كما علم أنه قد كان ذهاب ". اعلم أن سيبويه لما رتب المفعولات، قّدّم المفعول الذي تدلّ عليه صيغة اللفظ وهو الحدث والزّمان، ثم جعل المفعول الذي يدلّ عليه المعنى محمولا على ذلك، وهو المكان، وسائر المفعولات، لأنه قد علم هذا في المعنى، كما علم ذلك في اللفظ، فاشتركا

في العلم بوقوعه، وإن كان أحدهما من طريق اللفظ، والآخر من غيره. وقوله: " كما علم أنّه قد كان "، يريد: كما علم أن الحدث والهاء ضميره. قد كان: يعني قد وقع، وكذلك أيضا قد علم أنه قد وقع في مكان. وفي بعض النسخ: " قد كان ذهاب " وهذا غني على تفسير الضمير في كان. وقوله: " اسما للمكان، وإلى المكان "، فالذي هو اسم للمكان نحو قولك: " المذهب " و " المجلس " و " المقعد " و " المقام "، وسائر الأمكنة المشتقة من لفظ الأفعال. وأما قوله: " وإلى المكان "، يريد: ما لم يكن مشتقّا من لفظ الفعل المذكور، كقولك: " خلفك " و " قدّامك " و " المكان " وما أشبه ذلك. واعلم أن ظروف المكان مختصّة ببعض ألفاظ الأمكنة دون بعض، والألفاظ التي تكون لظروف الأمكنة، هي الألفاظ التي لا يختص بها مكان دون مكان، ويصلح استعمالها فيها كلها، فمن ذلك الجهات الست، وهي: خلف، وقدّام، ويمنة، ويسرة، وفوق، وتحت، وما كان في العموم مثلهن، وذلك أنه لا شيء من المكان إلا وهو يصلح أن يكون خلفا لشيء، وقدّاما لشيء، ويمنة لشيء، وكسرة لشيء، وفوقا لشيء، وتحتا لشيء. وما جرى من الأماكن مجراهن فهو بمنزلتهن، كقولك: النّاحية، ووسط، وجانب، وذلك أنه لا شيء من المكان إلا وهو ناحية عن شيء، وجانب لشيء، ووسط لما يحيط به، فما كان سبيله هذا السبيل، جاز أن يكون ظرفا من المكان، وما كان مختصا بضرب من البنية أو بشيء من البقاع على صورة لا يقع على غيرها لم يصلح أن يستعمل ظرفا نحو: المسجد، والبيت، والدّار، والحمّام، والسّوق، والجبل، والصّحراء، والوادي، وما أشبه ذلك؛ لأن هذه أشياء سمّيت بهذه الأسماء، لاختصاصها بضرب من الصور غير موجود في غيرها، ألا ترى أن المسجد اسم لبقعة ما، على صورة من الصّور، إذا بطلت بطل أن تكون مسجدا، وكذلك الدّار والحمّام، والجبل: فتقول: " قمت خلف " و " قمت ناحية " و " كلّمت زيدا مكانا طيّبا "، ولا يجوز أن تقول: " كلّمت زيدا المسجد ولا البستان "، حتى تأتي بحرف الجرّ؛ لأن ما لم يكن ظرفا من المكان، فهو بمنزلة سائر الأسماء، يصل الفعل إليه كما يصل إلى غيره، بحرف جرّ أو بغيره، فتقول: " قمت في المسجد " كما تقول: " تكلّمت في زيد ".

قال سيبويه: " وقد قال بعضهم: ذهبت الشّأم، وشبهه بالمبهم، إذ كان مكانا وكان يقع عليه المكان والمذهب. وهذا شاذ؛ لأنه ليس في " ذهب " دليل على " الشّأم " وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل " ذهبت الشّأم ": " دخلت البيت ". قال أبو سعيد: قد قدمنا أن الأماكن المختصة التي لا تقع ألفاظها على كل مكان لا تستعمل ظروفا، فكان من حكم الشّأم أن لا يستعمل ظرفا؛ لأنه اسم لبقاع بعينها، فلما قالت العرب: " ذهبت الشّأم " وحذفوا حرف الجر، وهو " في " أو " إلى " علمنا أن ذلك شاذ خارج عن القياس الذي ذكرناه، إذ كان حكمه أن يقول: " ذهبت إلى الشّأم " و " ذهبت في الشّأم "، وهو الأكثر في كلامهم، إلا أن الذين تكلموا بالشاذ الذي ذكرناه، قد ذهبوا فيه مذهبا، وإن كان ضعيفا، وذلك المذهب هو أنك تعلم أن كلّ بقعة، وإن اختصت باسم ما، كنحو: " المسجد " و " الدّار " فله اسم يشاركه فيه سائر البقاع نحو: " مكان " و " موضع "، ألا ترى أن " المسجد " هو مكان، وإن كان مسجدا ولو قال قائل: " قمت مكانا طيّبا "، وهو يعني المسجد، جاز؛ لأنه أتى باللفظ الذي يشاركه فيه غيره، فكذلك الشأم هو مكان، فإذا قال قائل: " ذهبت الشّأم " وجعله ظرفا من حيث كان مكانا، وإن لم يأت بلفظه، جاز، وهذا لا يقاس عليه، كما لا يقاس على وضع الأسماء. ومما لفظ بلفظ فيه، وأجري على معناه، لا على حقيقة اللفظ قوله: فإنّ كلابا هذه عشر أبطن … وأنت بريء من قبائلها العشر فقال: عشر أبطن. وحكمه أن يقول: عشرة أبطن؛ لأن البطن مذكّر، ولكنه ذهب بها مذهب القبائل؛ لأنها قبائل. وقال بعض النحويين: إنما قالت العرب هذا في الشّأم؛ لأن معناه: " اليسار " وبه سمّي لأنه شأمة كقولك: " يسره " ولو قلت " ذهبت الشّأمة " و " اليسار " جاز. قال: ومثل هذا: " اليمن "؛ لأنهم يريدون به اليمين واليمنة فأجاز أن تقول: ذهبت اليمن، ولم يجز ذلك في " عمان " و " مكّة "؛ لأنه ليس فيها ذلك المعنى. ولا أشباهها. ويلزمه عندي أن يجيز في " العالية " و " نجد "؛ لأنها مأخوذة من الارتفاع وأنت لو قلت: " ذهب فلان فوق " لجاز؛ لأنه ظرف. وقد حذفت العرب حرف الجرّ من الأماكن مع الدخول، فقالوا: " دخلت البيت "

و " دخلت الدّار "، وكان القياس أن تقول: " دخلت في البيت " و " دخلت في الدار " إلا أنهم حذفوا حرف الجرّ وجعلوه كالظروف، لأنها أماكن. وجعل سيبويه حذف حرف الجرّ من " الشّأم " بتأويل أنه مكان كحذف حرف الجرّ من: " دخلت البيت " بتأويل أنه مكان. وقد رد ذلك عليه من وجهين أحدهما: أنه قيل للمجتمع عنه: ليس " ذهبت الشّأم " مثل " دخلت البيت "، من قبل أن " الشّأم " اسم لموضع بعينه، لا يقع على كل ما كان مثله من البلدان والمدن، و " البيت " اسم لكلّ ما كان مبنيا، فكان البيت أعمّ. وهذا الذي قاله هذا القائل، وإن كان مصيبا فيه، فلم يذهب سيبويه حيث ذهب؛ لأن سيبويه إنما أراد أن يرينا أن " ذهبت الشّأم " شاذ، والأصل فيه استعمال حرف الجرّ، كما أن " دخلت البيت " الأصل فيه استعمال حرف الجرّ، وإن كان البيت أعمّ من " الشّأم ". والوجه الآخر من وجهي الردّ عليه: ما قاله أبو عمر الجرمي، وهو أنّ " دخلت " فعل يتعدى بحرف وغير حرف تقول: " دخلته " و " دخلت فيه "، كما تقول: " جئتك " و " جئت إليك " و " تعلّقتك " و " تعلّقت بك " على أنه مفعول به كزيد وعمرو، وتارة يتعدّى بحرف، وتارة بغيره. ومن الأفعال ما يكون هكذا. وليس الأمر على ما قاله أبو عمر. والدليل على أن " دخلت " لا يتعدّى، وأن " دخلت البيت " قد حذف منه حرف الجرّ وهو يراد قولك: " دخلت في الأمر "، و " دخلت في كلام زيد "، ولا يجوز: " دخلت الأمر " ولا " دخلت كلام زيد "، فعلمت بهذا أنهم توسّعوا في حذف حرف الجرّ من الأماكن فقط، وتركوا غيرها على القياس. ومما يدل على أن الدخول هو نقيض الخروج، والخروج لا يكون إلا بحرف جرّ، كقولك: " خرجت من الدّار ". ومما يدل على ذلك أيضا أنّ الدخول في الشيء إنما هو انتقال من مكان إليه، وهذا الانتقال إنما هو شيء تفعله في نفسك وتصير به إلى المكان الثاني، والانتقال لا يتعدّى إلا بحرف. وهاتان العلتان الأخريان قد كان أبو بكر السراج يحتج بهما. قال سيبويه: " ومثل ذلك قول ساعدة بن جؤية ":

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه … فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (¬1) قال أبو سعيد: وكان ينبغي أن يقول: " عسل في الطّريق الثّعلب " وعسل: عدا. وهو يصف رمحا يهتزّ متنه، فجعل سرعة اهتزازه بمنزلة عسلان الثّعلب. ولم يجعل سيبويه الطريق ظرفا؛ لأن الطريق اسم خاصّ للموضع المستطرق، ألا ترى أنه لا يقال للمسجد طريق، ولا للبيوت طرق على الإطلاق، وإنما يقال: " جعلت المسجد طريقا " أي استطرقته، وليس الطريق المعروف على هذا المنهاج. وقد قال بعض النحويين إن الطريق ظرف؛ لأن كل موضع استطرقته فهو طريق. قال سيبويه: " ويتعدّى إلى ما كان وقتا للأماكن، كما يتعدّى إلى ما كان وقتا في الأزمنة، لأنه وقت يقع في المكان ولا يختصّ به مكان واحد، كما أن ذلك وقت في الأزمان، ولا يختص به زمن بعينه ". قال أبو سعيد: يريد أن الفعل يتعدى إلى ما كان مقدار مسافته من الأمكنة، نحو الفرسخ والميل، وذلك أن الفرسخ والميل وما أشبهه يصلح وقوعه على كل مكان بتلك المسافة المعلومة المقدّرة، وسمّاه وقتا؛ لأن العرب قد تستعمل التوقيت في معنى التقدير، وإن لم يكن زمنا، ألا ترى أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وقّت مواقيت الحجّ لكل بلد، فجعلها أماكن، فميقات أهل العراق " ذات عرق " وميقات أهل الشام " الجحفة "، وميقات أهل المدينة " ذو الحليفة ". وسبيل الفرسخ والميل في المكان كسبيل اليوم والشهر في الزمان. قال سيبويه: " فلما صار بمنزلة الوقت في الزمن كان مثله "، يعني لما صار الفرسخ في المكان بمنزلة الشهر في الزمن كان مثله في الظرف. قال سيبويه: " وكذلك كان ينبغي أن يكون إذ صار فيما هو أبعد نحو ذهبت الشأم ". يعني أنّ العرب لما جعلوا الشأم ظرفا بالتأويل الذي ذكرناه، كان الفرسخ والميل، وما أشبه ذلك أولى بالظرف؛ لأنه لكل مكان، والشأم أبعد من ذلك؛ لأنّه اسم مكان بعينه. ¬

_ (¬1) البيت في ديوان الهذليين 1120، وسيبويه 1/ 16، وخزانة الأدب 1/ 474، واللسان (عسل).

هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين

قال سيبويه: " وإنما جعل في الزمان أقوى؛ لأنّ الفعل بني لما مضى منه وما لم يمض، ففيه بيان متى وقع كما أنّ فيه بيانا أنه قد وقع المصدر ". وقد ذكرنا قوة الزّمان في باب الظروف على المكان وأن في الفعل بيانا لزمان محصّل من ماض أو غيره، كما أن فيه دليلا على مصدر بعينه من بين المصادر. قال سيبويه: " والأماكن لم يبن لها فعل، وليست بمصادر أخذ منها الأمثلة ". يريد أن الأماكن ليست بمنزلة الظروف من الزمان، ولا بمنزلة المصادر. قال سيبويه: " والأماكن إلى الأناسيّ ونحوهم أقرب؛ ألا ترى أنهم يختصونها بأسماء كزيد وعمرو، في قولهم: " مكّة " و " عمان " ونحوهما ". يعني أنهم يلقّبون الأماكن ولا يلقّبون الأيام لقبا ينفرد به يوم بعينه من بين سائر الأيام، كما انفردت مكّة عن سائر المدن بهذا الاسم، ويوم السبت، والجمعة، ونحوه لكل يوم وقع في الأسبوع ذلك الموقع وإنما أراد سيبويه قوّة ظروف الزّمان وشدة إبهامها. ثم قال: " ويكون فيها خلق لا تكون لكل مكان ولا فيه كالجبل والوادي والبحر. والدهر ليس كذلك، والأماكن لها جثّة، وإنما الدهر مضيّ الليل والنهار، فهو إلى الفعل أقرب ". يريد أن الأماكن فيها خلق ثابتة مختلفة كاختلاف الناس وثباتهم، وهي جثث كما أن الناس جثث. والدّهر جزء منه يبقى ولا يثبت، وليس فيه خلق مختلفة، وإنما هو الليل والنهار يتكرّران ويعودان بساعاتهما، ويقرب من الفعل بأشد من قرب المكان؛ لأن الفعل أيضا إنما هو حركات تتقضّى كتقضّي الزمان، وإنما أعني بالفعل هاهنا ما عناه النحويون، دون الفعل الحقيقي؛ لأن العالم إنما هو فعل الله تعالى أحدثه وخلقه، وإنما أعني اللفظ بفعل ويفعل، وذلك أنّ الإنسان إذا كان في حال فعل، فقلنا إنه يفعل الآن، لم يثبت على هذا أكثر من وقت واحد حتى يصير إلى أن تقول فعل، فحال الفعل متقضّية غير ثابتة كالزّمان، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين فإن شئت اقتصرت على المفعول الأوّل، وإن شئت تعدّى إلى الثاني كما تعدّى إلى الأول. " وذلك قولك: أعطّى عبد الله زيدا درهما "، و " كسوت بشرا الثّياب الجيادّ " ومن

ذلك: " اخترت الرّجال زيدا "، ومثل ذلك قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا (¬1) و " سمّيته زيدا " و " كّتّبت زيدا أبا عبد الله " و " دعوته زيدا "، إذا أردت " دعوته " التي تجري مجرى " سمّيته "، وإن عنيت الدّعاء إلى أمر لم يجاوز مفعولا واحدا ". قال أبو سعيد: اعلم أنّ هذا الباب يشتمل على وجهين من التعدّي؛ أحدهما: أن يتعدّى الفعل إلى مفعولين، وأحد المفعولين فاعل بالآخر فعلا يصل إليه من غير توصّل حرف جرّ، وذلك قولك: " أعطى عبد الله زيدا درهما "، وذلك أن زيدا قد أخذ الدّرهم وهو فاعل به الأخذ، وقد وصل الأخذ منه إلى الدرهم من غير توسّط حرف جر، وكذلك " كسوت بشرا الثّياب الجياد ". وكان الأصل. " أخذ زيد درهما " و " لبس بشر الثّياب الجياد " وقد علم أنّ الأخذ لا بدّ له من مأخوذ منه، واللابس لا بدّ له من كاس، فأردت أن تبيّن من الذي أوصل إليه الأخذ، والذي كساه، فلمّا ذكرتهما لم يكن بدّ من رفعهما؛ لأنهما أدخلا الفاعل في فعله، وهو زيد وبشر، فرفعتهما بفعلهما الذي فعلاه بالفاعل من إيصاله إلى فعله بالمفعول، وهو الدّرهم والثّياب، فاكتفى الفعل بالفاعل وارتفع به، ونصب ما سواه؛ لأن الفعل لا يرفع أكثر من واحد. والوجه الثاني من وجهي ما يشتمل عليه الباب: أن يتعدّى الفعل إلى مفعول بغير حرف جر، ويتّصل بآخر " من "، ولم يكن المفعول في الأصل فاعلا بالذي فيه حرف الجر، فنزع حرف الجرّ من الثاني، فيصل الفعل إليه، وذلك قولك: " اخترت الرّجال عبد الله ". والأصل: " اخترت عبد الله من الرّجال "، وحذفت " من "، فوصل الفعل إلى الرجال، ولم يكن " عبد الله " فاعلا بالرجال شيئا، كما فعل زيد بالدرهم الأخذ. ومثل ذلك: " سمّيته زيدا " و " كتّبت زيدا أبا عبد الله " والأصل: " سمّيته بزيد " و " كتّبت زيدا بأبي عبد الله "، ولم يكن زيد فاعلا بأبي عبد الله شيئا. فإن قال قائل: أنت تقول: " تكنّى زيد أبا عبد الله "، تجعله فاعلا، وتنصب " أبا عبد الله " فتجعله مفعولا له، فهلا جعلته من القسم الأول. قيل له: ليس في قولنا: " تكنّى زيد أبا عبد الله " و " تسمّى أخوك زيدا " دلالة على أن أحدهما فاعل بالآخر، إنما هو من باب قبول الفعل الذي أوقع به، وهو قولك: " حرّكته ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 155.

فتحرّك "، " كسّرته فتكسّر "، والنيّة فيه حرف الجر، كأنك قلت: " تسمّى زيد بعمرو " ولم يكن من باب الفاعل الذي بينت به من أدخله في فعله، كقولك: " أخذ زيد درهما "، ثم بينت من أدخله في الأخذ وسهّله له فقلت: " أعطى عبد الله زيدا درهما ". وأما قول سيبويه: " دعوته زيدا، إذا أردت دعوته التي تجري مجرى سمّيته "، فإنّ الدعاء في الكلام على ثلاثة معان، أحدهما: التسمية. والآخر: أن تستدعيه إلى أمر يحضره. والثالث: في معنى المسألة لله تعالى. فإذا كان الدّعاء بمعنى التسمية جرى مجرى التسمية، فقلت: " دعوت أخاك زيدا " و " دعوت أخاك بزيد "، كما تقول: " سمّيت أخاك زيدا " و " سمّت أخاك بزيد "، وهو الذي يدخل في هذا الباب، دون معنى الاستدعاء، وهو الذي قاله سيبويه: " وإن عنيت الدعاء إلى أمر لم تجاوز مفعولا واحدا "، يعني الاستدعاء إلى أمر، ألا ترى أنك تقول: " استدعيت أخاك "، ولا تقول: " استدعيت أخاك بزيد ". وقول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه … ربّ العباد إليه الوجه والعمل (¬1) فإنّه أراد: أستغفر الله من ذنب. وهذا هو من القسم الثاني. وقال عمرو بن معد يكرب؛ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به … فقد تركتك ذا مال وذا نشب (¬2) والمعنى: أمرتك بالخير. وهو أيضا من القسم الثاني. وقال سيبويه: " وإنما فصل هذا أنها أفعال توصل بحرف الإضافة، فتقول: اخترته من الرجال، وسمّيته بفلان، كما تقول: عرّفته بهذه العلامة، وأوضحته بها، وأستغفر الله من ذلك، فلما حذفوا حرف الجرّ عمل الفعل ". يعني أن هذه الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين مما كان في الأصل متعدّيا إلى واحد بغير حرف جرّ، وإلى الثاني بحرف جرّ، مما جعلناه القسم الثاني، وجعلنا أحد المفعولين غير فاعل بالآخر في الأصل، إنما فصله من القسم الأول؛ لاختلاف معناهما في الأصل. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 17، وخزانة الأدب 1/ 486، وابن يعيش 8/ 51، واللسان (غفر). (¬2) البيت في سيبويه 1/ 17، والخزانة 1/ 164.

وقد ذكرنا ذلك. وأما قوله: " سمّيته بفلان كما تقول: عرّفته بهذه العلامة "، فإن " عرّفته " على ضربين: فإن أردت شهرته حتى عرف به، فإنه يجري مجرى التسمية؛ لأنك إذا شهرته بشيء فعرف به فهو بمنزلة تسميتك له بالاسم الذي يعرف به. والوجه الآخر: أن يكون " عرّفته " بمعنى أعلمته أمرا كان يجهله، وتقول في الوجه الأول: " عرّفت أخاك بزيد "، كما تقول: " عرّفت أخاك بالعمامة السّوداء " إذا جعلتها علامة له يعرفه غيره بها. وتقول على الوجه الثاني " عرّفت أخاك زيدا ". إذا أعلمته إياه، ولم يكن عارفا به من قبل، وهذا من القسم الأول؛ لأن الأصل: " عرف أخوك زيدا "، كما تقول: " أخذ زيدا "، كما تقول: " أخذ زيد درهما "، وقولك: " عرّفت أخاك بزيد " وإن جرى مجرى: " سمّيت أخاك بزيد " فلا يجوز حذف حرف الجرّ منه، كما جاز في " سمّيت ": لئلا يلتبس بالوجه الآخر من وجهي " عرّفت " وليس " لسمّيت " إلا طريقة واحدة. قال سيبويه: " ومثل ذلك قول المتلمس " آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه … والحبّ يأكله في القرية السّوس (¬1) يريد: على حب العراق. وإنما هذا شاهد لجواز حذف حرف الجرّ، لا للذي يتضمنه الباب من تعدّى الفعل إلى مفعولين، وهو متصل بقوله: " فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل "، كما عمل " آليت " في " حبّ " لما حذفت " على ". وقال بعض النحويين: " الحبّ منصوب بإضمار فعل كأنه قال: آليت أطعم حبّ العراق الدهر أطعمه، ومعناه: لا أطعم حبّ العراق لا أطعمه؛ لأن " آليت " بمعنى حلفت، وجواب اليمين إذا كان فعلا منفيّا، جاز حذف النفي، كما قال تعالى: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (¬2) يريد: والله لا تفتأ تذكر يوسف. وقال سيبويه مستشهدا لجواز حذف حرف الجر: " كما قال نبّئت زيدا يريد: عن ¬

_ (¬1) البيت للمتلمس جرير بن عبد المسيح الضبعي في ديوانه 180، وسيبويه 1/ 17، والخزانة 3/ 75. (¬2) سورة يوسف، آية: 85.

زيد " ثم قال: " وليست (عن) هاهنا بمنزلة الباء في قولك: كفى بالله شهيدا، وليس بزيد؛ لأن على وعن لا يفعل بهما ذلك ولا بمن في الواجب ". قال أبو سعيد: واعلم أنّ الحروف التي يجوز حذفها على ضربين: منها ما يحذف وهو مقدّر منوي لصحّة معنى الكلام، ومنها ما يكون زائدا لضرب من التأكيد، والكلام لا يحوج إليه، فإذا حذف لم يقدّر. وأما الذي يكون زائدا قولك: كفى بالله وليّا، والمعنى: كفى الله. وليس أخوك بزيد؛ لأن معناه: ليس أخوك زيدا. وما قام من أحد، لأن معناه: ما قام أحد، فإذا حذفنا هذه الحروف، لم يختلّ الكلام، ولا يحوج المعنى إلى تقديرها. وأمّا الذي يقتضيه معنى الكلام فنحو قولك: " نبّئت زيدا فعل كذا وكذا " تقديره: نبّئت عن زيد؛ لأن " نبّئت " في معنى " أخبرت " والخبر يقتضي " عن " في المعنى، وكذلك: " أمرتك الخير " الباء مقدرة؛ لأن الأمر لا يصل إلى المأمور به إلا بحرف، فأراد سيبويه أن " عن " المحذوفة في قولك: نبّئت زيدا، و " على " المحذوفة في قوله: آليت حبّ العراق، ليستا زائدتين، وأن المعنى يحوج إليهما بأن قال: " على " و " عن " لم يزدادا قط ولا واحدة منهما، ولم يدخلا إلا لمعنى يحوج إليه الكلام، فإذا وجدناها في شيء ثم فقدناها، علمنا أنّها مقدرة، كأنهم لما قالوا: نبّئت عن زيد، ثم قالوا: نبّئت زيدا، علمنا أن " عن " مقدرة، ولو لم تكن مقدرة عند حذفها كانت زائدة عند ذكرها، وهي لم تكن قط زائدة كزيادة الباء في كفى بالله وليس أخوك بزيد. ومعنى قوله: " ولا بمن في الواجب " يريد: أن " من " سبيلها في الواجب أنها تدخل لمعنى، فإذا حذفت فهي تراد كنحو قولك: " اخترت الرّجال زيدا "، يريد: من الرجال، وقد تزاد في النّفي، كقولك: " ما قام من أحد "، فعن وعلى في كل حال، ومن في الواجب دون النّفي تدخلن لمعان، فإذا حذفن قدّرن. قال سيبويه: وليست: أستغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعا، وإنما يتكلم بها بعضهم ". يعني أنّ حذف حرف الجرّ من هذين الفعلين ليس كثيرا في كلام العرب، وإنما يتكلم به بعض العرب. وليس كلّ ما كان متعدّيا بحرف جرّ جاز حذفه إلا ما كان مسموعا من العرب سماعا، ألا ترى أنك تقول: مررت بزيد، وتكلمت في زيد، ولا تقول: مررت زيدا، ولا تكلمت زيدا، كما تقول: أمرتك الخير، ودخلت البيت، في

معنى: أمرتك بالخير، ودخلت في البيت. وقال سيبويه: " وأمّا سمّيت وكنّيت، فإنما أدخلت الباء على حد ما دخلت في عرّفت ". يعني أن الباء في " سمّيته بزيد " و " كنّيته بأبي عمرو " يحتاج إليها في التقدير، وإن حذفت كما يحتاج إليها في قولك: عرّفته بزيد، إذا أردت: شهرته بهذا الاسم. ثم بيّن سيبويه احتياج " عرّفت " إلى الباء فقال: " تقول: عرّفته زيدا، ثم تقول: عرفته بزيد، فهو سوى ذلك المعنى ". يعني أنك تقول: " عرّفته زيدا "، والمعنى: أعلمته. وتقول: " عرّفته بزيد "، بمعنى شهرته، فالمعنيان مختلفان، ولا يجوز حذف الباء في: " عرّفته بزيد ". ثم قال: " وإنما تدخل في سمّيت على حدّ ما دخلت في: عرّفته بزيد ". وقد بينا هذا. ثم قال سيبويه: " وليس كلّ الفعل يفعل به هذا كما أنّه ليس كلّ فعل يتعدّى الفاعل ولا يتعدّى إلى مفعولين ". يعني: ليس كلّ ما كان متعدّيا بحرف جر جاز حذفه؛ بل المتعدّي بحرف جر على قسمين؛ أحدهما: يجوز حذفه كما ذكر في: " دخلت البيت " و " اخترت الرّجال زيدا ". والآخر لا يجوز حذفه " كمررت بزيد " و " تكلّمت في عمرو "، كما كان الفعل في الأصل على ضربين، منه ما يتعدّى نحو: ضرب زيد عمرا "، ومنه ما لا يتعدّى، نحو: " جلس " و " قام " وهذا معنى قوله: " كما أنه ليس كل فعل يتعدى الفاعل "، وقوله: " ولا يتعدى إلا مفعولين "، كأنه قال: ولا كلّ فعل يتعدّى إلى مفعولين، بل منه ما يتعدّى إلى مفعول، ومنه ما يتعدّى إلى مفعولين، فكذلك ليس كل فعل يتعدّى إلى مفعول بلا حرف جرّ وإلى مفعول ثان بحرف جرّ، يجوز حذف حرف الجرّ من الثاني حتى يصير الفعل متعدّيا إلى مفعولين، ألا ترى أنا إذا قلنا: " أخذت المال من زيد " لم يصلح أن تحذف " من " فتقول: " أخذت المال زيدا " كما صلح أن تقول: " اخترت الرّجال زيدا ". قال سيبويه: " ومنه قول الفرزدق:

هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين

ومنّا الذي اختير الرّجال سماحة … وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع " (¬1) فهذا البيت شاهد لقولنا: " اخترت الرّجال زيدا "؛ ولذلك أنّك لو رددت هذا إلى ما لم يسمّ فاعله قلت: " اختير زيد الرّجال "، فإن قدّمت قلت: " زيد اختير الرّجال " وقوله: " منّا الذي اختير " في " اختير " ضمير قد أقيم مقام الفاعل يعود على الذي، والرجال المفعول الثاني. قال الفرزدق: نبّئت عبد الله بالجوّ أصبحت … كراما مواليها لئيما صميمها (¬2) مستشهدا لما قدّم من حذف " عن " في قوله: " نبّئت زيدا " في معنى " نبّئت عن زيد ". وقد أنكر قوم هذا فقالوا: " نبّئت زيدا فعل كذا " بمعنى " أعلمت زيدا فعل كذا "، ونحن إذا قلنا: " أعلمته زيدا قائما " فليست " عن " مقدرة، وكذلك هي غير مقدّرة، في قولك: " نبّئت زيدا ". فالجواب في هذا أن " نبّئت " وإن كانت تجري مجرى " أعلمت " في العمل، ويتقارب معناهما، فليست هي " أعلمت "؛ وذلك أن " نبّئت " مأخوذ من " النّبأ " و " النّبأ " هو الخبر لا العلم، بإجماع أهل اللغة، والخبر يتعدّى بعن، ألا ترى أنك تقول: " هذا خبر عن زيد "، إذا أخبرك به مخبر عنه بخبر ما، فكذا " هذا خبر عن دارك وعن أمرك "، وما أشبه ذلك، فأصل النبأ يصل بعن، وإن حذفت في بعض المواضع. و " عبد الله " في البيت: قبيلة، فلذلك أنّث مواليها وصميمها، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب الفاعل الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين " وذلك قولك: حسب عبد الله زيدا بكرا، وظنّ عمرو خالدا أباك، وخال عبد الله زيدا أخاك، ومثل ذلك: رأى عبد الله زيدا صاحبنا، ووجد عبد الله زيدا ذا الحفاط ". ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 516، وسيبويه 1/ 18، والخزانة 3/ 669، وبلا نسبة في ابن يعش 8/ 51. (¬2) البيت منسوب للفرزدق في سيبويه 1/ 18، ولم نقف عليه في ديوانه.

قال أبو سعيد: اعلم أنّ الأفعال التي يشتمل عليها هذا الباب، إنما هي أفعال من أفعال تدخل على مبتدأ وخبر، لتبيّن اليقين أو الشّكّ، وهي سبعة أفعال: ظننت، وحسبت، وخلت، ورأيت، إذا أردت بها رؤية القلب، ووجدت، إذا أردت به وجود القلب، وزعمت، وعلمت. والاعتماد بهذه الأفعال على المفعول الثاني الذي كان خبرا للمفعول الأول، وذلك أنك إذا قلت: " حسبت زيدا منطلقا " فأنت لم تشكّ في زيد، وإنما شككت في انطلاقه، هل وقع أو لا، وكذلك إذا قلت: " علمت زيدا منطلقا اليوم " فإنما وقع علمك بانطلاقه إذا كنت عالما به من قبل؛ وإنما كان كذلك، لأنك إذا قلت " زيد منطلق " قبل دخول هذه الأفعال، فإنما تفيد المخاطب انطلاقه الذي لم يكن يعرفه، لا ذاته التي قد عرفها، فكذلك إذا قلت: " حسبت زيدا منطلقا " فالشكّ في انطلاقه، لا في ذاته. وهذا الاسمان، وإن كان الاعتماد على الثاني منهما، فلا بد من ذكر الأول، ليعلم صاحب القصة المشكوك فيها أو المتيقّنة، ولا بد من ذكر الثاني؛ لأنه المعتمد عليه في اليقين أو الشكّ، كما كان هو المستفاد قبل دخول هذه الأفعال، فقد صحّ أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ولو لم تذكر واحدا منهما وجئت بالفعل والفاعل فقط، جاز في كل هذه الأفعال، كقولك: ظننت. ومن أمثال العرب: " من يسمع يخل "، ففي " يخل " ضمير فاعل، ولم يأت بمفعولين. ولو جئت بظرف أو مصدر، ولم تأت بواحد من المفعولين، جاز كقولك: " ظننت ظنّا " و " ظننت يوم الجمعة " و " ظننت خلفك ". وقال الله تعالى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ (¬1)، فأتى بالمصدر فقط. وحروف الجرّ إذا اتّصلت بها هذه الأفعال فهي بمنزلة الظروف، كقولك: " ظننت بزيد " و " ظننت في الدّار "، أي وقع ظنّي في هذا المكان، كما تقول: " ظننت يوم الجمعة " و " ظننت خلفك ". وقد يتوجه بعض هذه الأفعال على معنى لا يحتاج فيه إلى مفعولين؛ فمن ذلك: " ظننت " قد تكون بمعنى اتّهمت، ومنه يقال: " رجل ظنين " أي متّهم، فإذا كان كذلك ¬

_ (¬1) سورة الفتح، آية: 12.

تعدّى إلى مفعول واحد، تقول: " ظننت زيدا " كما تقول: " اتّهمت زيدا ". ومنه: " علمت " إذا أردت به معرفة ذات الاسم، ولم تكن عارفا به من قبل كقولك: " علمت زيدا " أي عرفته ولم أكن أعرفه من قبل، وليس بمنزلة قولك: " علمت زيدا قائما " إذا أخبرت عن معرفتك بقيامه، وكنت عارفا من قبل. ومنه " رأيت " إذا أردت به رؤية العين، بمنزلة: " أبصرت " يتعدّى إلى مفعول واحد، تقول: " رأيت زيدا "، كما تقول: " أبصرت زيدا "، وإذا كانت الرؤية للقلب تعدّت إلى مفعولين، على ما ذكرنا، وكان لها معنيان: العلم والحسبان. قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً (¬1) أي يحسبونه بعيدا ونعلمه قريبا. " والظّنّ " أيضا قد يكون بمعنى العلم، كقولك الله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ (¬2) وقال الشاعر: فقلت لهم ظنّوا بألفى مدجّج … سراتهم في الفارسيّ المسرّد (¬3) ومعناه: أيقنوا. ومنه: " وجد عبد الله ضالّته " إذا أصابها، فهو يتعدى إلى مفعول واحد. وأما " حسب " و " خال " و " زعم "، فلا يكون لهنّ معنى غير ما ذكرنا. وقد جاءت سبعة أفعال لم يسمّ فاعلوها، تجري مجرى هذه الأفعال التي قدمنا ذكرها وهي: نبّئت، وخبّرت، وأخبرت، وأعلمت، وأريت، وحدّثت، وقد كانت متعدّية في الأصل إلى ثلاثة، فأقيم واحد منها مقام الفاعل، وبقى الآخران كمفعولي الظنّ في جميع أحكامها؛ لأن معنى: أعلمت، وأريت، يعود إلى: علمت، ورأيت وأنبئت، ونبّئت، وخبّرت، وأخبرت، وحدّثت يعود معناها إلى: حسبت. وقد كان تعدّي الفعل في هذه الخمسة الأفعال بحرف جرّ؛ لأن معنى: " أنبئت زيدا منطلقا ": " نبّئت عن زيد "، وقد مر هذا. قال سيبويه: " وإنما منعك أن تقتصر على أحد المفعولين هاهنا أنّك إنما أردت ¬

_ (¬1) سورة المعارج، آية: 6 - 7. (¬2) سورة البقرة، آية: 46. (¬3) البيت لدريد بن الصمة في اللسان (ظن).

أن تبيّن ما استقر عندك من حال المفعول الأوّل يقينا كان أو شكّا ". يعني من خبره وقصته. " وذكرت الأوّل لتعلم الذي تضيف إليه ما استقر عندك ". يعني أنك إذا قلت: " علمت زيدا منطلقا " بيّنت ما استقر عندك من حال زيد، وهو الانطلاق، وكان يقينا لا شكّا، وذكرت زيدا، وهو الأول، ليعرف صاحب الانطلاق أيّ شيء استقرّ له عندك من الانطلاق، فمعنى قوله: " لتعلم الذي تضيف إليه " لتعلم زيدا الذي أضفت إليه الشيء الذي استقر له، يعني لزيد، عندك وهو الانطلاق. ثم قال: " وإنما ذكرت " ظننت " ونحوه، لتجعل خبر الأوّل يقينا أو شكّا ". وقد ذكرنا هذا. ثم قال: " ولم ترد أن تجعل المفعول الأوّل فيه الشك، أو يعتمد فيه على اليقين ". يعني أنك إذا قلت: " حسبت زيدا منطلقا "، فليس الشكّ في زيد، وإذا قلت " علمت زيدا خارجا " فالعلم لم يقع به، وإنما وقع بخروجه، فلم يعتمد على زيد في العلم. ثم قال: " ومثل ذلك: علمت زيدا الظّريف، وزعم عبد الله زيدا أخاك ". وهذا مثال لما يتعدى إلى مفعولين. ثم قال: " وإن قلت: رأيت، فأردت به رؤية العين، أو وجدت، فأردت وجدان الضالّة، فهو بمنزلة: ضربت ". وقد ذكرنا هذا. ثم قال: " ولكنّك إنما تريد بوجدت: علمت، وبرأيت: ذلك أيضا ". يعني: أردت بوجدت الذي يتعدّى إلى مفعولين بمعنى: علمت، وهو الوجود بالقلب، وكذلك: رأيت، الذي هو رؤية القلب. ثم قال: " ألا ترى أنه يجوز للأعمى أن يقول: رأيت زيدا الصّالح، وقد تكون بمعنى: عرفت ". يعني: وقد تكون " علمت " بمعنى " عرفت " وقد تكون " علمت " لحدوث العلم بالأول. وقد ذكرنا هذا. وهو بمنزلة " عرفت "؛ لأن " عرفت " إنما يراد به حدوث المعرفة بالاسم، فإذا قلت: " عرفت زيدا " فإنما عرفت ذاته، ولم تكن عارفا، ولو قلت " عرفت زيدا منطلقا " كانت المعرفة بذات زيد لا بانطلاقه، و " منطلقا " نصب على الحال،

كأنك قلت: عرفته في حال انطلاقه. ولا فرق بين العلم والمعرفة، ووجود القلب ورؤيته إذا أردت بها العلم في التّحصيل، غير أنّ العرب تجعل عرفت زيدا لمعرفة ذاته فقط، وتجعل " وجدت " و " رأيت " لمعرفة قصّته فقط، كقولك: وجدت زيدا منطلقا، و " رأيته متكلّما "، وتجعل " علمت " مرّة لمعرفة الذات فقط، في مذهب " عرفت " ومرّة في معرفة القصّة، في مذهب " وجدت ". وقال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (¬1) وقال الله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ (¬2). قال سيبويه: " أمّا ظننت ذاك، فإنما جاز السّكوت عليه؛ لأنك تقول: ظننت فتقتصر ". يعني: أنّ قول العرب: " ظننت ذاك " إنما يعنون ذاك الظّنّ، وقد جاز أن تقول: ظننت، كما بينّا، فإذا جئت بذاك، وأنت تعني به المصدر، فإنما أكّدت الفعل، ولم تأت بمفعول يحوج إلى مفعول آخر. قال سيبويه في تفسير هذا: " تقول ظننت ثم تعمله في الظن، كما تعمل ذهبت في الذهاب، فذاك هاهنا الظن كأنك قلت: ظننت ذاك الظنّ وكذلك: خلت وحسبت. يعني إذا قلت: خلت ذاك، وحسبت ذاك. قال: " ويدلّك على أنه الظن أنك لو قلت: خلت زيدا وأرى زيدا يجز ". وهذا بيّن. ثم قال: " وتقول: ظننت به، أي جعلته موضع ظنّك، كما تقول: نزلت به، ونزلت عليه ": وقد بينا أن اتصال هذه الأفعال بحروف الجر كاتصالها بالظروف، ولا تحوج إلى ذكر مفعول آخر. ثم قال: " ولو كانت الباء زائدة بمنزلتها في قوله: كفى بالله، لم يجز السّكوت عليه ". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 65. (¬2) سورة الأنفال، آية: 60.

هذا باب الفاعل الذي يتعدى فعله إلى ثلاثة مفعولين

يعني: لو كانت الباء في قولك: " ظننت بزيد " زائدة، لاحتجت إلى مفعول آخر؛ لأنك لو قلت: " ظننت زيدا " لاحتجت إلى مفعول آخر، والباء في " كفى بالله " زائدة، لأنّ معناه: كفى الله. ثم قال: " فكأنك قلت: ظننت في الدار، وشككت فيه ". يعني أنك إذا قلت " ظننت بزيد "، فهو كقولك: ظننت في الدار، وشككت في زيد. وقد بيّنا هذا فاعرفه. هذا باب الفاعل الذي يتعدّى فعله إلى ثلاثة مفعولين قال سيبويه: " لا يجوز أن يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة؛ لأن المفعول الأول هاهنا كالفاعل في الباب الذي قبله في المعنى، وذلك قولك: أرى زيدا بشرا خير الناس، ونبّأت زيدا عمرا أبا فلان، وأعلم الله زيدا عمرا خيرا منك ". قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب منقول من الباب الذي قبله، وذلك أن الباب الذي قبله كان متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما، فنقلت الفعل عن الفاعل إلى من أدخله في فعله، فصار الفاعل مفعولا، واجتمع ثلاثة مفعولين، وصار المدخل له في الفعل هو الفاعل، وذلك أنك إذا قلت: " علم زيد عمرا منطلقا "، فيجوز أن يكون أعلمه معلم، فإذا ذكرت ذلك المعلم، صيّرت زيدا مفعولا له، فقلت: " أعلم بكر زيدا عمرا منطلقا ". وهذا الباب يشتمل على ثلاثة أضرب: ضرب منها كان متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما من السبعة الأفعال التي قدمنا ذكرها في الباب الذي قبل هذا، وهي ظننت وأخواتها، وهذا الضرب في فعلين من تلك الأفعال فقط، وذلك أرى وأعلم منقولان من رأى وعلم. وكان الأخفش يقيس عليها الجميع، فيقول: " ظنّ زيد عمرا أخاك منطلقا "، " وأزعمته ذاك إيّاه "، وكذلك يعمل في الأفعال السبعة، وغيره لم يجاوز ما قالت العرب. والضرب الثالث: ما يكون متعديا إلى مفعول أو مفعولين، ثم يتعدى إلى الظرف ويجعل الظرف مفعولا على سعة الكلام، فيقال فيما يتعدى إلى مفعول: " سرق زيد عبد الله الثّوب اللّيلة "، فعبد الله هو المفعول الأول، وقد سقط منه حرف الجر، والثوب هو المفعول الصحيح، والليلة ظرف جعلته مفعولا على السعة، و " أعطيت عبد الله ثوبا

اليوم " إذا جعلت اليوم مفعولا على السعة. وفي النحويين من يقول: إنّ الظرف لا يجعل مفعولا على السعة بعد تعدي الفعل إلى ثلاثة مفعولين، لأنها نهاية التعدّي، وإنما يجعل مفعولا على السعة فيما كان يتعدى إلى مفعول ليلحق بما يتعدى إلى ثلاثة. قال سيبويه: واعلم أن هذه الأفعال إذا انتهت إلى ما ذكرت لك من المفعولين، فلم يكن بعد ذلك متعدّ، تعدّت إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل ". قال أبو سعيد: أراد أنّ الفعل الذي يتعدى إلى مفعول أو إلى مفعولين أو إلى ثلاثة، يتعدّى بعد تعدّيه إلى المفعول أو المفعولين أو الثلاثة إلى الظرف من الزمان والمكان، والحال، والمصدر، وقد بينا هذا فيما مضى. ومثله سيبويه فقال: " وذلك قولك: " أعطى عبد الله زيدا المال إعطاء جميلا، فزيد والمال هما مفعولا " أعطى " و " إعطاء " مصدر و " جميلا " نعت، فتعدّي " أعطى " إلى " إعطاء "، كتعدّي قام إلى القيام، إذا قلت: " قام زيد قياما حسنا ". ثم قال سيبويه: " وسرقت عبد الله الثّوب اللّيلة، لا تجعله ظرفا ". يعني: لا تجعل " الليلة " ظرفا، ولكنك تجعلها مفعولا على السعة. وقوله. " لا تجعلها ظرفا ". يعني: أن " سرقت عبد الله الثوب الليلة " يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إذا لم تجعلها ظرفا وجعلتها مفعول على السعة. وذكر ضمير الليلة في قوله: " لا تجعله ظرفا "؛ لأنه أراد الوقت، أو هذا اللفظ. ثم قال: " ولكن كما تقول: يا سارق الليلة زيدا الثوب، لم تجعلها ظرفا ". والضرب الآخر: ما كان في معنى الخبر والتقدير فيه " عن " وهو في خمسة أفعال. نبّأت، وأنبأت، وخبّرت، وأخبرت، وحدّثت، كقولك: " أخبرت أباك زيدا منطلقا " و " حدّثت عمرا بكرا أخاك ". وقد قال الحارث بن حلّزة: ... … فمن حدّثتموه له علينا العلاء (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في القصائد السبع 469.

فالتاء والميم المفعول الأول، وقد أقيم مقام الفاعل، والهاء المفعول الثاني، و " له علينا العلاء " جملة في موضع المفعول الثالث. وهذان الضربان المفعول الثالث فيهما خبر عن المفعول الثاني، ولا يجوز ذكر أحدهما دون الآخر، ويجوز الاقتصار في هذين الضربين على المفعول الأول؛ لأن المفعول الأول في هذين الضربين بمنزلة الفاعل، والفاعل يجوز أن يقتصر عليه، ألا ترى أن قولنا: " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا ": أصله: " علم زيد عمرا منطلقا " وأنت لو قلت: " علم زيد " وسكت عليه جاز، وكذلك يجوز أن تقول: " أعلمت زيدا " وكذلك: " نبّأت زيدا "، ولا تذكر أي شيء نبأته، ويجوز ألا تذكر المفعول الأول وتذكر المفعولين الآخرين، فتقول: " أعلمت دارك طيّبة "، وأنت تريد: أعلمت زيدا؛ لأن زيدا ليس يتعلق بالمفعولين الآخرين، وليس يضطر الكلام إلى ذكره؛ لأنه مفعول يستغنى عنه. وقول سيبويه: " لا يجوز أن يقتصر على مفعول واحد دون الثلاثة " فإن معناه لا يحسن، ألا ترى إلى قوله: " لأنّ المفعول هاهنا كالفاعل في الباب الذي قبله ". ويجوز الاقتصار على الفاعل في الباب الذي قبله. وكثير من مفسري كتاب سيبويه من المتقدمين والمتأخرين، ربما قالوا: لا يجوز الاقتصار على واحد من الثلاثة، تلقّنا من لفظ سيبويه من غير تفتيش ولا تحصيل. والصحيح ما خبرتك به. يريد: أنك إذا قلت: يا سارق الليلة، فقد جعلتها مفعولا له على السعة لا غير، وأضفت إليها اسم الفاعل، كما تقول: يا ضارب زيد. وإذا قلت: " سرقت عبد الله الثوب الليلة " جاز أن تكون " الليلة " مفعوله على السعة، وجاز أن تكون ظرفا، فإن لم تجعلها ظرفا فقد صيرتها بمنزلة " يا سارق الليلة " التي لا تكون ظرفا. فإن قال قائل: لم جاز أن تكون " الليلة ظرفا إذا لم تضف إليها، ولا يجوز أن تكون ظرفا إذا أضفت إليها؟ قيل له: معنى الظّرف ما كانت " في " مقدرة محذوفة، فإذا ذكرنا " في " أو حرفا من حروف الجر، فقد زال عن ذلك المنهاج، فإذا أضفناه إليه فقد صارت الإضافة بمنزلة حروف الجر، فخرج من أن يكون ظرفا. ثم قال سيبويه ممثلا لما قدم: " وتقول: أعلمت هذا زيدا قائما العلم اليقين

هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول

إعلاما ". " فالعلم " مصدر و " اليقين " نعت له، و " إعلاما " مصدر أيضا، فجاء بمصدرين، أحدهما فيه فائدة ليست في الفعل، وهو العلم اليقين؛ لأنّ معناه العلم اليقين الذي تعرف، و " إعلاما " هو تأكيد لأعلمت، لأنه ليس فيه فائدة أكثر مما في أعلمت. وقال سيبويه في التمثيل: " وأدخل الله عمرا المدخل الكريم إدخالا "، فعمرو المفعول الأوّل، و " المدخل " المفعول الثاني، و " الكريم " نعت له، و " إدخالا " مصدر. هذا باب المفعول الذي تعداه فعله إلى مفعول قال سيبويه: " وذلك قولك: كسى عبد الله الثّوب، وأعطى عبد الله المال، رفعت عبد الله هاهنا، كما رفعته في ضرب، حين قلت: ضرب عبد الله، وشغلت به: كسي وأعطي، كما شغلت به ضرب، وانتصب الثوب والمال؛ لأنهما مفعولان تعدى إليهما فعل مفعول، هو بمنزلة الفاعل ". قال أبو سعيد: قد قدمنا أنّ الفعل يصاغ للذي يقع به كما يصاغ للذي يقع منه، وإن كانت الصيغتان مختلفتين، فإذا قلت: ضرب زيد، فقد صغت: " ضرب " لزيد، ورفعته به، كما أنك إذا قلت: جلس زيد، فقد صغت " جلس " لزيد، ورفعته به. و" ضرب " وبابه يسمى فعل مفعول؛ لأن الذي صيغ له قد كان مفعولا، وكان له فاعل مذكور، فقد علمت أن الفعل إذا ارتفع به فاعله، فجميع ما تعلّق به سوى الفاعل منصوب وكذلك إذا وضعته لمفعول فرفعته به فجميع ما تعلق به سواه منصوب. فوجب في قولك: " كسى عبد الله الثّوب " و " أعطى عبد الله المال " نصب الثوب والمال؛ لأن عبد الله قد ارتفع بالفعلين وصيغا له، وتعلّق الثوب والمال بالفعلين جميعا. فوجب نصبهما كما بينا. وهذا الباب يتعدّى فعل المفعول فيه إلى مفعول آخر فقط، واعتبار ذلك أنك تنظر الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين، وقد سمّي فاعله، فإذا أردت أن تنقله إلى ما لم يسمّ فاعله حذفت الفاعل وأقمت أحد المفعولين مقامه بصياغة الفعل له، فصار الفعل للمفعول الذي رفعته، ونصبت المفعول الآخر، فصار المفعول متعدّيا إلى مفعول، ولو كان الفعل الذي يسمى فاعله متعدّيا إلى مفعول واحد، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله، أقمت المفعول مقام الفاعل، فصار الفعل للمفعول، ولا يتعدّى إلى غيره، لأنّ المفعول الذي كان يتعدّى إليه قد صار مرفوعا مصوغا الفعل، وذلك نحو قولك: " ضرب زيد " وقد كان أصله:

" ضرب عمرو زيدا " فحذفت " عمرا " وقلت: " ضرب زيد ". ولو كان الفعل يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين، ونقلته إلى ما لم يسمّ فاعله صار فعل المفعول يتعدّى إلى اثنين، كقولك: " أعلم زيد عمرا منطلقا " وقد كان: " أعلم الله زيدا عمرا منطلقا " فافهم هذا الترتيب. ولو كان الفعل غير متعدّ إلى شيء من المفعولات، فنقلته إلى ما لم يسمّ فاعله أقمت المصدر، أو الظرف، أو حرفا من حروف الجرّ المتصلة بالاسم مقام الفاعل، وذلك قولك: " سير بزيد السير الشّديد فرسخين يومين "، تقيم الباء مقام الفاعل؛ وإن شئت قلت: " سير بزيد السير الشّديد فرسخين يومين "، تقيم " السّير " مقام الفاعل؛ وإن شئت قلت: " سير بزيد السّير الشّديد فرسخان يومين " و " فرسخين يومان "، أيّ الظرفين شئت، أقمته مقام الفاعل. واعلم أن الفعل الذي يتعدّى يجوز أن لا تذكر مفعوله فيما لا يسمّى فاعله وتقام حروف الجرّ أو الظرف أو المصدر مقام الفاعل، كقولك: " ضرب بزيد " و " ضرب ضربتان في الدّار اليوم "، " وضرب اليوم في الدّار ضربتين ". قال سيبويه: " فإن شئت قدّمت وأخّرت، فقلت: " كسي الثّوب زيد " و " أعطى المال عبد الله، كما قلت: ضرب زيدا عبد الله، فأمره في هذا المكان كأمر الفاعل ". وقد بيّنا هذا، ويجوز أن يقال أيضا فيه: " الثّوب كسي زيد " و " المال أعطى عبد الله " كما تقول: " زيدا ضرب عمرو ". قال سيبويه: " واعلم أن المفعول الذي لا يتعداه فعله إلى مفعول يتعدى إلى كل شيء تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول ". يعني: أن قولك: " ضرب زيد " هو فعل للمفعول الذي لا يتعدى إلى مفعول آخر يتعدّى إلى الظرف من الزمان والمكان والمصدر والحال، كما تعدّى فعل الفاعل إلى هذه الأربعة، وإن كان لا يتعدّى إلى مفعول غيرها كقولك: " جلس " و " قام " و " ذهب ". ثمّ مثّل تعدّي فعل الفاعل إلى هذه الأربعة فقال: " وذلك قولك: ضرب زيد الضّرب الشّديد "، فهذا قد تعدّى إلى المصدر. ثم بيّن أن فعل المفعول قد يجوز أن يجعل الظرف معه مفعولا على سعة الكلام، كما كان ذلك في فعل الفاعل فقال: " ضرب عبد الله اليومين اللّذين تعلم، لا تجعله ظرفا "، يعني اليومين " ولكن كما تقول: يا مضروب اللّيلة الضّرب الشّديد "، الليلة في

قولك: " يا مضروب اللّيلة " قد كانت مفعولة على سعة الكلام، وأضيف إليها " مضروب " كما يضاف الفاعل إلى المفعول في قولك: " ضارب زيد " و " مكسوّ ثوب " و " معطى درهم " بمنزلة " ضارب زيد "؛ لأن هذا مفعول صيغ له الفعل، ثم أضيف إلى مفعوله، كما أن " ضاربا " فاعل صيغ له الفعل، وأضيف إلى مفعوله. ومن تمثيله أيضا: " أقعد عبد الله المقعد الكريم "، المقعد ظرف من ظروف المكان. ثم قال: " فجميع ما تعدّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعوله، يتعدى إليه فعل المفعول، الذي لا يتعدّاه فعله إلى مفعول "، يعني: الظرفين، والحال، والمصدر. وقد بينا ذلك. ثم قال: " واعلم أن المفعول الذي لم يتعدّ إليه فعل فاعل في التعدّي والاقتصار، بمنزلته إذا تعدّى إليه فعل الفاعل، لأن معناه متعدّيا إليه فعل الفاعل. وغير متعدّ إليه فعله سواء ". يريد: أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله، وهو الذي لم يتعد إليه فعل الفاعل، إذا كان يجوز الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل، جاز الاقتصار عليه، وإن لم يسمّ الفاعل، وإن كان لا يجوز الاقتصار عليه في حال تسمية الفاعل، لم يجز الاقتصار عليه في حال ما لم يسمّ فاعله، وذلك أنّك تقول: " ضرب عمرو زيدا "، فتقتصر على " زيد " ولا تأتي بظرف ولا مصدر ولا غير ذلك، و " كسى زيد عمرا " فيجوز الاكتفاء به، فإذا نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله، قلت: " كسي عمرو " و " ضرب زيد "، فلا يحتاج إلى غيره. ولو قلت " ظنّ زيد عمرا منطلقا "، ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله قلت: " ظنّ عمرو منطلقا " ولم يجز: " ظنّ عمرو " وتسكت، كما لم يجز أن تقول: " ظنّ زيد عمرا " وتسكت. ونقل الفعل إلى ما لم يسمّ فاعله، لا يجلب للفعل مفعولا لم يكن له في حال تسمية الفاعل، ولا يزيل عنه مفعولا كان له، ألا ترى أنك تقول: " ضربت زيدا " فلا تجاوز هذا المفعول، وتقول: " ضرب زيد " فلا يتجاوزه أيضا الفعل؛ لأنّ المعنى واحد، وتقول: " كسوت زيدا ثوبا " فتجاوز زيدا إلى مفعول آخر، ثم تقول: " كسي زيد ثوبا " فلا تجاوز الثوب. قال سيبويه: " لأن الأوّل بمنزلة المنصوب "، يعني " زيدا " في قولهم: " كسي زيد

هذا باب المفعول الذي يتعداه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر

ثوبا " بمنزلته في: " كسوت زيدا ثوبا "، لأن المعنى واحد، وإن كان لفظه لفظ الفاعل، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب المفعول الذي يتعدّاه فعله إلى مفعولين وليس لك أن تقتصر على أحدهما دون الآخر قال سيبويه: " وذلك قولك: نبّئت زيدا أبا فلان، لما كان الفاعل يتعدّى إلى ثلاثة، تعدّى فعل المفعول إلى اثنين ". يعني: " نبّأت زيدا عمرا أبا فلان ". وقد ذكرنا هذا. قال: " وتقول: أرى عبد الله أبا فلان؛ لأنك لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل، وبنيته له، لتعدّاه فعله إلى ثلاثة مفعولين ". يعني: أنك إذا قلت: " يريني زيد عبد الله أبا فلان "، تعدى إلى ثلاثة مفعولين فإذا نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله تعدى إلى مفعولين، وقد مر هذا. ثم قال: واعلم أن الأفعال إذا انتهت هاهنا، فلم تجاوز، تعدّت إلى جميع ما يتعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدّى المفعول ". يعني: أن الفعل بعد تعدّيه إلى المفعولين في هذا الباب يتعدّى إلى المصادر والظرفين والحال كما تعدى " ضرب زيد " إلى ذلك. ثم مثل فقال: " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا، ونبّئت زيدا أبا فلان تنبيئا، وسرق عبد الله الثّوب اللّيلة، لا تجعله ظرفا، ولكن على قولك: " يا مسروق اللّيلة الثّوب ". قال أبو سعيد: أما قوله: " أعطي عبد الله الثّوب إعطاء جميلا "، فإنه عقد الباب على مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما، ثم جعل الشاهد: " أعطي عبد الله الثّوب "، وساغ ذلك، لأنه أراد أن يبيّن المصدر، وهو " إعطاء جميلا " ولم يرد أن يمثّل نفس الفعل، وحين أراد أن يمثل نفس الفعل قال: " نبّئت زيدا أبا فلان " و " أرى عبد الله أبا فلان ". وأما قوله: " نبّئت زيدا أبا فلان تنبيئا " مصدر " نبّئت ". وقد قال سيبويه في باب المصادر: إن " فعّلت " إذا كان لام الفعل منه همزة، فهو بمنزلة ما لام الفعل منه ياء، فينبغي أن يجيء على " تفعلة "، فيقال: " تنبئة " " سرّيته

هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينتصب وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول

تسرية " و " سوّيته تسوية "، وإذا كان صحيحا من غير الياء والهمزة، جاء على " تفعيل " و " تفعلة " نحو: " كرّمته تكريما وتكرمة "، و " عظّمته تعظيما ". ورد عليه أبو العبّاس فقال: الهّمزة بمنزلة سائر الحروف الصحاح تجيء على تفعيل، وظنّ أنّ سيبويه لم يجز التفعيل في باب الهمز، وقد تكلّم به في هذا الباب، ولولا أنه جائز عنده ما تكلّم به، ولكن الأكثر في باب الهمز التّفعلة، لأنها يلحقها التليين، وإن كان التفعيل جائزا في الهمز، ولكنه ذكر في باب المصادر الأكثر في كلام العرب. وأما قوله: " سرق عبد الله الثّوب اللّيلة " فإنما قصد أن يبيّن أنّ فعل المفعول قد يجوز إذا كان متعدّيا إلى مفعول واحد أن يجعل الظرف معه مفعولا على السّعة، وقد ذكرنا نظير هذا. ثم قال: " صيّر فعل الفاعل والمفعول حيث انتهى فعلهما، بمنزلة الفعل الذي لا يتعدّى فاعله ولا مفعوله، ولم يكونا أضعف من الفعل الذي لا يتعدّى ". يعني: أن المفعول والفاعل اللذين يتعدّى فعلهما في تعدّيهما إلى المصدر والظرفين والحال ليسا بأضعف من الفعل الذي لا يتعدّى في تعدّيه إلى هذه الأشياء. هذا باب ما يعمل فيه الفعل فينتصب وهو حال وقع فيه الفعل وليس بمفعول قال سيبويه: " كالثوب في: كسوت الثّوب، وكسوت زيدا الثّوب؛ لأنّ الثّوب ليس بحال وقع فيها الفعل، ولكنه مفعول كالأوّل ". قال أبو سعيد: ضمّن سيبويه هذا الباب ما ينتصب لأنّه حال، وفرّق بينه وبين ما ينتصب لأنه مفعول ثان، فيما يتعدّى من الفعل إلى مفعولين، ولك أن تقتصر على أحدهما، من قبل أنّ الحال إنما هي وصف من أوصاف الفاعل والمفعول في وقت وقوع الفعل؛ كقولك: " قام زيد ضاحكا " أي وقع فعله في الحال التي هو موصوف فيها بضاحك، و " ضرب زيد هندا قائمة " أي وقع الضرب بها في الحال التي هي موصوفة فيها بقائمة، وإذا قلت: " كسوت زيدا الثّوب "، فالثوب ليس هو الكاسي، ولا هو المكسوّ، فليس بحال وقع فيها الفعل من أحوالهما، فوجب أن يكون الثوب مثل زيد في فصول الفعل إليه وتناوله له. وهذا معنى قوله: " ولكنّه مفعول كالأول " يعني: الثوب

مفعول كزيد. ثم قال: " ألا ترى أنه يكون معرفة، ويكون معناه ثانيا كمعناه أولا، إذا قلت: كسوت الثّوب، وكمعناه إذا كان بمنزلة الفاعل، إذا قلت: كسي الثّوب ". قال أبو سعيد: أما قوله: " يكون معرفة "، يعني أن المفعول الثاني مما يتعدّى إلى مفعولين يكون معرفة، كقولك: " كسوت زيدا الثّوب "، والحال لا تكون معرفة، لأنك لا تقول: " قام زيد الضّاحك " فأراك الفرق بين المفعول الثاني وبين الحال. وأما قوله: " ويكون معناه ثانيا كمعناه أولا "، يعني: أنّ المفعول الثاني إذا كان معه مفعول، فهو بمنزلته إذا لم يكن معه مفعول غيره، وذلك أنك إذا قلت: " كسوت زيدا الثّوب "، فالثوب هو مفعول ثان، وقد وصل الفعل إليه، وإذا قلت: " كسوت الثّوب " ولم تذكر غيره، فهو أوّل، ومعناه في الوجهين جميعا واحد؛ لأنك، وإن لم تذكر غيره، فقد علم أنّك ألبسته شيئا ما، والحال ليس كذلك؛ لأن الحال لا تقوم بنفسها منفردة عن الأسماء التي هي حال منها كما انفرد الثوب عن المفعول الأوّل، لا تقول: " ضربت قائمة " وتنصب قائمة على الحال، وأنت تريد: " ضربت هندا قائمة ". وأما قوله: " كمعناه إذا كان بمنزلة الفاعل "، يعني: أن الثوب قد يقوم مقام الفاعل فيقال: " كسي الثّوب "، ولا تقام الحال مقام الفاعل، ففرّق بينها، لاختلاف حكمها. ثم مثّل الحال الذي عقد الباب عليه فقال: " وذلك قولك: ضربت عبد الله قائما، وذهب زيد راكبا، فلو كان بمنزلة المفعول الذي يتعدّى إليه فعل الفاعل: نحو عبد الله وزيد، ما جاز في ذهبت ". يعني لو كان ما ينتصب بالحال كالمفعول نحو: عبد الله وزيد ما جاز الحال من " ذهب " لأنّ " ذهب " لا يتعدّى إلى مفعول فلما جاز " ذهبت راكبا " ولم يجز " ذهبت زيدا " علمنا أنه ليس مثله. ثم قال: " ولجاز أن تقول: ضربت زيدا أباك، وضربت زيدا القائم، لا تريد بالأب ولا بالقائم، الصفة والبدل ". يعني: أنه لو كان الحال بمنزلة الاسم المفعول لجاز أن تأتي " لضربت " بمفعول ثان فتقول: " ضربت زيدا أباك " على أن تجعل: " زيدا " المفعول الأول، و " أباك " مفعولا ثانيا،

ولا تجعله نعتا لزيد، كذا " ضربت زيدا القائم "، كما قلت: " ضربت زيدا قائما " ونصبته على أنّه حال، فلما جاز في " ضربت زيدا " أن تأتي بمنصوب آخر حال، ولا تأتي بمنصوب آخر مفعول، كزيد وعمرو، علمنا أن الحال لا تشبه المفعول. قال سيبويه: " فالاسم الأوّل المفعول به في ضربت، قد حال بينه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته؛ لأن ضربت إنما يتعدّى إلى مفعول واحد، كما حال الفاعل بينه وبين الفعل في ذهب، أن يكون المفعول به فاعلا، وكما حالت الأسماء المجرورة بين ما بعدها وبين الجار، في قولك: لي مثله رجلا، ولي ملؤه عسلا، وما في السّماء موضع راحة سحابا، وكذلك: ويحه فارسا ". قال أبو سعيد: أما قوله: " فالاسم الأوّل المفعول في ضربت، قد حال بينه وبين الفعل "، يعني: أنّك إذا قلت: " ضربت زيدا قائما " فزيد الذي هو المفعول الأوّل قد اكتفى به " ضربت " في التعدّي إليه، فامتنع " قائم " من وصول الضرب إليه، كما يصل إلى المفعولات، فانتصب، لأنّه حال، كما أنك إذا قلت: " ذهب زيد راكبا " فقد اكتفى " ذهب " بزيد، لأنه فاعل له، فلم تصر الحال فاعلا، فقد صار الفاعل حائلا بين الفعل وبين الحال أن يكون فاعلا. ومثل ذلك أنّك إذا قلت: " لي مثل هذا الجيش رجلا " و " ملء هذا القدح عسلا " فقد أضفت " مثل " إلى الجيش. ونصبت " رجلا " على التمييز، وكذلك " عسلا "؛ لأنّ المضاف إليه وهو المجرور قد حال بين الاسم المضاف وهو " مثل " و " ملء " وما أشبه ذلك، وبين " رجلا " و " عسلا " وما أشبه ذلك، أن يكون مجرورا؛ لأنّه قد استوفى الجرّ، وليس ينجرّ به اثنان، فانتصب لأنه تمييز كما انتصب الحال، بعد استيفاء الفعل لفاعله ومفعوله؛ لأنه حال، ولم يصر فاعلا ولا مفعولا، وكذلك: " ويح زيد فارسا " بمنزلة: " لي مثل الجيش رجلا " والهاء في " مثله " و " ملؤه " و " ويحه " أسماء مجرورة. ثم قال: " وكما منعت النون من عشرين أن يكون ما بعدها جرّا ". يعني أنك تقول: " عشرون درهما " فتنصب " درهما " على التمييز، وقد حالت النون بين " عشرون " وبين " درهم " أن ينجرّ الدّرهم، بإضافة العشرين إليه، ألا ترى أنك تقول: " عشرو زيد " إذا أردت إضافتها إلى مالكها، وتحذف النون، فقد علمت أن النون حائلة بين " عشرو " وبين " الدرهم " أن يكون منجرّا. ثم قال: " فعمل الفعل هاهنا فيما يكون حالا، كعمل: لي مثله رجلا، فيما بعده ".

هذا باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد

يعني: أن عمل الفعل في الحال، كعمل ما ينصب على طريق التمييز، وذلك أن الحال لا تكون إلا نكرة، والتمييز لا يكون إلا بنكرة ومعناهما متقارب، وذلك أنّك إذا قلت: " جاء زيد " فإن مجيئه يصلح أن يكون واقعا في حال من أحوال يمكن أن يكون له، فإذا قلت: " راكبا " فقد ميّزت هذه الحالة من سائر الأحوال المقدّرة، وإذا قلت " جاءني عشرون " يصلح أن يكونوا من أنواع كثيرة، فإذا قلت: " رجلا " بينت واحدا من الأنواع الممكنة، غير أنّ النوع المميّز غير الشيء المميّز، والحال هي اسم الفاعل والمفعول في حال وقوع الفعل، فهما مختلفان في أنفسهما، ومتقاربان في طريق نصيبهما. ثم قال سيبويه: " ألا ترى أنه لا يكون إلا نكرة، كما أن هذا لا يكون إلا نكرة " يعني: لا تكون الحال إلا نكرة، كما لا يكون التمييز إلا نكرة. ثم قال: " ولو كان هذا بمنزلة الثّوب وزيد في: كسوت لما جاز في ذهبت راكبا، لأنه لا يتعدى إلى مفعول ". يعني: لو كان الحال بمنزلة الثوب لما جاز ذهبت راكبا، ما لا يجوز: " ذهبت الثّوب و " ذهبت زيدا ". ثم قال: " وإنما جاز هذا لأنه حال وليس معناه كمعنى الثوب وزيد، فعمل كعمل غير الفعل ولم يكن أضعف منه، إذ كان يتعدّى إلى ما ذكرت من الأزمنة والمصادر ونحوه ". يريد: إنما جاز تعدّي الفعل إلى الحال، وإن كان الفعل لا يتعدّى إلى مفعول كما يعمل غير الفعل وهو " عشرون درهما " ونحوه، " ولي مثله رجلا "، ولم يكن الفعل في تعدّيه إلى الحال بأضعف من عمل العشرين في التميز؛ لأنّ الفعل يتعدّى إلى الظروف والمصادر وليس كذلك العشرون. هذا باب الفعل الذي يتعدّى اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد " فمن ثم ذكر على حدته، ولم يذكر مع الأوّل، ولا يجوز فيه الاقتصار على الفاعل، كما لم يجز في ظننت على المفعول الأول: لأنّ حالك في الاحتياج إلى الآخر هاهنا، كحالك في الاحتياج إليه ثمة، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ".

قال أبو سعيد: اعلم أنّ هذه الأفعال التي ضمّنها هذا الباب أفعال تدخل على مبتدأ وخبر فتفيد فيها زمانا محصلا أو نفيا أو انتقالا أو دواما، فمن ذلك: " كان " ولها ثلاثة معان، أحدها: ما ذكرناه، كقولك: " كان زيد عالما "، وكان الأصل: " زيد عالم " فدخلت " كان " لتوجب أنّ ذلك في زمان ماض، وكذلك: " يكون زيد منطلقا ". وقد يكون ما جعلته " كان " في الزّمان الماضي منقطعا، وغير منقطع؛ فأما ما لم ينقطع فقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (¬1) وهو في كل حال موصوف بذلك عز وجل، وأما ما قد انقطع فقولك: " قد كنت غائبا وأنا الآن حاضر ". وقد يحتمل أن يكون " وكان الله عليما حكيما " في تأويل المنقطع، ومعناه: ما وقع عليه العلم والحكمة، لا العلم والحكمة، كما قال الله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ (¬2) والمعنى: حتى يجاهد المجاهدون منكم ونحن نعلمهم. والمعنى الثاني من معاني كان: أن تكون في معنى: حدث ووقع، كقولنا: " كان الأمر " أي حدث. والوجه الثالث: أن تكون زائدة. وقولنا: " تكون زائدة " ليس المعنى بذلك أنّ دخولها كخروجها في كل معنى، وإنما يعني بذلك أنه ليس لها اسم ولا خبر، ولا هي لوقوع شيء مذكور، ولكنها دالّة على زمان، وفاعلها مصدرها: وذلك قولك: " زيد كان قائم " و " زيد قائم كان " تريد ذلك الكون، وقد دلّت كان على الزمان الماضي؛ لأنك لو قلت: " زيد قائم " ولم تقل: " كان " لوجب أن يكون ذلك في الحال. وقال الشاعر: سراة بني أبي بكر تساموا … على كان المسوّمة العراب (¬3) يريد: على المسوّمة العراب كان ذلك الكون. ومثل ذلك قولنا: " زيد ظننت منطلق " وألغينا " ظننت " ولم نعملها، ومع ذلك فقد أخرجت الكلام من اليقين إلى الظنّ. كأنك قلت: زيد منطلق في ظنّي. وكذلك قولك: " زيد منطلق كان " وإن لم تعمل " كان " في اللّفظ، فقد أوجبت أن هذا المعنى في زمان ماض. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 104. (¬2) سورة محمد، آية: 31. (¬3) البيت بلا نسبة في الخزانة 4/ 33.

ولكان أخوات وهي: صار، وأصبح، وأمسى، وظلّ، وأضحى، وبات، وليس وما زال، وما دام، وما تصرّف منهنّ؛ فأما صار ففيها معنى الانتقال، وهي تدخل على جملة لم يكن لها مثل تلك الحال من قبل، كقولك: " صار زيد عالما " و " صار الطين خزفا "، أي انتقل إلى هذه الحال. وقد تدخل على غير جملة لما فيها من معنى الانتقال كقولك: " صار زيد إلى عمرو ". وأنت لا تقول: زيد إلى عمرو، ولكنه بمعنى انتقل إلى عمرو. وأما أصبح وأمسى وأضحى وبات وظلّ فهي أوقات مخصوصة دخلن على جمل، فإذا قلت: " أصبح عالما " فكأنك قلت: دخل في وقت الصباح وهو عالم، وإذا قلت: " أمسى " فقد قلت: دخل وقت المساء وهو كذلك: " أضحى ": دخل وقت الضّحى. و" ظلّ زيد منطلقا ": أتى عليه النهار وهو منطلق. و " بات زيد قائما ": أي أتى عليه الليل وهو قائم، فهذه أوقات مخصوصة. والذي يعمّها ويكون مبهما واقعا لكل وقت: " كان ". وبينهنّ وبين " كان " فرق، وذلك أنّ " كان " لما انقطع، و " أضحى " و " أمسى " و " بات " غير منقطع، ألا ترى أنّك تقول: " أصبح زيد غنيا " فهو غنيّ في وقت إخبارك، غير منقطع غناه، وربما توسّعت العرب في بعض هذه الأفعال، فاستعملوه في معنى: " كان " و " صار " فيقولون: " أصبح زيد غنيّا " ولا يقصد إلى وقت الصباح دون غير هذا. قال الشاعر: ثمّ أضحوا كأنّهم ورق جفّ … فألوت به الصّبا والدّبور (¬1) ولم يقصد إلى وقت دون وقت. وأما " ليس " فإنها تدخل على جملة فتنفيها في الحال، كقولك " ليس زيد قائما " والأصل: " زيد قائم " قبل دخول " ليس " وفيه إيجاب قيامه في الحال، فإذا قلت: " ليس زيد قائما " فقد نفيت هذا المعنى، وكان الأصل في " ليس ": " ليس " مثل: " صيد البعير " فخفّفوه، وألزموه التخفيف؛ لأنه لا يتصرّف للزومه حالة واحدة، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدلّ عليها، وجعلوا البناء الذي خصّوه به ماضيا لأنّه أخفّ الأبنية. فإن قال قائل: وما الدّليل على أن ليس فعل؟ قيل له: الدليل على ذلك اتصال ¬

_ (¬1) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 90.

الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال، كقولك: لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين. وأما " ما زال " فما للنفي و " زال " للنّفي فصار المعنى بدخول النّفي على النّفي إيجابا فإذا قلت: " ما زال زيد قائما " و " لم يزل بكر منطلقا " و " لا يزال أخوك في الدّار " فقد أوجبت ذلك كلّه بنفي النفي. ولا تستعمل " زال " إلا مع حروف النفي؛ لو قلت: " زال زيد منطلقا " لم يجز، ولو قلت: " ما زال زيد إلا منطلقا " لم يجز؛ لأنّك لمّا أدخلت " إلا " انتقض معنى " ما " فصار تقديره: " زال زيد منطلقا " وهذا لا يجوز. وأما قوله: " ما دام زيد منطلقا " فليست " ما " هاهنا مثلها في قولك: " ما زال زيد منطلقا "؛ لأنّ " ما " في " ما زال " للنفي، و " ما " هاهنا مع بعدها من الفعل في موضع مصدر يراد به الزّمان، وذلك أنّك إذا قلت: " أنا أقوم هاهنا ما دام زيد قاعدا " فمعناه: " أقوم هاهنا دوام زيد قاعدا "، وتريد بالدوام: وقت الدّوام؛ تقول: " جئتك مقدم الحاجّ "، تريد وقت مقدم الحاج. ولو قلت: " ما دام زيد قائما " من غير أن يكون معه كلام، لم يجز؛ لأنه في معنى ظرف من الزّمان، فيحتاج إلى ما يقع فيه. ولو قلت: " ما زال زيد قائما " كان كلاما تامّا، ولا يستعمل " ما دام " إلا بلفظ " ما "؛ لأنّ " ما " وما بعدها بمعنى المصدر. و" ما زال " يجعل مكان " ما " حروف النفي فيقال: " لم يزل " و " لا يزال " ولن يزال ". وقد يقتصر في بعض هذه الأفعال على الفاعل، كقولك: " أصبح الرجل " و " أمسى زيد " و " أضحى بكر " أي دخل في هذا الوقت، كما يقال: " أظهر الرجل " أي دخل في وقت الظّهر، ويقال: " دام الرّجل على فعل كذا " و " دام الرّخص بحمد الله تعالى ". وكل هذه الأفعال يستعمل فيها الماضي والمستقبل إلا " ليس " و " ما دام " فإنّ " ليس " ليس لها مستقبل، و " ما دام " إذا جعلت في مذهب " كان " في جعل الاسم والخبر لها، تقول: " آتيك ما دام زيد صاحبك "، ولا يقال: ما يدوم زيد صاحبك؛ وذلك أن قولك: " ما دام " ليس لها إلا طريقة واحدة، فاختير له بناء واحد، وإنما يستعمله القائل فيما قد وقع ويشترط اتّصاله ودوامه، والفعل الذي يقع على " ما دام " مستقبل أبدا. وهذه الأفعال إذا كانت مقدّرا دخولها على اسم وخبر لم يجز الاقتصار على الاسم دون الخبر، ولا على الخبر دون الاسم، كما لم يجز الاقتصار على المفعول الأوّل في " ظننت " ولا على الثاني. وقد بيّنا ذلك فيما مضى. وذكر سيبويه من جملة هذه الأفعال: كان، ويكون، وصار، وما دام، وليس، ثم قال

بعقب ذلك: " وما كان نحوهنّ من الفعل مما لا يستغني عن الخبر ". وقد ذكرنا جملة ذلك. ويلحق به: " ما فتئ " وهو بمعنى: " ما زال "، وكذلك: " ما انفكّ "، ولا يستعملان إلا في النّفي، كقولك: " ما فتيء زيد قائما " و " لا يفتأ منطلقا " و " ما انفكّ ذاهبا " و " لا ينفّكّ منطلقا "، ويلحقون به أيضا: " طفق "، تقول: " طفق زيد يفعل كذا " كما تقول: " ظلّ يفعل كذا " و " بات باللّيل يفعل كذا " غير أنّ " ظل " بالنهار، و " بات " بالليل، و " طفق " تصلح بالنهار والليل. ثم مثل سيبويه فقال: " تقول: كان عبد الله أخاك "، فإنّما أردت أن تخبر عن الأخوّة وأدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى، وذكرت الأوّل كما ذكرت المفعول الأول في " ظننت ". يعني أن الفائدة في قولك: " كان عبد الله أخاك " الإخبار عن الأخوّة، وكذلك الفائدة في كل اسم وخبر في الخبر دون الاسم. وقوله: " أدخلت كان لتجعل ذلك فيما مضى "، يعني أنّ كان دلت أن الفائدة المستفادة بالخبر فيما مضى من الزّمان، وذكرت الاسم لتعلم أنه صاحب هذه الفائدة، كما ذكرت المفعول الأوّل في باب " ظننت ". ثم قال: " وإن شئت قلت: كان أخاك عبد الله، وقدّمت وأخّرت، كما فعلت ذلك في: ضرب، لأنه فعل مثله ". يعني أنّ تقديم المنصوب في هذه الأفعال كتقديم المفعول. فجاز أن تقول: " كان أخاك عبد الله " كما جاز " ضرب أخاك عبد الله " و " أخاك كان عبد الله " كما تقول: " أخاك ضرب عبد الله ". ويجوز ذلك في سائر أفعال هذا الباب. فأما " ما زال " و " ما فتيء " و " ما دام " فلا يجوز تقديم الأسماء على " ما " فيهنّ، وذلك أن (ما) في " ما زال " و " ما فتيء " و " ما انفكّ " للنّفي، ولا يجوز أن يعمل ما بعدها فيما قبلها فلا يجوز أن تقول: " زيدا ما ضرب عمرو " وأنت تريد: " ما ضرب عمرو زيدا " وقد كان أبو الحسن بن كيسان يجيز: " قائما ما زال زيد ". وقد بيّنّا فساد ذلك. ويجوز في " لا " و " لم " تقديم الخبر، فتقول: " قائما لم يزل زيد " و " قائما لا يزال زيد " كما يجوز أن تقول: " زيدا لم يضرب عمرو " و " زيدا لا تضرب ".

وأما " ما دام " فإنّ " دام " و " ما فتيء " واحد، فلا يجوز أن يتقدم (ما) شيء عمل فيه " دام "؛ لأنّ دام صلة لما، ولا يفّرّق بين (ما) وبينها، كما لا يفرّق بين (أن) الخفيفة والفعل، فلا يقال: " آتيك قائما ما دام زيد ". وأما " ليس " فإن الذي يدلّ عليه قول سيبويه في باب سأقفك عليه، إذا انتهينا إليه أن تقديم الخبر عليها جائز، فتقول: " قائما ليس زيد ". وبعض النحويين يأباه ولا خلاف بينهم في جواز تقديم الخبر على الاسم بعد ليس، كقولك: " ليس قائما زيد ". قال سيبويه: " وحال التقديم والتأخير فيه كحاله في: ضرب إلا أنّ اسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد ". يعني تقديم الخبر على الاسم في " كان " كتقديم المفعول في " ضرب " إلا أنّ الاسم المرفوع والمنصوب في كان لشيء واحد، وفي ضرب لشيئين. قال سيبويه: " وتقول: كناهم، كما تقول: ضربناهم. وتقول: إذا لم نكنهم، فمن ذا يكونهم، كما تقول: إذا لم نضربهم، فمن ذا يضربهم ". أراد الدلالة على أن كان وأخواتها أفعال؛ لاتصال الفاعلين بها ووقوعها على المفعولين، كما يكون ذلك في ضربناهم. وقوله: " إذا لم نكنهم " يكون على وجهين؛ أحدهما: إذا لم نشبههم، ألا ترى أنّك تقول: " أنت زيد "، في معنى: مشبه له. والوجه الآخر: أن يقول قائل: من كان الذين رأيتهم أمس في مكان كذا وكذا، فيقول المجيب: " نحن كنّاهم " إذا كان السائل قد رآهم، ولم يعلم أنهم المخاطبون. قال أبو الأسود الدؤلي: فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه … أخوها غذّته أمّه بلبانها (¬1) فجعل " يكون " فعلا واقعا على الضّمير، وفيه ضمير فاعل، وإنما يصف الزّبيب والخمر وقبل هذا البيت: دع الخمر تشربها الغواة فإنّني … رأيت أخاها مغنيا لمكانها يعني بأخيها الزّبيب. ثم قال: " فإن لا يكنها " يعني إن لا يكن الزّبيب الخمر ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 82، ولسان العرب (كون)، والخزانة 2/ 426.

" أو تكنه " يعني تكن الخمر الزبيب: " فإنّه أخوها " يعني الزّبيب أخو الخمر، لأنّهما من شجرة واحدة. وأما أبو الأسود الدؤلي، فإن أهل البصرة يقولون: " الدّؤليّ "، بضم الدّال، وفتح الهمزة وهو من الدّئل بن بكر بن كنانة. وفتحت الهمزة، كما قالوا في النّمر: نمريّ. وكان ابن حبيب يقول: الدّيل من كنانة، والدّئل مهموز مضموم، على مثال: فعل: الدئل بن محلّم بن غالب بن يثبع بن الهون بن خزيمة بن مدركة. وجماعة من النحويين منهم الكسائي، يقول: الدّيليّ. أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي سهل الحلواني، قال: سمعت أبا سعيد الحسن بن الحسين السكّريّ، يقول: حدثنا العباس بن محمد الجمحي، قال: حدثنا محمد بن سلام بن عبيد الله، قال: قال يونس: هم ثلاثة: الّدول من حنيفة، ساكن الواو، والدّيل في عبد القيس، ساكن الياء، والدّئل في كنانة رهط أبي الأسود، الواو مهموزة، فهو أبو الأسود الدؤلي. هذا قول عيسى بن عمر من البصريين. وأما قوله: " كائن ومكون "، فالكائن اسم الفاعل من كان؛ لأنك إذا قلت: " كان زيد قائما " جاز أن تقول: " زيد كائن قائما "، وأما " مكون " فهو لما لم يسمّ فاعله، غير أنّ " كان " لا يجوز نقلها إلى ما لم يسّمّ فاعله، بأن يقام الخبر مقام الاسم؛ لأنّا إذا قلنا: " كان زيد أخاك " فزيد والأخ لا يستغنى أحدهما عن الآخر، كالمبتدأ والخبر، فلا يجوز أن تحذف زيدا، فيبقى الخبر منفردا، وقد كان لا يجوز استغناؤه عن الاسم، كما أنك لا تقول: " حسبت زيدا "، ولا تأتي له بخبر؛ لأن كان وحسب جميعا إنما يدخلان على اسم وخبر، ولكن الوجه الذي يصح منه " مكون " أن تحذف الاسم والخبر جميعا، وتصوغ كان لمصدرها، وذلك المصدر ينوب مناب الاسم والخبر، ويكون الاسم والخبر تفسيرا له، فتقول: " كين الكون زيد منطلق "، فالكون اسم ما لم يسمّ فاعله لكين، وزيد منطلق جملة هي تفسير الكون، ألا ترى أنه لو قال قائل: " هل كان زيد منطلقا "، لقلت: " قد كان ذاك ". وإنما تريد: قد كان ذلك الكون، فيفهم المخاطب بذلك أنّ زيدا منطلق، وكذلك إذا قلت: " كان زيد منطلقا كونا " ثم نقلته إلى ما لم يسمّ فاعله، أقمت الكون مقام الفاعل، وجعلت الجملة تفسيرا للكون، فقلت: " كين الكون زيد منطلق ". ويجوز إضمار الكون؛ لدلالة الفعل عليه، إذ كان مصدرا، فتقول: " كين زيد منطلق "

و " مكون زيد منطلق ". وكان الفراء يجيز " كين أخوك " في " كان زيد أخاك " ويزعم أنه ليس من كلام العرب، ولكن على القياس، وقد بينا القياس في فساد ذلك. قال سيبويه: " وقد يكون لكان موضع آخر يقتصر عليه فيه، فتقول: كان عبد الله، أي قد خلق عبد الله، وقد كان الأمر أي قد وقع الأمر، وقد دام فلان، أي قد ثبت، كما تقول: رأيت زيدا، تريد من رؤية العين، وكما تقول: أنا وجدته، تريد وجدان الضالّة، وكما يكون أمسى وأصبح مرة بمنزلة كان ومرة بمنزلة استيقظوا وناموا ". وقد ذكرنا هذه المعاني فيما مضى، وأراد أن يبين أنّ لفظا واحدا قد يكون له حالان أحدهما يحتاج إلى اسم وخبر، والآخر لا يحتاج. ثم قال: " وأما ليس فليس يكون فيها ذلك- لأنها وضعت موضعا واحدا ". يعني أن " ليس " لا يكون لها حال تستغنى بالفاعل فقط فيها. قال: " فمن ثمّ لم تتصرّف تصرّف الفعل لآخر ". يعني لم تتصرّف " ليس " تصرّف " " كان " وأخواتها في الماضي والمستقبل واسم الفاعل، وقد ذكرنا هذا فيما مضى. قال: " فمن جاء على وقع قوله، وهو مقاس العائذي. فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي … إذا كأن يوم ذو كواكب أشهب " (¬1) يعني إذا وقع. ويزعم بعض النّاس أنه: مقاعس العائذيّ، وهو خطأ، إنما هو: مقّاس واسمه: مسهر ابن النعمان. وسمي مقّاسا بقوله: مقّست بهم ليل التّمام مسهّرا … إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع وقال عمرو بن شأس: بني أسد هل تعلمون بلاءنا … إذا كأن يوما ذا كواكب أشنعا (¬2) يريد: إذا كان اليوم يوما ذا كواكب أشنعا، وإنما أضمر لعلم المخاطب، ومعناه، إذا ¬

_ (¬1) البيت في سيبويه 1/ 21، وابن يعيش 7/ 98، وبلا نسبة في اللسان (شهب). (¬2) البيت في سيبويه 1/ 22.

كان اليوم الذي يقع فيه القتال. وبعض العرب يقول: " إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا "، فيجعل " كان " بمعنى وقع، ويجعل " أشنعا " على الحال. وقد يجوز أن يكون " أشنعا " خبرا. قال سيبويه: " واعلم أنه إذا وقع في هذا الباب نكرة ومعرفة، فالذي تشتغل به كان المعرفة؛ لأنّه حدّ الكلام؛ لأنهما شيء واحد ". يعني أنك إذا قلت: " كان زيد قائما "، فالوجه أن ترفع " زيدا " وتنصب " قائما "؛ لأن " زيدا " و " قائما " شيء واحد، وزيد هو معرفة، وقائم نكرة، وحدّ الكلام أن تخبر عمّن يعرف بما لا يعرف؛ لأنّ الفائدة هي في أحد الاسمين، والآخر معروف لا فائدة فيه، والذي فيه الفائدة هو الخبر، فالأولى أن يجعل زيدا المعروف هو الاسم وتجعل المنكور هو الخبر، حتى يكون مستفادا، فليس يحسن إذن أن تقول: " كان قائم زيدا " ولا يشبه هذا " ضرب رجل زيدا "؛ لأنك إذا قلت " ضرب رجل زيدا " فإنما أخبرت عن رجل بالضرب الواقع منه بزيد، ولو نصبت رجلا ورفعت زيدا انعكس المعنى، وصار المفعول فاعلا؛ لأنهما شيئان مختلفان. وقال: " وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا قلت: عبد الله منطلق ". يعني أن اسم كان وخبره كالمبتدأ وخبره في أن الخبر فيهما نكرة، والاسم معرفة. ثم مثل فقال: " وذلك قولك: كان زيد حليما، وكان حليما زيد، لا عليك قدمت أم أخّرت، إلا أنه على ما وصفت لك ". يعني أنك تنصب الخبر المنكور وإن قدّمته، كما جاز تقديم المنصوب في قولك: " ضرب زيد عبد الله ". قال: " فإذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك ". يعني ابتدأت بالاسم الذي يعرفه المخاطب، كما تعرفه أنت، فإنّما ينتظر الخبر الذي لا يعلمه وتستفيده، فإذا قلت: حليما، فقد أعلمته مثل ما علمت مما لم يكن يعلم، ولو قلت: كان حليما، فقد استفاد وقوع حلم لا يدرى لمن هو، فإنما ينتظر صاحبه، فإذا قلت زيد علم أن الحلم الذي قد استفاد وقوعه لزيد هذا المعروف، فهو جائز وإن كان مؤخّرا في اللفظ. ثم قال: " وإن قلت: كان حليم أو رجل فقد ابتدأت بنكرة فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور، وليس هذا بالذي ينّزّل به المخاطب منزلتك في المعرفة،

فكرهوا أن يقربوا باب لبس ". يعني أن ابتداءك بالنكرة لتحدث عنها غير مستقيم؛ لأن المخاطب ليس ينزّل منزلتك في معرفتها. وحكم الخطاب المفهوم أن يساوي المخاطب المتكلم في معرفة ما خبّره به، فإذا قال: " كان زيد عالما " فقد كان المخاطب عالما بزيد من قبل، وقد عرف علمه الآن، لإخبار المتكلم إياه، فقد ساواه في الأمرين جميعا، وإذا قال: " كان عالم زيدا " فعالم منكور لا يعرفه المخاطب، ولم يجعله خبرا فيفيده، وقد قدّمنا أنّ الأسماء لا تستفاد، فمعرفة المخاطب بعالم غير واقعة. فلم يساو المخاطب المتكلم إذن؛ لأن المنكور في الإخبار لا يعرفه المخاطب، وإن كان المتكلّم قد رآه وعرفه. فأما قوله: " فكرهوا أن يقربوا باب لبس ". يعني أن المخاطب يبقى على جهالته في المنكور الذي جعلته اسما. ثم قال: " وقد تقول: كان زيد الطّويل منطلقا، إذا خفت التباس الزّيدين ". يعني أنك تنعت الاسم المعروف إذا كان يشاركه في مثل لفظه غيره، بالنعت الذي يميزه من المشاركة في جنسه. قال: " وتقول: أسفيها كان زيد أم حليما، وأرجلا كان زيد أم صبيّا، تجعلها لزيد؛ لأنه إنما ينبغي أن تسأله عن خبر من هو معروف عنده ". يعني أنّك إذا أدخلت الاستفهام على " كان " لم تغيّرها عن الحكم الذي ذكرناه من جعل المعروف الاسم والمنكور الخبر؛ لأنّك إنما تسأله أيضا عمّن هو معروف عندك وعنده، ليفيدك عنه ما لا تعرفه، فيما تقدّر أنه يعرفه. وذلك الشيء الذي تسأل إفادته هو الخبر. قال: " والمعروف هو المبدوء به، ولا يبتدأ بما يكون فيه اللّبس وهو النكرة ". وقد ذكرنا هذا. ثم قال: " ألا ترى أنّك لو قلت: كان إنسان حليما، وكان رجل منطلقا، كنت تلبس ". يعني أن هذا الكلام إنما يجعل للمخاطب العلم بوقوع علم إنسان لا يعرفه من جملة الناس، وهو قد كان يعلم هذا قبل إخبار هذا المخبر إيّاه، فكرهوا أن يبدؤوا بهذا المنكور بسبب اللبس الذي ذكرناه.

قال سيبويه: " وقد يجوز في الشّعر في ضعف من الكلام. حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب، وأنه قد يعلم إذا ذكرت زيدا، وجعلته خبرا أنه صاحب الصّفة على ضعف من الكلام ". يريد أنه يجوز أن يجعل النكرة اسم كان والمعرفة خبرها في الشعر، وإن كان جوازه في الكلام ضعيفا، والذي حملهم على ذلك أنّهم قد جعلوا (كان) فعلا بمنزلة " ضرب ". وقد يجوز أن يكون فاعل ضرب منكورا، ومفعوله معروفا، وسوّغ أيضا في كان أن الاسم فيها هو الخبر، فإذا قلت: " كان قائم زيدا " فزيد هو القائم الذي قد نكرته، فتعرّف المنكور بتعريفك زيدا؛ إذ كانا لشيء واحد، فكأنّك تعرّف المخبر عنه بمعرفة خبره. وكان ضعفه أنك لم تعرف بنفسه، وحكم الاسم يعرّف بنفسه، ثم يستفاد خبره. واستشهد سيبويه على ذلك بقول خداش بن زهير: فإنّك لا تبالي بعد حول … أظبي كان أمّك أم حمار (¬1) وبقول حسان بن ثابت: كأنّ سلافة من بيت رأس … يكون مزاجها عسل وماء (¬2) وقول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري: ألا من مبلغ حسّان عنّى … أسحر كان طبّك أم جنون (¬3) وقول الفرزدق: أسكران كان ابن المراغة إذ هجا … تميما بجوف الشّام أم متساكر (¬4) فأما البيت الأول، فقد ردّ على سيبويه الاستشهاد به؛ لأنّه جعله شاهدا لجعل النكرة اسما والمعرفة خبرا، واسم كان في هذا البيت: ضمير ظبي، والضمير معرفة، فحصل من هذا أن اسم كان وخبرها معرفتان، لأن الضمير معرفة، والأم معرفة. وليس الأمر على ما ظنه الرادّون على سيبويه، وذلك أنّ الذي أحوج أن يكون الاسم معروفا تبيين المخبر عنه للمخاطب حتى لا يلتبس عليه ويستفيد خبره على ما ¬

_ (¬1) البيت في سيبويه 1/ 23، وابن يعيش 7/ 94، والخزانة 4/ 67. (¬2) البيت في ديوانه ص 3، وابن يعيش 7/ 93، وخزانة الأدب 4/ 40، واللسان (سبق). (¬3) البيت في سيبويه 1/ 23، والخزانة 4/ 68، واللسان (طبب). (¬4) البيت للفرزدق في ديوانه 481، وسيبويه 1/ 23، وخزانة الأدب 4/ 65، واللسان (سكر).

بيّنّاه، وضمير النكرة لا يستفيد منه المخاطب أكثر من النّكرة، ألا ترى أنّ قائلا لو قال: " مررت برجل وكلّمته "، لم تكن الهاء العائدة إلى رجل بموجبة لتعريف شخص بعينه من بين الرجال، وإن كانت الهاء معرفة من حيث علم المخاطب أنها تعود إلى ذلك الرجل المذكور من غير أن يكون تمييز له من بين الرجال، فلا فرق بين أن تقول: " قائم كان زيدا " ويجعل في كان ضمير قائم، وبين أن يقول: " كان قائم زيدا " في باب معرفة المخاطب بالمخبر عنه. وجواب آخر: أن " ظبي " اسم كان أخرى مضمرة قبل ظبي، وكان الثانية تفسير لها، ويكون اسم كان الذي أراده سيبويه ظبي. وأما ارتفاع ظبي فإنه على وجهين: إما أن يكون مبتدأ، وتكون كان واسمها وخبرها في موضع خبره، كما تكون الجمل أخبار المبتدآت، وإما أن يرتفع بكان أخرى مضمرة؛ لأن ألف الاستفهام بالفعل أولى، فيكون تقديره: " أكان ظبي كان أمّك " فيكون ظبي مرتفعا بكان، ويكون: " كان أمك " تفسيرا لكان المضمرة، ويكون كان المضمرة بمعنى وقع، وهذه الأخرى الظاهرة تفسيرا للمضمرة لتقارب معناهما. وهذا الشاعر إنما يصف إضراب النّاس عن التشرّف بالأنساب، وتقارب ما شرف منها ووضع، فقال: لا تبالي بعد هذا الوقت إن دام ما نحن فيه إلى من نسبت من الأمهات. وأما البيت الثاني، فإنه جعل (مزاجها) خير يكون و (عسل وماء) اسمها، فهو مطابق لما استشهد به سيبويه من غير اعتراض عليه. غير أن في هذا البيت ما يسهّل جعل النكرة اسما من جهة المعنى، وذلك أن الذي يستفيده المخاطب بعسل وماء منكورين، هو الذي يستفيده منهما معروفين؛ لأنّهما نوعان متشابها الأجزاء، ألا ترى أنّ قائلا لو قال لك: شربت الماء والعسل، أو قال: شربت ماء وعسلا، كان معناهما عندك واحدا، لعلمك أنه إذا قال: العسل والماء أنّه لا يأتي على شربهما أبدا، وأن غرضه من ذلك البعض، واستواء أجزائهما أن العسل والماء يقال لما قلّ منه وكثر: عسل وماء، ألا ترى أنّ جرعة ماء وأقلّ منها يقال لها ماء، وأن دجلة والفرات والبحر ماء، فأجزاؤه متساوية ومما سهل ذلك أيضا أن الضمير الذي في مزاجها يعود إلى منكور، وهي سلافة. وقد بيّنا ما في ذلك. وكان أبو عثمان المازني ينشد:

" يكون مزاجها عسلا وماء " فيحمل: وماء على المعنى، وذلك أن ما مازج الشيء فقد مازجه الشيء، فكأنّه قال: ومازجها ماء. والبيت الثالث مثل البيت الأول. ورأس: اسم خمّار. والبيت الرابع كذلك أيضا، غير أن بعضهم ينشد " أسكران كان ابن المراغة ". وقد كان حكمه أن يقول: " أم متساكرا "؛ لأن متساكرا عطف على سكران، ولكنّه لم يعطفه عليه لفظا، وعطفه على تقدير جملة معطوفة على جملة، كأنه قال: أم هو متساكر، كما قال: يهدي الخميس نجادا في مطالعها … إمّا المصاع وإمّا ضربة رغب (¬1) كأنه قال: وإما أمرنا ضربة رغب. قال سيبويه: " وإذا كانا معرفة فأنت بالخيار أيّهما جعلته فاعلا رفعته ونصبت الآخر، كما فعلت ذلك في ضرب، وذلك قولك: كان أخوك زيدا، وكان زيد صاحبك، وكان هذا زيدا، وكان المتكلّم أخاك ". قال أبو سعيد: إن قال قائل: إذا كان الاسم والخبر جميعا معروفين، فما الفائدة؟ قيل له: الاسم المعروف قد يعرف بأنحاء منفردة، وقد يعرف بها مركّبة، فزيد معروف بهذا الاسم منفردا، وأخوك معروف بهذا الاسم منفردا، غير أن الذي عرفهما بهذين الاسمين منفردين، قد يجوز أن يجهل أنّ أحدهما هو الآخر، ألا ترى أنك لو سمعت بزيد وشهر أمره عندك، من غير أن تراه، لكنت عارفا به ذكرا أو شهرة، ولو رأيت شخصه لكنت عارفا به عيانا، غير أنك لا تركّب هذا الاسم الذي سمعته على الشخص الذي رأيته إلا بمعرفة أخرى، بأن يقال لك: هذا زيد ونحوه من المعارف. وقول سيبويه في هذا الفصل: " كما فعلت ذلك في ضرب "، يريد: كما رفعت الفاعل وهو منكور ونصبت المفعول وهو منكور في ضرب. وقد بيّنا أن الفعل لا يختص رفع المعروف دون المنكور. قال سيبويه: " وتقول: من كان أخاك، ومن كان أخوك، كما تقول: من ضرب ¬

_ (¬1) البيت للزبرقان في اللسان (مصع)، وبلا نسبة في سيبويه 1/ 87.

أباك، إذا جعلت (من) الفاعل، ومن ضرب أبوك، إذا جعلت الأب الفاعل وإذا قلت: من كان أخاك، فمن مبتدأة وهي استفهام، ولا يحتاج إلى صلة، وفي ضمير من وهو اسم كان، وأخاك الخبر ". وقول سيبويه: " جعلت (من) الفاعل " يريد ضمير من وإذا قلت: من كان أخوك فأخوك اسم كان ومن خبر كان، وهي في موضع نصب، وليس في الكلام ضمير، وهو بمنزلة " قائما كان زيد " إلا أن من لا تكون إلا صدرا لأنها استفهام. قال سيبويه: " وكذلك: أيهم كان أخاك وأيهم كان أخوك " وتفسيره كتفسير من. قال سيبويه: " وتقول: ما كان أخاك إلا زيد، كما تقول: ما ضرب أخاك إلا زيد ". يريد أن دخول (إلا) لم يغيّر اللّفظ عن منهاجه في الإعراب، وإنما دخلت لتغيير معنى النفي. ومن الحروف ما يدخل لتغيير المعنى من غير أن يحدث في اللفظ تأثيرا، كقولك: هل زيد قائم؟ وأزيد قائم؟ ولم تغيّر (هل) و (الألف) مع إحداثهما معنى الاستفهام لفظ الابتداء والخبر. قال: " ومثل ذلك قوله تعالى: ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا (¬1) ووَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا (¬2)، فإن وما بعدها بمنزلة المصدر، فكأنه قال: " إلا قولهم ". وقال الشاعر: وقد علم الأقوام ما كان داءها … بثهلان إلا الخزي ممّن يقودها (¬3) وإن شئت قلت: ما كان داؤها إلا الخزي وقرأ بعض القراء: " ما كان حجّتهم " و " ما كان جواب قومه ". قال سيبويه: " ومثل قولهم: من كان أخاك قول العرب: ما جاءت حاجتك كأنه قال: ما صارت حاجتك، ولكنّه أدخل التأنيث على ما حيث كانت الحاجة، كما قال ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، آية: 25. (¬2) سورة الأعراف، آية: 82. (¬3) البيت بلا نسبة في سيبويه 1/ 24، وابن يعيش 7/ 96.

بعض العرب: من كانت أمّك، حيث أوقع (من) على مؤنّث ". قال أبو سعيد: اعلم أن (من) و (ما) لهما لفظ ومعنى، والألفاظ الجارية عليهما يحق أن تكون محمولة على لفظيهما ومعناهما، فإذا جرت على لفظهما، كان مذكّرا موحّدا، تقول: " من قام " سواء أردت واحدا أو اثنين أو جماعة من مذكر ومؤنث، وكذلك: " ما أصابك " سواء أردت به شيئا أو شيئين من مذكر ومؤنث. ويجوز أن تحمل الكلام على معناهما، فتقول: " من قامت " إذا أردت مؤنثا، وفيكم من يختصمان، ومن يقومان، ومن يقمن، ومن يقومون. قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً (¬1) فذكّر " يقنت " على لفظ " من "، وأنّث " تعمل " على معناها، ولو ذكرهما على اللفظ أو أنّثهما على المعنى لجاز. وبعض الكوفيين يزعم أنه لا يجوز تذكير الثاني؛ لأنه قد ظهر تأنيث المعنى بقوله: " منكن " وهذا غلط لأنّا إنما نردّه إلى لفظ (من) وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (¬2)، فقال تعالى: " ومن يؤمن " موحدا على لفظ " من "، ثم قال: " خالدين " على المعنى، ثم رجع إلى اللفظ فقال تعالى: " قد أحسن الله له رزقا "، فبطل بما ذكرناه ما توهمه الكوفي. وقال الله تعالى في جمع (من) على المعنى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬3) وعلى اللفظ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (¬4) وقال تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (¬5) ثم قال تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (¬6) على المعنى. ثم قال الفرزدق في التثنية: ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: 31. (¬2) سورة الطلاق، آية: 11. (¬3) سورة يونس، آية: 42. (¬4) سورة الأنعام، آية: 25. (¬5) سورة البقرة، آية: 112. (¬6) سورة البقرة، آية: 112.

تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني … نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (¬1) فثنّاه على المعنى. وكذلك الحكم في " ما "، تقول: " ما نتج من نوقك " و " ما نتجت من نوقك " و " ما نتجن من نوقك "، فإذا قلت: " ما نتج من نوقك " فهو على لفظ (ما) فإذا قلت: " ما نتجت " فهو على معنى ناقة، كأنك قلت: أية ناقة نتجت من نوقك، وإذا قلت " ما نتجن من نوقك " فكأنه يسأله عن جماعة نتجن من نوقه، ويقدّر اللفظ على تقدير: أيّ نوق نتجن من نوقك، ولو كنت سائلا عن ناقتين، ثم حملت الكلام على المعنى لقلت: ما نتجتا من نوقك. وأمام قول العرب: " ما جاءت حاجتك "، فالأصل في " جاء " أن يكون فعلا كسائر الأفعال، منهم من لا يجعله متعديا، فيقول: " جاء زيد إلى عمرو "، كما تقول: " قام زيد إلى عمرو " ومنهم من يعدّيه فيقول: " جاء زيد عمرا " كما تقول: " لقى زيد عمرا "، ويكون الفاعل غير المفعول. فأما قول العرب: " ما جاءت حاجتك "، فقد أجروها مجرى صارت، وجعلوا لها اسما وخبرا وهو الاسم، كما كان ذلك في باب كان وأخواتها؛ فجعلوا (ما) مبتدأ وجعلوا في (جاءت) ضمير " ما " وجعلوا ذلك الضمير اسم جاءت، وجعلوا (حاجتك) خبر " جاءت " فصار بمنزلة " هند كانت أختك " وأنثّوا " جاءت " لتأنيث معنى " ما " فكأنه قال: أية حاجة جاءت حاجتك، وجعلوا " جاء " بمنزلة " صار " وإدخالها على اسم وخبر هو غير معروف إلا في هذا، وهو من أمثال العرب، ولم يسمع إلا بتأنيث " جاءت " وأجروه مجرى " صارت " لضرب من الشّبه بينهما، وذلك أنك تقول: " صار زيد إلى عمر " كما تقول: " جاء زيد إلى عمرو "؛ ففي " جاء " من الانتقال ما في " صار "، فحملوا " ما جاءت حاجتك " في جعل الاسم والخبر له على " صار " في جعل الاسم والخبر له إذ قلت: " صار الّطين خزفا " و " صار زيد منطلقا " لما بينهما من الاشتراك في معنى الانتقال، وإنما يقوله الرجل للرجل إذا أتاه في معنى قوله: " ما جاء بك " ويقال إن أول ما شهرت هذه الكلمة من قول الخوارج لابن عباس حين أتاهم يستدعي منهم الرجوع إلى الحقّ من قبل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 870، وسيبويه 1/ 404، وابن يعيش 4/ 13، والخزانة 1/ 461.

وقول سيبويه: " ولكنه أدخل التأنيث على (ما) حيث كانت الحاجة ". يعني أنّث " جاءت " لمعنى التأنيث في (ما)؛ لأن معناها: أيّة حاجة، ولو حمل " جاء " على لفظ " ما " لقال: " ما جاء حاجتك " إلا أنّ العرب لا تستعمل هذا المثل إلا مؤنثا والأمثال إنّما تحكي. وقول العرب: " من كانت أمّك " جعلوا (من) مبتدأة، وجعلوا في كانت ضميرا لها، وجعلوا ذلك الضمير اسم كان وجعلوا " أمّك " خبرها وأنثوا " كان " على معنى " من " فكأنه قال: " أيّة امرأة كانت أمّك ". قال سيبويه: " وإنما صيّر جاء بمنزلة كان في هذا الحرف؛ لأنه بمنزلة المثل كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم: " عسى الغوير أبؤسا ". ولا تقول: عسيت أخانا. وكما جعلوا " لدن " لها مع " غدوة " حالة ليست مع غيرها، مع غدوة منّونة، كقولهم: لدن غدوة ومن كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضع على غير حاله في سائر الكلام، وسترى مثل ذلك إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: أما قوله: " إنما صير جاء بمنزلة كان في هذا الحرف " يعني أنهم جعلوا له اسما وخبرا، كما جعلوا لكان، وقد بينّا هذا. ومثل ذلك: " عسى الغوير أبؤسا " جعلوا الغوير اسم عسى ومرفوعا به، وأبؤسا خبر الغوير، فجرت " عسى " مجرى " كان " في أن لها اسما وخبرا في هذا المثل فقط. ولو قال قائل: " عسى زيد أخاك "، كما تقول: " كان زيد أخاك " لم يجز، وإنما أراد أن يريك أن " جاء " و " عسى " في الكلام في غير هذين المثلين ليسا بمنزلة " كان " وصيّرا في هذا الموضع بمنزلة كان في العمل. وقولهم: " عسى الغوير أبؤسا " يقال إن " الزبّاء " الرّومية هي التي قالته لما أتاها " قصير " بصناديق فيها رجال طالبا لثأر جذيمة الأبرش منها، فأخذ في طريق الغار مريدا للإيقاع بها، ولم يكن الطريق الذي يسلكه إليها ذلك الطريق، فلما أحسّت بذلك قالت: عسى الغوير أبؤسا. وأبؤس جمع بأس فكأنها قالت: صار الغوير أبؤسا، إلا أنّ عسى فيها معنى الشكّ والتوقّع، وصار لليقين فعسى هاهنا وإن أجريناها مجرى (صار) و (كان)، فهي غير خارجة من معنى الشك، فكأنها قالت: عسى الغوير أن يأتيني البأس من قبله. والغوير تصغير الغار. وفي الناس من يقول: عسى الغوير أن يكون أبؤسا، فينصب

أبؤسا بيكون. ولا وجه لهذا الإضمار كله. ثم ذكر سيبويه: " لدن غدوة " احتجاجا بأنّ الشيء قد يكون على لفظ في موضع فلا يطرد القياس في غيره، وذلك أن العرب تقول: لدن غدوة، فينصبون، ولا يقولون: لدن عشيّة، ولا لدن زيدا. وكذلك: عسى الغوير أبؤسا، وما حاجتك، ولا يقولون: عسى زيد أخانا، ولا جاء زيد قائما في معنى: صار زيد قائما. وإنما تنصب العرب غدوة، وإن كان القياس فيها الخفض على ضرب من التأويل والتشبيه، وذلك أنهم يقولون: " لد " فيحذفون النون، و " لدن " فيثبتون النون، فشبّهوا هذه النون بالنون الزائدة في عشرين وضاربين؛ لأنك تقول: هذه عشرو زيد، وضاربو زيد، ثم تقول: هذه عشرون درهما، وضاربون زيدا. قال سيبويه: " ومن يقول من العرب: ما جاءت حاجتك، كثير، كما تقول: من كانت أمّك ". يعني أن من العرب من يجعل " حاجتك " اسم " جاءت " ويجعل خبرها " ما "، كما يجعل من خبر " كانت "، ويجعل " أمّك " اسمها، وما في موضع نصب، كأنك قلت: أيّة حاجة كانت حاجتك، وأيّة امرأة كانت أمّك. كما تقول: " قائمة كانت هند "، ولا يجوز تأخير " ما " و " من " وإن كانتا منصوبتين في التقدير؛ لأنهما استفهام، والاستفهام لا يتأخر. قال سيبويه: " ولم يقولوا: ما جاء حاجتك ". يعني: لم يسمع هذا المثل إلا بالتأنيث، وليس هو بمنزلة قولك: " من كان أمّك "؛ لأنّ قوله: من كان أمّك ليس بمثل، فلا يغيّر لفظه، ولكن " من " مبتدأ وفي " كان " ضميرها، وهو اسم كان " وأمّك " خبر كان، وذكّر " كان " على لفظ " من ". قال سيبويه: " فألزموه التاء كما اتفقوا على: لعمر الله، في اليمين ". يعني أن العرب اتفقوا على النطق بهذا المثل على تأنيث " جاءت "، كما اتّفقوا على قولهم في اليمين: " لعمر الله "، وذلك أنّ العمر والعمر معناهما البقاء. وقولهم: لعمر الله: لبقاء الله كأنه قال: لبقاء الله حلفي، ولم يقل أحد: لعمر الله، وإن كان معناه معنى " العمر " في غير هذا الموضع. واختصّ هذا الموضع بإحدى اللّغتين، كما اختصّ " جاءت " بالتأنيث دون التذكير. قال سيبويه: " ومثل قولهم: ما جاءت حاجتك، إذا صارت تقع على مؤنث:

قراءة بعض القراء: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا (¬1) وتلتقطه بعض السيارة (¬2). يريد أن " تكن " مؤنث، واسمها " أن قالوا " وليس في " أن قالوا " تأنيث لفظا، وإنما حمل تأنيثه على معنى " أن قالوا " إذا تأوّلته تأويل مقالة، كأنه قال: ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وحمل " تلتقطه " على المعنى في التأنيث؛ لأن لفظ البعض الذي هو فاعل الالتقاط مذكّر، ولكنّ بعض السّيّارة في المعنى سيّارة، ألا ترى أنه يجوز أن تقول: تلتقطه السّيّارة، وأنت تعني البعض، فهذا مثل: ما جاءت حاجتك، حين أنّث فعلها على المعنى. قال سيبويه: " وربما قالوا في بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنّث بعضا؛ لأنّه أضافه إلى مؤنّث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه. لو قال ذهبت عبد أمّك لم يحسن ". يعني لم يجز. قال أبو سعيد: اعلم أن المذكّر الذي يضاف إلى المؤنث على وجهين؛ أحدهما: تصحّ به العبارة عن معناه بلفظ المؤنّث التي أضفته إليها لو أسقطته هو. والآخر لا تصح العبارة عن معناه بلفظ المؤنث التي أضيف إليها. فأما ما يصح معناه لو أسقط بلفظ المؤنث، فقولك: " أضرّت بي مرّ السّنين " و " آذتني هبوب الرياح " و " ذهبت بعض أصابعي " و " اجتمعت أهل اليمامة "؛ وذلك أنك لو أسقطت المذكّر فقلت: " أضرّت بي السّنون " و " آذتني الرّياح " و " ذهبت أصابعي " و " اجتمعت اليمامة " وأنت تريد ذلك المعنى لجاز. وأما ما لا تصح به العبارة عن معناه بلفظ المؤنث، فقولك: " ذهب عبد أمّك ". ولو قلت: " ذهبت عبد أمّك " لم يجز؛ لأنك لو قلت: " ذهبت أمّك " لم يكن معناه معنى قولك: " ذهب عبد أمّك "؛ كما كان معنى: " اجتمعت اليمامة " كمعنى " اجتمع أهل اليمامة ". وهذا الباب الأول الذي أجزنا فيه تأنيث فعل المذكّر المضاف إلى المؤنث، الذي تصح العبارة عن معناه بلفظها، فإن الاختيار تذكير الفعل، إذ كان لمذكّر في اللفظ؛ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: 23. (¬2) سورة يوسف، آية: 10.

فقولك: اجتمع أهل اليمامة و " ذهب بعض أصابعه " أجود من " اجتمعت " و " ذهبت "، والتأنيث على الجواز. ومثل تأنيث ما ذكرنا قول الأعشى: وتشرق بالقول الّذي قد أذعته … كما شرقت صدر القناة من الدّم ومثل ذلك قول جرير: إذا بعض السّنين تعرّقتنا … كفى الأيتام فقد أبي اليتيم فأنّث " تعرّقتنا " والفعل للبعض، إذ كان يصح أن يقول: إذا السّنون تعرّقتنا، وهو يريد بعض السّنين. وقال جرير أيضا: لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت … سور المدينة والجبال الخشّع (¬1) فأنّث " تواضعت " والفعل للسّور؛ لأنه لو قال: تواضعت المدينة لصح في المعنى الذي أراده بذكر السور. وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول: إن السّور جمع سورة، وهي كل ما علا، وبها سمّي سور المدينة سورا، فزعم أنّ تأنيث " تواضعت "؛ لأن السور مؤنث؛ إذ كان جمعا ليس بينه وبين واحدة إلا طرح الهاء، كنحلة ونحل، وإذا كان الجمع كذلك جاز تأنيثه وتذكيره. وقال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (¬2) فذكّر. وقال الله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (¬3) فأنث. فأما قوله: " والجبال الخشّع " فمن الناس من يرفع الجبال بالابتداء، ويجعل الخشع الخبر، كأنه قال: والجبال خشّع. ولم يرفعها بتواضعت؛ لأنه إذا رفعها بتواضعت ذهب معنى المدح؛ لأن الخشّع هي المتضائلة، فإذا قال: تواضعت الجبال المتضائلة لموته لم يكن ذلك طريق المدح، وإنما حكمه أن تقول: تواضعت الجبال الشّوامخ. وقال بعضهم: الجبال مرتفعة بتواضعت والخشّع نعت لها، ولم يرد أنها كانت خشّعا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 345، وسيبويه 1/ 25، والخزانة 2/ 166، واللسان (سور). (¬2) سورة القمر، آية: 20. (¬3) سورة ق، آية: 10.

من قبل، وإنما هي خشّع لموته فكأنه قال: تواضعت الجبال الخشّع لموته، كما قال رؤبة: والسّبّ تخريق الأديم الألخن (¬1) ولم يقل " الأمتن " فيكون أبلغ على ما ذكرنا، ولكنه أراد الألخن بالسّبّ. وقال ذو الرمة: مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت … أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (¬2) فأنّث والفعل للمرّ؛ لأنه لو قال: تسفّهت أعاليها الرياح، لجاز. وقال العجّاج: طول الّليالي أسرعت في نقضي … أخذن بعضي وتركن بعضي (¬3) فأنث " أسرعت "؛ لأنه لو قال: الليالي أسرعت في نقضي، لجاز. قال سيبويه: " وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق: اجتمعت أهل اليمامة؛ لأنّه يقول في كلامه: اجتمعت اليمامة، والمعنى، أهل اليمامة، فأنّث الفعل إذ جعله في اللّفظ لليمامة، فترك اللفظ على ما كان يكون عليه في سعة الكلام ". يعني ترك لفظ التأنيث في قولك: اجتمعت أهل اليمامة على قوله: اجتمعت اليمامة. وقال الفراء: لو كنّيت عن المؤنّث في هذا الباب لم يجز تأنيث فعل المذكّر الذي أضيف إليه، لو قلت إن الرّياح آذتنى هبوبها، لم يجز أن تؤنث " آذتنى " إذا جعلت الفعل للهبوب. واحتج بأنّا إذا قلنا: " آذتني هبوب الرّياح " فكأنّا قلنا: " آذتني الرياح " وجعلنا الهبوب لغوا وإذا قلنا: " آذتني هبوبها " لم يصلح أن يجعل الهبوب لغوا،؛ لأنّ الكناية لا تقول بنفسها، فتجعل الهبوب لغوا. والصحيح عندنا جوازه، وذلك أنّ التأنيث الذي ذكرناه، إنما أجزناه؛ لأنه تجوز العبارة عنه، بلفظ المؤنث المضاف إليها، لا لأنه لغو، وقد تجوز العبارة بلفظ المؤنث عن لفظ المذكّر، وإن كان لفظها مكنيا، ألا ترى أنّا نقول: إن الرّياح آذتني، وإن أصابعي ذهبت، وأنّا نريد البعض والهبوب. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 160، واللسان (لخن). (¬2) البيت في ديوانه 616، وسيبويه 1/ 25، والخزانة 2/ 169، واللسان (سفه). (¬3) البيت في ملحق ديوانه 80، والخزانة 2/ 68.

قال سيبويه: " ومثله يا طلحة أقبل، لأن أكثر ما تدعو طلحة بالترخيم، فترك الحاء على حالها، ويا تيم تيم عديّ وسترى هذا في موضعه إن شاء الله تعالى ". اعلم أن الاسم الذي في آخره هاء التأنيث ينادي بأربعة ألفاظ: الضم وإثبات الهاء، كقولك: يا طلحة، وبحذف الهاء وفتح الحاء، كقولك: يا طلح، وبهذا أكثر ما ينادى، ويا طلح بضم الحاء وحذف الهاء ويا طلحة بفتح الهاء وإثباتها. وهذا اللفظ هو الذي نفسره في هذا الموضع، وذلك أنه مفتوح ولم يلحق ترخيم في اللفظ، وإنما جاز فتحها، لأن أكثر ما تنادى العرب هذا الاسم بحذف الهاء وفتح الحاء، فإذا فعلوا ذلك؛ ثم أدخلوا الهاء فتحوها على حسب ما تكون الحاء مفتوحة إتباعا لها، فكان فتحهم آخر هذا المنادى كفتح يا طلح، وجعل هذا شاهدا لقوله: " اجتمعت أهل اليمامة " حين أجروه على التأنيث الذي يكون في قوله: اجتمعت اليمامة ولم يحفل بدخول أهل. وأما قوله " يا تيم تيم عديّ " فإنما أراد: يا تيم عديّ، وزاد " تيم " الثاني، فأجراه على لفظ تيم الأول تأكيدا، ولم يبطل الإضافة، كما قال: اجتمعت أهل اليمامة، فلم يبطل التأنيث بإدخال الأهل، ويجوز أن يكون تقديره: يا تيم عديّ تيم عديّ، فتحذف المضاف إليه الأول، اكتفاء بالثاني كما تقول: هذا نصف وثلث درهم تريد: هذا نصف درهم وثلث درهم. وقال الفرزدق: يا من رأى عارضا أسرّ به … بين ذراعي وجبهة الأسد (¬1) ويجوز: يا تيم تيم عديّ، وهو أجود، على أن تجعل الأول نداء مفردا، وتجعل الثاني نعتا له. قال سيبويه: " فإن قلت: من ضربت عبد أمّك، وهذه عبد زينب، لم يجز؛ لأنّه ليس منها ولا بها، ولا يجوز أن تلفظ بها، وأنت تريد الغلام ". يريد أنك لا تقول: " مررت بزينب " وأنت تريد غلامها. وقد أحكمنا هذا مفسرا. قال جرير: يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم … لا يلقينّكم في سوأة عمر (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 215. (¬2) البيت في ديوانه 285، وسيبويه 1/ 26، والخزانة 1/ 359.

هذا باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة

وقد فسرنا: يا تيم تيم عديّ. هذا باب ما يخبر فيه عن النكرة بالنكرة قال سيبويه: (وذلك قولك: " ما كان أحد مثلك "، و " ما كان أحد خيرا منك "، و " ما كان أحد مجترئا عليك "، وإنما حسن الإخبار هاهنا عن النكرة، حيث أردت أن تنفي أن يكون في مثل حاله شيء أو فوقه؛ لأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا الشيء). قال أبو سعيد: قد قدمنا جواز الإخبار عن الشيء معقود بوقوع الفائدة للمخاطب، وتعريفها ما يجوز أن يجهله. فإذا قلت: " ما كان أحد مثلك "، فقد خبّرته أنه فوق الناس كلهم، حتى لا يوجد له مثل أو دونه، حتى لا يوجد له مثل في الضعة. وقد كان يجوز أن يجهل مثل هذا من نفسه، فيظن أن له مثلا في رفعته أو ضعته. (وإذا قلت: " كان رجل ذاهبا "). لم يجز؛ لأن المخاطب لا يجهل هذا، (وإذا قلت: " كان رجل من آل فلان فارسا " حسن). وجاز؛ لأنه قد يجوز ألا يكون في آل فلان فارس، وقد يجوز أن يكون فيهم فارس يجهله المخاطب. قال سيبويه: (ولو قلت: " كان رجل في قوم عاقلا. لم يحسن) يريد: لم يجز. (لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل، وأن يكون من قوم). قال سيبويه: (فعلى هذا النحو يحسن ويقبح). يريد: ما كانت فيه فائدة جاز الكلام به وحسن، وما لم تكن فيه فائدة لم يحسن. ثم قال: (ولا يجوز لأحد أن تضعه في موضع واجب). قال أبو سعيد: واعلم أن: " أحدا " له مذهبان في الكلام: أحدهما: أن يكون في معنى " واحد ". والآخر أن يكون موضوعا في غير الإيجاب بمعنى العموم. فأما كونه في موضع الواحد؛ فأكثر ذلك يكون في العدد كقولك: " أحد وعشرون " أي: واحد وعشرون. وقد قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي: واحد. وأما الموضع الآخر: فإنك تضعه في موضع غير الواجب، في النفي والاستفهام، وتنفي به ما يعقل مؤنثا كان أو مذكرا، صغيرا كان أو كبيرا؛ نفيا عاما، فتقول: " ما بالدار

أحد "، نافيا للرجال والنساء والصبيان، كما تقول: " ما بالدار عريب ولا كرّاب "، " وما بالدار طوري ". ولا يجوز أن تقول: " بالدار أحد ". كما لا تقول " بالدار عريب ". وتقول: " هل بالدار أحد "، فيكون بمنزلة " وما بالدار أحد "؛ لأنه غير واجب. وقد كان أبو العباس المبرد يجيز وقوع " أحد " في كل موضع يصلح أن يكون فيه الواحد بمعنى الجماعة نفيا كان أو استفهاما، أو إيجابا. كقولهم: " قد جاءني كل أحد "، كما تقول: " قد جاءني كل رجل "؛ لأن " كلا " إذا وقع بعدها واحد منكور، صار في معنى جماعة. وأما قول الأخطل: (¬1) حتّى ظهرت فما تخفى على أحد … إلا على أحد لا يعرف القمرا ففي قوله: " إلا على أحد ". وجهان. أحدهما: أنه بمعنى: " واحد " كأنه قال: إلا على إنسان لا يعرف القمر. والوجه الثاني: أنه على الحكاية لما قبله، ولو كان مبتدأ لم يجز؛ لأن قوله " إلا على " في موضع إيجاب إذا كان استثناء من نفي. فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقع في النفي ما لا يصح وقوعه في الإيجاب؟ قيل له: النفي قد يصح لأشياء متضادة في حال واحدة، ولا يصح إيجابها. ألا ترى أنك تقول: " زيد ليس بقائم ولا قاعد "، إذا كان مضطجعا، أو ساجدا، أو راكعا، فتنفي قيامه وقعوده معا. ولا يصح أن تقول: " هو قائم قاعد ". وكذلك تقول: " زيد ليس بأبيض ولا أحمر "، إذا كان أسود، ولا يجوز أن تقول: " هو أبيض أحمر "، " وزيد ليس في الدار ولا في المسجد "، إذا كان في السوق أو غيرها. ولا يجوز أن تقول: " هو في الدار والمسجد "، وهذا أكثر من أن يؤتى عليه. فإذا قلنا: " ما جاءني أحد "، و " ما بالدار أحد "، فقد نفينا أن يكون فيها كل من يعقل، ونفينا أن يكون بها واحد منهم فقط، وأن يكون بها جماعة دون غيرهم، أو صغير أو كبير. ولا يصح إيجاب هذا على طريق نفيه؛ لأنا إذا قلنا: " جاءني أحد "، وسلكنا به مسلك نفي، قد أوجبنا أن يكون قد جاءك كل من يعقل، وأن يكون قد جاءك واحد منهم فقط، وأن يكون قد جاءك جماعة دون جماعة. ¬

_ (¬1) البيت في ديوان ذي الرمة ق 25/ 41 (حتى تبرت) والدرر اللوامع 2/ 205.

وأما ما قاله أبو العباس، في وقوعها موقع كل اسم في معنى جماعة، فليس ذلك بمشهور من كلام العرب، ولا يكاد يعرف " جاءني كل أحد "، وإن صحت الرواية، جاز أن يكون " أحد " في معنى " واحد ". ثم مثل سيبويه تمثيلات يبين لك فيها أن أحدا نفي عام، فقال: (لو قلت: " كان أحد من آل فلان، لم يجز؛ لأنه إنما وقع في كلامهم نفيا عاما. يقول الرجل: " أتاني رجل "، يريد واحدا في العدد لا اثنين). أراد سيبويه: أن قول القائل: " أتاني رجل " خاص؛ لأنه أراد: واحدا، فيجوز أن ينفى هذا بعينه. (فيقال: " ما أتاك رجل "، أي أتاك أكثر من ذلك). فيكون هذا نفيا خاصا. (ويقول: " أتاني رجل لا امرأة "، فيقال: " ما أتاك رجل "، أي: أتتك امرأة). فيكون هذا أيضا نفيا خاصا؛ لأنه نفى الذكور دون الإناث. (ويقول: " أتاني اليوم رجل ". أي في قوته ونفاذه، فيقول: " ما أتاك رجل " أي أتاك الضعفاء)، فيكون نفيا خاصا؛ لأنه نفى الأشداء. (فإذا قلت: " ما أتاك أحد " كان نفيا). لهذا كله، الواحد والجماعة، والرجال والنساء، والأشداء والضعفاء. قال سيبويه: (ولو قلت: " ما كان مثلك أحدا "، و " ما كان زيد أحدا ". كنت ناقضا؛ لأنه قد علم أنه لا يكون " زيد "، ولا " مثله " إلا من الناس). قال أبو سعيد: قد قدمنا أن الفائدة إنما تكون في الخبر دون الاسم. فإذا قلت: " ما كان مثلك أحدا "، " وما كان زيد أحدا مثلك "، " فمثلك "، و " زيد " هو الاسم، و " أحد " هو الخبر، والنفي واقع على " أحد " و " أحد " معناه: إنسان، فكأنك قلت: " ما كان مثلك إنسانا "، " وما كان زيد إنسانا "، فهذا محال. إلا أن تريد: معنى الوضع منه، أو الرفعة له، وإن كنت معتقدا أنه إنسان من الجنس. ألا ترى أنك تقول: " ما زيد بإنسان "، إذا أردت أنه ينسلخ عن الأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان، وكذلك يقال: " ما أنت إنسانا " عند فضل بارع يظهر منه، يقل وجوده في الناس قال: " فلست بإنسي، ولكن بملاك ". قال سيبويه: (ولو قلت: " ما كان مثلك اليوم أحد "، فإنه يريد ألا يكون في اليوم

إنسان على حاله). يريد: أن هذا جائز، كما جاز " ما كان مثلك أحد ". وزيادة " اليوم " لم تغير الكلام؛ لأنه يجوز أن يكون فضله على الناس في يومه دون ما تقدم من الأيام. ثم رجع إلى ما ذكرنا، فقال: (إلا أن تقول: " ما كان زيد أحدا " أي من الأحدين. " وما كان مثلك أحدا ". على تصغير لشأنه وتحقير له). وقد ذكرنا هذا. وقوله " من الأحدين ". أي من الناس المستقيمي الأحوال. فإذا قلت: " ما كان زيد أحدا " - على هذا المعنى- صار بمنزلة قولك: " ما ضرب زيد أحدا " في العمل، وجاز فيه التقديم والتأخير، ولا فرق بين المعرفة والنكرة في التقديم والتأخير. وقوله: (وحسنت النكرة في هذا الباب؛ لأنك لم تجعل الأعرف في موضع الأنكر). يريد أن الفائدة قد انعقدت بالإخبار عن النكرة، ولم يكن ذلك بمنزلة معرفة ونكرة يجتمعان في " كان "، فتخبر عن النكرة، كقولك: " كان قائم زيدا "؛ لأن هذا إذا قلته، فقد جعلت الأعرف الذي هو " زيد " خبرا، وحق الخبر أن يكون " قائم "، فقد جعلت " زيدا ". الذي هو الأعرف في موضع " قائم " الذي هو الأنكر. (والنكرتان متكافئتان) متساويتان في جعل إحداهما خبرا عن الأخرى (كما تتكافأ المعرفتان) في جعل إحداهما خبرا عن الأخرى. ثم قال: (وتقول: " ما كان فيها أحد خير منك " و " ما كان أحد مثلك فيها "، و " ليس أحد فيها خير منك "، إذا جعلت " فيها " مستقرا، ولم تجعله على قولك: " فيها زيد قائم "). يريد: أنك إذا جعلت " أحدا " اسم كان، وجعلت " خير منك "، " ومثلك " نعتا له، وجعلت " فيها " خبر " كان "، كأن قلت: استقر فيها. وإذا كان الظرف، أو حرف الجر خبرا، سمّي مستقرا؛ لأنه بمعنى استقر. وقوله: (ولم تجعله على قولك: " فيها زيد قائم "؛ لأن " زيدا " مبتدأ، و " قائم " هو الخبر، و " فيها " من صلة قائم. كأنك قلت: " زيد قائم فيها ").

قال: (فإن جعلته على قولك: " فيها زيد قائم " نصبت. تقول: " ما كان فيها أحد خيرا منك "، و " ما كان أحد فيها خيرا منك " و " ما كان أحد خيرا منك فيها "). تجعل " أحد " اسم كان، و " خيرا منك " خبرها، و " فيها " من صلة " خيرا منك "، وهو ظرف ل " خيرا منك ". وإذا كان الظرف أو حرف الجر غير خبر، وكان من صلة الخبر، سماه ملغى؛ لأنه يستغنى عنه، إذا كان الخبر في غيره، فقولك: " ما كان فيها أحد خيرا منك فيها "، ملغى إذا لم يكن خبرا. (إلا أنك إذا أردت الإلغاء، فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن، وإذا كان مستقرا مكتفى به. فكلما قدمته كان أحسن). يعني أن قولك: " ما كان أحد خيرا منك فيها "، أحسن من قولك: " ما كان فيها أحد خيرا منك "؛ لأن " فيها " لغو. وقولك: " ما كان فيها أحد خير منك "، أحسن من قولك: " ما كان أحد خير منك فيها "؛ لأن " فيها " خبر. ثم مثله " بأظن، وأحسب " وذلك أن " أظن، وأحسب " وبابهما يجوز فيه الإلغاء والإعمال. فإذا أعملت، كان التقديم أحسن؛ فقلت: " أظن زيدا منطلقا "، وهو أحسن من قولك: " زيدا أظن منطلقا "، وإذا ألغيت كان التأخير أحسن. فقولك: " زيد منطلق ظننت "، أحسن من قولك: " زيد ظننت منطلق " تجعل جعلك ل " فيها " إذا كان خبرا، بمنزلة إعمال الظن، وإلغاءها كإلغاء الظن في اختيارك التقديم والتأخير. ثم قال: (والتقديم ههنا والتأخير فيما يكون ظرفا، أو يكون اسما في العناية والاهتمام. مثله فيما ذكرت لك في باب الفاعل والمفعول وجميع ما ذكرت لك من التقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد). يعني: تقديم " فيها " وتأخيرها، وجعلها خبرا مستقرا جيد كثير. فمن ذلك قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (¬1). قدم " له "، وجعل الخبر " كفوا "، والاسم " أحد "، و " لم يكن له "، مستقرا وقد قدمه. فإن قال قائل: فكيف اختار سيبويه ألا يقدم الظرف إذا لم يكن خبرا، وكتاب الله ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص، آية: 4.

هذا باب ما أجري مجرى ليس

تعالى أولى بأفصح اللغات؟ قيل له: قوله تعالى: " له " وإن لم يكن خبرا يتم المعنى، فإن سقوطها يبطل معنى الكلام؛ لأنك لو قلت: " لم يكن كفوا أحد " لم يكن له معنى، فلما أحوج الكلام إلى ذكر " له " صار بمنزلة الخبر الذي لا يستغنى عنه وإن لم يكن خبرا، ولم يكن بمنزلة قوله: " ما كان فيها أحد خيرا منك "؛ لأنك لو حذفت " فيها " كان كلاما صحيحا. قال: (وأهل الجفاء من العرب يقولون: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). يعني: الأعراب الذين لا يدرون كيف هو مكتوب في المصحف لقوة التأخير في أنفسهم إذا لم يكن حفظ. قال الشاعر: (¬1) لتقربنّ قربا جلذيّا … ما دام فيهنّ فصيل حيّا فقد دجا اللّيل فهيّا هيّا الشاهد في هذا: أنه قدم " فيهن فصيل " وجعله لغوا، لأنه جعل " فصيل " اسم " مادام "، و " حيا " خبره. ومما سوغ أيضا التقديم، أنك لو حذفت " فيهن " انقلب المعنى؛ لأنك إذا قلت: " مادام فصيل حيا "، فالمراد " أبدا " كما تقول: " ما طلعت شمس " و " ما ناح قمري ". وقوله " جلذيا " يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون نعتا ل " قربا " ومعناه: جلذيا أي شديدا كما قال العجاج: فالخمس والخمس بها جلذيّ ويحتمل أن يكون اسم ناقته جلذية ورخّم. هذا باب ما أجري مجرى ليس (في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يصير إلى أصله. وذلك الحرف " ما " تقول: " ما عبد الله أخاك "، و " ما زيد منطلقا "). قال أبو سعيد: أعم أن " ما " حرف نفي يليه الاسم والفعل، وقد كان من حكمه ألا يعمل شيئا، وذلك أن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال، وعوامل الأفعال لا ¬

_ (¬1) هذا الرجز لابن ميادة (الرماح بن أبرد). الخزانة 4/ 59.

تدخل على الأسماء. فإذا كان الحرف يدخل عليهما جميعا فمن حكمه ألا يعمل في واحد منهما، مثل: " ألف الاستفهام. وهل. وإنما ". ألا ترى أنك تقول: " هل زيد قائم "، و " إنما زيد أخوك "، و " أزيد منطلق "، فترفع ما بعدهن على الابتداء والخبر؛ لأنك تقول: " هل انطلق زيد "، و " هل قام أخوك "، و " أذهب عمرو؟ " فتوليهن الأفعال، كما توليهن الأسماء. فهذا هو القياس في " ما "؛ لأنك تقول: " ما قام زيد " كما تقول: " ما زيد قائم "، فتوليها الاسم والفعل. غير أن أهل الحجاز حملوا " ما " على " ليس "، فرفعوا الاسم بعدها بها، ونصبوا الخبر أيضا، كما يرفعون الاسم " بليس "، وينصبون الخبر بها، إذا قالوا: " ليس زيد قائما " وهم وإن أعملوها عمل " ليس "، فهي أضعف عندهم من " ليس "؛ لأن " ليس " فعل، و " ما " حرف، ولضعفها عندهم لم يجروها مجرى " ليس " في كل المواضع؛ وذلك أن الخبر إذا تقدم على الاسم في " ما "، أو دخل حرف الاستثناء بين الاسم والخبر بطل عملها، وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، كقولك: " ما قائم زيد "، و " ما زيد إلا قائم ". وأما " ليس "، فهي تعمل في كل حال، تقول: " ليس زيد قائما "، و " ليس قائما زيد "، و " ليس زيد إلا قائما ". وإنما عملت " ليس " في هذه الأحوال من قبل أنها فعل، والفعل لا يمنع عمله التقديم والتأخير والاستثناء؛ ألا ترى أنك تقول: " زيدا ضربت " و " ما ضربت إلا زيدا ". وإنما حملوا " ما " على " ليس "؛ لاتفاقهما في المعنى؛ لأنهما يدخلان لنفي الحال، فإذا قلت: " ما زيد إلا منطلق "، فقد انتقض النفي الذي اشتبها به بدخول الاستثناء، فبطل عمل " ما " وإذا قلت: " ما قائما زيد " لم يجز ذلك لأن الكلام قد غيّر عن وجهه بالتقديم والتأخير. وزعم أهل الكوفة أن خبر " ما " إنما ينتصب بسقوط الخافض وهو الباء، وهذا قول فاسد؛ لأنّا قد رأينا أسماء تدخل عليها خوافض من الحروف، ولا تنتصب بزوالها عنها، كقولك: " كفى بالله شهيدا "، ثم تقول: " كفى الله شهيدا "، وكقولك " بحسبك زيد "، ثم تقول: " حسبك زيد " قال عبد بني الحسحاس: (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في الديوان (الميمني) سر الصناعة 1/ 157، ابن يعيش 1/ 157.

عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا … كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا على معنى: كفى بالشيب والإسلام. وتقول: " ما قام من أحد "، و " هل عندك من شيء "؛ فإذا حذفت قلت " ما قام أحد "، و " هل عندك شيء ". فليس حذف حرف الجر هو الذي نصبه، وإنما نصب بها لشبه ليس. وهذه اللغة إنما هي لغة أهل الحجاز، وبها نزل القرآن، وهو قوله تعالى: ما هذا بَشَراً (¬1). وروي عن الأصمعي أنه قال: " ما سمعته في شيء من أشعار العرب "، يعني نصب خبر " ما ". وقد أنشدنا أبو بكر بن دريد في معاني الأشنانداني: وأنا النذير بحرة مسودّة … تصل الجيوش إليكم أقوادها أبناؤها متكنفون أباهم … حنقوا الصدور وما هم أولادها فنصب خبر " ما ". قال سيبويه: (وأما بنو تميم فيجرونها مجرى " أما "، و " هل "، أي لا يعملونها في شيء، وهو القياس؛ لأنها ليست بفعل). وقد ذكرنا هذا. قال: (وليس " ما " " كليس " ولا يكون فيها إضمار). يعني: لا يكون في " ما " إضمار الفاعل، كما يكون في " ليس " إذا قلت: " لسنا " و " لست "، وما أشبه ذلك. قال سيبويه: (فأما أهل الحجاز فيشبهونها " بليس " إذ كان معناها كمعناها، وقد مر هذا). قال: (كما شبّهت " لات " " بليس " في بعض المواضع، وذلك مع " الحين " خاصة. لا تكون " لات " إلا مع " الحين "). يعني أنك إذا قلت لاتَ حِينَ مَناصٍ (¬2) أو " لات حين فرار "، وما أشبه ذلك، فبعد " لات " اسم مرفوع " بلات "، و " حين " خبر ذلك الاسم، وهو منصوب، وجعلت " لات " رافعة لذلك الاسم المحذوف، وناصبة للخبر، كما ترفع " ليس " الاسم وتنصب ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية: 31. (¬2) سورة ص، آية: 3.

الخبر. وحملت " لات " على " ليس "؛ لاشتراكها في النفي، وتقديره: " لات الحين حين مناص "، كما تول: " ليس الحين حين مناص ". غير أن " لات "، تحمل على " ليس " مع " الحين " خاصة، والنفي بلا، و " التاء " زائدة، كما تقول: " ثم، وثمت "، وهي تاء التأنيث؛ وقد زيدت لأحد وجهين. أحدهما: أن يكون زادوها على معنى الكلمة؛ لأن " لا " كلمة، و " ثم " كلمة. وإما أن يكون زادوها للمبالغة في معناها من نفي أو غيره، كما قالوا: " علامّة "، و " راوية ". ولا يظهر بعد " لات " الاسم والخبر جميعا: إما أن يظهر الاسم، ويحذف الخبر كقولك: " لات حين مناص " وتقديره " لات حين مناص لنا "، وإما أن يحذف الاسم، فتقول: " لات حين مناص "، على معنى " لات الحين حين مناص ". قال سيبويه: (تضمر فيها مرفوعا، وتنصب " الحين "؛ لأنه مفعول به، ولم تمكّن تمكنها، ولم تستعمل إلا مضمرا فيها). يعني: تضمر بعد " لات " مرفوعا، ولم تعن الإضمار الذي يكون في الفعل مستكنا، مثل " لست "، و " زيد ليس قائما "؛ لأن " لات " حرف، والحروف لا يستكن فيها ضمير المرفوع. ولكن قوله: " وتضمر فيها " يعني تضمر في هذه الجملة بعد " لات " - في قلبك- " الحين "، الذي قدرناه غير مستكن في " لات ". وقوله: " تنصب الحين؛ لأنه مفعول به ". يعني: لأنه شبيه مفعول به؛ إذ كان خبر ليس، إنما ينصب تشبيها بالمفعول به. وقوله: " ولم تمكن تمكنها " يعني ولم تمكن " لات " تمكن " ليس ". وقوله: " ولم تستعمل إلا مضمرا فيها ". يعني: ولم تستعمل " لات " إلا محذوفا بعدها الاسم أو الخبر. وقوله: " مضمرا " أي: مقدرا في قلبك محذوفا. قال سيبويه. (وليست " كليس " في المخاطبة والإخبار عن غائب). يعني: ليس " لات " كليس في المخاطبة؛ لأنك تقول: " لست قائما "، وليس هذا في " لات "، والإخبار عن غائب كقولك: " عبد الله ليس منطلقا، فتجعل " عبد الله " مبتدأ، وتجعل في " ليس "

ضميرا منه، وتجعل " ليس " وما بعدها خبرا " لعبد الله " مبنيا عليه. (وليس هذا في " لات " لأنك لا تقول: " عبد الله لات منطلقا "، ولا " قومك لاتوا منطلقين "). قال سيبويه: (ونظير " لات " في أنه لا يكون إلا مضمرا فيها: " ليس " و " لا يكون " في الاستثناء، إذا قلت: " أتوني ليس زيدا "، و " لا يكون بشرا "). قال أبو سعيد: واعلم أنك تقول في الاستثناء: " أتاني القوم ليس زيدا "، و " أتاني إخوتك لا يكون بشرا "، وتقديره: ليس بعضهم زيدا، ولا يكون بعضهم بشرا. غير أن العرب لا تستعمل إظهار ذلك في الاستثناء، وإن كان مقدرا في الكلام. قال: فكذلك في لاتَ حِينَ مَناصٍ (¬1) لا يستعمل إلا على الحذف ثم قال: (وزعموا أن بعضهم قرأ: ولات حين مناص وهي قليلة). يعني: أن الرفع قليل بعد " لات "، والأكثر حذف الاسم وإظهار الخبر. كما قال سعد بن مالك القيسي: من صدّ عن نيرانها … فأنا ابن قيس لا براح (¬2) فجعل " لا " بمنزلة " ليس "، ورفع " براح " بها، وجعل الخبر محذوفا. ويجوز أن يكون رفع " براح " بالابتداء وحذف الخبر. غير أن الأحسن إذا رفع ما بعد " لا " بالابتداء أن تكرر كقوله تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (¬3) ولا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ (¬4). قال: (فجعلها بمنزلة " ليس ") يعني: قوله " لا براح ". قال: (فهي بمنزلة " لات " في هذا الموضع في الرفع). يعني: " لا براح " بمنزلة (لات حين مناص) إذا رفعت. ثم قال: (ولا يجاوز بها الحين رفعت أو نصبت). يعني: " لات " لا تستعمل إلا مع ¬

_ (¬1) سورة ص، آية: 3. (¬2) البيت لسعد بن مالك الخزانة 1/ 223 - 227، المغني 1/ 239، ابن يعيش 1/ 82. (¬3) سورة يونس، آية: 62. (¬4) سورة البقرة، آية: 254.

" الحين "، أظهرت الحين بعدها مرفوعا أو منصوبا، وهي العاملة. قال الأخفش: " لات " لا تعمل شيئا في القياس؛ لأنها ليست بفعل، فإذا كان ما بعدها رفعا فهو على الابتداء، ولم تعمل في شيء رفعت أو نصبت. يعني الأخفش: أن " لات " حرف غير عامل، فإذا كان ما بعدها مرفوعا فبالابتداء، وإن كان منصوبا، فبإضمار فعل، كما قال جرير: فلا حسبا فخرت به لتيم … ولا جدّا إذا ازدحم الجدود (¬1) يعني: فلا ذكرت حسبا. فإنما نصبت " حين مناص " بعد " لات " عند الأخفش بإضمار فعل كأنه قال: لا أرى حين كذا. وقال المحتج عن سيبويه: ليس كون " لات " حرفا، بمانعها أن تعمل عمل " ليس " تشبيها، كما عملت " ما " في لغة أهل الحجاز عمل " ليس " تشبيها. قال سيبويه: (ولا تمكن في الكلام كتمكن " ليس " وإنما هي مع " الحين "، كما أن " لدن " إنما ينصب بها مع " غدوة "). وقد مر الكلام في " لدن ". ثم قال: (وكما أن التاء لا تجر في القسم وغيره إلا في " الله " تعالى إذا قلت " تا لله لأفعلن "). يعني: أن " التاء "، لا تدخل إلا في قولك: " تالله ". لا تقول: " تالرحمن "، ولا تدخل على غيره من الأسماء، وإنما كانت كذلك لأن الأصل في المحلوف به " الباء "، إذا قلت: " بالله لأفعلن "، ومعناه: أحلف بالله. و " الباء " توصل الحلف إلى المحلوف به، كما تقول " اسألك بالله "، و " مررت بزيد ". وأبدلت " الواو " من " الباء "، لأنها من مخرجها فقيل: " والله "، ثم أبدلت التاء من " الواو " في هذا الموضع لأنها تبدل منها كثيرا نحو قولهم: " تراث "، و " تجاه "، و " تهمة " و " تقي "، والأصل: وراث، ووجاه، ووهمة، ووقي؛ لأنه من ورث، وواجه، والوهم، ووقيته. وكان الأصل " الباء "، وهي تدخل على كل مقسم به من ظاهر ومضمر، فيما حلف به الإنسان أو حلف على غيره. كقولك: " بالله وبك لأفعلن كذا "، و " بالله إلا فعلت ¬

_ (¬1) البيت في الديوان (ولا حسب فخرت به كريم ... ولا جدّ ...) وابن يعيش 1/ 109، 2/ 36.

كذا "، إذا كنت تحلّفه. و " الواو " أنقص توسعا من " الباء "؛ لأنها بدل منها، فلم تدخل على المضمر، ولا في الحلف على المخاطب، لا يجوز أن تقول: " وك "، كما تقول: " بك " في اليمين ولا تقول: " والله إلا فعلت "، كما تقول: " بالله إلا فعلت ". و" التاء " أضيقها كلها توسعا؛ لأنها بدل من بدل، فلم يستعمل إلا في اسم الله تعالى وحده. وإنما جعل سيبويه هذا شاهدا؛ لأنه يدخل على قولك: " الله "، ولا يدخل على غيره من الأسماء، مثل دخول " لات " على الحين دون غيره. وقوله: (فإذا قلت: " ما منطلق عبد الله "، و " ما مسئ من أعتب " رفعت، ولا يجوز أن يكون مقدما مثله مؤخرا، كما أنه لا يجوز أن تقول: " إن أخوك عبد الله "، على حد قولك: " إن عبد الله أخوك "؛ لأنها ليست بفعل، وإنما جعلت بمنزلته. فكما لم تصرف " إن " كالفعل، كذلك لم يجز فيها كل ما يجوز فيه، ولم تقو قوته وكذلك " ما "). قال أبو سعيد: يريد أن " ما "، إذا تقدم الخبر لم تعمل، وإن كانت مشبهة ب " ليس "، كما أن " إنّ " مشبهة بالفعل، واسمها مشبه بالمفعول، وخبرها مشبه بالفاعل، ومع ذلك فلا يجوز أن يتقدم الخبر على الاسم، كما تقدم الفاعل على المفعول؛ لأنها حرف لا يبلغ من قوتها أن تكون بمنزلة ما شبهت به. قال: (وتقول: " ما زيد إلا منطلق "، يستوي في اللغتين جميعا. ومثله ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا (¬1)، لم تقو " ما " حيث نقضت معنى " ليس " كما لم تقو حين قدمت الخبر). قال أبو سعيد: يعني أنك لما استثنيت فبطل معنى النفي، بطل تشبيه " ما " ب " ليس "، ولم تقو " ما "؛ لإبطال معناها أن تعمل عمل " ليس " وقد ذكرنا هذا المعنى. قال: (فمعنى " ليس " النفي، كما أن معنى " كان " الواجب، فكل واحد منهما يعني " ليس وكان " إذا جردته كان هذا معناه. فإن قلت: " ما كان "، أدخلت عليها ما ينفي به، فإذا قلت: " ليس زيد إلا ذاهبا "، أدخلت ما يوجب، كما أدخلت ما ينفي. فلم تقو " ما " في قلب المعنى، كما لم تقو في تقديم الخبر). يريد: أن " ليس " على عملها، وإن دخلها الاستثناء فانتقض معناها؛ لأنها فعل، ¬

_ (¬1) سورة يس الآية: 15.

وانتقاض معناها لا يبطل عملها، كما أن " كان " للإيجاب وقد تدخل عليها حروف النفي، فيبطل معنى الإيجاب، ولا يبطل العمل كقولك: " ما كان زيد ذاهبا "، نفيت ذهابه، ونصبت كما تنصب في قولك: " كان زيد ذاهبا " وليست " ما " كذلك؛ لأنها أضعف من " ليس ". قال سيبويه: (وزعموا أن بعضهم قال: وهو الفرزدق: (¬1) فأصبحوا قد أعاد نعمتهم … إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر) قال أبو سعيد: حكى سيبويه أن بعض الناس نصب " مثلهم " وجعله على وجه الخبر في هذا البيت. ثم استبعد، وقال: (هذا لا يكاد يعرف). إلا أنه حكى ما سمع. وهذا التأويل في هذه الرواية، يوجب جواز " ما قائما زيد "، وهذا بعيد جدا. وقد رد هذا التأويل على سيبويه. فقيل له: قد علمنا أن الفرزدق من بني تميم، وقد علمنا أن بني تميم يرفعون الخبر مؤخرا فكيف ينصبونه مقدما؟ فقال المحتج عن سيبويه: يجوز أن يكون الفرزدق قد سمع أهل الحجاز ينصبونه مؤخرا وفي لغة الفرزدق لا فرق بين التقديم والتأخير؛ لأنه يرفع مقدما ومؤخرا، فظن الفرزدق أن أهل الحجاز لا يفرقون بين الخبر مقدما ومؤخرا. فاستعمل لغتهم فأخطأ، وفي نصب " مثلهم " وجهان آخران: أحدهما: أن يكون تقديره، وإذ ما في الدنيا بشر مثلهم فيكون " بشر ": مبتدأ، " ومثلهم ": نعتا له، و " في الدنيا ": هو الخبر، فلما قدمت " مثلهم "، نصبته على الحال كقولك: " في الدار قائما رجل " كما قال: لميّة موحشا طلل … يلوح كأنه خلل (¬2) فكأنه قال: وإذ ما في الدنيا مثلهم بشر. والوجه الثاني: أن يكون " مثلهم " منصوبا على الظرف: وإذ ما في حالهم وفي ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق: الخزانة 2/ 130 - الديوان: 109، المقتضب 4/ 191. (¬2) البيت منسوب لذي الرمة في الخصائص 2/ 492، وإلى كثير عزة في الخزانة 1/ 531 - المغني 1/ 85 برواية: لغرة موحشا طلل ...

مكانهم في الرفعة بشر، كما تقول: " وإذ ما فوقهم بشر " أي فوق منزلتهم بشر وإذ ما دونهم على الظرف. قال: (وهذا لا يكاد يعرف كما أن لاتَ حِينَ مَناصٍ كذلك و " رب شيء هكذا "، وهو كقولهم: " هذه ملحفة جديدة " في القلة). يعني: أن نصب " مثلهم بشر "، على تقديم الخبر لا يعرف، كما أن لاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع قليل، لا يكاد يعرف. كما أن " ملحفة جديدة " قليل وذلك أن " فعيلا " الذي بمعنى مفعول حكمه ألا يلحقه هاء التأنيث، كقولهم: " امرأة قتيل "، و " كف خضيب "، و " ملحفة جديد "، في معنى مقتولة، ومخضوبة، ومجدودة، ولا يقال: قتيلة، ولا جديدة، وقد قيل: " ملحفة جديدة "، وهو قليل خارج عن نظائره، وإنما قبل ذلك عندي على تأويل متجددة؛ فكأنها جعلت فاعلة وجعلت " فعيلة " على معنى فاعلة. وإذا كان " فعيل " بمعنى فاعل لحقه التأنيث كقولك: " امرأة كريمة، وظريفة " وما أشبه ذلك. قال سيبويه: (وتقول: " ما عبد الله خارجا، ولا معن ذاهب "، ترفعه على ألا تشرك الاسم الآخر في " ما " ولكن تبتدئه كما تقول: " ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب " إذا لم تجعله على معنى " كان " وجعلته غير ذاهب الآن). قال أبو سعيد: يعني أنك إذا قلت: " ولا معن ذاهب "، فإنما نفيت ب " لا " نفيا مستأنفا، و " لا " لا تعمل شيئا؛ لأنك تقول: " لا زيد ذاهب ولا عمرو منطلق "، وجعلت الواو لعطف جملة على جملة، غير أنه لا يحسن أن تنفي ب " لا "، وترفع ما بعدها على الابتداء والخبر، إلا أن تكرر النفي. لا يحسن أن تقول: " لا زيد ذاهب "، فإذا قلت: " ولا عمرو منطلق " حسن، أو " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلق "، وهذا يستقصى في بابه. وإذا قلت: " ما كان عبد الله منطلقا ولا زيد ذاهب "، " فزيد " أيضا مرفوع بالابتداء، واستأنفت النفي ب " لا "، وجعلت الواو لعطف جملة على جملة، وكذلك " ليس عبد الله ذاهبا ولا زيد منطلق ". فإن جعلت " لا " لتأكيد النفي الذي قبلها ولم تجعلها هي النافية عطفت آخر الكلام على أوله فقلت: " ما كان عبد الله خارجا ولا معن ذاهبا "، و " ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا " و " ليس زيد ذاهبا ولا عبد الله خارجا "؛ لأنك لم تحفل ب " لا " وجعلت العطف

بالواو على العامل الذي قبل. قال سيبويه: (وليس قولهم لا يكون في " ما " إلا الرفع بشيء، لأنهم يحتجون بأنك لا تستطيع أن تقول: " ولا ليس " " ولا ما "). قال أبو سعيد: يعني بذلك قوما من النحويين يزعمون أنه لا يجوز " ليس زيد ذاهبا، ولا معن منطلقا "، ولا يجيزون أيضا " ما زيد ذاهبا ولا معن منطلقا "، حملا على " ما، وليس "، وذلك أنه عندهم لا يصح عطف الثاني على الأول إلا بتقدير إعادة العامل بعد حرف العطف، كقولك: " قام زيد وعمرو " و " ضربت زيدا وعمرا "، والتقدير عندهم: قام زيد وقام عمرو، وضربت زيدا وضربت عمرا، فلا يجيزون " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا "؛ لأنه لا يصح إعادة العامل، وهو " ما "، ألا ترى أنك لا تقول: " ما زيد ذاهبا ولا ما عمرو منطلقا "، و " ليس زيد ذاهبا ولا ليس عمرو منطلقا ". وأما الذي عندنا فإن المعطوف لا تقدر له إعادة العامل بعد حرف العطف، بل تجعل العامل الأول لهما جميعا وتجعل حرف العطف كالتثنية فيصير المعطوف والمعطوف عليه كالمثنى، ألا ترى أن قولنا " قام الزيدان "، بمنزلة: " قام زيد وقام زيد "، و " قام زيد وعمرو "، بمنزلة: قام الزيدان، غير أنه لم يمكن تثنية " زيد وعمرو " بلفظ واحد، ففصل بينهما بالواو، وصارت الواو كالتثنية فيما اتفق لفظه. ولو قدمت ذكر " زيد، وعمرو " ثم كنيت عنهما لم تحتج إلى عطف وثنيت كنايتهما لاتفاق الكنايتين، وإن كان الاسمان مختلفين، فقلت: " زيد وعمرو قاما ". وكذلك إذا قلنا: " ليس زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا "، و " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا "، لم تحتج إلى إعادة العامل، فبطل العطف لبطلان إعادة العامل والذي منع من إعادة العامل أنك لا تجمع بين حرفي نفي؛ فلم يجز إعادة " ما " و " ليس " بعد " لا ". ثم أراهم سيبويه المناقضة فيما أضلوا. فقال: (فأنت تقول: " ليس زيد ولا أخوه ذاهبين ". و " ما عمرو ولا خالد منطلقين "، فتشركه مع الأول في " ليس " وفي " ما "). يعني: أنهم يقولون: " ليس زيد ولا أخوه ذاهبين "، فيعطفون الأخ على " زيد "، والعامل فيه " ليس "، ولا يحسن إعادة " ليس " فقد ناقضوا. فإن قال قائل: إنا إذا قلنا " ليس زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا "، فقد تم الأول،

وأمكن استئناف الجملة الثانية بعده. وإذا قلت: " ليس زيد ولا أخوه ذاهبين "، لم يجز استئناف الثاني بعد الأول، ولا الأول حيث أتى بعده بجملة تامة يحسن السكوت عليها. فهذا هو كلام واحد والأول كلامان. قيل له: لسنا ننكر هذا، ولكنا نلزمكم المناقضة فيما اعتللتم به؛ لأن العلة المانعة من الأول إن كانت هي في بطلان إعادة العامل، فقد وجدناها في المسألة الأخيرة، وقد جازت مع وجود هذه العلة فيها، فلو كانت هذه العلة مانعة للعطف لمنعت في كل كلام. قال سيبويه: (" فما " يجوز فيها الوجهان كما يجوز في " كان "، إلا أنك إن حملته على الأول، أو ابتدأت، فالمعنى أنك تنفي شيئا غير كائن في حال حديثك، وكان الابتداء في " كان " أوضح؛ لأن المعنى يكون على ما مضى، وعلى ما هو الآن، وليس يمتنع أن يراد به الأول، كما أرادت به الثاني في " كان "). قوله: (ف " ما " يجوز فيها الوجهان). يريد: " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا، ومنطلق "، كما يجوز في " كان " إذا قلت: " ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ومنطلق ". غير أن الجملة الثانية فيما رفعت أو نصبت إنما تنفي شيئا في حال حديثك، ألا ترى أنك إذا قلت: " ما زيد ذاهبا "، فإنما تنفي ذهابه في حال حديثك فإذا قلت: " ولا عمرو منطلقا "، فإنما تنفي انطلاقه في حال حديثك، وإذا رفعت أيضا، فأنت تنفيه في حال حديثك، لأنه نفي مستأنف، ويختلف المعنى في " كان "؛ لأنك إذا قلت: " ما كان زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا "، فإنما تنفي انطلاقه فيما مضى، وإذا قلت: " ولا عمرو منطلق "، فإنما تنفي انطلاقه الساعة. وهذا معنى قوله: (وكان في " كان " أوضح؛ لأن المعنى يكون على ما مضى وعلى ما هو الآن). يعني: في النصب على ما مضي، وفي الرفع على ما هو الآن. وقوله: (وليس يمتنع أن يراد به الأول). يعني " ما زيد ذاهبا، ولا عمرو منطلقا، ليس يمتنع أن تردّ الجملة الثانية على " ما " فتنصب. قال: (ومثل ذلك: " إن زيدا لظريف وعمرو أو عمرا ". فالمعنى في الحديث واحد، وما تريد به من الإعمال مختلف).

يعني: أنك إذا قلت: " إن زيدا لظريف "، فمعناه: " زيد ظريف "، فأدخلت إن واللام لتؤكد، فإذا قلت: " وعمرو "؛ فإنما تعطفه على موضع " زيد " قبل دخول " إن "، وإن نصبت فعلى لفظ " زيد "، والمعنى فيهما واحد، غير أن التقدير الذي قدرته للرفع والنصب مختلف، فكذلك قولك: " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ومنطلق "، المعنى واحد، وتقدير الإعراب مختلف. وقال سيبويه: (وتقول: " ما زيد كريما ولا عاقلا أبوه "، تجعله كأنه للأول بمنزلة " كريم "؛ لأنه ملتبس به إذا قلت: " أبوه " فتجريه عليه، كما أجريت عليه الكريم؛ لأنك لو قلت: " ما زيد عاقلا أبوه "، نصبت. وكان كلاما). قال أبو سعيد: أعلم أنه لا يجوز أن تجري اسم الفاعل المشتق من فعله نعتا لغير فاعله، أو خبرا، أو حالا، إذا كان في فاعله ضمير يعود إلى الاسم الذي أجريته عليه، وكذلك إن كان الضمير في شيء يتعلق به الفعل من الكلام. تقول: " رأيت رجلا قائما أبوه "، و " مررت برجل قائم أبوه "، و " جاءني رجل قائم أبوه "، فجعلت قائما نعتا لرجل، وهو فعل أبيه لا فعله، غير أنك أجريته عليه، لأن في الأب هاء تعود إليه. وكذلك لو قلت: " مررت برجل قائم عمرو إليه، أو في داره "، كان بمنزلة " قائم أبوه "، فهذا في النعت. وأما الخبر فقولك: " كان زيد قائما أبوه " أو " إن زيدا قائم أبوه "، و " كان زيد قائما عمرو إليه "، و " كان أخوك منطلقا رجل يحبه "، و " مررت بزيد قائما رجل يحبه "، " فقائما ": حال من " زيد " وهو مشتق من فعل " رجل "، وفي " يحبه " الذي هو نعت لرجل ضمير يعود إلى " زيد "، فاسم الفاعل، وإن كان لغير الأول- إذا كان في الكلام ما يعود إلى الأول- بمنزلة اسمه المشتق من الفعل، وترفع الذي له الفعل بفعله. فإذا قلت: " ما زيد كريما، ولا عاقلا أبوه " " فكريما ": خبر " لزيد "، و " عاقلا ": عطف عليه، و " أبوه ": مرتفع " بعاقل "، فقد صار " عاقلا أبوه " في أنه خبر عن " زيد " بمنزلة " كريما "، لما فيه من الضمير العائد إليه. ألا ترى أنك لو قلت: " ما زيد عاقلا أبوه "، جاز، وصار خبرا له، وإن كان الفعل منفيّا عن أبيه، كما تقول: " ما زيد عاقلا ". وتقول: " ما زيد ذاهبا ولا عاقل عمرو "، فلا يجوز في " عاقل " إلا الرفع، وذلك أنه لا يصح عطف " عاقل " على " ذاهبا "؛ لأنه ليس في الكلام ما يعود إلى " زيد " ألا ترى أنك

لا تقول: " ما زيد عاقلا عمرو "، فرفعت " عاقلا " وجعلته خبرا لعمرو، و " عمرو " مرفوع بالابتداء. ولم يجز أن تقول: " ولا عاقلا عمرو " على حد قولك: " ولا عمرو عاقلا "؛ للحمل على " ما "؛ لأن " ما " متى تقدم خبرها بطل عملها. ألا ترى أنك تقول: " ما عاقل عمرو "؛ ولا يجوز أن تقول: " ما عاقلا عمرو "، فلم يكن إلا الاستئناف والابتداء والخبر. ولو قلت: " ولا عاقلا عمرو في داره " أو " عنده "، أو ما أشبه ذلك من الضمير جاز، ونصبت " عاقلا "؛ لأنه خبر " ما " عطفا على " ذاهبا "، ورفعت " عمرا " بفعله. قال: (وإن شئت قلت: " ما زيد عاقلا ولا كريم أخوه "، إن ابتدأته، ولم تجعله على ضمير " ما "، كما فعلت ذلك حين بدأت بالاسم). قال أبو سعيد: يعني: أنه يجوز أن تقول: " ولا كريم أخوه " على أن تجعل " أخوه " مرفوعا بالابتداء، لا " بكريم "، وتجعل " كريما " مرفوعا بخبر الابتداء، وإن كان مقدما، ويكون التقدير: ولا أخوه كريم، وقد تقدم جواز مثل هذا في قولنا: " ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلق ". ثم قال: (ولكن " ليس "، و " كان " يجوز فيهما النصب، وإن قدمت الخبر ولم يكن ملتبسا؛ لأنك لو ذكرتهما، كان الخبر فيهما مقدما مثله مؤخرا). يعني: أنك إذا قلت: " ما كان زيد ذاهبا، ولا منطلقا عمرو "، " وليس زيد ذاهبا ولا منطلقا عمرو "، جاز على حد قولك: " ولا عمرو منطلقا "، بأن يكون " عمرو " مرتفعا " بكان، وليس ". و " منطلقا ": خبر؛ لأنك تقول: " ما كان منطلقا عمرو "، فلما جاز في العامل الأول تقديم الخبر مع النصب، جاز في المعطوف. قال: (وتقول: " ما زيد ذاهبا، ولا محسن زيد "، الرفع أجود، وإن كان، يريد الأول: لأنك لو قلت: " كان زيد منطلقا زيد "، لم يكن حد الكلام، وكان هاهنا ضعيفا، ولم يكن كقولك: " ما زيد منطلقا هو "؛ لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره ألا ترى أنك لو قلت: " ما زيد منطلقا أبو زيد "، لم يكن كقولك: " ما زيد منطلقا أبوه "؛ لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما كان ينبغي لك أن تضمره. فلما كان هذا كذلك، أجرى مجرى الأجنبي، واستؤنف على حياله حيث كان ضعيفا فيه). قال أبو سعيد: اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرار ذكره في جملة واحدة، كان الاختيار أن يذكر ضميره؛ لأن ذلك أخف، وأنفى للشبهة واللبس كقولك: " زيد

ضربته "، و " زيد ضربت أباه "، و " زيد مررت به "، ولو أعدت لفظه بعينه في موضع كنايته لجاز، ولم يكن وجه الكلام كقولك: " زيد ضربت زيدا "، و " زيد ضرب أبا زيد "، و " زيد مررت بزيد " على معنى: زيد ضربته، وضربت أباه، ومررت به. وإذا أعدت ذكره في غير تلك الجملة، جاز إعادة ظاهره وحسن، كقولك: " مررت بزيد " و " زيد رجل صالح ". قال الله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (¬1) فأعاد الظاهر؛ لأن قوله: (الله أعلم) جملة ابتداء وخبر، وقد مرت الجملة الأولى. فإذا قلت: " ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد " جاز الرفع والنصب. فإذا نصبت، قلت: " ولا محسنا زيد "، جعلت " زيدا " هو الظاهر بمنزلة كنايته، فكأنك قلت: " ما زيد ذاهبا ولا محسنا هو "، كما تقول: " ولا محسنا أبوه "، فتعطف " محسنا " على " ذاهبا "، وترفع " زيدا " بفعله، وهو محسن. وإذا رفعت، جعلت " زيدا " كالأجنبي ورفعته بالابتداء، وجعلت " محسنا " خبرا مقدما. واختار سيبويه الرفع؛ لأن العرب لا تعيد لفظ الظاهر إلا أن تكون الجملة الأولى غير الجملة الثانية، وتكون الجملة الثانية مستأنفة، كما قلنا في قوله: (... رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ ...) فإذا رفعته فهو مطابق لما ذكرناه وخرج عن باب العيب؛ لأنك جعلته جملة مستأنفة. واستشهد سيبويه لجواز النصب، وجعل الظاهر بمنزلة المضمر بقول: سوادة بن عدي: لا أرى الموت يسبق الموت شيء … نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (¬2) وبقول الجعدي: إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها … سواقط من حرّ وقد كان أظهرا (¬3) فأعاد الإظهار. وذلك أن قوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء. الموت الأول هو المفعول الأول لأرى، ويسبق الموت شيء في موضع المفعول الثاني، وهما جملة واحدة، وكان ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية: 124. (¬2) البيت لسوادة بن عدي الخزانة 1/ 183، الخصائص 3/ 53، الأعلم 1/ 30. (¬3) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه 72، تاج العروس 5/ 157.

ينبغي أن يقول: " يسبقه شيء " فيضمر. وقوله: إذا الوحش ضم الوحش: " الوحش " الأول مرفوع بفعل مضمر هذا الظاهر تفسيره: كأنه قال: إذا ضم الوحش ضمه سواقط من حرّ. على ما لم يسم فاعله كما قال: ليبك يزيد ضارع لخصومة فهما في جملة واحدة؛ لأن الأول لا يستغني بنفسه، فقد كان ينبغي أن يضمر ولا يظهر. ومن الناس من يقول: " الوحش " الأول مرفوع بالابتداء، و " ضم الوحش في ظللاتها ". خبر، و " سواقط ": فاعل " ضم "، فكأنه قال: " زيد ضرب زيدا عمرو ". وقد بينا أنه بمنزلة قولك: " زيد ضربه عمرو ". واستشهد لاختيار الرفع فيما اختاره فيه بقول الفرزدق: لعمرك ما معن بتارك حقّه … ولا منسئ معن ولا متيسر (¬1) ومعنى الثاني هو الأول، وهو بمنزلة قوله: " ما زيد ذاهبا ولا محسن زيدا ". وللمعترض أن يقول: الفرزدق تميمي، وهو يرفع خبر " ما " على كل حال، مكنيّا كان أو ظاهرا. ألا ترى أن الفرزدق من لغته أن يقول: " ما معن تارك حقه ولا منسئ هو " فالظاهر والمكني على لغته سواء. قال سيبويه: (وإذا قلت: " ما زيد منطلقا أبو عمرو "، " وأبو عمرو أبوه " - لم يجز- لأنك لم تعرفه به ولم تذكر له إظهارا ولا إضمارا، فهذا لا يجوز؛ لأنك لم تجعل له فيه سببا). يعني: أن: " أبا زيد " إذا كانت كنيته أبا عمرو، لم يجز أن تقول: " ما زيد منطلقا أبو عمرو "، كما جاز " ما زيد منطلقا أبوه "؛ لأن في " أبوه " هاء تعود إلى " زيد "، وليس في " أبو عمرو " ما يعود إلى " زيد "، وإن كان " أبو عمرو " أباه، ولا يشبه هذا قولك: " ما زيد منطلقا زيد "؛ لأن " زيدا " الثاني هو لفظ " زيد " الأول: فكان بمنزلة ضميره على ما قدمنا، فلا يجوز أن يكون خبر الأول إلا ما كان فيه ضمير يعود إليه، أو كان الظاهر معادا بعينه. ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق. الديوان: 384، الخزانة 1/ 181، آمالي القالي 7/ 72.

فقول سيبويه: (" ما زيد منطلقا أبو عمرو " غير جائز، ولأنك لم تعرفه به). يعني: لم تعرف الأب بزيد. فتقول: أبوه أو أبو " زيد ". (ولم تذكر له إظهارا ولا إضمارا). يعني: ولم تذكر لزيد. قال: (وتقول: " ما أبو زينب ذاهبا، ولا مقيمة أمها "، فترفع؛ لأنك لو قلت: " ما أبو زينب مقيمة أمها " لم يجز؛ لأنها ليست من سببه). قال أبو سعيد: قوله: " ما أبو زينب ذاهبا "، " أبو ": اسم: " ما "، وهو مضاف إلى زينب و " ذاهبا " خبره، والهاء التي في " أمها " تعود إلى " زينب "، و " زينب " ليست هي اسم " ما " و " أمها " أجنبية من اسم " ما "، فصار بمنزلة قولك: " ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة هند " الرفع لا غير، وقد تقدم هذا. قال: (ومثل ذلك قول الأعور الشني: هوّن عليك فإنّ الأمور … بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها … ولا قاصر عنك مأمورها (¬1) لأنه جعل المأمور من سبب الأمور، ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي)، والشاهد في البيت الثاني. قال أبو سعيد: قوله: منهيها اسم ليس، والضمير الذي فيها ضمير المأمور، فكأنه قال: " ليس بآتيك منهي الأمور "، وخبره: " ليس بآتيك. وقوله: و " لا قاصر عنك مأمورها ". " مأمور "، مضاف إلى الأمور، وليس بمضاف إلى اسم " ليس "، فهو أجنبي منه، فصار بمنزلة قولك: " ما أبو زينب ذاهبا، ولا مقيمة أمها "؛ لأن " الأم " لم تضف إلى اسم " ما ". غير أن النصب في " قاصر عنك مأمورها " جائز، ولا يجوز في: " مقيمة أمها " في المسألة الأولى: وذلك أن خبر ليس إذا تقدم نصب، فكذلك إذا عطفت جملة على ليس، وقد تقدم الخبر منها، جاز أن يكون منصوبا، وإن لم يكن فيها ما يعود إلى الأول. ألا ترى أنك تقول: " ليس زيد قائما، ولا منطلقا عمرو "، ¬

_ (¬1) البيتان للأعور الشني: الخزانة 2/ 131 - المغني 1/ 146، 2/ 787 الدرر اللوامع 1/ 102، 2/ 23.

كما تقول: " ليس منطلقا عمرو ". فإن قال قائل: فقد ذكر سيبويه في المسألة الأولى، فقال: (تقول: " ما أبو زينب ذاهبا ولا مقيمة أمها "، فترفع؛ لأنك لو قلت: " ما أبو زينب مقيمة أمها " لم يجز؛ لأنها ليست من سببه). ثم قال: (ومثل ذلك قول الأعور الشنيّ)؛ فأنشد البيت مستشهدا لإبطال النصب، والنصب في البيت جائز سائغ. فإن في ذلك جوابين: أحدهما: أنه أنشد البيت؛ ليرينا كيف حكم " ما " لو كانت مكان " ليس " في البيت الذي أنشده، وهذا يحكى عن أبي العباس. والجواب الثاني:- وهو أرضاهما عندي- أنه أنشد البيت؛ ليرينا أن الجملة الثانية غريبة من الجملة الأولى، لما لم يكن الضمير الذي من الجملة الثانية ضمير الاسم الأول، وإنما هو ضمير ما أضيف إليه كما قال ذلك في المسألة الأولى. قال سيبويه: (وجرّه قوم، فجعلوا المأمور للمنهي، والمنهي هو الأمور؛ لأنه من الأمور فهو بعضها). قال أبو سعيد: أعلم أن سيبويه لا يجيز " ليس زيد بقاعد ولا قائم عمرو ". وتجويز " ليس زيد بقاعد ولا قائم أبوه ". فأما إبطاله " ليس زيد بقاعد ولا قائم عمرو " لأنه لا يرى العطف على عاملين، ومتى أجاز ذلك كان عطفا على عاملين. ومعنى ذلك أنك إذا قلت: " ليس زيد بقائم "، " فزيد ": مرتفع " بليس " و " قائم " مجرور بالباء، و " الباء وليس " عاملان، أحدهما عمل الرفع والآخر عمل الجر. فإذا قلت: " ولا قائم عمرو "، فقد عطفت " قائما " على " قاعد "، وعامله الباء، وعطفت " عمرو " على اسم " ليس " وعامله " ليس ". فقد عطفت على شيئين مختلفين، ومثل ذلك في الفساد " قام زيد في الدار والقصر عمرو ". فإن قال قائل: وما الذي أبطل العطف على عاملين؟ قيل له: حرف العطف يقوم مقام العامل، ويغني عن إعادته؛ ألا ترى أنك إذا قلت: " قام زيد وعمرو " كان بمنزلة قولك: " قام زيد. قام عمرو "، فلما كان حرف العطف كالعامل: والعامل لا يعمل رفعا وجرا، لم يجز أن تعطف بحرف واحد على عاملين

مختلفين. فإن قلت " قام زيد في الدار وفي القصر عمرو " جاز؛ لأنك أعدت أحد العاملين فصار العطف على عامل واحد وهو " قام ". وقد أجاز الأخفش وغيره من البصريين العطف على عاملين، فقالوا: " قام زيد في الدار والقصر عمرو "، وقدموا في العطف المجرور على المرفوع؛ لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد. ولم يجيزوا " قام زيد في الدار، وعمرو القصر " لئلا يفصل بين الجار والمجرور، واحتجوا بأشياء أخر: منها قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (¬1). فقالوا: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مجرور بالعطف على المجرور الذي قبله. والعامل في قوله: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " إن " وهو منصوب بالعطف على ما عمل فيه " إن "، فصار بمنزلة قولك: " إن في الدار لزيدا والقصر عمرا ". فرد أبو العباس هذه القراءة؛ لأنه كان مذهبه إبطال العطف على عاملين مختلفين، وقدّر أن هذه القراءة لا بد فيها من العطف على عاملين، ورفع " الآيات " في الآيتين الأخريين ليتخلص من العطف على عاملين، فلزمه في الرفع مثل ما فر منه، ذلك أنه جر وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالعطف على ما قبله. والعامل في رفع الآيات، فيقال له: لم رفعتها؟ فلا بد من أن يكون رفعها بالابتداء عطف على موضع " إن "، كما تقول: " إن زيدا في الدار وعمرو "، فإذا صار كذلك، فقد عطف على عاملين، وهما في موضع " إن "، الذي هو الابتداء. فإن قال: أجعله كلاما مستأنفا، وأعطف جملة على جملة. قيل له: فلا بد من ذكر حرف الجر في الجملة الثانية إذ كانت مستأنفة، ألا ترى أنا لا نقول: " ... القصر عمرو "، على معنى " في القصر عمرو ". وقد احتجوا بأبيات ظاهرها العطف على عاملين، وهي تخرج على تأويل لا يكون عطفا على عاملين، منها قول أبي النجم: أوصيت من برّة قلبا حرّا … بالكلب خيرا والحماة شرا فقالوا: " الحماة " مجرور بالعطف على " الكلب "، والعامل " الباء "، " والشرّ " منصوب ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، الآيات: 3 - 5.

بالعطف على " خيرا "، والعامل " أوصيت ". وليس في شيء مما احتجوا به حجة على سيبويه. أما الآية التي ذكرناها: فإن " الآيات " المعادة فيها أعيدت لتأكيد الآيات الأولى وهي هي، وكان تقدير الكلام: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ .... ومثله " إن في الدار زيدا، والقصر زيدا " وهو جائز إذا كان " زيد " الثاني هو الأول. وكأنه قال: " إن في الدار زيدا، والقصر "؛ لأن ذكره وتركه في الفائدة سواء غير التأكيد. فإن قال قائل: وكيف تكون الآيات التي في السموات هي الآيات التي في الأرض، وفي خلق السموات والمطر وتصريف الرياح؟ قيل له: لما كانت هذه الآيات التي في هذه الأشياء المختلفة، تدل مع اختلافها دلالة واحدة على خالقها- عز وجل- جاز أن يقال إنها واحدة ألا ترى أنك لو سمعت قوما يخبرون عن شيء بمعنى واحد جاز أن تقول: سمعت أقاويلهم، وهي واحدة. وتقول: " قول زيد وعمر وواحد " إذا كانا يخبران عن معنى واحد مجازا وتوسعا. وأما البيت الذي أنشده، فهو على تقدير إعادة حرف الجر، وحذفه اختصارا واكتفاء بما قبله، وكأنه قال: " وبالحماة شرا " وخفض الحماة بهذه " الباء " الثانية دون الأولى، وحذفها ضرورة، ولم يكن جره على طريق العطف والدليل على ذلك قول الشاعر: سل المفتي المكّي ذا العلم ما الذي … يحلّ من التقبيل في رمضان ثم قال: فقال لي المكي أما لزوجة … فسبع وأمّا خلّة فثمان (¬1) فخفض " خلة " بلام قدرها وحذفها، فكأنه قال: وأما لخلة. ولا يجوز إن يكون بالعطف من قبل أن " ما " لا يعطف ما بعدها على ما قبلها، وهي من الحروف التي ما بعدها مستأنف، وقد علمتم أن قولنا: " ليس زيد بقاعد ولا قائم أبوه " جائز. فيكون " قاعد " مجرورا بالباء، وهو خبر " ليس "، و " قائم " عطف عليه، ¬

_ (¬1) البيتان في الكامل للمبرد 1/ 195.

و " الأب " مرتفع بفعله فكأنك قلت: " ليس زيد بقائم أبوه "، فجاز؛ لأنه من سبب " زيد ". فتأول سيبويه في البيت تأويلا أخرجه إلى مثل هذا فأجاز: " ولا قاصر عنك مأمورها ". وذلك أنه جعل منهي الأمور بمنزلة الأمور؛ إذ كان البعض قد يجوز أن يجرى مجرى ما أضيف إليه، فجعل منهي الأمور إذ كان بعضها بمنزلة الأمور. فكأنه قال: " ليس بآتيك الأمور، ولا قاصر عنك مأمورها "، و " مأمورها " من سبب الأمور. وقد جعل المنهي كأنه هو الأمور، فقد صار المأمور من سبب المنهي. ثم استشهد لجعله منهي الأمور بمنزلة الأمور بقول جرير: إذا بعض السّنين تعرّقتنا … كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (¬1) وقد مر البيت. قال: ومثل ذلك قول النابغة الجعدي: فليس بمعروف لنا أن نردّها … صحاحا ولا مستنكرا أن تعقّرا (¬2) الرفع والنصب في " مستنكر " مثلهما في " ولا قاصر عنك ... ". وأما الخفض على مذهب سيبويه فعلى تأويل أن يجعل الثاني من سبب الأول: وذلك أن قوله: " فليس بمعروف لنا أن نردها " يريد: ردها. أي: رد الخيل. وقبله. وننكر يوم الرّوع ألوان خيلنا … من الطّعن حتى نحسب الجون أشقرا (¬3) فإذا قال: " فليس بمعروف لنا رد الخيل "، جاز أن تجعل رد الخيل بمنزلة الخيل. كما قال: (طوال الليالي أسرعت في نقضي) (¬4) والمعنى: الليالي أسرعت ¬

_ (¬1) البيت لجرير الديوان: 507، الخزانة 2/ 167، سر الصناعة 1/ 14. (¬2) البيت للنابغة الجعدي الديوان: 35 - 59، الخزانة 1/ 513 - 514. (¬3) البيت للنابغة الجعدي: (المصدر السابق). (¬4) هذا صدر بيت وتمامه كما في الخزانة: طوال الليالي أسرعت في نقضي … أخذن بعضي وتركن بعضي وهو منسوب للعجاج في سيبويه 1/ 26، منسوب للأغلب العجلي في الخزانة 2/ 68.

و ... تسفهت … أعاليها مرّ الرياح ... (¬1) (كأنه قال: تسفهتها الرياح). فقد صار رد الخيل بمنزلة الخيل، فكأنه قال ليس بمعروفة لنا الخيل، ولا مستنكر عقرها، والعقر يعود إلى الخيل، غير أنه قد جعل الرد بمنزلة الخيل، فجعل عقرها من سبب الرد. ثم قال سيبويه: (كأنه قال: " ليس بآتيك منهيها، وليس بمعروفة ردها " حين كان من الخيل، والخيل مؤنثة، فأنث). يعني: أنا لما جعلنا منهيّها بمنزلة الأمور، وردها بمنزلة الخيل، فكأنهما قد صارا مؤنثين، فعاد إليهما ضمير المؤنث في مأمورها وفي تعقّرا. قال: (وهذا مثل قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (¬2). وحدّ الأول على اللفظ، وجمع ما بعده على المعنى، فكذلك ذكر " بآتيك منهيها "، و " بمعروف لنا ردها "، على اللفظ، وأنث مأمورها وتعقرا على المعنى. قال الأخفش: هذا كله يجوز فيه النصب وإن كان الأخير ليس من سبب الأول؛ لأن " ليس " إن قدمت فيها الخبر، أو أخرته فهو سواء. قال أبو سعيد: وقد ذكرنا هذا. قال الأخفش: وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه في الجر؛ لأنه لا يجوز عنده العطف على عاملين وإن لم يكن الثاني من سبب الأول. وقال أبو سعيد: كان الأخفش يجيز " ولا قاصر عنك مأمورها "، " ولا مستنكر أن تعقّرا "، وإن لم يكن " مأمورها " من سبب منهيها، ولا " عقرها " من سبب ردّها؛ لأنه يجيز " ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو "، عطفا على عاملين. وزعم الأخفش أن سيبويه غلط في إنكار العطف على عاملين، وأنه جائز مثل قول ¬

_ (¬1) هذا جزء من بيت لذي الرمة وتمامه: مشين كما اهتزّت رماح تسفّفهت … أعاليها مرّ الرّياح النّواسم ديوانه ص 616، الخصائص 2/ 419، شرح الأشموني: 380. (¬2) سورة البقرة، الآية: 112.

الله تعالى في قراءة بعض الناس: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ (¬1)، فجر " الآيات " وهي في موضع نصب، ومثل ذلك قول الله تعالى: ... لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬2)، عطفا على خبر إن. وعلى اللام. وغلط الأخفش في الآيتين اللتين ذكرهما من غير وجه. أما قوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ فالشاهد في الآية التي بعدها لا فيها، لأن حرف الجر قد ذكر في قوله: وَفِي خَلْقِكُمْ وموضع الاحتجاج في الآية التي بعدها وقد ذكرنا الجواب عنه. وأما قوله تعالى: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فإن الأخفش يقدر: " إنا أو إياكم لعلى هدى وإنا أو إياكم لفي ضلال مبين ". فحذف إن واللام من قوله: " أو في ضلال مبين ". وهذا لا حجة له فيه؛ لأن قوله: " أو في ضلال مبين " ليس فيه معمول إن منفي، فيكون عطفا على " إن ". و " اللام " في قوله عز وجل: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ غير عاملة. فاحتجاجه بهذا بعيد. قال أبو العباس: غلط أبو الحسن في الآيتين جميعا في أنهما عطف على عاملين، ولكن ذلك في قراءة من قرأ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، إذا قال: " آيات " فجره فقد عطف على عاملين، وهي قراءة. قال أبو سعيد: وقد غلط أبو العباس في تفريقه بينهما: وذلك أن أبا العباس كان يرى أن من قرأ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ عاطف على عاملين وأن من قرأ " آيات " غير عاطف على عاملين؛ لأن الذي يقرأ: " آيات " ينصبها " بأن "، والذي يقرأ " آيات " يرفعها بالابتداء، فيقال: أخبرنا عن الذي يقرأ: " آيات " إذا رفعها بالابتداء هل يعطفها على موضع " إن "، أو يقطعها من الكلام الأول؟، فإن كان يعطفها على موضع " إن "، فقد عطف على عاملين أحدهما موضع " إن "، والآخر " في "، وإن كان مقطوعا من الكلام الأول، وجب أن يذكر حرف الجر في " اختلاف الليل والنهار "، ألا ترى أنه لا يجوز لك ¬

_ (¬1) سورة الجاثية: الآية: 4. (¬2) سورة سبأ الآية: 24.

أن تقول: " اختلاف الليل والنهار آيات " وأنت تريد في؛ لأنه مستأنف ليس قبله ما يعطف عليه. قال سيبويه: (وتقول: ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة وإن شئت نصبت). يعني: إن شئت قلت: شحمة. (و " بيضاء " في موضع جر؛ كأنك أظهرت " كلّ " كأنك قلت: ولا كلّ بيضاء شحمة). فاحتج بعض الناس بأن هذا عطف على عاملين، وذلك أن " بيضاء " جر عطفا على " سوداء " والعامل فيها كل، و " شحمة " منصوبة عطفا على خبر " ما ". فقال سيبويه: (ليس ذلك عطفا على عاملين، وتأوّله تأويلا أخرجه عما قاله القائل. فقال: " بيضاء " مجرور " بكل " أخرى محذوفة مقدرة بعد " لا "، وليست معطوفة على سوداء، فلم يحصل العطف على عاملين. وقال أبو دؤاد: أكلّ امرئ تحسبين أمرأ … ونار توقد بالليل نارا (¬1) أراد: كل نار توقد بالليل نارا. بتقدير " كلّ " معادة، ولم يعطف " نار " على " امرئ واستغنى عن تثنية " كلّ " بذكره إيّاها في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب). قال سيبويه: (وجاز ذلك كما جاز في قولك: " ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه ". وإن شئت قلت: " ولا مثل أخيه فهذا يحتمل أن يكون " مثل " مقدرا بعد " لا "، ويجوز ألا يكون مقدرا، ويكون " الأخ " معطوفا على " عبد الله " والعامل فيهما " مثل " الأول، ثم يقول: " ما مثل عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه يكره ذاك " ومثل ذلك وما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك "). فهنا لا محالة تقدر " مثل " بعد " لا "، وذلك أنه لو كان " وأبيك " معطوفا على " أخيك "، والعامل " مثل " ما جاز أن يثنّي " يقولان " فلما ثني، علمنا أن تقديره: " وما مثل أخيك ولا مثل أبيك يقولان ذاك ". و " مثل " الأول غير الثاني فلما جاز حذف الثاني اكتفاء بالأول في هذه المسألة، جاز في التي قبلها، وجاز أيضا فيما كان خبره معرّفا، كقولك: ¬

_ (¬1) الخزانة 4/ 314، الكامل للمبرد 1/ 196، المغني 1/ 290.

هذا باب ما يجرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله

" ما مثل عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه يكره ذاك "، فخبر " عبد الله " يقول ذاك، وخبر " أخيه " يكره ذاك. وقد حذف منه " مثل " اكتفاء بالأول، كأنه قال: ولا مثل أخيه يكره ذاك. وهو العامل دون الأول، وقوله: " أكل امرئ تحسبين أمرا " (¬1) مشبه لهذا؛ لأن خبر " كل امرئ " هو " امرأ "، وخبر " كل نار " " نارا " الثانية. هذا باب ما يجرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله قال سيبويه: (وذلك قولك: " ليس زيد بجبان ولا بخيلا "، و " ما زيد بأخيك ولا صاحبك "، والوجه فيه الجر. لأنك تريد أن تشرك بين الخبرين، وليس ينقض إجراؤه عليه المعنى، وأن يكون آخره على أوله أولى؛ ليكون حالهما في الباء سواء، كحالهما في غير الباء مع قربه منه). قال أبو سعيد: معنى ذلك أنك إذا قلت: " ليس زيد بجبان ولا بخيلا "، جاز النصب في " بخيل "، والجر أيضا، غير أن الجر أجود لأن معناهما واحد ولفظ الخبر مطابق للفظ الأول، وإذا تطابق اللفظان مع تساوي المعنيين، كان أفصح من تخالف اللفظين، والعرب تختار مطابقة الألفاظ، وتحرص عليها، وتختار حمل الشيء على ما يجاوره، حتى قالوا: " جحر ضبّ خرب " فجروا " خربا "، وهو نعت " للجحر " لمجاورة " الضّب "، فكذلك إذا قلت: " ليس زيد بجبان ولا بخيل "، فأقرب الأسماء من " بخيل " هو اسم مجرور، والحمل عليه أولى من النصب على المعنى؛ إذ كان معنى النصب والجر واحدا وقال الشاعر في بيت أنشده سيبويه في جواز النصب على قوله عقيبة الأسدي: معاوي إنّنا بشر فأسجح … فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬2) فحمله على موضع الباء لو لم تكن، كأنه قال: فلسنا الجبال ولا الحديدا. والباء زائدة. وهذا البيت أيضا يروى مع أبيات سواه على الجر. منها: ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الخزانة 1/ 343، 2/ 143، أمالي القالي 1/ 36، الدرر اللوامع 1/ 131.

أكلتم أرضنا فجزرتموها … فهل من قائم أو من حصيد ومن روى البيت بالنصب أنشد الأبيات منصوبة، ولم يرو هذا البيت المجرور. قال سيبويه بعد إنشاده البيت: (لأن الباء دخلت على شيء لو لم تدخل عليه لم يخل بالمعنى، ولم يحتج إليه لو كان نصبا، ألا تراهم يقولون: " حسبك هذا وبحسبك هذا " فلم تغير الباء معنى، وجرى هذا مجراه قبل أن تدخل الباء؛ لأن " بحسبك " في موضع ابتداء). وهذا بيّن؛ لأن الباء إذا كانت زائدة، فكأنها ليست في الكلام، فجاز حمل الثاني على الأول، وكأن الباء ليست فيه. قال: (ومثل ذلك قول لبيد: فإن لم تجد من دون عدنان والدا … ودون معدّ فلتزعك العواذل) (¬1) وكان الوجه أن يقول: " ودون معدّ "، عطفا على " من دون عدنان "، ولكنه نصبه على الموضع، كأنه قال: فإن لم تجد دون عدنان. فإن قلت: " ما زيد على قومنا ولا عندنا "، كان النصب في " عندنا " لا غير، ولا يجوز " ولا عندنا " حملا على " قومنا "؛ لأن " عند " لا يجوز أن تدخل عليها " على ". لا تقول: " زيد على عندنا "، ولا تستعمل " عند " إلا ظرفا ولا يدخل عليها من حروف الجر إلا " من ". قال: (وتقول: " أخذتنا بالجود وفوقه "؛ لأنه ليس في كلامهم وبفوقه). ومعنى هذا الكلام: أخذتنا السماء بالجود من المطر، وبمطر فوق الجود، ولم يجز جر " فوق " عطفا على " الجود "؛ لأن العرب لا تكاد تدخل الباء على " فوق "؛ لا يقولون: " أخذتنا بفوق الجود " إنما يقولون: " أخذتنا بمطر فوق الجود "، ولو جررت لجاز، وليس الاختيار. ثم أنشد بيتين في مثل معنى البيت المتقدم وهو قول كعب بن جعيل: إلا حيّ ندماني عمير بن عامر … إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا (¬2) فنصب " غدا "، ولم يعطفه على اليوم، كأنه قال: " إذا ما " تلاقينا اليوم أو غدا. وقال ¬

_ (¬1) الديوان 131 ق 38/ 7، الخزانة 1/ 339، سر الصناعة 1/ 147. (¬2) الأعلم 1/ 35 - المقتضب 4/ 112، 254.

العجاج: كشحا طوى من بلد مختارا … من يأسة اليائس أو حذارا (¬1) وكان الأجود أن يقول: أو حذار، ولكنه حمله على موضع " من " كأنه قال: يأسة اليائس، وهذا مفعول له كقولك: " انصرفت عن زيد يأسا " أي من " يأس " أو " ليأس ". قال: (وتقول: " ما زيد كعمرو ولا شبيها به " و " ما عمرو كخالد ولا مفلحا ": النصب في هذا جيد؛ لأنك إنما أردت: ما هو مثل فلان، ولا مفلحا. هذا معنى الكلام. فإن أردت أن تقول: ولا بمنزلة من يشبهه جررت، وذلك نحو قولك: " ما أنت كزيد ولا شبيه به " فإنما أردت ولا كشبيه به). قال أبو سعيد: إذا قلت: " ما زيد كعمرو ولا شبيها به "، فمعناه: ما زيد كعمرو، وما زيد شبيها بعمرو. وإذا قلت: " ما عمرو كخالد ولا مفلحا "، فمعناه: ولا عمرو مفلحا. " فشبيها "، و " مفلحا " عطف على موضع " الكاف "، وموضعها منصوب بخبر " ما ". وإذا قلت: " ما زيد كعمرو ولا شبيه به " فمعناه: ما زيد كعمرو ولا كشبيه بعمرو، فقد أثبت لعمرو شبيها، ثم نفيت عن " زيد " شبه عمرو، وشبه شبيهه. قال سيبويه: (فإذا قال قائل: " ما أنت بزيد ولا قريبا منه " فإنه ليس ها هنا معنى للباء، لم يكن قبل أن تجيء بها، وأنت إذا ذكرت الكاف تمثل). يريد أنك إذا قلت: " ما أنت بزيد ولا قريبا منه أو ولا قريب منه " فالمعنى واحد، ويجوز الجر والنصب، وإن كان الجر أجود لما ذكرنا أن الباء زائدة في قولك: " بزيد "، وإذا قلت: " ما زيد كعمرو " فالكاف دخلت للتشبيه. فإذا قلت: " ولا شبيه به "، فخفضت، فكأنك قلت: " ولا كشبيه بعمرو " فأثبت له شبيها. وإذا نصبت " شبيها " فمعناه: ولا زيد شبيها به. قال سيبويه: (وإن شئت قلت: " ما أنت بزيد ولا قريبا منه "، فجعلت " قريبا " ظرفا). وإذا جعلته ظرفا لم يكن فيه إلا النصب كأنك قلت: " ما أنت بزيد ولا خلف زيد ". ¬

_ (¬1) ديوان أراجيز العجاج: 21، الأعلم 1/ 35.

هذا باب الإضمار في" ليس" و" كان" كالإضمار في" إن"

وقال الأخفش: والفصل بين الجر والنصب في قولك: " ما أنت كزيد، ولا شبيها به " أنك إذا جررت " الشبيه "، فقد أثبت شبيها، وإذا نصبت لم تثبت هاهنا شبيها بزيد وقد بينا هذا. هذا باب الإضمار في " ليس " و " كان " كالإضمار في " إنّ " (إذا قلت: " إنه من يأتنا نأته "، و " إنه أمة الله ذاهبة " فمن ذلك قول العرب: " ليس خلق الله مثله "، فلولا أن فيه إضمارا، لم يجز أن تذكر الفعل، ولم تعمله في اسم، ولكن فيه من الإضمار مثل ما في " إنه " وسوف نبين حال هذا الإضمار، وكيف هو إن شاء الله تعالى). قال أبو سعيد: اعلم أن كل جملة فهي حديث أمر وشأن، والعرب قد تقدم قبل الجمل ضمير الأمر والشأن، ثم تأتي بالجملة، فتكون الجملة هي خبر الأمر والشأن؛ لأن الجملة هي الأمر والشأن وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول. فمن ذلك قولهم: " إنه أمة الله ذاهبة " و " إنه زيد ذاهب ". " فالهاء " ضمير الأمر و " زيد ذاهب " مبتدأ، وخبره في موضع خبر الأمر والشأن، و " إنه من يأتنا نأته "، و " إنه قام عبد الله ". فالهاء في هذه المواضع هي الاسم، وما بعدها من الجملة خبر، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر، لا يجوز أن تقول: " إن زيد ذاهب " على معنى: إنه زيد ذاهب في الكلام. وقد جاء في الشعر. قال الشاعر: إنّ من لام في بني بنت حسّا … ن ألمه وأعضه في الخطوب (¬1) أراد: " إنه ". وربما جعلوا مكان ضمير الأمر والشأن ضمير القصة. فيقولون: " إنها جاريتك منطلقة "، قال الله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ (¬2) تقديرها: فإن القصة: وأكثر ما يجيء إضمار القصة مع المؤنث، وإضمارها مع المذكر جائز في القياس، ومن ذلك: " كان زيد ذاهب "، و " كان قام زيد " تريد: كان الأمر والشأن زيد ذاهب. ففي " كان " ضمير ¬

_ (¬1) البيت منسوب إلى الأعشى في ديوانه ق 68/ 12، الإنصاف 1/ 180، الخزانة 2/ 463؛ 3/ 654. (¬2) سورة الحج، الآية 46.

الأمر، والجملة التي بعدها في موضع خبر " كان ". وأخوات " كان " بمنزلتها، كما أن أخوات " إنّ " بمنزلتها، ولم يظهر ذلك الضمير في " كان " وأخواتها؛ لأنه اسم " كان "، و " كان " فعل، فإذا أضمرناه استكنّ في الفعل. ومن ذلك: " ظننته زيد قائم "، و " ظننته قام أبوك "، فالهاء ضمير الأمر والشأن، وهي في موضع المفعول الأول، والجملة التي بعدها في موضع المفعول الثاني. ومن ذلك " ما هو زيد قائم "، و " ما هو قام زيد "، " فهو " ضمير الأمر والشأن، والجملة بعدها خبر " ما ". وتقول في المبتدأ: " هو زيد قائم " وإن لم يكن جرى ذكر شيء، فهو مبتدأ ضمير الأمر والشأن، والجملة التي بعدها خبر. وقد قال جماعة من البصريين- والكسائي معهم- في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (¬1) أن " هو " ضمير على غير مذكور، جرى كالضمير في " إنه زيد قائم ". وقال الفراء: " هو " ضمير اسم الله تعالى، وجاز ذلك وإن لم يكن قبله ذكر، لما في النفوس من ذكره تبارك اسمه. وكان الفراء يجيز " كان قائما زيد " و " كان قائما الزيدان، والزيديون "، فيجعل " قائما " خبر ذلك الضمير، ويجعل ما بعده مرفوعا به. وكذلك " ليس بقائم أخواك " و " ما هو بذاهب الزيدان ". وأهل البصرة لا يجيزون أن يكون خبر ذلك الضمير اسما مفردا؛ لأن ذلك الضمير هو ضمير الجملة، فينبغي أن تأتي بالجملة كما هي، فتجعلها في موضع خبر الضمير، كما تقول: " كان زيد أخاك " فتجعل " الأخ " خبرا له؛ إذ كان " هو " هو، غير أن الاسم المفرد يتأثر فيه الإعراب: إذا كان خبرا. ولا يجيز البصريون " كان ذاهبا زيد "، إلا على ألا يكون في " كان " ضمير الأمر والشأن، ويكون " زيد " الاسم و " ذاهبا " الخبر. وأما " ما هو بذاهب أخواك " فلا يجيزون إلا على أن يقال: " ما هو بذاهبين أخواك " فيثنون، ويجعلون " أخواك " مرتفعين بالابتداء، لا بالذهاب ويجعلون الباء خبرا مقدما، وتقديره: " ما هو أخواك بذاهبين "، كما تقول: " ليس بذاهبين أخواك "، على معنى: ليس أخواك بذاهبين. ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص، الآية: 1.

ولقائل أن يقول:- وفيه نظر- وليس تقديم الباء في " ما " بالحسن. قال أبو سعيد: ويجوز عندي " ليس بذاهب أخواك "، و " ما هو بذاهب أخواك " على أن تجعل " ذاهبا " في معنى الفعل، وترفع ما بعده به، وتجعل الجملة في موضع خبر المجهول، ولا تجعل " ذاهبا " خبرا له، ولكن تجعل " ذاهبا " في موضع ابتداء وإن كان فيه الباء، و " الأخوين " مرتفعين بفعلهما، وقد سدا مسد الخبر كما تقول: " ما ذاهب أخواك "، فترفع " ذاهبا " بالابتداء، وترفع " الأخوين " بفعلهما، وقد سدا مسد الخبر، وإنما دخلت الباء على المبتدأ في هذا الموضع لنفي الذي وجب بالحرف الذي قبله، ألا ترى أنك تقول: " ليس زيد بقائم "، فإذا استثنيت لم يجز أن تقول: " ليس زيد إلا بذاهب " لبطلان معنى النفي. فإن قال قائل: فأجز على هذا: " ليس زيد بأبيه قائم "، على معنى " ليس زيد أبوه قائم "، كما أجزت " ليس زيد بذاهب أبواه "، على معنى " ليس زيد ذاهبا أبواه ". قيل له: قولنا: " ليس زيد أبوه قائم "، " قائم " مع الأب خبر " ليس "، والعامل فيه الابتداء، فلا يجوز أن يبطل الابتداء بالباء وتعمله، وإذا قلنا: " ليس زيد بذاهب أخواه "، فإنما ترفع " الأخوين " بفعلهما. فإن قال قائل: فأنت تقول: " بحسبك زيد "، فترفع " زيدا " بخبر المبتدأ، وقد دخلت الباء على " حسبك ". قيل له: دخول الباء في " حسبك "، مع جعله مبتدأ، شاذ لا يقاس عليه، ألا ترى أنك لا تقول: " بأخيك زيد "، على معنى " أخوك زيد "، ودخول الباء على خبر كل منفي مطرد. ومن أصحابنا من لا يجيز البتة: " ما هو بذاهب زيد "، و " ليس بذاهب أخوك "، إذا جعلت في " ليس " ضمير الأمر والشأن؛ لأن الأمر إنما تفسيره جملة، ولا يكون في ابتداء الجمل " الباء "، فاحتج عليه بقوله تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ (¬1). فقال مجيبا عن ذلك: يجوز أن يكون " هو " ضمير التعمير؛ لأنه قد جرى ذكره في قوله: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وقوله: " أن يعمّر " بدل من " هو "، وقد صار " هو " ضميرا للتعمير الذي قد تقدم الفعل الدال عليه، كما قال: " من كذب كان شرا له ". والمعنى: كان ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 96.

الكذب شرا له. فاكتفى بدلالة " كذب " على إظهار الكذب. قال سيبويه: (فلو لم يكن في " ليس " ضمير الأمر، لما جاز " ليس خلق الله مثله "؛ لأن " ليس " و " خلق " فعلان، والفعل لا يعمل في الفعل، فلا بد من اسم يرتفع به. وقال حميد الأرقط: فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم … وليس كلّ النّوى تلقي المساكين) (¬1) فقوله " كل " ينتصب ب " يلقي "، و " المساكين " يرتفع ب " يلقي "، وفي " ليس " ضمير الأمر، ولو لم يكن في " ليس " ضمير الأمر لارتفع " كلّ " " بليس "، وصار " يلقي المساكين " خبر " كل "، واحتيج إلى إضمار " كل " في " يلقي "، فيصير التقدير: " وليس كل النوى يلقيه المساكين "، وهو قبيح؛ لأن حذف الهاء من الإخبار قبيح؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: " زيد ضربت " في معنى " زيد ضربته ". قال: (ولا يحسن أن تحمل " المساكين " على " ليس " وقد قدمت. فجعلت الذي يعمل فيه الفعل الآخر يلي الأول، وهذا لا يحسن ولا يجوز). يعني لا يجوز أن ترفع " المساكين "، " بليس "، وقد جعلت الذي يلي، ليس " كل "، وهو منصوب ب " يلقي "؛ لأن " كان " و " ليس " وأخواتهما لا يليهن منصوب يغيرهن، ولا يجوز أن تقول: " كانت زيدا الحمّى تأخذ "، أو " كانت زيدا تأخذ الحمى "، وذلك أن " كان " وبابها أن تعمل الرفع والنصب، فلا يجوز أن يليه إلا شيء يعمل فيه أو في موضعه، فإذا قلت: " كانت زيدا الحمى تأخذ "، فإنما تنصب " زيدا " ب " تأخذ " لا ب " كان ". وقد احتج بعض من يجيز هذا بقول الفرزدق: قنافذ هدّاجون حول خبائهم … بما كان إيّاهم عطية عوّدا (¬2) وهذا البيت لا حجة فيه؛ لأنه يجوز أن يكون جعل في " كان " ضمير الأمر والشأن، وتنصب " إياهم " ب " عوّدا " وتجعل الجملة في موضع خبر للضمير الذي في " كان "، ويجوز أن تكون زائدة ويكون تقديره: " بما إياهم عطية عودا "، كما يقال: " الذي إياهم عطية ¬

_ (¬1) البيت لحميد الأرقط الأعلم 1/ 35، ابن عقيل 1/ 162، وبدون نسبة في الأشموني 1/ 117، الخزانة 4/ 58. (¬2) الخزانة 4/ 57، العيني 2/ 24، الدرر اللوامع 1/ 87.

عوّد "، على معنى " عوّده ". ولا يجوز أن يقال: " كان عمرا زيد ضاربا " بنصب " عمرو "، وقد جعلت " ضاربا " منصوبا ب " كان ". ولكنك لو قلت: " كان عمرا زيد ضارب "، جاز. والفرق بينهما أن المسألة الأولى ليس في " كان " ضمير الأمر والشأن، وفي هذه ضمير الأمر والشأن فإذا نصبت " عمرا "، فالذي يلي " كان " الأمر والشأن. فلم يلها منصوب يغيرها. ولو قلت: " عمرا كان زيد ضاربا " جاز؛ لأن هذا الذي قبله كان كالملغى، ولم يصر حاجزا بينهما وبين ما حكمها أن تعمل فيه: قال سيبويه: (ومثل ذلك من الإضمار: إذا متّ كان النّاس صنفان شامت … وآخر مثن بالذي كنت أصنع (¬1) أضمر في " كان " الأمر والشأن. وقال بعضهم: " كان أنت خير منهم " على معنى كان الأمر، ومثله قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) (¬2). يعني: أن في " كاد " ضميرا من الأمر والشأن؛ لأن " كاد " فعل، و " يزيغ " فعل، ولا يعمل الفعل في الفعل. (وقال هشام أخو ذي الرمة: هيّ الشّفاء لدائي لو ظفرت بها … وليس منها شفاء الدّاء مبذول) (¬3) معناه: ليس الأمر. وقال: (وليس يجوز هذا في " ما " في لغة أهل الحجاز). يعني أنه لا يجوز أن تقول: " ما زيد قائم "، وتجعل في " ما " ضمير القصة والشأن مستكنا، لأنها ليست بفعل ليستكن فيها الضمائر. قال سيبويه: (ولا يجوز أيضا في لغتهم أن تقول: " ما زيدا عبد الله ضاربا " و " ما زيدا أنا قاتلا "؛ لأنه لا يستقيم في " ما " كما لم يستقم أن تقدم في " كان وليس " ولا يجوز أن تقدم في " كان " و " ليس " ما يعمل فيه الآخر). يعني: لا يجوز أن يلي " ما " منصوب بغيرها. على لغة أهل الحجاز، لأنهم يجعلونها ¬

_ (¬1) البيت للعجيز السلولي في الأعلم 1/ 36، الدرر اللوامع 1/ 80، العيني 2/ 85. (¬2) سورة التوبة، آية: 117. (¬3) الأعلم 1/ 36، المقتضب 4/ 101، شرح القصائد السبع: 474.

بمنزلة " ليس "، وقد قدمنا في " ليس " أنه لا يجوز أن يليها منصوب بغيرها. وأما على لغة بني تميم فجائز أن تقول: " ما زيدا أنا ضارب "؛ لأنهم لا يعملونها فتصير بمنزلة قولك: " أما زيدا فأنا ضارب "، وكقولك في المبتدأ: " زيدا أنا ضارب ". وقال مزاحم العقيلي: وقالوا تعرّفها المنازل من منّي … وما كلّ من وافى منّي أنا عارف (¬1) وقال بعضهم: وما كلّ من وافى مني أنا عارف لزم اللغة الحجازية، فرفع كأنه قال: " ليس عبد الله أنا عارف ". قال: (فأضمر الهاء في " عارف "، وكان الوجه: أنا عارفه، حيث لم يعمل " عارف " في " كل "، وكان هذا أحسن من التقديم والتأخير؛ لأنهم يدعون هذه الهاء في كلامهم وفي الشعر كثيرا، وليس ذلك في شيء من كلامهم، ولا يكاد يكون ذلك في شعر، وسترى ذلك إن شاء الله تعالى). واعلم بأن البيت يروى بنصب " كل "، وبرفعه. فأما من نصب " كلا "، فقد جعل " ما " تميمية، وأبطل عملها، ونصب " كلا " " بعارف ". ومن رفع " كلا "، جعل " كلا " اسم " ما "، على لغة أهل الحجاز، ورفع " كلا " ب " ما "، وجعل " أنا عارف " في موضع الخبر، وأضمر الهاء في " عارف "، حتى يكون في الجملة ما يعود على الاسم، فيصح أن يكون خبرا، كأنه قال: " أنا عارف "، وفي لغة بني تميم إذا رفع " كل "، رفع بالابتداء، و " أنا عارف خبر وفيه الهاء. وقوله: (وكان هذا أحسن من التقديم والتأخير). يعني: أن رفع " كل " ب " ما " على لغة أهل الحجاز، وإضمار الهاء في خبرها أحسن من أن ينصب " كلا " ب " عارف " في لغتهم فيولي " ما " منصوبا بغير " هاء "؛ لأن حذف إضمار الهاء من الخبر كثير، وليس إيلاء " الناصب " منصوبا بغيره في شيء من الكلام. وسترى حذف الهاء من الخبر- فيما بعد- إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) ديوان مزاحم بن الحارث 28 ق 6. المغني 2/ 694، شذور الذهب 173.

هذا باب ما عمل عمل الفعل فلم يجر مجراه ولم يتمكن تمكنه

هذا باب ما عمل عمل الفعل فلم يجر مجراه ولم يتمكّن تمكنه قال سيبويه: (وذلك قولك: " ما أحسن عبد الله ". زعم الخليل أنه بمنزلة قولك: " شيء أحسن عبد الله "، ودخله معنى التعجب وهذا تمثيل فلم يتكلم به). قال أبو سعيد: أعلم أن التعجب من الشيء أن يكون زائدا في معنى ما تعجب منه على غيره نادرا في بابه؛ لأن فيه تفضيلا. ولا يجوز أن يقال " لزيد "، إذا كان في أول مراتب الحسن " ما أحسن زيدا "؛ لأنه لا تفضيل فيه. فإذا قالوا: " ما أحسن زيدا "، " فما " عند سيبويه اسم مبتدأ غير موصولة، و " أحسن " خبر " ما "، وفي " أحسن " ضمير من " ما " وهو فاعل " أحسن "؛ لأن " أحسن " فعل، و " زيدا " مفعول " أحسن "، وهو بمنزلة قولك في الإعراب: " زيد أكرم عبد الله ". وقد مثّل الخليل " ما " بشيء، كأنك قلت: " شيء أحسن " عبد الله، ومعنى: أحسن أي حسنه، وأصاره إلى هذا الحسن. ولو قلت: " شيء أحسن عبد الله " لم يكن فيه تعجب؛ لأن " شيء " اسم غير مبهم، و " ما " مبهمة، وإنما وضعت للتعجب من قبل إبهامها؛ لأن المتعجب منظم للأمر، وكأنه إذا قال: " ما أحسن عبد الله "، فقد جعل الأشياء التي يقع بها الحسن متكاملة في عبد الله، فلا يصلح ذلك إلا بلفظ مبهم. ولو قال: " شيء أحسن عبد الله "، كان قد قصر حسنه على جهة دون سائر جهان الحسن. وقد أنكر بعض الناس على الخليل قوله أن: " ما أحسن عبد الله " بمنزلة " شيء أحسن عبد الله " فقال: يلزمه في هذا أن يكون قولنا: " ما أعظم الله " بمنزلة " شيء أعظم الله ". وليس هذا الاعتراض بشيء؛ لأنه يتوجه الجواب عنه من ثلاثة أوجه: منها: أن يقال: قولنا: " ما أعظم الله " بمنزلة شيء أعظم الله، وذلك الشيء يعني به من يعظمه من عباده؛ لأن عباده يعظمونه. والوجه الثاني: أن يعني بذلك الشيء، ما دل خلقه المعتبرين على أنه عظيم، من عجائب خلق السموات والأرض وما بينهما من الأفلاك والكواكب والجبال والبحار والحيوان والنبات. والوجه الثالث: أن يقال: شيء أعظم الله تعالى، ويرجع بذلك الشيء إليه فيكون بنفسه عظيما، لا بشيء جعله عظيما، فرقا بينه وبين خلقه؛ لأن العظيم من خلقه قد

عظّمه غيره، فصار بما عظموه عظيما، وهو تبارك وتعالى عظيم، لا بأحد أصاره إلى العظمة. وفيه وجه رابع: وهو أن الألفاظ الجارية منا على معان، لا تجوز على الله تعالى، فإذا رأينا تلك الألفاظ مجراة عليه حملناها على ما يجوز في صفاته ويليق به. ألا ترى أن الامتحان منا والاختبار إنما هو بمنزلة التجربة، وإنما يمتحن ويختبر منا من يريد أن يقف على ما يكون، وهو غير عالم به، والله تعالى يمتحن، ويختبر ويبلو بمعنى الأمر، لا بمعنى التجربة، وهو عالم بما يكون. ومن ذلك أن " لعل " يستعمله المستعمل منا عند الشك، وإذا جرى في كلام الله، فإنما هو بمعنى " كي " و " كي " يقع بعدها الفعل الذي هو غرض ما قبله كقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (¬1) معناه: كي تفلحوا. فالفلاح هو الغرض الذي من أجله أمرهم بالتوبة. ومثل هذا كثير. فيكون قولنا في الله: " ما أعلمه، وما أعظمه " بمنزلة الإخبار منا بأنه عظيم، ولا يقدر فيه شيء أعظمه، وإن كان تقديره في غيره على ما ذكرنا من الجواب الرابع. وقال الفراء ومن تابعه من الكوفيين: إن قولنا: " ما أحسن عبد الله "، أصله " ما أحسن عبد الله "، وأن " أحسن " اسم كان مضافا إلى " عبد الله "، وكان المعنى فيه الاستفهام. ثم إنهم عدلوا عن الاستفهام إلى الخبر، فغيروا " أحسن " ففتحوه، ونصبوا " عبد الله "، فرقا بين الخبر والاستفهام. وهذا قول لا دليل عليه، وهو أيضا يفسد؛ لأنه يقال: بأي شيء نصبت أحسن، و " ما " هي مبتدأه، و " أحسن " خبرها، وهو اسم، وحكم الاسم المبتدأ إذا كان خبره اسما مفردا أن يكون مرفوعا مثله، والتفريق بين المعاني لا يوجب إزالة الإعراب عن وجهه، ومن ذلك أنا نقول: " ما أحسن بالرجل أن يصدق "، ولو كان أصله الإضافة لم يفصل بين المضاف والمضاف إليه " بالياء "، ألا ترى أنا نقول: " ما أحسن بالرجل الصدق ". واحتج القائل بأن " أحسن " اسم بقول العرب: " ما أحيسن زيدا " كما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: 31.

يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا … من هؤليّئكنّ الضّال والسّمر (¬1) فصغر أملح، والفعل لا يصغر. واحتج أيضا بقولهم: " ما أقوم زيدا " ولو كان فعلا لم تصح الواو: ألا ترى أنك تقول: " أقام يقيم " ولا تقول: " أقوم يقوم ". والجواب عن هذا: أن " أحسن " في التعجب، وإن كان فعلا، فقد أشبه الاسم؛ للزومه لفظ الماضي، وقلة تصرفه، ولأن معنى: " ما أحسن زيدا " ومذهب التعجب فيه- كمعنى: زيد أحسن من غيره، وزيد أقوم من غيره. وقولنا: " أحسن من غيره "، هو اسم فيه معنى التعجب والتفضيل فلما كان " ما أحسن زيدا " زائلا عن تصرف الفعل، مشبها للاسم في لزومه لفظا واحدا، حمل على الاسم الذي هو نظيره في جواز التصغير، وترك الإعلال. وكان الأخفش يجعل " ما " بمنزلة " الذي "، ويجعل " أحسن " صلة لها، وفي " أحسن " ضمير " ما "، و " عبد الله " مفعول " أحسن "، والجميع في صلة " ما " والخبر محذوف، كأنه قال: " الذي أحسن عبد الله فيه ". وأنكر سيبويه هذا، وذكر أن " ما " غير موصولة. فقال الأخفش: إنما تكون " ما " غير موصولة في الاستفهام والمجازاة. فالاستفهام قولك: " ما عندك؟ " والمجازاة قولك: " ما تفعل أفعل "، وإذا كانت في الخبر فهي بمعنى " الذي " موصولة كقولك: " ركبت ما عندك " و " شربت ما أصلحته " أي ركبت الذي عندك، وشربت الذي أصلحته، قال: والتعجب خبر، فينبغي أن يكون " ما " فيه موصولة. فقال سيبويه: العلة التي من أجلها كانت " ما " في الاستفهام والمجازاة غير موصولة، هي بعينها موجودة في التعجب؛ وذلك أن المستفهم إنما يستفهم عما لا يعرف، فلو وصل " ما " لأوضح، واستغنى عن الاستفهام. والمجازى إنما يريد أن يعمّ ولو وصل لحصل على شيء بعينه، فاستغنى عن الصلة، والمتعجب مبهم فلا يصح أن يصل " ما " فيخرج عن الإبهام؛ لأن الصلة إيضاح وتبيين. وقد جاءت " ما " غير موصولة في الخبر كقولك: " غسلته غسلا نعمّا " يريد: نعم ¬

_ (¬1) البيت للعرجي: الخزانة 1/ 45، 4/ 95 - ابن يعيش 5/ 135، 7/ 143.

الغسل، فجعل " ما " بمنزلة الغسل ولم يصلها، لأن " نعم " إنما يليها المبهم، فجعل " ما " بعدها غير موصولة. ومن ذلك قول العرب: " إني مما أن أصنع " أي من الأمر أن أصنع، فجعل " ما " وحدها في موضع الأمر ولم يصلها بشيء، وتقدير الكلام إني من الأمر صنعى. كذا ... وكذا ... ؛ فالياء اسم " إن " و " صنعي " مبتدأ، و " من الأمر " خبر صنعي والجملة، في موضع خبر " إن ". قال سيبويه: (ولا يجوز أن تقدم " عبد الله " وتؤخر " ما " ولا تزيل شيئا عن موضعه، فلا تقول فيه: " ما يحسن "، ولا شيئا مما يكون في الأفعال سوى هذا). قال أبو سعيد: يعني لا تقول: " عبد الله ما أحسن "، ولا " ما عبد الله أحسن " كما تقول: " عمرا زيد أكرم "، و " زيد عمرا أكرم "؛ لضعف فعل التعجب، إذا فصلت بين فعل التعجب وبين المتعجب منه. وكثير من أصحابنا يجيز ذلك منهم: الجرمي، وكثير منهم يأباه؛ منهم: الأخفش، وأبو العباس المبرد، وذلك قولك: " ما أحسن في الدار زيدا ". فاحتج الذين لم يجيزوه بأن قالوا: التعجب كالمثل، والألفاظ فيه مقصورة على منهاج واحد، وإن كان يجوز في غيره من العربية تغيير مثله، وتقديمه، وتأخيره، فلما جاء كالمثل- والأمثال لا تغير- لم يغير. واحتج الذين أجازوا الفصل بأن قالوا: رأينا " إن " حرفا مشبها بالفعل، ورأينا فعل التعجب فعلا ناقص العمل والتصرف، وليس يبلغ من نقصان تصرفه أن يصير أضعف من " إن " التي ليست بفعل، وقد رأينا الفصل في " إن " جائزا بينها وبين الاسم بالظروف في قولك: " إن فيها زيدا " فكذلك قولك: " ما أحسن فيها زيدا "، ويدل على جواز ذلك أيضا قولهم: " ما أحسن بالرجل أن يصدق "، وتقديره: ما أحسن بالرجل الصدق، وقد فصل بين " أحسن "، وبين " الرجل " بالباء. وقول سيبويه: (ولا تزيل شيئا عن موضعه). إنما أراد أنك تقدم " ما " وتوليها الفعل، ويكون الاسم المتعجب منه بعد الفعل، ولم يعرض الفصل بين الفعل والمتعجب منه. ولا يجوز التعجب بلفظ المستقبل، لأنه مدح، وإنما يمدح الإنسان بما عرف به، وثبت فيه. قال سيبويه: (وبناؤه أبدا من فعل، وفعل، وفعل، وأفعل).

قال أبو سعيد يعني: أن فعل التعجب لا يكون إلا فعلا، أصله قبل التعجب فعل، كقولك: " ما أضرب زيدا، و " أشتم عمرا للناس "، وأصله، ضرب وشتم، و " ما أعلم زيدا، وأسمعه "، وأصله: علم وسمع. و " ما أظرف زيدا "، وأصله: ظرف، و " ما أعطى زيدا "، وأصله: أعطى. وإنما كان الفعل التعجب مما أصله هذه الأفعال لأنها تحتمل زيادة الهمزة نحو: خرج وأخرجه غيره، وسمع وأسمعه غيره، فلا تصح زيادة هذه الهمزة إلا في أول الأفعال الثلاثية. وأما قولك: " ما أعطى زيدا "، وأصله أعطى، فإن الهمزة التي في " أعطى " قبل التعجب زائدة؛ لأنه من " عطا يعطو " إذا تناول، فحذفوا هذه الهمزة الزائدة فصار " عطا "، ثم زادوا الهمزة التي للتعجب. وأما سائر الأفعال فلا تحتمل صيغتها زيادة الهمزة في أولها نحو: انطلق، واستغفر، واحمر، وقاتل، وما أشبه ذلك. قال سيبويه: (هذا؛ لأنهم لم يريدوا أن يتصرف، فجعلوا له مثالا واحدا يجري عليه). يعني: لما لم يتصرف فعل التعجب، جعلوا له مثالا واحدا يجري عليه، وإن كان قد يستعمل في باب النقل غيره، ألا ترى أنك تقول: " عرف زيد عمرا وعرفته "، و " علم كذا "، " وأعلمته إياه ". فالنقل قد يكون بتشديد العين. كما يكون بزيادة الهمزة في أوله، فاختاروا زيادة الهمزة في باب التعجب؛ لأنها أكثر في النقل. قال سيبويه: (فشبه هذا بما ليس من الفعل، نحو " لات " و " ما "، وإن كان من " حسن " و " كرم " و " أعطى "). قال أبو سعيد: يعني أن فعل التعجب وإن كان مشتقا من أفعال متصرفة، فهو غير متصرف بمنزلة " لات " و " ما " في قلة تصرفها، وقد بينا ذلك. ونظير ذلك قول العرب للصقر " هذا أجدل " مصروف بمنزلة قولهم " هذا أفكل " والأجدل مأخوذ من الجدل وهو الشدة والفتل، فصرفوه ولم يجعلوه بمنزلة " أحمر "؛ لأنه وإن كان مشتقا من الجدل، فقد صار اسما للصقر ولا يقال لغيره إذا كان شديدا أجدل.

هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلك

قال سيبويه: (ونظير جعلهم " ما " وحدها اسما قول العرب: " إني مما أن أصنع " أي: من الأمر أن أصنع، فجعل " ما " وحدها اسما. ومثل ذلك " غسلت غسلا نعمّا " أي نعم الغسل). وقد بينا هذا. قال سيبويه: (وتقول: " ما كان أحسن زيدا "، فتذكر كان لتدل على أنه كان فيما مضى). إذا قلت: " ما كان أحسن زيدا " ففي " كان " وجهان: أحدهما: أن تكون زائدة، كأنك قلت: " ما أحسن زيدا "، ثم أدخلت " كان " لتدل على الماضي، وفي " كان " ضمير الكون على ما قدمنا في معنى " كان " إذا كانت زائدة، والوجه الثاني أن تجعل " ما " مبتدأة، وتجعل في " كان " ضميرا من " ما " وهو اسم " كان "، وتجعل " أحسن " خبر " كان "، كقولك: " زيد كان ضرب عمرا ". قال أبو الحسن: وإن شئت جعلت " أحسن " صلة " لما "، وأضمرت الخبر، فهذا أكثر وأقيس، وقد ذكرنا هذا. وقالوا: " ما أصبح أبردها " و " ما أمسى أدفأها " وليس هذا من كلام سيبويه، وهو غير جائز، وذلك أن الذين قالوا من النحويين: " ما أصبح أبرد الغداة " جعلوا " أصبح " بمنزلة " كان "، و " أصبح " لا تشبه " كان " في هذا الموضع من وجهين: أحدهما: أن " أصبح " لا تكون زائدة مثل " كان ". الوجه الثاني: أنك إذا قلت " كان " فقد دللت على ماض ولم توجب له في الحال شيئا، وإذا قلت: " أصبح "، فقد أوجبت دخوله فيه، وبقاءه عليه. ألا ترى أنك تقول: " كان زيد غنيا "، فلا توجب له الغنى في حال إخبارك. وتقول: " أصبح زيد غنيا "، فتوجب له الدخول في الغنى والخروج عن الفقر فاعرفه- إن شاء الله تعالى-. هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلك قال أبو سعيد: اعلم أن من العرب إذا عطفت فعلا على فعل- وكان كل واحد من الفعلين متعلقا باسمين أو باسم واحد- فإنهم يستجيزون في ذلك ما لا يستجيزونه في

غيره من كلامهم. فمن ذلك أنك تقول: " قام وقعد أخوك " فأنت بالخيار إن شئت رفعت الأخ بالفعل الأول، وإن شئت رفعته بالفعل الثاني. فإن رفعته بالفعل الأول فتقديره: قام أخوك وقعد، ويكون في " قعد " ضمير من الأخ، وإذا ثنيته، أو جمعت على هذا الوجه قلت: " قام وقعدا أخواك "، و " قام وقعدوا إخوتك "، و " قامت وقعدن الهندات "، ويكون قد جعلت الاسم الذي تعلق بالفعل الأول بعد الفعل الثاني، فقد فصلت بين الفعل الأول وفاعله بجملة. فهذا لا يجوز في كل مكان، وإن أعملت الفعل الثاني في " الأخ "، جعلت في الفعل الأول ضمير الأخ؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل مظهر أو مضمر. وإذا ثنيت أو جمعت على هذا الوجه قلت: " قاما وقعدا أخواك "، و " قاموا وقعدوا إخوتك "، " وقمن وقعدت الهندات "، فتضمر في الأول ضمير الفاعل قبل الذكر، وليس ذلك بمستحسن في جميع المواضع وهو هاهنا الاختيار. وإذا كان الفعل متعديا إلى مفعول جرى هذا المجرى، فقلت: " ضربني وضربت زيدا " إن أعملت الفعل الآخر، وتجعل في " ضربني " ضمير الفاعل ولا بد من ذلك، لأن الفعل لا يخلو من فاعل. فإذا ثنيت أو جمعت- على هذا الوجه- قلت: " ضرباني وضربت الزيدين " و " ضربوني وضربت الزيدين " و " ضربني وضربت الهندات ". وإن أعملت الفعل الأول في هذه الوجوه، كان الاختيار أن تقول: " ضربني وضربته زيد "، لأن التقدير: ضربني زيد وضربته وضربني وضربتهما الزيدان، و " ضربني وضربتهم الزيدون "، و " ضربتني وضربتهن الهندات ". ويجوز حذف ضمير المفعول من الفعل الثاني؛ لأن المفعول يجوز حذفه؛ لأنه كالفضلة المستغنى عنها. وقد علم أن الفعل قد وقع به، وقال الله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ على معنى والذاكراته وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ (¬1)، ولم يأت للفعل الثاني بمفعول اكتفاء بالأول. وإذا قلت: " ضربت وضربني زيد " فأعملت الفعل الثاني، رفعت " زيدا " به، ولم تأت للأول بمفعول، وقد علم أنه واقع " بزيد "؛ لذكرنا في الفعل الثاني، فلم تضمره كما أضمرته حيث كان فاعلا؛ لأنهم احتملوا إضماره قبل الذكر حيث كان فاعلا؛ لأن الفعل ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: 35.

لا بد له من فاعل، وقد يستغنى عن المفعول، فلم يكن بهم ضرورة توجب إضمار المفعول قبل الذكر. فإذا ثنيت، أو جمعت- على هذا الوجه- قلت: " ضربت وضربني الزيدان "، و " ضربت وضربني الزيدون "، " وضربت وضربتني الهندات "، فإن أعملت الفعل الأول- في هذه الوجوه- قلت: " ضربت وضربني زيدا "، وجعلت في " ضربني " ضميرا من زيد، وتقديره: ضربت زيدا، وضربني. وفي التثنية والجمع " ضربت وضرباني الزيدين " و " ضربت وضربوني الزيدين "، و " ضربت وضربني الهندات ". وإذا كان الفعل متعديا إلى اثنين جرى على هذا المجرى، وعلى هذا القياس. وإذا تعدى إلى ثلاثة مفاعيل: فالجرمي ومن ذهب مذهبه لا يرون إجراءه على قياس هذا الباب؛ لأن هذا الباب خارج عن القياس، وإنما يستعمل فيما استعملته العرب، وتكلمت به، وما لم تتكلم به فمردود إلى القياس. ومن أصحابنا من يقيس ذلك في جميع الأفعال. فما يتعدى إلى مفعولين، تقول: " أعطاني وأعطيت أخاك درهما "، فتجعل في " أعطاني " ضمير الأخ؛ لأنه فاعل مضطر إلى ذكره، وتحذف ضمير الدرهم؛ لأنه مفعول، وما في الفعل الثاني يدل عليه، وتعمل الفعل الثاني في الآخر. فإذا ثني أو جمع- على هذه الوجوه- قلت: " أعطياني وأعطيت أخويك درهما "، و " أعطوني وأعطيت إخوتك درهما "، و " أعطيتني وأعطيت الهندات درهما ". فإذا أعملت الفعل الأول- على هذا الوجه- قلت: " أعطاني وأعطيته إياه أخوك درهما "، وتقديره: أعطاني أخوك درهما وأعطيته إياه، فالهاء ضمير الأخ، وإياه ضمير الدرهم، وقد جرى ذكرهما في التقدير فأضمرتهما لذلك، فإذا ثنيت أو جمعت قلت: " أعطاني وأعطيتهما إياه أخواك درهما "، و " أعطاني وأعطيتهم إياه إخوتك درهما "، و " أعطتني وأعطيتهن إياه الهندات درهما ". ويجوز حذف ضمير المفعول من الفعل الثاني على نحو ما مضى: فإذا قلت: " أعطيت وأعطاني زيد درهما " وأعملت الفعل الثاني حذفت المفعولين من الفعل الأول، وإن كانا يرادان في المعنى؛ لأن الفعل الثاني قد دل عليهما، والمفعولان أحدهما زيد والآخر الدرهم، كأنك قلت: " أعطيت زيدا درهما، وأعطاني زيد درهما، وإذا ثنيت أو جمعت قلت: " أعطيت وأعطاني الزيدان درهما "، و " أعطيت وأعطاني الزيدون درهما "،

و " أعطيت وأعطتني الهندات درهما ". وإذا أعملت الأول- على هذا الوجه- قلت: " أعطيت وأعطاني إياه زيدا درهما "، و " أعطيت وأعطياني إياه الزيدين درهما "، و " أعطيت وأعطوني إياه الزيدين درهما "، و " أعطيت وأعطينني إياه الهندات درهما "، ويجوز حذف إياه؛ لأن المفعول يستغنى عنه. وإن كان الفعل متعديا إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما، فسبيله سبيل " أعطيت " الأول إلا في الاقتصار على أحد المفعولين، تقول: " ظنني وظننت زيدا منطلقا إياه "، أعملت الفعل الثاني في " زيد "، و " منطلق "، وجعلت في الفعل الأول ضمير " زيد " وهو الفاعل، والنون والياء هما المفعول الأول من مفعولي الظن، وأنت مضطر إلى ذكر الثاني؛ لأنه لا يقتصر على أحد المفعولين فجئت به في آخر الكلام. وهو ضمير " منطلق " بعد أن جرى ذكره، ولا يجوز أن تضمر قبل ذكره؛ لأن المفعول لا يضمر قبل الذكر، وكل ما تعلق بالفعل الأول فلا يجوز أن تذكره بعد الفعل الثاني حتى يتم فاعله ومفعوله. ولو ثنيت أو جمعت- على هذا الوجه- لم يجز؛ لأنك لو أخرته لقلت: " ظناني وظننت أخويك منطلقين إياه وإياهما " وكلاهما فاسد، وذلك أنك إذا قلت: إياه فقد جعلت ضميرا واحدا، وإذا قلت: إياهما فأضمرت المنطلقين، فقد جعلت المتكلم اثنين وهما واحد، وعلى هذا قياس جميع هذا الباب، فيما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل. وكان الكسائي إذا أعمل الفعل الثاني في الفاعل، أعرى الفعل الأول من الفاعل، ولم يجعل فيه ضميرا له. وكان الفراء لا يضمر الفاعل قبل ذكره في شيء من هذه الأفعال التي ذكرنا، فأما الكسائي فإنه يقال للمحتج عنه، أخبرنا عن هذا الفعل، أتنوي فاعله أو لا تنويه؟ فإن قال: لا أنويه فقد أحال؛ لأن الفعل لا يتصور بغير فاعل، وإن قال: أنويه قلنا: فإذا كنت تنويه قبل أن تذكره لحاجة الفعل إليه، فلم لا تأتي بالعلامة التي تكون لما ينوى من الفاعلين؟ وأما الفراء فإن قوله مخالف لكلام العرب؛ لأن الرواة قد أنشدوا قول طفيل الغنوي:

وكمتا مدمّاة كأنّ متونها … جرى فوقها واستشعرت لون مذهب (¬1) فنصب " لونا " باستشعرت، وجعل في " جرى " ضمير فاعل، كأنه قال: جرى فوقها لون مذهب، واستشعرت لون مذهب مع ما حكاه البصريون من قول العرب: " ضربني وضربت زيدا "، واختيارهم لإعمال الفعل الثاني، وإذا أعملوا الفعل الثاني جعلوا في الأول ضمير فاعل. قال سيبويه: مفسرا لترجمة الباب: (وهو قولك: " ضربت وضربني زيد " و " ضربني وضرب زيدا "، فحمل الاسم على الفعل الذي يليه). قال أبو سعيد: يعني أنك تعمل الفعل الثاني وهو الاختيار عنده. وقد ذكرناه. قال سيبويه: (والعامل في اللفظ أحد الفعلين، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع، إلا أنه لا يعمل في اسم واحد رفعا ونصبا). يعني العامل في الاسم الظاهر هو أحد الفعلين، كأنا إذا قلنا: " ضربت وضربني زيد "، فالعامل في " زيد " هو " ضربني "، وقد علم أن " ضربت " له مفعول مثل " ضربني " وإن لم يذكر، وكذلك إذا قلت: " ضربني وضربت زيدا " فالعامل في " زيد " هو " ضربت "، وفاعل " ضربني " ضمير زيد، وإن لم تظهره، فقد علم أن الفعل الأول كالفعل الثاني في وصوله إلى الفاعل والمفعول. ولا يجوز أن يكون الفعل الأول والثاني يعملان في الاسم الظاهر؛ لأن الفعل الأول يوجب نصبه، والثاني يوجب رفعه، أو الأول يوجب رفعه والثاني يوجب نصبه، ومحال أن يكون الاسم مرفوعا منصوبا. وقد زعم الفراء أنا إذا قلنا: " قام أو قعد زيد "، فالعامل في " زيد " الفعلان جميعا. وهذا غير جائز؛ لأنهما لو كانا عاملين في " زيد " جاز أن يبدل من أحدهما ما يوجب نصب " زيد "، فتقول: " ضربت أو ضربني زيد "، فيكونان جميعا عاملين في " زيد " وهذا فاسد. قال سيبويه: (وإنما كان الذي يليه أولى؛ لقرب جواره، وأنه لا ينقض معنى، وأن المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع " بزيد "). ¬

_ (¬1) ديوانه: 7، المقتضب 44/ 75، أساس البلاغة: 237.

يعني: أن الاختيار إعمال الثاني؛ لأنه لا فرق في المعنى بين إعمال الأول والثاني، ونحن نكتسب بإعمال الثاني حمل الشيء على ما يقرب منه ويجاوره، والعرب تختار حمل الشيء على ما يقرب منه، وقد بينا هذا. قال سيبويه: (كما أن " خشّنت بصدره وصدر زيد "، وجه الكلام، حيث كان الجر في الأول، وكانت الباء أقرب إلى الاسم من الفعل، ولا تنقض معنى سوّوا بينهما في الجر كما يستويان في النصب). قال أبو سعيد يعني: أن قولنا: " خشنت بصدره وصدر زيد "، أجود من " خشنت بصدره وصدر زيد " وكلاهما جائز؛ لأنك إذا جررت حملته على مجرور يجاوره لفظا، وإذا نصبت حملته على المعنى، كأنك قلت: " خشنت صدره وصدر زيد " وحمله على اللفظ أجود؛ لأنه معه وإلى جنبه، فكذلك الأول حمله على ما يقاربه ويجاوره أجود. ولا فرق بين النصب والجر في " خشنت " فلما لم يكن فرق كان مطابقة اللفظ أولى بالاختيار، كما أنهم لو نزعوا الباء لسوّوا بين الأول والثاني في النصب، وقالوا: " خشنت صدره وصدر زيد ". قال سيبويه: (ومما يقوى ترك نحو هذا لعلم الخاطب، قوله تعالى: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (¬1). أراد و " الحافظاتها " والذاكرين الله كثيرا والذاكراته. فترك مفعول الثاني لعلم المخاطب بذلك والاكتفاء بالأول لو كان منصوبا. وكذلك قوله: (" ونخلع ونترك من يفجرك "). فلو كان منصوبا ب " نخلع " كان الاختيار أن يقول: ونخلع ونتركه من يفجرك، ونصبه ب " نخلع " جائز أيضا، فقد ترك إما مفعول " نخلع " وإما مفعول " نترك " اكتفاء بعلم المخاطب. قال سيبويه: (وقد جاء في الشعر من الاستغناء أشد من هذا، وذلك قول قيس بن الخطيم: ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية: 35.

نحن بما عندنا، وأنت بما … عندك راض والرأي مختلف (¬1) أراد: نحن بما عندنا راضون. ومثله قول ضابئ البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله … فإنّي وقيّارا بها لغريب (¬2) فجاء بخبر أحدهما. وقال ابن أحمر: رماني بأمر كنت منه ووالدي … بريئا ومن أجل الطّوي رماني (¬3) ويروى: ومن جول الطوى. وحق الكلام أن يقول: بريئين فهذه الأبيات أشد مما ذكر؛ وذلك أنه حذف خبر الاسم الذي لا بد له منه اكتفاء بخبر الاسم الأخير، وما ذكرناه فإنما حذف منه المفعول المستغنى عنه، وحذف الخبر أشد من حذف المفعول. فأما قول ضابئ البرجمي: " وإني وقيارا بها لغريب "، فيجوز أن يكون " لغريب " خبرا للنون والياء وخبر " قيار " محذوفا. ويجوز أن يكون خبرا " لقيار "، وخبر " إني " محذوف. وكذلك بيت ابن أحمر، يجوز أن يكون خبرا " للقاء " في " كنت "، ويجوز أن يكون خبرا " لوالدي ". ومن روى: ومن أجل الطّوي رماني يعني بسبب الطّويّ، والطويّ: البئر. وإنما كان بينهما مشاجرة في بئر، فبهته بسبب ما كان بينهما من المشاجرة، وقذفه بما لم يكن فيه. ومن قال: " ومن جول الطوي رماني " أراد: ما رماني به رجع عليه؛ لأن من رمى من بئر رجع عليه ما رمي. قال سيبويه بعد هذه الأبيات: (فوضع في موضع الخبر لفظ الواحد؛ لأنه قد علم أن المخاطب سيستدل به، والأول أجود). يعني: أنه جاء بخبر واحد، وقد ذكر أكثر من واحد، فحذف الخبر اكتفاء بما ذكر والأول أجود، يعني: حذف المفعول من الفعل الذي ذكره أجود. ¬

_ (¬1) أمالي ابن الشجري 1/ 296 - شرح ابن عقيل ص 125. (¬2) الخزانة 4/ 81 - الكامل للمبرد 1/ 218 - الدرر اللوامع 2/ 200، 210. (¬3) الأعلم 1/ 38، سيبويه 1/ 38.

(لأنه لم يضع واحدا في موضع جمع، ولا جمعا في موضع واحد. قال: ومثله قول الفرزدق:) يعني: مثله الاكتفاء بخبر واحد عن خبر جماعة: إني ضمنت لمن أتاني ما جنى … وأبى فكان وكنت غير غدور (¬1) ولم يقل: غدورين. واعترض بعض النحويين على سيبويه فقال: " فعيل وفعول " قد يكونان للجماعة والواحد والمذكر والمؤنث، ومن ذلك قولهم: " رجل صديق " و " قوم صديق "، و " رجل خليط "، و " قوم خليط "، و " رجل عدو "، و " قوم عدو " كما قال تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (¬2). قال فيجوز أن يكون " غدور " و " بديء " للاثنين. وهذا الذي ذكرنا يروى عن الزيادي. وهو غير ناقض لما ذكره سيبويه؛ لأنه قد ذكر في أول هذه الأبيات " نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض "، و " راض " لا يصلح إلا لواحد؛ وغرضه أن يبيّن أنه يحذف الخبر اكتفاء بخبر واحد. على أن " فعيل " و " فعول " ليس طريقهما في كل موضع أن يكونا للجميع والواحد؛ ألا ترى أنك تقول: " رجل كريم "، و " رجلان كريمان "، و " رجل ظريف " و " رجلان ظريفان "، وما سمع " رجلان ظريف "، وكذلك " رجل صبور "، و " رجلان صبوران "، ولم نسمع: " رجلان صبور ". قال سيبويه: (ولو لم تحمل الكلام على الآخر لقلت: " ضربت وضربوني قومك "، وإنما كلامهم: " ضربت وضربني قومك "). يعني: إذا أعملت الأول قلت: " ضربت وضربوني قومك "؛ لأن تقديره: ضربت قومك وضربوني. والوجه " ضربت وضربوني قومك " على إعمال الثاني وترك مفعول الفعل الأول. قال سيبويه: (فإذا قلت: " ضربني " لم يكن سبيل إلى الأول؛ لأنك لا تقول: ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق سيبويه 1/ 38، الأعلم 1/ 38، الإنصاف 1/ 95 واللسان (قعد) 4/ 361. (¬2) سورة النساء، آية: 101.

" ضربني " وأنت تجعل المضمر جميعا). يعني إذا قلت: " ضربت وضربني قومك " لا يجوز أن تقول: " ضربت وضربني قومك " وقد أعملت الأول؛ لأنك إذا أعملت الأول في " القوم " وجب أن تضمر في الثاني ضمير جماعة. قال: (ولو أعملت الأول لقلت: " مررت ومرّ بي بزيد "). على تقدير " مررت بزيد ومرّ بي ". (وإنما قبح هذا؛ لأنهم جعلوا الأقرب أولى إذا لم ينقض معنى). يعني أن قولك: " مررت ومرّ بي زيد " أجود؛ لأن " زيدا " أقرب إلى الفعل الثاني. قال الفرزدق في إعمال الثاني: ولكنّ نصفا لو سببت وسبنّي … بنو عبد شمس من مناف وهاشم (¬1) ولو أعمل الأول في غير الشعر لقال: " سببت وسبّوني بني عبد شمس ". قال طفيل الغنوي: وكمتا مدمّاة كأنّ متونها … جرى فوقها واستشعرت لون مذهب أعمل " استشعرت " ولو أعمل الأول، وهو " جرى " لقال: لون مذهب وقال رجل من باهلة: ولقد أرى تغني به سيفانة … تصبي الحليم ومثلها أصباه (¬2) قال: أعمل " تغني "، ولو أعمل " أرى " لقال " سيفانة ". والسيفانة: المهفهفة الممشوقة، ومثلها أصباه يعني: مثل السيفانة أصبى الحليم. وقال: (فالفعل الأول في كل هذا معمل في المعنى وغير معمل في اللفظ والآخر معمل في اللفظ والمعنى). قال سيبويه: (فإن قلت: " ضربت وضربوني قومك " نصبت إلا في قول من قال: " أكلوني البراغيث "). والاختيار: " ضربت وضربني قومك " عند البصريين؛ تعمل الثاني في " القوم "، وإذا ¬

_ (¬1) ديوان الفرزدق 844، المقتضب 4/ 74، ابن يعيش 11/ 78، (¬2) سيبويه 1/ 39 - الأعلم 1/ 39، الإنصاف 1/ 89، المقتضب 4/ 75.

أعملت الثاني فيهم أفردت الفعل، وإن جمعت الفعل الثاني فقلت: " ضربوني " كان على وجهين: أحدهما: أن تنصب " قومك بالفعل الأول وتضمر " هم " في الفعل الثاني؛ كأنك قلت: " ضربت قومك وضربوني " وهذا هو المختار من الوجهين. والوجه الثاني: أن ترفع " قومك " فقلت: " ضربت وضربوني قومك " فإذا فعلت هذا كان فيه وجهان: أحدهما: أن تجعل " الواو " في " ضربوني " علامة للجمع لا ضميرا على لغة من يقول: " قاما أخواك " و " ضربوني إخوتك "، و " أكلوني البراغيث ". والوجه الثاني: أن تجعل " الواو " ضمير الفاعلين وتجعل " القوم " بدلا منهم، وجاز أن تضمر قبل الذكر على شرط التفسير، وهذا معنى قول سيبويه: (أو تحمله على البدل فتجعله بدلا من المضمر كأنه قال: " ضربت وضربني ناس بنو فلان "). قال: (وعلى هذا الحد تقول: " ضربت وضربني عبد الله " تضمر في " ضربني " كما أضمرت في " ضربوني "). يعني أنك إذا قلت: " ضربت وضربني عبد الله " جاز أن يكون في ضربني ضمير فاعل، أضمرته قبل الذكر على شرط التفسير؛ على أنه لا يظهر في اللفظ لأن كناية الفاعل الواحد في الفعل لا تظهر. قال: (فإن قلت: " ضربني وضربتهم قومك " رفعت؛ لأنك شغلت الآخر فأضمرت فيه، كأنك قلت: " ضربني قومك وضربتهم " على التقديم والتأخير). يعني أنك إذا قلت: " ضربني وضربتهم قومك " فوحّدت الفعل الأول، فالاختيار أن ترفع " القوم " به؛ لأنك لو لم ترفعهم به لوجب أن تضمر ضمير جماعة في الفعل الأول؛ لأن الفعل الأول لجماعة فيكون تقديره: " ضربني قومك وضربتهم ". وقال: (إلا أن تجعل " ها هنا البدل كما جعلته في الرفع، فإن فعلت ذلك لم يكن بد من " ضربوني " لأنك تضمر فيه الجمع). يعني أنك إذا نصبت " قومك " فجعلتهم بدلا من الهاء والميم في " ضربتهم " وجب أن تأتي بفاعل الفعل الأول وهم جماعة؛ فتأتي لهم بضمير الجماعة على شرط التفسير.

قال عمر بن أبي ربيعة: إذا هي لم تستك بعود أراكة … تنحّل، فاستاكت به عود إسحل (¬1) أراد: تنحّل عود إسحل، فاستاكت به، فأعمل الفعل الأول، والشاهد إنما هو إعمال الفعل الأول. قال المرار الأسدي: فردّ على الفؤاد هوّى عميدا … وسوئل لو يبين لنا السؤالا وقد نغنى به ونرى عصورا … بها يقتدننا الخرد الخدالا أراد: ونرى الخرد الخدال بها يقتدننا في عصور: فالعصور: ظرف، وأعمل الفعل الأول في الخرد، وهو " نرى "، ولو أعمل الفعل الثاني لقال: ونرى عصورا بها يقتادنا الخرد الخدال. قال: (وإذا قلت: " ضربوني وضربتهم قومك " جعلت " يقوم " بدلا من " هم "؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل ها هنا جماعة، وضمير الجماعة الواو. وكذلك تقول: " ضربوني وضربت قومك "، إذا أعملت الآخر فلا بدّ في الأول من ضمير الفاعل، لأن الفعل لا يخلو من فاعل). قال أبو سعيد: يعني أنك إذا أعملت الفعل الثاني في القوم، فلا بد من أن تأتي بالواو التي هي ضمير " هم " في الفعل الأول؛ لأنهم فاعلون للفعل الأول وهم جماعة فعلا متهم الواو. قال سيبويه: (وإنما قلت: " ضربت وضربني قومك " فلم يجعل في الأول الهاء والميم؛ لأن الفعل قد يكون بغير مفعول، ولا يكون الفعل بغير فاعل). يعني أنك إذا أعملت الفعل الثاني في القوم، وهم الفاعلون له، وقد وقع بهم الفعل الأول، لم يحتج إلى ضمير لهم في الفعل الأول؛ لأن الفعل قد يكون بلا مفعول؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول " أكلت " ولا تذكر المأكول، ولا تقول " أكل " من غير أن تذكر الأكل. قال (وأما لقول امرئ القيس: ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 40، ديوان عمر بن أبي ربيعة 490، الأعلم 1/ 40.

فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة … كفاني ولم أطلب قليل من المال (¬1) فإنما رفع؛ لأنه لم يجعل القليل مطلوبا، وإنما كان المطلوب عنده الملك، وجعل القليل كافيا، ولو لم يرد ذلك ونصب، فسد المعنى). يعني أنه رفع قليلا و " كفاني " ولم ينصبه ب " أطلب "؛ لأن امرأ القيس إنما أراد: لو سعيت لمنزلة دنيئة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك. وعلى ذلك معنى الكلام؛ لأنه قال في البيت الثاني: ولكنما أسعى لمجد موثّل … وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي (¬2) ولو نصب بأطلب لاستحال المعنى، وذلك أن قوله: " فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة "، يوجب أنه لم يسع لها؛ ألا ترى أنك تقول: " لو لقيت زيدا " لوجب أنك لم تلقه. فإذا قلت: " لو لقيت زيدا ... لم يقصر " يوجب أنك تلقه، وأنه قد قصّر بسبب أنك لم تلقه. فإذا كان المعنى كذلك، وجب متى نصبنا " قليلا " ب " أطلب " أن يكون معناه: لو سعيت لمعيشة دنيئة لم أطلب قليلا من المال، فنفيت أنك سعيت لمعيشة دنيئة، وأوجبت أنك طلبت قليلا من المال. لأنك نفيت أنك لم تطلب قليلا من المال؛ لأن جواب " لو " منفي، كما أن الفعل بعدها منفي، وذلك متناقض. قال سيبويه: (وقد يجوز: " ضربت وضربني زيدا "؛ لأن بعضهم قد يقول: " متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا "). يعني: أن إعمال الفعل الأول جائز، كما أن الذي قال: " متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا " أعمل. " رأيت ". قال: (والوجه: متى رأيت أو قلت زيد منطلق). فيحكي ويعتمد على " قلت " لأنه الفعل الثاني. قال: (ومثل ذلك في الجواز: " ضربني وضربت قومك "، والوجه أن تقول: " ضربوني وضربت قومك " فتحمله على الآخر). ¬

_ (¬1) الديوان 39، الخزانة 1/ 158، الدرر اللوامع 2/ 144، الأعلم 1/ 41. (¬2) المصدر السابق.

يعني: أن " ضربوني وضربت قومك " قد أعملت فيه الفعل الآخر، فهو أجود من: " ضربني وضربت قومك "؛ لأنك قد أعملت فيه الفعل الأول. قال: (وإن قلت: " ضربني وضربت قومك " فجائز، وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول: " هذا أجمل الفتيان "، و " أحسن وأكرم بنيه وأنبله "). يعني: أنك إذا وحّدت الفعل الأول، وأعملت الفعل الثاني في مفعولين، وقد علمت أن فاعل الفعل الأول جماعة، والفعل لا بد له من فاعل، فالضرورة تحوجك إلى أن تضمر في الفعل الأول ضميرا واحدا في معنى جمع، حتى لا معرّي الفعل من فاعل فيكون تقديره: " ضربني من ثم "، أو " ضربني جمع "، " فمن ثم " و " جمع " إذا قدرته، لفظه لفظ الواحد، ومعناه جماعة. قال: وهذا وإن كان قبيحا؛ لأنا نقول: " هذا أجمل الفتيان، وأحسنه، وأكرم بنيه، وأنبله " وإنما تريد: أحسنهم، وأجملهم. قال: (ولا بد من هذا؛ لأنه لا يخلو الفعل من فاعل مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء؛ كأنك قلت: إذا مثّلته: " ضربني من ثم "، و " ضربت قومك "). يريد: أنه لا بد لك من فاعل مقدر في الفعل الأول، وإن أفردناه. قال سيبويه: (وترك ذلك أحسن وأجود للبيان الذي يجيء بعده). قال أبو سعيد: في هذا وجهان: أحدهما: ما قاله بعض أصحابنا أن شيئا من الكلام قد سقط، وأن تمامه. وترك ذلك جائز، وذكره أجود، وأحسن للبيان الذي يجيء بعده. يعني: وترك ضمير الجماعة جائز، وإبانة ضميرهم أجود لذكر الجماعة التي تأتي بعده. والوجه الثاني: أن قوله: (وترك ذلك أجود). يريد: وترك إضمار الواحد في معنى الجماعة أجود بسبب ذكر الجماعة التي تأتي من بعد. ثم قال: (وأضمر " من " لذلك. وهو رديء في القياس، فدخل فيه أن تقول: " أصحابك جلس " تضمر شيئا يكون في اللفظ واحدا). يعني: أن إضمار " من " الذي هو مفرد في معنى الجماعة رديء؛ لأنك إذا ألزمت هذا القياس، وجب عليك أن تقول: " أصحابك جلس " تضمر في " جلس " شيئا يكون بمعنى الجماعة وهذا قبيح جدا.

هذا باب ما يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل قدم أو أخر وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم

قال: (وقولهم: " هو أظرف الفتيان وأجمله " لا يقاس عليه. ألا ترى أنك لو قلت، وأنت تريد الجماعة: " هذا غلام القوم وصاحبه " لم يحسن). يريد أن قولنا: " هذا أظرف الفتيان وأجمله " أجود من " ضربني وضربت قومك "، من قبل أنك تقول: " هذا أظرف فتى "، فيكون بمعنى: أظرف الفتيان، فلما كان الواحد في هذا الموضع يقع موقع الجماعة، جاز أن تضمر بعد الجماعة واحدا وحسن، ولم يحسن في " ضربني وضربت قومك "، إلا أنه مع قبحه جائز. هذا باب ما يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل قدّم أو أخّر وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم قال أبو سعيد: اعلم أن بناء الشيء على الشيء كثيرا ما يدور في كلام سيبويه، ونحن نبينه، حتى تقف عليه من كلامه كلّ ما مرّ بك في موضع من الكتاب. فإذا قال: بنيت الاسم على الفعل، فمعناه: أنك جعلت الفعل عاملا في الاسم، كقولك: " ضرب زيد عمرا "، " فزيد، وعمرو " مبنيان على الفعل. وكذلك لو قلت: " عمرا ضرب زيد "؛ لأن " عمرا " وإن كان مقدما فالنية فيه التأخير، وإذا قال لك: بنيت الفعل على الاسم، فمعناه: أنك جعلت الفعل وما يتصل به خبرا عن الاسم، وجعلت الاسم مبتدأ كقولك: " زيد ضربته "، " فزيد " مبني عليه ضربته و " ضربته " مبني على الاسم. وجملة الأمر: أن الذي حكمه أن يكون مؤخرا مبنيا على ما حكمه أن يكون مقدما، عمل في اللفظ أو لم يعمل، إذا كان أحدهما يحتاج إلى الآخر. وقد ذهب سيبويه إلى أنك إذا قلت: " لو أن عندنا زيدا لأكرمناه "، " أنّ " التي بعد " لو " مبنية على " لو " وإن كانت " لو " غير عاملة فيها، لأن حكم " لو " أن تكون مقدمة على " أنّ " ولا يستغنى عنها. قال سيبويه: (فإذا بنيت الاسم عليه قلت: " ضربت زيدا " وهو الحد؛ لأنك تريد أن تعمله أو تحمل الاسم عليه، كما كان الحد " ضرب زيد عمرا "، حيث كان " زيد " أول ما تشغل به الفعل). قال أبو سعيد: قد ذكر أن المفعول مبني على الفعل وقوله: وهو الحد. يعني: تأخر المفعول هو الأصل والوجه.

وقوله: (لأنك تريد أن تعمله وتحمل الاسم عليه). يريد: لأنك تريد أن تعمل الفعل، وتجعله صدر الكلام في النية، وتعمله في الاسم، وتحمل الاسم عليه. وقوله: (كما كان الحد ضرب زيد عمرا). يعني: أن الحد تأخير " زيد " في " ضربت زيدا " مع الفاعل المكني وهو التاء كما كان الحد تأخير المفعول مع الفاعل الظاهر. قال: (وإن قدمت الاسم، فهو عربي جيد، كما كان ذلك عربيا جيدا، وذلك قولك: " زيدا ضربت "). يعني أن " زيدا ضربت " بمنزلة " زيدا ضرب عمرو "، ولا فرق بين الفاعل الظاهر والمكني. قال: (والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء، مثله في " ضرب زيد عمر " و " ضرب زيدا عمرو "). يعني: أن المكني والظاهر الفاعلين سواء في باب تقديم المفعول وتأخيره، فإن كانت العناية بالمفعول فيهما أشد، قدمت المفعول، وإن كانت العناية بالفاعل أشد قدمت الفاعل، وقد ذكرنا نحو هذا. قال: (فإذا بنيت الفعل على الاسم قلت: " زيد ضربته " فلزمته الهاء). يعني: أنك إذا جعلت " زيدا " هو الأول في الرتبة، فلا بد من أن ترفعه بالابتداء، فإذا رفعته بالابتداء فلا بد من أن يكون في الجملة التي بعده ضمير يعود إليه، وتكون هذه الجملة مبنية على المبتدأ، كأنك قلت: " زيد مضروب ". قال: (فإنما قلت: " عبد الله " فنبهته له ثم بنيت عليه الفعل، فرفعته بالابتداء). يعني: ابتدأت ب " عبد الله "، فنبّهت المخاطب له فانتظر الخبر عنه فأخبرت بالجملة التي بعده. قال: (ومثل ذلك قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (¬1). يعني: أن " ثمود " مبتدأ، و " فهديناهم " في موضع الخبر مبني عليه وفيه ضمير يعود ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 17.

إليه. قال: (وإنما حسن أن يبني الفعل على الاسم حيث كان معملا في الضمير). يعني أن " ضربته " إنما بني على " زيد "؛ لأنه قد عمل في ضميره، ولولا ذلك لم يحسن إلا أن تنصب " زيدا "، إلا أنك لو حذفت هذا الضمير، وأنت تريده جاز على قول البصريين، ولم يحسن فقلت: " زيد ضربت " على معنى " ضربته ". قال: (وإن شئت قلت: " زيدا ضربته " وإنما نصبته على إضمار فعل هذا تفسيره). يعني أنك إذا قلت: " زيدا ضربته " فتقديره " ضربت زيدا ضربته "، وحذفت الفعل الأول اكتفاء بتفسير الثاني له، والدليل على أنه ينتصب بالفعل الأول: أنك قد تقول: " أزيدا مررت به "، فتنصبه ولو لم يكن فعل مضمر يعمل فيه النصب لما جاز نصبه بهذا الفعل؛ لأن " مررت " لا يتعدى إلا بحرف جر. فإذا قلت: " زيدا ضربته " لم يحسن إظهار الفعل الناصب لزيد مع الفعل المفسّر له، لا تقول: " ضربت زيدا ضربته " فتجمع فيهما؛ لأن أحدهما يكفيك من الآخر. قال: (ومثل ذلك ترك إظهار الفعل ها هنا، ترك الإظهار في الموضع الذي تقدم فيه الإضمار). يعني: أن ترك إظهار الفعل المضمر في " زيدا ضربته " مع مجيء التفسير بمنزلة قولك: " نعم رجلا زيد " وتقديره " نعم الرجل رجل زيد "، أضمر الرجل في " نعم "؛ لأن " نعم " فعل، ولا بد له من فاعل و " رجلا " تفسير له، ولا يجوز أن يجمع بينهما فنقول: " نعم الرجل رجلا ". قال: (وقد قرأ بعضهم: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬1). وأنشدوا هذا البيت على وجهين: على الرفع والنصب. قال بشر بن أبي خازم: فأمّا تميم تميم بن مرّ … فألفاهم القوم روبى نياما) (¬2) وقد مرّ وجه النصب والرفع، غير أن النصب في " أما " بإضمار فعل مقدر بعد ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الديوان 190، الأعلم 1/ 42، آمالي ابن الشجري 2/ 348.

الاسم كأنه قال: " فأما ثمود فهدينا فهديناهم ". قال: (ومثله قول ذي الرمة: إذا ابن أبي ليلى بلالا بلغته … فقام بفأس بين وصليك جازر (¬1) فالنصب عربي كثير والرفع أجود). أراد: النصب عربي كثير في " زيدا ضربته "، والرفع أجود؛ لأنك إذا رفعت لم تحتج إلى إضمار شيء، وإذا نصبت أضمرت فعلا، وأنت لو أردت إعمال الفعل في الاسم كان يمكنك أن تحذف الضمير الذي في الفعل، وتصل إلى الاسم، ولم يكن يحتاج إلى هذا التأويل البعيد. وأما قول ذي الرّمة؛ فإن الاختيار فيه النصب؛ لأن " إذا " فيها معنى المجازاة، فهي بالفعل أولى. فإذا كانت بالفعل أولى، كان إضمار الفعل الذي ينصبه أجود. وقوله " فقام بفأس " هو دعاء، ولو لم يكن دعاء لما جاز دخول الفاء، تقول: " إن أتاني زيد أتيته "، ولا يجوز " إن أتاني زيد فأتيته "، وتقول: " إن أتاني زيد فأحسن الله جزاءه "؛ لأن فيه دعاء. والرفع فيما بعد " أما " أجود؛ لأن ما بعد " أمّا " مبتدأ؛ لأنها من حروف الاستئناف. قال: (ومثل ذلك " زيدا أعطيت "، و " أعطيت زيدا "، و " زيد أعطيته "؛ لأن " أعطيت " بمنزلة " ضربت " وقد بيّن المفعول الذي هو بمنزلة الفاعل في أول الكتاب). يعني: أن " أعطى عمرو زيدا " بمنزلة " ضرب عمرو زيدا " في مجازي إعرابهما وعمل الفعل فيهما، فتقديم المنصوب على " أعطى " كتقديمه على " ضرب ". قال: (فإن قلت: " زيد مررت به "، فهو من النصب أبعد من ذلك؛ لأن المضمر قد خرج من الفعل، وأضيف الفعل إليه بالباء، ولم يوصل إليه الفعل في اللفظ، فصار كقولك: " زيد لقيت أخاه "). يعني أنك إذا ابتدأت الاسم وجئت بالفعل فيتعدى إلى ضميره بحرف جر، كان الرفع فيه أقوى، والنصب منه أبعد؛ لأنك إذا قلت: " زيدا مررت به " فتنصبه، أضمرت ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة الديوان 253 / الخزانة 1/ 450 / الخصائص 2/ 380.

فعلا على غير لفظ الظاهر؛ كأنك قلت: " لقيت زيدا أو جزت زيدا ". فإذا قلت: " زيدا ضربته "، أضمرت فعلا من لفظه، كأنك قلت: " ضربت زيدا ضربته "، فيكون الظاهر دالا على مثل لفظه ومعناه، وفي الوجه الأول يكون الظاهر دالا على مثل معناه دون لفظه، وما اجتمع فيه اللفظ والمعنى كان أقوى في الدلالة، ومثل الوجه الأول: " زيد لقيت أخاه "؛ لأنك لو نصبته لأضمرت فعلا على خلاف لفظ الظاهر، كأنك قلت: " لا بست زيدا لقيت أخاه " وكل ما دل على المعنى واللفظ كان أقوى في النصب. قال: (وإن شئت قلت: " زيدا مررت به "، تريد أن تفسّر به مضمرا، كأنك قلت إذا مثّلت ذلك " جعلت زيدا على طريقي مررت به "). و" جعلت زيدا على طريقي " بمنزلة إضمار " جزت "، ولكنه لا يظهر هذا الفعل الأول؛ لما ذكرت لك. يعني: الفعل المضمر لا يظهر مع التفسير. قال: (وإذا قلت: " زيد لقيت أخاه "، فهو كذلك، وإن شئت نصبت؛ لأنه إذا وقع على شيء من سببه فكأنه قد وقع به). يعني: " زيدا لقيت أخاه " لما نصبت الأخ جاز أن تضمر فعلا ينصبه لأن وقوع الفعل بسببه كوقوعه بضميره. قال: (والدليل على ذلك أن الرجل يقول: " أهنت زيدا بإهانتك أخاه، وأكرمته بإكرامك أخاه، وهذا النحو كثير في الكلام، يقول الرجل: " إنما أعطيت زيدا " وإنما يريد لمكان زيد أعطيت فلانا، وإذا نصبت " زيدا لقيت أخاه "، فكأنه قال: لا بست زيدا لقيت أخاه، وهذا تمثيل ولا يتكلم به، فجرى هذا على ما جرى عليه قولك: " أكرمت زيدا "، وإنما وصلت الإكرام إلى غيره). يعني: أن نصب " زيد " بوقوع الفعل على سببه بمنزلة " أكرمت زيدا "، وإن كان الإكرام وصل إلى غيره بسببه. (والرفع في هذا أحسن وأجود؛ لأن أقرب إلى ذلك أن تقول: " مررت بزيد "، و " لقيت أخا عمرو "). يعني: أن الرفع في " زيد " في " زيد مررت به "، و " عمرو لقيت أخاه "، أجود؛ لأنك لو أردت إعمال الفعل، لأعملت هذا الظاهر في " زيد " فقلت: " مررت بزيد " و " لقيت أخاه ".

هذا باب ما يجري مما يكون ظرفا هذا المجرى

قال سيبويه: (ومثل هذا في البناء على الفعل، وبناء الفعل عليه " أيهم " وذلك قولك: " أيهم تره يأتك " و " أيهم تر يأتك " والنصب على ما ذكرت لك؛ لأنه كأنه قال: أيهم تر تره يأتك، فقولهم: " أيهم تره يأتك " مثل " زيد " في هذا، وقد يفارقه في أشياء كثيرة، ستبين إن شاء الله تعالى). قال أبو سعيد: يعني: أنك إذا قلت: " أيهم تر يأتك "، نصبت " أيهم " ب " تر "، كما تقول: " زيدا ضربت " وإذا قلت: " أيهم تره يأتك "، فشغلت الفعل بضميره، كان الاختيار الرفع، كما كان في قولك: " زيد ضربته " ويجوز فيه النصب بإضمار فعل، كأنك قلت: " أيهم تر تره يأتك "، تقدر الفعل بعده؛ لأن " أيا " في الاستفهام والمجازاة لا تقع إلا صدرا. ف " أي " في باب النصب والرفع واختيار أحدهما على الآخر بمنزلة " زيد ". وهو يفارق " زيدا " في أشياء لأنها تكون استفهاما، وتكون مجازاة، وتكون بمعنى الذي، وليس في " زيد " شيء من ذلك. هذا باب ما يجري مما يكون ظرفا هذا المجرى وذلك قولك: (" يوم الجمعة ألقاك فيه "، وأقلّ يوم لا ألقاك فيه و " أقل يوم لا أصوم فيه "، و " خطيئة يوم لا أصيد فيه "، و " مكانك قمت فيه "، وصارت هذه الأحرف ترتفع بالابتداء كارتفاع " عبد الله "، وصار ما بعدها مبنيا عليها كبناء الفعل على الاسم الأول). قال أبو سعيد: اعلم أن الظروف على ضربين: ضرب يكون اسما وظرفا وهو الظرف المتمكن. وضرب لا يكون اسما وهو الظرف الذي لا يتمكن. فأما الضرب الذي يكون اسما وظرفا، فهو ما يكون مرفوعا في حال ومجرورا في حال ومنصوبا في حال على غير معنى الظرف، وهذا هو تمكنه، وكونه اسما؛ لأنه يصير بمنزلة " زيد، وعمرو "، وهو نحو " اليوم، والليلة، والشهر، والمكان " وما أشبه ذلك. فأما الظرف الذي لا يتمكن، فهو ما يمتنع من الرفع ولا يكون فاعلا، ولا مبتدأ، كقولك: " عندك، وقبلك، وبعدك "، ألا ترى أنك لا تقول: " عندك واسع "، ولا " قبلك يوم الجمعة "، كما تقول: " وكأنك واسع "، ولاستقصاء الفصل بين الظروف المتمكنة وغير المتمكنة موضع غير هذا.

فإذا كان الظرف متمكنا، وشغلت الفعل الناصب له بضميره عنه، رفعته كما ترفع " زيدا "، إذا شغلت الناصب له عنه فقلت: " يوم الجمعة ألقاك فيه " كما تقول: " زيد أضربه "، " وعمرو أتكلم فيه ". واعلم أن الظروف المتمكنة إذا نصبت كان لك في نصبها وجهان: أحدهما: أن تنصبها من طريق الظرف، فيكون مقدرا ل " في " وإن كانت محذوفة، ألا ترى أنك لمّا حذفتها وصل الفعل فنصب. والوجه الثاني: أن تقدر وصول الفعل إليها بلا تقدير " في ". وهذا هو المفعول على سعة الكلام. فإذا شغلت الفعل عنه وقد قدرته تقدير الظرف قلت: " يوم الجمعة قمت فيه "، وإن كان بتقدير المفعول على سعة الكلام، أضمرت من غير " في "، كقولك: " يوم الجمعة ألقاكه "، و " مكانكم قمته ". قال الشاعر: ويوم شهدناه سليما وعامرا … قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (¬1) أراد: شهدنا فيه. وجعله مفعولا على سعة الكلام. قال سيبويه: بعد الفصل الأول: (فكأنك قلت: " يوم الجمعة مبارك " و " مكانك حسن " وصار الفعل). الذي هو " ألقاك فيه "، " وقمت فيه ". (في موضع هذا) يعني صار الفعل في موضع الخبر كما أنك إذا قلت: " يوم الجمعة مبارك، ف " مبارك " خبر؛ كما أنك إذا قلت: " زيد ضربته " بمنزلة " زيد منطلق ". (وإنما صار هذا هكذا، حين صار في الآخر إضمار اليوم والمكان). قال أبو سعيد: يعني: حين اشتغل الفعل بضميرهما، فلم يصل إليهما، ورفع بالابتداء، كما رفع " زيد " إذا قلت: " زيد ضربته ". قال: (فخرج من أن يكون ظرفا، كما يخرج إذا قلت: " يوم الجمعة مبارك "). ¬

_ (¬1) البيت لرجل من بني عامر: الأعلم 1/ 90 - الكامل للمبرد 1/ 139 - أمالي ابن الشجري 1/ 60.

يعني: أن قولك: " يوم الجمعة قمت فيه "، بمنزلة " يوم الجمعة مبارك " لأن الفعل لما اشتغل بضميره لم يصلح أن ينتصب بالفعل. قال: (فإذا قلت: " يوم الجمعة صمته "، ف " صمته " في موضع " مبارك "، حيث كان المضمر هو الأول، كما كان المبارك هو الأول). يعني: أنك إذا قلت: " يوم الجمعة صمته "، فجعلت " اليوم " مفعولا على سعة الكلام، جعلت الضمير العائد إليه غير متصل ب " في " وقد مضى هذا. قال: (فيدخل النصب كما دخل في الاسم الأول). يعني: أنك تقول: " يوم الجمعة صمته " على تقدير: " صمت يوم الجمعة صمته " فهو كما تقول: " زيدا ضربته "، على تقدير: ضربت زيدا ضربته. ويجوز " يوم الجمعة آتيك فيه "، على تقدير: " آتيك يوم الجمعة آتيك فيه "، كما تقول: " زيدا تكلمت فيه "، على تقدير: " ذكرت زيدا تكلمت فيه ". قال سيبويه: (كأنك قلت: " ألقاك يوم الجمعة " فنصبته لأنه ظرف، ثم فسّرته فقلت: " ألقاك فيه "، وقدرته: " ألقاك فيه "، وإن شئت نصبته على الفعل نفسه، كما أعمل فيه الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول واحد. وكل ذلك عربي جيد). يعني: أنك إذا قلت: " يوم الجمعة ألقاك فيه " وقدرته: " ألقاك يوم الجمعة ألقاك فيه "، فالفعل المضمر الناصب ليوم الجمعة، إن شئت أعملته فيه من طريق الظرف، وإن شئت أعملته على طريق المفعول على السعة، وقد ذكرنا هذين الوجهين، لأنه يكون ظرفا، وغير ظرف. قال سيبويه: (ولا يحسن في الكلام أن تجعل الفعل مبنيا على الاسم؛ ولا تذكر علامة إضمار الأول، حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول، ومن حال بناء الاسم عليه، وتشغله بغير الأول حتى يمتنع من أن يكون يعمل فيه). يعني: أنك إذا جعلت الاسم مبتدأ، وجعلت الفعل خبرا، والوجه أن يظهر الضمير الذي يعود إلى الاسم، حتى يخرج من لفظ ما يعمل في الأول. يعني أنه قبيح أن تقول: " زيد ضربت "؛ لأن " ضربت " في لفظ ما يعمل في " زيد "؛ لحذفك الضمير في اللفظ، ولا بد من تقديره حتى يصح أن يكون خبرا للاسم الأول، إذ قد جعلت الاسم مبتدأ، ولا يصح أن يكون الفعل خبرا له، حتى يكون فيه ما يعود إليه.

قال سيبويه: (ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام. قال أبو النجم العجلي. قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي … عليّ ذنبا كلّه لم أصنع) (¬1) فهذا ضعيف، وهو بمنزلته في غير الشعر؛ لأن النصب لا يكسر الشعر ولا يخل به. قال: (فترك إضمار الهاء، فكأنه قال: كله غير مصنوع). قال أبو سعيد: يعني أن إضمار الهاء إذا قلت: " زيد ضربت " هو قبيح ومع قبحه هو جائز في الكلام. قال: والدليل على جوازه في الكلام، أن الشاعر لو قال: " كله لم أصنع " لاستقام البيت ولم ينكسر، فلم تدعه الضرورة من جهة الشعر إلى رفعه فعلم بذلك جوازه في غير الشعر. وكان الفراء يجيز " كلهم ضربت "، ولا يجيز " زيد ضربت ". قال: لأن معنى " كلهم ضربت " معنى الجحد، كأنه قال: " ما منهم أحد إلا ضربت ". وليس هذا بحجة؛ لأن كل موجب يتهيأ رده إلى الجحد، فيمكن للقائل أن يقول: " زيد ضربت "، معناه: " ما زيد إلا قد ضربت، وما زيد إلا مضروب ". وقد أنشد سيبويه مع القياس الذي ذكرناه أبياتا منها: (قول امرئ القيس: فأقبلت زحفا على الرّكبتين … فثوب لبست وثوب أجرّ) (¬2) لم يقل أجره ولم ينصب الثوب. (وقال النمر بن تولب: وسمعناه من العرب ينشدونه: فيوم علينا ويوم لنا … ويوم نساء ويوم نسرّ) (¬3) أراد: يوم نساء فيه، أو نساؤه، فأضمر الهاء، ولم ينصب يوم فهو بمنزلة قولك: ¬

_ (¬1) البيت لأبي النجم العجلي الخزانة 1/ 173 - الخصائص 1/ 292، 3/ 61، المغني 1/ 201، 2/ 498 - الدرر اللوامع 1/ 73. (¬2) الديوان 159 ق 29/ 17 - الخزانة 1/ 18 - الأعلم 1/ 44. (¬3) الأعلم 1/ 44 - الصمع 1/ 101 - 2/ 27 - الدرر اللوامع 1/ 7، 2/ 22.

" يوم الجمعة أقوم " على معنى أقوم فيه، وضعف هذا كله مع جوازه؛ لأن الشاعر لو نصب في ذلك كله لم ينكسر الشعر، ولم يختل. قال سيبويه: (زعموا أن بعض العرب يقول: " شهر ثرى " و " شهر ترى " و " شهر مرعى " يريدون: ترى فيه). فرفع " الشهر " ولم يعمل فيه " ترى " للضمير الذي قدره، ومعنى هذا: شهر ثري: أي شهر تبتدئ فيه الأرض من المطر وتثرى. والثرى: هو الندى، وشهر ترى: أي ترى فيه النبات، وشهر مرعى: أي ترعى فيه المال وتأكله. قال الشاعر: ثلاث كلهنّ قتلت عمدا … فأخزى الله رابعة تعود (¬1) على معنى قتلتهن. قال: (فهذا ضعيف، والوجه الأكثر الأعرف: النصب، وإنما شبهوه بقولهم: " الذي رأيت فلان "، حيث لم يذكروا الهاء. وهو في هذا أحسن؛ لأن " رأيت " تمام الاسم، وبه يتم، وليس بخبر ولا صفة، فكرهوا طوله، حيث كان بمنزلة اسم واحد، مكا كرهوا طول " اشهيباب " فقالوا: اشهباب). قال أبو سعيد: اعلم أن حذف الهاء يكون في ثلاثة مواضع: في الصلة، والصفة، والخبر. فالصلة قولك: " الذي رأيت زيد "، في معنى: الذي رأيته. والصفة قولك: " مررت برجل أكرمت " أي أكرمته. والخبر قولك: " زيد أكرمت " في معنى: أكرمته. فأما حذفها في الصلة فحسن، وليس بدون إثباتها، وفي كتاب الله تعالى حذفها وإثباتها، قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا (¬2)، وقال جل اسمه: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ (¬3) أراد تعالى: الذي بنوه. ¬

_ (¬1) البيت من الخمسين التي لم يعرف قائلها: الخزانة 1/ 177 - الأعلم 1/ 44 أمالي ابن الشجري 1/ 326. (¬2) سورة الأعراف، آية: 175. (¬3) سورة التوبة، آية: 110.

وإنما حسن حذفها من الصلة؛ لأن الذي والفعل والفاعل والمفعول جميعا كاسم واحد، وكذا كل موصول يكون هو والصلة كالشيء الواحد، فاستطالوا أن يكون أربعة أشياء كشيء واحد، فحذفوا منها للتخفيف واحدا، فلم يكن سبيل إلى حذف الموصول؛ لأنه هو الاسم، ولا إلى حذف الفعل لأنه الصلة، ولا إلى حذف الفاعل؛ لأن الفعل لا بد له من فاعل، فحذفوا المفعول لأنه كالفضلة في الكلام. وحذف الهاء في الصفة دون حذفها في الصلة، وإثباتها أحسن من حذفها، وذلك لأن الصفة تشبه الصلة من وجه، وتفارقها من وجه. فأما شبهها: فلأن الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، كما أن الصلة والموصول كاسم واحد. وأما مفارقتها لها، فلأن الموصوف يستغني عن الصفة والموصول لا يستغني عن الصلة. وأما الخبر فهو الذي قدمنا ذكره أن حذف الهاء قبيح فيه؛ لأن الخبر غير المخبر عنه، وليس هو معه كشيء واحد، وإنما شبهوه بالذي في الحذف. ومعنى قول سيبويه: (كما كرهوا طول اشهيباب، فقالوا: اشهباب). أراد أن الذي وصلتها كالفاعل والمفعول، لما طالت وهي اسم واحد خففوا منها بحذف المفعول، كما خففوا " اشهيبابا "، فقالوا " اشهباب "؛ لأن " اشهيباب " سبعة أحرف، وهي نهاية ما يكون الاسم عليه مع الزيادة سوى هاء التأنيث، فخففوا منها، وهو مصدر " اشهاب ". قال سيبويه: (وهو في الوصف أمثل منه في الخبر). يعني حذف الهاء. قال: (وهو على ذلك ضعيف ليس كحسنه في الهاء). يعني: في الصفة. قال: (لأنه في موضع ما هو من الاسم، وما يجري عليه، وليس بمنقطع منه خبرا مبنيا عليه ولا مبتدأ، فضارع ما يكون من تمام الاسم، وإن لم يكن تماما له ولا منه في البناء). يعني: لما حسن حذف الهاء بعض الحسن، وإن كان الإثبات أحسن منه؛ لأنه ضارع الصلة، وصار كأنه من الاسم؛ لأن الصفة والموصوف كشيء واحد وليس هو خبرا له، ولا هو مبتدأ.

(فضارع ما يكون من تمام الاسم، وهو الصلة وإن لم يكن تماما له ولا منه في البناء). يعني: وإن لم تكن الصفة تماما للاسم، كما كانت الصلة قال جرير: أبحت حمى تهامة بعد نجد … وما شيء حميت بمستباح (¬1) أراد: حميته، ولا يجوز أن ينصب " شيئا "، ب " حميت "؛ لأنه لو فعل ذلك لوجب أن يقول: " وما شيئا حميت مستباحا "، ويكون " مستباحا " نعتا لشيء، والنعت لا تكون فيه الباء زائدة، وكان ينقلب معنى المدح؛ لأنه كان يصير التقدير: وما حميت شيئا مستباحا أي: حميت شيئا محميا، وليس فيه مدح. (وقال الحارث بن كلدة: وما أدري أغيّرهم تناء … وطول العهد أم مال أصابوا) (¬2) أراد " أصابوه "، والمال هو عطف على تناء، وهو فاعل غيرهم. قال: (ولا سبيل إلى النصب وإن تركت الهاء؛ لأنه وصف). يعني، لا تقول: " شيئا حميت " ولا " ما لا أصابوا ". (كما لم يكن النصب فيما أتممت به الاسم يعني الصلة). يعني كما أنك إذا قلت: " والذي رأيت " لم يصلح أن تعمل " رأيت " في " الذي " لأنه صلة. قال: (فمن ثمّ كان أقوى مما يكون في موضع المبني على المبتدأ؛ لأنه لا ينصب به). يعني فمن ثم كان حذف الهاء في الصفة أقوى منه في الخبر؛ لأن الصفة لا يجوز أن تعمل في الموصوف في هذه المواضع التي ذكر. وأنت إذا قلت: " زيد ضربت " جاز أن تقول: " زيدا ضربت " فتعمله في " زيد "، والمعنى على حاله غير متغير. قال: (وإنما منعهم أن ينصبوا بالفعل الاسم إذا كان صفة له أن الصفة تمام ¬

_ (¬1) البيت لجرير في ديوانه: 99 / الأعلم 1/ 45 / المغني 2/ 503. (¬2) البيت للحارث بن كلدة في ابن يعش 6/ 89، 90، أمالي ابن الشجري 1/ 5.

هذا باب ما يختار فيه إعمال الفعل مما يكون في المبتدإ مبنيا عليه الفعل

الاسم، ألا ترى أن قولك: " مررت بزيد الأحمر " كقولك: " مررت بزيد " وذلك أنك " لو احتجت إلى أن تنعته فقلت: " مررت بزيد " وأنت تريد " الأحمر "، وهو لا يعرف حتى تقول: " الأحمر " لم يكن تم الاسم، فهو يجري منعوتا مجرى " مررت بزيد " إذا كان يعرف وحده، فصار " الأحمر " كأنه من صلته). يريك أنك إذا قلت: " مررت بزيد " فعرفه المخاطب اكتفيت به، وإذا لم يعرفه من بين " الزيدين " حتى يقول " الأحمر ". صار " زيد الأحمر " في معرفة المخاطب به بعينه " كزيد " إذا عرفه مفردا، فالصفة والموصوف كشيء واحد. هذا باب ما يختار فيه إعمال الفعل مما يكون في المبتدإ مبنيا عليه الفعل وذلك قولك: " رأيت زيدا وعمرا كلمته "، و " رأيت عبد الله وزيدا مررت به "، و " لقيت زيدا وبكرا أخذت أباه " و " لقيت بكرا وخالدا اشتريت له ثوبا ". قال أبو سعيد: اعلم أن العرب إذا ذكرت جملة كلام، اختارت مطابقة الألفاظ ما لم تفسد عليها المعاني، فإذا جئت بجملة صدرتها بفعل، ثم جئت بجملة أخرى، فعطفتها على الجملة الأولى، وفيها فعل كان الاختيار أن تصدر الفعل في الجملة الثانية لتكون مطابقة للجملة الأولى في اللفظ وتصدير الفعل. فإذا قلت: " رأيت عبد الله وزيدا مررت به "، قدرت فعلا ينصب " زيدا "، كأنك قلت: " رأيت عبد الله، ولقيت زيدا مررت به "، قدرت فعلا ينصب " زيدا "؛ لتكون الجملة الثانية مطابقة للجملة الأولى في تصدير الفعل وتقديمه، وسواء ذكرت في الفعل الأول منصوبا أو لم تذكره، كقولك: " قام عبد الله وزيدا كلمته "، على تقدير: وكلمت زيدا كلمته؛ لأن الغرض أن يجمع بين الجملتين في تقديم الفعل، لا في لفظ النصب أو غيره. ولسيبويه في هذا المعنى احتجاج يأتي من بعد. ويجوز ألا تحمل الجملة الثانية على الفعل، ولكنك تجعله خبرا ومبتدأ، فتقول: " رأيت عبد الله، وزيد مررت به ". ومن الدليل على أن الاختيار ما وصفناه، قول الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ

مَنازِلَ (¬1) بالرفع، وقوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (¬2) بالنصب، وذلك أن قبل قوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ، قوله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (¬3) فالجملة التي قبل " القمر " صدّر فيها اسم لا فعل، والجملة التي قبل قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ (¬4)، قد صدر فيها الفعل، فعطف كل واحدة من الجملتين على ما يشاكلها من الجملة التي قبلها. قال سيبويه: (وإنما اختير النصب ها هنا؛ لأن الاسم الأول مبني على الفعل، فكان بناء الآخر على الفعل أحسن عندهم، إذ كان يبني على الفعل، وليس قبله اسم مبني على الفعل). يعني: لما كانوا يقولون: " زيدا ضربته "، فينصبون " زيدا " بفعل مضمر، وليس قبله اسم قد عمل فيه الفعل، كان نصبه إذا تقدمه اسم يعمل فيه الفعل أولى. قال: (ليجري الآخر على ما جرى عليه الذي قبله، إذ كان لا ينقض المعنى لو لم تبنه على الفعل). يعني: لو قلت: " رأيت عبد الله، وزيد مررت به "، لكان معناه كمعناه، إذا قلت: " وزيدا مررت به "، فإذا استوى المعنيان، وكان في أحد اللفظين مشاكلة ما قبله كان أولى. قال: (وهذا أولى أن يحمل عليه ما قرب جواره منه، إذ كانوا يقولون: " ضربوني وضربت قومك "). يعني: أن قولنا: " رأيت عبد الله، وزيدا مررت به "، أولى بعطف الثاني على الأول في تقديم الفعل لطلب حمل الشيء على مجاوره، وإيثار تطابق اللفظين من قول العرب " ضربوني وضربت قومك "؛ لأن قولك: " ضربوني " فيه إضمار قبل الذكر، وأعملوا الفعل الثاني في " قومك "؛ لأنه يليه ويقرب منه؛ فإذا كان قد حملهم حمل الشيء على مجاوره على أن احتملوا الإضمار قبل الذكر، كان حمل الجملة الثانية على الفعل لمطابقة الجملة الأولى أولى. ¬

_ (¬1) سورة يس، آية: 39. (¬2) سورة الإسراء، آية: 13. (¬3) سورة يس، آية: 37. (¬4) سورة الإسراء، آية: 12.

قال: (فكان أن ليكون الكلام على وجه واحد، إذا كان لا يمتنع الآخر من أن يكون مبنيا على ما بني عليه الأول أولى، وأقرب في المأخذ). يعني: أن حمل الثاني على الأول أجود، حتى يكون الكلام على نظم واحد في حمل الجملتين على الفعل. ومثل ذلك قوله تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (¬1). وتقديره: ويعذب الظالمين؛ لأن الجملة التي قبلها مصدرة بفعل وهو " يدخل ". وقوله جل اسمه: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ (¬2). لأن قبله فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً وتقديره: وذكرنا كلا ضربنا له الأمثال. وقوله: وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (¬3). لأن قبله فَرِيقاً هَدى وهذا في القرآن كثير، قال ومثل ذلك: " كنت أخاك "، و " زيدا كنت له أخا "؛ لأن " كنت أخاك "، وزيدا كنت له أخا بمنزلة " ضربت أخاك، وتقول: " لست أخاك "، " وزيدا أعنتك عليه "، لأنها فعل، وتصرف في معناها تصرف كان. إذا قلت: " كنت أخاك "، فجملة الكلام مصدرة بفعل وهو " كنت "، فلذلك اختير أن ينصب الاسم في الجملة الثانية بإضمار فعل، كأنك قلت: " كنت أخاك "، و " لابست زيدا كنت له أخا "، و " لست أخاك " بهذه المنزلة، من قبل أن ليس هو فعل، وإن لم يكن له تصرف غيره من الأفعال في المستقبل واسم الفاعل. والدليل أنه فعل أيضا اتصال الضمائر التي لا تتصل إلا بالأفعال نحو " لست، ولسنا "، فإذا قلت: " لست أخاك " و " زيدا أعنتك عليه "، فكأنك قلت: " لست أخاك "، و " أخاصم زيدا أعنتك عليه " وما أشبه ذلك من الأفعال. قال الربيع بن ضبع الفزاري: ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، آية: 31. (¬2) سورة الفرقان، الآيتان: 38، 39. (¬3) سورة الأعراف، آية: 30.

أصبحت لا أحمل السلاح ولا … أملك رأس البعير إن نفرا والذّئب أخشاه إن مررت به … وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (¬1) فنصب الذئب على تقدير: وأخشى الذئب أخشى، واختار ذلك لأن قبله " أصبحت " وهو فعل، و " أصبحت " من أخوات " كنت " و " لست ". قال: (وقد يبتدأ فيحمل على ما يحمل عليه، وليس قبله منصوب، وهو عربي جيد). أن الجملة الثانية قد يجوز أن ترفع الاسم فيها، وإن كانت الجملة الأولى مبنية على فعل، فتكون الجملة الثانية كجملة مبتدأة ليس قبلها فعل، وذلك قولك: لقيت زيدا وعمرو لقيته كأنك لم تحفل بتقدم قولك: " لقيت زيدا " إذ كانت جملة قائمة بنفسها، وكأنك قلت: " عمرو لقيته " في الابتداء، ثم عطفت جملة على جملة، فتجعله كقولك: " لقيت زيدا وعمرو أفضل منه ". وهذا لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأن " أفضل " ليس بفعل يضمر مثله في نصب " عمرو ". قال سيبويه: (فإذا جاز أن يكون في المبتدأ بهذه المنزلة، جاز أن يكون بين الكلامين). يعني أنه لما جاز " عمرو لقيته " في الابتداء، وجاز أن تقول: " لقيت زيدا وعمرو لقيته "، فيكون رفعه بعد تقدم الجملة الأولى كرفعه في الابتداء، وإن كان الاختيار ما ذكرنا لما وصفنا. قال: (وأقرب منه إلى الرفع " عبد الله لقيت وعمرو لقيت أخاه، وخالدا رأيت، وزيد كلمت أباه " هو ها هنا إلى الرفع أقرب كما كان في الابتداء من النصب أبعد). قال أبو سعيد: قد قدمناه أن الفعل إذا كان واقعا على ضمير الاسم من غير حرف جر، فإن إضمار الفعل الناصب للأول أقوى، وأوجب من أن يكون الفعل واقعا على ضميره بحرف جر، أو واقعا على سبب له، فإن كان الأمر على ما وصفنا، فإن قولك: " لقيت زيدا وعمرا كلمته "، أقوى في النصب من أن تقول: " لقيت زيدا وعمرا كلمت أخاه "؛ لأن قولك: " وعمرا كلمته " قد وقع الفعل على ضميره، وإذا قلت: " وعمرا كلمت ¬

_ (¬1) الخزانة 3/ 309، الأعلام 1/ 46، جمهرة أشعار العرب للقرشي 255.

أخاه " فقد وقع الفعل على سببه. وكذلك إذا قلت: " لقيت زيدا وعمرا مررت به "، فنصبه أضعف من نصب و " عمرا كلمته "؛ لأن الفعل وقع على ضميره بلا حرف. ومتى ما كان النصب أضعف كان الرفع أقوى فوجب من هذا أن يكون " عبد الله لقيت وعمرو ولقيت أخاه "، الرفع أقوى في " عمرو " من قولك: " وعمرو لقيته " إذ كان النصب في " وعمرو لقيت أخاه " أضعف. فأما قول الله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (¬1). فإنما اختير الرفع في الثاني، وإن كان قبله جملة مبنية على فعل، من قبل أن هذه الواو ليست بواو عطف، فيكون حكمها ما ذكرنا، وإنما هي واو الابتداء تقع للحال كقولك: " لقيت زيدا وأبوه قائم " و " رأيت أباك وعمرو منطلق "، وإنما أردت: " لقيت زيدا " في حال: أبوه فيها قائم، وكذلك قوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (¬2)، كأنه قال: يغشى طائفة منكم في حال طائفة قد أهمتهم أنفسهم، أو يغشى طائفة منكم إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم. وهذه الواو تسمى واو الابتداء، وقد يجوز النصب على أن تجعلها واو عطف بإضمار: وتهم طائفة أنفسهم قد أهمتهم أنفسهم، ويجوز أن تجعلها واو عطف، وترفع على ما ذكرنا ما قولك: " لقيت زيدا وعمرو كلمته ". إلا أنا جعلناها واو الابتداء؛ لأن القراءة بالرفع فحملناه على أجود الوجوه في المرفوع. قال: (ومما يختار فيه النصب قوله: " ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به " و " ما لقيت زيدا بل خالدا لقيت أخاه "). جعل ما بعد " بل " و " لكن " بمنزلة ما بعد الواو فيما مضى؛ لأن " بل " و " لكن " من حروف العطف، كما أن الواو من حروف العطف، فما بعدهما كما بعد الواو إذا تقدمت جملة مبنية على فعل وإن كان قبلها حرف نفي، فيكون بمنزلة قولك: " لقيت زيدا وعمرا لم ألقه "؛ لأن الفعل الذي بعد " لم " وإن كان منفيا في العمل بمنزلة الموجب، فتنصب " عمرا " كما تنصبه إذا قلت: " وعمرا لقيته "، ويكون الإضمار: ولم ألق عمرا لم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 154. (¬2) المصدر السابق.

هذا باب ما يحمل فيه الاسم على اسم بني عليه الفعل مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل

ألقه، حتى يكون المضمر مشاكلا للمظهر. قال سيبويه: (يكون الآخر في أنه يدخله في الفعل بمنزلة هذا، حيث لم يدخله لأن " بل "، و " لكن " لا يعملان شيئا، ويشركان الآخر مع الأول؛ لأنهما " كالواو "، و " ثم " و " الفاء "، فأجروهما مجراهن فيما كان النصب فيه الوجه، وفيما جاز فيه الرفع إن شاء الله). يعني: أن قولك: " ما لقيت زيدا ولكن عمرا مررت به "، الأول فعل منفي ب " ما "، والثاني موجب ب " لكن "، ويختار فيه حمل الثاني على الأول في باب النصب وإضمار الفعل، وإن اختلفا في الإيجاب والنفي، كما أن قولك: " لقيت زيدا وعمرا لم ألقه " قد أوجبت فيه الفعل الأول ونفيت الثاني، وعمل الفعل على حاله غير مختلف، و " لكن " في إدخال الاسم في الفعل المنفي عن الأول بمنزلة " الواو " في قولك: " وعمرا لم ألقه " في نفس الفعل الذي أوجبته للأول عن الثاني؛ لأن حروف العطف تعمل عملا واحدا، وإن كانت معانيها مختلفة، فكل ما كان النصب فيه الوجه مع " الواو " كان كذلك مع " لكن ". ويجوز الرفع في " لكن "، و " بل "، كما جاز في الواو، وذلك قولك: " ما رأيت زيدا لكن عمرو مررت به " فهذا معنى قوله: (وفيما جاز فيه الرفع) فاعرفه إن شاء الله. هذا باب ما يحمل فيه الاسم على اسم بني عليه الفعل مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل (أي ذلك فعلت جاز. فإن حملته على الاسم الذي بني عليه الفعل كان بمنزلته إذا بنيت عليه الفعل مبتدأ، يجوز فيه ما يجوز فيه إذا قلت: " زيد لقيته "، وإن حملته على الذي بني على الفعل، اختير فيه النصب، كما اختير فيما قبله وجاز فيه ما جاز في الذي قبله، وذلك قولك: " عمرو لقيته وزيد كلمته "، إن حملت الكلام على الأول، وإن حملته على الآخر قلت: " عمرو لقيته وزيدا كلمته "). قال أبو سعيد: اعلم أن الكلام إذا كان مبتدأ وخبرا، ثم عطفت عليه جملة في أولها اسم، وبعده فعل مشتغل بضميره، كان الاختيار رفع الاسم الثاني بالابتداء كحاله لو لم

تكن قبله جملة، كقولك: " زيد أفضل منك وعمرو كلمته "، و " زيد أخوك وأبوك قمت إليه "؛ لأنه لم يتقدم الجملة الثانية شيء يوجب إضمار الفعل الناصب للاسم الذي في أوله، فصار بمنزلة مبتدأ. وقد قدمنا أن الجملة الأولى، إذا كانت مصدرة بفعل مضمر كان الاختيار في الاسم الذي في الجملة الثانية النصب، على إضمار فعل يفسره الفعل الذي بعده فهذان أصلان لما يشتمل عليه هذا الباب. وذلك أنك إذا قلت: " زيد لقيته وعمرو كلمته " ففيه جملتان إحداهما مبنية على اسم ولا موضع لها والأخرى مبنية على فعل ولها موضع، فالجملة التي هي مبنية على اسم، قولك: " زيد لقيته كما هو " لأن " زيدا " مبتدأ، ولقيته خبره، والجملة التي هي مبنية على فعل قولك: " لقيته " لأنه فعل وفاعل، وهذه الجملة التي هي فعل وفاعل خبر " زيد ". ومعنى قولنا: جملة لها موضع هو: أنّا متى نحينا الجملة جاز أن يقع موقعها اسم واحد، فيلحقه الإعراب. والجملة التي ليس لها موضع: هي التي إذا نحيناها لم يقع موقعها اسم، فأما الجملة التي لها موضع فقولك: " مررت برجل أبوه قائم "، و " رأيت رجلا قام عمرو إليه " لأنك لو نحّيت " أبوه قائم " أو " قام عمرو إليه " لقلت: " مررت برجل قائم " و " رأيت رجلا قائما " فيقع موقع الجملة اسم واحد، وقولك: " مررت برجل أبوه قائم " هو جملة ليس لها موضع من الإعراب؛ لأنك لو نحيتها كما هي لم يقع موقعها اسم. فإذ قد وطّأنا أمر الجمل نرجع إلى قولك: " زيد لقيته وعمرو كلمته ". قال سيبويه: (أنت في " عمرو " بالخيار، إن شئت نصبته، وإن شئت رفعته). وذلك أنه قد تقدمته جملتان: إحداهما مبنية على اسم، وهي قولك: " زيد لقيته كما هو "، والأخرى قولك: " لقيته "، فإن عطفته على الجملة التي هي " زيد لقيته كما هو "، رفعت عمرا؛ لأن صدر الجملة اسم، وإن عطفته على الجملة التي هي " لقيته "، نصبت؛ لأن صدر الجملة فعل فيصير بمنزلة قولك: " لقيت زيدا وعمرا كلمته ". وقد أنكر الزيادي وغيره من النحويين هذا على سيبويه، فقالوا: إذا قلنا: " زيد لقيته وعمرو كلمته " لم يجز حمل " عمرو " على " لقيته "، وذلك أن لقيته " جملة لها موقع، ألا ترى أنك تقول: " زيد ملقى "، و " زيد قائم "، فيقع موقعها اسم واحد، وهي خبر " لزيد "، وكل شيء عطفت عليها وقع موقعها، وصار خبرا " لزيد "، كما هي خبر له، و " عمرو كلمته " لا يجوز أن يكون خبرا " لزيد "؛ ألا ترى أنك تقول: " زيد عمرو كلمته "، فالهاء

تعود على عمرو ولا شيء يعود إلى زيد من الجملة. فإن جعلت في " عمرو كلمته " ما يعود إلى " زيد " جاز حينئذ ما قال سيبويه من الوجهين جميعا: وذلك قولك: " زيد لقيته وعمرو كلمته عنده "، فتجعل الهاء في " عنده " عائدة إلى " زيد "، أو في " كلمته "، وتجعل الأخرى عائدة إلى عمرو؛ لأنك في هذا الوجه إذا عطفت " عمرو كلمته عنده " على " لقيته " الذي هو خبر " زيد " جاز، وصار خبرا له أيضا؛ ألا ترى أنك تقول: " زيد عمرو كلمته عنده "، فتصير الجملة خبرا ل " زيد "، وأظن سيبويه إنما أراد ذلك، إذ جعل في الجملة الثانية ضميرا يعود إلى " زيد " واشتغل بأن أرانا جواز رد الجملة الثانية إلى المبتدإ مرة وإلى المفعول مرة ولم يشتغل بتصحيح لفظ المسألة. وقال سيبويه: (ومثل ذلك " زيد لقيت أباه وعمرا مررت به "، إن حملته على " الأب "، وإن حملته على الأول رفعته). والكلام في هذا كالكلام في الأول. قال: (والدليل على أن الرفع والنصب جائز كلاهما، أنك تقول: " زيد لقيت أباه وعمرا "، إن أردت أنك " لقيت عمرا والأب "، وإن زعمت أنك " لقيت أبا عمرو " ولم تلقه رفعته ومثل ذلك " زيد لقيته وعمرو "، إن شئت رفعت، وإن شئت قلت: " زيد لقيته وعمرا "). فاستشهد على جواز حمل الاسم الذي في الجملة الثانية على المنصوب في الجملة الأولى بقولك: " زيد لقيت أباه وعمرا " قال: فلما جاز عطف " عمرو " على " الأب " مرة، وعلى " زيد " مرة، جاز ذلك في قولك: " وعمرا كلمته ". فقال له الزيادي: هذا غير مشبه لذلك؛ لأن قولنا: " وعمرا " ليس بجملة وإنما هو اسم واحد وقع عليه الفعل الذي وقع على " الأب " بعينه، فقد صار " عمرو " مع " الأب " مفعولي " لقيت "، و " لقيت " خبرا " لزيد "، وفي مفعوليه ما يعود إليه، وهو الهاء في " الأب "، و " عمرو كلمته " جملة قائمة بنفسها ليست بداخلة في الفعل الأول ولا الفعل الأول واقع عليها. قال سيبويه: (ومثل ذلك " زيد لقيته وعمرو "، إن شئت رفعت، وإن شئت قلت: " زيد لقيته وعمرا " تقول أيضا: و " زيد ألقاه وعمرو وعمرا "). قال: (فهذا يقوى أنك بالخيار في الوجهين)

وقد بينا الكلام في ذلك. قال: (وإذا قلت: " مررت بزيد وعمرا مررت به " نصبت، وكان الوجه؛ لأنك بدأت بالفعل ولم تبتدئ اسما بنيته عليه، ولكنك قلت: " فعلت " ثم بنيت عليه المفعول، وإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف الإضافة، فكأنك قلت: " مررت زيدا "). يعني: أن قولك: " مررت بزيد " بمنزلة قولك: " ضربت زيدا "؛ لأن " مررت " فعل، كما أن " ضربت " فعل، وإن كان " مررت " لا يتعدى إلا بحرف، فإذا كان كذلك فينبغي أن تختار في الجملة الثانية نصب الاسم، كما اختير من " ضربت زيدا " نصب الاسم في الجملة الثانية. قال: (ولولا أنه كذلك، ما كان وجه الكلام: زيدا مررت به ولا لقيت زيدا وعمرا مررت به وقمت وعمرا مررت به). يعني أنك إذا قلت: زيدا مررت به أضمرت فعلا ينصب " زيدا "، وإن كان " مررت " قد تعدى إلى ضميره بحرف، كما ينصب الاسم إذا تعدى الفعل إلى ضميره بغير حرف، كقولك: " أزيدا ضربته ". قال: (ونحو ذلك " خشنت بصدره "، " فالصدر " في موضع نصب وقد عملت الباء. يريد: أن " خشنت بصدره "، كقولك " خشّنت صدره "، فإن دخول الباء لم يغير حكم الفعل؛ ليريك أن " مررت بزيد "، كقولك: " ضربت زيدا "، وكقولك: " مررت زيدا " لو كان يتكلم به. قال: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (¬1)، وإنما هو: كفى الله، ولكنك لما أدخلت الباء عملت، والموضع موضع نصب، والمعنى معنى النصب، وهذا قول الخليل). يعني: أن قوله: " كفى بالله " لو نزعت الباء، لقلت: " كفى الله " والباء زائدة، وقد جرت الاسم الذي بعدها، وإن كان موضعه رفعا بالفعل الذي قبله، فكذلك موضع زيد نصب، إذا قلت: " مررت بزيد ". ¬

_ (¬1) سورة الرعد، آية: 43.

وقوله: (ولكنك لما أدخلت الباء عملت والموضع موضع نصب). يعني: " مررت بزيد " لا " في كفى بالله ". قال: (وإذا قلت: " عبد الله مررت به " أجريت الاسم بعده مجراه بعد " زيد لقيته "). يعني: أنك إذا قلت: " عبد الله مررت به وعمرا كلمته "، جاز في " عمرو " الوجهان، كما جاز بعد قولك: " زيد لقيته ". وقد مضى الكلام في هذا المعنى. وتقول: (" هذا ضارب عبد الله وزيدا يمر به "، إذا حملته على المنصوب، فإن حملته على المبتدأ، وهو " هذا " رفعت). يعني: أن قولك: " هذا ضارب عبد الله " بمنزلة قولك: " هذا يضرب عبد الله "، " فهذا " مبتدأ، " وضارب " خبره، كما يكون " يضرب " خبره. فإذا جئت بالجملة الثانية، فأنت بالخيار في الاسم الذي في أولها، إن شئت حملته على المبتدأ، وإن شئت حملت على الفعل الذي في الخبر، كما قدمنا في قولك: " زيد لقيته وعبد الله مررت به "، وذلك أن اسم الفعل يعمل عمل الفعل، ألا ترى أنك تقول: " مررت برجل ضارب زيدا " كما تقول: " مررت برجل يضرب زيدا ". قال: (فإذا ألغيت النون، وأنت تريد معناها فهي بتلك المنزلة، وذلك قولك: " هذا ضارب زيد غدا وعمرا سيضربه "). يعني: أن اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل، إذا لم تعمله في الجملة الأولى، وأضفته إلى المفعول، فإنك إذا جئت بالجملة الثانية عاملتها معاملة ما قد أعملت فيه الفعل في الجملة الأولى، فقلت: " هذا ضارب زيد وعمرا سيضربه " على ما قدمناه، وذلك؛ لأن قولك: " ضارب زيد "، بمنزلة: " ضارب زيدا "، " وضارب زيدا " بمنزلة " يضرب زيدا "، فكأنا قلنا: " هذا يضرب زيدا وعمرا سيضربه ". قال: (ولولا أنه كذلك، لما قلت: " أزيدا أنت ضاربه "، و " وما زيدا أنا ضاربه "). يعني: لولا أن اسم الفاعل، وإن كان مضافا يجري مجرى ما قد عمل ولم يضف لما قلت: " أزيدا أنا ضاربه "، وذلك أنك نصبت " زيدا " بإضمار فعل، ولا يجوز أن تنصبه بإضمار فعل إلا والذي قد ظهر من تفسير المضمر يجري مجرى الفعل، فكأنك قلت: " أتضرب زيدا أنت تضربه "؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: " أنت غلامه "؛ لأن " غلامه "

لا يجري مجرى الفعل. قال سيبويه: (فهذا نحو " مررت بزيد "؛ لأن معناه منونا وغير منون سواء، كما أنك إذا قلت: " مررت بزيد " فكأنك قلت: " مررت زيدا "). يعني: أن الجر في قولك: " هذا ضارب زيدا "، لم يخرج " زيدا " بالإضافة من أن يكون في معنى مفعول، وأن يكون ما قبله في معنى فعل قد وصل إليه، كما أنك إذا قلت: " مررت بزيد "، فجر " زيد " لم يخرجه من أن يكون في معنى مفعول، وأن يكون المرور وصل إليه بالباء. وقوله: (لأن معناه منونا وغير منون سواء). يريد: أن قولك: " هذا ضارب زيدا "، بمنزلة قولك: " هذا ضارب زيد "، كما أن قولك: " مررت بزيد "، بمنزلة قولك: " مررت زيدا "، وإن كان لا يستعمل إيصال المرور إلا بالباء، وفي الأفعال ما يستعمل بالباء وغير الباء كقولك: " تعلّقت زيدا "، و " تعلّقت بزيد ". قال: (وتقول: " ضربت زيدا وعمرا أنا ضاربه ") بمنزلة قولك: " ضربت زيدا وعمرا ضربته "، وقد قلنا إن قوله: " أنا ضاربه "، بمنزلة " ضربته "، فلذلك اختير فيه النصب. وقوله: (" تختار هذا "، كما يختار في الاستفهام). يعني: أن قولك: " ضربت زيدا وعمرا أنا ضاربه "، بمنزلة قولك: " ضربت زيدا وعمرا ضربته " وقد مضى الكلام في اختيار النصب في " ضربت زيدا وعمرا ضربته " وقد قلنا: إن " ضاربه " بمنزلة " ضربته "، فلذلك اختير فيه النصب. وقوله: (كما يختار في الاستفهام). يعني: في قولك: " أزيدا ضربته "، الاختيار فيه النصب، وله باب يأتي يستقصى فيه الحجة- إن شاء الله تعالى-. قال: (ومما يختار فيه النصب قول الرجل: " من رأيت "، و " أيهم رأيت " فتقول: " زيدا رأيته "، تنزله منزلة قولك: " كلمت زيدا وعمرا لقيته "). قال أبو سعيد: اعلم أن المستفهم الاختيار له في كلامه أن يورد الجواب على منهاج الاستفهام، فإذا قال المستفهم: " من رأيت "، و " أيهم رأيت؟ " قال: " زيدا "؛ لأن

" أيا " و " من " ونحوهما منصوبتان بوقوع الفعل عليهما، فتجعل " زيدا " منصوبا بمثل ذلك الفعل الذي وقع على الاستفهام، فكأنه قال: " زيدا رأيت "، وإذا قال: " أيهم رأيته "، فالاختيار في الجواب أن تقول: " زيدا "؛ لأن المستفهم قد جعل حرف الاستفهام مبتدأ، وجعل الفعل واقعا على ضميره، وفي موضع خبره فيختار أن يكون الجواب كذلك، فإذا قال: " زيد " في الجواب، فكأنه قال: " زيدا رأيته " فقد جرى الجواب مجرى العطف من أنه تابع للاستفهام. فإذا قلت: " من رأيت؟ " قلت: " زيدا رأيته "، ذلك أن قوله: " من رأيت؟ "، الاسم فيه منصوب، والفعل معمل في الاسم، فيختار أن يكون الجواب على ذلك المنهاج، فنصب الاسم بإضمار فعل، ويكون الفعل الواقع على ضميره تفسيرا له، فكأنه قال: " رأيت زيدا رأيته "، كما كان ذلك في قولك: " رأيت زيدا وعمرا رأيته ". قال: (ومثل ذلك قولك: " أرأيت زيدا " فتقول: " لا! ولكن عمرا مررت به "). يعني: أن " لكن " في الجواب بمنزلتها في العطف، كأن قولك: " ولكن عمرا مررت به " بمنزلة قولك " ألا ترى أنك تقول ": " ما رأيت زيدا ولكن عمرا مررت به " فلما كان قوله: " رأيت زيدا " مصدّرا بفعل، والجواب بمنزلة العطف، والاستفهام متى نصبناه بالفعل الذي بعده فهو بمنزلة ما قد صدر بفعل، وإن لم يصلح تقديم الفعل بسبب الاستفهام. قال: (فإن قال: " من رأيته؟ " و " أيهم رأيته " فأجبته قلت: " زيد رأيته " إلا في قول من قال: " زيدا رأيته " في الابتداء لأن هذا كقولك: " أيهم منطلق "، و " من رسول؟ " فيقول: فلان). يعني: أنك إذا رفعت في الاستفهام، فالجواب مثله على ما قدمنا وهذا هو الاختيار، فإن قال: " زيدا رأيته " وقد قيل له: " أيهم رأيته "، فهو جائز وليس بالاختيار؛ ألا ترى أن قولك: " زيدا رأيته " في الابتداء. هو جائز وليس بالاختيار. قال الأخفش: ويجوز إذا قلت: " أيهم ضربته " أن تقول: زيدا ضربته؛ لأن الهاء منصوبة، وهي في المعنى مستفهم عنها. أما جواز النصب فإن سيبويه لم يأبه، ولكن معنى كلام الأخفش أن الرفع والنصب جميعا يجوزان، فالرفع على اللفظ والنصب على المعنى، وليس الأمر إلا ما قاله سيبويه،

وذلك أن المعنيين إذا تساويا في اللفظ والمعنى، كان إتباع اللفظ اللفظ أولى بالاختيار، ألا ترى أن قولنا: " مررت بزيد وعمرو "، أولى من قولنا: " مررت بزيد وعمرا "، وقد قدمنا ذكر الحجج في المطابقة بين الألفاظ. ومما يدل على صحة قول سيبويه إجماعهم أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد في الدار أم لا "، أن " زيدا " مرفوع؛ لأن حرف الاستفهام منع الفعل من الوصول إليه، فإذا قلت: " قد علمت زيدا في الدار هو أم لا "، فإن الاختيار نصب " زيد " لزوال حرف الاستفهام عنه، ويجوز رفعه؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه، فهو بمنزلة ما معه حرف الاستفهام، فلم يجعلوا لفظ الاستفهام كمعناه في اختيار الرفع، ومنع الفعل من الوصول إليه. قال: (وهذا كقولك: " أيهم منطلق؟ " ومن رسول؟) يعني قولك: " أيهم رأيته: كقولك: " أيهم منطلق " في باب المبتدأ والخبر؛ فإذا قيل لك: " أيهم منطلق " كان الجواب " زيد " بالرفع لا غير، وكذلك إذا قيل: " أيهم منطلق " في باب الابتداء والخبر، فإذا قيل لك: " أيهم منطلق " كان كالجواب رفع لا غير، وكذلك إذا قيل: " أيهم رأيته " فالاختيار في الجواب أن تقول: " زيد "، وإن كان يجوز في هذا النصب على ما ذكرنا. قال: (وإن قال: " أعبد الله مررت به أم زيدا "، قلت: " زيدا مررت به "، كما فعلت ذلك في الأول). يعني تنصب في الجواب كما نصب هو في المسألة. وكذلك إذا قلت: " لا بل زيدا " نصبت " زيدا "، نصبت أيضا في الجواب، وإن جئت بحرف عطف كما أنه إذا قال: " من رأيت؟ "، قلت: " زيدا "؛ لأن " من " في موضع نصب " فإنما يحمل الاسم في الجواب على إعرابه في المسألة. قال: (ولو قلت: " مررت بعبد الله وزيدا " كان عربيا فكيف هذا؟، لأنه فعل، والمجرور في موضع مفعول منصوب). يعني: أنك إذا قلت: " مررت بعبد الله وزيدا "، جاز على تأويل: " لقيت عبد الله وزيدا، و " جزت عبد الله وزيدا "، فإذا كان هذا جائزا عربيا في العطف، كان في الاسم المستفهم عنه أولى، وذلك قولك: " أعبد الله مررت به ". وإنما صار فيه أولى وأجود؛ لأن عبد الله لا يمكن جره بالباء الظاهرة، لاشتغالها

بالضمير ولا بباء مضمرة؛ لأن الجار لا يضمر، وقولك: " مررت بعبد الله وزيد " يمكن جر " زيد " بالعطف على " عبد الله "، فلما جاز نصبه، كان نصب المستفهم عنه أولى لما ذكرنا. والباء الجارة ليست تمنع المجرور من أن يكون في معنى مفعول على ما تقدم من ذكرنا له، فلذلك جاز أن يحمل المعطوف عليه على الفعل، وإن كان الفعل الظاهر يصل بحرف جر. (قال جرير: جئني بمثل بني زيد لقومهم … أو مثل أسرة منظور بن سيّار (¬1) ومثله قول العجاج: يذهبن في نجد وغورا غائرا) (¬2) فنصب " وغورا "؛ لأن معنى: يذهب فيه يسلكن فيه. فكأنه قال: ويسلكن غورا غائرا. ومعنى: جئني بكذا، أي: أعطنيه. فكأنه قال: أعطني مثل بني بدر أو مثل أسرة منظور. قال: (ولا يجوز أن تضمر فعلا لا يصل إلا بحرف جر؛ لأن حرف الجر لا يضمر، وسترى بيان ذلك إن شاء الله تعالى، ولو جاز ذلك لقلت: " زيد " تريد: " مرّ بزيد "). يعني: أنه لا يجوز أن تقول: " زيد مررت به " على معنى: " مررت بزيد مررت به ". (ومثل هذا وَحُورٌ عِينٌ (¬3) في قراءة أبي بن كعب). على إضمار " ويعطون حورا عينا "؛ لأن قوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ (¬4) دليل على أنهم قد أعطوا ذلك، فنصب أبي وَحُورٌ عِينٌ على معنى و " يعطون "، ومن رفع أراد: و " لهم حور عين " وقد دل الكلام عليه أيضا؛ لأن ما طيف به عليهم من الأكواب، والأباريق هو لهم. ¬

_ (¬1) البيت لجرير الديوان 312 - الأعلم 1/ 49 - المقتضب 4/ 153. (¬2) البيت للعجاج في سيبويه 1/ 49، الأعلام 1/ 49. (¬3) سورة الواقعة، آية: 22. (¬4) سورة الواقعة، الآيتان: 17، 18.

قال: (فإن قلت: " قد لقيت زيدا وأما عمرو فقد مررت به "، و " لقيت زيدا فإذا عبد الله يضربه عمرو " فالرفع، إلا في قول من قال: " زيدا رأيته وزيدا مررت به "، لأن " أما " و " إذا " يقطع بهما الكلام، وهما من حروف الابتداء، يصرفان الكلام إلى الابتداء، إلا أن يدخل عليهما ما ينصب، ولا يحمل بواحد منهما آخر على أول، كما يحمل ب " ثم " و " الفاء "). يعني: أن " أما " ليست من حروف العطف، وهي تقطع ما بعدها مما قبلها فإذا كان ما قبلها جملة مصدرة بفعل، لم يختر في الاسم الذي بعدها النصب بإضمار فعل، كما اختير ذلك في حروف العطف؛ لأنك تقول في حروف العطف: " لقيت زيدا وعمرا مررت به "، وهو الاختيار، وتقول في " أما ": " لقيت زيدا وأما عمرو فقد مررت به "، فيكون ما بعد " أما " بمنزلة جملة ليس قبلها شيء، ومن قال في الابتداء: " أزيدا ضربته " وقال: " زيدا مررت به "، وليس بالاختيار، قال في هذا: " أما عمرا فقد مررت به ". و" إذا " بمنزلة " أما "، وذلك أن ما بعدها لا يكون معطوفا على ما قبلها ب " إذا "، وهي للاستئناف وأما قول الشاعر: فقال لي المكّي أمّا لزوجة … فسبع، وأمّا خلّة فثمان فإنه لم يعطف " خلة " على " زوجة "؛ لأن " أما " الثانية قد منعت من ذلك وحالت دونه، ولكنه أضمر اللام لضرورة الشعر، وحذفها اكتفاء باللام الأولى وهو قبيح جدا. ومعنى قوله: (إلا أن يدخل عليها ما ينصب). يعني: إلا أن تدخل على ما بعد " أما "، و " إذا "، فتقول: " لقيت زيدا وأما عمرا فضربته "، أو ما يجر، فتقول: " وأما بعمرو فمررت "، و " لقيت زيدا وإذا عبد الله يضربه بكر "، فما بعدها بمنزلة المبتدأ، حتى يدخل عليهما ما ينصب أو يجر. قال: (ألا ترى أنهم قرءوا وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬1) وقبله نصب). يعني: أن قوله (ثمود) مرفوع بالابتداء، وإن كان (فهديناهم) قد وقع على ضميره وقبله منصوب، وهو قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً (¬2)، ولو كان بمنزلة ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 17. (¬2) سورة فصلت، آية: 16.

العطف لاختير فيه النصب. ولمعترض أن يقول في قوله: (وقبله نصب) أن الذي قبله عطف عليه قوله: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ (¬1) والذي أراده سيبويه: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً. قال: (ولو قلت: " إن زيدا فيها " أو " إن فيها زيدا وعمرو أدخلته أو دخلت به "، رفعته، إلا في قول من قال: " زيدا أدخلته وزيدا دخلت به "). يعني: إن نصب " زيد " في قولك: " إن زيدا فيها " خلاف نصبه في قولك: " ضربت زيدا "، وذلك أنك إذا قلت: " ضربت زيدا " كان الاختيار أن تقول: " وعمرا أدخلته " على ما تقدم ذكرنا له، وإن قلت: " إن زيدا فيها "، كان الاختيار أن تقول: " وعمرو أدخلته "، وذلك أن " إنّ " ليست بفعل، فيضمر قبل " عمرو " فعلا، حتى تكون الجملة الثانية مشاكلة للأولى على نحو ما مضى، وليس الغرض من تشاكل الجملتين في النصب، وإنما يراد تشاكلهما في الفعل وإن اختلف إعرابهما وقد مضى نحو هذا. قال: (لأن " إن " ليس بفعل وإنما هو مشبه به، ألا ترى أنه لا يضمر فيه فاعل، ولا يؤخر فيه الاسم، وإنما هو بمنزلة الفعل، كما أن " عشرين درهما " " وثلاثين رجلا "، و " بئس رجلا " بمنزلة " ضاربين زيدا " وليس بفعل ولا فاعل). يعني: أن " إنّ " ليست بفعل؛ لأنه لا يضمر فيه الفاعل، كما يضمر في الفعل. ألا ترى أنك لا تقول: " الزيدون إنو قائمين "، ولا " أنت قائما " ولا شيء من الضمائر التي تكون للفاعلين، فهي مشبهة بالفعل وليست بفعل، كما أن " عشرين درهما "، و " بئس رجلا " مشبه " بضاربين رجلا "، ولا يقوى قوته؛ لأنك تقول: " هؤلاء زيدا ضاربون " ولا تقول: " هذه درهما عشرون "، ولا " رجلا بئس "، وتفصل فتقول: " هؤلاء ضاربون اليوم زيدا "، ولا تقول: " هذه عشرون اليوم درهما "، فليس لما شبه بالشيء قوته. قال: (وكذلك تقول: " ما أحسن عبد الله وزيد قد رأيناه "). يعني: أن " زيدا " الاختيار فيه الرفع، وإن كان قبله فعل، وهو " أحسن "، وذلك أن " أحسن "، وإن كان فعلا فهو لا يتصرف، ولا يكون منه مستقبل، ولا يتقدم على " ما "، ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 15.

وكذلك وضع في التعجب، فصار بمنزلة " إنّ " في اختيار رفع الاسم في الجملة الثانية، على أن قولنا: " ما أحسن زيدا "، صدر الكلام اسم مرفوع وهو " ما "، فتكون الجملة الثانية مصدرة باسم أيضا. قال: (وإنما هي بمنزلة " لدن غدوة "، و " كم رجلا " فقد عملا عمل الفعل وليسا بفعل ولا فاعل). يعني: أن قوله: " ما أحسن زيدا "؛ لنقصان تصرفه. قد صار بمنزلة " لدن غدوة "، و " كم رجلا "، وهذان قد نصبا، وليسا بفعل، فنصب " ما أحسن عبد الله "؛ لضعفه، بمنزلة ما نصب وليس بفعل. قال سيبويه: (ومما يختار فيه النصب لنصب الأول، ويكون الحرف الذي بين الأول والآخر بمنزلة " الواو "، و " الفاء "، و " ثم "، قولك: " قد لقيت القوم كلهم حتى عبد الله لقيته "، و " ضربت القوم حتى زيدا ضربت أباه "، و " أتيت القوم أجمعين حتى زيدا مررت به " و " مررت بالقوم حتى زيدا مررت به "، ف " حتى " تجري مجرى " الواو "، و " ثم "، وليست بمنزلة " أما " لأنها إنما تكون على الكلام الذي قبلها ولا تبتدأ). يعني: أن " حتى " بمنزلة الواو، وحروف العطف، وذلك أنه يجوز العطف بها فيقال: " مررت بالقوم حتى زيد "، و " جاءني القوم حتى زيد "، و " رأيت القوم حتى زيدا "، غير أن لها أحكاما تختص بها نذكرها في بابها إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. والغرض منها في هذا الموضع: أنها لما جاز أن تكون عاطفة؛ ثم رأينا جملة قبلها في أولها فعل، وجاء بعدها اسم قد اشتغل الفعل بضميره، كان الاختيار أن تضمر فعلا يقع على الاسم الذي بعدها، حتى تكون الجملة التي قبلها مشاكلة للجملة التي بعدها في تقديم الفعل فيهما، كما ذكرنا ذلك في حروف العطف، فإذا قلت: " لقيت القوم كلهم حتى عبد الله لقيته "، فتقديره: " حتى لقيت عبد الله لقيته "، كما أنك إذا قلت: " لقيت القوم وعبد الله كلمته "، فعلى تقدير " وكلمت عبد الله كلمته ". ولا تشبه " حتى " " أما "؛ لأن " حتى " من حروف العطف، ولا يجوز الابتداء بها، كما لا يجوز الابتداء بحروف العطف، ولا ترد إلا بعد كلام. و" أما " يبتدأ بها، وإن وردت بعد كلام صرفت ما بعدها إلى الابتداء، وقطعته عن الأول.

قال: (وتقول: " رأيت القوم حتى عبد الله " فإنما، معناه: أنك قد رأيت عبد الله مع القوم، كما كان: " رأيت القوم وعبد الله " على ذلك). يعني: أنك إذا قلت: " رأيت القوم حتى عبد الله "، فمعنى " حتى "، وإن خفضت ما بعدها كمعناها إذا نصبت ما بعدها، وذلك أن قولك: " رأيت القوم حتى عبد الله " فمعناه: " رأيت القوم واحدا واحدا إلى أن انتهيت برؤيتي إلى عبد الله "، ف " عبد الله " داخل في الرؤية، والخفض فيه بمعنى " إلى ". وإذا قلت: " رأيت القوم حتى عبد الله "، ف " حتى " بمعنى الواو، وهي بمنزلة قولك: " رأيت القوم مع عبد الله " و " رأيت القوم وعبد الله " والمعنى فيهما واحدا، وإن كان " عبد الله " مجرورا في أحد اللفظين. وتقول: " ضربت القوم حتى زيدا أنا ضاربه "، فتنصب " زيدا "؛ لأن قولك: " أنا ضاربه "، بمنزلة قولك: " أضربه "، فكأنك قلت: " ضربت القوم حتى زيدا أضربه "، على تقدير: حتى أضرب زيدا أضربه. وقد بينا أن اسم الفاعل يجري مجرى الفعل، وأن إضافته إلى المفعول إذا أردت به معنى التنوين لا يخرجه عن حكم الفعل، وإن جررت ما بعده به. قال: (فهي كالواو، إلا أنك تجر بها إذا كانت غاية، والمجرور مفعول كما أنك إذا قلت: " هذا ضارب زيد غدا " تجر لكف التنوين وهو مفعول بمنزلته منصوبا منونا ما قبله). يعني: أن قولك: " رأيت القوم حتى عبد الله " وإن جررته فهو مفعول واقع عليه الرؤية، بمنزلته إذا قلت: " رأيت القوم حتى عبد الله " فنصبته، كما أنك إذا قلت: " هذا ضارب زيد غدا "، فهو بمنزلة قولك: " هذا ضارب زيدا غدا " في أنهما مفعولان. قال: (ولو قلت: " هلك القوم حتى زيدا أهلكته "، اختير النصب؛ ليبنى على الفعل، كما بني ما قبله مرفوعا كان أو منصوبا، كما فعل ذلك بعد ما بنى على الفعل وهو مجرور). قال أبو سعيد: قد قدمنا أن الجملة الأولى إذا كان صدرها فعلا اختير في الثانية مثل ذلك، سواء أكان الفعل عمل في منصوب أو لم يعمل فيه تقول: " قام زيد وعمرا كلمته "، و " مررت بزيد وعمرا كلمته "، و " ضربت زيدا وعمرا كلمته ".

وقولك: " هلك القوم حتى زيدا أهلكته "، بمنزلة " قام زيد وعمرا كلمته ". قال: (فإن قلت إنما هو لنصب اللفظ، فلا تنصب بعد " مررت بزيد " وانصب بعد " إن فيها زيدا "). يعني: إن قال قائل: إذا قلنا: " قام زيد وعمرا كلمته "، و " هلك القوم حتى زيدا أهلكته "، ليس الاختيار في الاسم النصب؛ لأنه لا منصوب قبله. قيل له: لو كان اختيار النصب في الثاني؛ لأن قبله منصوبا، لوجب ألا تنصب بعد قولك: " مررت بزيد " فلا تقول: " مررت بزيد وعمرا كلمته "، ولوجب أن تنصب بعد قولك: " إن فيها زيدا "، فتقول: " إن فيها زيدا وعمرا كلمته ". وهذا غير مختار. فلو كانت العلة ما زعمه هذا الزاعم واجبا، من عبرة المنصوب في الجملة الأولى، للزمة ما قال سيبويه ألا ينصب بعد " مررت بزيد "، وليس في الدنيا عربي إلا وهو يجري " مررت بزيد " مجرى " لقيت زيدا ". قال: (وإن كان الأول؛ لأنه في معنى الحديث مفعول فلا يرتفع بعد " عبد الله " إذا قلت: " عبد الله ضربته "). يعني: إن قال قائل: إنا إذا قلنا: " مررت بزيد وعمرا كلمته " إنما نصبنا " عمرا "؛ لأن " زيد " في معنى منصوب؛ لوقوع المرور به في التحصيل، للزمه أن يقول: " عبد الله ضربته وعمرا كلمته "؛ لأن " عبد الله " وإن كان مبتدأ، فقد وقع به الضرب في التحصيل، ولكنه يرفع " عمرو كلمته " حملا على " عبد الله "؛ لأنه مبتدأ، حتى يصيرا مبتدأين، وتكون في الجملة الثانية مشاكلة للأولى في الابتداء، ولا يراعى في أنه في معنى مفعول. قال: (وقد يحسن الجر في هذا كله وهو عربي، وذلك قولك: " لقيت القوم حتى عبد الله لقيته "، فإنما جاء " بلقيته " توكيدا بعد أن جعله غاية، كما تقول: " مررت بزيد وعبد الله مررت به "). يعني: أنك إذا قلت: " لقيت القوم حتى عبد الله لقيته " " فعبد الله " مجرور معنى " بإلى "، وقد تم الكلام، ثم جئت " بلقيته " توكيدا للقاء الواقع " بعبد الله " في المعنى، كما أنك إذا قلت: " مررت بزيد وعبد الله مررت به "، فعبد الله " مجرور بالباء الأولى التي في " زيد "، ثم جئت " بمررت " الثانية توكيدا للمرور الواقع " بعبد الله " في المعنى. قال الشاعر وهو ابن مروان النحوي:

هذا باب ما يختار فيه النصب، وليس قبله منصوب بني على الفعل وهو باب الاستفهام

ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله … والزّاد حتّى نعله ألقاها (¬1) قال: (والرفع جائز). يعني: في قولك: " حتى عبد الله لقيته "، كما جاز مع الواو، إذا قلت: " لقيت زيدا وعبد الله لقيته "، على الابتداء والخبر، فيكون " عبد الله " مبتدأ، و " لقيته " خبره. كأنك قلت: (" لقيت القوم حتى زيد ملقي "، و " سرّحت القوم حتى زيد مسرّح " وهذا لا يكون فيه إلا الرفع). يعني: إذا قلت: ملقيّ ومسرّح؛ لأن " ملقيّ " و " مسرّح " ليس بفعل واقع على ضمير " زيد "، ولا باسم فاعل واقع على ضميره، كما تقول: " حتى زيدا أنا لاقيه "، لأن " ملقيّ " " ومسرح " مأخوذ من لقي وسرّح، ففيه ضمير أقيم مقام الفاعل مرفوع، فلا يجوز أن تنصب الاسم. وليس بعده ضمير له يوجب نصبه. قال: (فإذا كان في الابتداء " زيد لقيته "، بمنزلة " زيد منطلق "، جاز هاهنا الرفع). يعني: جاز أن تقول: " حتى زيد لقيته "، فيكون بمنزلة قولك: " حتى زيد ملقيّ "؛ لأن " حتى " قد يقع بعدها الاسم والخبر. والبيت الذي أنشدناه يروى بالرفع والجر والنصب. فالجر بمعنى " إلى " على ما ذكرناه. والرفع بالابتداء والخبر، والنصب على وجهين: أحدهما: أن تجعل حتى بمعنى الواو، فتعطفها على الصحيفة كأنه قال: " ألقى الصحيفة ونعله " ثم قال " ألقاها " تأكيدا. والوجه الثاني: أن تضمر بعد " حتى " فعلا، وتجعل " ألقاها " تفسيرا له، كأنك قلت: حتى ألقى نعله ألقاها. هذا باب ما يختار فيه النصب، وليس قبله منصوب بني على الفعل وهو باب الاستفهام قال أبو سعيد: الذي يشتمل عليه هذا الباب: أن الاسم إذا ولي حرف الاستفهام، وجاء بعده فعل واقع على ضميره، فالاختيار نصب الاسم بإضمار فعل يكون الفعل ¬

_ (¬1) البيت لابن مروان النحوي في الخزانة 1/ 445، 4/ 140، ومعجم الأدباء 19/ 146.

الظاهر تفسيره، كقولك: " أزيدا ضربته "، و " أعمرا مررت به "، و " أزيدا ضربت أخاه "، ويكون التقدير فيه: " أضربت زيدا ضربته "، و " ألقيت زيدا مررت به "، و " ألابست زيدا ضربت أخاه "، والنصب هو الاختيار، ويجوز الرفع على أن تجعله مبتدأ وما بعده خبرا. وإنما صار الاختيار النصب، من قبل أن الاستفهام في الحقيقة إنما هو عن الفعل لا عن الاسم؛ لأن الشك فيه، ألا ترى أنك إذا قلت: " أزيدا ضربته "، فإنما تشك في الضرب الواقع به، ولست تشك في ذات " زيد "، فلما كان حرف الاستفهام إنما دخل للفعل لا للاسم، كان أولى في الاختيار أن يلي حرف الاستفهام الفعل الذي دخل من أجله، وإنما جاز دخوله على الاسم، ورفع الاسم بعده على الابتداء والخبر؛ لأن الابتداء والخبر قبل دخول الاستفهام يوجب فائدة، وإذا استفهمت فإنما تستفهم عن تلك الفائدة. قال سيبويه: (ذلك أن من الحروف حروفا لا يذكر بعدها إلا الفعل، ولا يكون الذي يليها غيره، مظهرا أو مضمرا). قال أبو سعيد: اعلم أن الحروف على ثلاثة أضرب: منها ما لا يليه إلا الاسم، ومنها ما لا يليه إلا الفعل، ومنها ما يليه الاسم والفعل جميعا. فأما ما لا يليه إلا الاسم، فنحو: " إنّ " وأخواتها، ولا نحتاج إلى ذكرها في هذا الباب. وأما ما لا يليه إلا الفعل، فهو على ضربين: ضرب لا يحسن إيلاء الاسم إياه، وحذف الفعل منه، ولا يقدم الاسم فيه على الفعل. وضرب يحسن أن يحذف منه الفعل، ويليه الاسم في الظاهر، والفعل مقدر في النية، فأما الضرب الذي لا يحسن حذف الفعل منه فنحو: " قد، وسوف، ولم، ولما "، لا يحسن أن تقول: " لم زيدا أضرب "، ولا " قد زيدا "، على تقدير: لم أضرب زيدا؛ وقد ضربت زيدا، ولا يحسن أيضا فيه التقديم والتأخير، فتقول: " قد زيدا ضربت، ولم زيدا أضرب "، وذلك لأن " قد، وسوف " مع الفعل بمنزلة الألف واللام مع الاسم؛ لأن " سوف " تقصر الفعل على زمان دون زمان، فهي بمنزلة التعريف، و " قد " توجب أن يكون الفعل متوقعا، وهو يشبه التعريف أيضا. فإذا كان الألف واللام اللتان للتعريف لا يفصل بينهما وبين المعرّف كان هذا مثله.

وأما " لم، ولما "، وسائر الحروف العاملة في الأفعال، فإن حكمها ألا يتقدم الاسم على الفعل فيها؛ لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء، لأن الأفعال أضعف من الأسماء، فلما رأينا الحروف العاملة في الأسماء لا يحسن فيها تأخير الأسماء عن مواضعها إلا بالظروف، نحو: " إنّ، وليت، ولعل، وبابها " وكانت الحروف العاملة في الفعل أضعف منها، لم تؤخر الأفعال عن مواضعها؛ فإن اضطر الشاعر إلى تقديم الاسم على الفعل، جاز واحتمل للضرورة، نحو قولك: " لم زيدا أضرب، وسوف زيدا أضرب "، وإنما جاز من قبل أن العامل في الاسم هو الفعل لا الحروف، وقد كان يجوز تقديم الاسم على الفعل قبل دخول الحرف، وإنما دخل الحرف على الجملة، فأجازوا بعد دخوله ما كان يجوز قبله. والضرب الآخر من الحروف، وهو الذي يليه الفعل، ويحسن إضماره وتأخره " هلا، ولولا، ولو ما "، إذا كانتا بمعنى: " هلا، وألا "، إذا كانت كذلك. ومعناها كلها أنها لوم واستبطاء فيما تركه المخاطب، أو يقدر فيه الترك، من ذلك أن يقول القائل: " قاتلت أهل الكوفة "، فيقول القائل: " هلا القرمطي "، أي: هلا قاتلت القرمطي، أو يقول: " أنا أقاتل أهل الكوفة "، فيقال له: " فهلا القرمطي "، أي: فهلا تقاتل القرمطي. فهذا عدول به عما ذكر إلى هذا الآخر الذي حض عليه في المستأنف. أو ليم على تركه في الماضي قال الشاعر جرير: تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم … بني ضوطري لولا الكميّ المقنّعا (¬1) أي: هلا تعدون الكمي المقنعا. وهذه الحروف مركبة من حرفين لهذا المعنى، والأصل فيها: هل، ولو، وأن. أضيف إليهم: لا، وما. ويجوز فيما بعدهن التقديم والتأخير، ويحسن، فيقال: " هلا زيدا ضربت "، " وهلا عمرا أكرمته " وخالفت هذه الحروف الحروف التي قبلها في جواز إضمار الفعل، التقديم والتأخير؛ لأن هذه الحروف جعل فيها معنى التحضيض، واستدعاء الفعل، فصارت كأنها الأفعال، فجاز إيلاء الاسم إياها تشبيها لها بالفعل، وحذف الفعل معها ¬

_ (¬1) البيت لجرير في ديوانه 338، الخزانة 1/ 461، 4/ 498، ابن عقيل 2/ 296، الدرر اللوامع 1/ 130.

لذلك، فمتى اضطر شاعر إلى تقديم الاسم في الحروف الأولى، وأوقع الفعل على ضميره وجب أن تضمر فعلا توقعه على الاسم، يكون الظاهر تفسيرا له، فتقول: " لم زيدا أضربه " و " قد زيدا ضربته "، و " سوف زيدا أضربه " على تقدير: لم أضرف زيدا أضربه، وقد ضربت زيدا ضربته، وسوف أضرب زيدا أضربه. ولا بد من تقدير هذا: لأن هذه الحروف لا معنى لوقوعها على الأسماء. والأفعال المشغولة بضميرها لا يصح تقديرها بعد هذه الحروف؛ لأن الأسماء المضمرة المنصوبة قبلها توجب ضرورة إضمار الفعل، وكذلك إذا قال: " هلا زيدا ضربته "، وجب أن تضمر فعلا توقعه على " زيد "، ويكون الظاهر تفسيرا له. والذي يليه الاسم والفعل نحو: " ما، وإنما، وألف الاستفهام، وهل، وسائر حروف الاستفهام " وما جرى مجراهن. فإن قال قائل: ما الذي أحوج سيبويه إلى ذكر هذه الحروف في صدر هذا الباب وهو باب الاستفهام؟ قيل له: لأن المعنى الذي من أجله يختار إضمار الفعل بعد حروف الاستفهام هو موجود في هذه الحروف، وذلك أن هذه الحروف حكمها أن تدخل على الأفعال لا غير، فإذا وليها الاسم أضمر بعدها فعل، وكذلك حرف الاستفهام حكمه أن يدخل على الفعل، إذا اجتمع الاسم والفعل بعده. فإذا وليه الاسم وقد وقع الفعل على ضميره، اختير إضمار الفعل. فحرف الاستفهام مشاكل لهذه الحروف في باب أنه أولى بالفعل، غير أنه يجوز أن يليه الاسم ولا يضمر الفعل بعده؛ لأنه يجوز أن يدخل على مبتدإ وخبر، كقولك: " أزيد قائم "، و " أزيد أخوك "، و " هل زيد منطلق "؟ فإن قلت: " هل زيدا رأيت؟ "، و " هل زيد ذهب؟ " قبح. ولم يجز إلا في الشعر؛ لأنه لما اجتمع الاسم والفعل حملوه على الأصل. واعلم أن ألف الاستفهام هي أم حروف الاستفهام، ومعنى ذلك أنها تدخل على الاستفهام في جميع مواضعه، وغيرها من حروف الاستفهام تلزم موضعا وتختص به، وتنتقل عنه إلى غير الاستفهام، نحو قولنا: " من، وكم، وهل " وما أشبه ذلك. فأما " من ": فهي للاستفهام عما يعقل، وقد تنتقل فتكون بمعنى الذي، وفي المجازاة.

وأما " كم " فللسؤال عن العدد وقد تنتقل فتكون بمعنى " ربّ ". وأما " هل ": فقد تكون بمعنى " قد " كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (¬1) في معنى: قد أتى على الإنسان، وقال الشاعر: سائل فوارس يربوع بشدّتنا … أهل رأونا بسفح القفّ ذي الأكم فأدخل الاستفهام عليها، وغير جائز أن يدخل استفهام على استفهام. ولا يستفهم بها في جميع المواضع، لو قال قائل: " رأيت زيدا "، فأردت أن تستثبت جاز أن تقول: " أزيدا رأيته؟ "، ولا يجوز أن تقول: " هل زيدا رأيته ". فقد تبين أن الألف أعم في الاستفهام من غيرها، فتوسعوا فيها بأكثر مما توسعوا في غيرها، فلم يستقبح أن يكون بعدها ابتداء وخبر، واستقبح ذلك في غيرها من حروف الاستفهام لقلة تصرفها في موضع الألف، وبدءوا بالفعل الذي حكمه أن يقدم. قال: (فإن اضطر شاعر فقدم الاسم نصب كما كان فاعلا ذلك " بقد " ونحوها). يعني: إن اضطر شاعر فقال: " هل زيدا رأيت "، أو " هل زيدا رأيته "، نصب الاسم، وأما في قوله: " هل زيدا رأيت "، فتنصبه " برأيت "، وأما في قوله: " هل زيدا رأيته " فتنصبه بإضمار فعل يكون هذا تفسيره، كأنه قال: " هل رأيت زيدا رأيته ". قال: (وهو في هذه أحسن لأنه يبتدأ بعدها الأسماء). يعني: تقديم الاسم في حروف الاستفهام أحسن من تقديمه في " قد "؛ لأن حروف الاستفهام يليها المبتدأ والخبر، كقولك: " هل زيد منطلق "، وقد لا يليها إلا بالفعل. قال: (وإنما فعلوا ذلك في الاستفهام؛ لأنه كالأمر في أنه غير واجب، وإنما تريد من المخاطب أمرا لم يستقر عند السائل). أراد أن الاستفهام يشبه الأمر، وذلك أنك تستفهم عن أمر يجوز أن يكون عندك موجودا، ويجوز أن يكون معدوما، وتأمر بشيء يجوز أن يفعل، ويجوز ألا يفعل، فلما كان الأمر لا يكون إلا بفعل، اختاروا أن يكون الاستفهام بالفعل. قال: (ألا ترى أن جوابه جزم؛ فلهذا اختير النصب، وكرهوا تقديم الاسم، لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء، وجوابها كجوابه، وقد يصير معنى ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، الآية: 1.

حديثها إليه، وهي غير واجبة كالجزاء، فقبح تقديم الاسم (لهذا)، ألا ترى أنك إذا قلت: " أين عبد الله آته "، فكأنك قلت: " حيثما يكن آته "). أما قوله: (ألا ترى أن جوابه جزم). يعني: ألا ترى أن جواب الاستفهام جزم كما يكون جواب الأمر، تقول: " أين زيد آته "، كما تقول: " ائتني آتك "، والتقدير: أين زيد إن أعرف مكانه آته، وائتني إن تأتي آتك. فقد بين لك التشاكل بينهما. وقوله: (وكرهوا تقديم الاسم؛ لأنها حروف ضارعت بما بعدها ما بعد حروف الجزاء). يعني: أن حروف الاستفهام أيضا تشبه حروف الجزاء؛ لأنها يجازى بها، وهي غير واجبة، كما أن حروف الجزاء غير واجبة؛ لأن فعل الشرط قد يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع كالاستفهام. وقوله: (وقد يصير معنى حديثها إليه). يعني: إذا قلت: " أين زيد آته " " فأين زيد " استفهام. وقوله: (آته مجازاة وقد صار الاستفهام نائبا عن شرطه، فقد صار معنى حديث الاستفهام إلى الجزاء). ويعني بقوله: (معنى حديثه). يريد: الذي يقصد إليه بلفظ الاستفهام، يؤول معناه إلى الجزاء، وليس بحديث في الحقيقة؛ لأن الحديث ما كان خبرا. وقد مثل ذلك سيبويه، فقال: (إذا قلت: " أين عبد الله آته؟ " فكأنك قلت: حيثما يكن آته) ومعناهما واحد، وأحدهما استفهام، والآخر جزاء. قال سيبويه: (وأما الألف فتقديم الاسم فيها قبل الفعل جائز، كما جاز ذلك في " هلا "، وذلك لأنها حرف الاستفهام الذي لا يزول عنه إلى غيره، وليس للاستفهام في الأصل غيره). قال أبو سعيد: وقد قدمنا قوة الألف في باب الاستفهام على غيره من الحروف، وبينّا حسن إيلاء الاسم إياها لقوتها في بابها، فحسن أن نقول: " أزيد ضربته " لذلك؛ ولم يحسن " هل زيد ضربته "، وشبهه سيبويه " بهلا "، من قبل أنك تقول: " هلا زيدا ضربت "،

فيحسن، ولا يحسن " قد زيدا ضربته "، فتشبه " هلا " بالألف في إيلاء الاسم إياها، وبينهما فرق. وذلك أن ألف الاستفهام قد يجوز أن يليها الاسم المبتدأ المرفوع بالابتداء، ولا يجوز أن يلي " هلا "، وذلك لأنها قد جعلت للفعل فقط، ولكن لها قوة، أعني " لهلا " على الحروف التي يليها الفعل، جاز من أجلها تقديم الاسم على الفعل العامل فيه، ومتى رفع الاسم بعد " هلا " فهو بإضمار فعل لا بالابتداء، كقولك: " هلا زيد ضربته "، كأنك قلت: " هلا ضرب زيد ضربته ". ومعنى قوله: (لأنها حرف الاستفهام الذي لا يزول عنه). يعني الألف لا تكون إلا للاستفهام، وإن كانت تكون في معنى التقرير والجحد، كقولك: " ألم آتك "، أي: قد أتيتك، وكقول الله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ (¬1) وهو لم يقل. فهذا لفظ الاستفهام، وإن كان قد استعمل في معنى التقرير، وذلك أن المقرر مستدع لاعتراف المقرر، فهو بمنزلة المستفهم المستدعي إخبار المستفهم فهما جميعا من واحد واحد، وكذلك كل ما دخله ألف الاستفهام في معنى جحد أو إيجاب، ففيه استدعاء إقرار المخاطب، ألا ترى أن رجلا لو قال: " زيد قائم "، لم يكن على المخاطب أن يجيبه من هذا بشيء. وإن قال له: " أليس زيد بقائم " على سبيل التقرير، كان عليه أن يقول: " بلى " أو " لا ". وسائر حروف الاستفهام تكون لها معان غير الاستفهام كما ذكرنا في " من " و " هل ". قال: (وإنما تركوا الألف في من، ومتى، وهل، ونحوهن حيث أمنوا الالتباس). قال أبو سعيد: الأصل عند سيبويه في قولك: " من أخوك؟ "، أن تقول: " أمن أخوك؟ " لأن " من " اسم مبتدأ، و " أخوك " خبر، فكأنك قلت: " أزيد أخوك؟ " ولكن لما كانت " من " غير مستعملة في مواضع الأسماء كلها، وإنما تستعمل في الاستفهام والمجازاة، وبمعنى الذي إذا وصلت صلة الذي استغنوا عن الألف فيها؛ لأنها لا تشكل ولا يظن بنزع الألف منها أنها خبر، لأنها لو كانت خبرا لوصلت، وقد يجوز أن تقول: " من عندك أم من جاءك؟ ". فقد دخلت " أم " على " من " وهي نظيرة الألف، فقد علمت بهذا ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية: 116.

أن الأصل دخول الألف عليها، وأن أطراحها لعلم المخاطب، فإذا وصلت " من "، فجعلتها بمعنى الذي، جاز أن تدخل عليها ألف الاستفهام، قال الله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬1) كأنه قال: آالذي يلقي في النار خير أم الذي يأتي آمنا. ونقول: " أم هل " بمعنى قد، وقد ذكرناه. قال: (وهي ها هنا بمنزلة " إن " في باب الجزاء). يعني: ألف الاستفهام من بين حروف الاستفهام في القوة بمنزلة " إن " من بين حروف المجازاة في القوة، يحسن في " إن " خاصة تقديم الأسماء كما قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (¬2) فأولى " إن " الاسم، ورفعه عند البصريين بإضمار فعل، فكأنه قال: " وإن استجارك أحد من المشركين استجارك " ولا يجوز غير ذلك عند البصريين. وكان الفراء يزعم أن رفع " أحد " بالضمير الذي يعود إليه من استجارك، كقولك " زيد استجارك "، وهذا يستقصى في موضعه إن شاء الله. قال: (ويختار فيه النصب؛ لأنك تضمر الفعل فيها؛ لأن الفعل أولى إذا اجتمع هو والاسم، وكذلك كنت فاعلا في باب " إن "، لأنها إنما هي للفعل، وسترى بيان ذلك) إن شاء الله. يعني: أن ألف الاستفهام وإن كان إيلاء الاسم إياها جائزا فإن الاختيار أن يليها الفعل إذا اجتمع الفعل والاسم، وقد ذكرنا هذا، وكذلك يجب في باب " إن ". قال: (والألف إذا كان معها فعل بمنزلة لولا، وهلا، إلا أنك إن شئت رفعت فيها). يعني: أن ألف الاستفهام أولى بالفعل، وحكم الفعل أن يليها كما يلي " لولا، وهلا "، إلا أنه يجوز أن ترفع في الألف، يعني: ترفع الاسم بالابتداء بعد الألف. قال: (وهو في الألف أمثل منه في " متى " ونحوها). يعني: رفع الاسم بعد الألف أقوى منه بعد متى. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 40. (¬2) سورة التوبة، آية: 6.

هذا باب ما ينتصب في الألف

قال: (لأنه قد صار فيها، مع أنك تبتدئ بعدها الأسماء، أنك تقدم الاسم قبل الفعل). يعني أن الألف قد اجتمع فيها أنه يليها الابتداء، كقولك: " أزيد ضربته ". ويليها الاسم المنصوب الذي يعمل فيه الفعل الذي بعده، كقولك: " أزيدا ضربت "، وهو حسن جيد، ألا ترى أنك تقول: " أزيدا ضربت أم عمرا؟ "، وهو الاختيار قال: (والرفع فيه على الجواز). يعني: أن الرفع في الألف على الجواز، لا على الاختيار. (ولا يجوز ذلك في " هلا " و " لولا "؛ لأنه لا يبتدأ بعدها الأسماء). لا يجوز أن تقول: " هلا زيد قائم "، ولكن يجوز أن تقول: " هلا زيد ضربته "، على معنى " هلا ضرب زيد ضربته ". قال: (وليس جواز الرفع في الألف، مثل جواز الرفع في " ضربت عمرا "، و " زيدا كلمته "). قال أبو سعيد: وقد قدمنا أن الاختيار " ضربت زيدا، وعمرا كلمته " ويجوز و " عمرو كلمته "، والاختيار " أزيدا ضربته " ويجوز " أزيد ضربته ". غير أن الرفع في قولك: " وعمرو كلمته " أحسن؛ لأن الألف بالفعل أولى مثل المجازاة والأمر والأشياء التي هي بالفعل أولى، و " عمرا كلمته "، إنما يختار فيه النصب طلبا للمشاكلة، وحملا للجملة الثانية على ما يجاورها من الجملة الأولى، وليس فيها حرف هو بالفعل أولى فاعرف ذلك إن شاء الله. هذا باب ما ينتصب في الألف تقول: (" أعبد الله رأيته "، و " أزيدا مررت به "، و " أعمرا قتلت أخاه "، و " أعمرا اشتريت له ثوبا ". ففي هذا كله قد أضمرت بين الألف والاسم فعلا هذا تفسيره، كما فعلت ذلك فيما نصبته في هذه الحروف في غير الاستفهام). يعني: أنك إذا قلت: " أعبد الله ضربته "، كان تقديره " أضربت عبد الله ضربته "، وكان هذا أولى في الألف؛ لأنها جيء بها للاستفهام عن الفعل؛ لأن المستفهم لا يشك في الاسم، وإنما شكه في الفعل، فأولوها المعنى الذي له دخلت، وكان ذلك الاختيار عندهم.

وقوله: (كما فعلت ذلك فيما نصبته في هذه الحروف في غير الاستفهام). يعني: أضمرت فعلا ينصب الاسم في الاستفهام، كما أضمرت فيما قبل الاستفهام فعلا ينصب؛ لأن الاستفهام غير عامل، ولم يعن بقوله: " الحروف ": حروف المعاني، وإنما أراد الأسماء والأفعال التي أشار إليها. (قال جرير: أثعلبة الفوارس أم رياحا … عدلت بهم طهيّة والخشابا) (¬1) أراد: أذكرت ثعلبة الفوارس؛ لأن " عدلت " يتعدى بحرف جر، وتضمر " قست "، أو " مثلت "، أو ما يقارب الفعل المذكور. وقال: (فإذا أوقعت الفعل عليه، أو على شيء من سببه نصبته، وتفسيره ها هنا هو التفسير الذي فسر في الابتداء: أنك تضمر فعلا هذا تفسيره). يعني: أن الفعل الذي ينصب هذا الاسم قبل دخول الاستفهام، هو الذي ينصبه إذا دخل الاستفهام. قال: (إلا أن النصب هو الذي يختار ها هنا، وهو حد الكلام، وأما الانتصاب ثمّ وها هنا فمن وجه واحد). يعني: أنك إذا قلت: " زيدا ضربته "، فتقديره: " ضربت زيدا ضربته ". وإذا قلت: " زيدا مررت به "، فتقديره، " لقيت زيدا مررت به "، وإذا قلت: " زيدا لقيت أخاه " فتقديره: " لابست زيدا لقيت أخاه "، فإذا أدخلت ألف الاستفهام على هذا، فتقديره أيضا: " أضربت زيدا ضربته "، و " ألقيت زيدا مررت به "، و " ألابست زيدا لقيت أخاه ". فالنصب مع الاستفهام يقدر بالعامل الذي يقدر في الابتداء، وهو في الاستفهام مختار، وفي الابتداء الاختيار الرفع. قال: (ومثل ذلك: " أعبد الله كنت مثله "؛ لأن " كنت " فعل، و " المثل " مضاف إليه، وهو منصوب ومثله " أزيدا لست مثله "؛ لأنه فعل فصار بمنزلة " أزيدا لقيت أخاه، وهو قول الخليل). وقد بينا أن قولنا: " كان زيد قائما " في التصريف والعمل، بمنزلة " ضرب زيد ¬

_ (¬1) الديوان 66، أمالي المرتضى 2/ 57، الأعلم 1/ 52.

رجلا "، وإذا قلت: " كنت زيدا "، فهو بمنزلة قولك: " ضربت زيدا ". وإذا قلت: " كنت مثل زيد "، فهو بمنزلة قولك: " ضربت مثل زيد لك "، فإذا قلت: " أعبد الله كنت مثله "، فهو بمنزلة قولك: " أعبد الله ضربت مثله، وضربت أخاه ". وليس بمنزلة " كان "، وإن كان لا يتصرف " أعبد الله ضربت مثله "، و " ضربت أخاه "، وليس لها مستقبل، ولا اسم فاعل؛ لأنها فعل يتصل بها كنايات الفاعلين، كقولك: لست، ولسنا، ولستما، ولستم، وما أشبه ذلك. وقد فهم من قول سيبويه في هذا الموضع أنه يجيز " قائما ليس زيد "، فيقدم خبر " ليس " عليها. وقد أنكر بعض النحويين تقديم خبرها عليها، وتقديمه جائز؛ لأن الذي منع " ليس " من التصرف في نفسها: أن معناها في زمان واحد، وإنما جاز تقديم الخبر في " ليس "؛ لأنها فعل يتصل بها الضمائر التي ذكرناها، ولا خلاف بين النحويين في جواز تقديم خبرها على اسمها، كقولك: " ليس قائما زيد "، فهذا أحد ما يدل على جواز التقديم؛ لأن تقديم الخبر على الاسم ضرب من التصرف. فإن قال قائل: " نعم، وبئس " - على قولكم- فعلان، ولا يجوز تقديم ما يعملان فيه عليهما، وكذلك فعل التعجب، إذا قلت: " ما أحسن زيدا "، ولا يجوز تقديم الاسم عليه. قيل له: بين " ليس " وبين فعل التعجب، و " نعم، وبئس " فرق وذلك؛ لأن " ليس " لا يمتنع دخولها على الأسماء كلها، مضمرها ومظهرها، ومعرفتها ونكرتها، ويتقدم اسمها على خبرها، وخبرها على اسمها، و " نعم، وبئس " لا يتصل بها كناية المتكلم، ولا يقعان على الأسماء الأعلام، وفعل التعجب يلزم طريقة واحدة، ولا يكون فاعلها إلا ضمير " ما "، فكانت " ليس " أقوى منها. قال: فإن قال قائل: فأنتم تقولون: " عسى زيد أن يقوم "، " زيد " يرتفع " بعسى "، و " عسى " فعل، " وأن يقوم " في موضع نصب. و " عسى " فعل يتصل به الكنايات؛ لأنك تقول: " عسيت، وعسينا، وعسيتم "، ومع هذا كله لا يجوز تقديم " أن " على " عسى "، لا تقول: " أن يقوم عسى زيد "، على تقدير: عسى زيد أن يقوم. قيل له: لا يشبه " عسى " " ليس "؛ لأن " عسى " وضعت للدلالة على المستقبل بلفظ " أن "، حتى لا يحسن نقل " أن " إلى المصدر، فلا يقال: " عسى زيد القيام "، و " أن " إذا

تقدمت، فليس قبله معنى يمنعها من جعل المصدر مكانها. ألا ترى أنا نقول: " أن تصوم خير لك "، إنما تريد: الصوم خير لك، ولو جعلنا " الصوم " مكان " أن تصوم " لجاز، ولا يجوز مع " عسى " أن تنقل إلى لفظ المصدر " أن "، فتقول: " عسى زيد الصوم "، مكان " عسى زيد أن يصوم "، فلما أحدثت " عسى " هذا المعنى في " أن " لم تقدم عليها. قال سيبويه: (ومثل ذلك " ما أدري أزيدا مررت به أم عمرا " و " ما أبالي أعبد الله لقيت أخاه أم عمرا "؛ لأنه حرف استفهام وهي تلك الألف التي في قولك: " أزيدا لقيته أم عمرا "). يعني: لأن حرف الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، فإذا كان قبله فعل فهو ملغى، وإنما يقع قبله من الأفعال ما كان من أفعال القلوب نحو: العلم، والظن، والشك، والمبالاة؛ وما كان من أفعال اللسان، نحو: القول، والإخبار، والزعم، فإذا ألغي الفعل الذي قبل الاستفهام، صار الاستفهام كأنه مبتدأ، فأجرى على حكمه إذا كان مبتدأ. قال: (وتقول: أعبد الله ضرب أخوه زيدا، لا يكون إلا الرفع؛ لأن الذي من سبب عبد الله مرفوع فاعل، والذي من مسببه مفعول، فيرفع إذا ارتفع الذي من سببه كما ينتصب إذا انتصب، ويكون المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب، فإنما جعل هذا المضمر بيان ما هو مثله). يعني: أنه يجوز أن تنصب " عبد الله "؛ لأن نصبه يكون من وجهين: إما أن يكون الفعل الذي بعده واقعا على ضميره، فيضمر فعل ينصبه. وإما أن يكون الفعل الذي بعده واقعا على سببه فيضمر ما ينصبه على حسب ما قدمنا، وهذه المسألة الفعل فيها واقع من سببه بزيد، فوجب رفع " عبد الله " على أحد وجهين: إما أن يكون بالابتداء، وإما أن يكون بإضمار فعل يرفع، كأنك قلت: ألا بس عبد الله زيدا ضرب أخوه زيدا. وقول سيبويه: (ويكون المضمر ما يرفع، كما أضمرت في الأول ما ينصب). يحتمل هذين الوجهين: إن شئت قدرت الابتداء، وإن شئت قدرت فعلا، ويكون المضمر بمعنى المقدر. وإنما أضمرت فعلا يرفع " عبد الله "، إذ كان سببه فاعلا، كما أضمرت فعلا ينصبه، حيث كان سببه مفعولا في قولك: " أعبد الله ضرب أخاه زيد ".

وقوله: (فإنما جعل هذا المضمر بيان ما هو مثله). يريد بقوله: بيان المبين، يعني: هذا المضمر بيان الظاهر، يريد مبين الظاهر؛ لأن الظاهر قد بينه ودل عليه. والمصدر قد يكون اسما للفاعل والمفعول. فالفاعل قولك: " هذا رجل عدل " و " ماء غور "، يريد: عادل، وغائر. والمفعول قولك: " هذا رجائي "، أي: مرجوي. و " درهم ضرب "، أي: مضروب. ومن الناس من يروي: فإنما جعل هذا المظهر بيان ما هو مثله، ويقول " المضمر " خطأ في الرواية، فإذا قال: المظهر، فإنما يريد أن الفعل الظاهر قد بيّن المضمر، ودل عليه، فالبيان ها هنا المبين. قال: (وتقول: " أعبد الله ضرب أخوه غلامه "، إذا جعلت الغلام في موضع " زيد "، حين قلت: " أعبد الله ضرب أخوه زيدا "، فيصير هذا تفسيرا لشيء رفع " عبد الله "؛ لأنه يكون موقعا للفعل بما يكون من سببه، كما يوقعه بما ليس من سببه، كأنه قال في التمثيل، وإن كان لا يتكلم به " أعبد الله أهان غلامه، أو عاقب غلامه "، أو صار في هذه الحال عند السائل وإن لم يكن، ثم فسر: وإن جعلت الغلام في موضع " زيد " فاعلا حين رفعت " زيدا "، نصبت، فقلت: " أعبد الله ضرب أخاه غلامه "، كأنه جعله تفسيرا لفعل أوقعه غلامه عليه؛ لأنه قد يوقع الفعل عليه ما هو من سببه كما يوقعه هو على ما هو من سببه، وذلك قولك: " أعبد الله ضربت أخاه "، و " أعبد الله ضربه أخوه " فجرى مجرى " أعبد الله ضرب زيدا " و " أعبد الله ضربه زيد "، فكأنه في التمثيل تفسير لقوله: " أعبد الله أهانه غلامه "، و " أعبد الله أهان غلامه " و " أضرب أخاه غلامه ". ولا عليك أقدمت " الأخ " أم أخرته أم قدمت " الغلام " أم أخرته، أيهما ما جعلته " كزيد " مفعولا، فالأول رفع، وإن جعلته " كزيد " فاعلا فالأول نصب). جملة هذا الكلام: أن الاسم الذي يلي حرف الاستفهام، إذا أتى بعده سببان له: أحدهما فاعل والآخر مفعول به، فلا بد من حملة على أحدهما؛ لأنه لا يمكن حمله عليهما؛ لأنك لو حملته عليهما لنصبته ورفعته في حال واحدة؛ لأن أحد سببيه مرفوع، والآخر منصوب، ومحال أن يكون هو مرفوعا منصوبا في حال، فإذ قد استحال هذا، فلا بد من حمله على أحدهما، فإذا حملناه على أحدهما صار الآخر كأنه أجنبي؛ فإن حملته على المرفوع منهما رفعته على الشرط الذي ذكرناه في قولك: " أعبد الله ضرب أخوه زيدا "،

وإن حملته على المنصوب منهما، صار بمنزلة قوله: " أعبد الله ضرب أخاه زيد "، فإذا قلنا: " أعبد الله ضرب أخوه غلامه "، فحملناه على " الأخ " وهو الفاعل، صار " عبد الله " كأنه الفاعل، فأضمرنا فعلا يرفعه، كأنا قلنا: " أعبد الله ضرب غلامه "، وإذا حملناه على " الغلام " فكأن الفعل به واقع من أخيه به، فيصير التقدير: " أعبد الله ضرب أخوه ". وقول سيبويه: (كأنه قال في التمثيل- وإن كان لا يتكلم به- " أعبد الله أهان غلامه، أو عاقب غلامه "). يريد: وإن كان لا يتكلم به في هذا المعنى الذي ذكره، وهو قولك: " أعبد الله ضرب أخوه غلامه "، وإنما جعله تقدير الرفع " عبد الله " في هذا الكلام، ولا يؤدي عن معناه بعينه. (وتقول: " آلسوط ضرب به زيد "، وهو كقولك: " آلسوط ضربت به " وكذلك " آلخوان أكل عليه اللحم " وكذلك " أزيدا سميت به، أو سمي به عمرو "؛ لأن هذا في موضع نصب). قال أبو سعيد: اعلم أنك إذا قلت: " أكل اللحم على الخوان "، و " ضرب زيد بالسوط، و " سمي أخوك بزيد "، فهذه الحروف في موضع نصب، وذلك أنك أقمت الأسماء مقام الفاعل، فصارت هي في موضع نصب، وحلت محل قولك: " مررت بزيد "، " مر زيد بعمرو "، " ونزل زيد على أخيك "، فلما اتصلت الحروف بكنايات هذه الأسماء، وقد قدمت الأسماء، وجب أن تنصبها؛ لأن الحروف التي اتصلت بكناياتها في موضع نصب، فصار بمنزلة قولك: " أزيدا مررت به ". قال: (وإنما تعتبره أنك لو قلت: " السوط ضربت " فكان هذا كلاما أو " الخوان أكلت "، لم يكن إلا نصبا كما أنك لو قلت: " أزيدا مررت "، فكان كلاما، لم يكن إلا نصبا فمن ثمّ جعل هذا الفعل الذي لا يظهر تفسيره تفسير ما ينصب، فاعتبر ما أشكل عليك من هذا بذا). يعني: الذي يدلك على أن موضع هذه الحروف نصب، أنه لو كان هذا الفعل يتعدى بغير حرف، ثم جئت باسمه تقيمه مقام الفاعل، لم يكن الاسم الآخر إلا نصبا، كقولك: " ضرب زيد السوط "، و " أكل اللحم الخوان "، فهذا لا يتكلم به، ولو تكلم به لم يكن إلا نصبا؛ لأنه لا يرتفع اسمان بفعل واحد.

قال: (وإن قلت: أزيد ذهب به "، أو " أزيد انطلق به "، لم يكن إلا رفعا؛ لأنك لو لم تقل " به "، فكان كلاما. لم يكن إلا رفعا. كما قلت: " أزيد ذهب أخوه "؛ لأنك لو قلت: " أزيد ذهب " لم يكن إلا رفعا). قال أبو سعيد: اعلم أنك إذا قلت: " ذهب بزيد " " فالباء " في موضع رفع؛ لأنه لا بد للفعل من فاعل أو ما يقوم مقام الفاعل، فلما لم يكن غير " الباء "، أقيمت " الباء " مقام الفاعل. وإذا قلت: " ذهبت بزيد "، " فالباء " في موضع نصب لا غير؛ لأن " التاء " قد ارتفعت بالذهاب، فانتصب موضع " الباء "؛ لاشتغال الفعل بغيرها، فإذا اشتغلت الباء بالذهاب، واتصلت بكناية اسم قبل الفعل فهي في موضع رفع، ورفع ذلك الاسم؛ لأن الذي اتصلت به كنايته مرفوع، كقولك: " أزيد ذهب به، وانطلق به "، وصار بمنزلة قولك: " أزيد ذهب أخوه "؛ لأن كناية " زيد " اتصلت " بالأخ "، و " الأخ " مرفوع، كما اتصلت " بالباء "، وهي مرفوعة فاستويا، ورفع زيد على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما: إن شئت بالابتداء وإن شئت بإضمار فعل. قال أبو سعيد: ويجوز عندي نصب " زيد " في قولك: " أزيد ذهب به "، و " أزيد انطلق به "، بأن تقيم المصدر مقام الفاعل، فإذا أقمنا المصدر مقام الفاعل صار موضع الباء نصبا، وكأنك قلت: " أزيدا ذهب الذهاب به "، وإذا صار موضع الباء نصبا نصبت " زيدا "؛ لأن كنايته اتصلت بمنصوب، وصار بمنزلة قولك: " أزيدا ضربت أخاه "، وهذا لا يمتنع منه أحد من البصريين. وقد قال أبو العباس المبرد في كتاب (المقتضب) في " سير بزيد يوم الجمعة فرسخين " ذكر فيها وجوها منها: أن تقيم " يوم الجمعة ". مقام الفاعل وتنصب الباقي. ومنها: أن تقيم " الفرسخين " مقام الفاعل وتنصب الباقي. ومنها: أن تقيم " الباء " مقام الفاعل، وتنصب الباقي. ومنها: أن تقيم المصدر مقام الفاعل، ويكون التقدير: " سير السير "؛ لأن الفعل يدل على المصدر، فإذا أقمت المصدر مقام الفاعل صار الباقي في موضع نصب، ووجب فيه ما قلنا. قال: (وتقول: " أزيدا ضربت أخاه "؛ لأنك لو ألقيت الأخ لقلت " أزيدا ضربت "

فاعتبر هذا بهذا، ثم اجعل كل واحد جئت به تفسير ما هو مثله). يعني: أن الاسم المنصوب الذي ولى الاستفهام، ووقع الفعل على ضميره أو على ما اتصل بضميره، إنما تعتبر لزوم نصبه بأن تحذف ضميره من الفعل أو تحذف ما اتصل بضميره. فإن كان الفعل يتسلط عليه فينصبه علمت أن حكمه أن يكون منصوبا بإضمار فعل يكون هذا تفسيره، وإن لم يتسلط عليه ناصب له فليس حكمه أن يكون منصوبا بإضمار فعل. مثال ذلك أنك تقول: " أزيدا ضربته " تنصب " زيدا " بإضمار فعل؛ لأنك لو حذفت الهاء من " ضربته "، وجب أن تنصب " زيدا " ب " ضرب " هذا الظاهر. وإذا قلت: " أزيدا مررت به "، لو حذفت " الباء " وضمير " زيد " لوجب أن تقول: " أزيدا مررت "، لو كان مما يتعدى بغير حرف، وكان يعمل " مررت " في " زيد ". وإذا قلت: " أزيدا ضربت أخاه "، ثم حذفت " الأخ "، لوجب أن تقول: " أزيدا ضربت "، فوجب أن يكون هذا الفعل الذي يتصل " بزيد "، فينصبه- إذا حذفت الكنايات بعده- وهو الذي يفسر ما ينصب " زيدا " إذا جعلت بعده كنايته. وإذا قلت: " أزيد ذهب به "، و " أزيد قام أخوه "، لو حذفت " الأخ "، و " الباء " وبقيت " أزيد ذهب " أو " أزيد قام "، ما جاز أن يتسلط عليه فينصبه. فعلمت بذلك أنه لا يكون تفسير شيء ينصب " زيدا " فإذا لم يكن كذلك لم ينصب " زيدا ". قال سيبويه: (واليوم والظروف بمنزلة " زيد وعبد الله "، إذا لم يكن ظروفا، وذلك قولك: " أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله " كقولك: " أعمرا تكلم فيه عبد الله " و " أيوم الجمعة ينطلق فيه " كقولك: " أزيد يذهب به "). يعني: إذا قلت: " أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله " فهو في موضع نصب؛ لأن " عبد الله " يرتفع ب " ينطلق "، وإذا ارتفع به، انتصب غيره مما يتعلق بالفعل، فصار " يوم الجمعة " منصوبا؛ لأن كنايته تتصل بمنصوب، وإذا قلت: " أيوم الجمعة ينطلق فيه " " ففي " موضعها رفع بإقامتها مقام الفاعل، وكناية " اليوم " تتصل بها، فصار " اليوم " مرفوعا، ويجوز فيه الوجه الذي ذكرناه: وهو أن تقيم المصدر مقام الفاعل، وتجعل موضع " في " منصوبا. قال: (وتقول: " أأنت عبد الله ضربته " تجريه ها هنا مجرى " أنا زيد ضربته "، لأن الذي يلي حرف الاستفهام " أنت "، ثم ابتدأت هذا، وليس قبله حرف استفهام ولا

شيء هو بالفعل، وتقديمه أولى، إلا أنك إن شئت نصبته كما نصبت " زيدا ضربته "، فهو عربي جيد. وأمره ها هنا على حد قولك: " زيد ضربته "). قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ومن ذهب مذهبه، إذا حال بين حرف الاستفهام وبين الاسم الذي وقع الفعل على ضميره باسم آخر، ولم يكن من سببه، جعل ذلك الاسم الحائل بينهما مخرجا للاسم الذي بعده عن حكم الاستفهام الذي من أجله يختار النصب فيه بإضمار فعل، فلم يجز النصب في " عبد الله "، إذا قلت: " أأنت عبد الله ضربته؟ "؛ لأن " عبد الله " لم يل حرف الاستفهام كما وليه في قولك: " أعبد الله ضربته؟ "، وحال أنت " بين ألف الاستفهام وبين " عبد الله "، فصار " عبد الله " كأنه مبتدأ ليس قبله حرف استفهام كقولك: " عبد الله ضربته " ومن قال: " عبد الله ضربته " في الابتداء، وليس بالاختيار، قال ها هنا: " أأنت عبد الله ضربته "، وإن لم يكن الاختيار على تقدير " أأنت ضربت عبد الله ضربته ". كما تقول: " عبد الله ضربته " على تقدير: " ضربت عبد الله ضربته " ويجب على مذهب سيبويه أن ترفع " أنت " بالابتداء لا غير في هذا الموضع. فإن قال قائل: لم لا ترفع " أنت " بفعل مضمر، لأن له ضميرا في الفعل مرفوعا وهو التاء في " ضربته "، فيصير التقدير: " أضربت عبد الله ضربته؟ ". وقد قال سيبويه في فصل قبل هذا: (ويكون المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب بعد قوله: " أعبد الله ضرب أخاه زيد ". والظاهر من هذا أنه يرفع " عبد الله " بإضمار فعل، كما ينصبه بإضمار فعل، إذا قلت: " أعبد الله ضرب أخاه زيد ") فوجب أن ترفع " أنت " بفعل يوقعه على " عبد الله " على ما ذكرنا. قيل له: بينهما فرق، وذلك أنّا إذا قلنا: " أعبد الله ضرب أخوه زيدا "، و " عبد الله " يلي حرف الاستفهام، والفعل الذي يعمل في سببه الرفع متصل به ولا فاصل بينهما، فهو بمنزلة قولك: " أعبد الله ضربت أخاه " في أن الاسم يلي حرف الاستفهام، وبعده الفعل الواقع بسببه متصلا بلا فاصل، وإذا قلنا: " أأنت عبد الله ضربته "، فبين " أنت "، وبين الفعل الذي فيه ضميره " عبد الله " يصح أن يكون مبتدأ فاصلا بين " أنت " وبين الفعل فلم يكن بنا حاجة إلى إضمار فعل ل " أنت "؛ لأن فعله لم يله، وقد فصل بينه وبينه، وقد كنا بيّنا أن قوله: " أعبد الله ضرب أخوه زيدا "، يجوز رفعه بالابتداء، ويكون كلاما مختارا، ويكون بينه وبين قولنا: " أعبد الله ضربته " فرق؛ لأن " عبد الله " إذا رفعناه بالابتداء أو بإضمار

فعل، فلفظهما واحد فكان الابتداء مختارا؛ لأنه أخف في التقدير وليس في اختياره تقدير لفظ، وليس لتقدير الفعل الواقع قبله لفظ يدل عليه، كما كان في المنصوب. وقد كان أبو عمر الجرمي يختار في قولنا: " أزيد قام "، أن يكون " زيد " مرتفعا بالابتداء. وكان الأخفش يختار أن يكون مرفوعا بفعل على تقدير: " أقام زيد قام "، وقد فسرنا قول سيبويه: ويكون المضمر ما يرفع أنه يحتمل أن يكون الابتداء، أعني: ويحتمل أن يكون عني فعلا يرفعه بما أغنى عن إعادته. وقال أبو الحسن الأخفش: " أأنت عبد الله ضربته "، النصب أجود؛ لأن " أنت " ينبغي أن يرتفع بفعل، إذ كان له فعل في آخر الكلام. وينبغي أن يكون الفعل الذي يرتفع به " أنت " ساقطا على " عبد الله "، وكأنه في التقدير: " أضربت أنت عبد الله ضربته " وقد ذكرنا هذا. قال: (فإن قلت: " أكلّ يوم زيدا تضربه "، فهو نصب كقولك: " أزيدا تضربه كل يوم "؛ لأن الظروف لا تفصل كما لا تفصل في قولك: " ما اليوم زيد ذاهبا "، و " إن اليوم عمرا منطلق "، فلا تحجز هاهنا كما لا تحجز ثمت). يريد: أن تقدم الظرف كتأخره في قولك: " أكلّ يوم زيدا تضربه "؛ لأنه لا فرق بين أن تقول: " أزيدا كل يوم تضربه "، وبين أن تقول: " أكل يوم زيدا تضربه ". ولا يشبه هذا قولك: " أأنت عبد الله ضربته "، ولا قولك: " أزيد هند يضربها "، وذلك أنك إذا قلت: " أأنت عبد الله ضربته "، رفعت " أنت " بالابتداء، ولم يكن فيما بعده ضمير له منصوب، ولا متصل بمنصوب، والعائد إليه التاء التي في " ضربته "، فهي ضمير مرفوع. وإذا قلت: " أكل يوم زيدا تضربه " فلا بد من نصب الظرف؛ لأنه لا عائد إليه، فإذا نصبناه فلا بد من أن تنصبه بالفعل الظاهر، أو المضمر الذي ينصب " زيدا ". فإن نصبناه بالظاهر فتقديره: " أزيدا تضربه كل يوم "، ويجب نصب " زيد "؛ لأنه يلي حرف الاستفهام. وإن نصبناه بالمضمر فتقديره: " أتضرب زيدا كل يوم تضربه "، فيجب نصب " زيد " بالفعل الذي تنصب به الظرف. فإن قال قائل: اجعله مرفوعا ويكون العائد إليه " فيه " محذوفه كقولك: " اليوم لقيتك "، على تقدير " لقيتك فيه "، فيكون تقدير هذا: " أكل يوم زيد تضربه فيه "، فيكون

" كل " مبتدأ، و " زيد " مبتدأ ثان، و " تضربه " خبر زيد، و " زيد " وما بعده خبر " كل ". قيل له: هذا جائز، وإنما كلامنا على الاختيار، فإذا قدرنا هذا التقدير لاتصل ضمير " كل " ب " في "، وهي في موضع نصب، فوجب اختيار نصب " كل "؛ لاتصال ضميره بالمنصوب. وبيّن سيبويه أن وقوع الظرف بين ألف الاستفهام، وبين الاسم لا يمنعه الحكم الأول، وكان الاسم هو الذي بعد حرف الاستفهام، والظرف ملغي، كما كان ذلك في قولك: " ما اليوم زيد ذاهبا "، و " إن اليوم عمرا منطلق "، كأنك قلت: " ما زيد ذاهبا اليوم "، و " إن عمرا منطلق اليوم ". قال: (ويقولون: " أعبد الله أخوه تضربه "، كما تقول: " أأنت زيد ضربته "). فترفع " عبد الله " بالابتداء، و " أخوه " ابتداء ثان، والهاء تعود إلى " الأخ "، وفي " تضربه " ضمير فاعل من " عبد الله "، وصار " عبد الله " حاجزا بين ألف الاستفهام وبين الأخ، كما بينا ذلك في قولك: " أأنت زيد ضربته "، وإن نصبته على حد قولك: " زيدا تضربه "، قلت: " أزيد أخاه تضربه " فترفع " زيدا " بالابتداء على ما بينا، وتنصب " الأخ " بفعل، هذا الظاهر تفسيره، كأنه قال: " أزيد يضرب أخاه يضربه "؛ لأن " الأخ " قد صار بمنزلة اسم مبتدأ ليس قبله شيء؛ لحيلولة " زيد " بينه وبين حرف الاستفهام. قال أبو الحسن: " أزيد أخاه يضربه "، الوجه النصب؛ لأن " زيدا " ينبغي أن يرتفع بفعل مضمر وذلك الفعل يقع على أخيه، وقد بينا هذا من قوله: في قولك: " أأنت عبد الله ضربته ". قال: وأما " أزيد أخوه تضربه " فليس الفعل من " زيد " في شيء؛ لأنه إنما وقع ها هنا على الأخ. هذا قول الأخفش ومذهبه في هذه المسألة اختيار رفع " زيد " بالابتداء؛ لأن " زيدا " لا فعل له في آخر الكلام، فيضمر قبله فعل له، ولا وقع بعده فعل ينصب ضميره فينصب. فالاختيار رفعه بالابتداء، ورفع " الأخ " بابتداء ثان، و " تضربه " خبر للأخ والجملة خبر لزيد، وقد خرج " الأخ " من وقوع حرف الاستفهام عليه لفصل " زيد " بينه وبينها، فصار بمنزلة المبتدأ، كأنك قلت: " أخوك تضربه "، وليس قبله كلام. ومن قال في الابتداء: " زيدا ضربته "، وإن لم يكن الاختيار لزمه أن ينصب " الأخ "، فإذا نصبت " الأخ " نصبته بإضمار فعل، كأنه قال: " تضرب أخاك تضربه ". فإذا قال ذلك، وجب أن يختار نصب " زيد " أيضا. لأنه نصب سببه الذي فيه ضمير يعود إليه ما بعده

فصار كأنه قال: " أزيدا ضربت أباه ". قال: فإن قال قائل: " أزيدا أخاه تضربه "، فما الذي ينصب " زيدا " و " الأخ " أهما فعلان أم فعل واحد؟ فإن قلت: فعل واحد، فكيف يستقيم هذا ومعناهما مختلف؟ لأن " زيدا " ليس بمضروب، و " أخوه " مضروب، ولا يجوز أن تضمر " لزيد " الضّرب، كما أضمرناه للأخ، ألا ترى أنا إذا قلنا: " أزيدا ضربت أخاه "، فإنما تقدّر: " ألا بست زيدا ضربت أخاه "، ولا تقدّر: " أضربت زيدا ". وإن كان نصبهما بفعلين مختلفين فكيف يصير " تضربه " تفسيرا لفعلين مختلفين؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما: أن هذا الفعل الواقع بضمير " الأخ "، قد دل على الفعل الذي نصب " الأخ "، فإذا دل عليه، صار كالظاهر وعلم ما هو، فإذا علم صار تفسيرا للفعل الذي نصب " زيدا "؛ لأن ما علم فهو كالظاهر وتقدير هذا: أنا إذا قلنا: " أزيدا أخاه تضربه "، نصبنا " زيدا ب لابست "، ونصبنا " الأخ " ب " تضرب "، فكأنا قلنا: " ألابست زيدا تضرب أخاه تضربه "، " فتضربه " الثاني الذي وقع على ضمير الأخ، قد دلّ على " تضرب " الذي نصب " الأخ "، ودل " تضرب " الذي نصب " الأخ " على " لابست " الذي نصب " زيد "، وهذا قول الأخفش. وفيه قول ثان: وهو أنا قد رأينا الفعل الواحد قد يدل في حال على نظيره في اللفظ، ويدل في حال أخرى على غير نظيره؛ فمن ذلك أنك إذا قلت: " أزيدا ضربته " فتقديره: أضربت زيدا ضربته، فدل " ضربته " على " ضربت " الذي هو نظيره. وإذا قلت: " أزيدا ضربت أخاه "، فتقديره: " ألابست زيدا ضربت أخاه "، فلم يدل " ضربت " على مثله، إنما دل على " لابست "، وإنما يدل على فعل يليق بمعنى الاسم الذي قبله، فإذا قلت: " أزيد أخاه تضربه "، دل تضربه على فعلين: فعل ينصب " الأخ "، وفعل ينصب " زيدا "، فيدل الضرب على ملابسة وضرب في حال واحدة، كما دل على الملابسة والضرب في حالين مختلفين، على حسب الأسماء التي قبله، وقد يجوز أن تقول: " أعبد الله أخاه تضربه "، كما قلت: " أعبد الله ضربت أخاه "، والاختيار ما وصفناه. قال سيبويه: (وقد يجوز الرفع في " أعبد الله مررت به " على ما ذكرت لك، و " أعبد الله ضربت أخاه " وأما قولك: " أزيدا مررت به "، فبمنزلة قولك: " أزيدا

ضربته " والرفع في هذا أقوى منه في قولك: " أعبد الله ضربته "، وهو أيضا قد يجوز). يعني أن الفعل لم يقم في قولك: " أعبد الله مررت به " على ضمير " عبد الله "، وإنما وقع على الباء، واتصلت الباء بضميره، وكذلك " أعبد الله ضربت أخاه "، وقع الفعل على " الأخ "، واتصل " الأخ " بضميره، وإذا قلت: " أعبد الله ضربته "، فقد وقع الفعل على ضميره، فصار " عبد الله " من الفعل أقرب، والفعل أشد له ملابسة، فيكون النصب فيه أجود، والرفع فيه أضعف منه في قولك: " أعبد الله مررت به "، و " أعبد الله ضربت أخاه " ومع هذا يجوز الرفع في قولك: " أعبد الله ضربته "، كما جاز الابتداء إذا قلت: " أعبد الله ضربته "، وكما جاز فيما بعد الجملة المبنية على فعل في قولك: " ضربت زيدا وعمرو كلمته "، وإنما جاز هذا؛ لأنك تجعل " عبد الله " مبتدأ، وتجعل ما بعده خبرا له، فيصير بمنزلة قولك: " أعبد الله أخوك ". وقال أبو الحسن: تقول: " أزيدا لم يضربه إلا هو " لا يكون فيه إلا النصب، وإن كانا جميعا من سببه؛ لأن المنصوب ها هنا اسم ليس بمنفصل من الفعل، وإنما يكون الأول على الذي ليس بمنفصل؛ لأن المنفصل يعمل كعمل سائر الأسماء، ويكون هو في مواضعها. وغير المنفصل لا يكون هكذا، وكذلك " أزيد لم يضرب إلا إياه "؛ لأن فعل " زيد " إذا كان مع اسم غير منفصل، لم يتعد إلى " زيد " ولم يتعد فعل " زيد " إليه، ألا ترى أنك لا تقول: " أزيدا ضرب "، وأنت تريد: " زيدا ضرب نفسه " ولا " أزيد ضربه " وأنت تريد أن توقع فعل " زيد " على " الهاء "، و " الهاء " لزيد؛ فلذلك لم يعمل في " زيد ". قال أبو سعيد: أعلم أن الأخفش ذكر هاتين المسألتين، وبناهما على أصول النحويين وتحتاج إلى شرح وإيضاح، وأنا أذكر ذلك مشروحا إن شاء الله تعالى. اعلم أن الأفعال المؤثرة إذا وقعت من الفاعل بنفسه لم يجز أن تتعدى ضميره المتصل إلى ضميره المنفصل كقولك: " ضربتني "، ولا " ضربتك "، ولا ما أشبه ذلك، وإنما يقال: " ضربت نفسي " و " شتمت نفسي "، و " أكرمت نفسي " وما أشبه ذلك. وإنما لم يجز هذا من قبل أن أكثر العادة الجارية من الفاعلين، أنهم يقصدون إلى إيقاع الفعل بغيرهم، فجرت الألفاظ على ذلك، والذي يوقعون به الفعل غيرهم. وأفعال الإنسان بنفسه هي الأفعال التي لا تتعدى نحو: " قام "، و " ذهب "، و " انطلق "، وما أشبه ذلك، فإذا أوقع الإنسان فعلا بنفسه على سبيل ما يفعله بغيره أجرى

لفظه على لفظ غيره فلم يعدّه إلى ضميره، وأتى بلفظ النفس فصار بمنزلة قولك: " ضربت غلامي ". وكان أبو العباس المبرد يقول: " إنما لم يجز ذلك؛ لأن الفاعل بالكلية لا يكون مفعولا بالكلية ". قال أبو سعيد: وهذا قول يضمحل، ويبطل؛ لأنه لا خلاف بينهم أنه يجوز أن تقول: " ما ضربني إلا أنا "، وضمير الفاعل هو ضمير المفعول، فلو كان الأول غير جائز؛ لأن الفاعل لا يكون مفعولا، لما جاز هذا؛ لأن الفاعل هو المفعول، وإن كان الضمير منفصلا. وكان الزّجّاج يقول: إنهم استغنوا بالنفس عن الضمير، كما استغنوا بكليهما عن " أجمعين "، ألا ترى أنك تقول: " قام الزيدون أجمعون "، و " قام الزيدون كلهم "، وتقول: " قام الزيدان كلاهما "، ولا تقول: " قام الزيدان أجمعان " فكذلك استغنوا ب " ضربت نفسي " عن قولهم " ضربتني "، والقول الذي بدأنا به أحسن. ويجوز تعدي ضمير الفاعل إلى ضميره في الأفعال الملغاة وهي: " ظننت " و " حسبت "، و " خلت "، و " علمت "، و " رأيت " من رؤية القلب، و " وجدت " من وجود القلب، و " زعمت "، تقول: " رأيتني وادّا لك "، و " وجدتك غنيا فطغيت ". وإنما يتعدى ضمير الفاعل في هذه الأفعال إلى ضميره الذي هو المفعول الأول دون المفعول الثاني؛ لأنك إذا قلت: " ظننتك منطلقا "، " فالتاء ": الفاعل، و " الكاف ": المفعول الأول، و " منطلقا ": المفعول الثاني، وجاز ذلك في هذه الأفعال واختير من قبل أن تأثير هذه الأفعال في المفعول الثاني، لا في المفعول الأول، والدليل على ذلك أنك إذا قلت: " ظننت زيدا منطلقا "، فالشك لم يقع في " زيد "، الذي هو المفعول الأول، وإنما الشك في انطلاقه، فصار المفعول الأول كاللغو في التحصيل. وقد حكى الفراء: أن العرب تقول: " عدمتني "، و " فقدتني "، فأجروهما مجرى الأفعال الملغاة، وإنما جاز ذلك؛ لأن فقدان الرجل نفسه وعدمه نفسه ليس مما يصح، ولا يتأتى؛ لأنه محال أن يعدمه في التحصيل، ألا ترى أنك إذا عدمت شيئا فمعناه أنك تعلمه غير موجود، ومحال أن تعلم أنك غير موجود؛ لأنه إذا صح منك العلم فأنت موجود، فهذان الفعلان مستعاران، والمعنى: عدمت غيري وفقدت غيري وإن كان الفعل

منقولا إلى لفظه. واعلم أنه لا يجوز أن يتعدى ضمير فعل إلى ظاهر نفسه في الأفعال كلها، ولا ظاهره إلى ضمير نفسه في هذه الأفعال المؤثرة. لا يجوز أن تقول: " زيدا ضرب "، فتنصب " زيدا " بضرب. وتجعل في " ضرب " ضميرا من " زيد " وأوقع الفعل بظاهره، ولا " الزيدين ضربا " ولا " الهندات ضربن ". ولا يجوز مثل هذا في الأفعال الملغاة، لا تقول: " زيدا ظن منطلقا " ولا " أخويك ظنّا منطلقين ". ولا يجوز أيضا أن تقول: " ضربه زيد " تريد: ضرب نفسه، كما تقول: " ضرب غلامه زيد " ويجوز هذا في باب الملغى؛ تقول: " ظنه زيد منطلقا "، و " ظنهما الزيدان منطلقين ". وإنما لم يجز " زيدا ضرب " ولا " الزيدين ضربا "؛ لأنا لو أجزنا ذلك، ثم حذفنا المفعول بطل الكلام، والمفعول فضلة في الكلام، ولا يجوز أن تكون الفضلة لازمة لا يجوز إلغاؤها. وإذا كان الضمير منفصلا كان بمنزلة الأجنبي، وجاز فيه ما أبطلناه في غيره من الضمير المتصل، تقول: " ما ضربني إلا أنا "، و " ما ضربت إلا إياي " و " ما ضرب زيدا إلا هو "، وصار بمنزلة قولك: " ما ضربني إلا زيد "، و " ما ضرب زيدا إلا عمرو ". ثم نعود إلى كلام الأخفش. قوله: " أزيدا لم يضربه إلا هو "، لا يكون فيه إلا النصب، وإن كانا جميعا من سببه؛ يعني أن " زيدا " يعود إليه عائدان؛ الهاء التي في " يضربه " وهي منصوبة، و " هو " التي بعد " إلا " وهي مرفوعة، ولا يجوز حمل " زيد " إلا على المنصوب، وذلك أن يحمل عليه الأول، كأنا نقيم الأول مقامه ونحذفه، فلو جعلناه مكان الهاء في " يضربه " فالتقدير في الهاء أنها محذوفة فتصير كقولك: " أزيدا لم يضرب إلا هو ". وهذا كلام مستقيم جائز؛ لأن الفاعل ضمير منفصل، فكأنا قلنا: " أزيدا لم يضرب إلا عمرو؟ ". ولو حملناه على الضمير المنفصل فرفعناه صار تقديره: " أزيد لم يضربه؟ " ولو قلنا ذلك لفسد الكلام؛ لأن ضمير الفاعل حينئذ كان يتعدى إلى ضميره، وقد بيّنا أن ذلك لا يجوز. قال: وكذلك " أزيد لم يضرب إلا إيّاه "، لا يكون في " زيد " إلا الرفع حملا على ضميره الذي في " يضرب "؛ لأنا إذا فعلنا ذلك، ثم حذفنا ذلك الضمير ووضعنا " زيدا " موضعه صار التقدير: " لم يضرب زيد إلا إياه "، وهذا مستقيم؛ لأن الظاهر يتعدى إلى

ضميره المنفصل، وهو كالأجنبي. ولو حملناه على " إياه "، فقلنا: " أزيدا لم يضرب إلا إياه "، ثم حذفنا الذي حملنا " زيدا " عليه لبقي " أزيدا لم يضرب "، وهذا غير جائز كما لم يجز " زيدا ضرب "، وقد جعلت في " ضرب " ضميرا فاعلا ل " زيد ". قال الأخفش: فإن قيل: " آلخوان أكل عليه اللحم "، فتنصب " الخوان "، وأنت لا تقول: " آلخوان أكل اللحم "؛ فلأن " اللحم " اسم منفصل، والأسماء المنفصلة يعمل فعلها في الأول، فجرت كلها على ذلك كما تقول: " الدرهم أعطيه زيد ". قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الكلام قد اضطرب فيه النحويون، ولم يتكلم فيه أحد منهم بكلام محصل. وذلك أنه ليس في ظاهره ما يصله بما قبله، فهو في الظاهر كالمنقطع مما قبله. والوجه فيه عندي أنه متصل بالكلام الذي قبله، وذلك أنا قد قدّمنا أن الاسم الذي بعد حرف الاستفهام إنما يحمل على سببه، أو ضميره في الفعل الذي بعده؛ إذا كنا متى ألغينا الضمير وصل الفعل إليه؛ لأنه قال: " أزيدا لم يضربه إلا هو "، تنصب " زيدا "؛ لأنك لو ألغيت الهاء التي في " تضربه "، لقلت: " أزيدا لم يضرب إلا هو " فقال له قائل: فأنت تقول: " آلخوان أكل عليه اللحم "، وأنت لو حذفت الضمير العائد إلى " الخوان "، فقلت: " آلخوان أكل اللحم "، لبطل الكلام، فلا ينبغي أن نعتبر الأول بحذف ضميره، وقد اعتبرت نصب " زيد " بحذف ضميره الذي في " تضربه "، ففصّل الأخفش فقال: " إذا قلنا: " آلخوان أكل اللحم " لم يجز؛ لأن " الخوان " لا يتعدى الفعل إليه إلا بحرف جر، كما لا يجوز أن نقول: " مررت زيدا "، وقد يكون في الفعل ما يتعدى بغير حرف جر كقولك: " لقيت زيدا " و " جزت زيدا "، فالمعنى الذي أفسد " آلخوان أكل اللحم "، غير المعنى الذي أفسد قولنا: " أزيد لم يضربه إلا هو "؛ لأن المعنى الذي أفسد: " أزيد لم يضربه إلا هو "، هو أنّا لو حذفنا الاسم الذي حملنا رفع " زيد " عليه، لبقي " أزيد لم يضربه "، ونحن إذا قلنا هذا، صار الضمير متعديا إلى ضميره، وقد بينا فساد هذا في كل فعل. وهذا الوجه الآخر في " آلخوان أكل اللحم " إنما يفسد؛ لحذف حرف الجر، كما يفسد: " مررت زيدا ". والأسماء التي تتعدى أفعالها بغير حرف جر والتي تتعدى بحرف تستوي أحكامها فيما يختار من نصب الأول؛ ألا ترى أنك تقول: " أزيدا مررت به "، كما تقول: " أزيدا رأيت " فقال الأخفش: " اللحم " في قولنا: " الخوان أكل عليه اللحم " اسم

منفصل، والأسماء المنفصلة لا يمتنع تعدي فعلها إلى كل شيء من الأسماء. وقولنا: أزيدا لم يضربه إلا هو "، و " أزيد لم يضرب إلا إياه "، لو غيّرنا فقلنا: " أزيد لم يضرب إلا هو " حملا على " هو " و " أزيدا لم يضرب إلا إياه "، حملا على " إياه " لصار تقدير الأول: " أزيد لم تضربه "، وصار تقدير الثاني: " أزيدا لم يضرب "، فيكون الأول: يتعدى ظاهره إلى ضميره، والثاني يتعدى ضميره إلى ظاهره وكلاهما فاسد على ما بيّناه. و " اللحم " اسم منفصل غريب أجنبي عن الأول. ثم قال: والأسماء المنفصلة يعمل فعلها في الأول، فجرت كلها على ذلك، كما تقول: " الدرهم أعطيه زيد "، يريد: أن الأسماء المنقطعة الأجنبية من المفعول، الغريبة منه، يعمل فعلها في المفعول إذا تقدم، سواء تعدّت أفعالها بحرف، أو بغير حرف، فيكون " آلخوان أكل عليه اللحم "، بمنزلة قوله: " آلدرهم أعطيه زيد "، وإن كان " أكل " إنما قد تعدى إلى ضمير " الخوان " بحرف، و " أعطي " قد تعدّى إلى ضمير " الدرهم " بغير حرف، كما أن قولك: " أزيدا مررت به "، بمنزلة قولك: " أزيدا لقيته "، وإن كان " المرور " متعديا بحرف، و " اللقاء " بغير حرف. قال: " فاللحم " اسم منفصل، إلا أنه لا يقع على " الخوان " إلا بحرف جر، والأسماء غير المنفصلة لم تجر مجراها، لأن المنفصلة إن كان فيها ما لا يجوز أن يلفظ به، فقد يكون من المنفصلة ما يلفظ به كثيرا، على أن يعمل أحدهما في الآخر، فشبهت ما لا يحسن في التقديم بهذا الذي يحسن، وأما غير المنفصلة فلم يكن فيها شيء يشّبّه به. قوله: (والأسماء غير المنفصلة لم تجر مجراها). يعني: الأسماء المنفصلة الغريبة الأجنبية في التعدي إلى المفعول الذي هو غيرها، لم تجر مجرى تعدي الأسماء إلى ضميرها، وقد بينا هذا. وقوله: لأن المنفصلة إن كان فيها ما لا يجوز أن يلفظ به، فقد يكون من المنفصلة ما يلفظ به كثيرا، على أن يعمل أحدهما في الآخر. يعني: أن قولنا: " آلخوان أكل عليه اللحم "، و " أزيدا مررت به "، وما أشبه ذلك من الأفعال التي تتعدى بحرف، وفاعلها منفصل من مفعولها: إن كان لا يجوز أن يلفظ به بحذف حرف الجدر، ففي الأفعال ما يتعدى بغير حرف كقولك: " آلخوان ألزم اللحم "، و " أزيدا لقي عمرو ".

وقوله: (فشبهت ما لا يحسن في التقديم بهذا الذي يحسن). يعني فشبهت " آلخوان أكل عليه اللحم "، و " أزيدا مررت به " ب " آلخوان ألزم اللحم "، و " أزيدا لقي عمرو ". وقوله: (وأما غير المنفصلة فلم يكن فيها شيء تشبه به). يعني: قولبك: " أزيدا لم يضرب "، إذا جعلت في " يضرب " ضميرا من " زيد "، وعديته إلى " زيد "، وقولك: " لم يضربه زيد "، إذا عديت فعل " زيد " إلى ضميره وليس شيء يشبّه به من الأفعال؛ لأن الأفعال كلها لا يجوز فيها ذلك. (ومما يقبح بعده ابتداء الأسماء، ويكون الاسم بعده إذا أوقعت الفعل على شيء من سببه نصبا في القياس: " إذا "، و " حيث "، تقول: " إذا عبد الله تلقاه فأكرمه "، و " حيث زيدا تجده فأكرمه؛ لأنهما يكونان في معنى حروف المجازاة). قال أبو سعيد: قد قدمنا أن الحرف إذا كان بالفعل أولى، فوليه اسم بعده فعل واقع عليه بضميره، فالاختيار إضمار فعل ينصب الاسم. و " إذا " فيها معنى المجازاة التي لا تكون إلا بفعل، فالاختيار إضمار فعل بعدها، فقولك: " إذا عبد الله تلقاه فأكرمه "، تقديره: " إذا تلقى عبد الله تلقاه "، وكذلك " حيث " قد تجري مجرى " إذا "، في قولك: " حيث زيدا تجده فأكرمه "، على تقدير: " حيث تجد زيدا تجده " وفيهما معنى المجازاة؛ لأن قولك: " إذا عبد الله تلقاه "، يوجب الأوقات المستقبلة كلها، ولا يخص وقتا دون وقت، فهو بمنزلة قولك: " متى تلق عبد الله فأكرمه "، و " حيث تجد زيدا فأكرمه "، يوجب الأماكن كلها، لا يخص مكانا دون مكان، فهو بمنزلة " أين " فكأنك قلت: " أين تجد زيدا فأكرمه "، غير أن " متى "، و " أين " يجزمان، و " إذا " و " حيث " لا يجزمان عند البصريين إلا في ضرورة الشعر وسترى ذلك إن شاء الله. قال: (ويقبح إن ابتدأت الاسم بعدهما إذا كان بعده الفعل لو قلنا: " اجلس حيث زيد جلس "، و " أو جلس " " إذا زيد يجلس "، و " إذا زيد جلس " كان أقبح من قولك: " إذا جلس زيد "، و " إذا يجلس "، " وحيث يجلس "، و " حيث جلس "). يعني: أن تقديم الفعل أولى؛ لأنهما أحق بالفعل، كما قبح " هل زيد جلس " و " أين زيد جلس ". قال: (والرفع بعدهما جائز؛ لأنك قد تبتدئ بالاسم بعدهما فتقول: " اجلس حيث

عبد الله جالس "، و " اجلس إذا عبد الله جلس "). قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه قدر حالة الرفع بعدهما على الابتداء بهذا الكلام الذي ذكرناه. فأما " حيث ": فلا شك في جواز ذلك فيها؛ لأنها قد تخرج عن معنى المجازاة إلى أن يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا كقولك: " لقيته حيث زيد جالس "، فيكون نظيرها من الزمان " إذ "، كقولك: " لقيته إذ زيد جالس ". وأما " إذا ": فلا تقع إلا للمستقبل، ولا تنفك عن معنى المجازاة، فقال قائلون: متى ما وليها الاسم، فلا بد من أن يكون الفعل بعدها مقدرا، فإذا قلت: " اجلس إذا عبد الله جلس " فتقديره: " اجلس إذا جلس عبد الله جلس " كما أنا إذا قلنا: " اجلس إن عبد الله جلس "، فتقديره " اجلس إن جلس عبد الله. والبصريون يقولون في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (¬1) إن " أحد " يرتفع بفعل مضمر لا بالابتداء، كأنا قلنا: " وإن استجارك أحد من المشركين استجارك "، فالظاهر تفسير للمضمر قالوا: ومما يقوى أن " إذا " لا بد من فعل بعدها، أنك لا تقول: " اجلس إذا عبد الله جالس " كما تقول: " اجلس حيث عبد الله جالس "، فقد بان الفصل بينهما. وللمحتج عن سيبويه أن يقول: لما كانت " إذا " غير عاملة في الفعل كعمل " إن "، جاز أن يكون الواقع بعدها مرفوعا بالابتداء، ويكون معنى المجازاة يصح لها بالفعل الذي بعد المبتدأ، كما أن " لو " هي بالفعل أولى، وفيها معنى المجازاة. فإذا قلت: " لو أنك جئتنا لأكرمناك "، ف " إنك جئتنا " في موضع اسم مبتدأ، وجاز لأن الفعل الذي هو خبر " أن " يصحح لها معنى المجازاة. وللقائل الأول أن يقول: قولك: " لو أنك جئتنا لأكرمناك " يرتفع أن بفعل مضمر؛ لأن " أن "، وما بعدها بمنزلة المصدر، فيكون تقديره: " لو وقع أنك جئتنا " على معنى: لو وقع مجيئك. وللمحتج عن سيبويه أن يقول: لو كان الأمر كذلك لجاز: " لو أن زيدا قائم ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: 6.

أتيناك "، على معنى لو وقع هذا. قال سيبويه: (ول " إذا " موضع آخر يحسن فيه ابتداء الاسم بعدها فيه تقول: " نظرت فإذا زيد يضربه عمرو "؛ لأنك لو قلت: " نظرت فإذا زيد يذهب " لحسن). اعلم أن " إذا " تقع في الجواب والمفاجأة، ويليها المبتدأ والخبر، فتكون هي وما بعدها بمعنى الفعل، فإذا قلت: " نظرت فإذا زيد يضربه عمرو "، تقديره: نظرت فأبصرت زيدا يضربه عمرو. وقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (¬1)، كأنه قال: قنطوا ف " إذا " وما بعدها بمنزلة فعل، غير أن الذي قصده سيبويه في هذا الموضع أن " إذا " لما كان حكمها أن يليها الاسم لا الفعل، ثم أتى بعد الاسم الذي وليها فعل واقع على ضميره لم تنصب الاسم الأول بإضمار فعل بعد " إذا "؛ لأن " إذا " في هذا الموضع بالاسم أولى، وليست بمعنى المجازاة، فيختار الفعل بعدها. ألا ترى أنك تقول: " نظرت فإذا زيد قائم "، وقد كان بعض النحويين البصريين: يجعل " إذا " بمنزلة الحضرة والمكان. فإذا قلت: " خرجت فإذا زيد قائم "، كأنه قال: " فحضرتي زيد قائم "، و " زيد " مرفوع بالابتداء و " قائم " خبره، و " حضرتي " في موضع نصب ب " قائم "، كما تنتصب ظروف المكان. قال: ويجوز أن تقول: " خرجت فإذا زيد "، فتجعل " زيدا " مبتدأ، و " إذا " خبره، كأنه قال: " بحضرتي زيد ". ويجوز على ذلك أن تقول: " خرجت فإذا زيد قائما "، فتجعل " إذا " خبر " زيد "، وينصب " قائما " على الحال. ومن جعل " إذا " حرفا، وجعل ما بعدها مبتدأ وخبرا، فإنه يقول: " خرجت فإذا زيد " الخبر محذوف، كأنه قال: " فإذا زيد بحضرتي ". و " الفاء " إذا كانت جوابا فالحذف فيها شائع، كقولك: " إن تأتنا فمحسن " تريد: فأنت محسن، وجملة الحذف أنه متى فهم الكلام معه جاز ولا سيما مع استعمال العرب لذلك. قال: (وأما " إذ "، فيحسن ابتداء الاسم بعدها تقول: " جئت إذ عبد الله قائم " و " جئت إذ عبد الله يقوم "، إلا أنها في " فعل " قبيحة تقول: " جئت إذ عبد الله قام "، ولكن " إذ " إنما تقع في الكلام الواجب، فاجتمع فيها هذا، وأنك قد تبتدئ الاسم بعدها، فحسن الرفع). ¬

_ (¬1) سورة الروم، آية: 36.

يقول: إن " إذ " ليس فيها معنى المجازاة والذي يليها الجمل. قال: فإذا قلت " جئت إذ عبد الله أكرمه "، كان الاختيار رفع " عبد الله "؛ لأن " إذ " ليست بالفعل أولى، كما كانت " إذا "؛ لأن معناها الماضي، وهي لوقت مبهم، يفسّر بالجملة التي بعدها، والجملة التي بعدها مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل ماضيا كان الفعل أو مستقبلا، كقولك: " جئت إذ قام زيد "، و " إذ يقوم زيد "، و " جئت إذ زيد قائم "، و " إذ زيد يقوم ". فإذا قلت: " جئت إذ زيد قام "، قبح أن يكون خبر المبتدأ الذي بعدها فعلا ماضيا. فإن قال قائل: وكيف حسن " جئتك إذ قام زيد "، ولم يحسن " جئتك إذ زيد قام "؟ قيل له: لأن " قام " في قولك: " زيد قام "، موضعها رفع بخبر الابتداء، وخبر الابتداء حكمه أن يكون الاسم أو ما يضارعه، والفعل الماضي مضارعته ليست بتامة، وليس بالكلام حاجة إلى لفظ المضي؛ لأن " إذا " قد دلت على المضي. وإذا قلت: " جئتك إذ قام زيد "، فليس " قام " في موضع اسم. فإن قال قائل: فأنت تجيز " زيد قام " ولا تستقبحه، و " قام " في موضع خبره، فلم استقبحت ذلك في " إذ "؟ قيل له: من أن قولنا: " زيد قام "، لو قلنا مكان " قام " " يقوم "، لتغير معنى الفعل؛ لأن لفظ الفعل هو الذي يدل على الماضي والمستقبل، وفي " إذ "، قد دل على الماضي، فلا حاجة بالكلام إلى لفظ الماضي بعد الذي يدل على المبتدأ. ثم قوى سيبويه الفرق بين " إذ "، و " إذا " بأن: قال: (إن " إذ " إنما تقع في الكلام الواجب). يعني: الماضي، وارتفع الاسم المبتدأ والخبر بعدها، ليرى أنها بعيدة من معنى المجازاة، وأن الرفع حسن في نحو قولك: " جئتك إذ زيد أكرمه ". قال: (ومما ينتصب أوله؛ لأن آخره ملتبس بالأول قولك: " أزيدا ضربت عمرا وأخاه "، و " أزيدا ضربت رجلا يحبه "، و " أزيدا ضربت جاريتين يحبهما "، فإنما نصبت هذا الأول؛ لأن الآخر ملتبس به إذ كانت صفته ملتبسة به). قال أبو سعيد: اعلم أن الجملة إذا كان فيها ضمير اسم متقدم فهي من سبب ذلك الاسم، وإن كان في الجملة اسم ليس فيه ضمير ولا تبالي في أي موضع من الجملة وقع ذلك الضمير؛ فإذا قلت: " أزيدا ضربت عمرا وأخاه "، ف " عمرو " منصوب ب " ضربت "،

و " أخاه " عطف عليه، ف " عمرو " و " الأخ " منصوبان ب " ضربت " متصلان به داخلان في جملته، فصار بمنزلة قولك: " أزيدا ضربت أخاه "، ولو قلت: " أزيدا ضربت عمرا في داره "، لكان الوجه أيضا النصب؛ لأن قولك: " في داره " ظرف وقع فيه الضرب فهو في جملة " ضربت "، وكذلك إذا قلت: " أزيدا ضربت رجلا يحبه "، ف " يحبه " نعت لرجل، والنعت والمنعوت يتسلط عليهما عامل واحد. ف " يحبه " في جملة " ضربت " فصار الاسم المنصوب ب " ضربت " من سبب الاسم الأول؛ إذ كان في جملته عائد إليه، لو كان الذي يلي الاسم جملة ليس فيها ذكر له، ثم جئت بجملة أخرى، فعطفتها على الجملة الأولى، وفيها ذكر للاسم لم يجز، وذلك قولك: " أزيدا ضربت عمرا وضربت أباه "، لأن قولك: " وضربت أباه " جملة أخرى، والجملة الأولى قد مضت بلا ذكر. قال: (وإذا أردت أن تعلم التباسه به، فأدخله في الباب الذي تقدم فيه الصفة، فما حسن تقديم صفته فهو ملتبس بالأول، وما لا يحسن فليس ملتبسا به). قال أبو سعيد: اعلم أن الجملة قد تكون نعتا للنكرة وقد ينعت الاسم بفعل سببه، فيجري النعت على إعراب الأول، ويرتفع سببه بفعله، وذلك قولك: " مررت برجل أبوه قائم "، " فأبوه قائم " نعت لرجل، وفيها ذكر يعود إليه، والقيام للأب، فيجوز تقديم القيام وإجراؤه على " رجل " ورفع " الأب " به، فتقول: " مررت برجل قائم أبوه "، وكذلك " مررت برجل عمرو قائم في داره "؛ لأن " عمرو قائم في داره " جملة فيها ذكر يعود إليه، فتقول على هذا: " مررت برجل قائم في داره عمرو "، ولو قلت: " مررت برجل عمرو قائم " لم يجز أن يكون نعتا لرجل، إنما يكون على أنك قطعت الكلام وخبّرت بخبر ثان، فلو قلت: " مررت برجل قائم عمرو " لم يجز. فقال سيبويه: (إذا أردت أن تعلم الملتبس، فتقدم فعل الثاني، فإن صلح أن يكون نعتا للأول، فهو ملتبس به، وإن لم يصلح، فليس بملتبس به). ثم قال: (ألا ترى أنك تقول: " مررت برجل منطلقة جاريتان يحبهما "، و " مررت برجل منطلق زيد وأخوه "). " فمنطلقة ": نعت ل " رجل "، والفعل للجاريتين؛ لأن في " يحبهما " ضميرا مرفوعا يرجع إلى الرجل، و " مررت برجل منطلق زيد وأخوه "، فتصف الرجل بانطلاق زيد وأخيه؛ لأنهما مرفوعان بفعل واحد.

قال: (ولو قلت: " أزيدا ضربت عمرا وضربت أخاه "، لم يجز) لأنك تقول: " مررت برجل منطلق زيد وأخوه "، ولو قلت: " مررت برجل منطلق زيد ومنطلق أخوه "، لم يجز؛ لأنك إذا قلت ذلك فقد نعت " رجلا " بقولك: " منطلق زيد "، و " منطلق " هذا الأول لم يتصل به ما فيه ضمير لرجل؛ لأن " أخاه " إنما ارتفع ب " المنطلق " الثاني؛ فقط نعت " رجلا " بفعل ليس فيه ما يعود إليه وذلك لا يجوز. وإذا قلت: " مررت برجل منطلق زيد وأخوه "، فقد رفعت " الأخ " بمنطلق، كما رفعت به " زيدا " فلا عليك أقدمت أم أخرت. وهذه مسائل متصلة تشاكل: " أزيدا لم يضربه إلا هو " وتقول: " أأخواك ظناهما منطلقين "، فللأخوين هاهنا سببان مرفوع ومنصوب، وهما جميعا غير منفصلين، فحملت الأول على المرفوع من قبل أن الظاهر يتعدى فعله في هذا الباب إلى مضمره نحو: " ظنهما أخواك ذاهبين "، ولا يتعدى فعل المضمر إلى الظاهر في هذا الباب، ولكن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر مثل قولك: " أظنني ذاهبا "، و " ظننتني ذاهبا "، كما قد ذكرنا فيما تقدم أن الأفعال الملغاة التي هي " ظننت "، وأخواتها، يتعدى ضميرها إلى ضميرها كقولك: " أظني منطلقا " و " ظننتني منطلقا "، وظاهرها إلى ضميرها كقولك: " ظننته زيدا منطلقا "، ولا يتعدى ضميرها إلى ظاهرها كقولك: " الزيدين ظنا منطلقين " فإذا قلت: " أأخواك ظناهما منطلقين " فللأخوين ضمير مرفوع وهو الألف في " ظنّا "، وضمير منصوب وهو " هما "، فتحمله على ضمير المرفوع، لأنك إذا فعلت ذلك فجعلت " هما " مكان الضمير المرفوع، صار " أظنهما أخواك منطلقين "، وهذا جائز سائغ كما ذكرنا وبيّنا، ولو حملتهما على ضميرها المنصوب فقلت: " أأخويك ظناهما منطلقين " لم يجز؛ لأنك لو حذفت ضميرها المنصوب لقلت: " أخويك ظنّا منطلقين " فكنت تنصب الظاهر بضميره المضمر وقد بيّنا أن المضمر لا يتعدى إلى الظاهر. قال: (وتقول: " إياهما ظنّا منطلقين " لأنك تقول: " إياهما ظن أخواك منطلقين "، إذا كانا ظنّا أنفسهما، فيتعدى فعل المضمر المرفوع إلى المضمر المنصوب في هذا الباب في الشك والعلم). يعني: أن قولك: " إياهما ظنّا منطلقين " جائز، كما يجوز: " ظننتني منطلقا "، وإن

كان " إياهما " ضميرا منفصلا؛ لأن الضمير المنفصل أقوى من الضمير المتصل في تعدي الفعل إليه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: " ظننتني منطلقا "، ثم قدّمت لقلت: " إياي ظننت منطلقا " إذ كان لا يمكن اتصال الضمير وهو قبل الفعل. قال: وتقول: " أأنت حسبتك منطلقا "، و " أإياك حسبتك منطلقا " فتحمل الضمير الأول إن شئت على التاء في " حسبتك "، فتقول: " أأنت " وإن شئت على الكاف، فتقول: " أإياك ". قال: (وتقول: " عبد الله أخوك يضربه " كما فعلت في قولك: " أأنت زيدا ضربته "؛ لأن الاسم ها هنا بمنزلة مبتدأ ليس قبله شيء). يعني: أنك لا تنصب " الأخ "، وإن كانت الهاء في " تضربه " تعود إليه. وعلى مذهب الأخفش " أعبد الله أخاه يضربه "، على تقدير: أتضرب عبد الله أخاه تضربه، وقد مضى الكلام في هذا. قال: (فإن نصبته على قولك: " زيدا ضربته "، قلت: " أزيدا أخاه تضربه "). يعني من قال: " ضرب زيدا ضربه " في الابتداء، وإن كان الاختيار غيره، قال هاهنا: " أزيدا أخاه تضربه "؛ لأن " الأخ " بمنزلة مبتدأ إذ كان " زيد " قد حال بينه وبين ألف الاستفهام. قال: (فأما قولك: " أزيدا مررت به "، فبمنزلة قولك: " أزيدا ضربته ". والرفع في هذا أقوى منه في قولك: " أعبد الله ضربته " وهو أيضا قد يجوز، إذا جاز هذا، كما كان ذلك فيما قبله من الابتداء، وفيما جاء بعد ما بني على الفعل، وذلك لأنه ابتدأ " عبد الله "، وجعل الفعل في موضع المبني عليه كأنه قال: " أعبد الله أخوك "). أما قوله: " أزيدا مررت به "، بمنزلة قولك: " أزيدا ضربته "، وقد بيّنا ذلك، وإن كنا ننصب " زيدا " في قولنا: " أزيدا مررت به " بإضمار فعل يتعدى بغير حرف، كأنا قلنا: " أجزت زيدا مررت به ". وقوله: (والرفع في هذا أقوى منه في: " أعبد الله ضربته "). يعني: أن قولك: " أزيد مررت به "، أقوى من قولك: " أزيد ضربته "؛ لأن الفعل لم يصل إلى ضميره في " مررت " إلا بحرف، وفي " ضربت " قد وصل بغير حرف، فبعد الاسم الأول في المرور أكثر من بعده في الضرب وقد بيّنا هذا.

هذا باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل، كما يجري في غيره مجرى الفعل

وقوله: (وهو أيضا قد يجوز). يعني أن قولك: (أعبد الله ضربته) جائز، وإن كان الرفع في الآخر أقوى. وقوله: (كما كان ذلك في الابتداء). يعني: كما كان ذلك في قولك: " أعبد الله ضربته "، وفيما جاء بعد ما بني على الفعل، وهو قولك: " كلمت عمرا وزيد ضربته ". وقوله: (وذلك لأنه ابتدأ " عبد الله " وجعل الفعل في موضع المبني عليه). يعني: أنك إذا قلت: " أعبد الله ضربته "، فقد جعلت " عبد الله " مبتدأ، و " ضربته " في موضع خبره كأنك قلت: " أعبد الله أخوه ". قال: (ومن زعم أنه إذا قال: " أزيدا مررت به "، فإنما نصبه بهذا الفعل، فهو ينبغي له أن يجره لأنه لا يصل إلا بحرف إضافة). يعني: أن قائلا إذا قال في قولنا: " أزيدا مررت به "، إنما انتصب " زيدا " بإضمار " مررت "، كأنه قال: " أمررت زيدا مررت به ". يلزمه ألا ينصب " زيدا "؛ لأن " مررت " لا يتعدى إلا بحرف جر، ويلزمه أن يقول: " أبزيد مررت به "، فأبطل سيبويه قول من يقول: إنا نقدر " أمررت زيدا مررت به ". ثم قال: (وإذا أعملت العرب شيئا مضمرا، لم تصرفه عن عمله مظهرا كالجر الرفع والنصب). يعني: أن العرب لا تقول: " مررت زيدا " مظهرا، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن تقدر: " أمررت زيدا مررت به " ثم أكد ذلك: فقال: (تقول: " وبلد " تريد: ورب بلد، وتقول: " زيدا "، تريد: عليك زيدا، وتقول: " الهلال " تريد: هذا الهلال، فكله يعمل عمله مظهرا). فأراك أن ما يعمل عمله مضمرا جرا، أو رفعا، أو نصبا، فإنه يعمل مثله مظهرا، ليعلم أن " مررت " لو كان يتعدى بغير حرف جر مضمرا لتعدى مظهرا. هذا باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل، كما يجري في غيره مجرى الفعل اعلم أن أسماء الفاعلين الجارية على أفعالهم، نحو: ضارب، وقاتل، ومضارب،

ومكسّر، ومستغفر، وما أشبه ذلك، إذ كانت جارية على: ضرب، وقاتل، وكسر، واستغفر؛ وأسماء المفعولين: نحو: معطى، ومكسوّ، ومعرّف، ومعلم إذا كانت جارية على: أعطى، وكسي، وعرّف، وأعلم، تعمل عمل الفعل الذي جرت عليه، إذا كان الفعل للحال، أو المستقبل، وتتصرف تصرفه، تقول: " هذا ضارب زيدا "، كقولك: " هذا يضرب زيدا "، " وهو مكسوّ جبة "، و " معرّف زيدا "، كما تقول: " هذا يضرب زيدا "، و " يعرّف زيدا "؛ وإن شئت قلت: " هذا زيدا ضارب "، و " هذا زيدا معرف "، كما تقول: " هذا زيدا يضرب "، و " هذا زيدا يعرف "، فيجري مجرى الفعل ويعمل عمله. فإن قال قائل: لم أعملتم هذه الأشياء، وهي أسماء عندكم؟ قيل له: حمل الأسماء على الأفعال إذا كانت بينهما مشاكلة، وحمل الأفعال على الأسماء جائز، فمن ذلك أنّا قد حملنا الأفعال المضارعة التي في أوائلها الزوائد الأربع على الأسماء، فأعربناها للمضارعة التي بينها وبين الأسماء، وقد ذكرنا تلك المضارعة، ولم تكن في الأصل معربة، ولا مستحقة للإعراب، فبالمضارعة التي حملنا بها الأفعال على الأسماء، وأعربناها حملنا أيضا الأسماء على الأفعال فأعملناها؛ لأن العمل في الأصل للأفعال. فإذا كان الاسم في معنى فعل ماض لم تعمله؛ لأن ذلك الفعل الذي الاسم في معناه لم يضارع الاسم مضارعة تامة، فيحمل عليه في إعرابه، وكذلك الاسم لم يضارعه فيحمل عليه في عمله، لا تقول: " زيد ضارب عمرا أمس "، ولا " وحشيّ قاتل حمزة يوم أحد "، لأنه في معنى: ضرب، وقتل، وليس بينهما مضارعة، بل تضيفه إليه فتقول: " زيد ضارب عمرو أمس "، و " وحشيّ قاتل حمزة ". وهذا قول النحويين إلا الكسائي، وقد مضت الحجة فيه. فإذا قلت: " هذا معطي زيد درهما أمس "، " وهذا ظان زيد منطلقا أمس " فكثير من أصحابنا يزعمون أن الثاني ينتصب بإضمار فعل آخر، كأنه قال: " هذا معطي زيد أعطاه درهما أمس "، و " هذا ظان زيد ظنه منطلقا أمس ". والأجود عندي أن يكون منصوبا بهذا الفعل بعينه، وذلك لأن الفعل الماضي فيه بعض المضارعة، ولذلك بني على حركة، فبذلك الجزء من المضارعة يعمل الاسم الجاري عليه عملا ما، دون عمل الاسم الجاري على الفعل المضارع، فعمل في الاسم الثاني لمّا لم يمكن إضافته إليه، لأنه لا يضاف إلى اسمين، فأضيف إلى الاسم الذي قبله، وصارت إضافته بمنزلة التنوين له، وعمل في الباقي

بما فيه من معنى الفعل والتنوين. قال سيبويه عقيب ذكر هذا: (وذلك قولك: " أزيدا أنت ضاربه "، " وأ زيدا أنت ضارب له "، و " أعمرا أنت مكرم أخاه "، و " أزيدا أنت نازل عليه ". كأنك قلت: " (أزيدا) " أنت ضارب "، " وأنت مكرم "، و " أنت نازل "، كما كان ذلك في الفعل؛ لأنه يجري مجراه، ويعمل في المعرفة كلها، والنكرة مقدما ومؤخرا، ومظهرا ومضمرا). يعني أن قولنا: " أزيدا أنت ضاربه " بمنزلة قولك: " أزيدا أنت تضربه " وقد بينا أن اسم الفاعل يجري مجرى الفعل، ويعمل عمله. فإن قال قائل: فأنت إذا قلت: " أزيدا أنت ضاربه "، الهاء في موضع جر، فكيف نصبت زيدا، وضميره مجرور؟ قيل له: جر ضميره لا يمنع أن يكون " ضارب " في معنى الفعل، كما كان ذلك في قولك: " أزيد مررت به "؛ لأن ضميره مجرور، وإنما الجر في اللفظ، والنية نية التنوين في " ضاربه "، كأنك قلت: " ضارب له ". وقوله: (ويعمل في المعرفة والنكرة، مقدما ومؤخرا، ومظهرا ومضمرا). يعني: اسم الفاعل، تقول: " هذا ضارب زيدا "، و " قاتل رجلا "، و " هذا زيدا ضارب "، و " هذا أباك قاصد "، فذكر سيبويه هذا؛ ليثبت أنه يعمل عمل الفعل ويجري مجراه. قال: (وكذلك " آلدار أنت نازل فيها " وتقول: " أعمرا أنت واجد عليه "، و " أخالد أنت عالم به "، و " أزيدا أنت راغب فيه "؛ لأنك لو ألقيت " عليه " و " فيه " و " به " مما ها هنا لتعتبر، لم يكن ليكون إلا مما ينتصب، كأنه قال: " أعبد الله أنت ترغب فيه "، و " أعبد الله أنت تعلم به "، و " أعبد الله أنت تجد عليه "، فإنما استفهمته عن علمه به، وعن رغبته فيه في حال مسألتك). يعني: أن اسم الفاعل إذا كان متعديا بحرف جر، فليس يمنعه ذلك من أن يجري مجرى الفعل، وينصب الاسم الأول بإضمار فعل. فإذا قلت: " أعبد الله أنت راغب فيه " صار بمنزلة قولك: " أعبد الله أنت ترغب فيه "، إذا كان راغبا فيه، فتنصب كما نصبت في قولك: " أعبد الله أنت مررت به " وقد بينا هذا. وإنما تنصب " عبد الله " في قولك: " عبد الله أنت راغب فيه " إذا كان راغبا في معنى " يرغب " لا في معنى " رغبت ".

وهذا معنى قول سيبويه: (فإنما استفهمته عن علمه به، ورغبته فيه في حال مسألتك). لأن الذي يعمل عمل الفعل من أسماء الفاعلين ما كان في معنى الفعل المضارع، وقد بيّنا ذلك. قال: (ولو قال: " آلدار أنت نازل فيها "، فجعل " نازلا " اسما رفع، كأنه قال: " آلدار أنت رجل فيها "). يعني: أن اسم الفاعل قد يجوز ألا يذهب به مذهب الفعل؛ لأنه اسم، ويجري مجرى الأسماء التي لم تؤخذ من الأفعال. فإذا فعلت ذلك لم تنصب الاسم الأول؛ لأنه ليس بعده فعل، ولا شيء جعل في معنى الفعل، ووقع على ضميره. فإن قال قائل: فإذا قلت: " آلدار أنت نازل فيها "، فجعلته بمنزلة قولك: " آلدار أنت رجل فيها "، فما موضع " فيها " من الإعراب؟ وما العامل فيها؟ قيل له: أما قولنا: " آلدار أنت رجل فيها "، فموضعها رفع " باستقر "، وهي في موضع النعت لرجل، كقولك: " مررت برجل في الدار "، و " مررت برجل خلفك "، وأما قولك: " آلدار أنت نازل فيها "، فقد يكون على هذا الوجه، وقد يكون أيضا على معنى الفعل الماضي، ويكون عاملا في الظرف الذي هو " فيها " بمعناها لا بلفظها، وقد تعمل المعاني في الظروف، ولا تعمل في الأسماء. ألا ترى أنك تقول: " زيد غلامك اليوم "، و " غلام " ليس باسم فاعل، ولا مأخوذ من الفعل. قال: (ولو قال: " أزيد أنت ضاربه " فجعله بمنزلة: " أزيد أنت أخوه "، جاز). يعني: أنه لا يجريه مجرى الفعل، فيكون اسم الفاعل المضاف، فإذا لم يجر مجرى الفعل كان بمنزلة " أخوه "، فإذا لم يكن مضافا، كان بمنزلة " رجل ". قال: (" ومثل " ذلك في النصب: " أزيدا أنت محبوس عليه "، و " أزيدا أنت مكابر عليه "). يعني: أنك إذا قلت: " أزيدا أنت محبوس عليه "، فعلى موضعه نصب، وقد اتصل به ضمير " زيد "، فوجب أن ينصب " زيد " بإضمار فعل، وكذلك في: " أزيدا أنت مكابر عليه "، كأنك قلت: " أتنتظر زيدا أنت محبوس عليه "، " واستلبت زيدا أنت مكابر عليه "، وفي " محبوس " و " مكابر " ضمير يقوم مقام الفاعل؛ لأن معناه: أنت " تحبس عليه، وتكابر

عليه "، وهذا من أسماء المفعولين التي تجري مجرى الفعل. قال: (وإن لم يرد به الفعل، وأراد به وجه الاسم رفع). يريد أن " محبوسا "، و " مكابرا "، إذا ذهبت به مذهب " رجل " في المسألة الأولى، قلت: " أزيد أنت محبوس عليه "، و " أزيد أنت مكابر عليه ". قال: (" وكذلك جميع هنا " فمفعول مثل يفعل، وفاعل مثل يفعل). يريد أن " مفعول " مثل " محبوس " و " مكابر " وما أشبهه " يجري مجرى " يحبس "، و " يكابر " والأفعال التي لم تسم فاعلوها. و " ضارب، وشاتم، ومقاتل، ومكسّر "، يجري مجرى " يضرب، ويشتم، ويقاتل، ويكسر ". والأفعال التي تسمى فاعلوها. قال: (ومما يجرى مجرى فاعل من أسماء الفاعلين " فواعل " أجروه مجرى " فاعله "، حيث كان جمعه وكسّروه عليه، كما فعلوا ذلك بفاعلين، وفاعلات). قال أبو سعيد: قد قدمنا أن اسم الفاعل الجاري على فعله يعمل عمل الفعل على الشرط الذي شرطنا، وقد علمت أن الفاعل يثنى ويجمع على حسب ما يكون له من الفعل، فيكون تثنية الفاعل وجمعه جاريا مجرى الفعل، وأحق الجموع بذلك الجموع السالمة؛ لأنها تطرد على الواحد اطرادا لا ينكسر ويسلم فيه لفظ الواحد، وطريقته طريقة واحدة وذلك قولك: " الزيدان ضاربان عمرا "، و " الزيدون ضاربون عمرا "، وتقدم فتقول: " الزيدان عمرا ضاربان "، و " الزيدون عمرا ضاربون "، و " الهندات ضاربات عمرا " و " عمرا ضاربات "، ثم أجروا الجمع المكسر على الجمع السالم؛ إذ كانا جميعا جمعين، وكان القصد فيهما إلى معنى واحد، وإن كانت وجوه الجمع المكسر كثيرة، فقالوا: " الزيدون ضراب عمرا، وعمرا ضراب " و " الهندات ضوارب عمرا، وعمرا ضوارب " ثم أجروا اسم الفاعل الذي فيه معنى المبالغة مجرى الفعل الذي فيه معنى المبالغة في العمل، وإن لم يكن جاريا عليه في اللفظ، فقالوا: " زيد ضراب عبيده "، و " قتاال أعداءه "، كما قالوا: " يضرب، ويقتل " إذ أكثر ذلك منهم، فكان " قتّال، وضرّاب " بمنزلة: قاتل، وضارب، كما كان " يضرّب ويقتّل " بمنزلة يضرب ويقتل. قال: (فمن ذلك قولهم: " هنّ حواجّ بيت الله) وفي حواج نية التنوين، كأنك قلت: " هنّ حواجّ بيت الله " جمع " حاجة " وسقط التنوين؛ لأنه لا ينصرف، وتجوز إضافته فتقول: " هن حواج بيت الله "، ويسقط التنوين للإضافة لا لمنع الصرف.

قال أبو كبير الهذلي: ممّن حملن به وهنّ عواقد … حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل (¬1) فصرف " عواقد " للضرورة، ونصب " حبك "، ويروى " مما حملن به " والهاء في " به " تعود إلى " ما " و " من ". (وقال العجاج: أو الفا مكة من ورق الحمى) (¬2) فصرف " أو الفا "، ونصب " مكة " وقد ذكرنا في أول الكتاب الكلام في الحمى. قال: (وقد جعل بعضهم " فعّالا " بمنزلة " فواعل "، فقالوا: " قطّان مكة " و " سكان البلد الحرام "، لأنه جمع " كفواعل "). قال أبو سعيد: قد بينا أن الجمع المكسر- وإن كانت له وجوه- يجري مجرى الجمع السالم، غير أن بعض الجمع المكسر أشدّ اطرادا من بعض. فأشده اطرادا " فواعل "، وذلك أنه تكسير جمع الفاعل والفاعلة على القياس الذي لا ينكسر؛ لأن قياس تكسير الاسم الذي على أربعة أحرف أن تدخل ألف الجمع ثالثة، ويفتح أوله ويكسر ما بعد الألف، فلما جمعت " فاعلة " أدخلت بعد ألف " فاعلة " ألفا للجمع، وقلبت ألف " فاعلة " واوا، لاجتماع الساكنين ثم حملوا " فعّالا " عليه. قال: (وأجروا اسم الفاعل، إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر، مجراه إذا كان على بناء " فاعل "؛ لأنه يريد به ما أراد بفاعل من إيقاع الفعل، إلا أنه يريد أن يحدّث عن المبالغة، فمما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى: فعول، وفعّال، ومفعال، وفعل. وقد جاء " فعيل ": كرحيم، وسميع، وعليم، وقدير، وبصير، يجوز فيهن ما جاز في " فاعل " من التقديم والتأخير، والإضمار والإظهار). قال أبو سعيد: وقد بينا أن اسم الفاعل الذي فيه معنى المبالغة نحو قتّال، وضرّاب، يجري مجرى اسم الفاعل، كما كان: " يضرّب، ويقتّل "، يجري مجرى: يقتل، ويضرب، فجمع سيبويه الأبنية التي تكون للمبالغة، فقال: فعول، وفعال مفعال وفعل، وفعيل، ¬

_ (¬1) الخزانة 3/ 466، ديوان الهذليين 2/ 92، المغني 2/ 942. (¬2) الديوان 509، الدرر اللوامع 1/ 157، ابن عقيل 2/ 79.

كقولك: " ضروب زيدا "، و " ضرّاب أخاه، و " منحار إبله "، و " حذر أمرك "، و " رحيم أباه "، والتقديم في ذلك كله والتأخير، والإضمار والإظهار جائز. قال: (لو قلت: " هذا ضروب رؤوس الرجال "، وسوق الإبل على: وضروب سوق الإبل، جاز، كما تقول: " هذا ضارب زيد وعمرا " تضمر: " وضارب عمرا "). ومثل هذا في الفعل: " مررت بزيد وعمر "، تخفض الأول ثم تضمر فعلا في معناه تعديه إلى الثاني بغير حرف، فكأنك قلت: " مررت بزيد ولقيت عمرا ". قال: (ومما جاء فيه مقدما مؤخرا على نحو ما جاء في فاعل قول ذي الرمة: هجوم عليها نفسه غير أنه … متى يرم في عينيه بالشّبح ينهض) (¬1) فعدى " هجوم " إلى " نفسه "، كأنه قال: " يهجم نفسه عليها ". يصف ظليما طرح نفسه على البيض ما لم ير إنسانا، فإذا رأى إنسانا، قام فتنحى حتى لا يهتدي للبيض. (وقال أبو ذؤيب الهذلي: قلى دينه واهتاج للشّوق إنّها … على الشّوق إخوان العزاء هيوج) (¬2) هذا البيت منسوب إلى أبي ذؤيب في نسخة كتاب سيبويه، وهو غلط وإنما هو للراعي يريد: أن المرأة هيوج إخوان العزاء، أي تهيجهم، وتشوقهم، وإخوان العزاء: ذوو الصبر، فإذا كانت تهيج ذوي البصائر والصبر فهي لغيرهم أهيج؛ يصف امرأة، وأنها لو تراءت لراهب قلى دينه، وذلك في بيت تاليه، هذا البيت وهو قوله: ليالي سعدى لو تراءت لراهب … برومة بحر عنده وحجيج (¬3) وقال القلاخ: أخا الحرب لباسا إليها جلالها … وليس بولاج الخوالف أعقلا (¬4) أراد: لباسا جلالها. قال: (وسمعت من العرب من يقول: " أما العسل فأنا شرّاب "). ¬

_ (¬1) الديوان 324، الخزانة 3/ 451. (¬2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في سيبويه 1/ 56. (¬3) المصدر السابق. (¬4) البيت للقلاخ بن حزن المنقري- الخزانة 3/ 451، الدرر اللوامع 2/ 129 - ابن عقيل 2/ 86.

فنصب " العسل ". " بشراب "، كما يقول: " أما العسل فأنا شارب، أو أنا أشرب ". قال: (بكيت أخا اللأواء يحمد يومه … كريم، رؤوس الدّارعين ضروب) (¬1) أراد: ضروب رؤوس الدارعين، فقدم كما يقدّم في " ضارب ". وقال: (أبو طالب ابن عبد المطلب): ضروب بنصل السّيف سوق سمانها … إذا عدموا زادا فإنّك عاقر) (¬2) أراد: ضروب سوق سمانها بنصل السيف. وقال: (وقد جاء في " فعل " وليس في كثرة ذلك. قال الشاعر: أو مسحل شنج عضادة سمحج … بسراته ندب لها وكلوم) (¬3) قال أبو سعيد: اعلم أن النحويين قد خالفوا سيبويه في تعدي " فعل، وفعيل "، وجريهما مجرى الأفعال، فقالوا: لا تتعدى، ولا تعمل عمل الفعل. فلا يقال: " رجل حذر عمرا "، ولا " زيد رحيم أخاه ". وقالوا من قبل أن " فعيل، وفعل " هما اسمان يبنيان للذات، لا لأن يجريا مجرى الفعل، فيكون كقولك: " رجل كريم ونبيل " و " رجل عجل، ومغث، ولقس "، إذا كان ذلك في طبعه، وأنشد سيبويه بيتين في تعدي " فعل "، وبيتا في تعدي " فعيل ". وقد أنكر مخالفوه احتجاجه بالأبيات: فأما البيت الأول، فقوله: أو مسحل شنج عضادة سمحج- وهو للبيد- وموضع الاحتجاج: نصب " عضادة " ب " شنج " - فقال النحويون: انتصاب " عضادة " على الظرف، لا على المفعول به، ومعنى " عضادة ": القوائم، " وشنج " لازم، و " مسحل ": هو العير، و " سمحج ": هي الأتان، كأنه قال على مذهب النحويين: أو حمار لازم يمنة أتان، أو يسرة أتان، أو ناحية أتان على تقدير: لازم في ناحية أتان. وقال المحتج عن سيبويه: شنج: في معنى لازم والعضادة: هي القوائم، وهي لا تكون ¬

_ (¬1) البيت بدون نسبة في سيبويه 1/ 157، الأعلم 1/ 57. (¬2) ديوان أبي طالب الورقة 11، الخزانة 3/ 446، الدرر اللوامع 2/ 130. (¬3) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه 125، الخزانة 3/ 451.

ظرفا؛ كأنه قال: هو لازم قوائم سمحج. كما قال الآخر: قالت سليمى لست بالحادي المدلّ … ما لك لا تملك أعضاد الإبل (¬1) " فأعضاد " بمنزلة " عضادة "، وقد نصبها " بتلزم ". وشنج في معنى ذلك. والبيت الثاني في " فعل " قوله: حذر أمورا لا تضير وآمن … ما ليس منجيه من الأقدار فنصب " أمورا " " بحذر ". قال النحويون: هذا بيت لا يصح عن العرب، ورووا عن أبي عثمان المازني عن اللاحقي عن الأخفش أنه قال: سألني سيبويه عن شاهد في تعدي " حذر "، فعملت له هذا البيت. ويروى أيضا: أن البيت لابن المقفع. وأما الشاهد في فعيل فقول ساعدة بن جؤيّة: حتّى شآها كليل موهنا عمل … باتت طرابا وبات الليل لم ينم (¬2) فعدّى " كليل " إلى " موهن ". فقال النحويون: هذا غلط من سيبويه بيّن، وذلك أن " الكليل " هو البرق، ومعناه: البرق الضعيف: وكذا " رجل كليل " إذا كان ضعيفا، وفعله لا يتعدى كقولك: كلّ. يكلّ، ولا تقول: " كلّ زيد عمرا ". و " الموهن ": الساعة من الليل، فهو ينتصب على الظرف، وإنما يصف حمارا وأتانا. و " شآها ": في معنى: شاقها، يعني شاق هذه الحمير هذا البرق الضعيف في هذه الساعة من الليل؛ حين نقلها من الموضع الذي كانت فيه، إلى الموضع الذي كان منه البرق. و " عمل ": تعب كليل، ومعناه: أن هذا البرق الضعيف كان يبدو مرة بعد مرة، فذلك البدوّ عمل. وباتت الأتن طرابا وقد استخفها الشوق، وبات الحمار لم ينم من الشوق أيضا، والنزاع إلى الموطن. وقد خرج لسيبويه أن " كليل " في معنى " مكل "، ووزنه " مفعل "، و " فعيل " في معنى الفعل المتعدي مثل " عذاب أليم " و " داء وجيع "، إذا وضع بمعنى المؤلم والموجع، والمؤلم ¬

_ (¬1) البيت نسب إلى جبار بن جزء أخي الشماخ في ابن يعيش 6/ 73، الديوان 389 ق 24/ 1، والخزانة 2/ 174. (¬2) البيت لساعدة بن جؤية في الخزانة 3/ 450 - ديوان الهذليين 1/ 198 - الأعلم 1/ 58.

والموجع يتعديان، فيصير كأنه: مكلّ موهنا بدوامه عليه، كما يقال: " أتعبت يومك "، ونحو ذلك من المجاز والاتساع. وكان الجرمي يجيز تعدي " فعل " على مذهب سيبويه، قال: لأنه جاء على وزن الفعل، فأشبه أن يكون جاريا مجراه وليس بكثير. قال سيبويه: (ويقال إنه لمنحار بوائكها). يعني: سمانها وأقناها، الواحد بائك. " ومنحار ": مفعال وقد ذكرناه. قال: (وفعل أقل من فعيل بكثير). يعني: أن اسم الفاعل على " فعيل " أكثر منه على " فعل ". وقد ذكرنا مذهبه ومذهب من يخالفه في تعدي " فعيل، وفعل ". قال: (وأجروه حين بنوه للجمع يعني فعولا كما كان أجرى في الواحد؛ ليكون " كفواعل " حين أجرى مجرى مثل " فاعل "، من ذلك قول طرفة: ثمّ زادوا أنّهم في قومهم … غفر ذنبهم غير فجر) (¬1) ويروى: فخر يعني: أنهم أجروا جمع " فعول "، و " فعيل "، وما كان للمبالغة في باب التعدي مجرى جمع " فاعل " في التعدي، و " غفر " جمع: غفور، وقد عدوّه إلى ذنبهم، كما عدوا غفور. وقال الكميت: وليس بحجة عند الأصمعي: شمّ مهاوين أبدان الجزور مخا … ميض العشيّات لا خور ولا قزم (¬2) فعدى " مهاوين " إلى أبدان الجزور، وهي جمع " مهوان "، مثل: منحار ومعناه: أنه يهين اللحم إذا نحر الجزور، ويعطي. قال: (ومنه قدير، وعليم، ورحيم، لأنه يريد المبالغة في الفعل، وليس هذا بمنزلة قولك: حسن وجه الأخ؛ لأن هذا لا يقلب ولا يضمر، وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام، أو نكرة ولا يعني أنك أوقعت فعلا سلف منك إلى أحد، ولا يحسن أن تفصل بينهما، فتقول: " هو كريم " فيها حسب الأب). يعني: أن قديرا وعليما يتعدى كتعدي الفعل، ويقدم المفعول عليه ويؤخر ويضمر ¬

_ (¬1) الديوان 78، الخزانة 3/ 464، الدرر اللوامع 2/ 131. (¬2) البيت للكميت الأسدي الخزانة 3/ 448، سيبويه 1/ 59 - الأعلم 1/ 59.

" عليم "، فيعمل مضمرا وقد ذكرنا ذلك في اسم الفاعل، وليس كذلك الصفة المشبهة، وهو: باب " حسن الوجه "، إذا قلت: " هذا حسن الوجه " لم يحسن أن تقول: " هذا الوجه حسن "، كما تقول: " هذا زيدا ضارب " فهذا هو معنى قوله: لأن هذا لا يقلب أي لا يقدم. وإذا قلت: " هذا حسن الوجه والعين " لم يصلح أن تنصب العين بإضمار " وحسن العين " كما تقول: " هذا ضارب زيد وعمرو " ثم تقول: " هذا ضارب زيد وعمرا "، على إضمار " وضارب عمرا "، فاسم الفاعل يتصرف، ويجري مجرى الفعل، وليس بمنزلة الصفة المشبهة. وقوله: (وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام لا يعني أنك إذا أوقعت فعلا سلف منك إلى أحد). يعني: باب " حسن الوجه "، وذلك أن " حسن الوجه " ليس بجار على فعله. ألا ترى أنك لا تقول: " زيد يحسن الوجه، ولا " زيد حسن الوجه "، وإنما شبه " حسن " بالفاعل، والاختيار عندهم أن يكون في الوجه الألف واللام، وأن يضاف فيقال: " حسن الوجه "، ولا يحسن أن تفصل بين " حسن " وما يعمل فيه، فتقول: " هو حسن في الدار الوجه "، و " كريم فيها الأب "، كما تقول: " هو ضارب في الدار زيدا "، وأنا أستقصي الكلام في " حسن الوجه " إذا انتهيت إليه، وأبين علله إن شاء الله تعالى. قال: (ومما أجري مجرى الفعل من المصدر قوله: يمرون بالدّهنا خفافا عيابهم … ويخرجن من دارين بجر الحقائب على حين ألهى الناس جلّ أمورهم … فندلا زريق المال ندل الثّعالب) (¬1) قال أبو سعيد: اعلم أن المصادر تعمل عمل الأفعال التي أخذت منها، كما عملت أسماء الفاعلين عمل الأفعال التي جرت عليها، وذلك أن الفعل متوسط بين المصدر واسم الفاعل لأنه مأخوذ من المصدر، واسم الفاعل مأخوذ منه، وقد تقدم ذلك. غير أن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول به، لأنه متعلق بهما، وهو غيرهما، كقولك: " هذا بناء الحائط "، و " هذا بناء زيد ". واسم الفاعل لا يضاف إلى الفاعل كما يضاف إلى المفعول به، لا تقول: " هذا ضارب زيد "، والضارب هو " زيد " لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، واسم ¬

_ (¬1) البيتان للأعشى همدان في سيبويه 1/ 115 - 116، الكامل للمبرد 1/ 24، العيني 3/ 46.

الفاعل قد يتقدم عليه المفعول، والمصدر لا يتقدم عليه مفعوله، تقول: " هذا زيدا ضارب " على تقدير: " هذا ضارب زيدا "، ولا يجوز: " هذا زيدا ضربك " على تقدير: " هذا ضربك زيدا "؛ لأن المصدر مقدر " بأن " والفعل بعدها، وما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز أن تقول: " زيدا أن أضرب خير له "، على تقدير: " أن أضرب زيدا خير له "، والمصدر يعمل في المفعول، ماضيا كان أو مستقبلا، واسم الفاعل لا يعمل إلا في المستقبل والحال، والفرق بينهما: أن المصدر وإن كان في معنى الماضي فلا بد أن يقدر فيه " أن " والفعل، فليس بمنزلة الفعل المحض فصار محله كمحل الألف واللام إذا كانتا بمعنى الذي، وهي تعمل في الماضي والمستقبل، تقول: " أعجبني الضارب زيدا " في معنى: الذي يضرب زيدا، ويعجبني: " الضارب زيدا " بمعنى: " الذي يضرب زيدا "، فيعمل في الماضي والمستقبل إذا كان تقديره: تقدير الذي ضرب، والذي يضرب. وكذلك المصدر، تقديره: أن ضرب، وأن يضرب، فقد خالف المصدر اسم الفاعل من ثلاثة أوجه: أولهما: الإضافة إلى الفاعل. الثاني: أن مفعوله لا يتقدم عليه. الثالث: أنه يعمل في الماضي والمستقبل، واسم الفاعل لا يجوز فيه شيء من ذلك. واعلم أنك إذا أضفت المصدر جررت الذي تضيفه إليه بالإضافة، وأجريت ما بعد المضاف إليه على حكم إعرابه، إن كان فاعلا رفعته، إن كان مفعولا به نصبته، كقولك: " أعجبني قطع اللصّ الأمير "، و " أعجبني دقّ الثوب القصّار " وإن شئت: " أعجبني دق القصار الثوب " و " قطع الأمير اللص "، وإن نونت وأدخلت الألف واللام أجريت كل واحد منهما على حكمه، فقلت: " أعجبني ضرب زيد عمرا "، و " أعجبني القطع اللص الأمير "؛ لأنك أبطلت الإضافة بدخول الألف واللام والتنوين. وأما قوله: (فندلا زريق المال ندل الثعالب) فظاهر كلام سيبويه أنه ينصب " المال " ب " ندلا "، وأنا أبين حقيقة ذلك: اعلم أنك إذا قلت: " ضربا زيدا "، فتقديره: " اضرب ضربا زيدا " فضرب منصوب بالفعل المضمر، فينبغي أن يكون " زيد " منصوبا بذلك الفعل أيضا، وقد جرت عادة النحويين في هذا بأن يقولوا: إن " زيدا " منصوب بالضرب، وحقيقته ما ذكرته لك. غير أنهم توسعوا لما ناب المصدر عن الفعل الذي هو عامل أن يقولوا: إنه عامل، ولو أضمرنا

في قولنا: " ضربا زيدا " فعلا غير أضرب، كقولنا: " أوقع ضربا زيدا "، و " افعل ضربا زيدا "، حتى يكون الضرب مفعولا لذلك الفعل المضمر لا مصدرا، لانتصب " زيدا " ب " ضربا "، فكان يصير بمنزلة قولك: " رأيت ضربا زيدا "، فعلى هذا قوله: " فندلا رزيق المال " هو على وجهين: إما أن يكون على قولك: " اندل ندلا المال "، فيكون " المال " منصوبا باندل على الحقيقة و " ندلا " نائب عنه، وإما أن يكون " ندلا " منصوبا " بأوقع " أو " أفعل "، فيكون " المال " منصوبا ب " ندلا ". (وقال المرار الأسدي: أعلاقة أم الوليد بعد ما … أفنان رأسك كالثّغام المخلس) (¬1) قال: فالقول في: " أعلاقة أم الوليد "، كالقول في: " ندلا رزيق المال ". وقوله: " بعد ما أفنان رأسك كالثّغام المخلس ": " أفنان " مبتدأ، وخبره " كالثغام " و " ما " وما بعدها من الابتداء والخبر بمعنى المصدر، كما تكون هي وما بعدها من الفعل بمعنى المصدر، وكما تكون " أنّ " المشددة وما بعدها من الاسم والخبر بمعنى المصدر، فيكون تقديره: " بعد إشباه رأسك الثغام "، كما لو قلت: " بعد ما أشبه رأسك الثغام " كان تقديره: " بعد إشباه رأسك " (وقال الشاعر: بضرب بالسّيوف رؤوس قوم … أزلنا هامهنّ عن المقيل) (¬2) نصب " رؤوسا " ب " ضرب "، لما نونه. قال: (وتقول: " أعبد الله أنت رسول له " و " رسوله "، لأنك لا تريد " بفعول " ها هنا، ما تريد به في " ضروب "؛ لأنك لا تريد أن توقع منه فعلا عليه، فإنما هو بمنزلة قولك: " أعبد الله أنت عجوز له). يعني: أن " رسولا " لا يجري مجرى الفعل، كما جرى " ضروب " مجرى الفعل، ألا ترى أنك لا تقول: " هذا رسول زيدا "، كما تقول: " هذا ضروب زيدا "، وذلك أن ¬

_ (¬1) الخزانة 4/ 493، سيبويه 1/ 60، الدرر اللوامع 1/ 176. (¬2) البيت للمرار بن منقذ التميمي: العيني 3/ 499، ابن يعيش 6/ 61 - 62.

" الرسول "، اسم للمرسل لا للمرسل عند مبالغة فعله، فهو بمنزلة عجوز التي لا تجري على الفعل، فلذلك لا تنصب " عبد الله "، الذي يلي حرف الاستفهام؛ لأنه ليس بعده فعل واقع به ولا اسم. وتقول: (" أعبد الله أنت عديل له "، و " أعبد الله أنت له جليس "؛ لأنك لا تريد مبالغة في فعل، ولم تقل: مجالس، فيكون " كفاعل "، وإنما هذا اسم بمنزلة قولك: " أزيد أنت وصيف له " أو " غلام له "، وكذلك: " البصرة أنت عليها أمير "). يعني: أن " جليسا " و " أميرا " لا يجريان مجرى الفعل، فلا ينصب الاسم الأول. وإنما " جليس "، بمنزلة " وصيف "، وبمنزلة " غلام "، وكذلك " الأمير "، وكذلك لو قلت: " أعبد الله أنت مجالس له " لنصبت " عبد الله "؛ لأن " مجالس " يجري على " يجالس " فكأنك قلت: " أعبد الله أنت تجالسه " على تقدير: " أتجالس عبد الله أنت تجالسه ". وقوله: (لأنك لم ترد به مبالغة في الفعل). يعني: أن " جليس " ليس للمبالغة، كما كان " رحيم ". لا تقول: " هذا جليس زيدا "، كما تقول: هذا رحيم زيدا، إذا كثرت منه الرحمة؛ لأن " الجليس " و " الأمير " قد يقال لهما في أول جلسة وأول إمارة. قال: (فأما الأصل الأكثر الذي يجري مجرى الفعل من الأسماء " ففاعل ". وإنما جاز في التي بنيت للمبالغة؛ لأنها بنيت للفاعل من لفظه). يعني: أن اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل، ما جرى على الفعل، كضارب من " ضرب " ومجالس من " جالس "، وما كان من مبالغة الفاعل " فضروب " و " ضرّاب " و " جليس " و " أمير " على غير هذين الوجهين. قال: (وليست هي بالأبنية التي هي في الأصل أن تجري مجرى الفاعل، يدلك على ذلك أنها قليلة. فإذا لم يكن فيها مبالغة الفعل، فإنما هي بمنزلة " غلام " و " عبد "؛ لأن الاسم على " فعل ويفعل " فاعل، وعلى فعل ويفعل: مفعول). يعني: أن فعيلا ليست من الأبنية التي تجري مجرى الفعل في الأصل، ومع ذلك فهي قليلة وإنما يحتج بذلك كله؛ ليرى أن " جليسا " لا يتعدى إذا لم يكن جاريا على الفعل، وإذا لم يكن فيها مبالغة الفعل، ولم تكن للمبالغة. والاسم الجاري على الفعل أن يكون من " فعل يفعل " " فاعل " نحو: " ضرب يضرب ضارب ". وفاعل يفاعل فهو مفاعل نحو:

" جالس يجالس فهو مجالس " وعلى " فعل يفعل " فهو " مفعول " نحو: " كسي يكسى فهو مكسو ". و " جولس يجالس فهو مجالس ". وجملة ذلك أن الاسم الجاري على الفعل في الفعل الثلاثي، ما كان على لفظ فاعل كقولك: " ضرب يضرب فهو ضارب "، " وقتل فهو قاتل "، و " علم فهو عالم "، و " سمع فهو سامع ". وما كان على أكثر من ثلاثة أحرف، فإن اسم الفاعل الجاري عليه لفظ مستقبله وعدة حروفه، إلا أن الحرف الأول منه ميم " مضمومة " مكان حرف الاستقبال، وما قبل آخره مكسور نحو قولك: " قاتل فهو مقاتل "، و " جالس فهو مجالس "، و " استغفر فهو مستغفر "، و " تعشى فهو متعشّ "، و " كسرّ فهو مكسّر "، و " دحرج فهو مدحرج "؛ لأنك تقول: " يقاتل، ويجالس، ويستغفر، ويتعشى، ويكسر، ويدحرج ". والمفعول من الفعل الثلاثي على لفظ المفعول كقولك: " ضرب فهو مضروب "، و " كسي فهو مكسوّ ". وإذا كان على أكثر من ثلاثة أحرف فهو على لفظ فعله المستقبل كقولك: " قوتل فهو مقاتل، وأعطي فهو معطى، وكسّر فهو مكسر " لأنك تقول: يعطى، ويقاتل، ويكسّر. والأفعال التي للمبالغة، ولم تجر مجرى الفعل هي ما قدمناه، وذلك خمسة أسماء: فعول، وفعّال، ومفعال، وفعل، وفعيل على قول سيبويه. قال: (وتقول: " أكلّ يوم أنت فيه أمير "، ترفعه لأنه ليس بفاعل، وقد خرج " كل " من أن يكون ظرفا، فصار بمنزلة " عبد الله "، ألا ترى أنك تقول: " أكلّ يوم ينطلق فيه " صار كقولك: " أزيد يذهب به "). يعني: أن قولك: " أكلّ يوم أنت فيه أمير "، يرتفع " كلّ "، ولا يجوز نصبه فيه، وذلك لأن " أمير " ليس في معنى فعل، فيضمر فعل " ينصب " " كل ". فإن قال قائل: فإن الأسماء التي لا تجري مجرى الفعل، تعمل في الظروف، و " كل يوم " هو ظرف، فهلا أضمرت فعلا ينصبه، ويكون " أمير " هذا الذي يفسر ذاك الفعل، كما كان " أمير " ينصب الظرف، إذا قلنا: " زيد أمير يوم الجمعة "، " وزيد يوم الجمعة غلامك "؟ قيل له: المعاني وإن كانت تعمل في الظروف؛ فإنها لا تبلغ من قوتها أن تكون تفسيرا لفعل مضمر إذا كانت هي لا تجري مجرى الأفعال، ولا تكون لها تلك القوة.

هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى

ولو قلت: " أكلّ يوم أنت أمير " نصبت، وصار " كل " ظرفا للأمير، فإذا قلت: " أكلّ يوم أنت فيه أمير " فقد صارت " فيه " هو الظرف للأمير، وارتفع " كلّ " بالابتداء. وكذلك إذا قلت: " أكلّ يوم ينطلق فيه " وجعلت " فيه " في موضع رفع، وأقمتها مقام الفاعل في " ينطلق "، ورفعت " كل " بالابتداء، وفي هذا وجه آخر وهو: أن تجعل في " ينطلق " ضمير مصدر تقيمه مقام الفاعل، فيصير " فيه " موضعه نصب، فينتصب " كلا "؛ لأن ضميره اتصل بمنصوب على تقدير: أكلّ يوم ينطلق الانطلاق فيه، ويكون الناصب " لكل يوم " فعلا مبهما كأنك قلت: " أينطلق الانطلاق كلّ يوم ينطلق الانطلاق فيه ". قال: (ولو جاز أن تنصب " كل يوم " وأنت تريد بالأمير الاسم لقلت: " أعبد الله عليه ثوب "؛ لأنك تقول: " أكلّ يوم لك فيه ثوب "). يعني أن " الأمير " ليس يجري مجرى الفعل، فهو بمنزلة " الثوب " ولا ينصب الاسم الأول، وإن كان في الكلام ضمير يعود إليه متصل بمنصوب؛ لأن ذلك المنصوب نصبه كنصب الظرف بمعنى استقر، فإذا قلت: " أعبد الله عليه ثوب "، فتقديره: أعبد الله استقر عليه ثوب كما تقول: " أعبد الله خلفه ثوب "، ولو أظهرت الاستقرار لنصبت " عبد الله "، كقولك: " أعبد الله استقر عليه ثوب "، وقولك: " أكلّ يوم لك ثوب " تنصب " كل يوم " بالظرف، والعامل فيه " لك " بمعنى الاستقرار، فإذا شغلت الظرف بضمير " اليوم "، خرج " اليوم " من أن يكون ظرفا، ورفعته بالابتداء فقلت: " أكلّ يوم لك فيه ثوب "، ولا تنصب " اليوم "؛ لأنه لم يظهر فعل ولا اسم فاعل. قال: (ولو جاز أن تقول: " أكلّ يوم لك فيه ثوب "، لجاز أن تقول: " أعبد الله عليه ثوب "؛ لأن " عليه " في موضع نصب مثل: " فيه ". وهذا لا يجوز فيهما جميعا، لأنك لم تأت بفعل). هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى (وهي ظننت، وحسبت، وخلت، ورأيت، وزعمت، وما يتصرف من أفعالهن كأحسب وتظن). قال أبو سعيد: أعلم أن هذه الأفعال تدخل على جمل، هي أسماء وأخبار قد كانت قائمة بنفسها فيحدث الشك أو اليقين في أخبارها، فلذلك لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين دون الآخر، وذلك أنك إذا قلت: " حسبت زيدا منطلقا "، فالمحسبة وقعت منك

على انطلاق زيد، فلم يجز أن تقول: " حسبت زيدا " وتسكت؛ لأن المحسبة لم تقع على زيد فلا يجوز أن تأتي بما لم تقع عليه المحسبة، وتترك ما وقعت عليه المحسبة ولا يجوز أن تقول: حسبت منطلقا وتسكت؛ لأن الانطلاق الواقع عليه المحسبة إذا لم يكن مسندا إلى صاحب فلا فائدة فيه؛ ألا ترى أنك تقول: " زيد منطلق "، تكون الفائدة للمخاطب في الانطلاق؛ لأن المخاطب قد عرف " زيدا "، ولا يجوز مع هذا أن تفرد أحدهما من دون الآخر، فتقول: " زيد " أو تقول: " منطلق "؛ لأنك إذا قلت: " زيد " فلا فائدة فيه إذ لم تخبر عنه بخبر. وإذا قلت: " منطلق " فلا فائدة فيه؛ إذا لم تذكر الذي له الانطلاق. فهذه الأفعال إنما دخلت على مبتدإ وخبر، فلم يجز الاقتصار على أحدهما، كما لم يجز الاقتصار على المبتدإ، ولا على الخبر. ويجوز ترك المفعولين جميعا والاقتصار على الفاعل كقولك: " ظننت "، و " حسبت "؛ لأنك لم تأت باسم يحتاج إلى خبر، ولا خبر يحتاج إلى صاحب، وإنما جئت بالفعل والفاعل فكان الفعل خبرا عن الفاعل، وتم الكلام. وفي بعض أمثال العرب: " من يسمع يخل "، فلم يأت " ليخل " بمفعول. فإن قال قائل: فما الفائدة في قولنا: " ظننت، وخلت "، إذا لم تأت بالمفعولين؟ قيل له: الفائدة فيه: أنه وقع منه ظن، ومخيلة، كما تقول: أكلت، وشربت "، فتكون الفائدة أنه وقع منه أكل، ولا تذكر منه المأكول والمشروب. وجميع الأفعال التي تجري هذا المجرى أربعة عشر فعلا: منها سبعة أفعال قد سميّ فاعلوها، وسبعة أفعال لم يسمّ فاعلوها. فأما السبعة الأفعال التي سمي فاعلوها فهي: " ظننت، وحسبت، وخلت، ورأيت من رؤية القلب-، ووجدت- من وجود القلب- وعلمت وزعمت ... ". وأما السبعة التي لم يسم فاعلوها فهي: " أعلمت، وأريت، ونبئت، وأنبئت، وخبّرت، وأخبرت، وحدّثت ". فأما ظننت وحسبت وخلت فمعناها واحد، وهو أن تتصور الشيء من غير استثبات ولا دليل عليه، وقد يكون ل " ظننت " فقط، من هذه الثلاثة الأفعال مذهب يتعدى فيه إلى مفعول واحد، وهو أن تقول: " ظننت زيدا "، بمعنى: اتهمت زيدا، ومنه

" رجل ظنين "، أي متهم قال الله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (¬1) أي بمتهم. وقد يكون بمعنى العلم كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ (¬2) أي: يعلمون. وإنما يقع الظن بمعنى العلم في كل ما لم تدركه الحواس، وعلم من طريق الاستدلال، فقلت: " ظننت الحائط مبنيا "، وأنت قد شاهدته، لم يجز ذلك. وأما " رأيت ": فإنه من رؤية العين، يتعدى إلى مفعول واحد كقولك: " رأيت زيدا " أي: أبصرته، وإن قلت: " رأيت زيدا قائما " من رؤية العين فإنما ينصب " قائما " على الحال. ورؤية القلب لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين ولها مذهبان: مذهب العلم، ومذهب الظن، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَراهُ قَرِيباً (¬3)، معناه: أنهم يظنونه بعيدا، ونعلمه قريبا. وأما " وجدت " من وجود القلب، فإنه بمعنى العلم يقال: " وجدت زيدا قائما وجودا " بمعنى: علمته قائما، قال الله تعالى: وَجَدْناهُ صابِراً (¬4) أي: علمناه صابرا. وإذا كان " وجدت " في غير معنى العلم، فليس مصدره " وجودا "، ولا يتعدى إلى مفعولين، وذلك قولك: " وجدت الضالة وجدانا "، بمعنى: أصبتها و " وجدت على زيد موجدة "، إذا عتبت عليه، وغير ذلك من وجوهها. وأما: " علمت ": فإن له مذهبين: إن أردت به معرفة الاسم ولم تكن عارفا به من قبل تعدّى إلى مفعول واحد، وصار بمنزلة " عرفت " فإذا قلت: " علمت زيدا اليوم "، فمعناه: عرفته اليوم، ولم تكن عارفا به من قبل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (¬5) أي: عرفتموهم، ولم تكونوا عارفين بهم، وكذلك قوله: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (¬6). والمذهب الآخر من مذهبيه: أن يكون العلم واقعا بالثاني، كقولك: " علمت زيدا ¬

_ (¬1) سورة التكوير، آية: 24. (¬2) سورة البقرة، آية: 46. (¬3) سورة المعارج، الآيتان: 6، 7. (¬4) سورة ص، آية: 44. (¬5) سورة البقرة، آية: 65. (¬6) سورة التوبة، آية: 101.

منطلقا اليوم "، وقد كنت عارفا بزيد من قبل، غير أنك لم تكن عارفا بانطلاقه، فحدث لك العلم اليوم بانطلاقه. وأما " زعمت " فإنه قول يقترن به اعتقاد ومذهب، وقد يصح ذلك وقد لا يصح. ولو كان الزعم في معنى القول المحض لحكي ما بعده ولم ينصب، كما يفعل ذلك بعد القول، إذا قلت: " قال زيد عمرو قائم ". وأما السبعة التي لم يسم فاعلوها: فهي متعدية إلى ثلاثة مفعولين، إذا سمّي فاعلوها وأنا أبينها في باب: " ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ". فإذا تقدمت هذه الأفعال عملت النصب في المفعولين جميعا، ولا يجوز إلغاؤها كقولك: " علمت زيدا منطلقا "، و " علمت أباك ذاهبا " فهي في تقدمها بمنزلة: " ضربت، وأعطيت " في الإعمال. والمفعول الثاني منها خبر للمفعول الأول، فهو ينقسم أقسام الأخبار، يجوز أن يكون اسما هو الأول كقولك: " حسبت زيدا منطلقا "، ويجوز أن يكون فعلا له ماضيا، ومستقبلا كقولك: " حسبت زيدا قام "، و " حسبت زيدا يقوم "، وظرفا له كقولك: " حسبت زيدا عندك " وجملة فيها ذكر يعود إليه كقولك: " حسبت زيدا أبوه قائم "، و " حسبت زيدا إن تأته يأتك ". وإذا توسطت هذه الأفعال، أو تأخرت جاز إلغاؤها وإعمالها كقولك: " زيد حسبت منطلق "، و " زيدا حسبت منطلقا "، و " زيد منطلق حسبت " و " زيدا منطلقا حسبت ". وإنما جاز إلغاؤها؛ لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها، فإذا تقدمت الجملة، أو تقدم شيء منها حصل لفظ الخبر، ولم يكن في الكلام لفظ شك، فحملت الجملة على منهاجها ولفظها قبل دخول الشك، وصير موضع الشك واليقين في تقدير ظرف له. فإذا قلت: " زيد منطلق ظننت "، أو " زيد ظننت منطلق "، فكأنك قلت: " زيد منطلق في ظني ". وإذا تقدم الفعل، حصل فعل الشك واليقين قبل ورود الاسم فعمل؛ لأن الاسم ورد وقد تقدم الشك في خبره، فمنعه ذلك التقدم من أن يجري على لفظه الأول قبل دخول الشك واليقين. قال سيبويه: (فإذا جاءت مستعملة فهي بمنزلة " رأيت " يعني: رؤية العين و " ضربت، وأعطيت " في الإعمال والبناء على الأول في الخبر والاستفهام، وفي كل

شيء). يعني أنك إذا أعملته، فقد صيرته بمنزلة " رأيت، وضربت، وأعطيت "، فينبغي أن تجرى مجراه في البناء على الأول في الخبر والاستفهام وفي كل شيء. أما البناء على الأول في الخبر، فقولك: " عبد الله حسبته منطلقا "، كما تقول: " عبد الله أعطيته درهما "، تختار الرفع في هذا كما اخترته في " عبد الله أعطيته درهما " ويجوز النصب فيه، كما جاز في " عبد الله أعطيته درهما ". وأما الاستفهام فقولك: " أعبد الله حسبته منطلقا "، يختار النصب في هذا على تقدير: أتوهمت عبد الله حسبته منطلقا، كما اخترت النصب في " عبد الله أعطيته درهما " على تقدير: أعطيت عبد الله أعطيته درهما، ويجوز الرفع فيهما جميعا بالابتداء. وقوله: (وفي كل شيء). يعني: في سائر الأفعال التي تختار فيها النصب بعد الاستفهام، كقولك: " أظنّ عبد الله منطلقا "، و " بكرا أظنه خارجا "، كما تقول: " ضربت زيدا، وعمرا ضربته "، وإن شئت قلت: " وبكر أظنه خارجا "، كما تقول: " ضربت زيدا وعمرا ضربته ". قال: (فإن ألغيت قلت: " عبد الله أظنّ ذاهب "، و " هذا أخال أخوك "، و " فيها أرى أبوك). يعني: أن " أرى " قد توسط بين الاسم والخبر؛ لأن الاسم المبتدأ هو الأب، و " فيها " خبره، و " أرى " كالفضلة؛ لأنه شيء هجين في نفسه، فأشبه باب القول في الحكاية، وضعف الفعل فيه إذا توسط، أو تأخر. وإذا تأخر كان الإلغاء فيه أحسن منه إذا توسط؛ لبعد الفعل من الأول. وكل عربي صحيح جيد. قال اللعين المنقري: أبالأراجيز يابن اللّؤم توعدني … وفي الأراجيز خلت اللوم والخور (¬1) " فاللؤم " مرفوع بالابتداء، و " الخور " عطف عليه، " وفي الأراجيز " هو الخبر، و " خلت " ملغي، فهو بمنزلة " فيها أرى أبوك ". قال: (وإنما كان التأخير أقوى؛ لأنه إنما يجيء بالشك بعد ما يمضي كلامه على ¬

_ (¬1) الدرر اللوامع 1/ 135 - الهمع 1/ 153 - الأعلم 1/ 61.

اليقين، أو بعد ما يبتدئ، وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك، كما تقول: " عبد الله صاحب ذاك بلغني "، وكما قال: " من يقول ذاك تدري "، فأخر ما لم يعمل في أول كلامه. وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعد ما مضى كلامه على اليقين). يعني: " زيد قائم ظننت ". وقوله: (وبعد ما يبتدئ وهو يريد اليقين). يعني: " زيد ظننت قائم ". وقوله: (ثم يدركه الشك). يكون هذا على أحد وجهين: إما أن يبتدئ كلامه وليس في قلبه منه مخالجة شك، فإذا مضى كله أو بعضه على لفظ اليقين يعني: " زيد قائم ظننت " لحقه فيه الشك، كما تقول: " عبد الله أمير "، على طريق الإخبار بذلك، و " عبد الله صاحب ذاك "، وأنت لم تشاهده، وإنما خبرت به، فيجب أن تستظهر في خبرك، فتقول: " بلغني " أي: هذا الذي قلته فيما بلغني، لا فيما شاهدته. ولو قدمت " بلغني " لم يجز أن تقول: " بلغني عبد الله أمير "؛ لأن " بلغني " فعل ولا بد له من فاعل، و " عبد الله أمير " جملة، ولا تكون فاعله، ولكن تقول: " بلغني إمارة عبد الله "، و " بلغني أن عبد الله أمير ". وإذا قلت: " عبد الله صاحب ذاك بلغني "، ففاعل " بلغني " مضمر فيه، كأنك قلت: " بلغني ذاك الأمر، أو ذاك البلاغ "، كما تقول: " من يقول ذاك بلغني "، كما تقول: " من يقول ذاك تدري؟ " مستفهما، فيرتفع بالابتداء، " ويقول " خبره، و " تدري " ملغي، ولو قدمته لعمل " تدري " في " من "، وصارت " من " بمعنى الذي، وخرجت عن الاستفهام. وقد يقول القائل: " زيد ظننت قائم "، و " زيد قائم ظننت "، وهو في أول كلامه شاك، غير أنه لا يعمل الشك، كما يقول القائل: " زيد أمير "، وهو يضمر " عندي " أو " في ظني "، فإذا جاز هذا، جاز أن يظهر ما أضمر، ويكون الكلام على حاله، كما قال الله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ (¬1)، فقال المسؤول: " لبثت يوما أو بعض يوم " على ما كان عنده الأغلب. قال: (فإذا ابتدأ كلامه على ما في نيته من الشك أعمل الفعل قدم أو أخّر، كما ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 259.

قال: " زيدا رأيت، ورأيت زيدا "، وكلما طال الكلام ضعف التأخير إذا أعملت). يعني: إذا ابتدأ الاسم وفي نيته أن يأتي بفعل الشك، نصب، كما يفعل ذلك في " ضرب " وإذا طال الكلام ضعف التأخير الإعمال، إذا قلت: " زيدا منطلقا اليوم أظن "، كان أضعف من قولك: زيدا أظن منطلقا و " زيدا منطلقا أظن "، أضعف من قولك: " زيدا أظن منطلقا " قال: كما يضعف " زيدا قائما ضربت "؛ لأن الوجه أن تقول: " ضربت زيدا قائما "، و " زيدسا قائما ضربت " أضعف من " زيدا ضربت قائما "، ولا يجوز في " ضربت " إلا النصب. قال: (ومما جاء في الشعر معملا في زعمت قول أبي ذؤيب: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم … فإني شريت الحلم بعدك بالجهل) أعمل الزعم في النون والياء، وهي المفعول الأول، و " كنت أجهل فيكم " جملة في موضع المفعول الثاني: (وقال النابغة الجعدي: عددت قشيرا إذ عددت فلم أسأ … بذاك ولم أزعمك عن ذاك معزلا) فالمفعول الأول: " الكاف " في " أزعمك "، وهو في موضع نصب والثاني: معزلا. والتقدير: فلم أزعمك معزلا عن ذاك. قال: (وتقول: " أين ترى عبد الله قائما "، و " هل ترى زيدا ذاهبا "؛ لأن " هل "، و " أين "، كأنك لم تذكرهما، لأن ما بعدهما ابتداء فكأنك قلت: " أترى عبد الله قائما " و " أنظن عمرا منطلقا "). يعني: أنك إذا جعلت " قائما " هو المفعول الثاني، فقد تقدم الفعل المفعولين جميعا، فوجب النصب فيهما، ويكون " أين " ظرفا ملغي في صلة قائم. قال: (فإن قلت: " أين "، وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة " فيها " إذا استغنى بها الابتداء، قلت: " أين ترى زيدا، وأين ترى زيد "). يعني: أنك إذا جعلت " أين " خبرا لقولك: " أين زيد "، و " في الدار زيد "، ثم جئت بالظن بعد " أين "، جاز الإعمال والإلغاء، فتصيره بمنزلة قولك: " قائما ظننت زيدا، وقائم ظننت زيد "، ويجوز أن تقول: " أين ترى زيد قائما "، على أنك تجعل " أين " خبر " زيد " وتلغي " ترى "، وتنصب " قائما " على الحال.

قال: (واعلم أنّ " قلت "، إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكي بها، وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا نحو قولك: " قلت زيد منطلق "، لأنه يحسن أن تقول: " زيد منطلق "، ولا تدخل " قلت "، وما لم يكن هكذا أسقطنا القول عليه). قال أبو سعيد: اعلم أن " قلت "، و " قال "، و " تقول "، وما تصرف منه أفعال لا بد لها من فاعلين، وهي بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى من وجه، وبمنزلة الفعل الذي يتعدى إلى مفعول من وجه. فأما شبهها بالفعل الذي لا يتعدى، فلأنها لا مفعول لها تصل إليه تنصبه غير مصدرها والظرف والحال فيها. لا تقول: " قال زيد عمرا "، كما لا تقول: " قام زيد عمرا "، ولكن تقول: " قال زيد قولا يوم الجمعة منطلقا خلفك "، كما تقول: " قام زيد قيامك خلفك يوم الجمعة ضاحكا ". وأما شبهها بالفعل الذي يتعدى إلى مفعول فهو أن الجمل تقع بعدها على لفظ اللافظ بها، فتكون الجمل التي تقع بعدها بمنزلة المفعول، وذلك قولك: " قال زيد عمرو منطلق "، و " قال زيد قام أخوك، وقال زيد " إن عمرا منطلق (فقوله): " عمرو منطلق "، و " قام أخوك " جملة وقع عليها القول فلم يغيرها، وحكيت بعدها على لفظ اللافظ بها، وصارت في موضع المفعول المنصوب فيما يتعدى من الأفعال إلى مفعول وهو قولك: " ضرب زيد عمرا ". وأما قوله: (وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما). يعني: ما كان جملة قد عمل بعضها في بعض. وقوله: (لا قولا). يعني: لا مصدرا له؛ لأنه يعمل في مصدره، كقولك: " قال زيد قولا حسنا " و " قال كلاما حسنا " لأنه في معنى: " قال قولا جيدا "، وقال خيرا "، " وقال حقا "؛ لأنه يراد: " قال قولا خيرا، وقال قولا حقا ". وقوله: (ولا تدخل " قلت "). يعني: أن الجمل التي يقع عليها القول يجوز أن تلفظ بها، ولا يدخل القول؛ لأنك إذا قلت: " قال زيد عمرو منطلق " جاز أن تقول: " عمرو منطلق "، من غير أن تقول: " قال زيد ".

وقوله: (وما لم يكن هكذا سقط القول عليه). يعني: ما لم تكن جملة نحو المصدر والظرف والحال سقط القول عليه وعمل فيه. قال سيبويه: (وتقول: " قال زيد إن عمرا خير الناس "، وتصديق ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ (¬1) ولولا ذلك لقال " أن " (الله)). يعني: أن " أنّ " إنما تكسر إذا وقعت مبتدأة، ولم يعمل فيها ما قبلها كقولك: " إن زيدا قائم "، فإذا عمل فيها ما قبلها فتحت كقولك: " بلغني أن زيدا قائم "، و " ظننت أن زيدا قائم "، فلما قال تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ... إِنَّ اللَّهَ ... ، علمنا أن القول لم يعمل فيها، وأن الجملة حكيت على لفظها قبل أن يدخل القول، ولو عمل القول لقال " أنّ " على ما بينا في الظن. قال: (وكذلك " جميع " ما تصرف من فعله. إلا " تقول " وحدها في الاستفهام. شبهوها في الاستفهام ب " تظن "، ولم يجعلوها ك " يظن "، و " أظن " في الاستفهام؛ لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن ظنّ لغيره، ولا يستفهم (هو) إلا عن ظنه، فإنما جعلت ك " تظن "، كما أن " ما " ك " ليس " في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها. فإذا تغيرت عن ذلك أو قدم الخبر رجعت إلى القياس، وصارت اللغات فيها كلغة بني تميم). قال أبو سعيد: أعلم أن القول قد يستعمل في معنى الظن والاعتقاد وذلك أن القول والظن يدخلان على جملة، فتصورها في القلب هو الظن أو العلم، والعبارة عنها باللسان هو القول ومن ذلك قول القائل: " هذا قول فلان "، و " مذهب فلان ". ومن العرب من يعمل القول إعمال الظن على كل حال، فيقول: " قلت زيدا منطلقا "، كما تقول: " علمت زيدا منطلقا "، و " ظننت زيدا منطلقا "، وفيهم من يجعله بمنزلة الظن إذا استفهم المخاطب خاصة، فيقول: " أقلت زيدا منطلقا "، و " أتقول زيدا منطلقا "، على معنى: " أظننت زيدا منطلقا "، و " أتظنّ زيدا منطلقا "، وإنما يفعل ذلك في المخاطب إذا استفهم عن ظنه؛ لأن أكثر ما يقول الإنسان لمخاطبه: " أتقول كذا وكذا في كذا، أو ما تقول في كذا " إنما يريد به ما يعتقد إلى أي شيء يذهب. ألا ترى أنك لو قلت ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 42.

لفقيه: " ما تقول في تحريم المسكر؟ " فقال لك: " أنا أذهب إلى تحليل القليل منه " لكان معناه: أنا أعتقد هذا وأذهب إليه، وكثر هذا المعنى فأجروه مجرى الظن. فإذا قالوا للمخاطب: " أتقول زيد عمرو منطلق " حكوا؛ لأنه لم يكن أن يستفهم المخاطب عن ظن غيره، فجعله سيبويه بمنزلة تشبيه أهل الحجاز " ما " " بليس " إذا لم يقع استثناء ولم يقدم الخبر، فإذا وقع الاستثناء أو قدم الخبر رجع إلى القياس، لأنها لم تقو أن تعمل مع التغيير عمل " ليس " كما لم يقو القول في غير استفهام المخاطب عمل الظن؛ لأنه لم يكثر كثرته فيه فرجع إلى القياس. قال: (ولم تجعل " قلت " " كظننت "). يعني: أن " قلت " في غير الاستفهام، لم تجعل كظننت في نصب المفعولين بعدها، لأن الأصل فيها أن يكون ما بعدها محكيا، فلم تحمل على " ظننت " في مواضعها كلها، كما أن " ما " لم تحمل على " ليس " في مواضعها كلها، والأصل فيها أن يكون ما بعدها مبتدأ، كما كان الأصل في " قلت " أن يكون ما بعدها مبتدأ. قال: (وسأفسر لك- إن شاء الله- ما يكون بمنزلة الحرف في شيء، ثم لا يكون معه على أكثر أحواله، وقد بيّن بعضه فيما مضى). يعني: أن الأشياء التي قد يشبّه بها الشيء في حال، ويفارقه في أحوال كثيرة منها ما قد مضى في أول الكتاب، نحو تشبيه الفعل بالاسم في حال، وتشبيه " ما " " بليس "، وغير ذلك. ومنها ما يأتي من بعده، ثم مثل الاستفهام في: تقول. فقال: (وذلك نحو قولك: " متى تقول زيدا منطلقا "، و " أتقول عمرا ذاهبا "، و " أكلّ يوم تقول عمرا منطلقا "، لا يفصل بها كما لم يفصل بها في: " أكلّ يوم زيدا تضربه "). يريد: " متى تظن زيدا "، و " ألا تظن عمرا ". وقوله: (ولا يفصل بها). يعني: أنك إذا قلت: " أكلّ يوم تقول عمرا منطلقا " فالاستفهام قد وقع على " تقول ". فلذلك جعلته في مذهب " تظن "، و " كل يوم " لم يفصل بها بين ألف الاستفهام وبين " تقول "، كما لم يفصل في قولك: " أكلّ يوم زيدا تضربه "، وكأنك قلت: " أزيدا

تضربه كل يوم "، فكذلك ها هنا، كأنك قلت: " أتقول عمرا منطلقا كل يوم ". قال: (وتقول: " أأنت تقول زيد منطلق " رفعت؛ لأنه فصل بينه وبين حرف الاستفهام، كما فصل في قولك: " أأنت زيد مررت به " فصارت بمنزلة أخواتها، وصارت على الأصل). قال أبو سعيد: يعني: أنّ " أنت "، فصلت بين الاستفهام وبين " تقول "، فخرجت " تقول " عن الاستفهام، فعادت إلى حكمها وحكاية ما بعدها، كما أنك إذا قلت: " أأنت زيد مررت به " فصلت " أنت " بين ألف الاستفهام وبين " زيد "، فرفع " زيد " كحكمه في الابتداء. قال الكميت شاهدا لجعل " تقول " في مذهب " تظن " في الاستفهام: أجهّالا تقول بني لؤيّ … لعمر أبيك أم متجاهلينا (¬1) وقال عمر بن أبي ربيعة: أما الرّحيل فدون بعد غد … فمتى تقول الدّار تجمعنا (¬2) قال: (وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية). يعني: إن شئت حكيت بعد القول في الاستفهام، ولم تجعله في مذهب " تظن " فقلت: " أتقول زيد منطلق ". قال أبو عثمان: غلط سيبويه في قوله: وإن شئت رفعت بما نصبت؛ لأن الرفع بالحكاية، والنصب بإعمال الفعل. يريد أبو عثمان: أنك إذا قلت: " أتقول: زيد منطلق "، " فزيد " مرفوع بالابتداء، وإذا قلت: " أتقول زيدا منطلقا "، فهو منصوب بالفعل. فقال المجيب عن سيبويه: إن هذا لا يذهب على من هو دون سيبويه ولم يغز سيبويه هذا المغزى، إنما أراد: وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت، ولم يعرض لذكر العامل كما تقول: " زيد بالبصرة "، وإنما تريد: " في البصرة ". وقد يجوز أن يكون المعنى: وإن شئت رفعت ما نصبت، والباء زائدة كما قال تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (¬3) أي: تنبت الدّهن وكما قال الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت للكميت في الخزانة 4/ 24، الدرر اللوامع 1/ 140. (¬2) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 394، الخزانة 4/ 24. (¬3) سورة المؤمنون، آية: 20.

هن الحرائر لا ربّات أحمرة … سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (¬1) يريد: لا يقرأن السور. (وزعم أبو الخطاب وسألته عنه غير مرة: أن أناسا من العرب يوثق بعربيتهم، وهم بنو سليم يجعلون باب " قلت " أجمع مثل " ظننت "). وقد ذكرنا هذا فيما مضى. قال سيبويه: (واعلم أن المصدر قد يلغى كما يلغى الفعل وذلك قولك: " متى زيد ظنك ذاهب "، و " زيد ظني أخوك "، و " زيد ذاهب " ظني "). ف " زيد " يرتفع بالابتداء، وخبره " ذاهب "، و " متى " ظرف للذهاب " وظنك " منصوب بفعل مضمر ملغي، كأنك قلت: " متى زيد تظن ظنك ذاهب "، وجاز إلغاؤه؛ لأنه بين الاسم والخبر وليس بمتقدم. قال: (فإن ابتدأت فقلت: " ظني زيد ذاهب "، كان قبيحا ضعيفا، كما قبح " أظن زيد ذاهب "). يعني: أن قولك: " ظني زيد ذاهب " - لما قدمت " ظني " - صار بمنزلة قولك: " أظن ظني زيد ذاهب "، وأنت لا تقول: " أظن زيد ذاهب ". قال: (وهو في " أين، ومتى " أحسن إذا قلت: " متى ظنك زيد ذاهب ". و " متى تظن زيد منطلق "؛ لأن قبله كلاما، وإنما يضعف هذا في الابتداء كما ضعف " غير ذي شك زيد ذاهب "، و " حقا عمرو منطلق "). قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه قد أجاز في هذا الموضع إلغاء الظن، وقد تقدم الفعل المفعولين، إذا كان قبل الظن شيء متصل بالمفعول الثاني. وذلك أنه أجاز " متى تظن عمرو منطلق "، وعمر: مبتدأ ومنطلق: خبره، و " متى " ظرف للانطلاق، و " متى ظنك زيد ذاهب "، ف " زيد ": مبتدأ و " ذاهب ": خبره، و " متى ": ظرف للذهاب، وقد رد عليه ذلك أبو العباس وغيره، وقالوا: هذا نقض للباب، وذلك أنه شرط: متى ما تقدم الفعل لم يلغ، وأعمل، فوجب أن يعمل ها هنا. ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 3/ 667.

فقال المحتج عنه: إنما شرط سيبويه أن يتقدم الفعل، وليس قبله شيء في صلة ما بعده. قال: (إذا تقدم شيء مما بعده، قبل أن يأتي بفعل الشك، فقد مضى ذلك اللفظ على غير الشك والظن جاز فيه الإلغاء، كما جاز في " أين تظن زيدا " إذا تقدم الخبر). وقوله: (وإنما يضعف هذا في الابتداء كما ضعف: " غير ذي شك زيد ذاهب "، و " حقا زيد منطلق "). قال أبو سعيد: واعلم أن " حقا، وغير ذي شك "، وما جرى مجراهما يؤكد به الجمل وتحقق، ولا تأتين مبتدأ، إذا أردت ذلك المعنى لأنك إذا قلت: " زيد منطلق حقا " فقد وكدت إخبارك بانطلاقه، كأنك قلت: حق ذلك حقا؛ لأن قولك: " زيد منطلق " ظاهره يدل على أنك تخبر بما تحقه وما هو صحيح عندك، فلا تقدم هذا التأكيد، ويؤتى بالجمل بعده فضعف تقديم الظن كضعف تقديم هذا لأنه نقيضه وذلك أن قولك: " زيد منطلق حقا " في باب التحقيق كقولك: " زيد منطلق ظنا " في باب الظن. قال: (وإن شئت قلت: " متى ظنّك زيدا أميرا " كقولك: " متى ضربك عمرا ". يعني: أنك تجعل " ظنك ": مبتدأ، و " متى ": خبره، و " زيدا أميرا " مفعولي الظن. قال: (" وقد " يجوز أن تقول: " عبد الله أظنه منطلق " تجعل هذه الهاء على ذاك، كأنك قلت: " زيد منطلق أظن ذاك "). قال أبو سعيد: إذا قلت: " عبد الله أظنه منطلق " فهذه الهاء " للظن " لا " لعبد الله "، و " أظنه " ملغي وليس بالقوي في الكلام، وذلك أن هذه الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر، فقد أكدت " أظن " بذكر الظن، وأنت قد ألغيت " أظن " برفعك " عبد الله " و " زيدا "، فالأجود أن هذه الهاء إذا جعلتها للظن الذي هو المصدر أن تقول: " عبد الله أظن منطلق " وإذا قلت: " عبد الله أظنه منطلق " فهو أجود من أن تقول: " عبد الله أظن ظنا منطلق " و " أظن ظني منطلق؛ لأنك إذا قلت: " أظنه "، فليس فيه لفظ الظن، وإنما هو كناية عنه، والظن أبلغ في التأكيد؛ لأنه من لفظ " أظن "، وكأنه أعيد لفظه تاكيدا. وكذلك إذا قلت: " عبد الله أظنّ ذاك منطلق " وجعلت " ذاك " إشارة إلى المصدر، كان أجود من أن تقول: " عبد الله أظنّ الظن منطلق "؛ لأنه أبعد من لفظ التأكيد، وإن جعلت هذه الهاء لعبد الله لم يجز إلا نصب " منطلقا "؛ لأنه يكون " عبد الله " مبتدأ، والهاء

في " أظنه " المفعول الأول، و " منطلقا " المفعول الثاني. وقد تقدم الظنّ المفعولين، فلا يجوز الإلغاء، ويجوز أن تقول في الابتداء: " أظنه عبد الله منطلق "، وأظنه عبد الله منطلقا "، على مذهبين مختلفين. أما إذا قلت: " أظنه عبد الله منطلق "، جعلت الهاء للأمر والشأن وجعلتها للمفعول الأول، وجعلت الجملة التي هي مبتدأ وخبر في موضع المفعول الثاني، كما تقول: " إنه زيد قائم "، و " كان زيد قائم "، وإن نصبتها جعلت " الهاء " ضمير الظن، وصارت تأكيدا للفعل، فكأنك قلت: " أظن ظني عيد الله منطلقا ". قال: (وإنما يضعف هذا إذا ألغيت؛ لأن الظن يلغى في مواضع " أظن "، حتى يكون بدلا من اللفظ به، فكره المصدر هنا، كما قبح أن يظهر ما أنتصب عليه سقيا، وسترى ذلك- إن شاء الله- مبنيا ولفظك بذاك أحسن من لفظك بظني). يعني: إنما يضعف " عبد الله أظنه منطلق " لأن " أظن " قد ألغى والمصدر تأكيد، فكره أن يؤتى بتأكيد شيء قد ألغى. فإن قال قائل: فأنت قد تقول: " عبد الله ظنك منطلق " وتجيء بالمصدر، وقد ألغيت. قيل: المصدر هاهنا بمنزلة الفعل؛ لأنك لم تأت بالفعل وجعلت المصدر بدلا من اللفظ به، فكأنك لفظت بالفعل بلا مصدر. وقوله: (كما قبح أن يظهر ما انتصب عليه " سقيا "). يعني: قبح أن تقول: " عبد الله أظن ظني منطلق "، فتجمع بين الفعل والمصدر، كما قبح أن تقول: " سقاك الله سقيا لك "؛ لأن الكلام " سقاك الله "، أو " سقيا "، ولا يجمع بينهما. قال: (ولفظك بذاك أحسن من لفظك " بظني "). وقد مر هذا. قال: (ألا ترى أنك لو قلت: " زيد ظنّي منطلق " لم يحسن ولم يجز أن تضع ذاك موضع " ظني "). يريد: أن " ظني " أدل على " أظن " من ذاك. فلذلك صار " ذاك " أبعد من التأكيد. ألا ترى أنك تقول: " زيد ظني منطلق " ولا تقول: " زيد ذاك منطلق ". قال: (وترك ذاك في " أظن " إذا كان لغوا أقوى منه إذا وقع على المصدر).

يعني: أن قولنا: " زيد أظن منطلق " أقوى من قولنا: " زيد أظن ذاك منطلق "، لأن " ذاك " إشارة إلى المصدر الذي هو تأكيد. قال: (وأما " ظننت أنه منطلق " فاستغنى بخبر " أنّ "، تقول: " أظن أنه فاعل كذا وكذا، فتستغنى. فإنما يقتصر على هذا إذا علم أنه مستغن بخبر " أن "). قال أبو سعيد: اعلم أن " أنّ " المشددة وما بعدها من الاسم والخبر يكون بمعنى المصدر ويقع في موضع الفاعل، والمفعول، والمجرور: فوقوعها في موضع الفاعل قولك: " بلغني أنك منطلق " أي: " بلغني انطلاقك ". ووقوعها في موضع المفعول قولك: " عرفت أنك منطلق " أي: عرفت انطلاقك. ووقوعها مجرورة قولك: " أخبرت بأنك منطلق " أي: بانطلاقك. وإذا وقعت في موضع مفعول فهي تقع موقع المفعول الواحد، وتنوب عنه في الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد كما ذكرنا في: " عرفت أنك منطلق ". وموقع المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين وتنوب عنهما وهو قولك: " ظننت أنك منطلق "، و " حسبت أن بكرا خارج "، فنابت " أن " وما بعدها عن مفعولي المحسبة، كما أنك إذا قلت: " علمت لزيد منطلق " نابت الجملة، وإن كانت هي غير عاملة فيها عن المفعولين. ولو أظهرت المصدر الذي في معناه " أن "، فقلت: " حسبت انطلاقك " لاحتجت إلى مفعول ثان؛ لأن " أن " قد وجد بعدها اسم وخبر لو حذفتهما واقتصرت عليهما، كانا مفعولي الظن، والمصدر ليس فيه شيء من ذلك. وكان بعض البصريين يقول: إن المفعول الثاني مضمر فإذا قلنا: " حسبت أن زيدا منطلق " فتقديره: " حسبت أن زيدا منطلق واقعا "، كأنا قلنا: " حسبت انطلاق زيد واقعا ". والقول ما قاله سيبويه؛ لأن هذا المضمر لا يجوز إظهاره ولا مانع له من الإظهار لو كان مضمرا، ولأنا إذا قلنا: " حسبت زيدا منطلقا "، أو " حسبت أن زيدا منطلقا " كان الأمر فيهما واحد من جهة المعنى. قال: (ويجوز أن تقول: " ظننت (زيدا) " إذا قال: " من تظن؟ " أي من تتهم؟ فتقول: " ظننت زيدا " كأنه قال: " اتهمت زيدا " وعلى هذا قيل: " ظنين " أي متهم). يعني: أن " ظننت "، يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى " اتهمت " وقد ذكرنا هذا.

قال: (ولم يجعلوها ذلك في: " حسبت، وخلت، وأرى "؛ لأن من كلامهم أن يدخلوا المعنى في الشيء لا يدخل في مثله). يعني: أنهم لم يقتصروا في " حسبت وأرى وخلت على مفعول واحد كما فعلوا ذلك في الظن، واتسعوا في " ظننت "؛ لأنها أكثر دورا في ألسنتهم وهم لها أكثر استعمالا، وقد ذكرنا ما يكون له حكم في كلام العرب لا يكون لنظائره، وسيأتي من بعد إن شاء الله تعالى. قال: (وسألته عن أيهم؛ لم لم يقولوا: أيهم مررت به؟ فقال: لأن " أيهم " هو حرف الاستفهام، ولا تدخل عليه الألف، وإنما تركت الألف استغناء فصارت بمنزلة الابتداء، ألا ترى أن حد الكلام أن يؤخر الفعل فتقول: " أيهم رأيت "، كما تفعل ذلك في أما، فهي نفسها بمنزلة الابتداء). قال أبو سعيد: أمّا قوله: (وسألته). يعني: الخليل وكذلك كل ما كان مثله في الكتاب إذا لم يتقدم ذكر إنسان. وأما قوله: (أيهم مررت به). فالاختيار أن تقول: " أيهم مررت به " و " أيهم ضربته ". فقال قائل: لم لم يجز النصب وهو استفهام، كما اختير في قولك: " أزيدا ضربته "؟ فقال: لأنا إذا قلنا: " أزيدا ضربته "، فحرف الاستفهام منفصل من زيد وهو أولى بالفعل، فأضمرنا بينه وبين " زيد " فعلا ينصبه. و " أيهم " لم يدخل عليها حرف، وإنما صيغ له لفظه الاستفهام ولم يكن فيه حرف هو أولى (بالفعل) فصار بمنزلة " زيد ضربته " في الاختيار. ومن قال: " زيدا ضربته " على إضمار " ضربت زيدا ضربته "، قال: " أيهم مررت به " و " أيهم ضربته " على تقدير: " أيهم لاقيت مررت به " و " أيّهم ضربت ضربته " فتضمر بعده فعلا ينصبه؛ لأنه استفهام. وأما قوله: (وتركت الألف استغناء). يعني: لم تدخل ألف الاستفهام على " أي " في حال الاستفهام بها ونظيرها " من " و " ما " و " كيف " وسائر الأسماء التي يستفهم بها، وكان حكمها عند سيبويه أن تدخل ألف

الاستفهام عليها؛ لمعنى الاستفهام أي: على " أيّ " في حال الاستفهام بها لأنها أسماء وللأسماء دلالة على معانيها التي وضعت لها، من مكان وزمان وإنسان وحيوان، وحروف الاستفهام تدل على الاستفهام فيها. غير أنهم طرحوا حرف الاستفهام؛ لأنهم لم يستعملوا هذه الأسماء في جميع المواضع، كما يستعملون سائر الأسماء الصحاح، فاكتفوا بدلالتها على الاسم المستفهم عنه أن يأتوا لها بحرف الاستفهام، وكذلك إذا استعملت هذه الأسماء في المجازاة، اكتفوا بها عن حروف الجزاء. قال: (فإن قلت: " أيهم زيدا ضرب "، قبح، كما يقبح في " متى " ونحوها، وصار أن يليها الفعل هو الأصل؛ لأنها من حروف الاستفهام ولا يحتاج إلى الألف فصارت ك " أين "). يعني: أن الاختيار أن تقول: " أيهم ضرب زيدا "، و " متى ضرب زيد عمرا "، وذلك أنك إذا قلت: " أيهم "، فقد جئت باسم الاستفهام، وحصل فالواجب أن تأتي بالفعل بعده، وصار تقدم " أي "، كتقدم الألف في اختيار الفعل بعده. قال: (وكذلك " من "، و " ما " لأنهما يجريان معها ولا يفارقانها تقول: " من أمة الله ضربها "، و " ما أمة الله أتاها "، نصب في كل ذا لأنه أن يلي هذه الحروف الفعل أولى، كما أنه لو اضطر شاعر في " متى " وأخواتها نصب، فقال: " متى زيدا رأيته "). قوله: " من " و " ما ". يعني: حكمها كحكم " أي "؛ لأنهما يجريان مع " أي "، ولا يفارقانها في الاستفهام والجزاء، فإذا قلت: " من أمة الله ضربها "، فالاختيار أن تنصب " أمة الله " بإضمار فعل، وكذلك: " ما أمة الله أتاها "، كأنك قلت: " من ضرب أمة الله ضربها "، و " ما أتى أمة الله أتاها "؛ لأن " من " و " ما " لما تقدمتا صارتا بمنزلة ألف الاستفهام وهي بالفعل أولى، وكان الاختيار أن يكون لفظ الفعل متقدما في " من " و " ما " و " متى " و " أي ". وهذه الحروف لا يليها الاسم البتة، فيقال: " من ضرب أمة الله " وألا يقال: " من أمة الله ضربها "؛ لأنها أضعف من ألف الاستفهام وليس لها تصرف ألف الاستفهام، فإذا اضطر

هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا؛ لأنك تبتدئه؛ لتنبه المخاطب ثم تستفهم بعد ذلك

شاعر أو تكلم متكلم على قبح، فقدّم الاسم، وشغل الفعل بضميره، نصب بإضمار فعل كما ذكرنا. فقال: " متى زيدا رأيته " على تقدير: متى رأيت زيدا رأيته. وأقبح من هذا أن تقول: " متى زيد رأيته " و " من أمة الله ضربها " كما تقول: " متى زيد منطلق " و " من أمة الله جاريته "، والاختيار ما ذكرناه. هذا باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا؛ لأنك تبتدئه؛ لتنبه المخاطب ثم تستفهم بعد ذلك (وذلك قولك: " زيد كم مرة رأيته "، و " عبد الله هل لقيته "، و " عمرو هلا لقيته "، وكذلك سائر حروف الاستفهام، فالعامل فيه الابتداء، كما أنك لو قلت: " أرأيت زيدا هل لقيته " كان " أرأيت " هو العامل، وكذلك إذا قلت: " قد علمت زيدا كم لقيته "، كان " علمت " هو العامل، فكذلك هذا فما بعد المبتدإ من هذا الكلام في موضع خبره). قال أبو سعيد: أما قوله: " زيد كم مرة رأيته "، فالرفع لا غير في زيد من قبل أنه مبتدأ و " كم مرة رأيته "، في موضع الخبر له، ولا يصلح نصبه بإضمار فعل آخر؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يكون مفسرا لفعل قبله، كما لا يكون عاملا في اسم قبله الاستفهام. وتفسيره أنك لو نزعت ضمير " زيد " من " رأيته "، لم يجز أن تنصب " زيدا " ب " رأيت " فتقول: " زيدا كم مرة رأيت "؛ لأن الاستفهام هو صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل الفعل الذي بعده في اسم قبله؛ لأنه إذا عمل فيه صار الاسم في صلة الفعل، ووجب حينئذ تأخيره عن حرف الاستفهام، فيقال: " كم مرة رأيت زيدا "، و " كم مرة زيدا رأيت " فلما لم يجز " زيدا كم مرة رأيت " لما ذكرنا لم يجز " زيدا كم مرة رأيته "، على تقديره: رأيت زيدكم مرة رأيته؛ لأن الفعل الذي بعد " كم " لا يفسّر ما قبله، كما لا يعمل فيه. ثم استدل على أن قولك: " زيد كم مرة رأيته "، إنما يعمل فيه الابتداء لا غير، أنك قد تدخل عليه ما يدخل على المبتدأ، ثم تجيء بالاستفهام من بعد فتجعله في موضع

خبره، وذلك قولك: " أرأيت زيدا هل لقيته "، و " قد علمت زيدا كم لقيته "، فلو لم يكن " أرأيت "، و " قد علمت "، كنت تقول: " زيد هل لقيته "، و " زيدكم لقيته " ثم انتصب ب " رأيت " و " قد علمت " كما انتصب المبتدأ، إذا دخل عليه ذلك. قال: (فإن قلت: " زيد كم مرة رأيت " فهو ضعيف، إلا أن تدخل الهاء، كما ضعف في قوله: " كله لم أصنع "). يعني: أن " زيدا " مبتدأ، و " كم مرة رأيت " في موضع خبره، ولا بد من ضمير يعود إليه، فإذا حذفت الضمير قبح، فلا بد من تقديره كما أن قوله: (... كله لم أصنع) على تقدير: كله لم أصنعه؛ لأن " كلّ " مبتدأ ولا بد من ضمير يعود إليه. قال: (ولا يجوز أن تقول: " زيدا هل رأيت "؛ إلا أن تريد معنى الهاء مع ضعفه فترفع لأنك قد فصلت بين المبتدإ، وبين الفعل، فصار الاسم مبتدأ والفعل بعد حرف الاستفهام). يعني: أن نصب " زيد " لا يجوز بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام على وجه من الوجوه، وقد ذكرنا هذا. وقوله: (إلا أن تريد معنى الهاء فترفع مع ضعفه). يعني قولك: " زيد كم مرة رأيت " وأنت تريد: " رأيته "، ولم يكن هذا بمنزلة قولك: " زيد رأيته "؛ لأنك لم تأت بعد المبتدأ بشيء يحول بينه وبين الفعل، وهو الاستفهام. قال: (ولو حسن هذا أو جاز لقلت: " أرأيت زيد كم مرة ضرب "، على الفعل الآخر. فكما لا تجد بدا من إعمال الفعل الأول فكذلك لا تجد بدا من إعمال الابتداء؛ لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء). يريد: أن قولك: " زيد كم رأيته "، لو جاز أن تحمله على الفعل الآخر لاتصال ذلك الفعل بضميره المنصوب، فتنصبه، ولا يرفعه بالابتداء، لجاز أن تقول: " أرأيت زيد كم ضرب " فيحمل " زيد " على ضميره المرفوع في " ضرب " الذي بعد " كم "

ولا تنصبه بأرأيت، فلما لم يجز ذلك وجب نصبه " بأرأيت "، لأن الفعل الذي بعد الاستفهام لا يحمل عليه، وجب رفعه بالابتداء؛ لأن الفعل الذي بعد الاستفهام لا يتسلط عليه. وقوله: (لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعد ما تفرغ من الابتداء). يعني: أن الاستفهام في موضع خبر الابتداء؛ لأنه جملة قائمة بنفسها جعلت في موضع الخبر. قال: (ولو أرادوا الإعمال لما ابتدأوا بالاسم؛ ألا ترى أنك تقول: " زيد هذا أعمرو ضربه أم بشر " ولا تقول: " عمرا أضربت "، فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك). يعني: أنهم لو أرادوا إعمال الفعل في الاسم، لما قدموا الاسم على حرف الاستفهام، ولأخّروه، فقالوا: " كم مرة زيدا ضربت "؛ ألا ترى أنك تقول: " زيد عمرو ضربته أم بشر "، إذا أردت أن تجعل " زيدا " مبتدأ. وإن أردت أن تعمل فيه الفعل، قلت: " أعمرا ضربت زيدا أم بشر ". وتقول: " أعمرا ضربت "، ولا تقول: " عمرا أضربت "، فكما لا يجوز عمرا أضربت لم تجز المسائل التي ذكرناها أولا، وهي: " أزيدا كم مرة رأيته "، و " أرأيت زيدا كم ضرب ". قال: (فحرف الاستفهام لا يفصل به بين العامل والمعمول فيه، ثم يكون على حاله إذا جاءت الألف أولا، وإنما يدخل على الخبر). يعني أن ألف الاستفهام إذا كانت أولا نصبت الاسم، فقلت: " أزيدا ضربته "، فإذا قدمت " زيدا " على الألف لم يجز أن تنصب " زيدا "؛ لأن الألف حالت بينه وبين الفعل ولكن ترفعه بالابتداء، وتجعل الألف وما بعدها في موضع الخبر. قال: (ومما لا يكون إلا رفعا قولك: " أأخواك اللذان رأيت " لأن " رأيت " صلة " اللذين " وبه يتم اسما، فكأنك قلت: " أأخواك صاحبانا "). يعني: أن " الأخوين "، لا يجوز نصبهما حملا على الفعل الذي بعد " اللذين "؛ لأن

الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول ولا تفسره أيضا؛ ألا ترى أنك لا تقول: " زيد أخاه الذي ضربت " على حد قولك: " زيد الذي ضربت أخاه ". قال: (ولو كان شيء من هذا ينصب شيئا في الاستفهام، لقلت في الخبر: " زيدا الذي رأيت "، فتنصب كما تقول: " رأيت زيدا "). يعني: أن الاستفهام ليس بعامل في شيء فلو جاز أن ينصب شيئا في الاستفهام بعامل ما لنصبناه في غير الاستفهام بذلك العامل. فلو جاز أن يقال: " أأخويك اللذين رأيت "، و " أزيدا الذي رأيت "، لجاز أن تقول في غير الاستفهام: " أخويك اللذين رأيت "، و " زيدا الذي رأيت ". وهذا محال. قال: (وإذا كان الفعل في موضع الصفة، فهو كذلك، وذلك قولك: أزيد أنت رجل تضربه). قال أبو سعيد: اعلم أن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف؛ لأنها من تمام الموصوف كالصلة من الموصول. وكذلك لا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف؛ لأنه من تمام المضاف. وتقول: " هذا رجل ضارب زيدا "، ولا يجوز أن تقول: " هذا زيد رجل ضارب "؛ لأن " زيدا ": منصوب ب " ضارب " و " ضارب ": صفة لرجل، ولكن يجوز أن تقول: " هذا رجل زيدا ضارب "؛ لأنك لم تقدم " زيدا " على الموصوف وتقول: " هذا غلام ضارب زيدا "، فتنصب " زيدا " " بضارب ". ولا يجوز أن تقول: " هذا زيدا غلام ضارب ". وقد أجاز النحويون، أو بعضهم: " هذا زيدا غير ضارب "، فنصبوا " زيدا " " بضارب " وقدموه على المضاف، وهو " غير " وذلك لأن " غير " معناها معنى " لا "، فكأنك قلت: " هذا زيدا لا ضارب "، وهذا جائز جيد. فإذا قلت: " أزيدا أنت رجل تضربه " " فتضربه " في موضع النعت " لرجل " فلا يجوز أن تنصب " زيدا "، حملا على ضميره في " تضربه " وهو قبل الموصوف. قال: (وإذا كان وصفا، فأحسنه أن يكون فيه الهاء، لأنه ليس في موضع الإعمال، ولكنه يجوز فيه كما جاز في الوصل؛ لأنه في موضع ما يكون من

الاسم). قال أبو سعيد: قد كنا ذكرنا أن الهاء التي هي ضمير تحذف في الصفة، والصلة، والخبر. فالصلة " الذي رأيت " زيد " تريد: " الذي رأيته ". والصفة: " الناس رجلان، رجل أكرمت ورجل أهنت "، تريد: رجل أكرمته، ورجل أهنته. والخبر: " زيد أكرمت "، أي أكرمته. وأن حذفها في الصلة، أحسن من حذفها في الصفة، وحذفها في الخبر قبيح جدا. فقول سيبويه: (فإذا كان وصفا فأحسنه أن تكون فيه الهاء). يعني: " أزيد أنت رجل تضربه " وما شاكل ذلك أحسن من أن تقول: " أزيد أنت رجل تضرب ". وقوله: (لأنه ليس موضع الإعمال). يعني: لأنك إذا حذفت الهاء فليس يصل الفعل إلى شيء قبله كما أنك إذا قلت: " زيد ضربته "، ثم حذفت الهاء، قلت: " زيدا ضربت ". فلما لم يكن كذلك لم يحسن حذف الهاء. وقوله: (ولكنه يجوز كما جاز في الوصل؛ لأنه في موضع ما يكون من الاسم). يعني: حذف الهاء جائز في الصفة، كما جاز في الوصل، وهو يعني صلة " الذي " وما جرى مجراها. وقوله: (لأنه في موضع ما يكون من الاسم). يعني: لأن الوصف من الاسم الموصوف كبعضه؛ لأنهما كشيء واحد يقعان موقع اسم واحد. قال: (ولم تكن لتقول: " أزيدا أنت رجل تضربه "، وأنت إذا جعلته وصفا للمفعول لم تنصبه؛ لأنه ليس مبنيا على الفعل). يعني: أنه غير جائز أن تنصب " زيدا " في قولك: " أزيدا أنت رجل تضربه "؛ لوقوع

الضرب على ضميره، وأنت لا تنصب " رجلا " بالفعل إذا جعلته وصفا له، فلما لم يجز أن تنصب الموصوف بالفعل الذي هو وصفه كان ما قبله أبعد من ذلك. وقوله: (لأنه ليس مبنيا على الفعل). معناه: ليس الموصوف مبنيا على الفعل الذي هو صفته. (ولكن الفعل في موضع الوصف، كما كان في موضع الخبر). يعني: إذا لم تقدر تقدم الفعل، حتى يكون عاملا فيه ويكون الوصف بمنزلة الخبر، ألا ترى أنك إذا قلت: " إن زيدا ضربت "، فأنت لا تجد بدا من أن تجعل " ضربت " في موضع الخبر " لزيد "؛ لأنك قد نصبت " زيدا " ب " إن " ولا يجوز أن تعمل " ضربت " في " زيد "؛ لأنه في موضع خبره، وإن كان حذف الهاء منه قبيحا، ثم أنشد في ذلك وهو وقوع الفعل نعتا قول بعض الرجاز: أكلّ عام نعم تحوونه … يلقحه قوم وتنتجونه (¬1) فجعل " تحوونه " نعتا للنعم، ولم يجز أن ينصب " النعم " به وقد جعله نعتا له. ولو نصب على غير هذا الوجه لجاز ألا يجعله نعتا، كأنه يقول: أكلّ عام تحوون نعما ويكون " تحوونه " تفسيرا للفعل المضمر. (وقال زيد الخيل: أفي كلّ عام مأتم تبعثونه … على محمر ثوّبتموه وما رضا) (¬2) فإن قال قائل: إذا كان لا يجوز " زيد يوم الجمعة " ولا " زيد في يوم الجمعة "؛ لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارا للجثث، فكيف جاز أكلّ عام نعم تحوونه، و " نعم ": مرفوع بالابتداء، وهو جثة؟ قيل له: التقدير فيه: " أكل عام حدوث نعم " وذلك أنه أراد أن كل عام تحوون نعما، وتأخذونه وكأنه قال: " في كل عام نعم حادث "، فصار كقولك: " الليلة الهلال " ¬

_ (¬1) هذا البيت لقيس بن حصين بن يزيد الحارثي. الخزانة 1/ 196، 198. (¬2) هذا البيت لزيد الخيل (الخير) وهذا هو اسمه في الجاهلية وأما في الإسلام فقد سماه الرسول " زيد الخير " الخزانة 2/ 446 - 448. الأغاني 16/ 46 - 56.

والمعنى: الليلة حدوث الهلال، فناب عن المصدر؛ لعلم المخاطب أنه يراد به حدوثه؛ لأنه مما يتحدد في الأوقات المعلومة. وقوله: " محمر " يريد: فرسا في أخلاق الحمير. و" مارضا " يريد: وما رضي، فقلب الياء ألفا، وهو لغة؛ لأن الألف أخف من الياء إلا فيما يلتبس، لا يقولون في " قاضي " " قاضا "، كما قالوا في " صحاري " " صحارا " لأنك إذا قلت: " قاضا " التبس بفاعل من القضاء، وهو قاضي، يقاضي، مقاضاة. (وقال جرير فيما ليست فيه الهاء: أبحت حمى تهامة بعد نجد … وما شيء حميت بمستباح) (¬1) فجعل: " حميت " نعتا ل " شيء " و " شيء " اسم " ما "؛ فلذلك أدخل الباء في " مستباح "، ولو نصبت شيئا ب " حميت " لبطل الكلام، ولم يكن ليجوز دخول الباء في " مستباح "؛ لأن الباء إنما تدخل في الأخبار، فإذا نصبت " شيء " صار تقديره: وما حميت شيئا بمستباح. و " مستباح " نعت " لشيء " فهذا غير جائز كما لا يجوز " ما رأيت رجلا بقائم "، ولو حذفت الباء أيضا مع نصب " شيء " لكان ضعيفا ناقص المعنى، وذلك أنك إذا قلت: " وما حميت شيئا مستباحا "، فقد أوجب أن الذي حماه لم يكن مستباحا إذ حمى ما لم يكن مستباحا فحمايته كلا حماية، لأنه حمى شيئا محميا. (وقال آخر: فما أدري أغيّرهم تناء … وطول العهد أم مال أصابوا) (¬2) فجعل: " أصابوا " نعتا للمال، ولم ينصب " المال " به، ولا يجوز ذلك لأنه لو نصب صار التقدير: أم أصابوا مالا. وأم من حروف العطف، ولا يعطف " أصابوا "، وهو فعل على " تناء " وهو اسم. قال سيبويه: (ومما لا يكون فيه إلا الرفع قوله: " أعبد الله أنت الضاربه "، لأنك إنما تريد معنى: أنت الذي ضربه، وهذا لا يجري مجرى " يفعل "، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: " ما زيدا أنا الضارب " ولا " زيدا أنت الضارب " وإنما تقول: " الضارب زيدا " ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

على مثل قولك: " الحسن وجها "، ألا ترى أنك لا تقول: " أنت المائة الواهب " كما تقول: " أنت زيدا ضارب "). يعني: أن الألف واللام بمعنى الذي فغير جائز أن تعمل " ما " في صلة الألف واللام- فيما قبلهما- كما كان ذلك في " الذي " إذا كانت تجري مجراها. فإن قال قائل: فقد قال الله تعالى: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (¬1)، فجعل " فيه " من تمام الزاهدين وهي قبلهم، وتقديره: وكانوا فيه من الذين زهدوا. قيل له: في ذلك جوابان غير الذي ظننت: أحدهما: أن " يكون " على تقدير: " وكانوا فيه زهادا من الزاهدين " فيكون العامل في " فيه " زهادا، ونابت " من الزاهدين " عنهم ودلت عليهم. والوجه الثاني: أن يكون " فيه " على التبيين كأنه قال: أعني فيه، فالعامل فيه " أعني "، لا " الزاهدين "، ومثله لبعض العرب: تقول وصكّت وجهها بيمينها … أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس (¬2) فلم يعمل " المتقاعس " في الباء التي في قوله: " بالرحى "؛ لأن " المتقاعس " في صلة الألف واللام، ولكنه على التبيين، كأنه قال: " أبعلي هذا المتقاعس "، ثم بيّن بأي شيء تقاعس، فقال: أعني بالرحى. ومن النحويين من يجعل الألف واللام في معنى الطرح، فإذا جعلهما كذلك عمل ما بعدهما فيما قبلهما، ولا يجعلهما في معنى " الذي ". والوجه على ما عرّفتك. ثم وصل سيبويه بكلامه- ما أراد به الفرق- بين ما فيه الألف واللام وبين ما ليستا فيه فقال: (وتقول: " هذا ضارب "، كما ترى، فيجيء على معنى " هو يضرب "، وهو يعمل في حال حديثك. وتقول: " هذا ضارب " فيجيء على معنى " هذا سيضرب "، فإذا قلت: ¬

_ (¬1) سورة يوسف، آية: 20. (¬2) هذا البيت في الخصائص 1/ 245، شرح الكامل للمرصفي 1/ 143 لنعيم بن الحارث بن يزيد السعدي.

" هذا الضارب "، فإنما تعرفه على معنى الذي ضرب). يعني أن " ضارب "، إذا كان عاملا فهو في معنى الفعل المحض إما مستقبلا، وإما حالا، وكذلك جاز أن تعمل في الاسم مقدما ومؤخرا وإذا قلت: " الضارب " فهو على معنى: " الذي ضرب "، أو " الذي يضرب "، فلا يعمل فيما قبله. قال: (فلا يكون إلا رفعا، كما أنك لو قلت: " أزيد أنت ضاربه "، إذا لم ترد ب " ضاربه " الفعل وصار معرفة رفعت، فكذلك: " هذا الذي ضرب "، لا يجيء إلا على هذا المعنى). يعني: أنك إذا أردت " بضاربه " الفعل الماضي تعرّف بإضافته إلى الهاء وخرج من أن يكون عاملا على حسب ما بيّنا أن الاسم الذي في معنى الفعل الماضي لا يعمل، وإذا لم يعمل كان الاسم الذي قبله مرفوعا في قولك: " أزيد أنت ضاربه "، وأنت تعني به الفعل الماضي، وقد بيّنا هذا فكذلك الذي والألف واللام، لأنها لا تكون إلا معرفة، فكان رفع ما قبلها في قولك: " أزيد أنت الضاربه "، كرفع قولك: " أزيد أنت ضاربه "، إذا أردت الماضي، بل الألف واللام في ذلك أقوى. قال: (وإنما يكون بمنزلة الفعل نكرة، وأصل وقوع الفعل صفة لنكرة، كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة). يعني: أن الفعل في الأصل نكرة، ومعنى قولنا: " نكرة " أنه ينعت به النكرات، كقولك: " مررت برجل يضرب زيدا "، و " رأيت رجلا يضرب زيدا "، وكذلك سائر الجمل كالابتداء والخبر، والشرط والجزاء، كقولك: " مررت برجل أبوه قائم "، و " مررت برجل إن تأته يكرمك "، وإنما صارت هذه الجمل تقع نكرات، وينعت بها النكرات من قبل أن كل جملة تقع بها فائدة، فوقوع الفائدة بها دليل على أنها لم تكن معلومة من قبل. فلذلك لم يعمل من أسماء الفاعلين المشتقة من الأفعال إلا ما كان منكورا، وما كان للحال والاستقبال وهو معنى قوله: (كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة). أي: كما لا يعمل الاسم عمل الفعل إلا نكرة.

ثم قال: (ألا ترى أنك لو قلت: " أكل يوم زيدا تضربه "، لم يكن إلا نصبا؛ لأنه ليس بوصف. فإذا كان وصفا فليس بمبني عليه الأول، كما أنه لا يكون الاسم مبنيا عليه في الخبر، فلا يكون " ضارب "، بمنزلة " يفعل، ويفعل " إلا نكرة). يعني: أنك إذا قلت: " أكلّ يوم زيدا تضربه "، فلا يصلح أن يكون " تضربه " نعتا " لزيد "؛ لأن " زيدا " معرفة فتنصبه بإضمار فعل هذا تفسيره وكان ذلك الاختيار. ولو كان مكان " زيد " " رجل " لرفعته، إذا جعلت " تضربه " نعتا له، فقلت: " أكل يوم رجل تضربه "، كما قال: أكلّ عام نعم تحوونه ومعنى قوله: (فإذا كان وصفا، فليس بمبني عليه الأول). يعني: أنك إذا قلت: " أكلّ يوم رجل تضرب أو تضربه " وجعلت " تضرب " نعتا، لم يصلح أن تنصب " رجلا "، فتبنيه على " الضرب " وقد جعلته في موضع نعته، كما أنك إذا قلت: " زيد ضربت "، فجعلت " ضربت " خبرا، لم تنصب " زيدا " به، ولو نصبته به بطل أن يكون خبرا، وقوله: (ولا يكون ضارب بمنزلة " يفعل ويفعل " إلا نكرة). يعني: أن اسم الفاعل والمفعول إنما يعمل عمل الفعل إذا كان نكرة. فالفاعل بمنزلة " يفعل " نحو: " ضارب "، و " قاتل "، تقول: " هذا زيدا ضارب وزيدا قاتل "، واسم المفعول بمنزلة " يفعل "، كقولك: " هذا جبه مكسوّ " و " هذا درهما معطى "، كما تقول: " هذا جبة يكسي "، و " درهما يعطي ". قال: (وتقول: " أذكر أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى "؟، كأنه قال: " أذكر نتاجها أحب إليك أم أنثى؟ " ف " أن تلد ": اسم، و " تلد " به يتم الاسم، كما يتم " الذي " بالفعل، فلا عمل له (هنا) كما لا يكون لصلة " الذي " عمل). تقدير هذا الكلام على وجهين: أحدهما: أن يكون " أذكر أن تلده ناقتك (أحب) أم أنثى "، كأنه قال: " أذكر ولادة ناقتك إياه أحب إليك أم أنثى ". ف " ذكر ": ابتداء، و " أن تلد ": ابتداء ثان، و " أحب

إليك ": خبر الابتداء الثاني والجملة في موضع خبر الابتداء الأول، والعائد إلى الابتداء الأول " الهاء " التي قدرناها في " تلده ". وإنما جاز حذفها وحسن؛ لأنها في صلة " أن "، و " أن " وما بعدها من الفعل بمنزلة اسم واحد، فأشبهت " الذي " فحسن حذفها، و " أنثى ": معطوفة على " ذكر " بأم. والوجه الثاني: أن تجعل " أن تلد ": بدلا من " الذكر "، فكأنك قلت: " أأن تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أن تلد أنثى؟ " ثم حذفت، وإنما أراد سيبويه أنك لا تنصب " ذكرا " بالفعل الذي بعد " أن "، لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها، فلم يتسلط الفعل على ما قبلها كما لم يتسلط على ما قبل " الذي " إذا كان في صلة " الذي ". قال: (وتقول: " أزيد أن يضربه عمرو أمثل أم بشر " كأنه قال: " أزيد ضرب عمرو إياه أمثل أم بشر "، فالمصدر: مبتدأ، " وأمثل ": مبني عليه، ولم ينزل منزلة " يفعل "، فكأنه قال: " أزيد ضاربه عمرو خير أم بشر "). وهذا على التقدير الذي قدرناه بدءا أنه يجعل " أن " مبتدأ ثانيا ويجعل الجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، ويجعل الاسم الذي بعد " أم " معطوفا على الاسم الأول. قال: (وذلك لأنك ابتدأته، وبنيت عليه فجعلته اسما، ولم يلتبس " زيد " بالفعل إذ كان " ضارب " اسما كما لم يلتبس به " الضاربه "، حين قلت: " أزيد أنت الضاربه "؛ لأن " الضاربه " في معنى الذي ضربه، والفعل تمام هذه الأسماء). قوله: (وذلك لأنك ابتدأته وبنيت عليه). يعني: أنك إذا قلت: " أزيد ضاربه خير أم بشر " جعلت " ضاربه " مبتدأ وبنيت عليه " خير "، فجعلته خبرا، فخرج من أن يكون في معنى الفعل الذي يعمل في زيد، وصار بمنزلة ما فيه الألف واللام إذا قلت: " زيد أنت الضاربه "، وما فيه الألف واللام، فهو بمعنى " الذي " فلا يعمل فيما قبله. قال: (وتقول: " أأن تلد ناقتك ذكرا أحب إليك أم أنثى "؟، لأنك حملته على الفعل الذي هو صلة " أن " فصار في صلته، وصار كقولك: " الذي رأيت أخاه زيد "، ولا يجوز أن يبتدأ " بالأخ " قبل " الذي " وتعمل فيه " رأيت أخاه زيد " فكذلك لا يجوز

النصب في " قولك: " أذكر أن تلد ناقتك أحبّ إليك أم أنثى "). يعني: أن " ذكرا " إذا كان بعد " أن " وقع عليه " تلد "، فنصبه كما ينصب الفعل الذي في صلة الذي الاسم الذي بعده كقولك: " الذي رأيت أخاه زيد "، وإن قدمت ذلك الاسم على " الذي "، لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن تقول: " زيد أخاه الذي رأيت "، كما جاز " زيد الذي رأيت أخاه "، فكذلك لا يجوز " أذكرا أن تلد ناقتك " كما جاز " أن تلد ناقتك ذكرا ". قال سيبويه: (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا، قولك: " أعبد الله أنت أكرم عليه أم زيد "، و " أعبد الله أنت أصدق له أم بشر "، كأنك قلت: " أعبد الله أنت أخوه أم بشر "؛ لأن " أفعل " ليس بفعل ولا اسم يجري مجرى الفعل، وإنما هو بمنزلة " حسن، وشديد "، ونحو ذلك. ومثل ذلك: " أعبد الله أنت خير له أم بشر "). قال أبو سعيد: اعلم أن " أفعل " لا يعمل في شيء من الأسماء إلا في المنكور على جهة التمييز كقولك: " زيد أكثر مالا وأنظف ثوبا "، والمنكور الذي يعمل فيه على جهة التمييز لا يجوز تقديمه، لا يجوز أن تقول: " زيد مالا أكثر منك "، ولا " ثوبا أنظف منك "، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تنصب " عبد الله " في قولك: " أعبد الله أنت أكرم عليه " من وجهين: أحدهما: أن " عبد الله " ليس مما يعمل فيه " أكرم " وبابه بوجه من الوجوه. والثاني: أنه لو كان منكورا يعمل فيه " أكرم " وبابه بوجه ما جاز تقديمه عليه. قال: (وتقول: " أزيد أنت له أشد ضربا أم عمرو "، فإنما انتصاب " الضرب " كانتصاب " زيد " في قولك: " ما أحسن زيدا "، وانتصاب " وجه " في قولك: " حسن وجه الأخ "؛ فالمصدر هاهنا كغيره من الأسماء، كقولك: " أزيد أنت له أطلق وجها أم فلان "، وليس له سبيل إلى الإعمال وليس له وجه في ذلك). يعني: أن " ضربا " انتصب على التمييز بأشد ونصبه ل " ضربا "، لا يوجب له من القوة ما يعمل به فيما قبله، كما أن قولك: " ما أحسن زيدا "، لا يكون فيه أن تقول: " ما زيدا أحسن "، ولا في قولك: " حسن وجه الأخ " أن تقول: " وجه الأخ حسن "؛ لأنها

عوامل تضعف عما قبلها. قال سيبويه: (ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا قولك: " عبد الله إن تره تضربه "، وكذلك إن طرحت " الهاء " مع قبحه فقلت: " اعبد الله إن تر تضرب "، فليس للآخر سبيل على الاسم؛ لأنه مجزوم). يعني: أن ما بعد حرف الشرط لا يجوز أن يعمل فيما قبله؛ لأنك لا تقول: " أزيدا إن تأت يكرمك " على معنى: إن تأت زيدا يكرمك. ولا يجوز أيضا أن يعمل جواب الشرط إذا كان الجواب مجزوما، لا تقول: " أخاك إن تأتنا نصادق "، على معنى " إن تأتنا نصادق أخاك، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن تقول: " أعبد الله إن تره تضربه "، فتنصب " عبد الله " بإضمار فعل يفسره " تره "، أو " تضربه "؛ لأن ما بعد " إن "، وجوابها المجزوم لا يكونان تفسيرا لما قبل " إن "، كما لا يكونان عاملين فيما قبلهما. وإن طرحت " الهاء " من الشرط والجواب لم يعمل أيضا فيه واحد منهما على ما ذكرنا أنه لا يعمل ما بعد " إن " من الشرط والجواب فيما قبلهما. قال: (وليس للفعل الأول سبيل؛ لأنه مع " إن "، بمنزلة قولك: " أعبد الله حين يأتي تضرب "، فليس " لعبد الله " في " يأتي " حظ؛ لأنه بمنزلة قولك: " أعبد الله يوم الجمعة أضرب "). قال أبو سعيد: اعلم أن ما قبل المضاف لا يعمل فيه المضاف إليه إذا قلت: " هذا غلام ضارب زيدا "، لم يجز أن تقدم " زيدا " على المضاف فتقول: " هذا زيدا غلام ضارب "، وكذلك إذا قلت: " حين تأتي زيدا يكرمك "، لم يجز أن تقول: " زيدا حين تأتي يكرمك "؛ لأنك أضفت " حين " إلى " تأتي "، وأسماء الأوقات تكون مضافة إلى الأفعال المضاف إليه وكذلك إذا قلت: " أعبد الله حين تأتي تضرب " تنصب " عبد الله " ب " تضرب " لأن التقدير: أتضرب عبد الله حين يأتي، ولا ترفع " عبد الله " حملا على ضميره المرفوع في " يأتي " فلم يجز أن تعمل " تأتي " فيما قبل الحين ولا يحمل عليه ما قبل الحين كما لا يعمل فيه. فقال سيبويه: (ما بعد: " إن " الجزاء بمنزلة ما بعد " الحين " في أنه لا يحمل عليه

ما قبله). وقوله: (لأنه بمنزلة قولك: " أعبد الله يوم الجمعة أضرب "). نصب " عبد الله " " بأضرب "، وجعل " الجمعة " بمنزلة " حين يأتي " وجعل " يوم " بمنزلة " حين " ليريك أن " يأتي " مضاف إليه " الحين "، وأنه لا تسلط له على ما قبله. قال سيبويه: (ومثل ذلك: " زيد حين أضرب يأتيني "؛ لأن المعتمد على " زيد " آخر الكلام وهو " يأتيني "). يعني: أنك لا تنصب " زيدا " ب " أضرب "؛ لأن " حين " مضافة إلى " أضرب "، ولكنك ترفعه بالابتداء، وحملا على " يأتيني ". قال: (وكذلك إذا قلت: " زيدا إذا أتاني أضرب " إنما هي بمنزلة " حين "). يعني أن " إذا "، من أسماء الأوقات المستقبلة وهي مضافة إلى الفعل الذي بعدها. فغير جائز أن ترفع " زيدا "، حملا على الفعل الذي أضيفت إليه " إذا " وهو " أتاني "، بل تنصبه " بأضرب "، والتقدير: " أضرب زيدا إذا أتاني ". قال: (وإن لم تجزم الأخير نصبت، وذلك قولك: " أزيدا إن رأيت تضرب "، وأحسنه أن تدخل في " رأيت " " الهاء " لأنه غير مستعمل). قال أبو سعيد: اعلم أن الفعل الذي هو جواب الشرط إذا رفع فله مذهبان على قول سيبويه: أحدهما: ينوى به التقديم. والآخر: أن يرفع على إضمار الهاء، وذلك نحو قولك: " إن تأتني أكرمك " فيجوز أن يكون على معنى: " أكرمك إن تأتني "، ويجوز أن يكون على معنى: " إن تأتني فأكرمك "، كما تقول: " إن تأتني فأنا مكرم لك ". وقد كان أبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز إلا على إضمار الفاء. والاحتجاج لهذا القول يأتي من بعد هذا مستقصى إن شاء الله تعالى. فإذا قدرنا الفاء في هذا الفعل المرفوع لم يجز أن تنصب به ما قبله، ولا يجوز أن تقول: " أزيدا إن تره فتضرب " على معنى: " إن تر زيدا فتضرب زيدا " ولا على معنى: إن

تر فتضرب زيدا، كما لا يجوز أن تقول: " أخاك إن تأتني أكرم " على معنى: " إن تأتني فأكرم أخاك "؛ لأن الفعل الذي بعد الفاء لا ينوى به التقديم على حرف الشرط، وإذا كان النية في الفعل التقديم جاز أن تنصب به الاسم الذي قبل حرف الشرط، وهو الذي قاله سيبويه: (" أزيدا إن رأيت تضرب ") لأن التقدير فيه: أتضرب زيدا إن رأيت وأحسنه أن تقول: " أزيدا إن رأيته تضرب "؛ لأن التقدير فيه: " أتضرب زيدا إن رأيت " فيشتغل الفعل بضمير الأول؛ لأنك لم تعمله في شيء، وهو فعل متعد وقد ذكر مفعوله. وعلى قياس قول أبي العباس: لا يجوز نصب " زيد " ب " تضرب "؛ لأن النية فيه الفاء، ولا يجوز عمل ما بعدها فيما قبلها. قال سيبويه: (فصارت حروف الجزاء في هذا بمنزلة قولك: " زيد كم مرة رأيته "). يعني: أن حروف الجزاء في هذا بمنزلة: " زيد كم مرة رأيته "، يعني: إذا جعلت ما بعدها شرطا وجوابا له رفعت الأسماء التي قبلها ولم يكن لما بعدها سبيل على ما قبلها، كما لم يكن لما بعد حروف الاستفهام سبيل على ما قبله، ولا يكون تفسيرا له. قال: (فإذا قلت: " إن زيدا تضرب "، فليس إلا هذا). يعني: ينصب " زيدا " ب " ترى " وصار بمنزلة قولك: " حين ترى زيدا يأتيك ". لأن " زيدا " وقع بعد الفعل فعمل فيه الفعل، ولم يقع قبل " أن " و " حين "، فيمتنع عمل ما بعدهما فيه. قال: (وصار " زيد " في موضع المضمر حين قلت: " زيد حين تضربه يكون كذا وكذا "). يعني: أن الهاء في " تضربه "، في موضع نصب، فإذا جعلت " زيدا " مكانها ولم تذكره في أول الكلام نصبته. قال سيبويه: (ولو جاز أن تحمل " زيدا " مبتدأ على هذا الفعل لقلت: " القتال زيدا حين تأتي "، تريد: القتال حين تأتي زيدا). يعني: أنه لو جاز أن يبتدأ بلفظ " زيد "، فتحمله على الفعل الذي بعد " أن "، لجاز

أن يبتدأ بلفظه فتحمله على الفعل الذي بعد " حين " فتقول: " القتال زيدا حين تأتي "، أو " زيدا حين تأتي القتال ". تريد: " حين تأتي زيدا القتال " وقد بيّنا فساد هذا، و " إن " و " حين " مشتركان في ألا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما. قال: (وتقول في الجزاء وغيره: " إن زيدا تره تضرب " تنصب " زيدا "؛ لأن الفعل أن يلي " إن " أولى كما كان ذلك في حروف الاستفهام، وهي أبعد من الرفع؛ لأنه لا يبنى الاسم فيها على مبتدأ). يعني: أنك إذا قلت: " إن زيدا تره "، نبت " زيدا " بإضمار فعل؛ لأنك شغلت الفعل الذي بعده بضميره فتقدر: إن تر زيدا تره، والاختيار نصبه بإضمار الفعل، كما كان الاختيار في الاستفهام، بل النصب أوجب في " إن " وذلك أن " إن " وحروف الجزاء لا بد فيها من الأفعال؛ لأن الشرط لا يكون إلا فعلا، ولا يصلح أن يليها مبتدأ أو خبر من غير الفعل، فتقول: " إن زيد قائم أقم ". وقد يجوز في الاستفهام أن تقول: " أزيد قائم "؟، فقد علمت أن حرف الجزاء أحق بالفعل، وإضماره فيه ونصب الاسم به أوجب. قال سيبويه: (وإنما أجازوا تقديم الاسم في " إن "؛ لأنها أم حروف الجزاء ولا تزال عنه، فصار ذلك فيها كما صار في ألف الاستفهام ما لم يجز في الحروف الأخر). قال أبو سعيد: اعلم أن الحروف التي تشترك في معنى واحد قد يكون بعضها أقوى من بعض في ذلك المعنى، وأكثر تصرفا، وأشد ثباتا. فمن ذلك ألف الاستفهام يشاركها في الاستفهام " هل "، و " أين "، و " كيف " و " من "، وما أشبه ذلك، غير أن الألف أقواها كلها في باب الاستفهام؛ لأنها تدخل في مواضع الاستفهام (كلها) وغيرها له موضع خاص. ف " من ": سؤال عمّن يعقل. و" كيف ": سؤال عن الحال. و" أين ": سؤال عن المكان. و" هل ": لا يسأل بها في جميع المواضع. ألا ترى أنك لو قلت: " أزيد عندك أم عمرو " على معنى: " أيهما عندك "، لم يجز في ذلك المعنى أن تقول: " هل زيد عندك أم عمرو ". وإذا قلت: " رأيت زيدا "، فقال لك قائل مستثبتا: " أزيد منه؟ " و " أزيدا "، على حكاية كلامك، لم يجز مكانها " هل "

فلما كانت الألف هكذا حسن فيها من التقديم والتأخير ما لم يحسن في غيرها، فحسن أن تقول: " أزيدا ضربته "، و" أزيدا ضربت "، ولا يحسن (في متى، وهل) أن تقول: " هل زيدا ضربت " و " متى زيدا ضربت ". وإنما تقول: " هل ضربت زيدا "، و " متى ضربت زيدا ". و" إن " في باب الجزاء بمنزلة الألف في باب الاستفهام، وذلك أنها تدخل في مواضع الجزاء كلها، وسائر حروف الجزاء، نحو: " من "، و " ما "، و " متى " لها مواضع مخصوصة، فلذلك حسن أن يليها الاسم في اللفظ، ويقدر له عامل. وكذلك إن كان مرفوعا كقولك: " إن زيد أتاني أتيته ". قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (¬1) على معنى: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك. لم أنشد (قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفسا أهلكته … وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي) (¬2) نصب " منفسا " بعد " إن " على إضمار: أهلكت منفسا أهلكته. ويجوز: " إن منفس أهلكته " على معنى: إن هلك منفس أهلكته، فلا بد من تقدير فعل كيفما تصرفت به الحال. قال: (وإن اضطر شاعر فأجرى " إذا " مجرى " إن " فجازى بها فقال: " أزيد إذا تر تضرب "، إن جعل " تضرب " جوابا. وإن رفع " تضرب " نصبه؛ لأنه لم يجعلها جوابا). قال أبو سعيد: واعلم أن " إذا " عند سيبويه وأصحابه لا يجازي بها لفظا فتجزم شرطها وجوابها كما يفعل ذلك بحروف الجزاء، كما قال الشاعر: أي لذي الرمة: تصغي إذا شدّها بالرّحل جامحة … حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب فرفع " تثب "، ومع هذا ففيها معنى الجزاء. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: 6. (¬2) الخزانة 1/ 152، 450، 3/ 642، 4/ 410 الكامل للمبرد 3/ 167.

فإذا اضطر شاعر جاز أن يجريها مجرى حروف الجزاء كما قال (الشاعر): ترفع لي خندف والله يرفع لي … نارا إذا ما خبت نيرانهم تقد (¬1) فإذا اضطر شاعر، فقال: " أزيد إذا تر تضرب "، امتنع النصب في " زيد "؛ لأنه لا يجوز أن يقدر " يضرب " قبل " إذا "، وقد جزمناها بالجواب، كما فعلنا ذلك في " إن ". وإن رفعنا " تضرب " ونوينا به التقديم نصبنا " زيدا " وصار تقديره: " أتضرب زيدا إذا تر "، كما فعلنا ذلك في " إن ". وفيه وجه آخر، وهو أن ترفع فتنوي الفاء التي تكون جوابا، فإذا قدّرت ذلك بطل النصب في " زيد "؛ لأنه لا يكون في نية التقديم حينئذ، وقد ذكرنا ذلك في " إن ". قال: (وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ والاسم مبتدأ هنا إذا جزمت، نحو قولك: " أيهم يأتك تضرب "، إذا جزمت؛ لأنك جئت ب " تضرب " مجزوما، بعد أن عمل الابتداء في " أيهم ولا سبيل له عليه، وكذلك هذا حيث جئت به مجزوما، بعد أن عمل فيه الابتداء، وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة " حين " وسائر الظروف). يعني: أنك إذا قلت: " إذا ترى "، فرفعت فعل الشرط في " إذا " رفعت الجواب؛ لأن " إذا " إنما يشبهها الشاعر " بإن "، فإذا رفع شرطها لم يجز أن يجزم الجواب؛ لأنه قد أخرجها برفع الشرط من شبه " إن "، فوجب أن يرفع الجواب. وقوله: (الاسم مبتدأ هنا إذا جزمت). يعني: إذا جزمت جواب إذا كان الاسم الذي قبل " إذا " مرفوعا بالابتداء، كقولهم: " أيهم يأتك تضرب "، لما جزمت " تضرب " بالجواب لم يكن له تسلط على نصب أيهم، ولو لم يكن مجزوما قلت: " أيهم تضرب " كما قلت: " أزيدا إذا تر تضرب ". وقوله: (لأنك جئت ب " تضرب " مجزوما بعد أن عمل الابتداء في " أيهم " ولا سبيل له عليه). يعني لا سبيل للمجزوم على الاسم الذي قبل " إذا " كما لم يكن للمجزوم الذي في ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق في ديوانه 216، الأعلم 1/ 434.

جواب " أيهم " سبيل عليه. وقوله: (وأما الفعل الأول فصار مع ما قبله بمنزلة " حين " وسائر الظروف). يعني: أن فعل الشرط الذي بعد " إذا "، وهو " تر "، رفعته أو جزمته لا يعمل فيما قبل " إذا "؛ لأنه و " إذا " كشيء واحد بمنزلة الحين ولا يصلح تقديمه، فلم يصلح على كل حال أن يعمل فيما قبل " إذا ". قال: (وإن قلت: " زيد إذا يأتيني أضرب "، تريد: معنى الهاء ولا تريد: " زيدا أضرب إذا يأتيني "، ولكنك تضع " أضرب " هنا مثل " أضرب " إذا جزمت، وإن لم يكن مجزوما). يعني: أنك تجعل " أضرب "، جوابا ل " يأتيني " على أحد الوجهين: إما أن يكون على نية الفاء، وإما أن يكون على طريق جواب " إن " المجزوم وإن لم يكن هذا مجزوما؛ وذلك أنّ وضع الكلام وترتيبه لا يختلف من طريق الشرط والجواب وإنما يختلف في جزم " إن " ما بعدها وامتناع " إذا " من ذلك ووضع الكلام وترتيبه على حال واحدة، ومعنى المجازاة قائم في " إذا " غير أنه يقبح إذا لم يرجع إلى زيد، وهو مبتدأ وخبره ضمير، ولم تنو ب " أضرب " التقديم فتنصب به " زيدا ". قال: (وكذلك " حين "، إذا قلت: " أزيد حين يأتيك تضرب "). يعني: إذا جعلت " تضرب " جوابا؛ لأن قولك: " حين يأتيك "، فيه معنى المجازاة، وهو بمنزلة " إذا "، وفي " تضرب " الوجهان الأولان، وفيه القبح الذي ذكرناه من جهة حذف العائد إلى " زيد ". قال: (وإنما رفعت الأول في هذا كله حين جعلت " تضرب " و " اضرب " جوابا، فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه). يعني: صار الجواب في " إذا "، و " حين " كأنهما من صلة " إذا "، و " حين " فلم يعمل فيما قبلهما. قال: (ولم يرجع إلى الأول. وإنما تردّه إلى الأول إذا لم يكن جوابا فيمن قال: " إن تأتني آتيك " وهو قبيح، وإنما يجوز في الشعر وإذا قلت: " أزيد إن يأتك تضربه "

فليس تكون الهاء إلا " لزيد "، ويكون الفعل الآخر جوابا للأول، ويدلل على أنها لا تكون إلا " لزيد "، أنك لو قلت: " أزيد إن تأتك أمة الله تضربها " لم يجز، لأنك ابتدأت " زيدا " ولا بد من خبره، ولا يكون ما بعده خبرا له حتى يكون فيه ضميره). أما قوله: (وإنما ترده إلى الأول فيمن قال: " إن تأتني آتيك "). على التقدير، كأنه قال: " آتيك إن تأتني ". يعني: إنما تقول: " زيدا إذا يأتيني أضرب " تنصب " زيدا " ب " أضرب "، إذا نويت ب " أضرب " التقديم، كما أن من يقول: " إن تأتني آتيك " على التقديم، كأنه قال: آتيك إن تأتني وهو قبيح في غير " إن "، وإنما يجيء في الشعر. وقبحه: أن الجواب موقعه بعد الشرط. فإذا وجد في موضعه لم يحسن أن ينوي به غير موضعه. وللكلام في هذا موضع آخر. وأما قوله: " أزيد إن يأتك تضربه "، أن الهاء لا تكون فيه إلا لزيد وقد ردّ ذلك عليه وذلك لأنا نقول: " أزيد إن يأتك تضرب عمرا " فيقع موقع الهاء الأجنبي وإنما أنكر عليه ذلك من أنكر من قبل أن " زيدا " قد عاد إليه الضمير الذي في " يأتك "، فإذا عاد الضمير إليه من الجملة في شيء واحد، صح الكلام ففي ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي قاله سيبويه: " أزيد إن يأتك تضربه "، ولا تكون الهاء في هذا إلا " لزيد "؛ لأنا إن جعلناها لغير " زيد " لم يعد إلى " زيد " شيء من جملة الكلام. والوجه الثاني: أن سيبويه أراد: أن " زيدا "، إن أخلى ضميره من جملة الكلام، بطل رفعه وعبّر بالهاء عنها وعن الضمير المرفوع الذي في " يأتك " لأنهما شيء واحد. والوجه الثالث: وهو ما قاله أبو إسحق الزجاج: إن هذا ليس من كلام سيبويه. قال: (وإذا قلت: " زيدا لم أضرب "، و " زيدا لن أضرب "، لم يكن فيه إلا النصب؛ لأنك لم توقع بعد " لم "، و " لن " شيئا يجوز لك أن تقدمه قبلهما، فيكون على غير حاله بعدهما كما كان ذلك في الجزاء، و " لن أضرب " نفي لقوله: " سأضرب "، كما أن " لا تضرب " نفي لقوله: " أضرب " و " لم أضرب "، نفي لقوله: " ضربت "). قال أبو سعيد: اعلم أن " لن "، و " لم " يعمل ما بعدهما فيما قبلهما وذلك أن " لن " نقيض " سوف "، و " سوف " يعمل ما بعدها فيما قبلها، كقولك: " زيدا سوف أضرب " لأن

" سوف " والفعل كشيء واحد. و " لم " مثل " لن "؛ لأنها وما بعدها من الفعل كشيء واحد نقيض الفعل الماضي، والفعل الماضي يجوز أن يتقدم مفعوله ونقيض الشيء يقع موقعه وعلى حسب لفظه. فإن قال قائل: فلم لا يجوز: " زيدا ما ضربت "، كما جاز: " زيدا لم أضرب "؟ قيل له: ليس طريق " ما " طريق " لم "؛ لأن " لم " تدخل على الأفعال فقط، وهي والفعل بمنزلة شيء واحد، كما كانت " سوف " مع الفعل كشيء واحد. و" ما " تدخل على الجمل وهي نقيضه " إن "، يقال: " إن زيدا قائم " فتقول: " ما زيد قائم "، ألا ترى أن " ما " تكون جوابا للقسم في النفي، كما تكون " إن " جوابا في الإيجاب، فلما صارت بمنزلة " إن " لم يعمل ما بعدها فيما قبلها. قال: (وتقول: " كل رجل يأتيك فاضرب " نصب لأن " يأتيك " صفة ها هنا، فكأنك قلت: " كل رجل صالح أضرب "). نصب " كلا " بالفعل الذي بعد الفاء؛ لأن الفاء في الأمر يعمل ما بعدها فيما قبلها، كقولك: " زيدا فاضرب "، و " بزيد فأمرر ". وله علة نذكرها في موضعها إن شاء الله و " يأتيك " صفة لرجل. (وإذا قلت: " أيهم جاءك فاضرب "، رفعته: لأنه جعل " جاءك " في موضع الخبر، وذلك لأن قولك: " فاضرب " في موضع الجواب و " أي " من حروف المجازاة، و " كل رجل " ليست من حروف المجازاة). يعني: أن ما بعد الفاء في قولك: " أيهم جاءك فاضرب "، لا يعمل في " أيهم "؛ لأنه في موضع الجواب، والجواب لا يعمل في الاسم الأول. والدليل على أنه جواب أنك لا تقول: " أيهم جاءك اضرب " إلا بتقدير الفاء على قبح ولو قلت: " كل رجل جاءك اضرب "، لكان حسنا على تقدير: " اضرب كل رجل جاءك ". ولو جعلت " أي " بمعنى " الذي " جاز أن تنصب، فتقول: " أيهم جاءك فاضرب "، كما تقول: " الرجل الذي جاءك فاضرب ". على ما بيّنا في الأمر إذا قلت: " زيدا فاضرب "، إذ ما بعد الفاء يعمل ما بعدها في الأمر، ومثله: " زيد إن أتاك فاضرب " إن جعلت الفاء جوابا رفعت " زيدا " لا غير، وإن لم تجعله جوابا، فقدرت: " زيدا فاضرب إن أتاك " نصبت. وكذلك: " أيهم يأتيك تضرب "

إذا كانت بمنزلة " الذي "، كأنك قلت: " تضرب أيّهم يأتيك ". قال: (وتقول: " زيدا إذا أتاك فاضرب ". فإن وضعته في موضع: " زيد إن يأتك تضرب " رفعت، فارفع إذا كانت " تضرب " جوابا ليأتك). يعني: أنك إذا قدرت الفاء قبل " إذا " نصبت، كأنك قلت: " زيدا فاضرب إذا أتاك "، وإن قدرتها جوابا لم يصلح إلا رفع " زيد "، ولكن ينبغي أن يؤتى بضميره؛ ليعود إليه. فيقال: " زيد إذا أتاك فاضربه "، ويكون بمنزلة: " زيد إن يأتك تضرب " في أنه لا يكون إلا مرفوعا، وكذلك: " زيد حين يأتيك فاضرب " إذا جعلت " فاضرب " جوابا رفعته، وجعلت فيه الهاء، وترك الهاء قبيح والأحسن النصب على نية التقديم، وإنما كان النصب أحسن لضعف ترك الهاء العائدة إلى الابتداء، كما لا يحسن أن تقول: " زيد ضربت ". ثم قال بعقب هذا الكلام: (والنصب " في زيد " أحسن إذا كانت الهاء يضعف تركها ويقبح، كما أن الفعل يقبح إذا لم تكن معه الهاء، أو غيرها من المضمر المفعول أو المظهر فاعمله في الأول). يعني: أنك إذا رفعت " زيدا "، ولم يعد إليه من الجملة التي بعده ضمير كان قبيحا، كما أنك إذا رفعت الاسم، ثم جئت بفعل، فلا يحسن أن يتعرى ذلك الفعل من ضميره، أو من ظاهره فضميره " أنت ضربتك "، و " زيد ضربته ". وظاهره: " زيد ضربت زيدا "، كما قال: (لا أرى الموت يسبق الموت شيء) أي يسبقه، وهو قبيح أن تقول: " زيد ضربت " وكذلك يقبح أن تقول: " زيدا إذا أتاك فاضرب ". وفي الكتاب بعد هذا الفصل (وليس هذا بالقياس). يعني: إذا لم تجزم بها. لأنها تكون بمنزلة " حين ".

يعني: أن القياس إذا لم تجزم " بإذا " فتجعلها بمنزلة " إن "، فحكم الفعل أن يعمل فيما قبل " إذا "، إذا حسن تقديمه نحو قولك: " زيدا إذا أتاك فاضرب "، و " زيدا إذا يأتيك فأكرم "، و " زيدا إذا يأتيك اضرب "؛ لأنه يحسن أن تقول: " زيدا فاضرب إذا يأتيك "، و " زيدا اضرب إذا يأتيك " ولا شيء يمنع هذا الفعل من التقديم ونصب الاسم به، فالقياس أن ينصب به في الكلام. قال: (و " إذا "، و " حين " لا تكون واحدة منهما خبرا لزيد، ألا ترى أنك لا تقول: " زيد حين يأتيني "؛ لأن " حين " لا تكون ظرفا " لزيد "). يعني: أنك إذا قلت: " زيدا حين يأتيني أضرب "، أو " زيدا إذ يأتيني أضرب "، فكأنك قلت: " زيدا أضرب "، فالأجود أن تنصب " زيدا "؛ لأن " حين "، و " إذا " كاللغو، إذا كانا غير خبرين، ولا يستغنى بهما " زيد "، ولو جاز أن يكونا خبرين لحسن الرفع في " زيد "، كقولك: " زيد في الدار اضرب "، فرفع " زيد " في هذا الموضع أحسن؛ لأنه قد تم الكلام بالظرف وهو غير محتاج إلى الفعل، فيكون " أضرب " على كلام آخر، ولم تكن " بزيد " حاجة إليه. قال: (وتقول: " الحرّ حين تأتيني "، فيكون ظرفا لما كان فيه من معنى الفعل). ولا تقول: " زيد حين يأتيني " وذلك أن " الحر " مصدر، والمصادر كلها يجوز أن تكون ظروف الزمان أخبارا لها، كقولك: " القتال يوم الجمعة "، و " أكلنا عشيا " و " رحيلنا في غد ". ولا يجوز أن تكون ظروفا للجثث، لا تقول: " زيد يوم الجمعة " و " لا أنت غدا "، والفرق بينهما أن المصادر أشياء حادثة والأزمنة أيضا حوادث لا تبقى فإذا قلنا: " القتال يوم الجمعة " فإنما جعلنا " يوم الجمعة " وقتا لحدوثه، وإذا قلنا: " زيد يوم الجمعة "، فلسنا نعني أنه يحدث في " يوم الجمعة "، ولا أن " يوم الجمعة " وقت له دون سائر الموجودات، كما أن قولك: " زيد خلفك " اختصاص مكان " زيد " دون سائر من ليس خلفك. قال: (فإن قلت: " زيدا يوم الجمعة أضرب " لم يكن فيه إلا النصب؛ لأنه ليس ها هنا معنى جزاء، ولا يجوز الرفع إلا على قوله: ... كله لم أصنع).

يعني أن " يوم الجمعة " لغو، كأنك قلت: " زيدا أضرب " إلا أن تحذف الهاء على الوجه القبيح الذي ذكرناه في " زيد ضربت " و " كله لم أصنع " قال: ولا يجوز أن يكون " أضرب " جوابا " ليوم الجمعة "؛ إذ ليس فيه معنى جزاء. والدليل على أنه ليس فيه معنى جزاء (أنك لو قلت: " زيد يوم الجمعة فأنا أضربه "، لم يجز، فهذا يدلك أنه يكون على غير قولك: " زيدا فاضرب حين يأتيك "). تحصيل هذا الكلام أنك إذا قلت: " زيدا إذا أتاك فأضرب "، كان الاختيار النصب، وجاز فيه الرفع من وجهين: أحدهما: أن تجعل " اضرب " جوابا، فيستحيل النصب في " زيد ". والثاني: ألا تجعله جوابا وتضمر الهاء على قول من قال: " زيد ضربت " وإذا قلت: " زيدا يوم الجمعة أضرب "، فالنصب الوجه، ويجوز الرفع من وجه واحد، وهو على قول من قال: " زيد ضربت " إذا كان لا يجوز فيه الجواب. وقوله: (فهذا يدلك على أنه يكون على غير قولك: " زيدا فأضرب حين يأتيك "). يعني: أنه لما جاز أن تقول: " زيد حين يأتيك فأنا أضربه "، و " زيد إذا يأتيك فأنا أضربه " فتجعل الفاء جوابا، ولا يجوز " زيد يوم الجمعة فأنا أضربه " على جعل الفاء جوابا. فدلك ذلك على أن قولك: " زيد حين يأتيك فاضرب "، قد يكون على غير قولك: " زيدا فأضرب حين يأتيك ". وفي آخر هذا الباب قول لست أدري لمن، وهو: وهذا عندنا غير جائز إلا أن يكون الأول مجزوما في اللفظ. يعني: أنك لا ترفع " زيدا "، إذا قلت: " زيدا إذا يأتيني أضرب "، إذا كان قولك: " إذا " يأتيني " بمنزلة " يوم الجمعة " حين لم تجزم الفعل، فإذا جزمت الفعل فقلت: " زيد إذا يأتيني أضرب " رفعت " زيدا " إذا أحللت " إذا " محل " إن "، وسيبويه يحلها محل " إن "، وإن كان ما بعدها مرفوعا؛ لأن فيها معنى الجزاء بالدلالة التي ذكرنا.

هذا باب الأمر والنهي

هذا باب الأمر والنهي " الأمر والنهي يختار فيهما النصب، في الاسم الذي يبنى عليه الفعل، ويبنى على الفعل ". قال أبو سعيد: اعلم أن الأمر والنهي هما بالفعل فقط؛ لأنك إنما تأمر بإيقاع فعل، وتنهى عن إيقاع فعل، وربما أمرت باسم هو في المعنى واقع موقع الفعل كقولك: " عندك زيدا " و " دونك زيدا " في معنى: خذ زيدا، وكقولك: " حذار زيدا " في معنى: احذر زيدا. فإذا كان الأمر على هذا، ثم أتيت باسم، قد بني الفعل بعده على ضميره نصبته، لإضمار فعل، على نحو ما ذكرنا في الاستفهام، فقلت: " زيدا اضربه "، على تقدير: اضرب زيدا اضربه، و " زيدا لا تشتمه " على تقدير: لا تشتم زيدا لا تشتمه. وكان النصب في الأمر والنهي أولى وأقوى من الاستفهام؛ من قبل أن الأمر والنهي لا يكون إلا بفعل على ما ذكرنا، وقد يكون الاستفهام بغير فعل، كقولك: " أزيد أخوك "، و " أعبد الله عندك ". ومن ذلك أيضا: " أمّا زيدا فاقتله " و " أمّا عمرا فاشتر له ثوبا "، و " أمّا خالدا فلا تشتم أباه "، و " أمّا بكرا فلا تمرر به "، وذلك أن ما بعد " أمّا " كالكلام المستأنف، فنصبته على ما ذكرنا من النصب في الأمر، ولم تقدّر الفعل بعد " أمّا "؛ لأنها لا يليها الفعل، ولكن تقدّر الفعل بعد الاسم بلا ضمير، وتعدّيه إلى الاسم وتحذفه، ثم تأتي بالفعل الواقع على الضمير، فتفسر به الفعل المحذوف، فيكون تقديره: " أمّا زيدا فاقتل قاتله " وأمّا بكرا فلا تلق فلا تمرر به، وأما خالدا فلا تهن فلا تشتم أباه، ولا بد من الفاء بعد " أمّا ". ومنه: " زيدا ليضربه عمرو "، و " بشرا ليقتل أباه خالد "؛ لأنه أمر للغائب فهو كالمخاطب في باب الأمر، وقد يجوز فيه الرفع، وذلك قولك: " عبد الله اضربه " و " أمّا زيد فاقتله "، وذلك أن الأمر فعل ومعه فاعله، فهو جملة، فجئت بالاسم مبتدأ، وجعلت الجملة في موضع خبره، وأدخلت الفاء بعد " أمّا "، ولم تدخلها إذا بدأت بالاسم؛ لأنك جعلت الأمر في موضع الخبر، فإذا قلت: " زيدا اضربه " كان كقولك: " زيد منطلق " ولو قلت:

" زيد فاضربه " صار بمنزلة قولك: " زيد فمنطلق "، وهذا لا يجوز، كما لا يجوز " فمنطلق " ويجوز " أمّا زيد فاضربه " كما يجوز " أمّا زيد فمنطلق ". وإذا لم تجعل في الفعل ضميرا من الاسم، وقدمت الاسم وأخّرت الفعل، كنت في إدخال الفاء بالخيار، إن شئت أدخلتها وهي بمنزلتها في جواب " أمّا "، وإن شئت أخرجتها وذلك قولك " زيدا اضرب "، و " زيدا فاضرب "، فإذا قلت: " زيدا اضرب " فتقديره: اضرب زيدا، وإذا أدخلت الفاء؛ فلأن حكم الأمر أن يكون الفعل فيه مقدّما، فلما قدمت الاسم أضمرت فعلا، وجعلت الفاء جوابا له، وأعملت ما بعد الفاء في الاسم؛ لأنك قدمت الاسم عوضا من الفعل المحذوف، الذي ينبغي أن يكون مصدّرا به في الأمر. وتقدير الكلام: تأهب فاضرب زيدا، أو تعمد فاضرب زيدا، وما أشبه ذلك، فلما حذفت " تأهب " قدمت " زيدا " ليكون عوضا من المحذوف، وأعملت فيه ما بعد الفاء، كما أعملت ما بعد الفاء في جواب " أمّا " فيما قبلها، وقدمت الاسم على الفاء في جواب " أمّا " عوضا من الفعل المحذوف الذي قامت أمّا مقامه، وهو قولك: " مهما يكن من شيء فقد ضربت زيدا " فإذا نقلته إلى " أمّا " قلت: " أما زيدا فقد ضربت ". والدليل على ما ذكرنا من عمل ما بعد الفاء فيما قبلها في الأمر، قولك: " بزيد فامرر "، فلولا أنّ ما بعد الفاء عمل فيما قبلها، ما دخلت الباء على زيد؛ لأن الباء في صلة المرور، ولا يصلح أن تضمر مرورا آخر؛ لأن ما كان من الفعل متعديا بحرف جر لا يضمر، ولا تشبه الفاء في هذا الفاء في قولك: " عبد الله فاضرب "؛ لأن قولك: " عبد الله " مبتدأ، ولا يصلح أن تكون الفاء في خبره. فإذا قلت: " زيدا فاضربه " فهو على تقديرين: أحدهما اضرب زيدا فاضربه، وعليك زيدا فاضربه؛ لأنك قد تقول: " زيدا "، في معنى: عليك زيدا، أو تعمد زيدا. قال: (وقد يحسن ويستقيم أن تقول: " عبد الله فاضربه " إذا كان مبنيا على مبتدأ مظهر أو مضمر، فأما في المظهر فقولك: " هذا زيد فاضربه "، وإن شئت لم تظهر هذا، وعمل كعمله إذا أظهرته كقولك: " الهلال والله فانظر إليه " تريد هذا الهلال والله). يعني أنك إذا جئت بمبتدأ وخبر، جاز إدخال الفاء بعدهما؛ لأن المبتدأ والخبر جملة.

والفاء تدخل لجواب الجملة؛ لأنها قد أفادت معنى، كقولك: " زيد قائم فقم إليه "، وإن شئت أدخلت الفاء؛ لعطف جملة على جملة، وقال الشاعر: وقائلة: خولان فانكح فتاتهم … وأكرومة الحيين خلو كما هيا (¬1) أراد هذه خولان؛ فلذلك أدخل الفاء، ومعنى قوله: " وأكرومة الحيين خلو كما هيا " من قول القائلة، أرادت أن هذه الفتاة التي أشارت عليه بتزويجها، هي خلو كما كانت لم تتزوج، وإنما قال: حيين؛ لأن " خولان " قد اشتملت على حيين، وعلى أحياء، ويجوز نصب " خولان " كما في أول الباب. قال: (وتقول " هذا الرجل فاضربه "، إذا جعلته وصفا). يعني إذا جعلت " الرجل " وصفا لهذا، وكذلك " هذا زيدا فاضربه " إذا جعلت " زيدا " بدلا من " هذا " أو عطف بيان، وهو كالنعت، وإنما نصبته لأن الوصف والموصوف، والبدل والمبدل منه، كاسم واحد، ولو جعلته خبرا لقلت: " هذا زيد فاضربه " فجعلت الفاء جوابا للجملة، أو عطف جملة على جملة كما ذكرنا. قال: (وتقول: " اللذين يأتيانك فاضربهما " تنصبه كما تنصب زيدا، وإن شئت رفعته على أن يكون مبنيا على مظهر أو مضمر، وإن شئت كان مبتدأ؛ لأنه يستقيم أن تجعل خبره من غير الأفعال بالفاء، ألا ترى أنك لو قلت: " الذي يأتيني فله درهم "، " والذي يأتيني فمكرم محمول " كان حسنا، ولو قلت: " زيد فله درهم " لم يجز). قال أبو سعيد: قد تقدم من قول سيبويه أنه لا يجوز أن تقول: " زيد فاضربه "، كما لا يجوز أن تقول: " زيد فمنطلق " " وزيد فله درهم " والذي أبطل هذا أنّ دخول الفاء لا معنى له هاهنا، فإذا كان اسم موصول لفعل ما، ولم يقصد به إلى شخص بعينه، كان الفعل مستقبلا أو في معنى الاستقبال، وإن كان لفظه ماضيا جاز أن تدخل الفاء في خبره، وتذهب بالاسم الأول مع صلته مذهب المجازاة، وذلك قولك: " الذي يأتيني فله درهم " إذا لم يكن قاصدا إلى واحد بعينه، وكان استحقاقه للدرهم بسبب إتيانه، ¬

_ (¬1) الخزانة 1/ 218، 3/ 395 الدرر اللوامع 1/ 79، شواهد المغني 159.

فيصير هذا بمنزلة قولك: " من يأتيني فله درهم "؛ لأن الدرهم يستحق بالإتيان، فإن قصدت " بالذي " وصلته إلى اسم بعينه، لم يجز دخول الفاء في خبره، وجرى مجرى " زيد "، فقلت: " الذي يأتيني له درهم "، كأنك أردت: زيد الذي يأتيني له درهم، إذا قدرت أنه يأتيك، أو وعدك بذلك ولا يستحق الدرهم من أجل إتيانه فيجري مجرى " زيد " إذا قلت: " زيد له درهم ". ومما يجري مجرى الذي " كل رجل يأتيني فله درهم "؛ لأنك إنما توجب الدرهم بسبب إتيانه، فتضمر معنى المجازاة، فدخلت الفاء من أجلها. فنقول الآن: إن قوله: " اللذين يأتيانك فاضربهما " يجوز فيه الرفع والنصب، فإن جعلت " اللذين " بمنزلة " زيد "، ولم تضمر مبتدأ ولا خبرا، كان الاختيار النصب، ولم تكن الفاء داخلة لجواب المجازاة، ولكنها دخلت كما دخلت في الأمر حين قلنا: " زيدا فاضرب " فيكون التقدير: اضرب اللذين يأتيانك فاضربهما، كما تقول: " زيدا فاضربه ". ويجوز الرفع من وجهين: أحدهما: أن تضمر مبتدأ وخبرا، وتجعل الفاء جوابا للجملة، كأنك قدرت: هذان اللذان يأتيانك، واللذان يأتيانك صاحباك فاضربهما. والوجه الثاني: ألا تقصد إلى اثنين بأعيانهما، وتجعل الضرب مستحقّا بالإتيان، فكل اثنين أتياه وجب ضربهما. كما قال تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما (¬1) فوجب الأذى على كل اثنين يأتيان الفاحشة، وعنى بالاثنين الذكر والأنثى، ولم يكن الحكم جاريا على اثنين بأعيانهما دون غيرهما، ويكون قوله " فاضربهما " خبرا، ودخلت الفاء للجواب لا للأمر. ولا يجوز سقوطها على هذا الوجه، ويجوز سقوطها في النصب؛ لأنك لم ترد هذا المعنى، وإن قصدت " باللذين " إلى اثنين بأعيانهما، لم يجز أن ترفع، وتدخل الفاء فتقول: " اللذان يأتيانك فاضربهما " وأنت تعني زيدا وعمرا، كما لم يجز أن تقول: " زيد فاضربه " ¬

_ (¬1) سورة النساء: 16.

إلا بإضمار مبتدأ وخبر على ما بيّنّا. قال وأما قول عدي بن زيد: أروّاح مودّع أم بكور … أنت فانظر لأيّ ذاك تصير (¬1) ويروى: " لك " فانظر لأيّ حال تصير " ولا شاهد فيه، وإنما جاء سيبويه بهذا البيت لقوله: " أنت فانظر "، وهو يشبه: " زيد فاضربه "، وقد قال: " زيد فاضربه " لا يجوز إلا على إضمار؛ بسبب دخول الفاء، وقد دخلت الفاء في قوله: " فانظر " فتأول ذلك على وجوه أراد بها تصحيح دخول الفاء، وأنها علي غير الوجه الذي أفسد دخولها فيه، وجملة تأوله ثلاثة أوجه، وعندي وجه رابع قريب التأويل. فأما الوجوه التي ذكرها سيبويه، فأن ترفع " أنت " بفعل مضمر يفسره الفعل المظهر الذي فيه ضميره، كأنك قلت: انظر أنت فانظر، كما تقول: " أزيد ضرب عمرا " و " أزيد ضرب غلامه عمرو "، فرفعت بفعل مضمر؛ إذ كان الظاهر فيه ضمير مرفوع. والوجه الثاني: أن تجعل " أنت " مبتدأ، وتضمر له خبرا، وتجعل الفاء جوابا للجملة كأنه قال: أنت الراحل، كما تقول: أنت الهالك، ثم تحذف فتقول: " أنت "؛ لدلالة الحال عليه، كما قال: " إذا ذكر إنسان لشيء قال الناس: أنت، وقد قال الناس زيد " وهذا في كلام الناس مشهور كثير، وهو كقولك لمن تخاطب إذا وصفته بالشجاعة: إذا ذكر الناس والشجاعة قال الناس: أنت، وإذا ذكر النحو قال الناس: الخليل، أي أنت شجاع، والخليل نحويّ. والوجه الثالث: أن تجعل " أنت " خبرا، كأنك قلت: نويت الراحل أنت، وجعلت في نيّتك المبتدأ، وقال سيبويه في هذا الوجه الثالث: " وهذا على قولك: شاهداك، أي ما يثبت لك شاهداك ". ومعنى هذا أن يتقدم رجلان إلى حاكم أو غيره فيدعي أحدهما على الآخر شيئا فينكره، فيقول الحاكم: " شاهديك " وإن شاء قال: " شاهداك " فإن قال شاهديك فمعناه أحضر شاهديك، أو هات شاهديك، وإن قال: " شاهداك " فمعناه الشيء الذي يثبت ¬

_ (¬1) الخزانة 1/ 183، الدرر 1/ 79، الهمع 1/ 110.

ويصح شاهداك؛ لأن الدعوى لا تثبت مجرّدة، وحقيقة هذا الكلام ما يثبت شاهده شاهديك، لأن معنى قولك: يثبت شاهداك أي تثبت شهادة شاهديك، ومنه قول الناس: " أثبت فلان في الديوان "، أي أثبت اسمه .. قال: (ولا يجوز أن تضمر هذا؛ لأن المتكلم لا يشير إلى نفسه، ولا يشار للمخاطب إلى نفسه). لا تقول: " وهذا أنت "، ولا " هذا أنا "، فلذلك لم تضمر هذا أنت فانظر " وقد قال سيبويه في غير هذا الموضع: (ها أنا ذا وها أنت ذا في معنى هذا أنا، وهذا أنت "، فهو يخالف الذي ذكره هاهنا في الظاهر وإذا صرنا إليه فسّرناه هناك إن شاء الله تعالى. وذكر قوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ (¬1) فخرجه على الوجهين: إضمار المبتدأ، وإضمار الخبر، فإضمار الابتداء كأنه قال: أمري طاعة، وإضمار الخبر قوله: " طاعة وقول معروف أمري "). والوجه الرابع الذي عندي: أن ترفع " أنت " بيكون؛ لأن المصادر تعمل عمل الأفعال، فكأنك قلت: أن تروح أنت أم تبكر أنت، كما قال تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً (¬2) على تقدير أو أن يطعم يتيما، فكذلك هذا " أم أن تبكر أنت ". وفيه وجه خامس: وهو أن تجعل البكور في معنى باكر، كما تقول: " زيد إقبال وإدبار " أي مقبل ومدبر. ويجوز فيه وجه سادس: وهو أن تحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه، كأنك قلت: أم صاحب بكور، حذفت الصاحب كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬3). وفي البيت: " أرواح مودّع "، والرواح لا يودّع، قال الأصمعي: يودّع فيه، كما قال ¬

_ (¬1) سورة محمد، آية: 21. (¬2) سورة البلد، آية: 14 - 15. (¬3) سورة يوسف، آية: 82.

تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً (¬1) أي يبصر فيه، وتحقيقه من جهة النحو: أرواح ذو توديع، فبني له من المصدر الذي يقع فيه اسم فاعل، وإن لم يكن جاريا على الفعل، كما قالوا: " رجل رامح وناشب " على معنى ذو رمح ونشّاب. قال أبو الحسن: تقول: " زيدا فاضرب " وبعده كلام قد أتينا عليه. قال سيبويه: (واعلم أن الدعاء بمنزلة الأمر والنهي، وإنما قيل دعاء؛ لأنه استعظم أن يقال أمر ونهي، وذلك قولك: اللهم زيدا فاغفر ذنبه، وزيدا فأصلح شأنه، وعمرا ليجزه الله خيرا. قال أبو الأسود الدؤلي: أميران كانا آخياني كلاهما … فلا جزاه الله عنّ بما فعل) (¬2) اعلم أن جمهور النحويين لا يسمون مسألة من هو فوقك أمرا وإنما يسمونها مسألة أو دعاء، وينكرون تسمية ذلك أمرا، وللأخفش بعينه احتجاج طويل، ورأيت بعض أهل النظر يسميه أمرا، ويزعم أن ذلك جائز في الكلام والشعر وأنشدنا فيه بيتا يروى لعمرو بن العاص، يخاطب فيه معاوية: أمرتك أمرا جازما فعصيتني … وكان من التوفيق فقدان هاشم (¬3) فزعم عمرو أنه أمر " معاوية "، ومعاوية فوقه، قيل له: يجوز أن يكون عمرو رأى نفسه من طريق المشورة، وحاجة معاوية إليه في رأيه أنه فوقه في هذا الباب، واحتج أيضا بقول الله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (¬4) وزعم أن الطاعة إنما تكون للآمر، وليس أحد في القيامة يسأل غير الله تعالى، وليس لهم في هذا حجة؛ لأن نفي الطاعة لا يدل على أن ثمّ آمرا لم يطع، وإنما المعنى أنهم لا يؤمرون، وأنه لا أمر فيطاع، كما قال: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (¬5)، وليس ثمّ شفاعة لهم، وإنما المعنى لا شفاعة لهم فتنفع، مثله قول أبي ذؤيب: ¬

_ (¬1) سورة يونس، آية: 67، النمل: 86. (¬2) الأغاني 12/ 318. (¬3) رغبة الآمل 3/ 113. (¬4) سورة غافر، آية: 18. (¬5) سورة المدثر، آية: 48.

متفلّق أنساؤها عن قاني … كالقرط صاو غبره لا يرضع (¬1) والغبر: بقيّة اللّبن، أي ليس بها لبن فترضع. والدعاء وإن كان لا يسمى أمرا على ما ذكرنا فسبيله سبيل الأمر في الإعراب من كل وجه، وهو أيضا في المعنى مثل الأمر، وذلك أن الداعي ملتمس من المدعو إيقاع ما يدعوه به، كما أن الآمر مريد من المأمور إيقاع ما يأمره به. ويدخل في الأمر: " أما زيدا فجدعا له "؛ لأنك تريد فجدعه الله، وإذا كان الدعاء بغير فعل لم ينصب الاسم الأول، وذلك قولك: " أما زيد فسلام عليه "، و " أما الكافر فلعنة الله عليه "؛ لأنه لم يظهر فعل فتجعله تفسيرا لما ينصب. قال: وأما قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬2) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما (¬3). فهذا عند سيبويه مبني على ما قبله، كأنه قال: ومما نقص عليكم السارق والسارقة، والزانية والزاني، فقد تم الكلام، ثم قال: فاجلدوا، فجعل الفاء جوابا للجملة. قال: ومثله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ (¬4). فمثل الجنة اسم مرفوع، وتمامه محذوف، كأنه قال: ومما نقصّ عليك مثل الجنة، فقد تم الكلام بهذا. ثم قال من بعد: فِيها أَنْهارٌ، بعد تمام الجملة الأولى كما قال تعالى: فَاجْلِدُوا بعد الجملة الأولى. قال: " وإنما وضع المثل للحديث الذي بعده ". يعني أنه لما قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ- وقد قلنا: إن التقدير فيه ومما نقصّ عليكم مثل ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية 38. (¬2) سورة المائدة، آية: 28. (¬3) سورة النور، آية: 2. (¬4) سورة محمد، آية: 15.

الجنة- توقع السامع الذي وعد بقصصه عليه فقال: فِيها أَنْهارٌ وتوقع أيضا حكم الزاني والزانية الذي وعد بقصصه وذكره، فقال: فَاجْلِدُوا. وقال الفراء وأبو العباس المبرد: إن الفاء دخلت للجزاء، وإنها خبر، والزانية ترتفع على الابتداء في قول أبي العباس، و " فاجلدوا " خبره، وعند الفراء الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يرتفعان بما عاد من ذكرهما، ودخلت الفاء؛ لأن الزانية والزاني، في معنى التي تزني والذي يزني، وقد ذكرت هذا في قوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما (¬1). قال سيبويه مستشهدا على ما قال: لمّا قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها (¬2) قال في الفرائض: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي (¬3) ثم جاء " فاجلدوا " فجاء بالفعل بعد أن مضى فيهما الرفع كما قال: وقائلة: خولان فانكح فتاتهم وقد مضى الكلام في هذا. قال: (وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء أو توصي). يعني أنك تقول: " زيد فأحسن إليه " إذا أردت: زيد فيمن أوصى به فأحسن إليه، فيكون بمنزلة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا وتكون الفاء جوابا للجملة. قال: (وقد قرأ أناس " والسارق والسارقة " و " الزانية والزاني " وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة) وهذه القراءة تروى عن عيسى بن عمر، وهو على: اجلدوا الزانية والزاني، كما ذكرنا في قولنا " زيدا فاضربه " وهو قوي في العربية ولكن القراءة سنّة منقولة. قال: (وإنما كان الوجه في الأمر والنهي النصب؛ لأن حد الكلام تقديم الفعل، وهو فيه أوجب؛ إذا كان ذلك يكون في ألف الاستفهام). ¬

_ (¬1) سور النساء، آية: 16. (¬2) سورة النور، آية: 1. (¬3) سورة النور، آية: 2.

يعني لما كان الاختيار في ألف الاستفهام نصب الاسم على ما شرطنا كان نصبه أولى في الأمر والنهي؛ لأنهما لا يكونان إلا بفعل، وقد ذكرنا هذا. قال: " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف؛ لأنها حروف تحدث قبل الفعل، ويصير معنى حديثهن إلى الجزاء، والجزاء لا يكون إلا خبرا، وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر، وهي غير واجبة كحروف الجزاء فأجريت مجراها، فالأمر ليس يحدث له حرف سوى الفعل، فيضارع حروف الجزاء، فيقبح حذف الفعل منه، كما يقبح حذف الفعل بعد حروف الجزاء ". قال: " وإنما قبح حذف الفعل وإضماره بعد حروف الاستفهام لمضارعتها حروف الجزاء، وإنما قلت: " زيدا اضربه " مشغولة بالهاء والمأمور لا بد له من أمر؛ لأن الأمر والنهي لا يكونان إلا بالفعل فلا يستغنى عن الإضمار إذا لم يظهر ". وأما قوله: " وقبح تقديم الاسم في سائر الحروف ". يعني سائر حروف الاستفهام سوى الألف، كقولك: " أين زيدا ضربته " و " أين زيدا ضربت "؛ لأن الوجه تقديم الفعل حتى يكون هو الذي يليها، كقولها: " أين ضربت زيدا " وقد ذكرنا هذا فاحتج بأن قال: " إنها حروف تحدث قبل الفعل ". يعني حروف الاستفهام " ويصير معنى حديثهن إلى الجزاء ". يعني أن حروف الاستفهام في المعنى إلى حروف الجزاء، ومصيرها إلى الجزاء أنها غير واجبة، كما أن حروف الجزاء غير واجبة وأراد بالجزاء هاهنا حروف شرط الجزاء؛ لأن قولك: " أين تقوم " غير واجب، و " هل زيد قائم " ليس بواجب كما أنك تقول: " أين يقوم زيد فأكرمه " فقيام زيد ليس بواجب. وقوله: " والجزاء لا يكون إلا خبرا ". يعني جواب الشرط إذا قلت: " إن تأتني أكرمك "؛ لأنه يصح أن يقال: صدق أو كذب. وقوله: " وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر ". يعني يكون في حروف الاستفهام مثل جواب الشرط كقولك: أين زيد أكرمه؟

فقد يصح له في هذا أيضا صدق أو كذب، وإنما أراد سيبويه التسوية بين حروف الجزاء وحروف الاستفهام، وأرى أنها حروف بالفعل أولى، وأن وليّ الأسماء إياها قبيح، إلا في الألف وأن يفرق بينهما وبين الأمر، وذلك أن الأمر لا يقبح تقديم الاسم فيه إذا قلت: " زيدا اضربه "؛ لأنه ليس قبله حرف هو بالفعل أولى، فيحتاج إلى إيلائه الاسم فاعرفه إن شاء الله تعالى.

هذا باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي

بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي وهى حروف النفي شبهوها بألف الاستفهام، حيث قدم الاسم قبل الفعل؛ لأنهن غير واجبات، كما أن الألف وحروف الجزاء غير واجبة وكما أن الأمر والنهي غير واجبين، وسهل تقديم الاسم فيها لأنها نفي واجب، وليست كحروف الاستفهام والجزاء. قال أبو سعيد وقد قدمنا أن قولك: " زيد ضربته " أجود من " زيدا ضربته " وقولك: " أزيدا ضربته " في الاستفهام أجود من قولك: " أزيد ضربته "، وقد توسطت هذين البابين حروف يتقارب النصب فيها والرفع، وهي " ما " و " لا "، تقول: " ما زيدا ضربته " و " ما زيد ضربته " و " لا زيدا كلمته ولا عمرا أكرمته، وإن شئت قلت: " لا زيد كلمته " " ولا عمرو أكرمته ". وإنما تقارب النصب فيها والرفع، لأنها تشبه حروف الاستفهام من جهة، وتشبه المبتدأ من جهة. فأما شبهها بحروف الاستفهام؛ فلأنها حروف دخلت على المبتدأ فأخرجته من حد الإيجاب إلى حد النفي، كما أن حروف الاستفهام أخرجت ما دخلت عليه من الإيجاب إلى الاستفهام. وأما شبهها بالمبتدأ فلأنها نقيضة المبتدأ، ونفي له، والنفي يجري مجرى الإيجاب، ألا ترى أنك إذا قلت: " قام زيد "، فنفي هذا أن تقول: " ما قام زيد "، تردّ الكلام على لفظه وتدخل حرف النفي. وأنشد أبياتا بالنصب منها قول جرير:

ولا حسبا فخرت به لتيم … ولا جدا إذا ازدحم الجدود (¬1) أراد فلا ذكرت حسبا فخرت به، وقد يجوز أن تكون " لا " للنفي ونوّن الحسب اضطرارا، وقد كان يونس يذهب إليه. قال: " وإن شئت رفعت، والرفع فيه أقوى؛ إذ كان في ألف الاستفهام؛ لأنهن نفي واجب ". يعني لما جاز أن يكون الرفع في الاستفهام، وإن كان الاختيار النصب كان الرفع في حروف النفي أقوى؛ لأنها لم تبلغ أن تكون في القوة مثل حروف الاستفهام والجزاء؛ لشبه المبتدأ الذي ذكرناه. قال: (فإن جعلت " ما " بمنزلة " ليس " في لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع؛ لأنك تجيء بالفعل بعد ما عمل فيه ما هو بمنزلة فعل يرفع، كأنك قلت: ليس زيد ضربته). يعني أن أهل الحجاز يرفعون الاسم ب " ما "، ويجعلونها بمنزلة " ليس " فإذا قلت: " ما زيد ضربته "، فالرفع لا غير في " زيد " على قولهم؛ لأنهم جعلوها عاملة في " زيد " فغير جائز أن تضمر فعلا آخر ينصب زيدا، وقد رفعته ب " ما " وذكرت " ضربته " بعد ما عملت " ما " في " زيد "، فكأنك قلت: " كان زيد ضربته " و " ليس زيد ضربته ". قال: (وقد أنشد بعضهم هذا البيت رفعا: وقالوا تعرّفها المنازل من منى وما كلّ من وافى منى أنا عارف) (¬2) كأنما قال: اطلبها في المنازل. قال: (فإن شئت حملته على " ليس "). يعني إن شئت جعلت " كلّ " مرفوعا بما، وجعلت " أنا عارف " في موضع الخبر، وأضمرت في عارف " ها " تعود إلى " كلّ " كأنك قلت: أنا عارفه، وهذا على لغة أهل الحجاز. قال: (وإن شئت حملته على " كلّه لم أصنع " وهذا أبعد الوجهين). ¬

_ (¬1) الخزانة 1/ 477، ديوان جرير 165. (¬2) البيت لمزاحم العقيلي، انظر شرح شواهد المغني 328.

يعني: وإن شئت رفعت كلا بالابتداء، وجعلت الجملة في موضع الخبر، وأضمرت الهاء في " عارف " على لغة بني تميم كما قلت: " كلّه لم أصنع " فرفعت " كلّ " بالابتداء، وأضمرت في " أصنع " هاء تعود إلى " كلّ "، ومعنى قوله: " وهذا أبعد الوجهين ". يعنى: رفع كل بالابتداء أبعد الوجهين؛ وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل " ما "؛ فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل " عارف " في " كل "، فإذا لم يعمل فقد قبح؛ إذ قد وجد السبيل إلى الكلام المختار، ولا ضرورة تدعو إلى غيره، ومن رفع " كلّ " " بما " فهو لا يجد السبيل إلى إعمال " عارف " في " كل " إلا بحذف " ما "، وحذفها يغير المعنى. قال: (وقد زعم بعضهم أنّ " ليس " تجعل ك " ما " وذلك قليل لا يكاد يعرف، فهذا يجوز أن يكون منه: " ليس خلق الله مثله " و " ليس قالها زيد "). يعني أن بعضهم يجعل " ليس " محمولة على " ما " فيلغي عملها، ولا يجوز أن يكون الذي يفعل هذا من العرب، إلا من كانت من لغته في " ما " إلغاؤها، فتحمل " ليس " على " ما "، وتجعلها حرفا لا تعمل في اللفظ شيئا، كما لم تعمل " ما "، وليس على هذه اللغة دليل قاطع، ولا حجّة تقطع العذر؛ لأن كل ما يستشهد به يحتمل التأويل؛ لأنه إذا احتجّ محتج بقولهم: " ليس خلق الله مثله " فقال: " خلق " فعل، ولو كانت " ليس " فعلا لما وليها الفعل، فللقائل أن يقول في: " ليس " ضمير الأمر والشأن و " خلق " وما بعده جملة في موضع الخبر؛ فلذلك قال سيبويه: " فهذا يجوز أن يكون منه " لهذا المعنى الذي ذكرناه. وقد احتجوا بشيء آخر- وهو أقوى من الأول- وهو قول بعض العرب: " ليس الطيب إلا المسك " فقالوا: هذا بمنزلة: ما الطيب إلا المسك، قالوا: ولو كان في " ليس " ضمير الأمر والشأن، لكانت الجملة التي في موضع الخبر قائمة بنفسها، وفي موضع خبرها، ونحن لا نقول: " الطيب إلا المسك " بغير تقديم حرف النفي، وليس الأمر على ما ظنوا؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي فقد لحقها في المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت: " ما زيد أبوه قائم " فقد نفيت قيام أبيه كما لو قلت: " ما أبو زيد قائم " وعلى هذا يجوز أن تقول: " ما زيد أبوه إلا قائم "، كأنك قلت: " ما أبو زيد إلا قائم ".

وأنشد لحميد الأرقط، على لغة من يجعل " ليس " بمعنى " ما ": فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم … وليس كلّ النوى يلقي المساكين (¬1) فنصب " كلّ " بيلقي، وجعل " ليس " بمعنى " ما "، كأنه قال: ما يلقي، وبقول هشام أخي ذي الرمة: هي الشفاء لدائي إن ظفرت بها … وليس منها شفاء الداء مبذول (¬2) على قولك: ما منها شفاء الداء مبذول. قال: (هذا كله سمع من العرب، والوجه والحد فيه أن تحمله على أن في " ليس " إضمارا، وهذا مبتدأ كقوله: " " إنه أمة الله ذاهبة "). يعني ضمير الأمر. قال: (إلا أن بعضهم قال " ليس الطيب إلا المسك " و " ما كان الطيب إلا المسك "). وكان هذا عنده أقوى من الحجة الأولى؛ وذلك أن الذين رفعوا المسك في " ليس " هم الذين نصبوه في " كان " فأشبه أن يكون لفرق بين ليس وكان، والوجه هو الذي ذكرناه، ولو جعل في " كان " ضمير الأمر والشأن لرفع المسك أيضا. قال: (فإن قلت: " ما أنا زيد لقيته " رفعت إلا في قول من نصب " زيدا لقيته "؛ لأنك شغلت الفعل بضميره). يعني أنك إذا قلت: " ما أنا زيد لقيته " فالذي ولى حرف النفي غير زيد، ففصل بين " زيد " وبين حرف النفي، فصار " زيد " بمحله في الابتداء، وكان الاختيار فيه الرفع، وهذا يشبه قولك: " أنت زيد ضربته " لما فصلت بين ألف الاستفهام وبين " زيد " وقد مضى الكلام في هذا. قال: (وهو فيه أقوى لأنه عامل في الاسم). يعني الرفع في: " ما أنا زيد ضربته " أقوى منه في: " أنت زيد ضربته " لأن " ما " عاملة ¬

_ (¬1) العيني 2/ 82 - الخزانة 4/ 58 - آمالي ابن الشجري 2/ 203. (¬2) انظر شواهد المغني 240، الدرر 1/ 80، المقتضب 4/ 101.

في الاسم الذي بعدها، يعني في لغة أهل الحجاز فلما كانت عاملة في الاسم الذي بعدها، وألف الاستفهام غير عاملة كان الرفع أقوى في " ما ". قال: (وأما ألف الاستفهام وما في لغة بني تميم يفصلن ولا يعملن، فإذا اجتمع أنك تفصل وتعمل الحرف فهو أقوى). يعني أن " ما " وألف الاستفهام في لغة بني تميم يفصلن عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره باسم آخر، كقولك: " أأنت زيد ضربته " و " ما أنا زيد لقيته "، فصلت الألف و " ما " عن زيد بدخول " أنا " و " أنت " بينهما، وهما لا يعملان في الاسم الذي يليها فمجراهما واحد. فإذا جئت إلى لغة أهل الحجاز في " ما " فصلت بينها وبين الاسم الذي وقع الفعل على ضميره وأعملتها في الاسم الذي يليها، فبعد النصب عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره؛ لبعدها منه لمّا اجتمع الفصل بينها وبينه، وعملها فيما وليها، ويجوز " ما أنا زيدا لقيته " على قول من قال في الابتداء: " زيدا لقيته "، والاختيار الرفع. واعلم أن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم متقدم، أو في محل بعينه كان سبيلها كسبيلها إذا وقعت مبتدأة، ويختار فيها ما يختار في الابتداء. وكونها خبرا في أربعة أشياء. وهي: خبر المبتدأ، وخبر كان وأخواتها، وخبر إن وأخواتها، والمفعول الثاني في " ظننت " وأخواتها، تقول: " زيد أبوه ضربته " و " كنت زيد ضربته " و " إني عمرو كلمته " و " حسبتني أخوك رأيته "، وإنما صار الاختيار الرفع في هذه الأشياء؛ لأنك جئت بهذه الجمل، وهي كلام قائم بنفسه، فوضعته في موضع خبره، فينبغي أن تعطي الكلام حقه وإعرابه، ثم توقعه في هذا الموقع، ويجوز نصبه بما جاز في الابتداء. وأما قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (¬1) فإنه على قول من يقول: " زيدا ضربته ". فإن قال قائل: فأنتم تزعمون أن قول القائل: " إني زيد كلمته " الاختيار فيه الرفع؛ ¬

_ (¬1) سورة القمر، آية: 49.

لأنه جملة في موضع الخبر، فلم اختير النصب في: " إنا كلّ شيء خلقناه " وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ فالجواب أن في النصب هاهنا دلالة على معنى لا يوجد ذلك المعنى في حالة الرفع؛ وذلك أنك إذا قلت: " إنا كلّ شيء خلقناه بقدر "، فتقديره: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، فهو يوجب العموم؛ لأنه إذا قال: إنا خلقنا كلّ شيء فقد عمّ، وإذا رفع فقال: كلّ شيء خلقناه بقدر، فليس فيه عموم؛ لأنه يجوز أن نجعل " خلقناه " نعتا لشيء، ويكون " بقدر " خبرا لكل، ولا تكون فيه دلالة لفظه على خلق الأشياء كلها، بل تكون فيه دلالة على أن ما خلق منها خلقه بقدر، ومثل هذا في الكلام " كلّ نحوي أكرمته في الدار " فقد أوجبت أنه ما بقي أحد من النحويين إلا وقد أكرمته؛ لأن تقديره: أكرمت كلّ نحوي أكرمته في الدار، وإذا قلت: " كلّ نحوي أكرمته في الدار "، وجعلت " أكرمته " نعتا لنحوي، فمعناه كل من أكرمته من النحويين فهو حاصل في الدار، ويجوز أن يكون في النحويين من لم تكرمه في الدار. قال: وقد قرأ بعضهم: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬1). والاختيار الرفع وهو الأكثر في القراءة، ونصبه على إضمار فعل، كأنه قال: وأما ثمود فهدينا فهديناهم يعني قراءة من قرأ: إنا كلّ شيء خلقناه، وإن كان الاختيار الرفع لقراءة من قرأ " وأما ثمود فهديناهم " والاختيار الرفع لأن " أمّا " من حروف الابتداء، وقد بينا ما في ذلك. قال: (وتقول: " كنت عبد لله لقيته " لأنه ليس من الحروف التي ينصب ما بعدها كحروف الاستفهام وحروف الجزاء وما شبه بها). يعني " كنت " ليس مثل هذه الحروف التي يختار النصب فيما بعدها كحروف الاستفهام، وحروف الجزاء، وما شبه بها من الأمر، وحروف النفي، وليس بفعل ذكرته ليعمل في شيء فينصبه أو يرفعه، ثم تضم إلى الكلام الأول الاسم، يعني أن " كنت " ليست بجملة مبنية على فعل عطفت عليها جملة أخرى كقولك: " ضربت زيدا وعمرا كلمته "، فوجب أن يكون الاختيار الرفع فيما كان في موضع الخبر على ما وصفنا. وتكلم بكلام طويل لم يخرج عن الجملة التي عندنا، فأرى أن الجملة التي تقع في ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 17.

هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم

موضع الخبر لا تشبه الجملة المعطوفة، وكان فيما ذكر أن الجملة التي تقع في موضع الخبر قد حالت بين الأول وبين مفعوله أن تنصبه، فكيف يختار فيه النصب وقد حال بينه وبين مفعوله. يعني أنك إذا قلت: " كنت زيد ضربته " فقد وقع " زيد ضربته " في موضع مفعول " كنت " كأنك قلت: " كنت قائما "، فإذا كانت الجملة قد منعت كنت المنصوب وحلت في محله، لم تشبه الجملة المعطوفة وهي " ضربت زيدا وعمرا كلمته "؛ لأن الأول قد نصب مفعوله، وعطف الثاني عليه، فأجري مجراه في تسلطه على مفعوله. قال: (ومثله " قد علمت لعبد الله تضربه "، فدخول اللام يدلّك على أنه إنما أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء). يعني أن اللام منعت من أن يكون " عبد الله " مفعولا لعلمت فارتفع كما يرتفع في الابتداء، وكذلك وقوع هذه الجملة في موضع خبر كان قد منع كان من التسلط عليها، ونصبها لها كما تنصب خبرها فصارت كالمبتدأ، وليس ذلك بمنزلة حروف العطف. قال: (وترك الواو في الأول هو كدخول اللام هنا). يعني ترك الواو في " كنت زيد ضربته " حين جعلته خبرا، ولم تجعله عطفا كدخول اللام في: " قد علمت لعبد الله تضربه ". قال: (فإن شاء نصب كما قال الشاعر، وهو المرّار الأسديّ: فلو أنها إياك عضّتك مثلها … جررت على ما شئت نحرا وكلكلا) وهذا البيت على قول من قال: " إني زيدا ضربته "، وأنت إذا قلت: " إني زيدا ضربته " ثم خاطبت زيدا لقلت: " إني إياك ضربتك " فيكون " إياك " بمنزلة " زيد "، والكاف بمنزلة الهاء، والتقدير: لو أنها إياك عضت مثلها عضتك مثلها، وإذا قلت: " إني زيد ضربته " ثم خاطبت زيدا قلت: " إني أنا ضربتك ". هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر فيعمل فيه كما عمل في الأول. وذلك قولك: " رأيت قومك أكثرهم " و " رأيت قومك ثلثيهم " و " رأيت بني عمك ناسا منهم "، و " رأيت عبد الله شخصه " و " صرفت وجوهها أولها ". قال أبو سعيد اعلم أن البدل إنما يجيء في الكلام على أن يكون مكان المبدل منه

كأنه لم يذكر، والنحويون يقولون: إن التقدير فيه تنحية الأول- وهو المبدل منه- ووضع البدل مكانه وليس تقديرهم تنحية الأول على معنى الإلغاء له، وإزالة الفائدة به ولكن على أن البدل قائم بنفسه، غير مبين للمبدل منه تبيين النعت للمنعوت الذي هو تمام للمنعوت، والدليل على أن المبدل منه لا يلغي أنك تقول: " زيد رأيت أباه عمرا " وتجعل " عمرا " بدلا من " أباه "، فلو كان في تقدير اللغو لكان الكلام زيد رأيت عمرا، وهذا فاسد محال؛ فقد صح أن البدل غير منحّ للأول حتى يكون بمعنى الملغى. فإن قال قائل: فلأي شيء دخل؟ قيل له: قد يكون للشيء الواحد أسماء من معان يشتق له منها تلك الأسماء فيجوز أن يشتهر ببعض الأسماء عند قوم، وببعض أسمائه عند آخرين، فإذا جمع الاسمين جميعا على طريق بدل أحدهما من الآخر، فقد بينه بغاية البيان، وذلك أنه إذا قال: " زيد رأيت أباه عمرا " فقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف أبا زيد ولا يعلم أنه عمرو، وقد يجوز أن يكون عارفا بعمرو، ولا يعرف أبا زيد من هو، فإذا أتى بالأمر جميعا عرفه من وجه آخر. وإذا قال: " رأيت زيدا رجلا صالحا " يجوز أن يكون غرضه أن يبين للناس مروره برجل صالح، ويبين أيضا أنه زيد، وليس كل من عرف أنه زيد عرف أنه رجل صالح، فأتى بالعلم الذي يعرف به، وبالمذهب الذي هو عليه؛ ليجتمع له بذلك غرضه، فهذا هو القصد في البدل. وهو يشتمل على أربعة أوجه: فالوجه الأول: بدل الشيء من الشيء، وهو هو، كقولك: " مررت بزيد رجل صالح "، و " مررت برجل صالح زيد ". والوجه الثاني: بدل الشيء من الشيء وهو بعضه، كقولك " رأيت زيدا وجهه " و " أتاني بنو تميم أكثرهم ". وبدل الشيء من الشيء وهو مشتمل عليه، كقولك: " سلب زيد ثوبه "، و " أعجبني زيد حسنه "، والمشتمل على الشيء هو الذي تصح العبارة عنه بلفظه عن ذلك الشيء، وذلك أنك إذا قلت: " سلب زيد " فقد يجوز أن يكون ذلك وأنت تعني الثوب، وإذا قلت: " أعجبني زيد " فإنما تعني كلامه أو حسنه، أو ما أشبه ذلك من أفعاله وهيئاته، أو ما يتعلق به؛ ولا يجوز أن تقول: " ضربت زيدا عبده "؛ وذلك أنك لا تقول: " ضربت زيدا "

وأنت تريد عبده؛ لأنه لا يعبر بزيد عن عبده، فلفظ " زيد " ليس يشتمل على العبد. وبدل المعرفة من النكرة، والنكرة من المعرفة، والمضمر من المظهر، والمظهر من المضمر، في هذه الأبواب سواء، وليست كالنعت؛ لأن النعت تمام المنعوت، وتجلية له، والبدل منقطع من المبدل منه على ما ذكرنا، فلم تكن حال توجب استواءهما في التعريف والتنكير. والوجه الرابع: بدل الغلط، ولا يجوز أن يقع في شعر ولا قرآن ولا كلام معمول محكّك وإنما يجيء في الكلام الذي يبتدؤه الإنسان على جهة سبق اللسان إلى الشيء الذي لا يريده، فيلغيه، حتى كأنه لم يذكره بلفظ مما يريده، كقولك: " رأيت زيدا " وأنت تريد عمرا فتلغي زيدا، وتذكر عمرا فتقول: رأيت زيدا عمرا، وتكون مريدا لزيد، فيبدو لك، إما لأنك تبينت أن الفعل لم يقع بعد بزيد، وأنه كان واقعا بعمرو، وإما لأنك أردت الإضراب عن نسبة ذلك الفعل إلى زيد، وإنما يقع في بديه الكلام. والعامل في البدل في ذلك كله هو العامل في المبدل منه؛ لتعلقهما به من طريق واحد. قال سيبويه على إثر ما ذكره من البدل: (فهذا يجيء على وجهين: على أنه أراد رأيت أكثر قومك ورأيت ثلثي قومك، وصرفت وجوه أولها، ولكنه ثنّى الاسم توكيدا كما قال الله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (¬1). فهذا أحد الوجهين، والمعنى في ذلك أنه حين قال: " رأيت قومك " كان غرضه رأيت ثلثي قومك؛ لأنه قد يجوز أن تعبّر باللفظ العام وأنت تريد البعض، كما قد يقول القائل: " شغب الجند " وإنما تريد بعضهم، و " ضج أهل بغداد "، وعسى ألا يكون ضج منهم إلا نفر، فإذا أراد باللفظ الأول العام البعض ثم أتى بذلك البعض فكرره بلفظ آخر فقد أكّد، كما أكّد في قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، وكما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ (¬2)، ف " قتال فيه " بدل وهو تأكيد على هذا الوجه الذي ذكرناه، لأنه أراد بقوله: " الشهر الحرام " القتال، ثم أعاد القتال توكيدا قال ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: 30. (¬2) سورة البقرة، آية: 217.

الشاعر: وذكرت تقتد برد مائها … وعتك البول على أنسائها (¬1) فأبدل " برد مائها " من " تقتد "، و " تقتد " موضع، و " برد مائها " بدل الاشتمال، وأنشده سيبويه للتأكيد الذي ذكره في البدل و " وعتك البول " يعني قدمه وصفرته، يقال: قوس عاتكة إذا اصفرت من القدم، والمعنى أن هذه الناقة ذكرت برد ماء هذا الموضع، وهذه حالها لطول السفر، ويروى " وعبك البول على أذنابها "، وهو تركده وتراكبه عليه، ويجوز " عتك البول " على معنى وقد عتك البول. قال: (وقد يكون هذا البيت على الوجه الآخر الذي أذكره لك). يعني من الوجهين اللذين ذكرنا أحدهما أنه على سبيل التأكيد. قال: (وهو أن يتكلم فيقول رأيت قومك، ثم يبدو له أن يبين ما الذي رأى منهم، فيقول: " ثلثيهم " أو " ناسا منهم "). وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين، وهو أن يقول: " رأيت قومك "، وقصده إلى جميعهم، ثم بدا له في ذلك، وامتنع أن يخبر عن جميعهم، فعدل إلى الإخبار عن البعض، فهذا لم يكن في أول كلامه قاصدا إلى ذكر البدل، وإنما بدا له ذلك بعد ما مضى صدر كلامه على الوجه الذي لفظ، والذي قبل هذا لم يبد له شيء لم يرد أن يتكلم به من بعد. قال: (ولا يجوز أن تقول: " رأيت زيدا أباه "، والأب غير زيد؛ لأنك لا تبيّنه بغيره، ولا بشيء ليس منه). وقد بينا ذلك. قال: (وإنما يجوز " رأيت زيدا أباه " و " رأيت زيدا عمرا " أن يكون أراد أن يقول: رأيت عمرا ورأيت أبا زيد، فغلظ أو نسي، ثم استدرك كلامه). قال: (ومن هذا الباب " بعت متاعك أسفله قبل أعلاه " واشتريت متاعك أسفله أسرع من اشترائي أعلاه، واشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض، وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كبارها، وضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا). قال أبو سعيد فهذا كله على البدل، والمنصوب الثالث على الحال. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 75 (بولاق)، 1/ 151 هارون.

قال سيبويه: (فهذا لا يكون فيه إلا النصب، لأن ما ذكرت بعده ليس مبنيّا على الاسم فيكون الاسم مبتدأ وإنما هو من نعت الفعل، زعمت أن بيعك أسفله كان قبل بيعك أعلاه، وأن الشراء كان في بعض أعجل من بعض، وسقيه الصغار كان أحسن من سقيه الكبار ولم تجعله خبرا لما قبله). يعني أنك لا تقول: " اشتريت متاعك بعضه أعجل من بعض "، فتجعله ابتداء وخبرا في موضع الحال من " متاعك "؛ لأنك لم ترد اشتريت متاعك وبعضه أعجل من بعض؛ لأنه لا فائدة فيه، ولم ترد سقيت إبلك وصغارها أحسن من كبارها، كما تقول " ضربت زيدا أبوه قائم " على معنى ضربت زيدا وأبوه قائم، وإنما المعنى اشتريت بعض متاعك أعجل من بعض، فلما قدمت المتاع جعلت البعض بدلا منه، وأدخلته في عمل الفعل، وذلك معنى قوله: " وإنما هو من نعت الفعل ". قال: (ومن ذلك " مررت بمتاعك " بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا، فهذا لا يكون مرفوعا؛ لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا للمرور ولم تجعله مبنيّا على مبتدأ، ولم يجز ابتداء بعضه، ولا تسند إليه شيئا). يعني أنك لا تقول: " مررت بمتاعك بعضه مرفوعا " فترفع البعض، وتنصب مرفوعا؛ لأنك إذا رفعته فقد جعلته مبتدأ ولا خبر له، ففسد لذلك، ولو قلت: " بعضه مرفوع وبعضه مطروح " جاز، وتكون الجملة في موضع الحال، كما تقول: " مررت بقومك بعضهم قائم وبعضهم قاعد "، أي هذه حالهم. ومعنى قوله: " لأنك جعلت النعت على المرور فجعلته حالا ". يعني أنك جعلت " مرفوعا " و " مطروحا " حالا محمولا على المرور؛ إذ كان العامل فيه، وسمّي مرفوعا ومطروحا نعتا وليس بجار على منعوت؛ لأنه سمي النعت كل ما كان فيه تمييز شيء من شيء، لو لم يكن ذلك النعت لجاز وقوعه عليه وعلى غيره، فمن ذلك " مررت برجل ظريف " و " ظريف " نعت لرجل، وقد كان " رجل " قبل ورود " ظريف " يصلح أن يكون لظريف وغيره. وإذا قلت: " مررت بمتاعك " صلح أن يكون مرفوعا، وصلح ألا يكون مرفوعا، فصار " مرفوع " نعتا له من طريق التمييز بين أحواله التي تتوهم، وعلى ذلك سمي قائما وقاعدا في قولك: " ضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا " من نعت الفعل لأنك إذا

قلت: " ضربت الناس " جاز أن يكون مستوعبا لكلهم، وجاز أن يكون لبعضهم، فصار ذكر البعض كالتحلية للضرب والتمييز بين أحواله. قال: (ومن هذا الباب " ألزمت الناس بعضهم بعضا " و " خوّفت الناس ضعيفهم وقويّهم "). فالوجه في ذا نصب الثاني على البدل!!؛ وذلك أنّ " ألزمت " و " خوفت " فعلان منقولان من لزم وخاف، وكان الأصل لزم الناس بعضهم بعضا، وخاف الناس ضعيفهم قويّهم على البدل، فلما أدخلت الألف في " لزم " وشدّدت عين الفعل من " خاف " جئت بفاعل آخر، فصيرت الفاعل الأول مفعولا، وأبدلت منه في حال النصب ما أبدلت منه في حال الرفع. قال: (وعلى ذلك " دفعت الناس بعضهم ببعض " على قولك: دفع الناس بعضهم بعضا، ودخول الباء هاهنا بمنزلة قولك " ألزمت " كأنك قلت في التمثيل " أدفعت " كما أنك تقول: " ذهبت به من عندنا، وأذهبته من عندنا " وأخرجته معك وخرجت به معك). قال أبو سعيد: اعلم أن الباء قد تقوم في نقل الفعل مقام الألف، وتشديد عين الفعل، تقول: " قام زيد " فإذا نقلته قلت: " أقمت زيدا " فنقلته بالألف وتقول: " قمت بزيد " على معنى أقمت زيدا، فقامت الباء مقام الألف، وتقول: " عرف زيد عمرا " فإذا نقلت قلت: " عرّفت زيدا عمرا " فالنقل بهذه الثلاثة الأشياء. وربما استعمل في شيء بعضها دون بعض، فمن ذلك " دنا زيد " ثم تقول: أدنيت زيدا، ولا يقال: دنّيته، وتقول: " عرّفت زيدا عمرا " ولا تقول: أعرفت، وتقول: دفع زيد عمرا فإذا نقلته أدخلت الباء فقلت: " دفّعت زيدا بعمرو " ولا تقول: " دفعّت زيدا عمرا " فهذا كله على نحو ما استعملته العرب في النقل، والأكثر في كلامهم النقل بالهمزة، وإنما ينقل من الأفعال ما كان ثلاثيّا، وليس كل فعل ثلاثي ينقل؛ لأنك إذا قلت: " ظننت زيدا منطلقا، فأكثر البصريين لا يجيزون من طريق القياس " أظننت زيدا بكرا منطلقا "، وكان الأخفش يجيزه. ومعنى قولنا: " نقل الفعل على الجملة " هو أن تجعل الفاعل مفعولا، وكان أبو العباس يفرق بين " ذهبت به " " وأذهبته " فيقول: " ذهبت به " إذا ذهب وأنت معه،

" وأذهبته " إذا نحيته وأزلته، ويجوز أن تكون معه، ويجوز ألا تكون معه، وقد ردّ عليه ذلك بقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ (¬1) على معنى أزاله لا غيره؛ لأن الله لا يجوز عليه التغير، وقال امرؤ القيس: كما زلّت الصفواء بالمتنزل (¬2) على معنى أزلّته ولم تزلّ الصفواء. قال ومن ذلك أيضا البدل مما هو منقول: (ميّزت متاعك بعضه من بعض وأوصلت القوم بعضهم إلى بعض). لأنك تقول: وصل القوم بعضهم إلى بعض فأما " ميزت " فالأصل الذي وقع منه النقل ماز متاعك بعضه من بعض، غير أنه لا يستعمل " ماز " الذي نقل عنه " ميّزت "، وإنما يستعمل " ماز " الذي في معنى " ميّزت " متعديا، كما قال الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (¬3) في معنى ليميّز. قال: (ومثل ذلك " صككت الحجرين أحدهما بالآخر " على أنه منقول من اصطك الحجران أحدهما بالآخر). يعني إذا قلت: اصطك الحجران أحدهما بالآخر، " فأحدهما " بدل من " الحجران ". قال أبو سعيد: اعلم أن من الأفعال فعل المطاوعة، وهو ضد النقل، وذلك أن النقل يصير الفاعل فيه مفعولا ويؤتى بفاعل آخر على ما وصفنا، وفعل المطاوعة يحذف منه الفاعل، ويصير المفعول فاعلا، فهما في الطرفين، تقول: " كسرت القلم " و " انكسر القلم " و " شققت الثوب " و " انشق الثوب " فحذفت الفاعل وجعلت المفعول فاعلا. وعلى هذا تقول: " صككت الحجرين أحدهما بالآخر "، وفعل المطاوعة من ذلك: اصطك الحجران أحدهما بالآخر؛ لأنك جعلت المفعول فاعلا فمنزلة فعل المطاوعة من الفعل الأصلي كمنزلة الفعل الأصلي من فعل النقل؛ لأنك إذا رددت فعل المطاوعة إلى الأصل صيرت الفاعل مفعولا، وجئت بفاعل آخر، فجعل سيبويه " صككت الحجرين ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 20. (¬2) ديوان امرئ القيس 1/ 59، شرح القصائد السبع للأنباري 84. (¬3) سورة الأنفال، آية: 37.

أحدهما بالآخر " مفعولا من " اصطك الحجران " كما جعل " ألزمت الناس بعضهم بعضا " مفعولا من " لزم " وهذا على العكس؛ لأن " ألزمت " هو فرع على " لزم "، وصككت هو أصل لاصطك، ولكنهما قد اشتركا بجعل الفاعل في " لزم " وفي " اصطك " مفعولا في " ألزمت " و " صككت ". قال سيبويه: (وهذا ما يجري فيه مجرورا كما يجري منصوبا، وذلك قولك: عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض). قال أبو سعيد: يعني أن المصادر تجري في هذا الباب مجرى أفعالها كما جرت في غير هذا الباب، أضيفت أو لم تضف؛ فإذا أضيفت انجرّ ما بعدها بالإضافة، وإذا لم تضف جرى ما بعدها على الفعل كما بينا فيما قبل، فقولك: " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض " تقديره إذا ردّ إلى الفعل: عجبت من أن دفعت الناس بعضهم ببعض. وهذا معنى قوله: " إذا جعلت الناس مفعولين، والفاعل في النية وكذلك " عجبت من إذهاب الناس بعضهم بعضا ". وتقديره: من أن أذهب الناس بعضهم بعضا، فالمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، وقد أضيف في المسألة الأولى إلى المفعول، وفي الثانية إلى الفاعل، وجرّا جميعا، ويجري هذا المجرور على مجراه، إذا نوّن المصدر، أو ردّ إلى الفعل في تعدّيه بحرف وبغير حرف. قال سيبويه: (وتقول: سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض جرى على قولك: وقعت أنيابه بعضها فوق بعض). فالمصدر مضاف إلى الفاعل. قال: (وتقول: عجبت من إيقاع أنيابه بعضها فوق بعض). فيكون المصدر مضافا إلى ما أقيم مقام الفاعل، وفيه عندي وجه آخر وهو أن تقدر مقام " الأنياب " تقدير مفعول، فيكون: عجبت من أن أوقعت أنيابه بعضها فوق بعض، فإذا رددته إلى المصدر، أضفت " إيقاع " إلى " الأنياب "، وهي في موضع نصب، فيكون التقدير: من إيقاع أنت أنيابه بعضها فوق بعض، والفاعل منوي، والبعض في هذه المسائل كلها بدل ما قبله. ثم قال: (هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب، واختيار النصب،

واختيار الرفع). يريد أن المنصوب بالفعل، والمرفوع به يتفقان في الجر إذا أضفت المصدر إليهما، وبيّن بتقديره ما الاختيار فيه النصب وما الاختيار فيه الرفع. فالذي الاختيار فيه النصب قولك: " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض ". على تقدير: أن دفعت الناس بعضهم ببعض، والذي الاختيار فيه الرفع " سمعت وقع أنيابه بعضها فوق بعض "، على معنى: أن وقعت أنيابه بعضها فوق بعض. ويجوز أن يكون قوله: " هذا وجه اتفاق الرفع والنصب في هذا الباب، واختيار النصب واختيار الرفع ". للكلام الذي يأتي من بعد، لا ما تقدم. قال: (وتقول: رأيت متاعك بعضه فوق بعض، إذا جعلت " فوق " في موضع الاسم المبني على المبتدأ، وجعلت الأول مبتدأ، كأنك قلت: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض). فالرؤية هاهنا تكون من رؤية القلب، ورؤية العين، فإذا كانت من رؤية القلب، فالجملة في موضع المفعول الثاني، وإذا كانت من رؤية العين فالجملة في موضع الحال. (فإن جعلته حالا بمنزلة قولك: مررت بمتاعك بعضه مطروحا، وبعضه مرفوعا، نصبته لأنك لم تبن عليه شيئا فتبتدئه). يعني: إذا جعلت " فوق بعض " في موضع الحال، ولم تجعله خبرا فلا بد من أن يتبع البعض ما قبله، فتنصبه على البدل. قال: (وإن شئت قلت: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، فيكون بمنزلة قولك: رأيت بعض متاعك الجيّد، فتوصل إلى مفعولين). يعني: تجعل " رأيت " من رؤية القلب. قال: (والرفع في هذا أعرف؛ لأنهم شبهوه بقولك: " رأيت زيدا أبوه أفضل منه "؛ لأنه اسم هو الأول ومن سببه، كما أن هذا له ومن سببه والآخر هو المبتدأ الأول، كما أن الآخر هو المبتدأ الأول). يعني: أن قولك: " رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض " أجود من قولك: رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، وإنما صار الاختيار الرفع؛ لأنك إذا رفعت فلست تنوي اطّراح المتاع، وإبدال غيره منه، ولا ينوى في شيء من الكلام إذا كان مرفوعا تغيير في

ترتيبه ووضعه، وإذا كان منصوبا فقد أبدل الثاني من الأول، واعتمد بالحديث على الثاني. قال سيبويه: (فمما جاء في الرفع قوله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (¬1) ولو قال " وجوههم مسودة " لجاز على البدل، والرفع أجود. قال: (ومما جاء في النصب قول العرب: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها). ولو قال: " يداها أطول من رجليها " جاز. قال: (وحدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت وهو لعبدة بن الطبيب: فما كان قيس هلكه هلك واحد … ولكنه بنيان قوم تهدّما) (¬2) فهذا على قوله: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، جعل " هلك " الأول بدلا من " قيس "، والثاني خبرا لكان، وعلى الوجه الآخر- وهو الاختيار- هلكه هلك واحد، والهلك الأول ابتداء والثاني خبره، والجملة في موضع خبر " قيس ". و (قال رجل من خثعم أو بجيلة: ذرينى إن أمرك لن يطاعا … وما ألفيتني حلمي مضاعا) (¬3) فالحلم بدل من النون والياء. (وقال الآخر في البدل: إنّ عليّ الله أن تبايعا … تؤخذ كرها أو تجيء طائعا) (¬4) فأبدل " تؤخذ " من " تبايع "، و " تجيء " عطف على " تؤخذ "، وينبغي أن تعلم أنه ليس في بدل الفعل من الفعل إلا وجه واحد، من أقسام البدل التي ذكرناها في الأسماء، من بدل البعض، وبدل الاشتمال، وبدل الشيء من الشيء وهو هو، لا يبدل الفعل إلا من شيء هو هو في معناه؛ لأنه لا يتبعض، ولا يكون فيه الاشتمال الذي ذكرناه، وصار " تؤخذ كرها أو تجيء طائعا " هو معنى المبايعة؛ لأنها تقع على أحد هذين الوجهين. ¬

_ (¬1) سورة الزمر، آية: 60. (¬2) ديوان الحماسة شرح المرزوقي 790 - ابن يعيش 3/ 65. (¬3) الخزانة 2/ 368 - العيني 4/ 192 - ابن يعيش 3/ 65. (¬4) الخزانة 2/ 373 - العيني 4/ 199 - شواهد الكشاف 75.

قال: (فهذا عربي حسن والأول أكثر وأعرب). يعني الإنشاد في هذه الأبيات على البدل، ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرب فتقول: هلكه هلك واحد، و " ما ألفيتني حلمي مضاع "، يكون " حلمي مضاع " في موضع الحال، و " تؤخذ كرها أو تجيء طائعا "، على معنى أنت تؤخذ كرها، فتكون " أنت تؤخذ كرها " في موضع الحال من المبايعة. قال: (وتقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض، فله ثلاثة أوجه في النصب: إن شئت جعلت " فوق " في موضع الحال، كأنه قال: عملت متاعك وهو بعضه على بعض، أي في هذه الحال، كما فعلت ذلك في رأيت، وإن شئت نصبت كما نصبت عليه " رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان ". وإن شئت نصبته على أنك إذا قلت: جعلت متاعك يدخله معنى " ألقيت "، فيصير كأنك قلت: ألقيت متاعك بعضه فوق بعض، لأن " ألقيت " كقولك: أسقطت متاعك بعضه على بعض، وهو مفعول من قولك: سقط متاعك بعضه على بعض). قال أبو سعيد: اعلم أن " جعلت " تكون بمعنيين، بمعنى صنعت وعملت، ومعنى صيّرت، فإذا كانت بمعنى صنعت فهي تتعدى إلى مفعول واحد، قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ (¬1) بمعنى صنع وخلق، وقال: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها (¬2). وإذا كانت بمعنى " صيرت " تعدت إلى مفعولين، لا يجوز الاقتصار على أحدهما وهي في هذا الوجه تنقسم على ثلاثة أقسام، كما تنقسم " صيرت ". أحدها بمعنى " سمّيت " كقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (¬3) أي صيروهم إناثا بالقول والتسمية، كما تقول: " جعل زيد عمرا فاسقا " أي صيره بالقول كذلك. والوجه الثاني: أن تكون على معنى الظن والتخيل كقولك: " اجعل الأمير عاميا وكلمه " أي صيّره في نفسك كذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: 1. (¬2) سورة الأعراف، آية: 189. (¬3) سورة الزخرف، آية: 19.

والوجه الثالث: أن يكون في معنى النقل، فتقول: جعلت الطين خزفا أي صيرته خزفا، ونقلته عن حال إلى حال وقال الله عز وجل: اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً (¬1) أي صيّره آمنا وانقله عن هذه الحال. فأما الثلاثة الأوجه التي ذكرها سيبويه فوجهان فيها يرجعان إلى الوجه الأول مما ذكرناه، وهو أن تجعل " جعلت " متعدّيا إلى واحد، غير أن معنى الوجهين اللذين ذكرهما سيبويه مختلف، وإن كانا يجتمعان في التعدي إلى واحد، فأحد الوجهين هو الأول الذي قال فيه: " إن شئت جعلت فوق في موضع الحال " فيكون معناه عملت متاعك عاليا، كأنك أصلحت بعضه وهو عال، فيكون فوق في موضع الحال كما تقول: عملت الباب مرتفعا أي أصلحته، وهو في هذه الحال. والوجه الثاني من هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه في قوله: " وإن شئت نصبته، على أنك إذا قلت: " جعلت متاعك " يدخله معنى: ألقيت متاعك بعضه فوق بعض، لأن " ألقيت " كقولك: أسقطت متاعك بعضه فوق بعض ". فيكون هذا متعديا إلى مفعول. وهو منقول من سقط متاعك بعضه فوق بعض. فهو يوافق الوجه الأول في التّعدي إلى مفعول واحد، ويخالف في غير ذلك، لأنك لم تعمل المتاع هاهنا؛ لإصلاح شيء منه وتأثير فيه، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه، و " فوق " في هذا كالمفعول، لا في موضع الحال؛ لأنه في جملة الفعل الذي هو " ألقيت "؛ لأنه منقول من " سقط متاعك بعضه فوق بعض "، والسقوط وقع على فوق، وعمل فيه على طريق الظرف، وفي المسألة الأولى لم يعمل فيه " جعلت "، إنما عمل فيه الاستقرار وصار في موضع الحال، فهذان الوجهان كوجه واحد. وقوله: " وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه " رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان ". فتعديه إلى مفعولين من جهة النقل والعمل، كما تقول: " صيّرت الطين خزفا "، وإنما حملنا هذا الوجه على هذا؛ لأنه في ذكر " جعلت " الذي في معنى " عملت وأثّرت ". قال: والوجه الثالث أن تجعله مثل: " ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض ". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 126.

فهذا أحد وجوه جعلت التي ذكرناها، وهو الذي في معنى التخيل، والذي هو من طريق التسمية يشبه هذا الوجه، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا. قال: " والرفع فيه أيضا عربي كثير ". يعني رفع " البعض "، فتجعل ما بعده خبرا، وتجعل الجملة في موضع المفعول الثاني، إن كان يتعدى إلى مفعولين، وفي موضع الحال إن كان يتعدى إلى مفعول واحد. قال: (وتقول: " أبكيت قومك بعضهم على بعض " و " حزّنت قومك بعضهم على بعض "، فأجريت هذا على حد الفاعل، إذا قلت: بكى قومك بعضهم على بعض، وحزن قومك بعضهم على بعض، فالوجه هاهنا النصب، لأنك إذا قلت: أحزنت قومك بعضهم على بعض، وأبكيت قومك بعضهم على بعض، لم ترد أبكيت قومك، وبعضهم على بعض في عون). أعني أمارة وولاية، ولا أبكيتهم وبعض أجسادهم على بعض فإنما هو منقول من " بكى قومك بعضهم على بعض "، وبعضهم بعضا وحرف الجر في موضع اسم منصوب مفعول، فإن قلت: " حزّنت قومك بعضهم أفضل من بعض "، فالوجه الرفع، ويجوز فيه النصب، وإنما حسن الرفع هاهنا واختير؛ لأنه ليس بمنقول؛ لأن فضل بعضهم على بعض بمعنى لم يصر فيهم بتحزينك إياهم، ولا هو متعلق بالتحزين، " وأبكيت قومك بعضهم على بعض "، أنت فاعل بهم الإبكاء ومصيرهم إلى أن بكى بعضهم على بعض، فإنما أردت حزّنت قومك وبعضهم أفضل من بعض. ولو نصبت " بعضهم " وجعلت " أفضل " حالا جاز، والرفع أجود على مضى من تجويد الرفع على النصب إذا استوى معناهما. قال: " وإن كان مما يتعدى إلى مفعولين أنفذته إليه، لأنه كأنه لم تذكر قبله شيئا ". يعني أنك إذا جعلت مكان " حزّنت قومك بعضهم " أفضل من بعض فعلا يتعدى إلى مفعولين عديته إليه كقولك: حسبت قومك بعضهم قائما وبعضهم قاعدا ". وإن كان مما يتعدى إلى مفعول واحد، نحو حزّنت، ورأيت من رؤية العين، فإن شئت قلت: " حزنت قومك " وسكتّ، وإن شئت قلت: " حزنت قومك منطلقين " فجئت بالحال، وإن شئت قلت: " حزنت قومك بعضهم أفضل من بعض " فجئت بجملة في

هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري على الاسم

موضع الحال، وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعولين، فلا يجوز حذف المفعول الثاني، ولا حذف الجملة التي في موضع المفعول الثاني، إذا قلت: " حسبت قومك بعضهم أفضل من بعض ". ومعنى قوله: " كأنه لم تذكر قبله شيئا ". يعني أن المفعولين لا بد منهما في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين، كما لا يستغنى عنهما لو لم يكن فعل؛ لأن أحدهما خبر عن الآخر. وقوله: " كأنه قال: رأيت قومك وحزّنت قومك ". يعني أن سقوط الحال في " حزنت قومك، ورأيت قومك " من رؤية العين لا يخل بالكلام، ولا يفسده. واعلم أن ما كان في هذا الباب من المصادر المضافة يجوز فيه بدل الاسم الثاني من لفظ الاسم الأول، ومن معناه، فإذا قلت: " عجبت من دفع الناس بعضهم ببعض " فقد أبدلت " بعضهم " من لفظ " الناس ". ويجوز أن تقول: " بعضهم " فتنصب على المعنى، كأنك قلت: عجبت من دفعك الناس بعضهم لأن الناس فيه مفعولون، وإذا قلت: عجبت من دفع الناس بعضهم بعضا، فبعضهم بدل على اللفظ، ويجوز " بعضهم بعضا "، فتحمله على موضع " الناس "؛ لأنهم في المعنى فاعلون، فالبدل على لفظ الأول معناه. هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول ويجري على الاسم كما يجري أجمعون على الاسم، وينصب أيضا بالفعل لأنه مفعول، فالبدل أن تقول: " ضرب عبد الله ظهره وبطنه "، و " ضرب زيد الظهر والبطن ". يعني أنك تبدل " ظهره وبطنه " من " عبد الله " و " زيد " ويجري عليه في إعرابه؛ لأن الظهر والبطن بعض عبد الله وزيد. قال: " ومطرنا سهلنا وجبلنا "، و " مطرنا السهل والجبل " وإن شئت كان على الاسم بمنزلة أجمعين ". يريد تبدل السهل والجبل من النون والألف بدل الاشتمال، وإن شئت جعلته تأكيدا لا بدلا، فيكون قولك: " ضرب عبد الله ظهره وبطنه " كقولك: ضرب أعضاؤه كلّها، ويصير الظهر والبطن توكيدا لعبد الله، كما يصير " أجمعون " توكيدا للقوم إذا قلت: " رأيت

القوم أجمعين " كأنه قال: " ضرب زيد " كلّه "، وقولك: " مطرنا سهلنا وجبلنا " كقولك: " مطرت بقاعنا كلّها ". قال: " وإن شئت نصبت فقلت: ضرب زيد ظهره وبطنه، ومطرنا السهل والجبل ". قال أبو سعيد: فتنصب هذا على أن تجعله مفعولا ثانيا، وإن كان الضرب في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد، فتقدر حرف الجر في الأصل، ثم تحذفه، فيصل الفعل، كما قال عز وجل: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا (¬1) أي من قومه، فكأنك قلت: ضرب زيد على ظهره وبطنه، فحذفت " على ". ولا يطرد هذا في الأشياء كلها، لا تقول: " ضرب زيد يده ورجله " على ذلك التقدير كما لا يجوز " مررت زيدا " قياسا على قول الشاعر: " أمرتك الخير ". وكما لا يجوز " أخذت زيدا ثوبا " على معنى: من زيد ثوبا، قياسا على قوله: " واختار موسى قومه ". وقد يجوز أن تنصب البطن والظهر على الظرف، وحذف حرف الجر منه، كأنك قلت: ضرب في ظهره وبطنه، ولا يقال ضرب زيد يده ورجله " على الظرف، وإنما خالف الظهر والبطن اليد والرجل؛ لأن الظهر والبطن عامّان في الأشياء، ألا ترى أن لكل شيء بطنا وظهرا، أو لأكثر الأشياء فيما جرت به العادة في كلام الناس، فأشبه الظهر والبطن المبهمات من الظروف لعمومها، وليس اليد والرجل، والسهل والجبل بمنزلة الظهر والبطن؛ لأن المواضع إما أن تكون سهلا أو تكون جبلا، فجعلت ظروفا لهذا الإبهام، ومع هذا التشبيه الذي ذكرنا، فالقياس فيه ألا يكون ظرفا، ألا ترى أنّك لو قلت: " هذا الشّعر ظهر زيد أو بطن زيد " لم يجز كما تقول: " هذا خلف زيد وأمام زيد "، وصار في الشذوذ بمنزلة " دخلت البيت " و " ذهبت الشّام ". قال: " ولم يجيزوه في غير السهل والجبل، والظهر والبطن، كما لم يجز دخلت عبد الله، فجاز هذا في ذا وحده، كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن ". يعني لم يقولوا: " ضرب زيد اليد والرجل " على الشذوذ كما لم يقولوا دخلت هذا ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 155.

الأمر، من حيث قالوا: " دخلت البيت ". فتركوا القياس في الظهر والبطن، والسهل والجبل خاصة، حين حذفوا حرف الجر، كما تركوا القياس في " دخلت " حين حذفوا " في " من الأماكن، فإذا استعملوا " دخلت " في غير الأماكن عادوا إلى القياس، فقالوا: " دخلت في هذه القصة "، و " دخل زيد في مذهب سوء "، وكذلك إذا استعملوه في غير البطن والظهر فقالوا: " ضرب زيد على اليد والرجل " عادوا إلى القياس ثم ذكر أشياء من الشذوذ، وترك القياس، قد تقدم ذكرنا لها. قال: " وزعم الخليل أنهم يقولون: مطرنا الزرع والضرع وإن شئت رفعت على وجهين: على البدل وعلى أن تتبعه الاسم ". قال أبو سعيد: " الزرع والضرع " شبيه بالسهل والجبل؛ لأن أكثر ما يراد به المطر الزرع والمواشي، فجاز النصب على الوجهين اللذين ذكرنا، والرفع أيضا على الوجهين، وكل ذلك مسموع من العرب. قال: فإن قلت: " ضرب زيد اليد والرجل " فيجوز على بدل البعض من الكل، ولا يجوز فيه النصب على ما ذكرنا». قال: «وقد سمعناهم يقولون: مطرتهم- يعني السماء- ظهرا وبطنا». فنصبه على الظرف والمفعول الثاني، وعلى البدل أيضا. قال: " وتقول: مطر قومك الليل والنهار " فيجوز نصب الليل والنهار على الظرف، وعلى أنه مفعول على سعة الكلام، ويجوز رفعه على البدل، كأنك قلت: مطر الليل والنهار، كما تقول: صيد عليه الليل والنهار، فيكون على وجهين: أحدهما: مطر أصحاب الليل وأصحاب النهار، فتحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه. والآخر: أن تجعل الليل والنهار ممطورين على المجاز، وقد مضى نحو هذا، وقال الشاعر في البدل: وكأنه لهق السّراة كأنه … ما حاجبيه معيّن بسواد (¬1) والشاهد فيه: بدل (الحاجبين) من الهاء التي في " كأنه " و " ما " زائدة، والبيت الذي يتلوه: ¬

_ (¬1) الخزانة 2/ 372، ابن يعيش 3/ 67، اللسان 17/ 177.

ملك الخورنق والسدير ودانه … ما بين حمير أهلها وأوال (¬1) فأبدل " أهلها " من " حمير " وجعل " حمير " مكانا، و " حمير " في الأصل للقبيلة، ولكنهم لما سكنوا اليمن جعل " حمير " عبارة عن بلادها، كأنه قال: ما بين أهل اليمن وأوال، و " ودانه " في معنى أطاعه. قال: (فأما قوله: مشق الهواجر لحمهن مع السّرى … حتى ذهبن كلاكلا وصدورا) (¬2) نصب " كلاكل " و " صدور " عند سيبويه على الحال، وجعل كلاكلا وصدورا في معنى ناحلات، كما قال ذو الرمة: فلم تبلغ ديار الحي حتى … طرحن سخالهن وإضن آلا (¬3) فجعل " الآل " بمعنى الناحلات، وكان المبرد يقول: نصبها على التمييز، لأن الكلاكل والصدور أسماء ليس فيها معنى الفعل. قال: ومثل ذلك " ذهب زيد قدما "، و " ذهب أخرا " فجعل " قدما " في معنى متقدما، و " أخرا " في معنى متأخرا، والقدم والأخر اسمان، ألا ترى قول الشاعر: وعين لها حدرة بدرة … شقّت مآقيهما من أخر (¬4) وقال الشاعر: طويل متلّ العنق أشرف كاهلا … أشقّ رحيب الجوف معتدل الجرم (¬5) فجعل كاهلا حالا في معنى عاليا، والكاهل اسم أصل العنق ولكنه من أعاليه، فجعله نائبا عن قولك عاليا وصاعدا قال: وكأنه قال " ذهب صعدا " في معنى صاعدا، ومثله قوله ويقال: إنه للعمانّي الراجز: إذا أكلت سمكا وفرضا … ذهبت طولا وذهبت عرضا ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 81، واللسان (أول) 13/ 41 ونسبه إلى النابغة الجعدي. (¬2) ديوان جرير 290 قصيدة يهجو بها الأخطل. (¬3) الخزانة 4/ 50، ديوان ذي الرمة 439. (¬4) البيت لامريء القيس في ديوانه 166. الخزانة 3/ 238. (¬5) نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار النهدي 1/ 81.

هذا باب من اسم الفاعل

فجعل طولا وعرضا في معنى ذاهبا في الطول وذاهبا في العرض، وأبو العباس يجعل ذلك كلّه على التمييز. وقوله: " ذهبت طولا وذهبت عرضا " خلاف الأبيات التي تقدمت؛ لأن الطول والعرض مصدران، والمصادر تستعمل أحوالا، والأبيات التي تقدمت فيها أسماء جعلت أحوالا. قال: " فإنما شبهه بهذا الضرب من المصادر " يعني شبه الاسم الذي جعله حالا بالمصدر. وليس هو كقول الشاعر، وهو عامر بن الطفيل: فلأبغينكم قنا وعوارضا … ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد لأن " قنا وعوارضا " مكانان، وإنما يريد بقنا وعوارض قال أبو سعيد: حذف حرف الجر، وشبهه بدخلت البيت، والمعنى فلأطلبنكم بهذين المكانين، وإنما ذكر هذه الأبيات التي جعل فيها الأسماء أحوالا، ليريك أنها مخالفة لمطرنا السهل والجبل، وأنها على معنى الحال. هذا باب من اسم الفاعل جرى مجرى الفعل المضارع في المفعول في المعنى فإذا أردت فيه من المعنى مثلما أردت في " يفعل " كان منونا نكرة، وذلك قولك: هذا ضارب زيدا غدا. قال أبو سعيد: قد ذكرنا في باب من الاستفهام تعدي اسم الفاعل إلى المفعول، وجريه على فعله، وأحكمنا ذلك بما أغنى عن إعادته، وذكرنا أيضا جواز حذف التنوين منه، وإضافته تخفيفا، وقد أنشد سيبويه أبياتا في التنوين والإعمال، وفي حذف التنوين والجر، وزعم أن المضاف لا يتعرف في هذا الباب بما يضاف إليه؛ لأن التنوين هو الأصل، وهو مقدر في المضاف. قال سيبويه: (والأصل التنوين، لأن هذا الموضع لا يقع فيه معرفة). يعني أن أسماء الفاعلين المضافة إلى المعارف تقع في الموضع الذي لا يقع فيه معرفة نحو قوله:

سلّ الهموم بكلّ معطي رأسه (¬1) ومررت برجل ضارب زيد، فعلم أن الأصل التنوين. قال: " ولو كان الأصل هاهنا ترك التنوين لما دخله التنوين ". يعني أن الأصل في اسم الفاعل التنوين، والإضافة دخلت تخفيفا، ولو كان الأصل الإضافة لما نوّنوا؛ لأنهم لا يزيدون على التخفيف فيثقلونه، ويخففون الثقيل، ولو كان الأصل ترك التنوين والإضافة، لما كان أيضا نكرة؛ لأنه مضاف إلى معرفة. قال: وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد: فألفيته غير مستعتب … ولا ذاكر الله إلا قليلا (¬2) فحذف التنوين لاجتماع الساكنين، ولم يحذفه للإضافة، ولو حذفه للإضافة لقال: " ولا ذاكر الله إلا قليلا " وهو أجود؛ لأن تحريك التنوين لالتقاء الساكنين أجود من حذفه؛ إذ كان حرفا يحتمل التحريك، والذي يحذفه يشبهه بحروف المد واللين. قال: وتقول في هذا الباب: " هذا ضارب زيد وعمرو " على العطف والإشراك، ويجوز " ضارب زيد وعمرا " على معنى ويضرب عمرا؛ لأن ضاربا قد دل على يضرب، فحمله على المعنى، ثم احتج للحمل على المعنى بقول الشاعر: جئني بمثل بني بدر لقومهم … أو مثل أسرة منظور بن سيّار (¬3) يريد أو هات مثل أسرة؛ لأن جئني قد دل عليه. وقال: أعنّي بخوّار العنان تخاله … إذا راح يردي بالمدجّج أحردا وأبيض مصقول السّطام مهنّدا … وذا حبك من نسج داود مسردا فحمل نصب ما في البيت الثاني على المعنى كأنه قال: " أعطني أبيض مصقول السطام ". ¬

_ (¬1) نسبه سيبويه للمرار الأسدي وهذا صدر البيت وعجزه: ناج مخالط صهبة متعيس. (¬2) الخزانة 4/ 554 - المقتضب 1/ 19، 2/ 313. ديوان أبي الأسود 123. (¬3) قائله جرير، سيبويه 1/ 48، 86 - ديوان جرير 312 - المقتضب 4/ 153.

وأراد بقوله: " تخاله أحردا " يعني تخال هذا الفرس أحردا من نشاطه ومرحه وخيلائه، والأحرد الذي في يديه استرخاء. قال: " والنصب في الأول أقوى ". يعني النصب في " هذا ضارب زيد وعمرا " أحسن وأقوى من النصب في قوله: " جئني بمثل بني بدر " أو " مثل أسرة " و " أعنّي بخوار العنان " و " أبيض مصقولا "، وذلك أن " ضارب زيد " أصله " ضارب زيدا "، و " جئني بمثل بني بدر " أصله الجر بسبب الباء، فكان النصب فيما أصله النصب أقوى من النصب فيما أصله الجر، وهو " جئني بمثل بني بدر " وهذا هو معنى قوله: " ولم يدخل الجر على ناصب ولا رافع ". يعني حرف الجر لم يكن ناصبا ولا رافعا كما كان اسم الفاعل قبل أن يضاف قال: " وهو على ذلك عربي جيد ". وأنشد فيه أبياتا ثم بين أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينّون وينصب ما بعده به، وقد بينا ذلك، وأجاز في الفعل الماضي: (هذا ضارب عبد الله وزيدا على معنى وضرب زيدا ثم أنشد بيتا في الحمل على المعنى وهو: يهدي الخميس نجادا في مطالعها … إمّا المصاع وإمّا ضربة رغب (¬1) فحمل " ضربة رغب " على المعنى، وذلك أن معنى قوله: إما المصاع، أي: إما يماصع مصاعا، أي يضارب ويقاتل. ولو جعل مكان ذلك إما أمره مصاع لكان مستقيما، نائبا عن ذلك المعنى، فحمل " وإما ضربة رغب " على ذلك المعنى، كأنه قال: وإما أمره ضربة رغب، وهي الواسعة. وقال: فلم يجدا إلا مناخ مطية … جافى بها زور نبيل وكلكل (¬2) ومفحصها عنها الحصي بجرانها … ومثنى نواج لم يخنهنّ مفصل وسمر ظماء وا ترتهنّ بعد ما … مضت هجعة من آخر الليل ذبّل الشاهد في الأبيات: رفع " وسمر ظماء "، وما قبلها منصوب بقوله: " فلم يجدا " كأنه ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 87، اللسان (مصع) 10/ 214. (¬2) الأبيات لكعب بن زهير ديوانه 52، 53، 54.

قال: فلم يجدا في هذا المكان إلا مناخ مطية وإلا مفحص هذه المطية الحصي عنها بجرانها، وكان ينبغي أن يقول: وإلا سمرا ظماء ذبلا، وإنما يعني بالسمر الظماء الذبل بعر هذه المطية، كأنه قال: وبها سمر " ظماء ". وقال آخر: بادت وغيّر آيهنّ مع البلى … إلا رواكد جمرهن هباء (¬1) ومشجّج أمّا سواء قذال … فبدا وغيّر ساره المعزاء والشاهد في رفع " مشجّج " كالبيت الأول، والمشجج الوتد يدقه في الأرض، وقد بدا وسط رأسه وظهر، " وغيّر ساره " يعني باقيه، لمعزاء وهي الأرض ذات الحصى وقيل " سار " في معنى سائر، كما يقال " هار " في معنى هائر: و " رواكد " يريد بها الأثافي، واستثناها من آي الدار، لأنها لم تبل ولم تغيّر فيما قد تغيّر. قال: (والنصب في الفصل أقوى إذا قلت: " هذا ضارب زيد فيها وعمرا "، وكلما طال الكلام كان أقوى). يعني أن قولك: " هذا ضارب زيد فيها وعمرا " أجود من قولك: " هذا ضارب زيد وعمرا فيها "، وإن كان الجر فيهما أجود من النصب، وذلك أنك إذا قلت: " هذا ضارب زيد وعمرو " فالعامل في " عمرو " الجر هو العامل في " زيد "، والجار والمجرور كشيء واحد، فحكمه أن يكون إلى جنبه ويتصل به، فلما فصلت بينهما بغيرهما بعد من الجار، فقوي النصب فيه بعض القوة. وإذا قلت: " هذا ضارب زيد فيها وعمرو "، فهو أحسن وأجود من قولك " هذا ضارب فيها زيد "؛ لأن الأول في المسألة الأولى قد حصل فيه المجرور الذي صار معاقبا للتنوين قبل أن يأتي الفصل بينهما بفيها، ولم يحصل في المسألة الثانية، ولا تجوز المسألة الثانية إلّا في الشعر كقوله: كما خطّ الكتاب بكفّ يوما … يهوديّ يقارب أو يزيل (¬2) ¬

_ (¬1) البيتين للشماخ وقيل لذي الرمة انظر سيبويه 1/ 88، ملحق ديوان الشماخ 247، أساس البلاغة 2/ 393. (¬2) نسبه سيبويه إلى أبي دحية النميري 1/ 91، الخصائص 2/ 405 المقتضب 4/ 377، العيني 3/ 470 - ابن الشجري 2/ 250.

قال: ومن ذلك قوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً (¬1). يعني أنه فصل بين الليل وبين الشمس بسكنا فقوي النصب، وإن كان " جاعل الليل والشمس والقمر " لكان الجر أقوى، ويجوز أن يكون " جاعل " في معنى فعل ماض، ويجوز أن يكون في معنى فعل مستقبل. فإذا جعلته في معنى الفعل الماضي فتقديره " جعل " الليل، ومعناه قدر الليل لهذا، ونظيره: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ (¬2) وهو أظهر الوجهين، وتنصب الشمس والقمر بإضمار فعل. ومن جعله بمنزلة المستقبل فهو على تقدير " يجعل "، وذلك لأنه فعل لم ينقطع؛ لأن الليالي متصلة، منها ما قد كان، ومنها ما يكون، فهو بمنزلة قولك " زيد يأكل " إذا كان في حال أكل قد تقضّى بعضه وبقي بعضه، وكذلك " زيد يصلّي " إذا كان في صلاة تقضّى بعضها وبقي بعضها. قال: وكذلك إن جئت باسم الفاعل الذي تعداه فعله إلى مفعولين، وذلك قولك: " هذا معطي زيد درهما وعمرو " إذا لم تجره على الدرهم، والنصب على ما نصب عليه ما قبله. يعني أنك تجر " عمرا " إذا أجريته على زيد، ولم تجره على الدرهم، بأن تنصبه على إضمار فعل، وذلك أن قولنا " هذا معطي زيد درهما " تنصب الدرهم فيه على إضمار فعل؛ لأن " معطي " في معنى الفعل الماضي، فكأنك قلت: أعطاه درهما، فإذا نصبت عمرا فقد أجريته على الدرهم في إضمار فعل ينصب، وقد ذكرنا أنه يجوز أن يكون اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي ينصب المفعول الثاني إذا أضيف إلى الاسم الذي يليه؛ بالشبه الذي بين الفعل الماضي وبين الاسم الذي أوجب له البناء على الفتح، وقولك: " هذا معطي زيد درهما وعمرا " أقوى في النصب من قولك: " هذا معطي زيد وعمرا "؛ لفصل الدرهم بينهما. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، آية: 96. (¬2) سورة يونس، آية: 67.

هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنى

قال: " فإذا لم ترد بالاسم الذي تعدى فعله إلى مفعولين أن يكون الفعل قد وقع، أجريته مجرى الفاعل الذي تعدى فعله إلى مفعول في التنوين ". يعني أنك إذا قلت: " هذا معطي زيد درهما " وأردت الحال أو الاستقبال، لم تلزم الإضافة، وجاز التنوين والإضافة كما جاز في قولك: " هذا ضارب زيد " و " ضارب زيدا " إذا أردت الاستقبال أو الحال، ولا تبالي أيّهما قدمت كما لم تبال أيهما قدمت في الفعل، فقلت: " هذا معط زيدا درهما " و " معط درهما زيدا، " كما تقول: " يعطي درهما زيدا "، فإن لم تنون وأضفته إلى أحدهما، لم يجز أن تفصل بينه وبين ما أضفته إليه، ولا يجوز " هذا معطي درهما زيد، ولا " هذا معطي زيدا درهم "، لأنك لا تفصل بين الجار والمجرور؛ لأن المجرور داخل في الاسم فإذا نوّنت انفصل كانفصاله في الفعل. ولا يجوز أيضا هذا في الشعر عند سيبويه إلا في الظروف وإنما خصّ الظروف؛ لأنه قد يفصل بها بين شيئين لا يجوز الفصل بينهما بغيرها، كإنّ واسمها. وقد أجازه قوم في الشعر، وأنشدوا: وزججتها بمزجّة … زجّ القلوص أبي مزاده (¬1) أراد زجّ أبي مزادة القلوص، وهذا غير معروف ولا مشهور، وهذا بيت يروى لبعض المدنيين المولدين، ولا يعرف مثله من حيث يصح. هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنى وذلك قولك: يا سارق الليلة أهل الدار. قال أبو سعيد: أما قوله: هذا باب ما جرى مجرى الفعل الذي يتعدى فعله، وليس للفعل فعل، وإنما أراد مجرى الفعل الذي يتعدى في تصاريفه، يعني في ماضيه واستقباله واسم الفاعل منه. وقوله: " في اللفظ لا في المعنى " يعني أنك إذا قلت: يا سارق الليلة أهل الدار، فهو بمنزلة قولك: " يا معطي زيد الدرهم " أضفته إلى أحد المفعولين ونصبت الآخر؛ فلذلك ¬

_ (¬1) هذا البيت من زيادات أبي الحسن الأخفش سعيد بن مسعده في حواشي كتاب سيبويه ابن يعيش 3/ 19، الخزانة 2/ 251، الخصائص 406.

أضفت " سارق " وهو اسم فاعل إلى " الليلة " كما تضيف اسم الفاعل إلى أحد المفعولين وتنصب الآخر، فهذا شبهه به في اللفظ. وأما خلافه له في المعنى فلأن الليلة كانت ظرفا في الأصل، وأهل الدار قد كان يتعدّى السّرق إليهم بحرف الجر، وهو " من "، فكان الأصل " سرقت في الليلة من أهل الدار " فحذفت " في " وجعلت الليلة مفعولة على السّعة وحذفت " من " فوصل الفعل إلى أهل الدار، كما قال تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا (¬1) أي من قومه، فقلت بعد الحذف: " سرقت الليلة أهل الدار ". ثم أجريت اسم الفاعل على ذلك. قال: (فتجرى الليلة على الفعل في سعة الكلام، كما قالوا: صيد عليه يومان، وولد له ستّون عاما). يعني جرت الليلة مفعولة على السّعة، وإن كان أصلها الظرف، كما أقيم اليومان والستون عاما مقام الفاعل في " صيد عليه " وولد له، وإن كان اليومان لم يصادا وإنما صيدا فيهما، والستون لم تولد، وإنما ولد للرجل أولاد فيها. قال: (فإن نونت فقلت: " يا سارقا الليلة أهل الدار " كان حد الكلام أن يكون أهل الدار على سارق منصوبا وتكون الليلة ظرفا؛ لأن هذا موضع انفصال). يعني أنك إن لم تضف " سارق " إلى " الليلة " نونته وهو منادى فهو معرفة، وإنما يجب تنوينه وهو مفرد معرفة، لأنك قد أعملته فيما بعده. فلم يتم آخره فيبنى، فصار بمنزلة المضاف والنكرة، وإن كان القصد إلى واحد بعينه، ومثله: " يا خيرا من زيد أقبل " تنصبه، وإن كنت تقصده بعينه، ولا تبنيه لأن " من زيد " تمام لخبر، وتنصب الليلة بها على الظرف، وأهل الدار نصب لوقوع السّرق عليهم، وإن شئت نصبت الليلة؛ لأنها مفعول بها على سعة الكلام. قال: ولا يجوز " يا سارق الليلة أهل الدار " إلا في شعر كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور. قال أبو سعيد: وإنما كرهوا ذلك لأن المجرور من تمام الجار، لأنه يقوم مقام التنوين ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 155.

ويعاقبه، ولا يفصل بين الاسم وتنوينه؛ فكرهوا الفصل بين الجار والمجرور لذلك. قال: " فإذا كان منوّنا فهو بمنزلة الفعل الناصب تكون الأسماء فيه منفصلة ". يعني إذا نونت فقد بطلت الإضافة وصار بمنزلة الفعل. إذ كان لا إضافة في الفعل، وعمل عمله. قال الشماخ: ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل … طباخ ساعات الكرى زاد الكسل فهذا وجه الإنشاد بنصب الزاد، وإضافة طباخ إلى ساعات، و " المشمعل " المنكمش السريع، وقد روي: " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل "، وبإضافة طباخ إلى زاد وتكون " ساعات " في موضع نصب. وللقائل أن يقول: إذا كان سيبويه قد منع الفصل بين الجار والمجرور إلا في شعر، وما يجوز في الشعر لا يجوز في الكلام، إنما يكون للضرورة، ولا ضرورة في هذا؛ إذ كان يمكنه أن ينصب " الزاد " ويضيف " طباخ ". قيل له: يجوز أن يكون الشاعر لم يجعل " ساعات " مفعولا على السعة، فيمكنه إضافة " طباخ " إليها، وليس عليه أن يخرجها عن الظرف إلى المفعول على السعة، فإذا جعلها ظرفا لم يجز إضافة " الطباخ " إليها، فيضيفه إلى " الزاد " لا محالة اضطرارا. وقال الأخطل: وكرّار خلف المحجرين جواده … إذا لم يحام دون أنثى حليلها (¬1) فهذا هو الوجه، وقد أنشد بعضهم: " وكرار خلف المحجرين جواده " فهذا على مثل التفسير الذي مضى في البيت الذي قبله إذا قال: " طباخ ساعات الكرى زاد الكسل " وهو في " كرار خلف " أحسن؛ لأن " خلف أقل تمكنا؛ وأضعف من ساعات. قال: " ومما جاء في الشعر ففصل بينه وبين المجرور قول عمرو بن قميئة: لما رأت ساتيد ما استعبرت … لله درّ اليوم من لامها (¬2) فأضاف " درّ " إلى " من "، و " من " في موضع جر، ونصب " اليوم " على الظرف، ولا ¬

_ (¬1) ديوان الأخطل 245. خزانة الأدب 3/ 474. (¬2) ديوان عمرو بن قميئة 62، الخزانة 2/ 247، المقتضب 4/ 377.

يجوز في هذا البيت ما جاز فيما قبله من الإضافة إلى الظرف ونصب ما بعده، فلا يجوز " لله درّ اليوم من لامها "، كما جاز " وكرار خلف المحجرين جواده " وذلك أن " كرار " يجري على الفعل وتنصب، فإذا أضفناه إلى الظرف نصبنا الذي بعده به، وصارت الإضافة بمنزلة التنوين فيه، ولا يجوز التنوين في " درّ " لأنك لا تقول: " لله درّ زيدا "، كما تقول: " وكرار جواده "، فوجب إضافة " درّ " إلى " من " اضطرارا، وإذا وجبت إضافته إليه، وجب نصب " اليوم "، وقال أبو حيّة النّميري: كما خطّ الكتاب بكفّ يوما … يهوديّ يقارب أو يزيل وهذا كالبيت الذي قبله، ولا يجوز " بكف يوم يهوديّا "، والجر في هذا البيت والذي قبله اضطرارا؛ لأنه لا يجوز فيه غير الفصل بين المضاف والمضاف إليه. قال: " ومما جاء مفصولا بينه وبين المجرور قول الأعشى: ولا نقاتل بالعص … يّ ولا نرامى بالحجاره إلا علالة أو بدا … هة قارح نهد الجزاره (¬1) فأضفت " علالة " إلى " قارح " وأسقطت التنوين من أجل الإضافة، وفصلت بينها وبين " قارح " " بالبداهة "، فهذا قول " سيبويه "، وهو أجود من الذي مضى، من الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وذلك أن هذين شيئان أضيفا إلى شيء واحد، وأقحم أحدهما على الآخر، وهما في معنى واحد، يتناولان المضاف إليه تناولا واحدا، ومثله يجوز في الكلام كقولك: " مررت بخير وأفضل من ثمّ ". وكان بعض أصحابنا يتأول في هذا غير هذا التأول، فيقول: أسقط المضاف إليه من الأول اكتفاء بالثاني، فكأنه قال: إلا علالة قارح أو بداهة قارح، فحذف الأول اكتفاء بالثاني. والذي قاله سيبويه أليق، لأن الأشبه أن تحذف الثاني اكتفاء بالأول، لأن الأول إذا ورد فحكمه أن يوفّى حقّه من اللفظ. ثم أنشد أبياتا على منهاج الأول منها قول ذي الرّمّة: كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا … أواخر الميس أصوات الفراريج (¬2) ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى: 159، الخزانة 1/ 83، الخصائص 2/ 407. (¬2) ديوان ذي الرمة 76، الخزانة 2/ 119، الخصائص 2/ 404.

أراد: كأنّ أصوات أواخر الميس، ومنها قول درنا بنت عبعبة، من بني قيس بن ثعلبة: هما أخوا في الحرب من لا أخا له … إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (¬1) فأضاف " أخوا " إلى " من "، وفرق بينهما بفي. ومما يشبه قول الأعشى: " إلا علالة أو بداهة قارح " قول الفرزدق: يا من رأى عارضا أكففه … بين ذراعي وجبهة الأسد (¬2) فأضاف " ذراعي " إلى " الأسد " وأقحم " الجبهة "، وفيه التفسير الثاني الذي ذكرناه، كأنه قال: بين ذراعي الأسد وجبهته، ويروى: يا من رأى عارضا أرقت له قال: " أما قوله عز وجل: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ * (¬3) فإنما جاز لأنه ليس ل " ما " معنى سوى ما كان قبل أن تجيء إلا التوكيد، فمن ثمّ جاز ذلك إذ لم ترد بها أكثر من هذا، وكانا حرفين، أحدهما في الآخر عامل، ولو كان اسما أو ظرفا أو فعلا لم يجز ". يعني أنه إنما جاز الفصل بين الباء وبين " نقضهم " " بما " لأن " ما " لا تغيّر الكلام، ولا تزيد فيه معنى لم يكن من قبل دخولها إلا التوكيد، فلما كانت كذلك كان دخولها كخروجها، ولو كان الفصل بين الجار والمجرور باسم أو ظرف أو فعل، لم يجز على الشرائط التي تقدمت، وقد اختلف النحويون فيما إذا كانت زائدة، فبعضهم يجعلها اسما، وبعضهم يجعلها حرفا، وكلا القولين محتمل، لأنا قد رأينا الأسماء والحروف قد تجيء مزيدة، فأما الاسم فقولك: " كان زيد هو العاقل "، وأما الحرف فقولك: " لمّا أن قام زيد " لأن المعنى فيهما كان زيد العاقل، ولما قام زيد. وقوله: " كانا حرفين أحدهما في الآخر عامل ". يعني بالحرفين الباء و " نقضهم " ولم يدخل بينهما شيء يعتد به. قال: وأما قوله: " أدخل فوه الحجر " فهذا جرى على سعة الكلام والجيد أدخل ¬

_ (¬1) الخصائص 1/ 92، 2/ 405. العيني 3/ 472، ابن يعيش 3/ 21. (¬2) الخزانة 1/ 369 - الخصائص 2/ 406 - ديوان الفرزدق: 215. (¬3) سورة النساء، آية: 155، المائدة، آية: 13.

فاه الحجر كما قال: أدخلت في رأسي القلنسوة ". يعني أنه كان الوجه وحقيقة الكلام أن يقال: " أدخل فاه الحجر "، وذلك أن الحجر والفم مفعولان، أحدهما فاعل بالآخر، والحجر هو الفاعل، لأنه الداخل الفم، فإذا رددناه إلى ما لم يسمّ فاعله أقيم الذي كان فاعلا في المعنى مقام الفاعل، وهو الحجر، كما قال: " أعطي زيد درهما "، فإذا قلت: " أدخل فوه الحجر " فقد أقمت الفم مقام الفاعل، وهو مفعول في المعنى. قال: " فجرى هذا على سعة الكلام "، إذ كان لا يشكل كما قيل: أدخلت في رأسي القلنسوة. والرأس هو الداخل فيها لأنها محيطة به. قال: " وليس مثل اليوم والليلة؛ لأنهما ظرفان، فهو مخالف له في هذا، موافق له في السعة ". يعني أن اليوم والليلة لا يقامان مقام الفاعل؛ إذ كان معهما مفعول صحيح كما تقام القلنسوة والفم، ولا يقال: " ضرب زيدا اليوم "، ولا " سيرت الليلة زيدا " كما يقال: " أدخلت القلنسوة رأس زيد " فهذا باب اختلافهما. وأما اتفاقهما في سعة الكلام، فلأن الظرف قد يقام مقام الفاعل، وقد يضاف اسم الفاعل إليه، ويؤتى بالمفعول من بعده كقوله: طباخ ساعات الكرى زاد الكسل (¬1) فجعل " الساعات " مفعولة على السعة، فصارت هي والزاد مفعولين، ثم قدمها على الزاد، وجعلها كالمفعول الأول كما قدم القلنسوة على الرأس فجعلها كالمفعول الأول. قال الشاعر:- ترى الثّور فيها مدخل الظّلّ رأسه … وسائره باد إلى الشمس أجمع (¬2) وكان الوجه أن يقول: مدخل رأسه الظّلّ؛ وذلك لأن الرأس هو المفعول الأول. قال: " فوجه الكلام فيه هذا؛ كراهية الانفصال ". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) من الخمسين التي لم يعرف قائلها آمالي المرتضى 1/ 216 - سيبويه 1/ 92 بولاق، 1/ 181 هارون.

يعني وجه الكلام في هذا البيت إضافة " مدخل " إلى الظل؛ لأنك لو لم تفعل هذا فأضفته إلى الرأس لكنت قد فصلت بينهما بالظل، فكأن إضافته إلى الظل على السعة أحسن من الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظل. قال: " وإذا لم يكن في الجرّ فحدّ الكلام أن يكون الناصب مبدوءا به ". يعني إذا لم تضف فالوجه أن يكون المفعول الأول هو المبدوء به؛ لأن المفعول الأول هو الفاعل في المعنى، وهو الناصب للمفعول الثاني قبل أن يجعل مفعولا. وهذا الكلام من سيبويه يوهم أنا إذا قلنا: " ضرب زيد عمرا "، أن للفاعل تأثيرا في نصب المفعول، وإنما سماه ناصبا يريد الفاعل في المعنى، لأنهما حيث اجتمعا في الفعل قبل النقل، وجعله فاعلا للفعل أوجب نصب الآخر، كما قال الله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ (¬1) ولم يكن الشيطان المخرج وإنما كان سببا لإخراج الله إياهما. [ويجوز أن يكون معنى قول سيبويه: " يكون الناصب مبدوءا به " يريد المنصوب، ويكون لفظ الفاعل في موضع مفعول، كما قيل عِيشَةٍ راضِيَةٍ (¬2) في معنى " مرضيّة " أي ذات رضا]. (هذا باب صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فعل في المعنى وما يعمل فيه). وذلك قولك: " هذا الضارب زيدا "، فصار في معنى هذا الذي ضرب زيدا، وعمل عمله؛ لأن الألف واللام منعتا الإضافة، وصارتا بمنزلة التنوين، وكذلك " هذا الضارب الرجل ". قال أبو سعيد: يعني أن الألف واللام قد صارتا بمنزلة الذي، وصار اسم الفاعل المتصل به بمعنى الفعل. فإن قال قائل: فأنتم قد منعتم أن يعمل اسم الفاعل إذا كان في معنى فعل ماض فكيف أجزتم نصب زيد في: " هذا الضارب زيدا " وهو في معنى فعل ماض؟ قيل له: إنما جاز هذا لأنا لما جعلنا الألف واللام بمعنى الذي، ونوينا به نية " الذي "، ووصلناها بما توصل به الذي وإن كانت الذي اسما، والألف واللام حرفا، جعلنا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 36. (¬2) سورة الحاقة، آية: 21.

اسم الفاعل المتصل بالألف واللام في مذهب الفعل، وإن كان اسما. ووجه ثان وهو أن الألف واللام لمّا لم يجز أن يليها لفظ الفعل، اضطرنا ذلك إلى نقل اللفظ عن الفعل إلى الاسم؛ ليتصل بالألف واللام، فكأنّ الذي نقل لفظ الفعل إلى الاسم حكم أوجبته تسوية اللفظ فقط، فبقي المعنى على حاله. ووجه ثالث: وهو أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي كان حكمه أن يضاف إلى المفعول به، كقولك: " هذا ضارب زيد "، فلما دخلت الألف واللام فمنعت الإضافة واحتيج إلى ذكر المفعول للفائدة نصب. وحكي عن الأخفش أنه قال: " هذا الضارب زيدا " إذا كان في معنى الفعل الماضي، إنما ينصب كما ينصب " الحسن الوجه " وليس على نصب المفعول الصحيح، والقول ما ذكرناه عن سيبويه للحجة التي ذكرناها. فإن قال قائل: لم جعل سيبويه " الضارب " مفسرا بالذي ضرب ولم يفسّره بالذي يضرب؟ قيل له: من قبل أن اسم الفاعل الذي في معنى الفعل الماضي لا ينصب الاسم الذي بعده مع غير الألف واللام، والذي في معنى المستقبل ينصب، فإذا ذكر نصب اسم الفاعل مع الألف واللام، في معنى الفعل الماضي، لم يقع شك في أن المستقبل يعمل ذلك العمل؛ لأن المستقبل أقوى عملا من الماضي؛ ولو فسره بالمستقبل جاز أن يقول قائل: إن الماضي لا يعمل ذلك العمل. قال: " وقد قال قوم من العرب ترضى عربيّتهم: " هذا الضارب الرجل " شبّهوه بالحسن الوجه، وإن كان ليس مثله في المعنى ولا في أحواله ". قال أبو سعيد: قد بينا أن اسم الفاعل يجوز أن يضاف إلى المفعول، فيما ليس فيه الألف واللام، ويجوز أن ينصب به ما بعده، كقولنا " هذا ضارب زيد " و " ضارب زيدا "، فإذا أدخلنا الألف واللام وجب النصب عند " سيبويه "، ولم يجز عنده الإضافة، وذلك أن الإضافة هي " معاقبة " للتنوين في قولك " هذا ضارب زيدا "؛ لأنه سقط بالإضافة التنوين الذي كان في قولك " ضارب زيدا " فإذا قلت: " هذا الضارب زيدا " لم يجز إضافة الضارب إلى زيد؛ لأنا لا نقدر على حذف شيء بالإضافة، فتكون الإضافة معاقبة له، فلم يجز " هذا الضارب زيد " لذلك. فإذا قلت: " هذا الضارب الرجل " وما كان فيه الألف واللام من المفعولات جاز

جره، وإن كان القياس النصب لما ذكرنا، وإنما جاز الجر تشبيها بالحسن الوجه إذا كان في الوجه الألف واللام، وإن لم يكن فيه ألف ولام لم يجز، لأنك لا تقول: " مررت بالحسن وجه "، كما تقول: " مررت بالحسن الوجه " بالألف واللام وهذا يحكم في بابه. وقد أجاز سيبويه " هذا الضارب الرجل وزيد " و " هذا الضارب الرجل زيد " على عطف البيان، وإنما جاز في الاسم الثاني الجر، وإن لم يكن فيه ألف ولام؛ لأنه تابع للاسم الذي قبله، ولم يل اسم الفاعل، وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، ألا ترى أنك تقول: " يأيها الرجل ذو الجمّة " فتجعل " ذو الجمّة " نعتا للرجل ولا يجوز أن يقع موقعه، وتقول: " يا زيد والرجل "، ولا يجوز أن يقع موقع الأول؛ لأنك لا تقول: يأيها ذو الجمّة، " يا الرجل " وأنشد في ذلك قول المرّار الأسديّ: (¬1) أنا ابن التارك البكريّ بشر … عليه الطير ترقبه وقوعا (¬2) فجعل " بشرا " عطف بيان من " البكري "، وأجراه عليه ولا يصح أن يكون بدلا، لأن البدل يقع موقع المبدل منه وكان أبو العباس المبرد لا يجيز الجر في الاسم الثاني عطفا كان أو بدلا، أو عطف بيان. وينشد البيت نصبا: أنا ابن التارك البكريّ بشرا والقول ما ذكرناه عن سيبويه؛ للقياس الذي بيناه ولإنشاد العرب والنحويين البيت بالجر، والفراء يجيز " هذا الضارب زيد " " وهذا الضارب رجل "، ويزعم أن تأويله: هذا الذي هو ضارب زيد، وضارب رجل، فيلزمه " هذا الحسن وجه "، على تقدير هذا الذي هو حسن وجه، و " هذا الغلام زيد " على تقدير هذا الذي هو غلام زيد، لأنه قدّر دخول الألف واللام على الاسم، ولم ينقل الفعل عن لفظه لدخولها وصيّر ما بعد الألف واللام معها على حكاية لفظ " الذي " وهذا قول فاسد، وأنشد سيبويه في العطف قول الأعشى: ¬

_ (¬1) هو المراد بن سعيد الأسدي أو الفقعسي فينسب تارة إلى أسد بن خزيمة وهو جده الأعلى وتارة إلى فقعس الخزانة 2/ 193. (¬2) الخزانة 2/ 193 - العيني 4/ 121 - ابن يعيش 3/ 72.

الواهب المائة الهجان وعبدها … عودا تزجّى خلفها أطفالها (¬1) فعطف " عبدها " على المائة الهجان، وقال بعض المخالفين له: ليس له في هذا البيت حجة، وإن كان " عبدها " مجرورا؛ وذلك أنه لا خلاف أن المضاف إلى الألف واللام في هذا الباب بمنزلة ما فيه الألف واللام، وأن قولنا: " هذا الضارب غلام الرجل " بمنزلة قولنا: " هذا الضارب الرجل "، كما أن قولنا: " هذا الحسن وجه الأخ " بمنزلة قولنا " هذا الحسن الوجه " فلما قال: " الواهب المائة الهجان " جاز ذلك بإجماع؛ لأن المائة فيها الألف واللام، والهاء في " عبدها " تعود إلى المائة فصار العبد كمضاف إلى ما فيه الألف واللام، فكأنه قال: الواهب المائة وعبد المائة، وهذا جائز بلا خلاف، وإنما احتج سيبويه بهذا بعد أن صح عنده بالقياس الذي ذكرناه، جواز الجر في الاسم المعطوف، وأنشد البيت ليرى من المثال في الاسم المعطوف، لأنه لا حجة له في غيره. قال سيبويه: وإذا ثنّيت أو جمعت فأثبتّ النون قلت: هذان الضاربان زيدا، وهؤلاء الضاربون الرجل، لا يكون فيه غير هذا؛ لأن النون ثابتة، ومن ذلك قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ (¬2). فهذا بيّن وقال ابن مقبل: (¬3) يا عين بكّي حنيفا رأس حيّهم … الكاسرين القنا في عورة الدّبر (¬4) " فالقنا " في موضع نصب، و " حنيف " قبيلة، والعورة الموضع الذي يبقى فيه العدو، ولا يكون بينهم حاجز، ومنه قوله تعالى: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ (¬5) أي ممكنة للعدو وليس بينها وبينه حائل، و " عورة الدبر " ما تبقى من خلف فهؤلاء يقاتلون إذا أدبر غيرهم وولى. قال: " فإذا كففت النون جررت، وصار الاسم داخلا في الجار، وبدلا من النون، لأن النون لا تعاقب الألف واللام، ولم تدخل على الاسم بعد أن ثبتت فيه الألف ¬

_ (¬1) الخزانة 2/ 181 - ديوان الأعشى 29 - الهمع 2/ 48. (¬2) سورة النساء، آية: 162. (¬3) هو تميم بن أبيّ بن مقبل من بني عجلان شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم عاش أكثر من مائة سنة خزانة الأدب 1/ 113 الأعلام 2/ 70. (¬4) ديوان ابن مقبل 82. (¬5) سورة الأحزاب، آية: 13.

واللام. لأنه لا يكون واحدا معروفا ثم يثنى، فالتنوين قبل الألف واللام؛ لأن المعرفة بعد النكرة ". يعني أنك إذا قلت: " هذان الضاربا زيد " جررت، وجعلت زيدا مكان النون، والفرق بين التثنية والواحد في الإضافة أن المثنى إذا أضفته أسقطت النون للإضافة، فجازت الإضافة فيه كما جازت في المثنى الذي ليس فيه ألف ولام، إذا قلت: " هذان ضاربا زيد "؛ لأنك تسقط النون للإضافة فيهما جميعا، وإذا قلت: " هذا الضارب زيد " لم يجز؛ لأنه ليس في " الضارب " تنوين ولا نون تسقطها بسبب الإضافة. وقوله: " لأن النون لا تعاقب الألف واللام ". يعني أن النون توجد مع الألف واللام، فجازت الإضافة بإسقاطها مع الألف واللام، وكانت مخالفة للتنوين، إذ كان لا يوجد مع الألف واللام. وقوله: " لأنه لا يكون واحدا معروفا ثم يثنّى " يعني أن التثنية لحقت المنكور، ودخلت عليه، وكان المنكور منونا، فجعلت النون في التثنية عوضا من الحركة والتنوين، ثم دخلت الألف واللام على المثنى الذي قد ثبت فيه النون، فلم تحذف لقوتها، وقد ذكرنا هذا مستقصى في أول الكتاب. وإنما لم يبن الواحد المعروف، لأن الواحد المعروف إنما يدل على شيء بعينه، فإذا ضممنا إليه مثله فقد أخرجنا كل واحد منهما أن يدل على شيء بعينه لمشاركة الآخر له، وإنما أراد أن يبين بهذا أن النون لم تدخل على ما فيه الألف واللام لأن النون عنده عوض من التنوين والحركة، وما فيه الألف واللام ليس فيه تنوين، وإنما يثنّى الاسم قبل دخول الألف واللام وكانت النون عوضا من الألف واللام، ثم ثنّيت بعد دخول الألف واللام؛ لما ذكرنا. قال: " فالنون مكفوفة، والمعنى معنى ثبات النون كما جاز ذلك في الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع، وذلك قولك: " هما الضاربا زيد " و " الضاربو عمرو ". يعني أن النون في قولنا: " هما الضاربا زيد " مرادة ولولا ذلك لم تجز إضافة ما فيه الألف واللام إلى زيد، لأن الإضافة توجب التعريف، وما فيه الألف واللام قد تعرف بهما، كما تعرف " غلاما زيد " بزيد، ولا يجوز أن تقول: " الغلاما زيد " فلولا أن التقدير: هما الضاربان زيدا، لم تجز الإضافة، وهذا نظير اسم الفاعل الذي جرى مجرى الفعل

المضارع، في أن الإضافة لا تخرجه عن نية التنوين، إذا قلت: " مررت برجل ضارب زيد " فهو مضاف في اللفظ، والنية فيه التنوين. قال الفرزدق: أسيّد ذو خرّيطة نهارا … من المتلقّطي قرد القمام (¬1) أضاف " المتلقطي " إلى " قرد القمام "، و " أسيّد " تصغير أسود، و " قرد القمام " ما تراكب من القمامة، وقال رجل من بني ضبّة: الفارجي باب الأمير المبهم وقال رجل من الأنصار: الحافظو عورة العشيرة لا … يأتيهم من ورائهم نطف (¬2) ويروى: " وكف " ويروى " الحافظو عورة العشيرة " فمن قال: " الحافظو عورة العشيرة " فعلى ما ذكرنا، وإذا قال: " الحافظو عورة العشيرة " فلم يرد الإضافة، وحذف النون اختصارا واستخفافا، لمّا كانت الألف واللام بمعنى الذي واللذين وهذه الأسماء موصولة، تكون هي وصلاتها كالاسم الواحد، فحذفوا منها لطولها، فقالوا في: " الذي ": " اللّذ " بحذف الياء وكسر الذال قال الشاعر: واللذ لو شاء لكانت برّا … أو جبلا أصمّ مشمخرّا (¬3) ومنهم من قال: " اللّذ " بحذف الياء وإسكان الذال قال الشاعر: كاللذ تزبّى زبية فاصطيدا (¬4) وقال في " الّذي ": " الذيّ "، وليس يدخل فيما قصدناه، ولكنا لم نحب أن نغفله؛ ليكون مضافا إلى نظائره من اللغات قال الشاعر: وليس المال فاعلمه بمال … وإن أنفقت إلّا للّذيّ ينال به العلاء ويصطفيه … لأقرب أقربيه وللقصيّ (¬5) ¬

_ (¬1) ديوان الفرزدق 835. (¬2) اختلف في نسبة هذا البيت فقيل قائله: قيس بن الخطيم ديوانه 172، وقيل عمرو بن امرئ القيس الخزرجي الخزانة 2/ 189. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هذا عجز بيت صدره في الإنصاف 393 (فظلت في شرّ من اللذ كيدا). (¬5) اللسان (زبي) 20/ 111.

وكذلك " اللذان " يقال فيهما: " اللّذا " تخفيفا واختصارا؛ لطول الاسم مع الصلة. قال الأخطل: أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا … سلبا الملوك وفكّكا الأغلالا (¬1) وقال الأشهب ابن رميلة (¬2): وإن الّذي حانت بفلج دماؤهم … هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (¬3) أراد " إن الذين "، والدليل على ذلك قوله: " دماؤهم "، فجعل العائد جمعا، فلما جاز في " الذي واللّذين والّذين " من الحذف والتخفيف ما ذكرنا من غير إضافة، جاز في الألف واللام التي في معناها حذف النون من غير إضافة. " والنطف والنكف " جميعا الدنس والعار، وما يعاب به فاعلمه. قال: وإذا قلت: " هم الضاربوك " و " هما الضارباك " فالوجه فيه الجرّ؛ لأنك إذا كففت النون من هذه الأسماء في المظهر كان الوجه الجر، إلا في قول من قال: " الحافظو عورة العشيرة ". قال أبو سعيد اعلم أن سيبويه يعتبر المضمر بالمظهر في هذا الباب فيقول: الكاف في الضاربوك والضارباك في موضع جر؛ لأنك لو قلت: " الضاربو زيد " جررت، وهذا هو الاختيار. ويجوز أن يكون في موضع نصب لأنك تقول: " الضاربو زيدا " على من قال: " الحافظو عورة العشيرة " وإذا قلت: " هم ضاربوك " فالكاف في موضع جر لا غير؛ لأنك تقول: " هم ضاربو زيد " لا غير. وكان " الأخفش " يجعل الكاف في موضع نصب على كل حال، وحجته في ذلك ¬

_ (¬1) ديون الأخطل 44 - الخزانة 2/ 499. (¬2) هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد المدان النهشلي الدارمي التميمي شاعر نجدي ولد في الجاهلية وأسلم ولم يجتمع بالنبي وعاش إلى العصر الأموي ونسبته إلى أمه رميلة وكانت أمة. الخزانة 2/ 509 - السمط 35 - ابن سلام 25. (¬3) قال السيوطي: عزا هذا البيت صاحب الحماسة البصرية والآمدي للأشهب ابن زميلة بضم الزاء المعجمة وقيل الراء وهي أمه وأبوه ثور بن أبي حارثة يكنى أبا ثور الجمعي. الخزانة 2/ 507 - المقتضب 4/ 146 - الدرر 1/ 24.

أن اتصال الكناية قد عاقبت النون والتنوين ألا ترى أنك لا تقول: " هو ضاربنك " ولا: " هما ضاربانك " ولا " هم ضاربونك " كما تقول: هو " ضارب زيدا " و " هما ضاربان زيدا "، فلما امتنع التنوين والنون لاتصال الكناية، صار بمنزلة ما لا ينصرف من الأسماء، ويعمل من غير تنوين، كقولك للنساء: " هؤلاء ضوارب زيدا "، والذي جمع بينهما أن التنوين حذف من " ضوارب "؛ لمنع الصرف، لا للإضافة، وحذف من " ضاربك " لاتصال الكناية، لا للإضافة، وقد حكى بعضهم جواز " ضاربنك " و " ضاربني " في الشعر، وأنشدوا أبياتا لا تصح منها قوله: وليس حاملني إلا ابن حمّال (¬1) والرواية الصحيحة " وليس يحملني " وأنشد بعضهم- وزعم سيبويه أنه مصنوع-: هم القائلون الخير والآمرونه … إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما (¬2) وقال الآخر: ولم يرتفق والناس محتضرونه … جميعا وأيدي المعتفين رواهقه فوصل الكناية في " آمرونه " و " محتضرونه " بالنون، والوجه أن يقول: " آمروه " و " محتضروه "، فزعم سيبويه أن هذا من ضرورة الشعر، وجعل الهاء كناية. وقد روي عن بعض القراء: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ- ذهب إلى " مطلعونني " - فأثبت نون الجمع مع اتصال الكناية، والكناية هي النون الثانية وياء المتكلم، وحذف إحدى النونين لاجتماعهما، وأسقط الياء لدلالة الكسرة عليها. وأما " الآمرونه " و " محتضرونه " فذكر أبو العباس: أن هذه الهاء هي هاء السكت، وكان حكمها أن تسقط في الوصل، فاضطر الشاعر أن يجريها في الوصل مجراها في الوقف، وحركها؛ لأنها لما ثبتت في الوصل أشبهت الحروف التي حكمها أن تثبت في ¬

_ (¬1) عجز بيت وصدره " ألا فتى من بني ذبيان يحملني " وقائله أبو محلم السعدي الإنصاف 82 - الخزانة 2/ 185. (¬2) قال البغدادي في الخزانة: (وهذا البيت أيضا مصنوع) الخزانة 2/ 188.

هذا باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه

الوصل كهاء الكناية إذا قلت " غلامه " وما أشبه ذلك؛ وأما القراءة في " مطلعون " فهي شاذة رديئة في القياس. فإن قال قائل: وما السبب الذي أوجب سقوط التنوين والنون مع اتصال الكناية؟ قيل له: سبب ذلك أن علامة المضمر غير منفصلة من الاسم الذي اتصلت به، ولا ينطق بها وحدها، وهي زائدة في الاسم، والتنوين والنون زائدان أيضا، والكناية تقع في آخر الاسم كالنون والتنوين فتعاقبتا؛ كراهة أن يجتمع في آخر الاسم هاتان الزيادتان، فاكتفى بإحداهما عن الأخرى لمّا صارتا كشيئين من جنس واحد. وهذا الفصل قد اشتمل على تفسير كلام سيبويه الذي لم يذكره من هذا الباب في هذا المعنى. هذا باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه وذلك قولك: " عجبت من ضرب زيدا بكر ومن ضرب زيد عمرا " إذا كان هو الفاعل. قال أبو سعيد: قد قدمنا أن المصادر تعمل عمل الأفعال المأخوذة منها، إذا نوّنت، أو دخلتها الألف واللام، بما أغنى عن إعادته. وتقدير المصدر إذا كان كذلك تقدير " أن "، وما بعدها من الفعل، واعلم أن المصدر متى كان عاملا، فتقديره تقدير (أن) وما بعدها من الفعل، وإذا كان مؤكّدا لفعله، أو عاملا فيه الفعل، الذي أخذ منه على وجه من الوجوه، لم يجز أن يقدّر بأن، وذلك قولك: " ضربت زيدا ضربا " و " ضربت زيدا الضرب الشديد "، لا يقدّر بأن، لأنك لا تقول: " ضربت زيدا أن أضرب "، ولو قلت: " أنكرت ضربك زيدا " لكان في معنى " أن "، لأنك تقول: أنكرت أن تضرب زيدا، وأنكرت أن ضربت زيدا، والعامل فيه غير الفعل المأخوذ منه. أما قولك آمرا: " ضربا زيدا " و " الضرب زيدا " فكثير من النحويين يتسعون فيه فيقولون: العامل في " زيد " المصدر، والحقيقة في ذلك غير ما قالوه اتساعا، وإنما العامل في زيد الفعل الذي نصب المصدر، وتقديره: " اضرب ضربا زيدا "، فالعامل في " ضرب " وفي " زيد " جميعا الفعل ولكن هذا المصدر صار بدلا من اللفظ بفعل الأمر فاتسعوا أن يقولوا:

إنه العامل في الاسم، لما كان خلفا من العامل. ويجوز إضافة المصدر إلى الفاعل إن شئت، وإلى المفعول؛ لتعلقه بكل واحد منها؛ فتعلقه بالفاعل وقوعه منه، وتعلقه بالمفعول وقوعه به، فإلى أيهما أضفته جررته، وأجريت ما بعده على حكمه، إن كان فاعلا فمرفوع وإن كان مفعولا فمنصوب، كقولك: عجبت من دقّ الثوب القصار " إذا أضفت إلى المفعول، و " من دقّ القصار الثوب " إن أضفت إلى الفاعل، وإنما جاز أن تأتي بعد المصدر بالفاعل والمفعول، ولم يجز أن تأتي بعد اسم الفاعل إلا بالمفعول؛ من قبل أن المصدر غير الفاعل وغير المفعول. فلا يستغنى بذكره عن ذكرهما، واسم الفاعل هو الفاعل، فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل بعده، ولا يجوز إضافته إلى الفاعل، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. ومعنى قول سيبويه: " وإنما خالف هذا الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع ". يعني: خالف المصدر الاسم الذي جرى مجرى الفعل المضارع وهو اسم الفاعل؛ من أجل ما ذكرنا وهو أن المصدر ليس بفاعل ولا مفعول. قال: فمما جاء من هذا قوله عز وجل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (¬1) فالتقدير فيه: أو أن تطعموا، فحذف الفاعل، ولو أظهر لقال أو إطعام أنتم. ويجوز عندي ألّا يقدر فاعل وينصب بالمصدر نفسه، كما نصب التمييز في قولك: " عشرون درهما "، و " ما في السماء موضع راحة سحابا " من غير أن يقدّر فاعل. فإن قال قائل: فإذا نصبت " يتيما " ولم تقدر فاعلا في " إطعام " وشبّهته " بعشرين "؛ فقد جعلته تمييزا فلا يجوز أن تنصب إلا نكرة، ولا يقال " أو إطعام زيدا "، قيل له: نحن وإن نصبناه من غير أن نقدر فاعلا، فإنما ننصبه تشبيها بالفعل الذي ينصب المفعول، فلا يلزم أن يكون مثل الفعل في جميع أحواله، ألا ترى أنا نقول: " أو إطعام زيد عمرا " فننصب " عمرا " بإطعام، ونقيم " زيدا " منه مقام التنوين وهو مجرور، ولا نقدر فاعلا غير " زيد "، فقد حصل في المصدر بطلان لفظ الفاعل الذي هو مرفوع من الفعل لا محالة، ولم يكن المصدر في هذه الحال بمنزلة الفعل، فكذلك ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) سورة البلد، آية: 14، 15.

قال الشاعر في إعمال المصدر: فلولا رجاء النّصر منك ورهبة … عقابك قد صاروا لنا كالموارد (¬1) فعدى " رهبة " إلى " عقابك " وقال آخر: أخذت بسجلهم فنفحت فيه … محافظة لهنّ إخا الذّمام (¬2) فنصب " إخا الذمام " بمحافظة، وقال: بضرب بالسيوف رؤوس قوم … أزلنا هامهنّ عن المقيل (¬3) نصب " الرؤوس " " بضرب " ومما جاء من المصادر غير منوّن قول لبيد: عهدي بها الحيّ الجميع وفيهم … قبل التّفرّق ميسر وندام (¬4) أضاف عهدي إلى الياء؛ ونصب " الحيّ " به، والياء في معنى الفاعل، و " عهدي " في موضع ابتداء، والخبر قوله: " وفيهم "؛ لأن الواو تكون حالا والحال يكون خبرا للمصدر، كقولك: " قيامك ضاحكا "، و " قيامك وأبوك يضحك " كما تقول: " مررت بزيد ضاحكا " و " مررت بزيد وأبوه يضحك ". قال: ومنه قولهم: " سمع أذني زيدا يقول ذاك " فأضاف السمع إلى الأذن. و" يقول " حال يسد مسد الخبر، كأنه قال: سمع أذني زيدا قائلا ذاك. وهذا كلام على المجاز، لأن زيدا لا يسمع؛ إنما يسمع كلامه، ولكنه أراد سمع أذني كلام زيد، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وقال رؤبة: ورأي عينيّ الفتى أخاكا … يعطي الجزيل فعليك ذاكا (¬5) " فرأي عينيّ " ابتداء، و " يعطي " حال يسد مسدّ الخبر. قال: وتقول عجبت من ضرب زيد وعمرو، إذا أشركت بينهما، كما فعلت ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 97 (بولاق) - 1/ 189 (هارون) ابن يعيش 1/ 61. (¬2) سيبويه 1/ 97 بولاق- 1/ 189 هارون. (¬3) البيت للمرار بن منقذ التميمي (العيني 3/ 499) ابن يعيش 6/ 61. (¬4) سيبويه 1/ 98 (بولاق) ديوان لبيد 288، ابن يعيش 6/ 62 ورواية الديوان " عهدي بها الإنس الجميع ". (¬5) سيبويه 1/ 98 بولاق، الخزانة 2/ 441. ملحقات ديوان رؤبة 181.

ذلك في الفاعل، ومن قال: " هذا ضارب زيد وعمرا " قال: " عجبت له من ضرب زيد وعمرا " كأنه أضمر " ويضرب عمرا " أو " وضرب عمرا ". يعني أن قولك: " عجبت من ضرب زيد وعمرو " هو الوجه، ويجوز " عمرا "، وهو بمنزلة قولك: " هذا ضارب زيد وعمرو " و " ضارب زيد وعمرا " وصار الجر أجود؛ لمشاكلة اللفظيين، واتفاق المعنيين، وإذا نصبته كان المنصوب مردودا على الأول في معناه، وليس بمشاكل له في لفظه، فإذا حصل اتفاق اللفظ والمعنى كان أجود. وقوله: كأنه أضمر " ويضرب " أو " ضرب " يعني أنك تردّ " عمرا " على المعنى، فإذا رددته على المعنى فلا بد من تقدير شيء ينصبه، إذ ليس في اللفظ ناصب، قال الراجز: قد كنت داينت بها حسّانا … مخافة الإفلاس واللّيانا (¬1) يحسن بيع الأصل والقيانا فنصب " القيان " على المعنى، وأما نصب " الليان " فيجوز أن يكون من هذا الوجه، كأنه قال: وخاف الليان، ويجوز أن يكون مخافة الإفلاس، ومخافة الليان، فحذف المخافة، وأقام " الليان " مقامها، ويجوز أن يكون على " المفعول له " كأنه قال: ولليان فحذف اللام ونصب كما تقول: " جئتك ابتغاء الخير " أي لابتغاء الخير. قال: وتقول: " عجبت من الضرب زيدا كما تقول: عجبت من الضارب زيدا. فيكون الألف واللام بمنزلة التنوين، قال الشاعر: ضعيف النّكاية أعداءه … يخال الفرار يراخي الأجل (¬2) فنصب " أعداءه " بالنكاية كأنه قال: نكاية أعداءه. وقال المرّار: لقد علمت أولى المغيرة أنني … لحقت فلم أنكل عن الضّرب مسمعا (¬3) ¬

_ (¬1) ينسب البيت لرؤبة بن العجاج وقيل قائل زياد الغنبري انظر سيبويه 1/ 98 بولاق- 1/ 191 هارون وملحقات ديوان رؤبة 187. (¬2) الخزانة 3/ 439 والعيني 3/ 500 وابن يعيش 6/ 64 وهو من الأبيات التي لا يعرف قائلها. (¬3) نسبه سيبويه إلى المرار الأسدي ونسبه بعضهم إلى مالك بن زغبة الباهلي من شعراء الجاهلية

فنصب " مسمعا " بالضرب، ويجوز أن يكون منصوبا " بلحقت " كأنه قال: لحقت مسمعا، فلم أنكل عن الضرب. وكان بعض البصريين المتأخرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف واللام، فإذا ورد شيء منصوب بالمصدر الذي فيه الألف واللام أضمر بعده مصدرا ليس فيه ألف ولام، فيقدر ضعيف النكاية نكاية أعداءه. وعن الضرب ضرب مسمعا، وإنما دعاه إلى هذا أن المصدر إنما يعمل بمضارعة الفعل، والفعل لا يكون إلا منكورا. قال ومن قال: " هذا الضارب الرجل " لا يقول عجبت من الضرب الرجل، لأن " الضارب الرجل " مشبه " بالحسن الوجه " لأنه وصف للاسم كما أن " الحسن " وصف، وليس هو بحد الكلام مع ذلك ". يعني أن قولك: " الضارب الرجل " ليس بحد الكلام وإنما هو مشبه بالحسن الوجه؛ لاتفاقهما أنهما وصفان. قال: وتقول: " عجبت من ضرب اليوم زيدا " كما قال: يا سارق الليلة أهل الدّار (¬1). يعني أن الوجه إضافة المصدر إلى ما بعده ظرفا كان أو اسما، على أن يجعل الظرف مفعولا على السعة، وليس ذلك بمنزلة قوله: لله درّ اليوم من لامها (¬2) لأن " درّ " ليس بمصدر يعمل الفعل، ولا تقول: " لله درّ اليوم من لامها "، كما قلت: " عجبت من ضرب اليوم زيدا "؛ لأن " درّ " لا ينصب ولا ينوّن، ولا يجوز أن تقول: " لله درّ زيدا " فإذا احتاج الشاعر إلى مثل: " عجبت من ضرب اليوم زيدا " كان الأجود أن يخفض اليوم وينصب زيدا، ويجوز نصب " اليوم " وخفض " زيد " على ما تقدم القول فيه، وإذا احتاج إلى مثل: " لله درّ اليوم زيدا " لم يجز له خفض اليوم، ونصب زيد. قال: لأنهم لم يجعلوا " درّ " فعلا، ولم يجعلوه فعل في اليوم شيئا، إنما هو ¬

_ الخزانة 3/ 439 - العيني 3/ 501 - ابن يعش 6/ 64. (¬1) الخزانة 1/ 485 - ابن الشجري 2/ 250 / ابن يعش 2/ 45. (¬2) سبق تخريجه.

هذا باب الصفة المشبهة

بمنزلة قولك: لله بلادك، وتقول: " عجبت له من ضرب أخيه " يكون المصدر مضافا فعل أو لم يفعل، ويكون منوّنا، وليس بمنزلة " ضارب ". يعني أن المصدر إذا نونته عمل فيما بعده، سواء أكان من فعل ماض أم مستقبل، كقولك: " عجبت من ضرب زيد عمرا أمس ". ولا يجوز إعمال اسم الفاعل إذا كان مأخوذا من فعل ماض، وقد تقدم القول في الفرق بين هذين. هذا باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيه، ولم تقو أن تعمل عمل الفاعل؛ لأنها ليست في معنى الفعل المضارع، فإنما شبّهت بالفاعل فيما عملت فيه، وما تعمل فيه معلوم، إنما تعمل فيما كان من سببها معرّفا بالألف واللام أو نكرة لا تجاوز هذا لأنه ليس بفعل، ولا اسم هو في معناه. قال أبو سعيد: ينبغي أن نقدم جملة نوطئ بها شرح هذا الباب ونقربه؛ حتى نوقف على أصله، والسبب الذي أجاز تغييره عنه، وبالله تسديدنا. اعلم أن العرب قد تصف الشيء بفعل غيره إذا كانت بينهما وصلة في اللفظ بضمير يرجع إلى الموصوف، فمن ذلك قولك: " مررت برجل قائم أبوه "، و " مررت برجل ذاهب عمرو إليه " و " رأيت رجلا محبّة له جاريتك " نعت رجلا بقيام أبيه، وذهاب عمرو، ومحبة الجارية، لما كان في الكلام ضمير يعود إليه ولو لم يكن ضمير يعود إليه لم يجز الكلام، ولا تقول: " مررت برجل قائم عمرو " لأنه لا وصلة بينهما. فإذا قد تبين ما وصفناه، وصح أن الشيء يوصف بفعل غيره؛ للعلاقة اللفظية التي بينهما جاز أيضا أن ترفع الشيء بفعل غيره إذا كان على ما ذكرنا، من الضمير العائد إلى الأول، وهو الذي يشتمل عليه ابتداء هذا الباب، وتلزمه هذه الترجمة، ويقال له: " الصفة المشبهة " وذلك قولك: " مررت برجل حسن الوجه " و " مررت برجل قائم الأب "، " وبامرأة حسنة الوجه " وكان الأصل في ذلك: " مررت برجل حسن وجهه "، و " بامرأة حسن وجهها "، فإذا قلت ذلك فقد نعتّ الرجل والمرأة بالحسن الذي للوجه، ورفعت الوجه بفعله، وكذلك إذا قلت: " مررت برجل قائم الأب " فالأصل فيه: " مررت برجل قائم أبوه " نعتّ رجلا بقيام أبيه ورفعت الأب بفعله، وجعلت الضمير العائد إلى الرجل

متصلا بالأب والوجه، وأخليت النعت الذي هو " حسن " و " قائم " من ضمير الأول؛ لأنك رفعت الأب والوجه بفعلهما، وجعلت الضمير العائد إلى الأول متصلا بهما، ثم إنك توسعت على مذهب العرب، فجعلت الأول فاعلا للحسن وللقيام في اللفظ، وإن كانت حقيقة الحسن للوجه، والقيام للأب، فإذا فعلت ذلك جعلت في " حسن " و " قائم " ضميرا للأول مرفوعا بحسن وقائم، كأنهما فعل، فإذا فعلت ذلك لم يجز أن ترفع الأب والوجه، لأنه لا يرتفع فاعلان بفعل واحد، إلا على سبيل العطف، ولم يجز أن يبقى الضمير الذي في الأب والوجه؛ لأنك قد جعلت ذلك الضمير بعينه فاعلا، وجعلته مستكنا في الفعل، فبطل أن يكون الوجه مرفوعا لمّا جعلت ضمير الأول فاعلا في " حسن " ولم يكن بد من ذكر الوجه، لأنك لو لم تذكره لم يعلم أن الحسن في الأصل للأول، أو منقول إليه عن غيره، فذكرت الوجه؛ ليعلم أن الفعل كان له، ونقل عنه فلما ذكرته للحاجة إليه وكان متعلقا بالفعل وقد ارتفع بالفعل غيره، وجب أن يكون محله كمحل المفعول لفظا، والمفعول قد يكون نصبا إذا نوّن اسم الفاعل، وقد يكون جرا إذا أضيف إليه اسم الفاعل، فجاز في " الوجه " النصب والجر على ذلك المعنى. وأنا أعيد ما فسرته ممثلا له بمثال حاضر قريب، تقول: " مررت برجل حسن وجهه "، فترفع الوجه بحسن، وليس في " حسن " ضمير، والضمير الذي في " وجهه " يعود إلى رجل و " حسن " هو صفة للرجل، ثم تنزع الضمير الذي في وجهه، فتجعله في " حسن " فاعلا، فتقول: " مررت برجل حسن وجها وحسن وجه " فيصير الوجه لفظه لفظ المفعول، لما جعلت الفاعل غيره، فيصير بمنزلة قولك: " مررت برجل ضارب زيد وضارب زيدا "، فالصفة المشبهة " حسن " واسم الفاعل " ضارب "، فحسن يعمل في الوجه ما يعمل " ضارب " في " زيد " وليس " حسن " كضارب؛ لأن " ضاربا " يعمل كعمل فعله، ويجري عليه، تقول " هذا ضارب زيدا " كما تقول؛ " هذا يضرب زيدا "، وتقول: " هذا حسن وجها " ولا تقول: " هذا يحسن وجها " غير أنا شبهنا " حسن " بضارب لما قدمنا، وبينهما اختلاف في وجوه نذكرها والذي يبين لك أنك إذا قلت: " مررت برجل حسن وجها " أو " حسن الوجه " ولم ترفع الوجه بالحسن، ورفعت به ضمير الأول، أنك تثنيه وتجمعه وتؤنثه على حسب الأول، تقول: " مررت برجلين حسني الوجوه، وبرجال حسني الوجوه، وبامرأة حسنة الوجه "، كما تقول: " مررت برجل قائم، وبرجلين قائمين،

وبامرأة قائمة ". ولو لم تجعل فيه ضميرا ورفعت الوجه بفعله، لم تثن ولم تجمع، وقلت: " مررت برجلين حسن أوجههما، وبرجال حسن أوجههم، وبامرأة حسن وجهها، وبنساء حسن أوجههنّ " فإذ قد وصفنا السبب المغيّر للفظ الأصلي في الصفة المشبهة، فإنا نذكر ضروب اللفظ بذلك، والاختيار منها. إذا قلت: " مررت برجل حسن الوجه " ففيه خمسة ألفاظ: أولها: " مررت برجل حسن وجهه " والثاني: " مررت برجل حسن الوجه " وهو أجود الوجوه بعد الأول، إذا نقلت الفعل، و " مررت برجل حسن الوجه "، و " مررت برجل حسن وجه "، و " مررت برجل حسن وجها ". فأما قولك: " مررت برجل حسن وجهه " فهو الأصل غير مغيّر، وأما قولك " مررت برجل حسن الوجه "، فهو الاختيار من وجهين: أحدهما أن الوجه في هذا الباب تختار فيه الإضافة، وإدخال الألف واللام في المضاف إليه. فأما الذي أوجب اختيار الإضافة، فمن قبل أن اسم الفاعل في هذا الباب لم يكن منه فعل مؤثر فيما بعده، كما كان ذلك في قولك: " زيد ضارب عمرا "؛ لأن " حسن " لم يعمل بالوجه شيئا، كما عمل زيد " الضرب بعمرو " فأرادوا الفرق بين ما كان له فعل مؤثر وبين ما لم يكن له فعل مؤثر، فاختاروا فيما كان له فعل مؤثر إجراؤه على الفعل ونصبه، وما لم يكن له فعل مؤثر يجري عليه، جعلوه بمنزلة الاسم إذا اتصل بالاسم، كقولك: " غلام زيد "، و " دار عمرو "؛ لأن الصفة المشبهة غير معتبرة بفعلها، وإنما حدث لها هذا المعنى حيث صارت اسما. ووجه ثان يوجب اختيار الجر، وهو أن الصفة المشبهة غير مستغنية عن الاسم الذي بعدها؛ لأنك لو حذفت الاسم تغير المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت: " زيد حسن الوجه " فقد أوجبت أن الحسن للوجه، منقول إلى لفظ زيد، ولو حذفت فقلت: " زيد حسن " كان الحسن له دون غيره، وأنت إذا قلت: " زيد ضارب عمرا " ثم حذفت " عمرا " لم يجهل أن الضرب واقع منه بغيره فحذف " عمرو " لا يخل بالمعنى، فلما كان كذلك، وكان ذكر الوجه ألزم من ذكر المفعول الصحيح، وجب أن يكون الجر أولى به؛ لأن المجرور داخل في الاسم الأول كبعض حروفه.

وأما الاختيار للألف واللام فيه؛ فمن قبل أنه قد كان " الوجه " معرّفا بالإضافة إلى الهاء التي هي ضمير الأول فلما نزعوا ذلك الضمير، وجعلوه فاعلا مستكنا في الأول جعلوا مكانه ما يتعرف به، وهو الألف واللام. وأما الذي قال: " مررت برجل حسن الوجه " فإنه ترك الاختيار حين ترك الإضافة، وأتى بالتشبيه باسم الفاعل الذي يوجب النصب. ومن قال: " مررت برجل حسن وجه " فقد أتى بأحد وجهي الاختيار وهو الإضافة، وحذف الألف واللام؛ استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني من الوجوه إلا وجهه. ومن قال: " مررت برجل حسن وجها " ففيه وجهان: أحدهما أنه أعمل " حسن " في الوجه كما يعمل " ضارب " في " زيد " إذا قلت: " هذا ضارب زيدا "، والوجه الثاني: أن يكون على التمييز كما تقول: " هو أحسن منك وجها "، و " ما في السماء موضع راحة سحابا ". واعلم أن المضاف في هذا الباب لا يكتسب بالإضافة تعريفا إذ كانت النية فيه التنوين، فلذلك جاز أن تدخل الألف واللام على المضاف، فيقال: " مررت بالرجل الحسن الوجه " فيعرّف " الحسن " بالألف واللام لا بالإضافة. فإن قال قائل: يلزمكم على هذا أن تقولوا: " مررت بالرجل الضارب زيد " لأنكم إذا قلتم: " مررت برجل ضارب زيد "، وعنيتم المستقبل والحال لم يكن " ضارب " متعرفا بزيد، فإذا احتجتم إلى تعريفه، أدخلتم عليه الألف واللام كما أدخلتموها على " الحسن ". قيل له: بينهما فرق، وطريقهما مختلف، فمن ذلك أن " حسن الوجه " إنما هو مأخوذ من فعل ماض، وأمر مستقر، وإذا كان " ضارب " في مذهب " حسن " من المضي وجبت إضافته، وتعرّف بما يضاف إليه. ومنها أن الأصل في " حسن " والأولى به الجر، الذي لا يوجب له تعريفا، فإذا أدخلنا عليه الألف واللام لتعريفه تركناه على ما هو حقيق به. والأصل في " ضارب " التنوين؛ لأنه يجري مجرى الفعل، وإنما يضاف تخفيفا، فإذا أدخلنا عليه الألف واللام، جرى مجرى الفعل المضارع، وإنما يضاف تخفيفا؛ فإذا أدخلنا الألف واللام عليه جرى على أصله الذي يوجبه له القياس؛ لبطلان التخفيف الذي يلتمس بحذف التنوين.

[قول سيبويه في «الحسن الوجه»:]

[قول سيبويه في «الحسن الوجه»:] قال سيبويه في " الحسن الوجه ": فالإضافة فيه أحسن وأكثر؛ لأنه ليس كما جرى مجرى الفعل، ولا في معناه، فكان أحسن عندهم أن يتباعد منه في اللفظ، كما أنه ليس مثله في المعنى، وفي قوته في الأشياء ". يعني أن قولك: " حسن الوجه " لم يجر مجرى " حسن " كما جرى " ضارب " مجرى " ضرب "، فكان الأحسن عندهم في " حسن " الإضافة؛ لبعد الإضافة من الفعل في اللفظ، كما تباعد " حسن الوجه " من الفعل، ومما جرى مجراه في المعنى. قال: " والتنوين عربيّ جيد " لما ذكرناه. قال: " ومع هذا أنهم لو تركوا التنوين أو نون الجمع لم يكن أبدا إلا نكرة على حاله منوّنا، فلما كان ترك التنوين والنون فيه، لا يجاوز به معنى التنوين والنون كان تركهما أخفّ عليهم، فهذا يقوي الإضافة مع التفسير الأول ". يعني أن الإضافة والتنوين في " حسن الوجه " لا يختلفان في المعنى، فلأنهما لا يختلفان في المعنى مع طلب التباعد بين " حسن الوجه " و " ضارب زيدا " قويت الإضافة. والمضاف إلى ما فيه الألف واللام بمنزلة ما فيه الألف واللام في هذا الباب، كقولك: " هذا أحمر بين العينين " و " هو جيّد وجه الدار " كأنك قلت: هذا أحمر العينين، وهو جيد الدار، ولو نونت لكان أيضا عربيّا، كقولك: " هذا جيّد وجه الدار " كقول زهير: أهوى لها أسفع الخدين مطّرق … ريش القوادم لم تنصب له الشّرك (¬1) أراد مطرق ريش القوادم، أي متراكب كثير، يعني بذلك صقرا، قال العجاج: (¬2) محتبك ضخم شؤون الرأس (¬3) أي شؤون رأسه، وقال " النابغة " فيما كان على مذهب التنوين: ونأخذ بعده بذناب عيش … أجبّ الظهر ليس له سنام (¬4) ¬

_ (¬1) ديوان زهير 172. (¬2) ملحقات ديوان العجاج 79 وهذا صدر بيت وعجزه والسّدس أحيانا وفوق السدّس. (¬3) العجاج هو عبد الله بن رؤبة راجز مجيد عاش في الجاهلية ثم أسلم وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك وهو والد رؤبة الراجز المشهور شواهد المغني 18، الشعر والشعراء 230. (¬4) ديوان النابغة 75، الخزانة 4/ 95، العيني 3/ 579، ابن يعيش 6/ 83.

أراد: " أجبّ الظهر ليس له سنام " على مذهب " حسن الوجه " إلا أنه لا ينصرف، ولو جعله على مذهب " حسن الوجه " بالإضافة لقلت: " أجبّ الظهر ". قال: (واعلم أن كينونة الألف واللام في الاسم الآخر أحسن وأكثر من ألّا تكون فيه الألف واللام؛ لأن الأول في الألف واللام وفي غيرهما هاهنا في حال واحدة، وليس كالفاعل فكان إدخالهما أحسن، كما كان ترك التنوين أكثر، وكان الألف واللام أولى؛ لأن معناه حسن وجهه، فكما لا يكون في هذا إلا معرفة اختاروا في ذلك المعرفة). يعني أن الألف واللام إثباتهما في الوجه أحسن، لأن المعنى في إثباتهما ونزعهما سواء، وفي إثباتهما تعريف عوض من التعريف الذي كان في " وجهه "، حيث كان مضافا إلى الهاء، وقد بينا هذا. قال: " والأخرى عربية ". يعني نزع الألف واللام، قال عمرو بن شأس: ألكني إلى قومي السّلام رسالة … بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا (¬1) ولا سيئي زيّ إذا ما تلبّسوا … إلى حاجة يوما مخيّسة بزلا فهذا على من قال: " مررت بحسن وجه "، ومن قال: " مررت بحسن الوجه " قال سيّئي الزيّ، ومن قال: " بحسن الوجه " قال: سيئي الزيّ، ومن قال: " حسن وجها " قال: " سيئين زيّا " قال حميد الأرقط: " لاحق بطن بقرا سمين " (¬2) قال: " ومما جاء منونا قول أبي زبيد: كأن أثواب نقّاد قدرن له … يعلو بخملتها كهباء هدّابا (¬3) أراد كهباء هدابها، ولو كان مما يتصرف قلت: متكهّبا هدّابا كقولك: " حسنا ¬

_ (¬1) من شواهد سيبويه انظر العيني 3/ 596 - الخصائص 3/ 274 / المقتضب 4/ 160 وقائله عمرو بن شأس بن عبيد بن نكلبة بن دومة بن مالك بن الحارث شاعر مخضرم، الشعر والشعراء 163 - سمط الآلئ 750. (¬2) انظر سيبويه 1/ 101 بولاق- 1/ 197 هارون. ابن يعيش 6/ 83، 85. (¬3) خزانة الأدب 2/ 155 - الشعر والشعراء 260 - اللسان (نقد) 4/ 437.

وجها "، تنصبه على الحال من ضمير الثياب المتصل بخملتها، كأنه قال: تعلو الخملة الثياب أكهب هدابا يصف أسدا، و" النقّاد ": الراعي صاحب النّقد، وهو ضرب من الغنم صغار، فشبّه لون الأسد بثوب النقّاد، والكهباء: الغبراء. وقال أيضا: هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة … محطوطة جدلت شنباء أنيابا (¬1) كأنه قال: نقية أنيابها، المحطوطة: البراقة اللون المصقولة. وقال عدي: من حبيب أو أخي ثقة … أو عدوّ شاحط دارا (¬2) أراد: شاحط داره. وقال سيبويه: " وقد جاء في الشعر حسنة وجهها، شبهوه بحسنة الوجه، وذلك رديء ". يعني أن من العرب من يقول: " زيد حسن وجهه " و " هند حسنة وجهها "، فيضيف " حسن " إلى " الوجه "، وفي الوجه ضمير يعود إلى الأول، وذلك رديء؛ من قبل أن في " حسن " ضميرا يرتفع به يعود إلى " زيد "، فلا حاجة بنا إلى الضمير الذي في " الوجه "؛ لأن الأصل: " كان زيد حسن وجهه "، والهاء تعود إلى " زيد "، فنقلنا هذه الهاء بعينها إلى " حسن "، فجعلناها في حال رفع، فاستكنّت فيه، فلا معنى لإعادتها، ولكن من أعادها- إن كان قد أعادها معيد- جعل الضمير مكان الألف واللام، وبقي الضمير الأول على حاله مرفوعا، وجعل للاسم الأول ضميرين يعودان إليه، وصيّره كقولك: " زيد ضارب غلامه " ففي " ضارب " ضمير " يعود إليه مرفوع " وفي الغلام ضمير يعود إليه مجرور. وأنشد سيبويه قول الشماخ استشهادا لحسنة وجهها: أمن دمنتين عرّج الركب فيهما … حقل الرّخامي قد عفا طللاهما (¬3) أقامت على ربعيهما جارتا صفا … كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما ¬

_ (¬1) قائله أبو زيد بن حرملة بن المنذر الطائي العيني 3/ 593 - ابن يعيش 6/ 83، 84. (¬2) قائله عدي بن زيد من دهاة الجاهليين من أهل الحيرة وكان شاعرا فصيحا يحسن العربية والفارسية الخزانة 1/ 184 - الأغاني 2/ 97 - الشعر والشعراء 63. (¬3) ديوان الشماخ 308 - الخصائص 2/ 420 - الخزانة 2/ 198 والدرر 2/ 132.

والشاهد في البيت الثاني في قوله: " جونتا مصطلاهما " فجونتا مثنى، وهو بمنزلة " حسنتا " وقد أضيفتا إلى " مصطلاهما "، ومصطلاهما بمنزلة " وجوههما " فكأنه قال: حسنتا وجوههما، والضمير الذي في مصطلاهما يعود إلى " جارتا صفا ". ومعنى " جارتا صفا " الأثافي و " الصفا " هو الجبل، وإنما يبنى في أصل الجبل في موضعين ما يوضع عليه القدر، ويكون الجبل هو الثالث، فالبناء في الموضعين هما جارتا صفا، وقوله: " كميتا الأعالي "، يعني أن الأعالي من موضع الأثافي لم تسود؛ لأن الدخان لم يصل إليها فهي على لون الجبل، وجعل ما علا من الجبل أعالي الجارتين، و " جونتا مصطلاهما " يعني مسودّتا المصطلى، يعني الجارتين، مسودّتا " المصطلى "؛ وهو موضع الوقود. وقد أنكر ذلك على سيبويه، وخرّج للبيت ما يخرّج به عن " حسن وجهه "، و " حسنة وجهها " وذلك أنه لا خلاف بين النحويين أن قولنا: " زيد حسن وجه الأخ جيد بالغ، وأنه يجوز أن تكني عن الأخ فتقول: " زيد " حسن وجه الأخ وجميل وجهه فالهاء تعود إلى الأخ، لا إلى زيد، فكأنا قلنا: زيد حسن وجه الأخ وجميل وجه الأخ، فعلى هذا قوله: " كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما " كأنه قال: كميتا الأعالي، جونتا مصطلى الأعالي، فالضمير في " المصطلى " يعود إلى " الأعالي "، لا إلى الجارتين، فيصير بمنزلة قولك: " الهندان حسنتا الوجوه، مليحتا خدودهما " فإن أردت بالضمير الذي في خدودهما " الوجوه " كان الكلام مستقيما كأنك قلت: حسنتا الوجوه، مليحتا خدود الوجوه، وإن أردت بالضمير فإن أردت بالضمير " الهندين " فالمسألة فاسدة، فكذلك " جونتا مصطلاهما " إن أردت بالضمير الأعالي؛ فهو صحيح وإن أردت بالضمير الجارتين فهو رديء، لأنه مثل قولك: " هند حسنة وجهها ". فإن قال قائل: فإذا كان الضمير الذي في " مصطلاهما " يعود إلى الأعالي فلم ثنّي والأعالي جمع؟ قيل له: الأعالي في معنى الأعليين فرد الضمير إلى الأصل، ومثله: متى ما تلقني فردين ترجف … روانف أليتيك وتستطارا (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لعنترة الخزانة 3/ 359، الدرر 2/ 80.

فرد " تستطارا " إلى رانفتين؛ لأن " روانف " في معنى رانفتين، وعلى هذا يجوز أن تقول: " الهندان حسنتا الوجوه جميلتا خدودهما " لأن الوجوه في معنى الوجهين، فكأنك قلت: جميلتا خدود الوجهين، وقد يجوز أن يكون " تستطارا " للمخاطب، وتنصب " تستطارا " على الجواب بالواو، كما قال الله عز وجل: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (¬1) ومما يدخل في هذا النحو قول طرفة: رحيب قطاب الجيب منها رفيقة … بجسّ الندامى بضّة المتجرّد (¬2) فهذا هو الإنشاد الصحيح بتنوين " رحيب "، ورديء إضافته بمنزلة " حسنة وجهها "، وذلك لأن الأصل رحيب قطاب الجيب منها، فقطاب يرتفع برحيب، والضمير في " منها " يعود إلى الأول، فإذا أضفنا " رحيب " فقد جعلنا فيها الضمير العائد فلا معنى لمنها، على ما بينا في " حسنة الوجه " وكذا لا يحسن أن تقول: " زيد حسن العين منه " على ذلك. قال سيبويه: " واعلم أنه ليس في العربية مضاف تدخل عليه الألف واللام، غير المضاف إلى المعرفة في هذا الباب، وذلك قولك هذا الحسن الوجه ": فإن قال قائل: لم جاز أن تدخل الألف واللام على الصفة المشبهة إذا كانت مضافة قيل له: من قبل أن الإضافة لا تكسوها تعريفا البتة، وقد بينا أمرها وأصلها، وأنها في تقدير المنفصل، فإذا كانت الإضافة لا تكسوها تعريفا ولا تخصيصا، لم تمنعها الإضافة دخول الألف واللام، وحلت محل النكرة، التي تتعرّف بدخول الألف واللام لمّا احتاجت إلى دخولهما حين احتاجت إلى التعريف الذي لا تكتسبه بالإضافة. فإن قال قائل: ولم جعله " سيبويه " مضافا، والمضاف ما كان مقدرا فيه اللام، أعني لام الإضافة أو " من "؟ فإن الجواب في ذلك أنه أراد أنه مضاف في اللفظ، والتقدير على ما وصفنا ثم ذكر ما أغنى عنه التفسير المتقدم. ثم قال: فأما النكرة فلا يكون فيها إلا " الحسن وجها " تكون الألف واللام بدلا من التنوين. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 142. (¬2) ديوان طرفة 48، الخزانة 3/ 481.

يعني أنك إذا أدخلت الألف واللام في الصفة، ونكّرت ما بعدها لم تجز إضافتها. فإن قال قائل: فلم لا تجوز إضافة الصفة إلى نكرة في اللفظ، وليست الإضافة فيه صحيحة، فيقال: " الحسن وجه "؟ قيل له: ومن قبل أنا إذا أعطيناها لفظ الإضافة- وإن لم يكن معناها معنى الإضافة- لم يجز أن يكون لفظها خارجا عن لفظ الإضافة الصحيحة. لأنا سميناها بها، وليس في شيء من الإضافات لفظا وحقيقة ما يكون المضاف معرفة، والمضاف إليه نكرة فلم يحسن أن تقول: " مررت بزيد الحسن وجه " فيكون " الحسن " معرفة و " الوجه " نكرة، فيجري على خلاف ألفاظ الإضافة التي سميناها بها. فإن قال قائل فأنتم تقولون: " مررت بالحسن الوجه " فتضيفون ما فيه الألف واللام، وليس ذلك في باب المضاف؟ فالجواب عن ذلك، أنه غير مخالف لباب الإضافة، وإن كان في المضاف الألف واللام، وذلك من قبل أن المضاف قد يكون معرفة بالمضاف إليه، إذا قلت: " غلام زيد " و " دار بكر " فالمضاف معرفة بالمضاف إليه، والمضاف إليه معرفة بنفسه، وقد صح أن المضاف قد يكون معرفة إذا كان المضاف إليه معرفة، فغير مستنكر أن يكون في " الحسن " الألف واللام، ويكون مضافا، إذا كان التعريف والإضافة لا يتنافيان في اللفظ، غير أن قولنا: " الحسن الوجه "، لما لم يقع له التعريف بالإضافة كما وقع " لغلام زيد " أدخلوا ما يقع به لتعريف من الألف واللام، مكان ما يقع من التعريف بالإضافة، و " غلام زيد " وما بعده قد وقع تعريفه بزيد، فلم يحتج إلى دخول الألف واللام، " فالحسن الوجه " يشبه " غلام زيد " في هذا المعنى. ومع هذا فإن الأصل دخول الألف واللام في الوجه، وطرحهما استخفافا، والشيء الذي هو الأصل أقوى وألزم، فلما كان دخول الألف واللام مع الإضافة، إنما هو ضرورة، لم يتجاوز بها اللفظ الذي هو الأصل، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. وقال سيبويه: بعد قوله: " تكون الألف واللام بدلا من التنوين ". لأنك لو قلت: " حديث عهد " أو " كريم أب " لم تخلل بالأول في شيء فيحتمل به الألف واللام؛ لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه ". " أما قوله: " فأما النكرة فلا يكون فيها إلا الحسن وجها " يعني إذا كان الثاني نكرة وهو " وجها " والأول فيه الألف واللام، لم تجز الإضافة، ووجب نصب الثاني.

وقوله: " تكون الألف واللام بدلا من التنوين " يعني أن الألف واللام في الأول بدل من التنوين فيه فلو كان منوّنا كان مثل قولك: " حسن وجها " لا غير، فإذا أدخلت فيه الألف واللام كان محلّ إدخال التنوين. وقوله: " لأنك لو قلت حديث عهد، أو كريم أب ". فهو بمنزلة قولك: " حديث العهد " أو " كريم الأب "؛ لأنك وإن نكرته فقد علم أنه ليس تعني من العهود إلا عهده، ومن الآباء إلا أباه، فتنكير الثاني لا يخل ولا يزوله عن حاله لو كان معرفا، وليس بمنزلة سائر الأشياء المضافة تتنكر بتنكير المضاف إليه، وتتعرف بتعريفه. قوله: (فيحتمل به الألف واللام) يعني لو كانت إضافة الأول إلى الثاني في التنكير، تخالف الإضافة في حال التعريف، لجاز أن تدخل الألف واللام على الأول، وإن كان مضافا إلى نكرة، فتقول " الحسن وجه " كما جاز أن تدخل عليه الألف واللام، وهو مضاف إلى المعرفة، فلما كان الثاني المضاف إليه، تنكيره وتعريفه سواء في المعنى، ثم أردنا إدخال الألف واللام في الأول، وهو مضاف إلى المعرفة، أدخلناهما في الثاني؛ لئلا يخرج عن لفظ الإضافة على ما بيناه قبل هذا. ولو كان الثاني منكورا على خلاف معناه معروفا، جاز إدخال الألف واللام في الأول، وإن كان الثاني نكرة؛ لأن الألف واللام تعرفه فقط دون غيره، ولو عرفنا الثاني زال عن معناه منكورا، فلما لم يكن كذلك آثروا تعريف الثاني، إذا عرفوا الأول؛ لاستواء التعريف والتنكير في المعنى، وصحة لفظ التعريف في مشاكلة الإضافات على ما مر. ومما يدل على صحة القول بتعريف الأول، وتنكير الثاني عند الحاجة والضرورة، أنا لو نادينا رجلا فقلنا: " يا حسن وجه " و " يا ضارب رجل "، وقصدنا واحدا بعينه دون سائر أمته، لكان الأول معرفة بالقصد بالنداء، والثاني منكورا على حاله الأولى. وقوله: " فيحتمل به الألف واللام " يحتمل أن يكون الضمير في " به " عائدا إلى الأول، ويحتمل أن يكون إلى الثاني، فإن كان إلى الأول فالمعنى فيحتمل بالأول الألف واللام لما ذكرناه، وإن كان إلى الثاني فمعناه فيحتمل بالثاني دخول الألف واللام على الأول. وقوله: " لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه " يعني لو كان تنكير الثاني يخالف

تعريفه لجاز أن تدخل الألف واللام على الأول، وتدع الثاني نكرة على ما كان؛ لأنه على ما ينبغي أن يكون عليه، يعني أن الثاني يكون على حاله منكورا لصحة معناه، وتدخل الألف واللام في الأول. ثم قال: قال رؤبة: الحزن بابا والعقور كلبا (¬1) ومعناه الحزن بابه وهو الشديد، والعقور كلبه، ثم نصب لدخول الألف واللام في الأول. قال: وزعم أبو الخطاب (¬2) أنه سمع قوما من العرب ينشدون هذا البيت للحارث بن ظالم (¬3). فما قومي بثعلبة بن بكر … ولا بغزارة الشّعرى رقابا (¬4) و" الشّعرى " جمع أشعر، وهو الكثير الشعر، وكانت العرب تمدح بالجلاء وخفة الشعر، قال الشاعر هدبة: فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا … أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا ضروبا بلحييه على عظم زوره … إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا (¬5) فهجاه بكثرة شعر قفاه ووجهه، وكذلك قوله: ولا بغزارة الشعرى رقابا هجاهم بكثرة شعور رقابهم. والشاهد أنه أدخل الألف في " الشّعرى "، ونصب رقابا، وانتفى الحارث بن ظالم من ثعلبة بن سعد، وهم من بني ذبيان، ومن فزارة بن ذبيان، وانتسب إلى قريش من قصيدة له طويلة. ¬

_ (¬1) ديوان رؤبة 15، الخزانة 3/ 480، العيني 3/ 617. (¬2) أبو الخطاب هو الأخفش الكبير عبد الحميد بن عبد المجيد من متقدمي علماء العربية انظر الإنبا 5/ 157، نزهة الألباء 43. (¬3) الحارث من أشهر فتاك العرب في الجاهلية الخزانة 3/ 185. (¬4) العيني 3/ 609 - ابن الشجري 2/ 143 - ابن يعيش 6/ 89. (¬5) الخزانة 4/ 84 - البيان والتبيين 4/ 10 وهما لهدبة بن خشرم.

قال سيبويه: وإنما أدخلت الألف واللام في " الحسن " ثم أعملته كما قلت: الضارب زيدا. يعني أنك أدخلت الألف واللام على " حسن وجها "، فصارت الألف واللام بمنزلة التنوين، فعمل في " وجه " مع الألف واللام، كما عمل مع التنوين كما قلت: ضارب زيدا " ثم أدخلت الألف واللام في " الضارب زيدا " فصار بمنزلة التنوين وكان ذلك بمنزلة قولك: " ضارب زيدا "، ثم تقول: الضارب زيدا تنصب زيدا مع الألف واللام، كما كنت تنصبه مع التنوين. وعلى هذا الوجه تقول: " الحسن الوجه " وهي عربية جيدة، قال الحارث بن ظالم: فما قومي بثعلبة بن سعد … ولا بغزارة الشعرى رقابا (¬1) قال سيبويه: وقد يجوز في هذا أن تقول: " هو الحسن الوجه " على قوله: " هو الضارب الرجل "، فالجر في هذا الباب من وجهين. قال أبو سعيد اعلم أنّا إذا قلنا: " الضارب زيدا والضارب رجلا " لم يجز فيه إلا النصب؛ لأنّ " ضارب " قبل دخول الألف واللام عليه كان أصله منونا ناصبا لما بعده، ويجوز حذف التنوين منه وجر ما بعده استخفافا، وإن كان الأصل التنوين، فإذا أدخلنا الألف واللام أدخلناه على ما بعده قبل أن ننقله عن أصله وحدّه؛ لطلب الخفة، فعاقبت الألف واللام التنوين، فوجب نصب ما بعده، وذلك قولك: " الضارب زيدا " و " الضارب رجلا "، وعلى هذا تقول: " الضارب الرجل "، كما قلت: " الضارب زيدا "، وقد بينا أن الصفة المشبهة قد أعملت عمل اسم الفاعل فقيل: " الحسن الوجه "، كأنا قلنا: " حسن وجها "، ثم أدخلنا الألف واللام للتعريف، كما قلنا: " ضارب الرجل "، ثم قلنا: " الضارب الرجل ". وقد بينا وجه الجر في: " الحسن الوجه " الذي يستحقه في بابه، وبينا ما بينه وبين اسم الفاعل من المناسبة، فأجازوا لذلك أن يقولوا: " الضارب الرجل "، فحملوه على " الحسن الوجه " لفظا للألف واللام التي في الرجل، بالمشابهة للألف واللام التي في الوجه، فلما كان " الحسن الوجه " في حال النصب، قد جعل في منزلة " الضارب الرجل " وفي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

خبره، وحملوا " الضارب " بعد النصب على " الحسن الوجه " في حال الخفض لما بينهما من المناسبة، ولاشتباه لفظيهما، حملوا على " الحسن الوجه " كل محمول نصبه على " الضارب الرجل " فجروه، وحصل " للحسن الوجه " الجر من وجهين؛ أحدهما: ما كان له من الجر في الأصل، والآخر: دخوله مع " الضارب الرجل " بعد أن كان منصوبا في تشبيه " الحسن الوجه " في الأصل. وتحصيل هذا المعنى، أنّا إذا قلنا: " حسن الوجه " فأدخلنا الألف واللام، فقد أدخلناهما على مخفوض، لم يكن منونا. والوجه الثاني: أنا إذا قلنا: " الحسن الوجه "، فكأنه كان " حسن الوجه "، ثم دخل عليه الألف واللام، فعاقب التنوين، فصار بمنزلة " الضارب الرجل " على ما فسرنا ثم خفضناه كخفض " الضارب الرجل "، فأحد وجهي الجر على أصله والآخر حملا على ما شبه بأصله، وهو الضارب الرجل. وقد حكي عن المازني (¬1) أنه قال: النصب في " الضارب الرجل " من وجهين؛ أحدهما: ما له من الأصل على ما وصفنا من النصب، والآخر: أنّا لما قلنا: " الضارب الرجل " تشبيها " بالحسن الوجه " في الخفض، وقد جاز في " الحسن الوجه " أن تنصبه تشبيها بالرجل، نصبنا كل محمول على " الحسن الوجه " في الخفض، فصار نصب " الضارب الرجل " من وجهين: أحدهما ما له في الأصل، والآخر حملا على ما شبه به على نحو ما ذكرنا في الجر. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: (وإذا ثنيت أو جمعت فأثبتّ النون فليس إلا النصب، وذلك قولك: هم الطيبون الأخبار، وهما الحسنان الوجوه وهم الحسنون الوجوه، وهما الكريمان (الآباء). وإنما لم يكن إلا النصب من قبل أن النون في الاثنين والجماعة محل التنوين من الواحد. والدليل على ذلك أنك تثبت النون إذا لم تضف، وتحذفها في الإضافة، كما تفعل ذلك في التنوين، فإذا أثبت النون في التثنية والجمع فقد فصلته من الثاني، وبطل الجر، فلم ¬

_ (¬1) هو أبو عثمان بكر بن محمد بن بقيسة وقيل بكر بن محمد بن عدي بن حبيب المازني العدوي نزهة الألباء 182.

يكن إلا النصب من ذلك قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (¬1)، وقالت خرنق: (¬2) لا يبعدن قومي الذين هم … سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل معترك … والطيبون معاقد الأزر (¬3) والشاهد في البيت: نصب " معاقد " لما ثبتت النون في الطيبين. قولها: " سم العداة وآفة الجزر " يعني أنهم حتف من عاداهم، وآفة الإبل؛ لما ينحرونها للأضياف، و " النازلون بكل معترك " يعني النازلون بمواضع القتال والاعتراك، والغاشون للحروب، " والطيبون معاقد الأزر " يعني أنهم أعفاء، يقال: فلان طيب معقد الإزار، وهو كناية عن العفة. قال سيبويه: " فإن كففت النون جررت كان المعمول فيه نكرة أو فيه الألف واللام، كما قلت: " هؤلاء الضاربو زيد ". يعني أن النون لما كانت في التثنية والجمع بمنزلة التنوين في الواحد، وكانت الإضافة تعاقب التنوين عاقبت النون، فقد حصل لك بهذا أن قولنا: " الضاربا زيد " و " الضاربو زيد " جائز، وإن كان لا يجوز " الضارب زيد "؛ لأنك قد حذفت في التثنية والجمع النون، وجعلت الإضافة معاقبة لها، وكذلك لا يجوز " الحسن وجه " ويجوز " الحسنا وجوه " " الحسنو وجوه "؛ لمعاقبة النون الإضافة تشبيها " بالضاربي زيد " و " الضاربي زيد ". قال سيبويه: " وإن شئت نصبت على قولهم: الحافظو عورة العشيرة ". يعني أنك إن شئت حذفت النون استخفافا، ونصبت على تقدير النون، فقلت: " الطيور أخبارا " كأنك أردت النون، وحذفتها تخفيفا، وإنما جاز هذا لأن الألف واللام بمنزلة " الّذين " و " اللّذين "، وقد جاز حذف النون من " الذين " و " اللذين " تخفيفا، فحذفت أيضا من أسماء الفاعلين التي في معنى الذين قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: 103. (¬2) الخزنق بنت بدر بن هفان شاعرة جاهلية شعرها في الرثاء والهجا وهي أخت طرفة بن العبد لأمه الخزانة 2/ 306 - أعلام النساء 1/ 194 - الأعلام 2/ 347. (¬3) ديوان خرنق 29، الخزانة 2/ 301، الدرر 2/ 150.

وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم … هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (¬1) أراد الذين حانت بفلج دماؤهم، فحذف النون، ولو جعل الألف واللام مكانها لقال: إن الحائني بفلج دماؤهم. والحافظو عورة العشيرة، كقولك: حفظوا بحذف النون، وكما حذف من " الذي " حذف مع الألف واللام، قال الأخطل في التثنية: أبني كليب إن عمّيّ اللذا … قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا فحذف النون من " اللذا "، ولو جعل مكانها الألف واللام لقال " القاتلا الملوك " فحذف النون تخفيفا. قال سيبويه: " وتقول فيما لا يقع إلا منونا عاملا في نكرة وإنما وقع منونا؛ لأنه فصل به بين العامل والمعمول، فالفصل لازم له أبدا مظهرا أو مضمرا، وذلك قولك: " هو خير منك أبا وأحسن منك وجها "، ولا يكون المفعول فيه إلا ما كان من سببه ". إن قال قائل: لم لم يقع " خير منك " و " أفضل منك " وبابهما مضافا؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما أن هذا الباب وضع للتفضيل، فإذا قلت: " زيد أفضل من عمرو "؛ فقد زعمت أن فضل زيد ابتدأ من فضل عمرو راقيا صاعدا، فدللت بهذا على أنه أفضل من كل أحد مقدار فضله كمقدار فضل عمرو، فكأنك قلت: علا فضله عن هذا المقدار، فتبين المخاطب أنه قد علا عن هذا الابتداء، ولم يعلم موضع الانتهاء، فصار كقولك: " سار زيد من بغداد " فقد علم المخاطب أن زيدا ابتدأ مسيره من بغداد، فجاوزها ولم يعلم أين انتهى، فلما كان معنى هذا الباب الدلالة على ابتداء التفضيل عن مقدار المفضل عليه، وكل من كان في محله ومنزلته، لم يكن بدّ من من ظاهرة أو مضمرة، فلما كانت كذلك نوّن ولم تصلح إضافته إلى المفضل عليه؛ لدخول " من " فاصلة بينهما لفظا وتقديرا، وانتصب ما بعده لتنوين الأول؛ لأنه ليس بفاعل، والفاعل " هو " مضمر في " أفضل " وفي " خير " وهو الأول. والعلة الثانية أنك إذا قلت: " زيد أفضل منك " فأفضل بمنزلة الفعل، لأنك إنما أردت به العبارة عن الفعل، فكأنك قلت: فضله يزيد على فضلك، ولذلك لم يثنّ ولم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

يجمع؛ لمّا كان متضمنا للمصدر وزيادته، فكان بمنزلة الفعل الذي هو متضمن للمصدر والزمان، فلما كان الفعل لا يضاف، ولم يضف هذا. فإن قال قائل: فلم لا يكون " أفضل " وبابه إلا نكرة، وخالف باب الصفة المشبهة في لزوم التنكير، والصفة المشبهة يجوز فيها التنكير والتعريف؟ فالجواب في ذلك أن " أفضل " حين " منع التثنية والجمع بحلوله محل الفعل؛ بسبب دلالته على المصدر والزيادة كدلالة الفعل على المصدر والزمان منع التعريف، كما لا يكون الفعل معرفا، ولا يكون مثنّى ولا مجموعا. فإن قال قائل: فلم لا يعمل إلا في نكرة؟ ففي ذلك وجهان: أحدهما: أن المنتصب في " أفضل " وبابه إنما هو دال على نوع كما يدل مفسر " عشرين " وما جرى مجراه، فنكّر مفسر " أفضل " كما نكر ما فسر العشرين وبابها؛ لأنه لا يدل على شيء بعينه. فإن قال قائل: لم وجب تنكيره؟ فالجواب في ذلك أنا إذا ذكرنا المقدار الذي هو العدد، لم يعلم على ماذا وقع؛ لأن الأنواع كلها مشتملة على المقادير، فلا بد من ذكر النوع المذكور مقداره؛ ليعلم أنه المقصود بالكلام، فلما كانت الحاجة إلى ذكر النوع- لما ذكرناه- وجب أن نذكر منه نكرة شائعة فيه؛ لأن كل ما كان معروفا هو في حكم نفسه، ولا يذهب الوهم إلى غيره، والنكرة شائعة في نوعها، فإذا أردنا إبانة النوع أبنّاه بالشائع فيه دون المنفرد منه. ووجه آخر في هذا، وذلك أنا إذا أردنا الدلالة على النوع دللنا عليه بأخف الأشياء منه، وهو الواحد المنكور، كما أنا إذا احتجنا إلى تحريك شيء فقط، آثرنا أخف الحركات وهو الفتح إلا أن تعرض عليه علة مانعة. والوجه الثاني من الوجهين الدالين على أن " أفضل " وبابه لا يعمل إلا في نكرة، هو أنه لا يكون إلا نكرة، فلما خالف في نفسه الصفات المشبهة، فلم يكن إلا نكرة نقص عملها على مقدار ضعفها، فلم تعمل إلا في نكرة. فإن قال قائل: فإن الفعل نكرة في نفسه، ومع هذا فهو يعمل في المعارف والنكرات. قيل له: الفصل بينهما أن الفعل يستحيل أن يكون معرفة بحال، وهو الأصل في

التأثير والعمل في الأسماء، فعمل في الأسماء كلها؛ إذ كانت الأسماء العاملة في الأسماء إنّما عملت لمضارعتها، وليس كذلك باب " أفضل "؛ لأنه اسم يعمل بمضارعة اسم هو أقوى منه، وهو الصفة المشبهة، فلما كانت الصفة المشبهة التي عمل " أفضل " وبابه لمضارعتها، تكون معرفة ونكرة وهي عاملة، ونقص " أفضل " عنها، فلم تكن إلا نكرة، نقص ما عمل فيه فلم يكن إلا نكرة. ووجه ثان وهو أنا رأينا " أفضل " وبابه يعمل في واحد يكون معنى الجنس، فصار نسبته من الصفة المشبهة كنسبة " لا " من " إنّ " في أنها لا تعمل إلا في نكرة، وذلك أنّ " إنّ " تعمل في المعارف والنكرات، ولا تجعل الواحد بمعنى جنس، وقد ينصب ب " لا " كما ينصب بإنّ إلا أن " لا " تجعل الواحد في معنى الجنس، فلم تعمل إلا في نكرة، وكذلك " أفضل " وبابه، لما صار الواحد بعده في معنى الجنس لم يعمل إلا في نكرة، وخالف الصفة المشبهة كما خالفت " لا " " إنّ " وبابها فيما ذكرنا. فإن قال قائل: إذا جاز أن تقول: " مررت برجل قائم أبوه وحسن وجهه " فتجريه على رجل، وترفع فاعله به، فلم لا تقول: " مررت برجل خير منك أبوه وأفضل منك أخوه "، ونحو ذلك، فتجريه على الأول، وترفع به فاعله كما تقول: " مررت برجل خير منك وأفضل منك " فتجريه على الأول، وترفع ضميره به؟ قيل له: الفصل بينهما أن " حسن وجهه وقائم أبوه "، وما جرى مجراهما من أسماء الفاعلين، إذا نقلنا الضمير إلى الأول فجعلناه فاعلا في اللفظ، ثنّي وجمع وأنّث، على مقدار ما فيه من الضمير، وذلك قولك: " مررت برجل حسن الوجه، وبرجلين حسني الوجه، وبرجال حسني الوجوه، وبامرأة حسنة الوجه "، فلما جرت على ما قبلها فأشبهت اسم الفاعل الجاري على فعله، في تثنيته وجمعه وتأنيثه وتذكيره، وصار محله الفعل، فكذلك اسم الفاعل لما ثنيناه وجمعناه وأنثناه وذكرناه في قولنا: " مررت برجل ضارب زيدا "، وبرجلين ضاربين زيدا، وبرجال ضاربين زيدا، وامرأة ضاربة زيدا، على قولك: " مررت برجل ضرب زيدا، ورجلين ضربا زيدا، ورجال ضربوا زيدا، وامرأة ضربت زيدا ". فإذا كان اسم الفاعل لشيء هو من سبب الأول، جاز أن تجريه على الأول؛ لأنه يثنّى بتثنيته ويؤنث بتأنيثه، ويجمع بجمعه، فصار كأنه له فعل، وأما " أفضل " وبابه فإنه لا

يثنى ولا يؤنث ولا يجمع؛ لأنه ليس باسم الفاعل الجاري على فعله، ولا هو على ذلك البناء كما كان " حسن الوجه، وقائم الأب، ونظيف الثوب "؛ لأن " حسن الوجه وقائم الأب " هو اسم الفاعل بعينه، غير أنّا نقلنا الفعل عن فاعله إلى غيره، وبقي بناء لفظ الفاعل على حاله، فبعد باب " أفضل " من شبه أسماء الفاعلين، وصارت كالأسماء الجوامد التي لم تشتق من الأفعال، كقولك: " مررت برجل قطن لباسه، وبرجل كتّان رداؤه " ألا ترى أنه لا يثنّى القطن ولا الكتان، ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنك تقول: " مررت برجل قطن قميصاه وكتان قمصه "، على معنى قميصاه قطن، وقمصه كتّان فيكون الابتداء والخبر في موضع نعت الأول، كما تقول: " مررت برجل أبوه قائم ". ويجوز أن يجري على من هو له إذا أفرد كقولك: " مررت برجل أفضل منك وبامرأة خير منك "؛ لأن الأخير هو الأول، فهو يجري عليه وإن كان جامدا، ألا ترى أنك تقول: " مررت بجبل عشرين ذراعا "، و " مررت بأخيك زيد "، ونحو ذلك، وليس في شيء من هذا معنى الفعل، إلا أن الثاني هو الأول، وقد يكون فيه نعتا أو عطف بيان، فإن كان الجاري على الأول شيئا فيه معنى من معاني الفعل- وإن كان محله محل الأسماء الجامدة في أكثر أحوالها- فلا بد من ضمير يكون له فيه؛ لأنه وإن كان كذلك ففيه معنى الفعل، وهو قولك: " مررت برجل أفضل منك وخير منك "؛ لأنه في معنى يفضلك ويعلو عليك. وقد أجاز قوم من العرب: " مررت برجل أفضل منك أخوه، وخير منك عمّه "؛ لأنه مأخوذ من فعل وإن بعد شبهه بأسماء الفاعلين، وهو قليل رديء؛ لما ذكرناه قبل، فاعرفه إن شاء الله تعالى. وقول سيبويه: " ولا يكون المعمول فيه إلا من سببه ". يعني أنك إذا قلت: " هو خير منك أبا وأحسن منك وجها "، فأبوه هو الفاضل لا غير، وكذلك وجهه هو الحسن لا غير، إلا أنك نقلت فضل الأب وحسن الوجه إليه، فجعلته الفاضل والحسن لفظا، ثم فسرت ما به فضل وحسن، كما ذكرنا ذلك في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل، فهذا قوله: " لا يكون المعمول فيه إلا من سببه ". قال سيبويه: " وإن شئت قلت: هو خير عملا وأنت تنوي " منك ". يعني أن تقدير " منك " لا بد منه، وإن كان محذوفا؛ لأن التفضيل لا بد فيه من أن

تذكر الغاية التي منها بدأ المفضل راقيا في الفضل، وذلك بمن فإن أظهرتها فهو حق الكلام، وإن حذفتها فلعلم المخاطب أن التفضيل لا يقع إلا بها. قال سيبويه: " وإن شئت أخرت الفصل في اللفظ وأصله التقديم ". يعني إن شئت قلت: " هو أفضل أبا منك " والفصل هو: " منك " لأنها فصلت ما قبلها من الإضافة إلى ما بعدها، أعني أنك إذا قلت: " هو أفره منك عبدا " لو حذفت " منك " وجب إضافة أفضل إلى ما بعده كقولك: " هو أفضل عبد " على خلاف معنى " من "، فإذا جئت بها فقد منعت الإضافة، وفصلت الأول من الثاني. وقوله: " وأصله التقديم " يعني أن أصل " منك " أن تكون مقدمة على التفسير، وذلك أن التفسير إنما يجيء بعد تمام المفسّر، وهي من تمامه؛ لأنها الدالة على موضع التفضيل، فهي من تمام أفضل، والتفسير تبيين الأفضل، فهذا معنى قوله: " وأصله التقديم "؛ يعني أصل الفضل الذي بيناه. قال سيبويه: " لأنه لا يمنعه تأخيره عن عمله مقدما ". يعني أنك إذا قدمت " منك " أو أخرته فهي فاصلة داخلة بمعنى التفضيل وقد عمل " أفضل " فيه وفي التفسير جميعا، فلك أن تقدم أيهما شئت، وإن كان أصل التقديم للفصل، كما أنك إذا قلت: " ضرب زيدا عمرو " جاز وإن كان الأصل فيه تقديم عمرو، وجاز تأخيره لأنه لا يحوّل المعنى عما كان عليه مقدما. قال سيبويه: " كما قال ضرب زيدا عمرو، فعمرو مؤخر في اللفظ مبدوء به في المعنى، وهذا مبدوء به في أنه يثبت التنوين ". يعني أن " منك " مبدوء به قبل التفسير، وهو الذي جلب التنوين ومن أجله دخل الكلام وإن كان مؤخرا في اللفظ، لأن دخوله يوجب التنوين، وموضعه التقديم فمن حيث جاز أن تقدم المفعول على الفاعل، بنية التأخير، جاز أيضا تقديم التفسير على " منك " بنية التأخير، وإنما جاز ذلك فيهما، لأن كل واحد منهما لا يخل به تأخيره عن موضعه في المعنى الذي له دخل في الكلام. قال سيبويه: " وتعمل ". يعني أن " منك " تثبت التنوين، ثم تعمل الاسم المنون في التفسير الذي بعده بالتنوين الذي فيه، أو بتقدير التنوين، لأن قولك: " أفضل منك أبا " ففي أفضل التنوين مقدر، وهو

قول سيبوبه في العمل في الجمع

محذوف لأنه لا ينصرف. قال سيبويه: " ولا يعمل إلا في نكرة كما أنه لا يكون إلا نكرة ولا يقوى قوة الصفة المشبهة فألزم فيه، وفيما يعمل فيه وجها واحدا ". وقد مر تفسير هذا في أول الباب. [قول سيبوبه في العمل في الجمع] وقال سيبويه: " ويعمل في الجمع كقولهم: هو خير منك أعمالا ". فإن قال قائل: لم جاز التفسير في هذا بالواحد والجماعة، ولا يجوز في " عشرين " وبابه أن تقول: " عشرون فلوسا وكلابا ". فالجواب في ذلك أن " عشرين " قد فهم مقداره، وإنما الحاجة إلى معرفة الجنس الذي يجيء من بعده، فلم يكن لجمع الجنس معنى، إذ لا فائدة فيه أكثر من الدلالة على الجنس، وأنت إذا قلت: " هو أفره منك عبدا وخير منك عملا " لم يكن في " أفره " دلالة على عدد، فيجوز أن يكون له عبد واحد، وعمل واحد، ويجوز أن يكون له عبيد، فإذا قلت: هو أفره منك عبيدا وخير منك أعمالا دللت بلفظ الجميع على فائدة النوع وأنهم جماعة، وإذا قلت: " هو أفره منك عبدا " جاز أن يكون له عبد واحد، وعبيد كثيرة، فهذا فصل ما بينهما فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " وإن أضفته فقلت: " أول رجل " اجتمع فيه لزوم النكرة وإن تلفظ بالواحد ". يعني أنك إذا أضفت " أفضل " وبابه فإنك تضيفه إلى جمع هو أحدهم، ولا يكون إلا ذلك، تقول: " زيد أفضل الناس " و " حمارك أفره الحمير " و " عبدك خير العبيد " فتضيفه إلى جماعة هو أحدهم، كإضافة البعض إلى الكل، والواحد إلى جنسه، ولو قلت: " عبدك خير الأحرار " و " حمارك أفره البغال " لم يجز؛ لأنك أردت تفضيل شيء على جنسه، فلا بد من أن تضيفه إلى جنسه الذي تفضله عليه، ليعلم أنه قد فضل أمثاله من جنسه، ولو أردت تفضيله على غير ذلك، دخل فيه الفصل والتنوين، فقلت: " الفرس خير من الحمار " و " العلم خير من المال "، ونحو ذلك، فإذا قلت: " زيد أفضل الرجال "، و " حمارك أفره الحمير " جاز أن تجيء بواحد من هذا الجنس، فتضعه موضع جماعته؛ لأنك أردت بالرجال والحمير جنس الرجال وجنس الحمير، ولم ترد رجالا معهودين ولا حميرا معهودة.

ومثل ذلك: " أهلك الناس الدينار والدرهم " أردت جنس الدنانير والدراهم، ولم ترد دينارا بعينه معهودا، ولا درهما بعينه، فكذلك إذا قلت: " زيد أفضل الرجال " و " حمارك أفره الحمير " فإنما أردت جنس الرجال وجنس الحمير، ونوضح هذا بمسألة لو قلت: " زيد أفضل إخوته " لم يجز، وإذا قلت: " زيد أفضل الإخوة " جاز، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم، والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل، فقال: من إخوة زيد؟ لم يجز أن تقول: زيد وبكر وعمرو وخالد، وإنما تقول: عمرو وبكر وخالد ولا تدخل زيدا في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن تقول: " زيد أفضل إخوته " كما لم يجز أن تقول: " حمارك أفره البغال "؛ لأن الحمار غير البغال كما أن زيدا غير إخوته، وإذا قلت: " زيد خير الإخوة " جاز لأنه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه، وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل لك: من الإخوة؟ عددته فيهم، فقلت: " زيد وعمرو وبكر وخالد " فيكون بمنزلة قولك: " حمارك أفره الحمير "؛ لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير، فلما كان ذلك على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فيقول: " زيد أفضل رجل " و " حمارك أفره حمار " فيدل " رجل " على الجنس، كما دل الرجال، وكما في " عشرين درهما " و " مائة درهم " و " أفضل منك أبا " الواحد المنكور في هذا الباب يدل على الجنس، وقد شرحنا ذلك قبل هذا الفصل، ولا يجوز في المضاف من هذا الباب التثنية والجمع والتأنيث، كما لم تجز في الذي قبل هذا التثنية والجمع والتأنيث، تقول: " زيد أفضل الرجال " و " الزيدان أفضل الرجال " و " الزيدون أفضل الرجال " و " هند أفضل النساء "، و " الهندات أفضل النساء " وإنما لم يثنّ ولم يجمع ولم يؤنث لمثل العلة التي لم يثنّ من أجلها " هذا أفضل منك " و " هذان أفضل منك "، وكذلك جمعه وتأنيثه؛ لأنهما جميعا للتفضيل إلا أن المضاف يفضّل على جنسه الذي هو بعضه، ودال على تفضيل غيره. فقوله: " اجتمع فيه لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد ". يعني أنك إذا قلت: " أفضل رجل " فنكّرت لم يكن بدّ من التوحيد، وإذا وحّدت لم يكن بدّ من التنكير فيجتمع فيه " لزوم النكرة وأن يلفظ بواحد ". قال أبو سعيد: يعني وأن توحد، فيجتمع فيه التوحيد والتنكير معا. قال سيبويه: (وذلك لأنه أراد أن يقول: " أول الرجال " فحذفه استخفافا

واختصارا، كما قالوا: " كل رجل " يريدون كل الرجال). قال: وهذا بيّن لأن رجلا شائع في الجنس، والرجال للجنس، فأقاموا " رجلا " مقام الرجال. قال سيبويه: (كما استخفوا بحذف الألف واللام استخفوا بترك بناء الجمع، واستغنوا عن الألف واللام اللتين في قولهم: خير الرجال وأول الرجال). وقد تقدم هذا المعنى وشرحه؛ لأنهم يقولون: " خير الرجال " فتكون الألف واللام مع الجمع؛ لأن الذي يستوعب الجنس كله لفظ الجمع، ودخلت الألف واللام لتعريف الجنس، لأن الجمع بلا ألف ولام لا يدل على كل جنس، وإنما يدل على كل جماعة من الجنس، ألا ترى أنه يقال لكل ثلاثة من الرجال: " رجال " فإذا أدخلت الألف واللام تعرف على أحد معنيين: إما أن تدخلا على رجال معهودين، فيتعرفوا بدخولهما، وإما أن يكون دخولهما على حد تعريف الجنس، فإذا قلت: " زيد خير الرجال " فهذا اللفظ على حقه وأصله في الكلام، فإذا أرادوا التخفيف نزعوا الألف واللام، وغيّروا بناء الجمع إلى الواحد؛ لأن الواحد الشائع دال على النوع، مغن عن لفظ جماعة تدل على ذلك، فلم يؤثروا غيره في حال الاختصار والاستخفاف؛ لأنه أخف ألفاظ الجنس، وهو مغن عن غيره، فأما أن تدخل الألف واللام وتجمع، فتعطي الكلام حقه وأصله، وإما أن تختصر وتوجز فتكتفي بالواحد المنكور، فاعرف ذلك إن شاء الله. قال سيبويه: " ومثل ذلك في ترك الألف واللام وبناء الجمع قولهم: عشرون درهما، وإنما أرادوا عشرين من الدراهم، فاختصروا واستخفوا " قال أبو سعيد: اعلم أن المقادير كلها محتاجة إلى إبانتها بالأنواع؛ لأنها تقع على الأشياء كلها، فإذا قلت: " عندي عشرون " احتمل أن يكون من الدراهم ومن الدنانير والثياب والعبيد، وغير ذلك من الأنواع، فإذا أردت إبانة ذلك لم يكن بدّ من ذكر النوع الدال على المقدار الذي ذكرته، وقد تقدم القول أن النوع حكمه أن يعرّف مجموعا بالألف واللام، فأما جمعه فلأنه واقع على كل واحد من ذلك الجنس، فهو إذا واقع على جماعة، وأما دخول الألف واللام فليتعرّف أنه أريد به الجنس، فيكون معرّفا به، فكان وجه ذلك أن تقول: " عشرون من الدراهم "؛ لأن النون قد فصلت، وليس " العشرون " عاملة في المعارف، فلو قلت ذلك لكنت قد أتيت بالكلام على وجهه وحقيقته، إلا أنه

يجوز فيه التخفيف كما ذكرنا فيما قبله، فإذا خفّف نزعت منه الألف واللام ووحّد، لأن الواحد المنكور شائع في الجنس، وقد مر شرح هذا مستقصى، فلما خففوه بنزع الألف واللام والتوحيد، وكانت العشرون عاملة في النكرات نزعوا " من " أيضا تحقيقا وأعملوا العشرين في درهما. فإن قال قائل: ولم جاز أن تعمل " العشرون " وما جرى مجراها، وليست بفعل ولا جارية عليه، وإنما هي اسم جامد؟ فالجواب في ذلك أن " العشرين " في الجمع بمنزلة " ضاربين "، فلما كان " ضاربون زيدا " قد تدخل فيه النون فتنصب ما بعده كقولك: " ضاربون زيدا " وتنزع النون فتجر ما بعده كقولك " ضاربو زيد "، وكانت العشرون فيها النون إذا كان ما بعدها جنسا كقولك: " عشرون درهما "، وتنزع النون منها إذا كان ما بعدها مالكا، وما جرى مجراه للإضافة، كقولك: " عشرو زيد "، وكان " ضاربون " مقتضيا للمضروب كما كان " عشرون " مقتضيا للنوع، أشبه العشرون الضاربين، فنصب ما بعده مع النون، وخفض ما بعده مع نزعها. وسنبين دخول النون على العشرين لم كانت عاملة في نكرة إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " ولم يكن دخول الألف واللام يغير العشرين عن نكرته ". يعني: ولم يكن دخول الألف واللام في الدراهم، إذا قلت: " عشرون من الدراهم "، يغير العشرين عن نكرته، لأنه مفصول منها، فلما كان دخول الألف واللام في الدراهم ليس يؤثر في العشرين معنى يزول بتنكيرها وتوحيدها، وكان نكرته الموحدة دالة على مثل ما دلت عليه الجماعة، استجازوا تخفيفها حين استوى المعنى بالتخفيف في قولك: " عشرون درهما "، والكلام على أصله في قولك: " عشرون من الدراهم " وذلك معنى قوله: " فاستخفوا بترك ما لم يحتج إليه ". قال سيبويه: " ولم تقو هذه الأحرف قوة الصفة المشبهة ". يعني أنها لم تقو أن تعمل إلا في نكرة، والصفة المشبهة تعمل في المعرفة والنكرة، ولأنك تقول: " زيد حسن الوجه "، كما تقول " زيد حسن وجها " ولم تقو أن تجري على الأول، فتقول: " مررت برجل أفضل منك أبوه " كما قويت الصفة المشبهة في قولك: " مررت برجل حسن الوجه أخوه ".

قال سيبويه: " ألا ترى أنك تؤنثها وتذكرها وتجمعها كالفاعل ". وقد مر هذا الاعتلال مستقصى. قال سيبويه: " وتقول: " مررت برجل حسن الوجه أخوه " كما تقول: " مررت برجل ضارب زيد أبوه ". فإن قال قائل: ما هذا التشبيه، وكيف تقدير هذا الكلام؟ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت: " مررت برجل حسن الوجه "، ففي " حسن " ضمير من " رجل " قد نقل إليه من الوجه، كما أنك إذا قلت: " مررت برجل ضارب زيد " ففي " ضارب " ضمير للرجل، إلا أنه غير منقول عن غيره إليه فإذا قلت: " مررت برجل حسن الوجه أخوه " نقلت ذاك الضمير من الوجه إلى الأخ، كما كنت تنقله إليه؛ لأنه من سببه، كما تقول: " مررت برجل ضارب زيد أبوه " فتجعل: " أبوه " مكان الضمير الذي كان في " ضارب " من رجل؛ لأنا قد بيّنا أن الصفة المشبهة تجري مجرى اسم الفاعل. قال سيبويه: فإن جئت ب " خير منك " أو " عشرين " رفعت، لأنها ملحقة بالأسماء لا تعمل عمل الفعل فلم تقو قوة المشبهة، كما لم تقو المشبهة قوة ما يجري مجرى الفعل. يعني أنك إذا قلت: " مررت برجل خير منك أبوه " و " برجل عشرون درهما ماله "، لم تجر " خيرا " و " عشرين " على الأول، وترفع ما بعده كما تجري اسم الفاعل على ما قبله وترفع ما بعده به، ولا تقول: " مررت برجل خير منك أبوه " كما تقول: " مررت برجل قائم إليك أبوه ". وقوله: ولم يقو: " خير منك " و " عشرون رجلا " قوة الصفة المشبهة يعني لم يقو أن تقول: " مررت برجل خير منك أبوه " و " عشرين درهما دراهمه " كما تقول: " مررت برجل حسن الوجه أبوه " كما لم تقو الصفة المشبهة قوة اسم الفاعل الجاري على فعله لا تقول: " زيد الوجه حسن " كما تقول: " زيد الرجل ضارب "، وقد بيّنا هذا فيما تقدم. قال سيبويه: (وتقول: " هو خير رجل في الناس "، و " أفره عبد في الناس "؛ لأن الفاره هو العبد). يعني أنك إذا قلت: " هو خير رجل في الناس " و " أفره عبد " فأضفت، فقد صار الأول الذي هو " خير " و " أفره " بعض المضاف إليه لأن معناه خير الرجال، وأفره العبيد،

فلا بد من أن يكون هو رجلا من الرجال الذين أضيف إليهم، وهو عبد من العبيد، لما بيّنا من أن الإضافة توجب هذا، فإذا كان كذلك فقد صار هو العبد الفاره، والرجل الفاضل الذي فضل على جنسه. وحقيقة معنى قوله: " لأن الفاره هو العبد ": أن في " أفره " ضميرا يرتفع بأفره، وذلك الضمير هو الأول، وقد ارتفع بالفراهة، والفراهة له في الحقيقة، ولم تنقل إليه عن غيره، ولا يشبه هذا قولك: " هو أفره منك عبدا " لأن في " أفره " ضميرا من الرجل، يرتفع بأفره كما يرتفع الفاعل بفعله، وليست الفراهة له في الحقيقة وإنما الفراهة للعبد نقلت إليه. قال سيبويه: " ولم تلق أفره ولا خيرا على غيره ثم تختصّ شيئا " يعني أنك لم تلق أفره ولا خيرا على شيء نقل إليه عن غيره، ثم بيّن من المنقول عنه، كقولك: " زيد أفره منك عبدا " و " خير منك أبا " فالمعنى مختلف. (وليس هاهنا فصل) يعني: أنك إذا قلت: " هو أفره عبد " لم يكن ثم فصل وهو منك، والفصل يوجب أن الثاني غير الأول كقولك: " زيد أنظف منك ثوبا " فثوبا غير زيد، فمتى جعلت الثاني غير الأول احتجت إلى " من " وإذا جعلت الثاني هو الأول لم تحتج إليها على حد ما بينا. قال سيبويه: " ولم يلزم إلا ترك التنوين كما أن " عشرين " و " خيرا منك " لم يلزم فيه إلا التنوين ". قال أبو سعيد: يعني أن باب " أفضل رجل وخير رجل " لزم فيه ترك التنوين كما أن " عشرين رجلا " و " خيرا منك أبا " لزم فيه التنوين، وكل واحد منهما قد تقدمت علته. وليس لزوم التنوين في " عشرين " و " خير منك " هو علة ترك التنوين في " أفضل رجل " و " خير رجل "، ولكن كل واحد منهما يلزم فيه الذي ذكر. قال سيبويه: " وإنما أثبتوا الألف واللام في قولهم: " أفضل الناس " لأن الأول قد يصير به معرفة ". يعني: أن باب المضاف في: " أفضل " يجوز تعريف الثاني فيه وتنكيره، وإنما جاز ذلك لأنه يجوز تعريف الأول فيه، ألا ترى أنك إذا قلت: " هذا أفضل رجل " فهو نكرة، قد فضل على هذا الجنس وهو منهم، تقول: " مررت برجل أفضل رجل "، وقد يكون هذا

بعينه معرفة بتعريف ما أضيف إليه، فتقول: " مررت بزيد أفضل الناس "، وإنما جاز دخول الألف واللام من قبل أن المضاف يكتسي بالمضاف إليه تخصيصا، فإذا كان كذلك جاز أن تعرّف المضاف إليه، لتزيد المضاف تخصيصا بتعريف المضاف إليه، وإذا كان غير مضاف لم يكن مختصا بمعنى يخصه، فلم يجز دخول الألف واللام على التمييز؛ لأنه لا يغير الأول عن حاله، ولم يكن له معنى، إذا كانت الحاجة إلى واحد منكور شائع في الجنس دال عليه على ما قدمناه. قال سيبويه: " فأثبتوا الألف واللام وبناء الجميع ولم ينوّن ". يعني أنهم قالوا: " أفضل الرجال " فأثبتوا الألف واللام في الرجال، وجمعوا الرجال، ولم ينونوا " أفضل "، أعني أنهم لم يجعلوه في تقدير التنوين حين أضافوا، كما كان كذلك في حسن الوجه لأن النية فيه " حسن وجهه " فلذلك تعرف " أفضل الرجال " ولم يتعرف " حسن الوجه ". قال سيبويه: " وفرقوا بترك التنوين والنون بين معنيين ". أراد فرقوا بين معنى الإضافة والتمييز. ونذكر من هذا الباب ما يكون عونا على معرفته وزائدا في إيضاحه، وإن لم يكن تفسيرا لشيء من ألفاظ سيبويه، ومن ذلك أنك إذا قلت: " زيد أفضل منك أبا "، فقد جعلت " أفضل " بمنزلة الفعل، كأنك قلت: " زيد يفضل أبوه على أبيك "، فهذا تستوي تثنيته وجمعه، ولا بد له من " من " ولا تدخله ألف ولام، ولا يضاف، لأنك عبرت به عن معنى الفعل، فأعطيته ما للأفعال، وأدخلت " من " للمعنى الذي ذكرناه من ابتداء التفضيل، فإن أردت أن تنقل هذا التفضيل إلى الذات فتجعله بمنزلة الفاضل أدخلت الألف واللام وأضفت، وثنيت وجمعت وأنثت، وأزلت من وتقديرها، فتقول: " زيد الأفضل أبا والأكرم خالا " " وهما الأفضلان " و " هم الأفضلون والأفاضل "، وجعلت بناء المؤنث على غير بناء المذكر في تفضيل الذات، فقلت: " هند الفضلى " و " الهندان الفضليان " و " الهندات الفضليات " والفضل، كما تقول: " زيد الفاضل " و " هند الفاضلة " إلا أن في الأفضل مبالغة في المدح ليست في الفاضل، قال الله تعالى: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: 103.

ولا يصلح أن تقول: الأفضل منك أبا، لأن منك إنما تدخل إذا كان " أفضل " في معنى الفعل: لابتداء الغاية التي منها ابتداء الفضل فإذا نقلت إلى الذات بطل ذلك المعنى، وصار " الأفضل " بمعنى الفاضل، فكما لا يجوز أن تقول: " الفاضل منك " لم يجز أن تقول: " الأفضل منك ". وقال الزجاج: فرقهم بالنون قولهم في التثنية " الأفضلان " والجمع " الأفضلون " مثل: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا فهذه النون فاصلة لأنها جعلت الآخر غير الأول. قال سيبويه: (وقد جاء من الفعل ما أنفذ إلى مفعول، ولم يقو قوة غيره، مما تعدى إلى مفعول، وذلك قولك: امتلأت ماء، وتفقأت شحما). قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب مثل ما تقدم من نقل الفعل عن الثاني إلى الأول وذلك أن قولك: امتلأت ماء، معناه امتلأ مائي، وتفقأت شحما، أي تفقأ شحمي، ومثله: " تصببت عرقا " واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (¬1) وإنما هو تصبب عرقي، واشتعل شيب الرأس، فنقل الفعل عن الثاني إلى الأول، ونزع عن الثاني، فارتفع الأول بالفعل المنقول إليه، فصار فاعلا في اللفظ، فمنع الفعل أن يعمل في فاعله على الحقيقة فيرفعه؛ لأنه لا يرتفع به أكثر من واحد وتوابعه، وانتصب المنقول عنه الفعل؛ لأن الفعل لا تصح إضافته إليه فينخفض به ولا يرتفع به وقد ارتفع به غيره، ولم يبق إلا النصب فنصب. فإن قال قائل: فلم نكّر ولم تدخل عليه الألف واللام كما فعل ذلك في الوجه من قولك: حسن الوجه؟ فإن الجواب في ذلك أن " تفقأت شحما " وبابه وإن كان قد شابه " حسن الوجه " من جهة، فقد فارقه من غيرها، وذلك أن " حسن الوجه " انتقل الفعل عنه إلى اسم الفاعل، وصار المنقول عنه بمنزلة المفعول، والمنقول إليه بمنزلة اسم الفاعل الذي يضاف مرة وينون أخرى فيعمل، ولا يكتفي " الحسن " بنفسه، إذا أردت به حسن الوجه. و" تفقأت " قد يكتفي بنفسه، فيقال: " تفقأت " ويسكت عليه، غير أن التفقؤ يكون من أشياء، فصار " تفقأت " بمنزلة " عشرين " لأنك تتفقأ من أشياء كثيرة، كما أن " العشرين " تكون من أشياء كثيرة، فلما كان إبانة " العشرين " بنكرة الجنس على طريق التمييز، وجب أن تكون إبانة التفقؤ بنكرة على طريق التمييز؛ ولا يجوز إدخال الألف ¬

_ (¬1) سورة مريم، آية: 4.

واللام، ولا التقديم ولا الإضمار في ذلك عند سيبويه، لا يجوز أن تقول: " شحما تفقأت " ولا " عرقا تصببت "، ولا " تصببت العرق " ولا " عرق تصببته "، كما لم يجز في " العشرين " وما مر من أبواب التمييز شيء من ذلك. وزعم المازني وأبو العباس المبرد أنه يجوز تقديم التمييز في هذا الباب، فتقول: " عرقا تصببت "، و " نفسا طبت "، و " شحما تفقأت "، واحتجوا لذلك بأن قالوا: العامل في التمييز شيئان: أحدهما اسم جامد، والآخر فعل متصرف، فالاسم الجامد نحو " العشرين درهما " و " أفضل منك أبا " وهذا الضرب لا يجوز تقديم التمييز فيه على الاسم المميز، والضرب الثاني وهو ما كان العامل فيه متصرفا، وذلك " تفقأت شحما ". قالوا: هذان الضربان في التمييز يشبهان الحال، وذلك أن العامل في الحال على ضربين: فعل متصرف، وشيء في معنى فعل غير متصرف، فما كان فعلا متصرفا جاز التقديم فيه والتأخير، كقولك: " قام زيد ضاحكا "، و " ضاحكا قام زيد "، وما كان العامل فيه معنى الفعل، لم يجز تقديم الحال عليه، وذلك قولك: " هذا زيد قائما " و " خلفك زيد قائما " ولا يجوز: " قائما هذا زيد "، و " قائما خلفك زيد "، واحتجوا في ذلك أيضا ببيت أنشدوه، وهو قول الشاعر: أتهجر سلمى للفراق حبيبها … وما كان نفسا بالفراق يطيب (¬1) أراد: وما كان يطيب نفسا بالفراق. وكأن الحجة لسيبويه في ذلك أن هذه الأشياء المنصوبة قد كانت فاعلة نقل عنها الفعل، فجعل الأول في اللفظ، ولو نصبناها وقدمناها لأوقعناها موقعا لا يقع فيه الفاعل؛ لأن الفاعل متى تقدم الفعل لم يرتفع به، وكذلك إذا قدمناه لم يصح أن يكون في تقدير فاعل نقل عنه الفعل، إذ كان هذا موضعا لا يقع فيه الفاعل، ووجه ثان وهو أن هذا الباب لا يعمل إلا في نكرة، فهو أضعف من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل فلما كانت الصفة المشبهة باسم الفاعل لا يجوز تقديم ما عملت فيه عليها كان هذا أحرى بالامتناع من ذلك. ¬

_ (¬1) قائله المخبل السعدي واسمه ربيع بن ربيعة بن مالك ويقال إنه لأعشى همدان واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ونسب لقيس بن الملوح العامري العيني 3/ 235 - الخصائص 2/ 384 - ابن يعيش 2/ 73.

فإن قال قائل: فإن هذا الباب قد يعمل في المعارف كما يعمل في النكرات، وذلك قولك: " سفه زيد نفسه "، و " غبن رأيه " و " وجع ظهره "، قال الله عز وجل: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (¬1)، وقال بعض الشعراء: أيجع ظهري وألوي أبهري … وما الصحيح ظهره كالأدبر (¬2) قيل له هذه أحرف شاذة حملت على معانيها، فإذا قال: " سفه نفسه " فكأنه قال: " سفّه نفسه "، وتأويل آخر وهو أن تجعله سفه في نفسه، فحذف الخافض وأوصل الفعل، وكذلك " غبن رأيه " على معنى جهل رأيه، وإن شئت على التأويل الآخر، وهو " غبن في رأيه "، و " وجع في ظهره " معناه وجع من ظهره فإن شئت وجع من ظهره وإن شئت على معنى وجع ظهرا على التأويلين اللذين مرّا وإذا شذ الشيء في باب لم يجعل أصلا يقاس عليه. وأما البيت الذي أنشدوه: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها … وما كان نفسا بالفراق يطيب (¬3) فإن الرواية عند كثير من أصحابنا: " وما كان نفس بالفراق تطيب ". وإذا كان كذلك فلا حجة فيه وربما اضطر الشاعر فأدخل الألف واللام في هذا الباب، وهو يريد طرحهما. قال الشاعر: رأيتك لمّا عرفت جلادنا رضيت … وطبت النفس يا بكر عن عمرو (¬4) أراد وطبت نفسا، غير أنه أدخل عليها الألف واللام لمّا علم أنه يريد نفسا بعينها، وهي نفس المخاطب، ومثله: " فأرسلها العراك " ونحوه (¬5) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 130. (¬2) اللسان (بهر) 5/ 150، اللسان (دبر) 5/ 354. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) شرح ابن عقيل (حاشية الخضري) 1/ 86 وشرح شواهد ابن عقيل ص 38. (¬5) جزء من بيت قائله لبيد بن ربيعة الصحابي وصف به حمروحش تعدو إلى الماء. فأرسلها العراك ولم يذدها … ولم يشفق على نفص الدّخال =

وقوله: " وقد جاء من الفعل ما قد أنفذ إلى مفعول " أراد " تفقأت وامتلأت " ونحوهما لأنهما أفعال قد أنفذت إلى ما بعدها من التمييز، وهو " شحما وماء وعرقا "، وأشباه ذلك. ومعنى " أنفذ " أي أعمل فيه. " ولم يقو قوّة غيره مما تعدى إلى مفعول " يعني: ولم يقو قوة " ضربت زيدا " الذي قد تعدى إلى مفعول؛ لأن " ضربت " ونحوه يتعدى إلى المعارف والنكرات، وتقدّم مفعولاتها وتؤخر، وليس ذلك في: " تفقأت شحما " وبابه. قال سيبويه: " ولا تقول: امتلأته ولا تفقأته، ولا يعمل في غيره من المعارف ". قال أبو سعيد: وإنما لم يجز أن تقول: تفقأته؛ لأن الضمير معرفة، وقد قدمنا أنه لا يعمل في الضمائر ولا في غيرها من المعارف، وهي ما فيه الألف واللام، أو كان مضافا إلى معرفة. قال سيبويه: " ولا يقدّم المفعول فيه فتقول: ماء امتلأت " وقد تقدم تفسير هذا، وما فيه من الاختلاف، ثم قال سيبويه مشيرا إلى: " تفقأت شحما "، و " تصببت عرقا ": " وذلك لأنه فعل لا يتعدى إلى مفعول وإنما هو بمنزلة الانفعال " قال أبو سعيد: اعلم أن في أوزان الأفعال ما يكون متعديا وغير متعدّ، ومنه ما لا يكون متعديا ألبتّة، على معان مختلفة، فمن ذلك أن " فعلت " يتعدى كل ما كان على وزنه، وفعلت لا يتعدى ما كان على وزنه، " وانفعلت " غير متعدّ أيضا نحو انطلق وانقطع وإنما لم يتعدّ لأنه وضع في أصله لقبول المفعول تأثير الفاعل، كقولك: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، وجررته فانجر ونحو ذلك. وربما استعمل للفاعل المبتدئ بالفعل الذي لا يتعداه، كقولهم: " انطلق زيد " كما تقول: " ذهب وعدا "، ولم يجئ متعدّيا في شيء من كلامهم؛ إذ كان الأصل ما ذكرناه، وقد يكون من الأمثلة ما يكون مجراه مجرى الانفعال في حال، ومجرى غيره في أخرى، ¬

_ = ديوان لبيد 86، الخزانة 1/ 524، ابن يعيش 2/ 62، 4/ 55.

وذلك نحو: " تفعّل وافتعل "، وتقول: كسّرته فتكسّر، وقطّعته فتقطّع، وفقّأته فتفقّأ، وصبّبته فتصبب. وقد يجيء على غير ذلك تقول: تجبر الرجل وتكبر وليس على قولك: جبرته فتجبر و " تجرّيت الشيء "، و " تعلقت الرجل " على غير معنى الانفعال؛ إذا كان متعديا، وكذلك " افتعل " نحو شغلته فاشتغل، وغررته فاغترّ، فهذا مثل الانفعال، وقد تقول: " ارتبطته واشتريته "، كما تقول: ربطته وشربته على غير الانفعال ونحو ذلك. فلما كان هذان المثالان قد يجريان مجرى الانفعال أو غيره، وكان الانفعال لازما لموضعه، غير متعدّ بحال كان قوله: " تفقأت " هو مطاوعة " فقأت " و " امتلأت " مطاوعة " ملأت "، وقد بينّا أن المطاوعة إنما هي قبول فعل الفاعل كالانفعال الذي بينّاه. اعلم أن " تفقأت " و " امتلأت " اللذين ذكرهما لا معنى لتعديهما؛ إذ كانا بمنزلة الانفعال في هذا الموضع، فلا يجوز أن يتعديا، كما لا يتعدى " انفعل " الذي هو مثل " انكسر " " واندفع " من كسرته ودفعته. فإن قال قائل: فلم زعمتم أنهما مثلان في هذا الباب؟ فالجواب في ذلك: أنك تقول: " ملأته فامتلأ " و " فقأته فتفقأ "، كما تقول: " كسرته فانكسر، ودفعته فاندفع " فهذا حجة فساد تعدّي هذه الأفعال؛ إذ كانت على ما وصفنا مع ما تقدم من الاعتلال لذلك. قال سيبويه: " ومثله: دحرجته فتدحرج ". يعني: مثله في فعل المطاوعة، فيكون " دحرجته " مثل " ملأته "، و " تدحرج " مثل " امتلأ "، ولا يتعدى إذ كان معناه الانفعال. قال سيبويه: " وإنما أصله امتلأت من الماء، وتفقأت من الشحم، فحذف هذا استخفافا ". يعني: أن قوله: امتلأت ماء، وتفقأت شحما، إنما هو امتلأت من الماء، وتفقأت من الشحم، والماء والشحم هاهنا جنسان بمنزلة عشرين من الدراهم، فإذا حذفت " من " نقلت الجنس إلى واحد منكور شائع فيه، فقلت: امتلأت ماء وتفقأت شحما كما قلت: " عشرون درهما "، وتفسيره تفسير العشرين. قال سيبويه: " وكان الفعل أجدر أن يتعدى؛ إذا كان عشرون ونحوه يتعدى وهو في أنهم قد ضعفوه مثله ".

قال أبو سعيد: يعني أن " امتلأت وتفقأت " وبابه أولى بالعمل في المنكور الذي بعده؛ إذ كانوا قد عدوا العشرين إلى المنكور المميز له وهو جامد فإذا كانوا قد عدوه للعلة التي ذكرناها من شبهه باسم الفاعل، كان ما هو فعل على الحقيقة أولى بالتعدي، وأحق بالعمل والنفوذ، غير أنهم قد ضعّفوا هذا الفعل للعلة التي ذكرناها آنفا، حتى منعوه التعدي إلى غير المنكور، فلما حل هذا المحل صار بمنزلة " العشرين ". قال سيبويه: " وتقول: هو أشجع الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين ". قال أبو سعيد: إذا قلت: " هو أشجع الناس رجلا وهما خير الناس اثنين " فمعناه هو أشجع الناس إذا صنفوا رجلا رجلا، وهما خير الناس إذا صنفوا اثنين اثنين، ولا يصح في هذا أن تقول: " هو أشجع الناس رجالا "؛ لانقلاب المعنى؛ لأنك إذا قلت: " هو أشجع الناس رجالا " كان بمنزلة قولك: " هو أفره الناس عبيدا، ومعناه عبيده أفره من عبيد غيره، وإنما أردت بقولك: " هو أشجع الناس رجلا " ما أردت بقولك: " حسبك به رجلا "، على التمييز، والشجاعة له غير منقولة إليه عن غيره. وإن أردت بقولك: " هو أشجع الناس رجلا " ما أردته بقولك: " هو أشجع الناس رجالا " جاز، كما يجوز: " هو أفره الناس عبيدا وعبدا، وإنما تقول هذا إذا أردت أن قبيلته ورجاله أشجع من رجال غيره، كما تقول: " هو أشجع الناس قبيلة ". وإن أدخلت " من " في الوجه الأول جاز أن تقول: " هو أشجع الناس من رجل " كما تقول: " حسبك بزيد من رجل " فإن أردت به: " هو أشجع الناس رجالا " كما تقول: " هو أفره الناس عبيدا " لم يصلح أن تقول: " هو أشجع الناس من رجل " كما لا تقول: " هو أفره الناس من عبد "، وقد جعلت " هو " للمولى. وإنما انتصب " رجلا " و " اثنين " في هذين الموضعين، لأن المضاف إليه قد صار بمنزلة التنوين، وهو المجرور الذي قاله سيبويه، فانتصب ما بعده؛ لأنه يصير بمنزلة اسم منون كقولك: " خير منك أبا " و " أحسن منك وجها ". قال سيبويه: " والمجرور هاهنا بمنزلة التنوين، وانتصب الرجل والاثنان كما انتصب الوجه في قولك: هو أحسن منك وجها ". وإنما انتصب " وجها "؛ لأن " منه " قد منعت " أحسن " من الإضافة إلى " الوجه " فامتنع الجر في " الوجه " وصارت منه بمنزلة النون في " عشرين " التي تمنع إضافة

" العشرين " ما كانت موجودة، وكذلك " منه " إذا كانت موجودة أو مقدرة، امتنع " أحسن " من الإضافة إلى " وجه " وانتصب " وجها " على ما ينتصب عليه " درهما " بعد " عشرين " وصار " الناس " في قولك: " أشجع الناس وخير الناس " بمنزلة " منه " في " أحسن منه وجها " وبمنزلة النون في عشرين، فمنع إضافة: " أشجع " إلى " رجل " و " خير " إلى " اثنين " فانتصب " رجلا " و " اثنين "، كما انتصب " وجها " و " درهما " في " أحسن منه وجها "، و " عشرين درهما ". قال سيبويه: " ولا يكون إلا نكرة كما لم يكن ثم إلا نكرة ". يعني لا يكون " أشجع الناس رجلا " إلا نكرة، ولا تقول: " هو أشجع الناس الرجل " كما لم تقل: " هو أحسن منه الوجه " ولا يكون " وجها " في " أحسن منه وجها " إلا نكرة، وقد بينا تفسير ذلك فيما مضى. قال سيبويه: " والرجل هو الاسم المبتدأ " يعني أن قولك: " هو أشجع الناس رجلا " على غير قولك هو أشجع الناس أبا؛ لأن قولك: " هو أشجع الناس أبا " ليست الشجاعة في الحقيقة للأول، وإنما هي لأبيه منقولة إليه لفظا، وأبوه غيره، وفي: " أشجع الناس رجلا " ليست الشجاعة منقولة إليه عن غيره، بل هو الرجل الشجاع فهو كقولك: " حسبك بزيد رجلا " و " أكرم به فارسا ". قال: يعني في المسألة التي ذكرها " هو أشجع الناس " كما تقول: " حسبك بزيد رجلا " و " أكرم بزيد رجلا " وهو الممدوح بهذا والمتعجب منه، ولم يرد " هو أشجع الناس رجلا " على حد قولك: " هو أفره الناس عبدا " إذا كان هو للمولى، وقد ذكرنا سائر الوجوه فيه، فاعرف ذلك إن شاء الله. وقال أبو الحسن: (¬1) هو جميع الرجال؛ لأنك إنما أردت من الرجال، فكان " رجل " إنما يدل على هذا المعنى، وكذلك " اثنان " هما كل اثنين؛ لأنك إنما أردت هما خير الناس إذا صنفوا اثنين اثنين. والاثنان كذلك إنما معناه هو خير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس، وإن شئت لم تجعله الأول، فتقول: " هو أكثر الناس مالا ". ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن سعيد بن سعدة الأخفش الأوسط.

قول سيبويه في جريان هذا المجرى أسماء العدد

قال أبو سعيد: والذي قاله أبو الحسن تفسير، وقد دخل فيما قلناه. أما قوله: " لأنك أردت من الرجال ". فمعنى ذلك أنك إذا قلت: " هو أشجع الناس رجلا " فهو بمنزلة قولك: " هو أشجع الناس من الرجال "، ثم تنزع " من " وتوحّد الرجال، وتنكّر الواحد على ما ذكرناه؛ ليدل على الجنس، فتقول: " هو أشجع الناس رجلا " كما أنك إذا قلت: " عندي عشرون درهما " فمعناه من الدراهم وجئت بنكرة من جنس الدراهم، وحذفت من لتدل على الجنس، وقد مر نحو هذا فيما تقدم. [قول سيبويه في جريان هذا المجرى أسماء العدد] قال سيبويه: " ومما أجري هذا المجرى أسماء العدد، تقول فيما كان لأدنى العدد بالإضافة إلى ما يبنى لجمع أدنى العدد إلى أدنى العقود ". قال أبو سعيد: اعلم أن أدنى العدد الذي يضاف إلى أدنى الجموع، ما كان من ثلاثة إلى عشرة، نحو ثلاثة وأربعة وخمسة وعشرة. وأدنى الجموع على أربعة أمثلة، وهو أفعل وأفعال وأفعلة وفعلة، " فأفعل " نحو: " ثلاثة أكلب وأربعة أفلس "، وأفعال نحو: " خمسة أجداع وسبعة أجمال "، وأفعلة نحو: " ثلاثة أحمرة وتسعة أغربة، وفعلة نحو: " عشرة غلمة وخمس نسوة ". وأدنى العدد يضاف إلى أدنى الجموع، وإنما أضيف من قبل أن أدنى العدد بعض الجمع، لأن الجمع أكثر منه فأضيف إليه، كما يضاف البعض إلى الكل، كقولك: " خاتم حديد " و " ثوب خزّ " لأن الحديد والخز جنسان، والثوب والخاتم بعضهما. فإن قال قائل: وكيف صارت إضافة أدنى العدد إلى أدنى الجمع أولى من إضافته إلى الجمع الكثير؟ قيل له: من قبل أن العدد عددان: عدد قليل وعدد كثير، فالقليل ما ذكرناه من الثلاثة إلى العشرة، والكثير ما جاوز ذلك، والجمع جمعان: جمع قليل، وهو ما ذكرنا من هذه الأبنية الأربعة التي قدمنا، وجمع كثير، وهو سائر أبنية الجمع، فاختاروا لإضافة أدنى العدد إليه أدنى الجمع؛ للمشاكلة والمطابقة، وقد يضاف إلى الجمع الكثير، كقولهم: " ثلاثة كلاب "، و " ثلاثة قروء " لأن الجمع الكثير والقليل قد يضاف إلى جنسه؛ فعلى هذا إضافتهم العدد القليل إلى الجمع الكثير، ولهذا قال الخليل: إنهم إذا قالوا: " ثلاثة كلاب " فكأنهم قالوا: ثلاثة من الكلاب، فحذفوا وأضافوا استخفافا. وينزعون الهاء من الثلاثة إلى العشرة في المؤنث، ويثبتونها في المذكر، كقولهم:

" ثلاث نسوة " و " عشر نسوة " و " ثلاثة رجال " و " عشرة رجال " فإن قال قائل: لم أثبتوا الهاء في المذكر ونزعوها من المؤنث؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما: أن الثلاث من المؤنث إلى العشر مؤنثات الصيغة، فالثلاث مثل: " عناق "، وأربع مثل: " عقرب " وكذلك إلى العشرة، قد صيغت ألفاظا للتأنيث، مثل عناق، وأتان، وعقرب، وقدر، وفهر، ويد، ورجل، وأشباه لذلك كثيرة، فصيغت هذه الألفاظ للتأنيث، فصارت بمنزلة ما فيه علامة التأنيث، وغير جائز أن تدخل هاء التأنيث على مؤنث تأنيثه بعلامة أو غيرها، وهذا القول يوجب أنه متى سمي رجل بثلاث لم تصرفه في المعرفة؛ لأنها قد صار محلها محل عناق، إذا سمي بها رجل. وأما الثلاثة إلى العشرة في المذكر، فإنما دخلت الهاء فيها لتأنيث الجماعة ولو سمي رجل بثلاث من قولك: " ثلاثة " لانصرف في المعرفة والنكرة؛ لأنه يصير محلها: محل " سحابة " و " سحاب "، وإذا سمي رجل بسحاب انصرف في المعرفة والنكرة. والقول الثاني: أنه فصل بين المذكر والمؤنث بالهاء، ونزعها يدل على تأنيث الواحد وتذكيره. فإن قال قائل: فهلا أدخلوا الهاء في المؤنث، ونزعوها من المذكر؟ فالجواب أن المذكر أخف في واحده من المؤنث، فثقل جمعه بالهاء وخفف جمع المؤنث؛ ليعتدلا في الثقل. وفي الفرق بينهما وجه آخر، قاله بعض البصريين، وهو أنه قد تلحق الهاء في جمع المذكر في الموضع الذي تسقط فيه من المؤنث، كقولهم: " عناق " و " ثلاث أعنق "، و " عقاب " و " ثلاث أعقب " ثم قالوا: غراب، و " ثلاثة أغربة "؛ لأن العقاب مؤنث، والغراب مذكر. وقد فرق بينهما بعض الناس بمثل هذا المعنى من غير هذا الطريق، فقال: لما قالت العرب: قرد وقردة، وقردة وقرد حملوا " الثلاث " إلى " العشر " على ذلك، فأثبتوا فيما واحده مذكر الهاء، كما أثبتوا الهاء في " قردة " حين كان واحدها مذكرا فاعرفه إن شاء الله تعالى. واعلم أن " الثلاثة " إلى " العشرة " من حكمها أن تضاف إلا أن يضطر الشاعر، فينون وينصب ما بعدها، فيقول: " ثلاثة أثوابا " ونحو ذلك، والوجه ما ذكرناه من

الإضافة. وإنما كان ذلك الوجه؛ لما قدمنا ذكره؛ لأنه بمنزلة إضافة الشيء إلى النوع الذي هو منه، كقولنا: " ثوب خزّ " و " خاتم حديد " وكذلك أضيف: " مائة ثوب " و " ألف ثوب " ومع ذلك فإن الإضافة في اللفظ أخف. وتعرّف " ثلاثة " بإدخال الألف واللام على ما بعدها، فتقول: " ثلاثة الأبواب " و " خمسة الأشبار "، قال ذو الرمة: وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى … ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع وقال آخر: وما زال مذ عقدت يداه إزاره … فدنا فأدرك خمسة الأشبار (¬1) فإن قال قائل: فلم قالوا: " ثلاثة أثواب " و " عشر نسوة "، ولم يقولوا: " واحد أثواب، واثنتا نسوة ". فالجواب في ذلك: أن الواحد والاثنين يكون لهما لفظ يدل على المقدار والنوع، فيستغنى بذلك اللفظ عن ذكر المقدار الذي يضاف إلى النوع، كقولك: " ثوب " و " امرأتان " فدل: " ثوب " على الواحد من هذا الجنس، ودلت " امرأتان " على ثنتين من هذا الجنس، فاستغنى بذلك عن قولك " واحد أثواب " و " اثنتا نسوة " وقد جاء في الشعر، قال الراجز: كأنّ خصييه من التّدلدل … ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (¬2) أراد حنظلتان، فأضاف " ثنتا " إلى نوع الحنظل. وأما ثلاثة إلى العشرة، فليس فيه لفظ يدل على النوع والمقدار جميعا، فأضيف المقدار الذي هو الثلاثة إلى النوع وهو ما بعدها. فإن سأل سائل، فقال: ما معنى قول سيبويه: " ومما أجري هذا المجرى " وإلى ماذا أشار بهذا؟ وكيف جريه مجراه؟ فالجواب في ذلك: أن الفصل الذي قبل هذا، وهو قولك: " زيد أشجع رجل " ¬

_ (¬1) ديوان الفرزدق 378 - الخزانة 1/ 103 - شواهد المغني 256. (¬2) الرجز لخطام المجاشعي في هجاء شيخ كبير الخزانة 3/ 314 - الحماسة 4/ 138.

و " أشجع الناس رجلا " قد يكون فيه منصوب ومخفوض على معنيين مختلفين، ومعنيين متفقين، فجرى باب العدد مجرى: " أشجع الناس رجلا " و " أشجع رجل في الناس " في معنى اجتماع الجر والنصب فيه؛ لأنك تقول في باب العدد: " ثلاثة أثواب "، و " عشرون درهما " و " مائة درهم " فيكون بعضه منصوبا؛ وبعضه مخفوضا؛ على ما توجبه العلل التي نفسرها، إن شاء الله تعالى، على ما كان في الفصل قبل هذا. قال سيبويه: " وتدخل في المضاف إليه الألف واللام لأنه به يكون الأول معرفة، وذلك قولك: " ثلاثة أثواب " و " أربعة أثواب " و " أربعة أنفس "، وكذلك تقول فيما بينك وبين العشرة، وإذا أدخلت الألف واللام قلت: " خمسة الأثواب وستة الأجمال " وقد مر تفسيره. قال سيبويه: " فلا يكون هذا أبدا إلا غير منون يلزمه أمر واحد لما ذكرت لك ". يعني أنه لا بد في الثلاثة وما بعدها إلى العشرة من الإضافة، وترك التنوين، وقد أبنّا ذلك، وأنه غير مستقيم في الكلام التنوين والتقدير: إلا أن يضطرّ شاعر إليه. قال سيبويه: فإذا زدت على العشرة شيئا من أسماء أدنى العدد، فإنه يجعل مع الأول اسما واحدا استخفافا، ويكون في موضع اسم منون، وذلك قولك: " أحد عشر درهما، واثنا عشر درهما وإحدى عشرة جارية ". قال أبو سعيد: اعلم أنك إذا جاوزت العشرة بنيت النّيّف والعشرة إلى تسعة عشر فجعلتهما اسما واحدا، كقولك: " أحد عشر " و " تسعة عشر "، وفتحت الاسم الأول والأخير، والذي أوجب بناءهما جميعا أن معناه " أحد وعشرة " و " تسعة وعشرة "، فنزعت الواو وهي مقدرة، والعدد متضمن لمعناها فبنيا؛ لتضمنهما معنى الواو، وجعلا كاسم واحد. واختير الفتح لهما؛ لأن الثاني حين ضم إلى الأول صار بمنزلة هاء التأنيث التي يفتح ما قبلها، وفتح الثاني؛ لأن الفتح أخفّ الحركات، ولا يكون إلا مثل الأول؛ لأنهما اسمان جعلا اسما واحدا، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية، فجريا مجرى واحدا في الفتح، وقد قلنا: إن الذي أوجب فتح الأول هو ضم الثاني إليه، وأجري الثاني مجراه؛ لأنه ليس أحدهما أولى بشيء من الحركات من الآخر، وانتصب ما بعدهما من قبل أن فيهما تقدير التنوين، ولا يصح إلا كذلك.

والدليل على أنه لا يصح كذلك أن تقديره: " خمسة " و " عشرة "، فالخمسة ليس بعدها شيء أضيفت إليه، فوجب أن تكون منونة، والعشرة محلها محل الخمسة، فكانت منونة مثلها. وأيضا فإنا لم نر شيئين جعلا اسما واحدا وهما مضافان، أو أحدهما مضاف، فوجب نصب ما بعدهما للتنوين المقدر فيهما، وإنما جاز نزع الواو، وجعل الاسمين اسما في العدد؛ لأن حكم العدد أن يكون لكل شيء منه لفظ يدل عليه؛ كقولك: ثلاثة وسبعة، وألف، ولو جعلت مكان سبعة " ثلاثة " و " أربعة "، ومكان الألف " مائة " و " تسعمائة " لدل على الألف، ولكن الوجه أن يدل اللفظ جملة على العدد المقصود؛ ولذلك جعلا كاسم واحد؛ لأن ذلك هو الباب وجعل ما بعدهما واحدا منكورا. أما جعلنا له واحدا؛ فلأنهما قد دلا على مقدار العدد، وبقي الدلالة على النوع، فكان الواحد منه كافيا؛ إذ كان ما قبله قد دل على المقدار والعدد. وأما جعلنا له منكورا فلأن النكرة شائعة في جنسها، وليست ببعض الجنس أولى منه ببعض، فكانت أشكل بالمعنى الذي أردت له من الدلالة على الجنس، وأدخل فيه من غيرها، فبيّن بها النوع الذي احتيج إلى تبيينه، وذلك قولك: " أحد عشر رجلا " و " خمس عشرة امرأة ". أما المذكر فإنك تقول: " أحد عشر رجلا واثنا عشر رجلا وثلاثة عشر رجلا إلى " تسعة عشر رجلا " فأما " أحد " فالهمزة فيه منقلبة من الواو وإنما هو من " وحد "، و " واحد " فاعل منه، وتصرّفه فتقول: " توحّد " كما تقول: " توكّل "، وقلما تبدل الهمزة من الواو المفتوحة، وإنما سمع في هذا الحرف الواحد، وفي قولهم: " امرأة أناة " في معنى: وناة، إذا كانت ساكنة رزانا، وقالوا " أخذ " فزعم بعضهم أن الأصل: " وخذ "، ولذلك قالوا: " اتخذ " كما قالوا " اتعد " ولو كان الأصل من الهمزة لقالوا: " ايتخذ " كما قالوا: " ايتمن " و " ايتسى " من الأمانة والأسوة. وكان " اتخذ " من " وخذ " كما قيل في " وعد ": " اتعد ". وقد ذكرنا الكلام على " اتخذ " في باب الإدغام مستقصى، وسنقف عليه إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: فإذا زعمتم أن النيّف مبنيّ مع العشرة، فلم قلتم في حال الرفع: " اثنا عشر "، وفي حال النصب والجر " اثني عشر "، والمبني لا يتغير؟ فالجواب في ذلك: أن قولنا: " اثنان " إعرابه قبل آخره؛ فإذا أضفناه جعلناه مع غيره اسما واحدا، وحل ذلك

الاسم الذي تضيفه إليه، أو تجعله معه اسما واحدا محلّ النون، فجرى التغيير على الألف مع الاسم الذي بني معه، كما جرى التغيير عليها مع النون، ويكون ذلك الاسم على حاله، كما كانت النون على حالها. وعلة أخرى أنّ " الاثنين " لا يبنى في الموضع الذي يكون الواحد والجمع فيه مبنيّا، وهو " الذي " و " الذين " مبنيان، و " اللذان " معرب، وكذلك الواحد والجماعة من النيف مبني، والاثنان معرب، وثبتت الهاء في: " ثلاثة " إلى: " تسعة " في المذكر إذا كان نيفا، كما أثبتّها في: " ثلاثة " إلى " تسعة " في الآحاد، ونزعتها من العشرة؛ كراهية أن يجمعوا بين تأنيثين من جنس واحد؛ ولأن كونها في أحدهما دلالة على الآخر، إذا كانا بالجملة واحدة. فإن قال قائل فقد قالوا: " إحدى عشرة "، وهذه الألف للتأنيث والهاء للتأنيث. قيل له: إذا كان التأنيث بالألف لم يمتنع دخول التاء عليها؛ لأن الألف للتأنيث بمنزلة شيء من نفس الحرف، كقولهم: " حبلى " و " حبليات "، فلا تسقط ألف التأنيث، وإذا قالوا: " مسلمة " فجمعوا، قالوا: " مسلمات " فأسقطوا التاء مع التاء، ولم يسقطوها مع الألف، وكذلك يسقطونها مع " ثلاثة " من العشرة، ولا يسقطونها من عشرة مع إحدى. وأما " ثنتا عشرة " ففيها لغتان: ثنتا عشرة واثنتا عشرة، فالذي قال " اثنتا عشرة " بناه على المذكر فقال للمذكر: " اثنان "، وللمؤنث " اثنتان "، كما يقول: " ابنان " و " ابنتان " والذي يقول: ثنتان بنى " ثنت " على مثال: " جذع "، كما قالوا: " بنت " فألحقها بجذع، ثم قال: ثنتان، كما تقول: " بنتان "، ولم تدخل هذه التاء على تقدير أن يكون ما قبلها مذكرا؛ لأنها لو دخلت على سبيل ذلك، لأوجبت فتح ما قبلها. والكلام في تغيير الألف في: " ثنتان واثنتان " إذا قلت: " ثنتا عشرة " و " ثنتي عشرة " مثل الكلام في: " اثني عشر " وأما " ثماني عشرة " فإن أكثر العرب يقولون: " ثماني عشرة " كما يقولون: " ثلاث عشرة "، " وأربع عشرة "، ومنهم من يسكّن الياء. فيقول: " ثماني عشرة ". قال الشاعر: صادف من بلائه وشقوته … بنت ثماني عشرة من حجته (¬1) وإنما أسكن الياء كما أسكن في: " معديكرب " و " قالي قلا " و " أيادي سبا "؛ لأن ¬

_ (¬1) قائلة نفيع بن طارق الخزانة 3/ 105 - العيني 4/ 488.

الياء أثقل من غيرها، وغيرها من الصحيح إنما يفتح إذا جعل مع غيره اسما واحدا، فسكنت الياء؛ إذ لم يبق بعد الفتح إلا التسكين. وسنذكر هذا في موضعه بأتم من هذا الكلام إن شاء الله تعالى. وفي " عشرة " لغتان: إذا قلت: " ثلاث عشرة " فأما بنو تميم فيفتحون العين ويكسرون الشين، ويجعلونها بمنزلة كلمة، وأما أهل الحجاز فإنهم يفتحون العين ويسكّنون الشين فيجعلونها مثل " ضربة " وهذا عكس لغة أهل الحجاز وبني تميم، لأن أهل الحجاز في غير هذا يشبعون عامّة الكلام، وبنو تميم يخففون. فإن قال قائل فلم قالوا: " عشرة " فكسروا الشّين؟ قيل له: من قبل أن عشر التي في قولك: " عشر نسوة " مؤنثة الصيغة، فلم يصحّ دخول الهاء عليها، فاختاروا لفظة أخرى يصح دخول الهاء عليها، وخفف أهل الحجاز ذلك، كما يقال: " فخذ وفخذ " " وعلم وعلم " ونحو ذلك. قال سيبويه: " فعلى هذا يجرى من الواحد إلى التسعة ". قال: يعني من: " أحد عشر " إلى " تسعة عشر ". قال سيبويه: فإذا ضاعفت أدنى العقود كان له اسم من لفظه، ولا يثنى العقد، ويجري ذلك الاسم مجرى الواحد الذي لحقته الزوائد للتثنية، ويكون حرف الإعراب الواو والياء، وبعدهما النون. قال أبو سعيد: اعلم أنهم إذا جاوزوا: " تسعة عشر " صاغوا لفظا للمؤنث والمذكر على صيغة واحدة، وألحقوا آخرها واوا ونونا في الرفع، وياء ونونا في الجر والنصب، وفسروه بواحد منكور من الجنس منصوب، وذلك قولهم: " عشرون درهما ". فإن قال قائل: ما هذه الكسرة التي لحقت أول: " العشرين " وهلا جرت على " عشرة " فيقال: " عشرون " أو على: " عشر " فيقال: عشرون؟ فإن الجواب في ذلك أن " عشرين " لما كانت واقعة على الذكر والأنثى كسروا أولها؛ للدلالة على التأنيث، وجمع بالواو والنون؛ للدلالة على التذكير، فتكون آخذة من كل منهما بتأثير. فإن قال قائل: فقد كان ينبغي على هذا القياس أن يجعلوا هاتين العلامتين في الثلاثين إلى التسعين.

قيل له: قد يجوّز له أن تكون الثلاث التي في الثلاثين هي الثلاث التي للمؤنث، وتكون الواو والنون لوقوعه على التذكير، فيكون قد جمع للثلاثين لفظ التأنيث والتذكير، فيكون على قياس العلة الأولى مطردا. ويجوز أن يكون قد اكتفوا بالدلالة في: " العشرين " عن الدلالة في غيره من الثلاثين إلى التسعين؛ لأن العشرين أول، وهو يقع على المؤنث والمذكر، والثلاثين إلى التسعين تجري على مثل ما جرى عليه " العشرون "، فإذا وقع: " العشرون " على المذكر والمؤنث كان الثلاثون مثله، واكتفوا بعلامة التأنيث في: " العشرين " عن علامته في: " الثلاثين ". ودليل آخر في كسر العين من عشرين، وهو أنا رأيناهم قالوا في ثلاث عشرات: " ثلاثون ". وفي أربع عشرات " أربعون " وكأنهم جعلوا ثلاثين عشر مرار ثلاثة، وأربعين عشر مرار أربعة، إلى التسعين، فاشتقوا من لفظ الآحاد ما يكون لعشر مرار ذلك العدد، فكان قياس العشرين من الثلاثين أن يقال: " اثنين " و " اثنون " بعشر مرار اثنين، إلا أنهم تجنبوا ذلك؛ لأن الاثنين لا يكون إلا مثنى، فلو قلنا: اثنون، كنا قد نزعنا " اثن " من الاثنين، فأدخلنا عليه الواو والنون، و " اثن " لا يستعمل إلا مع حروف التثنية، فبطل استعماله في موضع العشرين، فلما اضطروا لهذه العلة إلى استعمال العشرين كسروا أوله؛ لأن اثنين وثنتين مكسورا الأول، فكسروا أول العشرين لذلك، وأدخل الواو والنون، لأنه يقع على المذكر والمؤنث، وإذا اختلط المؤنث والمذكر في لفظ غلّب التذكير، وانفرد اللفظ به. ودليل آخر؛ وهو أنهم يقولون في المؤنث: " إحدى عشرة، وتسع عشرة " فلما جاوزوها إلى العشرين، نقلوا كسرة الشين التي كانت للمؤنث إلى العين، كما يقولون في: " كذب " " كذب " وفي: " كبد كبد " وجمعوا بالواو والنون، كما يفعلون في الأشياء المؤنثة المحذوفة منها الهاءات عوضا من المحذوف، كقولهم في " سنة ": سنين وسنون، وفي " أرض " أرضون وأرضين وفي: " ثبة " ثبون وثبين، وهذا كثير جدّا، والجمع بالواو والنون له مزية على غيره من الجموع، فجعل عوضا من المحذوف. واعلم أن " عشرين " ونحوها ربما جعل إعرابها في النون، وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر، فإذا جعلوا إعرابها كذلك ألزمت الياء؛ لأنها أخف من الواو، كما فعلوا ذلك في " سنين " إذا جعلوا إعرابها في النون، قالوا: " أتت عليه سنين ".

قال الشاعر: وأنّ لنا أبا حسن عليا … أب برّ ونحن له بنين (¬1) وأنشد بعضهم: أرى مرّ السّنين أخذن مني … كما أخذ السّرار من الهلال (¬2) وقال سحيم بن وثيل الرّياحي (¬3) وماذا يدّري الشعراء مني … وقد جاوزت حد الأربعين أخو خمسين مجتمع أشدّي … ونجّدني مداورة الشؤون (¬4) وهذا قول عامة أصحابنا أنه متى لزم النون الإعراب لزم الياء، وصار بمنزلة قنّسرين وغسلين، وأكثر ما يجيء هذا في الشعر. وقد زعم بعضهم أنه قد يجوز أن تلزم الواو، وإن كان الإعراب في النون، وزعم أن " زيتون " يجوز أن يكون " فيعول "، ويجوز أن يكون " فعلون "، وهو إلى " فعلون " أقرب؛ لأنه من الزيت، وقد لزم الواو. قال سيبويه: " لو سمي رجل بمسلمون كان فيه وجهان: إن جعلت الإعراب في الواو فتحت النون على كل حال، وجعلت في حال الرفع واوا، وفي حال النصب والجر ياء، كقولك: " جاءني مسلمون "، و " رأيت مسلمين " و " مررت بمسلمين "، وإن جعلت الإعراب في النون ألزمته الياء على كل حال "، فتقول: " جاءني مسلمين "، و " رأيت مسلمينا "، و " مررت بمسلمين "، فهذا ما ذكره، ولم يزد عليه شيئا. وقد رأينا في كلام العرب وأشعارها بالرواية الصحيحة وجها آخر، وهو أنهم إذا سموا بجمع فيه واو ونون، فقد يلزمون الواو على كل حال، ويفتحون النون، ولا يحذفونها في الإضافة، وكأنهم حكوا لفظ الجمع المرفوع في حال التسمية وألزموه طريقة واحدة، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) الخزانة 3/ 418 وفيها أن البيت لسعيد بن قيس الهمداني. (¬2) قائلة جرير يهجو الفرزدق ديوان جرير 425. (¬3) سحيم شاعر معروف في الجاهلية والإسلام عده ابن سلام في الطبقة الثالثة عن الشعراء المسلمين الخزانة 1/ 126، طبقات ابن سلام 59، 485. (¬4) الخزانة 1/ 126 - 3/ 414، حماسة البحتري 7.

ولها بالماطرون إذا … أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتبعت … ذكت من جلّق بيعا وقفت للبدر ترقبه … فإذا بالبدر قد طلعا (¬1) ففتح نون الماطرون، وأثبت الواو، وهو في موضع جر. والعرب تقول: " الياسمون " في حال الرفع والنصب والجر، ويقولون: " ياسمون البرّ "، فيثبتون النون مع الإضافة ويفتحونها، ومنهم من يرويه: بالماطرون، ويعرب نون " الياسمون "، ويجري ذلك مجرى " الزيتون " وهو الأجود، والدليل على ذلك قول الشاعر في أبيات تروى لأبي دهبل، ولعبد الرحمن بن حسان أولها: طال ليلي وبتّ كالمحزون … واعترتني الهموم بالماطرون (¬2) وفي القصيدة: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّا … ص ميزت من جوهر مكنون فإذا زدت على " العشرين " نيّفا أعربته، وعطفت " العشرين " عليه كقولك: " أخذت خمسة وعشرين " وهذه " ثلاثة وعشرون "، لأنه لا يصح أن يبنى النيّف مع العشرين؛ لأنه معرب، ولا يصح أن يبنى اسم مع اسم وأحدهما معرب، ولم يقع الآخر موضع شيء منه، كوقوع: " عشر " في موضع النون من " اثني عشر ". وينصب النوع الذي بعد: " العشرين " إلى: " التسعين " ويوحّد وينكّر، والذي أوجب نصبه أن " عشرين " جمع فيه نون بمنزلة: " ضاربين " ويجوز إسقاط نونه إذا أضيف إلى مالك كقولك: هذه عشرو زيد وعشرون يطلب ما بعده ويقتضيه. كما أن: " ضاربين " يطلب ما بعده ويقتضيه، فتنصب ما بعد " العشرين " كما تنصب ما بعد " الضاربين " من المفعول للتشبيه الذي ذكرناه، إلا أن " عشرين " لا يعمل إلا في منكور ولا يعمل فيما قبله؛ لأنه لم يقو قوة " ضاربين " في كل شيء؛ لأنه اسم جامد غير مشتق من فعل، فلم يتقدم عليه ما عمل فيه؛ لأنه غير متصرف في نفسه، ولم يعمل ¬

_ (¬1) قال المبرد قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسب إلى يزيد بن معاوية. اللسان (مطر) 7/ 29، العيني 1/ 149، الخزانة 3/ 278. (¬2) قائلة أبو دهبل الجمحي وقيل الأحوص انظر الخزانة 3/ 280، الخصائص 3/ 216.

إلا في نكرة؛ من قبل أنّ المعنى في: " عشرين درهما " عشرون من الدراهم، فاستخفوا وأرادوا الاختصار فحذفوا من وجاءوا بواحد منكور شائع في الجنس، فدلوا به على النوع، وقد مر هذا مستقصى فيما مرّ. ولا يجوز أن يكون التفسير إلا بواحد؛ إذ كان الواحد دالّا على نوعه مستغنى به، فإذا أردت أن تجمع جماعات مختلفة، جاز أن تفسر " العشرين " ونحوها بجماعة، فيكون " عشرون " كل واحد منها جماعة، ومثل ذلك قولك: " قد التقى الخيلان " وكل واحد منهما جماعة خيل، فعلى هذا تقول: " التقى عشرون خيلا " على أن كل واحد من العشرين خيل. وقال الشاعر: تبقّلت من أول التبقّل … بين رماحي مالك ونهشل (¬1) لأن مالكا ونهشلا قبيلتان، وكل واحدة منهما لها رماح، فلو جمعت على هذا لقلت: " عشرون رماحا قد التقت "، يريدون عشرون قبيلة لكل واحدة منها رماح، ولو قلت عشرون رمحا، كان لكل واحد منها رمح، وقال الشاعر في مثل ذلك. سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا … فكيف لو قد سعى عمرو عقالين لأصبح القوم أوبادا ولم يجدوا … عند التفرق في الهيجا جمالين (¬2) أراد جمالا لهذه الفرقة، وجمالا لهذه الفرقة، فإذا بلغت المائة جئت بلفظ يكون للمذكر والأنثى، وهو " مائة " كما قال: " عشرون " وما بعدها من العقود، وبينت المائة بإضافتها إلى واحد منكور. فإن قال قائل: ما العلة التي لها أضيفت إلى واحد منكور؟ فالجواب في ذلك: أنها شابهت " العشرة " التي حكمها أن تضاف إلى جماعة، و " العشرين " التي حكمها أن تميز بواحد منكور، فأخذت من كل واحد منهما شبها فأضيفت لشبه العشرة، وجعل ما تضاف إليه واحدا لشبه العشرين؛ لأن ما تضاف إليه نوع يبينها كما بيّن النوع المميز العشرين. فإن قيل وما شبهها من العشرة والعشرين؟ قيل أما شبهها من العشرة، فلأنها عقد ¬

_ (¬1) البيت لأبي النجم العجلي من لاميته: شواهد الكشاف 94. (¬2) البيتان لعمرو بن العداء الكلبي انظر الخزانة 3/ 387، اللسان (عقل) 13/ 484 الأغاني 18/ 49، مجالس ثعلب 1/ 142.

العشرة كما أن العشرة عقد الواحد؛ لأن مائة عشر مرات عشرة، كما أن العشرة عشر مرات واحد. وأما شبهها من " العشرين " فلأنها تلي التسعين، وحكم عشرة الشيء كحكم تسعته، ألا ترى أنك تقول: " تسعة أثواب، وعشرة أثواب "، فتكون العشرة كالتسعة والمائة من التسعين كالعشرة من التسعة، والتسعون كالعشرين، فإذا ثنيت " مائة " أضفت كإضافة المائة، وذلك قولك: " مائتا درهم " و " مائتا ثوب " ونحو ذلك. ويجوز في الشعر إدخال النون على المائتين، ونصب ما بعدها، قال الشاعر: إذا عاش الفتى مائتين عاما … فقد ذهب اللذاذة والفتاء (¬1) وقال آخر: أنعت عيرا من حمير خنزره … في كل عير مائتان كمره (¬2) فإذا أردت تعريف المائة والمائتين أدخلت الألف واللام في النوع وأضفتهما إليه كقولك: " مائة الدرهم ومائتا الثوب ". فإذا جمعت المائة أضفت الثلاث فقلت: ثلاثمائة إلى تسعمائة. فإن قال قائل: هلّا قلتم: ثلاث مائتين أو مئات، كما قلتم: ثلاث مسلمات وتسع تمرات؟ فالجواب في ذلك أنا رأينا " الثلاث " المضاف إلى المائة قد أشبهت " العشرين " من وجه، وأشبهت الثلاث التي في الآحاد من وجه، فأما شبهها بالعشرين فلأن عقدها على خلاف قياس الثلاث إلى التسع، لأنك تقول ثلاثمائة وتسعمائة، ثم تقول: " ألف " ولا تقول: " عشر مائة "، فصار بمنزلة قولك: عشرون وتسعون، ثم تقول: مائة على غير قياس التسعين، وتقول في الآحاد: " ثلاث نسوة " و " عشر نسوة " فتكون العشر بمنزلة الثلاث فأشبهت ثلاث المائة العشرين، فبيّنت بواحد، وأشبهت الثلاث في الآحاد فجعل بيانها بالإضافة. والدليل على صحة هذا أنهم قالوا: " ثلاثة آلاف " فأضافوا الثلاثة إلى جماعة؛ لأنهم ¬

_ (¬1) قائله الربيع بن ضبع الفزاري الخزانة 3/ 306 - ابن يعيش 6/ 21، الهمع 1/ 253. (¬2) قائله الأعور بن براء الكلبي معجم البلدان 3/ 471، اللسان (خنزر) 5/ 344.

يقولون: عشرة آلاف، فلما كانت عشرته على قياس ثلاثته أجروه مجرى: " ثلاثة أثواب "؛ لأنهم قالوا: عشرة أثواب، فإذا قلت: ثلاثمائة، فحكم المائة بعد إضافة الثلاثة إليها أن تضاف إلى واحد منكور، كحكمها حين كانت منفردة ويجوز أن تنوّن وتميّز بواحد كما قيل: " مائتان عاما ". وأما قوله تعالى: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (¬1) فإن أبا إسحاق الزجاج (¬2) زعم أن سنين منتصبة على البدل من ثلاثمائة، ولا يصح أن تنتصب على التمييز؛ لأنها لو انتصبت على التمييز فيما قالوا، لوجب أن يكونوا قد لبثوا تسعمائة سنة، كما أنك إذا قلت: " عشرون رماحا " فكل واحد منها رماح، فيكون " عشرون رماحا " ستين رمحا أو أكثر، وليس ذلك معنى الآية، وقبيح أن تجعل " سنين " نعتا لها؛ لأنها جامدة ليس فيها معنى فعل. وقال الفراء: يجوز أن تكون سنين منصوبة على التمييز، كما قال عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة … سودا كخافية الغراب الأسحم (¬3) ويروى: سود. قال: فقد جاء التمييز " سودا " وهي جماعة، قال أبو سعيد ولأبي إسحاق أن يفصل بين هذا وبين سنين؛ لأن سودا إنما جاء بعد المميز، فيجوز أن يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، كما تقول: " كلّ رجل ظريف عندي "، وإن شئت قلت: " ظريف " فتحمله مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وليس قبل " سنين " شيء وقع به التمييز، فتكون " سنين " مثل " سودا ". واعلم أن " مائة " ناقصة بمنزلة " رئة " و " إرة " فلك أن تجمعها فتقول: " مئون " في حال الرفع، ومئين في حال النصب والجر، وإن شئت قلت: مئين، فجعلت الإعراب في النون وألزمته الياء، وإن شئت قلت: مئات، كما تقول: " ديات ". وأما قول الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة الكهف، آية: 25. (¬2) أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج كانت صناعته خرط الزجاج فلزم أبا العباس المبرد حتى صار من كبار النحاة وتوفي عام 311 هـ نزهة الألباء 244. (¬3) البيت من معلقة عنترة ديوانه 13 (ط بيروت) ابن يعيش 3/ 55.

وحاتم الطائي وهّاب المئي (¬1) فقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم: أراد جمع المائة على الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، كقولك: " تمرة وتمر "، فكأنه قال: " مائة " و " مئ " مثل: " مع " ثم أطلق القافية للجر. وقال بعضهم: " أراد المئيّ " وكان أصله المئيّ على مثال " فعيل "؛ لأن الذاهب من المائة إما ياء وإما واو، فإن كانت ياء فهي: " مئيّ " وإن كانت واوا انقلبت أيضا ياء، وصار لفظها واحدا ثم تكسر الميم، وذلك أن بني تميم يكسرون الفاء من فعيل إذا كانت العين أحد الحروف الستة، وهي حروف الحلق، كقولك: " شعير " و " رحيم " فيقولون في ذلك: " مئيّ " وأصله: مئيّ. ومما جاء على هذا المثال من الجمع " معيز " جمع معز، و " كليب وعبيد "، وغير ذلك مما جاء على فعيل، فعلى هذا القول مئيّ مشددة، ويجوز تخفيفها في القافية المقيدة، كما ينشد بعضهم قول طرفة: أصحوت اليوم أم شاقتك هر … ومن الحبّ جنون مستعر (¬2) وقال بعض النحويين: إنما هو " مئين " فاضطر إلى حذف النون كما قال: قواطنا مكة من ورق الحمى (¬3) ويجوز أن يكون " المئي " على فعول مثل عصي وقسيّ ثم خفف، كما قال: تعال نصنع رجلا مثل عدىّ … نصنعه من الرّقاع والعصىّ أما قول حسان: وذلك أن ألفكم قليل … بواحدنا أجل أيضا ومين (¬4) أراد: ومئين، فحذف الهمزة ألبتة كما قالت: ها من أحسّ لي أخوين … كالبدرين أم من راهما أرادت رآهما، فحذفت الهمزة ألبتة، فاعرفه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هذا البيت من رجز أورده أبو زيد في نوادره. الخزانة 3/ 304 - ابن الشجري 1/ 383. (¬2) انظر الخصائص 2/ 28، 320 - ديوان طرفة (بتحقيق الجندي) 672، وهر اسم امرأة. (¬3) قائله العجاج ديوان 59، الخصائص 3/ 135 - الدرر 1/ 157 - اللسان (هم) 15/ 48. (¬4) ديوان حسان 346.

فإذا بلغت إلى الألف أضفت إلى واحد، فقلت: ألف درهم، كما أضفت " المائة " إلى الواحد حين قلت: مائة درهم، والعلة فيه كالعلة فيها؛ من قبل أن الألف على غير قياس ما قبله؛ لأنك لم تقل: عشر مائة، كما قلت: تسعمائة، وصغت لفظا يدل على العقد الذي بعد تسعمائة، غير جار على شيء قبله، كما فعلت ذلك بالمائة، حين لم تجرها على قياس التسعين، فإذا جمعت الألف جمعته على حد ما يجمع عليه الواحد. وتضيف ثلاثته وأربعته إلى جماعة نوعه، فتقول: ثلاثة ألف وعشرة ألف، كما قلت: ثلاثة أثواب وعشرة أثواب. وإنما خالف جمع الألف في الإضافة جمع المائة؛ لأن الألف عشرته كثلاثته، فصار بمنزلة الآحاد التي عشرتها كثلاثتها، وليس عشرة المائة كثلاثتها، وقد بينا هذا فيما تقدم، وليس بعد الألف شيء من العدد على خلاف لفظ الآحاد إلى الألف، فإذا تضاعف أعيد عليه اللفظ بالتكرير كقولك: عشرة آلاف ألف ومائة ألف ألف ونحو ذلك، وإنما قلت: عشرة آلاف درهم، لأن الألف قد لزم إضافته إلى واحد يبيّنه، وكذلك جماعته كواحده في تبيينه بالواحد من النوع، واعلم أن " الألف " مذكر، تقول: أخذت منه ألفا واحدا، وقال الله عزّ وجل: بِثَلاثَةِ آلافٍ (¬1) فأدخل الهاء على الثلاثة فدل على تذكير الألف، وربما قيل: هذه ألف درهم، يريدون: " هذه الدراهم " فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى: قال سيبويه: " فعلى هذا يجرى الواحد إلى التسعة ". يعني يجرى النّيّف من " أحد عشر " إلى " تسعة عشر " مجرى واحدا في بناء أحدهما مع الآخر، وقد بيناه بما فيه. قال سيبويه: " فإذا ضاعفت أدنى العقود كان له اسم من لفظه ولا يثنى ذلك العقد " يعني " عشرين " واسمها من لفظها؛ لأنها ليست بتثنية شيء ينطق به ولا بجمعه؛ لأنك لا تجد شيئا من العدد تقع عليه عشر، فقد صح أنه ليس بتثنية عشرة، ولا بجمع شيء ينطق به. قال سيبويه: " ويجرى ذلك الاسم مجرى الواحد الذي لحقته الزيادة للجمع، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 124.

كما لحقته الزيادة للتثنية، ويكون حرف الإعراب الواو والياء، وبعدهما النون، وذلك قولك: عشرون درهما ". قال أبو سعيد: يعني يجرى " العشرون " بما لحقه من الواو والنون بمنزلة اسم كان على عشر، فجمع جمع السلامة، الذي هو بمنزلة التثنية في سلامة الواحد، ولحاق الزيادة، ويدخل التغيير على زيادته من واو إلى ياء، كما قد عرفت في الجموع السالمة. قال سيبويه: " فإن أردت أن تثلث أدنى العقود كان له اسم من لفظ الثلاثة يجرى مجرى الاسم الذي كان للتثنية، وذلك قولك: " ثلاثون عبدا "، وكذلك إلى أن تتسّعه ". قال أبو سعيد: يعني أن الثلاثين قد فعل بها ما فعل بالعشرين من إجرائها على حد جمع السلامة، إلا أن لفظها مأخوذ من الثلاثة، بإسقاط الهاء غير مغيّر منه شيء، إلا إسقاط الهاء، وكذلك إلى التسعين مأخوذ من الثلاثة إلى التسعة على حد ما ذكرناه من أخذ " الثلاثين " من " الثلاثة ". قال سيبويه: " وتكون النون لازمة له كما كان ترك التنوين لازما للثلاثة إلى العشرة ". قال أبو سعيد: يعني أن النون والتمييز لازم للعشرين إلى التسعين، كما كان ترك التنوين والإضافة لازما للثلاثة إلى العشرة، وقد ذكرنا هذا مشروحا فيما مضى. قال سيبويه: " وإنما فعلوا هذا بهذه الأسماء؛ وألزموها وجها واحدا؛ لأنها ليست كالصفة التي في معنى الفعل، ولا التي شبّهت به ". قال أبو سعيد: يعني إنما ألزموها النون ولم يجيزوا إضافتها إلى الجنس، فيقولوا: " عشرو درهم "، كما قالوا في الصفة التي في معنى الفعل، يريد اسم الفاعل: " ضاربون زيدا " و " ضاربو زيد "، وفي الصفة المشبّهة: حسنون وجوها؛ وحسنو وجوه؛ لأنها- أعني عشرين- لم تقو قوة اسم الفاعل والصفة المشبهة فلم تصرّف تصرفهما، وألزمت طريقا واحدا، وقد مرّ في هذا ما يغني عن إعادته. قال سيبويه: " ولم يجز حين جاوزت أدنى العقود فيما تبيّن به من أيّ صنف العدد، إلا أن يكون لفظه واحدا، ولا يكون فيه الألف واللام لما ذكرت لك، وكذلك هو إلى التسعين فيما يعمل فيه، ويبيّن به من أيّ صنف العدد ".

قال أبو سعيد: يعني أنه لا يجوز أن يجعل المميز من " أحد عشر " الذي يلي أدنى العقود إلى " تسعة وتسعين " إلا واحدا منكورا لا ألف فيه ولا لام. قال سيبويه: (فإذا بلغت العقد الذي يليه تركت التنوين والنون وجعلت الذي يعمل فيه ويبيّن به العدد من أيّ صنف هو واحدا). قال يعني: إذا بلغت عقد العشرة وهو " مائة " أضفت إلى واحد منكور. قال سيبويه: (كما فعلت ذلك فيما نوّنت فيه، إلّا أنك تدخل فيه الألف واللام، لأن الأول يكون به معرفة ولا يكون المنّون به معرفة، وذلك قولك: " مائة درهم " و " مائة الدرهم "). قال أبو سعيد: يعني بينت " مائة " بواحد أضفتها إليه، كما بيّنت ما فيه النون، وما كان في تقدير التنوين نحو: " خمسة عشر " بواحد ميّزه؛ لأن الواحد الذي أضيفت إليه المائة قد يكون معرفة بدخول الألف واللام عليه، وقد تكون " المائة " معرفة بإضافتك إياها إليه، والواحد الذي يميز " العشرين " ونحوها لا تدخله الألف واللام، ولا يتعرف الأول به، وقد مر تفسير هذا. قال سيبويه: (وكذلك إن ضاعفته فقلت: مائتا الدرهم ومائتا الدينار). يعني أنك تضيف " المائتين " إلى واحد بينهما، كما أضفت المائة، وتعرّف ذلك الواحد بإدخال الألف واللام، كما فعلت ذلك بالمائة. قال سيبويه: " وكذلك العقد الذي بعده واحدا كان أو مثنى، وذلك قولك: ألف درهم وألفا درهم ". قال أبو سعيد: يعني أن ألف درهم وألفي درهم، كمائة درهم ومائتي درهم. قال سيبويه (وقد جاء في الشعر بعض هذا منونا، قال الرّبيع بن ضبع الفزاري): إذا عاش الفتى مائتين عاما … فقد ذهب اللذاذة والفتاء (¬1) وقال آخر: أنعت عيرا من حمير خنزره … في كل عير مائتان كمره (¬2) ¬

_ (¬1) سبق الحديث عنه الخزانة 3/ 308. (¬2) سبق الحديث عنه.

قال أبو سعيد: قد ذكرنا هذين البيتين بما يستحقانه من التفسير. قال سيبويه: " وأما تسعمائة فكان ينبغي أن تكون في القياس " مئين " أو " مئات "، ولكنهم شبّهوه بعشرين وأحد عشر، حيث جعلوا ما يبيّن به العدد واحدا؛ لأنه اسم لعدد ". قال أبو سعيد: يعني أن القياس في " تسعمائة " كان بجمع المائة، فكان ينبغي أن تقول: " ثلاث مئات " أو " ثلاث مئين "، وذلك أن " ثلاثا " و " تسعا " تضاف إلى جماعة في الآحاد فانبغى أن تكون هاهنا أيضا مضافة إلى جماعة غير أنهم أضافوها إلى واحد، وبينوها كما بيّنوا " أحد عشر " و " عشرين " بواحد، وقد بينا وجه الشبه فيه. قال سيبويه: " وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا، والمعنى جمع حتى قال بعضهم في الشعر من ذلك ما لا يستعمل في الكلام، قال علقمة بن عبدة ": بها جيف الحسرى فأمّا عظامها … فبيض وأما جلدها فصليب (¬1) وقال آخر: لا تنكروا القتل وقد سبينا … في حلقكم عظم وقد شجينا (¬2) قال أبو سعيد: يعني ليس بمستنكر في كلام العرب أن يكون اللفظ واحدا، ويكون عبارة عن جميع، ولا سيما في باب العدد، كما قلنا في: " عشرين درهما "، و " مائة درهم "، وقد استعملت العرب لفظ الواحد بمعنى الجميع في الشعر، لمّا لم يستعمل في الكلام؛ لأن من كلامهم في مواضع كثيرة العبارة عن الجميع بواحد، فحمل الشاعر هذا المعنى بأن استعمل لفظ الواحد بمعنى الجمع في غير تلك المواضع، وهو البيت الذي أنشده لعلقمة. وإنما يريد وأما: " جلودها " فاكتفى بقوله: " جلدها " عن جلودها، وإنما يصف فلاة قطعها، ويذكر بعدها فيقول: " بها جيف الحسرى " أي بها جيف الإبل المعيبة التي قد تركت في هذه الفلاة لبعدها، " فأما عظامها فبيض " أي قد تفصّلت وظهرت من اللحم، وأكلت الطيور والسباع ما عليها من اللحم، وأما جلودها فقد سال ودكها عليها، بوقوع ¬

_ (¬1) قائله علقمة بن عبده بن ناشرة بن قيس شاعر جاهلي عاصر امرأ القيس الخزانة 1/ 565 / ديوان علقمة 3 - الخزانة 3/ 379. (¬2) قائله المسيب بن زيد مناة الغنوي الخزانة 3/ 379 - المقتضب 2/ 172 ابن يعيش 6/ 22 - المخصص 1/ 31 - 10/ 30.

الشمس وإحمائها لها، وكان ينبغي أن يقول: " جلودها " كما قال: " عظامها ". وأما البيت الثاني فالشاهد منه: " في حلقكم عظم " وإنما أراد في حلوقكم، لأنهم جماعة، وكأنّ هؤلاء قوم سبوا من عشيرة هذا الشاعر، وباعوا ما سبوا منهم، ثم ثاب لعشيرة هذا الشاعر ظفر لمن سبي منهم، فقتلوا منهم، فقال شاعرهم وهو: " المسيّب بن زيد مناة الغنوي " من القبيلة التي عاقبت وقتلت، ويخاطب الآخرين، الذين سبوا منهم: لا تنكروا القتل وقد سبينا والأبيات في غير كتاب سيبويه، يقولها المسيب بن زيد مناة الغنوي، يخاطب حنظلة بن الأعرف الضبابيّ: إن تك مقتولا فقد سبينا … أو تك مجذوعا فقد شرينا أو تك مفجوعا فقد وهينا … في حلقكم عظم وقد شجينا (¬1) " شرينا " أي باعونا، وقوله: " شجينا " أي شجينا نحن، و " في حلقكم عظم " هذا مثل، كأنّه يقول: قد غصصتم؛ لشدة ما نزل بهم كأنّ في حلوقكم عظاما لا تنزل ولا تخرج، ومعنى " شجينا " أي شجينا نحن أيضا كما أصابكم، ولا تنزل الغصّة ولا تخرج، ومن ذلك شجيت الساق بالخلخال، إذا لم يكن الخلخال قلقا فيها، ويقال: " فلان شجى " في حلق فلان " إذا كان يثقل عليه أمره فلا يستسيغه، فاعرفه إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " واختص بهذا الباب إلى تسعمائة ". يعني أضيف: " الثلاث " و " التسع " وما بينهما إلى " مائة " وهي واحدة، وليس ذلك بالقياس في إضافة: " الثلاث "؛ لأن الثلاث حكمها أن تضاف إلى جماعة، غير أن الثلاث خصت بالإضافة إلى مائة. وقد تقدم المعنى الذي له خصّت بذلك. قال سيبويه: (كما أن " لدن " لها مع غدوة حال ليست لها في غيرها تنصب بها). يعني: أن " لدن " ينخفض ما بعدها؛ لأنها بمنزلة " عند " فتقول: " من لدن زيد " و " لدن عشية " و " لدن عتمة " وما أشبه ذلك، وهو القياس فيها، غير أنهم قد قالوا: " لدن غدوة " فنصبوا بها " غدوة " خاصة، وإنما نصب بها " غدوة "؛ لأن فيها لغات: منهم من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

يقول: " لدا ولد " وغير ذلك، فالذي نصب بها شبه النون الداخلة على " لد " بعد فقدها منه، بمنزلة النون الداخلة في " عشرين "، بعد نزعها منه في قولك: " عشرو زيد " و " عشرون درهما "؛ إذ كانت تسقط في حال، وتثبت في حال، وقال بعضهم: " لدن غدوة " فنصب بها " غدوة " خاصة، كأنه أدخل النون على " لد " في لغة من يسكّنها ثم فتح الدال؛ لالتقاء الساكنين كما قالوا: " اضربن زيدا "، ففتحوا الباء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: (كأنه ألحق التنوين في لغة من قال " لد "، وذلك قولك: " من لدن غدوة " وقال بعضهم من لدن غدوة كأنه أسكن الدال ثم فتحها، كما قال: " اضربن زيدا "، ففتح الباء لما جاء بالنون الخفيفة، والجر في " غدوة " هو الوجه والقياس وتكون النون من نفس الكلمة بمنزلة من وعن). قال أبو سعيد: يعني أن النون في " لدن " بمثلة النون في " من " والدليل على ذلك أنه يخفض بها مع ما بعدها، مع ثبات النون، فعلمنا أن النون من صيغتها، وقد مرّ الكلام في هذا الفصل. قال سيبويه: " وقد يشذّ الشيء من كلامهم عن نظائره ويستخفون الشيء في موضع لا يستخفونه في غيره ". يعني في شذوذ " غدوة " مع " لدن ". ومن ذلك قولهم: ما شعرت به شعرة وليت شعري. قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن مصدر " شعرت " إنما هو " شعرة " في أكثر المواضع بإثبات الهاء، وهي مع " ليت " بحذفها؛ إذ قالوا: " ليت شعري " لما كثر استعمالها طرحوا الهاء منها. ومثل ذلك تقول: امرأة عذراء بيّنة العذرة، كما تقول: حمراء بينة الحمرة، ويقولون لمن افتضها: هو أبو عذرها، يريدون أبو عذرتها، أي صاحب عذرتها، وجرى ذلك مثلا لكل من يستخرج شيئا أن يقال له: أبو عذرها، والأصل فيه: " عذرة المرأة " واستخفوا بطرح الهاء حين جرى في كلامهم مثلا، وكثر استعمالهم له. قال سيبويه: (وتقول العمر والعمر، ولا يقولون في اليمين إلا بالفتح، يقولون كلّهم: " لعمرك " وسترى أشباه هذا في كلامهم إن شاء الله تعالى). قال أبو سعيد: وإنما قالوا في اليمين بالفتح حين كثر الحلف، فاختاروا أخفّ

هذا باب استعمال الفعل في اللفظ

اللفظين، وتركوا الآخر الذي في معناه، وإنما يستدل " سيبويه " بما ذكر من ذلك، أنّ اللفظ قد تكون له حال، لا تكون لنظيره لضرب من العلل. قال سيبويه: (ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجمع: كلوا في بعض بطنكم تعفّوا … فإن زمانكم زمن خميص) (¬1) قال: وهو مثل البيتين الأولين أراد في بعض بطونكم، ومعنى هذا البيت أنهم في زمن من مجاعة فيأمرهم أن يأكلوا بعض الشبع، فإن الزمان فيه جدوبة. قال سيبويه: (ومثل ذلك في الكلام قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً (¬2)، و " قررنا به عينا " وإن شئت قلت: أعينا وأنفسا، كما قلت: ثلثمائة وثلاث مئين ومئات ". وقد مر تفسير ذلك. قال سيبويه: " ولم يدخلوا الألف واللام كما لم يدخلوا في امتلأت ماء ". قال أبو سعيد رحمه الله: يعني لم يدخلوا الألف واللام في " طبت به نفسا " ونحوه. هذا باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى؛ لاتساعهم في الكلام، وللإيجاز والاختصار. فمن ذلك أن تقول على قول السائل: " كم صيد عليه " وكم غير ظرف؛ لما ذكرت لك من الاتساع والإيجاز فتقول: " صيد عليه يومان "، وإنما المعنى صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع واختصر؛ ولذلك وضع السائل " كم " غير ظرف. قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الفصل قد اشتمل على معان يكشفها التفسير، منها أن تعلم أن في الظروف ما يجوز أن يستعمل اسما كزيد وعمرو، كقولك: " صمت اليوم " على مثل: " ضربت زيدا "، وتجعل " اليوم " مفعولا كزيد. ومنها أن تعلم أن المبتدأ إذا كان بعده فعل فيه ضميره، جاز أن يجري على المبتدأ من الاسم ما لزم ضميره من اللفظ، كقولك: " زيد ضربته " يجوز أن يقال: " زيد " مفعول، ونحن نعلم أن " زيدا " مبتدأ، وإنما يراد ضميره مفعول. ¬

_ (¬1) الخزانة 3/ 379 - ابن يعيش 6/ 21، المخصص 1/ 31. (¬2) سورة النساء، آية: 4.

ومنها أن تعلم أن الاسم الذي يستفهم به، إذا كان له موضع من رفع أو نصب أو جر، فجوابه يكون على لفظ ما يستحقّ الاستفهام، وعلى تقدير عامله الذي عمل فيه كقولك: " كم رجلا جاءك " فتقول: " عشرون "، وذلك أن " كم " في موضع مبتدأ، وهو حرف الاستفهام و " جاءك " خبره، ورجلا على التمييز، والجواب: " عشرون " على لفظ كم مرفوع بالابتداء وتقديره " عشرون رجلا جاءني ". وإذا قال: " كم رجلا رأيت " فالجواب: " عشرين "؛ لأن " كم " في موضع نصب برأيت. وإذا قال: " بكم رجلا مررت " قلت: " ثلاثة رجال " فخفض؛ لأن " كم " في موضع خفض. ومنها أن الظرف الذي يجوز إجراؤه مجرى الأسماء يجوز أن يقام مقام الفاعل مجازا؛ لأنا قد جعلناه بمنزلة " زيد " كقولك: " سير بزيد يوم طويل "، كما تقول: " ضرب بزيد الحائط "، فقد أقمت " اليوم " مقام الفاعل وجعلته كالأسماء الصحيحة. ومنها أن تعلم أن المقادير المضافة إلى الأنواع المميزة بها، حكمها حكم ما أضيفت إليه، وميزت به كقولنا: " سرت عشرة أيام "، فعشرة هي الظرف؛ لأنها مقدار أضيف إلى الأيام و " أيام " ظرف، و " سرت عشرين يوما "، " العشرون " ظرف؛ لأنها مقدار مميّز بظرف. فتقول الآن: إن قول السائل: " كم صيد عليه " أرادكم يوما صيد عليه، فكم مبتدأ، وهو مقدار مميّز بظرف فهو إذن ظرف و " صيد عليه " خبره، وفي " صيد " ضمير يعود إلى " كم " قد أقيم مقام الفاعل، فصار ذلك الضمير بمنزلة سير عليه يوم طويل. وقوله: ولم يجعل " كم " ظرفا. أراد لم يجعل ضمير " كم " الذي في " صيد " فعبّر بلفظ " كم " عن ضميره ولم يجعله ظرفا؛ لأنه قد أقامه مقام الفاعل، ثم أتى المجيب بنحو ما بنى السائل عليه كلامه، فجعل اليومين مرفوعين بصيد، ولم يجعلهما ظرفا، كما لم يجعل الضمير الذي في " صيد " ظرفا حين سأل، وهو مجاز واتساع؛ لأن " اليوم " لا يصاد، وإنما يصاد فيه كما قال: أما النهار ففي قيد وسلسلة … والليل في جوف منحوت من الساج (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من الأبيات التي لم يعرف قائلها ونسبه المبرد في الكامل إلى رجل من أهل البحرين من-

وإنما أراد أن الرجل في قيد وسلسلة في النهار، فكذلك المعنى صيد عليه الوحش في يومين. قال: (ومن ذلك أيضا أن تقول: " كم ولد له؟ " فيقول: " ستون عاما "، والمعنى ولد له الأولاد، وولد له الولد ستين عاما). فحذف الأول وأقام الستين مقام الأولاد اتساعا. ومن ذلك أن يقول: " كم ضرب به "؟ فتقول: " ضرب به ضربتان " و " ضرب به ضرب كثير ". فمعنى " كم " هاهنا معنى المصدر، كأنه قال: " كم ضربة ضرب به " يريدكم ضرب بزيد، وفي " ضرب " ضمير يعود إلى " كم " قد أقيم مقام الفاعل وهو مصدر: فلذلك كان جوابه: " ضرب به ضربتان "، فسبيل المصدر في الاتساع كسبيل الظرف؛ لأنك إذا قلت: " ضرب بزيد ضرب شديد " فالضرب ليس بمضروب في الحقيقة، وإنما المضروب الذي وقع به الضرب، وجعلت الضرب مفعول: " ضرب " مجازا. قال: (ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها (¬1) وإنما يريد أهل القرية فاختصر، وعمل الفعل في " القرية " كما كان عاملا في " الأهل " لو كان هاهنا). وقد بينا حذف المضاف والاكتفاء بالمضاف إليه فيما مضى، وإنما ذكره سيبويه حجة في الاتساع والاختصار؛ لأن المسألة في اللفظ للقرية والمعنى للأهل، فكذلك قولهم: " ولد له ستون عاما " لفظ " الأولاد " للأعوام، والمعنى للأولاد في الأعوام، على أن بعض الناس يزعم أن ذلك على الحقيقة، وأن مسألة القرية من " يعقوب " عليه السّلام صحيحة؛ لأن القرية يجوز أن تخاطبه؛ إذ كان نبيّا، وتكون مخاطبتها معجزة له. ولا معنى للتشاغل بنقض هذا الكلام؛ إذ كان جوازه في كلام العرب وغيرهم أشهر من أن تحتاج معه إلى إقامة دليل. ¬

_ - اللصوص. المقتضى 4/ 33 - رغبة الآمل 8/ 122. (¬1) سورة يوسف، آية: 82.

قال: " ومثله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬1) والمعنى بل مكرهم في الليل والنهار، ومثله وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ (¬2) وإنما هو ولكن البرّ برّ من آمن بالله ". وفي هذا وجه آخر، وهو أن يجعل البر في معنى البارّ، فكأنه قال تعالى: ولكن البارّ من آمن بالله. قال: (ومثله في الاتساع قوله عز وجل: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما (¬3) المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل ... الناعق والمنعوق به). فالناعق الراعي والمنعوق به الغنم، فجعل المؤمنين كالراعي والكفار كالمنعوق به، والتمثيل في ذلك كلّه أن الكفار لم يعتقدوا ما خوطبوا به، ولم يحصلوا به أكثر من سماعه، ويدلك على صحة هذا أن الكفار لم يشبّهوا بما ينعق؛ لأن الذي ينعق هو الراعي، وهم لم يشبهوا به، وإنما شبّهوا بالمنعوق به. وقال بعضهم: أراد بقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ الذي ينعق به، كما قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (¬4) أي ينطق به، وكما قال تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً (¬5) أي يبصر فيه، والمعنى في هذا التأويل أنه جعل الذين كفروا في دعاء بعضهم لبعض كمثل صياح الغنم بعضها ببعض، واللفظ مقلوب على ما خبّرتك. قال: ومثل ذلك " بنو فلان يطؤهم الطريق " يريد يطؤهم أهل الطريق ". وهذا مدح، والمعنى فيه أن بيوتهم على الجادة فالمارّة تنزل عليهم ويضيفونهم، فجعل مرور أهل الطريق بهم وطأهم إياهم. وقالوا: " صدنا قنوين " وإنما يريد صدنا بقنوين أو صدنا وحسن قنوين وإنما قنوان اسم أرض. قال: وفي السعة مثله " أنت أكرم عليّ من أن أضربك "، و " أنت أنكد من أن تتركه " إنما يريد أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب. ¬

_ (¬1) سورة سبأ، آية: 33. (¬2) سورة البقرة، آية: 177. (¬3) سورة البقرة، آية: 171. (¬4) سورة الجاثية، آية: 29. (¬5) سورة يونس، آية: 67.

والقول في ذلك ما قاله " أبو إسحاق الزجاج " رحمه الله، قال: إن قدّرته: أنت أكرم عليّ من ضربك، لم يجز لأنك لست تريد أن تخبر أنه أكرم عليك من ضربه، وهذا هو ظاهر الكلام، وإن حمل المعنى عليه بطل، قال أبو إسحاق: وتهذيب هذا الكلام هو: كأن قائلا قال: " أنت تضربني " فنسب الضرب إلى نفسه، فقال الآخر: أنت أكرم عليّ من صاحب الضرب الذي نسبته إلى نفسك، وليس ذلك. ومثل هذا أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (¬1) وليس لله تعالى شريك، وإنما جاز هذا؛ لأنهم جعلوا لله تعالى شركاء في زعمهم، فكأنه قال: أنت أكرم عليّ ممن يستحق ما زعمت أنه لك، ونسبته إلى نفسك، وأنشد سيبويه قول " النابغة الجعدي " مستشهدا لجواز الحذف: كأنّ عذيرهم بجنوب سلّى … نعام قاق في بلد قفار (¬2) أراد عذير نعام، والعذير الحال، وقال " أبو العباس " وحده: العذير الصوت، وما فسر أحد سواه ذلك، و " قاق ": صوت. ومن ذلك قول عامر بن الطفيل: فلأبغينّكم قنا وعوارضا … ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد (¬3) أراد بقنا وعوارض، وحذف الباء فأوصل الفعل ومعناه: ولأطلبنكم بهذين المكانين. قال: ومن ذلك قولهم: " أكلت أرض كذا وكذا، أراد أكلت خير بلد كذا، ومنه قولهم: هذه الظهر، أو العصر، أو المغرب ". تريد هذه صلاة الظهر وصلاة العصر، وصلاة المغرب؛ لأن الظهر اسم للوقت، وكذلك العصر، كأنه أراد هذه صلاة هذا الوقت، ومنه قولهم: " اجتمع القيظ "، وإنما يريدون: اجتمع الناس في القيظ، وتقديره: اجتمع ناس القيظ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: 62. (¬2) نسبه ابن بري إلى شقيق بن جزء بن رباح الباهلي اللسان (فوق) 12/ 201 الإنصاف 47 - رغبة الآمل 8/ 24. (¬3) سبق الحديث عنه.

هذا باب وقوع الأسماء ظروفا

وقال الحطيئة: وشرّ المنايا ميّت بين أهله … كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره (¬1) يريد: وشر المنايا منية ميّت بين أهله، كموت الفتى، وقد أسلم الحيّ حاضره، والحيّ هو الفتى، قد أسلمه الحاضرون له من أهله؛ لأنهم لا حيلة لهم في دفع المرض والموت عنه. وقال النابغة الجعدي: وكيف تواصل من أصبحت … خلالته كأبي مرحب (¬2) يريد كخلالة أبي مرحب، وهي صداقته. هذا باب وقوع الأسماء ظروفا (وتسمى هذه الأسماء الظروف العليا وتصحيح اللفظ على المعنى، فمن ذلك قولك: " متى يسار عليه "؟ وهو يجعله ظرفا، فيقول: اليوم، أو غدا، أو بعد غد، أو يوم الجمعة). يعني إذا جعل السائل " متى " ظرفا، وقدّره نصبا، وجعل الذي يقوم مقام الفاعل حرف الجر، أو مصدرا مضمرا في " يسار " وجب أن تنصب الجواب إذا اخترت أن تكون على حد السؤال، وقد مضى هذا. قال: (وتقول: متى سير عليه؟ فيقول: " أمس "، أو " أول من أمس "، فيكون ظرفا، على أنه كان السير في ساعة دون ساعات، أو حين دون سائر أحيان اليوم، ويكون أيضا على أنه يكون السير في اليوم كله). اعلم أن الظروف تنقسم قسمين: أحدهما يتضمن أجزاءه كلها الفعل، والآخر يتضمن جزءا منه الفعل، واللفظ يجري على كلّ. فالذي يتضمن أجزاءه كلها الفعل قولك: " صمت اليوم " فلا يجوز أن يكون جزء من اليوم، لم يكن فيه صوم، وكذلك قولك: " لم أكلّم فلانا اليوم " لا يجوز أن تكون كلمته في جزء منه، وقد جعلت " اليوم " ظرفا لترك كلامه، ألا ترى أن رجلا لو قال: ¬

_ (¬1) ديوان الحطيئة (الحلبي) 45 - طبقات فحول الشعراء لابن سلام 94. (¬2) حماسة البحتري 241 - ديوان النابغة الجعدي 20، أمالي القالي 1/ 195.

" والله لا كلّمتك اليوم " ثم كلمه في جزء منه حنث. وأما ما يكون العمل في بعضه فقولك: " صحت اليوم وتحكّمت يوم الجمعة " وقد أحاط العلم بأنه لا يكون صياحه متصلا بلا فتور ولا مراوحة، وإنما ذلك على ما يعتاد من عادة الناس في الأفعال التي تتصل والتي تنقطع، فإذا كان الفعل قد يكون متصلا في حال، ومتقطعا في حال كالسير وما أشبه ذلك، وجاز أن تنوي الاتصال، فتجعله في الظرف كله، وجاز أن تنوي الانقطاع فتجعله في بعض الظرف، وسواء في ذلك أن تنصب الظرف أو ترفعه، فتقيمه مقام الفاعل. قال: " ومن ذلك الليلة الهلال، وإنما الهلال في بعض الليلة، وتقديره: الليلة ليلة الهلال " فجعل هذا شاهدا لقولك: " سير عليه اليوم " والسير في بعضه. قال (ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلا في الظرف كله قولك: " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد " وهذا جواب لقوله كم سير عليه؟ إذا جعله ظرفا). قال أبو سعيد: اعلم أن " كم " استفهام عن كل مقدار من عدد وغيره، في الأنواع كلها، زمانا كان أو مكانا أو غيرهما، وليس يختص بنوع دون نوع، و " متى " استفهام عن الزمان فقط، فإذا أوقعت " كم " استفهاما عن الزمان، كان القصد فيها المسألة عن مقداره أو عدده، و " متى " استفهام عن الزمان فقط من غير اقتضاء مقدار أو عدد، فإذا أجبت عن " متى " فحكم الجواب أن يكون واقعا على زمان بعينه، غير متضمن لعدد، كقول القائل: " متى سير بزيد " فيقال: " يوم الجمعة "؛ لأن مسألته وقعت لتعرف الزمان بعينه، لا لتعرف كميته. ولا يجوز أن تقول: " يومان "؛ لأن قوله: " يومان " إجابة عن كمية، ولا يعرف السائل الوقت الذي سار فيه بعينه، ولو قرّبه من المعرفة فقال: " يوم سار فلانّ " أو " يوم كان المطر " لجاز وحسن، ولو قال: متى سير عليه؟ فقال: " أيام الصّرام " لجاز، وإن كانت أيام الصّرام فيها عدد؛ لأن القصد منها إلى تعيين وقت لا إلى عدد الأيام؛ لأن أيام الصّرام قد جعلت لوقت واحد يعرف بهذا اللفظ، كما يعرف يوم الجمعة بهذا اللفظ. وأما " كم " فقد يكون جوابها معرفة ونكرة، وأيتهما كانت جوابا لها، فالفعل واقع

فيها كلّها، كقولك: " كم سير عليه؟ " فيقول: يوم الجمعة، فالسير واقع في يوم الجمعة كلّه، وكذلك إذا قيل: " كم سير عليه "؟ فيقال: " يومان "، فالسير واقع فيهما، وقد تقول: " كم سير عليه " فيقال: " يوم الجمعة "، والسير واقع في بعضه، إذ كان المجيب مستكثرا للسير في الساعات التي وقع فيها من الجمعة، فيجري اللفظ على الكل وهو يريد البعض، كما تقول: " يوم الرحيل جاءني الخلق " يريد الكثير منهم، وفلان يتكلم دهره، إذا كان كثير الكلام، وإن كان السكوت الذي يكون منه أكثر من الكلام، فاللفظ على الكل والمعنى فيه البعض. وقوله: " سير عليه الليل والنهار، والدهر، والأبد ". لا يكون إلا جواب " كم "، لأنه وضع هذه الألفاظ على الأوقات فهي متضمنة للكمية ولم يجعل اسما لوقت بعينه، غير أنه إذا قيل: " سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد "، في جواب: كم سير عليه؟ فإنما يريد التكثير والمبالغة، وقد علم أن الدهر لا يتصل فيه السير، ولكنه على ما عرّفتك من قول القائل: " جاءني الخلق " وأنت تريد البعض. قال: " ومما يدلك على أنه لا يكون أن تجعل العمل فيه في يوم دون الأيام، وفي ساعة دون الساعات؛ أنك لا تقول: " لقيته الدهر والأبد "، وأنت تريد يوما منه، ولا " لقيته الليل "، وأنت تريد لقاءه في ساعة دون ساعات إلا أن تريد: سير عليه الليل أجمع، والدهر كلّه ". يعني أن الأبد والدهر، والليل والنهار، إذا كانا على طريق الأبد، والدهر أسماء، جعلت لترادف الأزمنة، وللدلالة على تكثيرها، لا يجوز أن تقول: " لقيته الدهر " وأنت تريد مرة، وإنما يستعمل مثل هذا في الأوقات المحصلة، والتي تميّز عن غيرها. وبيّن أن الفعل وقع فيها دون ما سواها، كقولك " لقيته يوم الجمعة " و " لقيته العام الماضي " وإن كنت لقيته مرة واحدة في يوم الجمعة، وفي العام الماضي؛ لأنك أردت أن تعرف وقت اللقاء، لا مقداره. قال: " وإن لم تجعله ظرفا فهو عربي كثير في كلامهم ". يعني إن قلت: " سير عليه الليل والنهار "، فتجعله مفعولا على السعة ثم تقيمه مقام الفاعل.

قال سيبويه: " وإنما جاء هذا على جواب كم؛ لأنه حمله على عدة الأيام والليالي، فجرى على جواب ما هو للعدد، كأنه قال: سير عليه يومين أو ثلاثة أيام ". يعني أن الدهر والأبد جرى على جواب " كم "؛ لأنه موضوع على عدة الأيام وترادفها، كما كان سير عليه يومان أو ثلاثة " أيام " على ذلك، ولا يجوز أن يكون السير في أحد اليومين إذا قلت: " سير عليه يومين ". قال: وأما " متى "، فإنما تريد أن توقت لك بها وقتا، ولا تريد بها عددا فإنما الجواب اليوم أو يوم كذا أو شهر كذا ". وقد بينا هذا، وذكرنا أن " متى " جعلت للدلالة على وقت بعينه، لينماز من سائر الأوقات قال: (ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرّم وصفر وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة الأيام، كأنهم قالوا: سير عليه الثلاثون يوما، ولو قلت: شهر رمضان أو شهر ذي القعدة، لكان بمنزلة يوم الجمعة والليلة والبارحة، ولصار جواب " متى "). قال أبو سعيد: ظاهر كلام سيبويه الفصل بين أن تقول شهر كذا، وبين ألا تذكر الشهر، فإذا قلت: " سير عليه المحرم " فالسير في كل يوم من أيام المحرم، وإذا قلت: " سير شهر المحرم " أو " شهر ذي القعدة " جاز أن يكون السير في بعضه. وهذه رواية رواها، كأنهم جعلوا قولهم المحرم نائبا مناب قولهم: الثلاثين يوما، وهم لو قالوا: " سير عليه الثلاثون يوما " لكان السير في كل يوم منهن، وإذا أدخلوا " شهرا " جعلوه اسما للوقت بعينه، فصار بمنزلة يوم الجمعة. فإن قال قائل: فكيف اختلفا وهما لمعنى واحد؟ قيل له: قد يجوز- وإن كانا لمعنى واحد- أن يكون أحدهما يدل عليه من طريق الكمية، والآخر من طريق التوقيت، ألا ترى أنّا إذا قلنا: " سير عليه يوم الجمعة " يجوز أن يكون السير في بعضه، وإذا قلنا: " سير عليه ساعات يوم الجمعة "، لم يجز أن يكون السير في ساعة منها، وساعات يوم الجمعة في معنى " يوم الجمعة ". وقال أبو إسحاق الزجاج في قول سيبويه: " ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار المحرم وصفر " قولا يخالف ما ذكرناه، وليس ببعيد، قال: يعني إذا عطفت على المحرم صفرا، فقلت: " سير عليه المحرم وصفر " فلا بد أن يكون السير في كل واحد من

الشهرين، ولو قلت: " سير عليه المحرم " لجاز أن يكون السير في بعضه، قال: والدليل على ذلك قول سيبويه: " لو قلت: سير عليه شهر رمضان أو شهر ذي القعدة، كان بمنزلة يوم الجمعة، فأبو إسحاق عنده أن قولك: المحرم وشهر المحرم بمنزلة واحدة، وأن " سيبويه " لم يفرق بينهما، ولقائل أن يقول: إن سيبويه فرق بينهما؛ لأنه ذكر المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور. ثم قال: كأنهم قالوا: " سير عليه الثلاثون يوما "، فجعل كل شهر من الشهور بمنزلة الثلاثين يوما. قال سيبويه: " وجميع ما ذكرت لك مما يكون على " متى " يكون مجرى على " كم " ظرفا وغير ظرف ". يعني أن " يوم الجمعة "، و " شهر رمضان "، وما أشبه ذلك من جوابات " متى " قد يجوز أن يكون جوابا لكم، يعني يجوز أن تقول: كم سير عليه، فيقال: يوم الجمعة، فيكون السير فيه كله، وقوله: " ظرفا وغير ظرف " أي ظرفا ومفعولا، لا جوابا " لمتى ". قال: " وبعض ما يكون في " كم " لا يكون في " متى " نحو الدهر والليل؛ لأن " كم " هو الأول، فجعل الآخر تبعا له، ولا يكون الدهر والليل والنهار إلا على العدّة جوابا لكم ". يعني: أن الدهر والليل والنهار، قد يكون جوابا لكم لما فيه من التكثير، ولا يكون جوابا لمتى؛ لأنه لا دلالة فيه على وقت بعينه. وقوله: " لأن كم الأول ". يعني لأنه دلالة على المقدار في الزمان وغيره، ويقع تحتها المنكور والمعروف؛ لوقوع التقدير عليهما، فجعل الآخر وهو " متى " تبعا له. قال: (وقد تقول: سير عليه الليل. تعني ليل ليلتك، وتجري على الأصل، كما تقول في الدهر: سير عليه الدهر). يعني أنك إذا قلت: " سير عليه الليل " جاز أن تعني ليلة واحدة، وهي الليلة التي يليها يومك؛ فيجوز فيه الرفع والنصب أيضا، كما جاز فيه حين كان في معنى الدهر، وتقول: " سير عليه الدهر " وأنت تريد بعضه على جهة التكثير، فتجعل ما كثّرت من ذلك بمنزلة الدهر كلّه كما تقول: " أتاني أهل الدنيا " و " عسى ألا يكون أتاك منهم إلا خمسة

فاستكثرتهم ". قال: (وكذلك شهرا ربيع، حين ثنّيت جاء على العدد عندهم). يعني لا يجوز أن تقول: " ضرب زيد شهري ربيع " وأنت تعني في أحدهما. قال: (وتقول: ذهبت الشتاء ويضرب الشتاء. وسمعنا الفصحاء يقولون: انطلقنا الصيف، على جواب متى). يعني أن الذهاب والانطلاق، كان في وقت من الشتاء والصيف؛ لأن الشتاء معروف من أوله إلى آخره، وكذلك الصيف، لو أراد أن يكون الفعل في الشتاء كله جاز، قال " ابن الرقاع "، والأعرف أنه لأبي دواد الإيادي: فقصرن الشتاء بعد عليه … وهو للذود أن يقسّمن جار (¬1) يصف نوقا قصرت ألبانها على فرس، وذلك الفرس جار للنوق أن يغار عليهن، فيجوز أن يكون الشتاء هاهنا على جواب " كم "، فيكون قصر ألبانهن على الفرس في أيام الشتاء كلّها، ويجوز أن يكون في بعض الأيام على جواب " متى ". قال: " واعلم أن الظروف من الأماكن كالظروف من الأيام والليالي في الاختصار، وسعة الكلام ". يعني أن الظروف من المكان قد يجوز أن تقيمها مقام الفاعل، بأن تجعلها مفعولا على سعة الكلام، ويجوز أن تنصبها، ويكون الرفع والنصب فيها في جواب " كم " و " متى "، كما كان ذلك في " الأيام "، فتقول: " سير عليه فرسخان وميلان أو بريدان " في جواب: كم سير عليه؟ وإن شئت قلت: فرسخين وميلين، كما قلت: سير عليه يومان ويومين، في جواب " كم ". قال: " ونظير " متى " من الأماكن " أين "، فإذا قلت: أين سير عليه؟ قيل: مكان كذا وكذا وخلف دارك ". يعني أن " أين " يسأل بها عن مكان بعينه محصور، كما تسأل " بمتى " عن زمان بعينه محصور، فإذا قلت: أين سير عليه؟ لم يجز أن تقول: فرسخان، كما لا يجوز أن تقول: " سير عليه يومان " في جواب: " متى سير عليه " وإنما تقول: " سير عليه يومان وفرسخان " في جواب " كم " في الزمان والمكان. ¬

_ (¬1) نسبه سيبويه لابن الرقاع 1/ 111 بولاق ونسبه ابن جني في الخصائص لأبي دواد/ 265.

قال: " وتقول: سير عليه ليل طويل، وسير عليه نهار طويل، وإن لم تذكر الصفة، وأردت هذا المعنى رفعت إلا أن الصفة تبيّن بها معنى الرفع وتوضّحه ". يعني أنك إذا قلت: " سير عليه ليل طويل " فهو إلى الرفع وإقامته مقام الفاعل أقرب؛ لأنه كلما نعت قرب من الأسماء، وبعد من الظروف، وإذا قلت: " سير عليه ليل " وأنت تريد هذا المعنى رفعت أيضا، إلا أنّ ذكر النعت أجود، لأنه يبيّن بها قربه من الاسم، وإن نصبت جاز أيضا، فقلت: " سير عليه ليلا طويلا "، كما تقول: " سير عليه الدهر ". قال: (وتقول: " سير عليه يوم " على حد قولك: يومان). يعني على أن تجعله جوابا لكم؛ لأن اليوم مبهم. قال: وإن شئت قلت: " سير عليه يوما أتانا فيه فلان ". فيكون جوابا لمتى؛ لأنه حصر اليوم بإتيان فلان فيه. قال: (وتقول: سير عليه غدوة وبكرة)، فترفع على مثل ما رفعت ما ذكرنا، والنصب فيه على ذلك يعني أن " غدوة وبكرة " وإن كانا لا ينصرفان، فسبيلهما سبيل ما ينصرف في هذا الباب مما يرفع على أنه مفعول في سعة الكلام؛ وينصب على الظرف كيوم الجمعة وما أشبه ذلك. والذي منع " غدوة وبكرة " من الصرف، أنه كان الأصل في " غدوة " غداة منكورة، ثم غيروا لفظ النكرة ليجعلوها علما، فصارت غدوة معرفة وفيها هاء التأنيث، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث و " بكرة " محمولة على غدوة؛ لأنها على لفظها ومعناها، غير أنها لم تغيّر عن نكرة كانت لها لتعرّف، ومثل ذلك في جواز النصب والرفع " صباح يوم الجمعة " و " عشية يوم الجمعة " و " مساء ليلة الجمعة ". قال: (وتقول: " سير عليه يومئذ وحينئذ والنصب على ما ذكرنا ") يعني أن " حينئذ " وإن كان الحين مضافا إلى " إذ " فلا يمتنع من الرفع والنصب كيوم الجمعة، ويجوز أيضا فيه وجه آخر، وهو أن تفتحه فتحة بناء في حال الرفع والجر: كقوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ (¬1)، وذلك أنه مضاف إلى " إذ "، و " إذ " بمنزلة الحروف فبني ¬

_ (¬1) سورة هود، آية: 66.

لذلك حين خالف منهاج الأسماء. ومما يجوز فيه الرفع والنصب " نصف النهار " و " سواء النهار " ومعناه نصف النهار؛ لأنك تقول " بعد نصف النهار " و " هو عندك نصف النهار "، ولأنك تقول: هذا سواء النهار، وهذا حجة لتمكنهما، وجواز الرفع فيهما. و" سراة اليوم " ومعناها أول اليوم و " ضحوة من الضحوات " إذا لم تعن ضحوة يومك، كقولك: " ساعة من الساعات "، وكذلك " عتمة من الليل " إذا أردت عتمة من العتمات. قال: " وتقول في الأماكن: سير عليه ذات اليمين وذات الشمال، وإن شئت نصبت، وكذلك الرفع في قولك: سير عليه أيمن وأشمل، وكذلك دارك اليمين ودارك الشمال، وقال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل " (¬1) فجعل: " أيمنا وأشملا " متمكّنين حين أدخل عليهما حرف الجر ونكرهما، فاستدلّ بالجر على جواز الرفع؛ لأن كلّ ما جاز أن يدخل عليه حرف الجر من الظروف كان متمكنا، وجاز أن يرفع، وقال عمرو بن كلثوم: صددت الكأس عنا أمّ عمرو … وكان الكأس مجراها اليمينا (¬2) فيجوز أن يكون: " اليمين " ظرفا، ويجوز أن يكون اسما، فإذا جعلت الكأس اسم كان، وجعلت: " مجراها " مبتدأ كان اليمين ظرفا للمجرى، والجملة في موضع خبر الكأس، وإذا جعلت: " مجراها " بدلا من الكأس، جاز أن يكون اسما. قال: " ومن ذلك شرقيّ الدار وغربيّ الدار ". ويجوز فيه الرفع والنصب، والعرب تقول: البقول يمينها وشمالها، فيجعلونه ظرفا، ويجوز: " البقول يمينها وشمالها " على ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) الخصائص 2/ 130 - 3/ 68، شواهد المغني 154. (¬2) شرح القصائد العشر للتبريزي 219 / الهمع 1/ 201 / سيبويه 1/ 113 بولاق 1/ 222 هارون.

هذا باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار

هذا باب ما يكون فيه المصدر حينا لسعة الكلام والاختصار وذلك قولك: متى " سير عليه " فيقول: " مقدم الحاجّ "، و " خفوق النّجم "، و " خلافة فلان "، و " صلاة العصر " فإنما هو زمن مقدم الحاجّ وحين خفوق النّجم، ولكنه على سعة الكلام والاختصار). يعني حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك إن قال: " كم سير عليه؟ " جاز أن يكون جوابه: مقدم الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلان، فيكون المعنى: سير عليه مدة خلافة فلان. قال: " وإن رفعته أجمع كان عربيّا كثيرا ". يعني إن قلت: " سير عليه مقدم الحاجّ " و " خلافة فلان " جاز، وقد بيّنا وجه الرفع والنصب فيه، قال: (وليس هذا سعة الكلام بأبعد من: " صيد عليه يومان " و " ولد له ستون عاما "). يعني ليس حذف " زمن " من " مقدم الحاج " و " خفوق النجم " وإقامة المضاف إليه مقامه بأبعد من حذف الأولاد، في قولك: " ولد له ستون عاما ": لأن التقدير فيهما واحد، بل قوله: " ولد له ستون عاما " أبعد؛ وذلك لأن التقدير فيه: ولد له الأولاد في ستين عاما فحذف منه شيئان " الأولاد " و " في "، إلا أنه قدر بعد حذف " في ": ولد له أولاد ستين عاما، فحذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه. قال: (وتقول: سير عليه فرسخان يومين، لأنك شغلت الفعل بالفرسخين، فصار كقولك: " سير عليه بعيرك يومين " وإن شئت قلت: سير عليه فرسخين يومان). يعني أنك تقيم أيّهما شئت مقام الفاعل، وأيّهما أقمته مقام الفاعل فقد جعلته كالمفعول؛ فلذلك شبّهته بقولك: " سير عليه بعيرك يومين "، والذي تنصبه فيهما يجوز أن تنصبه على الظرف، وأنه مفعول على سعة الكلام. وتقول: (صيد عليه يوم الجمعة غدوة "، فتقيم " غدوة "، مقام الفاعل وتنصب " اليوم " على الظرف، أو مفعول على سعة الكلام). وإن شئت رفعت: " اليوم "، ونصبت: " غدوة " على مثل ذلك التفسير. وإن شئت نصبتهما جميعا على الظرف، ألا ترى أنك تقول: " سير عليه في يوم

الجمعة في هذه الساعة "، فتأتي بهما جميعا، وكذلك تحذفها عنهما، فيصيران ظرفين. وإن شئت رفعتهما جميعا، فتبدل: " غدوة " من يوم الجمعة. وإن قدمت " غدوة " جازت فيهما هذه الوجوه إلا رفعها، فإنه غير جائز أن تقول: " سير عليه غدوة يوم الجمعة "؛ لأنه لا يجوز أن تبدل " اليوم " من غدوة؛ لأن الكل لا يبدل من البعض، وإنما يبدل البعض من الكلّ. قال: وتقول: " إذا كان غد فأتني، وإذا كان يوم الجمعة فالقني ". فالفعل لغد ويوم الجمعة، و " كان " في معنى وقع وحدث، وكأنه قال: إذا جاء غد فالقني. قال: " ومن العرب من يقول: إذا كان غدا فالقني، وهم بنو تميم ". وإنما نصبوا بإضمار فعل كأنهم قالوا: إذا كان ما نحن عليه من السلامة أو من الحال التي هم عليها، والمعنى فيه إذا لم يحدث لك مانع أو حال تعذر في التخلف لحدوثها فالقني، فهذا جائز، والمعنى فيه مفهوم؛ وذلك أن مواعيد الناس إنما تقع على بقاء الأحوال التي هم عليها، ألا ترى أن رجلا لو قال لآخر: إني آتيك في غد مسلّما أو زائرا، ومنزله عنه شاسع، ثم مطروا في غد مطرا عظيما، يشق فيه تجشم الزيارة، كان معذورا في ترك الزيارة، ولم ينسب إلى جملة المتخلفين الكذابين؛ لأن وعده كان معلّقا بسلامة الأحوال، وإن لم يكن ملفوظا به. قال سيبويه: " وحذفوا كما قالوا: حينئذ الآن " يريد حذفوا المرفوع ب " كان " في قولهم: " إذا كان غدا فأتني "، والمرفوع به " ما نحن عليه من السلامة " أو غيرها، كما حذفوا " في حينئذ الآن " والذي حذفوه: كان هذا حينئذ وأسمع إليّ الآن، كما قال: " تالله ما رأيت كاليوم رجلا "، أراد: " ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم "، ثم أضاف الرجل المرئيّ في اليوم إلى اليوم، فصار التقدير: " ما رأيت رجلا كرجل اليوم " ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فصار التقدير ما رأيت رجلا كاليوم، ثم أخّره في اللفظ. ومما حذف قولهم: " لا عليك "، وقد علم المخاطب أنه يعني لا بأس عليك. قال: " وتقول: " إذا كان غدا فأتني "، كأنه ذكر أمرا إما خصومة وإما صلحا، فقال: " إذا كان غدا فأتني " فهذا جائز في كل فعل.

يريد أن القائل قد يقول: " فلان يصالح فلانا غدا " أو " يخاصمه غدا، أو يزوره غدا "، أو غير ذلك من الأفعال فيقول: " إذا كان غدا فأتني "، أي إذا كان ما ذكرت في غد فأتني، فهذا على غير الوجه الأول؛ لأن الوجه الأول إنما يقوله القائل من غير أن يجرى ذكر شيء اعتمادا على الحال التي هم فيها، واكتفاء بها، وهذا على إضمار شيء يجري ذكره. قال: " فإن قلت: إذا كان الليل فأتني " لم يجز ذلك؛ لأن الليل لا يكون ظرفا إلا أن تعني الليل كلّه ". يعني أن الليل اسم لليالي التي تكون أبدا، فلا يجوز أن تعلق الوقت بها؛ لأنها غير متقضية ولا موجودة في وقت واحد، وسبيلها سبيل الدهر، وأنت لا تقول: " إذا كان الدهر فأتني " قال: " فإن وجّهته على إضمار شيء قد ذكر على ذلك الحد جاز، وكذلك: أخوات الليل ". يعني إن وجّهته على كلام يعلم السامع أنه يريد ليل ليلته جاز، وذلك نحو: أن تكون مع رجل في شيء، فقال: " إذا كان الليل فأتنا "، فعلمت أنت بالحال التي أنتما فيها أنه يعني ليل ليلته التي تجيء، فيجوز فيه النصب والرفع. قال: (ومما لا يحسن فيه إلا النصب قوله: سير عليه سحر، لا يكون فيه إلا أن يكون ظرفا؛ لأنهم إنما يتكلمون به في الرفع والنصب والجر، بالألف واللام، يقولون: هذا السحر، وبأعلى السحر، وإنّ السحر خير لك من أول الليل). قال أبو سعيد: اعلم أن: " سحر " إذا أردت به سحر يومك فإنه معرفة بغير ألف ولام، غير منصرف ولا متصرف، فأما قولنا: غير منصرف، فالذي منعه من الصرف أنه معدول عن الألف واللام، كأن الألف واللام تراد فيه، وغيّر عن لفظ ما فيه الألف واللام، مع الإرادة، كما عدل " جمع " في قولك: " جاءت النسوة جمع " وهو معرفة، فاجتمع فيه التعريف والعدل، فلم ينصرف. وأما قولنا: إنه لا يتصرف، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر، وربما دخله الجر، ولا يكون إلا منصوبا على الظرف، وكذا: كل ظرف غير متصرف، فمعناه أنه لا يدخله الرفع والجر، وربما دخله الجر " بمن " فقط من بين حروف الجر. والذي منع " سحر " من التصرف أنه عرّف من غير وجه التعريف!!؛ لأن وجوه

التعريف إنما هي بخمسة أشياء: بالإضمار، والإشارة، والعلم، والألف واللام، والإضافة إلى هذه الأربعة، وإنما صار: " سحر " معرفة؛ بوضعك إياه هذا الموضع، كما صار: " أجمع، وأجمعون، وجمع " بوضعك إياهن هذا الموضع، وهو أنك لا تصف به إلا معرفة. فإذا صغّرت " سحر " من يومك انصرف فدخله التنوين، " ولا يتصرف " لا يدخله الرفع والجر، أما التنوين فإنما دخل عليه، كما دخل على: " ضحوة " وذلك أنهم لم يضعوا المصغّر مكان ما فيه الألف واللام، فيكون معرفة أو معدولا. وإنما نكروه كما نكّروا " ضحوة " و " عتمة " و " عشاء "، لأنه فهم به ما يفهم بالمعارف، فلم يتمكّن، وكذلك: كل شيء من أسماء ساعات يومك، نحو: " ضحى، وضحوة، وعشاء، وعشيّا ومساء " إذا أردت ذلك من يومك لم يكن إلا ظروفا، وذلك أنك إذا قلت لرجل " أنا آتيك عشاء " لم يذهب وهمه إلا إلى عشاء يومك وكذلك: " عتمة "، فلما كان يفهم ما كان يفهم بالمعارف من حصر وقت بعينه لم يتمكن عندهم تمكّنا يتّسع فيه فيجعل اسما غير ظرف، فيرفع ويجر، لا تقول: " آتيك عند ضحى، ولا موعدك مساء " و " لا أتانا عند عشاء " فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال: ومثل ذلك: " سير عليه ذات مرة " نصب لا يجوز إلا هذا، ألا ترى أنك لا تقول: إن " ذات مرة " كان موعدهم، ولا تقول: " إنما لك ذات مرة "، كما تقول: " إنما لك يوم ". وكذلك: " إنما يسار عليه بعيدات بين "؛ لأنه بمنزلة " ذات مرة ". ومثله " سير عليه بكرا "، ألا ترى أنه لا يجوز: موعدك بكر، ولا مذ بكر، فالبكر لا يتمكن في يومك، كما لم يتمكن: " ذات مرة " و " بعيدات بين " وكذلك: " ضحوة في يومك الذي أنت فيه ". أما: " ذات مرة " و " بعيدات بين " فلا يستعمل عنده إلا ظرفا، والذي منعها من التصرف، ومن كونها غير ظرف أنها قد استعملت في ظروف الزمان، وليست من أسماء الدهر، ولا من أسماء ساعاته، ألا ترى أنك تقول: " ضربتك مرة ومرتين " وأنت تعني: ضربة وضربتين، فلما استعمل في الدهر ما ليس من أسمائه ضعف ولم يتمكن. فإن قال قائل: فأنتم تقولون: " سير عليه مقدم الحاجّ "، و " خفوق النّجم "، وما أشبه ذلك، من أسماء المصادر، وليست المصادر من أسماء الزمان.

قيل له: إنما يجوز ذلك في المصادر التي يحسن معها إظهار الأوقات كقولنا: " سير عليه وقت مقدم الحاج "، ولما كانت " المرة " لا يحسن إظهار الوقت معها، فيقال: " سير عليه وقت ذات مرة "، ولا " وقت مرة "، لم تجر مجرى مقدم الحاج. وأما " بعيدات بين " فهي جمع " بعد " مصغّرا و " بعد " و " قبل " لا يتمكنان، ولا يجوز أن يقال: " سير عليه قبلك " ولا بعدك ولا يرفعان، والذي منعهما من التصرف والرفع أنهما ليستا باسمين لشيء من الأوقات، كالليل والنهار، والساعة، والظهر، والعصر؛ وقد استعملا في الوقت للدّلالة على التقديم والتأخير، وأما " بكر " و " عتمة " و " ضحوة " وما أشبه ذلك، فقد ذكرنا الوجه في خروجها عن التمكن إذا كنّ من يومك، وكذلك قولك: " سير عليه ذات يوم وذات ليلة "؛ لأن نفس " ذات " ليست من أسماء الزمان فأجري " ذات يوم " و " ذات ليلة " مجرى " ذات مرة ". قال: (وكذلك سير عليه ليلا ونهارا، إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك، لأنه إنما يجري على قولك: " سير عليه " بصرا وسير عليه ظلاما). يعني إذا أردت الليل من ليلتك التي تلي يومك، والنهار الذي أنت فيه، فهو يجري مجرى: " ضحوة " و " بكرا " من يومك، وهو غير متمكن؛ لأنه نكرة قد عرف بها ما يعرف بالمعارف فإن قلت: " سير عليه ليل طويل، ونهار طويل، جاز، وتمكن لأنك لم ترد ذلك من يومك، وإن قلت: سير عليه ليل ونهار، على هذا المعنى جاز. قال: (فهو متمكن في هذا الحال، وغير متمكن على الحد الأول، كما أن السحر بالألف واللام متمكن في المواضع التي ذكرت، وبغير الألف واللام غير متمكّن فيها). يعني أنك إذا أردت ليل ليلتك، في قولك: " سير عليه ليلا ونهارا، كان غير متمكن، كما أنك إذا قلت: " سحر " بغير ألف ولام، وأردت سحر يومك، فهو غير متمكن، وإذا قلت: " سير عليه ليل طويل "، فهو متمكّن، كما أن السحر بالألف واللام متمكن. قال: " وذو صباح بمنزلة " ذات مرة "، تقول: " سير عليه ذا صباح "، أخبرنا بذلك يونس إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم: " ذات مرة " و " ذات ليلة "، وأما الجيّدة العربية فأن تكون بمنزلتها ظرفا، قال رجل من خثعم:

عزمت على إقامة ذو صباح … لشيء ما يسوّد من يسود (¬1) فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع. قال بعض أصحابنا: أحسب أنه قد وقع في كلام سيبويه غلط، وذلك أن في نسخة المبرد قد جاء: في لغة لخثعم " ذات مرة وذات ليلة "، وهذا ينقضه قوله: " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها "، وأحسب أن يونس حكى: " ذات يوم وذات ليلة "، ويكون قوله: " وأما الجيدة فأن تكون بمنزلتها ". وقوله: " فهو على هذه اللغة " يعني من قال: " ذات يوم وذات ليلة " وفي بعض النسخ " مفارقا ذات مرة وذات ليلة " وهذا أيضا خطأ؛ لأنه مثل: " ذات ليلة "، وإنما هو اضطراب وقع عند القارئ، فزاد " مفارقا "، وهو لا شيء، وقال بعض أصحابنا: لا يصح الكلام إلا بقوله: " مفارقا "، وذلك أنه قال: " وذو صباح بمنزلة ذات مرة "، يعني أنهما غير متمكنين، ثم قال: " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة " يعني أنه جاء متمكنا مثل البيت الذي أنشده. قال: " الجيدة أن تكون بمنزلتها فتكون متمكنة ". وقوله: " فهو على هذه اللغة يجوز فيها الرفع " يعني على ما جاء في البيت متمكنا يجوز: " سير عليه ذو صباح " قال أبو سعيد: هذا الفصل فيه اضطراب، وأنا ألخصه وأبين كلام سيبويه ومذهبه من كلام المفسّرين ومذاهبهم، إن شاء الله تعالى: اعلم أن " سيبويه " قد سوّى بين: " ذات يوم " و " ذات ليلة " و " ذات مرة " وخبرنا أنه غير متمكن فيما مضى من الباب، وجعل " ذا صباح " بمنزلة " ذلك ". ثم قال: " إلا أنه قد جاء في لغة لخثعم " ذات مرة وذات ليلة "، وفي بعض النسخ: " في لغة لخثعم مفارقا ذات مرة وذات ليلة " فإن كانت الرواية: " مفارقا ذات مرة " فإنه يريد أن " ذا صباح " في لغة خثعم قد جاء مفارقا: " ذات مرة "، وتمكن في لغتهم فجاز فيه الرفع والجر، وأنشد البيت في الجر. ويكون قوله: " وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها " ¬

_ (¬1) البيت لأنس بن مدركة الخثعمي الخزانة 1/ 476 - ابن يعيش 3/ 12 الدرر 1/ 168.

يعني أن تكون: " ذو " بمنزلة: " ذات مرة " في ألّا يتمكن. وإن كانت الرواية بغير: " مفارق "، فإنه يعني في لغة خثعم: " ذات مرة وذات ليلة " متمكنان، وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها التي قد ذكرنا في غير المتمكن. ثم أنشد بيتا في تمكن: " ذي صباح "؛ لأنه قد علم أن: " ذا صباح وذات مرة وذات ليلة " بمنزلة واحدة، ولا معنى لقول من قال من أصحاب سيبويه: إن ذات يوم وذات ليلة بخلاف ذات مرة، لأن: " ذات " غير متمكنة، وإن كانت مضافة إلى متمكن؛ إذ لم تكن من أسماء الزمان. قال: " وجميع ما ذكرنا من غير المتمكن إذا ابتدأت اسما، لم يجز أن تبنيه عليه وترفع، إلا أن تجعله ظرفا، وذلك قولك: موعدك سحيرا، وموعدك صباحا " ولا يجوز أن تقول: " موعدك سحير "، ولا أن تقول: " موعدك ذات مرة " قال: " ومثل ذلك إنه يسار عليه صباح مساء إنما معناه صباحا ومساء، وليس يريد بقوله: صباحا ومساء، صباحا واحدا، ولا مساء واحدا ولكنه يريد صباح أيامه ومساءها ". يقال: " سير عليه صباح مساء " و " صباحا ومساء وصباح مساء " ومعناهن واحد، وإنما بنيت؛ لأن فيها معنى الواو، وجعلتهما اسما واحدا؛ لأنهما وقعا لأوقات مجتمعة، كما وقعت: " خمسة عشرة " لعدد مجتمع، فجعلت اسما واحدا، وبنيت؛ لأنها تضمنت معنى الواو. وأما: " حضر موت " اسم رجل أو اسم موضع، فلا تبنه؛ لأنه ليس فيه معنى الواو، وليس: " سير عليه صباح مساء " مثل: " ضربت غلام زيد " في أن: " سير " لا يكون إلا في الصباح، كما أن الضرب لا يقع إلا في الأول- وهو الغلام- دون الثاني؛ لأنك إذا قلت: ضربت غلام زيد، أفدت بزيد معنى، وإن لم ترد في قولك: " سير عليه صباح مساء " أن السير وقع فيهما، لم يكن في إتيانك بالمساء فائدة. قال: " فليس يجوز في هذه الأسماء التي لم تمكن من المصادر، التي وضعت للحين، وغيرها من الأسماء، أن تجرى مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم " إن قال قائل: هل ذكر " سيبويه " مصدرا غير متمكن فيما تقدم من الكلام ففي ذلك جوابان:

أحدهما: ما قاله: " أبو العباس " أنه لم يذكر مصدرا غير متمكن، ولكنه قدم هذا لك ليعلمك أن كل مصدر غير متمكّن لا يتّسع فيه نحو: " سبحان "، لا يجوز أن تقول: " جئتك زمن سبحانه "، كما تقول: جئتك زمن تسبيحه. والجواب الثاني: أن يكون عنى صباح مساء؛ لأنه من لفظ المصادر، ألا ترى أنك تقول: " أصبحنا صباحا " كما تقول: تكلّمنا كلاما، فتضع الصباح موضع الإصباح، كما وضعت الكلام موضع التكليم. فيجوز على هذا أن يكون عنى صباحا. قال سيبويه: " ومما يختار أن يكون ظرفا، ويقبح أن يكون غير ظرف صفة الأحيان، كقولك: سير عليه طويلا، وسير عليه حديثا، وسير عليه كثيرا، وسير عليه قليلا، وسير عليه قديما ". يريد أنك إذا جئت بالنعت، ولم تجئ بالمنعوت ضعف، وكان الاختيار ألا يستعمل إلا ظرفا؛ لأنك إذا قلت: " سير عليه طويلا "، والطويل يقع على كل شيء طال، من زمان وغيره، فإذا أردت به الزمان فكأنك استعملت غير لفظ الزمان، فصار بمنزلة قولك: " ذات مرة " و " بعيدات بين ". قال: وإنما نصبت صفة الأحيان على الظرف، ولم يجز الرفع؛ لأن الصفة لا تقع مواقع الأسماء، كما أنه لا يكون إلا حالا في قوله: " ألا ماء ولو باردا "؛ لأنه لو قال: " أتاني بارد " لكان قبيحا، ولو قال: آتيك بجيد، لكان قبيحا، حتى تقول: بدرهم جيد، وتقول: أتيتك به جيدا. يعني لما لم تقو الصفة إلا بتقدّم الموصوف جعلوه حالا في قولك: " ولو باردا " أو " أتيتك به جيدا "، وكذلك الصفة لا تجوز إلا ظرفا، وفي قولك: " سير عليه طويلا "، أو تجري على اسم، فتقول: " سير عليه دهر طويل ". قال: وقد يحسن أن تقول: " سير عليه قريب " لأنك تقول: أتيته مذ قريب، والنصب عربي جيد. وإنما جاز: " مني قريب " لأنه قد تمكن حتى صار يعنى به الرجل، فتقول: " زيد مني قريب " فتجعله هو القريب، وتقول: " زيد منّي قريبا "، أي في موضع قريب. وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم ". حتى تغني عن الموصوف، كقولهم: " الأبرق والأبطح " وإنما يراد به: المكان

هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره

الأبرق، وهو الذي تربته ألوان، و " الأبطح ": وهو المكان السهل. قال: " وتقول: سير عليه مليّ من النهار ". ليس " مليّ " بمنزلة " طويل ": لأن الطويل يقع لكل شيء، ومليّ لا يكاد يستعمل إلا في الزمان. قال: " ومما يبين لك أن الصفة لا يقوى فيها إلا هذا أن سائلا لو سألك: هل سير عليه؟ لقلت: نعم، " سير عليه شديدا " و " سير عليه حسنا " فالنصب في هذا على أنه حال، وهو وجه الكلام؛ لأنه وصف السّير، ولا يكون فيه الرفع، لأنه لا يقع موقع ما كان اسما، ولم يكن ظرفا؛ لأنه ليس بحين يقع فيه الأمر، إلا أن تقول: سير عليه سير حسن، أو: سير عليه سير شديد. يعني أنك إذا قلت: " سير عليه شديدا "، فالوجه أن تنصب شديدا على الحال. ولا يحسن أن تقول: " شديد " على معنى شدّ شديد؛ لأنك لم تأت بالموصوف فضعف، و " شديدا وحسنا " حال من السير، وهو مضمر، قد أقيم مقام الفاعل فكأنك قلت: سير عليه السير شديدا. وقوله: " ليس بحين يقع فيه الأمر " يعني: " شديدا وحسنا " ليس بمنزلة مليّ وقريب. قال: فإن قلت: سير عليه طويل من الدهر، وشديد من السير، فأطلت الكلام ووصفته كان أحسن وأقوى، وجاز، ولا يبلغ في الحسن الأسماء، وإنما جاز حين وصف؛ لأنه ضارع الأسماء؛ لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء. يعني أنك لمّا قلت: " سير عليه طويل من الدّهر "، قرب من قولك: " سير عليه دهر طويل " فجاز فيه الرفع. هذا باب ما يكون من المصادر مفعولا فيرتفع كما ينتصب إذا شغلت الفعل به وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره يعني بالمصدر قولك: " سير عليه سير شديد " ترفع السير إذا شغلت الفعل به، وشغلك الفعل به أن تقيمه مقام الفاعل.

" وينتصب إذا شغلت الفعل بغيره "، وشغلك الفعل بغيره، أن تقيم غيره مقام الفاعل، كقولك: " سيّر زيد تسييرا "، و " ضرب زيد ضربا "، وترتيب الكلام: فيرتفع إذا شغلت الفعل به كما ينتصب. يعني أنه مصدر مفعول في حال الرفع، كما أنه مفعول في حال النصب. قال: وإنما يجيء ذلك على أن تبين أيّ فعل فعلت أو تأكيدا. يعني إنما يجيء المصدر منصوبا أو مرفوعا على أحد وجهين: إمّا لبيان صفة المصدر الذي دل الفعل عليه، وإما للتأكيد. فأما الذي لبيان صفة المصدر، فقولك: " ضربت زيدا ضربا شديدا " و " سرت سير الإبل ". وأما الذي يجيء تأكيدا فقولك: " ضربت زيدا ضربا " و " حرّكته تحريكا " وإنما صار تأكيدا؛ لأنه ليس فيه من الفائدة إلا ما في قولك " ضربت " و " حركت ". قال: " فمن ذلك قولك على قول السائل: " أيّ سير سير عليه " فتقول: " سير عليه سير شديد " و " ضرب به ضرب ضعيف "، فأجريته مفعولا والفعل له ". أما قوله: " فمن ذلك " يعني من المصدر الذي يرتفع " ضرب به ضرب ضعيف ". وقوله: " فأجريته مفعولا والفعل له " يعني " ضرب ضعيف " مفعول في الحقيقة. وقوله: و " الفعل له " يعني أنه قد صيغ الفعل له، ورفع به، وصيّر حديثا عنه. قال: (وإن قلت: " ضرب به ضربا ضعيفا "، فقد شغلت الفعل به). هذا الذي في الكتاب وينبغي أن يكون: " فقد شغلت الفعل بغيره "، كأنك شغلت الفعل بالباء، وجعلت موضعها رفعا. ويجوز أن يكون اللفظ الواقع على ما يشاكل لفظ الكتاب، أضمر في ضرب الضرب، وشغل الفعل به، فيكون قوله: به الهاء تعود إلى المصدر، والمضمر في: " ضرب " مصدر، فلا يستكره أن يكون إياه عنى. وقد يجوز أن يقال: شغلت الفعل به، ويكون " به " في موضع الفاعل لشغلت، وهو

وجه لطيف. قال: " وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تذكر الصفة، تقول: " سير عليه سير " و " ضرب به ضرب " كأنك قلت: " سير عليه ضرب من السير "، أو سير عليه شيء من السير، وكذلك جميع المصادر ترتفع على أفعالها إذا لم يشغل الفعل بغيرها ". يعني يجوز أن ترفع المصدر وإن لم تصفه، فتقول: " ضرب به ضرب ". وقوله: " إن أردت هذا المعنى " يجوز أن يعني إن أردت معنى الصفة، وإن لم يذكرها، ويجوز أن يعني: إن أردت هذا المعنى من إقامته مقام الفاعل، وصياغة الفعل له. قال: وتقول: " سير عليه أيّما سير سيرا شديدا "، كأنك قلت: سير عليه بعيرك سيرا شديدا، وسير عليه سيرتان أيّما سير ". يعني أنك إذا ذكرت مصدرين للفعل جاز أن تقيم أحدهما مقام الفاعل، وتنصب الآخر، وإنما يذكر المصدران والأكثر في الفعل، إذا كانت في كل واحد منهما فائدة، لأن قولك: " سير عليه سيرتان أيّما سير "، في " سيرتين " فائدة العدد، وفي: " أيّما سير " فائدة المبالغة، وما يحمد من السير. ويجوز أن تقول: " سير عليه سيرتان أيّما سير سيرا شديدا " إذا رفعت واحدا ونصبت الثاني. قال: " وتقول على قول السائل: " كم ضربة ضرب به " وليس في هذا إضمار شيء سوى " كم "، والمفعول: " كم "، فتقول: ضرب به ضربتان ". تقدير هذا الكلام كم ضربة ضرب بالسوط؟ والهاء كناية عنه، أو عن غيره ممّا يضرب به. والكلام مجاز لا حقيقة، وذلك أنه جعل: " كم " لمقدار الضرب، وجعل ضميره في " ضرب " مرفوعا بضرب، مقاما مقام الفاعل، فكأنه قال: " أعشرون ضربة ضرب بالسوط؟ " فجعل الضرب مضروبا، والضرب لا يضرب، وإنما يضرب المضروب، كما قال: " نهارك صائم " والنهار لا يصوم. ولا يجوز البتة: " متى سير به؟ " و " أين جلس به؟ " على أن يكون في: " سير " لم يسمّ فاعله راجع إلى: " متى " و " أين "، وإنما يجوز هذا في: " كم "؛ لأنه يخبر عنه، ويكون في

موضع رفع، ولا يجوز ذلك فيهما، ولم أجد " سيبويه " ذكر هذا، وأشار إليه على المعنى. ثم قال بعد فصل معناه كمعنى ما ذكرنا من المجاز: وليس ذلك بأبعد من " ولد له ستون عاما ". وقد فسرنا ذلك. قال: (وسمعت من أثق به من العرب يقول: " بسط عليه مرتان " يريد: بسط عليه العذاب مرتين). يحتمل أن تكون: " مرتين " يعني: " وقتين "، ويحتمل أن يعني: " بسطتين " على المصدر. قال: " وتقول: سير عليه طوران، طور كذا وطور كذا ". ذكر بعض أصحابنا أن الرفع في هذا أقوى، والنصب يضعف؛ لأنك لما ثنيت فقد قربت من الأسماء وقوي الرفع، والنصب جائز إذا أضمرت ما تقيمه مقام الفاعل، فتقول: " سير عليه مرّتين وطورين " كأنك قلت: سير عليه السير مرتين، ويجوز أن تقيم حرف الجرّ مقام الفاعل. قال: (وتقول: ضرب به ضربتين، أي قدر ضربتين من الساعات، كما تقول: سير عليه ترويحتين، فهذا على الأحيان، ومثل ذلك: انتظر به نحر جزورين). وقد بينا المصادر التي تجعل ظروفا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فإذا قلنا: " ضرب به ضربتين "، فكأنا قلنا: وقت ضربتين. قال: (ومما يجيء توكيدا وينصب قوله: سير عليه سيرا، وانطلق به انطلاقا، وضرب به ضربا، فينصب على وجهين، على أنه حال على حد قولك: ذهب به مشيا، وقتل به صبرا). تريد به الحال، كأنه قال: ذهب به ماشيا، وقتل به مصبورا، وإن وصفت المصدر على هذا الحد كان نصبا كقولك: " ذهب به مشيا عنيفا " كأنه قال: ماشيا معنفا. والوجه الآخر ما قاله سيبويه: " وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر ". فيكون قولك: " سير عليه سيرا " كقولك: " سير عليه مسيرا "، و " ضرب به ضربا "، أي ضرب به مضروبا، وعلى هذا يجوز أن تقول: " قام زيد قائما " على الحال.

وربما استوحش من هذا بعض النحويين البصريين ممن لا يفهم، فيقول: إذا قلنا: " قام زيد قائما "، وأنت تعني في حال قيامه، قيل له: إنما يذكر هذا تأكيدا، وإن كان الأول قد دل عليه، كما يذكر المصدر بعد الفعل تأكيدا، كما تقول: " ضربت زيدا ضربا " وإن كان الأول يدل عليه، وقد قال الله عز وجل: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا (¬1)، فقد يجوز أن يكون على الحال، ويجوز أن يكون على المصدر، بمعنى رسالة، وإن الأول قد دل عليه. وقوله: " ذهب به مشيا " في معنى " ماشيا " على الحال، كما تقول: " جاء زيد عدلا "، أي: " عادلا " فإن وصفت المصدر لم يتغير النصب، وجاز أن يكون على المصدر، وعلى الحال، كقولك: " سير به سيرا عنيفا ". قال: " وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر " ويكون بدلا من اللفظ بالفعل، تقول: سير عليه سيرا، وضرب به ضربا، كأنك قلت بعد ما قلت: سير عليه يسيرون سيرا، ويضربون ضربا. ودل المصدر على الفعل لأن المصدر يكون بدلا من اللفظ بالفعل. وجرى على قوله: " إنما أنت سيرا "، سيرا. يريد: تسير سيرا. وعلى قوله: " الحذر الحذر ". يريد: احذر الحذر. قال: (وإن قلت على هذا الحد: " سير عليه السير " جاز أن تدخل الألف واللام؛ لأن المصدر لا يمتنع من ذلك وإن وصفت أو أضفت لم يتغير نصبه على المصدر، كقولك: سير عليه سير البريد، ولا يجوز أن تدخل الألف واللام في السير، إذا كان حالا، كما لم يجز أن تقول: ذهب به المشي العنيف). يعني أن المصدر إذا كان في معنى الحال، فالقياس يمنع من دخول الألف واللام عليه، كما لا تدخل الألف واللام على الحال، لا تقول: " مررت بزيد القائم " على الحال. ثم أنشد سيبويه: ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 79.

نظّارة حين تعلو الشمس راكبها … طرحا بعيني لياح فيه تحديد (¬1) يقال: " لياج " و " لياح "، وهو الثور الوحشي، ويروى: " تجديد " فمن قال: " تحديد " أراد في بصره وناظره. ومن قال: " تجديد " أراد في لونه، والجدّة: الطريقة في الشيء، تخالف سائر لونه، من قوله وعز وجل: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ (¬2). والشاهد في البيت قوله: " طرحا " وهو مصدر فعل لم يذكره، ولكن " نظارة " قد دلت عليه؛ لأنه إذا قال: " نظارة " فقد علم أنها تقلّب طرفها وناظرها في جهات؛ لأن النظر إنما هو تقليب الناظر، فإذا قلّبت الناظر في الجهات فقد طرحته فيها، فكأنه قال: تطرح نظرها طرحا. وإنما جعل هذا شاهدا للكلام الذي قبله؛ لأنه ذكر أن قوله: " سير به سيرا " أنه يجوز أن يكون نصب: " سيرا " بإضمار فعل آخر. قال: " وإن شئت قلت: سير عليه السير ". فتقيمه مقام الفاعل، وإن قلت: " سير عليه السير الشديد " فالرفع فيه أقوى؛ لأنه من الاسم أقرب؛ بالوصف الذي وصف به. قال: (وجميع ما يكون بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون إلا على فعل قد عمل في الاسم ". يعني أنك إذا نصبت المصدر بإضمار فعل، فذلك الفعل الذي أضمرته معه فاعله؛ لأن الفعل لا يكون إلا بفاعل، وكذلك إذا قلت: " الحذر الحذر " فإنما تريد: احذر الحذر، فالفعل والفاعل محذوفان. ومعنى قوله: " وقد عمل في الاسم ": أي عمل في الفاعل وحذف معه. قال: " ومما يسبق فيه الرفع من المصادر؛ لأنه يراد به أن يكون في موضع غير المصدر قوله: " قد خيف منه خوف " و " قد قيل في ذلك قول ". يعني أنه قد يجيء به على لفظ المصدر المفعول والفاعل، وإذا كان كذلك، عاملناه ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 118 بولاق ونسبه سيبويه للراعي وهو يصف ناقته. (¬2) سورة فاطر، آية: 27.

معاملة المفعول لا المصدر، فقوله: " خيف منه خوف " يراد أمر مخوف، ولم ترد الخوف الذي في القلب. والمصدر الذي بمعنى الفاعل قوله: " كان منه كون " أي أمر من الأمور، كأنه قال: كان منه أمر كائن. قال: وإن جعلته- على ما حملت عليه السير والضرب في التوكيد- حالا، وقع به الفعل، أو بدلا من اللفظ بالفعل، نصبت. يعني إن جعلت: " خيف منه خوف " هو الخوف الذي في القلب، فسبيله سبيل قولك: " سير به سيرا ". قال: (فإذا كان المفعل مصدرا جرى مجرى ما ذكرنا من الضرب وذلك قولك: إن في ألف درهم لمضربا، يعني أن فيها لضربا). قال أبو سعيد: اعلم أن المصادر هي مفعولة، والميم تدخل؛ لعلامة المفعول. فإذا كان الفعل ثلاثيّا، فإن الميم تدخل في مصدره، فيكون على " مفعل " كقولك: " ضربته مضربا " و " قتلته مقتلا ". كما تقول: " ضربته ضربا " و " قتلته قتلا " ويكون على مفعل كقولك: " وعدته موعدا "، و " وقفته موقفا ". وهو في الفعل الثلاثي دخلته الميم؛ لأنه مفعول، إلا أنه مفعول يخالف لفظ المفعول به؛ لأنك تقول: " قتلته فهو مقتول "، و " ضربته فهو مضروب "، وإذا جاوز الفعل الثلاثة استوى لفظ المفعول والمصدر، فقلت: " أخرجت زيدا إخراجا " و " مخرجا " والمفعول به مخرج وأنزلته منزلا، والمفعول به منزل، قال الله عز وجل: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً (¬1) يجوز أن يكون: " إنزالا مباركا ". فإذا كان الأمر على ما وصفنا جرى المصدر الذي فيه ميم، مجرى ما ليس فيه ميم، فيقال: " سير بزيد مسير شديد "، و " مسيرا شديدا "، وضرب به مضرب شديد، ومضربا شديدا، كما تقول: " سير به سير شديد، وسيرا شديدا "، وقال جرير: ألم تعلم مسرّحي القوافي … فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (¬2) ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، آية: 29. (¬2) ديوان جرير 62، ابن الشجري 1/ 42، رغبة الآمل 2/ 259.

أراد: تسريحي، و " القوافي " في موضع نصب، وأسكنه ضرورة، كما قال: كأنّ أيديهن بالقاع القرق … أيدي جوار يتعاطين الورق (¬1) قال: (وكذلك تجري المعصية بمنزلة العصيان والموجدة بمنزلة المصدر لو كان الوجد يتكلم به). يعني الموجدة في الغضب سبيلها سبيل الوجد، الذي ليس فيه ميم، ولا يتكلم بالوجد في معنى الموجدة، يقال: " وجدت عليه موجدة " إذا غضبت عليه، و " وجدت به وجدا " إذا أحببته، و " وجد وجدا " إذا استغنى، و " وجدت الضالّة وجدانا " إذا أصبتها، و " وجدت زيدا عالما وجدا " إذا علمته. " فالموجدة " في الغضب تجري مجرى " الوجد " في الحب، تقول: " وجدت عليه موجدة "، ولا يقال: " وجدت عليه وجدا "، كما تقول: " وجدت به وجدا "، ولا يقال: " وجدت به موجدة "، وقال الشاعر: تداركن حيا من نمير بن عامر … أسارى تسام الذّل قتلا ومحربا (¬2) يريد حربا أي سلبا، ويجوز أن يكون حربا في معنى غيظا. قال: (فإن قلت: ذهب به مذهب، أو سلك به مسلك، رفعت؛ لأن " المفعل " هاهنا ليس بمنزلة الذهاب والسلوك). يعني أن " المذهب " و " المسلك " تريد به المكان الذي يذهب فيه ويسلك، والأمكنة أقرب إلى الرفع من المصادر؛ لأن الأماكن جثث، وهي شبيهة بالأناسيّ. قال سيبويه: " وهو بمنزلة قولك: ذهب به السوق " فقال: إن قال قائل: لم أسقط حرف الجر من السوق، وليس بظرف، وقد زعم سيبويه أن قولهم: " ذهبت الشام " شاذ؛ لأنه يتعدّى إليه بحرف الجر، والشام ليس بظرف؛ لأنه مكان مخصوص. فالجواب أن هذا: وإن لم يكن ظرفا فإن العرب تتسع فيه؛ لعلم المخاطب فيضمر، ¬

_ (¬1) البيت لرؤبة ديوانه 179 والخزانة 3/ 529 والخصائص 1/ 306. (¬2) نسبه سيبويه إلى ابن أحمد 1/ 119 بولاق. ولم ينسبه ابن الأنباري في شرح القصائد السبع 429.

فيكون التقدير: " ذهب به مكان السوق ".، ويحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه. قال: وكذلك المفعل إذا كان حينا، نحو قولهم: " أتت الناقة على مضربها " أي على زمان ضرابها، وكذلك: " مبعث الجيوش "، تقول: " سير عليه مبعث الجيوش، ومضرب الشّول ". يريد أنهم قد أجروا ما في أوله الميم في الزمان، كما أجروه في المكان. فالمكان قولك: ذهب به مذهب، وسلك به مسلك. والزمان قولهم: أتت الناقة على مضربها، وسير عليه مبعث الجيوش، وأنشد قول حميد بن ثور: وما هي إلا في إزار وعلقة … مغار ابن همام على حيّ خثعما (¬1) والشاهد فيه: مغار ابن همام، وزعم " الزجاج " أن " سيبويه " أخطأ في ذكره هذا البيت في هذا الموضع، وذلك أنه قدر " مغارا " زمانا، والزمان لا يتعدى، وإنما " مغار " مصدر، قال: والدليل على ذلك أنه قد عدّاه، فإنما تقديره زمن إغارة ابن همام على حي خثعم، مثل مقدم الحاج، وهكذا قال " أبو العباس ". وقد غلطا في الرد عليه؛ لأن المصادر التي جعلها " سيبويه " ظروفا إنما هي مضاف إليها الزمان، فتكون هي نائبة عنه، فمغار الذي في البيت وإن كان مصدرا لم يخرج عما قاله " سيبويه ". وتأويل البيت: أنه وصف امرأة، فذكر أنها في إزار وعلقة، وهي البقيرة، وهي قميص بلا كمين، يريد أنها- في وقت إغارة " ابن همام " - في هذا الزي، فإما أن تكون صغيرة، أو بمعنى آخر، ويقال إن ابن همام كان لا يغير إلا وهو عريان، وهذا الذي ينساق على تأويل الزجاج كأنه شبه عريها بعري ابن همام. ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 120 بولاق وحميد بن ثور بن حزن الهلالي العامري شاعر مخضرم وفد على النبي وأسلم ومات في خلافة عثمان وله ديوان شعر الأغاني 4/ 356 - شواهد المغني 73 - الخصائص 2/ 208.

هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره

هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض، فلا يكون إلا مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله؛ لأن ألف الاستفهام تمنعه من ذلك، وهو قولك: " قد علمت أعبد الله ثمّ أم زيد "، و " قد عرفت أبو من زيد "، و " قد عرفت أيّهم أبوك "، و " أما ترى أيّ برق هاهنا "، فهذا في موضع مفعول، كما أنك قلت: عبد الله هل رأيته، فهذا الكلام في موضع المبني على المبتدأ. قال أبو سعيد قوله: " هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره " يريد الاستفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وقد بينا هذا في أول الكتاب. والفعل الذي يتعدى قولك: " قد علمت أزيد عندنا أم عمرو "، و " قد عرفت أبو من زيد "، والفعل الذي لا يتعدى قولك: " قد فكرت أزيد أفضل أم عمرو فإذا قلت: أزيد عندنا أم عمرو، " فزيد " مرفوع بالابتداء و " عندنا " خبره، ودخلت ألف الاستفهام على الجملة، ثم دخل الفعل على ألف الاستفهام، فلم يغيّر شيئا مما بعدها؛ لأن بعدها جملة، وقد حالت هي بين ما بعدها وما قبلها. فإذا كان الفعل متعديا إلى مفعولين سد الاستفهام وما بعده مسدّ المفعولين، كقولك: " خلت أزيد في الدار أم عمرو "، كما تسد " أنّ " المشددة مسد المفعولين في قولك: " خلت أنّ زيدا قائم ". وإذا كان الفعل يتعدى إلى مفعول، سد الاستفهام وما بعده مسد ذلك المفعول فقلت: " عرفت أبو من زيد "، كما قلت: " عرفت أن زيدا قائم ". وإذا كان الفعل لا يتعدى قام الاستفهام وما بعده مقام اسم فيه حرف من حروف الجر، كما أن " أنّ " المشددة إذا وقعت بعد فعل لا يتعدى، كان فيها تقدير حرف الجر، كقولك: " فكرت هل زيد قائم "؛ كما تقول: " فكرت أن زيدا قائم " والتقدير: فكرت في أن زيدا قائم، أي في قيامه. وبعض أصحاب " سيبويه " يروي: " إلى المفعول ولا غيره " بالجر، وبعضهم يقول: " ولا غيره " بالرفع. فمن رواه بالجر عطفه على الفعل، كأنه قال: من الفعل الذي يتعدى ولا من غيره،

وهو الفعل الذي لا يتعدى. ومن رفعه عطفه على " ما " الثانية، كأنه قال: لا يعمل فيه شيء قبله من الفعل المتعدي إلى مفعول، ولا شيء غير الفعل المتعدي. واعلم أن هذه الأفعال التي يقع الاستفهام بعدها إنما هي: " أفعال القلوب " من علم، وظنّ، وفكر، وخاطر، ولا يجوز أن يقع في موقع ذلك فعل مؤثر، لا يجوز: " ضربت أيهم في الدار " ولا " ضربت أزيد في الدار أم عمرو ". قال أبو عثمان المازني: قولهم: " أما ترى أيّ برق هاهنا " يريد به رؤية العين، ولم يرد به رؤية القلب؛ لأنه إذا كان يقول: " انظر إليه ببصرك "، وجاز هذا في هذا خاصة؛ لأنها محكية، ولا يقاس. وذلك أن الحروف التي تقع على الاستفهام، إنما تقع عليها الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين، ورؤية العين لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد. والقول الصحيح أنه يريد الرؤية التي في معنى العلم، وإليها يرجع الكلام؛ لأن الإنسان إذا قال لمن يخاطبه: " أما ترى أي شيء في الدنيا؟ " فليس يريد به رؤية العين وإنما يريد به رؤية العلم، وقد يقول القائل: " اذهب فانظر زيد أبو من هو "، وليس يريد اذهب فأبصره بعينك، وإنما يريد اعلم ذاك. قال: " ومثل ذلك: " ليت شعري أعبد الله ثمّ أم زيد " و " ليت شعري زيد هل رأيته "، فهذا في موضع خبر ليت ". يعني أن " شعري " اسم ليت، و " هل رأيته " جملة في موضع الخبر، وكذلك " عبد الله هل رأيته "، " عبد الله " مبتدأ، و " هل رأيته " في موضع الخبر. و" شعري " يريد علمي، يقال: شعر به يشعر شعرة وشعرا ولا يستعمل بعد ليت إلا بطرح الهاء، كما تقول: امرأة عذراء بينة العذرة، ثم تقول: " هو أبو عذرها " بطرح الهاء؛ لأن الأمثال تؤدّى ولا تخالف. ويجوز أن يكون الاستفهام في موضع مفعول " شعري "، على تقدير حرف الجر، ويكون الخبر محذوفا، كأنك قلت: ليت شعري أزيد ثمّ أم عمرو واقع، تقديره: ليت علمي بهذا واقع. قال: (فإنما أدخلت هذه الأشياء على قولك: " أزيد ثمّ أم عمرو "، و " أيهم

أبوك "، لما احتجت إليه من المعاني، وسنذكر ذلك في باب التسوية). يعني دخلت " علمت " على " أزيد ثمّ أم عمرو " لما احتجت إليه من تبيين علمك بذلك، وكذلك " ظننت أزيد في الدار أم عمرو " وأدخلت الظن لتبين أنك لست تقبله علما، وسنذكر معنى التسوية إذا انتهينا إلى بابها إن شاء الله. قال: " ومن ذلك: " قد علمت لعبد الله خير منك "، فهذه اللام تمنع العمل. كما تمنع ألف الاستفهام ". يعني تمنع " علمت " من العمل فيما بعدها، كما منعته ألف الاستفهام؛ لأنهما يقعان صدرا. قال: " وإنما دخلت " علمت " لتؤكد بها ". يعني أن الأصل: لعبد الله خير منك، غير أنك لو تكلمت بهذا جاز أن يكون على سبيل التظنّي منك، أو خبّرك به مخبر، فأردت أن تنفي ذلك، ولا تحيل على علم غيرك. كما أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو " وأردت أن تخبر أنك قد علمت أيهما ثمّ، والأصل فيه " أزيد ثمّ أم عمرو " على طريق الاستفهام، ثم دخلت " علمت " للتبيين أنه قد استقر في علمك الكائن منهما. قال سيبويه في عقب هذا: " وإن أردت تسوّي علم المخاطب فيهما كما استوى علمك في المسألة حين قلت: أزيد ثم أم عمرو ". يعني أنك إذا قلت مستفهما: " أزيد ثمّ أم عمرو " فأنت لا تدري واحدا منهما بعينه، فعلمك بزيد كعلمك بعمرو. فإذا قلت: قد علمت أزيد ثمّ أم عمرو " فقد دريت واحدا منهما بعينه، ولم تخبر المخاطب به فعلم المخاطب به كعلمه بعمرو، وقد أحللت المخاطب محلّك حين كنت مستفهما. قال: ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت " علمت " كما تعمل: " عرفت "، وذلك قولك: " قد عرفت زيدا خيرا منك "، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ (¬1)، وكما قال تعالى: لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 65.

يَعْلَمُهُمْ (¬1). قال أبو العباس: ذكر " علمت " التي في معنى عرفت؛ ليتبين لك وجوه: " علمت " وقال غيره: إنما استشهد بعلمت التي في معنى عرفت؛ لأنه قال قبل هذا. ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت " علمت " كما تعمل " عرفت ". أراد لو لم تدخلهما لجاز أن تعمل: " علمت " عمل: " عرفت " فتعديه إلى مفعول واحد وأما إذا أدخلتهما، فلا يجوز أن تعديه إلى مفعولين. ثم استدل على جواز إعمال: " علمت " عمل " عرفت " بما ذكر من الآيات، وهذا قول قريب. قال أبو سعيد: والأجود عندي أن " سيبويه " إنما استشهد بدخول " علمت " على ما ليس فيه ألف الاستفهام ولا لام الابتداء، وأعمله فيه سواء كان في معنى " عرفت " أو في غير معناها، واتفق له الاستشهاد بهاتين الآيتين، والعلم فيهما على طريق المعرفة، ولو استشهد بغيرهما لجاز، ألا ترى إلى قوله: " قد علمت زيدا خيرا منك "، فعداه إلى مفعولين، وهذا هو الأشبه .. ويجوز أن يكون " خيرا منك " في موضع الحال، و " علمت " بمعنى " عرفت ". قال: " وتقول: قد عرفت زيدا أبو من هو ". " فزيد " منصوب " بعرفت "، و " أبو من هو " ذكر أبو العباس أنه حال، وقد غلط عندي؛ لأن الجملة إذا كانت في موضع الحال جاز أن تدخل عليها الواو، ألا ترى أنك تقول: " مررت بزيد أبوه قائم " وإن شئت قلت مررت بزيد وأبوه قائم وأنت لا تقول: " عرفت زيدا وأبو من هو "، كما يجوز أن تقول: " عرفت زيدا وأبوه قائم "، فقد بطل الذي قاله من الحال. والصواب عندي أن تكون الجملة بدلا من " زيد " وموضعها نصب بوقوع " عرفت " عليه، كأنك قلت: عرفت أبو من هو. قال: " وتقول: قد علمت عمرا أبوك هو أم أبو عمرو ". " فعمرا " هو المفعول الأول، وما بعده جملة في موضع المفعول الثاني. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية: 60.

وإن جعلت " علمت " في مذهب " عرفت " فقد مضى الكلام فيه. وإنما نصبت المفعول الأول؛ لأنك جئت بألف الاستفهام بعد أن وقع الفعل عليه، وعمل فيه. قال: (ويقوّي النصب قولهم: قد علمته أبو من هو وقد عرفتك أيّ رجل أنت)؛ لأن الهاء في: " علمته " والكاف في " عرفتك " لا يكونان إلا في موضع نصب. وتقول: " قد دريت عبد الله أبو من هو ". " فدريت " بمعنى " عرفت " في تعدّيه إلى واحد، وأكثر العرب لا يجعلون: " دريت " متعديا إلى بحرف جر، فيقولون: " ما دريت به "، كما يقال: " ما شعرت به ". قال: " وإن شئت قلت: " قد علمت زيد أبو من هو "، كما تقول ذلك فيما لا يتعدى إلى مفعول، كقولك: " اذهب فانظر زيد أبو من هو ". يعني أنه يجوز لك ألّا تعمل: " علمت " في " زيد "، للاستفهام الذي بعده؛ إذ كان هذا الاستفهام يجوز أن يقع على " زيد "، فتقول: " قد علمت أبو من زيد ". فلما جاز أن يتقدم زيدا الاستفهام، ولا يتغير المعنى، صار بمنزلة ما قد وقع الاستفهام عليه، ومنع من أن يعمل فيه. ثم شبه: " علمت زيد أبو من هو " بما لا يتعدى من الفعل، لما أبطل عملها، وهو قولك: " انظر زيد أبو من هو " وأنت لا تقول: " نظرت زيدا، إلا في معنى انتظرته. وكذلك " اسأل: زيد أبو من هو " فالسؤال لم يقع بزيد فينصبه، وإنما المعنى اسأل الناس: زيد أبو من هو. وحكم " انظر " و " اسأل " أن يتعدى بحرف جر في المعنى المقصود بهذا الكلام، كأنك قلت: انظر في كنية زيد، واسأل عن كنية زيد. قال: " ومثل ذلك: " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو ". وفي بعض النسخ: " ليت شعري أزيد عندك "، فشعري منصوب بليت، وهو مصدر شعرت. وقوله: " زيد عندك هو أم عند عمرو " جملة في موضع خبر: " شعري ". فإن قال قائل: أين العائد من الخبر على الاسم، وهو جملة في موضع خبر: " شعري " فالجواب أن يقال: إن هذه الجملة محمولة على معناها، لا على لفظها؛ وذلك أن فعل الظّن

والعلم، وغيرهما من أفعال القلب، قد يجوز أن تكون مفعولاتها جملا، فيكون عمل هذه المفعولات في مواضعها، لا في ألفاظها، إذا دخل في الكلام ما يمنع من ذلك كقولك: " عرفت أزيد في الدار أم عمرو "، فمفعول " عرفت " الاسم الذي وقعت الجملة موقعه، كأنك قلت: " عرفت ذاك " وكذلك: " ليت شعري زيد أعندك هو أم عند عمرو "، كأنه قال: ليت شعري ذاك، وتقديره: ليت الذي أشعر به ذاك. وفيه وجه آخر وهو أن يكون: " زيد أعندك هو أم عند عمرو " في صلة: " شعري " وقد ناب عن الخبر، كما تقول: " حسبت أن زيدا منطلق " " فأنّ " وما بعدها من الاسم والخبر في تقدير اسم واحد، و " حسبت " تحتاج إلى مفعولين، و " أنّ " وما بعدها من الاسم والخبر، تسدّ مسد المفعولين، وإن كانت في تقدير اسم واحد. ولا يمتنع دخول: " شعري " على: " زيد " وإن كان حرف الاستفهام بعده؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه، فكأنك قلت: " ليت شعري أزيد عندك أم عند عمرو "، ومثل ذلك: " إن زيدا فيها وعمرو ". تردّ عمرا على موضع " زيد "؛ لأنه في المعنى مبتدأ. قال: " ولكنه أكد كما أكد فأظهر زيدا وأضمر ". يريد أكد بإنّ كما أكد في قوله: " علمت زيد أبو من هو " بإظهار: " زيد " وإضماره، فلم يخرج " زيد " من معنى الاستفهام، كما لم يخرج اسم " إن " من معنى الابتداء. قال: فإن قلت: " عرفت أبو من زيد " لم يجز إلا الرفع لأن المضاف إلى الاستفهام بمنزلة الاستفهام. فإن قلت: قد عرفت أبا من زيد مكنيّ ". انتصب " الأب " بمكني، وزيد مبتدأ، ومكنيّ خبره، وفيه ضمير مرفوع من: " زيد "، يقوم مقام الفاعل و " أبا من " مفعول ما لم يسم فاعله، ألا ترى أنك تقول: " زيد مكنيّ أبا عمرو "، فإذا جعلته استفهاما وجب أن تقدمه فتقول: " أبا من زيد مكنّي " فإذا دخلت عليه: " عرفت " لم يتغير. ومثله: " أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو "، ثم تدخل عليه: " علمت " فلا يتغير، فتقول: " قد علمت أأبا زيد تكنى أم أبا عمرو " فلا تغيّر المنصوب المستفهم عنه، كما لم تغير المرفوع؛ في قولك: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو ". وتقول: " قد عرفت زيدا أبا من هو مكني "، وإن شئت قلت: " قد عرفت زيد "

بالرفع؛ فمن نصبه أوقع " عرفت " على " زيد "؛ لأن الاستفهام لم يقع عليه في اللفظ، وجعل ما بعده جملة في موضع الحال، ومن رفع- وهو أضعف الوجهين- يعمل فيه " عرفت "؛ لأن الاستفهام في المعنى واقع على " زيد ". قال: " وتقول: قد عرفت زيدا أبو أيهم يكنى به ". وإنما رفع: " أبو أيهم " لأنه شغل " يكنى " بضميره المتصل بالياء. قال: ومثله: " الدرهم أعطيت " بنصب الدرهم، فإذا قلت: " الدرهم أعطيته " رفعت. قال: وتقول: " أرأيتك زيدا أبو من هو " و " أرأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان ". يعني أنه لا بد بعد قولك: " أرأيتك " من منصوب ثم تأتي بالاستفهام بعد ذلك المنصوب، فإن قال قائل: فهلا أجزتم رفعه؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه كما أجزتم " علمت زيدا أبو من هو "؛ لأنه في المعنى مستفهم عنه؟ فأجاب سيبويه عن هذا، بأن قال: إنّ " أرأيتك " لا تشبه " علمت "؛ لأن فيه معنى " أخبرني "، وأخبرني فعل لا يلغى، فلم يلغ " أرأيتك "، غير أنه وإن كان في معنى " أخبرني " فهو فعل يتعدى إلى مفعولين، لا يجوز الاكتفاء بأحدهما، فالمفعول الأول هو " زيد "، والمفعول الثاني: الجملة التي بعده، فقد جمع " أرأيتك " معنى " أخبرني " في ترك الإلغاء، ومعنى الرؤية رؤية القلب في التعدي إلى مفعولين، ثم عقب " سيبويه " بما يسدّ هذا المعنى. فقال: هذا المعنى فيه لم يجعله بمنزلة " أخبرني ". يعني: دخول معنى: " أخبرني " في: " أرأيتك " لم يمنعه من أن يكون له مفعولان، كما كان له قبل أن يدخل فيه معنى: " أخبرني " ومنعه هذا المعنى من أن يلغى، وقد قيل: أراد فدخول: " أخبرني " في " أرأيت " لم يجعله مقتصرا به على مفعوله الأول، كما يجوز أن يقتصر على النون والياء في قولك: " أخبرني ". وقال بعضهم: في النّسخ غلط، وإنما أراد أن يقول: بمنزلة " رأيت " في الاستغناء وذلك. أنك قد تقول: " علمت أبو من زيد " و " رأيت أبو من زيد " في معنى: " علمت "، فرأيت قد تستغني وتلغى، حتى لا تكون واقعة على مفعول، فإذا قلت: " أرأيت " وجب أن تقع على مفعول، ولم يله حرف الاستفهام.

هذا باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث

قال: وتقول: " قد عرفت أيّ يوم الجمعة ". ويجوز " أيّ يوم الجمعة " فمن نصب جعله ظرفا للجمعة، ولم ينصبه بعرفت، كما تقول: " اليوم الجمعة " و " السبت " مثل الجمعة وإنما جاز النصب في ذلك؛ لأن الجمعة فيها معنى الاجتماع، والأصل في السبت الراحة، وهو فعل واقع في اليوم، ولو قلت: " اليوم الأحد والاثنان " إلى " الخميس " لم يجز إلا بالرفع؛ لأن " اليوم " هو الأحد وليس الأحد بمعنى يقع في اليوم. وإذا قلت: قد علمت أيّ حين عقبتي (¬1). فعقبتي مصدر ومعناها المعاقبة. يريد. أي وقت يصيبني حظي من الركوب، وإن رفعت فتقديره: أيّ حين حين عقبتي، و " علمت " لم يعمل فيه رفعا كان أو نصبا، وقول الشاعر: حتى كأن لم يكن إلا تذكره … والدهر أيّتما حال دهارير (¬2) فالدهر مبتدأ، و " دهارير " خبره، وهي: الدواهي، وأيّتما حال ظرف، كأنه قال: والدهر دهارير في كل حال. هذا باب من الفعل سمي الفعل فيه بأسماء لم تؤخذ من أمثلة الفعل الحادث (وموضعها من الكلام الأمر والنهي، ومنها ما يتعدّى المأمور إلى مأمور به، ومنها ما لا يتعدّى المأمور، ومنها ما يتعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه، ومنها ما لا يتعدى المنهيّ. أمّا ما تعدّى فقولك: رويد زيدا " فإنما هو اسم قولك أرود زيدا). ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 122 بولاق 1/ 240 هارون. (¬2) اختلف في قائل هذا البيت فقيل: عنبر بن لبيد العذري وقيل عثمان بن لبيد العذري وقيل حريث بن جبلة انظر سيبويه 1/ 122 بولاق. شواهد المغني 86. مجالس ثعلب 265. اللسان (دهر) 5/ 380.

واعلم أن هذا الباب مشتمل على أسماء وضعت موضع فعل الأمر، ولا يجوز أن يذكر الفعل معها وهي مشتقة من لفظه وليست بالمصادر المعروفة للفعل كقولك: " ضربا زيدا " في معنى " اضرب ضربا ". فمن ذلك " رويد زيدا " وهو مبنيّ، وكان الأصل فيه أن يبنى على السكون لأنه واقع موقع الأمر، والأمر مبنيّ على السكون فاجتمع في آخره ساكنان الياء والدال فحرّكت الدال لاجتماع الساكنين، وكان الفتح أولى بها استثقالا للكثرة من أجل الياء التي قبلها كما قالوا: أين وكيف ففتحوا، ورويد تصغير إرواد، وإرواد مصدر أرود، ومعنى أرود: أمهل، وصغّروه تصغير الترخيم لحذف الزوائد وهي الهمزة التي في أولها، والألف التي هي رابعها. وقال الفرّاء: (¬1) " إن رويد تصغير رود "، والذي قاله، البصريون أولى لأن أرود يقع موقع " رويد "، و " رود " لا يقع في موقعه فلأن يكون مأخوذا ممّا يقع موقعه ويطابقه في المعنى أولى. ومنها هلمّ زيدا إنما يريد: هات زيدا والأصل فيه: ها لمّ زيدا ولكنهم جعلوهما كشيء واحد وأسقطوا الألف منها، وجعلوه بمنزلة الأسماء التي سمّى الفعل بها مثل: " رويد "، و " حذار "، و " دراك " ولم يثن ولم يجمع ولم يؤنث كما لم يثن " رويد " و " دراك "، وهذه لغة أهل الحجاز؟ قال الله عز وجل: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا (¬2). فوحّدوا، وبنو تميم يثنون ويجمعون ويؤنثون، وقد ذكرنا هذا فيما مضى. قال: (ومنها قول العرب: " حيّ هل الثريد "). جعلوا حيّ وهل بمنزلة شيء واحد، وفتحوها وأقاموها مقام اسم الفعل فلم تثن ولم تجمع، وجعلوا " حيّ هل الثريد " بمنزلة ائتوا الثريد؛ وربما اكتفت العرب ب " حيّ " فعدّوه بحرف الجر قالوا: " حيّ على الصلاة " وربما اكتفوا بهل، قال النابغة الجعدي: ¬

_ (¬1) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور، أبو زكريا الديلمي أخذ عنه الكسائي وهو من أبرع الكوفيين له مصنفات في النحو واللغة. الفهرست 73، 74. بغية الوعاة 2: 333. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 18.

ألا حيّيا ليلى وقولا لها هلا (¬1) قال: (ومنها قوله: تراكها من إبل تراكها (¬2) فهذا اسم لقوله اتركها، وكذلك: مناعها من إبل مناعها (¬3) وهو اسم لقوله: امنعها. والواحد والاثنان والجميع والمؤنث في ذلك سواء؛ وكان حكم " تراك " أن يكون ساكنا لوقوعه موقع الأمر فاجتمع في آخره ساكنان فكسر على ما يوجبه اجتماع الساكنين وهذا مطّرد في جميع الأفعال الثلاثية كقولك: " حذار من زيد "، و " نعاء زيدا " بمعنى انع زيدا، وقد استقصيناه فيما مضى؛ فهذا الذي ذكره: هو ما يتعدى المأمور إلى مأمور به والمنهيّ إلى منهيّ عنه. وأما ما لا يتعدى المأمور ولا المنهي إلى مأمور به ولا إلى منهي عنه فنحو قولك: مه مه، وصه صه، وإيه وما أشبه ذلك). فهذه أصوات وضعت مواضع أسماء الفعل ولا تثنى ولا تجمع، فمعنى مه: كفّ، ومعنى صه: اسكت، وإيه: استزادة. فإن قال قائل: لم فصل سيبويه بين الأمر والنهي في أول هذا الباب وليس في شيء من هذه الأفعال نهيّ بل لا يجوز أن يكون فيها نهي لأنه ليس شيء من هذه المصادر التي هي اسم الفعل يقدر فيها " لا " التي هي للنهي وإنما تقع موقع الأمر المحض، قيل له: إنما سماه نهيا بالمعنى لا بدخول حرف نهي، لأنه إذا قال: اتركها، وامنعها، فالمعتاد في الكلام أن يقال نهى عنها، وإذا قال: صه صه، فأمره بالسكوت والكفّ، فقد نهاه عن الكلام ¬

_ (¬1) قائله النابغة الجعدي والبيت موجود في الأغاني 5: 16 وخزانة الأدب 6: 238، 264. (¬2) البيت لطفيل بن زيد الحارثي. تراكها من إبل تراكها … أما ترى الموت لدى أوراكها خزانة الأدب 5: 16، 162. (¬3) سبق تخريجه.

والإقدام، والأكثر المألوف أنه إذا قال له: اسكت، أنه قد نهاه عن الكلام. قال سيبويه: (واعلم أن هذه الحروف التي هي أسماء للفعل لا تظهر فيها علامة المضمر وذلك أنها أسماء وليست على الأمثلة التي أخذت من الفعل الحادث فيما مضى وفيما يستقبل وفي يومك ولكن المأمور والمنهيّ مضمران في النّية). يعني أن هذه الأسماء التي هي أسماء الفعل لا يظهر فيها ضمير الفاعل والواحد والتثنية والجمع. تقول: " يا عمرو حذار زيدا "، و " يا عمران حذار زيدا "، و " يا عمرون حذار زيدا "، و " يا هندات حذار زيدا ". وفي حذار ضمير الفاعل يجوز أن يؤكد فنقول: حذار زيدا أنت نفسك، وحذار زيدا أجمعون إذا أمرت جماعة، وإنما تظهر العلامة في الفعل لأنه هو العامل في الأصل، وتتغير أمثلته ويخالطه اسم الفاعل واللفظ حتى يصير معه كشيء واحد نحو قولك: جلست، وقمت، فالتاء اسم الفاعل، وقد خالط الفعل وظهر فيه، فلو جعلت مكان حذار احذر لثنيت وجمعت فقلت: احذرا واحذروا. قال: (وإنما كان أصل هذا في الأمر والنهي وكان أولى به لأنهما لا يكونان إلّا بفعل). يعني أن هذه الأسماء التي ذكرها في هذا الباب لا تقع إلّا في الأمر والنهي، لا يجوز أن يقول: أعجبني مناع زيدا، ولا هذا رويد زيدا، كما تقول أعجبني منعك زيدا، وقد بيّنا لم لا يقع إلّا في الأمر. قال: (وأجريت مجرى ما فيه الألف واللام لئلا يخالف ما بعدها لفظ ما قبلها بعد الأمر والنهي). يعني أنها جعلت مفردة غير مضافة كما أن النجاء مفرد غير مضاف، حتى لا ينخفض ما بعدها وينتصب ما بعد الأمر والنهي ولا ينخفض. قال: (ولم تصرّف تصرّف المصادر لأنها ليست بمصادر). يعني أنها لا تكون إلا مفردة على لفظ واحد، والمصادر المشتقة من الأفعال قد

هذا باب متصرف رويد

تكون مفردة ومضافة ويكون فيها الألف واللام، وقد لا يكون فيها كقولك: ضربا زيدا، والضرب زيدا، وضرب زيد، قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ (¬1). هذا باب متصرّف رويد (تقول: رويد زيدا وإنما تريد أرود زيدا. قال الهذليّ: رويد عليّا جدّ ما ثدي أمّهم … إلينا ولكن بغضهم متماين) (¬2) قد ذكرنا نصب رويد لما بعده فأمّا معنى البيت فإنّ عليّا قبيلة، وجدّ: قطع، وهذا مثل، يريد قطع نسبهم إلينا بالعقوق، وبغضهم متماين يعني متكاذب وإنما أراد أنهم أبغضونا على غير ذنب، والمين: الكذب، وكأن بغضهم كذب إذ كان على غير أصل. ويروى: " ولكن ودّهم متماين " وهو ظاهر المعنى وهمز بعض أهل اللغة متمأين وهو ظاهر المعنى، وهمز بعض أهل اللغة متمأين وزعم أن معناه متقادم. قال: (وسمعنا من العرب من يقول: " والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر " يريد أرود الشعر كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر). قال أبو العباس: " هذا رجل مدح رجلا فقال الممدوح للمادح هذا القول؛ أي لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر لا حاجة بك إليه ". قال أبو سعيد: وقد يقال إن سائلا سأل آخر أن ينشد شعرا وكان إنشاده عليه سهلا فقال: لو أردت الدراهم التي إعطاؤها صعب لأعطيتك فدع الشعر الذي هو سهل تقرّبا إليه في مبادرته إلى قضاء حاجته. قال: (ويكون رويد أيضا صفة يقولون: ساروا سيرا رويدا، ويقولون أيضا: ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 4. (¬2) البيت ل (مالك بن خالد الهذلي) وقيل: ل (المعطل): التهذيب 5: 529؛ شرح المفصل 4: 40؛ أشعار الهذليين 1: 44، ق 3: 46؛ تاج العروس (مين).

ساروا رويدا فيحذفون السير ويجعلونه حالا وصف به المصدر اجتزاء بما في صدر حديثه من ذكر ساروا عن ذكر السير). قال أبو سعيد: اعلم أن رويد قد تكون لها حالان سوى حالها التي ذكرنا تكون فيها معربة وهي النعت والحال، ويجوز أن تكون في هاتين الحالتين تصغيرا لإرواد الذي هو المصدر، ويجوز أن تكون تصغير مرود أو مرود بحذف الزوائد على ما ذكرنا من تصغير الترخيم، فإذا جئت بالموصوف فأظهرته كان وصفا كقولك: ضعه وضعا رويدا، وإذا لم تجئ بالموصوف كان الاختيار أن يكون حالا لضعف الصفة من غير أن تقدّم الموصوف، ويجوز أن يكون صفة قامت مقام الموصوف تقول: رويدا، تريد وضعا رويدا. قال: (واعلم أن رويدا تلحقه الكاف وهي في موضع الفعل كقولك: رويدك زيدا افعل، ورويدكم زيدا، ودخلت الكاف علامة للمخاطب إذا خفت أن يلتبس من تعني بمن لا تعني وتجد فيها استغناء بعلم المخاطب أنه لا يعني غيره). ولا موضع للكاف عند سيبويه ومن ذهب مذهبه من نصب ولا رفع ولا جرّ، وهي عندهم بمنزلة الكاف في ذلك وذلكما لا موضع لها من الإعراب. وبعض النحويين يزعم أن موضعها رفع، وبعضهم يقول: موضعها نصب، فأما الذي يزعم أن موضعها رفع فالحجة عليه أن يقال: إنّا لم نر شيئا يعمل عمل الفعل وليس بفعل يتصل به ضمير الفاعل ظاهرا وإنما يكون الضمير في النية كقولك: حذار زيدا. ومن الحجة عليه- أيضا- أنا قد نقول: رويد زيدا فنحذف الكاف ونقدّر في رويد ضميرا مرفوعا في النية؛ فلو كانت الكاف هي الفاعلة ما جاز حذفها. والحجة على من قال: إنها في موضع نصب أن رويد إنما هو اسم أرود، وأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، فكلما كان اسما لأرود لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، ولو كانت الكاف منصوبة كنت قد عديت رويدا إلى مفعولين، ولو جاز هذا لجاز: رويد زيدا عمرا. ثم استدل على بطلان قول من يقول: إن الكاف اسم لها موضع بما تقدّم، ثم احتجّ

سيبويه على أن الكاف لا موضع لها بقول العرب: هاء وهاءك في معنى: تناول؛ فزاد الكاف على هاء للخطاب، وفيه لغات قد ذكرناها في أول الكتاب. واحتجّ في ذلك على من انتحل والتزم أن كاف ذلك لها موضع بأن قال: إن كان لها موضع فلا بدّ من أن تكون مجرورة أو منصوبة، فإن كانت منصوبة وجب أن تقول: ذاك نفسك زيدا إذا أراد تأكيد الكاف، وينبغي له أن يقول: إذا كانت مجرورة ذاك نفسك زيد وهو أن لا يقولهما أحد. ومما دخل للكاف أيضا التاء في أنت وهي ملازمة، تختلف في المذكر والمؤنث ولا موضع لها، ولو كان لها موضع من رفع أو نصب لوجب أن يؤتى بعامل يعمل ذلك العمل ولا عامل موجود في لفظ ولا تقدير. ثم احتج سيبويه- أيضا- في ذلك بقولهم: أرأيتك زيدا ما فعل؟ فذكر أن الكاف لا موضع لها وأن التاء علامة المضمر المرفوع المخاطب، ولو لم تلحق الكاف كنت مستغنيا كاستغنائك حين كان المخاطب مقبلا عليك، فهذا الذي ذكر سيبويه صحيح، وسقوط الكاف مع صحة المعنى الذي يكون بوجودها دلالة على أن لا موضع لها، ولو كانت الكاف في موضع رفع كما قالوا لوجب ألا تسقط لأن ضمير الفاعل لا يسقط من الفعل أبدا. وزعم الفراء أن العرب تجعل " أرأيتك " على مذهبين مختلفين: فإذا قلت رأيتك منطلقا كما تقول حسبتك ذاهبا فعدّيتك فعل المخاطب إلى نفسه كان موضع التاء رفعا، وموضع الكاف نصبا، وثنيت وجمعت فقلت: رأيتماكما منطلقين، ورأيتموكم منطلقين ورأيتنّكنّ منطلقات لجماعة المؤنث، فإن أدخلت ألف الاستفهام على هذا أقررته على حاله فقلت: أرأيتماكما منطلقين فهذا أحد المذهبين، والمذهب الآخر: أن تقول: أرأيتكم زيدا ما فعل؟ على معنى أخبرنّي عن زيد؟ وإذا ثنى وجمع لحقت التثنية والجمع الكاف وكانت التاء مفردة على كل حال فقلت: أرأيتكما زيدا ما فعل؟ قال الله عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً (¬1) فاستدل بتوحيد التاء في هذا على أنه لا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 47.

موضع لها وأن الموضع للكاف، وقد بيّنا ما تقدّم من الاحتجاج أن لا موضع للكاف. ويجوز أن يكون إفرادهم التاء استغناء بتثنية الكاف وجمعها لأنها للخطاب وإن كان لا موضع لها كما أن التاء للخطاب، وإنما استغنوا بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء وجمعها للفرق بين أرأيت إذا كان في معنى أخبرني، وبينها إذا أردت به معنى علمت، فاعرفه إن شاء الله. قال: (ونظير الكاف في رويد في المعنى لا في اللفظ " لك " التي تجيء بعد هلمّ في قوله: هلمّ لك فالكاف ههنا اسم مجرور باللام والمعنى في التوكيد والاختصاص بمنزلة الكاف التي في رويد وما أشبهها كأنه قال: هلمّ ثم قال: إرادتي بهذا لك فهو بمنزلة قولك: سقيا لك). أما قوله: نظير الكاف في رويدك لك التي تجيء بعد هلمّ فإنما يعني أنك إذا قلت: رويد فالمعنى تامّ، فإذا زدت الكاف زدتها بعد تمام المعنى لتبيين المخاطب وإن كانت رويد قد أغنتك عن ذلك، كما أنك إذا قلت: هلمّ للمخاطب استغنى الكلام به وتمّ فإذا قلت: هلمّ لك فجئت ب " لك " فإنما تجيء بها بعد استغناء الكلام عنها وتمامه دونها حرصا على تبيين المخاطب، وكذلك إذا قلت: سقيا لك، فسقيا غير محتاج إلى لك لأن معناه: سقاك الله سقيا، ولكنك لما قلت: سقيا جئت ب " لك " تأكيدا وتبيينا كأنك قلت: دعائي بهذا لك أو إرادتي لك، غير أن الكاف في هلمّ لك، وسقيا لك مجرورة باللام وفي رويدك لا موضع لها من الإعراب، وإنما جمع بينهما سيبويه في التأكيد بهما بعد تمام الكلام دونهما لا في موضع الإعراب، وفي رويد ضمير فاعل في النيّة يجوز أن يؤكّد وأن يعطف عليه بحسب ما يجوز في ضمير الفاعلين. تقول: رويدكم أنتم وعبد الله، ورويدكم أجمعون، كما تقول: قم أنت وعبد الله، وقوموا أجمعون، وكذلك إن لم يكن فيه الكاف، فإذا خاطبت الواحد قلت: رويد أنت زيدا، وإذا خاطبت اثنين قلت: رويد كلاكما زيدا، وللجميع: رويد أجمعون. وأمّا هلمّ لك ففيه ضميران مرفوع ومجرور: فالمرفوع هو ضمير الفاعل الذي في هلم، والمجرور هو الكاف في لك فيجوز أن تقول: هلم لكم أجمعون وأجمعين، فأجمعون على تأكيد الضمير الذي في هلم، وأجمعين

على تأكيد الكاف والميم في لكم وموضعه جرّ. (وهذا ضرب من الفعل سمّي الفعل فيه بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل الحادث ولكنها بمنزلة الأسماء المفردة التي كانت للفعل نحو: رويد وحيهل ومجراهنّ واحد). قال أبو سعيد: اعلم أن هذا يخالف ما قبله لأنه قد اشتمل على ظروف وحروف جرّ تجري مجرى الظروف ومصادر مضافات كلّهنّ، والفرق بين هذا الفصل والذي قبله أن هذا مضاف والذي قبله مفرد وينقسم هذا قسمين: قسم يتعدّى، وقسم لا يتعدّى. فأما ما يتعدى فقولك: عليك زيدا ودونك زيدا وعندك زيدا تأمره به؛ فأمّا عليك فحرف من حروف الجرّ، وأما دونك وعندك فظرفان، وقد جعلن بمنزلة قولك: خذ زيدا، والكاف منهن في موضع جرّ. وذكر عن المازنيّ أنه كان الأصل في عليك زيدا أي: خذه من فوقك. وفي عندك زيدا أي: خذه من عندك. وفي دونك زيدا أي: خذه من أسفل من موضعك. وتحصيل هذا خذ من دونك زيدا، وخذ من عندك زيدا، وخذ من عليك زيدا. كما تقول: خذه من فوقك، كما قال الشاعر: غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها … تصلّ وعن قيض بزيزاء مجهل (¬1) ثم حذف حرف الجر وهو " من " فوصل الفعل إلى هذه الأسماء وحذف فعل الأمر وهو: " خذ " اكتفاء واستخفافا. قال: وما تعدّى المنهيّ إلى منهيّ عنه قولك: حذرك زيدا وحذارك زيدا فردّ عليه أبو العباس المبرّد هذا اللفظ من وجهين: ¬

_ (¬1) البيت ل (مزاحم بن الحارث العقيلي): شرح المفصل 8: 38؛ أدب الكاتب: 504؛ تاج العروس (صلل).

أحدهما: أن قولك: حذرك إنّما هو: احذر وقد جعله سيبويه نهيا. قال أبو العباس: " فإن قال قائل فمعنى احذر: لا تدن منه " قيل: وكذلك عليك معناه: لا يفوتنك، وكلّ أمر أمرت به فأنت ناه عن خلافه، وإذا نهيت عن شيء فقد أمرت بخلافه، فقد يجوز في الأمر أن يقال نهي وفي النهي أن يقال أمر على المعنى، فإذا كان كذلك فلا وجه للتفصيل الذي فصل به سيبويه بين الأمر والنهي. والوجه الآخر: أنه وضع في هذا الباب ما لم يؤخذ من أمثلة الفعل، وحذرك مأخوذ من الحذر فهو خارج من هذا الباب؛ لأن هذا الباب عليك ودونك. وليس الأمر على ما ردّه أبو العباس في الوجهين جميعا. أما الوجه الأول فقد ذكرنا أن ألفاظا من ألفاظ الأمر الأكثر في عادة كلام الجمهور أن يقال: نهى وإن كان بلفظ الأمر كقولك: تجنب فلانا، واحذر فلانا، وابعد عن فلان فإنما يقال: نهاه عنه؛ فجرى سيبويه على اللفظ المعتاد. وأما الوجه الآخر فإنما غرّ سيبويه في هذا الباب تفصيل المضاف من المفرد الذي قبله لأنه قد ذكر ظروفا وأسماء كلها مضافات، وقد ترجم الباب بقوله: بأسماء مضافة. (وأما ما لا يتعدّى فقولك: مكانك، وبعدك إذا قلت: تأخّر، وكذلك عندك إذا كنت تحذّره شيئا من بين يديه أو تبصّره شيئا، وإليك إذا أردت تنحّ، ووراءك إذا قلت: افطن لما خلفك). وقد ذكر سيبويه عندك فيما يتعدى، وقد ذكره فيما لا يتعدى وهذا غير مستنكر وذلك أنه قد يكون فعل واحد متعديا وغير متعدّ؛ كقولك: علقتك وعلقت بك وجئت زيدا وجئت إلى زيد. قال: (وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع من يقال له: إليك فيقول إليّ كأنه قيل له: تنحّ فقال: أتنحّى، ولا يقال: دوني ولا عليّ هذا، إنما سمعناه في هذا الحرف وحده وليس لها قوة الفعل فتقاس). اعلم أن هذه الأسماء والحروف التي تضمّنها هذا الفصل وما قبله من المفرد والمضاف لا يجوز أن تقع إلا في أمر المخاطب هذا حكمه وبابه، وذلك من قبل أنّ أمر المخاطب يقع بالفعل المحض من غير حرف يدخل عليه، وأمر الغائب لا يقع إلا بحرف ألا ترى أنك تقول: قم يا زيد ولا يجوز أن تقول: قم يا عمرو إذا كان غائبا وإنما تقول:

ليقم عمرو، ومع هذا فإنما الأمر إنما يكون بمواجهة المخاطب وتنبيهه وندائه، فقد يوضع كثير من الأصوات في موضع الأمر للإنسان وللبهائم، كقولك للإنسان: مه وصه، وللناقة: حل، وللجمل: حوت، وللحمار: تشوه. وهذه الأشياء لا تقع إلّا في أمر فجعلوا- إليك، وعليك، ووراءك، ودونك- بمنزلة هذه الأصوات التي يؤمر بها، فالقياس ألّا يقع هذا في غير الأمر، فإذا قلت: إليك فقال: إليّ فقد جعل إليّ بمعنى أتنحّى وهو خبر ليس بأمر، وهذا شاذّ مخالف لقياس الباب. فإذا قلت: عليك زيدا ودونك زيدا على معنى خذ زيدا فلا يجوز أن تقول: عليّ زيدا ودوني زيدا على معنى آخذ زيدا؛ لأن ذلك لا يجوز في غير الأمر، وقد يجوز أن تقول: عليّ زيدا على غير هذا المعنى إذا أردت ائتني بزيد فيكون في باب الأمر، ولا يجوز أن تقول: دوني زيدا إذا أردت ائتني بزيد وذلك إذا قلت: عليّ زيدا فقد عدّيته إلى زيد وإليك بحرف الجرّ، وإذا قلت: عليك زيدا فإنما عديته إلى زيد وإلى المخاطب بحرف الجر، فقد توسّعت العرب في هذا الفعل فعدّته مرّة إلى المتكلم بحرف الجرّ ومرّة إلى المخاطب ولم تتوسّع في دونك وعندك لأنهم لم يقولوا: دوني وعندي، ولا يجب أن نقيس ذلك لأنّه قد يجوز أن يكون فعل منه متعدّ ولا يتعدى نظيره. ألا ترى أنك تقول: علقتك وعلقت بك، ولا يجوز في مررت بك مررتك. قال: وحدّثني من سمعه أنّ بعضهم قال: عليه رجلا ليسنى، وهذا قليل شبّهوه بالفعل. يعني أنه قال: عليه فأمر غائبا، وقد روي مثل هذا عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله أنّه قال: " من استطاع منكم الباءة فليتزوّج وإلّا فعليه الصوم، فإنّه له وجاء " (¬1). وإنما أمر الغائب، فهذا الحرف على شذوذه، لأنه قد جرى للمأمور ذكر فصار بالذّكر الذي جرى له كالحاضر فأشبه أمره أمر الحاضر، ولو كان المأمور اسما ظاهرا لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن تقول: على زيد عمرا، وإذا قلت عليك زيدا فللمخاطب ضميران: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 20: 66 كتاب النكاح. صحيح مسلم 2: 1018، 1019 كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه.

أحدهما: مجرور، وهو الكاف، ومعناه معنى المفعول، والآخر: مرفوع في النية فاعل، ويجوز أن تؤكدهما أو ما شئت منهما تقول: عليك نفسك زيدا، ويجوز أن تقول: عليك نفسك أنت نفسك، على أن تجعل المجرور تأكيدا للكاف، والمرفوع تأكيدا لضمير الفاعل، ولا يجوز أن تقول: عليك وأخيك فتعطف أخيك على الكاف؛ لأن المجرور الظاهر لا يعطف على المجرور المضمر، والاحتجاج لهذا في غير هذا الموضع. قال: (ومن جعل رويدك مصدرا قال: رويدك نفسك). يعني من قال: رويدا يا زيد كما تقول: ضربا يا زيد جاز أن تضيفه إلى الكاف كما قال عزّ وجلّ: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ (¬1). فأضاف ضرب الرقاب، وكذلك أضاف رويد إلى الكاف وجاز أن يؤكد الكاف لمجرور ويصير للمخاطب ضميران. أحدهما: مجرور وهو الكاف. والآخر: ضمير الفاعل في النية. (وأما قول العرب: رويدك نفسك، فإنهم يجعلون النفس بمنزلة عبد الله، ويجعلون الكاف للخطاب لا موضع لها، وكأنهم قالوا: رويد نفسك على ما فسّرنا في رويد زيدا). قال: (وأما حيّهلك، وهاءك وأخواتها فليس فيها إلا ما ذكرنا لأنّهنّ لم يجعلن مصادر). يعني أن الكاف في هذه الأشياء لا موضع لها وإنما هي للخطاب. أراد الفرق بين رويدك وبين حيّهلك؛ لأن رويدك قد تكون الكاف فيه مرّة للخطاب ومرّة في موضع جرّ، فإذا كان للخطاب فهو بمنزلة حيّهلك، وإذا كان في موضع جرّ فهو بمنزلة عليك وحذرك. (واعلم أنك لا تقول: دوني، كما قلت: عليّ لأنه ليس كل فعل بمنزلة أولني قد تعدى إلى مفعولين، فإنما عليّ بمنزلة أولني ودونك بمنزلة خذ لا تقول: آخذني درهما ولا خذني درهما). ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية 4.

هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن عن لفظك بالفعل

يعني أنك تقول: عليك زيدا فيكون بمنزلة خذ زيدا ثم تقول: عليّ زيدا فيكون بمنزلة: أولني زيدا كما تقول: أعطني زيدا ودونك زيدا ولا تقول: دوني زيدا، كما لا تقول: خذني زيدا، فإنما ننتهي في ذلك حيث انتهت العرب. قال: (واعلم أنه يقبح أن تقول: زيدا عليك، وزيدا حذرك، وإنّما قبح لأن هذه الحروف ليست بأفعال وإنما وضعت موضع الأفعال ولا تصرّف لها؛ فلم تعمل عمل الفعل في جميع الأحوال، ولم تقو قوّته). فإذا رأيت في شعر " زيدا عليك " فإنما تنصب " زيدا " بفعل وتكون " عليك " مفسّرة له كما قال: يا أيّها المائح دلوي دونكا … إنّي رأيت الناس يحمدونكا (¬1) فدلوي في موضع نصب بإضمار فعل؛ كأنه قال: خذ دلوي دونك، وكذلك قوله عز وجل: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (¬2). ينتصب كتاب بما قبله لا بعليكم؛ كأنه لما قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (¬3). فقد دلّ أنّه كتب التحريم عليكم كتابا فنصب الكتاب بالمصدر، لا بعليكم، وكان الكسائي ينصب كتاب الله بعليكم، ويحتج بالبيتين اللذين أنشدنا، والفراء يخالفه ويقول نحو ما ذكرناه في البيتين. هذا باب ما جرى من الأمر والنهي على إضمار الفعل المستعمل إظهاره إذا علمت أن الرجل مستغن عن لفظك بالفعل (وذلك قولك: زيدا وعمرا ورأسه، وذاك أنّك رأيت رجلا يضرب أن يشتم أو ¬

_ (¬1) ينسبان لراجز جاهليّ من أسيد بن عمرو بن تميم، وقيل لجارية من بني مازن، وزعم ابن الشجريّ أنهما لرؤبة: شرح المفصل 1: 117؛ مغني اللبيب 6: 343، 380؛ اللسان وتاج العروس (ميح). (¬2) سورة النساء، الآية 24. (¬3) سورة النساء، الآية 22.

يقتل فاكتفيت بما هو فيه من عمله). اعلم أنّ الإضمار على ثلاثة أوجه: - وجه يجب فيه الإضمار ولا يحسن فيه الإظهار. - ووجه لا يجوز أن تضمر العامل فيه. - ووجه أنت مخيّر بين إضماره وإظهاره. فأما ما لا يجوز فيه الإضمار لعامل فأن تقول مبتدئا: زيدا، من غير سبب نحويّ ولا حال حاضرة دالة على معنى، وأنت تريد: اضرب زيدا، وغيره من الأفعال لأنك إذا أضمرته لم يعلم أنّه " أكرم زيدا " أو اشتم زيدا أو غير ذلك. وأما ما يجوز إظهاره وإضماره فأن ترى رجلا يضرب أو يشتم فتقول: زيدا، تريد اضرب زيدا، ويجوز إظهاره فتقول: اضرب زيدا، ومثل ذلك أيضا في الخبر أن تلقى رجلا قادما من سفر فتقول: خير مقدم أي: قدمت خير مقدم، ولو أظهرته لم يكن بأس، وكذلك إذا قلت لرجل في طريق: الطريق يا هذا، معناه: خلّ الطريق وعن الطريق، ويجوز إظهاره، قال جرير: خلّ الطريق لمن يبني المنار به … وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر (¬1) ولا يجوز أن تضمر في شيء من هذا الباب الجارّ؛ فإذا قلت: الطريق لم يجز أن يكون الضمير تنحّ عن الطريق؛ لأن الجارّ لا يضمر، وذلك أن المجرور داخل في الجار غير منفصل. والوجه الثالث: قوله: إياك وأن تقرب الأسد، معناه: إيّاك اتق، وإياك احذر، ولا يحسن إظهار ما نصب إياك، ثم استشهد سيبويه على جواز الحذف الذي عقد به الباب: (تقول العرب في مثل من أمثالهم: " اللهمّ ضبعا وذئبا " إذا كان يدعو بذلك على غنم رجل، فإذا سألهم ما يعنون قالوا: اللهم اجمع فيها ضبعا وذئبا، كلّهم يفسر ما ينوي). قال أبو العباس: سمعت أن هذا دعاء له لا دعاء عليه؛ لأن الضبع والذئب إذا اجتمعا تقاتلا فأفلتت الغنم. ¬

_ (¬1) ديوان جرير 211؛ شرح المفصل 2: 30؛ تاج العروس (برز).

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي

وقال: أمّا ما وضعه عليه سيبويه فإنه يريد ذئبا من ههنا وضبعا من ههنا. قال: (وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له: أما بمكان كذا وكذا وجد وهو موضع يمسك الماء) نحو النقرة في الصخرة، (فقال: بلى وجادا، ومنه قول الشاعر: أخاك أخاك إنّ من لا أخا له … كماش إلى الهيجا بغير سلاح (¬1) كأنه يريد: الزم أخاك). غير أنّ هذا مما لا يحسن فيه إظهار الفعل إذا كررت، ويحسن إذا لم تكرّر، إذا قلت: أخاك، حسن أن تقول: الزم أخاك، وإذا قلت: أخاك أخاك، لم يحسن أن تقول: الزم أخاك أخاك لأنهم إذا كرروا جعلوا أحد الاسمين كالفعل، والاسم الآخر كالمفعول. وكأنهم جعلوا أخاك الأول بمنزلة " الزم "، فلم يحسن أن تدخل " الزم " على ما قد جعل بمنزلة " الزم ". ومنه قول العرب: " أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك " فمعناه: عليك بأمر مبكياتك، واتّبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك. فمعناه: اتبع أمر من ينصح لك فيرشدك وإن كان مرّا عليك صعب الاستعمال، ولا تتبع أمر من يشير عليك بهواك؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العطب. ومنه: " الظّباء على البقر ". والمعنى في المثل: أنك تنهاه عن الدخول بين قوم يتشابهون ويتكافؤون في سوء أو غيره، وتقديره: خلّ الظباء على البقر. هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره في غير الأمر والنهي (وذلك إذا رأيت رجلا متوجّها وجه الحاجّ، قاصدا في هيئة الحاجّ قلت: مكّة ¬

_ (¬1) البيت ل (مسكين الدارمي): الديوان 29، ط: بغداد، ورواية الديوان: ... … كساع إلى الهيجا ... الأغاني 20: 208، 210؛ شرح قطر الندى 134؛ شرح شذور الذهب 279؛ الخصائص 2: 482.

هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف

وربّ الكعبة، حيث زكنت أنه يريد مكة، كأنك قلت: تريد مكة والله). فهذا من الباب الذي يجوز إظهار الفعل فيه وإضماره لحال حاضرة ودلالة بينة، فهذا وغيره في ذلك سواء. وهذا الباب يشتمل على هذا النحو ولا يجوز أن تقول: زيد، وأنت تريد: ليضرب زيد، وليضرب زيد عمرا إذا كان فاعلا، ولا يجوز أن تجعل الفعل المضمر لغائب في الأمر لأنك إذا فعلت ذلك فلا بد من أن تقدّر للمخاطب فعلا يبلّغ به الغائب، فكأنك قلت: قل له: ليضرب زيدا، أو قل له ليضرب زيد عمرا، فضعف هذا عندهم لإضمار فعلين لشيئين مع ما يدخل فيه من اللّبس، واللّبس الذي يدخل فيه أنه ليس للمخاطب فعل ظاهر ولا مضمر عليه دلالة فلا يعلم أنك أردت: قل: ليضرب زيدا، أو أردت: لا تقل له ليضرب زيدا، ونحو ذلك من الأفعال المتضادّة. هذا باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف (وذلك قولك: الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، والمرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجر، وإن سيفا فسيف). قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب تجوز فيه أربعة أوجه: - الرفع في الشرط والجواب، كقولك: إن خير فخير. - والنصب فيهما، كقولك: إن خيرا فخيرا. - والنصب في الأول والرفع في الثاني، كقولك: إن خيرا فخير. - والرفع في الأول والنصب في الثاني، كقولك: إن خير فخيرا. أما الأول فالعامل فيه " كان " رفعت أو نصبت، فإذا قلت: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا، تقديره: إن كان عملهم خيرا، وإذا قلت: إن خير، تقديره: إن كان في عملهم خير. وأما الجواب فإنه إن كان نصبا، فإضمار كان، وإن كان رفعا، جاز أن يكون بإضمار مبتدإ. وجاز أن يكون بإضمار فعل. وأجود هذه الوجوه، نصب الأول ورفع الثاني، وإنما صار كذلك من قبل أنّ " إن "

تقتضي الفعل فلا بدّ من إضمار " كان " أو نحوها، فإذا أضمرنا كان ونصبنا، فقد جعلنا اسم كان مع " كان " مضمرا محذوفا، والفعل متى أضمر أضمر معه الفاعل، لأن الفعل والفاعل كشيء واحد، وإذا أضمرنا كان وجعلنا الاسم الذي بعد " إن " مرفوعا فالذي أضمر مع " كان " الخبر الذي هو بمنزلة المفعول، فكأنك أضمرت الفعل مع المفعول، ولا يدل على المفعول كدلالته على الفاعل لأنه لا يستغني عن الفاعل. وأما رفع الجواب بعد الفاء فإنما صار الاختيار الرفع؛ لأن الفاء جواب الشرط، وإنما أتي بها ليكون ما بعدها مبتدأ وخبرا، وذلك أنّ جواب الشرط إذا كان فعلا لم تحتج إلى فاء، كقولك: إن أكرمني زيد أكرمته، وإن يكرمني أكرمه، ولا يجوز أن تقول: إن تأتني زيد مقيم عندي، حتى تقول: إن تأتني فزيد مقيم عندي، فقد تبين لك أن الفاء إنما أتي بها للاسم، فالاختيار أن يكون المضمر بعدها مبتدأ، فإذا قلت: إن خير فخير، فتقديره: إن كان في عمله خير فالذي يجزى به خير. وإن قلت: إن خيرا فخيرا، فتقديره: إن كان عمله خيرا فيكون الذي يجزى به خيرا، وإن قلت: إن خيرا فخير فتقديره: إن كان عمله خيرا فالذي يجزى به خير، وإن قلت: إن خير فخيرا، فتقديره: إن كان في عمله خير فيكون الذي يجزى به خيرا. وقد فسر سيبويه قوله: إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا قال: كأنه قال: إن كان خيرا جزي خيرا، فجاء بفعل ماض ليس فيه فاء على تقدير المعنى لا على تقدير اللفظ، وذلك أنه لا يجوز أن يكون الفعل الماضي في جواب الشرط تدخل عليه الفاء، لا تقول إن تأتني فأكرمتك، إنما تقول كما قال الله عز وجل: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ (¬1) إلّا أن يكون دعاء كقولك: إن يأتني زيد فأحسن الله جزاءه، فلما كانت الفاء إنما تدخل على المستقبل وجب أن تقدّر ما بعد الفاء مستقبلا، فقدّره سيبويه على ما يجوز في المعنى لا على حقيقة اللفظ. وقال: (فإذا أضمرت فأن تضمر الناصب أحسن؛ لأنّك إذا أضمرت الرافع أضمرت أيضا خبرا أو شيئا يكون في موضع خبر، فكلما كثر الإضمار كان أضعف، فإن أضمرت الرافع كما أضمرت الناصب فهو عربي حسن). ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 95.

وقد بيّنا اختيار إضمار الناصب في الشرط. وقوله فكلما كثر الإضمار كان أضعف يريد أنك إذا أضمرت الرافع أضمرت خبرا وهو منفصل من الرافع كأنك قلت: إن كان في عمله خير، وإن كان معه خنجر، وإن أضمرت الناصب جعلت اسم كان مستكنّا في كان وهو ضمير متصل. ألا ترى أنك تقول: من كذب كان شرا له، فتجعل في كان ضمير الكذب مستكنّا غير منفصل منه، فلذلك صار الضمير المرفوع أكثر، وكان أضعف من المنصوب، وهو مع ضعفه جائز قال هدبة بن خشرم: فإن تك في أموالنا لا نضق بها … ذرعا وإن صبر فنصبر للصّبر (¬1) أي وإن وقع فينا صبر، أي وإن وقع صبر، والصبر في هذا الموضع: الأمر الذي يجب الصبر عليه، ويكون كرما وهو فعله، قال وأمّا قوله: قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا … فما اعتذارك من شيء إذا قيلا (¬2) فالنصب على التفسير الأول، ويجوز إن حقّ وإن كذب على معنى: إن وقع حق وإن وقع كذب، أو على: إن كان فيه حقّ وإن كان فيه كذب. (ومثل ذلك قول العرب في مثل من أمثالها: " إن لا حظيّة فلا أليّة " أي إن لا تكن لك في الناس حظيّة فإنّي غير أليّة، كأنها قالت في المعنى: إن كنت ممّن لا يحظى عنده فإنّي غير أليّة، ولو عنت بالحظّية نفسها لم يكن إلّا نصبا إذا جعلت الحظية على التفسير الأول). أصل هذا أنّ رجلا تزوج امرأة فلم تحظ عنده، ولم تكن بالمقصّرة في الأشياء التي تحظي النّساء عند أزواجهن فقالت: " إن لا حظية فلا ألية " أي: إن لم تكن حظية النساء لأن طبعك لا يلائم طباعهن فإنّي غير مقصّرة فيما يلزمني للزوج. يقال من ذلك: ما ¬

_ (¬1) خزانة الأدب 9: 337؛ تفسير الطبري 14: 82؛ مغني اللبيب 4: 38؛ معاني القرآن 2: 105 (بدون نسبة) وروايته: إن العقل في أموالنا لا نضق به … ذراعا وإن صبرا فنعرف للصبر (¬2) البيت منسوب إلى (النعمان بن المنذر): خزانة الأدب 4: 10؛ الأغاني 15: 366؛ شرح المفصل 2: 97 (وما) بدلا من (فما)؛ شرح ابن عقيل 1: 206 (من قول) بدلا من (من شيء).

ألوت في كذا أي: قصرت، وما ألو جهدا: أي ما أقصّر، وهو آل وأليّ أي: مقصّر، ولألوت موضع آخر، يقال: ألوت الشيء إذا استطعته، وهي لغة هذيل، قال: جهراء لا تألو إذا هي أظهرت … بصرا ولا من عيلة تغنيني (¬1) وقوله: لو عنت بالحظية نفسها لم يكن إلا نصبا. يعني: إن كان التقدير في قوله " إن لا حظيّة " إن لا أكن حظية فالنصب لا غير. قال: (ومثل ذلك قد مررت برجل إن طويلا وإن قصيرا). لا يكون في هذا إلا النصب، لأنه لا يجوز أن يحمل الطويل والقصير على غير الأول. يعني أنك تقدّر إن كان طويلا، وتجعل في كان ضمير الرجل وهو اسم كان فلا بد من أن ينتصب الطويل على الخبر، لا يمكن فيه غير ذلك كما أمكن في: إن حقّ وإن كذب أن تقدّر: إن كان فيه حقّ وإن وقع فيه حقّ، ولا يكون فيه ضمير الأوّل، ولا يحسن في: إن طويل وإن قصير، إن كان فيه طويل أو كان فيه قصير، لأنك لا تقول إن كان في زيد طويل؛ لأن زيدا هو الطويل وإنما تقول: إن كان زيد طويلا. وقال: (لا تقربنّ الدّهر آل مطرّف … إن ظالما أبدا وإن مظلوما) (¬2) فهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك إنما تريد إن كنت ظالما وإن كنت مظلوما. قال: (فأحضرت عذري عليه الشّهو … د إن عاذرا لي وإن تاركا) (¬3) هذا رجل يخاطب أميرا في شيء قذف به عنده وعذره حجّته، وأراد: إن كنت عاذرا لي أيها الأمير وإن كنت تاركا؛ فنصبه لأنه عنى الأمير المخاطب، ولو قال: إن ¬

_ (¬1) ديوان الهذليين ق 2: 263؛ وشرح أشعار الهذليين: 415؛ تاج العروس (ألو). (¬2) قطر الندى: 141، مغني اللبيب 1: 391؛ ونسبه بعضهم إلى حميد بن ثور الهلالي، ورواية البيت في ديوان حميد 130 هكذا: لا تغزون الدهر آل مطرف … لا ظالما أبدا ولا مظلوما (¬3) البيت لعبد الله بن همام السلولي: شرح أبيات سيبويه 1: 198؛ اللسان (شهد).

عاذر لي وإن تارك، على معنى: إن كان لي في الناس عاذر أو تارك، ومعنى تارك: غير عاذر جاز. (قال النابغة: حدبت عليّ بطون ضنّة كلّها … إن ظالما فيهم وإن مظلوما) (¬1) فلا يكون هذا إلّا نصبا، لأنه أراد إن كنت فيهم ظالما وإن كنت مظلوما. قال سيبويه: (ومن ذلك مررت برجل صالح وإن لا صالحا فطالح). فهذا يشبه إن خيرا فخير على الوجه المختار. ومن العرب من يقول: إن لا صالحا فطالحا بإضمار فعلين على من قال: إن خيرا فخيرا، كأنه يقول: إن لا يكن صالحا فقد لقيته طالحا. وزعم يونس أنّ من العرب من يقول: إن لا صالح فطالح، كأنه قال: إن لا أكن مررت بصالح فبطالح. قال سيبويه: (وهذا ضعيف قبيح لأنك تضمر بعد " إن لا " فعلا آخر غير الذي يضمر بعد " إن لا " في قولك إن لا يكن صالحا فطالح ولا يجوز أن يضمر الجارّ). فقبّح سيبويه قول يونس من جهتين: إحداهما: أنك تحتاج إلى إضمار أشياء، وحكم الإضمار أن يكون شيئا واحدا وذلك أنك إذا قلت: مررت برجل إن لا صالح فطالح تقديره: إن لا أكن مررت بصالح، فتضمر " أكن " ومررت والباء، ولا يشبه هذا إن لا صالحا لأنك إذا قلت إن لا صالحا تقديره: إن لا يكن صالحا فتضمر شيئا واحدا. والجهة الأخرى: أنّ حرف الجر يقبح إضماره إلّا في مواضع قد جعل منه عوض كقولهم: وبلد عامية أعماؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه (¬2) ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الذبياني: ديوانه: 103. (¬2) ديوان رؤبة 3؛ الإنصاف 1: 377؛ شرح المفصل 2: 118؛ شذور الذهب 388 برواية: (وبلد مغبرة أعماؤه)؛ الصاحبي في فقه اللغة 208.

في معنى ورب بلد. ثم قال سيبويه محتجّا لإجازة ما أجازه يونس على قبحه: (ولكنهم لما ذكروه في أول كلامهم شبّهوه بغيره من الفعل وكان هذا عندهم أقوى إذا أضمر رب ونحوها في قوله: وبلدة ليس بها أنيس) يعني أنّ الباء الجارّة لمّا ذكروها في أول كلامهم حين قال القائل: " مررت برجل " كان إضمارها بعد ذكرها أقوى من إضمار ربّ ولم يجز لها ذكر. قال: (ومن ثمّ قال يونس: " امرر على أيّهم أفضل إن زيد وإن عمرو "). يعني إن مررت على زيد أو على عمرو على الوجه الأوّل الذي احتجّ له سيبويه بما ذكرنا. قوله على أيّهم أفضل تقديره على الذي هو أفضل. قال سيبويه: (وأعلم أنه لا ينتصب شيء بعد " إن " ولا يرتفع إلّا بفعل لأنّ " إن " من الحروف التي يبنى عليها الفعل). يعني أنّ " إن " التي للمجازاة إنما تدخل على الأفعال؛ لأن الأفعال التي بعدها هي شروط والشروط لا تكون بالأسماء، وذلك أنها بحدوثها توجب المعاني التي ضمّنها الشرط كقولك: " إن تأتني أكرمك " فالإكرام معنى قد ضمّنه الشارط بحدوث الإتيان، فإذا رأيت الاسم بعد " إن " مرفوعا أو منصوبا قضيت على إضمار فعل رافع أو ناصب كما ذكرناه في قوله: " إن خيرا فخير " على تقدير إن يكن فعله خيرا أو إن يكن في فعله خير، وكذلك قال البصريون في قوله عز وجل: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (¬1). تقديره: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك، فأحد مرفوع باستجارك المضمر، والثاني تفسير له. وزعم الفرّاء أنّ " أحد " مرفوع بالعائد الذي عاد إليه وهو ضمير الفاعل الذي في استجارك، وهذا لا يصحّ؛ لأنّا إذا رفعناه بما ذكر فقد جعلنا استجارك خبرا لأحد وصار الكلام كالمبتدأ والخبر، ولا يجوز أن يكون بعد " إن " مبتدأ وخبر. ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: " إن زيد قائم أكرمك "، ولا " إن زيد عندك آتك ". ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 6.

فإن قال قائل: فقد رأيناكم تزعمون أنّ " لو " التي لها جواب لا يليها إلا الفعل لأن فيها معنى الشرط، ثم يقولون " لو أن زيدا أتاني لأكرمته " ولا يقولون " أنّ زيدا قائم لأكرمته " ففصلهم بين الخبر إذا كان اسما، وإذا كان فعلا فجعلهم الخبر إذا كان فعلا بمنزلة فعل الشرط فكذلك تقول: إن زيد قام أكرمناه " ويكون زيد مبتدأ وقام خبره، وناب قام عن فعل الشرط فكأنا قلنا " إن قام زيد أكرمناه " في المعنى. قيل له إنما جاز " لو أنّ زيدا قام " لأنّ " أنّ " قد وقع عليها فعل مضمر بعد " لو " على الأصل الذي قدّمناه والفعل الذي هو خبر " أنّ " تفسير له، كأنا قلنا لو صح أنّ زيدا قام أو لو عرف. فإن قال قائل: فكيف يكون قام دلالة على صحّ وعرف وليس هو منه. قيل له: لا فرق بين قام زيد، وبين صحّ قيام زيد، ووقع قيام زيد، فغير مستنكر أن يدل قام على صحّ لأنّ الصحة للقيام، وقد يجوز أيضا أن يكون دلالة عليه من حيث كانا فعلين ماضيين أحدهما ملابس للآخر؛ وأنّ وما اتصل بها بمنزلة المصدر. فإن قال قائل: فقد رأينا الجواب بالمبتدإ والخبر، فكيف لا يكون الشرط كذلك والجواب مضمون وقوعه لوقوع الشرط؟ قيل له وقوع المبتدإ والخبر في الجواب من أدلّ الأشياء على ما قلنا، وذلك أنك ترى الجواب إذا كان بالفعل مجزوما لم تدخل عليه الفاء كقولك: " إن تأتني أكرمك " فإذا أدخلت الفاء قلت: إن تأتني فأنت مكرم محبوب؛ فصار الموضع الذي ينجزم فيه الفعل لا يقع فيه الاسم، فلمّا كانت " إن " جازمة بطل أن يقع بعدها الاسم البتّة. ووجه آخر: لو كان الاسم يقع بعد " إن " بلا ضمير فعل لكان متى وقع هذا الموقع يكون مرفوعا، لأن الفعل يرتفع بحلوله محل الاسم، كقولك: " كان زيد يقوم "، و " مررت برجل يقوم ". وأمّا قوله: فإن تأتني فأنت مكرم محبّ فهو محمول على المعنى كأنه قال تصادف كرامة وحبّا، ومثله قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (¬1). وليس ذلك معنى يحدث عند عزمهم الطلاق؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يزل سميعا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 227.

عليما وإنما معناه تجدوا الله سميعا عليما، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (¬1). وإن كان غفورا رحيما قبل استغفار هذا المستغفر له. قال سيبويه: (ولو قلت: عندنا أيّهم أفضل، أو عندنا رجل، ثم قلت: إن زيدا وإن عمرا، كان نصبه على كان، وإن رفعته كان رفعه على كان، ولا يكون رفعه على عندنا). يعني أنك إذا قلت: إن زيد وإن عمرو فتقديره: إن كان عندنا زيد؛ فيرتفع زيد بكان المضمرة، ولا يجوز أن يكون تقديره: إن عندنا زيد، لأنك إذا قلت: عندنا زيد أو في الدار زيد فإنما يرتفع زيد عند سيبويه بالابتداء، وعندنا خبر مقدّم، و " إن " لا بدّ لها من فعل يليها على ما بيّناه فأضمرت " كان " لذلك. قال: (فلا يجوز بعد " إن " أن تبنى عندنا على الأسماء ولا الأسماء تبنى على عند كما لم يجز أن تبنى بعد " إن " الأسماء على الأسماء). يعني لا تجعل عندنا خبرا للاسم إذا جئت " بإن " لأنّ " إن " لا يليها إلّا الفعل، ولا يجعل الاسم مرفوعا بعند لأنه ليس بفعل. قال: (ولا يجوز أن تقول " عبد الله المقتول " وأنت تريد كن عبد الله المقتول). لأنه ليس قبله، ولا في الحال دلالة عليه إذ كان يجوز أن يكون على معنى: " تولّ عبد الله المقتول وأجبه " وما أشبه ذلك وإنما يضمرون ما عليه الدلالة من الكلام أو شاهد من الحال. قال: (ومن ذلك قوله: من لد شولا فإلى إتلائها (¬2) نصب لأنّه أراد زمانا، والشول لا يكون زمانا ولا مكانا). والمعنى: أنّ لد إنما يضاف إلى ما بعده من زمان تتصل به أو مكان إذا اقترنت بها إلى؛ كقولك: جلست من لد صلاة العصر إلى وقت المغرب، وزرعت من لد الحائط إلى ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 110. (¬2) رواه أحمد والحاكم عن خالد بن عرفطة في مسلم عن حذيفة: الرافعي 4: 84.

الأسطوانة، فلمّا كان الشول جمعا للناقة الشائل لم تصلح أن تكون زمانا ولا مكانا. والإتلاء: أن تلد فيتبعها ولدها ويتلوها، ولم يجز أن تقول من لد زيد إلى دخول الدار لأنه ليس بزمان ولا مكان؛ فأضمر ما يصلح أن يقدّر زمانا، فكأنه من لد أن كانت شولا ومن لد كونها شولا إلى إتلائها، وإن كانت بمعنى كونها وهو مصدر والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة، كقولك: جئتك مقدم الحاجّ، وخلافة المقتدر، وصلاة العصر، على معنى أوقات هذه الأشياء. قال: (وقد جرّه قوم على سعة الكلام، وجعلوه بمنزلة المصدر). يعني من لد شول إلى إتلائها. قال أبو سعيد: والجر يحتمل وجهين: أحدهما: أن تجعل شولا مصدرا صحيحا، كقولك: شالت الناقة شولا إذا ارتفع لبنها، فإذا جعلته مصدرا صحيحا جاز أن يجعل وقتا، ويجوز أن يكون قد حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فيكون التقدير: من لد كون شول، ثمّ يحذف كون، كما قال عز وجل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1)، أراد أهل القرية. قال: (واعلم أنه ليس كل حرف يظهر بعده الفعل يحذف منه الفعل، ولكنك تضمر فيما أضمروا وتظهر فيما أظهروا، كما تحذف ما حذفوا وتبقي ما أبقوا، نحو: لم يكن ويك، ولم أتل وأتال). ولا يجوز أن تقول: لم أصن في معنى: لم أصن، وقالوا: خذ وكل فاستعملوا بالحذف، ولا يجوز في الكلام أوكل وأوخذ، وإن كانا هما الأصل، ولا يقولون: جد ومر، وقالوا في الأمر: أومر ومر، فاستعملوا فيه الوجهين جميعا، وليس ذلك في غيره، وقد بيّنا ما يقتضيه هذا الفصل من الشرح التامّ فيما مضى. قال: (وأما قول الشاعر: لقد كذبتك نفسك فاكذبنها … فإن جزعا وإن إجمال صبر (¬2) ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 82. (¬2) البيت لدريد بن الصمة: خزانة الأدب 4: 442؛ المقتضب 3: 28؛ شرح المفصل 8: 101، 104.

فهذا على معنى " إمّا " ولا يكون على إن الجزاء) كما مرّ في الباب. قال أبو سعيد: وذلك من قبل أنّا لو جعلنا " إن " ههنا للجزاء لاحتجنا إلى جواب، وذلك أنّ جواب " إن " في ما بعدها، وقد يكون ما قبلها مغنيا عن الجواب إذا لم يدخل عليها شيء من حروف العطف، كقولك: " أكرمك إن جئتني " فإن أدخلت عليها فاء أو ثمّ بطل أن يكون ما قبلها مغنيا عن الجواب، لا يجوز أن تقول: " أكرمك فإن جئتني " ولا " أكرمك ثم إن جئتني " حتى تأتي بالجواب فتقول: " أكرمك فإن جئتني زدت في الإكرام " فلذلك بطل أن يكون " فإن جزعا " على معنى المجازاة وصارت بمعنى " ألّا " لأنّها تحسن في هذا الموضع، وحذف " ما " للضرورة قال الله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً (¬1). فلم يأت بجواب بعد " إما ". (ولو قال: " فإن جزع وإن إجمال صبر " كان جائزا كأنك قلت: أمري جزع وإما إجمال صبر ولا يجوز طرح " ما " من " إمّا " إلّا في الشعر قال النمر بن تولب: (¬2) سقته الرّواعد من صيّف … وإن من خريف فلن يعدما (¬3) فإنما يريد: وإمّا من خريف). وقد أنكر الأصمعيّ (¬4) هذا، وزعم أنّ " إن " في بيت النمر بن تولب هي للجزاء، وإنما أراد وإن سقته من خريف فلن يعدم الرّيّ، ولم يحتج إلى ذكر سقته لذكره في أول البيت وإنّما يصف وعلا، وابتداؤه: فلو كان من حتفه ناجيا … لكان هو الصدع الأعصما (¬5) يصف أنه وإن كان في الجبل لا يعدم معاشا به. والوجه قول سيبويه في بيت النمر، وذلك أنه لا ذكر للرّيّ، وإنما المعنى: سقته ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 4. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) شرح المفصل 8: 102؛ خزانة الأدب 9: 25؛ الخصائص 2: 443؛ المنصف 3: 115؛ منتهى الطلب 1: 146. (¬4) هو عبد الملك بن قريب بن أصمع بن مظهر أبو سعيد الباهلي الأصمعي إمام في النحو واللغة ولد 125 هـ. توفي 210 هـ، الفهرست: 55، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2: 147. (¬5) خزانة الأدب 4: 434؛ الخصائص 2: 443 (هامش 4)؛ منتهى الطلب 1: 145.

الرواعد في الصيف وأمّا في الخريف فلن يعدم السّقي- أيضا- أي: هو يسقى من الصيف ومن الخريف، والبيت الأول قد دلّ دلالة واضحة على أن معنى " إن " معنى " أمّا " وأنه لا يجوز أن تكون معنى التي للجزاء، ومع ذلك فلا تحذف " ما " من إمّا إلّا في الشعر. قال سيبويه: (ومما ينتصب على إضمار الفعل المستعمل إظهاره قولك: هلّا خيرا من ذلك، وإلّا خيرا من ذلك، أو غير ذلك، كأنك قلت: " ألّا تفعل خيرا من ذلك "، أو " ألّا تفعل غير ذلك " و " هلّا تأتي خيرا من ذلك "). قال: (وربما عرضت هذا على نفسك وكنت فيه كالمخاطب). قال أبو سعيد اعلم أنّ هلّا، وألّا، ولولا، ولو ما، يجرين مجرى واحدا، ويقعن على الفعل الماضي والمستقبل، فإذا وقعن للماضي فهو لتنديم المخاطب على ما فاته، أو لومه على ما فرّط فيه. وإن كان للمستقبل فهو للحضّ على إتيانه. وأهل البصرة يسمونها حروف التحضيض، ومن الناس من يقول إنها استفهام فإذا قلت هلّا فعلت كذا وكذا فكأنك قلت: لم لم تفعل؟ وإذا قلت: هلّا تفعل كذا فمعناه: لم لا تفعل كذا، وهذا الذي ذكروا غير خارج عمّا ذكرنا، لأنّا متى جعلنا هذه الحروف استفهاما على ما ذكره هذا القائل فإن جعلناها بمعنى لم فهي خارجة عن معنى الاستفهام، وذلك أنّ " لم " وقعت هنا لمّا كان معناها الاستفهام على الحقيقة؛ ولأن القائل لم يرد أن يستفهم، إنما استبطأ المخاطب الفاعل على فعل فرّط فيه فحثه عليه في المستقبل، أو فعل كان ينبغي أن يفعله فقصر فيه حتى فاته. فإن قال قائل: قد نرى " هل " دخلت على " لا " وهي من حروف الاستفهام فصار قولك هلّا بمنزلة قولك لم لا. قيل له: هذا الذي ذكرته لا يدلّ على ما أردته؛ وذلك أن الحروف قد تركّب فيزول معناها الأول، نحو قولنا: لو جئتني أكرمتك، ومعناه: أنّ الإكرام لم يقع لعدم المجيء، فإذا قلت: لولا عبد الله لأكرمتك لزال ذلك المعنى بضمّ " لا " إلى " لو "، وكذلك يزول معنى هل لضمّ لا إليها. ومن الدليل على ما قلناه أن " لوما " و " لولا " و " إلّا " ليست من حروف الاستفهام،

وقد جعلن في معنى " هلّا " فصحّ ما ذكرناه من موضوع هذه الحروف. فإن قال قائل: هذه حروف وضعن للأفعال لما فيها من معنى التحضيض فكيف حسن أن تخزل أفعالها ويليها الاسم، ولا يجوز ذلك في قد وسوف وسائر الحروف الموضوعة للفعل، لأنك لا تقول قد زيدا، ولا سوف زيدا بمعنى: قد ضربت زيدا وسوف أضرب زيدا. قيل له: هذه الحروف الأربعة لما كانت في معنى التحضيض نابت عمّا بعدها من الفعل واستغني عنه، وأمّا قد وسوف فإنهما يغيّر ان معنى الفعل المطلق ويقصرانه على معنى بعينه، لأنّ سوف تقصر الفعل على المستقبل وتخرجه عن الحال، و " قد " لما يتوقع من الفعل فصار بمنزلة الألف واللام للتعريف، فكما أنّ الألف واللام لا يفارقان ما دخلتا عليه ولا يحذف ما بعدهما، كذلك قد وسوف وسائر الحروف الداخلة على الفعل من عوامله فهي تضعف عن حذف ما بعدها، لأن الحذف دلالة على قوة العامل، وقد مضى نحوه. قال سيبويه: (وإن شئت رفعت فقد سمعنا رفع بعضه). يعني أنه " يجوز هلّا خير من ذلك " على إضمار شيء يرفع، كأنك قلت: " هلا كان منك خير من ذلك " أو " هلّا فعل خير من ذلك ". قال: ومن ذلك قولك: (" أو فرقا خيرا من حبّ " وإنما حمله على الفعل لأنه سئل عن فعله فأجابه على الفعل الذي هو عليه، ولو رفع جاز كأنه قال: أو أمري فرق خير من حب، وإنما انتصب نحو هذا على أنه يكون الرجل في فعل فيريد أن ينقله أو ينتقل إلى فعل آخر، فمن ثمّ نصب " أو فرقا " لأنه أجاب على أفرق وترك الحبّ). وإنما هذا كلام تكلم به رجل عند الحجّاج، وذلك أنه كان قد فعل له فعلا فاستجاده فقال الحجاج: " أكلّ هذا حبا " أي فعلت كلّ هذا حبّا لي؟ فقال الرجل مجيبا له: " أو فرقا خيرا من حبّ " أي: أو فعلت هذا فرقا؛ فهو أنبل لك وأجلّ. ثم ذكر أشياء منصوبة بأفعال مضمرة، وقد يجوز رفعها بإضمار ما يرفع، وبعضه مجرور بإضمار ما يجرّ على ما تقدّم تفسيره من هذا الباب، فمن ذلك: أن يقدم رجل من سفر فتقول: خير مقدم؛ على معنى: قدمت خير مقدم، ويجوز أن تقول: خير مقدم؛ على معنى: قدومك خير مقدم.

وإذا خرج قلت: مصاحب معان، ومثله: مبرور مأجور، فإذا رفعت هذه الأشياء فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبتها فالذي في نفسك غير ما أظهرت. يعني: أنك إذا رفعت فالذي أضمرت مبتدأ، والذي ظهر هو خبره، والمبتدأ هو الخبر. وإذا نصبت فالذي أضمرت فعلا، والفعل غير الاسم؛ لأنك إذا قلت: مصاحبا معانا فتقديره: اذهب مصاحبا معانا. قال: (ومن ذلك أن ترى رجلا قد أوقع أمرا أو تعرّض له فتقول: " متعرضا لعنن لم يعنه ") كأنه قال: فعل هذا متعرضا، والعنن: ما عنّ لك، أي عرض لك، أي دخل في شيء لا يعنيه ولا ينبغي له التشاغل به. (ومثله: " مواعيد عرقوب أخاه بيثرب " (¬1) كأنه قال وعدتني مواعيد عرقوب) وهو رجل وعد وعدا فأخلف وله قصة طويلة. وقال أبو عبيدة: (¬2) " مواعيد عرقوب أخاه بيثرب " لأنّ عرقوبا رجل من العماليق، وكانوا بالبعد من يثرب، ويثرب بالثاء وفتح الراء: موضع عندهم. قال: (ومن العرب من يقول: " متعرّض " على معنى: هو متعرض، ومثله " غضب الخيل على اللّجم "، وذلك إذا رأيت رجلا غضب غضبا لا يضير، أي غضبت كغضب الخيل على اللّجم). قال: (ومن العرب من يرفع فيقول غضب الخيل على اللّجم كما رفع بعضهم " الظباء على البقر ") إذا قال غضب الخيل على اللّجم. فإذا قال الظباء على البقر فتقديره: الظباء متروكة على البقر، وإذا نصب فقال: " الظباء على البقر " فكأنّه قال: اترك الظباء على البقر، وإنما يعني بقر الوحش لأنها ترعى مع الظباء في موضع، وبعضها أولى ببعض قال: ¬

_ (¬1) هو عجز بيت لجبيهاء الأشجعي صدره: وعدت وكان الخلف منك سجية جمهرة الأمثال 1: 433. (¬2) هو معمر بن المثنى، أبو عبيدة التميمي البصري النحوي اللغوي توفي 208 هـ وفيات الأعيان 2: 105، الفهرست: 53، المعارف: 236.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره استغناء عنه

ولقد ذعرت بنات عم … م المرشقات لها بصابص (¬1) أراد البقر وجعلها بنات عمّ الظباء وهي المرشقات، وإنما يقول القائل هذا إذا نهى صاحبه عن الدخول بين أقوام بعضهم أولى ببعض. هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره استغناء عنه (سأمثله لك مظهرا لتعلم ما أرادوا إن شاء الله تعالى). قال أبو سعيد رحمه الله: قد تقدم من كلام سيبويه أن ما ينتصب بالفعل على ثلاثة أضرب: ضرب منها: لا يجوز إضمار الفعل الناصب له. وضرب منها: يجوز إضماره ويحسن إظهاره. وضرب: يضمر ويترك إظهاره. وهذا الباب ترجمته لأبواب تأتي بعده مفصلة إن شاء الله تعالى. هذا باب ما جرى على الأمر والتحذير (وذلك قولك: إذا كنت تحذّر: إيّاك، كأنك قلت: إياك نحّ وإياك باعد، ومثله أن تقول: نفسك يا فلان، أي اتق نفسك). هذا الذي ذكره سيبويه من إضمار الفعل صحيح، وبعض النحويين يأباه، ويزعم أنه لا مضمر ينصبه، وكذلك يزعم في قولنا: خلفك زيد، أنّ خلفك ينتصب لا بإضمار فعل ولكن بمخالفته ما بعده. وهذا كلام فاسد، لأنّ المنصوب لا بد له من ناصب مضمرا كان أو مظهرا، وليست مخالفة أحدهما للآخر بموجبة نصبا من قبل أن كلّ واحد منهما قد خالف صاحبه؛ فلو كانت المخالفة توجب النصب انتصبا جميعا؛ لأن كلّ واحد منهما قد خالف الآخر، ففي كل واحد منهما مخالفة توجب له النصب، فعلم أن المخالفة لا تنصب. وهذا الفعل الناصب لإيّاك لا يحسن إظهاره، وذلك أن العرب اكتفت بإياك وكان موضعها غير مشكل. ¬

_ (¬1) قائله: أبو دؤاد، ديوانه: 322، وهو ضمن كتاب (دراسات في الأدب العربي) للمستشرق (جوستاف جرونباوم) ترجمة: إحسان عباس، بيروت 1959؛ تاج العروس (رشق).

قال: (ومن ذلك قولك: إيّاك والأسد، وإياك والشرّ). وأما قوله: إيّاك والأسد فإنه يضمر فعلا ينصب به إياك، كما قدّمنا، ويعطف الأسد على إياك كأنه قال: زيدا فاضرب وعمرا. فإن قال قائل: إذا جعلت الأسد عطفا على إياك بالواو فقد شاركه في معناه. لأن المعطوف بالواو يشارك المعطوف عليه. ألا ترى أنّك تقول: ضربت زيدا وعمرا؛ فالضرب واقع عليهما جميعا، فينبغي أن يكون الأسد مشاركا لإياك؛ فيكون الأسد مشاركا مخوفا كما كان المخاطب، أو يكون المخاطب محذورا مخوفا كما أن الأسد محذور مخوف. قيل له: لا يستنكر أن يكون التخويف واقعا بهما وإن كان طريق التخويف مختلفا؛ ألا ترى أنك تقول: خوّفت زيدا الأسد؛ فزيد مخوّف والأسد مخوّف وليس معناهما واحدا إلّا أن الأسد مخوّف منه وزيد مخوّف، على معنى أنه يجب أن يحذر منه، ولفظ خوّفت قد تناولهما جميعا، وكذلك إياك والأسد المعنى الناصب لهما معنى واحد وإن كان طريق التخويف مختلفا فيهما. وأمّا إياك والشر فليس يخاطب نفسه ولا يأمرها، وإنما يخاطب رجلا يقول له: إيّاك باعد عن الشرّ فينتصب إيّاك بباعد وما أشبهه، وتحذف حرف الجر من الشرّ وتوقع الفعل المقدّر عليه فيعطفه على الأوّل لأنّ الفعل قد وقع على الأول. ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب، يعني: يرميه بسيف أو ما أشبهه، وأن في موضع نصب كأنّه قال: إيّاي وحذف أحدكم. وزعم الزجّاج (¬1) أنّ معناه: " إيّاي وإيّاكم وأن يحذف أحدكم الأرنب " والذي قاله لا يحتاج إليه؛ لأن قوله وأن يحذف أحدكم قد دلّ على أنهم حذّروا من فعلهم أن يأتوه إلى المتكلم. (وزعم أن بعضهم يقال له: إياك، فيقول: إيّاي) كأنّه أعاد لفظ المتكلم لما قيل له منه واستجاب له، كأنّه قال: إياي احذر احفظ، وحذفهم الفعل الناصب لإيّاك لما كثر ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج له معاني القرآن توفي 311 هـ معجم الأدباء 1: 130، الفهرست 60، مراتب النحويين 136.

استعمالهم له وصيروا لفظه نائبا عن المضمر كحذفهم " حينئذ الآن ". قولهم: حينئذ الآن كلام جرى للعرب محذوفا من حينئذ ومن الآن، ومعنى ذلك: أن ذاكرا ذكر شيئا فيما مضى يستدعي مثله في الحال فقال له المخاطب: حينئذ الآن معناه: كان هذا الذي ذكرت حينئذ في الوقت الذي ذكرت واسمع الآن غير ذلك أو نحوه من التقدير، ولا يستعملون الفعل الذي حذف، وكذلك لا يستعملون الفعل الناصب لإيّاك. قال: وإذا قلت: إياك والأسد فلا بدّ من الواو لأنه اسم مضموم إلى آخر. يعني معطوف عليه. فإن قال قائل: فقد تقول: إياك من الأسد وإيّاك من الشرّ فلم لا يجوز حذف حرف الجر وإيصال الفعل إلى الأسد وإلى الشرّ؟ فيقال: إيّاك الأسد وإياك الشرّ. قيل له: لأن حروف الجر لا تحذف إلّا في المواضع التي حذفتها العرب فيها، ألا ترى أنك تقول: أخذت من زيد درهما، ولا يجوز أخذت زيدا درهما، وتقول: اخترت من الرجال زيدا وتحذف " من " فتقول اخترت الرجال زيدا، لأن العرب قد استعملت ذلك، قال الله عز وجلّ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا (¬1). وكان ابن أبي إسحاق يجيز حذف من فيقول: إياك الشرّ في الشعر وأنشد: فإيّاك إياك المراء فإنّه … إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (¬2) قال سيبويه: (المراء منصوب بفعل غير الفعل الذي نصب إياك، كأنه لما قال: إياك اكتفى ثم أضمر فعلا آخر نصب به المراء كأنه قال: اتق المراء، وإذا قال: إياك وأن تكلم زيدا جاز أن تقول: إياك أن تكلم زيدا بغير واو ولا حرف جر، وإنّما جاز هذا في " أنّ " لأنّ " أن " الخفيفة والمشددة إذا اتصلت بهما حروف الجر جاز حذفها كقولك: أنا راغب في أن ألقاك وحريص على أن أحسن إليك، ولو قلت: أنا راغب أن ألقاك وحريص أن أحسن إليك جاز، ولو جعلت مكان أن المصدر فقلت أنا راغب في لقائك حريص على الإحسان إليك لم يجز حذف حرف الجر، لا يجوز: أنا راغب ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 155. (¬2) ينسب للفضل بن عبد الرحمن بن عباس القرشي: الخصائص 3: 104؛ شرح المفصل 2: 25؛ إنباه الرواة 4: 70؛ ومعجم الشعراء 160.

لقاءك وحريص الإحسان إليك، وإنما لم يجز في المصدر المحض ما جاز في " أن " لأن " أن "؛ وما بعدها من الفعل وما يتعلق بالفعل من فاعل أو مفعول بمعنى المصدر وطال فجوزوا حذف حرف الجر منها لطول الكلام. ومن ذلك قولهم: رأسه والحائط، كأنه قال: خلّ رأسه مع الحائط، وقولهم: شأنك والحجّ، كأنه قال: شأنك مع الحج، ومن ذلك امرأ ونفسه، كأنك قلت: دع امرءا مع نفسه، فصارت الواو في معنى مع كما صارت في معنى مع: في قوله ما صنعت وأخاك). لأنه إذا حذف " مع " وهي منصوبة قام ما بعد الواو مقامها في النصب. وقد ذكرنا نحو هذا في غير هذا الموضع. قال سيبويه: (وإن شئت لم يكن فيه ذلك المعنى وهو عربيّ جيد). يريد إن شئت لا تقدر " مع " وجعلت كل واحد منهما منصوبا بالفعل، وعطفت أحدهما على الآخر أدّى معنى " مع " وإن لم يكن مقدرا بلفظه، كأنه قال: عليك رأسك وعليك الحائط، وكأنه قال: دع امرأ ودع نفسه، وليس ينقض هذا ما أردت في معنى " مع " من الحديث، ومثل ذلك " أهلك والليل " كأنه قال بادر أهلك قبل الليل ". وتحقيق المعنى في ذلك أنه عطف الليل على الأهل وجعلهما مبادرين، ومعنى المبادرة: مسابقتك الشيء إلى الشيء كقولك: بادرت زيدا المنزل، كأني سابقته إليه، فكأن الليل والرجل المخاطب يتسابقان إلى أهل الرجل، فأمره الآمر أن يسابق الليل إليهم ليكون عندهم قبل الليل. وقال: (قال بعض العرب: " ماز رأسك والسيف " كما تقول: رأسك والحائط وهو يحذّره كأنه قال: اتق رأسك والحائط). وقولهم: " ماز رأسك والسيف " كثير من النحويين يقولون: إنه أراد ترخيم مازن فلم يكن اسم الرجل الذي خوطب بهذا مازنا، ولكنه كان من بني مازن بن العنبر بن عمرو بن تميم وكان اسمه كدلما أسر بجيرا القشيريّ، فجاءه قعنب اليربوعيّ ليقتله، فمنع المازني منه، فقال للمازنيّ: ماز رأسك والسيف، وترخيمه على أحد وجهين: إمّا أن يكون سمّاه بمازن؛ إذ كان من مازن، وقد تفعل العرب مثل هذا في بعض المواضع، كقولهم: " الأشعرون " يريدون الأشعريون، جعلوا كل واحد منهما مسمّى بالأشعر الذي هو اسم جد، ثم ترخّمه على ذلك.

وإمّا أن يكون ترخيما بعد ترخيم؛ كأنه رخم مازنيا فصار مازنا، ثم رخّم مازنا فصار ماز، ونحوه مذكور في الترخيم. وتقديرهم: اتق رأسك والحائط على تقديرين في الانتصاب، ومعناه: اتق رأسك أن يدقه الحائط أو يكسره أو نحو ذلك، واتق الحائط أن يصيب رأسك بسوء، وإذا ثنّيت هذه الأشياء لم تذكر الفعل معها، ولو قلت: الليل الليل لم يحسن أن تقول بادر الليل الليل، وإذا قلت الليل منفردا حسن أن تقول: بادر الليل، وكذلك لو قال قائل: الله الله في أمري لم يحسن أن تقول: اتق الله الله في أمري. وإذا قال: الطريق الطريق، لم يحسن أن تقول: خلّ الطريق الطريق، وإذا قال: الطريق حسن أن تقول: خلّ الطريق؛ كما قال جرير: خلّ الطريق لمن يبني المنار به … وابرز ببرزة حيث اضطرّك القدر (¬1) والاسمان المعطوف أحدهما على الآخر لا يذكر الفعل فيهما- أيضا- كقولك: رأسك والحائط و " امرأ ونفسه " ولو أفردت أحدهما حسن لو قلت: اتق رأسك، أو احفظ نفسك، واتق الجدار، كان جائزا حسنا وقبح في التكرير؛ لأنك لما كررت شبّه الأول من اللفظين بالفعل فأغنى عنه وصار بمنزلة " إياك " النائب عن الفعل، كما كانت المصادر كذلك، كقولهم: الحذر الحذر، والنجاء النجاء، وضربا ضربا، كأنهم جعلوا الأول بمنزلة الزم وعليك ونحوه من تقدير الفعل، ودخول فعل على فعل محال. قال سيبويه: (ومن ثم قال عمرو بن معدي كرب: أريد حباءه ويريد قتلي … عذيرك من خليلك من مراد (¬2) وقال الكميت: نعاء جذاما غير موت ولا قتل … ولكن فراقا للدّعائم والأصل (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لجرير: ديوانه 1: 211؛ المقاصد النحوية 4: 307؛ شرح الأشموني 2: 481؛ شرح المفصل 2: 30؛ لسان العرب (برز). (¬2) البيت لعمرو بن معدي كرب: شرح المفصل 2: 26؛ الأغاني 10: 27؛ خزانة الأدب 6: 361، 10: 210؛ تاج العروس (عذر)، الشطرة الأولى من البيت مثل تمثل به أمير المؤمنين علي- كرّم الله وجهه- حين ضربه ابن ملجم لعنه الله، الميداني 2: 57. (¬3) ينسب للكميت البيت غير موجود في ديوانه:-

وكقول ذي الإصبع: عذير الحيّ من عدوا … ن كانوا حيّة الأرض (¬1) ولا يظهر الفعل الذي نصب عذير، ولا الفعل الواقع على نعاء، لأن ذلك أقيم مقام الفعل، ودخول فعل على فعل محال). قال أبو سعيد: أنا أذكر أصل عذيرك وما يراد به لينكشف معناه والفعل الناصب له: تقول العرب: من يعذرني من فلان، ويفسّر على وجهين: أحدهما: من يعذرني في احتمالي إياه. والآخر: من يذكر لي عذرا فيما يأتيه وقوله: عذيرك من خليلك يخرّج على وجهين: أحدهما: من يعذرني في احتمالي إياه وإن لم يذكر لي عذره فيما يأتيه. والآخر: من يذكر عذره فيما أتاه أو نحوه من الألفاظ، واختلفوا في عذير؛ فقال بعضهم: هو بمنزلة عاذر يقال: عاذر وعذير كشاهد وشهيد، وقادر وقدير، وعالم وعليم. وضعّف المفضّل بن سلمة اللغوي (¬2) هذا أن يكون بمعنى العذر مصدرا قال: " لأن المصادر على فعيل لا تأتي إلّا في الأصوات، نحو: الصرير والصهيل والصليل والزئير، وأجاز أن يكون مصدرا بمعنى العذر غير أنه اختار الأول، وسيبويه يقدر عذير تقدير عاذر، وقد أفصح به في غير هذا الموضع ". فإذا قال: عذيرك على معنى عاذرك كأنه قال: هات عاذرك أو أحضر عاذرك، ¬

_ الإنصاف 2: 539؛ سيبويه 1: 139؛ شرح المفصل 4: 51؛ تاج العروس (جذم)؛ اللسان (نعا). (¬1) ديوانه: 46، الأغاني 3: 89؛ الشعر والشعراء 2: 708؛ خزانة الأدب 2: 408. (¬2) هو المفضل بن سلمة بن عاصم أبو طالب اللغوي أخذ عن ابن السكيت وثعلب له تصانيف كثيرة: البارع، معاني القرآن، المقصور والممدود. تاريخ بغداد 13: 124، معجم الأدباء 19: 162 مراتب النحويين 157.

هذا باب ما يكون معطوفا في هذا الباب على الفاعل المضمر في النية

وكذلك أحضر عاذر الحيّ من عدوان، ونعاء في معنى أنع من النعي وهو اسم واقع موقع فعل مثل نزال وحذار، ولا يحسن ذكر الفعل معه. هذا باب ما يكون معطوفا في هذا الباب على الفاعل المضمر في النية (ويكون معطوفا على المفعول وما يكون صفة المرفوع المضمر في النية ويكون معطوفا على المفعول. وذلك قولك: إياك أنت نفسك أن تفعل، وإياك نفسك أن تفعل، فإن عنيت الفاعل المضمر في النية قلت: إياك أنت نفسك، كأنك قلت: إياك نحّ أنت نفسك، وحملته على الاسم المضمر في نحّ، فإن قلت: إياك نفسك تريد الاسم المضمر الفاعل فهو قبيح، وهو على قبحه رفع، ويدلك على قبحه أنك لو قلت: اذهب نفسك كان قبيحا حتى تقول أنت نفسك فمن ثمّ كان نصبا لأنك إذا وصفت بنفسك المضمر المنصوب بغير أنت كان حسنا تقول: رأيتك نفسك ولا تقول: انطلقت نفسك). قال أبو سعيد: قد تقدم في الباب الذي قبله أن قولنا: إياك وما جرى مجراه منصوب بفعل مضمر، وذلك الفعل فعل المخاطب، وله فيه ضمير مرفوع وهو فاعل ذلك الفعل وإياك ضميره- أيضا- وهو منصوب فصار بمنزلة قولك للمخاطب: إياك ضربت، وإياك نفعت، فما صلح أن يكون توكيدا للتاء الفاعلة صلح أن يكون توكيدا للضمير في الفعل المحذوف، وما صلح أن يكون عطفا على التاء صلح أن يكون عطفا على ذلك الضمير المقدر، وكذلك التوكيد المنصوب، فلما لم يحسن أن تقول: قمت نفسك، حتى تقول: قمت أنت نفسك، لم يصلح أن تقول: إياك نفسك فتجعل نفسك توكيدا حتى تقدم قبله أنت. ولو قلت: رأيتك نفسك، لحسن من غير توكيد، وكذلك لو قلت: إياك نفسك لحسن. وإنما لم يحسن في المرفوع ألا يتقدمه توكيد قبل النفس؛ لأن المرفوع يكون في النية بغير علامة، والمنصوب لا يكون إلا بعلامة، وقد يقع في المرفوع اللبس في بعض

الأحوال، وذلك أنك لو قلت: هند خرجت نفسها، فجعلت في خرجت ضميرها، ثم جعلت النفس توكيدا لضميرها في خرجت لجاز أن يتوهّم أن الفعل للنفس فيصير كقولك: هند خرجت جاريتها، فإذا قلت: خرجت هي نفسها، علم أنها توكيد، والعطف بهذه بمنزلة إذا قلت: إياك وزيدا والأسد، فهو مستحسن لأنك عطفت زيدا على المنصوب وهو: إياك ولو قلت: إياك وزيد لم يحسن حتى تقول: أنت وزيد، كما لم يحسن: اذهب وزيد، حتى تقول: اذهب أنت وزيد، وإن قلت: رأيتك، قلت: ذاك وزيدا بالنصب أحسن في زيد لأنك تعطفه على الكاف في: رأيتك، ولو رفعته لكنت عاطفا على تاء قلت، وهو ضمير مرفوع فلا يحسن، وأنشد سيبويه لجرير: وإيّاك أنت وعبد المسي … ح أن تقربا قبلة المسجد (¬1) فنصب عبد المسيح بالعطف على إياك، وأنشده يونس منصوبا، ولو رفع كان حسنا أيضا؛ لأن أنت تجعل توكيدا للضمير المرفوع المقدر، فيحسن حينئذ العطف عليه، ولا يجوز أن تقول: إياك زيدا، لأن زيدا لا يخلو من أن تجعله عطفا على إياك، فلا يجوز حذف حرف العطف منه، كما لا يجوز أن تقول: رأيت زيدا عمرا، على معنى رأيت زيدا وعمرا، أو على معنى إياك من زيد، أي اتق نفسك من زيد، واحذر نفسك من زيد، فلا يجوز حذف حرف الجر في هذا الموضع، وكذلك لا تقول: رأسك الجدار، حتى تقول: من الجدار ولو جئت بأن، فقلت: إياك من أن تكلم زيدا، لجاز أن تقول: إياك أن تكلم زيدا، وذلك أن " أن " الخفيفة والمشددة يجوز طرح حروف الجر منها إذا كانت في صلة فعل؛ لأنها وما بعدها بمنزلة المصدر فطالت فحسن حذف حروف الجر لطولها تخفيفا، كما حسن في الذي حذف العائد مع الفعل، ولو جئت بالمصدر لم يحسن حذف حرف الجر، لا تقول: إياك ضرب زيد كما تقول: إياك أن تضرب زيدا، لأنه لم يطل كطول " أن " وأما قوله: إيّاك إيّاك المراء فإنّه … إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (¬2) فإن سيبويه ذهب إلى أن المراء منصوب بفعل غير الفعل المقدر لإياك، كأنه أضمر ¬

_ (¬1) البيت لجرير ديوانه 2: 1027. (¬2) البيت سبق تخريجه.

بعد إياك: اتق المراء، وقد يجوز أن يكون حمل المراء على أنه تمادى في إسقاط حروف الجر. وقال الخليل (¬1) رحمه الله: لو أن رجلا قال: إياك نفسك لم أعنّفه لأن هذه الكاف مجرورة. قال سيبويه: (وحدّثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ "). قال أبو سعيد: اختلف الناس في إياك وإياه وإياي وتثنية ذلك وجمعه في تأنيثه وتذكيره، فقال الخليل رحمه الله: ولم يذكر سيبويه خلافا له أن إيا: اسم مضاف إلى ما بعده، وأن ما بعده في موضع خفض. وجماعة من النحويين يخالفون هذا، وقالوا: لا يجوز أن يكون إيا مضافا لأنه ضمير، والضمير لا يضاف، وما حكاه الخليل شاذ لا يعمل عليه ولا يعرف، وجعلوا الكاف في إياك وسائر ما يقع بعدها من الضمائر لا موضع لها مثل الكاف في ذاك وذاكما، والصحيح عندي ما قاله الخليل رحمه الله، وذلك إني رأيت ما يقع بعد أي من الضمير هو الضمير الذي كان يقع للمنصوب لو كان متصلا بالفعل؛ لأنك تقول: ضربتك، ثم تقول: إياك ضربت، وضربتكما، وإياكما ضربت وضربتكم، وإياكم ضربت، وضربتكن وإياكن ضربت، وضربته وإياه ضربت، وضربتهما وإياهما ضربت، وكان حق هذا الضمير أن يكون متصلا بفعل، فلما قدموه لما يستحقه المفعول به من التقديم والتأخير، أتوا ب " إيا " فتوصلوا بها إلى الضمير المتصل، وإيا: هو اسم ظاهر واتصال الأسماء بالأسماء يوجب للثاني منهما الخفض، وجعلوا إيا هو الذي يقع عليه الفعل، وقد رأيناهم فعلوا شبيها بهذا حيث قالوا: يا أيها الرجل، لأنهم أرادوا نداء الرجل، فلم يمكن نداؤه من أجل الألف واللام، فأتوا بأي فجعلوه وصلة إلى الألف واللام، وأوقفوا حرف النداء عليه وأعطوه حقه من لفظ المنادى، وجعلوا المقصود بالنداء نعتا له، كما قالوا: يا زيد العاقل، ولا أبعد أن يكون لفظ " إيا " هو فعلى من أي، وأخذ أحدهما من الآخر ¬

_ (¬1) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري أبو عبد الرحمن صاحب العربية والعروض وحصر أشعار العرب بها عمل كتاب العين توفي 157 هـ. الفهرست 42 - معجم الأدباء 1: 341 وفيات الأعيان 1: 172.

لاشتراكهما في الوصلة. وما حكاه الخليل شاذ في الظاهر، لأن الظاهر في التقديم والتأخير على حال واحدة. فإن قال قائل فأنت تقول: إياي ضربت، ولا يجوز أن تقول: ضربتني، والفعل لا يقع على المتكلم من نفسه، ولو وقع عليه لكان: بنون وياء كقولك: ظننتني فلم يغير حكمه في إيا، وأنت تزعم أنها وصلة إلى اللفظ كما كان يتصل بالفعل. قيل له: لما توصلوا بإيا وصار في حكم الظاهر المضاف، وجعلوا ما بعد " إيا " في موضع خفض بطلت النون التي قبل الياء كما بطلت من عصاي وهداي، وصار تعدي الفعل إليه من نفسه كتعديه إلى النفس في قولك: نفس ضربت، فاعرفه إن شاء الله تعالى. ثم ذكر سيبويه أشياء من كلام العرب وأشعارها حذفوا فيها الفعل، فمن ذلك قول: العرب: " هذا ولا زعماتك " معناه: أن المخاطب كان يزعم زعمات، فلما ظهر خلاف قوله، قال: هذا الحق ولا زعماتك، ولا أتوهم ما زعمته، ومنه قول ذي الرمة: ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا … ولا يرى مثلها عجم ولا عرب (¬1) كأنه قال: اذكر ديار مية، ولكنه لا يذكر " اذكر " لكثرته في كلامهم، ولم يذكر: ولا أتوهم زعماتك لكثرة استعمالهم إياه، ولاستدلاله بما ينبئ من حاله ومن أنه ينهاه عن زعمه، وقد يدخل هذا المثل في أن يقال للإنسان إذا زعم شيئا في رأي يراه ومشورة يشير بها أن يقول هذا لرأي آخر أصح من ذاك " هذا ولا زعماتك "، أي: هذا حق صحيح دون ما زعمته. (ومن ذلك قول العرب: " كليهما وتمرا " (¬2) وكثر هذا في كلامهم). وجرى مثلا، والتقدير: اعطني " كليهما وتمرا، كأن إنسانا خيّر آخر بين شيئين فطلبهما جميعا المخيّر وزيادة عليهما، فقال: أعطنيهما وتمرا، ومنهم من يرفع كليهما وينصب التمر فيقول: كلاهما وتمرا، كأنه قال: كلاهما لي ثابتان وزدني تمرا. ويقول بعضهم: " كل شيء ولا هذا، وكل شيء ولا شتيمة حر " أي: ائت كل ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) مجمع الأمثال 3: 38، جمهرة الأمثال 2: 137، خزانة الأدب 2: 365 ديوان عمرو بن حمران الجعدي.

هذا، ومنهم من يقول: كل شيء ولا شتيمة حر؛ فيرفع الأول وينصب الثاني، كأنه قال: كل شيء أمم ولا تشتمنّ حرّا، أي: كل شيء قصد يحتمل: ولا تشتمنّ حرّا. وقد ذكر في هذا الباب أشياء فيها حذف لأنها أمثال، واعتمد على أنّ ترك الفعل فيها لأنها أمثال. فإن قال قائل: ما السبب الذي سوغ الحذف في الأمثال؟ قيل له: أصل الأمثال أن يتكلم الإنسان بحضرة قوم، وفي كلامه من الألفاظ ما يستطرفه بعضهم من الألفاظ فيعيد اللفظ المستطرف، فربما أعاد جملة الكلام، وربما كان على سبب لا يعيده ولا يذكره ولا يتم إلا بذلك السبب، ويقع فيه ضمير ليس في الكلام ما يعود إليه، لأنه المتمثّل استطرفه وتمثّله فلا حاجة به إلى ذكر ما حذف من الكلام لأن المتبقي هو المثل، فمن ذلك قول العرب: " كلاهما وتمرا "، أو " كليهما وتمرا "، وذلك في كلامهم أكثر من أن يحصى، ومما لم يذكره قولهم: " أسعد أم سعيد " (¬1)، وهو مبتدأ لم يذكر خبره، والمتمثل يذكره في غير سعد وسعيد في الشيء الذي يبدو ولا يدرى ما هو، فيقال: أسعد أم سعيد معناه: أخير أم شر، وكذلك قولهم: " لكن الأثلاث لحم لا يظلّل " (¬2)، وقد علمنا أن لكن لا يبتدأ به ولكن ابتدأه قائل هذا على كلام يجري فترك ذكر الكلام، وكذلك " ثكل أرأمها ولدا " في المثل ضمير ليس فيه ما يعود إليه، ومن العرب من يقول: ديار مية وسائر ما يجيء من ذكر الديار في هذا الموضع، كأنه يقول: تلك ديار مية، وقال الشاعر: اعتاد قلبك من سلمى عوائده … وهاج أهواءك المكنونة الطّلل ربع قواء أذاع المعصرات به … وكلّ حيران سار ماؤه خضل (¬3) كأنه أراد: ذاك ربع. قال أبو سعيد: ويجوز أن يكون جعل " ربع قواء " بدلا من الطلل، كأنه قال: أهواك ربع قواء، قال ومثله: ¬

_ (¬1) يقرب في العناية بذي الرحمة جمهرة الأمثال 1: 155. (¬2) قاله بيهس في قصة إخوته المقتولين الميداني 1: 268، 3: 146. (¬3) شرح شواهد المغني 2: 385، نسبهما ل (عمر بن أبي ربيعة)؛ الخصائص 1: 297، 3: 229.

هل تعرف اليوم رسم الدار والطّللا … كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا دار لمروة إذ أهلي وأهلهم … بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا (¬1) ويروى بالكامسية، كأنه قال: " تلك دار لمروة " وهو يقوّي التفسير في " ربع قواء " لأنه يحتمل البدل. (قال: فإذا رفعت فالذي في نفسك ما أظهرت، وإذا نصبت فالذي في نفسك غير ما أظهرت، يعني: أنك إذا رفعت فالذي حذفت هو الذي ظهر، لأن المحذوف مبتدأ وهذا خبره، والمبتدأ هو الخبر، وإذا نصبت فالذي أضمرت هو الفعل، وهو غير الاسم الظاهر). قال: (ومما ينتصب في هذا الباب على إضمار الفعل المتروك إظهاره: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ (¬2) و " وراءك أوسع لك "، و " حسبك خيرا لك "، إذا كنت تأمره). قال أبو سعيد " انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ (¬3). وما جرى مجراه فيه ثلاثة أقاويل للنحويين، ونظيره في القرآن: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ (¬4). قال سيبويه: (إنما نصبت خيرا وأوسع لك، لأنك إذا قلت: انته، فأنت تريد أن تخرجه من أمر وتدخله في آخر). وقال الخليل: كأنك تحمله على ذلك المعنى، كأنك حين قلت: انته وادخل فيما هو خير لك فنصبته لأنك قد عرفت أنك إذا قلت: " انته " أنك تحمله على أمر آخر، فلذلك انتصب، وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، ولعلم المخاطب أنه محمول على أمر حين قال: انته، فصار بدلا من قوله: ائت خيرا. ويقوي قوله الخليل وسيبويه أنك إذا أمرته بالانتهاء، فإنما تأمره بترك شيء، وتارك الشيء آت ضده، فكأنه أمره أن يكفّ عن الشر والباطل ويأتي الخير. ¬

_ (¬1) البيتان لعمر بن أبي ربيعة، الديوان: 320. (¬2) سورة النساء، الآية: 171. (¬3) سورة النساء، الآية: 171. (¬4) وليست بنصها في الكتاب الكريم، وتوجد لفظه: (خيرا) في آيتين من سورة آل عمران وهما وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ. (الآيتان 110، 180 من سورة آل عمران).

وقال الكسائي: معناه انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم، فأنكره الفراء وقال قولا قريبا فيه وفي أمثاله، فقال في قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. أنّ خيرا متصلا بالأمر، واستدل على ذلك أنّا نقول: اتق الله هو خير لك، تريد: الاتقاء خير لك، فإذا حذفنا " هو " الذي يرتفع به خير وصل الفعل إليه فنصبه. ويكشف قول الفراء أنا نقدر " خير " تقدير مصدر فعل الأمر الذي هو في الكلام، كأنه قال: انتهوا انتهاء خيرا لكم، وآمنوا إيمانا خيرا لكم، واتق الله اتقاء خيرا لك. قال: ولا يجوز أن تقول: " اتق الله محسنا " ونحن نريد أن: " اتق الله تكن محسنا "، ولا تقول: " انصرنا أخانا "، ونحن نريد: تكن أخانا، وهذا رد صحيح، وذكر أن هذا الحرف لم يأت إلا فيما كان على باب أفعل، نحو: خير لك. وأفعل وما أشبهه، وقول الخليل أقوى لأنه قد جاء هذا فيما ليس بمصدر، وهو قولهم: وراءك أوسع لك، وأوسع مكان. وأنشد سيبويه في نحو ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: فواعديه سرحتي مالك … أو الرّبا بينهما أسهلا (¬1) قدّر أنه: أراد: ائت أسهل، لأنه لما قال: واعديه، دلّ على أنها تقول: ائت مكان كذا وكذا. وأسهل على وجهين: أحدهما: مكانا سهلا ليس فيه رمل ليس بخشن، ونحو ذلك. والآخر: أن يكون أسهل مكانا يعنيه بين سرحتي مالك والربا. قال سيبويه: (فإنما ذكرت لك ذلك لأمثّل الأول به، لأنه قد كثر في كلامهم حتى صار بمنزلة المثل، فحذف كحذفهم: " ما رأيت كاليوم رجلا "). ¬

_ (¬1) بيت لعمر بن أبي ربيعة: ديوانه: 474، وروايته: وواعديه ... … أو الربى دونهما منزلا وفي رواية الأغاني: سلمي عديه ... … ... دونهما منزلا خزانة الأدب 1: 280، 2: 120.

قال أبو سعيد: يريد: أي ذكرت هذا المحذوف منه الفعل المذكور خيرا وهو من قولك: " هذا ولا زعماتك "، إلى الموضع الذي انتهينا إليه ليمثل باب إياك وما اتصل به، وقولهم: ما رأيت كاليوم رجلا، تقديره: ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلا. قال: ومثل ذلك قول القطامي: فكرّت تبتغيه فصادفته … على دمه ومصرعه السّباعا (¬1) ومثله أيضا: لن تراها ولو تأمّلت إلّا … ولها في مفارق الرّأس طيبا (¬2) وإنما نصب هذا لأنه حين قال: فصادفته، وقال: لن تراها فقد علم أنّ السباع والطّيب قد دخلا في الرؤية والمصادفة، وأنهما قد اشتملا على ما بعدهما في المعنى، ومثل ذلك قول عمرو بن قميئة: تذكّرت أرضا بها أهلها … أخوالها فيها وأعمامها لمّا رأت ساتيدما استعبرت … لله درّ- اليوم- من لامها (¬3) وقال: إن الأخوال والأعمام قد دخلوا في التذكر، قال: ومثل ذلك فيما زعم الخليل: إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني … ولو تغرّبت عنها أمّ عمّار (¬4) قال الخليل: لما قال: هيجني، عرف أنه قد كان تذكر لتذكره الحمام وتهيجه إياه، ¬

_ (¬1) البيت للقطامي: ديوانه 81، وروايته: فكرت بعد فيقتها إليه … فألقت عند مربضه السباعا الخصائص 2: 428 (بلا نسبة). (¬2) البيت ينسب لعبيد الله بن قيس الرقيات ملحق ديوانه 176؛ الخصائص 2: 431؛ شرح المفصل 1: 125؛ مغني اللبيب 1: 364؛ المقتضب 3: 284. (¬3) البيتان لعمرو بن قميئة: خزانة الأدب 2: 147، 4: 406؛ الخصائص 2: 429 (بلا نسبة)؛ معجم البلدان 3: 6 (ترجمة: ساتيدما). (¬4) البيت للنابغة الذبياني: ديوانه: 203؛ جمهرة أشعار العرب 189.

فألقى ذلك الذي عرف منه على أم عمار، كأنه قال: هيجني فذكرني أم عمار). قال أبو سعيد رحمه الله: وقد ردّ بعض هذه الأبيات أبو العباس المبرد، وذكر في قوله: في مفارق الرأس طيبا، وإضمار رأيت إنما هو محمول على تراها. قال: فلما لم يتم الكلام لم يحمل على معناه، وكذلك قوله: فكرّت تبتغيه فصادفته لم يتم ما قصده لأنه أراد: فصادفته على حال ما. فتمام الكلام المقصود ذكر الحال، فلم يجز أن يحمل النصب على إضمار معنى اللفظ الأول. وقد ردّ هذا الزجاج وذكر أن القصد في قوله: فصادفته، إنما هو إلى الولد؛ لأن الوحشية طلبت ولدها، فصادفته وصادفت على دمه السباع، فلما كان المعنى يدل على هذا واحتاج الشاعر إلى إيقاع المصادفة على الولد المطلوب، أضمر للسباع الفعل الذي دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فصادفته، صادفت السّباع على دمه ومصرعه، وقوله: " لن تراها ولو تأملت "، إنما يصفها بأن الطيب لا يفارقها، وقد علم ذلك من مقصده فجاز استغناؤه باللفظ الأول عن إعادة الفعل، فأضمر: إلا رأيت لها، وأنشد البيت الأول على ما يقع فيه خلاف، وهو: فكرّت تبتغيه فوافقته … على دمه ومصرعه السّباعا وأما ما ذكره أبو العباس من عطف الشيء على المعنى بعد تمام الأول، فله مواضع تختلف. ألا ترى أن قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬1). جمع على معنى (من)، ولم يتم الكلام، وكذلك: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً (¬2). أتت على المعنى، وللكلام في هذا مواضع أخر. (ومن الباب قول الخليل، وهو قول أبي عمرو (¬3): ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 42. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 31. (¬3) زبان بن العلاء بن عمار أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة خزاعي من مازن ولد بالحجاز سكن البصرة توفي 154 هـ. الفهرست 28، طبقات القراء 1: 288.

ألا رجل إمّا زيدا وإمّا عمرا. لأنه حين قال: ألا رجل فهو متمن شيئا ليسأله ويريده، فكأنه قال: اللهم اجعله زيدا أو عمرا، وإن شاء أظهره فيه، ومثله: قد سالم الحيات منه القدما … الأفعوان والشّجاع الشّجعما وذات قرنين ضموزا ضرزما) (¬1) قال أبو سعيد: ضموز: ساكنة، الضّرزم: المسنّة، وذلك أخبث الحيات، والأفعوان وما بعده حيات. والحيات الأولى مرفوعة، وإنما حمل الأفعوان على المعنى، وذلك أنه يصف رجلا بخشونة قدميه وصلابتهما، وأن الحيات لا يعملن فيهما وأنها قد سالمتها، وإذا سالمت الحيات القدم، فالقدم- أيضا- قد سالمت الحيات، فكأنه قال: سالمت القدم الأفعوان. وحكي عن الفراء أنه قال: القدما: بمعنى القدمان، وهي رفع وروى: " قد سالم الحيات- بكسر التاء- منه القدما ". (وحذف النون من القدمان، كما قال: هما خطتا إما إسار ومنّة) قال المفسر: ويروى: هما خطتا إما إسار ومنة وإذا روى كذلك فليس للفراء فيه حجة، لأنه قد أضاف خطتا إلى إسار ومنة، كأنه قال: هما خطّتا إسار ومنّة … وإما دم والقتل بالحرّ أجدر (¬2) ¬

_ (¬1) البيت للعجاج ديوانه: 89، خزانة الأدب 10: 240، 11: 411. (¬2) البيت لتأبط شرا: ديوانه 89؛ الخصائص 2: 407؛ خزانة الأدب 7: 499؛ مغني اللبيب 6: 501، 727.

وأنشد سيبويه لأوس: تواهق رجلاها يداها ورأسه … لها قتب خلف الحقيبة رادف (¬1) وكان وجه الكلام: تواهق رجلاها يديها. فحمله على المعنى لأنه إذا واهقت الرجلان اليدين، فقد واهقت اليدان الرجلين على مثل ما مر البيت الأول، وأنشد: ليبك يزيد ضارع لخصومة … ومختبط ممّا تطيح الطوائح (¬2) رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله، ثم جاء بالفاعل وهو ضارع، فرفعه؛ لأن الفعل الذي لم يسم فاعله يدل على أنّ له فاعلا، قال: ليبكه ضارع. ومن الناس من يروي: ليبك يزيد ضارع، فيجعل يزيد منصوبا، وضارع فاعل يبك على ما سمي فاعله، وذكر بعض أصحابنا أن الرواية هي الأولى وأن هذا تغيير النحويين. وقال: ومثل ليبك يزيد قراءة بعضهم وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (¬3). قال سيبويه: (رفع شركاؤهم على ما رفع عليه ضارع، كأنه قال: زينه شركاؤهم، وهي الشياطين الدعاة لهم إلى ذلك، وأنشد: وجدنا الصّالحين لهم جزاء … وجنّات وعينا سلسبيلا (¬4) لأن الوجدان مشتمل في المعنى على الجزاء. فحمل الآخر على المعنى، ولو نصب الجزاء كما نصب السباع لجاز). وإذا رفع الجزاء فهو مرفوع بالابتداء، ولهم: خبره، والجملة في موضع الحال من وجدنا. ¬

_ (¬1) البيت لأوس بن حجر: الديوان: 73، وروايته: تواهق رجلاها يديه؛ الخصائص 2: 427 (بلا نسبة)؛ شرح أبيات سيبويه 1: 182. (¬2) سبق تخريجه، وهو منسوب ل (نهشل بن حري بن حمزة النهشلي). (¬3) سورة الأنعام، الآية: 137. (¬4) ينسب إلى: عبد العزيز بن زرارة الكلابي: المقتضب 3: 284؛ شواهد القرطبي 3: 92.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي

ويحتمل أن يكون في موضع المفعول الثاني، ولكن كلام سيبويه وقوله: (ولأن الوجدان ...) دليل على أن وجدنا بمعنى أصبنا، وهو يتعدى إلى مفعول واحد، وقد دخل الجزاء وإن كان مبتدأ في معنى الوجدان، فأضمر وجدنا بعد ذلك، ونصب جنات لأنه في المعنى عطف على جزاء، كأنه قال: وجدنا لهم جنات، وإن نصبت جزاء فتقديره: وجدنا لهم جزاء وجنات، وقال الشاعر: أسقى الإله عدوات الوادي … وجوفه كلّ ملث غادي كلّ أجشّ حالك السّواد (¬1) رفع كلّ الأخير، ونصب الذي قبله لأنه حمله على سقاها كل أجش، لأن في قوله: أسقى الإله كل ملث غاد دليلا على سقاها كل أجش، لأنه إذا أسقاها الله السحاب، سقاها السحاب، وكل أجش من صفة السحاب، وهو شبيه ب " ليبك يزيد ضارع ". قال: (ولا يجوز أن تقول: ينتهي خيرا له، ولا انتهى خيرا له). وإنما يجوز هذا في الأمر، لأن الآمر إنما يسوق المأمور إلى أمر يحدثه، فله قوة في الإضمار وحكم ليس لغيره (وقد يجوز أن تقول: ألا رجل إما زيد وإما عمرو، كأنه قيل له: من هذا المتمنّى؟ فقال: زيد أو عمرو). هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي (وذلك قولك: أخذته بدرهم فصاعدا، وأخذته بدرهم فزائدا، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء لو قلت: أخذته بصاعد، كان قبيحا، لأنه صفة ولا يكون في موضع اسم، كأنه قال: أخذته بدرهم، فزاد الثمن صاعدا، ولا يجوز أن تقول: وصاعد لأنّك لا تريد أن تخبّر أنّ الدرهم مع صاعد ثمن لشيء كقولك: بدرهم وزيادة، ولكنّك أخبرت بأدنى الثمن فجعلته أولا ثم قروت شيئا بعد شيء لأثمان شتّى، فالواو لم ترد فيها هذا المعنى، ولم ¬

_ (¬1) الأبيات لرؤبة بن العجاج: ملحق ديوانه 173، الخصائص 2: 427.

تلزم الواو الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر. ألا ترى أنّك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو، لم يكن في هذا دليل أنّك مررت بعمرو بعد زيد. وصاعد بدل من زاد ويزيد. وثم بمنزلة الفاء، تقول: ثم صاعدا إلّا أنّ الفاء أكثر في كلامهم). قال أبو سعيد- رحمه الله-: أمّا قوله: أخذته بدرهم فصاعدا، كأنه متاع قد اشتري بأثمان مختلفة أدناها: درهم. فإذا قال: أخذت كلّ ثوب منها بدرهم فصاعدا، كان أدنى الثمن درهما، ثم يزيد عليه، فالتقدير: أخذت كلّ ثوب منها بدرهم، فزاد الثمن صاعدا، فصار بعضها بدرهم وقيراط، وبعضها بدرهم ودانق، وهذا معنى قوله: ثم قروت شيئا بعد شيء لأنه مأخوذ من: قروت الأرض، إذا أنبتّ قطعة منها بعد قطعة على جهة التتبّع لشيء فيها، ومنه قولهم: الاستقراء للكتب وللمعاني، واستقرأت الكتب والمعاني على جهة التتبع لها، والفكر فيها، ولا يحسن أن تقول: أخذته بدرهم فصاعد، من جهتين: إحداهما: أنّ صاعدا نعت، ولا يحسن أن تعطف على الدرهم إلّا المنعوت. والجهة الأخرى: أنّ الثمن لا يعطف بعضه على بعض بالفاء، لا تقول: أخذت الثوب بدرهم فدانق، ولا اشتريت الدار بمائة درهم فخمسة دراهم، لأن الثمن تقع جملته عوضا عن المبيع، فليس يتقدم بعضه على بعض، وإنما يعطف بالواو لأنها للجمع، تقول: اشتريته بمائة وخمسة، ونحو ذلك، وإنما هو على ما فسّرته لك، أنّك أخذت بعضه، ثم زاد الثمن في بعض، وتقديره: فزاد الثمن صاعدا، ينتصب على الحال، وبدرهم فزائدا، على تقدير: فصعد الثمن زائدا. وفرّع أصحابنا على هذا فقالوا: يجوز أن تقول: مررت بزيد وخالد، وبزيد وخالدا، عطفا على موضع الباء، فإن قلت: مررت بزيد وخالدا، وأنت تريد: وأكرمت خالدا، لم يجز لأنّ إخراجه عن الباء، ومعناها لا يجوز إلّا بدليل عليه أو ضرورة تقود إليه، ولا يحسن الواو في هذا لأنّ الأثمان المذكورة إنّما يتلو بعضها بعضا، والواو لا تدل على ترتيب الفعل، فلم تجز فيه إلّا الفاء وثمّ، وهما الدليلان على الترتيب، والفاء أكثر في كلام العرب لاتصالها بما قبلها، وثمّ فيها مهلة.

قال سيبويه: (ومما ينتصب في غير الأمر والنهي على الفعل المتروك إظهاره، قولك: يا عبد الله، والنداء كله. فأمّا: يا زيد، فله علّة ستراها في باب النداء إن شاء الله تعالى). قال أبو سعيد رحمه الله: المنصوب من المنادى، يقدّر نصبه بفعل ينوب عنه حرف النداء، وهو: يا، كأنه قال: أدعو عبد الله، وأنادي عبد الله، وأريد عبد الله، والمفرد هو المضموم مبني لعلة قد ذكرت، تعاد في باب النداء إن شاء الله تعالى. واستدلّ سيبويه على أنّ النداء على الفعل قولهم: يا إيّاك، إنما قلت: يا إياك، أعني. وهذا الذي ذكره سيبويه يقوّي ما ذكرناه؛ أنّ " إياك " مضاف لأنّا رأينا العرب إذا كنّوا عن المنادي قالوا: يا أنت، ويا إياك، فأنت: مفرد لم ينصب كما لم ينصب: يا زيد، وإيّاك: مضاف نصب كما نصب: يا عبد الله، أنشد أبو زيد: يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا … أنت الذي طلّقت عام جعتا حتّى إذا اصطبحت واغتبقتا … أقبلت معتادا لما تركتا قد أحسن الله وقد أسأتا (¬1) قال سيبويه: (ومن ذلك قول العرب: من أنت زيدا، وزعم يونس أنه على قوله: من أنت تذكر زيدا، ولكنّه كثر في كلامهم واستغنوا عن إظهاره بأنه قد علم أنّ زيدا ليس خبرا ولا مبنيا على مبتدإ، ولا بدّ من أن يكون على الفعل كأنه قال: من أنت معرّفا ذا الاسم، ولم يحمل زيدا على من ولا أنت، ولا يكون من أنت زيدا إلّا جوابا، كأنه قال: أنا زيد، قال: فمن أنت ذاكرا زيدا، وبعضهم يرفع، وذلك قليل، كأنه قال: من أنت كلامك أو ذكرك زيد. وإنّما قلّ لأنّ إعمالهم الفعل أحسن من أن يكون خبرا لمصدر ليس به، ولكنّه يجوز على سعة الكلام وصار كالمثل الجاري حتى إنهم يسألون الرجل عن غيره فيقول القائل منهم: من أنت زيدا، كأنه يكلم الذي يقول: أنا زيد، ¬

_ (¬1) الأبيات سبق تخريجها وهي منسوبة إلى الأحوص، وسالم بن دارة.

أي: أنت عندي بمنزلة زيد الذي قال: أنا زيد، فقيل له: من أنت زيدا كما تقول للرجل: " أطرّي فإنك ناعلة " و " أحمقي " أي أنت عندي بمنزلة التي يقال لها ذلك. سمعنا رجلا منهم يذكر رجلا فقال لرجل ساكت لم يذكر ذلك الرجل من أنت فلانا). قال أبو سعيد رحمه الله: أصل هذا أنّ رجلا غير معروف بفضل كأنه يسمّى بزيد، وكان زيد مشهورا بشجاعة وضرب من ضروب الفضل التي يذكر بها الرجل، فلما تسمّى الرجل المجهول بزيد الذي هو معروف بالفضل دفع عن ذلك وأنكر عليه، فقيل له: من أنت زيدا على جهة الإنكار، أي من أنت ذاكرا زيدا ومعرّفا هذا الاسم. وقد يجوز الرفع، والنصب أقوى، لأنك إذا رفعته تقديره: كلامك زيد، وذكرك زيد، على معنى: كلامك ذكر زيد، وكلامك اسم زيد؛ فيكون على سعة الكلام كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1). فكان النصب أحسن من أن تجعله خبرا لمصدر. وقد يجوز لمن ليس اسمه بزيد " من أنت زيدا " على المثل الجاري كما قالوا: " أطرّي فإنك ناعلة "، و " الصيف ضيّعت اللبن " (¬2)، و " أحمقي " فتخاطب الرجل بهذا وإن كان اللفظ للمؤنث؛ لأن أصل ما جرى به المثل التأنيث، وإنما يقال للذكر ذلك على معنى: أنت عندي بمنزلة التي يقال لها. أما وقد ذكرنا تفسير هذه الأمثال في موضع آخر، وقد يجوز أن تذكر غير زيد باسمه، كأنّ رجلا ذكر عمرا وذكر ملابسة بينه وبينه، أو سؤالا عنه، وكأنّ منزلة عمرو ترتفع عند بكر أن يسأل عنه مثل هذا الرجل السائل فقال له: من أنت عمرا، كأنّ في سؤاله عن عمرو ما يتشرّف به أو يكسب به حالا فيها فخر. يقال: من أنت سائلا عن ذلك أو مفتخرا به. وأمّا ما حكاه من قول القائل لرجل سأله لم يذكر ذلك الرجل: من أنت فلانا، فيجوز أن يكون على معنى التعريض بالرجل الذي ذكره أنه ليس بموضع أن يذكره. (ومن ذلك قول العرب: إمّا أنت منطلقا انطلقت معك، وإمّا زيد ذاهبا ذهبت معه، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 82. (¬2) يضرب مثلا للرجل يضيع الأمر ثم يريد استدراكه جمهرة الأمثال 1: 575، 324.

أبا خراشة إمّا أنت ذا نفر … فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع (¬1) فإنما هي (أن) ضمّت إليها (ما) للتوكيد، ولزمت كراهية أن يجحفوا بها لتكون عوضا من ذهاب الفعل كما كانت الهاء والألف في: الزنادقة واليماني، ومثل: إن في لزوم ما قولهم: إمّا لا، فألزموها ما عوضا. وهذا أحرى أن يلزموا فيه إذ كانوا يقولون: آثرا ما، فيلزمون " ما " شبّهوها بما يلزم من النونات في: لأفعلنّ، واللام في: إن كان ليفعل. فإن كان ليس مثل وإنما هو شاذّ كنحو ما شبّه بما ليس مثله، فلما كان قبيحا عندهم أن يذكروا الاسم بعد أن، ويبتدئونه بعدها، كقبح: " كي عبد الله يقول ذلك " حملوه على الفعل حتى صار كأنّهم قالوا: " إذ صرت منطلقا فأنا أنطلق معك "، لأنها في معنى: إذ، وإذ في معناها- أيضا- في هذا الموضع، إلا أنّ إذ لا يحذف معها الفعل، وإمّا لا يذكر بعدها الفعل لأنه من المضمر المتروك إظهاره حتى صار ساقطا بمنزلة تركهم ذلك في النداء، وفي " من أنت زيدا "، فإن أظهرت الفعل قلت: " إمّا كنت منطلقا انطلقت "، إنما تريد إن كنت منطلقا انطلقت. فحذف الفعل لا يجوز ههنا، كما لم يجز إظهاره؛ لأنّ " أمّا " كثرت في كلامهم واستعملت حتى صار كالمثل المستعمل، وليس كلّ حرف هكذا). قال أبو سعيد رحمه الله: أمّا أنت منطلقا، اختلف فيه الكوفيون والبصريون مع إجماعهم على حذف الفعل. فقال الكوفيون: هو بمعنى إن، وعندهم أنّ " أن " المفتوحة فيها معنى " إن " التي للمجازاة، وعلى ذلك يحملون: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (¬2). ويحتجون بأنها تقرأ: " إن تضلّ ". بكسر " إن " والمعنى عندهم سواء. وأما البصريّون: فالتقدير عندهم: " لأن كنت أنت منطلقا أنطلق معك "، أي: لهذا المعنى الذي كان منك في الماضي: أنطلق معك، ولذلك شبهها سيبويه ب " بإذ " وجعلهما ¬

_ (¬1) الخصائص 2: 383؛ خزانة الأدب 4: 13، 14، 17؛ 5: 445؛ 6: 532؛ 11: 62؛ مغني اللبيب 1: 221، 375؛ 5: 295؛ شرح شذور الذهب 237؛ الإنصاف 71. (¬2) سورة البقرة، الآية: 82.

كشيء واحد لاشتراكهما في المضيّ، وإذا ولى " أن " الفعل الماضي فهو ماض لا غير، كما إذا وليها المستقبل، فهو للاستقبال لا غير، لأجل أنّ الثاني استحقّ بالأول جاز دخول الفاء في الجواب في قوله: فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع وجعلوا لزوم " ما " عوضا من حذف الفعل، فلا يحسن ذكر الفعل بعدها لحصول الغرض. وكان المبرّد يجيز ذكر الفعل بعدها ويجعلها زائدة كزيادتها في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ * (¬1). وليس على ما قال دليل لأنّها زائدة في هذا الموضع، ثم لزمت عوضا ولم تستعمل إلا على ذلك، وحسن حذف الفعل لإحاطة العلم بأنّ " أن " هذه الخفيفة لا يقع بعدها الاسم مبتدأ، فكان ذلك بمنزلة فعل محذوف لحضور الدلالة عليه. وأمّا قوله كالعوض في: الزنادقة واليماني. فأصل الزنادقة: الزناديق، واليماني: يمنيّ، والألف في الزنادقة عوض من الياء، والألف في اليماني عوض من إحدى (ياءي) النسب، ونستقصي ذلك في غير هذا الموضع. ومثل " أن " في لزوم " ما " قولهم: " إمّا لي ". والأصل فيه: أن الرجل قد يمتنع من أشياء يلزمه أن يفعلها ويسومه إياها سائم فيمتنع منها، فيقنع منه بالبعض فيقال: " إمّا لي فافعل هذا " على معنى إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا، ثم زيدت " ما " كما تزاد في حروف الجر، ثم حذف الفعل لكثرة هذا في كلامهم، وصار " إمّا " مع " لا " كالشيء الواحد عندهم، فأجازوا فيها الإمالة، ولو انفردت " لا " لم تجز فيها الإمالة. وقولهم: " أثرا ما "، يلزمونه " ما " فلا يكادون يحذفونها منه، ومعناها في قولك: آثرا أن تفعل كذا في معنى: أثر، وهو يريد: أفعل هذا أول شيء، ويقولون: آثر ذي أثير، ومنه قوله: ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 155. سورة المائدة، الآية: 13.

فقالت ما تشاء، فقلت ألهو … إلى الإصباح آثر ذي أثير (¬1) أي أوّل ما يؤثر ويقدّم في الفعل. وقد ذكرنا لزوم النون في لأفعلنّ، واللام في إن كان ليفعل في موضعه، وسائر ما ذكر من المحذوفات. قال: وإن جئت بالفعل كسرت " إن " لأنك تريد إن كنت منطلقا انطلقت، ولا يمتنع عند المبرد وغيره إذا حذفت (ما) وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر فتقول: إن كنت منطلقا وأن كنت منطلقا انطلقت، وقال: إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا … فالله يكلأ ما تأتي وما تذر (¬2) كسرت هذا لحضور الفعل، وهو الأجود، ولا يمتنع عند أبي العباس وغيره إذا حذفت " ما " وأتيت بالفعل أن تفتح وتكسر، فتقول: إن كنت منطلقا، وأن كنت منطلقا، فإن كسرت فهو المعنى الظاهر في الشرط، وإن فتحت فالمعنى: لأن كنت منطلقا، أي: لانطلاقك، وقد ذكرنا " أن " و " إن " في موضعهما. قال: ومن ذلك قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، وإن تأتني فأهل الليل وأهل النهار. وتقدير الناصب فيه: أتيت مرحبا وأهلا، وإن تأتني فتأتي أهل الليل وأهل النهار على معنى: أنّك تأتي من يكون لك كالأهل بالليل والنهار، وقد قدره سيبويه، كأنه صار بدلا من قولك: رحبت بلادك، وأهلت. وهذا التقدير إنما قدّر بالفعل لأن الدعاء إنما يكون بفعل، فردّه إلى فعل من لفظ الشيء المدعوّ به، كما يقدّرون: تربا وجندلا بتربت وجندلت. وإنما الناصب له: أصبت تربا وجندلا، وألزمت تربا وجندلا على معنى ما تحسن به العبارة عن ¬

_ (¬1) البيت لعروة بن الورد: ديوانه 11؛ الأغاني 3: 77؛ الخصائص 2: 435. (¬2) بدون نسبة، خزانة الأدب 4: 19، 20، 21؛ مغني اللبيب 1: 221؛ اللسان (أما) وروايته: إما أقمت وأما أنت ذا سفر … فالله يحفظ مما تأتي وما تذر

المعنى المقصود، وهذا إنما يستعمل فيما لا يستعمل الفعل فيه، ولا يحسن إلا في موضع الدعاء به. ألا ترى أن الإنسان الزائر إذا قال له المزور: مرحبا وأهلا، فليس يريد رحبت بلادك وأهلت. إنما يريد: أصبت رحبا وسعة وأنسا. لأنّ الإنسان إنما يأنس بأهله، ومن يألفه. (وقد مثله الخليل أنه بمنزلة رجل رأيته قد سدّد سهما فقلت القرطاس، أي: أصاب القرطاس، أي: أنت عندي ممّن سيصيبه، وإن أثبت سهمه قلت: القرطاس أي: قد استحق وقوعه بالقرطاس. قال: وإذا رأيت رجلا قاصدا إلى مكان أو طالبا أمرا فقلت: مرحبا وأهلا وسهلا، أي: أدركت ذلك وأصبت، فحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه). قال: ويقول الرّادّ: وبك أهلا وسهلا، وبك وأهلا، فإذا قال: وبك وأهلا فكأنه قد لفظ بمرحبا بك وأهلا وسهلا. (وإذا قال: وبك أهلا فهو يقول: لك الأهل، أي: عندك الرّحب والسّعة، فإذا رددت فإنّما تقول: أنت عندي بمنزلة من يقال له: هذا لو جئتني وإنما جئت ب " بك " لتبيّن من تعني بعد ما قلت: مرحبا كما قلت: لك بعد سقيا). قال أبو سعيد: هذا الكلام تقديره أن يقوله الرجل الذي يدخل إذا قال له المدخول عليه: مرحبا وأهلا، فيردّ فيقول: وبك وأهلا كأنه قال: وبك مرحبا وأهلا، وإنما هذه تحية المزور ومن يدخل عليه، يحيي بها الزائر المزور على معنى أنك أصبت عندي سعة وأنسا. وإذا قال الزائر: وبك أهلا، والحال لا تقتضي من الزائر أن يصادف المزور عنده ذلك فيحمل على معنى: أنك لو جئتني لكنت بهذه المنزلة، وإذا قال: وبك أهلا، فإنما اقتصر في الدعاء له على معنى الأهل فقط من غير أن يعطفه على شيء قبله، كأنّ الرّحب والسّعة قد استقرا استقرارا يغنيه عن الدّعاء، وأمّا مجيئه ب " بك "، فللبيان أنه المعنيّ به لا لأنّه المتصل بالفعل المقدّر كما كان قولك: " سقيا لك "، تقديره: سقاك الله سقيا ولك، كأنّه قال: هذا الدعاء لك على تقدير آخر غير تقدير سقاك الله. قال: (ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر).

هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه في قولك:" امرأ ونفسه"

يعني منهم من يقول: مرحب وأهل، أي: هذا مرحب أو لك مرحب وأهل، قال الشاعر: وبالسّهب ميمون النقيبة قوله … لملتمس المعروف أهل ومرحب (¬1) أي: هذا أهل ومرحب، وقال آخر: إذا جئت بوّابا له قال مرحبا … ألا مرحب واديك غير مضيّق (¬2) ثم ذكر الإضمار والإظهار على ثلاثة مجار منها: فعل مظهر لا يحسن إضماره، وهو أن تقول: اضرب زيدا أو أكرم زيدا، لا يحسن إضمار هذا الفعل إذ لم تجد ما يدلّ عليه، لأنك إذا قلت: زيدا ولم تقدّم قبله فعلا لم تدر أيريد أكرم زيدا أم أهن زيدا أم غير ذلك. وفعل يجوز إضماره وإظهاره كقولك: زيدا لرجل كان في ذكر ضرب، تريد: اضرب زيدا، يجوز أن تحذف اضرب اكتفاء بما جرى من ذكر الضرب، ويجوز أن تذكره. ومنها فعل يضمر وقد ترك إظهاره وهو من الباب الذي ذكر فيه إياك إلى الباب الذي آخره ذكر مرحبا، وهو الباب الذي نحن فيه، وقد تقدم الكلام على ذلك. هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به كما انتصب نفسه في قولك: " امرأ ونفسه " (وذلك قولك: ما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، إنما أردت ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها، فالفصيل مفعول معه، والأب كذلك، والواو لم تغيّر معنى ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها، ومثل ذلك: ما زلت وزيدا، أي: ما زلت بزيد حتى فعل، فهو مفعول به. وما زلت أسير والنيل، أي: مع النيل. ¬

_ (¬1) البيت لطفيل الغنوي: شرح المفصل 2: 29؛ المقتضب 3: 219. (¬2) البيت ينسب لأبي الأسود الدؤلي: ديوانه: 65؛ شرح أبيات سيبويه 1: 72؛ المقتضب 3: 219.

واستوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة، أي: مع الطيالسة، قال الشاعر: كونوا أنتم وبني أبيكم … مكان الكليتين من الطّحال (¬1) وقال آخر: وكان وإيّاها كحرّان لم يفق … عن الماء إذا لاقاه حتّى تقدّدا (¬2) ويدلك على أن الاسم ليس على الفعل في صنعت أنك لو قلت: اقعد وأخوك. كان قبيحا حتى تقول: اقعد أنت وأخوك؛ لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر، فإذا قلت: ما صنعت أنت، ولو تركت هي فأنت بالخيار، إن شئت حملت الآخر على ما حملت عليه الأول، وإن شئت حملته على المعنى الأول). قال أبو سعيد- رحمه الله-: هذا آخر الباب وهو كلام سيبويه- رحمه الله-، ومذهبه أنك إذا قلت: ما صنعت وأباك، أن الأب منصوب بصنعت، وكذلك فصيلها منصوب بتركت، وكان الأصل فيها ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها، ومعنى مع الواو يتقاربان لأنّ معنى " مع ": الاجتماع والانضمام، والواو تجمع ما قبلها مع ما بعدها وتضمه إليه، فأقاموا الواو مقام " مع " لأنها أخفّ في اللفظ، والواو حرف لا يقع عليه الفعل ولا يعمل في موضعه، فجعلوا الإعراب الذي كان في " مع " من النصب في الاسم الذي بعد الواو لمّا لم تكن الواو معربة ولا في موضع معرب، كما قالوا: ما قام أحد إلّا زيد، وقام القوم إلّا زيدا، فإذا جئت ب " غير " أعربتها بإعراب الاسم الذي يقع بعد " إلّا "، فقلت: ما قام أحد غير زيد، وجاءني القوم غير زيد، فإذا جعلوا " إلّا " مكان " غير " تجاوز الإعراب الذي كان في " غير " إلى ما بعد " إلّا "، لأنّها حرف غير عامل، وكذلك الكلام في ما زلت وزيدا إذا كان الحرف الذي يتصل بالفعل عاملا في الاسم الذي بعده منع من تجاوز الفعل إلى غيره كقولك: ما زلت بزيد، فتعمل الباء في زيد، والباء في موضع نصب، فإذا قلت: ما زلت ¬

_ (¬1) البيت في نوادر أبي زيد ينسب ل: شعبة بني قمير: 141؛ شرح المفصل 2: 48؛ وروايته: (وكونوا)؛ شرح قطر الندى 233؛ شرح أبيات سيبويه 285. (¬2) البيت ينسب لكعب بن جعيل بن قمير التغلبي؛ شرح أبيات سيبويه 1: 286؛ الجمل للزجاجي 317.

وزيدا، تجاوز النصب الذي كان يقدّر في الباء إلى ما بعد الواو. وكان الزجّاج يقول: إنّا إذا قلنا: ما صنعت وأباك؛ أنّا ننصب بإضمار، كأنه قال: ما صنعت ولا بست أباك. وزعم أنّ ذلك من أجل أنه لا يعمل الفعل في المفعول وبينهما الواو. وهذا قول فاسد، لأنّ الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتصل به المفعول، فإن كان لا يحتاج في عمله فيه إلى وسيط فلا معنى لدخول حرف بينهما، وإن كان يحتاج إلى وسيط في عمله فيه، عمل مع توسّط الوسيط ووجوده، ألا ترى أنّا نقول: ضربت زيدا وعمرا، فتنصب عمرا بضربت، كما تنصب زيدا بضربت، لأن المعنى الذي يوجب الشركة بين عمرو وزيد في ضربت، هو: الواو فجئت بها ولم تمنع من وقوع ضربت على ما بعدها. ومنه أيضا: أنك تقول: ما ضربت إلّا زيدا، فتنصب زيدا بضربت، وإن كان بينهما " إلّا " للمعنى الذي يوجب ذلك في اتصال هذا المفعول به، وإنما يذهب بالواو إلى معنى " مع " إذا كان فيه معنى غير العطف المحض، والعطف المحض أن يوجب لكل واحد من الاسمين الفعل الذي ذكر له من غير أن يتعلق فعل أحدهما بالآخر، كقولك: قام زيد وعمرو إذا أردت أن كل واحد منهما قام قياما لا يتعلق بالآخر. وكذلك: ما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى؛ كان صنع كلّ واحد لا يتعلق بالآخر، وما صنع زيد وعمرو إذا أردت هذا المعنى، فإن أردت ما صنع زيد مع عمرو على معنى: إلى أي شيء انتهيا فيما بينهما من خصومة أو مواصلة أو غير ذلك، جاز أن تنصب، وقد اجتمع في قولك: " ما صنعت وأباك " قبح الرفع في الأب لأنك تعطفه على التاء من غير توكيد، وحمل ما بعد الواو على معنى " مع " لما يقتضيه المعنى إذا أكدت التاء كنت مخيرا في رفع الأب وفي نصبه، فقلت: ما صنعت أنت وأبوك، وإن شئت " وأباك ". فمن رفع فلزوال قبح اللفظ لأن كلّ واحد منهما صانع بالآخر شيئا وملابس له على ضرب من الملابسة، وإن نصبت فعلى إبانة معنى " مع " وأنّ صنيع الأول ملتبس بالآخر.

هذا باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول

هذا باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول إلّا أنها تعطف الاسم ههنا على ما لا يكون ما بعده إلا رفعا على كلّ حال. (وذلك قولك: أنت وشأنك، وكلّ رجل وضيعته، وما أنت وعبد الله، وكيف أنت وقصعة من ثريد، وما شأنك وشأن زيد، وقال الشاعر: يا زبرقان أخا بني خلف … ما أنت ويل أبيك والفخر (¬1) وقال الآخر: وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا … تهام وما النجديّ والمتغوّر (¬2) وقال آخر: وكنت هناك أنت كريم قيس … فما القيسيّ بعدك والفخار) (¬3) قال أبو سعيد: هذا الباب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول؛ لأنهما بمعنى " مع " إلّا أنّ الباب الأول في أوله فعل يعمل فيما بعد الواو على الترتيب الذي ذكرته، وهذا الباب فيه اسم معطوف على اسم بالواو التي معناها: " مع "، فيعطف ما بعد الواو على ما قبلها لفظا، والمعنى فيه الملابسة. فإن قال قائل: نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو، ودخل الثاني فيما دخل فيه الأول اشتركا في المعنى، وكانت الواو بمعنى مع لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه كقولنا: قام زيد وعمرو، فكيف اختصصتم هذا الباب وما قبله بمعنى " مع "؟ قيل له: نحن متى عطفنا شيئا على شيء بالواو دخل في معناه، ولم يكن بين المعطوف والمعطوف عليه فرق في وقوع ذلك المعنى لكل واحد منهما، وليس أحدهما ملابسا للآخر، وإذا قلنا: ما صنعت؟ أو قلنا في الباب الثاني: ما أنت والفخر؟! فإنما يراد: ما صنعت مع أبيك، وأين بلغت فيما فعلته به، أو فعله بك. ¬

_ (¬1) البيت للمخبل، وهو: ربيع بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة، يهجو ابن عمه: خزانة الأدب 6: 91، 92، 95؛ المؤتلف والمختلف: 179؛ شرح أبيات سيبويه 1: 239 (¬2) البيت لجميل بثينة: ديوانه: 91؛ خزانة الأدب 3: 144. (¬3) لم يعرف له قائل: شرح المفصل 2: 52؛ شرح أبيات سيبويه 1: 286.

وما أنت مع الفخر في افتخارك وتحقّقك به؛ فالمعنيان مختلفان غير أن اللفظ في قولك: ما أنت والفخر، كقولك: أنت وزيد قائمان، أو أنت وزيد في الدار، والمعنى ما ذكرت لك. وبهذا فرّق سيبويه بين هذا الباب والذي قبله، ويدلك على صحة المعنى الذي ذكرته أن قائلا لو قال: زيد وعمرو وهو يريد: زيد وعمرو قائمان أو خارجان أو ما أشبهه، لم يجز حذف الخبر لأنه بمنزلة قولك: زيد معرّى من الخير، ويجوز أن تقول: أنت وشأنك، وكلّ رجل وضيعته، وكل امرئ وصنعته. فيكتفون بذلك، لأن معنى الواو معنى " مع "، كأنهم قالوا: كل رجل مع ضيعته، وأنت مع شأنك، وهذا كلام مكتف. فإذا قالوا: أنت وشأنك، اكتفوا بهذا اللفظ وأضمروا الخبر، وتقديره: أنت وشأنك مقرونان، لأن معنى " الواو " إذا ذهب بها مذهب " مع " قد دلّت على مقرونين، ومما يذهب به مذهب الملابسة: أنت أعلم وعبد الله، وأنت أعلم ومالك، معناه: أنت أعلم مع مالك فيما تدبره به، وأنت أعلم " مع " عبد الله فيما تعامله به، وإن شئت أن لا تذهب به هذا المذهب فيما يصح منه العلم جاز أن تقول: أنت وعبد الله أعلم، أي: أنتما أعلم من غيركما، كما تقول: أنت وعبد الله أفضل، وأحدهما غير ملابس للآخر، ولا يجوز أن تقول: كلّ امرئ وضيعته، ولا أنت وشأنك، فتنصب الثاني كما كنت تنصب " مع " لو حضرت " مع "، لأنّ " مع " إذا حضرت فمذهبها مذهب الظرف، تقول: زيد مع عمرو، كما تقول: زيد خلف عمرو، والناصب استقر وإضماره جائز مع الظروف، فإذا جعلت الواو مكان " مع " والذي بعدها اسم، لم يتخطّ الاستقرار إليه ولا يعمل فيه كما عمل الفعل فيه في قولك: ما صنعت وزيدا. وقد حكى سيبويه النصب في حرفين، قالوا: ما أنت وعبد الله، وما أنت وعبد الله، وكيف أنت وعبد الله وعبد الله. فإذا رفع فبالعطف على أنت، وإذا نصب بإضمار كنت أو تكون، فيكون تقديره:

كيف كنت أنت وعبد الله، وكيف تكون أنت وعبد الله، وما كنت أنت وعبد الله وما تكون أنت وعبد الله، على ما ذكر في جواز النصب في الباب قبله. وقد ردّ عليه المبرد لفظه في تقدير الناصب في كيف، وما، وذلك أن سيبويه قدر فقال: كيف تكون أنت وقصعة من ثريد، وما كنت أنت وزيدا. فقال المبرد: ولم جعل " كيف " مختصة بتكون و " ما " مختصة بكنت؟ قال أبو سعيد رحمه الله: لم يذهب سيبويه إلى اختصاص " كيف " بالمستقبل، و " ما " بالماضي وإنما أراد التمثيل على الوجه الذي يمكن أن يمثّل به، وبيّن هذا بقوله: كأنه قال: والتمثيل ليس بحدّ لا يتجاوز، وإنما جاز عنده في " كيف " و " ما " في لغة من حكى عنه ذلك، وهم ناس من العرب، لأنّ كنت وتكون يقعان ههنا كثيرا، وما كثر في الكلام حذف تخفيفا، كأنه قد نطق به. واستدلّ سيبويه في أنّ قولهم: ما أنت والفخر ونحوه، بمنزلة العطف الصحيح فيما يعطف أحد الاسمين فيه على الآخر، بأنّ العرب قد تقول: ما أنت، وما زيد، وهم يريدون معنى: " مع "، قال: تكلّفني سويق الكرم جرم … وما جرم وما ذاك السّويق (¬1) يهجو جرما بذلك ويستكثر لها شرب الخمر. يقول بعد هذا البيت: وما عرفته جرم وهو حلّ … وما غالى بها إذ قام سوق فلمّا أنزل التّحريم فيها … إذا الجرميّ منها ما يفيق (¬2) يريد: أنه لم يكن محل جرم أن تعرف الخمر في الجاهلية ولا تشربها، وإنما ذكر عرفته لأنه رده إلى لفظ السّويق في " سويق الكرم " هو: الخمر. سماها: سويق الكرم لانسياقها في الحلق، وكذا أصل السّويق سمّي سويقا لذلك، لأنه يشرب ولا يؤكل، ومثله في إعادة " ما " في الثاني: قول علقمة بن عبدة: ¬

_ (¬1) لسان العرب وتاج العروس (سوق). (¬2) البيت لزياد الأعجم: ديوانه: 86؛ شرح أبيات سيبويه 1: 307؛ الشعر والشعراء 1: 440.

وما القلب أم ما ذكره ربعيّة … يخطّ لها من ثرمداء قليب (¬1) إلا أنّ العطف في هذا البيت ب " أم "، وأدغمت ميم " أم " في " ما "، وأنشد قول شدّاد أبي عنترة العبسي: فمن يك سائلا عنّي فإنّي … وجروة لا ترود ولا تعار (¬2) أراد " مع " جروة، وإنما هذا كقولك: كلّ رجل وضيعته، إذا أدخلت عليه " إنّ " نصبتهما جميعا، وكان الثاني لتضمنه معنى مع يغني عن ذكر الخبر. كقول العرب: " إنك ما وخيرا ". تريد: إنك " مع " خير، و " ما ": زائدة، والخبر: محذوف. وقد مرّ هذا فيما تقدم وأنشد سيبويه لبعض الهذليين عن إنشاد بعض العرب في إضماره الفعل بعد " ما ": فما أنا والسّير في متلف … يبرّح بالذكر الضّابط (¬3) كأنه قال: ما كنت. ومثله في إضمار الفعل قول الراعي: أزمان قومي والجماعة كالذي … لزم الرحالة أن تميل مميلا (¬4) أراد: أزمان كان قومي مع الجماعة، وحذف: كان، لأنهم يستعملونها كثيرا في مثل هذا الموضع ولا لبس فيه، ولا يغير معنى. وإذا قلت: أنت وشأنك، فلا يجوز في الثاني غير الرفع؛ لأن العرب لا تضمر في مثل هذا، ولا يجوز الإضمار فيه. ¬

_ (¬1) تاج العروس (ثرمد) وفيه منسوب إلى: (علقمة الفحل)؛ معجم البلدان 1: 933. (¬2) البيت لشداد بن معاوية (والد عنترة) كما ورد في الأغاني 17: 207؛ الصاحبي في فقه اللغة: 220. (¬3) البيت لأسامة بن حبيب الهذلي: شرح أشعار الهذليين 3: 1289؛ شرح المفصل 2: 52؛ المقاصد النحوية 3: 93؛ شرح الأشموني 2: 224؛ همع الهوامع 3: 93؛ شرح أبيات سيبويه 1: 128. (¬4) البيت للراعي النميري، خزانة الأدب 3: 145، 148.

وقوله: أنت وشأنك. إنما يريد به الحال، فإن حملته على فعل فإنما تحمله على شيء ماض أو مستقبل لم يدلّ عليه دليل. ومما أنشده عن أبي الخطاب عن بعض العرب من النصب في " ما ": أتوعدني بقومك يا بن حجل … أشابات يخالون العبادا بما جمّعت من حضن وعمرو … وما حضن وعمرو والجيادا (¬1) على معنى: وما كان حضن. وأنشد سيبويه ما قوّى به ما ذكره من أنّه يعطف على شيء يقدر وإن لم يلفظ به، وشيء يعطف على ما كان يجوز استعماله في موضع المعطوف عليه، قول صرمة الأنصاري: بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى … ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (¬2) وقال الأخوص اليربوعيّ: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة … ولا ناعب إلّا ببين غرابها (¬3) وإنما خفض سابق وناعب وليس قبلهما مخفوض، لأنه يجوز أن تقول: لست بمدرك ما مضى، وليسوا بمصلحين، فتقع الباء فيهما ويكثر في موضعهما من خبر ليس الباء، فحملها في الخفض على ما كان يستعمل، ومثل ذلك قول عامر الطائيّ: فلم أر مثلها خباسة واحد … ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (¬4) أراد: كدت أن أفعله، فحذف أن ضرورة، وغير سيبويه يقول: ¬

_ (¬1) البيت لشقيق بن جزء: هارون 1: 304؛ تاج العروس (حضن). (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى، ديوانه: 287؛ خزانة الأدب 8: 492، 496، 552؛ 9: 100، 102، 104؛ شرح شواهد المغني 1: 282؛ شرح المفصل 2: 52، 7: 56؛ الخصائص 2: 353، 424؛ الأشباه والنظائر 2: 347. (¬3) شرح المفصل 2: 52، 5: 68، 7: 57؛ مغني اللبيب 2: 174، 5: 487؛ خزانة الأدب 2: 140، 4: 158، 160، 164؛ الخصائص 2: 356. (¬4) ينسب إلى: عامر بن جوين الطائي، ملحق ديوان امرئ القيس 471؛ الأغاني 9: 95.

هذا باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوله

إنهم أرادوا بعد ما كدت أفعلها، والعرب قد تحذف في الوقف الألف التي بعد الهاء في المؤنث وتلقي فتحة الهاء على ما قبلها. ويروى في مثل هذا: أن بعض العرب قتل رجلا يقال له: مرقمة، وقد سامه وآخر، أن يبتلعا جردان الحمار في خبر طويل، فامتنعا فقتل مرقمة، فقال الآخر: " طاح مرقمة ": فقال القائل: وأنت إن لم تلقمه، يريد تلقمها، فحذف الألف وألقى حركة الهاء على الميم، وهذا يخرّج في مذهب البصريين على طرح النون الخفيفة، كأنه قال: تلقمنه، فحذف النون وبقيت الميم مفتوحة كما قال: اضرب عنك الهموم طارقها … ضربك بالسّوط قونس الفرس (¬1) أراد: اضربن عنك الهموم، وحذف النون. هذا باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوله (وذلك قولك: مالك وزيدا وما شأنك وعمرا). وإنّما نصبوا عمرا لأن عمرا هو شريك الكاف في المعنى ولم يصح العطف عليه، لأن الكاف ضمير مخفوض، ولا يجوز عطف الظّاهر المخفوض على المكنيّ، ولم يصلح أيضا رفعه؛ لأنك لو رفعته كنت عاطفا له على الشأن، وليس عمرو بشريك للشأن ولا أردت أن تجمع بينهما فحمل الكلام على المعنى، فجعل ما شأنك ومالك بمنزلة ما تصنع فصار كأنك قلت ما صنعت وزيدا، (قال الشاعر: فما لك والتلدّد حول نجد … وقد غصّت تهامة بالرّجال (¬2) وقال الآخر: فما لكم والفرط لا تقربونه … وقد خلته أدنى مردّ لعاقل) (¬3) ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت لمسكين الدارمي: ديوانه 66 ورواية الديوان: أتوعدني وأنت بذات عرق … وقد غصت تهامة بالرجال خزانة الأدب 3: 142. (¬3) البيت ينسب إلى: عبد مناف بن ربع الجربيّ الهذلي. شرح أشعار الهذليين 2: 686.

واستدل سيبويه (على أنه لا يحسن عطف عمرو على الشأن بأنك لو قلت: ما شأنك وما عبد الله، لم يكن كحسن " ما جرم وما ذاك السويق " لأنّك توهم أنّ الشأن هو الذي يلتبس بزيد، ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يسبق إلى أفئدتهم). وإذا أضفت الشأن إلى ظاهر حسن الكلام كقولك ما شأن عبد الله وأخيه، وما شأن زيد وأمة الله يشتمها، ويكون يشتمها في موضع نصب على الحال، فإن شئت جعلته حالا من الأوّل وإن شئت جعلته حالا من الثاني. وقد سمع من العرب: " ما شأن قيس والبرّ تسرقه " أراد بقيس القبيلة. وقد مثّل سيبويه ما شأنك وملابسة زيدا وملابستك زيدا، ولا يخرج ذلك عن معنى ما صنعت وزيدا، وما تصنع وزيدا؛ لأنّ ذلك ملابسة، وكيف ما عبّر عنه إذا أدّى المعنى جاز، ولو نصب مع الظاهر جاز، فقال: ما شأن عبد الله وزيدا، لأنّ الملابسة مع الظاهر كالملابسة مع المكنيّ في المعنى، ومن نصب قال: ما لزيد وأخاه، كأنه قال: ما كان شأن زيد وأخاه، ومن ثمّ قالوا: حسبك وزيدا، لأنّ معناه: كفاك، كأنّه قال: كفاك وزيدا وكأنّه قال: حسبك وبحسب زيدا درهم، وكذلك: كفيك وقطك في معنى حسبك، تقول: قطك وزيدا درهم، وكفيك وزيدا درهم، قال الشّاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا … فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد «*» كأنه قال: يكفيك ويكفي الضّحّاك. قال: وأما ويلا له وزيدا، وويله وأباه فالنّصب على معنى الفعل الذي نصبه، وعنده أنّ الفعل الذي نصبه كأنّه قال: ألزمه الله ويلا، فعطف زيدا والأب على ذلك المعنى، كأنه قال: وألزم زيدا وألزم أباه، وكذلك لو رفع ويلا فقال: ويل له وأباه، لأنّ معناه وإن كان رفعا معنى الفعل، كما أن حسبك وزيدا معناه معنى يكفيك، ومعنى ويل له كمعنى ويله إذا نصبت فتقديره الزم موجود. ¬

_ (*) البيت في ذيل الأمالي: لجرير 140، وليس في ديوانه. خزانة الأدب 7: 581 (بلا نسبة)؛ شرح شواهد الإيضاح 374؛ شرح شواهد المغني 2: 900.

هذا باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره

قال: ولا يجوز أن تقول: هذا لك وأباك، لأنه لم يتقدم استفهام ولا فعل ولا حرف فيه معنى فعل، وإنّما يجرّ هذا في ضرورة الشّعر، لأن الذي يقول: مررت بك وزيدا لا يقول: هذا لك وزيدا؛ لأن الفعل عامل قويّ ظهر وموضع حرف الجرّ نصب فيحمل الثّاني في النّصب على معنى الفعل كأنّه قال: لقيتك وأباك، ولا يقال: هذا لك وأباك، لأنّه لا فعل ههنا. هذا باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره (وذلك قولك: سقيا لك، ورعيا وخيبة لك، ودفرا، وجدعا، وعقرا، وبؤسا، وأفّة، وتفّة، وبعدا، وسحقا، ومن ذلك أيضا قولك: تعسا، وتبّا، وجوعا، ونوعا)، وذكر سيبويه جودا وجوسا في معنى: جوعا ومعنى نوعا: عطشا، وفي الناس من يقول: هو إتباع، قال الشاعر: " والأسل النّياعا "، (¬1) أي: العطاشا، ونحو قول ابن ميادة: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي … بجارية بهرا لهم بعدها بهرا (¬2) ومعنى بهرا: قهرا، أي: قهروا قهرا، وغلبوا غلبا، كقولك: بهرني الشيء، ومنه القمر الباهر إذا تم ضوءه وغلب، كأنك قلت: سقاك الله سقيا، ورعاك رعيا، وخيبك الله خيبة، فهذا وما أشبهه ينتصب على الفعل المضمر، وجعلوا المصدر بدلا من اللفظ بذلك الفعل، ومعنى قولنا: بدل من ذلك الفعل أنهم استغنوا بذكره عن إظهاره كما قالوا: الحذر الحذر أي: احذر الحذر، ولم يذكروا احذر، وبعض هذه المصادر لا يستعمل الفعل المأخوذ منه، وبعض يستعمل، فمما لم يستعمل قولهم: بهرا كأنك قلت: بهرك الله إذا دعا عليه، وهذا ¬

_ (¬1) قائله القطامي: لعمر بن شهاب ما أقاموا … صدور الخيل والأسل النياعا ملحق ديوان القطامي 214، أدب مكاتب 47. (¬2) البيت لابن ميادة: ديوانه: 135؛ أساس البلاغة (بهر)؛ الأغاني 2: 237، الإنصاف 1: 241 واللسان (فقد)؛ المقاصد النحوية 1: 524؛ وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1: 267؛ وليزيد بن مفرغ في ملحق ديوانه 243.

تمثيل ولا يتكلم به، وكذلك لا يتكلم بالفعل من جوسا وجودا في معنى: جوعا. قال سيبويه: (ومما يدلّك أيضا أنه على الفعل نصب أنك لم تذكر شيئا من هذه المصادر لتبني عليه كلامك، كما تبني على عبد الله إذا ابتدأته، وأنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر في نيتك، ولكنه في دعائك له أو عليه). يعني: أن هذه المصادر لم يذكرها الذاكر ليخبر عنها بشيء كما يخبر عن زيد إذا قال: زيد قائم، أو عبد الله قائم، وهذا معنى قوله: لتبني عليه كلامك كما تبني على عبد الله، يعني: تبني عليه خبرا، ولم تجعل هذه المصادر أيضا خبرا لابتداء محذوف فترفعها، وهذا معنى قوله: إنك لم تجعله مبنيا على اسم مضمر يعني: خبرا لاسم مضمر وإنما هو دعاء منك لإنسان كقولك: سقيا ورعيا، أو دعاء عليه كقولك: تعسا وتبّا وجدعا، وتركوا الفعل استغناء بعلم المخاطب، وربما جاءوا به توكيدا فقالوا: سقاك الله سقيا كما أكدوا قولك: مرحبا بقولهم: بك، ولو قالوا: مرحبا لكان المعنى مفهوما، وربما رفعوا ذلك والمعنى واحد، كما يقول: سلام عليكم وإنما تريد معنى سلّم الله عليك، ولكنه يخرجه فخرج ما قد ثبت. (وقال أبو زبيد يصف أسدا: أقام وأقوى ذات يوم وخيبة … لأوّل من يلقى وشرّ ميسّر) (¬1) أراد: أقام الأسد وأقوى: لم يأكل شيئا، الإقواء: فناء الزاد وعدم الأكل، وخيبة لأول من يلقاه الأسد الذي قد أقوى وجاع، وهذا ليس بدعاء، ولكن أجراه سيبويه مجرى الدعاء عليه؛ لأنه لم يكن بعد وإنما يتوقع، كما أنّ المدعوّ به لم يوجد في حال الدعاء. (ومثله في الرفع بيت سمعناه ممن يوثق بعربيته يرويه لقومه: عذيرك من مولى إذا نمت لم ينم … يقول الخنا أو تعتريك زنابره (¬2) فرفع عذيرك والأكثر نصبه وقد ذكرناه، والذي يرفعه يجعله مبتدأ ويضمر خبرا، كأنه قال: إنما عذرك إياي من مولى هذا أمره). وزنابره يعني: ذكره إياه بالسوء وغيبته. ¬

_ (¬1) البيت لأبي زبيد الطائي: البيت سبق تخريجه. (¬2) بلا نسبة في هارون 1: 313.

هذا باب ما أجري من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها

قال: (ومثله قول الشاعر، وهو حسان: أهاجيتم حسّان عند ذكائه … فغيّ لأولاد الحماس طويل) (¬1) فهذا دعاء من حسان لأنه هجا رهط النجاشي، ورفع كما يرفع- رحمة الله عليه- وفيه معنى الدعاء. هذا باب ما أجري من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها (وذلك قولك: تربا، وجندلا، وما أشبه هذا. فإن أدخلت " لك " فقلت: تربا لك، فإن تفسيرها هاهنا كتفسيرها في الباب الأول). قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب يدعى فيه بجواهر لا أفعال منها نحو التراب والترب والجندل، وهو: الصخر، وقوله فاها لفيك، وفاها إنما هو اسم للفم وليس لشيء من ذلك فعل يصير مصدرا له، ولكنهم أجروه في الدعاء مجرى المصادر التي قبل هذا الباب وقدّروا الفعل الناصب لها ما قاله سيبويه. قال: (كأنهم قالوا: ألزمك الله، وأطعمك الله تربا وجندلا، وما أشبه هذا من الفعل، واختزل الفعل هاهنا، يعني: حذف، لأنهم جعلوه بدلا من قولهم تربت يداك). فعبّر عنه سيبويه بفعل قد صرف من التراب، وقد رفعه بعض العرب، والرفع فيه أقوى من الرفع في المصادر في الباب الذي قبله، قال الشاعر: فترب لأفواه الوشاة وجندل (¬2) فترب مبتدأ والخبر لأفواه الوشاة، وفيه معنى المنصوب في الدعاء كما كان في قولك " سلام عليكم " معنى الدعاء. قال: (فمثله قول العرب " فاها لفيك ". وإنما يريد " فا " الداهية، فجعل " فاها " منصوبا بمنزلة تربا لفيك، وإنما يخصّون في مثل هذا الفم لأن أكثر المتآلف فيما يأكله ¬

_ (¬1) البيت لحسان بن ثابت: ورواية الديوان: هيجتم ... … غيّ لمن ولد الحماس طويل ديوانه: 187؛ شرح أبيات سيبويه 1: 205. (¬2) عجز بيت وصدره (لقد ألب الواشون ألبا لبيتهم) شروح سقط الزند: ق 3.

الإنسان أو يشربه من السم وغيره. قال: وصار " فاها " بدلا من اللفظ بقولك: دهاك الله وإنما جعله بدلا من هذا تقريبا؛ لأنه فم الداهية في التقدير، فذكر الفعل المتصرف من الداهية والفعل المقدر في هذا ونحوه ليس بشيء معين لا يتجاوز، قال أبو سدرة الأسدي: تحسّب هوّاس وأيقن أنني … بها مفتد من واحد لا أغامره فقلت لها فاها لفيك فإنّها … قلوص امرئ قاريك ما أنت حاذره (¬1) يصف الأسد، والهوّاس من أسماء الأسد، وتحسّب: تحسّس، يقال: فلان يتحسّب الأخبار، أي: يتحسّس، ويجوز أن يكون تحسّب في معنى: حسبته فتحسّب، مثل: كفيته فاكتفى). قال أبو سعيد: والذي أحفظ في هذا " وأيقن أنني " معناه: أنه عرض لناقة له فحكى عن الأسد أنه توهم أنني أدع الناقة وأفتدي بها من لقاء الأسد، وواجه هو الأسد و " لا أغامره ": ولا أقاتله، لا أرد معه غمرات الحرب، وتكون تحسّب من المحسبة، وأنني: مفعول المحسبة، وتكون الرواية: " وأقبل معطوفا على تحسّب " يكون التقدير: تحسب هوّاس أنني مفتد بها من واحد لا أغامره وأقبل، كما تقول: حسب زيد أنني قائم وأقبل، ولو قلت: حسب زيد وأقبل بأنني قائم لجاز، كما تقول: ضربت وضربني زيدا على معنى: ضربت زيدا وضربني، " فقلت له ": يعني الأسد " فاها لفيك: دعاء عليه بإصابة الداهية له وهو على وجه التهدد، " فإنها قلوص امرئ " يعني الناقة التي أراد أخذها الأسد، قال: والدليل على أنه يريد بها الداهية ما أنشده سيبويه: وداهية من دواهي المنو … ن تحسّبها الناس لا فا لها (¬2) " لا فا لها " في موضع خبر المحسبة، كما تقول: حسبت زيدا لا غلام له، وإنما ذكر هذا تعظيما لأمرها، أي: لا يدري الناس كيف يأتونها ويتوصلون إلى دفعها. ¬

_ (¬1) خزانة الأدب 2: 116، 118، ورواية البيت الثاني في الخزانة: (له) بدلا من (لها)؛ شرح المفصل 1: 122. (¬2) خزانة الأدب 2: 117؛ تاج العروس (فوه).

هذا باب ما أجري مجرى المصادر المدعو بها من الصفات

هذا باب ما أجري مجرى المصادر المدعوّ بها من الصفات (وذلك قولك: هنيئا مريئا، وليس في الباب غير هذين الحرفين صفة دعائها، وذلك أنّ هنيئا مريئا صفتان، لأنك تقول: هذا شيء هنيء مريء كما تقول: هذا جميل صحيح، وما أشبه ذلك من الصفات على فعيل فدعي بهما للإنسان وليستا بمصدرين، ولا هما من أسماء الجواهر كالتراب والجندل). فأفرد لهما بابا آخر، ويكون التقدير في نصبهما كأنه قال: ثبت لك ذلك هنيئا مريئا، وذلك لشيء تراه عنده مما يأكله وممّا يستمتع به أو يناله من الخير، فاختزل الفعل وجعل بدلا من اللفظ بقولهم هنأك، ويدل على ذلك أنّه قد يظهر " هنأك " في الدّعاء. قال الأخطل: إلى إمام تغادينا فواضله … أظفره الله فليهنئ له الظّفر (¬1) فدعا له بيهنئ، والظفر فاعله، وصار " يهنئ له الظفر " كقوله: هنيئا له الظّفر، وصار اختزال الفعل وحذفه في هنيئا كحذفه في قولهم: الحذر، والتقدير: احذر الحذر، فإذا قلت: هنيئا له الظّفر، فالتقدير: ثبت هنيئا له الظفر، فيكون الظفر مرفوعا بالفعل المقدّر، ومثله: هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم … وللعزب المسكين ما يتلمّس (¬2) كأنّه قال: ثبت هنيئا، إذا ظهر الفعل ارتفع به الاسم، كقولك هنأه الظّفر وليهنئ له الظّفر وما أشبه ذلك. هذا باب ما أجري من المصادر المضافة مجرى المصادر المفردة المدعوّ بها (وإنّما أضيف ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام إذا قلت: سقيا لك؛ لتبيّن من تعني، وذلك قولك: ويحك، وويلك، وويسك، وويبك، ولا يجوز سقيك). ذكر سيبويه هذه الأشياء على نحو استعمال العرب لها، ولم يجز سقيك لأنّ العرب لم تدع به، وإنّما وجب لزوم استعمال العرب إيّاها لأنّها أشياء قد حذف منها ¬

_ (¬1) ديوان الأخطل 167: شرح أبيات سيبويه 1: 172؛ شرح المفصل 1: 123. (¬2) بلا نسبة في: شرح أبيات سيبويه 1: 133.

الفعل وجعلت بدلا من اللفظ بالفعل على مذهب أرادوه من الدّعاء، فلا يجوز تجاوزه؛ لأنّ الإضمار والحذف اللازم وإقامة المصادر مقام الأفعال حتّى لا تظهر الأفعال معها ليس بقياس مستمرّ فيتجاوز فيه الموضع الّذي لزموه. قال: (ومثله عددتك، وكلتك، ووزنتك، ولا تقول: وهبتك، لأنّهم لم يعدّوه، ولكن وهبت لك). وكان المبرد يقول: إنّما قالوا: عددتك، ووزنتك، وكلتك في معنى: عددت لك، وكلت لك، ووزنت لك، لأنّه لا يشكل، ولم يقولوا: وهبتك في معنى: وهبت لك، لأنّه يجوز أن يهبه، فإذا زال الإشكال زال، وهو أن يقول: وهبتك الغلام، أي: وهبت لك، وإنّما ذكر سيبويه كلام العرب أنّهم يحذفون حرف الخفض في عددتك ووزنتك وكلتك وإن لم يذكر المعدود والمكيل والموزون، كما قال عزّ وجلّ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (¬1). ولا يجوز مثل ذلك في وهبتك، لأنّ ما كان أصله متعدّيا بحرف لم يجز حذفه، وإن لم يكن ليس إلا فيما حذفته العرب، ألا ترى أنه لا يجوز مررتك ولا رغبتك على معنى: رغبت فيك، وحكى أبو عمرو الشّيباني (¬2) عن بعض العرب: انطلق معي أهبك نبلا، يريد أهب لك نبلا وهذا يؤيد قول أبي العبّاس. قال سيبويه: (وهذا حرف لا يتكلّم به مفردا إلا أن يكون معطوفا على ويلك، وهو قولك: ويلك وعولك). وهذا كالإتباع الذي لا يؤتى به إلا بعد شيء يتقدمه، نحو: أجمعين وأكتعين، فإن قال قائل: عولك لا يجري مجرى الإتباع لأمرين: أحدهما: أن فيه الواو، والإتباع المعروف لا يكون بعد واو. والآخر: أن عولك معنى معروف، لأنّه من عال يعول، كما تقول جاز يجوز، والعول هو: البكاء، والحزن معروف. ¬

_ (¬1) سورة المطففين، الآية: 3. (¬2) إسحاق بن مراد أبو عمرو الشيباني الكوفي يعرف بأبي عمرو والأحمر وليس من شيبان بل أدب أولادا منهم فنسب إليهم كان راوية أهل بغداد واسع العلم باللغة والشعر له النوادر- النوادر الكبير أشعار القبائل. الفهرست: 68، معجم الأدباء 6: 77، تهذيب اللغة 1: 6.

قيل له: إنّما أراد سيبويه أنّه لا يستعمل في الدّعاء وإن كان معقول المعنى إلا عطفا ولم يرد باب الإتباع الّذي هو بمنزلة أجمعين وأكتعين. قال أبو سعيد: وقد اعترض في مواضع من كلام سيبويه في هذا الباب منها: أنّه قال: وإنّما أضيفت يعني أضيفت ويلك، وويسك، وويبك، ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللّام إذا قلت: سقيا لك ومن قوله إنّ لك منصوبة بأعني، وإنّما جاز بعد سقيا لتبين الدّعاء لمن هو، وإذا أضاف كان من كلام واحد. وقد يردّ عليه فيقال: اللام بمعنى أعني وليست الإضافة كذلك فلم جعله بمنزلته؟ فيقال: ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام ولم يرد سيبويه أنه مثله في العامل وإنما أراد أنه مثله في بيان من عني به. وقد ردّ على سيبويه بعض الكوفيين فرقه بين الإضافة واللام. وزعم الكوفي أن الإضافة واللام جميعا من كلام واحد كقولك: غلام زيد، وغلام لزيد. والوجه ما قاله سيبويه، لأنا إذا رددناه إلى الذي هو " سقاك الله سقيا " لم يقل فيه لك، ومذهب البصريين وسيبويه أنّ ويلك وويسك اتّصل بهن كلّهنّ كاف المخاطب، وأصل الكلمات ويح وويل وويس. وقال الفرّاء: أصلها كلها وي، فأما ويلك فهي: وي زيدت عليها لام الجرّ، فإذا كان بعدها مكنيّ كانت اللام مفتوحة، كقولك: ويلك، وويله، وإن كان بعدها ظاهر جاز فتح اللام وكسرها، وذكر أنّه ينشد: يا زبرقان أخا بني خلف … ما أنت ويل أبيك والفخر (¬1) بكسر اللّام وفتحها، فالّذين كسروا اللّام تركوها على أصلها، والّذين فتحوا اللّام جعلوها مخلوطة بوي كما قالت العرب: يا آل تيم ثمّ أفردت هذه اللّام فخلطت بيا كأنّها منها، قال الفرّاء: أنشدت: فخير نحن عند النّاس منهم … إذا الدّاعي المثوّب قال يالا (¬2) ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت لزهير بن مسعود الضبي: الخصائص 1: 277؛ خزانة الأدب 2: 6.

هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء

ثم كثر الكلام فأدخلوا لها لاما أخرى، يعني ويل لك، وويح لك، وذكر أن ويسا، وويحا هما كنايتان عن الويل والويح، لأنّ الويل كلمة شتم معروفة مصرّحة، وقد استعملتها العرب حتّى صارت تعجّبا، يقولها أحدهم لمن يحبّ ولمن يبغض، وكنّوا بالويس عنها، ولذلك قال بعض العلماء: الويس: رحمة، كما كنّوا عن غيرها فقالوا: قاتله الله، ثم استعظموا ذلك فقالوا: قاتعه الله، وكاتعه الله، كما قالوا: جوعا ثم كنوا عنها فقالوا: جوسا له، وجودا وترابا له ومعناه: الجوع. قال أبو سعيد: لو كان القول على ما قال الفرّاء لما قيل: ويل لزيد فتضمّ اللام وتنوّن وتدخل لاما أخرى. فإن قال قائل: لمّا كثر الكلام توهّموا أنّها من الأصل. قيل له: قد أقررت أنّ الذي أدخل اللّام الثانية أدخلها على أنّ اللام من الأصل توهّما وغلطا، وبعيد أن نتوهّم كلّ هذا الغلط ونستعمله، وإنّما الغلط يجوز على بعض ويجيء شاذا. وأيضا لو كان الأمر على إدخال لام أخرى لكان ينبغي أن تترك هذه على كسرتها أو فتحتها فيقال: ويللزيد أو يللزيد وويللك وهذا بيّن واضح. هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدّعاء (من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا، وأفعل ذاك وكرامة ومسرّة ونعمة عين، وحبّا ونعام عين، ونعمى عين، ولا أفعل ذاك ولا كيدا ولا همّا، ولأفعلنّ ذاك رغما وهوانا). وهذا الباب الفعل المضمر فيه العامل في هذه المصادر إخبار يخبر المتكلم فيه عن نفسه وليس بدعاء على أحد، ولكنّه قد ضارع الدعاء؛ لأن المضمر فعل مستقبل فأشبه الدّعاء لاستقباله، كأنّه قال: أحمد الله حمدا، وأشكر الله شكرا، وأعجب عجبا، وأكرمك كرامة، وأسرّك مسرّة، وإذا قال: ولا كيدا ولا هما، فمعناه: ولا أكاد كيدا، ولا أهمّ هما به تبعيدا لما نفى أن يفعل. وقوله: لأفعلنّ ذلك رغما وهوانا أي: أرغمك بفعله رغما، وأهينك هوانا به، والرّغم: لصوق الأنف بالتّراب، وإنما يراد به الذّلّ، وحذف الفعل المقدّر في هذا كحذفه

في الدّعاء. قال: (وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ ثمّ يبنى عليه. وزعم يونس أنّ رؤبة بن العجّاج كان ينشد هذا البيت رفعا، وهو لبعض مذحج: عجب لتلك قضيّة وإقامتي … فيكم على تلك القضيّة أعجب) (¬1) إذا رفع عجب كأنّه قال: أمري عجب، وإنما هذا البيت يتلو قضيّة غير مرضيّة يتعجّب فيها، والذي قبله: أمن السّوية أن إذا أخصبتم … وأمنتم فأنا البعيد الأجنب وإذا تكون شديدة أدعى لها … وإذا يحاس الحيس أدعى جندب هذا لعمركم الصغار بعينه … لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (¬2) ثم قال: " عجبا لتلك قضيّة " ... البيت. قال: (وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدا لله وثناء عليه، كأنه قال: أمري وشأني، ولو نصب فقال: حمدا لله وثناء عليه كان على الفعل، ومن المرفوع قوله: فقالت حنان ما أتى بك ههنا … أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف) (¬3) كأنها قالت: أمرنا حنان ولم ترد تحنن، ولو أرادته لقالت: حنانا كما قال الشاعر: تحنّن عليّ هداك المليك … فإنّ لكلّ مقام مقالا (¬4) (ومثل الرفع قول الله عزّ وجلّ: قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ (¬5). لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: لم ¬

_ (¬1) شرح المفصل 1: 114، وفيه منسوب ل (رؤبة بن العجاج)؛ قطر الندى 321. (¬2) الأبيات لابن أحمر الكناني، وبلا نسبة في شرح المفصل 2: 110؛ كتاب اللامات: 106؛ اللسان (حيس). (¬3) ينسب لمنذر بن درهم الكلبي: الخزانة 2: 112؛ شرح المفصل 1: 118؛ الصاحبي 250. (¬4) البيت للحطيئة: ديوانه: 72؛ تلخيص الشواهد 206؛ همع الهوامع 1: 189، الدرر 3: 64. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 164.

هذا باب- أيضا- من المصادر ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره

تعظون؟ فقالوا: معذرتنا إياهم معذرة إلى ربّكم. ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليكم من كذا وكذا، يريد اعتذارا، لنصب ومثله قول الشّاعر: يشكو إليّ جملي طول السّرى … صبر جميل فكلانا مبتلى (¬1) والنصب أجود وأكثر لأنه يأمره بالصّبر. ومثل الرّفع قول الله عزّ وجلّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (¬2). فنصب صبر في البيت أجود؛ لأن الجمل كان شاكيا لطول السّرى فأمره صاحبه بالصّبر، والذي في الآية إخبار يعقوب عليه السّلام بصبر حاصل فيه، أو تخبرنا بأنه سيكون فيه عند فقدان يوسف عليه السّلام لأنه قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (¬3). أي فأمري صبر جميل، والمضمر الذي يكون بعده مرفوع كالمضمر الذي بعده منصوب في ترك إظهاره لأنّ المعنيين متقاربان. هذا باب- أيضا- من المصادر ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره (ولكنها مصادر وضعت موضعا واحدا لا يتصرف في كلام تصرّف ما ذكرنا من المصادر، وتصرّفها أنها تقع في موضع الجر والرفع وتدخلها الألف واللام. وذلك قولك: سبحان الله، ومعاذ الله وريحانه، وعمرك الله إلّا فعلت، وقعدك الله إلّا فعلت، كأنّه حيث قال: سبحان الله قال تسبيحا، وحيث قال: وريحانه قال واسترزاقا، لأنّ معنى الرّيحان: الرزق، فنصب هذا على معنى أسّبح الله تسبيحا، وأسترزق الله استرزاقا، فهذا بمنزلة سبحان الله وريحانه. وخزل الفعل هنا لأنّه بدل من اللّفظ بقوله أسبّحك وأسترزقك، وكأنه حيث ¬

_ (¬1) رجز منسوب ل (ملبد بن حرملة): تهذيب إصلاح المنطق 361، 539؛ تاج العروس (شكى). (¬2) سورة يوسف، الآية: 18. (¬3) سورة يوسف، الآية: 18.

قال معاذ الله قال عياذا بالله فانتصب على أعوذ بالله عياذا، ولكنّهم لم يظهروا الفعل ههنا كما لم يظهروا في الذي قبله. وكأنه حين قال: عمرك الله وقعدك الله قال: عمّرتك الله، بمنزلة نشدتك الله، فصار عمرك منصوبة بعمّرتك كأنك قلت: عمّرتك عمرا ونشدتك نشدا، ولكنهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللّفظ به، قال الشاعر: عمّرتك الله إلّا ما ذكرت لنا … هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (¬1) وقعدك يجري هذا المجرى وإن لم يكن له فعل، كأن قولك عمرك الله، وقعدك الله بمنزلة نشدك الله ولكن زعم الخليل أن هذا تمثيل يمثّل به، قال الشاعر: عمّرتك الله الجليل فإنّني … ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (¬2) والمصدر النّشدان والنّشدة). قال أبو سعيد: أمّا سبحان فهو مصدر فعل لا يستعمل كأنه قال: سبّح سبحانا، كما تقول: كفر كفرانا، وشكر شكرانا، ومعناه معنى التبرئة والبراءة، ولم يتمكن في مواضع المصادر؛ لأنه لا يأتي إلا مصدرا منصوبا مضافا وغير مضاف، وإذا لم يضف ترك صرفه، فقيل: سبحان من زيد، أي: براءة من زيد، كما قال: أقول لمّا جاءني فخره … سبحان من علقمة الفاخر (¬3) وإنّما منع الصّرف لأنه معرفة وفي آخره ألف ونون زائدتان مثل: عثمان ونحوه. فأما قولهم: سبّح يسبّح فهو فعل ورد على سبحان بعد أن ذكر وعرف، ومعنى سبّح زيد، أي: قال: سبحان الله، كما تقول: بسمل إذا قال: بسم الله، وقد يجيء في الشعر سبحان منونا كقول أمية: سبحانه ثم سبحانا نعوذ به … وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (¬4) ¬

_ (¬1) البيت للأحوص: ديوانه: 199؛ خزانة الأدب 2: 13، 14. (¬2) المقتضب 2: 329؛ خزانة الأدب 2: 15، 3: 132. (¬3) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس: ديوانه: 143؛ أساس البلاغة 1: 418؛ الخصائص 2: 437؛ خزانة الأدب 1: 185، 7: 234، 235، 238. (¬4) البيت لأمية بن أبي الصلت: ديوانه: 30، خزانة الأدب 3: 388، 7: 234، 236، 238، 243.

وفيه وجهان: يجوز أن يكون نكرة فيصرفه، ويجوز أن يكون صرفه للضرورة. وروى الرّياشيّ: " ثم سبحانا يعود له " بالدال غير معجمة، أي: يعاود مرّة بعد مرّة. وأمّا معاذ الله فإنه يستعمل منصوبا كما ذكر سيبويه مضافا، والعياذ الذي هو في معناه يستعمل منصوبا ومرفوعا ومجرورا بالألف واللام، فيقال: العياذ بالله وألجأ إلى العياذ بالله. وأما ريحانه: ففيه معنى الاسترزاق، فإذا دعوت به كان مضافا، وقد أدخله سيبويه في جملة ما لا يتمكن من المصادر، ولا ينصرف، ولا يدخله الرّفع والجر والألف واللام، وقد ذكر في معنى قوله تعالى: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (¬1)، أنه الرزق وهو مخفوض بالألف واللام، قال النّمر بن تولب: سلام الإله وريحانه … ورحمته وسماء درر (¬2) فرفع، ولعل سيبويه أراد إذا ذكر ريحانه مع سبحانه كان غير متمكّن كسبحان. وأما عمرك الله فهو مصدر ونصبه على تقدير فعل، وقد يقدر ذلك الفعل على غير وجه. منهم من يقدر أسألك بعمرك الله وبتعميرك الله، أي: وصفك الله بالبقاء، وهو مأخوذ من العمر، والعمر في معنى البقاء، العرب تقول: لعمرك الله فيحلف ببقاء الله، وقال: إذا رضيت عليّ بنو قشير … لعمر الله أعجبني رضاها (¬3) ومنهم من يقدر أنشدك بعمر الله فيجعل المضمر أنشدك، وهم يستعملون أنشدك في هذا المعنى، فيقولون: أنشدك بالله، وإذا حذف الباء وصل الفعل، ويصرفون منه الفعل فيقولون عمّرتك الله على معنى ذكّرتك الله وسألتك به، قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآية: 12. (¬2) ينسب إلى النمر بن تولب: شواهد تفسير الطبري 1: 523، 2: 194؛ اللسان وتاج العروس (روح). (¬3) ينسب ل: القحيف العقيلي: خزانة الأدب 10: 132؛ الخصائص 2: 313، 391؛ أدب الكاتب: 507؛ الإنصاف 2: 630.

عمّرتك الله إلا ما ذكرت لنا … هل كنت جارتنا أيّام ذي سلم (¬1) وقال آخر: عمّرتك الله الجليل فإنّني … ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدي (¬2) وأمّا نصب اسم الله تعالى فلأنه منصوب مفعول المصدر. فكأنّه قال: أسألك بتذكيرك الله أو بوصفك الله تعالى بالبقاء. وأجاز الأخفش (¬3) رفعه على أن الفاعل للتذكير هو الله تعالى، كأنه قال: أسألك بما ذكّرك الله تعالى به، وقعدك بمعنى: عمرك، وفيه لغتان: قعدك الله، وقعيدك الله، قال الشاعر: فقعدك ألّا تسمعيني ملامة … ولا تنكئي قرح الفؤاد فتيجعا (¬4) وتقديره: أسألك بقعدك وبقعيدك الله، ومعناه بوصف الله تعالى بالثبات والدوام، مأخوذ من القواعد التي هي الأصول لما يثبت ويبقى، ولم يتصرف منه فعل فيقال: قعّدتك الله كما قيل: عمّرتك الله، لأن العمر معروف في كلام العرب، وهي كثيرة الاستعمال له في اليمين، فلذلك تصرّف وكثرت مواضعه. وأما جواب عمرك الله، وقعدك الله، ونشدتك الله؛ فإنها تكون بخمسة أشياء: بالاستفهام، والأمر، والنهي، وأن، وإلّا، ولمّا. والأصل في ذلك: نشدتك الله ومعناه: سألتك به، وطلبت منك به؛ لأنه يقال: نشد الرجل الضالة إذا طلبها، كما قال: " أنشد والباغي يحبّ الوجدان " أي: أطلب الضّالة والطّالب يحبّ الإصابة، وجعل عمرك الله وقعدك الله في معنى الطلب والسؤال كنشدتك الله، فكان جوابها كلّها ما ذكرت لك، لأن الأمر والنهي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سعيد بن مسعدة المجاشعي المعروف بالأخفش الأوسط سكن البصرة قرأ النحو على سيبويه وكان معتزليا توفي 215 هـ، الفهرست: 52، معجم الأدباء 11، 334. (¬4) خزانة الأدب 2: 20، 10: 54، 56؛ تاج العروس (قعد)؛ جمهرة أشعار العرب 142، وجميعهم يرويه ب (قعيدك).

والاستفهام كلّها بمعنى السؤال والاستدعاء، وكذلك " أن " لأنه في صلة الطلب بقولك: نشدتك الله أن تقوم، وكذلك نشدتك الله لا تقم، قال الشاعر في الأمر: عمرك الله ساعة حدّثينا … ودعينا من ذكر ما يؤذينا (¬1) وقال الآخر في الاستفهام: عمرك الله أما تعرفني … أنا حرّاث المنايا في الفزع (¬2) لأنّه في معنى الطلب والمسألة، وعمّرتك الله إلّا فعلت كذا وكذا، كما تقول: بالله إلّا فعلت كذا وكذا. ومثل ما ينصب ذلك قولك للرجل: سلاما أي: سلاما منك. وعلى هذا قوله عزّ وجلّ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (¬3). معناه: براءة منكم، لأنّ هذه الآية في سورة الفرقان، وهي مكية، والسّلام في سورة النّساء وهي مدنيّة ولم يؤمر المسلمون بمكّة أن يسلموا على المشركين، وإنما هذا على معنى: براءة منكم وتسلّما، لا خير بيننا وبينكم ولا شرّ، ومنه قول أمّية: سلامك ربّنا في كلّ فجر … بريئا ما تغنّثك الذّموم (¬4) أي: تنزيها من السّوء، ومعنى ما تغنّثك أي: تلزّق بك صفة الذم. وكان أبو ربيعة يقول: إذا لقيت فلانا فقل سلاما، ومعناه: براءة منك. قال: (فكل هذا ينتصب انتصاب حمدا وشكرا، إلا أن هذا يتصرّف وذاك لا يتصرّف). قال: (ونظير سبحان الله من المصادر في البناء والمجرى لا في المعنى " غفران " لأن بعض العرب يقول: غفرانك لا كفرانك، يريد: استغفارا لا كفرا). وجعل فيما لا يتمكن لأنه لا يستعمل على هذا إلّا منصوبا مضافا، وكذلك قوله تعالى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (¬5). أي: حرما محرّما، ومعناه: وتقول الملائكة: ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن أحمد الباهلي، المحتسب 1: 100. (¬2) همع الهوامع 2: 45؛ الدرر 4: 252. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬4) البيت لأمية بن أبي الصلت: ديوانه: 54، تاج العروس (غنث). (¬5) سورة الفرقان، الآية: 22.

هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت مبنيا عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات

حجرا محجورا، أي: حراما عليهم الغفران والجنّة ونحوه من التقدير على معنى: حرّم الله ذلك تحريما، أو جعل الله ذلك محرّما عليهم. (ويقول الرجل للرّجل: أتفعل كذا وكذا، فيقول: حجرا وبراءة). وكل ذلك يؤول إلى معنى المنع؛ لأن الحجر مأخوذ من البناء الذي يحجّر به ليمنع من وصول ما يصل إلى ما وراءه. (ومن العرب من يرفع " سلام " إذا أراد معنى المبارأة كما رفعوا " حنان "، سمعنا بعض العرب يقول لرجل: لا تكونن منّي في شيء إلا سلام بسلام، أي: أمري وأمرك المبارأة المتاركة، وتركوا لفظ ما يرفع كما تركوا فيه لفظ ما ينصب). وقد مضى نحوه. قال: (وأما سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح فعلى شيء يخطر على باله أو يذكره ذاكر فقال: سبّوحا أي ذكرت سبّوحا، كما تقول: أهل ذلك، إذا سمعت رجلا يذكر رجلا بثناء أو ذمّ كأنك قلت: ذكرت أهل ذاك، واذكر أهل ذاك ونحوه مما يليق به، وخذلوا الفعل النّاصب لسبحان لأن المصدر صار بدلا منه). (ومن العرب من يرفع فيقول: سبّوح قدّوس على إضمار " هو " سبوح) ونحوه مما مضى. قال: (وممّا ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجّب قولك: كرما، وصلفا، كأنه يقول: أكرمك الله كرما، وأدام الله لك كرما، وألزمك صلفا، وفيه معنى التعجّب فيصير بدلا من قولك: أكرم به وأصلف، وقال أبو مرهب: " كرما وطول أنف " أي أكرم بك وأطول بأنفك). لأنّه أراد به التعجّب، وأضمرت الفعل النّاصب كما انتصب مرحبا بما ذكر قبل. هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت مبنيّا عليها ما بعدها وما أشبه المصادر من الأسماء والصفات (وذلك قولك: الحمد لله والعجب لك، والويل لك، والتّراب لك، والخيبة له، وإنّما استحبّوا الرّفع فيه لأنّه صار معرفة فقوي في الابتداء بمنزلة عبد الله والرجل

والذي تعلم، لأنّ الابتداء إنّما هو خبر). قال أبو سعيد: يعني هذه المصادر التي ذكرها اختارت العرب فيها الرّفع؛ لأنّهم جعلوها كالشيء اللّازم الواجب فأخبروا عنها، وجعلوها مبتدأة وجعلوا ما بعدها خبرها وصار بمنزلة قولك: الغلام لزيد، ثم وصل ذلك من جهة الابتداء فقال: وإذا اجتمع معرفة ونكرة فأحسنه أن يبتدأ بالأعرف وهو وجه الكلام، ومعنى يبتدأ بالأعرف أن تجعله هو المبتدأ المخبر عنه وإن أخّر في اللفظ، وكذلك لو وقع بعد كان وإنّ فالوجه: أن تجعل الأعرف هو الاسم كقولك: كان زيد منطلقا، وكان منطلقا زيد، ولم يحسن أن تقول: كان منطلق زيدا؛ لأنّك إنما تخبر عمّن يعرفه المخاطب بما لا يعرفه من شأنه حتّى يعرفه فيساويك فيه وفي خبره. وفائدة الإفادة من المتكلم للمخاطب في الخبر، ولو جعل الاسم نكرة والخبر معرفة والاسم لا يستفيده المخاطب لم يصر المخاطب بمنزلة المتكلم في معرفة ما أفاده إياه. قال: (ولو قلت: رجل ذاهب، لم يحسن، لأنه لا فائدة فيه، فإن قرنته بشيء يقرّبه من المعرفة وتقع به فائدة جاز؛ فتقول: راكب من بني فلان سائر، وتبيع الدّار فتقول: حدّ منها كذا وحدّ منها كذا، فأصل الابتداء للمعرفة فإذا أدخل فيه الألف واللام حسن الابتداء). يعني أنّ الذي حسّن الابتداء في: " الحمد لله، والعجب والويل لزيد " دخول الألف واللام فيه، وإذا نكّر ضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون في المنكور المبتدأ به معنى المنصوب كنحو ما ذكرنا، وقولهم: سلام عليكم، وويل لزيد، وخيبة لزيد؛ لأن هذه أشياء يدعى بها ويجوز فيها النّصب، فإذا رفع وذهب به مذهب الدعاء جرى مجرى المنصوب في حسنه وإن كان الابتداء بنكرة، وقد مضى نحو هذا. قال سيبويه: (وليس كلّ حرف يصنع به كذلك، كما أنه ليس كلّ حرف تدخل فيه الألف واللّام من هذا الباب، لو قلت: السقي لك والرعي لك لم يجز). قال أبو سعيد: اعتماد سيبويه في هذا ونحوه على استعمال العرب فيما استعملته على وجه لم يجاوزه ولم يجز غيره قياسا، وما استعملته على وجهين أو أكثر جاز من ذلك ما استعملوه، ولم تستعمل العرب السقي لك، والرعي لك، فلم يجزه، وأجازه الجرميّ والمبرّد، وقد ذكرنا الاحتجاج لذلك فيما مضي.

(والحمد وإن ابتدأته فمعناه معنى المنصوب). وهو إخبار فإذا نصب فمعناه أحمد الله حمدا يخبر عن نفسه بما يفعله من ذلك، وإذا رفع فكأنه قال: أمري وشأني ومقصودي فيما أفعله الحمد لله. ثم ذكر سيبويه أشياء قد ابتدأت العرب بالنكرة فيها وجّه لها وجها، وذلك قولك: شيء ما جاء بك، " وشرّ أهرّ ذا ناب "، فذكر أنه حسن ذلك لأن معناه: ما جاء بك إلّا شيء، وما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ، فالابتداء في هذا محمول على معنى الفاعل وجرى مثلا فاحتمل. ومعنى شرّ أهرّ ذا ناب معناه: كأنهم سمعوا هرير كلب في وقت لا يهرّ في مثله إلا بسوء، ولم يكن غرضهم الإخبار عن شرّ، وإنما يريدون أن الكلب أهره شرّ، وكذلك قولهم: شيء ما جاء بك، يقوله الرجل لرجل جاءه ومجيئه غير معهود في ذلك الوقت، ما جاء بك إلا شيء حادث لا يعهد مثله. ومما يجري مجرى هذا ولم يذكره سيبويه: " شرّ ما جاءك إلى مخة عرقوب "، وشرّ ما أشاءك إلى مخة عرقوب، أي: ألجأك إلى أكل مخة عرقوب، وهو لا خير فيه، شرّ يعني: جوعا وضرورة شديدة. ثم قال: (وقد ابتدئ المنكور في الكلام على غير الوجه الذي ذكروا على غير ما فيه معنى المنصوب وهو قولهم: " أمت في حجر لا فيك "). ومعناه: اعوجاج في حجر لا فيك فحمله سيبويه على أنّه إخبار محض وأن ذلك جاز لأنه مثله. وقال المبّرد: أرادوا به معنى الدعاء فهو في مذهب المنصوب كأنهم قالوا: جعل الله في حجر أمتا لا فيك. ومما جاء من نحو هذا ولم يذكره سيبويه قول العرب: " عبد صريخه أمة "، و " ذليل عاذ بقرملة "، ويقال هذا إذا استعان الرجل بضعيف لا نصرة له، ومعنى: صريخه: مغيثه، والقرملة: شجرة على ساق لا تكنّ ولا تظلّ، ولو تأوّل متأوّل هذا أن ذلك إنما جاز لأن في تعجّبا، وقد يجوز أن يقال: عجب لذلك، وقد مضى ذكر جوازه، وعبد صريخه أمة وذليل استعان بقرملة من العجب يحسن ذلك حملا على العجب. وقد رأيت بعض النحويين يذكر أنّ كلّ نكرة مبتدإ بها من هذا النحو، ففيه معنى

هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء

عجب أو دعاء. قال سيبويه: (ومن العرب من ينصب بالألف واللّام، ومن ذلك: الحمد لله، ينصبها عامّة من بني تميم وكثير من العرب، وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون: التّراب لك؛ فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت: حمدا وعجبا ثم جئت ب " لك " لتبين من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه). وقد مضى تفسير هذا. هذا باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء وما في هذا الباب من كلام سيبويه قد مضى شرحه في تضاعيف الأبواب المتقدّمة له، وأنا أسوق كلام سيبويه إلى آخر الباب إلّا الشيء اليسير الذي يحتاج إلى تفسير. قال: (وذلك قولك: سلام عليك، ولبّيك وخير بين يديك، والمراد في قوله: خير بين يديك، وويل لك، وويح لك، وويس له، وويلة لك، وعولة وخير لك، وشرّ لك، وفَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (¬1)؛ فهذه الحروف كلّها مبتدأة مبنيّ عليها ما بعدها، والمعنى فيهنّ: ابتدأت شيئا قد ثبت عندك ولست تعمل في حال حديثك في إثباتها وتزجيتها وفيها ذلك المعنى، كما أن " حسبك " فيه معنى النهي، وكما أن قولك: " رحمة الله عليه " في معنى: رحمه الله، فهذا المعنى فيها، ولم تجعل بمنزلة الحروف التي إذ ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها، كما أنهم لم يجعلوا " سقيا ورعيا " بمنزلة هذه الحروف؛ فإنما نجريها كما أجرتها العرب ونضعها في المواضع التي وضعن فيها، ولا تدخلنّ ما لم يدخلوا من الحروف. ألا ترى أنك لو قلت: طعاما لك أو شرابا لك أو مالا لك تريد معنى سقيا لك أو معنى المرفوع الذي فيه معنى الدعاء لم يجز، لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل ما قبله، فهذا يدلّك ويبصّرك أنّه ينبغي لك أن تجرى هذه الحروف كما أجرتها العرب، وأن تعني ما عنوا بها؛ فكما لم يجز أن يكون كلّ حرف بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 89.

إيّاه تعمل في إثباته، ولا بمنزلة المرفوع المبتدإ الذي فيه معنى الفعل، كذلك لم يجز أن تجعل المرفوع الذي فيه معنى الفعل بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته وتزجيته، ولم يجز لك أن تجعل المنصوب بمنزلة المرفوع لأن العرب إنما أجرت الحروف على وجهين. ومثل المرفوع: طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (¬1). يعني أنّ طوبي وإن لم يتبين فيها الإعراب فهي في موضع رفع؛ لأن المعطوف عليها وهو حسن مآب رفع، وأما قوله عزّ وجل: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (¬2). ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (¬3). فإنّه لا ينبغي أن تقول إنه دعاء عليهم؛ لأن الكلام واللفظ بذلك قبيح، ولكن العرب إنما كلّموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وما يعنون؛ فكأنه- والله أعلم- قيل لهم ويل للمطففين، وويل يومئذ للمكذبين، أي: هؤلاء ممن وجب لهم هذا القول، لأنّ هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشّرّ والهلكة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة ووجب لهم هذا. ومثل ذلك: قوله عزّ وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (¬4). فالعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلماه. ومثله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ * (¬5). وإنما أجري هذا على كلام العرب وبه نزل القرآن). قال أبو سعيد: قد يعبّر عن بعض أفعال الله عزّ وجلّ ممّا جاء في القرآن وغيره بما لو حمل على حقيقة اللغة لم يجز أن يوصف بذلك، من ذلك قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى (¬6). وقوله جلّ وعزّ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ ¬

_ (¬1) سورة الرعد، الآية: 29. (¬2) سورة المرسلات، الآية: 15. (¬3) سورة المطففين، الآية: 1. (¬4) سورة طه، الآية: 44. (¬5) سورة التوبة، الآية: 30 - سورة المنافقون، الآية: 4. (¬6) سورة الحجرات، الآية: 3.

مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ (¬1). والامتحان والبلوى فيما يتعارفه النّاس إنما هو في معنى: التجربة، وهو من الله عزّ وجلّ على وجه الأمر لهم أو إيراد بعض أفعاله عليهم مما يظهر للناس ثبات المفعول به والصبر على طاعة الله تعالى أو خلاف ذلك. وكذلك ما جاء في القرآن من " لعلّ " قد جعل بمعنى " كي "، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (¬2). ونظائر ذلك مما أتى فيه لعلّ بعد أمر أمر به إنما هو على معنى " كي يكون ذلك "؛ أي: أمرناكم بهذا الأمر ليكون ذلك؛ فالشيء الذي جعل الأمر سببا له يجوز ألّا يكون، ولا يخرج الأمر أن يكون وقع مقصودا به لذلك المعنى؛ ألا ترى أنّ القائل قد يقول: مدحت الأمير ليعطيني، وكي يعطيني ولعله يعطيني، وإن لم يعطه فالقصد لم يتغيّر أن يكون واقعا لذلك المعنى. وكذلك ما في القرآن مما يتعارفه الناس في كلامهم دعاء إذا وقع من الله عزّ وجلّ فهو من طريق اللفظ على ما قد تعارفه الناس، وهو من الله عزّ وجلّ واجب، لأن القائل إذا قال: قاتلك الله، ولعنك الله، فإنما يريد أن يوقع الله ذلك بالذي دعا عليه، فإذا قاله الله عزّ وجل فهو على طريق أنه يوقعه، وكذلك القول في قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (¬3). ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (¬4). لأن القائل من الناس يذكره على جهة الدعاء عليهم، والله عز وجل يذكره على طريق وجوب ذلك لهم، لأنه هو المدعوّ المستدعى منه ذلك. قال: (وتقول: ويل لك ويل طويل، وإن شئت جعلته بدلا من المبتدإ الأوّل، وإن شئت جعلته صفة له، وإن شئت قلت: ويل لك ويلا طويلا تجعل الأخير غير مبدل ولا موصوف به ولكن تجعله دائما). يعني: تجعل ويلا طويلا في معنى الحال؛ كأنّه قال: ويل لك دائما. قال: (ومن هذا الباب: فداء لك أبي وأمي، وحمي لك أبي، ووقاء لك أميّ، ولا ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 31. (¬2) سورة الحج، الآية: 77. (¬3) سورة المرسلات، الآية: 15. (¬4) سورة المطففين، الآية: 1.

هذا باب منه استكرهه النحويون، وهو قبيح فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب

يقال: عولة لك، إلّا أن يكون قبلها ويلة لك، ولا تقول: عول لك حتى تقول: عول، لأنّ ذا يتبع ذا، كما أنّ ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدأ. واعلم أنّ بعض العرب تقول: ويلا لك، وويلة لك، وعولة تجريه مجرى خيبة، من ذلك قول جرير: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها … فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (¬1) ويقول الرجل: يا ويلاه؛ فيقول الآخر: نعم ويلا كيلا، كأنه يقول: لك الذي دعوت به ويلا كيلا، وهذا شبيه بقولهم: ويل له ويلا كيلا، وربّما قالوا: ويل كيل). يعني أن الذي قال: نعم ويلا كيلا يضمر مبتدأ وخبرا، ويجعل ويلا كيلا في موضع الحال؛ لأنه لو أظهر وقال: لك الويل ويلا كيلا كان " الويل " مبتدأ و " لك " خبر، وويلا كيلا في معنى كثيرا، ثم جعل نعم دليلا على الإضمار، لأن نعم تحقيق لكلام يتكلم به، وذلك الكلام الذي تحقيقه نعم هو قولهم: لك الويل وما أشبهه. وقوله: (وإن شاء جعله على قوله: جدعا وعقرا). أي: إن شاء نصب ويلا كيلا بإضمار فعل فجعله كأنه مصدر له، لأن " جدعا وعقرا " على معنى: جدعك الله جدعا، وعقرك عقرا، فهو بإضمار فعل، وتجعل ويلا كذلك بإضمار فعل. هذا باب منه استكرهه النحويون، وهو قبيح فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعته العرب (وذلك قولك: ويح لك وتبّ، وتبّا وويحا). أما قوله: استكرهه النحويون يعني أنهم جمعوا في الدّعاء بين شيئين لا تجمع العرب بينهما، وقاسوا كلام العرب، والشيئان: أحدهما: ويل وويح لك وما جرى مجراه مما ترفعه العرب في الأكثر من كلامهم. والآخر: تبّا لك وويل، إذا أفردوه رفعوه وأتوا له بخبر وهو اللام، فإذا جمعوا بينهما فقدّموا الذي يستحقّ الرفع وثنّوا بالذي يستحقّ النّصب حملا على المرفوع فيقولون: ويل لك وتبّ. ¬

_ (¬1) البيت لجرير: ديوانه: 159؛ شواهد القرطبي 3: 48؛ شرح المفصل 1: 121.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره؛ لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلا من اللفظ بالفعل، كما كان" الحذر" بدلا من احذر في الأمر

وسيبويه يختار أن يقول: " ويل لك وتبّا " وكذلك " ويل لك وتبّا لك " لأن تبّا إن أفردته عن ذلك أو ذكرت بعده لك فإنه ينتصب مصدرا لفعل مضمر، ولك تبيين، كما يقول لك بعد سقيا لك، فهي مستغنية عن لك فتجريه على ما أجرته عليه العرب. وإذا قدمت المنصوب ثم جئت بما يرفعونه فقلت تبّا له وويحا، فإنهم ينصبونه على الفعل حملا على تبّا. وسيبويه لا يخالفهم في ذلك إلا أنه استقبحه؛ لأنه مستقبح استكراه النحويين لذلك، غير أنه رأى متى ما قرن بينهما أن ينصب ويحا فقال: ولا بد ل " ويح " مع قبحها من أن تحمل على " تبّ " لأنها إن ابتدئت لم تحسن حتّى يبنى عليها الكلام، يعني: حتى يؤتى له بالخبر؛ لأنّ العرب لا تقول: " ويح " ولا " ويل " إلا مع خبرهما وإن نصبت فقد بنيتها على شيء ينصبها مع قبحها كما جاء " تبّا " وما أشبه ذلك، فإذا قلت: " تبّا " له، و " ويح " له؛ فجئت ل " ويح " بخبر وهو اللام حسن الرّفع في " ويح "، وإن نصبت تبّا وليس بينهما خلاف، ولا يختلف النحويون في نصب " التبّ " إذا كان معه " له ". وقد قدمت المرفوع إذا قلت ويح ويح له وتبّا له. قال سيبويه: (فهذا يدلّك على النصب في " تبّا "). يعني إذا لما تكن معه " له " أحسن، لأن " له " لا تعمل في " التبّ " ما عملت في " ويح " لأنه خبر ل " ويح " وليس بخبر في " تبّ " وإنما هو تبيين. هذا باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك إظهاره؛ لأنه يصير في الإخبار والاستفهام بدلا من اللفظ بالفعل، كما كان " الحذر " بدلا من احذر في الأمر (وذلك قولك ما أنت إلا سيرا، وإنّما أنت سيرا سيرا، وما أنت إلا الضّرب الضّرب، وما أنت إلا قتلا قتلا، فكأنه قال في هذا كلّه ما أنت إلا تفعل فعلا). قال أبو سعيد: إنما يقال هذا ونحوه لمن يكثر منه ذلك الفعل ويواصله، واستغنى عن إظهار الفعل بدلالة المصدر عليه، وكذلك في الإخبار عن الغائب إذا قلت: زيد سيرا سيرا، وليتك سيرا سيرا، إذا أخبرت عنه بمثل ذلك المعنى، وكذلك إذا قلت: أنت الدهر

سيرا، وكان عبد الله الدّهر سيرا سيرا، وأنت مذ اليوم سيرا سيرا، وذلك كله إذا أخبرت بشيء متّصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان، وإن رفعت قلت: إنّما أنت سير، على معنى: إنما أنت صاحب سير؛ وحذفت الصّاحب وأقمت السّير مقامه. فإن قلت: ما أنت إلا شرب الإبل، وما أنت إلا ضرب النّاس، جاز في ضرب الناس التنوين؛ فتقول: ما أنت إلا ضربا الناس، ولا تقول: ما أنت إلا شربا الإبل، لأن شرب الإبل ليس من فعلك، ولم ترد: ما أنت إلا شرب الإبل وإنما هو تشبيه، والفعل الذي يشبّه به محذوف، تقديره: ما أنت إلا تشرب شربا مثل شرب الإبل، والمثل في موضوع النعت لشربا فحذفت الشرب وأقمت المثل مقامه وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1). وهذا الحذف وإن كثر فهو مطرد في القياس في كلام العرب مفهوم. وإذا قلت: ما أنت إلا ضربا النّاس فنوّنته؛ فالمعنى: ما أنت إلا تضرب الناس؛ لأنّ فعلك واقع بهم، ونظير ذلك من المصادر المنصوبة: قوله عزّ وجل فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً (¬2). على معنى: إما تمنّون منّا وإما تفادون فداء. وقال جرير: ألم تعلم مسرّحي القوافي … فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (¬3) تقديره: فلا أعيى بهن عيّا ولا أجتلبهنّ، أي: لا أسرق من غيري، كأنّ قائلا قال: هو عيّا بهن، واجتلابا لهن على معنى: يعيى بهن عيا، ويجتلبهنّ اجتلابا، فنفى على ذلك التقدير بإدخال لا. (ومثله قولك: ألم تعلم يا فلان مسيري فإتعابا وطردا). والمسرّح بمنزلة مشترى، والفاء في قوله، فإتعابا وطردا بمنزلة الفاء في قوله: " فلا عيّا بهن ولا اجتلابا ". وإنما أراد أني إذا سرحت القوافي اتّصل بتسريحي لها إلا عيّا ولا أجتلب؛ فلذلك أدخل الفاء. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 82. (¬2) سورة محمد، الآية: 4. (¬3) البيت لجرير: ديوانه: 56؛ الخصائص 1: 368، 3: 297.

وكذلك يتّصل الإتعاب بالمسير، فلذلك أدخل الفاء. قال سيبويه: (وإن شئت رفعت هذا كلّه فجعلت الآخر هو الأوّل، فجاز على سعة الكلام. كقول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت … فإنّما هي إقبال وإدبار (¬1) على معنى: فإنما هي صاحب إقبال وإدبار؛ فجعل إقبال وإدبار في موضع مقبلة ومدبرة على سعة الكلام، كقولك: نهارك صائم وليلك قائم). قال أبو سعيد: فجعل النّهار صائما، والنحويّون يقدّرون مثل هذا على تقديرين: أحدهما: أن يقدّروا مضافا إلى المصدر وهو الاسم الأوّل، ويحذفون كما يحذفون في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬2). كأنه قال: صاحب إقبال وصاحب إدبار، وصاحب نهارك صائم، وصاحب ليلك قائم فيحذفون المضاف. والوجه الثاني: أن يكون المصدر في موضع اسم الفاعل من غير إضافة فيكون إقبال في موضع مقبلة، والنهار صائم مجازا كما قال عزّ وجلّ وَالنَّهارَ مُبْصِراً (¬3). وكما قال: " أمّا النّهار ففي قيد وسلسلة " (¬4) وكما قال تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬5). ومثله قولهم: رجل عدل، وماء غور، ودرهم ضرب، على معنى: رجل عادل، ودرهم مضروب، وماء غائر. وكان الزجّاج يأبى إلا الوجه الأول. ومما يقوّي الوجه الثاني أن نقول: رجل ضخم وعبل، وليسا بمصدرين لضخم وعبل، وقد جعلا في موضع اسم الفاعل، ومصدرهما: عبل عبالة، وضخم ضخما. ¬

_ (¬1) البيت للخنساء: ديوانها: 72؛ الخصائص 2: 205؛ شواهد القرطبي 2: 98. (¬2) سورة يوسف، الآية: 82. (¬3) سورة يونس، الآية: 67. (¬4) هذا صدر بيت منسوب للجرنفش بن زيد الطائي في شرح أبيات سيبويه 1: 237. وعجزه: والليل في قعر منحوت من الساج (¬5) سورة النبأ، الآية: 33.

ومما يشبه هذا قول متمّم: لعمري وما دهري بتأبين هالك … ولا جزع ممّا أصاب فأوجعا (¬1) أي: فدهر تأبين هالك، وجعل الدّهر هو التأبين مجازا. (ومما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب قولهم: أقياما يا فلان والناس قعود، وأجلوسا والناس يعدون فلا يريد أن يخبر أنّه يجلس ولا أنّه قد جلس، وانقضى جلوسه، ولكنّه يخبر أنّه في تلك الحال في حال جلوس). وهذا الكلام يقوله الإنسان عند فعل يشاهده ممّا ينكر عليه من أجل شيء آخر، كأنّه إذا قال: أقياما والناس قعود فقد أنكر عليه القيام من أجل قعود النّاس، وأنكر الجلوس من أجل فرارهم توبيخا له على ذلك. ومثله: أصبى وأنت شيخ، ومثله: " ... أطربا وأنت قنّسريّ ... ". وهو: المسنّ في هذا الموضع، إنكارا للطرب مع هذه الحال، (ومثله: قول بعض العرب وهو يعزى إلى عامر بن الطفيل: " أغدّة كغدّة البعير … وموتا في بيت سلولية " (¬2) واجتماعهما يزيد في المكروه فهو يجري مجرى التوبيخ، وإن لم يكن توبيخا وإنما قاله عامر، لمّا أصابته الغدّة، وهي داء إذا أصاب البعير لم يلبّثه حتّى يموت، وكان قد أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم هو وأربد بن ربيعة العامريّ أخو لبيد ليغتالاه، فأطلعه الله عزّ وجلّ عليهما؛ فقال: " اللهمّ أكفني عامرا وأربد " فأصابت أربد صاعقة، وأصابت عامرا الغدّة، ومثله: أعبدا حلّ في شعبي غريبا … ألؤما لا أبا لك واغترابا (¬3) الشاهد في قوله: ألؤما لا أبا لك، وبّخه على ما يأتيه من اللؤم مع غربته على نحو ما تقدّم، كأنّه قال: أتلؤم لؤما وتغرب اغترابا (إن لم تستفهم وأخبرت جاز كقولك: سيرا سيرا، عنيت نفسك أو غيرك؛ كأنك رأيت رجلا في حال سير أو كنت في حال سير، أو ذكر رجل بسير أو ذكرت أنت بسير، وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما ¬

_ (¬1) خزانة الأدب 2: 27. (¬2) يضرب كمثل لاجتماع نوعين من الشر، اللسان (غدد). (¬3) البيت لجرير: ديوانه 56، الأغاني 8: 21؛ خزانة الأدب 2: 183.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي أخذت من الأفعال انتصاب الفعل، استفهم أو لم يستفهم

حسن في الاستفهام. لأنّك إنما تقول: أطربا وأسيرا، إذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته في، وعلى هذا يجري هذا الباب إذا كان خبرا أو استفهاما، وإذا رأيت رجلا في حال سير أو ظننته فيه فأثبتّ ذلك له. وكذلك أنت في الاستفهام إذا قلت: أأنت سيرا. ومعنى هذا الباب أنّه فعل متّصل في حال ذكرك إيّاه استفهمت أو أخبرت، وأنّك في حال ذكرك شيئا من هذا الباب تعمل وفي تثبيته لك أو لغيرك. ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعني نفسك قول الشّاعر: سماع الله والعلماء أنّي … أعوذ بحقو خالك يا ابن عمرو) (¬1) كأنه قال: أسمع الله هذا، كما تقول: أشهد الله بهذا على نفسي، وسماع الله بمنزلة إسماع الله كأنه قال: أسمع الله إسماعا، كما تقول: ما أنت إلا ضربا النّاس إذا نوّنت، وإن لم تنوّن قلت: إلا ضرب الناس، ولو نوّن في سماع الله لقال: سماعا الله والعلماء، بمعنى: إسماعا الله، كما تقول أعطيته عطاء على معنى: أعطيته إعطاء. هذا باب ما ينتصب من الأسماء الّتي أخذت من الأفعال انتصاب الفعل، استفهم أو لم يستفهم (وذلك قولك: أقائما وقد قعد الناس، وأقاعدا وقد سار الركب، وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم تقول: قاعدا قد علم الله وقد سار الركب، وقائما قد علم الله وقد قعد الناس). قال أبو سعيد: هذا الباب مثل ما مضى في الباب الذي قبله من قولك: أقياما والناس قعود، وأطربا وأنت قنّسريّ، غير أنّ الباب الأوّل بمصدر وهذا باسم الفاعل، وقدّره سيبويه أن العامل فيه مثل الفعل الذي يعمل في المصدر، فقال: وكأنّه يقوله أتقوم قائما، وأتقعد قاعدا، ولكنّه حذفه استغناء، وهذا ينكره بعض الناس لأنّ لفظ الفعل لا يكاد يعمل في اسم الفاعل الذي من لفظه، وإذا جاء ذلك صرف إلى أنّه مصدر لاسم الفاعل كقولهم: قائما تريد قياما، هكذا قال أبو العبّاس المبرّد، ويلزمه على قوله إذا كان ¬

_ (¬1) شرح أبيات سيبويه للنحاس 175؛ وهو بلا نسبة في اللسان (سمع- حقا).

العامل في قائما أيقوم، وفي قاعدا أيقعد أن يكون قائما في معنى قياما، وقاعدا في معنى قعودا. والقول عندي ما قاله سيبويه؛ لأنّه قد تكون الحال توكيدا كما يكون المصدر توكيدا، وإن كان الفعل قد دلّ عليه قول الله عزّ وجلّ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا (¬1). ولا يجوز إضمار الفعل الدالّ على الحال إلّا أن تكون الحال المشاهدة تدل عليه، ولا يجوز أن يقول إنسان- مبتدئا من غير حال تدل-: " قائما يا زيد " كما تقول: يجوز " قياما يا زيد " لأنّ المصدر مأخوذ من لفظ الفعل فهو دال على فعل معيّن دون غيره. وإذا قال قائما يا زيد، لم يدلّ على فعل محصور لأنّه يجوز أن يقول: اثبت قائما، وتكلم قائما، واضحك قائما، وما أشبه ذلك مما لا يحصر، وإنّما جاز أن يقول: أقائما وقد قعد النّاس، لما شوهد منه من القيام والتعمّل له. قال سيبويه: " (ومثل ذلك قوله: عائذا بالله من شرّها؛ كأنه رأى شيئا يتّقى فصار عند نفسه في حال استعاذة حتّى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود .... فقال: عائذا بالله؛ كأنه قال: أعوذ بالله عائذا). وإذا ذكرت شيئا من هذا الباب فالفعل متّصل في حال ذكرك إيّاه وأنت تعمل في تثبيته كما كان ذلك في الباب الذي قبله. (وقال الشاعر، وهو عبد الله بن الحارث السهمي، من الصحابة: ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا … وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني (¬2) كما قال في المصدر عياذا بك، ومثله: أراك جمعت مسألة وحرصا … وعند الحقّ زحّارا أنانا) (¬3) قال أبو سعيد: زحّارا فعّال من زحر يزحر زحرا، وأنان في معنى: أنين، كما يقال: نهيق ونهاق في باب الأصوات، لأن الزحير صوت. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 79. (¬2) البيت ينسب إلى: عبد الله بن الحارث السهمي: شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 475؛ شرح المفصل 1: 123؛ تاج العروس واللسان (عوذ). (¬3) البيت ينسب إلى: المغيرة بن حبناء: تهذيب إصلاح المنطق 280؛ تاج العروس واللسان (زحر).

هذا باب ما أجرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل

قال سيبويه: (كأنه قال: زحيرا، وأنينا، والأولى عندي أن نجعل أنانا مصدرا للفعل الذي يعمل في زحّار، أو لزحّار نفسه فيكون التقدير: تزحر أنينا، لأنّ يزحر ويئنّ يتقاربان؛ فهو مثل قولك: تبسّمت وميض البرق، وإنما اخترت هذا لأنّه لا واو في قولك زحّارا أنانا). هذا باب ما أجرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل (وذلك قولك: أتميميّا مرّة وقيسيّا أخرى، وإنّما هذا أنّك رأيت رجلا في حال تلوّن وتنقّل، فقلت: أتميميّا مرّة وقيسيا أخرى؛ كأنك تقول: أتتحوّل تميميّا مرّة وقيسيّا أخرى. فأنت في هذه الحال تعمل في تثبيت هذا له، وهو عندك في تلك الحال في تلوّن وتنقّل، وليس تسأله مسترشدا عن أمر هو جاهل به لتفهّمه إيّاه وتخبره عنه ولكنّك وبخته بذلك). قال أبو سعيد: وهذا الباب مثل الذي قبله إلّا أنّ الاسم الذي نصبه ليس بمأخوذ من فعل فأحوج إلى تقدير فعل ليس من لفظه مما شاهده من حاله. قال سيبويه: (وحدّثنا بعض العرب: أنّ رجلا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطيّر- فقال: يا بني أسد، أعور وذا ناب! فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحّته، ولكنّه نبّههم كأنّه قال: أتستقبلون أعور وذا ناب! فالاستقبال في حال تنبيهه إيّاهم كان واقعا، كما كان التلوّن والتنقّل عندك ثابتين في الحال الأولى، وأراد أن يثّبّت لهم الأعور ليحذروه). قال أبو سعيد: يوم جبلة: يوم لبني عامر على بني أسد وذبيان، وتطيّر هذا الأسديّ على قومه من استقبالهم هذا البعير الأعور فحقّق محذوره وهزموا وقتل منهم. والفعل الناصب الأعور وذا ناب أتستقبلون، وكأنّ ذلك في الحال المشاهدة. قال سيبويه: (ومثل ذلك: قول الشاعر:

أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة … وفي الحرب أشباه النّساء العوارك) (¬1) هجاهم بما شاهدهم عليه من التنقّل والتلون بكونهم في حال السّلم مثل الحمير من جفوتهم وغلظتهم على الأهل، وفي الحرب مثل النساء الحيّض من اللّين والانقباض توبيخا لهم، لأنهم في الحالين على طريق الذم. (وقال آخر: أفي الولائم أولادا لواحدة … وفي العيادة أولادا لعلّات) (¬2) وهذا أيضا ذمّ لهم مشبّه بالأول، لأنه وصفهم بالنّهم والتواصل من أجل الطعام، فإذا كانوا في الولائم كانوا متآلفين كأنهم إخوة بنو أمّ واحدة، وفي قضاء حقوق بعضهم لبعض متقاطعين متهاجرين، كأنهم أولاد علات. (وأمّا قول جرير: أعبدا حلّ في شعبي غريبا … ألؤما لا أبا لك واغترابا (¬3) فيكون نصب عبدا على وجهين: على النداء، وعلى أنّه في حال افتخار واجتراء قد شاهده عليه، فقال: أعبدا، أي: اتفتخر عبدا، كما قال: أتميميا. فإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضا كما نصبت في حال الخبر في الاسم الذي أخذ من الفعل، وذلك قولك: أتميميّا قد علم الله مرّة وقيسيّا أخرى؛ فلم يرد أن يخبر القوم بأمر قد جهلوه؛ ولكنه أراد أن يشتمه بذلك، وصار بدلا من اللفظ بقولهم: اتتتمّم مرّة وتتقيّس أخرى!. وأتمضون وقد استقبلكم هذا، أتنقلون وتلوّنون، فصار هذا هكذا؛ كما كان تربا وجندلا بدلا من الفعل، وقد مثّل هذا الفعل الذي جعل هذا بدلا منه). وكان في نسخة أبي بكر محمّد بن عليّ مبرمان (¬4) بدلا من تربت وجندلت وفي ¬

_ (¬1) البيت منسوب لهند بنت عتبة في السيرة النبوية لابن هشام- ج 2 ق 1 ص 656؛ خزانة الأدب 3: 263؛ شرح أبيات سيبويه 1: 252. (¬2) بدون نسبة في: شرح أبيات سيبويه 1: 253؛ المقتضب 3: 265. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هو محمد بن علي بن إسماعيل النحوي العسكري البصري أخذ من السيرافي، له مؤلفات منها: كتاب علل النحو، وكتاب شكر النعم، الفهرست 60، معجم الأدباء 18: 254.

غيرها: تربت وجندلت على ما لم يسمّ فاعله. قال سيبويه: " (ولو مثّلت ما نصبت عليه الأعيار). يعني في البيت الذي مضى: أفي السّلم أعيارا، وأعور في قوله يعني: أعور وذا ناب لتدلّ على النصب في البدل (لقلت: أتعيّرون وأتعوّرون إذا أوضحت معناها لأنك إنما تجريه مجرى ماله فعل من لفظه، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله). قال أبو سعيد: يعني أنّهم لمّا جعلوا في السّلم أعيارا، وأعور وذا ناب مجرى قولهم: أقائما وقد قعد النّاس، والأعيار والأعور ليس بمأخوذ من فعل يجري عليه، وقائما مأخوذ من فعل، وقد أضمر ناصبه على لفظ الفعل الذي أخذ منه، كان الأحسن في الأعيار والأعور أن يقدر فعل من لفظه، وإن كان لا يستعمل؛ إذ قد يجري مثله في الكلام على طريق التشبيه. ألا ترى أنّا نقول: قد ترجّلت المرأة، إذا تشبّهت بالرجال؛ فهذا التقدير أحسن في مثل هذا. قال: (وأما قوله عز وجل بَلى قادِرِينَ (¬1). كأنه قال: بلى نجمعها قادرين). وإنّما قدّرها سيبويه بنجمعها لقوله تعالى قبله أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (¬2). وتسوية بنانه أن يضمّ بعضها إلى بعض ولا تكون متفرقة، والبنان: الأصابع. وذكر الفرّاء هذا المعنى، وقدّم قبله معنى آخر فيه وفي نظائره، وهو أن ينصبه بإضمار الفعل المذكور قبله وهو يحسب؛ كأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى فليحسبنا قادرين. ومثله من الكلام: أتحسب أن لن أزورك، بلى سريعا إن شاء الله، كأنّه قال: بلى فاحسبني زائرك، وقال قوم من النحويين: إنّ " قادرين " ينتصب لوقوعه موقع نقدر لأنّ معناه بلى نقدر على أن نسوي بنانه، وهذا باطل، لأنّه ليس من نواصب الاسم وقوعه مواقع الفعل. ألا ترى أنّك تقول: أتقوم يا زيد، فإذا رددته إلى الاسم قلت: أقائم أنت يا زيد. ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآية: 4. (¬2) سورة القيامة، الآيتان: 3، 4.

قال: (وأما قوله، وهو الفرزدق: ألم ترني عاهدت ربّي وأنّني … لبين رتاج قائما ومقام على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما … ولا خارجا من فيّ زور كلام) (¬1) قال سيبويه: (أراد ولا تخرج فيّ ما استقبل كأنّه قال: ولا تخرج خروجا. ألا تراه ذكر عاهدت في البيت الذي قبله). قال: (ولو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه ولم يرد أن يحمل على عاهدت لجاز، وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى بن عمر فيما نرى؛ لأنه لم يكن يحمله على عاهدت). قال أبو سعيد: فسّر أبو العباس وأبو إسحاق الزجاج في هذين البيتين قول سيبويه وقول عيسى بن عمر: فإما قول سيبويه فإنه جعل لا أشتم جواب يمين إمّا أن يكون جواب حلفة كأنه قال: عاهدت ربي على أن أقسمت، وعلى أن حلفت لا أشتم الدّهر مسلما، أو يكون عاهدت بمعنى: أقسمت، كأنّه قال: ألم ترني أقسمت. ويكون خارجا في معنى ويكون التقدير: ولا يخرج خروجا عطفا على أشتم، وجعل خارجا في معنى خروجا. قال أبو العبّاس: ومثله: قم قائما، أي: قم قياما، ومثله من المصادر: العاقبة والعافية، فهو على لفظ فاعل. وفسّرا قول عيسى إنّ خارجا حال، وإذا كان حالا فهو عطف على ما قبله، وإذا كان كذلك وجب أن يجعل الفعل في موضع الحال؛ فكأنه قال: لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام، والفعل المستقبل يكون في موضع الحال كقولك: جاءني زيد يضحك، أي: ضاحكا. وجعلا العامل في الحال على مذهب عيسى بن عمر عاهدت؛ كأنه قال: عاهدت ربي لا شاتما الدهر مسلما، فالمعنى: موجبا على نفسي ذلك ومقدّرا ألا أفعله، فهذا معنى ¬

_ (¬1) البيتان للفرزدق: ديوانه 2: 212، شرح المفصل 2: 59؛ 6: 50؛ مغني اللبيب 5: 134.

تفسير أبي العباس وأبي إسحاق الزجاج. وكلام سيبويه الذي حكاه عن عيسى يخالفه لأنّه قال- يعني عيسى بن عمر-: لم يكن يحمله على عاهدت. ومعنى قول سيبويه لو حملته على أنّه نفى شيئا هو فيه، أي: نفي الحال وهو قوله: لا أشتم، ولا خارجا، فإذا لم يكن العامل في الحال " عاهدت " على ما حكاه سيبويه عن عيسى كان نصبه على أحد وجهين: إما أن يكون المفعول الثاني من ترني كأنه قال: ألم ترني لا شاتما مسلما ولا خارجا من فيّ زور كلام، فهذا وجه ذكره أبو بكر مبرمان. قال أبو سعيد: ما يعجبني هذا؛ لأنّ " عاهدت " في موضع المفعول الثاني فقد تمّ المفعولان بعاهدت. وأجود منه أن يكون على حلفة؛ كأنّه قال: على أن حلفت لا شاتما ولا خارجا، والمصدر وهو " حلفة " يعمل عمل الفعل. وكان الفرّاء يذهب مذهب عيسى بن عمر وينصب خارجا على الحال، ويجعل لا أشتم في موضع نصب؛ كأنه قال: لا شاتما مسلما و " لا خارجا " عطف عليه. وبعض النحويين ينصب خارجا لوقوعه موقع يخرج على ما تقدّم، وقد ذكرنا الحجّة. وإذا قلت ما أنت قائم ولا قاعد، وأنت تميميّ مرة وقيسيّ أخرى، وإني عائذ بالله ارتفع. قال أبو سعيد: مذهب سيبويه- ولا أعلم له مخالفا- أنك إذا قلت: ما زيد إلا سائر أو قائم أو قاعد لم يجز فيه غير الرّفع، ولو كان بدل سائر وقائم مصدر لجاز النصب، كقولك: ما أنت إلا سيرا، وما أنت إلا قياما؛ لأنّ السير والقيام يدلان على يسير ويقوم. ولقد تأوّل بعض المتقدمين في النحو على مذهب الكوفيين ممن أدركته رواية رويت عن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فيما رواه هو في قوله تعالى وَنَحْنُ عُصْبَةٌ (¬1). ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 8

هذا باب ما يجري من المصادر مثنى منتصبا على إضمار الفعل المتروك إظهاره

بنصب عصبة، وزعم أنّ عصبة تنتصب كما تقول العرب: إنّما العامريّ عمته؛ فجعل عصبة بمنزلة المصدر. ورددت أنا ذلك فقلت: إنما يجوز هذا في المصادر دون الأسماء لأنك تقول: أنت سيرا، ولا تقول: أنت سائرا، ولا خلاف في ذلك، وعصبة هي اسم لا مصدر، والتأوّل على الرواية غير صحيح؛ لأنّ الذي في أصل النسخة، ونحن عصبة، ولم يقل نصب أيش، وقد تكلمت على هذا في غير هذا الموضع. قال سيبويه: " (ولو قال: هو أعور وذو ناب لرفع ...). وكذلك إذا قلت: أنت تميميّ مرّة وقيسيّ أخرى، وإني عائذ بالله، ليس في ذلك غير الرّفع؛ لأنه قدّم الاسم، وجاء بعده بخبر هو هو، فلم يجز غير الابتداء والخبر، وإنما يجوز النصب إذا قال: أتميميّا بغير أنت، وقال عائذا بغير إني، أو قال: أعور وذا ناب بغير هو فتفهّم ذلك إن شاء الله، وكذلك لو أضمرت أنت والاسم الذي يكون المذكور هو هو لرفع وكان بمنزلة المظهر. هذا باب ما يجري من المصادر مثّنى منتصبا على إضمار الفعل المتروك إظهاره (وذلك قولك: حنانيك؛ كأنه قال: تحنّنا بعد تحنّن، ولكنّهم حذفوا الفعل؛ لأنه صار بدلا منه. ولا يكون هذا مثنّى إلا في حال إضافة، كما لم يكن سبحان الله، ومعاذ الله إلا مضافا؛ فحنانيك لا يتصرّف كما لم يتصرف سبحان وما أشبهه، قال الشاعر، وهو طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا … حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض (¬1) وزعم الخليل أنّ معنى التثنية أنّه أراد تحنّنا بعد تحنّن؛ كأنّه قال: كلما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعنّ ذلك وليكن موصولا بآخر من رحمتك. ومثل ذلك: قولك: لبيك وسعديك، وسمعنا من العرب من يقول: سبحان الله وحنانيه، كأنّه قال: سبحان الله واسترحاما كما قال: سبحان الله ¬

_ (¬1) البيت لطرفة بن العبد: ديوانه 4، شرح المفصل 1: 118، المقتضب 3: 224.

وريحانه، يريد: واسترزاقه. وأمّا لبيك وسعديك فانتصب كانتصاب سبحان الله، وهو أيضا بمنزلة قولك: أمرت سمعا وطاعة، إلا أنّ لبيّك لا يتصرّف كما أنّ سبحان الله، وعمرك الله، وقعدك الله لا يتصرف). قال أبو سعيد: اعلم أنّ التثنية في هذا الباب الغرض فيها التكثير، وأنّه شيء يعود مرة بعد أخرى ولا يراد بها اثنان فقط من المعنى الذي يذكر. فالدليل على التكثير بلفظ التثنية أنك تقول: ادخلوا الأوّل فالأول؛ فإنما غرضك أن يدخل كلّ وجئت بالأوّل فالأوّل حتّى تعلم أنه شيء بعد شيء. وتقول: جاءني رجلا رجلا على هذا المعنى ولا تحتاج إلى تكريره أكثر من مرّة واحدة فتعلم به أنه شيء لا يقتصر به على الأول، وأنّ ذلك المعنى يعود بعد الأوّل ويكثر فتكتفي بذلك اللّفظ، وهذا المثنى كله غير متصرّف، ومعنى قولنا غير متصرّف أن لا يكون إلا مصدرا منصوبا أو اسما في موضع الحال كما يكون المصدر في موضع الحال، وإنّما لم يتمكّن إذا ثنّيت لأنه دخله بالتثنية لفظا معنى التكثير لا معنى التثنية، ودخل هذا اللفظ لهذا المعنى في موضع المصدر فقط، قال: فلم يتصرّفوا فيه، وبعضه يوحّد فيتصرّف كما قال الله تعالى في توحيده وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا (¬1) وقال الشاعر: فقالت حنان ما أتى بك ههنا … أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف (¬2) فرفع لمّا أفرد لأنّه لم يدخله معنى غير الذي يوجبه اللّفظ وهو أصل الاسم الموضوع. ولبيك وسعديك تثنية ولا يفرد واحد منهما لما ذكرته لك من معنى التكثير، ولبيك مأخوذ من قولنا ألبّ بالمكان إذا أقام به، وألبّ على كذا وكذا إذا أقام عليه ولم يفارقه. قال سيبويه: (حدّثنا أبو الخطّاب أنّه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يقلع عنه ولا يفارقه قد ألبّ على كذا وكذا). ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 13. (¬2) سبق تخريجه.

وسعديك مأخوذ من المساعدة والمتابعة، فإذا قال الإنسان لبّيك وسعديك فكأنه قال: دواما على طاعتك وإقامة عليها مرّة بعد مرة وكذلك سعديك، أي: مساعدة لك بعد مساعدة، ومتابعة بعد متابعة، وإنما يعبّر عن هذه الأشياء باللفظ الذي يقرب معناه منه فيمثّل به ويطلب له الاشتقاق وما يقدّر فيه من الفعل لو أتى به آت لم يحسن ولم يك واقعا ذلك الموقع كما وقع سقيا مكان سقاك الله، ورعيا مكان رعاك الله؛ فهذا الذي أحوج سيبويه وغيره إلى تطلّب التّقديرات المقرّبة للمعنى وليوقف على وجه النصب؛ فقال سيبويه مرّة: (كأنه إذا قال الرجل للرّجل: يا فلان، فقال: لبيك وسعديك، فقد قال: قربا منك ومتابعة لك، فهذا تمثيل، وإن كان لا يستعمل في الكلام كما كان براءة الله تمثيل سبحان الله وإن لم يستعمل ذلك استعمال سبحان الله). وقال مرّة: (وكذلك إذا قال: لبّيك وسعديك يعني بذلك الله تعالى، فكأنه قال: لا أنأى عنك يا ربّ في شيء تأمرني به، فإذا فعل ذلك فقد تقرّب إلى الله عزّ وجلّ بهواه). يعني بإرادته وقصده. (وأما قوله وسعديك فكأنّه يقول: أنا متابع أمرك وأولياءك غير مخالف، فإذا فعل ذلك فقد تابع وطاوع، وإنّما حملنا على تفسير معنى لبيك وسعديك لنوضح به وجه نصبهما لأنّهما ليسا بمنزلة سقيا وحمدا وما أشبه ذلك. ألا ترى أنّك تقول للسائل في تفسير سقيا وحمدا إنما هو سقاك الله سقيا وأحمد الله حمدا، فحمدا بدل من أحمد، وسقيا بدل من سقاه الله، ولا تستطيع أن تقول: ألبّك لبّا، ولا أسعدك سعدا. ولا تقول: سعد بدل من أسعد، ولا لبّ من ألبّ، فلمّا لم يكن ذلك التمييز له شيء من غير لفظه معناه كبراءة حين ذكرتها لتبيّن معنى سبحان الله، والتمست للبّيك وسعديك غير اللّفظ الذي اشتقّا منه إذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسقي في فعليهما، ولا يتصرفان تصرّفهما، ومعناهما: القرب والمتابعة فمثّلت بهما النصب في سعديك ولبيك كما مثّلت النصب في سبحان الله ببراءة الله). وممّا يقوّي إفراد حنان أنّ الفعل في حنان قد يستعمل فيقال: تحنّن أي: ارحم، قال الشاعر:

تحنّن عليّ هداك المليك … فإنّ لكلّ مقام مقالا (¬1) فهذا مما تلحقه بباب (الحمد لله) وجواز التّصرّف فيه والرفع. ومما يجري مصدرا مثنّى: حذاريك كأنه قال: حذرا بعد حذر ولا يستعمل حذرا مفردا، ولا يرفع حذاريك؛ لأنّه صيغت هذه البنية لتوضع غير متمكّنة كحنانيك ولبيك وسعديك فلم تستعمل إلا مصدرا منصوبا، ومن ذلك دواليك، وقال عبد بني الحسحاس: إذا شقّ برد شقّ بالبرد مثله … دواليك حتّى ليس للبرد لابس (¬2) وهذا من فعل العرب في الجاهلية إذا أراد رجل أن يعقد مودّة مع امرأة شق كلّ واحد منهما ثوب الآخر ليؤكد المودّة. ودواليك: مأخوذ من المداولة من شقّ كلّ واحد منهما ثوب الآخر وهو في موضع الحال، كأنّه قال متداولين متعاقبين للفعل الذي فعلاه. ومن التثنية: هذاذيك، مأخوذ من هذّه يهذّه هذّا، ومعناه: السّرعة في القراءة، وفي الضرب، قال الراجز: ضربا هذاذيك وطعنا وخضا (¬3) كأنه يقول: هذّا عد هذّ من كلّ وجه، ومثل ذلك قولهم: حواليك بمعنى: حولك، يقال: حولك وحوالك، وقد يقال: حواليك وحوليك إنما يريدون الإحاطة من كل وجه. ويقسّمون الجهات التي تحيط به إلى جهتين كما يقال: أحاطوا به من جانبيه، ولا يراد أنّ جانبا من جوانبه قد خلا، وأنشد سيبويه قول الراجز: أهدموا بيتك لا أبا لكا … وزعموا أنّك لا أخا لكا وأنا أمشي الدّألى حوالكا (¬4) فوحّد حوالك: ¬

_ (¬1) البيت للحطيئة: ديوانه: 72؛ المقتضب 3: 224؛ تلخيص الشواهد 206. (¬2) ديوانه: 16، الخصائص 3: 47؛ شرح المفصل 1: 119. (¬3) الراجز: العجاج: ديوانه: 26؛ خزانة الأدب 2: 106. (¬4) المعاني الكبير: 650؛ الحيوان 6: 128 (وقد نسبه إلى أبي زياد الكلابي الأعرابي).

وزعم الجرميّ (¬1) عن أبي عبيدة أنّ هذا قول العرب، يعني هذه الأبيات تحكيها العرب عن الضّبّ أنه قال للحسل وهو ولده حيث كانت الأشياء تتكلم، وهذا من قول الحشو منهم أو على وجه التمثيل أو ضرب المثل، كما يحكى عن الفرس وغيرهم أشياء عن ألسنة الطير والسباع والوحش، وقد أحاط علم الحاكي أن ذلك على وجه الأمثال والتحرّز من مثل ذلك المعنى على نحو ما أراده المتمثّل. وأنشد غير سيبويه في تثنية حوال قول كعب بن زهير: يسعى الوشاة حواليها وقولهم … إنّك يا ابن أبي سلمى لمقتول (¬2) وفي تثنية حول قول آخر: يا إبلي ما ذامه فتأبيه … ماء رواء ونصيّ حوليه (¬3) وقال امرؤ القيس في جمع حول: فقالت سباك الله إنّك فاضحي … ألست ترى السّمّار والناس أحوالي (¬4) وزعم يونس أنّ لبيك اسم واحد غير مثنى، وأنّ الياء التي فيه كالياء التي في عليك ولديك، وكان الخليل وسيبويه يخالفانه. وأنشد سيبويه: دعوت لما نابني مسورا … فلبّى فلبّى يدي مسور (¬5) فجعل لبّى يدي بالياء في لبّى كالياء في يدي مسور وهى تثنية يد والياء في قولك رأيت ثوبي زيد وهذا روايته، وإنشاده عن العرب بهذا اللفظ فلو كان بمنزلة قولك: عليك ولديك ثم أضيف إلى ظاهر لكان بالألف. ألا ترى أنّك تقول: على زيد مال، ولدى زيد خير، فلا يكون إلا بالألف في اللفظ. ¬

_ (¬1) هو صالح أبو عمر بن إسحاق الجرمي إمام في النحو ناظر الفراء ببغداد أخذ عن الأخفش والأصمعي توفي 225 هـ الفهرست 56، معجم الأدباء 12: 5. (¬2) البيت لكعب بن زهير: ديوانه 21. (¬3) الراجز: الزفيان السعدى: ديوانه 100؛ الخصائص 1: 333، نوادر أبي زيد: 97. (¬4) البيت لامرئ القيس: ديوانه: 31. (¬5) ينسب لرجل من بنى أسد: شرح ابن عقيل 3: 53؛ خزانة الأدب 2: 93، شرح أبيات سيبويه 1: 251.

وكأن يونس قدّر أنه لو أضيف إلى اسم ظاهر لكان يقال: لبّى زيد كما تقول لدى زيد، وما حكاه سيبويه عن العرب أولى. قال: وبعض العرب يقول: لبّ لبّ، وفي نسخة أبي بكر مبرمان تقول: لبّ مرّة واحدة فيجره يعني فيكسره، يجريه مجرى أمس وغاق يعني أنّه تثنية، ويجعله صوتا معرفة مثل غاق وما أشبه ذلك؛ كأنّه يحكي أصوات الملبّين. وقد ذكرت أنّ سيبويه فصل بين الناصب لهذه الأشياء التي ذكرها مما لا يتمكّن ولا يستعمل فيها الفعل وليست بمصادر معروفة وبين سقيا ورعيا وما جرى مجراه ومثلت ذلك. ومما يجري مجراه قوله: أفّة وتفّة، إذا سئلت عنهما مثّلتهما بقولك أنتنا لقرب معناها منه وليس من (أفّة وتفّة) فعل، وإنما تردّه إلى انتنا لأنه مصدر معروف. وكذلك تمثيلك بهرا بنتنا، ودفرا بنتنا، لأنّه لا يستعمل من " دفرا " فعل، فجئت بمصدر فعل مستعمل وهو قولك: نتن نتنا، هذا قول سيبويه في بهرا ولم يزد على أن مثّله ب " نتنا ". ويقال في الكلام: بهرني الشيء إذا غلبني، كما تقول: بهر القمر الكواكب أي: غطّاها وأذهب ضوءها، وأنشدوا: حتّى بهرت فما تخفى على أحد … إلا على أحد لا يعرف القمر (¬1) يقال: بهرا في معنى عجبا، وفسّر بيت عمر بن أبي ربيعة على ذلك، وهو: ثم قالوا تحبّها قلت بهرا … عدد القطر والحصى والتّراب (¬2) ويقال: بهر فلان فلانا إذا دعا عليه بسوء، ولم أر أحدا فسّر ذلك المدعوّ به إلا سيبويه في قوله: نتنا، وقال ابن ميّادة: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي … بجارية بهرا لها بعدها بهرا (¬3) فإن قال قائل: ذكرتم أنّ: سبحان، وأفّة، وتفّة، ولبّيك، ليس لها أفعال مستعملة ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة: ديوانه: 32. (¬2) البيت لعمر بن أبي ربيعة: ديوانه: 20، 60، الخصائص 2: 283، شرح المفصل 1: 121؛ مغني اللبيب 1: 77. (¬3) ينسب إلى: ابن ميادة: الأغاني 2: 27؛ الإنصاف 1: 241؛ تهذيب إصلاح المنطق: 327.

هذا باب ما ينتصب فيه المصدر المشبه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره

تنصبها، والعرب تقول: سبّح، ولبّى، وأفّف. قيل له: أمّا قولهم: سبّح، ولبّى، وأفّف، معناه: قال: سبحان الله، ولبّيك، وأفّة فبنيت هذه الأفعال من هذه الألفاظ بعد استعمالها، كما يقال: دعدع الرجل بغنمه إذا قال لها: داع داع، وهو تصويت بها كما قال: فانعق ودعدعا بالبهائم (¬1) كقوله: بأبأ الرجل بفلان، إذا قال له: بأبي أنت، قال الراجز: وأن تبأبآن وأن تفدّين (¬2) وقولهم: هلّل الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسمل إذا قال: بسم الله، وقد علمنا أنّ لا إله إلا الله ليس بفعل ولا بمصدر لفعل، وإن كنا نأخذ منه فعلا، وكذلك سائر ما ذكرناه فاعرفه إن شاء الله. هذا باب ما ينتصب فيه المصدر المشبّه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره (وذلك قولك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى، قال النابغة الذبيانّي: مقذوفة بدخيس النّحض بازلها … له صريف صريف القعو بالمسد (¬3) وقال آخر: لها بعد إسناد الكليم وهدئه … ورنّة من يبكي إذا كان باكيا هدير هدير الثور ينفض رأسه … يذبّ بروقيه الكلاب الضّواريا) (¬4) يصف طعنة لها خرير مما يجري من دمها؛ فقال: لها بعد إسناد الكليم، وهدئه هدو فيه أو هو المطعون، وإسناده أن يسند، وهدؤه وهديه: هدوءه وبكاء من يبكي عليه هدير ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 1: 288، وهو من الخمسين التي لا يعرف قائلهم. (¬2) الإنصاف 1: 282 (بلا نسبة)؛ اللسان (بأبأ). (¬3) البيت للنابغة الذبيايى: ديوانه 16؛ شواهد القرطبي 1: 659؛ تهذيب إصلاح المنطق: 510. (¬4) البيت للنابغة الجعدي: ديوانه 17، 18؛ شرح أبيات سيبويه 1: 105.

مثل هدير الثور وهو خواره إذا قاتل الكلاب، وانتصاب هذا على ما أذكره، ثم أسوق كلام سيبويه. قال أبو سعيد: يجوز أن يكون انتصابه بفعل يدلّ عليه له صوت؛ لأن له صوت يدلّ على أنّه يصوّت وينوب عنه؛ فكأنه قال: مررت برجل فإذا هو يصوت صوت حمار، ويكون " صوت حمار " على هذا التقدير منصوبا بالمصدر إن شئت، وإن شئت على أنه حال، وفي كلا الأمرين في صوت حمار معنى التشبيه، فإن كان على المصدر فتقديره: مررت به فإذا هو يصوّت تصويتا مثل صوت الحمار، ويحذف كما قد ذكر حذف ذلك في غير موضع. وإن كان حالا فتقديره: فإذا هو يصوّت مشبها صوت حمار ومخرجا مثل صوت حمار، أو ممثّلا صوت حمار. ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، ويكون ذلك الفعل على وجهين: يجوز أن يكون من لفظ الصّوت. ويجوز أن يكون من غير لفظه. فإن كان من لفظه فتقديره: فإذا له صوت يصوّت صوت حمار، فيكون نصب " صوت حمار " على هذا التقدير بالمصدر إن شئت، وإن شئت بالحال جميعا. وإن كان الفعل الذي تقدّره من غير لفظه نصبت صوت حمار على الحال لا على المصدر، فيكون تقديره: مررت به فإذا له صوت يخرجه مشبها صوت حمار ويمثّله مشبّها صوت حمار أو ما جرى هذا المجرى. قال سيبويه: (وإنما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول ولا بدلا منه). يعني أنك لم ترد أن تجعله نعتا ولا بدلا منه فترفع، وستقف عليه وعلى رفعه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال: (ولكنك لما قلت: له صوت علم أنّه قد كان ثمّ عمل فصار قولك: له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوّت؛ فحملت الثاني على المعنى، وهذا يشبّه في

النّصب لا في المعنى، يقول الله عز وجلّ: جاعل اللّيل (¬1) سكنا والشّمس والقمر حسبانا) (¬2) يعني أن جاعل اللّيل سكنا في معنى: جعل الليل سكنا، فعطف الشمس والقمر على معنى جعل. قال: (وإذا أردت الحال فكأنّه توهّم بعد قوله: له صوت يصوّته صوت حمار، أو يبديه أو يخرجه صوت حمار، ولكنّه حذف هذا لأنّه صار له صوت بدلا منه، فإذا قال: مررت به فإذا هو يصوّت صوت حمار فعلى الفعل غير الحال وعلى الحال، وقد مضى ذكر الوجهين، وإذا قال: يصوّت صوت حمار فعلى إضمارك فعلا بعد الفعل المظهر). وقد كشفت هذا وبيّنته. قال: (ومثل هذا: مررت به فإذا له ... دقّ " دقّك بالمنحاز حبّ الفلفل ") والمنحاز: الهاون، يريد أنّك كما قلت: له صوت صوت حمار انتصب على أنّه مثال أو حال يخرج عليه الفعل، وأنّك إذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلا منه احتجت إلى فعل آخر فتضمره؛ فمن ذلك قول الشاعر: إذا رأتني سقطت أبصارها … دأب بكار شايحت بكارها (¬3) قال أبو سعيد: اعلم أن مذهب سيبويه أنه إذا جاء بالمصدر بفعل ليس من حروفه كان بإضمار فعل من لفظ ذلك المصدر، فمن أجل هذا استدلّ على إضمار فعل بعد قوله: له صوت بهذا الشعر لأن قوله: دأب بكار منصوب وليس قبله فعل من لفظه فأضمر دأبت دأب بكار، وتدأب دأب بكار، والذي قبله: سقطت أبصارها، كأنّه قال: أداموا النظر إليّ، والدأب: الدوام، فكان في " سقطت أبصارها " بالنظر إليه ما دلّ على أنّها دأبت فأدامت ويكون " دأب بكار " على الحال وعلى المصدر. ¬

_ (¬1) وهي قراءة لغير عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، والأعمش (الميسر في القراءات الأربعة عشر) ص 140. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 96. (¬3) البيت لغيلان بن حريث: شرح أبيات سيبويه للنحاس: (إذا رأوني) 181؛ المقتضب 3: 204.

وكان أبو العباس يردّ هذا من قول سيبويه ويقول: إنّه يجوز أن يجيء المصدر من فعل ليس من حروفه إذا كان في معناه. وقد ذكر المازني في قولهم: تبسّمت وميض البرق " قولين للنحويين في نصب وميض البرق: أحدهما: مثل قول سيبويه؛ أنهم يضمرون فعلا، كأنهم قالوا: أومضت " وميض البرق ". والثاني: أنّ " تبسّمت " قد ناب عن أو مضت وميض البرق؛ فكأنه قال: تبسمت تبسّما مثل وميض البرق. قال أبو سعيد: والذي عندي أنّه يجوز أن ينتصب المصدر بالفعل الذي هو من غير لفظه كقولنا: قعد زيد جلوسا حسنا، وقعد زيد جلوس عمرو، تريد قعودا مثل جلوس عمرو، وفى ذلك دليلان: أحدهما: ما لا يختلف فيه أهل اللغة أنه قد يجيء المصدر من لفظ الفعل المتروك وليس بمبنيّ من بنية الفعل، فلا يكون بينه وبين الذي هو من بنيته فرق كقول الله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (¬1) ومصدر تبتّل من بنية بتل، إنما تبتيل مصدر تبتّل تبتيلا، ومثل هذا في الكلام: تحاور القوم احتوارا، واحتوروا تحاورا، ولا فرق بينهما، ويقال: افتقر فقرا، ولا يستعمل من فقر فعل غير افتقر وإن كان ينبغي أن يكون فقر مصدر فقر فاستغني عنه بافتقر، وقال الشاعر: وقد تطوّيت انطواء الحضب (¬2) يريد: تطوّي الحضب لأنّ المعنى في تطوّى وانطوى واحد؛ فأغنى بنية مصدر أحدهما عن الآخر إذ لا فرق بين المصدرين، كما لا فرق بين الفعلين. والدليل الآخر: أنا إذا قلنا قعد زيد جلوس عمرو، فالتقدير: قعد زيد جلوسا مثل جلوس عمرو ثم حذف المنعوت والمضاف. وقولنا: مثل جلوس عمرو معنى صحيح معقول صحّته فإذا حذف مثل وصل الفعل ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 8. (¬2) البيت لرؤبة بن العجاج: ديوانه: 16، شرح المفصل 1: 112؛ تاج العروس (طوى).

إلى المصدر الذي هو الجلوس فصار منصوبا بقعد وعلى هذا قوله: سقطت أبصارها دأب بكار، أي: سقطت سقوطا مثل دأب بكار، قولهم: تبسّمت وميض البرق تبسّما مثل وميض البرق، ثم وقع الحذف الذي أدّى إلى انتصاب وميض. قال سيبويه: (فمما لا يكون حالا ويكون على الفعل المضمر قول رؤبة: لوّحها من بعد بدن وسنق … تضميرك السّابق يطوى للسّبق (¬1) أراد أنّك نصبت تضميرك بإضمار ضمّرها تضميرك السّابق، وقد دلّ على ذلك لوّحها، لأنّ معنى لوّحها: غيّرها، وضمرها في معناه، ونصبه على أنّه مصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا عنده على الحال؛ لأنّه مضاف إلى الكاف متعرّف به، ولا تكون الحال معرفة، وكذا الباب في كل مصدر مضاف إلى معرفة ألا يكون حالا، فلو كان مكانه تضمير فرس سابق أو تضمير رجل فرسا سابقا جاز أن يكون حالا، وأنشد سيبويه في نحو هذا المعنى قول العجّاج: ناج طواه الأين ممّا وجفا … طيّ الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا (¬2) فسماوة عند سيبويه مصدر ولا فعل من لفظه فصار بمنزلة لوّحها تضميرك، وسقطت دأب بكار. وكان المازني يردّ هذا ويقول: إن طيّ الليالي منصوب بطواه، كأنّه قال: طواه طيا مثل طيّ الليالي، ويجعل سماوة الهلال مفعول طيّ، كأنّه قال: كما طوى الليالي سماوة الهلال، وسماوة الشيء: شخصه، والليالي تطوي القمر وتضمّره حتّى يصير هلالا ويصير بمنزلة قول جرير: وطوى القياد مع الطّراد بطونها … طيّ التّجار بحضر موت برودا (¬3) فجعل " سماوة " مثل: " برودا "، واحقوقف على هذا التفسير للهلال، ومعناه: ¬

_ (¬1) البيت لرؤبة بن العجاج: ديوانه 104؛ خزانة الأدب 1: 87. (¬2) البيت للعجاج: ديوانه: 84؛ شرح أبيات سيبويه 1: 209. (¬3) البيت لجرير: ديوانه: 131، ط: بيروت (شرح مهدي ناصر).

تقوّس. وأما ما يوجبه كلام سيبويه فتكون سماوة منصوبة بإضمار فعل؛ كأنه قال: سما سماوة الهلال إذا أضمر من لفظه، وإن أضمر من غير لفظه، فكأنه قال: صيّره سماوة الهلال. وكان أبو إسحاق الزجّاج يردّ على المازنيّ ما ذكرنا من قوله إنه لو كان سماوة يعمل فيه طيّ الليالي لكان حقّ الكلام أن يقول: سماوة القمر، لأنّ الليالي تنقص القمر حتى يصير هلالا، ولا يقال: إنّ الليالي تنقص الهلال. وللمحتجّ عن أبي عثمان أن يقول: قد ينسب الفعل إلى الاسم في منتهاه وإن كان الفعل قد وقع قبل ذلك. من ذلك قول القائل: نسجت الثوب، والثوب لا ينسج إنّما ينسج الغزل فإذا انتهى صار ثوبا، وعلى ذلك يتأوّل قول العجاج: والشوق شاج للعيون الجذّل (¬1) وإنما جذلت العيون واسترخت أجفانها من البكاء الذي أوجبه الشوق، ومثله لرؤبة: والسبّ تخريق الأديم الألحن (¬2) وإنما صار أديما ألحن بالنسب فسماه بما يوجبه الفعل بعد تقضّيه، ومثله قول جرير في تأويل بعضهم: لما أتى خبر الزبير تواضعت … سور المدينة والجبال الخشّع (¬3) وكان حقه أن يقول: والجبال الشواهق، لأن الجبال الخشّع التي قد تضاءلت وتطأطأت فسمّاها بالاسم الذي توجبه المصيبة. واحقوقف يجوز أن يكون للجمل الناجي الذي طواه الأين، ويجوز أن يكون ¬

_ (¬1) ديوان العجاج 45، وروايته: ما بال جاري دمعك المهلل … والشوق شاج للعيون الجذل (¬2) البيت لرؤبة بن العجاج: ديوانه: 160؛ تاج العروس (لحن). (¬3) البيت لجرير: ديوانه: 913؛ خزانة الأدب 4: 218؛ الخصائص 2: 420.

للهلال. قال سيبويه: (وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعد " له صوت " يدلّك على ذلك أنّك إذا أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت، وذلك قوله وهو لأبي كبير: ما إن يمسّ الأرض إلا منكب … منه وحرف الساق طيّ المحمل) (¬1) يريد أنّ طيّ المحمل قد نصب وليس قبله فعل من لفظه ولا معناه، لأنّ ما إن يمسّ الأرض إذا ركّبت " ما " مع " إن يمسّ " لم يكن فعلا ولكن معناه معنى طوي فقادت الضرورة إلى أن يضمر فعل ليس من اللفظ. وجعل سيبويه هذا دليلا على ما ذكره من إضمار فعل غير المذكور، وقد يدخل في: (صوت حمار)، ": إنّما أنت شرب الإبل "، و " إنما أنت سيرا سيرا "؛ لأنّه لا بدّ له من إضمار فعل فيكون المصدر محمولا على ذلك. قال أبو سعيد: ذكر سيبويه لمثل هذا تقوية لإضمار فعل فيما خالف مصدره لفظ الفعل المذكور، وإن قدّرنا المصدر منصوبا على أنّه مصدر فكأنه جواب لمن قال: أيّ فعل فعل إذا كان على الحال فكأنه جواب لمن قال على أيّ حال وقع، وإذا كان معرفة لم يكن حالا، وقد تقدم الكلام في هذا، وقد يجوز الرفع في ذلك بقوله: له صوت صوت حمار، وله خوار خوار ثور، إذا جعلته صفة للأوّل ولم ترد فعلا ولا إضماره. وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة للنكرة كما لم يكن حالا، لا تقول: له صوت صوت الحمار، وخوار خوار الثور إذا أردت الصفة، وإنما يجوز ذلك في البدل. قال سيبويه: (وزعم الخليل أنّه يجوز أن تقول: له صوت صوت الحمار على الصفة؛ لأنّه تشبيه فمن ثم جاز وحسن أن تصف به النكرة). وتفسير مذهب الخليل أنّ معناه: له صوت مثل صوت الحمار، ومثل وإن كان مضافا إلى معرفة فهو نكرة فلذلك جاز عنده الصفة. (وزعم الخليل أنّه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد على الصفة إذا ¬

_ (¬1) ينسب لأبي كبير الهذلي (عامر بن الحليس): ديوان الهذليين ق 2: 93؛ الإنصاف 1: 230؛ الخصائص 2: 311.

هذا باب ما يختار فيه الرفع

أردت مثل أخي زيد). واستضعفه سيبويه فقال: (ولو جاز هذا لقلت: هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل). ولجاز أن تقول: جاءني زيد أخاك، تريد مثل أخيك، ومثل البزاز، وهذا يقبح جدّا، كما قبح أن يكون حالا إلا في شعر أو ضرورة. قال: (وهو في الصفة أقبح لأنّك تنقض ما تكلّمت به). يريد أنّ الصفة والموصوف كشيء واحد، فلا يجوز أن يكون أحدهما معرفة والآخر نكرة، والحال مع الذي منه الحال ليسا كشيء واحد فصار في الصفة أقبح. هذا باب ما يختار فيه الرفع (وذلك قولك: له علم علم الفقهاء، وله رأي رأي الأصلاء. وإنّما كان الرفع في هذا الوجه لأن هذه خصال يذكرها في الرجل كالحلم والعقل والفضل، ولم ترد أنك مررت برجل في حال تعلّم ولا تفهّم، ولكنك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه، وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها، كقولك: له حسب حسب الصالحين). قال أبو سعيد: إنّما يرفع الثاني على أحد وجهين: إما أن يكون بدلا من الأول؛ كأنه قال: له علم الفقهاء، وله حسب الصالحين، أو على إضمار هو وما أشبهه، كأنه قال: علم هو علم الفقهاء، وكان الاختيار فيه للرّفع؛ لأنه شيء قد ثبت فيه فصار بمنزلة اليد والرّجل. ألا ترى أنّك لو قلت: له رأس رأس البقر، وله رجل رجل الفيل ويد يد الحمار وما أشبهه لم يكن فيه إلا الرّفع. وإنما فرّق بين هذا الباب والباب الأول لأن الباب الأول شيء لم يثبت وإنما يعالج عمله لأنه إذا قال: له صوت صوت حمار؛ فهو شيء يعالجه في الوقت. وإذا قلت: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، فتصويته إنما كان في وقت مرورك به؛ فوجب من أجل ذلك إضمار فعل ينصب. (ويدلّك على ذلك ويكشفه قولهم: له شرف وله دين وله فهم). ولا يراد بذلك أنه يتشرّف ويتديّن ويتفهّم من غير أن يكون استقرت هذه الأشياء. (ولو أرادوا أن يخبروا أنه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال له: ديّن

هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا وذلك إذا كان الآخر هو الأول

لقالوا: يتديّن وليس له دين، وكذلك يتشرّف وليس له شرف، ويتفهّم وليس له فهم، قال: فلما كان هذا اللفظ الذي استكمل ما كان غير علاج بعد النصب). قال أبو سعيد: يعني أن قولهم: له علم علم الفقهاء، وحسب حسب الصالحين، وفهم فهم الأدباء، يقال ذلك لمن فيه فهم مستقر فبعد النصب فيه في قولنا: أمرّ به فإذا له صوت صوت حمار؛ إنما هو معالجة للصوت وإخراجه. ولو أراد بقوله علم تعلّم وتفهّم وتعاط له لجاز النصب، وصار بمنزلة له صوت صوت حمار، إلا أن المفهوم من كلام الناس وما جرت به عادتهم أنّ ذلك مدح للمذكور، حصل له بما استقرّ فيه من العلم والفهم وغير ذلك. هذا باب ما يختار فيه الرفع إذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا وذلك إذا كان الآخر هو الأول وذلك نحو قولك: (له صوت صوت حسن؛ لأنك إنما أردت الوصف، فكأنك قلت: له صوت حسن، وإنما كرّرت الصوت توكيدا، ولم ترد أن تحمله على الفعل) ومثل هذا: مررت برجل رجل صالح، وعنده ثوب ثوب حسن، فيعيدون الاسم فينعتونه بالنّعت الذي يكون للأول. (ومثل ذلك: له صوت أيّما صوت، وله صوت مثل صوت الحمار، لأن أيّ والمثل صفة أبدا، فإذا قلت: أيّما صوت، فكأنك قلت: له صوت حسن جدّا، وهذا صوت شبيه بذلك، فأيّ ومثل فيهما الأول، الرفع فيهما أحسن؛ لأنّك ذكرت اسما يحسن أن يكون هذا الكلام منه؛ فلمّا كان منه حمل عليه، كقولك: هذا رجل مثلك، وهذا رجل حسن، وهذا رجل أيّما رجل). قال أبو سعيد: معنى قول سيبويه: يعني هو هو، وهو يستعمله في بعض كلامه، يريد أن قولك: له صوت إنّما هو الأوّل، وصوت مثل صوت الحمار، مثل: هو الأوّل. وأراد أن يفرّق بين هذا وبين قوله: له صوت صوت حمار؛ لأنّ صوت حمار ليس بالصوت الأوّل، ولم يظهر لفظ مثل فيختار فيه الرفع. وإذا قلت: له صوت صوت حمار فيقول سيبويه: (إنّما جاز رفعه على سعة الكلام

كما جاز لك أن تقول: ما أنت إلا سير). قال أبو سعيد: يريد أن جوازه على إضمار " مثل " كإضمارك في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬1) على معنى أهل القرية، وكإضمارك وما أنت إلا سير، أي إلا صاحب سير. فمن اختار: ما أنت إلا سيرا، اختار له صوت صوت حمار، ومن اختار الرفع في ذلك اختار الرفع في هذا. (ولو قلت: له صوت أيّما صوت، وله صوت مثل صوت الحمار، أو له صوت صوتا حسنا جاز، وإنما جاز هذا على الحال، أو على المصدر بإضمار فعل؛ لأنّ في قوله: له صوت دلالة على التصويت، فأجاز الخليل النصب لهذا المعنى، ويقوّي ذلك أنّ يونس وعيسى جميعا زعما أن رؤبة بن العجاج كان ينشد هذا البيت: فيها ازدهاف أيّما ازدهاف وفي كتاب أبي بكر مبرمان مفسّر في الحاشية؛ الازدهاف: العجلة، وليس كذلك، قال رؤبة يخاطب أباه ويعاتبه في قصيدة فيها: أقحمتني في النفنف النّفناف … في هول مهوى هوّة الرصّاف (¬2) قولك أقوالا مع التّحلاف … فيها ازدهاف أيّما ازدهاف وفسّر الازدهاف: الشّدّة والأذى، وحقيقته: استطارة القلب أو العقل من شدة الجزع أو الحزن. قال الشاعر: ترتاع من نفرتي حتّى تخيّلها … جون السّراة تولّى وهو مزدهف (¬3) وقالت امرأة من العرب: بل من أحسّ بنيّ اللذين هما … قلبي وعقلي فعقلي اليوم مزدهف (¬4) ¬

_ (¬1) الآية سبق تخريجها. (¬2) البيتان لرؤبة بن العجاج: ديوانه: 100؛ خزانة الأدب 2: 43؛ شرح المفصل 10: 49. (¬3) غير منسوب، تاج العروس (زهف). (¬4) البيت ينسب لأم حكيم بنت قارظ بن خالد الكنانية، وقيل: هي عائشة بنت عبد المدان: =

هذا باب ما الرفع فيه الوجه

ونصب أيّما على تقدير تزدهف أيّما ازدهاف، لأنّ له ازدهاف قد دلّ على ذلك وصار بدلا من اللفظ بالفعل. هذا باب ما الرفع فيه الوجه (وذلك قولك: هذا صوت صوت حمار لأنك لم تذكر فاعلا لأنّ الآخر هو الأول حيث قلت: " هذا "، فالصوت هو " هذا " ثم قلت: صوت حمار؛ لأنك لم تشبّه وجعلته هو صوت الحمار لمّا سمعت نهاقا، فلا شك في رفعه وإن شبّهت أيضا فهو رفع؛ لأنك لم تذكر فاعلا يفعله وإنما ذكرت ابتداءه كما تبتدئ الأسماء فقلت " هذا " ثمّ بنيت عليه شيئا هو هو فصار كقولك هذا رجل رجل حرب). وليس هذا كقولك: له صوت؛ لأنّ اللام دخلت على فاعل الصوت، كأنك قلت: لزيد صوت، ودل ذلك على أنه يصوّت أو قد صوّت، وقولك: هذا صوت صوت حمار، كقولك: هذا رأس رأس حمار، وهذا رجل أخو حرب إذا أردت الشبه؛ لأنه قام مقام مثل وهو مرفوع. (ومن ذلك: عليه نوح نوح الحمام والاختيار فيه الرفع؛ لأنك لم تذكر الفاعل للنوع فتدل بذكره على الفعل فتنصب). قال أبو سعيد: الفرق بين " هذا " وبين " له صوت " أن الذي له الصوت فاعل الصوت، والذي عليه النّوح ليس بفاعل للنّوح. وقولك: نوح الحمام ليس بصفة لنوح، لأنه معرفة ونوح نكرة، وإنما هو بدل، أو على إضمار هو، وقد مضى نحو هذا. وإذا قلت لهنّ نوح نوح الحمام وأنت تعني النوائح كان الوجه النصب؛ لأنّهنّ الفاعلات، كما كان في قولك له صوت صوت الحمار، وإنما قولك عليه نوح أنه موضع للنّوح الذي ناحه غيره. قال سيبويه: (ولو نصبت لكان وجها؛ لأنّه إذا قال: هذا صوت وهذا نوح فقد أحاط العلم أن مع الصوت والنّوح فاعلين فتجعله على المعنى) كما قال: ¬

_ = الأغاني 16: 271؛ تاج العروس (زهف).

قد سالم الحيات منه القدما … الأفعوان والشّجاع الشّجعما (¬1) قال أبو سعيد: الشاهد: أنّه رفع الحيّات بسالم، ونصب القدم لأنّه مفعول سالم، والأفعوان وما بعده هنّ الحيات فنصبها وحقّها الرفع بالبدل من الحيات فحمل نصبهنّ على المعنى، وذلك أن سالم وباب فاعل حقّه أن يكون من اثنين كلّ واحد منهما يفعل بصاحبه مثل الذي يفعله صاحبه به، فلما قال: سالم الحيات القدم دلّ على أن القدم مسالمتها فأضمر مسالمة القدم للأفعوان؛ فكأنه قال: سالمت القدم الأفعوان. وكان الفرّاء ينشد " الحيّات " منصوبا بكسر التاء ويجعل القدم تثنية، أراد: القدمان وحذف النون للضرورة كما قال: أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا … قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا (¬2) وقال تأبّط شرّا: هما خطّتا إمّا إسار ومنّة … وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر (¬3) أراد " خطّتان "، ورأيت من روى: " هما خطتا إما إسار ومنّة " بخفض إسار ويجعل خطتا مضافا إلى إسار. ومما حمل على المعنى قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة … ومختبط مما تطيح الطوائح (¬4) رفع يزيد بما لم يسمّ فاعله، ثم رفع ضارعا على المعنى؛ لأنه لما قال: ليبك علم أنّ باكيا يبكيه فأضمر ليبكه ضارع، ومثله في بعض القراءات: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ (¬5) كأنه قال: زيّنه ¬

_ (¬1) البيت للعجاج: ديوانه 89؛ خزانة الأدب 10: 240، 11: 411. (¬2) البيت للأخطل: ديوانه: 387؛ المقتضب 4: 146؛ شرح المفصل 3: 154، 155؛ المنصف 1: 67. (¬3) البيت سبق تخريجه. (¬4) البيت للأخطل: ديوانه: 44؛ خزانة الأدب 3: 185، 8: 210، شرح المفصل 3: 154، 155. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 137. وهي قراءة ابن عامر، انظر: الميسر في القراءات الأربعة عشر، ص: 145.

هذا باب ما لا يكون فيه الرفع

شركاؤهم، وبعض يروي ليبك يزيد ضارع، فينصب " يزيد " ولا شاهد في هذا. هذا باب ما لا يكون فيه الرفع (وذلك قولك: له يد يد الثور، وله رأس رأس الحمار؛ لأنّ هذا الاسم فلا يتوهّم أن الرجل يصنع يدا أو رجلا وليس بفعل وقد مضى هذا في خلال ما أمليناه). هذا باب آخر لا يكون فيه إلّا الرفع (وذلك قولك: صوته صوت حمار، وتلويحه تضميرك السابق، ووجدي به وجد ثكلى). وإنما وجب الرفع لأن قولك صوته مبتدأ لا بدّ له من خبر، وصوت حمار خبره على معنى: مثل صوت حمار فوجب رفعه، قال الشاعر: وجدي بها وجد المضلّ بعيره … بنخلة لم تعطف عليه العواطف (¬1) وكذلك لو قلت: مررت به فصوته صوت حمار. قال سيبويه: (فإن قال: فإذا صوته يريد الوجه الذي يسكت عليه دخله النصب، لأنه يضمر بعده ما يستغنى به). قال أبو سعيد: يريد أنّ " إذا " هذه وهي التي تكون للمفاجأة إذا كان بعدها مبتدأ جاز أن يسكت عليها ولا يؤتى لها بخبر كقولك: خرجت فإذا زيد، ويجوز أن يؤتى بخبرها فيقال: خرجت فإذا زيد قائم. فإذا قال: صوته صوت حمار وهو يريد الوجه الذي تأتي فيه بالخبر فقد وجب رفع الثاني كما يرفع في قولك: صوته صوت حمار. وإن قدّر الاستغناء عنه كان منصوبا على الحال أو بإضمار فعل على نحو ما مضى. هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر (فانتصب لأنه موقوع له، ولأنه تفسير لما قبله؛ وليس بصفة لما قبله ولا منه فانتصب كما انتصب " الدّرهم " في قولك: عشرون درهما. وذلك قولك: فعلت ذلك حذار الشرّ، وفعلت ذاك مخافة فلان، وادخار فلان، ¬

_ (¬1) البيت لمزاحم العقيلي: شرح أبيات سيبويه 1: 32؛ تاج العروس (عطف).

قال الشاعر وهو حاتم: وأغفر عوراء الكريم ادّخاره … وأعرض عن شتم اللئيم تكرّما (¬1) وقال النابغة: وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع … يخال به راعي الحمولة طائرا حذارا على أن لا تصاب مقادتي … ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا (¬2) وقال الحارث بن هشام: فصفحت عنهم والأحبة فيهم … طمعا لهم بعقاب يوم مفسد (¬3) وقال العجّاج: يركب كلّ عاقر جمهور … مخافة وزعل المحبور والهول من تهوّل الهبور (¬4) وفعلت ذاك أجل كذا وكذا، فهذا كله ينتصب؛ لأنه مفعول له كأنه قيل له: لم فعلت كذا وكذا فقال: لكذا وكذا لمّا طرح اللام عمل فيه كما عمل في " دأب بكار " ما قبله حين طرحت مثل وكان حالا تعني دأب بكار). قال أبو سعيد: اعلم أنّ المصدر المفعول له إنّما هو السبب الذي له يقع ما قبله وهو جواب لقائل قال له: لم فعلت كذا؟ فيقول: لكذا وكذا، كرجل قال لرجل: لم خرجت من منزلك؟ فقال: لابتغاء رزق الله، أو قال له: لم تركت السوق؟ فقال للخوف من زيد ولحذار الشرّ. ¬

_ (¬1) البيت لحاتم الطائي: ديوانه 25؛ خزانة الأدب 3: 15، 122؛ شرح المفصل 2: 54. (¬2) البيتان للنابغة الذبياني: الديوان 69؛ شرح المفصل 2: 54؛ شرح قطر الندى: 172. (¬3) البيت للحارث بن هشام: شرح أبيات سيبويه 1: 36؛ شرح المفصل 2: 54. (¬4) البيت للعجاج: ديوانه: 28؛ خزانة الأدب 3: 114، 116. والهبور: جمع هبر، بالفتح، وهو ما اطمأن من الأرض وحوله مرتفع، وفي رواية أخرى: القبور.

وبعض النحويين يقدّره ب " لولا " ومعناه: لولا حذار الشرّ ما تركت السوق، ولولا ابتغاء رزق الله ما خرجت من البيت، وذلك على ضربين: أحدهما: أن تفعل الفعل تجذب به فعلا آخر، كقولك: احتملتك لاجتذاب مودّتك، ولاستدامة مسالمتك، فهو معنى تجذبه باحتماله. والوجه الآخر: أن تدفع بالفعل الأول معنى حاصلا، وتجذب به معنى آخر كقولك: فعلت ذاك حذار شرّ زيد؛ كأنّ الحذار معنى حاصل تزيله بفعل ذلك الشيء، وتجذب ضده من الأمر. ويجوز أن يكون هذا المصدر معرفة ونكرة؛ لأنه ليس بحال فيحتاج فيه إلى لزوم النكرة. فأما المعرفة: فقولك ذلك لابتغاء الخير وللخوف من زيد. وأمّا النكرة: فقولك لابتغاء الخير، ولخوف من زيد، ويجوز حذف اللام ونصب الذي بعدها كقولك: قلته ابتغاء الخير، وحذارا من شرّ، والناصب للمصدر الفعل المذكور لا غير، والدليل على ذلك: أن قائلا لو قال: فعلت هذا الفعل لزيد لكانت اللام في صلة الفعل المذكور لا غير، ولم تكن بنا حاجة إلى طلب فعل آخر، فإذا ألقيت اللام وهي في موضع نصب بالفعل وصل الفعل إليه فنصبه، وتدخل " من " في معنى اللام لأنه يجوز أن تقول: خرجت من أجل ابتغاء الخير، واحتملت من أجل خوف الشّر، ومعناهما واحد، وعلى ذلك قوله عز وجل: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (¬1) أي لحذر الموت، أو من أجل حذر الموت. ولو قال قائل: فعلت هذا لزيد، أو من أجل زيد لم يجز حذف اللام، ونصب زيد؛ لأنه يقع في ذلك لبس، وإنما جاز في المصادر لزوال اللبس، ولأنه جواب لم، ولا يحسن أن تقول: لم خرجت؟ فيقول: لزيد؛ لأن موضعه على شيء يطلب حدوثه وليس زيد من ذلك. وقد أنكر النحويون أن يقام " حذار الشرّ " و " ابتغاء الخير " مقام الفاعل فلم يجيزوا أن يقال: سير بزيد حذار الشّرّ، ولا سير به ابتغاء الرّزق. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 19.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب لأنه موقع فيه الأمر

وقد أجازوا: سير بزيد يوم الجمعة، وسير به فرسخان، والفصل بينهما أن الظروف قد توسعت فيها العرب، فأقاموها مقام الفاعلين والمفعولين فقالوا: ليلك نائم ونهارك بطّال، قال الله عز وجل: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬1) فلمّا كان ذلك في الظروف أقاموها مقام الفاعل على السعة ولم يتّسع في المفعول له هذا الاتساع فيخرج عن بابه بإقامته مقام الفاعل. قال سيبويه: (وحسن في هذا الألف واللام؛ يعني المفعول له؛ لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل، ولا يشبّه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي وغيرهما؛ لأنه ليس موضع ابتداء ولا موضعا يبنى على مبتدإ، فمن ثمّ خالف باب " رحمة الله عليه "). يعني خالف باب " رحمة الله عليه " وسائر المصادر التي يجوز فيها الرفع والنصب مما تقدّم ذكره فلم يجز في المفعول له غير النصب. يعني أن المصادر التي تنصب في أوّل الكلام قد ترفع- أيضا- بالابتداء وبخبر الابتداء، نحو: صبر جميل، وطاعة، وقول معروف. هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب لأنّه موقع فيه الأمر (وذلك قولك: قتلته صبرا، ولقيته كفاحا، ولقيته فجاءة، ومفاجأة ولقيته عيانا، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضا وعدوا ومشيا، وأخذت ذلك عنه سماعا وسمعا، وليس كلّ مصدر- وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب- يوضع هذا الموضع؛ لأن المصدر هنا في موضع فاعل إذا كان حالا. ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعة، ولا أتانا رجلة، كما أنه ليس كلّ مصدر يستعمل في باب سقيا وحمدا). قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أنّ مذهب سيبويه في: أتيت زيدا مشيا وركضا وعدوا، وما ذكره معه أن المصدر في موضع الحال كأنّه قال: أتيته ماشيا وراكضا وعاديا، وكذلك: قتلته صبرا أي: قتلته مصبورا، ولقيته مفاجئا ومكافحا ومعاتبا، وكلمته مشافها، وأخذت ذلك عنه سماعا إذا كان الحال من الفاء، وإن كان من الهاء فصابرا، وليس ذلك بقياس مطّرد وإنما يستعمل فيما استعملته العرب، لأنه شيء وضع في موضع غيره كما أن ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية: 33.

باب سقيا لا يطّرد فيه القياس، فيقال طعاما وشرابا، وقد ذكر هذا فيما تقدم. وكان أبو العباس يجيز هذا في كلّ شيء دلّ عليه الفعل فأجاز أن تقول: أتانا سرعة، وأتانا رجلة، ولا تقول: أتانا ضربا ولا أتانا ضحكا، لأن الضرب والضحك ليس من ضروب الإتيان والسرعة، والرّجلة من ضروب الإتيان، لأنّ الآتي ينقسم إتيانه إلى سرعة أو إبطاء أو توسّط، وتنقسم إلى رجلة وركوب، ولا ينقسم إلى الضرب والضحك. وكان يقول: إنّ نصبك مشيا إنما هو بالفعل المقدّر كأنه قال: أتانا يمشي مشيا، وكان يدّعي أنّ هذا القياس قول النحويين. وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح مذهب سيبويه وهو الصواب؛ لأن قول القائل: أتانا زيد مشيا يصح أن يكون جوابا لقائل قال: كيف أتاكم زيد؟ وكذلك: كيف لقيت زيدا؟ فتقول: فجاءة، إنما تقع للحال؛ فكأنه قال مفاجئا، ولو كان على ما قال المبرّد: إنّ الناصب للمصدر الفعل المضمر وأن ذلك الفعل المضمر في موضع الحال لجاز أن تقول: أتانا زيد المشي، وهو لا يجيز هذا، وعلى قياسه يلزمه ذلك؛ لأنه يكون تقديره: أتانا زيد يمشي المشي، والفعل يتعدّى إلى المصدر المحض الذي ليس فيه معنى الحال معرّفا ومنكّرا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: والذي عندي أنه يجوز أن تنصب مشيا وفجاءة على المصدر من غير الوجه الذي ذكره أبو العباس، وهو أن تجعل " أتى " في معنى: مضى إليّ، ويكون " مشيا " مصدرا له، وكذلك لقيته فجاءة، كأنه قال فاجأته مفاجأة على نحو ما تقدّم من المصدر الذي من غير لفظ الفعل المذكور، كقولهم: تبسّمت وميض البرق، وما أشبه ذلك. فإن قال قائل: فهل تجيز أن تقول جاءني زيد المشي، ولقيته الفجاءة إذا كان المصدر لا يمنع عمل الفعل فيه، وإن كان معرفة؟ قيل له: لا يجوز هذا لأنّ هذا المصدر لا يجوز استعماله في كل مكان على ما حكاه سيبويه من أنّه لا يقال: أتانا سرعة، وإنما هو شيء استعمل في غير موضعه فلم يتجاوز فيه ما استعملوه، ومثل ذلك قول الشاعر، وهو زهير:

وهذا باب ما جاء منه في الألف واللام

فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا … على ظهر محبوك ظماء مفاصله (¬1) فالتقدير فيه: فلأيا بلأى حملنا، وما زائدة، ولأيا: بطاء وجهدا، فكأنه قال: مجهودين حملنا وليدنا، ومبطئين حملنا وليدنا، ويقال: التأت عليه الحاجة إذا أبطأت، قال الراجز: ومنهل وردته التقاطا (¬2) أي: فجاءة، وهو من الأول. وهذا باب ما جاء منه في الألف واللام (وذلك قولك: أرسلها العراك، وقال لبيد: فأرسلها العراك ولم يذدها … ولم يشفق على نغص الدّخال) (¬3) ويروى: نغص الدّخال، فنصب العراك وهو مصدر عارك يعارك معاركة وعراكا إذا زاحم، وجعل العراك في موضع الحال وهو معرفة، وذلك شاذّ، وإنما يجوز مثل هذا لأنه مصدر ولو كان اسم فاعل ما جاز، لم تقل العرب أرسلها المعارك، ولا مثل جاء زيد القائم، وإنما وضعوا بعض المصادر للمعارف في موضع الحال فمنها مصادر بالألف واللام، ومنها مصادر مضافة إلى معارف. فأما ما كان بالألف واللام فالعراك، ومثله قول أوس بن حجر: فأوردها التقريب والشدّ منهلا … قطاه معيد كرّة الورد عاطف (¬4) أراد: فأوردها تقريبا وشدّا في معنى مقرّبا وشادّا، ومثله: ¬

_ (¬1) البيت لزهير بن أبي سلمى: ديوانه 133؛ شواهد القرطبي 3: 102. (¬2) ينسب إلى نقادة الأسدي، ويروى لرجل من بني مازن: شواهد القرطبي 1: 391؛ تهذيب إصلاح المنطق 183، 247؛ تاج العروس (لقط). (¬3) البيت للبيد بن ربيعة: ديوانه: 86؛ خزانة الأدب 3: 193؛ مغني اللبيب 2: 314؛ شرح ابن عقيل 1: 447. (¬4) البيت لأوس بن حجر: ديوانه: 69.

هذا باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في الباب الذي يليه

مدّت عليه الملك أطنابها … كأس رنوناة وطرف طمر (¬1) ومعنى البيت: أنه وصف ملكا دائم الشرب فقال: مدّت عليه، يعني: على الملك كأس، رنوناة أطنابها في معنى: الملك مملّكا الملك؛ فجعل الملك في معنى الحال، وتقديره: مملّكا. وأما ما جاء منه مضافا معرفة فقولك: طلبته جهدك وطاقتك، وفعلته جهدي وطاقتي، وهو في موضع الحال؛ لأن معناه: مجتهدا، ولا يستعمل هذا إلا مضافا، لا تقول، فعلته طاقة ولا جهدا وقد مضى من المصادر أن منها ما لا يستعمل إلا مضافا، نحو: معاذ الله، وعمرك الله. قال: (ومثله: فعله رأي عيني وسمع أذني، قال ذاك وإن قلت: سمعا جاز) لأنّه قد استعمل مضافا وغير مضاف. هذا باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في الباب الذي يليه (وذلك قولك: مررت به وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت برجل وحده ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم، وكذلك إلى العشرة. وزعم الخليل أنهّ إذا نصب ثلاثتهم فكأنّه يقول: مررت بهؤلاء فقط لم أجاوزهم. كما أنه إذا قال: وحده فإنما يريد: مررت به فقط لم أجاوزه. وأمّا بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول إن كان جرّا فجرّ، وإن كان نصبا فنصب وإن كان رفعا فرفع. وزعم الخليل أن الذين يجرّونه كأنّهم يريدون أن يعمّوا كقولك: مررت بهم كلّهم أي لم أدع منهم أحدا. وزعم الخليل حين مثّل نصب وحدهم وخمستهم أنه كقولك: مررت بهم أفرادهم، أي إفرادا لهم، فهذا تمثيل وإن لم يستعمل في الكلام) قال أبو سعيد- رحمه الله-: ليونس قول في " وحده " يأتي في الباب الثالث من هذا ¬

_ (¬1) بدون نسبة: الخصائص 2: 24؛ المقاييس 2: 443 (وقد نسبه إلى عمرو بن أحمر).

هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصدر الذي فيه الألف واللام نحو: العراك

الباب، وأنا أفسر جملة هذا الباب مع ذكر قول يونس. قال سيبويه: (ومثل " خمستهم " في الكلام قول الشاعر، وهو الشّمّاخ: أتتني سليم قضّها بقضيضها … تمسّح حولي بالبقيع سبالها) (¬1) قال أبو سعيد: هذا البيت في النّسخ منسوب إلى الشماخ، وهو لأخيه مزرّد والنحويّون يروونه في الاستشهاد منصوب اللام من سبالها، وهي مرفوعة أولها في شعره: أتتني خفاف قضّها بقضيضها … تمسّح حولي بالبقيع سبالها يقولون لي احلف قلت لست بحالف … أخادعهم عنها لعلّي أنالها ففرّجت غمّ الموت عني بحلفة … كظهر الجواد يردّ عنها جلالها (¬2) وقد استعمل " قضّها بقضيضها " على وجهين: منهم من ينصبه على كلّ حال؛ فيكون بمنزلة المصدر المضاف المجعول في موضع الحال كقولك: مررت به وحده وفعلته جهدك وطاقتك. ومنهم من يجعله تابعا لما قبله في الإعراب فيجريه مجرى كلّهم، فيقول: أتتني سليم قضّها بقضيضها، ورأيت سليما قضّها بقضيضها، ومعناها: أجمعين، أو كلهم، وهو مأخوذ من القضّ وهو الكسر، وقد يستعمل الكسر في معنى الوقوع على الشيء بسرعة، كما يقال: عقاب كاسر، وكأن معنى قضّهم: انقضّ بعضهم على بعض وتجمعوا. هذا باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصدر الذي فيه الألف واللام نحو: العراك (وهو قولك: مررت بهم الجمّاء الغفير، والناس فيها الجمّاء الغفير، فهذا ينتصب كانتصاب العراك. ¬

_ (¬1) البيت للشماخ بن ضرار، وقيل: لأخيه مزرد: ديوانه 290 وروايته: وجاءت سليم قضها بقضيضها … تمسح حولي بالبقيع سبالها يقولون لي: احلف قلت لست بحالف … أخادعهم عنها لكيما أنالها ففرجت كرب النفس عني بحلفة … كما شقت الشقراء عنها جلالها شرح المفصل 2: 63؛ التكملة 5: 387؛ تاج العروس (قضض). (¬2) المصدر السابق.

وزعم الخليل أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلموا به على نيّة ما يدخله الألف واللام، وهذا يجعل مثل قولهم: مررت بهم قاطبة، ومررت بهم طرّا، أي جميعا، إلا أنّ هذا نكرة لا تدخله الألف واللام كما أنه ليس كل مصدر بمنزلة العراك، كأنه قال: مررت بهم جمعا لهم، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به، فصار طرّا وقاطبة بمنزلة سبحان في بابه لا يتصرّف كما كان طرّا وقاطبة لا يتصرفان، ولا يكونان معرفة، وهما في موضع المصدر، ولو كانا في موضع الصفة لجريا على الاسم ولبنيا على الابتداء ولم يوجد هذا في الصفة، وقد رأينا المصادر قد صنع بها هذا). قال أبو سعيد: اعلم أنّ الجمّاء: هو اسم، والغفير: نعت لها، وهو بمنزلة قولك- في المعنى-: الجمّ الكثير، لأنّه يراد به: الكثرة، والغفير يراد به: أنّهم قد غطّوا الأرض من كثرتهم، من قولنا: غفرت الشيء، أي: غطيته، ومنه: المغفر؛ الذي يوضع على الرأس لأنه يغطيه، ونصبه في قولك: مررت بهم الجمّاء الغفير على الحال، وقد تقدّم القول أن الحال إذا كانت اسما غير مصدر لم يكن بالألف واللام، فأحوج ذلك سيبويه والخليل أن جعلا " الجمّاء الغفير " في موضع المصدر كالعراك، كأنّك قلت: مررت بهم الجموم الغفر، على معنى: مررت بهم جامين غافرين للأرض، ولم يذكر أصحابنا أنهما يستعملان في غير الحال، وذكر غيرهم شعرا فيه الجمّاء الغفير مرفوع، وهو قول الأعشى: صغيرهم وشيخهم سواء … هم الجمّاء في اللّؤم الغفير (¬1) وأما قولهم: مررت بهم قاطبة، ومررت بهم طرّا؛ فعلى مذهب الخليل وسيبويه جميعا هما في موضع مصدرين، وإن كانا اسمين، وذلك أن قاطبة وإن كان لفظها لفظ الصفات كقولنا: ذاهبة، وقائمة، وطرّا وإن كان لفظها لفظ صغرا وشهيا وما أشبه ذلك فإنه لا يجوز حملها إلا على المصدر، وذلك أنّا رأينا المصادر قد يخرجن عن التمكن؛ فلذلك حمل سيبويه " قاطبة " و " طرّا " على المصدر، وصار بمنزلة مصدر استعمل في ¬

_ (¬1) ورد البيت في الأصل هكذا: صغيرهم وكبيرهم وشيخهم سواء … هم الجمّاء وفي اللوم الغفير والذي أثبتناه هو الصواب، كي يستقيم الوزن. ولم نعثر عليه في ديوان الأعشى، والبيت منسوب للراعي النميري، عبيد الله بن حصين بن معاوية.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم

موضع الحال، ولم يتجاوز ذلك الموضع، كما لم يتجاوز ما ذكرناه من المصادر في موضعه، وفيما ذكرنا خلاف من يونس يذكره سيبويه في الباب الذي يليه ونشرحه إن شاء الله. هذا باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم (وذلك قولك: مررت بهم جميعا وعامّة وجماعة، كأنك قلت مررت بهم قياما). قال سيبويه: (وإنما فرقنا بين هذا الباب والباب الأول لأنّ الجميع والعامة اسمان متصرفان، تقول: كيف عامتكم؟، وهؤلاء قوم جميع، فإذا كان الاسم حالا يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف). قال أبو سعيد:- رحمه الله- اعلم أنك إذا قلت: مررت بهم جميعا فله وجهان: أحدهما: أن تريد مررت بهم وهم مجتمعون؛ كما قال الله عزّ وجل: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (¬1). والآخر أن تريد مررت بهم فجمعتهم بمروري، وإن كانوا متفرقين في مواضع، فإن أردت الوجه الأول فهو حال لا وجه له غيره. وإن أردت الوجه الثاني جاز أن يكون في موضع مصدر بإضمار فعل آخر كأنه قال: جمعتهم جمعا في مروري. وإن صيرناه حالا فعلى نحو قوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا (¬2) وقولهم: قم قائما، وقد ذكرنا هذا فيما مضى. وعامة وجماعة بمنزلة جميع، ولا يجوز أن تقول: مررت بهم الجميع والعامة والجماعة، ولا مررت بهم جميعهم وجماعتهم، كما لا يجوز ضربته القائم تريد قائما، ولا ضربتهم قائمهم تريد قائمين، وإنما جاز مررت بهم خمستهم؛ لأنه على مذهب الخليل وسيبويه يجعل خمستهم بمنزلة المصدر كقولهم طاقته وجهده، والجمّاء الغفير بمنزلة العراك وطرّا وقاطبة حين لم يكونا موصوفين بمنزلة الجمع؛ لأنّ القطب في الأصل هو: ضمّ الشيء، تقول: قطبت الشيء أي: ضممته وجمعته، والطّرّ: مأخوذ من أطرار الطريق ¬

_ (¬1) سورة القمر، الآية: 44. (¬2) سورة النساء، الآية: 79.

وهي: جوانبه، وصار طرّا وقاطبة في معنى جمعا، وصار نصبها كنصب مررت بهم جمعا، ورأيته مكافحة وفجاءة. قال سيبويه: (فجعلت هذه يعني الجمّاء الغفير بمنزلة المصادر المعروفة البيّنة، يعني: العراك وما جرى مجراه، كما جعلوا عليك ورويدك كالفعل المستعمل، وكما جعلوا لبّيك، وسبحان بمنزلة سقيا وحمدا، وهذا تفسير الخليل. ومعنى قولهم: جعلهم عليك، ورويدك كالفعل المستعمل فإنّ عليك زيدا بمنزلة خذ زيدا، ورويدك كقولك: أمهل زيدا، وكجعلهم لبيك وسبحان وإن كانا غير متصرفين بمنزلة حمدا وسقيا في النصب، وتقدير ناصب ينصبها). وقد حكي عن المازنيّ أنه قال: يقال طررت القوم إذا مررت بهم جميعا، وإذا صح هذا لم يوجب تمكّن " طرّا " لا يكون مأخوذا من لفظ " طرّ " كما أخذ " سبّح " من لفظ " سبحان "، وهلل من قولك: لا إله إلا الله. قال: (وزعم يونس أنّ " وحده " بمنزلة عنده وأن " خمستهم " و " الجمّاء الغفير " و " قضّهم " بمنزلة قولك: جميعا وعامّة، وكذلك طرّا وقاطبة عنده بمنزلة وحده، وجعل المضافة منه بمنزلة " كلّمته فاه إلى فيّ "، وليس مثله لأن الآخر هو الأول عند يونس، وفاه إلى فيّ ههنا غير الأول، وأما طرّا وقاطبة فأشبه ذلك لأنّه جيّد أن يكون حالا غير أن المصدر نكرة، والذي نأخذ به الأول). قال أبو سعيد: مذهب يونس أن الجمّاء الغفير اسم؛ لأنّه موضع المصدر وأن الألف واللام في نية الطرح، وقد ردّ هذا سيبويه بأنّ " فاه إلى في " غير الأول، و " وحده " عند يونس هو الأوّل، ومعنى ذلك أن يونس يجعل " وحده " إذا قلت: " مررت به وحده " بمنزلة متوحّدا ومنفردا، ويجعل المرور به، وكذلك إذا قلت: لقيته وحده جعلت " وحده " بمعنى منفردا وجعلته الملقيّ، وتقول: " كلّمته فاه إلى فيّ " معناه معنى المشافهة، وذلك وجه آخر. قال يونس: " مررت به وحده "، معناه على حياله في موضع الظّرف، وإذا كان الظرف صفة أو حالا قدّر فيه مستقرّ ناصب للظرف، ومستقر هو الأول. وأما مذهب سيبويه في " وحده " فالذي قال المبرّد: إنه يحتمل أن يكون الفاعل والمفعول به، أما كونه للمفعول به فهو أن تقول: مررت به وحده أي: منفردا في مكانه

هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله

لم يكن معه غيره. والآخر: أن تجعل قصدك إليه دون غيره؛ فتقول: مررت به وحده أي: لم أعتمد غيره في مروري. وكان الزجّاج يذهب إلى أنّ وحده مصدر هو للفاعل دون المفعول فإذا قلت: مررت به وحده، كأنك قلت: أفردته إفرادا، ثم إنّ سيبويه جعل يونس في جعله طرّا وقاطبة اسمين لا مصدرين أعذر منه في الجمّاء الغفير لأنّهما نكرات وهما اسمان، غير أنه لا يقول بقوله من أجل أنه لو كانا اسمين لجاز أن يستعملا متمكنين؛ لأن هذا مثل التي تستعمل أحوالا. (وأما كلّهم وجميعهم وأجمعون وعامّتهم وأنفسهم فلا تكون أبدا إلا صفة). قال أبو سعيد: يعني توكيدا لما قبله وجاريا عليه. وتقول: " هو نسيج وحده " فهو مدح، وأصله أنّ الثوب إذا كان مرتفعا لا ينسج على منواله معه غيره، فكأنه قال نسيج إفراده، ويقال: هذا للرجل إذا أفرد بالفضل. وأما " عيير وحده " و " جحيش وحده " فهو تصغير عير وهو: الحمار وجحش وهو: ولد الحمار، ويذمّ بهذا الرّجل، وهو الذي ينفرد فيما يخصّه بفعله ولا يخالط أحدا في رأي ولا معونة ولا يدخل في معونة أحد، ومعناه: أنه ينفرد بخدمة نفسه، وقد يقال: جحيش نفسه وعيير نفسه على ذلك المعنى. هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله (وذلك قولك: هذا عبد الله حقّا، وهذا عبد الله الحقّ لا الباطل، وهذا زيد غير ما تقول. وزعم الخليل أنّ قوله: " هذا القول لا قولك "، إنّما نصبه كنصب " غير ما تقول "؛ لأنّ " لا قولك " في ذلك المعنّى. ألا ترى أنّك تقول: هذا القول لا ما تقول، فهذا في موضع نصب، فإذا قلت لا قولك فهو في موضع لا ما تقول). قال أبو سعيد: حقّا وما بعده مصادر، والناصب لها فعل قبلها يؤكد الجملة، وذلك الفعل أحقّ أو ما جرى مجراه، وذلك أنك إذا قلت هذا عبد الله جاز أن يكون كلامك قد جرى على يقين منك وتحقيق، وجاز أن يكون على شكّ، ويجوز أن يكون حقّا معرفة ونكرة لأنه ليس بحال، وإذا قلت: الحقّ لا الباطل؛ فالباطل عطف على الحق بلا كما

تقول: رأيت زيدا لا عمرا، وإذا قلت: هذا زيد حقّا لا باطلا، وإن شئت: هذا زيد أقول غير ما تقول، إذ قد عرف أن قول المخاطب باطل فكأنه قال: أقول الحقّ، وإذا قال: هذا القول لا قولك فكأنه قال: هذا القول لا أقول قولك إذ كان باطلا. (ومثله في الاستفهام: أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ وأصله من الجدّ، كأنه قال: أجدّا، غير أنه لا يستعمل إلا مضافا). حتى يعلم من صاحب الجد، ولا يجوز أن تترك الإضافة في قولك: هذا القول لا قولك، أو غير قولك لم يكن ما نفيته بلفظ على البطلان، ولو نعتّه بشيء يدلّ على أنه باطل لجاز لو قلت: هذا القول غير قولك باطلا، أو قيل: كذب ضعيف أو نحو ذلك ممّا يدلّ على قوّة ضده وصحته لجاز وكان فيه توكيد، والمبتغى من ذلك أن تحصل الفائدة للتوكيد. (ومن ذلك أيضا: قولك: قد قعد البتّة، ولا يستعمل إلا معرفة بالألف واللام، كما أن جهدك وأجدّك لا يستعملان إلا معرفة بالإضافة) كما لزم بعض ما مضى من المصادر التعريف، كقولك: سبحان الله، ولبيك وسعديك، وعمرك الله وقعدك. (وأمّا الحقّ والباطل فيكونان معرفة بالألف واللام ونكرة؛ لأنهما لم ينزلا منزلة ما لم يتمكّن من المصادر). وفي نسخة الزجّاج: منزلة ما لم يتمكن من المضاف كسبحان وسعديك. فقال الزجاج: إذا قلت: " هذا زيد حقّا "، " وهذا زيد غير " قيل: باطل، لم يجز تقديم حقّا، لا تقول حقّا هذا زيد؛ فإن ذكرت بعض هذا الكلام فوسّطته وقلت: زيد حقّا أخوك، وزيد قائما أخوك، وطولت بالفرق بين " زيد حقا أخوك وزيد قائما أخوك " على الحال، فقيل له أنت لا تجيز: زيد قائما أخوك إذا أردت به الصّداقة لا غير؛ لأنه غير متمكّن فلم أجزت: زيد حقا أخوك؟ فقال: إنما امتنعت تقديم الحال لأنّ العامل فيه أخوك وليس بعامل قويّ، فإذا قلت: " حقّا " فالعامل فيه أحقّ وهو فعل مضمر، فإذا ذكرت بعض الكلام فعلم أنّي فيه: إما متيقّن وإما شاك جاز أن أضمر اللّفظ الذي يدلّ على أحد المتوهمين منّي. قال أبو سعيد: لم يذكر سيبويه بطلان تقديم حقّا، بل قد قال في الاستفهام: أجدّك لا تفعل كذا وكذا؟ كأنه قال: أحقّا لا تفعل كذا، فقد تقدّم " أحقّا " و " أجدّك " على الجملة

هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا

التي بعدها، ولم يورد الزجّاج هذا على نفسه، ولعل المجيب عنه يقول: إن ألف الاستفهام لمّا كانت طالبة للفعل وفي الجملة تقدير فعل قدّم، وفي ذلك نظر والله الموفق. هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا (وذلك قولك: له عليّ ألف درهم عرفا، ومثل ذلك قول الشاعر وهو الأحوص: أصبحت أمنحك الصدود وإنّني … قسما إليك مع الصدود لأميل (¬1) وإنما صار توكيدا لنفسه؛ لأنه حين قال: له عليّ فقد أقرّ واعترف، وحين قال: لأميل، علم أنه قد حلف ولكنّه قال عرفا وقسما توكيدا، كما أنه إذا قال: سير عليه؛ فقد علم أنه كان " سير: ثم قال: سيرا توكيدا). قال أبو سعيد: الفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله في جعله الباب الأول توكيدا لما قبله، وجعله هذا الباب توكيدا لنفسه أن الباب الأول إذا قال: هذا عبد الله حقّا، أنّ قوله: هذا عبد الله من قبل أن تذكر حقّا يجوز أن يظنّ أن ما قاله حقّ وأن يظن أن ما قاله باطل فتأتي ب (حقّا) لتجعل الجملة مقصورة على أحد الوجهين المحتملين عند السامعين، وقوله: له عليّ ألف درهم اعتراف حقا كان أو باطلا فصار هذا تأكيدا لنفسه، لأنه توكيد اعترف الذي هو معنى الكلام الظاهر هو لفظ اختصاص جعل الآخر عامّا، وإنما قال قسما؛ لأن التقدير: وإنني إليك مع الصدود لأميل، ظاهر هذا قسم كما أن ظاهر " له عليّ ألف درهم " اعتراف، فتدخل الألف واللام في هذا التوكيد كدخولهما في هذه المصادر المتمكنة التي تكون بدلا من اللفظ بالفعل كدخولهما في الأمر نحو: الضّرب زيدا، والنهي نحو " الحذر " كقولك: إنما أنت السير السير، والاستفهام كقولك: القيام وقد قعد الناس؟ (وتجوز إضافة المصدر المؤكد فى هذا الباب، والإضافة فيه بمنزلة الألف واللام؛ كقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ) (¬2) الشاهد فيه: صنع الله، لأن ما قبله صنع لله في الحقيقة، وكذلك قوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) ديوانه: 166؛ الأغاني 21: 108؛ خزانة الأدب 8: 177، 9: 162. (¬2) سورة النمل، الآية: 88.

وَعْدَهُ (¬1)؛ لأن ما قبله وعد من الله. (وقال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (¬2)، لأن أحسن كلّ شيء في معنى: خلقه حسنا، فأكّد بخلقه، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (¬3) وقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ؛ بمنزلة فرض الله عليكم، وتحريم الله عليكم؛ لأن الابتداء تحريم المذكورات من النساء في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (¬4) إلى قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بينها وبين زوجها، فهذه شريعة شرعها الله تعالى لهم، وكتاب كتبه عليهم، على معنى: فرض ألزمهم إيّاه. وقال الكسائي: " كتاب الله " منصوب بعليكم، كأنه قال: " عليكم كتاب الله، وأكثر النحويين يدفعون هذا، لأن الإغراء بهذه الحروف ليس لها قوّة الفعل، ولا يحسن أن تقول: زيدا دونك، وزيدا عليك، كما تقول: زيدا خذ، وإنما تعلّق في جواز هذا بقول الشاعر: يا أيّها المائح دلوي دونكا … إنّي رأيت النّاس يحمدونكا (¬5) وليس في هذا حجّة، لأنه يجوز أن يكون دلوي في موضع رفع كأنه قال: دلوي عندك، كما تقول: دلو زيد بقربك استدعاء لملئها، وإن لم يكن ذلك في لفظ الفعل، وهو حمله على أنه في موضع نصب، وأن العامل فيها دونكا، وقد يجوز عند بعض النحويين أن يكون العامل فيها مضمرا كأنه قال: املأ دلوي، والدليل على أن هذا يجوز أنه لو قال: يا أيها المائح دلوي، ولم يزد على ذلك لجاز؛ لأنّ الحال التي هم فيها تدل عليه. ومن ذلك قولهم: الله أكبر دعوة الحقّ؛ لأن قولك: الله أكبر، إنما هو دعاء إلى الحقّ وإلى أن يكون السامع ينثني إلى جملة القائلين بالتوحيد، وإلى القوم الذين شعارهم " الله أكبر " فيكون هذا دعوة الحقّ يتداعون بها، كأنه قال: دعوا دعاء الحق، وادعوا دعاء الحقّ، وقال رؤبة: ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآيات 3، 4، 5، 6. (¬2) سورة السجدة، الآية: 7. (¬3) سورة النساء، الآية: 24. (¬4) سورة النساء، الآية: 23. (¬5) سبق تخريجه.

إنّ نزارا أصبحت نزارا … دعوة أبرار دعوا أبرارا (¬1) ومعناه: أنّ نزارا وهو أبو ربيعة ومضر لمّا وقع بين ربيعة ومضر تباين وحرب بالبصرة، وعادت ربيعة صالحت مضر كأنّ نزارا تفرّقت ثم اجتمعت فقال: أصبحت نزارا، أي: مجتمعة الأولاد إذا دعا بعضهم بعضا إلى النّصرة قال: يال نزار، وفي حال التباين والعداوة والحرب، كان المضريّ يقول منهم: يال مضر، ويقول الربعيّ: يال ربيعة؛ لأن أحد الفريقين ما كان ينصر الآخر، فصار قوله: " أصبحت نزارا " بمنزلة قوله: دعا بعضهم بعضا بهذا اللفظ، ثم جاء بالمصدر وهو " دعوة أبرار " على ذلك، وإنّما أضاف المصدر لأن إضافته تبين الفاعل من المفعول به، فلو قال: وهي تمرّ مرّ السّحاب صنعا، أو أحسن كلّ شيء خلقا، أو وعدا، وكتابا، لم يكن فيه البيان التامّ. وقال بعضهم: صِبْغَةَ اللَّهِ (¬2) منصوبة على الأمر، وقال بعضهم: بل توكيد والصبغة: الدين، والذي يقول توكيد حمله على ما يوجبه هذا الباب؛ لأنّ قبله أشياء من أمر الدين وشريعة الإسلام. (وقد يجوز الرفع في ذلك كلّه على أن تضمر شيئا هو المظهر، كأنه قال: ذاك وعد الله، وصبغة الله، وهو دعوة الحقّ على هذا ونحوه رفعه). ومن ذلك: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ (¬3) أي ذلك بلاغ. قال سيبويه: (ومثل ذلك قول الراعي: دابت إلى أن ينبت الظلّ بعد ما … تقاصر حتى كاد في الآل يمصح وجيف المطايا ثم قلت لصحبتي … ولم ينزلوا أبردتم فتروّحوا) (¬4) فنصب وجيف المطايا نحو ما مضى في الباب؛ لأن دأبت قد دلّ على أنّه معنى ¬

_ (¬1) قائله: رؤبة بن العجاج: شرح المفصل 1: 117 (بلا نسبة)؛ هارون 1: 382. (¬2) سورة البقرة، الآية: 138. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 35 والآية مكتوبة في الأصل هكذا " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ " وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه. (¬4) البيتان ينسبان إلى الراعي النميري: الإنصاف 1: 231.

هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور

سرت، وأكثر ما يستعمل ذلك في السير الشديد الدائم فصار بمنزلة قوله أو جفت، وجعل قوله: وجيف المطايا توكيدا لأوجفت الذي هو في ضميره. قال: (واعلم أنّ نصب هذا الباب المؤكّد به العامّ منه، يعني هذا زيد حقّا، وما أكّد به نفسه يعني: له علي ألف درهم عرفا ينتصب على إضمار فعل غير كلامك الأول؛ لأنّه ليس في معنى كيف ولا لم). يعني ليس بحال ولا " لم " يعني ليس بمفعول له؛ لأن الحال جواب كيف، والمفعول له جواب لم كأنه قال: أحقّ حقّا وأتجدّ جدّك، ولا أقول قولك، وكتب الله كتابا، ولا يظهر الفعل كما لم يظهر في باب سقيا لك وحمدا. هذا باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور (وذلك قولك: أمّا سمنا فسمين، وأمّا علما فعالم، وأمّا نبلا فنبيل. وزعم الخليل أنه بمنزلة قولك: أنت الرجل علما ودينا، وأنت الرجل فقها وأدبا، أي: أنت الرجل الكامل في هذه الحال، وعمل فيه ما قبله وما بعده، ولم يحسن في هذا الوجه الألف واللام، كما لم يحسن فيما كان حالا، وكان في موضع فاعل حالا). قال أبو سعيد: يعني المصدر، وكذلك هذا، فانتصب المصدر؛ لأنه حال مصير فيها. (ومن ذلك قولك: أمّا علما فلا علم عنده، وأما علما فلا علم، وتضمر له لأنك إنما تعني رجلا. وقد يرفع هذا في لغة بني تميم، والنصب في لغتها أحسن، فإذا دخلت الألف واللام رفعت؛ لأنه يمتنع من أن يكون حالا). قال أبو سعيد: هذا الباب فيه صعوبة، ونقل كلام النحويين من البصريين والكوفيين؛ ولذلك قال الزجّاج: هذا الباب لم يفهمه أحد إلا الخليل وسيبويه، ومعناه: أن رجلا يدّعي أو يدّعى له أشياء فيعترف له ببعضها فيدخل " أمّا " على ذلك، كأنّ قائلا قال: أنا عالم، وأنا ديّن، وأنا شريف، فأنكر السامع بعض ما قال، وعرف بعضا فقال:

مهما تذكر فأنت الرجل لعلم، وحذف ونصب، وكذا إذا قال: هذا الفرس سمين جواد، قيل له مهما تذكر فهو سمين من أجل سمن أو لسمن فيه. ورأيت ثعلبا ذكر هذا الباب من كلام سيبويه، فساق كلامه ثم اعترض بسؤالات من غير إنكار فقال: من أين قال ما قاله؟ ولم يرد عليّ ذا شيئا يحصّل، وحكى الفراء أشياء لم ينصرها. وأنا أسوق ما قاله، وما قاله الكسائي والأحمر وذلك شيء يسير نزر، ثم اختار أبو العباس ثعلب بعد ذلك نحو مذهب البصريين الذي يرتّبونه ويتكلّمون عليه فقال: القياس وكلام العرب أن تكون أمّا جزاء حذفت الأفعال معها وبقيت الأسماء فعرّبت بما يكون بعد الفاء؛ لأن العرب تكتفي بما ظهر ممّا ترك فإذا جاءوا بما يدلّ على أنه جزاء أعملوا الأوائل بحقّ الجزاء فقالوا: أما العقل فعاقل؛ كقولك: إن ذكرت العقل فهو عاقل، فجاز حذف ما بعد فاء الخبر ونصبت الأوّل بتعليقه بلفظ الجرّ الأول، فإذا ظهر له ما يعمل فيه اكتفوا باللفظ الظاهر من هذا المعنى، وإدخالهم اليمين وإنّ وأخواتها دليل على استئناف الفاء بالجزاء، فإذا كان الجزاءان قد تباينا في الإعراب علمت أن الأوّل قد أعمل وأن الثاني قد أهمل وجاء الجزاء على بابه، فهذا القياس في ذلك، هذا كلام ثعلب. قال أبو سعيد: وأنا أسوق من ذلك ما ينساق عليه كلام سيبويه وأذكر ما فيه خلاف بين النحويين البصريين منه ومذهب الكوفيين. وأمّا الأصل الذي يسوق عليه سيبويه كلامه في ذلك: أنّ " أمّا " في الأصل قد نابت عن شرط الجزاء والفاء وما بعدها جواب، والشّرط الذي نابت عنه " أمّا " يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن تحذف جميعه وتقدّم اسم ما بعد الفاء من اسم أو ظرف أو شرط فيكون تقديم ذلك على الفاء، والمراد أن يكون بعدها عوض من المحذوف، وأما الاسم فقولك: أمّا زيد فضربت، وأما زيدا فلا تضرب، وأما زيد فخارج، والتقدير: مهما يكن من شيء فزيد خارج، فلمّا حذفت الشرط وما يتصل به قدّمت اسما من الجواب فكان عوضا منه، ولو كان بعد الفاء اسمان لم يجز إلا تقديم واحد منهما كقولك: أمّا زيد طعامه فلا تأكل، لا يجوز تقديم الطعام مع تقديم زيد، لأنّ الأصل أن لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها، وإنّما يقدّم اسم واحد ليكون عوضا مما حذف، وإذا استغنت " أمّا " بذلك الاسم

عادت الفاء إلى حكمها، فلم يجز تقديم ما بعدها عليها، ولو قلت: أمّا طعام زيد فلا تأكل ولم تقدّم زيدا جاز، وحقّه أن تقدم ما تقديره أنّه يلي الفاء. وأما تقديم الظرف الذي حقّه أن يكون بعد الفاء؛ فقولك: أمّا يوم الجمعة فلا تخرج فيه، وتقديره: مهما يكن من شيء فيوم الجمعة لا تخرج فيه. وأما الشرط فقولك: أمّا إن جاءك زيد فأكرمه؛ لأنّ التقدير: مهما يكن من شيء فإن جاءك زيد فأكرمه، قال الله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (¬1) والتقدير: مهما يكن من شيء فإن كان من المقربين فروح وريحان أي: فله روح وريحان، فهذا تمثيل ما تقدم مما بعد الفاء. وأمّا ما يكون قبل الفاء جزاء من الشّرط المحذوف بعضه المبقيّ بعضه فقولك: أمّا علما فلا علم عند زيد؛ فالعلم منصوب بما دلّ عليه " أمّا " وتقديره: مهما يذكر زيد علما، أي: من أجل علم وبعلم فلا علم عنده. ولا يجوز أن يكون العامل في " علما " ما بعد الفاء؛ لأنه لا يعمل فيها قبله. ألا ترى أنك لو قلت: " لا علم عند زيد، لم يحسن أن تقول: عند زيد لا علم، وأصحابنا في ذلك مختلفون على مذهبين: فالمازني يجيز: أمّا زيدا فأنا ضارب، ولا يجيز: أمّا زيدا فأنا رجل ضارب، وذلك أنك لو نزعت أمّا والفاء فقلت: أنا ضارب زيدا لجاز تقديم زيد على أنا؛ ولقلت: زيدا أنا ضارب، ولا يجوز: زيدا أنا رجل ضارب؛ لأن ضاربا نعت لرجل، وضارب في موضعه فلا يجوز تقديمه على ما قبل المنعوت، كما لا يجوز أن تقدّم ما عمل فيه النعت على المنعوت، وهذا أصل البصريين، وسيمر بك في موضعه. وكان المازنيّ يقول: إن الذي يجوز فيه تقديمه على الفاء هو الذي يجوز أن يلي الفاء ويقدّم عليها، وما لم يجز أن يلي الفاء لم يجز تقديمه على الفاء، فلا يجوز أن يقال: مهما يكن من شيء فزيدا أنا رجل، وعلى هذا القياس أيضا لا يجوز: أمّا زيدا فإنّي ضارب؛ لأنّك لا تقول: زيدا إنّي ضارب؛ لأن خبر إنّ لا يعمل فيما قبله، وأجاز أن ¬

_ (¬1) الآيتان 88، 89 من سورة الواقعة، وبداية الآية 88 جاءت مكتوبة في الأصل هكذا: " وأمّ " وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه.

تقول: أمّا اليوم فإنك راجل على أن تنصب اليوم بما في أمّا من معنى مهما، كأنه قال: مهما يكن من شيء فإنك راجل. وكان أبو العبّاس المبرّد يجيز تقديم ذلك، وذكر أنّ " أمّا " موضوعة على التقديم إليها ما بعد الفاء، وردّ على المازنيّ ما قاله. وذكر أن جواز ذلك مذهب سيبويه؛ لأن سيبويه قال: أجهد رأيك أنّك ذاهب، فنصب جهدا على الظرف، كأنّه قال: في جهد رأيك ذهابك والناصب لجهد استقرّ، وقال: لا يكون إلا ظرفا، وقال: أمّا جهد رأي فإنّك ذاهب فكسر إنّ لما أدخل أمّا وقال: لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول. قال أبو سعيد: وتفسير ذلك أن قولك: أجهد رأيك أنك ذاهب، لا يجوز أن تنصب " جهد رأيك " بما بعد أنّ، وهو ذاهب؛ لأن خبر أنّ لا يعمل فيما قبل أنّ، فاضطرّ إلى أن يجعل أنّ وما بعدها مصدرا في موضع ابتداء، ويجعل أجهد رأيك ظرفا له، كما تقول: خلفك زيد على تقدير استقرار، وأمّا جهد رأيك فإنك ذاهب فقال: فيه نصبت جهد بالفعل لا بالظرف، فقوله بالفعل يعني: بذاهب في مفهوم اللفظ. والظاهر من هذا الكلام أن سيبويه نصب ما قبل الفاء بخبر " إنّ " الذي لا يجوز تقديمه على " أنّ " في غير " أمّا ". قال أبو سعيد: يحتمل عندي أن يكون سيبويه ما أراد بهذا الذي قاله أبو العباس، وإنما أراد أن يفصل بين قولك: جهد رأيي أنك ذاهب وبين أمّا جهد رأيي فإنك ذاهب، بأن جهد رأى في الأول هو ظرف ب " أنّ "؛ وما بعدها خبر لها لأنّها في معنى المصدر، ولا طريق إلى نصبه غير الظرف وإذا أدخل " أمّا " فإنه يجوز أن ينصب بما في " أمّا " من معنى فعل الشرط المحذوف، ولا يكون على ما قال أبو العباس. وأما الفرّاء فأجاز نصب بعض ذلك بما بعد الفاء ولم يجز تقديم بعض فيما أجاز تقديمه، أمّا عبد الله فإني ضاربه، فقال بالرفع والنصب، وقال: إنما جاز النّصب لأن الفاء كأنها لحدوثها أحدثت " أنّ " لأنها من حروف الاستئناف وما بعد الفاء مستأنف، ولو ألغيت " أمّا " و " الفاء " لم يجز ذلك، فقولك: " عبد الله إنّي ضارب " خطأ، ومثل ذلك " ليت " و " لعل " و " كأنّ ". ويشبه أن يكون مذهب الفراء في ذلك أن هذه الحروف كأنها جلبت من أجل الفاء

لأنّ الفاء تدخل على كلام مستأنف، وهذه الحروف تدخل على مبتدإ وخبر فلم يجعله مما قال الفراء؛ فكذلك قولك: أمّا عبد الله فلأضربنّه، وجه الكلام الرفع لمكان اللام لأنّه لا ينصب ما بعدها ما قبلها، فهذا احتجاج لاختياره الرفع فمفهوم كلامه أنّ النصب يجوز، وليس بالوجه. ومما أجاز: أمّا عبد الله فما أعرفني به، أو ما أزورني له، رفعت ونصبت وخلقة التعجّب أن لا يقع ما بعده على ما قبله، لو حذفت " أمّا " و " الفاء " لا تقول: " عبد الله ما أضربني له " إلا أنّ النصب جاز حين دخلت " أمّا " و " الفاء " كما جاز في " أنّ " و " ليت " و " لعلّ ". قال أبو سعيد ": لأن التعجّب في الأصل خبر عن فعل إذا قلت: ما أظرف زيدا وما أضربه، فمعناه: زيد ظريف جدّا وضارب جدّا ضربا كثيرا، ولو جئت بهذا اللفظ نصبت به ما قبله. وقال الفرّاء إنه سمع الكسائي أنشد من هذا البيت: " أما قريشا فأنا أفضلها " أي: أنا منها، وأنا أفضلها، والرفع في هذا أقوى، وكذلك: أمّا عبد الله فإنّي أفضل منه. قال أبو سعيد: وكأنّ هذا محمول على معناه، لأنّ قوله: إنّي أفضلها: أنا أفضلها. من فضلت أفضل، وكذا معنى: فإني أفضل منه، أي: أنا أفضله. قال الفرّاء: ومما لا يجوز فيه إلا الرفع: أمّا القميص فأن تلبس خير لك، قال: وذلك أنّ " أن " التي مع تلبس لم تكتسبهما الفاء إنما هي بمعنى اسم، كأنّك قلت: أن تلبس القميص خير لك. قال أبو سعيد: يعني أنه لا سبيل إلى إسقاط " أن " في التقدير، فلم يصلح أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، لأنها وما بعدها بمنزلة اسم. ومما لا يجوز عنده إلا رفعه: أمّا عبده فما أعطيته قليلا ولا كثيرا؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، أما عبد الله فما أظرفه لا يجوز إلا بالرفع، والفصل بين هذا وبين أما عبد الله فما أعرفني به بالرفع والنصب أنّ العائد إلى عبد الله وهو الهاء في به وموضعه نصب بوقوع المعرفة عليه لا بالتعجّب، والمعنى: فأنا أعرفه، والهاء في ما أظرفه، وإن كانت في

اللفظ منصوبة فهي مرفوعة في المعنى؛ لأنّ معنى ما أظرف زيدا: زيد ظريف جدّا؛ فهو مرفوع بالمعنى. وفصل الفراء بين: أمّا زيدا فقد ضربت زيدا، وأمّا زيدا فقد ضربته، فقوّى النصب في إعادته زيدا مظهرا على إعادته مكنيّا؛ لأنك إذا أعدته ظاهرا فكأنك لم تقصد قصد الكلام الأوّل، وإذا أعدته مكنيّا فقد قصدت الأوّل فصار بمنزلة: زيد ضربته. وأجاز: أما زيدا فقد قام زيد، ولم يجز: أمّا زيدا فقد قام، لأنّه إذا قال: فقد قام زيد فقد اعتمد في الأوّل أن تعمل فيه الجملة الأولى المقدّرة، وتقديره: مهما تذكر زيدا فقد قام زيد، وإذا قال: فقد قام فهو محتاج إلى الأول فصار بمنزلة قولك: زيد قد قام. وكان هشام بن معاوية (¬1) يجيز: فيك لأرغبنّ، وعليك لأنزلنّ، أو منك لآخذنّ؛ فهذه الحروف في صلة ما بعد اللام. ولا يجوز بإجماع الكوفيين: زيدا لأضربنّ، ولا طعامك لآكلنّ. وفصل هشام بين هذا وبين ما أجازه في الحروف أنّ الحروف لا يبين الإعراب فيها؛ ولأنّ الظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في غيرها. وينبغي على مذهب الفرّاء أن يجوز: أمّا زيدا فلأضربنّ، وقد أجازه في أمّا. قال أبو سعيد: وعندي أنه حمله على مذهب " أنّ " في اختصاص أمّا بتقديمها ما بعد الفاء عليها. عدنا إلى كلام سيبويه في ترجمة للباب. فقوله: باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال صار فيه المذكور ظاهرا يوجب أن قوله: أمّا سمنا فسمين وكذلك علما ونبلا أنّ سمنا وعلما ونبلا تنتصب على الحال، وكذلك أنت الرجل علما ودينا وفقها وأدبا. وقال في هذا الباب: إنّ هذا مذهب بني تميم دون أهل الحجاز، وذلك أنّ بني تميم إذا أدخلوا الألف واللام على المصدر، يعني: سمنا وعلما لم يجروه مجرى الأوّل؛ فدلّ هذا عنده على أن الحجازيين يذهبون في نصبه أنه مفعول له، والمفعول له يكون نكرة ¬

_ (¬1) هو هشام بن معاوية الضرير النحوي صاحب الكسائي له مؤلفات كثيرة منها الحدود، القياس توفي 209 هـ معجم الأدباء 19: 292 بغية الوعاة 2: 328.

ومعرفة، تقول: فعلته مخافة الشّرّ، ومخافة، وأن بني تميم يذهبون به مذهب الحال لأن الحال لا تكون إلا نكرة، فإذا قالوا: أما العلم فإنك عالم به، رفعوا العلم بالابتداء وكان التقدير: مهما يكن من شيء فالعلم أنا عالم، ويقدّرون أمّا النبل فهو نبيل، أي نبيل به حتّى يكون فيه، أي: في الجملة ما يعود إلى الأوّل. وأما إذا قالوا: أمّا العلم فأنا عالم به، فإن جعلت الأوّل غير الثاني نصبت الأوّل، فالتقدير: أما العلم فأنا عالم بزيد، ونصبته على المصدر كأنّك قلت: مهما يكن من شيء فأنا عالم بزيد العلم، ثمّ قدمت العلم منصوبا على المصدر. وقوله: إن العلم الأوّل غير العلم الثاني، فإنه يريد أنّ الإنسان قد يقول: فلان عالم بالفقه أو بالنّحو، فتكون منزلة الفقه من العلوم وإن كان عالما بمنزلة زيد في قولك: هو عالم بزيد علما، والعلم غير زيد، جاز أن يقول: هو عالم بالفقه علما، والعلم غير الفقه، ويكون المعنى فيه بعلمه وعلاجه فيصير قوله: أمّا العلم فأنا عالم بالفقه، أي: أعلمه علما، كما تقول: أعلم زيدا علما، وقوله بعد ذكره: أمّا سمنا فسمين، وعمل ما قبله فيما بعده فإنه يعني بما قبله: ما تتضمنه الجملة التي تدلّ عليها أمّا، كأنه قال: مهما يذكر زيد سمنا فهو سمين، لأنه قد عمل في سمين فنصبه. وقوله: وعلى هذا الباب فأجر جميع ما أجريته نكرة حالا إذا أدخلت فيه الألف واللام فإنه يريد أن يكون مفعولا له إذا أدخلت الألف واللام فيه على مذهب أهل الحجاز، وإذا رفعته على مذهب بني تميم بالابتداء أو نصبته على مذهب الحجازيين. فأمّا إنشاده: ألا ليت شعري هل إلى أمّ معقل … سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (¬1) فإنّ الصبر منصوب بما قبله من التقدير كأنّه قال: مهما ترم الصبر أو تذكر الصبر فلا صبر، وليس بعده ما يعمل فيه. وبنو تميم يقولون: أمّا الصبر عنها فلا صبر؛ كما قالوا: أمّا العلم فعالم على إضمار الهاء كأنه قال: فهو عالم به. ¬

_ (¬1) ينسب إلى ابن ميادة: خزانة الأدب 1: 452؛ مغني اللبيب 5: 592؛ الأغاني 2: 218، 284؛ شرح أبيات سيبويه 1: 180.

وعلى مذهب الحجازيين يكون الصبر مفعولا، كأنّه قال: مهما تذكر الشيء للصبر عنها فلا صبرا وحذفت اللام ونصبت. وأمّا احتجاج سيبويه لمذهب بني تميم في إضمار العائد وحذفه في قولك: أما العلم فعالم على تقدير: " عالم به "، وقوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (¬1) في موضع النعت ليوم، فلا بدّ في هذه الجملة من عائد إلى اليوم. فمذهب سيبويه والفراء أن العائد هو فيه. وكان الكسائي يجعل العائد هاء، كأنه قال: لا تجزيه، وقال الهاء تحذف من صلة الذي، فإذا اتصلت بحرف جرّ لم تحذف من الصلة، تقول: زيدا الذي ضربت، تريد: الذي ضربته، ولا تقول: زيدا الذي تكلمت اليوم، ولا تقول: الذي نزلت، تريد عليه، وتكلّمت فيه، والفصل بين الظرف وغيره أنهم قد أجازوا: تكلمت اليوم، تريد: تكلمت فيه. ولم يجيزوا: تكلمت زيدا، تريد في زيد، فعلمنا أنّ حذف حرف الجرّ مع ظروف الزمان والمكان جائز وإن لم يجز في غيرها. وأنشد سيبويه قول عبد الرحمن بن حسان: ألا ياليل ويحك نبّئينا … فأمّا الجود منك فليس جود (¬2) فهذا تقوية للغة بني تميم، أي: ليس لنا منك جود؛ فالجود: مبتدأ ولا بدّ من عائد إليه مما بعده، وتقديره: فأما الجود فليس لنا جود به، أو من أجله أو غيره من التقدير. وقوله: (وممّا ينتصب من الصفات حالا كما انتصب المصدر الذي يوضع موضعه، ولا يكون إلا حالا). وقوله: (أمّا صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف، وأمّا ظاهرا فليس بظاهر، وأمّا عالما فليس بعالم فهذا نصب؛ لأنه جعله كائنا في حال علم وخارجا من حال الظهور ومصاف، والرفع لا يجوز هاهنا؛ لأنك قد أضمرت صاحب الصفة). فإنه يريد أنّ صديقا مصافيا حال وقد أضمرت الذي منه الحال، وكأن التقدير: أمّا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 48. (¬2) البيت لعبد الرحمن بن حسان: ديوانه: 21؛ وبلا نسبة في الدرر 2: 64؛ همع الهوامع 1: 116.

صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف. وقال المبرّد: العامل في " صديق مصاف " التقدير الذي دلّت عليه " أمّا " كأنه قال: مهما يذكر زيد صديقا مصافيا فليس بصديق، وليس يعمل فيه قولك: بصديق، لأنّ ما بعد الباء عنده لا يعمل فيما قبلها. وغيره من أصحابنا أجاز فأعمل ما بعد الباء فيما قبلها؛ لأن الباء ههنا زائدة ودخولها كخروجها. واعلم أنّ قولك: " بزيد " أن الباء حرف فلا يتقدّم معمولها إذ ليست للحروف قوّة الفعل كما لا تقول: راكبا مررت بزيد؛ لأنّ ما في صلة الباء لا يتقدّم عليها. ومن أجاز إعمال ما بعد الباء في " أمّا " فرّق بين الباء التي تدخل للجحد التي تعدّي الفعل بالزيادة التي ذكر. واعلم أنّ قولك: أمّا صديقا مصافيا، مفارق لقولك: أمّا العلم فعالم؛ لأنه لمّا لم يضمر شيئا هو العلم رفعت بالابتداء، وأنت قد أضمرت زيدا في قولك: أمّا صديقا مصافيا، وإنما طرحت زيدا بعد أن عرف وجرى ذكره؛ فلذلك أضمرته، وإذا قلت: أمّا الصديق المصافي فليس بصديق مصاف، فليس إلا الرفع، لأنه لما كان بالألف واللام لم يكن حالا فرفعته بالابتداء. ومعنى قول سيبويه: لأنك قد أضمرت صاحب الصفة، أي: أضمرت زيدا الذي هو صديق، ويعني بالصفة الحال، والصفة ههنا هي الموصوف الذي هو زيد، وليست بمنزلة المصدر الذي هو غيره نحو العلم. والحجازيون لا يقولون: أمّا الصديق المصافي فليس بصديق بنصب الصديق، كما قالوا: أمّا النبل فنبيل؛ لأن الصديق ليس بمصدر فيكون مفعولا له كالنّبل الذي هو مصدر نصب لأنه مفعول له، ويكون جوابا لمن قال: لمه؟ ألا تراك تقول: صاحبك صاحب النبل والشّرف وصاحبك الصديق المصافي، يعني للصديق. وقول سيبويه: (وإذا قلت: وأمّا الضرب فضارب فهذا ينتصب على وجهين: على أن يكون الضرب مفعولا كقولك: أمّا عبد الله فأنا ضارب فيكون مصدرا مؤكّدا، وقد يجوز نصب الضرب من وجه ثالث وهو المفعول له في لغة أهل الحجاز). قال أبو سعيد: والصواب عندي في هذا الباب وما ذكرنا من خلاف النحويين ألّا

هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات

تقدّم ما بعد الفاء على الفاء إلى جانب " أمّا " إلا ما يجوز تقديمه حتى تلي الفاء. ومن أجاز تقديم بعضه من أجل ما قد منعوا بعضا فأجاز الكسائي والفراء: أما زيدا فإنّي ضارب، وزيد منصوب بضارب، ولم يجيزوا: أما القميص فأن تلبس خير لك، والقميص منصوب بليس؛ لأنّ ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها. ولم يجز المبرّد: أمّا درهما فعندى عشرون؛ لأن درهما منصوب بعشرين، ولا يعمل عشرون فيما قبلها، وإذا لم يكن حضور " أمّا " يجوز تقديم ما لا يجوز تقديمه من هذه الأشياء التي يجيزونها وجب أن يمنعوا: أمّا زيدا فإنّي ضارب، على أن تنصب زيدا بضارب؛ لأنّه لا يجوز: زيدا إنّي ضارب، فينبغي أن لا يجوّز " أمّا " فإن جاز من أجل " أمّا " وجب جواز الباقي لحضورها، ويجوز عندي: أمّا اليوم فإنّي قائم، وأمّا خلفك فإني جالس، تنصب اليوم وخلفك بمعنى: " أمّا "؛ لأنّ معناهما: مهما يكن من شيء. والظروف تعمل المعاني فيها. ألا ترى أنك تقول: زيد غلامك اليوم، وزيد أخو عمرو في السفر، بمعنى: زيد يملكه اليوم، ويؤاخيه في السفر، وتقديمه أيضا جائز على هذا المعنى، تقول: زيد اليوم غلامك، وزيد في السفر أخو عمرو، ولو قلت زيد أخ عمرا تريد: يؤاخي عمرا لم يجز؛ لأنّ عمرا ونحوه لا يعمل فيه إلا الفعل، أو ما جرى مجراه من الأسماء. هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللّغات (وزعم يونس أنه قول أبي عمرو، وذلك قولك: أمّا العبيد فذو عبيد، وأمّا العبد فذو عبد وأما عبدان فذو عبدين، وإنما اختير فيه الرفع لأن ما ذكرت في هذا الباب أسماء، والأسماء لا تجري جري المصادر، ألا ترى أنك تقول: هو الرّجل علما وعقلا، أي: يعلم ويعقل، ولا تقول: هو الرجل خيلا وإبلا). قال أبو سعيد: قوله: أمّا العبيد فذو عبيد؛ فرفع العبيد هو الوجه، لأن العبد ليس بمصدر فيقدّر له فعل من لفظه ينصبه على ما تقدّم في المصادر فوجب رفعه بالابتداء، وما بعده يكون خبرا له، والعائد إليه محذوف تقديره: أمّا العبيد فأنت منهم، أو فيهم، أو نحو هذا ذو عبيد. وذكر سيبويه في الباب عن بعض العرب: (أنهم ينصبون هذا فيقولون: أمّا العبيد

فذو عبيد، وأمّا العبد فذو عبد، يجرونه مجرى المصدر سواء، وهو قليل خبيث، وذلك أنهم شبهوه بالمصدر، كما شبّهوا الجمّاء الغفير وخمستهم بالمصدر، وكأنّ هؤلاء أجازوا: هو الرجل عبيدا ودراهم، أي: للعبيد والدراهم، وهذا لا يتكلّم به، وإنما وجهه وصوابه الرفع، وهو قول العرب وأبي عمرو ويونس، ولا أعلم الخليل خالفهما). وكان المبرّد لا يجيز النصب ولا يرى له وجها، وكان سيبويه يجيز النصب على ضعفه إلا أن يكون العبيد بغير أعيانهم ليلحق بالمصادر المبهمة، فلو قال: أمّا العبيد الذين عندك أو الذين في دارك، أو هؤلاء العبيد، لم يجز النّصب. وكان الزجّاج يتأوّل في نصب العبيد تقدير الملك، والملك مصدر، كأنه قال: أمّا ملك العبيد، كما تقول: أمّا ضرب زيد فأنا ضاربه. قال أبو سعيد: والذي عندي: أن جعل العبيد، وهو اسم، مكان التعبيد وهو مصدر، والعرب قد استعملت العبيد في تصريف الفعل من العبد، قال رؤبة: والناس عندي كثمام التّمّي … يرضون بالتّعبيد والتأمّي (¬1) فعلى هذا يجعل العبيد مكان التعبيد، كما جعل الشراب وهو اسم للمشروب في موضع المصدر؛ فقالوا: شربت شرابا، بمعنى شربت شربا، وقالوا: أعطيته عطاء؛ بمعنى: إعطاء، والعطاء: اسم للشيء الذي يعطى؛ فعلى هذا يكون النصب، ولا يجوز: هو الرجل خيلا وإبلا، كما جاز هو الرجل علما وعقلا؛ لأن علما وعقلا في موضع الحال، أو المفعول له على أحد التقديرات. وعلى كلا الوجهين لا يجوز: هو الرجل خيلا وإبلا؛ لأن خيلا وإبلا ليسا بمصدرين فيكونا في موضع الحال كما تكون المصادر أحوالا، ولا مفعولا له؛ لأنّ المفعول له أيضا مصدر، والعامل في الحال أو المفعول له إذا قلت: أنت الرجل علما، فكأنه قال: أنت العالم علما، ثم تقيم الرجل مقام العالم، ولا يجوز: أنت الرجل خيلا؛ إذ لا يمكن أن يشتقّ من لفظ الخيل اسم فاعل يكون الرجل في موضعه فينصب الخيل. فإذا قلت: أمّا النّصرة فلا نصرة لك، وأما الحارث فلا حارث لك، وأمّا أبوك فلا ¬

_ (¬1) قائله: رؤبة بن العجاج: ديوانه: 143.

أبا لك، فليس في هذا كلّه إلا الرفع، ولا يجوز نصبه على مذهب من نصب العبيد؛ لأن هذه أشياء معلومة فلا يجوز حملها على المصدر المبهم، ويحتمل قولك: أما أبوك فلا أبا لك معنيين: أحدها: أن تجعل أباه غير فاعل به ما يفعله الآباء من النصرة له والبرّ به. وإمّا أن تكون حال عرضت لأبيه أعجزته عن ذلك، وهكذا قولهم: أمّا النصرة فلا نصرة لك، إمّا أن يكون منع منها ومن منافعها، أو تغيرت هي في نفسها فبطل منافعها. وقوله: (وسمعنا من العرب من يقول: أمّا ابن مزنيّة؛ فأنا ابن مزنيّة؛ كأنه قال: أما ابن مزنيّة فأنا ذاك، فجعل الآخر الأول كما كان قائلا ذلك في الألف واللام: أما ابن المزنيّة فأنا ابن المزنيّة، وإن شئت نصبته على الحال كما قلت: أمّا صديقا فأنت صديق، فإنه يريد: أنك إن شئت جعلته مبتدأ وخبرا، كأنه قال: أما ابن مزنيّة فأنا هو، وأنا ذاك، وإن شئت نصبته حالا على التفسير المتقدم). وقوله: (وأمّا قول الناس للرجل: أمّا أن يكون عالما فهو عالم وأما أن يعلم شيئا فهو عالم، فقد يجوز أن تقول: أمّا أن لا يكون يعلم فهو يعلم وأنت تريد أن يكون، كما جاءت: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬1) في معنى لأن يعلم أهل الكتاب. فهذا يشبه أن يكون بمنزلة المصدر، لأنّ أن مع الفعل الذي يكون صلة بمنزلة المصدر، كأنّك قلت: أمّا علما وأمّا كينونة علم فأنت عالم. ألا ترى أنّك تقول: أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم، كأنّك قلت نزالا وخصومة، وأنت تريد المصدر الذي في قوله فعل ذاك مخافة ذاك. ألا ترى أنك تقول: سكتّ عنه أن أجترّ مودّته، كما تقول: اجترار مودّته. ولا تقع أن وصلتها حالا يكون الأوّل في حال وقوعه، لأنّها إنما تذكر لما لم يقع بعد. فمن ثم أجريت مجرى المصدر الأوّل الذي هو جواب لمه؟). فإنه يريد: أنك إذا أدخلت أن بعد أمّا فهي وما بعدها مصدر لا تكون في معنى الحال، ولا مصدرا يعمل فيه الفعل الذي هو من لفظه، كعمل ضربت في ضربا إذا قلت ضربت ضربا؛ لأن أن لا تدخل على هذين لأنهما للمستقبل؛ لكون الفعل الذي بعدها مستقبلا بل يكون مفعولا له، كقولك: كلمت زيدا لأن أجترّ مودته، وفعلت ذلك مخافة ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 29.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه

الشّرّ، ويحسن في هذا دخول لا زائدة، فيقول: أمّا أن لا يكون وأنت تريد ما يكون؛ لأن الفعل إذا قصد به كون شيء، فقد قصد به نفي ضده. ألا تراك لو قلت: فعلت هذا الأمر لغضبك، تريد: فعلته من أجل ما أخشاه من غضبك، أو لأن يقع غضبك، كان كلاما صحيحا. فإذا قلت فعلت هذا لأن لا تغضب، لم يخرج عن هذا المعنى، وفي القرآن: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (¬1)، لأن التقدير: يبين الله لكم الضلال المتوهّم منكم لو لم يبيّن، وهذا الوجه أحبّ إليّ من قول من قال: كراهة أن تضلّوا، وكذلك قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬2) إن لم تجعل (لا) زائدة لم تكن الضرورة داعية إلى زيادتها، لأنّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬3)، أي: يفعل بكم هذه الأشياء ليبين جهل أهل الكتاب، وأنهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم الله من فضله في ذلك لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى زيادة (لا). هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست بصفة ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه (وذلك قولك: كلمته فاه إلى فيّ، وبايعته يدا بيد، كأنه قال: بايعته نقدا، وكلمته مشافهة، أي في هذه الحال). قال أبو سعيد: اختلف الناس في ما نصب فاه، فأصحابنا يقولون: إن الناصب: كلمته، وإنه لا إضمار فيه، وجعلوه نائبا عن: مشافهة التي معناها: مشافها، وجعلوه من الشاذ المحمول على غيره، لأنه معرفة، وأنه اسم غير صفة، فصار بمنزلة قولك: الجمّاء الغفير، ورجع عوده على بدئه. وقد ذكرنا شرح ذلك. والكوفيون ينصبون: فاه بإضمار: جاعلا. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 176. (¬2) سورة الحديد، الآية: 29. (¬3) سورة الحديد، الآيتان: 28، 29.

كأنه قال: كلمته جاعلا فاه إلى في، ولو كان على ما قالوا من إضمار: جاعل ما كان فيه شذوذ، ولجاز أن يقال: كلمته وجهه إلى وجهي، وعينه إلى عيني، ولم يقل هذا أحد فدلّ على أنه شاذ، كما قال أصحابنا فلذلك لم يقس عليه، وأكثر أصحابنا أجاز تقديم فاه منصوبا لما كان العامل فيه: كلمته، وهو فعل ومعمول، كقولك: قائما ضحك زيد، وضحك زيد قائما. ولهذا أجاز المازني والمبرد: شحما تفقأت، ولم يجيزا: زيد ثوبا أنظف منك، تريد: زيد أنظف منك ثوبا، لاختلاف العاملين. ومن أصحابنا من زعم أن مذهب سيبويه يمنع أن يقال: فاه إلى فيّ كلمته، لأن هذا كلام في غير موضعه، وقد منع سيبويه: جاء زيد سرعة قياسا على جاءني زيد مشيا، لأن مشيا بمعنى: ماشيا، ليس بقياس يطرد في نظائره، فإذا منع القياس في هذا كان في تقديم فاه أولى. والكوفيون يمنعون تقديمه- أيضا- مع قولهم: إن العامل فيه: جاعل، ويلزمهم جوازه لأن جاعلا لا يمنع من العمل فيما قبله. قال سيبويه: (وبعض العرب يقول: كلمته فوه إلى في، كأنه قال: كلمته وفوه إلى في، أي كلمته، وهذه حاله). قال أبو سعيد: من رفع فالتقدير: كلمته أي: كلمته وهذه حاله، ومن نصب فليس على تقدير الواو ألا تراك تقول: كلمت زيدا قائما، وكلمت زيدا وهو قائم إذا أتيت بالواو في موضع الحال لم يكن ما بعدها إلا مبتدأ وخبر، فأما بايعته يدا بيد فلا يجوز بايعته يد بيد ولا بايعته ويد بيد، وليس إلا النصب لأنك لو رفعت كان التقدير: بايعته ويده في يدي، وليس هذا هو الغرض بل معنى قولهم: بايعته يدا بيد، أي: بايعته بالنقد والتعجيل سواء كان منه قريبا أو بعيدا، وإذا قال كلمته فوه إلى في فإنما تريد أن تخبر عن قربه منه وأنه مشافهة وليس بينهما أحد، ومثله من المصادر مما تلزمه الإضافة ويجوز فيما بعده الابتداء وأن يكون حالا قولهم: رجع فلان عوده على بدئه، كأنه قال: أتاني فلان عودا على بدء، غير أنه لا يستعمل مفردا في الكلام وإنما قدرناه مفردا ليبين، ومن قال كلمته فوه إلى في، أجاز الرفع في قوله قال: رجع فلان عوده على بدئه، كأنه قال: أتاني فلان عودا على بدء، غير أنه لا يستعمل مفردا وإنما قدرناه مفردا، والمعنى: رجع فلان وعوده على بدئه، والمعنى لم يتغير.

قال سيبويه: (ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه الفعل بعت الشاء شاة ودرهما، وقامرته درهما في درهم، وبعت داري ذراعا بدرهم، وبعت البرّ قفيزين بدرهم، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما، وبينت له حسابه بابا بابا، وتصدقت بمالي درهما). قال أبو سعيد: هذه هي الأسماء المنصوبة هي حالات جعلت في موضع مسعرا، فإذا قال: بعت الشاء شاة بدرهمين، فالمعنى: بعت الشاء مسعرا على شاة بدرهم، وجعلت الواو في معنى الباء فبطل خفض الدرهم وعطف على شاة، فاقترن الدرهم والشاة فعطفت أحدهما على الآخر، وإن كانت الشاة مثمنا والدرهم ثمنا، وأما قامرته درهما في درهم فالمعنى: قامرته هذا الضرب من القمار، والتقدير: قامرته بادلا درهما في درهم، ثم جعل درهما في موضع الحال، وهكذا بعته داري ذراعا بدرهم، وبعت البر قفيزين بدرهم، على معنى مسعرا بهذا السعر، وأخذت منه زكاة ماله درهما لكل أربعين درهما، فإنه قال: أخذت زكاة ماله فارضا أو مقدرا هذا الفرض، والتقدير: وبينت له حسابه بابا بابا أي: مصنفا ومبوبا وتصدقت بمالي درهما درهما، أي مفرقا هذا التفريق فأما صاحب الحال في هذا فإن الذي منه الحال في: بعت الشاء شاة، ودرهما هو الشاء، وأما في قامرته فيجوز أن يكون من الهاء، ويجوز أن يكون منهما لأنهما بمعنى واحد، ألا تراك تقول: تقامرنا درهما في درهم فتكون الحال من الاثنين، أي: تقامرنا متقامرين هذا الضرب من القمار، وقد يقول القائل: ضربت زيدا قائمين والمعنى: أنهما جميعا قائمان ومن بعت داري من الدار ومن بعت البر من البر، وأما أخذت زكاة ماله فيجوز أن يكون من التاء ويجوز التقدير: فارضا هذا الفرض ويجوز أن يكون من الزكاة فتكون مفروضة هذا الفرض، وأما بينت حسابه بابا بابا فيجوز أن يكون من التاء على معنى: مصنفا ومبوبا، ومن تصدقت بمالي، يجوز أن يكون من المال فيكون مفرقا ومن التاء فيكون مفرقا هذا الضرب من التصريف وقوله (فأما قول الناس: كان البرقفيزين وكان السمن منوين، فإنما استغنوا هاهنا عن ذكر الدرهم لما في صدورهم من علمه، ولأن الدرهم هو الذي يسعر عليه) قال المفسر: فإنه يريد أنهم قد حذفوا الثمن في هذا لما عرف بعادة الناس في ذلك؛ لأنهم قد اعتادوا الابتياع بثمن بعينه، دراهم أو دنانير فتركوا ذكره اكتفاء بمعرفته، كما يقال لنا: الخبز عشرة، أي: عشرة

أرطال بدرهم، والكرّ بثلاثين، يراد: الكرّ من الحنطة، وبينت حسابه بابا بابا لأن الحذف هناك يغير المعنى، وهذا غير مغيّر لما عرف مكانه. وقوله: (وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول بعت الشاء شاة ودرهم، وإنما تريد: شاة بدرهم)، فإنه يريد أن شاة بدرهم ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والتقدير: شاة منه ودرهم مقرونان، كما يقال: كل رجل وضيعته بمعنى: مع ضيعته وكذلك شاة منه مع درهم، لأن الواو في معنى مع، فصح معنى الكلام بذلك، فلما رفع الدرهم وعطف على الشاة قدّر خبرا. لا يخرج عن معنى (مع)، وهو ومقرونان ونحوه، وعلى هذا يجوز في قول الخليل: بعت الدار ذراع ودرهم، وتكون الجملة في موضع الحال، كأنه قال: بعت الدار مسعّرة هذا السعر. قال: (وزعم الخليل أنه يجوز بعت داري الذراعان بدرهم، وبعت البر القفيزان بدرهم)، ولا يجوز بعت داري الذراعين بدرهم، ولا بعت البرّ القفيزين بدرهم، لأنه في موضع الحال، ولا يجوز أن تكون بالألف واللام. وقوله: (كلمته فاه إلى فيّ) شاذ لا يقاس عليه، وإنما جعل بمنزلة المصدر الذي يكون حالا وهو معرفة نحو: أرسلها العراك، وفعلت ذاك طاقتي. (وليس كل مصدر في هذا الباب تدخله الألف واللام ويكون معرفة بالإضافة)، فيصير حالا، فالأسماء المعارف أبعد أن تكون حالا من المصادر، ألا ترى أنك تقول: لقيته قائما وقاعدا، ولا تقول: لقيته القائم والقاعد، فلذلك لم يجز أن تقول: بعت البر القفيزين بدرهم ولا بعت الدار الذراعين بدرهم لأنك تجعله في موضع مسعر وفيه الألف واللام، وإنما جاز: الذراعان بدرهم، والقفيزان بدرهم لأنه مبتدأ وخبر في موضع الحال، والعائد إلى الأول ضمير محذوف كأنه قال: الذراعان منها والقفيزان منه بدرهم، كما تقول: لقيت زيدا أبوه قائم، فتكون الجملة في موضع الحال ل (زيد). ومثله: بعت الثوب ربح الدرهم درهم، فربح: مبتدأ، ودرهم: خبره، والجملة في موضع الحال، كأنه قال: ربح الدرهم فيه درهم. وقوله: (قال الخليل: لا يجوز: ربحت الدرهم درهما حتى تقول: ربحت في الدرهم درهما أو الدرهم وكذلك وجدنا العرب تقول قال: (ولا يجوز حذف الجار إلا فيما استعملت العرب حذفه، ألا ترى أنك لا تقول: مررت أخاك، تريد: بأخيك) ولا

هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال

رغبت زيدا وأنت تعني: رغبت في زيد، ولا تكلمت زيدا، وأنت تعني: تكلمت في زيد، ولا نزل زيدا، وأنت تعني: نزل علي زيد لأن هذا ليس من صفة الكلام فإنه يريد أنه ليس بمنزلة بايعته يدا بيد، الذي هو من صفة البيع، لأنه يعطي بيد ويأخذ بيد، ولا تقول: كلمته يدا بيد لأنه لا علقة للكلام في ذلك. وقوله: (قال الخليل: إن شئت جعلت رجعت عودك على بدئك مفعولا، ولا بمنزلة قولك: رجعت المال على زيد، ورددت المال عليك، كأنه قال: ثنيت عودي على بدئي)، فإنه يريد أن قوله رجع زيد عوده على بدئه، يكون عوده بدأ نصبا يرجع على أنه مفعول به، كما تقول: رجعت زيدا، أي: رددته، كما قال تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ (¬1)، أي: ردك الله، وكذلك إن قدرته على: ثنيت عودي على بدئي فهو مفعول به لأن معناه: عطفت، ولا يكون حينئذ في موضع الحال. هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه حال (يقع فيه السعر وإن لم يلفظ بالفعل، وذكر الباب). قال أبو سعيد: إذا قلت لك: الشاء شاة بدرهم، فالشاء: مبتدأ، ولك: خبر مقدم، وشاة بدرهم: حال. كأنك قلت: وجب لك الشاء مسعرا بهذا السعر، ولو اكتفيت بقولك: لك الشاء، وسكت، جاز لتمام الاسم والخبر. وقوله: (إن شئت ألغيت لك). يعني: لم يجعلها خبرا، فتقول على هذا: لك الشاء شاة بدرهم، فتكون الشاء: مبتدأ، وشاة: مبتدأ ثانيا، وبدرهم: خبرها، والتقدير: شاة منها بدرهم، كأنك قلت: الشاء شاة منها لك بدرهم. هذا باب ما يختار فيه الرفع والنصب لقبحه أن يكون صفة (وذلك قولك: مررت ببرّ قبل قفيز بدرهم، وسمعنا العرب الموثوق بهم ينصبونه، وسمعناهم يقولون: العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم)، وذكر الباب. قال أبو سعيد: يريد أن يقبّح أن يجعل قفيزا نعتا للبرّ، فتقول: مررت ببرّ قفيز منه ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 83.

هذا باب ما تنتصب فيه الصفة لأنه حال

بدرهم؛ لأن القفيز ليس بحلية ولا وصفا، وإنما هو مكيال، فإما أن تجعله مبتدأ وما بعده خبر، وتكون هذه الجملة في موضع خبر أو حال أو نعت. فالخبر قولك: البر قفيز منه بدرهم، والحال: مررت ببرّك قفيز منه بدرهم، فجملة المبتدأ والخبر في موضع الحال من برّك، والنعت: مررت ببر قفيز منه بدرهم: مبتدأ وخبر في موضع النعت، كقولك: مررت برجل أبوه قائم، وتنصب قفيزا على الحال ولا تكون جملة، والاختيار إذا كان الذي قبله نكرة أن لا تنصب، ولكن تجعل جملة في موضع الحال. ولهذا قالوا: (العجب من برّ مررنا به قبل قفيزا بدرهم) حملوه على الهاء في به، وهي معرفة، وحسن أن يكون حالا، ولم يحسن أن يكون صفة لأنهم قد يجعلون الجواهر أحوالا. يقولون: هذا مالك درهما، وهذا خاتمك حديدا، ولا يحسن أن تجعله صفة، فتقول: مررت بخاتم حديد، ولا مررت بمال درهم، لأن الحال خبر، والخبر يكون بالاسم وغيره، والصفة لا تكون إلا لتحلية. هذا باب ما تنتصب فيه الصفة لأنه حال (وقع فيه الأمر وفيه الألف واللام شبهوه بما يشبّه من الأسماء بالمصادر نحو قولك: فاه إلى فيّ، وليس بالفاعل ولا المفعول) وذكر الفصل. قال أبو سعيد: حق الصفة أن تكون تحلية في الموصوف في حال الإخبار عنه إذا كان معرفة كقولك: العاقل والأحمق، والبصري واليمني، والقائم والقاعد، لأن هذه أشياء حاصلة في المحلّى لها، فإذا قيل: ليدخل العاقل، فالعاقل معروف في وقت الأمر، ولا يجوز أن تقول: ليدخل الأول إلا أن يكون اسما لواحد قد استحقه، هذا هو القياس. وقد اتسعوا في مثل هذا فأمروا بالفعل الذي يستحق فاعله به صفة ما، وأوقعوا تلك الصفة عليه قبل وقوعه منه على معنى ما تكون فيه فيقولون: ليدخل الأول، ومعناه: ليدخل رجل من القوم إذا دخل صار الأول فهذا المفروض فيه، فسموه بالأول قبل استحقاقه على هذا المعنى، ومن أجل هذا المعنى جاز أن تجعل الأول فالأول حالا، لأنه ليس بصفة مستقرة كالعامل وأنها نصبت أولا في ترتيب الفعل إذا سبق فيه فأشبه النكرات.

وقال المبرد: إنما أدخلوا الألف واللام في قولهم: ادخلوا الأول فالأول، كأن القائل قال: أعرفكم إذا دخلتم، وإذا قالوا: ادخلوا أولا فأولا، وليس يعرف ترتيبهم إذا دخلوا على ذلك فصار منكورا. وحكى سيبويه: (أن عيسى بن عمر كان يقول: ادخلوا الأول فالأول) على البدل من الواو (لأن معناه: ليدخل) الأول فالأول، ولم يجز ذلك سيبويه لأن لفظ الأمر للمواجه، لا يجوز أن يعرّى من ضمير، وإذا أبدل الظاهر منه فكأنه لا ضمير فيه، ألا ترى أنه لا يجوز: ادخلا الزيدان، ولا ادخلوا غلمان زيد، فتبدل من ضمير الاثنين والجماعة المخاطبين لأنا لا نقول: ادخل غلمان زيد، فإذا أبدلنا فقد أبطلت الواو. ولم يفسر سيبويه علته بل جوزه على وجه من وجوه ما يحمل على المعنى، وهو قولهم: ليبك يزيد ضارع لخصومة (¬1) ومثال هذا من الكلام أن تقول ومختبط مما تطيح الطوائح: ضرب زيد عمرو، ومعناه: أن عمرا ضرب زيدا، خبرت عن زيد بالضرب الواقع به، ولم تسم الفاعل؛ أردت أن تبتدئ الفاعل، فقلت: عمرو على معنى: ضربه عمرو فهو على كلام ثان، فعلى هذا، قال الشاعر: ليبك يزيد ... كأنه حث على البكاء عليه حين مات لما فات من منافعه، ولم يذكر الباكي، ثم قال: ضارع لخصومة، أي: ليبكه من كان يعينه ويأخذ بيده فحمل ضارعا على معنى: ليبك إذا كان يبكي يدل على باك، فكذلك ادخلوا فيه معنى: ليدخل القوم، ولو قال: ليدخل القوم الأول فالأول لجاز بلا خوف لأنه أمر للغائب يجوز أن يليه الظاهر، ويكون بدلا من المضمر الذي فيه: قال سيبويه: (فإذا قلت: ادخلوا الأول والآخر والصغير والكبير رفعت، فليس معنى رفع هذا على البدل، وإنما هو على التوكيد كقوله: ادخلوا كلكم لأن معناه ¬

_ (¬1) البيت لنهشل بن حرى في الخزانة 1/ 147، والشعر والشعراء ولابن نهيك النهشلي في ابن يعيش 1/ 80.

هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور

معنى: كلهم). وذكر الباب. قال أبو سعيد: إذا قلت: ادخلوا الأول والآخر، والصغير والكبير فرفعت، ليس رفع هذا على البدل، إنما هو على التوكيد كقولك: ادخلوا كلكم، ولا يقع مثل هذا في الفاء لأنه لا يجوز أن تقول: مررت بزيد أخيك صاحبك، وصاحبك نعت لزيد، إنما تقول: مررت بزيد أخيك وصاحبك كقول الشاعر: ويأوي إلى نسوة عطّل … وشعث مراضيع مثل السّعالى (¬1) فعطف شعثا على عطل، وهما جميعا نعتان لنسوة، وكذلك تقول: مررت بزيد الفقيه والبزاز، ولا يحسن أن تقول: فالبزاز، ولو قلت: عطّل فشعث- أيضا- لم يحسن. هذا باب ما ينتصب من الأسماء والصفات لأنها أحوال تقع فيها الأمور (وذلك قولك: هذا بسرا أطيب منه تمرا، فإن شئت جعلته: حينا قد مضى، وإن شئت جعلته: حينا مستقبلا غير أنه لا بد على دليل على المضي منه والاستقبال). قال أبو سعيد: الباب إنما يأتي لتفضيل شيء في زمن من أزمانه على نفسه في سائر الأزمان، فيجوز أن يكون الزمان الذي فضل فيه ماضيا، وأن يكون مستقبلا غير أنه لا بد من دليل على المعنى منه، والاستقبال بحسب ما يفضل من ذلك، فإن كان زمانا ماضيا أضمرت أن، وإن كان مستقبلا أضمرت إذ، فإذا قلت: هذا بسرا أطيب منه تمرا، وكانت الإشارة إليه في حال ما هو تمر أو رطب، فالتفضيل لما مضى والتقدير لهذا: إن كان بسرا أطيب منه إذ كان تمرا فهذا مبتدأ، وخبره أطيب منه، وبسرا وتمرا جميعا حالان من المشار إليه في زمانين، والعامل في الحال (كان)، وفي كان ضمير من المبتدإ. وقوله: (مررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون). فأخبث الأول حال من الرجل، وأخبث الثاني نعت له في موضع خفض، إلا أنه لا ينصرف، وأخبث الثالث في موضع الحال من كان منك، والتقدير: مررت برجل إذا كان أخبث ما يكون، أو إذا كان أخبث ما يكون إذا كنت أخبث ما تكون، ولو رددت هذا ¬

_ (¬1) البيت منسوب لأمية بن أبي عائذ، خزانة الأدب 1/ 147، 2/ 301، ديوان الهذليين 2/ 184.

إلى ما يبين فيه الإعراب لقلت: مررت برجل شر ما يكون شر منك شر ما تكون، وكذلك: مررت برجل خير ما يكون خير منك خير ما تكون، وهو أخبث منك إذا كنت أخبث منك إذا كنت أخبث ما تكون. وهذا كله على التقدير الذي ذكرته لك، ونصبه على الحال، والعامل كان، وإن شئت فقلت مررت برجل خير ما يكون أي: خير أحواله، وخير منك خير، والتقدير: خير أحواله خير من أحوالك وهذا كلام على المجاز والمستعمل أن تقول: زيد خير منك، أو حال زيد خير من أحوالك فتخبر عن الأول بما يشاكله، وإنما جاز أن تقول: خير أحواله خير منك على نحو مجاز قولهم: نهارك صائم وليلك قائم، وإنما معناه: صاحب نهارك، وصاحب ليلك، والمخاطب هو صاحب الليل والنهار، ثم قال سيبويه: (وتقول: البرّ أرخص ما يكون قفيزان، أي البرّ: أرخص أحواله التي يكون عليها قفيزان)، وذكر الفصل. قال أبو سعيد: البرّ: مبتدأ، وأرخص ما يكون: مبتدأ ثان، وقفيزان: خبر المبتدأ الثاني، والجملة: خبر للبرّ، والعائد إليه محذوف، تقديره: أرخص ما يكون منه ومعناه: أرخصه قفيزان، والحذف في هذه الأشياء مطرد، وقد مضى نحوه، فأما البيت الذي أنشده سيبويه وهو: الحرب أوّل ما تكون فتيّة … تسعى ببزّتها لكلّ جهول (¬1) ففيه ثلاثة أوجه: وجه يرفع فيه: أول، وفتية. والثاني: نصب أول ورفع فتية. والثالث: رفع أول ونصب فتية. فمن رفع أول وفتية وأنت تكون، فإنه جعل الحرب مبتدأ وأول مبتدأ ثان، وفتية خبر أول وكان حقه أن يكون أول فتى، لأنه خبر أول، وأول مذكر، ولكنه حمله على المعنى، وأنث لأن المعنى أول أحوالها، نحو قولك: بعض أحوالها، فأنث المضاف لتأنيث المضاف إليه، كقولهم: ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن معديكرب شرح ديوان الحماسة للمرزوقي/ 252، 368، وشروح سقط الزند/ 1678.

ذهبت بعض أصابعه … إذا بعض السنين تعرفتنا ومن نصب أول ورفع فتية، جعل فتية خبر الحرب، وجعل أول: ظرفا له، كأنه قال: الحرب فتية في أول ما تكون، وحذف في، وأما من رفع أول ونصب فتية على الحال، فكأنه قال: الحرب أول ما تكون إذا كانت فتية. ويجوز فيه وجه رابع، وهو نصب أول وفتية ويجعل الحرب مبتدأ، ويجعل خبرها: تسعى، ويجعل أول ظرفا، ينصبه ب (تسعى)، وتكون فتية خبر تكون. قال سيبويه: (وأما عبد الله أحسن ما يكون قائما، فلا يكون فيه إلا النصب لأنه لا يجوز لك أن يجعل أحسن أحواله قائما على وجه من الوجوه). قال أبو سعيد: كان الأخفش يجيز رفع قائم، وأجازه المبرد كان التقدير إذا قلت: أحسن ما يكون، فقد قلت: أحسن أحواله، وأحسن أحواله هو عبد الله ويكون قائما خبرا له، وعلى مذهب سيبويه إذا قلت: أحسن ما يكون، فمعناه: أحسن أحواله، وأحواله ليست إياه، وقائم هو عبد الله، ولا يجوز أن يكون خبرا لأحسن، وهذا اختيار الزجاج، وهو عندي الصحيح ولأنا إذا قلنا: زيد أحسن أحواله قائم لم يجز لأن قائما ليس من أفعاله، فإن قيل: فقد قال: عبد الله أحسن صفاته قائم فما تنكر أن يكون مصدر الفعل، وإذا كان كذلك صار بمنزلة: أحسن أفعاله وصفاته: قائم، وقاعد، ونائم، ونحو ذلك، وقائم بعض صفاته وكان المبرد لا يجيز: عبد الله أحسن ما يكون القيام. ونصب قائما عند سيبويه على معنى: عبد الله أحسن ما يكون إذا كان قائما على ما ذكرنا في أول الباب، والعامل في إذا، وإذ فيما تقدم من قوله: هذا بسرا أطيب منه تمرا أطيب. وإنما جاز أن يعمل فيها أطيب وإن كان أطيب لا يتصرف ولا يعمل فيما قبله من الحال والمصدر، لأن ما يعمل في الظروف قد يكون ضعيفا متأخرا. يعمل بمعناه. ألا ترى أنك تقول: زيد الساعة في الدار، ولا تقول: زيد قائما في الدار، وتقول: زيد الساعة أخوك تريد به الصداقة، ولا تقول: زيد قائما أخوك، وإن أردنا به الصداقة. وتقول: زيدا أخوك أخوّة مؤكدة، ولا تقول: زيد أخوة مؤكدة أخوك، فأطيب في قلة تمكنه وعمله، بمنزلة أخوك في قلة تمكنه وعمله في التأويل بلفظ الفعل وبالجري مجراه وحملنا قولنا: بسرا في النصب على إضمار ظرف من الزمان وكان أولى الظروف

بذلك إذ وإذا اللذين يتضمنان ما مضى وما يستقبل من الزمان إذ كان التفضيل الواقع في ذلك يكون للماضي والمستقبل، ووصلا بكان لأنها موضوعة للعبارة عن الزمان والذي بعده من الحال منصوب بكان والذي عمل فيه أطيب هو الظرفان " إذ "، و " إذا " على ما ذكرنا من عمل ما يعمل من غير المتمكن في الظرف المتقدم وكان بمعنى وقع. قال سيبويه: (وتقول: عبد الله أخطب ما يكون يوم الجمعة والبداوة أطيب ما يكون شهري ربيع). وذكر الباب. قال أبو سعيد: نصب يوم الجمعة وشهري ربيع على الظرف ومن رفع يوم الجمعة وشهري ربيع، فلأن أخطب ما يكون بمنزلة المصدر، وقد يخبر عن المصادر بالظرف من الزمان، ثم يجوز في ظروف الزمان إذا كان معرفة أو ما جرى مجراه نصب الظروف ورفعه، فمن نصب قال: القتال يوم الجمعة، كما تقول: زيد خلفك، والناصب تقديره: القتال كائن يوم الجمعة، ومن رفع فالتقدير: وقت القتال يوم الجمعة، وذلك مطرد. وأما إذا كان ظرف الزمان نكرة مؤقتا، فإن أكثر كلام العرب الرفع كقولك: سيرنا يومان، ومقامنا شهران، قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (¬1)، وقال عز وجل: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها (¬2) فهذا أكثر كلام العرب، وجاز: أخطب أيامه يوم الجمعة، على سعة الكلام، وكأنه قال: أطيب الأزمنة البداوة شهرا ربيع وأخطب الأيام التي يكون عبد الله فيها خطيبا يوم الجمعة، ومثله في السعة قول الله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ (¬3) وهما لا يمكران وإنما يمكر فيهما، وقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً * (¬4)، والنهار لا يبصر وإنما يبصر فيه. وقوله: آتيك يوم الجمعة أبطؤه فترفع أبطؤه على معنى: ذلك أبطؤه، وتضمر الخبر أي: ذلك أبطؤه، على ذلك التفسير، ويوم السبت أبطؤه، فتجعل أبطؤه خبر يوم السبت، وأعطيته درهما أو درهمين أكثر ما أعطيته وأكثر، فإنه يريد أنك إذا نصبت أكثر، فإن شئت جعلته مفعولا به بدلا من الدرهمين، وإن شئت نصبته على الحال، كأنه قال: أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 197. (¬2) سورة سبأ، الآية: 33. (¬3) سورة سبأ، الآية: 33. (¬4) سورة يونس، الآية: 67 - والنمل، الآية: 86 - وغافر، الآية: 61.

هذا باب ما ينتصب من الأماكن والوقت

درهمين في حال كثرته، لأنه أكثر ما دونه ففيه لهذا تأويل كثير. ولك أن تقول: أعطيته درهما أو درهمان أكثر ما أعطيته، قلت: آتيك يوم الجمعة أو يوم السبت أبطؤه. يكون درهمان: مبتدأ، وأكثر: خبرا، وإنما جاز أن يكون أكثر ما أعطيته: نصبا على الحال، وهو مضاف إلى (ما) لأن ما يجوز أن يكون نكرة فلا يتعرّف أكثر بالإضافة إليها، كما قال: ربّما تكره النفوس من الأمر … له فرجة كحلّ العقال (¬1) فأدخل عليه ربّ. هذا باب ما ينتصب من الأماكن والوقت (وذلك لأنها ظروف توقع فيها الأشياء وتكون فيها فانتصبت لأنه موقوع فيها، ويكون فيها، وعمل فيها ما قبلها. كما أن العلم إذا قلت: أنت الرجل علما، عمل فيه ما قبله). قال أبو سعيد: ولا أعلم خلافا بين البصريين، أنك إذا قلت: زيد خلفك وكذلك سائر ما يجعل الظروف خبرا له أنه منصوب بتقدير فعل هو استقر أو وقع أو حدث أو كان أو نحو ذلك، وقال الكوفيون: إذا قلت: زيد خلفك، فلم ينتصب " خلفك " بإضمار فعل، ولا بتقديره وإنما ينتصب بالخلاف الأول، ولأنّا نقول: زيد أخوك، فيكون الأخ هو زيد، وكل واحد منهما يرفع الآخر، وإذا قلت: زيد خلفك، كان خلفك مخالفا، لزيد لأنه ليس هو فنصبناه بالخلاف، وهذا فاسد من وجوه: أحدها: أنه لو كان الخلاف يوجب النصب لوجب أن ينتصب الأول لأنه مخالف للثاني كما خالفه الثاني، وعلى أنهم يزعمون أن الأول رفع بعائد يعود إليه من خلفك، وذلك العائد في موضع رفع، فإذا ارتفع العائد فلا بد من رافع، فإذا كان في خلفك ما يرفع العائد وجب أن يكون ذلك الرافع هو الذي نصب خلفك، ومذهب البصريين: أنا إذا قلنا: زيد استقر خلفك أن في استقر ضميرا مرفوعا باستقر هو فاعله، وخلفك منصوب به. ¬

_ (¬1) البيت ينسب إلى: أمية بن أبي الصلت خزانة الأدب 2/ 541، 4/ 194، ديوان أمية: 50 مغني اللبيب: 297.

وفي كلام سيبويه: ما ظاهره ملبس لأنه جعل ما قبل الظروف هو العامل، فيجيء على هذا إذا قلت: هو خلفك أن يكون الناصب لخلفك هو أم زيد إذا قلت: زيدا خلفك. ومراد سيبويه على ما ينتظم من مذهبه أن الذي ظهر دلّ على المحذوف، فناب عنه إذ كان المحذوف لا يسمع ولا يظهر فجعل ما ناب منه عاملا لبيانه، وإنما مثله بقوله: أنت الرجل علما، وعشرون درهما لأن الرجل إنما ينصب علما إذ كان بتقدير كامل ونحوه مما هو بمعنى الفعل، وكذلك عشرون درهما يقدر نصبه على مذهب ضاربين زيدا ونحوه من التقدير، وكذلك زيد خلفك بمعنى استقر فكان اشتراكها في نصب ما بعدها لاشتراك جميعها في تقدير ناصب لما بعدها من طريق المعنى والتشبيه. قال سيبويه: (ومن ذلك: هو ناحية من الدار). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: إن المكان ينقسم قسمين، أحدهما: يكون ظرفا، والآخر لا يكون ظرفا. ومعنى الظرف أن يكون الفعل لا يتعدى إلى المفعول به ويتعدى إليه بتقدير في فهذا لا يسوغ في كل مكان، ألا تراك تقول: قمت قدّامك وجلست مكانا عاليا، ولا تقول: قعدت السوق، ولا قمت السطح، حتى تقول: في السطح، وفي السوق من حيث يكون المكان ظرفا اطرد فيه حذف في. فما يكون ظرفا من هذه الأماكن، فإن كان هذا الاسم يقع على مكان ولا يختص مكانا دون مكان، وما لا يكون ظرفا فإنه يختص مكانا دون مكان، فيما لا يختص خلف وقدّام ويسرة ويمنة، وميل وفرسخ. وما كان من أسماء الأماكن مطلقا ومشتقا من فعل لا يخلو من مكان، فالمطلق هو المكان لأنه واقع على الأمكنة كلها، والمشتق هو المذهب والمتطرق والمجلس، وما كان منسوبا إلى وجهة معروفة نحو الشرقي والشمالي، والجنوبي، ويجري مجرى المكان في عموم الموضع لأنك تقول: قمت موضعا أو ذهبت موضعا، فلا يختص موضعا دون موضع، ويجري أيضا في باب العموم مصادر أفعال جعلت بمنزلة أسماء الأماكن المأخوذة من الفعل كقولك: هو قصدك، ومشيت قصدك فيجري مجرى المذهب والمنزل والمجلس، وكذلك حلّة الغور بمنزلة المذهب، ألا تراك تقول: قمت محل فلان، وحللت محل فلان، وغير هذا مما سيمرّ بك أو يمر بك نظيره.

وأما ما لا يكون ظرفا إلا أن يجيء منه شيء شاذ، فما كان من الأماكن مخصوصا لا يقع اسمه على مكان، وذلك نحو الدار والمسجد والسوق والسطح والحمام والبيت ونحو ذلك لو قلت: زيد البيت، أو أنت الحمام لم يجز، ولو قلت: أنت يمنة أو قدّام زيد، أو أنت مكانا طيبا كان جائزا مستمرا. واعلم أن الظروف تنقسم قسمين: أحدهما متمكن، والآخر غير متمكن. فالتمكن هو الذي يستعمل ظرفا وغير ظرف. ومعنى غير ظرف: أنه تدخل عليه العوامل الخافضة والرافعة كسائر الأسماء، وذلك نحو الموضع والمكان، وإذا استعملت المكان ظرفا قلت: زيد مكانا طيبا وزيد مكانك، وإذا استعملت غير ظرف قلت: هذا مكانك، وأقمت مكانك، ونظرت إلى مكانك. وأما الظرف غير المتمكن فهو الذي لا يدخله الرفع ولا حروف الجر، إلا من في بعضها، وذلك نحو: عند وقبل وبعد، فتقول: زيد عندك وزيد قبلك وعمر بعدك. ولا يجوز أن تقول: طاب عندك، ولا قيم عندك، ولا قمت في عندك ولا قبلك، ولا سير بعدك. والظروف المتمكنة بعضها أمكن من بعض لأن فيها ما لا يحسن أن تجعله متمكنا ويرفع إلا في ضرورة شعر أو مستنكرة من الكلام ونقل ذلك فيه قبل الرفع في خلف وقدّام ووراء وأمام وفوق وتحت، فإن هذه الجهات المحيطة بالأشياء كثر استعمالهم لها ظروفا وهي مبهمة، فربما استعملوها أسماء وترى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما قول سيبويه بعد أن ذكر المبتدأ الذي بعده الظروف خبرا له: (فهذا كله انتصب على ما هو فيه وفي غيره، وصار بمنزلة النون التي تعمل فيما بعدها نحو: العشرين، ونحو قولك: خير منك عملا، فصار هو خلفك وزيد خلفك بمنزلة ذلك، والعامل في خلف الذي هو موضع له، والذي هو في موضع خبره)، قال المفسر فإن بعض هذه العبارة إيهام لمذهب الكوفيين، وفي بعضها ما يوهم أن المبتدأ هو الذي ينصب الظرف، وحقيقة نصبه ما قدمناه من تقدير استقر ونحوه فأما إيهام مذهب الكوفيين فقوله إنا ننصب الظرف بالخلاف للأول، وقوله: على ما فيه. فما للظرف وهو المبتدأ والهاء المتصلة ب (في) عائدة إلى ما وهي للظرف، وهو

الثاني عبارة عن الظرف والهاء في غيره عبارة عن المبتدإ. فأما قوله: (وصار بمنزلة النون)، يعني صار المبتدأ بمنزلة النون، وهو عشرون، وخير منك في عملها فيما بعدها، لأن عشرين تنصب درهما إذا جاء بعدها، وخير منك ينصب عملا. فظاهر هذا أن المبتدأ نصب الظرف الذي بعده، ثم حقق هذا بقوله: فصار هو خلفك، وزيد خلفك بمنزلة ذلك، يعني بمنزلة العشرين، وخير منك في نصبهما ما بعدهما. وقوله: (والعامل في خلف الذي هو موضع له) ف (هو) الذي يرجع إلى خلف، والهاء في (له) ترجع إلى الذي، فكأنه قال: والعامل في خلف الاسم الذي الخلف موضع له، وذلك الاسم هو المبتدأ الذي هو في موضع خبره، وظاهر هذا كله: أن المبتدأ ينصب الظرف، فكما يرفع الخبر إذا كان هو هو نحو قولك: زيد أخوك، والأخ قد عمل فيه الأول فارتفع به، يعني أخوك قد عمل فيه زيد، فارتفع، وقوله: (وبه استغنى الكلام وهو ينفصل منه)، أي: ليس بنعت له، فهذا ما يقتضيه اللفظ ظاهرا، ويجوز أن يكون سيبويه جعل المبتدأ لمّا كان الفعل لا يظهر وكان ذكره نائبا عن ذكر الفعل، أقامه مقام الفعل في العمل لمّا ناب عن ذكره وأغنى عنه فنسب العمل إليه. ويجوز أن يكون نسب العمل في الظرف إلى المبتدإ لأن فاعل استقر هو المبتدأ، فالمضمر هو المظهر وملابسته للفعل المضمر جاز أن يعبّر عنه أنه العامل فيه. ومما يقوي أن الناصب للظرف الفعل المقدر الذي فيه ضمير المبتدإ، لأن الاسم لا يرتبط باسم هو غيره إلا بضمير يعود إليه، ألا ترى أنه لا يجوز: زيد عمرو قائم، حتى تقول: إليه ونحو هذا، فلما كان الظرف غيره احتاج إلى شيء تربطه به، فكان الفعل المقدر الذي ينصب الظرف، وفيه ضمير الاسم. وأما الكوفيون فإنهم يجعلون في الظرف عائدا، والظرف اسم لا يحتمل الضمير إلا بتقدير الفعل، أو تأويله. قال سيبويه: (ومن ذلك قول العرب: هو موضعه وهو مكانه)، والموضع والمكان ظرفان متمكنان، وكذلك (هذا مكان هذا، وهذا رجل مكانك). قال أبو سعيد: هذا يكون على معنيين كلاهما ظرف، أحدهما: أن يراد المكان

الذي يكون فيه، والآخر: أن يراد البدل منه في صنعة أو ولاية. فتقول: زيد مكان عمرو، بمعنى أنه في الموضع الذي فيه عمرو، والآخر أن تريد: أنه بدل عمرو في عمله أو ولايته، ويجوز أن يدخل عليه حرف الجر، فيقول: هذا في مكانك، ومعي رجل مكان فلان، أي: معي رجل يكون بدلا منه يعني غناءه، (ومثله هو صددك وسقبك)، فمعنى: صددك، قصدك، ومعنى سقبك: قربك. ثم قال سيبويه: (واعلم أن هذه الأشياء كلها قد تكون أسماء غير ظروف بمنزلة: زيد وعمرو وسمعنا من العرب من يقول: دارك ذات اليمين)، وذكر الفصل. فإنه يريد: أن الظروف نحو: خلف وأمام، وذات اليمين، وإن كانت ظروفا، فإنها قد تكون أسماء، وقد تتفاضل في التمكن، وسأذكر في آخر الباب جملة من ذلك، فأما قول الشاعر: فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه … مولى المخافة خلفها وأمامها (¬1) فإن في غدت ضمير الوحشية، وهي بقرة جرى ذكرها وكلا الفرجين موضعه رفع بالابتداء، وكلا وما بعده إلى آخر البيت: جملة في موضع الحال، والأصل أن تقول: فغدت تحسب أن كلا الفرجين مولى المخافة، فقدم كلا قبل أنّ، وأضمر في أن، فالهاء تعود إلى كلا، ومولى المخالفة هو خبر أن، ومعناه: صاحب المخافة وخلفها وأمامها بدل من كلا. ومعنى البيت: أن هذه الوحشة غدت تحسب أن كلا طريقيها في العدو وفيها ما يريبها وتخاف منه، والطريقان هما: خلف وأمام، ثم قال سيبويه: (ومن ذلك أيضا هو سواك، وهذا رجل سواك، فهذا بمنزلة مكانك إذا جعلته بدلا، ولا يكون اسما إلا في شعر فإن بعض العرب لما اضطر في الشعر جعله بمنزلة غير، قال الشاعر وهو رجل من الأنصار: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم … إذا جلبوا منّا ولا من سوائنا (¬2) وقال الأعشى: ¬

_ (¬1) البيت للبيد: ديوانه: 311، ابن يعيش 2/ 44، 129. (¬2) البيت ل (المرار بن سلامة العجلي) خزانة الأدب 2/ 60 شرح الأشموني 2/ 158.

تجانف عن جلّ اليمامة ناقتي … وما عدلت عن قبلها لسوائكا) (¬1) وذكر الفصل. قال أبو سعيد: (ومثل ذلك أنت كعبد الله، كأنه يقول أنت في حال كعبد الله، فأجري مجرى بعبد الله، إلا أن ناسا إذا اضطرّوا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل، قال الراجز: فصيّروا مثل كعصف مأكول (¬2). وقال: وصاليات ككما يؤثفين) (¬3) وذكر الفصل. مثّل سيبويه، سواء غير متمكن لما استعمله الشاعر متمكنا في ضرورة الشعر بالكاف التي هي حرف قد وضعها الشاعر في موضع مثل اسما لأنها للتشبيه، كما أن مثلا للتشبيه قد دخل عليها ما يدخل على مثل من العوامل، وأضاف مثل إلى الكاف في: كعصف، لأنه قدر مثل عصف، وأدخل عليها الكاف، وقوله: ككما يؤثفين الكاف الأولى حرف، والثانية اسم بمعنى مثل، فصارت الكاف في الضرورة في حكم مثل، كما صار سوى في حكم غير في التمكن، ثم بيّن سيبويه أن سوى والكاف جميعا بمنزلة الظروف، لأنك تقول: مررت بمن سواك، ونزلت على من سواك، ومررت بالذي كزيد، فصار كقولك: بمن عندك، وبالذي عندك، وهو غير متمكن، ولو قلت: بمن فاضل أو بالذي صالح، كان قبيحا، لأن فاضلا وصالحا، اسمان متمكنان فلا يحسن حتى تقول: بمن هو فاضل، وبالذي هو صالح، ولا يحسن أيضا أن تقول: مررت بمن مثل زيد، وبمن غير زيد، ولا بالذي مثل زيد: ولا بالذي غير زيد، لأنها أسماء متمكنة غير ظرف فلا بد من ذكر العائد الذي يعود إلى الذي، ومن. وقد أجاز الكوفيون: زيد مثل عمرو، ويجعلون مثل ظرفا، كما تقول: زيد دون ¬

_ (¬1) ديوانه: 95 / خزانة الأدب 2/ 59. (¬2) الخزانة 4/ 270 وينسب إلى رؤبة. (¬3) الخزانة 1/ 367، 2/ 353، 4/ 573، شرح شواهد المغني: 172 وهو ينسب لخطام المجاشعي.

عمرو وفوق عمرو. قال: (وتقول: كيف أنت إذا أقبل قبلك، ونحي نحوك، كأنه قال: أنت إذا أريدت ناحيتك)، فإنه جعل قبلا ونحوا وناحية أسماء، وأقامها مقام الفاعل، وكذلك قوله: (كيف أنت إذا أقبل النقب الرّكاب)، لأن الركاب: اسم للإبل، وقد أقامه مقام الفاعل في أقبل، ونصب النقب وهو طريق في الجبل، فشبه قبلك ونحوك وناحيتك بالركاب في إقامته مقام الفاعل، فإن كانت هذه الأسماء تكون ظرفا في حال، والركاب لا تكون ظرفا. وقوله: (وزعم الخليل أن النصب جيد إذا جعله ظرفا، وهو بمنزلة قول العرب: هو قريب منك، وقريبا منك، أي: مكانا قريبا منك، وحدثنا يونس: أن العرب تقول: هل قريبا منك أحد، كقولك: هل قربك أحد؟) فإن سأل سائل كيف حسن رفع هذه الظروف، ولم يحسن رفع خلف وقدام ونحوها إلّا في شعر؟ قيل له: لأن هذه الجهات المحيطة قد كثر استعمالها ظرفا، فقويت في الظرفية أكثر من قوة غيرها من أسماء الجهات، فكذلك بعد الرفع منها، وقوله: (وأما دونك فإنه لا يرفع أبدا)، وذكر الفصل. قال أبو سعيد وذكر سيبويه " دون " في معنيين، أحدهما: أن تكون ظرفا ولا يجوز فيه غير النصب، وإنما يستعمل في معنى المكان تشبيها، فيقال: زيد دون عمرو في العلم والشرف ونحوه، كأن هذه المناقب منازل يعلو بعضها بعضا، كالأماكن التي بعضها أعلى من بعض، ثم جعل بعض الناس في موضع من الشرف أو من العلم، وجعل غيره أسفل من موضعه. وقد أنشد في كتاب سيبويه بيتان ليسا من الكتاب في رفع دون، أحدهما: أراها يحسن الآل مرة … فتبدو وأخرى يكتسي الآل دونها (¬1) أنشده ناقصا. والآخر: وعيرا تحمي دونها ما وراءها … ولا يحيطها الدهر إلا المخاطر (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 1786. (¬2) البيت ينسب لموسى بن جابر، الدرر اللوامع 1/ 182، همع الهوامع 1/ 213.

وليس البيتان بمعروفين وأمّا الموضع الآخر ل (دون) فأن تكون بمعنى: حقير أو مسترذل، فقال: هذا دونك، أي: هذا حقيرك ومسترذل. كما تقول: ثوب دون، إذا كان رديئا، وجائز أن يكون دون الذي في المرتبة والمنزلة المستعمل ظرفا محمولا على هذا الرفع، لأنك إذا جعلته في مكان أسفل من مكانه على التمثيل صار بمنزلة أسفل وتحت، وهما يجوز رفعهما على التنكير على أن أسفل اسم متمكن إذا كان نقيض أعلى، تقول: هذا أسفل الحائط وهذا أعلاه، كما تقول: هذا رأسه وهذا آخره. قال سيبويه: (وليس كل موضع يحسن أن يكون ظرفا). وذكر الفصل. فإنه يريد أنهم لا يقولون: هو جوف الدار وخارجها كما تقول: هو خلفك لأن خلف للأماكن التي تلي الأسماء من أقطارها إلى غير نهاية، لأن خلفك وقدامك وأقطارك كلها لا غاية لها، وجوف الدار وخارجها بمنزلة البطن والظهر، لأنه جزء من الدار وجزء من حدودها، وكما لا تكون الدار ظرفا، فكذلك أجزاؤها، فإن لم ترد هذا وأردت الجهة كان ظرفا، فقلت: زيد ناحية الدار، أي جهة الدار وقصد الدار، وكذلك هو ناحية من الدار، لأن هذا ليس بجزء من الدار، بل هو جهة غير الدار. ثم بيّن سيبويه أن ما كان من المجرور، فهو خارج عن الظرف كما يخرج المرفوع عن الظرف أنك تقول: زيد وسط الدار بتسكين السين، فيكون ظرفا، ثم تقول: هو في وسط بتحريك السين، فيصير اسما كقولك: ضربت وسطه، وقطعت وسطه، فهذا بيّن من فصلهم بينهما في بنية اللفظ، وقوله: (واعلم أن الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في الأسماء نحو: القبل والقصد والناحية)، وذكر الفصل. قال المفسر: فإنه يعني أن القبل والقصد والناحية استعملت في الأسماء أكثر من استعمال الخلف والأمام والتحت، فلذلك كثر الرفع وقوي وتمكن في الخلف استعماله ظرفا، وقل في الاسم، وقد جاء من ذلك ما تقدم ذكره في الكلام والشعر، فالكلام قولك: خلفك أوسع من قدّامك وأمامك أضيق ونحوه، وأنشدوا لحسان: نصرنا فما تلقى لنا من كتيبة … يد الدهر إلا جبرئيل أمامها (¬1) ومما يقوي النحو والقبل في الاسمية إذا قلت: نحي نحوك، وأقبل قبلك أنها لا تتسع ¬

_ (¬1) البيت منسوب لكعب بن مالك في معجم هارون ديوانه: 271، الخزانة 1/ 199.

كاتساع خلف وقدام لأنها لم تقع على موضع يتسع، وإنما وقعت على موضع يقرب، وعرفت بما أضيفت إليه، وقد ذكر أصحابنا في الظروف بدل ولم يذكروا مثل، وذكره الكوفيون وأجازوا: زيد مثلك نحو زيد دونك أي: في المنزلة، وكذا هو مثلك في المنزلة واحتج لهم بقوله: إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (¬1) على أن مثلهم ظرف، كقولك: فوقهم ودونهم. قال سيبويه: (وهذه حروف تجري مجرى خلفك، ولكنا عزلناها لتفسير معانيها، لأنها غرائب فمن ذلك حرفان ذكرناهما في الباب الأول لم نفسر معناهما، وهما صددك ومعناه: القصد، وسقبك ومعناه: القرب، ومنه قول العرب: هو وزن الجبل، أي ناحية منه، وهم زنة الجبل أي: حذاءه. ومن ذلك قول العرب: قرابتك أي: قربك، يعني المكان، وهم قرابتك في العلم أي: قريبا منك في العلم، فصار هذا بمنزلة قول العرب: هو حذاءه وإزاءه وحواليه بنو فلان، وقومك أقطار البلاد). قال أبو سعيد: هذه التي ذكرناها من الظروف جهات أجريت مجرى خلف وقدام، واستعملوا حول على التوحيد وعلى التثنية والجمع، فقالوا: حوله وحوليه وأحواله وحواله وحواليه، وهي جانبيه وجنباته، وهم قطريه وأقطاره، وذلك كله يصح، ومنه البيت الذي أنشده لأبي حيّة: إذا ما تغشاه على الرحل ينثني … مساليه عنه من وراء ومقدم (¬2) ومسالاه عطفاه، فصار بمنزلة: جنبي فطيمة، ويقال: زيد جنب الدار وجانب الدار، أي: ما قرب منها. قال أبو سعيد: وأنا أذكر جملة من الظروف في بعضها خلاف بين الكوفيين والبصريين وفي بعضها وفاق لينكشف مذهب الظروف عند النحويين اتفق الكوفيون والبصريون أن خلفك وقدام عمرو ونحو هذا من أسماء الأماكن العامة هي ظروف، واختلفوا فيها إذا أفردت، فرأى البصريون أنها ظروف ومنع من ذلك الكوفيون، فقالوا: ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق: ديوانه: 223، خزانة الأدب: 2/ 130. (¬2) البيت لأبي حية النمري: سيبويه 1/ 205، معجم هارون 1/ 359.

إذا أفردت صارت اسما، فأجاز البصريون: زيد خلفا وقداما على الظرف، وقال الكوفيون: زيد خلف بمعنى متأخر وقدام بمعنى متقدم، وماذا قلت: قام زيد خلفا، وذهب قداما فنصبه عند البصريين على الظرف كما ينتصب لو قلت: ذهب قدامك وقام خلفك، وعند الكوفيين أن تقديره تقدير الاسم الذي هو حال، كأنه قال: قام متأخرا، وذهب متقدما، فإذا قلت: قام مكانا طيبا، فالبصريون يجعلون مكانا ظرفا، والكوفيون يقولون: إنه ناب عن قولك: فرحا ومغتبطا، وزعم الكوفيون أن الظرف، ويسمونه المحل، يحتاج إلى الإضافة لأنه يكون خبرا عن الاسم كما يكون الفعل خبرا عن الاسم لو قلت: ذهب زيد، فلما كان الفعل يحتاج إلى فاعل ويتصل به أشياء يطلبها الفعل من المصدر والمكان والزمان والمفعول ألزموا المحل الإضافة ليسد المضاف إليه مسد ما يطلبه الفعل ويدل عليه، وقال البصريون: إنما الإضافة لتعيين الجهة والتعريف، والأصل هو التنكير وإنما التعريف داخل عليه، وأجمع البصريون والكوفيون: أن الوقت يرفع وينصب إذا كان خبرا لمرفوع ابتدأ في حال تعريف الوقت وتنكيره، فالتعريف نحو قولك: القتال يوم الجمعة واليوم، وإن شئت قلت: اليوم يوم الجمعة، وأمّا التنكير فقولك: رحيلنا غدا وغد، كما قال النابغة: زعم البوارح أن رحلتنا غدا … وبذاك خبّرنا الغراب الأسود (¬1) ويروى غد، فإذا رفعت الخبر صار التقدير في الأول أن يكون الوقت مضافا إليه ومحذوفا منه، كأنك قلت: وقت القتال اليوم، وإذا نصبت فبإضمار فعل، كأنك قلت: القتال يقع اليوم أو وقع، وعلى هذا: زيارتنا عشيّ وعشيا ورواح ورواحا، فإذا كان الفعل مستغرقا للوقت كله، فإن البصريين يجيزون نصبه على الظرف، كما يجيزونه في غير المستغرق لجميع الوقت ويدخلون عليه في. والكوفيون لا يجيزون فيه النصب ويجعلونه خبرا هو الأول، ولا يدخلون في. فقول البصريين: صيامك يوم الخميس، ويوم نصب ورفع، والصوم يستوعب اليوم، وجوز في قوله: (صمت في يوم الخميس)، ومذهب الكوفيين رفع اليوم، ولا يجيزون نصبه، ولا يدخلون في لأنها عندهم توجب التبعيض، والصوم يستوعب اليوم، والصحيح ¬

_ (¬1) ديوانه: 27، الخصائص لابن جني 1/ 240.

هذا باب ما شبه من الأماكن المختصة

قول البصريين لأن في لا يمتنع دخولها على زمان الفعل وإن قلّ، ألا ترى أنك تقول: قد سار في بعض النهار، ولم يسر فيه كله فالجزاء الذي وقع فيه السير واستوعبه قد دخلت عليه في، وتقول: تكلمت في القوم أجمعين فتدخل في على القوم وقد استوعبهم الكلام، فكذلك لم تدخل في على اليوم، وإن استوعبه الكلام، وقد منع الكوفيون أن يقال: زيد خلفك أشد المنع، واحتالوا لما جاء في الشعر ما فيه تعسف حين قال بعضهم في قوله: إلا جبرئيل أمامها (¬1) إنّ ذلك إنما جاز، لأن جبريل لعظم خلقه يملك الأمام كله، وهذا خطأ، لأن الأمام لا نهاية له، فلا يجوز أن يملأه شيء، وهكذا سائر الجهات، وأجازوا ذلك في أخبار الأماكن، فقالوا: داري خلفك، ومنزلي أمامك، وعلى هذا [التأويل] حمل ثعلب قول لبيد: خلفها وأمامها (¬2) هذا باب ما شبّه من الأماكن المختصة (بالمكان غير المختص شبّهت به إذا كانت تقع على الأماكن). قال أبو سعيد: هذا الباب ينقسم قسمين: أحدهما: يراد به تعيين المنزلة بعد أو قرب. والآخر: يراد به تقدير البعد والقرب. فما أريد به تعيين الموضع وذكر المحل من قرب أو بعد، وإن النصب يجوز فيه على الظرف، والرفع على خبر الأول تشبيها، والأكثر فيه النصب. ويدلّك على ذلك أنك تدخل الباء عليه فتقول: هو مني بمنزلة، كأنه قال: هو مني استقر بمنزلة، والباء وفي بمعنى واحد، كما تقول: هو بالبصرة، وفي البصرة. فأما قولهم: هو مني مزجر الكلب، فلمن كان مباعدا مهانا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

وأما قول الشاعر: فوردن والعيّوق مقعد رابئ وال … ضّرباء خلف النّجم لا يتتلّع (¬1) فإنه يصف حمرا وردت الماء ليلا وقد ارتفع العيّوق والثّريا في وسط السماء، سحرا في آخر الليل وذلك أثناء شدة الحر، ومثل موقع الثريا من العيوق، والعيوق إذا ارتفع وتوسط السماء صار مع الثريا كالمشرف عليها، فشبّه ذلك المقعد بمقعد رابي الضّربا، وهو الأمين المشرف على الذين يضربون بالقداح كيلا يخونوا وهو علامتهم، وأراد بالنجم الثريا، فإذا نصب فالناصب: استقر كما ذكرنا في الظروف، وإذا رفعت فقلت: هو مقعد القابلة، جعلته بمنزلة قولك: هو قريب كمقعد القابلة، وكذلك إن قلت: هو مناط الثريا، كأنك قلت: هو بعيد كمناط الثريا، وجاز أن تكون هذه الأشياء ظروفا، لأنهم قد اتسعوا فيما هو من الأماكن أخص من هذه، فجعلوه ظروفا ونصبوه. فقالوا: ذهبت الشام، ودخلت البيت، تشبيها بالأماكن المحيطة مثل: خلف وقدام. ثم قال سيبويه: (وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك أو متكأ زيد أو مربط الفرس لم يجز). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: فإن سيبويه منع أن يقاس على مناط الثريا ونحوه مما استعملوه ظرفا غيره من الأماكن نحو: مربط الفرس إلا أن تظهر المكان، فتقول: هو مني مكان مربط الفرس، فيجوز، وأنشد سيبويه بيت ابن هرمة: ............. … ..... أم هم درج السّيول (¬2) فألحقوا درج السيول بمناط الثريا، واستعملوه ظرفا، ورفعه جائز كما ذكرنا في مناط الثريا ونحوه. وقد ذكر يونس: أن من العرب من يقول: زيد خلفك يجعله هو الخلف، وقد ظهر أن سيبويه يجيز: زيد خلفك، إذا جعلته هو الخلف، ولم يشرط ضرورة شاعر، وهو قول المازني، فكان الجرمي لا يجيزه إلا في ضرورة الشعر. والكوفيون يمنعونه أشد المنع، وقد ¬

_ (¬1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين 1/ 6، ابن يعيش 1/ 41. (¬2) البيت لابن هرمة في ديوانه ص 181، الخزانة 1/ 424، سيبويه 1/ 284. وهو جزء من البيت أنصب للمنية تعتريهم … رجالي أم هم درج السيول

تقدم قولنا فيه. وأما ما يقصد فيه تقدير القرب والبعد على وجه المساحة، فقولك: هو مني فرسخان، وهو مني عدوة الفرس، ودعوة الرجل، وهو مني يومان، وهو مني فوت اليد. فإن هذا لا يستعمل فيه إلا الرفع، ويفارق الباب الأول لأن معنى هذا أنه يخبرك أن بينه وبينه فرسخين، ويومين، ومعنى فوت اليد: أن يمدّ يده إليه فلا يناله، ويريد به تقريب ما بينهما، فجرى على الكلام الأول كأنه هو توسّعا كما قالوا: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة، وإلا فتقديره إذا قلت: هو مني فرسخان، أي بعده مني مسيرة فرسخين فيجوز وكما يجوز وفي يوم الجمعة حين قالوا: أخطب أيامه يوم الجمعة، واليوم لا يخطب، فجعلوه خطيبا، وكما قالوا: أمّا النهار ففي قيد وسلسلة. وإنما يريد: المقيد في النهار، فأجرى اللفظ على النهار، فأما قوله: (وقول العرب أنت مني براء ومسمع). وذكر الفصل. فإنه يريد أنهم رفعوه، جعلوه الأول كما قالوا: زيد مني قريب، ومن العرب من ينصب فيقول مرأى ومسمعا فجعله ظرفا لأنهم قالوا: بمرأى ومسمع، فدخلت عليه الباء، صار غير الاسم الأول فإذا صار غيره ولا يأتيه نصب، نصب على الظرف كما تقول: أنت مني مكان زيد أو أنت مكان زيد. قال سيبويه: (واعلم أن هذه الظروف بعضها أشد تمكنا من بعض في أن تكون أسماء كالقصد والنّحو والقبل والناحية). وإنّا قد ذكرنا تمكن هذه الأسماء وأنها أقرب إلى الأسماء المتمكنة من الخلف والأمام. قال سيبويه: (وأمّا الخلف والأمام والتحت والفوق، فتكون أسماء، وكينونة تلك أكثر وأجرى في كلامهم). فإنه يعني: أن القصد والنحو والقبل والناحية، أكثر في الأسماء من الخلف والأمام، وقد ذكر سيبويه في الباب قبل هذا: (أن دونك لا يرتفع أبدا)، وقد ذكره هاهنا فيما أجاز رفعه بما يكون أسماء غير ظروف، والأقيس أن يكون بمنزلة الخلف والأمام، وهو قول النحويين إلّا من احتج لسيبويه أنه فوق بين دونك ظرفا، وبينه إذا كان بمعنى: وضيعك، وكذا مرأى ومسمعا كونهما أسماء أكثر، ومع ذلك فإنهم جعلوه اسما خاصا

بمنزلة: المتكأ والمجلس، وهما لا يجعلان ظرفا، وإنما نصب بعضهم: مرأى ومسمعا لأنهم لما أدخلوا على بمرأى علم أنهم جعلوه غير زيد، فإذا نزعوا الباء فهي أيضا غيره فنصبوه كما نصبوا الظرف الذي هو للاسم الأول، ومن رفعه فإنما يجعله الاسم الأول، فيجازى به. وأما قوله: (وزعم يونس أن من العرب من يقول: هو مني مزجر الكلب). وذكر الفصل، وأنشد: وأنت مكانك من وائل … مكان القراد من است الجمل (¬1) وقوله: (وتقول: داري خلف داره فرسخا)، فإنه يريد أنك تنصب فرسخا على التمييز لأنه أريد به التقدير، فصار كقولك: ما في السماء قدر راحة سحابا لأنه لما قال: داري خلف دارك أبهم فلم يدر ما قدر، فقال: فرسخا وذراعا وميلا. وقوله: (كان هذا الكلام شيء منون)، يعني: خلف دارك، وهو بمنزلة عشرين، كأنه قال: داري عشرون ذراعا، وقوله: (كأنه منون يعمل فيما ليس من اسمه، ولا هو هو). فإنه يعني بالمنوّن: عشرين عمل في الدرهم، وليس الدرهم هو العشرين ولا هو من اسم العشرين، لأن العشرين ليست مضافة إليه، وما هو من اسمه فهو مضاف إليه وذلك قولك: زيد أفضلهم رجلا. وقوله: (وإن شئت قلت: داري خلف دارك فرسخان). وذكر الفصل. فإنه يريد أنك تجعل فرسخين خبرا وتلغي الظرف، كما تخبر عن زيد ب (قائم) وتلغي فيها فتقول: زيد قائم فيها، وإن دخلت (من) فأبو عمرو يرفع، ويجعل من خلف دارك كقولك: من إذا قلت: يقدمني، وغيره يجعل من مع خلف بمنزلة خلف فينصب ويرفع كما تقول: داري خلف دارك فرسخان وفرسخين لأنك تقول: أنت من خلفي، ومعناه: أنت خلفي لا فرق بينهما. وقوله: (وتقول: أنت مني فرسخين)، أي أنت مني ما دمنا سائرين فرسخين، يجعل أنت مبتدأ، ومني خبره، وفرسخين ظرف، ومعنى مني أي من أصحابي وأشياعي ¬

_ (¬1) البيت للأخطل: ديوانه/ 335، الخزانة 1/ 220.

كما قال الله تعالى: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي (¬1) أي: من أصحابه وجيرانه، ولا ينتظم معنى ذلك إلا بما قدّره سيبويه لأن ضميره من أصحابه في صحبته إياه في مقدار هذه المسافة، واعلم أن ظروف الزمان تكون أخبارا للمصادر، ولا تكون أخبارا للجثث، وأما ظروف المكان فتكون أخبارا للمصادر والجثث، وإنما كانت ظروف المكان كذلك لأن الجثة الموجودة قد تكون في بعض الأمكنة دون بعض مع وجودها، أعني الأماكن. ألا ترى أنك إذا قلت: زيد خلفك علم أنه ليس قدّامه ولا تحته ولا فوقه ويمنته ويسرته مع وجود هذه الأماكن، ففي إفراد الجثة بمكان فائدة. وأما ظروف الزمان فإنما يوجد منها شيء بعد شيء ووقت بعد وقت، وما وجد منها فليس شيء من الموجودات أولى به من شيء فلو قلت: زيد الساعة أو يوم الأحد لجعلت ل (زيد) في هذا اليوم حالا ليست لعمرو، وليس كذلك لأن زيدا وعمرا وغيرهما من الموجودات تتساوى في الوصف بالوجود في هذا اليوم، وأما المصادر فهي أشياء حادثة معروفة بالأفعال في المضي والاستقبال. فإذا قلنا: القتال يوم الجمعة، وإنّا نريد الدلالة على حدوثه في هذا اليوم، كأنّا قلنا: القتال يحدث يوم الجمعة. قال سيبويه: (وتقول الهلال الليلة). كأنه يجعل الليلة ظرفا للهلال والهلال جثة لأنه جزء من القمر. فهو جثة كأنه في استهلاله أو تصوره لهذه الصورة الليلة، فإن رفعت فقلت: القتال يوم الجمعة، والهلال الليلة جاز على معنى: قتال يوم الجمعة، والهلال الليلة ثم تحذف، وقد أجاز سيبويه اليوم الجمعة، واليوم السبت بنصب اليوم، ولم يجز في الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس إلا الرفع، وإنما ذاك لأن الجمعة بمعنى الاجتماع، والسبت بمعنى الراحة، فهما مصدران يقعان في اليوم بمنزلة قولك: اليوم القتال، فأما اليوم الأحد فبمنزلة اليوم الأول، والاثنين بمنزلة الثاني، والثلاثاء والأربعاء والخميس بمنزلة الثالث والرابع والخميس، وليس ذلك بمعنى: يقع في اليوم، كالاجتماع والراحة، وأجاز الفراء وهشام النصب في جميع ذلك، فإذا رفع جعل الثاني هو الأول، وإذا نصب فعلى معنى الآن الأحد ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 36.

والاثنين، لأن: الآن أعم من الأحد، فيجعل الأحد واقعا عليه كما تقول: في هذا الوقت: هذا اليوم. وقد كان سيبويه يقول: (إن قوله: اليوم يومك)، المعنى: اليوم شأنك الذي ينسب إليك، وتذكر به ونحوه من المعاني فأما اليوم الأحد فبمنزلة: اليوم عشرون في الشهر وخمسة ونحوه، لأنه ليس بشيء في الشهر، ومما يجوز فيه الرفع والنصب: النيروز، واليوم المهرجان، واليوم الفطر، واليوم الأضحى، ورفعه على ما ذكرنا. قال سيبويه: (وتقول: عهدي به حديثا وقريبا). وذكر الفصل. فإنه يريد: أنك إذا جعلت قريبا وحديثا للزمان فكأنك قلت: عهدي يزيد في زمان قريب، وزمان حديث، ويجوز: عهدي به قريب وحديث، يجعل قريبا وحديثا هو العهد ويرتفع لأنه خبر مبتدأ. قال سيبويه: (وتقول عهدي به قائما، وعلمي به ذا مال تنصب على أنه حال). وذكر الفصل. قال: قد ذكرنا فيما تقدم الحال التي هي في موضع خبر المصدر بإضمار: إذ كان، وإذا كان. وأجاز الزجاج: قائما ضربي زيدا، على تقديم الحال، كما يجوز: اليوم القتال، فكأنك قلت: إذ كان قائما ضربي زيدا يقع، كما أنّا إذا قلنا: اليوم القتال، فتقدير اليوم: القتال يقع. قال سيبويه: (واعلم أن ظروف الدهر أشدّ تمكنا في الأسماء، لأنها تكون فاعلة ومفعولة، تقول: أهلكت الليل والنهار، واستوفيت أيامك، فأجري الدهر هذا المجرى، فأجر الأشياء كما أجروها). قال أبو سعيد: كان المبرد يخطّئ سيبويه في هذا، لأنه ذكر في أول الكتاب: أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ، لأن لها جثثا وأسماء تعرف بها كما تعرف الأناسيّ. تقول: خلفك واسع، ومكانك أحبّ إليّ من مكان زيد. فصوّب الزجاج من أجل أن ظروف الزمان يقلّ فيها ما لا يتمكن؛ ألا ترى أن (سحر) إذا نكّر تمكن. قال أبو سعيد: وهذا ضعيف لأن في ظروف الزمان ما لا يتمكن أكثر مما في ظروف المكان، لأن فيها: قبل، وبعد، وبعيدات بين، وذات مرة وذا صباح، ونحو هذا.

هذا باب الجر

ورد أبي العباس على سيبويه ضعيف، لأن ظروف الزمان أقوى في الاسمية، وذاك أن الفعل لفظ مبني على الزمان الماضي وغيره، كما أنه مبني من لفظ حروف المصادر وليس كذلك المكان. فأسماء الزمان بمنزلة المصادر، والمصادر متمكنة كسائر الأسماء في وقوع الفعل منها وبها، والزمان تشبيها. ويدل على هذا أنه يكثر في كلام العرب العبارة عن الزمان بألفاظ المصادر، والخبر عن المصادر بألفاظ الزمان حتى كأنها شيء واحد. تقول: آتيك صلاة العصر، ومقدم الحاج، فتعبر عن الزمان بلفظ المصدر، وتقول: قيامك يوم الخميس، ورحيلنا يوم الجمعة، فتخبر عن المصادر بألفاظ الزمان، قال الله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ (¬1) وهذا كثير مطرد، وليس للمكان هذا. وعلى أن اللفظ العام لظروف الزمان هو الوقت والزمان والدهر، وكل واحد متمكن، ثم ينقسم هذا إلى: الليل والنهار، وهما متمكنان قويان في التمكن، ثم ينقسمان إلى الساعات، وهي قوية التمكن، وليس كذلك المكان، لأن الاسم العام له هو المكان، ثم ينقسم إلى الجهات الست. نحو: خلف وقدام، ونحوهما وهي ضعيفة التمكن. فأما ما حكاه المبرد من كلام سيبويه، أن ظروف المكان أقرب إلى الأناسيّ لا تكون ظروفا، وجميع ألفاظ الزمان تكون ظرفا، وجملة الزمان أنه إذا استعمل ظرفا، قوي في الظرفية، فإذا استعمل اسما قوي في الاسمية. هذا باب الجر (والجر إنما يكون في كل اسم مضاف إليه). قال أبو سعيد: جعل سيبويه المجرور بحرف أو بإضافة اسم إليه كله مضافا ثم قسم ذلك فقال: (إن المضاف إليه ينجر بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن الجر يكون بشيئين: أحدهما: دخول حرف ليس باسم ولا ظرف. ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية: 12.

والآخر: بإضافة اسم إلى اسم. فأما الحروف الجارة التي لا مذهب لها غير الحروف: فالباء، واللام، ومن، وفي، ورب، وإلى، وواو القسم، وتاؤه، وحتى. وقد تخرج إلى تأويل آخر في بعض المواضع ولها باب مفرد، فإن للجر حروفا سوى هذه تكون حروفا في حال وأسماء في حال، وهي: على، ومن، وكاف التشبيه، ومنذ، ومذ. وإنما كانت كذلك لأنها تدخل عليها حروف الجر، كما قال: غدت من عليه ....... … ......... (¬1) بتأويل من فوقه، ومن عن يمينه، بتأويل من ناحية يمينه، وتجعل الكاف بمعنى: مثل، كما قال: علي كالخنيف السحق، يعني: علي مثل الخنيف (¬2). ومنذ، ومذ يخفض بهما، فيكونان حرفي خفض، وقد يرفع ما بعدهما فيجعلان اسمين بمعنى: وقت وأمد. وللجر حرفان سوى ذلك تكون حرفين وفعلين وهما: خلا، وحاشا في الاستثناء، لأنهما يخفض بهما فيكونان حرفي خفض، وينصب ما بعدهما فيكونان فعلين. وقد ذكر الأخفش: أن عدا يخفض بها، وينصب بها، فإن صح ذلك فهو حرف ثالث. وأما إضافة الاسم إلى الاسم فعلى ثلاثة أقسام: أحدهما: أسماء هي ظروف مضافة إلى ما بعدها من مصادر وغيرها، ذكرها النحويون فيما يجر لغلبة الجر عليها. وأسماء أخر تضاف في حال، وليست الإضافة بغالبة عليها، وهي أكثر الأسماء. فأما الظروف فهي: ¬

_ (¬1) البيت لمزاحم العقيلي في نوادر أبي زيد ص 163، شرح شواهد المغني 1/ 425 الخزانة 10/ 147، 150. وهو: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها … تصل وعن قيض بزيزاء مجهل (¬2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 283. على كالخنيف السحق يدعو به الصدى … له صدد ورد التراب دفين

بين، وسواء، ولدن، ولدى، وعند، وعلى، وأسفل، وخلف، وقدّام، ووراء، وأمام، وتجاه، وقباله، وحذاء، وحذه، وإزاء، وتلقاء، وتحت، وفوق، ووسط، وقبل، وبعد، ومع، وعلى، وعن فيمن جعلهما اسمين، وغير ذلك من الظروف التي تقدم ذكرها قبل هذا الباب. وأما الأسماء التي تغلب الإضافة عليها، فهي: مثل، ومثل في معنى: بدل وبدل، في معنى: وسط ونحوه سنيّ، وقرن فالقرن في القتال، والقرن في السن، ولدن، وخدن، وشبه، وشبه، ومرة وحين، وبيد في معنى: غير وبيد، ومساوه بمعنى: قدره، وكذلك قيد، وقيدي. وباب وسبحان ومعاذ وعياذ وأنّى وبعض وكل، وذو داره، وذوا، وذواتا، وذووا، وذوات، وأولو، وأولات، وقد، وقط بمعنى: حسب. وفيها أسماء تغلب عليها الإضافة وقد ينصب ما بعدها وهي مصادر غير متمكنة، وهي: بله، وبيد، ورويد، ومعانيها متقاربة فإذا خفضت بها قدرت إضافتها، وإذا نصبت قدرت التنوين فيها، ولم يقدر الإضافة. وقد نصب ب (لدن) ولد، والوجه الإضافة، وقد ذكره سيبويه في مواضع من الكتاب. وأما الأسماء التي تضاف في حال وليست الإضافة بالغالبة عليها، فنحو: غلام زيد، وجار عمرو، وخاتم حديد، وثوب خزّ، وهي أكثر من أن تحصى. والإضافة تكون على معنى أحد الحرفين من حروف الجر، وهما: من، واللام. فمن إذا كانت الإضافة على معناها تبعيض كقولك: هذا ثوب خز، وخاتم حديد، أي: ثوب من خز، وخاتم من حديد، وما كان على معنى اللام فإضافته على وجه الاستحقاق، كقولك: هذه دار زيد، ودار لزيد، ورب السموات والأرض، ورب العالمين، وخلق الله، وأرض الله وسماؤه وعرشه، فهم عباد له، وخلق له، وأرض له، فالعباد مستحقون أن يكونوا عبادا، وهو مستحق لعبوديتهم. وربما أوهمتك الإضافة الخروج عن هذين الوجهين، فإذا رددتها إلى أصول ما وضعت له رأيتها لازمة لأحد الحرفين كقولك: أفضلهم زيد أي: الفاضل منهم زيد،

هذا باب يجري النعت على المنعوت

وبعض القوم أي شيء منهم، ويكون تماما لهم ومكملا، فأما قوله: (وأما الباء وما أشبهها فليست بظروف). وذكر الفصل. فإنه سيبويه بيّن معاني حروف الجر، فقال: (إن الباء ونحوها ليست ظروفا ولا أسماء ولكنها يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو بعده، فإذا قلت: يا بكر فإنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى إلى بكر باللام). ومعنى هذا: أن حروف الجر تصرف الفعل التي هي صلته إلى الاسم المجرور بها. ومعنى إضافتها إلى الفعل: ضمها إياه واتصاله إلى الاسم كقولك: رغبت في زيد، وقمت إلى عمرو. ففي أوصلت إلى زيد الرغبة، وإلى أوصلت القيام إلى عمرو، وما كان بتأويل الفعل فهو بمنزلة قولك: يا لبكر، بمنزلة أدعو أو أريد، ولهذا نصبت المنادى، فاللام أوصلت هذا المعنى إلى بكر وأضافته إليه، وهكذا: مررت بزيد، الباء أوصلت المرور إلى زيد، وكذلك: أنت كعبد الله، أضفت الشبه بالكاف إلى عبد الله، وكذلك: أخذت من عبد الله، أضفت الأخذ بمن إلى عبد الله، وإذا قلت: منذ زمان، أضفت الأمد إلى وقت من الزمان. وأنت في الدار، أضفت كينونته في الدار إلى الدار ب (في)، وتقديره: الاستقرار الذي يقدر، وما جرى مجراه وبمنزلته وإذا قلت: فيك خصلة جميلة، أضفت إليه الجمال ب (في)، وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، أضفت القول إلى الرجل ب (رب)، وإذا قلت: بالله وتالله وو الله، أضفت الحلف إلى الله تعالى بهذه الحروف، كما أضفت النداء بالله لأن التقدير: أحلف بالله، والواو والتاء بدلان، وهكذا رويته عن فلان، أضفت إليه الرواية بعن. هذا باب يجري النعت على المنعوت (والشريك على الشريك والبدل على المبدل منه، وما أشبه ذلك: فأما النعت الذي جرى على المنعوت فقولك: مررت برجل ظريف، فقد صار النعت مجرورا مثل المنعوت). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: معنى النعت: أنه اختصاص نفس المنعوت وإخراج له من إبهام، وعموم إلى ما هو أخص منه، فالنكرات المنعوتة يخرجها النعت من نوع إلى نوع أخص

منه، وأما المعارف فيخرجها النعت من شخص مشترك الاسم عند وقوع اللبس فيه إلى أن يزول اللبس عنه، أما النكرة فقولك: مررت برجل ظريف، لو اقتصرت على رجل وحده لكان الرجل وحده من جملة الرجال كلهم، ونوعه الذي هو منهم الرجال على العموم، فلما نعته بظريف صار من جملة الرجال الظراف، وهو أقل من الرجال بإطلاق، وكلما زدت في النعت كان النوع أخص لو قلت: مررت برجل ظريف صيرفيّ، صار من جملة الرجال الظراف الصيارفة، وهم أقل من الرجال الظراف فقط، ولم يطلب في غير الصيارفة. وهكذا لو قلت: مررت برجل ظريف صيرفي أعور، كان أخص مما قبله، ولم تطلب في غير العور من الصيارفة، وعلى هذا الوجه يكون خروجه من الأعم إلى الأخص. فأما المعرفة فقد أفرده سيبويه بباب. وأنا أذكر هناك وهذا الباب مفرد بنعت النكرات، وإنما صار النعت تابعا للمنعوت في إعرابه لأنهما كشيء واحد، فصار ما يلحق الاسم يلحق بنعته، وإنما صارا كشيء واحد من قبل أنك إذا قلت: مررت برجل ظريف فهو من الرجال الظرفاء الذين كل واحد منهم ظريف، فالرجال الظرفاء جملة لرجل ظريف، كما أن الرجال جملة لرجل وصار رجل ظريف جزءا للرجال الظرفاء، كما أن رجلا جزء للرجال، ولما كان النعت اختصاصا للمنعوت وجب أن يكون ذلك الاختصاص، بأن يجعل له حالا يعري منها بعض ما يشاركه في الاسم ويكون ذلك على وجوه منها: أن ينعت بخلقة لا تكون لبعض من يشاركه، كالطويل والقصير، وحسن وقبيح، وأسود وأبيض. ومنها أن ينعته بما يشهر به من فعل لازم حسن أو قبيح، كعاقل وظريف، وشريف وعالم وفقيه. وربما كان حرفة مكسبا كبزّاز، وعطار، وتمّار، وكاتب. وربما كان نسبا إلى أب أو حي أو بلد، أو غيره نحو: قرشي، وعربي، وعجمي، وكوفي، وبصري. وما يخصّ به لا يوجد في بعض ما يشاركه. وقد ينعت الاسم النكرة بمصادر وضعت موضع أسماء الفاعلين، وبأسماء مضافة لا

اشتقاق لها، يراد بها المبالغة. فأما الاسم المضاف: فقولك: مررت برجل أيّما رجل، وبرجلين أيّما رجلين، وبرجال أيّما رجال، ورأيت رجلا أيّما رجل، وجاءني رجل أيّما رجل. فأيّ: غير مشتق من معنى، وإنما يضاف إلى الاسم الأول المبالغة في مدحه بما يوجبه ذلك الاسم. وأما المصادر التي ينعت بها، فقولك: مررت برجل حسبك من رجل، وبرجل هدّك من رجل، وبرجل ما شئت من رجل، وبرجل شرعك من رجل، وبامرأة هدك من امرأة. وهذا كله بمعنى واحد. أما حسبك فهو مصدر في موضع يحسب. تقول: أحسبني الشيء، أي كفاني. وهمك وشرعك وهدّك، في معنى: هذا، وإن لم يستعمل منه فعل، وهي في معنى أسماء الفاعلين مضافة للحال لا للماضي، فلذلك نعتّ بها النكرة فصار قولك: مررت برجل هدّك وشرعك، بمنزلة: ضاربك. ومثل ذلك: مررت برجل كفئك من رجل. فهذا وما ذكرناه قبل مصادر نعت بها، ولذلك لم تثن ولم تجمع، كما تقول: مررت برجل عدل، وبرجلين عدل، وبرجال عدل، وامرأة عدل. وقد يستعمل بعض هذا على لفظ الفعل، فيقال: مررت برجل هدك، وبرجلين هداك، وبرجال هدوك، وبامرأة هدتك، وبامرأتين هدتاك، وبنسوة هددنك، وكذلك: مررت برجل كفاك من رجل، ورجلين كفياك من رجلين، وبرجال كفوك، وبامرأة كفتك، وبامرأتين كفتاك، وبنسوة كفينك. فأما قول سيبويه: (وما كان منه يجري فيه الإعراب فصار نعتا لأوله جرى على أوله بأمر). يعني: أن ما كان مصدرا يلحقه الإعراب إلا الأسماء مع المنعوت في إعرابه، وما

كان فعلا ماضيا، فهو على لفظ الفعل الماضي، وأما قوله: (مررت برجل غيرك) فغيرك نعت يفصل بين من نعتّه بغير، وبين من أضفته إليه حتى لا يكون مثله أو لا يكون مر باثنين)، وذكر الفصل. فإنه يعني: أن القائل إذا قال: مررت برجل، جاز أن يكون المخاطب ذلك الرجل، فإذا قال غيرك، صار غيره فغيره: نعت لمن مررت، وهو مضاف إلى الكاف، فقد فصلت بين الممرور به وبين المخاطب، ومعنى قوله: (أو يكون مرّ باثنين)، لأنه لو قال: مررت بغيرك، جاز أن يكون مرّ باثنين، فقال: برجل غيرك لئلا يتوهم بإسقاط المنعوت، أنه مرّ باثنين أو جماعة، ثم ذكر سيبويه: (مررت حسن الوجه)، وقد مرّ ذلك في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. قال: (ومما يكون نعتا للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول امرئ القيس: بمنجرد قيد الأوابد لاحه … طراد الهوادي كلّ شأو مغرّب) (¬1) ومنه أيضا: (مررت على ناقة عبر الهواجر) قال أبو سعيد: معنى قيد الأوابد، أي: مقيد الوحش. والأوابد: الوحش الذي يصاد، وهذا الوحش إذا صادها لم تنج منه، فكأنه قيدها، ومعنى عبر الهواجر، أي: عابرة للهواجر يعبّرها السير إلى حيث يكون قصدها حينا. والهواجر: جمع الهاجرة، وهي نصف النهار، والسير يصعب فيها، وأراد بذلك قوتها على السير في هذا الوقت، ثم قال سيبويه: (ومما يكون مضافا إلى معرفة، ويكون نعتا للنكرة: الأسماء التي أخذت من الفعل وأريد بها معنى التنوين). فإنه يريد به: أن الأسماء المأخوذة من الفعل وإن أضيفت بمعنى: سيفعل أو يفعل، فإضافتها تخفيف، وهي بمعناها نكرة غير مضافة، والنكرات ينعت بها نحو: مررت برجل ضاربه رجل. فهو بمعنى: يضربه في الحال، ويعني: سيضرب، وقوله: (ومثله: هذا عارض ¬

_ (¬1) ديوانه: 46.

ممطرنا، فالرفع هاهنا كالجر، وكل مضاف إلى نكرة إذا كان واصفا لنكرة، فهو إن كان وصفا أو موصوفا أو خبرا أو مبتدأ، فهو بمنزلة النكرة المفردة، وأما بيت جرير: ... كأنها … لدى فرس مستقبل الريح صائم (¬1). كأنه قال: لذي فرس مستقبل صائم، فإنه جعل صائما نعتا لمستقبل الريح. قال أبو سعيد: يجوز أن يكون صائم نعت للفرس، كأنه قال: فرس صائم مستقبل الريح، وأنشد بيت المرّار: (سلّ الهموم لكلّ معطي رأسه … ناج مخالط صهبة متعيّس مغتال أحبله مبين عنقه … في منكب زين المطيّ عرندس (¬2) فالشاهد: أنه نعت معطي رأسه بما تنعت به النكرة المفردة. فأما قول ذي الرّمة: (سرت تخبط الظلماء من جانبي قسا … وحب بها من خابط الليل زائر) (¬3) فالشاهد: أنه نعت خابط الليل بزائر. وأما قول جرير: (يا ربّ غابطنا) (¬4) وقول أبي محجن: (يا ربّ مثلك في النساء) (¬5) والشاهد: أن مثلك في البيتين يكونان نكرتين لدخول رب عليهما، ورب لا تدخل إلا على نكرة. وقوله: (ومن ذلك قول العرب: لي عشرون مثلك، ومائة مثله، فأجروه مجرى ¬

_ (¬1) ديوانه: 554، مجالس ثعلب: 71. (¬2) سيبويه 1/ 85، 60، المحتسب لابن جني 1/ 184. (¬3) ديوانه: 241. (¬4) البيت: يا رب غابطنا لو كان يعرفكم … لاقى مباعدة منكم وحرمانا ديوانه: 595 - الدرر اللوامع 2/ 56. (¬5) البيت: يا رب مثلك في النساء غريرة … بيضاء قد متعتها بطلاق وهو غير موجود في ديوانه- سيبويه 1/ 212، 350 - ابن يعيش 2/ 126.

عشرون درهما، ومائة درهم)، وذكر الفصل. فإن سيبويه قد أجاز في: عشرون مثله، وهو لا يجيز عشرون أيّما رجل، والفراء لا يجيز عشرون أيّما رجل، ولا عشرون مثله، ولا عشرون غيرك. والصحيح قول سيبويه. وفي جواز عشرون مثله وجهان: أحدهما: أن يكون مثل بمعنى: مماثل، ومعناه: معقول، فإذا كان كذلك لم تعرفه الإضافة لما تقدر فيه من معنى التنوين، ولهذا قال سيبويه: (كأنه حذف منه التنوين في قولك: مثل زيد، أو قيد الأوابد)، وجائز أن يكون التنوين في قولك: مثل زيد، وقيد الأوابد، وجائز أن يكون التنكير من أجل أن إضافته لم تحضره لكثرة وجوه المماثلة، كما أن غيرك لم تحضره الإضافة لأن من لم يكن هو إياك، فهو غيرك، فيكون منكورا. هذا وإن لم تقدر فيه التنوين، فيصير بمنزلة: ضارب رجل، وقد دخل عليه رب، وهي لا تعمل إلا في نكرة، كما لا تعمل عشرون إلا في نكرة، فنصبه على التمييز. والوجه الثاني: أن سيبويه حكى أن من (قول العرب: لي عشرون مثلك)، فقوله دليل على بطلان قياس ما خالفه. فأما: أيّما رجل، وأيّ رجل، فليس لفظه بمأخوذ من معنى معقول، وإنما يصح إلى شيء يصح معناه به، كما يضاف ذو إلى شيء يصح معناه به، تقول: مررت برجل أي رجل، وبرجل أيّما رجل. كما تقول: مررت برجل ذي مال، ويتأوّل ذو بمعنى صاحب، وصاحب: معنى معقول مأخوذ من فعل ثم يتمكن، صاحب مال بإضافته إلى كناية المال، ولا يتمكن ذو. تقول: المال زيد صاحبه، ولا تقول: المال زيد ذوه. وكذلك تقول: مررت برجل أي رجل، كما تقول: مررت برجل كامل، ولا تقول: مررت بأي رجل، ولا عندي عشرون أي رجل، وأنت تقول: مررت بكامل من

الرجال، وعندي عشرون كاملا من الرجال. وقاس (يونس): عشرون غيره على عشرون مثله، والمسموع هو: عشرون مثله، ولم يخالف أحد من البصريين في ذلك يونس، واستدل يونس والخليل على تنكر مائة درهم بقوله: مائة ألف درهم، وفصل بين صفتيها بقوله: نظرت إلى مائة درهم، وإلى مائة الدرهم الرديئة. وقوله: (وزعم يونس والخليل أن الصفات المضافات إلى المعرفة التي صارت للنكرة يجوز فيهن كلهن أن يكنّ معرفة)، وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن المعرفة تشارك النكرة في موضعين، يصير لفظ المعرفة كلفظ النكرة في موضعين وأصلهما التعريف، وإنما دخلهما التنكير على تأويل أذكره. وإنما يكون التنكير والتعريف فيهما على قصد المتكلم، وذلك في الأسماء الأعلام التي لا ألف ولا لاما فيها، وفي الأسماء المضافة التي يمكن فيها التنوين أو تقديره، تقول في الأعلام: جاءني زيد، وزيد آخر، ومررت بعثمان وعثمان آخر، وما كل إبراهيم أبا إسحاق. وإنما صار الاسم العلم أصله التعريف لأنه الاسم الذي يقصد به المسمى شخصا لتبينه بذلك الاسم من سائر الشخوص، كالرجل سمى ابنه: زيدا أو غيره لتعرف باسمه من غيره، وهذا أصله. ثم سمى غيره بمثل اسمه فترادف ذلك الاسم على شخوص كثيرة، وكل شخص منها سمي به لاختصاصه، ثم صار بالمشاركة عاما، فأشبه أسماء الأنواع: كرجل وفرس ونحوه مما هو لجماعة كل واحد منهم له ذلك الاسم، فإن أورده المتكلم قاصدا إلى واحد بعينه عنده أن المخاطب يعرفه، فهو معرفة. وإن أفرده على أنه واحد من جماعة لا يعرفه المخاطب، فهو نكرة، ولذلك جاز دخول الألف واللام عليه في الشعر تشبيها بالرجل والفرس. قال أبو النجم: باعد أم العمر من أسيرها … حرّاس أبواب على قصورها (¬1) ¬

_ (¬1) مغني اللبيب وشرح شواهده/ 52 (60)، الإنصاف: 317.

وقال آخر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا … سديدا بأحناء الخلافة كاهله (¬1) كأنه نكّر (يزيد) ثم أدخل عليه الألف واللام كإدخالها على الفرس والرجل. وزعم الفراء وغيره من الكوفيين: أن دخول الألف واللام على اليزيد ونحوه للمدح والتعظيم، وليس في أصل العربية دخول الألف واللام للمدح والتعظيم، وإن كان يراد بذلك المدح والتعظيم فلا بد من تنكير الاسم في تقدير اللفظ ليكون دخولهما للتعريف. فأما ما أضيف إلى معرفة، فإنه إن كانت النية فيه التنوين وأضيف طلبا للتخفيف، فهو على تنكيره وإن كانت النية غير التنوين وإضافة تحضره، فهو معرفة والأصل في إضافة الاسم إلى معرفة أن يتعرف لأن اللفظ يوجب له ذلك باختصاصه إلى ما أضيف إليه، فمن ذلك ما ذكره سيبويه من قوله: (مررت برجل حسبك به من رجل) إلى آخر الفصل الذي نحن فيه في تفسيره، وهو صفات من مضافات إلى معارف وهن نكرات قد بيّن أمرها، وقد حكى عن يونس والخليل أن تلك الصفات المضافة يكون فيهن كلهن التعريف، وطريق تعريفهن أن لا تكون النية فيهن التنوين، ومثّل ذلك بقوله: (مررت بعبد الله ضاربك). يجعل ضاربك بمنزلة: صاحبك، لأن صاحبك كغلامك لا يذهب به مذهب الفعل وإن كان مأخوذا من: صحب يصحب، لأنه قد صير بمنزلة المعروف بصحبتك. وكذلك القول في: مثلك المعروف يشبهك، ولذا قالوا: مررت بعبد الله شبهك، وكان الفرق بينهما أن القائل إذا قال: مررت برجل مثلك أو شبهك، فمعناه: رجل شابهك وماثلك في ضرب من ضروب المشابهة، وهي كثيرة غير محصورة، ولذا ذهب بها مذهب التنوين كأنه قال: مررت برجل مماثل لك، وإذا قال: شبهك أو قدم في مثلك المعروف بشبهك، فكأنه قال: الغالب عليه شبهك حتى لا يعرف به ولا يذهب به مذهب الفعل، كما لم ¬

_ (¬1) منسوب لابن ميادة في معجم هارون 1/ 287. الخزانة 1/ 327، 3/ 252 - شرح شواهد الألفية للعيني 1/ 228، 509.

يذهب بصاحب مذهب الفعل، واستثني من جملة ذلك باب: حسن الوجه لأنه لا يتعرف كتعريف مثلك أو شبهك وضاربك، وذلك أن الوجه هو ما على الحسن، وقد نقل الفعل عنه إلى الأول، وهذا المعنى لا يزول عنه، فتقدير التنوين فيه قائم حتى حقّق الفعل للوجه تحقيق فعل الوجه لا يزول، والتقدير: مررت برجل حسن وجهه وذكر أبو العباس: أن غير وإن أضيف إلى معرفة لا يتعرف، لأنك إذا قلت: مررت بغيرك وكل ما ليس بالمخاطب فهو غيره، فإضافته إلى المعرفة لم توجب تغيير شيء بعينه. قال أبو سعيد: وأقول أنا: إن ل " غير " وجها يتعرف فيه، وذلك أنها قد تستعمل في معنى المخالف كقولهم: الطالح غير الصالح، والجواد غير البخيل. أي: المخالف له، وقد يحصر أشياء متشابهة، وأشياء أخر مخالفة لها، فيقال للمشابهة: إنها واحدة، ويقال للمخالفة لها: إنها غيرها. وقد يتكلم المتكلم بشيء ثم يعيد مثله، فيقال: هذا هو الأول، وإن أعاد ما يخالفه. قال: هذا غير الأول، وقد يجوز عندي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (¬1) معرفة، يذهب مذهب المخالف الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (¬2) لأنهم المؤمنون، والمغضوب عليهم: الكافرون. والفريقان مختلفان في الدين والصفة ومنه قول أبي طالب: يا رب إمّا تخرجن طالبي … في مقنب من تلكم المقانب فليكن المغلوب غير الغالب … فليكن المسلوب غير السالب (¬3) ثم قال سيبويه: (ومن النعت: مررت برجل إمّا قائم، وإمّا قاعد). قال أبو سعيد: إمّا معناها: معنى الشك وتخالف أو لأن أو حرف عطف، وإمّا ليست بحرف عطف، وإنما تقدم لتؤذن بالشك والتخيير، وما جرى مجراهما، ثم يعطف عليها بالواو وبمثلها، فيقال: إمّا زيد وإمّا عمرو. ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآية: 7. (¬2) سورة الفاتحة، الآية: 7. (¬3) البيتان غير موجودين في ديوانه.

قال سيبويه: (ومن النعت: مررت برجل لا قائم ولا قاعد). قال أبو سعيد: أصل هذا: مررت برجل قائم أو قاعد، فإذا أردت نفي الصفة، قلت: مررت برجل لا قائم ولا قاعد، فلم تخل بين الصفة والموصوف، ووقع الجحة بها، وعطفت الثانية على الأول بالواو، وكان الأصل: مررت برجل غير قائم، وغير قاعد. وأعربت غير إعراب رجل لأنها نعت، وغير اسم معرب، وجعل مكانها لا، وهي حرف لا يعرب، فجعل إعراب غير فيما بعد لا. قال سيبويه: (ومنه مررت برجل راكع لا ساجد، لإخراج الشك، أو أراد أن يؤكد العلم فيهما). قال أبو سعيد: لا ها هنا للعطف، كقولك: قام زيد لا عمرو، وهو لإخراج الثاني مما دخل الأول فيه، ومعنى قوله: (لإخراج الشك)، يعني: الشك في أنه ساجد أو تأكيد العلم بركوعه وعدم سجوده، ثم قال سيبويه: (ومنه: مررت برجل رجل صدق). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: أمّا قوله: (وكذلك السوء ليس بمعنى سؤته). فأراد أن يعلمك أنه ليس بفعل فعله الرجل، فيكون نعتا له، والسوء هاهنا بمعنى الفساد والرداءة، وليس من ساءني يسؤني، والصدق بمعنى الجودة والصلاح، فإذا قال: مررت بحمار سوء، فقد قال: بحمار ذي رداءة، وإذا قال: بحمار صدق، فقد قال: بحمار ذي جودة، ثم قال سيبويه: (ومنه مررت برجلين مسلم وكافر). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أنك إذا ذكرت اسمين مثنيين، أو أسماء مجموعة منصوبة أو مخفوضة، ثم جئت بعدها بنعتها معرفا، فإنه على وجهين، أحدهما: أن يكون عدة النعت المفرق، كعدة المنعوت. والضرب الآخر: أن تكون عدة النعت المفرق أقل من عدة المنعوت، فإذا كانت العدة في المنعوت والنعت المفرق واحدة، وهو ما ذكره سيبويه في هذا الموضع فإن لك أن تجري النعت على لفظ المنعوت من وجهين، ولك أن ترفع النعت، وذكر في رفعه وجها، وذلك قولهم: مررت برجلين مسلم وكافر، بخفض مسلم وكافر من وجهين، أحدهما:

أن يجعل النعت وتعريفه كجمعه، فيصير مسلم وكافر كقولك: مسلمين أو كافرين، ومن حيث جاز أن يفرق الاسم. ويجمع النعت في قولك: مررت برجل وامرأة وحمار قيام، جاز أن تجمع الاسم، ويفرق نعته، فتقول: مررت برجل قائم وقاعد ونائم. والوجه الثاني: أن يجريه على الأول مبدلا منه، كأنه قال: مررت بمسلم وكافر ولم تذكر رجلين. وفسّر سيبويه خفضه على البدل بقوله: (كأنه أجاب من قال: بأي ضرب مررت)، وإنما قدّر هذا، لأن البدل في التقدير كأنه هو الملفوظ المتصل بالفعل، وقد رفع مسلم وكافر على جواب من قال: ما هما؟ فكان التقدير: هما مسلم وكافر، فيكون مسلم وكافر خبرهما، وقد قدّر سيبويه في غير هذا الموضع الرفع على التبعيض، ومعناه: أحدهما مسلم والآخر كافر، وهذا الوجه من الرفع هو الذي يستعمله النحويون في ألفاظهم كثيرا. وأمّا إذا كان النعت المفرق أقل في اللفظ من المنعوت، فالرفع لا غير، وذلك قولك: بثلاثة نفر مسلم وكافر. وإنما وجب الرفع في هذا لأنه لما نقص وجب تقدير التبعيض ضرورة، كأنه قال: مررت بثلاثة نفر بعضهم مسلم، وبعضهم كافر، لأن بعض الثلاثة جائز أن يكون اثنين، ولا يجوز في هذا الوجه الذي قدره سيبويه غير الرفع، لأن ذاك مبتدأ وخبر يؤتى به على تمام العدة، وقد يعيدون الاسم توكيدا، ويقولون: مررت برجلين رجل مسلم ورجل كافر. وتقدير الإعراب فيه واحد، وإعادة الاسم فيه توكيد. قال سيبويه: (ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم وفرق النعت، وصار مجرورا. قول الباهلي: بكيت وما بكا رجل كبير … على ربعين مسلوب وبال (¬1) كذا سمعنا العرب تنشده، والقوافي مجرورة). قال أبو سعيد: قد اعترض في قوله: والقوافي مجرورة فقيل: بال مرفوع مجرور بلفظ ¬

_ (¬1) في معجم هارون 1/ 315: الباهلي أو ابن ميادة مغني اللبيب 356 (262).

واحد لأنه كقاض ورام في بنات الياء، فكيف احتج بخفض القوافي؟ وهذا لا يلزمه، وإنما اعتمد على ما سمعه من العرب في خفض مسلوب. وقوى ذلك أن مبنى القافية على الجر، والشاعر المقتدر يبني القافية على موجب الإعراب رفعا أو نصبا أو جرا، ثم يجري باقي القصيدة على تقدير ذلك الإعراب، وإن لم يظهر ذلك الإعراب ولم يلفظ به حتى لو أطلقت كانت بحسب موجب الإعراب كما قال الحطيئة: شاقتك أظعان للبلى يوم ناظرة بواكر … في الآل ترفعها الحدأة فكأنها سحق مواقر (¬1) جمع موقرة وهي الحاملة. وهذه القصيدة موقوفة، ولو أطلقت أبياتها لكانت مرفوعة كلها. وقال الكميت: قف بالديار وقوف زائر … تأنىّ إنك غير صاغر ماذا عليك من الوقوف … بهامد الطللين داثر (¬2) وهذه القصيدة موقوفة، ولو أطلقت أبياتها كلها كانت مخفوضة. وللكميت قصيدة أخرى أولها: يا دار هل بحولك أهل ممن يرج إليه سائل … يا دار كنت محلة فيك التآلف والتواصل (¬3) وهذه القصيدة موقوفة، ولو أطلقت كانت الأبيات كلها مرفوعة. قال: (ومنه أيضا: مررت بثلاثة نفر: رجلين مسلمين، ورجل كافر، جمعت الاسم وفصلت العدة، ثم نعتّه وفسّرته، وإن شئت أجريته مجرى الأول في البدل والابتداء، قال العجاج: خوّى على مستويات خمس … كركرة وثفنات ملس (¬4) ¬

_ (¬1) ديوان الحطيئة: 165 قصيدة رقم 40. (¬2) ديوانه 1/ 223 - العيني 8/ 401. (¬3) غير موجود في ديوانه. (¬4) ديوانه: 358.

فهذا يكون على وجهين: على البدل وعلى الصفة). ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة، قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ (¬1). ومن الناس من يجر، والجر على وجهين: الصفة والبدل، ومثله قول كثير عزة: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة … ورجل رمى فيها الزمان فشلّت (¬2) قال سيبويه: (فأما مررت برجل صالح فليس فيه إلا الصفة). قال أبو سعيد: إنما قال: (ليس فيه إلا الصفة) لأن الرفع والصفة الجائزان في قولك: مررت برجل راكع وساجد على الصفة، ومسلم وكافر على خبر مبتدإ، لا يكون مثله في قولك: مررت برجل راكع وساجد، كأنه أجاب من قال: ما هو؟ وقد ذكر سيبويه قبل هذا. قال سيبويه: (وإذا جئت بالنعت بلفظ واحد فإن الرفع الذي يوجبه النعت يبطل، ويجري النعت على الاسم، تقول: مررت بثلاثة رجال مسلمين، لا يحسن فيه إلا الجر، لأنك جعلت الكلام اسما واحدا حتى صار كأنك قلت: مررت بقائم، ومررت برجال مسلمين، وهذا قول يونس). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: فإنه يريد أن الاسم الواحد وإن كان له خبر معطوف عليه خبره، فإنه لا يجوز فيه التبعيض، كما أن صفات الواحد لا يجوز فيها التبعيض، وإنما يجوز التبعيض في الخبر إذا كان الاسم مثنى أو مجموعا كقولك: كان أخواك راكع وساجد، على معنى أحدهما راكع، والآخر ساجد، وكان أخوتك راكع وساجد على معنى بعضهم راكع، وبعضهم ساجد، وكذلك إن فرقت الأسماء وجمعت النعت لم يكن فيه تبعيض، تقول: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 13. (¬2) ديوانه: 1/ 46 - الخزانة: 2/ 376.

مررت برجل وامرأة وحمار قيام، وكذلك لو كانت الأسماء معرفة، وجاء حال منهم مجموع بلفظ واحد، لم يكن فيه تبعيض وكان نصبا كقولك: مررت بأخيك، وعبد الله، وزيد قياما، ولا تقل: قيام، ولو قلت: مررت بأخويك قائما وقاعدا، جاز فيه النصب والرفع على التبعيض. قال سيبويه: (وتقول: مررت برجل أسد شدة وجرأة). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: قولهم: مررت برجل أسد ضعيف لأن أسد اسم نوع، ولا يوصف بالأنواع ولا بالجواهر، وإنما الوصف بالتحلية فاحتجن لذلك إلى تقدير مثل في الوصف، فقدرت مثل الأسد، لأن مثل بمعنى مماثل وهو مأخوذ من فعل. والأسماء الجارية على الفعل هي للصفات في الأصل، فإذا قلت: مررت بزيد أسد شدة لم يقبح. قال سيبويه محتجا لهذا: (وقد يكون خبرا ما لا يكون صفة)، وقد ذكرنا من قول سيبويه: (هذا مالك درهما، وهذا خاتمك حديدا) على الحال، ولا يحسن: مررت بحديد خاتم وفضة درهم على الصفة. قال أبو سعيد: والذي عندي: أن جواز أسد في الصفة والحال واحد، وذلك أنك لست تريد في الحال إذا قلت: مررت بزيد أسدا شخص الأسد الذي هو السبع، وإنما تريد شديدا. وإذا كان أسد في الحال بمعنى شديد، كان في الصفة مثله لأن مرجعه إلى معنى شديد، وشديد صفة، فإذا قلت: هذا خاتمك حديدا وهذا مالك درهما، فإنما تريد نفس الحديد والدرهم. قال سيبويه: (ومنه أيضا: ما مررت برجل صالح بل طالح، أبدلت الصفة الأخيرة من الصفة الأولى). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: قد استعمله سيبويه في هذا الموضع وقبله بأسطر، لفظ البدل على غير ما اعتاده النحويون، لأن البدل في كلامهم هو: أن يقدر سقوط ما قبله، ويقام الثاني مقامه، ولو قدرنا هذا في هذا الموضع لما صح الكلام، لأنه قال في الأول: ما مررت برجل كريم بل لئيم، ولو أطرحنا كريما، وجعلنا مكانه لئيم، صار تقديره: ما مررت برجل لئيم، وليس هذا بمراد، فيكون معنى الكلام أنك أبدلت الإيجاب من النفي على ما

يصح من اللفظ والمعنى، فيصير التقدير: ما مررت برجل كريم بل مررت برجل لئيم، وكذلك: ما مررت برجل صالح ولكن مررت برجل صالح، فالأول من الكلامين غير معمول به، والثاني هو المعتمد عليه. فأبدل كلاما معتمدا عليه من كلام مطرح، وهو معنى البدل. وقال سيبويه: (إن بل، ولا، ولكن تشرك بين النعتين فيجريان على المنعوت كما أشركت بينهما الواو والفاء وثم وأو، وما أشبه ذلك). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن بل، ولا، ولكن حروف العطف تشرك بين الأول والثاني في الإعراب على اختلاف معانيهما، وأما (بل) فإنها إذا أتت بعد كلام موجب فالأغلب عليها تحقيق الثاني، والإضراب عن الأول، ويكون الكلام غلطا من المتكلم به سبق إليه لسانه، أو رأى ذكره، ثم رأى ذكر غيره كما يذكر الذاكر الشيء على غير وجه الإبطال له، ولكن يرى أنه مضى وتقضّى وقته والحاجة إلى ذكره، وأن ما بعده أولى بالتذكر فيقول: كان كذا وكذا بل كذا، تقول: كان كذا ثم تقول: دع ذا أو خذ ذا الشيء الآخر. قال زهير: دع وعد القول في هرم … خير الكهول وسيد الحضر (¬1) ولم يرد زهير إبطال ما قبله من الكلام، وقال العجاج بعد أشياء ذكرها لم يرد إبطالها: دع ذا وبهج حسبا مبهجا … فخما وسير مطلقا مروجا (¬2) فأما (لا بل) فإن (لا) تأتي لتوكيد إبطال ما قبلها، وفصل سيبويه بين (بل) و (لكن) فقال في (بل): (مررت برجل صالح بل طالح)، على أنه نسى أو غلط فتدارك كلامه، ولم يجز: مررت برجل صالح ولكن طالح، على تدارك النسيان، إنما جئت بها بعد النفي، كقولك: ما مررت برجل صالح لكن طالح، وأمّا لكن فإنها إذا أتت بعد منفى جاز أن يكون ما بعدها عطفا كقولك: ما زرت زيدا ولكن عمرا، وما مررت بزيد لكن ¬

_ (¬1) ديوانه: 27. (¬2) ديوانه: 295.

عمرو، وما خرج زيد لكن عمرو. وليس يكون بها عطف إلا على هذا فوجب لما بعدها ما نفي عما قبلها، كما أن لا تنفى عما بعدها ما وجب لما قبلها، فهي نقيضها. قال أبو العباس: الفرق بين (لكن) و (بل) أن (بل) لا يتكلم بها إلا غالط إذا قلت: رأيت زيدا بل عمرا، كأنك قلت: ما رأيت زيدا بل ما رأيت عمرا، أضربت عن الأول واعتمدت في الجحد على الثاني. قال أبو العباس: وقد تكون بمعنى لكن في قولك: ما رأيت زيدا بل عمرا، أي: بل رأيت عمرا، فمعناه: لكن عمرا. ويجوز أن تعني: بل ما رأيت عمرا إذا أردت إبطال الأول. والجيد أن تحمله على: رأيت، لأنها أقرب إليه فيكون المعنى: بل رأيت عمرا. ويجوز الرفع بعد هذه الحروف. وتكون عاطفة جملة على جملة، ويكون الرفع على إضمار (مبتدأ) يكون الذي ظهر خبره. ثم قال سيبويه: (تقول: ما مررت برجل مسلم، فكيف رجل راغب في الصدق بمنزلة: فأين راغب؟ وزعم يونس أن الجر خطأ، لأن (أين) ونحوها يبتدأ بهن، ولا يضمر بعدهن شيء). قال أبو سعيد: يريد: أنهن لا يجرين مجرى حروف العطف التي يعمل فيما بعدهن عامل الاسم الذي قبلهن، وهذا لا يجوز في حروف الاستفهام لأنهن لا يعمل ما قبلهن فيما بعدهن. لا تقول: رأيت زيدا فأين عمر أو فهل بشرا. فإذا قلت: كيف رجل راغب في الصدقة؟ فرجل: مبتدأ، وراغب: نعته، وكيف: خبره. وأين راغب في الصدقة؟ فراغب: مبتدأ، وأين: خبره. و (لكن) و (بل) لا يكونان مبتدأين فيشبّهن بحروف العطف إذ كنّ لا يبتدأ بهن.

وذكر أبو بكر مبرمان غير ذكر قوله: ولا يضمر بعدهن شيء، أن التي يضمر بعدهما ما كان فيه معنى التخصيص، كقولك: جئتك بدرهم، فتقول: هلّا دينارا. قال سيبويه: (ومما جرى نعتا على غير وجه الكلام: هذا جحر ضبّ خرب). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: كلام سيبويه في هذا الفصل بيّن، واحتجاجه فيه قوي، وخلافه للخليل فيه مفهوم أيضا وأصل (لكن) العطف لأنها تدخل لإيجاب نفي عما قبلها لما بعدها لتصير حال ما بعدها مخالفة لما قبلها. وقد استعملت للعطف في الحال التي ذكرنا. وتدخل الواو عليها في تلك الحال، فيصير العطف للواو، ويكون دخول (لكن) بمعنى: التدارك للمعنى، كقولهم: ما رأيت زيدا ولكن عمرا، وما مررت بزيد ولكن عمرو. ورأيت بعض النحويين من البصريين قال في: هذا جحر ضب خرب، قولا شرحته وقويته بما يحتمله. زعم هذا النحوي: أن المعنى هذا جحر ضب خرب: الجحر، والذي يقوي هذا أنّا إذا قلنا: خرب الجحر، صار من باب: حسن الوجه. وفي خرب ضمير الجحر مرفوع لأن التقدير: كان خرب جحره، ومثله ما قاله النحويون: مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين، والتقدير: لا قبيح الأبوين، وأصله: لا قبيح أبواه، ثم جعل في: قبيح ضميرا لأبوين، فثني لذلك وأجري على الأول فخفض واكتفي بضمير الأبوين، ولم يعد ظاهرهما لما تقدم لهما من الذكر ولا يشبهه عندي قوله: ... وجيد بطن واد … هموز الناب ... (¬1) على هذه العلة لأنّا إذا خفضنا (هموز) فهو محمول على (بطن واد)، وليس هموز ¬

_ (¬1) البيت للحطيئة في ديوانه ص 138 والخصائص 2/ 372، وهو فإذا إياكم وحية بطن واد … هموز الناب ليس لكم بسيّ

هذا باب ما أشرك بين الاسمين فجريا عليه كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت

بمضاف إلى شيء يصححه إضافته في التقدير، فما كان تقديره إضافة (خرب الجحر) يوجب تصحيح الخفض. ومثله: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، فعطف قاعدين على قائم، لأن معناه: قائم أبواه لا قاعدا أبواه، ثم أضمر الأبوين فثنّي الضمير. هذا باب ما أشرك بين الاسمين فجريا عليه كما أشرك بينهما في النعت فجريا على المنعوت (وذلك قولك: مررت برجل وحمار قبل. قالوا وأشركت بينهما في الباء، فجريا عليهما، ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون أولى بها من الحمار. كأنك قلت: مررت بهما). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: هذا باب ساق سيبويه فيه حروف العطف، فبدأ بالواو لأنها أقوى حروف العطف، لأنها تعطف بها في الإيجاب والجحد، وفي كل ضرب من الفعل، تقول في الجحد: ما قام زيد وعمرو. وفي الإيجاب: قام زيد وعمرو. وتقول فيما تنفرد به الواو من ضروب الفعل، وهو ما كان يقتضي من الفعل اثنين فصاعدا، تقول: اختصم زيد وعمرو، تشاتم بكر وخالد. ولو قلت: اختصم زيد وعمرو، أو ثم عمرو. واختصم زيد أو عمرو، أو اختصم زيد لا عمرو، ولم يجز هذا كله، لأن هذه الحروف إنما تعطف بها على فاعل واحد في الفعل الذي يكتفي بفاعل واحد، كقولك: قام زيد، فإذا كان الفعل لا يكتفي، لم يكن بد من واو وذلك في: اختصم وبابه لأنك لا تقول: اختصم زيد، إذا كان الاختصام لا يكون من واحد. ولو قلت: اختصم الزيدان أو العمران، جاز لأنك قد جئت للفعل بما اكتفى به، ثم عطفت بالفاء وغيرها على ما هو مكتف، ولو قلت: اختصم الزيدان فعمرو، لم يجز حتى تضم إلى عمرو اسما آخر بالواو، فتقول: اختصم الزيدان فعمرو وخالد، لأن الفاء ليس لها الجمع، إنما لها التوالي، وهي

بمنزلة عامل آخر. فإذا كان الفعل المعطوف عليه يقتضي فاعلين مثل: اختصم ونحوه، لم يجز أن يعطف عليه بالفاء اسما مفردا، لأنه لا يكون من واحد، ويجوز بالواو لأنها تشرك الواحد مع من تقدمه. واعلم أن حروف العطف عملها الاشتراك بين الثاني والأول في الإعراب. وتختلف معانيها، فأمّا الواو: فإنها مع إشراكها بينهما في الإعراب تشرك بينهما في المعنى حتى يكون الثاني داخلا فيما دخل الأول فيه من المعنى المذكور للأول في الجمع والتفريق. فالجمع: مررت بزيد وعمرو، وقد مررت بأحدهما في وقت، وانقطع مرورك ثم مررت بالآخر بعد حين. وهذا الذي يسميه سيبويه: (مرورين). وأجمع النحويون واللغويون من البصريين والكوفيين أن الواو لا توجب تقدم، وما تقدم لفظه. قال الله تعالى في قصة واحدة في البقرة: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ (¬1). وقال في الأعراف: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً (¬2) فأما الفاء فإنها وضعت للاتصال، ودخول الثاني فيما دخل فيه الأول متصلة به، كقولك: ضربت زيدا فبكى، وأعطيته فاستغنى وضربت زيدا فعمرا، ودخلت الكوفة فالبصرة. فالثاني بعد الأول وهو متصل به، وداخل في معناه، فزيد داخل في الضرب، والبصرة داخلة في الدخول مثل الكوفة، ومعنى ذلك: أنه لم يقطع سيره الذي دخل به الكوفة حتى وصله بالسير الذي دخل به البصرة، لم تحدث بينهما مهلة ولا فتور. وأمّا (ثم) فسبيلها سبيل الفاء في أن الثاني داخل في معنى الأول، وأنه بعده إلا أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 58. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 161.

بين الثاني والأول مهلة. ولذلك قال سيبويه: (مررت برجل أو امرأة أشركت بينهما أو في الإعراب، وأثبت المرور لأحدهما دون الآخر). وأما (لا) فهي تنفي عن الثاني ما وجب للأول، كقولك: مررت برجل لا امرأة أوجبت المرور للأول، ونفيته عن الثاني، وفصلت بينهما عند من التبسا عليه، فلم يدر بأيهما مررت. وهذه الحروف لازمة للعطف، وقد استعمل غيرها في العطف مما ليس بلازم كلزومها، وقد ذكر في موضعه. وقد جاء بعض هذه الحروف على غير الوضع الذي ذكرناه في الظاهر وفيه تأويل يرده إلى أصله، وخلاف بين الناس. قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا (¬1)، فقال قائل: كيف يحيى الناس بعد الهلاك على موضع الفاء من اتصال الثاني بالأول ومجيئه بعده؟ فالجواب: أن دخول الفاء في هذا الموضع ونحوه، يجري مجرى الفاء في جواب الشرط، وجواب الشرط قد يكون متأخرا في الكلام ومتقدما في العامل، كقول القائل: من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به، ومن يقتصد في نفقته فهو عاقل. ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره، وعقل المقتصد قبل الاقتصاد، وإنما تقدير ذلك من يظهر منه الفعل المحكم فيحكم له أنه عالم به. وكذلك لو جعلناه خبرا فقلنا: زيد فقد ظهر منه الفعل المحكم، فهو عالم به أو فهو محكوم له بالعلم بعد ظهور ذلك، فكذلك قوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً (¬2)، أي لما أهلكها الله تعالى، حكم بأن البأس جاءها بياتا أو بالنهار ونحو هذا في القرآن والكلام. قال الله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ (¬3) والخطاب لليهود بعد قتل أسلافهم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 4. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 4. (¬3) سورة البقرة، الآية: 91.

للأنبياء على معنى: لم ترضون بذلك وقد قال تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (¬1) إلى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ (¬2) الآية؟ ومعلوم أنه لا يشترط في الآخرة شروط الثواب والعقاب. وعن هذا جوابان: أحدهما: أن معنى: فمن يعمل، أي: من يظهر ذلك اليوم في صحيفته خير أو شر ير مكافأته. والآخر: أن معنى فمن يعمل في الدنيا ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكره في الآخرة على معنى أن ما يكونه الله تعالى في الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل في الدنيا خيرا أو شرا يراه كما يقول القائل: الآخرة دار المجازاة، فمن يعمل خيرا يره، ولم يرد خيرا مستأنفا دون ما عمله العاملون، قال الشاعر في نحو ما ذكرنا: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن … عارا عليك وبعض قتل عار (¬3) وقال آخر: إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب (¬4) والخطاب لمقتولين بعد قتلهما على معنى: أن يفجروا بقتلك، وقد يكون ذلك- أيضا- على مذهب الإرادة، فيكون التقدير: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كما قال تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (¬5) والقيام بعد غسل الوجه، والمعنى: إذا أردتم القيام للصلاة. وقال الفراء: وربما أتى في الكلام سابقا إذا كان في الكلام دليل السبق، فإذا عدم الدليل لم يجز، وذكر قول الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا (¬6)، فذكر ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآية: 1. (¬2) سورة الزلزلة، الآية: 6. (¬3) البيت لثابت قطنة كما في البيان والتبيين 1/ 293، المغني 1/ 35، 154، والخزانة 9/ 76. (¬4) البيت لربيعة بن أبي ذؤاب. دلائل الإعجاز/ 166. (¬5) سورة المائدة، الآية: 6. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 4.

عن قرية جاءها البأس قبل الهلاك، كما قالوا في قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها (¬1)، ثم خلقكم منها. وقد قيل: خلقكم من نفس وحدها، ثم جعل الزوج منها بعد التوحيد، فأفادت (واحدة) هذا المعنى. قال: والأجود في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ (¬2) أن يريد أصلكم الذي هو آدم. كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا (¬3) معناه: خلق أصلكم الذي هو آدم من طين. وقال الفراء في قوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا (¬4): إذا كان الشيئان يقعان في حال واحدة، نسقت بأيهما شئت على الآخر بالفاء، كقولك: أعطيتني فأحسنت، وأحسنت فأعطيتني لا فرق بين الكلامين، لأن الإحسان والإعطاء فيهما واحد. قال أبو سعيد: وهذا شبه الذي بدأت به في تفسير الآية، لأنا متى جعلنا أحدهما شرطا، جاز أن يجعل الآخر جوابا، فدخل الفاء من حيث جاز أن يكون جوابا، كقولك: إن أعطيت أحسنت، وإن أحسنت أعطيت، وإن تعط فأنت محسن، وإن تحسن فأنت معط. وقال غير الفراء في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ (¬5): معناه: ثم كان قد استوى على العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، وهذا يشبه الجواب الذي حكاه الفراء في قوله تعالى: فَجاءَها بَأْسُنا (¬6) وقالوا فيها جواب آخر على جعل (ثم) للتقديم، تقديره: هو الذي استوى على العرش ثم خلق السموات والأرض، كما قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (¬7) ومن هذا- أيضا- ما ادعاه ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 6. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 11. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 2. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 4. (¬5) سورة الحديد، الآية: 4. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 4. (¬7) سورة النمل، الآية: 28.

ناس يزعمون أن الله تعالى خلق السموات قبل الأرض، وأن قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (¬1) لم يجب ب (ثم) تأخير خلق السماء منه ومنهم مقاتل بن سليمان، ومنه دعوى من يدعي أن (ثم) لا توجب تأخير ما بعدها من قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (¬2) وقد علم أن الاهتداء يتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ (¬3) وليست التوبة متأخرة عن الاستغفار. قال أبو سعيد: هذا كله يخرج على الموضع الصحيح في (ثم) من تأخيرها ما بعدها عما قبلها بتأويل يشهد به كلام العرب، أما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ * (¬4)، فإن الاستواء بمعنى الاستيلاء كان، أو بمعنى غيره لا يصح إلا على الموجودات بعد خلقه إياها، والعرش داخل في خلق السموات والأرض، ثم صرفها ودبرها كيف شاء قاهرا لها. وقال الفراء: (ثم) تدل على تأخير الخبر في كلام المخبر على أنه متأخر في أصل البنية فتقديره في التلخيص: هو الذي خلق السموات والأرض، ثم اسمعوا إذا الخبر الأخير الذي ذكر لكم بعد الخبر الأول، وهو أنه استوى على العرش، ف (ثم) أوجبت تأخير كلام بعد كلام، وإفادة بعد إفادة. ومثله من كلام العرب أن الإنسان يعدّد إحسانه فيقول: فعلت بك اليوم وأعطيتك، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر، وأما قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (¬5) فليس التولي: الانصراف عنهم، وإنما معناه: تنحّ عنهم بعد إلقاء الكتاب إليه، بحيث يكون عنك بمرأى ومسمع، فانظر ماذا يرجعون من جواب الكتاب. وأما خلق الله الأرض قبل السماء على ظاهر قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ (¬6)، فهو الصحيح الذي أقول به، وهو المأثور عن ابن عباس، ومجاهد، ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 11. (¬2) سورة طه، الآية: 82. (¬3) سورة هود، الآية: 90. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 54 - ويونس: 3 - والرعد: 2 - والفرقان: 59 - والسجدة: 4 - والحديد: 4. (¬5) سورة النمل، الآية: 28. (¬6) سورة فصلت، الآية: 11.

وغيرهما من أئمة التفسير. فأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (¬1) ففيه قولان: أحدهما، أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوّة، ثم دحيت بعد ما ذكره الله تعالى من أمر السماء. والقول الآخر، أن تكون (بعد) بمعنى (مع)، ومع تكون بمعنى بعد، فأما (بعد) بمعنى (مع) فقوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (¬2) أي: مع ذلك. وقال الشاعر: فقلت لها فيئي إليك فإنني … حرام وإني بعد ذاك لبيب (¬3) فمعنى بعد ذاك، أي: مع ذاك، واللبيب هاهنا: الملبي، والتلبية مع الإحرام فأما (مع) بمعنى (بعد) فقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (¬4)، معناه: أن بعد العسر يسرا، وقوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (¬5) فمعنى ذلك: ثم داموا على التوبة، ومعنى ثم اهتدى: ثم دام وثبت على ذلك. وقد ظهر من كلام سيبويه العامل في الاسم الأول والثاني واحد، وهو الجار الذي جر الأول بقوله: (في كل واحد من الواو، والفاء، وثم، وأو، فلا أشركت بين الاسم الأول والثاني في الباء، والباء عاملة في الاسمين)، والدليل على ذلك أن الاسمين إذا أمكن تثنيتهما، والأسماء إذا أمكن جمعها لم يحتج إلى الواو، وفي قولك: مررت برجلين، ومررت برجال، وقام الزيدان والزيدون، وإنما يحتاج إلى حرف العطف لمعارض يحوج إلى تفريق الاسمين أو الأسماء لاختلافهما أو لاختلاف أحوالهما، وذكر سيبويه في هذا الباب كيف نفي الموجب، ومما ذكر أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو وجاز أن يكون مرور واحد وقع عليهما في حال واحدة، ويجوز أن يكون مرّ بهما مرورين في حالين. وإذا كان المرور بهما واحدا، فنفيه أن يقول: ما مررت بهما، وإذا كان في مرورين قلت: ما مررت بزيد، وما مررت بعمرو. ¬

_ (¬1) سورة النازعات، الآية: 30. (¬2) سورة القلم، الآية: 13. (¬3) البيت في الخزانة 1/ 270، شروح سقط الزند/ 1143. (¬4) سورة الشرح، الآية: 6. (¬5) سورة طه، الآية: 82.

هذا باب البدل والمبدل منه

قال المازني ردا على سيبويه: (نفي هذا وإن أراد مرورين ما مررت بزيد وعمرو). قال: والذي قال سيبويه خطأ، قال: ولو قال مررت بزيد ومررت بعمرو كان نفيه: ما مررت بزيد، وما مررت بعمرو. قال أبو سعيد: وما قال سيبويه أصح وأجود، وذلك أن الثاني مكذّب للمثبت فيما ثبّته وخبّر به. فإذا كان الذي خبّر به مرورين كل واحد منهما وقع بأحد الرجلين، وقال: ما مررت بهما. احتمل أن تريد: وما مررت بهما بمرور واحد، فلا يكون مكذّبا، وإذا قال: ما مررت بزيد، وما مررت بعمرو، فقد كشف التكذيب له وأبطل التأويل. قال سيبويه: (وجواب " أو " أن نفيت الاسمين). يعني: إذا قلت: مررت بزيد أو عمرو، وما مررت بواحد منهما. (وإن أثبت أحدهما، فقلت: ما مررت بفلان). وقال المازني: إذا قلت: ما مررت بواحد منهما، فهو جواب " أو " في المعنى، وجوابها في اللفظ: ما مررت بزيد أو عمرو والحدّ ما قاله سيبويه لأن النافي إذا قال: ما مررت بزيد أو عمرو، فالظاهر أنه نفى مروره بأحدهما، والمثبت إنما أثبت مروره بأحدهما فلم يثبت مروره بالآخر. فيجوز أن يكون الذي نفاه النافي هو الذي لم يثبته المثبت فلا يكون تكذيبا. هذا باب البدل والمبدل منه (والبدل يشرك المبدل منه في الجر وذلك قولك: مررت برجل حمار، فهو على وجه محال، وعلى وجه حسن). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: قد مضى هذا الضرب من البدل مشروحا في باب البدل، وقد ذكر أشياء فيها حروف العطف فسماها بدلا، وتلك الحروف: بل، ولا بل، ولكن، وأو. ولو قال عقيب الأول، ومثل ذلك قولك: لا بل حمار، تريد: مررت برجل لا بل حمار. قال: (ومن ذلك: مررت برجل بل حمار وهو على تفسير: مررت برجل حمار.

ومن ذلك: ما مررت برجل، ولكن حمار، وأبدلت الآخر من الأول وجعلته مكانه). وقال في الباب: (ومن المبدل- أيضا- قولك: قد مررت برجل أو امرأة، إنما ابتدأ بيقين، ثم جعل مكانه شكا أبدله منه، فصار الادعاء فيهما سواء)، واعتمد على أن ابتداء الكلام إذا كان يوجب أمرا ثم جاء بما يبطله، ويوجب الثاني نحو: بل، ولا بل، فهو بدل شبيه بدل الغلط الذي بدأ به، وهو في معناه، وجعل لكن كذلك لأنه أوجب وحقق إبطال الأول. و (بل) و (لكن) إذا كان قبلهما جحد فهما في المعنى سواء كقولك: ما مررت برجل بل عمرو، وما مررت بزيد لكن عمرو، وجعل أو من الباب، لأنك بدأت بالأول على لفظ اليقين ثم شككت فيه، والتشكيك فيه كالإبطال له، ولهذا شبه (أو) ب (لكن) حين قال في (أو) (ابتداء بيقين ثم جعل مكانه شكا)، فهو شبيه بقوله: ما مررت بزيد ولكن عمرو، ابتدأ بنفي ثم جعل مكانه يقينا. فإن قال قائل: فهلا جعل قولك: مررت بزيد لا عمرو من هذا؛ لأنه نفي بعد الإيجاب بمنزلة التوكيد للإيجاب المتقدم، كما أن قولك: هذا زيد لا شك فيه، كقولك: هذا زيد حقا، فقولك: مررت بزيد لا عمرو، كقولك: مررت بزيد حقا. فأما قول سيبويه: (وقد يكون فيه الرفع على أن يذكر الرجل)، وذكر الفصل. قال المفسر: وجعل سيبويه رفعه بإضمار اسم مكنيّ يكون الظاهر خبره، ويكون ذلك المكني على ضربين: أحدهما: أن يكون قد جرى ذكره فيضمر الاسم الذي ذكره. والآخر: أن تعرف المعنى فيضمر ذلك المعنى وإن لم يجر ذكره. فأما ما جرى ذكره فأضمر: فهو الكلام المعروف وهو تمثيله برجل يذكر فيقول: أنت قد مررت به، وقد مررت برجل بل هو حمار، ويكون هو الرجل المذكور. وأما الذي أضمر ولم يذكر، فقولك: ما مررت ببغل ولكن حمار، تريد: ولكن هو حمار، معناه: لكن الذي مررت به حمار لأن قولك: ما مررت ببغل قد دلّ عليه فكني لدلالة الكلام عليه، وجعل الأقوى في الكناية ما جرى ذكره لقرب المكني بالذكر وإضمار الذي لم يجز ذكره عربي جلي. لأن معناه ما مررت بشيء هو بغل فجاز هذا، وإن لم يجز ذكره كما جاز في المنعوت الذي جرى ذكره نحو: ما مررت برجل صالح بل طالح،

هذا باب مجرى نعت النكرة عليها

أي: بل هو طالح، والضمير لرجل، وقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (¬1) رفع عباد على الوجهين المتقدمين، أحدهما: أنهم كانوا ذكروا الملائكة، واتخاذ الله- تعالى- إياهم أولادا، فنزه نفسه عن ذلك فقال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (¬2)، أي: بل هم عباد، و (هم) إضمار شيء جرى ذكره في كلام القوم فلذلك أضمر. الوجه الآخر: بتقدير: بل الذين قالوا اتخذهم الله ولدا عباد مكرمون من غير ذكر جرى لهم. قال سيبويه: (وأما قولهم: أمررت برجل أم امرأة؟ إذا أردت معنى أيهما مررت به، فإن (أم) تشرك بينهما كما أشركت (أو)). فإنه يعني أن (أم) للعطف وللإشراك بين الأول والثاني في الإعراب، وليست من حروف البدل التي تقدم ذكرها. ثم قال سيبويه: (وأما مررت برجل فكيف امرأة، فزعم يونس أن الجر خطأ، وقال: هو بمنزلة أين). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: مذهب البصريين أن العطف لا يجوز بشيء من حروف الاستفهام، فأمّا الكوفيون فقد أجازوا النسق وهو العطف ب (أين وكيف وألا وهلّا). وألزم سيبويه من أجاز النسق بأين وكيف بلم وبكم، فقال: (ينبغي أن يجيز ما مررت بعبد الله فلم أخيه؟ وما لقيت زيدا فلم أبا عمرو، تريد: مررت بأخيه، وبكم لقيت أبا عمرو). وهم لا يلتزمون ذلك. والمنصوب والمرفوع في البدل والشركة كالمجرور. هذا باب مجرى نعت النكرة عليها (والمعرفة خمسة أشياء). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن التعريف معلق بمعرفة المخاطب دون المتكلم. وقد يذكر المتكلم ما يعرفه هو ولا يعرفه هو، فيكون منكورا، كقول الرجل لمخاطبه: في دار الرجل بستان، وعندي صديق لي، وهو لا يعرف الرجل بعينه والبستان، ويجوز أن يكون ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 26. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 26.

المتكلم أيضا لا يعرف، كقول الرجل لمخاطبه: أنا في طلب غلام أشتريه، ومنزل أكتريه، ولا يكون قصده شيئا بعينه، فإذا نادى المتكلم شيئا تعرّف بقصده إياه ووقع اليد عليه بعينه، كقولك: يا رجل، ويا غلام وسنقف على ذلك في باب البدل إن شاء الله، وهذه المعارف كلها قد توصف كلها إلّا الإضمار وحده، ولا يوصف إلّا بمعارف، كما أن النكرات لا توصف إلّا بالنكرات، وقد جرت مجرى النعت على المنعوت في بابه إلا نعت المبهم، فإن نعته يخالف نعت غيره، وذلك أنه ينعت بأسماء الأجناس، كقولك: مررت بهذا الرجل، ودخلت هذا البستان، وجاءني ذلك الرجل، وأولئك القوم، ونحو ذلك، وإنما نعت المبهم بأسماء الأجناس لأن طريق نعته على غير طريق نعت غيره، وذلك أن غير المبهم يحتاج إلى النعت إذا شاركه غيره في لفظه فبان من غيره بذكر شيء يكون فيه تحلّى به دون غيره مما يحلى به، والمبهم إنما دخل وصلة لخروج ما فيه الألف واللام عن العهد إلى الحضور، وذلك أن الألف واللام يدخلان للعهد، كرجل وغلام عهده أو لابساه في بعض الأمر، فقال أحدهما: ما فعل الرجل أو الثوب أو الفرس. وقد يكون الشيء بحضرة اثنين لم يكن بينهما فيه عهد، فيريد أحدهما الإخبار عنه معرفا له، فلا يمكنه الإخبار عنه لعدم العهد بينه وبين مخاطبه فيه، فيأتي بأسماء الإشارة فيتوصل بها وينتقل من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة مثال هذا، فإن قيل له: أما تقول ابتداء من غير تقدم: البس هذا الثوب، واشتر هذا الغلام، فلا يحتاج المخاطب إلى عهد يعرف به الرجل كاحتياجه إليه في قوله: ما فعل الرجل؟ واشتر الغلام والبس الثوب وقد تكون الإشارة غير متوصل بها إلى ما فيه الألف واللام، كقولك: جاءني هذا، ورأيت هذا، ونظير ذلك قولهم: يا أيها الرجل. جعلوا (أيها) وصلة إلى نداء الرجل لأنه لو لم يتوصل بها لم يكن نداء ما فيه الألف واللام، ويجوز أن ينادي هذا كما ينادى (زيد)، فإذا جعلته وصلة لما فيه الألف واللام قلت: يا هذا الرجل، وإن لم يجعل وصلة قلت: يا هذا كما تقول: يا زيد، وكما تستغني به إذا قلت: مررت بهذا، والأصل في نعت هذا أن ينعت بالأسماء لما ذكرناه أنه وصلة إلى ذكر الاسم الذي فيه الألف واللام. وقد يجوز أن ينعت بالصفة التي فيها الألف واللام من حيث جاز أن تنقل الصفة التي فيها الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الحضرة والإشارة، وذلك أنك تقول:

مررت بالظريف، فتكون الألف واللام في الظريف للعهد. تقول: مررت بهذا الظريف، فيصير للإشارة، ولولا ما ذكرنا من التوصل بهذا إلى ما فيه الألف واللام لما احتاجت إلى صفة لأنها ليست باسم ثابت لما وقع عليه ثم شركه غيره، فيحتاج إلى فصل بينهما بالنعت، ولما كان طريق نعت هذا والأصل فيه ما ذكرنا، خالف حكمه حكم نعت غير المبهم في أن المبهم لا يوصف بالمضاف ولا يفصل بينه وبين نعته، تقول في غير المبهم: مررت بزيد غلام عمرو وبزيد ذي المال، وتقول: مررت بزيد اليوم الظريف، ولا تقول: مررت بهذا اليوم الرجل. فأمّا منع النعت المبهم بالمضاف، فلأن المبهم دخل لينقل ما فيه الألف واللام من تعريف العهد إلى تعريف الإشارة والمضاف تعريفه بالمضاف إليه ولا يتغير. وأمّا منع الفصل بينه وبين النعت، فلأن المبهم لما أحدث تعريفا لنعته صار كجزء في التعريف للألف واللام، ولا يفصل بين الألف واللام وبين ما اتصلا به وأشبه- أيضا- ب (أيها الرجل)، فلا يفصل بينهما وقد قال سيبويه: (أنت لا تقول: مررت بهذين الطويل والقصير، نعتا لهذين)، وهو معنى قوله: تجعله من الاسم الأول، وإنما لم يجز ذلك لما ذكرنا من فساد الفصل بين المبهم ونعته، لأن القصير لم يل الإشارة لفصل الطويل بينه وبين الإشارة. وحكى أبو بكر مبرمان عن بعض أهل النظر، قال: إنما لم أقل: مررت بهذين: الطويل والقصير، لأن الإشارة تذهب، وذلك أنك إذا قلت: بهذين الطويلين، فالإشارة واحدة، وإذا عطفت فالمعطوف يذهب بالإشارة، وهذا تعرفه بالقلب إذا قدرت. قال سيبويه: (اعلم أن العلم الخاص من الأسماء يوصف بثلاثة أشياء). وذكر الفصل. قال الشيخ رحمه الله: قوله: (يوصف بالمضاف إلى مثله) يريد إلى مثله في أنه معرفة، لا في أنه علم، لأن العلم يوصف بالمضاف إلى الضمير وإلى سائر المعارف، كقولك: مررت بزيد غلامك، وغلام عمرو، وغلام الرجل، وغلام هذا، ونحو ذلك. ثم قال سيبويه: (والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء). وذكره. قال أبو سعيد: مذهب سيبويه أن نعت المعرفة إذا كان أخص من المنعوت لم يجز،

وإن حق الكلام أن يجعل الأخص هو الذي يبدأ به، فإن اكتفى به المخاطب لم يحتج إلى أن يأتي بنعت وإلّا زدت من المعرفة ما يزداد به المخاطب معرفة، ومن مذهبه: أنهما إذا كانا مستويين في الاختصاص وطريق التعريف، جاز أن يكون أحدهما نعتا للآخر كنعت ما فيه الألف واللام، مثله ما فيه الألف واللام ولم يجز سيبويه نعته بما فيه الألف واللام، لأنه يراه أخص منه، فيرى أن أخاك أخص من الرجل، ومن الطويل والنبيل ونحوه، والحجة له أن ما فيه الألف واللام أبهم المعارف وأقربها من النكرات، لأن منها ما ينعت بالنكرات كقولك: إني لأمر بالرجل عندك فيكرمني، ويقوم لي. وإني لأمر بالرجل مثلك فيعينني، إذا لم تقصد قصد الرجل بعينه، وعلى هذا حمل قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (¬1) جعل (غير) نعت الذين، وهي في مذهب الألف واللام الذي لم يقصد به قصد شيء بعينه، ويدل على ذلك أن من المعرفة بالألف واللام ما يستوي في معناه الألف واللام وتركها، وذلك نحو قولك: شربت ماء، وشربت الماء، وأكلت خبزا وأكلت الخبز، وامتنع أن ينعت ما فيه الألف واللام بالمبهم من أجل أن المبهم لما جعل وصلة مقدمة إلى ذكر ما فيه الألف واللام علم أنه لو كان يقع بعد الألف واللام ما يريدونه من البيان ما احتاجوا إلى التوصل إلى الألف واللام بهما، وقد بيّن سيبويه بأن المبهم أخص بمعرفة العين، يعني: المشاهدة ومعرفة القلب له، وما اجتمع له. هذان أخص والأخص لا يكون نعتا للأعم، فإن قال قائل: فقد جعل سيبويه المبهم نعتا للعلم وللمضاف، كقولك: مررت بزيد هذا، وبعمرو ذاك، ومررت بصاحبك هذا، وقد اجتمع فيه معرفة العين ومعرفة القلب، ولم تجتمع هاتان المعرفتان في: زيد وصاحبك. فالجواب إن ذكر هذا وذلك بعد زيد وبعد صاحبك، يذهب به مذهب الحاضر أو المشاهد أو القريب، وبذاك مذهب البعيد أو المنتحي، ولهذا قال سيبويه: (وإنما صار المبهم بمنزلة المضاف، لأنك تقرب به شيئا أو تباعده وتشير إليه). ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآية: 7.

فإذا قيل: مررت بزيد هذا، وبصاحبك هذا. فكأنه قال: مررت بزيد الحاضر، ولم يغير هذا تعريف زيد ولا تعريف صاحبك باقترانه معهما. لأنه لا يتغير زيد عن تعريف العلم، ولا صاحبك عن تعريف الإضافة باقترانهما بهذا. ووجه آخر في نعت زيد والاسم العلم بهذا على ترتيب سيبويه، أنّا نقول: إن وضع الاسم العلم في أحواله لشيء بيّن به من سائر الأشخاص كوضع هذا في الإشارة لشيء بعينه، فاجتمعا في معنى ما وصفنا والمعرفة في أول أحوالهما، وصار كالمشار إليه في وضع الاسم عليه وحده كوضع الإشارة على المشار إليه، وفصله العلم مكان الاسم له بذكر حال ورودك الاسم على المشار إليه في الغيبة. وذكر المبرد فيما رد على سيبويه أن ما ذكره سيبويه في الصفات: أن الأخص يوصف بالأعم، وما كان معرفة بالألف واللام، فهو أخص مما أضيف إليه الألف واللام، فلا ينبغي على هذا القياس: رأيت غلام الرجل الظريف، ذلك على البدل. وما ذكره المبرد لا يلزم، لأن سيبويه يقول: إن غلام الرجل أعمّ من الرجل، بل عنده أنّ المضاف إلى ما فيه الألف واللام مثل ما فيه الألف واللام، ولما نعتت العرب بذلك وكثر في كلامهم، علمنا أنه لا فرق بينهما عنده. قال سيبويه: (وتقول: مررت بأخويك مسلما وكافرا، هذا على من جر وجعلهما صفة). قال أبو سعيد: في هذه المسألة ثلاثة أوجه: أحدهما: مررت بأخويك مسلما وكافرا. والثاني: مررت بأخويك مسلم وكافر. والثالث: مررت بأخويك مسلم وكافر. أما من نصب فهو الذي كان يقول: مررت برجلين مسلم وكافر، على الصفة. فصارت الصفة حالا لتعريف الموصفين، وأمّا من جر فهو الذي كان يقول: مررت برجلين مسلم وكافر على البدل. فلما عرف الأول لم يتغير البدل لأن النكرة تبدل من

المعرفة، كما قال تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ (¬1) وكما قال الشاعر: فإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي … عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف ملك إذا نزل الوفود ببابه … عرفوا موارد مزبد لا تنزف (¬2) أبدل ملكا وهو نكرة من عمرو وهو معرفة. وأمّا الذي يرفع فهو الذي يقول: مررت برجلين مسلم وكافر، على ما فسرنا قبل. وكما قال الفرزدق: فأصبح في حيث التقينا شريدهم … طليق ومكتوف اليدين ومزعف (¬3) فشريدهم جماعة منهزمون وطليق، وما بعده على الابتداء المعنى منهم طليق، وما بعده على الابتداء، وبمعنى منهم طليق، ومنهم مكتوف اليدين، ومنهم مزعف بكسر العين على ما رواه حملة الكتاب. وغيرهم يقول: مزعف بفتح العين، يقال: أزعفه الموت، إذا قاربه، وهو مأخوذ من قولهم: موت زعاف وذعاف، أي: معجل، وكما قال الآخر: فلا تجعلي ضيفيّ ضيف مقرّب … وآخر معزول عن البيت جانب (¬4) على تقدير: منهما ضيف مقرب، ومنهما آخر معدول، ولو لم يرد ذلك لنصب فقال: ضيفا مقربا، كما قال: وكانت قشير شامتا بصديقها … وآخر مزريا عليه وزاريا (¬5) وكما قال: ترى خلقها نصف قناة قويمة … ونصف نقا يرتج أو يتمرمر (¬6) وبعضهم ينصبه على البدل، وإن شئت كان بمنزلة: رأيته قائما، كأنه صار خبرا، ¬

_ (¬1) سورة العلق، الآيتان: 15، 16. (¬2) البيتان ل (معقر بن حمار): الخزانة 1/ 72، الدرر اللوامع 2/ 165. (¬3) ديوان الفرزدق/ 562، الخزانة 2/ 299. (¬4) قائل البيت العجير السلولي الخزانة 2/ 298. (¬5) قائل البيت النابغة الجعدي ديوانه 178، الخزانة 2/ 298. (¬6) قائل البيت ذو الرمة ديوانه 226، الخصائص لابن جني 1/ 301.

يعني حالا على حد من جعله صفة للنكرة. ورد أبو العباس نصب نصفا على الحال فقال: هو خطأ، وذلك أن نصفا ينبغي أن يكون معرفة. والعلة التي ادعى بها التعريف في بعض، وكلّ من الإضافة وهي في (نصف) لأن معنى قوله في نصف نصفه كما أنه إذا قال: مررت ببعض قائما أو بكل جالسا قائما، فإنما يريد: بعضهم وكلهم. والذي قاله خطأ. والقول ما قال سيبويه لأن النصف بمنزلة الثلث وسائر الأجزاء إلى العشرة، ويثنى ويجمع كما يفعل بالثلث وما بعده، تقول: المال نصفان، وهذه القوارير إلى أنصافها، وليس هذا في كل ولا في بعض. ومن أوضح ما يبطل قوله، قوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ (¬1) ثم قال سيبويه: (واعلم أن المضمر لا يكون موصوفا). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: إنما لم يوصف المضمر لأنك إنما تضمر ما ترى أن المخاطب يعرفه، وإنما الصفة تحلية يفرق بها بين أسماء لوازم مشتركة اللفظ. وقوله: (ولكن لها أسماء تعطف عليها تعمّ وتؤكّد) فإن معنى قوله: تعطف عليها، أي: يبين بها عمومها وتؤكد، وليس بعطف النسق الذي هو بحروف العطف، ولكن هو على مذهب عطف البيان جاريا مجرى النعت لما قبله، لأن النعت تبيين كما أن العموم تبيين، ولأجل هذا سمى النحويون العموم والتوكيد صفة للمضمر. وقوله: (وذلك مررت بهم كلهم، أي: لم أدع منهم أحدا، ويجيء توكيدا كقولك: لم يبق منهم مخبّر، وقد بقي منهم). فإنه يريد أنك إذا قلت: مررت بهم كلهم وأردت: لم أدع منهم أحدا فهو عموم وإن كان قد بقي منهم من لم تمر به ويكون قوله: (كلهم على جهة التنكير لما مرّ به)، فهو توكيد جعل من مرّ به منهم كأنهم الجماعة، (ومنه- أيضا- مررت بهم أجمعين أكتعين، ومررت بهنّ جمع كتع، ومررت به أجمع أكتع، ومررت بهم جميعهم، فهكذا هذا وما أشبهه، ومنه: مررت به نفسه، ومعناه: مررت به بعينه)، فهذه أشياء ذكرها ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 11.

سيبويه مما تجرى على المضمر من العموم والتوكيد. وقد ذكر. قال سيبويه: (واعلم أن العلم الخاص من الأسماء لا يكون صفة لأنه ليس بتحلية ولكنه يكون معطوفا على الاسم كعطف أجمعين، وهذا قول الخليل، وزعم أنه لذلك، قال: يا أيها الرجل زيد أقبل، قال: لو لم يكن على الرجل كان غير منون، فإنه يعني: أن الاسم العلم لم يسم بمعنى في المسمى استحق له أن يسمى بذلك الاسم دون غيره، كزيد وعمرو ونحوه لأن زيدا لم يسم به لمعنى فيه مخالف به من سمي ب (عمرو)، وللمبهم مفارق للعلم لأن في المبهم لفظا يوجب التقريب كهذا وهذه وهذان وهاتان، ولفظا يوجب التبعيد كذلك وتلك وأولئك ونحوه). قال سيبويه: (ومن الصفة أنت الرجل كالرجل). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: يريد أن الصفة قد تأتي على غير وجه البيان لما قبلها، ولكن على المدح وتعريف المخاطب من أمر الموصوف ما لم يعرفه، ويأتي ذلك في صفة الله تعالى على وجه التقرب إليه والثناء عليه، وذكر صفاته كقول القائل: قد أحسن الله الكريم الرحيم المنعم إليّ، ويأتي في صلاة الآدميين على المدح لهم لمن لعله لا يعرفه بذلك، ولمن يعرفهم به على وجه الإخبار عن نفسه بمعرفة ذلك والتقرب إلى الممدوح كما يقول القائل لأهل بلد: قد رأيت قاضيكم الفقيه المنصف العفيف، وكنت عند أميركم الشجاع الذاب عن الحريم. وقد يستعمل في صفات المدح والذم ألفاظ يراد بها المبالغة فيما تضمنه لفظ الموصوف كقولك: أنت الرجل كل الرجل، ومررت بالعالم حق العالم، وبالشجاع جدّ الشجاع، يراد به المبالغة في معنى المنعوت، فإذا قال: يا رجل كل الرجل، فمعناه: الكامل في الرجال، فإذا قال: حق العالم، فمعناه: الكامل في العلم، فكذلك جد الشجاع، وهكذا لو قال: يا للئيم كل اللئيم، أو حق اللئيم، كان مبالغة في صفة اللؤم، قال الشاعر: هو الفتى كلّ الفتى فاعلموا … لا يفسد اللحم لديه الصلول (¬1) فأمّا إن قلت: هذا عبد الله كل الرجل، فإنه لا يحسن كحسن ما فيه الألف واللام، ¬

_ (¬1) قائل البيت الحطيئة ديوانه/ 84.

إذ ليس في لفظ عبد الله معنى يكون الرجل مبالغا فيه، وكما هو جائز مع هذا لأنه لو قال: هذا كل الرجل، لجاز ودل على معنى المبالغة والكمال، والنكرة في المدح كالمعرفة يدل على ذلك أنك تقول: مررت برجل كل رجل، وجدّ رجل، وهذا عالم حق عالم، فلما فرق بينهما في المدح واللفظ الذي يوجب المدح، كما لا فرق بين قولك: مررت بالعالم الكامل في علمه، وبين قولك: مررت برجل كامل في علمه. قال سيبويه: (ومن الصفة قولك: ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: يعني أن الرجل معرفة، ومثلك وخير منك نكرة، وقد وصف بهما المعرفة لتقارب معناهما، وذلك أن الرجل في قولك: ما يحسن بالرجل مثلك، وبالرجل خير منك، غير مقصود به إلى رجل بعينه، وإن كان لفظه لفظ المعرفة لأنه أريد به الجنس، ومثلك وخير منك نكرتان غير مقصود بهما إلى شيئين بأعيانهما فاجتمعا في أنهما غير مقصود إليهما بأعيانهما، فحسن نعت أحدهما بالآخر، وكان من حق اللفظ والمساواة أن يكون لفظ النعت معرفة كلفظ المنعوت فامتنع دخول الألف واللام في التعيين، فاحتمل ذلك للضرورة، ولو قال: إني لأمرّ بالرجل نائم فأنبهه، وبالرجل صادق فأسمع منه، على النعت لم يجز لأنه يمكن أن يقول: بالرجل النائم، وبالرجل الصادق. وما ذكر سيبويه عن الخليل أنه جر على نية الألف واللام في: مثلك وخير منك، إن كان يوجب التعريف لهما ويصير حكمهما حكم ما فيه الألف واللام، فينبغي أن تصف بهما الأسماء الأعلام كما تصف الأعلام بما فيه الألف واللام. وقد منع سيبويه من هذا وقال: (لا يحسن بعبد الله مثلك، على هذا الحد)، وإن كان نية الألف واللام لا توجب التعريف فلا فائدة في ذكره. والذي عندي في معنى قول الخليل من نية الألف واللام، أن هذين الاسمين في موضع ما فيه الألف واللام، كأنّا قلنا في موضع مثلك: المماثل لك، وفي موضع خير منك: الفاضل لك، والراجح عليك، ولم يجز أن يوصف العلم بمثلك وخير منك

لاختلاف الأول والثاني، لأن الأول مقصود إليه، والثاني غير مقصود إليه. قال: (وزعم الخليل أنه إنما جر على نية الألف واللام)، يعني: مثلك، وخير منك، (ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام، كما أن (الجماء الغفير) منصوب على نية إلغاء الألف واللام نحو طرا وقاطبة). فإن نية إلغاء الألف واللام في (الجماء الغفير) أنها في موضع الحال والاسم الذي هي في موضعه لا ألف ولا لام فيه كنحو: طرا وقاطبة. ومن النحويين من قال: إن الألف واللام فيها وفي (الأوبر) في قول الشاعر: ... … ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (¬1) زائدة، وهذا غلط لأنهما لو كانتا لا تأثير لدخولهما وكانتا في نية الطرح لكان الاسم الذي يدخلان عليه باقيا على لفظه من التنوين ومع الصرف. فيقال: القوم فيهما الجماء الغفير، كما تنون لو لم يكن فيه ألف ولام، ولجاز أن تقول: ولقد نهيتك عن بنات الأوبر، لأن (أوبر) بغير ألف ولام لا ينصرف، وإنما دخول الألف واللام على أوبر وسائر المعارف التي ليس فيها ألف ولام عند الضرورة، لأنها تنكّر ثم تعرّف بالألف واللام، وقد مضى الكلام في مثل هذا، وقد تقدم شرح ما بقي من الباب وفيه قوله: (ولم يرد في قوله: ما يحسن بالرجل خير منك أن يثبت له شيئا بعينه ثم يعرفه به إذا خاف التباسا). وقوله: يثبت له يعني المخاطب. وقوله: تعرّفه الهاء للشيء. وقوله: به الهاء لخير منك. ¬

_ (¬1) الخصائص لابن جني/ 3/ 85، مجالس ثعلب/ 624. وهو عجز بيت صدره: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا … ...

هذا باب بدل المعرفة من النكرة والمعرفة من المعرفة (وقطع المعرفة مبتدأة)

هذا باب بدل المعرفة من النكرة والمعرفة من المعرفة (وقطع المعرفة مبتدأة) وذكر الفصل إلى قول الفرزدق: ... … ... كومها وشبوبها (¬1) قال أبو سعيد: هذا البيت لم يذكر قائله في كتاب سيبويه وفي أكثر النسخ شنونها بنونين وشين، وفي كتاب مبرمان وشيويها بيائين وشين وتحته السيوف السراع منها. والذي رأيته في شعره في قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك أولها: رأيت بني مروان يرفع ملكهم … ملوك شباب كالأسود وشيبها (¬2) وفيها يخاطب هشاما بعد ما ذكّره بآبائه: ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى … وضرب عراقيب المباني شبوبها (¬3) والشبوب: السيف، يشب فيها ضوءه إذا التهب. وما ذكره سيبويه في أول هذا الباب مفهوم المعنى، يشتمل عليه شرح ما مضى. قال سيبويه: (وتقول: مررت برجل الأسد شدة)، فالأسد على ما يوجبه كلامه في معنى: وليس في تقدير مثل الأسد ولو كان مثل الأسد كان نكرة، وكان نعتا وقد تقول: زيد رجل من الرجال، تريد نفاذة ومضاء في الأمور ولا تقدر مثل رجل لأنه في خلقته رجل وشدة ينتصب على المصدر أو على الحال، كأنه قال: الشديد شدة، والماضي أسدا، وقوله: (ولا يجوز أيضا أن يكون نعتا) لأنه ليس باسم جار على الفعل والأقوى في مثل هذا الرفع، إمّا على التبعيض فيما أمكن التبعيض فيه وما لا تبعيض له فالابتداء، وجميعا فالرفع فيه على الابتداء، ولكن عبّر عما لا تبعيض فيه بالابتداء كقوله: ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة … أخوالنا وهم بنو الأعمام (¬4) ¬

_ (¬1) البيت: ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى … وعبط المهاري كومها وشبوبها ديوانه/ 66. (¬2) ديوان الفرزدق/ 66. (¬3) المصدر السابق. (¬4) البيت لمهلهل بن ربيعة، سيبويه 1/ 225، 248.

هذا باب ما يجري عليه وصفة ما كان من سببه

فأخوالنا لا تبعيض فيه، وقد رفعه، وكذلك لو قال: مررت برجل الأسد شدة، أو بأسد شدة، وذلك كله على إضمار هو من غير تبعيض، ولو قال: مررت برجلين أسد وحمار، كان تبعيضا، وقوله: (وهذا عربيّ جيد). إشارة إلى الابتداء الذي لا تبعيض فيه، وقوله: (وقد جاء في النكرة في صفتها)، يعني: وقد جاء الابتداء. وقوله: (فهو) يعني الابتداء في المعرفة أقوى، ومعنى سقبان: طويلان، ممشوقان: ملتفان (¬1). هذا باب ما يجري عليه وصفة ما كان من سببه (وصفة ما التبس به أو بشيء من سببه كمجرى صفته التي خلصت له). قال أبو سعيد: (صفة ما كان من سببه)، يعني: ما كان الفعل من فاعله اسما مضافا إلى ضميره أو يكون ضميره متصلا بجملة الكلام، وهو هاهنا اسم الفاعل، فإذا كان منها من فعل الموصوف به فقد جرى على من هو له كقوله: (مررت برجل ضارب زيدا، وملازم عمرا). فضارب وملازم صفة لرجل وفعل له، فهي صفة قد خلصت له لأنه موصوف بها، وهي مشتقة من فعل له، وأمّا صفة ما كان من سببه فقولك: مررت برجل ضارب أبوه رجلا، وملازم أبوه رجلا، فضارب صفة، وهي اسم فاعل، وفعله الضرب، وفاعله أبوه، وهو سبب الأول، وهكذا قولك: مررت برجل ملازم أبوه رجلا. وأما صفة ما التبس به فقولك: مررت برجل مخالطه داء. فالصفة مخالطه، وهو فعل لداء، وقد وقع بضمير الرجل، فقد التبس به، وأمّا الذي التبس بشيء من سببه، فقولك: مررت برجل ملازم أباه رجل، ومررت برجل مخالط ¬

_ (¬1) هذه الكلمات من بيت شعر أورده سيبويه 2/ 17 وهو: وساقيين مثل زيد وجعل … سقبان ممشوقان مكنوزا العضل

أباه داء. فالصفة ملازم ومخالط، وفاعله رجل وداء قد التبس بالأب ووقع على ضميره، فهذا ما التبس بشيء من سببه. قال أبو سعيد: في هذا الباب أشياء أجمع النحويون عليها واختلفوا في غيرها فجعل سيبويه ما أجمعوا عليه أصلا قدره ورد إليه ما اختلف فيه بشبه صحيح لا يقع على من تأمله لبس. والذي أجمعوا عليه أن الصفة إذا كانت فعلا للأول أو لسببه أو لها التباس به وكانت منونة، فإنها تجري على الأول وتنجر بجره، ويوصف الأول بها كقولك: مررت بزيد ضارب زيد، وضارب أبوه زيدا، وملازم أباه زيد. ثم اختلفوا إذا كانت الصفة مضافة. فأمّا سيبويه فأجرى جميعها على الأول ك (هي) لو كانت منونة، وأجرى غيره بعضها على الأول ومنع إجراء بعض فألزمه سيبويه إجراء الجميع على الأول أو المناقضة، فقال: وإن زعم زاعم أنه يقول: مررت برجل مخالط بدنه داء ففرق بينه وبين المنون، قيل له: أليس قد علمت أن الصفة إذا كانت للأول فالتنوين وغير التنوين سواء متى أردت بترك التنوين؟ ومعنى التنوين نحو: مررت برجل ملازم أبيك، وملازمك، فإنه لا يجد بدّا من أن يقول: نعم، وإلا خالف جميع العرب، فإذا قال: نعم، قيل له: أفلست تجعل هذا العمل إذا كان منونا، وكان لشيء من سبب الأول أو التبس به، بمنزلة إذا كان للأول؟ كأنك قلت: مررت برجل ملازم، فإنه قائل: نعم، فيقال له: فما بال التنوين وغيره استويا حيث كان للأول. وهذا من أثبت الحجاج لأنه قدر الخصم بأن غير المنون حكمه كحكم المنون فيما كان فعلا للأول، وقدره بأن فعل الأول، وفعل سببه، وما التبس به إذا كان منونا يجري مجرى واحدا وألزمه بعد ذلك أن غير المنون من فعل الأول وفعل سببه، وفعل ما التبس به يجري مجرى واحدا، ثم لزمه أن ينصب المعرفة المضافة فيقول: مررت بعبد الله الملازمه أبوه، لأنه حين قال:

مررت برجل مخالط بدنه إذا لم يكن سبب نصبه وترك إجرائه على الأول إلا الإضافة. وفي بعض نسخ كتاب سيبويه: وذلك أن قوما ينصبون كل ما كان من ذا مضافا على كل حال، فإن كان هذا من كلام سيبويه فهو أقوى في إلزامهم من القياس بكلام العرب ثم احتج لما ذهب إليه بعد تقويته بالقياس الذي ذكرناه بكلام العرب، فقال: (ولو أن هذا القياس لم تكن العرب الموثوق بعربيتها، تقوله لم يلتفت إليه ولكنّا سمعناها تنشد هذا البيت جرا: وارتشن حين أردن أن يرميننا … نبلا مقذذة بغير قداح ونظرن من خلل الستور بأعين … مرضى مخالطها السقام صحاح (¬1) وأنشد غير من العرب بيتا فأجروه هذا المجرى: حمين العراقيب العصا وتركنه … به نفس عال مخالطه بهر) (¬2) فالشاهد من البيت الأول: خفض مخالطها، ومن الثاني: رفع مخالطه أجروه على نفس عال، وهذا من حجة من ينصب إذا كان مضافا. ولمن خالف سيبويه في الصفة المضافة التي ليست للأول، ولما التبس به في هذا الباب مذهبان: أحدهما: مذهب عيسى بن عمر، وهو أنه جعل ما في هذا الباب عملين. أحدهما- عمل ثابت ليس فيه علاج يرونه نحو الآخذ واللازم والمخالط وما أشبهه. والآخر- عمل فيه علاج نحو الضارب والكاسر، وفتح اللفظ به فيه على ثلاثة أقسام، فجعل ما كان من باب الصفات من باب الضارب والكاسر إذا لم يكن الاسم الأول الموصوف رفعا على كل حال، كقولك: مررت برجل ضاربه عمرو، ورأيت رجلا ضارب أبيه عمرو. ¬

_ (¬1) البيتان لابن ميادة المري في ديوانه ص 100، الخزانة 5/ 24، الأغاني 2/ 284. (¬2) البيت للأخطل ديوانه/ 198، الخزانة 2/ 294.

والثاني، أنه جعل اللازم نصبا إذا كان واقعا كقولك: مررت برجل ملازمه زيد، وبماء مخالطه عسل، وأتيت بلبن ممازجه ماء إذا كانت الملازمة والمخالطة والممازجة قد وقعت ووجدت، كأنه قال: ملازمه الساعة، ومخالطه الساعة، وممازجه الساعة. والثالث، أنه جعل الفعل والملازم إذا كان غير واقع جاريا على الأول، وذلك قولك: مررت برجل مفارقه الروح، وبرجل متلفه السير، إذا لم يقع المتلف ومفارقه الروح. كأنه قال: متلفه غدا السير. والمذهب الآخر مذهب يونس، وهو: أنه يجعل ما كان واقعا من ذلك نصبا كمذهب عيسى في الفعل اللازم الذي لا علاج فيه، ويجعل ما كان غير واقع رفعا على كل حال، بمعنى في الفعل اللازم وفيما كان علاجا نحو الضرب والكسر. قال سيبويه: (فإذا جعلته اسما لم يكن فيه إلا الرفع على كل حال، تقول: مررت برجل ملازمه رجل، أي: مررت برجل صاحب ملازمته رجل، وهو كقولك: مررت برجل أخوه رجل)، يعني أن ملازمه يجعل بمنزلة ما لم يؤخذ من الفعل، لأن حقيقته اسم كقولك: غلامه وأخوه، وإن جمع على هذا الحد، قلت: مررت برجل ملازموه بنو فلان، لأنه لم يذهب به مذهب الفعل، فيوحد لتقدمه، فصار كقولك: مررت برجل غلمانه بنو فلان، وإخوته وأصحابه، فإن جعلته عملا جاريا مجرى الفعل، قلت: مررت برجل ملازمه قومه، كأنك قلت: ملازم أباه قومه أي قد لزم أباه قومه فوحدته لما أجريته مجرى الفعل لتقدمه، وأما قول سيبويه: (فإن زعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا فهم ينصبون: به داء مخالطه، وهو صفة للأول. وتقول: هذا غلام لك ذاهبا. ولو قال: مررت برجل قائما. لجاز، فالنصب على هذا). وذكر الفصل.

هذا باب ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول

قال المفسر فإنه ذكر حجاج من نصب: مررت برجل مخالطه دم، وأنّ من العرب من ينصبه على الحال، فنصب مخالطه على الحال، وإن كان يرفع على أنه صفة لداء، وهذا غلام لك ذاهبا على الحال. وإن قيل: ذاهب على الصفة، ومررت برجل قائما وإن كان يقال: قائم على الصفة. هذا باب ما جرى من الصفات غير العمل على الاسم الأول (إذا كان الشيء من سببه). وذكره. قال أبو سعيد: ما احتج به بيّن، وهذه الصفات هي الأسماء المتقدمة في التحصيل، لأن قائلا لو قال: ضربت قائما أبوه لكان الضرب واصلا إلى غير الأب فصار قائما الذي نصبه الضرب غير الأب، ولو قيل: لعن الله قائما أبوه لوقع اللعن على قائم والأب لم يدخل في اللعن، فجعل قائما على الموصوف الذي قام مقامه، كأنه قال: ضربت رجلا قائما هو الرجل المحذوف. وكذلك كان زيد قائما أخوه، فقائما أخوه هو زيد لأن الخبر هو المخبر عنه. هذا باب الرفع فيه وجه الكلام وهو قول العامة (وذلك: مررت بسرج خزّ صفّته). وذكر الباب. قال أبو سعيد: أما قولك: مررت بسرج خز صفته، وبصحيفة طين خاتمها، وبرجل فضة حلية سيفه، وبدار ساج بابها فإنك إذا أردت حقيقة هذه الأشياء، لم يجز غير الرفع، ويصير بمنزلة: مررت بدابة أسد أبوه، وأنت تريد بالأسد السّبع، لأن هذه جواهر، ولا يجوز النعت بها، وإن أردت المماثلة والحمل على المعنى أخبر فيها ما حكي عن العرب، فقد سمع منهم: هذا خاتم طين، تحمل طين على طين، كما قال الشاعر: ... … كدكّان الدّرابنة المطين (¬1) ¬

_ (¬1) البيت: فأبقى باطلي والجد منها … كدكّان الدّرابنة المطين -

هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة

وإذا سمع منهم: صفّته خزّ، تحمل على: ليّنة. وقد يقال للشيء اللين: أنه خز، يريد: لينة، كأنهم قالوا: هو ليّن، أي: مثل خزّ. وقد سمع منهم: مررت بقاع عرفج كله، ومررت بعرب أجمعون، ومعناه: مررت بقاع ثابت كله أو مسد كله، لأن العرفج: شوك، وبقوم منعوتين أو مفسرين أجمعون. وجملة الأمر أنه إذا جعل شيء من هذا صفة ورفع بها ما بعدها، فمن النحويين من يذهب إلى أنه بتقدير مثل وحذفه، فإذا قال: مررت بدار ساج بابها، وسرج خز صفته، وهذا مذهب المبرد في مثل هذا، ومنهم من يجعل اسم الجوهر في مثل هذا فاعلا، ويرفع به، فإذا قيل: مررت بدار ساج بابها، وجعل الساج في تقدير: وثيق وصلب، ونحوه، فكأنه قال: مررت بدار وثيق بابها أو صلب، ويتأوّل في خزّ: لين صفته، وفي كل شيء منه ما يليق بمعناه. أنشد بعض النحويين في جواز نحو هذا: وليل يقول الناس من ظلماته … سواء صحيحات العيون وعورها (¬1) كأن لنا منه بيوتا حصينة … مسوحا أعاليها وساجا ستورها (¬2) وذهب بالمسوح إلى سود. وساج إلى كثيف. والأجود رفع مسوح وساج. هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة (وذلك أفعل منه)، وذكر الفصل. قال أبو سعيد: اعلم أن ما يقع بعد الاسم من الأسماء المفردة والمضافة أو الموصولة على ضربين: أحدهما: يكون صفة للأول. ¬

_ قائله المثقب العبدي. (¬1) البيت لمضرس بن ربعي الخزانة 2/ 291. (¬2) البيت للأعشى ديوانه/ 423، خزانة الأدب 5/ 18.

والآخر: لا يكون صفة له. فأما الذي يكون صفة فما كان تحلية أو جرى مجرى التحلية وذلك قولك: مررت برجل قائم، وكاتب وضاحك ونحوه، ومنه: مررت برجل خير منك، ومثلك وحسبك من رجل، وبدرهم سواء، وبرجل أبي عشرة. وما لا يكون صفة، فنحو: بستان ودار وحصير ودفتر ونحوه، لا تقول: مررت بملكك البستان، ولا بملكك ثوب، إلا على البدل، ولا بملكك بستانك، ولا بمالك دفترك إلا على البدل أيضا، فإن اتصل بشيء مما لا يكون صفة: له إنما يكون معه جملة مبتدأ وخبر، نحو: مررت برجل دفتر له عندك، وبرجل ثوبه فاخر، ونحو ذلك جاز وتكون الجملة نعت الأول، وأما الصفة إذا اتصل بها اسم فعلى ضربين: أحدهما: يختار أن يجرى مجرى الاسم الذي يكون صفة، فيرفع بالابتداء والخبر، وهو قولك: مررت برجل خير منه أبوه، وبرجل سواء عليه الخير والشر، وبرجل أب للصاحبة، وبرجل حسبك به من رجل، فهذا الضرب من الصفة يرفع كما يرفع ما لا يكون صفة، ويكون ما بعده خبرا له، وهذا يعني ترجمة الباب، لأن " خير منه " وسواء، وحسبك، وأيما رجل، وأبو عشرة، إذا انفردت كانت صفة، وإذا كانت بعدها أسماء لم تكن صفة بمنزلة أسماء الجواهر وتحقيق لفظ الباب أن يقال: هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة إذا انفردت مجرى ما لا يكون صفة إذا لم ينفرد. والضرب الآخر من الصفة ما يجرى على ما قبله في إعرابه ويرتفع به ما بعده كارتفاع الفاعل بفعله، وهو قولك: مررت برجل شديد عليه الحر والبرد، من قبل أن شديدا اسم فاعل منه، والحر والبرد مرفوعات به، وهكذا مررت برجل مستو عليه الخير والشر، جررت لأنه صار عملا بمنزلة قولك: مررت برجل مفضض سيفه، ومررت برجل مسموم شرابه، وجملة ما يكون صفة جاريا على الأول، ويرتفع به ما بعده ما كان من أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين، وقد مضى شرحها. وأما ما يكون صفة في الانفراد ولا يكون صفة في غير الانفراد، فما ذكره في هذا الباب من قوله: (خير منه أبوه، والأسماء التي ذكرت ومعه). وذكر سيبويه فصولا بين البابين يبعد بها من مذهب الفعل خير منه أبوه فيه، فيرتفع ما بعده ويفصل ما بينها وبين أسماء الفاعلين بالصفات المشبهة منها، لأن أسماء الفاعلين

تفرد وتؤنث بالهاء، وقد ذكرناه، وتثنى وتجمع وتدخل عليها الألف واللام وتضاف إلى ما فيه الألف واللام، وهذا كله يجري على الصفة المشبهة نحو حسن وكريم وطويل، فتقول: الحسن الوجه، كما تقول: الملازم الرجل، وليس ذلك في باب (خير منه) لأنه لا تدخل فيه الألف واللام، ولا يفرد وما يفرد أقرب إلى الفعل، لأن الفعل ينفرد، تقول: مررت برجل يضحك ويتكلم، ويدخله التأنيث فتقول: مررت بامرأة تضحك وضحكت، ويتصل به تثنية الضمير وجمعه، تقول: مررت برجلين يضحكان، وبرجال يضحكون. والألف واللام تدخل على اسم الفاعل الذي منزلته وحكمه حكم الفعل، وقدمنا من الاحتجاج الفصل بينهما في باب الصفة ما يوجب ألّا يرفع ما بعد (خير منه) بما يغني عن إعادته. فإذا قلت: مررت برجل سواء في الخير والشر جررت، لأن سواء صفة للأول وليس بعده ما يرتفع به فإن قلت: برجل سواء أبوه وأمه، رفعت سواء على أبوه وأمه، سواء بالابتداء، فإن قلت: برجل سواء درهمه، كما تقول: مررت برجل تمام درهمه، ولو خفضت سواء لرفعت ما بعده بالفاعل، وقد ذكرنا أن ذلك لا يحسن، وتقول: مررت برجل سم شرابه، وفضة سيفه على الابتداء والخبر، وليس ذلك ك (مسموم ومفضض) لأنه مسموم ومفضض اسم مفعول جار على الفعل، قال سيبويه: (وزعم يونس: أن ناسا يجرون هذا كما يجرون مررت برجل خز صفته). قال أبو سعيد: كأنهم يتأولون في ذلك تأويل اسم الفاعل فيتأوّل (خير منه أبوه) تأويل (فاضل عليه أبوه)، و (راجح عليه أبوه)، ونحو هذا. ويتأولون في: سواء أبوه وأمه، مستو أبوه وأمه، كما يتأولون في خزّ صفّته، ليّن صفّته. ثم ذكر سيبويه تقويه الرفع بأنك لا تقول: مررت بخير منه أبوه، ولا سواء عليه الخير والشرّ، كما تقول: بحسن أبوه، ثم قال سيبويه: (وتقول: مررت برجل كل ماله درهمان، لا يكون فيه إلا الرفع، لأن " كل " مبتدأ، والدرهمان مبنيان عليه فإن أردت به ما أردت بقولك: ما مررت برجل أبي عشرة أبوه، جاز لأنه قد يوصف به). قال أبو سعيد: يريد أن الاختيار رفع " كل " و " أبو عشرة "، ويجوز: مررت برجل

هذا باب ما يكون من الأسماء صفة لمفرد وليس بفاعل ولا صفة تشبه الفاعل

أبي عشرة أبوه، وليس بالاختيار، فإذا أجريته على الأول ورفعت أبوه صار التأويل: مررت برجل والد عشرة أبوه، وإذا أضفته قلت: مررت برجل أبي عشرة أبوه كما تقول: بضارب زيد أبوه، وعلى هذا تقول: مررت برجل كل ماله درهمان، كأنه قال: مجتمع له درهمان، أو جامع مع ملكه درهمان، وليس ذلك بأبعد من: مررت برجل خزّ صفّته، لأنك قد تصف ب (أبي عشرة)، وكل مال مفردين، فتقول: مررت برجل أبي عشرة، ومررت بمال كل مال، ولا تقول: مررت بثوب خز على النعت. قال سيبويه: (ومن جواز الرفع في هذا الباب أني سمعت رجلين من العرب يقولان: كان عبد الله حسبك به رجلا)، وذكر الباب. قال أبو سعيد: عبد الله: اسم كان، وحسبك: مبتدأ، وبه خبره، وهو في موضع رفع، ورجلا: نصب على التمييز، ولو أجراه على الأول، لقال: كان عبد الله حسبك به، تنصب حسبك بخبر كان، وبه في موضع الفاعل، تقول: كفى بالله، والمعنى: كفى الله، وإجراء حسبك على الأول أقوى من إجرائه على الثاني ونحوه إذ كان حسبك مفردا يوصف به لأنه مأخوذ من أحسبني الشيء، أي: كفاني. هذا باب ما يكون من الأسماء صفة لمفرد وليس بفاعل ولا صفة تشبه الفاعل (كالحسن وأشباهه، وذلك قولك: مررت بجبة ذراع طولها). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: ما كان من المقادير نعتا لما قبله إذا انفرد بما يتضمن لفظه من الطول والقصر والقلة والكثرة، ناب عن طويل وقصير وقليل وكثير. فإذا قال: مررت بحبل ذراع، فكأنه قال: قصير، فإذا قال: بحبل سبع أذرع، فكأنه قال: بحبل طويل، وإذا قال: بإبل مائة، فكأنه قال: بإبل كثيرة، وإذا قال: بإبل خمسين، فكأنه قال: بإبل قليلة. فإن قال قائل: فهلا نعتّم ب (قفيز) ونحوه، وأجريتموه مجرى قليل وكثير كما فعلتم بذراع، تقول: مررت بحنطة قفيز على الصفة بتأويل حنطة قليلة كما قلت: بحبل ذراع، بتأويل قصير، قيل كذلك تفعل وهذا واجب في جميع الأعداد من أي صنف كان، ألا ترى أنك تقول: مررت بنسوة أربع، ورجال خمسة، وسائر الأعداد، وجاز الوصف بذراع، وشبر، وباع، ونحوه من سائر المقادير، كما جاز في الأعداد.

وإنما منع سيبويه من الصفة ب (قفيز) في قوله: (مررت ببر قفيز بدرهم) على الصفة، لأنك لم ترد أنّ فعل البرّ الذي مررت به كله قفيزا واحدا، كما أردت بقولك: مررت ببرّ بدرهم، وإن كان قفزانا كثيرة، وإذا جئت بعد المقدار باسم، جعلت المقدار له، رفعت على الابتداء والخبر، تقول: مررت بجبة ذراع طولها، وبثوب سبع طوله، وبرجل مائة إبله، وببر قفيز كله، وبنسوة أربع عددهن، وناس خمسة أولهم. وإنما اختير فيه الرفع لأن ما هو أقرب إلى الفعل منه يختار فيه الرفع، كقولك: مررت برجل خير منه أبوه، وأفضل منه زيد، ولم يكن مثل باب حسن الوجه، لأنك تقول: مررت بجبة ذراع الطول، إذا نونت ولا ذراع الطول إذا لم تنون، كما تقول: حسن الوجه إذا نونت، وحسن الوجه إذا لم تنون، وبعض العرب يجر، كما يخبر الجر حين يقول: مررت بسرج خز صفته فتقول: مررت بجبة ذراع طولها، كأنك قلت: قصير طولها، ومررت برجل مائة إبله، كأنك قلت: كثيرا إبله، وفي سياق كلام سيبويه، (ومنهم من يجره) بعد قوله، (وبعض العرب يجره) لأنه: أراد: تشبيهه برجل أسد أبوه، وما بعد هذا من كلامه، فقد مضى تفسيره. قال سيبويه: (وزعم يونس أنه لم يسمع من أحد)، يعني: مررت برجل مائة إبله، (ولكنهم يقولون: هو نار جمرة، لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدإ). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: من قال: هو نار جمرة، جعل النار في تأويل فعل، كأنه قال: مجمر جمرة، فجعل في: أسد أبوه من تأويل شديد، وفي مائة إبله من تأويل كثير، مثل: ما في نار من تأويل: مجمر، وأحوج إلى هذا، أن جمرة لا بد من نصبها في شيء يجري مجرى الفعل. وقال الزجاج: باب الأخبار أن تكون أفعالا، لأنك تخبر بحدث، وقولك: هو نار جمرة، ليس الضمير لنار، إنما هو لرجل، أو جوهر، وإنما المعنى هو مثل: نار جمرة، وقال أخبر: مررت برجل نار جمرة، أريد مثل نار، كما أردت حيث كان خبر ابتداء كأنك قلت: مررت برجل مثل نار، أو شبه نار جمرة. قال: وكلام سيبويه يدل على أن نارا تقع خبرا ولا تقع صفة. فقال أبو سعيد: أظنه تأول من كلام سيبويه قوله: ولكنهم يقولون: هو نار جمرة، لأنهم قد بنوا الأسماء على المبتدإ ولا يصفون بها، وليس الأمر كذلك عندي، ومما يجري مجرى ما تقدم من اختيار الرفع فيه وجواز الجر قولك في الرفع: مررت برجل رجل أبوه،

إذا أردت معنى: أنه كامل، والجر والإجراء على الأول فيما كان صفة محضة أحسن من الابتداء والخبر، كقولك: مررت برجل حسن أبوه، وفي هذا بعد لأنّ (حسن) يجري مجرى الفعل، والأولى أن يرفع به الأب إن كان من سبب الأول كما يرفع ضميره في قولك: مررت برجل حسن ظريف أبوه، فالرفع فيه الوجه، والجر فيه قبيح. وذكر الفصل. قال أبو سعيد: إذا قلت: مررت برجل حسن ظريف، لم يحسن جر (حسن)، و (ظريف) إذا أردت أن ترفع الأب ب (حسن) وظريف: نعت لحسن، لأن باب الإجراء والصفة والعمل فيه بعد، إنما هو للأسماء الجارية على الأفعال التي تؤنث وتذكّر، فإذا أضفت اسم الفاعل خرج من الأفعال وقوى في الاسمية، فصار الباب الرفع فيه، فيكون أبوه مبتدأ، وحسن ظريف خبره مقدم، ويجوز أن يكون (حسن ظريف) خبر مقدم، ويجوز أن يكون حسن ظريف هو المبتدأ على ضعف، ولو قلت: مررت برجل حسن ظريف أبوه، فرفعت الأب ب (ظريف) كان جائزا حسنا، ولو قلت: مررت بضارب ظريف زيدا، وهذا ضارب عاقلا أباه، كان قبيحا لأنه وصفه فجعله كالاسم الذي يبتدأ به ثم يوصف. قال سيبويه: (فإن قلت: مررت برجل شديد رجل أبوه، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفة فقد جعلته في هذا الموضع اسما بمنزلة: أبي عشرة، يفتح فيه ما يفتح فيه، ومن قال: (مررت برجل أبي عشرة أبوه)، قال: مررت برجل شديد رجل أبوه). قال أبو سعيد: إذا قلت: مررت برجل شديد رجل أبوه، ف (رجل) الذي بعد شديد بدل من شديد، فبطل أن يعمل شديد في (أبوه) وقد أبدل منه رجل لأن الفعل لا يبدل منه الاسم، فإن وجدناه ورفعنا أبوه برجل، جرى مجرى: أبي عشرة لأن حكمهما واحد في اختيار الرفع فيهما، وليس قولك: مررت برجل أبي عشرة أبوه، كقولك: مررت برجل حسن الوجه أبوه، لأن حسن الوجه أبوه، كقولك: حسن الوجه، فصار بدخول التنوين يشبه ضاربا، إذا قلت: مررت برجل ضاربا وأبو عشرة، لا يدخله التنوين، فلا تقول: مررت برجل أب عشرة، كما تقول: حسن الوجه، وقد مضى الفصل بينهما، وقد

أعاد سيبويه ما يؤكد به الفصل بينهما، وقد شرحناه. قيل: قال سيبويه: (وأما قوله: مررت برجل سواء والعدم) فلا بد من أن تجعل سواء نعتا لرجل لأنه ليس مع سواء اسم، فيكون معه مبتدأ وخبرا، فصار بمنزلة قولك: مررت بقوم سواء، وإذا أجريت سواء على الرجل ففيه ضمير لأنه في معنى مستو، فإذا عطفت على ذلك الضمير أكدت، كما يجب في ضمير المرفوع إذا عطفت عليه، والضمير الذي في سواء مثل الضمير الذي في: عرب أجمعون، لأن عربا محمول على متعربين، كما أن سواء في معنى مستو، وأجمعون توكيد للضمير في عرب. فأما قول سيبويه: (وهي معطوفة) فإنه يعني: أجمعين، ويعني بالعطف: عطف البيان. وقوله: (على المضمر). يعني: المضمر في عرب كما تقدم، وقوله: (وليست كأبي عشرة)، يعني: وليست أجمعون في ارتفاعه بمنزلة ارتفاع أبي عشرة أبوه. وقوله: (فإن تكلمت به على قبحه رفعت)، يعني: إن قلت: سواء والعدم من غير توكيد رفعت سواء، يعني: إن جئت ب (هو) في: سواء هو والعدم، ولم يجعل هو توكيدا للمضمر وجعلته مبتدأ وعطفت عليه العدم رفعت، سواء خبر المبتدأ كأنك قلت: مررت برجل هو والعدم سواء، فيصير كقولك: مررت برجل سواء درهمه. قال سيبويه: (وتقول: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إليه). وذكر الفصل. قال أبو سعيد: إذا قلت: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إليه، فأبغض نعت لرجل وإليه: في صلته، والهاء في إليه: ضمير لرجل. كأنه قال: منه إلى زيد، وكذلك وأحسن في عينيه الكحل منه أحسن نعت رجلا والهاء في عينيه تعود إلى الكحل، وفي عينه الآخر العود إلى شيء قد ذكر كأنه قال: في عين زيد، فإن قيل: فقد مرّ من احتجاج سيبويه في (مررت برجل خير منه أبوه) ما يوجب أن يكون هذا مثله لأنه احتج في رفعه بأنك لا تستطيع أن تفرد شيئا من هذه الأشياء لو قلت: هذا رجل خير، وهذا رجل أفضل. لم يستقم وكذلك لا تفرد أبغض وأحسن في قولك: ما رأيت رجلا أبغض وأحسن في قولك: ما رأيت رجلا أبغض أو أحسن، وذكر أيضا أن الذي يجرى على الأول اسم الفاعل والصفة المشبهة، وقوله: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل ليس باسم فاعل ولا صفة مشبهة، وقد اجتمعا في علة منع الإجراء على الأول فلم أجريت

أحدهما عليه، ومنعت إجراء الآخر؟ الجواب: أن بينهما فرقا في المعنى يوجب أن ما أجراه على الأول قرب شبه من اسم الفاعل، وفرقا في اللفظ دعت الضرورة فيه إلى إجرائه على الأول، فأما فرق المعنى فإنك إذا قلت: مررت برجل خير منه أبوه أو أفضل منه زيد، فمن يقع على المفضول والذي بعده هو الفاضل، وأحدهما غير الآخر، يعني رجل وليس للأول في الفضل صنع، وإذا قلت: ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل، والكحل هو الفاضل، فصار الفاضل واحدا، وصار ما اكتسب من الفضل بسبب الأول، وذلك أنك تفضل الكحل إذا كان في عين زيد على نفسه إذا كان في عين غيره فيكون به في غير المذكور فضل ونقص، وكذلك لو قلت: مررت برجل أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد فضل الكحل لكونه في عين الرجل على نفسه في عين زيد، وأما الفرق في اللفظ فإنك إذا قلت: مررت برجل خير منه أبوه وأفضل منه زيد، ف (منه) في صلة خبر، وأفضل وأبوه وزيد: مبتدآت أو خبر مبتدأين، ولم تفصل بين شيئين أحدهما في صلة الآخر، ولو رفعت ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فرفعت أحسن، لكان إما مبتدأ خبره الكحل أو الكحل مبتدأ وخبره أحسن. وقوله: (في عينه منه في عين زيد كله في صلة أحسن)، فتفصل بين أحسن وبين ما في صلته بالكحل الذي حقه أن يكون مؤخرا عن الجميع أو مقدما على الجميع، فإن آخرته قلت: ما رأيت رجلا أحسن في عينيه منه في عين زيد الكحل. ففي هذا- أيضا- قبح لأنه إضمار قبل الذكر وتجعل أحسن مبتدأ، فهو فاسد لأن هاء منه ضمير الكحل فهو مؤخر، وإن جعلت أحسن خبرا مقدما، جاز إن قدمت الكحل قلت: ما رأيت رجلا الكحل في عينيه أحسن منه في عينه منه في عين زيد، جاز بلا خلاف فأدى ذلك إلى أن يقال: (ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إلى زيد)، في تأويل: ما رأيت رجلا مبغضا إليه الشر، كما بغض إلى زيد، وما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحل كعمله في عين زيد، وقد خففوا وحذفوا ما ليس فيه لعلم المخاطب، وأوقعوا من على غير ما كانت تقع عليه، فقالوا: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه، والضمير في منه المذكور جرى ذكره، والأصل: ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فحذفوا الضمير العائد إلى الكحل في منه واكتفوا بذكر الكحل، وحذفوا

في عين الأخيرة اكتفاء بما تقدم من ذكر عينه، وفصلوا بين الاسم المحتاج إلى ذكره، ومثله: ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه، وما من أيام أحب إلى الله تعالى فيها الصوم في عشر ذي الحجة، والأصل: أحبّ إلى الله تعالى فيها الصوم منه إليه في عشر ذي الحجة، وأوقعوا على عشر ذي الحجة، وهي في الأصل: واقعة على ضمير الصوم، فالمعنى هو المعنى الأول، وإن وقع هذا الحذف، وقوله: (والهاء في منه: هو الاسم الأول) الذي كني بذكره قبل الحذف على ما قد بيناه. وقوله: (ولا تخبر أنك فضلت بعض الأيام على بعض). (والهاء في الأول هي للكحل)، يعني في منه قبل الحذف (وإنما فضلت في هذا الموضع على نفسه في غير هذا الموضع ولم يرد أن يجعله أحسن من نفسه البتة، قال الشاعر وهو: سحيم بن وثيل: مررت على وادي السباع ولا أرى … كوادي السباع حين يظلم واديا أقل به ركب أتوه تئية … وأخوف إلا ما وقى الله ساريا (¬1) والمعنى: أقل به الركب تئية منهم به). والهاء به الأولى ضمير واديا، والهاء في به التي بعد ضمير وادي السباع، وأتوه: نعت لركب، وتئية في معنى لبث وتمكث، كأنه قال: ولا أرى واديا أقل به مكثا وتلبّثا به الركب إذا أتوه منهم بوادي السباع، فحذف منهم وبه كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد، وتقول: الله أكبر، ومعناه أكبر من كل شيء، كما تقول: لا مال ولا تذكر لك، ولا بد من تقديره وما يشبهه، لأن مال يحتاج إلى خبر ومثل هذا كثير. وما جعل في النكرة المجرورة في موضع نعته رفعا بالابتداء، فهو في المعرفة رفع في موضع الحال منه قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ (¬2) إلى قوله: وَمَماتُهُمْ (¬3)، وقوله: (وتقول: مررت بعبد الله خير منه أبوه، ومن أجراه على ¬

_ (¬1) الخزانة 3/ 521، سيبويه 1/ 233. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 21. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 21.

الأول)، يعني في النكرة فإنه ينبغي أن ينصب في المعرفة، يعني على الحال لأن الحال كالنعت: تقول: مررت بعبد خيرا منه أبوه. وقوله: وهي لغة رديئة وليست بمنزلة العمل نحو: ضارب وملازم، وما ضارعه نحو حسن، لو قلت: مررت بخير منه أبوه، كان قبيحا، وكذلك بأبي عشرة أبوه، ولكن خير خلص للأول جرى عليه كأنك قلت: مررت برجل بخير منك، حين قلت: برجل خير منك فإنه يعني: ولكنه لما انفرد به الأول جرى عليه ولم يقبح كما قبح في قوله: برجل خير منه أبوه، ومن قال: مررت برجل أبي عشرة أبوه فشبهه بقوله: مررت برجل حسن أبوه، فهو ينبغي له أن يقول: مررت بعبد الله أبي العشرة أبوه، كما قال: مررت بزيد الحسن أبوه. قال: (ومن قال: مررت بزيد أخوه عمرو لم يكن فيه إلا الرفع لأنّ هذا اسم معروف بعينه فصار بمنزلة قولك: مررت بزيد عمرو أبوه، قال: ولو أن العشرة كانوا قوما بأعيانهم قد عرفهم المخاطب لم يكن فيه إلا الرفع لأنك لو قلت: مررت بأخيه أبوك كان محالا). قال أبو سعيد: لأن مذهب الفعل الذي يعمل ما يجرى مجراه وهو شائع غير معين، فإذا تعين الاسم لم يجر مجراه، ألا ترى أنك لا تقول: مررت بأخيه أبوك، ويجوز أن تقول: بمؤاخيه أبوك، لأن مؤاخيه في مذهب يؤاخيه، والعشرة إذا كانوا بأعينهم فهو بمنزلة هؤلاء إخوتك، فإذا لم يكونوا بأعينهم فكأنّا قلنا: مررت بعبد الله المكثر الأولاد أبوه، على أن جوازه في النكرة إذا قلنا: مررت بأبي عشرة أبوه في المعرفة إذا لم يكن شيئا بعينه يجوز على استكراه. فكيف إذا صار شيئا بعينه؟ قال: (فإن جعلت الأخ صفة للأول جرى عليه، كأنك قلت: مررت بأخيك، فصار الشيء بعينه نحو: زيد وعمرو وضاع أبو عشرة حسن حين لم يكن شيئا بعينه قد عرفه كمعرفتك على ضعفه واستكراهه، واعلم أن كل شيء من العمل وما أشبهه نحو: حسن وكريم إذا دخلت على ما فيه الألف واللام جرى على المعرفة كمجراه على النكرة حين كان نكرة كقولك: مررت بزيد الحسن وجهه، ومررت بأخيك الضاربه عمرو). قال أبو سعيد: يصير تأويله وأخوك حسن وجهه، وبأخيك الذي ضربه عمرو،

هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست تعمل

قال: (واعلم أن العرب يقولون: معلوجاء وقوم مشيخة، وقوم مشيوخاء، يجعلونه صفة بمنزلة: شيوخ، وعلوج). وهذا مفهوم، وقد تركنا من كلامه شيئا دلّ عليه ما ذكرناه وأغنى عنه. هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست تعمل (نحو: الحسن والكريم، وما أشبهه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرت بعده الأسماء وأضمرتها، وذلك قولك: مررت برجل حسن أبواه)، إلى آخر الفصل. قال أبو سعيد: مبنى هذا الباب على ما تقدم من توحيد الفعل، وحقيقة الفعل أنه لا يثنى ولا يجمع، ولو كان الفعل يثنى ويجمع لكان إذا فعله فاعله مرتين ثني وفاعله واحد، فيقال: زيد قاما، وزيد يقومان، وإذا فعله مرارا قيل: زيد قاموا، وزيد يقومون، وهذا باطل لا يعقل، فهو موحد على كل حال، وإذا تقدم على الفاعل ظهر توحيده في اللفظ، وأتى بعده منفصلا منه فاعله موحدا كان أو مثنى أو مجموعا، كقولك: قام زيد، وقام أخواك وقام أصحابك، وإذا تقدمت الأسماء فعمل فيها الابتداء وغيره، ثم أتي بعد هذا الفعل، ثم لا بد للفعل من فاعل صار ضمير تلك الأسماء هو فاعل الفعل، واتصل بالفعل كقولك: زيد قام، والزيدان قاما، والزيدون قاموا، ففي قام ضمير من زيد في النية لا علامة له، والألف في قاما ضمير الزيدين، والواو في قاموا ضمير الزيدين. وإنما أضمرت الأسماء في الفعل ولم تعد ظاهرة لعلتين: إحداهما: أن الضمير أخف لفظا من الظاهر. والأخرى: أنه قد علم أن الضمير لا يأتي مبتدأ من تقديم اسم ظاهر، فعلم أن الضمير يعود على ما جرى ذكره من الأسماء. وإذا ذكر بعده ظاهر جاز أن يتوهم الضمير الأول إذ الأسماء قد تشترك ألفاظها وهي شتى. فإن قال قائل: لم لم يجعل للضمير الواحد علامة وجعل الاثنين والجماعة؟ قيل: لأنه معلوم أن الفعل لا بد له من فاعل لا يخلو من الاثنين والجماعة، فخلوه من الاثنين والجماعة جعل لهما علامة لئلا يقع لبس، واكتفى بما تقدم في الفعل من حاجة الفعل إلى فاعل من علامة ظاهرة.

وإذا قيل: زيد قام هو، فالضمير الذي قام في النية وهو توكيد له، ومما يحتج لتوحيد الفعل من واحد كان أو من أكثر. إنك تقول: أعجبني قيام القوم، فيوحّد القيام، وإن كان لجماعة إذ كان معناه معنى شيء واحد من الجماعة، وكذلك: أعجبني قيام الرجلين، وإذا كنّا نوحده للاثنين والجماعة، وهو اسم تمكن تثنيته وجمعه فكيف إذا ثنيته على شيئين مختلفي المعنى؟ لأنك إذا قلت: قام دلت على قيام وزمان ماض غير محدد تعيينه، فكيف يجوز أن تثنيه وأنت في الذي هو اسم يختار أن يبنى بلفظ الواحد عن جماعة؟ وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (¬1) فوحد البغي وهو مضاف إلى جماعة، وقال عز وجل: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا (¬2)، فأضاف القول موحد إلى جماعة، وإذا كان الفعل لمؤنث وهو مقدم، فالتأنيث على ضربين: أحدهما: تأنيث حقيقي. والآخر: غير حقيقي. فأمّا الحقيقي فهو أنثى كل نوع من الحيوان الذي فيه ذكر وأنثى، كالمرأة في الناس، والناقة في الإبل، والأتان في الحمير، فهذه الأشياء تأنيثها حقيقي لأنه لخلق فيها تبين بها من المذكر. فهذا الضرب إذا تقدم فعله فكان ماضيا، وردت في آخره تاء ساكنة لعلامة التأنيث، وإذا كان مستقبلا جعلت حرف المضارعة تاء مكان الياء بغيرها، فقلت: قامت هند، وخرجت المرأة، وماتت الناقة، وولدت الأتان. وفي المستقبل: تقوم هند، وتخرج المرأة، وتلد الأتان والشاه، وما أشبهها. ولا يحسن إسقاط علامة التأنيث، وأقواها في ذلك مؤنث ما يعقل. وأما التأنيث غير الحقيقي، فهو ما كان تأنيثه وتذكيره واقعين على ما لا خلقة فيه فاصلة بين الذكر والأنثى، كنحو: دار، وقدر، وعين، وأذن، وفخذ، وما أشبه ذلك فإذا تقدم الفعل في هذا الضرب فالأصل الذي رتب اللفظ له إثبات علامة التأنيث كقولنا: ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 23. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 147.

بنيت دارك، وكحلت عينك، وأشباه ذلك، ويجوز إسقاط علامة التأنيث كقولك: بنى دارك وكحل عينك، وما أشبهه ذلك، وكل تأنيث حصل في مؤنث بعلامة أو بغير علامة في جمع أو واحد من غير خلقة التأنيث التي تكون لإناث الحيوان بفرج يكون لهن، فهو تأنيث غير حقيقي، وإذا تقدم المؤنث الذي تأنيثه غير حقيقي ثم أتي بفعله وأضمر لم يحسن إسقاط علامة التأنيث كحسن إسقاطها إذا تقدم الفعل، وذلك قولك: دار بنيت، وعينك كحلت، ولو قلت: دارك بني، وعينك كحلت، لم يحسن كحسن بني دارك، وكحل عينك لأنك إذا قدمت الفعل فصلت الفاعل من الفعل وظهر لفظه الموضوع للتأنيث، فاكتفي به وأغنى عن العلامة، وإذا تقدم الاسم صار الفعل لضميره، وهو مختلط بالفعل وليس في لفظه دلالة على التأنيث، لأن ضمير الواحد والاثنين الفاعلين في الفعل الماضي في المذكر والمؤنث سواء، فكرهوا إسقاط العلامة مع ذهاب اللفظ الموضوع للتأنيث، وقد يجيء في الضرورة إسقاط علامة التأنيث في فعل الحيوان. وحكى بعض الرواة عن بعض العرب: حضر القاضي اليوم امرأة، ولم يكن قصدنا في هذا الموضع ذكر أحكام التأنيث والتذكير فنستقصيه بأكثر من هذا، وإذا عرض منه بعد هذا شيء ذكرته في موضعه إن شاء الله تعالى، واعلم أن بعض العرب يجعل في الفعل المقدم علامة التثنية والجمع كما جعل فيه علامة التأنيث، فتقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك، وضربتني أخواتك، كما قالوا: قالت فلانة، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامة، كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة، قال الفرزدق: ولكن ديافيّ أبوه وأمّه … بحوران يعصرن السليط قرائبه (¬1) وقال آخر: يلومونني في اشتراء النخيل … أهلي فكلهم يعذل وأهل الذي باع يلحونه … كما ألحى البائع الأوّل (¬2) وأنشد الفراء البيت الأول من هذين بالميم، فقال: يلوم، وهي أبيات لأمية، لولا كراهة الإطالة لأنشدتها كلها. ¬

_ (¬1) ديوان الفرزدق/ 50، الخزانة 2/ 386، 3/ 293، 4/ 554. (¬2) البيتان لأمية بن أبي الصلت ديوانه 48، الدرر اللوامع 1/ 2.

وقال آخر في التثنية: ألفينا عيناك عند القفا … أولى فأولى لك ذا واقيه (¬1) وهذا قليل في الكلام غير مختار. فإن قال قائل: لم صار إثبات علامة المؤنث لازما في بعض المؤنث، وفي بعض إثباتها أكثر من تركها، وإن لم يكن لازما، وإثبات علامة التثنية والجمع قليل غير مختار، وما الفصل بين ذلك؟ ففي ذلك غير جواب، فأحد الأجوبة: أن التأنيث لازم للاسم لا يفارقه، والتثنية والجمع قد تفارق، لأن المثنى والمجموع إذا أفرد كل واحد منهما زالت التثنية والجمع. والجواب الثاني: أن المذكر والمؤنث هما جنسان متباينان، ليس أحدهما بعضا للآخر والواحد والتثنية والجمع بمنزلة شيء واحد إذ كان ترك التثنية والجمع من الواحد، فلم يجعل بين فعلهم إذا قدّم فصل، كما لا فصل بين الثلاثة والأربعة. ومنزلة الواحد من الاثنين في الزيادة، كمنزلة الثلاثة من الأربعة. والجواب الثالث: أن علامة التثنية والجمع كضمير التثنية والجمع، فلو قدمناه لم يعلم أهو علامة أم ضمير شيء تقدم ذكره؟ فتجنبوا أن يقولوا: قاما أخواك، وقاموا أخوتك، فتكون الألف في قاما أخواك، وقاموا أخوتك، فتكون الألف في قاما أخواك كالألف في أخواك، فأما الواو في قاموا أخوتك، كالواو في أخوتك قاموا. واعلم أن الاسم الجاري على الفعل يعمل في الاسم كعمل الفعل، ويجري على ما قبله صفة أو حالا أو خبرا، فإذا تقدم على ما يرفعه، كان الاختيار التوحيد كالفعل ومن يثني الفعل إذا تقدم على ما يرفعه ويجمع، ثنى اسم الفاعل وجمع، وما كان علامة التأنيث فيه لازمة من فعل المؤنث إذا تقدم، فعلامة التأنيث لازمة لاسم الفاعل منه، والأصل في اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل أن يكون مما يجمع جمع السلامة، وذلك أن الفعل هو العامل في الأصل، واسم الفاعل محمول عليه. وقد ذكرنا أن الفعل موحّد ويتصل به ضمير الفاعلين، فيصير في لفظ شيء مجموع جمع السلامة، كقولك: زيد قام، والزيدون قاموا، فلفظ قام لم يتغير واتصل به علامة ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن ملفظ. الخزانة 3/ 633، أمالي ابن الشجري 1/ 132.

الجمع، وكذلك الزيدون قائمون، وأخوتك خارجون، دخلت الواو على لفظ قائم وخارج، وقد تحمل على اسم الفاعل ما لا يجمع جمع السلامة، وما ليس بجار على الفعل على ما ستقف عليه مما يذكر في هذا الباب لموافقة بينهما تجيز حمله عليه. وعلى هذه الجملة التي قدمتها أو بعضها مبني على كلام سيبويه في هذا الباب، والله يحسن توفيقنا وإرشادنا بمنّه. قال: (فإن بدأت بالاسم قبل الصفة قلت: قومك منطلقون، وقومك حسنون)، جمعت منطلقون لوقوعه موقع فعل يتصل به ضمير مجموع، (وأذاهبة جاريتان؟ وأكريمة نساؤك؟). وحدت اسم الفاعل لوقوعه موقع الفعل الموحد لتقدمه، وإنما وحدت كريمة، وجمعت نساؤكم لأن كريمة تجري على الفعل فتوحد في التقدم، وتجمع في التأخير، إذا قلت: نساؤكم كريمات، والألف والنون للاثنين، والواو والنون لجمع مذكر ما يعقل، والألف والتاء لجمع المؤنث وجمع ما لا يعقل، وقال: (أقرشيّ قومك)، فأجراه مجرى اسم الفاعل، وإن لم يكن اسم فاعل كأنه قال: أمتقرّش قومك، في معنى: أيتقرّش قومك، كما قالت العرب: تنزر الرجل، وتقيّس، وتمضّر، في معنى انتسب إلى نزار، وقيس، ومضر، فلهذا وحد أقرشي وقومك جمع، فاستشهد سيبويه في توحيد الفعل المقدّم بقوله: (أليس أكرم خلق الله قد علموا … عند الحفاظ بنو عمرو بن حنجوت) (¬1) بنو عمرو، اسم ليس، وأكرم خلق الله: الخبر، ولم يقل: أليسوا. وهذا طريف من الاستشهاد، لأن توحد الفعل المتقدم في عامة كتاب الله تعالى وسائر كلام الناس، أكثر من أن يحتاج إلى شاهد، وبعده من كلام سيبويه ما أتى التفسير عليه إلى أن قال: (وقال بعض العرب: قال فلانة، وكلما طال الكلام فهو أحسن نحو قولك: حضر القاضي امرأة، لأنه إذا طال الكلام كان الحذف أجمل، وكأنه شيء يصير بدلا من شيء كالمعاقبة، نحو قولك: زنادقة، فحذف الياء لمكان الهاء، وكما قالوا في مغتلم، مغيلم ومغاليم، لأن الياء صارت بدلا لمّا حذفوا التاء، لأنه صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء كما كفاهم الجميع والاثنان حين أظهروهم عن الواو والألف، وحذف التاء في الواحد من الحيوان قليل، وهو في الموات كثير). ¬

_ (¬1) البيت لمسلم بن الوليد، سيبويه 1/ 235.

قال أبو سعيد: قد ذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلته، وكان أبو العباس محمد بن يزيد ينكر ذلك أشد الإنكار، ويقول: لم يوجد ذلك في قرآن، ولا في كلام فصيح وشعر، والذي قاله سيبويه أصحّ لأنه حكاه عن العرب، وهو غير متهم في حكايته، واحتج له بما لا مدفع له وقد قال جرير فيه في قوله ما يوافق حكاية سيبويه، وهو: لقد ولد الأخيطل أمّ سوء … على باب استها صلب وشام (¬1) وليس كل لغة توجد في كتاب الله عز وجل ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن أو الشعر، ولأبي العباس مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن ولا غيره، من ذلك إجازته: إن زيد قائما، قياسا على: ما زيد قائما، ولا أظن الاستشهاد عليه ممكنا في شيء من الكلام. قال: (وهو في الموات كثير)، يعني: حذف التاء من فعل الموات الماضي، (ففرقوا بين الموات والحيوان كما فرقوا بين الآدميين وغيرهم) في الجمع، (تقول: هم ذاهبون، وهم في الدار، ولا تقول: جمالك ذاهبون، ولا تقول: هم في الدار، وأنت تعني الجمال، ولكنك تقول: هنّ، وهي ذاهبة، وذاهبات). قال أبو سعيد: جعلت العرب لما يعقل في مواضع اختصاصا في اللفظ، وفصلت بينه وبين ما لا يعقل فيه لما اختص به ما يعقل بأنه يخاطب ويخاطب، ويأمر، ويؤمر، وتخبر وتخبر عنه. وما لا يعقل ليس له من ذلك إلا أنه يخبر عنه، فجعل لما يعقل تفضيل واختصاص، وجعل ذلك التفضيل في اللفظ للمذكر مما يعقل دون المؤنث لفصل المذكر على المؤنث، وذلك جمعه السالم بالواو والنون، الياء والنون، وذلك قولك: الرجال ذاهبون ومنطلقون، ورأيتهم ذاهبين ومنطلقين، وجمع ضميره بالهاء والميم، كقولك: الرجال هم في الدار، وأخوتك هم عندنا، وتقول للنساء في الجمع السالم: الهندات ذاهبات ومنطلقات، وضميرهن بالهاء والنون تقول: النساء رأيتهنّ، والنوق رأيتها، ثم ألحق ما لا يعقل بلفظ المؤنث لنقص رتبته عن ما يعقل، كنقص رتبة المؤنث ¬

_ (¬1) البيت لجرير ديوانه/ 515، ابن يعيش 5/ 92.

عن المذكر. وسمى سيبويه في هذا الفصل ما لم يكن من الحيوان مواتا وإن كان في الحقيقة ليس من الحيوان ولا من الموات لمساواته الموات في اللفظ، فقال: (ومما جاء في القرآن من مساواته الموات في اللفظ فقال ومما جاء في القرآن من الموات قد حذفت فيه التاء نحو قوله جلّ وعز: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (¬1)، والموعظة ليست من الموات في الحقيقة، قال: (وهو في الآدميين أقل منه في سائر الحيوان). يعني: حذف التاء من مؤنث ما يعقل من الآدميين أقل من حذفها من سائر الحيوان، لما ذكرنا من فضلهم في الخطاب وغيره. والجن في قياس الإنس: مؤنثهم ومذكرهم. وقال آخر في جمع التذكير، قال: (ألا ترى أن لهم في الجميع حالا ليست لغيرهم لأنهم الأولون، وأنهم قد فضلوا بما لم يفضل به غيرهم من العلم والعقل) وخلق الله ما يعقل لعبادته المؤدية لهم إلى منافعهم، وخلق ما لا يعقل لمصالح ما يعقل، فهم الأصل في الخلق والأولون. واعلم أن الجموع المكسرة مؤنثة كلها يستوي في حكم اللفظ جميع المؤنث والمذكر وما يعقل وما لا يعقل. وحكم اللفظ في تأنيثها حكم تأنيث الموات، تقول: رجل وهي الرجال، وجمل وهي الجمال، وعير وهي الأعيار، فجرت هذه كلها مجرى هذه الجذوع لأنه قد خرج عن الواحد الأول الأمكن الذي يقع بالخلقة فيه الفرق بين المؤنث والمذكر، وأجري كله مجرى الموات. قالوا: جاء جواريك وجاء نساؤك وجاء بناتك. فلم تلزمه التاء كما لزمت: جاءت جاريتك، وجاءت امرأتك، وجاءت بنتك، لأن هذا التأنيث الحادث لجمع التكسير غير التأنيث الحقيقي الذي كان في الواحد. قال: (وقالوا فيما لم يكسر عليه الواحد لأنه في معنى الجمع) يعني: نسوة في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 275.

قوله: وَقالَ نِسْوَةٌ (¬1) وإن لم يكن لها واحد من لفظها، والنسوة جمع ليس لها واحد من لفظها، وهما مشتركان في جواز إسقاط تاء التأنيث منهما لما ذكرت لك. فنسوة حكمها حكم الجمع، كما أن لمّا كان معناها معنى الجمع جاز أن يرد لفظها على المعنى، فيقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬2)، وقوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ (¬3) يجوز أن يكون الَّذِينَ ظَلَمُوا (¬4) بدلا من الواو في: أسروا، وأسروا: عطف على اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (¬5)، ويكون من لغة من قال: قاموا إخوتك، وأكلوني البراغيث. (وقال الخليل: فعلى هذا المثال تجري هذه الصفات، وكذلك شاب، وشيخ، وكهل، إذا أردت: شابين وشيخين وكهلين). (تقول: مررت برجل كهل أصحابه، ومررت برجل شاب أبواه). قال أبو سعيد: قد تقدم أن الصفة الجارية مجرى الفعل هي التي تجمع جمع السلامة، كما أن الفعل يتصل به تثنية الضمير وجمعه، فلذلك صار شاب أبواه على مذهب شابين وشيخين وكهلين، أي مذهب: شبوا وشاخوا واكتهلوا، وإذا تقدم الفعل وحّد، واسم الفعل الموحد المقدم بمنزلة الفعل المقدم الموحد، فإذا ثنيت شيئا من هذا أو جمعته فالوجه فيه أن ترفعه بالابتداء والخبر لأنك أخرجته عن مذهب بترك التوحيد، فقلت: مررت برجل شبان أبواه كاهلون أصحابه، تجعله بمنزلة قولك: مررت برجل خزّ صفّته. قال الخليل: ومن قال: أكلوني البراغيث، أجرى هذا على أوله، فقال: مررت برجل حسنين أبواه، ومررت بقوم قرشيين آباؤهم. قال أبو سعيد: لأن هذا مذهب الفعل عند أهل هذه اللغة. قال سيبويه: (وكذلك نحو: أعور وأحمر، تقول: مررت برجل أعور أبواه، ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 30. (¬2) سورة يونس، الآية: 42. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 3. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 3. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 2.

وأحمر أبواه، فإن ثنيت قلت: مررت برجل أحمران أبواه، وتجعله اسما. ومن قال: أكلوني البراغيث، قلت: على حد قوله: مررت برجل أعورين أبواه، وتقول: مررت برجل أعور آباؤه، كأنك تكلمت به على حد: أعورين وإن لم يتكلم به كما توهموا في: هلكى ومرضى وموتى، إنه فعل بهم فجاؤوا به على مثال: جرحى وقتلى، ولا يقال: هلك ولا مرض ولا موت. وقال الشاعر: وهو النابغة الجعدي: ولا يشعر الرّمح الأصمّ كعوبه … بثروة رهط الأبلج المتظلّم) (¬1) وقال الكوفيون: مررت برجل أعور أبوه، ومررت برجل زرقاء عينه فتجرى أعور وزرقاء على إعراب ما قبله، ويرفع ما بعده. وتأولوا: مررت برجل زرقاء عينه مزرقة عينه، وزرقة عينه، ولا يجوز عندهم أن يرفع بلفظ الواحد من ذلك اثنان، لا يقول: مررت برجل أعور أبواه، ولا مررت برجل زرقاء أمتاه. فإن ثنيت أعور، وزرقاء، جاز فيه الاستئناف وإجراؤه على الأول، وترفع ما بعده به، يقولون: مررت برجل أعوران أبواه، ومررت برجل زرقاوان عيناه، وإن ثنيت: أعورين أبواه، وزرقاوين عيناه. ولهم في نحو هذا مسائل كثيرة: كرهنا إطالة الكتاب بذكرها إلا أن إجازتهم: مررت برجل زرقاء عينه، على مزرقة عينه، ومررت برجل أعور أبواه، فوجب عليهم توحيد الأول مع تثنية الثاني على ما قال سيبويه، لأنهم إذا جعلوا زرقاء في معنى مزرقة ونائبة عنها، ورفعوا العين بها فلا بد من أن يكون أعور أبواه بمعنى: معور أبوه وترفع الأب به، ولا ضمير فيه، فإذا ثنيت ما بعده وقد جعلته نائبا عن اسم الفاعل جاز أن تثني وتوحد وتثني ما بعده إذا جاز أن يكون ذلك في اسم الفاعل كقولك: مررت برجل معور أبواه، ومزرقة عيناه. وإنما رفع سيبويه ب (أعور) على معنى معور، وجرى في التثنية والجمع على ذلك المذهب موحدا. ومن قال: مررت برجل أعور آباؤه على معنى معور آباؤه، غير أن معورا يجمع ¬

_ (¬1) ديوان النابغة الجعدي/ 144، السبع الطوال/ 347.

جمع السلامة، فيقال: معور ومعورون. وأعور، لا يجمع جمع السلامة، وناب ما يجري على الأول أن يجمع جمع السلامة. فقال سيبويه: (إن أعور إن كان لا يجمع جمع السلامة، فقد أجروا واحده على الأول على تأويل المعور إذا رفع به واحد، وكذلك إذا رفع به اثنان أو جماعة). ومعنى قول سيبويه: وتقول: مررت برجل أعور آباؤه كأنك تكلمت به على حد أعورين، ولم يتكلم به كما توهموا في هلكى ومرضى وموتى أنه فعل بهم أن ما كان من الجمع على (فعيل) إنما يكون لما كان مبنيا على فعل ما لم يسمّ فاعله، والاسم منه (فعيل) كقولهم: جريح وقد جرح، وصريع وقد صرع، وقتيل وقد قتل، والجمع: جرحى، وصرعى، وقتلى. ثم قالوا: في جمع أشياء ليس اسمها على فعيل ولا الفعل منه على فعل منها: هالك وهلكى، ففعله: هلك، ومرضى الفعل منه: مرض على لفظ ما سمي فاعله. وكذلك موتى ومات يموت، وليس مما لم يسم فاعله واسمه: ميّت على فعيل، فتقدير: أعورين وإن لم يتكلم به كتقدير: هلك فهو هليك، ومرض فهو مريض حتى يصح أن يكون جمعه: هلكى ومرضى وإن لم يتكلم به. وقال الكوفيون في قوله: الأصم كعوبه، فوحد الأصم به وجمع الكعوب لأن الكعوب جرى مجرى الواحد، لأن مثاله مثال الواحد، كما أن الصعود والنزول وما أشبه ذلك، وهذا لا يبطل به ما احتج لأنّا لو أجرينا كعوبا مجرى الواحد لأن له مثالا في الواحد، لجاز أن تقول: كعوبها أصم، وهذا لا يقوله أحد، فلا بدّ من حمل الأصم على معنى اسم الفاعل، كأنّا قلنا: الصلب كعوبه، أو الشديد وإذا ثنينا أعور ونحوه، فالاختيار عند سيبويه الرفع على الابتداء والخبر، فيقال: مررت برجل أحمران أبواه، إلا في قول من قال: أكلوني البراغيث، وضرباني أخواك، فإنه يقول: أحمرين أبواه، ويجري أحمرين مجرى محمّرين، ويجري محمرين مجرى محمّران وأحسن من قولك: مررت برجل أعورين أبواه، ومررت برجل أعور آباؤه، أن تقول: مررت برجل صمّ قومه، ومررت برجل حسان قومه، وعور قومه وذلك أن هذا جمع مكسّر لا يجري مجرى الفعل المجموع اللفظ فيكون بمنزلة: حسنين قومه على لغة من قال: أكلوني البراغيث، فإذا لم يجر مجرى الفعل المجموع صار حكمه حكم الواحد فاجتمع فيه لفظ الجمع وحكم الواحد، فكأنه نقل من

لفظ واحد إلى لفظ آخر يكون الواحد يحرسه أن تلحقه زيادة التثنية أو الجمع كالزيادة التي لحقت في: قرشيّ في الاثنين والجميع، فلهذا صار: مررت برجل حسان قومه أحسن من: مررت برجل قرشيين قومه، فصار الوجه: قرشيون قومه، والذي يجري مجرى الفعل ما دخله الألف واللام والنون في التثنية، والواو والنون في الجمع ولم تغيره نحو قولك: حسن وحسنان، فالتثنية لم تغير بناءه، وتقول: حسنون، فالواو والنون لم تغير الواحد فصار هذا بمنزلة: قالا وقالوا، لأن الألف والواو لم تغير الفعل، وأمّا: حسان وعور فإنه اسم كسّر عليه الواحد فجاء مبنيا على مثال بناء الواحد، وخرج من بناء إلى بناء آخر لا تلحقه في آخره زيادة كالزيادة التي لحقت في قول في الاثنين والجميع، فهذا والجميع له بناء بني عليه كما بني الواحد على مثاله فأجرى مجرى الواحد. ومما يدل على أن هذا الجمع ليس كالفعل أنه ليس شيء من الفعل إذا كان للجمع على غير بنائه إذا كان للواحد، فمن ثم صار: حسان وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد نحو: مررت برجل جنب أصحابه، ومررت برجل صرورة قومه، واللفظ واحد، والمعنى أنه جمع، يعني أن حسان وإن كان جمع حسن فمذهبه في الباب مذهب جنب وصرورة اللذين يقعان للواحد والجميع وليستا مكسرتين لأن حسان على غير لفظ الواحد المزيد عليه علم الجميع. وفي بعض النسخ في الكتاب فصل أذكر أنه ليس من كلام سيبويه وأنه شرح، وقد أتى على معناه تفسيرنا وهو: واعلم أن ما كان يجمع بغير الواو والنون نحو: حسن وحسان فإن الأجود فيه أن تقول: مررت بزيد حسان قومه، وما كان يجمع بالواو والنون نحو: منطلق ومنطلقين، فإن الأجود فيه أن يجعل بمنزلة الفعل المقدم فتقول: مررت برجل منطلق قومه. إلى هنا قال أبو العباس محمد بن يزيد: أختار في كل ما جمع بالواو والنون، الإجراء على الأول. وأمّا ما كسّر فإني أختار فيه أن أجريه مجرى باب خير منه فأقول: مررت برجل عور قومه، بالابتداء والخبر، وكذلك حسان وكرام. وقال أبو إسحق الزجاج: الجيد قول سيبويه في قولك: مررت برجل عور قومه بالجر لأنه قد كان يجوز: برجل منطلقين آباؤه، فإذا جاز في الذي فيه علامة الجمع كان الاختيار في الجمع الذي ليس يلحقه ما يلحق الفعل، وهذا

قياس يستمر في العربية وقد مضى فيه قبل هذا الفصل من الشرح ما فيه مقنع إن شاء الله. قال: (واعلم أنه من قال: ذهب نساؤك، قال: إنه لذاهب نساؤك، ومن قال: جاءه موعظة، قال: أجائيّ موعظة، يعني يذهب الهاء من اسم الفاعل كما أذهب التاء من الفعل، وقرأ أبو عمرو: " خاشعا أبصارهم "، وقال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي: بعيد الغزاة فما إن يزا … ل مضطمرا طرتاه طليخا (¬1) وقال الفرزدق: وكنّا ورثناه على عهد تبّع … طويلا سواريه شديدا دعائمه (¬2) وقال الفرزدق أيضا: قرنبي يحكّ قفا مقرف … لئيم مآثره قعدد (¬3) وقال الآخر وهو أبو زبيد الطائي: مستجن بها الرّياح فما يج … تابها في الظّلام كل هجود (¬4) وقال رجل من بني أسد: فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى … من القوم مسقى السّمام حدائده (¬5) وقال آخر وهو الكميت بن معروف: وما زلت محمولا عليّ ضغينة … ومضطلع الأظغان مذ أنا يافع (¬6) وهذه كلها شاهد في تذكير اسم الفاعل، وفاعله مؤنث. قال: وهذا في الشعر أكثر من أن أحصيه لك. ومن قال: أذاهب فلانة، قال: أذاهب فلانة وأحاضر القاضي امرأة، وقد يجوز في الشعر: موعظة جاءنا كأنه اكتفى بذكر الموعظة عن التاء). قال أبو سعيد: قد ذكرت أن علامة التأنيث المضمر وإن لم تكن حقيقي التأنيث ¬

_ (¬1) ديوان الهذليين 1/ 135، الخصائص 2/ 413. (¬2) ديوان الفرزدق/ 765. (¬3) ديوان الفرزدق/ 205. (¬4) ديوان أبو زبيد الطائي/ 54، المقتضب 4/ 250. (¬5) البيت لأشعث بن معروف سيبويه 1/ 329. (¬6) سيبويه 1/ 239، العيني 3/ 324.

لازمة، لأن الذي يذكر فعل المؤنث يكتفي بما يظهر من تأنيث الاسم الظاهر، فإذا كني عنه فقد بطل لفظ ظاهره الدالّ على التأنيث فلا بد من تأنيث الضمير للدلالة على حكم الاسم المضمر من تأنيث أو تذكير، فإذا ذكّره الشاعر، فإنما هو ضرورة فيحمل الاسم المؤنث على اسم آخر له مذكر ينوب منابه كما قال الأعشى: فإمّا ترى لمتى بدّلت … فإنّ الحوادث أودى بها (¬1) فيجعل الحوادث بمعنى الحدثان. فإن قال قائل: فلو قال: أودت بها لا تزن، فما أحوجه إلى تأويل الحدثان؟ قيل له: أحوجه إلى ذلك أن القصيدة مردفة بألف، ولو أتى بتاء التأنيث لم يستقم أن يكون البيت من القصيدة، وأول القصيدة: ألم تنه نفسك عمّا بها … بلى عادها بعض أطرابها (¬2) وقد روي: فإن الحوادث تعني بها، وعلى هذه الراوية ما فيه ضرورة، وقال عامر بن جوين الطائي: فلا مزنة ودقت ودقها … ولا أرض أبقل إبقالها (¬3) على تأويل ولا مكان، وقد روي: ولا أرض أبقلت ابقالها بتخفيف همزة (ابقالها) ولا حجة فيه على هذا الإنشاد، وقال آخر، وهو الطفيل الغنوي: (¬4) إذ هي أحوى من الربعيّ حاجبه … والعين بالأثمد الحاري مكحول فذهب بالعين مذهب الطرف، كأنه قال: والطرف بالاثمد مكحول. (وزعم الخليل: " أن السماء منفطر به "، كقولك: معضّل للقطاة، ومرضع للتي بها رضاع). وهذا من باب امرأة حامل وحائض، لأنه يختص به الأنثى، وقد شرح في غير هذا الموضع، فذهب منفطر ذات انفطار ومنفطرة على الفعل والعمل كقولك: انفطرت فهي منفطرة، وانشقت فهي منشقة وإذا قلت: مرضعة فهي على ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى/ 120، الخزانة 4/ 578. (¬2) الخزانة 1/ 21، 3/ 330، شواهد المغني 319. (¬3) يروى: الحيري. (¬4) ديوان الطفيل الغنوي/ 29، ابن يعيش 10/ 18.

أرضعت، وعلى ترضع. وأمّا قوله: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (¬1)، ورَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (¬2)، ويا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ (¬3) فزعم أنه بمنزلة ما يعقل ويسمع لما ذكرهم بالسجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدثت عنه كما تحدّث عن الأناسى، وكذلك في فلك يسبحون، لأنها جعلت في طاعتها، وفي أنه لا ينبغي لأحد أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعيد شيئا منها بمنزلة ما يعقل من المخلوقين، ويبصر الأمور. قال النابغة الجعديّ: شربت بها والديك يدعو صباحه … إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا) (¬4) وكان القياس بنات نعش واحدها ابن، لأن ما لا يعقل من المذكر يجمع في جمع السلامة والتكسير، كالمؤنث ألا ترى أنك تقول: حمّام وحمّامات، وسرادق وسرادقات، وتقول: جمل بارك، وجمال بوارك، ولا تقل رجل بارك، ورجال بوارك، وحمل بنو نعش على ما يعقل لما كان دورها على مقدار لا يتغير، فكأنها تقدر ذاك الدور وتعقله. قال: (فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمن وتطيع وتفهم الكلام وتعيد بمنزلة الآدميين. قال: وسألت الخليل عن ما أحسن وجوههما، فقال: لأن الاثنين جمع، وهذا بمنزلة قول الاثنين، نحو: دخلنا ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا وبين ما يكون شيئا من شيء). المنفرد نحو: ثوب ودار وفرس إذا ثنّي هذا الضرب، فالوجه لفظ التثنية كقولك: ثوبان وداران وفرسان. والذي هو شيء من شيء نحو: وجه ورأس وبطن وظهر وقلب، وهو من حيوان ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 40. (¬2) سورة يوسف، الآية: 4. (¬3) سورة النمل، الآية: 18. (¬4) ديوان النابغة الجعدي/ 4، الخزانة 3/ 421.

له هذه الأعضاء، فإذا ثنوها فالاختيار لفظ الجمع في تثنيتها، كقولك في تثنية وجه أوجه ووجوه. قال الله عز وجل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (¬1)، وإنما صار هكذا لأن في البدن أعضاء كثيرة مثناة وهي أكثر البدن، وإذا ضمّ ما في بدن واحد من المثنى إلى مثله صار جمعا لأنه يصير أربعة، والواحد المضموم إلى مثله من آخر محمول على الاثنين، فلذلك اختير الجمع. ووجه آخر فرقوا بين ما في البدن منه واحد وما في البدن منه اثنان إذا ضموا أحد الاثنين إلى مثله من آخر يكون مثنى وإذا ضموا الواحد إلى مثله يكون جمعا للفرق، وهذا هو الاختيار، وقد يجمع الذي يختار تثنيته ويثنى الذي يختار جمعه. قال الراجز وهو خطام المجاشعيّ: ظهراهما مثل ظهور الترسين (¬2) فثنى وجمع. (وذكر يونس أن رؤبة كان يقول: ما أحسن رأسيهما وقالوا: وضعا رحالهما، يريد: رحلي الراحلتين). وحدّ الكلام وضعا: رحلي الراحلتين، وربّما وجدوا ما يصفونه إلى الاثنين والجمع، وأمنوا اللبس بدلالة المضاف إليه، قال الشاعر: كأنه وجه تركيين قد غضبا … مستهدف لطعان غير تذبيب (¬3) واحتج في لفظ الجمع الذي يراد به التثنية بقوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ (¬4)، فذكر خصمين وهما اثنان، وقبلها قالوا. قال أبو سعيد: وليس في هذا حجة لأن الخصم يقع على جماعة، والخصمين تقع ¬

_ (¬1) سورة التحريم، الآية: 4. (¬2) الخزانة 3/ 374، المخصص 9/ 7. (¬3) البيت للفرزدق الخزانة 3/ 369، أمالي ابن الشجري 1/ 21. (¬4) سورة ص، الآيتان: 21، 22.

هذا باب إجراء الصفة على الاسم فيه بعض المواضع أحسن

على جماعتين، قال الله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ (¬1)، والحجة في قوله: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ (¬2)، ولعل سيبويه أراد ذلك، والله أعلم. هذا باب إجراء الصفة على الاسم فيه بعض المواضع أحسن (وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه. فأمّا ما استويا فيه فقوله: مررت برجل معه صقر صائد به، إن جعلته وصفا وإن لم تحمله على الرجل وحملته على الاسم المضمر المعروف، نصبته. فقلت: مررت برجل معه صقر صائدا به. كأنه قال: معه، ناب (صائدا به) حين لم يود أن يحمله على الأول، كما تقول: أتيت على رجل مررت به قائم. إن حملته على الرجل وإن حملته على مررت به، نصبته. كأنك قلت: مررت به قائما). قال أبو سعيد: إذا قلت: مررت برجل معه صقر صائد به، فقولنا: معه صقر: جملة في موضع الصفة ل (رجل) صقر مبتدأ، ومعه خبر مقدم، كما تقول: في الدار زيد. وصائد به: صفة أخرى، كما تقول: مررت برجل ضاحك. وأصله: مررت برجل معه صقر صائد بصقر. ولكن لما تقدم ذكر الصقر أوجب أن يكنى عنه إذا عاد ذكره. فهاتان صفتان لرجل، فإن لم تحمل صائدا على رجل، وحملته على الهاء التي في معه، وهو الاسم المضمر المعروف الذي عناه سيبويه، نصبته، وصار بمنزلة قولك: مررت برجل مع أبيه صقر صائدا به، ومررت برجل مع جاريته صقر صائدة به، ومررت برجل مع غلاميه صقر صائدين به. إذا جعلت الصيد للاسم المتصل ب (مع)، لم يكن سبيل إلى النعت، لأنه لا تنعت معرفة بنكرة، فنصب على الحال، هذا في معنى قوله: تجعله خبرا. ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 19. (¬2) سورة ص، الآية: 23.

يعني: حالا فنصبته، ومعنى قول سيبويه: (كأنه قال معه ناب صائدا)، يعني: لو ابتدأ فقال: مع زيد أو معك أو معه لشيء قد جرى ذكره، صقر صائدا به، لم يكن بدّ من نصب (صائدا) لأنه لا يمكن صفة الأول المعرفة به. وإذا نصبت صائدا على الحال، فهو من الجملة التي هي صفة، فيصير للأول صفة واحد، ثم ذكر نظائر لم تقدم مما تجوز فيه الحال وغيره. فقال: (ومثله: نحن قوم ننطلق عامدون إلى بلد كذا وكذا، إن جعلته وصفا. وإن لم تجعله وصفا نصبت، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين، ومنه: مررت برجل معه باز قابض على آخر، ومررت برجل معه جبة لابس غيرها. وإن جعلته على الإضمار الذي في معه، نصبت، وكذلك: مررت برجل عنده صقر صائد بباز)، وإن جعلته على الوصف، فهو هكذا. وإن حملته على ما في عنده من الإضمار، نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائدا بباز، يعني كأنك بدأت فقلت: عنده صقر صائدا بباز لرجل جرى ذكره، كما تقول: عنده صقر صائدا بباز، وكذلك: مررت برجل معه الفرس راكبا برذونا، يعني قلت: مبتدئا معه، على ما مضى من شرح مثله فهذا لا يكون فيه وصف ولا يكون إلا خبرا يريد حالا. قال: (ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون، لفسد كلام كثير ولكان الوجه: مررت برجل حسن الوجه جميله، لأنك لا تقول: مررت بجميله حسن الوجه، ولقال: مررت بعبد الله معه بازك الصائد به، فنصب، فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا يجوز أن تجعل المعرفة حالا يقع فيه شيء، ولم تقل: جميله لأنك لم ترد أن تقول: إنه حسن الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسن وجهه جميلا وجهه، في هذه الحال: حسن وجهه، فلم يرد هذا المعنى، ولكنه أراد أن يقول: هذا رجل جميل الوجه، كما يقال: هذا رجل حسن الوجه، فهذا الغالب في كلام الناس. وإن أردت الوجه الآخر فنصبت، فهو جائز لا بأس به، وإن كان ليست له قوة الوصف في هذا، فهذا الذي الوصف فيه أحسن وأقوى). قال أبو سعيد: هذا الذي ذكره سيبويه عن النحويين من نصب ما لا يحسن فيه القلب، أصله صفة مضافة إلى ضمير شيء جرى ذكره أو صفة متعلقة، فضمير شيء

جرى ذكره، ولو أظهر ذلك الضمير لم يقع فيه خلاف، وجواز الصفة وحسن القلب فيه كقولنا: مررت برجل معه صقر صائد بصقر، ومررت برجل معه جبّة لابس غير جبّة، وكذلك: مررت برجل حسن الوجه جميل الوجه. فإذا أظهر الكناية جاز قلبه ولم يقع بينهم خلاف في جوازه، ولا فرق في التحصيل من أن يكون مضافا إلى ظاهر أو مكنىّ في صحة معنى الصفة، ألا ترى أنك تقول: مررت برجل ملازمك ومكرمك، وما أشبه ذلك، كما تقول: مررت برجل ملازم زيد ومكرم عمرو، وما أشبه ذلك، ثم ألزمهم في نصبهم لقبح القلب أن ينصبوا المعرفة في قولهم: مررت بعبد الله معه بازك الصائد به، ولا وجه لنصب الصائد إلا على هذه الحال، ولا تجوز الحال فيما فيه الألف واللام من نحو الصائد وما أشبهه. وقال في بعض ما نصبوه مما لا يحسن فيه القلب أن نصبه على الحال تجوز إذا حمل على الضمير الذي ذكرناه وفسرناه، وبعضه يجوز وليس بوجه الكلام لأن المتكلم لا يريد الوجه الذي تصبح به الحال كقوله: مررت برجل حسن الوجه جميله، إذا نصبنا جميله على الحال أنه حسن وجهه في حال جماله، وليس ذلك بالمقصود من كلام الناس وإن أراده مريد فهذا إعرابه. (ونحو ذلك ممّا الوصف فيه أحسن: هذا رجل عاقل لبيب، لم تجعل الآخر حالا وقع فيه الأول ولكنه أثنى عليه) بعاقل ولبيب (وجعلهما شرعا سواء فيه وسوى بينهما في الإجراء على الاسم، والنصب فيه جائز على ما ذكر فيه)، فيقول: هذا رجل عاقل لبيبا، وتقديره: يعقل في حال لبّه (وإنما ضعف لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما ثابتان ولم يكن واحد منهما قبل صاحبه كما تقول: هذا رجل سائر راكبا دابة)، وحسن سائر راكبا، لأن تقديره: يسير راكبا، وهو كلام حسن جيد مفيد. (وقد يجوز في سعة الكلام): هذا رجل عاقل لبيبا، وحسن الوجه جميله على التقدير الذي ذكرناه. قال: (ولا ينقض المعنى في أنهما شرع سواء فيه، وسترى هذا النحو في كلامهم) ونحو هذا في كلامهم قول قائلهم: قم قائما، وقد علم أن وقوع القيام في حال ما هو

قائم، وقال الله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا (¬1) وقد علم أنه رسول في حال الإرسال. قال: (فأما القلب فباطل لو كان ذلك لكان الحدّ والوجه في قولهم: مررت بامرأة آخذة عبدها فضاربته، النصب، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت برجل عاقلة أمّة لبيبة، لأنه لا يصلح أن تقدم لبيبة فتضمر فيها الأم، ثم تقول: عاقلة أمه، وسمعناهم يقولون: هذه شاة ذات حمل مثقلة به، قال الشاعر وهو حسان بن ثابت: ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم … وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه (¬2) ومما يبطل القلب قولهم: زيد أخو عبد الله مجنون به، إذا جعلت الأخ صفة، والجنون من زيد بأخيه لأنه لا يستقيم: زيد مجنون به أخو عبد الله، وتقول: مررت برجل معه كيس مختوم عليه، الرفع الوجه لأنه صفة الكيس، والنصب جائز على قوله: فيها رجل قائما، وهذا رجل ذاهبا). قال أبو سعيد: ألزمهم بقبح القلب نصب خبر المبتدإ في: زيد أخو عبد الله مجنون به، وذلك أن زيدا مبتدأ، وأخو عبد الله صفته، ومجنون به خبره، والهاء تعود إلى عبد الله، ولو قيل: زيد مجنون به أخو عبد الله، لم يجز. قال أبو سعيد: قد ذكرنا من الاحتجاج لبطلان اعتبار القلب ما فيه مقنع وكثّر سيبويه المسائل في ذلك تشنيعا على قائله وتقبيحا له، وقد طعن في استشهاده بالبيت، والذي قاله صحيح على ما أذكره. جعل سيبويه الهاء في واضعه ضمير الوحي، وفي واضعه ضمير فاعل للرسول، وقوله: عنده الوحي صفة لرسول، وواضعه صفة أخرى، ومعناه: مفشيه وذاكره، لأنهم ظنوا أنه يخفي ما دبروه فيبلغوا إرادتهم، فأفشاه الوحي فبطل، ولا يحسن القلب فيه لأن الهاء في واضعه ضمير الوحي، فإن قلب فقيل: وفينا رسول واضعه عنده الوحي، فقد قدّم ضمير الوحي وهو الهاء في واضعه، ومعنى الوحي في البيت هو ما بيّنه الله بالوحي من صنيع القوم، والذي كشفه النبي صلّى الله عليه وسلّم ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 79. (¬2) ديوان حسان بن ثابت/ 271، سيبويه 1/ 242.

بالوحي، وكشفه النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه، وليس بحقيقة الإيحاء، فهذا طريق واضح واحتجاج صحيح من سيبويه والذي ردّ على سيبويه ذهب إلى الظاهر من الوحي الذي هو نزول الملك عليه، وليس ذلك ممّا يضعه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجعل هذا القائل الهاء في واضعه للذي صنعتم كأنه قال: وفينا رسول الله عنده الوحي مبين ما صنعتم، ولو قدم واضعه على هذا التأويل، فقال: وفينا رسول واضعه، لجاز لأن الهاء ترجع إلى الصنيع، وقد تقدم ذكره في واضعه معنى آخر، وهو أن يكون من قولنا: وضعت الشيء، أي: وضعت منه وأسقطته، فيكون وضع النبي صلّى الله عليه وسلّم لصنعهم إسقاطه وإبطاله. وفيه وجه آخر: أن يكون الوحي مبتدأ، وواضعه: خبره، وعنده: ظرف لواضعه، أو تقدير الكلام. وفينا رسول الوحي واضع ما صنعتم عنده. قال: (فاعلم أنك إذا نصبت في هذا الباب، فقلت: مررت برجل معه صقر صائدا غدا، فالنصب على حاله، لأنّ هذا ليس بابتداء ولا يشبه فيها (عبد الله قائم غدا) لأن الظروف تلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم يلغه لأنه ليس يرفعه الابتداء. وفي الظروف إذا قلت فيها: أخواك قائمان. ترفعه بالابتداء). قال أبو سعيد: في هذا الفصل من كلام سيبويه ما يختلف في معناه، والذي أقوله: إن سيبويه أراد أن إلغاء الظرف ورفع ما بعده على الابتداء والخبر لا يجوز في هذا الموضع، كما يجوز في المبتدإ الذي ليس قبله شيء كقولك مبتدئا: معك زيد قائما وقائم بالرفع والنصب، فإن نصبته جعلت معك خبر زيد، وجعلت زيدا مبتدأ، ونصبت قائما على الحال، وإن رفعت قائما ألغيت معك وقدّرت زيد قائم، وقائم رفع لأنه خبر، وكذلك فيها عبد الله قائم، يجوز إلغاء فيها ورفع قائم فيكون التقدير: عبد الله قائم، ولا يجوز الإلغاء إذا اتصل الظرف بما يكون نعتا له أو خبرا أو حالا إذا كان مع الظرف الضمير العائد إلى الأول، وذلك قولك في نعت المجرور: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، وفي المنصوب الذي يعمل فيه: رأيت رجلا معه صقر صائدا به غدا، وفي المبتدإ: زيد معه صقر صائدا به غدا. وهذا معنى قوله: (فإذا صار مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم تلغه)، وإلغاؤه

أنك لو حذفت معه لم يعد إلى المنصوب شيء من نعته، ولا إلى المبتدإ شيء من خبره، لأن قولك: معه صقر: جملة، فإذا كانت في موضع نعت أو خبر أو حال لم يكن بدّ من عائد يعود إليه، والعائد هو: الهاء في (معه)، وإذا كان الكلام مبتدأ ليس قبله شيء فليس يمتنع من إسقاط الظرف مانع، كقولك: فيها عبد الله قائم غدا، وفيها أخواك قائمان لا يخل بالكلام إسقاط الظرف وإلغاؤه. وقد ظن من فسّر الكتاب: أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا بالابتداء، فيكون (صقر) مرفوعا معه، ويتأول قوله: (لأنه ليس يرفعه الابتداء)، والذي عندنا من مذهب سيبويه في هذا الموضع وفي غيره أن الاسم تقدم أو تأخر يرتفع بالابتداء، كقولك: خلفك زيد، وعندك مال، لأنك إذا قلت: إن عندك مالا، نصبته ب (إنّ) والذي تنصبه إنّ هو الذي يرفعه الابتداء. وأما قول سيبويه: (لأنه ليس يرفعه الابتداء)، ترجع الهاء في (لأنه) إلى أول الكلام، وإنما يريد، لأن الهاء المجرورة في (معه) فاعرف ذلك إن شاء الله. قال أبو سعيد: وفيما يرد من كلام سيبويه ما يحتاج إلى تبيين أصول تسهله، فمن ذلك: أن اسم الفاعل إذا جرى على من هو له صفة أو حالا أو خبرا أو صلة، لم يحتج إلى إظهار فاعله، وكان الفاعل مضمرا فيه منونا وإن جرى على غير من هو له احتجت إلى إظهار فاعله كقولك في الصفة: مررت برجل معه امرأة ضاربها. فضاربها: مخفوضا، صفة لرجل ولا تحتاج إلى شيء بعده فإن قلت: ضاربها بالرفع احتجت أن تقول: ضاربها هو، لأنك إذا رفعت فهو صفة للمرأة وفعل للرجل، فجعلت، ضاربه صفة لغير من هو فاعله فاحتجت إلى إظهار الفاعل، وإن قلت: مررت برجل معه امرأة ضاربته لم يحتج إلى إظهار شيء بعده، لأن ضاربته صفة لها وفعل لها، وإن قلت: ضاربته بالخفض فجعلتها نعتا للرجل احتجت إلى أن تقول: ضاربته هي، فتظهر اسم الفاعل فتقول: ضاربته هي، ولو جعلت مكان اسم الفاعل فعلا، لم تحتج إلى إظهار شيء وتكتفي بالضمير الذي فيه، ويكون صفة لغير من هو له، تقول: مررت برجل معه امرأة تضربه، ومررت برجل معه امرأة يضربها. فتجعل تضربه ويضربها صفة لمن شئت منهما ولا تحتاج إلى إظهار اسم الفاعل المستكن في الفعل ألا ترى أنك تقول: مررت برجل تضربه، فيكون تضربه في موضع

الصفة له، والفاعل المخاطب. ولو قلت: مررت برجل ضاربه، لم يجز حتى تقول: أنت، ولو قلت: مررت برجل يضربك، ورددته إلى اسم الفاعل لقلت: مررت برجل ضاربك، ولم تحتج إلى إظهار الفاعل. قال سيبويه: (وتقول: مررت برجل معه امرأة ضاربته)، فهذا بمنزلة: مررت برجل معه كيس مختوم عليه، فهذا جرى على من هو له، فإن قلت: ضاربها، جررت صفة لرجل ونصبت حالا من الهاء، وإن شئت قلت: ضاربها هو، فيكون (هو) توكيدا للضمير الذي في ضاربها، ويجوز أن يكون منفصلا فاعلا للضرب، كقولك: مررت بامرأة ضاربها زيد، وإن شئت جررت وجئت ب (هو) توكيدا، فقلت: برجل معه امرأة ضاربها هو. قال: (ومثل قولك: ضاربها هو قولك: مررت برجل معه امرأة ضاربها، هو قولك: مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه، إذا جعلت الأب مثل زيد)، يعني يكون ضاربها هو متبدأ وخبرا في موضع نعت المرأة، وكذلك إذا قلت: ضاربها أبوه، ولو جعلت مكان أبوه زيدا جاز أيضا، فقلت: مررت برجل معه امرأة ضاربها زيد مبتدأ وخبر في موضع نعت المرأة، والعائد من المرأة إلى الجملة (الهاء) في ضاربها، وذكر أبوه فهو كذكر الأجنبي الذي هو زيد، فإن جعلت الجملة صفة لرجل لم يكن بد من عائد إليه، فقلت: مررت برجل معه امرأة ضاربها هو أو ضاربها أبوه، ولم يجز: ضاربها زيد، لأنه لا شيء فيه يرجع إلى رجل، ويجوز أن تجعل الاسم جاريا على ما هو صفته وترفع ما بعده به، كقولك: مررت برجل معه امرأة ضاربها أبوه أو هو، ولا يجوز أن نصف ما ليس فيه ما يعود إلى الموصوف، ولا حالا مما ليس فيه ما يعود إليه لو قلت: مررت برجل ضاربها زيد، أو مررت بعبد الله ضاربها خالد، لم يجز لأنه ليس فيه ما يعود إلى الأول، وإذا قلت: يا ذا الجارية الواطئها زيد، تنصب الواطئها، لم يجز لأنه صفة للجارية، والضمير يعود إليها. فإن قلت: يا ذا الجارية الواطئها أبوه، جاز للضمير العائد في أبوه إلى المنادى، وإذا قلت: يا ذا الجارية الواطئها، نصبت صفة للمنادى، والتقدير: يا ذا الجارية الذي وطئها فإن جعلت: الواطئها بمعنى التي جعلتها صفة للجارية وخفضتهما، وجئت باسم الفاعل فقلت: الواطئها هو، لأنّ واطئ ليس من فعل التي، وقد وصلتها به فأظهرت اسم الفاعل،

ولا يجوز حذف هو، كما لا يجوز حذف أبوه وزيد، إذا قلت: يا ذا الجارية الواطئها أبوه، ويا ذا الجارية الواطئها زيد، ولو جئت بالذي ووصلتها بفعل استغنيت عن إظهار الضمير فقلت: يا ذا الجارية التي وطئها إذا كان الوطء لزيد، وقد جرى ذكره، ويا ذا الجارية التي وطئها، وإنما جاز ذلك في الفعل ولم يجز في اسم الفاعل لأنّ صيغة الفعل تدل على فاعله، ويقع فيه الضمير الدالّ عليه لفظا، واسم الفاعل ضميره في النية وليست له علامة، ألا ترى أنّا نقول: زيد تضربه، فنعلم أن الفاعل هو المخاطب، وكذلك: زيد أضربه، الضارب هو المتكلم للصيغة الدالة عليه، ولو قيل: زيد ضاربه، يريد ذلك المعنى، لم يستقم ولم يدلك على المراد. قال: (ولو جاز هذا) يعني: (يا ذا الجارية الواطئها، وأنت تريد هو وتحذفها وما أشبهه مما ذكرناه لجاز: مررت بالرجل الآخذه، تريد: أنت، ولجاز: مررت بجاريتك راضيا عنها، تريد: أنت، ولو قلت: مررت بجارية رضيت عنها، أو مررت بجاريتك قد رضيت عنها، كان جيدا لأنك تضمر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار)، وقد مضى الفصل بين الاسم والفعل. وأهل الكوفة يجيزون حذف الفاعل من اسم الفاعل في مثل ما ذكرنا إذا كان له ذكر في أول الكلام كقولك: يدك باسطها، يريد: باسطها أنت، ولذكر الكاف في أوله جاز حذفها، وقد أنشدوا: وإن امرؤ أسرى إليك ودونه … من الأرض موماة وبيداء سملق لمحقوقة أن تستجيبي لصوته … وأن تعلمي أن المعار موفّق (¬1) قالوا: أراد لمحقوقة أنت، وحذف أنت لذكرها في إليك. قال المفسر: والذي عندنا لمحقوقة استجابتك لصوته مبتدأ وخبر، وهي في موضع خبر (أن) في العائد إلى اسم أنّ من الجملة الهاء، في لصوته، ولا يجوز حذف الفاعل بوجه، وقد مضى الاحتجاج لذلك. (وأمّا ربّ رجل وأخيه منطلقين، ففيهما قبح حتى تقول: وأخ له، فالمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله: وأخيه في موضع نكرة، لأن المعنى إنما هو وأخ له. ¬

_ (¬1) البيتان للأعشى ديوانه/ 149، الخزانة 1/ 551، 2/ 410.

فإن قلت: أمضافة إلى معرفة أم إلى نكرة؟ فإنك قائل: إلى معرفة ولكنّها أجريت مجرى النكرة، كما أنّ مثلك مضافة إلى معرفة وهي توصف بها النكرة وتقع مواقعها، ألا ترى أنك تقول: ربّ مثلك، ويدلك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: ربّ رجل وزيد، ولا يجوز لك أن تقول: ربّ أخيه، حتى يكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة. ومثل ذلك قول بعض العرب: كلّ شاة وسخلتها، أي: وسخلة لها، ولا يجوز حتى تذكر قبلها نكرة فيعلم أنّك لا تريد شيئا بعينه، وأنك تريد شيئا من أمة كل واحد منهم رجل وضممت إليه شيئا من أمة كلهم، يقال له: أخ، ولو قلت: وأخيه تريد به شيئا بعينه كان محالا، وقال الشاعر: أي فتى هيجاء أنت وجارها … إذا ما رجال بالرجال استقلّت) (¬1) وجارها جر عطف على فتى، ومعناه: أيّ فتى هيجاء أنت، وأي جار هيجاء أنت، وجارها: نكرة لأنّ أيّ إذا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة لأنه في معنى الجنس، كقولك: أيّ رجل زيد، ولا تقل: أيّ غلامك زيد، فجارها وإن كان مضافا إلى ضمير هيجاء نكرة مجرورة بإضافة أيّ إليه في التقدير، ولا يجوز أن يكون رفعا لأنه إذا رفع فهو على أحد وجهين: إمّا أن يكون عطفا على أنت، أو عطفا على أيّ. فإن كان عطفا على أنت صار غير أنت، وصار شريك أنت في المدح، وكأنه قال: أيّ فتى هيجاء أنت وزيد، وتكون الهاء في جارها ضمير مؤنث غير هيجاء، كأنه قال: أنت وجار هند وما أشبهها، وإن قدّر أنت وجار الهيجاء، فجار الهيجاء ليس برجل يعرف، وليس قصد الشاعر إلى هذا وإن كان عطف، وجارها على أيّ كان الكلام بإعادة حرف الاستفهام واحتاج أن تقول: أيّ رجل عندك، وأزيد عندك؟ ومتى قال: وجارها لم يكن فيه أي: جارها الذي هو التعجب، قال الأعشى: وكم دون بينك من صفصف … ودكداك رمل وأعقادها ¬

_ (¬1) البيت منسوب لكثير عزة، سيبويه 1/ 244.

هذا باب ينصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة

ووضع سقاء وإحقابه … وحلّ حلوس وإغمادها (¬1) وفيها حجة لربّ رجل وأخيه، لأن قولك: من صفصف لا يليه إلا نكرة، كما أنّ ربّ لا يليه إلا نكرة، وأعقادها: معطوف على صفصف كعطف أخيه على رجل، وكذلك أغمادها: معطوف على ما قبلها، ولا تكون إلا نكرة، والذي ذكره من ذلك كلام العرب، وهذه الأبيات شواهده ولم تصر نكرة إلا على الوجه الذي ذكره من تقدّمه، تكون في موضع لا تقع فيه إلا نكرة، وعطف شيء مضاف إلى ضميرها عليها ولا تتجاوز ذلك. (كما أن أجمعين لا يجوز في الكلام إلا وصفا، وكما أنّ أيّا تكون في النداء كقوله: يا هذا، ولا يجوز إلا موصوفا وليس هذا حال الوصف والموصوف في الكلام، كما أنه ليس حال النكرة كحال الذي ذكرت لك). وهذه أشياء شاذة ذكرها سيبويه ليؤنس بشذوذ ربّ رجل وأخيه، وما جرى مجراه ثم استضعف ذلك لخروجه على القياس وقلته. فقال: (وهذا على جوازه، وكلام العرب به ضعيف). هذا باب ينصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة (وذلك قولك: هذا رجل معه رجل قائمين، فهذا ينتصب لأن الهاء التي في معه معرفة، فأشرك بينهما وكأنه قال: معه امرأة قائمين، ومثله: مررت برجل مع امرأة ملتزمين، فله ضمير إضمار في (مع) كما كان له إضمار في معه، إلا أن المضمر في معه علم، وليس له في مع امرأة علم إلا بالنية، ويدلك على أنه مضمر والنية قولك: مررت بقوم مع فلان أجمعون). قال أبو سعيد: جملة هذا الباب أن يتقدّم اسمان أو أسماء قد أعربت بإعراب مختلف أو إعراب واحد من جهتين مختلفتين، فلا يمكن جمع صفاتها أو تثنيتها بلفظ واحد محمول على الإعراب الأول، فحمل على شيء يجتمعان فيه ممّا يصحّ اجتماعهما على ما أسوقه وأبيّنه إن شاء الله. ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى/ 54.

وأما قوله: (هذا رجل)، فرجل مرفوع لأنه خبر مبتدإ، وخبره معه، فرفعاها من جهتين مختلفتين فلا يصحّ أن يكون: قائمان نعتا لهما، لأن قائمان لفظ واحد لا يصلح أن يكون رفعا بنعت الابتداء وخبر المبتدإ، فحمل على: معه رجل، ونصب على الحال، والاسمان اللذان منهما الحال: أحدهما: الهاء في معه، والآخر: رجل. وقد تكون الحال من اسمين مختلفي الإعراب، كقولك: ضرب زيد عمرا قائمين، قال الشاعر عنترة: متى ما تلقني فردين ترجف … روانف إليتيك وتستطارا (¬1) وفردين: حال من اسم الفاعل والمفعول في (تلقني) ومثله: تعلقت ليلى وهي ذات مؤصد … ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا … إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم (¬2) فصغيرين: حال من التاء في تعلقت، وهي في موضع رفع، ومن ليلى وهي في موضع نصب، والهاء في معه ورجل تأويلهما تأويل فاعلين أو فاعل ومفعول، لأنك إذا قلت: مع عمرو زيد، فتأويله: اجتمعا أو جامع زيد عمرا، ثم تكون الحال منهما على هذا التأويل أو يحمله على هذا، فيكون على التنبيه فتقدير أتيت لهما قائمين أو الإشارة بمعنى: أسير إليهما قائمين. وكذلك: مررت برجل مع امرأة في قولنا: مع امرأة، ضمير مرفوع لرجل في النية لا علم له في اللفظ، كما أنّ في قولنا: معه امرأة فيه ضمير مجرور وهو الهاء، والمعنى: في الاجتماع واحد، ومثل هذا الضمير قولك: مررت بقوم مع فلان أجمعون، في مع فلان: ضمير مرفوع من قوم، أجمعون توكيد له، والنصب في قائمين كالنصب فيهما لو ابتدأت فقلت: معه امرأة قائمين أو معك أو مع زيد. (ومما لا تجوز فيه الصفة: فوق الدار رجل، وقد جئتكم برجل آخر)، لأن ¬

_ (¬1) ديوان عنترة/ 108، الخزانة 2/ 200. (¬2) البيتان للمجنون ديوانه/ 186، خزانة الأدب 4/ 230.

إعرابهما مختلف ولا يحسن أن تنصب هذا على الحال كما نصبت قائمين، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأن المنصوب بالحال لا بد له من عامل واحد مقدّر في نصبه، وليس في قولك: في الدار رجل وقد جئتك برجل آخر، شيء يقع عليهما من تنبيه أو إشارة أو اجتماع. ويقول: (فيما اختلف إعرابه، فلم يمكن اجتماع صفة الاسمين: اصنع ما سرّ أخاك، وأحبّ أبوك الرجلان الصالحان على الابتداء، وتنصبه على المدح والتعظيم كقول الخرنق في قصيدة ": لا يبعدن قومي الذين هم … سمّ العداة وآفة الجزر النّازلين بكل معترك … والطّيبون معاقد الأزر) (¬1) وقال بعض أصحابنا: الرفع أحسن وأكثر في كل شيء كان تعظيما لأنك إذا أثنيت على قوم فإنما تقول: هم كذا. (وأما الألف واللام فلا تكونان حالا البتة، لو قلت: مررت بزيد القائم، كان قبيحا لا يجوز إذا أردت قائما، وإن شئت نصبته على المدح، وذلك قولك: اصنع ما ساء أباك وكره أخوك الفاسقين الخبيثين، وإن شاء ابتدأ، ولا سبيل إلى الصفة في هذا ولا في قولك: عندي غلام وقد أتيت بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل فارهين صفة للأول ولا للآخر ولا سبيل إلى أن يكون بعض الاسم جرا وبعضه رفعا، فلما كان كذلك صار بمنزلة: ما كان معه معرفة من النكرات لأنه لا سبيل إلى وصف هذا، كما أنه لا سبيل إلى وصف ذلك، فجعل نصبا كأنه قال: عندي عبد الله، وقد أتيت بزيد فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على: النازلين بكل معترك. وفرّوا من الإحالة في: عندي غلام، وقد أتيت بجارية إلى النصب، كما فروا إليه في قولهم: فيها قائما رجل). يريد لما لم يكن صفة غلام وجارية بفارهين لاختلاف إعرابهما، فروا إلى نصب فارهين على المدح، كما هربوا إلى نصب قائما على الحال من قولهم: فيها قائما رجل، لما لم يمكن أن يجعل قائم صفة لرجل لتقدمه عليه. ¬

_ (¬1) البيتان للخرنق بنت هفان، الخزانة 2/ 301، الدرر اللوامع 2/ 150.

قال: (واعلم أنه لا يجوز أن تصف المعرفة والنكرة، كما لا يجوز وصف المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان، فهذا محال لأن الراتعين لا يكونان صفة للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع أن تجعل بعضها معرفة وبعضها نكرة، وهذا قول الخليل. وزعم الخليل أن الجرين والرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع وذلك قولك: هذا رجل، وفي الدار آخر كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجه آخر وقبّحه بقوله: هذا لابن إنسانين عندنا كراما، فقال الجر هاهنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جرّ الأول، ومثل ذلك: هذه جارية أخوي ابنين لفلان كراما، لأن أخوي ابنين اسم واحد، والمضاف إليه الآخر منتهاه، ولم يشرك الآخر بشيء من حروف الإشراك فيما جر الاسم الأول، ومثل ذلك: هذا فرس أخو ابنيك العقلاء الحكماء، لأن هذا في المعرفة مثل ذاك النكرة، فلا يكون الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يجرى وصفا لما انجرّ من وجهين، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه. ومما لا تجري الصفة عليه: هذان أخواك، وقد تولى أبواك الرجال الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء وتنصبه على المدح والتعظيم). قال أبو سعيد: اختلاف الرفعين والجرين منع من جمع الصفتين، لأن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب، فيكون الإعراب الحاصل في الموصوف وفي الصفة متعلقا بالعامل الذي عمل في الموصوف، فلو جمع الصفتان بلفظ واحد فجعلتا للمرفوعين المتقدمين أو المجرورين، صار لفظ الصفتين وهو واحد معلقا برافعين أو جارّين، فلذلك لم يصلح: هذا رجل في الدار آخر كريمان، لأن الرجل رفع بخبر الابتداء، وآخر مرفوع بالابتداء، وهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما، ورفع كريمين على الابتداء فهما عاملان مختلفان لا يحمل كريمان عليهما، وكذلك تقول: هذا لابن إنسانين عندنا كراما، على المدح ولم تقل: كرام على الصفة، لأن ابن مجرور باللام، وإنسانين مجروران بإضافة ابن إليهما، فهذان عاملان مختلفان، لا يصلح حمل كرام عليهما، وهو لفظ واحد، وكذلك: هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء، لو خفضنا العقلاء وجعلناها صفة للأخوين والابنين كان فاسدا، لأن ابنيك من تمام الأخوين، وليس أخواك من تمام أنفسهما، والصفة داخلة فيما دخل فيه الموصوف، فيكون العقلاء من تمام الأخوين من حيث كان صفة للابنين وغير تمام

لهما من حيث كان صفة للأخوين فيتناقض. قال: (وسألت الخليل عن: مررت بزيد وأتاني أخواه أنفسهما، فقال: الرفع على هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعينهما ولا مدح فيه لأنه ليس مما يمدح به. قال: وتقول: هذا رجل وتلك امرأة منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد، وهما اسمان بنيا على مبتدأين. وانطلق عبد الله، ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان). قال أبو سعيد: لا خلاف بين أصحابنا أنّ الفعلين إذا اتفق معناهما جاز أن يوصف فاعلاهما بلفظ واحد، كقولك: مضى زيد وانطلق عمرو الصالحان، وجلس أخوك وقعد أبوك الكريمان، وإذا اختلف معناهما فمذهب الخليل وسيبويه في الفعلين المختلفين والمتفقين واحد، فأجازا: ذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحكيمان، وكان المبرد والزجاج وكثير من المتأخرين يأبون جواز ذلك إلا في المتفقين. والحجّة للخليل وسيبويه: أن مذهب عمل الفعل والفاعل مذهب واحد وإن اختلف معنى اللفظين، وممّا يدل على ذلك، أنك تقول: اختلف زيد وعمرو الصالحان، ومعنى اختلف واحد منهما فعل فعلا مخالفا لفعل الآخر، وتقول: فعل زيد وعمرو فعليهما وعملا عمليهما وإن كانا مختلفين لأن اللفظ الواحد من الفعل يجوز أن يقع على مختلفين، وتردّ الفعلان إلى فعل واحد يكون الاسمان فاعليه، فإذا قلت: أذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الصالحان الحكيمان؟ فكأنّا قلنا: فعل أخوك وعمرو هذين الفعلين الصالحان، والذي لا يجيز هذا ويجيز: ذهب زيد وانطلق عمرو الصالحان، يلزمه نحو ما قدرناه، لأن ذهب ارتفع به زيد وحده، وانطلق ارتفع به عمرو وحده، ولا يجوز أن يكون الصالحان يرتفع بالفعلين أو يتعلق بهما، وهو لفظ واحد. فإن قال قائل: نسقط الفعل الثاني في التقدير ونجعله مؤكدا للأول وكانّا قلنا: ذهب زيد وعمرو الصالحان، قيل له: فإذا رفعتهما بالأول بقي انطلق بلا فاعل، وهذا فاسد في مذهب البصريين، وكان أقيس ممّا قالوه: أن لا يجاز ذلك وتجتمع الصفتان وأحد عاملي الاسم غير الآخر، لأن الصفة إذا حملناها على أحد العاملين لم يجز، لأن الموصوف واحد، وإذا حملناها عليهما لم يجز لأنها ترتفع بشيئين، وإنما جاز: هذا رجل، وتلك

هذا باب ما ينتصب لأنه حال صار فيها المسئول والمسئول عنه

امرأة منطلقان، فتجعل منطلقين نعتا للرجل والمرأة لأنهما خبر مبتدأين مشار إليهما وإن كانت إحدى الإشارتين أقرب من الأخرى كفاعلي الفعلين المختلفين. قال: (واعلم أنه لا يجوز من عبد الله، وهذا زيد الرجلين الصالحين، رفعت أو نصبت لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعلمته، ولا يجوز أن تخلط من تعلم بمن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علم فيمن قد علمته). لأن عبد الله لست تعرفه، وإنما تسأل عنه لتعرفه، فإذا نعتّه فسؤالك عنه عن نعته، وزيد تعرفه وتعرف نعته، فإذا ثنيت الصفتين بلفظ واحد، فأنت لا تعرفه من حيث كان نعتا لعبد الله، وتعرفه من حيث كان نعتا لزيد، فيصير لفظ واحد معروفا مجهولا. والله أعلم. هذا باب ما ينتصب لأنه حال صار فيها المسئول والمسئول عنه (وذلك قولك: ما شأنك قائما، وما شأن زيد قائما، وما لأخيك قائما. فهذا حال قد صار فيه وانتصب بقولك: ما شأنك قائما، كما ينتصب قائما في قولك: هذا عبد الله قائما بما قبله، وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى، وفيه معنى: لم قمت؟ يعني: ما شأنك ومالك، قال الله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (¬1) ومثل ذلك: من ذا قائما بالباب؟ أي: من ذا الذي هو قائم بالباب. هذا المعنى تريد. وامّا العامل فيه فبمنزلة: هذا عبد الله، لأنّ من مبتدأ قد بني عليه اسم، وكذلك: لمن الدار مفتوحا بابها؟ وأما قولهم: من ذا خير منك؟ فهو على قوله: من ذا الذي هو خير منك؟ لأنك لم ترد أن تشير أو تومئ إلى إنسان قد استبان لك فعله على المسئول فيعلمكه، ولكنك أردت: من ذا الذي هو أفضل منك، فإن أومأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمكه نصبت، كما قلت: من ذا قائما؟ كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار في حال قد فضلك بها، ونصبه كنصب: ما شأنك قائما). ¬

_ (¬1) سورة المدثر، الآية: 49.

هذا باب ما ينتصب على التعظيم والمدح

قال أبو سعيد: قوله: (قائما) شيء قد عرفه المتكلّم من المسئول، وهو الكاف في شأنك، والمسئول عنه وهو زيد، فسأل عن شأنه في هذه الحال. وقوله: (ما شأنك؟) ما: مبتدأ، وشأنك: خبر في هذه الحال، وإن شئت: شأنك المبتدأ وما خبر مقدم، والناصب ل (قائما) شأنك، ومعناه: ما تصنع وما تلابس في هذه الحال، وقد يكون فيه إنكار لقيامه، والمسألة عن السبب الذي أداه إليه، فكأنه قال: لم قمت؟، وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون قوله عز وجل: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (¬1) كأنه أنكر إعراضهم فوبخهم على السبب الذي أدّاه إلى الإعراض، فأخرجه مخرج الاستفهام في اللفظ، وتأويل ما لهم تأويل ما شأنك، كأنه قال: ما تصنعون؟ ومن ذا قائما بالباب؟ أي: من ذا الذي هو قائم بالباب، هذا المعنى يريد: من مبتدأة، وذا خبره، أو يكون ذا: مبتدأ، ومن: خبر مقدم، وقائما: منصوب على الحال، والعامل فيه (ذا) بمعنى الإشارة، كأنه سأل عمّن عرف قيامه ولم يعرفه. ولمن الدار مفتوحا بابها؟ الدار: مبتدأ، ولمن: الخبر، وفي اللام معنى الملك، كأنه قال: من يملك الدار مفتوحا بابها؟ وأما قولهم: من ذا خير منك؟ فيجوز أن تكون، من: مبتدأ، وذا: خبره، وخير منك: بدل منه، فكأنه قال: من خير منك، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي، ويكون تقديره: من ذا الذي هو خير منك. وأكثر ما يستعمل هذا على إنكار أن يكون أحد خيرا منه، كقولك: من ذا أرفع من الخليفة؟ والغرض: ما أجد أرفع منه، ولم يرد أن يشير أو يومئ إلى إنسان قد استبان لك فضله، فتسأل عنه في حال استبانة فضله لك، ولو أردت ذلك نصبته كما نصبت: من ذا قائما بعد أن عرفت قيامه، ولم تعرفه: والله أعلم بالصواب. هذا باب ما ينتصب على التعظيم والمدح (وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول وإن شئت قطعته وابتدأته وذلك قولك: الحمد لله الحميد، والملك لله أهل الملك. ولو ابتدأته فرفعت كان حسنا، كما قال الأخطل: ¬

_ (¬1) سورة المدثر، الآية: 49.

نفسي فداء أمير المؤمنين إذا … أبدى النّواجذ يوم باسل ذكر الخائض الغمر والميمون طائره … خليفة الله يستسقى به المطر) (¬1) قال أبو سعيد: هذا الباب في التعظيم والمدح، والباب الذي في الشتم والتقبيح يجريان مجرى واحدا، والإعراب فيهما على طريق واحد، وفي كل واحد منهما ثلاثة أوجه: إمّا الصفة واتباع الثاني الأول، وإن كان قصدك فيه المدح والثناء كنحو ما يذكر من تكبير صفات الله تعالى على جهة المدح له والثناء عليه. وإمّا أن تنصبه بإضمار أذكر. وإمّا أن تستأنفه فترفعه بإضمار الابتداء. والذي يصيره مدحا وثناء أو شتما وتقبيحا، قصد المتكلم به إلى ذلك، وربما قصد الإنسان بقوله: فلان فاضل شجاع إلى الهزء به، ويتبين ذلك في لفظه من محاوره، وهذا معروف في عادات كلام الناس، وقد ذكرناه مفصلا قبل هذا الباب، وأنا أسوق كلامه في البابين، وما احتمل زيادة زدت، والله المعين، وأنشد في الاستئناف قول مهلهل: ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة … أخوالنا وهم بنو الأعمام (¬2) فاستأنف أخوالنا على معنى: هم أخوالنا، ولو خفضه على النعت ليشكر لجاز. وقوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ (¬3). في المقيمين وجهان: أحدهما: أن يكون منصوبا على المدح والثناء. والآخر: أن يكون مجرورا بالعطف على ما، فيكون معناه: ويصدّقون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة أي: بمذاهبهم وبدينهم، والمؤتون الزكاة مبتدأ مستأنف أو عطف على الراسخين. ¬

_ (¬1) ديوان الأخطل/ 103. (¬2) سيبويه 1/ 225، 248. (¬3) سورة النساء، الآية: 162.

وأمّا قوله عزّ وجل: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (¬1) إلى قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ (¬2)، " فالموفون بعهدهم " يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون مدحا، ويكون التقدير: وهم الموفون بعهدهم فإذا كان كذلك، كان نصب الصابرين على وجهين: أحدهما: العطف على ذوي القربى. والآخر: أن يكون على المدح بإضمار (أذكر). والوجه الآخر من رفع الموفون: أن يكون عطفا على من آمن بالله، فإذا ارتفع بذلك كان نصب الصابرين على المدح لا غير، ولا يجوز أن ينصب بالعطف على ذوي القربى، لأن ذوي القربى في صلة من آمن بالله، لأنّ (آتى) معطوف على آمن، ولا يجوز أن يعطف الموفون على (من) إلا بعد تمام صلته فيصير (والصابرين) منقطعا عن الصلة، وأنشد قول الخرنق في رفع المدح ونصبه، وهو: لا يبعدن قومي الذين هم … سمّ العداة وآفة الجزر النّازلين بكل معترك … والطيبون معاقد الأزر (¬3) ومثله في الرفع والنصب قول أبي خياط العكلي: وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم … إلا نميرا أطاعت أمر غاويها الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا … والقائلون لمن دار نخلّيها (¬4) (وزعم يونس: أن العرب من يقول: النازلون بكل معترك والطيبين، فهذا مثل: والصابرين، ومن العرب من يقول: الطاعنون في القائلين، فنصبه كنصب الطيبين إلا أنّ هذا شتم لهم وذم، كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم، وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول، وإن شئت ابتدأته جميعا فكان مرفوعا على الابتداء. كل هذا جائز في ذين البيتين وما أشبههما، كل ذلك واسع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 177. (¬2) سورة البقرة، الآية: 177. (¬3) البيتان سبق تخريجهما. (¬4) الخزانة 2/ 301.

وزعم يونس أنه سمع ذا الرّمة ينشد هذا البيت نصبا وهو للأخطل: لقد حملت قيس بن عيلان حربها … على مستقلّ للنوائب والحرب أخاها إذا كانت عضوضا سما لها … على كل حال من ذلول ومن صعب) (¬1) الشاهد: نصب أخاها، وهو المستقلّ المجرور. (وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطبه بأمر جهلوه، ولكنهم عملوا من ذلك ما قد علمت، فجعلته تعظيما وثناء، ونصبه على الفعل كأنه قال: اذكر أهل ذاك، واذكر المقيمين، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره. وهذا شبيه بقوله: إنّا بني فلان نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر من لا يدري أنه من بني فلان، ولكنه ذكر مراتبها افتخارا وابتهاء، إلا أن هذا يجري على حرف النداء، وستراه في باب النداء إن شاء الله). نصب بني فلان كنصب ما يمدح على المدح، وسأشرحه في بابه بما أتم من هذا إن شاء الله. وترك إظهار الناصب له كترك إظهار الناصب في باب النداء، ومن هذا الباب في النكرة قول أمية بن أبي عائذ: ويأوي إلى نسوة عطّل … وشعثا مراضيع مثل السّعالي (¬2) الشاهد في نصب شعثا. كأنه حيث قال: إلى نسوة عطل، صرن عنده ممن علم أنّهنّ شعث، ولكنه ذكر ذلك تشنيعا لهنّ وتشويها. (قال الخليل: كأنه قال: اذكرهنّ شعثا، إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره، وإن شئت جررت على الصفة. وزعم يونس: أن ذلك أكثر، كقولك: مررت بزيد أخيك وصاحبك، وكقول الراجز: بأعين منها مليحات النّقب … شكل التّجار وحلال المكتسب (¬3) ¬

_ (¬1) ملحقات ديوان الأخطل/ 622. (¬2) الخزانة 1/ 714، 2/ 301 - معاني الفراء 1/ 325. (¬3) البيت لابن المعتز سيبويه 1/ 250.

قال: كذلك سمعناه من العرب. الشاهد: في شكل التجار، وهو صفة لنكرة، وهو في مذهب: قيد الأوابد، ومعناه: موافقة التجار في الزي ومشاكلتهم فيه، فكأنه قال: مشاكلة التجار، وقوله: وحلال المكتسب، أي: ليس فيهن تبرّج وتكشّف يحرم، ولكن خفر وحياء وتستر، وذلك: حلال المكتسب. وقال مالك بن خويلد الخناعيّ: يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد … في حومة الموت رزّام وفرّاس يحمي الصّريمة أحذان الرّجال له … صيد ومجترئ بالليل همّاس) (¬1) قال أبو سعيد: وروى هذا الشعر أيضا لأبي ذؤيب ووقع في البيت الأول من هذين البيتين غلط في كتاب سيبويه، لأن قوله: ذو حيد، وعل، ورزّام، وفرّاس: أسد، والصواب الذي حملته الرواة: يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيد … بمشمخرّ بهذا الظيّان والآس ذو حيد، وعل، ومشمخرّ: جبل، والظيّا: ياسمين البرّ. وروى أبو العباس المبرد: ذو حيد بفتح الحاء والياء، وجعله مصدرا بمنزلة العوج والأود. والذي رواه أبو العباس: ثعلب حيد بكسر الحاء، وكذلك رواه أبو سعيد السكري في شعر الهذليين، وفسره جمع حيدة بعد هذا البيت بأبيات في القصيدة: يا ميّ لا يعجز الأيّام مبترك … في حومة الموت رزّام وفرّاس يحمي الصّريمة أحدان الرجال له … صيد ومجرئ بالليل همّاس ومما حمل على الابتداء قوله: (فتى الناس لا يخفى عليهم مكانه … وضرغامة إن همّ بالحرب أوقعا (¬2) وقال الآخر: إذا لقي الأعداء كان خلاتهم … وكلب على الأذنين والجار نابح (¬3) ¬

_ (¬1) البيتان لمالك بن خويلد الهذليين 3/ 3، ابن يعيش 6/ 32. (¬2) سيبويه 1/ 251. (¬3) في الكتاب 2/ 68 بلا نسبة.

هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه

قال: كذا سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما. قال: واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظّم بها، لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحب الثياب أو البّزاز، لم يكن هذا مما يعظم به الرجل عند الناس، ولا يفخم له، ولها الموضع الذي لا يجوز فيه العظيم، فإن تذكر رجلا ليس بنبيه عند الناس ولا معروف بالتعظيم، ثم تعظمه كما تعظم النبيه، وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح، فإن قلت: مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت: المطعمين في المحل، جاز لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم كأنهم قد علموا فاستحسن من ذا ما استحسنت العرب، وأجزه كما أجازته، وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيما لله عز وجل يكون لغيره من المخلوقين لو قلت: الحمد لزيد، تريد العظمة لم يجز وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا جعلت المخاطب كأنه قد عرفهم، كما قال: مررت برجل زيد، فتنزله منزلة من قال له: من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تنزله هذه المنزلة وإن كان لم تعرفهم). قال أبو سعيد: يحتاج التعظيم إلى اجتماع معنيين في المعظّم: أحدهما: أن يكون المعنى الذي عظّم به فيه مدح وثناء ورفعة. والآخر: أن يكون المعظّم قد عرفه المخاطب وشهر عنده ما عظّم به أو يتقدم من كلام المتكلم ما يتقرر به عند المخاطب حال مدح وثناء وتشريف في المذكور يصح أن يورد بعدها التعظيم، وهذا معنى ما ذكره سيبويه: (مررت بقومك الكرام، ثم قلت: المطعمين في المحل)، وتقول: مررت بعبد الله الكريم الفاضل، على التعظيم لمّا قدمت ذكر الكريم صار كأنه قد عرف وشهر، فتدبر ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه (وذلك: أتاني زيد الفاسق الخبيث، لم يرد أن يكرره، ولا يعرفك شيئا تنكره، ولكنه شتمه بذلك.

وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا: في وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (¬1)، لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة، ولكنه كأنه قال: اذكر حمالة الحطب شتما لها، وإن كان فعلا لا يستعمل إظهاره وقال عروة الصعاليك. سقوني الخمر ثم تكنّفوني … عداة الله من كذب وزور (¬2) إنما شتمهم بشيء قد ثبت عند المخاطبين، قال النابغة: لعمري وما عمري عليّ بهيّن … لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع أقارع عوف لا أحاول غيرها … وجوه قرود تبتغي من تجادع (¬3) وزعم يونس أنك إن شئت رفعت البيتين جميعا على الابتداء، تضمر في نفسك شيئا لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعا ومثل ذلك قال الشاعر: متى تر عيني مالك وجرانه … وجنبيه تعلم أنّه غير ثائر حضجر كأمّ التوأمين توكأت … على مرفقيها مستهلة عاشر) (¬4) والذي يضمر في الرفع هو وهم أو ما أشبه ذلك مما يوجب رفع الظاهر وقد مضى نحو هذا في المدح والتعظيم. قال: (وزعموا، أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصبا، والشعر لرجل معروف من أزاد السراة: قبّح من يزني بعو … ف من ذوات الخمر الآكل الأشلاء لا … يحفل ضوء القمر) (¬5) الآكل نصب على الذم والشتم، بمعنى أذكر يعني به عوفا المخفوض في البيت الأول، والأشلاء جمع شلاء وهي المشيمة، وهي مستقذرة، وذلك مثل يريد: أن الرجل يأتي الأمور القبيحة لا يحفل ولا يبالي ظهورها عليه، وإن شاء جعله صفة فجرّه على الاسم، فقال: الآكل لأنه نعت عوف. ¬

_ (¬1) سورة المسد، الآية: 4. (¬2) ديوان عروة/ 89، الخصائص لابن جني 2/ 433. (¬3) ديوان النابغة/ 53، الخزانة 1/ 426. (¬4) سيبويه 1/ 253، ابن يعيش 1/ 36. (¬5) سيبويه 1/ 253.

(وزعم يونس- وفي بعض النسخ عيسى- أنه سمع الفرزدق ينشد: كم عمة لك يا جرير وخالة … فدعاء قد حلبت عليّ عشابي شغارة تقذ الفصيل برجلها … فطّارة لقوادم الأبكار (¬1) جعله شتما كأنه حين ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالما بذلك، ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزا عربيا). وترتيب الأبيات في شعره بين البيت الأول والثاني: كنّا نحاذر أن تضيع لقاحنا … ولها إذا سمعت دعاء يسار (¬2) شغارة: تبول كما يشغر الكلب ببوله، تقذ الفصيل برجلها إذا دنا من أمه وهي تحلب تضربه برجلها من خلف مثل الرمح فتدقّ عنقه، والفطر: الحلب بالسبابة والوسطى وتستعين بطرف الإبهام، والخلفان: المقدمان من الضرع، هما القادمان، والجمع: قوادم، والأبكار تحلب قطرا لأنه لا يمكن حلبها صبا لأن أخلافهن صغار قصار والأبكار جمع بكر، أوّل ما تلد، ويسار: اسم راع إذا سمعت دعاءه ولهت إليه صبابة به، رماها بالربية. وقال: (طليق الله لم يمنن عليه … أبو داود وابن أبي كثير ولا الحجاج عيني بنت ماء … تقلّب طرفها حذر الصقور) (¬3) الشاهد: في نصب عيني بنت ماء، على الشتم، وبنت ماء: طائر. أما قول حسان بن ثابت: حار بن كعب ألا أحلام تزجركم … عنّي وأنتم من الجوف الجماخير لا بأس بالقوم من طول ومن عظم … جسم البغال وأحلام العصافير (¬4) فلم يرد أن يجعله شتما، ولكنه أراد أن يعدّد صفاتهم ويفسرها، فكأنه قال: أمّا أجسامهم فكذا، وأمّا أحلامهم فكذا. ¬

_ (¬1) البيتان للفرزدق ديوانه/ 45، شرح شواهد المغني/ 174. (¬2) المصدر السابق. (¬3) نسبهما الجاحظ في البيان والتبيين 1/ 386 إلى إمام بن أقرم النميري سيبويه 1/ 254. (¬4) ديوان حسان بن ثابت 213/ 214، المقتضب 4/ 233.

قال الخليل: لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا). قال أبو سعيد: لم يجعل جسم البغال شتما، لأن عظم الأجسام ليس بشتم ولا ذمّ، وإنما ذمهم بأنهم ليس لهم من الأحلام ما يشاكل عظم أجسامهم، وإنما قال الخليل: لو جعله شتما فنصبه جاز، لأن عظم الأجسام مع قلة العقول ذم أبلغ من ذمّ صغر العقل مع صغر الجسم. (وقد يجوز أن تنصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا تريد مدحا ولا ذما ولا شتما مما ذكرت لك. قال الشاعر: وما غرّني حوز الرّزاميّ محصنا … عواشيها بالجو وهو خصيب (¬1) ومحصن: اسم الرّزامي محصنا، فنصبه على (أعني)، وهو فعل يظهر لأنه لم يرد أكثر من أن يعرفه بعينه، ولم يرد افتخارا ولا ذما ولا مدحا، وكذلك سمع هذا البيت من أفواه العرب وزعموا أنّ اسمه محصن. قال: ومن هذا الترحّم، والترحّم أن يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون بكل صفة، ولا كل اسم، ولكن يترحم بما ترحمت به العرب). قال أبو سعيد: مذهب الترحم على غيره منهاج التعظيم والشتم، وذلك أن الاسم الذي يعظم به، والاسم الذي يشتم به شيء قد وجب للمعظم والمشتوم، وشهرا وعرفا به قبل التعظيم والشتم، فيذكره المعظم أو الشاتم على جهة الرفع منه والثناء، أو على جهة الوضع منه والذم، والترحم إنما هو رقة وتحنّن يلحق الذاكر على المذكور في حال ذكره إياه، رقة عليه وتحننا. وإعرابه على ما أسوقه من كلامه. قال: (وزعم الخليل أنه يقول: مررت به على المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحم، وبدله كبدل: مررت به أخيك). وقال: (فأصبحت بقرقرى كوانسا … فلا تلمه أن ينام البائسا (¬2) ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 254. (¬2) سيبويه 1/ 255، ينسب إلى العجاج في الرجز.

وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين، فقلت: مررت به البائس، كأنه لمّا قال: مررت به، قال المسكين: هو كما يقال مبتدئا: المسكين هو والبائس أنت). فهذا أحد وجهي الرفع جعل المسكين مبتدأ وخبره هو المضمرة، وجعلهما على كلامين، كأنّ قائلا قال: من هو؟ فقال: المسكين هو الوجه الآخر من وجهي الرفع أن تجعل المسكين ابتداء وخبره: مررت به، وقد أتى به فيما بعد. قال: (وإن شاء، مررت به المسكين فنصب كما قال: بنا تميما يكشف الضّباب (¬1) وفيه معنى الترحم كما كان في قوله رحمة الله عليه، معنى رحمه الله) يريد أنّ نصب المسكين بإضمار شيء من ألفاظ الرحمة له، كأنه قال: ارحم المسكين أو ما أشبهه، كما أنّ قوله: (بنا تميما تنصب تميما بإضمار شيء يوجب الاختصاص والفخر). وقوله: (رحمه الله)، يريد قول القائل: رحمة الله على زيد، وهو مبتدأ وخبر فيه معنى رحمه الله الذي يراد به الدعاء، وكذلك إذا نصبت المسكين ففيه معنى المبتدإ والخبر إذا رفعت المسكين، والنصب والرفع واحد. وذكر عن يونس: مررت به المسكين، على: مررت به مسكينا، ورد عليه: بأنّ الحال لا تدخلها الألف واللام، ولو جاز هذا لجاز: مررت بعبد الله الظريف، تريد: ظريفا. وقد ذكرنا من مذهب يونس وغيره قبل هذا، أنّه قد تذكر الألف واللام ويراد طرحهما. وربما أرادوا الألف واللام فيما ليستا فيه. وبينا فساد ذلك. ويجوز نصب المسكين على أحسن من الحال، كأنه قال: لقيت المسكين، لأنه إذا قال: مررت بعبد الله، فهو عمل كأنه أظهر عملا، وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه فرارا من أن يصفوا المضمر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن. (وزعم الخليل أنه يقول: إنه المسكين أحمق على الإضمار الذي جاز في: ¬

_ (¬1) رجز لرؤبة بن العجاج ديوانه/ 169، الخزانة 1: 412، ابن يعيش 2: 18.

مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق، وهو ضعيف، وجاز هذا أن يكون فصلا بين الاسم والخبر، لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى: إنّا تميما ذاهبون). قال أبو سعيد: الهاء في (إنه) اسم إنّ، وأحمق: خبره، وهو المقدرة مع المسكين: ابتداء وخبر، وهي جملة قد فصلت بين الاسم والخبر. ويسمي النحويون هذا وما جرى مجراه: الاعتراض، وجوزوا ذلك لأن فيه اختصاصا للأول وشبهه الخليل ب (إنّا تميما) للاختصاص فيه، وهو مع ذلك ضعيف. ولو قال: إنه المسكين أحمق على الاختصاص والإيضاح، كان جائزا على معنى: أعني المسكين. (وإذا قلت: بي المسكين، كان الأمر، أو بك المسكين مررت، فلا يحسن فيه البدل لأنك إذا عنيت المخاطب أو نفسك فلا يجوز أن تكون لا تدري من تعني، لأنك لست تحدّث عن غائب، ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميما، وإن شئت رفعته على ما رفعت عليه ما قبله، فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد). قال أبو سعيد: لم يجز البدل في المتكلم والمخاطب، لأنّ الأسماء الظاهرة لا تقع مواقع أسمائها، لا تقول: قمت زيد، ولا ذهبت عمرو، على البدل، لأنك لا تقول: قام زيد، وذهب عمرو، وأنت تريد المتكلم والمخاطب، ولذلك لا تقول: بالمسكين كان الأمر، وأنت تريد المخاطب أو المتكلم. قال: (وأمّا يونس فزعم أنه ليس ترفع شيئا من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه إن قال: ضربته، لم يقل أبدا إلا المسكين، يحمله على الفعل، وإن قال: ضرباني، قال: المسكينان، يحمله أيضا على الفعل، وكذلك: مررت به المسكين، يحمل الرفع على الرفع، والجر على الجر، والنصب على النصب). وزعم أن الرفع الذي ذكرناه خطأ وهو قول الخليل وابن أبي إسحق. وإنما رأى يونس ذلك خطأ لأنه يحتاج إلى إضمار وحذف، فإذا كان إيضاحه وبيانه يستغني عن إضمار وحذف، كان حمله على ما حضر من الكلام أولى. وقد ذكرنا ما نصبه يونس مما فيه الألف واللام على الحال. والخليل وابن أبي إسحق ذهبا إلى أن الرفع في باب التعظيم وباب الشتم قد جاء وهو كثير، وحملا

هذا باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على ما هو قبله من الأسماء المبهمة

هذا عليه. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: أختار قول الخليل وابن أبي إسحق، وأجيز قول يونس في الموضع الذي نحتاج فيه إلى الإيضاح نحو إضمار الغائب، والله أعلم. هذا باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبنيّ على ما هو قبله من الأسماء المبهمة (والأسماء المبهمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك، وذانك، وتلك، وتانك، وتيك، وأولئك، وهو، وهي، وهما، وهن، وما أشبه ذلك من هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني على الأسماء غير المبهمة. فأمّا المبني على الأسماء المبهمة، فقولك: هذا عبد الله منطلقا، وهؤلاء قومك منطلقين، وهذا عبد الله ذاهبا، وهذا عبد الله معروفا. ف (هذا): اسم مبتدأ ليبنى عليه ما بعده، وهو: عبد الله، ولم يكن ليكون هذا كلاما حتى يبنى عليه أو يبنى هو على ما قبله، فالمبتدأ مسند، والمبني عليه مسند إليه، فقد عمل هذا فيما بعده مما يعمل الجارّ والفعل فيما بعده، والمعنى أنك تريد أن تنبهه له منطلقا، لا تريد أن تعرّفه عبد الله، لأنك ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا، ف (منطلق): حال صار فيها عبد الله، وحال بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد الله راكبا، صار جاء ل (عبد الله) وصار الراكب حالا، فكذلك هذا، وذاك بمنزلة هذا، إلا أنك إذا قلت: هذا فأنت تنبّه لشيء بحضرتك، وإذا قلت: ذاك فأنت تنبّه لشيء متراخ، وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك، وكذلك هذه الأسماء المبهمة التي توصف بالأسماء التي فيها الألف واللام). قال أبو سعيد: ترجم الباب بما ضمنه من الأسماء المبهمة، وفصّلها، ومثّلها، ووصل بها ما ليس مبهم من الأسماء المضمرة وهو، وهي، وهما، وهم، وهن، وإنما خلطها بالمبهمة لقرب الشبه بينهما، ولأنه بني عليها مسائل في الباب، وعلى أنّ أبا العباس المبرد قال: علامات الإضمار كلها مبهمة، والمبهم على ضربين:

فمنه ما يقع مضمرا، ومنه ما يقع غير مضمر. وإنما صارت كلها مبهمة من قبل أنّ هو وأخواتها، وهذا وأخواتها تقع على كل شيء ولا تفصل شيئا من شيء من الموات والحيوان وغيره. وأمّا النصب في: هذا عبد الله منطلقا، وما ذكره معه فعلى الحال، والعامل فيه أحذ شيئين: إمّا التنبيه وإمّا الإشارة. فأمّا التنبيه فهو ب (هاء)، وأمّا الإشارة فهي ب (ذا)، فإذا أعملت التنبيه فالتقدير: انظر إليه منطلقا، وأمّا إذا أعلمت الإشارة فالتقدير: أشير إليه منطلقا، والمقصد أنك أردت أن تنبه المخاطب ل (عبد الله) في حال انطلاقه، ولا بد من ذكر منطلقا، لأن الفائدة به تنعقد، ولم ترد أن تعرّفه إياه وأنت تقدر أنه يجهله، كما تقول: هذا عبد الله، إذا أردت هذا المعنى. فإن قال قائل: إذا استغنى الابتداء بخبره في قولك: هذا، فما الذي يضطر إلى ذكر ما ليس بابتداء ولا خبر، وإنما هو حال والحال مستغنى عنها؟ قيل له: قد يتصل بالاسم والخبر ما ليس باسم ولا خبر، ولا يتم الكلام إلا به كقوله عز وجل: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (¬1)، لو حذفنا (له) وليس هو باسم ولا خبر، لبطل الكلام، ولو قلنا: ما في الدنيا رجل يبغضك، لكان يبغضك في موضع الصفة لرجل، ورجل مبتدأ، وفي الدنيا خبره، وإنما الاعتماد على نفي البغض، وإنما ذكرت رجلا ليعتمد يبغضك عليه في تصحيح اللفظ، لأنه لو قال: ما في الدنيا يبغضك، لم يجز، ولو قال: ما في الدنيا مبغض لك، لقبح حيث حذفت الموصوف في موضع يحتاج فيه إلى اسم، والأصل في ذلك: عبد الله منطلق، عبد الله: مبتدأ، ومنطلق: خبره، ثم اتفق لك قرب عبد الله منك وأردت أن تنبه المخاطب عليه، فأدخلت هذا للتقريب والتنبيه، وهو اسم فلا بد له من موقع في الكلام ولإصلاح اللفظ، وهو أول الكلام، فرفع هذا بالابتداء وجعل عبد الله خبره، فاكتفي به ونصب منطلقا على الحال على ما شرحناه. ولا يستغنى عن منطلق لأنه خبر في المعنى، كما لا يستغنى عن الرجل في قولك: يا ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص، الآية: 4.

أيها الرجل، وإن كان صفة لأيّها، لأن الرجل هو المقصود بالنداء في الأصل. والكوفيون يسمون هذا (التقريب) وفيه وفي أمثاله كلام يطول. والإشارة بذاك إلى الشيء المتراخي كالإشارة بهذا إلى ما قرب. وأما قوله: (المبتدأ مسند والمبني عليه مسند إليه)، فقد ذكرنا فيه في أول الكتاب وجوها، هذا واحد منها. قال: (وأمّا هو فعلامة مضمر وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا، وذلك قولك: هو زيد معروفا، فصار المعروف حالا، وذلك أنك ذكرت للمخاطب إنسانا كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، وكأنك قلت: انتبه أو الزمه معروفا، فصار حالا، كما كان المنطلق حالا حين قلت: هذا زيد منطلقا، والمعنى أنك أردت أن توضح أن المذكور زيد حين قلت: معروفا، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما أشبه المعروف، لأنه يعرّف ويؤكّد، فلو ذكر هاهنا الانطلاق كان غير جائز، لأن الانطلاق لا يوضح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله: معروفا لا شكّ فيه وليس ذا في منطلق. وكذلك: هو الحقّ بيّنا ومعلوما، لأنّ ذا مما يوضح ويؤكّد به الحق، وكذلك: هي، وهما، وهم، وهنّ، وأنا، وأنت، وأنت. قال ابن دارة: أنا ابن دارة معروفا بها نسبي … وهل بدارة يا للنّاس من عار) (¬1) قال أبو سعيد: اعلم أن النصب في: هذا زيد منطلقا، على غير وجه النصب في قولنا: هو زيد معروفا. ويبين ذلك لك أنك لا تقول: هو زيد منطلقا، فعلمت أن النصب فيهما مختلف. أمّا النصب في: هذا عبد الله منطلقا، فقد ذكرناه. أمّا نصب: هو زيد معروفا، فعلى جهة التوكيد لما ذكرته، وخبّرت به، وذلك أنك إذا قلت: هو زيد، فقد خبّرت بخبر يجوز أن يكون حقا، ويجوز أن يكون باطلا، وظاهر الإخبار يوجب أن المخبر يحقق ما خبّر به، فإذا قال: هو زيد معروفا، فكأنه قال: لا ¬

_ (¬1) الخزانة 1/ 553، سيبويه 1/ 257.

شكّ فيه، وكأنه قال: أحقّ ذلك، والعامل فيه أحقّ وما أشبهه، وليس في هو ولا في زيد معنى فعل يعمل في (معروفا)، ولكن الجملة دلّت على أحقّ وأعرف أو نحو ذلك. ومن أجل ذلك لم يجز أن تقول: هو زيد منطلقا، لأنه لو صحّ له انطلاقه لم يكن فيه دلالة على صدقه فيما قاله، كما أوجب قوله: معروفا له نسبي، أنه أنبّه. وكل ما أوردت من الحال مما فيه توكيد للإخبار جاز، (كقولك: هو عبد الله، وأنا عبد الله فاخرا أو موعدا، أي أعرفني كما كنت تعرفني، وبما كان يبلغك عني، ثم تفسر الحال التي تعلمه عليها أو تبلغه، فيقول: أنا عبد الله كريما جوادا، وهو عبد الله شجاعا بطلا)، وهذه الصفات وما جانسها مما يكون مدحا في الإنسان يعرف بها، جوز أن تأتي مؤكدة للخبر، لأنها أشياء يعرف بها فذكرها مؤكد لذاته. فأمّا منطلقا وقاعدا وما أشبه ذلك مما لا يعتد به الإنسان في مدح ولاذم، فلا يكون تحقيقا للإخبار. ومن ذلك قولك: (إني عبد الله، إذا صغرت نفسك لربك، ثم تفسر حال العبد فتقول: أكلا كما يأكل العبد)، فأكلك كما يأكل العبد قد حقق أنك عبد الله، فعلى هذا المعنى ونحوه يصح ذلك ويفسد. قال: (وإذا ذكرت شيئا من هذه الأشياء التي هي علامة للمضمر، فإنه محال أن يظهر بعدها الأسماء وإذا كنت تخبر عن عمل أو صفة غير عمل ولا تريد أن تعرّفه بأنّه زيد أو عمرو)، يعني: أنك إذا أردت أن تخبر عن الضمير بعمل أو صفة غير عمل، قلت: أنا منطلق، وهو ذاهب، وأنا معروف، وهو شجاع، وأنا كريم، وما أشبه ذلك، ولم يجز أن تقول: أنا زيد كريم، ولا هو عمرو شجاع، فتجعل زيدا بيانا ل (أنا)، وعمرا بيانا ل (هو)، لأنهما مستغنيان عن إنسان، وإنما تقول: أنا زيد، وهو عمرو، إذا كنت تعرّف من يجهل أنّك زيد وأنه عمرو، ثم تأتي بعده الحال التي هي حقيق له على نحو ما ذكرناه. قال سيبويه: (ولو أن رجلا من إخوانك ومعرفتك أراد أن يخبرك عن نفسه، أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقا، وهو زيد منطلقا، كان محالا لأنه إنما يريد أن يخبرك بالانطلاق، ولم تقل هو ولا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأنّ هو وأنا علامتان للمضمر وإنما يضمر إذا علم أنّك قد عرفت من يعني) وقد بيّنا هذا. ثم قال: (إلا أن رجلا لو كان خلف حائط أو في موضع تجهله فيه فقلت: من

هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة

أنت؟ فقال: أنا زيد منطلقا في حاجتك، كان حسنا). وإنما استحسنه سيبويه في هذا الموضع لأنه كان عهده منطلقا في حاجته من قبل أن يقول له: من أنت؟، فصار ما عهده به بمنزلة شيء ثبت له في نفسه كشجاع وبطل وكريم، فنصبه كنصب: أنا عبد الله كريما، وهو عبد الله شجاعا بطلا. قال: (وأمّا ما ينتصب لأنه خبر لمبنيّ على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله معروفا، هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها، ويحال فيه ما يحال في الأسماء المضمرة). قال أبو سعيد: أخوك عبد الله معروفا، جائز كما يجوز: أنا عبد الله معروفا، وأخوك عبد الله منطلقا، لا يجوز، أنا عبد الله منطلقا، لأن أخوك إذا كان للنسب فليس هو فيه معنى فعل ينتقل فيكون أخاه في حال دون حال، فلو قلت: أخوك عبد الله منطلقا، فكأنه أخوه في حال انطلاقه دون غيرها وقد علم أن (أخوة) النسب لا تنتقل، ولو قلت: أخوك عبد الله منطلقا، وأنت تريد به المؤاخاة والمصادقة قد جاز لأنها تنتقل، وإنما جاز: أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار، كما جاز لأنها تنتقل، وإنما جاز: أخوك عبد الله معروفا وما جرى مجراه مما يحقق به الإخبار، كما جاز: أنا عبد الله معروفا، لأنه توكيد للخبر والعامل فيه أحقّ ذلك وما أشبهه. وتوكيد الجملة ب (أحقّ) ونظائره كتوكيدها باليمين إذا قلت: أخوك عبد الله وأنا عبد الله والله، وإنما هي جملة يؤكّد بها جملة. وكان أبو إسحاق الزجاج يقول في قوله: أنا ابن دارة معروفا بها نسبي، يجعل الخبر نائبا عن مسمى ويجعل فيه ذكرا من الأول، ويجعل العامل في (معروفا) هو خبر الاسم الموضع موضع الاسم. والقول عندي هو الأول، والله أعلم. هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة (وذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين)، نصبت منطلقين على الحال، والعامل فيه التثنية، لأنك لمّا عطفت عبد الله عليهما وقد وقع عليهما التثنية لحقه التثنية وصار كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقا، ولا يجوز أن تكون النكرة صفة لعبد الله، (وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان)، فجعلت منطلقان نعتا لرجلان، (وتقول:

هذا باب ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة

هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين، إذا خلطتهم). وإذا كان للأول قلت: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقون، وتقول: (هذه ناقة وفصيلها راتعين)، على قول من جعل فصيلها معرفة، وهو أفصح اللغتين، ومن جعلها نكرة وهي أردأهما، قال: (راتعان، وهذا على قول من قال: كل شاة وسخلتها، تريد: كل شاة وسخلة لها بدرهم. (ومن قال: كل شاة وسخلتها، فجعلها بمنزلة: كل رجل وعبد الله منطلقا، لم يقل في الراتعين إلا بالنصب، لأنه إنما يريد حينئذ المعرفة، ولا يريد أن يدخل السخلة في كل) وجميع الباب مفهوم وأكثره قد مضى تفسيره فيما قبل. والله أعلم بالصواب. هذا باب ما يجوز فيه الرفع ممّا ينتصب في المعرفة قال أبو سعيد: هذا الباب إلى آخره في رفع منطلق من (قولك: هذا عبد الله منطلق). وقد ذكرناه منصوبا في باب قبل هذا وقد شرحناه. وذكر رفعه في هذا الباب، وحكاه عن يونس وأبي الخطاب، عمن يوثق به من العرب وأفرد الباب به ورفعه من أربعة أوجه، أظنني ذكرتها فيما مضى وأعيدها هاهنا للاحتياط. ذكر عن الخليل وجهين، منها: أحدهما: (أنك حين قلت: هذا عبد الله، أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت: هذا منطلق أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعا خبرا ل (هذا) كقولك: هذا حلو حامض، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين، قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى (¬1)، وزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً (¬2)، وقال الراجز: ¬

_ (¬1) سورة المعارج، الآيتان: 15، 16. (¬2) سورة هود، الآية: 72.

من يك ذا بتّ فهذا بتّي … مقيّظ مصيف مشتىّ (¬1) سمعناه ممن يروي هذا الشعر من العرب يرفعه) والوجهان الآخران من الرفع: أحدهما: أن يجعل عبد الله معطوفا على هذا كالوصف، وهو عطف البيان فيصير كأنه قال: عبد الله منطلق، فيكون- أيضا- بدلا من هذا في هذا الوجه. والوجه الثاني: أن يكون منطلق بدلا من زيد فيكون التقدير: هذا منطلق، وتقديره: هذا زيد رجل منطلق، فيبدل رجل من زيد ثم تحذف الموصوف وتقيم الصفة مقامه، فيصير: هذا منطلق، وهو بدل نكرة من معرفة، كما قال تعالى: بِالنَّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ. (¬2) فهذه أربعة أوجه في الرفع. قال: (وأمّا قول الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل … فأبيت لا حرج ولا محروم (¬3) فزعم الخليل: أن هذا ليس على إضمار (أنا) ولو جاز على إضمار (أنا) لجاز: كان عبد الله لا مسلم ولا صالح، على إضمار (هو). ولكنه فيما زعم الخليل على قوله: (فأبيت) بمنزلة الذي يقال له: لا حرج ولا محروم، ويقويه في ذلك قوله: على حين أن كانت عقيل وشائظ … وكانت كلاب خامري أمّ عامر) (¬4) هجا هذا الشاعر عقيلا وكلابا، فأمّا عقيل فجعلهم وشائظ واحدهم: وشظ، والوشظ: الخسيس، والوشيظ: الزائد في القوم الملزّق بهم. قال جرير يهجو التّيم: يخزى الوشيظ إذا قال الصّميم لهم … عدّوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس (¬5) ¬

_ (¬1) البيت ينسب لرؤبة بن العجاج ملحقات ديوانه/ 189 ابن يعيش 1/ 258. (¬2) سورة العلق، الآيتان: 15، 16. (¬3) ديوان الأخطل/ 84، سيبويه 1/ 259. (¬4) في سيبويه 2/ 85 ونسبه للربيع الأسدي. (¬5) ديوان جرير/ 250.

هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني على مبتدإ

والصميم: الصحيح النسب. وأمّا كلاب فجعلهم حمقى، وذلك أنّ أمّ عامر هي الضّبع، والعرب تستحمقها وتذكر من حمقاتها أنها يقال لها: خامري أم عامر، أي: ادخلي الخمر فتدخل جحرها فيصطادونها، ويكون التقدير في البيت: وكانت كلاب يقال لها: خامري أمّ عامر، كأنه قال: وكانت كلاب من حماقتها كضبع يقال لها: خامري أم عامر، فهذا كله تأييد لقول الخليل، ويؤيّد أيضا- قوله: (كذبتم وبيت الله لا تنكحونها … بني شاب قرناها تصرّ وتحلب (¬1) أي بني من يقال له ذلك). لأنه يجعله كأنه حكاية لما كان يتكلم به قبل ذلك، فكأنه حكى اللفظ كما كان. قال سيبويه: (وقد زعم بعضهم أنّ رفعه على النفي كأنه قال: فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا به). قال: (وهذا التفسير كأنه أسهل). وإنما صار عنده أسهل لأنّ المحذوف خبر حرج وهو ظرف، وحذف الخبر في النفي كثير كقولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حول لنا ولا قوة لنا. وقد قال بعض النحويين: لا أنا حرج، ولا أنا محروم، فيحذف المبتدأ، وقد ذكر حذفه في مواضع. هذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنّه مبنيّ على مبتدإ (وتنصب فيه الخبر لأنه حال لمعروف مبنيّ على مبتدإ. فأما الرفع فقولك: هذا الرجل منطلق). هذا: مبتدأ، والرجل: صفته وليس على معهود، ومنطلق: خبره. وهذا مع الاسم بمنزلة اسم واحد (كأنك قلت: هذا منطلق. قال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها … لستّة أعوام وذا العام سابع) (¬2) ¬

_ (¬1) المقتضب 4/ 9، سيبويه 1/ 259. (¬2) ديوان النابغة/ 50.

كأنه قال: وذا سابع. وأمّا النصب فقولك: هذا الرجل منطلقا. جعلت الرجل مبنيا على هذا، وجعلت الخبر حالا له قد صار فيها فصار كقولك: هذا عبد الله منطلقا، والرجل هاهنا معهود، وإنما يريد في هذا الموضع أن تذكر المخاطب برجل قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يذكّره بأحد، إنما أشار فقال: هذا منطلق)، وقد ذكرنا في صفات المبهمة أنها توصف بما فيه الألف واللام على غير عهد. قال: (فكأنّ ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على أنه حال مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما يكون بعده ويكون فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحول بين الخبر وبين الاسم المبتدإ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر). يريد أن الحال في قولك: هذا الرجل منطلقا، وهذا عبد الله منطلقا، مفعول فيها لأن المعنى: انتبه له في هذه الحال. وقوله: (لأن المبتدأ يعمل فيما بعده)، معناه: يرفع ما بعده من الخبر وقد ذكرنا فيه قولين: أحدهما: أنه يرفع الخبر. والآخر: أن الابتداء يرفع المبتدأ. والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر، والظاهر من كلامه في هذا الموضع أن المبتدأ هو العامل، وقد يجوز أن يريد بالمبتدإ إذا كان إشارة عمل فيما بعده، نحو: هذا وما جرى مجراه، وقد ذكرنا عمل هذا فيما بعده، وعمل المبتدإ فيما بعده كعمل الفعل فيما بعده من حيث كانا عاملين، وإنما أراد أن يريك حالين في منطلق من المبتدإ ومن الفعل، تقول: هذا منطلق، فيرتفع منطلق بأنه خبر هذا ويعمل فيه هذا، ثم يدخل الرجل أو عبد الله بعد هذا خبرا لهذا فيحول بين منطلق وبين هذا، أن يكون منطلق خبرا له، فيصير حالا كما تقول في الفعل: ذهب منطلق، فيرتفع منطلق، وبين منطلق أن يرتفع بالفعل، ثم تقول: ذهب زيد منطلقا، فيحول زيد بين ذهب وبين منطلقا أن يرتفع به ليصير حالا قد ثبت فيها وصار فيها كما أن الظرف موضع قد صيّر فيه بالنية، وإن لم تذكر فعلا وذلك أنك إذا قلت: فيها زيد، فكأنك قلت: استقر فيها زيد، وإن لم تذكر فعلا وهنا أفصح سيبويه

هذا باب ما ينتصب فيه الخبر لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء

بنصب الظرف ب (استقر) ثم شبّه نصب الظروف بنصب عشرين بما بعده من اسم النوع المميّز. وإنما نصب عشرون اسم النوع لأنه ليس من صفته، فيكون بمنزلة: هذه عشرون جياد، ورأيت عشرين جيادا، ومررت بعشرين جياد، ولا هو عطف عليه، فيكون بمنزلة: هذه عشرون ورجل، ورأيت عشرين ورجلا، ومررت بعشرين ورجل، فشبّه عشرون رجلا بضارب زيدا قال: (وأمّا: هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً (¬1)، فإن الحق لا يكون صفة ل (هو) من قبل أن هو لا يوصف لأنه مضمر ولا يوصف المضمر بالمظهر أبدا، فمن ثمّ لم يكن في هو الرفع)، يعني: لم يكن في هو الحق مصدق، على أن يجعل هو مبتدأ، والحق نعت له، ومصدقا خبرا، كما تقول: هذا الرجل منطلق، بأن تجعل الرجل نعت هذا، ومنطلق خبره، فلمّا لم يجز أن يوصف هو فيجعل الحق صفة، وجب رفع الحق بخبر هو، ونصب مصدقا على الحال. والله أعلم. هذا باب ما ينتصب فيه الخبر لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء (قدمته أو أخرته. وذلك قولك: فيها عبد الله قائما، وعبد الله فيها قائما. ف (عبد الله) ارتفع بالابتداء، لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضع له، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله، حسن السكوت وكان كلاما مستقيما، كما حسن واستغنى في قوله: هذا عبد الله، وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك: عبد الله أخوك، إلا أن عبد الله يرتفع مقدما كان أو مؤخرا بالابتداء، ويدلك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيدا). قال أبو سعيد: مذهب سيبويه أن الاسم يرتفع بالابتداء أخرت الظرف أو قدمته. وقال الكوفيون: إذا تقدم الظرف ارتفع الاسم بضمير له مرفوع في الظرف ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 31.

المتأخر، فكان من حجة سيبويه في ذلك أنا إذا أدخلنا إنّ، نصبنا الاسم وإن كان قبله ظرف كقولنا: في الدار زيدا. فلو كان في الدار يرفع زيدا قبل دخول إنّ لما غيرتها إنّ عن العمل. كما أنّا لو قلنا: إن يقوم زيدا، لم يجز أن تبطل عمل (يقوم)، بل يقال: إن يقوم زيد، على معنى إنه يقوم زيد، كذلك: إن في الدار زيد، على معنى: أنه في الدار زيد. فلّما كانت العرب تنصب ذلك مع تقديم الظروف، علمنا أن ارتفاعه بالابتداء، وهذا في القرآن وسائر الكلام أكثر من أن يحصى، قال الله تعالى: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً (¬1)، وإِنَّ لَنا لَأَجْراً (¬2)، وما أشبهه. ومما يدل على بطلان ما قالوه، إجماعهم على جواز: في داره زيد، فإن كان زيد مرفوعا بالظرف فلا يجوز إضماره قبل الذكر، وليس النية التأخير وإنما يجوّز سيبويه وأصحابه: في داره زيد، لأن النية: زيد في داره، فإن قلت: في الدار زيد قائم، وعندك عمرو مقيم، فلك في الظرف وجهان: أحدهما: أن تجعله خبرا للاسم وتنصب الصفة على الحال، فتقول: في الدار زيد قائما، وعندك عمرو مقيما، ويكون العامل الناصب لعند استقر المقدّر وناب عند: عن استقر، والعامل في الحال هو الظرف النائب عن استقر. والوجه الآخر: أن تجعل خبر الاسم الصفة وترفعها، وتجعل العامل في الظرف الصفة، كقولك: عندك عمرو مقيم، الناصب ل (عند) هو مقيم، وإنما تضمر استقر إذا كان الظرف في موضع الخبر أو الصفة أو الحال، فأمّا الخبر فقولك: زيد خلفك، وخلفك زيد، وكان زيد خلفك، وأنّ زيدا خلفك. والصفة: مررت برجل عندك، والحال: مررت بزيد عندك. وسيبويه يسمي الظرف إذا لم يكن خبرا ملغى لأنّه يتم الكلام بإلغائه وإسقاطه، وذلك قوله: ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 12. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 113.

(وإن شئت ألغيت فيها، فقلت: فيها عبد الله قائم)، جعل قائم هو الخبر، وجعل فيها لغوا. (قال النابغة: فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة … من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع) (¬1) ف (ناقع) خبر السم، و (في) لغو. (وقال الهذلي: لا درّ درّي إن أطعمت نازلهم … قرف الحتىّ وعندي البرّ مكنوز (¬2) كأنك قلت: البرّ مكنوز عندي، وعبد الله قائم فيها. فإذا نصبت القائم، ف (فيها) قد حالت بين المبتدإ والقائم، واستغنى به وحمل المبتدأ حين لم يكن القائم مبنيا عليه عمل هذا زيد قائما، وإنما يجعل فيها إذا رفعت القائم مستقرا للقيام وموضعا له). ومن كلام سيبويه: حتى كان للفظ موضع من كلام ثم دخل شيء صيّر له موقع الأول، وصار للأول موقع غير موقعه الأول أن هذا الداخل قد حال بين الذي تغير موقعه وبين اللفظ الذي وقع الداخل منه موقع الأول، فمنه ما قد مضى ومنه هذا، وتمثيله أنك إذا قلت: عبد الله قائم، فقائم خبر عبد الله، فإن أدخلت فيها وبقّيت قائم على رفعه فإن فيها ما حالت بين شيئين وهي: مستقر للقيام، وموضع له قدمتها على عبد الله أو وسطتها بين عبد الله وبين قائم أو أخرتها إلى آخر الكلام، وإن جعلت فيها خبرا ل (عبد الله) فقد أوقعتها موقع قائم، وقد بطل أن يكون (قائم) خبرا ل (عبد الله) لأنّ فيها قد حالت بينه وبين عبد الله أن يكون خبرا له، وصار ل (قائم) موقع آخر من الكلام فاعتبر ذلك في جميع ما يقول سيبويه فيه أنه قد حال بينه وبين كذا إن شاء الله تعالى. ولو قال قائل: في الدار زيد قائم، لم يجز له أن يسكت على قوله: في الدار زيد، كما لو قال: عبد الله زيد ضارب، لم يجز له أن يسكت على: عبد الله زيد. واستدل سيبويه- أيضا- على أن عبد الله لا يرتفع بالظرف إذا تقدم؛ أنّا نقول: في ¬

_ (¬1) ديوان النابغة/ 51، شرح شواهد المغني/ 305. (¬2) البيت للمتنخل الهذلي ديوان الهذليين 2/ 15، البيان والتبيين 1/ 17.

الدار زيد قائم، فيرتفع بغير الظرف بإجماع النحويين. البصريون يقولون: يرتفع بالابتداء. والكوفيون يقولون: يرتفع ب (قائم)، وقائم ب (زيد)، فلو كان فيها يحدث الرفع فيما بعدها لأحدثتها متى تقدمت، ولم يلغ كما لا يلغى الفعل إذا تقدم الفاعل. ثم احتج بحجة أخرى فقال: (ولو كان عبد الله يرتفع ب (فيها) لارتفع بقولك: بك عبد الله مأخوذ)، ولا خلاف بينهم أن عبد الله لا يرتفع ب (بك)، وكأن قائلا قال لسيبويه: إن بك لا تشبه فيها، لأن عبد الله لا يتم الكلام به، وفيها عبد الله يتم الكلام به، فأجاب عن هذا بأن العامل الذي يتم به الكلام والعامل الذي لا يتم به الكلام سواء لا يتغير، ألا ترى أنّ كان عبد الله لا يكون كلاما، وضرب عبد الله كلام، وعملهما واحد. (ومما جاء في الشعر مرفوعا، قوله: لا سافر النّيّ مدخول ولا هبح … عاري العظام عليه الودع منظوم (¬1) فجميع ما يكون ظرفا تلغيه إن شئت). أي: جميع ما يكون خبرا للاسم، وظرفا تلغيه إذا جئت بخبر سواه على ما مضى من الكلام. قال: (ومثل قولك: فيها عبد الله قائما، هو لك خالصا، وهو لك خالص)، بمنزلة: عبد الله فيها قائم، فإذا نصبت ف (لك) خبر، وهو في التقديم بمنزلة: أهبه لك خالصا على نحو ما تقرر استقر وشبيهه، وإن قلت: خالص جعلته خبر هو، وجعلت لك من صلة خالص كأنك قلت: خلص لك. قال: (وقد قرئ هذا الحرف على وجهين: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬2)، بالرفع والنصب). قال أبو سعيد: هي عند سيبويه مبتدأ وللذين آمنوا: خبر، وخالصة: منصوب على ¬

_ (¬1) البيت لتميم بن مقبل ديوانه/ 269. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 32.

الحال، والعامل فيها اللام على تقدير: استقر وما أشبه ذلك كقولنا: عبد الله في الدار قائما. فإن قال قائل: الحال مستصحبة فكيف تكون خالصة في يوم القيامة والتي هي لهم في الحياة الدنيا؟ قيل له: الحال على كل حال مستصحبة، وقد يكون الملفوظ به من الحال متأخرا بتقدير شيء مستصحب، كقوله تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (¬1)، وقد علم أن الخلود إنما هو إقامتهم فيها الدائمة، وليس ذلك في حال دخولهم، وتقديره: ادخلوها مقدرين الخلود أو مستوحين الخلود، وقيل في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (¬2) وليس في حال الدخول حلق ولا تقصير، وإنما هو شيء يقع بعد الدخول، وإنما يقع مثل هذا فيما علم ووثق به. ولو قيل للإنسان: ادخل الدار، فقال: وما أصنع فيها؟ لجاز أن يقال: ادخلها آكلا فيها شاربا على معنى مقدّرا ذلك ومستوحيا. قال: (وبعض العرب يقول: هو لك الجماء الغفير، فيرفع كما يرفع الخالص) وينصب. فيقال: هو لك الجماء الغفير، ف (هو) مبتدأ، ولك: خبره، والجماء الغفير: حال، وقد مضى شرحها. (والنصب أكثر لأن الجماء الغفير بمنزلة المصدر، فكأنه قال: هو لك خلوصا)، وخلوصا في معنى خالصا، لأن المصدر يكون في موضع الحال، (فهذا تمثيل ولا يتكلم به، ومما جاء في الشعر قد انتصب خبره وهو مقدم قبل الظرف، قوله: إنّ لكم أصل البلاد وفرعها … فالخير فيكم ثابتا مبذولا (¬3) وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقول: أتكلم بهذا وأنت هاهنا قاعدا. قال: ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر، قول العرب: هو رجل صدق معلوما ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 73. (¬2) سورة الفتح، الآية: 27. (¬3) سيبويه 1/ 262.

هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص شائعا في الأمة

ذاك، وهو رجل صدق معروفا ذاك، وهو رجل صدق بيّنا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق معروفا صلاحه، فصار حالا وقع فيه أمر لأنك إذا قلت: هو رجل صدق، فقد خبرت بأمر ثم جعلت ذلك المرفوع على هذه الحال، ولو رفعت كان جائزا على أن تجعله صفة، كأنك قلت: هو رجل معروف صلاحه. ومثل ذلك: مررت برجل حسنة أمّه كريما أبوها). ولا يجوز أن تقول: كريم أبوها بالجر، لأنك إذا جررت فهو نعت لرجل، وليس فيه ما يعود إلى الرجل، وإذا نصبت فهو حال كرم أبيها. (زعم الخليل: أنه أخبر عن الحسن أنه وجب لها في هذه الحال، وهو كقولك: مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها. والأول كقولك: هو رجل صدق معروفا صدقه، وإن شئت قلت: معروف ذاك، ومعلوم ذاك، على قولك: ذاك معروف، وذاك معلوم. سمعته من الخليل)، وقد أتى التفسير على ذلك كلّه. هذا باب من المعرفة يكون فيه الاسم الخاص شائعا في الأمة ليس واحد منها أولى به من الآخر، ولا يتوهّم به واحد دون آخر له اسم غيره؛ نحو قولك للأسد: أبو الحارث، وأسامة، وللثعلب: ثعالة، وأبو الحصين، وسمسم، وللذئب: دألان، وأبو جعدة، وللضبع: أمّ عامر (¬1) وحضاجر (¬2)، وجعار (¬3)، وجيأل، وأم عنثل، وقتام (¬4). وقد ذكر سيبويه: أم رعم، وأم خثّور، وأم خنّوز، وأم رمال، وأم رشم (¬5)، وأم جعور، وأم الهنبر (¬6)، وأم نوفل (¬7)، ويقال للضّبان: قثم. ومن ذلك للغراب: ابن بريح. قال أبو سعيد: قد تكلمت العرب بأسماء كثيرة معارف مفردة، ومن الكنى بالآباء ¬

_ (¬1) أم عامر: الضبع. (¬2) الحضجر: العظيم البطن، ثم سمي به الضبع. (¬3) لكثرة جعارها. (¬4) غبار. (¬5) الرشم: سواد في وجه الضبع. (¬6) الهنبر: هي الحمارة الأهلية. (¬7) ذكر الضباع.

والأمهات والبنين والبنات لا يتسع كتابنا هذا لاستقصاء ذكرها. فنذكر شيئا من كلّ باب لنعلم اتساع العرب في هذا النحو. فمن الكنى بالآباء، قال الأصمعيّ (¬1): يقال للذئب: أبو جعادة. وقال أبو عبيدة (¬2): يقال للذئب: أبو غسلة، وأبو مزقة (¬3). وقال أبو زياد (¬4): يقال للذئب: أبو ثمامة. ويقال للأبيض: أبو الجون، وللأسود: أبو البيضاء، ويدعى الأعمى: أبا البصير. وقال الأصمعيّ: يدعى القرد: أبا قيس. قال: ويقال لطائر فيه ألوان من سواد وبياض يتغيّر في النّهار ألوانا: أبو براقش، وأنشد: يغدو عليك مرجّلين … كأنهم لم يفعلوا كأبي براقش كلّ لون … لونهذا يتخيّل (¬5) ومن الكنى بالأمّهات، يقال للداهية: أم حبوكر، وأم ناز، وأم حشاف، وأم الرّبيق، وأمّ اللهيم. ويقال للأمر الذي لا منفذ له: أمّ صبّور، وأنشدوا: أوقعه الله لسوء سعيه … في أم صبّور فأودى ونشب (¬6) ومن كنى الخمر: أمّ ليلى (¬7)، وأم حنين، وأمّ زنبق، وأمّ الخلّ. قال مرداس بن خذام الكاهليّ: رميت بأم الخلّ حبة قلبه … فلم ينتعش منها ثلاث ليال ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي أحد أئمة العلم باللغة والشعر ولد وتوفي بالبصرة (122 - 216 هـ). نزهة الألباء 15، جمهرة أنساب العرب 234. (¬2) معمر بن المثنى التيمي ولد وتوفي بالبصرة (110 - 209 هـ) وقال عنه الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. طبقات النحويين واللغويين 192، بغية الوعاة 395. (¬3) لأن لونه يشبه لون المزقة، والمزقة: الطائفة من اللبن. (¬4) يزيد بن عبد الله كان من سكان بادية العراق ودخل بغداد في أيام المهدي العباسي، خزانة الأدب 3/ 118. (¬5) البيتان لعقيبة بن هبرة الأسدي وهو شاعر مخضرم توفي سنة 57 هـ، الخزانة 1/ 343. (¬6) البيت منسوب لأبي الغريب النصري. اللسان (صبر). (¬7) كنية للخمر السوداء، وليلى: نشوة الخمر.

وأمّ عجلان: طائر أسود أبيض، أصل الذنب من تحته، وربّما كان أحمر، واسمه: الفتاح. ومن أسماء البنين: ابن دأية للغراب، وابن جلا: الرجل المنكشف الأمر، ومثله: ابن أجلى، كما قال العجاج: به ابن أجلى وافق الإصحارا (¬1). ويقال: ابن مقرض لدويبّة أكحل اللون له خطيم طويل، وهو أصغر من الفأرة. ويقال للحمار الأهليّ ابن سنّه، وابن طاب عذق المدينة، ويقال أيضا: عذق ابن حبيق، وابن حمير، الليلة التي لا قمر فيها، وابن سمير الليلة ذات القمر. ومن أسماء البنات: ابنة الجبل (¬2) الصدى، ونبت الأرض الحصاة، ويقال أيضا لنبت يشبه القلّاع: بنت الأرض، ويقال ما كلمته ببنت شفة، أي: بكلمة، وبنات أسفع (¬3) المعزى، وكذلك بنات بعرة، ويقال للضأن: بنات خورة (¬4) يا هذا. قال أبو سعيد: الأسماء التي ذكرها سيبويه معارف أعلام للأجناس التي ذكرها، كزيد، وعمرو، وهند، ودعد. إلّا أن اسم زيد، وهند يختصّ شخصا بعينه دون غيره من الأشخاص، وأسماء الأجناس يختصّ كل اسم منها جنسا، كل شخص من الجنس يقع عليه الاسم الواقع على الجنس. مثال ذلك: أنّ زيدا أو طلحة في أسماء الناس لا توقعه على كلّ واحد من الناس، وإنّما توقعه على الشخص الذي يسمى بعينه لا يتجاوزه؛ وأسامة يقع على كلّ ما خبّرت عنه من الأسد، وكذلك ثعالة، وسمسم، وأبو الحصين، يقع على كلّ ما خبرت عنه من الثعالب. والفرق بينهما أن الناس تقع أسماؤهم على الشخوص، لكل واحد منهم اسم يختصّ به شخصه دون سائر الأشخاص؛ لأنّ لكل واحد منهم حالا مع الناس ينفرد بها في ¬

_ (¬1) في ديوان العجاج: لاقوا به الحجاج والإصحارا … به ابن أجلى وافقا الإسفارا (¬2) الحية لملازمتها له وتقال للداهية أيضا. (¬3) الأسفع اسم الغنم. (¬4) الخورة من الإبل خيرتها.

معاملته وأسبابه وما له وعليه، وليست لغيره، فاحتاج إلى اسم يختص شخصه. وكذلك ما يتخذه الناس ويستعملونه فيألفونه من الخيل والكلاب والغنم، وربّما خصّوها بأسماء تعرف بكل اسم منها شخص بعينه لما يخصّونه به من الاستعمال والاستحسان، نحو أسماء خيل العرب: كأعوج، والوجيه، ولاحق، وقيد، وجلّاب، والكلاب نحو: ضمران، وكسّاب، وغير ذلك مما يخصّونه بالألقاب. وما لا يألفه الناس لا يخصّون كلّ واحد منها بشيء دون غيره يحتاجون من أجله إلى تسميته، فصارت التسمية للجنس بأسره، فيصير الجنس في حكم اللفظ كالشخص، فيجري أسامة وسائر ما ذكره من الأسماء المفردة مجرى زيد، وعمرو وطلحة، ويجري ما كان مضافا نحو، أبي الحصين، وأبي الحارث، وابن عرس، وابن بريح، كعبد الله، وأبي جعفر، وما أشبه ذلك، وما كان منه له اسم وكنية نحو: أسامة، وأبي الحارث، وثعلة، وأبى الحصين، ودألان، وأبي جعدة، كرجل له اسم وكنية وهو إنسان اسمه طلحة وكنيته أبو محمد، واسمه زيد وكنيته أبو سعيد. وإن كانت مؤنثة لها اسم وكنية، فهي كامرأة لها اسم وكنية، وذلك نحو الضبع اسمها حضاجر، وجعار، وجيأل، وقتام وكنيتها: أمّ عامر، وأم خنّور، وأم زعم، وأم رمال، وهي كامرأة اسمها هند وكنيتها أم أحمد، وقد يكون في هذه الأجناس ما يعرف له اسم مفرد ولا يعرف له كنية، ومنه ما تعرف كنيته، ولا يعرف له اسم علم. ومنه ما يكون اسمه علما مضافا، ولا يعرف له غير ذلك. فأمّا ما يعرف له اسم مفرد علم ولا تعرف له كنية فنحو: قثم: ذكر الضبع، ولا كنية له. وأما ما له كنية، ولا اسم له علم، فنحو: أبي براقش، وأما المضاف فنحو: ابن عرس، وابن مقرض. وفي هذه الأشياء ما له اسم جنس واسم علم، كأسد، وليث، وثعلب، وذئب. هذه أسماء أجناسها؛ كرجل، وفرس، ولها أعلام نحو: أسامة، وثعالة، وسمسم، ودألان، وهي كزيد وعمرو وطلحة في أسماء الناس، ومنها ما لا يعرف له اسم غير العلم نحو: ابن مقرض، وحمار قبّان، وأبي براقش، وإن كان لشيء منها اسم فليس بالمعروف الكثير، وإنما ذكرت هذه الأشياء ليعلم اتساع العرب في تسمية ذلك، وعلى مقدار ملابستهم لجنس من هذه الأجناس، وكثرة إخبارهم عنه، يكثر تصرفهم في تسميته وافتنانهم فيها، كالأسد، والذئب، والثعلب، والضبع، فإن لها عندهم آثارا يكثر بها

إخبارهم عنها، فيتفننون في أسمائها وكناها وأسماء أجناسها، ولأن إقامتهم في البوادي وكونهم في البراري، قد تقع أعينهم على طائر غريب ووحشي ظريف، يرون من دوابّ الأرض وهوامها وأجناسها ما لا اسم له عندهم، فيكنونه بأسماء يشتقونها من خلقته، أو من فعله، أو من بعض ما يشبهه أو غير ذلك؛ ويضيفونه إلى شيء على ذلك المنهاج، أو يلقبونه، كفعلهم بمن يلقب من الناس. فيجري ذلك مجرى الأسماء الأعلام والألقاب في الإخبار عنه، ويكون ذلك لجنسه لا لواحد بعينه، ولولا أن ذلك من غير ما قصدنا إليه لمثلت منه ما يكون كالعيان. وفى الفراش وغيره من الحيوان مما لم يسمعوه كثير، وفى هذه الخلق من العجائب ما لا يحاط به. ولقد حدثنا أبو محمد السكري عن خفيف السمرقندي حاجب المعتضد بالله، أنه كثر الفراش على الشمع المسرج بحضرة المعتضد في بعض الليالي، فأمر بجمعه وتمييزه، فجمع فكان مكّوكا (¬1)؛ وميّز فكان اثنتين وسبعين لونا. وكذلك صارما يكنى بالآباء والأمهات معارف؛ لأنهم ذهبوا به مذهب كنى الرجال والنساء، وكذلك ما يضاف إلى شيء غير معروف باستحباب تلك الإضافة واستحقاقها، كنحو ابن عرس، وابن أوبر، وابن قترة (¬2)، وابن آوى، وحمار قبّان؛ لأن المضاف إليه من ذلك لا يعرف باستحقاق إضافة ما أضيف إليه، فجرى مجرى ألقاب الناس المضافة، نحو ثابت قطنة، وقيس قفّة. وأما ما نعرف باستحقاق إضافة ما أضيف إليه، فنحو ابن لبون، وابن مخاض، وبنت لبون، وبنت مخاض، وابن ماء، وذلك أن الناقة إذا ولدت ولدا ثم حمل عليها بعد ولادتها فليست تصير مخاضا إلّا بعد سنة أو نحو ذلك، والمخاض الحامل المقرب، فولدها الأول إن كان ذكرا هو ابن مخاض، وإن كانت أنثى فهي بنت مخاض، وإن ولدت وصار لها لبن صارت لبونا، فأضيف الولد إليها بإضافة معروفة الاستحقاق والاستحباب، وإن نكّرت مخاض ولبون، فما أضيف إليها نكرة نحو: ابن مخاض، وابن لبون، وإن عرّفتهما بإدخال الألف واللام، فما أضيف إليهما معرفة نحو: ابن اللبون، وابن المخاض. وكذلك ¬

_ (¬1) المكوك: كأس يشرب به وهو مكيال يساوي نصف رطل أو صاعا ونصف أو عشرين مدّا بمد النبي صلّى الله عليه وسلّم. (¬2) حية خبيثة تميل إلى الصغر، وابن قترة إبليس لعنه الله.

ابن ماء: طائر، نسب إلى الماء بلزومه له. فإن نكّرت الماء تنكّر فقلت: ابن ماء، وإن عرّفته تعرّف فقلت: ابن الماء. وأنا أسوق شواهد بعض ذلك في كلام سيبويه إن شاء الله. وإنما علم أن العرب ذهبت في هذه الأسماء مذاهب الأعلام والألقاب المعارف، أنّا رأينا ما كان منها فيها ما يمنع من صرف المعرفة لا يصرف، كأسامة وثعالة؛ لأن فيهما التأنيث والتعريف. وكذلك جعار وجيأل، وكذلك دألان، لأن فيه الألف والنون الزائدتين والتعريف. وكذلك قثم لا ينصرف لأنه معدول عن قاثم وهو معرفة مثل: عمر. وما لم يكن فيه ما يمنع الصرف، فإنه لا تدخله الألف واللام، كابن عرس وابن بريح، لا يقال: ابن العرس، ولا ابن البريح، كما لا تدخل الألف واللام على زيد وعمرو ومكّة وبغداد. قال: " وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسم معناه معنى زيد، أن الأسد وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس، فيحتاجوا إلى أسماء يعرفون بها بعضها مع بعض، ولا تحفظ جلاها كحفظ ما يثبت مع الناس ويقتنونه ويتّخذونه. ألا تراهم قد اختصّوا الخيل والإبل والغنم والكلاب وما يثبت معهم واتخذوه بأسماء كزيد وعمرو ". قال: " ومنه- يعنى من المعارف- أبو جنادب (¬1) وهو شيء يشبه الجندب غير أنه أعظم منه، وهو ضرب من الجنادب، كما أنّ بنات أوبر ضرب من الكمأة، وهو معرفة. ومن ذلك ابن قترة، وهو ضرب من الحيّات، فكأنهم إذا قالوا: هذا ابن قترة، فقد قالوا: هذه الحيّة، التي من أمرها كذا وكذا، وإذا قالوا: بنات أوبر فكأنهم قالوا: هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا: هذا أبو جنادب فكأنهم قالوا: هذا الضرب الذي سمعت به أو رأيته ". قال أبو سعيد: كأنّ تلقيب هذه الأشياء وتسميتها بهذه الأسماء المعارف في مذهب سيبويه، دلالة على الاسم وبعض صفاته وخواصه، ألا تراه قال: فكأنهم إذا قالوا: هذا ابن قترة فقد قالوا: هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا، وكذلك هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وهذا مذهب حسن. ¬

_ (¬1) الضخم الغليظ.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد (¬1) يذهب إلى أن ابن أوبر نكرة، ويستدل على ذلك بإدخال الألف واللام عليه في بيت قاله بعض الشعراء وهو: ولقد جنيتكم أكمؤا وعساقلا … ولقد نهيتك عن بنات الأوبر (¬2) والقول عندي ما قاله سيبويه، وهذا البيت اضطرّ شاعره إلى إدخال الألف واللام كما أدخل أبو النجم في قوله: باعد أمّ العمر من أسيرها (¬3) وكقول الآخر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا … شديدا بأعباء الخلافة كاهله (¬4) وقد قال الأصمعي: أدخلوا الألف واللام مضطرين؛ لأنه قد عرف من كلامهم أنّهم لا يدخلون عليه الألف واللام، وقد قال الشاعر: ومن جنى الأرض ما يأتي الرّعاء به … من ابن أوبر والمغرود والفقعة (¬5) فابن أوبر بمنزلة المغرود والفقعة في التعريف، ولو كان نكرة لكان الأحسن أن يجعله عديل المغرود والفقعة، ويقول من ابن الأوبر بتليين الهمزة. وقد تقدم من قولنا: إن الباب في مثل هذا يكون معرفة إلّا ما استثناه منه. قال أبو سعيد: وقد تقدم في أقسام هذه الأسماء المعارف أن منها ما يختص باسم معرفة لا يتجاوز إلى غيره، ولا يكون له نكرة تقع على كل واحد من نوعه، وتعرّف بالألف واللام، كرجل وفرس وأسد، فذكر سيبويه من هذا النحو: ابن آوى، وابن عرس، وأم حبين، وأمّ أبرص، وبعض العرب يقول: أبو بريص وحمار قبّان. قال: كأنهم قالوا في ¬

_ (¬1) هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المعروف بالمبرد كان إمام العربية في بغداد، كان يخالف سيبويه في بعض آرائه، كان على رأس نحاة البصرة في زمانه، قدم إلى بغداد في شيخوخته وتوفي بها سنة 285 هـ، تاريخ بغداد 3/ 380، أخبار النحويين البصريين ص 96. (¬2) البيت بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 366، أوضح المسالك 81، اللسان (وبر). (¬3) البيت في اللسان (وبر). (¬4) البيت لابن ميادة في ديوانه 192، واللسان (وسع). (¬5) بدون نسبة في اللسان (فقع).

كل واحد من هذه الأشياء هذا الضرب الذي يعرف بصورة كذا، فاختصت العرب لكل ضرب من هذه الضّروب اسما على معنى الذي تعرفها به لا تدخله النكرة، وتركوا في هذه الأشياء الاسم الذي تدخله المعاني المعرّفة والمنكرة، ويدخله التعجب، وتوصف به الأسماء المبهمة؛ يعني لم يجعلوا لهذه الأشياء اسما ينكّر، كرجل وأسد، وتدخله الألف واللام كالرجل، والأسد، ويدخله التعجب كقولك: هذا الرجل، وهذا الأسد، إذا كنت ترفع من شأنه، ووصف الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. قال: (فكأنّ هذا اسم جامع لمعان) يعنى: رجل وأسد؛ لأنه يتصرف في ضروب من المعاني، وابن عرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبي الحارث ويزيد معنى واحد واستغني به، وفيما ذكر من هذه الأسماء المعارف ابن مطر، وهو معرفة، وهو دويبة حمراء تظهر غبّ (¬1) المطر، وجمعه بنات مطر، وأما ابن ماء: فطائر طويل العنق يتنكّر إذا نكّرت الماء، ويتعرّف إذا عرّفته، قال ذو الرمة في تنكيره: وردت اعتسافا والثريّا كأنّها … على قمة الرأس ابن ماء محلّق محلّق نكرة وهو نعت ابن ماء، وقال أبو الهندي: مقدّمة قزّا كأنّ رقابها … رقاب بنات الماء أفزعها الرّعد (¬2) يصف أباريق خمر يشبّه رقابها برقاب هذه الطير، وعرّفها بإدخال الألف واللام على الماء، وقد تقدم القول بأنّ ابن لبون وابن مخاض نكرتان، وأنهما يتعرفان بإدخال الألف واللام. قال جرير: وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن … لم يستطع صولة البزل القناعيس (¬3) وقال الفرزدق: وجدنا نهشلا فضلت فقيما … كفضل ابن المخاض على الفصيل (¬4) قال: (وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابن عرس مقبل، فرفعه على وجهين، فوجه مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل ما بعده نكرة فصار مضافا ¬

_ (¬1) الغب بالكسر: عاقبة الشيء. (¬2) البيت في شرح ابن يعيش 1/ 35. (¬3) البيت في شرح ابن يعيش 1/ 35، وفي اللسان (لبن). (¬4) ديوانه: 652، وشرح ابن يعيش 1/ 35.

إلى نكرة، بمنزلة قولك: هذا ابن رجل منطلق. ونظير ذلك هذا قيس قفّة آخر منطلق، وقيس قفّة لقب، والألقاب والكنى بمنزلة الأسماء، نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قفة ما أراد في قوله: هذا عنمان آخر، فلم يكن له بد من أن يجعل ما بعده نكرة؛ لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف إلى معرفة، وعلى هذا الحدّ تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت: هذا رجل منطلق، فإنما أدلت النكرة على هذا العلم الذي إنما وضع للمعرفة، ولها جيء به: فالمعرفة هنا الأولى) يريد أنّ ابن عرس- وإن كان موضوعا للتعريف في الأصل- فقد يجوز أن ينكّر كما ينكّر زيد وعمرو، وإن كان موضوعهما معرفة. فإذا قلنا: هذا ابن عرس مقبل، فيكون على وجهين: أحدهما، أن يكون ابن عرس على تعريفه، وترفع مقبل على ما ترفعه عليه لو قلت: هذا عبد الله مقبل، وقد مضت وجوه الرفع فيه. والوجه الآخر، أن تجعل ابن عرس نكرة، ومقبل نعت له. قال سيبويه: بعد ذكره ابن لبون، وابن مخاض، وابن ماء، وأنّهنّ نكرات قال: (وكذلك ابن أفعل إذا كان ليس باسم لشيء) يعنى أن ابن أفعل- وإن كان لا ينصرف- فهو نكرة إذا لم يجعل علما لشيء كابن أحقب، وهو الحمار وهو نكرة. وتدخل عليه الألف واللام فيصير معرفة كقولك: مررت بابن الأحقب، وحكى عن ناس قالوا: كل ابن أفعل معرفة لأنه لا ينصرف. فقال سيبويه: " هذا خطأ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر قمدّ (¬1)، فترفعه إذا جعلته صفة للأحمر، ولو كان معرفة كان نصبا، فالمضاف إليه بمنزلته) يريد أن منع الصرف في أفعل لا يوجب له التعريف كما لم يوجب ذلك في أحمر وأنشد لذي الرمّة: كأنّا على أولاد أحقب لاحها … ورمي السّفا أنفاسها بسهام جنوب ذوت عنها التّناهي وأنزلت … بها يوم ذبّاب السّبيب صيام (¬2) الشاهد من البيتين: أن صيام الذي في آخر البيت الثاني صفة لأولاد، فأولاد أحقب نكرة، فعلم أن أحقب نكرة؛ لأن المضاف إليه نكرة. ¬

_ (¬1) القمد هو الشديد الغليظ. (¬2) البيت في ديوانه 2/ 1072، اللسان (سهم).

هذا باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم يكون لكل من كان من أمته أو كان في صفته

ومعنى البيت: كأنا على حمير قد لاحها أي: عطّشها. جنوب ذوت عنها التناهي: حفّت عن الجنوب، والتناهي: غدران الماء والمستنقعات، وأنزلت الجنوب بهذه الحمير يوم ذبّاب السبيب: يوم حرّ احتاجت فيه إلى تحريك أذنابها. والسبيب في هذا الموضع: أذنابها. وصيام: قيام. ورمي السفا عطف على جنوب، كأنه قال: لاحها جنوب ورمي السفا، كقولك: قام وزيد عمرو، ومعنى أنفاسها: أنوفها لأنها مواضع الأنفاس. والسفي: شوك البهمي، وصار ما يصيب أنوفها من ذلك بمنزلة السهام، وإنما يريد أنّ هذه الحمير أسرع ما تكون في هذه الحال، كأنا عليها من السّرعة والانزعاج. هذا باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم يكون لكلّ من كان من أمّته أو كان في صفته من الأسماء التي تدخلها الألف واللام، وتكون نكرته الجامعة لما ذكرت من المعاني. " وذلك قولك: فلان ابن الصّعق، والصّعق صفة تقع على كلّ من أصابه الصّعق، ولكنّه غلب عليه حتى صار علما بمنزلة زيد وعمرو، وقولهم النجم، صار علما للّثريّا، وكابن الصعق قولهم: ابن ألان، وابن كراع، صار علما لإنسان واحد، وليس كلّ من كان ابنا لألان وابنا لكراع غلب عليه هذا الاسم، فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصّعق لم يصر معرفة، من قبل أنك إنما صيّرته معرفة بالألف واللام، كما صار ابن ألان معرفة بألان، وليس هذا بمنزلة عمرو وزيد وسالم، لأنها أعلام جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا، وزعم الخليل: إنه إنّما منعهم أن يدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام، أنّهم لم يجعلوا الرجل الذي سمّي بزيد من أمة كلّ واحد منهم يلزمه هذا الاسم، ولكنّهم جعلوه سمّي به خاصّا، وزعم الخليل أن الذين قالوا الحرث والحسن والعبّاس، إنّما أرادوا أن يجعلوه سمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصف له غلب عليه، ومن قال: حارث، وعباس، فهو يجريه مجرى زيد. وأمّا ما ألزمته الألف واللام فلم تسقط فإنما جعلت الشيء الذي يلزمه ما لزم كلّ واحد من أمته، وأمّا الدّبران والسّماك والعيّوق وهذا النحو، فإنّما تلزمه الألف واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه ".

قال أبو سعيد: اعلم أنّ الاسم العلم إنما وضع لإبانة شخص من سائر الأشخاص، وليس فيه دلالة على وجود معنى ذلك الاسم في الشخص الذي سمي به، كرجل يسمى بزيد، أو عمرو، أو جعفر، أو طلحة، أو حمزة، أو ما أشبه ذلك، ومعنى زيد: الزيادة، ومعنى عمرو: العمر، وجعفر: هو النهر، وطلحة: اسم لشجرة، وحمزة: اسم بقلة. وقد علم أن المسمى بشيء من هذا من الناس لا يراد به أنه نهر ولا أنه شجرة، ولا أنه بقلة، فإذا سموا بشيء من هذه الأسماء أو غيرها لإبانة الشخص، فإنه يصير معرفة بالتسمية، والذي يوجب التعريف اختصاص المسمى به شخصيا بعينه ليميزه من سائر الأشخاص، وهذا تعريف الاسم العلم الذي لا يحتاج إلى الألف واللام والإضافة، وهذه الأسماء إذا اشترك فيها المسمّون، لم يكن بينهم اتفاق يجب به اشتراكهم في الاسم؛ لأن جماعة أسماؤهم زيد لا يختصون بمعنى جمعهم على تسمية زيد يتباينون به ممن اسمه عمرو، وقد ذكر في أقسام المعارف: (أن الاسم يكون معرفة بدخول الألف واللام عليه كالرجل والفرس وما أشبه ذلك، وبالإضافة له إلى معرفة نحو ابن زيد وغلام زيد وما أشبهه)، وهذه الأسماء تجب للمسمين بها لمعان فيهم يختصون بها، وتوجب مثل تسميتهم لكل من شاركهم في المعنى، كالرجل يسمى به خلقته كخلقته، وكذلك الفرس، والدار، والبستان، والبزار (¬1)، والعطار، والظريف، والجميل، والشجاع؛ لأن كل من شارك البزار في صفته فهو بزار، وكذلك العطار، وكل من فيه ظرف أو جمال أو شجاعة قيل له: الظريف، والجميل، والشجاع، لا يختص أحد منهم باسم دون سائر من فيه ذلك المعنى. ثم غلب على بعض المسمّين بذلك الاسم الذي يشارك فيه غيره حتى يصير له كالعلم الذي يعرف به إذا ذكر مطلقا، ولا يعرف به غيره إلا بعهد يتقدّم، فمن ذلك الصّعق: وهو رجل من بني كلاب وهو خويلد بن نقيل بن عمرو بن كلاب، ذكروا أنه كان يطعم الناس بتهامة، فهبت ريح فسفت في جفانه التراب، فشتمها، فرمي بصاعقة فقتلته، فقال فيه بعض بنى كلاب: إن خويلدا فابكي عليه … قتيل الريح في البلد التهامي فعرف خويلد بالصّعق، وغلب عليه، وشهر به حتى إذا ذكر الصعق لم يذهب ¬

_ (¬1) البزار: بياع بزر الكتان.

الوهم إلى غيره، فمن أصابته صاعقة، ثم عرف بعض أولاده بابن الصعق حتى إذا ذكر ابن الصعق لم يذهب الوهم إلى غيره إلّا ببيان. وكان أشهر ولده وأكثرهم علما، وأغزرهم شعرا، وأشجعهم للعدو، وألزمهم للحروب، وأسرعهم إلى الوقائع، يزيد بن عمرو بن الصعق (¬1)، وكان قد أسر وبرة بن رومانس الكلبي (¬2) أخا النعمان بن المنذر لأمّه، فأرسل إليه النعمان أن يطلقه فأبى حتى يحكّم، فأرسل إليه النعمان فحكّمه، فاحتكم مائة فرس، ومائة بعير، ومائة شاة، ومائة سيف، ومائة رمح، وألف قوس، وألف درع، فأرسل إليه بذلك فخلّى سبيله. ومن شعره: فما كان مالي من تراث ورثته … ولا صدقات من نساء ولا سرق ولكن عناق الدارعين وطعنهم … وفودي بأرسان المسوّمة العتق وصبري إذا نفس الجبان تطلعت … وأعصم من وقع الأسنة كالبرق (¬3) وليس كل من كان ابنا للصعق عرف بابن الصعق كمعرفة زيد. ومثله في الإسلام أنّه كان لكل واحد من عمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، والعباس بن عبد المطلب، رضوان الله عليهم، أولاد جماعة، فغلب على عبد الله بن عمر أن يعرف بابن عمر وإن لم يسمّ، فيعلم أنه عبد الله دون غيره من ولد عمر، وكذلك ابن الزبير عبد الله، وكذلك عبد الله بن عباس، فإذا ذكر ابن عمر وابن الزبير وابن عباس لا يذهب الوهم إلى غير هؤلاء من ولد هؤلاء الثلاثة، وذلك إذا قيل: ابن رألان، علم أنّه جابر بن رألان الطائي السنبسي، ولا يذهب الوهم إلى ابن آخر لرألان، وكذلك سويد بن كراع العكليّ، ومن ذلك قولهم للثريا: النجم، وذلك أنّ النجم واحد النجوم نكرة، ثم تدخل عليه الألف واللام فيقال النجم، لنجم عرفه المتكلم والمخاطب وعهداه، أي نجم كان، ثم غلب على الثريا اسم النجم حتى يقول القائل: طلع النجم، فيعلم المخاطب أنه يعني به الثريا من غير عهد بينهما. قال أبو ذؤيب: ¬

_ (¬1) هو يزيد بن عمرو ابن الصعق فارس جاهلي من الشعراء، خزانة الأدب 1/ 206. (¬2) ابن رومانس الكلبي هو المنذر بن وبرة الكلبي، شاعر جاهلي أدرك الإسلام، اشتهر بنسبته إلى أمه (رومانس)، وهو أخو النعمان بن المنذر اللخمي. التاج 4/ 164. (¬3) خزانة الأدب 1/ 206.

فوردن والعيّوق مقعد رابئ … ضرباء خلف النجم لا يتتلّع (¬1) يريد بالنجم: الثريا، والثريا أيضا تجري هذا المجرى؛ لأن الأصل فيها ثروى، ومعناها كثير من الثروة، وتروى كثيرة الكواكب؛ لأن كواكبها سبعة أو نحوها، فصغرت فصارت ثريّا، ودخلت الألف واللام عليها وغلب اللفظ على هذه الكواكب بعينها دون سائر ما يوصف بالثروة والكثرة، ولو أخرجت الألف واللام من الصعق أو النجم أو الثريا لم تصر معرفة؛ لأن تعريفها بالألف واللام لا بالتسمية، كما لو ألقيت رألان من ابن، بطل التعريف؛ لأن تعريف ذلك ليس كتعريف زيد وعمرو وسلام؛ لأنها أعلام جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا. يريد أن العلم جمع معرفة الرجل وأحواله فأغنى عن تطويل ذكره. وقد مضى الكلام في نحو هذا. وقد مضى الكلام في منع زيد ونظائره الألف واللام، فأمّا الحارث والحسن والعباس فمذهب العرب في هذه الأسماء وما جرى مجراها، أن يجعلوها لأولادهم وسائر من يسمون بها تفاؤلا وترجيا أن يصير فيهم تلك الأشياء، فيعزونهم لما تراد له تلك الأسماء نحو الحارث، ومعناه: الكاسب الذي يحرث لدنياه ويكسب، والعباس: المجرّب الذي يعيش في الحرب، فسموا بما أعدّوا له كما يقال: الأضحية والذبيحة لما أعدّ لذلك، وربما اعتقدوا لهم معنى أو رأوه فيهم فوصفوهم به، وغلب فشهروا به، وأغنى عن اسم سواه من الأعلام، كتسميتهم بالحسن الأغرّ وما أشبه ذلك، وبعضهم ينزع الألف واللام ويجرى مجرى زيد ونظائره، ويقول حارث وعباس وحسن، وقد يشبهون الشيء بالشيء فيوقعون عليه اسمه، يعرّفونه بالألف واللام فيغلب عليه اسمه كقولهم: النّسران للكوكبين تشبيها لهما بالطائرين، والفرقدان تشبيها لهما بفرقدي بقرة وحشية، وقد يشبهون بقر الوحش بالكواكب لبياضها، وقد يشتقون لبعضها اسما من معان فيها غير مطردة أسماؤه فيما شاركه من المعاني، وغير خارجة عن نظائرها في كلامهم لم تطّرد، كالدبران والعيّوق والسّماك، فأما الدبران فمشتق من دبر يدبر، وهم يذكرون أنه يتبع الثريا ويطلبها خاطبا لها، وليس كل شيء دبر شيئا، فهو دبران، إلّا أن في كلامهم فعلانا في موضع الفاعل، كقولهم: العدوان للعادي من العدو، والغدوان للغادي وهو السائل، وكذلك ¬

_ (¬1) شرح أشعار الهذليين 1/ 19، خزانة الأدب 1/ 418، اللسان (ضرب).

صلتان وهو النشيط الشديد، مأخوذ من السيف الصّلت أو نحوه. قال امرؤ القيس: وغيث من الوسمّي حوّ تلاعه … تبطّنته بشيظم صلتان مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا … كتيس ظباء الحلّب الغذوان (¬1) ويروى: الغذوان من التغذية بالبول، والعدوان من العدو. وأما العيّوق فمشتق من عاق، وكأنه عاق كواكب وراءه من المجاورة. وهذا على التمثيل والتخيّل بالنظر إليه وإلى ما وراءه، ويجوز أن يكون سمّوه بذلك لأنهم يقولون إن الدبران يطلب الثريا ويخطبها، وقد ساق مهرها كواكب صغارا معه، والعيوق بينهما في العرض إلى ناحية الشمال، وكأنه يعوقه عنها. والعيوق على وزن الفيعول، ومثله ما اشتق للفاعل قيّوم، وهو فيعول من قام يقوم، وصخد صخود من صخد يصخد. وأما السمّاك فهو الارتفاع. قال الفرزدق: إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا … بيتا دعائمه أعزّ وأطول (¬2) أي رفع، ويقال: سمك بمعنى ارتفع، فالسماء مسموكة وسامكة، ومن سامكة يقال النجوم السوامك، ومثل سماك في معنى سامك، رجل نقاب ينقب عن غوامض العلم ويفطن لها بمعنى ناقب. وقد قال أوس: نجح مليح أخو مأقط … نقاب يحدّث بالغائب (¬3) قال: " فإن قال قائل: يقال لكل شيء صار خلف شيء دبران، ولكل شيء عاق عن شيء عيوق، ولكل شيء ارتفع سماك؟ فإنك قائل له: لا ولكن هذا بمنزلة العدل والعديل والعديل ما عادلك من الناس، والعدل لا يكون إلّا للمتاع والمعنى واللفظ واحد، ولكنّهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا حصان ومثل ذلك بناء حصين، وامرأة، أن يخبروا أن البناء محرز لمن لجأ إليه، والمرأة محرزة لفرجها، ومثل ذلك الرّزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يحمل وبين ما نقل في مجلسه فلم يخف. ¬

_ (¬1) خزانة الأدب 1/ 160، الشعر والشعراء 31. (¬2) البيت في ديوانه ص 714. (¬3) البيت في اللسان (نجح).

وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب ". قال أبو سعيد: وإنما أراد سيبويه أن يبين أن الدبران والعيوق والسماك من دبر وعاق وسمك، ولا يلزم أن يستوي لفظ الفاعل وبناؤه في كل شيئين اشتقا من لفظ واحد في معنى واحد؛ لأن البناء الحصين مشتق من لفظ الحاء والصاد والنون، ومعنى الحرز، وكذلك امرأة حصان، وفصل بين بنائهما لاختلاف موضوعيهما، فجعل أحدهما على فعيل، والآخر على فعال، وكذلك الرزين والرّزان، والدابر، وإن كانا مأخوذين من لفظ (دبر)، ومعنى التأخر، لفظ الكواكب خلاف غيره، وعلى أنه قد قيل: دبران الحمى، وحكم العيوق والعائق والسماك والسامك يجرى على ذلك. قال سيبويه: " وكل شيء جاء قد لزمه الألف واللام فهو بهذه المنزلة، فإن كان عربيّا نعرفه ولا نعرف الذي اشتق منه، فإن ذلك لأنا جهلنا ما علم غيرنا، أو يكون الآخر لم يصل إليه علم وصل إلى الأول المسمّي " يريد أن المعنى الذي اشتق منه إمّا أن يكون نحن لا نعرفه ويعرفه غيرنا من أهل عصرنا، وإما أن يكون علم ذلك قد درس، ولم يقع إلى أهل عصرنا. ومما يجري مجرى الأول الثلاثاء والأربعاء فهما مشتقان من الثالث والرابع، واختص بهذا الاشتقاق اليومان فقط، كما اختص بالعيوق الكوكب، وهي كلها معارف. قال: " فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عمران منطلقان، لم يكن الكلام إلا نكرة، وإنما تنكّر التثنية؛ لأن الاسم العلم زيد، فلما تثنيه بطل لفظ العلم الذي وضع لتعريف أدخلت الألف واللام فقلت: الزيدان والعمران، وقد يجوز أن تقع التسمية بلفظ التثنية والجمع فتكون معرفة بغير الألف واللام، وذلك لا يكون إلّا في الأماكن التي لا يفارق بعضها بعضا نحو أبانين وعرفات، وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات وبين زيدين وزيدين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علما لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علما لشيء بعينه، كأنهم قالوا: إذا قلنا ائت: تريد هات هذا الشخص الذي تشير إليه، ولم يقولوا: إذا قلنا: جاء زيدان فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عرفا قبل ذلك وأثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا: جاء زيد ابن فلان، وزيد ابن فلان فإنما يعني هذين الجبلين بأعيانهما، فهكذا تقول إذا أردت أن تخبر عن معرفتين.

كأنهم قالوا إذا قلنا ائت أبانين، فإنما يعني هذين الجبلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: أمرر بأبان كذا وأبان كذا، ولم يفرقوا بينهما؛ لأنهم جعلوا أبانين اسما لهما يعرفان به بأعيانهما. وليس كذلك هذا في الأناسي ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلا عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبه من الحال في الثّبات والخصب والقحط، ولا يشار إلى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسي والدواب، والإنسانان والدّابتان لا يثنيان أبدا يزولان ويتصرفان، ويشار إلى أحدهما والآخر غائب، ولا يقولون أبان الأيمن ولا أبان الأيسر، ولا الشرقي ولا الغربي، ويقولون: هذه عرفات، وهؤلاء عرفات، وهذه عرفة ". قال أبو الحسن: وقد يجوز في الشعر أن يتكلم بأبان واحد وبعينهما. قال أبو سعيد: هذا يجوز في كل اثنين يصطحبان ولا يفارق أحدهما صاحبه، وذلك في الشعر وغيره، فأما أبان فقد قال لبيد: درس المنا بمتالع فأبان … فتقادمت بالحبس فالسّوبان (¬1) قال أبو ذؤيب: والعين بعدهم كأنّ حداقها … سملت بشوك فهي عور تدمع (¬2) ويقول القائل في كلامه: لبس زيد خفّ، ولبس زيد نعله يريد النعلين. قال: " وأما قولهم: أعطيكم سنّة العمرين، فإنما أدخلوا الألف واللام على عمرين؛ لأن عمرين نكرة على ما تقدم من القول في زيدين، وتعرّفهما بالألف واللام، وأكثر الناس على أن سنّة العمرين؛ سنّة: أبي بكر وعمر، واختاروا التثنية على لفظ عمر لأنّه مفرد، وهو أخف في اللفظ من المضاف، ومنهم من يقول اختير لفظ عمر لطول أيامه وكثرة فتوحه وشهرة آثاره. ويروى أنه قيل لعثمان رضي الله عنه: نسألك سنّة العمرين. ¬

_ (¬1) أشعار الهذليين 1/ 9. (¬2) البيت في اللسان (عور).

وقال الفرّاء: وأخبرني معاذ الهراء: لقد قيل سنّة العمرين قبل عمر بن عبد العزيز وزعم الأصمعي عن أبي هلال الراسبي عن قتادة: أنه سئل عن عتق أمهات الأولاد فقال: أعتق العمران فيما بينهما من الخلفاء أمهات الأولاد، ففي قول قتادة أنهما عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز؛ لأنه لم يكن بين أبي بكر وعمر خليفة ". قال أبو سعيد: والذي عندي أنه ليس فيما روي عن قتادة مخالفة لقول من قال: إنه يراد بسنّة العمرين سنّة أبي بكر وعمر؛ لأن قتادة إنما ذكر اتفاق عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز في عتق أمهات الأولاد، كما يثنيان لو أخبر عن اتفاقهما في مسألة من الفقه والفرائض، وإنما الكلام في سنة العمرين التي يطلبها طالب السيرة العادلة على معنى المثل السائر فيه، وأما قول الفرزدق: فحلّ بسيرة العمرين فينا … شفاء للقلوب من السقام (¬1) فليس فيه بيان؛ لأنّ الفرزدق يمدح بهذا هشام بن عبد الملك، وهو بعد عمر بن عبد العزيز. وهذان الاسمان وإن كان أحدهما قد اتّبع صاحبه في اللفظ وليس باسمه في الأصل، فقد صار في حكم اسمين؛ كلّ واحد منهما من أمة، كل واحد منهما عمر، وذلك على مذهب يستعمله العرب وطلبا للتخفيف كقوله: لنا قمراها والنجوم الطوالع (¬2) فإنما أراد الشمس والقمر. وقال قراد بن حنش الصادي: إذا اجتمع العمران عمرو بن جبار … وبدر بن عمرو خلت ذبيان تبعا والزّهدمان فيما ذكر أبو عبيدة؛ زهدم وكردم ابنا قيس. وقال غيره: زهدم وقيس العبسيان من بني عوير بن رواحة، والأبوان الأب والأم، وفيما ذكر سيبويه من المثنى: ¬

_ (¬1) ديوانه 839. وفيه: فجاء بسنة العمرين فينا … شفاء للصدور من السقام (¬2) ديوانه 419 وهو عجز بيت صدره: أخذنا بأطراف السماء عليكم

هذا باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة

الغريّان (¬1) المشهوران بالكوفة؛ بمنزلة النسرين إذا كنت تريد النجمين، وللغريّين حديث ليس القصد في هذا الموضع لذكر مثله والله أعلم. هذا باب ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة إذا بني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج إلى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. قال أبو سعيد في هذا الباب إلى آخره: في (من)، و (ما)، في الخبر، ويكونان معرفتين ونكرتين، فإن كانا معرفتين، فكل واحد منهما بمنزلة (الذي) يحتاج من الصلة إلى ما يحتاج إليه (الذي). وسيبويه يسمي الصلة الحشو، فأمّا المعرفة فنحو قولك: هذا من أعرف منطلقا، وهذا من لا أعرف منطلقا، أي هذا الذي قد علمت أني لا أعرفه منطلقا، وهذا ما عندي مهينا، وأعرف ولا أعرف عندي؛ حشو لهما يتمّان به، فيصيران اسما كما كان الذي لا يتمّ إلّا بحشوه، وإن كانت نكرتين فهو ما قاله الخليل قال: (إن شئت جعلت من بمنزلة إنسان، وجعلت ما بمنزلة شيء، نكرتين وتلزمهما للصفة، والفرق بين الصلة والصفة أن الصلة جملة لا تتعلق بإعراب الموصول أو في تقدير جملة، والصفة اسم مفرد أو ما تقديره تقدير اسم متعلق إعرابه بالموصوف، تقول في الموصول: مررت بمن أبوه قائم، وبما طعمه طيب، ورأيت بمن أبوه قائم، وما لونه حسن. وأما الصفة فنحو قولك: مررت بمن منطلق، ورأيت من منطلقا، ومررت بماء طيب، وقال الأنصاري (¬2): وكفى بنا فضلا على من غيرنا … حب النبيّ محمد إيّانا (¬3) فوصف من بغير، وجرّه على موضع من، وقال الفرزدق في مثله: ¬

_ (¬1) أم عامر: الضبع. (¬2) كعب بن مالك بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي من أكابر الشعراء من أهل المدينة، اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وشهد أكثر الوقائع. الإصابة (ت 7433)، خزانة الأدب 1: 200. (¬3) ديوان كعب بن مالك: 89، شرح ابن يعيش 4: 12، خزانة الأدب 6: 120، 123، 128.

إنّى وإيّاك إذ حلّت بأرحلنا … كمن بواديه بعد المحل ممطور (¬1) جرّ ممطور لأنه صفة من، كأنه قال: كإنسان ممطور. قال: وأما هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (¬2) فرفعه على وجهين: على شيء لديّ عتيد، يجعل ما بمنزلة شيء، كأنه قال: هذا شيء لديّ عتيد. وقد أدخلوا في قول من قال نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئا يكون موصوفا لا يسكت عليه؟ فقالوا: نعم يا أيها الرجل. الرجل وصف لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يسكت على يا أيّها، فربّ اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفه عندهم كأنه به يتم الاسم؛ لأنهم إنما جاءوا بأيّها ليصلوا إلى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. كذلك (من) و (ما) إنما يذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يرد بهما خلوين شيء، ولزمهما الوصف كما لزمهما الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحدا، فالوصف قولك: مررت بمن صالح، فصالح وصف. وإن أردت الحشو قلت: بمن صالح، فيصير صالح خبرا لشيء مضمر، كأنك قلت: مررت بمن هو صالح، والحشو لا يكون أبدا ل (من) و (ما) إلّا وهما معرفة؛ وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أنّ الذي لا يكون إلا معرفة لا تكون من وما إذا كان الذي بعدهما حشوا وهو الصلة إلّا معرفة وتقول: هذا من أعرف منطلق، فتجعل أعرف صفة. يصير كأنك قلت: هذا من معروف منطلق، بمنزلة رجل معروف. وتقول هذا من أعرف منطلقا، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلق على قولك: هذا عبد الله منطلق ومثل ذلك: الجمّاء الغفير، فالغفير وصف لازم، وهو توكيد؛ لأنّ الجمّاء الغفير مثل، فلزم الغفير كما لزم ما في قولك: إنك ما وخبزا، والخبز في هذا ونحوه عند أصحابنا محذوف، وتقديره إنك وخبزا مقرونان، وما زائدة، وهي لازمة عوضا عن المحذوف، ومثل هذا: كل رجل وقرينه، وكل إنسان وصنعته، عند أصحابنا البصريين الخبر محذوف، وتقديره: كلّ رجل وقرينه مقرونان، وكذلك كل إنسان وصنعته، وعند الكوفيين ¬

_ (¬1) ديوان الفرزدق، ص: 263، وروايته: إني وإيّاك إن بلّغن أرحلنا … كمن بواديه بعد المحل ممطور. (¬2) سورة ق، الآية: 23.

الواو بمعنى مع وهي الخبر. قال: " واعلم أنّ كفى بنا فضلا على من غيرنا أجود، وفيه ضعف إلّا أن يكون مرفوعا بهو وهو نحو مررت بأيّهم أفضل، وكما قرأ بعضهم هذه الآية تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (¬1) ". يريد أن قوله: على من غيرنا بالرفع أجود من الجر؛ لأن الجر بالصفة، والصلة في (من) و (ما) أجود من الصفة وأكثر في الكلام، وإذا وصلت لم يحسن حذف العائد المقدر بعد من، والتقدير: من هو غيرنا، ولذلك قال: وفيه ضعف أي في حذف " هو " ضعيف، وهو جائز مع ضعفه لما ذكره بعد. قال: " اعلم أنه قبيح أن تقول: هذا من منطلق إن جعلت المنطلق حشوا أو وصفا، فإن أطلت الكلام فقلت: من خير منك، حسن في الوصف والحشو. وزعم الخليل أنه سمع من العرب رجلا يقول: ما أنا بالذي قائل لك سوءا، وما أنا بالذي قائل قبحا، فالوصف بمنزلة الحشو؛ لأنه إنما يحسن بما بعده، كما أن الحشو إنما يتم بما بعده. ويقوّي أن (من) نكرة قول عمرو بن قميئة: يا ربّ من يبغض أذوادنا … رحن على بغضائه واغتدين (¬2) وربّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. قال أمية بن أبي الصلت ربّ ما تكره النّفوس من الأمر … له فرجة كحلّ العقال (¬3) وما اسم وليست بكافة لربّ؛ لأن الهاء في له تعود إليه. وقال آخر: ألا ربّ من تغتشّه لّك ناصح … ومؤتمن بالغيب غير أمين (¬4) قال أبو سعيد: هذا آخر كلام سيبويه، وهو مفهوم. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية 154. (¬2) ديوان عمرو بن قميئة 192، ابن يعيش 4/ 11. (¬3) البيت في ابن يعيش 4/ 352، واللسان (فرج). (¬4) بدون نسبة في اللسان (خشش).

هذا باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة

وأما قول أبي دؤاد سالكات سبيل قفرة بدا … ربّما ظاعن بها ومقيم (¬1) ف (ما) في ربّما نكرة؛ لأن ربّ لا تدخل على المعارف، ولا هي كافة؛ لأنّ الوجه في الكافّة أن يليها الفعل، فإذا كانت نكرة جاز أن تنعت بالجمل، وتقدير (ما) هاهنا تقدير إنسان، كما قد جاءت (ما) في موضع (من) في أماكن. منه ما حكى أبو زيد: سبحان ما سخركنّ لنا. وسبحان ما سبّح الرعد بحمده. وأشباه لذلك. وتقديره: ربّ إنسان هو ظاعن بقلبه- إلى أحبّته الذين ظعنوا عن هذه البلدة- بها مقيم بجسمه فيها، وأما قول أبي دؤاد أيضا: ربما الجامل المؤيد فيهم … وعناجيح بينهن المهار (¬2) هذا باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة " وذلك قولك: هذا أوّل فارس مقبل، وهذا كلّ متاع عندي موضوع، وهذا خير منك مقبل، ومما يدلك على أنهنّ نكرة أنهن مضافات إلى نكرة وتوصف بهن النكرة، وذلك أنك تقول فيما كان وصفا: هذا رجل منك، وهذا فارس أوّل فارس، وهذا مال كلّ مال عندك. وتستدل على أنهن مضافات إلى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصف به النكرة ولا تصفه بما توصف به المعرفة، وذلك قولك: هذا أوّل فارس شجاع مقبل. وحدثنا الخليل أنه سمع من يوثق بعربيته ينشد هذا البيت، وهو قول الشماخ: وكلّ خليل غير هاضم نفسه … لوصل خليل صارم أو معارز (¬3) فجعله صفة لكل. وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت: كأنّا يوم قرّى إن … نما نقتل إيّانا ¬

_ (¬1) بدون نسبة في خزانة الأدب 9/ 587. (¬2) البيت لأبي دؤاد، ديوانه 316، ابن يعيش 8/ 29. (¬3) ديوان الشماخ 173.

قتلنا منهم كلّ … فتى بيض حسّانا (¬1) فجعله وصفا لكل ". قال أبو سعيد: قصد سيبويه في هذا الباب إلى آخره ذكر أسماء لا تدخل عليها الألف واللام، وأنها مع امتناع دخول الألف واللام عليها منكورة بدلائل النكرة عليها، وجعل دلائل التنكر فيها أنها توصف بالأسماء النكرات، وتوصف بها الأسماء النكرات. فمن تلك الأسماء: خير منك، وأول فارس، وكلّ مال عندك، وقد وصف بهنّ نكرات ووصفن بنكرات في قوله: أول فارس شجاع مقبل. ويكشف ما قاله سيبويه بأن يراد فيه أنهن يوصفن بنكرات يمكن دخول الألف واللام عليها، فلا تدخل نحو: أول فارس شجاع، ولا يقال الشجاع، وامتناع دخول الألف واللام عليها أن مواضعهن أوجبت لها التنكير، فمنها أن أفعل إنما يضاف إلى جمع أو واحد منكور في معنى الجمع؛ كقولنا: أفضل رجل، وخير رجل، بمعنى أفضل الرجال، وخير الرجال على التخفيف، والاقتصار على أخف لفظ، ويدل على ذلك الواحد، وهو الواحد المنكور من الجنس، وكذلك: أفضل منك، وخير منك، وجميع باب أفعل منك لا يكون إلّا نكرة، لما قد ذكرت في موضعه مما أوجبت التنكير. فإن قال قائل: فأنتم قد تصفون المعارف بالنكرات في قولك: إنّي لأمرّ بالصادق غير الكاذب، وإنّي لأمرّ بالرجل مثلك. قيل له: إنما جاز وصفه بذلك لأنه لا يمكن دخول الألف واللام على غيرك ومثلك، ولو جئنا بشيء يمكن دخول الألف واللام عليه من المنكرات ما جاز الوصف به إلّا بدخول الألف واللام، وعليه لو قلت: إني لأمرّ بالرجل الغريب أو بالصادق المحق، ما جاز أن تقول إنّي لأمرّ بالرجل غريب، ولا بالصادق محق، ومن دلائله: عشرون درهما، وثلاثون يوما، وما أشبه ذلك؛ لأن المميز واحد منكور؛ لأنه أخفّ لفظ يدلّ على النوع، ولا تدخل عليها الألف واللام، ثم واصل الاحتجاج لذلك والاستشهاد بالنظائر بما يكشف لأفهام المتكلمين بكلام بيّن إلى آخر الباب. قال: " ومثل ذلك: هذا أيّما رجل منطلق، وهذا حسبك من رجل منطلق. ¬

_ (¬1) البيتان لذي الإصبع العدواني في شرح ابن يعيش 3/ 101، وخزانة الأدب 2/ 406.

ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة، تقول، هذا رجل حسبك من رجل، فهو بمنزلة: مثلك وضاربك إذا أردت النكرة، ومما يوصف به كلّ، قول ابن أحمر: ولهت عليه كلّ معصفة … هو جاء ليس للبها زبر (¬1) سمعناه ممن يروونه من العرب. ومن قال: هذا أول فارس مقبلا، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول: هذا أوّل الفارس، فيدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهما في قولك: عشرون درهما معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافا، وجعلوا هذا يجزئهم من ذلك، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل منطلقا، وهو قول عيسى بن عمر وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة، جعله حالا ولم يجعله وصفا. ومثل ذلك: مررت برجل قائما، إذا جعلت المرور به في حال قيامه. وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائما، وهو قول الخليل. ومثل ذلك: عليه مائة بيضا، والرفع الوجه، وعليه مائة عينا، والرفع الوجه. وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون: مررت قائما بماء قعدّه رجل، والجر الوجه. وإنما كان النصب هنا بعيدا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالا حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك. فألزموا صفة النكرة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفة، وأرادوا أن يجعلوا حال النكرة فيما يكون من اسمها، معنى ما يكون صفة لها ". قال أبو سعيد: الحال من المعرفة كالحال من النكرة فيما يوجبه العامل، غير أن الحال من النكرة تنوب عن معناها الصفة، والصفة مشاكلة للفظ الأول، فيكون أولى من الحال المخالفة للفظ الأول، وذلك قولك: جاءني رجل راكب. في حالة مجيئه، ولست تريد بيان رجل في ¬

_ (¬1) ديوانه 87، واللسان (زبر)، والزبر: الإحكام.

حال إخبارك، وإذا قلت: جاءني رجل راكبا، فذلك المعنى تريد، فكرهوا العدول عن لفظ مشاكل للفظ الأول إلى لفظ يخالفه لغير خلاف في المعنى، فلذلك آثروا الصفة في النكرة على الحال. وأما المعرفة فإن فائدة الحال فيها غير فائدة الصفة؛ لأنك إذا قلت: جاءني زيد أمس الراكب، فالراكب صفة لزيد في حال إخبارك؛ لأنّ زيدا معرفة تحتاج إلى أن يعرفه المخاطب في حال إخبارك، فإذا قلت: جاءني أمس راكبا، فالركوب في حال مجيئه لا في حال إخبارك. وجعل سيبويه أول فارس مقبلا في باب الحال كقولك: هذا رجل منطلقا لتحقق تنكير أول فارس؛ إذ محله في الإعراب والحال الذي بعده كمحل رجل من هذا رجل. قال: " واعلم أن ما كان صفة للمعرفة لا يكون حالا ينتصب انتصاب النكرة، وذلك أنه لا يحسن لك أن تقول: هذا زيد الطويل، ولا هذا زيد أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي أن يجعله صفة للنكرة، فيقول هذا رجل أخوك. ومثل هذا في القبح: هذا زيد أسود الناس، وهذا زيد سيّد الناس. حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو. ولو حسن أن يكون هذا خبرا للمعرفة لجاز أن يكون خبرا للنكرة، فتقول: هذا رجل سيّد الناس، من قبل أنّ نصب هذا رجل منطلقا، فينبغي لما كان حالا للمعرفة أن يكون حالا للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفة للنكرة جاز أن يكون حالا للنكرة، ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالا كما تكون النكرة فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يعرف به. وهذا كلام خبيث يوضع في غير موضعه ". قال أبو سعيد: ذكر الصفات للمعارف أنها لا تكون أحوالا للمعارف، وهذا مسلّم إذ كنّا لا نقول: جاءني زيد الراكب على الحال، ولا أعلم أحدا يخالفه في ذلك، ولأن الحال- أيضا- مشبهة للتمييز؛ لأنّا إذا قلنا: جاءني زيد، احتمل أحوالا شتى جاء فيها، كما أنّا إذا قلنا: عشرون، احتمل أن يكون بعدها أنواع كثيرة، فإذا جئت بنوع منها نكّرته ونصبته، فقلت: درهما، أو ثوبا، وكذلك إذا جئت ببعض الأحوال المبهمة نصبته ونكّرته فقلت: جاءني زيد راكبا أو ماشيا أو مسرعا أو مبطئا أو ضاحكا أو باكيا،

هذا باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا

ثم ألزم من يلتزم أن تكون الحال معرفة أن يجعل حال النكرة معرفة؛ لأنه لا فرق بين حال المعرفة والنكرة فتقول: هذا رجل سيد الناس، وهذا كله من سيبويه تشنيع وتقبيح لهذا القول، ثم ألزمه أن يقول: هذا أخوك عبد الله؛ لأنه قد يكون الاسم للعلم عطف البيان، ويجري ما قبله مجرى النعت، فألزمه نصبه. ومن أصحابنا من قال: غلط في الكتاب وإن معناه إذا عبد الله ليس اسمه الذي يعرف به، ثم ذكر مواضع المعرفة فقال: إنما تكون للمعرفة مبنيا عليها، يعني مبتدأ أو مبنية على اسم يعني خبرا لمبتدإ، أو لكان ونحوها، أو غيره من الكلام الذي جرى بالاستئناف له، أو بنصبه على إضمار، وقد دخل هذا في أقسامه الأول. فهذا أمر النكرة وأمر المعرفة، فأجره كما أجروه وضع كل شيء موضعه. هذا باب ما ينتصب خبره لأنّه معرفة وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا " وذلك قولك: مررت بكلّ قائما، وببعض جالسا. وإنّما خروجهما من أن تكونا وصفين أو موصوفين، أنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلّ الصالحين ولا ببعض الصالحين، قبح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه؛ لأنّه مخالف لما يضاف، شاذ منه، فلم يجر في الوصف مجراه، كما أنّهم حين قالوا: يا الله، فأضافوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفها وأثبتوها وصار معرفة؛ لأنّه مضاف إلى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلّهم ببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاه أبوك، تريد لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقة الكلام، ولا سبيله؛ لأنهم ليس من كلامهم أن يضمروا الجارّ ". قال أبو سعيد: مررت بكلّ قائما، ومررت ببعض قائما وببعض جالسا، لا يتكلم به مبتدأ، وإنما يتكلم به إذا جرى ذكر قوم فتقول: مررت بكلّ أي: مررت بكلهم، ومررت ببعض، أي ببعضهم، فيستغنى بما جرى من الكلام ومعرفة الخطاب بما يوصف به أيضا؛ لأنهم لما أقاموه مقام الضمير، والضمير لا يوصف إذا لم يكن تحلية ولا فيه معنى تحلية، ولم يصفوا به. ولا يقال: مررت بالزيدين كلّ، كما لا يقال: مررت بكل الصالحين، وأما تشبيه سيبويه ذلك في الشذوذ بقولهم: يا الله، حين نادوا ما فيه الألف واللام، وقطعوا ألف الوصل منه، فإن الذي دعاه إلى ذلك مع خروجه عن القياس المستمر

في كلامهم، أن الألف واللام لا يفارقان اسم الله، على ما فيه من الخلاف في أصل الاسم قبل دخول الألف واللام، وبالخلق أجمعين الفاقة الشديدة إلى نداء الله عزّ وجل ودعائه بهذا الاسم؛ لأنه أشهر أسمائه وأكثرها دورا على ألسنتهم، فلما اضطرهم الأمر إلى ندائه، خالفوا بلفظ لفظه لفظ ما ينادى مما فيه الألف واللام للتعريف، فقطعوا الألف فصار في اللفظ كأن الألف واللام فيه أصليان. ومن الحذف الشاذ- أيضا- قولهم: لاه أبوك، يريد: لله أبوك، فحذفوا منه لامين، وقد كانوا حذفوا منه الألف الوصل. واللامان المحذوفان عند سيبويه: لام الجر واللام التي بعدها. وقال محمد بن يزيد: لام الجر هي هذه اللام المبقّاة، وكانت أولى بالتبقية عنده لأنها دخلت لمعنى، وفتحت لام الجر؛ لأن لام الجر في الأصل مفتوحة، والصواب عندنا ما قاله سيبويه؛ لأنّا رأيناهم قد حذفوا حروف الجر إذا دخلت على (إن) و (أن)، مخففة ومشددة نحو قولك: رغبت أن أصحبك، وأيقنت أن زيدا خارج، وتقديره: في أن أصحبك، وأيقنت بأن زيدا خارج، ولا يجوز حذفها من المصدر إذا قلت: رغبت في صحبتك، وأيقنت بخروجك، والأجود أن (أن) في موضع جرّ، وقد روي أن رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: خير، يريد: بخير. وروي من قول بعض العرب: مررت برجل صالح وأن طالح، وفيه من الاحتجاجات والمناقضات ما لا يحتمل الكتاب ذكره. وجملة الأمر أن قول سيبويه: إذا حذف من الكلمة ما قاله، فالباقي منها هو اللفظ الموجود من غير تغيير. وعلى قول المبرد: تبقى اللام المكسورة وتغيّر، وليس على التغيير دليل يجب التسليم له. ومن الحذف: لا عليك، أي: لا بأس، أو لا ضرر عليك، أو نحو ذلك. وقال: ما فيهم بفضلك في شيء، يريد: أحد بفضلك. قد قال الله: وَإِنْ مِنْ

أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ (¬1) ومعناه: أحد. قال الراجز: لو قلت ما في قومها لم تيثم … يفضلها في حسب وميسم (¬2) والشواذ في كلامهم كثير. قال: ولا يكونان وصفا، كما لا يكونان موصوفين، يعني: كل، وبعض. قال: وإنما يوضعان في الابتداء، أو يبنيان على اسم بالابتداء، نحو قوله: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (¬3)، فأمّا جميع فيجري مجرى رجل ونحوه في هذا الموضع. قال الله عزّ وجلّ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (¬4) وقال: ائتهم والقوم جميع، أي: مجتمعون. قال المفسر: لفظ جميع: لفظ واحد، ومعناه: جمع، مثل: قوم، وجماعة. قال: وزعم الخليل أنه يستضعف أن يكون كلّهم مبنيا على اسم أو غير اسم، ولكن يكون مبتدأ، أو يكون كلّهم صفة. فقلت: لم استضعف أن يكون مبنيا؟ فقال: لأنّ موضعه في الكلام أن يعمّ به غيره من الأسماء بعد ما يذكر فيكون كلّهم صفة أو مبتدأ. قال المفسر: الأغلب في كلهم أن يجري مجرى أجمعين؛ لأنه يعم به بأجمعين؛ لأن معناه معنى أجمعين، اتسع في لفظه فأضيف إلى الكنى، والظاهر، والمعرفة، والنكرة، كقولنا: كل القوم، وكل رجل، وجعل نعتا على معنى المبالغة والكمال، لا على معنى العموم، كقولنا: رأيت الرجل كل الرجل، ورأيت رجلا كل رجل، وأكلت شاة كلّ شاة، على معنى: رأيت الرجل الكامل، واستحسنوا الابتداء به بهذا التصرف والإضافة؛ لأن أول الكلام الابتداء ثم تدخل عليه العوامل. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 159. (¬2) الرجز لحكيم بن معية في خزانة الأدب 5/ 92، وبدون نسبة في تاج العروس (أثم). (¬3) سورة النمل، الآية: 87. (¬4) سورة يس، الآية: 32.

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة

ولأن الابتداء ب (كلهم) بعد كلام يجري مجرى التوكيد، كقولك، إن قومك كلهم ذاهب، ويجوز أن تدخل عليها العوامل كلها، وإن كان فيها بعض الضعف من حيث دخل عليها الابتداء، وكلاهما، وكلتاهما، وكلهن تجري مجرى كلهم. وأما جميعهم فقد يجوز على وجهين: يوصف به المضمر كما يوصف ب (كلهم) ويجري في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزل: عامتهم، وجماعتهم، يبدأ ويبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة وتدخله الألف واللام، وأمّا كل شيء، وكل رجل، فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصف بهما. والذي ذكرت قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما سمعناه منه. هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة " وذلك قولك: هذا راقود خلا، وعليه نحي سمنا، وإن شئت قلت: راقود خلّ، وراقود من خلّ، وإنما قرئت إلى النصب في هذا الباب كما قرئت إلى الرفع في قولك: بصحيفة طين خاتمها؛ لأنّ الطين اسم وليس صفة ممّا يوصف به، ولكنه جوهر يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا، وما أشبهه. ومن قال: مررت بصحيفة طين خاتمها، قال: هذا راقود خل، وهذا صفة خز، وهذا قبيح أجري على غير وجهه، ولكنّه حسن أن يبنى على المبدأ ويكون حالا، والحال قولك: هذه جبّتك خزّا، والمبنيّ على المبتدأ قولك: جبّتك خزّ، ولا يكون صفة فيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل وما أشبهها، ولكنّهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجرّ، فأجروه كما أجروه وإنما فعلوا به ما يفعل بالأسماء، والحال مفعول فيها، والمبنيّ على المبتدأ بمنزلة ما رفع بالفعل، والجارّ بتلك المنزلة يجري في الاسم مجرى الناصب والرافع ". قال أبو سعيد: راقود ونحي مقدار، ينتصب بعدهما إذا نوّنتهما، كما ينتصب بعد أحد عشر وعشرين إذا قلت: أحد عشر درهما، وعشرون ثوبا، وإن أضفتهما فبمنزلة مائة درهم، وألف ثوب ولم يذكر سيبويه نصبه من أي وجه، إلا أن القياس يوجب ما ذكرته، ومثله: لي ملؤه عسلا، يعني: الإناء عسلا، وعندي رطل زيتا، وتقديره: لي ما يملأ الإناء من العسل، ولي ما يملأ الرطل من الزيت، وكذلك القول في عشرين درهما، إلّا أنهم اقتصروا وردّوه من تعريف الجنس إلى واحد منه منكور، للدلالة على الجنس. فسموه

هذا باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله ولا هو هو

تمييزا. وجعل سيبويه " هذه جبتك خزّا " حالا؛ لأن الجبة ليست بمقدار يقدر به الخز، فيجري مجرى راقود ونحي الإناء وعشرين. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: خطأ أن يكون حالا، إنما هو تمييز، وقد مضى الكلام فيما يجعله سيبويه من الأجناس أحوالا، ويفرّق بينه وبين الحال والصفة وسائر ما في الباب مفهوم. هذا باب ما ينتصب لأنّه ليس من اسم ما قبله ولا هو هو " وذلك قولك: هذا ابن عميّ دنيّا، وهو جاري بيت بيت. فهذه أحوال قد وقع فيها في كل واحد شيء وانتصب؛ لأنّ هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: عشرون درهما؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هو " قال أبو سعيد: الذي يريده سيبويه الاسم الذي له اسمان أحدهما هو الآخر ولو غيرنا عن كلّ واحد منهما بالآخر كان له اسما، والذي هو من اسمه أن يكون محمولا على إعرابه، وذلك النعت وما كان من الحال من أسمائه الفاعلين كقولنا: هذا زيد ذاهبا، فهو هو لأن زيدا هو ذاهب، وذاهب هو زيد، وما كان مصدرا لم تقل هو هو؛ كقولك: هو ابن عمي دنيّا، دنيّا مصدر في الأصل، ولا تخبر عنه ولا يكون خبرا، وأصل دنيّا دنوا؛ لأنه من دنا يدنو، فقلبوا الواو ياء؛ لأن بينهما وبين الكسرة نونا ساكنة وهو خفيّة، ودنيّا ليس بمتمكن؛ لأنه لا يقال: هذا ابن عمى دنيّ، ولا: مررت بابن عمّ دنيّ، ودنيّا في معنى دانيا منصوبا على الحال، والعامل فيه معنى ابن عمي، كأنه قال: يناسبني دانيا. وأما قوله: " هو جاري بيت بيت " فمعناه: هو جاري ملاصقا، وبيت بيت جعلا اسما واحدا، ووضعا في موضع مصدر، وذلك المصدر في موضع الحال، " وهذا درهم وزنا " يكون وزنا مصدرا بمعنى: وزن وزنا، وحالا بمعنى موزونا، والذي ساق عليه الكلام أن يكون في موضع الحال، وكذلك: هذا حسيب جدا وهذا عربيّ حسبه، وتقديره: اكتفاء بمعنى: كافيا. حدّثني بذلك أبو الخطاب عن من يثق به من العرب. جعله بمنزلة الدّني والوزن، كأنه قال: هو عربيّ اكتفاء. فهذا تمثيل ولا يتكلم به، ولزمته الإضافة كما لزمته جهده وطاقته. وما لم يضف من ذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما تضيفه ولم تدخله الألف واللام فيما ذكرنا من المصادر، نحو: لقيته كفاحا، وأتيته جهارا.

ومثل ذلك: هذا عشرون مرارا. وكأنه قال تكريرا وتضعيفا في معي مضافة ومكررة، فهذا غير مضاف. و " هذه عشرون أضعافها " وهي مضافة مثل: جهده وطاقته ومعناه: مضاعفة. قال: " ومثل ذلك: هذا درهم سواء، كأنه قال: هذا درهم استواء. فهذا تمثل وإن لم يتكلم به، كما قال الله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (¬1) وقد قرأها ناس " في أربعة أيام سواء " قال الخليل: جعلوه بمنزلة أيام مستويات. وتقول: هذا درهم سواء، كأنك قلت: هذا درهم تام. قال: (وهذا شيء ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو) وذلك قولك: هذا عربيّ محضا، وهذا عربيّ قلبا. فمحضا وقلبا ليسا بالعربي لأنهما مصدران، ولا جريا على عربيّ في نعته وإعرابه، فصار بمنزلة دنيّا وما أشبهه من المصادر وغيرها، والرفع فيه وجه الكلام. وزعم يونس ذلك وذلك قولك: هذا عربيّ محض وهذا عربيّ قلب ". قال أبو سعيد: وإنما صار الرفع الوجه؛ لأنه كثر في كلامهم أن يجروا محض وقلب مجرى عدل، وأنت تقول: هذا رجل عدل في معنى عادل، وكذلك محض في معنى ماحض؛ لأنه يقال: محض يمحض وامتحضت أنا، ومعناه: خالص. ولم يستعمل الفعل من قلب ما استعمل من محض. قال أبو العباس محمد بن يزيد: قلبا، معناه: قد تقلّب في العرب أي: دائر في أنسابها وهما مصدران صادفا الحال. قال أبو سعيد: ويجوز أن يكون أخذ من قلب قلبا، كأنه فتّش ونقي من العيب. وأما عربيّ قحّ فلم يستعمل إلا صفة؛ لأنه اسم ليس مصدر، وليس له فعل يتصرّف. قال: " ومما ينتصب لأنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائة ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 10.

وزن سبعة، ونقد الناس، وهذه مائة ضرب الأمير، وهذا ثوب نسج اليمن، كأنه قال نسجا وضربا ووزنا. وإن شئت قلت: وزن سبعة. قال الخليل: إذا جعلت وزن سبعة مصدرا نصبت، وإن جعلته اسما وصفت به. يعني بقوله: اسما تجعله في معنى موزون فتجريه مجرى موزون، ومنه الخلق يكون مصدرا، ويكون المخلوق، والحلب يكون مصدرا ويكون معنى المحلوب، والضرب في الدرهم بمعنى المضروب كما تقول: رجل رضى بمعنى مرضيّ، وامرأة عدل بمعنى عادلة، ويوم غم. فيصير هذا الكلام صفة. قال: استقبح أن أقول هذه ضرب الأمير، فأجعل الضرب صفة فيكون نكرة وصفت بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنّه قيل له: ما هي؟ فقال: ضرب الأمير. فإن قلت: ضرب أمير حسنت الصفة؛ لأنّ النكرة توصف بالنكرة ". قال أبو سعيد: إذا قلت: هذه مائة نقد الناس، وهذه مائة ضرب الأمير، وهذا ثوب نسج اليمن، فنصبها على المصدر لا على الحال؛ لأنها معارف، كأنه قال: نقدت نقد الناس، وضربت ضرب الأمير، ونسجت نسج اليمن. قال: " واعلم أنّ جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على أنّه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسما لم تستطع أن تبني عليه شيئا ممّا انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنّه ليس منه ولا هو هو. لو قلت: هذا ابن عمي دني والعربيّ جدّ، لم يجز، نعلم أنه ليس هو هو؛ لأن ما هو هو، لا يمتنع أن يكون خبرا له. وإذا لم يكن خبرا له، فهو من الصفة أبعد فصار ليس منه؛ لأن ما كان صفة فهو اسمه، وبيّن أنه كان خبرا لمبتدأ ما لا يكون صفة كقولك: خاتمك فضّة ولا يكون صفة ". قال أبو سعيد: الذي يعني به فيما يقول أنّه منه ما كان نعتا له جاريا عليه، وما ليس منه ليس بنعت له جار عليه، وقد عبر عنه بعض أصحابنا بأنه ما كان تماما له فيدخل فيه النعت والصلة، وأما ما هو هو فما صيغ لذاته من أسماء الفاعلين نحو: زيد الطويل، وزيد ذاهب. وبيّن أنّ دنيّا وجدّا في قولك: هذا ابن عمى دنيّا، وهذا حسيب جدّا، دنيّ وجدّ ليسا بنعتين، فيكون من اسم الأول، ولا هما الأول لأنهما مصدران، والأول ليس بمصدر

هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده أو يبنى عليه ما قبله

ولم يكونا نعتين للأول لأنّهما غير متمكنين، ولا يخبر بهما عن الأول. لا يقال: هذا دنيّ جدّ، وإذا لم يخبر بهما فهما من النعت بهما أبعد؛ لأنه قد يخبر بما لا ينعت به؛ لأنك تقول: خاتمك فضة ولا تقول: مررت بخاتم فضة. قال: " اعلم أن الشيء قد يوصف بالشيء الذي هو هو. وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيد الطويل، ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيد ذاهبا. ويوصف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزنا، لا يكون إلّا نصبا. قال أبو العباس: أزنه وزنا ". قال أبو سعيد: إن قال قائل: أليس قد تقدم في الباب بأن الوزن يكون اسما ومعناه: موزون، فلم لا يكون هذا درهم وزن؟ قيل له: هذا جائز إذا أراد هذا المعنى، وإنما ذكر سيبويه ما يوصف به وليس من اسمه، أي ليس بنعت جار على المنعوت، ولو رفع كان من اسمه، وأدخل فيما يوصف به الحال والمصدر، إنما ذهب في ذلك إلى ما يتعلق عليه، ويبيّن به، ولم يذهب إلى الصفة التي هي نعت، والله أعلم. هذا باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده أو يبنى عليه ما قبله " وذلك قولك: هذا قائما رجل، وفيها قائما رجل، وهو قائما رجل، ولما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقبح أن تقول: فيها قائم، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح: مررت بقائم، وأتاني قائم. جعلت قائما حالا، وكان المبنيّ على الكلام الأوّل ما بعده. ولو حسن أن تقول: فيها قائم، لجاز فيها قائم رجل، لا على الصفة، ولكنّه كأنه لمّا قال فيها قائم، قيل له: من هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه. وحمل هذا النصب على جواز فيها رجل قائما، وصار حين أخّر وجه الكلام فرارا من القبح. قال ذو الرمّة: وتحت العوالي والقنا مستظلة … ظباء أعارتها العيون الجآذر (¬1) ¬

_ (¬1) ديوانه 2/ 1024.

وقال آخر: وبالجسم منّي بيّنا لو علمته شحوب … وإن تستشهدي العين تشهد (¬1) وقال كثير: لعزّة موحشا طلل قديم (¬2) وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام ". قال أبو سعيد: جملة هذا الباب أن يكون اسم منكور له صفة تجري عليه، ويجوز نصب صفته على الحال، والعامل في الحال شيء متقدم لذلك المنكور، ثم تتقدم صفة ذلك المنكور عليه لضرورة عرضت لشاعر إلى تقديم تلك الصفة، فيكون لفظ الاختيار في لفظ تلك الصفة أن تحمل على الحال، مثال ذلك: هذا رجل قائم، وفى الدار رجل قائم، هذا مبتدأ، ورجل خبره، وقائم نعت رجل. وفي الدار رجل قائم، رجل مبتدأ، وفى الدار خبر مقدم، وقائم نعت رجل، ويجوز نصب قائم في المسألتين جميعا، وأمّا في هذا رجل قائما، فالعامل فيه التنبيه أو الإشارة، وأمّا في الدار رجل قائما، فالعامل فيه الظرف، والاختيار الصفة، فلما احتاج إلى تقديم مستظلة على ظباء وقد كان قبل تقديمها تقديره: " وتحت العوالي في القنا ظباء مستظلة " على الاختيار، ومستظلة على الجواز، ثم احتاج إلى تقديمها على ظباء، فلم يصلح أن ترتفع على الصفة لشيء بعدها؛ لأن الصفة لا تكون إلا بعد الموصوف، وكانت الحال تتقدم وتتأخر، نصبت على الحال، وعامل الحال قد تقدم، وكذلك قوله: " وبالجسم مني بيّنا لو علمته شحوب " أصله: وبالجسم منيّ شحوب بيّن على الصفة، وبينا على الحال، والعامل فيه الظرف الذي ناب عنه وبالجسم، فلما تقدم بطلت الصفة وبقي النصب على الحال، وكذلك، لعزة موحشا على الصفة، وكان يجوز موحشا طلل قديم، أصله: لعزة طلل قديم موحش على الصفة، وكان يجوز موحشا على الحال، والعامل فيه لعزة، فلمّا قدمت نصبته على الحال، ولم يكن يحسن أن تقول: فيها قائم؛ ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في معجم الشواهد النحوية 278، وشرح الأشموني 2/ 75. (¬2) هذا صدر بيت وعجزه: عفاه كل أسحم مستديم البيت في ملحق ديوانه 536.

لأن قائما صفة لا يحسن وضعها في موضع الأسماء، ولو حسن أن تقول فيها قائم لجعلت رجلا بدلا منه، أو يكون رفعه على الاستئناف، وكأنك قلت: هو رجل على سؤال من قال: من هو؟ قال: " وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام " يعني أن طلب وزن الشعر ربما يضطر الشاعر إلى التقديم، فيخرج إلى تقديم الصفة التي ذكرنا على الموصوف، وإذا قدّمت الصفة على الظرف بطل النصب. لا تقول: قائما فيها رجل، وقد ذكرنا أن العامل في الحال إذا كان ظرفا أو إشارة أو تنبيها لم يتقدم الحال عليه، لا تقول: زيد قائما في الدار، ولا قائما زيد في الدار، ولا قائما في الدار زيد، ولا قائما هذا زيد، وإنما يتقدم الحال على العامل إذا كان العامل فيها فعلا، كقولك: راكبا مرّ زيد، وراكبا مرّ الرجل؛ لأن الظروف والإشارة لا تتصرف كتصرف الفعل، فضعف عملها في ما قبلها، وإن كانت قد أنزلت منزلة الفعل في كونها خبرا للاسم، ووقع في النسخ وهو قائما رجل، فهو عندي سهو تناسخه الناس ولم يعتقد، ونصبه إن جاز بشيء متأول بعيد، كأن قائلا قال: على أي حال زيد رجل؟ يريد من الرّجلة والشهامة، فقال المجيب: هو قائما رجل؛ أي إذا كان قائما، كما يقال: هذا يسرا أطيب منه نحرا. قال سيبويه: " ومن ثمّ صار مررت قائما برجل لا يجوز؛ لأنّه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل والعامل الباء ولو حسن هذا لحسن قائما هذا رجل " قال أبو سعيد: إذا عمل في الاسم الذي الحال منه عامل لا يجوز تقديمه عليه، نحو حروف الجر، لم يجز تقديم الحال على عامله. لا تقول: مرّ زيد قائمة بهند؛ لأن هندا لا يجوز تقديمها على الباء، والحال تابعة للاسم، فلم يجز تقديمها عليه، وإن كان العامل فيها الفعل، ورأيت أبا الحسن بن كيسان يجيز في القياس مررت قائمة بهند. قال سيبويه: " فإن قال قائل: أقول مررت ب (قائما) رجل، فيكون الحال بعد حرف الجر، فهذا أقبح وأخبث للفصل بين الجار والمجرور، ومن ثمّ أسقط ربّ قائما رجل. فهذا كلام قبيح ضعيف، فاعرف قبحه، فإنّ إعرابه يسير. ولو استحسنّاه لقلنا: هو بمنزلة فيها قائما رجل، ولكنّ معرفة قبحه أمثل من إعرابه. وأمّا بك مأخوذ زيد، فإنّه لا يكون إلّا رفعا، من قبل أنّ بك لا يكون مستقرا للرجل، وعلى ذلك أنه لا يستغنى عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم

منطلق زيد، واليوم قائم زيد. وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة بك مأخوذ زيد. وتأخير الخبر في الابتداء أقوى؛ لأنه عامل فيه. ومثل ذلك: عليك نازل زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاما. وتقول: عليك أميرا زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد وأنت تريد الإمرة كان حسنا. وهذا قليل في الكلام، كثير في الشعر؛ لأنه ليس بفعل. وكلّما تقدّم كان أضعف له وأبعد، فمن ثمّ لم يقولوا: قائما فيها رجل، ولم يحسن حسن: فيها قائما رجل " قال أبو سعيد: الظروف على ضربين أحدهما: أسماء الزمان والآخر أسماء المكان، فأمّا أسماء الزمان فإنها تكون ظروفا للمصادر وأخبارا لها كقولنا: القتال يوم الجمعة، ورحلنا يوم الخميس. ولا تكون ظروفا للجثث وأخبارا لها، لا تقول: زيد يوم الجمعة، وتسكت حتى تقوّيه بخبر لزيد كقولنا: اليوم منطلق زيد، واليوم قائم زيد، والفرق بين ظروف الزمان والمكان، أن ظروف الزمان إنّما هي أشياء تحدث وتنقضي، ولا يثبت شيء منها، وما وجد من الزمان فهو مشتمل على كل موجود، والجثث كلها موجودة. فإذا جعلنا ظرف الزمان ظرفا لبعض الجثث، وقد علم أنه قد اشتمل على الجثث كلها، فلا فائدة فيه؛ لأنّا إذا قلنا: زيد اليوم، وقد علم أنّ اليوم قد اشتمل عليه وعلى غيره، فلا فائدة فيه، وأمّا المصادر فإنها غير موجودة، وتحدث في أوقات. فإذا جعل ظرف الزمان لشيء من المصادر، فإنّما تدلّ على حدوث ذلك المصدر في ذلك الزمان، وفيه فائدة يجوز أن لا يعلمها المخاطب. وأمّا ظروف المكان فإنها تكون أخبارا، فأي مكان جعلته مستقرا لشيء يكون فيه، جاز أن يكون ظرفا له وخبرا. فما كان منها مخوضا أدخلت عليه (في) أو ما يقوم مقامها، كقولنا: زيد في الدار، وفي السوق، وأخوك على الجبل، وعلى السور. وما اتصل من حروف الجر بالأسماء غير الأماكن فهو صلة لفعل أو خبر اسم، ولا يجوز حذف ما هو في صلته، كقولك: زيد راغب في عمرو، وأخوك نازل عليك، وزيد يرغب فيك، وينزل عليك، وزيد يؤخذ بك، وزيد مأخوذ بك، ولا يجوز أن تقول: زيد فيك، وأنت زيد راغب، ولا زيد عليك، وأنت زيد نازل، ولا زيد بك وأنت زيد مأخوذ؛ لأن هذه

هذا باب ما يثنى فيه المستقر توكيدا وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنى

الحروف قد يتعلق عليها أخبار كثيرة مختلفة المعاني، فإذا حذفت لم يدر أيّها يراد. ألا ترى أنك إذا قلت: زيد بك، احتمل وجوها كثيرة نحو: زيد بك يستعين، وزيد بك يتحمّل، وزيد بك مأخوذ، وما أشبه ذلك، وكذلك: زيد فيك؛ جاز أن تعني: راغب وزاهد. وكذلك إذا قلت: زيد عليك، جاز أن يكون عليك يعتمد وعليك ينزل، وعليك يثني، ونحو ذلك فإذا قلت: زيد بك وأنت تريد (مأخوذ) أو زيد عليك وأنت تريد (نازل)، ثم حذفت مأخوذا ونازلا بطل الكلام، لأنهما خبران لا بدّ منهما، وإنما جاز أن تقول: زيد في الدار أو في السوق أو ما أشبه ذلك من الأماكن؛ لأن هذه الأشياء محالّ لزيد، وأن القصد فيها أنه قد استقرّ فيها أو حلّها، ولا يذهب الوهم في قولك: زيد في الدار أو في السوق، أنه يرغب في الدار أو يزهد فيها لما قد عرف بالعادة من أن القصد إلى حلوله فيها. فصار قولك: (في الدار) خبرا يتم الكلام به، وإذا تم الكلام بظرف وصار خبرا، جاز نصب ما بعده من الصفات على الحال؛ ولهذا جاز نصب: عليك أميرا زيد، ولا يجوز: عليك نازلا زيد. وقوله في آخر الباب: " وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر " يريد تقديم الحال على الاسم الذي منه الحال إذا كان العامل ظرفا ليس بكثير في الكلام، والكثير أن يكون الحال بعد الظرف والاسم جميعا، ألا ترى أنك لا تكاد تجد في كلام العرب: إنّ في الدار قائما زيدا، وإن زيدا في الدار قائما. والذي وجد في القرآن قد تقدمت فيه الأسماء على الأحوال، كقوله عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ (¬1) وإِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فاكِهِينَ (¬2) والله أعلم. هذا باب ما يثنّى فيه المستقر توكيدا وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنّى " وذلك قولك: فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد ب (فيها) الأول. وإن زعمت أنّه ينتصب بالآخر فكأنك قلت: زيد قائما فيها، فإن هذا كقولك: قد ثبت زيد أميرا قد ثبت، فأعدت قد ثبت توكيدا، وقد عمل الأوّل في زيد وفي ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 15، 16. (¬2) سورة الطور، الآية: 17، 18.

الأمير. ومثله في التوكيد والتثنية: لقيت عمرا عمرا فإن أردت أن تلغي فيها قلت: زيد قائم فيها، كأنه قال: زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك: فيك زيد راغب فيك. وتقول في النكرة: في دارك رجل قائم فيها، فيجري قائم على الصفة. وإن شئت قلت: فيها رجل قائما فيها، على الجواز، كما يجوز: فيها رجل قائما. وإن شئت قلت: أخوك في الدار ساكن فيها، فتجعل فيها صفة للساكن. ولو كانت التثنية تنصب لنصبت في قولك: عليك زيد حريص عليك، ونحو هذا مما لا يستغنى به. وإن قلت: قد جاء وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها (¬1) فهو مثل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ (¬2) وفى آية أخرى فاكِهِينَ ". قال أبو سعيد: جعل سيبويه تثنية الظروف وهى تكريرها بمنزلة ما لم يقع فيه تكرير في حكم اللفظ، وجعل التكرير توكيدا للأول لا يغير شيئا من حكمه فيما يكون خبرا وما لا يكون خبرا، أمّا ما يكون خبرا فقولك: في الدار زيد قائما فيها، إن شئت رفعت قائم، وإن شئت نصبت، كما كان ذلك قبل التكرير والتثنية، فأمّا ما لا يكون خبرا فقولك: عليك زيد حريص عليك، لا يجوز إلّا الرفع في حريص كما كان ذلك قبل التكرير؛ لأن عليك ليس بخبر ولا يستغني به الكلام. وقال الكوفيون: ما كان من الظروف يكون خبرا ويسمونه: الظرف التام، فإنك إذا كررته وجب النصب في الصفة، وإن لم تكرره فأنت مخير إن شئت نصبت، وإن شئت رفعت، واحتجوا في المكرر بقوله عز وجل: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها وقوله عز وجل: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها (¬3) وذكروا أنّه لم يجئ شيء مما فيه تكرير من نحو هذا مرفوعا، وما ليس فيه تكرير قد جاء بالرفع والنصب. ومما يحتجّ به لهم، أن الظرف التام إذا نصبنا الصفة فالأول من الظرفين خبر الاسم، وهو الذي ترفعه والثاني ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 108. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 15، 16. (¬3) سورة الحشر، الآية: 17.

هذا باب الابتداء

ظرف للحال إذا قلت: في الدار زيد قائما فيها، ففيها في صلة قائم، وفي الدار ليست في صلته، وإذا رفعت فقلت: قائم فيها، ففيها في صلته، ولا فائدة في الثانية لنيابة الأولى عنها. فإذا كان الظرف ناقصا فالضرورة تعود إلى رفع الصفة، وحمل الكلام على التكرير والتوكيد. ومن حجة سيبويه أن هذه التثنية والتكرير قد أتى في القرآن وسائر الكلام، قال الله تعالى في الأعراف: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (¬1) وفى هود: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ * (¬2) وهم الثانية تثنية وتوكيد؛ لأنّ تقديره: وهم كافرون بالآخرة، وإذا جاز قيل: زيد راغب فيك، ودخول فيك الثانية وخروجها سواء في إعراب ما فيه، فمثله قولك: في الدار زيد قائم فيها، وأمّا قولهم إنه ما جاء في القرآن الرفع فيما كرر فيه المستقر، فليس كل كلام جار صحيح جاء في القرآن، ألا ترى أنه ما جاء في القرآن: ما زيد قائم، ولا خلاف في أنه جيّد صحيح. هذا باب الابتداء " فالمبتدأ كلّ اسم ابتدئ ليبنى عليه كلام، والمبتدأ والمبنيّ عليه رفع. فالابتداء لا يكون إلا بمبنيّ عليه. فالمبتدأ الأول والمبنيّ عليه ما بعده فهو مسند ومسند إليه. واعلم أنّ المبتدأ لا بّد له من أن يكون المبنيّ عليه شيئا هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يذكر كلّ واحد منها بعد ما يبتدأ. فأمّا الذي يبنى عليه شيء هو هو فإنّ المبنيّ عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذكر ليبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته ". قال أبو سعيد: قد ذكرنا الابتداء ما هو، والمبتدأ والخبر وما يرتفع به كلّ واحد منهما، وأنا أعيده هنا لأنّه أولى فأقول: إنّ الابتداء هو تعرية الاسم من العوامل اللفظية، ليخبر عنه. وهذه التعرية عاملة فيه؛ لأن العوامل في الإعراب بمنزلة العلامات الدّالة على ما يجب من الإعراب، والتعرية قد تكون علامة في بعض الأماكن، كثوبين أبيضين ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 45. (¬2) سورة هود، الآية: 19، سورة يوسف، الآية: 37.

متشابهين لرجلين إذا يعلم أحدهما على ثوبه وترك الآخر العلامة، كان تعريته من العلامة علامة له. فأمّا المبتدأ فالابتداء يرفعه، وأمّا خبر المبتدأ فمن أصحابنا من يقول: إن الابتداء يرفع الاسم والخبر جميعا، وقال أبو العباس محمد بن يزيد: إن الابتداء يرفع المبتدأ، والمبتدأ والابتداء يرفعان الخبر. ولسيبويه فيه عبارات مختلفة مشتبهة يوهم بعضها أن الخبر يرفعه المبتدأ، وذلك قوله: " فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، يعني يرتفع بالمبتدأ " ويوهم بعضهم أن الابتداء يرفع المبتدأ والخبر لقوله: " وارتفع المنطلق " وهو يعني خبر الابتداء؛ لأنّ المبنيّ على المبتدأ بمنزلته. وفيه وجه حسن آخر ليس في شيء مما ذكرته في غير هذا الموضع ولا رأيته لأحد، وهو أن التعرية الموجبة للرفع قد وقعت على المبتدأ والخبر؛ لأنّ الخبر- أيضا- لم يدخل عليه عامل لفظيّ؛ لأنّ الاسم المبتدأ ليس بعامل، فكان في كل واحد منهما تعرية، ويدلّك على ذلك أن أصحابنا لا خلاف بينهم أن خبر المبتدأ قد يتقدم عليه ويرتفع بما كان يرتفع به، وقد علمنا أن العامل الضعيف لا يعمل فيما قبله، والابتداء والمبتدأ ليس بأقوى من إنّ وأخواتها، وأخبارها لا تتقدم عليها وإنما جاز تقديم خبر المبتدأ لأنّ فيه من التعرية مثل ما في المبتدأ، ويقوّي هذا قول سيبويه: " لأن المبنيّ على المبتدأ بمنزلته " وعلى نحو هذا سوى الكوفيون بين الابتداء والخبر، فجعلوا كل واحد منهما رافعا للآخر، أيّهما تقدّم رفع الذي بعده، وأيّهما تأخر رفع الذي قبله. قال: وزعم الخليل أنه يستقبح أن يقول: قائم زيد وذاكر، إذا لم يجعل قائما مقدّما مبنيا على المبتدأ، كما يؤخّر ويقدّم فيقول: ضرب زيدا عمرو، وعمرو على ضرب مرتفع، وكان الحدّ أن يكون الابتداء مقدما، ويكون زيد مؤخّرا، وكذلك هذا الحدّ فيه أن يكون الابتداء فيه مقدما. وهذا عربي جيّد، وذلك قولك: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك، وأرجل عبد الله، وخذ صنعتك. يريد أنّ قولك: قائم زيد قبيح إن أردت أن تجعل قائم هو المبتدأ، وزيد خبره أو فاعله، وليس بقبيح أن تجعل قائم خبرا مقدما، والنية فيه التأخير كما تقول: ضرب زيدا عمرو، والنية تأخير زيد الذي هو مفعول، وتقديم عمرو الذي هو فاعل، وذلك قولك: تميميّ أنا، ومشنوء من يشنؤك أرجل عبد الله، وخذ صنّعتك؟، وقال بعد تقديم

خبر المبتدأ عليه نحو قائم زيد، وتميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك. فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقولك: يقوم زيد، وقام زيد قبح؛ لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول: هذا ضارب زيدا وأنا ضارب زيدا. ولا يكون: ضارب زيدا على قولك: ضربت زيدا، وضربت عمرا. فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجري مجرى الفعل المبتدأ، وليكون بين الاسم والفعل فصل وإن كان موافقا له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء ثم يخالفه؛ لأنه ليس مثله. وقد كتبت ذلك فيما مضى، وستراه فيما يستقبل، إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: إذا نقلت الفعل إلى اسم الفاعل ورفعت الفاعل به ولم يكن قبله ما يعتمد عليه، قبح؛ وذلك أنه يلزمك أن تقول مكان قام زيد وقام الزيدان. قائم زيد، وقائم الزيدان، وقائم الزيدون، والذى قبّحه فساد اللفظ لا فساد المعنى، وذلك أنك إذا قلت: قائم الزيدان، وقائم الزيدون، رفعت قائم بالابتداء، والزيدان فاعل من تمام قائم، فيكون مبتدأ بغير خبر. ولو جاز هذا لجاز أن تردّ: يضرب زيدا إلى ضارب زيدا، وزيد في صلته، ولا يكون له خبر. والذى يجيزه زعم أن الفاعل يسد مسد الخبر، وقائل هذا يحتاج إلى برهان على ما ادعاه، وإنما يرتفع الفاعل باسم الفاعل، وينتصب به المفعول، إذا كان معتمدا على شيء يكون خبرا له أو صفة أو حالا أو صلة، كقولك: كان زيد قائما أبوه، ومررت برجل ضارب أبوه زيدا، وهذا زيد ضاربا أبوه أخاك، ومررت بالضارب أخاك. وقد نسب أبو العباس محمد بن يزيد سيبويه إلى الغلط في قسمته خبر المبتدأ في هذا الباب إلى شيء هو هو، أو يكون في مكان أو زمان، ولم يأت بالجمل التى تكون أخبارا كنحو: زيد ضربته، وزيد أبوه قائم، وزيد إن تأته يأتك. قال أبو سعيد: أحسب سيبويه جعل ما فيه ذكره ممّا يتبين في التثنية والجمع من حيز ما هو هو، واقتصر على ذلك لأنه مفهوم لا يشكل. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

هذا باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده

هذا باب ما يقع موقع الاسم المبتدأ ويسد مسده " لأنّه مستقرّ لما بعده وموضوع، والذي عمل فيما بعده حتّى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلّ واحد منهما لا يستغنى به عن صاحبه، فلما جمعا استغناء عليهما السكوت، حتّى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله. وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمّ زيد، وما هذا عمرو، وأين زيد، وكيف عمرو، وما أشبه ذلك. بمعنى أين: في أي مكان، وكيف: على أي حال. وهذا لا يكون إلّا مبدوءا به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن ألف الاستفهام، ولا يكون كذا إلّا استفهاما ". قال أبو سعيد: جملة هذا الباب أن المبتدأ الذي خبره ظرف من مكان أو زمان، إذا تقدم الاسم الظرف فرفع الاسم على ما كان وهو متأخر، كقولك: فيها زيد؛ لأنك تقول: إنّ فيها زيدا، كما تقول: إنّ زيدا فيها. وقد تكرر هذا في مواضع. ويقوّي ذلك أنّا نقول: أين زيد؟ وكيف عمرو؟ وأين وكيف لا يكونان اسمين، وإنما هما خبران لا غير، والدليل على ذلك أنك لو قلت: أين يجبني أو كيف يسرني؟ لم يجز كجواز من يجبني وما يسرني؛ لأن من وما اسمان يخبر عنهما، وليس أين وكيف كذلك، وتقديم أين وكيف لم يجعلهما اسمين، وكذلك تقديم فيها وما أشبهه، غير أن أين وكيف يلزمهما التقديم بسبب الاستفهام. والله أعلم. هذا باب من الابتداء يضمر فيه ما يبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا. أما لكان كذا أو كذا، فحديث معلق بحديث لولا، وأما عبد الله فإنه من حديث (لولا) وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام كقولك: أزيد أخوك؟ إنما رفعته على ما رفعت زيد أخوك، غير أن ذلك استخبار وهذا خبر، وكأن المبني عليه في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، وكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولولا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حذف حين كثر استعمالهم إيّاه في الكلام ". قال أبو سعيد: لولا وجوابها جملتان إحداهما جواب للأخرى، والذي ربط إحداهما بالأخرى لولا، ومثلها (إن) و (لو) يدخلان على جملتين مباينة إحداهما للأخرى، كقولنا: قدم زيد وخرج عمرو، لا يتعلق قدوم زيد بخروج عمرو، فإذا أدخلنا لو ربطت إحدى الجملتين بالأخرى، وعلقتها بها على المعنى الذي توجبه (لو) والذي توجبه (إن) الجواب

يمتنع لامتناع الشرط، فإذا قلت لو قدم زيد لخرج عمرو، فخروج عمرو لم يقع من أجل أن قدوم زيد لم يقع، ودخلت لو على جملتين مبنيتين على فعل واحد وفاعل، وكذلك الباب فيه نحو: لو جئتني لأكرمتك، وما أشبه ذلك، وأما (لولا) فتدخل على جملتين؛ إحداهما مبتدأ وخبر، والأخرى فعل وفاعل، فتربط إحداهما بالأخرى، ويكون الذي يليها مبتدأ وخبرا، ويكون الجواب فعلا، واحتاجت إلى اللام كاحتياج (لو) إلى اللام في جوابها، والأصل زيد بالبصرة وخرج عمرو، وزيد أمير وذهب عمرو، فلا تتعلق إحدى الجملتين بالأخرى، فإذا أدخلت (لولا) علقت إحداهما بالأخرى، فصارت الأولى شرطا والأخرى جوابا، فقلت: لولا زيد لذهب عمرو ولولا زيد لخرج عمرو، وحذفت الخبر حين كثر استعمالهم وفهم المعنى، ومعنى لولا أن الثاني يمتنع بامتناع الأول، وربما جاء بعد (لولا) مكان الابتداء والخبر الفعل لاستوائهما في المعنى، ألا ترى أن قولك زيد قائم وقام زيد بمعنى واحد. قال الشاعر وهو الجموح أخو بني ظافر بن سليم بن منصور: قالت أمامة لما جئت زائرها … هلا رميت ببعض الأسهم السود لا درّ درّك إني قد رميتهم … لولا حددت ولا عذري لمحدود (¬1) أي لولا الحد والحرمان. وقال الفراء والكوفيون: لولا ترفع ما بعدها إذا قلت لولا زيد لعاقبتك، زيد ترفعه لولا لانعقاد الفائدة به ومعه، واللام جواب لولا. وحكى عن غيره أن لولا ترفع لنيابتها عن الفعل، لولا زيد لعاقبتك، أي لو لم يمنعني زيد من عقابك لعاقبتك. وقد رد الفراء هذا القول على قائله، واحتج عليهم بحجتين؛ إحداهما: أن أحدا لا يقع بعدها واحد يعريها بالجحود، والأخرى: أنه لا يعطف على الاسم بعدها، لا تقول: لولا أخوك ولا أبوك لعاقبتك، ففي امتناعهما من ذلك دليل على أن الجحد قد زايلها. قال أبو سعيد: والصحيح ما قاله سيبويه، والدليل على ذلك أنه قد وقع بعد (لولا) الاسم والفعل، نحو البيت الذي أنشدناه: ¬

_ (¬1) البيتان في ابن يعيش 1/ 95، 8/ 146، الخزانة 1/ 79، المخصص 15/ 190.

هذا باب يكون المبتدأ فيه مضمرا ويكون المبني عليه مظهرا

لولا حددت وما يليه الاسم والفعل من الحروف فما بعده رفع بالابتداء؛ كقولنا: إنّما وكأنّما وهل وألف الاستفهام، وشبه ما حذف من خبر المبتدأ بعد (لولا) بأشياء من المحذوفات كقولهم: إما لا، وأصله ما زعم الخليل أنهم أرادوا: إن كنت لا تفعل غيره فافعل كذا وكذا إما لا. معنى هذا الكلام أن رجلا لزمته أشياء يفعلها فامتنع منها فرضي منه صاحبه ببعضها، فقال افعل هذا إما لا، أي افعل هذا إن لا تفعل جميع ما يلزمك، وزاد (ما) على (إن) وحذف الفعل وما يتصل به، وكثر ذلك في كلامهم حتى صارت مع ما قبلها كشيء واحد؛ وكذلك أمالوا الألف من (لا) وهي لا تمال في غير هذا الكلام، ومثله حينئذ الآن، إنما تريد اسمع الآن؛ أي كان الشيء الذي ذكر حينئذ واسمع الآن، وقولهم: ما أغفلت عنك شيئا؛ أي دع الشك عنك، فحذف هذا لكثرة استعمالهم. وقال أبو سعيد: هذا الحذف ما فسره من مضى إلى أن مات المبرّد، وفسره أبو إسحاق الزجاج بعد ذلك، فقال: معناه على كلام قد تقدّم، كأن قائلا قال: زيد ليس بغافل عني، فقال المجيب: بلى ما أغفله عنك. انظر شيئا، أي تفقد أمرك، فاحتج به على أن الحذف- يريد حذف انظر- الناصب شيئا، كأنك لما قلت: ما أغفله عنك، أردت أن تبعثه على أن يعرف صحة كلامك، فقلت له: انظر شيئا فإنك تعرف ما أقوله لك، كما تقول: انظر قليلا؛ أي تفقد، وذكر من المحذوفات: هل من طعام؟ أي: هل من طعام في مكان أو زمان؟ أي هل طعام؟ وهذا وما بعده غير محتاج إلى تفسير والله أعلم. هذا باب يكون المبتدأ فيه مضمرا ويكون المبنيّ عليه مظهرا وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص، فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، وهذا عبد الله، أو سمعت صوتا فعرفت صاحب الصوت، فصار آية لك على معرفته، فقلت زيد وربي، أو مسست جسدا، أو شممت ريحا فقلت زيد أو المسك، أو ذقت طعاما فقلت العسل، ولو حدثت عن شمائل رجل فصار آية لك على معرفته لقلت عبد الله، وكان رجلا قال: مررت برجل راحم للمساكين بار بوالديه، فقلت: فلان والله.

هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها لعمل الفعل فيما بعده

وهذا كله مفهوم والله أعلم بالصواب. هذا باب الحروف الخمسة التّي تعمل فيما بعدها لعمل الفعل فيما بعده وهي من الفعل بمنزلة عشرين من الأسماء التي بمنزلة الفعل، ولا تتصرف تصرف الأفعال كما أن عشرين لا تتصرف تصرف الأسماء التي أخذت من الأفعال، وشبهت بها في هذا الموضع، فنصبت درهما؛ لأنه ليس من نعتها ولا هي مضافة إليه، ولم يرد أن يحمل الدرهم على ما حمل العشرون عليه، ولكنه واحد بين به العدد، فعملت فيه كعمل الضارب في زيد، إذا قلت: هذا الضارب زيدا؛ لأن زيدا ليس من صفة الضارب ولا محمولا على ما حمل عليه الضارب، وكذلك هذه الحروف منزلتها من الأفعال، وهي (إن ولكنّ وليت ولعل وكأن)، وذلك قولك: إن زيدا منطلق وإنّ عمرا مسافر، وإنّ زيدا أخوك، وكذلك أخواتها. وزعم الخليل أنها عملت عملين: الرفع والنصب، حين قلت: كأن أخاك زيد، إلا أنه ليس لك أن تقول كأن أخوك عبد الله، تريد كأن عبد الله أخوك، لا تتصرف تصرف الأفعال ولا يضمر فيها المرفوع كما يضمر في كأن، فمن ثمّ فرقوا بينهما كما فرقوا بين (ليس) و (ما) فلم يجروها مجراها، ولكن قيل هي بمنزلة الأفعال فيما بعدها وليست بالأفعال. قال أبو سعيد: شبه سيبويه هذه الحروف في نصب ما بعدها بالأفعال في نصب مفعولاتها، وجعل منزلتها من الفعل في الشبه منزلة عشرين في نصبها ما بعدها من ضاربين التي أخذت من الفعل وكأنها بمنزلته؛ أعني بمنزلة الفعل. فإذا قلت: هذه عشرون درهما، فليس درهما بنعت للعشرين فتتبعها في إعرابها، ولا العشرون مضافة إليها فيبنون خفضا بالإضافة، ولا هو معطوف على العشرين محمول عليها فيعمل فيها عامل العشرين، ولكن درهما بين به العشرون فعملت فيه كعمل ضارب وضاربين، إذا قلت هؤلاء ضاربون زيدا، والشبه بينهما أن عشرين مقدار يقدر به، فإذا قال: هذه عشرون درهما، فتقديره: هذه الدراهم تقادر أو تساوي أو تماثل أو توازن عشرين، وترد إلى اسم الفاعل وتضاف فتصير هذه الدراهم مقادرة عشرين، وتحذف فتقام العشرون مقامها، والعشرون تقتضي نوعا يقدر بها كما أن ضاربا يقتضي مفعولا وقع به فشبه به لذلك.

وقد ذكر هذا بأتم من هذا الشرح في غير موضع. وأما الشبه بين هذه الحروف وبين الأفعال فمن وجهين؛ أحدهما: من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، فأما الشبه من جهة اللفظ فلبناء أواخرها على الفتح، كبناء الفعل الماضي، وأما الشبه من جهة المعنى فلأن هذه الحروف تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها، كما أن الأفعال تطلب الأسماء ولا تقع إلا عليها، وتدخل هذه الحروف على المبتدإ والخبر فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، وشبهت في نصب المبتدأ ورفع الخبر بفعل قدّم مفعوله على فاعله، والذي ترفعه هذه الحروف من أخبارها ما كان منها هو الاسم؛ كقولك: إن زيدا أخوك، ونحوه، دون ما كان في موضع الخبر، وإنما اختير أن يكون الاسم منصوبا؛ لأنه لو جعل مرفوعا ثم أضمر المتكلم والمخاطب لتغيرت بنيته كما تتغير كان إذا قلت: كنت وكنت، وكان يلزم فيها أن يقال إننت قائما وإننت منطلقا. وهذه حروف ليس لها تصرف الأفعال فلم تحتمل التغيير، ولهذه العلة لم يجز تقديم الخبر؛ لأنه لو قدم ثم اتصلت به كتابة المتكلم والمخاطب، للزمه التغيير الذي ذكرناه، ومع هذا أنه يضعف تغيير ما تعمل فيه الحروف عن مواضعها المرتب فيها. وأهل الكوفة يقولون في خبر إن وأخواتها إنه مرفوع، كما كان يرتفع به قبل دخول (إن) و (أن)؛ لأن (أن) دخلت وعملها ضعيف فعملت في الاسم ولم تجاوزه، وبقي الخبر مرفوعا على ما كان قبل دخول (إن) وهذا غلط منهم ومناقضة، فأما الغلط فلأن خبر المبتدإ كان يرتفع بالتعري من العوامل اللفظية، وقد دخلت (إن) فزال ذلك التعري، وأما المناقضة فإنهم يقولون زيد قائم، كل واحد منهما يرفع الآخر، وإذا دخلت (إنّ) بطلت المرافعة فكيف يبقى الخبر على حاله. وقال سيبويه: " وتقول إن زيدا الظريف منطلق، فإن لم تذكر المنطلق صار الظريف في موضع الخبر، كما قلت: كان زيد الظريف ذاهبا، فلما لم تجئ بالذاهب قلت كان زيد الظريف، فنصب هذا في (كان زيد) بمنزلة رفع الأول في إن وأخواتها، وتقول إن فيها زيدا قائما، فإن شئت رفعت على إلغاء فيها، وإن شئت قلت إن زيدا فيها قائما قائم، وتفسير نصب القائم هاهنا ورفعه كتفسيره في الابتداء، وعبد الله ينتصب بأن كما ارتفع بالابتداء، إلا (أن) فيها هاهنا بمنزلة هذا في أنه يستغني على ما بعدها السكوت ويقع موقعه، وليست بنفس عبد الله، و (إن) هي ظرف لا

تعمل فيها بمنزلة خلفك، وإنما انتصب خلفك بالذي فيه، وقد يقع الشيء موقع الشيء، وليس إعرابه كإعرابه وذلك قولك: مررت برجل يقول ذاك، فيقول في موضع قائل، وليس إعرابه كإعرابه ". قال أبو سعيد: ذكر سيبويه في أن الظرف الذي يستغنى به الاسم فيحسن عليه السكوت، والذي ينصب الظرف في خبر (إن) هو الذي كان ينصبه في خبر الابتداء، وجواز الحال والخبر في إن كجوازهما في الابتداء، والظرف موقعه اسم هو الأول مرفوع؛ لأن قولنا زيد خلفك، وإن زيدا خلفك، موقعه موقع إن زيدا مستقر، وإن زيدا أخوك، وإن كان إعرابه يخالف إعرابه، كما أن مررت برجل يقول ذاك في موضع قائل ذاك، ويقول مرفوع وقائل مخفوض. وتقول إن بك زيدا مأخوذ، وإن لك زيدا واقف، من قبل أنك إذا أردت الوقوف والأخذ لم يكن بك ولا لك مستقرين لزيد ولا موضعين، ألا ترى أن السكوت لا يستغنى على زيد إذا قلت لك زيد وأنت تريد الوقوف، ومثل ذلك أن فيك زيدا لراغب. قال الشاعر: فلا تلحني فيها فإني بحبها … أخال مصاب القلب جم بلابله (¬1) وتقول: إن اليوم زيدا منطلق، إذا أردت أن تجعل زيدا اسم إنّ ومنطلق الخبر واليوم ظرف المنطلق، فإن نصبت اليوم ب (إن) قلت: إن اليوم زيد منطلق فيه، وقد تكون الجملة خبر اليوم والعائد إليه الهاء في (فيه). وقال أبو سعيد: وتجوز حذف (فيه) منه، فتقول إن اليوم زيد منطلق، وأنت تريد: فيه. كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (¬2) والمعنى لا تجزى فيه، وحذف هذا جائز في الظروف، وتقول إن زيدا لفيها قائما، وإن شئت ألغيت (لفيها) كأنك قلت إن زيدا لقائم فيها. وقال أبو سعيد: هذه اللام تدخل بعد تمام الاسم والخبر، فإذا دخلت على الخبر جاز أن يكون الذي يلاصقها الخبر، ويجوز ذلك أن يكون مثبتا في صلة الخبر مقدما عليه ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 1/ 280، والدرر 1/ 113، شواهد المغني 327. (¬2) سورة البقرة، الآية: 48.

والخبر بعده، فأما ملاصقتها الخبر فقولك: إن زيدا لقائم في الدار، وإن زيدا لضارب عمرا، وإن زيدا لفي الدار قائما، والخبر لفي الدار، وأما ملاصقتها ما في صلة الخبر والخبر بعده، فقولك: إن زيدا لفيها قائم، وإنه إليك مأخوذ. قال أبو زبيد الطائي: إنّ أمرا خصّني عمدا مودّته … على التّنائي لعندي غير مكفور (¬1) (غير مكفور) هو الخبر، و (عندي) من تمامه مقدم عليه، فإن قلت إن زيدا فيها لقائم لم يجز غير الرفع في قائم؛ لأنّا لو نصبناه صار الخبر (فيها) والاسم (زيد) وقد تم الاسم والخبر فلا تتأخر اللام عنهما. قال أبو سعيد: قد ذكرنا في غير هذا الموضع أن هذه اللام كان حقها أن تكون صدر الكلام، فإذا اجتمعت هي وإن فهي أولى بالتقدمة، وذلك أن (إن) عاملة واللام غير عاملة بل هي مانعة العمل ما قبلها فيما بعدها، فلو رتبت (إن) على التقدم لمنعتها اللام من النصب، وإذا رتبت اللام على التقدم لم يبطل عمل (إنّ)، فإذا دخلت اللام على (إن) اجتمع حرفا توكيد وهما جميعا يكونان للتوكيد، وجواب اليمين، فأخروا اللام وهم ينوون تقديمها على (إن) وحقها أن تدخل على الاسم إذا صار بينه وبين (إن) فاصل، كقولك إن في الدار لزيدا، فإذا لصق الاسم بأنّ أدخلوها على الخبر، ولا رتبة لشيء سوى الاسم والخبر؛ لأن ما سواهما لغو لا يعتد به؛ فلذلك لم يجز إنّ زيدا فيها لقائما، ولو جاز هذا لجاز إن زيدا ضارب لعمرا. ولو جاز دخول اللام متأخرة عن رتبتها على غير الترتيب الذي ذكرناه لجاز زيد فيها لقائما في لام الابتداء؛ لأنّا نقول: لزيد فيها قائما في لام الابتداء. ولفيها زيد قائما. وكان أبو العباس محمد بن يزيد لا يرى أن يعيد اللام مرتين؛ لأنهما لام واحدة، ولا يجيز: إن زيدا لفي الدار قائم، ولا يكرر اللام إذا كان المعنى واحدا. وأجاز أبو إسحاق الزجاج: إن زيدا لفي الدار لقائم، واحتج بقوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ (¬2) قال: وهو عندي بمنزلة مررت بالقوم كلهم أجمعين، وليس في الآية حجة لأبي إسحاق؛ لأن اللام في لمّا لام (إن) واللام في ليوفينهم لام يمين، وليست اللام في ¬

_ (¬1) ديوانه 78، الإنصاف 404، ابن يعيش 8/ 65. (¬2) سورة هود، الآية: 111.

ليوفينهم لام (إن) وإنما هي بمنزلة يمين مستأنفة. وقول أبي العباس في هذا أقوى. وروى الخليل أن ناسا يقولون إن بك زيد مأخوذ على حذف الهاء من أنه بك زيد مأخوذ، وشبهه بما يجوز في الشعر؛ نحو قوله وهو ابن صريم اليشكري: ويوما توافينا بوجه مقسم … كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم (¬1) أي كأنها ظبية. وقال الآخر: ووجه مشرق النحر … كأن ثدياه حقان (¬2) لأنه لا يحسن هاهنا إلا الإضمار. وزعم الخليل أن هذا يشبه قول من قال وهو الفرزدق: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي … ولكن زنجيّ عظيم المشافر (¬3) والنصب أكثر في كلام العرب، كأنه قال ولكن زنجيّا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي. قال أبو سعيد: من نصب حذف الخبر، وهو لا يعرف قرابتي، فإنما صار النصب أكثر وأولى؛ لأن إظهار ما هو الأصل المبني أولى إذا فهم المحذوف، ومن رفع حذف الاسم ويكون تقديره: ولكنك زنجي، وجاز الوجهان كما يجوز في باب الابتداء حذف الاسم مرّة وحذف الخبر مرّة، وقد مضى نحوه ومثله ب الحذف قوله: فلو كنت ضفاطا ولكن طالبا … أناخ قليلا فوق ظهر سبيل (¬4) أي ولكن طالبا منيخا أنا، فالنصب أجود؛ لأنه لو أراد إضمارا لخفف، ولجعل المضمر مبتدأ؛ كقولك: ما أنت صالحا ولكن طالح، ورفعه على قوله: ولكن زنجي، والضفاط الذي يحمل طعامه إلى مكان فيبيعه، وقال الراجز: يا أيها المجحدل الضفاط … كيف تراهن بذي أراط (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 1/ 281، ابن يعيش 8/ 83، المغني للبغدادي 158، الدرر 1/ 121. (¬2) الكتاب 1/ 281، ابن يعيش 8/ 82. (¬3) في ديوانه 481، الكتاب 1/ 282، ابن يعيش 8/ 82. (¬4) البيت في الكتاب 1/ 282، اللسان (ضفط). ونسبه ابن السيرافي إلى الأخضر بن هبيرة الضبي 2/ 16. (¬5) لم يستدل له على قائل، وورد الشطر الثاني في اللسان (أرط).

والمجحدل الذي يكري إبله، والمجحدل الذي قد ملأ قربته أيضا، ويقال للذي يبل الجلد إذا كان يابسا قد ضفّطه يضفّطه ضفاطة. وأخبرنا أبو بكر بن دريد (¬1) أن الضفاطة لعاب الدف. قال: وأما قول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا … أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (¬2) فإن هذا على إضمار الهاء، لم يحذفوا لأن يكون الحذف يدخله في حروف الابتداء بمنزلة إن ولكنّ، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إنّ) كما فعلوا ذلك في (كأنّ). قال أبو سعيد: (أنّ) المفتوحة المشددة إذا خففت ووليها ما يقوم بنفسه من مبتدإ وخبر وفعل وفاعل، أو نحو ذلك، فإنّ اسمها محذوف، وجعلوا الحذف علما لحذف الإضمار في (إن) كما فعلوا ذلك في (كأنّ) وليست بمنزلة (إن) المكسورة و (لكن) المشددة؛ لأن (إن) المكسورة و (لكنّ) يدخلان على المبتدإ فينصبانه، ولا يغيران معنى المبتدإ، فإذا خفضت أو أبطل عملها صار الاسم بعدهما مرفوعا بالابتداء ولا يحتاج فيهما إلى تقدير اسم لهما محذوف؛ كقول الله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (¬3) وقوله عزّ وجل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ (¬4) كأنه قال: وكل جميع لدينا محضرون، والله يشهد بما أنزل إليك، وليست أنّ المفتوحة كذلك؛ لأنها في صلة شيء قبلها، ولا يبتدأ بها، وليس الاسم بعدها في موضع مبتدإ، فتسقط هي في التقدير. ألا ترى أن قوله عزّ وجل: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى (¬5) لو أسقطت (أنّ) لم يصلح: علم سيكون منكم مرضى. وكذلك قوله: ... قد علموا … أن هالك كل من يحفى وينتعل ¬

_ (¬1) أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، اكتسبت مدرسة البصرة شهرتها منه، توفي بها عام 321 هـ، الجمهرة 3/ 30. (¬2) رواية البيت في ديوانه: أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل. والبيت في ابن يعيش 8/ 74، والكتاب 1/ 282، والدرر 1/ 119. (¬3) سورة يس، الآية: 32. (¬4) سورة النساء، الآية: 166. (¬5) سورة المزمل، الآية 20.

لو أسقطت (أن) لم يرفع كل من يحفى وينتعل، وكأن كذلك لما تضمنته من معنى التشبيه، والكاف داخلة على (أن) وليس كذلك (إن) المكسورة؛ ولكن لأنهما لا يقع عليهما شيء قبلهما، وقال: وأما ليتما زيد منطلق، فإن الإلغاء فيه حسن، وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعا، وهو قول النابغة الذبياني: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا … إلى حمامتنا ونصفه فقد (¬1) فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: ما بعوضة أو يكون بمنزلة قولك: إنما زيد منطلق. قال أبو سعيد: أحد وجهي الرفع أن تجعل (ما) بمنزلة (الذي) كأنه قال فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا، وكذلك مثلا الذي هو بعوضة، والوجه الآخر أن تجعل (ما) كافة للعامل مثل: إنما زيد منطلق، وليست باسم، و (لعلّما) بمنزلة (كأنما). وقال ابن كراع العكليّ: تحلل وعالج ذات نفسك وانظرن … أبا جعل لعلّما أنت حالم (¬2) وجعل (ما) كافة يغير معناها؛ لأنك إذا قلت إنما زيد البزاز تقلل أمره وكأنك تسلبه ما يدعى له غير البز، وليس الأمر في سائر الحروف كذلك، ولم تعمل (إنما) فيما بعدها؛ لأن ما أبطلت عملها، ونظيرها من الفعل أرى إذا جعلت لغوا في المواضع التي يلغى فيها أظن وأحسب ونحوهما ونطير (إنما) في إبطال عمل (إن) قول المرار الفقعسي: أعلاقة أمّ الوليد بعد ما … أفنان رأسك كالثغام المخلس (¬3) فأبطلت ما إضافة (بعد) إلى (أفنان) فصار بعد ما بمنزلة حيث وإذ، فهما ظرفان تفسرهما الجمل بعدهما، واعلم أنّ (إنّ) إذا خففت كان لها مذهبان؛ أحدهما: أن يبطل عملها ويليها الاسم والفعل جميعا وتلزمهما اللام فرقا بين إن إذا كانت للجحد بمعنى ما وبين (إن) إذا كانت للإيجاب والتحقيق، وذلك قولك في الإيجاب: إن زيد لذاهب وإن عمرو لخير منك، ومثله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (¬4) إنما هي لعليها ووَ إِنْ كُلٌ ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 8/ 58، الكتاب، 1/ 282. (¬2) البيت في الكتاب 1/ 283، وابن يعيش 8/ 58. (¬3) البيت في الكتاب 1/ 283، المقتضب 2/ 54، وشواهد المغني 246، تاج العروس (فنن). (¬4) سورة الطارق، الآية: 4.

هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة

لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (¬1) إنما هي لجميع، وما لغو في الآيتين. وقال في دخولها على الفعل: وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (¬2) ووَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (¬3) والمذهب الآخر في (إنّ) إذا خففت أن لا يبطل عملها وتكون بمنزلة فعل سقط بعض حروفه وبقي عمله، كقولك: لم يك زيد منطلقا، ولم أنل زيدا، ومثله قراءة أهل المدينة وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ [هود: 11] كما قالوا: كأن ثدييه حقان. قال: وحدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول إن عمرا لمنطلق، وإذا عملت لم يلزمها دخول اللام؛ لأنها كالمشددة وزال اللبس بينها وبين (إن) التي بمعنى (ما) ولم يلها الفعل، ويجوز أن تقول إن زيدا منطلق وإن كلا قائم، والأكثر في المخففة أن يبطل عملها؛ لأنها كانت تعمل بلفظها، وفتح آخرها، وقد بطل اللفظ الذي كانت تعمل به، والفعل يعمل بمعناه وإن نقص لفظه، وقد جاء التخفيف والإعمال في المفتوحة وأنشدوا: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني … فراقك لم أنجل وأنت صديق (¬4) وليس هذا بالجيد ولا بالكثير كالمكسورة. هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقرا لها، وموضعها لو أظهرته وليس هذا المضمر بنفس المظهر، وذلك إنّ مالا وإنّ ولدا وإنّ عددا؛ أي أن لهم مالا، فالذي أضمرت لهم. ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم، فيقول: إن زيدا وإنّ عمرا أي إن لنا. وقال الأعشى: أن محلا وإن مرتحلا … وإن في السفر إذ مضى مهلا (¬5) قال أبو سعيد: ويروى إنّ للسفر ما مضى، ومعناه إن لنا محلا يعني في الدنيا إذا ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 32. (¬2) سورة الأعراف، الآية 102. (¬3) سورة الشعراء، الآية: 186. (¬4) البيت في ابن يعيش بلا نسبة 8/ 73، والهمع 1/ 143، شرح شواهد المغني للسيوطي 39. (¬5) البيت في ابن يعيش 1/ 104، والكتاب 1/ 283، والمقتضب 4/ 130.

عشنا وإنّ لنا مرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا. ويقال إنّ في الدنيا محلا ومرتحلا إلى الآخرة إذا فنينا، والسفر: المسافرون يعني به من مات. وقال أبو عمرو مهلا مهلة لمن بقي بعدهم؛ أي يستعد ويصلح من شأنه. وقال أبو عبيدة: إنّ مقيما وإنّ مسافرا، وإن في السفر إذ مضى مهلا. قال ذهابا لا يرجعون، وقيل إن للسفر: يريد من قدم لآخرته فاز وظفر، والمهل: السبق. والذي عند سيبويه أنّ الخبر محذوف، وهو مستقر كنحو ما قدرناه وذكرناه. وقال الفراء: إنما تحذف مثل هذا إذا كررت (إن) لتعرف أن أحدهما مخالف للآخر عند من يظنه غير مخالف. ويحكى أنّ أعرابيّا قيل له الذبابة الفارة، فقال: إن الذبابة وإنّ الفارة. قال: وتقديره إن الذبابة ذبابة وإن الفارة فارة، ومعناها إنّ هذه مخالفة لهذه. والخلاف الذي بين الاسمين يدل على الخبر. قال والفائدة أن المحل خلاف المرتحل، وأنشد أصحابنا في الواحد الذي لا مخالف معه قول الأخطل: خلا إنّ حيّا من قريش تفضلوا … على الناس أو أنّ الأكارم نهشلا (¬1) وقد اطرد الحذف في (لا) كقولنا لا حول ولا قوة إلّا بالله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. والتقدير: لا حول لنا ولا قوة. والفراء قائل بهذا الحرف. فهذا شاهد لذلك. وذكر سيبويه من المحذوف: إن غيرها إبلا وشاة، اسم إنّ (غيرها) والخبر (لنا) وهو محذوف. وإبلا وشاة منصوب على التمييز أو الحال؛ كقوله: ما في الناس مثله فارسا. ومثل ذلك قول الشاعر: يا ليت أيام الصبى رواجعا (¬2) تقديره: يا ليت لنا أيام الصبى، أو يا ليت أيام الصبى أقبلت رواجعا، ورواجعا منصوب على الحال، وهو كقوله: ألا ماء باردا، ومعناه ألا ماء لنا باردا. وتقول إن قريبا منك زيدا إذا جعلت قريبا منك موضعا، أي أن في مكان قريب منك زيدا، وإذا جعلت الأول هو الآخر قلت إن قريبا منك زيدا. أردت من القرابة أو القرب كأنك قلت: إن رجلا قريبا منك زيد، وهو مستعمل؛ لأنه قد قربته من المعرفة بدخول منك، ومثله: إنّ بعيدا منك زيد، يريد أن رجلا بعيدا منك زيد. إما في بعد النسب أو بعد المذهب ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 1/ 104، والخصائص 2/ 374، المقتضب 4/ 131، وتاج العروس (نهشل). (¬2) الرجز لرؤبة في ابن يعيش 1/ 104، والكتاب 1/ 284.

والأخلاق أو بعد المكان. والوجه إذا أردت هذا أن تقول إنّ زيدا قريب منك أو بعيد؛ لأنه اجتمع معرفة ونكرة، فالأولى أن يكون الاسم هو المعرفة. وقال امرؤ القيس: وإنّ شفاء عبرة مهراقة … فهل عند رسم دارس من معول (¬1) فهذا أحسن لأنهما نكرة. قال: " وإن شئت قلت إنّ بعيدا منك زيدا، وقلما يكون بعيدا منك ظرفا، وإنما قلت لأنك لا تقول إنّ بعدك زيدا، وتقول إن قربك زيدا، فالدنو أشد تمكنا في الظروف من البعد ". قال أبو سعيد: إنما صار الدنو أشد تمكنا؛ لأن الظروف موضوعة على القرب أو على أن تكون ابتداؤها من قرب، فأما الموضوع على القرب ف (عند) و (لدن) وما كان في معناهما كقولك زيد عندك. وأما ما لا يكون ابتداءه من قرب فالجهات المحيطة بالأشياء كخلف وقدام ويمنة ويسرة وفوق وتحت؛ لأنّا إذا قلنا زيد خلف عمرو فهو مطلوب خلفه من أقرب ما يليه إلى ما لا نهاية له، والبعد لا نهاية له، ولا حدّ لأوله معلوم؛ كعلم حدود الجهات الست، ويقوى ويكشفه أنّا إذا قلنا قربك زيد طلبه المخاطب فيما قرب منه، وذلك ممكن مفهوم، كما تقول عندك زيد، وإذا قلنا خلفك زيد ابتداء بما يليه من خلفه واستقراه طلبا له. وإذا قلنا بعدك زيد لم يكن ذاك فيه. قال: " وزعم يونس أن العرب تقول إنّ بدلك زيدا أي أنّ مكانك زيدا، والدليل على هذا قول العرب هذا لك بدل هذا؛ أي هذا لك مكان هذا، وإن جعلت البدل بمنزلة البديل قلت إنّ بدلك زيد أي إنّ بديلك زيد ". لأنّ البدل يستعمل في موضع مكان والبديل هو الإنسان. قال: " وتقول إنّ ألفا في دراهمك بيض، وإن في دراهمك ألفا بيض، فهذا يجري مجرى النكرة في (كان) و (ليس)؛ لأن المخاطب يحتاج إلى أن تعلمه هذا، كما يحتاج إلى أن تعلمه في قولك: ما كان أحد فيها خيرا منك، وإن شئت جعلت فيها مستقرا وجعلت البيض صفة ". يعني أن النكرة قد تكون اسم إن إذا كانت فيها فائدة، كما كانت اسم (كان) و (ليس) ويجوز: أن في دراهمك ألفا بيضا، إذا جعلت في دراهمك هي الخبر. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 90، والكتاب 1/ 284.

هذا باب ما يكون محمولا على إن

قال: " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام هاهنا مثله في باب كان، ومثل ذلك قولك: إنّ أسدا في الطريق رابضا، وإنّ بالطريق أسد رابض، وإن شئت جعلت بالطريق مستقرا ثم وصفته بالرابض، فهذا يجري هاهنا مجرى ما ذكرت لك من النكرة في باب كان ". قال أبو سعيد وهذا كله مفهوم. هذا باب ما يكون محمولا على إن فيشاركه فيه الاسم الذي وليها، ويكون محمولا على الابتداء، فأما ما حمل على الابتداء فقولك: إن زيدا ظريف وعمرو، وإن زيدا منطلق وسعيد، فعمرو وسعيد يرتفعان على وجهين؛ فأحد الوجهين حسن والآخر ضعيف، فأما الوجه الحسن فأن يكون محمولا على الابتداء؛ لأن معنى إن زيدا منطلق معنى زيد منطلق، وإن دخلت توكيدا، كأنه قال زيد منطلق وعمرو في الدار. وفي القرآن مثله: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (¬1) وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولا على الاسم المضمر في المنطلق والظريف، فإن أردت ذلك فأحسنه أن تقول: منطلق هو وعمرو، وإن زيدا ظريف هو وعمرو، وإن شئت جعلت الكلام على الأول، فقلت إن زيدا منطلق، وعمرا ظريف، فجعلته على قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ (¬2) وقد رفعه قوم على قولك لو ضربت عبد الله وزيد قائم؛ أي لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال كأنه قال عز وجل: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر بعد أمده ما نفدت كلمات الله. وإنما أحوج سيبويه إلى أن يفسر رفع البحر بالحال؛ لأن حمل رفع البحر على موضع (أنّ) لا يحسن؛ لأنّ (لو) لا يليها الابتداء، وقال رؤبة: إنّ الربيع الجود والخريفا … يدا أبي العباس والصيوفا (¬3) قال أبو سعيد: فأما حمل المعطوف على الابتداء فهو كلام جيد قويّ، وذلك أنّا لو ¬

_ (¬1) سورة التوبة، من الآية: 3. (¬2) سورة لقمان، من الآية: 27. (¬3) ديوانه 179، والمقتضب 4/ 111، والتصريح 1/ 226.

جئنا بمبتدإ وخبر بعد اسم إنّ وخبره وجعلنا جملة معطوفة على جملة لكان كلاما جيدا. لا ضعف فيه كقولنا: إن زيدا مقيم، وعمرو خارج، كأننا قلنا زيد خارج وعمرو مقيم، فإذا كان خبر أحدهما مثل خبر الآخر اكتفي بأحد الخبرين، كقولنا زيد مقيم وعمرو، وإن زيدا مقيم وعمرو، فيعلم أن خبر الثاني مثل خبر الأول ويطرح اكتفاء بالأول، وأما استشهاده بالقرآن: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فهو في الظاهر وهم منه ومن كل من استشهد به من النحويين؛ لأنهم يردون الاسم على موضع (إنّ) على أنها مكسورة، والذي في القرآن (أن) مفتوحة لأنه قال تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (¬1) ورفع رسوله على وجهين جيدين؛ أحدهما: أنّ أذان إعلام. يقول: ولو قيل وأذان من الله ورسوله إلى الناس: الله بريء من المشركين ورسوله، أو إن الله بريء من المشركين ورسوله لكان جيدا؛ لأن معناه: وقول من الله ورسوله: الله بريء أو إن الله بريء من المشركين، والوجه الآخر أن تعطف ورسوله على الضمير الذي في بريء، ويكون ذلك حسنا لفصل (من المشركين) بينهما، كما حسن العطف في قوله: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا (¬2) للفصل ب (لا) وقد ذكر هذا في غير هذا الموضع. قال: " و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) وإذا قلت إن فيها زيدا وعمرو، جرى عمرو بعد (فيها) مجراه بعد الظرف؛ لأن (فيها) في موضع الظرف، وفيها إضمار، ألا ترى أنك تقول إن قومك أجمعون وإن قومك فيها كلهم، كما تقول إن قومك عرب أجمعون، وفيها اسم مضمر مرفوع كالذي يكون في الفعل إذا قلت: إن قومك ينطلقون أجمعون. قال جرير: إنّ الخلافة والنبوة فيهم … والمكرمات وسادة أطهار (¬3) فإذا قلت إنّ زيدا فيها وإن زيدا يقول ذاك، ثم قلت نفسه فالنصب أحسن، وإن أردت حمله على المضمر فعلى هو نفسه، وإذا قلت إنّ زيدا منطلق لا عمرو فتفسيره كتفسيره مع الواو، وإذا نصبت فتفسيره كتفسيره مع الواو؛ وذلك قولك: إنّ زيدا منطلق لا عمرا ". ¬

_ (¬1) سورة التوبة، من الآية: 3. (¬2) سورة الأنعام، من الآية 148. (¬3) البيت غير موجود في ديوان جرير، وهو من شواهد العيني 2/ 263، وابن يعيش 8/ 66.

هذا باب تستوي فيه هذه الحروف الخمسة

قال أبو سعيد: اعترض أبو العباس على سيبويه في قوله، و (لكنّ) المثقلة في جميع الكلام بمنزلة (إنّ) فقال نحن ندخل اللام في خبر (إنّ) ولا ندخلها في خبر (لكن) لا تقول لكن زيدا لقائم، كما تقول إنّ زيدا لقائم، والذي أراده سيبويه أن (لكن) بمنزلة (إن) في العطف الذي ساق الكلام عليه. وسياقه للكلام يدل على إرادته، وإنما لم تدخل اللام على (لكن)؛ لأنها لاستدراك شيء مما قبلها، ولا تقع في أول الكلام و (إنّ) تدخل في أول الكلام، واللام تقدر قبلها، فخالفت (لكنّ) (إنّ) في دخول اللام لهذا المعنى، ومما يتضمنه الظرف من الضمير الذي يؤكد ب (كلهم) و (أجمعين) شيء مفهوم وقد ذكرناه في مواضع؛ لأن في الظرف معنى استقر الذي هو فعله ونفسه، إذا كان توكيدا للاسم الظاهر المنصوب فهو جيد لا يحتاج إلى غيرها، وإذا كان توكيدا للضمير المرفوع فهو يحتاج إلى تقدمة ضمير قبل النفس، كقولك إنّ زيدا فيها نفسه، وأما بيت جرير فالشاهد فيه رفع المكرمات وسادة أطهار، على أن زيدا فيها وعمرو. قال: " واعلم أنّ لعل وكأن وليت كلهن يجوز فيهن جميع ما جاء في (إنّ) إلا أنه لا يرفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار للناس: ليت زيدا منطلق وعمرا، وضعف عندهم أن يحملوا عمرا على المضمر حتى يقولوا هو، ولم تكن (ليت) واجبة ولا (لعل) ولا (كأن) فقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع التمني، فيصيروا قد ضموا إلى الأول ما ليس على معناه و (لكنّ) بمنزلة (إنّ) وتقول إنّ زيدا فيها لا بل عمرو، وإن شئت نصبت. و (لا بل) تجري مجرى (الواو) و (لا) ". قال أبو سعيد: حمل المعطوف على هذه الحروف على الابتداء يغير المعنى الذي أحدثته هذه الحروف من التمني والتشبيه والترجي؛ فلذلك لم يحملوه على الابتداء، ألا ترى أنّا لو قلنا ليت زيدا منطلق وعمرو مقيم على عطف جملة على جملة كان عمرو مقيم خارجا عن التمني، ولك أن تعطف الاسم على الضمير الذي في الخبر إذا أكّدته إذ كان ما بعده عوضا من التأكيد، ولا نخرج عن معنى الأول؛ كقولك ليت زيدا خارج هو وعمرو. هذا باب تستوي فيه هذه الحروف الخمسة وذلك قولك إنّ زيدا منطلق العاقل اللبيب، فالعاقل اللبيب يرتفع على وجهين؛ على الاسم المضمر في منطلق، كأنه بدل منه، فيصير كقولك مررت به زيد، إذا أردت جواب بمن مررت، فكأنه قيل له من ينطلق فقال زيد، وإن شاء رفعه على

هذا باب ينتصب فيه الخبر بعد الحروف الخمسة

مررت به وزيد إذا كان جواب من هو؟ فقال: العاقل اللبيب، وإن شاء نصبه على الاسم الأول المنصوب. وقد قرأ الناس هذه الآية على وجهين: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (¬1) (علام الغيوب) ". قال أبو سعيد: رفع العاقل اللبيب على البدل من الضمير في منطلق، وعلى إضمار هو، ويجوز ذلك في (ليت ولعل وكأن) على الوجهين؛ كقولك: ليت زيدا منطلق العاقل اللبيب. وأما الآية فيجوز فيها الرفع من هذين الوجهين. وقال بعض النحويين يجوز الرفع فيها بالنعت ل (ربي) على موضع (إنّ) من الابتداء، كأنه قال: ربي علام الغيوب يقذف بالحق. والنصب على وجهين؛ على النعت ل (ربي) وعلى المدح بإضمار اذكر ونحوه. هذا باب ينتصب فيه الخبر بعد الحروف الخمسة انتصابه إذا كان ما قبله مبنيّا على الابتداء؛ لأن المعنى واحد في أنه حال وأن ما قبله قد عمل فيه ومنعه الاسم الذي قبله أن يكون محمولا على (إنّ) وذلك قولك إن هذا عبد الله منطلقا. وقال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (¬2) وقد قرأها بعض الناس: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً حمل أمتكم على هذه؛ كأنه قال إن هذه كلها أمة واحدة، وتقول إنّ هذا الرجل منطلق، ويجوز في المنطلق ما جاز فيه حين قلت هذا الرجل منطلق، إلا أن الرجل هنا يكون خبرا للمنصوب وصفة له، وهو في تلك الحال يكون صفة لمبتدإ وخبرا له، وكذلك إذا قلت ليت هذا زيد خارجا، ولعل هذا زيد ذاهبا، وكأن هذا بشر منطلقا، إلّا أنّ معنى (إنّ ولكن) واجبتان كمعنى هذا عبد الله منطلقا، وأنت في (ليت) تتمناه في الحال، وفي (كأن) تشبهه إنسانا في حال ذهابه، كما تمنيته إنسانا في حال قيامه، فإذا قلت لعل فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهاب، فلعل وأخواتها قد عملن فيما بعدهن عملين: الرفع والنصب، كما أنك حين قلت ليس هذا عمرا وكان هذا بشرا، عملتا عملين؛ رفعتا ونصبتا، كما قلت ضرب هذا زيدا، فزيد انتصب بضرب، وهذا ارتفع بضرب، ثم قلت: أليس هذا زيدا منطلقا فانتصب المنطلق؛ لأنه حال وقع فيه الأمر فانتصب كما انتصب في (إنّ) وصار بمنزلة ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية 48. (¬2) سورة الأنبياء، من الآية 92.

المفعول الذي تعدى إليه فعل الفاعل بعد ما تعدى إلى مفعول قبله، وصار كقولك: ضرب عبد الله زيدا قائما في التقدير، وليس مثله في المعنى ". قال أبو سعيد: دخول (إنّ ولكنّ) على هذا عبد الله منطلقا لم يغير النصب الذي تعمله هذا في (منطلقا)؛ لأنهما ينصبان الاسم ويرفعان الخبر، كما كان الابتداء يرفعهما، وعمل هذا بتأويل الإشارة وللتنبيه غير مختلف. وأما (ليت ولعل وكأن) فإنهن يجرين مجرى (إنّ ولكنّ) في نصب (منطلقا) على ما كان في الابتداء قبل دخولهن، ويجوز أن يعملن النصب في (منطلقا- قائما) بما فيهن من معاني الأفعال، فإذا قلت ليت هذا زيد قائما جاز أن يكون قائما منتصبا بهذا، وجاز أن يكون منتصبا ب (ليت) كأنك قلت أتمناه في هذه الحال، وإذا قلت لعل هذا زيد منطلقا، كأنك قلت أترجاه منطلقا، وإذا قلت كأن هذا زيد منطلقا، كأنك شبهته في هذه الحال، وقد جعلهن سيبويه يعملن بعملين: نصب الاسم ورفع الخبر ك (ليس وكان) في رفع الاسم ونصب الخبر، فإذا نصبت (ليت ولعل وكأن) الحال بعد عملهن في الاسم كان بمنزلة ما يرفع الفاعل وينصب المفعول من الأفعال، ثم تنصب الحال. ولو قلت إنّ زيدا أخوك قائما في البيت، أو أتى زيد قائما لم يجز؛ وكذلك (لكنّ) كما لم يجز ذلك في الابتداء، ولو قلت ليت زيدا أخوك قائما، أو ليتني زيد قائما، أو كأني زيد قائما، أو لعلّي زيد قائما جاز لما فيهن من معنى الفعل. قال: " وتقول إنّ الذي في الدار أخوك قائما، كأنه قال من الذي في الدار فقال إنّ الذي في الدار أخوك قائما، فهو يجري في (إن ولكن) في الحسن والقبح مجراه في الابتداء، وإن قبح في الابتداء أن يذكر المنطلق قبح هاهنا، وإن حسن أن يذكر المنطلق حسن هاهنا، وإن قبح أن يذكر الأخ في الابتداء قبح هاهنا؛ لأن المعنى واحد، وهو من كلام واجب، وأما في (ليت وكأن ولعل) فتجري مجرى الأول، ومن قال إن هذا أخاك منطلق قال إنّ الذي رأيت أخاك ذاهب، ولا يكون الأخ صفة للذي؛ لأن أخاك أخص من الذي، ولا يكون له صفة، من قبل أن زيدا لا يكون صفة لشيء ". قال أبو سعيد: أما قوله إنّ الذي في الدار أخوك قائما، فعلى هذا الظاهر لا يجوز إذا أردت به أخوة النسب؛ لأنك إذا نصبت قائما ب (أخوك) لم يجز كما لا يجوز زيد أخوك قائما في النسب، وإن نصبت قائما بالظرف على تقدير إن الذي في الدار قائما

أخوك صار قائما في صلة الذي ولم يجز أن تفصل بين الصلة والموصول ب (أخوك) وهو خبر، وإن جعلت أخوك في معنى المؤاخاة والمصادقة وجعلته هو العامل في قائما جاز، وإن حملته على مثل قولك أنا زيد منطلقا في حاجتك، إذا كان قد عهده قائما قبل هذه الحال جاز كما يجوز مثله في الابتداء، وربما جاء في الشعر بما يظهر في لفظه الفصل بين الصلة فيحمله النحويون على غير الفصل، وقد يتخرج على غير الذي قالوه، فمن ذلك قول الأخطل: إنّ العرارة والنبوح لدارم … والمستخفّ أخوهم الأثقالا (¬1) على نصب المستخف باسم إنّ وعلى رفعه بالابتداء والاستئناف، فأسهل وجوهه في المعنى أن يكون المستخفّ بمعنى الذي استخف، والأثقال مفعول المستخف، وأخوهم خبره، وفي المستخف ضمير فاعل يعود إلى الألف واللام فيه، وهم في (أخوهم) تعود إلى دارم؛ لأنهم قبيلة، فجعلوا الأثقال خارجا عن الصلة ومنصوبا بفعل مضمر بعد (أخوهم)، كأنه قال: والمستخف أخوهم، ثم أضمر يستخف، وقال بعض النحويين في المستخف ضمير يجعل أخوهم بدلا منه، وكلّ قدر الألف واللام بتقدير الذي، وأخوهم واحد، وأسهل من ذلك عندي أن نجعل الألف واللام في المستخف بتقدير الذين، وهم في أخوهم تعود إلى الألف واللّام، وأخوهم فاعل المستخف والأثقال مفعول به، والمعنى: وإنّ لدارم القوم الذين يستخف بعضهم الأثقال؛ أي فيهم قبيلة بعضها الأثقال، ومنه قول الكميت: كذلك تلك وكالناظرات … صواحبها ما يرى المسحل (¬2) شبه ناقته بعير آتن، وشبه صواحب ناقته من الإبل بآتن العير، وتقديره كذلك العير ناقته، وهي المشار إليها بتلك، وصواحبها كالناظرات ما يرى المسحل، وما يرى المسحل مفعول الناظرات، وصواحبها مبتدأ، وفصل بين الناظرات وما عملت فيه بصواحبها، ومعنى الناظرات المنتظرات ما يعمل المسحل وهو العير، فيعملن مثله بجعل الموصول قد تم بالناظرات وبجعل ما يرى المسحل خارجا من الصلة، محمولا على فعل دل عليه ما تقدم، و (ما يرى) ليس بمنصوب بالناظرات، ولكنه كأنه قال: وصواحبها كالناظرات، ثم أضمر ينظرن لدلالة الناظرات عليه. ¬

_ (¬1) ديوانه 51، واللسان (عرر)، وتاج العروس (نبح). (¬2) البيت في ديوانه 2/ 35، والخصائص 2/ 404.

قال: " وسألت الخليل عن قول الأسدي: إنّ بها أكتل أو رزاما … خويربين ينقفان الهاما فزعم أن خويربين نصب على الشتم كما انتصب (حمالة الحطب) على الشتم و (النازلين بكل معترك) على التعظيم ". قال أبو سعيد: وقد مضى الكلام في نصب الشتم والتعظيم في بابهما، وقد أنشد سيبويه في هذا الموضع أبياتا فيها ما ينتصب على الشتم، وفيها ما ينتصب على الشتم والتعظيم من النكرات، وأنا أذكر الأبيات وتفسيرها قد انطوى فيما ذكرته في باب الشتم والتعظيم وقبل هذين البيتين: ائت الطريق واجتنب أرماما … إن بها أكتل أو رزاما خويربين ينقفان الهاما … لم يدعا لسارح مقاما (¬1) أكتل ورزاما لصان كانا يقطعان الطريق ينقفان هام من يمر بهما. وقال الشاعر: أمن عمل الجراف أمس وظلمه … وعدوانه أعتبتمونا براسم أميري عداء إن حبسنا عليهما … بهائم مال أوديا بالبهائم (¬2) أميري عداء لا يصلح بدلهما من الجراف وراسم، وهما الأميران الظالمان العاديان؛ لأن الجراف مجرور بإضافة عمل إليه، وراسم مجرور بالباء، وهي في صلة أعتبتمونا ولا تعلق للجراف به، فدعت الضرورة إلى نصب أميري عداء على الشتم، ومما ينتصب على المدح والتعظيم قول الفرزدق: ولكنني استبقيت أعراض مازن … وأيامها من مستنير ومظلم أناسا بثغر لا تزال رماحهم … شوارع من غير العشيرة في الدم (¬3) ومما ينتصب لأنه عظيم الأمر قول عمرو بن شأس الأسدي: ¬

_ (¬1) الرجز لرجل من بني أسد في الأشموني 3/ 107، والمخصص 12/ 294، والمقتضب 4/ 315، واللسان (كتل). وأرمام: جبل في ديار باهلة. وخويربين تثنية خويرب تصغير خارب وهو اللص، والنقف: كسر الهامة حتى تخرج دماغه. (¬2) البيتان في اللسان وتاج العروس (جرف) منسوبان لعبد الرحمن بن جهيم من بني أسد، الكتاب 1/ 238. (¬3) في ديوانه ص 821، والرواية فيه: لأيامها ... … أناس بثغر ما تزال ...

ولم أر ليلى بعد يوم تعرضت … لنا بين أثواب الطراف من الأدم كلابية وبرية حبترية … نأتك وخانت بالمواعيد والذمم أناسا عدى علقت فيهم وليتني … طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم (¬1) وقول الآخر: ضننت بنفسي حقبة ثم أصبحت … لبنت عطاء بينها وجميعها ضبابية مرية حابسية … منيخا بنعت الصيدلين وضيعها (¬2) قال: " وكل هذا سمعناه ممن يرويه من العرب نصبا، ومما يدلك على أن هذا ينتصب على التعظيم والمدح أنك لو حملت الكلام على أن تجعله حالا لما بنيته على الاسم الأول كان ضعيفا، وليس هاهنا تعريف ولا تنبيه، ولا أراد أن يوقع شيئا في حال لقبحه ولضعف المعنى ". لأنه لم يرد أن ليلي في حال ما هي كلابية وبرية حبترية؛ لأنها أنساب لا تتغير، وكذلك قوله ضبابية مرية حابسية، فيحمل ذلك على تعظيم، شأنها بهذه الأشياء الرفيعة الشريفة عندها. قال: " وزعم يونس أنه سمع رؤبة يقول: أنا ابن سعد أكرم السعدينا (¬3) بنصبه على الفخر. قال الخليل: إنّ من أفضلهم كان زيدا على إلغاء كان " كأنه قال: إنّ من أفضلهم زيدا كان؛ أي كان ذلك، وإنما قيل زائدة أنها ليس لها اسم ولا خبر في الكلام المذكور على مثل قول الشاعر: سراة بني أبي بكر تسامي … على كان المسومة العراب (¬4) وعلى مثل ما حكي من كلام بعض العرب ولدت فاطمة بنت الحرشب الكملة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم، ومعناه لم يوجد مثلهم وأدخل الخليل في ذلك قول الفرزدق: ¬

_ (¬1) البيتان في الكتاب 1/ 288. (¬2) البيتان في الكتاب 1/ 289، والبيت الثاني في اللسان (صدل). ضبابية نسبها إلى الضباب وهم حي من بني عامر، ومرة وحابس حيان منهم. (¬3) ديوانه 91، وابن يعيش 1/ 47، والكتاب 1/ 289. (¬4) البيت بلا نسبة في ابن يعيش 7/ 99، والهمع 1/ 120، والدرر 1/ 89.

وكيف إذا رأيت ديار قوم … وجيران لنا كانوا كرام (¬1) ورد بذلك أبو العباس محمد بن يزيد وزعم أن (كانوا) لها اسم وخبر واسمها الواو التي فيها وخبرها لنا التي قبلها، كأنه قال: وجيران كانوا لنا، والأظهر كلام الخليل ولنا من صلة جيران، وكانوا دخولها غير مغير للكلام، كأنه قال: وجيران لنا كرام، وأدخل كانوا وجعل فيها ضمير الجيران، كما يجعل في كان الموحدة ضمير ما جرى ذكره في معنى كان الأمر وخلق، ولا تدخل شيئا من الكلام في اسم لها ولا خبر. قال سيبويه: " إن من أفضلهم كان رجلا يقبح لأنك لو قلت: إن من خيارهم رجلا ثم سكتّ كان قبيحا حتى تعرفه بشيء أو تقول: رجلا من أمره كذا وكذا، وقال إنّ فيها كان زيد على قولك إنه فيها كان زيد، وإلا فإنه لا يجوز أن يحمل الكلام على إنّ ". لأنه لا بد لها من اسم، فإذا لم يكن بعدها اسم فلا بد من إضمار الهاء ليكون اسما. وقال: " إنّ أفضلهم كان زيد وإنّ زيدا ضربت على قوله إنه زيدا ضربت، وأنه كان أفضلهم زيد، وهذا قبيح وفيه ضعف وهو في الشعر جائز، ويجوز أيضا على قوله إن زيدا ضربته وإنّ أفضلهم كأنه زيد فتنصبه على إنّ وفيه قبح، كما كان في إنّ ". قال أبو سعيد: هذه المسائل كلها فيها حذف ما يقبح حذفه؛ لأن قوله إن أفضلهم كان زيد، إن نصبت أفضلهم بأن فخبر كان محذوف وتقديره إن أفضلهم كأنه زيد، وإن نصبته بخبر كان فالهاء من إن محذوفة، والجملة خبرها، وتقديره أنه وهما جميعا قبيح يجوز في الشعر، وإن زيدا ضربت، إن نصبت زيدا بضربت فالهاء محذوفة من إن، كأنه قال إنه زيدا ضربت، وإن نصبت زيدا ب (إن) فالهاء محذوفة من ضربت، كقولك زيدا ضربت في معنى ضربته، وقد مضى الكلام في حذفها. قال: " وسألت الخليل عن قوله تعالى: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ (¬2) فزعم أنها وي مفصولة من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا فقيل لهم أما بشبه أن يكون ذا عندكم هكذا. والله أعلم. فأما المفسرون فقالوا: ألم تر أن الله. وقال زيد بن عمرو بن نفيل: سألتاني الطلاق أن رأتاني … قل مالي قد جئتماني بنكر ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 835، والمقتضب 4/ 116، والكتاب 1/ 289. (¬2) سورة القصص، من الآية 82.

وي كأن من لم يكن له نشب … يحبب ومن يفتقر يعش عيش صعر (¬1) قال أبو سعيد: في (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) ثلاثة أقوال؛ أحدها قول الخليل الذي ذكرناه تكون وي كلمة تندّم يقولها المتندم عند إظهار ندامته، ويقولها المندم لغيره، والمنبه له، ومعنى «وكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده» (¬2) وإن كان لفظه لفظ التشبيه فمعناه التحقيق. قال الشاعر: وأصبح بطن مكة مقشعرّا … كأن الأرض ليس بها هشام (¬3) ومعناه: الأرض ليس بها هشام؛ لأنه مات، وهذا من مراثيه، والقول الثاني قول الفراء: يكون (ويك) موصولة بالكاف، وأن الله منفصلة من الكاف. وذكر الفراء أن معناها في كلام العرب تقرير، كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله تعالى؟ واحتج الفراء على من قال هي (وي) ثم بعدها (كأن)، بأنها كتبت موصولة غير مفصولة. والحجة للخليل في فصل كأن من وي وإن كانت موصولة في الخط أنه كتب في المصحف موصولا بعد ما حقه أن مفصولا كقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (¬4) ما بمعنى الذي وحقه أن يكتب مفصولا (أن ما غنمتم) وكتبت في المصحف موصولة (أنما) وكل واحد من مذهب الخليل ومذهب الفراء يتخرج على ما روي عن المفسرين؛ لأن قوله: ألم تر تنبيه على ما قاله الخليل، وأجاز الفراء وغيره أن يكون ويك بمعنى ويلك، وحذفت العرب اللام لكثرتها في الكلام. وأنشد قول عنترة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها … قيل الفوارس ويك عنتر أقدم (¬5) قال أبو سعيد: وهذا عندي يبعد؛ لأنه لا يقال ويلك أنّ زيدا قائم بفتح أنّ، وإنما يقال ويلك إنّ زيدا قائم؛ لأن ويلك منقطع مما بعده، والقول الثالث: ما حكاه الفراء عن بعض النحويين أنه يذهب إلى أنها ويك بمعنى ويلك، وجعل (أنّ) مفتوحة بفعل مضمر، كأنه قال ويلك أعلم أن الله، وأنكر الفرّاء هذا وقال ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء: يا ¬

_ (¬1) البيتان نسبا في اللسان إلى زيد بن عمرو بن نفيل، والدرر 2/ 140، ونسب إلى أبي الأعور سعيد بن زيد في البيان والتبيين 1/ 166، وابن يعيش 4/ 76. (¬2) سورة القصص، من الآية 82. (¬3) البيت في الدرر 1/ 111، وشواهد المغني 174. (¬4) الأنفال، من الآية 41. (¬5) البيت في ديوانه 128، وابن يعيش 4/ 77، وشواهد المغني 269.

هذا إنّك قائم؟ وقد يحتمل أن يكون بيت عنترة أن تكون الكاف في (ويك) للخطاب؛ مثل الكاف في رويدك. قال: " واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال هم كما قال: ولا سابق شيئا إذا كان جائيا وأما قوله والصابئون فعلى التقديم والتأخير، كأنه ابتداء، والصابئون بعد ما مضى من الخبر وقال الشاعر: وإلّا فاعلموا أنا وأنتم … بغاة ما بقينا في شقاق (¬1) كأنه قال: بغاة ما بقينا وأنتم». قال أبو سعيد: قد ذكر بعض النحويين أن الغلط إنما وقع في أنهم أجمعون؛ لأن لفظ هم يكون للرفع في قولك هم قائمون، وأشباه ذلك، فتوهموا أنهم في تقدير هم أجمعون، وجعل إنك وزيدا في معنى أنت وزيد ذاهبان، والغلط فيه أن ذاهبان خبر الكاف في إنك، وهو منصوب بإن وزيد وهو مرفوع بالابتداء، وخبر إن يرتفع بغير الذي يرتفع به خبر الابتداء، ولو قال إنك ذاهب وزيد، كان من أجود كلام على ما بيناه، وفي مذهب الكوفيين إنك وزيد ذاهبان جائز لا غلط فيه. أما الكسائي فإنه يجيز ذلك فيما ظهر فيه عمل (إنّ) وفيما لم يظهر فيه؛ كقولك: إن زيدا وعمرو قائمان، وإنك وعمرو قائمان، وأما الفراء فإنه يجيز فيما لم يتبين فيه عمل إن كقولك إنيّ وزيد ذاهبان، وإن الذي في الدار وزيد قائمان، ولا يجيزه فيما يتبين فيه عمل إن، لا يجيز إن عمرا وزيد قائمان؛ لأنهم يزعمون أن عمل إن ضعيف، وأنه يعمل في الاسم وحده، وأنه لا يتخطى إلى الخبر، وأن الخبر مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخول إنّ، وقد بينا بطلانه. ومن بطلان ما ادعوه في ضعف عملها أنها تعمل في الاسم، وبينها وبين الظرف خبر أو غير خبر؛ كقوله عز وجل: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ (¬2) فهذا يدل على قوة عمل إن والغلط في (ولا سابق شيئا) أن خبر ليس يستعمل كثيرا بالباء، فيتوهم العاطف أنّ في الأول الباء أو يجريه على ما كان يستعمل، كما يجري الاسم على موضع إنّه، كأنها ليست في الكلام، وكذلك تقول: بدا لي أني لست مدرك ما مضى، ولا سابق على ما ¬

_ (¬1) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه 165، وابن يعيش 8/ 70، والإنصاف 190. (¬2) سورة المائدة، من الآية 22.

هذا باب كم

كان يستعمل إذا قالوا لست بمدرك ما مضى، وأما الصابئون، فالذي قال سيبويه على أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصّابئون والنّصارى كذلك. وفيه وجه آخر نحو هذا غير خارج عن مذهبه، وهو أنّ يجعل من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الآية للصابئين والنصارى خبرا وتضمر مثل الذي ظهر للذين آمنوا والذين هادوا؛ لأنه يجوز أن تقول: زيد وعمرو قائم، تجعل قائم خبرا لأيهما شئت. وفي رفع الصابئون غير هذين الوجهين، مما كرهنا الإطالة بذكره، وفي قوله: وإلا فاعلموا أنا وأنتم … بغاة ما بقينا في شقاق (¬1) وجهان أحدهما التقديم والتأخير الذي ذكره سيبويه، والثاني أنّا نضمر لأن خبرا محذوفا يدل عليه ما بعده ونجعل بغاة خبر أنتم، كأنه قال: وإلا فاعلموا أنّا بغاة وأنتم بغاة، وحذف خبر الأول اكتفاء بخبر الثاني. وقد حمله بعض أصحابنا على الغلط كأنه شبه (نا) في (أنّا) ب (نا) الذي هو ضمير الرفع في نحو قلنا: وذهبنا. فتوهم (نا) مرفوعا في أنّا لإشباهه (نا) في (قلنا) ولست أحب هذا الوجه. هذا باب كم " اعلم أن ل (كم) موضعين: أحدهما الاستفهام وهو الحرف المستفهم به بمنزلة كيف وأين. والموضع الآخر: يكون فيه معناها معنى (ربّ). وقد تكون في الموضعين اسما فاعلا، ومفعولا، وظرفا، ويبنى عليها إلا أنّها لا تتصرف تصرفّ يوم وليلة، كما أن حيث وأين لا يتصرفان تصرف تحتك، وخلفك، وهما موضعان بمنزلتهما، غير أنها حروف لم تتمكن في الكلام، إنما لها مواضع تلزمها في الكلام، ومثل ذلك- في الكلام- كثير، وقد ذكر فيما مضى وستراه فيما يستقبل إن شاء الله. أما (كم) في الاستفهام إذا عملت فيما بعدها فهي بمنزلة اسم متصرف في الكلام منون، قد عمل فيما بعده لأنه ليس من صفته، ولا محمولا على ما حمل عليه، وذلك الاسم عشرون وما أشبهها نحو ثلاثين وأربعين. ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه

وإذا قال لك رجل: كم لك؟ فقد سألك عن عدد، لأن (كم) هو اسم لعدة. فإذا قال: كم لك درهما؟ أو كم درهما لك؟ ففسرت ما يسأل عنه قلت: عشرون درهما. فعملت في الدرهم عمل العشرين في الدرهم ولك مبنية على كم. واعلم أن (كم) تعمل في كل شيء حسن للعشرين أن تعمل فيه، فإذا قبح للعشرين أن تعمل في شيء قبح ذلك في (كم) لأن العشرين عدد منوّن، وكذلك (كم) هو منون عندهم، كما أن خمسة عشر عندهم بمنزلة ما قد لفظوا بتنوينه، لولا ذلك لم يقولوا: خمسة عشر درهما ولكن التنوين ذهب منه كما ذهب مما لا يتصرف، وموضعه موضع اسم منون. وكذلك (كم) موضعها موضع اسم منون، وذهبت منها الحركة، كما ذهبت من (إذ) لأنهما غير متمكنين في الكلام، وذلك أنك لو قلت: كم لك الدرهم لم يجز، كما لم يجز في قولك: عشرون الدرهم، ولأنهم إنما أرادوا عشرون من الدراهم، هذا معنى الكلام، ولكنهم حذفوا الألف واللام وصيروه إلى الواحد، وحذفوا (من) استخفافا كما قالوا: هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون: هذا أول من الفرسان فحذف الكلام. وكذلك (كم) إنما أرادوا كم لك من الدراهم؟ وزعم أن قولك العشرون لك درهما فيها قبح، ولكنها جازت في (كم) جوازا حسنا؛ كأنه صار عوضا من التمكن في الكلام؛ لأنها لا تكون إلا مبتدأة ولا تؤخر فاعله ولا مفعوله، ولا تقول: رأيت كم رجلا، وإنما تقول: كم رجلا رأيت. وتقول: كم رجل أتاني، ولا تقول: أتاني كم رجل. ولو قال: أتاك ثلاثون- اليوم- رجلا كان قبيحا؛ لأنه لا يقوى قوة الفاعل وليس مثل (كم) لما ذكرت لك. وقال الشاعر: على أنني- بعد ما قد مضى- … ثلاثون للهجر حولا كميلا يذكر منك حنين العجول … ونوح الحمامة تدعو هديلا (¬1) و (كم رجلا أتاك) أقوى من: (كم أتاك رجلا)، وكم هاهنا فاعلة. و (كم رجلا ضربت) أقوى من: (كم ضربت رجلا)، وكم هاهنا معقولة. ¬

_ (¬1) البيتان منسوبان لعباس بن مرداس في الخزانة الشاهد 216، ابن يعيش 4/ 130، العيني 4/ 481.

وتقول: كم مثله لك، وكم خيرا منه لك، وكم غيره لك، كلّ هذا جائز حسن؛ لأنه يجوز بعد عشرين- فيما زعم يونس. وتقول: كم غيره مثله لك، انتصب غيره (بكم)، وانتصب مثله لأنه صفة له ولم يجز يونس والخليل: كم غلمانا لك؛ لأنك لا تقول: عشرون ثيابا لك إلا على وجه: لك مائة بيضاء وعليك راقود خلا. فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غلمانا، ويقبح أن تقول: كم غلمانا لك؛ لأنه قبيح أن تقول: عبد الله قائما فيها، كما قبح أن تقول: قائما فيها زيد، وقد فسرنا ذلك في بابه. وإذا قلت: كم عبد الله ماكث، فكم أيام، وعبد الله فاعل، وإذا قلت: كم عبد الله عندك، فكم ظرف من الأيام، وليس يكون عبد الله تفسيرا للأيام لأنه ليس منها. والتفسير: كم يوما عبد الله ماكث أو كم شهرا عبد الله عندك؟ فعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلا ضرب عبد الله. فإذا قلت: كم جريبا أرضك؟ فأرضك مرتفعة ب (كم) لأنها مبتدأة، والأرض مبنية عليها وانتصب الجريب؛ لأنه ليس بمبني على مبتدإ، ولا وصف فكأنك قلت: عشرون درهما خير من عشرة. وإن شئت قلت: كم غلمان لك؟ فتجعل (غلمان) في موضع خبر، وتجعل (لك) صفة لهم. وسألته: على كم جذع بيتك مبني؟ فقال: القياس النصب، وهو قول عامة الناس فأما الذين جرّوا فإنهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها هاهنا. تخفيفا على اللسان، وصارت (على) عوضا منها. ومثل ذلك: الله لا أفعل، فإذا قلت: لاها الله لا أفعل لم يكن إلا الجر، وذلك أنه يريد لاها والله، ولكنه صار (ها) عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر وعاقبه. ومثل ذلك: الله ليفعلنّ؟ إذا استفهمت أضمروا الحذف الذي يجرّ وحذفوا تخفيفا على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا. واعلم أن (كم) - في الخبر- بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منّون يجر ما بعده إذا سقط التنوين، وذلك الاسم نحو: مائتي درهم، فانجر الدرهم؛ لأن التنوين

ذهب ودخل فيما قبله، والمعنى معنى ربّ، وذلك قولك: كم غلام لك قد ذهب. قال: فإن قال قائل: ما شأنها في الخبر صارت بمنزلة اسم غير منون؟ فالجواب فيه أن تقول: جعلوها في المسألة مثل (عشرين) وما أشبهها، وجعلت في الخبر بمنزلة ثلاثة إلى العشرة تجر ما بعدها، كما جرت هذه الحروف ما بعدها فجاز (ذا) في (كم) حين اختلف الموضعان، كما جاز في الأسماء المتصرفة التي هي للعدد. واعلم أن (كم) في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه ربّ؛ لأن المعنى واحد، إلا أن كم اسم و (ربّ) غير اسم بمنزلة من، الدليل عليه أن العرب تقول: كم رجل أفضل منك، تجعله خبر (كم) أخبرنا بذلك يونس عن أبي عمرو. واعلم أن ناسا من العرب يعملونها فيما بعدها في الخبر كما يعملونها في الاستفهام فينصبون بها كأنها اسم منون. ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه (ربّ) إلا أنها تنصب لأنها منونة، ومعناها منونة وغير منونة سواء، لأنه لو جاز في الكلام أو اضطر شاعر فقال: ثلاثة أثوابا كان معناه معنى ثلاثة أثواب. وقال يزيد بن حنية ويروى للربيع: إذا عاش الفتى مائتين عاما … فقد ذهب المسرة والفتاء (¬1) وقال الآخر: أنعت عيرا من حمير خنزره … في كل عير مائتان كمّره (¬2) وبعض العرب ينشد قول الفرزدق: كم عمة لك يا جرير وخالة … فدعاء قد حلبت علي عشاري وهو كثير، منهم الفرزدق. وقد قال بعضهم: كم على كل حال منونة، ولكن الذين جروا في الخبر أضمروا ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 6/ 23، الخزانة الشاهد 545، الجمهرة لابن دريد 3/ 215. (¬2) الرجز للأعور بن براء الكلبي، في ابن يعيش 6/ 24

(من) كما جاز لهم أن يضمروا (رب) وزعم الخليل أن قولهم: (لاه أبوك) ولقيته أمس إنما هو على: لله أبوك، ولقيته بالأمس، ولكنهم حذفوا الجار تخفيفا على اللسان، وليس كل جار يضمر؛ لأن المجرور داخل في الجار، فصارا عندهم بمنزلة حرف واحد، فمن ثمّ قبح، ولكنهم يضمرونه ويحذفونه فيما كثر في كلامهم؛ لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعماله أحوج. قال الشاعر العنبري: وجدّاء ما يرجى بهاذ وقرابة … لعطف وما يخشى السماة ربيبها (¬1) وقال امرؤ القيس: ومثلك بكرا قد طرقت وثّيبا … وألهيتها عن ذي تمام مغيل (¬2) أي رب مثلك. ومن العرب من ينصبه على الفعل: ومثلك رهبي قد تركت رذية … تقلّب عينيها إذا مرّ طائر (¬3) سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب. والتفسير الأول في (كم) أقوى لأنه لا يحمل على الاضطرار والشاذ، وإذا كان له وجه جيد ولا يقوى قول الخليل في أمس لأنك تقول: ذهب أمس بما فيه. فإذا فصلت بين (كم) وبين الاسم بشيء استغني عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يستعملونها بمنزلة اسم منون؛ لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة، والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول: هذا ضارب بك زيدا، ولا تقول: هذا ضارب بك زيد. قال زهير: تؤم سنانا وكم دونك … من الأرض محدودبا غارها (¬4) وقال القطامي: ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب ص 244. (¬2) البيت في الديوان 66. (¬3) نسبه بعضهم إلى أبي ربيس الثعلبي، وهو من الخمسين. (¬4) البيت نسب إلى زهير وابنه كعب في ابن يعيش 4/ 131، الإنصاف 306، الأشموني 4/ 83، وليس بديوانهما.

كم نالني منهم فضلا على عدم … إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل (¬1) وإن شاء رفع فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل، فارتفع الفضل ب (نالني) كقولك: كم قد أتاني زيد، فزيد فاعل وكم مفعول فيها وهي المرار التي أتاه فيها. وليس زيد من المرار، وقد قال بعض العرب. كم عمة لك يا جرير وخالة … فدعاء قد حلبت علىّ عشار وقال الآخر: كم قد فاتني بطل كميّ … وياسر فتية سمح هضوم (¬2) فجعل (كم) مرارا كأنه قال: كم مرة قد حلبت علي عماتك. وقال ذو الرمة ففصل بين الجار والمجرور: (كأنّ أصوات من أيغالهنّ بنا … أواخر الميس أصوات الفراريج (¬3) وقد يجوز في الشعر أن تجر وبينها وبين الاسم حاجر: فتقول: كم فيها رجل. كما قال الأعشى: إلا علالة أو بداهة قارج بهذا الجزارة (¬4) فإن قال قائل: أضمر (من) بعد (فيها) قيل له ليس في كل موضع يضمر الجارّ، ومع ذلك إن وقوعها بعد (كم) أكثر. وقال: يجوز على قول الشاعر: كم بجود مقرف نال العلا … وكريم نجله قد وضّعه (¬5) الجر والرفع والنصب على ما فسرنا. كما قال: كم فيهم ملك أغر وسوقة … حكم بأردية المكارم مرتدي (¬6) وقال: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 30، وابن يعيش 4/ 131، الدرر 1/ 212. (¬2) البيت منسوب إلى الأشهب بن رميلة في الكتاب 1/ 295، المقتضب 3/ 62. (¬3) البيت في ديوانه 76، ابن يعيش 3/ 77، 4/ 132. (¬4) البيت في الخزانة الشاهد 23، الخصائص 2/ 407. (¬5) البيت منسوب إلى أبي الأسود الدؤلي بالخزانة الشاهد 489 / ابن يعيش 4/ 132، الدرر 1/ 212. (¬6) البيت للفرزدق وليس في ديوانه، ابن السيرافي 1/ 348.

كم في بني بكر بن سعد سيد … ضخم الدسيفة ماجد نفاء (¬1) وتقول: كم قد أتاني لا رجل ولا رجلان، وكم عبد لك ولا عبد ولا عبدان، فهذا محمول على ما حمل عليه (كم) لا على ما تعمل فيه كم، فإنك قلت: لا رجل أتاني ولا رجلان، ولا عبد لك ولا عبدان، وذلك لأن (كم) يفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور، كما قلت: عشرون درهما، أو بجميع منكور نحو ثلاثة أثواب وهذا جائز في التي تقع في الخبر، فأما التي تقع في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين. ولو قلت: كم لا رجلا ولا رجلين في الخبر أو الاستفهام كان غير جائز؛ لأنه ليس هكذا تفسير العدد. ولو جاز (ذا) لقلت: عشرون لا عبدا ولا عبدين. ولا رجل ولا رجلان توكيد ل (كم)، لا للذي عمل فيه؛ لأنه لو كان عليه كان حالا وكان نقضا. ومثل ذلك قولك للرجل: كم لك عبدا؟ فيقول: عبدان، أو ثلاثة أعبد، حمل الكلام على ما حمل عليه (كم) ولم يرد من المسؤول أن يفسر له العدد الذي يسأل عنه، إنما على السائل أن يفسر له العدد حتى يجيبه المسؤول على العدد ثم يفسره بعد، إن شاء فيعمل في الذي يفسر به العدد، كما أعمل السائل في (كم) في العدد. ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال، كأنه يريد أن يجيب السائل بقوله: كم عبدا فيصير سائلا، ومع هذا أنه لا يجوز لك أن تعمل (كم) وهي مضمرة، في واحد من الموضعين؛ لأنه ليس بفعل ولا اسم أخذ من الفعل. ألا ترى إنه إذا قال المسؤول: عبدين أو ثلاثة أعبد فنصب على (كم) أنه قد أضمر (كم). وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول: كم غلاما لك ذاهب، تجعل لك صفة للغلام، وذاهبا خبرا ل (كم)، ومن ذلك أن تقول: كم منهم شاهد على فلان، إذا جعلت شاهدا خبرا ل (كم)، وكذلك هو في الخبر أيضا. تقول: كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل مأخوذا بك في موضع (لك) إذا قلت: كم لك؛ لأن لك لا تعمل فيه كم ولكنه مبنيّ عليها، كأنك قلت: كم رجل لك، ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق وليس في ديوانه، ابن يعيش 4/ 132، العيني 4/ 392.

وإن كان المعنيان مختلفين؛ لأن معنى كم مأخوذ بك غير معنى: كم رجل لك. ولا يجوز في (ربّ) ذلك؛ لأن كم اسم، وربّ غير اسم، ولا يجوز أن تقول: رب رجل لك. قال أبو سعيد: هذا الباب أكثره مفهوم، ومنه ما قد مضى تفسيره في غير هذا الباب، وأنا أسوق هذا الباب إلى آخره جملة، ليقع تفسير ما يفسر منه جملة غير مفرقة والله المعين بطوله. فمن ذلك قوله: وهي: يعني (كم) في الاستفهام تكون اسما فاعلا، وكم لا تكون فاعلة؛ لأنها أول الكلام في اللفظ، فإذا كان الفعل لها فإنما يرتفع ضميرها به. وهي مرفوعة بالابتداء، وإنما سماها فاعلة لأن الفعل في المعنى لها. وقوله: لا تصرّف تصّرف يوم وليلة؛ لأن يوما وليلة يتقدمان ويتوسطان ويتأخران، و (كم) لها صدر الكلام. وشبهت (بعشرين) لأنها تنصب، ومنصوبها واحد من النوع، فمذهبها مذهب ما ينصب واحدا منكورا، وهي من أحد عشر إلى تسعة وتسعين، وتقدر (كم) تقدير اسم كان منونا بنصب ما بعده بالتنوين، ودخله البناء، وحذف التنوين لوقوعه موقع حرف الاستفهام فصار ينصب ما بعده بتقدير التنوين، ودخله البناء، كما تنصب ما بعد خمسة عشر بتقدير التنوين. ولا يستقبح الفصل بين عشرين وبين منصوبها من النوع؛ لأن (كم) كانت مستحقة للتمكن بالاسمية ثم منعته بما أوجب لها البناء، فصار الفصل واستحسان جوازه عوضا مما منعته من التمكن و (العشرون) وبابها باق على التمكن، وإن كان ذلك يجوز في العشرين ونحوها في الشعر على ضعفه لضعف عمل (عشرين). فمما لم ينشده سيبويه قول عبد بني الحسحاس من: أشوقا ولما تمض لي غير ليلة … رويد الهوى حتى تغب لياليا فأشهد عند الله أني رأيتها … وعشرون منها إصبعا من ورائيا (¬1) وذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه قرأ على عمارة لجرير: في خمس عشرة من جمادى ليلة … لا أستطيع على الفراش رقادي (¬2) ¬

_ (¬1) البيتان ليسا في ديوان سحيم، ابن يعيش 4/ 130. (¬2) البيت في الأغاني 20/ 183، طبقات ابن المعتز 316. والبيت في ديوان جرير 507 برواية: لي خمس عشر من جمادى ليلة … ما أستطيع ...

فإن قال قائل: ذكر سيبويه أن الفصل بين (كم) وبين ما نصبته تلك يجوز في (كم) جوازا حسنا؛ لأنه كأنه صار عوضا من التمكن، فيلزم في خمس عشرة ونظائره من (أحد عشر) إلى (تسعة عشر) أن يجوز الفصل جوازا حسنا، فللمحتج عن سيبويه أن يقول: قد كثر الكلام ب (كم) لأنه في كل مستفهم عنه من المقدار فاجتمع كثرة الاستعمال إلى منع التمكن، ولم تكثر في باب (خمسة عشر). والذي عندي أن جواز ذلك في (كم) لكثرة استعمالها وترددها في المواضع واعلم أنه يجوز أن تحذف من (كم) مفسره كما تحذف من عشرين ونظائره، وتكتفي بالدلالة عليه مما يجري (ذكره) أو مما يقتضيه الكلام ولا يكون مميزه إلا واحدا منكورا من النوع، كما لا يكون إلا ذلك في عشرين ونظائره. فإذا لم يكن بعد (كم) ما يصح أن يكون مميزا له علمت أنه قد حذف مميّزه وذلك قولك كم عبد الله ماكث، فعبد الله مبتدأ، وماكث خبره، وعريت (كم) من ذكر المميز، وكانت مسألة السائل عن مقدار مكث عبد الله من الزمان، فقدرت كم يوما أو كم شهرا، أو ما أشبه ذلك، وكم في موضع نصب، ينصبه ماكث، وهو ظرف من الزمان، ولأن (كم) يسأل بها عن كل مقدار جاز أن يسأل بها عن الزمان وعن المكان وعن المصادر وعن الأسماء. فعن أي شيء سئل بها صارت من ذلك الجنس، فإذا قلت: كم سرت؟ وأنت تريده ما ساره من المسافة فهو ظريف من المكان، كأنك قلت: كم فرسخا سرت، أو كم ميلا، ونحو ذلك. وإذا أردت مساره من الأيام فهو ظرف من الزمان، وتقديره: كم يوما سرت؟ أو كم ساعة، أو نحو ذلك مما تقصد ويفهم عنك. فإذا قلت: كم غلمانا لك لم يجز على وجه من الوجوه؛ لأنك إن نصبت غلمانا على التمييز لم يجز؛ لأن (كم) في الاستفهام لا يميز إلا بواحد، كعشرين. وإن أردت نصبها على الحال لم يجز؛ لأن العامل (لك) وهي مؤخرة، فلا يجوز ذلك. كما لا يجوز: زيد- قائما- فيها. فإن قدمت فقلت: كم لك غلمانا جاز كما يجوزه عبد الله- فيها قائما، وتقديره: كم مماليكك في حال ما هم غلمان، أو كم ولدك غلمانا، كما تقول: لك مائة بيضا، أي في حال ما هي بيض. وإذا قال: كم غلمان لك فتقديره: كم غلاما غلمان لك، فيكون كم مبتدأ،

وغلمان خبره، ولك صفة، وقد ذكرنا أن (كم) في الاستفهام تنصب لا غير. وقد ذكر سيبويه عن الخليل: على كم جذع بيتك مبنيّ؟ وذكر أن القياس النصب، وإنما خفض بإضمار (من) وصارت (على) في أول الكلام عوضا منها، ولاها الله لا أفعل، وآلله ليفعلن، ألف الاستفهام في اسم الله تعالى، و (ها) في (لاها) عوض من واو القسم، وقد ذكر ذاك في موضعه. و (كم) في الخبر تخالف (كم) في الاستفهام في المميز وفي إعراب المميز، أما المميز في (كم) للاستفهام فهو واحد منكور، وإعرابه النصب. وأما (كم) في الخبر، فمميز ويكون واحدا وجميعا، ويكون مخفوضا ومنصوبا، والأكثر فيه الخفض، وذكر أصحابنا أنهم نصبوا بها في الاستفهام وخفضوا في الخبر للفرق بين المعنيين. ولقائل أن يقول: فلم صارت التي للاستفهام أولى بالنصب والأخرى أولى بالخفض؟ فالجواب عن ذلك: أن التي في الخبر تضارع (ربّ) وهي حرف، وكم للتكثير ورب للتقليل، فلما وجب في التي تضارع (رب) في الخبر الخفض بمضارعة (رب) وجب للأخرى النصب؛ لأن العدد إما عمل نصبا أو خفضا. ومما تقوي ذلك أن الاستفهام مضارع للفعل، والفعل له النصب، فكذلك جعلت بمنزلة ما ينصب، وإنما أضيف التي في الخبر إلى الجمع والواحد؛ لأنه لما وجب لها الخفض وكان العدد الخافض بعضه يميّز بجمع كقولك: ثلاثة أثواب وخمسة أجمال وبعضه يميّز بواحد كقولك: مائة ثوب وألف درهم، فيجوز في (كم) الوجهان، كما جاء في العدد الذي تعمل عمله. والذين ينصبون بها في الخبر يحملونه على الاستفهام، وهو الأصل لأن (كم) عدد منهم فأصلها الاستفهام؛ لأن المستفهم يحتاج أن يبهم لشرح ما يسأل عنه، وليس الأصل في الإخبار والإبهام، فذلك صار الأصل الاستفهام، فإذا نصب بما في الخبر جاز أن يكون المنصوب جماعة؛ لأنه يزد به ما لباب فيه. والأكثر الخفض، فصار كقولك: مائتين عاما وثلاثة أثوابا إذا احتاج إلى نصبه الشاعر فإذا فصلت بين (كم) وهي خافضة، وبين ما تخفضه فإن الأحسن حملها على لغة من ينصب بها لقبح الفصل بين الخافض والمخفوض، وقد ذكرت ما أنشده في ذلك. وبيت الفرزدق من ينشد على ثلاثة أوجه: أجوده الخفض؛ لأنه خبر، كم عمة لك يا جرير، هي في معنى (عمات) وبعدها النصب، وهي- أيضا- في معنى عمات، وإذا رفع فقيل:

كم عمة لك فهي عمة واحدة، كأنه قال: كم عمتك؟ وكم واقعة على مرار الحلب، وكأنه قال: كم مرة عمتك حلبت علىّ، وعمة لك بتلك المنزلة. وأهل الكوفة يخفضون ما بعد كم في كل حال بمن، فإن أظهرتها فهي الخافضة وإن حذفت وخفضت فهي مقدرة، فلذلك فصلوا بين (كم) وبين المخفوض. وتقول: كم قد أتاني لا رجل ولا رجلين، وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان، كم رفع بالابتداء ومميزه محذوف، وتقديره: كم رجل؛ لأنه في الخبر، وخبر (كم) قد أتاني، فصار التقدير: رجال أتوني، ولا رجل ولا رجلان: عطف على (كم). كما تقول: زيد أتاني لا عمرو ولا بكر. ولا يجوز أن تعمل (كم) في لا رجل ولا رجلين؛ لأن تفسير (كم) استفهاما كانت أو خبرا- لا تقع كذلك، أما في الاستفهام فمنزلتها منزلة (عشرين) وأنت لا تقول في تمييز العشرين: عندي عشرون لا رجلا ولا رجلين، وأما في الخبر فهي تجري مجرى (ربّ) وأنت لا تقول: ربّ لا رجل ولا رجلين، ومعنى قوله: كان محالا وكان نقضا؛ أي نصبت وجئت ب (كم) بعد (لا) فقلت: لا كم رجلا، أو أضمرت (كم) لم يجز وانتقض الكلام؛ لأنه يصير في الخبر بمنزلة لا ربّ رجل ولا كم رجل، والقائل إذا قال: كم أتاني الرجل والرجلان يريد تكثير من أتاه، فإذا حمل لا رجل ولا رجلين على (كم) صار لا كم، فإذا أظهرها وأضمرها استحال وذهب معنى الكلام. وعلى ذلك جواب من يقال له: كم لك عبدا؟ فيقول: عبدان أو ثلاثة أعبد، عبدان أو ثلاثة جواب (كم) وهو رفع بالابتداء وخبره (لي) محذوفة، كما كان (لك) خبر (كم). قوله: ولم يرد من المسؤول أن يفسر على السائل فيفسر فيقول: كم درهما أو دينارا لك فيقول المسؤول: عشرون أو ثلاثون، وإن شاء ذكر المعدود فقال: ثلاثون درهما أو دينارا وما شاء، وإن شاء لم يفسر النوع؛ لأن السائل قد ذكره فلا اضطرار بالمجيب إلى ذكره لأنه إذا قال: كم عندك من الدراهم فقال: عشرون فقد عرف ما يعني، فلو لم يبين السائل ويفسر العدد لم يدر المسؤول بأي شيء يجيبه؟ ومعنى قوله: ولو أراد المسؤول عن ذلك أن ينصب عبدا أو عبدين على (كم) كان قد أحال يعني: أن المسؤول لو نصب خرج عن حد الجواب فصار سائلا؛ لأنه إذا نصب فإنما ينصبه ب (كم) والذي يلفظ ب (كم) هو سائل. وإن أظهرها فقال في جوابه: كم لا عبدا ولا عبدين فقد أحال؛ لأنه سأل وحقه أن

هذا باب ما جرى مجرى كم في الاستفهام

يجيب وإن لم يظهر (كم) فلا بد من أن يقدرها مضمرة فيشارك من أظهرها ويزيد عليه في إعماله (كم) مضمرة، وهي وأمثالها لا تضمر لضعفها. وقد يجوز أن يسأل السائل فيقول: كم عندك؟ فيعدل المجيب عن جوابه إلى الإخبار بأن عنده عددا كبيرا فيقول: كم رجل عندي أو كم رجال عندي؟ على استئناف إخبار منه بكثرة ما عنده على غير ما يقتضيه الجواب من ذكر مبلغ ما عنده، ومعناه: عندي رجال كثير، وإن لم يخبره بعدتهم. وذكر بعض أصحابنا أن رجلا لو قال لآخر كم لا رجلا عندك ولا امرأة، وأراد كم عندك غير رجل كأنه قال: كم بعيرا عندك لا رجلا ولا امرأة، أي إنما أسألك عن الإبل لا غير. وبيّن بما ذكر من المسائل- في آخر الباب- أن (كم) اسم و (رب) حرف وذلك أنه جاء (كم) بخبر كخبر المبتدأ كقولك: كم غلاما لك ذاهب، وكم منهم شاهد، فذاهب وشاهد خبران لكم، وكذلك: كم مأخوذ بك، وتأويله: كم رجلا مأخوذ بك، ومأخوذ خبر، ولو نصب مأخوذا لم يتم الكلام واحتجت إلى خبر إذا قلت: كم مأخوذا بك، لم يتم حتى تقول: في الحبس، أو معاقب، أو ما أشبه ذلك. وكذلك: كم لك، أو كم رجل لك، هو الخبر، ولا يجوز في (رب) ذلك. لا تقول: رب مأخوذ بك، ولا رب رجل قائم. هذا باب ما جرى مجرى كم في الاستفهام وذلك قولك: له كذا وكذا درهما، وهو مبهم في الأشياء، بمنزلة (كم) وهو كناية للعدد، بمنزلة فلان، إذا كنيت به في الأسماء، وكقولك: كان من الأمر ذية وذية، وذيت وذيت وكيت وكيت، صار (ذا) بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين. وكذلك: كأيّ رجلا قد رأيت، وزعم ذلك يونس. وكأين- قد أتاني- رجلا، إلا أن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع من. قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ (¬1) وقال عمرو بن شأس: وكائنّ رددنا عنكم من مدجج … يجيء أمام الألف يردى مقنّعا (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، من الآية 8. (¬2) البيت في الكتاب 1/ 297، الدرر 1/ 213، شواهد الكشاف 135.

فإنما ألزموها لأنها توكيد، فجعلت كأنها شيء يتم به الكلام وصار كالمثل. ومثل ذلك: ولا سيّما زيد، ف (ربّ) توكيد لازم حتى يصبر كأنه من الكلمة. وفي نسخة مبرمان كأنه من الكلمة. وكأين معناها معنى ربّ. وإن حذفت (من) و (ما) (¬1) فعربي. وقال: إن جرها أحد من العرب فحسن أن يجرها بإضمار (من) كما كان ذلك عند ذكرنا إياها في (كم). وقال في كذا وكأين: عملتا فيما بعدها كعمل أفضلهم في رجل حين قلت: أفضلهم رجلا، فصار أي وذا بمنزلة التنوين كما كان المجرور بمنزلة التنوين. وقال الخليل: كأنهم قالوا: له كالعدد درهما، كالعدد من قرية، فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. فإنما تجيء الكاف للتشبيه فتصير- وما بعدها- بمنزلة شيء واحد. من ذلك قولك: كأن، أدخلت الكاف على أن للتشبيه ". قال أبو سعيد: قد مضى الكلام في (كذا وكذا درهما) وفي ذيّة وذيت وفي كية وكيت، وفي كل واحد من ذيت وكيت إذا خفضت ثلاث لغات: الضم والفتح والكسر. كقولنا: ذيت وذيت وذيت، وكيت وكيت وكيت، وإذا شددت فالفتح لا غير كقولنا: ذيّة وكيّة. قال أبو العباس محمد بن يزيد: لأن الهاء- وما قبلها- بمنزلة خمسة عشر وأما قوله: كأي رجلا، وهي كاف التشبيه دخلت على أي وفيها خمس لغات: أصلها كلها: كأيّ (وهي كأي)، وكأئن، وكأيّن، وكئن، وكأن، وهي تنصب ما بعدها بلزوم التنوين لها. وقد كثر في كلام العرب وقوع (من) بعدها، وإنما اختارت العرب أن يتكلموا بها مع (من) فيما ذكر أبو العباس محمد بن يزيد أنه إذا قال: كأين رجلا أهلكت، جاز أن يكون رجلا نصبا بكأي، فيكون واحد في معنى جميع، ويجوز أن تجعل، كأي ظرفا، كأنه قال: كأي مرة، وتنصب رجلا بأهلكت، فيصير واحدا في معنى نفسه. فإذا أدخلت (من) صار واحدا في معنى (جميع) ويخرج أن يكون واحدا في معنى نفسه. فأما اللغات فأصلها وأفصحها. كأيّ مشددة والوقوف عليها بغير نون، وبعدها في الفصاحة والكثرة: كائن، على مثال: كاعن، وهي أكثر من الأولى في شعر العرب. ¬

_ (¬1) يعني لو حذفت من مع (كأيّن) و (ما) مع (لا سيما) فهو عربي.

وقال الشاعر- غير ما أنشده سيبويه: فكائنّ ترى من يلمعيّ مخطرب … وليس له عند العزائم جول (¬1) وقال آخر: وكائن بالأباطح من صديق … يراني لو أصبت هو المصابا (¬2) والوقف على هذا- على ما قاله أبو علي محمد بن المستنير قطرب في القياس- وكائن. ذهب إلى أنها مقلوبة أخرت همزتها، وينبغي- على قوله- أن تكون الألف بعد الكاف منقلبة من ياء. قال أبو العباس محمد بن يزيد: لما أدخلت الكاف جعلت اسما واحدا، وحذفت الياء الأولى من أي، وجعل التنوين عوضا من الياء المحذوفة. والذي يوجبه مذهبه أن يجعل على وزن فاعل، (الكاف) منه كفاء الفعل، وبعد الكاف ألف (فاعل) وبعدها الهمزة التي هي أول أي، وقد حذفت إحدى الياءين، فتكون الهمزة في موضع عين الفعل، والياء الباقية في موضع لام الفعل، ودخل عليه التنوين الذي كان في أي، فسقطت الياء لاجتماع الساكنين فصار كائنّ، ولزمت النون عوضا وينبغي أن تكون النون ثابتة في الوقف. وحكى محمد بن المستنير أن يونس بن حبيب كان يزعم أن (كائن) فاعل من كان يكون، فإذا وقفت على هذا القول قلت: كائن بإثبات النون. وأما كأن على وزن كيعبن، فقد حكاه أبو العباس. وأما كأين بهمزة ساكنة بعدها ياء مكسورة فحكاها أبو الحسن بن كيسان. وحكى أبو الحسن بن كيسان عن بندار- يعني أبا عمرو بندار بن كره الكرخي عن بعض البصريين ولم يسمه بندار: كين بتقدير كعن. قال سيبويه: وكأي معناه معنى (رب). وقال الفراء: معناها (كم). وكثر استعمال النحويين- من البصريين والكوفيين تفسيرها بكم. والذي قال سيبويه أصبح؛ لأن الكاف حرف دخوله على ما بعده كدخول (رب)، و (كم) في نفسها اسم، وأنت تقول: كم لك؟ ولا تقول كأيّ لك. كما لا تقول: ربّ ¬

_ (¬1) البيت في إصلاح المنطق 100. (¬2) البيت منسوب لجرير في ابن يعيش 3/ 110، والدرر 1/ 46، وشواهد الكشاف 135.

هذا باب ما ينصب نصب كم إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام

لك. وما بقي من الباب مفهوم والله أعلم بالصواب. هذا باب ما ينصب نصب كم إذا كانت منونة في الخبر والاستفهام " وذلك ما كان من المقادير نحو قولك: ما في السماء موضع راحة سحابا، ولي مثله عبدا، وما في الناس مثله فارسا، وعليها مثلها زيدا، وذلك إذا أردت أن تقول: لي مثله من العبيد، ولي ملؤه من العسل، وما في السماء موضع كفّ من السحاب، فحذف ذلك تخفيفا كما حذفه في (عشرين) حين قال: عشرون درهما، وصارت الأسماء المضاف إليها المجرورة بمنزلة التنوين، ولم يكن ما بعدها من صفتها ولا محمولا على ما حملت عليه فانتصب ب (ملء) كفّ ومثله، كما انتصب الدرهم بالعشرين؛ لأن (مثل) بمنزلة عشرين، والمجرور بمنزلة التنوين؛ لأنه قد منع الإضافة كما منع التنوين. وزعم الخليل أن المجرور بدل من التنوين. ومع ذلك أنك إذا قلت: لي مثله، فقد أبهمت، كما أنك إذا قلت لي عشرون فقد أبهمت الأنواع، فإذا قلت درهما، فقد اختصصت نوعا منه، وبه يعرف من أي نوع ذلك العدد، وكذلك مثل هو مبهم يقع على أنواع: على الشجاعة والفروسية والعبيد، فإذا قال: عبدا فقد بيّن من أي أنواع المثل، والعبد ضرب من الضروب التي تكون على مقدار المثل، فاستخرج على المقدار نوعا، والنوع هو المثل، ولكنه ليس من اسمه، والدرهم ليس بالعشرين ولا من اسمه، ولكنه ينصب كما تنصب (العشرون) وتحذف من النوع كما يحذف من نوع العشرين، والمعنى مختلف، مثل ذلك: عليه شعر كلبين دينا، الشعر: مقدار، وكذلك: لي ملء الدار خيرا منك عبدا، ولي ملء الدار أمثالك؛ لأن خيرا منك نكرة، وأمثالك نكرة، وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلا وأنت تريد جميعا، فيجوز ذلك كمنزلة في كم وعشرين، وإن شئت قلت: رجالا كما جاز في (كم) حين دخل فيها معنى رب؛ لأن المقدار معناه مخالف لمعنى كم في الاستفهام، فجاز في تفسيره بالواحد. والجميع، كما جاز في (كم) إذ دخلها معنى (ربّ) كما تقول: ثلاثة أثوابا، أي تجعله بمنزلة التنوين ومثل ذلك: لا كزيد فارسا، إذا كان الفارس هو الذي سميت، كأنك قلت: لا فارس كزيد فارسا، قال كعب بن جعيل:

لنا مرفد سبعون ألف مدجّج … فهل في معد فوق ذلك مرفدا (¬1) ومثل ذلك: تالله رجلا، كأنه أضمر تالله ما رأيت كاليوم رجلا، وما رأيت مثله رجلا ". قال أبو سعيد: المقادير في المكيل والموزون والعدد والمساحة وغير ذلك يجري مجرى واحد. وقوله: ما في السماء موضع كفّ: مقدار من المساحة، كما أن (عشرين) مقدار من العدد، و (سحابا) هو النوع الذي يفسره، كما أن درهما نوع يفسر العشرين. ولي مثله: أي لي مقداره، أي: ما يقادره ويماثله في عدد. و (عبدا) هو النوع. وكذا: ما في الناس مثله فارسا، وعليها مثلها زيدا، وإنما يريد: ثمرة عليها مثل: ولي ملؤه عسلا. ومذهب البصريين فيه كمذهب نصب (العشرين) لما بعده، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا الموضع. وقد جعل سيبويه بعض هذه المنصوبات من الأنواع هو الأول، بعضه غير الأول. فأما ما كان منه هو الأول: فهو ما كان الأول منه مثله وشبهه وملؤه، وتعتبر ذلك بأنك لو جعلت المنصوب في موضع الأول وجعلت الأول تابعا له لم يتغير معناه مرفوعا ومنصوبا. ألا ترى أنك تقول: لي ملؤه عسلا، و (عسل) منصوب، ولو قلت: لي عسل ملؤه لأدى ذلك المعنى ولم يكن بينهما فضل. وكذلك: لي مثله عبدا. لو قلت: لي عبد مثله لأدى ذلك المعنى. وهذا معنى قوله: فاستخرج على المقدار نوعا، والنوع هو المثل، ولكنه ليس من اسمه، يعني ليس بنعت له، وإن كان هو هو. وعلى هذا المذهب قوله: فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا؟ لأن المرفد مثل: المردّ للجيش، فقال كعب: لنا مرفد هذا عددهم على التكثير، فهل في معدّ فوق ذلك؟ أي: هل في معد عدد فوق ذلك مرفدا؟ فهو كقولك: لي مثله عبدا، فمرفد هو العدد المقدّر. وفضل سيبويه بين: لي مثله عبدا، وبين: عشرين درهما؛ لأن الدرهم ليس ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 2/ 114، والكتاب 1/ 299.

بالعشرين. كما كان مثله هو العبد، ولأنك لا تجعل الدرهم مكان العشرين، فتقول: لي درهم (عشرون) وإن كان (العشرون) و (لي مثله) يشتركان في نصب ما بعدهما. ولو قلت: لي ملء الدار رجلا، لم يكن (رجلا) هو الأول؛ لأن ملء الدار لجماعة ورجلا هو واحد، ولكن ملء الدار العشرين. وقوله: وإن شئت قلت: رجالا؛ لأنه خبر يجري مجرى (كم) التي في معنى (رب) في جواز الجمع، ويصير: لي ملء الدار رجالا من باب: لي ملؤه عسلا؛ لأن الثاني هو الأول، ولا كزيد فارسا من باب لي مثله عبدا؛ لأن معناه: لا مثل زيد. وقولهم تالله رجلا تقديره: تالله ما رأيت رجلا كرجل أراه اليوم، وقد فسرته وذكرت ترتيب الحذف فيه في غير هذا الموضع بما يغني عن إعادته.

هذا باب ما ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير

بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا باب ما ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير وذلك قولك: ويحه رجلا! ولله دره رجلا! وحسبك به رجلا! وما أشبه ذلك، وإن شئت قلت: ويحه من رجل! وحسبك به من رجل! فتدخل (من) هاهنا كدخولها في (كم) توكيدا وانتصب الرجل لأنه ليس من الكلام الأول، وعمل فيه الكلام الأول فصارت الهاء بمنزلة التنوين، ومع هذا- أيضا- أنك إذا قلت: ويحه! فقد تعجبت وأبهمت، من أي الأمور تعجبت؟ وأي الأنواع تعجبت منه، فإذا قلت: فارسا أو حافظا فقد اختصصت ولم تبهم، وبينت في أي نوع هو. ومثل ذلك قول عباس بن مرداس: ومرة يحميهم إذا ما تبدّدوا … ويطعنهم شزرا فأبرحت فارسا (¬1) كأنه قال: فكفى بك فارسا، وإنما يريد: كفيت فارسا، ودخلته هذه الباء توكيدا. ومثل ذلك قول الأعشى: تقول ابنتي حين جدّ الرحيل … فأبرحت ربّا وأبرحت جارا (¬2) ومثله: أكرم به رجلا. قال أبو سعيد: جميع ما ذكر في هذا الباب من الهاءات إنما هو ضمير ما قد ذكر، وإنما يجري ذكر رجل- زيد أو عمرو أو غيرهما- فيبقي عليه ويذكر اللفظ الذي يستحق به المدح فيقال: ويحه رجلا! فإذا قلت ذلك دللت على أنه محمود في الرجال، متعجب من فضله. وإذا قلت: ويحه فارسا أدللت على أنه متعجب منه في فروسيته. وإذا قلت: ويحه حافظا! فالتعجب وقع من حفظه دون سائر الأشياء فيه. وكذلك لو قلت: ويح زيد بزّازا! كأن المدح له والتعجب منه وقع في البزّ، وقد ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 1/ 299، والمقتضب 2/ 151، والأصمعيات 206. (¬2) البيت في ابن يعيش 7/ 108، الكتاب 1/ 299، والنوادر لأبي زيد 55.

يكون مذموما مقصرا في غيره، فلذلك صار المنصوب به على التمييز؛ لأنه يقتضي الجنس الذي يذكره ويعلم المعنى الذي مدح به، وهو يشبه باب (نعم راجلا وبئس غلاما). ولو قال قائل: ويح زيد ولله دره وحسبك به، لم يجر بأي شيء مدحه وكان مبهما وصار بمنزلة قولك: عندي عشرون بغير تفسير، فإذا فسرته صار بمنزلة عشرين غلاما، وإنما أدخلت (من) في هذا الباب؛ لأنه قد يجوز حمل المنصوب فيه على الحال إذا قلت حسبك به فارسا، وحسبك به معينا، وتنصبه على الحال كما تقول احسبني زيد فارسا، وكفاني معينا، أي في هذه الحال فأدخلوا (من) ليعلم أنها تزاد للدلالة على الجنس المستحق به المدح دون الحال، وكذلك يجوز دخول (من) في كل ما كان من المقادير يكون المنصوب فيه هو الأول وكقولك: لي مثله رجلا، ولي ملؤه عسلا؛ لأنه قد يجوز أن يقع فيه ما يذهب به مذهب الحال، كقولك لي مثل زيد أخا وصديقا، فيكون دخول (من) لتحقيق باب التفسير وقد ذكرت (من) في كائن (وكم) مثلها. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: دخول من في (كائن) و (كم) و (كذا كذا) من درهم لما منعته هذه الحروف من التمكن، فعوضت هذا كما عوضت أن يعمل فيما فصل بينه وبينها. نحو: كم في الدار- رجلا-. وأما راقود من خلّ وموضع كفّ من سحاب، فإن ذلك جنس يستوي تعريفه وتنكيره، وجمعه وواحده، ألا ترى أنه يستوي في المعنى المفهوم عنك أن تقول: اصطنعت بالخل وبخلّ، وشربت ماء وشربت الماء. وأما (عشرون) وما جرى مجراها من المقادير المعلومة، فإذا دخلت (من) بعدها وقع على الجنس والجمع الذي يكون المميز تقول: عندي عشرون من الدراهم، وخمسون من الثياب، ولو قلت: عشرون من درهم، وخمسون من ثوب لم يجز. ومن الفرق بين: عشرين وما جرى مجراها من الأعداد المعلومة وبين كم وكأيّ وكذا وكذا ونحو ذلك، أن العشرين قد عرف مقدارها، وإنما تدخل (من) على النوع الذي (العشرون بعضه) فتحتاج أن تكون أكثر من العشرين في اللفظ. (وكم) مبهم، يجوز أن يكون جوابها واحدا، كقولك: كم غلاما عندك؟ فيقول المجيب: غلام أو غلامان. إلا أنه يجوز أن تقول: عندي عشرون من درهم ودينار ومن غلام وجارية على غير التمييز، ولكن على قولك: من بين درهم ودينار، وليس ذلك بمنزلة ما أخلصته لجنس، ولكن يقع كما يقع في غير التمييز، كقولك: الناس من بين

هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا

قائم وقاعد، والمال عندي من ذهب وفضة، فاعرف ذلك إن شاء الله. وقوله: فأبرحت فارسا وأبرحت ربّا، هو مأخوذ من البرح وهو الشدة التي يتعجب منها، وقد استعمل البرح والبرحين في أسماء الدواهي. فإذا قيل: أبرحت فارسا فقد تعجب من فروسيته وأنه أتى فيها بما لم يأت به غيره. كما قيل: كفى بالله شهيدا! وكفى بالشيب واعظا! ومعناه: كفى الله، وكفى الشيب، وعلى هذا تقول: كفى بك فارسا وكفيت فارسا، وهو مثل: أبرحت فارسا. هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا وذلك لأنهم بدءوا بالإضمار لأنهم شرطوا التفسير، وذلك نووا، فجرى ذلك في كلامهم هكذا، كما جرت (إنّ) مجرى الفعل الذي تقدم مفعوله قبل الفاعل، فلزم هذا هذه الطريقة في كلامهم كما لزمت (إنّ) هذه الطريقة في كلامهم. وما أنتصب- في هذا الباب- فإنه ينتصب كانتصاب ما انتصب في باب: حسبك به، وويحه، وذلك قولهم: نعم رجلا عبد الله، كأنك قلت: حسبك به رجلا عبد الله؛ لأن المعنى واحد. ومثل ذلك: ربّه رجلا، كأنك قلت: ويحه رجلا في أنه عمل فيما بعده لا في المعنى. وحسبك به رجلا مثل: نعم رجلا في المعنى وفي العمل؛ وذلك أنهما ثناء في استيجابهما المنزلة الرفيعة، ولا يجوز لك أن تقول: نعم، ولا ربه، وتسكت؛ لأنهم إنما بدءوا بالإضمار على شريطة التفسير، وإنما هو إضمار مقدم قبل الاسم، والإضمار الذي يجوز السكوت عليه إضمار بعد ما ذكر الاسم مظهرا، والذي تقدم من الإضمار لازم له التفسير حتى يبينه ولا يكون في موضع الإضمار في هذا الباب مظهر. ومما يضمر لأنه يفسره ما بعده ولا يكون في موضعه مظهرا قول العرب: إنه كرام من قومك، وإنه ذاهبة أمتك، وفاعلة فلانة، فالهاء إضمار الحديث الذي ذكرت بعد الهاء. كأنه في التقدير- وإن كان لا يتكلم به- قال: إن الأمر ذاهبة أمتك وفاعلة فلانة فصار هذا الكلام كله خبرا للأمر، فكذلك ما بعد الهاء في موضع خبره. وأما قوله: نعم الرجل عبد الله فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبد الله. عمل (نعم) في الرجل ولم يعمل في (عبد الله). وإذا قال: عبد الله نعم الرجل فهو بمنزلة عبد الله ذهب أخوه، وكأنه قال:

نعم الرجل فقيل لك من هو؟ فقال: عبد الله. وإذا قال: عبد الله فكأنه قيل له: ما شأنه؟ فقال: نعم الرجل، فنعم تكون مرة عاملة في مضمر يفسره ما بعده، فتكون هي وهو بمنزلة: ويحه ومثله، ثم يعملان- في الذي فسر المضمر- عمل مثله وويحه إذا قلت: لي مثله عبدا، ويكون مرة أخرى يعمل في المظهر لا يجاوزه فهي بمنزلة: ربّه رجلا، ومرة بمنزلة: ذهب أخوه، فتجري مجرى المضمر الذي قدّم لما بعده من التفسير، وسد مكانه؛ لأنه قد بينه؛ وهو نحو قولك: أزيدا ضربته؟ واعلم أنه محال أن تقول: عبد الله نعم الرجل والرجل غير عبد الله، كما أنه محال أن تقول: عبد الله هو فيها وهو غيره. واعلم أنه لا يجوز أن تقول: قومك نعم صغارهم وكبارهم، إلا أن تقول: قومك نعم الصّغار ونعم الكبار وقومك نعم القوم؛ وذلك لأنك أردت أن تجعلهم من جماعات ومن أمم كلّهم صالح. كما أنك إذا قلت: عبد الله نعم الرجل، فإنما تريد أن تجعله من أمة كلهم صالح، ولم ترد أن تعرف شيئا بعينه بالصلاح بعد نعم. مثل ذلك قولك: عبد الله فاره العبد فاره الدابة، فالدابة لعبد الله، ومن سببه، كما أن الرجل هو عبد الله حين قلت: نعم الرجل، ولست تريد أن تخبر عن عبد بعينه ولا عن دابة بعينها، وإنما تريد أن تقول: أن في ملك زيدا لعبد الفاره والدابة الفارهة، إذا لم ترد عبدا بعينه ولا دابة بعينها. فالاسم الذي يظهر بعد (نعم) إذا كانت: نعم عاملة الاسم الذي فيه الألف واللام نحو: الرجل، وما أضيف إليه، وما أشبهه نحو: غلام الرجل إذا لم ترد شيئا بعينه. كما أن الاسم الذي يظهر في (ربّ) قد يبدأ بإضمار رجل قبله حين قلت: ربّه رجلا لما ذكرت لك، وتبدأ بإضمار رجل في (نعم) لما ذكرت لك. فإنما منعك أن تقول: نعم الرجل إذا أضمرت، أنه لا يجوز أن تقول: حسبك به الرجل إذا أردت معنى: حسبك به رجلا. ومن زعم أن الإضمار الذي في (نعم) هو عبد الله- فقد ينبغي له أن يقول: نعم عبد الله رجلا، وقد ينبغي له أن يقول: نعم أنت رجلا، فتجعل (أنت) صفة للمضمر.

وإنما قبح هذا المضمر أن يوصف؛ لأنه مبدوء به قبل الذي يفسره، والمضمر المقدّم قبل ما يفسره لا يوصف؛ لأنهم إنما ينبغي لهم أن يبينوا ما هو. فإن قال قائل: هو مضمر مقدم وتفسيره: عبد الله (بدلا) منه (محمولا) على نعم، فأنت قد تقول: عبد الله نعم رجلا فتبدأ به، ولو كان (نعم) بمضمر لعبد الله لما قلت: عبد الله نعم الرجل فترفعه، فعبد الله ليس من (نعم) في شيء. والرجل هو: عبد الله ولكنه منفصل منه كانفصال الأخ منه إذا قلت: عبد الله ذهب أخوه فهذا تقديره، وليس معناه كمعناه، ويدلك على أن عبد الله ليس تفسيرا للمضمر أنه لا تعمل فيه نعم بنصب ولا برفع ولا يكون عليها أبدا في شيء. واعلم أن (نعم) تؤنث وتذكر، وذلك قولك: نعمت المرأة، وإن شئت قلت: نعم المرأة كما قالوا: ذهب المرأة. والحذف في (نعمت) أكثر. واعلم أنك لا تظهر علامة المضمرين في (نعم) لا تقول: نعموا رجالا يكتفون بالذي يفسره كما قالوا: مررت بكلّ. كما قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (¬1) فحذفوا علامة الإضمار، وألزموا الحذف كما ألزموا (نعم) و (بئس) الإسكان وكما ألزموا (خذ) الحذف. ففعلوا هذا بهذه الأشياء لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم. وأصل نعم وبئس: نعم وبئس، وهما الأصلان اللذان وصفا في الرداءة والصلاح، ولا يكون منهما فعل لغير هذا المعنى. وأما قولهم: هذه الدار نعمت البلد؛ فإنه لما كان البلد الدار أقحموا التاء فصار كقولك: من كانت أمك وما جاءت حاجتك؟ ومن قال: نعم المرأة قال: نعم البلد، وكذلك: هذا البلد ونعم الدار، كانت البلد ذكرت فلزم هذا في كلامهم لكثرته ولأنه صار كالمثل، كما لزمت التاء في: ما جاءت حاجتك؟ ومثل ذلك قول الشاعر وهو لبعض السعديين: هل تعرف الدار يعفيها المور ¬

_ (¬1) سورة النمل، من الآية 87.

لكلّ ريح فيه ذيل مسفور … والدخن يوما والعجاج المهمور (¬1) قال (فيه) لأن الدار مكان فحماه على ذلك. وزعم الخليل أن حبّذا بمنزلة: حبّ الشيء، ولكن (ذا) وحب بمنزلة كلمة نحو (لولا) وهو اسم مرفوع كما تقول: يا ابن عمّ، فالعم مجرور. ألا ترى أنك تقول للمؤنث: حبّذا ولا تقول: حبذه؛ لأنه صار مع (حبّ) على ما ذكرت لك، وصار المذكر هو اللازم لأنه كالمثل. وسألته عن قول الراعي: فأومأت إيماء خفيّا لحبتر … ولله عينا حبتر أيما فتى (¬2) فقال: (أيما) تكون صفة للنكرة وحالا للمعرفة، وتكون استفهاما مبنيّا عليها، ومبنية على غيرها، ولا تكون لتبين العدد ولا في الاستثناء نحو قولك: أتوني إلا زيدا. ألا ترى أنك لا تقول: له عشرون أيما رجل، ولا أتوني إلا أيما رجل. فالنصب في: لي مثله رجلا كالنصب في: عشرين رجلا، فأيما لا تكون في الاستثناء ولا تختص بها نوعا من الأنواع ولا يفسر بها عدد. وأيما فتى: استفهام. ألا ترى أنك تقول: سبحان الله ما هو ومن هو؟ فهذا استفهام فيه معنى التعجب، ولو كان خبرا لم يجز ذلك؛ لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول: من هو؟ وتسكت. وأما أحد وكرّاب وأرم وكتيع وعريب وما أشبه ذلك فلا يقعن واجبات ولا حالا ولا استثناء. ولا يستخرج به نوع من الأنواع فيعمل ما قبله فيه عمل عشرين في الدرهم، إذا قلت: عشرون درهما. ولكنهن يقعن في النفي مبنيّا عليهن ومبنية على غيرهن، فمن ثم تقول. وما في الناس مثله أحد، حملت (أحدا) على مثل ما حملت عليه (مثلا)، وكذلك: ما مررت بمثلك أحد. وقد فسرنا لم ذلك، فهذه حالها كما كانت تلك حال إنما. ¬

_ (¬1) الرجز منسوب إلى حميد بن الأرقط في الكتاب 1/ 302، والمخصص 17، والنوادر لأبي زيد 236. (¬2) البيت في الأشموني 1/ 168، وشواهد العيني 3/ 423، وتاج العروس (حبتر).

فإذا قلت: لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع لأنه وصف، والنصب يجوز كنصب: عليه مائة بيضا. وإن شئت قلت: لي مثله عبد، فرفعت وهي كثيرة في كلام العرب، وإن شئت رفعته على أنه صفة، وإن شئت كان على البدل. فإذا قلت: عليها مثلها زيد، فإن شئت رفعت على البدل، وإن شئت رفعت على قوله: ما هو؟ فتقول: زيد أي هو زيد، ولا يكون (الزيد) صفة لأنه اسم والعبد يكون صفة؛ تقول: هذا رجل عبد ". قال أبو سعيد: اعلم أن (نعم وبئس) فعلان ماضيان موضوعان للمدح والذم، ف (نعم) للمدح العام، وبئس (للذم العام) ومبناهما على فعل في الأصل، وفي كل واحد منهما أربع لغات فعل: نعم وبئس. وفعل: نعم وبئس، وكذلك كل ما كان من الأسماء والأفعال على فعل وثانيه حرف من حروف الحلق ففيه أربع لغات. فالاسم نحو: فخذ يقال فيها: فخذ وفخذ وفخذ وفخذ والفعل نحو: شهد وشهد وشهد وشهد. وإنما ألزموها الإسكان لكثرة استعمالها تخفيفا. وقد جاء على الأصل. فقل لبني قيس على ما … أصاب الناس من شرّ وضرّ ما أقلت قدم ناعلها … نعم الساعون في الأمر المبّر (¬1) ويلزم باب نعم وبئس ذكر شيئين: أحدهما: الاسم الذي يستحق به المدح أو الذم. والآخر: الممدوح أو المذموم. وذلك قولك: نعم الرجل زيد ونعم البزاز أخوك. وبئس الخادم غلامك. فالذي يستحق به المدح أو الذم هو الاسم الذي تعمل فيه نعم أو بئس، وهو الدال على المعنى الذي يستحق به المدح أو الذم والآخر هو زيد. فإذا قلت: نعم البزاز زيد، فالمعنى الذي استحق به المدح البزاز أنه محمود في البزازين. والمستحق للمدح هو زيد، ولا بد من الإتيان بهما جميعا. فإذا قلت: نعم البزاز زيد (فنعم) فعل ماض و (البزاز) فاعله وهو دال على المعنى المستحق به المدح، وزيد مرفوع على أحد وجهين: ¬

_ (¬1) البيتان لطرفة في الخزانة الشاهد 759، وشواهد المقتضب 2/ 140، وأمالي ابن الشجري 2/ 55.

- إما أن يكون مبتدأ النية فيه التقديم، ونعم الرجل خبره فيكون تقديره: زيد نعم الرجل ثم أخرته على هذه النية. - وإما أن يكون على كلامين، كأنك لما قلت: نعم الرجل فأبهمته ولم يعرّف به شيء بعينه قيل لك: من هو؟ فقلت: زيد. على تقدير: هو زيد. ورد أبو العباس محمد بن يزيد- على سيبويه- ترجمة الباب وألزمه فيه المناقضة؛ لأنه قال: هذا باب ما لا يعمل في المعروف إلا مضمرا ثم جاء بعده: نعم الرجل عبد الله فجاء بالرجل مظهرا. والذي أراده سيبويه: أنه لا يعمل في المعروف إلا مضمرا إذا بني ذاك المعروف على أن يفسر بما بعده ولا يكون ذاك إلا مضمرا. وشبهه بقولك: إنه كرام قومك، وإنه ذاهبة أمتك، فالهاء إضمار الحديث الذي يأتي بعده ولا يجيء إلا مضمرا؛ لأنه قد لزمه التفسير. وكذلك الاسم الذي تعمل فيه (نعم) ويبنى على التفسير لا يكون إلا مضمرا. قال: فإن قال قائل: قد ذكرتم في قولنا: نعم الرجل زيد وجهين: أن زيدا مبتدأ في نية التقديم وتقديره: زيد نعم الرجل. فهل يجوز على هذا القياس أن تقول: زيد قام الرجل، فالجواب أن هذا لا يجوز لأنه ليس في الخبر ما يعود إلى الاسم. فأما زيد نعم الرجل فالضرورة فيها خاصة أدت إلى جعل الظاهر بمنزلة المضمر؛ لأن في شرط (نعم وبئس) أن يقع بعدهما ما يدل لفظه على الجنس الذي يستحق به المدح والذم فلا بد من ذكر ذلك الظاهر. وصار ذكر الظاهر بمنزلة المضمر الذي ينعقد به خبر الابتداء. ومن أجل ذلك قال سيبويه: عبد الله نعم الرجل، الرجل هو: عبد الله لأن الرجل قد قام مقام ضميره. وأما قولهم: نعم رجلا عبد الله فإن في (نعم) ضميرا قدم على شريطة التفسير، وتفسيره: النكرة التي بعده. والمضمر فيها معرفة من لفظ تلك النكرة. ومما قدم من الضمائر على شريطة التفسير: إنه كرام قومك وإنه ذاهبة فلانة. ومنه قولهم: ربّه رجلا. وليست الهاء بضمير شيء جرى ذكره، لو كانت ضمير شيء قد جرى ذكره لصارت معرفة، ولم يجز أن تلي (رب) لأنها لا يليها إلا نكرة. ولكنها

ضمير مبهم. أشبهت بإبهامها النكرات؛ لأنك إذا قلت: ربه رجلا احتاج إلى أن تفسره بغيره فضارع النكرات إذا كانت لا تخص (كما أن النكرات لا تخص) ومعنى: ربّه رجلا: رب رجل. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى: ربّه رجلا. أقلل به في الرجال. ومن أجل ما وضعت له (نعم وبئس) من دلالة ما بعدهما على الجنس على معنى المدح والذم احتيج إلى أن يكون ما يرتفع بهما من أسماء الأجناس أو الصفات أو ما كان مضافا إلى ذلك. ولا يجوز أن ترفع بهما الأعلام ولا المبهم ولا المكني ولا المضاف إلى شيء من ذلك؛ لأنه ليس في شيء منه معنى يقع به مدح ولا ذم. فلذلك لم يجز: نعمت ولا نعمت ولا نعم زيد ولا نعم هذا ولا بئس غلام هذا. وإنما يقع على ما يتحصل به معنى عام يقع به المدح والذم كقولك: نعم الغلام، ونعم غلام الرجل، ونعم الصديق وما أشبه ذلك. وأما علامة التأنيث التي تلحق الفعل فإنها تلحق نعم وبئس إذا كان بعدهما مؤنث كقولك: نعمت المرأة وبئست الجارية، وحذف علامة التأنيث منهما أحسن وأكثر من حذفهما من سائر الأفعال لنقصان تمكنهما في الأفعال. وبطلان استعمال المستقبل منهما وذلك أنّ دخول علامة التأنيث في المستقبل أقوى منه في الماضي؛ لأن علامة التأنيث في الماضي زيادة وفي المستقبل وضع حرف مكان حرف؛ وهو التاء مكان الياء، فلخفة تكلف العلامة في المستقبل صارت ألزم. ولما كانت (نعم وبئس) لا مستقبل لهما صار: نعم المرأة وبئس الجارية أحسن من قام المرأة وذهب الجارية؛ لأنك في المستقبل يلزمك: تقوم المرأة وتذهب الجارية، وليس ذلك في نعم وبئس. فإن قال قائل: لم لم يكن لهما مستقبل؟ والأفعال لا تمتنع من الاستقبال إذا أريد بهما الاستقبال؟ قيل له: المانع من الاستقبال أنهما وصفا للمدح والذم ولا يصح المدح والذم إلا بما قد وجد وثبت في الممدوح والمذموم. وفيما قاله سيبويه: هذه الدار نعمت البلد. قال ذو الرمة.

أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة … دعائم الزور نعمت زورق البلد (¬1) وأما (حبذا) فإن (حب) فعل (وذا) فاعل، وبني معه وجعلا جميعا بمنزلة شيء واحد يقع موقع اسم مبتدإ في الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث والمذكر بلفظ واحد في معنى المدح والحمد. فإذا قيل: حبذا زيد فكأنه قال: المحمود زيد، وإذا قال: حبذا الزيدان فكأنه قال: المحمودان الزيدان، وإذا قال: حبذا هند فكأنه قال: المحمودة هند، وإذا قال حبذا الهندات فكأنه قال: المحمودات الهندات. وناب لفظ (حبذا) عن ذلك كله وجرى مجرى الفعل للذي جعل مع الحرف كشيء واحد، فجرى مع الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث والمذكر على لفظ واحد، وذلك (هلمّ) في لغة أهل الحجاز للرجل الواحد والاثنين والجماعة، قال الله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا (¬2). وذكر من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي أسماء ليبين حكمها ومواقعها. والذي ذكر: أحد وكرات وأرم وكتيع وعريب، ومثله: ما بالدار دبيح ودبى وطويّ وطوري وطرأني، ولا يقعن إلا في المواضع التي ذكرها من النفي. وقد يصحّ في النفي ما لا يصح في الإيجاب كقولك: مررت برجل قائم ولا مضاجع، وزيد لا أسود ولا أشقر. ولا يجوز: مررت بقائم مضطجع وزيد أسود أشقر. وإنما كان كذلك لأنه يجوز نفي الضرين في الأشياء التي يتعاور فيها ثلاثة أضداد فصاعدا. والموجود منه واحد والماضي منفي كالألوان والأكوان في الأماكن؛ لأن الألوان كثيرة كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة وغير ذلك، ولا يكون الشيء إلا على واحد منها موجود فيه، وكذلك أكوان الأماكن كثيرة غير محصلة نحو كونه ببغداد بالكوفة وبمكة وبمصر وأندلس، ولا يوجد إلا في واحد منها. ويجري مجرى هذا من غير الأناس ما عليها من الحلي: هلبسيسة ولا خربصيصة وما به ظبظاب (¬3) وما به وذية (¬4)، وغير ذلك مما تحيط به كتب اللغة. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 146، وابن يعيش 136، والخزانة الشاهد 769. (¬2) سورة الأحزاب، من الآية 18. (¬3) ما به ظبظاب: ما به قلبه: داء يتقلب منه على فراشه. (¬4) ما به وذية: إذا شفي من المرض.

هذا باب النفي «بلا»

ولا يدخل على شيء فيه من العوامل إلا ما كان متصلا بالجحد كقولك: ما بالدار أحد وما رأيت بها عربيا، وما بها تومريا أحسن من زيد. وقد ذكرت في أول الكتاب من ذلك ما فيه كفاية. وتركت من الباب ما كلام سيبويه فيه مفهوم. هذا باب النفي «بلا» و (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب (إنّ) لما بعدها، وترك التنوين لما تعمل فيه لازم؛ لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد نحو: خمسة عشر؛ وذلك لأنها لا تشبه سائر ما ينصب مما ليس باسم وهو الفعل وما أجري مجراه؛ لأنها لا تعمل إلا في نكرة و (لا) وما تعمل فيه في موضع ابتداء. فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر. (فلا) لا تعمل إلا في نكرة كما أن (رب) لا تعمل إلا في نكرة. وكما أن (كم) لا تعمل- في الخبر والاستفهام- إلا في نكرة. لأنك لا تذكر بعد (لا) - إذا كانت عاملة- شيئا بعينه كما لا تذكر ذلك بعد (رب). وذلك لأن (رب) إنما هي للعدّة بمنزلة (كم) فخولف بلفظها حين خالفت أخواتها كما خولف ب (أيهم) حيث خالفت (الذي) وكما قالوا " يا الله " حين خالفت ما فيه الألف واللام. وسترى أيضا نحو ذلك إن شاء الله. فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها كما قالوا: " يا ابن أم " فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الآخر. وخولف بخمسة عشر لأنها إنما هي خمسة وعشرة " فلا " لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب- فيما زعم الخليل- لقوله: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة. واعلم أن (لا) وما عملت فيه في موضع ابتداء، كما إنك إذا قلت: هل من رجل فالكلام في موضع اسم مرفوع مبتدأ، وكذلك " ما من رجل " و " ما من شيء " والذي يبنى عليه في زمان أو مكان ولكنك تضمره وإن شئت أظهرته وكذلك " لا رجل " و " لا شيء " إنما تريد لا رجل في مكان ولا شيء في زمان.

والدليل على أن " لا رجل " في موضع اسم مبتدأ و " ما من رجل " في موضع اسم مبتدأ في لغة تميم: قول العرب من أهل الحجاز " لا رجل أفضل منك ". وأخبرنا يونس إن من العرب من يقول: ما من رجل أفضل منك وهل من رجل خير منك. كأنه قال: ما رجل أفضل منك وهل رجل خير منك. واعلم أنك لا تفصل بين " لا " وبين المنفي كما لا تفصل بين " من " وما تعمل فيه وذلك أنه لا يجوز أن تقول في الذي هو جوابه: هل من فيها رجل؟ ومع (ذا) أنهم جعلوا (لا) وما بعدها بمنزلة خمسة عشر فقبح أن يفصلوا بينهما عندهم كما لا يجوز أن يفصلوا بين خمسة و " عشر " بشيء من الكلام لأنها مشبهة بها. قال أبو سعيد: " لا رجل في الدار " جواب " هل من رجل في الدار " وذلك أنه إخبار وكل إخبار يصح أن يكون جواب مسألة. ولما كان " لا رجل في الدار " نفيا علما كانت المسألة عنه مسألة عامة ولا يتحقق لها العموم إلا بإدخال " من ". وذلك إنه لو قال في مسألته: هل رجل في الدار؟ جاز أن يكون سائلا عن رجل واحد. كما تقول: هل عبد الله في الدار؟ وهل أخوك في الدار؟ فالذي يوجب عموم المسألة دخول " من " لأنها لا تدخل إلا على واحد منكور في معنى الجنس، ولا تدخل على معروف، لا تقول: هل من عبد الله في الدار؟ وهل من أخيك؟ وسبيل الاستفهام سبيل الجحد تقول: ما في الدار رجل، فيحتمل العموم ويحتمل أن يكون رجلا بعينه، كقولك: " ما في الدار عبد الله "، فإذا قلت: ما في الدار من رجل لم يكن إلا عموما. ولما كان: لا رجل في الدار جواب هل من رجل في الدار؟ وهل من رجل معبرا عن: هل رجل في الدار؟ بإدخال عامل عليه يخرجه إلى تحقيق عموم المسألة جعل معبرا عن الابتداء ليدل على عموم النفي، فلم يبق بعد الرفع إلا النصب والخفض، فعدلوا عن الخفض؛ لأن الباب في حروف الخفض أن لا تأتي مبتدأة وإنما تأتي في صلة شيء؛ كقولك أخذت من زيد، ومضيت إلى عمرو. أو زائدة بعد شيء كقولك: هل من رجل في الدار

أو ما من رجل في الدار. ونصبوا بحرف النفي الذي هو جواب؛ إذ في حروف الجحد ما يعمل في الأسماء الرفع والنصب وهو (ما) في لغة أهل الحجاز على أن (لا) تعمل الرفع والنصب بمعنى (ليس) وسنقف على ذلك إن شاء الله. ولما نصبوا بها (وكان الناصب بها لا يعمل) لم تعمل إلا في نكرة على سبيل حرف الخفض الذي في المسألة، والخافض والمخفوض بمنزلة شيء واحد؛ لأن مجرى حرف الخفض وما خفضه كمجرى المضاف والمضاف إليه. جعل (لا) وما نصبته بمنزلة شيء واحد. ودلوا على جعلهما كشيء واحد بحذف التنوين مما بعدها ولم يقولوا في الجواب: لا من رجل؛ لأن التعبير الذي يكون " بمن " يحصل " بلا " فاكتفوا بتأثير " لا " في الاسم الذي بعدها عن إدخال (من). واختلف أصحابنا في فتحة الاسم المبني مع (لا). فقال أبو العباس محمد بن يزيد إنها بناء. وقال أبو إسحاق الزجاج إنها إعراب. وقد سقت كلامهما على ما حكى أبو بكر مبرمان عنهما: قال أبو العباس: " الذي أوجب ل (لا) أن تعمل: إنها وليت الأسماء فلم تفارقها وكل شيء ولي شيئا فلم يفارقه وجب أن يعمل فيه. والذي أوجب لها النصب: أنها داخلة على مبتدإ وخبر، وكل داخل على مبتدإ وخبر يجب أن يعمل النصب إذا ولي الأسماء دون الأفعال نحو: ليت وإنّ وكأن " ومضارعتها " " أن " إنها لا تلي الأفعال. والذي أوجب البناء أنها خالفت العوامل؛ لأن العوامل تتصرف، وتصرفها أنها تلي المعارف والنكرات، كقولك: " إنّ زيدا " و " إنّ رجلا " و " لا " هذه لا تفارق النكرات، فلما لزمت النكرة هذا اللزوم وخالفت نظائرها من الحروف العوامل في الأسماء فعل بها ذلك. وقال أبو إسحاق الزجاج " ليست مبنية وإنما شبهها بخمسة عشر- يعني سيبويه- لأنها لا تفارق ما تعمل فيه كما أن خمسة لا تفارق عشر " واحتج أبو إسحاق بقولك: لا رجل وغلاما عندك، ولا رجل ظريفا عندك. واستدل بعطف المعطوف عليه أنه معرب. قال أبو بكر: " فقلت له: فأنت تقول: لا رجل ظريف عندك، فنبني " رجل " مع " ظريف " ... قال: " هذا قول بعضهم ويحتاج أن ننظر فيه ". وقال- أيضا- أبو إسحاق: " إنما حذفت التنوين للفرق بين معنيين " أي: لتفرق بين الذي هو جواب " هل من رجل "؟ وبين الذي هو جواب " هل رجل "؟

قال أبو سعيد: " قد سقت كلام هذين. والذي عندي: أن الفتحة في الاسم بعد (لا) إعراب وهو مذهب سيبويه لأنه قال " فتنصبه بغير تنوين، ونصبها لما بعدها كنصب (إن) لما بعدها. وترك التنوين لما تعمل فيه لازم. قال أبو سعيد: قد يعمل العامل في الشيء ويمنع التصرف الذي لنظائره ولا يكون ذلك مبطلا لعمله كقولك: حبذا زيد. " حب " فعل ماضي و " ذا " فاعله وجعلا جميعا كشيء واحد، ولا يغيّر في التثنية والجمع والتأنيث، ولا يمنع ذلك من أن يكون " حب " قد عمل في " ذا " ومنع التنوين لما ذكرته لك من الدلالة على جعلهما كشيء واحد على مذهب (لا) المقابلة حرف الجر وما بعده في قولك هل من رجل في الدار "؟ وقد أجمعوا على أن ما بعد (لا) إذا كان مضافا أو كان تمامه بشيء يتصل به أنه منصوب معرب، وأن ما لم يكن من ذلك مضافا فالتنوين يدخله، وذلك قولك: لا غلام رجل في الدار ولا خيرا من زيد عندنا، وله باب يأتي فيما بعد. وقوله: و (لا) وما عملت فيه في موضع ابتداء. إن قال قائل: أنتم تزعمون أنّ " ليت " و " لعل " و " كأن " إذا دخلن على المبتدإ وخبره غيرن معنى الابتداء حتى لا يعطف على موضع الابتداء كما يعطف في (إن) و (لا) حرف جحد دخل على الابتداء فهلا غيّر موضع الابتداء؟ والجواب: أن هذه الحروف لها معان لا تصح في الأسماء إذا كانت مبتدأة وقد يصح الابتداء فيها مع الجحد كقولك: لا زيد في الدار ولا عمرو. ويقال: أقل رجل يقول ذلك. وأقل مبتدإ وفيه معنى الجحد؛ لأن معناه: ما يقول ذاك أحد " ولا " أيضا جواب حرف دخل على مبتدإ وخبر لأن قولك: هل من رجل في الدار؟ " من رجل " في موضع مبتدإ و " في الدار " خبره و " لا " عملت في " رجل " وفيها جحد فقابلت (لا) (هل) في الجواب وقابلت (من) في العمل فصار " لا رجل " بمنزلة " هل من رجل؟ " في عملهما فيما بعدهما. وأما استدلال سيبويه على أن " لا رجل " في موضع اسم مبتدإ في لغة بني تميم بقول العرب من أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك فكان بنو تميم يقولون: لا رجل ويسكتون عن إظهار الخبر، واحتج بلغة أهل الحجاز لأنهم يظهرون الخبر. وذكر أبو بكر مبرمان عن أبي العباس محمد بن يزيد: أنه زعم أن " لا " تعمل رفعا

هذا باب المنفي المضاف ب (لام) الإضافة

ونصبا كما تعمل " إن " وقد يجوز " أفضل منك " أن يكون رفعا " بلا " ويجوز أن يكون رفع بخبر الابتداء لأن " لا " وما بعدها في موضع مبتدإ. هذا باب المنفي المضاف ب (لام) الإضافة اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلام لك، كما يقع من المضاف إلى اسم وذلك إذا قلت: لا مثل زيد. والدليل على ذلك قول العرب: لا أبا لك ولا غلامي لك. وزعم الخليل أن التنوين إنما ذهب للإضافة؛ ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإضافة. وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك في معنى لا أبا لك، فعلموا أنهم لو لم يجيئوا باللام لكان التنوين ساقطا كسقوطه في " لا مثل زيد " فلما جاءوا بلام الإضافة تركوا الاسم على حاله قبل أن تجيء اللام إذ كان المعنى واحدا وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثنى به في النداء. ولم يغيروا الأول عن حاله قبل أن يجيئوا به وذلك قولهم: يا تيم تيم عديّ ... (¬1) وبمنزلة الهاء إذا لحقت " طلحة " في النداء لم يغيروا آخر " طلحة " عما كان عليه قبل أن تلحق وذلك قولهم (في بيت النابغة): كيلني لهم يا أميمة ناصب … ... (¬2) ومثل هذا: " اللام " قول الشاعر إذ اضطر: ... … يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام (¬3) حملوه على أن اللام لو لم تجئ لقلت يا بؤس الجهل. ¬

_ (¬1) جزء بيت لجرير في قصيدة له في هجاء عمر بن لجا، والبيت بتمامه: يا تميم تيم عدي لا أبا لكم … لا يوقعنكم في سوأة عمر ديوانه 131، الكتاب 1/ 26، الخزانة 1/ 359، ابن يعيش 2/ 10. (¬2) هذا صدر بيت عجزه: وليل أقاسيه بطيء الكواكب. في ديوانه 20، الخزانة 1/ 370، الشعر والشعراء 1/ 66. (¬3) البيت للنابغة، قاله لزرعة بن عمر العامري، وهو عجز بيت صدره: قالت: بنو عامر خالوا بني أسد انظر: ديوانه 98، ابن يعيش 3/ 68، الخزانة 1/ 287.

وإنما فعل هذا بالمنفي تخفيفا كأنهم لم يذكروا اللام كما أنهم إذا قالوا: يا طلحة أقبل. فكأنهم لم يذكروا الهاء وصارت اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة. لا تغير الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فالنفي في موضع تخفيف كما أن النداء في موضع تخفيف، فمن ثمّ جاء فيه مثل ما جاء في النداء. وإنما ذهبت النون في " لا مسلمي لك " على هذا المثال جعلوه بمنزلة ما لو حذفت بعده اللام، وذلك قولك: لا أباك، فكأنهم لو لم يجيئوا باللام قالوا: لا مسلميك. فعلى هذا الوجه حذفوا النون في: لا مسلمي لك، وذا تمثيل وإن لم يتكلم " بلا مسلميك " ليعلم أن النون إنما ذهبت حيث صارت اللام هاهنا بمنزلتها بعد الأب إذا قلت لا أبا لك. قال مسكين الدارمي (¬1): وقد مات شمّاخ ومات مزرد … وأيّ كريم لا أبا لك يمنّع (¬2) ويروى " يخلّد ". وتقول: لا يدين بها لك ولا يدين اليوم لك إثبات النون أحسن. وهو الوجه، وذلك أنك إذا قلت: لا يدي لك ولا أبا لك فالاسم بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه شيء نحو: لا مثل زيد، فكما قبح أن تقول: لا مثل بها زيد فتفصل قبح أن تقول: " لا يدي بها لك " ولكن تقول: لا يدين بها لك ولا أب يوم الجمعة لك. كأنك قلت لا يدين بها ولا أب يوم الجمعة ثم جعلت " لك " خبرا فرارا من القبح. وكذلك إن لم تجعل (لك) خبرا ولم تفصل بينهما وجئت ب " لك " بعد أن تضمر مكانا أو زمانا كإضمارك إذا قلت: لا رجل ولا بأس. وإن أظهرت فحسن ثم تقول (لك) لتبين المنفي عنه. وربما تركتها استغناء بعلم المخاطب وقد تذكرها توكيدا وإن علم من تعني. ¬

_ (¬1) هو ربيعة بن عامر الدارمي، نسبة إلى بني دارم من بني حنظلة بن تميم، توفي 89 هـ، انظر: مقدمة ديوانه، ومعجم الأدباء 11/ 126. (¬2) البيت في ديوانه 50، والخزانة 2/ 118، وشرح الكافية 1/ 265.

فكما قبح أن تفصل بين المضاف والاسم المضاف إليه قبح أن تفصل يبن (لك) وبين المنفي الذي قبله. لأن المنفي الذي قبله إذا جعلته كأنه اسم لم يفصل بينه وبين المضاف إليه، قبح فيه ما قبح في الاسم المضاف إلى اسم لم تجعل بينه وبينه شيئا؛ لأن اللام كأنها هاهنا لم تذكر. ولو قلت هذا لقلت: لا أخا هذين اليومين لك، وهذا يجوز في الشعر؛ لأن الشاعر إذا اضطر فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال ذو الرمة (¬1): كأنّ أصوات من إيغالهن بنا … أواخر الميس أصوات الفراريج (¬2) وإنما اختير الذي تثبت فيه النون في هذا الباب كما اختير في " كم " إذا قلت: " كم بها رجلا مصابا " وأنت تخبر لغة من ينصب بها لئلا يفصل بين الجار والمجرور. ومن قال: " كم بها رجل مصاب " فلم يبال القبح قال: لا يدي بها لك، ولا أخا يوم الجمعة لك ولا أخا- فاعلم- لك. والجر في: كم بها رجل مصاب وترك النون في: لا يدي بها لك قول يونس. واحتجّ بأن الكلام لا يستغنى إذا قلت: كم بها رجل، والذي يستغنى به الكلام وما لا يستغنى به قبحهما واحد إذا فصلت بكل واحد منهما بين الجار والمجرور. ألا ترى أن قبح: " كم بها رجل مصاب " كقبح " كم فيها رجل " ولو حسن بالذي لا يستغنى به الكلام لحسن بالذي يستغنى به، كما أن كل كلام حسن لك أن تفصل فيه بين العامل والمعمول فيه بما يحسن عليه السكوت حسن لك أن تفصل فيه بينهما بما يقبح عليه السكوت. وذلك قولك: " إنّ بها زيدا مصاب وإنّ فيها زيدا قائم " وكان بها زيد مصابا وكان فيها زيد مصابا. ¬

_ (¬1) هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي، من مضر، شاعر من فحول الطبقة الثانية، توفي 117 هـ، انظر: وفيات الأعيان 1/ 404، جمهرة شعراء العرب 177. (¬2) البيت في ديوانه 76، والخزانة 2/ 119، وابن يعيش 1/ 103، والإنصاف 251.

وإنما يفرق بين الذي يحسن عليه السكوت والذي لا يحسن في موضع غير هذا. وإثبات النون قول الخليل رحمه الله. وتقول: لا غلامين ولا جاريتي لك. إذا جعلت الآخر مضافا ولم تجعله خبرا له وصار الأول مضمرا له خبر، كأنك قلت: لا غلامين في ملكك ولا جاريتي لك. كأنك قلت: " ولا جاريتيك " في التمثيل. ولكنهم لا يتكلمون به. فإنما اختصت " لا " في " الأب " بهذا كما اختصت " لدن " مع " غدوة " بما ذكرت لك. ومن كلامهم أن يجري الشيء على ما لا يستعملونه في كلامهم نحو قولهم: ملامح ومذاكير. لا يستعملون لا ملمحة ولا مذكارا، وكما جاء " عذيرك " على مثال ما يكون نكرة ومعرفة نحو: ضربا وضربك، ولا يتكلم به إلا معرفة مضافة وسترى نحو هذا إن شاء الله ومنه ما قد مضى. وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك إذا جعلت " لك " خبرا لهما، وهو قول أبي عمرو، وكذلك إذا قلت: لا غلامين لك. وجعلت لك خبرا لأنه لا يكون إضافة وهو خبر؛ لأن المضاف يحتاج إلى الخبر مضمرا أو مظهرا. ألا ترى أنه لو جاز: تيم تيم عدي في غير النداء لم يستقم لك إلا أن تقول ذاهبون. فإذا قلت: لا أبا لك فهاهنا إضمار مكان ولكنه ترك استخفافا واستغناء. قال نهار بن توسعة اليشكري فيما جعله خبرا: أبي الإسلام لا أب لي سواه … إذا افتخروا بقيس أو تميم (¬1) وإذا ترك النون فليس الاسم مع " لا " بمنزلة: خمسة عشر؛ لأنه لو أراد ذلك لجعل " لك " خبرا وأظهر النون أو أضمر خبرا ثم جاء بعدها ب (لك) توكيدا، ولكنه أجراه مجرى ما ذكرت لك في النداء؛ لأنه موضع حذف وتخفيف كما أن النداء كذلك. وتقول أيضا- إن شئت- لا غلامين ولا جاريتين لك، ولا غلامين وجاريتين ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 2/ 104، الدرر 1/ 125، الشعر والشعراء 1/ 537.

لك. كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك، فجاء ب " لك " بعد ما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا، كما قال: لا يدين بها لك، حين صيره كأنه جاء ب " لك " فيه بعد ما قال: " لا يدين بها في الدنيا ". واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يل " لك " فإنما يذهب منه التنوين كما أذهب من آخر " خمسة عشر " لا كما أذهب من المضاف. والدليل على ذلك أن العرب تقول: لا غلامين عندك ولا غلامين فيها. ولا أب فيها، وأثبتوا النون فيها؛ لأن النون لا تحذف من الاسم الذي يجعل وما قبله أو وما بعد بمنزلة اسم في واحد. ألا تراهم قالوا: الذين في الدار. فجعلوا " الذين " وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جعلا اسما واحدا، ولم يحذفوا النون؛ لأنها لا تجيء على حد التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وفيما لا ينصرف، وإنما صارت الأسماء حين وليت " لك " بمنزلة مضاف لأنهم كأنّهم ألحقوا اللام بعد اسم كان مضافا، كما أنك إذا قلت: يا تيم تيم عدي فإنما ألحقت الاسم اسما كان مضافا، ولم يغير الثاني المعنى، كما أن اللام لا تغير معنى: لا أباك. وإذا قلت: " لا أب فيها " فليست (في) من الحروف التي إذا لحقت بعد مضاف لم تغير المعنى الذي كان قبل أن تلحق. ألا ترى أن " اللام " لا تغير معنى المضاف إلى الاسم إذا صارت بينهما، كما أن الاسم الذي يثنى به لا يغير المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه، فمن ثم صارت اللام بمنزلة الاسم الذي يتثنى به. وتقول: لا غلام وجارية فيها؛ لأن " لا " إنما تجعل وما تعمل فيه اسما واحدا، إذا كانت إلى جنب الاسم، فكما لا يجوز أن تفصل خمسة من عشرة كذلك لم يستقم هذا لأنه أي (لا) مشبه به، فإذا فارقه جرى على الأصل، قال الشاعر: لا أب وابنا مثل مروان وابنه … إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا (¬1) وتقول: " لا رجل ولا امرأة يا فتى " إذا كانت " لا " بمنزلتها في " ليس " حين تقول: ليس لك رجل ولا امرأة فيها. قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس: ¬

_ (¬1) البيت لرجل من بني عبد مناة من بني كنانة، انظر: الخزانة 2/ 102، والعيني 2/ 355.

لا نسب اليوم ولا خلة … اتسع الخرق على الراقع (¬1) ويروى: " اتسع الفتق على الراتق " كما وتقول: " لا رجل ولا امرأة فيها " فتعيد " لا " الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها. وتكون حال الآخرة في تثنيتها كحال الأولى. فإن قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك، إذا كانت الثانية هي الأولى أثبت النون؛ لأن " لك " خبرا عنهما والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد؛ لأن النون أقوى من التنوين، فلم يجروا عليها ما أجروا على التنوين في هذا الباب. لأنه مفارق للنون ولأنها ثبت فيما لا يثبت فيه. واعلم أن كل شيء حسن لك أن تعمل فيه " رب " حسن لك أن تعمل فيه " لا ". وسألت الخليل عن قول العرب " ولا سيما زيد " فزعم أنه مثل قولك " ولا مثل زيد " و " ما " لغو وقال: ولا سيما وزيد. كقولهم: دع ما زيد، وكقوله: مَثَلًا ما بَعُوضَةً (¬2) ف " سي " في هذا الموضع بمنزلة " مثل " فمن ثم عملت فيه " لا " كما تعمل " رب " في " مثل " وذلك قولك: " رب مثل زيد ". قال أبو محجن الثقفي: يا رب مثلك في النساء غريرة … بيضاء قد متعتها بطلاق (¬3) قال أبو سعيد: إذا كان بعد الاسم المنفي لام إضافة ففي الاسم الأول وجهان: أحدهما: أن يبنى الاسم الأول مع " لا " وتكون اللام في موضع النعت للاسم أو في موضع الخبر، وهذا هو الأصل والقياس، وتكون منزلة " اللام " كمنزلة سائر حروف الجر وذلك قولك " لا غلام لك ". كما تقول: لا رجل في الدار ولا غلامين لك، كما تقول لا رجلين في الدار ولا أب لزيد. كما تقول: " لا أب كزيد " والاسم الأول مبني مع " لا " وحرف الجر بعده في موضع النعت له أو الخبر. ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 2/ 101، والدرر 2/ 198، والعيني، 2/ 352. (¬2) سورة البقرة، من الآية 26. (¬3) البيت ليس في ديوانه، وهو منسوب لغيلان بن سلمة في ابن يعيش 3/ 126، والكتاب 1/ 212، المقتضب 4/ 489.

والوجه الآخر: أن يكون الاسم الذي بعد " لا " مضافا إلى الاسم الذي بعد " اللام " وتكون اللام زائدة مؤكدة للإضافة، ويكون لفظ الاسم الأول كلفظ الاسم المضاف و " لا " عاملة فيه غير مبنية معه وذلك قولك " لا أبا لزيد ولا أخا لك ولا مسلمي لك ". وعلم بثبات الألف في " أبا " وأخا " أنهما مضافان إذ كانت هذه الألف وأختاها الواو والباء إنما يدخلن على (أبوك وأخوك وحموك وفوك وذو) وإذا كانت مضافة فتكون الواو علامة الرفع والياء علامة الجر والألف علامة النصب. وعلم بسقوط النون من: لا غلامي لزيد، ولا جاريتي لأخيك، ولا مسلمي لك أنه مضاف وزيادة اللام شاذة، ولا تزاد إلا في " لا " وفي النداء كقوله: ... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام (¬1) وأخرجه عن القياس سيبويه وطول الكلام عليه والاحتجاج له وذكر الأشياء الشاذة ليؤنس بشذوذه. وأصل هذا عنده: إن الإضافة وقعت قبل اللام، وهي في نية التنوين المانع من الإضافة، كما لا تعرف إضافة " مثل " إلى " زيد " في قولك: لا مثل زيد. والأصل عنده في: لا أبا لك. ولا مسلمي لك. لا أباك ولا مسلميك. قال الشاعر: وقد مات شماخ ومات مزرد … وأي كريم لا أباك يخلّد (¬2) وقال آخر (¬3): أبا لموت الذي لا بدّ أني … ملاق لا أباك تخوّفيني (¬4) وأدخلوا " اللام " بين المضاف والمضاف إليه توكيدا؛ لأن الإضافة بمعنى " اللام " كما أدخلوا " تيم " الثاني بين " تيم " الأول وبين " عدي " في: يا تيم تيم عدي ". وكما زادوا " الهاء " في طلحة بعد أن رخموه. ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت سبق تخريجه. (¬3) قائل البيت: أبو حية النميري، وهو الهيثم بن الربيع بن زرارة، من بني نمير بن عامر، وكنيته أبو حية، توفي 183 هـ. انظر الخزانة 3/ 154. (¬4) البيت في ابن يعيش 2/ 105، والخزانة 2/ 118، والعقد الفريد 2/ 488.

وزادوا " اللام " في: يا بؤس للحرب ... (¬1) وشبه باب النفي بباب النداء لما يقع فيهما من التغيير وحذف التنوين. وما كان من ذلك في تقدير الإضافة إلى ما بعد اللام، ولا يحسن أن تفصل بينه وبين اللام. فإذا فصلت بطلت الإضافة، تقول: لا يدين به لك، ولا يدين اليوم لك إثبات النّون أحسن؛ والوجه لأنك إذا حذفت النون فإنما تحذفها للإضافة إلى ما بعد اللام، وقد فصلت بينهما بقولك " بها " و " اليوم " فلم يحسن، فعدلت إلى الوجه الذي لا إضافة فيه فقلت: لا يدين بها لك ولا أب يوم الجمعة لك، وجعلت " لك " خبرا أو نعتا أو بيانا بعد أن تضمر خبرا هو: مكان أو زمان ". والبيان " بلك " أن تقدر " أعني " كما تقدر ذلك في: سقيا لك، وإذا أردت هذا المعنى فليس " لك " بنعت ولا خبر. وإن تركت " لك " استغناء يعلم المخاطب بها كقولهم: " لا رجل " " ولا بأس " فهو جائز وإن ذكرته توكيدا وأنت تعلم أنّ المخاطب يعلمه جاز. وإن أضفت مع الفصل ففيه قبح، وهو مع قبحه جائز في الشعر وشاهده: كأن أصوات من إيغالهن بنا … أواخر الميس أصوات الفراريج (¬2) أضاف " أصوات " إلى " أواخر الميس " وفصل بما بينهما من الكلام. ولا يقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه إلا بالظرف وحروف الجر، وقد استقبح سيبويه الفصل بين الجار والمجرور بما يتم به الكلام وبما لا يتم. وأجاز يونس الفصل بما لا يتم الكلام به كقوله: لا يدي بها لك. ومعناه: لا طاقة بها لك. " وبها " في هذا الموضع لا يكون خبرا ولا يتم. وقد احتج سيبويه بما ذكره. ومعنى قول سيبويه " وقد يفرق بين الذي يحسن عليه السكوت والذي لا يحسن في موضع غير هذا " يعني نحو قوله: في الدار زيد قائم وقائما؛ لأن الكلام يتم بقوله: في الدار، ولا تقول: بعمرو زيد ¬

_ (¬1) جزء بيت لسعد بن مالك، وتمامه: يا بؤس للحرب التي … وضعت أراهط فاستراحوا انظر: الخزانة 1/ 224، والكامل 7/ 147. (¬2) البيت سبق تخريجه.

هذا باب ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية

كفيلا " لأنك لا تقول: بعمر وزيد وتسكت. وشبه سيبويه أيضا اختصاص " لا " بزيادة اللام بعدها بشذوذ تنوين " غدوة " مع " لدن ". وبقولهم: " ملامح ومذاكير " في جمع " لمح وذكر " و " عذيرك " في لزوم الإضافة والتعريف والخروج عن منهاج نظائره وقد ذكر شذوذ هذه الأشياء في مواضعها. وقد ذكرنا في أول شرح الباب: لا أب لزيد وقول الشاعر: " لا أب لي سواه ... " من ذلك. فإن قال قائل: ذكرتم أن قول القائل: لا أخا لك .. تقديره " لا أخاك. واللام زائدة، فإذا قال: لا أخالي. وجعلت اللام زائدة بقى: " لا أخاي " وليس في الكلام رأيت أخاي .. ؟ فالجواب: أن الأصل أن يقال: رأيت أخيّ وحملت أبيّ كما تقول: ألقمت فيّ. واستثقلوا تشديد الياء فحذفوا لام الفعل وشبهوها بما حذف لامه نحو: يدي ودمي، فإذا فصلوا بينهما باللام رجع الحرف إلى أصله ونطق به على قياسه في: " لا أخا لك " وغيره. وإذا عطف على اسم " لا " المبني معها فليس في المعطوف غير التنوين لبطلان بنائه مع شيء يسقط التنوين منه كقولك: لا رجل وامرأة ولا أب وابنا. وإن أعدت " لا " فأنت بالخيار: إن شئت جعلتها عاملة مثل الأولى فتبني معها الاسم كقولك: لا رجل ولا امرأة في الدار. وإن شئت جعلتها مؤكدة للجحد- دخولها كخروجها- ونونت الاسم الثاني بالعطف على الأول، وذلك قولك: لا رجل ولا امرأة ولا نسب اليوم ولا خلة. والعطف بالواو وحدها و " لا " لتوكيد الجحد. وهذا معنى قول سيبويه " إذا كانت بمنزلتها في " ليس " لأنك إذا قلت: ليس لك رجل ولا امرأة " فلا " الثانية غير عاملة. إنما هي مؤكدة للجحد الذي ب " ليس ". وباقي الباب مفهوم. هذا باب ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية " وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهي الاسم فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم، وإنما يحذف في النفي والنداء منتهى الاسم، وذلك قولك: لا خيرا من زيد

لك ولا حسنا وجهه لك، ولا ضاربا زيدا لك؛ لأن ما بعد: " حسن " و " ضارب " و " خبر " من تمام الأسماء فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا إلى منتهى الاسم؛ لأن الحذف في النفي أواخر الأسماء. ومثل ذلك قولهم: لا عشرين درهما لك. وقال الخليل- رحمه الله- كذلك " لا آمرا بالمعروف لك " إذا جعلت " بالمعروف " من تمام الاسم وجعلته متصلا به، كأنك قلت: لا آمرا معروفا لك. وإن قلت: " لا آمرا بمعروف " فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلاما، كقولك: لا آمر في الدار يوم الجمعة. وإن شئت جعلته كأنك قلت: لا آمر يوم الجمعة فيها. فيصير المبني على الأول مؤخرا ويكون الملغي مقدما. وكذلك " لا داعيا إلى الله لك " و " لا مغيرا على الأعداء لك " إذا كان الآخر متصلا بالأول كاتصال منك " بأفعل ". وإن جعلته منفصلا من الأول كانفصال " لك " من " سقيا لك " لم تنون لأنه يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة. وإن شئت قلت " لا آمرا يوم الجمعة " إذا نفيت الآمرين يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين. فإذا قلت: " لا آمر يوم الجمعة " فأنت تنفي الآمرين كلهم ثم أعملت " في " أي حين. وإذا قلت: " لا ضاربا يوم الجمعة " فإنما تنفي ضاربي يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره وتجعل " يوم الجمعة " منتهى الاسم. وإنما نونت لأنه صار منتهى الاسم " اليوم " كما صار ما ذكرت منتهى الاسم، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخره؛ نحو " واو " مضروب و " ألف " مضارب، ونونت كما نونت في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه، فنوّن في هذا ما نونته في النداء كما ذكرت لك إلا النكرة، فإن النكرة في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء، ولا تعمل " لا " إلا في النكرة تجعل معها بمنزلة خمسة عشر. فالنكرة هاهنا كالمعرفة هناك ". قال أبو سعيد: قد ذكرت أن الاسم الذي بني مع " لا " هو اسم مفرد منكور، والاسم

المبني في النداء هو اسم مفرد معروف، وإن الإضافة تبطل هذا البناء. أما في النداء فقد ذكرنا حجته. وأما في " لا " فإنها لو بنيت مع المضاف والمضاف إليه صار بمنزلة ثلاثة أشياء جعلت شيئا واحدا وليس هذا في الكلام. ويجري مجرى المضاف الموصول بشيء هو من تمامه؛ لأن الاسم مع تمامه بمنزلة المضاف والمضاف إليه. وكذلك حكم المنادى المضاف والموصول أنهما لا يبنيان، وذلك قولك: " لا خيرا من زيد " و " لا ضاربا زيدا " و " لا حسنا وجهه لك " لأن " من زيد " من تمام .. خبر " وزيدا " مفعول " ضارب " ووجهه " فاعل " حسن. وعلى هذا قال الخليل: " لا آمرا بالمعروف لك؛ لأن الباء من " بمعروف " منصوب بآمر، كقولك: أمرت بالمعروف فأنا آمر بالمعروف، و " الباء " في اسم الفاعل مثلها في الفعل، وكذلك لو حذفت الباء فجعلت " المعروف " مفعول آمر " قلت ": " لا آمرا معروفا ". فإن قلت: " لا آمر بمعروف " فإن الباء ليست في صلة " آمر " كأنك قلت: " لا آمر " وسكتّ وأضمرت خبره ثم جئت بالباء للتبيين، كأنك قلت: أعني بمعروف كما تقول: " سقيا " ثم تجيء ب " لك " على أعني. وكذلك: لا داعيا إلى الله لك. و " لا مغيرا على الأعداء لك ". وقولك: " لا آمر في الدار يوم الجمعة " لا يعمل فيها " آمر " إنما هي خبر أو نعت: والعامل فيها " استقر " ويوم الجمعة ظرف للاستقرار الذي ناب عنه " في الدار " ويجوز تقديمه عليه " لا آمر يوم الجمعة فيها ". فإن قلت: " لا آمرا يوم الجمعة " فيوم الجمعة منصوب " بآمر " كأنك قلت: لا رجل يأمر يوم الجمعة. فنفيت من يقع أمره في يوم الجمعة دون من سواهم. وإن قلت: " لا آمر يوم الجمعة " فقد نفيت الآمرين كلهم؛ لأنك لم تعلق الأمر بيوم الجمعة فصار كأنك قلت: " لا آمر " كما تقول: " لا رجل " وتضمر الخبر وتجعل " يوم الجمعة " ظرفا لذلك الخبر، كأنك قلت: " لا آمر لنا يوم الجمعة " أي نملكه يوم الجمعة، وفيما ذكرناه دلالة على غيره.

هذا باب وصف المنفي

هذا باب وصف المنفي " اعلم أنك إذا وصفت المنفي فإن شئت نونت صفة المنفي- وهو أكثر في الكلام- وإن شئت لم تنون وذلك قولك: " لا غلام ظريفا لك " و " لا غلام ظريف لك " فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم و " لا " بمنزلة اسم واحد. وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير المنفي. وأما الذين قالوا: " لا غلام ظريف لك " فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد. فإذا قلت: لا غلام ظريفا عاقلا لك " فأنت في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منونا من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد. ومثل ذلك: " لا غلام فيها ظريفا " إذا جعلت " فيها " صفة أو غير صفة. فإن كررت الاسم فصار وصفا فأنت فيه بالخيار إن شئت نونت وإن شئت لم تنون ... وذلك قولك: " لا ماء ماء باردا " ولا ماء ماء باردا ". ولا يكون " باردا " إلا منونا لأنه وصف ثان. وتركوا التنوين في الثاني لأنهم جعلوه كالوصف الأول، كما قالوا: " مررت بدار آجر " و " بباب ساج " فوصفوا " بآجر " و " ساج و " آجر " و " ساج " اسمان كما أن " ماء " الثاني اسم، وقد وصفوا به حيث قالوا: لا ماء ماء باردا. قال أبو سعيد: الذي يفسر من هذا الباب أن الاسم والصفة لم بنيا و " لا " قد دخلت عليهما، وهي تبنى مع ما بعدها فتصير ثلاثة أشياء كشيء واحد؟ فالجواب: أنهما بنيا لأن الموضع الذي وقعا فيه موضع تغيير وبناء يبنى مع غيره، فإذا كان قد بني فيه الاسم مع حرف فبناء اسم مع اسم أولى؛ لأن ذلك أكثر في الكلام كخمسة عشر " وأخواتها ". و " جاري بيت بيت " وغير ذلك. فإذا أدخلنا " لا " على الاسم والصفة وقد بني أحدهما مع الآخر كانت هي غير مبنية معهما، بل تكون عاملة في موضعهما، كما تكون عاملة في موضع خمسة عشر " إذا دخلت عليها. وكما تكون عاملة غير مبنية في " لا خيرا من زيد " و " لا حسنا وجهه ". هذا باب لا يكون الوصف فيه إلا منونا " وذلك قولك: " لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقلا " إذا جعلت " فيها " خبرا أو لغوا و " لا رجل فيك راغبا " من قبل إنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد. وقد فصلت بينهما، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر

هذا باب لا تسقط فيه النون وإن وليت «لك»

وخمسة في خمسة عشر ". ومما لا يكون الوصف فيه إلا منونا قوله: " لا ماء سماء باردا " و " لا مثله عاقلا " من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة: " خمسة عشر " وإنما يذهب التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع، فمن ثم صار وصفه بمنزلته في غير هذا الموضع. ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافا لم يكن إلا منونا. كما يكون في غير باب النفي، وذلك قولك: " لا ضاربا زيدا لك " ولا حسنا وجه الأخ فيها ". فإذا كففت التنوين وأضفت كان بمنزلته في غير هذا الباب، كما كان ذلك غير مضاف، فلما صار التنوين إنما يكف للإضافة جرى على الأصل. فإذا قلت: " لا ماء ولا لبن " ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه. فإن جعلت الصفة للماء لم يكن الوصف إلا منونا؛ لأنه لا يفصل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمرا أو مظهرا؛ لأنهما قد صارا اسما واحدا ويحتاجان إلى الخبر مضمرا أو مظهرا. ألا ترى أنه لو جاز: تيم تيم عدي لم يستقم لك إلا أن تقول: ذاهبون. فإذا قلت: " لا أبا لك " فهاهنا إضمار مكان ". قال أبو سعيد: في كلام سيبويه في هذا الباب مع ما تقدم من الشروح ما يغني عن تفسيره. هذا باب لا تسقط فيه النون وإن وليت «لك» " وذلك قولك: لا غلامين ظريفين لك، ولا مسلمين صالحين لك، من قبل أن " الظريفين " و " الصالحين " نعت للمنفي، ومن اسمه وليس واحد من الاسمين ولي (لا) ثم وليته " لك " ولكنه وصف وموصوف. فليس للموصوف سبيل إلى الإضافة فلم يجز ذلك للوصف لأنه ليس بالمنفي. وإنما هو صفة، وإنما جاز التخفيف في النفي، فلم يجز ذلك إلا في المنفي، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه من الحذف والاستخفاف، وقد بين ذلك ". قال أبو سعيد: الذي منع من إسقاط النون وبعدها " لك " أن النون إنما تسقط من المبني الذي يلي " لا " على نية الإضافة إلى ما بعد " اللام ". فإذا ما قلنا: لا غلامين ظريفين لك فبين (غلامين) وبين (لك) (ظريفين) وهما صفة

هذا باب ما جرى على موضع المنفي لا على الحرف الذي عمل في المنفي

لغلامين فمنعا أن تضاف " غلامين " إلى الكاف في (لك) لفصل " ظريفين " بينهما. وإنما يجوز في الضرورة إذا اضطر الشاعر إلى الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحروف الجر. وقوله " إنما جاز التخفيف في النفي " يعني حذف النون والتنوين للإضافة إلى ما بعد " اللام " من الاسم الذي يلي حرف النفي. " ولم يجز ذلك إلا في المنفي " يعني: لم يجز حذف النون والتنوين إلا في الاسم المنفي دون صفته. هذا باب ما جرى على موضع المنفي لا على الحرف الذي عمل في المنفي " فمن ذلك قول ذي الرمة: بها العين والآرام لا عدّ عندها … ولا كرع إلا المغارات والوبل (¬1) وقول رجل من مذحج: هذا لعمركم الصغار بعينه … لا أم لي إن كان ذاك ولا أب (¬2) فزعم الخليل: أن هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم كما أن الشاعر (عقيبة الأسدي) (¬3) حين قال: فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬4) أجراه على الموضع. ومثل ذلك أيضا قول العرب: لا مال له قليل ولا كثير، رفعوه على الموضع. ومثل ذلك أيضا قول العرب: لا مثله أحد ولا كزيد أحد. وإن شئت حملت الكلام على " لا " فنصبت. وتقول: " لا مثله رجل " إذا حملته على الموضع كما قال بعض العرب " لا حول ¬

_ (¬1) الرواية في ديوانه: سوى العين. انظر: الديوان 458، وشرح المفضليات 211. (¬2) البيت منسوب لهنى بني أحمر، وهو من بني الحارث بن كنانة، شاعر جاهلي، انظر: معجم الشعراء 489، والأعلام 9/ 108، والبيت في ابن يعيش 2/ 110، والمقتضب 4/ 371. (¬3) هو عقبة بن هبيرة الأسدي، شاعر جاهلي، انظر: الأعلام 5/ 38، والخزانة 1/ 343، وصمت اللآلي 149. (¬4) عجز بيت وصدره: معاوية إننا بشر فأسجح. انظر: الكتاب 1/ 34، والمقتضب 3/ 337.

ولا قوة إلا بالله " وإن شئت حملته على " لا " فنونته ونصبته، وإن شئت قلت: " لا مثله رجلا " على قوله " لي مثله غلاما " وقال ذو الرمة: هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة … ليالي لا أمثالهنّ لياليا (¬1) وقال الخليل- رحمه الله-: يدلك على أن " رجل " في موضع اسم مبتدأ مرفوع قولك: لا رجل أفضل منك، كأنك قلت: زيد أفضل منك، ومثل ذلك: يحسبك قول السوء، كأنك قلت: حسبك قول السوء. وقال الخليل رحمه الله: " كأنك قلت: رجل أفضل منك " حين مثّله. وأما قول جرير: لا كالعشية زائرا ومزورا (¬2) فلا يكون إلا نصبا من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائرا، كما تقول ما رأيت كاليوم رجلا. ف " كاليوم " كقولك: في اليوم؛ لأن الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجب كما قال: " تالله رجلا. وسبحان الله رجلا " إنما أراد: تالله ما رأيت رجلا. ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء؛ لأن المخاطب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمر فيه هذا الفعل لكثرة استعمالهم إياه. وتقول: لا كالعشية عشية ولا كزيد رجل؛ لأن الآخر هو الأول ولأن " زيدا " رجل. فصار " لا كزيد " كأنك قلت: " لا أحد كزيد " ثم قلت: " رجل " كما تقول: لا مال له قليل ولا كثير على الموضع. قال امرؤ القيس: ويلمنها في هواء الجوّ طالبة … ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (¬3) كأنه قال: ولا شيء له كهذا الذي. ورفع على ما ذكرت لك. فإن شئت نصبت على نصبه: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 650، وابن يعيش 2/ 103، والمقتضب 4/ 364. (¬2) عجز بيت صدره: يا صاحبي دنا الرواح فسيرا. انظر: ديوانه 134، وابن يعيش: 2/ 114. (¬3) البيت في ديوانه 227، والخزانة 4/ 91، وابن يعيش 2/ 114.

فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا (¬1) كأنه قال: لا أحد كزيد " رجلا " وحمل " الرجل " على " زيد " كما حمل " المرفد " على " ذلك ". وإن شئت نصبته على ما نصبت عليه " لا مال له قليلا ولا كثيرا ". ونظير: " لا كزيد " في حذفهم الاسم قولهم: " لا عليك " وإنما يريدون " لا بأس عليك " " ولا شيء عليك " ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه. قال أبو سعيد: قد ذكرنا أن " لا " وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد مرفوع بالابتداء والحجة فيه. ومن الحجة فيه أيضا ما لا يقصر عما ذكرناه بل يزيد عليه: أن " لا " وإن نصبت بها وبنيت المنصوب معها، فإنا إذا فصلنا بينها وبين اسمها لظرف أو حرف جر بطل عملها وارتفع اسمها بالابتداء مع صحة الجحد بها. وبقاء معنى المنصوب كقوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ (¬2). فلما كان ارتفاع الاسم بعد " لا " بالابتداء لا يغير معنى المنصوب فيها صارت بمنزلة " إن " التي ابتداء الاسم في موضعها لا يغير معناه منصوبا بل هو في " لا " أقوى؛ لأنه يجوز أن يظهر الاسم بعدها مبتدأ. فمن ذلك جاز- في نعت ما يعد " لا " وفي بيانه مما يجري مجرى النعت. وفي العطف عليه وفي الخبر عنه- الرفع حملا على موضع " لا " مع الاسم والنصب على الاسم الذي بعد " لا ". ومن أجل ذلك شبهه بقولهم: ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬3) أجراه على موضع الباء؛ لأنه في موضع خبر " ليس " ولو أجراه على ما بعد الباء لقال: ولا الحديد. وأما النعت فقوله العرب: لا مال له قليل ولا كثير .. على الموضع ولا مال له قليلا ولا كثيرا .. على ما بعد " لا ". ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) سورة الصافات، الآية: 47. (¬3) عجز بيت سبق تخريجه.

هذا باب ما لا تغير فيه «لا» الأسماء عن حالها التي كانت عليها قبل أن تدخل «لا»

وأما ما جرى مجرى النعت فقوله " لا مثله أحد " ولا مثله رجل " ولا كزيد أحد " فبين " مثله " " بأحد " " وبرجل " وجرى مجرى النعت كما ذكرناه في عطف البيان، والكاف بمنزلة " مثل " ويجوز فيه النصب على ما ذكرنا. وأما العطف فقول بعض العرب: " لا حول ولا قوة إلا بالله " ويجوز " ولا قوة إلا بالله " على ما تقدم. وأما الخبر: لا رجل أفضل منك، كأنك قلت: زيد أفضل منك ولا يجوز فيه النصب إذا كان خبرا. وإن جعلت " أفضل منك " نعتا جاز فيه النصب أيضا على ما ذكرنا وشبهه بقولك: بحسبك قول السوء، أن مجرور الباء في موضع رفع بالابتداء وقول السوء خبره، كأنه قال: " حسبك قول السوء ". وأما: " لا كالعشية زائرا ومزورا " .. فقد أحاط العلم أن الزائر والمزور لا يراد بهما العشية فاضطر المعنى إلى فعل يضمر فيه ما يظهر في مثل معناه وهو: لا أرى زائرا ومزورا كزائر العشية ومزورها، كما قالوا: ما رأيت كاليوم رجلا والمعنى: ما رأيت رجلا كرجل رأيته أو أراه، وإنما يقال ذلك عند التعجب. ولو قال " لا كالعشية عشية " جاز في " عشية " الرفع والنصب كما تقول: لا مثل العشية عشية وعشية على موضع " لا " وعلى ما بعد " لا ". وأجاز النصب أيضا من وجه آخر وهو التمييز الذي مر ذكره في قوله: ... فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا كأنه قال: فهل في عدد أكثر من ذلك مرفدا، وقد ذكرناه فيما تقدم كأنه قال: لا أحد كزيد رجلا، وقد ذكرنا هذا ونحوه فيما فسرناه في: لي مثله رجلا. وقوله بعد بيت امرئ القيس " كأنه قال ولا شيء له كهذا " فرفع على ما ذكرت لك. يعني: رفع على موضع " لا " وما عملت فيه. هذا باب ما لا تغير فيه «لا» الأسماء عن حالها التي كانت عليها قبل أن تدخل «لا» ولا يجوز ذلك إلا أن تعيد " لا " الثانية من قبل أنه جواب لقوله: أغلام عندك أم جارية؟ إذا ادعيت أن أحدهما عنده فلا يحسن إلا أن تعيد " لا " كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه " أم " إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.

فإذا قال: " لا غلام " فإنما هو جواب لقوله: هل من غلام؟ وعملت " لا " فيما بعدها. وإن كانت في موضع ابتداء كما عملت " من " في " الغلام " وإن كانت في موضع ابتداء فما لم يتغير عن حاله قبل أن تدخل " لا " قول الله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (¬1) وقال الراعي: وما صدمتك حتى قلت معلنة … لا ناقة لي في هذا ولا جمل (¬2) وقد جعلت- وليس ذلك بالأكثر- بمنزلة " ليس ". وإن جعلتها بمنزلة " ليس " كانت حالها كحال " لا " في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة. فمن ذلك قول سعد بن مالك: من صدّ عن نيرانها … فأنا ابن قيس لا براح (¬3) واعلم أن المعارف لا تجري مجرى النكرة في هذا الباب لأن " لا " لا تعمل في معرفة أبدا. فأما قول الشاعر: لا هيثم الليلة للمطي (¬4) فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثم من الهيثميين. ومثل ذلك: لا بصرة لكم. وقال ابن الزبير الأسدي: أرى الحاجات عند أبي خبيب … نكدن ولا أمية بالبلاد (¬5) قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليّا عليه السّلام؟ فقال لأنه لا يجوز لك أن تعمل " لا " إلا في نكرة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية 48. (¬2) البيت في الخزانة 2/ 336، وابن يعيش 2/ 111، نهاية الأرب 3/ 56. (¬3) الخزانة 2/ 90، وابن يعيش 1/ 108، والمغني 1/ 239. (¬4) رجز لم يعرف قائله. في ابن يعيش 2/ 102، الدرر 1/ 124. (¬5) البيت نسبه ابن السيرافي لفضالة بن شريك، ونسبه صاحب الأغاني لعبد الله بن فضالة بن شريك 10/ 163. والراجح أنه لابن الزبير الأسدي، قاله في هجاء عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان يكنى أبا خبيب عند الذم. الخزانة 4/ 61، وابن يعيش 2/ 103، والمقتضب 4/ 362.

فإذا جعلت " أبا حسن " نكرة حسن لك أن تعمل " لا " وعلم المخاطب أنه دخل في هؤلاء المنكورين " على ". فإن قلت: إنه لم يرد أن ينفي كل من اسمه علي فإنما أراد أن ينفي منكورين كلهم في صفة علي كأنه قال: " لا أمثال " علي " لهذه القضية ". ودل هذا الكلام على أنه ليس لها " علي " وأنه قد غيب عنها وإن جعلته نكرة ورفعته كما رفعت " لا براح " فجائز. ومثله قول الشاعر: " مزاحم العقيلي. فرطن فلا رد لما بت فانقضى … ولكن بغوض أن يقال عديم (¬1) وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة ولا تثني " لا ". قال الشاعر: بكت جزعا واسترجعت ثم آذنت … ركائبها إن لا إلينا رجوعها (¬2) واعلم أنك إذا فصلت بين " لا " وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد " لا " الثانية لأنه جعل جواب أذا عندك أم ذا؟ ولم تجعل " لا " في هذا الموضع بمنزلة " ليس " وذلك لأنهم جعلوها إذا رفعت مثلها إذا نصبت لا تفصل لأنها ليست بفعل. فمما فصل بينه وبين " لا " بحشو قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (¬3) ولا يجوز: " لا فيها أحد " إلا ضعيفا ولا يحسن لا فيك خير. وإن تكلمت به فلا يكون إلا رفعا لأن " لا " لا تعمل إذا فصل بينها وبين الاسم لا رافعة ولا ناصبة لما ذكرت لك. وتقول: لا أحد أفضل منك إذا جعلته خبرا وكذلك: لا أحد خير منك قال الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 3/ 43، والأعلم 1/ 354. (¬2) البيت ففي الخزانة 4/ 34، وابن يعيش 1/ 113. (¬3) الصافات: 47.

وردّ جازرهم حرفا مصرمة … ولا كريم من الولدان مصبوح (¬1) لما صار خبرا جرى على الموضع لأنه ليس بوصف ولا محمول على " لا " فجرى مجرى لا أحد فيها إلا زيد. وإن شئت قلت: لا أحد أفضل منك في قول من جعلها " كليس " ويجريها مجراها ناصبة في الموضع وفيما يجوز أن يحمل عليها. ولم تجهل " لا " التي " كليس " مع ما بعدها كاسم واحد لئلا يكون الرافع كالناصب وليس أيضا كل شيء يخالف بلفظه يجري مجري ما كان في معناه ". قال أبو سعيد: اعلم أن " لا " إذا عملت كانت على وجهين: أحدهما: أن تنصب ما بعدها وتبني معه إذا كان مفردا كنحو ما تقدم من قولنا لا رجل في الدار وإن كررتها وأردت إعمالها على هذا الوجه جاز وقلت: لا رجل ولا امرأة، ويكون جواب قوله: هل من رجل أو من امرأة؟ والوجه الثاني: أن ترفع ما بعدها من النكرات وتنصب أخبارها ولا تعمل إلا في نكرة ولا تفصل بينها وبين ما عملت فيه كقولنا: لا رجل أفضل منك وتكون محمولة على " ليس " في رفع الاسم ونصب الخبر وليس هذا بالكثير فيها، والكثير فيها أن تنصب، فلما جوز فيها رفع اسمها ونصب خبرها لم تخرج عن حكمها في أقوى حاليها وهو نصب الاسم ورفع الخبر، فلم يفصل بينها وبين ما عملت فيه ولم تعمل إلا في نكرة. وعلى مذهب " ليس " حمل سيبويه: فأنا ابن قيس لا براح (¬2) وحذف الخبر كما يحذفه وهي ناصبة. و (ما) في عملها إذا شبهت بليس أقوى من (لا) لأن " ما " إنما تدخل على مبتدإ وخبر وجعلت مثل " إن " في جواب اليمين. " إن " للإيجاب. " ما " للجحد فتدخل على جميع ما تدخل عليه " إن " وليست " لا " كذلك. وأصلها أن تكون ناصبة عاطفة. والرافعة منها محمولة على الناصبة فأجريت مجراها. وتدخل " لا " على المعارف والنكرات مكررة على أنها جواب كلام قد عمل بعضه في بعض من المبتدإ والخبر ويكرر فأعيد الجواب على التكرير الذي في السؤال وذلك ¬

_ (¬1) البيت في الشعر والشعراء 1/ 245، وابن يعيش 1/ 107، والأشموني 2/ 18. (¬2) عجز بيت سبق تخريجه.

قولك: لا غلام عندي ولا جارية " ولا زيد في الدار ولا عمرو ". وهو جواب: أغلام عندك أم جارية؟ وأزيد في الدار أم عمرو؟ وهذا سؤال من قد علم أن أحدهما عنده أو أحدهما في الدار ولا يعرفه بعينه فسأل ليعرف بعينه، وإن كان المسؤول يعرف ما سأل عنه قال: زيد. إن كان زيد أو عمرو إن كان عمرو، وإن لم يكن في الدار واحد منهما قال: لا زيد ولا عمرو. وإن لم يكن عنده غلام ولا جارية قال: " لا غلام عندي ولا جارية ". ولا يحسن أن تقول: لا زيد عندي .. من غير تكرير " لا " وذلك أن قولك: لا زيد عندي إنما هو جواب من قال: أزيد عندك؟ فكان حق الجواب أن يقول المجيب: نعم إن كان عنده. أو " لا " إن لم يكن عنده. ولا يزيد شيئا على " لا " كما لا يزيد شيئا على نعم. وإن كرر فهو جواب كلام لا يجوز في جوابه " لا " ولا " نعم " لأنه جواب قولك: أغلام عندك أم جارية؟ وهو سؤال موضوع على أن السائل قد علم أن أحدهما عنده وإنما سأل تعيينه، فإن كان الأمر كما اعتقد السائل في السؤال فالجواب أن يقال: غلام أو جارية، وإن يكن كما اعتقده السائل ولم يكن عنده واحد منهما قال: لا غلام عندي ولا جارية. فلذلك خالف التكرير الإفراد. وقد أجاز الإفراد في الشعر وأنشد فيه: أن لا إلينا رجوعها (¬1) لأن المعنى الموجب منه لا يحتاج إلى تكرير لو قال: أنه إلينا رجوعها. لكان كلاما حسنا، فدخلت " لا " وعملت الجحد ولم تغير لفظ الموجب. وستقف من ذلك بعد هذا الباب على ما يحسن فيه الرفع ولا تحتاج " لا " إلى إعادة. وأما قوله: " لا هيثم للمطي " و " قضية ولا أبا حسن لها " و " لا أمية بالبلاد " فالمعنى الذي يذكر مثل هذا الكلام عند حضوره وكونه هو الذي سوغ فيه التنكير؛ وذلك لأن الكلام إنما يقال لإنسان كان يقوم بأمر من الأمور وله فيه كفاية وغناء فحضر ذلك الأمر ولم يوجد ذلك الإنسان، ولا من يقوم به مثل قيامه. ولو وجد من يقوم مقامه لم نطلب. فصار التقدير " لا مثل هيثم " ولا مثل أبي حسن " ولا مثل " أمية " ودخلت هذه الأسماء في ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

هذا باب لا تجوز فيه المعرفة إلا أن تحمل على الموضع

المعنى. وأريدوا به كما يقول القائل لمن يخاطبه: " مثلك لا يتكلم بهذا " " ومثلك لا يفعل القبيح ". وإنما تريد: أنت وأمثالك لا تفعلون مثل ذلك. وإذا فصلت بين " لا " وما عملت فيه النصب أو الرفع مما ذكرنا بطل عملها ورفعت ما بعدها بالابتداء. واحتجت إلى التكرير كقوله عز وجل: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (¬1). وقد يجوز في التكرير أن يكون الأول منهما منصوبا مبنيّا مع " لا " والأخير مرفوعا كقولنا " لا رجل ولا غلام " ولا جارية في الدار ولا زيد ". وقد قرأ يعقوب الحضرمي .. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112] (هم) مرفوع محمول على موضع لا خوف. وقد بيّن هذا في الباب الذي يتلو هذا الباب. وأما قوله: فرطن ولا رد لما بت فانقضى فإنه يروى على ثلاثة أوجه: " ولكن بغوض " على تكثير الفعل مثل: ضروب وشروب. وبغيض وهو اسم للذات كقولك: رجل بغيض " وليس بتكثير الفعل. ويروى: ولكن تعوض، أن يقال عديم من العوض. هذا باب لا تجوز فيه المعرفة إلا أن تحمل على الموضع لإنه لا يجوز ل (لا) أن تعمل في معرفة كما لا يجوز ذلك ل (رب)، فمن ذلك قولك: لا غلام لك ولا العباس. فإن قلت: أحمله على " لا " فإنه ينبغي لك أن تقول: رب رجل لك والعباس، وكذلك: لا غلام لك وأخوه. فأما من قال: كل شاة وسخلتها بدرهم، فينبغي له أن يقول: لا رجل لك وأخاه " لأنه كان قال: " لا رجل لك وأخا له ". قال أبو سعيد: ما في هذا الباب بيّن مفهوم. ¬

_ (¬1) الصافات: 47.

هذا باب ما إذا لحقته «لا» لم تغيره عن حاله التي كان عليها قبل أن تلحق

هذا باب ما إذا لحقته «لا» لم تغيره عن حاله التي كان عليها قبل أن تلحق وذلك لأنها لحقت ما عمل فيه غيرها كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق. ولا يلزمك في هذا الباب تثنية " لا " كما لا تثنى " لا " في الأفعال التي هي بدل منها وذلك قولك: لا مرحبا ولا أهلا ولا كرامة ولا مسرة ولا شللا ولا سقيا ولا رعيا ولا هنيئا ولا مريئا. صارت " لا " مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه " لا " لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق " لا " ومثل ذلك " لا سلام عليك " ولم تغير الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق " لا ". وقال جرير: ونبئت جوابا وسكنا يسبني … وعمرو بن عفرة لا سلام على عمرو (¬1) ولم تلزمك في ذا " تثنية " لا " كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه. وذلك لا سلم الله عليه، فدخلت ذا الباب لتنفي ما كان دعاء، كما دخلت على الفعل الذي هو بدل من لفظه. ومثل: " لا سلام على عمرو ". " لا بك السوء " لأن معناه: لا ساءك الله. ومما جرى مجرى الدعاء ما هو يطلق عند الحاجة ببشاشة نحو: كرامة ومسرة ونعمة عين ... فدخلت " لا " على هذا كما دخلت على قوله: ولا أكرمك ولا أسرك ولا أنعمك عينا. ولو قبح دخولها هاهنا لقبح في الاسم كما قبح في لا ضاربا؛ لأنه لا يجوز " لا اضرب " في الأمر. وقد دخلت " لا " في موضع غير هذا فلم تغيره عن حاله قبل أن تدخله وذلك قولهم: لا سواء. وإنما دخلت " لا " هاهنا: لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه سواء ألا ترى أنك لا تقول: هذان لا سواء، فجاز هذا كما جاز " لا ها الله ذا " حين عاقبت ولم يجز ذكر الواو. وقالوا: لا نولك أن تفعل؛ لأنهم جعلوه معاقبا لقوله: " لا ينبغي أن تفعل كذا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 279، والمقتضب 4/ 381

وكذا، وصار بدلا منه فدخل فيه ما دخل في " ينبغي " كما دخل في " لا سلام " ما دخل في " سلم ". واعلم أن " لا " قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء. وذلك نحو قولك: " أخذته بلا ذنب " وأخذته بلا شيء وغضبت من لا شيء، وذهبت بلا عتاد. والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد وأخذته بغير ذنب، إذا لم ترد أن تجعل " غيرا " شيئا أخذه يعتد به عليه، ومثل ذلك قولك للرجل: أجئتنا بغير شيء؟ أي رائقا والرائق: الخالي. ونقول إذا قللت الشيء أو صغرت أمره: ما كان إلا كلا شيء وإنك ولا شيئا سواء، ومن هذا النحو قول الشاعر وهو أبو الطفيل الغنوي: تركتني حين لا مال أعيش به … وحين جن زمان الناس أو كلبا (¬1) والرفع عربي على قوله: " ... … حين لا مستصرخ " (¬2) و" ... … لا براح " (¬3) والنصب أجود وأكثر من الرفع لأنك إذا قلت: " لا غلام " فهي أكثر من الرافعة التي هي بمعنى ليس. قال الشاعر: حنّت قلوصي حين لا حين محنّ (¬4) وأما قول جرير: ما بال جهلك بعد الحلم والدين … وقد علاك مشيب حين لا حين (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 2/ 90، الأغاني 13/ 109. (¬2) جزء بيت من مشطور الرجز للعجاج، ديوانه ص 459، وأمالي ابن الشجري 1/ 259. وتمامه: بي الجحيم حين لا مستصرخ (¬3) جزء سبق تخريجه. (¬4) نسب البيت للعجاج ولم يرد في ديوانه. في الخزانة 4/ 45، والمقتضب 4/ 358. (¬5) البيت في ديوانه 586، والخزانة 4/ 74.

فإنما هو: " حين حين " و " لا " بمنزلة " ما " إذا ألغيت. واعلم أنه قبيح أن تقول: " مررت برجل لا فارس " حتى تقول: لا فارس ولا شجاع، ومثل ذلك: هذا زيد لا فارسا، لا يحسن حتى تقول: لا فارسا ولا شجاعا؛ وذلك أنه جواب لمن قال أو لمن يجعله ممن قال: أبرجل شجاع مررت أم بفارس؟ ولقوله: أفارس زيدا أم شجاع؟ وقد يجوز على ضعفه في الشعر، قال رجل من بني سلول: وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا … حياتك لا نفع وموتك فاجع (¬1) فكذلك هذه الصفات وما جعلته خبرا للأسماء نحو: زيد لا فارس ولا شجاع. واعلم أن " لا " في الاستفهام تعمل فيما بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر، فمن ذلك قوله وهو حسان بن ثابت الأنصاري. ألا طعان ولا فرسان عادية … إلا تجشّؤكم عند التنانير (¬2) وقال: في مثل: " ألا قماص بالعير؟ " ومن قال لا غلام ولا جارية. قال: ألا غلام؟ وألا جارية؟ واعلم أن " لا " إذا كانت مع ألف الاستفهام ودخل فيها معنى التمني عملت فيما بعدها فنصبته. ولا يحسن لها أن تعمل في هذا الموضع إلا فيما تعمل فيه في الخبر. وتسقط النون والتنوين في التمني كما سقطا في الخبر، فمن ذلك: ألا غلام لي؟ وألا ماء باردا؟ ومن قال: لا ماء بارد. قال: ألا ماء بارد؟ ومن ذلك: ألا أبا لي؟ وألا غلام لي؟ وتقول: ألا غلامين وجاريتين لك كما تقول: لا غلامين وجاريتين لك. وتقول ألا ماء ولبنا؟ كما قلت: لا غلام وجارية لك تجريها مجرى " لا " ناصبة في جميع ما ذكرت لك. وسألت الخليل عن قوله: ألا رجلا جزاه الله خيرا … يدلّ على محصّلة تبيت (¬3) ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 2/ 112، والأشموني 2/ 18. (¬2) البيت في ديوانه 215، والمغني 1/ 68. (¬3) قائل البيت عمرو بن قعاص، انظر: نوادر أبي زيد 56، وابن يعيش 7/ 5، و 9/ 80، الأشموني 2/ 16.

ويروى: محصلة، فزعم أنه ليس على التمني ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلا خيرا من ذلك. كأنه قال: ألا تروني رجلا جزاه الله خيرا؟ وأما يونس فزعم أنه نوّن مضطرا وزعم أن قوله: لا نسب اليوم ولا خلّة (¬1) على الاضطرار. وأما غيره فوجهه على ما ذكرت لك، والذي قال: مذهب، ولا يجوز الرفع في هذا الموضع لأنه ليس بجواب لقوله: أذا عندك أم ذا؟ وليس في ذا الموضع مغني ليس ". وتقول: " ألا ماء وعسلا باردا حلوا " لا يكون في الصفة إلا التنوين؛ لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلت البرد للماء والحلاوة للعسل. ومن قال: " لا غلام أفضل منك " لم يقل في: ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني وصار مستغنيا عن الخبر كاستغناء: اللهم غلاما ومعناه: " اللهم هب لي غلاما ". قال أبو سعيد: ذكر سيبويه في أول هذا الباب أشياء دخلت عليها " لا " ولم تعمل فيها ولم يلزمها التكرير. واعتمد على أن الأشياء التي دخلت عليها " لا " في هذا الباب مبنية على أفعال مضمرة وقد نصبتها. وأن الفعل إذا دخلت عليه " لا " لم يلزم تكرير " لا " بها وللسائل أن يسأل عن السبب الذي من أجله لم يلزم التكرير في الفعل كما لزم في الاسم. قال أبو العباس: " الأفعال وقعت موقع الأسماء النكرات التي تنصبها " لا " وتبنى معها؛ لأن الأفعال في مواضع النكرات، فلذلك لم تحتج إلى تكرير " لا " ولم يجز أن تبني مع " لا " لأنها ليست أسماء. ولو قدرتها تقدير " لا رجل في الدار ولا غلام " لقلت: لا يقوم زيد ولا يقعد. وصارت جوابا لقوله: أيقوم زيد أم يقعد؟ " والذي احتج به أبو العباس لا يصح على موضع أصحابنا لأنهم يقولون: عوامل ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه.

الأسماء لا تدخل على الأفعال. والصحيح عندي: أن " لا " الواقعة على الفعل لا يلزمها التكرير؛ لأنها جواب يمين واليمين قد تقع على فعل واحد مجحود، فلا يجب فيها تكرير " لا " ويمينك واقعة على شيء واحد. ووجه آخر أيضا: وهو أن لا أفعل .. نقيض: " لأفعلن " كقولك: والله لأضربن زيدا نقيضه: لا أضرب زيدا. فمن حيث لم يجب ضم فعل آخر إلى: لأضربن، لم يجب ضم فعل آخر إلى: لا أضرب. وأيضا فإن الفعل قد ينفى " بلم " و " لن " ولا يلزمهما تكرير قولك: لم يقم زيد ولن يخرج أخوك ولا يلزمها تكرير و " لا " مثلهما في أنها تنفي الفعل وإن كانت تختص بجواب التمني. فما كان من ذلك منصوبا فعلى إضمار فعل قد وقع عليه فنصبه، وما كان منه على جهة الخبر فدخول " لا " فيه كدخولها في اليمين كقولك ولا كرامة ولا مسرة، كأنه قال: لا أكرمك كرامة ولا أسرك مسرة. وما كان منه دعاء فهو نقيض فعل الدعاء الذي يحتاج إلى تكرير، كقولك " لا شللا ولا سقيا ولا رعيا ". لأن " لا " دخلت على: شللا وسقيا ورعيا الذي هو دعاء. وما كان من ذلك مرفوعا وفيه معنى الدعاء فهو بهذه المنزلة؛ لأن أصله الفعل ولا يلزمك فيه تثنية " لا " ولا تكريرها كقوله: " لا سلام على عمرو " لأن معناه: لا سلم الله على عمرو ولا بك السوء، وسلام مبتدأ وعلى خبره وجاز الابتداء بنكرة؛ لأن معناه معنى فعل يدعى به. وقوله: " لا بك السوء " " السوء " مبتدأ و " بك " خبره وأصله " بك السوء " ودخلت عليه " لا " لقلب معناه في الدعاء. وقيل فيه وجه آخر: وهو أن يكون " بك " في صلة خبر محذوف، كأنه قال بك السوء واقع، وإنما جاء: سلام عليكم ورَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ (¬1) وما جرى مجراه على لفظ الخبر كما جاء: غفر الله لك ولعن الله فلانا بلفظ الخبر ومعناه معنى الدعاء. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية 73.

وقوله: ولو قبح دخولها هاهنا لقبح في الاسم؛ يعني لو قبح دخول " لا " في قولك: لا أكرمك ولا أسرك لقبح في قولك: ولا كرامة ولا مسرة؛ لأن هذا الاسم يعمل فيه الفعل كما قبح: لا ضربا. إذا أردت: لا اضرب يعني: دخول " لا " على فعل الأمر لا يجوز؛ لأن صيغة الأمر تجري مجرى الإيجاب. وصيغة النهي تجري مجرى الجحد. ألا ترى أنا لو أدخلنا لام الأمر لم يجز أن تدخل معها " لا " التي للنهي ولا " لا " التي للجحد في الخبر. لا تقول: لا ليقم زيد؛ لأنك تصير آمرا ناهيا بحرف النفي، ودخول حرف الأمر كما لا تكون جاحدا الشيء معترفا به، و " لا " التي للخبر لا يصلح دخولها على الأمر فتكون آمرا مخبرا وهذا لا يجوز. وإنما تدخل " لا " التي في الخبر على فعل هو خبر؛ لأن الجحد والإيجاب هما خبران كقولك: أكرمك ولا أكرمك وأسرك ولا أسرك. وقولهم: لا سواء إنما يتكلم به المتكلم عند ادعاء مدع لاثنين جرى ذكرهما أن أحدهما مثل الآخر؛ أي هما سواء فيقول المنكر لمن قال: لا سواء أي هما لا سواء. أو هذان لا سواء، فهذان مبتدأ " وسواء " خبره، ودخلت " لا " لمعنى الجحد واستجازوا حذف المبتدإ لأنهم جعلوا " لا " كافية من المبتدإ لكثرة الكلام عند رد بعضهم على بعض ادعاء التساوي في الشيئين. وشبهه بجعل " ها " عوضا عن واو القسم في: (لا ها الله ذا) وعوض " ها " من الواو أوكد؛ لأن المبتدأ المحذوف يجوز أن يؤتى به فيقال: هذان لا سواء، ولا يجوز أن يؤتى بالواو مع " ها " لأنهم قد غيروا لفظ الكلام في الأصل وترتيبه؛ لأن أصله لا والله هذا ما أقسم به، ثم قدموا " ها " وفصلوا بين حرفي التنبيه والإشارة: " ها " و " ذا " ولو لم تدخل " لا " لم تقل: سواء وأنت تعني: هما سواء. وقولهم: لا نولك أن تفعل كذا هذا هو من التناول للشيء، وهم يريدون به الاختيار، فإذا قالوا: قولك أن تفعل كذا وكذا فمعناه: ينبغي لك أن تفعل كذا، والاختيار لك أن تفعل. " ولا نولك أن تفعل " معناه: لا ينبغي لك أن تفعل، وقد يوقع " قولك " على جميع فعله. ألا ترى أن الأخذ قد يستعمل في جميع الأفعال حتى يقال: فلان لا يأخذ ولا يترك إلا بأمر فلان. ويستعمل في موضع ضد الترك ولهذا صار: نولك بمعنى فعلك؛ لأن التناول بمعنى

الأخذ. وقولك " أخذته بلا ذنب " وغضبت من لا شيء " لا " بمعنى " غير " واستعملت في معنى " غير " لما بينهما من الاشتراك في الجحد؛ لأن " غيرا " مسلوب عنها ما أضيفت إليه. فإذا قلت: مررت بغير صالح، فغير هو الذي مررت به و " صالح " لم تمرر به وقد سلب من (غير) الصلاح الذي هو لما أضيف إليها. فإذا قلت: أخذته بلا ذنب وغضبت من لا شيء فمعناه: أخذته بغير ذنب وغضبت من غير شيء " فغير " مخفوض بحرف الخفض الذي دخل. فإذا جعلت مكان " غير " " لا " ف " لا " حرف لا يقع عليه حرف الخفض، فوقع حرف الخفض على ما بعد " لا ". وعلى هذا: " ما كان إلا كلا شيء " أي: إلا كغير شيء وحين غير مال. ومعنى قوله: أخذته بغير ذنب: لا يراد به: أخذته بشيء هو غير ذنب، وكذلك جئت بغير شيء لا يراد به: جئت بشيء هو غير شيء. وإنما يراد به: جئت خاليا من شيء معك. وهذا معنى قوله: رائقا لأن الرائق: الخالي واشتقاقه من راق الشراب أي صفا، كأنه جاء ولم يعبق به شيء سوى نفسه. وقوله: " حين لا حين محن " " حين " منصوب " بلا " كقوله: لا مثل زيد ولا غلام رجل، وخبره محذوف وهي جملة. وحين الأولى مضاف إليها كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل وتقديره: لا حين محن لنا و " لنا " هو الخبر. وأما: " حين لا حين " فحين الأولى مضاف إلى الثاني و " لا " فيها فصلت بين الخافض والمخفوض كفصلها في: " جئت بلا شيء " و " غضبت من لا شيء " كأنه قال: حين لا حين فيه لهو ولعب. أو نحو ذلك من الإضمار، وهو قبل دخول " لا " تقديره: حين حين فيه لهو ولعب. وقوله: حياتك لا نفع، فهو عند سيبويه ضعيف؛ لأنه لم يكرر على ما تقدم من حكم تكريرها وتثنيتها. قال أبو العباس محمد بن يزيد: لا أرى بأسا أن تقول: لا رجل في الدار، وتجعله جواب قوله: هل رجل في الدار، وجائز أن يكون لرجل واحد وجائز أن يكون في موضع جميع كما كان في " هل " كذلك. ألا ترى أن قوله: لا رجل في الدار لا يكون إلا في موضع جميع؛ لأنه جواب: هل من رجل في الدار؟ وقوله:

حياتك لا نفع .. من ذلك على غير ضرورة. وأما البيت المنسوب إلى حسان بن ثابت في الكتاب الذي أوله: ألا طعان ولا فرسان عادية (¬1) فذكر الجرمي أن البيت لعصام الزماني. وقال أبو سعيد: في قولهم " ألا قماص بالعير " يضرب مثلا للرجل العيي الذي لا حراك به. وإذا دخلت الألف قبل " لا " فلها مذهبان: أحدهما: أن تكون استفهاما أو عرضا. والآخر: أن تكون تمنيا. فإذا كان استفهاما كان لفظ ما بعد " إلا " وما يكون عطفا عليه أو صفة له أو خبرا له على ما كان عليه من قبل دخولها من الرفع والنصب والإضافة إلى اللام في التثنية وفي " لا أبا لك " ونحوه. وإن كان تمنيا فعلى مذهب سيبويه لا يجوز فيه الرفع على الصفة ولا على العطف للذي يقول: لا غلام أفضل منك؛ لأنه يدخله معنى التمني ويصير مستغنيا كما استغنى اللهم غلاما، ومعناه معنى المفعول. وعلى قول المازني أن الحروف الداخلة على " لا " لا تغير حكم اللفظ فيما بعد " لا " ولها خبر مظهر أو مضمر كما كان لفظها قبل دخول الألف والجملة يراد بها التمني كما يراد بالاستفهام التقرير. ألا ترى أنك تدخل في الاستفهام الذي يراد به التقرير الباء الزائدة التي لا تزاد إلا في الجحد، ألا تسمع إلى قوله تعالى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (¬2). فأدخل الباء وإنما دخلت الباء أولا على خبر ليس قبل دخول ألف الاستفهام على ما يجوز في الجحد من دخول الباء الزائدة، فدخلت ألف الاستفهام وأريد بالكلام كله التقرير. وأما ما يلي " لا " فلا خلاف بينهم أن اللفظ على ما كان عليه قبل " لا " من النصب ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه (¬2) سورة القيامة، من الآية: 40.

هذا باب الاستثناء

وبناء الاسم مع " لا ". وقوله: ألا ماء وعسلا باردا حلوا فتقديره: ألا ماء باردا وعسلا حلوا. ولم يجز بناء " ماء " مع باردا لفصل " عسل " بينهما، فوجب التنوين في " باردا " من أجل ذلك. هذا باب الاستثناء " فحرف الاستثناء " إلا " وما جاء من الأسماء فيه معنى " إلا " وما جاء من الأفعال فيه معنى " إلا " فلا يكون " وليس " وما عدا " وخلا " وما فيه ذلك من المعنى من حروف الإضافة وليس باسم " فحاشا " " وخلا " في بعض اللغات. وسأبين لك أحوال هذه الحروف إن شاء الله الأول فالأول ". قال أبو سعيد: هذه الحروف متصلة في الأبواب التي تأتي. وأنا أفسّر كل واحد منها في موضعه إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يكون استثناء " بإلا " اعلم أن " إلا " يكون الاسم بعدها على وجهين:- فأحد الوجهين: ألا تغير الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق وكذلك " إلا " ولكنها تجيء لمعنى. كما تجيء " لا " لمعنى. والوجه الآخر: أن يكون فيه الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه ما قبله عاملا فيه ما قبله من الكلام. كما تعمل " عشرون " فيما بعدها إذا قلت: " عشرون درهما ". فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق " إلا " فهو أن تدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه. وذلك قولك: ما أتاني إلا زيد. وما لقيت إلا زيدا. وما مررت إلا بزيد. تجري الاسم مجراه إذا قلت ما أتاني زيد. وما لقيت زيدا. وما مررت بزيد. ولكنك أدخلت " إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفى ما سواها. فصارت هذه الأسماء مستثناة. فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق " إلا ". لأنها بعد " إلا " محمولة على ما يجر ويرفع وينصب كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق " إلا " ولم تشغل عنها قبل أن تلحق " إلا " الفعل بغيرها ". قال أبو سعيد: " إلا " أم حروف الاستثناء. والاستثناء: هو إخراج الشيء مما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما. أو إدخال فيما خرج عنه هو وغيره بلفظ شامل لهما. وقسم سيبويه الاسم الذي بعد " إلا " على وجهين:

هذا باب ما يكون المستثنى فيه بدلا مما نفي عنه ما أدخل فيه

أحدهما: أن لا يتغيّر عما كان عليه قبل دخولها. والآخر: يتغير عما كان عليه قبل دخولها. وأفرد هذا الباب بالاسم الذي تدخل عليه " إلا " فلا تغيره عما كان عليه. وذلك كل ما كان فيه ما قبل " إلا " محتاجا إلى ما بعده. وذلك قولك: ما أتاني إلا زيد. وما لقيت إلا زيدا، وما مررت إلا بزيد، ثم جعل أبوابا يختلف فيها حكم الأسماء بعدها. وستقف على واحد واحد منها إن شاء الله. قال أبو سعيد: وقد سمي هذا الباب استثناء ولم يذكر المستثنى منه. ولقائل أن يقول كيف جاز أن يستثني الشيء من لا شيء؟ فيقال له: هذا. وإن حذف واعتمد لفظ ما قبل حرف الاستثناء على الاسم الذي بعده في العمل فلا يخرجه ذلك من معنى الاستثناء. كما أن الفعل إذا حذف فاعله وبني للمفعول فرفع به وقيل: ضرب زيد. وقتل عمرو. لم يخرجه ذلك من أن يكن مفعولا. لأنه قد أحاط العلم أن فعلا وقع به من فاعل ثم حذف الفاعل واحتيج إلى بناء الفعل للمفعول فرفع به ... وكذلك لما حضر حرف الاستثناء الذي يدل على ما بعده يثبت له ما ينفى عن كل ما سواه لأنه لما قيل: " ما قام إلا زيد ". فعلم أن القيام أثبت لزيد وحده ونفي عن غيره، وكان ذكر ما نفي عنه القيام وتركه في المعنى سواء. بقي تصحيح اللفظ عند حذفه: وتصحيح اللفظ: ألا يعرى الفعل من فاعل. وليس في الكلام فاعل سوى ما بعد " إلا " فجعل فاعله. فإن قال قائل: إذا كان الغرض إثبات الفعل لما بعد " إلا " فكأنه يكفي من ذلك أن يؤتى بفعل وفاعل فيقال: قام زيد وذهب عمرو ولا يؤتى بحرف الاستثناء؟ قيل له: في ذكر الاستثناء فائدتان: أحدهما: إثبات الفعل لما بعد " إلا ". والأخرى: نفيه عمن سواه. لأن قولك: قام زيد " وذهب عمرو " ليس فيه دلالة على أن " غير " زيد " لم يقم وغير عمرو لم يذهب. والله أعلم. هذا باب ما يكون المستثنى فيه بدلا مما نفي عنه ما أدخل فيه " وذلك قولك: ما أتاني أحد إلا زيد، وما مررت بأحد إلا عمرو، وما رأيت أحدا إلا عمرا. جعلت المستثنى بدلا من الأول فكأنك قلت: ما مررت إلا بزيد. وما

لقيت إلا زيدا، كما أنك إذا قلت: مررت برجل زيد. فكأنك قلت: مررت بزيد. فهذا وجه الكلام. أن تجعل المستثنى بدلا من الذي قبله؛ لأنك تدخله فيما أخرجت منه الأول، ومن ذلك قولك: " ما أتاني القوم إلا عمرو " وما فيها القوم إلا زيد. وليس فيها القوم إلا أخوك. وما مررت بالقوم إلا أخيك، فالقوم هاهنا بمنزلة أحد. ومن قال: ما أتاني القوم إلا أباك. لأنه بمنزلة قوله أتاني القوم إلا أباك. فإنه ينبغي له أن يقول: " ما فعلوه إلا قليلا منهم " وحدثني يونس: أن أبا عمرو كان يقول: الوجه: ما أتاني القوم إلا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة " أتاني القوم " لما جاز أن تقول ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أن تقول أتاني أحد، ولكن المستثنى في ذا الموضع مبدل من الاسم الأول، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ (¬1) ولكان ينبغي له أن يقول: ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيد؛ لأنه ذكر واحدا. ومن ذلك أيضا: " ما منهم أحد اتخذت عنده يدا إلا زيد " وما منهم خير إلا زيد، إذا كان زيد هو الخبر. وتقول: ما مررت بأحد يقول ذاك إلا عبد الله، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. هذا هو وجه الكلام. وإن حملته على الإضمار الذي في الفعل فقلت: " ما رأيت أحدا يقول ذلك إلا زيد " فعربي. قال عدي بن زيد: في ليلة لا نرى بها أحدا … يحكي علينا إلا كواكبها (¬2) وكذلك: " ما أظن أحدا يقول ذلك إلا زيدا. وإن رفعت فجائز حسن. وكذا: ما علمت أحدا يقول ذاك إلا زيدا، وإن شئت رفعت. وإنما اختير النصب هاهنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدل منه، وأن لا يكون بدلا إلا من منفي، والمبدل منه منصوب منفي ومضمره مرفوع. فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلا منه؛ لأنه هو المنفي وهذا وصف أو خبر. ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية 6. (¬2) البيت في ديوانه 194، والخزانة 2/ 12، وفيه نسب إلى أحيحة بن الجلاح الأنصاري.

وقد تكلموا بالآخر؛ لأن معناه النفي، إذا كان وصفا لمنفي، كما قالوا قد عرفت زيدا أبو من هو؟ لما ذكرت لك؛ لأن معناه معنى المستفهم عنه. وقد يجوز ما أظن أحدا فيها إلا زيدا. ولا أحد منهم اتخذت عنده يدا إلا زيد على قوله: " إلا كواكبها ". وتقول: ما ضربت أحدا يقول ذاك إلا زيد، لا يكون في ذا إلا النصب؛ وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلك. ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذاك إلا زيد. ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا. والمعنى في الأول: أنك أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيدا، ولكنك قلت: رأيت أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذاك فيما رأيت وفيما ظننت. ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت. قال الخليل: ألا ترى أنك تقول: " ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما أظنه يقوله إلا عمرو " فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القوم ولم ترد أن تجعل عبد الله موضع فعل كضربت وقتلت، ولكنه فعل بمنزلة " ليس " يجيء لمعنى، وإنما يدل على ما في علمك. وتقول: " أقل رجل يقول ذاك إلا زيد " لأنه صار في معنى: ما أحد فيها إلا زيد. وتقول: " قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد " فليس زيد بدلا من الرجل في أقل ... ولكن قلّ رجل في موضع " أقل رجل " ومعناه كمعناه. وأقل رجل: مبتدأ مبني عليه. والمستثنى بدل منه. لأنك تدخله في شيء يخرج منه من سواه. وكذلك: أقل من يقول ذلك وقلّ من يقول ذلك، إذا جعلت " من " بمنزلة رجل. حدثنا بذلك يونس عن العرب أنهم يجعلونه نكرة كما قال: ربما تكره النفوس من الأم … ر له فرجة كحلّ العقال (¬1) ويروى: تجزع النفوس فجعل " ما " نكرة ". قال أبو سعيد: الذي جعله سيبويه بدلا في أول هذا الكتاب من قوله: ما أتاني أحد إلا زيد. وما مررت بأحد إلا عمرو، جعله الكسائي والفراء عطفا. ¬

_ (¬1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 50، ومعجم الأدباء 1/ 186، ومعجم الشعراء 72.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: فكيف يكون بدلا والأول منفي وما بعد " إلا " موجب؟ فالجواب عما قاله أحمد بن يحيى: أنه بدل منه في عمل العامل فيه وذاك أنا إذا قلنا: ما أتاني أحد. فالرافع " لأحد " هو " أتاني " أيضا فكل واحد من " أحد " و " زيد " يرتفع ب " أتاني " إذا فرد به. فإذا ذكرناهما جميعا فلا بد من أن يكون الأول منهما يرتفع بالفعل؛ لأنه يتصل به. ويكون الثاني تابعا له. كما يتبعه إذا قلنا: جاءني أخوك زيد. لا يقال: زيد فاعل؛ لأن أخوك باتصاله بالفعل صار فاعلا، وزيد بدل منه، وأما اختلافهما في النفي والإيجاب فلا يخرجهما عن البدل؛ لأن مذهب البدل في ذلك أن تقدر الأول في تقدير ما لم يذكر. والثاني في موضعه الذي رتب فيه. فإن كان الفعل الذي ارتفع به الأول إذا لم يذكر الأول عمل في الثاني في موضعه الذي رتب فيه علمنا متى ذكر أن الثاني بدل منه؛ لأن الفاعل لا يكون أكثر من واحد. وقد يقع في العطف والصفة ما يكون الأول موجبا والثاني منفيّا. فأما العطف: فجاءني زيد لا عمرو. ومررت بزيد لا عمرو، فالأول موجب والثاني منفيّا، واختلفا في النفي والإيجاب لدخول " لا " بينهما وأحدهما معطوف على الآخر. وتقول في الصفة: " مررت برجل لا كريم ولا لبيب " " فكريم " خفض لأنه صفة لرجل وأحدهما موجب والآخر منفي، وقد يجوز النصب فيما يختار فيه البدل. كقولك: ما أتاني أحد إلا زيدا: وما مررت بأحد إلا زيدا ". وإنما اختير البدل؛ لأن البدل والاستثناء في المعنى واحد. وفي البدل فضل موافقة ما قبل " إلا " لما بعدها في اللفظ، ويقويه أيضا: إجماع القراء والمصاحف على: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ (¬1) إلا أهل الشام ومصحفهم. فإنهم قرأوا: " إلا قليلا منهم " وكذلك هو في مصحفهم وقرأ القراء وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ (¬2). وحكى سيبويه عمن لم يسمعه من النحويين: أن المنفي إذا جاز في لفظه الإيجاب لم يجز فيه البدل، ولم يكن غير النصب كقولك: ما أتاني القوم إلا أباك؛ لأنه بمنزلة: " أتاني القوم لا أباك ". ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية 66. (¬2) سورة النور، من الآية 6.

والقول الذي ذهب إليه سيبويه هو الصحيح وشاهده القرآن والقياس. فأما القرآن فقوله عز وجل: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] فرفع. وفعلوه يقع في الإيجاب، وأما القياس: فإنه قد أحاط العلم أنا إذا قلنا: " ما أتاني أحد " فقد دخل فيه القوم وغيرهم. فإنما ذكرنا في بعض ما اشتمل عليه أحد مما يستثنى بعضه. وقد احتج عليهم سيبويه ببعض ما ذكرناه. وبأن قال: كان ينبغي لمن قال ذلك أن يقول: " ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيد ". والصواب: نصب زيد. " ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا ". لأنك لما قلت: ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك، صار الكلام موجبا لما استثني من المنفي. وكأنه قال: كلهم قالوا ذاك. فاستثنى " زيدا " من شيء موجب في الحكم فنصب. وإنما ذكر هذا لأنه ألزم القائل بما ذكر من جواز " ما أتاني أحد إلا زيد " ومنع: " ما أتاني القوم إلا زيدا " بأن قال: إن كان وجوب النصب لأن الذي قبل " إلا " جمع فقد قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النور: 6] فرفع بعد الجمع. وإن كان جواز الرفع والبدل لأن الذي قبل " إلا " واحد فينبغي أن يجيزوا الرفع في قولهم: ما أتاني أحد إلا قال ذاك إلا زيد " والواجب فيه النصب. وإنما ألجأهم سيبويه إلى أن يقولوا: إن الذي يوجب البدل أن يكون ما قبل " إلا " منفيّا فقط، جمعا كان أو واحدا. وذكر سيبويه في النفي ما يكون له اسم ظاهر واسم مكني متعلقان بعاملين مختلفين. فيجوز البدل من أي الاسمين شئت، ولم يجز في بعضه البدل إلا من أحد الاسمين دون الآخر. فأما الذي يجوز فيه البدل من أي الاسمين شئت فهو الذي كل واحد من عاملي الاسمين مجحود في المعنى. وأما الذي لا يكون البدل إلا من أحد الاسمين فهو الذي عامل أحد الاسمين مجحود وعامل الآخر غير مجحود، فتبدل من الاسم الذي عامله مجحود دون الآخر. فمما يبدل من الاسمين فيه قوله: ما منهم أحد اتخذت عنده يدا إلا زيد " ويجوز خفض " زيد " فرفعه على أن تبدل من " أحد " وخفضه على أن تبدله من الهاء في عنده؛ لأن المعنى: ما اتخذت عند أحد يدا إلا زيد. وكذلك: كل مبتدإ دخل عليه حرف الجحد ثم وقع على ضميره شيء من خبره كان لك أن تبدل منه أو من ضميره كقولك: " ما أحد منهم ضربته إلا زيد وإلا زيدا " وما

أحد منهم مررت به إلا زيد وإلا زيدا " لأن المرور في المعنى مجحود ومعناه: ما مررت بأحد منهم إلا زيد ". وتقول: " ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا " على البدل من " أحد " وهو أجود. ويجوز الرفع على البدل من الضمير الذي في " يقول ". و" رأيت " بمعنى: علمت. وإنما دخل على مبتدإ وخبر وما كان من أفعال الظن والعلم الذي يقع على مفعولين، فالمعتمد بالنفي والإثبات هو المفعول الثاني. فصار كأنه قال ما يقول ذاك أحد فيما رأيت إلا زيد " وأحد " بمنزلة الضمير الذي في " يقول " حين قلت " ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيد " وقوله: في ليلة لا نرى بها أحدا … يحكي علينا إلا كواكبها (¬1) الشاهد فيه: أنه أبدل " كواكبها " من الضمير في " يحكي " لأن أحدا كأنه مبتدأ وإن وقعت عليه الرؤية وهي رؤية القلب، وكأنه قال: لا يحكي علينا أحد إلا كواكبها. وقد عرفتك أن ما وقع على ضمير الاسم المبتدإ المجحود وخبره. بمنزلة المجحود. وما وقع على المبتدإ والخبر من أفعال الظن والعلم لا يخرجه عن ذلك الحكم. والاختيار أن يكون البدل من الاسم الأول الذي وقع عليه حرف النفي؛ لأن البدل منه محمول على اللفظ. والآخر محمول على المعنى. والحمل على اللفظ هو الظاهر من الكلام. ومن ذلك: ما أظن أحدا فيها إلا زيدا، هو الأجود؛ لأنه بدل من اللفظ. ويجوز: إلا زيد بالرفع بدل من الضمير في " فيها "؛ لأن معناه: استقر ". وفي " استقر " ضمير فاعل. والبدل منه هو المقصود بالنفي. وهو ضمير " أحد " الذي وقع عليه الظن. وأحد في معنى مبتدإ؛ لأن الظن قد يلغى. ومما قوى سيبويه به البدل من الاسمين في أفعال الظن والعلم في النفي أنك تقول ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما أظنه يقوله إلا عمرو. وذلك أن الهاء ضمير الأمر والشأن. ورأيت بمعنى علمت، والاعتماد على ما بعد رأيته وأظنه فكأنه قال: ما يقول ذاك زيد. فهذا يدل على جواز البدل من الضمير الذي في " يقول " من قوله: " ما ظننت أحدا يقول ذاك إلا زيد ". وأما ما لا يبدل إلا من اسم واحد وقع عليه لفظ النفي فقولك: ما ضربت أحدا ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه.

يقول ذاك إلا زيدا، لا يكون فيه إلا النصب؛ لأن الضرب هو المنفي في المعنى والقول ليس بمنفي ... ألا ترى أنك تقول: " ما أوذي أحدا يوحد الله تعالى " وقد علم أنه لم يقصد إلى نفي من يوحد الله. وإنما نفي أداة لهم، فلم يجز البدل إلا من " أحد " لأنه هو الذي وقع به الفعل المنفي وهو الأذى. وقوله: " أقل رجل يقول ذاك إلا زيد " لا يصح البدل من لفظه؛ لأنا إن أبدلنا " زيدا " من " أقل رجل " لطرحناه في التقدير فبقي: " يقول ذاك إلا زيد " وهذا لا يصح ولكنا نرده إلى معناه ونفصّله بما يصح معه البدل. " وأقل " ينصرف على معنيين. أحدهما: النفي العام. والآخر: ضد الكثرة. فإذا أريد النفي العام جعل تقديره: ما رجل يقول ذاك إلا زيد. كما تقول: " ما أحد يقول ذاك غلا زيد ". وإن أريد به ضد الكثرة فتقديره: " ما يقول ذاك كثير إلا زيد " ومعناهما يؤول إلى شيء واحد؛ لأنه إذا أبدل زيدا في الاستثناء فقد أبطل الذي قبله، فكأنه يقول: " ما يقول ذاك إلا زيد، ألا ترى أنه إذا قال: " ما أتاني القوم إلا زيد " فكأنه قال: ما أتاني أحد منهم إلا زيد. وقوله وكذلك " أقل من " " وقلّ من " إذا جعلت من نكرة بمنزلة " رجل " فإن " من " إذا كانت بمنزلة " رجل " لزمته الصفة، فإذا قلت: أقل من يقول ذاك، صار يقول ذاك " صفة لمن " ويبقى " أقل " بلا خبر. وإذا قلت: أقل رجل يقول ذاك " فرجل " غير محتاج إلى صفة. " ويقول ذاك " خبر " أقل ". و " زيد " بدل من " أقل " كما ذكرنا. وأقل من يقول ذاك، لم يتم به الكلام، وتمامه في قولك: " إلا زيد " فيصير بمنزلة " ما أخوك إلا زيد ". وأما " قول من يقول ذاك " فهذا كلام تام؛ لأنه فعل وفاعل. فإن قال قائل: لم أبدلت العرب من المنفي ولم تبدل من الموجب فيقال: أتاني القوم إلا زيد؟ قيل له: لأن المنفي يصح حذف الاسم المبدل منه قبل " إلا " ولا يصح ذلك في الموجب. لا يقال: أتاني إلا زيد. وإنما جاز: ما أتاني إلا زيد .. ولم يجز " أتاني إلا زيد " لأن النفي الذي قبل إلا قد وقع على ما لا يجوز إثباته من الأشياء المتضادة. ولا يجوز إثبات ما يتضاد.

هذا باب ما حمل على موضع العامل في الاسم والاسم لا على ما عمل في الاسم ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب

فإذا قلنا: " ما أتاني إلا زيد " فكأنك قلت: ما أتاني رجل وحده ولا رجلان مجتمعون ولا متفرقون، فإذا ثبتنا على هذا الحد فقلنا أتاني إلا زيد. فقد أوجبت إتيان الناس كلهم على هذه الأحوال المتضادة، وذلك لا يجوز ولا يقصد. وبذلك على الفرق بينهما: أنك تقول: " ما زيد إلا قائم " فتنفي عنه القعود والاضطجاع. ولا تقول: زيد إلا قائم، فتوجب له حال إلا القيام. وهذا محال لاجتماع القعود والاصطجاع فيما توجبه له. فتأمل ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما حمل على موضع العامل في الاسم والاسم لا على ما عمل في الاسم ولكن الاسم وما عمل فيه في موضع اسم مرفوع أو منصوب وذلك قولك: ما أتاني من أحد إلا زيد و " ما رأيت من أحد إلا زيدا " فإنما منعك أن تحمل الكلام على من أنه خلف أن تقول: " ما أتاني إلا من زيد ". فلما كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلا منه، فكأنك قلت: ما أتاني أحد إلا فلانا؛ لأن معنى " ما أتاني أحد " و " ما أتاني من أحد " واحد. ولكن من دخلت هاهنا توكيدا كما تدخل الباء في قولك: كفى بالشيب والإسلام وفي: " ما أنت بفاعل " و " لست بفاعل ". ومثل ذاك: " ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به " من قبل أن " بشيء " في موضع رفع في لغة بني تميم. فلما قبح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع وبشيء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب، ولكنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به، استوت اللغتان وصارت " ما " على أقيس اللغتين. لأنك إذا قلت: ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به فكأنك قلت: ما أنت إلا شيء لا يعبأ به. وتقول: لست بشيء إلا شيئا لا يعبأ به كأنك قلت: لست إلا شيئا لا يعبأ به. والباء هاهنا بمنزلتها فيما قال الشاعر: يا بني لبيني لستما بيد … إلا يدا ليست لها عضد (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لأوس بن حجر، والرواية في ديوانه ص 4: أبني لبيني. وانظر: ابن يعيش 2/ 90، والمقتضب 4/ 421.

ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم: لا أحد فيها إلا عبد الله، ف " لا أحد " في موضع اسم مبتدإ وهي هاهنا بمنزلة " من أحد " في: " ما أتاني ... ". ألا ترى أنك تقول: ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد، من قبل أنه خلف أن تحمل المعرفة على " من " في ذا الموضع، كما تقول: لا أحد فيها لا زيد ولا عمرو؛ لأن المعرفة لا تحمل على " لا ". وذلك أن هذا الكلام جواب لقوله: هل من أحد أو هل أتاك من أحد. وتقول: لا أحد رأيته إلا زيد، إذا بنيت " رأيته " على الأول كأنك قلت: لا أحد مرئيّ. وإن جعلت " رأيته " صفة فكذلك كأنك قلت: لا أحد مرئيّا. وتقول: ما فيها إلا زيد. وما علمت أن فيها إلا زيدا، فإن قلبته فجعلته بلا " أن " و " ما " في لغة أهل الحجاز قبح ولم يجز؛ لأنهما ليستا بفعلين. فيحتمل قلبهما. كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير. ولم يجز ما أنت إلا ذاهبا ولكنه لما طال الكلام قوي واحتمل ذلك كأشياء تجوز في الكلام إذا طال وتزداد حسنا. وسترى ذلك إن شاء الله، ومنها ما قد مضى. وتقول: " إن أحدا لا يقول ذاك " وهو ضعيف خبيث؛ لأن " أحدا " لا يستعمل في الواجب. وإنما نفيت بعد ما أوجبت، ولكنه قد احتمل حيث كان معناه النفي كما جاز في كلامهم " قد عرفت زيد أبو من هو " حيث كان معناه: أبو من زيد. فمن أجاز هذا قال: " إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا " كما أنه يقول على الجواب: " رأيت أحدا لا يقول ذاك إلا زيد ". يصير هذا بمنزلة: ما أعلم أن أحدا يقول ذاك. كما صار هذا بمنزلة: ما رأيت ... حيث دخله معنى النفي. وإن شئت قلت: إلا زيد، فحملته على " يقول " كما جاز: يحكي علينا إلا كواكبها (¬1) كقولك: لا أحد فيها إلا زيد. وأقل رجل رأيته إلا عمرو؛ لأن هذا الموضع إنما ابتدئ مع معنى النفي، وهذا موضع إيجاب، وإنما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء حين وقع منفيّا. ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم تقل: أقل رجل ولا: قلّ رجل؛ لأن الاستثناء لا بد له هاهنا من النفي ويجوز أن يحمل على إنّ هنا. حيث صارت " أحد " كأنها منفية ". ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

قال أبو سعيد: ما كان من الحروف يخص بالجحد فلا يجوز دخوله على الموجب ولا تعليق الموجب به. فإذا قلت: ما أتاني من أحد إلا زيد لم يجز خفض زيد؛ لأن خفضه بمن، ولا يجوز دخول " من " هذه على الموجب ولا تعليق الموجب بها. وإنما دخلت في النفي على نكرة لنقله من معنى الواحد إلى معنى الجنس. ولو كانت " من " التي تدخل على المنفي والموجب لجاز خفض ما بعد " إلا " بها. كقولك ما أخذت من أحد إلا زيد. لأن " من " إذا كانت في صلة الأخذ دخلت على المنفي والموجب. ومثل الأول: " ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به " لأن هذه الباء لا تدخل إلا على منفي لتأكيد الجحد، ولا يجوز: " ما أنت بشيء إلا شيء " لأن ما بعد " إلا " موجب إذا كان قبله جحد. فإذا كانت الباء في صلة شيء يستوي فيه المنفي والموجب جاز حمل ما بعد " إلا " عليها كقولك: ما مررت بأحد إلا زيد، وإذا لم يجز حمله على الخافض فيما ذكرنا حمل على موضعه، ولو لم يكن الخافض. تقول: " ما أتاني من أحد إلا زيد " و " ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به ". لأن " من " لو لم تدخل لقلت: ما أتاني أحد إلا زيد. وكذلك: ما أنت شيئا إلا شيء لا يعبأ به. وتقول: وما كان زيد بغلام إلا غلاما صالحا. ولو حذفت الاسم المستثنى منه من الأول لقلت: " ما أتاني إلا زيد " و " ما أنت إلا شيء لا يعبأ به " و " لست إلا شيئا لا يعبأ به ". وما كان زيد إلا غلاما صالحا. وقال الكوفيون: يجوز فيما بعد " إلا " الخفض في النكرة ولا يجوز في المعرفة. فأجازوا: ما أتاني من أحد إلا رجل، وما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به. ولم يجيزوا: إلا زيد. ولم يجيزوا: ما أنت بشيء إلا الشيء التافه. والحجة عليهم ما ذكرناه من أن حروف الخفض في هذين الموضعين إنما دخلت من أجل النفي، فإنه لا يتعلق بالموجب وما بعد إلا موجب. وقد أقروا بأن المعرفة بعد " إلا " في ذلك لا تخفض وما أقروا به من ذلك حجة عليهم، فبما أنكروا إذ لا فرق بينهما. وكذلك قوله: " لا إله إلا الله ". و " لا أحد فيها إلا زيد " لا يجوز حمل ما بعد " إلا " على النصب الذي توجبه " لا " النافية. لأن " لا " إنما تعمل في منفي وما بعد " إلا " موجب وليس بصفة له ولا عطف عليه فيتبعه في لفظه.

ويجوز أن تقول: لا أحد فيها إلا زيدا؛ لأن الكلام قبل " إلا " تام لو اقتصر عليه. وقوله: ما علمت أن فيها إلا زيدا: إنما جاز ذلك لأنك تقول: ما علمت أن فيها زيدا. بمعنى واحد. فمن حيث جاز: ما علمت فيها إلا زيدا " جاز ما علمت أن فيها إلا زيدا. لأن " أن " للتوكيد والناصب لزيد في " ما علمت فيها إلا زيدا " علمت. و " في ما علمت أن فيها إلا زيدا " أن. ولو قلت: ما علمت أن إلا زيدا فيها، لم يجز. وذلك أن الاستثناء لا يجوز أن يكون في أول الكلام، لا تقول: إلا زيدا قام القوم. وكذلك لا يجوز الاستثناء بعد حرف يدخل على جملة ولا يلي الحرف " إلا ". وقد فرع النحويون على ذلك مسائل، فقالوا: كيف إلا زيدا إخوتك. جيد. وأين إلا زيدا إخوتك. جيد. ومن إلا زيدا إخوتك. جيد. ولو قلت: " هل إلا زيدا عندك أحد. و " ما إلا زيدا عندك أحد: كان خطأ. والفرق بينهما: أن " أين " و " كيف " و " من " أخبار ينعقد الكلام بها. و " هل " و " ما " لا ينعقد بهما شيء، وإسقاطهما لا يبطل الكلام. ولو قلت: هل عندك إلا زيدا أحد. وما عندك إلا زيدا أحد. جاز لأن " عندك " خبر. " فإن " بمنزلة " هل " و " ما " لا يجوز أن يليها حرف الاستثناء. وقوله: إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا " هو كلام قبيح. كان القياس فيه أن لا يجوز لأن " إنّ " للإيجاب و " أحد " لغير الإيجاب. ولكنهم أجازوه للنفي الذي بعده لما كان معنى الكلام يؤول إلى المنفي. ومثله: " قد عرفت زيد أبو من هو " أبطل عمل " عرفت " في " زيد " وليس قبله حرف استفهام للاستفهام الذي بعده. وكذلك وقع " أحد " في موضع إيجاب للجحد الذي أتى بعده في قولك: إن أحد لا يقول ذاك، فيصير كأنك قلت: ما أحد يقول ذاك. فإذا نصبت " زيدا " بعد " إلا " فنصبه محمول على " إن " لأنها لما عملت في " أحد " صارت كأنها حرف جحد بعده فعل مجحود، نحو: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا. ويجوز رفعه حملا على الضمير الذي في " يقول ذاك " كما جاز الرفع في قولك: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا وإلا زيد ".

هذا باب النصب فيما يكون مستثنى مبدلا

وقوله: " يصير هذا ". يعني: يصير: إن أحدا لا يقول هذا، ما أعلم أن أحد يقول ذاك ". كما صار هذا، يعني: كما صار: رأيت .. حيث دخله معنى النفي. وقوله: فليس هذا في القوة كقولك: لا أحد إلا زيد " وأقل رجل رأيته إلا عمرو " يعني ليس قولك " إن أحد لا يقول ذاك " في القوة كقولك: " لا أحد " و " أقل رجل "؛ لأن هذا الموضع إنما ابتديء به مع معنى النفي- يعني: لا أحد وأقل رجل، ابتديء بالنفي- وهذا موضع إيجاب، يعني: إن أحدا لا يقول ذلك. وقوله: " فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء "، يعني: فجاز في " لا أحد إلا زيدا " وأقل رجل رأيته إلا عمرو، والبدل من الابتداء. لأن " لا أحد " في موضع اسم مبتدإ. وقوله: " لا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم تقل: أقل رجل. و " لا رجل " يعني لا تقول: " إلا زيد أقل رجل رأيته ". ولا تقول " إلا زيدا لا رجل في الدار ". لأنه لا بد له من أن يتقدمه نفي فيجوز من أجله البدل. والكلام المتقدم: " لا أحد إلا زيد " وأعاده هنا. " ولا رجل " وهو يعني المثال الذي قدمه في لا أحد إلا زيد و " أقل رجل رأيته إلا عمرو " والمعنى واحد. وقوله: وجاز أن تحمل على " أن " " هنا " يعني في قوله: إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا " و " ما علمت أن أحدا يقول ذاك إلا زيدا " تحمل " زيدا " في النصب على " أن " في النصب وتجعل " إن " و " أن " بمنزلة فعل منفي نصب زيدا بعد " إلا " كقولك: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا ". والله أعلم. هذا باب النصب فيما يكون مستثنى مبدلا حدثنا يونس وعيسى بذلك جميعا. أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول: ما مررت بأحد إلا زيدا. وما أتاني أحد إلا زيدا. وعلى هذا: " ما رأيت أحدا إلا زيدا " فتنصب زيدا على غير " رأيت " وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول ولكنك جعلته منقطعا فيما عمل في الأول. والدليل على ذلك: أنه يجيء على معنى " ولكن زيدا " ولا أعني زيدا، وعمل فيه ما قبله كما عمل " العشرين " في الدرهم " إذا قلت: عشرون درهما. ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفلان (والله) مالا إلا أنه شقي فإنه لا يكون أبدا على: " إن لفلان " وهو في موضع نصب وجاء على معنى: ولكنه شقي ".

قال أبو سعيد: اختلف النحويون في الناصب للمستثنى في قولنا: أتاني القوم إلا زيدا، فأما ما قاله سيبويه في أبواب من الاستثناء أنه يعمل فيه ما قبله من الكلام كما تعمل " عشرون " فيما بعدها إذا قلت " عشرون درهما ". وقد قال في هذا الباب: " وعلى هذا ما رأيت أحدا إلا زيدا. تنصب " زيدا " على غير رأيت، وبعده: والدليل على ذلك أنه يجئ على معنى ولكن زيدا ولا أعني زيدا. وكذلك في آخر هذا الباب: " إن لفلان مالا إلا أنه شقي " فإنه لا يكون أبدا على: إن لفلان. وهو في موضع نصب وجاء على معنى " ولكنه شقي ". وقد كشف سيبويه ذلك بأبين مما تقدم. وهو قوله في باب " غير ": " ولو جاز أن تقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر " إلا " لما كان نصبا. ". قال أبو سعيد: والذي يوجبه القياس والنظر الصحيح أن تنصب زيدا بالفعل الذي قبل " إلا ". وذلك: أن الفعل ينصب كل ما تعلق به بعد ارتفاع الفاعل به. على اختلاف وجوه المنصوبات به وكل منصوب به. فمن ذلك المفعول الصحيح كقولك: " ضربت زيدا، والمصدر، والظرف من الزمان والمكان، والحال. وكذلك تنصب المفعولات التي حذفت منها حروف الجر فوصل إليها الفعل. والاسم الذي ينتصب بعده على التمييز كقولك: " تفقأت شحما ". وتملأت غيظا " و " اشتعل الرأس شيبا ". ومنها: ما تنصب ما بعدها بتوسط حرف بينهما كقولهم: ما صنعت وأباك، و " استوى الماء والخشبة ". فلما كان " أتاني " قد ارتفع به فاعله وهم: " القوم " وكان ما بعد " إلا " متعلقا به انتصب. وتعلقه به: أن أتاني ذكر بعده " القوم " المرتفعون به. وذكر بعد " إلا " الاسم المنصوب، ليعلم اختلاف حال تعلقهما به. وكقولك: رأيت زيدا لا عمرا، قد تعلق حال " زيد " و " عمرو " برأيت على اختلاف أحوالهما في التعلق به. وكان أبو العباس المبرد والزجاج يذهبان إلى أن المنصوب في الاستثناء ينتصب بتقدير: " استثنى " ويجعلان " إلا " نائبة عن " أستثني " وكأنه قال: أتاني القوم أستثني زيدا، وهذا غير صحيح لأنا نقول: أتاني القوم غير زيد فننصب غير، ولا يجوز أن نقول: استثنى غير زيد، وليس قبل " غير " حرف تقيمه مقام الناصب له وإنما قبله فعل وفاعل ولا بد له إذا كان منصوبا من ناصب. فالفعل هو الناصب، وناصب " غير " هو الناصب لما بعد " إلا ".

وذكر الفراء عن البصريين أنهم قالوا: نصبنا المستثنى بإضمار فعل معناه لا أعني زيدا. وأظنه أراد ما قاله سيبويه في الموضع الذي حكينا فيه عنه من هذا الباب " ولكن زيدا. ولا أعني زيدا ". قال أبو سعيد: هذا تفسير لمعنى الاستثناء وليس بتحقيق للناصب له. وناقضهم الفراء على الذي حكاه عنهم. ولم يتشاغل به لأنه ظن ظنه بهم. وأما قول سيبويه عقيب قوله " وعلى هذا: ما رأيت أحدا إلا زيدا فننصب زيدا على غير رأيت " فإنما يريد: فتنصب زيدا على غير البدل ولكن على الاستثناء كما تستثني من " أتاني القوم إلا زيدا ". فإذا قلنا: " ما رأيت أحدا إلا زيدا، فنصب (زيد) على وجهين: أحدهما: أن تجعله بدلا من " أحد ". والآخر: أن تنصبه على الاستثناء. والعامل للنصب في الوجهين هو: رأيت. ومثله مما ينصب على معنيين وتقديرين مختلفين قولك: " صمت اليوم " نصبت اليوم على وجهين: على الظرف، وعلى أنه مفعول على سعة الكلام. والعامل فيه " صمت " في الوجهين جميعا. ومعنى نصبه على الظرف أن تقدر فيه " في " وإن حذفت كأنه قال: صمت في اليوم. ومعنى نصبه على سعة الكلام: أن تقدير " في " ويكون وصول " صمت " إلى " اليوم " كوصول " ضربت " إلى زيد ". وقال الكوفيون في ذلك قولين مختلفين: أما الكسائي: فيما حكي عنه فقال: إنما نصبنا المستثنى لأن تأويله: قام القوم إلا أن زيدا لم يقم ". وقد رده الفراء بأن قال: " لو كان هذا النصب بأنه لم يفعل لكان مع " لا " أوجب في قولك: " قام زيد لا عمرو ". قال أبو سعيد: ولا يلزم الكسائي ما ألزمه الفراء على ظاهر الكلام؛ لأن الكسائي احتج بظهور عامل ناصب بعد " إلا " فحمل " زيدا " على ذلك الناصب وهو " أن " في قوله: إلا أن زيدا لم يقم " فإذا قلت: قام زيد لا عمرو " لم تقل: قام زيد لا أن عمرا لم يقم.

والذي يفسد به قول الكسائي: أن " أن " إذا وقعت بعد " إلا " فلها تقدير؛ لأنها واسمها وخبرها في موضع اسم يقدر له عامل يعمل فيه. فلو قيل: قام القوم إلا أن زيدا لم يقم. فلأن موضع من الإعراب وهو نصب وعامله هو العامل في " زيدا " إذا نصب. فيعود الكلام إلى أن تطلب الناصب لموضع " أن ". وقال بعض النحويين: قول الكسائي يرجع إلى قول سيبويه وأن قوله: " وتقدير إلا أن زيدا لم يقم " تقدير لمعنى الكلام لا لعامله. وحكي عن الكسائي أنه شبه المستثنى بالمفعول وجعله خارجا من الوصف، وجعل خروجه من الوصف بأن قال: " لم يفعل كما فعلوا ". وهذا نحو قوله في المفعول المنصوب بالفعل. وقال الفراء: " إلا " أخذت من حرفين: " إن " التي تنصب الأسماء ضمت إليها " لا " ثم خففت فأدغمت النون في اللام فصارت إلا، فأعملوها فيما بعدها عملين: عمل " إنّ " فنصبوا بها. وعمل " لا " فجعلوها عطفا. وشبهها بحتى، حين ضارعت حرفين أجروها في العمل مجراهما. فخفضوا بها: لأنها بتأويل " إلى " وجعلوها كالعطف: لأن الفعل يحسن بعدها كما يحسن بعد حروف العطف إذا قلت: ضربت القوم حتى زيد ". أي حتى انتهيت إلى زيد ". وحتى زيدا، أي حتى ضربت زيدا. وشبهها أيضا " بلو لا " لأنها " لو " و " لا " ركبتا وجعلتا حرفا واحدا. قال أبو سعيد: والذي قاله الفراء فاسد. لأنه خلاف بينهم في أن يقال " ما قام إلا زيد " فيرفع ولا شيء قبله فيعطف عليه. ولا هو منصوب فيحمل على " أن " فبطل أثر الحرفين جميعا في هذا الموضع. وأما تشبيهه إياها " بحتى " فبعيد. لأن " حتى " حرف واحد ليس بمركب من حرفين فيعمل عمل الحرفين. وإنما هو حرف واحد يتأول فيه تأويل حرفين في حالين. فإن ذهب به مذهب الحرف الجار فكأنه الحرف الجار لا يتوهم غيره. وإن ذهب به مذهب حرف العطف فكأنه حرف العطف لا يتوهم به غيره. و " إلا " عنده " إن " و " لا " منطوق بهما وكل واحد منهما يعمل عمله مفردا لو لم يكن معه الآخر. ويقال للمحتج عنه: إذا كان كل واحد منهما يعمل عمله مفردا فينبغي ألا يبطل عمله ألبتة. لأن " لا " إذا كانت للعطف مفردة لم يبطل العطف بها. و " إنّ " إذا كانت ناصبة

مفردة لم يبطل النصب بها. وهو لم يجعل " إلا " كذلك. لأنه إذا اعتمد على أحد الحرفين بطل عمل الآخر وهو حاضر منطوق به. ليس بمستنكر عندنا ولا عند غيرنا أن يركب حرفان فيبطل معنى كل واحد منهما مفردا. ويحدث معنى ثالث كقولك في حروف التحضيض: لولا ضربت زيدا و " ألا ضربت زيدا " و " لولا " و " لو ما " إذا كن للتحضيض وقد بطل من " هلا " معنى " هل " ومعنى " لا ". وكذلك سائر الحروف إذا فصّلت. وقد قال بعض النحويين: إن هذا القول قال له صاحبه ليخالف مذهب النحويين إلى قول ينسب إليه. ونحن متى قلنا: إن " إلا " بكمال حروفها موضوعة لمعناها كوضع " حتى " بكمال حروفها لمعناها كنا متمسكين بظاهر لفظها وهو جملة هذه الحروف لهذا المعنى. والذي يزعم أن بعض هذه الحروف منفصل من بعض فهو يدعي ما يحتاج إلى برهان عليه. وقول سيبويه: " ومثله في الانقطاع من أوله: إن لفلان مالا إلا أنه شقي ". يعني: بالانقطاع من أوله: أنه ليس ببدل منه؛ لأنه ذكر " ما مررت بأحد إلا زيدا " وما بعده مما ينصبه بالاستثناء ولم يجمله على ما قبل " إلا " من طريق البدل. وكذلك لم يحمل " أنه شقي " على البدل مما قبله. لا سبيل إلى البدل فيه. لأن ما قبل " إلا " موجب. ولما كان حرف الاستثناء فيه مخالفة ما قبله لما بعده بالنفي والإيجاب فإذا كان ما قبله موجبا كان ما بعده منفيّا كقولك: " أتاني القوم إلا زيدا " أوجبت الإتيان للقوم ونفيه عن " زيد " وإن كان ما قبله منفيّا كان ما بعده موجبا كقولك: " ما قام القوم إلا زيد " نفيت القيام عن القوم وأوجبته لزيد، وفي " لكن " معنى الاستثناء وذلك أنها للاستدراك فإن كان ما قبلها منفيّا كان ما بعدها موجبا مستدركا له ما نفي عما قبلها نحو قولك: ما قام عمرو لكن زيد. وما خرج القوم لكن أخوك. أثبتّ لما بعد " لكن " ما نفيته عما قبلها. وتقول: خرج عمرو لكن زيد لم يخرج ". وخرج القوم لكن أخوك لم يخرج، غير أن ما بعد " لكن " في الأكثر من الكلام غير الذي قبلها كقولنا: ما قام زيد لكن عمرو. وقد يكون الذي بعدها جزءا من الذي قبلها لقولك: ما قام القوم لكن زيدا و " زيد " بعض القوم. فإذا كان ذلك في الاستثناء، وكان الذي بعد " إلا " جزءا من الاستثناء

هذا باب يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول وهو لغة أهل الحجاز

المذكورة قبلها فهو الاستثناء المطلق الذي ليس بمنقطع مما قبله فيما يتعارفه النحويون، كقولك: " أتاني القوم إلا زيدا " أو " ما أتاني أحد إلا زيد وإلا زيدا ". وإن كان الذي بعد " إلا " ليس بجزء مما قبله فهو الاستثناء المنقطع كقولك: " ما في الدار إنسان إلا حمارا " و " إلا حمار ". وهو الذي يجري مجرى " لكن " على ما ذكرته من مذهب " لكن " فإذا قال: إن لفلان مالا " فقد أخبر بأنه سعيد بملكه المال واستدرك ذلك بقوله: " إلا أنه شقي " كأنه قال: " إلا أنه بخل على نفسه " وكأنه قال: إن فلانا سعيدا بملك المال لكنه شقي بترك الانتفاع به بإنفاق المال ولم يتلذذ بالانتفاع به وترك نفقته. وكذلك: إذا قال: " إلا أنه شقي. كذلك لو قال: إن لزيد مالا لكن عمرا شقي " أو " إلا أن عمرا شقي " جاز لأن مذهب " لكن " يكون الأول فيه غير الثاني وكذلك " إلا " إذا كانت بمعناه. هذا باب يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول وهو لغة أهل الحجاز وذلك قولك: ما فيها أحد إلا حمارا. جاءوا به على معنى: ولكن حمارا. وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه فحمل على معنى " ولكن " وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم. وأما بنو تميم فيقولون: لا أحد فيها إلا حمارا. أرادوا: ليس فيها إلا حمار. ولكنه ذكر " أحدا " توكيدا؛ لأن يعلم أنه ليس بها آدمي. ثم أبدل فكأنه قال: ليس فيها إلا حمار. وإن شئت جعلته إنسانها. قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي: فإن تمس في قبر برهوة ثاويا … أنيسك أصداء القبور تصيح (¬1) فجعلها أنيسها. ومثل ذلك: " ما لي عتاب إلا السيف " جعلته عتابك. كما أنك تقول: ما أنت إلا سير إذا جعلته هو السير. وعلى هذا أنشدت بنو تميم قول النابغة الذبياني: ¬

_ (¬1) البيت في شرح أشعار الهذليين 1/ 150.

يا دار ميه بالعلياء فالسند … ... ... … عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا أواري لأياما أبينها … والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد (¬1) وأهل الحجاز ينصبون. ومثله ذلك قوله: وبلدة ليس بها أنيس … إلا اليعافير وإلا العيس (¬2) جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسرته لك في الحمار أول مرة. وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدل. ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطان إلا التكلف. لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك: إلا أنه يتكلف هو بمنزلة: التكلف وإنما يجيء هذا على معنى " ولكن ". ومثل ذلك قوله عز وجل: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ (¬3). ومثله: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا (¬4). ومثل ذلك قول النابغة: حلفت يمينا غير ذي مسنوية … ولا علم إلا حسن ظن بصاحب (¬5) وأما بنو تميم فيرفعون ذلك كله، يجعلون اتباع الظن علمهم وحسن الظن علمهم والتكلف سلطانه. وهم ينشدون بيت ابن الأيهم التغلبي- رفعا-. ليس بيني وبين قيس عتاب … غير طعن الكلى وضرب الرقاب (¬6) ¬

_ (¬1) الديوان 16، والخزانة 2/ 125، وابن يعيش 2/ 80، والرواية في الديوان هكذا: يا دار مية بالعلياء فالسند … أقوت وطال عليها سالف الأمد وقفت فيها أصيلانا أسائلها … عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأياما أبينها … والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد (¬2) البيت منسوب لجران العود النميري في ديوانه 52، والخزانة 4/ 197، وابن يعيش 2/ 80. (¬3) النساء: 157. (¬4) يس: 43، 44. (¬5) الديوان 3، والخزانة 2/ 9، والتصريح 2/ 227. (¬6) البيت في معجم الشعراء للمرزباني 242، والحماسة للبحتري 32، وابن يعيش 2/ 80.

جعلوا ذلك: العتاب. وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرناه. وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله:- وخيل قد دلفت لها بخيل … تحية بينهم ضرب وجيع (¬1) جعلوا الضرب تحيتهم كما جعلوا اتباع الظن علمهم. وإن شئت كان على ما فسرت لك في الحمار إذا لم تجعله أنيس ذلك المكان. وقال الحارث بن عباد: والحرب لا يبقى لجا … حمها التخيل والمراع إلا الفتى الصبار في الن … نجدات والفرس الوقاح (¬2) وقال: لم يغذها الرسل ولا أيسارها … إلا طري اللحم واستجزارها (¬3) وقال: عشية لا تغني الرماح مكانها … ولا النبل إلا المشرف المصمّم (¬4) وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو. وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها ". قال أبو سعيد: أصل الاستثناء: إخراج بعض ما يوجبه لفظ من عموم ظاهر أو عموم حكم أو معنى يدل عليه اللفظ؛ فأما عموم اللفظ قولك: قام القوم إلا زيدا. وأما عموم الحكم فقولك: والله لا أكلمك إلا يوم الجمعة. لأن قولك: " لا أكلمك " حكم اللفظ ألا يكلمه أبدا. ويوم الجمعة " داخل في جملة الأوقات التي لا يكلمه فيها في الحكم. وخرج يوم الجمعة من ذلك الحكم بالاستثناء. وأما ما خرج عن عموم معنى دل عليه الحكم فقولك: " ما قام إلا زيد " قد علم بما دل عليه الكلام أن المنفي معموم في المعنى. وأن " زيدا " مستثنى من جملة ما عم بالنفي في المعنى. ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن معديكرب في الخزانة 4/ 53، ومعجم الشعراء 208، والمقتضب 2/ 18. (¬2) البيتان في الخزانة 1/ 223، وشرح الرضي للكافية 1/ 229. (¬3) البيت لم يستدل على قائله. (¬4) البيت لضرار بن مالك الأزور في الخزانة 2/ 5، والعيني 3/ 109، والكشاف 2/ 149.

ومثله: " ما زيد إلا خارج " وليس زيدا إلا خارجا ومعناه: إن كل شيء يذكر لزيد منفي وخرج " خارجا " من عموم النفي كأنه قال: ليس زيد شيئا إلا خارجا. وهذا التقدير: تقدير معنى وليس بتقدير لفظ مقدر محذوف والدليل على ذلك: أنك تقول: ما قام إلا زيد. لا يجوز في " زيد " غير الرفع ولو كان " أحد " منويّا في اللفظ لجاز " إلا زيدا ". كما يجوز: ما قام أحد إلا زيدا ". ومن الدليل على أن أصل الاستثناء ما ذكرناه. أنا تقول: استثنيت زيدا من القوم. ولا تقول: استثنيت زيدا من البساتين. ولا استثنيت زيدا من عمرو؛ لأنه ليس بعض البساتين. ولا بعمرو و " من " للتبعيض فكأنه في الأصل: زيد من القوم ثم أخرجته عنهم في المعنى الذي جعلته. ولا يجوز أن تكون " من " هاهنا لابتداء غاية المكان كما تقول: أخرجته من الكوفة. لأن " القوم " ليسوا بأمكنة، ولا يراد أنهم ابتداء غاية للمستثنى منهم. وقولهم: استثنى الحالف إذا قال: إن شاء الله أو أراد بعد يمينه ما تنصرف به الأيمان إلى بعض الوجوه التي كان يوجبها اليمين في إطلاق لفظها قبل التقييد. فإذا قال لزوجته " أنت طالق " أو قال لعبده: أنت حر فهي طالق. وهو حر على كل وجه وسبب. وإذا قال: " أنت طالق " أو أنت حر إن خرج زيد أو إن قدم زيد أو إن دخلت الدار، فقد جعل الطلاق والعتاق على بعض الوجوه. وكذلك إذا قال: أنت طالق أو أنت حر إن شاء الله فقد علق الطلاق والعتاق بمشيئة الله تعالى. فمن الفقهاء من لا يوقع الطلاق ولا العتاق؛ لأنه لما كان لا يعلم مشيئة الله تعالى له في الحكم كأنه لم يشأ فلم يقع الطلاق ولا العتاق؛ لأن المعلق به لم يكن. ومنهم من يقول إنه يقع؛ لأن يجعل مشيئته شاملة لكل شيء، وسمي استثناء؛ لأنه يعقب به اللفظ المطلق العام فصار على بعض الوجوه. وهذا يوضح ما أصلناه في الاستثناء. وأما قولهم: ما فيها أحد إلا حمارا ونحوه مما يشتمل عليه الباب. فنصب أهل الحجاز ما بعد " إلا " لأنه ليس من نوع الأول. لأن " أحدا " وضع لما يعقل. وإنما يبدل القليل من الكثير إذا كان بعضه كقولك: مررت بتميم بعضهم. فحملوه على وجه النصب الذي ذكرناه قبل هذا الباب وهو الاستثناء. وأما بنو تميم فرفعوه ونحوه على تأويلين ذكرهما سيبويه. أحدهما: أنك إذا قلت ما في الدار أحد إلا حمار فإنك أردت: ما في الدار إلا حمار.

وقولك: ما في الدار إلا حمار. قد نفيت به الناس وغيرهم في المعنى. فدخل في النفي ما يعقل وما لا يعقل ثم ذكرت " أحدا " توكيدا لأن يعلم أنه ليس بها آدمي. والوجه الآخر: أن تجعل المستثنى من جنس ما قبله على المجاز كان " الحمار " هو من إحدى ذلك الموضع. ومن عقلاء ذلك الموضع مثل: أنيسك أصداء القبور. وعتابك السيف. وأشباه ذلك من المجازات. وقال المازني: إن فيه وجها ثالثا وهو: أنه خلط ما يعقل " بما لا يعقل " فعبر عن جماعة ذلك بأحد ثم أبدل " حمار " من لفظ مشتمل عليه وعلى غيره. وقال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ (¬1). لما خلط ما يعقل وهم بنو آدم الذين يمشون على رجلين بما لا يعقل وهو الحية التي تمشي على بطنها والبهائم التي تمشي على أربع خبّر عنها كلها بلفظ ما يعقل وهو: منهم " و " من ". ولو كان ما لا يعقل لقال: فمنها ما يمشي. قال أبو سعيد: قد ذكرت معنى ما قال المازني وبسطته واحتججت له. وقول سيبويه بعد الأبيات التي في آخر الباب " وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو. وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها ". فأما الأبيات فقوله: " لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح " (¬2) وهو على وجهي ما فسرته من لغة بني تميم. أحدهما: كأنه قال: لا يبقى لجاحمها إلا الفتى الصبار، ودل ذل على أنه لا يبقى شيء سواه. وذكر التخيل " والمراح " توكيدا. والوجه الآخر: أنه جعل الفتى الصبار هو التخيل في الحرب والمراح مجازا. كما جعل: حمارا هو من الأحدين مجازا. وفيه وجه ثالث: وهو أن التخيل على معنى: ذوو التخيل وحذف ذوو وأقام التخيل مقامه مثل قوله عز وجل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (¬3). وهذا على الوجه الذي يتفق عليه ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 45. (¬2) جزء من بيت سبق تخريجه. (¬3) سورة يوسف، الآية: 82.

هذا باب ما لا يكون إلا على معنى (ولكن)

أهل الحجاز وبنو تميم. وقوله: " لم يغذها الرسل ولا أيسارها " الرسل: اللبن. والهاء في " أيسارها " و " استجزارها " تعود إلى المرأة التي تقدم ذكرها. وإنما قال: ولا أيسارها وإن كان الأيسار أيسار اللحم؛ لأن الميسر لا يأكل منه إلا الضعيف الفقير منهم. وتقويه الأبيات ب (ما أتاني زيد إلا عمرو) أن المنفي الذي ليس من جنس ما بعد إلا، يقدر فيه تقدير إسقاطه من اللفظ. وأن الاعتماد عليه في النفي على العموم وأنه يذكر ما يذكر من المنفي لتوكيد النفي فيه. ولأن يخرج من قلب السامع ذهاب الوهم إلى أنه قد فعل الفعل المنفي كأنك لم تذكر زيدا. ولم تذكر إخوانك وقلت: ما أتاني إلا عمرو. وما أعانه إلا إخوانه على نحو ما تقدر في الأبيات فيكون قوله: ما تغني الرماح مكانها ولا النبل كأنه قال: ما يغني إلا المشرفي المصمم وقوله: " لأنها معارف " يريد: أن ما قبل " إلا " وما بعده معرفتان: أحدهما غير الأخرى وليست بمنزلة: " ما قام أحد إلا زيد ". هذا باب ما لا يكون إلا على معنى (ولكن) فمن ذلك قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ (¬1) أي: ولكن من رحم. وقوله عز وجل: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ (¬2) أي: ولكن قوم يونس، وقوله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ (¬3) أي: ولكن قليلا ممّن أنجينا منهم. وقوله عز وجل: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ (¬4) أي لكنهم يقولون ربنا الله. وهذا الضرب في القرآن كثير: ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية 43. (¬2) سورة يونس، من الآية 98. (¬3) سورة هود، من الآية 116. (¬4) سورة الحج، من الآية 40.

ومن ذلك من الكلام: لا تكونن من فلان في شيء إلا سلام بسلام. ومن ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب: ما زاد إلا ما نقص. وما نفع إلا ما ضر. (فما) مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضر. كما أنك إذا قلت: (ما أحسن ما كلم زيدا). فهو: ما أحسن كلامه زيدا، ولولا ما لم يجز الفعل بعد إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسن بغير (ما) فكأنه قال: ولكنه ضر ولكنه نقص. هذا معناه. ومثل ذلك من الشعر قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم … بهن فلول من قراع الكتائب (¬1) أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدي: فتى كملت خيراته غير أنّه … جواد فما يبقي من المال باقيا (¬2) كأنه قال: ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق: وما سجنوني غير أني ابن غالب … وأنىّ من الأثرين غير الزّعانف (¬3) كأنه قال: ولكني ابن غالب. ومثل ذلك في الشعر كثير. ومثل ذلك: قول عنز بن دجاجة: من كان أشرك في تفرّق فالج … فلبونة جريت معا وأغدت إلّا كناشرة الذي ضيّعتم … كالغصن في غلوائه المتنبّت (¬4) كأنه قال: ولكن هذا كناشرة. وقال: لولا ابن حارثة الأمير لقد … أغضيت من شتمى على رغم إلّا كمعّرض المحسّر بكره … عمدا يسبّبني على الظّلم (¬5) قال أبو سعيد: هذا الباب يخالف الذي قبله في لغة بني تميم؛ لأنه لا يمكن فيه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 3، والخزانة 2/ 9، ومغني اللبيب 1/ 114. (¬2) البيت في ديوانه 173، والخزانة 2/ 12، والشعر والشعراء 1/ 293. (¬3) البيت في ديوانه 2/ 536، والأغاني 19/ 23. (¬4) ورد البيتان في المقتضب 4/ 416، والمفضيات 209، والمخصص 6/ 68، وفيه ينسب إلى الأعشى. (¬5) قائله النابغة الجعدي، ديوانه 234، سر صناعة الإعراب 1/ 301، والمقتضب 1/ 417.

البدل ولا حذف الاسم الأول منه في التقدير كما أمكن في قول بني تميم إذا قلت: ما فيها أحد إلا حمار. إذا قدر: ما فيها إلا حمار. على الوجهين اللذين ذكرناهما من قول بنى تميم. فمن ذلك قوله عز وجل: لا عاصِمَ ... [هود: 43] فمن رحم يعني: من رحمه الله تعالى. ومن رحمه الله تعالى معصوم فكأنه قال: لكن من رحم الله معصوم. وما بعد (إلا) غير الذي قبله. ومثله من الكلام لو جاء سيل عظيم يخاف منه الغرق أن يقول قائل: لا عاصم اليوم من هذا السيل إلا من أقام في الجبل، فالمقيم في الجبل ليس بعاصم. ومعناه: ولكن المقيم في الجبل معصوم منه، ولا يمكن البدل فيه؛ لأنه يقال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ولو رد أيضا المحذوف منه من خبر عاصم لم يجز البدل لو قلت: لا عاصم لهم إلا من رحم. أو ما لهم عاصم إلا من رحم، لم يجز: ما لهم إلا من رحم، ولا معنى لذلك. وقد قيل: لا عاصم بمعنى: معصوم، وهذا ضعيف لا يعتد به وأجود من هذا أن يكون من رحم هو الله لأنه الراحم. فكأنه قال: لا عاصم اليوم لهم إلا الله. كما تقول: لا إله إلا الله. وأما قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] وقوله: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ [هود: 116] فلا يجوز في واحد منهما البدل؛ لأنها للاستبطاء والتحضيض، وفي معنى: لو فعلت ذلك لكان أصلح وهذه أشياء تجري مجرى الأمر وفعل الشرط، ولا يجوز في شيء من ذلك البدل. لو قلت: ليقم القوم إلا زيد لم يجز كما لا يجوز: ليقم إلا زيد. وكذلك لو قلت: (إن قام أحد إلا زيد) أو: (لو قام أحد إلا زيد). لم يجز كما لا يجوز أن قام إلا زيد، ولا: لو قام إلا زيد. ولا يجوز فيه الاستثناء الذي هو: إخراج جزء من جملة هو منها؛ لأن المقصد من ذلك إلى قوم من الكفار أطبقوا على الكفر به ولم يكن منهم مؤمنون فقبح فعلهم، ثم ذكر قوما مؤمنين باينوا طريقهم فمدحهم. ومعنى: (أولو بقية): أولو خير وصلاح، ويقال: فلان فيه بقية: أي خير وصلاح. ويجوز الرفع في: (قوم يونس) ونحوه على الصفة كأنه قال: هلا كانت قرية غير يونس: كقوله: إلا الفرقدان (¬1) ¬

_ (¬1) جزء من عجز بيت سبق تخريجه.

فكان الزجاج يجيز (إلا قوم يونس) على لغة أهل الحجاز. وعلى لغة بنى تميم: فقدر في لغة أهل الحجاز: (فهلا كان قوم بني آمنوا إلا قوم يونس) ثم قال: " ويجوز البدل وإن لم يكن الثاني من جنس الأول " يريد لغة بنى تميم ... وقد ذكرنا بطلان البدل في نحو هذا. ولعل الزجاج جوز البدل؛ لأن: هلا كانت قرية، معناه: ما آمنت قرية إلا قوم يونس. وقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 40] معناه: بغير حق يجب للكفار به إخراج المؤمنين من ديارهم. وأن يقولوا ربنا الله (وليس بحق للكفار يجب به لهم إخراج المؤمنين فصار على معنى: ولكن). وقوله (لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام). معنى (لا تكونن من فلان) أي لا تخالطنه، وقوله: (سلاما بسلام) أي: متاركة. من قوله عز وجل: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (¬1) أي براءة ومتاركة فكأنه قال: لا تخالطنه إلا متاركة. وليست المتاركة من المخالطة في شيء فصار المعنى: لا تخالطه ولكن: تاركه. وقوله: (ما زاد إلا ما نقص). (وما نفع إلا ما ضر) فما مع الفعل بمنزلة المصدر وكأنه قال: ما زاد إلا النقصان ولا نفع إلا الضرر. وفي (زاد) و (نفع) ضمير فاعل جرى ذكره كأنه قال: ما زاد النهر إلا النقصان. وما نفع زيد إلا الضرر على معنى: ولكنه نقص. ولكنه ضر وتقديره: ما زاد ولكن النقصان أمره. وما نفع ولكن الضرر أمره. فالنقصان والضرر مبتدأ وخبره محذوف وهو: أمره. وهو نحو ما ذكره أبو بكر مبرمان في تفسير من فسره له. وأما قوله: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم (¬2) فإنه بمعنى (ولكن) على ما ذكره في الباب وقد يحتمل في لغة بنى تميم رفع (غير) كما يقول القائل: (لا عيب في زيد إلا الجود). (ولا عيب فيه إلا الشجاعة والضرب بالسيوف). ويجوز فتح (غير) على غير هذا المذهب لإضافته إلى (أن) كما قبح: ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، من الآية 63. (¬2) صدر بيت سبق تخريجه.

على حين عاتبت المشيب على الصبا (¬1) و: .. لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت (¬2) وأما قوله: فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد (¬3) فيقول القائل: (لكن) فيها مخالفة ما بعدها لما قبلها. فكيف جاز أن تكون بمعنى: (لكنه جواد). (ولكنه جواد) لا يخالف (كملت خيراته)؟ فالجواب عن ذلك: أنه ذهب إلى معنى: لكن عيبه الجود كما يقول القائل: عيب زيد جوده. على معنى: ليس فيه عيب لأن الجود ليس بعيب. فإذا لم يكن فيه عيب إلا الجود فما فيه عيب. كأنه قال: (كملت خيراته لكن نقصه أو لكن عيبه جوده) فيصير عيبه ونقصه مخالفا لكملت خيراته على ما ذكرناه. وأما قوله: وما سجنوني غير أني ابن غالب (¬4) فالظاهر من كلام سيبويه أنه لم يقع به سجن. كأنه قال: (ما أنا بالذي يناله سجن وذل ولكني ابن غالب أي عزيز) لأن من له هذا النسب فهو عند الفرزدق عزيز. وكان أبو العباس محمد بن يزيد يرد على سيبويه قوله في هذا البيت وينكر تأويله (لكن). لأنه يوجب أن الفرزدق ما سجن. قال أبو سعيد: الصحيح أنه كان مسجونا محبوسا. وكان الذي سجنه: خالد بن عبد الله القسري، عامل هشام بن عبد الملك، وهذا البيت في قصيدة يمدح فيها هشاما، ويذكر حبسه ويستجير ب (هشام) وأول القصيدة. ألمّ خيال من عليه بعد ما … رجا لي أهلي البرء من داء دانف وقبل البيت الشاهد: ¬

_ (¬1) صدر بيت للنابغة الذبياني وعجزه: وقلت ألمّا أصح والشيب وازع. مغني اللبيب 2/ 517. (¬2) صدر بيت لأبي قيس بن الأسلب الأنصاري، وتمامه: حمامة في غصون ذات أو قال مغني اللبيب 1/ 159، أمالي ابن الشجري 1/ 46. (¬3) صدر بيت سبق تخريجه. (¬4) صدر بيت سبق تخريجه.

وما زال فيكم آل مروان منعم … على بنعمى بادئ ثم عاطف فإن كنت محبوسا بغير جريرة … فقد أخذوني آمنا غير خائف وما سجنوني غير أنّي ابن غالب … وأني من الأثرين غير الزّعانف (¬1) وذهب أبو العباس ومن ذهب مذهبه إلى أن معنى البيت (وما سجنوني إلا لأني ابن غالب) أي سجنوني حسدا لي على نسبي وشرفي. قال أبو سعيد: يجوز تأول سيبويه على أنه كان مسجونا محبوسا. وذلك على أنه لم يعد سجنه سجنا؛ لأنه لم يبطل عزه ولم يلحقه ذلا. كما يقول القائل: تكلمت ولم تتكلم أي تكلمت بما لم يقع موقعا يؤثر فيه الكلام، فكأنه قال: وما أذلوني بالسجن … ولكني عزيز بنسبي ومحلي وأما قول ابن دجاجة المازني: من كان أسرع في تفرّق فالج (¬2) فإن (فالجا) هذا فيما يذكره النسابون هو فالج بن ذكوان بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. انتقل إلى بني سليم فانتمى إلى ذكوان ابن بهتة بن سليم. وادعى نسبه فيهم؛ لأن قومه من آذوه فأحوجوه إلى الانتقال عنهم. وقبل ذلك صنيع بني مازن ناشرة وآذوه حتى انتقل إلى بنى أسد. فدعا هذا الشاعر على من أسرع في تفرق فالج وآذاه، وأخرج عنهم مثل ناشرة؛ لأن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج لأن ناشرة كان مظلوما مؤذ. فلم يدع الشاعر على أمثال ناشرة. فكأنه قال: ولكن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج. فليس يكون في أمثال ناشرة بدل ولا إخراج واحد من جمع وليس فيه إلا معنى: (لكن). وأما قوله: لولا ابن حارثة الأمير. فإن قائل هذا الشعر: النابغة الجعدي. والذي رأيته في شعره: لولا ابن عفان الإمام ... لقد أغضيت أيها المخاطب على شتمي، أي لولا منع ابن حارثة إياي من شتمك لقد شتمتك فأغضيت على شتمي. ولكن معرضا المحسر بكره في سبي مباح لي، ويسببني: يكثر سبي. ويروى المجسر بكره: وهو أبلغ في ظلم معرض له. ويروى: المجشر بكره، ¬

_ (¬1) الأبيات في ديوانه 2/ 536. (¬2) صدر بيت سبق تخريجه.

هذا باب ما تكون فيه أن وأن مع صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء

وهو الجاعل له في الجشر، والجشر ما بعد وناء عن الحي. والمعنى في المجسر أصح وأجود. وكان أبو العباس: يجعل الكاف في (كناشرة) وفي (كمعرض) زائدة. وليس بنا ضرورة إلى ذلك؛ لأنا نجعلها بمعنى (مثل) فيصح معناه ويدخل فيه الذي دخلت عليه الكاف كما تقول: (مثلك لا يفعل هذا) ويدخل فيه المخاطب. هذا باب ما تكون فيه أنّ وأن مع صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء وذلك قولهم: ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا. ف (أنّ) في موضع اسم مرفوع كأنه قال: ما أتاني إلا قولهم كذا وكذا. ومثله قولهم: ما منعني إلا أن يغضب عليّ فلان. والحجة على أنّ هذا في موضع رفع: أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت … حمامة في غصون ذات أو قال (¬1) وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع فقال الخليل: هذا كنصب بعضهم (يومئذ) في كل موضع فكذلك: (غير أن نطقت) وكما قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصّبا … وقلت ألمّا أصح والشيب وازع (¬2) كأنه جعل (حين) و (عاتبت) اسما واحدا. قال أبو سعيد: ما في هذا الباب مفهوم وقد مر نظائره في الأبواب. هذا باب لا يكون فيه المستثنى إلا نصبا لأنه مخرج مما أدخلت فيه غيره. فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت: له عشرون درهما. وهذا قول الخليل. وذلك قولك: (أتاني القوم إلا أباك). و (مررت بالقوم إلا أباك) و (القوم فيها إلا أباك). فانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة وكان العامل فيه ما قبله من الكلام. كما أن (الدرهم) ليس بصفة للعشرين ولا محمول على ما حملت عليه وعمل فيها. ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 3/ 80، ومغني اللبيب 2/ 517. (¬2) البيت في ديوانه 68، وابن يعيش 3/ 81.

هذا باب ما يكون فيه (إلا) وما بعده وصفا بمنزلة (مثل) و (غير)

وإنما منع الأب أن يكون بدلا من القوم أنك لو قلت: (أتاني إلا أبوك) كان محالا. وإنما جاز: ما أتاني القوم إلا أبوك؛ لأنه يحسن لك أن تقول: ما أتاني إلا أبوك. فالمبدل إنما يجيء أبدا كأنه لم يذكر قبله شيء؛ لأنك تخلى له الفعل وتجعله مكان الأول. فإذا قلت: (ما أتاني القوم إلا أبوك) فكأنك قلت: ما أتاني إلا أبوك. وتقول: ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا. كأنه قال: كلهم قد قالوا ذاك إلا زيدا. قال أبو سعيد: قد فسرنا جميع ما في هذا الباب فيما تقدم بما أغني عن إعادته. هذا باب ما يكون فيه (إلا) وما بعده وصفا بمنزلة (مثل) و (غير) وذلك قولك لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا. والدليل على أنه وصف: أنك لو قلت: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا، وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلت. ونظير ذلك قوله عز وجل: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]. ونظير ذلك من الشعر قوله وهو ذو الرمة: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة … قليل بها الأصوات إلا بغامها (¬1) كأنه قال: قليل بها الأصوات غير بغامها. إذا كانت (غير) غير استثناء. ومثل ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (¬2) وقوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (¬3) ومثل ذلك من الشعر قول لبيد بن ربيعة: وإذا أقرضت قرضا فاجزه … إنما يجزى الفتى غير الجمل (¬4) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 638، والخزانة 2/ 51، واللسان (بغم). (¬2) سورة النساء، من الآية 95. (¬3) سورة الفاتحة، من الآية 7. (¬4) البيت في ديوانه ص 12 برواية: فإذا جوزيت قرضا، والخزانة 4/ 68، والعيني 4/ 176.

وقال أيضا: لو كان غيري سليمى اليوم غيره … وقع الحوادث إلا الصارم الذّكر (¬1) كأنه قال: لو كان غيري غير الصارم الذكر لغيره وقع الحوادث إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى. والمعنى: أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيره شيء، وإذا قلت: ما أتاني أحد إلا زيد فأنت بالخيار، إن شئت جعلت (إلا زيدا) بدلا. وإن شئت جعلته صفة. ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيد. وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة (مثل) إنما يجوز ذلك صفة. ونظير ذلك من كلام العرب (أجمعون) لا يجري في الكلام إلا على اسم. ولا يعمل فيه ناصب ولا جار ولا رافع. وقال عمرو بن معديكرب: وكلّ أخ مفارقه أخوه … لعمرو أبيك إلّا الفرقدان (¬2) كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. إذا وضعت به (كلا). كما قال الشماخ: وكلّ خليل غير هاضم نفسه … لوصل خليل صارم أو معارز (¬3) ولا يجوز رفع (زيد) على (ألا أن يكون) لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه؛ لأن (أن) يكون بعض اسمه. قال أبو سعيد: لا يكون في (لو) بدل بعد (إلا) لأنها في حكم اللفظ تجري مجرى الموجب. وذلك أنها شرط بمنزلة (أن) ولو قلت: (أن أتاني رجل إلا زيد خرجت) لم يجز؛ لأنه يصير في التقدير: أن أتاني إلا زيد خرجت. كما لا يجوز: أتاني إلا زيد. فهذا وجه من الفساد فيه. وفيه وجه آخر من فساده: أنه إذا قال: (لو كان معنا إلا زيد لهلكنا) وهو يريد الاستثناء لكان محالا؛ لأنه يصير في المعنى: لو كان معنا زيد فهلكنا؛ لأن البدل بعد (إلا) في الاستثناء موجب. ¬

_ (¬1) البيت في المغني 1/ 72، والأشموني 2/ 156، واللسان (إلا). (¬2) البيت في الخزانة 2/ 52، وابن يعيش 2/ 89، ومغني اللبيب 1/ 72. (¬3) البيت في ديوانه 43، واللسان (عرز).

وكذلك: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (¬1). لو كان على البدل لكان على التقدير: لو كان فيهما الله لفسدتا. وهذا فاسد. وأما قوله: قليل بها الأصوات إلا بغامها. ففيه وجهان: أحدهما: ما قاله سيبويه، وإذا كان على ما قاله فقد أثبت بها أصواتا قليلة. وجعل (إلا بغامها) نعتا للأصوات. والوجه الثاني: أن يكون (قليل) بمعنى النفي فيكون بمعنى: ما بها أصوات إلا بغامها، وهو استثناء وبدل صحيح كما تقول: أهل رجل يقول ذاك إلا زيد. وأما قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (¬2) فلا يكون (غير) إلا نعتا؛ لأنه لو كان بدلا على طريق الاستثناء لكان التقدير: لا يستوي أولو الضرر. وهذا غير ما يراد من هذا؛ لأن المعنى: لا يستوي القاعدون الذين ليس بأولي ضرر والمجاهدون. وأما قوله: لو كان غيري سليمى غيره فإن (سليمى) نداء لا يعتد به في الكلام. وقائل هذا الشعر كأنه نابته شدة فصبر لها وثبت عندها ولم تضعضعه. فقال: لو كان غيري في هذه الشدة لضعضعته وغيرته إلا أن يكون غيري الذي يقع في هذه الشدة. الصارم الذكر فإنه مثلي لا تغيره هذه الشدة، والشدة التي مثلتها: هي وقع الحوادث الذي في البيت. وتقديره الذي يقربه من الفهم: لو كان غيري المحالف للصارم الذكر لغيره وقع الحوادث وضره .. لو كان غيري المماثل للصارم الذكر لم يغيره وقع الحوادث كما لم يغيرني. وقوله: ولا يجوز: ما أتاني إلا زيد وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة (مثل) إنما يجوز ذلك صفة ونظير ذلك من كلام العرب (أجمعون). يريد: أن (إلا) وما بعدها إنما تكون صفة إذا كان ما قبلها اسم موصوف مذكور، كما أن (أجمعين) لا يكون إلا تابعا للأسماء المذكورة قبله. ولا يقام مقام المنعوت كما ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الآية 22. (¬2) سورة النساء، من الآية: 95.

يقام (مثل) و (غير) مقام المنعوت في قولك: مررت بمثل زيد. وبغير زيد. تريد: برجل مثل زيد. وبرجل غير زيد. لأن (مثلا) و (غيرا) اسمان ينعت بهما. وهما يتصرفان تصرف الأسماء والأحرف. وإنما ينعت بهما حملا على (غير) لأن (غير) قد حمل عليه في الاستثناء. فلما كان نفس (غير) إذا لم تكن قبلها اسم لم يكن نعتا. إذ النعت يقتضي منعوتا قبله. لم يكن المشبه به نعتا. وليس باسم يلحقه ما يلحق الأسماء من دخول حرف الجر عليه فلم يجز: (ما مررت بإلا زيد) كما جاز: (ما مررت بمثل زيد) و (بغير زيد). ومما يوصف به، ولا يقوم الموصوف مقام الأسماء والأفعال والظروف غير المتمكنة والجمل. تقول: مررت برجل يضحك. ومررت برجل عندك. ومررت برجل أبوه جمال. ولا تقول: مررت بيضحك. ولا (مررت بعندك). ولا (مررت بأبوه جمّال). وقوله: وكل أخ مفارقه أخوه إلا الفرقدان فتقديره: فكل أخ إلا الفرقدان مفارقه أخوه. و (إلا) صفة ل (كل) و (مفارقه) خبر. ولو كان صفة (لأخ) لقال: (إلا الفرقدين) لأن ما بعد (إلا) يعرب بإعراب (غير) الذي يقع في موقعه. فالمرفوع نعت (كل) والمخفوض نعت (أخ). وهذا الشاعر الجاهلي لا يقول بالبعث ولا بفناء الدنيا. ويجوز أن يكون أراد: لا يتفرقان ما دامت الدنيا. وقد كنت ذكرت في بعض أبواب الجر ما يجوز نعته من المعارف (بغير) وحكم (غير) من التعريف والتنكير بما أغني عن إعادته. وقوله: وإذا قلت: ما أتاني أحد إلا زيد، فأنت بالخيار إن شئت جعلت (إلا زيدا) بدلا. وإن شئت جعلته صفة. وقد مضى الكلام على هذين الوجهين. قال: ولا يجوز رفع زيد على (إلا أن يكون). كأن قائلا اعتقد أن زيدا في قولنا: ما قام أحد إلا زيد (يرتفع بأن تقدر بعد (إلا) أن يكون زيد فيرتفع زيد. ب (يكون) فأنكر سيبويه ذلك وقال: (أن يكون) اسم و (زيد) من تمامه. وهو بمنزلة الموصول الذي يكون هو وصلته بمنزلة اسم واحد. فبعض الاسم قد حذف. وهو (أن يكون) وبقية الاسم: (زيد) ولا يجوز حذف الموصول وترك بعض صلته.

هذا باب ما يقدم فيه المستثنى

هذا باب ما يقدم فيه المستثنى وذلك قولك: ما فيها إلا أباك أحد. وما لي إلا أباك صديق. وزعم الخليل أنهم إنما حملهم على نصب هذا: أن المستثنى إنما وجهه عندهم أن يكون بدلا. ولا يكون مبدلا منه؛ لأن الاستثناء إنما حده: أن تتداركه بعد ما تنفي فتبدله فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخرت المستثنى. كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفة في قولهم: (فيها قائما رجل) حملوه على وجه قد يجوز لو أخرت الصفة وكان هذا الوجه أمثل عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه. وقال كعب بن مالك الأنصاري: الناس ألب علينا فيك ليس لنا … إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر (¬1) سمعناه ممن يوثق به ممن يرويه عن العرب. كراهية أن يجعلوا ما حد المستثنى أن يكون بدلا منه بدلا من المستثنى. ومثل ذلك: ما لي إلّا أباك صديق فإن قلت: ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد. وما مررت بأحد إلا عمرو خير من زيد. كان الرفع والجر جائزا. وحسن البدل لأنك قد شغلت الرافع والجار ثم بدلته من المرفوع والمجرور ثم وصفت بعد ذلك. وكذلك: من لي إلا أبوك صديقا. لأنك أخليت (من) للأب ولم تفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ. وقد قال بعضهم: ما مررت بأحد إلا زيدا خير منك وكذلك: من لي إلا زيدا صديق، وما لي أحد إلا زيدا صديق. وكرهوا أن يقدموه وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصبا. كما كرهوا أن يقدم قبل الاسم إلا نصبا. وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد. فيجعلون (أحد) بدلا كأنك قلت: (لي أبوك صديقا). كما قلت (من لي إلا أبوك صديقا) حين جعلته مثل: ما مررت بأحد إلا أبيك خيرا منه. ومثله قول الشاعر وهو الكلحبة: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 209، وابن يعيش 2/ 79، والمقتضب 4/ 397.

أمرتكم أمري بمنقطع اللوى … ولا أمر للمعصي إلا مضيّعا (¬1) كأنه قال: للمعصي أمر مضيعا. كما جاز: فيها رجل قائم وهذا قول الخليل. وقد يكون أيضا على قوله: (لا أحد فيها إلا زيدا). قال أبو سعيد: أما لزوم الاستثناء إذا تأخر المستثنى منه فكلام سيبويه واحتجاجه فيه بيّن. وإذا تقدم المستثنى منه وتأخر نعته عن حروف الاستثناء فإن سيبويه ذكر فيه البدل والاستثناء وقدم البدل كقولك: ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد. و (ما مررت بأحد إلا عمرو خير من زيد). قال سيبويه: وقد قال بعضهم: ما مررت بأحد إلا زيدا خير منك فأما من أبدل فلأن البدل إنما هو من الاسم. وقد تقدم والنعت فضله في الكلام. وأما من اختار الاستثناء إذا تأخر فأبو عثمان المازني ممن يختار ذلك. فإن حجته: أن المبدل منه في تقدير الملغي. فإذا قدر المتكلم به في كلامه إلغاءه فما حاجته إلى نعته؟ فوجب أن يذكر نعت المستثنى منه بعد الاستثناء؛ لأنه لم يلغه في التقدير. وإذا لم يلغه لم يبدل منه. وكان أبو العباس محمد بن يزيد يذهب إلى اختيار البدل ويحكيه عن سيبويه وأما قوله: (من لي إلا أبوك صديقا). فإن أبا العباس محمد بن يزيد كان يقدره على أن (من) مبتدإ وأبوك خبره. ومثله بقولك: (ما زيد إلا أخوك) و (صديقا) حال. والوجه عندي: أن من (مبتدإ) و (لي) خبره و (أبوك) بدل من (من) كأنه قال: ألي أحد إلا أبوك؟ وقوله: (لأنك أخليت) من للأب ولم تفرده. معنى: أخليت (من) للأب. أي: أبدلت الأب منه ولم تفرد (من) لأن (لي) خبرها. وقد فسر مثل ما فسرت غير أبي العباس من مفسري كلام سيبويه. ومما يدل على أن (لي) خبر (من): أن الظروف وحروف الجر إذا وقعت مع المبتدإ فإنما هي خبر أو في صلة الخبر. أو في صلة المبتدإ إذا كان فيه معنى الفعل. ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 2/ 36، ونوادر أبي زيد 153.

هذا باب ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار

فأما كونها خبرا: فزيد عندك والغلام لي. وأما كونها في صلة الخبر فقولك: زيد قائم عندك. وزيد لي مملوك. وأما كونها في صلة المبتدإ فقولك: القائم عندك زيد والساكن في دارك زيد. فإذا قلت: (من لي إلا أبوك). ولم تجعل (لي) خبرا فليس في المبتدإ ولا في الخبر معنى فعل. وأما قوله: ولا أمر للمعصي إلا مضيعا فإن نصب (مضيعا) على وجهين: أحدهما: على الحال. وحرف الاستثناء قد يدخل بين الحال والاسم الذي الحال له. كقولك: ما قام زيد إلا ضاحكا. (فضاحكا) حال من زيد والعامل فيه (قام) والعامل في (مضيعا) اللام. كأنه كان في الأصل: للمعصي أمر مضيعا. كما تقول: في الدار رجل قائما. وإن كان الحال من النكرة ليس بالقوى، ثم دخل حرف النفي على (أمر). ودخلت (إلا) بين الحال وبين ما قبلها على ما بينا. والوجه الآخر: على الاستثناء من الأمر المنفي وفي هذا الوجه ضعف من وجهين:- أحدهما: أنه كان ينبغي أن يكون المستثنى اسما ثم تصفه فتقول: (إلا أمرا مضيعا). فأقام الصفة مقام الموصوف. وفي إقامة الصفة مقام الموصوف ضعف. والوجه الآخر: أنه نصب على الاستثناء. والأجود أن يرفع على البدل من موضع (لا) كما أن الرفع في: (لا إله إلا الله) أقوى وأحسن من أن تقول: (لا إله إلا الله) فتنصب. هذا باب ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار وذلك قولك: (ما لي إلا زيدا صديق وعمرا وعمرو). و (ما لي إلا أباك صديق وزيدا وزيد). أما النصب فعلى الكلام الأول. وأما الرفع فكأنه قال: أبوك لي صديق. لأن هذا المعنى لا ينقص ما تريد في النصب. وهذا قول يونس والخليل. قال أبو سعيد: إنما وجب النصب قبل أن تأتي بالمستثنى منه؛ لأنه لا يصح البدل

هذا باب تثنية المستثنى

فيه. كما ذكر في الباب الذي قبل هذا. فلو عطفت قبل أن تأتي بالمستثنى منه لكان سبيل المعطوف كسبيل الاسم الذي يلي (إلا) في النصب. كقولك: (ما لي إلا زيدا وعمرا صديق). (ومن لي إلا أباك وزيدا صديق). فلما جاء بالمستثنى منه فكأنه قال: ما لي صديق إلا عمرو. ومن لي صديق إلا زيد. وعلى ما مثله سيبويه إذا قال: ما لي إلا زيدا صديق فمعناه: زيد لي صديق. ثم عطف فقال: وعمرو لي. وإذا قال: من لي إلا أباك صديق، فكأنه قال: أبوك لي صديق وزيد. والنصب على لفظ الأول. هذا باب تثنية المستثنى وذلك قولك: ما أتاني إلا زيد إلا عمرا. ولا يجوز الرفع في عمرو. من قبل أن المستثنى لا يكون بدلا من المستثنى، وذلك أنك لا تريد أن تخرج الأول من شيء تدخل فيه الآخر. وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيدا إلا عمرو. فتجعل الإتيان لعمرو. ويكون (زيدا) منتصبا من حيث انتصب (عمرو). فأنت في ذا بالخيار: إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر وإن شئت نصبت الآخر ورفعت الأول. وتقول: (ما أتاني إلا عمرا إلا بشرا أحد) كأنك قلت: ما أتاني إلا عمرا أحد إلا بشر فجعلت (بشرا) بدلا من (أحد) ثم قدمت (بشرا) فصار كقولك: ما لي إلا بشرا أحد؛ لأنك إذا قلت: ما لي إلا عمرا أحد إلا بشرا. فكأنك قلت: ما لي أحد إلا بشر. والدليل على ذلك قول الشاعر وهو الكميت: فما لي إلا الله لا رب غيره … وما لي إلا الله غيرك ناصر (¬1) فغيرك بمنزلة: إلا زيدا. وأما قوله وهو حارثة بن بدر الغداني: يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت … إلا تقرب آجالا لميعاد ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 2/ 93، والمقتضب 4/ 424.

يا كعب صبرا على ما كان من حدث … يا كعب لم يبق منا غير أجلاد إلا بقيات أنفاس تحشرجها … كراحل رائح أو باكر غادي (¬1) فإن (غيرا) هاهنا بمنزلة (مثل) كأنك قلت: لم يبق منا مثل أجساد إلا بقيات أنفاس. وعلى هذا أنشد بعض الناس هذا البيت رفعا للفرزدق: ما بالمدينة دار غير واحدة … دار الخليفة إلا دار مروانا (¬2) جعلوا (غير) صفة بمنزلة: (مثل). ومن جعله بمنزلة الاستثناء لم يكن بدّ من أن ينصب أحدهما وهو قول ابن أبي إسحاق. وأما: إلا زيد فإنه لا يكون بمنزلة (مثل) إلا صفة. ولو قلت: ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله كان جيدا. إذا كان عبد الله زيدا ولم يكن غيره؛ لأن هذا يكرر توكيدا كقوله: رأيت زيدا زيدا. وقد يجوز أن تقول: رأيت غير زيد على الغلط والنسيان كما يجوز أن تقول: رأيت زيدا عمرا؛ لأنه إنما أراد عمرا فنسي فتدارك. ومثل: ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله. إذا أردت أن تبين وتوضح قوله: مالك من شيخك إلا عمله … إلا رسيمه وإلا رمله (¬3) قال أبو سعيد: الاسمان المستثنيان وإن اختلف إعرابهما فهما مشتركان في معنى الاستثناء. وإنما رفع أحدهما ونصب الآخر على ما يوجهه تصحيح اللفظ. فإذا قلت: (ما أتاني إلا زيد إلا عمرا) فلا بد من رفع أحد الاسمين؛ لأن الفعل المنفي لا فاعل له، فلا بد من رفع أحد الاسمين بعد (إلا) فاعلا له. فإذا جعلنا المرفوع (زيدا) وبعده (إلا عمرو) لم يجز رفع (عمرو) لأن المرفوع بعد (إلا) إنما يرفع على أحد وجهين: إما أن يرفع إذا فرغ له الفعل الذي قبل (إلا) أو يجعل بدلا من المرفوع الذي قبله. وليس في (عمرو) وجه من وجهي الرفع؛ لأن الفعل قد ارتفع به (زيد) وفرغ له ولا اسم قبله يبدل منه. ولا يجوز أن يكون بدلا من (زيد) لأن (عمرا) لا يكون بدلا من (زيد) لأنه ¬

_ (¬1) الأبيات في الأغاني 21/ 31. (¬2) لم أعثر عليه في ديوانه، وهو في المقتضب 4/ 425. (¬3) البيت في الأشموني 2/ 151، والهمع 1/ 227، والتصريح 1/ 356.

ليس به ولا ببعضه ولا مشتمل عليه. فوجب النصب على ما يوجهه الاستثناء. وقد ثبت للاسمين الإتيان الذي نفي عن غيرهما. وهما جميعا مستثنيان، ومما يدل على أنهما مستثنيان جميعا: أنك لو أخرت المستثنى منه وقدمتهما نصبتهما كقولك: ما لي إلا عمرا إلا بشرا أحد. ومما يدل على ذلك ويكشفه قول الكميت: وما لي إلا الله غيرك ناصر فنفى كل ناصر سوى الله- عز وجل- وسوى هذا المخاطب. وأما بيت الفرزدق ففي إنشاده أربعة أوجه: أحدها: رفع (غير واحدة) ورفع (دار مروان) الثاني: رفع (غير) ونصب (دار مروان) الثالث: نصب (غير) ونصب (دار مروان) الرابع: نصبهما جميعا. فإذا رفعا ففي رفعهما وجهان: أحدهما: أن ترفع (غير واحد) (نعتا لدار) التي قبلها فيكون معناه ما بالمدينة دار جامعة دورا ومقاصير وحجرا كما يكون دار الخلفاء والأمراء ونحوهم. فكأنه قال: ما بالمدينة دار جامعة دورا إلا دار مروان، وتبدل (دار مروان) من (دار) المنفية. والوجه الثاني: في رفعهما أن يجعل (غير واحدة) استثناء، فكأنه قال: (ما بالمدينة إلا دار واحدة). كأنه لم يعد دور المدينة دورا. استصغارا لها. كما يقال (ما ببغداد إلا رجل واحد) إذا لم يعد رجالهم رجالا، بالإضافة إلى ذلك الرجل لما عنده من الكفاية والغناء الذي ليس عندهم. وتقديره: ما بالمدينة إلا دار واحدة وهي دار الخليفة ثم يبدل (دار مروان) منها لأن (دار مروان) هي دار الخليفة. فيكون بمنزلة قولك: (ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله) إذا كان أبو عبد الله هو زيد. وإذا رفع أحدهما ونصب الآخر فهما مستثنيان بمنزلة قولك: ما أتاني أحد إلا زيد إلا عمرا. وإلا زيدا إلا عمرو. وإذا نصبهما جميعا: فلأنّ الكلام قد تم بقولك ما بالمدينة دار ثم نصبهما جميعا على الاستثناء، كما تقول: ما أتاني أحد إلا زيدا إلا عمرا. فيستثنيهما جميعا ولا يبدل. واعلم أنه إذا أتى استثناءان يمكن أن يكون الثاني منهما مستثنى من الأول، فإن الاختيار أن يكون الثاني محطوطا من الأول كقولك: (لزيد عليّ عشرة دراهم إلا أربعة إلا

درهما) فالوجه: أن تجعل الدرهم استثناء من أربعة فيبقى من الأربعة ثلاثة. وتكون ما بقي من الأربعة هو الاستثناء من عشرة. فيبقى من العشرة سبعة ولا يضر أن يكون المستثنى نصف المستثنى منه أو أكثر من النصف بعد أن يكون أقل من المستثنى منه. فإذا اجتمعت استثناءات كل واحد منها أقل من الذي يليه فإنك تعمد إلى الاستثناء الأخير فتنقصه من الذي قبله. فتنظر ما بقي منه فتنقصه من الذي قبله، فلا تزال كذلك حتى تنتهي إلى الاستثناء الأول. مثال ذلك: أن يقول رجل: لزيد عليّ عشرة دراهم إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما. فالحكم في ذلك: أن عليه خمسة دراهم. وذلك إذا عمدنا إلى آخر الاستثناءات وهو درهم فنقصناه من درهمين فبقى درهم، فنقصنا الدرهم من ثلاثة فبقى درهمان، فنقصنا الدرهمين من أربعة فيبقى درهمان، فتنقصهما من الخمسة فيبقى ثلاثة، فتنقصها من ستة فيبقى ثلاثة، فتنقصها من سبعة فيبقى أربعة، فتنقصها من ثمانية فيبقى أربعة، فتنقصها من تسعة فيبقى خمسة، فتنقصها من عشرة فيبقى خمسة. فهذه الخمسة التي هي عليه. وتقريب الحساب في ذلك أن تبتدئ بأول الاستثناءات فتنقصه من المال المقر به المستثنى منه. ثم تزيد بالاستثناء على ما بقي وتنقص الثالث وتزيد الرابع وتنقص الخامس إلى أن تنتهي إلى المستثنى الأخير. مثال ذلك: مسألتنا: تنقص التسعة من العشرة فيبقى واحد وتزيد الثمانية فيصير تسعة وتنقص السبعة فيبقى اثنان وتزيد الستة فيصير ثمانية، وتنقص الخمسة فيصير ثلاثة وتزيد الأربعة فيصير سبعة، وتنقص الثلاثة فيصير أربعة، وتزيد اثنين فيصير ستة، وتنقص واحدا فيبقى خمسة. وذلك ما حصل على المقر. فإن كان بعض الاستثناءات أكثر من الذي قبله بطل استثناؤه منه. وصار فيه قولان: أحدهما: أن يزاد على المستثنى منه. والآخر: أن ينقص منه. كقول القائل: له عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا أربعة. أحد القولين: أن الأربعة تزاد على العشرة وتنقص الثلاثة من العشرة فالذي يحصل عليه من الإقرار أحد عشر درهما، كأنه قال: له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة. وقوله إلا أربعة أي سوى أربعة له علي، فعشرة إلا ثلاثة سبعة، وتزاد عليها الأربعة فيصير أحد عشر. وهذا قول الفراء.

هذا باب ما يكون مبتدأ بعد (إلا)

والقول الآخر: أن تنقص الثلاثة والأربعة جميعا من العشرة. وبعض الفقهاء يذهب إلى أن الاستثناءين يحطان من جملة ما أقر به إذا أمكن استثناؤه منه إن كان يمكن استثناء الثاني من الذي قبله كقولك: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما. نجعل الأربعة والدرهم جميعا مستثنين من العشرة فيصير عليه خمسة. وعلى القول الأول المختار ينقص الدرهم من الأربعة وما يبقى وهو ثلاثة ينقص من العشرة فيبقى سبعة، والاختيار ما ذكرناه أولا. وكرهنا الإطالة في ذلك والاحتجاج له لئلا نخرج عن غرض الكتاب. وقوله: ما لك من شيخك إلا عمله … إلا رسيمه وإلا رمله (¬1) (إلا رسيمه) بدل من قوله: (إلا عمله). لأن رسيمه بعض عمله، فتبدل كإبدال بعض من كل كقولك: نفعك عملك: رسيمك ورملك، وهما ضربان من المشي يعني بهما في الطواف والسعي. فالرمل في الطواف والرسيم: السعي بين الصفا والمروة. هذا باب ما يكون مبتدأ بعد (إلا) وذلك قولك: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، كأنك قلت: مررت بقوم زيد خير منهم. إلا أنك أدخلت (إلا) لتجعل (زيدا) خيرا من جميع من مررت به. ولو قال: مررت بناس زيد خير منهم لجاز أن يكون قد مر بناس آخرين هم خير من زيد. فإنما قال: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه؛ ليخبر أنه لم يمرر بأحد يفضل زيدا. ومثل ذلك قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حلّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. فإن (أفعل كذا وكذا) بمنزلة فعل كذا وكذا وهو مبني على (حل) و (حل) مبتدأ، كأنه قال: ولكن حل ذلك أن أفعل كذا وكذا. وأما قولهم: والله لا أفعل إلا أن تفعل. فإن (تفعل) في موضع نصب والمعنى: حتى تفعل، أو كأنه قال: أو تفعل والأول مبتدأ مبنّي عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

هذا باب (غير)

قال أبو سعيد: قد ذكرنا أن حروف الاستثناء تدخل بين الاسم وخبره والحال وصاحبه. ومن الحال المبتدأ وخبره، فإذا قلت: (ما مررت بأحد إلا زيد خير منه) ف (زيد خير منه) مبتدأ وخبر. ويجوز أن تدخل عليه الواو كما تدخل على المبتدإ الذي في معنى الحال فتقول: ما مررت بأحد إلا وزيد خير منه. قال الشاعر: ما أعطياني ولا سألتهما … إلّا وإنّي لحاجزي كرمي (¬1) وعلى هذا يجوز أن تقول: (ما كلمت أحدا إلا وزيد حاضر) ولا يجوز حذف الواو من هذا كما جاز حذفها من الأول؛ لأن هذا ليس فيه ذكر يعود إلى الأول، وإنما يربطه به الواو، والأول فيه ذكر يرجع إلى الأول، فأنت مخير في ذكر الواو وتركها. وأما قولهم: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا. (حل) مبتدأ و (أن) خبره و (إلا) في معنى (لكن). وإنما دخلت (إلا) بمعنى (لكن) لأن ما بعدها مخالف لما قبلها. وذلك أن قوله: والله لأفعلن كذا وكذا عقد يمين عقده على نفسه، و (حله) إبطاله ونقضه كأنه قال: علي فعل كذا معقود. ولكن بطلان العقد كذا. وهذا مذهب (لكن) ومعناه فقد ذكرنا نحوه. وأما قوله: (والله لا أفعل إلا أن تفعل) فتقديره: لا أفعل إلا بعد فعلك أو إلا مع فعلك. ف (أن) وما بعدها منصوب على الظرف، وتقديرها تقدير مصدر وضع موضع ظرف زمان كقولك: والله لا أفعل كذا وكذا إلا مقدم الحاج وإلا خفوق النجم. وما أشبه ذلك، على معنى: إلا وقت مقدم الحاج ووقت خفوق النجم. هذا باب (غير) اعلم أن (غيرا) أبدا سوى المضاف إليه. ولكنه يكون فيه معنى (إلا) فيجري مجرى الاسم الذي بعد (إلا) وهو الاسم الذي يكون داخلا فيما يخرج منه غيره. وخارجا مما يدخل فيه غيره. فأما خروجه مما يدخل فيه غيره: فأتاني القوم غير زيد ف (زيد) غير الذين جاءوا. ولكن فيه معنى (إلا) فصار بمنزلة الاسم الذي بعد (إلا). وأما دخوله فيما يخرج منه غيره: فما أتاني غير زيد، وقد يكون بمنزلة (مثل) ¬

_ (¬1) البيت لكثير عزة، وهو في ديوانه 2/ 66، والهمع 1/ 26، والمقتضب 2/ 345.

ليس فيه معنى (إلا) وكل موضع جاز فيه الاستثناء (بإلا) جاز (بغير) وجرى مجرى الاسم الذي بعد (إلا) لأنه اسم بمنزلته وفيه معنى (إلا) ولو جاز أن تقول: (أتاني القوم زيدا) تريد الاستثناء ولا تذكر (إلا) لما كان نصبا. ولا يجوز أن يكون (غير) بمنزلة الاسم الذي يبتدأ بعد (إلا) وذلك لأنهم لم يجعلوا فيه معنى (إلا) وإنما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة (مثل) ويجزئ من الاستثناء. ألا ترى أنه لو قال: أتاني غير عمرو. كان قد أخبر بأنه لم يأته عمرو. وإن كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه فقد يستغنى به في مواضع من الاستثناء. ولو قال: ما أتاني غير زيد يريد بها منزلة (مثل) لكان مجزيا من الاستثناء، كأنه قال: ما أتاني الذي هو غير زيد فهذا يجزئ من قوله: ما أتاني إلا زيد. قال أبو سعيد: الأصل في الاستثناء (إلا) وهو الحرف الموضوع له وحملت (غير) عليه لمخالفتها لما أضيفت إليه. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بغير زيد (فالذي وقع به المرور غير زيد) وزيد لم يقع به مرور. ولو قلت: ما مررت بغير زيد. لكان الذي نفى عنه المرور ليس بزيد. وهو (غير) ولم ينف المرور عن زيد. فلما كان في (غير) من مخالفتها للاسم الذي بعدها مثل مخالفة ما قبل (إلا) لما بعدها. جعلت هي وما أضيفت إليه بمنزلة (إلّا) وما بعدها. ومن أجل أن (إلا) حرف لا يعمل شيئا ولا يقع عليه عامل وكان ما قبلها مقتضيا لما بعدها تخطى عمل ما قبلها إلى الاسم الذي بعدها، فعمل فيه كقولك: ما قام إلا زيدا. وما مررت إلا بزيد. و (غير) اسم تعمل فيه العوامل وما بعدها لا يعمل فيه شيء سواها؛ لأن إضافتها إليه لازمة، فيصير الإعراب الذي يحصل في الاسم بعد (إلا) يحصل في نفس (غير). وإنما تكون (غير) بمنزلة (إلا) في الاستثناء فقط، ولا يكون بمنزلة (إلا) في الابتداء. حتى يكون الاسم الذي بعد (إلا) تصح إضافة (غير) إليه؛ لأن (غيرا) إنما تخالف الاسم الذي أضيفت إليه دون غيره. فإذا كان ما بعد (إلا) مبتدأ وخبرا لم تقع (غير) موقعه؛ كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد خير منه.

ولا يجوز: (ما أتاني أحد غير زيد خير منه) في موضع (إلا) وذلك لوجهين: أحدهما: أن (غيرا) إنما تكون بمنزلة (إلا) إذا كان بعد (إلا) اسم يصح إضافة (غير) إليه. لأن (غيرا) ليست تخالف سوى الاسم الذي أضيفت إليه. والوجه الثاني: أن (إلا) يقع بعدها فعل وفاعل، ولا تقع (غير) موقعها. كقولك: (ما أتاني أحد إلا يضحك) ولا يجوز (غير يضحك). ولا تصح إضافة (غير) إلى المبتدإ والخبر كما لا تصح إضافته إلى الفعل. ووجه آخر: سوى الوجهين الأولين: وهو أنّا لو جعلنا (غيرا) مبتدأ لباينت (إلا) في المعنى؛ لأنك إذا قلت: ما أتاني أحد غير زيد خير منه. فإنما زعمت أن كل من أتاك غير زيد ليس بخير منه ولم تفضل زيدا عليه. وإنما نفيت أن يكون غير زيد خيرا منه. ويبين سيبويه أن (غيرا) تجزئ من الاستثناء وإن لم تكن لاستثناء ليقوى الاستثناء بها في الموضع الذي جعلت فيه بمنزلة (إلّا) وذلك قولك: أتاني غير عمرو و (غير) فاعل (أتاني) ولا يكون بمعنى (إلا). لأنك لا تقول: أتاني إلا عمرو. وقد أغني عن الاستثناء؛ لأن الذي يفهم به: أن عمر ما أتاك فخرج (عمرو) عن الإتيان كخروجه بالاستثناء إذا قلت: أتاني كل آت إلا عمرا. وقد يستقيم في حقيقة اللفظ أن يكون عمرو أتاه. وذلك أن قوله: أتاني غير عمرو. ظاهر اللفظ أن غير (عمرو) أتاه. وليس في إتيان غير عمرو نفي لإتيان عمرو كما لو قال: أتاني عدو زيد. لم يكن فيه دلالة على أن (زيدا) لم يأته. ولو قال قائل: (ما أتاني غير زيد) ولم يرد به الاستثناء كان حقيقة الكلام أن غير زيد ما أتاه. وزيد مسكوت عنه يجوز أن يكون قد أتى ويجوز أن يكون لم يأت، غير أنّ العادة جرت بأن يراد بمثل هذا الكلام: أن زيدا داخل في الفعل الذي خرج عنه غيره. وخارج عن الفعل الذي دخل فيه غيره. ولو قال قائل: (ما أتاني غير زيد) ولا يريد إثبات الإتيان لزيد. لم يكن كاذبا. ولكنه ملغز ملبس. وقال أبو سعيد: يعمل ما قبل (إلا) فيما بعدها ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وتقول: (ما يأكل زيد إلا طعامك. وما زيد آكل إلا طعامك). ولا تقول: ما زيد طعامك إلا آكل. وما زيد طعامك إلّا يأكل. ومنزلة (إلّا) في هذا كمنزلة واو العطف يعمل ما قبلها فيما بعدها ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: ضربت زيدا وعمرا. واختصم زيد وعمرو. فقد عمل ما قبل

هذا باب ما أجري على موضع غير، لا على ما بعد غير

الواو من الفعل فيما بعده. ولو قلت: ضربت زيدا وأكرمت عمرا لم يجز أن تقول: عمرا وأكرمت. وأنت تريد: وأكرمت عمرا. وإنما عمل ما قبلها فيما بعدها؛ لأن حرف الاستثناء والعطف لا يبتدآن. وإنما يؤتى بهما ليعلق ما بعدها بمعنى ما قبلها فلا بد من تأثير ما قبلهما فيهما. وأما اختلاف النسخ: فالذي يقول: فأما خروجه مما دخل فيه غيره فأتاني القوم غير زيد يريد: خروج زيد مما دخل فيه القوم. والذي يقول: فأما دخوله فيما خرج منه غيره يريد: دخول (غير) لأن (غير) دخل في الإتيان الذي خرج منه زيد. هذا باب ما أجري على موضع غير، لا على ما بعد غير زعم الخليل ويونس جميعا أنه يجوز: ما أتاني غير زيد وعمرو. والوجه الجرّ. وذلك أنّ غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه، فحملوه على الموضع كما قالوا: فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬1) فلما كان في موضع إلا زيد وكان معناه كمعناه حملوه على الموضع. والدليل على ذلك أنك إذا قلت: غير زيد فكأنك قد قلت: إلا زيد ألا ترى أنك تقول: ما أتاني غير زيد وإلا عمرو فلا يقبح الكلام، كأنك قلت: ما أتاني إلا زيد وإلا عمرو. قال أبو سعيد: رد الاعتبار إلى (إلا) لأنها أصل الاستثناء، وأدخلها إلّا على الاسمين حتى أرى صحة معنى الاستثناء فيهما، والباب مفهوم مستغن عن الشرح. هذا باب يحذف المستثنى منه استخفافا وذلك قولك: (ليس غير)، و (ليس إلّا) كأنه قال: ليس إلا ذاك، وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذاك تخفيفا. ومثل ذلك أيضا: ما منهم إلا قد قال ذاك، إنما يريد: ما منهم أحد إلا قد قال ذاك، ولكنه حذفه تخفيفا، واكتفاء بعلم المخاطب ما يعني. وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لعقيبة بن هبيرة الأسدي، في الخزانة 2/ 260، 4/ 165؛ ابن يعيش 2/ 109، 4/ 9؛ الكتاب 1/ 67، 2/ 292، 3/ 91؛ ولسان العرب (غمز)؛ شرح المقتضب 2/ 337، 4/ 112.

وكذا، وإنما يريد ما منهما واحد مات ومثل ذلك: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159]. ومثل ذلك من الشعر قول النابغة الذبياني: كأنك من جمال بني أقيش … يقعقع خلف رجليه بشنّ (¬1) أي كأنك جمل من جمال بني أقيش. ومثل ذلك أيضا قوله: لو قلت ما في قومها لم تيثم … يفضلها في حسب وميسم (¬2) يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا، كما قالوا: لو أنّ زيدا هاهنا، وإنما يريدون: لكان، كذا وكذا. وقولهم: ليس أحد أي ليس: هاهنا أحد فكلّ ذا حذف تخفيفا، واستغناء بعلم المخاطب بما يعني. ومثل البيتين الأولين قول الشاعر، وهو ابن مقبل: وما الدهر إلا تارتان فمنهما … أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (¬3) وإنما يريد: فمنهما تارة أموت وأخرى ... ومثل ذلك قولهم: ليس غير، هذا الذي أمس، يريد: الذي فعل أمس. وقوله، وهو العجاج: بعد اللّتيا واللّتيا والتي (¬4) فليس حذف المضاف إليه في كلامهم بأشدّ من حذف تمام الاسم. قال أبو سعيد: الحذف الذي استعملوه بعد إلا وغير إنما يستعمل إذا كانت إلا وغير بعد ليس، ولو كان مكان ليس غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف. لا تقول بدل ليس إلا: لم يكن إلا: لم يكن غير. قال أبو الحسن الأخفش: إذا أضفت غير فقلت: غيره، أو غير ذلك أو نحوه، جاز ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 5: 67/ 69؛ ابن يعيش 3/ 59؛ الكتاب 2/ 345؛ تاج العروس (وقش، قعع، شنن)؛ المقتضب 2/ 138. (¬2) البيت منسوب لحكيم بن معية الربعي، الخزانة 5/ 62، 63؛ ابن يعيش 3/ 59؛ الكتاب 2/ 345. (¬3) البيت في الخزانة 231. (¬4) البيت في ديوانه 6؛ الخزانة 6/ 154؛ ابن يعيش 5/ 140؛ الكتاب 2/ 357، 3/ 488؛ ولسان العرب (لتا)؛ المقتضب 2/ 289.

فيه الرفع والنصب. فأمّا من نصب فقال: جاءني زيد ليس غيره فإنه يضمر الاسم، فكأنه قال: ليس الجائي غيره، أو ليس الآمر غيره أو نحو ذلك. وأمّا من رفع فإنه يضمر الخبر المنصوب، ويقول: جاءني زيد ليس غيره أي ليس غير هذا صحيحا، أو نحو هذا مما يكون خبرا له، ويجوز عنده إذا أضاف غيرا أن يأتي بها بعد لم يكن، فتقول: جاءني زيد لم يكن غيره، وغيره: بالرفع والنصب على التفسيرين اللذين فسرنا، وزعم أنّ الضمير في كان كثير، نحو قولك: إن خيرا فخير وإن خير فخير على إن كان، وقال: تقول: جئتني ليس غيرك، وليس غيرك، ولم يكن غيرك، وغيرك. فإذا ذكر غير ولم يضفها فإن الأخفش أجاز فتحها وضمها على نية الإضافة، وشبّهها ب: يا تيم تيم عديّ .. (¬1) … ... وزعم أن تيم الأول قد حذف منه المضاف إليه وبقي على لفظ ما هو مضاف غير منون. وذكر الأخفش أنّ بعضهم ينوّن غيرا؛ لأنه في اللفظ غير مضاف، وينبغي أن يكون تنوينه على وجهي الرفع والنصب جميعا. وقال المجرمي: أخذت عشرة ليس إلا، وليس غير، يضمّون، وأجوده. ليس غيرها، وليس إلا إياها. قال أبو سعيد: يقيسه على قولهم: أتاني القوم ليس زيدا، وباقي ما ذكره في الباب من الحذف مفهوم. قال أبو سعيد: أكثر ما يأتي الحذف مع من؛ لأنّ من تدل على التبعيض، وأقلّ أجزاء العدد واحد، وقد جاء في القرآن وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به وجاء الحذف مع في، وليس مثل من في الكثرة. وقوله: فمنهما أموت، أي: فمنهما تارة أموت فيها أو أموتها، وأخرى أبتغي فيها العيش أو أبتغيها. وقوله: بعد اللّتيّا واللّتيّا والتي حذف صلة هذه الموصولات، وذلك في شدّة الأمر وعظمه. فكأنه قال: بعد الحال التي تناهت شدتها، أو عظمت بليّتها، أو نحو ذلك من تعظيم أحوال الشّدة، وهذا كلّه احتجاج في حذف الاسم بعد إلا. قال أبو سعيد: ¬

_ (¬1) جزء بيت سبق تخريجه.

هذا باب لا يكون وليس وما أشبههما

بعد اللّتيا واللّتيا والتي … إذا علتها أنفس تردّت (¬1) وهي لا محالة صلة لما قبلها، وإنما يعني: بعد مراكب من الهول والشّدة إذا ركبتها أنفس تردّت، أي هلكت. ويجوز أن يكون صلة لأخراها، وصلة الأوليين محذوفة، ويجوز أن يكون جعلها كلّها كشيء واحد؛ لأنها في مذهب واحد، وجعل الصلة لها كلّها كأنها موصول واحد، ومثله مما احتجّ به حذف أحد من قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا ... (¬2) وحذف المضاف إليه من غير وهو أسهل من حذف الصلة بعد الموصول؛ لأنّ المضاف قد يستغني عن المضاف إليه، ولا يستغني الموصول عن الصلة؛ ألا ترى أنا لو حذفنا زيد من غلام زيد لجاز أن تقول: مررت بغلام، ولو حذف صلة من من قولك: مررت بمن في الدار لم يجز أن تقول: مررت بمن؛ فاعرف ذلك إن شاء الله. ويجوز أن يكون تصغير اللّتيا لمّا كان دلالة على الشّدّة والجهد عرف معناه فأغني عن الصلة؛ لأنّ الصلة توضح ما لا يعرف، ودخلت التي في معنى اللّتيا بالعطف. هذا باب لا يكون وليس وما أشبههما فإذا جاءتا وفيهما معنى الاستثناء فإنّ فيهما إضمارا، على هذا وقع فيهما معنى الاستثناء، كما أنه لا يقع معنى النهي في حسبك إلّا أن يكون مبتدأ. وذلك قولك: أتاني القوم ليس زيدا، وأتوني لا يكون زيدا، وما أتاني أحد لا يكون زيدا، كأنه حين قال: أتوني، صار المخاطب عنده قد وقع في خلده أنّ بعض الآتين زيد، حتى كأنه قال: بعضهم زيد، فكأنه قال: ليس بعضهم زيدا. وترك إظهار بعض استغناء، كما ترك الإظهار في لات حين ذاك. فهذه حالهما في حال الاستثناء، وعلى هذا وقع فيهما الاستثناء؛ فأجرهما كما أجروهما. وقد يكون صفة، وهو قول الخليل. وذلك قولك: ما أتاني أحد ليس زيدا، وما أتاني رجل لا يكون زيدا إذا جعلت ليس، ولا يكون، بمنزلة قولك: ما أتاني أحد لا يقول ذاك، إذا كان لا يقول ذاك في موضع قائل ذلك. ويدلك على أنه صفة أنّ بعضهم يقول: ما أتتني امرأة لا تكون فلانة، وما أتتني ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سورة النساء، من الآية 159.

امرأة ليست فلانة، لو لم يجعلوه صفة لم يؤنّثوا؛ لأنّ الذي لا يجيء صفة فيه إضمار مذكّر. ألا ترى أنهم يقولون: أتينني لا يكون فلانة وليس فلانة، يريد: ليس بعضهن فلانة، فالبعض مذكر. وأما عدا وخلا فلا يكونان صفة، ولكن فيهما إضمار كما كان في ليس ولا يكون، وهو إضمار قصته فيهما كقصته في ليس ولا يكون. وذلك قولك: ما أتاني أحد خلا زيدا، وأتاني القوم عدا عمرا، كأنك قلت: جاوز بعضهم زيدا، إلّا أنّ خلا وعدا فيهما معنى الاستثناء، ولكني ذكرت جاوز لأمثّل لك به، وإن كان لا يستعمل في هذا الموضع. وتقول: أتاني القوم ما عدا زيدا، وأتوني ما خلا زيدا. وما هاهنا اسم، وخلا وعدا هاهنا صلة له كأنه قال: أتوني ما جاوز بعضهم زيدا، وما هم فيها ما عدا زيدا، كأنه قال: ما هم فيها ما جاوز بعضهم زيدا، وكأنه قال: إذا مثّلت ما خلا وما عدا فجعلته اسما غير موصول قلت: أتوني مجاوزتهم زيدا، مثّلته بمصدر ما هو في معناه، كما فعلته فيما مضى. إلا أنّ جاوز لا يقع في الاستثناء. وإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيد، فالرفع جيد بالغ، وهو كثير في كلامهم؛ لأنّ يكون صلة أن، وليس فيها معنى الاستثناء، وأن يكون في موضع اسم مستثنى. كأنك قلت: لا يأتونك إلا أن يأتيك زيد. والدليل على أنّ يكون هاهنا ليس فيها معنى الاستثناء: أنّ ليس وعدا وخلا لا يقعن هاهنا. ومثل الرفع قول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ [النساء: 29] منكم وبعضهم ينصب على وجه النصب في لا تكون، والرفع أكثر. وأما حاشا فليس باسم، ولكنه حرف يجرّ ما بعده كما تجرّ حتى ما بعدها، وفيه معنى الاستثناء. وبعض العرب يقول: أتاني القوم خلا عبد الله فيجعل خلا بمنزلة حاشا فإذا قلت: ما خلا فليس فيها إلا النصب؛ لأنّ ما اسم، ولا يكون صلتها إلّا الفعل هنا، وهي ما التي في قولك: افعل ما فعلت. ألا ترى أنك لو قلت: أتوني ما حاشا زيدا لم يكن كلاما؟ وأما أتاني القوم سواك، فزعم الخليل أنّ هذا كقولك: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحد مكانك، إلا أنّ في سواك معنى الاستثناء.

قال أبو سعيد: الأصل في الاستثناء إلا، وسائر ما يستثنى به من اسم أو فعل أو حرف موضوع موضع إلا؛ والدليل على ذلك أنها تكفي من ذكر المستثنى منه في قولك: ما قام إلا زيد. ويقع موقعها غير؛ لأنها تعرب إعراب الاسم الذي يقع بعد إلا، وهي مضافة إلى ذلك الاسم، ولا يستثني بما سوى إلا وغير إلا والمستثنى منه مذكور في الكلام. لا يجوز أن تقول: ما جاءني لا يكون زيدا، ولا ما جاءني ليس زيدا. وقد تبيّن تمكّن إلا في الاستثناء، وأنها الأصل، وفي هذه الأشياء معنى إلا، وهي تعمل كعملها في أنفسها قبل أن توضع موضع إلا. فأما ليس ولا يكون فإنّا لمّا رأينا الأفعال لا تنصب إلا ومعها فاعلوها، وعلم أنّ مع ليس، لا يكون فاعلين، وكان إضمار بعض المذكورين فيهما لا يخرجهما عن معنى ما أريد بهما من الاستثناء، قدّرنا فيهما، وأجريناهما على عملهما قبل أن يجعلا في موضع الاستثناء، وكأنّا لما قلنا قام القوم احتمل أن يكون قام بعضهم، وبعضهم لم يقم، كما يجوز إرادة الخاصّ باللفظ العام، والبعض الذي قام هم. القوم الذين ارتفعوا بالفعل، والبعض الذي لم يقم هم المستثنون. وذهب الكوفيون إلى أنّ المضمر فيها المجهول، وهو كناية عن الفعل، والاسم في موضع الفعل أيضا. كأنه قال: ليس فعلهم فعل زيد. والذي قدّره البصريون أولى؛ لأنه أقلّ إضمارا؛ لأنّ الكوفيين أضمروا مضافا إلى زيد محذوفا، وليس ذلك في تقدير البصريين. وأما موقع ليس ولا يكون من الكلام فإنه يحتمل شيئين: أحدهما: أن يكون من كلام غير الأول، كأنه عقّب الكلام الأول بجملة بيّن بها خصوصا لعموم الكلام الأول، كما يقول القائل: جاءني القوم وما أريد زيدا ولا أعنيه، وجاءني الناس وما جاءني زيد. وقد تأتي جملة بعد جملة يكون في الثانية من التخصيص ما يكون بمنزلة الاستثناء من الأول. قال الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (¬1)، ثم قال بعد ذلك بغير لفظ الاستثناء: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ فقام ذلك مقام: إلّا أن يكون له إخوة فيكون لها السّدس. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية 11.

والوجه الآخر: أن تكون الحال للأول، وتكون من كلام واحد، ويكون التقدير في: قام القوم ليس زيدا: قام القوم خالين من زيد، وعارين من زيد. وقد يقول القائل: جاءني عمرو وليس معه زيد على الحال، كما تقول: جاءني عمرو ومعه زيد ويجوز إسقاط الواو، تقول: جاءني عمرو ليس معه زيد. ويلزم للاستثناء إسقاط الواو من ليس؛ لأنها تنوب عن إلا، ولا يدخل في إلا الواو، فلم يدخل في ليس للاستثناء، وإذا جعلت ليس، ولا يكون صفة فهي من كلام واحد، وموضعهما من الإعراب موضع الاسم الذي هي صفته. فإذا قلت: ما أتتني امرأة لا تكون فلانة، فموضع لا تكون رفع؛ لأنها صفة امرأة، وإذا قلت: ما مررت بامرأة لا تكون فلانة خفض، وإذا قلت: ما رأيت امرأة لا تكون فلانة، فموضعها نصب، وكذلك إذا قلت ما أتتني امرأة ليست هندا. وأما (عدا) و (خلا) فإذا نصب ما بعدهما فهما فعلان يجريان مجرى (ليس) و (لا يكون) في الاستثناء، ولا يجريان مجراهما في الصفة، تقول: أتاني القوم عدا زيدا وما أتاني القوم خلا زيدا، على تقدير: عدا بعضهم زيدا، وخلا بعضهم زيدا بمنزلة: جاوز بعضهم زيدا، ولا تقول: ما أتتني امرأة عدت هندا، ولا مررت بامرأة خلت دعدا. وإنما لم يوصف بهما كما وصف ب (ليس) و (لا يكون)؛ لأن (ليس) و (لا يكون) من ألفاظ الجحد المحض، وهما يرفعان الاسم وينصبان الخبر كما ترفع بالفعل الفاعل وتنصب المفعول، فإذا وصفنا بهما فهما على بابهما في اللفظ، وعلى حكم الاستثناء في مخالفة ما بعدهما لما قبلهما لما فيهما من الجحد. و (حلا) و (عدا) ليسا لفظي جحد. فأما (خلا) فإنها لا تتعدى إلى مفعول إلا في الاستثناء، فإذا قلنا: ما مررت بامرأة خلت هندا فهو على خلاف ما عليه لفظ (خلا) في التعدي. وأما (عدا) وإن كان متعديا فليس بلفظ جحد ونفي، فيكون كالاستثناء في الخلاف الذي بين ما قبله وما بعده، وإنما علّ على الاستثناء بضرب من التأويل والحمل على المجاوزة؛ ومعناها: الخروج عن الشيء والتخليف له. وقد سأل سائل: لم لم يستثن ب (جاوز) كما استثنى ب (عدا) و (خلا)، ف (جاوز) أبين وأجلى في المعنى؟ وإليه ردّ سيبويه: (عدا) و (خلا) لمّا مثّلهما. فالجواب: أنّ اللفظين قد يجتمعان في معنى، ويختص أحدهما بموضع لا يشاركه فيه الآخر؛ كالعمر والعمر في البقاء، ثم يختصّ العمر باليمين. وله نظائر كثيرة تجري هذا

المجرى. ومن أجل هذا لم يجز في الاستثناء (لم يكن)، و (ما كان)، في موضع: (ليس)، و (لا يكون)؛ لا تقول: جاءني القوم لم يكن زيدا، وما كان زيدا، على معنى لم يكن بعضهم زيدا. وقد قيل: إنّ معنى عداني الشيء، وعداك الشيء يقال فيما قرب منك، وكاد يقع بك، و (جاوز) قد يقع فيما تباعد وفيما قرب، تقول: جاوزنا الغيم، ولا تقول: عدانا الغيم؛ لتباعده عنا. وأما (ما عدا) و (ما خلا) فلا خلاف بين البصريين والكوفيين أنّ (ما) في موضع نصب، وأنّ (ما خلا) و (ما عدا) كالمصدر، وفاعل (عدا) و (خلا) مضمر تقديره: ما عدا بعضهم، وما خلا بعضهم، كأنا قلنا: أتاني القوم مجاوزتهم زيدا. قال أبو سعيد: ومجاوزتهم عندي بمعنى الحال، كالمصادر التي توضع موضع الحال، كقولك: رجع عوده على بدئه، ونظائره، كأنه قال: أتاني القوم مجاوزين، أو خالين من زيد. فأما (إلا أن يكون) فإذن الاستثناء ب (إلا)، والمستثنى (أن)، و (يكون) في صلة (أن)، والفعل بعدها في تقدير المصدر، فإذا قلت: أتوني إلا أن يكون زيد فتقديره في اللفظ: إلا كون زيد، ومعناه: إلا زيدا، وقد ينصب فيقال: أتاني القوم إلا أن يكون زيدا، على معنى: إلا أن يكون بغضهم، كما أضمر في (ليس) و (لا يكون)؛ ومعنى ذلك كله: إلا زيدا. وأما قوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً (¬1)؛ فتجارة فاعل (تكون)، وإذا نصبت تجارة وأنّثت (تكون) فالتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، ويجوز في العربية: إلا أن يكون تجارة على معنى: إلا أن يكون بعضها تجارة، كما تقول: أتاني القوم إلّا أن يكون زيدا، وإذا رفعت الاسم ف (يكون) في معنى يقع؛ إلا أن تقع تجارة؛ لأن (كان) إذا لم يكن لها خبر فهي في معنى: يقع، ويحدث، ويوجد، ونحو ذلك. وأما (حاشا) فهي عند سيبويه حرف جبر، وليس باسم ولا فعل، وأما الجر بها فلا خلاف بين النحويين فيه، وقد قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 29.

حاشى أبي ثوبان إنّ به … ضنّا عن الملحاة والشتم (¬1) وأكثر الناس يخالف سيبويه فيها، وهم مع خلافهم سيبويه مختلفون فيها: فأما الفرّاء فزعم أنّ حاشا فعل، وزعم أنه لا فاعل له، وهذا ظريف وهو كالمحال؛ لأن الفعل لا يكون بغير فاعل، وزعم أن الأصل حاشا لزيد، فكثر الكلام حتى أسقطوا اللام، وخفضوا بها. وقال محمد بن يزيد المبرّد: إنه يكون حرف جر كما ذكر سيبويه، ويكون فعلا ينصب مثل (عدا) و (خلا)، واستدل، على ذلك بتصريف الفعل منه، وقولهم: حاشيت زيدا أحاشيه، كقول النابغة: ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه … ولا أحاشي من الأقوام من أحد (¬2) ومما احتجّ به قولهم حاشا لزيد، ولو كان (حاشا) حرف جرّ لم يجز دخولها على اللام. قال أبو سعيد: أما احتجاجه ب (حاشيت) فلقائل أن يقول: حاشيت إنّما هو تصريف فعل من لفظ (حاشا) الذي هو حرف يستثنى به، وليس ب (حاشيت) يقع الاستثناء، ولا بحاشى يحاشى، ومنزلة: حاشيت من حاشى كمنزلة: هلّل وحولق، وبسمل، من: (لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله) فقد صرّف الفعل مما ليس بفعل. ومما يقوى قول أبي العباس أن أبا عمرو الشيباني وغيره حكى: أن العرب تخفض بها وتنصب. وقال أبو إسحاق الزجاج: حاشا لله في معنى: براءة لله، وهي مشتقّة من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحية فلان. كما قال: بأيّ الحشا أمسي الخليط المباين (¬3) ¬

_ (¬1) البيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي الجميح (منقذ بن الطمّاح بن قيس الأسدي)؛ الخزانة 10/ 249؛ ابن يعيش 2/ 84، 8/ 47؛ وتاج العروس (حشا). (¬2) البيت منسوب للنابغة الذبياني؛ في ديوانه ص 20؛ الخزانة 3/ 403، 405؛ ابن يعيش 2/ 85؛ واللسان، وتاج العروس (حشا). (¬3) البيت منسوب للمعطل الهذلي في ديوانه 3/ 45؛ ابن يعيش 2/ 85، 8/ 48؛ ولسان العرب (حشا)؛ وتاج العروس (حشا).

فإذا قال: حاشا لزيد فمعناه: قد تنحّى زيد من هذا وتباعد منه، كما أنك إذا قلت قد تنحى من هذا فمعناه: قد صار في ناحية منه؛ وكذلك تحاشى من هذا، أي: قد صار في حشا منه، أي: في ناحية منه. وعلى طريقة الزجاج قال بعض أصحابنا: (حاشا) في معنى المصدر، قال: ويقال: حاشا الله، وحاشا لله كما يقال براءة لله، ويدخله النقص فيقال: حاش لله وحشا لله، كما يقال في النقص: غد في: ومه في: مهلا، وعل في على، ولا يكون ذلك في الحروف. ويستعملون حاشا لتبرئة الاسم الذي بعدها عند ذكر سوء في غيره أو فيه، وربما أرادوا تبرئة الإنسان من سوء فيبتدئون بتبرئة الله عزّ وجلّ من السّوء، ثم يبرئون من أرادوا تبرئته، ويكون تنزيههم الله على جهة التعجب والإنكار على من ذكر السوء فيمن برّأوه. قال الله تعالى: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (¬1)، ومذهب حاشى لله كمذهب معاذ الله، وسبحان الله في الإنكار والتعجب، وإذا استثنوا بحاشا فاستثناؤهم بها أيضا على طريق التبرئة للاسم المستثنى بها من سوء، أدخلوا فيه غيره. وقد تكون (خلا) حرف جر، ولم أعلم خلافا في جواز الجر بها، ولم أر أحدا ذكر في (عدا) الجرّ إلا الأخفش، فإنه قرنها وبعض ما ذكر مع (خلا) في الجر. وأما أتاني القوم سواك فيه فصار فيه معنى الاستثناء؛ لأنّ فيه مع غير وسواك لا يتمكن، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. وقال أبو سعيد: حكي عن الزجاج أنه كان يجيز في بعض الأحوال تقديم حرف الاستثناء في أول الكلام، ويحتج بقول الشاعر: خلا أنّ العتاق من المطايا … حسين به فهنّ إليه شوس (¬2) وهذا غلط؛ لأن الشعر لأبي زبيد الطائي، وقبل هذا البيت في قصيدته: إلى أن عرّسوا وأغبّ منهم … قريبا ما يحسّ له حسيس خلا أنّ العتاق من المطايا … حسين به فهنّ إليه شوس فقد صار (خلا) بعد المستثنى منه، وهو: " ما يحسّ له حسيس ". وأما قول العجّاج. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 50. (¬2) البيت منسوب لأبي زبيد الطائي في ديوانه 96؛ ولسان العرب، وتاج العروس (حسس)؛ والمقتضب 1/ 380.

هذا باب مجرى علامات المضمرين، وما يجوز فيهن

وبلد ليس به طوريّ … ولا خلا الجنّ به إنسيّ (¬1) فتقديره: ولا به إنسيّ خلا الجن، ف (به) مقدرة بعد لا محذوفة؛ لأنه لو قال: ليس به طوريّ ولا إنسيّ، فمعناه: ولا به إنسيّ، فاستثنى بعد تقدم شيء في التقدير، ويدل عليه ما قبله، فيفسّر كأنه قال: ما به خلا الجنّ إنسيّ، وتقديم الاستثناء فيه للضرورة، والذي يحكى عن الكوفيين: جواز تقديم الاستثناء في أول الكلام. قال الكسائي: " إلا طعامك ما أكل زيد " استثناء، وجاز أن تضعه مقدما ومؤخرا. وهذا عند أصحابنا لا يجوز من غير جهة: فمنه أن تقديم الاستثناء في أول الكلام لم يقم عليه دليل من سماع ولا قياس. ومنه أن (ما) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. لا تقول: زيدا ما ضربت، فإذا لم يجز ذلك كان جوازه بعد دخول " إلا " عليه أبعد. هذا باب مجرى علامات المضمرين، وما يجوز فيهن وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب علامة المضمرين المرفوعين قال سيبويه: " اعلم أنّ المضمر المرفوع إذا حدّث عن نفسه فإن علامته أنا، وإن حدّث عن نفسه وعن آخر قال: نحن، وإن حدث عن نفسه وعن آخرين قال: نحن. ولا يقع (أنا)، في موضع التاء التي في فعلت، لا يجوز أن تقول: فعل أنا؛ لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا، ولا تقع نحن في موضع (نا) التي في فعلنا. لا تقول: فعل نحن. وأما المضمر المخاطب: فعلامته إن كان واحدا: أنت، وإن خاطبت اثنين فعلامتهما أنتما، وإن خاطبت جميعا فعلامتهم أنتم. واعلم أنه لا يقع أنت في موضع التاء التي في فعلت، ولا أنتما في موضع (تما) التي في فعلتما. ألا ترى أنك لا تقول: فعل أنتما، ولا يقع أنتم في موضع (تم) التي في: فعلتم، لو قلت: فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنتن في موضع (تن) التي في فعلتنّ، لو قلت: فعل أنتن لم يجز. وأما المضمر المحدّث عنه فعلامته: " هو "، وإن كان مؤنثا فعلامته: " هي "، وإن ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 68؛ والخزانة 3/ 311، 312، 338؛ تاج العروس (أنس).

حدثت عن اثنين فعلامتهما: " هما ". وإن حدثت عن جميع فعلامتهم " هم "، وإن كان الجميع جميع مؤنث فعلامته: " هن ". ولا يقع هو في موضع المضمر الذي في فعل، لو قلت: " فعل هو " لم يجز، إلا أن يكون صفة. ولا يجوز أن يكون " هما " في موضع الألف التي في ضربا، والألف التي في " يضربان "، لو قلت: " ضرب هما " أو " يضرب هما " لم يجز. ولا يقع " هم " في موضع " الواو " التي في " ضربوا "، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت: " ضرب هم " أو " يضرب هم " لم يجز. وكذلك هي، لا تقع موضع الإضمار الذي في " فعلت "؛ لأنّ ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا تقع هن في موضع النون التي في فعلن، ويفعلن، لو قلت: فعلت هي أو فعل هنّ لم يجز، إلا أن يكون صفة، كما لم يجز ذلك في المذكر؛ والمؤنث يجري مجرى المذكر. ف (أنا)، وأنت، ونحن وأنتما، وأنتن، وهو، وهي، وهما، وهم، وهن لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا، ولا في موضع المضمر الذي لا علامة له؛ لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك ". قال أبو سعيد: أدخل الاسم المضمر في الكلام خوفا من اللبس، واحتراسا منه، ومن النحويين من يسميه المكنيّ؛ وذلك أن الأسماء الظاهرة كثيرة الاشتراك والالتباس، وليس لها أحوال تقترن بها تدل على المختص منها إذا التبست، وإنما يدل على اختصاص المختص منها في كثير من أحواله الصفات، كقولنا: مررت بزيد البزّاز، وبهذا الرجل، وبرجل ظريف. والمضمرات تستغنى عن ذلك بالأحوال المقترنة بها، المغنية عن صفاتها، وهي ثلاثة أقسام: المتكلم والمخاطب، والغائب، والأحوال المقترنة بها: حضور المتكلم والمخاطب، والمشاهدة لهما، وتقدّم ذكر الغائب الذي يصيّره بمنزلة الحاضر المشاهد في الحكم. وأعرفهم المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب. وإنما صار المتكلم أعرف لأنه لا يوهمك غيره. فإن قال قائل: فقد يتكلم المتكلم فلا يعرفه السامع فيسأل عنه، فيقول: " من المتكلم؟ "، كما يقال: " من المخاطب؟ " إذا سمع خطاب لا يعرف المعنىّ به. قيل له: المتكلم قد عرف حسّا، وإن جهل نبه؛ لأن الذي يسمع كلامه إن لم يكن بينهما حجاب فهو يعاينه، ويسمع كلامه، وإن كان بينهما حجاب فقد أحسّ كلامه

بسمعه إياه، فأما سؤاله عنه فكما يسأل الرجل عمن يعاينه، فيقول: من هذا؟ ومن الرجل؟ فيكشف ما ذكرناه أن رجلا محجوبا لو أحسّ بجماعة بقربه فسمع واحدا منهم يقول: أنا قتلت فلانا، وأنا فعلت وصنعت، علم أن القاتل هو المتكلم، لا يذهب وهمه إلى غيره، ولو سمع أنت قتلت فلانا لم يذهب وهمه إلى بعض من حضر دون بعض، والمخاطب يتلو المتكلم بالحضور والمشاهدة، وأضعفها تعريفا " كناية الغائب "؛ لأنها تكون كناية عن معرفة ونكرة، حتى قال بعض النحويين: " كناية النكرة بمنزلة النكرة ". وأعرفهم المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب. وإنما صار المتكلم أعرف لأنه لا يوهمك غيره. فإن قال قائل: فقد يتكلم المتكلم فلا يعرفه السامع فيسأل عنه، فيقول: " من المتكلم؟ "، كما يقال: " من المخاطب؟ " إذا سمع خطاب لا يعرف المعنىّ به. قيل له: المتكلم قد عرف حسّا، وإن جهل نسبه؛ لأن الذي يسمع كلامه إن لم يكن بينهما حجاب فهو يعاينه، ويسمع كلامه، وإن كان بينهما حجاب فقد أحسّ كلامه بسمعه إياه، فأما سؤاله عنه فكما يسأل الرجل عمن يعاينه، فيقول: من هذا؟ ومن الرجل، ويكشف ما ذكرناه أن رجلا محجوبا لو أحسّ بجماعة بقربه فسمع واحدا منهم يقول: أنا قتلت فلانا، وأنا فعلت وصنعت، علم أن القاتل هو المتكلم، لا يذهب وهمه إلى غيره، ولو سمع أنت قتلت فلانا لم يذهب وهمه إلى بعض من حضر دون بعض، والمخاطب يتلو المتكلم بالحضور والمشاهدة، وأضعفها تعريفا " كناية الغائب "؛ لأنها تكون كناية عن معرفة ونكرة، حتى قال بعض النحويين: " كناية النكرة بمنزلة النكرة ". فأما المتكلم فجعل له لفظ ينفرد به لا يشاركه فيه غيره كما لا يشاركه غيره في لفظه، وعبارته عن نفسه وغيره، إذ كان لا يجوز أن يكون كلام واحد من متكلّمين، ولفظ واحد من لافظين، ومن أجل ذلك يستوي لفظ المتكلم المذكر والمؤنث؛ لأنّ الفصل بين المؤنث والمذكر إنما يحتاج إليه لئلا يتوهّم غير المقصود في موضع المقصود، وتثنية المتكلم وجمعه على لفظ واحد، أما في الضمير المنفصل المرفوع فهو " نحن " في الاثنين والجميع. وأما في الضمير المتصل المرفوع ب " نا " كقولك: " قمنا " و " ذهبنا " في الاثنين والجميع، وإنما يستوي لفظ الاثنين والجميع؛ لأنه على غير طريق التثنية والجمع في غيره. وذاك أن المثنى هو شيئان متساويا اللفظ ضم أحدهما إلى الآخر " كزيد وزيد " و " رجل ورجل " وما أشبه ذلك.

والمجموعة هو جماعة متساو واللفظ ضم بعضهم إلى بعض كقولنا: " زيد وزيد وزيد "، و " رجل ورجل ورجل "، فيقال: " زيدون " و " رجال ". والمتكلم لا يشاركه متكلم آخر في خطاب واحد فيكون اللفظ لهما، فتبطل تثنيته وجمعه على منهاج التثنية والجمع، ولكنه كما كان قد يتكلم عن نفسه وحده، ويتكلم عن نفسه وغيره، جعل اللفظ الذي يتكلم به عن نفسه وغيره مخالفا للفظ الذي له وحده، واستوى أن يكون غيره المضموم إليه واحدا واثنين وجماعة؛ فيقول: أنا خارج، ونحن خارجان، ونحن خارجون، وقمت ضاحكا، وقمنا ضاحكين، وقمنا ضاحكين. وأما المخاطب فإنه يفصل بين لفظ مؤنثه ومذكّره، ويثنى ويجمع؛ فيقال للمذكر: أنت، وقمت، وللمؤنث: أنت، وقمت، وكذلك ضربتك للمذكر، وضربتك للمؤنث، وكسر ما ذكرناه في علامة المؤنث، والياء في هي وفي ذي، في مؤنث هو وذا، كله محمول على الياء في: (تفعلين) وفصل بين المؤنث والمذكر في الخطاب؛ لأنه قد يكون بحضرة المتكلم اثنان من المؤنث والمذكر وهو مقبل عليهما، فيخاطب أحدهما، فلا يعرف حتى ينبهه بعلامته، وثنّى المخاطب وجمع لما ذكرنا من انصراف الخطاب إلى بعض الحاضرين دون بعض، فعلم بالتثنية والجمع المقصود منهم بالخطاب. وإذا ضم إلى المخاطب غائب صار لفظه كلفظ الاثنين المخاطبين، وإذا ضم إليه أكثر من واحد صار لفظه كلفظ الجماعة المخاطبين، فيقال: أنتما خرجتما، وأحدهما حاضر، وأنتم خرجتم وأحدهم حاضر، وعلى هذا حملت الأبيات المنشدة في خطاب الواحد بلفظ الاثنين. قال امرؤ القيس: خليلّي مرّا بي على أمّ جندب … نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب (¬1) ثم قال: ألم تر أني كلّما جئت طارقا … وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (¬2) ويروى: (ألم ترياني)، والشاهد في الأول. وقال آخر: خليليّ قوما في عطالة فانظرا … أنارا ترى من نحو يبرين أم برقا (¬3) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 41. (¬2) البيت منسوبا لامرئ القيس في ديوانه 41. (¬3) البيت منسوبا لسويد بن كراع العكلي، وتاج العروس (عطل).

فقال: " ترى " بعد " خليليّ "، وقال آخر: فإن تزجراني يا ابن عفّان أزدجر … وإن تتركاني أحم عرضا ممنّعا (¬1) وقال أوس بن حجر: يا ابني شراحيل ما بالي وبالكما … إنّ المجاهل منها عرية قذف أذمة لكما عندي فنطلبها … أم من عرام إلهي نالكم نطف فنطلبها لواحد، وابتداء الخطاب لاثنين، ويروى " فأعطيها "، وتعود " الهاء " إلى ذمة، وهذا لا شاهد فيه. وقال بعض النحويين: إنّ العرب جرت عادتها في خطاب الواحد بلفظ الاثنين، على عادتهم إذا أرادوا الرحيل وأمروا برحلة البعير، وشدّ الأداة عليه، أن يأمروا اثنين بالشد، فيقولون: " يا غلامان ارحلاه، ونحو ذلك، وهذا يكثر في كلامهم، فجروا على عادة ذلك اللفظ وإن أرادوا واحدا. وذكر بعض النحويين أن قوله عز وجل: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ (¬2) خطاب لواحد وأجري بلفظ الاثنين، فإذا صح أنه خطاب لواحد فهو على نحو ما ذكرناه. وأما ضمير الغائب فإنه يثنى ويجمع وتبين فيه علامة المؤنث، وهو أولى بذلك؛ لأنه ضمير ظاهر قد جرى ذكره، والظاهر يثّنّى ويجمع، ويدخل فيه المؤنث. واعلم أن في المضمرات منفصلا ومتصلا: فأما المنفصل فهو: " أنا " و " أنت " و " نحن " و " أنتما " و " أنتم " و " أنتن " و " هو " و " هي " و " هما " و " هم " و " هن "، وقد أجري الضمير للمنصوب: " إيا " وما يتصل بها من علامة المتكلم والمخاطب والغائب في التثنية والجمع، والمؤنث والمذكر نحو: إياي، وإيانا، وإياه، وإياهما، وإياهم ... ، وسائر ما يتصل بإيا. وأما الضمير المتصل فهو: كل ضمير لمجرور، وكل ضمير لمنصوب سوى (إيا)، وكل ضمير لمرفوع سوى ما ذكرناه من (أنا) وما بعده إلى (هن)، إنما جعل بعضه متصلا وبعضه منفصلا؛ لاختلاف مواقع ما نضمر؛ لأن الأسماء التي تضمر بعضها يتصل باللفظ العامل الذي يعمل فيه، فضميره يقع موقعه في الاتصال بالعامل، وبعضها ينفصل عن ¬

_ (¬1) البيت منسوب لسويد بن كراع العكلي، الخزانة 11/ 17؛ ولسان العرب (جزز)؛ وتاج العروس (جزز). (¬2) سورة ق، من الآية: 24.

عامله بالتقدّم عليه، وبالفصل بينه وبينه، فضميره منفصل من عامله. ومن المنفصل أيضا ضمير الاسم الذي لا لفظ يعمل فيه فيتصل به. وجملة الضمير تجري مجرى حروف المعاني التي تستعمل في الأشياء المختلفة، وهي حروف قليلة محصورة تستعمل فيما لا يحصي من الأسماء والأفعال، كحروف العطف، وحروف الخفض، وحروف النصب في الأسماء والأفعال، وحروف الجزم وحروف الاستفهام وما جرى مجراهن، وكذلك الضمائر هي ضمائر أسماء مختلفة بألفاظ قليلة محصورة تتكرر على كل المضمرات، فلما كانت كذلك قلّلت حروفها، فجعل ما كان منها متصلا على حرف، إلا أن يكون هاء فيزاد عليه حرف آخر لخفائه، كالتاء في قمت، والكاف في ضربتك، وجعل بعض المتصل في النية كالضمير في أفعل ونفعل وتفعل، وفي زيد قام، وزيد في التثنية والجمع، واحتمل أن يكون على حرف واحد؛ لأنه يتصل بما قبله من حروف الكلمة. وإذا كان منفصلا كان على حرفين أو أكثر؛ لأنه لا يمكن إفراد كلمة على حرف واحد، والمنفصل منفرد عن غيره بمنزلة الاسم الظاهر، وهذه سبيل حروف المعاني؛ منها ما هو على حرف واحد كواو العطف والباء واللام، ومنها ما هو على أكثر من حرف ك (عن وعلى). ومن أجل أنّ المتصل أقلّ حروفا من المنفصل كان النطق بالمتصل أخفّ، فلم يستعملوا المنفصل في المواضع التي يقع فيها المتصل؛ لأنهم لا يؤثرون الأثقل على الأخفّ إلا في الضرورة، وهذا الذي ضمّنه سيبويه الباب حين قال: (لا يقع أنت موضع التاء في فعلت، ولا أنتما في موضع تما التي في فعلتما، وسائر ما ذكره إثر هذه إلى آخر الباب. فإن قال قائل: فلم تغيرت حروف المضمرات وصيغتها في الرفع والنصب؟ فيقال: أنت في الرفع، وإياك في النصب، والتاء في ضربتك للمرفوع، والكاف للمنصوب، ومن سبيل الأسماء الظاهرة أن لا تتغير حروفها وصيغتها كقولك: (هذا زيد)، و (رأيت زيدا) و (مررت بزيد)؟ قيل: لمّا كانت الضمائر واقعة مواقع الأسماء المعربة المختلفة الإعراب، وهي مبنية، جعلوا العوض من الإعراب الدّال على المعاني المختلفة تغيير صيغة؛ ليدلّ على مثل ما دلّ عليه الإعراب وهو مبني.

هذا باب استعمالهم علامة الإضمار الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل الذي لم يقع موقعه

هذا باب استعمالهم علامة الإضمار الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل الذي لم يقع موقعه قال سيبويه: " فمن ذلك قولهم: (كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء هاهنا، ولا على الإضمار الذي في فعل. ومثل ذلك: نحن وأنتم ذاهبون؛ لأنك لا تقدر هاهنا على التاء والميم التي في فعلتم، كما لا تقدر في الأول على التاء التي في فعلت. وكذلك جاء عبد الله وأنت؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول: فيها أنتم؛ لأنك لا تقدر على التاء. هاهنا وفيها هم قياما، بتلك المنزلة؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في فعل. ومثل ذلك: أما الخبيث فأنت، وأمّا العاقل فهو؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك: كنّا وأنت ذاهبين، وكذلك: أهو هو. قال الله عز وجل: كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ... [النمل: 42]؛ فوقع هو هاهنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعل. وقال الشاعر: فكأنّها هي بعد غبّ كلالها … أو أسفع الخدّين شاة إران (¬1) وتقول: ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدي كرب: قد علمت سلمى وجاراتها … ما قطّر الفارس إلا أنّا (¬2) وكذلك ها أنا ذا، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها أنت ذا، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء. وإنما استعملت هذه الحروف هاهنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل، ولا على الإضمار الذي في فعل. وزعم الخليل أن (ها) هاهنا هي التي مع (ذا) إذا قلت: (هذا)، وإنما أرادوا أن يقولوا: هذا أنت، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا؛ وأرادوا أن يقولوا: أنا هذا وهذا أنا، فقدموا ها وصارت أنا بينهما. ¬

_ (¬1) البيت منسوب للبيد بن ربيعة 143، الكتاب 2/ 353؛ وفي لسان العرب، وتاج العروس (أرن، شوه). (¬2) البيت في ديوانه 155؛ والكتاب 2/ 353؛ لسان العرب، وتاج العروس (قطر).

وزعم أبو الخطاب أنّ بعض العرب الموثوق بهم يقولون: هذا أنا وأنا هذا. ومثل ما قال الخليل في هذا قول الشاعر وهو لبيد: ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا … فقلت لهم هذا لها ها وذا ليا (¬1) كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصيّر الواو بين ها وذا. وزعم أن مثل ذلك إي ها الله ذا، إنما هو هذا. وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة، ولكنها تكون بمنزلتها في هذا؛ يدلّك على ذلك قوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [آل عمران: 66]، فلو كانت ها هاهنا هي التي تكون مع أولاء إذا قلت: هؤلاء، لم تعد هاهنا بعد أنتم. وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب، أنّ العرب تقول: هذا أنت تقول كذا وكذا، لم يرد بقوله: هذا أنت، أن يعرّفه نفسه، كأنك تريد أن تعلمه أنه ليس غيره. هذا محال، ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضر عندنا أنت، أو الحاضر القائل كذا وكذا. وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب، قال الله عز وجل: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ (¬2). قال أبو سعيد: قد بينا أن الضمير المنفصل هو الذي لا يلي عاملا، ولا يتصل به، إمّا أن يكون معرّى من عامل لفظي، أو يكون مقدما على عامله، أو مفصولا بينه وبينه بحرف استثناء، أو حرف عطف، أو بشيء يفصل بينه وبين عامله فصلا لازما. فأما ضمير المرفوع المنفصل فله خمسة مواضع: الابتداء، وخبره، وخبر إنّ وأخواتها بمنزلة خبره، وبعد حرف الاستثناء، وبعد حرف العطف. فالابتداء والخبر معرّيان من عامل لفظي، وضميرهما منفصل كقولك: (كيف أنت؟) و (أين هو؟)؛ كيف وأين خبران مقدمان، وأنت وهو مبتدآن، وكذلك نحن وأنتم ذاهبون؛ نحن مبتدأ، وأنتم عطف عليه، و (ذاهبون) خبرهما، وكذلك (جاء عبد الله وأنت) أنت عطف على عبد الله، وانفصل لأنه وقع بعد حرف العطف، ولم يلتزق بالعامل، ولم يمكن ذلك فيه. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 360؛ والخزانة 461؛ ابن يعيش 8/ 114؛ الكتاب 2/ 354؛ المقتضب 2/ 322. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 85.

ومن الضمير المنفصل الواقع موقع المبتدإ أقوله: (فيها أنتم)؛ لأن (فيها) خبر مقدم، و (أنتم) مبتدأ، وتقديره: (أنتم فيها)، ومثله (فيها هم قياما)، وقوله: (أما الخبيث فأنت)، و (أما العاقل فهو)، أنت وهو مبتدآن، وخبرهما ما قبلهما، أو خبران لما قبلهما، وقوله: (أهو هو؟) مبتدأ أو خبر، وهما منفصلان، وكأنه هو وأوتينا هو خبر كأن، وقول لبيد: (كأنها هي)؛ هي خبر كأنها، وإنما يصف ناقة أنها بعد كلالها وتعبها كأنها نفسها قبل الكلال في النشاط والقوة، أو كأنها أسفع الخدين شاة إران، يعني ثورا وحشيّا، ويسمّى الثور الوحشي: شاة، والبقرة الوحشية: شاة ونعجة، وإران: نشاط، ويقال: عدو، أرن يأرن أرنا، والاسم الإران، ويقال: الإران كناس الوحشية، وكناسها مثل البيت تأويه، والإران: سرير الميت، ومنه قول الشاعر وهو طرفة: أمون كألواح الإران نسأتها (¬1) والتفسير الذي ذكرته أنّ (هي) ترجع إلى الناقة على معنى: كأنها نفسها، شيء رأيت أصحابنا يفسرونه به، والذي رأيت عليه مفسّري شعر لبيد يذكرونه: أنّ (هي) كناية عن سفينة ذكرت قبل هذا البيت في القصيدة، شبّه الناقة بها في السرعة، وذلك قوله: فصددت عن أطلالهن بجسرة … عيرانة كالعقر ذي البنيان كسفينة الهنديّ طابق درءها … بسقائف مشبوحة ودهان فكأنها هي بعد غبّ كلالها … أو أسفع الخدين شاة إران (¬2) أراد فكأنها السفينة المذكورة. وقوله: (ما قطّر الفارس إلا أنا) وقعت الكناية بعد حرف الاستثناء فكانت منفصلة. وأما قوله: (ها أنا ذا)، و (ها نحن أولاء)، و (ها هو ذاك) و (ها أنت ذا)، و (ها أنتم أولاء)، و (ها أنتن أولاء) ف (ها) للتنبيه، والأسماء بعدها مبتدآت، والخبر أسماء الإشارة: (ذا، وأولاء، وذاك)، وإن شئت جعلت الضمير المقدم هو الخبر، والإشارة هي الاسم، وأما: (ها) فيجوز أن تكون مع (ذا) وفصل بينهما بأنت، والمراد بها أن تكون مع (ذا)، والتقدير: أنا هذا، ويجوز أن يكون التنبيه للمضمر؛ لأنهما يشتركان في الإبهام. فأما من قدر (ها) مع (ذا) وإن فصل بينهما بأنت فيحتج بقول زهير: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 22. (¬2) الأبيات منسوبة للبيد بن ربيعة في ديوانه 142، 143.

تعلماها لعمر الله ذا قسما … فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (¬1) وإنما هو: (تعلما هذا لعمر الله قسما)، ويحتج أيضا بقوله: ... … فقلت لهم هذا لها ها وذا ليا والتقدير: (هذا لها، وهذا لي)، فصيّر الواو بين (ها) و (ذا). ويحتج أيضا بقولهم: (لا ها الله ذا)، واسم الله عز وجل ظاهر لا يدخل عليه (ها) للتنبيه، كما لا تدخل على (زيد) ونحوه، وإنما معناه: (لا والله هذا). وأما من يقدّر أن (ها) داخلة على (أنت) غير منوي دخولها على (ذا) فإنه يحتج بقوله عز وجل: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [آل عمران: 66]. فأتي ب (ها) فأدخلها على (أنتم)، ثم أعادها في (أولاء)؛ فلو كانت الأولى منويّا بها التأخير لكانت (ها) الأولى والثانية جميعا ل (أولاء)، وهذا بعيد، وهذه حجة سيبويه، ومعنى قوله: وقد تكون (ها) في (ها أنت ذا) غير مقدمة، أي في موضعها ل (أنت)، غير مقدمة من (ذا) إلى (أنت). وقال أبو سعيد: وإنما يقول القائل: (ها أنا ذا)، إذا طلب رجل لم يدر أحاضر هو أم غائب؟ فقال المطلوب: (ها أنا ذا) أي الحاضر عندك أنا، وإنما يقع جوابا، ويقول القائل: (أين من يقوم بالأمر؟) فيقول له الآخر: (ها أنا ذا)، أو (ها أنت ذا)، أي أنا في ذاك الموضع الذي التمست فيه من التمست، أو أنت في ذلك الموضع، وأكثر ما يأتي في كلام العرب (هذا) بتقديم (ها) والفصل بينها وبين ذا، بالضمير المنفصل. والذي حكاه أبو الخطاب عن العرب الموثوق بهم من قولهم: (هذا أنا) و (أنا هذا) هو في معنى: (ها أنا ذا)، ولو ابتدأ إنسان على غير هذا الوجه الذي ذكرناه فقال: (ها أنت، وها أنا)، يريد أن يعرّفه نفسه كان محالا؛ لأنه إذا أشار له إلى نفسه فالإخبار عنه ب (أنت) لا فائدة فيه؛ لأنك إنما تعلمه أنه ليس غيره، ولو قلت: (ما يزيد غير زيد)، و (ليس زيد غير زيد) كان لغوا لا فائدة فيه، ولو قلت. هذا أنت والإشارة إلى غير المخاطب لجاز، ومعناه: هذا مثلك، كما تقول: زيد عمرو على معنى: زيد مثل عمرو. والذي حكاه يونس عن العرب: هذا أنت تقول كذا كذا، هو مثل قوله عز وجل: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85]؛ لأن قولهم: هذا أنت كقولك: أنت هذا، أحدهما مبتدأ والآخر خبره، أيهما شئت جعلته المبتدأ، وجعلت الآخر الخبر. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 182؛ الخزانة 1/ 41، 5/ 451، 11/ 194؛ والكتاب 3/ 500، 510، وتاج العروس (سلك)، والمقتضب 2/ 323.

وقولهم: يفعل كذا وكذا، في موضع الحال عند البصريين؛ كأنك قلت: (هذا زيد فاعلا كذا)، العامل فيه معنى التنبيه، وعند الكوفيين المنصوب في هذا بمنزلة الخبر؛ لأن المعنى عندهم: زيد فاعل كذا، ثم أدخلوا هذا للوقت الحاضر كما يدخلون كان لما قضى، فإذا أدخلوا هذا وهو اسم، ارتفع به زيد، وارتفع هو بزيد على ما يوجبه حكم المبتدإ والخبر، وانتصب الذي بعده لارتفاع زيد بهذا، ويسمّي أهل الكوفة هذا: (التقريب)، ومنزلته عندهم منزلة كان؛ لأن كان دخلت على: زيد قائم، فارتفع زيد بها، وبطل ارتفاعه بقائم، وارتفاع قائم فانتصب، ولا يجوز إسقاط المنصوب؛ لأنّ الفائدة به معقودة، والقصد إليه. ويجوز عند الكوفيين: هذا زيد القائم، كما يجوز كان زيد القائم، ولا يجوز عند البصريين: (هذا زيد القائم) لأن مجراه مجرى الحال عندهم. وأما قوله عز وجل: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85] ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: مذهب أصحابنا وهو: أنّ أنتم هؤلاء مبتدأ أو خبر، وتقتلون أنفسكم في موضع الحال، تقديره: (قائلين أنفسكم). وعلى أصل مذهب الكوفيين تقتلون خبر التقريب، على ما ذكرناه من مذهب الكوفيين. وقال أحمد بن يحيى ثعلب: هؤلاء في معنى (الذين)، وتقتلون في صلتها، كأنه قال: (ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم). كما قال ابن مفرغ: عدس ما لعبّاد عليك إمارة … أمنت تحملين طليق (¬1) معناه: والذي تحملين طليق، وكان ينبغي على ما قدّره أحمد بن يحيى أن يقرأ: ثم أنتم هؤلاء يقتلون أنفسهم على تقدير: (ثم أنتم الذين يقتلون أنفسهم). ويجوز عند البصريين: (ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم) في الضرورة، وليس ذلك بالمختار، وأنشدوا فيه لمهلهل: وأنا الذي قتّلت بكرا بالقنا … وتركت مرة غير ذات سنام (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 115؛ الخزانة 6/ 41، 42؛ ابن يعيش 4/ 23، 79؛ ولسان العرب وتاج العروس (حدس، عدس). (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 6/ 73؛ ابن يعيش 4/ 25؛ المقتضب 4/ 132.

والوجه: (وأنا الذي قتل). والآخر: يا أيها الذكر الذي قد سؤتني … وفضحتني وطردت أمّ عياليا (¬1) والوجه: (يا أيها الذكر الذي قد ساءني)، والآخر: يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا … أنت الذي طلقت عام جعتا حتى إذا اصطبحت واغتبقتا … أقبلت مرتادا لما تركتا (¬2) والوجه: (الذي طلق عام جاع). وذكر أحمد بن يحيى أنه إنما قال: هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ على هذه اللغة؛ لأنه قد تقدم ذكر (أنتم)، وتقدير (أنت الذي قمت) عند الكوفيين: (أنت قمت)، وألغي (الذي)؛ لأن الكلام لا يختل بإسقاطه، ومثله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (¬3) وها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ (¬4) فيهما الوجوه التي ذكرتها. فإن قال قائل: إذا زعمتم أنّ قوله: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ في موضع الحال، والحال فضلة في الكلام، فهل يجوز أن تقول: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ. قيل له: إذا كان المقصد الإخبار عما أوجب حكم اللفظ فيه أن يكون حالا وجب أن يجري لفظه على الحال، وتصير الحال لازمة على ما أوجبه المعنى، كما أنّ الصفة في بعض المواضع لازمة، كقولك: (مررت بمن صالح)، و (يا أيها الرجل، فصالح والرجل صفتان لازمتان لا يجوز إسقاطهما من الكلام، وإن كان أهل الصفة أن تكون مستغنى عنها. وأيضا فإنا رأينا الحال مع المصادر لا يستغنى عنها في مثل قولك: (شربك المسويق ملتوتا) ونحوه. وأما قوله: هذا لها ها وذا ليا (¬5) ¬

_ (¬1) البيت منسوب لأبي النجم العجلي؛ المقتضب 4/ 132. (¬2) البيت منسوب لسالم بن دارة؛ الخزانة 2/ 139؛ وبلا نسبة في ابن يعيش 1/ 127، 130؛ ولسان العرب وتاج العروس (الياء). (¬3) سورة آل عمران، من الآية: 66. (¬4) سورة آل عمران، من الآية: 119. (¬5) سبق تخريج هذا البيت.

هذا باب علامة المضمرين المنصوبين

بمعنى: (وهذا ليا)، فإنما جاز تقديم (ها) على الواو؛ لأن (ها) تنبيه، والتنبيه قد يدخل على الواو إذا عطف بها جملة على جملة كقولك: (ألا إنّ زيدا خارج)، (ألا وإنّ عمرا مقيم)، ونحو هذا، فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب علامة المضمرين المنصوبين قال سيبويه: اعلم أنّ علامة المضمرين المنصوبين إيا ما لم يقدّر على الكاف التي في رأيتك، وكما التي في رأيتكما، وكم التي في رأيتكم، وكنّ التي في رأيتكن، والهاء التي في رأيته، والهاء التي في رأيتها، وهما التي في رأيتهما، وهم التي في رأيتهم، وهنّ التي في رأيتهن، وفي التي في رأيتني، ونا التي في رأيتنا. فإن قدّرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم توقع إيّا ذلك الموضع؛ لأنهم استغنوا بها عن إيا، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها. قال أبو سعيد: هذه الضمائر المنصوبة المتصلة التي ذكرها سيبويه لا يجوز استعمال إيا مكانها؛ لأنّ إيا منفصل، وإنما تستعمل إيا في الموضع الذي لا يقع فيه المتصل، وقد تقدم ذكر ذلك، والباب مفهوم كلامه فيه. هذا باب استعمالهم إيّا إذا لم يقع مواقع الحروف التي ذكرنا قال سيبويه: فمن ذلك: إياك رأيت، وإياك أعني، فإنما استعملت إياك هاهنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬1) من قبل أنك لا تقدر على كم هاهنا. وتقول: إنّي وإيّاك منطلقان؛ لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ (¬2). فلو قدرت على الهاء التي في: رأيته لم تقل: إياه. وقال الشاعر: مبرأ من عيوب النّاس كلّهم … فالله يرعى أبا حرب وإيّانا (¬3) لأنه لا يقدر على (نا) التي في رأيتنا. وقال آخر: لعمرك ما خشيت على عديّ … سيوف بني مقيّدة الحمار ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآية: 24. (¬2) سورة الإسراء، من الآية: 67. (¬3) في الكتاب 2/ 356؛ وابن يعيش 3/ 75.

ولكنّي خشيت على عديّ … سيوف الجنّ أو إيّاك حار (¬1) لأنه لا يقدر على الكاف. وتقول: إن إياك رأيت كما تقول: إياك رأيت؛ من قبل أنك إذا قلت: إنّ أفضلهم منتصب ب لقيت. هذا قول الخليل، وهو في هذا غير حسن في الكلام؛ لأنه إنما يريد: إنه إياك لقيت، فترك الهاء، وهذا جائز في الشعر. وإن قلت: إنّ أفضلهم لقيت فنصب ب إنّ، فهو قبيح، حتى تقول: لقيته، وقد تبين وجه ذلك. وتقول: عجبت من ضربي إيّاك. فإن قلت: لم؟ وقد تقع الكاف هاهنا وأخواتها، تقول: عجبت من ضربيك ومن ضربيه، ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلّم بهذا، وليس بالكثير. ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيا مواقعها كما استحكمت في الفعل، لا يقال: عجبت من ضربكني إن بدأت به قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبح هذا عندهم، ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع، صارت إياك عندهم في هذا الموضع بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف. ومثل ذلك: كان إياه؛ لأن كانه قليلة، ولم تستحكم هذه الحروف هاهنا، لا تقول: كانني، وليسني، ولا كانك. فصارت إيّا هنا بمنزلتها في ضربي إياك. وتقول: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياه؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء هاهنا، فصارت (إيّا) بدلا من الكاف والهاء في هذا الموضع. قال ابن أبي ربيعة. ليت هذا الليل شهر … لا نري فيه عريبا ليس إيّاي وإيا … ك ولا نخشى رقيبا مقمرا غيّب عنّا … من أردنا أن يغيبا (¬2) وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني، وكذلك كانني. ¬

_ (¬1) البيت منسوب لفاختة بنت عدي، الكتاب 2/ 357؛ ولسان العرب (قيد). (¬2) البيت في ديوانه 485، والخزانة 322؛ ابن يعيش 3/ 75، 76؛ الكتاب 2/ 358؛ المقتضب 3/ 98.

وتقول: عجبت من ضرب زيد أنت، ومن ضربك هو، إذا جعلت زيدا مفعولا، وجعلت المضمرّ الذي علامته الكاف فاعلا، فجاز أنت هاهنا للفاعل كما جاز إيّا للمفعول؛ لأن إيّا وأنت علامتا الإضمار، وامتناع التاء يقوّي دخول أنت هاهنا. وتقول: قد جئتك فوجدتك أنت أنت، فأنت الأولى مبتدأة، والثانية مبنية عليها، كأنك قلت: فوجدتك وجهك طليق. والمعنى: أنك أردت أن تقول: فوجدتك أنت الذي أعرف. ومثل ذلك: أنت أنت، وإن فعلت هذا فأنت أنت، أي فأنت الذي أعرف، أو أنت الجواد والجلد، كما تقول: الناس الناس، أي الناس بكلّ مكان وعلى كل حال كما تعرف. وإن شئت قلت: قد ولّيت أمرا فكنت أنت إياك، وقد جربتك فوجدتك أنت إياك، جعلت أنت صفة، وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا قلت: وجدتك أنت الظريف، والمعنى أنك أردت أن تقول: وجدتك كما كنت أعرف. وهذا كله قول الخليل، سمعناه منه. وتقول: أنت أنت، تكررها، كما تقول للرجل: أنت، وتسكت على حد قوله: قال الناس: زيد. وعلى هذا الحد تقول: قد جرّيت فكنت كنت إذا كررتها توكيدا، وإن شئت جعلت أنت صفة، وفي نسخة أبي بكر مبرمان: فكنت أنت، وعليه يستقيم الكلام. قال أبو سعيد: قد ذكرنا أنّ من مواضع الضمير المنفصل تقديمه على المعامل، والفصل بينه وبينه بحرف الاستثناء وحرف العطف، فالتقديم كقوله عز وجل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (¬1)، والاستثناء قوله: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ (¬2)، والعطف قوله: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ (¬3)، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬4). وإذا قلت: (إنّ زيدا رأيت) ففي نصب (زيد) وجهان: أحدهما: أن تنصبه ب (إنّ) وتضمر في (رأيت) الهاء العائدة إليه. والآخر: أن تنصبه ب (رأيت) وتقدر في (إنّ) الهاء على تقدير (إنه)، وجميعا غير ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬2) سورة الإسراء، من الآية: 67. (¬3) سورة الممتحنة، من الآية: 1. (¬4) سورة سبأ، من الآية: 24.

مستحسن عند البصريين في الكلام، وأقبحهما. عندهم حذف الضمير من (إنّ)، وأقبحهما عند الكوفيين حذف الهاء من رأيت. فإذا جعلت المخاطب مفعولا قلت على قول من حذف الهاء: من إنّ، ونصب الاسم بالفعل الذي بعده: إنّ إيّاك رأيت، كما تقول: (إياك رأيت)، والذي ينصب الاسم ب (إنّ) يقول: (إنك رأيت)، وسبيل (إنّ) سبيل الفعل، وإذا عملت في الضمير اتصل بها. وأما قولك: (عجبت من ضربي إيّاك)، و (من ضربيك)، و (من ضربيه)، و (من ضربيكم)، فالاسم الأول المضاف إليه المصدر، وهو مجرور بالإضافة، فاعلا كان في المعنى أو مفعولا. فإن كان مفعولا فالاسم الثاني مرفوع، ولا يكون ضميره إلا منفصلا، وذلك أن ضمير المرفوع المتصل لا يوجد إلا في الفعل، وإذا كان مع غيره فلا يلي الفعل سواه، كقولك: (ضربتك)، و (ضربتني)، وإنما لزم تقدّمه في الفعل على كل شيء؛ لأنه قد يغير بنية الفعل حتى يختلط به كأنه من بنائه؛ كقولك: (قمت)، و (قمنا)، و (ذهبت)، و (ذهبتما)، و (ذهبن)، فيسكّن آخر الفعل له وكان مفتوحا، ويختلط به حتى يصير مقدّرا في الفعل بغير علامة، كقولك: (زيد قام)، و (أنت تقوم)، و (أنا أقوم)، و (نحن نقوم). ولا يجوز أن يوجد ضمير مرفوع متصل في غير فعل؛ ومن أجل هذا استحكمت علامات الإضمار في الفعل، وشبّه غير الفعل بالفعل في بعض المواضع مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فإذا كان الاسم المضاف إليه المصدر مفعولا، وأتي الفاعل بعده مضمرا، فهو منفصل لا غير، وذك قولك: (عجبت من ضرب زيد أنت)، و (من ضربك هو)، ومن ضربهما أنت، ومن ضربك هن، ومن ضربك أنا، ومن ضربي أنت، وسواء في ذلك أبدأت بالأقرب أم بالأبعد. وإن كان المضاف إليه المصدر فاعلا وكان مضمرا، وبعده المفعول مضمر، فهو الذي يتكلم عليه النحويون، وتقع عليه المسائل. وهو قولك: (عجبت من ضربي إياك)، و (من ضربيك)، والأجود المختار: (ضربي إياك)، وذلك أن (ضرب) اسم، ولا تستحكم فيه علامة الإضمار إذا كانت علامة ضمير المرفوع لا تتصل به، ولا بما اتصل به، وإنما يتصل به ضمير المجرور الذي تشاركه فيه الأسماء التي ليس فيها معنى فعل نحو: (غلامي)، و (غلامك)، و (غلامه)، ولا يتصل بالضمير المضاف إليه (الغلام) ضمير آخر متصل. وأيضا فإن الضمير المضاف إليه الضرب مجرور يحلّ محلّ التنوين في (ضرب)،

ونحن لو نوّنّا (ضربا) ما وليه ضمير متصل، وإنما يليه المنفصل، كقولك: عجبت من ضرب إياك، ومن ضرب إياه، ومن ضرب إياي. وإنما يشبّه ضربيك في اتصال الضميرين ب (ضربتك) حين اتصل به التاء والكاف، وهما ضميرا فاعل ومفعول به، وهو في الفعل قوي؛ لاستحكام علامات الإضمار في الفعل؛ ولأنّ الفعل يغيره ضمير الفاعل، ويسكّن آخره حتى يصير معه كشيء واحد، فكأن إضمار المفعول إنما يدخل بعد ذلك على شيء واحد، وليس إضمار الفاعل في الفعل كإضماره في المصدر؛ لأن إضماره في المصدر يوجب له الجرّ الذي يشاركه فيه المفعول. وأيضا فإن الفاعل المضمر في الفعل ليس محله محل تنوين يوجب اتصال ما بعده من الضمير منه، وإنما يشبّه الضميران المتصلان بالمصدر بالضميرين المتصلين بالفعل؛ لأنّ الفعل منه مأخوذ، والمصدر يعمل عمله، فيشبه ما اتصل بالمصدر بما اتصل بالفعل كذلك. فإذا وصلوا الضميرين بالمصدر فالأول: ضمير فاعل، والثاني: ضمير مفعول به. على ما ذكرنا من ترتيب ذلك، ولم يحسن حتى يكون ترتيبه على تقديم المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب. كقولك: (عجبت من ضربيك)، و (من ضربيه)، و (من ضربكه)، وهو جائز حسن، والأجود منه: (من ضربي إياك)، و (ضربي إياه)، و (ضربك إياه). فإن كان الفاعل هو المخاطب، وأضفت المصدر إليه، والمفعول به المتكلم لم يحسن إلا المنفصل. نحو قولك: عجبت من ضربك إياي، وكذلك عجبت من ضربه إياك، وضربه إياي على ما رتبه سيبويه من تقديم القريب وهو المتكلم، ثم المخاطب، ثم البعيد الغائب، ولم يحسن من (ضربكني)، ولا من (ضربهيني) ولا من (ضربهيك). وإذا كان الضميران لغائبين، وكان الأول منهما فاعلا في المعنى، كنت مخيرا في الثاني بين المتصل والمنفصل، كقولك: (عجبت من ضربهيها)، و (من ضربه إياها). فإن قال قائل: قد شرط سيبويه قبل هذا الموضع أنّ الضمير المتصل إذا أمكن لم يجز المنفصل، فلم جوّز في هذا الموضع المنفصل في الموضع الذي يقع فيه المتصل؟ قيل له: للمتصل مواضع مخصوصة به، وهي المواضع التي فيها يلي المتصل العوامل فيه، وللمنفصل مواضع مختصة به، وقد ذكرنا مواضعهما جميعا، وفي تلك المواضع لا يقع أحدهما موضع الآخر، وقد يعرض في الكلام مواضع يقع فيها تأويلان؛ أحدهما يجذب إلى شبه المتصل والآخر يجذب إلى شبه المنفصل، فيستعملان جميعا فيما فيه شبه منهما.

وأما من يقول: (ضربيك) فإنه يحمله على (ضربتك) حين اتصل به ضمير الفاعل والمفعول، و (ضربيك) مصدره، والياء فيه كالتاء في المعنى. ومن قال: (ضربي إياك) حمله على ما ذكرناه من مخالفة المصدر للفعل في اتصال الضمير به. ومما يجوز فيه الضمير المتصل والمنفصل كنايات أخبار كان وليس وأخواتهما، والأكثر في كلام العرب، والاختيار عند النحويين في ذلك، الضمير المنفصل كقولك: (أتاني القوم ليس إياك)، و (أتوني) لا يكون إياه). وقال عمر بن أبي ربيعة: لئن كان إياه لقد حال بعدنا … عن العهد والإنسان قد يتغير (¬1) وقال أيضا: ليت هذا الليل شهر … لا نرى فيه عريبا ليس إيّاي وإيّا … ك ولا نخشى رقيبا وإنما كان الاختيار في ذلك الضمير المنفصل لعلل ثلاث منها: أنّ كان وأخواتها أفعال دخلت على مبتدإ وخبر، فأما الاسم المخبر عنه فإنّ ضميره يتصل؛ لأنه بمنزلة فاعل هذه الأفعال، والاسمية له لازمة، ويصير مع الفعل كشيء واحد، وتغير بنيته له، وأما الخبر فقد يكون فعلا، وجملة، وظرفا غير متمكن. فلما كانت هذه الأشياء لا يجوز إضمارها ولا تكون إلا منفصلة من الفعل اختير في الخبر الذي يمكن إضماره- إذا أضمر- أن يكون على منهاج ما لا يضمر من الأخبار في الخروج عن الفعل. ومنها: أنّ الاسم والخبر كلّ واحد منهما منفصل من الآخر غير مختلط به، فإذا وصلنا ضمير الخبر جاز مع ضمير الخبر أن تضمر الاسم، لأنه هو الأصل في الإضمار، فإذا اجتمع الضميران في الفعل كقولك: (كنتك)، و (إن زيدا كانه) لم ينفصل الخبر من الاسم واختلط به. ومنها أنّا لو وصلنا الخبر بضمير الاسم فقلنا: (كنتك)، و (كانك زيد)، و (كانني عمرو) والفاعل والمفعول في هذه الأفعال كشيء واحد؛ لأنهما اسم وخبر، فإما أن يكون أحدهما هو الآخر أو مشبّها به مجعولا بمنزلته، وفعل الفاعل لا يتعدى إلى نفسه متصلا، ويتعدى إلى نفسه منفصلا، لا يجوز (ضربتني)، ولا (ضررتني)، وتقول: إياي ضررت، ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 54؛ والخزانة 5/ 312، 317؛ 7/ 397، 398.

وما ضررت إلا إياي. فإن قال قائل: فأنت قد تقول: ظننتني قائما، وحسبتك منطلقا فتعدّي فعله إلى نفسه. فهلا استحسنت كنتك على هذا؟ قيل له: إنما جاز حسبتك منطلقا ونحوه، لأنّ المحسبة وبابها لا تقع على المفعول الأول في الحقيقة، فلم يعتدّ به، وإنما هي واقعة على المفعول الثاني، فإذا قلت: كان زيد منطلقا، فالمعتمد بالإخبار الانطلاق. والذي يقول: ليسني، وكانني فعلى شبيه اللفظ حين جعل الاسم والخبر في هذه الأفعال بمنزلة الفاعل والمفعول به. وقد حكي عن بعض العرب أنه قال: عليه رجلا ليسني، لرجل ذكر له أنه يريده، وقد شبّه ليس لقلة تمكّنها بالحرف، فقيل: ليس كما قيل: ليتي ولعلّي، كما قال الشاعر فيما أنشدنا أبو بكر بن دريد: عددت قومي كعديد الطّيس … إذ ذهب القوم الكرام ليسي (¬1) وأما قوله: (لأن إيّا، وأنت علامتا الإضمار)، فهو مخالف لما ذكره في باب إياك عن الخليل، حيث جعل الكاف في موضع خفض بإضافة إيّا إليها في قوله: إياك نفسك، وإياه وإيّا الشّوابّ؛ لأن إيّا إذا كانت علامة إضمار لم يجز إضافته إلى شيء، كما أن المضمر، لا يضاف. والصحيح من الأقاويل المقولة في إيّاك: أنها مضافة إلى ما بعدها، وأنّ ما بعدها مخفوض بالإضافة، وأنّ منزلة إيّا منزله اسم ظاهر مضاف إلى ما بعده، والمضاف والمضاف إليه كشيء واحد، كقولك: رأيتك نفسك، ومررت بك نفسك، وقمت أنت نفسك: فالنفس في الحقيقة ليست غير الذي أضيفت إليه؛ لأنك إذا قلت: ضربتك نفسك فلست تقصد بالنفس إلى إلي بعضه ولا إلى شيء سواه، وإنما قال سيبويه: (إيا: علامة المضمر)؛ لأنها وضعت ليوصّل بها إلى لفظ المضمر في الموضع الذي لا يتّصل بعامله، وذلك أنّ ضمير المخفوض والمنصوب لفظهما واحد في أصل الموضوع لاشتراكهما في أشياء كثيرة ذكرت في مواضعها، وضمير المخفوض لا يكون إلا متصلا، وكان حقّ المنصوب أن يكون كذلك إلا أنه عرض للمنصوب حال اختصّ بها من جواز التقديم والتأخير، والفصل بينه وبين عامله. فإذا أضمر لم يكن وصلة، وذلك نحو قولك: إياك ضربت، أصله: ضربتك، والكاف لا يتكلم بها وحدها منفصلة من ضربت، فلما ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 175؛ والخزانة 5/ 324، 325؛ ابن يعيش 3/ 108؛ ولسان العرب وتاج العروس (طيس).

كان المفعول يقع متقدما ومتأخرا، وبعد حرف العطف، وحرف الاستثناء، وهو للمتكلم والمخاطب والغائب الذي جرى ذكره اضطرّنا وقوعه في هذه المواضع إلى لفظ نجعله وصلة إلى اللفظ الذي يشترك فيه المنصوب والمخفوض وهو إيّا، ولا بدّ ل (إيّا) من أن يكون له موقع يتعمده بالناصب الذي كان ينصب ما بعده، فإذا نصبناه كان بمنزلة اسم اتصل به اسم آخر، فسبيله أن يكون مضافا إليه كقولك: تعمدت زيدا، وتعمدت نفس زيد، وجاءني زيد، وجاءني ذو زيد، وجاءني حي زيد، والمعنى في ذلك كله: جاءني زيد؛ فقد استعملت هذه الوصل في المواضع التي يستغنى فيها عن الوصل، وجعلت مضافة إلى ما بعدها على ما يوجبه ترتيب الكلام وإصلاح اللفظ. ومما يشبه ما ذكرناه مما دخل وصلة إلى غيره قولهم: يا أيها الرجل، الأصل فيه: نداء الرجل، ولم يمكن ذلك بسبب الألف واللام فيه، فأدخلوا أي فنادوه، وأجروه مجرى المنادى المفرد، وضمّوه، ثم جعلوا المقصود بالنداء نعتا له؛ لأنّ اتصاله به يوجب له حكما في اللفظ. وقد قيل فيه أقاويل غير ما قلناه. قال بعض النحويين: هي بكمالها اسم، وقال بعضهم: الياء والكاف والهاء في: إيّاي، وإيّاك، وإياه هي الأسماء، وإيّا عماد لها؛ لأنها لا تقوم بأنفسها. وزعم قائل هذا القول أنها ليست في موضع خفض، وينبغي على قوله أن تكون الياء والكاف والهاء في موضع نصب، وأنّ إيا بمنزلة حرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول فيه، أو يكون إيّا مع الكاف في موضع نصب، ولا ينفصل أحدهما. وقال بعضهم: إيّا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، وجعلت الكاف والهاء والياء بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغائب، ولا موضع لها من الإعراب، هي بمنزلة الكاف في: ذلك، وأولئك. وقوله: فوجدتك أنت أنت؛ وجدتك تكون على معنيين أحدهما: بمعنى أصبتك، والآخر: بمعنى علمتك، وأنت الأولى مبتدأه، والثانية خبرها، فإن أردت ب (وجدتك) معنى الإصابة ف (أنت أنت) جملة في موضع الحال، ويجوز فيه الواو: فوجدتك وأنت أنت، وإن كان وجدتك بمعنى علمتك، ف (أنت أنت) جملة في موضع المفعول الثاني، ولا تجوز فيه الواو، ولا يجوز في موضع أنت أنت الضمير المتصل؛ لأنه ابتداء وخبر، وهما منفصلان، وإنّما يقال: أنت أنت، وزيد زيد، وما أشبهه مما يعاد فيه لفظ الاسم، أي: أنت على العهد الذي عرف منك وذكرت به، كما قال الشاعر:

هذا باب الإضمار فيما أجري مجرى الفعل

وإنّي من القوم الذين هم هم … إذا مات منهم سيّد قام صاحبه نجوم سماء كلّما غاب كوكب … بدا كوكب تأوي إليه كواكبه (¬1) وقال أبو خراش: ولم أنس أيّاما لنا ولياليا … بحلية إذ نعطى بها ما نحاول إذ الناس ناس والزّمان بغرّة … وإذ نحن لا تروى علينا المداخل (¬2) ويروي (تزوى)، فمن قال: (تروى) بالراء أي: لا تذكر مداخلنا بسوء. ومن قال: (تزوى) بالزاي أي: لا تمنع من مداخلنا. وإنما يريد: إذ الناس على العهد الذي عهدتهم به، والحال التي عرفتهم بها. وإذا قلت: فكنت أنت إياك ف (أنت) على معنيين: أحدهما أن يكون توكيدا للتاء، ويجوز أن يكون فضلا، وإياك خبر كنت بمنزلة الظريف، وكنت إياك أصله: أنت أنت، فلما أدخلت عليها كان ارتفع أنت الأول باسم كان فصارت تاء، وانتصب الثاني بخبر كان فصار إيّاك. وإذا قال: فوجدتك أنت إياك، فإياك مفعول ثان، وجدتك بمعنى علمتك ومعناه: أنت أنت على الشرح الذي شرحناه، ثم دخل عليه وجدت، وقد يقول: أنت، ثم يعيدها للتوكيد، ولا يريد به الابتداء والخبر، كما تقول: كنت كنت إذا كررتها توكيدا. وقول سيبويه في آخر الباب: وإن شئت جعلت أنت صفة دلالة على أنّ المستقيم أن تكون: فجرّبت كنت أنت، وتكون أنت على وجهين. أحدهما: أن تكون أنت مبتدأ محذوف الخبر بمنزلة زيد إذا قلت: قال الناس: زيد. وعلى هذا ساقه سيبويه كأنه: أنت الفاضل، أو أنت المعروف. بالفضل، وتكون الجملة في موضع خبر للتاء في كنت. والوجه الآخر أن تكون أنت صفة للتاء في كنت وتوكيدا. هذا باب الإضمار فيما أجري مجرى الفعل قال سيبويه: " وذلك: أنّ، وليت، ولعل وأخواتها، ورويد، ورويدك، وعليك، وهلمّ، وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن هاهنا كحالهنّ في الفعل؛ لا تقوى أن تقول: عليك إياه، ولا رويد إياه؛ لأنك قد تقدر على الهاء؛ تقول: عليكه، ورويده، ¬

_ (¬1) البيت منسوب لأبي الطمحان القيني، الخزانة 8/ 96. (¬2) البيت في ديوانه ق 2/ 150.

ولا تقول: عليك إياي؛ لأنك قد تقدر على (ني). وحدثنا يونس أنه سمع من يقول: عليكني، من غير تلقين، ومنهم من لا يستعمل ني، ولا نا في هذه المواضع استغناء ب عليك بي، وعليك بنا عن ني، ونا، وإيانا. ولو قلت: عليك إياه كان هاهنا جائزا؛ لأنه ليس بفعل وإن شبّه به. ولم تقو العلامات هاهنا كما قويت في الفعل، فهي مضارعة في ذلك الأسماء. واعلم أنه قبيح أن تقول: رأيت فيها إياك، ورأيت اليوم إيّاه؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي سوى إيا، وهو الكاف الذي في: رأيتك فيها، والهاء التي في: رأيته اليوم، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا، لم يتكلموا ب (إياك)، واستغنوا بهذا عن إياك، وإياه. وفي نسخة أبي بكر مبرمان: لم ينقض معنى ما أرادوا لو تكلموا ب (إياك)، واستغنوا بهذا عن إياك، وإياه. ولو جاز هذا لجاز: ضرب زيد إياك، وإنّ فيها إياك، ولكنهم لمّا وجدوا: إنك فيها، وضربك زيد، ولم ينقض ما أرادوا لو قالوا: إنّ فيها إيّاك، وضرب زيد إياك، استغنوا به عن إيّا. وأما: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إيّاك، فلا يدخل على هذا؛ من قبل أنه لو أخّر إلّا كان الكلام محالا. ولو أسقط إلّا كان الكلام منقلب المعنى، وصار على معنى آخر ". قال أبو سعيد: ما في هذا الباب على ثلاثة أضرب في الاتصال والانفصال: فأقوى الثلاثة في الاتصال إنّ وأخواتها؛ وذلك أنهن أجرين مجرى الفعل الماضي في فتح أواخرها، وفي لزومها الاسم المنصوب المشبّه بالمفعول، والخبر المرفوع المشبّه بالفاعل، ومنصوبها يليها، ولا يدخل عليها حرف يمنع من التصاق المنصوب بها. فوجب فيها ما وجب في المفعولات بالأفعال من الضّمير المتّصل. وبعدها رويد تقول: رويد زيدا، ورويدك زيدا، وإذا كنّيته قلت: رويده، ورويدكه، ولم يذكر سيبويه: رويد إيّاه، وذلك أنّ رويد وضع لترود، ولم يؤت بمصدره المحض كما قالوا: تراكها، ومناعها؛ لأنهما وضعا موضع اتركها وامنعها، وهما أقوى من تركا ومنعا، وكذلك رويد في قيامه مقام الفعل أقوى من إرواد، ورأيت في تفاسير جواز الضمير المنفصل في رويد، وما ذكره سيبويه. وبعدهما عليك، وهي أقوى في الفصل، يجوز: عليكه، وعليكني وعليك به، وعليك

هذا باب ما يجوز في الشعر من إيا ولا يجوز في الكلام

بي، وعليك إيّاي، وعليك إيّاه. وإنما جاز إيّاي لأنه بالإضافة إلى الكاف قد أشبه المصدر المضاف الذي قد جاز فيه الفصل والوصل نحو: ضربك إيّاي، وضربكني، وباقي الباب مستغنى عن تفسيره. هذا باب ما يجوز في الشّعر من إيّا ولا يجوز في الكلام (فمن ذلك قول حميد الأرقط: إليك حتّى بلغت إيّاكا (¬1) وقال الآخر (بعض اللصوص): كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا) (¬2) قال أبو سعيد: قوله: بلغت إيّاك ضرورة على ما قاله سيبويه، وكان الزّجّاج يقول: " أراد بلغتك إياك "، وهذا لا يخرجه من الضّرورة، لأنّه إن أراد الكاف وحذفها فهو ضرورة، ولو أخرجه تقدير هذا عن الضرورة لجاز: ضربت إيّاك على هذا التقدير، وليس هذا بشيء. وقد يضطرّ الشاعر، فيضع الضّمير المتصل في موضع المنفصل. أنشد أحمد بن يحيى ثعلب: وما نبالي إذا ما كنت جارتنا … ألا يجاورنا إلاك ديّار (¬3) وأما قوله: " نقتل إيّانا " فهو أقلّ ضرورة؛ وذلك أنه لا يمكنه أن يأتي بالضمير المتصل فيقول: نقتلنا؛ لأنه لا يتعدى فعله إلى ضميره، وكان حقّه أن يقول: نقتل أنفسنا؛ فجاء بالمنفصل فجعله مكان أنفسنا؛ لأنهما يشتركان في الانفصال، ويقعان بمعنى في نحو قولك: ما أكرمت إلا نفسك، وما أكرمت إلا إيّاك. وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: " إنّما نقتل إيّانا محمول على ما نقتل إلا إيّانا؛ لأن في إنّما معنى تقليل ونفي "، ولا يخرجه ذلك عن الضرورة؛ لأنّك لو قلت: إنما نخدمك لتحسن إلينا لم يجز: إنّما نخدم إيّاك، إلا في الضرورة، فاعرفه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 5/ 280، 281؛ والكتاب 2/ 362. (¬2) البيت منسوب لذي الإصبع العدواني في ديوانه 78؛ الخزانة 5/ 280؛ ابن يعيش 3/ 101؛ الكتاب 2/ 111. (¬3) البيت في ديوانه، الخزانة 5/ 278، 279؛ وابن يعيش 3/ 101.

هذا باب إضمار المجرور

هذا باب إضمار المجرور قال سيبويه: " اعلم أنّ أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور؛ من قبل أنّ أنت اسم مرفوع، فلا يكون المرفوع مجرورا. ألا ترى أنك لو قلت: مررت بأنت لم يجز. ولو قلت: ما مررت بأحد إلا أنت لم يجز. لا يجز إيّا أن تكون علامة لمجرور مضمر؛ لأنّ إيّا علامة المنصوب، فلا يكون إضمار المنصوب في موضع المجرور، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع موقعهن إيّا، إلا أن تضيف إلى نفسك نحو: بي ولي وعندي. وتقول: مررت بزيد وبك؛ وما مررت بأحد إلا بك، أعدت مع الضمير الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة، فلذلك أعادوا الجارّ مع المضمر. ولم يقع إيّا، ولا أنت وأخواتها هنا، من قبل أنّ المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور ". قال أبو سعيد: المجرور لا يتقدم على عامله، ولا يفصل بينه وبين عامله بشيء؛ لأنّ الجرّ إنّما يكون بإضافة اسم إلى اسم أو دخول حرف على اسم، ولا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف، ولا الفصل بين المضاف والمضاف إليه؛ ومن أجل ذلك لم يكن ضميره إلا متصلا بعامله، فإن عرض أن يعطف على المجرور أو يبدل منه في الاستثناء اقتضى حرف العطف وحرف الاستثناء الضمير المنفصل على ما تقدم من شرحنا لذلك، وليس للجرّ ضمير منفصل، ولا يكون ضميره إلا مع عامله، فأعادوا الضّمير مع العامل كقولك: مررت بزيد وبك، وما نظرت إلى أحد إلا إليك. هذا باب إضمار المفعولين اللّذين تعدّى إليهما فعل الفاعل قال سيبويه: " اعلم أنّ المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أضمر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيّا موقعها، وقد تكون علامته إذا أضمر إيّا. فأما علامة الثاني التي لا تقع إيّا موقعها فقوله: أعطانيه وأعطانيك، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكني، أو بدأ بالغائب فقال: أعطاهوني، فهذا قبيح لا تكلّم به العرب، ولكنّ النحويين قاسوه. وإنّما قبح عند العرب كراهة أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب، ولكن يقول: أعطاك إيّاي، وأعطاه إيّاي، فهذا كلام العرب، وجعلوه إيّا تقع هذا الموقع إذ قبح هذا عندهم، كما قالوا: إيّاك رأيت، وإيّاي رأيت، إذ لم يجز (ني)

رأيت، وك رأيت. فإذا كان المفعولان اللّذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إيّا، وذلك قولك: أعطيتكه وأعطاكه، وقال عز وجل: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (¬1)؛ فهذا كذا إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب. وإنّما كان المخاطب أولى بأن يبدأ به من قبل أنّ المخاطب أقرب إلى المتكلّم من الغائب، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه كان المخاطب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يبدأ به. فإن بدأت بالغائب فقلت: أعطاهوك فهو في القبح، وأنه لا يجوز، بمنزلة الغائب والمخاطب إذا بدئ بهما قبل المتكلّم، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت: أعطاه إيّاك. وأمّا قول النّحويين: أعطاهوك وأعطاهوني، فإنما هو شيء قاسوه لم يتكلم به العرب، فوضعوا الحروف غير مواضعها، وكان قياس هذا لو تكلّم به هيّنا. ويدخل على من قال هذا أن يقول إذا منحته نفسه: منحتنيني. ألا ترى أنّ القياس قد قبح إذا وضعت (ني) في غير موضعها، فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: أعطاهوها وأعطاهاه جاز، وهو عربيّ. ولا عليك بأيّهما بدأت، من قبل أنهما كلاهما غائب. وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم؛ والأكثر في كلامهم: أعطاه إيّاه. على أنّ الشاعر قد قال: وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة … لضغمهما ها يقرع العظم نابها (¬2) ولم تستحكم علامات الإضمار هاهنا، كما لم تستحكم في: عجبت من ضربي إيّاك، ولا في: كان إيّاه، وليس إيّاه. وتقول: حسبتك إيّاه، وحسبتني إيّاه؛ لأنّ حسبتنيه وحسبتكه قليل في كلامهم؛ ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية 28. (¬2) البيت منسوب لمغلس بن لقيط، الخزانة 5/ 301، 303؛ ابن يعيش 3/ 105؛ والكتاب 2/ 365؛ واللسان (ضغم- جعل).

وذلك لأن حسبت بمنزلة كان، إنما يدخلان على المبتدإ والمبنيّ عليه، فيكونان في الاحتياج على حال. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ؟ فالمنصوبان بعد حسبت بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبت وكان؛ لأنهما إنما تجعلان المبتدأ والمبنيّ عليه فيما مضى يقينا أو شكّا، وليسا بفعل أحدثته منك إلى غيرك ك " ضربت "، وأعطيت، إنما تجعل الأمر في علمك أو فيما مضى ". قال أبو سعيد: المفعول الأول يلزم اتصال ضميره بالفعل؛ لأنه يلاصق الفعل ويليه، وإن كان ضمير الفاعل في الفعل لا يتغير لزوم اتصال ضمير المفعول الأول به؛ لأن الفعل مع ضمير الفاعل كالفعل المجرد، لأن ضمير الفاعل قد يكون بغير علامة، وقد يغيّر بنية الفعل ضمير الفاعل فتصير كحرف من حروفه وذلك قولك: ضربتني وضربتك، وإن زيدا ضربني. فإذا جئت بعد اتصال ضمير المفعول الأول بضمير مفعول ثان جاز اتصاله- على ما شرط سيبويه- وجاز انفصاله، فأما اتصاله فلقوة الفعل وأنه الأصل في اتصال ضمائر المنصوبات به، ولمّا كان الفعل عاملا في المفعولين النصب ظاهرين، وفي موضعهما مضمرين، وعمله فيهما لا يغير لفظ كل واحد منهما مفردا ولا معناه ولا ترتيبه، وكان المتّصل أخصر لفظا وأقلّ حروفا اختاروه، وذلك قولك: أعطانيه وأعطانيك. وشرط سيبويه فيه أن يكون المفعول الأول المبدوء بلفظه هو أقرب من الثاني، وترتيب ذلك أنّ المتكلم هو الأقرب، ثم المخاطب، والغائب هو الأبعد. والذي ظهر في كلام سيبويه أنّه ما خيّر المتكلم بين اتصال المفعول الثاني وبين انفصاله، ولكنه قسّم ضميري المفعولين إذا اجتمعا قسمين: أحدهما: يجب في الاتصال بغير تخيير، والآخر: يجب فيه الانفصال من غير تخيير. فأما الذي يجب فيه الاتصال فهو أن يكون المفعول الأول أقرب من الثاني مثل: أعطانيك زيد، وأعطانيه، وأعطاكه. وأمّا الذي يجب فيه الانفصال فهو أن يكون المفعول الأول أبعد في الترتيب من الثاني كقولك: أعطاهوك وأعطاهاك وأعطاهوني وأعطاهاني وأعطاكني، لا يجوز شيء من هذا عند سيبويه إلا بالانفصال نحو: أعطاه إيّاك وأعطاها إيّاك وأعطاه إيّاي وأعطاها إيّاي

هذا باب لا يجوز فيه علامة المضمر المخاطب ولا علامة المضمر المتكلم، ولا علامة المضمر المحدث عنه الغائب

وأعطاك إيّاي، وهذا ترتيب سيبويه وحكايته عن العرب، وحكى عن النحويين قياسا لم يرتضه. وأبو العباس المبرّد يذهب إلى قول النحويين وقياسهم، ويجعل إضمار الغائب والمتكلم والمخاطب في التقديم والتأخير سواء، ويجيز: أعطاهوك وأعطاهوني وأعطاكني، ويستجيده، ويراد صحيحا، ويستحسن منحتنيني ويستجيده، وقد تقدم في شرحنا ذكر ترتيب المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب بما أغنى عن ذكره هاهنا. وقد رأيت غير سيبويه يخيّر بين المتصل والمنفصل، ويجيزهما في: أعطيتكه وأعطيتك إيّاه؛ لأن المفعول الثاني ليس يلاقي الفعل ولا يلتزق به، والأول إمّا أن يلقى ذات الفعل أو يلقى ضمير الفاعل المجعول معه كشيء واحد، وإيجاب سيبويه أعطاه إيّاك، وتصحيحه له يقوّى ذلك؛ لأن تعلق المفعولين بالفعل من باب واحد، واختلاف المفعولين في ترتيبهما ليس يغيّر حكم تعلقهما بالفعل، وعمل الفعل فيهما. ولقائل أن تقول: ما الذي أنكر سيبويه من (منحتنيني)، وليس فيه تقديم بعيد على قريب؟ وهل سبيل (منحتنيني) إلا سبيل (أعطاهوها) وهو مستحسن عنده؟ قيل له: المنكر من (منحتنيني) عند سيبويه أن: (ني) الثانية مؤخرّة وترتيبه التقديم على كل ضمير، وليس كذلك أعطاهوها. واعلم أنّ: حسبت مع الفاعل منزلته منزلة كان بغير فاعل؛ لأن كان وحدها تدخل على المبتدإ والخبر فيرتفع بها المبتدأ وينتصب بها الخبر، وحسبت مع فاعل المحسبة تدخل على المبتدإ والخبر فتنصبهما؛ لأنه دخل عليهما فعل وفاعل، فانتصبا على أنهما مفعولا حسبت، ولما كان المفعول الثاني من حسبت زيدا منطلقا بمنزلة خبر كان في قولك: كان زيد منطلقا، وكان الاختيار في إضمار خبر كان أن يكون منفصلا على ما تقدم من ذكره، وجب أن يكون المفعول الثاني من حسبت كذلك؛ ولأن ذلك خبره يقع موقعه الفعل والجملة والظرف غير المتمكن، كما أن خبر كان كذلك، تقول: حسبتك إيّاه وحسبتني إيّاه، كما تقول: كنت إيّاه، وحسبتنيه وتحسبنيه قليل، كما أن كنته وكنتني وعمرو كانه زيد قليل، وباقي الباب مفهوم بإذن الله. هذا باب لا يجوز فيه علامة المضمر المخاطب ولا علامة المضمر المتكلم، ولا علامة المضمر المحدّث عنه الغائب قال سيبويه: " وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطب: اضربك، ولا اقتلك،

ولا ضربتك، لمّا كان المخاطب فاعلا، وجعلت مفعوله نفسه، قبح؛ لأنهم استغنوا بقولهم: اقتل نفسك، وأهلكت نفسك، عن (الكاف) هاهنا، وعن (إيّاك). وكذلك المتكلم لا يقول: أهلكتني، ولا أهلكني؛ لأنه جعل نفسه مفعوله، فقبح؛ ذلك لأنّهم استغنوا بقولهم: أنفع نفسي عن (نى)، وعن (إياي). وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول: ضربه إذا كان فاعلا، وكان مفعوله نفسه، واستغنوا عن (الهاء)، وعن (إياه) بقولهم: ظلم نفسه، وأهلك نفسه. ولكنه قد يجوز ما قبح هاهنا في: (حسبت، وظننت، وخلت، وأرى، وزعمت، ورأيت) إذا لم ترد رؤية العين، ووجدت إذا لم ترد وجدان الضالة، وذلك قولك: حسبتني، ورأيتني، ووجدتني فعلت كذا وكذا، ورأيتني لا يستقيم لي هذا، وكذلك ما أشبه هذه الأفعال تكون علامة المضمرين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب. ومما يثبت علامة المضمرين المنصوبين هاهنا أنه لا يحسن إدخال النفس هاهنا، لو قلت: يظنّ نفسه فاعله، أو أظنّ نفسي تفعل كذا، على حدّ يظنّه وأظنّني ليجزئ هذا من هذا، لم يجزئ كما أجزأ أهلكت نفسك عن أهلكتك، فاستغني به عنه. وإنما افترقت حسبت، وأخواتها من الأفعال الأخر؛ لأن حسبت وأخواتها إنما دخولها على مبتدإ ومبنيّ على مبتدإ؛ لتجعل الحديث شكّا أو علما. ألا ترى أنك لا تقتصر عليه مبتدأ، والأفعال الأخر إنما هي بمنزلة اسم مبتدإ؛ والأسماء مبنية عليه. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبنيّ على المبتدإ، فلما صارت حسبت وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إنّ وأخواتها إذا قلت: إنّني ولعلّني؛ لأنّ وأخواتها لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدها؛ لأنها إنما أدخلت على مبتدإ، ومبنيّ على مبتدإ. وإذا أردت ب (رأيت) رؤية العين لم يجز رأيتني؛ لأنها حينئذ بمنزلة: ضربت، وإذا أردت التي بمنزلة: علمت، صارت بمنزلة إنّ وأخواتها؛ لأنهنّ لسن بأفعال، وإنما يجئن لمعنى، وكذلك هذه الأفعال إنّما جئن لعلم أو شكّ، ولم ترد فعلا سلف منك إلى إنسان ". قال أبو سعيد: اعتمد أبو العباس المبرّد وغيره من أصحابنا في إبطال: اضربك،

وضربتني، وضربتك، ونحو ذلك، على أنّ الفاعل بكلّيته لا يكون مفعولا بكليته، فأبطلوا من أجله ضربتني، وضربتك، واضربك، وما أشبهه، وهذا كلام إذا فتّش وسبر لم يثبت؛ وذلك لأنّ المفعول الصحيح ما اخترعه فاعله، وأخرجه من العدم إلى الوجود، كنحو خلق الله عزّ وجلّ الأشياء التي كوّنها ولم تكن كائنة من قبل، وكنحو ما يفعله الإنسان من القعود والقيام والضرب والشّتم، ولا يجوز أن يكون الفاعل في ذلك مفعولا؛ لأنه لا بدّ من أن يكون الفاعل موجودا قبل وجود المفعول؛ لأنّه لا يفعل إلا ما كان قادرا عليه قبل فعله، ولا يكون قادرا على الشيء إلا والقادر موجود، والمقدور عليه معدوم؛ لأن معنى قادر عليه: قادر على أن يوجده ويكوّنه. هذا حقيقة معناه، وقولهم: فلان قادر على فلان، والمقدور عليه موجود، إنما هو مجاز، وحقيقته: أنه قادر على تصريفه فيما يريده منه، فإذا قلنا: ضرب زيد عمرا فالذي فعله زيد إنما هو الضرب، وكذلك: شتمه وذكره، وهذا شيء يحيط العلم به، وبأنّ زيدا لم يفعل عمرا، وإنما إطلاق النحويين أنه مفعول مجاز، والمراد أنه فعل به ضربا أو شتما، أو نحو ذلك مما يحدثه فيه أو يقصده به. فإذا قال القائل: ضربتني أو شتمتني، أو قال: ضربتك، وشتمتك، فالمفعول الصحيح إنما هو الضرب والشتم، والمتكلم والمخاطب كزيد في: ضربت زيدا وشتمته، وليس زيد بمفعول صحيح على ما بيّناه، ولم تبطل ضربتني وشتمتني لفساد معناه استحالته، وكيف يستحيل ذلك وأنا إذا قلت: ضربت زيدا قائما أوقعت ضربا بشيء من جسمه بيدي أو بخشبة أو غيرها، وكذل شتمته إنما هو ذكرى له بشيء من السوء، وذلك الضرب قد أوقعه بشيء من جسمي على النحو الذي أوقعه بزيد، وذلك الذّكر السّيئ غير مستحيل أن أذكر نفسي به كما ذكرت زيدا، ولكنّ العرب لا تتكلم بذلك؛ لأن فعل الإنسان يكون على ضربين: أحدهما: فعل يفعله بنفسه لا يعتمد به غيره. فهذا الفعل لا يكون له مفعول، وإن كان قد فعله الإنسان بنفسه؛ كقولك: قام زيد، وقعد، وذهب ونحوه، فقد فعل القيام والقعود بنفسه، ومعنى قولنا فعل بنفسه: أنه أحلّ القيام والقعود بنفسه وأوجده في نفسه دون غيره. والآخر: فعل يعتمد به غيره، فلا بدّ أيضا في ذلك أن يفعله بنفسه، ويعتمد به غيره، أو يفعل سببه بنفسه، ويعتمد به غيره. فأما ما يفعله بنفسه ويعتمد به غيره فقولك: شتمت زيدا، وذكرت زيدا، ومدحت عمرا.

والذي يفعل سببه بنفسه فقولك: ضربت زيدا، وقتلت عمرا، فلما كان سبيل الفعل الذي لا يعتمد به الإنسان الفاعل غيره أن لا يكون له مفعول وجب أن لا يقول: ضربتني، وشتمتني، ولما كان الفعل الذي يعتمد به غيره في مقاصد الناس وعاداتهم قد يعرض فيه أن يعتمد الفاعل نفسه على سبيل ما كان يعتمد غيره أتوا بلفظ النفس، وأضافوه إليه فقالوا: ضربت نفسك، وضرب زيد نفسه، وشبّهوه من جهة اللفظ لا المعنى ب (ضرب زيد غلامه) لأنّ المضاف في الأصل ليس بالمضاف إليه، فجعلوا نفسه في حكم اللفظ كأنها غيره. وبعض النحويين ذكر أنه مما يمنع تعدّي الفعل إلى فاعله: دخول اللّبس الكلام؛ لأنه إذا قال: ضربتني وضربتك، فأوقعت فعلك على نفسك، وفعل من تخاطبه على نفسه، لزمك في الغائب أن تقول: ضربه، فتوقع فعل الغائب على نفسه بالكناية، فلا يعلم لمن (الهاء)؟ للّذي خبّرت عنه بالفعل أو لآخر؟ فيدخل الكلام اللّبس، فإذا قلت: ضرب نفسه بان لك؛ لأنك لم تعن نفس غيره، فلهذا ما أدخلت النفس، ولم يقع موقعها المكنيّ. وأما حسبتني، وأظنّني، وأجدنني ووجدتني أفعل كذا، ورأيتني من رؤية القلب، وما جرى مجرى ذلك مما ذكره سيبويه من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما، مما أصله مبتدأ وخبر، فإنما جاز ذلك فيهن؛ لأنّ المقصود بهذه الأفعال: المفعول الثاني، وليس للأول في الفعل نصيب؛ لأنك إذا قلت: حسبت زيدا منطلقا، فالمحسبة لم تقع على زيد، وإنما وقعت على الانطلاق، وكان الضمير المتصل أخفّ في اللفظ من المنفصل ومن النفس، فاستعملوا الأخفّ فيه. وقد جاء في فعلين سوى هذه الأفعال تعدّي فعل الفاعل إلى ضميره وهو: فقدتني، وعدمتني، وإنما جاز ذلك لأنه محمول على غير ظاهر الكلام وحقيقته؛ لأن الفاعل لا بد من أن يكون موجودان وإذا عدم نفسه صار عادما معدوما، وذلك محال. وإنما جاز ذلك لأن الفعل له في الظاهر، والمعنى لغيره؛ لأنه يدعو على نفسه بأن يعدم، فكأنه قال: عدمني غيري، قال جران العود: لقد كان لي عن ضرتين عدمتني … وعن ألاقي منهما متزحزح هما الغول والسّعلاة حلقي منهما … مخدّش ما بين التّراقي مكدّح (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 4، والخزانة 10/ 19؛ وابن يعيش 7/ 88.

هذا باب علامة إضمار المنصوب المتكلم، والمجرور المتكلم

وباقي ما ذكره مفهوم. هذا باب علامة إضمار المنصوب المتكلم، والمجرور المتكلم قال سيبويه: " اعلم أن علامة المنصوب المتكلم (ني)، وعلامة المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرت نفسك وأنت منصوب: " ضربني، وقتلني، وإنني، ولعلني ". وتقول إذا أضمرت نفسك مجرورا: " غلامي، وعندي، ومعي ". فإن قلت: ما بال العرب قد قالت: (إني، وكأني ولعلي، ولكني) فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنّها كثيرة في كلامهم، وأنّهم يستثقلون في كلامهم التّضعيف، فلمّا كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف حذفوا التي تلي الياء. فإن قلت: لعلّي ليست فيها نون، فإنه زعم أن اللام قريب من النون، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أنّ النّون تدغم مع اللام حتى تبدل مكانها لام؛ وذلك لقربها منها، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه. وسألته عن " الضّاربي " فقال: هذا اسم، ويدخله الجر، وإنما قالوا في الفعل: ضربني كراهية أن يدخلوا الكسر في هذه الباء، كما يدخل الأسماء، فمنعوه هذا أن يدخله كما منع الجرّ. فإن قلت فقد تقول: اضرب الرجل فتكسر، فإنّك لم تكسرها كسرا يكون للأسماء، إنّما يكون هذا لالتقاء الساكنين، وقد قالت الشعراء: " ليتى " إذا اضطرّوا، كأنهم شبّهوه بالاسم حيث قالوا: " الضاربي " والمضمر منصوب. قال زيد الخيل: كمنية جابر إذ قال ليتي … أصادفه ويذهب بعض مالي (¬1) وسألته عن قولهم: (عني، وقطني، ومني، ولدني) فقلت: ما بالهم جعلوا علامة المجرور هاهنا كعلامة المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحرّكا مكسورا، ولم يريدوا أن يحرّكوا الطّاء التي في قط، ولا النون التي في من، فلم يكن بدّ من أن يجيئوا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 87؛ الخزانة 5/ 375؛ ابن يعيش 3/ 90، 123؛ الكتاب 2/ 370؛ المقتضب 1/ 250.

بحرف لياء الإضافة متحرك؛ إذ لم يريدوا أن يحرّكوا الطاء، ولا النونات؛ لأنها لا تذكر أبدا إلا وقبلها حرف متحرك مكسور، وكانت النون أولى؛ لأن من كلامهم أن تكون النّون والياء علامة المتكلم، فجاءوا بالنون؛ لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار، وكرهوا أن يجيئوا بحرف غيره فيخرجه من علامات الإضمار. وإنما حملهم على أن لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن تشبه الأسماء نحو: يد، وهن. وأما ما يتحرّك آخره فنحو مع، ولد كتحريك أواخر هذه الأسماء؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثمّ لم يجعلوها بمنزلتها، فمن ذلك: معي، ولدي في مع ولد. وقد جاء في الشعر: قدي. قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي (¬1) لما اضطر شبّهه بحسبي وهني؛ لأن ما بعد حسب وهن مجرور، كما أنّ ما بعد قط مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قالوا: ليتي حيث اضطروا. وسألناه عن: إلي، ولدي، فقلنا: هذه الحروف ساكنة ولا نرى النون دخلت عليها؟ فقال: من قبل أنّ الألف التي قبلها حرف مفتوح، والياء التي قبلها حرف مكسور لا تحرّك في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة، ويكون التحريك لازما لياء الإضافة. فلما علموا أن هذا الموضع ليس لياء الإضافة عليه سبيل بتحريك، كما كان لها السبيل على سائر حروف المعجم لم يجيئوا بالنون؛ إذ علموا أن الياء في هذا الموضع والألف ليست من الحروف التي تتحرك لياء الإضافة. ولو أضفت إلى الياء الكاف التي تجرّ بها لقلت: ما أنت كي؛ لأنها متحركة، كما أن أواخر الأسماء متحركة، وهي تجر كما أنّ الأسماء تجر. ¬

_ (¬1) البيت منسوب لأبي نخيلة، في الخزانة 5/ 382، 383؛ ابن يعيش 3/ 124؛ الكتاب 2/ 371.

وأمّا قط، ولدن، وعن فإنهن تباعدن من الأسماء، ولزمهنّ ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو: السكون فإنّما يدخل ذلك الفعل نحو: خذ وزن، فضارعت الفعل وما لا يجرّ، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحرّكوه ". قال أبو سعيد: اعلم أن (ني) في ضمير المنصوب النون فيه زائدة، والضمير الياء، والنون مجتلبة لعلّة؛ وهي أنهم حرسوا أواخر الأفعال من دخول كسرة عليها؛ لتباعد الأفعال من الجر، والكسرة لفظها لفظ الجر، وذلك أن ياء المتكلم يكسر ما قبلها إذا كان مما يحرك، فلما كرهوا كسر الفعل وآثروا سلامة لفظه أدخلوا قبل الياء نونا تقع عليها الكسرة التي تحدثها الياء، وذلك قولك: ضربني ويضربني وأكرمني ويكرمني، وأدخلوا النون أيضا فيما كان من الفعل المعتل الذي لا يتحرك آخره كقولك: أعطاني يعطيني ويدعوني ويخشاني، ونحو ذلك؛ لأن النون لمّا لزمت في جميع الأفعال الصحيحة لما ذكرناه صار لفظ النون مع الياء كأنه الضمير. وأيضا فإن من المعتل ما في آخره واو ساكنة ك (يدعو ويعدو)، وإذا دخلت الياء وجب قلب الواو ياء، كما يجب في الأسماء إذا قلت: هذه عشري، وهؤلاء ضاربي، والأصل: عشروي وضاربوي. وقد بين سيبويه أن دخول النون في الفعل إنما هو لكراهية الكسر في الفعل، ومنعهم إياه الكسر، كما منعوه الجر بقوله: وإنما قالوا في الفعل: ضربني ويضربني؛ كراهية أن يدخلوا الكسر في هذه الباء كما يدخل الأسماء، فمنعوه أن يدخله كما منع ... وأجاب من عارضه بكسرة: اضرب الرّجل، بأنها كسرة تحدث لالتقاء الساكنين ولا يعتدّ بها. ولما أجريت إنّ وأخواتها مجرى الفعل لزمها من علامة الضمير ما يلزم الفعل، إلا أنّ العرب قد تكلمت فيها بإسقاط النون منها، وأكثر ذلك في: إنّ، وأنّ، وكأن، ولعل، فقالوا: إنّني، وإنّي، وكأنني، وكأني، ولعلني، ولعلي، وفي علة حذفها أقاويل للنحويين. فأما سيبويه فاعتلّ لحذفها أنها كثرت في كلامهم، ولاجتماع النونات، وهم مستثقلون التضعيف، ولعل وإن لم يكن آخرها نونا فإن اللام قريب من النون، ولقربها من النون تدغم النون فيها، ولا تدغم في النون غير اللام من بين الحروف. وأما ليت فلم يكن في آخرها نون ولا حرف يشبه النون ويقرب منها، فلزمتها النون فقالوا: ليتني، وقلّ في كلامهم ليتي، إلا عند الضرورة. وجواز الحذف مع ذلك في هذه الحروف؛ لأنها وإن كانت مشبّهة ليست بأفعال،

وهي حروف، والحروف تأتي بالنون والياء، وبالياء وحدها، فالنون والياء نحو: مني وعني، والياء وحدها نحو: لي وبي. والأسماء المبنية على السكون كذلك تجيء على الوجهين، وقد عرّفتك أن سبب دخول النون في الفعل التماس سلامة بنائه، لا لاختصاص النون بالنصب. وستقف على أكثر من ذلك في الباب إن شاء الله تعالى .. وأما الفراء فإنه اعتل لسقوط النون في: إنّ، وكأن، ولعل بأنها لم تخرج على لفظ الفعل، يعني: بنية الفعل، وأنّ ليت لما خرج على وزن الفعل قوي فيها إثبات النون. ووزن الفعل الذي عناه في ليت أنّ أوله مفتوح، وثانيه ساكن، وثالثه مفتوح، وهو يشبه الفعل الماضي المعتل العين نحو: باع، وكال. قال أبو سعيد: يلزمه على هذا الاعتدال أن يلزم في أنّ المفتوحة النون أكثر من لزومها في ليت؛ لأن ما يوجد من أمثلة أنّ في الفعل أكثر مما يوجد من أمثلة ليت؛ لأن أنّ لفظها فعل: أنّ يئنّ ومثله من المضاعف من نحو: ردّ، وعضّ ما لا يحصى كثرة، وقد اعتلّوا لحذف ذلك بأشياء لم يكن في ذكرها طائل. وجملة الأمر أنّ الأسماء المتحركة الأواخر متى اتّصل بها ضمير المتكلم المنصوب أو المخفوض كان: ياء لا نون معها، وكسرت الياء ما قبلها. فأمّا المنصوب فنحو: الضّاربي والمكرمي؛ الياء فيهما في موضع نصب، كما تقول: الضارب زيدا، وأما المخفوض فنحو: معي، ولدي، وأنت كي إذا أردت: أنت مثلي، وحسبي، ونحو ذلك. وأما ما كان من الأسماء آخره ساكن فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك الساكن ياء أو ألفا. والآخر: أن يكون الساكن غير الياء والألف. فأمّا الياء والألف فلا تدخل عليهما النون. فالياء. نحو قولنا: قاضي، وعشري، ورأيت غلامي. وأما الألف فنحو: هواي، وعصاي، وكلّ مقصور من الأسماء كذلك. وإن كانت الألف في آخر حرف أو اسم غير متمكّن فكذلك، إلّا أنّ الألف تقلب ياء نحو: إلي، ولدي، وعلي. تقول: إلي، ولدي، وعلي؛ لعلّة ذكرت في موضعها من الشرح. وإنما لم تدخل النون في ذلك لأنّ الألف والياء لا يكسران لياء الإضافة، ولا يزولان عن السكون معها، فاستغنوا عن النون التي تكون وقاية للكسر. وأما ما كان ساكنا في أواخر الأسماء من غير الألف والياء فبعض قد جاء بالنون

هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم

والياء، وبعض قد جاء بالياء وحدها على ما بيّن سيبويه من ذلك وشرحه. وقد ذكر الكوفيّون في فعل التعجب إسقاط النون: ما أقربي منك، وما أحسني، وما أجملي، وهم يعنون: ما أحسنني، وأجملني. وما ذكر البصريّون من هذا شيئا، ولست أدري أعن العرب حكوا هذا؟ أم قايسوه على مذهبهم في: ما أفعل زيدا؛ لأنه اسم عندهم في الأصل. وقد احتج سيبويه لقطني، ولدني، وعنّي، ومنّي، أنهم لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن تشبه الأسماء نحو: يد، وهن، وقد بيّنا أنّ الاسم الذي آخره متحرك بإعراب أو بناء أنه إذا اتصل به ياء المتكلم كسر آخره، ويد، وهن من الأسماء المعربة المتحركة الأواخر. وهن عبارة عن كل اسم منكور، كما أن قولنا: فلان عبارة عن كل اسم علم ممّا يعقل. وكلام سيبويه في باقي الباب مفهوم. هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم قال سيبويه: " وذلك لولاك ولولاي، إذا أضمر فيه الاسم جرّ، وإن أظهر رفع. ولو جاء الإضمار على القياس لقلت: لولا أنت، كما قال تعالى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31]؛ ولكنهم جعلوه مضمرا مجرورا. والدليل على ذلك أنّ الياء والكاف لا يكونان علامة مضمر مرفوع. قال يزيد بن الحكم بن أبي العاص: وكم موطن لولاي طحت كما هوى … بأجرامه من قلّة النّيق منهوي (¬1) وهذا قول الخليل ويونس. وأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز، وهو رؤبة: يا أبتا علّك أو عساكا (¬2) والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتك ني. قال عمران بن حطّان: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 5/ 36، 337؛ ابن يعيش 3/ 78؛ الكتاب 2/ 374؛ تاج العروس (جرم)؛ المقتضب 3/ 73. (¬2) البيت في ديوانه 181، الخزانة 5/ 362، 367، 368؛ وابن يعيش 2/ 12، 3/ 120؛ الكتاب 2/ 375.

ولي نفس أقول لها إذا ما … تنازعني لعلّى أو عساني (¬1) فلو كانت الكاف مجرورة لقال: عساي، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع. فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذه الحال، كما كانت للدن حال مع غدوة ليست مع غيرها، وكما أنّ لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها، فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. ولا يستقيم أن تقول: وافق الرفع الجرّ في لولاي، كما وافقه النصب إذا قلت: معك، وضربك؛ لأنك إذا أضفته إلى نفسك فالجرّ مفارق للنصب في غير هذه الأسماء. تقول: معي، وضربني، ولا تقول: وافق الرفع النصب في: عساني كما وافق النصب الجرّ في ضربك، معك؛ لأنهما إذا أضفت إلى نفسك اختلفا. وزعم ناس أنّ موضع الياء في لولاي وفي عساني في موضع رفع؛ جعلوا لولاي موافقة للجرّ، وني موافقة للنصب، كما اتّفق النصب والجرّ في الهاء والكاف. وهذا وجه رديء لما ذكرت لك؛ ولأنك لا ينبغي أن تكسر الباب وهو مطّرد، وأنت نجد له نظائر. وقد يوجّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم، وقد بيّن بعض ذلك، وستراه فيما يستقبل إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: قد تقدّم فيما سلف من الكتاب أنّ الاسم الظاهر بعد لولا مرفوع بالابتداء على مذهب سيبويه وغيره من البصريين؛ فينبغي إذا كنّي عنه أن يكون مضمرا منفصلا، فيقال فيه: لولا أنت، ولولا أنتما، ولولا أنتم، ولولا أنا، ولولا نحن، ولولا هو، ولولا هما، ولولا هم، ولولا هن، ونحو ذلك؛ لأن سبيل المضمر سبيل الظاهر في موضعه من الإعراب، وهذا هو الشائع الكثير في كلام العرب. قال الله عز وجل: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31]، وقال عامر بن سيّار بن الأكوع وهو يحدو برسول الله: لا همّ لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدّقنا ولا صلّينا فألقين سكينة علينا … وثبّت الأقدام إن لاقينا (¬2) وقال الكسائي: يرتفع الاسم بعد لولا بشيء مضمر معناه: لو لم يكن، وفرّع على ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 5/ 337، 349؛ ابن يعيش 3/ 10، 12؛ الكتاب 2/ 375؛ المقتضب 3/ 72. (¬2) البيت في ديوانه، ابن يعيش 3/ 115؛ الكتاب 3/ 511؛ المقتضب 3/ 13.

هذا النحو. حتى قال: لولا رأسك مدهونا لغسلته. والقياس والاختيار إذا أضمرته عندهم أن تقول: لولا أنا، ولولا نحن، ولولا أنت؛ لأنه لم يظهر فعل متصل به كناية المرفوع. ثمّ أجمع النحويون المتقدمون من البصريين والكوفيين على الرواية عن العرب: لولاك، ولولاي. فأما سيبويه: فأنشد بيت يزيد بن الحكم الثقفي الذي ذكرناه، واستشهد به أيضا الكسائي، وذكر معه بيتين آخرين من القصيدة وهما: فليت كفافا كان خيرك كلّه … وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي تكاشرنى كرها كأنّك ناصح … وعينك تبدي أنّ قلبك لي دوى (¬1) واستشهد الفراء أيضا بهذا البيت وبيت آخر: أتطمع فينا من أراق دماءنا … ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن (¬2) وأنشد فيه أيضا: ... … لولاك هذا العام لم أحجج (¬3) وكان أبو العباس المبرّد ينكر لولاي ولولاك، ويزعم أنّه خطأ لم يأت عن ثقة، وأنّ الذي استغوا هم بيت الثقفي، وأنّ قصيدته فيها خطأ كثير. قال أبو سعيد: وما كان لأبي العباس أن يسقط الاستشهاد بشعر رجل من العرب قد روى قصيدته النحويون وغيرهم، واستشهدوا بهذا البيت وغيره من القصيدة، ولا أن ينكر ما أجمع الجماعة على روايته عن العرب. ثم اختلف النحويون بعد في موضع الياء والكاف من: لولاي ولولاك، بعد إجماعهم على روايته. فقال سيبويه: موضعه جر، وحكاه عن الخليل ويونس. وقال الأخفش، وهو قول الفرّاء أيضا: الكاف والياء في لولاك ولولاي في موضع رفع. واستدل سيبويه على قوله أن الياء والكاف لا يكونان علامة مضمر مرفوع، وأن ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 1/ 496، 4/ 390، 10/ 472؛ ابن يعيش 3/ 119. (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 5/ 342؛ ابن يعيش 120. (¬3) البيت منسوب لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 487؛ والخزانة 5/ 333، 339؛ ابن يعيش 3/ 119، 120.

لولا في عملها الخفض في المكني وإن كانت لا تعمل في الظاهر الخفض بمنزلة عمل عسى في المكني النصب، وإن كانت لا تعمل في الظاهر إلا الرفع؛ فعملها النصب في المكني قوله: ... علّك أو عساكا الكاف في عساك مثلها في علّك، وأنت لا تقول في المظهر: عسى زيدا كما تقول: لعل زيدا، واستدل على أن الكاف في عساك في موضع نصب بقول عمران: ... لعلّى أو عساني ولا تدخل النون والياء بعد الألف إلا على منصوب، وقول سيبويه: فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذه الحال يعني: لولاك وعساك لهما اختصاص؛ فالضمير يخالف الظاهر. وقوله: كما أنّ لدن حالا مع غدوة ليست مع غيرها، وكما أن لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها؛ فهي معها بمنزلة ليس، فإذا جاوزتها فليس لها عمل. يعني أن هذين الحرفين: لولاك وعساك، في اختصاصهما مع المضمر بهذين الضّربين من تقدير الخفض والنصب دون المظهر، بمنزلة لدن في حالها مع غدوة وعملها فيها النصب دون أن تعمل النصب مع غيره غدوة، وبمنزلة عمل لات في الأحيان النصب والرفع دون أن تعمل ذلك في غير الأحيان. وردّ سيبويه على من زعم أنّ موضع الياء والكاف في لولاي ولولاك رفع، وأنّ الرفع وافق الجر في لولاي كما وافقه النصب إذا قلت: معك، وضربك؛ لأنك إذا أضفت إلى نفسك فالجرّ مفارق للنصب في غير هذه الأسماء. تقول: معي، وضربني. أراد سيبويه بهذا الاحتجاج أنه لو كان الرفع محمولا على الجر في لولاك لفصل بين اللّفظين في المتكلم فقيل: لولاني، كما فعل في النصب حين وافقه الجرّ في معك، وضربك، ثم خالفه في معي، وضربني. وأما الحجة في جعل الياء والكاف في لولاي، لولاك في موضع رفع؛ فلأن الظاهر الذي وقعت الياء والواو موقعه رفع. واحتج الأخفش في ذلك بأنّ علامة الجرّ دخلت على الرفع في لولاي، كما دخلت علامة الرفع على الجر في قولهم: ما أنا كأنت؛ فأنت من علامات المرفوع، وهو هاهنا في موضع مجرور، وكذلك الياء والكاف من علامات المجرور، وهما في لولاي، ولولاك من علامات المرفوع. وأما الفرّاء فإنه احتج في ذلك بأنّا لم نجد حرفا ظاهرا خفض، فلو كانت لولا مما

يخفض لأوشك أن ترى ذلك في الشعر؛ لأنّ الشعر الذي يأتي بالمستجاز. قال: وإنما دعاهم إلى أن يقولوا: لولاك في موضع الرفع؛ لأنهم يجدون المكني يستوي لفظه في الخفض والنصب فيقال: ضربتك، ومررت بك، ويجدونه يستوي أيضا في الرفع والخفض والنصب، فيقال: ضربنا، ومرّ بنا، فيكون النصب والخفض بنون، ثم يقال: قمنا، وفعلنا، فيكون الرفع بالنون. فلما كان ذلك استجازوا أن تكون الكاف في موضع (أنت) رفعا، وكان إعراب المكني بالدّلالات لا بالحركات. فإن قال قائل: حروف الخفض هي صلات للأفعال، فإذا جعلتم لولا خافضة للياء والكاف ففي صلة أي شيء تجعلونها؟ قيل له: قد تكون حروف الجر في موضع مبتدإ، ولا تكون في صلة شيء كقولك: بحسبك زيد، ومعناه: حسبك زيد، وقولك: هل من أحد عندك؟ وإنما هو: هل أحد عندك؛ فموضعها رفع بالابتداء، وإن كانت قد عملت الجرّ. وكذلك لولا إذا عملت الجرّ صارت بمنزلة الباء في: بحسبك، ومن في: هل من أحد، وتكون لولاك ولولاي بأسرها بمنزلة بحسبك، ومن أحد. ونظير هذا ما روي من خفض (لعل) لما بعدها؛ فإذا خفضت ما بعدها كانت هي وما بعدها بمنزلة اسم مبتدأ وما بعدها خبر، وفيما قرأنا على أبي بكر بن دريد، أو أنشدناه: وداع دعايا من يجيب إلى النّدى … فلم يستجبه عند ذاك مجيب فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة … لعل أبي المغوار منك قريب (¬1) وأما عساك، وعساني ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: قول سيبويه وهو أنّ عسى حرف بمنزلة لعلّ ينصب ما بعدها الاسم، والخبر مرفوع في التقدير وإن كان محذوفا. كما أنّ علّك في قولك: علّك أو عساك خبره محذوف مرفوع، والكاف اسمها، وهي منصوبة. واستدلّ على نصب الكاف في عساك بقول عمران: عساني، والنون والياء فيما آخره ألف لا تكون إلا للنّصب. والقول الثاني: قول الأخفش أنّ الكاف والنّون والياء في موضع رفع، وحجّته: أنّ لفظ النّصب استعير للرفع في هذا الموضع كما استعير له لفظ الجرّ في: لولاي، ولولاك. والقول الثالث: قول أبي العبّاس المبرّد: أنّ الكاف والنّون والياء في عساك، وعساني ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 10/ 426، 428؛ لسان العرب وتاج العروس (جوب).

هذا باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمر فيما عمل فيه، وما يقبح أن يشرك المضمر فيما عمل فيه

في موضع نصب ب (عسى) وأنّ اسمها مضمر فيها مرفوع، وجعله كقولهم: (عسى الغوير أبؤسا). وحكي عنه أيضا أنه قدّم فيها الخبر لأنها فعل، وحذف الفاعل لعلم المخاطب، كما قالوا: ليس إلا، وليس فعل صحيح لا يدخله الاختلاف بوجه من الوجوه، وباقي الباب مفهوم. هذا باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمر فيما عمل فيه، وما يقبح أن يشرك المضمر فيما عمل فيه قال سيبويه: " أمّا ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب، وذلك: رأيتك وزيدا، وإنّك وزيدا منطلقان. وأما ما يبح أن يشاركه المظهر فهو المضمر المرفوع، وذلك: فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله. وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أنّ هذا الإضمار يبنى عليه الفعل، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمرا يغيّر الفعل فيه عن حاله إذ بعد شبهه منه. وإنما حسنت شركته المنصوب لأنه لا يغيّر فيه الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر، فأشبه المظهر وكان منفصلا عندهم بمنزلة المظهر، إذ كان الفعل لا يتغّير عن حاله قبل أن يضمر فيه. وأما فعلت فإنهم قد غيّروه عن حاله في الإظهار؛ أسكنت فيه اللام، فكرهوا أن يشرك المظهر مضمرا يبنى له الفعل على غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيت. فإن نعتّه حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد، وقال تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا (¬1)، اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (¬2). وذلك أنك لمّا وصفته قوي الكلام حيث طوّله وأكّده، كما تقول: قد علمت أن لا تقول ذاك، فإن أخرجت (لا) قبح الرفع. ف (أنت) تقوّي، وتصير عوضا من السّكون والتغيير ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 24. (¬2) سورة البقرة، الآية: 35.

وترك العلامة في ضرب. وقال الله تعالى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا (¬1)؛ حسن لمكان لا، وقد يجوز في الشعر؛ قال أبو الحسن: سمعته من يونس لابن أبي ربيعة: قلت إذ اقبلت وزهر تهادى … كنعاج الملا تعسّفن رملا (¬2) واعلم أنه قبيح أن تصف المضمر في الفعل بنفسك وما أشبهه، وذلك أنه قبيح أن تقول: فعلت نفسك، إلا أن تقول: فعلت أنت نفسك. فإن قلت: فعلتم أجمعون حسن؛ لأنّ هذا يعمّ به، وإذا قلت: نفسك فإنما تؤكّد الفاعل، ولمّا كانت نفسك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يجرّ وينصب ويرفع شبّهوها بما يشرك المضمر، وذلك قولك: نزلت بنفس الجبل، ونفس الجبل مقابلي، ونحو ذلكن وأمّا أجمعون فلا تكون إلا صفة، وكلّهم قد تكون بمنزلة أجمعين؛ لأنّ معناه معنى أجمعين فهي تجرى مجراها. وأمّا علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغيّر ما عمل فيها عن حاله إذا أظهر فيه الاسم فإنه يشركه المظهر لأنّه لا يشبه المظهر، وذلك قولك: أنت وعبد الله ذاهبان، والكريم أنت وعبد الله. واعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبت وعبد الله، أو ذهبت وأنّا؛ لأنّ أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجئ في شعر، قال الشّاعر (وهو الراعي): فلمّا لحقنا والجياد عشيّة … دعوا يا لكلب واعتزينا لعامر (¬3) ومما يبح أن يشركه المظهر علامة المضمر المجرور، وذلك قولك: مررت بك وزيد، وهذا أبوك وعمرو؛ فكرهوا أن يشرك المظهر مضمرا داخلا فيما قبله؛ لأنّ هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعت أنها لا يتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها في اللفظ، وأنها بدل من اللفظ بالتنوين، فصارت عندهم بمنزلة التنوين، فلما ضعف عندهم كرهوا أن يتبعوها الاسم، ولم يجز أن يتبعوها إيّاه وإن وصفوا؛ لا يحسن أن تقول: مررت بك أنت وزيد، كما جاز فيما أضمرت في الفعل؛ لأنّ ذاك وإن كان قد ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 148. (¬2) البيت في ديوانه 492؛ شرح المفصل 3/ 67؛ الكتاب 2/ 379. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 2/ 380؛ ولسان العرب؛ وتاج العروس (عزا)، (عمر).

أنزل منزلة آخر الفعل فليس من الفعل ولا من تمامه، وهما حرفان يستغنى كلّ واحد منهما بصاحبه كالمبتدإ والمبنيّ عليه، وهذا يكون من تمام الاسم، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم، وحال الاسم إذا أضيفت إليه مثل حاله مفردا، لا يستغنى به، ولكنهم يقولون: مررت بكم أجمعين؛ لأنّ أجمعين لا تكون إلا وصفا، ومررت بهم كلّهم؛ لأنّ أحد وجهيها مثل أجمعين. وتقول أيضا: مررت بك نفسك؛ لمّا أجزت فيها ما يجوز في فعلتم مما يكون معطوفا على الأسماء احتملت هذا؛ إذ كانت لا تغيّر علامة الإضمار هاهنا ما عمل فيها، فضارعت هاهنا ما ينتصب، فجاز هذا فيها، وأمّا في الإشراك فلا يجوز؛ لأنه لا يحسن في فعلت وفعلتم إلا ب (أنت وأنتم)، وهذا قول الخليل. وجاز: قمت أنت وزيد، ولم يجز: مررت بك أنت وزيد؛ لأنّ الفعل يستغنى بالفاعل، والمضاف لا يستغنى بالمضاف إليه؛ لأنه بمنزلة التنوين، وقد يجوز في الشعر. قال الشاعر: آبك أيّه بي أو مصدّر … من حمر الجلّة جأب حشور (¬1) هذان البيتان من الرّجز لم يقرأهما أبو عثمان ولا غيره من أصحابنا، وهما في الكتاب. وقال الآخر: فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا … فاذهب فما بك والأيّام من عجب " (¬2) قال أبو سعيد: أما شركة الظاهر للمضمر المنصوب، وهي عطف الظاهر المنصوب على المضمر المنصوب فهي جائزة مستحسنة ليس بين النحويين في ذلك خلاف، أكّد المضمر أو لم يؤكد، وليس فها علّة تمنع ذلك. وأمّا عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع المتّصل بالفعل فيستقبح عند البصريين؛ إلا أن يؤكّد المضمر، أو يدخل بين المضمر وبين المعطوف عليه كلام يكون عوضا من التوكيد. فالمستقبح منه نحو قولك: قمت وزيد، وأفعل وعبد الله، وإن الزيدين قاما وأخوك. وإنما قبح ذلك لأنّ ضمير الفاعل قد يكون في الفعل بغير علامة كقولك: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 2/ 382؛ ولسان العرب وتاج العروس (أوب). (¬2) البيت لم يعرف قائله، الخزانة 5/ 123، 126؛ ابن يعيش 3/ 78؛ الكتاب 2/ 283.

قم، واذهب؛ فيه ضمير المخاطب ولا علامة له في اللفظ، وفيه ماله علامة تغير بنية الفعل بتسكين آخر الفعل الماضي وذلك: قمت، وقمنا، وقمت، وقمتما، وقمتم، فلما كان بعضه يقدّر في الفعل ويبقى لفظ الفعل مجردا، وبعضه كأنه من حروف الفعل بتسكينه لما كان من الفعل مفتوحا واختلاطه بحروفه صار المعطوف عليه في اللفظ كأنه قد عطف على الفعل وحده، إذ كان الموجود لفظ الفعل مجردا، أو ما يجري ببنيته مع الفعل كالمجرّد، والاسم لا يعطف على الفعل، فقبح لذلك. وأمّا المستحسن المؤكّد فقولك: قمت أنا وزيد، وخرجنا نحن وأصحابك، واسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (¬1)، وإنّ الزّيدين خرجا هما وأخوك، وإنّ الهندات في الدار هنّ وأخواتك، وهنّ توكيد للضمير الذي لهنّ في الظرف، وتقديره: إنّ الهندات استقررن هنّ وأخواتك في الدار. وأمّا ما يكون من الكلام بين المعطوف والمعطوف عليه عوضا من التوكيد فنحو قولك: أقمت بالبصرة وزيد، وما خرجت ولا زيد، وفي مواضع من كتاب الله عز وجلّ قد جاء؛ فمنها: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا (¬2) فعطف آباؤنا على النون والألف في أشركنا، و (لا) الداخلة بينهما عوض من التوكيد. ومنها: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (¬3) فعطف آباؤنا على النون والألف، وترابا عوض من التوكيد، ومنها: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (¬4) (من) رفع بالعطف على التاء، وما بين التّاء و (من) عوض من التوكيد، ومنها قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (¬5) في رفع رسوله وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على الضّمير الذي في (بريء)، وما بينهما كالتوكيد، وشبّه سيبويه العوض في هذا كالعوض الذي يقع في (أنّ) المشدّدة إذا خفّفت ووليها الفعل كقولك: قد علمت أن لا تقول ذاك، وأصله: قد علمت أنك لا تقول، ولو قلت: علمت أن تقول ذاك، على معنى: أنك تقول: لم يحسن؛ لأنّ (لا) عوض من تخفيف أنّ، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 35. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 148. (¬3) سورة النمل، الآية: 67. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 2. (¬5) سورة التوبة، الآية: 3.

وستقف على شرح هذا في موضعه إذا بلغنا إليه إن شاء الله. والكوفيّون يجيزون العطف بغير توكيد، والأمر في ترك التوكيد عندهم أسهل منه عند البصريين، وسيبويه يرى ترك التوكيد وما يقوم مقامه قبيحا إلا في الشّعر، والكوفيّون لا يرونه قبيحا. ومما ينشد في ذلك غير البيتين اللذين ذكرناهما قول جرير: ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه … ما لم يكن وأب له لينالا (¬1) عطف أب على الضمير في يكن. وأمّا توكيد الضمير المتّصل المرفوع بالنفس فلا يحسن حتى تقدّم قبل النفس توكيدا؛ لا يحسن: فعلت نفسك حتى تقول: فعلت أنت نفسك. وإنّما احتاجت إلى تقديم توكيد قبلها لأنها اسم يتصرف، وتقع في جميع مواضع الأسماء، ويؤكّد بها، فيعرض في بعض مواضع توكيد المرفوع لبس إن لم يؤكد، وذلك أن تقول: هند خرجت نفسها، فتكون نفسها فاعلة خرجت، كما تقول: هند خرجت جاريتها، وليس في خرجت ضمير، ويجوز أن تقول: هند خرجت نفسها، على أنّ هندا هي الخارجة، وفي خرجت ضميرها فلا يتبيّن أن معناها: خرجت هند، أو خرجت نفس هند، ومعناهما مختلف في مقاصد الناس، فإذا أكّدوا قبل النفس فقالوا: هند خرجت هي نفسها زال اللّبس؛ فلذلك اختاروا التوكيد. وقول سيبويه: " ولمّا كانت نفسك يتكلّم بها مبتدأة وتحمل على ما يجرّ وينصب ويرفع، شبّهوها بما يشرك المضمر ". قال أبو سعيد: أراد سيبويه الفصل بين أجمعين وبين نفسك؛ فلأن أجمعين لا يكون إلا توكيدا لم يحتج إلى تقدّم ضمير، ولمّا كانت النفس اسما يتصرف شبّهت بما يعطف من الأسماء على الضمير. قال أبو سعيد: والذي عندي: شبهوها بما لا يشرك المضمر؛ لأنه إنما يحتجّ لاحتياجهم إلى التوكيد قبل ذكر النفس، فالنفس في ذلك بمنزلة المعطوف على ضمير المرفوع في باب التوكيد. وأمّا المنصوب والمخفوض فإذا أكّدا بالنفس لم يحتج إلى تقدمة توكيد قبلها وذلك من جهتين: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 451.

إحداهما: أنّ اللّبس لا يقع فيهما؛ لأنّ ضمير المنصوب والمخفوض لا يكون إلا بعلامة ملفوظ بها تتبعها النفس، والمرفوع يكون بغير علامة فيقع من جهته اللبس. والجهة الأخرى: أنّ المنصوب والمجرور لا ضمير لهما منفصل في الأصل، وهما يؤكّدان بضمير المرفوع كقولك: رأيتك أنت ومررت بك أنت، واستعمال ضمير المرفوع في غير موضعه من غير قصد إلى التوكيد به يضعف؛ لأنه إذا قدّم من أجل النفس فليس يراد التوكيد به. وأمّا (فعلتم أجمعون) فحسن؛ لأنه يعمّ به، وهو موضوع للتوكيد والعموم، ولا يستعمل في مواضع الأسماء، ولا يقع فيه لبس، وقد استعمل (كلّهم) في موضعها لاشتراكهما في العموم، وعلى أن (كلهم) ليس بمتمكن في مواضع الأسماء؛ لأن المستحسن فيه أن يكون مبتدأ أو يعمّ به ما قبله، فمجراه مجرى أجمعين في هذا الوجه. وأمّا قبح عطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور فليس بين النحويين فيه خلاف، وقد احتج له سيبويه بما ذكرناه من كلامه، واحتج أبو عثمان المازني لذلك بأن قال: " لما كان المضمر المجرور لا يعطف على الظاهر إلا بإعادة الخافض كقولك: مررت بزيد وبك، ولا يجوز أن تقول: مررت بزيد وك، كذلك تقول: مررت بك وبزيد، فتحمل كل واحد منهما على صاحبه "، وشايعه أبو العباس المبرد في ذلك، وقد جاء في الشعر عطف الظاهر المجرور على المضمر في أبيات كثيرة منها ما ذكرنا في جملة الباب ومنها قوله (أنشده الفرّاء): تعلّق في مثل السّواري سيوفنا … فما بينها والكعب غوط نفانف (¬1) أراد: وبين الكعب، فعطف على المكنيّ المخفوض، وأنشد أيضا: أكرّ على الكتيبة لا أبالي … أفيها كان حتفي أم سواها (¬2) قال أبو سعيد: أمّا هذا البيت الأخير فليس فيه حجة؛ لأن سواها ظرف؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أفي اليوم كان حتف زيد أم يوم الجمعة؟ فإن قال قائل: فأنتم تقولون: مررت بك وزيدا، فتنصبون زيدا بالعطف على موضع الباء أو بتأويل: لقيتك وزيدا ولا تكون فيه ضرورة؛ فهلا نصب هؤلاء الشعراء ما خفضوه وخرجوا عن الضرورة؟ ¬

_ (¬1) البيت منسوب إلى مسكين الدارمي 53، ابن يعيش 3/ 79؛ لسان العرب وتاج العروس (غوط). (¬2) البيت منسوب للعباس بن مرداس السلمي في ديوانه 110، والخزانة 3/ 438.

هذا باب ما ترده علامة الإضمار إلى أصله

فالجواب عن ذلك أن قوله: آبك أيّة بي أو مصدّر كان حق المصّدّر أن يكون منصوبا؛ لأنه بمنزلة: امرر بي وزيدا؛ لأن أيّه فعل معناه صح بي أو زيدا، على معنى: ادعني أو زيدا. يقال: أيّهت بالإبل: صحت بها، وإنما خفضه ضرورة لخفض القوافي، ومعنى آبك: ويلك، والمصدّر: العظيم، والجأب والحشور: الغليظ. قال الشاعر في آبك، وأنشده أبو زيد: فآبك هلا والليالي بغرّة … صحوت وفي الأيام عنك غفول (¬1) وأمّا: فاذهب فما بك والأيام، وما بينها والكعب، فليس قبلهما فعل يحملان عليه وينصبان، فالضرورة حملهما على الخافض. والتأكيد للمضمر المجرور لا يحسّن عطف الظاهر عليه كما حسّنه في المرفوع؛ لأن المرفوع بالفعل قد يكون غير متصل بالفعل الرافع له الظاهر منه والمضمر، وإنما استحسن توكيده؛ لأن التوكيد خارج عن الفعل، فيصيّره بمنزلة الفاعل الذي ليس متصلا، فيعطف عليه كما يعطف على ما ليس بمتّصل من الفاعلين، والمجرور لا يكون إلا متصلا بالجارّ، فلا يخرجه التوكيد إلى شبه ما ليس بمتصل، وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه. هذا باب ما تردّه علامة الإضمار إلى أصله وهذا الباب في كتاب أبي العباس المبرد قبل الباب الذي ذكرناه قبله. قال سيبويه: " فمن ذلك قولك: لعبد الله مال، ثم تقول: لك وله مال. وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالتبست بلام الابتداء إذا قال: إن هذا لفلان، ولهذا أفضل منك، فأرادوا أن يميزوا بينهما، فلما أضمروا لم يخافوا أن تلتبس بها؛ لأنّ هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجرّ. ألا تراهم قالوا: يا لبكر، حين نادوا؛ لأنه قد علم أن تلك اللام لا تدخل هاهنا. وقد شبهوا به قولهم: أعطيكموه في قول من قال: أعطيكم ذلك فيجزم، ردّوه إلى أصله بالإضمار كما ردوه بالألف واللام حين قالوا: أعطيكم اليوم، فشبّهوا هذا ب " لك وله "، وإن كان ليس مثله؛ لأنّ من كلامهم أن يشبّهوا الشيء بالشيء وإن ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ولسان العرب وتاج العروس (أوب).

كان ليس مثله. وقد بيّنّا ذلك فيما مضى، وستراه إن شاء الله فيما بقي. وزعم يونس أنه يقول: أعطيتكمه، وفي نسخة أبي العباس أعطيكمها كما تقول في المظهر، والأوّل أكثر وأعرف ". قال أبو سعيد: إنما كسروا الاسم مع الظاهر وفتحوها مع المضمر؛ لأنّ حروف الظاهر وصيغتها لا تتغيّر بتغيّر الإعراب، ولا تدل على مواضعه من الرفع والنصب والجرّ، وحروف المضمرات بأنفسها تدلّ على مواضعها من الإعراب؛ فلذلك كسروا اللام مع الظهر؛ لأنهم لو فتحوها لم يعلم أهي لام الإضافة والملك الخافضة، أم لام التوكيد. وذلك في قولنا: إنّ هذا لزيد، إذا كان المشار إليه هو زيد، وإنّ هذا لزيد، إذا كان المشار إليه ملك زيد؛ فكسروا اللام الخافضة ليزول اللّبس، وأصلها الفتح؛ لأنّ الباب في الحروف المفردة أن تبنى على الفتح، فإذا وصلتها بالمكنيّ عادت إلى أصلها من الفتح، وذلك في قولك: إنّ هذا لك، وإنّ هذا له، وإنّ هؤلاء لنا؛ لأنك تقول في مكنيّ المجرور والمرفوع، فأغني عن كسر اللام، فأجريت على أصلها من الفتح، وقد ذكر هذا في غير هذا الموضع. وكذلك فتحوا لام المستغاث به حين علم أنه لا يقع في النّداء لام التوكيد، وفي لام الاستغاثة المفتوحة وجه آخر قد ذكرناه في موضعه، وجعل هذا سيبويه مقوّيا لما تردّه علامة الإضمار إلى أصله. وقالوا: أعطيتكم والأصل: أعطيتكمو؛ لأن الواو بعد الميم في الجمع بمنزلة الألف بعد الميم في التثنية إذا قلت: أعطيتكما، وإنما حذفوا الواو وأسكنوا الميم تخفيفا لأنه لا لبس فيه لأن الواحد لا ميم فيه، والاثنين لا تفارقهما الألف لخفتها، ومما يزيد في ثقل الواو طرفا وقبلها ضمّة أنّ مثل لفظه لا يقع في الأسماء، وإن عرض فيها غيّر إلى الياء كقولهم: أدل وأجر، وأصلهما: أدلو وأجرو. وإنما ردّه الضمير إلى أصل البنية في أعطيتكموه، وأعطيكموه؛ لأن الضمير لما اتصل بها صارت الواو التي بعد الميم كأنّها في الوسط لا في الطّرف، والحذف من الأطراف أحسن وأكثر وأسهل من حذف غير الأطراف لعلل قد ذكرت في موضعها. والذي حكاه يونس من قولهم: أعطيتكمه قد بني على الظاهر إذا قلت: أعطيتكم ثوبا، أو على أنه لما كثر استعمالهم أعطيتكم صار كأنه بني على السكون، ثم اتصلت به الكناية كقوله: اضربه، وما أشبهه، وإذا أضفته إلى ما فيه الألف واللام فأكثرهم يردّه إلى الأصل فيضمه، ويقول: أعطيتكم اليوم، فيضمّ الميم؛ لمّا اضطر إلى تحريكها حركها بحركتها في الأصل، ومنهم من يكسر الميم فيقول: أعطيتكم اليوم، فيكسر لالتقاء

هذا باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجر

الساكنين على اللفظ الذي استعمل فيها، ولم تردّ إلى أصلها. ومثله: ما رأيته مذ اليوم، ومذ اليوم، على ردّها إلى ضمّة منذ، وكسرها لالتقاء الساكنين، والكسر في أعطيتكم اليوم، كالسّكون في أعطيتكمه. هذا باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجرّ قال سيبويه: (وذلك الكاف التي في: أنت كزيد، وحتى، ومذ. وذلك أنهم استغنوا بقولهم: مثلي، وشبهي عنه فأسقطوه. واستغنوا عن الإضمار في حتى في قولهم: دعه حتى يوم كذا وكذا بقولهم: دعه حتى ذاك، وبالإضمار في إلى إذا قالوا: دعه إليه؛ لأنّ المعنى واحد، كما استغنوا ب (مثلي) و (مثله) عن (كي) و (كه). واستغنوا عن الإضمار في مذ بقولهم: مذ ذاك؛ لأنّ ذاك اسم مبهم، وإنما يذكر حين يظن أنّك قد عرفت ما يعني. إلا أنّ الشّعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف، فيجرونها على القياس. قال العجّاج: وأمّ أو عال كها أو أقربا (¬1) وقال العجاج أيضا: فلا ترى بعلا ولا حلائلا … كه ولا كهنّ إلا حاظلا (¬2) شبهوه بقولهم: له ولهن. ولو اضطر شاعر وأضاف إلى نفسه قال: كي، بكسر الكاف، وكي بفتح الكاف خطأ؛ من قبل أنه ليس من حرف يفتح ما قبل ياء الإضافة). قال أبو سعيد: منع هذه الحروف من الإضافة إلى مكنيّ فيما ذكره سيبويه سماع من العرب؛ لأنه ذكر أنهم استغنوا بقولهم: مثلي، وشبهي، عن إضافة الكاف، واستغنوا بقولهم: حتى ذاك، ومذ ذاك، وإنما يريد أنّ العرب استغنوا بشيء عن شيء، وليس لأحد أن يجيز ما استغنت العرب عن الكلام به ببدل جعلوه مكانه، فيكون خارجا عن كلامها. وعلّل أبو إسحاق الزّجّاج ذلك فقال: لم يجز الإضمار في حتى لأنه يقع ما بعدها ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 74، الخزانة 10/ 195، 196؛ ابن يعيش 8/ 16؛ الكتاب 2/ 384. (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 10/ 195، 196؛ الكتاب 2/ 384.

على ضروب كثيرة، ومذ يقع ما بعدها على غير ضرب ومنذ صارت في الأيام حسب. قال أبو سعيد: وأنا أقول إنا رأينا أسماء تضاف إلى الظاهر ولا يجوز إضافتها إلى المكني كقولنا: ذو مال، وذو المال ولا يجوز: ذوه. وتقول: والله، وتالله في القسم ولا يجوز: وه، ولا وك، ولا ته، ولا تك؛ لأنهم استغنوا بإضافة الباء إلى المكنيّ في قولهم: بك لأعبدنّك أن يقولوا: وك، أو تك. وكان أبو العباس المبرد يجيز إضافة ما منع سيبويه إضافته في هذا الباب ولا يمتنع منها، ويقول: " إذا كان ما بعد حتى رفعا: حتى هو، وإذا كان نصبا: حتى إياه، وإذا كان جرّا: حتاه، وحتاك، وفي مذ إذا كان ما بعدها رفعا: مذ هو، وإذا كان جرّا: مذه ". والصحيح ما قاله سيبويه؛ لموافقته كلام العرب. وأمّا قول العجّاج: وأمّ أو عال كها أو أقربا (¬1) فأمّ أو عال: هضبة قد ذكر قبلها مكانا آخر مؤنثا، وشبّه أمّ أو عال بها، فقال: وهو يصف حمارا هرب بأتنه من صائد رماها: أجمعن منه سننا وهربا … نحي الذبابات شمالا كثبا وأمّ أو عال كها أو أقربا … ذات اليمين غير ما أن ينكبا (¬2) منه: من الصائد، نحي الحمار الذبابات: وهي في موضع صار هو وأتنه منها ناحية، وأمّ أو عال: مثل الذبابات في تصييرها إياها ناحية، وأمّ أو عال: عطف على الذبابات تقديره: تجئ الذبابات شمالا وأم أو عال ذات اليمين كالذبابات أو أقرب منها، كأنه قال: جعل أمّ أو عال كالذباب أو أقرب منها. وأمّا قوله: ولا ترى بعلا ولا حلائلا كه، ويقف الهاء ساكنة، ولا كهن: كحمار ذكره وأتن، والحاظل: مثل العاظل: وهو المانع من التّزويج، والحمار يمنع حمارا آخر من قرب شيء من أتنه، وقد ذكرنا كسر الكاف إذا أضيف إلى المتكلم لدخول الياء على حرف متحرك. ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت منسوب لديوان العجاج 74، الكتاب 2/ 384.

هذا باب ما يكون فيه أنت وأنا ونحن وهو وهي وأنتم وأنتن وهما وأنتما وصفا

هذا باب ما يكون فيه أنت وأنا ونحن وهو وهي وأنتم وأنتن وهما وأنتما وصفا قال سيبويه: (اعلم أنّ هذه الحروف كلها تكون وصفا للمجرور المضمر والمرفوع والمنصوب المضمرين، وذلك قولك: مررت بك أنت، ورأيتني أنا، وانطلقت أنت، وليس وصفا بمنزلة الطويل إذا قلت: مررت بزيد الطويل، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت: مررت به نفسه، وأتاني هو نفسه، ورأيته نفسه، وإنما تريد إذا قلت: مررت به هو مررت به نفسه، ولست تريد أن تحلّيه بصفة ولا قرابة كأخيك، ولكن النحويين صار هذا عندهم صفة؛ لأنّ حاله كحال الموصوف، كما أنّ حال الطويل وأخيك في الصفة بمنزلة الموصوف. واعلم أنّ هذه الحروف لا تكون وصفا لمظهر، كراهية أن يصفوا المظهر بالمضمر، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسه معطوفا على النكرة في قولهم: مررت برجل نفسه، ومررت أجمعين. فإن أردت أن تجعل مضمرا بدل من مضمر قلت: رأيتك إيّاك، ورأيته إيّاه، فإن أردت أن تبدل من مرفوع قلت: فعلت أنت، وفعل هو، فأنت وهو وأخواتهما نظائر إيّاه في النصب. واعلم أن هذا المضمر يجوز أن يكون بدلا من المظهر، وليس بمنزلته في أن يكون وصفا له؛ لأنّ الوصف تابع للاسم، وأمّا البدل فمنفرد، كأنك قلت: زيدا رأيت، أو رأيت زيدا، ثم قالوا: إياه رأيت. وكذلك أنت وأخواتها في الرفع. واعلم أنه قبيح أن تقول: مررت به وبزيد هما، كما قبح أن تصف المضمر والمظهر بما لا يكون إلا وصفا للمظهر. ألا ترى أنه قبيح أن تقول: مررت بزيد وبه الظريفين). قال أبو سعيد: أصل المضمر أن يكون على صيغة واحدة في الرفع والنصب والجر، كما كانت الأسماء الظاهرة على صيغة واحدة، والإعراب في آخرها يبيّن مواقعها، وكما كانت الأسماء المبهمة المبنية على صيغة واحدة والدّلالة على إعرابها أفعالها ومواضعها، نحو: جاءني هذا، ورأيت هذا، ومررت بهذا، ولكنهم فصلوا في المضمر في بعض المواضع بين صيغة المرفوع منها والمنصوب والمخفوض في نحو: ضربت زيدا، وضربك زيد، وضربت زيدا، وضربني زيد، ومرّ بي زيد، فاسم المتكلّم والمخاطب يتغير في الرفع

والنصب والجر، وهذا زيادة بيان قد أحسنوا فيه. وقد سوّوا المرفوع والمنصوب والمجرور في بعض المواضع، وذلك قولك: قمنا وذهبنا، النون والألف في موضع رفع. وأكرمنا زيد وأعطانا، النون والألف في موضع نصب. ونزل علينا زيد، ورغب فينا، النون والألف في موضع جرّ. وقد كنّا ذكرنا أنّ الضمير المنفصل في الأصل للمرفوع؛ لأنّ أوّل أحواله الابتداء، وعامل المبتدإ ليس بلفظ، فإذا أضمر لم يكن بدّ من أن يكون ضميره منفصلا، والمنصوب والمجرور لا بدّ لهما من لفظ يعمل فيهما، فإذا أضمرا اتّصلا بذلك اللفظ، فصار المرفوع مختصّا بالانفصال، فإذا وصفنا المضمر المنصوب والمجرور- ووصفهما هو تأكيدهما لئلا يذهب الوهم إلى غيرهما، كما يؤكّدان النّفس والعين إذا قلت: رأيته نفسه، ورأيته عينه، ورأيته بعينه، ومررت به نفسه، وعينه؛ فبعينه لتحقيق الفعل للشّيء بعينه دون من يقوم مقامه ومن يشبهه- احتجنا إلى ضمير منفصل، ولا منفصل إلا ضمير المرفوع، فاستعملناه في المنصوب والمجرور والمرفوع، كما اشتركن جميعا في (نا)، وكما ذكرنا من إيجاب القياس اشتراكها كلّاه في لفظ واحد، وليست هذه الصفة كصفة زيد؛ لأن صفة زيد ونحوه تحلية له لتبينه من زيد آخر، وهذا قد عرف بالضّمير، وإنّما يؤكّد لئلا يتوهّم أنّ الفعل الواقع إنما وقع من بعض أسبابه، كما يقول القائل: ضرب الأمير زيدا، والذي تولّى الضّرب غيره، فإذا قلت: ضرب الأمير نفسه زيدا، فقد تولى الضّرب بنفسه، وكذلك: مررت بك، يجوز أن يكون: مررت بمن يخلفه، أو من يشبهه في أمر من الأمور، فإذا قلت: مررت بك أنت، بيّنت أنّه الممرور به، وسمّاه النّحويون: وصفا، وإن خالف وصف زيد؛ لأنه يجري على زيد في تعريفه ورفعه وجرّه وبيان الأول به على الوجه الذي قصد بيانه به. وقول سيبويه: (واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفا لمظهر كراهية أن يصفوا المظهر بالمضمر) إن اعترض عليه معترض فقال: وما تكره من هذا؟ ومن كلامهم وصف المضمر بالمظهر في قولك: قمتم أجمعون، ومررت بكم كلّكم، ورأيته نفسه، فما بين المظهر والمضمر تباين يوجب أن لا يؤكّد أحدهما بالآخر. فالجواب عن ذلك أنّ المضمر لا يوصف بما يعرّفه، وإنّما يوصف بما يؤكّد عمومه، أو يؤكّد عينه ونفسه، نحو: مررت بكم كلّكم، ومررت بكم أجمعين، ومررت بك نفسك، والظّاهر يشارك المضمر في التوكيد بالعموم وبالنّفس كقولك: مررت بالقوم أجمعين، ومررت بالقوم كلّهم، ومررت بزيد نفسه، ويختصّ الظاهر بالصفة التي هي تحلية عند التباسه بظاهر آخر مثله نحو: مررت بزيد البزّاز، والطويل وما أشبهه.

هذا باب من البدل أيضا

وقد جرى التوكيد والاختصاص بالنفس مجرى صفاتى التّحلية في اشتراك الصفة والموصوف في الإعراب والتّعريف، وفي شرط الصفات أن لا تكون الصّفة أعرف من الموصوف، فلما كان المضمر أعرف من الظاهر لم يجعل توكيدا للظّاهر؛ لأن التوكيد كالصّفة. ومما يمنع من توكيد الظاهر المضمر أنّا لو فعلنا ذلك لم يكن توكيده إلا بالمضمر الغائب، وسقط منه ضمير المتكلّم والمخاطب؛ لأنّا إذا قلنا: لقيت زيدا، أو مررت بزيد، أو جاءني زيد، فأكّدناه، لم يكن في شيء من ذلك إلا أن تقول هو، فيسقط المتكلم والمخاطب، وهما الأكثر والأصل في الضّمير، واستعمال ما يوجب إسقاط أصله وأكثره مطّرح متروك. وأما البدل فإنه يجوز أن تبدل المضمر من المضمر، والمضمر من المظهر، والظاهر من المضمر. فأمّا المنصوب فقولك: رأيتك إياك، تجعل إيّاك بدلا من الكاف، كأنك قلت: إيّاك رأيت، ولم تذكر الكاف، وقدّرناه، بتقديم إياك، أو ما رأيت إلا إياك. وأما المرفوع فإنك تقولك قمت أنت، والمجرور: مررت بك بك، وتعيد حرف الجرّ لأنّ الكاف لا تنفرد، وإن أبدلت مضمرا من ظاهر قلت في المجرور: مررت بزيد به بإعادة حرف الجر. والفرق بين جواز بدل المكنيّ من المضمر ومن الظّاهر وبطلان التوكيد والصفة بالمكنيّ من الظاهر أنّ الصّفة تطلب المشاكلة بينها وبين الموصوف في التعريف أو التنكير، والبدل ليس يطلب ذلك إذ جاز بدل النكرة من المعرفة، والمعرفة من النّكرة، وقد ذكرت في غير هذا الباب أنّ النكرة لا تؤكّد بما أغنى عن إعادته، وباقي كلامه مفهوم. هذا باب من البدل أيضا قال سيبويه: (وذلك قولك: رأيته إيّاه نفسه، وضربته إياه قائما. وليس هذا بمنزلة قولك: أظنّه هو خيرا منك، من قبل أنّ هذا موضع فصل، والمضمر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنّك تقول: رأيت زيدا هو خيرا منك،

وقال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ (¬1). وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء. فأمّا ضربت وقتلت ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبنيّ على المبتدإ، وإنّما كان يذكر قائما بعد ما يستغنى الكلام ويكتفي، وينتصب على أنّه حال، فصار هذا كقولك: رأيته إيّاه يوم الجمعة. وأمّا نفسه حين قلت: رأيته إيّاه نفسه، فوصف بمنزلة هو، وإياه بدل، وإنما ذكرتهما توكيدا، كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (¬2)؛ إلا أنّ إيّاه بدل والنفس وصف، كأنك قلت: رأيت الرجل زيدا نفسه، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنّما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما كان الفصل في أظنّ ونحوه لأنّه موضع يلزمه فيه الخبر، وهو ألزم له من التوكيد؛ لأنه لا يجد منه بدا. وإنما فصل لما لا بدّ له منه، ونفسه يجزئ من إيّا، كما تجزئ منه الصفة؛ لأنّك جئت بها توكيدا وتوضيحا، فصارت كالصّفة. ويدلّك على بعده أنك لا تقول: إنك أنت إياك خير منه. فإن قلت: أظنه هو خيرا منه، جاز أن تقول: إياه؛ لأن هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام به، فصار كقولك: ضربته، وكان الخليل يقول: هي عربيّة: إنك أنت إياك خير منه: فإذا قلت: إنك فيها إياك، فهو مثل أظنّه خيرا منه، يجوز أن تقول: إياك. ونظير إيّا في الرفع: أنت وأخواتها. واعلم أنها في الفعل أقوى منها في أن تغني إيا في البدل وغيره، ويدلك على أن الفصل كالصفة أنه لا يستقيم أن تقول: أظنّه هو إياه خيرا منك، إذا كان أحدهما لم يكن الآخر، ولا يجوز: أظنّه هو هو أخاك، إذا جعلت إحداهما صفة والأخرى فصلا؛ لأنّ كل واحدة منهما تجزئ من أختها). قال أبو سعيد: بدأ سيبويه في هذا الباب بالفعل الذي لا يجوز فيه الفصل، ويجوز فيه التّوكيد والبدل، وهو كلّ فعل لم يتعلق باسمين أحدهما هو الآخر، فإذا تعلّق الفعل بمفعول واحد أو تعلّق بمفعولين أحدهما غير الآخر لم يكن فيه فصل. ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآية: 6. (¬2) سورة الحجر، الآية: 30، وسورة ص، الآية: 73.

فالمتعلق بالمفعول الواحد قولك: (من رؤية العين)، وضربته، وأكرمته. والمتعلق بالمفعولين وأحدهما غير الآخر: أعطيت زيدا درهما، وألبست أخاك ثوبا. وأما ما يقع الفصل فهو ما كان من الفعل متعلقا باسمين أحدهما هو الآخر، والثاني منهما خبر الاسم الأوّل، ويدخل الفصل بعد الاسم الأول ليؤذن أنّ الاسم قد تمّ وبقي الخبر حسب، وقد ضمّن سيبويه أحكامه ومسائله الباب الذي يلي هذا. والذي يسمّى فصلا هو ضمير الاسم الأوّل، يفصل به بين الاسم الأول والثاني، ولفظه كلفظ التّوكيد الذي هو ضمير الاسم الأول، غير أنّ التوكيد لا يدخل إلا على مضمر في كلّ فعل، والفصل يدخل بين الظاهرين وبين المضمرين. وقوله: رأيت زيدا هو خيرا منك، وقول الله عز وجلّ: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ (¬1) جميعا من رؤية القلب، و (هو) فيهما فصل، وفصل بين دخول إيّاه بين ضربته قائما، وبين دخول (هو) بين رأيت زيدا هو خيرا منك، فجعل الهاء في ضربته بمنزلة خبر المبتدإ في استغناء الكلام واكتفائه به، وجعل قائما حالا بعد أن استغنى الكلام، فلمّا بطل الفصل في ضربته قائما، جعل إياه بدلا من الهاء، فقال: ضربته إيّاه، وهو الذي للتّوكيد، وهو الذي للفصل، جميعه يراد به التوكيد، ولا يجتمعن. ونفسه أيضا للتوكيد، وفيها معنى التوكيد بالضمير، غير أنه يجوز أن يجمع بين نفسه وبين الضمير لأنّهما مختلفان: أحدهما مضمر، والآخر ظاهر، فيقال رأيته إياه نفسه، فإياه بدل، ونفسه وصف، وذكرهما توكيدا، كما قال عز وجلّ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (¬2) ولهذا قدّم توكيد الضّمير قبل النفس في المرفوع. ومعنى قول سيبويه: (ونفسه تجزئ من (إيّا) كما تجزئ منه الصّفة) يريد أنّا إذا قلنا: رأيتك نفسك، أو رأيته نفسه، أجزأت نفسك عن إيّاك، ويكون معنى: رأيتك نفسك، كمعنى رأيتك إياك، كما أنّ أنت إذا قلت: رأيتك أنت، أجزأت أنت عن أن تقول: رأيتك إيّاك؛ لأنّهما جميعا للتوكيد، غير أن النّفس يجوز أن يؤتى بها مع الضمير الذي للتّوكيد فيكون توكيدان، ولا يجوز أن يؤتى بضميرين متواليين للتّوكيد؛ لا تقول: رأيتك أنت إياك، وقد تقدّم ذكر ذلك. ومعنى قول سيبويه: (ويدلّك على بعده أنّك لا ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية: 6. (¬2) سورة الحجر، الآية: 30.

هذا باب ما يكون فيه هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن فصلا

تقول: إنّك أنت إياك خير منه) يريد على بعد الجمع بين الصّفة والبدل الذي هو: إيّاك؛ لأنّك لا تقوله في: إنك أنت إياك خير منه. وقد أجازه الخليل لمّا اختلف اللفظان، أو لمّا اختلف مذهب التوكيد في الصّفة والبدل. وقوله: (فإن قلت: أظنّه هو خيرا منه، جاز أن تقول إياه؛ لأنّ هذا ليس موضع فصل، واستغنى الكلام) فإن أصحابنا قد فسّروا أن مذهب سيبويه: أظنه هو خيرا منه إياه جائز، وأظنّه هو إيّاه خيرا منه لا يجوز، وإنما لم يجوّزوا الضميرين المجتمعين على مذهب سيبويه؛ لأنهما جميعا في موضع واحد، فسبيلهما سبيل اللام وإنّ في التوكيد؛ لا يجتمعان، فإذا فصل بينهم جاز، وإذا قلت: كنت أنت خيرا من زيد، أو ظننت أنا أشدّ من زيد، فإنّ أنت تكون بدلا من التاء، وتكون فصلا، وتكون صفة. وأيّ شيء عني به أغنى عن الباقي، ولا يجوز اجتماعها جميعا، لا اجتماع اثنين منها. فإن قلت: كنت أنت خيرا من زيد أنت، فجعلت أنت الأوّل فصلا، وأنت الأخير بدلا فهو عندي جائز، ومحلّه محلّ إياه المتأخّر عن موضع الفصل، واستواء اللّفظين لا يقدح في جوازه، وفيما ذكره أبو بكر مبرمان في تفسيره عن نفسه أو بعض من حمل عنه أنّه لا يجوز نحو ذلك لاتّفاق اللفظين، فالقول الصّحيح ما بدأت به. وباقي الباب مفهوم. هذا باب ما يكون فيه هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن فصلا قال سيبويه: (اعلم أنّهنّ لا يكنّ فصلا إلا في الفعل، ولا يكنّ كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء، إعلاما بأنه قد فصل الاسم، وأنه فيما ينتظر المحدّث ويتوقّعه منه، مما لا بدّ له من أن يذكره للمحدّث؛ لأنك إذا ابتدأت اسما فإنما تبتدئه لما بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدإ لا بدّ منه، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك، فكأنه ذكر هو ليستدلّ المحدّث أنّ ما بعد الاسم يخرجه مما وجب عليه، وأنّ ما بعد الاسم ليس منه، هذا تفسير الخليل. وإذا صارت هذه الحروف فصلا وهذا موضع فصلها في كلام العرب، فأجره كما أجروه. فمن تلك الأفعال: حسبت وخلت وظننت، ورأيت إذا لم ترد به رؤية العين؛ ووجدت إذا لم ترد به وجدان الضالّة، وأرى، وجعلت إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت، ولكن تجعلها بمنزلة صيّرته خيرا منك، وكان وليس وأصبح

وأمسى. ويدلّك على أن أصبح وأمسى كذلك، أنك تقول: أصبح أباك، وأمسى أخاك، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب لقبح أن تقول: أصبح العاقل وأمسى الظريف، كما يقبح ذلك في: جاء وركب ونحوهما. فإنما يدلّك على أنهما بمنزلة ظننت أنه يذكر بعد الاسم فيهما ما يذكر في الابتداء. واعلم أن ما كان فصلا لا يغيّر ما بعده عن حاله قبل أن يذكر، وذلك قولك: حسبت زيدا هو خيرا منك، وكان عبد الله هو الظريف، وقال عز وجل: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ (¬1). وقد زعم ناس أن (هو) هاهنا صفة، وليس من عربيّ يجعلها صفة لمظهر. ولو كان كذلك لجاز: مررت بعبد الله هو نفسه، ف (هو) هاهنا مستكرهة لا يتكلّم بها العرب؛ لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنّا لنحن الصّالحين؛ فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون، ولا تكون هو ونحن صفة وفيهما اللام. ومن ذلك قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ (¬2)، كأنه قال: ولا يحسبنّ الذين يبخلون البخل خيرا لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطب بأنّه البخل، لذكره يبخلون. ومثل ذلك قول العرب: (من كذب كان شرّا له)، لا يقول: كان الكذب شرّا له، استغناء بأنّ المخاطب قد علم أنّه الكذب لقوله: كذب في أوّل حديثه؛ فصارت هو وأخواتها بمنزلة (ما) إذا كانت لغوا، في أنها لا تغيّر ما بعدها عن حاله قبل أن تذكر. واعلم أنها تكون في إنّ وأخواتها فصلا وفي الابتداء، ولكنّ ما بعدها مرفوع؛ لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل. واعلم أنّ هو لا يحسن أن تكون فصلا حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة، مما طال ولم تدخله الألف واللام، فضارع زيدا وعمرا، نحو: خير منك، ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية: 6. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 180.

وأفضل منك، وشرّ منك، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. فلو قلت: كان زيد هو منطلقا، كان قبيحا حتى تذكر الأسماء التي ذكرت لك من المعروفة أو ما ضارعها من النكرة ولم تدخله الألف واللام. وأما قوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً [الكهف: 39] فقد تكون أنا فصلا وصفة، وكذلك: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل: 20]. وقد جعل ناس كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسم مبتدأ وما بعده مبنيّا عليه، كأنّك قلت: ظننت زيدا أبوه خير منه، فمن ذلك أنه بلغنا أنّ رؤبة كان يقول: أظنّ زيدا هو خير منك، وحدّثنا عيسى أنّ ناسا كثيرا من العرب يقولون: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظّالمون. وقال قيس بن ذريح: تبكّي على لبنى وأنت تركتها … وكنت عليها بالملا أنت أقدر (¬1) وكان أبو عمرو يقول: إن كان هذا لهو العاقل. وأمّا قولهم: (كلّ مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه)، ففيه ثلاثة أوجه: فالرفع وجهان والنصب وجه واحد. فأحد وجهي الرفع: أن يكون المولود مضمرا في يكون، والأبوان مبتدآن، وما بعدهما مبني عليهما، كأنه قال: حتى يكون المولود أبواه اللذان يهوّدانه. ومثل ذلك قول رجل من بني عبس: إذا ما المرء كان أبوه عبس … فحسبك ما تريد إلى الكلام (¬2) والوجه الآخر: أن تعمل يكون في الأبوين، ويكون هما مبتدأ. والنصب على أن تجعل هما فصلا. وإذا قلت: كان زيد أنت خير منه، أو كنت يومئذ أنا خير منك، فليس إلا الرفع؛ لأنك إنّما تفصل بالذي تعني به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 46، ابن يعيش 3/ 112؛ الكتاب 2/ 393؛ لسان العرب وتاج العروس (ملو)؛ المقتضب 4/ 105. (¬2) البيت بلا نسبة في الكتاب 2/ 394؛ اللسان (نصر).

خبره، ولا يكون الفصل بما تعني به غير الأول. ألا ترى أنك لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغيّر المعنى، ولو أخرجت هو من قولك: كان زيد هو خيرا منك لم يفسد المعنى. وأما هذا عبد الله هو خير منك، وما شأن عبد الله هو خير منك. فلا يكون هو وأخواته فصلا فيهما؛ لأن ما بعد الاسم هاهنا ليس بمنزلة ما يبنى على المبتدإ، وإنما ينصب على أنه حال كما انتصب قائم في قولك: انظر إليه قائما. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد القائم، وما شأنك الظريف. أفلا ترى أن هذا بمنزلة راكب في قولك: مرّ راكبا. فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلا؛ لأن ما بعد الأسماء هنا لا يفسد تركه الكلام، فيكون دليلا على أنه فيما تكلّمه به، وإنما يكون فصلا في هذه الحال ". قال أبو سعيد: أصل دخول الفصل إيذان للمخاطب المحدّث بأنّ الاسم قديم ولم يبق منه نعت ولا بدل ولا شيء من تمامه، وأن الذي بقي من الكلام هو ما يلزم المتكلم أن يأتي به وهو الخير، وهو الذي نحاه سيبويه، ومما زاد فيه بعض أصحابه أنّ الفصل إنّما أتي به ليؤذن أنّ الخبر معرفة أو ما يقوم مقامها، وأجمع من هذين في التعليل أن يقال: أتي بالفصل ليتبيّن أنّ ما بعده ليس بنعت للاسم، فجميع هذا سبب المجيء بالفصل، وأن الذي بعده كان مما يصحّ أن ينعت به الأوّل، وإذا كان الأول معرفة فلا يصحّ أن ينعت إلا بمعرفة، فلزم التعريف فيما بعد الفصل، وأجروا مجرى المعرفة مما بعد الفصل باب أفعل منك كله، وذلك أن أفضل منك وخيرا منك لمّا لم تكن فيه إضافة، ومع عدم الإضافة فيه لا تدخل عليه الألف واللام، أشبه زيدا وعمرا وسائر الأسماء الأعلام التي ليست فيها إضافة، ولا تدخل عليه ألف ولام. وأهل الكوفة يسمّون الفصل: العماد. والفصل حكمه أن يفارق حكم ما كان صفة للأول أو بدلا منه، ويفارق أيضا حكم ما كان مبتدأ وخبرا في موضع خبر الأول. فأمّا مفارقة الصفة: فإنّ الصفة إذا كانت ضميرا لم يجز أن يوصف به غير الضمير؛ تقول: قمت أنت، ورأيتك أنت، ومررت بك أنت، ولا تكون صفة للظّاهر، لا تقول: قام زيد هو، ولا قام الزيدان هما، وليس الفصل كذلك لأنه يدخل بعد الظاهر. ومفارقة البدل له: إذا أردت البدل قلت ظننتك إيّاك خيرا من زيد، وظننته إيّاه

خيرا منه، وإذا أردت الفصل قلت: ظننتك أنت خيرا من زيد، وظننته هو خيرا منه، ومما يفصل بين الفصل وبين الصّفة والبدل أنّ الفصل تدخل عليه اللام ولا تدخل على الصّفة والبدل، تقول في الفصل: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنّا لنحن الصّالحين، ونصب الظريف والصالحين حكاه سيبويه عن بعض العرب وعن النحويين أجمعين، ولا يجوز أن تقول إن كنّا لنحن الصّالحين في الصفة والبدل؛ لأنّ اللام تفصل بين الصفة والموصوف والبدل والمبدل منه. وأمّا مفارقته لما كان مبتدأ وخبرا أنّ الفصل لا يغيّر الإعراب عمّا كان قبل دخوله، والمبتدأ يغيره. تقول إذا أردت الفصل: كان زيد هو خيرا منك، وليس للفصل موضع من الإعراب: رفع ولا نصب ولا جرّ. ونظيره من الأسماء التي لا موضع لها كاف ذلك وذانك وأولئك ورويدك ونحو ذلك، والذي يجعل موضعه معربا فلا بدّ من أن يكون رفعا أو نصبا بالصّفة لما قبلها أو بالبدل منه، وقد بيّنا فساد ذلك. وقول سيبويه: " واعلم أنهنّ لا يكنّ فصلا إلا في الفعل " ومن مذهبه أنهنّ يكنّ فصلا في إنّ وفي الابتداء، إنّما ابتدأ بالفعل وخصّه لأنّه لا يتبيّن الفصل إلا فيه، وإنّ والابتداء لا يتبيّن الفصل فيهما في اللفظ؛ لأنّك إذا قلت: زيد هو خير منك، وإنّ زيدا هو خير مّنك؛ فخير منك مرفوع على كل حال إن جعلت هو فصلا أو جعلته مبتدأ. وإنما يتبيّن في كان وأخواتها، وظننت وأخواتها، الفصل من الابتداء؛ لأنّ أخبارها منصوبة. تقول: كان زيد هو أخوك إذا جعلت هو ابتداء وأخوك خبره، والجملة خبر زيد. وكذلك: ظننت زيدا هو أخوك، وإذا كان فصلا قلت: كان زيد هو أخاك، وظننت زيدا هو أخاك. وقوله: وإذا صارت هذه الحروف فصلا، يريد أنا وأخواتها نحو: أنا وأنت، وتثنية ذلك وجمعه. كقولك: ظننتني أنا خيرا منك، وعلمتك أنت خيرا مني، وعلمتكما أنتما خيرا منّا، وما أشبه ذلك. وقوله: عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ (¬1) يقرأ بالتاء والياء. فمن قرأ بالتاء فتقديره: ولا تحسبنّ بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله، فحذف البخل، وأقام المضاف إليه مقامه، وهو الذين، كما قال: واسأل القرية ومعناه: أهل القوية. ومن قرأ بالياء فتقديره: ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 180.

هذا باب لا تكون فيه هو وأخواتها فصلا ولكن يكن بمنزلة اسم مبتدإ

فضله البخل هو خيرا لهم. وفي هذه القراءة استشهاد سيبويه، وهي أجود القراءتين في تقدير النحو، وذلك أنّ الذي يقرأ بالتّاء يضمر البخل من قبل أن يجرى لفظ يدل عليه، والذي يقرأ بالياء يضمر البخل بعد ما ذكر يبخلون، كما قال: من كذب كان شرّا له، فجعل في كان ضمير الكذب؛ لأن كذب قد دلّ عليه. وأما قوله عز وجل: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً (¬1) فإنما جاز في أنا الصّفة والفصل؛ لأن النون والياء في ترني ضمير، وقد يوصف الضمير بالضمير ويؤكّد، ولو قلت: إن تر زيدا هو أقلّ منك مالا لم يجز فيه غير الفصل. وأمّا (كلّ مولود يولد على الفطرة) فإنه يمكن أن يجعل الرّفع من ثلاثة أوجه: الوجهان اللذان ذكرهما سيبويه، والثالث أن تجعل في تكون ضمير الأمر والشأن، فإذا أثنّي على قول من أضمر المولود في يكون: كل مولودين يولدان على الفطرة حتى يكونا أبواهما، وفي الجميع: حتى يكونوا آباؤهم، ويفرد؛ يكون على قول من رفع به أبواه، أو جعل فيه ضمير الأمر والشأن؛ لأن ضمير الأمر والشأن لا يثنى ولا يجمع. وأما قوله: هذا عبد الله هو خير منك، فإن سيبويه وأصحابه لا يجيزون فيه النّصب إذا أدخلت هو؛ لأن نصبه على الحال لتمام الكلام قبله، من أجل أن (هذا) مبتدأ، وعبد الله خبره، و (خيرا منك) حال، كما تقول: هذا زيد قائما، فإذا أدخلت هو جعلت هو مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة في موضع الحال، ولهذا أنكروا قراءة من قرأ: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، ولا يجيزون فيه اسما معرفة لأنه ليس بخبر؛ لا يقولون: هذا زيد الراكب والقائم، والذي يجيزه يجري هذا مجرى كان، وعبد الله مرتفع بهذا، والاعتماد في الإخبار على الاسم المنصوب، والذي يجيزه الكسائي. والفرّاء لا يجيز النصب، وكذلك أبو العباس ثعلب، وكرهت إطالة الكتاب باحتجاج بعضهم على بعض، وباقي الباب مفهوم. هذا باب لا تكون فيه هو وأخواتها فصلا ولكن يكنّ بمنزلة اسم مبتدإ قال سيبويه: " وذلك: ما أظنّ أحدا هو خير منك، وما أجعل أحدا هو أفضل منك؛ لم يجعلوه فصلا وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفا لنكرة، وكما أنّ كلّهم ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية 39.

وأجمعين لا يكرّران على نكرة، فاستثقلوا أن يجعلوها فصلا في النكرة كما جعلوها في المعرفة؛ لأنّها معرفة، فلم تصر فصلا إلا لمعرفة، كما لم تكن وصفا إلا لمعرفة. وأمّا أهل المدينة فينزلون هو هاهنا منزلتها في المعرفة في كان ونحوه. فزعم يونس أنّ أبا عمرو رآه لحنا وقال: (احتبى ابن مروان في ذه في اللحن). وكان الخليل يقول: (والله إنه لعظيم جعلهم هو فصلا في المعرفة وتصيرهم إيّاها بمنزلة ما إذا كانت لغوا؛ لأن هو بمنزلة أبوه، ولكنّهم جعلوها في ذلك الموضع لغوا كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس، وإنّما قياسها أن تكون بمنزلة كأنّما وإنّما. ومما يقوّي ترك ذلك في النكرة أنّه لا يستقيم: رجل خير منك، ولا تقول: أظنّ رجلا خيرا منك، حتى تنفي وتجعله بمنزلة أحد، فلمّا خالف المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء، وفي الابتداء، لم يجر في النّفي مجرى المعرفة؛ لأنه قبح في الابتداء وفيما أجري مجراه من الواجب؛ فهذا ممّا يقوّي ترك الفصل. قال أبو سعيد: لم يجز الفصل إذا كان الاسم قبله نكرة؛ لأنّ الفصل يجري مجرى صفة المضمر، وهو وأخواتها معارف، فلا يجوز أن يكنّ فصلا للنّكرة، كما لا يجوز أن تكون المعارف صفات للنّكرة. وأمّا ما ذكر من إنزال أهل المدينة هو هاهنا منزلتها في المعرفة في كان ونحوه فإنّ هذا الكلام إذا حمل على ظاهره فهو غلط وسهو؛ لأنّ أهل المدينة لم يحك عنهم إنزال هو في النكرة منزلتها في المعرفة، والذي حكي عنهم: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، وهؤلاء بناتي جميعا معرفتان، وأطهر لكم منزلته المعرفة في باب الفصل؛ لأنّه من باب: هو خير منك، والّذي أنكر سيبويه أن يجعل: ما أظنّ أحدا هو خيرا منك بمنزلة: ما أظنّ زيدا هو خيرا منك، فليس هذا مما حكي عن أهل المدينة في شيء، وقد شهد بما ذكرته ما ذكره يونس أنّ أبا عمرو رآه لحنا، فدلّ أنّ ذلك في الآية الّتي قرأها من قرأ بنصب (أطهر لكم)، وليس في القرآن شيء الاسم فيه نكرة، وفيه قراءتان مختلفتان مما يشبه الفصل. والذي يصحّح به كلام سيبويه أن يقال: هذا الباب والباب الذي قبله بمنزلة باب واحد؛ لأنّ الباب الذي قبله باب ما تكون فيه هو وأخواتها فصلا وهذا الباب ما لا يكنّ فيه، وباب واحد يضمّن ما يجوز وما لا يجوز في معنى واحد، وترجمته الباب الثاني كالفصل، وقد يجري في كلام سيبويه أن يترجم بابا يتضمّن أشياء، ثم يعيد ترجمة الباب في بعض تلك الأشياء.

هذا باب أي

وأمّا قراءة أهل المدينة التي ذكرها فإنما حكي عن محمّد بن مروان- وهو بعض قراء أهل المدينة- أنّه قرأ: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم بنصب أطهر لكم، وقد روي عن عيسى بن عمر بأسانيد جياد مختلفة أنّه قرأ هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم بالنصب، وذكر الأصمعي أنه قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء إنّ عيسى بن عمر حدثنا أنّ ابن مروان قرأ (هنّ أطهر) بالنّصب، فقال: (احتبي ابن مروان في لحنه)، وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ (هنّ أطهر لكم) بالنصب، ومعنى قول أبي عمرو: (احتبي في لحنه، كقولك: اشتمل بالخطأ، وتجلّل بالخطأ، وتمكّن في الخطأ، ونحو ذلك، مما يوجب تثبيت الخطأ عليه وإحاطته به. ومعنى قوله: ولا تقول: أظنّ رجلا خيرا منك حتى تنفي أي حتى تقول: ما أظنّ رجلا خيرا منك، كما تقول: ما أظنّ أحدا خيرا منك؛ لأنه إذا نفيت النكرة صارت بمعنى العموم، وحلّت محلّ أحد، وباقي الباب مفهوم. هذا باب أي قال سيبويه: " اعلم أنّ أيّا مضافا وغير مضاف بمنزلة من. ألا ترى أنّك تقول: أي أفضل، وأي القوم أفضل. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى من، كما أنّ زيدا وزيد مناة يجريان مجرى عمرو، فحال المضاف في الإعراب والحسن والقبح كحال المفرد. قال الله عزّ وجلّ: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (¬1)؛ فحسن كحسنه مضافا. وتقول: أيّها تشاء لك؛ فتشاء صلة لأيّها حتى كمل اسما؛ ثم بنيت عليه لك، كأنّك قلت: الّذي تشاء لك، وإن أضمرت الفاء جاز، وجزمت تشأ، ونصبت أيّها، وإن أدخلت الفاء قلت: أيّها تشأ فلك؛ لأنّك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلا، ولكن بمنزلته في الاستفهام إذا قلت: أيّها تشاء؟ وكذلك من تجري مجرى أي في الّذي ذكرنا، وتقع موقعه. وسألت الخليل عن قولهم: اضرب أيّهم أفضل؟ فقال: القياس النّصب، كما تقول: اضرب الذي أفضل؛ لأن أي في غير الاستفهام والجزاء بمنزلة الذي، كما أنّ من في غير الاستفهام والجزاء بمنزلة الذي. وحدّثنا هارون أن ناسا، وهم الكوفيّون، يقرأونها: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 110.

أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (¬1) وهي لغة جيدة، نصبوها كما جرّوها حين قالوا: امرر على أيّهم أفضل، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت: اضرب الّذي أفضل؛ لأنّك تنزل أي ومن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام. وزعم الخليل أنّ أيّهم إنّما وقع في قولهم: اضرب أيّهم أفضل على أنه حكاية، كأنه قال: اضرب الذي يقال له أيّهم أفضل، وشبّهه بقول الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل … فأبيت لا حرج ولا محروم (¬2) وأما يونس فزعم أنه بمنزلة قولك: أشهد إنّك لعبد الله، واضرب معلّقة. وأرى قولهم: اضرب أيّهم أفضل، على أنّهم جعلوا هذه الضمّة بمنزلة الفتحة في خمسة عشر، وبمنزلة الفتحة في الآن، ففعلوا ذلك بأيّهم حين جاء مجيئا لم تجيء أخواته عليه، واستعمل استعمالا لم تستعمله أخواته إلا ضعيفا. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول: الذي أفضل فاضرب، واضرب من أفضل، حتى يدخل هو، ولا يقول: هات ما أحسن، حتى يقول: هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارقة له لا تستعمل كما استعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استعملت عليه أخواته إلا قليلا. كما أنّ يا ألله لما خالفت سائر ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفه، وكما أنّ ليس لما خالفت ولم تصرّف تصرّف الفعل تركت على هذه الحال. وجاز إسقاط هو في أيّهم كما كان: لا عليك، تخفيفا، ولم يجز في أخواته إلا قليلا ضعيفا. وأمّا الذين نصبوا فقاسوه، وقالوا: هو بمنزلة قولنا: اضرب الذي أفضل، إذا آثرنا أن نتكلّم به، وهذا لا يرفعه أحد. ومن قال: امرر على أيّهم أفضل قال: امرر بأيّهم أفضل؛ هما سواء: فإذا جاء أيّهم أفضل قال: امرر بأيّهم أفضل؛ هما سواء: فإذا جاء أيّهم مجيئا يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر، رجع إلى الأصل وإلى القياس، كما ردّوا: ما زيد إلا منطلق إلى الأصل. وتفسير الخليل ذلك الأول بعيد، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو أسيغ ¬

_ (¬1) سورة مريم، من الآية: 69. (¬2) البيت في ديوانه 616، ابن يعيش 3/ 146؛ والكتاب 2/ 84، 199.

هذا في الأسماء لجاز أن تقول: اضرب الفاسق الخبيث، أي: اضرب الذي يقال له هو الفاسق الخبيث. وأما قول يونس: فلا يشبه أشهد إنّك لمتطلق وسترى ذلك في باب (إنّ وأنّ) إن شاء الله. ومن قولهما: اضرب أي أفضل. وأمّا غيرهما فيقول: اضرب أيّا أفضل. يقيس على الذي وما أشبهه من كلام العرب، ويسلّم ذلك في المضاف إلى قول العرب، يعني: أيّهم، ولو قالت العرب: اضرب أي أفضل لقلته، ولم يكن بدّ من متابعتهم. ولا ينبغي على أمس أمسك، ولا على أتقول أيقول، ولا سائر أمثلة القول، ولا على الآن آنك. وأشباه هذا كثيرة. ولو جعلوا أيّا في الانفراد بمنزلته مضافا لكانوا خلفاء إذ كان بمنزلة الذي معرفة ألا ينوّن، وسترى بيان ذلك فيما لا ينصرف وينصرف إن شاء الله. وسألته عن أيي وأيّك كان شرّا فأخزاه الله، فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب منّي ومنك، إنما يريد: منّا. وكقولك: هو بيني وبينك، يريد: هو بيننا، فإنّما أراد: أيّنا كان شرّا، إلا أنّهما لم يشتركا في أي، ولكنّهما أخلصاه لكلّ واحد منهما. وقال العباس بن مرداس: فأيّي ما وأيّك كان شرّا … فقيد إلى المقامة لا يراها (¬1) وقال خداش بن زهير: ولقد علمت إذا الرّجال تناهزوا … أيّى وأيّكم أعزّ وأمنع) (¬2) قال أبو سعيد: اعلم أن أيّا لتبعيض ما أضيفت إليه، وهي تأتي للاستفهام والمجازاة، وتكون بمعنى الّذي، فإذا كانت للاستفهام والمجازاة لم تحتج إلى صلة، وإذا كانت بمعنى الّذي احتاجت إلى صلة كصلة الذي وصلة ما ومن إذا كانتا في الخبر، وهي موضوعة على الإضافة؛ لأنّ المراد بها في أحوالها الثلاث بعض ما أضيفت إليه، وقد تفرد ومعناها الإضافة؛ لأنّ قوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (¬3) معناه: أيّ الاسمين دعوت ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 148، الخزانة 4/ 367؛ ابن يعيش 2/ 131؛ الكتاب 1/ 399، 2/ 402؛ ولسان العرب (أبا)؛ وتاج العروس (قوم). (¬2) البيت في ديوانه، ابن يعيش 2/ 133؛ الكتاب 2/ 403؛ لسان العرب وتاج العروس (تهز). (¬3) سورة الإسراء، من الآية: 110.

الله به فلله الأسماء الحسنى، وأيّا أحد الاسمين المذكورين في: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (¬1). وأول شيء ردّ على سيبويه من هذا الباب قوله: (وإن أضمرت الفاء جازيت وجزمت " تشأ " ونصبت " أيّها "). فقال الرادّ: إضمار الفاء إنّما يجوز في الشّعر وقد ذكره سيبويه في كلامه. قال أبو سعيد: وليس كذلك، إنما أرادا إذا أضمرت في الموضع الذي يجوز إضماره على ما ستقف عليه في باب المجازاة، وكان حكمه أن تنصب أيّها بفعل الشّرط، وتجزم فعل الشّرط. واعلم أنّ الكوفيّين يجرون أيّهم مجرى ما ومن في الاستفهام والمجازاة والخبر، وإذا أوقعوا عليها الفعل- وهي في معنى الذي- نصبوها، وسواء حذفوا العائد من الصّلة أو لم يحذفوا، ولا فرق عندهم بين قولك: لأضربنّ الذي أفضل، ولأضربنّ أيّهم أفضل، ولا يضمّون أيّهم إلا في موضع رفع، فخرّجوا الآية على ثلاثة أوجه كلّها يوجب رفع " أيّهم " بالابتداء، وأشدّ على الرّحمن خبره. الوجه الأول منها: أن النزع عمل في " من " وما بعدها واكتفي بها، كما تقول: قد قتلت من كلّ قبيل، وأكلت من كلّ طعام، فيكتفي الفعل بما ذكر معه، ثم تبتدأ " أيّ " فترفع ب " أشدّ "، وهذا جواب الكسائي والفراء. والوجه الثاني: أن الشّيعة معناها: الأعوان، وتقديرها من كلّ قوم تشايعوا لينظروا أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا، فالنظر من دلائل الاستفهام، وهو مقدّر معه، وأنت إذا قلت: لأنظرنّ أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا، فالنظر معلّق، وأيّهم مرفوع بالابتداء، والنّظر والمعرفة والعلم ونحوهنّ من أفعال القلوب يسقط عملهن إذا كان بعدهنّ استفهام. ويقوّى حكاية الكوفيين وذهبهم ما روي عن الجرميّ أنّه قال: خرجت من الخندق- يعني: خندق البصرة- حتى صرت إلى مكة، لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيّهم أفضل، أي كلّهم ينصب، ولم يذكر الكوفيّون لأضربنّ أيّهم أفضل، وقد حكاه البصريون؛ لأن سيبويه قال: (سألت الخليل عن قولهم: اضرب أيّهم أفضل)، إنما يعني سألته عن قول العرب، وقول العرب أيّهم، وقع في قولهم: أيّهم على أنه حكاية عن العرب أيضا، وقوّى ما حكاه سيبويه والخليل عن العرب ما حكاه أبو عمرو الشيباني في حرف العين من " كتاب ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 110.

الحروف " عن غسّان أحد من يأخذ عنه اللّغة من العرب أنه أنشد: إذا ما أتيت بني مالك … فسلّم على أيّهم أفضل (¬1) ومذهب الخليل أن (أيّهم) مرفوع بالابتداء، و (أفضل) خبره، ويجعله استفهاما؛ لأنه يحمله على الحكاية بعد قول مقدّر، كما قال عز وجل: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ (¬2) على معنى: يقولون أخرجوا أنفسكم، ولعل الذي أحوج الخليل إلى تأويل الحكاية أن العرب لمّا تكلّمت: اضرب أيّهم أفضل، وهو شاذّ، والقياس عنده: اضرب أيّهم أفضل بالنصب، كان حمله على الحكاية أقوى عندّه من حمله على البناء الذي اختاره سيبويه، ويقوى مذهب سيبويه في البناء أن نظيري (أيّهم) من وما، وهما مبنيان، وكان حقّ (أيّهم) أن يكون مبنيّا لوقوعه موقع حرف الاستفهام والجزاء وموقع الذي، وكلّ ذلك مبنيّ، فلمّا دخل (أيّهم) نقص في العائد ضعف فردّ إلى أصله، كما أنّ (ما) في لغة أهل الحجاز إذا تقدّم خبرها، أو دخل الاستثناء بين الاسم والخبر، ردّ إلى ما يوجبه القياس فيه من بطلان عملها. وأمّا يونس فقوله في تعليق (اضرب) ضعيف، وإنما تعلّق أفعال القلوب عن الاستفهام كقولك: انظر أيّهم في الدار، واعرف أزيد في الدار أم عمرو، وتعليقه: أن يبطل عمله عمّا بعده، ولو كان التعليق الذي ذكره يونس في الآية لكان موافقا لقول الكوفيين في الوجوه الثلاثة التي حكيناها عنهم في الآية، ولم يكن بالمنكر. ومعنى قول سيبويه: (كما أن ليس لمّا خالفت ولم تصرّف تصرّف الفعل تركت على هذه الحال) يريد أنّ أصل ليس: ليس، مثله في: صيد البعير، ويجوز في صيد التخفيف فيقال: صيد، وألزموا ليس التخفيف، ولم يجئ على الأصل مثل صيد؛ لأنه خالف باب الفعل فلم يستعمل منه الماضي ولا الأمر. وأمّا احتجاج الخليل بالبيت: فأبيت لا حرج ولا محروم فقد ذكرته في غير هذا الموضع وأعيد جملته: قول الخليل على الحكاية، وقول سيبويه: فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا فيه؛ لا حرج: مبتدأ، وخبره: بالمكان الذي أنا فيه، ولو قال: لا حرج ولا محروم بمكاني لكان أخصر، وإنما أراد البيان، ¬

_ (¬1) البيت منسوب لغسان بن وعلة، الخزانة 6/ 61؛ ابن يعيش 3/ 147، 7/ 87. (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 93.

والجملة في موضع خبر الاسم المضمر في أبيت، والعائد إلى الاسم الياء بمكاني، أو أنا إذا قدّر بالمكان الذي أنا فيه، وحذف الخبر بعد حسن كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، والتقدير: لا حول لنا ولا قوة لنا، ونحو ذلك. وقال الكوفيون عن الفرّاء في البيت شيئا كأنه مأخوذ من قول سيبويه: (مغيّر إلى ما هو دونه في الجودة)، فقال: (لا) بمعنى ليس، ثم خلط الحاكي عنه في تقدير ذلك وأفسد، وذلك أنه أنشد البيت: فأبيت لا زان ولا محروم فقال: رفع زانيا ومحروما لمّا بني (لا) على ليس، وأضمر بعدها لزان أنا، والتقدير: فأبيت لا أنا زان، وهذا تخليط. والذي حكى هذا أبو بكر بن الأنباري في كتابه المسمى بالواضح، والتّخليط فيه أن (لا) إذا عملت عمل ليس لم تعمل إلا في النّكرات، ولا يكون اسمها ولا خبرها إلا نكرتين، لا يجوز: لا زيد قائما، ولا قائم زيدا، وإنما يقال لا رجل في الدار، ولا خير ولا شر بدائم، ولا خير ولا شرّ دائما، وهذا قليل لا يكاد يأتي إلا نادرا، وتقديره فاسد؛ لأنه إذا قال: ليس زان أنا فهما مرفوعان، وفي ليس ضمير الأمر والشأن، ولا يقع ذلك الضمير في (لا)، وتقديره الآخر: فأبيت لا أنّا زان ولا محروم، خارج عن تأويل ليس؛ لأن أنا مبتدأ وزان خبره. وأما ما ذكره هارون أنّ ناسا وهم الكوفيون يقرؤونها: (أيّهم) بالنصب فالذي قرأه منهم بالنصب معاذ بن مسلم الهرّاء، هو من رؤسائهم في النحو، وروي أيضا عن هارون القارئ النصب. وقوله: (ومن قال: امرر على أيّهم أفضل قال: امرر بأيّهم أفضل)، كأنه قد سمع على أيّهم أفضل أكثر من بأيّهم، أو المسموع هو على أيّهم، ويكون بأيّهم قياسا عليه؛ لأنه لا فرق بينهما. وإذا أفردت أيّا في موضع المضاف فمن قول يونس والخليل أنه يرفع كما يرفع المضاف. فمن قولهما: اضرب أيّ أفضل، وكذلك ينبغي أن يكون على مذهبهما؛ لأنه ليس بمبنيّ عندهما، وإنما هو مرفوع بالابتداء على التقدير الذي ذكرناه عنهما، وسيبويه يردّه إلى الأصل فيقول: (اضرب أيّا أفضل)، ومن حجته أنهم لو بنوه في الإفراد لكان حقّه أن لا ينوّن؛ لأنه معرفة بمعنى الذي؛ لأن المعرب الذي يبنى في حال إذا كان مفردا معرفة لم ينوّن كقولك: يا زيد، ومن قبل ومن بعد، وإذا نكّر ينوّن كقولك: يا رجلا صالحا، ومن قبل ومن بعد، ولو كانت العرب بنته في الإفراد لزمتنا متابعتهم، ولا

هذا باب مجرى أي مضافا على القياس

يلزم القياس على الشاذّ في كلّ شيء، وقد ذكر سيبويه منه أشياء لا يقاس عليها. وأما أيّي وأيّك وما جرى مجراه فكلامه فيه واضح، والشواهد فيه كثيرة؛ منهما ما أنشده، ومنها قول عنترة: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن … أيّي وأيّك فارس الأجراف وقال الجميح بن الطّمّاح (جاهلي): وقد علم الأقوام أبي وأيّكم … بني عامر أوفى وفاء وأكرم (¬1) وقال قرط اليربوعيّ (جاهليّ): أبني سليط لا أبا لأبيكم … أيّي وأيّ بني صبير أكرم (¬2) وقال آخر: أبني سليط كيف أظلم وسطكم … ولي البراءة والعواقب تعقب هلا تبيّن في القضاء زعمتم … أيّي وأيّ خصوم حقّي أكذب (¬3) وقال آخر: فأيّي وأيّ ابن الحصين وعثعث … غداة التقينا كان بالحلف أعذرا (¬4) وقوله: (إلا أنّهما لم يشتركا في أيّ) يعني الاسمين لم يضف إليهما واحدة من لفظتي أيّ، واشتراكهما أن تقول: أيّنا وأيّكما وأيّهما، ولكنهما، يعني الرجلين: المخاطب والمتكلم، أخلصا كلّ واحد من أيّ لكلّ واحد منهما، وما في ذكر هذا كثير طائل، ولكن ذكرناه على ما يقتضيه التفسير. هذا باب مجرى أيّ مضافا على القياس قال سيبويه: (وذلك قولك: اضرب أيّهم هو أفضل، واضرب أيّهم كان أفضل، واضرب أيّهم أبوه زيد، جرى هذا على القياس لأنّ (الذي) يحسن هاهنا، فإن قلت: اضرب أيّهم عاقل، رفعت؛ لأن (الذي عاقل) قبيح. فإن أدخلت (هو) نصبت؛ لأنك لو قلت: هذا الذي هو عاقل، كان حسنا. وزعم الخليل أنه سمع عربيّا يقول: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. ومن تكلّم بهذا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 2/ 133؛ ولسان العرب (أبا). (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 4/ 103. (¬3) البيتان بلا نسبة في تاج العروس (سلط). (¬4) البيت منسوب للشاعر الجاهلي خداش بن زهير بن ربيعة الكتاب 2/ 403.

هذا باب أي مضافا إلى ما لا يكمل اسما إلا بصلة

فقياسه: اضرب أيّهم قائل لك شيئا. قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: إذا طال الكلام فهو قليلا أمثل، كأنّ طوله عوض من ترك هو، وقلّ من يتكلّم بذلك). قال أبو سعيد: قد ذكرنا من مذهب سيبويه في بناء (أيّهم) إذا كان في معنى (الذي) أنه إذا استعمل فيها حذف العائد الذي لا يحسن في (الذي) بني، وإذا استعمل في صلتها ما يحسن في صلة (الذي) لم يبن، وذكرنا أنّ السّبب في بنائها أن نظيريها وهما: (ما ومن) مبنيّان، فإذا حذف منها العائد فقد دخلها نقص وأزاله عن ترتيبها، فأجري مجرى نظيريها، كما أنّ (ما) إذا قدّم خبرها أو دخلها حرف الاستثناء الناقض لمعنى الجحد بها ردّت إلى قياس نظائرها في الابتداء نحو هل، وألف الاستفهام، وإنما، وأشباه ذلك مما يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا. هذا باب أيّ مضافا إلى ما لا يكمل اسما إلا بصلة قال سيبويه: (فمن ذلك قولك: أيّ من رأيت أفضل). قال أبو سعيد: إذا أضيف (أيّ) إلى (من) فلا تكون (من) إلا بمعنى (الذي)، وأيّ على وجوهها الثلاثة، فأيّ مبتدأ وهي مضافة إلى من، ومن بمعنى الذي، ورأيت صلة من، وفي رأيت هاء مقدّرة تعود إلى من، وأفضل خبر أيّ، تقديره: أيّ من رأيته أفضل، ومن في معنى جماعة. وتقول: أيّ الذين رأيت في الدّار أفضل، تقديره: رأيتهم، والهاء والميم عائد إلى الذين، وفي الدار من صلة رأيت، وهي موضع للرّؤية، وتقديره: أيّ القوم أفضل، وفي الدار لم يغيّر الكلام عن حاله، كما أنّك إذا قلت: أيّ من رأيت قومه أفضل كان بمنزلة أيّ من رأيت أفضل، فالصلة معملة وغير معملة في القوم سواء. وتقول: أيّ من في الدار رأيت أفضل، صلة (من) قولك: في الدار وحدها، فتمّ المضاف إليه أيّ اسما، ثم ذكرت رأيت بعد تمام المضاف إليه، فكأنك قلت: أيّ القوم رأيت أفضل، ولم تجعل في الدار هنا موضعا للرؤية. ولو قلت: أيّ من في الدار رأيت زيد لجاز، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعا للرؤية، وتقديره: أيّ من رأيته في الدّار زيد، أيّ مبتدأ، وهو مضاف إلى من، ورأيته صلته، والهاء عائدة إليه، وفي الدار ظرف له، وزيد خبره، وتقول في شيء منه آخر: أيّ من إن يأتنا نعطه نكرمه؛ فأيّ استفهام ولا يصحّ غيره، ومن بمعنى الذي؛ لأنّ أيّا مضاف إليه، والشرط وجوابه في صلة من، فتمّ أيّ اسما بالمضاف إليه وصلته، فكأنك قلت: أيّ

القوم نكرمه، ونكرمه خبر أيّ، ولو حذفت الهاء من نكرمه نصبت أيّا فقلت: أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم، كأنك قلت: أيّهم نكرم؟ ولو جعلت أيّا خبرا بمعنى الذي لم يجز حتى تزيد فيه، وذلك أنك تحتاج بعد المضاف إليه إلى صلة، فيصير بعد المضاف إليه وبعد الصلة بمنزلة اسم واحد، فتزيد ما يكون به كلاما، وذلك قولك: أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم تهين، فنكرم صلة لأيّ، فإن شئت أثبتّ الهاء فقلت: نكرمه، وإن شئت نزعتها ولا يتغير لفظ أيّ بنزع الهاء من نكرمه؛ لأن نكرمه في الصلة، وتصب أيّا ب (تهين) فكأنك قلت: زيدا تهين، ولو قلت: تهينه لرفعت (أيّ من)، ولو جعلت أيّ للمجازاة جزمت نكرم، فيصير فعل الشرط، ويحتاج إلى جواب، فتأتي بما يكون جوابا، وذلك قولك: أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم تهن، بنصب أيّا ب (نكرم) لا ب (تهن)، ولو كان نكرمه لرفعت أيّا؛ لأنّ نكرم شرط لأيّ، والشرّط يعمل في الاسم وينصبه، وأمّا تهن فتقديره: تهنه، وإنّما تحذف الهاء لما قد جرى من ذكره. وتقول: أيّ من يأتينا يريد صلتنا فنحدّثه، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه؛ أمّا الوجه الذي يستحيل فيه فهو أن يكون (يريد) في موضع مريد إذا كان حالا وقع فيه الإتيان؛ لأنّه معلّق بيأتينا، كما كان فيها معلّقا برأيت في: أيّ من رأيت في الدار أفضل، وتقديره: أيّ من يأتينا مريدا صلتنا، ومريدا حال من ضمير الفاعل في يأتينا، وهو ضمير (من) فصار المضاف إليه إلى قولك صلتنا، فكأنّك قلت: أيّهم فنحدّثه فلا يجوز، كما لا يجوز: زيد فنحدّثه، ولو حذفت الفاء جاز فقلت: أيّ من يأتينا مريدا صلتنا نحدّثه، ونحدّثه خبر (أيّ من). فأمّا الوجه الذي تجوز فيه المسألة فأن تجعل يريد خبر أيّ، وصلة (من) يأتينا حسب؛ فكأنك قلت: أيّهم يريد صلتنا في معنى: مريد صلتنا فنحدّثه، نصب جواب الاستفهام، وإن شئت رفعته عطفا على يريد. وتقول أيّ من إن يأته من إن يأتنا نعطه يعطه تأت يكرمك؛ أيّ للمجازاة، ومن الأولى في موضع خفض بإضافة أيّ إليه، ومعناه معنى الذي، وصلته الشرط، والجواب من قولك: إن يأته إلى يعطه؛ لأنّ من الثانية فاعل يأته، وهو في موضع رفع، ومعناه: الذي، وصلته: إن يأتنا نعطه، فتصير من الثانية مع صلته اسما بمنزلة زيد، فكأنك قلت: أيّ من إن يأته زيد يعطه، ومن بمنزلة الذي وصلته الشرط والجزاء فتصير الأولى وما بعدها من الشرط والجزاء بمنزلة اسم فكأنّك قلت: أيّ القوم تأت، فتنصب أيّا ب (تأت)، ويكرمك الجواب، وأيّ للمجازاة، والناصب لأيّ: تأت.

هذا باب أي إذا كنت مستفهما عن نكرة

قال أبو سعيد: ذكرت مسائل سيبويه في الباب بألفاظ فيها بسط وتقريب، وأقمتها مقام الشّرح لها. قال: (وجميع ما جاز حسن في أيهم هاهنا جاز في: أيّ من إن يأته من إن يأتنا نعطه يعطه؛ لأنّه بمنزلة: أيهم؟). قال: (وسألت الخليل عن أيّتهنّ فلانة؛ وأيّهنّ فلانة، فقال: إذا قلت: أيّ فهو بمنزلة (كلّ) لأنّ (كلّ) مذكّر يقع للمؤنّث والمذكّر، وبمنزلة (بعض)، وإذا قلت: أيتهنّ فإنّك أردت أن تؤنّث الاسم، كما أنّ بعض العرب- فيما زعم الخليل- تقول: كلّتهنّ). قال أبو سعيد: الاسم المذكر الذي يقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وربّما أدخلوا عليه علامة التأنيث إذا أوقعوه على المؤنث توكيدا لتأنيثها، فمن ذلك ما ذكره الخليل من قولهم: كلّتهن وأيتهنّ، والباب فيه: كلّهنّ وأيّهنّ. ومن ذلك قولهم: زيد خير الرجال، وعمرو شرّ الرجال، وهند خير النساء، ودعد شرّ النساء، وربما قالوا خيرة الناس وشرّة الناس، والباب في ذلك التذكير. قال حسان بن ثابت: لعن الله شرّة الدور كوثى … ورماها بالفقر والإمعار لست أعني كوثى العراق ولكن … شرّة الدور دار عبد الدار (¬1) وقال منقذ بن الطّمّاح: وأمّهم خيرة النساء على … ما كان منها الدّحاق والإثم (¬2) ومما يشبه هذا ضمير الأمر والشأن في المذكّر والمؤنث، كقولك: إنّه زيد قائم، وإنّه هند قائمة، وإنّه خرج زيد، وإنّه خرجت هند، ثم يؤنّثون في المؤنث؛ فيقولون: إنها هند قائمة، وإنّها خرجت هند، قال الله عز وجل: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ (¬3)، ولا يقال إنّها زيد قائم، ولا إنّها خرج زيد، على معنى إضمار القصة. هذا باب أيّ إذا كنت مستفهما عن نكرة قال سيبويه: (وذلك أنّ رجلا لو قال: رأيت رجلا، قلت: أيّا؟ فإن قال: رأيت ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 247، تاج العروس (كوث). (¬2) البيت في ديوانه، تاج العروس (خير). (¬3) سورة الحج، الآية: 46.

رجلين قلت: أيّين؟ فإن قال: رأيت رجالا، قلت: أيّين؟ فإن ألحقت يا فتى فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى. وإذا قلت: رأيت امرأة قلت: أيّة يا فتى؟ فإن قال: رأيت امرأتين قلت: أيّتين يا فتى؟ فإن قال: رأيت نسوة قلت: أيّات يا فتى. فإن تكلّم بجميع ما ذكرنا مجرورا جررت أيّا، وإن تكلم به مرفوعا رفعت أيّا؛ لأنك إنّما تستفهم على ما وضع المتكلم عليه كلامه. قلت: فإذا قال: رأيت عبد الله، أو مررت بعبد الله، قال: فإنّ الكلام أن تقول من عبد الله؟ وأيّ عبد الله؟ كما أنّه لا يجوز إذا قال: رأيت عبد الله أن تقول: منا). قال أبو سعيد: كان الأصل إذا قال القائل: رأيت رجلا أن يقول السائل: أيّ الرجل؛ لأنّ النكرة إذا أعيدت عرّفت بالألف واللام أو أضمرت؛ يقول لك الرجل: سألت رجلا في دارك عن كذا وكذا، فتقول له: فما أجابك الرجل؟ ولا تقول: فما أجابك رجل، فعدل عن هذا تخفيفا إلى أن يؤتى بأيّ مفردا، وأعرب بإعراب الاسم المذكور ليعلم أنّ القصد إليه دون غيره، ولو قيل أيّ الرجل جاز أن يتوهّم المسؤول أنه يسأل عن رجل بينك وبينه عهد سوى ما ذكره في الوقت، وأيّا هذا المنصوب في موضع خبر ابتداء، والابتداء بعده محذوف، أو في موضع ابتداء وخبره بعده محذوف، وتقديره: أيّا ما ذكرت، وأيّا الرجل، ونحو ذلك، ويجيزون الرفع على هذا فيقولون: أيّ في الوقف والوصل. قال أبو العباس المبرّد: لأنك لو ذكرت الخبر وأظهرته لم تكن أيّ إلا مرفوعة نحو قولك: من ذكرت؟ وأيّ هؤلاء؟ وإنّما نصب أيّا على الحكاية، وإن كان في موضع رفع، كما قيل: من زيدا؟ وإن كان زيدا في موضع رفع، ولو أفردت أيّا للاثنين والجماعة، أو ذكّرته في المؤنث لجاز؛ لو قلت: رأيت امرأة، أو رأيت رجلين، أو رأيت رجالا، أو رأيت امرأتين، أو نسوة، لجاز أن تقول في جميع ذلك: أيّا؛ لأنّ لفظ أيّ يجوز أن يقع على لفظ الاثنين والجماعة على لفظ الواحد، ويقع للمؤنّث على لفظ المذكّر، وإنّما فصلوا بين المعرفة والنكرة في المسألة فاكتفوا في النكرة بذكر اسم واحد، ولم يكتفوا في المعرفة إلا بذكر الاسم والخبر؛ لأنّ المسألة عنهما على وجهين مختلفين، ففرّقوا بينهما لذلك. فأما المسألة عن النكرة فإنّما هي عن ذاتها لا عن صفتها، فإذا قال القائل: رأيت

هذا باب" من" إذا كنت مستفهما عن نكرة

رجلا، فقال السائل: أيّا، وجب على المسؤول أن يقول: زيد أو عمرو أو نحوهما؛ لأنه لا يعرف الرجل عينا، فإذا قال: رأيت عبد الله، والقائل لم يورد ذلك إلا معتقدا أنّ المخاطب يعرفه، وقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف جماعة بأعيانهم اسم كلّ واحد منهم عبد الله، فيحتاج في كلّ واحد منهم إذا ذكر له إلى تلخيصه بالنّعت، فإذا قال: أيّ عبد الله، فإنّما يسأل عن نعته، فيقول المسؤول: العطّار أو البزاز أو نحو ذلك، كما يبتدئ المتكلّم بمعرفة وبنعته إذا خاف اللّبس، ولا بدّ من ذكر عبد الله؛ لأنّ الجواب نعت ولا بدّ من ذكر المنعوت. هذا باب " من " إذا كنت مستفهما عن نكرة قال سيبويه: (اعلم أنّك تثنّي من إذا قلت: رأيت رجلين كما تثنيّ (أيّ)، وذلك قولك: رأيت رجلين، فتقول: منين، وأتاني رجلان، فتقول: منان، وإذا قال: رأيت رجالا قلت: منين، كما قلت أيّين. فإن قلت: رأيت امرأة قلت: منه؟ كما قلت: أيّه، فإن قلت: رأيت امرأتين قلت: منتين كما قلت: أيّتين، إلا أنّ النّون مجزومة، فإن قلت: رأيت نساء قلت: منات كما قلت: أيّات، إلا أنّ الواحد يخالف أيّا في موضع الجرّ والرفع، وذلك قولك: أتاني رجل فيقول: منو، وتقول: مررت برجل فيقول مني. وسنبيّن وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله. فأيّ في الجر والرفع إذا وقفت عليه بمنزلة زيد وعمرو؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق (من) في الصّلة، وهو يلحق أيّا، فصار بمنزلة زيد وعمرو، وأمّا (من) فلا ينوّن في الصلة فجاء في الوقف مخالفا. وزعم الخليل أنّ منه ومنتين، ومنات ومنين كلّ هذا في الصّلة من مسكّن النون، وذلك أنك تقول إذا قال: رأيت نساء أو رجالا أو امرأة أو امرأتين أو رجلا أو رجلين قلت: من يا فتى. وزعم الخليل أنّ الدليل على ذلك أنك تقول: منو في الوقف، ثم تقول: من يا فتى؟ فيصير بمنزلة قولك: من قال ذاك؟ فتقول: من يا فتى؟ وكذلك إذا قلت: من يا فتى عند قول القائل: رأيت رجالا أو نساء، فكأنّك قلت: من قال ذاك، إذا عنيت جماعة، وإنما فارق باب (من) باب (أيّ) أنّ أيّا في الصلة يثبت فيها التنوين، تقول: أيّ هذا؟ وأيّة هذه؟ وقد زعموا أنّ بعض العرب يقول: أيّون هؤلاء؟ وأيّان هذان؟ وأيّ قد تجمع في

الصّلة وتضاف وتثنّى وتنوّن، ومن لا تثنّى ولا تجمع في الاستفهام على هذا الحدّ كما تثنّى أيّ وتجمع في الاستفهام، وأيّ منوّن على كل حال في الاستفهام وغيره، فهو أقوى. وحدثنا يونس: أنّ ناسا يقولون: منا ومني ومنو، عنيت واحدا أو اثنين أو جماعة؛ فمن قال هذا قال: أيّا وأيّ وأيّ، عنى واحدا أو اثنين أو جماعة، وإنّما فعلوا ذلك ب (من)؛ لأنّهم يقولون: من قال ذاك؟ فيعنون من شاءوا من العدّة. وكذلك أيّ؛ قد تقول: أيّ، عنيت واحدا أو اثنين أو جماعة. وأمّا يونس فإنّه يقيس منه على أيّة فيقول: منة ومنة ومنة، إذا قال: يا فتى. وكذلك ينبغي له أن يقول إذا آثر ألا يغيّرها في الصلة. وهذا بعيد؛ فإنّما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرّة في شعر ثمّ لم يسمع بعد، قال: أتوا ناري فقلت منون أنتم … فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما (¬1) وزعم يونس أنّه سمع عربيا يقول: ضرب من منا. وهذا بعيد لا تتكلم به العرب، ولا يستعمله منهم ناس كثير، وكان يونس إذا ذكرها يقول: ولا يقبل هذا كلّ أحد، فإنما يجوز منون يا فتى على هذا. وينبغي لهذا ألا يقول: منو في الوقف، ولكن يجعله كأيّ. وإذا قال: رأيت امرأة ورجلا، فبدأ في المسألة بالمؤنث، قلت: من ومنا؛ لأنك تقول: من يا فتى في الصّلة في المؤنث، وإن بدأت بالمذكّر قلت: من ومنه. وإنما جمعت أيّ في الاستفهام لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام، وهي فيه أكثر في كلامهم وإنّها تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج إلى صلة في الجزاء والاستفهام. وقد شبّه (من) به في هذا الموضع لأنه يجري مجراه في هذا الموضع، ولم يفرّقوا في أيّ لما ذكرت لك مما يدخله من التنوين والإضافة؛ نقول: لم يفرّقوا في أيّ إذا عنوا المؤنث والاثنين والجميع في الوقف والوصل كما فرّقوا في من؛ لتمكّن أيّ). قال أبو سعيد: كان سبيل من في السّؤال سبيل أيّ، وكان حقّ السّائل إذا قال ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لسمير بن الحارث الضّبّيّ، في الخزانة 6/ 167، 168، 170؛ ابن يعيش 4/ 16 الكتاب 2/ 411؛ تاج العروس (منن، أنس)؛ المقتضب 2/ 306.

القائل: رأيت رجلا أن يقول: من الرجل؟؛ لأنّ النكرة إذا أعيدت عرّفت بالألف واللام التي للعهد، وذكرها قبل أن تعاد هو العهد الذي يكون بين المتكلّم والمخاطب فيها، فلمّا احتاجوا في إتمام الكلام إلى إعادة لفظ المذكور بزيادة الألف واللام وذكر الابتداء والخبر كان أخفّ من ذلك الاقتصار على لفظ من، وتضمين لفظه من علامات دلائل إعراب المسؤول عنه وتثنيته وجمعه وتأنيثه ما يدلّ عليه، وهذه العلامات إنّما تلحقها في الوقف، وليست بإعراب لها؛ لأنها مبنية على السّكون، وإنما هي دلائل على المسؤول عنه، واستوت علامة المرفوع والمنصوب والمجرور في ثباتها في الوقف؛ لأنّها لم تجر مجرى المعرب المنوّن في قولك: ولا يبدلون من التنوين في المرفوع والمجرور إذا وقفوا نحو: جاءني زيد، وهذا فرس، ومررت بزيد؛ لأنّ الواو والياء والألف في منو ومني ومنا ليست واحدة منهنّ بدلا من تنوين؛ إذ لا تنوين في من. وإنما أدخلوا الضمّة على من، ولم يجز الوقوف على الضمّة إذا وقفوا؛ لأنه لا يوقف على متحرك، ولم يجز أيضا ضمّ النّون إذا وصلوا؛ لأنّ من مبنيّة على السكون، فاحتاجوا إلى وصلها بالواو، ووصل المفتوح والمكسور منها بالألف والياء كوصل حرف الرّويّ إذا كان مضموما بالواو، وإذا كان مفتوحا بالألف، وإذا كان مكسورا بالياء، كقولك في القافية الرجلا والرجلو والرجلى، ولم يفعلوا هذه بأيّ في الوقف، أعني صلتها بالواو والياء والألف؛ لأنه معرب جار مجرى زيد وعمرو وفرس، فيعمل فيه في الوقف ما يعمل بزيد وفرس، وقد ذكرنا الحجة في بناء من وإعراب أيّ في غير هذا الموضع من الشرح بما أغنى عن إعادته. والذي يقول: منو ومنى ومنا في الواحد والاثنين والجمع يكتفي بما ضمّنه من علامة الإعراب في الدّلالة، وتجري على أصلها أنّها تصلح للاثنين والجماعة والمؤنث بلفظ المذكر الواحد. وإنما قيل في التثنية للمؤنث منتين بسكون النون فيما ذكره أبو العبّاس المبرّد؛ لأنّ النون كانت في (من) ساكنة، قال: وإنّما حركتها في منه من أجل ما بعدها؛ لأنّ هاء التأنيث لا تقع إلا بعد حرف متحرك، وكذلك في التثنية لأنّ الألف يفتح ما قبلها. قال أبو العباس: " فأمّا قولك: منو ومنى فإنّما حرّكت معها النون لعلّتين، إحداهما: قولك في النّصب: منا؛ لأنّ الألف لا تقع إلا بعد مفتوح، فلمّا حرّكت في النصب حرّكت في الخفض والرفع ليكون المجرى واحدا، والعلّة الأخرى أنّ الياء والواو خفيّتان فإذا جعلت قبل كلّ واحدة منهما الحركة التي هي منها ظهرتا وتبيّنتا " فأبو العباس جعل حركة النّون تابعة لما بعدها، والذي يوجبه مذهبه أنّهم أدخلوا الواو في منو قبل ضمّة النّون، وأدخلوا

الياء في منى قبل كسرة النون. قال أبو سعيد: والذي عندي أنّهم أدخلوا الضمة والكسرة والفتحة أولا كما يدخلونها في أيّ وفي المعربات، وتتبعها الحروف لما ذكرته لك من العلّة في ذلك، أمّا منتين فإنّهم أسكنوا النّون لأنّهم بنوها مع التّاء كما قالوا: هنت وبنت وأخت. وأمّا ما قاسه يونس من إعراب منه في الوصل والنصب والجرّ وإجرائها مجرى أيّة وتثنية من وجمعه في الوصل للبيت الذي أنشده، فإن أبا إسحاق الزجاج قال في البيت: كأنه وقف على منون وسكت عندها ثم ابتدأ، وقد نسبوا هذ الشعر إلى سمير بن الحارث، ومنهم من يرويه: عموا صباحا، ومنهم من يرويه: عموا ظلاما، وأنشد بعده بيتا آخر وهو: فقلت إلى الطّعام فقال منهم … زعيم نحسد الإنس الطّعاما (¬1) واستبعد سيبويه ما حكاه، وهو لعمري بعيد جدّا؛ لأن قوله: ضرب من منا استفهام عن الضارب وعن المضروب بلفظين من ألفاظ الاستفهام، وقد قدّم الفعل على الاستفهامين جميعا، والاسم المستفهم به يتضمن حرف الاستفهام ولا يكون إلا صدرا، ولو رددناهما إلى ما تضمّناه من حرف الاستفهام لصار تقديره: ضرب أزيد أعمرا، وهذا باطل مضمحلّ. ومن وأيّ لا تجمعان ولا تثنّيان إلا في الاستفهام على النحو الذي ذكرناه فيهما دون المجازاة ومعنى الذي؛ لأنّ الأصل فيهما الاستفهام، وهما في الاستفهام أكثر منهما في غير الاستفهام؛ ولأنهما في الاستفهام قد يقومان مقام زيد في التّمام والاكتفاء من غير صلة، كقولك: من زيد، وأيّ زيد، كما تقول: أخوك زيد، والذاهب زيد، ولو كانا في غير الاستفهام لاحتجت إلى زيادة على لفظ من وأيّ، إمّا صلة إذا كانتا بمعنى الذي، وإمّا شرط إذا كانتا للمجازاة، والذي يثنّي (أيّ) ويجمعه ويؤنثه في الوقف يثنيه ويجمعه ويؤنثه في الوصل، ولا يفصل بينهما كما فصل بين تثنية من وجمعه وتأنيثه في الوقف والوصل؛ لتمكّن أيّ وإعرابه. وإنما قال: من ومنا ومنه؛ لأن العلامة إنما تلحق في الذي يقف عليه، والأول لا تلحقه علامة؛ لأنّه وصل بالثاني، وتقدير منا في هذا الباب كتقدير أيّا في الباب المتقدم؛ يجوز أن يكون في موضع مبتدإ، أو خبر مبتدإ، ويجوز أن يكون المنصوب منه بفعل مقدّر بعده كأنه قال: أيّ رجل ضربت؟ ومن ضربت؟ ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لسمير بن الحارث، في الخزانة 6/ 170، 7/ 105؛ ابن يعيش 4/ 17؛ والكتاب 2/ 411.

هذا باب ما لا يحسن فيه من كما حسن فيما قبله

هذا باب ما لا يحسن فيه من كما حسن فيما قبله قال سيبويه: (وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل: رأيت عبد الله، فتقول: منا؛ لأنه إذا ذكر عبد الله فإنّما يذكر رجلا تعرفه بعينه، أو رجلا أنت عنده ممّن يعرفه بعينه، وأنت تسأله على أنه ممّن يعرفه بعينه، إلا أنّك لا تدري: الطويل هو أم القصير أم ابن زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يجروا هذه مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك: رأيته ورأيت الرجل، لا يحسن أن تقول فيهما إلا من هو، ومن الرجل؟ وقد سمعنا من العرب من يقال له: ذهب معهم، فيقول: مع منين؟ وقد رأيته، فيقول: منا، أو رأيت منا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه، وأنّ الأمر ليس على ما وصفه المحدّث، فهو ينبغي له أن يسأل في هذا الموضع كما سأل حين قال: رأيت رجلا). قال أبو سعيد: قد تقدم قبل هذا الباب أنّ المسألة عن المعرفة لا تكون باسم واحد، وإنما تكون المسألة عن النكرة باسم واحد، وذكرنا الفصل بين المعرفة والنكرة، وإنما جاز أن يقول: مع منين؟ وهو يستفهم عن الهاء والميم في معهم، وأن يقول: منا؟ وهو يستفهم عن الهاء في رأيته؛ لأن المتكلم بنى أمر المخاطب على أنه عارف بالاسم المكنيّ، ولم يكن عارفا به؛ فأورد مسألته على غير ما ذكره المتكلم. وكأن السائل سأل على ما كان ينبغي للمتكلم أن يكلّمه به إذا لم يعرف، والذي كان ينبغي للمتكلم أن يقول: ذهب مع رجال، ورأيت رجلا، فلما غلط المتكلم في توهمه على المخاطب أنه يعرفه ردّه المخاطب إلى الحقّ في حال نفسه أنه غير عارف بمن ذكره، وسأل عن ذلك، وجعل المتكلم كأنه قد تكلّم به، وربّما عدل المخاطب عما يوجبه لفظ المتكلم، وذلك قولك: كيف أصبحت؟ فتقول: صالح، ومن ضربت؟ فتقول: زيد، والذي يقتضيه لفظ السؤال صالحا وزيدا. وقد مضى الكلام في نحو هذا والله أعلم. هذا باب اختلاف العرب في الاسم المعروف الغالب إذا استفهمت عنه بمن قال سيبويه: (اعلم أنّ أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيدا: من زيدا؟ وإذا قال مررت بزيد قالوا: من زيد؟ وإذا قال: هذا عبد الله قالوا: من عبد الله؟ وأمّا بنو تميم فيرفعون على كلّ حال، وهو أقيس القولين. فأمّا أهل الحجاز فإنّهم حملوه على أنّهم حكوا ما تكلّم به المسؤول، كما قال

بعض العرب: دعنا من تمرتان، على الحكاية لقوله: ما عنده تمرتان. وسمعت عربيا يقول لرجل سأله فقال: أليس قرشيّا؟ فقال: ليس بقرشيا، حكاية لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون غالبا على هذا الوجه، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه، وذلك أنّه الأكثر في كلامهم، وهو العلم الأوّل الذي به يتعارفون. وإنما يحتاج إلى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنّما حكى مبادرة للمسؤول، وتوكيدا عليه أنّه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلّم به. وإذا قال: رأيت أخا زيد لم يجز: من أخا زيد؟ إلا على قول من قال: دعنا من تمرتان، وليس بقرشيا، والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب. وقال يونس: إذا قال رجل: رأيت زيدا وعمرا، أو زيدا وأخاه، أو زيدا أخا عمرو، فالرفع يردّه إلى القياس والأصل إذا جاوز الواحد، كما يردّ ما زيد إلا منطلق إلى الأصل. وأمّا ناس فإنّهم قاسوه فقالوا: تقول: من أخو زيد وعمرو، ومن عمرا وأخا زيد؛ يتبع الكلام بعضه بعضا، وهذا حسن. فإذا قالوا من عمرا؟ ومن أخو زيد؟؛ رفعوا أخا زيد؛ لأنه قد انقطع الأول من الثاني الذي مع الأخ، فكأنك قلت: من أخو زيد؟ كما أنك تقول: تبّا له، وويلا له، وتبّ له، وويل له. وسألت يونس عن: رأيت زيد بن عمرو فقال: أقول من زيد بن عمرو؟؛ لأنّ أصل هذا أجري كالواحد، ومن نوّن زيدا جعل (ابن) صفة منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال: رأيت زيدا فقلت: أيّ زيد؟ فليس إلا الرفع، تجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في من لأنّهم ل (من) أكثر استعمالا، وهم يغيّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في من فقلت: ومن أو فمن، لم يكن فيما بعده إلا الرفع). قال أبو سعيد: مسائل الباب وتفريعها على قول أهل الحجاز؛ لأنّ بني تميم على منهاج القياس في غير هذا الباب، ولا خلاف بينهم أنّ مستفهما لو ابتدأ الاستفهام على غير كلام سمعه لقال: من زيد؟ ومن مبتدأ وزيد خبره، أو زيد مبتدأ ومن خبره، وإذا قال قائل: رأيت زيدا فقيل له: من زيد؟ فهو كالسؤال له في الابتداء؛ من مبتدأ وزيد خبره، أو زيد مبتدأ ومن خبره، فهذا القياس. ويدلّ على ذلك أيضا أنّهم لا يختلفون أنّه إذا قال: رأيت زيدا قلت: أيّ زيد؟ فأيّ كمن، وأيّ زيد: مبتدأ وخبر.

وأمّا أهل الحجاز فإنّهم يحكون كلام المتكلّم في الاسم العلم؛ إذا قال قائل: رأيت زيدا، قالو: من زيدا؟ وإذا قالوا: مررت بزيد، قالوا: من زيد؟ وإنما حكوا لفظه لئلا يتوهّم المسؤول أنّه سئل عن غير الذي ذكره من الزّيدين، وحرصوا لحكاية لفظه على التّبيين له أنه مسؤول عن الذي ذكره، وموضع المنصوب والمخفوض في من زيدا، ومن زيد، رفع على خبر من أو الابتداء، كما أنّ قولهم: دعنا من تمرتان، تمرتان في موضع خفض؛ كأنه قال: دعنا من لفظك تمرتان، فناب تمرتان عن ذلك، وكذلك قول من قال: لست بقرشيّا، في موضع خفض بالباء. وإنما يختار أهل الحجاز الحكاية بالأسماء الأعلام دون غيرها؛ لأن أكثر ما يخبر عن الناس بالأسماء الأعلام في مكاتباتهم ومعاملاتهم، وفيما ينسب إليهم من مناقب أو مثالب، والاسم العلم إذا ذكر فكأنه شامل على تعريف جميع ما فيه من صفاته المعروفة، وإنّما ينعت إذا زاحمه غيره في لفظه بما يبينه عن غيره. وقد ذكر نحو هذا في ذكر الأسماء الأعلام. وإذا لم يكن الاسم علما أجري على القياس، ورفع على الابتداء والخبر. وإذا عطف على الاسم العلم أو نعت بغير اسم أبيه فالرفع على القياس؛ لأن السائل إذا أطال بالعطف أو بالنعت محتذيا على كلام المتكلم، فحكايته لإطالته تغنيه عن حكايته لإعرابه، ويكون أولى؛ لأنّ الإطالة بالعطف والنعت لا تخرج اللفظ عن قياسه كما تخرجه الحكاية، وذلك إذا قال القائل: رأيت زيدا وعمرا، ورأيت زيدا أخا عمرو فالباب أن يقول السائل: من زيد وعمرو؟ ومن زيد أخو عمرو؟ وقد حكى سيبويه في العطف عن غير يونس الحكاية إذا كان الذي يلي (من) الاسم العلم، واستحسنه؛ لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه، فالسؤال وقع بالاسم مفردا، ثم عطف شيء آخر عليه قد وقع به سؤال، وليس كذلك النّعت؛ لأنّ النعت والمنعوت كشيء واحد. وإذا قال: رأيت زيد بن عمرو جاز أن يقول: من زيد بن عمرو؛ لأنّ زيدا قد بني مع ابن فجعلا كشيء واحد، فصارا كشيء مضاف، فإذا قال: جاءني عبد الله، أو رأيت عبد الله، أو مررت بعبد الله جازت الحكاية في هذه الوجوه، فتقول: من عبد الله، أو مررت بعبد الله؟ ومن عبد الله، وكذلك جاءني زيد بن عمرو، ومررت بزيد بن عمرو، ورأيت زيد بن عمرو. وردّ إلى القياس ورفع؛ لأنهما لم يجعلا كشيء واحد، وصار بمنزلة قولك: رأيت زيدا أخا عمرو. وإنما جازت الحكاية بمن ولم تجز بأيّ لعلتين: إحداهما: أنّ السؤال ب (من) عمّا يعقل أكثر من السؤال بأيّ، وتغييرهم لما يكثر

هذا باب من إذا أردت أن يضاف لك من تسأل عنه

التصرّف فيه- بالوجوه- أكثر من التغيير والتصرّف فيما يقلّ. والعلة الأخرى: أنّ أيّا معربة، فإذا سألوا بها فلا بدّ من رفعها، فإذا رفعوا أيّا في قولهم: أيّ زيد؟ على ما يوجبه القياس أتبعوه لفظ الاسم العلم على ما يوجبه القياس. وإذا أدخلوا في أول السّؤال الفاء والواو لم يكن فيما بعده إلا الرفع، وذلك قولك إذا قال القائل: رأيت زيدا، ومن زيد؟ أو فمن زيد؛ لأنّك لمّا أدخلت حرف العطف علم المسؤول أنّك تعطف على كلامه وتنحو نحوه، فاستغنيت عن الحكاية. وقد أجاز سيبويه الحكاية في غير الأسماء الأعلام على غير وجه الاختيار؛ إذا قال القائل: رأيت أخا زيد، جاز من أخا زيد؟ كما جاز دعنا من تمرتان، وليس بكلام مختار في لغة أهل الحجاز كما يختارون الحكاية في الأعلام، وباقي الباب مفهوم. وذكر أبو العباس المبرّد في كتابه المعروف بالمقتضب فقال: " كان يونس يجري الحكاية في جميع المعارف، ويرى بابها وباب الأعلام واحدا " والذي حكاه سيبويه عن يونس في الباب إذا قال القائل: رأيت زيد أو عمرا، أو رأيت زيدا وأخاه، أو زيدا أخا عمرو؛ فالرفع يردّه إلى القياس. وما أدري من أين لأبي العباس هذه الحكاية عن يونس، والله أعلم. هذا باب من إذا أردت أن يضاف لك من تسأل عنه قال سيبويه: " وذلك قولك: رأيت زيدا. فتقول: المني. فإن قال: رأيت الزيدين قلت: المنيّين. فإن ذكر ثلاثة قلت: المنيّين، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسؤول كلامه إن كان مجرورا أو منصوبا أو مرفوعا، كأنك قلت: آلقرشي أم الثّقفي؟ فإن قال: القرشي نصب، وإن شاء رفع على هو، كما قال صالح في: كيف كنت "؟ قال أبو سعيد: قد يحتاج الإنسان إلى معرفة نسب من يذكر له إذا عرف ذلك الاسم لجماعة مختلفي الأنساب، فإذا سأل عنه أورد لفظ المسألة مبهما منسوبا، فاحتاج إلى ذكر اللفظ المبهم الذّي يسأل به عن أبي الرّجل الذي تراد معرفة نسبه، واحتاج إلى نسبته وإلى الألف واللام. فأمّا الألف واللام فلأنه يسأل عن صفة العبارة عنها بالألف واللام، وأمّا الاسم المبهم فهو من؛ لأنّ بها يسأل عن الرجل المنسوب إليه، وأمّا علامة النسبة التي هي الياء فليعلم أنه يسأل عنه منسوبا، ويجري إعراب المنّي على إعراب الاسم الذي ذكره المتكلّم إن قال: جاءني زيد قلت: المني، وإن قال: مررت بزيد قلت:

هذا باب إجرائهم صلة من وخبره إذا عنيت اثنين كصلة اللذين وإذا عنيت جميعا كصلة الذين

المنّي؛ لأنه جار على كلام المتكلم، والمنّي مشتمل على كلّ ما ينسب إلى أب، ولا يحتاج في المنّي إلى ألف الاستفهام كما لو يحتج في من إلى ألف الاستفهام، وإذا جعلت مكانها اسما منسوبا مبيّنا أدخلت ألف الاستفهام فقلت: آلقرشي أم الثقفي؟ ونحو ذلك، وإذا أجاب المسؤول جاء بالجواب على لفظ إعراب المنّي، وإن شاء رفع على إضمار هو. ولو قال: رأيت زيدا فأردت أن تقول: آلبصري أم الكوفي؟ لم يكن فيه لفظ مبهم كالمنّي، ولا يجوز أن تقول المنّي، فيقول في جوابه: المكي أو البصري وما أشبه ذلك من المنسوب إلى أسماء المدن، ولم يأت ذلك إلا في المنّي، لأنّ أكثر الأعراض للعرب في المسألة عن الأنساب، والتناصر والتعادي عليها. وذكر أبو بكر مبرمان قال: سألت أبا العباس يعني المبرّد: إذا قال لك رجل: رأيت زيدا وأردت أن تسأله عن صفته. قال أقول: المني، كأني قلت: الظريفي أم العالمي؟ أم الصائغي؟ أم البزّازي؟ فإذا قال: رأيت الجمل، فأردت أن تسأله عن صفته كيف تقول؟ قال: أقول: المائي والماوي ولا يحسن بأي لأنّ أيّا اختصاص وأنت إنما تسأله عن عموم. قال أبو سعيد: وهذا تفريع من أبي العباس وقياس، وعندي أنّ قائلا لو قال: رأيت الجمل، وكان الجملّ ينسب إلى جماعة مختلفين من الناس مثل التميمي والمهدي والكلبي فأراد السؤال عن هذا النحو قال: المني؛ لأنك إنّما تريد واحدا من الناس الذين ينسب الجمل إليهم، وإن أراد النّسب إلى فحل أو إلى موضع لم يجز المني، وعلى قياس قول أبي العباس يقال: المائي والماوي. هذا باب إجرائهم صلة من وخبره إذا عنيت اثنين كصلة اللّذين وإذا عنيت جميعا كصلة الذين قال سيبويه: " فمن ذلك قوله عزّ وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬1). ومثله فيما حدّثنا يونس قولهم: من كانت أمّك، وأيّهنّ كانت أمّك، ألحق تاء التأنيث لمّا عني المؤنث كما قال: يستمعون حين عني جميعا. وزعم الخليل أنّ بعضهم قرأ: ومن تقنت منكن لله ورسوله [الأحزاب: 31] بالتاء، فجعلها كصلة التي حين عنيت مؤنثا. فإذا ألحقت التاء في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع. ¬

_ (¬1) سورة يونس، من الآية: 42.

قال الفرزدق: تعال فإن عاهدتني لا تخونني … نكن مثل من يا ذئب يصطحبان " (¬1) قال أبو سعيد: ل (من) لفظ ومعنى، فأمّا لفظها فواحد مذكّر، فإذا رددت إليها الضمير العائد من صلتها أو خبرها أو غير ذلك كان واحدا مذكّرا أردت بها واحدا أو اثنين أو جماعة أو مؤنثا، فإن أردت أن يكون العائد إليها على معناها فهو على ما يقصده المتكلّم من المعنى. فأمّا ما أعيد إليه على معناه في الجمع فقوله عز وجلّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (¬2)، وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ (¬3)، وأكثر ما في القرآن من هذا النحو فتوحيد لفظ المذكّر كنحو قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (¬4) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ (¬5) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ (¬6) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ (¬7) وغير ذلك مما يطول. وأمّا المثنى فقول الفرزدق: ... من يا ذئب يصطحبان يريد بمن نفسه والذئب، وأمّا المؤنث فقوله: ومن تقنت منكن لله ورسوله [الأحزاب: 31] لأنّ المعنى واحدة من النساء أو أكثر، وربما أتي على اللفظ والمعنى كقوله عز وجل: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً [الأحزاب: 31] يقنت بالياء على اللفظ، وتعمل بالتاء على المعنى، وقوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (¬8) أسلم وجهه على لفظ من ولا خوف عليهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على معنى الجماعة. وذكر بعض الكوفيين: أنه إذا حمل من على المعنى لم يجز أن يردّ إلى اللفظ، وإذا حمل على اللفظ جاز أن يردّ إلى المعنى، ولا فرق بينهما عندي، والذي يبطل ما قال قوله عز وجل في آخر سورة الطلاق: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 870، ابن يعيش 2/ 132؛ الكتاب 2/ 416؛ المقتضب 2/ 95. (¬2) سورة يونس، من الآية: 42. (¬3) سورة الأنبياء، من الآية: 82. (¬4) سورة الأنعام، من الآية: 25. (¬5) سورة يونس، من الآية: 43. (¬6) سورة الطلاق، من الآية: 2، 4، 5. (¬7) سورة التغابن، من الآيتين: 9، 11. (¬8) سورة البقرة، من الآية: 112.

هذا باب إجرائهم ذا بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع ما ومن في الاستفهام وحده

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (¬1) جمع خالدين على المعنى، ثم قال: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (¬2) فردّه إلى اللفظ. هذا باب إجرائهم ذا بمنزلة الّذي وليس يكون كالّذي إلا مع ما ومن في الاستفهام وحده فيكون ذا بمنزلة الذي، ويكون ما حرف الاستفهام وإجرائهم إيّاه مع ما بمنزلة اسم واحد. قال سيبويه: " أمّا إجراؤهم ذا بمنزلة الّذي فهو قولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: متاع حسن، قال لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول … أنحب فيقضى أم ضلال وباطل (¬3) وأمّا إجراؤهم إيّاه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك: ماذا رأيت؟ فتقول: خيرا؛ كأنك قلت: ما رأيت؟ فقال: خيرا. ومثل ذلك قولهم: ماذا ترى؟ فتقول: خيرا. وقال تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً (¬4). فلو كان ذا لغوا لما قالت العرب: عمّا ذا تسأل؟ ولقالوا: عمّ ذا تسأل؟ ولكنّهم جعلوا ما وذا اسما واحدا، كما جعلوا ما وإنّ حرفا واحدا حين قالوا: إنّما، ومثل ذلك كأنّما، وحيثما في الجزاء. ولو كان ذا بمنزلة الّذي في هذا الموضع البتّة لكان الوجه في: ماذا رأيت إذا أراد الجواب أن يقول: خير. وقال الشاعر، وسمعنا بعض العرب يقوله: دعي ماذا علمت سأتّقيه … ولكن بالمغيّب نبّئيني (¬5) ف (الّذي) لا يجوز في هذا الموضع؛ لأنّ ما لا يحسن أن تلغيها. وقد يجوز أن يقول الرجل: ماذا رأيت؟ فيقول: خير، إذا جعل ما وذا اسما واحدا كأنه قال: ما رأيت؟ فقال: خير، ولم يجبه على: رأيت خيرا. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، من الآية: 11. (¬2) سورة الطلاق، من الآية: 11. (¬3) البيت في ديوانه 254، الخزانة 2/ 252، 253، 6/ 145، 147؛ ابن يعيش 3/ 149، 150، 4/ 23؛ والكتاب 2/ 417. (¬4) سورة النحل، من الآية: 30. (¬5) البيت منسوب لأبي حيّة النميريّ، الخزانة 6/ 142؛ الكتاب 2/ 418؛ اللسان (أبى).

ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ صالح، وفي من رأيت: زيد، كأنه قال: أنا صالح، ومن رأيت زيد. والنصب في هذا الوجه؛ لأنّه الجواب على كلام المخاطب، وهو أقرب أن تأخذ به. وقال: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24]. وقد يجوز أن تقول إذا قلت: من ذا الذي رأيت؟: زيدا؛ لأنّ هاهنا معنى فعل، ويجوز النصب هاهنا كما جاز الرفع في الأول. قال أبو سعيد: قد اشتمل هذا الباب على الكلام في ماذا، وقد فسّره سيبويه وغيره على الوجهين اللّذين ذكرهما. فإن قال قائل: هلا جعلتم ذا زائدة وجعلتم ما للاستفهام وبمعنى الذي كما كانت قبل دخول ذا؟ ويكون: «ماذا أنزل ربّكم» بتقدير: ما أنزل ربكم؟ وقوله: دعي ماذا علمت سأتقيه بتقدير: دعي ما علمت، كما يقال دعي الذي علمت، فإنّ سيبويه استدلّ على بطلان هذا بشيئين. أحدهما: أنّ ذا لو كانت زائدة لوجب أن يقال: عمّ ذا تسأل؟ كما يقال: عمّ تسأل؟ فيسقط ألف ما حين دخل عليه حرف الجرّ. والوجه الآخر: أنّ ذا إذا كانت زائدة ثم قلنا ماذا تصنع؟ كانت ما في موضع نصب، وتكون حقيقة جوابه منصوبا، فلمّا قال: أنحب فيقضى أم ضلال وباطل وهو بدل من ما، علم أنّ ما في موضع رفع، وإذا كانت في موضع رفع فهي مبتدأة وخبرها ذا، ويحاول صلة ذا، والعائد إليها هاء محذوفة كأنه قال: ماذا يحاوله، فإذا قال قائل: ماذا صنعت؟ أو «ماذا أنزل ربّكم» فهو على الوجهين اللذين ذكرهما؛ إن شئت جعلت ما للاستفهام وهي اسم تامّ مرفوع بالابتداء، وخبره ذا وهي بمعنى الذي، وما بعده صلته، وإن شئت جعلت ما وذا جميعا بمنزلة ما وحدها، ويكونان كحرفين ركّبا لمعنى واحد نحو: كأنما، وحيثما في الجزاء، وما جرى مجراهما من الحروف المركبة، ويكون الجواب بالرفع والنصب على ما تقدّر من جعل ما مبتدأ أو منصوبا بالفعل. فإن قال قائل: كيف يعلم السامع إذا قيل له: «ماذا أنزل ربّكم» ما قدّره المتكلّم من رفع ما أو نصبه حتى يجعل جوابه خيرا أو خير، فإنّ هذا لا يلزم السائل، ولكنه

يسأله عمّا يحتمله كلامه، وقد يجوز أن يكون حرف الاستفهام في كلام السائل نصبا، وفي كلام المجيب رفعا على الاستئناف والابتداء والخبر كقولك: ما رأيت؟ فيقول: خير، وما في موضع نصب، وكيف أصبحت؟ فيقول: صالح، كأنه قال: أنا صالح، والوجه حمل الجواب على ما يوجبه إعراب السؤال. ويجوز أيضا أن يكون لفظ الاستفهام في موضع رفع، ويكون الجواب نصبا محمولا على الفعل الذي في الكلام؛ لأنّ المعنى لا يتغيّر؛ كقولك: زيدا إذا قيل لك من الذي رأيت؟ كأنك قلت: رأيت زيدا. وأمّا قوله عز وجلّ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] فالذي عند ذوي التحصيل أنّ أساطير الأولين ليس بجواب لأنّ الّذين قالوا: أساطير الأولين لم يكونوا معترفين بأنّ الله أنزل شيئا، وإنّما تقديره: هذا الذي جاء به محمد أساطير الأولين، وكأنّهم عدلوا عمّا سئلوا عنه. وأمّا قوله: دعي ماذا علمت سأتقيه فالحرفان جميعا بمعنى الذي، وعلمت صلة، والعائد هاء محذوفة من علمته، وسبيل ماذا في كونها بمعنى الذي كسبيل ما وحدها إذا كانت بمعنى الذي. فإن قال قائل: هلا جعلتم ما زائدة وجعلتم ذا وحدها بمعنى الذي كما قال الله عز وجلّ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17]. تلك: بمعنى التي وبيمينك صلة، وكما قال يزيد بن مفرّغ: عدس ما لعبّاد عليك إمارة … نجوت وهذا تحملين طليق (¬1) هذا بمعنى الذي وتحملين صلته كأنه قال: والذي تحملين طليق، فالجواب أنّ تلك وهذا وما جرى مجراهما من أسماء الإشارة لا يكنّ عند أصحابنا بمعنى الذي وأخواتها، إلا ذا وحدها إذا كان قبلها ما، فلمّا كانت ذا لا تكون بمنزلة الذي حتى يكون قبلها ما لم يجز أن تكون زائدة كان إخراجها من الكلام يبطل المعنى المقصود بذا. «وما تلك بيمينك» بيمينك عند أصحابنا في موضع الحال، كما تكون في موضع الصّفة إذا قلت: مررت بعصا بيمينك، كأنه قال: مستقرة بيمينك، وكذلك تحملين في موضع الحال، كأنه قال: وهذا حاملته أنت طليق، وتقديره: حاملة له أنت طليق، وأسهل من هذا في التقدير: وهذا محمولا طليق. ومما يشبه ما ذكرناه قول أبي ذؤيب: لعمري لأنت البيت أكرم أهله … وأقعد في أفيائه بالأصائل (¬2) ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت من ديوانه، الخزانة 5/ 484، 6/ 166؛ وتاج العروس (أصل، فيأ).

هذا باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام إذا أنكرت أن تثبت رأيه على ما ذكر أو أنكرت أن يكون رأيه خلاف ما ذكر

على قول الكوفيين: البيت يوصل كما يوصل الذي، وأكرم أهله صلته، ومذهبهم صلة ما فيه الألف واللام من الأسماء نحو الرجل والغلام كصلة الذي. قال أصحابنا في بيت أبي ذؤيب قولين: أحدهما: أنه يكون خبرا بعد خبر، البيت مبهما على غير معهود، وأكرم نعتا له كما يقال: إنّي لأمرّ بالرجل غيرك خير منك. هذا باب ما تلحقه الزّيادة في الاستفهام إذا أنكرت أن تثبت رأيه على ما ذكر أو أنكرت أن يكون رأيه خلاف ما ذكر قال سيبويه: فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموما فهي واو، وإن كان مكسورا فهي ياء، وإن كان مفتوحا فهي ألف، وإن كان ساكنا تحرّك، لئلا يسكن حرفان، فيتحرّك كما يتحرّك في الألف واللام الساكن مكسورا، ثم تكون الزيادة تابعة له. فمما تحرّك من السّواكن كما وصفت لك وتتبعه الزيادة قول الرجل: ضربت زيدا، فتقول منكرا لقوله: أزيد نيه؟ وصارت هذه الزيادة علما لهذا المعنى، كعلم النّدبة، وتحرّكت النون لأنها كانت ساكنة، ولا يسكن حرفان. فإن ذكر الاسم مجرورا جررته، أو منصوبا نصبته؛ لأنّك إنّما تسأله عمّا وضع عليه كلامه. وقد يقول لك الرجل: أتعرف زيدا؟ فتقول: أزيد نيه؟ إمّا منكرا لرأيه أن يكون على ذلك، وإمّا على خلاف المعرفة. وسمعنا رجلا من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنيه؟ منكرا لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج. ويقول: قد قدم زيد، فتقول: أزيد نيه؟ غير رادّ عليه متعجبا أو منكرا عليه أن يكون رأيه على غير أن يقدم؛ أو أنكرت أن يكون قدم فقلت: أزيد نيه؟ فإن قلت مجيبا لرجل قال: لقيت زيدا وعمرا قلت: أزيدا وعمر نيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنّك تقول إذا قال: ضربت عمرا: أضربت عمرنيه؟ وإن قال: ضربت زيدا الطويل قلت: أزيدا الطويلاه؟ وتجعلها في منتهى الكلام. وإن قلت: أزيدا يا فتى، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع

وحروف اللّين في قولك: منا ومني ومنو، حين قلت: يا فتى، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو في مسألتك يمنع هذا كلّه، وهو قولك: من ومنه إذا قال: رأيت رجلا وامرأة. فمنه قد منعت من من حرف اللين، فكذلك هو هاهنا يمنع كما منع ما كان في كلام المسؤول العلامة في الأوّل، ولا يدخل يا فتى لأنّه ليس من حديث المسؤول، فصار هذا هاهنا بمنزلة الطّويل حين منع العلامة زيدا كما منع من ما ذكرت لك؛ وهو قول العرب. ومما تتبعه هذه الزيادة من المتحرّكات كما وصفت لك قوله: رأيت عثمان، فتقول: أعثماناه، ومررت بعثمان، فتقول: أعثماناه، ومررت بحذام، فتقول أحذاميه، وهذا عمر فتقول: أعمروه، فصارت تابعة كما كانت الزيادة في وا غلامهوه تابعة. واعلم أنّ من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إن فتقول: أعمرو إنيه، وأزيد إنيه، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلم بيانا وإيضاحا، كما قالوا: ما إن، فأكّدوا بإن. وكذا أوضحوا بها هاهنا؛ لأنّ في العلم الهاء، والهاء خفيّة، والياء كذلك، فإذا جاءت الهمزة والنون جاء بعدهما حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما. وممّا زادوا به الهاء بيانا قولهم: اضربه. وقالوا في الياء في الوقف: سعدجّ يريدون سعدي. فإنّما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحا بنحو من هذا الذي ذكرت لك. وإن شئت تركت العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة النّدبة. ويقول الرجل: إنّي قد ذهبت، فتقول: أذهبتوه؟ ويقول: أنا خارج، فتقول: أأنا إنيه، تلحق الزيادة ما لفظ به، وتحكيه مبادرة له، وتبينا أنه ينكر عليه ما تكلّم به، كما فعل ذلك في: من عبد الله؟ وإن شاء لم يتكلّم بما لفظ به، وألحق العلامة ما يصحّح المعنى، كما قال حين قلت: أتخرج إلى البادية: أأنا إنيه. وإن كنت متبيّنا مسترشدا إذا قال: ضربت زيدا، فإنك لا تلحق الزيادة. وإذا قال: ضربته فقلت: أقلت ضربته؟ لم تلحق الزيادة أيضا؛ لأنّك إنّما أوقعت حرف الاستفهام على قلت، ولم يكن من كلام المسؤول، وإنّما جاء على الاسترشاد لا على الإنكار، فإن قال: ضربته فقلت: على وجه الإنكار قلت: أضربتهوه، وإن شئت قلت:

أضربتهوه على المعنى، والمعنى الأول أجود أن تحكي لفظ المسؤول. واعلم أنّ هذه الزيادة لا تلحق بعد شيء من حروف الاستفهام ما خلا الألف وحدها؛ لا تقول: من زيداه، ولا أي زيدوه، ولا شيئا من هذا النحو إذا لم يكن قبل كلامهم ألف الاستفهام. وتقول في المضاف نحو عبد الله: أعبد اللهيه، وأعبد الله إنيه، وكلّ موضع جاز فيه أحد هذين العلمين فالآخر جائز فيه، وقد يجوز إذا قال الرّجل: ذهبت أن تقول: أذهبتاه؛ تلحق الزيادة الفعل الذي هو له في المعنى لا في الحكاية، ولا يحكي لفظه كما قال حين قال أتخرج إلى البادية: أأنا إنيه؟ وإن شئت حكيت لفظه فقلت: أذهبتوه. قال أبو سعيد: الباب كلّه في إثبات العلامة للإنكار، وجعل الإنكار على وجهين: أحدهما: أن ينكر كون ما ذكر كونه، ويكذّب به أو يبطله؛ كرجل قال لك: أتاك زيد، وزيد ممتنع إتيانه عندك، فينكره بطلانه عندك، فهذا معنى قوله: أنكرت أن تثبت رأيه على ما ذكره. والوجه الآخر: أن يقول: أتاك زيد، وزيد من عادته إتيانك، فتنكر أن يكون ذلك إلا كما قال؛ كما يقول القائل فيما يردّ عليه من الكلام إذا لم يشكّ فيه، ومن شكّ في هذا ومن أنكره على وجه التعجب والإنكار لذكر مثله مما لا يشك في كونه، وهذا معنى قوله: أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر، فإذا قلت لمن قال لك: أتعرف زيدا؟ أزيدنيه، وقول سيبويه: إمّا منكرا لرأيه أن يكون على ذلك: أي منكرا لرأي الذي قال له: أتعرف زيدا، وأن يعتقد أنّ المسؤول يرتفع عن معرفته، أو لا تبلغ رتبته إلى أن يعرف زيدا. وقوله: أو على خلاف المعرفة يعني: أو منكرا أن يكون رأيه على أن لا يعرف زيدا؛ لأنّ مثله لا يجهل مثل زيد. والعلامة التي للإنكار على لفظين: أحدهما: بلحاق حرف آخر اللفظ فيتبع حركته، وإن كان آخر اللفظ ساكنا فيحرّك لاجتماع السّاكنين بحرف ساكن يلقاه، فإنك تحرّكه وتتبعه الحرف الذي منه حركته؛ تقول: أزيدنيه وأزيدنيه وأزيدنيه؛ لأنّ التنوين حرف ساكن يحرّك بالكسر لاجتماع السّاكنين كقولك: جاءني زيد البزّاز، ومررت بزيد البزّاز، ورأيت زيدا البزّاز، فلمّا كسرت النون أتبعته الياء، وإذا كان آخر اللفظ في الكلام الذي ينكر حرفا ساكنا يسقط ولا يحرّك لاجتماع الساكنين فإنك تدخل عليه مثله في التقدير ثم تحذف الأوّل

هذا باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء

لاجتماع الساكنين، وذلك قولك إذا قال: رأيت المثنّى: ألمثنّاه، وكذلك إذا قال: مررت بالقاضي تقول: ألقاضيه، وإذا قال زيد يغزو تقول: أزيد يغزوه، وقد عمل في النّدبة نحو هذا في قولهم: وانقطاع ظهرهاه للمؤنث الواحدة، وو انقطاع ظهرهيه؟ للمذكّر، وو انقطاع ظهركموه؛ فألف ظهرهاه للندبة، وقد أسقطت الألف التي كانت في ظهرها، ولا فرق في علامة الإنكار بين الاسم والفعل، ولا بين الاسم والنعت، ولا بين الاسم الظاهر والمكني، وليس ذلك كباب الحكاية في: من زيدا، ومن زيد الطويل؛ لأنّ باب الحكاية إنّما يحكى فيه الاسم العلم عند التباس الأسماء الأعلام، وإذا قرن بما يزيل الالتباس عاد إلى قياسه لزوال اللّبس، وعلامة الإنكار لازمة؛ لأنّ الإنكار ثابت على حاله. والعلامة الأخرى: أن يترك لفظ المتكلم على حاله ويؤتى بالعلامة منفصلة، وهي أن يؤتى بها بعد حكاية اللفظ الأوّل؛ فيقول: أعمر وإنيه، وأزيد إنيه، وقد ذكر سيبويه علّته. والحرف المزيد إن تم زيد على إن ما يزاد على التنوين من حرف ساكن في التقدير فيكسر لاجتماع الساكنين، وتلحقه الهاء في الوقف لبيان العلامة، فإذا وصلت الكلام بشيء من كلامك أو كلام المسؤول حذفت العلامة كما فعلت ذلك في: منو ومنا ومني. فأمّا كلامك فقولك: لمن قال: رأيت زيدا: أزيدا يا فتى؟ ولا يجوز أن تقول: أزيدنيه يا فتى، ولا أزيدا إنيه يا فتى، كما لا يجوز أن تقول: منو يا فتى، فقولك إذا قال: لقيت زيدا وعمرا: أزيدا وعمرنيه تبطل العلامة في زيد لمّا وصلته بعمرو، وهو من كلام المسؤول في ابتداء كلامه، وقد يجوز لحاق العلامة لفظ المسؤول، وقد يجوز أن تلحق لفظا يأتي به السائل في معنى لفظ المسؤول، فأمّا لفظ السّائل فقولك لمن قال: إنّي قد ذهبت: أذهبتوه، وإن حملته على المعنى قلت: أذهبتاه؛ لأنّ التّاء المضمومة للمتكلم هي التّاء المفتوحة إذا صار مكلّما، وكذلك قول العربي: أنا إنيه للذي قال له: أتخرج إلى البادية، جاء به على المعنى؛ لأنّ الضمير المفاعل الذي في أتخرج للمخاطب هو أنا إذا صار المخاطب هو المتكلم. وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه. هذا باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء قال سيبويه: " اعلم أنّ هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء، كما أن حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال، وهي: أن، وذلك قولك: أريد أن تفعل كذا، وكي، وذلك قولك: أجيئك لكي تفعل، ولن.

فأمّا قول الخليل فزعم أنّها: لا أن ولكنّهم حذفوا لكثرته في كلامهم، كما قالوا: ويلمّه، وكما قالوا: يومئذ، وجعلت بمنزلة حرف واحد، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد، وإنّما هي هل ولا. وأما غيره فزعم أنه ليس في لن زيادة، وليست من كلمتين، ولكنّها بمنزلة شيء على حرفين ليست فيه زيادة، وأنّها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم، في أنه ليس واحد من الحرفين زائدا. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت: أمّا زيدا فلن أضرب؛ لأنّ هذا اسم والفعل صلة، فكأنه قال: أمّا زيدا فلا الضّرب له ". قال أبو سعيد: قد تقدّم في أوّل الكتاب ذكر المضارعة التي استحقّ بها الفعل الذي في أوّله الزوائد الأربع الإعراب، وهي المشابهة بين هذا الفعل وبين الاسم، وقد ذكرت هناك بما أغنى عن إعادته هنا. وذكر أهل الكوفة في استحقاق الفعل الإعراب قولين ضعيفين منتقضين لا نظام لهما. أحدهما: أنّ الأفعال أعربت لما دخلت عليها المعاني المختلفة، ووقعت على الأوقات الطويلة، وهذا فاسد؛ لأنّ الحروف قد تدخل عليها المعاني المختلفة ولا يوجب ذلك لها إعرابا، كقولنا: ألا فهي تصلح للاستفهام والعرض والتّمني، ولمّا تصلح للزّمان كقولك: لمّا جاء زيد أكرمته، وتكون في نحو معنى لم جازمة، ومن: تصلح للتبعيض، ولابتداء الغاية وغير ذلك مما يطول ذكره. وأمّا طول الزمان فإنّ الفعل المعرب أقصر زمانا من المبني؛ لأنّ الفعل المعرب ما كان في أوله الزوائد الأربع، وهي تصلح للحال والاستقبال، فأمّا فعل الحال فلا امتداد له؛ لأنه لزمان واحد، والزمان الذي يليه يصيّره ماضيا، والفعل الماضي أطول منه ومن المستقبل؛ لأنّ الفعل الماضي أبدا ماض، ولا يصير مستقبلا، والمستقبل يصير ماضيا، ويبطل عنه الاستقبال، فإذا كان الفعل الأطول زمانا مبنيا كيف يكون طول الزمان سببا لإعرابه؟ والقول الآخر: إنّ الفعل وقع بين الأداة والاسم فأشبه من الأداة أنه لا يلزم المعنى في كلّ الحالات، وأشبه ليت التي تقع للتمني فإذا زال التمني زالت، وكذلك ما يشبه ليت من الأدوات. قال: وأشبه من الاسم وقوعه على دائم الفعل الذي قدّمنا ذكره، وأعطي بحصّة

شبه الاسم الرفع والنّصب، ومنع الخفض لتقصيره عن كل منازل الأسماء، وخصّ بالجزم، وترك التنوين منه في حال رفعه ونصبه بحصّة الأداة إذ الأداة حقّها الوقف والسّكون، وأن لا تعرب ولا تنون لعدمها تمكّن الأسماء. قال أبو سعيد: وهذا قول يبطله أدنى التأمّل له، وذاك أنه ذكر ابتداء الكلام الدلالة على وجوب الإعراب للأفعال، ثم ذكر أنّ الفعل بشبه الاسم يعطى الرفع والنصب، وبشبه الأداة يعطى الجزم، وإنّما يذكر اختصاص مواضع الإعراب واختلافه بعد الدلالة على وجوب جملته، وهذا لم يقم دليلا على وجوب الإعراب جملة فيقيم بعده دليلا على مواضعه، وذكر حال الأداة بما يشاركه فيه الاسم؛ لأنه قال: فأشبه ليت التي تقع للتمني، فإذا زال التمني زالت، وهذه صفة الاسم؛ لأنّ الصّبي يسمّى بهذا الاسم لما فيه من الصّبا، والشّابّ لما فيه من الشباب؛ فإذا زال الصّبا والشباب لم تقل صبي ولا شابّ، والخمر تسمّى بهذا الاسم لما فيها من الشّدّة، فإذا حمضت وصارت خلا لم تسمّ خمرا، وليس في التشاغل به والاستقصاء عليه طائل. ولم أر أصحابنا علّلوا الحروف الناصبة والجازمة للأفعال لم اختصّت الناصبة منها بالنصب والجازمة منها بالجزم؟ وقد ذكرت شيئا من ذلك في أول الكتاب، وأنا أذكره الآن على ما يصحّ قياسه، وأذكر بعض ما ذكر الناس فيه، وما يحضرني من الحجج على ذلك إن شاء الله تعالى. وأمّا المرفوع من الأفعال فعلى قول سيبويه وسائر البصريين: يرتفع لوقوعه موقع الاسم لا لمضارعته الاسم، وقد توهّم أبو العباس ثعلب على سيبويه أنه يرفع الفعل لمضارعته الاسم، وتبعه على هذا التوهّم أصحابه، ولم يفهموا مذهب البصريين، والذي يقوله البصريّون: أنّ المضارعة أوجبت للفعل استحقاق الإعراب الذي فيه الرفع والنصب والجزم، ثم كان للرفع شيء يختصّ بإيجابه، وللنصب شيء يختص بإيجابه، والجزم كذلك، وستقف من كلام سيبويه فيما يأتي على هذا إن شاء الله تعالى. واحتذى الفرّاء قول البصريين في ذلك فغيّر لفظهم، وقال: يرتفع الفعل بسلامته من النواصب والجوازم، وذلك أنّ النواصب والجوازم ألفاظ وحروف، ووقوعه موقع الاسم ليس بلفظ، فجعل خلوّه من الحروف الناصبة والجازمة هو الرافع. والفرّاء وأصحابه قد عابوا البصريين برفعهم الاسم بالابتداء الذي هو خلوّ الاسم من العوامل اللفظيّة فدخلوا في مثل ما عابوه. وقول البصريين في رفع الفعل قول صحيح وترتيب غير مدخول؛ لأنّهم بدءوا

بالرفع الذي هو أول الإعراب فجعلوا له سببا لا يتعلق بغيره، ولا يخرج الرفع عن ترتيبه. وقول الفرّاء في ذلك قول مدخول ولفظه غير صحيح؛ وذلك أنّ الرفع أول أحوال الفعل؛ فإذا رفعناه من قبل وجود المنصوب والمجزوم فلا بدّ من حال مقترنة به توجب له الرفع غير منسوبة إلى شيء لم يكن بعد، وإنما يقال: سلم فلان من كذا إذا كان قد دخل فيه ولابسه. وقال الكسائيّ وأتباعه من الكوفيين: الفعل المستقبل يرتفع بالزوائد الأربع: الألف والنون والتّاء والياء. قال أبو سعيد: وهذا قول يفسد من وجهين: أحدهما: أنّ هذه الزوائد موجودة في حال النصب والجزم، والعامل إذا حضر ووقع على المعمول فيه عمل عمله. والوجه الآخر: أنّ هذه الزوائد من نفس الفعل وتمام معناه، ولا تنفصل منه في لفظ ولا في معنى ينفرد به. فكيف تعمل فيه ولا تنفرد منه ولا تفارقه؟ وليس بمنزلة أن يذهب؛ لأنّ أن منفصلة اللفظ من يذهب، ويذهب منفرد بنفسه ولفظه. قال أبو سعيد: وأمّا نصب الفعل فالأصل فيه أن، وذاك أنّ أن الناصبة هي وما بعدها بمعنى المصدر، وأنّ المشدّدة المفتوحة الناصبة هي وما بعدها من الاسم والخبر بمنزلة المصدر، كقولك: أريد أن تخرج، ومعناه: أريد خروجك، وبلغني أنّك تخرج، بمعنى: بلغني خروجك، وبعد فهما يشتركان فيما كان من أفعال الظّنّ والخوف، كقولك: حسبت أنّك لا تقوم، وحسبت أن لا تقوم، ويتعاقبان على الأفعال التي للإيجاب، وغير الإيجاب؛ كان للإيجاب انفرد به المشدّد كقولك: عرفت أنّك تخرج، وما كان لغير الإيجاب انفرد به المخفّف كقولك: اشتهيت أن تخرج، وأردت أن تخرج، فحمل نصب الفعل بأن على نصب الاسم ب " أنّ " لما ذكرناه. ولن وكي وإذا محمولة على أن في النصب لمشاركتها لها في الاستقبال؛ والدليل على ذلك أنّ إذا قد تدخل على الحال فيبطل النصب بها، وستقف على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر سيبويه عن الخليل: في لن أنّ أصلها لا أن، وحكى الكوفيّون عن الكسائي مثل قول الخليل. قال أبو سعيد: والمختار قول غير الخليل، والحجّة فيه سوى ما ذكره سيبويه، أنّا إذا قلنا: لن أضرب زيدا، كان كلاما كاملا تاما لا يحتاج إلى إضمار شيء، وإذا قلنا: لا

هذا باب الحروف التي تضمر فيها أن

أن أضرب زيدا، لم يتمّ الكلام؛ لأنّ أن وما بعده من الفعل والمفعول بمنزلة اسم واحد، والاسم الواحد إذا وقع بعد لا احتاج معه إلى خبر، فليس لفظ لن وفقا للفظ لا أن، ولا معناها وفقا لمعناها، فما الذي أوجب أنّها هي؟ وجملة الأمر أنه ليس لنا أن ندّعي في (لن) غير ظاهرها إلا ببرهان، وقد رأينا في الحروف الناصبة كي وإذا وليسا بمأخوذين من لفظ أن. فإن قال قائل: إذا زعمتم أنّ لن وكي وإذا حملن. على أن في نصبهنّ؛ لاشتراكهنّ في الاستقبال، فما القول في حروف الجزم؟ فهلا نصبتم فعل الأمر والنّهي والمجازاة وهنّ مستقبلات؟ قيل له: أمّا لام الأمر فإنّ ما بعدها جزم؛ لأنه بمعنى الأمر المبني على السّكون؛ لمضارعته له ودخوله في معناه حمل على إعراب لفظه كلفظ البناء. وأمّا النهي فإنه جزم؛ لأنه نقيض للأمر، والأمر مبني، كما جزم الفعل بلم؛ لأنّه نقيض الماضي والماضي مبني. وأمّا المجازاة فجزمت لأنها شرط وجواب فطالت، فاختاروا لها أخفّ الإعراب وهو الجزم لطولها. وقال الكوفيّون: لام الأمر خصّت بالجزم فرقا بينها وبين لام كي في قولهم: أقصدك لأكرمك، يعني به لكي أكرمك، وكانت لام الأمر أولى بأن تجزم المستقبل لأنّها على المستقبل أغلب، وتمكّنها فيه أوضح من تمكّن لام كي؛ من أجل أنّ لام الأمر تبتدأ مع المستقبل وتنفرد به حين قال: ليفعل وليصنع، ولام كي لا تنفرد حتى يتقدّمها ما يحدثها، وتجري مجرى الصلة له نحو: أزورك كي أكرمك. قال أبو سعيد: وهذا تطويل لا يحتاج إليه؛ لأنه يحتاج أولا إلى إقامة الحجّة بأنّ الاستقبال موجب للنصب، ولا سبيل له إلى ذلك، وإنما هي دعوى لا حجة عليها. وأمّا قوله: ويلمّه، ويومئذ فقد ذكرا في مواضعهما بما أغنى عن ذكره، والله أعلم. هذا باب الحروف التي تضمر فيها أن قال سيبويه: " وذلك اللام، في قولك: جئتك لتفعل. وحتى، وذلك قولك: تكلّم حتى أجيبك، فإنّما انتصب هذا بأن، وأن هاهنا مضمرة؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالا؛ لأنّ اللام وحتى إنّما يعملان في الأسماء فيجرّان، وليسا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال، فإذا أضمرت أن حسن الكلام؛ لأنّ أن وتفعل بمنزلة اسم

واحد، كما أنّ الذي وصلته بمنزلة اسم واحد؛ فإذا قلت: هو الذي فعل، فكأنك قلت: هو الفاعل، وإذا قلت: أخشى أن تفعل، فكأنك قلت: أخشى فعلك. أفلا ترى أنّ أن تفعل بمنزلة الفعل، فلمّا أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما؛ لأنهما لا يعملان إلا في الأسماء ولا يضافان إلا إليها، وأن تفعل بمنزلة الفعل. وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتّى، وذلك أنهم يقولون: كيمه؟ في الاستفهام، فيعملونها في الأسماء كما قالوا: حتّامه؟ وحتّى متي؟ ولمه؟ فمن قال: كيمه فإنّه يضمر أن بعدها، وأمّا من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فلأنّها عنده بمنزلة أن، ويدخل عليها اللام كما يدخل على أن. ومن قال: كيمه جعلها بمنزلة اللام. واعلم أنّ أن لا تظهر بعد حتى وكي، كما لا يظهر الفعل بعد أمّا في قولك: أمّا أنت منطلقا، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أنّ هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل، وأنّهما ليسا ممّا يعمل في الفعل، وأن الفعل لا يحسن بعدهما إلا أن يحمل على (أن)، ف (أن) هاهنا بمنزلة الفعل في أمّا، وما كان بمنزلة أمّا ممّا لا يظهر بعده الفعل، فصار عندهم بدلا من اللفظ ب (أن). وأمّا اللام في قولك: جئتك لتفعل فبمنزلة إن في قولك: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ؛ وإن شئت أظهرت الفعل هنا، وإن شئت خزلته وأضمرته، وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته وإن شئت أضمرته. واعلم أنّ اللام قد تجيء في موضع لا يجوز فيها الإظهار، وذلك: ما كان ليفعل، فصارت أن هاهنا بمنزلة الفعل في قولك: إيّاك وزيدا، وكأنك إذا مثّلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل. فهذا بمنزلته، ودخل فيه معنى نفي كان سيفعل، فإذا قال هذا قلت: ما كان ليفعل، كما كان لن يفعل نفيا لسيفعل، وصارت بدلا من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلا من واو القسم في قولك: الله لتفعلنّ، فلم يذكروا إلا أحد الحرفين إذ كان نفيا لما معه حرف لم يعمل فيه شيئا فكأنه قد ذكر أن. كما أنه إذا قال: سقيا له، فكأنه قال: سقاه الله ". قال أبو سعيد: قال الكوفيّون في جئت لأكرمك: اللام هي الناصبة لأكرمك، وهي بمنزلة أن، وليست هي لام الخفض التي تعمل في الأسماء، ولكنّها لام تفيد الشّرط

وتشتمل على معنى كي، فإذا أتت كي مع اللام فالنصب للام، وكي مؤكّدة لها، وإذا انفردت كي فالعمل لها، وإن جاءت أن مظهرة بعد كي فهو جائز عند الكوفيين، وصحيح عندهم أن يقال: جئت لكي أن أكرمك، ولا موضع ل " أن " لأنّها تؤكد اللام كما أكّدتها كي، واحتجّوا بقول الشاعر: أردت لكي ما أن تطير بقربتي … فتتركها شنّا ببيداء بلقع (¬1) وأجازوا ظهورها بعد حتى كظهورها بعد كي، والنصب عندهم ب (حتى) كالنصب بأن وكي ولا ضمير بعدها. وقالوا: إن قيل لأسيرنّ حتى أن أصبح بالقادسيّة؛ فهو جائز، والنصب ب (حتّى)، وأن توكيد ل " حتى " كما كانت توكيدا لكي. وقال أحمد بن يحيى ثعلب قولا خالف فيه أصحابه ولم يوافق البصريين، قال: في جئت لأكرمك، وسرت حتى أصبح بالقادسية، وقصدتك كي أكرمك. إنّ المستقبل منصوب بكي ولام كي وحتّى لقيامهنّ مقام أن. ومما احتجّ به الكوفيون أنّهم قالوا: لو كانت اللام الداخلة على الفعل هي اللام الخافضة لجاز أن تقول: أمرت بتكرم، على معنى أمرت بأن تكرم؛ فالجواب عن هذا أنّ حروف الجرّ لا تتساوى في ذلك، واللام تدخل على المصادر التي هي أعراض الفاعلين في أفعالهم، وهي شاملة يحسن أن تسأل عن كل فعل، فيقال: لم فعلت؛ لأن لكلّ فاعل غرضا في فعله، وباللام يخبر عنه ويسأل عنه، وحتّى وكي في ذلك المعنى. ألا ترى أنك تقول: مدحت الأمير ليعطيني، وكي يعطيني، وحتى يعطيني، ومعناها كلّها واحد، وقد يخفّف ما يكثر في كلامهم ويحذف منه أكثر الخبر، وممّا يحذف ما لم يكثر، وهم يحتجّون في الحذف والتّخفيف بالكثرة، كحذف لام الأمر وتاء المخاطب في أمر المواجه عندهم نحو: قم واذهب، والأصل لتقم ولتذهب، وأيش عندك، والأصل أي شيء عندك، ولم يكثر غير اللام في ذلك فيخفّف، وعلى أنّ هشام بن معاوية حكى عن الكسائي عن العرب: لا بدّ من يتبعها، بمعنى لا بدّ من أن يتبعها. وأما ما ذكره الشاعر من ظهور أن بعد كي فضرورة يجوز أن يكون الشاعر ذهب بها مذهب بدل أن من كيما؛ لأنّهما بمعنى واحد، كما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه، وعلى أنّ البيت غير معروف ولا معروف قائله. ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 1/ 16، 8/ 481، 484؛ ابن يعيش 7/ 19، 9/ 16.

وزعم الكوفيون أنّ (مه) في (كيمه) و (حتّامه) ليست مخفوضة ولكنها منصوبة على مذهب المصدر، كقول القائل: أقوم كي تقوم، سمعه المخاطب ولم يفهم يقوم فقال: كيمه، يريد كي ماذا، والتقدير: كي يفعل ماذا، فموضع مه نصب على جهة المصدر والتشبيه به، وليس لكي في مه عمل جرّ. قال أبو سعيد: والصحيح ما قاله سيبويه؛ لأنّ سقوط الألف من ما في الاستفهام إنما يكون إذا كانت ما في موضع خفض واتصل بها الخافض، وإذا كانت ما استفهاما وقعت صدر الكلام ولم تسقط منها الألف كقولك: وما تصنع، ولا يجوز وم تصنع؟ ولو كان على ما قاله الكوفيون لجاز أن تقول أن مه، ولن مه، وإذن مه، إذا لم يفهم المستفهم ما بعد هذه الحروف من الفعل؛ لأنه إنما يسأله عن مصدر، والمصدر في الأفعال بعد أن وإذن ولن، وبعد كي وحتّى واحد، ولام الجحد عند سيبويه بمنزلة لام كي في إضمار أن بعدها، وبينهما فصل في إظهار أن بعدهما، فاستحسن ظهورها بعد لام كي ولم يجز ظهورها بعد لام الجحد؛ وإنما قبح ظهورها بعد لام الحجد لأنها نقيض فعل ليس تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ اسم، وهو السين وسوف، فإذا قلنا: ما كان زيد ليخرج فهو قبل الحجد: كان زيد سوف يخرج، أو سيخرج، فإذا قلنا ما كان زيد لأن يخرج بإظهار أن فكأنّا جعلنا مقابل سوف يخرج وسيخرج اسما، فكرهوا إظهار أن لذلك. ووجه آخر: وهو أنّ تقديره عندهم: ما كان زيد مقدّرا الآن يخرج، أو مستعدّا، أو هامّا، أو عازما، أو نحو ذلك من التقديرات التي توجب المستقبل من الفعل، وأن توجب الاستقبال، فاستغني بما تضمّن الكلام من تقدير الاستقبال من ذكر أن، وأمثّل هذا بما يكشفه؛ يقول القائل: عبد الله عمّي، فيقال له: ما كان عبد الله عمّك، ويقول القائل: عبد الله يصوم ويصلّي، فيقال: ما كان عبد الله يصوم ويصلّي، بغير لام، ويقول القائل: عبد الله يهمّ أن يقوم، ويريد أن يقوم، فيقال له: ما كان عبد الله ليقوم، ومنه قوله عز وجل: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33]. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ [التوبة: 115]. كأنّ قائلا قال: هل الله يريد أن يعذّبهم؟ وهل الله يريد أن يضلّ قوما بعد إذ هداهم؟ فجعلت اللام علما لهذا المعنى. وقد فرّع أصحابنا على هذا مسائل؛ يقال: لم تركت زيدا وكان سيعطيك، ولو لم تلزمه كان أن يسعفك، ونحوه: كان عبد الله على أن يأتيك، وكان يقدّر أن يكرمك مكان لن يكرمك، كلّ هذا جيد بالغ مقيس، وبنيت هذه المسائل على تقدير ما كان

هذا باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها

يقال لزيد ويخبر به عنه في تلك الحال. وقال الكوفيون: لام الجحد هي العاملة بنفسها، وأجازوا تقديم المفعول كقولك: ما كنت زيدا لأضرب، وأنشدوا: لقد عذلتني أمّ ولم أكن … مقالتها ما كنت حيّا لأسمعا (¬1) وهذا يحمل على إضمار فعل كأنه قال: ولم أكن لأسمع مقالتها، وبيّن ما أضمر بقوله لأسمعا، كما قال: وإنّى امرؤ من عصبة خندفيّة … أبت للأعادي أن تديخ رقابها (¬2) فاللام في الأعادي لا تكون في صلة تديخ، فيقدّر فعل قبله تقديره: أبت أن تديخ رقابها للأعادي. وباقي الباب مفهوم، أو ممّا ذكر تفسيره في غير هذا الباب. هذا باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها قال سيبويه: " وذلك لم، ولمّا، واللام التي في الأمر، وذلك قولك: ليفعل، ولا التي للنّهي، وذلك قولك: لا تفعل؛ وإنما هو بمنزلة لم. واعلم أنّ اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي، وذلك قولك: لا يقطع الله يمينك، وليجزك الله خيرا. واعلم أنّ هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة، كأنهم شبّهوها بأن إذا عملت مضمرة. قال الشاعر: محمد تفد نفسك كلّ نفس … إذا ما خفت من أمر تبالا وإنما يريد: لتفد نفسك، وقال متمّم بن نويرة: على مثل أصحاب البعوضة فاخمشى … لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى (¬3) أراد: ليبك. واعلم أنّ حروف الجزم لا تجزم إلا الأفعال، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال المضارعة للأسماء، كما أنّ الجرّ لا يكون إلا في الأسماء. فالجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء، فليس للأسماء في الجزم نصيب، وليس للفعل في الجرّ نصيب، فمن ثمّ لم يضمروا الجازم. وقد أضمره الشاعر، شبّهه ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 8/ 578؛ ابن يعيش 7/ 29. (¬2) البيت منسوب لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، اللسان (ديخ)؛ والمقتضب 4/ 199. (¬3) البيت من ديوانه، ابن يعيش 7، 60، 62؛ الكتاب 3/ 9؛ تاج العروس (بعض). (يعض).

بإضمارهم ربّ وواو القسم في كلام بعضهم. وفي نسخة أبي بكر مبرمان وأبي محمد بن درستويه: (وأمّا يرحمك الله فإنّه رفع وإن كان دعاء، كما قالوا: غفر الله لك فجاءوا به على لفظ الخبر، وإنّما يريدون به الدعاء ". قال أبو سعيد: أمّا حذف اللام من لتفد نفسك فإنّ أبا العباس المبرّد ينكر البيت ويزعم أنه باطل، وأجاز البيت الثاني، وعطف (أو يبك من بكى) على معنى فاخمشي، وقدّره مجزوما باللام، فكأنّه قال: فلتخمشي أو يبك من بكى، ومثله قول الآخر، الحطيئة: فقلت ادعى وأدع فإنّ أندى … لصوت أن ينادي داعيان (¬1) كأنه قال: فقلت لتدعي وأدع، وقد روي: وأدعو إنّ أندى على الجواب بالواو، وليس فيه شاهد. وقد ذكر أبو بكر مبرمان عن أبي علي عسل بن ذكوان عن أبي عثمان المازني أنّ الشاعر يجوز أن يكون أراد تفدي نفسك على الخبر، ولكنّه حذف الياء كما حذفوا من: دوامي الأيد، يريدون الأيدي. قال أبو سعيد: وأجود من هذا الاستشهاد خطّ المصحف، وقراءة من قرأ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا [الكهف: 64]. ولمّا معناها معنى لم، وجزمها كجزمها، وهي تزيد على لم بتطويل زمان، كما يقول القائل: ندم زيد ولم تنفعه الندامة، أي: وما نفعته الندامة عقيب ندمه وإذا قال: ولمّا تنفهه النّدامة، أي إلى وقته، وقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 214] دلّت لمّا على طول وقت الإتيان، ومنه قول الشاعر: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل … وإلا فأدركني ولمّا أمزّق (¬2) وما بين لم ولمّا كما بين فعل وقد فعل؛ فلم نفي فعل كقولك: جاء زيد، فيقول الرّادّ: لم يجيء زيد، ويقول القائل: جاء زيد وقد اغتمّ، فيقول: جاء زيد ولمّا يغتمّ، وهما في ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 7/ 53؛ الكتاب 3/ 45؛ وتاج العروس (ندى). (¬2) البيت منسوب للشاعر الجاهلي الممزق العبدي (شأس بن نهار العبدي)، الخزانة 7/ 280؛ تاج العروس ولسان العرب (مزق، أكل).

هذا باب وجه دخول الرفع في هذه الأفعال المضارعة للأسماء

موضع الحال من زيد، ولو قال: جاء زيد ولم يغتمّ لم يحسن كحسن ولمّا يغتمّ. ومن أجل طول زمان قد ولمّا جاز حذف الفعل منهما كقولك: ندم فلان وقد نفعته الندامة، وندم غيره ولمّا تنفعه النّدامة، وتقول في قد: أزف الشّخوص وكأن قد، قال النابغة: أزف الترحّل غير أنّ ركابنا … لمّا تزل برحالها وكأن قد (¬1) أي: كأن قد زالت. وقوله: يرحمك الله وغفر الله لك، على لفظ الخبر ومعنى الدعاء؛ كما أنّ قولنا: أكرم بزيد على لفظ الأمر ومعنى الخبر. وإنما جاز لفظ الخبر في الدعاء؛ لأنه يعلم أنّ القائل لهذا لا يعلم ما فعله الله بمن يدعو له من الرحمة وغيرها فيخبر به، فيعلم أنّ لفظ الإخبار منه على معنى الدعاء، ولا يجوز: قام زيد في معنى: ليقم زيد؛ لأنّ القائل لهذا يجوز أن يعلمه فيخبر به. هذا باب وجه دخول الرّفع في هذه الأفعال المضارعة للأسماء قال سيبويه: " اعلم أنّها إذا كانت في موضع اسم مبتدإ أو اسم مبني على مبتدإ أو في موضع اسم مرفوع غير مبتدإ ولا مبني على مبتدإ، أو في موضع اسم مجرور أو منصوب، فإنّها مرتفعة، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع، وهي سبب دخول الرّفع فيها وعلّته. فما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حدّ عمله في الأسماء، كما أنّ ما يعمل في الأفعال فيجزمها أو ينصبها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في مواضع الأسماء ترفعها كما ترفع الاسم كينونته مبتدإ. فأمّا ما كان في موضع المبتدإ، فقولك: يقول زيد ذاك، وأمّا ما كان في موضع المبني على المبتدإ، فقولك: زيد يقول ذاك. وأمّا ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبني عليه فقولك: مررت برجل يقول ذاك، وهذا يوم آتيك، وهذا زيد يقول ذاك، وهذا رجل يقول ذاك، وحسبته ينطلق. وهكذا هذا وما أشبهه. ومن ذلك أيضا: هلا يقول زيد ذاك، فيقول في موضع ابتداء، وهلا لا تعمل في ¬

_ (¬1) البيت منسوب للنابغة الذبياني في ديوانه 89، الخزانة 7/ 197، 9/ 8، 10/ 407؛ ابن يعيش 8/ 148، 9/ 18، 10/ 110؛ وتاج العروس (قدد).

اسم ولا فعل، فكأنّك قلت: يقول زيد ذاك، إلا أنّ من الحروف ما لا يدخل إلا على الأفعال التي في مواضع الأسماء المبتدأة، ويكون الحرف أولا قبل الأفعال، وسنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى وقد بيّن فيما مضى. ومن ذلك أيضا قولهم: ائتني بعد ما يفرغ زيد، وما ويفرغ بمنزلة الفراغ، ويفرغ صلة وهي مبتدإة، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي يفرغ، فيفرغ في موضع مبتدإ؛ لأنّ الذي لا يعمل في شيء، والأسماء بعده مبتدأة. ومن زعم أنّ الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضع ينتصب فيه الاسم، ويجرّها إذا كانت في موضع ينجرّ الاسم فيه، ولكنّها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم. ومن ذلك أيضا قولك: كدت أفعل ذاك، وكدت تفرغ، وكدت: فعلت، وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها، وأفعل هاهنا بمنزلتها في كنت، إلا أنّ الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها. ومثل ذلك: عيسى يفعل ذلك، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم، كأنّك قلت: كدت فاعلا، ثم وضعت أفعل في موضع فاعل. ونظير هذا في العربية كثير، وسترى ذلك. إن شاء الله. ألا ترى أنك تقول: بلغني أنّ زيدا جاء، ف (أنّ) زيدا جاء كلّه اسم. ويقولون: لو أنّ زيدا جاء لكان كذا، فمعناه: لو مجيء زيد، ولا يقال: لو مجيء زيد. وتقول في التعجّب: ما أحسن زيدا، ولا يكون الاسم في موضع ذا، فتقول: ما محسن زيدا، ومنه: قد جعل يقول ذاك، كأنك قلت: صار يقول ذاك، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنّهم إنّما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أنّ معناها ومعنى نحوها تدخله أن، نحو قولهم: خليق أن يقول، وقارب أن يفعل. ويضطرّ الشاعر فيقول: كدت أن أفعل، فلمّا كان المعني فيهنّ ذلك تركوا الأسماء؛ لئلا يكون ما هذا معناه كغيره، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت؛ لأنه فعل مثله. وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر؛ لأنه مثل كان في قولك: كان فاعلا ويكون فاعلا. وكأن معنى جعل يقول، وأخذ يقول، قد آثر أن يقول ونحوه، فمن ثمّ منع

الأسماء؛ لأنّ معناها معنى ما لا يستعمل بأن، فتركوا الفعل حين خزلوا أن، ولم يستعملوا الاسم لئلا ينقضوا هذا المعنى ". قال أبو سعيد: يعني لئلا ينقضوا مقاربة الحال، ومعنى تركوا الفعل أي بقّوه ولم يحذفوه. قال أبو سعيد: قد ذكرت من مذهب سيبويه أنّ رفع الفعل بوقوعه موقع الاسم، وهذا سبب رفعه. ووقوعه موقع الاسم عامل غير لفظي، ومنزلته منزلة الابتداء في أنه عامل غير لفظي لا في أنّه يرتفع بالابتداء، والفعل مرفوع سواء كان الاسم الذي وقع الفعل موقعه مرفوعا أو منصوبا أو مخفوضا؛ لأن وقوعه هذا الموقع هو الرافع له. ولو كان إعراب الفعل يتبع إعراب الاسم الذي وقع موقعه صار عامل الاسم عامله، وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل، وعامل الفعل لا يعمل في الاسم. ورأي سيبويه أفعالا ترتفع في مواضع لا يقع فيها الاسم فبيّن أنّ تلك المواضع في الأصل تقع فيها الأسماء، وأنه عرض فيها معان اختاروا من أجلها لزوم الفعل وترك الأصل، فمن تلك المواضع: هلا يقول زيد ذاك، والأصل زيد يقول ذاك، ثم قال قائل: لا يقول زيد ذاك، فينفي يقول، فيحضّض السامع على القول، فيجعل مكان لا هلا، ولمّا كانت هلا وأخواتها للتحضيض ومعناهنّ معنى الأمر ذكر الفعل لئلا يزول معنى التحضيض والأمر، والموضع موضع ابتداء. ومثل ذلك: ما أحسن زيدا، ما مبتدأة، وأحسن فعل ماض في موضع خبر المبتدإ، وخبر المبتدإ في تقدير اسم؛ لأنه شيء هو المبتدأ، ونحن لا نقول: ما محسن زيدا؛ لأنّ أحسن فعل ماض يدلّ لفظه على استقرار الحسن فيه الذي باستقراره فيه يستحقّ التعجّب، ومحسن لا يدلّ على ذلك، وكذلك لو أن زيدا جاء لكان كذا، معناه: لو مجيء زيد، ولا يستعمل مجيء؛ لأنّ لو تجري مجري إن في الشرط والجواب، فاحتيج في شرطه إلى ذكر فعل يلزمه الشرط كلزومه في إن. وقوله: ائتني بعد ما يفرغ، ما موصولة ب (يفرغ) ويجوز وصلها بالابتداء والخبر كقولك: ائتني بعد ما زيد أمير، وتكون ما وما بعدها من الفعل بمنزلة المصدر، ك (أن) وما بعدها؛ غير أنّ أن تختصّ بالفعل فلذلك نصبته، وما يليها الاسم المبتدأ والخبر، ويليها الفعل، فلذلك لم تنصب الفعل. وإنما مثّلها سيبويه بالذي في أنّها لا تعمل شيئا كما لا تعمل الذي، وأمّا كدت أفعل ونحو ذلك مما يلزم فيه الفعل فالأصل

هذا باب إذن

فيه الاسم، وإنّما ألزموا فيه الفعل لأنّه أريد به الدلالة بصيغة الفعل على زمانه أو مداناته وقرب الالتباس به ومواقعته، فإذا قلت: كدت أفعل كذا، فلست بمخبر أنّك فعلته ولا أنّك عريت منه عري من لم يرمه، ولكنّك رمته وتعاطيت أسبابه حتى لم يبق بينك وبينه شيء إلا مواقعته، فإذا قلت: كدت أفعله فكأنّ أفعله حدّ انتهيت إليه ولن تدخل فيه، فكأنك قلت: كنت مقاربا لفعله وعلى حدّ فعله، ولفظ كدت أفعل أدلّ على حقيقة المعنى وأحضر في اللفظ، ومثله: عسي زيد أن يقوم، ومعناه: عسي زيد القيام؛ لأنّ القيام لا يدلّ على زمان محصّل، فلزموا الفعل الذي يدلّ على الزمان بعينه، وإذا قلت: عسي زيد يقوم- بإسقاط أن- جاز، ويقوم في موضع قائم، ولذلك قيل: (عسي الغوير أبؤسا)، وعسي زيد يفعل، إنّما تريد عسي زيد يفعل فيما يستقبل، وكاد زيد يفعل إنّما يقال لمن هو على حدّ الفعل وليس فيه مهلة، فلمّا كانت كذلك صارت للحال، وكاد وعسي وجعل ونحو ذلك سيعود عليك ذكره في موضعه من أبواب أن أبسط من هذا وأكثر شرحا إن شاء الله. هذا باب إذن قال سيبويه: اعلم أنّ إذن إذا كانت جوابا وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل أرى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك: إذن أجيئك، وإذن آتيك. ومن ذلك أيضا قولك: إذن والله أجيئك. والقسم هاهنا بمنزلته في أرى إذا قلت: أري والله زيدا فاعلا. ولا تفصل بين شيء ممّا ينصب الفعل وبين الفعل سوى (إذن)؛ لأنّ إذن أشبهت أري، وهي في الأفعال بمنزلتها في الاسم، وهي تلغي وتقدّم وتؤخّر، فلمّا تصرّفت هذا التّصرف اجترءوا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين. ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهة أن يشبّهوها بما يعمل في الأسماء، نحو: ضربت وقتلت؛ لأنّها لا تصرّف تصرّف الأفعال، ولا تكون إلا في أوّل الكلام لازمة لموضعها لا تفارقه، فكرهوا الفصل لذلك؛ لأنّه حرف جامد. واعلم أن إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنك فيها بالخيار: إن شئت أعملتها كإعمال أري وحسبت إذا كانت واحدة منهما بين اسمين؛ وذلك قولك زيدا حسبت أخاك. وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت: زيد حسبت أخوك.

فأمّا الاستعمال فقولك: فإذن آتيك، وإذن أكرمك. وبلغنا أنّ هذا الحرف في بعض المصاحف وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا وسمعنا بعض العرب قرأها فقال: وإذن لا يلبثوا. وأمّا الإلغاء فقولك: فإذن لا أجيئك. وقال تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء: 53]. واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيء الفعل معتمد عليه فإنّها ملغاة لا تنصب البتّة، كما لا تنصب أري إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أري زيد ذاهبا، وكما لا تعمل في قولك: إنّي أري ذاهب. فإذن لا تصل في هذا الموضع إلى أن تنصب، فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، هي هاهنا بمنزلة أري حيث لا تكون إلا ملغاة. ومن ذلك أيضا: إن تأتني إذن آتك؛ لأن الفعل هاهنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي: اردد حمارك لا تنزع سويّته … إذن يرد وقيد العير مكروب (¬1) من قبل أنّ هذا منقطع من الكلام الأوّل وليس معتمدا على ما قبله؛ لأنّ ما قبله مستغن. ومن ذلك أيضا: والله إذن لا أفعل، من قبل أنّ أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغو. وليس الكلام هنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوّله؛ لأنّ اليمين هاهنا الغالبة. ألا تري أنك تقول إذا كانت مبتدأة: إذن والله لا أفعل؛ لأنّ الكلام على إذن وو الله لا يعمل شيئا. ولو قلت: والله إذن أفعل، تريد أن تخبر أنّك فاعل، لم يجز، كما لا يجوز: والله أذهب، إذا أخبرت أنّك فاعل. فقبح هذا يدلّك على أنّ الكلام معتمد على اليمين، وقال كثير عزّة: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 7/ 16؛ الكتاب 3/ 14؛ تاج العروس (كرب، أذن، سوى)؛ واللسان (أذن)؛ والمقتضب 2/ 10.

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها … وأمكنني منها إذن لا أقيلها (¬1) وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، إذا جعلت الكلام على أوله، ولم تقطعه، وعطفته على الأول. وإن جعلته مستقبلا نصبت، وإن شئت رفعته على قول من ألغي. وهذا قول يونس، وهو حسن؛ لأنّك إذا قطعته من الأول فهو بمنزلة قولك: فإذن أفعل، إذا كنت مجيبا رجلا. وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك، لا يكون إلا هذا؛ من قبل أنّ إذن الآن بمنزلة إنّما وهل. كأنّك قلت: إنّما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن هاهنا بمنزلة كي وأن لم يحسن؛ من قبل أنه لا يجوز لك أن تقول: كي زيد يقول ذاك، ولا أن زيد يقول ذاك. فلمّا قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنّما وأشبههما. وزعم عيسى بن عمر أنّ ناسا من العرب يقولون: إذن أفعل ذاك، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدنّ ذا ولم يكن ليروي إلا ما سمع، جعلوها بمنزلة هل وبل. وتقول إذا حدّثت بالحديث: إذن أظنّه فاعلا، وإذن إخالك؛ وذلك لأنك تخبر أنّك تلك السّاعة في حال ظنّ وخيلة، فخرجت من باب أن وكي؛ لأنّ الفعل بعدهما غير واقع، وليس في حال حديثك فعل ثابت. ولمّا لم يجز ذا في أخواتها التي تشبّه بها جعلت بمنزلة إنّما. ولو قلت: إذن أظنّك، تريد أن تخبره أنّ ظنّك سيقع لنصبت، وكذلك إذا يضربك، إذا أخبرت أنّه في حال ضرب لم ينقطع. وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال: أن مضمرة بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن لكانت بمنزلة اللام وحتّى، ولأضمرتها إذا قلت: عبد الله إذن يأتيك، فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك؛ لأن المعنى واحد، ولم يغيرّ فيه المعنى الذي كان في قوله: إذن يأتيك عبد الله، كما يتغيّر المعنى في حتى في الرفع والنصب فهذا ما رووا، وأمّا ما سمعت منه فالأوّل. قال أبو سعيد: إذن إذا وقف عليها فعامّة النّحويّين المتقدمين يرون الوقف عليها بالألف، وليست باسم منصوب منوّن، ولا بفعل لحقته النون الخفيفة وقبلها فتحة، وإنّما ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 268، الخزانة 8/ 473، 474، 11/ 340؛ ابن يعيش 9/ 13، 22.

فعلوا ذلك؛ لأنّها قد تصرّفت فأعملت وألغيت، ووقعت لما لم يأت، ولما هو في الحال، وتقدمت وتوسّطت وتأخّرت، فلما كثر تصرّفها وانفتح ما قبل نونها ضارعوا بها التنوين والنون الخفيفة في الفعل إذا انفتح ما قبلها. وذكر أبو بكر مبرمان عن عسل بن ذكوان قال: الناس إذا وقفوا على إذن وقفوا بألف، والمازني لا يري ذا، ويقول: هي حرف بمنزلة أن ولن، تقف عليها كما تقف عليهما، ويقول هي بالأدوات أشبه منها بالأسماء لأنها تعمل عمل الأدوات. وأبو العباس المبرّد يحكي الوقف عليها بالألف، ويرى أن لو وقفوا عليها بالنون كان جيدا على الأصل في مثلها من الحروف. وقد اختلف القول في نصب إذن، فقال سيبويه: هي الناصبة العاملة، وذكر أنّ ذلك الذي سمعه هو من الخليل، وذكر عن غيره عن الخليل أنّ أن بعدها مضمرة، واحتجّ عليه بما ذكره في آخر الباب. وكان أبو إسحاق الزّجّاج يذهب إلى أنّ أن بعد إذن مضمرة، ويستدلّ على ذلك أنّ إذن لا تعمل شيئا أنها متى كانت للحال لم تعمل. قال أبو سعيد: وهذا لا يبطل عملها لأنّا قد رأينا ما يعمل في حال ويبطل عمله في أخرى، كقولنا: ما زيد قائما، في لغة أهل الحجاز، فإذا تقدم الخبر أو دخل حرف الاستثناء بطل عملها، وقد دخل في إذن أشدّ من ذلك؛ لأنّها إذا وقعت على الحال فليس ذلك في شيء من نواصب الفعل، وهي في نفسها قد تلغى، وكان ذلك من أقوي أسباب الإلغاء، وتقديم خبر ما ودخول الاستثناء ليس مما يعدم في ليس، وقد أبطل عمل ما المشبّهة بليس. قال أبو سعيد: وإنّما جاز إلغاء إذن لأنّها جواب يكفي من بعض كلام المتكلم، كما يكفي لا ونعم من كلامه، يقول القائل: إن تزرني أزرك، فيجاب: إذن أزورك، والمعنى: إن تزرني أزرك، فنابت إذن عن الشّرط، وكفت من ذكره، كما يقول: أزيد في الدار؟ فيقال له: نعم أولا، وتكفي نعم من قوله: زيد في الدار، ولا من قوله: ما زيد في الدار، فلمّا كانت إذن جوابا قويت في الابتداء؛ لأن الجواب لا يتقدّمه كلام، ولمّا وسّطت وأخرّت زايلها مذهب الجواب فبطل عملها، وإنّما جاز في الفاء والواو الإعمال والإلغاء لأنّهما للعطف، وقد يجوز عطف جملة على جملة ليس بينهما علقة كقولك: قام زيد ببغداد، وخرج عمرو من البصرة إلى الصّين، وليس بين الجملتين تعلّق، ويجوز أن يكون عطف شيء ليس بجملة على ما قبله، فإذا أعملت إذن وقبلها واو أو فاء فهما لعطف

هذا باب حتى

جملة على جملة، أوّل الجملة الثانية إذن، فوجب أن تكون عاملة لأنّها ابتداء، كقولك: إن تأتني آتك وإذن أكرمك، استأنفت إذن أكرمك فجعلته أول الجملة الثانية، وإذا جعلت أكرمك معطوفة على آتك صارت من الجملة الأولى؛ لأنّها داخلة في جواب إن تأتني بالعطف على آتك فجزمته؛ لأنّ إذن صارت غير مبتدأة فلم تعمل. ويجوز رفعه بإلغاء إذن على أنه داخل في الجملة الأولى في التقدير، كأنّه قال: إن تأتي آتك فقال: وأكرمك إذن، وتكون أكرمك في جملة الجواب الأول، كأنه قال: إن تأتني آتك فقال له: وأكرمك إذن، وتقدّم إذن على هذه النية، وسنرى رفع الفعل المرفوع بعد المجزوم في جواب الشّرط. وأمّا الرفع في قول كثير: (إذن لا أقيلها)؛ فلأنّ الكلام مبني على يمين، وهو جواب لئن، وتقديره: والله لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها لا أقيلها، وعبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك، وقد تقدّم قبل هذا بيت فيه ذكر ما يعود هذا الضّمير إليه، وللنحويين فيه كلام وهو: وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة … ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها (¬1) الضّمير في قوله: عاد لي بمثلها، أراد: بمثل المقالة المذكورة في هذا البيت، والمعنى: ممن ينيلهوها، والعائد إلى من هو ضمير المذكّر المنصوب المحذوف، وضمير المؤنث للمقالة، وفي ينيلها ضمير فاعل لابن ليلى، والمعنى: ينيله ابن ليلى إياها، ومعنى لو سرت فيها: لو سرت في طلبها، وما قدّر في ينيلهوها على مذهب سيبويه في اتصال ضمير الغائب بضمير غائب مثله على نحو قول الشاعر: قد جعلت نفسي تطيب لضغمة … لضغمهما ها يقرع العظم نابها (¬2) فإن قيل: كيف ينيله المقالة؟ فإن المعنى: ينيله المقولة، هي فيه كقولنا: الخلق في معنى المخلوق، وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه، وممّا مرّ من شرحنا. هذا باب حتّى قال سيبويه: " اعلم أنّ حتى تنصب على وجهين: فأحدهما: أن تجعل الدخول غاية لمسيرك، وذلك قولك: سرت حتى أدخلها، ¬

_ (¬1) البيت منسوب لكثير عزة في ديوانه 305، الخزانة 8/ 476؛ ابن يعيش 9/ 13؛ الكتاب 3/ 15. (¬2) البيت سبق تخريجه.

كأنك قلت: سرت إلى أن أدخلها، فالناصب للفعل هاهنا هو الجارّ في الاسم إذا كان غاية. فالفعل إذا كان غاية منصوب، والاسم إذا كان غاية جرّ؛ وهذا قول الخليل. وأمّا الوجه الآخر: فأن يكون السّير قد كان والدخول لم يكن، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها، وذلك قولك: كلّمته حتى يأمر لي بشيء. واعلم أنّ حتى يرفع الفعل بعدها على وجهين: تقول: سرت حتى أدخلها، تعني أنه كان دخول متصل بالسّير كاتّصاله بالفاء إذا قلت: سرت فأدخلها، وأدخلها هاهنا على قولك: هو يدخل، وهو يضرب، إذا كنت تخبر أنه في عمله، وأنّ عمله لم ينقطع. فإذا قال: حتى أدخلها فكأنه يقول: سرت فإذا أنا في حال دخول؛ فالدخول متّصل بالسير كاتّصاله بالفاء. فحتّى صارت هاهنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الابتداء؛ لأنها لم تجيء على معنى إلى أن، ولا معنى كي، فخرجت من حروف النصب كما خرجت إذن منها في قولك: إذن أظنّك. وأمّا الوجه الآخر: فإنّه يكون السّير قد كان وما أشبهه، ويكون الدخول وما أشبهه الآن، فمن ذلك: لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع، أي حتى أنّي الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل: لقد رأى مني عاما أوّل شيئا حتى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء، ولقد مرض حتى لا يرجونه، والرفع هاهنا في الوجهين جميعا كالرفع في الاسم. قال الفرزدق: فيا عجبا حتّى كليت تسبّني … كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (¬1) فحتّى هاهنا بمنزلة إذا، وإنما هي هاهنا كحرف من حروف الابتداء. ومثل ذلك: شربت حتى يجيء البعير يجرّ بطنه، أي: حتى أنّ البعير ليجيء يجرّ بطنه. ويدلّك على حتى أنّها حرف من حروف الابتداء أنّك تقول: حتى إنّه يفعل ذاك، كما تقول: فإذا إنّه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسّان بن ثابت الأنصاري: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 1/ 518؛ الخزانة 9/ 475، 476؛ ابن يعيش 8/ 18، 62؛ الكتاب 3/ 18؛ المقتضب 2/ 41.

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم … لا يسألون عن السّواد المقبل (¬1) ومثل ذلك: مرض حتى يمرّ به الطائر فيرحمه، وسرت حتى يعلم الله أننّي كالّ. فالفعل هاهنا منقطع من الأوّل، وهو في الوجه الأول الذي ارتفع فيه متّصل كاتصاله بالفاء، كأنه قال: كان سير فدخول، كما قال علقمة بن عبدة: ترادى على دمن الحياض فإن تعف … فإنّ المندّى رحلة فركوب (¬2) لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضي، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضي، ولكنّ الآخر متصل بالأوّل، ولم يقع واحد دون الآخر. وإذا قلت: لقد ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم، فليس كقولك: سرت فأدخلها، إذا لم ترد أن تجعل الدخول السّاعة؛ لأنّ السير والدخول جميعا وقعا فيما مضى. وكذلك مرض حتى لا يرجونه، أي حتى إنّه الآن لا يرجونه؛ فهذا ليس متّصلا بالأول واقعا معه فيما مضى. وليس قولنا كاتصال الفاء يعني أنّ معناه معنى الفاء، ولكنّك أردت أن تخبر أنّه متّصل بالأول، وأنّهما وقعا فيما مضى. وليس بين حتى في الاتصال وبينه في الانفصال فرق في أنّه بمنزلة حرف الابتداء، وأنّ المعنى واحد إلا أنّ أحد الموضعين الدخول فيه بالسّير متصل، وقد مضى السير والدخول، وإنما اتصاله في أنّه كان فيما مضى، وإلا فإنّه ليس يفارق موضعه الآخر في شيء إذا رفعت ". قال أبو سعيد: من مذهب سيبويه: أنّ حتى من الحروف الخافضة للأسماء كاللام الخافضة للأسماء، وأنّها إذا نصبت الفعل فإنما تنصبه بإضمار أن كاللام، وقال الكسائي: حتى لا تخفض، إنّما تخفض بعدها إلى مضمرة ومظهرة، فيقال: أكلت السمكة حتى إلى رأسها؛ فقد حصل بهذا أنّ حتى لا تعمل في الأسماء شيئا إذ كان الخفض بعدها بغيرها. وقال الفرّاء وأصحابه: حتى من عوامل الأفعال مجراها مجري كي وأن، وليس عملها لازما في الأفعال إذ كان يبطل في: سرت حتى صبّحت القادسيّة، ودفعت حتى وصلت إلى الأمير، ثم لمّا صحبت إلى خفضت الأسماء لنيابتها عن إلى، وأنّها إذا عملت في ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 123، الخزانة 2/ 412؛ الكتاب 3/ 19. (¬2) البيت في ديوانه 14، الكتاب 3/ 19؛ والمقتضب 2/ 39.

الاسم لم يكن لها معناها حين تعمل في الفعل. وقال الكسائي في: حتى مطلع تخفضه إلى المضمرة وليس لحتّى فيه عمل. وقال الفرّاء: حتى هي الخافضة للمطلع لمّا قام مقام إلي. قال أبو سعيد: اعلم أنّ الحرف الواحد الذي أصل معناه واحد قد يستعمل في مواضع مختلفة، فيغلب عليه اختلاف مواضعه، فيصيّره كالحروف المختلفة حتى يعمل أعمالا مختلفة، وذلك نحو لا أصلها النفي للشيء وإبطاله، ثم استعمل في مواضع مختلفة من نهي يقابل به الأمر، ومن نفي يقابل به حروف الاستفهام، ومن دخول على مبتدإ وخبر وغير ذلك من مواضعه، فعملت أعمالا مختلفة من جزم ونصب ورفع، وأبطل عملها في بعض مواضعها؛ لأنّ تفرّقها في هذه المواضع المختلفة كتفرّق الحروف المختلفة اللّفظ والمعنى. ومن ذلك اللام المكسورة؛ لفظها واحد ومواضعها مختلفة، فجزمت الفعل وخفضت الاسم، ولا خلاف بين النّحويين فيما ذكرناه، وإنما يختلفون بعد ذلك في حروف تظهر لها أعمال، فلا يحقّقون تلك الأعمال لها، ويطلبون حروفا أخر يدّعون إضمارها لتلك الأعمال، وإبطال عمل هذا الظاهر عنها، وربّما جعلوا بعضها بدلا من شيء آخر، فمن ذلك ما يمكن تصحيحه ويقرب مأخذه، ومنه ما يبعد، وأنا أذكر منه ما أحوجنا إليه هذا الباب واللفظ الذي شرعنا فيه منه، وأذكر نحوه الذي يقتضيه فيما بعد إن شاء الله تعالى. فممّا يقرب تصحيحه قول سيبويه في حتى: إذا نصبت الفعل أنّها تنصبه بإضمار أن، وذلك أنّ حتى على مذهبه من حروف الجر؛ لأنّ ما بعدها في الاسم مخفوض إذا كانت غاية، وذلك قولك: خرج القوم حتى زيد. فإن قال قائل من أصحاب الكسائي: هلا أضمرتم بعد حتى إلى، وخفضتم زيدا به، كما حكينا عن الكسائي. قيل: لا يجوز ذلك لبعده في التقدير، وإبطال معنى حتى، وذلك أنّ موضوع حتى في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جملة ما قبلها، وأنّ حتى اختصّت به من بين الجملة؛ لأنه يستبعد فيه الفعل أكثر من استبعاده في سائر الجملة، كقولنا: قاتل زيد السباع حتى الأسد؛ لأن قتاله للأسد أبعد من قتاله لغيره، وكذلك تقول: استجرأ على الأمير جنده حتى الضعيف الذي لا سلاح له؛ لأنّ استجراء الضعيف الذي لا سلاح له أبعد في النفوس من استجراء غيره من الجند؛ فلو جعلنا مكان حتى إلى فقلنا: استجرأ على الأمير

جنده إلى الضعيف، ما جاز ولا أدّى عن معنى حتى، فإن قدّرناه بقولنا: استجرأ على الأمير جنده حتى انتهى استجراؤهم إلى الضعيف الذي لا سلاح له كان ذلك بزيادة كثيرة، وكانت إلى في صلة انتهى لا في صلة حتى، والذي ذكره الكسائي من إضمار ذكر إلى بعد حتى شيء منكر لا يعرف، وإذا جعلنا الخفض بنفس حتى على مذهب سيبويه فلا يخرج ذلك عن قياس النحو، وعن المتناولات العربية، وذلك أنّ حتى قد يليها المخفوض في حال، ويكون ما بعدها غير مخفوض في حال، ولها نظائر مما تخفض في حال ويبطل خفضها في حال نحو: منذ، ومذ، وخلا، وحاشى في الاستثناء، فظهور الخفض بعدها إذا لم يقم برهان على إضمار حرف خافض يوجب أنّها هي الخافضة، كما أنّ هذه الحروف هي الخافضة، ويدلّ على أنّها هي الخافضة قولهم: حتّام وحتّامه، وإلام وإلامه، وأصلها: حتى ما، وما للاستفهام ولا تسقط عنها الألف إلا أن يدخل عليها خافض، فعلم بذلك أنّ حتى خافضة. فلمّا كانت خافضة في الاسم إذا كانت غاية، ثم رأيناها تدخل على الفعل في معنى الغاية، جعلنا السّبيل فيهما واحدا، وبقّيناها على خفضها، وأحوجنا ما وجب لها من عمل الخفض أن نجعل ما عملت فيه اسما، ولا يكون الفعل اسما إلا بأن يقرب به أن؛ لأنّها والفعل بمنزلة المصدر، وإذا قدرناه لم يبعد تقديره؛ لأنّا لو قلنا لرجل: أقم حتى يقدم زيد، وقف حتى تطلع الشمس، فحتى هي للغاية، وإذا جئنا ب (إلى) التي هي للغاية كحتى وإن كانت تخالفها في معنى آخر قلنا: أقم إلى أن يقدم زيد، وقف إلى أن تطلع الشّمس؛ فموقع إلى موقع حتّى، ولا يجتمعان؛ لأن إحداهما تغني عن الأخرى. ويدلّك على أنّ حتى في موضع إلى في هذا الموضع أنّك تقول: أقم إلى قدوم زيد، وأقم حتى قدوم زيد، كما قال عز وجل: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، وهذا أحد وجهي نصب الفعل بحتّي وهو الغاية، ولم يذكروا بعد حتى أن كما ذكروها بعد إلى؛ لأنّ إلى لا تدخل إلا على الأسماء ولا يبطل الخفض بها ولا يقدّر إلغاؤه فيها. وحتى يبطل عملها في أحوال؛ فتدخل على الأسماء بمعنى حروف العطف في قولك: رأيت القوم حتى زيدا، وجاءني القوم حتى زيد، وتدخل على الأفعال فتنصبها على غير وجه الغاية، وتدخل عليها العوامل ولا تعمل شيئا، وتكون كحروف الابتداء نحو: الواو والفاء، فلمّا كانت كذلك ألزموا إلى أن؛ لتظهر اسمية ما دخلت عليه، وقوّة لزومها الخفض، ومن أجل ذلك أيضا حسن ظهور أن بعد اللام المكسورة، ولا يحسن ظهورها بعد حتّى، وقد ذكرنا حسن سقوط أن بعد اللام والفرق بينها وبين غيرها من

هذا باب الرفع فيما اتصل بالأول كاتصاله بالفاء وما انتصب لأنه غاية

حروف الجرّ. والوجه الثاني من وجهي النصب بحتى تكون فيه أيضا حرف خفض؛ لأنّه يحسن فيه أن تقول: حتّامه، وقد مضي الكلام في نحوه. وأما وجها رفع الفعل بعد حتى فأصلهما وجه واحد في المعنى، وذلك أن يكون ما قبلها موجبا لما بعدها، ولكن ما يوجبه ما قبلها فقد يجوز أن يكون عقيبا له ومتّصلا به، وقد يجوز أن لا يكون متصلا به ولكن يكون موطّأ مسهّلا بالفعل الأول، متى اختاره صاحبه أوقعه، وقد وطيء له ومكّن منه. ومن هذا قوله: لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع؛ لأن السّير مكّن له أن يدخلها كيف شاء في المستقبل، وكذلك: رأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء؛ لأن الذي رأى منه العام الأول هو الذي أصاره في عامه إلى الضّعف عن كلامه، وسائره محمول على مثل ما ذكرناه، وحتى في رفع الفعل بمنزلة الواو، والفاء، وإذا، وإنما، وسائر حروف الابتداء التي يرتفع الفعل بعدها، وسبيلها في بطلان عملها عن الفعل كسبيلها في بطلان عملها عن الاسم إذا قيل: رأيت القوم حتى زيدا، وجاءني القوم حتى زيد، ومعناها في الفعل في وجهي النصب الغاية ومعنى كي، وفي وجهي الرفع أن يكون الفعل الذي قبلها يوجب الفعل الذي بعدها ويوطئه. وأمّا قول سيبويه في الفعل المرفوع فيما مضي إذا قلت: سرت حتى أدخلها، كأنه قال: سرت فإذا أنا في حال دخول، فالدخول متصل بالسير كاتصاله بالفاء، فإنّما أراد أن يشبّه كون الفعل فيما مضى مع حتى بكونها مع الفاء فيما مضى، ولم يرد أن يوجب أنّ عمل حتى ومعناها كعمل الفاء ومعناها؛ لأنّ الفاء لا يوجب أنّ ما بعدها أوجبه ما قبلها؛ لو قال: خرجت فإذا زيد قائم لم يكن قيام زيد من أجل خروجك. وحتى هذه التي يرتفع الفعل بعدها يجوز أن يقع بعدها مبتدأ وخبر، وتقع إنّ بعدها مكسورة كقولك: مرض حتى إنّه الآن لا يرجونه، وأنس زيد بالأمير حتى هو يدخل عليه بغير إذن، ووادّ زيد أخاك حتى أهلهما يتوادّون. هذا باب الرفع فيما اتصل بالأول كاتصاله بالفاء وما انتصب لأنه غاية قال سيبويه: تقول: سرت حتى أدخلها، وقد سرت حتى أدخلها سواء، وكذلك: إني سرت حتى أدخلها، فيما زعم الخليل.

فإن جعلت الدخول في كل ذي غاية نصبت. وتقول: رأيت عبد الله سار حتى يدخلها، وأرى زيدا سار حتى يدخلها؛ ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم ليس بمتيقن، فإنه يدخل عليه: سار زيد حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري، ويدخل عليه: عبد الله سار حتى يدخلها أرى. فإن قال: لأني لم أعمل (أرى)، فهو يزعم أنه ينصب الفعل ب (أرى) وإن جعلت الدخول غاية، نصبت في ذا كله. وتقول: كنت سرت حتى أدخلها، إذا لم تجعل الدخول غاية. وليس بين (كنت وسرت) وبين (سرت مرة في الزمان الأول) حتى أدخلها شيء؛ وإنما ذا قول كان النحويون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف، يقولون: إذا لم يجز القلب فيه، فيدخل عليهم (قد سرت حتى أدخلها) أن ينصبوا، وليس في الدنيا عربي يرفع (سرت حتى أدخلها) إلا وهو يرفع إذا قال: قد سرت. وتقول: سرت حتى أدخلها، وحتى أدخلها، إن جعلت الدخول غاية؛ وكذلك ما سرت إلا قليلا حتى أدخلها، إن شئت رفعت، وإن شئت نصبت، لأن معنى هذا معنى سرت قليلا حتى أدخلها، فإن جعلت الدخول غاية نصبت. ومما يكون فيه الرفع شيء ينصبه بعض الناس لقبح القلب، وذلك: ربما سرت حتى أدخلها، ونحو هذا؛ فإن احتجوا بأنه غير سير واحد فكيف يقولون إذا قلت: سرت غير مرة حتى أدخلها. وسألنا من يرفع في قوله: سرت حتى أدخلها، فرفع في (ربما)، ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في (قد). ويقولون: ما أحسن ما سرت حتى أدخلها، وقلما سرت حتى أدخلها، إذا أردت أن تخبر أنك سرت قليلا وعنيت سيرا واحدا، وإن شئت نصبت على الغاية. وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، إذا عنيت سيرا واحدا، أو عنيت غير سير، لأنك قد تنفي الكثير من السير الواحد، كما تنفيه من غير سير. وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، إذا عنيت غير سير، وكذلك أقلّ ما سرت حتى أدخلها، من قبل أنّ (أقل ما) نفي لقوله (كثر ما) كما أن (ما سرت) نفي لقوله (سرت)؛ إلا أنه قبيح أن تقول: قلّ ما سرت فأدخلها، كما يقبح في (ما سرت) إذا أردت معنى: فإذا أنا أدخل.

وتقول: قل ما سرت فأدخلها، فتنصب بالفاء هاهنا كما تنصب في (ما) و (لا يكون) كثر ما سرت فأدخلها، لأنه واجب؛ ويحسن أن تقول: كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول: إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقرا لسيرك الذي أدى إلى الدخول، ويقبح: إنما سرت حتى أدخلها، لأنه ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السير كما يكون في النصب، يعني إذا احتقر السير؛ لأنك لا تجعله سيرا يؤدي إلى الدخول وأنت تستصغره، وهذا قول الخليل؛ وإن لم تجعله غاية، ولم تحتقر، رفعت. وتقول: كان سيري أمس حتى أدخلها، ليس إلا النصب، وذلك أن (حتى أدخلها) خبر لكان، لأن (أمس) بمنزلة (اليوم) إذا قلت: جاء في اليوم عبد الله، فاليوم صلة لهذا، وكذلك (أمس) صلة للسير؛ واعتمد في الخبر على (حتى أدخلها)، فكأنه قال: كان سيري حتى أدخلها، فحتى أدخلها غاية، أو محمول على (كي)، كأنك قلت: كي أدخلها؛ ولا يجوز أن تقول: كان سيري فأدخلها إلا وأنت تريد أن تجيء ب (كان) التي تقع بلا خبر، كقولك: قد كان الأمر، أي: قد وقع الأمر؛ فإن أردت (كان) هذه، جاز أن تقول: كان سيري أمس حتى أدخلها. وتقول: كان سيري أمس سيرا متعبا حتى أدخلها، لأنك تقول هاهنا: فأدخلها، وفإذا أنا أدخلها، لأنك جئت لكان بخبر، وذلك قولك: سيرا متعبا. واعلم أن ما بعد (حتى) لا يشرك الفعل الذي قبل (حتى) في موضعه كشركة الفعل الآخر الأول إذا قلت: لم آتك فأقل، ولو كان ذلك لاستحال الكلام في قولك: كان سيري أمس شديدا حتى أدخل، ولكنها تجيء كما تجيء (ما) بعد إذا، وبعد حروف الابتداء. وكذلك هي أيضا بعد (الفاء) إذا قلت: ما أحسن ما سرت فأدخلها، ولأنها منفصلة؛ فإنما عنينا بقولنا (الآخر متصل بالأول) أنهما وقعا فيما مضى، كما أنه إذا قال: ... … فإنّ المندّى رحلة فركوب (¬1) يعني أنهما وقعا في الماضي من الأزمنة، وأن الآخر كان مع فراغه من الأول. فإن قلت: كان سيري أمس حتى أدخلها، يجعل أمس مستقرا، جاز الرفع لأنه ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت سبق تخريجه.

استغنى، فصار كسرت، لو قلت: فأدخلها حسن، ولا يحسن: كان سيري فأدخل، إلا أن تجيء خبرا لكان. واعلم أن (أسير) بمعنى (سرت) إذا أردت بأسير معنى سرت. واعلم أن الفعل إذا كان غير واجب، لم يكن إلا النصب، من قبل أنه إذا لم يكن واجبا، رجعت (حتى) إلى أن وكي، ولم تصر من حروف الابتداء، كما قلت: إذن أظنك، والظن غير واقع في حال حديثك. وتقول: أيهم سار حتى يدخلها، لأنك قد زعمت أنه قد كان سير ودخول، وإنما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنك لو قلت: أين الذي سار حتى يدخلها وقد دخلها لكان حسنا، ولجاز هو الذي يكون لما قد وقع، لأن الفعل ثم واقع، وليس بمنزلة (قلما سرت) إذا كان نافيا لكثر ما سرت؛ ألا ترى أنه لو قال: قلما سرت فأدخلها أو حتى أدخلها، وهو يريد أن يجعلها واجبة خارجة من معنى (قلما)، لم يستقم إلا أن تقول: قلما سرت فدخلت، وحتى دخلت، كما تقول: ما سرت حتى دخلت. فإنما ترفع بحتى في الواجب، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلا من الأول، كان مع الأول فيما مضى أو الآن. وتقول: أسرت حتى تدخلها، نصبت، لأنك لم تثبت سيرا تزعم أنه قد كان معه دخول. قال أبو سعيد: هذا الباب معتمده ذكر ما كان بعد (حتى) متصلا بما قبله، وذلك من المرفوع ما كان متصلا بما قبله، وقد أوجبه ما قبله؛ ومن المنصوب ما كان غاية، وهما يتقاربان في اشتراكهما في اتصال ما قبلهما بما بعدهما؛ فاتصال المرفوع بما قبله كاتصال ما بعد (الفاء) بما قبلها، ولذلك يمثله بالفاء لإيصال ووقوع الثاني عقيب الأول. ووجه رفعه هو ما ذكرته لك. وليست (حتى) المنصوب ما بعدها من الفعل هي المرفوع ما بعدها، لأن المرفوع ما بعدها ليست بعاملة، والمنصوب ما بعدها حرف خفض؛ وكل فعل كان مبناه على الإيجاب فهو مما لم يرتفع فيه الفعل بعد (حتى)، فإن اتصل به تشكك كقولك: سار عبد الله حتى يدخلها، أو سار حتى يدخلها أرى، وكذلك: سار عبد الله حتى يدخلها. ويجوز أن يكون ما قبل (حتى) المرفوع ما بعدها من الفعل من باب أرى وأفعال الظن والمحسبة لأن القلوب تنعقد على ذلك- وإن كان فيه بعض عوارض الشك- كانعقادها على العلم واليقين، ويكون اللفظ عليه كما يكون ذلك في الخبر اليقين، وذلك قولك: أرى عبد الله سار حتى يدخلها، وكذلك: أظن عبد الله سار حتى يدخلها.

وإن كان مبنى الكلام على جحد عقيبه استثناء يرده إلى الإيجاب فهو كالإيجاب كقولك: ما سرت إلا يوما حتى أدخلها، وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها، لأنه لا فرق بين قولك: ما سرت إلا يوما، وبين سرت يوما؛ وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها بمنزلة: سرت قليلا حتى أدخلها؛ والقليل قد يؤدي إلى الدخول، كما يؤدي الكثير إليه؛ وهذه العوارض التي تعارض المعرفة واليقين لا تغير لفظ الإيجاب كقولك: إنّ زيدا لقائم فيما أرى، وفيما أظن، وإن زيدا لقائم بلغني. وأما ما حكاه سيبويه عن بعض النحويين من اعتبار القلب فهو ضعيف يخالف كلام العرب، ولا لاعتبار ذلك أصل يرجع إليه؛ هؤلاء القوم أجازوا: سرت حتى أدخلها، ولم يجيزوا: كنت سرت حتى أدخلها، لأنه لا يحسن: سرت حتى أدخلها كنت، كما يحسن: حتى أدخلها سرت؛ فاحتج عليهم سيبويه بقول العرب: قد سرت حتى أدخلها، وهم لا يجيزون: سرت حتى أدخلها قد، ويقولون: ربما سرت حتى أدخلها، ولا يقولون: سرت حتى أدخلها ربما؛ واحتج عليهم أيضا بأنه لا فرق بين قولنا: كنت سرت حتى أدخلها وبين: سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها، وهم يجيزون: سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها، لأنه يحسن فيه القلب، تقول: سرت حتى أدخلها مرة في الزمان الأول. وذكر سيبويه: إنما سرت حتى أدخلها، فأجاز الرفع في موضع، ولم يجزه في موضع، وذلك أن (إنما) تكون على وجهين: أحدهما تحقير الشيء، والآخر الاقتصار عليه؛ فأما الاقتصار عليه فقولك في رجل ادّعي له الشجاعة والكرم واليسار، فاعترفت بواحد منها دون الباقي، وأثبته له فقلت: إنما هو موسر أو إنما هو شجاع، فعلى هذا الوجه يرفع الفعل بعد (حتى) إذا قلت إنما سرت حتى أدخلها، لأنك أثبت له المسير، وقد أداه إلى الدخول. وأما تحقير الشيء فقولك لمن تحقر صنيعا له: إنما تكلمت وسكت، وإنما سرت فقعدت، لم يعتد بكلامه ولا بسيره؛ فعلى هذا الوجه نصب سيبويه: إنما سرت حتى أدخلها، لأنه لم يعتد بسيره سيرا، فصار بمنزلة المنفي. ويقبح الرفع؛ لأنك لم تجعل السير مؤديا إلى الدخول، فيكون منقطعا بالدخول، وإلا نصبت (يدخل)، فيكون غاية السير، وهذا معنى قوله: ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السير، يعني إذا رفعت مع التحقير. فأما أقلّ (ما سرت) فإنه يكون على وجهين: أحدهما أن يريد سيرا قليلا مؤديا

كأنه قال: قل سيري، كما تقول: سرت قليلا؛ فهذا يرفع فيه الفعل الذي بعد (حتى) للمسير القليل الذي أدى إلى الدخول. والوجه الآخر أن يكون في معنى الجحد، وذلك قولك: قلما سرت حتى أدخلها، إذا عنيت غير سير، لأن معناه النفي لغير سير؛ وليس النفي لغير سير فعل يوجب الدخول فيرفعه؛ وكذلك قوله: أقل ما سرت حتى أدخلها، من قبيل أن (قلّ) نفي، وقد ذكرنا فيما تقدم أن (أقلّ رجل) و (أقلّ رجل) في معنى الجحد، بما أغني عن إعادته ". قال أبو سعيد: " ولو قلت: ما كثر ما سرت حتى أدخلها، وما طال ما سرت حتى أدخلها، لم يجز فيه غير النصب، لأنك لم تذكر فعلا يؤدي إلى الدخول، وإنما نفيت فعلا، ولم تثبت فعلا آخر؛ ولهذا نصب سيبويه بعد: أقلّ ما سرت حتى أدخلها، لما كان نفيا ل (كثر ما سرت)، كما أن (ما سرت) نفي لقوله: سرت، وقواه بأنه قبيح أن تقول: قل ما سرت حتى فأدخلها، كقبح ما سرت فإذا أنا داخل، لأن (الفاء) تقتضي أن ما بعدها وقع عقيب فعل اتصل به، وأنت قد نفيت ما قبل (الفاء)؛ ولو قلت: قلما سرت فأدخلها، فنصبت، كان جيدا للنفي، كما تقول: ما أتيتنا فنكرمك، ولا يحسن كثر ما سرت فأدخلها، لأنه موجب، والوجه كثر ما سرت فأدخلها بالرفع، كقولك: أنا آتيك فأكرمك، ولا يحسن فأكرمك بالنصب، وقد تقدم الرد على من يعتبر القلب وهو ينصب ربما سرت حتى أدخلها؛ وطال ما سرت حتى أدخلها، وكثر ما سرت حتى أدخلها. لأنه لا يحسن أن تقول: سرت حتى أدخلها ربما، ولا سرت حتى أدخلها طالما، وكثر ما. ثم قال عنهم: فإن احتجوا- يعني في نصبها- بأنه غير سير واحد، فرد كلامهم بأنه يقال: سرت غير مرة حتى أدخلها، وهذا لا يدفعونه، لأنه يحسن فيه القلب، ومعناه معنى: ربما سرت، وطال ما سرت فأبطل احتجاجهم بالنصب إذا تعلقوا بغير القلب. وقوله: ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا، كما اعتزموا عليه في (قد)، يريد أن نصب العرب لما ينصبونه من: ربما سرت حتى أدخلها، وكنت سرت حتى أدخلها، وغير ذلك، وإنما نصبوه لا من أجل قبح القلب، ولكن لأن كل ما يرفع بعد (حتى) يجوز فيه النصب على الغاية، لأن ما بينهما متقارب في المعنى، لأن السير ينقطع عند الدخول، رفعت أو نصبت، فنصبهم لأنهم ذهبوا به مذهب الغاية، ويجوز فيه الرفع كما رفع من رفع في (قد)، ويجوز النصب عنده. وقوله: كان سيري أمس حتى أدخلها، في (أمس) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع نصب بسيري لا بخبر (كان)، كما تقول: كان قطعي

المفازة حتى أدخلها، فتنصب المفازة بقطعي لا بخبر كان؛ فإذا كان كذلك وجب النصب في (أدخلها) لا غير، ويكون خبر (كان) حتى، وهي تكون خبرا للمصدر الذي يمتد في الزمان إذا كانت غاية كقولك: سيري إلى الليل، وسيري حتى الليل، وسيري إلى أن أدخل، وسيري حتى أدخل؛ فإن جئت بخبر (كان)، جاز الرفع والنصب فقلت: كان سيري أمس سيرا متعبا حتى أدخلها، وأدخلها، فإن شئت جعلت (أدخلها) من صلة سيرا متعبا، وإن شئت جعلته من صلة كان سيري، وقدمته فقلت: كان سيري أمس حتى أدخلها سيرا متعبا. والوجه الآخر أن تجعل (أمس) خبر سيري، كما تقول: كان القتال أمس، فإذا جعلته كذلك جاز الرفع والنصب في (حتى أدخلها). وقوله: " ما بعد (حتى) لا يشرك الفعل الذي قبل (حتى) في موضعه كشركة الفعل الآخر الأول إذا قلت: لم أجئ فأقل ". قال أبو سعيد: ((ليست (حتى) من حروف العطف في الأصل، وإنما عطف بها في الأسماء، الاسم الذي يصح أن يكون غاية كقولك: خرج القوم حتى زيد، كما تقول: خرج القوم حتى زيد، ولو قلت: خرج القوم حتى شأنك لم يجز، ولو قلت: وشأنك، وفشأنك جاز؛ لأنهما حرفا عطف وضعا للاشتراك. وإنما جاز العطف بحتى في الأسماء لأن الاسم المجرور بعد (حتى) داخل في الأسماء التي قبلها، فصار فيه معنى العطف بدخوله فيما دخل فيه ما قبله؛ وأما في الفعل فليس كذلك، وإنما شبّه بالفاء فيما مضى لاتصال الآخر بالأول، وأنهما قد وقعتا فيما مضى كقوله: ... … فإنّ المندّى رحلة فركوب (¬1) لأن التندية والركوب قد وقعتا في الماضي من الأزمنة، والآخر كان مع فراغه من الأول)). وقوله: " واعلم أن (أسير) بمنزلة سرت، إذا أردت بأسير معنى سرت ". قال أبو سعيد: ((إنما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه ذلك الفعل خلقا وطبعا، ولا ينكر منه في المضي والاستقبال، ولا يكون لفعل فعله مرة من الدهر، من ذلك قول بعض بني سلول: ¬

_ (¬1) عجز بيت لعلقمة الفحل سبق تخريجه.

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني … فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني (¬1) يريد: ولقد مررت، ولم يرد أن ذلك كان منه مرة وأنه لا يعود إليه، وإنما أراد أن ذلك سجيته أبدا، وقال جرير: قالت جعادة ما لجسمك شاحبا … ولقد يكون على الشباب نضيرا وسمعناه: ولقد كان، وكونه على الشباب نضيرا، فعل مستدام لا يقصد به إلى فعلة واحدة، بل يكون أبدا على الشباب نضيرا، فهذا حكمه دائما)). وقوله: أين الذي سار حتى يدخلها. لا يمنع الاستفهام من الرفع، لأن السير وجب، وإنما سأل عن صاحبه، وكذلك لو نفي فقال: ما رأيت الذي سار حتى يدخلها، وما ضربت الذي سار حتى يدخلها، لأن الاعتماد على نفي الرؤية والضرب. وأما قوله: أسرت حتى تدخلها؟ فالنصب، لأنه لم يوجب سيرا يجب به الدخول. ولو قال: قل ما سرت فأدخلها، إذا جعل الدخول واجبا فيما مضى، جعل اللفظ فيه ماضيا، فقال: قلما سرت فدخلت، لأن دخلت منقطع عن قلما سرت، فصار بمنزلته منفردا إذا كان ماضيا، ولم يكن ماضيا، ولم يكن قبله (قلما سرت)، فالإخبار عنه بلفظ المضي؛ ونحو من هذا قولهم: جاءني زيد أمس يضحك، ويضحك في موضع الحال، وإن كان وقوعه في (أمس). ولو خبّرت عن زيد بالضحك لم يجز أن يكون إلا بلفظ الماضي، ولم تقل إلا: ضحك زيد؛ وكذلك جاءني زيد يضحك أبوه، إذا كان متصلا بزيد؛ فإذا لم تجعله متصلا بزيد قلت: ضحك أبو زيد أمس، ولم يكن إلا ماضيا. وقال أبو الحسن الأخفش: (¬2) ما سرت حتى أدخلها، معنى الرفع فيه صحيح، إلا أن العرب لم ترفع غير الواجب في باب (حتى)، ألا ترى أنك لو قلت: ما سرت فأدخلها، أي ما كان سير ولا دخول، أو قلت: ما سرت فإذا أنا داخل الآن لا أمنع، كان حسنا. وغلط أبو الحسن، وذلك أن الدخول في (حتى) إذا رفع إنما يقع بالسير، فإذا نفى السير لم يكن دخول. ¬

_ (¬1) البيت لرجل من سلول من بحر الكامل، الخزانة 1/ 357؛ والكتاب 3/ 24، الدرر: 1/ 278. (¬2) الأخفش: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء البلخي ثم البصري أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط نحوي عالم باللغة والأدب من أهل بلخ، سكن البصرة وأخذ العربية من سيبويه، وله تصانيف منها: شرح أبيات المعاني، تفسير معاني القرآن معاني الشعر، كتاب الملوك. زاد في العروض بحر (الخبب). توفي 215 هـ.

هذا باب ما يكون العمل فيه من اثنين

قال أبو سعيد: والذي عندي أن أبا الحسن أراد أن ما يدخل على قولك: سرت حتى أدخلها بعد وجوب بالرفع، فتبقى جملة الكلام، فلذلك رآه صحيحا في القياس، وإن كانت العرب لا تتكلم به. هذا باب ما يكون العمل فيه من اثنين قال سيبويه: " وذلك قولك: سرت حتى يدخلها زيد، إذا كان دخول زيد لم يؤده سيرك، ولم يكن سببه، فيصير هذا كقولك: سرت حتى تطلع الشمس، لأن سيرك لا يجوز أن يكون سببا لطلوع الشمس، ولا يؤديه، ولكن لو قلت: سرت حتى يدخلها ثقلي، وسرت حتى يدخلها بدني، لرفعت، لأنك جعلت دخول ثقلك يؤديه سيرك، وبدنك لم يكن دخوله إلا بسيرك. وبلغنا أن مجاهدا قرأ الآية: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ (¬1)، وهي قراءة أهل الحجاز. وتقول: سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها، وتقول: سرت حتى أدخلها ويدخلها زيد، إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك، وهو الذي أدّاه، ولا تجد بدّا من أن تجعله هاهنا في تلك الحال، لأن رفع الأول لا يكون إلا وسبب دخوله سيره. وإذا كانت هذه حال الأول، لم يكن للآخر بد من أن يتبعه، لأنه يعطفه على دخولك في (حتى)؛ وذلك أنه يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها زيد، إذا كان سيرك يؤدي إلى دخوله، كما تقول: سرت حتى يدخلها ثقلي، وتقول: سرت حتى أدخلها، وحتى يدخلها زيد، لأنك لو قلت: سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس، كان جيدا وصارت إعادتك (حتى) كإعادتك له في (تبّا له) و (ويل له)، ومن عمرا؟ ومن أخو زيد؟ وقد يجوز أن تقول: سرت حتى يدخلها عمرو، إذا كان أداه سيرك؛ ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [البقرة: 214]. واعلم أنه لا يجوز: سرت حتى أدخلها، وتطلع الشمس، هذا محال، لأن طلوع الشمس لا يكون أن يؤديه سيرك، فترفع (تطلع الشمس) وقد حلت بينه وبين (حتى). ويحسن أن تقول: سرت حتى تطلع الشمس وحتى أدخلها، كما تقول: سرت إلى يوم الجمعة وحتى أدخلها، وقال امرؤ القيس: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 214.

سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم … .. وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (¬1) فهذه الآخرة هي التي ترفع. وتقول: سرت وسار حتى ندخلها، كأنك قلت: سرنا حتى ندخلها؛ وتقول: سرت حتى أسمع الأذان، هذا وجهه، وحدّه النصب، لأن سيرك ليس يؤدي سمعك الأذان، إنما يؤديه الصبح؛ ولكنك تقول: سرت حتى أكلّ، لأن الكلال يؤديه سيرك. وتقول: سرت حتى أصبح، لأن الإصباح لا يؤديه سيرك، إنما هي غاية طلوع الشمس. وفي نسخة أبي بكر مبرمان (¬2) وغيرها، قال أبو الحسن: أنا أزعم أن (حتى) هذه التي ترفع ما بعدها ليست (حتى) التي تنصب ما بعدها. قال أبو سعيد: قد ذكرنا أن رفع الفعل بعد (حتى) بإيجاب ما قبله له وتأديته إليه، فإذا قلت: سرت حتى أدخلها جاز أيضا أن يدخلها من يتبعك ومن يسير بسيرك من أجير وعبد وصاحب ورفقة، كنت أنت بسيرك سببا لسيرهم المؤدي إلى الدخول، وكذلك ما معك من ظهر وثقل، دخوله بسيرك لأنه تابعك. وقوله: لا يجوز سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس، لأن تطلع الشمس، لا يرتفع أبدا، لأن السير لا يؤدي إليه، ولا يكون سببا له، فبطل عطفه على (أدخلها)؛ ولا يجوز نصبه وليس قبله ما ينصبها، لأن (حتى) إذا ارتفع ما بعدها فليست هي (حتى) التي تنصب الفعل بعدها، وقد ذكرنا هذا فيما مضى. ولو أعاد (حتى) وجعلها ناصبة فقال: سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس جاز. وأما قوله: وقد حلت بينه وبين (حتى)، يعني أنك حلت ب (أدخلها) المرفوعة بين (تطلع) وبين (حتى) الناصبة كأن (أدخلها). لو لم يكن، وكان في موضعها (تطلع ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص 93، ابن يعيش 5/ 79، 8/ 19؛ الكتاب 3/ 27، 626؛ المقتضب 2/ 72. (¬2) مبرمان: محمد بن علي بن إسماعيل العسكري، أبو بكر المعروف بمبرمان من كبار العلماء بالعربية من أهل بغداد ولد في طريق رامهرمز وأخذ عن المبرد والزجاج وأخذ عنه الفارسي والسيرافي من كتبه " شرح شواهد سيبويه " النحو المجموع على العلل. (العيون)، و (التلقين)، شرح كتاب سيبويه.

الشمس) لجئنا (حتى) الناصبة في موضع (حتى) التي يرتفع الفعل بعدها، فهذه حيلولة ما بين (حتى) وبين (تطلع) وإنما خالفوا بين (أدخلها) وبين (حتى) المعدومة كما تقول: حلت بين زيد وبين الأكل، وحلت بينه وبين الغسل إذا منعته من فعلهما فهما معدومان؛ وأما بيت امرئ القيس، فلو رفع (بكل) لجاز، ولكنه نصب ليريك جواز عطف (حتى) على (حتى)، وهما مختلفان في النصب والرفع، لأن الأولى قد نصبت (بكل)، والثانية بعدها مبتدأ وخبر، فلو وقع موقع المبتدإ فعل لكان مرفوعا. وقد فرع أصحابنا مسائل في باب (حتى) رأيت ذكرها متصلا بهذا الباب. تقول: سرت حتى مطلع الشمس، وسرت حتى الظهر، ومنه قول الله- عز وجل- سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (¬1) ولا يجوز أن تقول: سرت حتى الشام، ولا سرت حتى مكانك، إلا أن تذكر الأمكنة قبلها، والجملة التي بعد (حتى) جزء منها، فتكون كالغايات بعد (حتى)، وذلك قولك: دخلت المدن حتى الشام، وسرت على الجسور حتى جسر بغداد، ولا يحتاج في الأزمنة إلى ذلك، لأن الأزمنة تحدث على ترتيب، وشبهت بالأفعال، و (حتى) تقع على الأفعال كلها، فصار قولك: قف حتى تطلع الشمس، وحتى طلوع الشمس بمنزلة، وكذلك المصادر كلها: قف حتى مجيء زيد، وحتى قيام الأمير. ولو قلت: أخذت من الدار حتى أقصاها، لم يجز، لأنك لم تذكر ما أقصاها جزء منه، ولو قلت: أخذت الدار حتى أقصاها جاز؛ ولو قلت: أقمنا حتى اليوم، وحتى الليلة، وحتى العشية، وحتى الغداة، والساعة، والعام حسن. ولو قلت: أقمنا حتى الشهر، وحتى السنة، واليومين، والليلتين، والشهور، والأشهر لم يجز، فإن نعته بما يزيل عنه الإبهام جاز، كقولك: أقمنا حتى الشهر المستطاب؛ وإنما جاز هذا فيما أجزناه فيه لأنه وقت مخصوص لا إبهام فيه، وذلك أنهم يقولون: أنا اليوم خارج، وأنا اليوم صائم، وأنا الليلة عندك، وأنا العام حاج، فيعلم ما اتفقوا عليه واعتادوه، أنه يراد اليوم الذي هو فيه، والعام الذي هو فيه؛ ولا يقولون: أنا الشهر خارج، وهم يريدون الشهر الذي هم فيه. وإذا قلت: أنا اليومين صائم، لم يعلم به يومان بأعيانهما حتى تزيد فيه ما يزيل الإبهام مثل: أنا اليومين المتصلين باليوم صائم، فقس على ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة القدر، الآية: 5.

هذا باب الفاء

هذا باب الفاء اعلم أن ما انتصب في باب (الفاء) فإنه ينتصب على إضمار (أن)، وما لم ينتصب فإنه يشرك الفعل الأول فيما دخل فيه، أو يكون في موضع مبتدإ، أو مبني على مبتدإ، أو موضع اسم مما سوى ذلك. وسأبين ذلك إن شاء الله. تقول: لا تأتيني فتحدثني، لم ترد أن تدخل الآخر فيما دخل فيه الأول، فتقول: لا تأتيني ولا تحدثني، ولكنك لمّا حولت المعنى عن ذلك تحوّل إلى الاسم؛ كأنك قلت: ليس يكون منك إتيان فحديث، فلّما أردت ذلك استحال أن تضمّ الفعل إلى الاسم، فأضمروا (أن)، لأن (أن) مع الفعل بمنزلة الاسم؛ فلم نووا أن يكون الأول بمنزلة قولهم: لم يكن إتيان، استحالوا أن يضموا الفعل إليه، فلما أضمروا (أن) حسن، لأنه مع الفعل بمنزلة الاسم. و (أن) لا تظهرها هنا لأنه لا يقع فيها معان لا تكون في التمثيل، كما لا يقع معنى الاستثناء في (لا يكون) ونحوها إلا أن تضمر؛ ولولا أنك إذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، لم يجز: فأحدثك، كأنك قلت في التمثيل: فحديث؛ وهذا تمثيل ولا يتكلم به بعد (لم آتك)، لأنك لا تقول: لم آتك فحديث، فكذلك لا تقع هذه المعاني في (الفاء) إلا بإضمار (أن)، ولا يجوز إظهار (أن). كما لا يجوز إظهار المضمر في (لا يكون) ونحوها. فإذا قلت: لم آتك، صار كأنك قلت: لم يكن إتيان، ولم يجز أن تقول: فحديث، لأن هذا لو كان جائزا لأظهرت (أن). ونظير جعلهم لم آتك، ولا آتيك، وما أشبه ذلك بمنزلة الاسم في النية، حتى كأنهم قالوا: لم يك إتيان، إنشاد بعض العرب قول الأحوص اليربوعي: مشائيم ليسوا مصلحيين عشيرة … ولا ناعب إلّا ببين غرابها (¬1) ومثله قول الفرزدق: وما زرت سلمى أن تكون حبيبة … إليّ ولا دين بها أنا طالبه (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه؛ وكتب في الكتاب أنه للفرزدق: 123؛ انظر الخزانة 4/ 158؛ الكتاب 1/ 165، 3/ 29. (¬2) البيت في ديوانه 1/ 84، الكتاب 3/ 29.

جرّه لأنه صار كأنه قال: لأن، ومثله قول زهير: بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى … ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (¬1) لما كان الأول تستعمل فيه (الباء) ولا تغير المعنى، وكانت مما يلزم الأول، نونّها في الحرف الآخر، حتى كأنهم تكلموا بها في الأول. وكذلك صار (لم آتك) بمنزلة لفظهم (فلم يكن إتيان) لأن المعنى واحد. واعلم أن ما ينتصب في باب (الفاء) قد ينتصب على غير معنى واحد، وكان ذلك على إضمار (أن) إلا أن المعاني مختلفة، كما أن (يعلم الله) يرتفع كما يرتفع (يذهب زيد)، و (علم الله) ينتصب كما ينتصب (ذهب زيد)، وفيهما معنى اليمين. والنصب هاهنا في التمثيل كأنك قلت: لم يكن إتيان فأن تحدّث، والمعنى على غير ذلك، كما أن معنى (علم الله لأفعلن) غير معنى (رزق الله)، ف (أن تحدّث) في اللفظ مرفوع ب (يكن)، لأن المعنى: لم يكن إتيان فيكون حديث. وتقول: ما تأتينا فتحدثنا، فالنصب على وجهين من المعاني: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني؟ أو لو أتيتني لّحدثتني. وأما الآخر: فما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك. وإن شئت شركت بين الأول والآخر، فدخل الآخر فيما دخل فيه الأول، فتقول: ما تأتيني فتحدثني فكأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني. فمثل النصب قول الله- تبارك وتعالى-: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا (¬2)، ومثل الرفع قوله- سبحانه-: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (¬3) أي: وما يعتذرون. وإن شئت رفعت على وجه آخر، كأنك قلت: فأنت تحدّثنا، ومثل ذلك قول بعض الحارثيين: غير أنّا لم تأتنا بيقين … فنرجّي ونكثر التأميلا (¬4) وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا، فالنصب فيه كالنصب في الأول؛ وإن شئت رفعت ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 87، ابن يعيش 2/ 52؛ الكتاب 2/ 51. (¬2) سورة فاطر، الآية: 36. (¬3) سورة المرسلات، الآيتان 35، 36. (¬4) البيت في ديوانه؛ الخزانة 8/ 38؛ ابن يعيش 7/ 36؛ الكتاب 3/ 31.

على: فأنت تحدّثنا الساعة، والرفع فيه يجوز على (ما). وإنما اختير النصب لأن الوجه هاهنا وحدّ الكلام أن تقول: ما أتيتنا فحدثتنا، فلما صرفوه عن هذا ضعف أن يضموا (تفعل) إلى (فعلت)، فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضموه إلى الاسم في قولهم: ما أنت منا فتنصرنا ونحوه. وأما الذين رفعوه فحملوه على موضع (أتيتنا)، لأن (أتيتنا) في موضع فعل مرفوع، و (تحدثنا) هاهنا في موضع (حدّثتنا). وتقول: ما تأتينا فتكلّم إلا بالجميل، فالمعنى: أنك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل، ونصبه على إضمار (أن)، كما كان نصب ما قبله على إضمار (أن)، وتمثيله كتمثيل الأول؛ وإن شئت رفعت على الشّركة كأنه قال: وما تكلّم إلا بالجميل. ومثل النصب قول الفرزدق: وما قام منّا قائم في ندينّا … فينطق إلّا بالتي هي أعرف (¬1) وتقول: لا تأتينا فتحدّثنا إلا ازددنا فيك رغبة، والنصب هاهنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدّثني، إذا أردت معنى: ما تأتيني فتكون محدّثا، وإنما أراد معنى: ما أتيتني فتكون محدثا إلا ازددت فيك رغبة، ومثل ذلك قول اللعين المنقري: وما حلّ سعدىّ غريببا ببلدة … فينسب إلا الزّبرقان له أب (¬2) وتقول: لا يسعني شئ فيعجز عنك، أي: لا يسعني شئ فيكون عاجزا عنك ولا يسعني شئ إلا لم يعجز عنك. هذا معنى الكلام، وإن حملته على الأول قبح المعنى، لأنك لا تريد أن تقول: إن الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك فهذا لا ينويه أحد وتقول: ما أنت منا فتحدثنا، ولا يكون الفعل محمولا على (ما)، لأن الذي قبل الفعل ليس من الأفعال فلم يشاكله، قال الفرزدق: ما أنت من قيس فتنبح دونها … ولا من تميم في اللها والغلاصم (¬3) وإن شئت رفعت على قوله: فترجّى وتكثر التّأميلا (¬4) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 2/ 29؛ الخزانة 8/ 540. (¬2) البيت في ديوانه؛ الخزانة 3/ 207، 8/ 541، 543، الكتاب 3/ 32. (¬3) البيت في ديوانه 2/ 313؛ الكتاب 3/ 33؛ المقتضب 2/ 117. (¬4) سبق تخريجه.

وتقول: ألا ماء فأشربه، وليته عندنا فيحدّثنا، وقال أمية بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منّا فيخبرنا … ما بعد غايتنا من رأس مجرانا (¬1) لا يكون في هذا إلا النصب لأن الفعل لم تضمه إلى فعل. وتقول: ألا تقع إلى الماء فتسبح، إذا جعلت الآخر على الأول، كأنك قلت: ألا تسبح؛ وإن شئت نصبته على ما انتصب عليه ما قبله، كأنك قلت: ألا يكون وقوع فأن تسبح. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. والمعنى في النصب أنه يقول: إذا وقعت سبحت. وتقول: ألم تأتنا فتحدثنا، إذا لم يكن على الأول؛ وإن كان على الأول جزمت، ومثل النصب قوله: ألم تسأل فتخبرك الرّسوم … على مرتاج والطّلل القديم (¬2) وإن شئت جزمت على أول الكلام. وتقول: لا تمددها فتشقّها، إذا لم تحمل الآخر على الأول، وقال الله: - عز وجل-: قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ (¬3) وتقول: لا تمددها فتشقها. إذا شركت بين الآخر والأول كما شاركت بين الفعلين في (لم). وتقول: ائتني فأحدثك، وقال أبو النجم: يا ناق سيري عنقّا فسيحا … إلى سليمان فنستريحا (¬4) ولا سبيل هاهنا إلى الجزم، قبل أن هذه الأفعال التي يدخلها الرفع والنصب والجزم وهي الأفعال المضارعة، لا تكون في موضع (افعل) أبدا، لأنها إنما تنتصب وتنجزم بما قبلها، و (افعل) مبنية على الوقف. فإن أردت أن تجعل هذه الأفعال أمرا أدخلت (اللام) وذلك قولك: ائته فليحدثك، وفيحدثك إذا أردت المجازاة؛ ولو جاز الجزم في: ائتني فأحدثك ونحوها لقلت: تحدثني، تريد الأمر. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 64؛ الخزانة 1/ 284؛ الكتاب 3/ 33. (¬2) البيت منسوب للبرج بن مسهر الطائي؛ الكتاب 3/ 12؛ لسان العرب 2/ 344. (¬3) سورة طه، الآية: 61. (¬4) البيت في ديوانه؛ ابن يعيش 7/ 26؛ الكتاب 3/ 34.

وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا، إذا جعلته جوابا ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان؛ وإن أردت: فحدثتنا، رفعت. وتقول: كأنك لم تأتنا فتحدثنا؛ وإن حملته على الأول جزمته. وقال رجل من بني دارم: كأنّك لم تذبح لأهلك نعجة … فيصبح ملقى بالفناء إهابها (¬1) وتقول: ودّ لو تأتيه فتحدثه. والرفع جيد على معنى التمني؛ ومثله قول الله- عز وجل-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (¬2). وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودوا لو تدهن فيدهنوا. وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا لم يكن الوثوب واقعا، ومعناه: أن لو شتمني لو ثبت عليه. وإن كان الوثوب قد وقع فليس إلا الرفع، لأن هذا بمنزلة قوله: ألست قد فعلت فأفعل. واعلم أنك إن شئت قلت: ائتني فأحدثك، ترفع. وزعم الخليل: أنك لم ترد أن تجعل الإتيان سببا لحديث، ولكنك كأنك قلت: ائتني فأنا ممن يحدثك البتة، جئت أو لم تجئ. قال النابغة الذبياني: ولا زال قبر بين تبنى وجاسم … عليه من الوسميّ جود ووابل فينبت حوزانا وعوفا منوّرا … سأتبعه من خير ما قال قائل (¬3) وذلك أنه لم يرد أن يجعل النبات جوابا لقوله: (ولا زال)، ولا أن يكون متعلقا به، ولكنه دعا ثم أخبر بقصة السحاب، كأنه قال: فذاك ينبت حوزانا ولو نصب هذا البيت- قال الخليل- لجاز، ولكنا قبلناه رفعا وقال: ألم تسأل الرّبع القواء فينطق … وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق (¬4) لم يجعل الأول سببا للآخر، ولكنه يجعله ينطق على كل حال، كأنه قال: فهو مما ينطق، كما قال: ائتني فأحدثك، فجعل نفسه مما يحدثه على كل حال. وزعم ¬

_ (¬1) البيت منسوب لسويد بن الطويلة؛ الكتاب 3/ 35. (¬2) سورة القلم، الآية: 9. (¬3) البيت في ديوانه 90، 121؛ الكتاب 3/ 35؛ المقتضب 2/ 21. (¬4) البيت منسوب لجميل بثينة ديوانه 137؛ ابن يعيش 7/ 36؛ الكتاب 3/ 37.

يونس: أنه سمع هذا البيت ب (ألم) وإنما كتبت هذا لأن لا يقول إنسان: فلعلّ الشاعر قال: (ألا). وسألت الخليل عن قول الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته … تقضّى لبانات ويسأم سائم (¬1) فرفعه وقال: لا أعرف فيه غيره، لأن أول الكلام خبر وهو واجب، كأنه قال: ففي حول تقضىّ لبانات ويسأم سائم. هذا معناه. واعلم أن (الفاء) لا تضمر فيها (أن) في الواجب، ولا يكون في هذا الباب إلا الرفع، وسنبين لم ذلك. وذلك قوله: إنه عندنا فيحدثنا، وسوف آتيه فأحدثه، ليس إلا، إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأول، وإن شئت كان منقطعا، لأنك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلا الرفع، وقال الله- تبارك وتعالى-: فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ (¬2)، فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلمون، ليجعلا كفره سببا لتعليم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون، أي: فهم يتعلمون؛ ومثله: كُنْ فَيَكُونُ (¬3) كأنه قال: إنما أمرنا ذلك فيكون. وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الاضطرار- من حيث انتصب في غير الواجب- وذلك أنك تجعل (أن) العاملة؛ فمما نصب في الشعر اضطرارا قول الشاعر: سأترك منزلي لبني تميم … وألحق بالحجاز فأستريحا (¬4) وقال الأعشى، وأنشدناه يونس: ثمّت لا تجزونننى عند ذاكم … ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (¬5) وهو ضعيف في الكلام؛ وقال طرفة: لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها … ويأوي إليها المستجير فيعصما (¬6) وكان أبو عمرو يقول: لا تأتنا فنشتمك. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 3/ 65؛ الكتاب 3/ 38؛ المقتضب 1/ 27. (¬2) سورة البقرة، الآية: 102. (¬3) سورة النحل، الآية: 40. (¬4) البيت منسوب للمغيرة بن ضياء؛ الكتاب 3/ 39، 92؛ المقتضب 2/ 24. (¬5) البيت في ديوانه 167؛ الخزانة 7/ 421؛ الكتاب 3/ 39. (¬6) البيت في ديوانه 159؛ الكتاب 3/ 40؛ المقتضب 2/ 24.

وسمعت من يقول: ما أتيتني فأحدثك فيما أستقبل، فقلت له: ما تريديه؟ فقال: أريد أن أقول: ما أتيتني فأنا أحدثك وأكرمك فيما أستقبل. وقال: هذا مثل: ائتني فأحدثك إن أراد: ائتني فأنا صاحب هذا. وسألته عن قول الله- تبارك وتعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً (¬1) فقال: هذا واجب، وهو تنبيه، كأنك قلت: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان وكان كذا؛ وإنما خالف الواجب النفي، لأنك تنقض النفي فتقول: ما أتيتني قط فتحدثني إلا بالبشر، فقد نقضت نفي الإتيان إذا نصبت وتغير المعنى يعني أنك تنفي الحديث وتوجب الإتيان، وزعمت أنه قد كان. وتقول: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى: فكيف تحدثني، فأنت لا تنفي الحديث، ولكنك زعمت أن منه الحديث، وإنما يحول بينك وبينه ترك الإتيان. وتقول: ائتني فأحدثك، فليس هذا من الأمر الأول في شيء. وإذا قلت: قد كان عندنا فسوف يأتينا فيحدثنا، لم تزد على أن جئت بواجب كالأول، فلم يحتاجوا إلى (أن) لما ذكرت، ولأن تلك المعاني لا تقع هاهنا؛ ولو كانت (الفاء) و (الواو) و (أو) ينصبن لأدخلت عليها (الواو) و (الفاء) للعطف، ولكنها ك (حتى) في الإضمار والبدل، شبهت بها لما كان النصب فيها الوجه، لأنهم جعلوه الموضع الذي يستعملون فيه إضمار (أن) بعد (الفاء)، كما جعلوه في (حتى)، إنما يضمر إذا أراد معنى الغاية، وك (اللام) فيما كان ليفعل. قال أبو سعيد: ((الكلام في الجواب ب (الفاء) من وجهين: أحدهما الناصب للفعل. والآخر إذا أضمر (أن) الناصبة للفعل (المضمرة)، لم لا يجوز إظهارها؟ فأما الناصب فقال سيبويه: الناصب (أن) مضمرة بعد (الفاء). وقال أبو عمر الجرمي: الواو، والفاء، وأو هي الناصبة بأنفسها. وقال الفراء: (الفاء) تنصب في جواب الستة، لأنها عطفت ما بعدها على غير شكله لمّا قيل: لا تظلمني فتندم، دخل النّهي على الظلم، ولم يدخل على الندم، فحين ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 63.

عطفت فعلا على فعل لا يشاكله في معناه، ولا يدخل عليه حرف النهي كما دخل على الذي قبله، استحق النصب بالخلاف، كما استحق ذلك الاسم المعطوف على ما لا يشاكله في قولهم: لو تركت والأسد لأكلك، من قبل أن الأفعال فروع الأسماء؛ فإذا كان الخلاف في الأصل يوجب النصب، كان ذلك قائما صحيحا في الفرع. والخلاف الذي يوجب النصب في الأسماء عندهم أشياء منها: نصب الظروف بعد الأسماء. كقولك: زيد خلفك، وزيد عندك، لما خالف (خلفك) و (عندك) ما قبلهما انتصبا بالخلاف، وقد تكلمت على هذا فيما مضى. ومنها ما قاله الفراء وأصحابه: لو تركت والأسد لأكلك، (الأسد) منصوب على الخلاف في (التاء)، لأنه لا يصلح أن يقال: لو تركت وترك الأسد، من قبل أن الأسد لا يقدر عليه فيمسك ويترك؛ ثم قال بعد هذا: فإذا قالت العرب: لو ترك زيد والأسد لأكله، آثروا الرفع لموافقة الأسد زيدا، لأنها ظاهران)). قال أبو سعيد: إن كان مخالفة الثاني للأول؛ لأن الأول مكني والثاني ظاهر، فلا فرق بين (لو تركت والأسد) وبين (ضربت وزيد) و (قمت وزيد) أكّد الضمير أو لم يؤكّد؛ وإن كان الخلاف بين الأول والثاني لأن التّرك في الأول على غير وجه ترك الثاني، فلا فرق بين الاسمين الظاهرين وبين الاسمين إذا كان أحدهما مضمرا في مخالفة أحدهما للآخر في الترك. واحتجاج الذي احتج للخلاف بأنه لا يصلح أن يقال: لو تركت وترك الأسد من قبل أن الأسد عليه فيمسك ويترك ركيك جدا، لأن الخلاف إذا كان من أجل أن الأسد لا يقدر عليه، إذا قلنا: لو ترك زيد والأسد، وهذا كلام صدر عن غير تأمّل. ومما يفسر قول من جعل النصب بالخلاف في الأسماء، وقاس الفعل عليه، العطف الذي يوفق بين الإعرابين، ويخالف بين المعنيين في الأسماء، وذلك قولك: ما مررت بزيد لكن بعمرو، وما قام زيد لكن عمرو وما رأيت زيدا لكن عمرا؛ وما بعد (لكن) يخالف ما قبلها؛ وكذلك (لا) في العطف إذا قلت: جاءني زيد لا عمرو، ومررت بزيد لا عمرو ورأيت زيدا لا عمرا. وأما أبو عمر الجرمي فقد احتج عليه أبو العباس محمد بن يزيد وغيره بما احتج به سيبويه، وذلك أن سيبويه قال: لو كانت (الفاء) و (الواو) و (أو) ينصبن لأدخلت عليها (الفاء) و (الواو) للعطف؛ فلزم الجرمي مما قال سيبويه أن يقول: ما أنت بصاحبي فأكرمك، وفأحدثك، لأن (الفاء) هي الناصبة.

وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن وتأكل التمر، لأن (الواو) هي الناصبة؛ كما تقول: أريد أن تأكل السمك وأن تشرب اللبن وأن تدخل الحمام. ومما يشاكل ذلك أن (واو) القسم لما كانت هي الخافضة مكان (الباء)، جاز أن تدخل عليها حروف العطف فتقول: والله وو الرحمن وو الله ثم والله لأخرجن. و (الواو) التي تقع موقع (رب) وتغني عنها هي (واو) عطف، ولا يجوز دخول حرف عطف عليها، فإذا قلت: وبلد أقمت فيه، لم تقل: وو بلد أقمت فيه، وو رجل عاشرته، ولا ثم ورجل صادقته. واعلم أن (الفاء) - في الأصل- في جميع أماكنها عاطفة. وقد يتناول العامل الشيئين بإعراب واحد ولفظ واحد على وجهين مختلفين كقولك: لو ترك زيد وعمرو لضربه وكذلك لو ترك زيد والثريد لأكله، ولو ترك أخواك لظلم أحدهما الآخر؛ فلفظ الترك قد وقع عليهما، وهما مختلفان، لأن أحدهما ممنوع منه، ومعنى الترك لهما مختلف لا يظهر في اللفظ، وقد عرف معناه. والعطف ب (الفاء) على وجهين: أحدهما عطف ظاهر، والآخر عطف متأول. فالعطف الظاهر أن تعطف ما بعدها على ما قبلها، فتدخله في إعرابه، وظاهر معناه، ويكون حكمها حكم (ثم) في الإعراب والمعنى، كقولك: زيد يأتيك فيحدثك وأريد أن تأتيني فتحدثني وإن يأتك زيد فيحدثك تحسن إليه. ويجوز مكان ذلك (ثم) والمعنى واحد كقولنا: زيد يأتيك ثم يحدثك، وأريد أن تأتيني ثم تحدثني، وإن يأتك زيد ثم يحدثك تحسن إليه. والمنصوب بعد (الفاء) في هذا الوجه ليس بإضمار (أن)، بل بالناصب الذي نصب ما قبل (الفاء) وعطف عليه، كقولك: إذا آتيك فأسرك، وجئتك لكي أكلمك فأنفعك. وأما العطف المتأوّل فهو أن يكون ما قبل (الفاء) غير موجب، ويكون معلقا بما بعد (الفاء) شرطا على وجوه مختلفة أحوجت إلى التغيير وإضمار (أن) ليدل على تلك الوجوه؛ فمن ذلك: لا تأتيني فتحدثني. في (تحدثني) النصب من وجهين، والرفع من وجهين؛ فأما أحد وجهي النصب فأن يكون الإتيان منفيا نفيا. مطلقا، والحديث ممتنع من أجل عدم الإتيان؛ ولو وجد الإتيان لوجد الحديث.

والوجه الآخر معناه: ما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك؛ فالإتيان المنفي هو الإتيان الذي معه الحديث؛ فهذان الوجهان المقصودان في النصب هما منعا عطف (تحدثني) على (تأتيني) في الرفع لأنه إذا قال: لا تأتيني فتحدثني بالرفع، فليس أحدهما شرطا في الآخر؛ ويكون أحد وجهي الرفع أن تعطف (تحدثني) على (تأتيني)، وتكون (لا) مشتملة عليهما جميعا في النفي، فكأنه قال: لا تأتيني ولا تحدثني؛ فهذا عطف فعل على فعل، والنفي قد شملهما. والوجه الآخر أن يكون الإتيان منفيا والحديث موجبا، ويكون عطف جملة على جملة، كأنه قال: لا تأتيني ثم أنت تحدثني الآن، وليس تعلق أحدهما بالآخر، ولا هو شرط فيه؛ فلما لم يكن عطفه على ظاهر لفظه لئلا يبطل المعنى المقصود، ردوه في التقدير إلى ما لا يبطل معناه فجعلوا الأول في تقدير مصدر وإن لم يكن لفظه لفظ المصدر الظاهر؛ وجعلوا الثاني مقدرا بمصدر ليس بظاهر؛ فلذلك قدرت (إن) فعملت ولم تظهر، وكان التغيير والتقدير والعدول عن الظاهر دلالة على المعنى المقصود؛ ولو أظهرت (أن) لكان المصدر قد ظهر، ولم يظهر في المعطوف عليه. وجعل التغيير لهما كالمشاكلة بينهما، واكتفى بذلك. يقوي هذا ما ذكره سيبويه من تقدير ما لا يتكلم به من قولك: أنا في القوم ليس زيدا، والتقدير: ليس بعضهم زيدا، ولا يتكلم بهذا؛ وقوله: ولا نائب على تقدير: ليسوا بمصلحين، لم يتكلم بذلك. ويقويه أيضا قولهم في الأسماء: إياك والأسد، ولا يظهر الفعل الذي ينصب (إياك والأسد)؛ وهذا التقدير في إضمار (أن) في جميع ما ينصب بجواب (الفاء) واحد، وإن كانت المعاني مختلفة، واختلافها أن جواب النفي على وجهين مختلفين، والنصب فيهما بإضمار (أن)، وتقدير مصدر للأول يعطف عليه مصدر للثاني. وجواب الاستفهام والأمر والنهي والتمني على غير المعنى في وجهي النصب في جواب الجحد، لأن قولك: لا تأتيني فأحدثك على معنى: ما تأتيني فكيف تحدثني، أو على معنى: ما لم تأتيني إلا لم تحدثني؛ وهذان المعنيان ليسا في جواب الاستفهام إذا قلت: هل عندك طعام فآكله، ولا في الجواب الأمر إذا قلت: ائتني فأكرمك؛ واتفاق العامل في ذلك مع اختلاف المعاني كقولك: يعلم الله، ويذهب زيد، لأن قولنا: (يعلم الله) ليس بفعل لله لأن الله- عز وجل- لم يزل عالما، (يذهب زيد) فعل له، فالمعنيان مختلفان، والرفع بهما واحد.

وأما قوله: ما أتيتنا فتحدثنا، وجها النصب في (تحدثنا) جيدان، وإن كان الفعل الأول ماضيا والجواب مستقبلا. وأما الرفع فأحد وجهيه جيد، والآخر ضعيف، وقد أجازه سيبويه على ضعفه. فأما الوجه الجيد فعلى قولك: ما أتيتنا فحدثتنا، فتنفي الإتيان والحديث؛ والجيد في ذلك وحد الكلام أن تعطف الماضي على الماضي. وأما الوجه الضعيف فعلى قولك: ما أتيتنا فأنت تحدثنا الساعة ولكن الذي رفعه جملة على أن (ما) إذا وقع بعدها فعل يعرب، لم يكن إلا مرفوعا، فصار موضع الماضي موضع رفع، فلذلك رفع المستقبل الذي بعده وهو في موضع (حدثتنا) ومعناه معنى: ما كنت تأتينا فتحدثنا، والإتيان والحديث منفيان فيما مضى. وقوله: ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل. ولا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة، وكل ما كان من هذا النحو مما فيه حرف الاستثناء إذا نصبت فهو على وجه واحد من وجهي النصب بعد الجحد، كأنك قلت: ما تأتينا متكلما إلا بالجميل، ولا تأتينا محدثا إلا ازددنا فيك رغبة. وأما قوله: لا يسعني شيء فيعجز عنك، فليس إلا وجه واحد، كأنك قلت: لا يسعني شيء إلا لم يعجز عنك، ولا يسعني شيء عاجزا عنك؛ ولو حملته على الوجه الآخر من النصب فسد الكلام، ولأن تقديره: لا يسعني شيء فكيف يعجز عنك ذلك الشيء، ومن المحال أن كل ما لا يسعه لا يعجز عن المخاطب؛ والرفع في الوجهين أيضا فاسد؛ لأنه يؤول معناه إلى أنه لا يسعه شيء. وأما: ما أنت منا فتحدثنا، فلا يكون في ((فتحدثنا)) الرفع بالعطف على الأول. لأنه اسم تعطف الفعل عليه، ولكن على الاستئناف، وتقديره: فنحن نحدثك، كما قدّر في البيت (نحن): فنرجّى ونكثر التأميلا (¬1) وقوله: تأتينا فتحدثنا، على تقدير: ألم تأتينا محدثا؛ وكذلك كل موضع يدخل فيه حرف الاستفهام على حرف الجحد كان تقديره: على ما تأتينا محدثا، ويجوز فيه، وفيما جرى مجراه العطف على اللفظ على مذهب ثم كقولك: لا تمددها فتشققها، وألم تأتنا فتحدثنا. ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

ألم تسأل فتخبرك الرّسوم (¬1) وأما قوله: إلى سليمان فنستريحا (¬2) فالنصب في نستريح لا غير، ولا يجوز الجزم بالعطف على (سيري)، لأن (سيري) ليس بمجزوم لأنه فعل أمر وهو مبني ولا عامل فيه، وقد ذكر ذلك، وإن جزم فعلى مثل قوله: ... فاخمشي … لك الويل أو يبكي من بكى (¬3) محمول على المعنى. وقوله: ألست قد أتيتنا فتحدثنا، إذا جعلته جوابا، ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان كان معناه قبل دخول الاستفهام: ما أتيتنا فتحدثنا، فتنصبه بجواب الجحد، ثم تدخل ألف الاستفهام على المنصوب ولا يتغير فإن رفعته فعلى معنى: فحدثتنا، وهو مثل قولك: سرت فأدخلها، على معنى: فإذا أنا داخل؛ ومثله قوله: حسبته شتمني فأثب عليه، إذا كان الوثوب واقعا، لأن تقديره: فإذا أنا واثب عليه كقولك: سرت فأدخلها، إذا كان الدخول واقعا؛ وإذا لم يقع الوثوب فهو بمعنى: لو شتمني لو ثبت عليه، وهو بمنزلة: ما أتيتنا فتحدثنا، إذا لم يكن الحديث واقعا، فالنصب هو المختار. وقال أبو عمرو: حسبته شتمني فأثب عليه، أي كان منه شتمي فيكون مني الوثوب عليه؛ فلما جاء الثاني على غير مجيء الأول، لأن الأول ماض والثاني غير ماض نصبته، لأنه أشبه النفي وجوابه؛ وإن كنت قد وثبت رفعت؛ لأن معناه: حسبته كان منه شتمي فكان مني وثوب، فيجيء الثاني في معنى الأول؛ وأما: تقضّى لبانات ويسأم سائم (¬4) فالذي رواه الخليل في البيت الرفع، ولم يعرف غيره. وفي (كان) ضمير الأمر والشأن كما تقول: كان يقوم زيد، وكان يتكلم العمران، ونحوه. ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) جزء من بيت لمتمم بن نويرة، وتمامه: على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي … لك الويل حر الوجه أو يبكي من بكى ابن يعيش 7/ 60؛ الكتاب 3/ 9. (¬4) عجز بيت سبق تخريجه.

قال غيره: تقضّي لبانات ويسأم سائم يجعل (تقضّي) مصدرا، وهو اسم (كان) وليس في (كان) ضمير، ويسأم معناه: وأن يسأم، وهو عطف على (تقضّي) وتقديره: وأن تتقضّى لبانات وأن يسأم سائم. وإنما قبح إضمار (أن) بعد (الفاء) في الواجب، لأن الذي أحوجنا إلى إضمارها وتقدير الكلام على غير ظاهره، وحمله على غير لفظه، الدلالة على المخالفة بين الأول والثاني على ما بيناه. وإذا كان ذلك في الواجب، لم يقع خلاف بين الأول والثاني يحوجنا إلى ذلك التقدير؟ وذلك قوله: إنه عندنا فيحدثنا، وسوف آته فأحدثه، الأول والثاني واجبان على كل حال. أما قوله: سوف آته فأحدثه، فهما فعلان، قد عطف أحدهما على الآخر، وهما بمعنى واحد. وأما إنه عندنا فيحدثنا، فالثاني منقطع من الأول، وهو موجب مثله، إلا أنه عطف جملة على جملة، ومثله في الانقطاع من الأول قول الله- تبارك وتعالى-: فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ (¬1)، استأنف (يتعلمون) وأخبر به، وليس بعطف على ما قبله، كأنه قيل لهم: لا تتعلموا فيأبون فيتعلمون على جهة المخالفة، ومثله قول الله- عز وجل-: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (¬2). قوله (فيكون) ليس بجواب لكن لأن الكلام الأول وجوابه جميعا من كلام واحد غير منقطع أحدهما من الآخر، ولم يرد الله- عز وجل- أنه يقول للشيء كن فيكون، وكن فيكون منصوب لأن للشيء، والذي قيل للشيء (كن) فحسب، ثم خبّر عنه أنه يكون، فصار (يكون) كلاما منفردا مستأنفا، ودخلت عليه (الفاء) لأنه عطف جملة على جملة. وأما من قرأ (فيكون) بالنصب، فإنما يعطفه على المنصوب الذي قبله إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] معطوف على (نقول). وأما قراءة عبد الله بن عامر اليحصبي: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] فضعيفة؛ لأنه لا منصوب قبله فيعطف عليه، وإنما ينصب مثله في ضرورة الشعر؛ لأنه موجب، وما قبله موجب، وهو مثل: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 102. (¬2) سورة مريم، الآية: 35، وسورة يس، الآية: 82، وسورة غافر، الآية: 68.

هذا باب الواو

وألحق بالحجاز فأستريحا (¬1) ومثل: يأوي إليها المستجير فيعصما (¬2) ومثل: ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (¬3) ويروى: ليعصما، وليعقبا؛ ولو روي جميع ذلك باللام لكان مستقيما غير خارج من المعنى، ولا داخل في الضرورة، وألحق بالحجاز لأستريحا؛ ومثل (كن فيكون) قول الله- عز وجل-: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً (¬4). وقول الشاعر: فينبت حوذانا ... (¬5) لأن المرفوع في ذلك ليس بداخل في الكلام الذي قبله، ولا متصل به، وإنما هو بمنزلة (فيكون) بعد (كن)، وسائر في الباب قد أغنى عنه ما ذكرناه، وقد بان بكلام سيبويه. هذا باب الواو اعلم أن (الواو) ينتصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد (الفاء)، وأنها قد تشرك بين الأول والآخر كما تشرك (الفاء)، وأنها لا يستقبح فيها أن تشرك بين الأول والآخر كما استقبح ذلك في (الفاء)، وأنها يجيء ما بعدها مرتفعا منقطعا من الأول كما جاء ذلك في (الفاء). واعلم أن (الواو) وإن جرت هذا المجرى، فإن معناها ومعنى (الفاء) مختلفان، ألا ترى الأخطل قال: لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم (¬6) ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت سبق تخريجه. (¬3) البيت سبق تخريجه. (¬4) سورة الحج، الآية: 63. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه 404؛ الكتاب 3/ 42؛ المقتضب 2/ 26.

فلو دخلت (الفاء) هاهنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد لا يجتمعن النهي والإتيان، فصار (تأتي) على إضمار (أن). ومما يدلك أيضا على أن (الفاء) ليست كالواو فذلك قولك: مررت بزيد وعمرو، ومررت بزيد فعمرو، تريد أن يعلم بالفاء أنه بعد الأول، وليس (الواو) كذلك. وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فلو أدخلت (الفاء) هاهنا فسد المعنى، وإن شئت جزمت في النهي في غير هذا الموضع. قال جرير: فلا تشتم المولى وتبلغ أذانه … فإنّك إن تفعل تسفّه وتجهل (¬1) ومنعك أن تجزم الأول لأنه إنما أراد أن يقول له: لا تجمع بين اللبن والسمك، ولا ينهاه أن يأكل السمك على حدة، ويشرب اللبن على حدة؛ فإذا جزم فكأنه نهاه أن يأكل السمك على كل حال أو يشرب اللبن على كل حال. ومثل النصب في هذا الباب قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني … وبينكم الموّدة والإخاء (¬2) كأنه قال: لم أك هكذا ويكون بيني وبينكم. وقال دريد بن الصّمة: قتلت بعبد الله خير لداته … ذؤابا فلم أفخر بذاك وأجزعا (¬3) وتقول: لا يسعني شيء ويعجز عنك، فانتصاب الفعل هاهنا من الوجه الذي انتصب به في (الفاء)، إلا أن (الواو) لا يكون موضعها في الكلام موضع (الفاء). وتقول: ائتني وآتيك، إذا أردت ليكن إتيان منك وأن آتيك، تعني إتيان منك وإتيان مني، وإن أردت الأمر أدخلت (اللام)، كما فعلت ذلك في (الفاء) حيث قلت ائتني فلأحدثك. فتقول: ولآتك. ومن النصب في هذا الباب قول الله- تبارك وتعالى-: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (¬4)، وقد قرأ بعضهم: ((ويعلم الصابرين)). وقال الله- جل ثناؤه-: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 42. (¬2) البيت في ديوانه 54؛ الكتاب 3/ 23. (¬3) البيت في ديوانه 11، الكتاب 3/ 43. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 142.

تَعْلَمُونَ (¬1). وإن شئت جعلت (وتكتموا) على النهي، وإن شئت جعلته على (الواو). وقرئ: يا ليتنا ترد ولا تكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (¬2) فالرفع على وجهين: فأحدهما أن يشرك الآخر الأوّل، والآخر على قولك: دعني ولا أعود، أي فإني ممن لا يعود، وإنما يسأل الترك وقد أوجب على نفسه أن لا عودة له البتة، ترك أو لم يترك ولم يرد أن يسأل أن يجتمع له الترك وأن لا يعود. وأما عبد الله بن أبي إسحاق فكان ينصب هذه الآية. وتقول: زرني وأزورك، أي أنا ممن قد أوجب زيارتك على نفسه. ولم ترد أن تقول: لتجتمع منك من الزيارة وأن أزورك، تعني: لتجتمع منك الزيارة فزيارة منّي، ولكنه أراد أن يقول: زيارتك واجبة على كل حال، فلتكن منك زيارة. قال الأعشى: فقلت ادعي وادعو إنّ أندى … لصوت أن ينادى داعيان (¬3) ومن النصب أيضا قوله: للبس عباءة وتقرّ عيني … أحبّ إليّ من لبس الشفوف (¬4) لما لم يستقم له أن يحمل (وتقرّ عيني)، وهو فعل على (لبس) وهو اسم، لما ضممته إلى الاسم، وجعلت (أحبّ) لهما ولم ترد قطعة، لم يكن بد " من إضمار (أن). وسترى مثله مبينا. وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب، وهو لكعب الغنوي: وما أنا للشيّء الذي ليس نافعي … ويغضب منه صاحبي يقؤول (¬5) والرفع أيضا جائز حسن، كما قال قيس بن زهير بن جذيمة: فلا يدعني قومي صريحا لحرّة … لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (¬6) و (يغضب) معطوف على الشيء، ويجوز رفعه على أن يكون داخلا في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 42. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 27. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 45. (¬4) البيت منسوبا لميسون بنت بجدل؛ الخزانة 8/ 503؛ الكتاب 3/ 45؛ المقتضب 2/ 27. (¬5) البيت في ديوانه، ابن يعيش 7/ 36؛ الكتاب 3/ 46؛ المقتضب 2/ 19. (¬6) البيت في ديوانه، الخزانة 11/ 330؛ الكتاب 3/ 46.

صلة (الذي). قال أبو سعيد: الناصب بعد (الواو) أن، كما أن الناصب بعد (الفاء) أن، ومعناهما مختلف، كما أن معاني ما بعد الفاء مختلفة، وإن كان الناصب فيها كلها واحدا، ومعنى (الواو) في كل أحوال نصبها: الجمع؛ فإذا قلت: لا تنه عن خلق وتأتي مثله فمعناه: لا تجمع بين نهيك عن الشيء، وبين إتيانك إياه، وتقديره: لا يجتمع نهيك عنه وإتيانك إياه، كأنه قال: لا يكن نهي، عنه وإتيان إياه، وأن تأتيه، وحذف أن في (الواو) كحذفها في (الفاء)؛ ولو حملت (تأتي) على (تنه) فقلت: لا تنه عن خلق وتأت مثله- مجزوما- لاستحال، لأنك إذا قلت: لا تضرب زيدا وتكرم عمرا، فقد نهيته عن ضرب زيد على حدة وإكرام عمرو على حدة، وكل واحد منهما غير معلق بالآخر وكأنه قال: لا تضرب زيدا، ولا تكرم عمرا. فلو قال: لا تنه عن خلق وتأت مثله، لكان معناه: لا تنه عن خلق ولا تأت مثله، ولو قال هذا لكان قد نهاه أن ينهى عن شئ ونهاه أن يأتي شيئا من الأشياء، هذا محال فرد الأول والثاني في التقدير إلى غير ظاهر الكلام ليدل على أنه يريد لا تجمع بينهما. وذكر أبو علي عسل بن ذكوان قال: أخبرنا أبو عثمان قال: سمعت الأصمعي يقول: لم أسمعه إلا و (تأتي) بياء مرفوع على القطع. قال أبو سعيد: ولا يصح هذا إلا بأن تكون (الواو) في معنى الحال، كأنه قال: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، أي: وهذه حالك، وهذا في معنى النصب صحيح. ولو قلت: لا تنه عن خلق فتأتي مثله لأفسدت المعنى، لأنك إذا قلت: لا تضرب زيدا فيشتمك، فمعناه: متى ضربته شتمك؛ فلو قلت: فتأتي مثله، صار معناه: متى نهيت عن خلق أتيت مثله، وهذا غير المقصود؛ وليس مذهب (الواو) في الجواب كمذهب (الفاء)، مذهب (الواو): لا يجتمعن هذا وذاك؛ ومذهب (الفاء) على اختلافه يخالف مذهب (الواو). ومنع سيبويه جزم الثاني في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، لأن المقصود في كلام الناس والمعتاد ألا يجمع بينهما للضرر الذي يعتقد في الجمع بينهما. ولو أراد مريد أن ينهى عن أكل السمك على كل حال، وعن شرب اللبن على كل حال لقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؟ وقول الحطيئة:

ألم أك جاركم وتكون بيني … وبينكم المّودة والإخاء (¬1) أراد: ألم يجتمع لي الجوار والمودة، يؤكد الحرمة بيني وبينهم والوسيلة إليهم. وقول دريد: فلم أفخر بذاك وأجزعا (¬2) أي: لم أجمع الفخر والجزع. وقوله: ائتني وآتيك- على الجواب- فإن أراد أن يأمر في الثاني كما أمر في الأول، أدخل (اللام) فقال: ائتني ولآتيك، لا يجوز حذف (اللام) إلا في الشعر، لأنه لا مجزوم قبله فيعطفه عليه، وقد تقدم الكلام في نحوه. وأما قول الله- تبارك وتعالى-: فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (¬3). وكان عيسى بن عمر يقرأ (ولا تكذب بآيات ربنا ونكون) بالرفع ويجعلهما تمنيين معطوفين على (نرد)، وهذا أحد وجهي الرفع. الذي قال فيه سيبويه: فأحدهما أن يشرك الآخر الأول ويقول: إن الله- جل وعز- أكذبهم في تمنيهم على مذهب من يقول إن التمني خبر، فلذلك وقع عليه التكذيب. وكان أبو عمرو بن العلاء يقرأهما أيضا بالرفع على غير مذهب عبس، ولكن على الاستئناف على تأويل (ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين إن رددنا) والفعلان الآخران خبران غير متمنيين من أجلهما كذبهم، ولم يكن يرى التمني خبرا. ورفعهما في مذهب أبي عمرو على الوجه الآخر من وجهي الرفع الذي قال فيه سيبويه: والآخر على قوله: دعني ولا أعود، أي: فإني ممن لا يعود، فإنما يسأل الترك، وقد أوجب على نفسه ألا عودة له البتة ترك أو لم يترك. وأما قراءة عبد الله بن أبي إسحاق بنصب الفعلين الآخرين (ولا نكذب ونكون) فتقديره: يا ليتنا يجتمع لنا الرد وترك التكذيب والكون في جملة المؤمنين، وظاهر هذا التقدير يوجب أن الفعلين الآخرين متمنيان على ما ذكرنا من تقدير (الواو)، ولأن التمني إذا وقع لاجتماع هذه الأشياء فهي متمناة؛ ولو كان مكان الواو فاء فقيل: يا ليتنا نرد فلا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) عجز بيت سبق تخريجه. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 27.

نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين لتغير المعنى، وصار جوابا على معنى: متى وقع الرد لم يقع التكذيب. كقولك لا تضرب زيدا فيؤذيك، ومعناه: متى وقع الضرب أدى إلى الأذى، وتقديره: يا ليتنا يكون لنا رد وترك تكذيب. وأما قول الشاعر: للبس عباءة وتقرّ عيني (¬1) فلا بد من نصبه، لأن قوله (للبس) مبتدأ، و (تقر) عطف عليه، بمعنى: وأن تقرّ عيني، و (أحب إليّ) خبر لهما، وقد فضلا مجتمعين على (لبس الشفوف). ولو انفرد أحدهما بطل المعنى المراد، لأنه لم يرد: للبس عباءة أحب إليّ من لبس الشفوف، وهي الرقاق من الثياب، ولبس ذلك مما يختاره الناس، فمعناه: للبس عباءة مع قرة العين والسرور أحب إليّ من لبس الناعم، كما تقول: خبز الشعير مع السرور أحب إلىّ من خبز الجواري؛ فلما كان المعنى يضطر إلى ضم (تقر) إلى (لبس) ليكون أحب لهما، اضطر إلى إضمار (أن) والنصب وأما (يغضب منه) فإن الأجود فيه الرفع، وهو في صلة (الذي) عطفا على موضع (لبس)، وتقديره: الذي لا ينفعني ويغضب منه صاحبي، وعطفه على موضع (لا)؛ فهذا وجه ظاهر، قريب المتناول، صحيح المعنى، والنصب متأول ومعناه على ظاهره غير صحيح، لأنا إذا نصبناه قدرناه معطوفا على (الشيء)، وليس الشيء بمصدر ظاهر فيسهل عطفه عليه؛ فإذا عطفناه صار في موضع خفض باللام، واللام في صلة (قؤول)، فيصير التقدير: ما أنا لغضب صاحبي يقؤول، والغضب لا يكون مفعولا للقول؛ وباب جوازه: وما أنا للقول الذي يوجب غضب صاحبي بقؤول. ورد أبو العباس المبرد (¬2) على سيبويه تقديمه النصب على الرفع. والذي عندي أن سيبويه لم يقدم النصب على الرفع. قال أبو سعيد: والذي عندي أن سيبويه لم يقدم النصب لأن النصب هو المختار عنده، ولكن الباب للنصب دون الرفع، وإنما قدم ما يقتضيه الباب وما القصد إلى ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه. (¬2) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي، أبو العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمانه، وأحد أئمة الأدب مولده بالبصرة 210 هـ من كتبه الكامل، المذكر والمؤنث، التعازي والمراثي، إعراب القرآن. توفي 286 هـ.

هذا باب أو

ذكره فيه. وأما قوله: ويسلم عامر (¬1) فرفعه على أن (الواو) واو حال، كأنه قال: وعامر هذه حاله، وتأويله: وعامر يسلم، لأن (واو) الحال تطلب الأسماء المبتدأة، والنصب في (يسلم) أجود مثل قوله- عز وجل-: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (¬2). لأن معناه: لأن كنت مقتولا مع سلامة عامر. هذا باب أو واعلم أن ما انتصب بعد (أو) فإنه ينتصب على إضمار (أن) كما انتصب في (الفاء) و (الواو) على إضمارها، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في (الفاء) و (الواو)؛ والتمثيل هاهنا مثله ثمّ هذا تفسير لكلامه وقع في النسخ هكذا تقول إذا قال: لألزمنك أو تعطيني، كأنه قال: ليكن اللزوم أو أن تعطيني. واعلم أن معنى ما انتصب بعد (أو) على إلا (أن)، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل، تقول: لألزمنك أو تقضيني، ولأضربنّك أو تسبقني، والمعنى: لألزمنك إلا أن تقضيني، ولأضربنك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنمّا … نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (¬3) والقوافي منصوبة، والتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على: إلا أن نموت فنعذرا، وإلا أن تعطيني، كما كان تمثيل (الفاء) على ما ذكرت لك، وفيه المعاني التي فصلت لك. ولو رفعت كان عربيا جائزا على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر. وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول، يعني: ونحن ممن يموت. وفي القرآن: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 142. (¬3) البيت في ديوانه 66، ابن يعيش 7/ 222. (¬4) سورة الفتح، الآية: 16.

وإن شئت كان على الاشتراك، وإن شئت كان على: أو هم يسلمون. وقال ذو الرمة: حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة … على الخسف أو نرمي بها بلدا فقرا (¬1) فإن شئت لكان على ألا تنفك نرمي بها، أو على الابتداء. وتقول: الزمه أو يتقيك بحقك، واضربه أو يستقيم؛ وقال زياد الأعجم: وكنت إذا غمزت قناة قوم … كسرت كعوبها أو تستقيما (¬2) معناه: إلا أن، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء، لأنه لا سبيل إلى الاشتراك. وتقول: هو قاتلي أو افتدي منه؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال: أو أفتدي، وقال طرفة بن العبد: ولكنّ مولاي امرؤ هو خانقي … على الشّكر والتّسآل أو أنا مفتدى (¬3) وسألت الخليل عن قول الله- تبارك وتعالى-: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ (¬4) فزعم أن النصب محمول على (أن) سوى هذه التي قبلها؛ ولو كانت هذه الكلمة على (أن) لم يكن للكلام وجه، ولكنه لما قال: ((إلا وحيا)) كان في معنى: إلا أن يوحي، وكان (أو يرسل) فعلا لا يجري على (إلا)، فأجرى على (أن) هذه، كأنه قال: إلا أن يوحي أو يرسل، لأنه لو قال: إلا وحيا وإلا أن يرسل، كان حسنا، وكان (أن يرسل) بمنزلة الإرسال، فحملوه على (أن)، إذا لم يجز أن يقولوا: أو إلا يرسل، فكأنه قال: إلا وحيا أو أن يرسل قال الحصين بن الحمام المري: ولولا رجال من رزام أعزة … وآل سبيع أو أسوءك علقما (¬5) يضمر (أن) وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على (لولا) فأضمر (أن) كأنه قال: لولا ذاك، ولولا أن أسوءك. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 173، الخزانة 4/ 94؛ الكتاب 3/ 48. (¬2) البيت في ديوانه 101، الكتاب 3/ 48؛ المقتضب 2/ 92. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 49. (¬4) سورة الشورى، الآية: 51. (¬5) البيت في ديوانه، الخزانة 3/ 324؛ ابن يعيش 3/ 50.

وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ [الشورى: 51]. فكأنه قال- والله أعلم-: الله لا يكلم البشر إلا وحيا أو يرسل رسولا، أي في هذه الحال، وهذا كلامه إياهم، كما تقول العرب: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، وكلامك القتل؛ وقال عمرو بن معدي كرب: وخيل قد دلفت لها بخيل … تحية بينهم ضرب وجميع (¬1) وسألت الخليل عن قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا … أو تنزلون فإنّا معشر نزل (¬2) فقال: الكلام هاهنا على قولك: أيكون كذا، أو يكون كذا، لما كان موضعها لو قال فيه: أتركبون لم ينقض المعنى، صار بمنزلة قولك: ولا سابق شيئا (¬3) وأما يونس فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: وأنتم نازلون، على هذا الوجه فسّر الرفع في الآية، كأنه قال: أو هو يرسل رسولا، كما قال طرفة بن العبد: أو أنا مفتدى (¬4) وقول يونس أسهل، وأما ما قاله الخليل فجعله بمنزلة قول زهير: بدا ليّ أني لست مدرك ما مضى … ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (¬5) والاشتراك على هذا التوهم بعيد كبعد (ولا سابق شيئا). ألا ترى أنه لو كان هذا كهذا لكان في (الواو) و (الفاء)؛ وإنما توهم هذا فيما خالف معناه التمثيل. قال أبو سعيد: أصل (أو) العطف حيث كانت، والمنصوب بعدها على وجهين: أحدهما: أن يتقدم فعل منصوب بناصب من الحروف، ثم يعطف عليه ب (أو) كما يعطف بسائر حروف العطف، كقولك: أريد أن تخرج إلى الكوفة أو تلازم زيدا، أو مدحت الأمير كي يهب لي دنانير أو يحملني على دابة؛ ومعناها أحد الأمرين؛ وفي هذا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 149، الخزانة 9/ 252؛ الكتاب 3/ 32. (¬2) البيت في ديوانه 113؛ الخزانة 8/ 394؛ الكتاب 3/ 51. (¬3) هذا جزء من بيت قاله زهير بن أبي سلمى وقد سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه.

المعنى يجوز أن يكون ما بعدها مرفوعا ومجزوما، فالمرفوع نحو قولك: أنا ألزمك أو أخرج لك إلى صنيعتك؛ والمجزوم: ليخرج زيد إلى البصرة أو يقم في مكانه. والآخر: أن يخالف ما بعدها ما قبلها، ويكون معناها مع ما بعدها معنى (إلا أن) والفصل بين هذا وبين الأول أن الأول لا تعلق بين ما قبل (أو) وبين ما بعدها، وإنما هو دلالة على أحد الأمرين، وليس بين الأمرين ملابسة. كما لا ملابسة بين تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16]، إنما هو إخبار بوجود أحدهما. وكذلك أنا ألزمك أو أخرج إلى ضيعتك، بما هو إخبار بوجود لزوم أو وجود خروج إلى الضيعة، وهذا كعطف الاسم على الاسم ب (أو) كقولك: جاءني زيد أو عمرو ونحوه. والوجه الثاني: الفعل الأول فيه قبل (أو) كالعام في كل زمان، والثاني كالمخرج من عمومه، ولذلك صيّر معناه معنى (إلا أن)؛ ألا ترى أن قولك: (لألزمنك) متضمن للأوقات المستقبلة، وكذلك لأضربنك فإذا قلت أو تقضيني أو تسبقني، فقد أخرجت بعض الأوقات المستقبلة من ذلك المتضمّن وكأن التقدير: لألزمنك إلا الوقت الممتد الذي أوله قضاؤك لي، ولأضربنك إلا الوقت الذي أوله سبقك إياي؛ واجتمع (أو) و (إلا) في هذا المعنى للشبه الذي بينهما في العدول عما أوجبه اللفظ الأول؛ وذلك إذا قلنا: جاءني القوم إلا زيدا، فاللفظ الأول قد أوجب دخول (زيد) في القوم لأنه منهم، فإذا قلت (إلا)، فقد أبطلت ما أوجبه اللفظ الأول، وإذا قلت: جاءني زيدا وعمرو، فقد وجب المجيء لا لزيد في اللفظ قبل دخول (أو)، فلما دخلت بطل ذلك الوجوب؛ ولهذا المعنى احتيج إلى تقدير الفعل مصدرا وعطف الثاني عليه، فذلك التقدير على ما مضى في (الفاء)، وجاز: أو نموت فنعذر، على وجهين: بالعطف على (تحاول) وبالاستئناف؛ لأن المعنى لا يفسد وأما (تقاتلونهم أو يسلمون) فالثاني عطف على الأول، والذي يقع من ذلك أحد الأمرين إما القتال وإما الإسلام. وذكر أن في بعض المصاحف: أو يسلموا، ويسلموا نصب على معنى (إلا أن) فيجوز أن يقع القتال ثم يرتفع بالإسلام. وأما حراجيح لا تنفكّ إلا مناخة (¬1) فالأصمعي وأبو عمر الجرمي ومن بعدهما كانوا يقولون: أخطأ ذو الرمة، لأنه لا يقال: لا يزال زيد إلا قائما، كما لا يقال: يزال زيد قائما، لأن ذلك لا يستعمل إلا بلفظ ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه.

الجحد، وإذا استثنينا صار الجحد إيجابا، فلذلك لم يجز الاستثناء منه؛ و (لا تنفك) بمعنى: لا تزال. قال أبو سعيد: ولقول ذي الرمة وجهان صحيحان: أحدهما: أن يكون (تنفك) بغير معنى: تزال، ويكون بمعنى: انفك الشيء من الشيء إذا انفصل منه، كما يقال: فككت الغلّ عنه فانفك، وفككت زيدا مما وقع فيه فانفك منه. ويجوز دخول الاستثناء في هذا الوجه، تقول: ما انفك زيد إلا بعد شدّة، فيكون التقدير: لا ينفك من الشدة والسير إلا مناخة على الخسف؛ كما تقول: ما انفصل زيد من الموضع إلا مجهودا. والوجه الثاني: أن يكون (على الخسف) خبر (تنفك)، و (إلا مناخة) استثناء مقدم. فكأنا قلنا: لا تنفك مجهودة، كما تقول: لا تزال مجهودة إلا في حال إناختها، فإنها تستريح إذا أنيخت. وقوله: أو نرمى بها بلدا قفرا (¬1) فيه وجهان: الأول: أن يكون معطوفا على خبر (تنفك) وهو (على الخسف)، كأنك قلت: لا تزال على الخسف، ولا نزال نرمي بها بلدا قفرا؛ ويجوز أن يكون على الابتداء، أو نحن نرمي بها بلدا قفرا. ويجوز الرفع في: كسرت كعوبها أو تستقيما (¬2) فيقال: أو تستقيم، في غير هذه القصيدة، لأن (كسرت) في موضع رفع لأنه جواب (إذا)، وجوابها بالفعل المستقبل رفع. وأما قول الله- تبارك وتعالى-: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا (¬3). فقوله (يرسل) لا يجوز أن يكون معطوفا على ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) عجز بيت سبق تخريجه. (¬3) سورة الشورى، الآية: 51.

(يكلمه الله) ولا يكون الناصب له (أن) هذه الظاهرة، لأنا إذا أوقعنا (أن) هذه الظاهرة على (يرسل) صار التقدير: ما كان لبشر أن يرسل الله إليه رسولا وهذا فاسد في المعنى ولكنه محمول على ما بعد إلا وتقديره: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل إليه، وهو عطف مصدر على مصدر. وأما من قرأ: ((أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه)) فإنه يجعل (وحيا) بمنزلة (موحيا)، كما تقول: أتاني زيد مشيا أي ماشيا، فيكون (وحيا) الذي هو مصدر في موضع اسم الفاعل حالا، و (يرسل) فعل مستقبل في موضع اسم الفاعل حال معطوف على (وحيا)، تقول: جاءني زيد يضحك في معنى: ضاحكا. وأما قول الأعشى: أو تنزلون فإنّا معشر نزل (¬1) فقد ذكر سيبويه فيه قول الخليل على تقدير: أو تركبون أو تنزلون، وذكر عن يونس أنه يرفعه على الابتداء كأنه قال: أو أنتم نازلون قال وقول يونس أسهل. قال أبو سعيد: وفيه قول ثالث، وهو عندي أسهل من هذين القولين، وهو أن تقدر في موضع (إن تركبوا) إذا تركبون، لأن (إن) و (إذا) يجازى بهما وهما مقارنان في معنى ما يريده المتكلم، وإن كان بعد (إن) مجزوم، وبعد (إذا) مرفوع؛ فإذا قدرنا (أتركبون) وهو في معنى (أن تركبوا) عطفنا (أو تنزلون) عليه في التقدير. قال سيبويه: لما ذكر قول الخليل في (أو تنزلون) وعطفه على تقدير (أتركبون) وأنه جعله كقول زهير (ولا سابق شيئا) على تقدير: لست بمدرك ما مضى، والاشتراك على هذا التوهم بعيد كبعد (ولا سابق شيئا)، يعني بعد عطف (أتنزلون) على توهمهم (أتركبون) كبعد عطف (سابق) على توهم (بمدرك ما مضى)؛ ولو كان هذا كهذا التوهمّ في (الفاء) و (الواو) من غير ضرورة إلى ذلك. وقيل: هو يأتيك فيحدثك، على توهم: يكون منه إتيان فحديث؛ وإنما تفعل ذلك فيما خالف معناه التمثيل للضرورة نحو: لا تأته فيشتمك، على: لا يكون منك إتيان فشتيمة. وباقي الباب مفهوم مستغنى عن شرحه بما ذكره سيبويه أو بشرح نظائره. ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

هذا باب اشتراك الفعل في (أن) وانقطاع الآخر من الأول الذي عمل فيه (أن)

هذا باب اشتراك الفعل في (أن) وانقطاع الآخر من الأول الذي عمل فيه (أن) فالحروف التي تشرك: الواو، والفاء، وأو، وثم. وذلك قولك: أريد أن تأتيني ثم تحدثني، وأريد أن تفعل ذلك وتحسن، وأريد أن تأتينا فتبايعنا، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت: أريد أن تأتيني ثم تحدثني جاز، كأنك قلت: أريد إتيانك ثم تحدثني ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال، وقال- الله تبارك-: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ (¬1) ثم قال- عز وجل-: وَلا يَأْمُرَكُمْ (¬2)، فجاءت منقطعة من الأول، لأنه أراد: ولا يأمركم الله؛ وقد نصبها بعضهم على قوله: وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا. وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني، لم يرد الشتيمة، ولكنه أراد: كلما أردت إتيانك شتمتني؛ هذا معنى كلامه، فمن ثم انقطع من أن. قال: يريد أن يعربه فيعجمه (¬3) أي: فإذا هو يعجمه. وقال الله- تبارك وتعالى-: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ (¬4) أي: ونحن نقر في الأرحام، لأنه ذكر الحديث للبيان، ولم يذكره للإقرار؛ وقال الله- جل ثناؤه-: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (¬5) فانتصب لأنه أمرها بالإشهاد لأن تذكّر، ومن أجل أن تذكّر. فإن قال إنسان: كيف جاز أن نقول: أن تضلّ، ولم يعدّ هذا للضلال والالتباس؟ فإنما ذكر (أن تضلّ) لأنه سبب الإذكار، كما يقول الرجل: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 79. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 80. (¬3) البيت ورد منسوبا لرؤبة بن العجاج ونسب أيضا إلى الحطيئة، ملحقات ديوان رؤبة 186، ديوان الحطيئة 123. (¬4) سورة الحج، الآية: 5. (¬5) سورة البقرة، الآية: 282.

أعددته أن يميل الحائط فأدعمه، وهو لا يطلب بإعداده ذلك ميل الحائط، ولكنه أخبر بعلة الدّعم وسببه. وقرأ أهل الكوفة: (فتذكّر) رفعا. وسألت الخليل عن قول الشاعر: فما هو إلّا أن أراها فجاءة … فأبهت حتىّ ما أكاد أجيب (¬1) فقال: أنت في (أبهت) بالخيار، إن شئت حملتها على (أن). وإن شئت لم تحملها عليه، فرفعت، كأنك قلت: ما هو إلا الرأي فأبهت. وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعا من (أن): يعالج عاقرا أعيت عليه … ليلقحها فينتجها حوارا (¬2) كأنه قال: يعالج فإذا هو ينتجها، وإن شئت على الابتداء. وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد، وإن شئت رفعت، كأنك قلت: لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد. وتقول: ما عدا أن رآني فيثب، كأنه قال: ما عدا ذلك فيثب، لأنه ليس على أول الكلام، فإن أردت أن تحمل الكلام على (أن)، فإنّ أحسنه ووجهته أن تقول: ما عدا أن رآني فوثب، فضعف (يثب) هاهنا كضعف (ما أتيتني فتحدّثني) إذا حملت الكلام على (ما). وتقول: ما عدوت أن فعلت وهذا هو الكلام، وما أعدو أن أفعل، وما آلو أن أفعل، يعني: لقد جهدت أن أفعل. وتقول: ما عدوت أن آتيك، أي: ما عدوت أن يكون ذلك من رأى فيما يستقبل. ويجوز أن يجعل (أفعل) في موضع (فعلت) ولا يجوز (فعلت) في موضع أفعل إلا في مجازاة نحو: إن فعلت فعلت. وتقول: والله ما أعدو أن جالستك، أي: أن كنت فعلت ذلك: أي: ما أجاوز مجالستك فيما مضى، ولو أراد: ما أعدو أن جالستك غدا، كان محالا ونقضا، كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا. ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لكثير 522، الخزانة 2/ 17؛ الكتاب 3/ 54. (¬2) البيت في ديوانه 73، ابن يعيش 7/ 36؛ الكتاب 3/ 54.

وإنما ذكرت لك هذا التصرّف وجوهه ومعانيه، وألا تستحيل منه مستقيما، فإنه كلام يستعمله الناس. ومما جاء منقطعا من الأول قول عبد الرحمن بن أم الحكم: على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى … قضيته ألا يجوز ويقصد (¬1) كأنه قال: عليه غير الجور، ولكنه يقصد، أو هو قاصد، فابتدأ ولم يحمل الكلام على (أن)، كما تقول: عليه أن لا يجوز ويقصد، وينبغي له كذا وكذا؛ فالابتداء في هذا أسبق وأعرف، لأنها بمنزلة قولك: كأنه قال: ونؤلك. فمن ثمّ لا يكادون يحملونها على (أن). قال أبو سعيد: حروف العطف إنما تعطف ما دخل في معنى الأول، فإن لم يدخل في معناه رفع على الاستئناف كقولك: أريد أن تزورني، وأريد أن تأتيني فتقعد عني، وأريد أن تطيعني فتخالفني فما بعد (الفاء) في هذا ونحوه مرفوع لا غير، لأنه لم يدخل في الإرادة، و (أن) الناصبة كانت في صلة الإرادة، فلو نصبنا الثاني، وعطفناه على الأول، كان قد دخل في الإرادة؛ وإنما ينصب بحروف العطف ما يصح دخوله في معنى الأول، كنحو ما ذكره سيبويه وما يصح دخوله في معنى الأول؛ وقد يجوز أن يقطع عنه ويستأنف. وقول الله- تبارك وتعالى-: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً (¬2) من قرأ بالرفع فهو عطف جملة على جملة بعد تمامها، كأن قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79] قد انقطعت الجملة عند قوله (تدرسون) ثم ابتدأ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً [آل عمران: 79]؛ ومن قرأ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) فهو في الجملة الأولى، لأن معناه: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله، ولا كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا؛ وفي هذا الوجه في (يأمركم) ضمير فاعل من (بشر) وفي الوجه الأول ضمير فاعل من (الله) تعالى. وأما قول الله- تبارك وتعالى-: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ (¬3) فلا يصح ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 7/ 38. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 79. (¬3) سورة الحج، الآية: 5.

نصب (نقر) ونحمله على (نبين)، وذلك أن الله- عز وجل- ذكر خلق الإنسان من تراب، ونقله من حال إلى حال وهم معترفون بذلك، ليبين به البعث الذي لا يعترفون به فقال- عز من قائل-: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (¬1)، فبين- جل ثناؤه- بقدرته على هذه الأحوال التي يعترفون بها قدرته على البعث، لأنه أحيا ما قد بلى ورمّ وصار ترابا من الجلد والعظم وغير ذلك ونقله إلى الحياة، كنقل التراب إلى الحيوان في الابتداء؛ وذكر الله- تبارك وتعالى- ذلك للبيان لهم أمر البعث. وقوله- تبارك وتعالى-: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (¬2) (أن) في صلة ما قبله، وسياقه: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ (¬3) يعني: إن لم يكن الشهيدان رجلين فالمستشهدون رجل وامرأتان؛ وبين السبب في جعل المرأتين مكان الرجل وهو إذكار إحداهما الأخرى الشهادة إذا نسيتها؛ ولو كانت امرأة واحدة فنسيت، لم يكن لها من يذاكرها للشهادة إذا نسيتها. فإن قال قائل: يذكرها الرجل الشاهد معها. قيل له: العادة الجارية أن النساء يلاقين النساء في المجادلة والمؤانسة والمطاولة في المجالسة والحديث، كما أن الرجال فيما بينهم كذلك، فلنقصد النساء ضم إلى المرأة مثلها ليقوى بالضم حالهما. وتذكرهما في هذه الحال على ترتيب الكلام؛ وامرأتان لتذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. والعرب تتسع في مثل هذا بالتقديم والتأخير، فيقدمون الإذكار مرة على ما يوجبه الترتيب الذي ذكرناه، ومرة يقدمون سببه وهو الضلال، والضلال: النسيان في هذا الموضع، لأنه لا يقع في ذلك لبس، ومثله: أعددت الخشب أن يميل الحائط فأدعمه به، وهو إنما أعده للدعم، وذكر الميل الذي هو سبب الدعم. وقراءة أهل الكوفة بكسر (إن) قرأ حمزة: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا [البقرة: 282] كما تقول: إن تأتني فأحسن إليك؛ ولا يدخل هذا فيما ذكره سيبويه. وأما (فأبهت) بالرفع، فهو بمنزلة: فإذا أنا مبهوت، وهو من نحو: ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 5. (¬2) سورة البقرة، الآية: 282. (¬3) المصدر السابق.

سرت فأدخلها، و (فإنّ المندّى رحلة فركوب) (¬1) فأما قوله: يعالج عاقرا أعيت عليه … ... فينتجها ... (¬2) فرفع (ينتجها) سهو وغلط وذلك لأن العاقر لا تلد ولا يكون لها نتاج، فكيف يرفع وهو لا يخبر بكونه، وإنما يصف ابن أحمر رجلا من قومه يعالج أمرا في مكروه ابن أحمر ونسائه لا يتم ولا يكون، وذلك الأمر هو العاقر، والرجل يعالجها ليلقحها ولينتجها، وذلك لا يكون، كأن هذا الرجل يعالج هذه العاقر لتلد وهي لا تلد، فلا يكون في (ينتجها) إلا النصب، وقبل هذا البيت: أر أنا لا يزال لنا حميم … كداء البطن سلّا أو صغّارا يعالج عاقرا أعيت عليه … ليلقحها فينتجها حوارا يدنّس عرضه لينال عرضي … أبا دغفاء ولّدها فقارا ولّدها فقارا أي: عظاما، يهزأ به، وأبا دغفاء: كنية الرجل ودغفاء: حمقاء، ويقال: عاصت واعتاصت واعتاظت، ومعناها: ذلهاء امتنعت من الحمل. وكل واحد من وجهي الرفع لا يصح في (ينتجها) لأنك إذا عطفته على (يعالجها) لم يجز، لأن العلاج للعاقر يكون، ونتاجها لا يكون؛ كما يقال: فلان يطلب ما لا يكون؛ وإذا جعلته مستأنفا بمعنى: فهو ينتجه، لم يصح أيضا لأنها عاقر. وأما الرفع في (لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد)، فلأن (لا يعدو أن يأتيك) بمعنى: يأتيك، فكأنه قال: يأتيك فيصنع ما تريد؛ وموضع (لا يعد) موضع فعل مرفوع يعطف عليه (فيصنع ما تريد)، ومثله: لا يخالف أمرك فيصنع ما تريد، لأن معناه: يطيع أمرك (فيصنع ما تريد) عطف عليه. والكلام في (ما عدا أن يأتي فوثب) كالكلام في (ما أتيتني فحدثتني) وهو مستحسن. والكلام في (ما عدا أن رآني فيثب) كالكلام في (ما أتيتني فتحدثني) في ضعف ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

هذا باب الجزاء

الرفع إذا أردت العطف على الماضي؛ وقد ذكرناه في باب الجواب بالفاء وقوله (ما عدوت أن آتيك) فيه وجهان: أحدهما: أن تريد: ما عدوت فيما مضى أن آتيك فيما استقبل، ومعناه: رأيت فيما مضى أن آتيك فيما استقبل، وما تجاوزت فيما مضى اعتقاد أن آتيك في المستقبل. والوجه الآخر: ما عدوت فيما مضى أن آتيك وتجعل (آتيك) في موضع (آتيتك)؛ وهذا معنى قوله: ويجوز أن تجعل (أفعل) في موضع (فعلت)؛ وإنما جاز ذلك لأنك تقول: كنت أتيتك، وكنت آتيك، ومعناهما واحد، وجئتك إذ قام زيد، وإذ يقوم زيد، ومعناهما واحد؛ وإنما يجوز ذلك إذا تقدم قبله شيء قد مضى، أو شيء فيه دلالة على المعنى، والفعل المستقبل مصاحب له، كما تقول: جاءني زيد أمس يضحك، و (يضحك) وإن كان ماضيا وهو بمنزلة الحال لمصاحبته لجاءني؛ وكونه في وقته، ولا يجوز الماضي في موضع المستقبل إلّا في المجازاة نحو: إن فعلت فعلت، لو قلت: يكون زيد قام، لم يجز كما جاز: كان زيد يقوم؛ فهذا فرق واضح وقوله: ما أعدو أن جالستك، فمعناه: ما أعدو الساعة مجالستك فيما مضى، كأن المجالسة فيما مضى شيء قد ثبت، فهو لا يعدوه ولا يتجاوزه، كما تقول: لا أعدو زيدا، ولا أعدو دارك ومنزلك، أي: لا أعدو ذلك إلى غيره. وإنما لم يجز (ما أعدو أن أجالسك أمس)، لأن قولك (أعدو) مستقبل، وإذا كان ابتداء الكلام مستقبلا، لم يجز أن يكون بعده المستقبل في معنى الماضي، وإنما قال: (أن) لا يجوز (ويقصد) لأنه جعله بمنزلة: وينبغي له أن يقصد، فناب (يقصد) عن (ينبغي له أن يقصد)؛ ومن أجل ذلك تضمن معنى الأمر، ولم يحمل على (أن)؛ ومثله في القرآن: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ، (¬1) وفيها معنى: ينبغي لهن أن يرضعن، ويكون في ذلك معنى الأمر، وإن لم يكن لفظ الأمر، كما لو قال المولى لعبده: الواجب عليك أن تفعل، أو الذي أريده منك أن تخرج إلى السوق، وجب عليه فعل ذلك، وإن لم يظهر لفظ الأمر له بذلك. هذا باب الجزاء فما يجازى به من الأسماء غير الظروف: من، وما، وأيّهم. وما يجزي به من ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 233.

الظروف: أيّ حين، ومتى، وأين، وأنىّ، وحيثما. ومن غيرهما: إن، وإذ ما. ولا يكون الجزاء في (حيث) و (لا) في (إذ) حتى يضم إلى كل واحدة منهما (ما)، فتصير (إذ) مع (ما) بمنزلة (إنما) وكأنما، وليست (ما) فيهما بلغو، ولكن كل واحد منهما مع (ما) بمنزلة حرف واحد. فما كان من الجزاء ب (إذ ما) قول العباس بن مرداس: إذ ما أتيت على الرسول فقل له … حقا عليك إذا اطمأنّ المجلس (¬1) وقال الآخر، وقالوا: هو لعبد الله بن همام السلولى: إذ ما تريني اليوم مزجي ظعينتي … أضعّف سيرا في البلاد وأفزع فإنّي من قوم سواكم وإنّما … رجالي فهم بالحجاز وأشجع (¬2) سمعناهما ممن يرويهما عن العرب، والمعنى (إما). ومما جاء من الجزاء ب (أنّي) قول لبيد: فأصبحت أنّى تأتها تلتبس بها … كلا مركبيها بين رجليك شاجر (¬3) وفي (أين) قول ابن همام السلولي: أين تضرب بنا العداة تجدنا … نصرف العيس نحونا للتّلاقي (¬4) وإنما منع (حيث) أن يجازي بها أنك تقول: حيث تكون أكون، ف (تكون) وصل لها، كأنك قلت: المكان الذي تكون فيه أكون ويبّين هذا أنها في الخبر بمنزلة (إنما) و (كأنما) و (إذا)، أنه يبتدأ بعدها الأسماء، أنك تقول: حيث عبد الله قائم زيد، وأكون حيث زيد قائم. ف (حيث) كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر، ولا يكون هذا في حروف الجزاء؛ فإذا ضممت إليها (ما)، صارت بمنزلة (إن) وما أشبهها، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجيء ب (ما) وصارت بمنزلة (إمّا). وأما قول النحويين: يجازي بكل شيء يستفهم به، فلا يستقيم، من قبل أنك تجازي ب (إن) وب (حيثما) و (إذ ما)، ولا يستقيم بهن الاستفهام؛ ولكن القول فيه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الخزانة 3/ 436؛ ابن يعيش 4/ 97؛ الكتاب 1/ 342. (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 9/ 249؛ ابن يعيش 7/ 47؛ الكتاب 3/ 57. (¬3) البيت في ديوانه 220، الخزانة 7/ 91، 93، 10/ 45، 46؛ الكتاب 3/ 58. (¬4) البيت في ديوانه، ابن يعيش 40/ 105، 7/ 45؛ الكتاب 3/ 58.

كالقول في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلة؟ والوجه أن تقول: الفعل ليس في الجزاء بصلة لما قبله، كما أنه في حروف الاستفهام ليس صلة لما قبله؛ وإذا قلت: حيثما تكن أكن، فليس بصلة لما قبله، كما أنك إذا قلت: أين تكون؟ وأنت تستفهم، فليس الفعل بصلة لما قبله فهذا في الجزاء ليس بصلة لما قبله، كما أن ذلك في الاستفهام ليس بوصل لما قبله. ويقول: من يضربك؟ في الاستفهام، وفي الجزاء: من يضربك اضربه، فالفعل فيهما غير صلة. وسألت الخليل عن (مهما) فقال: هي ما أدخلت عليها (ما) لغوا، بمنزلتها مع (متى) إذا قلت: متى تأتني آتك؛ وبمنزلتها مع (إن) إذا قلت: إن ما تأتني آتك؛ وبمنزلتها مع (أين) كما قال الله- تبارك وتعالى-: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ (¬1)؛ وبمنزلتها مع (أي) إذا قلت: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (¬2)؛ ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظا واحدا فيقولوا: ما ما، فأبدلوا (الهاء) من (الألف) التي في (ما) الأولى، وقد يجوز أن تكون (مه) كإن ضمّ إليها (ما). وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنع أصنع، فقال: هي متكرهة، وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء؛ لأن معناها على أي حال تكن أكن، وسألته عن (إذا)، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال: الفعل في (إذا) بمنزلة الفعل في (إذ)، إذا قلت: أتذكر إذ تقول، ف (إذا) فيما يستقبل بمنزلة (إذ) فيما مضى؛ ويبيّن هذا أن (إذا) يجيء وقتا معلوما، ألا ترى أنك لو قلت: آتيك إذا احمّر البسر، كان حسنا، ولو قلت: آتيك إن احمّر البسر، كان قبيحا؛ ف (إن) أبدا مبهمة، وكذلك حروف الجزاء؛ و (إذا) توصل بالفعل، فالفعل في (إذا) بمنزلته في (حين) كأنك قلت: الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. قال ذو الرمة: تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة … حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب (¬3) ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 78. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 110. (¬3) البيت في ديوانه 48؛ الكتاب 3/ 60.

وقال آخر، ويقال: وضعه النحويون: إذا ما الخبز تأدمه بلحم … فذاك أمانة الله الثريد (¬1) وقد جازوا بها في الشعر مضطرين، شبهوها ب (إن)، حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بد لها من جواب. وقال قيس بن الخطيم الأنصاري: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها … خطانا إلى أعدائنا فنضارب (¬2) القافية مكسورة، وقال الفرزدق: ترفع ليّ خندف والله يرفع لي … نارا إذا خمدت نيرانهم تقد (¬3) وقال بعض السلوليين: إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها … لها واكف من دمع عينك يسجم (¬4) ويروي: يسكب. فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول كعب بن زهير: وإذا ما تشاء تبعث منها … مغرب الشمس ناشطا مذعورا (¬5) واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال، وينجزم الجواب بما قبله، وزعم الخليل أنك إذا قلت: إن تأتني آتك، ف (آتك) انجزمت ب (إن تأتني)، كما تنجزم إذا كانت جوابا للأمر حين تقول: ائتني آتك. وزعم الخليل أن (إن) هي أمّ حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قبل أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكنّ استفهاما، ومنها ما يفارقه (ما) فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حال واحدة أبدا لا تفارق المجازاة. واعلم أنه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء. فأما الجواب بالفعل فنحو قولك: إن تأتني آتك، وإن تضرب أضرب، ونحو ذلك. وأما الجواب بالفاء فنحو قولك: إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في ¬

_ (¬1) ابن يعيش 9/ 92؛ الكتاب 3/ 61؛ لسان العرب 12/ 9 (أدم). (¬2) البيت في ديوانه 88، الكتاب 3/ 61. (¬3) البيت في ديوانه 216، الخزانة 3/ 162؛ الكتاب 1/ 434. (¬4) البيت في الكتاب 3/ 62. (¬5) البيت في ديوانه 29، ابن يعيش 8/ 934؛ الكتاب 3/ 62.

هذا الموضع بالواو، ولا بثمّ. ألا ترى أن الرجل يقول: افعل كذا وكذا، فتقول: فإذن يكون كذا وكذا، ويقول: لم أغث أمس، فتقول: قد أتاك الغوث اليوم؛ ولو أدخلت (الواو) و (ثمّ) في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز. وسألت الخليل عن قول الله- عز وجل-: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (¬1) فقال هذا كلام معلق بالكلام الأول، كما كانت (الفاء) معلّقة بالكلام الأول، وهذا هاهنا في موضع (قنطوا) كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل قال: ونظير ذلك قول الله- عز وجل-: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (¬2) بمنزلة (أم صمتّم)؛ ومما يجعلها بمنزلة (الفاء) أنها لا تجيء مبتدأة، كما أن (الفاء) لا تجيء مبتدأة. وزعم الخليل أن إدخال (الفاء) على (إذا) قبيح، ولو كان إدخال (الفاء) على (إذا) حسنا، لكان الكلام بغير (الفاء) قبيحا؛ فهذا قد استغنى عن (الفاء) كما استغنت (الفاء) عن غيرها، فصارت (إذا) هاهنا جوابا، كما صارت (الفاء) جوابا. وسألته عن قوله: إن تأتني أنا كريم، فقال: لا يكون هذا إلا أن يضطّر شاعر، من قبل أنّ (أنا كريم) يكون كلا ما مبتدأ، و (الفاء) و (إذا) لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما، فكرهوا أن يكون هذا جوابا كما صارت (الفاء) جوابا حيث لم يشبه (الفاء)؛ وقد قال الشاعر مضطرا، يشبّهه بما يتكلم به من الفعل قال: من يفعل الحسنات الله يشكرها … والشرّ بالشرّ عند الله مثلان (¬3) وقال الأسدي: بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها … بني ثعل من ينكع العنز ظالم (¬4) وزعم أنه لا يحسن في الكلام: إن تأتني لأفعلن من قبل أن (لأفعلن) تجيء مبتدأة. ألا ترى أن الرجل يقول: لأفعلن كذا وكذا فلو قلت: " إن أتيتني لأكرمنك، ولئن لم تأتني لأغمّنّك " جاز؛ لأنه في معنى: لئن أتيتني لأكرمنك، ولئن لم تأتني لأغمنك، ولا بدّ من هذه (اللام) مضمرة أو مظهرة لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 36. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 193. (¬3) البيت ورد منسوبا إلى حسان بن ثابت كما نسب لآخرين، الكتاب 3/ 65، 114. (¬4) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 65.

أتيتني لأكرمنك. فإن قلت: لئن تفعل لأفعلنّ قبح؛ لأن (لأفعلن) على أول الكلام، وقبح في الكلام أن تعمل (إن) أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمها في اللفظ، ثم لا يكون لها جواب تنجزم بما قبله. ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتني، ولا تقول: آتيك إن تأتني، إلا في شعر، لأنك أخّرت (إن) وما عملت فيه، ولم تجعل ل (إن) جوابا ينجزم بما قبله. فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى. أنه قال- عز وجل-: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬1) وقال- عز وجل-: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬2). لمّا كانت (إن) العاملة لم يحسن إلا أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت. وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي: آتيك. إن أتيتني. قال زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة … يقول لا غائب مالي ولا حرم (¬3) ولا يحسن: إن تأتني آتيك، من قبل أنّ (إن) هي العاملة، وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجلي: يا أقرع بن حابس يا أقرع … إنك إن يصرع أخوك تصرع (¬4) أي تصرع إن يصرع أخوك، ومثل ذلك قوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه … والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب (¬5) أي: المرء ذئب إن يلق الرشا. قال الأصمعي: وهذا قديم أنشدنيه أبو عمرو. وقال ذو الرمة: وأنيّ متى أشرف على الجانب الذي … به أنت من بين الجوانب ناظر (¬6) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬2) سورة هود، الآية: 47. (¬3) البيت في ديوانه 51، ابن يعيش 8/ 157؛ الكتاب 3/ 66. (¬4) البيت في ديوانه، ابن يعيش 8/ 157؛ الكتاب 2/ 98. (¬5) البيت في الكتاب 3/ 67. (¬6) البيت في ديوانه 114، الكتاب 1/ 68؛ والمقتضب 2/ 71.

أي: ناظر متى أشرف. فجاز هذا في الشعر، وشبّهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزما؛ لأن المعنى واحد، كما شبه (الله يشكرها) و (ظالم) ب إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] جعله بمنزلة: يظلم، ويشكرها الله، كما كان هذا بمنزلة (قنطوا)، وكما قالوا في اضطرار: إن تأتني أنا صاحبك، يريد معنى (الفاء)، فشبّهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه. وقد يقال: إن أتيتني آتك، وإن لم تأتني أجزك، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم؛ فكأنه قال: إن تفعل أفعل؛ ومثل ذلك قول الله- جل وعز-: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها (¬1). فكان فعل، وقال الفرزدق: دسّت رسولا بأنّ القوم إن قدروا … عليك يشفوا صدورا ذات توغير (¬2) وقال الأسود بن يعفر: ألا هل لهذا الأمر من متعلل … عن النّاس مهما شاء بالنّاس يفعل (¬3) وقال: إن تأتني فأكرمك، أي: فأنا أكرمك، فلا بد من رفع (فأكرمك) إذا سكت عليه لأنه جواب، وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ. ومثل ذلك قول- الله تعالى-: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ (¬4)، ومثله قوله- تعالى-: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا (¬5) ومثله قوله- عز وجل-: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (¬6). قال أبو سعيد: فرّق سيبويه بين (حيثما) وبين (إذ ما)، فجعل (حيثما) في حيز الظروف التي يجازى بها، فهي اسم مثل: أين، ومتى؛ وجعل (إذ ما) في حيز الحروف، لأنه ذكر ما كان من غير الأسماء والحروف، فذكر (إن) و (إذ ما)، والفرق بينها أن (إذ) لما ضممت إليها (ما) وجوزى بها، خرجت عن معناها، لأنها كانت من قبل دخول (ما) عليها لما مضى من الزمان، وبعد دخولها للمستقبل ك (إن)؛ وقد يركّب الشيآن ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 15. (¬2) البيت في ديوانه 213، والكتاب 3/ 69. (¬3) البيت في ديوانه 56، والكتاب 2/ 246. (¬4) سورة المائدة، الآية: 95. (¬5) سورة البقرة، الآية: 126. (¬6) سورة الجن، الآية: 13.

فيخرجان عن حكم كل واحد منهما إلى حكم مفرد نحو: لولا، وهلا، وغيرهما. وجعلها سيبويه حرفا لوقوعها موقع (أن)، ولم يقم دليلا على اسميتها، وما علمنا أحدا من النحويين ذكر (إذ ما) غير سيبويه، إلا أن يكون من بعض أصحابه، ومن يأخذ عنه. وقد قال بعض النحويين: (إذ ما) هي (إمّا)، عدلوا عن (إما) إليها، لأن (إما) لا تكاد تأتي إلا بدخول (النون) على الفعل الذي بعدها نحو قول الله- عز وجل-: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ (¬1) ووَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً (¬2) وفَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً (¬3). وليس في القرآن- فيما اعلم- فعل بعد (إما) إلا ب (النون)؛ فلما احتاج الشاعر إلى (إما) وكانت (النون) تكسر البيت، جعل مكانها (إذ ما) وأما دخول (ما) على (حيث) للمجازاة، فلأن (حيث) اسم للمكان، فكان يلزمها الإيضاح قبل المجازاة بها كقولك: أقمت حيث زيد مقيم، وحيث زيد مقيم أقيم؛ ولو قلت: حيث أقيم أو أقمت لم يجز، فلما أرادوا المجازاة لزمهم إبهامها وإسقاط ما يوضحها، وألزموها (ما) كما ألزموا (ما) إنما، وكأنما، وربما؛ وجعلوا لزوم (ما) دلالة على إبطال مذهبها الأول. ثم جعلوها بمنزلة (أين) في المجازاة ولم تزل عن معناها الأول وقصد المكان بها لزوال (إذ) عن معناها الأول. وأما قول لبيد: فأصبحت أنّى تأتها تلتبس بها (¬4) ففي معناه بعض اللبس، والبيت في موضعين فيه اختلاف رواية: أحدهما: أنىّ تأتها تلتبس بها، وتبتئس بها. والآخر: تحت رجلك، وتحت رحلك. ومعناه: أنه يخاطب رجلا قد وقع في معضلة وقصة صعبة يعسر التخلص منها، فنقول: كيف أتيت هذه المعضلة من قدّام أو من خلف تلتبس بها ولا مخلص، وهو جواب الشرط؛ والالتباس بها: الدخول فيها والاختلاط بها، وتبتئس: يصيبك منها بؤس. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 57. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 58. (¬3) سورة مريم، الآية: 26. (¬4) صدر بيت سبق تخريجه.

كلا مركبيها تحت رجلك شاجر (¬1) يعني: مركبها من قدام ومن خلف، وشاجر: داخل تحت الرجل وتحت الرحل، وإذا دخل الشيء تحت شيئين ففرجهما فقد شجرهما، ومركبيها: يعني مركبي المعضلة، وقد بين أن مركبيها من قدام وخلف في البيت الذي بعده. فإن تتقدم تلن منها مقدما … غليظا وإن أخّرت فالكفل فاجر والكفل: كساء يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقى العرق، وفاجر: مائل. وقد عاب قوم سيبويه على النحويين حين حكى عنهم أنهم قالوا: يجازى بكل شيء يستفهم به، فقال سيبويه: لا يستقيم هذا، من قبل أنك تجازى بأن وبحيثما وإذ ما، فقال العائب، وهو أبو عمر الجرمي ومن وافقه: لا يكون ما قال سيبويه ردا عليهم لأنهم لم يقولوا: لا تكون المجازاة إلا بما يستفهم به فيلزمهم هذا، وإنما قالوا: تطلب المجازاة بما يستفهم به، ولا يمنع هذا المجازاة بغيره، كما لو قال قائل: يكون الرفع بأنه الفاعل والنصب بأنه مفعول به، لم يمنع الرفع والنصب بغيرهما. وعابوا أيضا ما حكى عنهم: يجازى بكل شيء يستفهم به، وليس بينهم خلاف أنه لا يجازى بألف الاستفهام، وبهل. قال أبو سعيد: أما الأول: فإن الذي حكي عنهم أنهم قالوه هو أن أصل الجزاء الاستفهام، فكل شيء جوزي به إنما هو منقول من الاستفهام فأراهم أنهم يجازون بحيثما وأن، وهما لا يكونان استفهاما، فهذا مخرج هذا. وأما الثاني: فقد فهم عن سيبويه أنه أراد الأسماء التي يستفهم بها، لأنهم لا يختلفون في الحروف أنها لا يجازى بها، فكان فسر قولهم على ظاهر ما حكي عنهم أن يقال: أنتم تستفهمون ب (كم) ولا يجازى بها، وكذلك (كيف) يستفهم بها ولا يجازى بها. وأما (مهما تفعل) ففيها وجهان: أحدهما: ما قاله الخليل، وهو أن أصله (ما) زيدت عليها (ما) أخرى كما تزاد (ما) على (متى) في قولك: متى ما تفعل أفعل؛ ف (ما) الأولى في هذا القول للمجازاة، والثانية زائدة. والآخر: ما قاله أبو إسحاق الزجاج، أن أصله (مه) في معنى (اسكت) لكلام ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

متكلم به، و (ما) بعدها للمجازاة. والدليل على (مهما) قد تضمنت معنى (ما) أنه قد يعود إليها الضمير مما بعدها كما يعود إلى (ما)، قال المتنخل الهذلي: إذا سدته سدت مطواعة … ومهما وكلت إليه كفّاة (¬1) ف (الهاء) في كفاه عائد إلى (مهما)، كما تعود إلى (ما)، ولا يكون مثل هذا العائد في أين ومتى، لا تقل: أين تكن أكن فيه، ولا متى تأتني آتك فيه وأما كيف، فإن الخليل قال في المجازاة بها: هي مستكرهة، ولم يحتج لذلك، بل قوّى المجازاة بها حين قال: معناها: على أي حال تكن أكن. قال أبو سعيد: أحتاج أن أبين أن (كيف) حقيقتها وموضوعها، إنه اسم غير ظرف وإن كان قد يؤدي معناها قولهم (على أي حال)، والدليل على ذلك إذا قلت: كيف هذا الثوب؟ فالجواب أن يقال: خشن أو لين أو طويل أو قصير ونحو ذلك. وكذلك إذا قال: كيف زيد؟ فالجواب: سمح، أو صعب، أو شجاع أو جبان أو ما أشبه ذلك. ولو قال: على أي حال زيد؟ لقلت: على حال شدة أو على حال رخاء وهذا ما يقتضيه لفظ السؤال. ولو كان (كيف) ظرفا، لم يمتنع دخول حروف الجر عليه كدخولها على متى وأين في قولك: إلى متى يكون هذا؛ ومن أين أقبلت؟ فلو قال قائل: كيف زيد؟ فقيل في جوابه: على حال سيئة، أو على حال صفة لجاز، وليس بجوابه على الحقيقة والموضوع، ولكن يجوز ذلك لأن معناها معنى سيئ الحال أو حسن الحال الذي هو الجواب المطابق للسؤال ب (كيف). وقد اختصت (كيف) بأشياء ليست في نظائرها. منها أنها اسم ليس بظرف، لا يكون لها عائد، ولا يخبر عنها كمن، وما، وأي، تقول: من ضربته؟ وما أكلته؟ وأيّ أثبته؟ وتقول: من في الدار؟ وما عندك؟ وأيّ خلفك؟ ولا تقل: كيف ضربته؟ و (الهاء) عائدة إلى (كيف)، ولا كيف في الدار؟ كما قلت: من في الدار، على الابتداء أو الخبر. ومنها أنه لا يكون جوابها إلا نكرة، وجواب أخواتها يكون معارف ونكرات يقول ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 2/ 30، الخزانة 9/ 26؛ ابن يعيش 7/ 43.

القائل: كيف زيد؟ فيقال له: سخي أو بخيل أو شجاع أو جبان، ولا يجوز أن يقال: السخي، ولا البخيل ولا الشجاع ولا الجبان. وقد يقال في جواب (من زيد؟): أخوك، وزيد أخوك. ويقال في جواب (ما طعامك؟): اللحم والخبز، ويقال: لحم وخبز، وقد يقال في جواب (أي الناس زيد؟): أخوك، أو هذا، أو نحوهما من المعارف. ويقال: رجل بجنبك. ورجل في دارك، أو نحو ذلك من النكرات. فأما مع المجازاة بها، ففيه قولان: أحدهما: أنه لما كان أخواتها معارف ونكرات، وقصرت هي على أحد الأمرين، ضعفت عن التصريف بها في المجازاة، فالقول الآخر أنها لما لم يخبر عنها، ولا يعود إليها، كما يكون ذلك في: من، وما، وأي، ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة، ولم تكن ضرورة مضطر إليها في المجازاة إذ كانت (على أي حال) تغني عنها كما قد ذكرناه. وتركوا المجازاة ب (كم) لأن (ما) و (من) تغنيان عنها، لأنهما في المجازاة لقليل ما يقعان عليه وكثيرة، ألا ترى أنك إذا قلت: كما تسر أسر، فمعناه: إن يسر قليلا أسر مثله، وإن يسر كثيرا أسر مثله، وليس المتكلم بعالم كمن يسير، ولا هو مستدع من المخاطب تعريفه مقدار سيره، وإنما وضعت (كم) ليتعرف بها المتكلم مقدار ما يسأل عنه ليقف عليه. وأما المجازاة ب (إذا) فإن ما منع من المجازاة بها إلا في الشعر، أن الذاكر لها في الكلام كالمعترف بأنها كائنة، كقولك: إذا طلعت الشمس فأتني؛ فالمتكلم معترف بطلوع الشمس، وحق ما يجازى به ألا يدرى أيكون أم لا يكون، كقولك: إن قدم زيد زرته، وإن تمطر اليوم نجلس للحديث، ولا يدري أتمطر اليوم أم لا؛ ولذلك حسن: إذا احمر البسر فأتني، وقبح: إن احمر البسر فائتني، لإحاطة العلم أن احمر البسر كائن. وإنما جاز المجازاة بها في الشعر لأنها قد شاركت (إن) في الاستقبال، ولأن وقتها غير معلوم، فأشبهت- لجهالة وقتها- ما لا يدري أيكون أم لا. وقد نستعمل (إذا) في الموضع الذي يحسن فيه (إن)، ولا يتبين بينهما فرق للمشابهة التي بينها، وكذلك تستعمل (إن) في موضع (إذا)؛ قد يقول القائل: إن متّ فأخرجوا ثلث مالي للفقراء والمساكين، وقال الله- تبارك وتعالى-: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ (¬1) والموت كائن لا محالة، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 144.

وقال الشاعر: كم شامت بي أن هلكت … وقائل: لله درّه (¬1) وقال آخر: إذا أنت لم تنزع عن الجهل والخنا … أصبت حليما أو أصابك جاهل (¬2) وقد يجوز أن ينزع، ويجوز ألا ينزع، ولا يحيط العلم بأي ذلك يكون. وقولهم: إن مات زيد كان كذا، أحسن من قولك: إن احمر البسر، لأن الموت وإن كان معلوما أنه كائن فلا يعرف وقته، واحمرار البسر معروف الوقت. وأما قوله: إذا لم تزل في كلّ دار ... (¬3) فإن أبا عمر الجرمي كان يفسره: إذا لم تزل المرأة في كل دار عرفتها لها يسكب واكف من دمع عينيك؛ وخبر (لم تزل المرأة): في كل دار؛ وجواب (إذا): يسكب المضمرة قبل (واكف)، وتفسيره (يسكب) الذي في آخر البيت؛ ومثله في الكلام لو تكلم به: إذا لم يزل زيد قائما عمرو يقم، على معنى: يقم عمرو يقم. وقرب (واكف) من المعرفة لأنه موصول منعوت بقوله: من دمع عينيك. وقال الأخفش: إذا لم تزل عينك في هذه الدار واكف سجمت، وجعل (لها واكف) خبر (لم تزل) و (تسجم) جواب (إذا) وذكرت: يسكب، ويسجم، لأن البيت يروى على الوجهين. وقوله: وينجزم الجواب بما قبله، ويجوز أن يكون بجملة ما قبله، وهو (إن) والشرط، ويحتمل أن يكون ب (إن) وحدها؛ والاختيار عندي أن يكون ب (إن) وحدها، وقد مضى ذكر اختياري رفع خبر الابتداء بالابتداء. وأما قول الخليل: (إن) هي أم حروف الجزاء، فلأنها تدخل على الجزاء. في جميع وجوهه، وليست كذا سائر ما يجازى به، لأن (من) يجازى بها فيما يعقل، و (ما) فيما لا يعقل، و (أي) فيما يبعض، و (متى) للزمان، و (أين) و (حيثما) للمكان، (وأنى) نحو من ذلك، و (إذ ما) يتكلم بها القليل منهم، وما كل العرب تعرفها. ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا للنابغة الجعدي في ديوانه 191؛ ابن يعيش 9/ 4. (¬2) البيت ورد منسوبا لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 30. (¬3) البيت ورد منسوبا إلى رجل من بني سلول، سبق تخريجه.

ومما يدل على أن (إن) أم حروف الجزاء، أنها قد يسكت عليها ويحذف الشرط بعدها والجواب، ولا يفعل ذلك بغيرها، يقول القائل: لا آتى الأمير لأنه جائر، فيقال: ائته وإن: وكذلك: لا أصلي خلف فلان لأنه أعمى، فيقال: صل خلفه وإن؛ يراد بذلك: وإن كان جائرا، وإن كان أعمى فصل خلفه، وأنشد بعض النحويين في ذلك: قالت سليمى ليت لي بعلا يمن … يغسل عن جلدي وينسينّي الحزن وحاجة ليس لها عندي ثمن … مستورة قضاؤها منه ومن قالت بنات العمّ يا سلمى وإن … كان عييّا معدما قالت وإن (¬1) والذي أحوج إلى إدخال (الفاء) في جواب الجزاء، أن أصل الجواب أن يكون مستقبلا، لأنه شئ مضمون فله إذا فعل الشرط، أو وجد مجزوما ملتبسا بما قبله من الشرط، ف (إن) هي التي تربط أحدهما بالآخر، ثم عرض في الكلام أن يجازى بالابتداء والخبر لنيابتهما عن الجواب، و (إن) لا تعمل فيهما، ولا يقعان موقع فعل مجزوم؛ فآتوا بحرف يقع بعده الابتداء والخبر، وجعلوه مع ما بعده في موضع الجواب، وذلك قولك: إن تزرني فعندي سعة، وإن تأتني فالمنزل لك؛ واختاروا (الفاء) دون (الواو) ودون (ثم) لأن حق الجواب أن يكون عقيب الشرط متصلا؛ لأنه بالشرط يستوجب، ومن أجل وقوعه يقع، و (الفاء) توجب ذلك لأنها في العطف بعد الذي قبله، متصل به؛ وتركوا (الواو) لأنها لا تدل على الترتيب؛ وعدلوا عن (ثم) لأن بينها وبين ما قبلها أكثر من مهلة (الفاء). وقد حذفت العرب (الفاء) في الجواب في ضرورة الشاعر، وسهل ذلك أن أصل الجواب لا يكون فيه (فاء) على ما ذكرناه، وتقديره: من يفعل الحسنات فالله، ويروى: فالرحمن، والذي قبله: من يفعل الخير فالرحمن يشكرها؛ وليس في هذه الرواية ضرورة ((وينكع العنز ظالما)) تقديره: فهو ظالم؛ ويكثر في المجازاة حذف المبتدإ بعد (الفاء) لأنه يجري ذكره في الشرط كقولك: إن تأتني فمحبوب؛ لأن المخاطب قد جرى ذكره في الشرط كقولك: إن تأتني فمحبوب، وإن يزرني زيد فمكرم، تقديره: فأنت محبوب، لأن المخاطب قد جرى ذكره في (تأتني)، وإن يزرني زيد فهو مكرم، لأنه قد جرى ذكره. وأما قوله: إن تأتني لأفعلن، ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) الأبيات منسوبة إلى رؤبة بن العجاج في ديوانه 186؛ والخزانة 3/ 360.

الأول: تقدير (الفاء). إن تأتني فلأفعلن. والآخر: نية التقديم. كأنه قال: لأفعلن إن تأتني. وكلاهما غير حسن، أما حذف (الفاء) فقد ذكرناه آنفا، وأما التقديم فإنه لا يحسن مع جزم الشرط ب (إن)، فإذا لم ينجزم بها حسن كقولك: إن أتيتني لأكرمنك، وإن لم تأتني لأغمنك؛ ومن أجل هذا ألزموا الشرط الفعل الماضي في اليمين، كقولك: والله لئن أتيتني لأكرمنّك، وو الله لئن جفوتني لا أزورك، لأن جواب اليمين يغني عن جواب الشرط، ويبطل جزمه، ويصير بمنزلة ما ذكر قبله، كأنه قال: والله لا أزورك؛ وإنما صارت (إن) إذا جزمت اقتضت مجزوما بعدها، لأنها بجزمها ما بعدها يظهر أنها تجزم، وجزمها يتعلق بفعلين، فإذا لم يظهر جزمها في الثاني صارت بمنزلة حرف جازم لا يؤتى بعده بمجزوم؛ ومن أجل ذلك قال الله- تبارك وتعالى-: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬1) فقال: لنكونن، لأن جزم (تغفر) بلم لا ب (إن)؛ وقال: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬2). لما كانت (إن) هي الجازمة ل (تغفر). وأما قوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه (¬3) فذكر الأصمعي أن هذا البيت قديم، وأن أبا عمرو أنشده إياه، و (الهاء) في (يدرسه) للمصدر تقديره: للقرآن يدرس درسا، وكني عن الدرس. ولو قلنا: ضربته زيدا على هذا التأويل لجاز تقديره: ضربته الضرب زيدا وكني عنه، لأن الضرب قد دل عليه ضربت، ولا يحسن أن تكون (الهاء) ضمير القرآن، لأن القرآن وإن كانت فيه (اللام)، فقد جعل بمنزلة المفعول، واللام في صلة (يدرس)؛ ولو قلت: القرآن يدرسه لم يجز أن ينصب القرآن بيدرس، و (الهاء) ضميره. وكذلك قول الله- عز وجل-: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (¬4)، ولا يجوز (يرهبونه) و (الهاء) للرب- جل وعز-، ومثل هذا قول زهير بن جناب: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬2) سورة هود، الآية: 47. (¬3) صدر بيت سبق تخريجه. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 154.

هذا باب الأسماء التي يجازى بها وتكون بمنزلة (الذي)

من كل ما نال الفتى … قد نلته إلا التحية (¬1) على معنى: قد نلت النيل، وحق الكلام: من كل ما نال الفتى قد نلت، كأنه قال: كل ما نال الفتى قد نلت؛ ومن أجل (الهاء) كان الأصمعي ينكر هذه الرواية، ويروي: ولكل ما نال الفتى قد نلته وكان لا يتوهم في (نلته) المصدر. وأما جعلهم (إذا) في موضع (الفاء) في الجواب، فيمكن أن يكون تشبيها ب (إذا) التي للمفاجأة؛ لأن الشرط يؤدي إلى الجواب، فكأنه هجم عليه وأثاره. وكذلك طريق المفاجأة، ألا ترى أنك إذا قلت: " أصابتهم سيئة فإذا هم يقنطون " (¬2) كانت مفاجأة؛ وإصابة السيئة هجمت بهم على القنوط، وإذا دخل حرف الجزاء صار شرطا وجزاء، واكتفى ب (إذا) من (الفاء)، واستقبح ذكر (الفاء) معها في المجازاة. وقد يجزم الجواب وإن كان الشرط غير مجزوم، وأحسن ذلك أن يكون الشرط ب (كان) لقوة (كان) في باب المجازاة، ووقوعها على كل ماض ومستقبل، وذلك في قول الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها (¬3)، ولولا (كان) لم يقو إلّا الاستقبال، لأن قولك: (إن تأتني آتك) أحسن من (إن أتيتني آتك)، وإنما يجيء في الشعر أكثره. وقول سيبويه: إن تأتني فأكرمك، (أكرمك) عنده مرفوع، لأنه واقع موقع الابتداء، أي: فأنا أكرمك، وإنما ذهب إلى هذا لأن دخول (الفاء) إنما احتيج إليه بسبب المبتدإ والخبر على ما ذكرته قبيل هذا الفصل، ولولا ذلك لقال: إن تأتني أكرمك، وباقي الباب مستغن عن شرحه بوضوح كلام سيبويه أو شرح نظيره. هذا باب الأسماء التي يجازى بها وتكون بمنزلة (الذي) وتلك الأسماء التي يجازى بها: من، وما، وأيهم. فإذا جعلتها بمنزلة (الذي) قلت: ما تقول أقول، فتصير (تقول) صلة (ما) حتى تكمل اسما، فكأنك قلت: الذي تقول أقول. وكذلك من يأتيني آتيه، وأيّها تشاء أعطيك، قال الفرزدق: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، انظر المعمرين 26؛ والتصريح 1/ 326. (¬2) إشارة إلى الآية 36 من سورة الروم. (¬3) سورة هود، من الآية: 15.

ومن يميل أمال السيف ذروته حيث … التقى من حفافى رأسه الشّعر (¬1) وتقول: آتي من يأتيني، وأقول ما تقول، وأعطيك أيّها تشاء؛ هذا وجه الكلام وأحسنه، وذلك أنه قبح أن يؤخّر حرف الجزاء، إذا جزم ما بعده؛ فلما قبح ذلك حملوه على (الذي)، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول: آتيك إن تأتني؛ وإذا قلت: آتي من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت (أتاني) صلة، وإن شئت كانت بمنزلتها في (إن). فقد يجوز في الشعر: آتي من يأتني، وقال الهذلي: فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها … مطيّعة من يأتها لا يضيرها (¬2) هكذا أنشدناه يونس كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، كما كان: وإني متى أشرف ناظر- على القلب- ولو أريد به حذف (الفاء) جاز، فجعلت ك (إن). وإذا قلت: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن، وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنى تأتها، لم يجز إلا في الشعر، وكان جزما، من قبل أنهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجا إلى الصلة حتى تكمل اسما، ألا ترى أنه لا يقال: لها تصنع قبيح، ولا في الكتاب مهما تقول، إذا أراد أن يجعل القول وصلا، فهذه الحروف بمنزلة (إن)، لا يكون الفعل صلة لها، فعلى هذا فأجز ذا الباب. قال أبو سعيد: هذه الأسماء التي يجازى بها المذكورة في هذا الباب، إنما يجازى بها إذا كانت مبتدأة في اللفظ، غير واقع عليها عامل خافض ولا غيره. وهذه الأسماء إن جرت مجرى (إن) في كونها صدورا، إذا جوزي بها فإنها تدخلها الأشياء الخافضة إذا كانت في صلة ما بعدها، أو كانت مبتدأة، وذلك للضرورة المؤدية إلى ذلك فيها دون أن تقول: بمن تمرر أمرر به، وعلى أيهم تنزل أنزل عليه، وفيما تزهد أزهد فيه؛ فالباء في صلة (تمرّ) الذي هو شرط، وفي موضع نصب بها؛ و (على) في صلة (تنزل) وهي في موضع نصب بها؛ و (من) و (ما) و (أيّهم) قد تضمنت الأسماء، وحرف الجزاء، والأفعال التي بعدهن أفعال تتعدى بحروف الجر؛ وحروف الجر لا تكون إلا قبل الأسماء، متصلّا بها، فقادت الضرورة إلى تقديمها لذلك وتأخير الأفعال العاملة فيها؛ لأن الفعل قد يجوز أن يعمل النصب فيما قبلها، فلم تكن بنا ضرورة إلى تقديم فعل الشرط ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 1/ 200، الكتاب 3/ 70. (¬2) البيت في ديوانه 1/ 154، الخزانة 3/ 647؛ والكتاب 3/ 70.

عليها؛ فإذا أتينا ب (إن) انفصل الاسم من (إن) فوقع حرف الجر على الاسم وهو بعد (إن)، فلم يحتج إلى تقديمه كقولك: إن تمرر بزيد أمرر به، وإن تنزل على زيد أنزل عليه، وإن تزهد في شيء أزهد فيه. وكذلك إن وقع الشرط باسم مضاف، قدمته وأضفته إلى اسم المجازاة ضرورة كقولك: غلام من تضرب أضرب، وصاحب أيهم تعاشر أعاشر، تنصب (غلام) بيضرب، و (صاحب) بتعاشر؛ ولا بد من تقديمه من حيث كان خافضا لما بعده. ولو كانت (إن) لم يجز تقديم شيء، عليها لانفصال الاسم منها كقولك: إن تضرب غلام زيد أضرب. وكذلك المبتدأ المضاف إلى هذه الأسماء، كان حقه أن يكون فاعل فعل الشرط ويكون مضافا إلى الاسم الذي ليس بمبهم كقولك: إن يأتك غلام زيد، أو غلام خالد، أو غلام غيرهم. فلما أبهمت فيها فصار الاسم المبهم وهو (من) و (أيّهم) و (ما) متضمنا للاسم والحرف، أضفت إليه ضرورة كما أضفته إلى زيد وعمرو، وقدمته، فبطل أن يكون فاعلا، فرفع بالابتداء، كذلك الفاعل إذا قدّم على الفعل رفع بالابتداء كقولك: زيد قام، وعمرو انطلق. فإذا أوقعت على هذه الأسماء عاملا قبلها من غير ما ذكرنا بطلت المجازاة بها وصارت بمنزلة (الذي) واحتاجت إلى صلة على ما ذكره سيبويه ومثلها، وهذا هو المختار فيها. وقد يجوز أن يكون قبلها ما يعمل فيها، وتجريه مجرى فعل لا يتعدى، وليس بالمختار وذلك قولك: آتي من أتاني؛ الوجه المختار فيه أن تجعل (من) في موضع نصب ب (آتي) و (أتاني) في صلته، فيكون كقولك: آتي الذي أتاني. ويجوز أن يكون بمنزلة قولك: أخرج متى أتاني زيد، وأقيم أين أقام زيد، ويكون معناه: أخرج إن أتاني زيد، وأقيم إن أقام زيد؛ ويكون (متى) و (أين) ظرفين لما بعدهما، لا لأخرج وأقيم؛ وكذلك: آتي من أتاني، كأنه قال: آتي إن أتاني زيد، ولم يذكر (آتي) مفعولا، إلا أنه يعلم أنه يأتي الذي يأتيه كما تقول: ضربت وضربني زيد، فيعلم أن (ضربت) واقع على زيد؛ وكذلك لو قلت: إن يأتني زيد آت، وحذفت (الهاء)، لكان الوجه أن يكون: آته. وأما قوله:

من يأتها لا يضيرها (¬1) ففي رفع (يضيرها) وجهان: أحدهما: بإضمار (الفاء) كأنه قال: فلا يضيرها؛ وهذا الوجه لا خلاف في جوازه. والوجه الآخر: يرتفع على التقديم كأنه قال: لا يضيرها من يأتها. وقد خالف سيبويه فيما أجازه من التقديم في هذا البيت اثنان: أحدهما: الذي يرى أن الفعل المرفوع إذا وقع بعد الشرط، لم يجز أن ينوي به التقديم، وإن حسن تقديمه. وقائل هذا محمد بن يزيد، يقول: إن أتيتني أكرمك، لا يجوز أن يكون بتقدير: أكرمك إن أتيتني، وإن كان يحسن أن يقول: أكرمك إن أتيتني. والمخالف الآخر زعم أنه لا يجوز بتقدير التقديم فيه، لأنا إن قدمناه لم يجز أن يكون (من) فاعلا ليضيرها لأنها قد جزمت (بأنها)، ولا يجوز أن تجزم وهي فاعلة لفعل قبلها؛ وإن لم تكن (من) هي الفاعلة فلا يبين لها فاعل، فلم يجز غيره التقديم من أجل ذلك. فأما أبو العباس فقد ذكرنا قوله قبل هذا، وصحته أن المرفوع إذا وقع بعد الشرط، فقد وقع في موقعه، فلا ينوي به التقديم الذي ليس بموضعه، كما لا يقال: ضرب غلامه زيدا على نية: ضرب زيدا غلامه، لأن الغلام وقع في موضعه لأنه فاعل، وحق الفاعل التقديم؛ والجواب عن هذا: أن الشرط على وجهين: أحدهما: أن يكون المعتمد المقصود تقديم الشرط، واتباع الجواب له كقولك: إن تأتني آتك، وإن تأتني فأنا مكرم لك، فلا يجوز تقديم الجواب على الشرط. والآخر: أن يكون الاعتماد على فعل وفاعل ومبتدإ؛ وحين يبتدئه المتكلم ويعلقه بشرط كما يعلقه بظرف فيقول: أكرمك إن أتيتني، وأنا مكرمك إن زرتني. كما تقول: أكرمك يوم الجمعة. فإذا قال: إن أتيتني أكرمك، فليس (أكرمك) بجواب، فيكون تقديمنا له إلى غير موضعه؛ وإنما جعل الفعل الذي القصد فيه التقديم، ويدل على ذلك أن المقسم إذا حلف على شرط وجزاء، جعل جواب القسم نائبا عن الجزاء، وجعل إعرابه ولفظه على جواب اليمين دون جواب الشرط في المجازاة. وإن كان واقعا بعد الشرط، وذلك قولك: والله لإن جفوتني لا أزورك، فترفع (لا ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

أزورك) وهو بعد (جفوتني) الذي هو شرط؛ فإن كان (لا أزورك) مجازاة، فينبغي أن يكون مجزوما، وإن كان ينوي به غير المجازاة، وهو واقع موقع الجزاء ما ينوي به غير الجزاء. وقد ذكر أبو بكر بن الأعرابي عن أبي العباس المبرد أنه قال: إذا قلت: لإن أتيتني لأكرمنك. وإنما هو: والله لإن أتيتني والله لأكرمنك، وأضمرت، قال: ولا يكون هذا إلا على قسمين. قال أبو سعيد: وهذا غلط وسهو من أبي العباس لأن الشرط إذا أفرد فليس بخبر، والقسم إنما يقع على خبر، وما يصح فيه التصديق والتكذيب، ألا ترى أن الاستفهام والأمر والنهي لا يصح القسم عليهنّ لأنهن لسن بأخبار، فكيف يصح القسم على الشرط وحده، وأما الذي رد تقديم (لا يضيرها) لأنه لا فاعل معه، فيجوز أن يكون ضمير الفاعل على شرط التفسير، كما يكون في قولك: ضربني وضربت زيدا، ونحو ذلك مما يضمر على شرط التفسير، كأنه قال: لا يضيرها أحد إن أتاها أحد؛ لأنّ معنى من يأتها إن يأتها أحد، فأضمر في يضيرها؛ لأن الكلام الذي بعدها فيه ذكر المضمر الذي أضمر على شرط التفسير، وأما: أقول مهما تقل، وأكون حيثما تكن وأكون أين تكن، وآتيك متى تأتني، وتلتبس بها أنّى تأتها فلا يجوز رفع ما بعدهن من الأفعال لأنهن لا يكن بمنزلة (الذي) كما تكون (من) و (ما) و (أيهم)، فنجعل الفعل بعدهن صلة لها، ونرفع، ألا ترى أنّك تقول: مررت بمن يعجبني، وبما يسرّني، وبأيّهم يوافقني، ولا تقول مررت بمهما يسرني. فلما لم تكن هذه الحروف بمنزلة الذي بطل رفع الفعل فيهنّ، ووجبت المجازاة وقبح الجزم في فعل الشرط، إذ لا جواب بعده، كما قبح أن تقول: أقول إن تقل وآتيك إن تأتني ولو كان ماضيا لحسن كقولك: أقول إن قلت، وآتيك إن أتيتني لأن الشرط لم يجزم، وهذه الظروف التي يجازي بها لا تتمكن ولا يخبر عنها كما يخبر عن (ما) و (من) و (أيهم) ألا ترى أنك تقول ما تصنع قبيح على أن ما مبتدأ، وتصنع في صلته وقبيح خبره، ولا يجوز مهما تصنع قبيح؛ لأن مهما لا يخبر عنها، وتقول: في الكتاب ما تقول- بمعنى مكتوب عندي ما تقول- فتكون (ما) مبتدأ بمنزلة (الذي)، و (تقول) صلتها، و (في الكتاب) خبر مقدّم، كما يقول: في الدار صنيعك، ولا يجوز على هذا: في الكتاب مهما تقول، إذا جعلت (تقول) صلة لمهما كما تجعلها صلة لما.

هذا باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة (الذي)

هذا باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة (الذي) وذلك قولك: إن من يأتيني آتيه، وكان من يأتيني آتيه، وليس من يأتيني آتيه. وإنما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنك أعلمت (كان) و (إنّ) لم يسغ لك أن تدع (كان) وأشباهه معلقة لا تعملها في شيء، فلما أعملهنّ ذهب الجزاء، ولم يكن من مواضعه؛ ألا ترى أنك لو جئت ب (أن) و (متى) كان محالا. فهذا دليل على أن الجزاء لا ينبغي له هاهنا ب (من) و (ما) و (أيّ)، فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت. فمن ذلك قولك: إنه من يأتنا نأته، وقال الله- تعالى ذكره-: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ (¬1) وكنت من يأتني آته، وتقول: كان من يأته يعطه، وليس من يأته يحببه، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس، لأنه حينئذ بمنزلة (لست) و (كنت)، فإن لم تضمر فالكلام على ما ذكرناه وقد جاء في الشعر: إن من يأتني آته قال الأعشى: إنّ من لام في بني بنت حسّا … ن ألمه وأعصه في الخطوب (¬2) وقال أميّة بن أبي الصلت: ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه … بعدّته ينزل به وهو أعزل (¬3) فزعم أنه إنما جاز حيث أضمر الهاء، وأراد (إنه)، و (لكنه) كما قال الرّاعي: فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة … وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا (¬4) أراد: فلو أنه حقّ، ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا. وتقول: قد علمت أنّ من يأتني آته، من قبل أنّ (أن) هاهنا فيها إضمار الهاء، ولا تجئ مخففة إلا على ذلك كما قال: أكاشره وأعلم أن كلانا … على ما شاء صاحبه حريص (¬5) ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 74. (¬2) البيت في ديوانه 219، ابن يعيش 3/ 115؛ الكتاب 3/ 72. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 73. (¬4) البيت في ديوانه 167، الخزانة 11/ 451. (¬5) البيت ورد منسوبا لعدي بن زيد؛ ولعمرو بن جابر الحنفي في حماسة البحتري 18، ابن يعيش 1/ 54؛ الكتاب 3/ 73، 74.

ولا يجوز أن تنوي في (كان) وأشباه (كان) علامة إضمار المخاطب، ولا تذكرها لو قلت: ليس من يأتك تعطه، تريد لست لم يجز ولو جاز ذا لقلت: كان من يأتك تعطه تريد به كنت. قال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا … أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (¬1) فهذا يريد معنى الهاء. ولا يخفّف (أن) إلا عليه كما قال: قد علمت أن لا يقول وأي إنّه لا يقول، وقال تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا (¬2) وليس هذا بقوي في الكلام كقّوة (أن لا يقول) لأن لها عوض من ذهاب العلامة، ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون به بغير الهاء، فيقولون: قد علمت أن عبد الله منطلق. قال أبو سعيد: قد ذكرنا أن الاسم الذي يجازى به لا يعمل فيه إلا فعل الشرط، أو ما يتصل بفعل الشرط والابتداء، فإذا دخل عليها مما قبلها ما ينصبها أو يرفعها أو يخفضها لم يجاز بها وبطل عملها، فلما قلت: إنّ من يأتيني، وكان من يأتيني، انتصب (من) بإن، وارتفع بكان، فبطل تضمنها لحرف المجازاة لاستحالة وقوع حرف المجازاة بعد هذه العوامل، ومن أجل هذا قال سيبويه: ((فلما أعملتهن ... يعني العوامل- في (من) ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه، ألا ترى أنك لو جئت (بأن) و (متى) كان محالا، فاستدل باستحالة وقوع (إن) و (متى) بعد كان وأشباهه إن (من) لا تقع بعدهن إذا كانت للمجازاة لتضمنها معنى (إن) وذكر متى معها، لأن (متى) وإن كانت اسما لا تدخل عليها العوامل التي تدخل على (من، وما، وأي) لأن هذه الأسماء يخبر عنها، ويدخل عليها جميع العوامل التي تدخل على الأسماء المتمكنة، و (متى) لا يخبر عنها، وكذلك (أين، وحيثما، وأنّى) فإذا شغلت هذه العوامل بشيء، فصار الموضع بعده موضعا يقع فيه المبتدأ جاز أن يقع (من، وما، وأي) للمجازاة نحو قولك: إنه من يأتني آته، وكنت من يأتني آته، وكان من يأته يعطه إذا أضمرت فيه اسما جرى ذكره، وكذلك إن جعل فيه ضمير الأمر والشأن كقولك: كان من يأت زيدا يكرمه، والأبيات التي أنشدها فيها كلها ضمير محذوف منصوب من (أنّ) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 109، الكتاب 2/ 137، 3/ 74؛ المقتضب 3/ 9. (¬2) سورة طه، الآية: 89.

هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء كما ذهب في (إن) و (كان) وأشباههما

و (لكنّ)، فصار ما بعدها موضع ابتداء وخبر مثله. إنّ من يدخل الكنيسة يوما … يلق فيها جآزرا وظباء (¬1) ومعناه إنه، ولذلك لو خفّفت (إنّ) والاسم فيها ضمير- كقوله: ويكأن من يكن له نشب يحبب … ومن يفتقر يعش عيّش ضر (¬2) لأنه موضع يقع فيه ابتداء وقد عملت أن في المضمر، ولم يجز أن تنوي في كان وأشباهه علامة إضمار المخاطب، ولا تذكرها لأن علامة إضمار المخاطب في ليس، وكان كعلامة المخاطب في الفعل الماضي، وهي تاء ملفوظ بها كقولك: قمت وذهبت ولا يجوز حذفها لأنها فاعل، والفاعل لا يحذف، فيبقى الفعل فارغا من الفاعل؛ ومن وجه آخر وهو أن علامة الفاعل المخاطب بعض صيغة الفعل، فلو حذفناها بقي كن في معنى كنت وليس في معنى لست وهذا محال، لأنكّ لا تقول: كن من يأتك تأته، وليس من يأتك تأته، فإذا كان الفعل مستقبلا جاز أن تنوي لأنه ليس له علامة ملفوظ بها، وذلك قولك للمخاطب: تكون من يأتك تأته، وفي (تكون) ضمير الفاعل المخاطب، وفي بيت الأعشى: أن هالك كل من يحفى وينتعل (¬3) وفي حاشية كتاب أبي بكر مبرمان: هذا معمول، والبيت: أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل (¬4) قال أبو سعيد: الشاهد في كلتا الروايتين واحد لأنه في إضمار الهاء في (إنّ) وتقديره إنه هنالك وإنه ليس، وباقي الباب مفهوم. هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء كما ذهب في (إن) و (كان) وأشباههما غير أنّ (إنّ وكان) عوامل فيما بعدهن، والحروف في هذا الباب يحدثن فيما ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا إلى الأخطل، ابن يعيش 3/ 115. (¬2) البيت ورد منسوبا لزيد بن عمرو بن نفيل، ابن يعيش 4/ 76؛ الكتاب، 2/ 155. (¬3) عجز بيت سبق تخريجه. (¬4) البيت ورد منسوبا للأعشى في ديوانه 45.

بعدهنّ من الأسماء ما أحدثت (إنّ وكان) وأشباههما لأنهما من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبني عليه، فلا تغيّر الكلام عن حاله، وسأبين لك كيف ذهب الجزاء فيهنّ إن شاء الله. فمن ذلك قوله: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وما من يأتينا نأتيه، وأما من يأتينا فنحن نأتيه. وإنما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، كما لم يجز أن تقول: إنّ إن تأتنا نأتك، فلما صار هذا الباب باب (إنّ وكان) كرهوا الجزاء فيه، وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف، فيقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته، وإنما أجازوه لأنّ (إذ) وهذه الحروف تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها، فقالوا: ندخلها على من يأتنا نأته، وتغيّر الكلام، كأنا قلنا: من يأتنا نأته، كما أنا إذا قلنا: إذ عبد الله منطلق كأنا قلنا: عبد الله منطلق؛ لأنّ (إذ) لم تحدث شيئا لم يكن قبل تذكرها. فقال لبيد: على حين من تلبث عليه ذنوبه … يجد فقدها وفي المقام تدابر (¬1) ولو اضطر شاعر فقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك جاز له، كما كان في (من) وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت بين (إذ) و (من)، كما فصل الاسم في كان بين (كان) و (من). وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هاهنا، ألا ترى أنك تقول: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررت به فإذا أيّما رجل. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: فإذا هو من يأته يعطه؛ فإن لم تضمر، وجعلت إذا هي لمن، فهي بمنزلة (إذ) لا يجوز فيها الجزم. وتقول: لا من يأتك تعطه ولا من يعطك تأته من قبل أن (لا) ليست كإذ وأشباهها، لأنها لغو بمنزلة (ما) في قول الله- تبارك وتعالى- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (¬2) فما بعده كشيء ليس قبله لا، ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيّره عن حاله، تقول: مررت برجل لا قائم ولا قاعد، وتدخل على النصب فلا تغيره عن حاله ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 217؛ الخزانة 3/ 649؛ الكتاب 3/ 75. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159.

تقول: لا مرحبا ولا أهلا، ولا تغير الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن ينفيه، ولا ينفيه مغيّرا عن حاله يعني في الإعراب الذي كان، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه (لا) و (إذا) وأشباهها لا يقعن هذه المواضع، ولا يكون الكلام بعدهن إلا مبتدأ قال ابن مقبل: وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها … يعار ولا من يأتها يتدسّم (¬1) ووقوع (إن) بعد (لا) يقويّ الجزاء فيما بعد لا. وذلك قول الرجل: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا، و (لا) لغو في كلامهم. ألا ترى أنّك تقول: خفت ألّا يقول، ويجري مجرى خفت أن تقول. وتقول: إن لا تقل أقل، فلا لغو. وإذا وأشباهها ليست هكذا إنما يصرفن الكلام أبدا إلى ابتداء. وتقول: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك، جاز هذا وحسن لأنك قد تضمرها هنا كما تضمر في (إذا)، ألا ترى أنك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق، فإن لم تضمر تركت الجزاء، كما فعلت ذلك في (إذا) فاصرفه، قال طرفة: ولست بحلّال التّلاع مخافة … ولكن متى يسترفد القوم أرفد (¬2) كأنه قال: أنا ولا يجوز في (متى) أن يكون الفعل وصلا لها، كما جاز في (من) و (الذي) وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي: وما ذاك أن كان ابن عمّي ولا أخي … ولكن متى ما أملك الضرّ أنفع (¬3) والقوافي مرفوعة كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء، وما لغو. لا نجد سبيلا إلى أن يكون بمنزلة (من) فتوصل، ولكنها كمهما. وأما قول الله- تبارك وتعالى-: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ (¬4) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 395، الكتاب 3/ 77. (¬2) البيت في ديوانه 29، الخزانة 9/ 66، 67؛ الكتاب 3/ 78. (¬3) البيت في ديوانه، الخزانة 9/ 66، 70، 73؛ والكتاب 3/ 78. (¬4) سورة الواقعة، الآيتان: 90، 91.

فإنما هو كقولك: أما غدا فلك ذاك. فحسنت لأنه لم يجزم بها، كما حسنت في قوله: ((أنت ظالم إن فعلت)). وأبو الحسن يراه جوابا لهم جميعا، ولا يجيز ذلك إذا جزم لأنه يخلص الجواب للجزاء. قال أبو سعيد: ((أما كراهة المجازاة بعد (إذ) ففي لفظ سيبويه ما يدل على أن من قبله كره ذلك، إما من النحويين وإما من العرب، ولعلهم كرهوا ذلك من أجل أن (إذ) اسم للوقت، وكان حقه أن يضاف إلى اسم واحد، وما يضاف إلى اسم واحد لا يقع بعده مجازاة لأنه يجر ما بعده، وموضع المجازاة لا يكون مجرورا بما قبله، وقد مض الكلام في ذلك، ثم أجازه في الشعر لوقوع الاسم المبتدأ والخبر بعده، وبعد ما كان في معناه من أسماء الزمان، وأنشد قول لبيد: عل حين من تلبث عليه ذنوبه … يجد فقدها وفي المقام تدابر (¬1) ويروى: تداثر، وهذا مثل، وإنما يصف لبيد مجلسا فاخر فيه القبائل بين يدي بعض الملوك فظهر عليهم وغلبهم وذلك قوله: وزدت معدّا والعباد وطيّئا … وكلبا كما زيد الخماس البواكر (¬2) على حين من تلبث عليه ذنوبه. أراد شدة الكلام في المجالس، وإن من أبطأت عنه الحجة في الامتحان فقد غلب، ومعنى تداثر: تزاحم وتكاثر، ومعنى تدابر تقاطع، لأن ما هم فيه من الشدة يحملهم على أن لا يلوي الواحد منهم على قرابته ويحمله على أن يقاطعه فإذا كان بعد (إذ) اسم حسن بعد ذلك الاسم المجازاة كقولك: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، لأن (نحن) في موضع مبتدإ وما بعده خبره، فصار كقولك: زيد من يأته يكرمه، وعلى هذا الوجه استحسن سيبويه مررت به فإذا من يأته يعطه على تقدير فإذا هو من يأته يعطه، وإضمار (هو) كثير بعد إذ مستحسن، كقولك: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررت به فإذا أيما رجل على معنى فإذا هو أجمل الناس، وإذا هو أيما رجل، وإن لم تقدّر (هو) بعد إذا قلت مرت به فإذا من يأتيه يعطيه، (من) بمعنى الذي، ويأتيه صلتها، ويعطيه خبرها، وهو بمنزلة (فإذا زيد ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت ورد منسوبا للبيد بن ربيعة في ديوانه 216، الخزانة 9/ 63.

يعطيك)، واستحسن المجازاة بعد لا كقولك: لا من يأتك تعطه، ولا من يعطك تأته، وكقوله: ... ولا من يأتيها يتدسّم (¬1) لأن (لا) لا تفصل بين العامل والمعمول فيه في قولك: فمررت برجل لا قائم ولا قاعد. وقال الشاعر: ما لقي البيض من الحرقوص … يدخل تحت الفلق المرصوص بمهر لا غال ولا رخيص (¬2) وفي قولك: خفت أن لا يقول، كما تقول: خفت أن تقول، وجعلها لغوا لأنها لا تفصل بين العامل والمعمول فيه كما أنّ (ما) في قول الله- تبارك وتعالى-: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ (¬3) لم تفصل بين الباء وبين رحمة، وقوّى أيضا المجازاة (بمن) بعد (لا) وقوع (إن) بعدها في قولهم: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن قعدنا عنك عرضت علينا، وذلك أنها تدخل في الكلام فلا تغيّره عن حده في الإيجاب، لأنه ينفي على ما كان موجبا، كقولك: لا مرحبا ولا أهلا بزيد ولا سلام على بكر، على قولك: مرحبا وأهلا بزيد وسلام على بكر، ولكن بمنزلة (إذا) في حسن إضمار الابتداء بها، فحسنت المجازاة على ذلك التقدير، ألا ترى أنّك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق، ومنه ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك، ومنه قول طرفة: ولكن متى يسترفد القوم أرفد (¬4) على تقدير: ولكن أنا متى؛ وقد تقدم قولنا أن متى لا توصل بالفعل ولا تغيّره، كما يوصل الذي، ومن، وما، وأيّهم، لأنه لا يخبر عن (متى) كما يخبر عن هذه الأسماء. وقوله: ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) لم تقف عليه فيما أتيح لنا من مصادر. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬4) عجز بيت ثم تخريجه.

هذا باب إذا لزمت فيه الأسماء التي يجازى بها حروف الجر لم تغيرها عن الجزاء

متى ما أملك الضّرّ أنفع (¬1) تقديره: ولكن أنفع متى ما أملك الضّرّ، وفيه قبح لأنه جزم الشرط، وليس بعده جواب، وقبحه كقبح قولك: أكرمك إن تأتني، وقد ذكرناه، ولا بد لمتى هاهنا من المجازاة، وجزم (أملك) لأنها لا تنصرف إلى مذهب (من) وأخواتها، فيرفع الفعل بعدها صلة لها، وقول الله- عز وجل-: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (¬2). تقديره: مهما يكن من شيء فسلام لك من أصحاب اليمين إن كان من أصحاب اليمين، فالفاء وما بعدها جواب (مهما)، ثم جعلت (أما) في معنى مهما والشرط، وعوّضوا من المحذوف تقديم بعض ما بعد الفاء، وسلام لك مبتدأ وخبر مغن عن إن كما يغني عنه قولك: أنا مكرمك، ويحتمل أن يكون التقدير: مهما يكن من شيء، فإن كان من أصحاب اليمين فسلام، فيكون فاء إن إحداهما لأمّا والأخرى لجواب إن، فلما جعل مكانها أمّا وحذف الشرط وقدّم (إن كان) التقت الفا أن، فأغنت إحداهما عن الأخرى، وهذا يحتمله مذهب أبي الحسن لأنه يجعله جوابا لهما، ولا يحسن جزمه، ولو قلت: وأما إن يكن من أصحاب اليمين لم يحسن لأنّا إن جزمناه وقدرناه بعد سلام لك كانت جازمة لا جواب بعدها، فتأمل ذلك إن شاء الله. هذا باب إذا لزمت فيه الأسماء التي يجازى بها حروف الجر لم تغيّرها عن الجزاء وذلك قولك: على أيّ دابة أحمل أركبه، وبمن تؤخذ أو خذ به، هذا قول يونس والخليل جميعا. فحروف الجر لم تغيّرها عن الاستفهام ألا ترى أنك تقول: بمن تمرّ، وعلى أيّها أركب، فلو غيرّتها عن الجزاء غيرتها عن الاستفهام، وقال ابن همّام: لمّا تمكّن دنياهم أطاعهم … في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (¬3) ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) سورة الواقعة، الآيتان: 90، 91. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 80؛ ولسان العرب 3/ 414 (مكن).

وذلك لأن الفعل إنما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها، فالفعل مع الباء بمنزلة فعل ليس قبله حرف جر، ولا بعده، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة؛ لأن الفعل يصل بالجر إلى الاسم كما يصل غيره رافعا وناصبا فالجر هاهنا نظير الرفع والنصب في غيره. فإن قلت: بمن تمرّ به أمرّ، وعلى من تنزل عليه أنزل، وبما تأتيني به آتيك، رفعت لأن الفعل إنما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية، والباء الأولى للفعل الآخر، فتغيّر عن حال الجزاء، كما تغير عن حال الاستفهام، فصارت بمنزلة (الذي) لأنك أدخلت الباء للفعل خبرا وصلت الفعل الذي يلي الأسماء بالباء الثانية إلى الهاء، فصارت الأولى ك (كان) و (إنّ) وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإنّ فيما بعدهما. وقد يجوز أن تقول: بمن تمر أمر، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه وليس بحدّ الكلام وفيه ضعف، ومثل ذلك قول الشاعر، وهو بعض الأعراب: إنّ الكريم وأبيك يعتمل … إن لم يجد يوما على من يتّكل (¬1) ويقول: غلام من تضرب أضربه، لأن ما يضاف إلى من بمنزلة من، ألا ترى أنك تقول: أبو أيّهم رأيته. وتقول: بغلام من تؤخذ أوخذ به، كأنك قلت: بمن تؤخّذ أؤخذ به، وحسن الاستفهام هاهنا يقوّي الجزاء، تقول: غلام من تضرب، وبغلام من مررت، ألا ترى أن كينونة الفعل غير واصل ثانية. ويقول: بمن تمرر أمرر به، وبمن تؤخذ أوخذ به، فحدّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر، لأنه فعل لا يصل إلا بحرف إضافة يدلك على ذلك أنك لو قلت: من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول: عليه، إلا في شعر. فإن قلت: بمن تمرر أمرر، وبمن تؤخذ أؤخذ، فهذا أمثل، وليس بحد الكلام، وإنما كان في هذا أمثل، لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول فعلم أن الآخر مثله لأنه ذلك الفعل. قال أبو سعيد: قد تقدم أن الاسم الذي يجازى به إذا عمل فيه ما قبله بطلت المجازاة، إلا يكون ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة 4/ 252؛ الكتاب 3/ 81.

العامل حرف جر في صلة فعل الشرط، أو اسما مضافا قد نصبه فعل الشرط أو مبتدأ مضافا؛ فإذا قلت: على أي دابّة أحمل أركبه، فعلى في صلة أحمل الذي هو شرط، فلذلك لم تبطل المجازاة، واركبه الجواب وكذلك بمن تؤخذ أوخذ، الباء في بمن في صلة تؤخذ، والحجة في جواز تقدّمها في المجازاة إذا كان العامل فيها ما بعدها كالحجة في جواز تقدمها في الاستفهام إذا كان العامل لا يجوز فيها ما بعدها. كقولك: بمن تمر، ولو قدمت العامل فيهما لم يجز، لا يجوز تمرّ بمن في الاستفهام، ولا تؤخذ بمن أوخذ به، وعلى هذا تقول في الاستفهام على أنها أركب وقوله: في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (¬1) يميلوا هو الواقع على (في) فإذا قلت: بمن تمرّ به أمرّ، وعلى أيّهم تنزل عليه أنزل، فقد جعلت ما بعد ما وأيهم صلة لهما، فأوجب ذلك أن يكونا بمنزلة الذي، لأنهما في الاستفهام والمجازاة لا يحتاجان إلى صلة، وتقديره بالذي تمرّ به أمّر، وتمرّ فيه صلة الذي، والعائد إلى الذي الهاء الذي في به بعد تمرّ، والباء الواقعة على الذي في صلة أمرّ. وتقديره أمرّ بالذي تمرّ به، وكذلك أنزل على الذي تنزل عليه، وآتيك بالذي تأتيني به، وقد يكتفون بأحد حرفي الجر، ويحذفون الآخر، وإن كان منويا، وذلك في الذي في المجازاة، كقولهم في معنى: الذي بمن تمر أمر تقديره بمنّ تمر به أمر، واكتفوا بالباء الأولى والثانية منوية لأن الهاء في به المنوية هي العائدة إلى من، وكذلك التقدير على من تنزل عليه أنزل، وحذف عليه والهاء فيها هي العائدة إلى من، ومثله في الاكتفاء بأحد الحرفين في كلامهم إنهم يقولون: مررت ومرّ بي زيد، ونزلت ونزل عليّ زيد تقديره مررت بزيد. ومرّ بي، ونزلت على زيد، ونزل عليّ فسوغت الثانية حذف الأولى، ودلت عليه، وقد يقول القائل: في أي شيء تصرّفني اتصرّف، وإلى أين وجّهتني توجّهت، والمعنى انصرف فيه، وتوجهت إليه، وعلى هذا قول ابن همام: في أيّ نحو يميلوا دينه يمل وأنشد سيبويه في ذلك: ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه.

هذا باب الجزاء إذا دخلت فيه ألف الاستفهام

إنّ الكريم وأبيك يعتمل … إن لم يجد يوما على من يتّكل (¬1) وفيه وجهان: أحدهما يعتمل على من يتكل عليه، معناه إنه يحترف ويعمل بيديه على محتاج إليه، أو عيال له يتكل عليه إن لم يصب مالا يعولهم به، وينفق عليهم منه، فكرمه يحمله على أن يعمل بيديه حتى ينفق عليهم منه، والآخر ما ذكره الزجاج، وذلك أنه جعل عليه معنى عنده، وجعل الذي يعتمل على نفسه إذا لم يجد عند من يتكل عليه شيئا ينفقه على نفسه أو عياله، اعتمل حتى ينفق، والمعتمل في هذا غير المتكل عليه، وفي القول الأول هو المتكل عليه، والقول الأول أوضح وأقرب، وغير سيبويه يذهب إلى أن الكلام قد تم عند قوله: إن لم يجد يوما. وقوله: على من يتكل كلام مستأنف على جهة الاستفهام، وليس في هذا الكلام محذوف يقدّر، وقول سيبويه أولى، لأن الظاهر كلام واحد، ولا يفرد بعضه عن بعض إلا بدلالة، وأصل الكلام فيه. ألا يحذف الحرف الذي يقتضيه أحد الفعلين لذكره في الآخر، لأن لكل واحد من الفعلين حكم نفسه وباقي الباب مفهوم. هذا باب الجزاء إذا دخلت فيه ألف الاستفهام وذلك قولك: أإن تأتني آتك، ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء، ومتى مثلها؛ فمن ثمّ أدخلت عليه الألف، تقول: أمتى تشتمني أشتمك وأ من يقل ذاك أزره، وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عمل بعضه في بعض فلم تغيرّه، وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك لا يغيرّ الكلام عن حاله، وليست كإذ وهل وأشباههما ألا ترى أنها تدخل على المجرور والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيّره عن لفظه المستفهم، ألا ترى أنه يقول: مررت بزيد، فتقول: أزيد، وإن شئت قلت: أزيد تأتيه، وكذلك تقول في الرفع والنصب، وإن شئت أدخلتها على كلام المخبر، ولم تحذف منه شيئا، وذلك إذا قال: مررت بزيد، قلت: أمررت بزيد، ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها. لو قلت: هل مررت بزيد، كنت مستأنفا، ألا ترى أن الألف لغو، فإن قيل: فإن الألف لا بد لها من أن تكون معتمدة على شيء، فإن هذا الكلام معتمد لها، كما يكون صلة للذي إذا قلت: الذي إن تأته يأتك زيد، فهذا كله وصل. ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه.

فإن قال: الذي إن تأته يأتيك زيد، واجعل يأتيك صلة الذي لم يجد بدا من أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؛ لأن أنا لا يكون كلاما حتى يبنى عليه شيء وأما يونس، فيقول: أإن تأتني آتيك، وهذا قبيح يكره في الجزاء. وإن كان في الاستفهام، وقال الله تعالى-: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (¬1) ولو كان ليس موضع جزاء قبح (إن) كما تقبح أن تقول: أتذكر إن تأتني آتيك، فلو قلت: إن أتيتني آتيك على القلب كان حسنا. قال أبو سعيد: ألف الاستفهام تدخل على الجمل، وتدخل بين العامل والمعمول فيه، ولا تعمل هي شيئا، فأشبهت واو العطف، وفائه التي يكون بعدها المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والشرط والجزاء، وأشبهت أيضا (لا) التي تدخل على الجمل، وبين العامل والمعمول فيه، وهي لا تعمل شيئا، كقولنا: لا زيد منطلق ولا عمرو شاخص، ومررت برجل لا ذاهب ولا شاخص، وهذا غلام لا شجاع ولا جواد، وقد تقدم ذكر المجازاة بعد (لا). وتقول: بكم رجلا مررت أثلاثة أم أربعة فلا تمنع الألف خفض ما بعدها بما قبلها، وإذا قال القائل: مررت بزيد، فقيل له: أزيد، فهذا المخفوض محمول على الكلام الأول. وفصل سيبويه بين ألف الاستفهام وبين هل بما ذكره في الألف مما ليس في هل، وقوله: ((ألا ترى أن الألف لغو)) يريد دخولها بين العامل والمعمول فيه، كدخول ما، ولا في قول الله- تعالى-: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (¬2). وأما قول سيبويه: ((إن هذا الكلام معتمد لها)) يعني ما بعد ألف الاستفهام من الشرط والجزاء معتمد لها، كما يعتمد على الابتداء والخبر في قولك: أزيد منطلق، وكما يعتمد الذي في صلتها على الشرط والجزاء، والابتداء والخبر، إلا أن (الذي) يحتاج إلى عائد، لأنها اسم وألف الاستفهام لا تحتاج إلى العائد، ولا يحسن أن تقول: الذي إن تأته يأتيك زيد، كما لا يحسن أنا إن تأتني آتيك، لأنك إن قدرت الفاء في آتيك، فحذفها قبيح، وإن قدرت تقديمها فجزم تأتيني قبيح وليس بعدها جواب، وحسن هذا وقبحه وهو في الصلة، أو في موضع خبر مبتدإ كحسنه وقبحه لو كان مبتدأ، إذا قلت إن تأتني آتيك ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 34. (¬2) سورة النساء، الآية: 155.

هذا باب الجزاء إذا كان القسم في أوله

ولا فصل بينهما؛ ولهذا قبّح سيبويه ما قاله يونس: أإن تأتني آتيك، لأن يونس أجاز هذا مع ألف الاستفهام، وهو قبيح إذا لم تكن قبله ألف الاستفهام، فقبّحه سيبويه لأن ألف الاستفهام لا تغير المجازاة عن حكمها، كما لا تغير (الذي)، والابتداء حكم المجازاة بعدهما، وقول الله- عز وجل-: أَفَإِنْ مِتَّ [الأنبياء: 34] شاهد لحسن المجازاة بمن وأخواتها بعد ألف الاستفهام، كما أن فتح إن بعد إذ في: أتذكر إذ أن تأتني آتيك، موجب قبح أتذكر إذ من يأتنا نأته، ولو جعلت الفعل بعد أن ماضيا حسن لأنه يصير التقدير: أتذكر إذ آتيك إن أتيتني، فيكون الذي يلي إذ آتيك، وهو كلام وباقي الباب مفهوم. هذا باب الجزاء إذا كان القسم في أوّله وذلك قولك: والله إن أتيتني لا أفعل، لا يكون إلا معتمدة عليه اليمين، ألا ترى أنّك لو قلت: والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت: والله من يأتني آته كان محالا، واليمين لا تكون لغوا كلا والألف، لأن اليمين لآخر الكلام، وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين. وإذا قلت: أإن تأتني آتك، فكأنك لم تذكر الألف، واليمين. وإذا قلت: أإن تأتني آتك، فكأنك لم تذكر الألف، واليمين وإذا قلت: أإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في كلامهم، ألا ترى أنّك تقول: زيد منطلق، فلو أدخلت اليمين غيّرت الكلام، وتقول: أنا والله إن تأتني لا آتك، لأن هذا الكلام مبني على (أنا)، ألا ترى أنه حسن أن تقول: أنا والله إن تأتني آتك، والقسم هاهنا لغو، فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه، ألا ترى أنكّ تقول: لئن أتيتني لا أفعل ذاك لأنها لام قسم، ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا أفعل، لأن الآخر لا يكون جزما. وتقول: والله إن أتيتني آتيك، وهو معنى لا آتيك، فإن أردت أنّ الإتيان يكون، فهو غير جائز، وإن نفيت الإتيان، وأردت أنّ المعنى لا آتيك فهو مستقيم، وأما قول الفرزدق: وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي … بها أن يضلّ الناس يهدى ضلالها (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 623، والكتاب 3/ 85.

ولا يكون الآخر إلا رفعا، لأنّ (أن) لا يجازى بها، وإنما هي مع الفعل اسم، فكأنه قال: لأن يضلّ الناس يهدي ضلالهم. وهكذا أنشد الفرزدق. قال أبو سعيد: إذا أقسمت على المجازاة، فالقسم إنما يقع على الجواب، لأن جواب المجازاة هو إخبار ووعد يقع فيه التصديق والتكذيب والوفاء والإخلاف، ألا ترى أنك لو قلت: إن جاء زيد أعطاه عمرو دينارا، لم يقع لك بمجيء زيد ولا بتأخره تصديق ولا تكذيب، وإنما يقع لك التصديق والتكذيب بإعطاء عمرو زيدا دينارا ومنعه إياه بعد مجيئه، والقسم إنما يؤكد الإخبار، وما ليس بخبر لا يقع عليه القسم، ألا ترى أنك لا تقول والله هل خرج زيد، ولا والله قم يا زيد، ولا والله لا يتكلّم يا عمرو، ولأن الاستفهام والأمر والنهي بإخبار، فلما كان القسم معتمدا به الجواب، بطل الجزم فيه، فصار لفظه كلفظه لو كان في غير مجازاة، فتقول: والله إن أتيتني لا أفعل، كأنك قلت: والله لا أفعل إن أتيتني، وصار الشرط معلقا على جواب اليمين، كما يعلق عليه الظرف إذا قلت: والله لا أفعل يوم الجمعة. ويقول والله إن أتيتني آتيك، على معنى لا آتيك، لأن جواب اليمين، لا يجوز إسقاط لامه إذا كان جحدا قال الله- عزّ وجلّ-: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (¬1) على معنى تالله لا تفتأ تذكر، وو الله أؤذيك على معنى والله لا أؤذيك، وإنما جاز إسقاط (لا) منه، لأنه لا يشكل بالإيجاب، لأن الإيجاب يحتاج إلى لام ونون، كقولك: والله لا آتينّك، وو الله لأخرجنّ. ولا يجوز إسقاط واحدة من اللام والنون، فإذا أسقطوا (لا) من الجحد، علم أنه جحد بسقوط واللام والنون منه، ويدخلون اللام أيضا على الشرط، لأنه أول ما يلقى اليمين، كقولك: والله لئن أتيتني لأكرمنّك، فإدخالها في الثاني واجب لازم، لأنه مقصود بالقسم، وإدخالها في الأول؛ لأنه صدر الكلام، والشرط والجواب هما في الأصل جملتان متباينتان ربطهما حرف المجازاة فصارتا كشيء واحد، فمن أدخل اللام في الأول فلأنهما كجملة واحدة صدرها الشرط، ثم تعيد في جواب اليمين الحرف الذي يوجبه اليمين، ومن لم يدخل اللام في الأول اكتفى بدخول علامة جواب اليمين في الموضع الذي هو حقه، وإن جزمت الشرط فقلت: والله لئن تأتني لا أفعل لم يحسن، لأن الشرط لا يجزم إذا لم يكن بعده جواب له، وقولك: لا أفعل هو جواب القسم، وليس بجواب له، وقد يسقط ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 85.

هذا باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما

القسم، ويبقى جوابه له؛ كقولك: لئن أتيتني لآتينك، ولئن زرتني لا أترك زيارتك؛ لأن لفظ جواب القسم قد دل على القسم المحذوف، فإذا تقدّم القسم شيء ثم أتى بعده المجازاة، اعتمدت المجازاة على ذلك الشيء، وألغي القسم، كقولك: إنا والله إن تأتني لا آتك، اعتمد إن تأتني لا آتك على (أنا) كأنه ليس بعده القسم، ألا ترى أنك تقول: زيد والله منطلق، ولو قلت: والله لزيد منطلق لزمته اللام، ومثله (إذا) إذا تقدّمت على القسم عملت، واعتمد الفعل عليها، كقولك: إذا والله أكرمك، وإذا والله لأكرمك، وإن تقدّم اليمين اعتمد الفعل عليها كقولك: والله إذا لأكرمنّك، وو الله إذا لأكرمك، وأما بيت الفرزدق قوله: وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي … بها أن يضلّ الناس يهدي ضلالها (¬1) فتقديره: التي بها يهدى الضال عنها، والهاء في ضلالها ترجع إليها، وأن يضل الناس هو السبب الذي جعل الهدى من أجله، وقد مضى الكلام في نحوه، وباقي الباب مفهوم. هذا باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما فأما ما يرتفع بينهما فقولك: إن تأتني تسألني أعطك وإن تأتني تمشي أمش معك، وذلك لأنك أردت أن تقول: إن تأتني سائلا يكن ذلك، وإن تأتني ماشيا فعلت، وقال زهير: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه … ولا يغنها يوما من الذمّ يذمم (¬2) إنما أراد: من لا يزل مستحملا يكن من أمره كذا وكذا، ولو رفع يغنها جاز وكان حسنا، كأنه قال: من لا يزل لا يغني نفسه ومما جاء أيضا مرتفعا قول الحطيئة: متى تأته تغشو إلى ضوء ناره … تجد خير نار عندها خير موقد (¬3) وسألت الخليل عن قوله: متى تأتنا المم بنا في ديارنا … تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (¬4) قال: تلمم بدل من الفعل الأول، ونظيره من الأسماء: مررت برجل عبد الله، فأراد أن يفسّر الإتيان بالإلمام، كما فسّر الاسم الأول ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت في ديوانه 32، الكتاب 3/ 85؛ المقتضب 2/ 65. (¬3) البيت منسوب للأعشى في ديوانه 51، ابن يعيش 2/ 66؛ الكتاب 3/ 86. (¬4) البيت منسوب للحطيئة، ابن يعيش 7/ 53؛ الكتاب 3/ 86.

بالآخر. ومثله قوله: إن يبخلوا أو يجبنوا … أو يغدروا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجّلي … ن كأنهم لم يفعلوا (¬1) فقوله يغدوا عليك بدل من لا يحفلوا إن غدوّهم مرجلين. يفسر أنهم لم يحفلوا. وسألته هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك فقال: هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول؛ لأن الأول الفعل الآخر تفسير له وهو هو، والسؤال لا يكون الإتيان، ولكنه يجوز على الغلط والنسيان ثم يتدارك كلامه. ونظير ذلك من الأسماء مررت برجل حمار كأنه نسى ثم تدارك كلامه. وسألته عن قول الله- تعالى-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ (¬2). فقال: هذا كالأول؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيّ الآثام. ومثل ذلك من الكلام إن تأتنا نحسن إليك نعطك ونحملك تفسر الإحسان بشيء هو هو، وتجعل الآخر بدلا من الأول. فلو قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك كان غير جائز، لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا. وأمّا ما ينجزم بين المجزومين فقولنا: إن تأتني ثم تسألني أعطك، وإن تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتني وتسألني أعطك، وذاك لأن هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول، وكذلك أو وما أشبههن. ويجوز في ذا الفعل الرفع، وإنما كان الرفع في قوله: (متى تأته تعشو) لأنه في موضع عاش، كأنه قال: متى تأته عاشيا ولو قلت: متى تأته وعاشيا كان محالا. وإنما أمرهن أن يشركن بين الأول والآخر. وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثني أحدّثك، وإن تأتني وتحدثني أحدثك؛ فقال: هذا يجوز والجزم الوجه. ¬

_ (¬1) البيت منسوب لبعض بني أسد، ابن يعيش 1/ 36. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 68، 69.

ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم كأنه أراد أن يقول: إن يكن إتيان فحديث أحدّثك. فقال: إن يكن إتيان فحديث أحدّثك، فلما قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى (أن) لأن الفعل معها اسم. وإنما كان الجزم الوجه، لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراده من الحديث، فلما أراد ذلك كان يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى، وكرهوا أن يتخطوا به إلى باب آخر إذا كان يريد شيئا واحدا. وسألته عن قول زهير: ومن لا يقدّم رجله مطمئنّة … فيثبتها في مستوى الأرض تزلق (¬1) فقال النصب هذا جيد لأنه أراد هاهنا من المعنى ما أراد في قوله: ما تأتينا إلا لم تحدّثنا فكأنه قال: من لا يقدم إلا لم يثبت زلق. ولا يكون أبدا إذا قلت: إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر إلا رفعا، وإنما منعه أن يكون مثل ما انتصب من المجزومين. أن هذا منقطع من الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: إن يكن إتيان فحديث أحدّثك، فالحديث متصل بالأول شريك له، وإذا قلت: إن يكن إتيان فحديث ثم سكتّ وجعلته جوابا لم يشرك الأول، وكان مرتفعا بالابتداء. وتقول: إن تأتني آتك فأحدثك. هذا الوجه وإن شئت ابتدأت، وكذلك (الواو، وثمّ)، وإن شئت نصبت بالواو والفاء، كما نصبت ما كان بين المجزومين. واعلم أن (ثمّ) لا تنصب بها كما تنصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها بمنزلة ما يضمر بعده (أن) وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء، وليس معناها معنى الواو، ولكنها تشرك، ويبتدأ بها. واعلم أن (ثم) إذا أدخلت على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلا جزما، لأنه ليس مما ينصب ولا يحسن الابتداء به لأن ما قبله لم ينقطع، وكذلك الفاء والواو، وإذا لم ترد بهن النصب فإذا انقضى الكلام ثم جئت (بثم)؛ فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت، وكذلك الفاء والواو، قال الله- تبارك وتعالى-: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 25، الكتاب 3/ 89؛ المقتضب 2/ 23، 67.

يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (¬1) وقال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (¬2) إلا أنه قد يجوز النصب بالواو والفاء وقد بلغنا أن بعضهم قرأ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬3) ويقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك، وإن تأتني فأنا آتيك، وأحسن إليك. وقال الله- تعالى-: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ (¬4). والرفع هاهنا وجه الكلام، وهو الجيد لأن الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء، فجرى الفعل هاهنا كما كان يجري في غير الجزاء. وقد بلغنا أن بعض القراء قرأ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬5) وذلك لأنه حمل الفعل على موضع الكلام، لأن هذا الكلام في موضع يكون جوابا، لأن أصل الجزاء الفعل، وفيه تعمل حروف الجزاء، ولكنهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره. ومثل الجزم هاهنا النصب في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا (¬6) حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصب، كما كان موضع ذلك موضع جزم. وتقول: إن تأتني فلن أؤذيك وأستقبلك بالجميل، فالرفع هاهنا الوجه إذ لم يكن محمولا على (أن) كما كان الرفع الوجه في قوله:- تعالى-: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ (¬7) وفي قوله: فهو خير لك وأكرمك. ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك، فالرفع الوجه إذا لم تحمله على (لم) كما كان ذلك في (لن). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 111. (¬2) سورة محمد، الآية: 38. (¬3) سورة البقرة، الآية: 284. (¬4) سورة البقرة، الآية: 271. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 186. (¬6) البيت ورد منسوبا لعقيبة الأسدي أو عبد الله بن الزبير، في ابن يعيش 2/ 109. (¬7) سورة البقرة، الآية: 271.

وأحسن الكلام (أن تقول: إن تأتني لا آتك، كما أن أحسن الكلام إن أتيتني لم آتك) وذلك أن لم أفعل نفي فعل، وهو مجزوم بلم ولا أفعل نفي أفعل، وهو مجزوم بالجزاء، فإذا قلت: إن تفعل، فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل. وإذا قلت: إن فعلت فأحسن الكلام أن تقول: فعلت لأنه مثله، فكما ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت قبح لم أفعل مع يفعل، لأن لم أفعل نفي فعلت، وقبح لا فعلت مع فعل لأنها نفي أفعل. واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف، وهو نحو من قوله: وألحق بالحجاز فاستريحا (¬1) فهذا يجوز، وليس بحد الكلام، ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا. لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه، وإن كان معناه كمعنى ما قبله إذا قلت وأعطيك، وإنما هو في المعنى كقوله: أفعل إن شاء الله، يوجب الاستثناء، قال الأعشى فيما جاز من النصب: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى … مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ … يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (¬2) قال أبو سعيد: ما يقع بين فعلي الشرط والجزاء المجزومين من الفعل عل قسمين: أحدهما مخالف لمعنى فعل الشرط والآخر معناه وتأويله معنى فعل الشرط، فإذا كان معناه وتأويله مخالفا لفعل الشرط لم يجز فيه غير الرفع، وموقعه موقع الحال، وكذلك ارتفع لأنه يحسن في موضعه الاسم كقولك: إن تأتني تضحك أحسن إليك، وإن تأتنا تسألنا نعطك، لأن تقديره إن تأتني ضاحكا، وإن تأتنا سائلا، وليس تضحك في معنى تأتنا ولا في تأويله، وكذلك السؤال ليس في معنى الإتيان، وإذا كان الفعل الواقع بين الشرط والجواب في معنى فعل الشرط وتأويله جاز فيه الرفع والجزم، أما الرفع فعلى تقدير ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) البيت في ديوانه 88، الكتاب 3/ 92؛ المقتضب 2/ 22.

الحال، والجزم على البدل، وذلك قولك: إن تأتني تمشي أمش معك، وإن تأتني تسرع أحسن إليك، وتأويله ماشيا ومسرعا. وقوله: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه (¬1) في معنى مستحملا، وهو خبر لا يزال، وليس بحال، وموضوع الشاهد منه: أنّ (يستحمل) في موضع اسم كالحال، وهو الذي أوجب رفعه، ومثله مما جعل في موضع الحال: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره (¬2) في تقدير عاشيا إلى ضوء ناره، وأما الجزم فعل البدل من الفعل الأول. وإنما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه وتأويله، وليس في بدل الفعل من الفعل ما يقع في وجوه بدل الاسم من الاسم من التبعيض والاشتمال لأن الفعل لا يجمع، فيكون له بعض فيبدل من جميعه، ولا يقع فيه ما يقع في الاسم من الاشتمال، وقد يقع فيه من بدل الغلط ما يقع في الاسم، لأن ذلك إنما هو سبق اللسان إلى لفظ المراد غيره فيتلافى، فمن البدل إن تأتنا تمشي نمش معك، وإن تأتنا تسرع أحسن إليك لأن تقديره: إن تمش نمش معك، وإن تسرع أحسن إليك، ومن الشاهد لذلك قوله. متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا .. تجد ... (¬3) لأن الإلمام بالقوم إتيان لهم. وأما قوله: تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (¬4) ففي (تأججا) ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجعل الألف للتثنية، وهي للحطب والنار، وذكّرت لتذكير الحطب، والثاني: أن يكون للحطب، والثالث: أن تجعل النار في تأويل الشهاب، ومعناه معناه. وقوله: إن تبخلوا جواب الشرط فيه لا يحفلوا، ويغدوا بدل من لا يحفلوا، ولا يجوز أن يكون بدلا من يحفلوا وحدها دون (لا) لفساد المعنى، لأنك إذا جعلت يغدوا في موضع لا يحفلوا، فالمعنى صحيح، وتقديره إن يبخلوا أو يجبنوا، أو يغدروا يعدوا عليك مرجّلين، وغدوهم مرجلين هو ترك الحفل بذلك، وقلّة المبالاة؛ وإذا جعلته بدلا من يحفلوا وحدها، فتقديره أن يقع بعد (لا)، فيكون تقديره: إن يغدروا لا يغدروا مرجلين، ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه. (¬2) صدر بيت سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه.

وهذا خلاف ما يراد من معنى ذلك، وهذان البيتان أنشدهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد. وبدل الغلط في الفعل أن يقول القائل: إن تأتنا تسألنا نعطك، كأنه أراد إن تسألنا نعطك، فسبقه لسانه إلى تأتنا، وألغاه، وجعل تسألنا مكانه، كما تقول: مررت برجل حمار. ومما أبدل من الفعل لأنه في تأويل الذي قبله قول الله- عز وجل-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ (¬1) يضاعف بدل من يلق، ومعنى يلق أثاما: يلق عقوبة آثامه، وهو إثمه، ولقيه إياها أن تصيبه وتناله، والذي يضاعف له العذاب يناله ذلك العذاب، وما لا يجوز بدله من الشرط يجوز عطفه عليه بحروف العطف، لأنه قد يعطف الفعل على ما يخالف معناه، وليس العطف كالبدل، وذلك قولك: إن تأتني فتسألني أعطك، وإن تأتني وتسألني أعطك، وإن تأتني ثم تسألني أعطك، لأن هذه الحروف للاشتراك، فيشركن الآخر فيما دخل فيه الأوّل، وكذلك، أو كقولك: إن تأتني أو تسألني أعطك، ولا يجوز فيما عطفته الرفع، لأن حروف العطف قد أشركت بين الفعل الثاني الذي دخلت عليه وبين الأول في الجزم، فلا سبيل للرفع فيه، وإنما كان يرتفع قبل دخول حروف العطف على معنى الحال في قوله: متى تأته تعشو … ... (¬2) على معنى عاشيا، ولو قلت: متى تأته وعاشيا كان مخلا، لأنه ليس في (متى تأته) منصوب تعطف عليه عاشيا، إلا الهاء في (تأته)، ولو عطفت عليه صار عاشيا، كأنه إنسان آخر غير الهاء يقع الإتيان بهما، فكأنك قلت: متى تأتهما؛ وليس الأمر كذلك، لأن عاشيا هو الفاعل المضمر في تأته، وإذا قلت: إن تأتني فتحدثني أحدثك، الوجه في تحدثني الجزم عطفا على تأتني، وقد أجاز الخليل نصبه على وجه ليس بالمختار، إن تأتني فتحدثني أحدثك، والذي ضعّف النصب في هذا أنه متى نصب لم يخرج عن معنى المجزوم فاختاروا المجزوم لأن عامله عامل المجزوم الذي قبله، فيجتمع فيه تطابق اللفظيين، وظهور العامل فيهما، وإذا نصب فهو على تأويل بعيد المتناول، لا تحوج إليه إلا ضرورة التأويل في النصب، أن يردّ (إن تأتني) إلى تقدير: إن يكن منك إتيان، ويردّ (تحدثني) إلى حديث، ويعطفه بالفاء، ويقدر حديث بأن ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآيتان: 68، 69. (¬2) سبق تخريجه.

تحدثني، كأنه قال: إن يكن منك أن تأتيني فتحدثني، وقبح هذا كقبح: أنت تأتيني فتحدثني؛ والوجه: أنت تأتيني فتحدثني على ترك المتناول البعيد من غير حاجة إليه، وتأويل النصب أنت يكون منك إتيان فحديث كما قال: وألحق بالحجاز فاستريحا (¬1) فإذا أدخلت لا حسن النصب، وصار فيه تأويل: ما تأتيني محدثا، كأنه قال: ما تأتني إلا لم تحدثني، والذي حسّن النصب فيه حرف النفي، وذلك قوله: ومن لا يقدّم رجله مطمئنة … ... فيثبتها ... (¬2) نصب (فيثبتها)، كما ينصب لا تأتينا فتحدثنا، بمعنى لا تأتينا إلا لم تحدثنا، ومثله: ومن لا يقدم إلا لم يثبت زلق، وإذا قلت: إن تأتني فأحدّثك، فلا يجوز بعد الفاء إلا الرفع، لأن الشرط في الأصل جملة مبناها على فعل وفاعل، والجواب جملة أخرى ثانية مبناها على مبتدإ وخبر، وفعل وفاعل، وإنما ربط إحداهما بالأخرى. (إن) ولا حاجة إلى الفاء إذا كانت جملة الجواب فعلا وفاعلا، ثم أدخلت الفاء ليليها الاسم لما احتيج إلى الجواب بالابتداء والخبر، ثم جعل مكان الاسم الفعل، فارتفع لوقوعه موقع الاسم، وليس الجواب بالفاء المرفوع مثل ما انتصب بين المجزومين، الذي تقديره تقدير مصدر معطوف على مصدر فعل الشرط، كما قدّر بقولنا إن يكن إتيان فحديث أحدثك، فالحديث متصل بالأول شريك له معطوف عليه؛ ولو قلت: إن يكن إتيان فحديث، وسكت واكتفيت صار قولك. فحديث هو الجواب، وليس بمعطوف على شيء، بل يقدّر بعد الفاء مبتدأ وخبر مبتدأ، كأنك قلت: إن يكن إتيان فعندي حديث، أو فأمري حديث، كما تقول: إن تأتني فمكرم مخبوّ، أي فأنت، وكما قيل: " المرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجرا " (¬3)، وقد مضى نحوه. وإذا عطفت فعلا على الجواب المجزوم، فلك فيه ثلاثة أوجه: الجزم والرفع والنصب، فالجزم والرفع جيدان مختاران، والنصب دونهما، تقول: إن ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) البيت ورد منسوبا لكعب بن زهير، في الكتاب 3/ 89؛ المقتضب 2/ 23؛ 67. (¬3) هذا جزء من حديث نبوي تمامه: " المرء مقتول بما قتل به، إن سيفا فسيف، وإن خنجرا فخنجر " وقيل إنه أثر من آثار العرب. انظر شرح التسهيل لابن مالك 1/ 364، وشواهد التصحيح والتوضيح 71، شرح قطرالندى وبل الصدى لابن هشام 192.

تأتني آآتك فأحدثك تجزمه بالعطف على آآتك، ومثله قول الله- عز وجل-: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ (¬1) ويجوز آتك فأحدثك، ومثله قرأه من قرأ بالرفع (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)، ورفعه بالقطع من الأول، والاستئناف لما بعده. وذكر سيبويه أن النصب ضعيف، وحكى أنه بلغه أن بعضهم قرأ: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وسبب ضعفه أن جواب الشرط خبر موجب، وسبيله أن يعطف عليه، أو يستأنف، كما يعمل بالخبر المبتدأ إذا قلت آتيك فأحدثك، والنصب في الخبر المبتدإ الذي ليس بجواب أقبح منه في جواب الشرط، إذا قلت: آتيك فأحدثك، فهو قبيح، ومثله: ألحق بالحجاز فاستريحا (¬2) وإذا قلت إن تأتني أأتك فأحدثك، فالنصب ضعيف وهو على ضعفه أحسن منه في قوله: آتيك فأحدّثك لأن الخبر المبتدأ واجب أن يفعله على كل حال، وجواب الشرط ليس بواجب أن يفعله، إلا أن يوجد الشرط، والشرط قد يوجد وقد لا يوجد. فأشبه الاستفهام، ونحوه وشبهه سيبويه. بقولك: أفعل إن شاء الله، لأن أفعل في موضوعه، وأصله إخبار حقه الوفاء به، إذا كان مطلقا، فإذا قرنه ب- إن شاء الله- الذي هو شرط سقط عن قائله الوفاء به، وقوى بذلك النصب بعد جواب الشرط إذا كان تعليقه بالشرط يخرجه عن الإخبار المجرد، وجعل سيبويه إن شاء الله استثناء، وإن كان لفظه لفظ الشروط على تسمية الفقهاء، ذلك لأنهم يسمّون إن شاء الله- بعد الإيمان- استثناء، وإنما سموه استثناء لأنه يسقط لزوم ما يعتقده الحالف، فصار بمنزلة الاستثناء الذي يسقط ما يوجبه اللفظ الذي قبله. ومعنى قوله: ... لا يزل يرى … مصارع مظلوم ... (¬3) يعني: مصارع ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 284. (¬2) عجز بيت سبق تخريجه. (¬3) البيت منسوب للأعشى سبق تخريجه.

وتدفن منه الصالحات … ... (¬1) يعني إذا أحسن لم يشهد إحسانه، ولم يذكر لأنه لا يعرف. قال أبو سعيد: فصّل سيبويه بين حكم ثم في نصب الفعل، وحكم الفاء والواو، وأجاز بعد الفاء والواو النصب على إضمار (أن) على التفسير الذي فسرناه، ولم يجز النصب في ثم، والذي يجوز في (ثم) العطف على لفظ الفعل الذي قبلها، واستئناف ما بعدها على مذهب عطف جملة في الموضوع الذي تقع فيه الجمل، ويجوز في الفاء والواو هذان الوجهان، ووجه ثالث، وهو تقدير (أن) في الفعل الذي بعدهما، وتقدير ما قبلهما مصدرا معطوفا عليه، فمن ذلك أنك تقول: إن تأتني فتحدثني آتك، وإن تأتني وتحدثني آتك، ولا يجوز إن تأتني، ثم تحدثني أأتك. وتقول: إن تأتني أأتك ثم أحدثك بالجزم عطفا على أأتك، ويجوز ثم أحدثك بالرفع على الاستئناف فعطف جملة على جملة كأنه قال: ثم أنا أحدثك، ولا يجوز أن تقول: ثم أحدثك على معنى إن يكن إتيان ثم حديث، كما جاز آآتك فأحدثك، وآآتيك أحدثك، ومما يكون بعد (ثم) فيه مستأنفا قول الله- تبارك وتعالى-: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (¬2) فاستأنف لا ينصرون بعد ثم، ثم قال- جل ثناؤه-: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (¬3) فجزم يكونوا بالعطف على يستبدل، وإنما جاز في الفاء والواو ما لم يجز في ثم لأنهما جعلتا جوابا بالمعنى يختص به كل واحدة منهما ليس في ثم، فالفاء تكون جوابا، لأن فيها معنى اتصال ما بعدها بما قبلها، والواو فيها معنى الاجتماع، وليس في ثم معنى الاتصال، ولا معنى اجتماع، وقد ذكرنا حال الفاء والواو، ومعناهما في مواضعهما، فإذا اكتفيت بالفاء في جواب الشرط، أوليتها اسما وخبرا، ثم عطفت عليه فعلا، فالوجه فيه الرفع، كقولك: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك، لأن أكرمك لما عطفته على ما بعد الفاء صار كأنه واقع بعد الفاء، فارتفع ومثله في القرآن: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ (¬4) وهذا وجه الكلام والمختار فيه، ولذلك اختار من ¬

_ (¬1) البيت منسوب للأعشى سبق تخريجه. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 111. (¬3) سورة محمد، الآية: 38. (¬4) سورة البقرة، الآية: 271.

اختار في القراءة: فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬1)، فيجوز الجزم فيه عطفا على موضع الفاء، وهو أيضا جيد قوي والأول أقوى منه ومن هذا الوجه قراءة من قرأ: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ وحمل الكلام على موضع الفاء، لأن موضع الفاء موضع الجواب، والأصل فعل الشرط، الفعل والفاء داخلة عليه، ويجوز أيضا فيه النصب، وهو ضعيف وقد ذكرناه، وقوله إن تأتني فلن أوذيك، واستقبلك بالجميل استقبلك رفع عطف على موضع لن كأنه قال إن تأتني فاستقبلك بالجميل، ولا يجوز نصبه بالعطف على أوذيك لفساد المعنى، لأنه يصير في التقدير، فلن أوذيك، ولن أستقبلك بالجميل، وهو تقضي لن أوذيك، ويجوز فيه الجزم على موضع الفاء، كما جاز (ويذرهم). وقوله: إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك إن أردت ولم أحسن إليك فالجزم في أحسن لا غير، وإن جعلت أحسن جواب الشرط لم تنف الإحسان، فإن أجود ذلك أن تجعله ماضيا فتقول: لم آتك وأحسنت إليك، لأن موضع (لم) موضع فعل ماض، فتعطفه عليه كأنه قال: إن أتيتني قعدت عنك وأحسنت إليك، وإن كان مستقبلا، فإن سيبويه قال: الرفع الوجه، وإنما اختار الرفع لأنا إن جزمناه على موضع لم لم يحسن أن يكون الشرط فعلا ماضيا والجواب مجزوما، لأنه لا يحسن أن تقول: إن أتيتني أحسن إليك، وإذا قال: إن أتيتني أحسن إليك كان حسنا فقوله: أحسن إليك إن سببه كان رفعا على أن تقدر في موضع (لم) فعلا مستقبلا لك على تقدير أحسن إليك إن أتيتني، وقوله: لم آتك وأحسن إليك يجوز، وأحسن إليك إن شئت كان رفعا على أن تقدر في موضع (لم) فعلا مستقبلا مرفوعا، وأحسن عطف عليه، وإن شئت كان قطعا واستئنافا، وقد ذكرنا أن أحسن الكلام في الشرط والجواب أن يتشاكلا في المعنى أو في الجزم. قال أبو سعيد: ومنزلة (لم) والفعل المجزوم بعدها منزلة فعل ماض، وحكمه كحكمه فإذا قلت: إن أتيتني فالجواب المختار لم آتك، لأنه بمنزلة: إن أتيتني فعدت عنك، وهما فعلان ماضيان، وإن قال: إن تأتني فالجواب لا آتك لأن لا آتك للمستقبل، ولا يحسن أن يقول: إن تأتني لم آتك، كما لا يحسن أن تقول: إن تأتني فلم آتك، ولا إن أتيتني فلم آتك، كما ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 186.

هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر أو نهي أو استفهام أو تمن أو عرض

لا يحسن إن تأتني قعدت عنك لأن الأول مجزوم والثاني ماض، ولا يجوز أن تقول: إن تأتني فلم آتك، ولا إن أتيتني فلم آتك، لأن (لم) تصير الفعل بمعنى المضيّ، والفاء تمنع أن يكون الجواب بفعل ماض، سواء كان الشرط ماضيا أو مستقبلا، ألا ترى أنك تقول: إن تأتني فقعدت عنك، ويجوز أن يكون بعد الفاء من الفعل ما كان دعاء، كقولك: إن أحسنت إليّ فجزاك الله خيرا، وإن أسأت فلعنك الله، لأن معنى الدعاء في غير الشرط والجواب الاستقبال، فإن كان لفظه ماضيا، لا يحسن إن تأتني لن آتيك بإسقاط الفاء لأن (لن) وما بعدها جملة كما لا يحسن إن يأتني زيد يشكرك حتى تدخل الفاء، وإنما جاز إسقاط الفاء لأنها لا تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها وباقي الباب من كلامه مفهوم. هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر أو نهي أو استفهام أو تمنّ أو عرض فأما ما انجزم بالأمر فقولك: إيتني آتك، وما انجزم بالاستفهام فقوله ألا تأتيني أحدّثك، وأين تكون أزرك، وأما ما انجزم بالتمني، فقولك: ألا ماء أشربه، وليته عندنا يحدّثنا، وأما ما انجزم بالعرض فقولك: ألا تنزل تصب خيرا، وإنما انجزم هذا الجواب، كما انجزم جواب إن تأتني بإن تأتني، لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير مستغن عنه الأول إذا أرادوا الجزاء، كما أن (إن تأتني) غير مستغنية عن آتك. زعم الخليل أن هذه الأوائل كلها فيها معنى إن، فلذلك انجزم الجواب، لأنه إذا قال: ائتني آتك، فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك، وإذا قال: أين بيتك أزرك، فكأنه قال: إن أعلم مكان بيتك أزرك، لأن قوله: أين بيتك؟ يريد: أعلمني، وإذا قال: ليته عندنا يحدّثنا، فإن معنى هذا الكلام إن يكن عندنا يحدّثنا، وهو يريدها هنا إذا تمنى ما أراد في الأمر، وإذا قال: لو نزلت، فكأنه قال: انزل. ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره، منه قول الله- عز وجل-: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (¬1). فلما انقضت الآية قال: يَغْفِرْ لَكُمْ [الصف: 12] ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآيتان: 10، 11.

ومن غيره أيضا: إن أتيتنا أمس نعطك اليوم، أي إن كنت آتيتنا أمس أعطيناك اليوم، هذا معناه، فإن كنت تريد أن تقدره بأنه قد فعل فإن الجزاء لا يكون، لأن الجزاء إنما يكون في غير الواجب ومما جاء منجزما بالاستفهام قول رجل من بني تغلب. ألا تنتهي عنّا ملوك وتتقي … محارمنا لا يبؤ الدم بالدم (¬1) وقال الراجز: متى أنام لا يؤرّقني الكرى (¬2) كأنه قال: إن يكن منّى نوم في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرى، كأنه لم يعدّ نومه في هذه الحال نوما. وقد سمعت من العرب من يشمّه الرفع، كأنه قال: متى أنام غير مؤرق، وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفناه، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقا بالأول، ولكن تبتدئه، وتجعل الأول مستغنيا عنه، كأنه يقول: ائتني أنا آتيك، ومثل ذلك قول الشاعر وهو الأخطل: وقال رائدهم أرسوا نزاولها … فكلّ حتف امرئ يمضي لمقدار (¬3) وقال الأنصاري: يا مال والحقّ عنده فقفوا … تؤتون فيه الوفاء معترفا (¬4) وفي نسخة أبي بكر مبرمان مصلح (معترفا)، كأنه قال: إنكم تؤتون الوفاء معترفا، وقال معروف: كونوا كمن آسى أخاه بنفسه … نعيش جميعا أو نموت كلانا (¬5) كأنه قال: كونوا هكذا: إنا نعيش جميعا أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا. وزعم الخليل: أنه يجوز أن يكون نعيش محمولا على كونوا، كأنه قال: كونوا نعيش جميعا أو نموت كلا وتقول: لا تدن منه يسكن خيرا لك. فإن قلت: لا تدن من الأسد يأكلك، فهو قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لجابر بن حنيّ، في الكتاب 3/ 95؛ لسان العرب (بدأ). (¬2) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 95. (¬3) البيت في ديوانه، الخزانة 9/ 87؛ الكتاب 3/ 96. (¬4) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 96. (¬5) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 97.

تباعده من الأسد سببا لأكله، فإن رفعت، فالكلام حسن كأنه قال: لا تدن منه فإنه يأكلك، وإن أدخلت الفاء فحسن، وذلك قولك: لا تدن منه فيأكلك. وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء، ألا ترى أنه يقول: ما أتيتنا فتحدّثنا، والجزاء هاهنا محال، وإنما قبح الجزم في هذا؛ لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء. وسمعنا عربيا موثوقا بعربيته يقول: لا تذهب به تغلب عليه، فهذا كقوله: لا تدن من الأسد يأكلك. وتقول: ذره يقل ذاك، وذره يقول ذاك، فالرفع من وجهين: أحدهما الابتداء، والآخر على قوله: ذره قائلا ذلك فتجعل (يقول) في موضع قائل. فمثل الجزم قول الله- عز وجل-: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ (¬1)، ومثل الرفع قوله- جلّ ثناؤه-: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬2). وتقول: ائتني تمشي أي ائتني ماشيا، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشى فيما يستقبل، وإن شاء رفعه على الابتداء، قال الله- تعالى-: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (¬3). فالرفع على الوجهين على الابتداء، وعلى قوله: اضربه غير خائف ولا خاش، وتقول: قم يدعوك لأنّك لم ترد أن تجعل دعاء بعد قيامه، ويكون القيام سببا له، ولكنك أردت قم إنه يدعوك، وإن أردت ذاك المعنى جزمت. وأما قول الأخطل: كرّوا إلى حرّتيكم تعمرونها … كما تكرّ إلى أوطانها البقر (¬4) فعلى قوله: كروا عامرين، وإن شئت رفعت على الابتداء. وتقول: مره يحفرها، وقل له يقل ذاك، وقال الله- عز وجل-: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ (¬5) ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيدا، وقد جاء رفعه على شيء، وهو قليل في الكلام على مره أن ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 3. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 186. (¬3) سورة طه، الآية: 77. (¬4) البيت في ديوانه 108؛ والكتاب 3/ 99. (¬5) سورة إبراهيم، الآية: 31.

يحفرها، فإذا لم تذكر (أن) جعلوا المعنى بمنزلتها في: عسينا نفعل، وهو في الكلام قليل لا يكادون يتكلمون به وإذا تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب كأنه قال: عسى زيد قائلا ذاك، ثم وضع (يقول) في موضعه، وقد جاء في الشعر قال طرفة ابن العبد: ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى … وأن أشهد اللّذّان هل أنت مخلدي (¬1) وسألته عن قول الله- تعالى-: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬2). فقال: تأمروني، كقولك: هل يفعل ذاك بلغني، فبلغني لغو، وكذلك تأمروني كأنه قال فيما تأمروني، كأنه قال: فيما بلغني، وإن شئت كان بمنزلة: ألا أيّهّذا الزّاجري أحضر الوغى قال أبو سعيد: جزم جواب الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض بإضمار شرط في ذلك كله، والدليل على ذلك قول إن الأفعال التي تظهر بعد هذه الأشياء، إنما هي ضمانات يضمنها ويعد بها الآمر والناهي والمستفهم والمتمني والعارض، وليست بضمانات مطلقة، ولا عدات واجبة على كل حال، وإنما هي معلقة بمعنى: إن كان ووجد وجب الضمان والعدة، وإن لم يوجد لم يجب، ألا ترى أنه إذا قال: ائتني آتك، لم يلزم الآمر أن يأتي المأمور إلا بعد أن يأتيه المأمور، وإذا قال: أين بيتك أزرك لم يلزمه الزيارة إلا بعد أن يعرف بيته، ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى، والذي يكشفه لفظ الشرط، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء، والذي يقدّر في ذلك من الشرط ما كان موافقا للفظ الأمر والنهي، ولما يستدعيه ويقتضيه بالاستفهام والتمني والعرض. فقولك: ائتني آتك يقدر بعد قولك: ائتني، إن تأتني فآتك، وتقول في النهي: لا تدن منه يكن خيرا لك تقديره: لا تدن منه إلا تدن منه يكن خيرا لك، وفي الاستفهام ألا تأتيني أحدّثك يقدّر بعدها: إن تأتني أحدّثك، وأين تكون إن أعرف مكانك أزرك، وفي التمني ألا ماء أشربه، وليته عندنا يحدّثنا، كأنه قال: ألا ماء إن أجده أشربه، وليته عندنا إن يكن عندنا يحدّثنا، وفي العرض ألا تنزل تصب خيرا، وهذه الأشياء التي ذكرناها من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض تغني عن ذكر الشرط، ويكتفى بذكرها عن ذكره، فلذلك ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 99؛ والمقتضب 2/ 85. (¬2) سورة الزمر، الآية: 64.

تجوّز سيبويه في عبارته عن جزم هذه الأشياء، فأوهم أن هذه الأشياء هي الجازمة لما بعدها، كما أن حرف الشرط وفعله هو الجازم للجواب، وذلك قولك: وإنما انجزم هذا الجواب، كما انجزم جواب: إن تأتني بإن تأتني لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير مستغن عنه الأول، إذا أرادوا الجزاء، كما إن تأتني غير مستغنية. عن آتك. قال أبو سعيد: وهذا من سيبويه مسامحة في اللفظ، واتساع كما اتسع في نصب الظرف، فقال في نحو قولك: زيد خلفك، نصب بما قبله والحقيقة فيه أن الناصب هو (استقر)، ثم حكى عن الخليل ما يدل على حقيقة الناصب، وهو قوله وزعم الخليل أن هذه الأوائل كلها فيها معنى (إن) فلذلك انجزم الجواب، لأنه إذا قال: ائتني آتك، فإن معنى كلامه: إن يكن منك إتيان وما بعده جوابه. وقول الله- تبارك وتعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (¬1). إلى قوله- عز وجل-: يَغْفِرْ لَكُمْ (¬2) أما قوله- عز وجل-: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬3). فهو تفسير للتجارة على معناها لا على لفظها ولو فسرها على لفظها لقال: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم أن تؤمنوا بالله، لأن قوله: أن تؤمنوا اسم وتجارة اسم، والاسم يبدل من الاسم، ويقع موقعه، وقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف: 11] كلام قائم بنفسه وفيه دلالة على المعنى المراد بالتجارة، وهو الإيمان والجهاد لأن تؤمنون يدل على الإيمان، وتجاهدون يدل على الجهاد لأنهما مصدرهما؛ ومثله في الكلام على الوجهين، هل لك في خير تقوم بنا إلى المسجد فنصلّي، ولو قلت: أن تقوم إلى المسجد كان صوابا، ومثله مما فسر ما قبله على الوجهين: قوله- عز وجل-: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (¬4) (إنا وأنا) (¬5) فمن قال: أنّا هاهنا، فهو الذي يدخل (أن) في تقوم، لأن أن وما بعدها بمنزلة اسم يكون بدلا من الاسم الذي قبله، ومن قال: إنّا فهو الذي يلغي (أن) من تقوم، لأنه إذا قال: إنا ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآية: 10. (¬2) سورة الصف، الآية: 12. (¬3) سورة الصف، الآية: 11. (¬4) سورة عبس، الآية: 24. (¬5) من قول الله تعالى في الآية: 25 " إنا صببنا الماء صبا ".

- بالكسر- فهو كلام قائم بنفسه، وليس بمنزلة اسم، وكذلك إن المكسورة، ومثله قول الله- عز وجل-: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ (¬1) و (إنّا) على الوجهين اللذين ذكرناهما، وفي قراءة عبد الله ((آمنوا)) مكان ((تؤمنون بالله)). واختلفوا في جزم يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف: 12] فقال الفراء: إنها جزمت بهل في قراءتنا، وفي قراءة عبد الله بن مسعود للأمر الظاهر، وتأويل هَلْ أَدُلُّكُمْ (¬2) في المعنى أمر أيضا، كقولك: هل أنت ساكت، معناه: اسكت. والله أعلم. فهذا كلام الفراء، وقال أبو إسحاق الزجاج: ((يغفر لكم)) جواب تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ (¬3)، أي إن فعلتم ذلك، فالدليل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود ((آمنوا)) ورد على من قال هو جواب (هل) وغلطه، قال: لأنه ليس إذا دلهم صلّى الله عليه وسلّم تسليما على ما ينفعهم غفر الله تبارك اسمه لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا فإنما هو جواب تؤمنون بالله وتجاهدون، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم. قال أبو سعيد: والأقوى عندي أنه جواب (لهل) لأن تؤمنون تفسير للتجارة، وهي جملة ما وقعت عليه (هل)، فالاعتماد في الجواب على هل، وهل في معنى الأمر لأنه لم يكن القصد عن استفهامهم عن الدلالة على التجارة المنجية، هل يدلّون عليها، أو لا يدلّون، وإنما المراد الأمر لهم، والحث على ما ينجيهم، وقد يكون بلفظ الخبر ما يراد به الأمر أو الدعاء، ولو أتى له بجواب ما كان إلا مجزوما كقول الله- عز وجل-: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ (¬4) تثب مرضعة الحولين الجنة، وكذلك غفر الله لزيد ينج من النار وكذلك إذا كان الأمر بلفظ الاستفهام، فقوله أتيتنا أمس نعطك اليوم، أي إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم، إذا أراد أن إعطاءنا إياك اليوم بسبب مجيئك أمس، لأنا لو جعلناه شرطا لصح أن تقول: إن كنت جئت أمس أعطيتك اليوم، وإنما يجوز هذا في (كنت) خاصة، وقد ذكر في موضعه، ولو قلت: إن جئت أمس أعطيتك اليوم لم يجز، فاضمر بعد الاستفهام من الشرط ما يصح أن يكون الجواب له مجزوما، ولو أراد بقوله أتيتنا أمس التقدير لم يجز الجزم لأنه لا يقدر فيه أن، وقوله (ألا تنتهي عنا ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 51. (¬2) سورة القصص، الآية: 12. (¬3) سورة الصف، الآية: 11. (¬4) سورة البقرة، الآية: 233.

ملوك) وإن كان لفظه لفظ الاستفهام فإن معناه معنى الأمر، كأنه قال: لتنته عنا ملوك إن تنته عنّا لا يبوء الدم بالدم، ومعنى لا يبوء الدم بالدم لا يقتل واحد بآخر يريد أن الملوك إن قتلوا منا قتلنا منهم، ولو حمل هذا على لفظ حقيقة الاستفهام أن الألف للاستفهام، ولا للجحد، فيكون الشرط المقدر بلفظ الجحد، فيصير التقدير ألا تنته عنا ملوك، فإذا قيل ألا تنته عنا ملوك فحق الكلام. يبوء الدم بالدم، ولم يدخل فيه لا، وعلى هذا تأويل ألا تأتيني أحدّثك، تأويله أتيتني أحدّثك، ولو حمل على حقيقة الاستفهام صار تقدير الشرط ألا تأتني وجوابه لا أحدّثك، وقوله: متى أنام لا يؤّرقني الكرى … ليلا ولا أسمع أجراس المطيّ (¬1) كأن قائل هذا الشعر مكان من يكرى الإبل، والكرى: المكتري والمكتري منه، و (متى) استفهام وللجزم في لا يؤرقني وجهان: أحدهما أنه جزم جواب الشرط الاستفهام، وتقدير الشرط فيه: إن أنم لا يؤرّقني، كأنه لم يعد نومه نوما، وجعل النوم هو الذي لا ينبهه منه الكرى، والوجه الآخر أنّ يؤرقني مرفوع تركت ضمته استثقالا، كما قال: وقد بدا هنك من المئزر (¬2) في معنى هنك، ومعناه متى أنام غير مؤرّق، كأنه تمن النوم الذي لا ينتبه منه ولا يكون فيه سهر، وفي هذا المعنى أشمّه الرفع من أشمه؛ وقد يجوز في جواب الأمر الرفع على الاستئناف، وعلى الحال والاستئناف نحو قولك: ائتني آتيك. كأنه قال: أنا آتيك، ويقع في مثله ما يحسن فيه الرفع على الاستئناف والحال، كقول القائل: ذره يقول ذاك على معنى قائلا ذاك، وعلى الاستئناف، وكذلك وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (¬3) على معنى عامهين، وعلى معنى هم يعمهون مستأنفا، وسائر ما ذكره سيبويه فيه الرفع على هذين الوجهين كذلك، وقول الأنصاري: ... والحقّ عنده فقفوا … ... (¬4) ¬

_ (¬1) الشطران من الرجز، وقائلهما مجهول، الكتاب 3/ 95. (¬2) البيت ورد منسوبا للأقيشر الأسدي، في الخزانة 2/ 279؛ الكتاب 4/ 203. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 186. (¬4) جزء من بيت سبق تخريجه.

الحق ينتصب بإضمار فعل تفسيره (فقفوا) كأنه قال: والحقّ فالزموا، ودخلت الفاء لأنها تدخل زائدة في الأمر، كقولك: يزيد فأمرن. ... وتؤتون فيه الوفاء معترفا (¬1) ويروى معترفا فمن كسر صيّر الحق معترفا لهم بذلك، ومن فتحه فهو بمعنى اعترافا. وقوله: (نعيش) على الاستئناف فظاهر صحيح اللفظ والمعنى كأن حيّين أو جمعين خاطب أحدهما الآخر، فقال: كونوا كمن آسى أخاه بنفسه ثم استأنف: نعيش جميعا أو نموت كلانا (¬2) ولفظ كلانا لفظ رجلين لأن الحيين والجمعين كالرجلين في اللفظ وأما قول الخليل نعيش على كونوا نعيش، وجعل نعيش خبرا لكونوا، فظاهر الكلام يمنع من ذلك لأن الواو في كونوا اسم للمخاطبين ليس للمتكلم فيها شيء، والمتكلم خارج عنها، وقولك نعيش للمتكلم إذا كان معه غيره، فكيف يجوز أن يكون ما للمتكلم خبرا عن المخاطب من غير ضمير عائد إليه، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: كان الزيدون نقوم جميعا، وظاهر الكلام كونوا نعيشون، أو لنكن نعيش، وقد تقبّل أصحابنا ما قاله الخليل، وما اعترض فيه بشيء أحد علمته منهم. قال أبو سعيد: وإذا حمل هذا على معناه احتمل، وذلك أن يكونوا قوما اجتمعوا فتواصوا بالتآلف، وترك الفرقة، فيكون متكلمهم إذا أوصاهم بشيء فهو داخل معهم فيه فلا فرق بين أن يأمرهم وهو في المعنى داخل معهم، وبين أن يكون لفظ الأمر لنفسه وهم معه فيصير قوله كونوا كقوله: لنكن، وإذا قال: لنكن نعيش جميعا فنعيش خبر فهذا محمول على معناه، والله أعلم بالمقاصد، ولم يجز: لا تدن من الأسد يأكلك لأنه إذا انجزم أضمر شرطا تقديره لفظ النهي كأنه قال: لا تدن منه يأكلك، وهذا محال؛ لأنه يصيّر تباعده منه سببا لأكله؛ فإن قلت: لا تدن من الأسد فيأكلك بالفاء والنصب جاز، وحسن لأن الجواب بالفاء والمنصوب ¬

_ (¬1) عجز بيت سبق تخريجه. (¬2) انظر بيت معروف الدبيري السابق تخريجه.

تقديره العطف كأنه قال: لا يكن دنو فأكل، وإن لم تدخل الفاء ورفعت جاز على الاستئناف كقولك: لا تدن من الأسد يأكلك، أي هو مما يأكلك فاحذره؛ ومثله مما سمعه من العرب: لا تذهب به تغلب عليه. وقوله مره يحفرها، وقل له يقل ذاك على وجهين: أحدهما على الجواب كأنه قال: مره إن تأمره يحفرها، وإن تقل له يقل ذاك ثقة بأن الثاني يقع إذا وقع الأول أو تغليبا للظن في ذلك. والوجه الثاني: أن يكون حكاية فعل الأمر وهو مبني، وزيدت فيه الياء لأنه غائب، وهو مستقبل كأنه قال: مره: احفرها وقل له: قل ذاك، ودخلت الياء لأن صاحب الفعل غائب، كما تقول: حلف زيد ليخرجنّ، ولفظ يمينه لأخرجنّ، ومثله قول الله عز وجل-: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ (¬1). على الوجهين أحدهما: قل لهم إن تقل يقيموا وينفقوا لأن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين وقوله لهم سبب إقامتهم للصلاة واتفاقهم، وإن كان بعض من دعي لم يفعل ذلك، والوجه الآخر إنه أمر دخل في أوله الياء لما ذكرته لك من غيبة الفاعلين، كأنه قال: قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا، وهذا قول لم يذكره سيبويه، ولا من تقدم من أصحابنا، وذكره الفراء، ورأيت الزجاج يحكيه عن المازني، وقوّاه الزجاج، ولعل المازني أخذه عن الفراء، ورأيت أبا العباس المبرد ذكر- في المقتضب- وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (¬2) وفيما ذكره تخليط فكرهت ذكره، وإذا قلت: مره يحفرها، ونحو ذلك جاز في (يحفرها) الرفع من وجهين- فيما ذكره سيبويه-: أحدهما على الابتداء والاستئناف، فكأنه قال: مره فإنه يحفرها ولا يخالف، والوجه الآخر على معنى مره أن يحفرها، وأسقط (أن) ورفع، كما تقول: عسينا أن نفعل، ثم تقول: عسينا نفعل، ومثله: ألا أيّهذا الزّاجري أحضر (¬3) والمعنى أن احضر الوغى، وإذا رفع صار تقديره اسم فاعل، وإذا الوغى رفع صار تقديره تقدير اسم فاعل، وإذا ظهرت أن ونصب صار تقديره تقدير مصدر، فإذا قلت: ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 31. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 53. (¬3) صدر بيت سبق تخريجه.

هذا باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي

مره أن يحفرها فتقديره: مره يحفرها، وإذا قلت: مره يحفرها على معنى (أن) فتقديره حافر لها، كأنه ظهرت فيه أمارة النية في حفرها والعزم عليه فصار كأنه حافر. ومثله قول الله- تعالى-: فَادْخُلُوها خالِدِينَ (¬1) بمعنى مقدرين الخلود. وإذا قلنا: عسينا أن نقوم فتقديره: عسينا القيام، وإذا قلنا عسينا نقوم فتقديره: قائمين، كما قال: عسى الغويرأ بؤسا، ولا يستعمل فيه لفظ الاسم إنما يستعمل فيه لفظ الفعل، كما أنا إذا قلنا، عسى زيد أن يقوم، لم يستعمل لفظ المصدر فيه، ولم يقل: عسى زيد القيام، وإذا قلت: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى فتقديره حاضر الوغى، ويجوز على هذا أن تقول: ألا أيهذا الزاجري الحرب أحضر، فتنصب الحرب بأحضر، ولو جئت به على الأصل فقلت: ألا أيّهذا الزاجري أن أحضر الوغى لم يجز تقديم الوغى على أحضر، وتقديره الزاجري عن أن أحضر الوغى. وقول الله- تعالى-: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (¬2) أجود ما يقال فيه ما ذكره سيبويه عن الخليل نصب (غير) بأعبد وتأمروني غير عامل، كما يقول: هو يفعل ذاك فيما بلغني، وزيد قائم، فيما ظننت كأنك قلت هو يفعل ذلك فيما بلغني، وزيد قائم فيما ظننت. قال سيبويه: وإن شئت كان بمنزلة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وهو ضعيف لأنه يؤدي إلى أن يقدر أعبد بمعنى عابدا غير الله وفيه فساد، والذي عليه الناس هو الوجه الأول الذي ذكرناه. هذا باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي فمن تلك الحروف حسبك وكفيك، وشرعك وأشباهها. نقول: حسبك ينم الناس، ومثل ذلك: (اتقّي الله أمرؤ وفعل خيرا يثب ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 73. (¬2) سورة الزمر، الآية: 64.

عليه) (¬1)، لأن فيه معنى ليتق الله امرؤ، وليفعل خيرا، وكذلك ما أشبه هذا. وسألت الخليل عن قول الله- عز وجل- فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (¬2). فقال هذا كقول زهير: بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى … ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (¬3) فإنما جروا هذا لأن الأول قد تدخله الياء، فجاءوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول (الباء)، وكذلك هذا لما كان الذي قبله يكون جزما، ولا (فاء) فيه. تكلموا بالثاني وكأنهم قد جزموا قبله فعلا توهموا ذلك. وأما قول عمرو بن عمار الطائي: فقلت له صوّب ولا تجهدنّه … فيدنك من أخرى القطاة فتزلق (¬4) فهذا على النهي- كما قال: لا يمددها فتشققها، كأنه قال: لا يدنينّك من أخرى القطاة، ولا تزلقن ومثله من النهي: لا يرينّك هاهنا، ولا أرينّك هاهنا. وسألته عن: آتي الأمير لا يقطع الّلصّ، فقال: الجزاء هاهنا خطأ، لا يكون الجزاء أبدا حتى يكون الكلام غير واجب، إلا أن يضطرّ شاعر، ولا نعلم هذا جاء في شعر البتّة، وسألته عن قوله: أمّا أنت منطلقا أنطلق معك، فرفع وهو قول أبي عمرو وحدثنا به يونس، وذلك لأنه لا يجازى بأن كأنه قال: لأن صرت منطلقا أنطلق معك وسألته عن قوله: ما تدوم لي أدوم لك، فقال: ليس في هذا جزاء من قبل أن الفعل صلة لما، فصار بمنزلة الذي، وهو بصلته كالمصدر يقع على الخبر، كأنه قال: أدوم لك دوامك لي، وما دمت بمنزلة الدّوام ويدلك على أن الجزاء لا يكون هاهنا، أنك لا تستطيع أن تستفهم بما يدوم على هذا الحد. ومثل ذلك: كلما تأتيني آتيك، والإتيان صلة ل (ما)، كأنه قال: كلّ إتيانك آتيك، وكلما تأتيني، يقع أيضا على الحين كما كان (ما تأتيني) يقع على الحين، ولا يستفهم بكلما، كما لا يستفهم بما تدوم. وسألته عن قوله: الذي يأتيني فله درهمان، لم جاز دخول الفاء هاهنا والذي ¬

_ (¬1) قول لبعض العرب. انظر التصريح 2/ 243؛ الأشموني 3/ 311. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 10. (¬3) البيت في ديوانه 287، الخزانة 3/ 665؛ الكتاب 3/ 101. (¬4) البيت في ديوانه 174، الكتاب 3/ 101.

يأتيني بمنزلة عبد الله- وأنت لا يجوز لك أن تقول: عبد الله فله درهمان؟ فقال: إنما يحسن في الذي لأنه جعل الآخر جوابا للأول، وجعل الأول به يجب له الدرهمان، فدخلت الفاء هاهنا، كما دخلت في الجزاء، إذا قلت: إن يأتني فله درهمان، وإن شاء قال: الذي يأتيني له درهمان، كما تقول: عبد الله له درهمان، غير أنه إنما أدخل الفاء لتكون العطية مع وقوع الإتيان، فإذا قال: له درهمان، فقد يكون ألا يوجب له ذلك بالإتيان، فإذا أدخل الفاء، فإنما يجعل الإتيان سبب ذلك، فهذا جزاء وإن لم يجزم لأنه صلة، ومثل ذلك قولهم: كل رجل يأتينا فله درهمان، ولو قال: كل رجل فله درهمان كان محالا. لأنه لم يجئ بفعل، ولا بعمل يكون له جواب. ومثل ذلك قول الله- تعالى-: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (¬1) وقال- تبارك وتعالى-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (¬2). وسألت الخليل عن قول الله- تبارك اسمه-: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها (¬3) أين جوابها؟ وعن قوله- جل ثناؤه-: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ (¬4)، وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ (¬5) فقال: إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر في كلامها لعلم المخبر لأي شيء وضع هذا الكلام. وزعم أنه وجد في أشعارها ((ربّ)) لا جواب لها. من ذلك قول الشماخ: ودويّة قفر تمشيّ نعامها … كمشي النّصارى في خفاف اليرندج (¬6) فهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجئ فيها جواب (رب) لعلم المخاطب أنه يريد: قطعتها، أو ما فيه هذا المعنى. قال أبو سعيد: أما قوله حسبك وكفيك وشرعك: فهي أسماء مبتدأة وأخبارها ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 274. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 8. (¬3) سورة الزمر، الآية: 71. (¬4) سورة البقرة، الآية: 165. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 27. (¬6) البيت في ديوانه 83؛ الكتاب 3/ 104.

محذوفة لعلم المخاطب بها، وذلك أنه لا يقال شيء من هذا إلا لمن كان في عمل قد بلغ فيه كفاية، فيقال له هذا ليكنّ ويكتفي بما قد عمله منه، وتقديره حسبك هذا، وحسبك ما قد عملته ونحوه، ومعناه كله معنى (اكتف). وقد حكى أبو عمرو (شرعك) منصوب إذا نهاه، وفيه معنى المرفوع لأن المرفوع يراد به الكف عن الفعل وقطعه، و (ينم الناس) جواب لأن معناه معنى الأمر، وإن كان مبتدأ، وقوله: اتقى الله أمرؤ، وإن كان لفظه لفظ الخبر، فمعناه الأمر، لأن هذا بقوله الواعظ لمن يسمع كلامه، وليس قصده أن يخبر عن إنسان بأنه قد اتقى الله، ومثله: غفر الله لزيد، ورحمه، لفظه الخبر ومعناه الدعاء، وأما من قرأ: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (¬1)، والأصل في الجواب أن يكون بغير فاء، والذي يقرأ ((وأكون)) يعطفه على ما بعد الفاء، ومثاله في الاسم: إن عندك زيدا وعمرو وعمرا، عطفا على موضع (إن)، وعلى المنصوب بعد (إن) وأما استشهاده ببيت زهير، فالخفض في البيت قبيح جدا، لأنه خافض قبله يخفضه، ولا مخفوض يعطف عليه، ولا شيء موضعه خفض، فيعطف على الموضع لأن الباء إذا أتى بها فموضعها نصب، فإذا حذفت ونصب الاسم بعدها، فقد وقع الاسم المنصوب موقعه ولا موضع لغير النصب، ألا ترى أنا إذا قلنا: تعلقت بزيد وعمرا، عطفنا (عمرا) على موضع الباء، ولا يقال تعلقت زيدا وعمرو، ولا يحسن لأن المنصوب ليس في موضع خفض، والخفض في البيت قبيح جدا، والذي في كتاب الله- عز وجل- مستحسن جيد، والذي حملت على الموضع مما لا يحتاج فيه إلى تغيير لفظ العامل، فهو أحسن مما يحتاج فيه إلى تغيير لفظه، فمما لا يحتاج فيه إلى تغيير لفظ العامل قولك: ليس زيد بجبان ولا بخيلا، بخيلا معطوف على موضع الباء، ولا يحتاج في نصب (بخيلا) إلى تغيير (ليس)، وكذلك إذا عطفنا (أكن) على موضع الفاء، لم تغير ((لولا أخّرتني)) عن لفظه؛ ومما يحتاج إلى تغيير اللفظ قوله: جيئوا بمثل بني زيد لقومهم ... … أو مثل أسرة ... (¬2) تجعل مكان جيئوا: أو هاتوا مثل أسرة، وكذلك قوله: أعنّي بخوار العنان ... … ... ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 10. (¬2) البيت منسوب لجرير وروايته في ديوانه جئني بمثل بني بدر لقولهم … أو مثل أسرة منظور بن سيار

وأبيض مصقول السّطام … ... (¬1) على معنى: أو هات أبيض مصقول السّطام؛ وقوله: آتي الأمير لا يقطع اللصّ، رفع (يقطع) لأن الذي قبله كلام موجب، وإخبار مطلق، وليس قبله شرط ولا أمر ولا نهي ولا استفهام، ولو اضطر شاعر فجزم (يقطع) لجاز على معنى أن آته لا يقطع اللصّ، وكأنه قد اعتقد أن إتيانه إياه هو سبب لا يقطع اللصّ من أجله، فصار بمنزلة أن آته لا يقطعه. وقوله: أما أنت منطلقا أنطلق معك بالرفع، لأن تقديره: لأن كنت منطلقا أنطلق معك، فكأنه قال: لخروجك أخرج معك، ولمقامك ألزمك، وقد ذكرناه في موضعه قبل هذا الموضع بالبسط والشرح من هذا الكلام. وقوله: ما تدوم لي أدوم لك، (ما) والفعل بمنزلة المصدر، فقام مقام الوقت كمقدم الحاج، وخفوق النجم، فكأنه قال: وقت دوامك لي أدوم لك، كما تقول: يوم خروجك ألزمك، ولا يجوز أن تقول: ما تدم لي أدم لك. كما تقول: متى تدم لي أدم لك، وأين تكن أكن، لأن (ما) إذا جعلت وما بعدها من الفعل مصدر أبطل فيها الاستفهام لأنها إذا كانت للاستفهام لم يحتج إلى أن يوصل بفعل، وإنما يجازى بما إذا نقلت عن الاستفهام لاستواء الجزاء والاستفهام. هذا معنى قول سيبويه: إنك لا تستطيع أن تستفهم بما تدوم على هذا الحد، يعني إذا كانت موصولة بتدوم؛ ومثله: كلما تأتيني آتيك: معناه كل وقت إتيان منك لي آتيك، ولا يجوز الاستفهام فيه كما لا يستفهم بما تدوم. ومن أجل هذا المعنى قال الفقهاء: إذا قال الرجل لامرأته: كلما تدخلين هذه الدار فأنت طالق، فدخلتها ثلاث مرات فإنها تطّلق ثلاث تطليقات لكل دخلة تطليقة؛ لأن معناه كل وقت دخلة تدخلين فيه، فوقت كل دخلة غير وقت الدخلة الأخرى؛ وقالوا لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فدخلتها ثلاث مرات لم يقع إلا تطليقة واحدة، لأنه ليس في ألفاظ هذه الأشياء تكرير أوقات تتعلق من الحكم بكل واحد منها غير ما يتعلق بالآخر، ألا ترى أنه إذا قال: كل ¬

_ (¬1) البيتان منسوبان لكعب بن جعيل التغلبي وتمامهما: أعني بخوار العنان تخاله … إذا راح بردي بالمدجج أمردا وأبيض مصقول السطام مهندا … وذا حلق من نسج داود مسردا الكتاب 1/ 170.

رجل يأتيني فله درهم، فأتاه رجلان، فلكل واحد منهما درهم؛ ولو قال: إن أتاني زيد فله درهم، فأتاه مرتين لم يستحق إلا درهما واحدا؛ وقوله: الذي يأتيني فله درهم، دخلت الفاء. لتبين أن الدرهم استحقه بالإتيان، ولو قال: الذي يأتيني له درهم جاز أن يكون الدرهم يستحقه بالإتيان، وجاز أن يكون بغيره، كما يقول: زيد له درهم، ولم تذكر سبب استحقاقه للدرهم، ويجوز أن يكون الفعل ماضيا كقولك: الذي أتاني فله درهم، يثبت أن الدرهم استحقه ومثله قول الله- تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ (¬1) وكان أبو الحسن الأخفش يضعف: إن الذي يأتيني فله درهم لدخول (إن) على الذي، ويقول: الذي إنما تدخل الفاء في خبرها، لأنه يذهب بها وبالفعل الذي بعدها مذهب الشرط، فإذا أدخلت عليها (إن) أبطلت (إن) الشرط والمجازاة، كقولك: من يأتيني آتيه، ثم تقول: إن من يأتيني آتيه، فتبطل المجازاة بدخول (إن) وتصير (من) بمعنى الذي؛ وكان أبو إسحاق الزجاج لا يبطل حكم المجازاة عن الذي بدخول (إنّ) والقول ما قاله أبو إسحاق لأن (الذي) لا تعمل في الشرط والجزاء فتجزم، وإنما يحمل على المجازاة في المعنى لجواز إبهامها، ولأنها توصل بالفعل وما جرى مجراه، فتشبه بالشرط والجزاء، ولم يخرجها (إن) عن ذلك، لأن (إن) لها تغير معنى الابتداء، فقد قال الله- عز وجل-: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (¬2) فأدخل الفاء مع دخول (إن) ومثله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ (¬3) ومما يدل على صحة ما قلناه أن الحروف لا تكون شروطا مع حروف المجازاة، لا تقول: إن في الدار زيد أكرمه، ولا متى يوم الجمعة القتال أحضره، وقد قال الله- عز وجل-: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (¬4) فدخلت (الفاء) لمعنى المجازاة و (ما) بمعنى الذي، ومثل ذلك قولهم: كل رجل يأتينا فله درهم، ولو قال: كل رجل فله درهمان كان محالا، والفرق بينهما أن كل رجل مبهم، ويأتينا مشبه بالشرط لأن الفعل يكون شرطا، ويستوجب بيأتينا الدرهمين، وإن لم يكن بعده شيء فلم يأت سبب يستوجب به شيئا. قال أبو سعيد: لو قال كل رجل فيه شهامة أو فيه نفاذ، أو فيه محبة لنا جاز على ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 91. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 8. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 91. (¬4) سورة النحل، الآية: 53.

قياس قوله- تبارك وتعالى-: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وما ذكره الخليل من حذف الجواب في قول الله- عز وجل- حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (¬1)، وقوله- تبارك وتعالى-: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (¬2) وقد اجتمع النحويون، وجاء التفسير في بعض ما في القرآن من نحو ذلك أنه محذوف الجواب، واختلفوا في بعض. فمما أجمعوا على حذف جوابه قول الله- تبارك وتعالى-: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ [البقرة: 165] ومنه قوله- تبارك وتعالى-: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى (¬3) فلم يأت لإن استطعت بجواب، وجوابه فيما ذكروه: فافعل، ومنه قوله- عز وجل-: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً (¬4) فلم يأت بجواب (لو) وجوابها فيما يقدر: لكان ذلك يفعل بهذا القرآن، ومما اختلفوا فيه قوله- عز وجل-: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (¬5) أي جاءوها وقد فتحت أبوابها، أي: وهذه حالها، وحذفوا جاءوها الثانية لتكرير اللفظ، وأنه غير مشكل، وتقدير الأخرى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (¬6) بمعنى: استسلما وتله صرعه سعد بإتباع أمر الله، وبشره الله- عز وجل- بنبوة ولده، ونحو ذلك مما يليق بقصته؛ والفراء يجعل الواو زائدة، ويقدر ((حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها)) والواو زائدة في الأخرى ((وتله للجبين ناديناه))، والواو فيه زائدة، واستشهد في زيادة الواو بقوله: حتى إذا قملت بطونكم … ورأيتم أبناءكم شبّوا وقلبتم ظهر المجنّ لنا … إنّ اللّئيم العاجز الخبّ (¬7) أراد قلبتم والواو زائدة: قال أبو سعيد: وليست له في هذا حجة لأنه موافق للبصريين في حذف الجواب في المواضع التي ذكرناها، وذكروها في كتاب (المعاني) أن الحذف كثير في القرآن وكلام العرب، وإذا كان كذلك جاز أن يكون ما فيه الواو وقد انحذف جوابه كأنه قال: وقلبتم ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 73. (¬2) سورة البقرة، الآية: 165. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 35. (¬4) سورة الرعد، الآية: 31. (¬5) سورة الزمر، الآية: 73. (¬6) سورة الصافات، الآية: 103. (¬7) البيتان منسوبان للأسود بن يعفر في ديوانه 19، الخزانة 5/ 489؛ ابن يعيش 1/ 68.

هذا باب الأفعال في القسم

ظهر المجن لنا بأن غدركم ولؤمكم، أو نحو ذلك؛ وقد جاء في الشعر حذف الجواب ممن غير (واو) كما في القرآن، قال عبد مناف: الضّرب شعشعة والطّعن هيقعة … ضرب المعوّل تحت الدّيمة العضدا وللقسيّ أزاميل وغمغمة … حس الجنوب تسوق الماء والبردا حتى إذا أسلكوهم في قتائدة … شلا كما تطرد الجمّالة الشردا (¬1) والبيت آخر القصيدة، ولم يأت لحتى إذا بجواب وتقديره: شلّوا شلا. وقال آخر: لو قد حداهنّ أبو الجوديّ … برجز مسحنفر الرّويّ مستويات كنوى البرنيّ (¬2) ولم يأت بجواب (لو)، وجوابها في التقدير: لو حداهن أبو الجودي، يعني الإبل لأسرعن بحدائه ونحو ذلك، وقوله في بيت الشماخ: ودويّة قفر (¬3) معناه: وربّ دوية قفر، ولم يأت بجواب (رب) والذي في شعره بعد هذا البيت جوابه، وهو قوله بعد البيت: تركت بها ليلا طويلا وسامرا … لدي ملقح من عود مرخ ومنتج (¬4) يعني أنه سار ليلا طويلا بالدوية، فقال: تركته ورائي، وذلك أنه نزل في أول ليلته، واقتدح، وعمل ما عمل، ثم ركب فبعد، وخلف ليلته حيث استعملت الزّندة، وهو أن يحمل الزّند على الزندة، فيلقحها النار، كما يلقح الفحل الناقة ملقحا، والمنتج الموضع الذي تخرج منه النار. هذا باب الأفعال في القسم اعلم أن القسم توكيد لكلامك، فإذا حلفت على فعل مستقبل غير منفي لزمته اللام، ولزمت اللام النون الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة، وذلك قولك: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، شرح أشعار الهذليين 2/ 675. (¬2) البيت منسوب إلى أبو الجودي، الخزانة 3/ 171؛ المقتضب 2/ 79. (¬3) جزء من بيت سبق تخريجه. (¬4) البيت ورد منسوبا للشماخ في ديوانه 83.

والله لأفعلن. وزعم الخليل أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك: إن كان لصالحا، فإن بمنزلة اللام، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة. واعلم أن من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك: والله، وذلك قولهم: أقسم لأفعلنّ، وأقسمت عليك لتفعلنّ، وإن كان الفعل قد وقع، وحلفت عليه لم تزد على اللام، وذلك قولك: والله لفعلت؛ وسمعنا من العرب من يقول: والله لكذبتّ، والله لكذب. فالنون لا تدخل على فعل قد وقع، وإنما تدخل على غير الواجب؛ وإذا حلفت على فعل منفي لم تغيره عن حاله التي كان عليها قبل أن تحلف، وذلك قولك: والله لا أفعل، وقد يجوز لك وهو من كلام العرب- أن تحذف (لا) وأنت تريدها، وذلك قولك: والله أفعل ذلك أبدا، تريد: لا أفعل، وقال: فحالف فلا والله تهبط تلعة … من الأرض إلا أنت للذّلّ عارف (¬1) وسألت الخليل عن قولهم: أقسمت عليك إلا فعلت ولمّا فعلت، لم جاز هذا في هذا الموضع، وإنما أقسمت هاهنا كقولك: والله؛ فقال: وجه الكلام: لتفعلن هاهنا، ولكنهم أجازوا هذا لأنهم شبهوه بناشدتك الله إذ كان فيه معنى الطلب؛ وسألته عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأة، ليس قبلها ما يحلف به، فقال: إنما جاءت على نية اليمين، وإن لم يتكلم بالمحلوف به. واعلم أنك إذا أخبرت عن غيرك أنه أكد على نفسه، أو على غيره، فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت، وذلك قولك: أقسم ليفعلن، واستحلفه ليفعلن، وحلف ليفعلن ذلك، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبدا؛ وذلك أنه أعطى من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيته أنت من نفسك حين حلفت، كأنك قلت حين قلت أقسم ليفعلن، قال والله ليفعلن وحين قلت استحلفه ليفعلن، قال له: والله ليفعلن ومثل ذلك قول الله- عز وجل-: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا للقيط بن زرارة، في الكتاب 3/ 105.

إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (¬1). وسألته لم لم يجز: والله تفعل، يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال: من قبل أنهم وضعوا (تفعل) هاهنا محذوفة منها (لا) فإنها تجيء في معنى (لا أفعل) فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى، فقلت فلم ألزمت النون آخر الكلمة؛ فقال: لكي لا يشبه قوله: إنه ليفعل، لأن الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعل واقع فيه الفاعل، كما ألزموا اللام: إن كان ليقول، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك لأن إن تكون بمنزلة ما. وسألته عن قوله- عز وجل-: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، وَلَتَنْصُرُنَّهُ (¬2). فقال: (ما) هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على (إن) حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، واللام التي في (ما) كهذه التي في (إن) واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا. ومثل هذه اللام الأولى (أن) إذا قلت: والله أن فعلت لفعلت، وقال: فأقسم أن لو التقينا وأنتم … لكان لكم يوم من الشّر مظلم (¬3) فأن في (لو) بمنزلة اللام في (ما) فأوقعت هاهنا لامين: لام للأول ولام للجواب، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم، فكذلك اللامان في قوله- عز وجل-: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (¬4). لام للأول، وأخرى للجواب، ومثل ذلك لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ (¬5)، إنما دخلت اللام على نية اليمين. والله أعلم وسألته عن قوله- عز وجل-: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (¬6) فقال: هي بمعنى لتفعلن، كأنه قال: لظللن كما يقول: والله لا فعلت ذاك أبدا، تريد معنى لا أفعل وتقول: لئن فعلت ما فعل تريد معنى ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 83. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬3) البيت منسوبا للمسيب بن علس، الخزانة 4/ 224؛ ابن يعيش 9/ 94؛ الكتاب 3/ 107. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 18. (¬6) سورة الروم، الآية: 51.

ما هو فاعل وما يفعل، كما كان لظلوّا مثل لظللن، وكما جاءت سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (¬1) على قوله: أم صمتّم، وكذلك جاء هذا على ما هو فاعل. قال: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (¬2). أي ما هم تابعين. وقال- عز وجل-: وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ (¬3) أي ما يمسكها من أحد؛ وأما قوله- عز وجل-: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ (¬4). فإن (إنّ) حرف توكيد ولها لام كلام اليمين لذلك أدخلوها، كما أدخلوا في إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (¬5)، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين، كأنه قال: إنّ زيدا لما والله ليفعلنّ، وقد يستقيم في الكلام: إن زيدا ليضرب، وليذهب، ولم يقع ضرب، والأكثر على ألسنتهم- كما خبرتك- في اليمين، فمن ثم ألزموا النون في اليمين لئلا يلتبس بما هو واقع. قال- عز وجل-: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬6). قال لبيد: ولقد علمت لتأتينّ منيّتي … إنّ المنايا لا تطيش سهامها (¬7) كأنه قال: والله لتأتين، كما قال: لقد علمت لعبد الله خير منك، قال: أظن لتسبقنّني وأظن لتموتنّ وهو بمنزلة: علمت، وقال عز وجل: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (¬8) ابتداء، ألا ترى أنك لو قلت بدا لهم أيهم أفضل، لحسن كحسنه في (علمت). كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضل، أم هذا. قال أبو سعيد: النون دخلت مع اللام في جواب القسم لأن اللام وحدها تدخل ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 193. (¬2) سورة البقرة، الآية: 145. (¬3) سورة فاطر، الآية: 41. (¬4) سورة هود، الآية: 111. (¬5) سورة الطارق، الآية: 4. (¬6) سورة النحل، الآية: 124. (¬7) البيت في ديوانه، الخزانة 4/ 13، 332؛ الكتاب 3/ 110. (¬8) سورة يوسف، الآية: 35.

على الفعل المستقبل في خبر (إن)، وليس دخول اللام في خبر إن للقسم، وقد تدخل في خبر إن ومعها القسم، وألزموها النون للفصل بين اللام الداخلة لجواب القسم، والداخلة لغير القسم. فإذا قلت إن زيدا ليضربن عمرا، فاللام مع النون دخلت للقسم، وتقديره: إن زيدا والله ليضربن عمرا. وإذا قلت: إن زيدا ليضرب عمرا، فهذه اللام تقديرها أن تكون داخلة على أن وأخرت، وبين هذه اللام وبين التي معها النون فصل من وجهين: أحدهما أن اللام التي معها النون لا تكون إلا للمستقبل، والتي ليس معها النون تكون للحال، وقد يجوز أن يراد بها المستقبل؛ والوجه الآخر من الفصل، أن المفعول به لا يجوز تقديمه على الفعل الذي فيه النون، ويجوز تقديمه على الذي لا نون فيه، لأن نية اللام فيه التقديم، لا يجوز أن تقول: إن زيدا عمرا ليضربن، ويجوز إن زيدا عمرا ليضرب، وقد ذكر هذا في غير موضع، فإن قال قائل إذا أردنا القسم على فعل الحال، فكيف السبيل إليه؟ قيل له: يقع جواب القسم كأن ويكون الفعل المستقبل خبرا له، ويراد به الحال كقولك: والله إن زيدا ينطلق، وإن شئت أدخلت اللام، فقلت: لينطلق والمعنى واحد، وإن شئت قلت: إن زيدا لمنطلق، فيستغنى بدخول اللام على الاسم عن دخولها على الفعل المقسم عليه، والقسم إذا كان الذي يتلقاه فعلا فهو واقع عليه، وإن كان الذي يتلقاه حرفا بعده اسم وخبر، فالذي وقع عليه القسم يؤكد القيام دون زيد، وكل فعل دخلته النون فهو للاستقبال في الأمر والنهي والاستفهام، ولا تدخل على الحال، وحكى أبو إسحاق الزجاج عن أبي العباس المبرد قال: امتنعت النون من دخولها على فعل الحال؛ لأن الحال لا يحلف عليها، ثم رد عليه فقال أبو إسحاق: لو كان امتناعها لأن الحال لا يحلف عليها لكان كل من يحلف عند القاضي لا يجب أن يقبل يمينه لأنه يحلف أنه في حال ليست عليه شيء، ولامتنع قولك: والله لأنت أفضل الناس، وهو في حال فضل؛ وقولك: والله لزيد يصلي بحذائي؛ ولامتنع، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬1). وقد يكتفي بذكر القسم، وما جرى مجراه عن المقسم به، فيقال: أقسم لأفعلن، وأشهد لأفعلن، وتقديره: أقسم بالذي شأني وسبيلي أن أقسم به، ولكثرة الاستعمال، وعلم المخاطب. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 1.

فأقسم أن لو التقينا وأنتم … لكان لكم يوم من الشرّ مظلم (¬1) وقال آخر: وأقسم لو شيء أتانا رسوله … سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا (¬2) ومن أجل هذا قال الفقهاء من العراق إذا قال الرجل أقسم أو أقسم بالله أو أحلف بالله، أو أشهد أو أشهد بالله فحنث وجبت عليه كفارة اليمين لأنه إذا قال: أقسم بالله، أو أحلف بالله أو أشهد صرف إلى معنى: أقسم بالله إذا كان الذي يلزم المسلمين إذا أقسموا أو حلفوا أن يحلفوا بالله دون غيره لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) (¬3). فإذا كانت اليمين على فعل ماضي لم تدخل اللام كقولك: والله لكذبت، والله لكذب ولم تدخل النون لأن النون في غير القسم لا تدخل إلا على المستقبل دون الماضي والحال، وإذا دخلت في فعل القسم فهي أيضا للمستقبل، فلم يجز دخولها فيما لم يمكن دخولها عليه، وقال فيه بعض أصحابنا: دخول النون في القسم يفصل بين الحال والاستقبال، وليس في الماضي لبس يزيل دخول النون؛ وإذا كان القسم بفعل منفي لم يدخلوا للقسم حرفا دون حرف النفي الذي كان فيه قبل القسم؛ وأصل دخول حرف القسم الموجب في غير القسم لا يحتاج إلى حرف كقولك: ذهب زيد، وينطلق عمرو، وبكر راحل، وما أشبه ذلك؛ فلما أقسموا عليه أكدوه بما أدخلوا عليه من الحروف الدالة على القسم ليعلم أنه قسم، واحتمل الحروف لتجرده منها قبل القسم، وأما النفي ففيه حروف النفي، وكرهوا دخول حرف آخر واكتفوا بما فيه من حروف النفي غير أنهم اقتصروا من حروف النفي على حرفين لا يتلقى اليمين بغيرهما من حروف الجحد، وجعلوهما مقابلين لحرفي الإيجاب في جواب اليمين، وهما (لا) و (ما) دون (لم) و (لن) فقالوا والله ما زيد منطلقا، وو الله لا ينطلق زيد، وكان (ما) في النفي نظيره (إن) في الإيجاب لأن أكثر دخول (ما) على الأسماء والأخبار، كما أن (أن) تدخل على الأسماء والأخبار، وكان (لا) نظيره (اللام) لأن دخولها على الأفعال في النفي كدخول اللام في الإيجاب؛ ولا يجوز: والله لم يقم زيد، ولا والله لن ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) البيت ورد منسوبا لامرئ القيس في ديوانه 242، الخزانة 10/ 84، 85؛ ابن يعيش 9/ 7. (¬3) صحيح البخاري- كتاب الأيمان والنذور، صحيح مسلم- كتاب المساقات والمزارعة- حديث (4، 6).

يقوم زيد لأنهم جعلوا (لم يقم) نقيض (قام)، (ولن يقوم) نقيض (سيقوم)، ولا يقع القسم عليهما في الإيجاب. لا تقول: والله قام زيد، ولا: والله سيقوم زيد، فإذا قلت: والله لا يقوم، فهو نفي للمستقبل، كما أنك إذا قلت: والله ليقومنّ، فهو إيجاب للمستقبل، فإن أردت اليمين على نفي فعل في الحال، قلت: والله ما زيد يقوم، وو الله ما زيد قائما، كما تقول إذا أردت ذلك في الإيجاب: والله إن زيدا يقوم، وو الله إن زيدا قائم، وقد كثر في كلامهم حذف (لا) في القسم لكثرة القسم في كلامهم، وزوال اللبس، لأن الموجب في القسم تلزمه اللام والنون، فإذا قالوا: والله أقوم، علم بسقوط اللام والنون منه أنه نفي، وقد قال الله- عز وجل-: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (¬1) وتقديره: لا تزال تذكر يوسف، وأما أقسمت عليك إلّا فعلت، ولما فعلت، فإن المتكلم إذا قال: أقسمت عليك لتفعلنّ، فهو مخبر عن فعل المخاطب أنه يفعل ومقسم عليه، فإذا لم يفعل فهو كاذب، لأنه لم يوجد خبره على ما أخبر به، وإذا قال: أقسم عليك إلا فعلت، وكما فعلت، فهو طالب منه سائل ولا يلزمه فيه تصديق ولا تكذيب، وللفرق بين المعنيين فرّق بين اللفظيين؛ وإذا ذكرت يمينا قد حلف كان ذلك في لفظها وجهان: أحدهما حكاية لفظ اللافظ في يمينه، والآخر: حمل إخبارك على المعنى لا على اللفظ، ونمثل ذلك بقوله- عز وجل-: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ (¬2) قراءة عبد الله ((تقاسموا بالله)) من غير (قالوا)، ففي ((تقاسموا)) وجهان: أحدهما أن يكون ماضيا، والآخر أن يكون أمرا، فإذا كان فعلا ماضيا جاز في (لنبيتنه) الياء والنون حسب ليبيتنه ولنبيتنه، فأما النون فعلى حكاية لفظهم، كأنهم قالوا: في أيمانهم ((والله لنبيتنه))، وأما الياء فعلى المعنى لأن المخبر عنهم غائب عنهم مخبر بيمين لهم حلفوا على فعل كان منهم والخبر عن الغائب بالياء، ومثله من الكلام حلف زيد ليقتلن عمرا بالياء لغيبة زيد، ويجوز حلف زيد لأقتلن عمرا على حكاية لفظه في يمينه، وإذا كان (تقاسموا) أمرا ففي لنبيتنه ثلاثة أوجه: النون والياء والتاء والنون على حكاية لفظهم إذا حلفوا، وقالوا: لنبيتنه؛ والياء على حال المخبر عنهم في الغيبة، وأما التاء فعلى حكاية لفظ المحلف لأنه إذا حلفهم قال لهم: احلفوا لنبيتنه، ومثله قولك لصاحبك حلف القوم ليخرجنّ ولتخرجنّ، ولنخرجنّ، ولو حلف واحدا جاز أن يقول: أحلف لتخرجنّ، وأحلف لأخرجنّ. التاء لإقبال المحلف على المحلف، والألف لحكاية لفظ ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 85. (¬2) سورة النمل، الآية: 49.

الحالف؛ وعلى هذا قس جميع ما يرد عليه إن شاء الله. وقوله- عز وجل-: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (¬1) لتؤمنن به خبر وهو بمنزلة قولك: لزيد لتضربنه، وجعلوا اللام الواقعة على (ما) بمنزلة (أن) في: ... أن لو التقينا ... … ... (¬2) وذلك أن (أن) يتلقى بها اليمين الواقعة على (ما)، وإذا جعلت (ما) و (لا) للمجازاة في مثل قوله- عز وجل-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها (¬3) فلا صلة لها، فهي في موضع نصب يأتيكم، والاعتماد في جواب القسم على اللام في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [آل عمران: 81]، وقد شرح ذلك قبل هذا الموضع بأتم مما هنا. وقوله- عز وجل-: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (¬4) تأويله: ليظلّنّ، لأن المجازاة مبنية على يمين، وقد ذكرنا أنها إذا كانت كذلك فالقسم يعتمد على جواب الشرط، وجواب الشرط إذا كان فعلا، فهو فعل مستقبل، فوجب الاستقبال لأنه مجازاة، ووجبت له اللام لأنها جواب القسم، فصار حق اللفظ ليظلّنّ، ثم نقل إلى لفظ الماضي لأن حروف المجازاة تسوغ نقل لفظ الماضي إلى الاستقبال، وكذلك نقل لفظ الفعل بعد (ما) التي للمضي، وهو في معنى الاستقبال في قولك: لئن فعلت، تريد: ما هو فاعل، وما يفعل كيف كان كظلوّا في معنى ليظلّنّ، وقوله- عز وجل-: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ (¬5) اللام الأولى التي تدخل في اسم (إن) إذا قلت: إن في الدار لزيدا، وفي خبرها إذا قلت: إن زيدا ليقوم، ولا تدخل معها النون واللام الثانية، وهي جواب قسم يقدر بعد اسم (إن)، وقيل خبرها، وذلك في نحو قولك: إن زيدا ليقومن، كأنك قلت: إن زيدا والله ليقومن، ولا تجتمع هاتان اللامان، وإذا فرق بينهما جاز. و (ما) هي زائدة للتوكيد، وقد تقدم من كلامي أن قولهم: إن زيدا ليضرب وليذهب الأكثر في كلامهم أن يراد به الحال، وقد يراد به المستقبل، وذلك في قوله عز ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬2) جزء من بيت سبق تخريجه. (¬3) سورة فاطر، الآية: 2. (¬4) سورة الروم، الآية: 2. (¬5) سورة هود، الآية: 51.

باب الحروف التي لا تقدم فيها الأسماء (على) الفعل

وجل: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (¬1) والحكم متأخر، وقوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (¬2) بدا لهم فعل، والفعل لا يخلو من الفاعل أو معناه عند النحويين أجمعين بدا لهم بدوّ، وقالوا: ليسجننه، إنما أضمر البدو، لأنه مصدر يدل عليه (بدا لهم)، وأضمر (قالوا) كما قال: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ (¬3) ومعناه: يقولون سلام عليكم، ولا يكون ليسجننه بدلا من الفاعل لأنه جملة، والفاعل لا يكون جملة، وباقي الباب من كلام سيبويه مفهوم. باب الحروف التي لا تقدّم فيها الأسماء (على) الفعل فمن تلك الحروف الحروف العوامل في الأفعال الناصبة- ألا ترى أنك لا تقول: جئتك كي زيد يقول ذاك، ولا خفت أن زيد يقول ذاك، فلا يفصل بين الفعل والعامل فيه، كما لا يجوز أن يفصل بين الاسم وبين (إنّ) وأخواتها بفعل، ومما لا يقدم فيه: الأسماء، الفعل، الحروف العوامل في الأفعال الجازمة، وتلك (لم) و (لما) و (لا) التي تجزم الفعل في النهي و (اللام) التي تجزم الفعل في الأمر، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: لم زيد يأتك، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الأفعال بشيء، كما لم يجز أن تفصل بين الحروف التي تجر وبين الأسماء بالأفعال؛ لأن الجزم نظير الجر، ولا يجوز أن تفصل بينهما وبين الفعل بحشو، كما لا يجوز أن يفصل بين الجار والمجرور بحشو إلا في شعر: ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب، كراهة أن تشبّه بما يعمل في الأسماء، ألا ترى أنه لا يجوز أن يفصل بين الفعل وما ينصبه بحشو، كراهة أن يشبهوه بما يعمل في الاسم، لأن الاسم ليس كالفعل، وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل، ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في الاسم، وقلة ما يعمل في الفعل؛ فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء، وذلك أنك لو قلت: جئتك كي بك يؤخذ زيد، لم يجز، وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجر لقلة ما يعمل في الأفعال، وكثرة ما يعمل في الأسماء. واعلم أن حروف الجزاء يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال، وذلك أنهم ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 124. (¬2) سورة يوسف، الآية: 35. (¬3) سورة الرعد، الآيتان: 23، 24.

يشبهوها بما يجزم مما ذكرنا، إلا أن حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل، ويكون فيها الاستفهام فترفع فيها الأسماء، وتكون بمنزلة (الذي) فلما كانت تصرف هذا التصرف، وتفارق الجزم ضارعت ما يجر من الأسماء التي إن شئت استعملتها غير مضافة نحو ضارب عبد الله، لأنك إن شئت نونت ونصبت، وإن شئت لم تجاوز الاسم العامل في الآخر، يعني ضارب، ولذلك لم يكن مثل (لم) أو (لا) في النهي واللام في الأمر لأنهن لا يفارقن الجزم، ويجوز الفرق في الكلام في (إن) إذا لم تجزم في اللفظ نحو قوله: عاود هراة وإن معمودها خربا (¬1) فإن جزمت ففي الشعر، لأنه يشبّه بلم؛ وإنما جاز في الفصل ولم يشبه (لم) لأن (لم) لا يقع بعدها فعل، وإنما جاز في (إن) لأنها أصل الجزاء ولا تفارقه، فجاز هذا، كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا: إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وأما سائر حروف الجزاء، فهذا ضعيف فيه في الكلام لأنها ليست كإن، فلو جاز في إن، وقد جزمت كان أقوى إذ جاز فيها (فعل). ومما جاء في الشعر مجزوما في غير (إن) قول عدي بن زيد: فمتى واغل ينبهم يحيوّ … هـ وتعطف عليه كأس السّاقي (¬2) وقال: صعدة نابتة في حائر … أينما الرّيح تميّلها تمل (¬3) ولو كان (فعل) كان أقوى إذ كان ذلك جائزا في (إن) في الكلام. واعلم أن قولهم في الشعر: إن زيد يأتك يكن كذا، إنما يقع على فعل هذا تفسيره، كما كان ذلك في قولك: إن زيدا رأيته يكن ذلك، لأنه لا تبتدأ بعدها الأسماء ثم يبنى عليها، فإن قلت: إن يأتني زيد يقل ذاك، جاز على قول من قال: زيدا ضربته، إن تأتني فأنا خير لك حسنا، وإن لم يحمله على ذلك رفع وجاز في الشعر، كقوله: ¬

_ (¬1) صدر بيت لم نقف على قائله وعجزه، الكتاب 3/ 112؛ ولسان العرب مادة (طرب). (¬2) البيت في ديوانه 156، والكتاب 3/ 113. (¬3) البيت ورد منسوبا لكعب بن جعبل، في الخزانة 3/ 47؛ والكتاب 3/ 113.

الله يشكرها (¬1) ومثل الأول قول هشام المري: فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن … ومن لا نجره يمس منا مفزّعا (¬2) قال أبو سعيد: أكثر كلام سيبويه فيه واضح، وقوله: وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجر لقلة ما يعمل في الأفعال من العوامل، وكثرة ما يعمل في الأسماء منها. وذلك أن الأسماء تعمل فيها الأفعال والأسماء والحروف، أما الفعل فقولك عمرو ضرب زيدا، ويضرب أخاك أبوك، وأما الأسماء فقولك: هذا ضارب زيدا، ومكرم عمرا، وهذا غلام عمرو، ودار بكر. وأما الحروف فإن وأخواتها، وحروف الجر كقولك: إن في الدار زيدا، ومررت بعمرو، والأفعال إنما يعمل فيها حروف معلومة قليل عددها، إذا تقدم الاسم المرفوع، وولى الجازم، فأحسن ذلك أن يكون في (إن) من بين حروف الجزاء، لأنها الحرف الأصلي في المجازاة، وقد ذكرت قوتها قبل هذا الموضع، واستشهدت عليه بما يغني عن إعادته في هذا الموضع، ويكون الفعل بعد الاسم ماضيا، وذلك قول الله- عز وجل-: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ (¬3) وقوله- عز وجل-: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (¬4)، والذي عند أصحابنا البصريين أن الاسم الذي بعد (إن) يرتفع بإضمار فعل ما ظهر تفسيره كأنه قال: وإن استجارك أحد من المشركين استجارك، والفعل الذي بعد (أحد) تفسير المضمر الفعل، وموضع هذا الفعل جزم، وإن كان ماضيا يقوم في التقدير مقام الفعل الذي هو تفسيره، والدليل على ذلك أن الشاعر لما جعله مستقبلا جزمه، فمن ذلك فمتى واغل ينبهم تقديره فمتى ينبههم واغل ينبههم، وقوله: ... … أينما الرّيح تميّلها ... فتقديره: أينما تميلها الرّيح تميلها. ¬

_ (¬1) جزء من بيت سبق تخريجه. (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 3/ 640؛ الكتاب 3/ 114؛ المقتضب 2/ 75. (¬3) سورة النساء، الآية: 176. (¬4) سورة التوبة، الآية: 6.

وهذا باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل

ومن نحن نؤمنه تقديره: نحن نؤمنه، وقد أنشد غير سيبويه فيه وإن أنت تفعل فللفاعلي … ن أنت المجيزين تلك الغمارا (¬1) ومعناه فإن تفعل أنت تفعل، وأما الفراء وأصحابه فلا يقدرون فعلا قبل الاسم المرفوع، ويجعلون الاسم المرفوع والمنصوب مستحسنا في (أن) خاصة لقوتها لأنها الاسم المرفوع الحرف الأصلي في المجازاة، فالمرفوع ما ذكرناه، والمنصوب قولك، وإن أخاك ضربت ظلمت، وقد اختلف الكسائي والفراء في جواب الجزاء إذا لم يكن بالفاء هل يجوز تقديم الاسم فيه على الفعل فأجمعا أنه لا يجوز ذلك في الاسم المرفوع، واختلفا في المنصوب، وأجازه الكسائي، ولم يجزه الفراء، وذلك قولك: إن عبد الله يقم يقم أبوه لا يجوز عندهما في الجواب أبوه يقم، فإن قلت: إن عبد الله يقم يضرب أخاه- جاز عند الكسائي أخاه يضرب، ولم يجز عند الفراء، واحتج الكسائي بقول الشاعر، وهو طفيل الغنوي: وللخيل أيام فمن يصطبر لها … ويعزف لها أيامها الخير تعقب (¬2) والقصيدة مخفوضة، والخير عند الكسائي منصوب بتعقب، والفراء يقول: إن الخير منصوب؛ لأنه نعت الأيام كأنه قال: أيامها الصالحة، ولم يأت لتعقب بمفعول، ولو كان تعقب مرفوعا لم يقع خلاف في جواز تقديم المنصوب بالفعل، لأن الفاء تقدر وإذا أتى بالفاء جاز التقديم، كقولك: إن يأتني زيد فأكرم أخاه، ويجوز فأخاه أكرم، ثم تحذف الفاء، كما حذف في قوله الله يشكرها. وقد أجاز سيبويه تقديم الاسم في الجواب ورفعه بإضمار، كما أجازه في الشرط، وذلك قولك: إن تأتني زيد يقل ذاك، فزيد مرفوع بفعل مضمر قبله مجزوم، وبعده تفسيره، كأنه قال: إن تأتني يقل زيد ذاك يقل، ولا يجوز أن يرتفع زيد بالابتداء، لأنه لو ارتفع بالابتداء لكانت الفاء مقدرة قبله، وإذا قدرت الفاء قبله بطل جزم الفعل الذي بعده لأنك تقول: إن تأتني فزيد يقل ذاك، وإنما يقول فزيد يقول ذاك، وقوله في آخر الباب: ومثل الأول قول هشام المري: يعني بالأول قوله: فمتى واغل. وأينما الريح، وسائر كلامه قد أتى عليه الشرح في هذا الباب وغيره. وهذا باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل ولا يغير الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يكون قبله شيء منها. فمن ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا للكميت بن زيد في ديوانه 346. (¬2) البيت في ديوانه 35، الخزانة 9/ 44.

تلك الحروف (قد) لا تفصل الفعل بغيره، وهي جواب لقوله: من فعل. كما كانت فعل جوابا ل (هل فعل؟)، فإذا أخبرت أنه لم يقع، ولما يفعل وقد فعل إنما هما لقوم ينتظرون شيئا، فمن ثم أشبهت (قد) (لمّا) في أنها لا يفصل بينها وبين الفعل. ومن تلك الحروف أيضا سوف يفعل لأنها بمنزلة السين في قولك سيفعل، وإنما تدخل هذه السين على الأفعال، وإنما هي إثبات لقوله: لن يفعل فأشبهتها في أن لا يفصل بينها وبين الفعل. ومن تلك الحروف ربما وقلما وأشباهها، وجعلوا رب مع ما بمنزلة كلمة واحدة. (وهيئوها ليذكر بعدها الفعل، لأنه لم يكن لهم سبيل إلى رب تقول ولا إلى (قل يقول): فألحقوهما (ما) وأخلصوهما للفعل، ومثل ذلك (هلّا) ولولا و (ألّا) ألزموهن (لا) وجعلوا كل واحدة مع (لا) بمنزلة حرف واحد، فأخلصوهن للفعل، حيث دخل فيهن معنى التخصيص، وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال: صددت فاطولت الصدود وقلّما … وصال على طول الصّدود يدوم (¬1) واعلم أنه إذا اجتمع بعد حروف الاستفهام. نحو (هل) و (كيف) و (من) - اسم وفعل كان الفعل بأن يلي حرف الاستفهام أولى؛ لأنها عندهم في الأصل من الحروف التي يذكر بعدها الفعل، وقد بيّن حالها فيما مضى. قال أبو سعيد قول سيبويه: لا يفصل بين الفعل وقد بغيره أراد على وجه الاختيار، وموضوع قد لأن منزلة قد في الفعل، كمنزلة الألف واللام من الاسم لأن دخولها على فعل متوقع أو مسؤول عنه، لأنه إذا قال: قد قام زيد، فإنما يقوله لمن توقع قيامه، أو لمن سأل عنه، فقال: هل قام زيد، وإذا قال: قام زيد، فإنما يبتدئ إخبارا بقيامه لمن لم ينتظره، ولم يتوقعه، فأشبهت (قد) العهد في قولك: جاءني الرجل لمن عهده المتكلم أو جرى ذكره عنده قبل ذلك كقولك: ناظرت اليوم رجلا فقال لي الرجل في مناظرته كذا وكذا، ومما يوجب أن لا يفصل بينها وبين الفعل، أنها تفيض (لما)، و (لما) حرف جازم تقول: ركب زيد ولما يتعمم، فيقول الراد عليه: بل ركب زيد وقد تعمم، ومعناه ركب وهذه حاله، إلا أنهم أجازوا الفصل بينها وبين الفعل. ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا إلى الفقعسي في ديوانه 480، الكتاب 1/ 31، 3/ 115؛ المقتضب 2/ 84؛ همع الهوامع 2/ 83، 224.

قال سيبويه في أول الكتاب: وأما القبيح المستقيم، فقولك: قد زيدا رأيت، وقد فصلوا بينها وبين الفعل أيضا بالقسم، كقولك: قد لعمري بت ليلى ساهرا، وقد والله أحسنت، وحسن في (قد) الفصل، ولم يحسن الفصل بين الألف واللام، وبين ما دخلتا عليه؛ لأن (قد) تنفرد، ولا يذكر بعدها شيء فقويت بذلك، واحتمل الفصل لقول النابغة: أقد التّرحّل غير أنّ ركابنا … لمّا تزل برحالها وكأن قد (¬1) وقال: تفريق أفي اليوم تقويض الأحبة أم غد … لما تبن وجها لهم وكأن قد ومنه السين، وسوف من الفعل المستقبل كمنزلة الألف واللام في تلخيص الفعل المستقبل، وقصره عليه كقصر الألف واللام للاسم المذكور على شيء بعينه، ووجه آخر أن السين، وسوف هما إثبات (لن) و (لن) نقيضتهما، ولا يفصل بين (لن) وما تدخل عليه، فكذلك السين، وسوف، وأما (ربما) و (قلما) فإن الأصل فيهما (رب). وقل: فأما (رب) فهي حرف خفض لا يجوز أن يليها فعل ولا تدخل حروف الخفض على الأفعال، وأما (قل) فهي فعل، ولا يليها فعل، لأن الفعل لا يعمل في الفعل، وإنما حق الأسماء أن تقع بعدها، فإذا أرادوا بعدها أن تقع الأفعال أدخلوا (ما) وجعلوها مع (الذي) قبلها شيئا واحدا بمعنى حرف مهيّأ للفعل بعده، ولا تعمل شيئا، وجعلوا فيه المعنى الذي يريدونه، كما جعلوا (هلا) و (لو ما) و (لولا) وما شابهها ما أرادوها، ويجوز أن يكون أدخلوا (ما) وهي اسم، وأتوا بالفعل بعدها فصار الفعل صلة لها فانتصب و (رب) واقعة على اسم تقديره أنه مخفوض ب (رب)، قل واقعة على اسم تقديره أنه مرفوع ب (قد)، وذلك قولك: ربما يقوم زيد. وقال الله عز وجل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (¬2) ويقول: قلما يقوم زيد، فهذا وجه الكلام فيها، وقد تجعل (ما) زائدة، وبعدها اسم مخفوض ب (رب)، كقولك: ربما رجل خلصته من السبع. قال الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 89، ابن يعيش 8/ 148؛ المقتضب 1/ 42. (¬2) سورة الحجر، الآية: 2.

هذا باب الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء ويجوز أن يليها بعدها الأفعال

ربما طعنت لضيف مقيل … دون بصري وطعنته بحلها (¬1) وقد تحمل (ما) في (قلما) على الزيادة، ويرفع الاسم بعدها ب (قل) وعلى ذلك حمل بعض الناس قوله: (وقلما وصال) مبتدأ، وما بعده خبره، والمبتدأ والخبر صلة (ما)، وهي مرفوعة ب (قل). وذكر سيبويه (هلا) و (لولا) و (ألّا) فعال: ألزموهن (لا) وجعلوا كل واحدة منهن مع (لا) بمنزلة حرف واحد، فأخلصوهن للفعل، حيث دخل فيهن معنى التخصيص، وترك (لولا) وهو مثلهن في المعنى، وقد ألزمت (ما) وهي مثل (لا) في النهي. وباقي الباب مستغنى عن شرحه. هذا باب الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء ويجوز أن يليها بعدها الأفعال وهي (لكن) و (كأنما) و (إذ) لأنها حروف لا تعمل شيئا، فتركت الأسماء بعدها على حالها، كأنه لم يذكر قبلها شيء، فلم يجاوز ذاتها إذ كانت لا تغير ما دخلت عليه، فيجعلوا الاسم أولى بها من الفعل، وسألت الخليل، عن قول العرب: انتظروني كما آتيك، فزعم أن (ما) و (الكاف) جعلتا بمنزلة حرف واحد، وصيّرت الفعل، كما صيّرت للفعل (ربما) والمعنى: لعلي آتيك، فمن ثم لم ينصبوا به الفعل، كما لم ينصبوا ب (ربما). قال رؤبة: لا تشتم النّاس كما لا تشتم (¬2) وقال أبو النجم: قلت لشيبان ادن من لقائه … كما تغدّي القوم من شوائه (¬3) وقال أبو سعيد: يرتفع الفعل بعد (كما) من وجوه منها: أن تجعل الكاف، وهي كاف التشبيه في الأصل مع (ما) كشيء واحد يليها الفعل، ورفع بعدها، كما رفع بعد (ربما) وجعلت بمعنى لعل، والفعل للاستقبال دون الحال، وفيه معنى كي، وإن ارتفع الفعل كقولك للرجل ائتني لعلي أهب لك. قال الله عز وجل: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لعدي بن الرعلاء. (¬2) البيت في ديوانه 183، الخزانة 4/ 282. (¬3) البيت في ديوانه، الكتاب 3/ 116.

تُفْلِحُونَ (¬1) وإنما صار كذلك لأن لعل فيها طمع، والذي يفعل الفعل ملتمسا لكون الشيء، فإنما يطمع في ذلك الملتمس ويرجوه، والمعاني إذا تقاربت اشتركت كثيرا في الألفاظ، ومنها: أن يكون (ما) (من) (كما) و (ما) بعدها من الفعل بمنزلة المصدر، كقولك أزورك كما تزورني، وائتني كما آتيك، وكما تدين تدان، وكما يفعلون أفعل، أي أزورك كزيارتك إياي، وائتني كإتياني إياك، فإن قال قائل: إن كان المصدر الذي بعد الكاف من فعل ماض، فينبغي أن تقول أزورك كما زرتني، وإن كان من فعل مستقبل، فكيف يشبهه بما لم يكن قيل له، أما الفعل إذا كان ماضيا، فالوجه فيه أزورك كما زرتني، وائتني كما أتيتك، وإن كان مستقبلا فتقديره أتيني كإتياني إياك إن أتيتني، وكذلك لا تشتم الناس كما لم تشتم في معنى المصدر، وتقديره: اترك شتمهم كتركهم شتمك إن تركت شتمهم، والوجه الثالث: أن يكون (كما) وقتا كقولك: ادخل كما يسلم الإمام أي في ذلك الوقت، وانصرف كما يجلس الوزير، أي في وقت جلوسه والوجه الرابع: فيما ذكر بعض النحويين أن (كما) تقييد للتشبيه حسب، ولا ينضم (ما) إلى الذي عنده، ولا يختلط به، كما يقال: أنا عندك كما أنت عندي، قال الله عز وجل: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ (¬2) فكما بجملتها مفيدة التشبيه، وعلى هذا يجعل (ربما) بجملتها بمعنى (رب) غير أنها لا تخفض، وحكى الكوفيون النصب ب (ما) بمعنى (كما) وحذف الباء منها، وإن كانوا غير دافعين للدفع بعدها، ولم يحك البصريون ذلك، وقد وافقهم على ذلك أبو العباس المبرد، واستحسن قولي الكوفيين والبصريين، ولم يحتج في ذلك بشيء إلا ببيت احتج به الكوفيون وهو قوله: وطرفك إمّا جئتنا فاصرفنّه … كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تصرف (¬3) قال أبو سعيد هذا البيت وما بعده مما احتج به الكوفيون للنصب ب (ما) فتأول، أو مروي على غير روايتهم مما لا يكون لهم حجة، أما هذا البيت فغيرهم يرويه: ... فاصرفنه … لكي يحسبوا أن الهوى حيث تصرف وقد احتجوا بقول رؤبة: ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 77. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 138. (¬3) البيت ورد منسوبا لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 53.

هذا باب نفي الفعل

لا تظلموا الناس كما لا تظلموا والذي رواه سيبويه بالتوحيد: لا تظلم الناس كما لا تظلم وليس في هذه الرواية حجة. وأنشدوا بيت صخر الغي الهذلي: جاءت كبير كما أحفّرها … والقوم صيد كأنهم رمدوا (¬1) والبصريون يروونه بالرفع: كما أحفّرها، والفراء اختار الرفع في بيت صخر الغي، وقال: احفرها بالنصب. فأنشد الآخر: يقلّب عينيه كما لأخافه … تشاوس رويدا أتني من تأمل (¬2) قالوا اللام في لأخافه توكيد لكما، وهذه لا حجة فيها لأن فيه تكلفا شديدا وحملا على وجه يقبح، والأولى والأظهر يقلب عينيه لكيما يخافه، وأنشدوا قول: عدي بن زيد: اسمع حديثا كما يوما يحدثه … عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا (¬3) وذكر أن الرواة أجمعوا على رفع يحدثه إلا المفضل، فإنه كان ينصبه، واجتماع النحويين من الكوفيين والبصريين على رفعه حجة على المفضل، لأنه لم يكن في معرفة النحو كالمخالفين له. وقال هشام بن معاوية: (كما) على معنى (كي) لكنها بمنزلة قولهم افعل كما يفعلون، وأنشد هشام: وما زرتني في اليوم إلا تعلة … كما القابس العجلان ثم يغيب وقال معناه: كما ترون القابس، وأهر وجوه معاني (كما) فيما أنشده سيبويه في آخر الباب- معنى (لعل) كأنه قال:- لا تشتم الناس لعلك لا تشتم، وكذلك: أدن من لقائه، يريد من لقائه لحيدة لعلنا نغذي القوم من شوائه. هذا باب نفي الفعل إذا قال: فعل فإن نفيه لم يفعل، وإذا قال: قد فعل فإن نفيه لمّا يفعل، وإذا قال: لقد فعل فإن نفيه ما فعل لأنه كأنه قال: والله لقد فعل، فقال: والله ما فعل. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 1/ 260، الخزانة 1/ 224. (¬2) البيت ورد منسوبا إلى أوس بن حجر في ديوانه 98، الخزانة 1/ 224، 226. (¬3) البيت في ديوانه 158.

هذا باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء

وإذا قال: هو يفعل، أي هو في حال فعل، فإن نفيه ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل ولم يكن الفعل واقعا فنفيه والله لا يفعل وإذا قال: ليفعلن فنفيه لا يفعل، كأنه قال: والله ليفعلن فقلت: والله لا يفعل وإذا قال: سوف يفعل، وسيفعل فإن نفيه لن يفعل. قال أبو سعيد: حق نفي الشيء وإيجابه أن يشتركا في مواقعهما، وأن لا يكون منهما فرق في أحكامهما إلا أن أحدهما إيجاب والآخر نفي، وعلى هذا ساق سيبويه ما ذكره في هذا الباب فجعل (لم يفعل) نفي (فعل) لأن المضيّ يجمعهما في قولك: فعل أمس، ولم يفعل أمس، وأحدهما موجب، والآخر منفي. وإذا قال: قد فعل فنفيه لما يفعل لأنهما للحال، ولما فيه تطاول تقول: ركب زيد، وقد لبس خفه، وركب زيد ولما يلبس خفه، فالحال قد جمعهما وأحدهما منفي، والآخر موجب. وإذا قلت: لقد فعل فنفيه ما فعل لأن قوله: لقد فعل جواب قسم، فإذا أبطلته وأقسمت قلت: ما فعل وتقديره: والله لقد فعل، وو الله ما فعل، وإذا قال: هو يفعل أي هو في حال فعل لم يكن نفيه لا يفعل لأن لا يفعل موضوع للمستقبل، فلا يكون نفي المستقبل نفيا للحال ولكن هو جواب هو يفعل للحال ما يفعل. وإذا كان هو يفعل للمستقبل فجوابه لا يفعل لاشتراكهما في الاستقبال. وباقي الباب على هذا، وقد تكرر ذكره في مواضع من الكتاب. هذا باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء يضاف إليها أسماء الدهر، وذلك قولك: هذا يوم يقوم زيد، وآتيك يوم يقول ذاك. وقال الله- عز وجل-: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (¬1) وهذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (¬2). وجاز هذا في الأزمنة واطرد فيها، كما جاز للفعل أن يكون صفة، وتوسعوا كذلك في الدهر لكثرته في كلامهم. فلم يخرجوا الفعل من هذا كما لم يخرجوا الأسماء من ألف الوصل نحو (ابن) وإنما أصله للفعل وتصريفه. ¬

_ (¬1) سورة المرسلات، الآية: 35. (¬2) سورة المائدة، الآية: 119.

ومما يضاف إلى الفعل أيضا قولك: ما رأيته منذ كان عندي ومنذ جاءني، ومنه أيضا ((آية)). قال الأعشى: بأية تقدمون الخيل شعثا … كأنّ على سنابكها مداما (¬1) وقال زيد بن عمرو بن الصعق: ألا من مبلغ عنّي تميما … بآية ما تحبّون الطّعاما (¬2) ف (ما) لغو. ومما يضاف أيضا إلى الفعل قوله: لا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا أفعل بذي تسلمون. المعنى لا أفعل بسلامتك، و (ذو) مضافة إلى الفعل كإضافة ما قبله كأنه قال: لا أفعل بذي سلامتك. ف (ذو) هاهنا الأمر الذي يسلمك، وصاحب سلامتك. ولا يضاف إلى الفعل غير هذا، كما أن (لدن) لا تنصب إلا في (غدوة). واطردت الأفعال في (أية) اطراد الأسماء في (أتقول) إذا قلت: أتقول زيدا منطلقا شبّهت ب (تظن). وسألته عن قوله في الأزمنة: كان ذاك زمن زيد أمير. فقال: لما كانت في معنى (إذ) أضافوها إلى ما قد عمل بعضه في بعض، كما يدخلون (إذ) على ما قد عمل بعضه في بعض ولا يغيرونه، فشبهوا هذا بذلك، ولا يجوز (هذا) في الأزمنة حتى تكون بمنزلة (إذ) فإن قلت: يكون هذا يوم زيد أمير كان خطأ. حدثنا بذلك يونس عن العرب. لأنك لا تقول: يكون هذا إذا زيد أمير. قال أبو سعيد: أما إضافة أسماء الدهر إلى الأفعال فلأن الأفعال بمنزلة أسماء الدهر إذ كان في لفظها ما يدل على المضي كقولك: ذهب وانطلق، وأشبه ذلك. ومن لفظها ما يدل على الاستقبال والحال كقولك: يذهب وينطلق، فانقسم لفظه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه، ابن يعيش 2/ 18؛ الكتاب 3/ 118. (¬2) البيت في ديوانه، الخزانة 6/ 512؛ الكتاب 3/ 118.

إلى ماض وغير ماض، فصار الفعل الماضي بمنزلة (أمس) والحال ك (اليوم) والآن والمستقبل ك (غد) وسهل إضافته إلى الفعل لأنه أبين من إضافته إلى مصدره لأن لفظ الفعل يدل على تحصيل زمانه، ولفظ المصدر لا يدل على ذلك، ثم جعل الزمان الماضي كله ب (إذ) والمستقبل كله ب (إذا)، وألزموا (إذ) الإضافة إلى فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر كقولك في إضافتها إلى الفعل والفاعل: جئتك إذ خرج زيد، وخرجت إذ يلي زيد بغداد؛ وإضافتها إلى المبتدإ والخبر، كقولك: دخلت البصرة إذ عمرو أميرها، وخرجت منها إذ عمرو معزول، وأما (إذا) فألزموها إضافتها إلى الفعل والفاعل دون المبتدإ والخبر لأن فيها معنى المجازاة، ولا تكون المجازاة إلا بالفعل والفاعل فقالوا: آتيك إذا ولى زيد، وأقصدك إذا يخرج زيد، ولا تقول: آتيك إذا زيد أمير، وإنما لم يجز إلا بالفعل لأنك إذا قلت: آتيك إذا ولى زيد، ففيها معنى إن ولى زيد أتيتك ومن أجل ذلك جاز أن يكون اللفظ ماضيا، والمعنى مستقبلا، ثم أتبعوا أسماء الزمان في إضافتها معانيها مما كان منها يراد به المضي أضافوه إلى الفعل والفاعل، والمبتدأ أو الخبر، وما أرادوا به الاستقبال أضافوه إلى الفعل والفاعل. وأجروها في الإضافة مجرى (إذ) وإذا تقول: كان ذاك زمن زيد أمير، لأن معناها معنى (إذ)، ولو قلت يكون ذاك زمن زيد أمير لم يجز لأن معناها معنى (إذا)، وإنما تقول: يكون ذلك زمن يتآمر زيد. ومما يتفرع من هذا الباب أنك تقول: آتيك إذا قام زيد، ولا يجوز آتيك يوم قام زيد، وزمن قام أخوك لأن آتيك للمستقبل، وقام للماضي فلا يستقيم اجتماعهما، وإنما جاز آتيك إذا أقام زيد لأن إذا لما تضمنته من معنى المجازاة نقلت المستقبل إلى لفظ الماضي، و (إذا) وإن كان فيها معنى المجازاة فهي اسم، و (إن) حرف. واستدل الرياشي (¬1) على ذلك بأنك تقول: القتال إذا جاء زيد، كما تقول: القتال يوم الجمعة، ولا تقول: القتال إن جاء زيد وأما قولهم: ما رأيته منذ كان عندي، ومنذ جاءني، فإن (منذ) يحتمل أن تكون اسما وحرفا، فإن كان اسما فهو كإضافة أسماء الزمان إلى الفعل، (منذ) من أسماء الزمان؛ وإن كان حرفا ¬

_ (¬1) الرياشي: أبو الفضل العباس بن الفرح بن علي بن عبد الله البصري لغوي، راوية من أهل البصرة له مؤلفات في الخيل والإبل وكلام العرب.

فهو حرف جر مختص به الزمان، وعمله فيما بعده كعمل الاسم المضاف فجاز إدخاله على الفعل إذا كان في معناه وعمله كزمان مضاف إلى فعل إذا أذن. وأما (آية) فمعناها علامة، ومنزلتها منزلة الوقت، لأن أصل الوقت هو فعل وجد فجعل وقتا لفعل آخر في كونه معه، أو كونه قبله أو بعده، فإذا جعلت قيام زيد علامة لفعل يحدث بعده أو لفعل قد حدث قبله، أو فعل يحدث معه فقد صيّرته كالتأريخ لما قبله وبعد ومعه؛ ألا ترى لو أن قائلا قال لآخر: علامة خروجي إذا أذن المؤذن علم المخاطب بوجود الأذان خروجه، كما أنه إذا قال: خروجي يوم الجمعة علم خروجه بوجود يوم الجمعة، والشاهد في قوله: بأية تقدمون الخيل شعثا (¬1) وأما قوله: ... … بآية ما تحبون ... (¬2) - فالشاهد فيه إذا جعلت (ما) لغوا. وليس بلازم جعلها لغوا لأنه يحتمل أن تجعل (ما) و (تحبون) مصدرا كأنه قال: ... بآية محبتكم الطعام ومثله قول عمر بن أبي ربيعة: بأية ما قالت غداة لقيتها … بمدفع أكنان أهذا المشهّر (¬3) وأما قول الشاعر: ما لك عندي غير سهم وحجر … وغير كيداء شديدة الوتر جادت بكفي كان من أرمي البشر (¬4) فإن ب (كفي) مضاف إلى محذوف تقديره: بكفي رجل، وكان من أرمي البشر، نعته؛ وحذف المنعوت، وأقيم النعت مقامه كقوله: لو قلت ما في قومها لم تيثم ¬

_ (¬1) صدر بيت سبق تخريجه. (¬2) جزء من عجز بيت سبق تخريجه. (¬3) البيت في ديوانه 93. (¬4) لم نستدل على قائله.

يفضلها في حسب وميسم (¬1) بمعنى أحد يفضلهما. وأما قولهم: اذهب بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا أفعل بذي تسلمون، فمعنى هذا الكلام دعاء كأنه قال في المعنى: والله يسلمك، وتقدير سيبويه في هذا ونحوه من المضاف أن الفعل يقام مقام مصدره في الإضافة، كأنه قال: بذي سلامتك، وهو قول أبي العباس محمد بن يزيد، وشرحه في يَوْمَ يَقُومُ (¬2). وهذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (¬3) وهذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (¬4) قامت الأفعال مقام مصادرها؛ وكذلك قوله: اذهب بذي تسلم، قام الفعل مقام مصدره، وكذلك في قوله- عز وجل-: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (¬5) موضع إيمانكم بالله. لأنه بيان للتجارة، وبدل منها في التقدير. وقال: (ذو) لا تقع مفردة أبدا فجازت إضافتها إلى ما لا يضاف إليه غيرها ووقعت على الفعل خاصة، وأخوات (ذو) ينفردن نحو: (أب) و (أخ) و (حم) و (هن) و (فم)، لأن (فوك) إذا أفرد صار (فما). ووجه آخر في (ذي تسلم) كأنه قال: في زمان ذي تسلم، و (ذي) نعت لزمان. والنعت هو المنعوت، فأضيف إلى الفعل لأنه في المعنى زمان، كأنه قال: اليوم تسلم. ووجه آخر أن تكون (ذي) بمعنى (الذي) وخولف بين لفظها في هذا المثال وبين لفظها في سائر المواضع فإن تستعمل في هذا المثال ب (الياء) وفي غيره ب (الواو) في الرفع والنصب والجر، وهذه اللغة كثيرة في طيئ. قال قيس الطائي: (¬6) ¬

_ (¬1) البيت ورد منسوبا لحكيم بن ربيعة، كما نسبا إلى حميد الأرقط، الخزانة 5/ 62؛ الكتاب 2/ 345. (¬2) سورة المطففين، الآية: 6. (¬3) سورة المائدة، الآية: 119. (¬4) سورة المرسلات، الآية: 35. (¬5) سورة الصف، الآية: 10، 11. (¬6) البيت في ديوانه، الخزانة 7/ 438؛ ابن يعيش 3/ 148.

هذا باب «أن» و «إن»

وإن لم تغير بعض ما صنعتم … لأنتحيا للعظم ذو أنا عارقه ف (ذو) هنا في موضع خفض. وقال بجير بن غنمة: إنّ منّا ذو نلوذ به … إذ توارى الأعزّ بالأكمة (¬1) وهذا في موضع نصب، وكلاهما بمضي (الذي) ومعناه: اذهب بالزمان الذي تسلم فيه، وقد أتى الشرح على جميع الباب. هذا باب «أنّ» و «إنّ» أما " أنّ " فهي اسم وما عملت فيه صلة لها كما أن الفعل صلة لأن الخفيفة وتكون " أنّ " اسما. ألا ترى أنك تقول: قد عرفت أنك منطلق " فأنك " في موضع اسم منصوب كأنك قلت قد عرفت ذاك وبلغني أنك منطلق " فأنك " في موضع اسم مرفوع كأنك قلت بلغني ذاك " فأنّ " الأسماء التي تعمل فيها صلة لها. كما أن الأفعال التي تعمل فيها " أن " صلة لها. ونظير ذلك في أنه وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد لا في غير ذلك قولك: " رأيت الضّارب أباه زيد " فالمفعول فيه لم يغيره عن اسم واحد بمنزلة الرجل والفتى فهذا في هذا الموضع شبيه بأنّ إذ كانت مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد. فهذا لتعلم أن الشيء يكون كأنه من الحروف الأولى وقد عمل فيه. وأما " إنّ " فإنما هي بمنزلة الفعل لا يعمل فيها ما يعمل في " أنّ " كما لا يعمل في الفعل ما يعمل في الأسماء. ولا تكون إنّ إلا مبتدأة وذلك قولك: " إنّ زيدا منطلق " " وإنّك ذاهب ". قال أبو سعيد: " أنّ وما بعدها من اسمها وخبرها منزلتها منزلة اسم واحد في مذهب المصدر كما تكون " أن " المخففة وما بعدها من الفعل الذي ينصبه بمنزلة المصدر. وتقع المشددة فاعلة ومفعولة ومبتدأة ومخفوضة. ويعمل فيها جميع العوامل إلا ¬

_ (¬1) هو بجير بن عنمة اليولاني من طيئ أحد بني يولان بن عمرو بن الغوث بن طيئ شاعر فحل. يقول الآمدي: آراه أخا خالد بن عنمة الشاعر الجاهلي الطائي. (معجم الشعراء الجاهليين ص 50).

أنها لا تقع مبتدأة في اللفظ فأما كونها فاعلة فقولك: بلغني أنك منطلق كأنك قلت: بلغني انطلاقك. وكونها مفعولة: عرفت أنك خارج معناه: عرفت خروجك وكونها مبتدأة قولك: عندي أن زيدا راحل معناه: عندي رحيله. كما تقول: عندي غلامه. وكونها مخفوضة: أيقنت بأنك مقيم أي بإقامتك. ولو قلت: أنك منطلق عرفت لم يجز وإن كان يجوز أن تقول: انطلاقا عرفت. لأن " إنّ " وأنّ " من خبر واحد في الأصل فاختاروا لابتداء اللفظ " إنّ " المكسورة وجعلوها بمنزلة الفعل المبتدأ به. وجعلوا " أنّ " لما تعلق بشيء قبله مما يحتاج إلى تقديمه عليه وتعليق معناه به. فإن قال قائل: فقد قال الله عز وجل:- وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (¬1) و " أن " متعلقة " بتدعوا " تقديره: ولا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله. وحذف اللام وقدم فصارت " أن " مقدمة في اللفظ والعامل فيها ما بعدها. فهلا أجزتم: أنّ زيدا منطلق؟ قيل له: في " أن المساجد لله " وجهان: لا يلزم فيهما كليهما ما ألزمت. أحدهما: أن يقال: " أن المساجد لله " يعمل فيهما ما قبلها وهي على أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ والعامل فيهما " أوحي إلي " (¬2). والوجه الآخر: " ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا " فقبلها " لام " مقدرة. وأما " أن " المخففة فيبتدأ بها اللفظ كقولك: أن تخرج خير لك، كقوله عز وجل: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (¬3) وأنما جاز ذلك في المخففة ولم يجز في المشددة كما ذكرنا من وقوع " أن " التي هي في معناها في التوكيد ابتداء. ومن الدليل على أنهما بمعنى واحد تقول: ظننت أنّ زيدا منطلق. فإن أدخلت اللام قلت: ظننت إنّ زيدا لمنطلق. فالمكسورة هي المفتوحة كما أنك إذا قلت: علمت زيدا منطلق: ثم قلت: علمت لزيد منطلق. فالمبتدأ والخبر هما المفعولان في المعنى. وهذا معنى قول سيبويه في الباب الذي يلي هذا في حسن تقدم " أن " المخففة " لأنها لا تزول من الأسماء والثقيلة تزول " يعني نستعمل مكانها المكسورة. ومما يمنع من تقديم " أن " المفتوحة في اللفظ في قولك: " أنك منطلق بلغني " أنها إذا تقدمت ارتفعت بالابتداء وكل مبتدأ ليس قبله شئ يتعلق به يجوز دخول " إنّ " المكسورة ¬

_ (¬1) سورة الجن، الآية: 18. (¬2) سورة الجن، الآية: 1. (¬3) سورة البقرة، الآية: 184.

عليه وأن يليها في اللفظ فيلزم في هذا أن يقال: " إنّ أنّ زيدا منطلق بلغني ". وهذا لا يجوز لأنه لا يجوز اجتماعهما في اللفظ. والمبتدأ الذي قبله ما يتعلق به لا يجوز دخول " إن " المكسورة عليه هو: " لولا " و " لو ما ". تقول: لولا زيد لأكرمتك. " زيد " مرفوع بالابتداء لما ذكرنا من مذهب البصريين. ولا تقول: " لولا إنّ زيدا بكسر " إن " وتقول: لولا أن زيدا عندي لأتيتك بفتح أن؛ لأن المبتدأ الذي يؤكد " بإن " هو الذي لا يتعلق بشئ قبله في اللفظ. وقد يكون قبل " إن " المكسورة كلام لا يغير كسرها؛ لأن تأويلها يرجع إلى أنها مبتدأة في اللفظ. 1 - من ذلك (الذي وأخواتها) إذا وصلت كانت " أن " بعدها مكسورة. كقولك: " مررت بالذي إنّ غلامه خير منك " وقال الله عز وجل: في (ما) بمعنى " الذي " وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ ... (¬1)؛ لأن الذي وأخواتها إنما تدخل على جمل قد وجب لها لفظ ما. فتدخل على ذلك اللفظ و " الذي " إنما هو اسم من تلك الجملة ويضمر في موضعه من الجملة. ويقدم " الذي " هو مبتدأ أو غير مبتدأ. ويؤتى بالجملة على هيئتها كقولك: " إنّ زيدا منطلق إلى عمرو " فتقدم " عمرا " على " أن " وتصفه " بالذي " وتدخل عليه العامل وتضمره في موضعه من الكلام الذي أخذته من جملته وقدمته فتقول: " مررت بعمرو الذي أنّ زيدا منطلق إليه ". 2 - ومن ذلك: أن تدخله على جملة في موضع خبر " أن " أو صفة كقولك: " زيد إنّ أباه خير من أبيك " لأن تقديره: أن أبا زيد خير من أبيك وقدمت " زيدا " مبتدأ وجئت بالجملة بأسرها وعلى لفظها وجعلتها خبرا لزيد. وأضمرته في موضعه من الجملة من ذلك. 3 - وإذا كانت " إن " بعد القول كقولك: قال عمرو أن زيدا قائم " لأن عمرا لفظ مبتدئا فقال: " إن زيدا قائم " فحكيت لفظه ونسبته إليه. 4 - ومنه: إذا كانت " اللام " في الخبر كقولك: علمت إنّ زيدا لقائم " لأن اللام متصلة بعمل " علمت " فصار كأنه قال: لأن زيدا كما تقول: لزيد منطلق. ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 76.

هذا باب من أبواب «أن»

لأن اللام تبطل عمل ما قبلها فيما بعدها ولا تعمل هي شيئا. 5 - ومنه القسم: فإنه جملة تؤكد جملة أخرى. على هيئة لفظها. ولو قدمت إنّ على القسم فقلت: إنّ زيدا لقائم والله جاز ولم يكن بينهما فرق فبان إنها تدخل على مبتدأ ليس قبله ما يتعلق به من نحو ما ذكرناه وسبيلها كسبيل " كان " الداخل على المبتدأ والخبر ولم يرد إيقاعها مواقع الأسماء. هذا باب من أبواب «أنّ» تقول: ظننت أنه منطلق. " فظننت " عاملة. كأنك قلت: ظننت ذاك وكذلك: وددت أنه ذاهب. لأنّ هذا في موضع ذاك. إذا قلت: وددت ذاك. وتقول: لولا أنه منطلق لفعلت " فأن " مبنية على " لولا " كما تبنى عليها الأسماء. وتقول: لو أنه ذاهب لكان خيرا له " فأنّ " مبنية على " لو " كما كانت مبنية على " لولا ". كأنك قلت: " لو ذاك " ثم جعلت " أن " وما بعدها في موضعه. فهذا تمثيل وإن كانوا لا يبنون على " لو " غير " أنّ ". كما كان " تسلم " في قولك: بذي تسلم " في موضع " اسم ولكنهم لا يستعملون الاسم لأنهم مما يستغنون عن الشيء بالشيء حتى يكون المستغنى عنه مسقطا. وقال الله عز وجل قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ (¬1) وقال: لو بغير الماء حلقى شرق (¬2) وسألته عن قول العرب: ما رأيته مذ أنّ الله خلقي فقال: " أن " في موضع كأنك قلت: " مذ ذاك ". وتقول: " أما إنّه ذاهب وأما أنه منطلق " فسألت الخليل عن ذلك ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 100. (¬2) شطر بيت عجزه: .. كنت كالغصان بالماء اعتصاري .. انظر الخزانة 3/ 594، 4/ 460، 524 والهمع 2/ 66 والتصريح 2/ 259 والأشموني ج 4/ 40 واللسان (عصر) معجم الشعراء للمرزباني- 81 ونهاية الأرب 3/ 63 والأغاني 2/ 114 الشرق: الذي يغص بالماء فلا يقدر على بلعه. والاعتصار: أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء وهو أن يشربه قليلا ليسيغه- والمعنى لو شرقت بغير الماء. أسغته بالماء. وفي العقد الفريد 3/ 103 قال الأصمعي: هذا من أشرف أمثال العرب يقول: أن كل من شرق بشيء يستغيث بالماء ومن شرق بالماء مستغاث له.

فقال. إذا قال: " أنه " فأنه يجعله كقولك: حقا أنه منطلق وإذا قال: أما إنّه " فأما " بمنزلة " ألا " كأنه قال: ألا أنه ذاهب. وتقول: (أما والله أنه ذاهب) كأنك قلت: (علمت والله أنه ذاهب). و " أما والله أنه ذاهب "، كأنك قلت: إلا أنه ذاهب وتقول قد عرفت أنه ذاهب ثم أنه يعجل لأن الآخر شريك الأول في: " عرفت ". وتقول: قد عرفت أنه منطلق. ثم أني أخبرك أنه معجل " لأنك ابتدأت إني " ولم تجعل الكلام على: " عرفت ". وتقول: " رأيته شابا وأنه يفخر يومئذ " .. كأنك قلت: رأيته شابا وهذه حاله تقول هذا ابتداء. ولم تحمل الكلام على الفعل. قال ساعدة بن جؤبة: (¬1) رأته على شيب القذال وأنها … تواقع بعلا مرّة وتئيم (¬2) وزعم أبو الخطاب أنه قد سمع هذا البيت من أهله هكذا. وسألته عن قوله عز وجل: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (¬3) ما مانعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال " وما يشعركم " ثم ابتداء فأوجب فقال: " إنها إذا جاءت لا يؤمنون: ولو قال: وما يشعركم أنها كان عذرا لهم. وأهل الكوفة يقولون: " أنها " فقال الخليل: هي بمنزلة قول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا " أي لعلك " فكأنه قال: " لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ". وتقول: أن لك على هذا وأنك لا تؤذي كأنك قلت: وإنّ لك أنك لا تؤذي. وإن شئت ابتدأت ولم تحمل الكلام على: " إنّ لك " وقد قرئ هذا الحرف على وجهين: قال بعضهم " وإنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وقال بعضهم: " وأنك " ¬

_ (¬1) هو ساعدة بن جؤبة الهذلي من بني كعب بن كاهل بن سعد من هذيل شاعر مخضرم أسلم. الخزانة: 1/ 476، العيني: 2/ 544. (¬2) البيت في ديوان الهذليين 1/ 228، الأعلم: 1/ 462، والقذال: مجمع الشعر في مؤخرة الرأس، تئيم: تصير بلا زوج. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 109.

واعلم أنه ليس بحسن ل " أنّ " أن تلي " إنّ " ولا " أن " كما قبح ابتداؤك الثقيلة المفتوحة وحسن ابتداء الخفيفة؛ لأن الخفيفة لا تزول عن الأسماء والثقيلة تزول. فتبتدأ ومعناها مكسورة ومفتوحة سواء. ألا ترى أنك لا تقول: " أنّ أنّك ذاهب " ولا عرفت أن أنك منطلق في الكتاب " وإنما قبح هاهنا كما قبح في الابتداء، ألا ترى أنه يقبح أن تقول: أنك منطلق بلغني أو عرفت. لأن الكلام بعد أن مستغن كما أن المبتدأ غير مستغن. وإنما كرهوا ابتداء أن لئلا يشبهوها بالأسماء التي تعمل فيها أن. ولئلا يشبهوها " بأن " الخفيفة لأن " أن " والفعل بمنزلة مصدر فعله ينصبه والمصادر تعمل فيها " إنّ " و " أنّ ". ويقول الرجل للرجل: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لم أنه ظريف. كأنه قال: قلت لمه؟ قلت: لأن ذلك كذلك. أراد بقوله: لم حكاية قوله: لم فعلت؟ ثم قال لأنه ظريف أي لأن ذلك كذلك. وتقول إذا أردت أن تخبر ما يعني المتكلم: أي إني نجد. إذا ابتدأت. كما تبتدئ: أي أنا نجد وإن شئت قلت: أني نجد كأنك قلت: أي لأني نجد. قال أبو سعيد: قوله: " فأن " مبنية على " لولا " يريد أنّها: معقودة بلو لا في المعنى الذي يقتضيه " ولولا " مقدمة عليه وليست بعاملة فيه. لأن الاسم بعد " لولا " يرتفع بالابتداء لا " بلو لا " ولزومها للاسم الذي بعدها للمعنى الذي وضعت عليه كلزوم العامل للمعمول به فشبهت به ففتحت " أنّ " ولم تكسر. لأن " إن " المكسورة إنما تدخل على مبتدأ مجرد لم يغيّر معناه بحرف قبله، وقد ذكرنا هذا في الباب الذي قبل هذا الباب، ولم يرد هو أيضا بقوله: " فأن " مبنية على " لو " أنها مبنية عليها بناء معمول على عامله، لأن " لو " لا تعمل شيئا. وإنما هو: بناء الشيء على ما يحدث فيه معنى ولم يغير لفظه ففتح " أنّ " بعد " لو " كفتحها بعد " لولا ". وذلك أنهما يتقاربان في المعنى واللفظ ويلزمان ما بعدهما للمعنى الذي أحدثاه كلزوم العامل لما بعده وتقاربهما في المعنى " أن " " لولا) يمتنع جوابها لوجود شرطها كقولك: " لولا زيد لأتيتك " امتنع الإتيان لمكان زيد. و " لو يمتنع جوابها لامتناع شرطها كقولك: " لو جاءني زيد لأتيتك " امتنع الإتيان لامتناع مجيء زيد. والذي يلي " لولا " اسم مبتدأ. والذي يلي " لو " فعل وكلاهما لا يعمل فيما بعده. فأما " أنّ " بعد " لولا " فهي واسمها وخبرها بمنزلة اسم مبتدأ خبره محذوف كما يكون الاسم بعد

" لولا زيد لأتيتك " فإذا قال: " لولا أن زيد عندي لأتيتك " فتقديره لولا كون زيد لأتيتك وخبر المبتدأ محذوف. وأما " أن " بعد " لو " فعلى مذهب أبي العباس المبرد: هي فاعلة في موضع رفع بفعل محذوف. فإذا قلت: لو أنّ زيدا جاءني لأكرمته فتقديره على مذهبه: لو وقع مجيء زيد. فجعل " أن " مرفوعا " بوقع ". والذي عندي: أنه لا يحتاج إلى إضمار الفعل ولكن تقع (أن) نائبة عن الفعل بعد " لو " كقولك: " لو أنّ زيدا جاءني لأكرمته " كأنك قلت: " لو جاءني زيد لأكرمته ". وسوغ ذلك أن " لو " غير عاملة وإنما دخولها لمعنى لا يختل يكون " أنّ " بعدها إذ كان الخبر لا يفارقها وهو فعل. وقد ذكرنا هذا مستقصى في أول الكتاب. وشبه سيبويه وقوع " أنّ " بعد " لو " وهي في تقدير الاسم ولا يستعملون الاسم بعدها بوقوع " تسلم " بعد " ذي " و " تسلم " في موضع اسم ولا يستعملون الاسم بعد " ذي " في هذا الموضع. وهذا عنده بمنزلة ما لا يقاس عليه. وقوله " مذ أنّ الله خلقني " في " أنّ) وجهان: يجوز أن يكون رفعا. ويجوز أن يكون خفضا. فإن كانت رفعا فهو خبر مبتدأ. تقديره: ما رأيته من وقت خلق الله لي. كما تقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة. وتجعل " مذ " بمنزلة المبتدأ وبتأول: مدة ذلك وقت خلق الله لي. الذي يقول: " أما إنّه منطلق " و " ألا أنه منطلق " لا يعتد بأما و " ألا " لأنهما، يجعلان استفتاحا. وتنبيها للمخاطب ليسمع الكلام المقصود. والذي يقول: " أما أنّه منطلق. فهو بمنزلة: حقا أنّه منطلق حقا " في مذهب الظرف. " وأنه منطلق في موضع مبتدأ كأنه قال: في حق انطلاقه كما قال: .. أحقا أنّ أخطلكم هجاني .. (¬1) والعرب تقول: أفي حق أخذك مالي. ونحو ذلك وهو مذهب الظروف كما تقول: ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الجعدي وهو عجز بيت صدره: ألا أبلغ بنى خلف رسولا .. انظر البيت في الخزانة: 4/ 306، والعيني: 1/ 504، والهمع: 1/ 72، والأشموني: 1/ 185، والكتاب: 1/ 469، انظر الأعلم: 1/ 469.

أفي يوم الجمعة رحيلك. وأما قول الله عز وجل: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (¬1) ففيه قراءتان: كسر أن وفتحها. فمن كسرها فقد تم الكلام بقوله: " وما يشعركم ". ثم أخبر الله عز وجل أنهم لا يؤمنون ". ومن فتحها: فقد تم الكلام أيضا عند قوله " وما يشعركم " ثم استأنف الكلام فأبهم أمرهم فلم يخبر عنهم بإيمان ولا غيره فقال: " أنها " على معنى " لعلها " وهذا قول النحويين والخليل والكسائي والفراء وهو مذهب كلام العرب. حكى الخليل: ائت السوق أنك تشتري. بمعنى لعلك تشتري. وحكى الكسائي قال: سمعت رجلا يقول: (ما أدري أنه صاحبها) يريد لعله صاحبها. ومن العرب من يقول: لو " أن " في معنى " لعل " قال الكسائي: سمعت أبا الهيثم يقول: " فلو أنها نزعت ... " يريد فراقا وأنشد الفراء: فقلت امكثي حتى يسار لو أننا … نحج معا قالت أعام وقابله؟ (¬2) وقد تقول العرب: علك وعنّك ولعنك ولعلهم أبدلوا العين في " عنك " همزة قال الفرزدق: ألستم عائحين بنا لعنّا … نرى العرصات أو أثر الخيام (¬3) وإنما كرهوا أن يجعلوا " أنها " في صلة: يشعركم؛ لأن ذلك يصير كالعذر لهم والإخبار بأنهم يؤمنون، إذا قلت لإنسان: " ما يدريك أن زيدا ليس حسن " فالأظهر في قصد قائله: أنه يغلب له الإحسان. فلذلك عدلوا إلى تفسيره " بلعل ". ولا يحسن لأن (أنّ) تلي " إنّ " ولا " إنّ " " أنّ ". لأنهما جميعا للتأكيد يجريان مجرى واحدا فكرهوا الجمع بينهما كما كرهوا الجمع بين اللام وأنّ فإن فصلت بينهما أو عطفت ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 109. (¬2) لم أقف على القائل. والبيت برواية: فقلت امكثي حتى يسار لعلنا … نحج معا قالت أعام وقابله؟ انظر الهمع: 1/ 29، والدرر: 1/ 9، وفي الكتاب: 2/ 39 مستشهدا به على أن يسار معدول عن " الميسرة " وانظر اللسان (يسر)، والمخصص: 17/ 64. (¬3) البيت في الديوان ص 835، والتصريح: 1/ 192، والإنصاف: 225، العرصات: مفردها عرصة وهي كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.

هذا باب آخر من أبواب «أن»

حسن. فالفصل قولك: " أن لك أنك تحيى وتكرم " والعطف قولك: " أن كرامتك عندي وأنك تعان " وعلى هذا قرأ من قرأ وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا (طه: 119) ومن كسر استأنف ثم مثل فساد الجمع بين إنّ وأنّ فقال: ألا ترى أنك لا تقول: إن أنك ذاهب في الكتاب ولا: " قد عرفت أن إنك منطلق في الكتاب " معنى هذا: أن قولك في الكتاب " خبر أن " و " أنّ ". و " أنك ذاهب " " اسم إنّ " وأنك منطلق اسم " أن " وفساد الجمع بين إنّ وأنّ وبين " أنّ وأنّ ". ولو فصل بينهما قال: " أن في الكتاب أنك ذاهب " " وقد عرفت أن في الكتاب إنك منطلق ". لجاز وحسن الفصل بينهما. ومعنى هذا الكلام: إن الكتاب انطوى واشتمل معناه على أنه ذاهب وعلى أنه منطلق كما يقول القائل لصاحبه: في اعتقادي أنك راحل. وليس يريد حكاية لفظ الكتاب. وإنما يريد معنى ما في الكتاب. وقوله: (وكرهوا ابتداء " أن " لئلا يشبهوها بالأسماء التي تعمل فيها " إنّ " يعني: لم يجعلوها مثل زيد ونحوه من الأسماء التي تدخل عليها " أن " وتليها. وقد مضي الكلام فيه. " ولئلا يشبهوها بأنّ " الخفيفة. لأن " أن " والفعل بمنزلة مصدر فعله يعني: مصدر الفعل الذي يلي " أن " كقولك: أريد أن تذهب " أي أريد ذهابك ". ومن حيث- جاز أن تدخل على: " تذهب " فتقول: " إنّ أن تذهب خير لك من أنّ تقيم " كما تقول. أن الذهاب خير لك من الإقامة. وإذا قال الرجل للرجل: لم فعلت ذاك؟ فقال: لم أنه ظريف. ففتح أن " لتقدير الكلام " فعلها " وإعادة " لم " لا يعتد بها المسئول كونه أعاد سؤال السائل وحكى لفظه ثم أجاب عنه. وأنّا قوله: أي أني نجد .. كأن إنسانا تكلم بشيء عرض فيه أنه نجد وشجاع. كرجل قال: أنا أسير بالليل وحدي في المفاوز فحكى عنه الحاكي هذا فقال قائل: أي أنه نجد. فجعل " أي " عبارة عن معنى كلامه وأجراه مجرى القول. " أنا أسير بالليل وحدي في المفاوز " بمنزلة (قال أني نجد). وإذا قال: أي أني نجد. كأنه قال: أي لأني نجد. هذا باب آخر من أبواب «أن» تقول: ذلك وأن لك عندي ما أحببت. وقال الله عز وجل: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ

مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (¬1) وقال عز وجل: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (¬2) وذلك لأنها شركت " ذلك " فيما حمل عليه. كأنه قال: الأمر ذلك وأن الله. ولو جاءت مبتدأة لجازت بذلك على ذلك قوله عز وجل: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ (¬3) (فمن) ليس محمولا على ما حمل عليه (ذلك) فكذلك يجوز أن تكون " أن " منقطعة من ذلك قول الأحوص: (¬4) عودت قومي إذا ما الضّيف نبهني … عقر العشار على عسري وإيساري (¬5) إنّي إذا خفيت نار لمرملة … ألفي بأرفع تل رافعا ناري ذاك وإنّي على جاري لذو حدب … أحنو عليه بما يحنى على الجار فهذا لا يكون إلا مستأنفا غير محمول على ما حمل عليه " ذاك " فهذا يقوي ابتداء " إنّ " في الأول. قال أبو سعيد: " اذاك وأن من الأمر كذا وكذا " إنما يتكلم به المتكلم بقصة، ثم يؤكدها ليعطف عليها قصة أخرى زيادة على القصة الأولى في معنى ما قصدت به كقولك للرجل: " أنا أكرم من قصدني من أمثالك وأن لك عندي ما أحببت " تقديره (والأمر ذلك) وهو تقدير لما ذكره أولا وعطف " أن لك عندي ما أحببت " على " ذلك " لأن " ذلك " مصدر هو خبر الابتداء وهو كأنه قال: فالأمر كما ذكرته أولا والأمر أيضا أن لك عندي ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 18. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 14. (¬3) سورة الحج، الآية: 60. (¬4) هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري من بني ضبيعة، شاعر إسلامي من طبقة جميل بن معمر وكان معاصرا لجرير والفرزدق. مات بدمشق 105 هـ لقب بالأحوص لضيق في مؤخرة عينيه. الشعر والشعراء: 204، الأعلام: 4/ 457، والخصائص: 3/ 175. (¬5) انظر الأغاني: 6/ 11، أمالي القالي: 3/ 123، الخزانة: 4/ 304، وهي من بحر البسيط، العشار: جمع عشراء وهي التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر. المرملة: الجماعة التي نفد زادها، الحدب: الحنو والعطف.

هذا باب آخر من أبواب «أن»

ما أحببت. وقوله: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (¬1) كأنه قال: العون لكم من الله لأشياء ذكرها من تأييده ونصره وعونه. وكقوله: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً (¬2) فهذه أشياء قد أعان الله بها المؤمنين ويعينهم أيضا بتوهين الكافرين وذكر هذا تقوية من الله ومعونة لهم. وقوله: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (¬3) ذكر الله عز وجل شدة قدمها لهم في الدنيا وذلك قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (¬4) فذوقوه عاجلا في الدنيا والأمر أيضا: أن للكافرين عذاب النار بعد ذلك. وإن استأنفت فكسرت فهو جيد لأنه جملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ومن أوضح ما يدل على جواز الاستئناف قوله عز وجل: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ (¬5) لأن " من " وما بعدها شرط وجزاء وهي جملة منزلة منزلة المكسورة. وأما ما أنشده من الأبيات فإن " عودت " قد تعدى إلى مفعولين. إلى " قومي " وإلى: عقر العشار. ثم استأنف " أني " في البيت الثاني وقوله في البيت الثالث: " ذاك وأني " " ذاك أمري " وكسر " إني " بعدها فعطف جملة على جملة، قوله: (فهذا لا يكون مستأنفا) يعني إذا كسرت فهي جملة مستأنفة وإذا فتحت فهي من الجملة التي فيها " ذاك " لأنها محمولة على " ذاك " و " ذاك " خبر ابتداء محذوف وقوله: " فهذا يقوي ابتداء " إن " في الأول " يعني بالأول: " إنّ لك ألّا تجوع فيها ولا تعرى " و " أنّك " و " إنّك " بالابتداء والقطع. هذا باب آخر من أبواب «أن» تقول: (جئتك أنك تريد المعروف) إنما أردت: جئتك لأنك تريد المعروف ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 18. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 17. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 14. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 12. (¬5) سورة الحج، الآية: 60.

ولكنك حذفت " اللام " هاهنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت: أغفر عوراء الكريم ادخاره … وأعرض عن ذنب اللئيم تكرّما (¬1) أي: لادخاره. وسألت الخليل عن قوله جل ذكره: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (¬2) فقال: إنما هو على حذف اللام كأنه قال: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. وقال نظيرها: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (¬3) لأنه إنما هو: لذلك فليعبدوا فإن حذفت اللام من " أنّ " فهو نصب كما أنك لو حذفت اللام من " لايلاف " كان نصبا هذا قول الخليل: ولو قرءوها " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " كان جيدا وقد قرئ. ولو قلت: جئتك إنّك تريد المعروف. مبتدأ كان جيدا. وقال عز وجل: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ (¬4) وقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (¬5) إنما أراد: بأني مغلوب وبأني لكم نذير مبين ولكنه حذف الباء. وقال عز وجل: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (¬6) بمنزلة: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً (¬7) والمعنى: ولأن هذه أمتكم فاتقون. ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. وأما المفسرون فقالوا: على " أوحى إلى ... " كما كان: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ (¬8) على " أوحى إلي). ولو قرئت (وإن المساجد لله). كان جيدا واعلم أن هذا البيت ينشد على ¬

_ (¬1) البيت لحاتم الطائي وهو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي كنيته أبو عدي، يضرب المثل بجوده توفي 46 هـ. البيت في ديوانه 81، برواية (وأصفح عن شتم) انظر الخزانة: 1/ 491، الكتاب: 1/ 184، العيني: 3/ 75. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 52. (¬3) سورة قريش، الآية: 1. (¬4) سورة القمر، الآية: 10. (¬5) سورة هود، الآية: 25. (¬6) سورة الجن، الآية: 18. (¬7) سورة المؤمنون، الآية: 52. (¬8) سورة الجن، الآية: 19.

وجهين: على إرادة اللام وعلى الابتداء. فقال الفرزدق: منعت تميما منك أني أنا ابنها … وشاعرها المعروف عند المواسم (¬1) وسمعت من العرب من يقول: " إنيّ ... " وتقول: (لبيك إن الحمد والنعمة لك " وإن شئت قلت: (أّنّ) ولو قال إنسان إنّ " أنّ " في موضع جر في هذه الأشياء ولكنه حذف لما كثر في كلامهم فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا " رب " في قولهم: وبلد تحسبه مكسوحا (¬2) لكان قولا قويا. وله نظائر نحو قوله: لاه أبوك. والأول: قول الخليل. ويقوى ذلك قولهم: " وأن المساجد لله " لأنهم لا يقدمون " أن " ويبتدئونها ويعملون فيها ما بعدها، إلا أنه يحتج الخليل بأن المعنى معنى اللام فإذا كان الفعل أو غيره موصولا باللام جاز تقديمه وتأخيره؛ لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى. فاحتملوا هذا المعنى كما قالوا: " حسبك ينم الناس " إذ كان فيه معنى الأمر وسترى مثله. قال أبو سعيد: إذا تقدمت " أن " مفتوحة ووليها حرف جر مقدم فقول الخليل: إنها في موضع نصب بالفعل الذي كان يعمل في حروف الجر. فإذا قلت " جئتك أنك تريد المعروف ". " فأنك " في موضع نصب بجئتك. لما حذفت اللام وصل الفعل إلى ما بعدها وكانت اللام في موضع نصب. وكذلك سائر ما ذكرناه. وكان الكسائي يقول أنها في موضع جر وقد قوى سيبويه كونها في موضع جر من غير أن يبطل قول الخليل أو يرده. وكان أبو العباس محمد بن يزيد يراه منصوبا ويذهب مذهب الخليل فيه. قال أبو سعيد: والزجاج يجوّز الأمرين جميعا في (أن): النصب والجر. والأقوى عندي: أن موضعه جر لأن حروف الجر تحذف من " أن " و " أنّ " مخففة ومشددة. لأنهما وما بعدهما بمنزلة اسم واحد وقد طال فحسن الحذف كما يحسن حذف الضمير العائد ¬

_ (¬1) ديوانه 857 برواية (راجلها) والبيت من بحر الطويل. (¬2) لم نقف على قائله انظر الأعلم: 1/ 465، وهو في وصف فلاة.

هذا باب أنما

إلى " الذي " في قولك: الذي ضربت زيد بمعنى: الذي ضربته ولا يحسن " الضارب أنا زيد " تريد: الضارب، وكذلك حسن أن يقال: " أنا راغب أن أصاحبك " و " أنا على ثقة أنك مقيم " والمعنى: " أنا راغب في أن أصاحبك " و " على ثقة من أنك مقيم " فحسن حذف حرفي الجر منهما. ولو رددتهما إلى لفظ المصدر لم يجز أن تحذف حرف الجر. لا يجوز: أنا راغب مصاحبتك إلا أن تأتي " بفي " كما لا يجوز: (أنا متكلم زيدا) بمعنى: متكلم في زيد. وكذلك لو قلت: " أنا على ثقة مقامك " لم يجز حتى تقول: (على ثقة من مقامك). فإذا كان طرح حرف الجر للاستطالة في اللفظ فكأنه موجود في الحكم. ألا ترى أنك تقول: مررت بالذي ضرب زيد. بمعنى: الذي ضربه زيد. وتعطف الأخ على الهاء المحذوفة العائد إلى الذي " وكأنها موجودة فكذلك اللام " وسائر حروف الجر إذا حذفت كأنها موجودة. ومن الدليل على ذلك: أنك تقدمها مفتوحة إذا كانت اللام مقدرة قبلها. فإن كانت اللام هي العاملة فهي مجرورة. وإن كان العامل فيها الفعل الذي بعدها صارت بمنزلة قولنا: عرفت أن زيدا قائم. ولا يجوّز أحد: " أنّ زيدا قائم عرفت " لتأخر العامل. فإن قيل المعنى معنى اللام وإن حذفت؟ فإن الجواب أن اللام لما حذفت في اللفظ ونقل العمل في " أن " إلى الذي بعدها لم يّكن للّام تأثير في لفظ " أنّ " وقد وقعت مبتدأة في اللفظ فوجب أن تكسر. ويقوى هذا أنك تقول: إنّ زيدا قائم علمت، والمعنى: علمت أن زيدا قائم ولم يجز. من أجل ذلك فتح: " إن " في الابتداء. وفي آخر الباب ضمائر ذكرت ما يعود إليها قوله: (إلا أنه) الهاء للخليل وموصلا إليه (الهاء) وكذلك " الهاء " في تقديمه وتأخيره وقوله: ليس هو الذي عمل فيه يعني: ليس الفعل الذي عمل في " أن " وباقي الباب من كلامه مفهوم وقد مضى من الشرح ما يدل على ما لم يشرح. هذا باب أنما اعلم أن كل موضع تقع فيه " أنّ " تقع فيه " أنّما " وما بدئ بعدها صلة لها. كما " أن " ما ابتدئ بعد " الذي " صلة له. ولا تكون هي عاملة فيما بعدها كما لا يكون " الذي " عاملا فيما بعده. فمن

ذلك قوله عز وجل: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (¬1) وقال ابن الاطنابة: أبلغ الحارث بن ظالم المو … عد والناذر النذور عليّا (¬2) أنّما تقتل النيّام ولا تق … تل يقظان ذا سلاح كميا فإنما وقعت " أنما " هاهنا لأنك لو قلت: (أن إلهكم إله واحد)، (وأنك تقتل النيام) كان حسنا وإن شئت قلت: أنما تقتل النيام، على الابتداء زعم ذلك الخليل، فأما " أنما " فلا تكون اسما وأنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغي. مثل: (أشهد لزيد خير منك) لأنها لا تعمل فيما بعدها. ولا تكون إلا مبتدأة بمنزلة [إذ] و " إذا " لا تعمل شيئا. واعلم أن الموضع الذي لا يجوز فيه " إنّ " إلا مبتدأة لا تكون فيه " أنما " إلا مبتدأة مثل قولك: " وجدتك أنما أنت صاحب كل خنى " لأنك لو قلت: وجدتك أنك صاحب كل خنى لم يجز. وذلك أنك إذا قلت: أرى أنه منطلق " فأنما وقع الرأي على شئ لا يكون الكاف التي في وجدتك ونحوه من الأسماء. فمن ثم لم يجز: رأيتك إنك منطلق وأنما أدخلت " أنما " على هذا الكلام مبتدأ كأنك قلت: وجدتك أنت صاحب كل خنى. ثم أدخلت " أنما " على هذا الكلام فصار كقولك: " أنما أنت صاحب كل خنى " لأنك أدخلتها على كلام قد عمل بعضه في بعض. ولم تضع " أنما " في موضع " ذاك " إذا قلت: " وجدتك ذاك " لأن " ذاك " هو الأول. و " أن " و " أنما " أنما يصيران الكلام شأنا وحديثا فلا يكون الخبر ولا الحديث " الرجل " ولا " زيدا " ولا أشباه ذلك من الأسماء. وقال كثير. أراني ولا كفران لله إنّما … أواخي من الأقوام كل بخيل (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 110 / سورة فصلت، الآية: 6. (¬2) الأغاني: 10/ 29، ابن يعيش: 8/ 56. (¬3) ديوان كثير 248، الخصائص: 1/ 338، ابن يعيش 3/ 55.

لأنه لو قال: أني هاهنا كان غير جائز لما ذكرناه. فأنما هاهنا بمنزلتها في قولك: زيد إنما يواخي كل بخيل. وهو كلام مبتدأ وتقول خبره " وأنما يجالس أهل الخبث " لأنك لا تقول: " أرى أيره أنه يجالس " فحسنت " أنه " هاهنا؛ لأن الآخر هو الأول. قال أبو سعيد: " أنما " المفتوحة وما بعدها من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر بمنزلة اسم واحد في معنى المصدر. كما أن أن المفتوحة واسمها وخبرها بمنزلة اسم واحد في معنى المصدر. والفرق بينهما: أن " أنما " أبطل عملها بدخول " ما " فصار يليها كل كلام. ومنزلتها بعد منزلة " أنّ " بعد اسمها لأن ما بعد اسمها من رتيبة الابتداء والخبر والفعل والفاعل والشرط والجواب كقولك: علمت أن زيدا أبوه منطلق. " وعلمت أن زيدا ينطلق أبوه " " وعلمت أن زيدا أن تأته يأتك " و " أنما " بمنزلة " أنّ " و " أنما " وما بعدها من اسم وخبر وفعل وفاعل وشرط جزاء بمنزلة " أن " واسمها إذ كان بعدها جملة. ومعنى قوله: " أنما تقتل النيام ". أن الحارث بن ظالم المري قتل خالد بن جعفر بن كلاب وهو نائم. وكان سببه أن الحادث بن ظالم دخل على النعمان بن المنذر، وخالد جالس معه يأكل تمرا فلما رآه النعمان قال: أذن يا حار .. فقال له خالد: من ذا الذي أراك تدني أبينت اللعن .. ؟ فقال: هذا الحارث بن ظالم. قال للحارث: ما رأني إلا حسن البلاء عندك. قال: وما بلاؤك قال: قتلت أشراف قومك فتركتك سيدهم. قال: سأجزيك ببلائك وجلس يأكل معهم فلما خرج الحارث قال النعمان لخالد: ما أردت أن تحرش بهذا الكلب وأنت ضيف لي. قال خالد: إنما هو عبد من عبيدي لو كنت نائما ما أيقظني. فلما أمسى النعمان بعث إلى الحارث بن ظالم بعس من خبر يعتبقه أراده أن يشغله فصبته بينه وبين جبيه في كتب. فلما أمسى الحارث بن ظالم حبى بالسيف حتى أتى خالدا وهو في قبة من أدم فوضع السيف في بطنه ثم اتكأ عليه حتى قتله ثم تحمل من تحت ليلته حتى لحق بقريش. فلما قال ابن الإطنابة هذا الشعر أتاه الحارث متنكرا فأنبهه وهو لا يعرف الحارث فلما انتبه قال له: البس سلاحك فأنني مستنصرك. فلبس سلاحه ومشى معه حتى تنحيا من البيوت فقال له الحارث: ألست يقظان ذا سلاح؟ قال: بلى، قال: فأنا الحارث بن

ظالم أريد قتلك. فذل له ابن الاطنابة حتى كف عنه. و" أنما تقتل " في موضع نصب " بأبلغ " ومعنى قول الخليل: " أنما " بمنزلة فعل ملغى: أن " أن " منزلتها منزلة فعل على ما تقدم من ذكر ذلك. فإذا كفت لم يكن لها اسم منصوب صار بمنزلة فعل ملغي كقولك: أشهد لزيد خير منك. وقوله: بمنزلة (إذ) و " إذا "، وأن " إذ " و " إذا " لا يعملان شيئا فيما بعدهما وتلي " إذا " المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وتمامها بما بعدها. وكذلك " أنما " يليها المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وهي لا تعمل شيئا فيما بعدها فهذا وجه التشبيه. وقوله: وجدتك أنما أنت صاحب كل خنى لم يجز سيبويه في " أنما " إلا الكسر. وذلك أن " وجدتك " يتعدى إلى مفعولين وهي من باب " علمت " و " حسبت " ورأيت من رؤية القلب " فالكاف " المفعول الأول والمفعول الثاني جملة قائمة بنفسها فحكمها أن تكون كلاما مستأنفا يوضع في موضع الخبر نحو: المبتدأ والخبر. وما هو بمنزلتها نحو الفعل والفاعل. و " إنّ " المكسورة مما يصح أن يبتدأ به من الكلام ولو قلت: حسبتك أنما أنت صاحب كل خنّى بفتح " أنما " كان بمنزلة: المصدر. والمصدر لا يكون خبرا للكاف. ألا ترى أنك لا تقول: " حسبت زيدا خروجه " و " حسبت زيدا سبقه ". وقد قرئ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ (¬1) وهو على ما سقناه من كلام سيبويه لا يجوز. وهو مذهب من تقدم من النحويين البصريين إلا أن الزجاج أجازه على البدل من " الذين " واحتج بقول " عبده بن الطيب " (¬2) في بدل المصدر من الاسم: فما كان قيس هلكه هلك واحد … ولكنه بنيان قوم تهدما (¬3) " أبدل " هلكه " من " قيس ". ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 178. (¬2) هو يزيد بن عمرو التميمي، شاعر مكة مخضرم أدرك الإسلام وأسلم توفي 25 هـ العقد الفريد: 3/ 286. (¬3) البيت في الكتاب: 1/ 77، ابن يعيش: 3/ 65، زهر الآداب: 965.

قال أبو سعيد: للمحتج عن سيبويه أن يقول: أن بدل " هلكه " من " قيس " لا يشبه الآية لأن هلكه إذا أبدل من " قيس " جعل مكانه واحتاج إلى مثل ما كان يحتاج إليه " قيس " من الخبر فأتى له بخبر فقام خبره مقام خبر " قيس " كما أقيم هو مقام " قيس ". وليس كذلك الآية. لأنه إذا قرأ " ولا تحسبن الذين كفروا " وجب أن يؤتى " لِلَّذِينَ كَفَرُوا " بخبر لأنه بمنزلة اسم مفرد. والبدل منه لا يصح أن يكون خبرا عنه. وقد يحتمل تجويز ذلك على وجه آخر ضعيف لا أحب أن يحمل كتاب الله عليه. أما ضعفه فلأنه بدل من اسم يقتضي خبرا. وقد أبطل خبره ولأنه أيضا أبدل اسما يقوم مقام اسمين من اسم مفرد لا يقوم مقام اسمين فلان الاسم الأول إذا أبدل منه جعل بمنزلة المطرح الذي لم يذكر واعتمد بوقوع المحسبة على الثاني ولم يعتد بالأول كأنه قال: " ولا تحسبن أنما تملى لهم خبر لأنفسهم " ومثله قوله: لسان السّؤ تهديتها إلينا … وحنت وما حسبتك أنّ تحينا (¬1) أبدل (أن تحينا) من الكاف و " أن تحينا " تقوم مقام مفعولي حسبك. كما قال عز وجل: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (¬2) وتَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (¬3) وإنما جاز " وجدت خبره أنما يجالس أهل الخبث " لأن " الخبر " مصدر و " أنما " مصدر هو الأول. وجوّز أن تقول في الابتداء: خيرك أنما تجالس أهل الخبث. ولا يجوز: " زيد أنما يجالس ". ولا تقل: " خبرك أنما تجالس أهل الخبث " بالكسر كما لا تقول: (زيد أنما تجالس أهل الخبث) بالفتح وكذلك: " أرى أمره أنما يجالس " ... بالفتح وأنه في موضع المفعول الثاني. وفي الباب التالي لهذا ما يكون بدلا مما هو مثله. كقولك: بلغني قصتك أنك فاعل وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون " هذا بين لأن الصفة والحديث هما: " أن ". ¬

_ (¬1) البيت لم نعثر على قائله. انظر المغني: 1/ 182، شرح شواهد السيوطي 1/ 506. (¬2) سورة المائدة، الآية: 71. (¬3) سورة القيامة، الآية 25.

هذا باب تكون فيه «أن» بدلا من شيء هو الأول

هذا باب تكون فيه «أن» بدلا من شيء هو الأول وذلك قولك: بلغتني قصتك أنك فاعل. وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون، وكذلك القصة وما أشبهها. هذا باب تكون فيه «أن» بدلا من شيء ليس بالأول من ذلك وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (¬1) (فأنّ) مبدلة من " إحدى الطائفتين " موضوعة في مكانها كأنك قلت. وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم كما أنك إذا قلت: (رأيت متاعك بعضه إلى بعض) فقد أبدلت الآخر من الأول: فكأنك قلت: " رأيت بعض متاعك فوق بعض فإنما نصبت بعضا " لأنك أردت معنى: (رأيت بعض متاعك فوق بعض) كما جاء الأول على معنى: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين لكم ". وقال عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (¬2) فالمعنى والله أعلم: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم إليهم لا يرجعون ومما جاء مبدلا من هذا الباب قوله: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (¬3) فكأنه قال: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم، وذلك أريد بها ولكنها إنما قدمت " أن " الأولى ليعلم بعد أي شيء الإخراج. ومثله قوله: زعم أنه إذا أتاك أنه سيفعل، وقد علمت أنه سيفعل وقد علمت أنه إذا فعل أنه لا يستقيم أن تبتدئ " إنّ " هاهنا. كما تبتدئ الأسماء والفعل إذا قلت: (قد علمت زيدا أبوه خير منك). وقد رأيت زيدا يقول " أبوه ذاك "؛ لأن " إنّ " لا تبتدأ في كل موضع من تلك المواضع. وزعم الخليل أن مثل ذلك قوله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (¬4) ولو قال: " فإنّ " كانت عربية جيدة. وسمعناهم يقولون ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية 7. (¬2) سورة يس، الآية 31. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 35. (¬4) سورة التوبة، الآية 63.

قول ابن مقبل: وعلمي بأسدام المياه فلم تزل … قلائص تخدي في طريق طلائح وأنّي إذا قلت ركابي مناخها … فإنّي على حظّي من الأمر جامح (¬1) وإن جاء في الشعر: " قد علمت أنك إذا فعلت أنك سوف تغتبط " تريد معنى " الفاء " جاز. والوجه والحد ما قلت لك أول مرة. ونظير ذلك في الابتداء لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (¬2)، ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (¬3). وبلغنا أن الأعرج (¬4) قرأ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬5) ونظيره البيت الذي أنشدتك. قال أبو سعيد: أما قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (¬6) فأن إحدى الطائفتين هو المفعول الثاني " ليعدكم " والمفعول الأول: هو الكاف والميم في " يعدكم " و " أنها لكم " بدل من " إحدى الطائفتين " وهذا بدل اشتمال كما تقول: وعدتك أحد الثوبين ملكه. و " ملكه " بدل من " أحد الثوبين ". وقوله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (¬7) " أنهم " بدل من معنى جملة " كم أهلكنا قبلهم من القرون " لأمر إنكارهم. لأن لفظ " كم " في التقدير: منصوب " بأهلكنا " إذا كانت " كم " في الاستفهام في مذهب " ربّ " لا يعمل فيها ما قبلها. فلو أبدلنا " أنهم " من لفظ " كم " صار العامل فيها " أهلكنا " ¬

_ (¬1) البيتان في ديوانه 46، والأعلم 1/ 467. (¬2) سورة هود، الآية: 22. (¬3) سورة النحل، الآية: 119. (¬4) الأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز أبو داود من موالي بني هاشم من أهل المدينة حافظ قارئ، أدرك أبا هريرة وكان وافر العلم توفي 117 هـ. الأعلام: 3/ 116. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 54. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 7. (¬7) سورة يس، الآية: 31.

فيكون تقديره: (أهلكنا أنهم إليهم لا يرجعون) وهذا لا معنى له. ولكن " كم " وما بعدها إذا جعلت اسما غير استفهام فتقديرها: (الم يروا الذين أهلكناهم من القرون). ومعنى: " يروا " يعلموا. لأن رؤية العين منهم لم تقع على القرون التي خلت من قبلهم. فإذا قدرناه هذا التقدير وأبدلناه صار معناه: " ألم يعلموا أن القرون التي أهلكناهم من قبلهم لا يرجعون ". وفي " أن " وجه آخر وهو: أن تجعلها في صلة: " أهلكناهم " بمعنى: أهلكناهم بأنهم لا يرجعون " أي ": أهلكناهم لهذا الضرب من الهلاك. وقوله عز وجل: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (¬1) فيه وجهان: أحدهما: أن تجعل " أنكم " المفعول الثاني من " يعدكم " والمفعول الأول " الكاف والميم ". واسم " أن " الكاف والميم بعدها. وخبرها. " مخرجون " " فإذا متم " ظرف " لمخرجون ". و (أنكم) الثانية معادة وهي الأولى ليقرب من الخبر لما تراخى ما بينها وبين الخبر. وهي مكررة توكيدا للأولى، قوله عز وجل: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (¬2) هم الثانية إعادة للأولى توكيدا وهذا قول أبي عمر الجرمي في هذا ونحوه. ويحتج له في ذلك: أنها تقع بعد الفاء مفتوحة في قوله عز وجل: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (¬3) إنما هو " فله نار جهنم ... " ثم كررها توكيدا ولولا أنها مكررة لكسرت لأنها في موضع الابتداء بعد " الفاء " للتراخي كما قال عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ (¬4) فهذه كررت للتراخي، ومثل هذا في القرآن كثير. والوجه الثاني: أن تجعل " أنكم " المفعول الثاني ل " يعدكم " و " أنكم مخرجون " في موضع اسم مبتدأ وخبره " إذا متم " وهو ظرف له. وتقديره: أيعدكم أنكم إذا متم أخراجكم. والمبتدأ والخبر خبر " أنكم " والعائد إلى " الكاف والميم " التي هي اسم " أنكم " الأولى " الكاف والميم " التي هي اسم " أنكم " الثاني. وهذا قول أبي العباس المبرد. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 35. (¬2) سورة هود، الآية: 19. (¬3) سورة التوبة، الآية: 63. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 188.

قال أبو سعيد: وعلى هذين الوجهين قولهم زعم أنه إذا أتاك أنه سيفعل وقد علمت أنه إذا فعل أنه سيمضي. وظاهر كلام سيبويه أنه جعل " أنكم " الثانية بدلا من " أنكم " الأولى في قوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ ... " لأنه قال: " ومما جاء مبدلا " ثم قال: كأنه على: " أَيَعِدُكُمْ .... ... أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ". وفي هذا الكلام عندي خلل لأنه لا يجوز البدل من الاسم حتى يتم الاسم. وقوله: " إذا متم " ليس باسم تام لأنه لم يأتي " لأنه " بخبر. وتمام الاسم " بأن واسمها وخبرها " والذي عندي: أنه لا بدل في هذه الآية وإنما البدل في قوله عز وجل: " إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ " وقد مر الكلام فيه. وقول سيبويه: " ولا يستقيم أن تبتدئ " " أن " هاهنا كما تبتدئ الأسماء والأفعال إذا قلت: " قد علمت زيدا أبوه خير منك " وقد رأيت زيدا يقول: " أبوه ذاك ". لأن " أن " لا تبتدأ في كل موضع وهذا من تلك المواضع " يعني ": أنك إذا قلت " زعم أنه إذا أتاك سيفعل وقد علمت أنه سيمضي ". لم يجز كسر " إن " الثانية. لا يجوز " أنه سيفعل وإنه سيمضي ". لأن كسرها هو الابتداء. وإنما لم يجز ذلك لأن " إذا أتاك " و (إذا فعل) ظرف لما بعده فإذا كسرنا " إن " بطل أن تكون ظرفا " لأن " ولا ظرفا لما بعد " أن " كما يكون ظرفا " لأن ". فتقول في " أن " المفتوحة " في الحق أنك كريم " و (يوم الجمعة أنك راحل) وأنما جاز في " أن " المفتوحة لأن محلها محل الاسم والظرف يتقدم على الاسم الذي هو ظرفه كقولك (خلفك زيد ويوم الجمعة رحيلك) و " إن " المكسورة وما بعدها ليس في تقدير اسم فيكون له ظرف يتقدمه. ولا ما بعدها يعمل فيما قبلها. وقوله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ (¬1) و " أن ". فمن كسر: فلان الجواب بالفاء. وإنما يكون بكلام مستأنف قائم بنفسه. فالباب فيه الكسر. والذي يفتح فله ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجعل " إن " مكسورة معادة من الكلام الذي قبلها للتوكيد وتقديره: فله نار جهنم و " أن " مكررة. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 63.

هذا باب من أبواب «أن» تكون فيه «أن» مبنية على ما قبلها

والوجه الثاني: أن تجعل " أنّ " مبتدأة وخبرها محذوف وتقديرها: فله أن له نار جهنم. ولو قال: (من يعصى الله فالنار) كان كلاما مفهوما جائزا وتقديره: فله النار. والوجه الثالث: فيستحق أن له النار وما أشبه ذلك من إضمار ما يليق به. وما ذكر في القرآن في آخر الباب قد اجتمعت فيه النسخ على ما كتبته. والذي في القرآن لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (¬1)، ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (¬2). هذا باب من أبواب «أنّ» تكون فيه «أنّ» مبنية على ما قبلها وذلك قولك: أحقا أنك ذاهب؟ وكذلك: أكبر ظنك أنك ذاهب؟ وأجهد رأيك أنك ذاهب؟ وكذلك هما في الخبر. وقد سألت الخليل فقلت: ما منعهم أن يقولوا: أحقا إنك ذاهب على القلب كأنك قلت: أنك ذاهب. ألحق؟ فقال: لأن " أن " لا يبتدأ بها في كل موضع، ولو جاز هذا لجاز: يوم الجمعة إنك ذاهب تريد: إنك ذاهب يوم الجمعة. ولقلت أيضا: لا محالة إنك ذاهبة تريد: إنك لا محالة ذاهب فلما لم يجز ذلك حملوه على " أفي حق أنك ذاهب؟ وعلى: أفي أكبر ظنك أنك ذاهب؟ وصارت " أنّ " مبنية عليه كما يبني الرحيل على غد إذا قلت: غدا الرحيل. والدليل على ذلك: إنشاد العرب كما زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر: أحقّا بني أبناء سلمى بن جندل … تهدّدكم إيّاي وسط المجالس (¬3) وزعم الخليل أن التهدد هاهنا بمنزلة: " الرحيل " بعد " غد ". وأن " أن " بمنزلته وموضعه كموضعه. ونظير: أحقا أنك ذاهب. من أشعار العرب قول العبدي (¬4): ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 22. (¬2) سورة النحل، الآية: 110. (¬3) الخزانة: 1/ 193، الشعر والشعراء: 1/ 256، الأغاني: 11/ 132، 268. (¬4) هو المفضل النكري والعبدي نسبة إلى عبد قيس والنكري نسبة إلى (نكره). جمهرة أنساب العرب

أحقّا أن جيرتنا استقلّوا … فنيّتنا ونيّتهم فريق وقال عمر بن أبي ربيعة: أالحق إن دار الرّباب تباعدت … أو أنبت حبل أنّ قلبك طائر؟ (¬1) وقال النابغة الجعدي: ألا أبلغ بني خلف رسولا … أحقّا أنّ أخطلكم هجاني (¬2) فكل هذه الأبيات سمعناها من أهل الثقة هكذا. والرفع في جميع هذا جيد قوي وذلك أنك إن شئت قلت: أحق أنك ذاهب. وأكبر ظنك أنك ذاهب تجعل الآخر هو الأول. وأما قولهم: " لا محالة أنك ذاهب " فإنما حملوا " أنّ " على: أن فيه إضمار " من " على قولك: (لا محالة أنك) كما تقول: (لابد أنك) كأنك قلت: لابد من أنك حين لم يجز أن يحملوا الكلام على القلب. وسألته عن قولهم: أمّا حقا فأنك ذاهب فقال: هذا جيد. وهذا الموضع من مواضع إنّ ألا ترى أنك تقول: أما يوم الجمعة فإنك ذاهب. وأما فيها فأنك قائم وأنما جاز هذا في " أما " لأن فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شئ فإنك ذاهب. وأما قوله عز وجل: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ (¬3) فإن " جرم " عملت لأنها فعل ومعناها: لقد حق أن لهم النار، ولقد استحق أن لهم النار. وقول المفسرين معناها: حقا أن لهم النار يدلك أنها بمنزلة هذا الفعل إذا مثلت. " جرم " قد عملت في " أن " عملها في قول القزاري: (¬4) ولقد طعنت أبا عيّينة طعنة … جرمت فزارة بعدها أنّ يغضبوا (¬5) ¬

_ 282، سمط اللآلي 125. العيني: 2/ 235، الأشموني: 1/ 278، الهمع 2/ 71. (¬1) الديوان: 33، الخزانة: 4/ 303، الأشموني 4/ 278. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سورة النحل، الآية: 62. (¬4) هو عوف بن عطية واسمه عمرو بن عيسى بن وديعة، معجم الشعراء: 125. (¬5) انظر المقتضب: 2/ 352، معاني القرآن للفراء: 2/ 9.

وزعم الخليل أن " جرم " أنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام. يقول الرجل كان كذا وفعلوا كذا فتقول: لا جرم أنهم سيندمون أو أنه سيكون كذا وكذا. وتقول: أما جهد رأيي فأنّك ذاهب لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول وهذا من مواضع " أن " لأنك تقول: " أما في رأيي فأنك ذاهب ". أي: فأنت ذاهب وأن شئت قبلت " فأنّك " وهو ضعيف. لأنك إذا قلت: أما جهد رأيي فإنك عالم لم تضطر إلى أن تجعل الجهد ظرفا للقصة لأن ابتداء " إن " يحسن هاهنا. فإذا قلت: جهد رأيي أنك عالم. لم يجز أن يكون الجهد إلا ظرفا. لأنك لو جعلته مفعولا كان من صلة " أنّ " ولا يجوز تقديمه ومع ذلك أنك لم تجئ بالمبتدأ. فإذا قلت: أما جهد رأيي حسن ابتداء " أن " ونصبت جهد بالفعل لا بالظرف لأنك لم تضطر إلى الظرف وتقول: " أما في الدار فإنك قائم " لا يجوز فيه إلا " إنّ " لأن إنّ تجعل الكلام قصة وحديثا. ولم ترد أن تخبر أن في الدار حديثه ولكنك أردت أن تقول " أما في الدار فأنت قائم " فمن ثم لم يعمل في " أن " شيء وإذا أردت أن تقول أما في الدار فحديثك وخبرك قلت: أما في الدار فأنك منطلق. أي هذه القصة. ويقول الرجل: ما اليوم؟ فتقول: اليوم أنك مرتحل، كأنه قال: في اليوم رحيلك. وعلى هذا الحد تقول: أما اليوم فأنّك مرتحل. وأما قولهم: أما بعد فأن الله عز وجل قال في كتابه. فأنه بمنزلة قولك: أما اليوم فإنّك. ولا يكون " بعد " أبدا مبنيا عليها. إذا لم تكن مضادة ولا مبنية على شئ. إنما تكون لغوا. وسألته عن: " شد ما أنك ذاهب " وعز ما أنك ذاهب. فقال: هذا بمنزلة: حقا أنك ذاهب كما تقول: أما أنك ذاهب بمنزلته حقا أنك ذاهب. كما كانت " لو " بمنزلة " لولا " ولا يبتدأ بعدها الأسماء سوى " أن " نحو: لو أنك ذاهب ولا يبتدأ بعدها الاسماء. و " لو " بمنزلة " لولا " وأن لم يجز فيها ما يجوز فيما يشبهها. تقول: لو أنه ذاهب لفعلت. وقال عز وجل: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي (¬1) وأن شئت جعلت: شد ما وعز ما كأنك قلت: نعم العمل أنك تقول الحق. وسألته عن ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 100.

قوله: كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه. وهذا حق كما أنك ذاهب. فزعم أن العاملة في " أن " الكاف. و " ما " لغو إلا أن " ما " لا تحذف هاهنا كراهية أن يجئ لفظها مثل لفظ " كان " كما ألزموا " النون " لأفعلن و " اللام " قولهم: إن كان ليفعل " كراهية أن يلتبس اللفظان. ويدلك على أن " الكاف " هي العاملة قولهم: هذا حق مثل ما أنك هاهنا. وبعض العرب يرفع فيما حدثنا يونس ورغم أنهم يقولون إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (¬1). فلولا أن " ما " لغو لم يرتفع مثل وإن نصبت " مثل " فما أيضا لغو، لأنك تقول: مثل أنك هاهنا. وإن جاءت " ما " مسقطة من " الكاف " في الشعر جاز كما قال النابغة الجعدي: قروما تسامى عند باب دفاعه … كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا (¬2) ف " ما " لا تحذف هاهنا في الكلام كما لا تحذف في الكلام من " أما " في قولك: فأن جزعا وإن إجمال صبره (¬3) قال أبو سعيد: إذا قلت: أحقا أنك ذاهب وأكثر ظنك وجهد رأيك ففيه الرفع والنصب فالرفع على الابتداء والخبر فإذا قلت: أحقا أنك ذاهب فتقديره " أحق ذهابك " وأكثر ظني ذهابك " وجهد رأيى ذهابك " والنصب على تقدم هذه الأشياء ظروفا. وقال: " رفع أنك " بالابتداء وذلك أنك إذا قدمت هذه الأشياء ونصبتها فلا وجه لنصبها غير الظروف. ورفع " أنّ " ويكون التقدير فيها: (أفي زمن حق أنك ذاهب) ثم حذف " زمن " كما قيل: سير عليه مقدم الحاج يريد: زمن مقدم الحاج أو وقت مقدم الحاج، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقد تبين من كلام العرب أنها في مذهب الظرف: بدخول " في " عليها. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 23. (¬2) ديوان النابغة الجعدي: 131. والبيت من بحر الطويل. (¬3) عجز بيت لدريد بن الصمة صدره: لقد كذبتك نفسك فاكذبنها الخزانة: 4/ 444، الكتاب: 1/ 134.

قال أبو زبيد الطائي: ألا أبلغ بني عمرو بن كعب … بأنّي في مودتكم نفيس (¬1) أفي حق مواساتي أخاكم … بمالي ثم يظلمني السريس وتبين أن " أن " في موضع رفع بقوله: أحقّا بنى أبناء سلمى بن جندل … تهدّدكم إيّاي وسط المجالس (¬2) فرفع (تهددكم) وهو في موضع " أن " حين قال: أحقا أنّ أخطلكم هجاني (¬3) وفي رفعه وجهان: أحدهما: وهو الذي أختاره أنه رفع ما قبله من الظرف خبره ومنزلته كمنزلة " خلف زيد " " وفي الدار عمرو " ولو أدخلنا عليه " أن " وأخواتها وقدمنا الظرف وجعلنا " أنّ " مقدرا لنصبنا وذلك قولك: (في أكثر ظني رحيلك) كما تقول (يوم الجمعة أنك راحل) و (يوم الجمعة رحيلك) و " إنّ يوم الجمعة رحيلك " فتبين بنصبه بعد " أن " رفعه قبلها بالابتداء. وذهب أبو العباس المبرد إلى أن الخليل: رفع " أن " بالظرف في هذا الموضع يعني: " أفي حق أنك ذاهب " وفي أكثر ظني أنك ذاهب. للضرورة كما يرفع بالظرف المضمر في قولك: " زيد في الدار وعمرو عندك ". قال أبو سعيد: أما رفع المضمر بالظرف فصحيح وأما رفع الظاهر فليس مذهب سيبويه والخليل. وأظن أن الذي دعا أبا العباس إلى حكاية هذا عن الخليل أنه: لما ذكر: " أفي حق أنك ذاهب ". " وفي أكثر ظني أنك ذاهب " قال عقيبه: وصارت " أن " مبنية عليه كما تبنى الرحيل ... وقد استعمل سيبويه لفظ البناء على الشيء الذي ليس بعامل فيما بني عليه كما قال: " أنّ " مبنية على " لولا ". وإنما ذلك على جهة تقدمها وحاجتها إلى ما بعدها. ¬

_ (¬1) ديوان أبو زبيد الطائي: 100. (¬2) البيت للأسود بن يعفر سبق تخريجه. (¬3) البيت للنابغة الجعدي سبق تخريجه.

وأما قول العبدي: فنيّتنا ونيّتهم فريق (¬1) ولم يثن فلأن " الفريق " قد يستعمل بلفظ واحد في الواحد والاثنين والجمع كما تقول: هذا صديق وهما صديق وهم صديق. وقال الله عز وجل في مثله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (¬2) وأما قولهم: (لا محالة أنك ذاهب) (ولا بد أنك ذاهب) فالذي يظهر من كلام سيبويه أن: " أنك " في موضع خفض " بمن " المحذوفة. وهو على القلب الذي تراه من خفض " أنّ " بعد حذف الخافض منها في الباب الذي ذكر فيه ذلك. قال أبو العباس: إذا قلت: لا محالة أنك ذاهب " فأنك " في موضع رفع بخبر المبتدأ كما تقول: لا رجل أفضل منك. وكذلك: لابدّ أنك ذاهب. فإن قال قائل: " لا " الثانية الناصبة هي جواب هل من؟ فما المسألة التي جوابها لا محالة ولا بد وما معنى ذلك؟ ومن أي شيء أخذ؟ قيل له لا محالة والحيلة فمعناها واحد هل من محالة في كذا؟ وهل من حيلة من كذا؟ ومعناه: هل من محالة من تركه أو من المخلص منه؟ فيقول المجيب: لا محالة منه. أي في الخلاص منه. وأما: " بد " فأصلها من مفارقة الشيء ومنه قيل: تبّدد الشيء: تفرق. وبددته: فرقته. ومنه قوله: (¬3) ... … والخيل تعدوا في الصّعيد بداد أي متفرقة وقولهم: رجل أبد. وامرأة بداء إذا تفرق. ما بين فخذيه. كما قال: فبدّت الرّجل فما تضمّها (¬4) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سورة ق، الآية: 17. (¬3) عجز بيت للنابغة الجعدي صدره: وذكرت من لبن المحلق شربة انظر المقتضب: 3/ 371، الخزانة: 4/ 471، المخصص: 17/ 64. (¬4) في اللسان (بدد) وكل من فرج رجليه فقد بدهما قال الراجز: جارية أعظمها أجمعها

ومنه قولهم: أبددت القوم عطية أي فرقتها بينهم قال أبو ذؤيب: فأبدهن حتوفهنّ فطالع … بدمائه أو ساقط متجعجع (¬1) فإذا قال: لابد منه. فكأنه قال: لا مفارقة ولا تباعد منه، وقد فسره أصحابنا بالسعة لأن تفرق ما بين الشيئين سعة ما بينهما، فكأنهم جعلوا أصله السعة وحقيقته عندي ما ذكرته. قال أبو العباس محمد بن يزيد " بد " موسع فإذا قلت: لابد أنك ذاهب. غير موسع عليك أنك ذاهب، وحقيقته: غير موسع عليك تركك الذهاب وقولهم: أما حقا أنك ذاهب فيكسر " إن " فهو جيد وكذلك: أما جهد رأيى فأنك ذاهب وكذلك جميع الظروف المتقدمة التي بعدها: " أن " إذا دخلت قبلها " أما " فكسر " إن " حسن وإن لم تكن " أما " فالفتح لا غير. وإنما كسر مع دخول " أما " لأنها تسوغ تقديم ما بعد الفاء على " الفاء " و " أما " عوضا مما حذف منه. وجوز فيه تقديم ما لم يكن يجوز تقديمه قبل دخولها وقد ذكرت ذلك مستقصى قبل هذا الموضع. ومعنى قول سيبويه " أما جهد رأيى فإنك ذاهب) لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول يعني: أنك مضطر قبل دخول " أما " أن تفتح " أن " إذا قلت: جهد رأيى أنك ذاهب. فتجعل " أن " مبتدأ وما قبله ظرفا. كقولك (خلفك زيد) لأنك لو لم تفتح وكسرت انقطع الظرف من " أن " وخبرها فلم يتصل. لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها قبل دخول " أما " وقد ذكرناه فصرت مضطرا إلى فتحها. فإذا دخلت " أما " جاز فيها الكسر فلم تضطر إلى فتحها وجعلتها مبتدأ. وقولهم: " أما بعد " فإن الله عز وجل قال في كتابه " فأن بعد " بمنزلة " اليوم " ولا يكون " بعد " ولا " قبل " خبرين إذا لم يكونا مضافين. هذا كلام سيبويه ومذهبه ولم أر غيره ذكره ولا تكلم عليه إلا أصحابه الذين ¬

_ قد سمنتها بالسويف أمها … فبدت الرجل فما تضمها انظر نوادر أبي زيد: 341. (¬1) ديوان الهذليين: 1/ 9، شرح المفضليات: 870.

يتكلمون على تفسير كتابه وإذا كانا مضافين فإنهما يكونان خبرين كقولك: زيد قبلك وعمرو بعدك. وإذا لم يخبر بهما لنقصانهما عن حالهما مضافين. وهما في حال الإضافة غير متمكنين فإذا منعتا الأصالة ازدادتا بعدا عن التمكن، فمنعتا بذلك أن يكونا خبرين. وقد مثل سيبويه: (أما يوم الجمعة فأنك ذاهب) بتمثيل نفسه في اللفظ إذا حمل على ظاهره فقال: لأن فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شيء " فأنك ذاهب " وتقديم " يوم الجمعة " لا يجوز في " مهما " ومعناه: أنه مثّل " أما " " بمهما " ثم قدم في " مهما " ما تقدمه في " أما " من الظرف الذي يصبح له خبر " أن " على وجه يبين المعنى فيه لا على تصحيح اللفظ، وأما لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ (¬1) فإن الخليل وسيبويه ومن تبعهما من البصريين يجعلون " جرم " فعلا ماضيا. ويجعلون " لا " داخله عليه فمنهم من يجعلها جوابا لما قبلها ومثله: " يقول الرجل كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا فتقول: لا جرم أنهم سيندمون. ويبين عند الخليل: أنه رد على أهل الكفر فيما قدروه من اندفاع مضرة الكفر وعقوبته عنهم يوم القيامة. واختلفوا في معنى " جرم " إذا كان فعلا. قال سيبويه: معناه حق أن لهم النار. واستدل على ذلك بقول المفسرين معناه " حقا أن لهم النار " ويقول الشاعر: جرمت فزازة بعدها أنّ يغضبوا أي حقهم للغضب. وتبعه على ذلك من تبعه. وقال غيره: " جرم " بمعنى " كسب " واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ (¬2) يقول عز وجل: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا (¬3) أي: لا يكسبكم ذلك. ويقول الشاعر: (¬4) جريمة ناهض في رأس نيق … ترى لعظام ما جمعت صليبا ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 62. (¬2) سورة هود، الآية: 89. (¬3) سورة المائدة، الآية: 2. (¬4) هو أبو خراش الهذلي واسمه خويلد بن مرة. والبيت في ديوان الهذليين:/ 133، الاقتضاب: 317، شرح المفضليات 777. والبيت من الوافر.

جريمة كاسبة يعني عقابا. وناهض: فرع. فالعقاب تكسب لفرخها ما يأكله وعلى هذا تأول: جرمت فزارة: أي كسبت فزارة الغضب. واختلفوا في فاعل " جرم " إذا كان فعلا ماضيا: فقال أبو العباس المبرد: " أنهم " في موضع رفع " بجرم " كقولك: حق كون النار لهم. ووجت كون النار لهم. ونحو ذلك. وقال غيره: " أن لهم النار " في موضع نصب وفي " جرم " ضمير فاعل. كأن كفرهم كسب كون النار لهم. وأما الفراء وأصحابه. فذهبوا إلى أن " جرم " اسم منصوب و " لا " على التبرئة وقال الفراء: " لا جرم أنهم " كلمة كانت في الأصل- والله أعلم، بمنزلة: لابد أنك قائم ولا محالة أنك ذاهب فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة: حقا و " حقا " عندهم بمنزلة قسم. واستدل على ذلك بما ذكر عن العرب من قولهم. " لا جرم لآتينك ". " لا جرم لقد أحسنت " قال: كذلك فسرها المفسرون بمعنى: الحق. قال وأصله جرمت أي كسبت الذنب وجرمته، ورأيت بعض الكوفيين: يجعل " أن " في موضع نصب في لا بد ولا محالة ولا جرم. وقال بعض الكوفيين: " أجرم " أصله الفعل الماضي فحول عن طريق الفعل ومنع التصرف. فلم يكن له مستقبل ولا دائم ولا مصدر. وجعل معه " لا " قسما وتركت الميم على فتحها الذي كان لها في الماضى كما نقلوا " حاشى " وهو فعل ماض مستقبله " يحاشى " ودائمه " محاش " ومصدره " محاشاه " من باب الأفعال إلى باب الأدوات لما أزالوه عن التصرف فقالوا: قام القوم حاشى عبد الله. فخفضوا به ولو كان فعلا ما عمل خفضا. وابقوا عليه لفظ الفعل الماضي. وكما نقلوا " ليس " وأصلها الفعل الماضي. عن أصلها إلى سبيل الأدوات فمنعوها التصرف وخروج المصدر منها وأفردوا آخرها على أمرها الأول قبل النقل. وحكى الكوفيون في " لا جرم " وجوها من تغيير اللفظ فيها عن العرب. منها " لا جرم " بضم الجيم و: " لا جر " بإسقاط الميم. و: " لا ذا جرم " و " لا ذا جر " بغير الميم " ولا إنّ ذا جرم " و: " لا عزّ ذا جرم ". ومعنى اللغات كلها عندهم واحد. وأنشد الفراء: ... … إنّ كلابا والدي لاذا جرم لأهدرن هدرا صادقا … هدر المعنى الشقاشيق اللهم (¬1) ¬

_ (¬1) البيتان في معاني القرآن للفراء 2/ 9، أمالي القالي: 3/ 218، وهما من الرجز.

لم يعرف الفراء النصف الأول من البيت الأول. وأما " شد ما أنك ذاهب " و " عز ما أنك ذاهب " فقد جعله سيبويه على وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى: حقا أنك ذاهب فيكون " شد ما " في تأويل ظرف. وأنك ذاهب مبتدأ كما أن " حقا " مبتدأ في تأويل ظرف و " شد " و " عز " فعلان في الأصل دخلت عليهما " ما " فأبطل عملها. وجعلا في مذهب " حقا ". كما دخلت " ما " على " قل " و " رب " فبطل عملها. وخرجا عن مذهب الفعل وحرف الجر. و" شد ما " و " عز ما " وإن جعلا في موضع " حقا " فلا تدخل عليهما " في " كدخولها على " حقا " لأنهما في الأصل فعلان. كما أن " أن " إذا وقعت بعد " لو " تشبيها " بلولا " لم يجز وقوع الاسم بعدها لوقوعه بعد " لولا ". والوجه الآخر: أن يكون " شد ما " و " عز ما " فعلين ماضيين. كنعم و " بئس " ووقوع " ما " بعدهما كوقوع " ما " بعد " نعم " و " بئس " كقولك: نعما صنيعك و " بئسما عملك " وتقديره: نعم الصنيع صنيعك و " بئس العمل عملك ". وقوله: كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه. دخلت الفاء على " تجاوز " لأنه دعاء. وهو بمنزلة دخول القلب في فعل الأمر إذا تقدم المفعول كقولك: زيدا فاضرب. وإن شئت: زيد اضرب. فإذا قلت: اضرب زيدا لم تكن " فاء " وكذلك تقول: تجاوز الله عنه. و " ما " عند سيبويه لغو. واستدل على أنها لغو بقوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (¬1) لأنها لو لم تعمل لغوا لبنيت مع ما بعدها وفتحت. ولم يجز إسقاطها وإن كانت لغوا في عملها. وزيادة فائدة بدخولها: لأنهم أرادوا الفرق بين شبيهين: فإذا ادخلوا ما على حرف التشبيه أرادوا: أن أحد الشيئين وجوده حق كما أن وجود الآخر حق. وأن الشيئين في أنفسهما. كقولك " زيد فاسق كما أن عمر صالح " أردت أن هذا موجود وصحيح كما أن هذا موجود صحيح. وكذلك تقول: البساط تحتنا كما أن السماء فوقنا. أي: هذا حق كما أن هذا حق. وكذلك: الظلال فوقنا كما أن السماء فوقنا. إذا أردت أنهما حقان. وإن أردت تشبيه أحدهما بالأخر قلت: " الظلال فوقنا كما أن ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 23.

السماء فوقنا " أي هما متشابهان في كونهما. ولم يرد أن هذا حق كما أن هذا حق. وكان أبو العباس المبرد يجيز أن يكون " ما " مع كاف التشبيه لغوا وأن تكون مبنية معها. وقد ذكرت لك استدلال سيبويه على أنها لغو. ولم يقم دليل على غيره والفرق في: مثل ما أنك ذاهب " ومثل " أنك ذاهب بدخول " ما " كالفرق في الكاف ومعناهما: أعني: الكاف ومثل، ومذهبهما في دخول " ما " وخروجهما واحد. وسيبويه يذهب في قول النابغة الجعدي: كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا إلى أن " ما " منه محذوفة وتقديره: كما أنه يؤخذ وخففت " أن " وحذفت " ما ". قال أبو سعيد: هذا سهو من سيبويه صير تشبيه جملة بجملة ودفاعه اسم واحد وليس بجملة وقوله: " كأن يؤخذ المرء " ليس من الأشياء الواضحة الوجود فيشبه به تحقيق وجود شيء آخر. وإنما يصف النابغة خصومة جرت بين رجل من عشيرته مناظر عنها. وبين خصوم له من قبائل أخرى يحضره ملك. وأن ذلك الملك كان ميله على عشيرته. وأن المناظر عنهم ثبت لهم في المناظرة مع ميل الملك عليه وعلى ذلك قوله:- لدى ملك غضبان أقبل مخفرا … إليهم شديدا قسره متبسلا (¬1) واخضرهم خصما شديدا ضريره … بني دارم أهل البسول ونهشلا وذو التاج من نسان ينصر جاهدا … ليجعل فيها خدنا هو أسفلا قروما تسامى عند باب دفاعه … كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا يريد: دفاع الباب. وهو رده وحجبه لمن يريد الدخول. وطرده وهو مثل القتل في شدته. لأنه إذلال للمطرود المحجوب. ومعنى قوله " فما " لا يحذف في الكلام. يعني: من " كما " إذا أردت الضرب الذي ذكرناه من التشبيه كما لا تحذف من " أن " في " إما " التي بمعنى " أو " وقد ذكرنا حذف " ما " من " إما " في: .. وإنّ من خريف فلن يعدما .. قال أبو عثمان المازني: أنا لا أنشده إلا: ¬

_ (¬1) ديوان النابغة الجعدي: 131.

هذا باب من أبواب «إن»

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا .. لأنها " أن " التي تنصب الأفعال دخلت عليها كاف التشبيه. هذا باب من أبواب «إنّ» تقول: قال عمرو: أن زيدا خبر منك وذلك لأنك أردت أن تحكي قوله. ولا يجوز أن تعمل (قال) في " أن ". كما لا يجوز لك أن تعملها في زيد وأشباهه إذا قلت: قال زيد عمرو خير منك " فإن " لا تعمل فيها قال: كما لا تعمل " قال " فيما تعمل فيه " أن ". لأن " أن " تجعل الكلام شأنا. وأنت لا تقول: قال الشأن متفاقما كما تقول: زعم الشأن متفاقما. فهذه الأشياء بعد " قال " حكاية ومثل ذلك: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ (¬1) وقال أيضا: قال الله: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ (¬2) وكذلك جميع ما جاء من ذا في القرآن. وسألت يونس عن قوله: " متى تقول أنه منطلق " فقال: إذا لم ترد الحكاية. وجعلت تقول مثل " تظن " قلت: متى تقول أنك ذاهب. كما أنه يجوز لك أن تحكي فتقول: متى تقول زيد منطلق. وتقول: " قال عمرو أنه منطلق " جعلت " الهاء " عمرا أو غيره فلا تعمل " قال ". كما لا تعمل إذا قلت: قال عمر وهو منطلق. " فقال " لم تعمل هاهنا شيئا. وإن كانت الهاء هي القائل. كما لا تعمل شيئا إذا قلت (قال) وأظهرت " هو " فقال لا تغير الكلام عن حاله قبل أن تكون فيه " قال " فيما ذكرنا. وكان " عيسى " يقرأ هذا الحرف فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (¬3). أراد أن يحكي. كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ (¬4) كأنه قال والله أعلم: قالوا ما نعبدهم. ومثل ذلك كثير في القرآن. وتقول: أول ما أقول أني أحمد الله كأنك قلت: أول قولي الحمد لله. وإن أردت أن تحكي قلت: أول ما أقول أني أحمد الله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 67. (¬2) سورة المائدة، الآية: 115. (¬3) سورة القمر، الآية: 10. (¬4) سورة الزمر، الآية: 3.

وباقي الباب مفهوم هذا باب من أبواب «إن»

قال أبو سعيد: قد ذكرنا أن ما بعد: " قال " بمنزلة كلام مبتدأ والاعتمال به حكاية لفظ اللافظ المحكى عنه. ومعنى قوله: " فأن " لا تعمل فيها " قال " فينقلها من الكسر إلى الفتح كما لا تعمل في المبتدأ أو الخبر الذي تعمل فيه " أن " إذا قلت: " قال زيد عمرو خير الناس ". وقوله: لأن " أن تجعل الكلام شأنا وأنت لا تقول: قال الشأن: يعني أنك إذا قلت: " قال زيد أن عمرا خير الناس " تخرج عن حكاية كلامه. فصار بمنزلة عرف زيد شأن عمرو وفهمه. وقد مضى. وزعم زيد الشأن متفاقما. وليس ذلك بحكاية أنما هو اعتقاد لأمر وليس بحكاية. وقد مضى الكلام في نحوه. وقوله: وتقول: قال عمرو أنه منطلق. فحق الحكاية أن تقول: قال عمرو أني منطلق وكذلك إذا قلت: قال عمرو هو منطلق فحق الحكاية أن تقول: قال عمرو أنا منطلق لأن هذا لفظه الذي لفظ به. ولهم قد يغيرون لفظ الغيبة إلى الخطاب ولفظ الخطاب إلى الغيبة؛ لأن ذلك أقرب إلى الأفهام. ولا يعد ذلك تغييرا. لأن الذي يقول: أن زيدا منطلق. ولو واجهة لقال: أنك منطلق ولم يكن ذلك مغيرا للكلام عن منهاجه. ولو أن زيدا قال: " أن عمرا خير الناس " ثم واجهت أنت عمرا لجاز أن تقول: قال زيد أنك خير الناس يا عمرو. وإذا قال: (أول ما أقول أني أحمد الله) ما أقول " مبتدأ " وأني أحمد الله (خبر) وتقديره: حمد الله. وليس بحكاية لفظ وإنما هو معنى ما في نفسه. واسميته والعبارة عنه: حمد الله. وهو كقولك: أول أمري حمد الله والثناء عليه. ولو لم يقل: " أول " لقلت على ذلك. قولي أني أحمد الله. وقولي حمد الله وأمري أني أحمد الله. وأمري حمد الله. وإذا قال: أول ما أقول: أني أحمد الله. " فأول ما أقول " مبتدأ " وأني أحمد الله " جعله في موضع الخبر. ولوضعت في موضع الفعل فقلت أول ما أقول: (أحمد الله) لجاز لأنك إذا كسرت فقد جعلته اللفظ الذي يلفظ به ومعناه. وقد تقول: " أني أحمد الله " و " أحمد الله " بغير " إني " على طريق الحكاية. وباقي الباب مفهوم هذا باب من أبواب «إن» وذلك قولك: قد قاله القوم حتى أن زيدا يقوله " وانطلق القوم حتى أن زيدا

لمنطلق " فحتى هاهنا معلقة. لا تعمل في " إن " كما لا تعمل إذا قلت: حتى زيد ذاهب فهذا موضع ابتداء و " حتى " بمنزلة " إذا " ولو أردت أن تقول: " حتى أن " في هذا الموضع كنت محيلا. لأن " أن " وصلتها هاهنا بمنزلة " الانطلاق " ولو قلت: " انطلق القوم حتى الانطلاق " " وحتى الخير " كان محالا. لأن " أنّ " تصير الكلام خبرا فلما لم يجز ذا حمل على الابتداء. وكذلك إذا قلت: مررت فإذا إنّه يقول وسمعت رجلا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به: وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا … إذا إنه عبد القفا واللهازم (¬1) فحال " إذا " هاهنا كحالها إذا قلت: " إذا هو عبد القفا واللهازم " وإنما جاءت " إن " هاهنا لأنك بهذا المعنى أردت كما أردت في " حتى " معنى حتى هو منطلق وإذا قلت: مررت فإذا أنّه عبد. تريد: مررت به فإذا العبودية واللؤم، كأنك قلت: مررت فإذا أمره العبودية واللؤم ثم وضعت " أن " في هذا الموضع جاز. وتقول: قد عرفت أمورك حتى أنك أحمق كأنك قلت: عرفت أمورك حتى حمقك ثم وضعت " أن " في هذا الموضع. هذا قول الخليل وسألته عن قوله: (هذا حق كما أنك هاهنا) هل يجوز على ذا الحد كما أنك هاهنا؟ فقال: لا. لأن لا يبتدأ بها في كل موضع ألا ترى أنك تقول: يوم الجمعة أنك ذاهب ولا: كيف أنك صانع. و " كما " بتلك المنزلة. قال أبو سعيد: قوله: وانطلق القوم حتى أن زيدا لمنطلق معناه. وانطلق القوم وزيد منطلق. وهي: " حتى " التي بمعنى: الواو. وتقع بعدها الجمل. ولذلك لم يجز أن تقع بعدها. " أن " مفتوحة. لأنها وما بعدها بمعنى المصدر. ولو قلت: انطلق القوم حتى انطلاق زيد لم يجز لأن ما بعد " حتى " إذا جعلت بمعنى الواو أو جعلت غاية من جنس ما قبلها. ألا ترى أنك لا تقول: جاءني إخوتك حتى الحمار. وكذلك إذا أردت. " إذا " التي للمفاجأة. لأنها يقع بعدها الابتداء والخبر إلا أنه يجوز بعد. " إذا " الفتح والكسر جميعا. فالكسر قولك: مررت به فإذا أنه يقول أن زيد خير منك. وكذلك قوله: ¬

_ (¬1) البيت في الخصائص: 2/ 399، ابن يعيش: 4/ 97، الخزانة: 4/ 303.

… إذا إنّه عبد القفا واللهازم وكسرها: لأن الابتداء والخبر يقع بعدها. وفتحها: قولك: خرجت فإذا أنه عبد. على معنى: فإذا أمر العبودية. فإن قال قائل: لم جاز في " إذا " الفتح والكسر ولم يجز في " حتى " إلا الفتح؟ قيل له: إنما جاز في " إذا " الوجهان لأن ما بعدها يجوز ألا يكون ما قبلها ولا بعضه. ويجوز أن يكون مصدرا وغير مصدر كقولك: " خرجت فإذا زيد قائم "، " وخرجت فإذا صباح زيد ". والذي يقول: " خرجت فإذا زيد قائم ". ويقول: خرجت فإذا أن زيدا قائم والذي يقول: (خرجت فإذا صياح زيد) يقول: (خرجت فإذا زيد صائح) وحتى إذا لم تكن غاية لا يكون ما بعدها إلا عطفا على قبلها داخلا في معناه ولفظه. فإن قال قائل فإذا كسرتم " إن " بعد " إذا " فما موضع " إذا "؟ وما العامل فيها؟ وقد علمتم أنه لا يعمل خبر " إن " فيما قبل " إن "؟ قيل له: " إذا " حرف دخل لمعنى المفاجأة ولا عمل لها وهي في مذهب حروف العطف فمن حيث دخلت " إن " المكسورة بعد حروف العطف جعل دخولها بعد " إذا " ومن أجل ذلك جاز دخول " الفاء " عليها وخروجها منها. أما دخولها: فلان " الفاء " للعطف وما بعدها معطوف على ما قبلها كعطف جملة على جملة. " وإذا " للمفاجأة واختصت بالدخول عليها الفاء من بين حروف العطف لأن ترتيب الثاني أن يكون بعد الأول في المعنى. وأما إسقاط " الفاء " فأن حروف المفاجأة لما وردت بعد الفعل الأول دل على أنه عقيبه. ونظيره: دخول " الواو " على " لكن " في العطف وسقوطها كقولك: ما جاء في زيد لكن عمرو. " وما مررت بزيد لكن عمرو " ويجوز: ولكن عمرو. لأن " لكن " لما دلت على الاستدراك ولم يبتدأ بها أغنت عن حروف العطف. وأما منعه أن يقال " كما أنك هاهنا " فلأن " أنت " مبتدأ " وهاهنا " خبره وهما جميعا بمنزلة المصدر. وكما يكون الفعل والفاعل مع " ما " بمنزلة المصدر. و " ما " في ذلك حرف وليست باسم وهي كان والفعل بعدها. غير أن " ما " يليها الاسم والخبر والفعل والفاعل " وإن " لا يليها إلا الفعل والفاعل. وإنما يلي " ما " " إن " إذا كانت بمعنى " الذي " كقوله عز وجل: وَآتَيْناهُ مِنَ

وباقي الباب مفهوم هذا باب آخر من أبواب «إن»

الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (¬1) وإذا كانت بمعنى المصدر لم يدخلها " إن " لأن أصلها أن يكون بعدها فعل وفاعل. والمبتدأ والخبر مجردين من الدواخل عليهما بمنزلة الفعل والفاعل. فلم يدخلوا " إن " من أجل ذلك. ومن الدليل على أنه يقع المبتدأ والخبر في الموضع الذي لا يقع فيه " إن " قولهم: " يوم الجمعة أنت ذاهب: وكيف أنت صانع؟ " وإنما جاز " يوم الجمعة أنت ذاهب " لأن الناصب (ليوم) هو " ذاهب " يعمل فيما قبل " أنت " كقولك: يوم الجمعة زيدا ضارب.؟ ولا يجوز زيدا أنك ضارب. وكذلك: " كيف " في موضع نصب على الحال والعامل فيه: (صانع) فإذا قلت: (أنك صانع بطل) عمل " صانع " فيما قبل " أن ". وباقي الباب مفهوم هذا باب آخر من أبواب «إن» تقول: ما قدم علينا أمير إلا إنّه مكرم لي. لأنه ليس هاهنا شيء يعمل في " إن " ولا يجوز أن تكون " أنّ "، وإنما تريد أن تقول: ما قدم علينا أمير إلا هو مكرم لي. فكما لا تعمل في ذا لا تعمل في " أن " شئ ودخول اللام هاهنا يدلك على (ذلك) أنه موضع ابتداء قال الله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ (¬2) ومثل ذلك قول كثير: ما أعطياني ولا سألتهما … إلا وإنّي لحاجزي كرمي (¬3) وكذلك لو قال: إلا وأني حاجزي كرمي، وتقول: ما غضبت عليك إلا أنك فاسق كأنك قلت إلا لأنك فاسق، وأما قوله عز وجل: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ (¬4) فإنما حمله على " ما منعهم "، وتقول: إذا أردت معنى اليمين: " أعطيته ما إنّ شره خير من جيد ما معك " " وهؤلاء إن أجبتهم لأشجع من شجعانكم " قال الله عز وجل: وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 76. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 20. (¬3) ديوان كثير 2/ 66، المقتضب: 2/ 345. (¬4) سورة التوبة، الآية: 54.

بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (¬1) " فإن " صلة لما كأنك قلت: ما والله أن شره خير من جيد ما معك. قال أبو سعيد: الحال إذا كانت بمبتدأ وخبر جاز بالواو وبغير الواو كقولك: جاء زيد وهو راكب وجاء زيد هو راكب ويجوز دخول " أن " على المبتدأ والخبر كقولك: جاءني زيد وأنه ليفرق وجاءني زيد وأن أباه ينظر إليه وجاز أيضا إخراج " الواو " من " أن " كقولك: جاءني زيد أن أباه ينظر إليه. وتقع الحال بعد إلا مما قبلها بجملة وغير جملة. فأما غير الجملة فقولك: ما جاء في زيد إلا راكبا. وما قدم علينا عمرو إلا أميرا. وأما الجملة فقولك: " ما قدم علينا عمرو إلا هو أمير وإن شئت قلت: " إلا وهو أمير ". وإن شئت قلت: إلا أنه أمير وإن شئت قلت: إلا وإنه أمير وإدخال اللام في خبر " إن " وإخراجها سواء. وقوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ (¬2). تقديره: وما أرسلنا أحد من المرسلين. والمعنى: ما أرسلنا المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام. والبيت الذي أنشده سيبويه. كان أبو العباس المبرد يرده على سيبويه ويقول: تقدير سيبويه في العربية صحيح ولكنه غلط في معنى الشعر ويرويه: ألا فإني حاجز كرمي " إلا التي للتنبيه في أول الكلام " كأن أبا العباس ذهب إلى أنهما ما أعطياه وأنه ما سألهما ثم ابتدأ يصف نفسه بأنه يحجزه عن سؤالهما كرمه. ولو كانت إلا مكسورة وما بعدها كأنا قد أعطياه وسألهما في حال. كما حجزه كرمه. وهذا لا يجوز عندي: لأن الحاجز من الكرم إنما يحجز عن السؤال وقبول العطية. قال أبو سعيد: والذي عندي أن " إلا " أجود لأنها توجب أنهما أعطياه وأنه سألهما وما حجزه كرمه عنده أنه ما عاب أعطاه هما ولا ألح عليهما في مسألته وشعره يدل على ذلك. ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 76. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 20.

هذا باب آخر من أبواب «إن»

قال كثير: دع عنك سلمى إذا فات مطلبهما … واذكر خليليك من بني الحكم (¬1) ما أعطياني ولا سألتهما … إلا وأني لحاجزي كرمي مبدي الرضا عنهما ومنصرف … عن بعض ما لو سألت: لم ألم لا أنزر المائل الخليل إذا … ما اعتل نزر الظؤون لم ترم إنّي متى لا تكن عطيته … عندي بما قد فعلت احتشم خليلاه من بني الحكم: عبد الملك وعبد العزيز ابنا مروان بن الحكم وكانا يعطيانه ويسألهما مشهور ذلك من فعله وفعلهما فقد تبين في هذه الأفعال ما قلناه. لأن قوله لا أنزر الخليل: لا ألح عليه في المسألة. فينفي عن مسألته ما يفتح من الإلحاح. وقوله: أني متى لا تكون عطيته … عندي بما قد فعلت احتشم أي: ما لم استوجب عطيته يعني: يمدح له أو غير ذلك من وجود الاستجاب. واحتشم واستحي من العطية. فقد دل على الإعطاء والسؤال. ولو كان ما قاله أبو العباس لم يكن عطاؤهما ومسألته لهما واقعا البته. ولم تكن الصورة على ذلك. وإنما فتحت " أنّ " في: ما غضبت عليك إلا أنك فاسق " لأنها " في موضع اسم مخفوض أو منصوب كأنه قال: لفسقك. وقوله عز وجل: " إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا " في موضع رفع لأنه فاعل " منعهم " كأنه: ما منعهم عن قبول نفقاتهم إلا كفرهم. وقد مضى من تفسير هذا الباب ما أغني عن إعادته هذا باب آخر من أبواب «إن» تقول: أشهد إنك لمنطلق " فأشهد " بمنزلة قوله: والله إنك لذاهب و " إن " غير عاملة فيها " أشهد ". لأن هذه اللام لا تلحق أبدا إلا في الابتداء. ألا ترى أنك تقول: أشهد لعبد الله خير منك كأنه قال: والله لعبد الله خير منك. فصارت " إنّ " مبتدأة حين ذكرت " اللام " هاهنا ولم تكن إلا مكسورة كما أن ¬

_ (¬1) ديوانه: 2/ 66، الموشح للمرزباني: 297.

" عبد الله " لا يكون هاهنا إلا مبتدأ. ولو جاز: أشهد أنك لذاهب لقلت أشهد بذلك. فهذه اللام لا تكون إلا في الابتداء وتكون " أشهد " بمنزلة " الله " ونظير ذلك قول الله عز وجل: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (¬1)، وقال عز وجل: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (¬2)؛ لأن هذه توكيد. كأنه قال: يحلف بالله أنه لمن الصادقين. وقال الخليل: أشهد بأنك لذاهب غير واجب؛ لأن حرف الجر لا يعلق وقال: أقول: (أشهد إنه لذاهب وإنه منطلق " اتبع آخره أوله. وإذا قلت: أشهد أنه ذاهب وأنه منطلق لم يجز إلا الكسر في الثاني لأن اللام لا تدخل أبدا على (أنّ) و (أن) محمولة على ما قبلها ولا تكون إلا مبتدأة باللام، ومن ذلك أيضا قد علمت أنك لخير منه " فأن " هاهنا مبتدأة. " وقد علمت " هاهنا بمنزلتها في قولك: " لقد علمت أيّهم أفضل " فعلقه في الموضعين جميعا. وهذه اللام تصرف " أن " للابتداء كما تصرف " عبد الله " للابتداء. في قولك: " لعبد الله خير ومنك " ف (عبد الله) هاهنا بمنزلة " أن " في أنه يصرف إلى الابتداء ولو قلت: قد علمت أنه لخير منك. لقلت: قد علمت لزيدا خيرا منك ورأيت لعبد الله هو الكريم فهذه " اللام " لا تكون مع " إنّ " ولا مع عبد الله. ألا وهما مبتدآن. نظير ذلك قول الله عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (¬3) فهو هاهنا مبتدأ. ونظير " أن " مكسورة إذا لحقتها اللام قوله عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (¬4)، وقال عز وجل: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (¬5)، فإنكم هاهنا بمنزلة " أيّهم " إذا قلت: ينبئهم أيهم أفضل. وقال الخليل مثله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ (¬6)، " فما " ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬2) سورة النور، الآية: 6. (¬3) سورة البقرة، الآية: 102. (¬4) سورة الصافات، الآية: 158. (¬5) سورة سبأ، الآية: 7. (¬6) سورة العنكبوت، الآية: 42.

هاهنا بمنزلة: " أيهم " و " يعلم " معلقة. قال الشاعر: ألم تر أنّي وابن أسود ليلة … لنسري إلى فارين يعلو سناهما (¬1) سمعناه ممن ينشده من العرب. وسألت الخليل عن قوله: أحقا أنه لذاهب فقال: لا يجوز (كما لا يجوز) يوم الجمعة أنه لذاهب. وزعم يونس والخليل: أنه لا تلحق هذه اللام مع كل فعل. ألا ترى أنك لا تقول: وعدتك إنك لخارج إنما يجوز هذا في العلم والظن ونحوه. كما يبتدأ بعدهن " أيهم " فإذا لم تذكر اللام قلت: قد علمت أنه منطلق. لا تبتدئه وتحمله على الفعل ولم يجئ ما يضطرك إلى الابتداء. وإنما ابتدأت حين كان غير جائز أن تحمله على الفعل (فإذا حسن أن تحمله على الفعل) لم تتخط الفعل إلى غيره. نظير ذلك قوله: " إن خيرا فخير وإن شرا فشر " حملته على الفعل حين لم يجز أن تبتدئ بعد " إن " وكما قال: " أما أنت منطلقا انطلقت معك " لما لم يجز أن تبتدئ الكلام بعد " أما ". وهذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين. وليس كل العرب تتكلم بها. وتقول: " لهنك لرجل صدق " فهي " إنّ " ولكنهم أبدلوا " الهاء " مكان " الألف " كقولهم: هرقت، ولحقت هذه اللام " أن " كما لحقت " ما " حين قلت: " أن زيد لما لينطلقن " فلحقت " أن " اللام في اليمين كما لحقت " ما " واللام الأولى في لهنك " لام اليمين) واللام الثانية لام " أن " وفي " لما لينطلقن " اللام الأولى: " لإن " والثانية " لليمين " والدليل على ذلك: النون التي معها. وقد يجوز في الشعر: " أشهد أن زيدا ذاهب " لشبهها بقوله: والله أنه ذاهب (لأن) معناه معنى اليمين كما أنه لو قال: " أشهد أنت ذاهب " ولم يذكر اللام لم يكن إلا ابتداء. وهو قبيح وضعيف: إلا باللام. ومثل ذلك في الضعف: علمت أن زيدا ذاهب كما أنه ضعيف: قد علمت ¬

_ (¬1) البيت في اللسان: (سنا) والعيني: 2/ 222، الأشموني 1/ 275.

عمرو خير منك. ولكنه على إرادة اللام. كما قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (¬1)، على اليمين. وكأن في هذا حسنا حين طال الكلام. وسألته عن " كأن " فزعم أنها " أن " لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع " أن " بمنزلة كلمة واحدة وهي نحو: كأي رجلا ونحو له كذا درهما. وأما قول العرب في الجواب " أنه " فهو بمنزلة " أجل " وإذا وصلت قلت: " إنّ يا فتى " وهي التي بمنزلة أجل. قال الشاعر: بكر العواذل في الصبو … ح يلمننى والومهنه (¬2) ويقلن شيب قد علا … ك وقد كبرت فقلت إنّه قال أبو سعيد: أصل " أشهد " أن يتعدى بالباء " أن " تقع على مصدر كأنك قلت: أشهد على زيد بالفسق " وأشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد بأن زيدا. وأشهد بأنه لا إله إلا الله. فيجوز مع إدخال الباء وطرحها ولا يجوز طرح الباء مع المصدر. لا تقل: " أشهد على زيد الفسق ". ثم أجروا " أشهد " مجرى " أعلم " لأن الشهادة بالشيء عن علم به تقدم. غير أنهم لم يتجاوزوا في إقامته مقام " أعلم " وقوعها على " أن " فقال: أشهد أن زيدا منطلق. كما قالوا: أعلم أن زيدا لمنطلق. وقد يقال " شهدته " وليس في معنى: حضرته. وليس في معنى " علمته ". ويقال: علمت زيدا أخاك على أن " أخاك " مفعول ثان ولا يقال على ذلك: شهدت زيدا أخاك. واعلم أن اللام في قولك: (أشهد أن زيدا لمنطلق) و " أعلم أن زيدا لمنطلق حقا " وموضعها أن يكون قبل " أن " وذلك أن اللام تمنع ما قبلها من العمل فيما بعدها. فلو كان موضعها بعد " أن " لوجب فتح " أن " ولبطل عمل " أن " فيما بعد " أن " فكأن يلزم من ذلك أن يقال: علمت أن في الدار لزيد ففتح " أن " لوقوع عليه. ولا مانع من فتحها كما فتح إذا قلت: علمت أن زيدا منطلق. ويبطل نصب زيد بأن اللام إذا منعت من عمل اللام ¬

_ (¬1) سورة الشمس، الآية: 9. (¬2) البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات وهما في ديوانه: 66، وابن يعيش: 3/ 130، أمالي ابن الشجري: 1/ 322.

فيما بعدها في قولك: علمت لزيد منطلق، فعمل " أن " فيما بعدها منع لأن " أن " أضعف عملا من الفعل. فوجب أن تكون " اللام " موضعها قبل " أن " لتمنع " أن " من عمل " علمت " فيها. ونقلها إياها من الكسر إلى الفتح. كما تمنع من عمل " علمت " في الابتداء والخبر إذا قلت قد علمت لزيد منطلق. وإذا تأخرت " اللام " وهي في نيته التقديم لم يبطل عمل " أن " فوجب أن يقال: علمت أن زيدا لمنطلق. وعلمت أن في الدار زيد. فسبيل إن في كسرها بدخول اللام عليها كسبيل الاسم في رفعه بالابتداء بدخول اللام عليه. لأن كسر " إن " يوجبه الابتداء بها. كما أن رفع الاسم يوجبه الابتداء به والذي أصارهما إلى ذلك: اللام، ولا يجوز، أشهد أنك لذاهب، لأن اللام إذا قدرناها قبل " أن " بمنزلة المبتدأ بها في اللفظ و " أن " لا يبتدأ بها. ومما يبطل ذلك: أن أشهد أصلها أن تتعدى بالتاء فلو جاز أن تقول: أشهد أنك قائم لجاز: أشهد بأنك لقائم فيكون تقديره: أشهد بكذا. لأن اللام مقدرة قبل " أن " والباء داخله عليها. و " أن " وما بعدها من المبتدأ والخبر بمنزلة: كذا فكأنه قال: أشهد بكذا وهذا باطل. لأن الباء لا يبطل عملها الخفي. واللام تمنع من عمل ما قبلها فيما بعدها. فتصير الباء عاملة ممنوعة العمل وهذا تناقض. ولهذا قال الخليل: " أشهد بأنك ذاهب " غير جائز لأن الحروف لا تعلق. معناه: لا تبطل عملها. وإذا لم يبطل عملها وقدرناها وكسرنا " أن " فقد أبطلنا عملها. وهذا غير جائز. والفرق بين الباء وبين هذه الأفعال التي بطل عملها وتعلق عما بعدها. أن " الباء " ليس لها حال يبطل عملها. وهذه الأفعال. يبطل عملها في: الاستفهام كقولك: علمت زيد في الدار أم عمرو؟ وفي التأخير والتوسط: كقولك: زيد قائم علمت وزيد علمت قائم. ودخول اللام مثل الاستفهام وفيما ذكر سيبويه من شواهد: لك من القرآن مقنع. والبيت: ألم تر أنّي وابن أسود ليلة بكسر " أني " من أجل اللام في " لنسرى " ولو لم تكن اللام لقيل: ألم تر أني وابن أسود ترى بفتح: أني. وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ

شَيْءٍ (¬1) ما يدعون فيه وجهان: أحدهما: أن تكون استفهاما والعامل فيها " يدعون " كأنه قال: أيهم يدعون؟ وينصب " أيهم " ب " يدعون " ويجوز أن يكون منصوبا ب " يعلم ". ويكون بمعنى " الذي " و " يدعون " صلتها. كأنه قال: الذين يدعون من دونه من شيء. ولا يجوز: " أحقا أنه لذاهب " ولا: يوم الجمعة أنه لذاهب. لأن: " حقا " " ويوم الجمعة " في مذهب الظرف، ولا يجوز نصبها بما بعد " أن " لأنه لا يعمل فيما قبل " أن " وإنما تنصبها كما تنصب: " خلفك زيد ". ولا يجوز: خلفك أن زيدا ذاهب. وإنما يقال: " خلفك أن زيدا ذاهب " كما يقال: خلفك ذهاب زيد. فإذا لم يجز: خلفك أن زيدا قائم فقولك: " خلفك أن زيدا لقائم " أبعد في الجواز لمنع اللام اتصال ما قبلها بما بعدها. ولا يجوز: أحقا أنه لذاهب بفتح " أن " مع اللام لأن اللام ما بعدها جملة مستأنفة. ولا يجوز: وعدتك أنك لخارج. لأن مفعولي " وعدت " أحدهما غير الآخر. ولا تلغى كإلغاء " حسبت " وأخواتها. لأنك إذا قلت: زيدا حسبت منطلقا. جاز أن تلغى " حسبت " فتقول: حسبت منطلق. ولو لم يذكر: " حسبت " لجاز أن تقول: زيد منطلق. والمفعول الثاني من باب: حسبت وأخواتها خبر عن المفعول الأول يجوز أن تقع في موضعه الأفعال والظروف والجمل. كقولك: حسبت زيدا أنه قائم وحسبت أبوه لخارج، وحسبت لزيد خير منك، ولا يجوز شيء من هذا في: وعدت. لأن أصل " وعدت " أن يتعدى لمفعولين أحدهما غير الآخر وليس بخير. وأصل المفعول الثاني منه أن يكون بالباء استخفافا فتقول: وعدت زيدا دينارا وثوبا. ووعدته الخروج والمعونة ولا يجوز: وعدته لزيد قائم. ولا: وعدت أيهم في الدار. كما جاز في " حسبت " ولا وعدت لزيد قائم " ولا: وعدتك أنك لقائم ". و " لا: وعدتك أنت قائم " كما يجوز: حسبتك لا أبوك قائم وحسبتك أنك قائم وحسبتك أنت قائم. وإنما يجوز في موضع المفعول الثاني من " وعدت " " أن " المفتوحة بالباء وغيرها كقولك وعدتك أنك تعان ووعدتك أن الغلام لك. كما قال الله عز وجل: وَإِذْ ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 42.

يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ (¬1) فإنها بدل من إحدى الطائفتين. كأنه قال: وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم وإن أدخلت الباء قلت: وعدتك بأنك تعان وبأن الغلام لك. وإنما جاز دخول الباء وخروجها كما جاز تعلقت بزيد وتعلقت زيدا. ومعنى قوله: " قد علمت أنه منطلق " لا تبتدئه وتحمله على الفعل " يريد أنك تحمل أنه منطلق " فتفتحه وتعمل فيه " علمت " ولا تبتدئه فتكسر لأنه ليس في الكلام ما يضطرك إلى ابتدائها وكسرها وهو اللام إذا كانت بعدها. ونظير ذلك قولهم: " إن خيرا فخير وإن شرا فشر ". نصبت " خيرا " و " شرا " بإضمار فعل تقديره: إن كان خيرا وإن كان شرا. وإنما اضمرت الفعل وحملته عليه إذ لم يجز أن تبتدئ الكلام بعد " إن " كما ابتدأت في الأول حين قلت لم يجز أن يحمل الكلام على الفعل إذا قلت: علمت إنّ زيدا لقائم " وعلمت لزيد قائم ". وكذلك: علمت أيّهم في الدّار وكذلك حملت ما بعد " أما " على الفعل إذا لم يجز الابتداء بعدها. لأنها في تأويل " إن كنت منطلقا " وهي المخففة التي الفعل الماضي والمستقبل بعدها معها كالمصدر وقد ذكر " إما " في موضعها. قال أبو سعيد: في " لهنك " ثلاثة أقوال: أحدها: قول سيبويه: أن أصلها " أن " أبدلوا همزتها هاء كما أبدلوا " الهاء " من هرقت مكان " ألف " أرقت ولحقت اللام التي قبل الهاء لليمين. كما لحقت " ما " حين قلت: " أن زيدا لمّا لينطلقّن " فلحقت " أن " اللام في اليمين كما لحقت بعد " ما " فاللام الأولى في " لهنك " لام اليمين. واللام الثانية " لام إن ". وفي: لمّا لينطلقن " اللام " الأولى " لأن " والثانية لليمين. والدليل على ذلك: النون التي معها. وذكر سيبويه أن هذه الكلمة يقولها بعض العرب. وشبه دخول اللام على " أن " لليمين. وإن كان بعدها " أن " وهي للتوكيد بدخول لام اليمين في آخرها وإن كان قبلها " لمّ " وهي للتوكيد. وقد يجتمع الحرفان في معنى واحد فيؤكد أحدهما الآخر كقولهم: ما إنّ زيد قائم وهما حرفا جحد. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 7.

والثاني: قول الفراء: هذه من كلمتين كانتا يجتمعان كانوا يقولون: والله أنك لعاقل فخلطتا فصار فيهما اللام والهاء من " الله " والنون من " أن " المشددة وحذفوا ألف " أن " كما حذفوا الواو من أول " والله ". وأنشد في " لهنك " قول الشاعر: لهنك من عينيه لوسيمة … على هنوات كاذب من يقولها (¬1) وقال: لهن خباء لا قعيدة تحته … سوى لمسترخى الحبال خفوق (¬2) تطيف به شدّ النّهار ظعينة … طويلة أنقاء اليدين سحوق يقول: ليس لي أقل يعينني عليه فليس يكون شده محكما وخفوق: مضطرب. شد النهار: ارتفاعه والأنقاء جمع نقى وهو كل عظم فيه مخ والنقى أيضا هو " المخ " و " سحوق " طويلة. الثالث: حكاه المفضل بن سلمة (¬3) لغير الفراء معناه: أنك لمحبس. قال: وهذا أسهل في اللفظ وأبعد في المعنى. والذي قاله الفراء أصح في المعنى لأن قول القائل: (والله أنك لقائم) أصح من: " لله أنك لقائم " واللام في الجواب دليل على القسم وقولهم: تعجب. والتعجب لا يدخل معه " إنّ " وذلك أن التعجب وضع لما هو قائم ولما قد مضى كقولك: ما أحسن زيدا. فيما هو قائم وما أجمل ما فعل فيما قد مضى. قال: وإن للاستقبال لا غير وضعت ثم كثرت حتى صارت للواجب على معنى الواجب. قال أبو سعيد: هذا حكاية كلام المفضل بن سلمة. ¬

_ (¬1) البيت في خزانة الأدب: 4/ 336، الهمع: 1/ 141. (¬2) البيت في اللسان: (سحق). (¬3) هو أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم، كان لغويّا فاضلا كوفي المذهب، أخذ عن أبي عبد الله بن الأعرابي وله كتب كثيرة منها (معاني القرآن. البارع في علم اللغة، وكتاب الاشتقاق، كتاب المقصور والممدود). توفي 290 هـ تقريبا. معجم الأدباء: 19/ 163، بغية الوعاة 296، وفيات الأعيان: 1/ 460.

وقوله: " وقد يجوز في الشعر: أشهد أن زيدا ذاهب بقوله: والله أنه ذاهب "؛ لأن معناه معنى اليمين. قال أبو سعيد: قد يستعمل بمعنى اليمين يقال: أشهد لأخرجن، و " أشهد بالله لأخرجن ". وقد ذكره أهل العراق في كتاب " الأيمان " وقالوا: " إذا قال أشهد وأشهد بالله وأحلف وأحلف بالله أو أقسم وأقسم بالله. فهو كله سواء في صحة اليمين فإذا أتى بشيء من ذلك فعليه كفارة إذا حنث فيه. والغالب في الكلام أن " أشهد " يذهب بها مذهب الباء إذا وقعت ولم يكن في خبرها " اللام " كقولهم في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. وإذا ذهبوا بها مذهب اليمين أتوا لها بجواب فإذا كسروا أتوا باللام كقوله عز وجل: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (¬1) وأتوا " باللام " في الجواب كقولك: أشهد لأخرجن. وقد رد أبو العباس المبرد على سيبويه إجازته في الشعر: أشهد إنّ زيدا ذاهب. فقال: ليس للضرورة في " أن " و " إن " عمل. لأن وزنهما واحد. والقافية بهما سواء فهما في الشعر سواء. قال أبو سعيد: وجه الضرورة أن تريد اليمين. ولا تجعل في خبرها اللام ولا تتلقاها باللام ولا يفتحها وهو يريد اليمين. لأن فتحها إنما يكون إذا أراد بها معنى الباء كنحو ما ذكرنا: أشهد أن محمدا رسول الله. وقد أجاز سيبويه كسر " إنّ " بعد " علمت " من غير لام في قولك: علمت أن زيدا ذاهب. على: تأويل اللام وحذفها وشبه حذفها بحذف اللام من قوله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (¬2)، وتقديره: لقد أفلح لأنه جواب وَالشَّمْسِ وَضُحاها (¬3) واستضعف حذف اللام في: " أن زيدا ذاهب " وليس حذفها بضعيف في قوله: " قد أفلح من زكاها ". لأن ما قبلها من طول الكلام عوض. وهو ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬2) سورة الشمس، الآية: 9. (¬3) سورة الشمس، الآية: 1.

وباقي الكلام مفهوم من لفظ سيبويه هذا باب «أن» و «إن»

ضعيف في: " إنك " لأنه ليس قبله ما يكون عوضا. وقد أجازه أبو العباس على كلامين. كأنه قال: " وقد علمت ... " ثم ابتدأ فقال " أن زيدا ذاهب " وهذا ضعيف. وباقي الكلام مفهوم من لفظ سيبويه هذا باب «أنّ» و «إنّ» فأن مفتوحة تكون على وجوه: فأحدهما: أن تكون " أن " وما تعمل فيه من الأفعال بمنزلة مصادرها. والآخر: أن تكون فيه بمنزلة " أي ". ووجه آخر: تكون فيه مخففة من الثقيلة. ووجه آخر: تكون فيه لغوا نحو قولك: لما أن جاء وأما والله أن لو فعلت. وأما أن فتكون للمجازاة وتكون " أن " يبتدأ ما بعدها في معنى اليمين وفي اليمين كما قال الله عز وجل: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (¬1)، ووَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (¬2)، وحدثني عن رجل من أهل المدينة موثوق به أنه سمع عربيا يتكلم بمثل قولك: " أن زيدا لذاهب " وهي التي في قوله عز وجل: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (¬3). وهذه " أن " محذوفة. وتكون بمنزلة " ما " قال الله عز وجل: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (¬4). وتصرف الكلام إلى الابتداء كما صرفتها " ما " إلى الابتداء وذلك قولك: ما أن زيد ذاهب. قال الشاعر: وما إن طبنا جين ولكن … منايانا ودولة آخرينا (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الطارق، الآية: 4. (¬2) سورة يونس، الآية: 32. (¬3) سورة الصافات، الآيتان: 167، 168. (¬4) سورة الملك، الآية: 20. (¬5) الخزانة: 2/ 121، الكتاب: 2/ 305، الهمع: 1/ 123، الحماسة البصرية: 2/ 416.

قال أبو سعيد: أما " أن " الداخلة على الأفعال فتنصب المستقبل منها وتكون معها بمنزلة المصدر فهي تدخل على الماضي والمستقبل كقولك: " أعجبني أن دخلت الدار ". و " تعجبني أن تزورنا " ولا تقع للحال. وقد ذكرت في غير موضعها. وأما " أن " التي بمعنى " أي " فهي نائبة عن القول وتأتي بعد فعل في معنى القول وليس بقول. كقولك: كتبت إليك أن قم. تأويله: قلت لك: قم. ولو قلت لك: أن قم لم يجز. لأن القول يحكي ما بعده. ويؤتى بما بعده باللفظ الذي يجوز وقوعه في الابتداء. وما كان في معنى القول وليس بقول فهو يعمل وما بعده ليس كالكلام المبتدأ وهذا الوجه في " أنّ " لم يعرفه الكوفيون ولم يذكروه. وعرفه البصريون وذكروه. وسموه " أن " التي للعبارة وحملوا عليه قوله عز وجل: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا (¬1)، وفي تقديره وجهان: أحدهما: انطلقوا. فقال بعضهم لبعض " امشوا واصبروا " وذلك أنهم انصرفوا عن مجلس دعاهم فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد لله عز وجل وترك الآلهة دونه وصار " انطلق الملأ منهم " لما اضمروا القول بعده بمعنى: فعل يتضمن القول نحو: كتب واشباهه. والوجه الآخر: أن يكون " انطلقوا " بمعنى " تكلموا " كما يقال: انطلق زيد في الحديث كأن خروجه عن السكوت إلى الكلام هو الانطلاق. ويقال في " امشوا " أي: اكثروا ونموا. والمشاء: النماء. وأمشيت الماشية ماشية. وأهل الكوفة جعلوا " أن " في موضع نصب بإسقاط الخافض وهو " الباء " كأنه قال: وانطلقوا بالمشي وحقيقته: أي قال بعضهم لبعض " أمشوا " وقد ذكر كونها بعض الثقيلة وأحكامها وزيادتها. وأما " أن " المخففة التي للإيجاب فهي مخففة عن الثقيلة فإن بقيت أعمالهم لم يحتج إلى " اللام " كما لا يحتاج في الثقيلة كقولك: أن زيدا قائم وإن شئت أدخلت اللام فقلت: أن زيدا لقائم ولا تدخل إلا على اسم وخبر. وإن خففتها ولم تعملها لزمت " اللام " فيما بعدها للدلالة على الفرق بينها وبين " أن " في معنى الجحد ودخلت على الاسم والفعل فالاسم كقولك: أن زيد لذاهب والفعل ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 6.

أن قام لزيد ومنه قوله عز وجل: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (¬1)، وقوله عز وجل: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (¬2). وأهل الكوفة يذهبن في " أن " إلى أنها بمعنى " ما " وفي اللام إلى أنها بمعنى " ألا " وتأولوا قول الشاعر: شلت يمينك إن قتلت لمسلما … وجهت عليك عقوبة المتعمّد (¬3) إلى أن معناه: ما قتلت إلا مسلما. قال أبو سعيد: هذا التقدير وإن كان يصح معناه هذا الموضع فحقيقة الكلام أن اللام دخلت على التوكيد ولزمت للفصل بينها وبين " أن " التي بمعنى " ما " ولا نعلم " اللام " تستعمل بمعنى " إلا " ولو جاز ذلك جاز أن تقول: " جاءني القوم لزيد " بمعنى: إلا زيدا. مذهب سيبويه أن دخول " أن " بعد " ما " يبطل عمل " ما " في قول أهل الحجاز وبهذا يرد قول أبي العباس المبرد: " أن " وحدها لو دخلت على اسم وخبر لعملت كعمل (ما) نحو أن زيد قائما فلو كانت تعمل وحدها لما أبطلت عمل " ما " بل كانت تؤكد عملها. وأهل الكوفة يذهبون إلى أن " أن " إذا دخلت على " ما " وهما حرفا جحد ترادفا على الجحد كما يترادف حرفا التوكيد على الشيء كقولهم " أن زيدا لقائم ". وأهل البصرة يجعلون " أن " بعد " ما " زائدة لأنها لو لم تكن زائدة كانت جحد وجحد الجحد إيجاب وليس التوكيد بجحد. وجعل سيبويه إبطال " أن " لعمل " ما " في قول أهل الحجاز كإبطال " ما " عمل " أن " في قولك: " أنما زيد أخوك " لأن كل واحدة منهما أبطلت عمل ما قبلها وصار ما بعدها مبتدأ وخبرا. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 108. (¬2) سورة الصافات، الآيتان: 167، 168. (¬3) البيت لعاتكة بنت زيد ترثي زوجها الزبير بن العوام وقد قتل في موقعة الجمل. الخزانة: 1/ 24، ابن يعيش: 8/ 71، شواهد المغني للسيوطي: 1/ 71، العيني: 2/ 478.

هذا باب من أبواب «أن» التي تكون الفعل بمنزلة المصدر

هذا باب من أبواب «أن» التي تكون الفعل بمنزلة المصدر تقول: أن تأتيني خير لك كأنك قلت: الإتيان خير لك ومثل قوله عز وجل: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (¬1)، يعني: الصوم خير لكم قال عبد الرحمن بن حسان:- أني رأيت المكارم حسبكم … أن تلبسوا حر الثياب وتضيعوا (¬2) كأنه قال: رأيت حسبكم لبس الثياب. واعلم أن " اللام " ونحوها من حروف الجر قد تحذف من " أن " كما حذفت من " إن " وجعلوها بمنزلة المصدر حين قلت: " فعلت ذاك حذر الشر " أي: لحذر الشر ويكون مجرورا على التفسير الآخر. ومثل ذلك قولك: إنما انقطع إليك أن تكرمه أي لإكرامه ومثل ذلك قوله: لا تفعل كذا وكذا أن يصيبك أمر تكرهه كأنه قال: لأن يصيبك أو: من أجل أن يصيبك وقال عز وجل: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما (¬3)، وقال عز وجل: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (¬4). كأنه قال: لإن كان ذا مال. وقال الأعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضربه … ريب المنون ودهر مفسد خبل (¬5) " فأنّ " هاهنا حالها في حذف حرف الجر كحال " أن " وتفسيرها كتفسيرها. وهي مع صلتها بمنزلة المصدر من ذلك قولك: أئتني بعد أن يقع الأمر. وأتاني بعد أن وقع الأمر كأنه قال: بعد وقوع الأمر. ومن ذلك قوله: " أما أن أسير إلى الشام فما أكرهه ". " وأما أن أقيم فلي فيه أجر " كأنه قال: أما السيرورة فما أكرهها. وأما الإقامة فلي فيها ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 184. (¬2) البيت لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت. الخزانة: 2/ 104، الهمع: 2/ 3، الأعلام: 4/ 74. (¬3) سورة البقرة، الآية: 182. (¬4) سورة القلم، الآية: 14. (¬5) البيت بديوان الأعشى: 120، المقتضب: 1/ 292.

أجر. وتقول: لا يلبث أن يأتيك " أي ": لا يلبث عن إتيانك وقال عز وجل فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا (¬1)، (فأن) محمولة على (كان) كأنه قال:- " فما كان جواب قومه إلا قول كذا وكذا ... " وإن شئت رفعت الجواب فكانت (أن) منصوبة. وتقول " ما منعك أن تأتينا ". أراد من إتياننا فهذا على حذف حرف الجر. وفيه ما يجيء محمولا على ما يرفع وينصب من الأفعال تقول: قد خفت أن يفعل. وسمعت عربيا يقول: أنعم في أن تشده أي بالغ في أن يكون ذلك هذا المعنى و (أن) محمولة على " أنعم ". وقال عز وجل: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (¬2)، ثم قال " أن " يكفروا على التفسير كأنه قيل له: ما هو فقال: أن يكفروا. وتقول أني مما أن أفعل ذاك. كأنه قال: أني من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك فوقعت " ما " هذا الموقع كما تقول العرب: " بئسما " يريدون: بئس الشيء. وتقول: ائتني بعد ما يقول ذاك. كأنك قلت: (ائتني) بعد قولك ذاك. القول كما أنك إذا قلت: بعد أن تقول. فإنما تريد: ذلك. ولو كانت " بعد " مع " ما " بمنزلة كلمة واحدة لم تقل: من بعد ما يقول ذاك القول. ولكانت " الدال " على حالة واحدة. وإن شئت قلت: أني مما أفعل فيكون " ما " مع " من " بمنزلة كلمة واحدة نحو: ربما. قال أبو حية النميري: وأنّا لمّا نضرب الكبش ضربة … على رأسه تلقى اللّسان من الفم (¬3) وتقول إذا أضفت إلى " أن " الأسماء: " أنه أهل أن يفعل " وإن شئت قلت أنه أهل أن يفعل، ومخافة أن يفعل: إنه أهل لأن يفعل ومخافة لأن يفعل فهذه الإضافة كإضافتهم بعض الأشياء إلى " أن " قال الشاعر: ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 56. (¬2) سورة البقرة، الآية: 90. (¬3) المقتضب: 4/ 174، الخزانة: 4/ 282، والمغني: 1/ 311.

تظلّ الشّمس كاسفة عليه … كآبة أنها فقدت عقيلا (¬1) وتقول: أنت أهل أن تقول. (أهل) عاملة في " أن " كأنك قلت: أنت مستحق أن تفعل. وسمعنا فصحاء العرب يقولون: لحق أنه ذاهب فيضيفون. كأنه قال: ليقين ذاك أمرك. وليست في كلام كل العرب. و " أمرك " هو خبر هذا الكلام لأنه إذا أضاف لم يكن كقولك: لحق ذاك من خبر. وإنما قبحه عندي حذف الخبر. ألا ترى أنك لو قلت لعبد الله فأضمرت الخبر لم يحسن. ولا يبعد خبر مثل هذا أن يضمر وتقول: أنه خليق لأن " يفعل " وأنه خليق أن يفعل " على حذف " وتقول: عسيت أن تفعل. فإن هاهنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل أي قاربت ذاك. وبمنزلة: دنوت أن تفعل. وأخلولقت السماء أن تمطر أي: لأن تمطر. وعسيت بمنزلة أخلولقت السماء ولا يستعملون المصدر هاهنا كما لم يستعملوا الاسم الذي الفعل في موضعه كقولك: " بذي تسلم " لا يقولون عسيت. ونقول: " عسى أن يفعل ". وعسى أن يفعلا و " عسى أن تفعلوا " " فعسى " محمولة عليها " أن " كما تقول: دنا أن يفعلوا وكما قال: أخلولقت السماء أن تمطر. وكل هذا تكلم بها عامة العرب وكقوله " عسى " الواحد والجمع والمؤنث تدل على ذلك. ومن العرب من يقول: " وعسيا " و " عسوا " وعست " وعستا " و " عسين ". فمن قال ذلك كانت " أن " فيهن بمنزلتها في: " عسيت " في أنها منصوبة. وأعلم أنهم لم يستعملوا " عسى فعلك " " واستغنوا بأن تفعل " عن ذلك. كما استغنى أكثر العرب (بعسى) عن أن يقولوا: عسيا وعسوا. وبلو " أنه ذاهب " عن " لو ذهابه ". ومع هذا أنهم لم يستعملوا المصدر في هذا الباب كما لم يستعملوا الاسم الذي في موضعه " يفعل " في عسى. وكاد. (يعني أنهم لا يقولون: عسى فاعلا ولا: كاد فاعلا) فترى هذا ومن كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء. واعلم من العرب من يقول: " عسى يفعل " لشبهها يكاد يفعل. " فيفعل " حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قولك: " عسى الغوبر أبؤسا فهذا مثل من أمثال العرب أجروا ¬

_ (¬1) انظر العيني: 2/ 241.

فيه " عسى " جرى " كان ". قال هدبة: (¬1) عسى الهمّ الذي أمسيت فيه … يكون وراءه فر قريب وقال آخر: عسى الله يعني عن تلاد ابن قادر … بمنهمر جون الرباب سكوب (¬2) وقال:- فأما كيس فنجا ولكن … عسى يغتر بي حمق لئيم (¬3) وأما " كاد " فلأنهم لا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال كما ذكرنا في الأجزاء التي تليها. ومثله: جعل يقول لا يذكرون الاسم هنا. ومثله: أخذ يقول ... والفعل هنا بمنزلة الفعل في " كاد " إذا قلت: كاد يقول. وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته وهو ثم خبر كما أنه هنا خبر إلا أنك لا تستعمل الاسم فأخلصوا هذه الحروف للأفعال كما خلصت حروف الاستفهام للأفعال نحو: " هلا " و " إلا " وقد جاء في الشعر: كاد أن يفعل. شبهوه " بسعى ". قال رؤبة: قد كاد من طول البلى أن يمصحا (¬4) وقد يجوز في الشعر أيضا: " لعلى أن أفعل " بمنزلة: عسيت أن أفعل. وتقول يوشك أن تجيء وأن محمولة على يوشك وتقول: توشك أن تجيء. فإن في موضع نصب كأنك قلت: قاربت أن تفعل. وقد يجوز (بمنزلة: عسى يجيء قال أمية بن ¬

_ (¬1) هو لهدبة بن الخشرم العذري يكنى أبا سليمان. انظر الخزانة: 4/ 81، العيني: 2/ 184، الهمع: 1/ 130. (¬2) هو لهدية بن الخشرم. انظر المقتضب: 2/ 48، ابن يعيش: 3/ 188، الكتاب: 2/ 269، التصريح: 2/ 351. (¬3) لم يعرف قائله. انظر الخزانة: 4/ 82، المحتسب: 1/ 119. (¬4) ملحقات ديوانه 172، المقتضب: 3/ 75، ابن يعيش: 7/ 121، العيني: 2/ 15، الهمع: 1/ 130.

أبي الصلت: يوشك من فر من منيته … في بعض غراته يواقعها (¬1) فهذه الحروف التي هي للتقريب شبيهة بعضها ببعض ولها نحو ليس لغيرها من الأفعال. وسألته عن معنى قوله: " أريد لأن أفعل " فقال: أنما يريد أن يقول: " إرادتي لهذا " كما قال عز وجل: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (¬2) إنما هو: أمرت لهذا. وسألته عن قول الفرزدق: أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا … جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم (¬3) فقال: " أن " لأنه قبيح أن يفصل بين " أن " والفعل كما قبح أن يفصل بين " كي " والفعل. فلما قبح ذلك ولم يجز حمل على " أن " لأنه قد تقدم فيها الأسماء قبل الأفعال. قال أبو سعيد: قوله (¬4) أني رأيت من المكارم حسبكم … أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا رأيت: من رؤية القلب. وحسبكم: المفعول الأول، وأن تلبسوا: المفعول الثاني. وقوله: من المكارم: بمنزلة الظرف لرأيت وليس من المفعولين في شيء. وهو كذلك: " حسبت في الدار زيدا خارجا ". أي وقعت محسبتي في الدار. ويجوز أن يكون على التبيين كأنه قال: رأيت حسبكم. من المكارم ثم قدم: " من المكارم " على معنى: أعني من المكارم. كما قال عز وجل: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ (¬5)، كأنه قال: أعني من الأوثان لأن الرجس يكون من الأوثان وغيرها وكذلك " حسبكم " يكون من المكارم وغيرها. وحذف حرف الجر من " أن " مطرد في جميع الكلام لأن " أن " وما بعدها من الفعل ¬

_ (¬1) ديوانه: 42، العيني: 2/ 178، الهمع: 1/ 129. (¬2) سورة الزمر، الآية: 12. (¬3) ديوان الفرزدق: 855، الخزانة: 3/ 655، الهمع: 2/ 19. (¬4) هو عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. (¬5) سورة الحج، الآية: 30.

والفاعل بمنزلة المصدر فحذف حرف الجر لطول الاسم. وحذف اللام مطرد من المفعول له إن كان ب " أن " أو بلفظ المصدر كقولك: فعلت هذا لإكرام " زيد ". وفعلته أن أكرم زيدا ومعناه كله: فعلته من أجل إكرام زيد. ولإكرام زيد. وهو المفعول له. وأما قوله تعالى: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (¬1)، أن كان ذا مال. ويقرأ: أنّ كان ذا مال بغير استفهام والمعنى في القراءتين بمعنى اللام تقديره: ألأن كان. وبغير استفهام: لأن كان. وفي اللام قولان: أحدهما: ألأن كان ذا مال وبنين تعلمه؟ ويقوى هذا أنها في قراءة: عبد الله: ولا تطع كل حلاف يبين إن كان ذا مال وبنين أي: لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين. والوجه الآخر: ألأن كان ذا مال وبنين. إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (¬2)، يكون اللام في موضع نصب بإضمار فعل بعده بمعنى: قال أساطير الأولين ومعناه: ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا هي أساطير الأولين. لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأما قول الأعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضربه … ريب المنون ودهر مفسد خبل (¬3) فمعناه: ألأن رأت رجلا أعشى أضربه. وقد حمل بعض أصحابنا اللام على صلة قوله: قالت هريرة لما جئت زائرها … ويلي عليك وويلي منك يا رجل (¬4) قال أبو سعيد: لا أستحب هذا التفسير لأن: (قالت هريرة ...) بعد " أأن " رأت رجلا ... " بأبيات كثيرة. وإن كان يمكن أن تحمل تلك الأبيات على أنها اعتراض في الكلام. ¬

_ (¬1) سورة القلم، الآية: 14. (¬2) سورة القلم، الآية: 15. (¬3) ديوانه: 120. (¬4) ديوانه: 55.

والأجود أن يضمر بعد البيت فعل يدل عليه ما قبله. والذي قبله:- صدّت هريّرة عنّا ما تكلمنا … جهلا بأيام خليد حبل من تصل (¬1) والفعل المفسر: أأن رأت رجلا أعشى صدت: وجاز إضماره لتقدم ذكره. ومثله في الكلام أن يقول الرجل لمن يوبخه:- " سعيت في مكارهي وأذيتني لأن أحسنت إليك "؟ ومعناه مفهوم وإن حذف. ويقوى هذا أنه يروي: " من أن رأت رجلا ". وأنما احتيج إلى تطلب هذه الوجوه لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وليس يتصل به ما بعده وما تكون " اللام " في صلته. وقولك: ما منعك أن تأتينا. وتقديره: من أن إتيانك. وقد يجوز حذف حرف الجر في " أن " ولا يجوز مع المصدر كقولك: وجلت أن يأتي زيد ورغبت أن أصبحت أخاك. ووجلت من أن يأتيني زيد ولو جعلته مصدرا لم يجز حذف الجار منه لا تقل: وجلت إتيان زيد. ولا رغبت صحبة أخيك. حتى تقول: من إتيان زيد. وفي صحبة أخيك وأما قوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا (¬2) ف " أن يكفروا " في موضع رفع ظاهر كلامه. وموضعه كموضعه في قولك: بئس رجلا زيد. و" ما " في معنى " شيئا ". واشتروا به " نعت لما " وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج في معنى الآية. (¬3) وقال الفراء: " أن يكفروا " يجوز أن يكون في موضع خفض ورفع. فأما الخفض: فإن تردها على الهاء في " به " يذهب إلى أن " ما " بمعنى " الذي " وهي موصولة بقوله اشتروا به أنفسهم. " وأن تكفروا " بدل من الهاء. فيصير أيضا في صلة " ما " وتسمى " بئسما " في هذا الوجه مكتفية. لأن تقديرها: بئس الذي اشتروا به أنفسهم. والكلام تام. وليس بمنزلة قولك: " بئس الرجل ". لأن الكلام لا يتم حتى تقول بئس الرجل عبد الله. ويتم بقولك بئس ما صنعت. وبئس ما اشتريت به نفسك. ولا يحتاج بعده إلى اسم مرفوع يبين به. " ما " بعد " بئس " هذا قول الفراء. ¬

_ (¬1) البيت هو التاسع من القصيدة نفسها. (¬2) سورة البقرة، الآية: 90. (¬3) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/ 146، 147.

ولم يجز الفراء " بئسما صنيعك " و " ساء ما صنيعك " على أن تجعل " ما " بمنزلة " شيئا " أو بمنزلة " الشيء " ويجعل " صنيعك " بمنزلة " زيد " في قولك بئس شيئا زيد وأجازه على تأويل آخر: إذا جعلت ما بعد " بئس " بمنزلة " إذا " بعد (حب) فتقول: " بئس ما صنيعك " كما تقول " حبذا صنيعك " وفصل بين هذا والأول. لأن بئس الرجل زيد مرفوع عند الفراء بشيء ناب عنه بئس. أو قام مقامه وأصله: رجل بئس زيد " فرجل " رفع بزيد وزيد " رفع به " ثم حذفوا " رجل " وأظهروا الضمر الذي في " بئس ": فقالوا: بئس الرجل. فناب " بئس " عن " الرجل " ورفع زيدا. ورفع " الرجل " كما يرفع الفعل فاعله ف " نعم " رافع عند الفراء للرجل ولزيد جميعا. وإذا جعلهما وما بعدها بمنزلة " حبذا " فزيد " مرفوع بحبذا " كما هي. وعلى هذا الوجه جعل الفراء قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا (¬1)، و " حبذا " بمنزلة اسم يرافعه " زيد ". وليس (لذا) موضع عنده. و " ذا " كبعض حروف الكلمة الذي لا موضع له. وقد أجاز الفراء أن تكون " ما " زائدة في " نعم وبئس " وإذا كانت كذلك صارت " ما " كأنها ليست في الكلام ويكون ما بعدها كما بعد نعم وبئس. وتقول بئسما رجلا زيد. وبئسما رجلين الزيدان. وقال الكسائي: ما بعد " نعم وبئس " بمنزلة اسم تام فإذا كان بعده اسم فهو بمنزلة " زيد " بعد " نعم الرجل ". وإذا كان بعده فعل. كان فيه إضمار " ما " أخرى وذلك قولك في الاسم: نعم ما صنيعك وبئس ما كلامك: نعم شيئا صنيعك وبئس شيئا صنيعك وبئس شيئا كلامك. ومثله من كلام العرب: " بئسما تزويج ولا مهر " كأنه قال: بئس الشيء تزويج بغير مهر. وفي الفعل: بئسما صنعت. أضمر " ما " أخرى قبل " صنعت " تقديره بئسما ما صنعت كأنك قلت: بئس شيئا شيء صنيعك. والدليل على ذلك: أن " ما " دخلت عليه " نعم " ولم توصل. ولم توصف في قوله عز وجل: فَنِعِمَّا هِيَ (¬2) وقول القائل: غسلته غسلا نعما يعني به: نعم الغسيل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 271. (¬2) المصدر السابق.

وإذا قال بئسما صنعت فتقديره: بئسما ما صنعت، بمعنى: بئس الشيء أو بئس شيئا شيء صنعت " فما " الثانية مذكورة قد وصفتها (بصنعت) تريد: صنعته وحذفت الموصوف وأقمت الصفة مقامه كما حذف وقدر في قوله: أمن يهجو رسول الله منكم … وينصره ويمدحه سواء (¬1) بمعنى: ومن ينصر. على أن " من " نكرة حذفت وأقيمت صفتها مقامها. وكان ذلك أسهل من حذف الموصول. وذكر سيبويه: أنهم سمعوا فصحاء العرب يقولون: لحق أنه ذاهب بإضافة " حق " إلى " أنه ... " وإضافتها توجب أنه اسم واحد وهو مبتدأ وخبره محذوف. ومثله سيبويه: بقوله: ليقين ذاك أمرك. وذكر الأخفش أنه لم يسمع ذلك من العرب وأن الذي يقبحه حذف الخبر ثم أجازه وقال: لا يبعد خبر مثل هذا أن يضمر. وإنما مثله سيبويه بيقين ذاك أمرك لأن قولك: زيد منطلق بنا و " يقينا ... " فمقارب معناه. وحق أنه ذاهب في التقدير: حق ذهابه ومعناه: ذهابه حق صحيح. وحسن حذف خبره لتضمن الأول الاسم والخبر كما حسن حذف خبر حسبت أن زيدا قائم استغنى: " حسبت " عن الخبر يتضمن " أن " الاسم والخبر. وذلك أن الاعتماد على " أن " وقد تضمنت الاسم والخبر. ومعنى خليق لأن تفعل. معناه: متهيئ للفعل بما يظهر من الإمارة الدالة على كون ذلك منه فيما بعدها. فاحتاجت " أن " للاستقبال وإلى " اللام " لأن معناه: متهيئ لهذا الفعل. وإذا قلت: أخلولقت السماء لأن تمطر. لما ظهر فيها من الغيم الندى، الندى الذي يغلب على الظن أن المطر فيه. وإذا حذفت اللام من " أن " جاز لما ذكرت لك. ولا يجوز حذفها من المصدر. وتقول: " هو خليق أن يفعل " على معنى " لأن يفعل " ولا تقول: خليق الفعل بمعنى: للفعل. وكذلك: أخلولقت السماء أن تمطر ولا يحسن: أخلولقت السماء المطر. ومثله: دنوت أن تفعل ومعناه: دنوت من أن تفعل فإذا رددته إلى المصدر قلت: دنوت من الفعل ولا نقل: دنوت الفعل. وحذف ¬

_ (¬1) البيت لحسان بن ثابت ديوانه: 9. المقتضب: 2/ 137، المغني: 2/ 625، الأشموني: 1/ 174، العقد الفريد: 5/ 295.

حرف الجر من " أن " لطوله على ما ذكرت لك. وأما عسى فإنها موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال فاحتاجت لذكر " أن " للدلالة على المستقبل كقولك: عسى زيد أن يفعل وعسى السماء أن تمطر كما تقول: أنه خليق أن يفعل واخلولقت السماء أن تمطر. ولا يجوز: عسى زيد الفعل. ولا: عسى زيد للفعل. كما تقول: زيد خليق للفعل وأخلولقت السماء للمطر. فإن قيل: فما الفصل بينهما ومذهبهما في الاستقبال واحد؟ والفصل بينهما أن " خليق " وما جرى مجراه من: " فمن " و " حرى " أسماء فاعلين ولها أفعال تتصرف في المضي والاستقبال. أشبهت باب " مريد " و " محب " و " مشته ". فقيل: خليق للفعل كما قيل: مريد له. ومحب له. ومشته له. وليس كذلك " عسى " لا مستقبل له. ولا اسم فاعل ولا مصدر. وأيضا فإن " خليق " وبابه شيء موجود وعلامة قائمة في الشيء كالإرادة والشهورة وليس كذلك " عسى ". واعلم أن " أن " تقع بعد هذه الأشياء على وجهين: أحدهما: أن تكون في موضع رفع فاعله. الآخر: أن يتقدم فاعل وتأتي " أن " بعده فتكون في تقدير منصوب تقول إذا كانت " أن " هي الفاعلة: " عسى أن تفعل " و " عسى أن تفعلا " و " عسى أن تفعلوا " و " عسى أن تفعل " و " عسى أن يفعلن " ففاعل " عسى ": أن يفعل و " أن يفعلا " وأن يفعلوا وأخلولق أن تفعلي. وفي هذا الوجه تقول: الزيدان عسى أن يخرجا. والزيدون عسى أن يخرجوا والهندات عسى أن يخرجن والوجه الثاني أن تقول: عسيت أن أفعل. وعسينا أن نفعل. وعسيت أن تفعل وعسيتما أن تفعلا. وعسيت أن تفعلي. والزيدان عسيا أن يفعلا. والزيدون عسوا أن يفعلوا. والهندات عسين أن يفعلن. قال أبو العباس: عند ذكر سيبويه في هذا الفصل: عسيا وعسوا هو الجيد واحتج بقوله عز وجل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ (¬1) وذهب عليه قوله: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 22.

خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ (¬1) ولم يقل: وعسيتم أن تكرهوا. واعلم أن مذهب سيبويه في " أن " بعد " لو ": أنه مبتدأ. منزلتها في التقدير كمنزلتها بعد " لولا " إذا قلت: لولا أنه ذاهب وأنه محذوف الخبر وأنه لا يستعمل في موضع " أن " بعد لو المصدر. كما لا يستعمل بعد " لولا " لأن " لولا " يقع الاسم بعدها. و" لو " لا يقع بعدها الاسم وإنما يقع بعدها الفعل فشبه بها في " أن " وحدها دون الاسم لأن " أن " مشبه بالفعل وليس لفظها لفظ اسم محض. وجاز تشبيه " لو " ب " لولا " في ذلك: لأن " لولا " يليها المبتدأ والخبر و " لو " يليها الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل يؤول معناها إلى شيء واحد. وإنما ذكره سيبويه: لأن " أنه ذاهب " بعد " لو " وإن كان تقديرها تقدير المصدر فلا يجوز وضع المصدر موضعه في اللفظ حجة في أنه لا يجوز ذكر المصدر في: " عسى " مكان " أن " وكذلك " كاد زيد يخرج " و " عسى زيد يخرج " معنى الفعل فيها إذا لم تذكر " أن " مع اسم الفاعل ولا يجوز وضع الفاعل موضعه فيقال: " كاد زيد فاعلا ". لأن من كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء. من يقول من العرب: " عسى زيد " يجرى " عسى " مجرى " كأن " ويجعل الفعل في موضع خبره كأنه قال: عسى زيد فاعلا. كما قيل في المثل: " عسى الغوير أبوسأ ". والباب فيها " أن " لما ذكرت لك. ولا يكاد معرف إسقاط " أن " منها إلا في شعر. والباب في " كاد " إسقاط " أن " لأنك إذا قلت: كاد يفعل. فإنما تقوله لمن هو على تحد لفعلك كالداخل فيه. وسبيل المستقبل أن يكون في كونه مهلة. وقد يجوز في كاد إدخال " أن " تشبيها بعسى. ومما يحتج به لحذف " أن " في (عسى) أن عسى للمستقبل وقد يكون بعض المستقبل أقرب إلى الحال من بعض فإذا قال: عسى زيد يقوم. كأنه من الحال حتى أشبه " عسى " وقد تدخل " أن " على خبر " لعل " إذا كان فعلا. والباب فيه سقوط " أن " لأنه من باب " أن " و (كان). وإنما تدخل " لعل عند الشك ويقول: إن زيدا في الدار متيقنا. يقول إذا كان شاكا. لعل زيدا في الدار. وكذلك يقول المتيقن: إن زيدا يأكل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 216.

ويقول الشاك: لعل زيدا يأكل. وإنما جاز دخول " أن " فيها لأنها شاركت " عسى ". قال الشاعر: لعلّك يوما أن تلم ملمه … عليك من اللائي يدعنك أجدعا (¬1) وكرب يفعل مثل: " كاد يفعل " ومثله مما يكون للفعل مخلصا من الحروف: " أخذ يفعل " و " جعل يفعل " ذهبوا بهذه الأفعال مذهب اسم الفاعل ولم يذهبوا بها مذهب المصادر لأن قولك أخذ زيد يفعل. وجعل يفعل هو داخل في الفعل. فصار بمنزلة " زيد يفعل " إذا كان في حال فعل. وهذا معناه. وقوله: أخذ وجعل تحقيقا لدخوله فيه. ولا يجوز فيها " أن " وكرب لا يمنع معناه من دخول " أن " لأن معناه: قرب أن يفعل. لأنك تقول قربان وكربان. إذا قرب من الابتلاء. ولم أسمع فيه " بأن " وإن كان معناه يحتملها. ويوشك معناه: " يسرع " وهو ضد " يبطئ " ومعنى " أن " فيها صحيحة؛ لأنه بمنزلة " يقرب " و " يبطئ " بمنزلة " يبعد " والذي يقول: يوشك زيد يخرج. بمنزلة (زيد يخرج) وقول سيبويه عند ذكره " كرب " وكاد لما ذكرناه في الكراسة التي تليها. يعني ما ذكره في هذا باب دخول الرفع بعد ابتداء إعراب الأفعال بيسير. وأما قولهم: أريد لأفعل. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (¬2) ففيها وجهان: أحدهما: وهو الأغلب على تأويل أصحابنا: أن الإرادة وقعت على أمر آخر غير مذكور وأن قوله " لأن أفعل " و " لأن أكون أول المسلمين ". بمنزلة المفعول. فكأنه قال: أريد لأن تفعل أنت ما تفعله. وكذلك: أمرت به لأن أكون أول المسلمين. والوجه الثاني: أن تكون اللام توكيدا. أدخلت على المفعول. كما قال الله عز وجل: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (¬3) ولِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (¬4) وعَسى أَنْ يَكُونَ ¬

_ (¬1) هو ابن نويرة (اليربوعي) والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه الذي قتل في حرب الردة على يد خالد بن الوليد. الخزانة: 2/ 433، المقتضب: 3/ 74، ابن يعيش: 8/ 86. (¬2) سورة الزمر، الآية: 12. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 154. (¬4) سورة يوسف، الآية: 43.

رَدِفَ لَكُمْ (¬1) والتأويل فيه كله: الذين هم لربهم يرهبون. والرؤيا تعبرون وردفكم. وقد حكى الكوفيون لغات ذكروا أنها في معنى واحد وهي: أردت أن أقوم. وأردت لأن أقوم. وأردت كي تقوم. وأردت لكي تقوم. وأردت لأقوم. وأردت لكي أن أقوم. وإذا دخل بعض هذه الحروف على بعض كان الاعتماد عندهم في العمل على الأول منها. وما بعده توكيد له. قالوا إذا قلت: جئتك لأكرمك " اللام " هي الناصبة " أكرمك " وإذا دخلت بعد هذه " اللام " كي فالنصب للام و " كي " مؤكدة لها. وإذا انفردت فالعمل لها. وكذلك إن جاءت " أن " بعدها فهي مؤكدة لها. ويجوز أن تأتي بعد " كي " فتكون مؤكدة " لكي " ويجوز أن تأتي بعد اللام " كي أن " فتؤكد بهما. وقد أنشد: أردت لكيما أن تطير بقريتي … فتتركها شنا ببيداء بلقع (¬2) وأما قوله: أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا (¬3) فإن الخليل يختار " إن أذنا قتيبة " بكسر " إن " ولم يخالفه سيبويه. لأن العرب لم تفصل بين " أن " المفتوحة الناصبة للفعل ولم يأت ذلك في كلام ولا شعر. فعدل عن المفتوحة إلى المكسورة وقد أتى الفصل في المكسورة. قال الله عز وجل:- وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ (¬4). وقد رده أبو العباس المبرد. وتوهم أبو بكر مبرمان أنه إذا كسر " إن " فلا يجوز أن تكون أذناه محزوزتين. لأن " إن " توجب الاستقبال. وقد أحاط العلم أن الفرزدق قال هذا الشعر بعد قتل قتيبة وجز أذنيه. وليس الأمر على ما ظناه. وذلك أن العرب قد تعادل وتفاضل بين الفعلين الماضيين في الموافقة. فتستقبل الكلام بهما كقوله عز وجل: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 72. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هو للفرزدق وسبق تخريجه. (¬4) سورة التوبة، الآية: 6. (¬5) سورة الرعد، الآية: 5.

قال الشاعر: (¬1) إن يقتلوك فأن قتلك لم يكن … عارا عليك وبعض قتل عار وقال آخر: (¬2) إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب والمخاطبان مقتولان: والقتل واقع بهما. وقد كسر " إن " وقد قال الله عز وجل: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ (¬3) وقد علم أن قتلهم قد مضى قبل هذا الخطاب. وهذا ونحوه " يقع " على فعل غير هذا الظاهر كأنهم افتخروا بقتله فقال: " إن يفخروا وأبقتلك فأن الأمر كذا وكذا ... " وقوله عز وجل: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ. ووقوفهم على جهة التوبيخ لهم (كما يقول القائل لمن يعنفه بما سلف من فعله فيقول: ويحك لم تكذب؟ لم تبغض نفسك إلى الناس؟ ووبخهم بقتل الأنبياء والفعل لغيرهم لأنهم تولوهم على ذلك ورضوا به فنسب إليهم. وذهب أبو العباس إلى أن: " إن أذناه " بمعنى المشددة ووجه الكلام في: " تغضب " وترضى " بأن " الخفيفة. قال الشاعر: (¬4) أتغضب أن يقال أبوك عف … وترض أن يقال أبوك زان فأشهد أن إلّك من قريش … كإل الرال من ولد الأتان ¬

_ (¬1) هو لثابت قطنة: ثابت بن جابر العتكي من الأزد يكنى أبا العلاء، مات مقتولا في سمرقند سنة 110 هـ. انظر الخزانة: 4/ 85، المغني: 1/ 134، الأغاني: 14/ 279. (¬2) هو لربيعة بن سعد من بني نصر بن قعين يرثي ابنه. انظر دلائل الإعجاز 255، شرح شواهد المغني 119. (¬3) سورة البقرة، الآية: 91. (¬4) الشاعر ابن مفرغ الحميري. انظر الموشح للمرزباني: 421، والبيت في الشعر والشعراء: 1/ 363. برواية. وأشهد أن إلك من زياد … كأل الفيل من ولد الأتان

وباقي الباب مفهوم هذا باب ما تكون فيه «أن» بمنزلة «أي»

ومعنى: أتغضب؟ يعني تغضب قيس من قتل قتيبة بن مسلم ولم تغضب لقتل عبد الله بن خازم السلمي وهما جميعا من " قيس " وقاتلاهما من بني تميم. وإنما يريد الفرزدق بهذا اعلو " بني تميم " على " قيس " والوضع من " قيس " على العجز عن الانتصار وطلب الثأر. وباقي الباب مفهوم هذا باب ما تكون فيه «أن» بمنزلة «أي» وذلك قوله تعالى عز وجل: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا (¬1) زعم الخليل أن " أن " بمنزلة " أي " لأنك إذا قلت: انطلق بنو فلان: أن امشوا فأنت لا تريد أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي ومثل ذلك: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ (¬2). وهذا تفسير الخليل ومثل هذا في القرآن كثير. وأما كتبت إليه أن أفعل. وأمرته أن قم. فيكون على وجهين. على أن تكون (أن) التي تنصب الأفعال. ووصلتها بحرف الأمر والنهي كما وصلت " الذي " يقول وأشباهها إذا خاطبت. والدليل على أنها تكون " أن " التي تنصب أنك تدخل الباء فتقول: أوعز إليه بأن أفعل فلو كانت " أي " لم تدخلها الباء. كما تدخل في الأسماء. والوجه الآخر: أن تكون بمنزلة " أي " كما كانت بمنزلة أي في الأول. وأما قوله عز وجل: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬3). " وآخر قولهم أن لا إله إلا الله " فعلى قوله: أنه الحمد لله. وعلى أنه لا إله إلا الله لا تكون. (أن) التي تنصب الفعل لأن تلك لا يبتدأ بعدها الأسماء ولا تكون " أي " لأنها إنما تجيء بعد كلام يستغنى. ولا يكون موضع المبني على المبتدأ ومثل ذلك: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (¬4) كأنه قال: ناديناه أنك قد صدقت الرؤيا يا إبراهيم. ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 6. (¬2) سورة المائدة، الآية: 117. (¬3) سورة يونس، الآية: 10. (¬4) سورة الصافات، الآيتان: 104، 105.

وقال الخليل تكون أيضا على " أي ". وإذا قلت: أرسل إليه إن ما أنت وذا فهي على: " أي ". وإن أدخلت أي على " أنه " و " أنك " فكأنك قلت: أرسل إليه بأنك ما أنت وذا. ويدلك على ذلك أن العرب قد تكلم به في هذا الموضوع مثقلا. ومن قال: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها (¬1) فكأنه قال: أنه غضب الله عليها. لا تخففها في الكلام أبدا وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرا فيها الاسم فلو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر بكأن إذا خففوا يريدون معنى: " كأن " ولم يريدوا الإضمار وذلك قوله: كأن وريديه رشاء خلب (¬2) وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى " أن " فلما اضطروا إلى التخفيف ولم تضمر لم تغير ذلك أن تنصب بها كما أنك قد تحذف من الفعل فلا يتغير عن عمله. ومثل ذلك قول الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا … أن هالك كل من يحفى وينتعل (¬3) كأنه قال: أنه هالك. ومثل ذلك. أول ما أقول: أن باسم الله. كأنه قال: أول ما أقول أنه باسم الله وإن شئت رفعت في قول الشاعر: كأن وريداه رشاء خلب على الإضمار في قوله: " أنه من يأتها تعطه " أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر كما قال: ويوم توافينا بوجه مقسم … كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم (¬4) ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 9. (¬2) رجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ص 169، الخزانة: 4/ 356، ابن يعيش: 8/ 82، والإنصاف: 198. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) قائل البيت ابن حريم اليشكري واسمه باغث. انظر الكتاب: 1/ 281، الخزانة: 4/ 364، المغني: 2/ 301، والأشموني: 1/ 293.

ولو أنهم إذ حذفوا جعلوه بمنزلة " إنما " كما جعلوا أن بمنزلة " لكن ". لكان وجها قويا. وأما قوله: أن باسم الله فإنما يكون على الإضمار لأنك لم تذكر مبتدأ ومبنيا عليه والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار " الهاء " أنك تستقبح: قد عرفت أن تقول ذلك حتى تقول " لا " أو لا تدخل " سوف " أو السين " أو قد " ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعا بعدها كما تذكره بعد هذه الحروف كما تقول: " ولكن يقول ". قال أبو سعيد: أما قوله عز وجل: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ (¬1) فقد ذكرناه في الباب الذي تقدم قبل هذا وقوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ (¬2) " فأن " بمعنى " أي " وهي تفسير " ما أمرتني ". لأن في الأمر معنى القول. ولو قلت. " ما قلت لهم إلا ما قلت لي أن اعبدوا الله " لم يجز لأنه قد ذكر القول، وإذا قلت " كتبت إليه أن أفعل وأمرته أن قم " ففيه وجهان: أحدهما: أن " أن " وفعل المصدر بعدها بمنزلة المصدر وموضعها نصب أو خفض ومعناه كتبت إليه بأن أفعل. وأمرته " بأن " قم وحذفت الباء. والوجه الآخر: أن تكون " أن " بمعنى " أي " فلا تدخل فيه الباء؛ لأن الباء إذا دخلت صارت " أن " داخلة في الفعل الذي قبلها وهي جملة واحدة وإذا كانت بمعنى " أي " فهي جملة تفسر الجملة التي قبلها. وشبه سيبويه وصل " أن " بالأمر والنهي كوصل " الذي " بفعل المخاطب حين تقول: أنت الذي تفعل وأنت الذي تقول: فإن قال قائل: " الذي " لا توصل بفعل الأمر لا يجوز: الذي قم إليه زيد. فلما جاز وصل " أن " بفعل الأمر؟ قيل له الذي يحتاج إلى صلة هي إيضاح ولا يجوز وصلها بما ليس بخبر من الفعل والجملة ولو وصلتها بالاستفهام أو بغيره مما ليس بخبر لم يجز. ولا يجوز: الذي هل هو في الدار زيد ولا مررت بالذي اللهم ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 6. (¬2) سورة المائدة، الآية: 117.

أغفر له. وأما " أنّ " فإنّها توصل بما يصير معها مصدرا وهو الفعل المحض. سواء كان أمرا أو خبرا لأن المعنى الذي يراد به يحصل فيه. ألا ترى أنك إذا قلت: " أمرت بأن قم " فمعناه: أمرت بالقيام. وأعلم أن " أن " إذا كانت بمعنى " أي " للعبارة فهي محتاجة إلى ثلاثة شرائط. أولها: أن يكون الفعل الذي تفسره أو تعبر عنه فيه معنى القول. وليس بقول. وقد مضى هذا. والثاني: ألا يتصل به شيء من صلة الفعل الذي تفسره لأنه إذا اتصل به شيء منه صار في جملته ولم يكن تفسيرا له. كالذي قدره سيبويه: أوعزت إليه بأن أفعل. والثالث: أن يكون ما قبلها كلام تام وما بعدها جملة تفسر جملة قبلها ومن أجل ذلك كان قوله عز وجل: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬1)، وأخر قولهم: أن لا إله إلا الله بمعنى: " أنه ". ولم يصلح أن يكون بمعنى " أي ". لأن قوله وآخر دعواهم مبتدأ لا خبر معه. فهو غير تام فلا يكون بعده، " أن " بمعنى " أي) وقوله عز وجل: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (¬2) كأنه قال: ناديناه أنك قد صدقت الرؤيا. ومعناه بأنك قد صدقت يا إبراهيم. وأجاز الخليل أيضا على " أن " " لأن " ناديناه كلام تام معناه: قلنا له يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ومثله: (أرسل إليه أن ما أنت وذا) فهي على " أي " وعلى: " أنه " لأنه يحسن فيه الباب وقوله: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها (¬3) تكون " أن " بمعنى: المشددة ولا تكون بمعنى " أي " لأن قوله: (والخامسة) ليس كلام تام. وإذا كانت " أن " بمعنى المشددة ففيها إضمار اسم. وإذا لم يكن ذلك الاسم المضمر مما عرف وجرى ذكره فهو ضمير الأمر والشأن وهذا معنى قوله: " لا تخففها في الكلام أبدا وبعد الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرا فيها الاسم. وإن لم تضمر فيها نصب " بكأن " في قوله: .. كأن وريديه رشاء خلب .. ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 10. (¬2) سورة الصافات، الآيتان: 104، 105. (¬3) سورة النور، الآية: 9.

وإنما اختاروا في " أن " الإضمار لأنها إذا كانت مفتوحة لم تقع أولا في موضع المبتدأ فتجعل ما يليها مبتدأ. وتجعل هي ملغاة (كإنّ) إذا كسرتها وخففت لأن المكسورة تدخل على المبتدأ وتؤكده. فإذا ألغيت ولم تعمل فما بعدها مبتدأ واقع موقعه من الكلام. ومعنى قوله " لنصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر " " بكأن " إذا خففوا يريدون: معنى (كأن) ولم يريدوا الإضمار فإن قال قائل: أي ضرورة إلى النصب تقع والوزن فيه وفي الرفع واحد؟ قيل له: إنما أراد إذا اضطروا إلى التخفيف ولم يريدوا إضمارا. وسبيل ذلك سبيل ما خفف من الفعل في اللفظ ولم يتغير عمله كقولك: " لم يك زيد قائما. ولم يبل زيد عمرا " بمعنى: لم يبال زيد عمرا وقد أجاز " كأن وريداه " ... على الإضمار والنصب " بكأنّ " إذا خففت. وترك الإضمار أقوى من النصب " بأن " إذا خففت لما فيها من معنى التشبيه. فأما النصب " بأن " إذا خفضت فهو قوله عز وجل على بعض القراءات: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ (¬1). وأما " بأن " فقول الشاعر: فلو أنك في يوم اللقاء سألتني … فراقك لم أبخل وأنت صديق (¬2) الكاف في: " أنك " موضعها النصب، وقوله: (كأن ظبية تعطوا). قد حذف منها الاسم وهو ضمير امرأة بعينها قد جرى ذكرها. وأوله: ويوما توافينا بوجه مقسم … كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم وقوله: ولو أنهم إذ حذفوه جعلوه بمنزلة " أنما " كما جعلوا " إن " بمنزلة " لكن " لكأن وجها قويا يعني: لو حذفوا " أن " وأبطلوا عملها في المضمر والمظهر " كأن " إذا خففت لكان وجها قويا وهذا كما قال. ويصير قوله: علمت أن زيد قائم كقولك: علمت أنما زيد قائم. و " أنما " غير عاملة في شيء وزيد قائم مبتدأ وخبر وتصير " أن " بتخفيفها وإبطال عملها بمنزلة: " أنما " وقوله: أول ما أقول أن أحمد الله وأن باسم الله حمله سيبويه على المشددة وإضمار الأمر والشأن لأنه ليس قبله اسم يضمر كما ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 111. (¬2) لم نستدل على قائله، انظر الخزانة: 2/ 465، وابن يعيش: 8/ 73، والإنصاف: 127، وشرح شواهد ابن عقيل: 77.

هذا باب آخر «أن» فيه مخففة

أضمر في: " كأن ظبية " حين ذكر في الكلام الذي قبله ويكون ذلك الاسم الذي يضمر مبتدأ ومبنيا عليه بعد " أنّ " كما تكون بعد " أنما " ومما أستدل به على الإضمار في " أن " المخففة استقباحهم: قد عرفت أن تقول ذاك واستحسانهم: قد عرفت أن لا تقول ذاك. وعرفت أن ستقول فيما لم يكن عوني ولو كانت " أن " من حروف الابتداء " كأنما " و " إنّ " ما استقبحوا الفعل المرفوع بعدها. أ. هـ. هذا باب آخر «أنّ» فيه مخففة وذلك قولك: قد علمت أن لا يقول ذاك وقد تيقنت أن لا يفعل. كأنه قال: أنك لا تقول وأنه لا يفعل ونظير ذلك قوله عز وجل: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى (¬1). وقوله عز وجل: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا (¬2). وقال عز وجل: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (¬3) وزعموا أنها في مصحف " أبى " أنهم لا يقدرون على شيء. وليست " أن " التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع لأن (ذا) موضع يقين وإيجاب .. وتقول: كتبت إليه أن لا يقل ذاك وكتبت إليه أن لا يقول ذاك. وكتبت إليه أن لا يقول ذاك. فأما الجزم: فعلى الأمر، وأما النصب فعلى قولك: لئلا يقول ذاك. وأما الرفع: فعلى قولك: لأنك لا تقول ذاك تخبره بأن ذا وقع من أمره وأما " ظننت " و " خلت " " وحسبت " و " رأيت " فإن " أن " فيها على وجهين: على أنها تكون (أن) التي تنصب الفعل وتكون (أن) الثقيلة فإذا رفعت قلت: حسبت أن لا يقول وأرى أن سيفعل ذاك. ولا تدخل هذه السين في الفعل هاهنا حتى تكون " أنه " وقال عز وجل: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (¬4) كأنك قلت: قد حسبت أنه لا يقول ذاك وأنما حسنت " أنه " هاهنا. لأنك قد أثبت هذا في ظنك. كما أثبته في علمك وأنك أدخلته ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 20. (¬2) سورة طه، الآية: 89. (¬3) سورة الحديد، الآية: 29. (¬4) سورة المائدة، الآية: 71.

في ظنك. على أنه ثابت الآن كما كان في العلم. ولولا ذاك لم يحسن " أنك " هاهنا ولا " أنه " فجرى الظن هاهنا مجرى اليقين لأنه نفيه. وإن شئت نصبت فجعلتهن بمنزلة " خشيت " و " خفت " فتقول ظننت أن لا تفعل. ونظير ذلك: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (¬1)، إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ (¬2)، " فلا " إذا دخلت هاهنا لم تغير الكلام عن حاله وأنما منع " خشيت " أن تكون بمنزلة: " ظننت " و " خلت " و " علمت " إذا أردت الرفع. أنك لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئا قد ثبت عندك ولكنه كقولك: " أرجو " و " أطمع " و " عسى " فأنت لا توجب إذا ذكرت شيئا من هذه الحروف. ولذلك ضعف " أرجو أنك تفعل " و " أطمع أنك فاعل ". ولو قال رجل: " أخشى أن لا تفعل يريد أن يخبر أنه يخشى أمرا قد استقر عنده أنه كائن. جاز وليس وجه الكلام. واعلم أنه ضعيف في الكلام أن تقول: قد علمت أن تفعل ذاك، ولا قد علمت أن فعل ذاك حتى تقول: " ستفعل " " أو قد فعل " أو تنفي فتدخل " لا ". وذلك لأنهم جعلوا ذلك عوضا مما حذفوا من " أنه " فكرهوا أن يدعوا " السين " أو (قد). إذ قدروا على أن تكون عوضا ولا تنقض مما يريدون لو لم يدخلوا " قد " و " السين ". وأما قولهم: أما أن جزاك الله خيرا فإنما أجازوه؛ لأنه دعاء. ولا يصلون إلى " قد " هاهنا ولا إلى " السين ". وكذلك لو قلت: (أما أن يغفر الله) جاز لأنه دعاء ولا تصل هنا إلى السين. ومع هذا أنه قد كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه " أنه " و " أنه " لا يحذف في غير هذا الموضع سمعناهم يقولون: (أما إن جزاك الله خيرا) شبهوه (بأن). فلما جازت " إن " كانت هذه أجوز وتقول: " ما علمت إلا أن تقوم ولا أعلم إلا أن تقوم. وما أعلم إلا أن تأتيه إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئا البتة ولكن تكلمت على وجه الإشارة. كما تقول أرى من الرأي أن تقوم، فأنت لا تخبر بأن قياما قد ثبت كائنا أو يكون فيما تستقبل البتة فلو أراد غير هذا المعنى لقال: " ما علمت إلا ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآية: 25. (¬2) سورة البقرة، الآية: 230.

أن سيقومون " وأنما جاز: " قد علمت أن عمرو ذاهب " لأنك قد جئت بعده باسم وخبر كما يكون بعده لو ثقلته وأعملته فلما جئت بالفعل بعد " أن " جئت بشيء كان سيمتنع بعده لو ثقلته فكرهوا أن يجمعوا عليه الحذف وجواز ما لم يكن يجوز بعده مثقلا فجعلوا هذه الحروف عوضا. قال أبو سعيد: أفعال العلم واليقين والمعرفة وما جرى مجراها من أفعال التحقيق تختص به " أنّ " المشددة الناصبة للأسماء دون " أن " المخففة الناصبة للأفعال. وأنما خصت هذه الأفعال بالمشددة لأن المشددة المفتوحة بمنزلة " إنّ " المكسورة في باب التوكيد والإيجاب، وما اختص بالإيجاب لا يدخل عليه ما ينقض دلالته على الإيجاب، فلم يدخل على " أن " المشددة " رجوت " واشتهيت وبابه. لأن هذه الأفعال يجوز أن يوجد ما بعدها ويجوز ألا يوجد فوقعت على " أنّ " المخففة التي لا توكيد فيها ولا مضارعة لما يوجب التوكيد. ولا ينكر أن تكون هذه الأفعال المحققة تختص ب ألا يدخل عليه باب " رجوت " و " اشتهيت " كما أن لام " التوكيد " و " السين " و " سوف " لا يجامعها جحد. ألا ترى أنك تقول: والله لزيد قائم ولا تقول: والله لما زيد قائم. تريد: " ما " الجحد وكذلك لا يجوز: ما سيقوم وليس سيقوم وكذلك أفعال التحقيق منعت من دخولها على المخففة. وخصت المخففة بالأفعال غير المخففة وهي الأفعال التي يجوز أن يكون مفعولها. ويجوز أن لا يكون كقولك: اشتهيت أن لا يخرج زيد لأن زيدا يجوز أن يخرج ويجوز أن لا يخرج، وقولك: رجوت أن يقدم زيد يجوز أن يقدم، ويجوز أن لا يقدم. واعلم أن من الأفعال ما يكون فيه تأويلان أحدهما: الإيجاب والآخر: غيره فيجيز أن تكون " أنّ " بعدها بالتشديد والتخفيف بتأويل التشديد ورفع الفعل بعده ويجوز أن يكون بعدها (أن) ناصبة للفعل. وذلك " حسبت " و " ظننت " و " خلت " و " رأيت " من رؤية القلب وفيها تأويلان: أحدهما: تأويل العلم واليقين والمعرفة لأن الظان قد أثبت في ظنه ما ظنه واعتقده عنده أنه حق كما يعتقد العالم فيما علمه أنه حق فيجري لفظ ما بعد هذه الأفعال بالتشديد في هذا التأويل. كما يجري في العلم فيقال: حسبت أن زيدا منطلق " وظننت أنك أخونا " وأن خففت وأنت تنوي الشديدة قلت: " قد حسبت أن لا تقول ذلك "

بالرفع وأرى أن سيفعل لأنك تريد: " أنك لا تقول ذاك وأرى أنه سيفعل ولا تكون السين في الفعل حتى تكون بمنزلة: " أنه " لأن " أن " المخففة لا يليها إلّا الفعل الذي تنصبه والماضي. " والسين وسوف " لا تدخل عليهما عوامل الفعل لأن السين وسوف أنما دخلتا على فعل مستقبل يكن فيه الحال والاستقبال فأخلصتاه للاستقبال وعوامل الأفعال لا تكون للحال إنما تكون للاستقبال فلا مدخل لها على " السين " و " سوف " ومثله: قوله عز وجل: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (¬1). والتأويل الثاني في هذه الأفعال: أنها أفعال وقعت في القلب واعتقدها صاحبها بغير دليل ولا برهان وإذا وقف على صورتها وعلم أن ذلك الاعتقاد لما كان بغير دليل جوز أن يكون معتقده، يصح وجوز أن لا يصح. وجوز أن يكون وأن لا يكون فصار بمنزلة " خشيت " و " خفت " وخبر عنها الذي يقف على صورتها باللفظ الذي يستعمله في " خفت " و " خشيت " و " رجوت ". وذلك قولك: ظننت أن لا تفعل ونظير ذلك تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (¬2)، إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ (¬3) ودخول " لا " بعد " أن " لا يغير النصب في قولك: ظننت أن لا تفعل ذلك وفي القرآن لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬4)، وأَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ (¬5). وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ (¬6). في قراءة من نصب وهو أكثر من أن يحصى. وقد ذكرنا فيما مضى أن لا يفصل بين العامل والمعمول فيه. وجعل سيبويه لباب " ظننت " و " خلت " مزية على باب " خشيت " و " خفت " فأجاز تشديد " أن " في باب " ظننت " و " خلت " جوازا مستمرا مستحسنا. ولم يجز في " خشيت " و " خفت " التشديد إلا على ضعف وعلى أنه ليس وجه الكلام. وقال في الفصل بينهما أنك في باب " خشيت " لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئا قد ثبت عندك ولكنه كقولك: ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 71. (¬2) سورة القيامة، الآية: 25. (¬3) سورة البقرة، الآية: 230. (¬4) سورة الحديد، الآية: 29. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 169. (¬6) سورة المائدة، الآية: 71.

(أرجو) و " أطمع " و (عسى " وأنت لا توجب إذا ذكرت شيئا من هذه الحروف والذي يجوزه أنه قد يستقر في علمه كون شيء يعلم أنه يضره ونفسه كارهة له ونافرة منه. فذلك النفور والكراهية هو الخوف والخشية. وضعيف في الكلام أن تقول: " قد علمت أن تفعل " لأن الأصل: علمت أنك ذاك " ولو قلت علمت أن تفعل ذاك " لم يجز. لأن الفعل لا يلي " أنّ " و " إنّ " المشددتين. فكرهوا أن يجمعوا عليه حذف الاسم والتخفيف وأن يليه ما لم يكن يليه من الفعل. فإذا عوضوا سهل ذلك إذ قد وجد بعض ما يحذف. إذا كان في الكلام عوض منه جاز وإن لم يكن لم يجز نحو قولهم: وبلد عامية أعماؤه (¬1) بمعنى: ورب بلد. ولا يجوز أن تقول: بلد. بمعنى: رب بلد. وأما قولهم: أما أن جزاك الله خيرا وتقديره: أما أنه جزاك الله خيرا ومعناه: حقا أنه جزاك الله خيرا كما تقول: أما أنك راحل بمعنى: حقا أنك راحل وقد حذف اسم " أن " المشددة ووليها الفعل فأنما: إن ذلك لأن هذا الكلام دعاء. والأشياء التي تكون عوضا من التخفيف وحذف الاسم لا يصح وقوعها فيه لأن " قد " لا تقع في الدّعاء. لا تقول: قد غفر الله لك وأنت تريد الدعاء فلا يجوز: أما أن قد جزاك الله خيرا وكذلك " السين " و " سوف " لا يصح دخولهما على فعل الدعاء لأنهما يضمران الكلام يقينا واجبا. ولا يجوز دخول " لا " لأنها تقلب معنى الدعاء له إلى الدعاء عليه. فاحتمل لذلك ترك العوض، وأجازوا كسر " أن " في هذا الموضع فقالوا: أما إنّ جزاك الله خيرا. وتقديره: أما إنّه جزاك الله خيرا. ومعنى " إن " إذ كسرت معنى: " ألا " التي يستفتح بها الكلام. " وجزاك الله خيرا " خبر لاسم أن والدعاء والأمر يكونان خبرين للمبتدأ كقولك: زيد جزاه الله خيرا- وزيد أضربه. وإن لم تقدر " إنه وأنه " بطل معنى الكلام وأنما حسن الحذف فيه من غير عوض ¬

_ (¬1) البيت لرؤبة بن العجاج ديوانه ص 1 وهي مطلع قصيدة في وصف المفازة والسراب. انظر معاهد التنصيص: 86، أمالي المرتضي: 1/ 155، أمالي ابن الشجري: 1/ 366.

وباقي الباب مفهوم هذا باب «أم» و «أو»

للضرورة التي ذكرتها. وأنما استعملوا حذف الاسم في " أن " المكسورة في هذا الموضع خاصة وليس ذلك الحذف في سائر الكلام ولم يعوضوا كأنّ ذلك تقوية لحذف العوض الذي يكون في المفتوحة وأنما جاز في قولهم: ما علمت إلا أن تقوم " أنّ " الناصبة لأنها استعمل العلم فيها على معنى المشورة والرأي الذي لاح فيه فيما أشار عليه فصار بمنزلة الرأي والظن. ولو أراد العلم الحقيقي لقال: " ما علمت إلا أن سيقومون " على معنى " أنهم سيقومون كما ذكرنا فيما تقدم. وباقي الباب مفهوم هذا باب «أم» و «أو» أما " أم " فلا يكون الكلام بها إلا استفهاما. ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين: 1 - على معنى: أيهما وأيهم. 2 - وعلى أن يكون الاستفهام الآخر متقطعا من الأول. وأما " أو " فإنما يثبت بها بعض الأشياء وتكون في الخبر. والاستفهام يدخل عليها على ذلك الحد. وسأبين لك وجوهه إن شاء الله تعالى. وقال أبو سعيد: هذا الباب جملة تفصل في الأبواب بعده وفيها يقع الشرح إن شاء الله تعالى. هذا باب «أم» إذا كان الكلام بها بمنزلة: أيهما وأيهم وذلك قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ وأزيدا لقيت أم بشرا؟ فأنت الآن مدع أن عنده أحدهما. لأنك إذا قلت، أيهما عندك؟ وأيهما لقيت؟ فأنت مدع أن المسئول قد لقي أحدهما أو أن عنده أحدهما إلا أن علمك قد استوى فيهما لا تدري أيهما هو؟ والدليل على أن قولك: أزيد عندك أم عمرو؟ بمنزلة قولك: أيّهما عندك؟ أنك لو قلت: أزيد عندك أم بشر؟ فقال المسئول: لا. كان محيلا كما أنه إذا قال: أيهما عندك؟ فقال: لا. فقد أحال.

واعلم أنك إذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن لأنك لا تسأل عن اللقاء إنما تسأل عن أحد الاسمين لا تدري أيهما هو، فبدأت بالاسم لأنك تقصد أن يبين لك أي الاسمين في هذه الحال، وجعلت الاسم الآخر بديلا للأول وصار الذي لا تسأل عنه بينهما. ولو قلت: " ألقيت زيدا أم عمرا " كان جائزا حسنا. ولو قلت: أعندك زيد أم عمرو؟ كان كذلك وإنما تقديم الاسم هاهنا أحسن. ولم يحسن للآخر إلا أن يكون مؤخرا لأنه قصد الاثنين. فبدأ بأحدهما. لأن حاجته أحدهما. فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها. لأنه إنما يسأل عن أحدهما من أجلها، وإنما يفرغ مما يقصد بقصته ثم يعد له بالثاني. ومن هذا الباب قوله: ما أبالي أزيدا لقيت أم عمرا؟ وسواء على أزيدا كلمت أم عمرا؟ كما تقول: ما أبالي أيهما لقيت؟ وإنما جاز حرف الاستفهام هنا. لأنك سويت الأمرين كما استويا حين قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فجرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولهم: " اللهم اغفر لنا أيتها العصاية " وإنما لزمت " أم " هاهنا. لأنك تريد معنى " أيهما " ألا ترى أنك تقول: " ما أبالي أيّ ذاك كان ". " وسواء على أيّ ذاك كان ". فالمعنى واحد و " أي " هاهنا تحسن. وتجوز كما جازت في المسألة. ومثل ذلك: ما أدري أزيد ثم أم عمرو؟ و " ليت شعري أزيد ثم أم عمرو؟ فأوقعت " أم " هاهنا كما أوقعته في الذي قبله؛ لأن هذا يجري على حرف الاستفهام حيث استوى علمك فيهما كما جرى الأول. ألا ترى أنك تقول: ليت شعري أيهما ثم فيجوز " أي " ويحسن كما جاز في قولهم: أيّهما ثمّ؟ وتقول: أضربت زيدا أم قتلته؟ فالبدء هاهنا بالفعل أحسن. لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان. ولم تسأل عن موضع أحدهما فالبدء بالفعل هاهنا أحسن كما كان البدء بالاسم فيما ذكرنا أحسن كأنك قلت: أي ذاك كان بزيد؟ وتقول: ما أدري أقام أم قعد؟ إذا أردت: ما أدري أيّهما كان؟

وتقول: ما أدري أقام أو قعد؟ إذا أردت أنه لم يكن بينهما شيء، كأنه قال: لا أدعي أنه كان في تلك الحال قيام ولا قعود أي لم أعدد قيامه قياما يستبين لي قعوده بعد قيامه. وهو كقول القائل: تكلم ولم يتكلم. قال أبو سعيد: اعلم أن " أم " فيها معنى حرف الاستفهام وحرف العطف وهو يشبه من حروف العطف " أو ". فأما موقعها في الاستفهام فعلى وجهين: أحدهما: أنها تعادل ثانية ألف الاستفهام أولا. ويكونان بمعنى " أيهما ". وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو؟ وأزيدا لقيت أم بشرا؟ ومعناه: أيّهما عندك؟ وأيهما لقيت؟ وإنما يعادل السائل بها الألف ويجعل الكلام بمنزلة " أيّهما " و " أيهم " إذا كان قد عرف وقوع شيء من شيئين أو من أشياء فكلا يعرفه بعينه فيسأل من يقدّر أن علم ذلك عنده ليعرفه إياه معينا. كان القائل إذا قال: أزيد عندك أم عمرو قد علم أن عند المخاطب أحد هذين ولا يدري من هو منهما فيستدعى إعلام المخاطب إياه عينا فيلتمس علم ذلك منهما، وكذلك كل ما استفهم عنه بالألف. و" أم " بمعنى " أي " والمستفهم قد عرف وقوع أحد الأمرين منهما وهو يلتمس تعيينه كقولك: أقام زيد أم قعد؟ وقد يعبّر عن هذا السؤال. بأن فيه تسوية ومعادلة. فأما التسوية: فهي أن الاسمين المسئول عن تعيين أحدهما يستويان في علم السائل ما عنده في أحدهما مثل ما عنده في الآخر. وأما المعادلة: فهي بين الاسمين جعلت الاسم الثاني بديلا للأول بوقوع " الألف " على الأول و " أم " على الثاني ومذهب السائل فيهما. فإذا سأل السائل عن هذا، فالجواب أن يسمى واحد من الاثنين أو الجماعة ويعين. وإنما نسأل السائل عن هذا والمسئول عنه يعرف الذي يسأل عنه. وقد اتسعت العرب في ذلك. فاستعملوه في غير الاستفهام في مواضع مختلفة. من ذلك قول القائل: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. وليس هذا باستفهام

والمتكلم فيه بمنزلة المسئول والمخاطب يصير بمنزلة السائل لأن الذي يقول: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو قد عرفه بعينه والمخاطب إذا قال له القائل: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو يعتقد في قول المتكلم أن أحدهما في الدار لا يعرفه بعينه. فهو بمنزلة السائل في الأول. ومنه: ما أدري أزيد في الدار أم عمرو؟ وهذه حال السائل. فإذا سأل وهذه حاله قال: أزيد في الدار أم عمرو؟ ومنه قول القائل: ليت شعري أزيّد في الدار أم عمرو؟ تمنى أن يعلم ما يسأل عنه السائل إذا قال: أزيد في الدار أم عمرو؟ ومنه: ما أبالي أزيد جاءك أم عمرو سويت بين الأمرين جميعا في منزلتهما عندك وهوانهما عليك. ومنه: سواء عليّ أقمت أم قعدت ومعناه. قيامك وقعودك على مستويين. وإنما جاز الاستفهام " بأم " في هذه الأشياء وأن تكون استفهاما لما فيها من التسوية والمعادلة فشبهت من الاستفهام بما فيها من التسوية والمعادلة. لاجتماعهما في التسوية والمعادلة لا في الاستفهام. كما جرى على حرف النداء قولك: " اللهم اغفر لنا أيتها العصابة " ولست تناديه وإنما تختصه فتجريه على حرف النداء لأن النداء فيه اختصاص فيشبه به للاختصاص لأنه منادى. وقد مضى الكلام فيه قبل. والاختيار في هذا الباب أن يكون الشيء الذي يسأل عنه هو الذي يلي " الألف " و " أم " وما " لا " يسأل عنه متوسط كقولك: أزيد عندك أم عمرو؟ والسؤال عن زيد وعمرو؛ لأن السائل يلتمس واحدا منهما له. ولا سؤال عن " عندك " لأنه قد عرّفه أنّ أحدهما عنده. فأحسن الألفاظ ما يتعادل به الاسمان اللذان هما مستويان في السؤال، فيجعل أحدهما " بالألف " والآخر يلي " أم " وإذا لم يجعل كذلك وقيل: أعندك زيد أم عمرو؟ صار الذي يلي الألف عنده ليس بعديل " عمرو " الذي ولي " أم ". وكذلك الاختيار: أزيدا لقيت أم بشرا؟ ولو قلت: ألقيت زيدا أم بشرا؟ صار الفعل

هذا باب «أم» منقطعة

يلي الألف والاسم يلي " أم "، وهو وإن كان جائزا حسنا لاستواء معنى ألقيت زيد؟ و" أزيدا لقيت "؟ فليس كحسن: أزيدا لقيت أم بشرا؟ لأنه مع صحة المعنى أعدل لفظا. ومما يختاره العرب. وإذا كانت المعادلة بين فعلين فالاختيار أن يلي أحد الفعلين الألف والآخر " أم ". لأن المسألة عن الفعلين. ويكون الذي ليست المسألة عنه بينهما وذلك قولك: أضربت زيدا أم قتلته؟ لأن سؤالك عن فعلين مبهمين ليبين لك أحدهما ولم تسأل عن " زيد " الذي هو موضع الفعل لأن المسائل قد علم أن أحدهما واقع بزيد ولم يفرق بينهما فالبدء بالفعل هنا أحسن. كأنك قلت: أي ذاك كان بزيد؟ وقد يعادل بالفعل والفاعل. والمبتدأ والخبر لاستواء المعنى في ذلك. كقوله عز وجل سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (¬1) والمعنى: سواء عليكم أدعوتموهم أم صمتم. وإن شئت: سواء عليكم أنتم داعون لهم أم أنتم صامتون عنهم. وسواء عليكم أنهم مدعوون أم متروكون. ومعناه: سواء عليكم دعاؤكم لهم وصمتكم عنهم. قول سيبويه: " قام أو قعد " إذا أردت أنه لم يكن بينهما شيء، كأنه يقول: لا أدعي أنه كان منه في تلك الحال قيام ولا قعود: أي: لم أعدد قيامه قياما ولم يستبن قعوده قعودا صار بمنزلة: ما لا قيام يعرف له ولا قعود، فكأنه قال: ما أدري أكان أحد هذين؟ وإذا أيقن بكون أحد الأمرين منه وشكّ فيه عينا. قال: ما أدري أقام أم قعد؟ وهذا قد علم أن أحد الأمرين كأن منه ولا يعرفه بعينه. وما تركته من شرح الباب فلا غناء ما شرحته عنه. وبقيت من شرح " أم " بعد ذكري جملة وجوهها ما أشرحه في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى. هذا باب «أم» منقطعة وذلك قولك: أعمرو عندك أم زيد. فهذا ليس بمنزلة: أيهما عندك؟ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 193.

ألا ترى أنك لو قلت: أيهما عندك؟ لم يستقم إلا على التكرير (والتوكيد) وبذلك على أن الآخر منقطع من الأول: قول الرجل: إنها لإبل ثم يقول: (أم شاه يا قوم) فكما جاءت " أم " هاهنا بعد الخبر منقطعة فكذلك تجيء بعد الاستفهام. وذلك أنه حين قال: أعمرو عندك؟ فقد ظن أنه عنده أدركه مثل ذلك الظن في " زيد " بعد أن استغنى كلامه. ومثل ذلك: " أنها لإبل أم شاه " إنما أدركه الشك حين مضى كلامه على اليقين وبمنزلة " أم " هاهنا قوله عز وجل: الم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ (¬1). فجاء هذا على كلام العرب (ليعرفوا ضلالتهم). ومثل ذلك: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ... (¬2). كأن فرعون قال: أفلا تبصرون أم أنتم بصراء. فقوله: " أم أنا خير " بمنزلة قوله: أم أنتم بصراء لأنهم لو قالوا: أنت خير منه كان بمنزلة قولهم: " نحن بصراء عنده ". ومثل ذلك قوله عز وجل: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (¬3). فقد علم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون أن الله عز وجل لم يتخذ ولدا. ولكنه جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم. ألا ترى أن الرجل يقول للرجل: " السعادة أحب إليك أم الشقاء " وقد علم أن السعادة أحب إليه وأن المسئول سيقول: السعادة. ولكنه أراد أن يبصر صاحبه ومن ذلك: أعندك زيد أم لا؟ كأنه حين قال: أعندك زيد؟ كان يظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا؟ ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآيات: 1: 3. (¬2) سورة الزخرف، الآيتان: 51، 52. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 16.

وزعم (الخليل) أن قول الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط … غلس الظلام من الرباب خيالا (¬1) كقوله: إنها لإبل أم شاه. ومثل ذلك قول الشاعر وهو كثير عزة: أليس أبي بالنضر أم ليس والدي … لكل نجيب من خزاعة أزهرا (¬2) ويجوز في الشعر أن يريد بكذبتك الاستفهام ويحذف الألف قال الأسود بن يعفر: لعمرك ما أدري وإن كنت داريا … شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر (¬3) وقال عمر بن أبي ربيعة: لعمرك ما أدّري وإن كنت داريا … بسبع رمين الجمر أم بثمان (¬4) قال أبو سعيد: والوجه الثاني من وجهي الاستفهام بأم: أن تكون " أن " منقطعة مما قبلها. ومنزلتها منزلة الألف إذا اتصلت بكلام قبلها. إلا أن " الألف " تكون ابتداء و " أم " لا تكون ابتداء لأنها للعطف. في الوجه الأول: تعطف اسما على اسم أو فعلا على فعل وهما من جملة واحدة. والوجه الثاني: تعطف جملة على جملة. لأن الثاني ينقطع من الأول فلا يكون ما بعدها إلا كلاما تاما أو مقدرا جاء لتمامهما فقولهم: ¬

_ (¬1) انظر الديوان: 49 وهي مطلع قصيدة في هجاء جرير. الخزانة: 4/ 452، شرح شواهد المغني للسيوطي: 1/ 143. (¬2) ديوانه: 233 برواية: أليس أبي بالصلت أم ليس أسرقي … لكل هجان من بني النضر أزهرا (¬3) الكامل 3/ 906، الخزانة: 4/ 450، العيني: 4/ 138. (¬4) ديوانه: 88 برواية فو الله ما أدري وإني لحاسب … بسبع رميت الجمر أم بثمان الخزانة: 4/ 447، ابن يعيش: 8/ 154، مغني اللبيب: 1/ 14، الكامل: 3/ 906.

أنها لإبل أم شاه. تقريرها: أم هي شاه لأن قوله: " أنها لإبل " إخبار وهو كلام تام، وقوله: " أم شاه " استفهام عند شك عرض له بعد الإخبار ولا بد من إضمار " هي ". ولو ذكرت في موضع " أم " المنقطعة " ألف " الاستفهام لجاز ولم يتغير المعنى. كقولك: أنها لإبل أشاه؟ وكذلك: " أيقولون افتراه " مكان: " أم يقولون افتراه ". فإذا كانت " بأم " فهي معطوفة. وإذا كانت " بالألف " فهي مستأنفة غير معطوفة. واختاروه " بأم " لأن فيها رجوعا عن الأول وإبطالا له كما يكون في " بل ". وإذا كانت باستفهام مستأنف لم يكن بينهما وبين الأول علقة. وقد شبه النحويون " أم " في هذا الوجه ب " بل " ولم يريدوا أن ما بعد " أم " محقق كما يكون ما بعد " بل " محققا. وإنما أرادوا أن " أم " استفهام بعد كلام يتقدمها كما أن " بل " تحقيق مستأنف بعد كلام يتقدمها. والدليل على أنها ليست بمنزلة " بل " مجردة قوله عز وجل: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (¬1) لا يجوز أن يكون بمعنى: بل اتخذ مما يخلق بنات. تعالى الله عن ذلك. وتقديره في اللفظ: " أأتخّذ " بالألف للاستفهام والمعنى: الإنكار والرد لما ادعوه. لأن ألف الاستفهام قد تدخل للتقرير والرد والإنكار والتوبيخ والتوعد فتدخل على النفي فتصيره إيجابا في التقرير كقوله عز وجل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (¬2) وقوله عز وجل: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ (¬3). والرد نحو قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ (¬4)؟ رد على من ادعى ذلك ونبه إليه. والإنكار: نحو قوله أمقيما ونحن راحلون؟ و " أقياما وقعد قعد الناس؟ " ونحو ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 16. (¬2) سورة الانشراح، الآية: 1. (¬3) سورة التغابن، الآية: 5. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 16.

ذلك: " أم يقولون افتراه "؟ بمعنى: أيقولون افتراه على وجه الإنكار عليهم. ولو قيل: بل يقولون صار ذلك من قولهم على وجهة الإخبار منهم بحسب وإذا كان على جهة: أيقولون افتراه؟ فهو على جهة التثبيت عليهم بالتقرير لهم بذلك ولا يجعله موجها عليهم بالإخبار عنهم فهذا الفصل بين " أم " وبين " بل ". والتوعد نحو قولك لمن يشتمك أو يجترئ عليك: أتشتمني؟ وأتجترئ علي؟ وقوله: أعمرو عندك أم عندك زيد؟ والوجه الظاهر فيه أن يكون بمعنى " أم " المنقطعة كأنه استفهم عن الأول بقوله: أعمرو عندك؟ وفي نيته الاقتصار عليه ثم أدركه في " زيد " من الشك ما أدركه من " عمرو " فسأل عنه. لأن " أم " المنقطعة تأتي بعد الخبر وبعد الاستفهام. ولو جعلت بمعنى: " أيهما " لنابت " أيهما " عن عمرو و " زيد " ومن " ألف " الاستفهام وعن " أم ". وصار التقدير: أيهما عندك عندكم لأن: " عندك " مكررة في ذكر " عمرو " و " زيد ". فوجه الكلام على كلامين كل واحد منهما قائم بنفسه وألا يكون على وجه التكرير. قال أبو سعيد: وإذا كان بعد " أم " حرف الجحد الذي هو نقيض ما قبله فمعناها ومعنى (أو) سواء وذلك قولك: أعندك زيد أم لا؟ " أم " منقطعة كأنه حيث قال: أعندك زيد؟ كان يظن أنه عنده فسأل عنه وحده ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا؟ والدليل على أنها منقطعة: أن السائل لو اقتصر على قوله: أعندك زيد. لاقتضى استفهامه عن ذلك أن يقال: نعم أو لا. فقوله: أم لا مستغنى عنها في تتميم الاستفهام الأول وإنما يذكره الذاكر ليبين أنه عوض له الظن في نفي أنه عنده كما كان عرض له الظن في أنه عنده و " أو " تقتضي هذا المعنى وذلك أنه إذا قال: " أعندك زيد " فالسائل شاك مستفهم يلتمس أن يقال له " نعم " أو " لا " وهو يعلم أنه أما عنده وإما ليس عنده. وإذا قال: أعندك زيد أو لا؟ فقد أتى ب (أو) وهو مستغن عنها بما اقتضاه سؤاله وبما علم من حاله أنه يعتقد أحد الأمرين. ولذلك استوى " أم " و " أو " فيه. ويدخل في هذا المعنى ما حكاه الله تعالى عن

فرعون: أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ (¬1)؛ لأن قوله: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين بمنزلة قوله: أم تبصرون على ما بينه سيبويه. وبالإيجاب بأحد الأمرين في المسألة الأولى وذكر " أم " بعدها كالتوكيد المستغنى عنه. ألا ترى أن قوله: " تبصرون " يستدعي به السائل أن يقال له: لا نبصر أو نبصر. كأن فرعون ظن أولا أنهم لا يبصرون ثم أدركه ظن أنهم يبصرون على نحو ما ذكرناه فيما قبله. وقال أبو زيد: (¬2) " أم " زائدة في هذا الموضع كأنه قال: " أفلا تبصرون أنا خير من هذا الذي هو مهين ". ولم يقله غيره من النحويين. وما علمت أحدا تابعه عليه إلا رجلا من المقرئين. وكان إذا قرأ استوقف القارئ على " أم " ثم ابتدأ: " أنا خير من هذا الذي هو مهين ". فأنشد أبو زيد قول الراجز: يا دهن أم ما كان مشيتي رقصا … بل قد تكون مشيتي توقّصا (¬3) وقد يجوز أن يكون ما أنشده أبو زيد من كلام مقدم بعضه وإن كان في أوله حرف النداء لأن حرف النداء قد يقع حشوا. كقولك: قمت يا زيد أو لم تقم. فيمكن أن يكون قال: أكان مشيتي في شبابي رقصا. وقد يجوز أن تكون " ما " زائدة وتكون " أم " على كلام متقدم. وأما قوله: كذبتك عينك أم رأيت بواسط فإنه: يكون: على أنه خبّر بكذب عينه ثم أدركه ظن وبأن ذلك كان في القوم فقال: ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآيتان: 51، 52. (¬2) هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري أخذ عنه سيبويه اللغة توفي 215، نزهة الألباب: 87. (¬3) انظر المقتضب: 3/ 297، والخزانة: 4/ 421، وأمالي ابن الشجري: 2/ 336.

وباقي الباب مفهوم هذا باب «أو»

كذبتك عينك أم رأيت بواسط … غلس الظلام من الرباب خيالا وقد يخبر الشاعر بالشيء ثم يرجع عنه أما بتكذيب نفسه أو بالتشكيك فيه كقول زهير: قف بالديار التي لم يعفها القدم … بلى وغيرها الأرواح والديّم فقوله: " بلى " تكذيب منه لما نفاه. ويجوز أن يكون على حذف الألف من كذبتك " كأنه قال: أكذبتك أم رأيت ... على تقدير: أيهما كان. كأنه قال: أتمثلت لك في اليقظة لفكرك فيها على غير حقيقة أم رايتها في النوم؟ ومثله: شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر لابد فيه من تقدير الألف لأنه يهجو هذه القبيلة فيقول: لم تستقر على أب. لأن بعضها يعزوها إلى: منقر وبعضها يعزوها إلى سهم: وقول كثير: أليس أبي بالنّضر أم ليس والدي … لكل نجيب ... يقرر بشئ بعد شئ فهو تقرير بعد تقرير فالكلام على جملتين " فأم " منقطعة. وباقي الباب مفهوم هذا باب «أو» تقول: إنهم تضرب أو تقتل (تعمل أحدهما) ومن يأتيك أو يحدثك لا يكون هنا إلا " أو " من قبل أنك أنما تستفهم عن المفعول. وإنما حاجتك إلى صاحبك أن يقول: فلان. وعلى هذا الحد يجري: " متى " و " من " و " كم " و " كيف " و " أين ". وتقول: هل عندك شعير أو بر أو تمر؟ وهل تأتينا أو تحدثنا؟ لا يكون إلا كذلك وذلك أن " هل " ليست بمنزلة " ألف " الاستفهام لأنك إذا قلت: هل تضرب زيدا؟ فلا يكون أن تدعي أن الضرب واقع. وقد تقول: أتضرب زيدا. وأنت تدعي أن الضرب واقع.

ومما يدلك على أن ألف الاستفهام ليست بمنزلة " هل " أنك تقول للرجل: " اطربا! " وأنت تعلم أنه قد طرب لتوبخه أو تقرره. ولا تقول هذا بعد " هل ". وإن شئت قلت: هل تأتيني أم تحدثني؟ وهل عندك بر أم شعير؟ على كلامين. وكذلك سائر حروف الاستفهام التي ذكرنا وعلى هذا قالوا: هل تأتينا أم هل تحدثنا؟ قال الججاف بن حكيم: أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني … على القتل أو هل لامني لك لائم (¬1) وكذلك سمعناه من العرب. فأما الذين قالوا: أم هل لامني لك لائم: فإنما قالوا على أنه أدركه الظن بعد ما مضى صدر حديثه. وأما الذين قالوا: " أو " هل فإنهم جعلوه كلاما واحدا. وتقول: ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا؟ وليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا؟ فهل ههنا بمنزلتها في الاستفهام إذا قلت هل تأتينا؟ وإنما دخلت " هل " هاهنا لأنك إنما تقول: أعلمني كما أردت ذلك حين قلت: هل تأتينا أو تحدثنا؟ فجرى هذا مجرى قوله عز وجل: إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ (¬2). وقال زهير: ألا ليت شعري هل يرى النّاس ما أرى … من الأمر أو يبدوا لهم ما بدا ليا (¬3) ¬

_ (¬1) نسب إلى زفر بن الحارث، والصحيح أنه لجحاف بني حكيم السلمي، وهو كان معاصرا لعبد الملك بن مروان، وغزا تغلب وقتل منهم كثيرين، فاستجاروا بعبد الملك بن مروان فأهدر دمه، فهرب إلى الشام وأقام بها حتى مات عبد الملك ثم تولى ابنه الوليد. انظر طبقات فحول الشعراء: 411، الصناعتين: 93. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 72، 73. (¬3) انظر الديوان 106، العقد الثمين: 54.

وقال مالك بن الريب: ألا ليت شعري هل تغيّرت الرّحى … رحى الحزن أو أضحت بفلج كما هيا (¬1) وكذلك سمعناه ممن ينشده من العرب. وقال ناس: أم أضحت؟ على كلامين كما قال علقمة بن عبدة: هل ما علمت وما استودعت مكتوم … أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم (¬2) قال أبو سعيد: قولهم: " أيّهم تضرب أو تقتل " قد ادعى السائل أن سوءا من قتل أو ضرب يقع على أحد منهم لا يعرفه بعينه. فإذا سأل عن ذلك أجيب عن الاسم فقيل له: زيد فيعلم بذلك أن " زيدا " الواقع به السوء. ولا يدري ذلك السوء ما هو؟ فإذا أراد معرفته قال: أتضرب زيدا أم تقتل؟ فأجيب عن الفعل فقيل له: ضرب أو قيل له قتل. وإذا قيل: من يأتيك أو يحدثك؟ فقد سأله عن اسم يقع منه أحد هذين الفعلين. فالجواب أن يقول: زيد. فيعرفه بعينه. ثم يسأله عن أحد فعليه كما تقدم في الذي قبله. وأما قوله: هل عندك شعير أو بر أو تمر؟ فإن " هل " لا تقع بعدها " أم " على مذهب: أيهما؟ كما تقع بعد الألف بمعنى: أيهما؟ وفصل سيبويه بين " الألف " وبين " هل ": بأن ما بعد " هل " لا يكون تقريرا ولا توبيخا لو قلت: هل تضرب زيدا؟ لم يجز أن تدعي وقوع الضرب وتوبيخه عليه وتقريره به كما يقول القائل: أتضرب زيدا وهل أبوك توبيخا له بذلك فأرى أن مذهب " الألف " أوسع من مذهب " هل " فجاز في الألف من معادلة " أم " ما لم يجز في " هل ". ويقع بعد " أم " التقرير والتوبيخ كما يقع بعد الألف كقوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ ¬

_ (¬1) الخزانة: 1/ 319، جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي: 278. (¬2) ديوانه: 43.

هذا باب آخر من أبواب «أو»

افْتَراهُ (¬1) على جهة التوبيخ ولا تكون " هل " إلا لاستئناف الاستفهام وهو حرف يجري مجرى أسماء الاستفهام. وقد يجوز أن تقول: هل عندك شعير أم بر على " أم " المنقطعة وهو استفهام بعد استفهام ومعناه غير خارج من معنى " أو " في هذا الموضع لأنك إذا قلت: " أعندك شعير أو بر "؟ فأنت في التحصيل سائل عن كل واحد منهما شاك فيه طالب لمعرفته بسؤال واحد. وإذا قلت: أعندك شعير أم بر؟ فأنت سائل عن كل واحد منهما بسؤالين لكل واحد منهما سؤال مفرد وكأنك قلت: أعندك شعير؟ أعندك بر؟ والدليل على ذلك: أنك إذا قلت: أعندك شعير أو بر؟ فالجواب أن يقال: " نعم " أو " لا " فيكون جوابا واحدا عن السؤال بعينه بأسره. كما يجاب عن قولك: أعندك شعير أم بر؟ أو بر؟ أو قيل: أعندك شعير؟ أعندك بر؟ فلكل سؤال منهما جواب غير جواب الآخر. ولهذا كان " أو " و " أم " متقاربا معناهما في قوله: " أو هل وأم هل لامنى ... ". والذي بينهما من الفرق: أن " أو " من كلام واحد و " أم " من كلامين. وقوله: " هل تأتينا أو تحدثنا؟ بمنزلة: " هل تأتينا؟ " لأنه سؤال واحد. فإذا قلت: ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا؟ أو: ليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا؟ فكأنك قلت: هل تأتينا؟ وسكت لأنها كلام واحد. وفي دخول هل في: ليت شعري هل تأتينا؟ أو في: ما أدري هل تأتينا؟ حدوث معنى " أخبرني " أو " أعلمني " كما أن قولك: هل تأتينا بمعنى أخبرني و " أعلمني ". والأبيات التي أنشدنا على هذا النحو ومن أنشد شيئا منها " بأم " فهو على كلامين على نحو ما ذكرناه في غير الأبيات. هذا باب آخر من أبواب «أو» تقول: ألقيت زيدا أو عمرا أو خالدا؟ وأعندك زيد أو عمرو أو خالد؟ كأنك قلت: أعندك أحد من هؤلاء؟ وذلك أنك لم تدع أن واحدا منهم ثم. ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآية: 3.

ألا ترى أنه إذا أجابك قال: " لا " كما يجيبك إذا قلت: أعندك أحد من هؤلاء؟ واعلم أنك إذا أردت هذا المعنى فتأخير الاسم أحسن. لأنك إنما تسأل عن اللقاء على من وقع؟ ولو قلت: " أزيدا لقيت أو عمرا؟ و " أزيد عندك أو عمرو؟ كان هذا في الجواز والحسن بمنزلة تأخير الاسم إذا أردت معنى " أيهما "؟ فإذا قلت: أزيد أفضل أم عمرو؟ لم يجز ههنا إلا " أم " لأنك إنما تسأل عن أفضلهما ولست بسائل عن الفعل. ألا ترى أنك لو قلت: أزيد أفضل؟ لم يجز كما لا يجوز: أضربت زيدا؟ أم عمرو؟ وليت شعري أزيد أفضل أم عمرو؟ فهذا كله على معنى. أيّهما أفضل؟ وتقول: ليت شعري ألقيت زيدا أو عمرا؟ و " ما أدري أعندك زيد أو عمرو؟ فهذا يجري مجرى: ألقيت زيدا أو عمرا؟ وإن شئت قلت: ما أدري أزيد عندك أو عمرو؟ فكان جائزا حسنا. كما جاز: أزيد عندك أم عمرو؟ وتقديم الاسمين جميعا مثله وهو مؤخر وإن كانت أضعف. فأما إذا قلت: ما أبالي أضربت زيدا أم عمرا؟ فلا يجوز ههنا إلا " أم " لأنه لا يجوز السكوت على الاسم الأول فلا يجيء هذا إلا على معنى: " أيهما "؟ وتقديم الاسم هاهنا أحسن. وتقول: أتجلس أو تذهب أو تحدثنا؟ وذلك إذا أردت أن تقول: هل يكون شيء من هذه الأفعال؟ فأما إذا دعيت واحدا منها أنه قد كان قلت: أتجلس أم تأكل؟ كأنك قلت: أي هذه الأفعال يكون منك؟ وتقول: أتضرب زيدا أو تشتم عمرا؟ إذا أردت أن يكون شئ من هذه الأفعال. وإن شئت قلت: أضربت زيدا أم تشتم عمرا؟ على معنى: أيهما؟ قال حسان بن ثابت: ما أبالي أنت بالحزن تبيس … أم لحانى بظهر غيب لئيم؟ (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ديوانه: 100، الخزانة: 4/ 461، العيني: 2/ 135، نهاية الأرب: 3/ 69.

كأنه قال (ما أبالي) أي الفعلين كان؟ وتقول: أزيدا أو عمرا لقيت أم بشرا؟ وذلك أنك لم ترد أن تجعل " عمرا " عديلا لزيد. حتى يصير بمنزلة: أيهما؟ وإنما أردت أن ذلك حشوا. كأنك قلت: أأحد هذين لقيت أم بشرا؟ ومثل ذلك قول صفية بنت عبد المطلب كيف رأيت زبرا؟ (¬1) … أأقطا أو تمرا؟ أم قرشيا صارما هزبرا؟ وذلك أيّها لم ترد أن تجعل التمر عديلا للأقط لأن المسئول لم يكن عندها ممن قال: هو أما تمر وأما أقط وأمّا قرشي ولكنه ممن قال: أهو طعام أم قرشي؟ فكأنها قالت: أشيئا من هذين الشيئين رأيته أم قرشيا؟ وتقول: أعندك زيد أو عندك عمرو أو عندك بشر؟ كأنك قلت: هل من هذه الكينونات شئ؟ فصار هذا كقولك: أتضرب زيدا أو تضرب عمرا أو تضرب خالدا؟ ومثل ذلك: أتضرب زيدا أو بشرا أو خالدا؟ وتقول: أعاقل زيد أم عالم؟ وتقول: أتضرب عمرا أم تشتمه؟ تجعل الفعلين والاسم بينهما بمنزلة الاسمين والفعل بينهما لأنك قد أثبت العلم والعقل. وأدعيت أحدهما كما أدعيت ثم أحد الاسمين. وإن قلت: " أو " فهو عربي حسن. فأما إذا قلت: أتضرب أو تحبس زيدا؟ فهو بمنزلة أزيدا أو عمرا تضرب؟ قال جرير: أثعلبة الفوارس أو رباحا … عدلت بهم طهيّة والخشابا (¬2) وإن قلت: أزيدا يضرب أو يقتل؟ كان كقولك: أيقتل زيدا أو عمرا؟ و " أم " في ¬

_ (¬1) انظر اللسان: (زبر)، المقتضب: 3/ 303، وأمالي ابن الشجري: 2/ 334. (¬2) ديوان جرير: 66، العيني: 2/ 355، أمالي ابن الشجري: 1/ 297، والأشموني: 2/ 78.

كل هذا جيد. وإذا قال: أتجلس أم تذهب؟ " فأم " و " أو " فيه سواء لأنك لا تستطيع أن تفصل علامة المضمر. فتجعل ل " أو " حالا سوى حال " أم " وكذلك: أتضرب أو تقتل خالدا؟ لأنك لا تثبت أحد الفعلين إلا يثبت واحد وإن أردت معنى أيهما في هذه المسألة قلت: أتضرب زيدا أم تقتل خالدا؟ لأنك لم تثبت أحد الفعلين لاسم واحد. قال أبو سعيد: اعلم أن " أو " حقيقتها أن يتفرد شيئا من شئ. ووجوه الأفراد أنك تختلف وتتقارب في حال وتتباعد في أخرى حتى توهم أنها قد تضادت وهي في ذلك ترجع إلى الأصل الذي وضعت له. وأنا مفسر ذلك إن شاء الله. فمن ذلك قولك: جاءني زيد أو عمرو. فالأصل فيه أن أحدهما جاءك. والأكثر في استعمال ذلك أن يكون المتكلم شاكا لا يدري أيهما الجائي. فالظاهر من الكلام أن يحمله السامع على شك المتكلم. وقد يجوز أن يكون المتكلم غير شاك. إلا أنه أبهمه على حال قصدها في ذلك كما يقول القائل: كلمت أحد الرجلين " و " اخترت أحد الأمرين وقد عرفه بعينه ولم يخبر به. وقد يحسن " أو " بين أشياء تتناولها كلها في أوقات مختلفة فيراد بذكر " أو " أفراد كل واحد منهما في وقته كقولك- إذا قيل لك: ما كنت تأكل من الفاكهة ببغداد؟ قلت: كنت آكل التين أو العنب. أو نحو ذلك. وكذلك لو قيل: ما كنت تأكل من الطعام؟ فتقول: زبدا أو أرزا أو لحما أو سمكا. أي: أفرد مرة هذا ومرة هذا. قد خلت " أو " للإفراد. ولو قلت: كنت آكل تينا. أو عنبا. أو قلت: أرزا أو لحما لاحتمل أن يكون جمعت بينهما في وقت. واحتمل أن يكون أفرد كل واحد منهما. أراد بيان الإفراد فجاء ب " أو " فهذا شأن " أو " في الإخبار. والمخاطب يعلم أنه إذا قال: كنت آكل تينا أو عنبا. أو قال: كنت آكل برا أو أرزا في مثل الحال التي ذكرناها إنه لم يرد الشك ولا الإبهام على المخاطب. وإذا وقعت في الأمر فهي على وجهين كلاهما للإفراد، أحد الوجهين: أن يكون

أحد الأمرين إذا اختاره لا يتخطاه ولا يتجاوزه ويكون الآخر عليه محظورا. والوجه الآخر: أن يكون له اختيار كل واحد من الأمرين عند حظر الآخر عليه. (أ) فأما الأول فقولك: " خذ ثوبا أو دينارا " إذا خيرته أحدهما وكان الآخر غير مباح له وهذا الذي يسمى " التخيير ". ومخرج هذا ونحوه أن تعلم أنه ما كان للمخاطب أن يتناول شيئا من الاثنين قبل أن يخبره الآمر وإنما كانا محظورين عليه ثم زال الحظر في أحدهما وبقي الآخر على حظره. فإذا قال: " خذ دينارا أو ثوبا " فالدينار والثوب كانا محظورين عليه ولم يكن له أن يأخذ واحدا منهما فلما قال: " خذ دينارا أو ثوبا " جاز له أخذ أحدهما وبقى الآخر على حظره. ومثله في القرآن قوله عز وجل: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (¬1). فأوجب أحد هذه الثلاثة ولا يمكن فعل اثنين منها لأنه إذا فعل واحدا منها فقد كفّر وسقطت عنه الكفّارة. (ب) والوجه الثاني من الوجهين: ألا يكون الأمران في الأصل محظورين فيما يراه المخاطب ويسمى هذا الوجه " الإباحة ". وذلك قولك: ألبس خزّا أو قوهيا أو ديباجا أو وشيا فكأنه أراد أن كل صنف من هذا لك لبسه. كأنه شيء من شيئين إن لبس أحدهما لم يمتنع عليه الآخر من أن يلبسه بعده. وإنما أراد إعلامه أن كل واحد منهما له لبسه. لئلا يرى أنه يلبسهما معا. ولا أنه إذا أفرد كان مخالفا. فلما كان كل واحد منهما مأمورا به جاز لبسها كلها. ومثله في القرآن قوله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ (¬2). كل ذلك مباح الأكل منه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 89. (¬2) سورة النور، الآية: 61.

وكذلك: إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ (¬1). ومثله قوله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (¬2). والحكم يقع على كل واحد مما سمي مفردا أو مجموعا. وحدثني بعض أصحابنا أن المزني (¬3) صاحب الشافعي سئل عن رجل حلف فقال: والله لا كلمت أحدا إلا كوفيّا أو بصريّا فكلم كوفيّا وبصريّا فقال: ما أراه إلا حانثا. فأنهى ذلك إلى بعض أصحاب أبي حنيفة المقيمين بمصر أيام المزني فقال: أخطأ المزني وخالف الكتاب والسنة. فأما قوله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ (¬4). وكل ذلك كان مباحا خارجا بالاستثناء من التحريم. وأما السنة: فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قريشي أو ثقفي " (¬5) والمفهوم من ذلك أن القريشي والثقفي كانا استسنين. فذكر أن المزني رجع إلى قوله: والتخيير الذي يكون لأحد الأمرين دون الآخر كقولك: جاء في زيد أو عمرو. والإباحة بمنزلة الخبر الذي يتناول جميع ما ذكر على إفراد كل واحد منه كقولك: كنت آكل أرزا أو برا أو لحما أو سمكا. ومن الإبهام في الخبر قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 145. (¬3) هو: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني. من أهل مصر. كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، وهو إمام الشافعيين، ومن كتبه الجامع الصغير والجامع الكبير. قال عنه الشافعي: المزني ناصر مذهبي. وقال في قوة حجته: " لو ناظر الشيطان لغلبه " توفي 264 هـ. انظر معجم الأدباء: 17/ 323، وفيات الأعيان: 1/ 71. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 146. (¬5) الحديث في سنن النسائي: 6/ 237 باب (العمري).

أَقْرَبُ (¬1). وقوله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (¬2)، وقوله عز وجل: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (¬3). وقوله عز وجل: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (¬4). فإن قال قائل: كيف يقع هذا الإبهام الذي ذكرته من الله عز وجل على خلقه إذ كان إنما قصد بمخاطبتهم البيان والإفهام للإقامة الحجة عليهم بما أنزل ولم يجعل في ذلك لبسا؟ قيل له: أنما خوطبوا على قدر ما يجري في كلامهم من إفهام بعضهم بعضا. لعلها أبهمت عليهم في الإخبار لعجزهم عن بلوغ حقائق الأشياء وأنهم يصلون منها إلى مقاربة وقد يبهم المتكلم لقلة الفائدة في التفصيل وإن كان عالما بصاحب الفعل قال لبيد: تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما … وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر (¬5) وقد علم لبيد أنه من مضر وليس من ربيعة. وإنما أراد: من أحد القبيلتين، وسبيلي أن أفنى كما فنوا. وليس فيما قصد من تعزية ابنتيه وتسليتهما بالتأسي بمن فنى من هذين القبيلين فائدة في تعيين نسبه. بل لو زاد في الإبهام كان أبلغ فيما يريده لأنه إذا كثر من يتأسى به كان أبلغ في التعزية. فلو قال: وهل ألا من العرب؟ أو: هل أنا إلا من الناس؟ كان أبلغ في التعزية وقد تدخل " أو " للتبعيض والتفصيل وهو أن تذكر عن جماعة قولين مختلفين على أن بعضهم قال أحد القولين وبعضا قال القول الآخر. كقولك: " اجتمع القوم فقالوا: حاربوا أو صالحوا ". بمعنى: قال بعضهم: حاربوا وقال بعضهم: صالحوا. ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 77. (¬2) سورة الصافات، الآية: 147. (¬3) سورة البقرة، الآية: 74. (¬4) سورة النجم، الآية: 9. (¬5) انظر ديوانه: 1، الخزانة: 4/ 424، شرح شذور الذهب: 138، العقد الفريد: 3/ 56.

قال عز وجل: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا (¬1) وقد أحاط العلم أنه ليس في الفرق فرقة بين اليهودية والنصرانية، وأنما الإخبار عن جملة اليهود والنصارى أنهم قالوا، ثم فصل ما قاله كل فريق منهم. وقد احتج بعض أصحاب مالك في تخيير الإمام في عقوبة قطاع الطريق الساعين في الأرض فسادا بقوله عز وجل: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ (¬2). وكان ينكر مخرج الآية على وجه التخيير لذكره " أو " فذكرت ما كان عندي وهو: أن " أو " في هذه الآية على التبعيض وترتيب أصناف هذه العقوبات على أصناف جنايات المحاربين. واحتججت بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى على أن بعضا وهم اليهود قالوا: كُونُوا هُوداً وبعضا وهم النصارى قالوا: (كونوا نصارى). وكذلك نحمل آية المحاربين على أن بعضا وهم الذين قتلوا يقتلون، وبعضا وهم الذين أخذوا المال: تقطع أيديهم وأرجلهم وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه. والشافعي وأتباعه. وأما قوله عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (¬3) فإن أكثر تشبيهات العرب وغيرهم من سائر الأمم يجري على غير المماثلة في حقيقة الطول والقصر والسعة والضيق والثقل والخفة ونحو ذلك. وأكثر تشبيهاتهم أن أشياء قد عرفت بصفات خير أو شر أو رفعة أوضعة أو غير ذلك وتقرر ذلك في نفوسهم، فإذا أرادوا المبالغة في وصف شئ شبهوه بمثله من تلك الأشياء أو فضلوه عليه إذا أرادوا الانتهاء في المبالغة. والغرض فيه أن ما شبهوه فيه ما يفضل به من تلك الحال فكيف ما شبهوه وجاز ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 135. (¬2) سورة المائدة، الآية: 33. (¬3) سورة النحل، الآية: 77.

إذا أرادوا هذا المعنى. مثال هذا: أنهم إذا شبهوا السريع الذي رضوا بسرعته فقالوا: هو كالريح وهو كالبرق وكالسهم وكالحجر وكالطائر. ويبالغون به فيقول: هو أسرع من الريح وأسرع من يد إلى فم. وبأي شيء شبهناه من هذه الأشياء فهو كتشبيهنا أياه بالآخر. لأن غرضنا الدلالة على أن فيه سرعة شديدة محمودة. وهذا أكثر من أن يحصى. فصار قولنا: هو كالبرق وهو أسرع من البرق، وهو كالريح وهو أسرع من الريح في باب الدلالة على سرعته كشئ واحد. وكذلك: كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بمنزلة شيء واحد فجمع اللفظين اللذين يتناهون ويبالغون فيه إذا شبهوا. ومثله قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ (¬1). والكلام فيه وفيما قبله طريق واحد وهو: أن كل ما فنى يشبّه بما لم يكن حتى يقال: " كأنك بالدنيا لم تكن ... ". لأنه إذا فنى فقد بطل حكم وجوده وكونه والذي لم يزل موجودا. لأنه إذا أتى فقد بطل حكم عدمه. فقوله عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ لأن ما قبل الساعة مما يفنى فيصير كأنه لم يوجد فزمانه قصير في التشبيه، والذي يأتي قريب؛ لأن ما قبله فان، والتشبيه بلمح البصر ". و " باليوم " و " الساعة " واللحظة واحد؛ لأن الغرض فيه كله تقصير المدة على غير حقيقة مماثلة طول الزمان. وإنما دخول " أو " على ذلك. لأن المشبه بكل واحد من ذلك مفردا غير مخطئ في التشبيه فتأمله وأعرفه إن شاء الله تعالى. وأما قوله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (¬2) ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 112، 113. (¬2) سورة الصافات، الآية: 147.

أحدهما: أن يكون " أو " فيه مثلها في " أو " التي للإباحة وتقديره: وأرسلناه إلى بشر كثير يحذرهم ممن يراهم- حازر: مائة ألف. والوجه الآخر: أن يكون " أو " لأحد الأمرين وأبهمه الله تعالى على المخاطبين لأنه أراد تعريفهم كثرتهم. ولم تكن فائدة في تعريف حقيقة عددهم. ويروى عن ابن عباس أنهم كانوا مائة ألف وبضعة وأربعين ألفا. وأما قوله عز وجل: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (¬1) القسوة في الحجارة الصلابة. وصلابة كيفية على حقيقة الكيفيتين. وإنما قسوة القلب أنه لا يرق ولا يلين لموعظة ولا لطاعة الأمر، فيشبه امتناعه بالصلابة التي هي ضد اللين. ويشبه بصلابة الحجر أو بما هو أصلب منه على ما ذكرنا من مذهبهم. والذي يشبهه بصلابة الحجر مصيب والذي يشبهه بما هو أصلب مصيب؛ لأن الغرض الإخبار عن قلوبهم بصلابة يبالغ فيها. فتشبيههم إياها بالحجارة. لأنها من الموصوفات بالصلابة صحيح، وتشبيههم إياها بما هو أصلب منه صحيح. وأما قوله عز وجل: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (¬2) فمعناه في تقدير الناظر منكم إليه. وقد قال قوم أن " أو " تكون بمعنى " بل ". واحتجوا بقوله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. أراد: بل يزيدون. ويقول الشاعر. بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى … وصورتها أو أنت في العير أملح (¬3) قالوا معناه: بل أنت. واحتجوا بالرواية عن ابن عباس في قوله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. قال: كانوا مائة ألف وبضعة وأربعين ألفا. وحصلوا على " أو " " أم " فقالوا: أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنت؟ بمعنى بل أنت. قال الشاعر: فو الله ما أدري أسلمى تغوّلت … أم النّوم أم كل إليّ حبيب (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 74. (¬2) سورة النجم، الآية: 9. (¬3) انظر الخزانة: 4/ 423، أمالي المرتضى: 3/ 56. (¬4) انظر الهمع: 2/ 133، الدرر: 2/ 177، معاني القرآن للفراء: 1/ 72.

معناه: بل كل إلى حبيب. وقال قوم " أو " تكون بمعنى الواو. كقوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ (¬1). نال الخلافة أو كانت له قدرا … كما أتى ربّه موسى على قدر (¬2) ممعناه: وكانت له قدرا. وقال توبة بن الحمير: (¬3) وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر … لنفسي تقاها أو عليها فجورها معناه: وعليها. وقال جرير: أثعلبة الفوارس أو رياحا … عدلت بهم طهية والخشابا (¬4) أراد: ورياحا. وقال الآخر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث … إلى ذاكم قد غيبتني غيابيا (¬5) أراد: ونصف ثالث. وقال الآخر: ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 61. (¬2) ديوانه: 125، أمال ابن الشجري: 2/ 317، العيني: 2/ 485، الدرر: 2/ 181، الأشموني: 2/ 58. (¬3) هو توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة العقيلي العامري أبو حرب شاعر من عشاق العرب المشهورين كان يهوى ليلى الأخيلية وقد خطبها فرده أبوها وتزوجها غيره فانطلق يقول الشعر مشببا بها. توفي 85 هـ انظر وفيات الأعيان: 1/ 95، أمالي القالي: 1/ 88، الدرر: 2/ 181. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) القائل هو ابن أحمر كما نسبه السيرافي، المحتسب لابن جني 2/ 227، وانظر البيت في الخصائص: 2/ 460، أمالي ابن الشجري: 2/ 317.

فلو كان البكاء يرد شيئا … بكيت على بجير أو عفاق (¬1) قال أبو سعيد: شواهد " أو " في هذين الوجهين. قد تتخرج على غير ما قالوه. أما قوله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فقد ذكرنا أن " أو " فيها على وجهين على الإباحة وعلى الإبهام، كأنه قال: إلى جمع كثير يجرزه بعض الحزار بمائة ألف وبعض بأكثر. وكذلك: " بدت مثل قرن الشمس ... أو أنت في العين أملح ". أي أن شبهتا بالشمس أصبت وإن فضلتها عليها أصبت. وقد مضى نحو هذا. وقوله: أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنت؟ فقد يقولونه " بأو ". وكقولك: خذ حقك وأعطنا حقنا أو أنت رجل متعنت ويذهب به قوم إلى أن معناه: " بل أنت " وليس كذلك. وإنما معناه: هذه الحالة هي الواجهة من الحق وإعطائه (أو) تصير الحالة الأخرى مكانها وهي أن تنسب إلى التعنت. وأما (أم) في قوله: " اضرب عبد الله أم أنت رجل متعنت " فإنما هي " أم " المنقطعة التي منزلتها منزلة ألف الاستفهام وهي هاهنا بمنزلة التقرير والتوبيخ كنحو ما ذكرنا في قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ (¬2). ومثله: أسلمى تغوّلت … أم النّوم أم كلّ إلىّ حبيب (¬3) وأما قوله: لنفسي تقاها أو عليها فجورها (¬4) فإنما دخلت " أو " لأن الإنسان أما أن يكون تقيا فله تقاه وأما أن يكون فاجرا فعليه فجوره. " فأو " دخلت لأحد الأمرين. وأما: أثعلبة الفوارس أو رياحا … عدلت بهم طهية والخشابا (¬5) فمعناه: أحد هاتين القبيلتين عدلت بهم طهية على جهة الإنكار. كما تقول: ¬

_ (¬1) القائل متمم بن نويرة والبيت في اللسان: (عفق)، وأمالي المرتضي: 2/ 58، ومعاني القرآن للأخفش: 1/ 33. (¬2) سورة السجدة، الآية: 3. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه.

أعدلت بالقوم القرد. وأما: فالبثا شهرين أو بعض ثالث فإن المعنى: فالبثا شهرين أو شهرين وبعض ثالث. كأنه قال: شهرين أو أكثر من شهرين. على جهة التخيير. كأنه قال: البثا أيّ الوقتين شئتما من شهرين أو أكثر. ودل بقوله: " أو بعض ثالث " على أكثر من شهرين لأنه لا يمكنهما لبث بعض ثالث إلا بلبث شهرين قبله. وقوله: بكيت على بجير أو عفاق معناه: بكيت على بجير في حال. وعلى " عفاق " في حال وهو كقولك: كل الخبز أو الأرز أو اللحم. على معنى إفراد واحد في حال. وقد تقدم ذكر نحو هذا. واعلم أن في الكلام ما يقتضي- إذا دخل ألف الاستفهام في أوله- أن يؤتى بعدها " بأم " ولا يقتصر على الألف وحدها. وفيه ما لا يحتاج إلى ذلك. فأما الذي يحتاج إلى " أم " مع الألف فباب أفعل الذي فيه التفصيل كقولك: " أزيد أفضل أم عمرو " و " أزيد أحسن أم عمرو ". و " البر خير أم الشعير " و " الأعراب شر أم الأكراد ". ولا يجوز أن تقول: " أزيد أفضل " وتسكت و " الأعراب شر " وتقتصر عليه. ومن ذلك أن تقول: ما أبال أضربت زيدا أم عمرا؟ ولا يجوز السكوت على الأول لا تقول: أضربت زيدا؟ لأنه لا يجيء إذا أدخلت ألف الاستفهام إلا على معنى: " أيهما ". ولو تدخل ألف الاستفهام جاز أن تقول:- ما أبالي زيدا ... " كما قال: فلست أبالي بعد آل مطرف … حتوف المنايا أكثرت أو أقلّت (¬1) و" سواء " إذا أدخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت " أم " بعدها. كقولك: " سواء على أقمت أم قعدت " والأصل في " سواء ": أن يكون بعده اسمان فصاعدا. كقولك: سواء عندي الزيدان. ¬

_ (¬1) انظر الخزانة: 4/ 467.

" وسواء على الزيدون ". وإذا كان أحد الاسمين معطوفا على الآخر عطف " بالواو " لا غير كقولك: سواء علي قمت وقعدت. وإذا كان بعد " سواء " فعلان بغير استفهام كأن عطف أحدهما على الآخر " بأو " كقولك: سواء علي قمت أو قعدت. وإذا كان بعده مصدران كأن لك العطف " بالواو " و " بأو " فالواو كقولك: سواء على قيامك وقعودك. و " بأو ". سواء على قيامك أو قعودك. وأما " أي " فأنها تقع بعد سواء. مرفوعة ومنصوبة ومخفوضة كقولك: سواء على أيّهم قام " ترفع أيام بالابتداء وتجعل خبرها قام. و " سواء على أيّهم ضربت " بنصب " أيا " بضربت. و " سواء على بأيّهم مررت ". وموضع " أي " وما بعدها نصبت أو رفعت. وإذا قلت: " سواء الزيدان " أو: " سواء زيد وعمرو " فسواء: مبتدأ وما بعده خبره. وهو رفع لأنه خبر الابتداء. وعطفت أحدهما على الآخر بالواو دون غيره لأنه بمنزلة: استوى زيد وعمرو واختصم زيد وعمرو. ولا يجوز: اختصم زيد ثم عمرو. ولا: اختصم زيد أو عمرو ولا: اختصم زيد فعمرو. وإذا كان بعد " سواء " استفهام فالاستفهام وما يتصل به جملة في موضع خبر " سواء " كقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬1). " الذين كفروا " نصب بأن. " وسواء " مبتدأ والجملة بعده خبره. و " سواء " وما بعده خبر الذين كفروا والعائد إليهم: " هم " في " أأنذرتهم ". وإنما دخلت ألف الاستفهام و " أم " لمعنى التسوية وإن لم يكن استفهاما. لما ذكرناه فيهما من معنى التسوية والمعادلة. ودخلت " الواو " خاصة على: " استوى زيد وعمرو " و " سواء عندي زيد وعمرو " لأن الواو للتسوية والتعديل التام دون الفاء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 6.

لأنك إذا قلت: " قام زيد وعمرو فزيد وعمرو " متساويان في وقوع القيام منهما ومتساويان في إبهام زمان قيامهما. ليس أحدهما أولى من الآخر بزمان القيام. وإذا قلت: " قام زيد فعمرو " أو " ثم عمرو " فكل واحد من الاسمين قد حصل على قيامه في زمان غير زمان قيام الآخر. وناب الاستفهام بعد سواء عن الاسمين اللذين يقتضيهما " سواء " لأن في الاستفهام معادلة وتسوية بين شيئين. وأما " أو " قد خلت في الفعلين لما فيها من معنى المجازاة. فإذا قلت: سواء على قمت أو قعدت فتقديره: إن قمت أو قعدت فهما على سواء. ويصير معنى " أو " إلى معنى الجزاء في قولك: " اضربه مات أو عاش " كأنه قال: اضربه إن مات من ضربك أو عاش (وناب ذلك عن الاسمين بعد سواء). وجاء في المصدرين " الواو " و " أو " أما " الواو " فلأن المصدرين اسمان فإذا قلت سواء على قيامك وقعودك فهو كقولك: سواء على عبدك وأمتك. وأما " أو " فلأن المصدرين مأخوذان من فعلين. وقد كان يعطف أحدهما على الآخر " بأو " وذلك قولك: سواء على قيامك أو قعودك. لأنه مصدر قولك سواء على قمت أو قعدت. واعلم أن الاسمين إذا كانت بينهما " أو " فلا معادلة بينهما ولا تسوية وأنهما كاسم واحد يجوز أن تعادل بينه مبهما وبين آخر. كقولك: أزيدا أو عمرا رأيت أم بشرا؟ فزيد وعمرو جميعا لدخول " أو " بينهما بمنزلة اسم واحد عودل بينه وبين بشر. فكأنه قال: أأحد هذين الرجلين رأيت أم بشرا؟ ومثله قول صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلّى الله عليه وسلّم: كيف رأيت زبرا؟ … أأقطا أو تمرا؟ أم قرشيّا صارما هزبرا؟ زبرا: مكبر الزبر. والزبير تصغير: زبر والزبير بن العوام رضي الله عنه ابنها وقد رأته صارع آخر فصرعه الزبير فقالت للمصروع كيف رأيت زبرا أي الزبير. أأقطا وتمرا أي: رأيته طعاما تأكله ويلين لضربتك أم خشنا على قرنه كالسيف والأسد. وقوله: " أأقطا أو تمرا " لدخول " أو " بينهما بمنزلة: أطعاما ووقعت المعادلة بينه وبين قرشيا.

وقوله: أعندك زيد أو عندك عمرو أو عندك بشر؟ هذه جمل كل جملة منها مبتدأ وخبر دخلت " أو " بينهما كما تدخل بين الجمل التي هي أفعال وفاعلون ومفعولون كقولك: أتضرب زيدا أو تضرب عمرا أو تضرب خالدا؟ ودخول " أو " بينهما كدخولها بين الأسماء الأفراد. كقولك أتضرب زيدا أو بشرا أو خالدا؟ لأن المسألة (عن) واحد منها. فإن كانت " أو " بين جمل فالمسألة عن أحدهما مبهمة. وسمي سيبويه الجمل: الكينونات وإن كانت " أو " بين أسماء أفراد فالمسألة عن أحدهما. واعلم أن " ألف الاستفهام " الباب والوجه فيه أن يليها الفعل. إلا أن يكون السؤال عن أحد الاسمين بمعنى " أيهما " فيكون الاختيار أن يليها الاسم. كقولك: أزيدا ضربت أم عمرا وأزيد قام أم عمرو ولو جعلت " أو " لكان الباب والوجه أن يلي ألف الاستفهام الفعل كقولك: أضربت زيدا أو عمرا؟ و " أقام زيد أو عمرو؟ لأن المسألة مع " أم " تقع على الاسم ومع " أو " تقع على الفعل ثم بعد ذلك يجوز تأخير ما الوجه تقديمه. وتقديم ما الوجه تأخيره على ما ذكر في الباب فالباب في " أم " تقديم الاسم ويجوز تأخيره والباب في " أو " تأخير الاسم ويجوز تقديمه. وقول سيبويه: فإذا قال: أتجلس أو تذهب؟ " فأم " و " أو " فيه سواء لأنك لم تثبت فعلا لأحد الاسمين ثم سألت عن تعيينه كما تقول: أضربت زيدا أم عمرا؟ وقد علمت أنه ضرب أحدهما والتمست تعيينه ولم يمكنك أن تفصل الاسمين المضمرين وتعلقهما على فعل واحد كما فعلت بقولك: أزيد قام أم عمرو؟ وكذلك: أتضرب زيدا أو تقتل خالدا؟ تجعل الفعل في " أو " و " أم " جميعا يلي حرف الاستفهام لأن المسألة ليست عن أحد الاسمين تلتمس تعيينه وإنما هو عن إحدى جملتين لكل واحد منهما فعل وفاعل ومفعول به فصار " كأم " المنقطعة التي: ما بعدها لا يدخل فيما قبلها ولا يتعلق به. وكان أبو العباس المبرد يقول: " أن معنى قول سيبويه: فأم و " أو " فيه سواء في جواز وقوعهما في هذا الموضع وإن كانا مختلفا معناهما في أصل الباب. واستواؤهما أن " أو " لم تدخل لتثبيت النقل في أحد

هذا باب «أو» في غير الاستفهام

الاسمين كما تكون في: أزيد قام أم عمرو. ونحوه فيما ذكرناه ما يأتي على ما تركناه إن شاء الله تعالى. هذا باب «أو» في غير الاستفهام تقول: جالس زيدا أو عمرا أو خالدا. كأنك قلت: جالس أحد هؤلاء. فإذا قلت: أضرب أحد هؤلاء ففي هذا دليل أنك لم ترد إنسانا بعينه. وأن كل هؤلاء أهل لأن تضرب كأنك قلت: أضرب هذا الضرب من الناس. وتقول: كل خبزا أو لحما أو تمرا. كأنك قلت: كل أحد هذه الأشياء فهذا بمنزلة الذي قبله. فإن نفيت هذا قلت: لا تأكل خبزا أو لحما أو تمرا. كأنك قلت: لا تأكل شيئا من هذه الأشياء. ونظير ذلك قوله عز وجل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (¬1). أي: لا تطع أحدا من هؤلاء. وتقول: لا تأكل خبزا أو لحما أي لا تجمعهما ومثل ذلك أن تقول: ادخل على زيد أو عمرو أو خالد أي لا تدخل على أكثر من واحد من هؤلاء. وإن شئت جئت به على معنى: ادخل على هذا الضرب. وتقول: خذه بما عز أو هان. كأنك قلت: خذه بهذا أي لا يفوتنك على حال. ومن العرب من يقول: " خذه بماعز وهان " أي: خذه بالعزيز والهين. وكل واحدة منهما تجزئ عن أختها. وتقول: لأضربنه ذهب أو مكث. كأنه قال: لأضربنه ذاهبا أو ماكثا. ولأضربنه (إن) ذهب أو مكث. وقال زيادة بن زيد العذري: إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده … أطال فأملي أو تناهى فأقصرا (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، الآية: 24. (¬2) البيت في المقتضب: 3/ 302، الخزانة: 4/ 469، وشرح الكافية للرضي: 2/ 350.

وقال: فلست أبالي بعد آل مطرف … حتوف المنايا أكثرت أو أقلت (¬1) فزعم الخليل أنه يجوز: لأضربنه أذهب أم مكث. قال: والدليل على ذلك أنك تقول: لأضربنه أيّ ذلك كان. وأنما فارق هذا " سواء " و " ما أبالي " لأنك إذا قلت سواء على أذهبت أم مكث فهذا الكلام في موضع: سواء على هذين. وإذا قلت: ما أبالي أذهبت أم مكثت فهو في موضع: ما بالي واحدا من هذين. وأنت لا تريد أن تقول في الأول: لأضربن هذين. ولا تريد أن تقول: تناهيت هذين. ولكنك أنما تريد أن تقول: أن الأمر يقع على إحدى الحالين. وإن قلت: لأضربنه أذهب أو مكث. لم يجز لأنك لو أردت معنى: " أيهما " قلت " أم مكث ". ولا يجوز: لأضربنه أمكث فلهذا لا يجوز: لأضربنه أذهب أو مكث كما يجوز: ما أدري أقام زيد أو قعد؟ ألا ترى أنك تقول: ما أدري أقام؟ كما تقول: ما أدري أذهب؟ وكما يقول: أعلم أقام زيد. ولا يجوز: لأضربنه أذهب. وتقول: كل حق لها سميناه أو لم نسمه كأنه قال: وكل حق له علمناه أو جهلناه. وكذلك: " كل حق هو لها وداخل فيها أو خارج منها ". كأنه قال: إن كان ذلك داخلا فيها أو خارجا. وإن شاء أدخل " الواو " كما قال: " بماعز وهان " وقد تدخل " أو " في أعلمناه أو جهلناه كما دخلت في: أذهب أم مكث؟ وتدخل " أو " على وجهين: على أنه صفة للحق. وعلى أن يكون حالا. كما قال: لأضربنه ذهب أو مكث. أي: لأضربنه كائنا ما كان. فبعدت " أم " هاهنا حيث كان خبرا يقع في موقع ما ينصب حالا وفي موقع الصفة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

على أنه صفة للحق وعلى أنه حال.

قال أبو سعيد: اعلم أن " الواو " و " أم " و " الواو " و " بل " أصول وضعن مختلفة ثم يقع فيهن من المجاز والاتساع ما يتداخلن فيه. فيستعمل الحرفين منهن في معنى واحد. فمن ذلك: اجتماع " الواو " و " أو " في قوله: " خذه بما عز أو هان " و " خذ بما عز وهان " ولا فرق بينهما في المعنى. وكل واحدة منهما تجزئ عن أختها فيما يراد ويقصد. فأما من قال " بأو " فمعناه: خذه بأحد هذين أما العزيز وأما الهين، ولا يفوتنك بحال. وأما من قال: " بما عز وهان " بالواو فمعناه: بالعزيز والهين. وليس قصده وغرضه أن نأخذ بهما في حال ولا حالين. وإنما معناه: خذه بما بذله لك من العزيز والهين كما تقول: خذه بالشدة والرخاء واستصلحه بالرفق والعنف والتوسعة والضيق. ومعناه: خذه بما صلح به من هذين الشيئين. ومثله: " كل حق له سميناه له أو لم نسمه ". و " كل حق له علمناه أو جهلناه ". على معنى: وكل حق له بإحدى هاتين الصفتين أما مسمى وأما غير مسمى. وتكون على وجهين: على أنه صفة للحق وعلى أنه حال. فأما الصفة فتقديره: " كل حق له مذكور وغير مذكور " وأما الحال فعلى معنى: " وكل حق له إن كان مسمى وإن كان غير مسمى ". كأنه قال: كل حق له كائنا ما كان. كما تقول: لأضربنه ذهب أو مكث. كأنه قال: لأضربنه ذاهبا أو ماكثا. ولأضربنه إن ذهب أو مكث. فأما من قال " بالواو " فمعناه: كل حق له من المسمى وغير المسمى. ومما يقع فيه " الواو " و " أو " بمعنى واحد: ما كان من التخيير بمعنى الإباحة كرجل أنكر على ولده مجالسة ذوي الزيغ والريب وأراد أن يعدل به إلى مجالسة غيرهم فقال له: " دع مجالسة أهل الريب وجالس الفقهاء والقراء وأصحاب الحديث ". أو قال له: " جالس الفقهاء والقراء أو أصحاب الحديث " فذلك كله بمعنى واحد. لأن مفهوم الكلام أنه لا يمكنه مجالسة جميع من ذكره. وإن كانت " بالواو " فأن المراد: أن

لا تجالس أهل الريب والقصد: جالس من شئت من الفقهاء والقراء وأصحاب الحديث. و" أو " تؤدي هذا المعنى لأنها في التخيير كأنه قال: جالس إن شئت هؤلاء، وإن شئت فأكثر منهم وإن شئت فأجمع بينهم. ومما تكون فيه " أم " و " أو " بمعنى واحد وإن كان أصلهما مختلفا قولهم: " اضرب زيد أولا ". و " أضربت زيدا أم لا " وذلك أنك لو اقتصرت على: " أضربت زيدا؟ " لاقتضى السؤال " نعم " أو " لا ". فإن زاد فيه " أو " أو زاد فيه " أم " لم يتغير معناه. وقد ذكرت قبل هذا من اختلاف " بل " و " أم " في أصلهما واتفاقهما فيما يراد من المعنى في: " أم يقولون افتراه ... ؟ " قول الشاعر: " ... … أم كلّ إليّ حبيب؟ " فيما فيه مقنع، وكذلك اجتماع " بل " و " أو " في قوله: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى … وصورتها أم أنت في العين أملح في معنى: " بل ". وقول سيبويه وجمع البصريين أن نفي المباح " بأو " يستوعب جميع ما وقعت عليه ولا يخالف معناه معنى " الواو " كقولك: " لا تأكل خبزا أو لحما أو تمرا ". إذا أردت نفي أحد هذه الأشياء كأنك قلت: لا تأكل شيئا من هذه الأشياء. ونظيره: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (¬1) أي لا تطع أحدا من هذين. لأن كل واحد منهما كان في الأمر مباحا. فإذا دخل النهي الذي هو ضد الأمر صار كل واحد منهما محظورا. وإذا كان التخيير على وجه الإباحة فدخل النهي. فإن أبا الحسن بن كيسان: يجوز أن يكون النهي عن واحد. وجوز أن يكون عن جميع المذكور كقولك: لا تأخذ دينارا أو ثوبا. يجوز أن يكون نهاه عن أخذ أحدهما. ويجوز أن يكون النهي عن أحدهما على مقابلة الأمر لأن الأمر كأن يأخذ أحدهما والنهي نقيضه وضده فيكون نهيا عن أخذ أحدهما. وجاز أن يكون يعني مجيئهما. ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، الآية: 24.

قال أبو سعيد: والذي عندي أنه إذا دخل نهي أو نفي على ما فيه " أو " فإن النهي والنفي عن الجميع فيما كان مباحا أو تخييرا. وذلك أنك إذا أمرت وأنت تخيره فقلت: خذ دينارا أو ثوبا. فأنت تأمره بأخذ أحدهما والآخر محظور. فإذا نهيته فقد حظرت عليه الذي كنت تأمره بأخذه. فصار الجميع محظورا من حيث كان تقدير الآخر: خذ أحدهما. يصير تقدير النهي: " لا تأخذ أحدهما ". فأيهما أخذ فقد عصى لأنه قد أخذ أحدهما وليس يكون هذا على ما قال أبو الحسن بن كيسان إلا على وجه اللغز. كأنه يقصد بأحدهما في اللفظ واحدا بعينه ويبهمه على السامع كقول القائل " جاءني زيد أو عمرو " وهو يعرف الذي جاء بعينه ولم يعرض للآخر بشئ. واعلم أن " أو " تدخل بين فعلين بعد استغناء الفعل قبلها ويكون الفعلان بمعنى الحال وفيها معنى المجازاة ولا يكفي الكلام بأحد الفعلين ولا يكون إلا فعلا ماضيا. وذلك قولك: لأضربنه ذهب أو مكث ومعناه: لأضربنه إن ذهب وإن مكث. وموضعه من الإعراب نصب. كأنه قال: لأضربنه ذاهبا أو ماكثا. ولا يجوز: " لأضربنه ذهب " على معنى: لأضربنه ذاهبا. لأن " ذهب " فعل ماض ولا يكون حالا لمستقبل. وإنما جاز: " لأضربنه ذهب أو مكث ". لأنه بالتكرير صار فيه معنى: إن ذهب وإن مكث كأنه قال: لأضربنه كائنا ما كان. و " لأضربنه على كل حال ". ولا يجوز الفعل المستقبل في هذا. لأن الفعل المستقبل يقع موقع الحال ولا يحتاج إلى تكرير، ولا يدل على أنك تريد به المجازاة. ألا ترى أنك تقول: لأضربن زيدا يضحك. بمعنى: ضاحكا. ولو قلت: لأضربنه يذهب أو يمكث لم يكن فيه دلالة على المجازاة كما دل الماضي بلفظ المضي الذي يقتضيه على المجازاة. ولو جعلت في أول الفعل ألف الاستفهام جعلت مكان " أو " و " أم "، ولم يخرج عن معنى المجازاة ولزوم الفعل الماضي كقولك: لأضربنه أذهب أم مكث؟ واستدل الخليل على جواز ذلك بقولهم: " لأضربنه أي ذلك كان ".

وهي بدخول ألف الاستفهام في أولها بمنزلة " أو " في المعنى. لأن الكلام في " أو " يقدر كائنا ما كان. وفي " أم " يقدر: أي ذلك كان. ومعناهما واحد. واحتاجوا في " أم " إلى ألف الاستفهام للتعديل والتسوية. وقوله: " لأضربنه كائنا ما كان " " كائنا ": نصب على الحال من الهاء في لأضربنه. وما كان: في موضع رفع " بكائن " وهو فاعله. و " ما " بمعنى: الذي و " كان " صلتها وفيها معنى المجازاة ولذلك كان ماضيا. وضمير الفاعل في " كان " يعود إلى " ما " وبعد " كان " هاء محذوفة تعود إلى الهاء في: لأضربنه وقول الشاعر: أطال فأملي أو تناهى فأقصرا (¬1) إذا كان " بأو " فهو من: أطال يطيل بغير استفهام كقولك: لأضربنه قام أو قعد. ويجوز: أطال فأملى أم تناهى ... ؟ ويكون ألف أطال استفهاما دخل على طال يطول والأجود " أو " بغير استفهام. وهو الكثير في الكلام. ولذلك قال سيبويه: " لأضربنه ذهب أو مكث أي لأضربنه كائنا ما كان. فبعدت " أم " هاهنا حيث كان خبرا يقع موقع ما انتصب حالا أو في موقع الصفة. قال: وأنما فارق هذا سواء و " ما أبالي " لأنك إذا قلت: سواء على أذهبت أم مكثت فهذا الكلام في موضع سواء على هذين. وإذا قلت: ما أبالي أذهبت أم مكثت فهو في موضع ما أبالي واحدا من هذين. وأنت لا تريد أن تقول في الأول: لأضربن هذين ولا تريد أن تقول: تناهيت هذين. ولكنك أنما تريد أن تقول: إن الأمر يقع على إحدى الحالين. قال أبو سعيد: يريد أن الذي بعد " سواء " بمنزلة خبر المبتدأ. والذي بعد " وما أبالي " في موضع المفعول لأبالي. والذي بعد " لأضربنه ... " إنما أتى بعد تمام الكلام على وجه الشرط للكلام ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

بحمد منه هذا باب «الواو» التي تدخل عليها ألف الاستفهام

فاختير فيه وكذلك قد: تم ب " تناهيت عنده " وجاء: أطال فأملي، وليس ما بعد " لأضربنه " و " تناهيت عنده " في موضع المفعول كما كان ذلك في: " ما أبالي هذا ... " وهو على وجه الاختيار. ولا يجوز أن تقول: لأضربنه أذهب أو مكث. لأنك إذا استفهمت في أوله. احتجت إلى المعادلة والمعادلة " بأم ". وإذا لم تدخل ألف الاستفهام في أوله فهي في موضع الحال وتحتاج إلى " أو " وقد ذكرنا أنه لا بد من ذكر الفعلين مع " أو " و " أم " في قولنا: لأضربنه ذهب أو مكث و " ذهب أو مكث " ولا يجوز: لأضربنه أذهب أو مكث؟ لأنك أبطلت المعادلة بإدخال " أو " وإذا لم تكن معادلة لم تحتج إلى الألف. وليس هذا بمنزلة قولك: ما أدري أقام زيد أو قعد لأنه يجوز أن تقول: ما أدري أقام زيد؟ ويجوز: اعلم أقام زيد " ويكتفي بفعل واحد ولا يحتاج إلى معادلة. قال أبو ذؤيب: عصاني إليها القلب إني لأمره … سميع فما أدري أرشد طلابها (¬1) وأدري من أخوات " اعلم " وقد يجوز أن تقول: قد علمت أزيد في الدار وقد أتى هذا التفسير على جميع الباب بحمد منّه هذا باب «الواو» التي تدخل عليها ألف الاستفهام وذلك قولك: هل وجدت فلانا عند فلان؟ فتقول: أو هو ممن يكون عنده ثم؟ أدخلت ألف الاستفهام، وهذه " الواو " لا تدخل على ألف الاستفهام وتدخل عليها الألف. وإنما هذا الاستفهام مستقبل بالألف ولا تدخل الواو على الألف. كما أن " هل " لا تدخل على " الواو ". فإنما أراد ألا يجروا الألف مجرى " هل " إذ لم تكن مثلها. والواو تدخل على " هل ". ¬

_ (¬1) انظر ديوان الهذليين: 1/ 71، معيار الشعر لابن طباطبا: 98، الدرر اللوامع: 2/ 172.

وتقول: ألست صاحبنا؟ أو لست أخانا؟ ومثل ذلك: أما أنت أخانا؟ أو ما أنت صاحبنا؟ وقوله: أو لا تأتينا؟ أو لا تحدثنا؟ إذا أردت التقرير أو غيره ثم أعدت حرفا من هذه الحروف لم يحسن الكلام إلا أن تستقبل الاستفهام. وإذا قلت: ألست أخانا؟ أو صاحبنا؟ أو جليسنا؟ فإنما تريد أن تقول: ألست في بعض هذه الأحوال؟ وأنما أردت في الأول أن تقول: ألست في هذه الأحوال كلها؟ ولا يجوز أن تريد معنى: ألست صاحبنا؟ أو جليسنا؟ أو أخانا؟ وتكون: لست مع " أو " إذا أردت أن تجعله في هذه الأحوال كلها. ألا ترى أنك إذا أخبرت فقلت: ألست بشرا. أو ألست عمرا أو ما أنت ببشر ما أنت بعمر لم يجئ إلا على معنى: بل ما أنت بعمرو. و: لا بل لست ببشر. وإذا أرادوا معنى: أنك لست واحدا منهما. قالوا: لست عمرا ولا بشرا أو قالوا: أو بشرا. كما قال عز وجل:- وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (¬1)، ولو قلت: " أو لا تطع كفورا " انقلب المعنى. فينبغي لهذا أن يجئ بألف الاستفهام منقطعا من الأول. لأن " أو " هذه نظيرتها في الاستفهام " أم ". وذلك قولك: أما أنت بعمرو أم ما أنت ببشر؟ كأنه قال: لا بل ما أنت ببشر. وذلك أنه أدركه الظن في أنه بشر بعد ما مضى كلامه الأول فاستفهم عنه. وهذه " الواو " التي دخلت عليها ألف الاستفهام كثيرة في القرآن. كما قال عز وجل: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (¬2) فهذه الواو بمنزلة الفاء في قوله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ (¬3)؟ وقال عز وجل: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (¬4). وقال عز وجل: ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، الآية: 24. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 97، 98. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 99. (¬4) سورة الصافات، الآية: 16، 17.

أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (¬1). قال أبو سعيد: ألف الاستفهام تقع من حروف العطف على " الواو " و " الفاء " و " ثم " وتتقدمهن. فالفاء قول الله عز وجل: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (¬2). والواو: قوله عز وجل: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ (¬3). و" ثم " قوله عز وجل: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ (¬4). ولا يتقدم شيء من حروف الاستفهام وأسمائه سوى " الألف " على حرف العطف. بل حروف العطف تدخل عليهن وتتقدمهن كقولك: " وهل زيد في الدار؟ فهل زيد في الدار؟ فهل أنتم منتهون " (¬5)؟ وقال الشاعر: ليت شعري هل ثم هل أتينهم … أو يحولن دون ذاك حمامي (¬6) وأما " أم " وهي من حروف الاستفهام فأنها لا تدخل على حروف العطف ولا تدخل عليها حروف العطف. لأنها وإن كانت للاستفهام فهي للعطف. ولا تكون مبتدأة كما لا تكون حروف العطف مبتدأة ومن ذلك تدخل " أم " على " هل " وعلى الأسماء التي يستفهم بها كما تدخل حروف العطف عليها كقوله: أم هل كبير بكى لم تقض عبرته (¬7) وقوله: أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به (¬8) ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 100. (¬2) سورة البقرة، الآية: 85. (¬3) سورة البقرة، الآية: 100. (¬4) سورة يونس، الآية: 51. (¬5) سورة المائدة، الآية: 91. (¬6) البيت عند ابن يعيش: 8/ 151 منسوب إلى الكميت بن زيد الأسدي. (¬7) صدر بيت لعلقمة بن عبدة. عجزه: ... … أثر الأحبة يوم البن مشكوم انظر الشعر والشعراء: 159، شرح المفضليات للأنباري: 525. (¬8) صدر بيت عجزه:

وقد قال الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ (¬1). فإذا دخلت " أم " على الاستفهام فإنما تدخل من حيث كانت عطفا ويصير بمنزلة: " وهل كبير بكى ... " وكيف ينفع ما تعطي العلوق به ". ومن يجيب المضطر إذا دعاه. وإنما صارت الألف تدخل على هذه الحروف التي ذكرنا " الفاء " و " الواو " و " ثم " ولم تدخل " هل " عليهن. لأن ألف الاستفهام قد تدخل على بعض الكلام ولا يكون ما بعدها كلاما تاما. كقولك لمن قال لك: ضربت زيدا. أزيدنيه؟ ولمن قال: مررت بزيد. أزيدنيه؟ ويقول الرجل: كم غلمانك. أثلاثة أم أربعة؟ فتجعله بدلا من " كم " وحدها وهي بعض الجملة. ويقول الرجل: مررت بزيد. فيقال: أبزيد؟ وهو بعض الجملة. وتقول للرجل: أقائما والناس قعود؟ وأمقيما وقد رحل القوم؟ ولا يجوز شيء من ذلك في " هل " ولا يكون " هل " إلا لاستقبال الاستفهام ولا يقتطع بها بعض الكلام. فلما كان ما في أوله " الواو " و " الفاء " و " ثم " من جملة عطف عليها " بالواو " و " الفاء " و " ثم " صار ما فيه شيء من هذه الحروف بعض الجملة، فاقتطعت بالألف من الجملة ولم يجز اقتطاعها " بهل " لما ذكرناه. وقد احتج سيبويه في أول أبواب " أو " للفرق بين " هل " و " الألف " فقال: " وذلك أن هل ليست بمنزلة ألف الاستفهام لأنك إذا قلت: هل تضرب زيدا؟ فلا يكون أن يدعى أن الضرب واقع. ¬

_ ... … رئمان أنف إذا ما ضن باللبن انظر الخصائص: 2/ 184، الهمع: 2/ 133، ابن يعيش: 4/ 18، الأشباه والنظائر للسيوطي: 1/ 329. (¬1) سورة النمل، الآية: 62.

قال أبو سعيد: وقد يجوز أن يعارض بقول الله عز وجل: وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (¬1) أي: لذي عقل- على وجه التنبيه أن في ذلك قسما لذي حجر. ويعارض بقوله عز وجل: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (¬2). لأنه أتى عليه حين من الدهر قبل أن ينفخ فيه الروح ولم يكن مذكورا إلى أن نوه الله عز وجل به فصار مذكورا. وأكثر القول أن الإنسان: آدم. ولم يكم آدم مذكورا وذكر بعض العلماء أن الإنسان يجوز أن يكون: " الناس كلهم ". وكل إنسان يأتي عليه من حال تكونه في الرحم إلى أن يولد حين لا يكون فيه مذكورا. وقال الفراء: " هل ": يكون جحدا ويكون خبرا. فقوله: عز وجل: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " ومثله: فهل " وعظتك "، فهل أعطيتك، مقررة بأنك أعطيته ووعظته. والجحد أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ قال أبو سعيد: وللمحتج عن سيبويه أن الذي ذكر سيبويه جوازه في الألف ممتنع في " هل " لأن الذي يقول: أتضرب زيدا؟ لمن قد ضربه يوبخه ويتهدده. ولم يأت مثل ذلك في " هل " وكان الفراء يذهب إلى أن حروف النسق كان ينبغي أن تكون قبل الألف كما كانت قبل " هل " وسائر الحروف. ولما كانت " الألف " تضارع " الألف " التي تدخل على الفعل الماضي كقولك: ذهب وأذهبه فلان فلو قلت: وأقدم زيد؟ وأنت تريد ألف الاستفهام. لأشبه قولك: " أقام زيد بمكان كذا وكذا. فلما خشوا هذا جعلوا هذه الحروف بين الألف وبين ما بعدها. وكان يقول: " أنما خصوا الألف " بذلك لأنها لا تقوم بنفسها فأشبهت ما يتصل بالشيء وهو منه وضارعت " هل " " من " و " ما " فدخلت حروف النسق عليها. قال أبو سعيد: إذا قال القائل: هل وجدت فلانا عند فلان؟ فقال المجيب: أو هو ¬

_ (¬1) سورة الفجر، الآيات: 1: 5. (¬2) سورة الإنسان، الآية: 1.

ممكن يكون عنده؟ فكلام المخاطب عطف على كلام المتكلم. وجاز أن يقول: " وعمرو " أو " فعمرو " أو " ثم عمرو " وإذا عطف واستفهم كان حروف العطف بعد حرف الاستفهام إذا كان الاستفهام بألف. وإن كان بغير " ألف " فحرف العطف قبله فالألف قولك أو هو ممن يزورك؟ وأفهو لك صديق؟ و " أثم أقام عندك " أو " فما فعل عندك؟ " أو ثم ما فعل عندك؟ أو يقول: إذا جاءني زيد. فلك أن تقول: أو من ... ؟ أو " فمن ... ؟ أو " ثم من ... ؟ ونحو ذلك. وإذا قال: ألست صاحبنا؟ أو: ألست أخانا؟ فقد صار الأول تقريرا بدخول ألف الاستفهام وعطفت الثاني عليه. عطفت جملة على جملة وأدخلت فيه ألف الاستفهام فصارت الجملة الثانية كالجملة الأولى. ورد العامل فيه يصيره في معنى " بل " كأنك قررته على الجملة الثانية. وتركت التقرير الأول. كما تعمل " بل " في ترك الأول وتثبيت الثاني. ومثل ذلك: أما أنت صاحبنا؟ أو ما أنت أخانا؟ أدخل حرف الاستفهام على: " ما " الجحد. وحكمها حكم " ليس ". ومثل ذلك قوله: أو لا تأتينا أو لا تحدثنا؟ إذا أردت التقرير أو غيره. " ألا تأتينا " يكون تقريرا، ويكون استدعاء وعرضا. كقولك: ألا ماء أشربه؟ وهو في نحو معنى " هلا ". وهذا معنى قول سيبويه: " إذا أردت التقرير أو غيره ". إعادة العامل توجب استئناف الاستفهام واستقباله. فإن أردت أن يكون الكلام جملة واحدة جئت بحرف العطف ولم تعد العامل فقلت: ألست أخانا أو صاحبنا أو جليسنا؟ فعطفت " أو " اسما على اسم. ولم تعد حرف الاستفهام ولا العامل فصار كقولك: ألست أحد هؤلاء النفر؟ وهو كلام واحد. وجعل " أخانا " و " صاحبنا " و " جليسنا " أحوالا. وجعل كونه أحدها. لا كونا في بعض الصفات التي لهم. وإذا قال: ألست أخانا؟ أو لست جليسنا؟ أو لست صاحبنا؟ فكل واحدة من هذه الثلاثة مثبتة مفردة له على حياله وجعله في هذه الأحوال كلها يعني: " أخاهم وصاحبهم وجليسهم " ولا يجوز أن تقول: ألست صاحبنا؟ أو لست جليسنا؟ أو لست أخانا؟ وأنت تريد بتكرير: " لست " ما تريد إذا لم تكرر " لست ".

هذا باب لبيان «أم»

لأنك إذا كررتها فقد جعلت الكلام الثاني منقطعا من الأول. وصارت " أو " بمنزلة " أم " وصار المتكلم إذا قال: ألست صاحبنا؟ أو لست جليسنا؟ معرضا عن الأول معتمدا على الثاني وكذلك لو لم يكن استفهام فأخبرت فقلت:- لست بشرا أو لست عمرا. وكذلك: ما أنت ببشر وما أنت بعمرو. ولم يجئ إلا على معنى: لا بل ما أنت بعمرو ولو أراد أن يقول: ما أنت لست بواحد منهما لقال: لست عمرا ولا بشرا. أو قال: لست بشرا أو عمرا. كما قال الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً بمعنى ولا كفورا. قال: ولو قال: " أو لا يطع كفورا " انقلب المعنى يعني: أنه إذا أعاد " أو لا تطع " يصير إضرابا كأنه ترك النهي عن اتباع الإثم وأضرب عنه ونهى عن طاعة الكفور فقط. وقوله: " فينبغي لهذا أن يجئ في الاستفهام منقطعا " يعني: أن " أم " لا تقع في النهي. لأنها استفهام. ولكنها تدخل فيما كان خبرا فيكون استفهاما. ويكون دخول " أم " فيه كدخول " أو " في النهي إذا قلت: أو لا كفورا. وذلك قولك: أما أنت بعمرو؟ أم أنت ببشر؟ تكون " أم " في هذا نظيره " أو " في: " أو لا يطع ". لأنهما يكونان للإضراب عن الأول. فيصير كأنه قال: " بل لا تطع كفورا " بل ما أنت ببشر. وقد مضى الكلام في " أم " المنقطعة وشرحها ووجوهها قبل. هذا باب لبيان «أم» لم دخلت على حروف الاستفهام ولم تدخل على الألف؟ تقول: أم من يقول؟ أم هل تقول ولا تقول: أم أتقول؟ وذلك لأن " أم " بمنزلة الألف وليست أي ومن (ما) و " متى " بمنزلة الألف أنما هي أسماء بمنزلة: هذا وذاك. إلا أنهم تركوا الألف التي للاستفهام هنا إذ كان هذا النحو من الكلام لا يقع إلا في المسألة. فلما علموا أنه لا يكون إلا كذلك استغنوا عن الألف وكذلك " هل " أنما هي بمنزلة " قد " إلا أنهم تركوا " الألف " إذا كانت " هل " لا تقع إلا في الاستفهام.

قلت: فما بال " أم " تدخل عليهن وهي بمنزلة الألف؟ فقال: " أم " إنما هي تجيء بمنزلة " لا بل " للتحول من شيء إلى شيء والألف لا تجيء إلا مستقبلة فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها. واحتاجوا إلى " أم " إذا كانت لترك شئ إلى شئ لأنهم لو تركوها (فلم يذكروها) لم يتبين المعنى. قال أبو سعيد: في نسخة أبي بكر مبرمان متصل بهذا الباب قال ابن أحمر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث … إلى ذاكم قد غيبتني غيابيا (¬1) يريد: البثا شهرين ونصف ثالث: وقال الله عز وجل: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (¬2). قال أبو العباس: ليس هذا البيت في كتاب سيبويه وأهل الشعر يجعلونه بمنزلة " الواو " وكذلك في قول الله عز وجل: " وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ". قال: وليس القول عندي هكذا. وذلك أنه يصير: البثا شهرين ونصف شهر على " أو ". و" أو " بمعنى " واو " العطف أيضا غير موجود. والقول عند أبي العباس: " البثا شهرين أو البثا شهرين نصف ثالث ". وكذلك: " مائة ألف أو مائة ألف ويزيدون ". وقال: ولا أخرجها عن معناها، ولكن أتركها على معناها وأقدر أن الذي بعدها مثل الذي قبلها، واحذفه اختصارا. لأن الذي قبله دل عليه هذا قول أبي العباس فافهمه فإنه حسن. قال أبو سعيد: وهذا المتصل بالباب مع كلام أبي العباس نقلته من نسخة أبي بكر مبرمان. وقال أبو سعيد: وقد تكلمت على البيت و " أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " فيما تقدم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد ذكرت أن " أم " دخلت على حروف الاستفهام لأنها أسماء. و " أم " حرف عطف ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سورة الصافات، الآية: 147.

فدخلت عليها كما تدخل حروف العطف عليها في قولك: ومن؟ وكيف؟ ومتى؟ وغيرهن من الأسماء التي يستفهم بها. ولم تدخل " أم " على الألف لأن " أم " نظيرة الألف في التعديل والتسوية وأنهما حرفان ليس باسمين. والألف هي الأصل في حروف الاستفهام وهذه الأسماء التي تستفهم بها هي أسماء كان حقها أن تدخل عليها ألف الاستفهام. لأنها للدلالة على ما تحتها من المسميات ولكنها لما خصت في استعمالها في الاستفهام أو في الجزاء استغنى عن ذكر حرف الجزاء وحرف الاستفهام معها لدلالتها عليها. و" أم " هي للاستفهام لمعادلتها الألف. وللاستفهام بها إذا كانت منقطعة وهي للعطف أيضا. لا يبتدأ بها. وهي جارية مجرى " أو " وقد ذكرنا العطف بها. فإذا أدخلنا " أم " على أسماء الاستفهام فهي على وجهين: أما أن يخلصها: للعطف وتبقى بضمير الاستفهام في أسماء الاستفهام فتصير بمنزلة " الواو " و " الفاء " و " ثم " التي تدخل على هذه الأسماء. كقولنا: " ومن .. ؟ ومتى؟ وكيف؟ و " فمن؟ متى؟ ... ؟ و" ثم من؟ ... وما أشبهه. وأما أن تبقي الاستفهام في " أم " وتخلص أسماء غير متضمنة للاستفهام فيكون الاستفهام تاما. ويكون دخولها عليه كدخولها على سائر الأسماء وكدخول ألف الاستفهام على الأسماء. وأما " هل " فإنها حرف دخلت لاستقبال الاستفهام ومنع بعض ما يجوز في الألف من اقتطاعها بعض الجملة. ومن جواب التعديل والمساواة. فكأنها دخلت مانعة لشيء من الاستفهام ومجيزة لشئ منه. فصارت داخلة لغير الاستفهام المطلق الذي أصل حروفه الألف. ولذلك قال سيبويه: " هل " إنما هي بمنزلة " قد ". إلا أنهم تركوا الألف كما كان حق الأسماء التي يستفهم بها أن تدخل عليها ألف الاستفهام فيقال: أهل قام زيد؟ وأمن قام؟ ودخلت " أم " على " هل " لأنها حرف عطف " كالواو " و " أو " في قولك: " وهل "؟ ومعنى قول سيبويه للفصل بين " أم " وبين الألف في دخول " أم " على " هل " وامتناع الألف من دخولها على " هل ". أن " أم " إنما تجيء هاهنا بمنزلة: " لا بل للتحويل من شئ إلى شيء. والألف لا

هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف هذا باب «أفعل»

تجئ إلا مستقلة. فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها. واحتاجوا إلى " أم " إذ كانت لترك شيء لأنهم لو تركوها لم يتبين المعنى. ومعنى قوله: أن " أم " تجئ بمنزلة: " لا بل للتحويل من شيء إلى شيء. يعني أنها إذا كانت منقطعة دلت على مثل ما دلت عليه " بل " في ترك شئ إلى شيء. ولو جئنا بالألف في موضع " أم " لكنا قد استأنفنا الاستفهام ولم يكن فيه ترك شيء إلى شيء. ألا ترى أن رجلا لو أبصر شخصا من بعيد فقال: هو زيد. ثم شك فيه أو عن له رأى في خلاف ما قال. فقال: أم أنا لا أبصر؟ علم أنه ترك قوله الأول. أو شك فيه. وسبيل " أم " لما كانت للعطف أن تصير بين ما قبلها وما بعدها ملابسة " ما " كسائر حروف العطف فلذلك احتاجوا إلى " أم " واستغنوا عن الألف ولو لم يذكروا " أم " لم يتبين المعنى. وكان أبو العباس المبرد يجيز دخول ألف الاستفهام على " هل " وعلى سائر أسماء الاستفهام كدخول " أم ". وأنشد: سائل فوارس يربوع بشدتنا … أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم ودخول الألف عليها غير معروف. وغيره يرويه بأم: أم هل. والقول ما ذكرناه عن سيبويه هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف هذا باب «أفعل» قال سيبويه: اعلم أن أفعل إذا كان صفة لم ينصرف، نكرة ولا معرفة وذلك لأنها أشبهت الأفعال، نحو: اذهب واعلم. قلت: فما باله لا ينصرف، إذا كان صفة؟ فقال- يعني الخليل- لأن الصفة أقرب إلى الأفعال، فاستثقلوا التنوين فيه كما استثقلوا في الأفعال، فأرادوا أن يكون في الاستثقال كالفعل، إذ كان مثله في البناء، والزيادة، وضارعه، وذلك نحو أحمر، وأسود، وأخضر.

وإذا حقرته قلت: أحيمر وأخيضر، فهو على حاله قبل أن تحقره، من قبل أن الزيادة التي بها أشبه الفعل مع البناء ثابتة، وأشبه هذا من الأفعال ما أميلح زيدا، كما أشبه أحمر أذهب. قال أبو سعيد: نحتاج أن نقدم مقدمات، توطئ معرفة ما ينصرف وما لا ينصرف، وشيئا من علل ذلك، وذكر الأسباب المانعة من الصرف فأقول: إن الأسماء تنقسم قسمين، أحدهما: متمكن، والآخر غير متمكن، فالمتمكن: المعرب وغير المتمكن المبني. والمتمكن على ضربين أحدهما: مستوف للتمكن، ويسمى الأمكن فأما الأمكن المستوفي للتمكين، فهو ما يدخله الرفع والنصب، والجر. والناقص التمكن هو ما يعرب بالرفع، والنصب، فقط، ولا يدخله تنوين والمجرور منه محمول على لفظ المنصوب. ونقصان التمكن في الاسم أن يدخل عليه ما يثقله مما هو فرع فيه غير أصل، وذلك عشرة أشياء: وزن الفعل، وشبهه، والصفة، والتأنيث، والتعريف، والجمع والعدل، والعجمة، وزيادة الألف وحدها، والألف والنون في آخر الاسم، وجعل الاسمين اسما واحدا. أما وزن الفعل المانع من الصرف من الزوائد الأربعة، التي تكون في أول الأفعال المضارعة ويكون بها الاسم على وزن " فعل " من الأفعال المضارعة، أو فعل الأمر، وإن شاركه في ذلك البناء الاسم. أو يكون لفظه لفظا لا يقع في شيء من الأسماء. فأما ما كان في أوله زيادة الفعل المضارع فنحو أحمر، وأخضر، وأسود وأفكل، وأزمل، وأيدع، وأربع وأكلب ويرمع وثغلب ويزيد، ويشكر، وترتب، وتنضب، ونرجس. فهذه الأسماء منها ما لا يستعمل فعلا نحو: أفكل، وأيدع، وأحمر، وأخضر. وجميع هذه الأبنية تقع في الأسماء غير الأعلام. وأما ما يكون لفظه غير موجود في الأسماء إلا أن يسمى به فيكون علما فهو مثل: فعّل، وفعّل وما أشبه ذلك، وذلك قولك ضرّب وكسّر وضرّب وكسّر. فإن سميت باسم على وزن فعل، يشاركه الاسم في ذلك الوزن لم تعتد بوزن الفعل فيه، وذلك قولك: جعفر، وسلهب وجعل، وكثف، وعجز.

فجعفر، وسلهب، وإن كان وزنهما كدجرج وسرهف فذلك لا يثقلهما. لأن هذا الوزن ليس الفعل أولى به من الاسم، وكذلك جمل، وكثف، وعجز وزنها كوزن فشل، وعلم، وظرف وذلك لا يثقله؛ لأن الفعل غير مختص بذلك، وكذلك لو لحقت بالفعل علة تصيره إلى لفظ الاسم لزالت العلة والثقل وذلك نحو: (فيل)، (بيع) و (رد) لأنه قد صار على وزن (ديك) و (رد) على وزن كرّ. وإنما صار الاسم الذي في أوله إحدى الزوائد ثقيلا، وإن اشترك في ذلك البناء الاسم والفعل، كاشتراك أذهب، وأمنع وهما فعلان لأحمق، وأسود، وأفكل، وأيدع، وهي أسماء؛ لأن هذه الهمزة يجوز دخولها على الأفعال لمعنى، وهي أن يكون الفعل للمتكلم كقوله: أنا أذهب، وأصنع، وتدخل أيضا لنقل الفعل كقولك أعلم زيد عمرا خبرا وأخرج زيد عمرا، وتدخل الياء والتاء والنون في قولك أنت تذهب وهو يذهب ونحن نذهب. فلما صار لهذه الحروف معان في الأفعال تدخل تارة أصلا في الأفعال، والأسماء داخلة عليها. وإنما صار ما ذكرنا من وزن الفعل ثقلا؛ لأن الاسم أصل، والفعل فرع، والاسم أخف من الفعل، فإذا دخل على الاسم ما هو للفعل ثقله، وكذلك الصفة أثقل من الموصوف؛ لأن الصفة تحتاج إلى الموصوف، والموصوف قبلها كقولك: مررت برجل أحمر، وثوب أخضر، والتأنيث أثقل من التذكير؛ لأن التذكير أول، والتأنيث داخل عليه؛ لأن أصل الأسماء أن يقال لكل واحد منها شيء، والشيء مذكر، وأيضا فالتأنيث يحتاج إلى علامة والتذكير لا علامة له؛ لأنه على الأصل، والتعريف أثقل من التنكير؛ لأن أصل الأسماء أن تكون منكورة، كل واحد منها شائع في نوعه، كرجل، وفرس، وإنما يتعرف بدخول الألف واللام، أو الإضافة، والذي يصير الاسم علما بالاختصاص له. والجمع أثقل من الواحد؛ لأن الواحد هو الأصل ثم يجمع، والعدل أثقل من الاسم الذي عدّل عنه؛ لأن ذلك الاسم هو الأصل، والعجمة أثقل من العربة؛ لأنها ترد بعد كلام العرب بعد التكلم بالعربة، وزيادة الألف وحدها، وزيادة الألف والنون أثقل؛ لأن الاسم أولا بغير زيادة، وجعل الاسمين اسما واحدا أثقل؛ لأن الأصل اسم واحد ثم ضم إليه الآخر. وجعلت هذه الزيادات في الأواخر ثقلا؛ لأنها في لحاقها آخر الاسم تجري مجرى

التأنيث وسنبين ذلك كله في موضعه بأكثر من هذا إن شاء الله تعالى. فإذا اجتمع في الاسم من هذه العلل العشر الفرعية ثنتان فصاعدا أو واحدة تقوم مقام ثنتين منع الاسم من الصرف، فلم يدخله تنوين ولا جر. وإذا دخلت واحدة لم تمنع الصرف. وإنما لم يمنع بدخول واحدة؛ لأن في الاسم خفة بالاسمية، فإذا دخل ثقل واحد قاومته الخفة فلم يغلبها فإذا دخل ثقلان غلباها. وإنما منع ما لا ينصرف التنوين والجر؛ لأن التنوين هو علامة الأمكن وحذفه علامة المثقل من الأسماء، ولم يدخله الجر؛ لأن الاسم الذي ثقل بما دخل عليه أنزل منزلة الفعل، وليس في الفعل جر. فإن قال قائل: فهلا أسكن الاسم في حال الجر إذا دخل عليه ما يمنع الصرف؟ قيل له حكم الاسم المستحق للإعراب أن لا يمنع الإعراب في شيء من أحواله فاحتيج إلى إعرابه، فحمل على النصب كما حمل النصب عليه في التثنية والجمع السالم. وقال الزجاج: ما لا ينصرف في حال الجر مبني؛ لأن الجر لا يدخله كما لا يدخل الفعل، إذا كان ما لا ينصرف مشبها بالفعل، فلما لم يدخله الجر أبدل من الكسرة بناء الفتح، كما أن الأفعال حين ضارعت الأسماء أعطيت الإعراب كذلك إذا ضارع الاسم الفعل منع ما لا يدخل الفعل، فكرهوا إذا لم يخففوا الاسم، وهو في موضع يجب له فيه حركة الإعراب أن يسكنوه فلا يكن بين الأسماء المتمكنة إذا لم تنصرف وبين الأسماء التي هي غير متمكنة وهي مبنية على الوقف فرق. وجميع ما لا ينصرف مشبه بالفعل، وتشبيهه بالفعل من وجهين: أحدهما بالوزن كأحمر، ويزيد، ويشكر، وتغلب، وضرب، وكسّر، والآخر بالثقل الذي يدخله، وذلك الثقل فرع، والفعل فرع، فهما مجتمعان في الفرعية. وحقيقة منع الصرف إذهاب التنوين، دون منع الجر والدليل على ذلك أن المرفوع والمنصوب مما لا مدخل في الجر فيه، إنما يذهب منه التنوين فقط، وإذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف، كقولك: مررت بالأحمر، والأسود، والمساجد، والحمراء والصفراء وبعمركم وإبراهيمكم وما أشبه ذلك؛ وإنما انصرف لأن الألف واللام والإضافة أخرجتاه من شبه الفعل، إذ كان الفعل لا يكون فيه ذلك، فانصرف لخروجه من

شبه الفعل. فإن قال قائل: فحروف الجر، وسائر عوامل الأسماء قد يدخلن على ما لا ينصرف، فلا يصرفنه كقولك مررت بأحمر وجاءني إبراهيم ودخلت مساجد، فإن في ذلك أجوبة تفصل بين دخول الألف واللام والإضافة وبين دخول العوامل، منها: أن الألف واللام والإضافة إذا دخلت على الاسم الذي لا ينصرف أخرجته عن شبه الفعل، ثم تدخل عليه بعد ذلك العوامل فيصادف العامل شيئا غير مشبه للفعل فيعمل فيه عمله، وإذا دخل العامل قبل دخول الألف واللام والإضافة صادف ثقيلا، فلم يعمل فيه إلا عمله الذي ذكرناه. وجواب ثان، وهو أن الألف واللام، والإضافة قد قامت مقام التنوين، فكأن الاسم منون، والتنوين هو الصرف، وعلامة الأمكن وليس العامل كذلك. وجواب ثالث: وهو أن الاسم بدخول الألف واللام والإضافة تتغير ذاته وينتقل من مبهم إلى معين والعامل لا يغيره عن حاله الأولى. جواب رابع: وهو أن الفعل قد يضاف إليه كما يضاف إلى الاسم ما ينجر به فلم تخرجه حروف الجر من شبه الفعل. وجواب خامس: أنا لو اعتبرنا العوامل لبطل أصل ما لا ينصرف؛ لأن العوامل الداخلة على الاسم غير داخلة على الفعل، فلو كان يثقل بدخول العوامل لكان كل عامل يدخل عليه يوجب صرفه، وبطل الفرق بين ما ينصرف وبين ما لا ينصرف. قال أبو سعيد: ابتدأ سيبويه بذكر ما يجتمع فيه علتان من العلل المانعة من الصرف، وساق الأبواب على ذلك، وبدأ بأفعل الذي هو وصف، وقد اجتمعت علتان وزن الفعل والصفة، وإن صغرته لم يخرجه التصغير إلى الصرف؛ لأن الفعل قد صغر في بعض المواضع وهو التعجب، فقالوا ما أميلح زيدا، قال الشاعر: يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا … من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر (¬1) فلذلك لم (يبتعد) بالتصغير من شبه الفعل. على أن الأسماء في التصغير على ثلاثة أوجه في حكم الصرف، فمنها اسم لا ينصرف في التصغير والتكبير، نحو هذا الباب وغيره، واسم لا ينصرف، فإذا صغر ¬

_ (¬1) البيت في الخزانة: 1/ 45، 4/ 95، وابن يعيش: 1/ 61، 3/ 134، 5/ 135، 7/ 143.

هذا باب أفعل إذا كان اسما وما أشبه الأفعال من الأسماء التي في أوائلها الزوائد

انصرف، كالأسماء المعدولة، نحو عمر، وزفر، فإذا قيل: عمير، وزفير، انصرف. واسم ينصرف، فإذا صغر لا ينصرف، وذلك كرجل يسمى ضارب، أو ما كان من بنائه فإذا صغر صار ضيرب فلم ينصرف، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. هذا باب أفعل إذا كان اسما وما أشبه الأفعال من الأسماء التي في أوائلها الزوائد فما كان من الأسماء أفعل فنحو " أفكل " و " أزمل " و " أيدع " وأربع لا ينصرف في المعرفة؛ لأن المعارف أثقل وينصرف في النكرة؛ لأنه يجتمع فيها في المعرفة وزن الفعل والتعريف، فإذا نكر ففيه وزن الفعل فقط. وقولنا: " المعرفة " في هذا الموضع وما يأتي في غيره أن يسمى به شيء بعينه من رجل، أو امرأة، أو بلد أو موضع، أو غير ذلك من الحيوان، كما يسمى الواحد بذلك لتعريف شخصه. فأما ما أشبه الأفعال سوى أفعل فمثل " اليرمع " و " اليعمل " وهو جماع اليعملة واليعملة الناقة السريعة، ويقال لها أيضا: " اليعملات " وليس بصفة حقيقية ومثل " أكلب ". وذلك أن " اليرمع " مثل " يذهب " و " أكلب " مثل " أدخل " ألا ترى أن العرب لا تصرف " أعصر "، ولغة بعض العرب يعصر لا يصرفونه أيضا، وتصرف ذلك في النكرة؛ لأنه ليس بصفة. وإنما انصرف في النكرة؛ لأن الذي يبقى فيه علة واحدة وهي وزن الفعل، فإن قال قائل فأكلب جمع فلم لا يكون علة ثانية؟ قيل له: إذا سمينا بأكلب وبغيره من الجمع شيئا فقد زال الجمع وصار اسما لذلك الشيء، على أن ألفاظ الجمع لا يعتد بالجمع فيها إذا كان يمكن أن تكسر كقولنا: أنعام، وأناعيم، وأرهط، وأراهيط، وسنقف على ذلك. قال: " واعلم أن هذه الياء والألف لا تقع واحدة منهما في أول الحرف رابعة إلا وهي زائدة، ألا ترى أنه ليس من اسم مثل " أفكل " يصرف، وإن لم يكن له فعل ينصرف، ومما يدلك على أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة، وكذلك الياء أيضا،

وإن لم تقل هذا دخل عليك أن تصرف أفكل، وأن تجعل الشيء إذا جاء بمنزلة الرجازة والربابة، وليس له فعل، بمنزلة القمطرة، والهدملة ". قال أبو سعيد: اعلم أن ما لا ينصرف يحتاج معه إلى معرفة التصريف؛ لأنه قد يرد في أول الحرف الذي جاء زائدا منع الصرف وإن كان أصليّا لم يمنع، ولذلك ذكر " أفكل " وهو الرعدة وجعل الهمزة فيه زائدة، فصار على أفعل، فكأن قائلا قال: ولم لا تكون الهمزة أصلية فيصير على " فعلل " مثل درهم فينصرف في المعرفة، وإذا كان أفعل لم ينصرف. فقال سيبويه: الدليل على أن الهمزة زائدة أنه ليس من اسم مثل " أفكل " يصرف. يعني اسما في أوله همزة وبعدها ثلاثة أحرف أصلية لم يوجد ذلك في كلام العرب. ثم قال: ويدلك على أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة. يعني أن الهمزة يكثر دخولها في بنات الثلاثة، فما عرف اشتقاقه وعلم أنها فيه زائدة كقولنا: " أحمر " وأشهب، وأصفر، وأقهب وما لا يحصى كثرة، وأصله من صفرة، وحمرة، وشهبة، وقهبة فتحمل ما لا يعرف اشتقاقه على ما عرف اشتقاقه، لاتفاقهما في الهمزة أولا. ثم قال: وإن لم تقل هذا- يعني إن لم تقل في أفكل إن الهمزة زائدة وفرقت بينه وبين أحمر بأن أحمر وقد عرف اشتقاقه وأفكل لا يعرف له اشتقاق تسقط فيه الهمزة دخل عليه حرفا زائدا كالألف في الرّجازة وهي شيء يعدل به البعير، والرّبابة التي تجمع فيها القداح وأن تجعلها بمنزلة القمطرة والهدملة وهذا فاسد. وإذا جاء على " فعلل " وكانت اللامان من جنس واحد لم يدغم أحدهما في الآخر كقولنا: قردد، ومهدد، وجلبب، وما أشبه ذلك فلذلك حمل " أكلل " وأيقق " على فعلل. ولو جاء وسمي به رجل صرف وحمل على فعلل. وأما (أول) فهو أفعل يدلك على ذلك هو أول منك ومررت بأول منك، والأولى. قال أبو سعيد: استدل على أن أول أفعل بما لا يكون إلا في أفعل وذلك منك.

تقول: هو أفضل منك، وأنبل منك، وأقل منك، وأقدم منك، فأول منك بمنزلة أقدم منك، والأولى، والأول بمنزلة الفضلى والأفضل والأجل، والجلى. وأما خير منك وشر منك فإنما كثرا، والأصل فيهما أخير منك وأشر منك، وإنما حذفت الهمزة منهما لكثرتهما في الكلام. وإذا سميت رجلا " بألبب " فهو غير مصروف والمعنى عليه، لأنه من اللّب وهو أفعل ولو لم يكن المعنى على هذا لكان " فعلل "، والعرب تقول " قد علمت ذاك بناقة ألببه ". يعنون لبّه " يعني أن الاشتقاق قد بين أن الهمزة زائدة وترك الإدغام شاذ. ومن الناس من يقول: ألبه يجعله جمع لب، كذا حكاه الفراء وأصحابنا حكوا بنات ألببه بمعنى أعقله. قال: " ومما يترك صرفه؛ لأنه يشبه الفعل ولا يجعل الحرف الأول منه زائدا إلا بثبت نحو تنضب، وإنما جعلت التاء زائدة؛ لأنه ليس في الكلام شيء على أربعة أحرف، ليس أوله زائدة، يكون على هذا المثال لأنه ليس في الكلام فعلل ". قال أبو سعيد: مما يعرف به الزائد الخروج عن الأمثلة المعروفة التي ليس فيها زائد، وليس في الكلام فعلل (مثل جعفر) وكذلك التاء في ترتب وترتب، وكذلك التّدرأ والتّدرأ بالفتح والضم، والتّنفّل كل ذلك إذا سميت به رجلا أو غيره، وصار معرفة، لم ينصرف لاجتماع وزن الفعل، والتعريف. وقد عرف بعض ذلك بالاشتقاق، يقال: هذا أمر ترتب وترتب وهو الرتب، ويقال فلان ذو تدرأ أي ذو دفع لخصمه أو قرنه وهو مأخوذ من درأته أي دفعته. قال: " وكذلك رجل يسمّى تألب لأنه تفعل ويدلك على ذلك أنه يقال للحمار ألب يألب وهو طرده طريدته وهو نفعل وإنما قيل دألب من ذلك ". قال أبو سعيد: النّألب المعروف هو شجر تتخذ منه القسي، الواحدة نألبة، فيجوز أن تكون مشتقة من " ألب "؛ لأن القوس تطرد السهام، وتسوقها إلى المرمى، قال الشاعر: ألم تعلمي أنّ الأحاديث في غد … وبعد غد يألبن ألب الطّرائد (¬1) ورأيت فيما علّقه أبو بكر مبرمان، مفسر كتاب سيبويه أن التألب: الشجر، وولد ¬

_ (¬1) البيت في اللسان: (ألب).

الحمار، مثل التولب، فأما التولب فمعروف وأما التألب فغير معروف في ولد الحمار. قال: (وأما مما جاء نحو " تولب " " ونهشل " فهو عندنا من نفس الحرف (مصروف) حتى يجيء أمر يبينه، وكذلك فعلت به العرب؛ لأن حال التاء والنون في الزيادة ليست كحال الألف والياء؛ لأنها لم تكثرا في الكلام زائدتين،- يعني التاء والنون- ككثرتهما يعني الياء والألف، فيحكم على كل تاء ونون في أول الكلمة أنها أصلية، حتى يقوم الدليل على زيادتها كما قام على زيادة التاء في " تنضرب " وغيره. وإن لم تفعل هذا لم تصرف نهشلا، والعرب تصرفه، وهذا قول العرب والخليل ويونس. وإذا سميت رجلا ب (إثمد) لم تصرفه، وكذلك (إصبع) وأبلم لأن (إثمد) شبيه (اضرب)، و (إصبع) شبيه (اعلم) و (أبلم) شبيه (اقتل)، وقد قدّمنا أن الهمزة محكوم عليها بالزيادة على ما ذكرت ثم قال: وإنما صارت هذه الأسماء بهذه المنزلة، يعني غير مصروفة؛ لأن الأصل فيما كان في أوله هذه الزوائد الفعل، فإذا صارت في الاسم ثقل، فإذا عرّف ازداد ثقلا. ألا ترى أن أكثر ما لا ينصرف في المعرفة قد ينصرف في النكرة؟ وإنما صار " أفعل " في الصفات أكثر لمضارعة الصفة الفعل وقد ذكر ذلك في الكتاب. قال: " وإذا سميت رجلا بفعل في أوله الزيادة لم تصرفه، نحو: يزيد ويشكر، وتغلب، ويعمر، وهذا النحو أحرى أن لا تصرفه، وإنما أقصى أمره أن يكون كتنضب، ويرمع، وجميع ما ذكرنا في هذا الباب ينصرف في النكرة، فإن قلت ما بالك تصرف يزيد في النكرة، وإنما منعك من صرف أحمر في النكرة وهو اسم أنه ضارع الفعل؟ فأحمر، إذا كان صفة بمنزلة الفعل قبل أن يكون اسما فإذا صار اسما ثم جعلته نكرة فإنما صيرته إلى حاله إذ كان صفة. قال أبو سعيد: هذه المسألة وما جرى مجراها يختلف فيها النحويون، وقال سيبويه والخليل ومن وافقهما، منهم أبو عثمان المازني: إن (أفعل) إذا كان صفة، ثم سمينا به رجلا أو غيره ثم نكرناه، لم ينصرف.

وقال الأخفش وأبو العباس المبرد إذا سمينا به، ثم نكرناه انصرف. وحقيقة ذلك أن ذلك وما جرى مجراه من قبل أن يسمى به غير مصروف لاجتماع علتين، وهما وزن الفعل، والصفة، فإذا سمينا به رجلا فقد زالت الصفة، وصار علما لذلك الرجل سواء أكان أبيض، أو أسود، وعلى أي لون كان. فلا تصرفه، لاجتماع علتين: وزن الفعل، والتعريف. فإذا نكرناه وهو اسم زال عنه التعريف، وقد كان زالت عنه الصفة بالتسمية، ففيه علة واحدة وهي وزن الفعل، فلذلك قال الأخفش: إنه ينصرف وذلك قولك مررت بأحمر وأحمر آخر. وأما سيبويه فإنه عنده وإن سمي به في حكم الصفة. واحتج في ذلك بأنا إذا نكرناه فإنما يرجع إلى تنكير كان له وهو صفة، فكأنه يرجع إلى الحال الأولى التي كان لا ينصرف فيها. وذكر أن المازني سأل الأخفش فقال له: لم صرفته؟ قال: لأنه صار اسما وزالت عنه الصفة فبقي فيه وزن الفعل فقط. فقال له المازني: ألست تقول: نسوة أربع فتخفض الأربع وتنونه وهو صفة على وزن الفعل؟ فقال: بلى. قال: فلم صرفته، وقد اجتمعت فيه علتان: وزن الفعل والصفة؟ قال: لأن أربعا اسم في الأصل ولا أحكم له حكم الصفة، وإن وصفت به. فقال له المازني: فاحكم للأحمر بحكم الصفة وإن سميت به لأن الأصل فيه صفة فلم يأت الأخفش بمقنع. وأما " يزيد "، و " تغلب " و " يشكر " و " يعمر "، فإذا نكر انصرف لأنه في حال التنكير، فيه وزن الفعل فقط، ولم يكن له قبل التسمية حال لا ينصرف فيها، فيرد إليها. وإنما كان فعلا فسمي به، فصار اسما معرفة والاسمية والتعريف وفعاله، فمنع الصرف لأجلهما فلما زال أحدهما انصرف. قال: " وإذا سميت رجلا بإضرب، أو أقتل، أو إذهب لم تصرفه وقطعت ألف الوصل ". وكذلك كل فعل فيه ألف وصل، فإذا سميت به قطعت الألف، فقلت مررت " بإضرب "، وقام " إضرب "، ورأيت " إضرب ". وإنما منع الصرف لوزن الفعل، والتعريف، وقطع الألف؛ لأن موضع الأسماء والألقاب على لفظ لا تتغير حروفه، فإذا جعلنا ألفه وصلا فهي تسقط إذا كان قبلها

كلام، وتثبت إذا كانت مبتدأة فتخرج بذلك عن موضع الأسماء. فإن قال قائل: فأنتم إذا سميتم بما فيه ألف وصل من الأسماء لم تغيروها عن الوصل؟ قيل له: ما كان فيه ألف وصل في الأسماء فهو قليل في الأسماء، كاسم، وابن، وغير ذلك مما يقصر عدده عن عشرة أسماء وذلك لخفتها، فخرجت عن منهاج الأسماء. وكذلك مصادر الأفعال التي في أوائل ماضيها ألف وصل كقولنا: انطلاق، واستخراج، واحميرار، وهو مصدر انطلق واستخرج واحمار. فهذه الأسماء التي فيها ألفات الوصل ليس الأصل فيها ذلك، وإذا سمينا بها لم تقطع ألفاتها؛ لأنها لم تزل عن الاسمية فكأنها مبقاة على حالها. قال: " وليس لك أن تغير البناء في ضرب، وضورب " وإن لم يكن في الأسماء مثلها، فإنك لا تغير البناء؛ لأنك إن غيرت البناء بطل التعريف به، وتغير اللفظ. ونحن قد نسمي بالحروف، وبالأسماء العجمية، وما ليس له في كلام العرب نظير، وليس كذلك " اضرب " وسائر ما فيه ألف الوصل من الأفعال إذا سميت به؛ لأن قطعنا الألف لا يغير اللفظ تغييرا يخرجه عن مفهوم التسمية، لأنا قد نثبت الألف في الابتداء، غير أن " ضرب " و " ضورب " إذا سمي بهما لا ينصرفان. وإن سمي بامرئ لم يغير عن حاله في ألف وصل. والعرب تقول: مررت بامرئ، وهذا امرؤ، ورأيت امرأ. وأما ألف الوصل فلأنه اسم سمي به، فلم ينقل عن الاسمية. وأما الصرف فلأنه وإن كان على مثال " اضرب " فإن ما قبل آخره يتغير بتغيير آخره، وذلك ليس بموجود في الأفعال فأخرجه ذلك عن شبه الفعل ومنعه أن يكون اسما لا ينصرف ويقطع ألفه على العلة التي ذكرتها لك. وقد تقدم القول أن " تتفل " غير منصرف إذا سمي به وكذلك تتفل؛ لأنهما من أوزان الفعل جميعا، وقد يقال " تتفل " بضم التاء والفاء، فمن قال ذلك لزمه إذا سمي به أن يصرف، لأنّ " نفعل " لا نظير له في الأفعال. ومثل ذلك " نرجس " إذا سمي به لم ينصرف؛ لأنه على وزن " نفعل ". وفي الناس من يقول: نرجس بكسر النون والجيم، فمن قال ذلك صرفه إذا سمي به. قال: " واعلم أن كل اسم أوله زيادة، ولم يكن على بناء الفعل فإنه مصروف

هذا باب ما كان من «أفعل» صفة في بعض اللغات واسما في أكثر الكلام

وذلك نحو إصليت وأسلوب وينبوت. وكذلك هذا المثال إذا اشتققته من الفعل وذلك نحو يضروب وإضريب وتضريب؛ لأنه ليس بفعل ولا اسم على مثال الفعل وليس بمنزلة عمر ". ألا ترى أنك تصرف يربوعا، فلو كان يضروب بمنزلة يضرب أو تضرب، أو نضرب لم تصرف يربوعا؛ لأنه كان يصير بمنزلة ما ليس فيه واو كيربع، أو تربع. قال: " ولو سميت رجلا (هراق) لم تصرف؛ لأن هذه الهاء بمنزلة الألف زائدة ". يريد أن " هراق " بمنزلة أراق والهاء بدل من الألف وأراق بمنزلة أقام. " وكذلك " هرق " بمنزلة أقم ". والهاء بدل من الألف كما قالوا: إياك وهيّاك. لأنك لو سميت " بهرق " أو " أقم " لقلت: هذا هريق قد جاء وأقيم قد جاء، فترد البناء، وسنقف على شرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. " فإذا سميت رجلا " بتفاعل " نحو تضارب، ثم حقرته قلت " تضيرب " ولم تصرفه؛ لأنه يصير بمنزلة " تغلب " و " يخرج " إلى ما لا ينصرف في جميع اللغات ". وكذلك " أجادل " اسم رجل إنما هو أجيدل في التحقير. قال أبو سعيد: قد كنت ذكرت أن فيما ينصرف ما إذا حقرته لم ينصرف، وهذا من ذلك؛ لأن " تضارب " تفاعل، وهو ينصرف إذا كان اسم رجل؛ لأنه لا نظير له في الفعل فإذا حقرته حذفت الألف، وأدخلت ياء التصغير فيصير " تضيرب "، فهو بمنزلة " تضرب " إذا حقرته. وقد ذكر أن الفعل الذي في أوله الزوائد فالتحقير لا يغير الصرف فيه. وأما أجادل اسم رجل فإنه لا ينصرف؛ لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، وستقف على ذلك إن شاء الله. فإذا حذفت الألف فصار " أجيدل " كالفعل المحقر فلم ينصرف أيضا. هذا باب ما كان من «أفعل» صفة في بعض اللغات واسما في أكثر الكلام وذلك أجدل، وأخيل، وأفعى، وأجود ذلك أن يكون هذا النحو اسما وقد جعله بعضهم صفة، وذلك أن الجدل: شدة الخلق فصار أجدل عندهم بمنزلة شديد.

وأما " أخيل " فجعلوه " أفعل " من الخيلان للونه، وهو طائر أخضر على جناحيه لمعة مخالفة للونه، وعلى هذا المثال جاء " أفعى " كأنه صار صفة وإن لم يكن له فعل ولا مصدر ". قال أبو سعيد: يريد أنه جعل بمنزلة خبيث، أو ضار، أو ما أشبه ذلك مما يليق أن يكون صفة له. قال: " وأما " أدهم " إذا عنيت القيد، و " الأرقم " إذا عنيت الحية لم تصرفه في معرفة، ولا نكرة. لم تختلف في ذلك العرب. فإن قال قائل: أصرفه؛ لأني أقول: أراقم وأداهم فإنك تقول أباطح، وأجارع، وأبارق. فإنما الأبرق صفة وهو لون فيه حمرة، وبياض وسواد، يقال: تيس أبرق حيث كان فيه سواد، وبياض ". قال أبو سعيد: اعلم أن أفعل قد يكون اسما، وقد يكون صفة، وقد تكون الصفة جارية مجرى الاسم، فإذا كان اسما فهو منصرف في النكرة، غير منصرف في المعرفة، وذلك مثل " أفكل " و " أيدع " وأما " أجدل "، و " أخيل "، و " أفعى " فالأجود عند سيبويه أن يكون بمنزلة " أفكل " و " أيدع "، لبعده من الصفة؛ لأن " أجدل " اسم الصقر، وإن كان مأخوذا من الجدل، ولا يقال لشيء غيره " أجدل " ولا يقال: مررت بصقر أجدل، و " أخيل "، و " أفعى " اسمان لنوعين من الطير، والحيات، لا يقال ذلك لغيرهما. وقد حكي سيبويه عن بعضهم أنه جعله نعتا للعلة التي ذكرها وفيها بعد. وأما الصفة " فأصفر "، و " أحمر "، وما جرى مجراهما. وقد أجرت العرب " أدهم " إذا أردت القيد و " الأسود " إذا عنيت الحية " والأرقم " إذا عنيت الحية أيضا صفات، وإن كانت أسماء لأشياء بأعيانها، وذلك لأننا قد عرفنا معنى الأدهم في غير القيد وهو الأسود من الخيل. وإنما قيل للقيد أدهم لسواده فقد عرف معنى اللون في الأدهم وشاركه فيه غيره، والقصد فيهما ذوا اللون، كذلك الأسود من الحيات لسواده ولا يكون إلا أسود وقد شاركه في المعنى ما هو متصف بهذا اللفظ من غير الحيات، وكذلك الأرقم إنما هو اسم لضرب من الحيات فيه نقط بمنزلة " الرّقم "، ويقال لما كان فيه مثل ذلك اللون أرقم، إلا أنه غلبت هذه الصفات على هذه الأشياء فصارت كالأسماء لها.

هذا باب أفعل منك

وقولهم " أراقم "، و " أداهم " لا يوجب الاسمية " لأرقم "، وأدهم لأن العرب قد قالت: أباطح وأجارع وأبارق، وقد أحاط العلم بأن هذه صفات لأنهم يقولون: أبطح للمكان المنبطح من الوادي، وبطحاء، ويقولون: أبرق للمكان الذي فيه لونان، وأجرع للمكان المستوي من الرمل المتمكن فمجيء المذكر على " أفعل " والمؤنث على " فعلاء "، قد بين أنه صفة وربما كثرت الصفة في كلامهم، واستعملت فأوقعت موقع الأسماء، فكأنهم إذا قالوا: هذا أدهم، فإنما يقولون: هذا قيد أدهم، أو شيء أدهم، كما أنك إذا قلت: هذا أبطح، وأجرع، فكأنك قلت: مكان أبطح، ومكان أجرع ومثل ذلك قولهم: الأبغث للطير الذي في لونه كدرة يقيمون الصفة مقام الاسم، وهو اسم لضرب من الطير. هذا باب أفعل منك اعلم أنك إنما تركت صرف أفعل منك؛ لأنه صفة، فإن سميت رجلا بأفعل هذا بغير منك صرفته في النكرة. قال أبو سعيد: جملة هذا الباب أنه لا ينصرف قبل التسمية لاجتماع علتين، وزن الفعل والصفة، وذلك قولك مررت برجل أفضل منك، وأكرم منك، وهذا أفضل منك، وأكرم منك وإن حذفت منك لم ينصرف أيضا، ويجوز حذفها تخفيفا في الخبر كقولنا: زيد أفضل وأكرم، و " الله أكبر " وأعظم والمعنى زيد أفضل منك والله أعظم من كل شيء. فإن سميت به رجلا، وكان معه منك ظاهرا لم ينصرف في المعرفة، والنكرة، كقولك: مررت بأفضل منك وأفضل منك آخر، وإن سميته بغير (منك) لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة، كرجل سميته " أفضل " و " أكرم " تقول مررت بأفضل وأفضل آخر كما تقول مررت بأحمر، وأحمر آخر. وإنما خالف باب أحمر؛ لأن " أفضل " لا يكون نعتا إلا بمنك، فإذا حذفت " منك " في التسمية اجتمع في المعرفة وزن الفعل، والتعريف، وفي النكرة ليس فيه إلا وزن الفعل، وليس له حال ترده إليها. كما رددنا أحمر إلى حاله التي لم يكن ينصرف فيها، إذ كان أفضل لا يكون نعتا إلا بمنك فإذا حذف من باب أفعل منك الألف انصرف وقد حذف في حرفين وهما قولك: خير منك، ومررت بخير منك وشر منك لأنه قد زال عنه وزن الفعل. ولو سميت رجلا ب " أجمع " و " أكتع " لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة؛ لأنه

هذا باب ما ينصرف من الأمثلة وما لا ينصرف

لا يبقى فيه إلا وزن الفعل، وليست بصفة للمنكور في الأصل، كما كان أحمر صفة للنكرة. هذا باب ما ينصرف من الأمثلة وما لا ينصرف تقول: كل " أفعل " يكون وصفا، لا تصرفه، في معرفة ولا نكرة، وكل أفعل يكون اسما، تصرفه، في النكرة، قلت: فكيف تصرفه وقد قلت: لا تصرفه؟ قال: من قبل أن هذه أمثال يمثل بها، فزعمت أن هذا المثال ما كان عليه من الوصف لم يجر وإن كان اسما جرى وليس بوصف. قال أبو سعيد: اعلم أن المثال الذي يمثل به الاسم، أو الفعل، أو الصفة منزلته اسم ليس بصفة، فإن كان موضعه يوجب له التنكير، كان اسما منكورا. وإن كان في موضع يوجب له التعريف، كان اسما معروفا ثم ينظر، فإن كان مثله في حال التنكير، أو التعريف ممنوع الصرف، منع، وإن كان غير ممنوع لم يمنعه. مثال هذا أنا نقول: كل " أفعل " صفة لا ينصرف، فتصرف " أفعلا " هذا، لأن " كل " توجب له التنكير كقولنا: كل رجل فهو اسم فليس فيه إلا علة واحدة وهي وزن الفعل فينصرف، وإن كان الذي يمثله به لا ينصرف؛ لأن الذي مثلناه به باب " أحمر " وفيه علتان: وزن الفعل، والصفة. وغير مستنكر أن ينصرف المثال ولا ينصرف المثل؛ لأن كل واحد منهما له حكم نفسه في الصرف، ألا ترى أنك تقول كل " إبراهيم " معرفة لا ينصرف فتصرف إبراهيم هذا، وإن جعلته مثالا لما لا ينصرف؛ لأنه نكرة في التمثيل، وتقول: " أفعل " إذا كان اسما نكرة ينصرف، فلا تصرف أفعل هذا المثال، وإن كان المثل مصروفا؛ لأن أفعل هاهنا معرفة، ومعناه هذا البناء لا ينصرف كما تقول إبراهيم إذا كان نكرة انصرف فلا تصرف إبراهيم المذكور؛ لأنك وضعته موضع المعرفة وهو عجمي، واجتمع فيه علتان. ويجري مجرى هذا: كل " أفعل " إذا أردت به الفعل الماضي مفتوح الآخر أبدا، لأن " أفعل " اسم وإن جعلته مثالا للفعل فتنونه بحق الاسمية وإن كان مثالا للفعل. وإذا كان المثال مقترنا بشيء يوجب له حكما، أو كان عاملا في شيء جري مجرى ما قد مثل به، وذلك أن يكون نعتا لمنعوت قبله أو فعلا لفاعل بعده. قال سيبويه: " فإذا قلت: هذا رجل " أفعل " لم تصرفه على حال، وذلك لأنك

مثلت به الوصف خاصة، فصار كقولك: كل أفعل زيد نصب أبدا، لأنك مثلت به الفعل خاصة ". وقد زعم المازني أنه أخطأ في قوله: رجل أفعل ترك صرف " أفعل ". وقال أبو العباس: لم يصنع المازني شيئا والقول عندي إنه ينصرف؛ لأنّا رأيناهم حيث وصفوا بأفعل الذي هو اسم في الأصل صرفوا، وذلك قولهم هؤلاء نسوة أربع، ومررت بنسوة أربع. وأما قوله: كل أفعل زيد فلا خلاف فيه، يكون " أفعل " على لفظ الفعل الماضي وقد ارتفع به زيد، ولا يجوز أن يرتفع به إلا وهو فعل، ثم يدخل " كل " على لفظ الجملة ولا يتغير، كما قال: ... … بني شاب قرناها وهذا برق نحره، وسترى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. قلت: ولم لا يجوز أن تقول: كل " أفعل " في الكلام لا أصرفه، إذا أردت الذي مثلت به الوصف، كما تقول: كل آدم في الكلام لا أصرفه؟ قال: هذا لا يجوز؛ لأنه لم يستقر أفعل في الكلام صفة، بمنزلة آدم، فإنما هو مثال: ألا ترى أنك تقول: لو سميت رجلا " أفعل " صرفته في النكرة لأن " أفعل " لا يوصف به شيء وقد مضى الكلام في نحو هذا. و " آدم " في نفسه صفة مأخوذة من الأدمة، ويقال رجل آدم، فيبين فيه ممن ليس بآدم، ولا يقال رجل أفعل في شيء من المعاني، وإنما هو من تمثيلات النحويين وحكم اللفظ فيه على ما ذكرته لك، وليس لشيء ثابت في الكلام على طريق المثال، ولكنه يصلح على موضوع النحويين أن يكون مثالا للاسم، والصفة، والفعل، وهو في نفسه اسم؛ لأنهم في المثال يضعونه مواضع الأسماء حين قالوا: " كل أفعل "، وأضافوا إليه " كل " أو قالوا: " أفعل ينصرف " فخبروا عنه. ومما يجري مجرى هذا كلّ فعلان له فعلى لا ينصرف، وتقول: فعلان إذا كان له فعلى لا ينصرف، فتصرف " كلّ فعلان " لأنه نكرة وهو اسم، كما تقول سعدان للنبت " وحومان " لما صلب من الأرض وهو في قولك " فعلان " إذا كان له فعلى معرفة على ما تقدم، وتقول على هذا كلّ فعلان إذا لم يكن له فعلى مصروف في النكرة غير مصروف في المعرفة. قال: " تقول كل فعلى له فعلى كانت ألفها لغير التأنيث ينصرف، وإن كانت

هذا باب ما ينصرف من الأفعال إذا سميت به رجلا

الألف للتأنيث لم ينصرف ". قال أبو سعيد: الألف في فعلى، وفعلى يجوز أن تجعلها لغير التأنيث، فتكون للإلحاق كقولهم: أرطى، وعلقى منونين ملحقين بجعفر، وسلهب. وفعلى تكون الألف فيها للإلحاق فيصير ملحقا بهجرع ودرهم كما قالوا: معزى وذفرى، وقد يجوز أن تكون الألف للتأنيث فيكون فعلى ككسرى ودعوى وفعلى كذكرى ودفلى، والألف في الملحق منها والمؤنث زائدة، والمثال على لفظ واحد، فيجوز أن يجعل الملحق مثالا للمؤنث والمؤنث مثالا للملحق فجاز من أجل ذلك أن تقول كلّ فعلى بالتنوين وكل فعلى بغير التنوين على ما تنويه في الألف من الإلحاق والتأنيث. وتقول: كل فعلى في الكلام لا ينصرف، وكل فعلاء في الكلام لا ينصرف؛ لأن هذين المثالين لا يكون الألف فيهما إلا للتأنيث فلذلك لم ينونا. وتقول: كل فعنلى في الكلام منصرف في النكرة، وهذا رجل فعنلى تصرفه، لا غير؛ لأنه ليس في الكلام فعنلى إلا وألفه لغير التأنيث. ومما لم يذكره سيبويه تقول فعلى، وفعلى مصروفان في الإلحاق نكرتين، فلا تصرف المثالين؛ لأنهما صارا معرفتين، والألف فيهما زائدة فلا ينصرف لاجتماع علتين. وتقول: كل فعلّلى لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، فتنونه؛ لأن هذا المثال لم توجد فيه الألف للتأنيث، إنما هي للإلحاق في نحو فبعثرى وضبغطرى. وتقول: كل " فاعلاء " و " فعولاء " و " فعالاء " لا ينصرف؛ لأن هذه الألف لا تجيء إلا للتأنيث نحو " بروكاء "، و " براكاء " و " قاصعاء "، و " راهطاء ". وكذلك تقول: كل فعلى لا ينصرف؛ لأن هذه للتأنيث وتقول على قياس ذلك: كل فعلة، أو فعلة لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة. وتقول: " فعلة " ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة، ولا تصرف فعلة؛ لأنها معرفة، وفيها هاء التأنيث كما قلنا في أفعل وفعلان، وكذلك القول في كل ما كانت فيه هاء التأنيث على أي وزن كان مثاله، تصرفه في النكرة، ولا تصرفه في المعرفة فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما ينصرف من الأفعال إذا سميت به رجلا قال أبو سعيد: هذا الباب يذكر فيه من سمي بفعل لا ضمير فيه ولا زيادة في أوله،

وله نظير من الأسماء، فأبو عمرو ويونس والخليل يرون صرف ذلك وعيسى بن عمر لا يرى صرف ذلك في المعرفة. وذلك كرجل سميته بضرب، أو ضارب أو ضارب يا زيد، وأنت تأمر، ولم تجعل فيه ضميرا، وكذلك لو سميته بدحرج، وهذا قول سيبويه، واحتج له بأنهم سمعوا العرب يصرفون الرجل يسمى بكعسب وهو " فعل " من الكعسبة وهو العدو الشديد. وكان عيسى بن عمر لا يصرف ذلك ويحتج بإنشاد العرب بيت سحيم: أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا … متى ألق العمامة تعرفوني (¬1) فلم يصرفوا " جلا " وقد سمي به أباه؛ لأنه فعل ماضي. وتأويل سيبويه أن في " جلا " ضميرا من أجله لم يصرفه، والفعل إذا كان فيه ضمير أو كان معه فاعل ظاهر ثم سمي به حكى ولم يغير كما قال: بني شاب قرناها تصرّ وتحلب ولهذا موضع يشرح فيه إن شاء الله تعالى. فإن سميت رجلا بفعل لا نظير له من الأسماء كقولك ضرّب وضرّب مشددا وضرب لم تصرفه؛ لأنه لا يشبه الأسماء، وقد جاء في الأسماء المعارف أسماء على " فعّل " كلها غير مصروف، فمن ذلك خضّم وهو اسم العنبر بن عمرو بن تميم. وشلم وهو اسم بيت المقدس وعثّر وبذّر موضعان، قال الشاعر وهو زهير: ليت بعثّر يصطاد الرّجال إذا … ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا (¬2) وقال كثير: سقى الله أمواها عرفت مكانها … جرابا وملكوما وبذّر والغمرا (¬3) فإن قال قائل: لم منعتم صرف ذلك وقد رأينا في الأسماء بقّم (¬4) وهو اسم جنس؟ قيل له " بقّم " ليس باسم عربي وإنما تكلمت به العجم، ووافى من كلامها ما كان ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب: 3/ 207، والخزانة: 1/ 123، 2/ 312، وابن يعيش: 1/ 62، 4/ 105. (¬2) البيت في اللسان (عثر). (¬3) الخزانة: 1/ 385، وابن يعيش: 1/ 61، واللسان: (بذر). (¬4) شجر يصبغ به، اللسان (بقم).

من الفعل لا نظير له في الأسماء، فأجري حكمه على حكم الفعل الذي لا نظير له فينصرف في النكرة. وذكر الأخفش أنه جاء مثل " ضرب " أسماء معرفة، والمعارف غير معول عليها في الأبنية؛ لأنه يجوز أن يسمى الرجل بالفعل وبالحرف وبما لا نظير له في كلام العرب. وذكر الأخفش أن دئل اسم دابة تشبه ابن عرس وأنشد فيه: جاؤوا بجيش لو قيس معرسه … ما كان إلا كمعرس الدّئل (¬1) وقال بعض أصحابنا يجوز أن يكون هذا الراوي لم يضبط وأن المحفوظ دؤل بالفتح. قال أبو سعيد: وقلت أنا يجوز أن يكون دئل سمي بالفعل، وقد رأينا في أسماء الأجناس ما سمي بالفعل كطائر يقال له تبشّر وآخر يقال له: تنوّط، وهذان بناءان للفعل كأنهما سميا بفعل يفعلانه وهو التنويط يقال ناط ينوط ونوّط ينوّط وذلك أنه يعلق عشه ضربا من التعليق المحكم الذي يتعجب منه. ودئل لم يسم فاعله من دأل يدأل وهو مشي فيه بشيء من نشاط، فيجوز أن تكون هذه الدابة لها مثل هذا المشي. قال: وإن سميت رجلا بضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيث. قلت: ضربون، تلحق النون كما تلحقها في " أولى " إذا سميت بها رجلا. قال أبو سعيد: الواو تدخل في أواخر الأفعال ضميرا، وعلامة للجمع في أواخرها. فإن دخلت ضميرا، ثم سمي بالفعل الذي هي فيه رجل لم يتغير لأنه فعل، وفاعل، تقول في رجل سميته ب (ضربوا) والواو ضمير: هذا ضربوا، ورأيت ضربوا، ومررت بضربوا، وإن كانت الواو علامة للجمع فسميت به رجلا أدخلت مع الواو نونا فقلت: هذا ضربون، ورأيت ضربين، ومررت بضربين. هذا هو الوجه المختار، وهو أن تجريه مجرى مسلمين في الرفع بالواو، وفي النصب، والجر بالياء وتفتح النون على كل حال، وتحذفها إذا أضفت كقولك هذا ضربو بلدك ورأيت ضربي بلدك ومررت بضربي بلدك. وفيه وجه آخر، وهو أن تجعل الإعراب في النون وتجعل ما قبل ياء على كل حال ¬

_ (¬1) اللسان: (دال).

فتقول: هذا ضربين ورأيت ضربينا ومررت بضربين، وإنما دخلت النون على ضربوا فيمن قال أكلوني البراغيث؛ لأن الواو في أكلوني علامة للجمع، وليست بضمير فاحتجت إلى أن تأتي بالنون معها، وذلك أنا لو سمينا رجلا بضرب، لقلنا: هذا ضرب، ورأيت ضربا، ومررت بضرب، فتجري عليه من الحركات والتنوين ما تجريه على الاسم الذي أصله اسم، فإذا كان في الاسم علامة الجمع التي هي الواو وجب أن تكون معها النون؛ لأن النون عوض من الحركة والتنوين وقد وجبت الحركة والتنوين بالتسمية في الواحد وهذا من أجود علة فيه. وعلة أخرى: أن هذه الواو كانت في الأصل معها نون، وإنما سقطت النون في الماضي؛ لأنه مبني على الفتح، والنون في مثل هذا الفعل إنما تدخل علامة للرفع، فإذا كان الفعل منصوبا أو مجزوما أو مبنيا سقطت النون، فإذا سمينا به رجعت النون، ولا تسقط من الاسم إلا بأن يضاف فيقال: هذا ضربو بلدك ورأيت ضربي بلدك، فالإضافة في الاسم كالنصب، والجزم، والبناء في الفعل وذلك كله يسقط النون. وإن سميته بضربا في قول من قال: فأما أخواك، رددت النون، وكان الاختيار أن يحكى لفظ التثنية، فتقول: هذا ضربان ورأيت ضربين، ومررت بضربين. ويجوز أن يجعل الإعراب في النون، فيكون ما قبلها ألفا على كل حال وتجري مجرى عثمان، فتقول: هذا ضربان، ورأيت ضربان ومررت بضربان. والكلام في نونه كالكلام في لحاق النون في ضربوا، وقد تكلم الزجاج وغيره، فيما يلحقه الواو، والنون، على غير وجه الجمع، وهو أن تسمي الرجل باسم تزاد فيه الواو، والنون، مختلفا لتسمية المسمى بما لم تتكلم به العرب، كقولهم: حمدون، وعيدون، ونمرون وزيدون. فإذا جعل ذلك اسما مع الواو والنون، كان فيه وجهان أحدهما أن تجعل الإعراب في النون، وتلزمه الواو على كل حال فيقال: هذا حمدون، وعبدون، ورأيت حمدونا وعبدونا، ومررت بحمدون وعبدون، فيصير بمنزلة زينون وعرجون. ويلزم الإعراب النون والواو لازمة قبل النون. ويجوز أن يجعل بمنزلة الجمع فيقال: هذا عبدون، وحمدون ورأيت عبدين، وحمدين في هذا الوجه.

فإن سماه بعبدين، وحمدين بالياء كان فيه وجهان: أحدهما أن تعرب النون وقبلها ياء لازمة فتقول: هذا حمدين ومررت بحمدين، ورأيت حمدينا. ويجوز أن تجعله كالجمع السالم بالواو مرة ومرة بالياء. ولا يجوز أن تجعله كزيتون وعرجون؛ لأنه لا يجوز أن تكون معرفة على وجهين مختلفين كما لا يجوز أن يقال في زيتون زيتين. وإذا كانت الواو في الأصل للجمع، كان فيه حكاية الجمع، فيكون مرة بالواو، ومرة بالياء، ويجوز أن يكون الإعراب في النون ويكون ما قبلها ياء على كل حال كقولك هذه سنين وهذا مسلمين ولا يجوز مسلمون ولا سنون. فإن سميت رجلا يضربن، ويضربن لم تصرف؛ لأنه ليس له نظير في الأسماء، فامتنع هذا من حيث امتنع " ضرب " تقول: جاءني ضربن، ويضربن، ومررت بضربن ويضربن. فإذا سميت بضربت قلت: هذه ضربه، إذا وقفت عليه تقف بالهاء، ولا تصرفه إذا وصلت تقول: هذا ضربة فاعلم، ورأيت ضربة، ومررت بضربة. قال أبو سعيد: واعلم أن الفعل إذا اعتل اعتلالا لازما، يخرجه إلى مثال الاسم، وإن كان ما اعتل منه ليس على مثاله، فإنه ينصرف كقولنا " قيل "، " وردّ "، والأصل فيه قول وردد. فقيل، وردّ منصرفان في التسمية. وقول وردد لا ينصرفان، ولو سميت رجلا بضرب فإنه لا ينصرف، فإن خففناه فقلنا (ضرب) كما قيل في (عصر) " عصر " فإنه لا ينصرف أيضا؛ لأن هذا التخفيف ليس بلازم، ولو كان أصل التسمية وقع بالتخفيف صرفته، ولم يجز أن تقول فيه (ضرب) البتة. ونظير هذا أن " جيأل " اسم الضبع لا ينصرف إذا سمينا بها رجلا. فإن خففنا الهمزة، فقلنا: (جيل) لم ينصرف أيضا، وذلك أن جيأل على أربعة أحرف مؤنث، فإذا خففنا الهمزة فصار على ثلاثة أحرف فالنية نية الهمزة؛ لأن سقوطها ليس بلازم فكأنها أربعة وما كان سقوطها لازما لم يجر هذا المجرى. قالوا في تصغير " سماء " " سمية " والهاء تلحق ذوات الثلاثة " وسماء " على أربعة أحرف، فكان حقها أن تلحق الهاء، كما لا تلحق في تصغير " عقرب " " وعناق إذا قلت: " عقيرب " و " عنيق " ولكنه يعرض في التصغير ثلاث ياءات، فيلزم سقوط واحدة منها فتصير كتصغير

الثلاثي من المؤنث، فتلحقها هاء التأنيث. وكان الأصل في تصغير سماء أن تقول: سميّي بثلاث ياءات، كما تقول: عنييق، ثم تسقط واحدة منها، فتصير سميّ كتصغير الثلاثي من المؤنث، فتلحقها الهاء، كما تقول في رجل: رجيلة وفي يد: يدية، فاعرف في ذلك إن شاء الله تعالى. وقال سيبويه: وقد ذكر التسمية (يضرب): فإنما كففت في الفعل يعني النون، لأنك حين ثنيت، وكانت الفتحة لازمة للواحد حذفت أيضا في الاثنين النون، ووافق الفتح في ذاك النصب في اللفظ. يعني أن سقوط النون مما كان مبنيا على الفتح كسقوطها في المنصوب من الفعل، وقد ذكرنا نحو ذلك. ثم قال: " وكان حذف النون نظير الفتحة كما كانت الكسرة في هيهات نظير الفتحة في هيهات ". قال أبو سعيد: يريد أن الفتح الذي أوجبه البناء في الفعل الماضي كالفتح الذي يوجبه الإعراب في المستقبل، يشتركان جميعا في إسقاط نون الجمع في فعلوا، ولن يفعلوا، فإذا سمي بهما عادت النون، وذلك مثل الفتحة في هيهات، والكسرة في هيهات، وهما مبنيات أحدهما جمع وهو هيهات، والآخر واحد وهو هيهات، وجعلوا التاء في هيهات مكسورة وإن كانت مبنية؛ لأنه جمع والتي في " هيهات " مفتوحة لأنها واحدة. وكان حق الجمع أيضا أن تكون تاؤه مفتوحة؛ لأن الذي أوجب بناءهما معنى واحد، وهو الإشارة، والإشارة توجب بناء المشار إليه كقولنا: هذا وهؤلاء. وتقول في المكان: ثمّ، ولما بعد كثيرا: هيهات، فكأنه قال: ذاك بعد، ولكن لما جعل جمعا بالألف والتاء كان ما يجب فيه من الفتح يجعل كسرا، كما أن الفتح الذي يجب بالنصب فيما كان جمعه بالألف والتاء يجعل كسرا، كقولك: رأيت مسلمات، وصالحات، وتقول في الواحد: رأيت مسلمة وصالحة، فجعل الجمع وإن كان مبنيا مكسور التاء إذ كان جمعا في موضع يوجب البناء فيه الفتح كما كان ذلك في المعرب. وإنما وجب الفتح في " هيهات " وجميع ما في آخرها هاء التأنيث إذا بني نحو ذيت، وثمّت، وربّت؛ لأن هاء التأنيث بمنزلة شيء ضم إلى شيء، فبنيا على الفتح نحو خمسة عشر وما أشبه ذلك.

وفي فتح " هيهات " وجه آخر، وهو أن يكون اتبع فتحة الألف والفتحة التي قبلها كما قال سيبويه في ترخيم أسحار أسحار، ويحمل على هذا فتح نون أيهان في معنى أيهات. " وهيهات " إذا جعلناه جمعا فهو عندي على أحد وجهين: أحدهما أن يكون جمع " هيها " والعرب تقول: " هيها " في معنى " هيهات ". وتسقط الألف في " هيها "، لاجتماع الساكنين: ألف " هيها " والألف التي مع التاء، كما تقول هذان ورأيت هذين، فتسقط الألف التي في ذا لاجتماع الساكنين. والوجه الآخر أن يكون جمعا لهيهات المفتوحة فتحذف هاء التأنيث كما تحذفها في مسلمة إذا قلت مسلمات ثم تحذف الألف التي قبلها لالتقاء الساكنين. وفي هيهات لغات، وقد جمعها أبو الحسن اللحياني في كتاب نوادره، أخبرنا بذلك أبو محمد عبد الله بن الفضل الوراق، قال أخبرني أبو عمرو أحمد بن علي بن عبد الله الطوسي، قال: أخبرني أبي، قال: قرأت على أبي الحسن اللحياني يقال: " هيهات " " هيهات " بالنصب والكسر وأيهات أيهات وأيهات أيهات. قال الكسائي من نصبها وقف عليهما بالهاء، وإن ضمها بالتاء، ومن خفض وقف بالتاء. ويقال أيهات أيها .. فتلقى التاء. قال الشاعر: ومن دوني الإبعاد والقفر كلّه … وكتمان أيها ما أشدّ وأبعدا (¬1) ويقال أيضا: أيهات أيهان يجعل مكان التاء نون. قال الشاعر: أيهات منك الحياة أيهانا (¬2) وحكي هيهات منك الشام أي بعيد منك الشام ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في اللسان: (هيه). (¬2) شطر بيت بلا نسبة في ابن يعيش: 4/ 67، واللسان: (هيه).

هذا باب ما لحقته الألف في آخره فمنعه ذلك من الانصراف

قال الشاعر: هيهات هيهات العقيق ومن به … وهيهات خلّ بالعقيق نواصله (¬1) وأنشد أبو زياد: إحدى بني عائذ الله استمرّ بها … صرف من الدّهر حتّى ينفخ الصّور هيهات مسكنها من حيث مسكننا … إذا تضمّتها دعمان فالدّور (¬2) وقال: هيهات من عبلة ما هيهاتا … هيهات إلا ظعنا قد فاتا (¬3) وقال في الخفض: هيهات من مصبحها هيهات … هيهات حجر من صنيعات (¬4) انتهى إلى هذا الموضع كلام اللحياني. قال المفسر: وأما إنشاده: هيهات من عبلة ما هيهاتا فلا يكون ذلك من لغة من يقف على " هيهاة " بالهاء، ولا على لغة من يجمع؛ لأن الذي يقف بالهاء، لا يلحقه ألفا، عوضا من التنوين، في حال النصب، ولا يجعله في قافية تائية منصوبة، ولا يقول رأيت ثمرتا إذا وقف، ولا (يجعله) أيضا في قافية. والذي يجمعه يلزمه أنه يكسر التاء. وهذا عندي شاذ يحمل على لغة من يقف على التاء في المؤنث فيقول هذه ثمرت وحجفت. هذا باب ما لحقته الألف في آخره فمنعه ذلك من الانصراف قال أبو سعيد: هذا الباب مشتمل على الألف المقصورة الزائدة فما كان من ذلك ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 497، والخصائص 3/ 42، وابن يعيش: 4/ 35، واللسان: (هية). (¬2) البيت في نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب 334. (¬3) البيتان من مشطور الرجز، وهما بلا نسبة في اللسان (هيه). (¬4) البيتان من مشطور الرجز، وهما في ابن يعيش 4/ 66، واللسان (هية).

للتأنيث فهذا لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وما كان لغير التأنيث، فهو ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة، فأما التأنيث فنحو حبلى، وحبارى (¬1)، وجمزى (¬2)، ودفلى (¬3)، وغنبى وشروى (¬4) لا ينون شيء من ذلك بحال في معرفة ولا نكرة. وذلك، أن الألف فيه للتأنيث والألف تزيد على هاء التأنيث قوة؛ لأنها تبنى مع الاسم، وتصير كبعض حروفه وتتغير لها بنيته ويكسر الاسم معها فيعود الألف في الجميع والهاء تزاد على المذكر ولا يتغير لفظه. تقول: حبلى، وسكرى: ولا يقال حبل، ولا سكر، ويجمع حبالى، وسكارى فيختلط الألف بحروف ما كسّر، وتقول في الهاء: قائم، وقائمة وثمر وثمرة، فلما كانت الألف مختلطة بالاسم الاختلاط الذي ذكرناه كانت لها مزية على الهاء فصارت بمشاركتها للهاء علة تقوم مقام علتين. وأما الألف الزائدة، كألف أرطى (¬5)، وحبنطى (¬6)، وقبعثرى (¬7)، وما جرى مجراه من الأسماء المذكرة، التي في أواخرها الألف زائدة، فإنها .. تنصرف في النكرة ولا تنصرف إذا سمي بها في المعرفة؛ لأنها أشبهت بالزيادة ألف التأنيث وانضم إليها التعريف، فمنعا الصرف. وقد جاءت الأسماء في أواخرها ألف حملها بعض العرب على أنها ألف التأنيث، فلم ينونها بحال، وحملها بعضهم على أنها ألف زائدة للإلحاق، لا للتأنيث، فنونها في النكرة. فمن ذلك " ذفرى " بعضهم يقول: هذه ذفرى أسيلة، وبعضهم يقول: هذه ذفرى أسيلة، وهي أقلهما. وكذلك " تترى " بعضهم يجعل الألف للتأنيث وبعضهم يجعلها زائدة للإلحاق ¬

_ (¬1) طائر يقع على الذكر والأنثى، واحدها وجمعها سواء. انظر: (الصحاح). (¬2) الحمار الوثاب السريع. اللسان (جمز). (¬3) شجر مر أخضر حسن المنظر. اللسان (دفل). (¬4) شروى الشيء مثله. اللسان (شرى). (¬5) شجر ينبت بالرمل. اللسان (أرط). (¬6) الغليظ القصير البطن. اللسان (حبط). (¬7) الجمل العظيم. اللسان (قبعثر).

بجعفر، ونحوه. وفيه قول ثالث، وهو أن تكون الألف عوضا من التنوين، والقياس لا يأباه وخط المصحف يدل على أحد القولين، إما التأنيث، وإما زيادة الألف للإلحاق؛ لأنها مكتوبة بالياء في المصحف " تترى " وأصل " تترى " " وترى " التاء الأولى بدل من الواو؛ لأنها من المواترة. وألف " معزى " منونة في التنكير بمنزلة " أرطى " وحبنطى " وعلقى. ومنهم من لا ينون، ويجعلها للتأنيث كما قال العجّاج: يستنّ في علقى وفي مكور (¬1) وما كان على فعلى نحو " جمزى " و " بشكى " (¬2) فلا تكون ألفه إلا للتأنيث؛ لأنه ليس في الرباعي شيء يلحق به على وزن فعلل. قال: وأما موسى، وعيسى، فإنهما أعجميان لا ينصرفان في المعرفة وينصرفان في النكرة. تقول: مررت بموسى، وموسى آخر، وبعيسى وعيسى آخر. وموسى الحديد عربية منصرفة في النكرة، وزنها " مفعل "، وهي من أحد شيئين: إما من أوسيت الشعر إذا حلقته، أو من أسوت (¬3) الجرح، وألزمت التخفيف. وأما عيسى إذا جعل عربيّا فوزنه فعلى، وأصله من أحد ثلاثة أشياء إما من العيس، وهو ماء الفحل، أو من العيس وهو بياض الإبل، وإما من قولهم: عاس ماله يعوسه إذا قام به، وأحسن سياسته. وإن سميت بموسى الحديد لم ينصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. وإنما لم ينصرف في المعرفة؛ لأنها مؤنث على أكثر من ثلاثة أحرف وهي معرفة، وستقف على ذلك بعد هذا الباب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في ديوانه 29، والكتاب 3/ 212، واللسان: (مكر). (¬2) امرأة خفيفة سريعة. (¬3) في اللسان: أسا الجرح: داواه.

هذا باب ما لحقته ألف التأنيث بعد الألف فمنعه ذلك من الانصراف في المعرفة والنكرة

هذا باب ما لحقته ألف التأنيث بعد الألف فمنعه ذلك من الانصراف في المعرفة والنكرة وذلك نحو حمراء، وصفراء، وخضراء، وصحراء، وطرفاء، ونفساء وعشراء، وفقهاء، وسابياء، وحادياء، وكبرياء. ومثله: أيضا عاشوراء وأصفياء، وأصدقاء، وزمكّاء، ويروكاء وبراكاء ودبوقاء، وخنفساء، وعنكباء، وعقرباء. قال أبو سعيد: جملة ذلك أن ألف التأنيث يمنع من الصرف في المعرفة والنكرة كما ذكرناه من العلة مقصورة كانت أو ممدودة، وهي في الأصل ألف واحدة، فأما المقصورة منها فأن لا يكون قبلها ألف نحو حبلى، وسكرى. والممدودة: أن يكون قبلها ألف زيدت للمد، وخص بها ضرب من التأنيث لمّا زيد قبلها، فاجتمعت في آخره ألفان، وهما ساكنتان لا يمكن تحريك واحدة منهما، ولا إسقاط إحداهما؛ لأن الألف لا يمكن تحريكها؛ ولأنها لو سقطت لالتبس الممدود بالمقصور فقطعت ألف التأنيث، وهي الأخيرة منهما همزة؛ لأنها من مخرجها حتى يمكن تحريكها. قال سيبويه: واعلم أن الألفين لا تزادان إلا للتأنيث، ولا تزادان أبدا، لتلحقا بنات الثلاثة " بسرداح " (¬1) ونحوها. ألا ترى إنك لم تر " فعلاء " قط مصروفة، ولم تر شيئا من بنات الثلاثة فيه ألفان زائدتان مصروفا. قال أبو سعيد: هذا الذي ذكره سيبويه صحيح، وقد رأينا ما فيه ألف زائدة، وبعدها همزة منقلبة، للقائل أن يقول: إنهما ألفان زائدتان كما قال سيبويه في حمراء وبابها: " وإن آخرها ألفين زائدتين، وذلك نحو قولهم: علياء، وحرباء، وزيزاء، وحزباء، وجلذاء، وهي كلها مصروفات. وقد ذكر سيبويه في هذا الباب، أن الهمزة منقلبة من ياء، وأن الهمزة في باب حمراء منقلبة من ألف، واستدل على ذلك بأنهم يقولون: درحاية، وأن الأصل في علياء، وحرباء، ¬

_ (¬1) الناقة الطويلة، اللسان (سردح).

علياي، وحرباي، وقلبت الياء همزة على ما يوجبه التصريف، وألحقا بسرداح وسريال، ويستدل على ما كان الزيادة فيه ألفين، بأن العرب لا تصرف ذلك وتجعله للتأنيث، وعلى قوله في الباب الآخر، يصرف العرب إياه، واستدل أيضا أن " فعلاء " لا يكون ملحقا كما كانت علياء وحرباء ملحقين؛ لأنه ليس في الكلام مثل (سريال) ولا (سرداح) فيكون (فعلاء) ملحقا به، وفي الكلام مثل " سريال " و " سرداح " فيلحق به فعلاء. وإما (خزعال). وهو فعلال فلم يذكره سيبويه، ولعله لم يصحح الرواية فيه، أو لم يبلغه. وإما قلقال، وبلبال، وجرجار، وخضخاض، وما جرى مجرى ذلك من المضاعف فإنه كثير. وليس بالذي قصده سيبويه، ولا يلحق ألف التأنيث شيئا على ثلاثة أحرف أولها مضموم أو مكسور، وأوسطها ساكن ويلحقه ما يكون ملحقا له. والرباعي كعلياء، وحرباء، وقوباء، وخشّاء. وفي قوباء، وخشّاء لغتان، وثلاثة أوجه، فيقال خششاء وقوباء، مثل عشراء، ونفساء، والعرب لا تصرفهما، والألف للتأنيث ويقال: وقوباء وخشّاء. وفي ذلك وجهان: منهم من يقول: إن الهمزة منقلبة من ياء وإنها ملحقة بقسطاس، وقرطاس، يصرفهما، ومنهم من يقول: إن العرب استثقلت قوباء، وخششاء فسكنت استثقالا في اللفظ وألف التأنيث على حالها ولا يصرف، ولم يذكر سيبويه ذا الوجه. وأما (غوغاء) فمن العرب من يجعلها بمنزلة عوراء، فيؤنث ولا يصرف. ومنهم من يجعل " غوغاء " فعلال بمنزلة قضقاض، وخضخاض " وجرجار على ما قدمت ذكره من كثرة ذلك من المضاعف، ويكون الأصل " غوغاو " والغين، والواو مضاعفتان بمنزلة القاف، والضاد في قضقاض. فإن قال قائل: إذا كنتم قد منعتم من صرف (حبنطى) وما أشبهه في المعرفة؛ لأن فيه ألفا زائدة وتشبه ألف التأنيث في الزيادة واللفظ فهلا منعتم من صرف (علياء) و (حرباء) في المعرفة؛ لأن آخرها كآخر " حمراء " في اللفظ والزيادة؟ قيل له (حبنطى) لفظ الألف فيه لفظ ألف التأنيث، والهمزة في " حمراء " ليست بعلامة التأنيث، وإنما علامة التأنيث الألف التي هي منقلبة منه، فلما كانت الهمزة في علياء

هذا باب ما لحقته نون بعد الألف

منقلبة من ياء وفي حمراء منقلبة عن ألف وليست الهمزة بعلامة لم يشتركا في اللفظ. فإن قال قائل: أنتم إذا صغرتم (حنبطى) بعد التسمية ومنع الصرف قلبتم الألف ياء، وصرفتموه، فقلتم: (حبيط) فهلا صرفتم (حمراء)؛ لأنكم قلبتم ألف التأنيث همزة، وزال اللفظ المشبه لألف التأنيث؟ قيل له ألف (حبنطى) أشبه ألف التأنيث في اللفظ ولا حقيقة له، فإذا زال اللفظ الذي به أشبه بطل الحكم، والهمزة بدل من ألف التأنيث مجعولة مكانها، فالحكم باق. هذا باب ما لحقته نون بعد الألف فلم ينصرف في معرفة ولا نكرة وذلك نحو: (عطشان)، (سكران)، (عجلان)، وأشباهها، وذلك أنهم جعلوا النون، حيث جاءت بعد ألف، كألف حمراء؛ لأنها على مثالها في عدة حروفها، والتحرك والسكون، وهاتان الزائدتان قد اختص بهما المذكر، ولا تلحقه علامة التأنيث، كما أن حمراء لم تؤنث، على بناء المذكر، ولمؤنث سكران بناء على حدة كما كان لمذكر حمراء بناء على حدة. فلما ضارع (فعلاء) هذه المضارعة، وأشبهها فيما ذكرت، جرى مجراها. قال أبو سعيد: اعلم أن الألف والنون الزائدتين في آخر الاسم على ضربين، أحدهما: يختص به " فعلان " الذي أنثاه " فعلى " وهو الأصل في منع الصرف، ولا ينصرف في معرفة ولا نكرة، كغضبان، وسكران. والآخر سائر ما يدخل عليه الألف والنون زائدتين كعربان، وعثمان، وزعفران وسعدان، ومروان وغير ذلك، مما لا يحصى كثرة. فأما العلة المانعة من صرف (سكران) وما به أن أنثاه على خلاف لفظ مذكره، كما أن " أحمر " على خلاف لفظ المؤنث، فلما كانت " حمراء " لا تنصرف في معرفة، ولا نكرة، كان سكران كذلك. وقوي ذلك زنة المصدر منهما واحد؛ لأن (سكر) مثل (حمر) والألف والنون في " سكران " كالألف والهمزة من (حمراء)، ولا تدخل علامة التأنيث على " سكران "، كما لا تدخل على " حمراء ". لا تقول: سكرانة كما لا تقول: " حمراءة "، فصار الألف والنون فيه كأنه للتأنيث، فهذه علة سيبويه وهي التي يعتمد عليها، وبعض أصحابنا- وهو المبرد- واحتج بأن قال: النون بدل من ألف التأنيث واحتج في ذلك بأن قال: إن العرب تقول في

هذا باب ما لا ينصرف في المعرفة

النسب إلى (صنعاء): صنعاني، وبهراء بهراني. وندمان وندامى، وسكران وسكارى. كما قالوا صحراء وصحارى. فلما جاءت الألف والنون زائدتين في غير باب سكران كانت مشبهة بباب سكران في اللفظ، فمنع من الصرف في المعرفة ولم يمنع في النكرة، كما أن الألف الزائدة لغير التأنيث مشبهة في اللفظ بألف التأنيث فمنعت من الصرف في المعرفة ولم يمنع في النكرة، وذلك نحو: هذا عثمان، وسعدان ومررت بعثمان، وعثمان آخر، وسعدان، وسعدان آخر. وكذلك إذا سميت بعربان وسرحان وإنسان فتشبه هذا من باب سكران كتشبيه " حبنطى " من باب " حبلى " و " سكرى ". فإذا حقرت (سرحان) اسم رجل- قلت: (سريحين)، فصرفته؛ لأنه زال الشبه بآخر سكران؛ لأنك تقول في تصغيره: سكيران. وتقول في تصغير " عثمان ": " عثيمان "، و " سعدان "، " سعيدان "، فلا تصرف شيئا من ذلك، لأن الألف والنون مبقاة، وهي بلفظها، فمنع من الصرف. وستقف على ما تنقلب الألف فيه ياء، وما لا تنقلب مما آخره ألف ونون زائدتان في باب التصغير، وليس المانع من الصرف زيادة النون في آخر الاسم، ولا أن يكون قبل النون زيادة أخرى غير الألف، لأنك تصرف (رعشنا) و (ضيفنا) و (غسلينا) و (سنينا) وهذا قول أبي عمرو، والخليل، ويونس. هذا باب ما لا ينصرف في المعرفة مما ليست نونه بمنزلة الألف التي في نحو بشرى، وما أشبهها، وذلك كل نون لا يكون في مؤنثها فعلى. قال أبو سعيد: اعلم أنّا قد ذكرنا في الباب الذي قبله أصل ما يتضمنه هذا الباب بما أغني عن إعادته. واعلم أن كثيرا من الأسماء التي يكون في آخرها ألف ونون يكون فيها مذهبان: أحدهما أن تكون النون زائدة مع الألف التي قبلها، والآخر أن تكون النون أصلية، فلا تمنع من الصرف. وفيها ما لا تكون النون فيه إلا أصلية، وفيها ما لا تكون فيه إلا زائدة، وأنا أسوق

هذه الأسماء فأذكر وجوهها إن شاء الله تعالى. فمما تكون النون فيه أصلية ولا يمنع من الصرف " طحان "، و " تبان "، و " سمان " لأنه من الطحن، والتبن، والسمن، وهو (فعال) بمنزلة حماد، والنون منه كالدال من (حماد)، ومن ذلك رجل يسمى " مرّان "، النون أصلية وهي فعّال، يقال للرّماح: " مرّان "، وهو مشتق من المرانة وهي اللين. ومن ذلك رجل يسمى " فينان "، وهو فيعال؛ لأن الفينان: الكثير الشعر، ومن الأشجار: الكثيرة الأغصان، والفنن: الغصن. ومما يحكم على نونه بالزيادة، ويمنع الصرف: " سعدان "، و " مرجان " و " مروان "؛ لأن هذه أبنية لو جعلت النون فيها غير زائدة صار على مثال " فعلال "، وقد تقدم أنه ليس في كلامهم عند سيبويه (فعلال) إلا مضاعفا. ليس فيه مثل (سرداح). ومما يحكم على نونه بالزيادة مما عرف بالاشتقاق " عريان " لأنه من عري يعري. قال أبو سعيد: إذا كان في آخر الاسم ألف ونون، وقبلها ثلاثة أحرف حكم عليهما بالزيادة، حتى يقوم الدليل من اشتقاق، أو غيره على أن النون أصلية. ومن أجل هذا حكم الخليل على النون في " رمان " إنها زائدة، وإن لم يعرف اشتقاقه؛ لأن الأكثر كذلك، وإنه لا يعرف لرمن معنى. وبعض النحويين- وقد حكي عن الأخفش- يذهب إلى أن النون في رمان أصلية؛ لأن الألف والنون إنما تكثر زيادتهما في الجموع والمصادر، وإن سمي رجل ب (زعفران)، أو (نومان)، أو (ملكمان)، أو (كفران)، أو (سكران) فالباب في ذلك كله أن لا ينصرف. وهذه الأسماء أكثر من أن تحصى، والاشتقاق يدل عليه. وما لم يكن له اشتقاق حمل على الزيادة. ومما يعلم أن النون فيه أصلية (ديوان)؛ لأنك تقول دونت الدواوين والنون فيه لام الفعل، ويقال فيه (ديوان) و (ديوان)، فمن قال: (ديوان) فأصله (دوّان) قلبت إحدى واويه ياء استثقالا لكسرة، والتشديد كما قالوا في قرّاط ودنّار: قيراط، ودينار. والدليل على أن الأصل التشديد قولهم في الجمع والتصغير: دواوين، ودنانير وقراريط، ودويوين، ودنينير وقريريط. وأما من قال ديوان فهو فيعال مثل بيطار. ولو سميت رجلا ب (جنجان) يحكم على النون الأخيرة أنها أصل يجعل بمنزلة خضخاض، وجرجار على التضعيف. وأما ما تحتمل نونه الزيادة، والأصل، فقوله: دهقان، وشيطان.

قال الخليل: أخذ من التدهقن، والتشيطن، والنون أصلية، وهو مصروف. وإن أخذ من الدهق، ومن الشيط، فالنون زائدة ولا ينصرف، وقد يجيء أسماء كثيرة يحتمل الاشتقاق فيها وجهين: منهما: (حسّان) من أخذه من الحسن صرفه، ومن أخذه من الحس لم يصرفه. وحسان بن ثابت لم يصرف نفسه حين قال: ما هاج حسّان رسوم المقام … ومظعن الحي ومبنى الخيام (¬1) فدل على أنه كان يعتقد أن اسمه مأخوذ من الحس. (وغسان) يحتمل أن يكون من الغسنة وهي الخصلة من الشعر، ويقال فلان في غيسان شبابه، والنون في هذا أصلية، ويحتمل أن يكون من الغس وهو الضعيف. وزبان يحتمل أن يكون فعالا من الزبن وهو الدفع، ويحتمل أن يكون من الأزب وهو الكثير الشعر وما ورد بعد ذلك فقسه على ما ذكرت لك. وقد تقدم إن مثل " حبنطى " و " معزى " و " ملقى " و " ذفرى " فيما نون لا ينصرف في المعرفة. وكذلك سرحان وضبعان، فإن صغرت (حبنطى) أو (علقى) انصرف فقلت: (حبيط)، و (عليق)، ورأيت حبيطيّا وعليقيّا، وإن صغرت أيضا سرحان، وضبعان بعد التسمية به صرفته فقلت: هذا سريحين، وضبيعين؛ لأن اللفظ الذي كان يمنع من الصرف هو الألف، والنون، والألف قد زالت في قولك حبيط وسريحين. وأما معزى فالعرب فيه على مذهبين؛ منهم من يجعل (معزى) مؤنثا لا بالألف ولكن كما يجعل إبل، وغنم مؤنثا. فمن ذهب هذا المذهب وسمى به رجلا، ثم صغره، لم يصرفه فقال: هذا " معيز " ومررت بمعيز، ورأيت معيزى بغير تنوين في المنصوب، كما تقول رأيت جواري، وهؤلاء جوار ومررت بجوار. ومن العرب من يذكره، وقد ذكر سيبويه عن أبي الخطاب إنه سمعهم يقولون: ومعزى هدبا يعلو … قران الأرض سودانا (¬2) فعلى هذا المذهب إذا سمي به لا ينصرف في التكبير من أجل الألف ويصرفه في التصغير كما يصرف حبيط. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 226، وشرح الأشموني 3/ 252. (¬2) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 219، وابن يعيش 5/ 63، 6/ 147 واللسان (قرن).

هذا باب هاءات التأنيث

هذا باب هاءات التأنيث اعلم أن كل هاء كانت في اسم للتأنيث، فإنه لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة؛ لأنه يجتمع فيه التعريف، والتأنيث، فإذا نكر لم يكن غير التأنيث. وليست الهاء كالألف في التأنيث؛ لأن منزلة الهاء منزلة اسم ضم إلى اسم ومنزلة الألف منزلة حرف صيغ من الاسم، كبعض حروفه. ألا ترى أنك إذا صغرت اسما على أكثر من أربعة أحرف وآخرها ألف مقصورة للتأنيث حذفتها كقولهم في (حبارى): " حبيّر " وفي جحجبى: " جحيجب "، وفي " قرقرى ": " قريقر "، وهاء التأنيث لا تسقط، تقول في (دجاجة) " دجيّجة " وفي (قرقرة): " قريقرة " كما تقول في (حضر موت): " حضير موت "، وفي (خمسة عشر): " خميسة عشر " تصغر الصدر، وتأتي بالاسم الثاني كما تأتي بالهاء بعد تصغير ما قبله. ثم قال سيبويه: " ويدلك على أن الهاء بهذه المنزلة، أنها لم تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، فقط، ولا الأربعة بالخمسة، لأنها بمنزلة عشر، وموت، وكرب، في معدي كرب. وإنما تلحق بناء المذكر ولا يبنى عليها الاسم كالألف ولم يصرفوها في المعرفة كما لم يصرفوا معدي كرب ونحوه. يريد أن الهاء إذا زيدت على آخر الثلاثي، أو الرباعي لم يصر كحرف من حروفه. ألا ترى أنا لو صغرنا " تمرة " لقلنا: " تميرة " فلم نكسر الراء وحق الحرف الذي بعد ياء التصغير إن لم يقع الإعراب عليه أن يكسر كما يقال في رعشن: رعيشن وفي أرطى أريط؟ والألف الزائدة تكون ملحقة بناء ببناء كألف أرطى وعلقى، وسلقى، وجعبى، ألحق البناء بجعفر، ودحرج. فاعرف ذلك. هذا باب ما ينصرف في المذكر البتة مما ليس في آخره حرف التأنيث كل مذكر سمي بثلاثة أحرف، ليس فيه حرف التأنيث، فهو مصروف كائنا ما كان، أعجميّا، أو عربيّا، أو مؤنثا، إلا فعل مشتقا من الفعل أو يكون في أوله زيادة، فيكون كأجد، وتضع ونضع، وأضع. أو يكون كضرب وذلك كرجل سميته ب (قدم)،

أو (فهر) أو (أذن) وهن مؤنثات أو سميته ب (خشّ) أو (دل) أو (جان) أو (سبك) أو (بكح) وما أشبه ذلك. وإنما انصرف المسمى بالمؤنث على ثلاثة أحرف؛ لأنه قد أشبه المذكر، وذلك أن ما كان على ثلاثة أحرف من المؤنث، إذا صغرناه قبل التسمية، ألحقنا هاء التأنيث، وإن لم يكن في الاسم هاء، كقولهم: " عين "، وعيينة و " أذن "، وأذينة، و " قدم " وقديمة، فإذا سميناهن رجلا: قلنا قديم وعيين، وأذين، فلما كنا نرد الهاء في الثلاثة كأن تقدير الاسم فيه هاء محذوفة، فإذا سمينا به لم نرد الهاء؛ لأن الاسم صار مذكرا وإن لم تسم به رددنا الهاء التي في التصغير. فإن قال قائل: قد وجدنا في أسماء الرجال " عيينة " و " أذينة ". قيل له: إنما سمينا بالتصغير بعد دخول الهاء. ولو سمينا ب (عين) و (أذن) ثم صغر، لم يجز دخول الهاء، ألا ترى أنّا لو سمينا امرأة ب (عمر) ثم صغرناه لقلنا عميرة. ولو صغرنا (عمر) قبل التسمية لقلنا عمير؟ وأما ما كان من العجمي على ثلاثة أحرف، فإنه مصروف، وسواء سكن أوسطه، أو تحرك. وإنما دخل في ذلك ما تحرك أوسطه، ولم يكن بمنزلة المؤنث الذي يفرق فيه بين ما سكن أوسطه " كهند "، و " دعد "، فأجيز صرفه، وبين " قدم "، و " جمل " اسم امرأة، فلم يجز صرفه؛ لأن المؤنث أثقل من العجمي. من ذلك أن التأنيث قد يكون بعلامة، يلزمونها الاسم، للفرق بين المذكر والمؤنث، حرصا على الفصل بينهما، لاختلاف المذكر، والمؤنث في أصل الخلقة، ولأنهم لا يعتدون بالعجمة فيما استعمل مذكرا نحو: " سوسن " وإبريسم، وآجر، إذا سمي بشيء من ذلك كان منزلته منزلة العربي وانصرف، فظهر بذلك أن العجمة عندهم أيسر من التأنيث. قال: وإن سميت رجلا " ببنت "، و " أخت " صرفته؛ لأنك بنيت الاسم على هذه التاء، وألحقتها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا (سنبتة). ولو كانت الهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها، وإنما هذه التاء فيها كتاء

(عفريت) ولو كانت كألف التأنيث لم ينصرف في النكرة، وليست كالهاء لما ذكرت لك. ولو أن الهاء التي في دجاجه كهذه التاء انصرفت في المعرفة. قال أبو سعيد: التاء في بنت، وأخت منزلتها عند سيبويه منزلة التاء في " سنبتة " و " عفريت "؛ لأن التاء في سنبتة زائدة، للإلحاق بسلهبة، وحرقفة، وما أشبه ذلك. والسّنبتة: القطعة من الدهر، كالمدة. والدّليل على زيادة التاء أنهم يقولون: سنبة والتاء في عفريت زائدة؛ لأنهم يقولون عفي، وعفرية. " وعفريت " ملحق بقنديل، وحلتيب، وكذلك (بنت) و (أخت) ملحقتان ب (جذع) و (قفل)، والتاء فيهما زائدة للإلحاق، فإذا سمينا بواحدة منها رجلا صرفناه؛ لأنه بمنزلة مؤنث على ثلاثة أحرف ليس فيها علامة التأنيث كرجل سميناه ب (فهر) و (عين). والتاء الزائدة للتأنيث هي التي يلزم ما قبلها الفتحة، ويوقف عليها بالهاء كقولنا " دجاجة " وما أشبه ذلك. وإن سميت رجلا ب (هنة)، و (منة) وقد كانت في الوصل " هنت " قلت: هنة يا فتى تحرك النون، وتثبت الهاء؛ لأنك لم تر مختصا متمكنا على هذه الحال التي تكون عليها " هنة ". وهي قبل أن تكون اسما، تسكن النون في الوصل، وذلك قليل، فإذا حولته إلى الاسم لزم القياس. قال أبو سعيد: اعلم أن (هنا) و (هنة) يكنى بهما عما لا يذكر اسمه، وربما أدخلوا فيهما الألف واللام، وأكثر ما يستعمل للناس. وأصل (هن): هنو، وكان حقه أن يقال: (هنا) كما يقال: (قفا) و (عصا) قال الشاعر: أرى ابن نزار قد جفاني وملّني … على هنوات كلّها متتابع (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 361، والمقتضب 2/ 270، وابن يعيش 1/ 53 - 5/ 38 - 6/ 3 - 10/ 40 - 44، واللسان (هنا).

هذا باب فعل

وحذفوا آخرها فقالوا: (هن) و (هنة) كما قالوا: (أب) و (أخ) وهما اسمان ظاهران، يكنى بهما عن اسمين ظاهرين. فلذلك أعربا، وفيهما معنى الكناية والعرب تقول في الوقف: (هنة) وفي الوصل: (هنت) فتصير التاء فيها إذا وصلت كالتاء في أخت، وبنت، فقال سيبويه: إذا سمينا ب (هنة) وجب أن نقول في الوصل والوقف: هذا هنه وهنة قد جاءني، فتحرك النون، ولا تسكنها في الوصل، كما كانت مسكّنة قبل التسمية؛ لأن إسكانها ليس بالقياس. ولأنهم لم يلزموها الإسكان فتكون بمنزلة " بنت "، و " أخت " وتكون التاء للإلحاق، وإنما سكّنوها، وهم يريدون الكناية بها عن الاسم، تشبيها بنون (من) لما فيها من معنى الكناية، فإذا سمينا بها رددناها إلى القياس، فلا نصرفها، وتكون منزلتها منزلة رجل سميناه " بنة "، أو " ضعة " في الوقف والوصل. قال: وإن سميت رجلا ب (ضربت)، ولا ضمير فيها قلت: " هذا ضربه " في الوقف؛ لأنه قد صار اسما فجرى مجرى شجرة. هذا باب فعل اعلم أن كل " فعل " إذا كان اسما، معروفا في الكلام، أو صفة، فهو مصروف، فالاسم المعروف في الكلام على ضربين، أحدهما: أن يكون واحدا من جنس، أو جمعا لواحد من جنس، فالاسم الذي لواحد نحو: " صرد "، و " جعل "، و" خزز "، و " سبد "، اسم طائر وما أشبه ذلك، والجمع نحو " ثقب "، و " حفر "، و " ظلم " وما أشبه ذلك إذا أردت جمع الثّقبة، والحفرة والظّلمة، والصفات نحو هذا رجل حطم، كما قال الحطم القيسي: قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم (¬1) وختع، وسكع، والختع: الدليل والسكع: الذي يتسكع في الأمر وإنما صرفت ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 223 والمقتضب 1/ 55 - 3/ 323، شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي 2/ 253، وابن يعيش 6/ 113.

هذه الأسماء، لأنها ليست كالاسم الذي يشبه الفعل الذي في أوله زيادة، وليست في آخرها زيادة تأنيث وليس بفعل، ولا نظير له في الأسماء، فصار ما كان منه اسما ولم يكن جمعا ك " حجر " ونحوه، وما كان منه جمعا بمنزلة " كسر " و " إبر "، وما كان منه صفة بمنزلة قولك: هذا رجل عمل إذا أردت كثير العمل، وبمنزلة رجل جنب، ورجل سلك إذا كان خفيفا في عمله. فأما " عمر " و " زفر " فإنهم منعهم من صرفها وأشباههما أنهما ليسا كشيء واحد مما ذكرنا، وإنما هما محدودان عن البناء الذي هو أولى بهما، وهو بناؤهما في الأصل، فلما خالفا بناءهما في الأصل تركوا صرفهما، وذلك نحو: " عامر " و " زافر "، ولا يجيء " عمر " وأشباهه محدودا عن البناء الذي هو أولى به، إلا وذلك البناء معرفة. كذلك جرى هذا الكلام، فإن قلت: عمر آخر، صرفته؛ لأنه نكرة، فتحول عن موضع " عامر " معرفة. وإن حقرته صرفته؛ لأن " فعيلا " يقع في كلامهم محدودا عن " فويعل " وأشباهه، كما لم يقع " فعل " نكرة محدودا عن " عامر " فصار تحقيره كتحقير " عمرو " كما صارت نكرته كصرد وأشباهه ... " هذا قول الخليل ". قال أبو سعيد: اعلم أن عدل " فعل " عن " فاعل " و " فعال " عن " فاعلة " معنى مفهوم في كلامهم، يريدون به التوكيد والمبالغة، وذلك قولهم في النداء: يا فسق ويا فساق للأنثى، ويا خبث، ويا خباث، ويا غدر، ويا غدار يؤكدون فيها الخبث، والفسق، والغدر، وهي أسماء معارف بالنداء، وكذلك يعدلون في الأسماء الأعلام فيقولون: " عمر "، و " زفر " و " قثم "، وجشم، وما أشبه ذلك للمذكر. و" حذام "، و " قطام "، و " رقاش "، وما أشبه ذلك للمؤنث، فوقع العدل عن هذه الأسماء الأعلام وهي معارف كما وقع في النداء، فإذا نكرته، فزال التعريف انصرف؛ لأنه لم يبق إلا العدل. وإن صغّرته زال عن لفظ العدل وساوى تصغير " عمرو " فساوى ما ليس بمعدول. وقد كان يجوز أن يصغر " عامر " على " عمير " بإسقاط الزائد من غير عدل، فأبطل التصغير مذهب العدل، ولم يكن المصغر معدولا عن مصغر فيجتمع فيه في حال التصغير العدل والتعريف.

وسمى سيبويه " المعدول " " محدودا "؛ لأن المحدود عن الشيء هو الممنوع والمعدول عنه في نحو معناه. وإنما قال: " هذا قول الخليل " يريد أن الخليل شرحه، وذكره على الترتيب الذي جاء به، ولم يرد أن له مخالفا خالفه. قال: " وسألته عن " جمع " و " كتع " فقال: هما معرفة بمنزلة كلهم، وهما معدولتان عن جمع " جمعاء "، وجمع " كتعاء "، وهما مصروفان في النكرة ". قال أبو سعيد: اعلم أن فعل الممنوع الصرف على ثلاثة أوجه وكلهن معدول، والعدل فيهن مختلف، وعللهن ملتبسة، تحوج إلى زيادة في الشرح، والله المعين. فأولها باب " عمر " وقد ذكرناه. والثاني " جمع " و " كتع " وهما معرفتان، معدولتان، على غير معنى عدل عمر وبابه، لأن " عمر " معدول عن " عامر " الذي هو معرفة، والأصل فيه باب النداء إذا قلت: " يا فسق " و " يا غدر " وهو كالمطرد في النداء إذا أردت به المبالغة. وأما " جمع " فإنك تقول أكلت الرغيف أجمع ووقفت على الأمر أجمع، ورأيت الزيدين أجمعين، ووقفت على القصّة جمعاء وعلى القصص جمع، ورأيت الهندات جمع، وإن زدت في التوكيد واتبعت قلت رأيت الهندات جمع كتع. وكان الأصل أن تقول " جمعا كتعا "؛ لأن ما كان مذكره على أفعل ومؤنثه على فعلاء فباب جمعه أن يكون على فعل، كقولنا أحمر وحمراء وحمر وأشهب وشهباء وشهب، غير أنهم عدلوا عن " جمع وكتع " إلى " جمع وكتع "؛ لأن هذا لا يستعمل إلا معرفة، وباب أحمر وحمراء يستعمل معرفة ونكرة. فشبّهوه في جمعهم إياه على " فعل " بباب الأفضل والفضلى والأطول والطولى، وجمع المؤنث فيه الفضل والطّول، ولا يستعمل إلا بالألف واللام معرفة، فلما كان جمع وكتع معرفتين بغير الألف واللام صار كالفضل والطّول واجتمع فيه علتان: العدل عن فعل الذي هو القياس في جمع جمعاء وكتعاء والثانية التعريف. وأما " فعل " الثالث فهو أخر، وهي غير مصروفة في النكرة والذي منعها من الصرف في النكرة العدل والصفة، والذي يذكره النحويون أنها معدولة عن الألف واللام. فقول القائل: كيف يعدل عن الألف واللام وهي نكرة وما فيه الألف واللام معرفة

لا اعتبار له، وشرح ذلك: أن " أخر " جمع " أخرى " أنثى " آخر " تقول: مررت بزيد ورجل آخر، فلا ينصرف؛ لأن المعنى وبرجل آخر منه، كما تقول: مررت بزيد ورجل أفضل منه، وباب أفضل منه تلزم فيه " من " وإن حذفت في بعض الأحوال فهي مقدرة ولا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، تقول: مررت برجل أفضل منك، وبرجلين أفضل منكما، وبرجال أفضل منكم. وبنسوة أفضل منكن، فإذا دخلت عليه الألف واللام سقطت من، وثني، وجمع وفصل بين المذكر والمؤنث. تقول: مررت بالرجل الأفضل، وبالمرأة الفضلى، وبالرجلين الأفضلين، والمرأتين الفضليين والرجال الأفضلين، والأفاضل والنسوة الفضليات، والفضل. و" آخر " يستغنى فيه عن " من " وإن كان من باب أفضل منك؛ وذلك أنه لا يؤتى به مبتدأ، لا تقول: مررت برجل آخر، كما تقول: مررت برجل أفضل منك، وإنما يؤتى ب " آخر " بعد اسم قبله. كقولك: مررت بزيد ورجل آخر، فعلم بذلك أنه آخر من الاسم الأول، وأطرحت " من " فلم تذكر فأشبهت ما فيه الألف واللام من " الأفعل " كالأفضل والأكرم، فثني، وجمع، وأنث، فصار في هذا الموضع بمنزلة ما فيه الألف واللام في التعريف، وجرى في الصفة مجرى أفضل منك، وإن سميت رجلا ب " صغر " و " كبر " و " فضل " من قولهم الصغرى والكبرى، والفضلى صرفته؛ لأن هذا لم يعدل عن شيء ولم يخرج عن بابه. وإنما نزعت الألف واللام من الصغر والكبر وهما في بابهما فسمي بذلك كما يسمى الشيء ببعض الاسم لو سمينا ب " جعف " من " جعفر " أو " حار " من " حارث " لصرفناه ولم يدخل ذلك في العدل. وقد ذكر التّوّزي عن أبي عبيدة أنه قال: " لكع " و " لكعة " فعلى هذه الحكاية ينصرف لكع إذا سمينا به ويصير بمنزلة حطم وحطمة. قال سيبويه: فإن حقرت " أخر " اسم رجل صرفته كما صرف " عمر "، إذ حقّر " وينبغي على قياس قول سيبويه إذا سمينا رجلا بأخر وهو لا يصرفه، ثم نكرناه ألا نصرفه أيضا؛ لأنه منع الصرف منكورا قبل التسمية فترده إلى حالة منكورا إذا نكرناه بعد التسمية كما فعل بأحمر إذا سمي به نكرة. قال: " وسألته عن " أحاد " و " مثنى " و " ثلاث " و " رباع " فقال: هو بمنزلة (أخر)

إنما حده واحدا واحدا فجاء محدودا عن وجهه فترك صرفه، قلت: أفتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة توصف به نكرة ". قال أبو سعيد: اعلم أن أحاد وثناء قد عدل لفظه ومعناه، وذلك أنك إذا قلت: مررت بواحد أو اثنين، أو ثلاثة فإنما تريد تلك العدة بعينها، لا أقل منها، ولا أكثر، فإذا قلت: جاءني قوم أحاد، أو ثناء، أو ثلاث، أو رباع، فإنما تريد أنهم جاءوني واحدا واحدا، أو اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، أو أربعة أربعة، والمانع من الصرف فيه أربعة أقاويل: منهم من قال: إنه صفة، ومعدول فاجتمعت علتان منعتاه الصرف، ومنهم من قال: إنه عدل في اللفظ والمعنى، فصار كأن فيه عدلين وهما علتان، فأما عدل اللفظ فمن " واحد " إلى " أحاد " ومن (اثنين) إلى " ثناء ". وأما عدل المعنى فتغيير العدة المحصورة بلفظ الاثنين والثلاثة إلى أكثر من ذلك مما لا يحصى. وقول ثالث: إنه عدل وإن عدله وقع من غير جهة العدل؛ لأن باب العدل أن يكون للمعارف وهذا للنكرات. وقول رابع: إنه معدول وإنه جمع لأنه بالعدل قد صار أكثر من العدة الأولى، وفي ذلك لغتان " فعال " و " مفعل " كقولك: " أحاد وموحد " و " ثناء ومثنى " و " ثلاث ومثلث " و " رباع ومربع ". وقد ذكر الزجاج أن القياس لا يمنع أن يبنى منه إلى العشرة على هذين البناءين فقال خماس ومخمس، وتساع، ومتسع وعشار، ومعشر. وبعض النحويين يقول إنها معرفة واستدل أصحابنا على تنكيره بقوله: عز وجل: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ (¬1) فوصف أجنحة وهي نكرة بمثنى وثلاث ورباع. وقال ساعدة بن جؤيّة: وعاودني ديني فبتّ كأنّما … خلال ضلوع الصّدر شرع ممدّد (¬2) ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية 1. (¬2) البيت في الخزانة 6/ 87.

ثم قال: ولكنّما أهلي بواد أنيسه … ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد (¬1) فوصف ذئابا بمثنى وموحد. قال سيبويه: " وإذا صغرت " ثناء " أو " أحاد " صرفته، كما صرفت " عمر " و " أخر " إذا حقرتهما ". وقولنا: " قال " و " قيل " وإن كان أصله " قول " و " قول " لا يدخل في العدل وإنما هو من باب التخفيف كقولنا في علم: علم وفي ظرف: ظرف، تخفيفا، وليس من باب العدل؛ لأن في العدل توكيد معنى أو نقله من لفظ إلى لفظ أو تغيير قياس فيه لمعنى يدعو إليه على ما ذكرناه من وجوه العدل. وليس " عمر " بمحذوف من " عامر " كما أن " ميت " محذوف من ميّت، لأن " عمر " قد غيرنا اللفظ فيه، وضممنا أوله، ولم يغير في " ميت " أكثر من أن حذفت الياء المتحركة منه، ومخالفة بناء " عمر " لعامر كمخالفة مثنى لاثنين. قال: " وإذا سميت رجلا ب " ضرب "، ثم خففته، فأسكنت الواو صرفته؛ لأنك قد أخرجته إلى مثال ما ينصرف، كما صرفت " قيل " وصار تخفيفك ل " ضرب " كتحقيرك إياه؛ لأنك تخرجه إلى مثال الأسماء، ولو تركت صرف هذه الأشياء في التخفيف للعدل لما صرفت اسم " هار " لأنه محذوف من هاير ". وقد خالفه أبو العباس محمد بن يزيد في تخفيف " ضرب " فقال: إذا خففنا " ضرب " قبل التسمية فقلنا: " ضرب " ثم سمينا به مخففا، فإنه ينصرف، وإن سميناه ب " ضرب " ثم خففناه لم ينصرف؛ لأننا ننوي " ضرب " في التسمية. وفرّق بين " ضرب " إذا خففناه بعد التسمية وبين " قيل " وذلك أن قيل لم يستعمل فيه قول، وإنما يبنى على التخفيف، والتخفيف فيه لازم، وليس بلازم في ضرب. وقال المحتج عن سيبويه: إن المانع من صرف " ضرب " اللفظ الذي ليس في الأسماء نظيره، فإذا زال اللفظ إلى ما له نظير انصرف، كما ينصرف إذا حقرته. واستدل سيبويه أنه ليس الحذف في كل حال للعدل بأن " هار " مخفف عن " هائر " محذوف الهمزة وليس بمعدول، ولا ممنوع الصرف فاعرفه إن شاء الله. ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 225، والمقتضب 3/ 381، وابن يعيش 1/ 62.

هذا باب ما كان على «مفاعل» و «مفاعيل»

هذا باب ما كان على «مفاعل» و «مفاعيل» " اعلم أنه ليس شيء على هذا المثال إلا لم ينصرف، في معرفة، ولا نكرة، وذلك أنه ليس شيء يكون واحدا يكون على هذا البناء، والواحد أشد تمكنا، وهو الأول، فلما لم يكن هذا من بناء الواحد الذي هو أشد تمكنا تركوا صرفه إذ خرج مما هو بناء ما هو أشد تمكنا. وإنما صرفت " مقاتلا " و " معافرا "؛ لأن هذا المثال يكون للواحد ". قال أبو سعيد: هذا الباب مشتمل على ما كان من الجمع أوله مفتوح، وثالثه ألف، وبعد الألف حرفان، أو ثلاثة أحرف أو حرف مشدد، وليس في آخره هاء تأنيث ولا ياء نسبة وذلك نحو " مساجد " و " ضوارب " و " مفاتيح " و " قناديل " و " دواب " و " مداور ". وهذا الجمع عند سيبويه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وإن سميت بشيء منها، ثم نكرت انصرف، والذي منع صرف ذلك أن هذا الجمع لا نظير له في أبنية الواحد، وسائر الجموع لها نظائر نحو " كلاب " نظيره في الواحد كتاب وقلوس نظيرة في الواحد " قعود "، و " جلوس "، وقالوا " سدوس " للطيلسان الأخضر. قال الشاعر: وداويتها حتى شتت حبشيّة … كأنّ عليها سندسا وسدوسا (¬1) وقد حكي " جزور " في معنى جزور و " أتيّ " وهو مسيل الماء ووزنه فعول كقولنا: عصيّ، وثديّ، وحقيّ، وأصله ثدوي وحقوو. وكذلك " أتيّ " أصله: أتوي تغير ذلك لما يوجبه التصريف بما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. و" أفعال " قد حكي سيبويه أنها تكون للواحد. ذكر أن بعض العرب يقول: هو الأنعام واستشهد أيضا بقوله عز وجل: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ (¬2). وحكي عن أبي الخطاب الأخفش أن بعض العرب يقول: هذا ثوب أكياش. ¬

_ (¬1) البيت في اللسان: " سدس " و " شتا ". (¬2) النحل، الآية: 66.

ومن الناس من يقول أن أكياش جمع وإن كان واقعا على الثوب كما يقول: قميص أخلاق ويراد بها قطع فيها خلوقة فجاء بها لأنها قطع، قال الشاعر: جاء الشتاء وقميصي أخلاق … شراذم يعجب منه التّوّاق (¬1) " التواق " ابنه، وشراذم من ألفاظ الجمع التي لا خلاف فيها وإنما أراد قطع القميص ومثله قولهم برمة أعشار وسراويل أسماط. وأما " أفعل " فنظيره في الواحد ما ذكره بعض الكوفيين: " آنك " ولم يذكره أصحابنا. ولعلهم تركوا ذكره؛ لأنه أعجمي ولا يعتد بالأبنية الأعجمية فيما ذكر من الأبنية. وذكر بعض أصحابنا أن في الكلام " أنملة " والهاء غير معتد بها فقد ثبت " أفعل " في الواحد وأما " أفعلة " نحو أحمرة وأعطية فدخول الهاء عليها قد أوجب لها حكما ستقف عليه، فهذه الجموع التي ذكرتها هي التي يقع فيها اللبس والإشكال وسائر الجموع تبين وتعرف نظائرها في الواحد. وقد اعترض بعض الناس في الجمع الذي أوله مفتوح وثالثة ألف فقال: قد وجدنا نظير هذا وهو قولهم للضبع " حضاجر " قال الحطيئة: هلا غضبت لرحل جا … رك تجرّدها حضاجر (¬2) فإن " حضاجر " عند سيبويه جمع سميت به الضبع وهي معرفة والمعارف من أسماء المدن، والناس قد تسمى بالجموع كقولهم في اسم بعض القبائل " كلاب " وفي بعض المدن " مدائن " وواحد حضاجر " حضجر "، يقال أوطب حضاجر أي ممتلئة وسميت الضبع حضاجر لكبر بطنها. قال الشاعر: حضجر كأمّ التّوأمين توكّأت … على مرفقيها مستهلّة عاشر (¬3) يصف رجلا بكبر البطن، وشبهه بامرأة تم لها تسعة أشهر وهي حامل باثنين في ¬

_ (¬1) البيتان في الخزانة 1/ 234، واللسان (خلق). (¬2) البيت في الديوان 33، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 64، واللسان " حضجر ". (¬3) في اللسان: " حضجر ".

أعظم ما كانت بطنا. وعارض معارض ب " سراويل " في الواحد. وسراويل عند سيبويه والنحويين عجمي وينبغي على مذهب الأخفش أن يتصرف إذا لم يكن جمعا. وقد رأينا شعر العرب يدل على مذهب سيبويه. قال ابن مقبل: يمشي بها ذبّ الرّياد كأنه … فتى فارسيّ في سراويل رامح (¬1) أراد فتى رامح عليه سراويل. ومن الناس من يجعل سراويل جمعا لسروالة ويكون جمعا لقطع الخرق وأنشد: عليه من اللّؤم سروالة (¬2) وقد ذكر هذا أبو العباس واعتمد عليه والذي عندي أن " سروالة " لغة في " سراويل " والدليل على ذلك أن الشاعر لم يرد أن عليه من اللؤم قطعة من خرق السراويل، هذا يبعد. وفي هذا الجموع التي ثالثها ألف مما يمنع من صرفها أنها لا تجمع مكسرة وسائر الجموع تحتمل الجمع على التكسير، تقول: " أقوال وأقاويل " و " أرهط وأراهط " و " أيد وأياد " و " أعراب وأعاريب " ولو جمعت مثل فلوس على التكسير إذا سمينا به لجاز أن يقال: " فلاس " كما يقال جدود و " جراير " و " ركوب " و " ركائب ". والعلة المانعة من صرف هذا الجمع يحتمل ترتيبها وجوها: منها أن يقال: أن المانع من الصرف أنه جمع، وأنه لا نظير له في الواحد وفي الجموع ما له نظير، فصار لهذا الجمع مزية في البعد عن الواحد، فكأنه جمع مرتين، فصار كالثقلين، والعلتين. ووجه آخر أن يقال لما لم يحتمل هذا الجمع أن يكسر، وفي الجمع ما يحتمل التكسير صارت له بذلك مزية في البعد عن الواحد، لأن الواحد يكسر. ووجه آخر وهو أنه لما لم يجمع جمع التكسير أشبه الفعل؛ لأن الفعل لا يجمع فكان فيه شبه الفعل والجمع. وإذا كان في آخره هاء التأنيث سقط حكم الصدر وصار الحكم للتأنيث بالهاء، ¬

_ (¬1) البيت بالديوان 41، والخزانة 1/ 228، وشرح المفصل: 1/ 64، واللسان " ذبب- رود- سرل ". (¬2) البيت في الخزانة 1/ 223، وشرح المفصل: 1/ 64، والمقتضب: 3/ 346.

كما أنه إذا دخل عليه ياء النسبة سقط حكم الصدر فانصرف، وذلك قولك هؤلاء صياقلة ومهالبة وصيارفة كما تقول: هذا مدائنيّ ومعافريّ. على أن في الواحد مثل ذلك كقولهم: رجل عباقية وهو الدّاهي. وقد تسقط ألف الجمع تخفيفا فيقال: جندل، وذلذل يريدون جنادل وذلاذل وهي أسافل القميص الطويل ويصرفونه؛ لأنه نقص على البناء المانع للصرف. وقد ترد أسماء أواخرها ياء، لفظها كلفظ الجمع، وهي مصروفة، والياء مذهوب بها إلى أنها ياء النسبة. وربما ذهبوا ببعضها إلى الجمع، فمن ذلك: " يمان " و " شام " و " تهام " تقول: رأيت يمانيا، وشاميا، وتهاميا، وكأن الأصل يمنيّ وشأميّ، وتهاميّ، فجعلت الألف عوضا من إحدى الياءين وفي " تهام " لغتان " تهاميّ " بكسر التاء وتشديد الياء وهي منسوبة إلى " تهامة، والأخرى تهام " بفتح التاء في الرفع والجرّ، وفي النصب رأيت تهاميّا. قال سيبويه: كأن الأصل فيه " تهميّ " وإن لم يستعمل قياسا على " يمنيّ " وتجعل الألف عوضا من إحدى الياءين. ومن ذلك " ثمان " تقول: هذه ثمان، ورأيت ثمانيا، والأصل عنده ثمنيّ فعملوا به ما عملوا بيمان. وكذلك قالوا في " رباع " هذا رباع، ورأيت رباعيّا، ومثله مما لم يذكره سيبويه، ولا غيره في هذا المعنى قولهم: رجل شناح للطويل، ورأيت شناحيّا، كل ذلك يذهب به مذهب النسبة. وقد ذكر أن بعض العرب ترك صرف " ثمان " على مذهب الجمع، كأن الواحد " ثمنى " والجمع ثمان كما قالوا: ملهى، وملاه وأرطى، وأراط. وأنشد: يحدو ثماني مولعا بلقاحها … حتّى هممن بزيغة الإرتاج (¬1) ولو سميت رجلا ب " كراهي " من قولنا: كراهية، و " بعلاني " من علانية فالوجه أن يجعل " كرباع "، و " شناح "، ولو ترك صرفه كما ترك صرف ثمان كان مذهبا. ¬

_ (¬1) ينسب البيت إلى ابن ميادة في خزانة الأدب 1/ 160.

واعلم أن ما كان في آخره ياء مشددة، مما هو على لفظ الجمع على وجهين؛ أحدهما: أن تكون الياء في واحده ثم يجمع ذلك الواحد، فبقيت الياء فيه. أو تكون الياء دخلت على اللفظ الذي قبلها، فإن كانت الياء في الواحد فهو لا ينصرف وإن كان دخولها في الواحد للشبه كقولنا: بختىّ، وبخاتيّ، وكرسيّ، وكراسيّ وعاريّه، وعواريّ وعاديّه وعواديّ، وحوليّ وحواليّ. وإن كانت الياء دخلت على ما قبلها، ولم يجمع فهو منصرف كقولنا: حواريّ؛ لأن التقدير أنا نسبنا إلى " حوار ". وكذلك رجل حواليّ كأنا نسبنا إلى حوال. قال ابن أحمر: أو ينسأن يومي إلى غيره … إنّى حواليّ وإنّي نكر (¬1) ومعنى " حواليّ " لطيف الحيلة. وإذا صغرت شيئا من هذا الجمع وقد جعلته اسما لواحد انصرف وذهب عنه ما كان يمنع من الصرف من لفظ الجمع كرجل اسمه مساجد أو قناديل إذا صغرته قلت " مسيجد " وقنيديل. وإذا سميته ب (سراويل) ثم صغرته لم تصرفه وقلت (سرييل)، وإنما فارقت سراويل، " مساجد " لأن سراويل مؤنث الأصل. والتصغير لا يذهب بالتأنيث، فهي بمنزلة " عناق " اسم رجل. وإذا صغرته لم يتصرف. ولذلك إذا صغرت (ثمان) اسم رجل لم ينصرف؛ لأنها مؤنثة " كثلاث "، و " عناق "، والتصغير لا يذهب التأنيث وأما (صحاريّ) و (بخاتيّ) و (قماريّ) وما أشبه ذلك إذا صغرته اسم رجل فهو ينصرف. ¬

_ (¬1) البيت في اللسان (حول) والرواية فيه: إني حوالي وإني حذر.

هذا باب تسمية المذكر بلفظ الاثنين والجمع الذي يلحق الواحد واوا، ونونا

بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا باب تسمية المذكر بلفظ الاثنين والجمع الذي يلحق الواحد واوا، ونونا فإذا سميت رجلا برجلين، فإنّ أقيسه وأجوده أن تقول: هذا رجلان ورأيت رجلين، ومررت برجلين كما تقول: هذا مسلمون، ورأيت مسلمين ومررت بمسلمين. قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب مشتمل على أن المسمى بتثنية أو جمع سالم بالواو والنون والألف والتاء، يختار فيه بعد التسمية أن يجري لفظه على ما كان يجري قبل التسمية، فيقال في رجل اسمه (مسلمان) هذا مسلمان أقبل ورأيت مسلمين ومررت بمسلمين. وفي رجل اسمه (مسلمات) هذا مسلمات قد أقبل ورأيت مسلمات قد أقبل ومررت بمسلمات وعلى هذا جاء (عرفات): قال الله عز وجل: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (¬1). ثم قال أمرؤ القيس: تنورتها من أذرعات وأهلها … بيثرب أدنى دارها نظر عال (¬2) قال أبو سعيد: ومن العرب من لا يجري ذلك على حده قبل التسمية فيجري الإعراب في المثنى على النون. ويجعل قبل النون ألفا لازمة ويجعله غير منصرف بمنزلة عثمان ومروان. فيقول: هذا مسلمان قد جاء ورأيت مسلمان ومررت بمسلمان. ويقول من يلزمها الياء والنون هذا مسلمين فيجعل الإعراب في النون " ورأيت مسلمينا " و " مررت بمسلمين " فيجعل الإعراب في النون ويجعل قبل النون ياء لازمة. ومن الناس من لا يرى صرفه وقد أجروا أسماء مواضع على هذين الوجهين نحو " قنسرين " " يبرين " و " فلسطين " " وسيلحين ". فمنهم من يقول هذه فلسطون ويبرين وقنسرون وسيلحون، ورأيت قنسرين ويبرين وفلسطين وسيلحين ومررت بقنسرين ¬

_ (¬1) البقرة: الآية: 198. (¬2) الكتاب: 3/ 233، شرح المفصل، 1/ 47 - 9/ 34، والمقتضب: 3/ 333، والخزانة: 1/ 56.

ويبرين وفلسطين وسيلحين فيجعل النون مفتوحة على كل مثال ويغير ما قبلها. ومنهم من يجعل الإعراب في النون ويجعل قبلها ياء اللازمة فيقول هذه فلسطين وقشرين وسيلحين ويبرين ورأيت فلسطين ويبرين وسيلحين ومررت بفلسطين ويبرين وسيلحين. فإن قال قائل: تجيزون في تثنية المثنى أن يجعل الإعراب في النون ويجعل ما قبلها ياء لازمة كما أجزتم ذلك في الجمع. قيل له لا يجوز ذلك. وكلنا نجعل ما قبل النون في التثنية ألفا لازمة؛ لأن له نظيرا في الكلام كقولنا: زعفران وعثمان وضربان. وما لا يحصى كثرة مما في آخره ألف ونون زائدتان وليس في الكلام في آخر الاسم ياء ونون زائدتان وقبل الياء فتحة، فمن اعتمد ذلك لم يقل: رجلين، ومسلمين إذا سمينا المثنى. وأما ما في الجمع فقد وجد نظيره في الكلام إذا ألزمنا الإعراب النون وجعلنا قبلها ياء لازمة كقولنا غلسين وهو " فعلين ". وقد رأينا العرب يعربون النون في سنين فيقولون هذه سنين. قال الشاعر: ذراني من نجد فإن سنينه … لعين بنا شيبا وشيّبننا مررا (¬1) وأما ما كان بالألف والتاء فالذي ذكره أصحابنا التنوين ثم أجازوا ترك التنوين كقولنا هذه قريشيات وعرفات ورأيت قريشيات وعرفات ومررت بعرفات وقريشيات. وذكر أبو العباس المبرد أن الفتح لا يجوز فيه. لا يجوز عنده أن يقول رأيت عرفات، ومسلمات إذا سميت رجلا. قال أبو سعيد: ورأيت بعض النحويين من قول ضد هذا يقول إذا حذفت التنوين لم يجز إلا الفتح. وكلام سيبويه يدل على هذا عندي، ولم يفصح بفتح ولا كسر وذلك أنه قال: " ومن العرب من لا ينون " أذرعات " ويقول هذه قريشيات كما ترى شبهوها بهاء التأنيث لأن الهاء تجيء للتأنيث ولا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة والأربعة بالخمسة ". قال: " فإن قلت كيف تشبهها بالتاء وبين التاء وبين الحروف المتجول ألف فإن ¬

_ (¬1) ابن يعيش: 5/ 11، اللسان (سنه).

هذا باب الأسماء العجمية

الحرف الساكن ليس بحاجز حصين فصارت كأنها ليس بينها وبين المتحرك شيء. فهذا من كلام سيبويه دليل بيّن أن التاء في الجمع بمنزلة الهاء، وأن الألف كالمطّرحة فينبغي أن يكون الفتح أولى بها. وأما قول الأعشى: تخيّرها أخو عانات شهرا … ورجّى أولها عاما فعاما (¬1) فأبو العباس محمد بن يزيد لا يفتح " عانات " على ما ذكرت لك من مذهبه والذي يفتح يقول " عانات ". وروي عن الأصمعي أنه قال: ترك التنوين مع الكسر خطأ وينبغي أن يفتح. هذا باب الأسماء العجمية قال سيبويه: اعلم أن كل أعجمي أعرب، وتمكن في الكلام فدخلته الألف واللام، وصار نكرة فإنك إذا سميت به رجلا صرفته إلا أن يمنعه من الصرف ما يمنع العربي وذلك نحو اللجام والديباج والبردج والنّيروز والزّنجبيل والفرند والأرندج والياسمين فيمن قال: " ياسمين " كما ترى والسّهريز والآجرّ. كل هذا إذا سميت به رجلا انصرف؛ لأن العجمة غير معتد بها في هذه الأسماء، ولا في ما جرى مجراها، لأنها نكرت، وعرفت بالألف واللام، وخلطوها بأسمائهم بهذا الضرب من التصرف، فصار كالأسماء العربية. فإن قال قائل لا أصرف " آجرّ " وأبريسم وما جرى مجراه مما لا نظير له في أبنيتهم. قيل له انفراد كل واحد من هذه الأسماء بالبناء الذي لا نظير له لا يخرجه من شبه كلامهم وقد رأينا في أبنية كلام العرب أسماء كل واحد منها منفرد ببناء لا نظير له كقولهم: " كنهبل " وهو " فنعلل " و " هندلع " وهو " فنعلل ". وذكر سيبويه أن " إبل " لا نظير له وأنه في يجيء في كلام العرب ما لا نظير له في كلامهم ككدت تكاد وليس في كلامهم " فعل يفعل " قال: وأما " إبراهيم " و " إسماعيل " و " إسحاق " و " يعقوب " و " هرمز " و " فيروز " و " قارون " و " فرعون " وأشباه هذه الأسماء فإنها لم تقع في كلامهم إلا معرفة، ¬

_ (¬1) الخزانة: 1/ 27، المقتضب: 3/ 33، واللسان: (برر).

هذا باب تسمية المذكر بالمؤنث

على حد ما كانت عليه في كلام العجم ولم تمكن في كلامهم، كما تمكن الأول الذي ذكرناه مما ينكر وتدخله الألف واللام فاستنكروها " يعني المعارف الأعجمية " واستثقلوها، لم يتصرفوا فيها بإدخال الألف واللام ولم يجروها مجرى أسمائهم العربية " كنهشهل " و " شعثم " ولم يكن شيء منها قبل ذلك اسما يكون لكل شيء من أمة. يعني لم يكن فيما ذكر من الأسماء المعارف " كإبراهيم " و " هرمز " و " إسماعيل " ما يقع على الأنواع فيكون كل واحد من النوع له اسمه " كالبردج " و " الزنجبيل " و " الأرندج " وما أشبه ذلك. قال أبو سعيد: والذي عندي في النيروز أن لا يقال إلا بالواو: نورن؛ لأن أصله بالفارسية كذلك، ولأنهم أجمعوا على جمعه بالواو فقالوا نواريز ولو كان بالياء لقالوا نياريز. قال سيبويه: " وإذا حقرت اسما من هذه الأسماء فهو على عجمته وكان ممنوع الصرف بعد التحقير كما أن عناق إذا سميت به رجلا ثم حقرته كان على تأنيثه لم يصرف " تقول في هرمز: هذا هريمز وفي " فرعون " هذا فريعين ومررت بفريعين، وهريمز؛ لأن التحقير لم يغير معناه ولم يكن منعه الصرف لبنية يزيلها التحقير، وقد ذكرنا أن بعض ما لا ينصرف " يصغر " فيوجب التصغير صرفه. قال: وأما " صالح " فعربي وكذلك " شعيب " وأما " هود " و " نوح " و " لوط " فتصرف لخفتها. والمعروف أن " هودا " عربي. والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده من نوح، ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده. والناس يختلفون في مثل هذا، فمنهم من يقول: إن العرب من ولد إسماعيل ومن كان قبل ذلك فليس بعرب، وهود وعاد قبل إسماعيل فيما يذكر. هذا باب تسمية المذكر بالمؤنث قال سيبويه: " اعلم أن كل مذكر سميته بمؤنث على أربعة أحرف فصاعدا، لم ينصرف؛ وذلك أن أصل المذكر عندهم أن يسمى بالمذكر، والذي يلائمه، فلما

عدلوا عنه ما هو له في الأصل، جاءوا بما لا يلائمه، ولم يكن متمكنا في تسمية المذكر فعلوا ذلك به، كما فعلوا ذلك بتسميتهم إياه بالمذكر، فتركوا صرفه، كما تركوا صرف الأعجمي، فمن ذلك " عنات "، و " عقرب "، و " عقاب " و " عنكبوت "، وأشباه ذلك " قال أبو سعيد: هذا الباب مشتمل على أن ما سمي بمؤنث على أربعة أحرف فصاعدا، لم يتصرف في المعرفة، وانصرف في النكرة. وشرط ذلك المؤنث أن يكون اسما مصوغا للجنس أو مصوغا لتعريف مؤنث، ولم يكن منقولا إلى المؤنث عن غيره، فإذا كان على غير هذين الوجهين لم يعتد بتأنيثه. فأما ما كان من المؤنث اسما للجنس، فنحو (عناق) و (عقرب) و (عقاب) و (عنكبوت) إذا سميت بشيء منهن، أو مما يشبههن، رجلا أو سواه من المذكر، لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة. وأما ما صيغ لتصريف المؤنث، ولم يكن قبل ذلك اسما، فنحو: (سعاد) و (زينب) و (جيئل) وتقديرها (جيعل). إذا سميت بشيء من هذا رجلا لم ينصرف في المعرفة؛ لأن (سعاد) و (زينب) اسمان للنساء، ولم يوضعا على شيء يعرف معناه، فصار اختصاص النساء بهما، بمنزلة اسم الجنس الموضوع على المؤنث، (جيئل) اسم معرفة موضوع على الضبع وهي مؤنث، ولم يوضع على غيرها وهي " كزينب " و " سعاد ". فإذا كانت صفة لمؤنث على أربعة أحرف فصاعدا، ولم يكن فيها علامة التأنيث فسميت بها مذكرا صرف؛ لأنه في الأصل لفظ مذكر وصف به مؤنث وإن كانت تلك الصفة لا تكون إلا لمؤنث كرجل سميته ب (حائض) أو (طامث) أو (متئم). وذكر أن تقديره إذا قلت: مررت بامرأة حائض أو طامث، أو متئم كأنك قلت: مررت بشيء حائض، وطامث ومتئم. وذلك مثل ما يوصف من المذكر بمؤنث كقولهم: رجل نكحة، ورجل ربعة، ورجل خجأة، أي كثير الضراب. وكأن هذه الصفة صفة لمؤنث، كأنك قلت: هذه نفس خجأة. قد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة). وذلك إنه واقع

على الذكر والأنثى. ومن الدليل على ما قاله سيبويه أنا ندخل على حائض الهاء إذا أردنا به الاستقبال، فنقول: هذه حائضة غدا. فلما احتمل حائض دخول الهاء عليها علمنا أنها مذكر. على أنها قد تؤنث لغير الاستقبال، قال الشاعر: رأيت ختون العام بالعام قبله … كحائضة يزنى بها غير طاهر (¬1) وكذلك يقال امرأة طالق وطالقة، فلما كانت " هذه " الهاء تدخل على هذا النحو علمنا أنها إذا أسقط الهاء منها صار مذكرا. وذكر سيبويه أنه سأل الخليل عن (ذراع) فقال: كثر تسميتهم به المذكر، وتمكن في المذكر وصار من أسمائه خاصة عندهم، ومع هذا إنهم يصفون به المذكر، فيقولون: هذا ثوب ذراع، فقد فتمكن هذا الاسم في المذكر. هذا قول الخليل: وكان القياس ألا يصرف؛ لأن ذراعا اسم مؤنث على أربعة قياسه ألا يصرف في المعرفة. وقد كان أبو العباس المبرد يقول: إن الأجود فيه ألا يصرف، وكان الخليل ذهب به مذهب الصفة، ولا علامة فيه. وقال في " كراع " اسم رجل: من العرب من يصرفه يشبهه ب " ذراع " والأجود ترك الصرف وصرفه أخبث الوجهين. ومن يصرف فإنما يصرفه؛ لأنه كثر به تسمية الرجال فأشبه المذكر في الأصل لأن الأصل أن يسمى المذكر بالمذكر. وإن سميت رجلا ب (ثماني) لم تصرفه لأن (ثماني) اسم مؤنث فهو " كثلاث " و " عناق " إذا سميت بهما. وإذا سميت رجلا (حبارى) لم تصرفه لأنه مؤنث وفيه علم التأنيث " الألف المقصورة ". فإن حقرته فحذفت الألف وقلت: " حبيّر " لم تصرفه؛ لأن " حبارى " في نفسها مؤنث، فصار بمنزلة (عنيق) ولا علامة فيها للتأنيث. ¬

_ (¬1) البيت منسوب للفرزدق في ابن يعيش: 5/ 100، واللسان: (ختن).

قال سيبويه: " وزعم الخليل أن " فعولا " و " مفعالا " إنما امتنعتا من الهاء، لأنهما إنما وقعتا في الكلام على التذكير، ولكنه يوصف به المؤنث كما يوصف بعدل ورضا ". وإنما أراد " بفعول "، و " مفعال " قولنا: امرأة صبور وشكور ومذكار ومئناث. إذا سميت بشيء من ذلك رجلا صرفته؛ لأنها صفات مذكرة لمؤنث ك (حائض) و (طامث) وقد مضي الكلام في ذلك. وكذلك إن سميت رجلا ب (قاعد) تريد القاعد التي هي صفة للمرأة الكبيرة القاعد من الزوج، وكذلك إن سميت رجلا ب (ضارب) تريد: صفة الناقة الضارب. والناقة الضارب هي التي قد ضربها الفحل. وكذلك إن سميته ب (عاقر) صفة المرأة. كل ذلك منصرف على ما شرحته لك؛ لأنه مذكر، وإن وقع لمؤنث كما يقع المؤنث للمذكر كقولنا: عين القوم، وهو ربيئتهم الذي يحفظهم فأوقعت عليه " عين " وهو رجل ثم شبه سيبويه تقديره (حائضا) صفة لشيء، ولم يستعملوه، بقولهم: " الأبرق " و " أبطح " و " أجرع " و " أجدل " فيمن ترك الصرف لأنها صفات، وإن لم يستعملوا الموصوفات. قال: وكذلك " جنوب " " شمال " و " قبول " و " دبور " و " حرور " و " سموم " إذا سميت رجلا بشيء منها صرفته، لأنها صفات في أكثر كلام العرب. سمعناهم يقولون: هذه ريح حرور، وهذه ريح شمال، وهذه الريح الجنوب، وهذه ريح سموم وهذه ريح جنوب. سمعنا ذلك من فصحاء العرب لا يعرفون غيره. قال الأعشى: لها رجل كحفيف الحصاد … صادف بالليل ريحا دبورا (¬1) ومعنى قول سيبويه: سمعنا ذلك من فصحاء العرب أي من جماعة منهم فصحاء لا يعرفون غيره. قال: ويجعل اسما، وذلك قليل. ¬

_ (¬1) البيت بالديوان: 99.

قال الشاعر: حالت وحيل بها وغيّر آيها … صرف البلى تجري بها الرّيحان ريح الجنوب مع الشمال وتارة … دهم الرّبيع وصائب التّهتان (¬1) فمن أضاف إليها جعلها اسما ولم يصرف شيئا منها اسم رجل وصارت بمنزلة الصّعود والهبوط والحدود والعروض. وهذه الأسماء أماكن، وقعت مؤنثة، وليست بصفات، فإذا سميت بشيء منها مذكرا لم تصرف. ولو سميت رجلا ب (رباب) أو (ثواب) أو (دلال) انصرف. وإن كثر " رباب " في أسماء النساء، وليست " كسعاد "، وأخواتها؛ لأن " ربابا " اسم معروف مذكر للسحاب سميت المرأة به، وسعاد مؤنث في الأصل. وقال سيبويه: في " سعاد " وأخواتها: إنها اشتقت، فجعلت مختصا بها المؤنث في التسمية فصارت عندهم، ك (عناق). وكذلك تسميتك رجلا بمثل (عمان)، لأنها ليست بشيء مذكر معروف، ولكنها مشتقة لم تقع إلا علما لمؤنث. قال أبو سعيد: قال أبو عمر الجرمي: معنى قوله مشتقة أي مستأنفة لهذه الأشياء لم تكن من قبل أسماء لأشياء أخر، فنقلت إليها، وكأنها اشتقت من السعادة، أو من الزنب أو من الجأن وزيد عليها ما زيد من ألف أو ياء، لتوضع اسما لهذه الأشياء كما أن (عناق) أصله من العنق، وزيدت فيه الألف، فوضع لهذا الجنس. وما كان من الجموع المكسرة التي تأنيثها بالتكسير إذا سمينا به مذكرا انصرف، نحو: " خروق " و " كلاب " و " جمال ". والعرب قد صرفت " أنمارا " و " كلابا " اسمين لرجلين؛ لأن هذه الجموع تقع على المذكرين وليست باسم يختص به واحد من المؤنث، فيكون مثله، ألا ترى أنك تقول: هم رجال فتذكّر، كما ذكرت في الواحد. ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه لابن السيرافي 2/ 282 - 282، واللسان: (حول).

هذا باب تسمية المؤنث

فلما لم تكن فيه علامة التأنيث وكان يخرج إليه المذكر ضارع المذكر الذي يوصف به المؤنث وكان هذا مستوجبا للصرف. وكذلك لو سمي رجل ب (عنوق) جمع " عناق "، فهذا بمنزلة (خروق) جمع خرق، ويستوي فيه ما كان واحده مؤنثا، ومذكرا؛ لأن تأنيثه من أجل الجمع لا من أجل الواحد. ولو سميت رجلا " بنساء " لصرفته؛ لأن نساء جمع نسوة، فهي جمع مكسر مثل كلاب: جمع كلب وإن سميته " بطاغوت " لم ينصرف لأن " طاغوت " اسم واحد مؤنث ويقع على الجمع والواحد وليس له واحد من لفظه فيكسر عليه فيصير بمنزلة (عناق). وإذا كان جمعا فهو بمنزلة (إبل) و (غنم) لا واحد له من لفظه، فاعرف ذلك. هذا باب تسمية المؤنث قال سيبويه: " اعلم أن في مؤنث سميته بثلاثة أحرف كان منها حرفان بالتحريك لا ينصرف، فإن سميته بثلاثة أحرف، فكان الأوسط منها ساكنا، وكانت شيئا مؤنثا، أو اسما الغالب عليه المؤنث، كسعاد، فأنت بالخيار: إن شئت صرفته، وإن شئت لم تصرفه، وترك الصرف أجود، وتلك الأسماء نحو (قدر) و (عنز) و (دعد) و (جمل) و (نعم) و (هند). قال أبو سعيد: هذا الباب مشتمل على ثلاثة أشياء. منها: أن يسمى المؤنث باسم على ثلاثة أحرف، وأوسطها متحرك وليس الحرف الثالث منها بعلم تأنيث، وذلك لا خلاف بين النحويين إنه لا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، كامرأة سميتها بقدم، أو حجر. أو عنب أو ما أشبه ذلك، مما أوسطه متحرك. والثاني: أن يسمى المؤنث باسم كان مؤنثا قبل التسمية، أو الغالب عليه أن يسمى به المؤنث وأوسطه ساكن. فالاسم المؤنث قبل التسمية نحو قدر وعنز. والاسم الغالب عليه أن يسمى به المؤنث وإن لم يعرف قبل التسمية (دعد) و (جمل) و (هند). فهذه الأسماء لا خلاف بين المتقدمين أنه يجوز فيها الصرف ومنع الصرف

والأقيس عند سيبويه ترك الصرف؛ لأنه قد اجتمع فيه التأنيث والتعريف. ونقصان الحركة ليس مما يغير الحكم وإنما صرفه من صرفه؛ لأن هذا الاسم قد بلغ نهاية الخفة في قلة الحروف والحركات، فقاومت خفتها أحد الثقلين. وكان الزجاج يخالف من مضي، ولا يجيز الصرف فيها ويقول: قد أجمعوا على أنه يجوز فيها ترك الصرف. وسيبويه يرى أن تركه أجود، فقد جوزوا منع الصرف واستجادوه، ثم ادعوا الصرف بحجة لا تثبت؛ لأن السكون لا يغير حكما أوجبه اجتماع علتين يمنعان الصرف. والقول عندي ما قاله من مضي، ولا أعلم خلافا بين من مضي من الكوفيين والبصريين، وما أجمعوا على ذلك عندي إلا لشهرة ذلك في كلام العرب. والعلة فيه ذكرت. وقد رأيناهم أسقطوا لقلة الحروف أحد الثقلين وذلك إجماعهم في " نوح "، و " لوط " أنهما مصروفان، وإن كانا أعجميين معرفتين لنقصان الحروف. ومن حيث كان نقصان الحروف مسوغا الصرف، فيما فيه علتان سوغ ذلك أيضا بنقصان الحروف والحركة في المؤنث. والثالث مما ذكرنا اشتمال الباب عليه أن يسمى المؤنث باسم مذكر، على ثلاثة أحرف وأوسطها ساكن، نحو: امرأة سميت بزيد، أو عمرو. قال أبو سعيد: وقد اختلف في هذا من مضي فكان قول أبي إسحاق، وأبي عمرو، ويونس، والخليل وسيبويه أنه لا ينصرف ورأوه أثقل من " هند "، و " دعد ". قال سيبويه: لأن المؤنث أشد ملاءمة للمؤنث، والأصل عندهم أن يسمى المؤنث بالمؤنث كما أن أصل تسمية المذكر بالمذكر. قال أبو سعيد: كأن سيبويه جعل نقل المذكر إلى المؤنث لما كان خلاف الموضوع من كلام العرب والمعتاد من ألفاظهم ثقلا، تعادل به الخفة التي بها صرف هندا. وكان عيسى بن عمر يرى صرف ذلك أولى. وإليه يذهب أبو العباس المبرد؛ لأن " زيدا " وأشباهه إذا سمينا به المؤنث فأثقل أحواله أن يصير مؤنثا، فيثقل بالتأنيث.

هذا باب تسمية الأرض

وكونه خفيفا في الأصل لا يوجب له ثقلا أكثر من الثقل الذي في أصل المؤنث. هذا باب تسمية الأرض قال سيبويه: إذا كان اسم الأرض على ثلاثة أحرف خفيفة، وكان مؤنثا، أو كان الغالب عليه المؤنث ك (عمان) فهو بمنزلة (قدر) و (شمس) و (دعد). وبلغنا عن بعض المفسرين أن قوله: تبارك وتعالى: " اهبطوا مصر " إنما أراد (مصر) بعينها. قال أبو سعيد: اعلم أن تسمية الأرضين بمنزلة تسمية الأناسي فما كان منها مؤنثا فسميت باسم، فهي بمنزلة امرأة سميت بذلك الاسم. وما كان منها مذكرا، فهو بمنزلة رجل سمي بذلك الاسم. وإنما يجعل مؤنثا، ومذكرا على تأويل ما تؤول فيه. فإن تؤول أنه اسم بلدة، أو بقعة، أو أرض فهو مؤنث. وإن تؤول فيه أنه بلد أو موضع أو مكان فهو مذكر. وقد يغلب في كلام العرب في بعض ذلك التأنيث حتى لا يستعمل فيه التذكير. وفي بعضه يغلب التذكير، ويقل فيه استعمال التأنيث. وفي بعضه يستعمل التأنيث والتذكير. وربما كان التأنيث الأغلب. فما غلب فيه التأنيث، ولم يستعمل التذكير: (عمان)، كأنه اسم مؤنث ك (سعاد) و (زينب) ومنها (حمص) و (جور) و (ماه)، وهي غير منصرفة، وإن كانت على ثلاثة أحرف؛ لأنه اجتمع فيها التأنيث والتعريف والعجمة. فعادلت العجمة سكون الأوسط فلم يصرف، وكذلك كل مؤنث من الآدميين إذا سميتها باسم أعجمي على ثلاثة أحرف، وأوسطها ساكن، لم تصرفها في المعرفة، وصرفتها في النكرة، نحو (جان) و (دل) و (خشّ) وما أشبه ذلك، إذا سميت بها امرأة وغيرها من المؤنث. ولم يجز فيها من الصرف ما جاز في هند. وكذلك إن سميت امرأة ب (حمص) أو (جور) أو (ماه) لم تصرفها، كما لا تصرفها إذا سميت ب (دل) أو (جان)، لأن ذلك كله أعجمي. ومن أجل ذلك لا يصرف فارس ودمشق لأنهما أعجميتان على أكثر من ثلاثة أحرف.

قال الشاعر: لحلحلة القتيل ولابن بدر … وأهل دمشق أندية تبين (¬1) أي جماعة؛ أراد أعجبوا لحلحلة. ومن ذلك (واسط) التذكير أغلب والصرف؛ لأن اشتقاقه يدل على ذلك؛ لأنه مكان وسط البصرة والكوفة فهو واسط لهما، ولو كان مؤنثا لقيل واسطة. ومن العرب من يجعلها اسم أرض فلا يصرف كأنه سمي الأرض بلفظ مذكر كامرأة تسميها ب (واسط) وقد كان ينبغي على قياس الأسماء التي تكون صفات في الأصل أن تكون فيه الألف واللام، كما يقال (الحسن) و (الحارث) وما أشبه ذلك. ودخلت الألف واللام، لأنها صفات غالبة، ولكن هذا اسم المكان بصفته. والعرب قد تفعل هذا لأنهم ربما قالوا (العباس) و (عباس) و (الحسن) و (حسن). قال الشاعر: ونابغة الجعديّ بالرمل بيته … عليه تراب من صفيح موضّع (¬2) وهو النابغة بالألف واللام، على أنه صفة غالبة ولذلك سماه بنابغة الذي هو صفة من باب الصفة الغالبة، ولم يذكر سيبويه " واسطا " آخر غير الذي بين البصرة والكوفة. قال فيه الأخطل: عفا واسط من آل رضوى فتبتل … فمجتمع الحرّبن فالصّبر أجمل (¬3) ويجوز أن يكون (واسط) بين مكانين آخرين. ومما يغلب فيه التنكير والصرف: " دابق " قال الراجز. ودابق وابن مني دابق (¬4) وكذلك " منى " الصرف والتذكير فيه أجود وإن شئت أنثت. و (هجر) تؤنث وتذكر. قال الفرزدق: ¬

_ (¬1) المقتضب: 3/ 358، واللسان: (حلل). (¬2) البيت لمسكين الدارمي في ديوانه 49، والمقتضب 3/ 373، والخزانة 2/ 116، واللسان (وضع) (¬3) البيت في ديوانه 1/ 14، واللسان (رضي). (¬4) البيت لغيلان بن حريث في الكتاب 3/ 243، واللسان (دبق).

منهنّ أيّام صدى قد عرفت بها … أيام فارس والأيام من هجرا (¬1) فهذا أنث. وسمعنا من يقول: كجالب التمر إلى هجر يا فتى. وأما " حجر اليمامة " وهو قصبة اليمامة فيذكر ويصرف. ومنهم من يؤنث، يجريه مجرى امرأة، سميت ب (عمرو) لأن " حجرا " شيء مذكر سمي به المذكر. قال سيبويه: " فمن الأرضين ما لا يكون إلا على التأنيث (نحو عمان) و (الزاب) ومنها ما لا يكون إلا على التذكير نحو فلج. وما وقع صفة كواسط ثم صار بمنزلة زيد وعمرو وأخرج الألف واللام منه وجعل كنابغة الجعدي " وأما (قباء) و (حراء) فقد اختلفت فيها العرب، فمنهم من يذكر ويصرف وذلك أنهم جعلوهما اسمين لمكانين، كما جعلوا واسطا بلدا ومكانا. ومنهم من أنث، ولم يصرف. وجعلهما اسمين لبقعتين من " الأرض ". قال الشاعر: ستعلم أيّنا خير قديما … وأعظمنا ببطن حراء نارا (¬2) وكذلك: " أضاخ " فهذا أنث. وقال غيره، فذكر. وربّ وجه من حراء منحني (¬3) " وقد نسب البيت في الكتاب للعجاج وهو لرؤبة ". قال: " وسألت الخليل فقلت: أرأيت من قال: هذه قباء يا هذا، كيف ينبغي أن يقول إذا سمي به رجل؟ قال: يصرفه وغير الصرف خطأ لأنه ليس بمؤنث معروف في الكلام، ولكنه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 283، والكتاب 3/ 243. (¬2) المقتضب 3/ 356، واللسان (حرى). (¬3) اللسان: (حرى).

مشتق " كجلاس "، وليس شيئا قد غلب عليه عندهم التأنيث كسعاد، وزينب ولكنه مشتق يحمله المذكر، ولا ينصرف في المؤنث كهجر، وواسط. ألا ترى أن العرب قد كفتك ذلك لما جعلوا واسطا للمذكر صرفوه، فلو علموا أنه شيء للمؤنث ك " عناق " لم يصرفوه، أو كان اسما غلب عليه التأنيث لم يصرفوه، ولكنه اسم " كغراب "، ينصرف في المذكر ولا ينصرف في المؤنث، فإذا سميت به الرجل فهو بمنزلة المكان. قال أبو سعيد: قد قدمت أن الاسم المؤنث الذي إذا سمي به الرجل لم ينصرف مما ليس فيه علم التأنيث على ضربين؛ أحدهما: أن يكون اسما معروفا مؤنثا قبل التسمية ك (عناق) و (عقرب). والآخر: أن يكون اسما اشتق لتسمية المؤنث المعرفة فقط، ولم يكن قبل ذلك اسما لشيء جاز أن يشتقوه للمذكر. فما اشتقوه للمذكر (قباء) و (حراء). والدليل على أنه اشتق للمذكر أنهم قد يصرفونه، ولو كان للمؤنث لم يصرفوه بحال؛ لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف. فمن صرف (حراء) و (قباء) فلأنه اسم مذكر سمي به شيء مذكر، مكان، أو موضع أو ما أشبه ذلك من تقدير التذكير، فصار بمنزلة رجل يسمى ب (جعفر) أو (واقد) أو (نافع) وما أشبه ذلك. ومن لم يصرف فإن الاسم مذكر والمسمى مؤنث كأنه اسم بقعة، فصار بمنزلة امرأة سميناها ب (نافع) أو (جعفر) فلا يصرف لتأنيث المسمى لا لأن اللفظ كان مؤنثا. ومن أجل ذلك إذا سمينا رجل ب (قباء) أو (حراء) صرفناه؛ لأن اللفظ مذكر والمسمى به مذكر وإذا سمينا رجلا ب (لسان) على لغة من يقول: هي اللسان لم تصرفه؛ لأنها بمنزلة (عناق) وإن سمي ب (اللسان) على لغة من يقول: هو اللسان صرفه والتأنيث، والتذكير في اللسان- وإن لم يكن فيه علم التأنيث في اللفظ- بمنزلة شيء واحد يسمى بلفظين أحدهما فيه علم التأنيث والآخر لا علم فيه. كقولهم: اللذاذ، واللذاذة ومعناهما واحد وأحد اللفظين مذكر والآخر مؤنث، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب أسماء القبائل وما يضاف إلى الأم والأب

هذا باب أسماء القبائل وما يضاف إلى الأم والأب قال سيبويه: أما ما يضاف إلى الآباء والأمهات فنحو قولهم: هذه بنو تميم، وهذه بنو سلول، ونحو ذلك، فإذا قلت: هذه تميم، وهذه أسد، وهذه سلول، فإنما تريد ذلك المعنى، غير أنك حذفت المضاف كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (ويطؤهم الطريق وإنما يريد أهل القرية) (وأهل الطريق.) قال أبو سعيد: اعلم أن آباء القبائل وأمهاتها إذا لم تضف إليها البنون، قد تأتي على ثلاثة أوجه؛ أحدها أن يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه، فيجري لفظه على ما كان، وهو مضاف إليه فيقال: هذه تميم وهؤلاء تميم، ورأيت تميما، ومررت بتميم. وأنت تريد هؤلاء بنو تميم، فتحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. فإن كان المضاف إليه منصرفا بقيته على صرفه وإن كان غير منصرف منعته الصرف، كقولك: هذه باهلة ورأيت باهلة ومررت بباهلة. وأنت تريد هذه جماعة باهلة؛ لأن (باهلة) غير مصروفة فهذا الوجه يشبه قول الله عز وجل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها (¬1) على معنى أهل القرية. والوجه الثاني أن تجعل أبا القبيلة عبارة عن القبيلة، فيصير اسم أبى القبيلة كاسم مؤنث سمّيت بذلك الاسم. وذلك قوله: هذه تميم، ورأيت تميم، ومررت بتميم، وهذه أسد، ورأيت أسد، ومررت بأسد كان امرأة سميت بأسد، فلا تصرف. وعلى هذا تقول: هذه كلب ورأيت كلب، ومررت بكلب فيمن لا يصرف امرأة سميت بزيد، ومن صرف امرأة سميت بزيد جاز أن يقول هذه كلب. والوجه الثالث: أن تجعل أبا القبيلة اسما للحي، فيصير بمنزلة رجل سمي بذلك الاسم. فإن كان مصروفا صرفته وإن كان غير مصروف لم تصرف. ومما يصرف تميم، وأسد، وقريش، وثقيف وما أشبه ذلك. ومما لا يصرف (باهلة) و (أعصر) و (ضنة) و (تدول) و (تغلب) وما أشبه ذلك؛ لأن ¬

_ (¬1) يوسف: الآية: 82.

هذه الأسماء لو جعلت لرجل لم ينصرف، وإنما يقال: هذه تميم، وهؤلاء تميم، إذا قدرت الإضافة إليه. ولا يقال: هذا تميم لئلا يلتبس اللفظ بلفظه، إذا أخبرت عنه. أرادوا أن يفصلوا بين الإضافة وبين إفرادهم الرجل، فكرهوا الالتباس. وقد كان يجوز في القياس أن يقال هذا تميم في معنى هذا حي تميم ويحذف الحي ويقام " تميم " مقامه، ولكن ذلك لا يقال للبس. على ما ذكره سيبويه. وقد يقال جاءت القرية وهم يريدون أهل القرية، فأنثوا للفظ القرية، وقد كان يجب على هذا القياس أن يقال هذا تميم، وإن أردت به بني تميم، فتوحد وتذكر على لفظ تميم، ففصل سيبويه بينهما لوقوع اللبس، وكأن القرية كثر استعمالها عبارة عن الأهل، ولا يقع اللبس فيها إذا أضيف فعل إليها. ثم مثل سيبويه أن اللفظ قد يقع على الشيء، ثم يحمل على غيره على المعنى كقولهم: القوم ذاهبون والقوم واحد في اللفظ وذاهبون جماعة ولا يقولون: القوم ذاهب، ومثله ذهبت بعض أصابعه، وما جاءت حاجتك؟ فحمل تأنيث " ذهبت " و " جاءت " على المعنى كأنه قال: ذهبت أصابعه أو ذهبت إصبعه، وأية حاجة جاءت حاجتك. وكذلك قولهم: هذه تميم، وهؤلاء تميم، إنما حمل على (جماعة تميم أو بنو تميم). وأنشد سيبويه من الشواهد على أن آباء القبائل جعل لفظه عبارة عن القبيلة قول بنت النعمان بن بشير: بكى الخزّ من روح وأنكر جلده … وعجّت عجيجا من جذام المطارف (¬1) فجعلت " جذام " وهو أبو القبيلة اسما لها فلم تصرف. وأنشد أيضا: فإن تبخل سدوس بدرهميها … فإنّ الرّيح طيّبة قبول (¬2) فلم يصرف (سدوس)؛ لأنه جعله اسما للقبيلة. قال: " وإذا قالوا ولد سدوس أو ولد جزام كذا وكذا صرفته ". ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 248، والمخصص 17/ 40، وسمط اللآلي 179، المقتضب 3/ 364. (¬2) البيت للأخطل في ديوانه 126، والكتاب 3/ 248، والخصائص 3/ 176، والمخصص 17/ 40.

لأنك خبّرت عن الأب نفسه، وكان أبو العباس المبرد يقول: إن (سدوس) اسم امرأة وغلّط سيبويه، وذكر أبو بكر مبرمان عن الزجاج أن (سلول) اسم امرأة وهي بنت ذهل بن شيبان. قال أبو سعيد: وما غلط سيبويه في شيء من هذه الأسماء، أما (سدوس) فذكر محمد بن حبيب في كتاب مختلف القبائل ومؤتلفها: خبرنا بذلك عنه أبو بكر الحلواني عن أبي سعيد السكري قال: (سدوس بن درام بن مالك، وسدوس بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر، بن وائل. وفي طيء: (سدوس) بن أصمع بن أبي بن عبيد بن ربيعة بن نصر بن سعد بن نبهان. وأخبرنا أبو بكر السكري عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد عن هشام بن محمد الكلبي: سدوس بن دارم فيمن عدّ من بني " دارم ". فأما (سلول) فقال ابن حبيب: وفي قيس (سلول) بن مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. فهو رجل. وفيهم يقول الشاعر: وإنّا أناس ما نرى القتل سبّة … إذا ما رأته عامر وسلول (¬1) قال: (وفي قضاعة: " سلول " بنت زبان بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مالك بن كنانة بن القين بن جسر. وفي خزاعة: (سلول) بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة. على أن (سلول) ذكر في موضع الأولى به أن تكون امرأة؛ لأنه قال: " أما يضاف إلى الآباء والأمهات فنحو قولك: هذه بنو تميم وهذه بنو سلول " فجمع الآباء والأمهات وهو الذي يقتضيه الكلام. وقال سيبويه: تقوية أن اسم الأب يكون للقبيلة إن يونس زعم أن بعض العرب يقول: هذه تميم بنت مر، وقيس بنت عيلان وتميم صاحبة ذاك. لما جعلها مؤنثا نعتها ببنت، ومثل ذلك: تغلب بنت وائل، ومما يقوي أنهم يجعلون اسم الأب أو الأم اسما للحي أنهم يقولون: باهلة بن أعصر، و " باهلة " امرأة ¬

_ (¬1) البيت في المخصص 17/ 40.

وهي أم القبيلة، فلما جعلها اسما للحي، والحي مذكر لموحد وصفها بابن؛ لأنه قد صار كلفظ الرجل، وربما كان الأكثر في كلامهم في بعض الآباء أن يكون اسما للقبيلة، وفي بعضهم أن يكون اسما للأب أو الحي. فإذا قلت: هذه سدوسهم فأكثرهم يجعله اسما للقبيلة. وإذا قلت: هذه جذام فهي كسدوس. فإذا قلت من بني سدوس أو بني تميم فالصرف، لأنك قصدت قصد الأب. قال: " وأما أسماء الأحياء فنحو معد، وقريش و (ثقيف). وكل شيء لا يجوز لك أن تقول فيه: من بني فلان، ولا هؤلاء بنو فلان وإنما جعله اسم حي " قال أبو سعيد: اعلم أن الذي لا يقال فيه بنو فلان على ضربين: أحدهما: أن يكون لقبا للقبيلة أو الحي، ولم يقع اسما ولا لقبا لأب. والآخر أن يكون اسما لأب، ثم غلب عليهم فصار كاللقب لهم واطّرح ذكر الأب. فأما ما يكون لقبا لجماعتهم، فيجري مرة على الحي، ومرة على القبيلة فهو قريش وثقيف على أنه قد يقال إنه اسم واحد منهم. وأما ما كان اسما لرجل منهم، فنحو (معد) وهو معد بن عدنان. وهو أبو قبائل ربيعة ومضر، وكلب. وهو كلب بن وبرة، ولا يستعمل فيه بنو " كلب " وقد استعمل بعض الشعراء فقال: غنيت دارنا تهامة في الدّهر … وفيها بنو معد حلولا (¬1) فمن جعل هذه الأسماء لجملة القوم فهو يجريه مرة اسما للحي فيذكّر ومرة اسما للقبيلة. وإذا جعله اسما للحي ذكّر وصرف. وإذا كان اسما للقبيلة أنّث ولم تصرفه على ما شرحته لك قبل. قال الشاعر: غلب المساميح الوليد سماحة … وكفى قريش المعضلات وسادها (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في المخصص 17/ 42، واللسان (غنا). (¬2) المقتضب: 3/ 362، الخزانة: 1/ 203، واللسان: (قرش).

وقال الآخر: علم القبائل من معدّ وغيرها … أن الجواد محمد بن عطارد (¬1) وقال آخر: ولسنا إذا عدّ الحصى بأقلّة … وإنّ معدّ اليوم مود ذليلها (¬2) وقال زهير: تمدّ عليهم من يمين وأشمل … بحور له من عهد عاد وتبّعا (¬3) فلم يصرف " عاد " و " تبع " لأنه جعلهما قبيلتين ومثله: لو شهد عاد في زمان عاد … لابتزّها مبارك الجلاد (¬4) قال: وتقول هؤلاء ثقيف قسي، فتجعله اسم الحي وتجعل " أين " وصفا كما تقول: كل ذاهب. كأنه جعل الأولاد هم " ثقيف " وجعلهم حيّا، ووصفهم بأبي، فهو يشبه قولك: كل ذهاب في حمل ذاهب وهو واحد على لفظ كل لا على معناه. وقال الشاعر في وصف الحي بواحد. بحي نميري عليه مهابة … جميع إذا كان اللئام جنادعا (¬5) وقال: سادوا البلاد فأصبحوا في آدم … بلغوا بها بيض الوجوه فحولا (¬6) فهذا جعل آدم (قبيلة) لأنه قال: بلغوا بها بيض الوجوه فحولا ... فأنث، وجمع، فصرف آدم للضرورة. ¬

_ (¬1) المقتضب: 3/ 363. (¬2) المقتضب: 3/ 363. (¬3) اللسان: (عود). (¬4) شواهد سيبويه: 3/ 251. (¬5) البيت في الكتاب 3/ 552، والمخصص 17/ 42. (¬6) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 252، والمخصص 17/ 42.

قال: وقال بعضهم بنو عبد القيس " لأنه أب ". كان الكثير في كلامهم " عبد القيس " من غير أن يستعمل فيه " بنو "، ويجوز كما ذكرنا في بني معد. قال: وأما " ثمود " و " سبأ " فهما مرة للقبيلتين ومرة للحيين وكثرتهما سواء. قال عز وجل: وَعاداً وَثَمُودَ (¬1). وقال: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ (¬2). وقال: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً (¬3). وقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (¬4). وقال: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ (¬5). وقال: مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (¬6). وكان أبو عمرو لا يصرف " سبأ " يجعله اسما للقبيلة. وقال الشاعر: من سبأ الحاضرين مأرب إذ … يبنون من دون سيله العرما (¬7) وقال في الصرف. أضحت ينفّرها الولدان من سبأ … كأنّهم تحت دفّيها دحاريج (¬8) ولولا أن الوجهين في الصرف ومنع الصرف مشهوران في الكلام وقد أتت بهما القراءة ما كان في صرف " سبأ " في الشعر حجة، إذ كان للشاعر أن يصرف ما لا ينصرف. ¬

_ (¬1) الفرقان، الآية: 38. (¬2) هود، الآية: 60. (¬3) الإسراء، الآية: 59. (¬4) فصلت، الآية: 17. (¬5) سبأ، الآية: 15. (¬6) النمل، الآية: 22. (¬7) البيت في الكتاب 3/ 253، والمخصص 17/ 43 اللسان: (سبأ). (¬8) البيت للنابغة الجعدي في الكتاب 3/ 253، وفي ديوانه 12، واللسان (دحرج).

هذا باب ما لم يقع إلا اسما للقبيلة

هذا باب ما لم يقع إلا اسما للقبيلة كما أن عمان لم يقع إلا اسما لمؤنث وكان التأنيث هو الغالب عليها. قال سيبويه: وذلك مجوس ويهود. قال أبو سعيد: اعلم أن يهود ومجوس اسمان لجماعة أهل هاتين الملتين كما أن قريش اسم لجماعة القبيلة الذين هم ولد النضر بن كنانة، ولم يجعلا اسمين لمذكرين، كما أن " عمان " اسم مؤنث وضع على الناحية المعروفة بعمان، فلا يصرف (مجوس) و (يهود) لاجتماع التأنيث والتعريف فيها، كما أن " عماد " لا يصرف للتأنيث والتعريف. قال امرؤ القيس: أحار ترى بريقا هبّ وهنا … كنار مجوس تستعر استعارا (¬1) وقال الأنصاري يرد على عباس بن مرداس وكان قد مدح بني قريظه وهم يهود فمدح الأنصاري المسلمين، فقال: أولئك أولى من يهود بمدحة … إذا أنت يوما قلتها لم تؤنّب (¬2) ولو سميت رجلا ب (مجوس) أو (يهود) أو عمان لم تصرفه، لاجتماع التأنيث، والتعريف فيهما، كما أنك لو سميته ب " عقرب " أو " عناق " لم تصرفه. اعلم أن " مجوس " و " يهود " قد يأتيان على وجه آخر؛ وهو أن تجعلها جمعا ليهودي ومجوسي فتجعلهما من الجموع التي بينها وبين واحدها ياء النسبة كقولهم زنجي وزنج، ورومي وروم، وأعرابي وأعراب. فزنجي واحد، وزنج جمع، و " أعرابي " واحد و " أعراب " جمع، وكذلك " يهودي " واحد و " يهود " جمع فهذا مصروف وهو نكرة وتدخله الألف واللام للتعريف فيقال " اليهود " و " المجوس " كما يقال: " الأعراب " و " الزّنج " و " الرّوم ". وهذا الجمع الذي بينه وبين واحده الياء كالجمع الذي بينه وبين واحده الهاء كقولنا: " تمرة " و " تمر " و " شعيرة " و " شعير " وقد مضى الكلام في نحوه. وأما نصارى: فهو عند سيبويه جمع نصران للمذكر ونصرانة للمؤنث، والغالب في ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 147، والكتاب 3/ 254، والمخصص 17/ 44، واللسان: (ملط). (¬2) البيت في الكتاب 3/ 254، والمخصص 17/ 44، واللسان: (هود).

هذا باب أسماء السور

الاستعمال النسبة. قالوا: نصراني ونصرانية، والأصل: نصران ونصرانة ... مثل ندمان وندمانة، فإذا جمع رد إلى الأصل فيقال نصارى كما يقال ندامى. قال الشاعر: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها … كم سجدت نصرانة لم تختف (¬1) فجاء نصارى على هذا، وإن كان غير مستعمل في الكلام كما جاء (مذاكير) و (ملامح) في جمع ذكر ولمحة، وليس بجمع لهما في الحقيقة. وتقديره إنهما جمع (مذكر) و (ملمح) وإن كان غير مستعملين. وقال غير سيبويه: نصارى جمع نصريّ ونصريّة، كما أن (مهارى) من الإبل جمع مهريّ ومهريّة. وأنشد سيبويه: في أن (نصارى) جمع نكرة ليس مثل (يهود) و (مجوس) في التعريف قول الشاعر: صدّت كما صدّ عمّا لا يحل له … ساقي نصارى قبيل الفصح صوّام (¬2) فوصف نصارى بصوّام وهو نكرة. هذا باب أسماء السور قال سيبويه: تقول: هذه هود كما ترى إذا أردت أن تحذف سورة من قولك: هذه سورة هود فيصير هذا كقولك: هذه تميم. قال أبو سعيد: اعلم أن أسماء السور تأتي على ضربين. أحدهما: أن تحذف السورة، وتقدر إضافتها إلى الاسم المبقى فيحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه. والآخر: أن يكون اللفظ المبقى هو اسم السورة، ولا تقدر إضافة، فإذا كانت الإضافة مقدرة فالاسم المبقى يجري في الصرف ومنعه على ما يستحقه في نفسه. وإذا جعل اسما للسورة فهو بمنزلة امرأة سميت بذلك الاسم فأما (يونس) ¬

_ (¬1) البيت في المخصص 17/ 44. (¬2) البيت في الكتاب 3/ 255،.

و (يوسف) و (إبراهيم) فسواء جعلتها اسما للسورة أو قدرت الإضافة فإنه لا ينصرف؛ لأن هذه الأسماء في أنفسها لا تنصرف. وأما (هود) و (نوح) فإن قدرت فيهما الإضافة فهما منصرفان كقولك: هذه هود، وقرأت هودا، ونظرت في هود؛ لأنك تريد هذه سورة هود وقرأت سورة هود، والدليل على صحة هذا التقدير من الإضافة أنك تقول هذه الرحمن، وقرأت الرحمن، ولا يجوز أن يكون هذا الاسم اسما للسورة، لأنه لا يسمى به غير الله عز وجل. وإنما معناه هذه سورة الرحمن، وإذا جعلتهما اسمين للسورة فهما لا ينصرفان على مذهب سيبويه ومن وافقه ممن يقول إن المرأة إذا سميت بزيد لم تصرف. ومنهم من يقول: إنها كهند تصرف ولا تصرف. فهو يجيز في (نوح) و (هود) إذا كانا اسمين للسورتين أن يصرف ولا يصرف، وممن قال به أيضا أبو العباس المبرد وكان الزجاج يقول: إنها لا تصرف وكان من مذهبه أن هندا لا يجوز صرفها ولا صرف شيء من المؤنث سمي باسم على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كان ذلك الاسم مذكرا أو مؤنثا ولا يصرف دعدا ولا جملا ولا تعما. وأما (حم) فغير مصروف، جعلتها اسما للسورة، أو قدرت الإضافة لأنها معرفة، أجريت مجرى الأسماء الأعجمية، نحو (هابيل) و (قابيل) وليس له نظير في أسماء العرب؛ لأنه " فاعيل " وليس في أبنيتهم. قال الكميت: وعدنا لكم في آل حم آية … تأوّلها منا تقيّ ومعرب (¬1) وقال: أو كتبا بيّنّ من حاميا … قد علمت أبناء إبراهيما (¬2) ¬

_ (¬1) المقتضب: 1/ 238 و 3/ 356، واللسان: (عرب). (¬2) المقتضب: 1/ 238.

وقال الآخر: يذكرني حا ميم والرمح شاجر … فهلا تلا حا ميم قبل التّقدّم (¬1) وكذلك (طا سين) و (يا سين) إذا جعلت اسما جرت مجرى (حم) فإن أردت الحكاية جعلته وقفا على حاله؛ لأنها حروف مقطعة مبنية. ويحكى أن بعضهم قرأ (ياسين) والقرآن، " وقاف "، والقرآن، فجعل ياسين اسما غير منصرف، وقدر: اذكر ياسين، وجعل " قاف "، اسما للسورة ولم يصرف، وكذلك إذا فتح " صاد ". ويجوز أن يكون " ياسين " " وقاف " " وصاد " أسماء غير متمكنة بنيت على الفتح كما قالوا: (أين) " وكيف ". قال: " وأما (طسم) فإن جعلته أسماء، لم يكن بد من أن تحرك النون، وتصير الميم كأنك وصلتها إلى طس، فجعلتها اسما بمنزلة (دراب جرد)، و (بعلبك) وإن حكيت تركت السواكن على حالها " يريد أنك تجعل (طس) اسما، وتجعل (ميم) اسما آخر، فيصير بمنزلة اسمين جعلا اسما واحدا، ك (حضر موت)، فتقول هذه طا سين ميم، وقرأت طا سين ميم، ونظرت في طا سين ميم. وإن شئت تركتها سواكن. قال: " فأما (كهيعص) و (المر) فلا يكن إلا حكاية، فإن جعلتها بمنزلة (طا سين) لم يجز؛ لأنهم لم يجعلوا (طا سين) ك (حضر موت)، ولكنهم جعلوها بمنزلة (هابيل) و (قابيل) و (هاروت). وإن قلت: أجعلها بمنزلة " طا سين ميم " لم يجز؛ لأنك وصلت (ميما) إلى (طسين) ولا يجوز أن تصل خمسة أحرف فتجعلهن اسما واحدا. وإن قلت: أجعل (الكاف) و (الهاء) اسما، ثم أجعل (الياء)، و (العين) اسما، فإذا صارا اسمين ضممت أحدهما إلى الآخر، فجعلتهما كاسم واحد لم يجز ذلك؛ لأنه لم يجيء مثل: (حضر موت) في كلام العرب موصولا بمثله، وهذا أبعد؛ لأنك تريد أن ¬

_ (¬1) البيت في المقتضب 1/ 238، والخصائص 2/ 281، واللسان (حمم).

تصله بالصاد. فإن قلت: أجعله على حاله وأجعله بمنزلة (إسماعيل) لم يجز؛ لأن (إسماعيل) قد جاء عدة حروفه على عدة حروف أكثر العربية نحو: (إشهياب) و (كهيعص) ليس على عدة حروفه شيء، ولا يجوز فيه شيء إلا الحكاية. قال أبو سعيد: طوّل سيبويه هذا الفصل؛ لأنه أورد وجوها من الشبه على ما ذهب إليه في حكاية (كهيعص) و (المر)، وذلك أن أصل ما بني عليه الكلام أن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا فكل واحد منهما موجود مثله في الأسماء المفردة، ثم يضم أحدهما إلى الآخر. فمن أجل ذلك أجاز في (طسم) أن يكونا اسمين جعلا اسما واحدا مثل (هابيل)، وأضافه إلى (ميم)، وهو اسم يوجد مثله في المفردات، ولا يمكن مثل ذلك في (كهيعص) و (المر) ... وإذا جعل الاسمان اسما واحدا لم يجز أن يضم إليهما شيء آخر، فيصير الجميع اسما واحدا؛ لأنه لم يوجد مثل (حضر موت) في كلام العرب موصولا بغيره، فقال سيبويه: لم يجعلوا (طس) ك (حضر موت) فيضموا إليها (ميم)، لئلا يقول قائل: إن الاسمين جعلا اسما واحدا ثم ضم إليهما شيء آخر، وكأن قائلا قال: اجعلوا الكاف والهاء اسما، ثم اجعلوا الياء والعين اسما، ثم ضموها إلى الأول، فيصير الجميع كاسم واحد، ثم صلوه بالصاد، فقال: لم أر مثل (حضر موت) يضم إليه مثله في كلامهم، وهذا أبعد؛ لأنه يضم إليهما الصاد بعد ذلك، ثم احتج على من جعله بمنزلة (إسماعيل) فقال: لأن ل (إسماعيل) نظيرا في أسماء العرب المفردة في عدة الحروف وهو (إشهيات) و (كهيعص) ليس كذلك. وذكر أبو العباس المبرد أن يونس كان يجيز (كهيعص) مفتوح كله، وتفريقه: (كاف) (ها) (يا) (عين) (صاد)، والصاد مضمومة، ويجعل (صاد) مضموما إلى (كاف) كما يضم الاسم، ويجعل الباقي حشوا لا يعتد به. وإذا جعلت " نون " اسما للسورة فهي عند سيبويه تجري مجرى (هند) لأن " نون " مؤنث فهي مؤنث، سميت بمؤنث. واستدل سيبويه على أن (حم) ليس من كلام العرب إن العرب لا تدري ما حم. قال سيبويه: " وإن قلت إن حروفه لا تشبه لفظ حروف الأعجمي فإنه قد يجيء هكذا وهو أعجمي، قالوا: (قابوس)، ونحوه من الأسماء؛ لأن " حا " من كلامهم و " ميم "

هذا باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفا ولا أسماء غير ظروف، ولا أفعالا

من كلامهم، يعني من كلام العجم، كما أنها من كلام العرب، وكذلك القاف، والألف، والياء، والواو، والسين ولغات الأمم تشترك في أكثر الحروف فاعرف ذلك إن شاء الله. وإن أردت أن تجعل (اقتربت) اسما قطعت الألف ووقفت عليها بالباء، فقلت: هذه إقتربه، فإذا وصلت جعلتها تاء ولم تصرف فقلت: هذه إقتربة يا فتى. وكذلك (تبّت) تقول: هذه تبه في الوقف، فإذا وصلت قلت: هذه تبة يا هذا. ويجوز أن تحكيها فتقول: هذه (اقتربت) وهذه (تبت) بالتاء في الوقف كما تقول: هذه " إنّ " إذا أردت الحكاية. هذا باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفا ولا أسماء غير ظروف، ولا أفعالا قال سيبويه: " والعرب تختلف فيها، يؤنثها بعض، ويذكرها بعض، كما أن اللسان تذكر وتؤنث، وزعم ذلك يونس. وأنشد قول الراجز: كافا وميمين وسينا طاسا (¬1) فذكر، ولم يقل " طاسة " وقال الراعي: كما بيّنت كاف تلوح وميما (¬2) فقال: (بينت)، فأنث. قال أبو سعيد: المعتمد بهذا الباب الكلام على الحروف إذا جعلت أسماء، وجعلها أسماء على ضربين: أحدهما أن تخبّر عنها في نفسها، والآخر أن يسمى بها رجل أو امرأة أو غير ذلك. فأما إن خبّر عنها وجعلت أسماء ففي ذلك مذهبان: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 260، والمخصص 17/ 49، والمقتضب: 4/ 40. (¬2) البيت في الكتاب 3/ 260، والمقتضب: 1/ 237، وابن يعيش: 6/ 29، واللسان: (كوف).

أحدهما: التأنيث على تأويل (كلمة)، والتذكير على تأويل (حرف) وعلى ذلك جملة حروف التهجي، ويدخل في ذلك الحروف التي هي أدوات نحو " إن " و " ليت " و " لو " وما أشبه ذلك. فإذا سميت بشيء من ذلك مذكرا صرفته، وإن سميت به مؤنثا وقد جعلته في تأويل كلمة أوسطها ساكن صرفها من يصرف (هندا) ومنع صرفها من منع صرف (هند) كامرأة سميتها ب (ليت) أو (إنّ) وما أشبه ذلك. وإن تأولتها تأويل الحرف، وسميت بها مؤنثا، كان الكلام فيها، كالكلام في امرأة سميت بزيد. وإن خبّرت عنها في نفسها، ففيها مذهبان: إن شئت حكيتها على حالها قبل التسمية، فقلت: هذه " ليت " و " ليت " تنصب الأسماء وترفع الأخبار، و " إنّ " تنصب الأسماء، وإن شئت أعربتها، فقلت " ليت " تنصب الأسماء، وترفع الأخبار. فمن تركها على حالها حكاها، كما يحكي في قولك،: (دعني من ثمرتان) أي دعني من هذه اللفظة. وكذلك إذا قال " ليت " تنصب فكأنه قال " هذه الصيغة تنصب وما كان من ذلك على حرفين: الثاني ياء، أو واو، أو ألف، إذا حكيت لم تغير، فقلت: (لو فيها معنى الشرط)، و (أو للشك) و (في للدعاء) فلم تغير منها شيئا. وإن جعلتها اسما في إخبارك عنها زدت عليها فصيرتها ثلاثيّا؛ لأنه ليس في الأسماء اسم على حرفين، والثاني منهما ياء، أو واو، أو ألف؛ لأن ذلك يجحف بالاسم؛ لأن التنوين يدخله بحق الاسمية. والتنوين يوجب حذف الحرف الثاني منه فيبقى الاسم على حرف واحد، مثال ذلك: أنّا إذا جعلنا (لو) اسما ولم نزد فيه شيئا، ولم نحك اللفظ الذي لها في الأصل أعربناها، فإذا أعربناها تحركت الواو وقبلها فتحة، فقلبت ألفا، فتصير (لا)، ثم يدخلها التنوين بحق الصرف فتصير (لا) يا هذا، فيبقى حرف واحد وهو اللام، والتنوين غير معتدّ به. وإذا سمينا ب (أو)، أو ب (كي) لزمها ذلك فقلت: (أا) و (كا) وإذا سميت ب (في)، ولم تحك، ولم تزد فيها شيئا، وجب أن تقول: (ف) يا هذا، كما نقول: قاض يا هذا، فلما كان فيها هذا الإجحاف لو لم يزد فيها شيء زادوا ما يخرجه عن حد

الإجحاف فجعلوا ما كان ثانيه واوا يزاد فيه مثلها فشدد. وكذلك الياء كقولك في: (لو): (لوّ) وفي (كي) (كيّ) وفي (في) (فيّ). وما كان الحرف الثاني منه ألفا زادوا بعدها همزة فيقال: في (لا): (لأ) وفي (ما): (ماء). وقال الشاعر: علقت لوّا تردّده … إن لوّا ذاك أعيانا (¬1) وقال: ليت شعري وأين منّي ليت … إنّ ليتا وإن لوّا عناء (¬2) فإن قال قائل: فما قولكم في امرأة، سميت بشيء من هذه الحروف على مذهب من لا يصرف، هل يلزم التشديد والزيادة أم لا؟ فالجواب: إن التشديد والزيادة لازمان. فإن قال: فلم زدتم، وليس فيه تنوين، ومن قولكم: إن الزيادة وجبت؛ لأن التنوين يذهب الحرف، فيكون إجحافا. فالجواب أن المرأة إذا سميت بذلك يجوز أن تنكر فيدخلها التنوين ولا يجوز أن يكون الاسم يتغير في التنكير عن لفظه ولنيته في التعريف، واستشهد سيبويه في أن هذه الحروف تؤنث بقول الشاعر: ليت شعري مسافر بن أبي عمرو … وليت يقولها المحزون فأنّث يقولها. وقد أنشدنا قول النمر: علقت لوّا تردّده فذكّره وقال: (أعيانا) فذكر أيضا. وينشد (مسافر بن أبي عمرو) بالرفع والنصب، فمن رفع فتقديرها: ليت شعري خبر مسافر بن أبي عمرو، فحذف خبر وأقام مسافر مقامه في الإعراب. ومن نصب نصبه بشعري، وحذف الخبر. ¬

_ (¬1) البيت لنمر بن ثولب في المخصص 17/ 50، والمذكر والمؤنث 1/ 513، والمقتضب 1/ 235. (¬2) البيت لأبي زيد الطائي في ديوانه 24، وابن يعيش 6/ 30، وخزانة الأدب 6/ 275.

قال سيبويه: " وسألت الخليل عن رجل سمي ب (أن) مفتوحة فقال: لا أكسر؛ لأن (أنّ) غير (إنّ) ". وإنما ذكر هذا؛ لأن (أن) في الكلام لا تقع مبتدأة قبل التسمية، وإنما تقع المكسورة مبتدأة، فذكر ذلك لئلا يظن الظان أنها إذا سمي بها رجل كسرت مبتدأة. وإنما سبيل (أن) سبيل اسم، وسبيل (إن) سبيل فعل. فإذا سمينا بواحد منهما رجلا لم يقع الآخر موقعه بعد التسمية، كما أنّا نقول: هذا ضارب زيدا، وهذا يضرب زيدا، ومعناهما واحد، وأحد اللفظين ينوب عن الآخر في الكلام، وإذا سمينا رجلا ب (يضرب) لم يقع موقعه (ضارب) وبعض العرب يهمز في مثل (لو)، فيجعل الزيادة المحتاج إلى اجتلابها همزة، فيقول: (لوء). وما جرى مجرى هذه الحروف من الأسماء غير المتمكنة فحكمه حكم الحروف نحو: (هو) و (هي). إذا سمينا بواحد منهما أو أخبرنا عن اللفظ، فجعلناه اسما في الإخبار، فتقول: (هو)، وتقول: (هي). وإن سمينا مؤنثا ب (هي) فمنزلتها منزلة (هند)، إن شئنا صرفنا وإن شئنا لم نصرف؛ لأنها مؤنث، سميت بها مؤنثة. وإن سمينا مؤنثا ب (هو) لم نصرف على قول من لا يصرف امرأة سميت ب (زيد) لأنه مذكر سميت به مؤنثة. وكان سيبويه يذهب في الحروف التي ذكرنا ك (لو) و (في) و (ليت) وما أشبه ذلك، وفي حروف المعجم أنها تؤنث وتذكر، ولم يجعل أحد الأمرين أولى من الآخر. وكان أبو العباس المبرد (فيما ذكر أبو بكر مبرمان عنه) يذهب إلى أن (ليت) وما جرى مجراها من الحروف مذكرات، وأن قوله: (وليت يقولها المحزون)، إنما أنّث على تأويل الكلمة والقول: هو الأول. ولو سميت رجلا " ذو " فإن سيبويه يذهب إلى أن يقال: هذا ذوا، ورأيت ذوا، و (مررت بذوا) بمنزلة عصا، ورحى، ويذكر أن أصله " فعل " في البنية، ويستدل على ذلك بقولهم: هاتان ذواتا مال، كما يقال أبوان وأب فعل. وكان الخليل يقول: هذا ذوّ، فيجعله " فعل " بتسكين العين، وكان الزجاج يذهب

مذهب الخليل. ومن حجة الخليل أن الحركة غير محكوم بها إلا بثبت، ولم يقم الدليل على أن العين متحركة، وذكر من يحتج له أن الاسم إذا حذف لامه ثم ثنّي، فرد إليه اللام حركت العين وإن كان أصل بنيتها السكون. كقولهم: يديان بالمعروف عند محرّف … قد يمنعانك أن تضام وتضهدا (¬1) و (يد) عندهم " فعل " في الأصل، ولكنها لما حذفت لام الفعل، فوقع الإعراب على الدال، ثم ردوا المحذوف، لم يسلموا الدال الحركة. قال: وسألته عن رجل اسمه (فو) فقال: العرب قد كفتنا أمرها لما أفردوها، قالوا، (فم)، فأبدلوا الميم مكان الواو، فلولا ذلك لقالوا (فوه)؛ لأن الأصل في فم: (فوه)؛ لأنهم يقولون: أفواه، كما قالوا: (سوط) و (أسواط)، فمذهبه: إذا سمي ب " فو " أن يقال: " فم " لا غير. وكان الزجاج يجيز (فم) و (فوه) على مذهب سواط وأسواط، وحوض وأحواض. قال سيبويه: وأما (البا) و (التا) و (الثا) و (اليا) و (الحا) و (الخا) و (الرا) و (الطا) و (الظا) و (الفا)، فإذا صرن أسماء مددن، كما مدّت " لا "، إلا أنهن إذا كن أسماء فهن يجرين مجرى رجل ونحوه، ويكن نكرة بغير الألف واللام، ودخول الألف واللام فيهن يدلك على أنهن نكرة، إذا لم يكن فيهن ألف ولام، وأجريت هذه الحروف مجرى ابن مخاض (¬2) وابن لبون (¬3). وأجريت الحروف الأول مجرى سام أبرص (¬4) وأم حبين (¬5) ونحوهما، ألا ترى أن الألف واللام لا يدخلان فيهن. قال أبو سعيد: اعلم أن حروف التهجي إذا أردت التهجي مبنيات؛ لأنهن حكاية ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في المخصص 17/ 52، والمقتضب 1/ 64، وابن يعيش 4/ 151. (¬2) تعريف جنس، يعني ولد الناقة، انظر اللسان (مخض). (¬3) ولد الناقة إذا طعن في الثالثة، انظر اللسان (لبن). (¬4) الوزغ الصغير الرأس الطويل الذنب. (¬5) دويسة على شكل الحرباء، عريضة الصدر عظيمة البطن، انظر اللسان (لبن).

الحروف التي في الكلمة، والحروف في الكلمة إذا قطعت كل حرف منها مبني؛ لأن الإعراب إنما يقع على الاسم بكماله، فإذا قصدنا إلى كل حرف منها بيناه. وهذه الحروف التي ذكرناها من (الباء) إلى (الفاء) إذا بيناها فكل واحد منها على حرفين؛ الثاني منهما ألف فهي بمنزلة " لا " و " ما " إذا احتجنا إلى جعلها أسماء وتدخلها الألف واللام، فتتعرف وتخرج منها فتنكر. وما مضى من الحروف نحو (ليت) و (لو) لا تدخلها ألف ولام، فجعل سيبويه حروف التهجي نكرات، إلا أن تدخل عليها الألف واللام، فجرين مجرى ابن مخاض وابن لبون في التنكير، وجعل (لو) و (ليت) معارف، فجرين مجرى سام أبرص وأم حبين؛ لأنهن مشتركات في الامتناع من دخول الألف واللام، والفرق بينهما أن الباء قد توجد في الأسماء كثيرة فيكون حكمها وموضعها في كل واحد من الأسماء على خلاف حكمها في الآخر. كقولنا: (بكر) و (ضرب) و (حبر)، وغير ذلك من الأسماء والأفعال والحروف، فلما كثرت مواضعها واختلفت سار كل واحد منها نكرة. وأما (ليت) و (لو) وما أشبه ذلك فهن لوازم في موضع واحد ومعنى واحد، وما استعمل منها في أكثر من موضع فليس ذلك بالشائع الكثير ومواضعه تتقارب، فتصير كالمعنى الواحد. ومثل ذلك أسماء العدد، إذا عددت، فقلت: (واحد) (اثنان) (ثلاثة) (أربعة) بنيتها؛ لأنك لست تخبر عنها بخبر تأتي به، وإنما تجعله في العبارة عن كل واحد من الجمع الذي تحدده، كالعبارة عن كل واحد من حروف الكلمة إذا قطعتها. وذكر سيبويه أنه يقال: واحد، اثنان؛ فتشم الواحد الضّم وإن كان مبنيا، لأنه متمكن في الأصل. وما كان متمكنا إذا صار في موضع غير متمكن، جعل له فضيلة على ما لم يكن متمكنا قط. قال: " وزعم من يوثق به أنه سمع من العرب: " ثلاثة اربعة، فطرح همزة أربعة على الهاء من ثلاثة، ولم يحولها تاء مع التحريك، ومثل ذلك قوله: به خرجت من عند زياد كالخرف

يكتبان في الطريق لام الف

تخطّ رجلاي بخطّ مختلف … تكتبان في الطريق أم الف (¬1). فألقى حركة (ألف) على الميم من (لام) وكانت ساكنة ففتحها ولبست هذه الحركة حركة يعتد بها، وإنما هي تخفيف الهمزة بإلقاء حركتها على ما قبلها، ومن أجل ذلك قالوا: " ثلاثة اربعة " لأنها ساكنة. وإنما استعيرت الهاء لحركة الهمزة، وذكر عن الأخفش أنه كان لا يشم في واحد، واثنان. وذكر أبو العباس ونسبه إلى المازني أنه لا تحرك الهاء من ثلاثة بإلقاء حركة الهمزة عليها من (أربعة) " قال أبو سعيد: وهذا إن كان صحيحا عنه فهو بيّن الفساد؛ لأن سيبويه قد حكى عن العرب ثلاثة اربعة وأنشد: يكتبان في الطريق لام الف وقد ألقى حركة الهمزة على ما قبلها. قال سيبويه: " وأما زاي ففيها لغتان: فمنهم من يجعلها في التهجي ك (كي) فيقول: (زي)، ومنهم من يقول: (زاي) فيجعلها بمنزلة (واو) " قال أبو سعيد: أما من قال: (زي) فهو إذا جعلها اسما شدّد، فقال (زيّ) وإذا جعلها حرفا قال: (زي) على حرفين مثل (كي) وأما (زاي) فلا تتغير صيغته، وأما (أم) و (من) و (إن) و (مذ) في لغة من جر و (أن) و (عن) إذا لم تكن ظرفا و (لم)، ونحوهن إذا كن أسماء لم تتغير؛ لأنها تشبه الأسماء ك (بد) و (دم)، تقول في رجل سمّيناه (من): هذا من، و (لم) و (مذ) ولا تزيد فيها شيئا؛ لأن في الأسماء المتمكنة ما يكون على حرفين ك (بد) و (دم). وما كان على ثلاثة أحرف فهو أولى أن لا يزاد فيه نحو (نعم) و (أجل) وكذلك الفعل الذي لا يتمكن نحو نعم وبئس. ¬

_ (¬1) الرجز لأبي النجم العجلي في الكتاب 3/ 266، والمقتضب 1/ 237، والخصائص 3/ 297، والمخصص 17/ 53، والخزانة 1/ 103.

هذا باب تسميتك الحروف بالظروف وغيرها من الأسماء

هذا باب تسميتك الحروف بالظروف وغيرها من الأسماء قال سيبويه: " اعلم أنك إذا سميت كلمة ب (خلف) أو (فوق) أو (تحت) لم تصرفها؛ لأنها مذكرات " وجملة هذا أن الظروف وغيرها فيها مذكر ومؤنث، وقد يجوز أن نذهب بكل كلمة منها إلى معنى التأنيث، بأن تتأول بأنها (كلمة) وإلى معنى التذكير، بأن تتأول أنها (حرف)، فإن ذهبت إلى أنها (كلمة)، سميتها باسم مذكر على أكثر من ثلاثة أحرف أو ثلاثة أحرف أوسطها متحرك لم تصرف، كما لم تصرف امرأة سميتها بذلك، وإن سميتها بشيء مذكر على ثلاثة أحرف، وأوسطها ساكن، وقد جعلتها كلمة، فحكمها كحكم امرأة سميتها بزيد، فلا تعرفها على مذهب سيبويه، وما كان على حرفين فهو بمنزلة ثلاثة أحرف وأوسطها ساكن. فمن المذكر (تحت) و (خلف) و (قبل) و (بعد) و (أين) و (كيف). و (ثم) و (هنا) و (حيث) و (كل) و (أي) و (منذ) و (مذ) و (قط) و (قط) و (عند) و (لدى) و (لدن) وجميع ما ليس عليه دلالة للتأنيث بعلامة أو بفعل له مؤنث. من الظروف المؤنثة (قدام) و (وراء) لأنه يقال في تصغيرهما قديمة ووريئة، مثل: وريعة. ومنهم من يقول: وريّة مثل " جرية "، فلما أدخلوا الهاء في هذين الحرفين، ولم يدخلوا في (تحيت) و (خليف) و (دوين) و (قبيل) و (بعيد) علمنا أن ما دخل عليه الهاء مؤنث والباقي مذكر. فإن قال قائل: وكيف جاز دخول الهاء في التصغير على ما هو أكثر من ثلاثة أحرف؟ قيل له: المؤنث قد يدل فعلها على التأنيث، وإن لم تصغر، ولم تكن فيها علامة التأنيث، كقولنا: لسبت (¬1) العقرب، وطارت العقاب، والظروف لا يخبر عنها بأفعال تدل على التأنيث، فلمّا لم يدخلوا عليها الهاء في التصغير لم يكن على تأنيثها دلالة، فإن خبّرنا عن (خلف) و (فوق) وسائر ما ذكرنا من المذكر، وقد جعلناها كلمات لم نصرفها على قول سيبويه. ¬

_ (¬1) لسبته الحية والعقرب، أي لدغته. انظر اللسان (لسب).

وعلى قول عيسى بن عمر ما كان أوسطه ساكن وهو على ثلاثة أحرف جاز فيه الصرف وترك الصرف كهند. فعلى مذهب سيبويه تقول: هذه خلف، و (فوق)، و (ثم) و (قط) و (أين)، وجئته (من خلف) و (من تحت) و (من فوق) وذلك أنها معارف ومؤنثات. وإن جعلنا هذه الأشياء حروفا، وقد سميناها بهذه الأسماء المذكرة التي ذكرناها فإنها مصروفة؛ لأن كل واحد منها مذكر سمي بمذكره. وأما قدام، ووراء فسواء جعلناهما اسمين لكلمتين، أو لحرفين، فإنهما ينصرفان؛ لأنهما مؤنثان في أنفسهما، وهما على أكثر من ثلاثة أحرف. فإن جعلناهما اسمين لمذكرين أو لمؤنثين لم ينصرفا وصارا بمنزلة (عناف) و (عقرب) إذا سمينا بهما رجلين أو امرأتين لم ينصرفا. وما كان من ذلك مبينا فلك أن تدعه على لفظه ولا تنقله إلى الإعراب كقولك: (ليت غير نافعة) و (لو غير مجدية) وإذا جعلتهما اسما للكلمتين تضم (ليت) و (لو) بغير تنوين وتشدد الواو ولا تصرفه على مذهب سيبويه. وعلى مذهب عيسى بن عمر تقول: ليت ولوّ وليت ولوّ منونة وغير منونة، وإن قلت (ليت) و (لوّ) غير نافعتين وقد جعلتهما للحرفين صرفتهما بإجماع، وذكّرت فقلت: غير نافعين. وتقول: إن الله ينهاكم عن (قيل) و (قال). ومنهم من يقول عن " قيل " و " قال " لمّا جعله اسما. وأنشد سيبويه: أصبح الدهر وقد ألوى بهم … غير تقوالك من قيل وقال (¬1) والقوافي مجرورة. وقد أنكر المبرد احتجاج سيبويه بجر القوافي على خفض " قيل "، فذكر أنه يجوز أن تكون ألفا فيه موقوفة وتكون اللام من " قيل " مفتوحة فتقول " من قيل وقال ". وقد رد الزجاج عليه ذلك، فقال: لا يجوز الخبن في " فاعلان " فإذا قلنا: (قيل وقال) وجعلنا اللام موقوفة فقد صار " فعلان " مكان " فاعلان " وإذا أطلقناها صار ¬

_ (¬1) البيت منسوب لتميم بن مقبل في الكتاب 3/ 268، والمخصص 17/ 56.

" فاعلاتن ". ومن قال: " ينهاكم عن قيل وقال " قال: " لم أسمع به قيلا وقالا ". وفي الحكاية قالوا: " مذ شبّ إلى دبّ " فإن جعلتهما اسمين قلت: منذ شبّ إلى دبّ، وهذا مثل كأنه قال: مذ وقت الشباب إلى أن دب على العصا من الكبر. قال سيبويه: " وتقول إذا نظرت إلى الكتاب: (هذا عمرو) وإنما المعنى هذا اسم عمرو، وذكر عمرو ونحو هذا إلا أنه يجوز على سعة الكلام كما تقول: جاءت القرية وأنت تريد أهل القرية، وإن شئت قلت: هذه عمرو؛ أي هذه الكلمة اسم عمرو كما تقول: هذه ألف وأنت تريد هذه الدراهم ألف. وإن جعلته اسما للكلمة لم تصرف وإن جعلته للحرف صرفته ". قال سيبويه: " وأبو جاد، وهوّاز وحطّيّ بياء مشددة " كعمرو " في جميع ما ذكرنا، وحال هذه الأسماء حال عمرو وهي أسماء عربية. وأما كلمون وسعفص وقربشيات، فإنهن أعجمية لا ينصرفن، ولكنهن يقعن مواقع عمرو فيما ذكرنا، إلا أن قربشيات بمنزلة عرفات وأذرعات " قال أبو سعيد: فصل سيبويه بين (أبي جاد) و (هواز) و " حطي " فجعلهن عربيات وبين البواقي فجعلهن أعجميات. وقال أبو العباس المبرد: يجوز أن يكن كلهن أعجميات. وقال بعض المحتجين لسيبويه: إنه جعلهن عربيات؛ لأنهن مفهومات المعاني في كلام العرب. وقد جرى أبو جاد على لفظ لا يجوز إلا أن يكون عربيّا. تقول: هذا أبو جاد، ورأيت أبا جاد، وعجبت من أبي جاد. قال الشاعر: أتيت مهاجرين فعلّموني … ثلاثة أحرف متتابعات وخطوا لي أبا جاد وقالوا … تعلّم صعفصا وقربشيات (¬1) ¬

_ (¬1) البيتان بلا نسبة في المخصص 17/ 56.

هذا باب ما جاء معدولا عن حده من المؤنث

قال أبو سعيد: والذي يقول: إنهن أعجميات غير مبعّد عندي إن كان يريد بذلك أن الأصل فيها العجمة؛ لأن هذه الحروف عليها يقع تعليم الخط السرياني. وهي معارف، وكذلك جميع ما ذكرناه من الحروف مما لا تدخله الألف واللام وما كان تدخله الألف واللام فإنه يكون معرفة بهما ونكرة عند عدمهما كالألف والباء والتاء. هذا باب ما جاء معدولا عن حده من المؤنث كما جاء المذكر معدولا عن حده نحو " فسق " و " لكع " و " عسر " و " زفر "، وهذا المذكر نظير ذلك المؤنث. قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب يشتمل على ما كان من (فعال) مبنيّا وذلك على أربعة أوجه: أولها وهو الأصل لما فيها: ما كان من (فعال) واقعا موقع الأمر، كقولهم: (حذار زيدا) أي احذره و (مناع زيدا) أي امنعه. قال الشاعر: مناعها من إبل مناعها … ألا ترى الموت لدى أرباعها (¬1) وقال أيضا: تراكها من إبل تراكها … ألا ترى الموت لدى أوراكها (¬2) وقال أبو النجم: حذار من أرماحنا حذار (¬3) وقال رؤبة: نظار كي أركبها نظار (¬4) ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز، بلا نسبة في الكتاب 1/ 242، والمخصص 17/ 63، والمقتضب 3/ 369، وابن يعيش 4/ 51، والخزانة 5/ 161. (¬2) الرجز لطفيل بن يزيد الغنوي في الكتاب 1/ 241، والمخصص 17/ 63، والمقتضب 3/ 369، وابن يعيش 4/ 50، والإنصاف 2/ 537، وشرح شذور الذهب 90. (¬3) البيت في المقتضب 3/ 370، والكامل للمبرد 4/ 207، والإنصاف 2/ 539، وشرح شذور الذهب 90. (¬4) البيت في المقتضب 3/ 370، والكامل للمبرد 4/ 207، والمخصص 17/ 63.

ويقال (نزال) أي انزل، ويقال للضبع (دباب) أي دبي

ويقال (نزال) أي انزل، ويقال للضبع (دباب) أي دبّي وقال الشاعر: نعاء ابن ليلى للسّماحة والنّدى … وأيدي شمال باردات الأنامل (¬1) وقال جرير: نعاء أبا ليلى لكل طمرّة … وجرداء مثل القوس سمح حجولها (¬2) فالحد في جميع ذا (افعل) وهو معدول عنه، وكان حقه أن يبنى على السكون، فاجتمع في آخره ساكنان، فحرك الأخير المبني على السكون، والألف التي قبلها، وحرك بالكسر؛ لأن الكسر مما يؤنث به؛ لأن المؤنث في المخاطبة بكسر آخرها في قولك: إنك ذاهبة، وأنت قائمة، ويؤنث بالياء في قولك: أنت تقومين، وهذي أمة الله، ولم يقل سيبويه إنه كسر لاجتماع الساكنين على ما يوجهه اجتماعها من الكسر؛ لأنه يذهب إلى أن الساكن الأول إذا كان ألفا فالوجه فتح الساكن الثاني؛ لأن الألف قبلها فتحة، وهي أيضا أصل الفتح، فحملوا الساكن الثاني على ما قبله، ومن أجل هذا قالوا في (إسحار) إذا كان اسم رجل ورخمناه (يا إسحار) أقبل بفتح الراء؛ لأن قبلها فتحة الحاء، والألف بينهما ساكنة، وهي تؤكد الفتح أيضا، وحمله على قولهم: (عضّ يا فتى) لفتحة العين ولم يحفل بالضاد الساكنة المدغمة، فإن قال قائل: فهم يقولون: ردّ وفرّ، قيل له الحجة في عضّ أقوى من قول من يقول: ردّ أو ردّ، وفرّ أو فرّ ويقول في عضّ: عض، فيفصل بينهما، ويفتح من أجل فتحة العين. ومما يقوي ذلك قولهم: انطلق يا زيد فتفتح القاف، لانفتاح الطاء، وإنما حرك القاف لالتقاء الساكنين. وقول الشاعر: عجبت لمولود وليس له أب … وذي ولد لم يلده أبوان (¬3) ¬

_ (¬1) نعاء: اسم فعل أمر معناه انع. والبيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 272، والإنصاف 2/ 538، والمخصص 17/ 63. (¬2) البيت في الكتاب 3/ 272، والإنصاف 2/ 538، والمخصص 17/ 63. (¬3) البيت بلا نسبة في الكتاب 2/ 266، والخصائص 2/ 233، والخزانة 1/ 397، ومغني اللبيب 1/ 119.

ففتح الدال لانفتاح الياء. والوجه الثاني: ما كان من وصف المؤنث منادى، أو غير منادى، فالمنادى قولك: يا خباث، ويا لكاع، ويا فساق، وإنما تريد الخبيثة، والفاسد واللكعاء. ومثله للمذكر إذا ناديته معدولا: يا فسق، ويا لكع، ويا خبث. ويقال: " يا جعار " للضبع، وإنما هو اسم للجاعرة، ويقال ذلك في النداء وغير النداء للضبع، ويقال لها أيضا " قثام " ومعناها أنها تقثم كل شيء تجده للأكل وتجرفه. قال الشاعر: فللكبراء أكل كيف شاءوا … وللصغراء أخذ واقتثام (¬1) وقال النابغة الجعدي: فقلت لها عيثي جعار وجرّدي … بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره (¬2) ويقال للمنية (حلاق) وهي معدولة عن الحالقة؛ لأنها تحلق كل شيء وتذهب به. قال الشاعر: لحقت حلاق بهم على أكسائهم … ضرب الرقاب ولا يهم المغنم (¬3) و (الأكساء): المآخير، واحدها كسء. وقال الآخر: ما أرجى بالعيش بعد ندامى … قد أراهم سقوا بكأس أحلاق (¬4) والوجه الثالث: ما كان من المصادر معدولا عن مصدر مؤنث معرفة مبنيا على هذا المثال، كقول النابغة الذبياني. أنا اقتسمنا خطتنا بيننا … فحملت برة واحتملت فجار (¬5) ففجار معدولة عن الفجرة. ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في المخصص 17/ 64. (¬2) البيت في المقتضب 3/ 375، والكامل 430، والمخصص 17/ 64، واللسان (جرر). (¬3) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 273، وابن يعيش 4/ 59، والمخصص 17/ 64. (¬4) البيت للمهلهل في الكتاب 3/ 273، والمقتضب 3/ 373، واللسان (حلق). (¬5) البيتان في الكتاب 3/ 273، وابن يعيش 40/ 53، والخصائص 17/ 64.

وقال الشاعر: فقال: امكثي حتى يسار لعلنا … نحج معا قالت أعام وقابله (¬1) فهي معدولة عن الميسرة. وقال الجعدي: وذكرت من لبن المحلّق شربة … والخيل تعدو بالصعيد بداد (¬2) " فبداد " في موضع الحال، وهو في معنى مصدر مؤنث معرفة، وقد فسره سيبويه فقال: معناه تعدو بددا، غير أن (بداد) ليست بمعدولة عن بددا؛ لأن " بددا " نكرة وإنما هي معدولة عن البدة أو المبادة أو غير ذلك من ألفاظ المصادرة المعرفة المؤنثات. قال: " والعرب تقول: لا مساس، ومعناه لا تمسني، ولا أمسك، ودعني كفاف، وتقديرها لا المماسة ودعني المكافة، وإن كان ذلك غير مستعمل، ألا تراهم قالوا: " ملامح " و " مشابه " و " ليال " وهن جمع ليس لها واحد من لفظه؛ لأنهم لا يقولون: ملمحة، ولا ليلاة، ولا مشبهة. وقال الشاعر: جماد لها جماد ولا تقولي … طوال الدهر ما ذكرت حماد (¬3) وإنما يريد جمودا، وحمدا، غير أن الذي عدل عنه هذا اللفظ كأنه (الجمدة)، و (الحمدة) أو ما جرى مجرى هذا من المؤنث المعرفة " وقد جعل سيبويه " فجار " في قول النابغة من المصادر المعدولة، وجرى على ذلك النحويون بعده، والأشبه عندي أن تكون صفة غالبة، والدليل على ذلك أنه قال: فحملت برّة واحتملت فجار فجعلها نقيض " برة " وبرة صفة. تقول: رجل بر، وامرأة برة، وجعلهما صفة ¬

_ (¬1) البيت لحميد بن ثور الهلالي في ديوانه 117، والرواية فيه: فقلت امكثي حتى يسار لو أننا … نجح فقالت لي أعام وقابل وهو في ابن يعيش 4/ 55، والخصائص 17/ 64. (¬2) البيت في ديوانه 241، والكتاب 3/ 275، وابن يعيش 4/ 54، والمخصص 17/ 64، واللسان (بدد). (¬3) البيت للمتلمس في الكتاب 3/ 276، وابن يعيش 4/ 55، والخزانة 6/ 345، واللسان (جمد).

للمصدر، فكأنه قال: فحملت الخصلة البرة، وحملت الخصلة الفاجرة، كما تقول الخصلة القبيحة والحسنة، وهما صفتان، وجعل (برة) معرفة عرف بهما ما كان جميلا مستحسنا. قال: سيبويه: " وأما ما جاء معدولا عن حده من بنات الأربعة فقوله: قالت له ريح الصبا قرقار وبعده من غير إنشاد سيبويه: واختلط المعروف بالإنكار فإنما يريد بذلك قالت له قرقر بالرعد للسحاب، وكذلك عرعار، وهي بمنزلة قرقار، وهي لعبة وإنما هي من عرعرت، ونظيرها من الثلاثة " خراج "، أي أخرجوا وهي لعبة أيضا. قال أبو العباس المبرد: غلط سيبويه في هذا، وليس في بنات الأربعة من الفعل عدل، وإنما قرقار وعرعار حكاية للصوت، كما يقال: غاق غاق، وما أشبه ذلك من الأصوات. وقال: لا يجوز أن يقع عدل في ذوات الأربعة؛ لأن العدل إنما وقع في الثلاثي؛ لأنه يقال فيه " فاعلت " إذا كان من كل واحد من الفاعلين فعل مثل فعل الآخر، كقولك: ضاربته وشاتمته، ويقع فيه تكثير الفعل كقولك: ضرّبت وقتّلت وما أشبه ذلك. وقال أبو إسحاق الزجاج: باب " فعال " في الأمر يراد به التوكيد، والدليل على ذلك أن أكثر ما يجيء منه مبني مكرر كقوله: حذار من أرماحنا حذار … وتراكها من إبل تراكها (¬1) وذلك عند شدة الحاجة إلى هذا الفعل. وحكى أبو العباس عن المازني مثل قوله. وحكي عن المازني عن الأصمعي عن أبي عمرو مثل ذلك. والأقوى عندي أن قول سيبويه أصح، وذلك أن حكاية الصوت إذا حكوا، ¬

_ (¬1) سبق تخريج هذين الشاهدين.

وكرروا أن لا يخالف الأول الثاني كما قالوا: غاق غاق (¬1)، وحاي حاي (¬2)، وحوب حوب (¬3). وقد يصرفون الفعل من الصوت المكرر فيقولون: عرعرت، وقرقرت، وإنما الأصل في الصوت عار عار، وقار قار، فإذا صرفوا الفعل منه غيروا إلى وزن الفعل. فلما قالوا: " قرقار " و " عرعار " فخالف اللفظ الأول الثاني علمنا أنه محمول على قرقر وعرعر لا على حكاية عار عار وقار قار. وعرعار: لعبة للصبيان كما قال النابغة: يدعو وليدهم بها عرعار (¬4) ومعنى قوله: واختلط المعروف بالإنكار: يريد أن المطر أصاب كل مكان مما كان يبلغه المطر ويعرف، ومما كان لا يبلغه، وينكر بلوغه إيّاه. والوجه الرابع: إذا سميت بشيء من الأوجه الثلاثة امرأة فإن بنى تميم ترفعه، وتنصبه وتجريه مجرى اسم لا ينصرف، وهو القياس عند سيبويه، واحتج بأن (تراك) في معنى " اترك ". ولو سمينا ب (انزل) امرأة لكنا نجعلها معربة ولا نصرفها، فإذا عدلنا عنها " نزال " وهو اسم فهي أخف أمرا من الفعل الذي هو " افعل ". وقد رد أبو العباس هذا فقال: القياس قول أهل الحجاز؛ لأنهم يجرون ذلك مجراه الأول فيكسرون، ويقولون في امرأة اسمها (حذام): هذه حذام ورأيت حذام ومررت بحذام. وبنو تميم يقولون: هذه حذام ورأيت حذام ومررت بحذام، وذكر أبو العباس أن التسمية ب (نزال) أقوى في البناء من التسمية ب (انزل)؛ لأن " انزل " هو فعل، فإذا سمينا به فقد نقلناه عن بابه فلزمه التغيير، كما أنا نقطع ألف الوصل منه فتغيره عن حال الفعل، ¬

_ (¬1) الغاق طائر مائي، القاموس المحيط (باب القاف فصل الغين). (¬2) كلمة زجر للإبل وغيرها من المواشي، اللسان (حا). (¬3) كلمة زجر لذكور الإبل، اللسان (حوب). (¬4) عجز بيت صدره: متكنّفي جنبي عكاظ كليهما وهو في ديوانه 35، وابن يعيش 4/ 52، والمخصص 17/ 66،

و " فعال "، هي اسم فإذا سمينا بها لم نغيرها؛ لأنا لم نخرجها عن الاسمية، كما أنا لو سمينا بانطلاق لم نقطع الألف؛ لأن انطلاق اسم، فلمّا لم نخرجه عن الاسمية، أجرينا عليه لفظه الأول. فأما الكسر على لغة أهل الحجاز فعلّته فيه عند سيبويه أنه محمول على " نزال "، و " تراك " للعدل، والبناء، والتعريف، والتأنيث. فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء حمل عليه، وقد أجرى زهير " نزال " هذا المجرى حين خبّر عنها وجعلها اسما فقال. ولأنت أشجع من أسامة إذ … دعيت نزال ولجّ في الذّعر (¬1) قال: " وأما ما كان آخره راء، فإن أهل الحجاز، وبني تميم فيه متفقون، ويختار بنو تميم فيه لغة أهل الحجاز كما اتفقوا في " برى " والحجازية هي اللغة القدمى " قال أبو سعيد: يعني أن بني تميم تركوا لغتهم في قولهم هذه " حضار " و " سفار " وتبعوا لغة أهل الحجاز بسبب الراء، وذلك أن بني تميم يختارون الإمالة، وإذا ضموا الراء ثقلت عليهم الإمالة، وإذا كسروها خفت الإمالة أكثر من خفتها في غير الراء؛ لأن الراء حرف مكرر والكسرة فيها مكررة، كأنها كسرتان، فصار كسر الراء أقوى في الإمالة من كسر غيرها، وصار ضم الراء في منع الإمالة أشد من منع غيرها من الحروف، فلذلك اختاروا موافقة أهل الحجاز، كما وافقوهم في (برى). وبنو تميم من لغتهم تخفيف الهمزة، وأهل الحجاز يخففون فوافقوهم في تخفيف الهمز من " برى ". قال سيبويه: " وقد يجوز أن ترفع وتنصب ما كان في آخره الراء، قال الأعشى: ومر دهر على وبار … وهلكت جهرة وبار (¬2) ¬

_ (¬1) البيت ملفق من قول زهير في الكتاب 3/ 371: ولنعم حشو الدرع أنت إذا … دعيت نزال ولج في الذعر وبيت المسيب: ولأنت أشجع من أسامة إذ … يقع الصراخ ولج في الذعر والبيت في المقتضب 3/ 370، والمخصص 17/ 67، وابن يعيش 4/ 26. (¬2) البيت في الكتاب 3/ 279، والمقتضب 3/ 50، وابن يعيش 4/ 64، وشرح شذور الذهب 97،-

والقوافى مرفوعة، وأول القصيدة ألم تروا إرما وعادا … أودى بها اللّيل والنّهار قال: فما جاء آخره " الراء " ك " سفار " وهو اسم ماء، و " حضار " وهو اسم كوكب ولكنهما مؤنثان، ك " ماويّة " والشّعرى، كأن تلك اسم الماءة، وهذه اسم الكوكبة. قال أبو سعيد: أراد سيبويه أن " سفار " وإن كان اسم ماء، والماء مذكر، فإن العرب قد تؤنث بعض ما فيها فيقولون: ماءة بني فلان، وهو كثير في كلامهم، فكأن سفار اسم الماء، و " حضار " وإن كان اسم كوكب، والكوكب مذكر، فكأنه اسم الكوكبة في التقدير؛ لأن العرب قد أنثت بعض الكواكب فقالوا: " الشّعرى "، و " الزهرة " إذ كان مبنى هذا الباب أن يكون معرفة مؤنثا معدولا. وأما قوله، ك " ماويّة "، فإنما أراد أن (سفار) و (حضار) مؤنثان، كماوية، والشعرى في التأنيث. والأغلب عندي أن التمثيل " ب (ماوية) غلط في الكتاب، وإن كانت النسخ متفقة عليها وإنما هو كماءة وهو أشبه؛ لأن " سفار " ماء والعرب قد تقول للماء المورود ماءة. قال الفرزدق: متى ما ترد يوما سفار تجد بها … أديهم يرمي المستجيز المعوّرا (¬1) واستدل سيبويه على أن " نزال " وما جرى مجراها مؤنث بقوله: دعيت نزال، ولم يقل دعي. وكان أبو العباس المبرد يحتج لكسر قطام وحذام، وما أشبه ذلك، إذا كان اسما علما مؤنثا أنها معدولة عن قاطمة، وحاذمة علمين، وأنها لم تكن تنصرف قبل العدل، لاجتماع التأنيث والتعريف فيها، فلما عدّلت ازدادت بالعدل ثقلا فحطت عن منزلة ما لا ينصرف، ولم يكن بعد منع الصرف إلا البناء فبنيت، وهذا قول يفسّد؛ لأن العلل المانعة للصرف يستوي فيها أن تكون علتان أو ثلاث. لا يزداد ما لا ينصرف بورود علة أخرى على منع الصرف، ولا يوجب له ذلك ¬

_ - والمخصص 17/ 67. (¬1) ديوانه 355، والمخصص 17/ 68، والمقتضب 3/ 50، وشرح شذور الذهب 96، واللسان (سفر).

البناء، لأنّا لو سمينا رجلا بأحمر لكنّا لا نصرفه لوزن أفعل والتعريف، ولو سمينا به امرأة لكنا لا نصرفه أيضا، وإن كنا قد زدناه ثقلا واجتمع فيه وزن الفعل، والتعريف، والتأنيث، وكذلك لو سمينا امرأة بإسماعيل أو يعقوب لكنا لا نزيدها على منع الصرف وقد اجتمع فيها التأنيث والتعريف والعجمة. قال سيبويه: " واعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الباب من " فعال " ما كان منه بالراء، وغير ذلك إذا كان شيء منها اسما لمذكر لم ينجر أبد، وكان المذكر في ذلك بمنزلته إذا سمي ب (عناق) لأن هذا البناء لا يجيء معدولا عن مذكر " قال أبو سعيد: يريد أن " فعال " في الوجوه الأربعة التي ذكرنا مؤنثة. وأنّا إذا سمينا به رجلا أو شيئا مذكرا كان غير منصرف، ودخله الإعراب، وكان بمنزلة رجل سمي ب (عناق) وهو لا ينصرف لاجتماع التأنيث والتعريف فيه. قال سيبويه: " ولو جاء شيء على فعال، ولا يدرى ما أصله أمعدول هو، أم غير معدول، أم مذكر، أم مؤنث؛ فالقياس فيه أن تصرفه، لأن الأكثر من هذا الباب مصروف غير معدول، مثل: الذهاب، والصلاح، والفساد، والرّباب " وذلك كله منصرف؛ لأنه مذكر، فإذا سميت به رجلا، فليس فيه من العلل إلا التعريف وحده، وهو أكثر في الكلام عن المعدول. وعلة ذلك أنك لا تجعل شيئا من ذلك معدولا إلا ما قد قام دليله من كلام العرب. وسيبويه يرى أن " فعال " في الأمر مطرد قياسها، في كل ما كان فعله ثلاثيّا، من فعل، وفعل، وفعل فقط. ولا يجوز القياس فيما جاوز ذلك إلا فيما سمع من العرب، وهو (قرقار) و (عرعار) وما كان من الصفات، والمصادر، فهو أيضا عنده غير مطرد، إلا فيما سمع منهم، نحو (حلاق)، و (فجار)، و (يسار). وتطّرد هذه الصفات في النداء كقولك: يا فساق، ويا خباث. وجميع ما يطّرد: الأمر من الثلاثي، والنداء، فيما كان أصله ثلاثة أحرف، وبعض النحويين لا يجعل الأمر مطردا من الثلاثي.

هذا باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علامات خاصة

هذا باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علامات خاصة قال سيبويه: " وذلك قولك: ذا، وذي، وتا، وأولى، وأولاء وتقديرها " ألاع "، فهذه الأسماء لما كانت مبهمة تقع على كل شيء، وكثرت في كلامهم، خالفوا بها ما سواها من الأسماء في تحقيرها وغير تحقيرها، فصارت عندهم بمنزلة (لا) و (في)، ونحوها وبمنزلة الأصوات نحو " فاق " و " حاي ". ومنهم من يقول: فاق، وأشباهها، فإذا صار اسما عمل فيه ما عمل ب (لا) لأنك قد حولته إلى تلك الحال. وهذا قول يونس والخليل ومن رأينا من العلماء، إلا أنك لا تجري " ذا " اسم مؤنث؛ لأنه مذكر، إلا في قول عيسى، فإنه كان يصرف امرأة سميتها بعمرو. وأما " ذي " فبمنزلة " في "، و " تا " بمنزلة لا " قال أبو سعيد: اعلم أن الحروف متى سمّينا بها رجلا أو غيره أجريناها مجرى الأسماء في الإعراب، وفي جعلها على بناء يكون مثله في الأسماء؛ إن لم يكن كذلك، كقولنا في رجل سميناه ب " قد " و " هل ": هذا قد، ورأيت قدا، ومررت بقد، وإن سمينا ب " أو "، أو " في "، أو، " لا " غيرناها؛ لأنه ليس في الأسماء المتمكنة اسم مبهم مفرد على حرفين، الثاني منهما حرف لين، فجعلناها على ثلاثة أحرف، فزدنا على الياء ياء وعلى الواو واوا وعلى الألف همزة، فنقول في رجل سمي بفي: هذا " فيّ " ورأيت فيّا ومررت بفيّ. وإن سميناه ب " أو " قلنا: هذا " أوّ " ورأيت " أوّا " ومررت " بأوّ ". وإن سميناه ب " لا " قلنا: هذا لاء، كأنا زدنا ألفا من جنسها، كما زدنا واوا على الواو، وياء على الياء. ولا يجتمع ألفان في اللفظ فجعلت همزة؛ لأنها من مخرج الألف. وما كان من الأسماء المبهمة المبنية، فإنها إذا سمي بها رجل أو غيره تجري مجرى الحروف؛ لأن المبنيات كلها من الأسماء، والأفعال والحروف إذا سمي بها أعربت. فتقول في رجل سمي ب " ذا " للإشارة: هذا ذاء، ومررت بذاء كما قلت، في المسمى ب " لا ": هذا " لاء "، ومررت ب " لاء " وتقول للمسمى ب " ذي ": هذا " ذيّ " بتقدير الياء كما قلت: هذا فيّ. وإن سميته ب " أولى " المقصورة قلت: هذا أولى ورأيت أولى، ومررت بأولى، فيجري مجرى هدى منونا، وليس مثل " حجا " و " رمى "؛ لأن هذين

معدولان كعمر وزفر من حاجى ورأى. والحاجي هو المتنحي، يقال حجا عنه ناحية فهو حاج، وتقول في أولاء إذا سميت به رجلا: هذا أولاء، ورأيت أولاء، ومررت بأولاء، فتجريه مجرى حداء، ودعاء، وما أشبه ذلك. والمد والقصر فيه لغتان بمنزلة البكى والبكاء. وإن سميت امرأة بشيء من ذلك فهي تجري مجرى الرجل في الإعراب والتغيير، غير أنها تخالف الرجل في منع الصرف. تقول في امرأة سميتها ب " ألا " المقصورة: هذه ألا ورأيت ألا، ومررت بألا، وفي الممدودة، هذه ألاء ورأيت ألاء، ومررت بألاء. وإن سميتها بذا قلت: هذا ذاء، ومررت بذاء، لا يجيز سيبويه إلا ذلك؛ لأنه اسم مذكر، سمي به المؤنث كامرأة سميتها بعمرو، وإن سميتها ب (ذي)، أو (تا)، كانت بمنزلة هند، يجوز فيها الصرف، ومنع الصرف تقول: هذه ذيّ، وذيّ، وتاء، وتاء. وكان عيسى بن عمر يرى تسمية المؤنث بالمؤنث والمذكر سواء، إذا كان اسما على ثلاثة أحرف، وأوسطها ساكن. قال: " وإن سميت رجلا " بالذي " أو " التي " نزعت الألف واللام، فقلت: هذا لذي، و " لتي "، ومررت بلذي، ولتى؛ لأن الألف واللام كانتا دخلتا للتعريف كما تدخلان على القائم، وما أشبه ذلك. لأن قولك مررت بالذي قام كقولك: مررت بالقائم، فإذا أفردت الذي فسميت به نزعت الألف واللام، لأن التعريف باللقب وتصييره علما قد أغنى عن الألف واللام وصار كتسميتك بالقائم والحسن، والعباس، والحارث، وما أشبه ذلك؛ لأن هذه صفات قائمة بأنفسها، فإذا سمي بها فكأنها صفات غلبت على المسمى. قال: " وأما اللائي واللاتي فبمنزلة شائي، وساري، وتخرج منه الألف واللام كالذي " فمن أثبت الياء جعله بمنزلة (قاضي) فقال: هذا لاء، ولات ومررت بلاء ولات، ورأيت لائيا ولاتيا، ومن حذف الياء من اللاء، واللات، فسمى بهما، قال: هذا لاء ولات، ويقال " ألا " في معنى الذين، فإذا سميت بها نونت فقلت: هذا ألا ومررت بألا مثل هدى. فاعرف ذلك إن شاء الله. قال: " سألت الخليل عن " ذين " اسم رجل فقال: هو بمنزلة رجلين ولا أغيره؛

لأنه لا يختل الاسم أن يكون هكذا. قال أبو سعيد: لو سميناه بذين لكنا نقول: هذا ذين، ورأيت ذين ومررت بذين، فيجري على لفظ التثنية. وقد يجوز أن تقول: هذا ذان، ورأيت ذان، ومررن بذان فتجريه مجرى عثمان، وقد مر نحو هذا. قال: وسألته عن رجل سمي ب " ألي " أو ب " ذوي " فقال: أقول هذا ذوون؛ لأن النون إنما سقطت في ألي، وذوي للإضافة فلما أفردتها عادت النون. وهو بمنزلة رجل سمي ب " ضاربو " من قولنا ضاربو زيد إذا أفردنا فيقال: هذا ضاربون ورأيت ضاربين، ومررت بضاربين. وقال الكميت: ولا أعني بذلك أسفليكم … ولكني أريد به الذّوينا (¬1) ويجوز أن تجعل الإعراب في النون كما جاز أن تقول: " سنين " ويكون ما قبل النون ياء وقد مضي الكلام في هذا. وإن سميته ب " ذي مال " أجريته على لفظه قبل التسمية فقلت: هذا ذو مال ومررت بذي مال. ولو سميته ب " ذي " مفردا قلت: هذا ذوا ورأيت ذوا ومررت بذوا في قول سيبويه. وقال الخليل: هذا ذو ورأيت ذوا ومررت بذو؛ لأن الإضافة قد منعته من التنوين واستعمل اسما في الإضافة دون الإفراد. قال: ألا تراهم قالوا: ذو يزن منصرف، فلم يغيروه، يعني لم يغيروا " ذو " عن لفظه بسبب الإضافة، وجعلوه كأبي زيد؛ لأنهم أمنوا التنوين، وصار المضاف إليه منتهى الاسم. قال: " واحتملت الإضافة ذا كما احتملت أبا زيد، وليس مفرد آخره كذا، فاحتملته كما احتملت الهاء عرقوة. يعني أن الإضافة قد تغير لفظ المضاف، حتى لا يكون لفظه في الإفراد كلفظه في الإضافة، ألا ترى أن قولنا: أبو زيد وأبا زيد وأبي زيد، لو أفردنا الأب لم تدخله ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 282، والخزانة 1/ 67.

الألف والواو والياء، كذلك أيضا إذا أضفنا " ذو " كان على حرفين، الثاني منهما من حروف المد واللين، وإذا أفردنا احتاج إلى ثلاثة ثم مثل المضاف إليه بهاء التأنيث في قولنا: عرقوة؛ لأن عرقوة بالواو، فإذا أفردنا وحذفنا الهاء قلنا عرقي؛ لأنه لا يكون اسم آخره واو، قال الشاعر: حتى تفضّي عرقي الدّليّ (¬1) وحكي عن الجرمي أنه قال: كما احتملت " أبو زيد " مكان " أبا زيد " وكذا في نسخة أبي بكر مبرمان، إنما هو كما احتملت " أبو زيد " وليس بينهما فرق في التحصيل؛ لأن المعنى كما احتملت الإضافة أبا زيد، وإذا قال: كما احتملت " أبو زيد " فالمعنى كما احتملت هذه الكلمة التغيير في الإفراد والإضافة. والذي في نسختي ذو يزن منصرف، في نفس الكتاب " منصرف " يعني " يزن " ولم أره في النسخ كلها. وحكي عن الجرمي أنه قال: ذو يزن غير منصرف بمنزلة " يسع " اسم رجل. قال: " وسألته عن " أمس " اسم رجل، فقال: مصروف؛ لأن " أمس هاهنا ليست على الحد، ولكنه لما كثر في كلامهم وكان من الظروف تركوه على حال واحدة، كما فعلوا ذلك بأين وكسروه كما كسروا " غاق " إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب، كما أن حركة غاق لغير إعراب، فإذا صار اسما لرجل انصرف؛ لأنك قد نقلته عن ذلك الموضع، كما إنك إذا سميته ب " غاق " صرفته فهذا يجري مجرى هذا كما يجري " ذا " مجرى " لا " قال أبو سعيد: اعلم أن الأصل في المبنيات كلها إذا سمي بشيء منهن رجل أعرب ولم يغير حكمه، أن أصله مبني على الكسر، فإذا سمينا به رجلا أعربناه كما نعربه إذا سميناه ب " أين " وإنما بني لأنه ظرف في الأصل، وصار فيه معنى الإشارة؛ لأنك إذا قلت: أمس فإنما تشير إلى اليوم الذي تاليه يومك، فإذا انقضى اليوم لم يلزمه هذا الاسم فصار بمنزلة شيء حاضر تشير إليه فتقول ذا، فإذا زال عن الحضرة لم تقل " ذا ". ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 309، والمقتضب 1/ 188، والخصائص 1/ 135، وابن يعيش 10/ 108، والمنصف 2/ 70، واللسان (عرق).

ويجوز أن يكون بمنزلة الضمير؛ لأنه لا يعرف ولا يسمى إلا باليوم الذي أنت فيه، فأشبه الضمير الذي لا يسمى إلا بأن يجري ذكره أو يحضر فيكون متكلما أو مخاطبا، فعمل بأمس إذا سمي به ما عمل بغاق إذا سميت به رجلا تقول: هذا أمس وغاق، ورأيت أمسا وغاقا، ومررت بأمس وغاق ولا يختلفان، وإن كان أمس اسما، وغاق صوتا، كما لا يختلف " ذا " الذي هو اسم، و " لا " الذي ليس باسم إذا سمينا بهما فتقول: ذاء، ولاء وقد مر نحو هذا. قال سيبويه: " واعلم أن بني تميم يقولون في موضوع الرفع: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، فلا يصرفون في الرفع؛ لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عما ينبغي له أن يكون عليه في القياس، ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل المواضع، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في النصب والجر " قال أبو سعيد: (أمس) مصروف إذا سمينا به رجلا، من لغة أهل الحجاز، وبني تميم جميعا، فكأن قائلا قال لسيبويه لم تصرفه على اللغتين جميعا، وبنو تميم لا يصرفونه إذا قالوا: ذهب أمس؟ ففرّق بين ترك الصرف في لغة بني تميم إذا قالوا: ذهب أمس الذي هو اليوم الماضي وبين أن تسمى به رجلا فتقول: ذهب أمس بالتنوين؛ لأن أمس إذا أرادوا به الوقت وأعربوه فهم يريدون أحد أمرين: إما أن يكون على تقدير ذهب الأمس فيعدلونه عن الألف واللام فيجتمع فيه العدل والتعريف فيمنع الصرف. أو عن لغة أهل الحجاز، ولغتهم في المجرور والمنصوب فكأنهم عدلوا عن المبني، وهو معرفة، فاجتمع فيه العدل، والتعريف، فإذا سمينا به رجلا فقد زال عنه العدل، فلذلك انصرف. ومعنى قول سيبويه: لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في المعنى، يريد عن معنى نفسه، ولم ينقلوه إلى شيء آخر، والأصل الذي هو عليه في الكلام أن يكون بالألف واللام إذا عرّفوه، أو يكسر للعلة التي ذكرنا. والذي ينبغي أن يكون عليه في القياس أنّا متى لقبنا شيئا بلفظ، جعلناه علما له لم نحتج إلى الألف واللام وصار معرفة. هذا هو القياس فيما نجعله معارف، فهم لم يجعلوا

هذا اللفظ على جهة العلم وإنما جعلوه على معنى الألف واللام، وصار خروجه عن القياس وعدله عن الألف واللام، كما عدل " سحر " ظرفا، لأن " سحر " إذا كان مجرورا أو مرفوعا أو منصوبا غير ظرف لم يكن معرفة إلا بالألف واللام. يعني إذا كان ظرفا وأردت تعريفه جاز ألا تدخل عليه الألف واللام والنية فيه الألف واللام كقولك: " جئتك سحر " إذ أردت سحر يومك؛ لأنه ظرف، فإن قلت استطبت السحر أو طاب السحر أو عجبت من السحر، لم يجز أن تخرج الألف واللام؛ لأنه يصير غير معرفة. فاستعمل بنو تميم في منع الصرف من أمس تقدير الألف واللام وعدله عنهما، كما استعمل الناس ذلك في سحر ظرفا. قال: " وإن سميت رجلا " بأمس " في هذا القول، يعني قول بني تميم قبل أن تسمي به، صرفته؛ لأنه لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب؛ لأنه في الجر والنصب مكسور في لغتهم فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرفع؛ لأنك تدخله في الرفع، وقد جرى له الصرف في القياس في الجر والنصب؛ لأنك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفا للقياس، ولا يكون أبدا في الكلام اسم منصرف في الجر والنصب ولا ينصرف في الرفع " قال أبو سعيد: يريد أنك إذا سميت رجلا بأمس في لغة بني تميم فلا بد من صرفه في الجر والنصب؛ لأنه مبني مكسور في الجر والنصب على لغتهم. وقد تقدم أن المبني إذا سمي به انصرف، فإذا صرفته في النصب والجر فلا بد من صرفة في الرفع لئلا يختلف. وإنما ذكر هذا؛ لأن بني تميم قد تركوا صرفه في الرفع، ولئلا يظن ظان أنه في الرفع غير مصروف على لغتهم إذا سمي به، ومعنى قوله: لأنك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفا للقياس، يعني لم تعدل الرجل عن أصله في الكلام كما عدلت بنو تميم أمس الذي تاليه اليوم عن أصله في الكلام، وكذا سحر إذا سميت به رجلا تصرفه. قال سيبويه: " وهو في الرجل أقوى؛ لأنه لا يقع ظرفا، ولو وقع اسم شيء فكان ظرفا صرفته، وكان كأمس لو كان أمس منصوبا غير ظرف مكسور كما كان " يعني لو سمينا وقتا من الأوقات أو مكانا من الأمكنة التي تكون ظرفا " بسحر "

هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة

وجعلناه لقبا له لانصرف؛ لأنه ليس هو بالشيء المعدول، وكان كأمس لو سميت به. وقوله: وهو في الرجل أقوى يعني في باب الصرف، لأن الرجل لا يكون ظرفا فهو أقوى. قال: " وقد فتح قوم أمس في (مذ)، وهم بعض بني تميم وإنما فعلوا ذلك؛ لأنهم تركوا صرفه " وما بعد " مذ " يرفع ويخفض، فلما ترك بعض من يرفع صرفه بعد " مذ " ترك أيضا من يجر صرفه بعدها، فكانت مشبهة بنفسها، وقال الراجز: لقد رأيت عجبا مذ أمسا … عجائز مثل الأفاعي خمسا يأكلن ما في رحلهن همسا … لا ترك الله لهن ضرسا (¬1) قال: وهذا قليل؛ لأن الخفض بعد مذ قليل. وإذا سمي رجل بذه من قولنا " هذه " قلت: هذا ذه قد جاء، ومررت بذه قد جاء، ورأيت ذها، والهاء بدل من الياء في هذي أمة الله، كما أن ميم " فم " بدل من الواو، والياء التي في قوله هذي أمة الله إنما هي ياء ليست من الحروف، وإنما هي لبيان الهاء، فإذا صارت اسما لم يحتج إلى ذلك لما لزمتها الحركة والتنوين، والدليل على أن الياء ليست من الكلمة أنها لا تثبت في الوقف نقول: هند هذه أو ذه. ومن العرب من يقول: ذه أمة الله، فيسكن الهاء في الوصل كما يقول " به " في الوصل، وقد مضي نحو هذا. هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة وذلك لأنها لا تضاف ولا تصرّف تصرّف غيرها ولا تكون نكرة قال سيبويه: " وذلك أين، ومتى، وكيف، وحيث، وإذ، وإذا، وقبل وبعد " قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الباب ظروفا وغير ظروف من المبنيات وقد ذكرت جملتها في أول الكتاب وزدت على ما ذكره سيبويه حروفا ذكرها غيره بما يغني عن الشرح في هذا الموضع، إلا أني أسوق كلام سيبويه وأذكر ما يحتاج إلى إبانة ¬

_ (¬1) الرجز للعجاج بن رؤبة في الكتاب 3/ 285، وابن يعيش 4/ 106، والخزانة 3/ 219، وشرح شذور الذهب 99.

مراده وشرح يسير لبعض ما لم أذكره هناك. قال سيبويه: " فهذه الحروف، وأشباهها لما كانت مبهمة وغير متمكنة شبهت بالأصوات وما ليس باسم ولا ظرف. فإذ التقى في آخر شيء منها حرفان ساكنان حركوا الآخر منهما وإن كان الحرف الذي قبل الأخير متحركا أسكنوه كما قالوا: هل، وبل، وأجل، ونعم، وقالوا: جير، فحركوه لئلا يسكن حرفان. فإن قال قائل: لم كسروا جير، وقد فتحوا أين وكيف؟ ففي ذلك جوابان: أحدهما أن " جير " جاء على قياس اجتماع الساكنين في الأصل وهو موجب للكسر. والجواب الثاني أن " جير " قد يحلف به، فيقال: جير لأفعلن فيقع موقع الاسم المحلوف به، وهو مفتوح كقولك: الله لأفعلن، فحركوه بحركة للبناء غير حركة الإعراب لو أعرب. قال: ويدلك على أن " قبل " و " بعد " غير متمكنين أنه لا يكون فيهما مفردين ما يكون فيهما مضافين. لا تقول: هذا قبل كما تقول: هذا قبل القيامة. اعلم أن " قبل "، و " بعد " يكونان خبرين للجثث وغيرها إذا كانا مضافين كقولك: زيد قبل عمرو، وبعد عمرو، والقتال قبل يوم الجمعة وبعد يوم الجمعة، فإذا حذفت ما أضفتهما إليه لم يجز أن يكونا خبرين. لا تقل: زيد قبل، والقتال بعد، وإن لم أر أحدا من أصحابنا اعتل لهذا بشيء يقنع. وقد حكاه سيبويه ولا أعلم له مخالفا، ورأيت من احتج فقال لأنه لا فائدة فيه؛ لأن الفائدة في التوقيت بما قد أضيف إليه في غير الخبر. والصلة في ذلك عندي أن " قبل " و " بعد " إذا كانا خبرين فقد حذف من الكلام ما يعمل في الظرف كقولنا: زيد قبل عمرو، فالتقدير فيه استقر قبل عمرو، فإذا حذفنا المضاف إليه فقد حذفنا ما قبله في التقدير وما بعده فصار ذلك إجحافا فاجتنبوه. قال: وجزمت " لدن " ولم تجعل ك " عند " لأنها لا تقع في جميع مواضع " عند " فضعفت. وذلك أن " عند " اتسعوا فيها فقالوا: عندي مال وإن كان غائبا، ولا يقولون ذلك في " لدن " فجعلت بمنزلة " قط " إذا أردت ليس إلا. وحسب في البناء مثل قط، إلا أنهم

بنوه على حركة. وإذا أردت " قطّ " المشددة، التي هي لما مضي من الدهر كانت مبنية على الضم، لاجتماع الساكنين، ومشبهة بمنذ؛ لأنها في معنى منذ، فإذا قلت ما رأيته قط، فكأنك قلت ما رأيته منذ كنت. وقولهم " لد " بضم الدال محذوفة من " لدن " والضمة تلك الضمة، والدليل على ذلك أنك إذا أضفت " لدن " إلى مني رددت النون؛ لأن الإضافة قد ترد الأشياء الذاهبة، فتقول: هذا من لدنك ولا تقول: من لدك، كما تقول: من لد زيد. قال: وسألت الخليل عن " معكم "، " ومع " لأي شيء نسبتها ولم لم تبن على السكون؟ فقال: لأنها استعملت غير علم كجميع ووقت نكرة، وذلك قولك: جاءا معا ولا تضاف " مع " في هذا الموضع، فلما أعرب معا للموضع المنكور المفرد وجب تحريكه في الإضافة. قال أبو سعيد: وإنما وجب إفراده في هذا الموضع؛ لأنّا إذا أضفنا، فقلنا: ذهب زيد مع عمرو فقد ذكرنا اجتماعه مع عمرو وأضفنا " مع " إلى غير الأول، وإذا قلنا: ذهبا معا، فليس في الكلام غيرهما تضيف " مع " إليه ولا يجوز أن تضيف " مع " إليهما. كما تقول: ذهب زيد مع نفسه، ونصب " معا " على الحال في قولك ذهبا معا، كأنك قلت: ذهبا مجتمعين، ويجوز أن يكون على الظرف كأنه قال: ذهبا في وقت اجتماعهما. وقد يسكن في الشعر يشبه ب " لدن " وب " هل " وما أشبه ذلك من المسكنات. قال الشاعر: وريشي منكم وهواي معكم … وإن كانت زيارتكم لماما (¬1) قال: وأما " منذ " فضمّت، لأنها للغاية، ومع ذا أن من كلامهم أن يتبعوا الضم الضم كما قالوا: ردّ يا فتى. قال أبو سعيد: إن سأل سائل لم سمّى سيبويه " منذ " غاية؟ وقد فسر أبو العباس المبرد الغاية في قبل وبعد، أنها لما حذف المضاف إليه، وقد كان غاية الاسم واقتصروا على المضاف صار هو المنتهى والغاية. ¬

_ (¬1) البيت لجرير في ديوانه 506، وابن يعيش 5/ 138، وشرح الأشموني 2/ 265.

ودخل " منذ "، " وحيث " في هذا؛ لأنه كان من حق " حيث " أن يضاف لما بعده في حال. وقد يرفع ما بعده كقولك: ما رأيته منذ يوم الجمعة، ومنذ يوم الجمعة، فإذا رفعت ما بعدها فقد منعتها الإضافة، فوجب بناؤها على الضم للغاية، ثم أجروا الخافضة مجراها، وقد يجوز أن يكون الضم للاتباع، اتبعوا حركة الذال حركة الميم كما قالوا: " ردّ "، وذكر في " عل " ما تقدم مما ذكرناه في أول الكتاب. قال: وسألت الخليل عن قولهم: مذ عام أول، ومذ عام أول فقال: " أول " هاهنا صفة، وهو أفعل من عامك، ولكنهم ألزموه هاهنا الحذف استخفافا، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة أفعل منك. قال أبو سعيد: اعلم أن " أفعل " إذا جعل نعتا وليس أنثاه فعلاء، فإنه يلزمه منك كقولك: مررت برجل أفضل منك. وأول نعت لعام، والتقدير فيه أول من عامك، كما تقول: أقدم من عامك، فحذفوا " من "، كما قالوا: زيد أفضل، ويحذفون " من " إلا أنه يكثر في زيد أفضل منك إظهار منك، وإن كان يجوز الحذف، ويكثر في عام أول حذف " من " وإن كان يجوز الإظهار، والدليل على جواز إظهاره أنك تقول: ما رأيتك منذ أول من أمس، وفيه مع هذا حذف آخر، وذلك أنك إذا قلت: ما رأيته منذ عام أول؛ فالمعنى أنه منذ عام أول يلي عامك هذا؛ لأن كل ما مضي من السنين فهو أول لتقدمها، ولولا هذا التقدير لم يكن العام الذي قيل عامنا أولى به من السنين الماضية. وكذلك قولنا: ما رأيته منذ أول من أمس، يريد من اليوم الذي يليه أمس، والكلام على ظاهره يحتمل أن يكون كل يوم تقدم أمس. قال سيبويه: " وقد جعلوا " أول " بمنزلة " أفعل " وذلك قول العرب ما تركت له أولا ولا آخرا. فهذا ليس يقدر فيه " من " وهو بمنزلة قولك: ما رأيت له قديما ولا حديثا، فقد جاز في " أول " أن يكون صفة واسما وعلى أي الوجهين سميت به رجلا فهو لا ينصرف لاجتماع وزن الفعل والتعريف فيه. قال: وسألته عن قول بعض العرب وهو قليل: مذ عام أول فقال: جعلوه ظرفا في هذا الموضع، وكأنه قال: مذ عام قبل عامك.

وسألته عن قولهم: زيد أسفل منك فقال: هذا ظرف كقوله عز وجل: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ (¬1) كأنه قال: زيد في مكان أسفل من مكانه، ومثل هذا الحذف في " أول " لكثرة استعمالهم إياه قولهم: لا عليك فالحذف في هذا الموضع كهذا. ومثله: هل لك في ذلك، ومن له في ذلك، ولا يذكروا له حاجة ولا لك حاجة، ونحو هذا أكثر من أن يحصى. وقال الشاعر: يا ليتها كانت لأهلي إبلا … أو هزلت في جدب عام أولا (¬2) " فأولا " يكون على الوصف والظرف؛ لأنه لا ينصرف. وقد كان الزجاج يجيز أن يكون منع " أول " الصرف كما منع " أمس " الصرف في لغة بني تميم؛ لأنه استعمل في الكلام بغير إضافة، فصار كالمعدول، كأخر وأمس في لغة بني تميم. قال سيبويه: وسألته عن قوله من دون، ومن تحت، ومن فوق، ومن قبل، ومن بعد، ومن دبر، ومن خلف. فقال: أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضاف وتستعمل غير ظرف، ومن العرب من يقول: من فوق ومن تحت يشبهها ب " قبل " و " بعد ". وقال أبو النجم: أقبّ من تحت عويض من عل (¬3) وقال آخر: لا يحمل الفارس إلا الملبون … المحض من أمامه ومن دون (¬4) وكذلك من أمام، ومن قدام، ومن وراء، ومن قبل ومن دبر، وزعم الخليل أنهن نكرات كقول أبي النجم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، من الآية 42. (¬2) البيت بلا نسبة في الكتاب 229، وابن يعيش 6/ 34، واللسان (وأل). (¬3) البيت في الكتاب 3/ 290، وشواهد المغني للسيوطي 154، واللسان (علا). (¬4) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 290، والتصريح 2/ 52، واللسان (لبن).

يأتي لها من أيمن وأشمل (¬1) وزعم أنهن نكرات إذا لم يضفن إلى معرفة، كما يكون أيمن وأشمل نكرة، وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه، يجعلونه كقولك: من يمنة وشأمة، وكما جعلت ضحوة نكرة وبكرة معرفة. وإنما ذكر سيبويه الشاهد في قوله: " ومن دون "؛ لأنه لم يضف، وليس فيه دليل على التنكير والتعريف؛ لأنه يحتمل أن يقال: من دون فيكون نكرة، ويحتمل أن يكون من دون بالضم ويكون معرفة، إلا أن الشعر موقوف، ويحتمل أن يقال المحض بالنصب على معنى إلا الملبون المحض، أي المسقى اللبن المحض. قال: وأما يونس فكان يقول: من قدّام لا يصرفه لاجتماع التأنيث والتعريف فيه. قال: وهذا مذهب في القياس، إلا أنه ليس يقوله أحد من العرب. قال: وسألنا العلويين والتميميين فرأيناهم يقولون: من قديديمة، ومن ورّيئة، على حد قولك: من دون، ومن أمام، قال النابغة الجعدي " لها فرط يكون ولا تراه … أماما من معرّسنا ودونا (¬2) وذكر " هيهات " وما فيها، وقد تقدم شرحنا له وكذلك " ذية " وقد بني على فتحة، وقبلها متحرك، وما كان من المبنيات من هذا النحو أسكن آخره إذا كان قبل آخره حركة، فالسبب في حركة آخر " ذية " أنا لو سكناها لوجب أن نجعلها هاء؛ لأن ما كان من المؤنث بالهاء جعلت في الدرج " تاء " وفي الوقف " هاء "، فلو سكناها لوجب أن نجعلها أبدا هاء، فكانت تذهب التاء وهي أصل التأنيث. ويجوز أن يكون أيضا أن لو تركوها هاء على كل حال لتوهم أنها هاء أصلية. على أن سيبويه جعلها بمنزلة " عشر " في خمسة عشر، وأنه كشيئين جعلا كشيء واحد ففتح آخره، وإذا خففت ففيها ثلاث لغات ذيت: بالفتح والضم والكسر. فمن يقول: ذيت فهو بمنزلة حيث وأين. ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 290، وابن يعيش 5/ 41، والخصائص 2/ 130، والخزانة 1/ 104، واللسان (شمل). (¬2) ديوانه 210، والكتاب 3/ 391، واللسان (دون).

هذا باب الأحيان في الانصراف وغير الانصراف

ومن يضم فهو بمنزلة منذ، ومن يكسر فهو بمنزلة أولاء. قال: وسألت الخليل عن شتان فقال فتحها كفتحة هيهات، يعني أنها مبنية على الفتح كما بنيت هيهات على الفتح، وقد احتج أصحابنا في ذلك بحجج. منهم من قال: أن شتان وقع موقع الفعل الماضي، فإذا قالوا شتان ما زيد وعمرو فكأنا قلنا افترقا وتباعدا ومعنى شتّ يشتّ شتّا أي تفرق وتباعد. وقال بعضهم: " شتّان " مصدر على فعلان، وقد خالف المصادر؛ لأنه ليس في المصادر " فعلان " بتسكين العين وفتح الفاء. وإنما يجيء في المصادر فعلان أو فعلان أو فعلان، فلما خالف المصادر أشبه باب، " فعال "، وهو مصدر في موضع فعل على غير مصدر ذلك الفعل، كقولنا نزال، وحذار ودراك، ومصدر هذه الأفعال: النزول والحذر والإدراك. وقال بعضهم: اجتمع في " شتان " خروجه عن وزن المصادر وهو مصدر والتعريف، والدليل على تعريفه أنه لا تدخله الألف واللام، وزيادة الألف والنون في آخره، وأنه ظرف، فبني، وكان حق النون أن تكون ساكنة، وفتح اتباعا للألف والفتحة التي قبلها، وقد مضي نحو هذا. وقال المازني " شتان " و " سبحان " إذا نكرتهما صرفتهما اسمين كانا أو في موضعهما. هذا باب الأحيان في الانصراف وغير الانصراف قال سيبويه: " اعلم أن " غدوة " و " بكرة " جعلت كل واحدة منهما اسما للحين على جهة التعريف له، ومذهب التلقيب والعلم، كما جعلوا " أم حبين " اسما للدابة معرفة " وكما فعل " أسامة " اسما للأسد، والدليل على أنهم يذهبون بهما هذا المذهب أن الاسم الموضوع للنكرة هو " غداة "، تقول: هذه غداة باردة، ونحن في غداة طيبة، ثم غيروا لفظ " غداة " إلى غدوة؛ لأن يوضع للتعريف، لتغيير اللفظ، فيكون أول أحوال هذا اللفظ التعريف، ثم يجوز أن ينكر بعد ذلك. والدليل على ذلك أنّا رأيناهم قد يضعون أسماء مشتقة موضوعة لمعارف لم تستعمل في شيء من النكرات ولا تعرف معانيها منكورة نحو: سعاد، وزينب وغير ذلك. مما لا يحصر، وإن كنا نعرف ما قد اشتقت

منه، ف (غدوة) قد اشتقت للتعريف من (غداة)، كما أن (سعاد) قد اشتقت من (السعادة) لأن توضع لمعرفة. والأصل في هذين الاسمين (غدوة)، و (بكرة) محمولة عليها لاجتماعهما في المعنى وفي البنية. كما أن " يذر " محمولة على " يدع "، وكان القياس في " يذر " أن يقال (يذر)، لأن أصله يوذر، فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة وليس في موضع عين الفعل، ولامه حرف من حروف الحلق فيفتح. وأصل " يدع " أيضا " يدع " بكسر الدال ثم فتح من أجل العين التي هي لام الفعل وهي من حروف الحلق. قال سيبويه: " ومثل ذلك قول العرب: هذا يوم إثنين مباركا فيه، وأتيتك يوم إثنين مباركا فيه. جعل إثنين اسما له معرفة، كما تجعله اسما لرجل " وقد رد أبو العباس المبرد هذا، وذكر أن " إثنين " اسم اليوم لا يكون معرفة أبدا إلا بالألف واللام، وأن قولهم مباركا فيه على الحال من النكرة. وزعم يونس عن أبي عمرو، وهو قوله أيضا، وهو القياس، أنك إذا قلت: لقيته العام الأول، أو يوما من الأيام، ثم قلت غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم ينون، يريد أنه يجوز أن ينكر اليوم، وتعرف " غدوة " و " بكرة " فتقول " رأيته يوما غدوة؛ لأن " غدوة " وقتها في اليوم معروف، فكأنك قلت: رأيته يوما في هذا الوقت منه، وأما " ضحوة " وعشية وغيرهما من ساعات اليوم والليلة فكله نكرات إلا سحر يومك. هذا هو المعروف الكثير في كلام العرب. قال سيبويه إن بعض العرب يدع التنوين في " عشية " كما ترك في غدوة. قال أبو العباس: وليس هذا بشيء، وعشية نكرة على كل حال. وأرى حكاية سيبويه لا ترد. قال: وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول: آتيك اليوم غدوة وبكرة تجعلهما بمنزلة " ضحوة " وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق به من العرب يقول آتيك بكرة وهو يريد الإتيان في يومه أو في غده، ومثل ذلك قول الله عز وجل: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً

هذا باب الألقاب

وَعَشِيًّا (¬1). وهذا غير منكر؛ لأن الأسماء الأعلام يجوز تنكيرها بعد وقوعها معارف، فيكون لفظ المعرفة والنكرة سواء، كقولك هذا زيد من الزيدين، وجاءتني سعاد وسعاد أخرى. وأما " سحر " فإنه يكون معرفة بغير ألف ولام إذا كان ظرفا، وإذا لم يكن ظرفا لم يجز طرح الألف واللام منه إذا أردت تعريفه كقولك: ما رأيته مذ السّحر، وقد رأيته عند السحر الأعلى، ولا يجوز أن تقول: رأيته عند سحر الأعلى. هذا باب الألقاب قال سيبويه: إذا لقبت مفردا بمفرد أضفته إلى اللقب كقولك: هذا سعيد كرز، وهذا قبس قفّة، وهذا زيد بطّة. كأنه كان اسمه سعيد ولقب بكرز واسمه قيسا ولقب بقفة، واسمه زيدا، ولقب ببطة، فأضيفت هذه الأسماء المفردة إلى هذه الألقاب، وجعلت الألقاب معارف؛ لأنها تجري مجرى الأعلام. وإنما أضيفت؛ لأن أصل أسمائهم اسم مفرد أو مضاف، فالمفرد: زيد، وعمرو، والمضاف عبد الله وامرؤ قيس، وكنية، هي مضافة لا غير كقولنا: أبو زيد، وأبو عمرو وأم جعفر وأم الحمارس (¬2)، وليس لهم اسمان مفردان يستعمل كل واحد منهما مفردا، فلو جعلوا " سعيدا " مفردا و " كرزا " مفردا لخرجوا عن منهاج أسمائهم في اسمين مفردين لشخص واحد، وإذا أضافوا فله نظير. وإن لقبوا من اسمه مضاف أفردوا اللقب كقولهم: هذا عبد الله بطة؛ لأنه يصير بمنزلة قولنا: أبو بكر زيد، فعبد الله بمنزلة أبي بكر، وزيد بمنزلة بطة، وهذه الألقاب متى لقبت بها أشياء، صار تعريفها بغير ألف ولام، وخرجت عن التعريف الذي كان لها بالألف واللام، كما أنا إذا قلنا: الشمس لم يكن معرفة إلا بالألف واللام، ثم نقول: عبد شمس فيكون تعريفه بغير ألف ولام لمّا وضعناه اسما. فإن قال قائل: فما أحوجنا إلى تعريف الشمس بالألف واللام ولا شمس غيرها في ¬

_ (¬1) سورة مريم، من الآية 62. (¬2) الحمارس: الشديد، وهو اسم للأسد. انظر اللسان (حمرس).

هذا باب الشيئين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا بمنزلة اسم واحد كعيضموذ وعيسجور

الدنيا؟ قيل له قد يسمى ضوء الشمس شمسا، كقول القائل: لا تقعدوا في الشمس، وإنما يريد ضوءها، ويقول: شمس البصرة أحرّ من شمس الكوفة، وجرم الشمس واحد وإنما تريد ضوءها. هذا باب الشيئين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا بمنزلة اسم واحد كعيضموذ (¬1) وعيسجور (¬2) قال سيبويه: " وذلك نحو حضر موت وبعلبك وكل ما كان من ذلك، إذا سمي به رجل، أو مكان، فهو معرفة، لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة. وقد ذكرنا أن كون اسمين اسما واحدا من العلل المانعة من الصرف، ويجوز في ذلك إضافة الأول إلى الثاني، فإذا أضفت أعربت الأول بوجوه الإعراب واعتبرت الثاني، فإن كان مما لا ينصرف لم تصرفه وإن كان مما ينصرف صرفته. فأما ما ينصرف فقولك: هذا حضر موت وبعلبك، ورأيت حضر موت وبعلبك، ومررت بحضر موت وبعلبك. وأما ما يضاف إلى ما لا ينصرف ف " رامهرمز " (¬3) ومارسرجس، تقول، إذا أضفت: هذا رام هرمز، ومار سرجس، ورأيت رام هرمز ومار سرجس، ومررت برام هرمز ومار سرجس، وإذا لم تضف فتحت الاسم الأول على كل حال، ورفعت الثاني في حال الرفع ونصبته في النصب والجر بغير تنوين كسائر ما لا ينصرف. تقول: هذا حضر موت ورامهرمز ومارسرجس، ورأيت حضر موت ورامهرمز ومارسرجس، ومررت بحضر موت، ورامهرمز ومار سرجس. ولو نادينا شيئا من هذا، والأول غير مضاف لضممت آخره، فقلت يا حضر موت، ويا بعلبك ويا رامهرمز ويا مارسرجس. ¬

_ (¬1) العجوز الكبيرة، ومنه الناقة العيضموز، اللسان (عضمز). (¬2) الناقة الصلبة، اللسان (عسجر). (¬3) مدينة فارسية مشهورة.

قال سيبويه: وبعضهم يقول في بيت جرير: لقيتم بالجزيرة خيل قبس … فقلتم مارسرجس لا قتالا (¬1) أنشده على قول من يضيف الأول إلى الثاني، ومن لا يضيف يقول: مارسرجس لا قتالا؛ لأنه كاسم واحد لما ناداه. قال: " وأما معد يكرب ففيه لغات، منهم من يقول: معد يكرب، فيضيف ومنهم من يقول: معد يكرب فيضيف ولا يصرف بجعل " كرب " اسما مؤنثا، ومنهم من يقول: معد يكرب، كما يقول: حضر موت غير أن الياء في معد يكرب مسكنة " وعلى قياس ما حكاه سيبويه في معد يكرب إذا أضاف، ولم يصرف كرب، لأنه مؤنث يجوز أن يقال- إن صحت الرواية في " ذي يزن " أن لا يصرف- لا يصرف " يزن "؛ لأنه اسم مؤنث. قال أبو سعيد: وقد كنت حكيت أن الجرمي لا يصرف " يزن " بجعله بمنزلة يسع ويزن من الفعل. وإذا نكرت الاسمين اللذين بمنزلة اسم واحد صرفت كقولك: مررت بحضر موت وحضر موت آخر، وهذا معد يكرب ومعدي كرب آخر؛ لأن الذي كان يمنع الصرف التعريف وجعل الاسمين اسما واحدا، فإذا نكرت زال إحدى العلتين وليس ذلك بمنزلة أحمر ومساجد ومفاتيح. وما فيه ألف التأنيث كحبلى، وما أشبهها مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وقد مضى تفسير ذلك. قال: " وأما خمسة عشر وأخواتها، وحادي عشر وأخواتها فهما شيئان جعلا شيئا واحدا، وإنما أصل خمسة عشر خمسة وعشرة، ولكنهم جعلوه بمنزلة حرف واحد، وأصل حادي عشر أن يكون مضافا كثالث ثلاثة، فلما خولف به عن حال أخواته، مما يكون للعدد خولف به، وجعل كأولاء، إذ كان موافقا له في أنه مبهم يقع على كل شيء، فلما اجتمع فيه هذان أجري مجراه، وجعل كغير المتمكن، والنون لا تدخله كما تدخل غاق؛ لأنها مخالفة لها ولضربها في البناء، فلم يكونوا لينونوا؛ لأنها زائدة ضمت إلى الأول فلم يجمعوا عليه هذا والتنوين ". ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 296، والمقتضب 4/ 23، وابن يعيش 1/ 65، واللسان (سرجس).

قال أبو سعيد: اعلم أن الذي أوجب بناء خمسة عشر تضمنها معنى الواو؛ لأنك إذا قلت: عندي خمسة عشر دينارا فمعناه خمسة وعشرة فبنيت لتضمن معنى الواو، وكذلك أكثر المبنيات تجري مجرى الحروف؛ لأن الحروف مبنية، وأما حادي عشر، وثالث عشر فإنما أصلها ثالث ثلاثة عشر كما يقال: ثالث ثلاثة، ومعناه أحد ثلاثة عشر، ثم خففوه لطوله فحذفوا ثلاثة، وأقاموا ثالث مقامها ففتحوه كما كانت ثلاثة مفتوحة، وكذلك حادي عشر أصله حادي أحد عشر، وحذفوا أحد وأقاموا حادي مقامة ففتحوه. وكان الزجاج يقول في هذا قولا يستحسن. قال: لو قلنا: خمسة وعشرة لوقع اللبس في بعض المواقع حتى لا يكون في معنى خمسة عشر، ولا يقع اللبس في خمسة عشر، وموضع اللبس أن يقول الإنسان لآخر: قد أعطيتك بهذا الثوب خمسة وعشرة ولم تبع، ومعناه أعطيتك بهذا الثوب مرة خمسة فلم تبع ومرة عشرة فلم تبع ". ومعنى قوله: " فلما خولف به عن أخواته: يعني خولف بخمسة عشر في طرح الواو عن خمسة وعشرين ولم يجر على القياس، وجعل " كأولاء " في البناء إذ كان موافقا له في أنه مبهم. وسيبويه يجري كثيرا على المبنيات لفظ الإبهام كهذا وما أشبهه لإشارة بنائه إلى كل شيء، وكذلك خمسة عشر؛ لأنه عدد لكل شيء. ومعنى قوله: والنون لا تدخله كما تدخل غاق. يعني لا ينون خمسة عشر كما ينون " غاق " وذلك أن " غاق " تنوينه علامة للتنكير. وإذا كان معرفة قلت: غاق، وقد مضى الكلام فيه وفي نحوه. وخمسة عشر بني في حال التنكير لتضمنه معنى الواو. قال: ونحو هذا في كلامهم: حيص بيص، وفيه لغات، قد ذكرتها في باب المبنيات. قال أمية بن أبي عائذ: قد كنت خرّاجا ولوجا صيرفا … لم تلتحصني حيص بيص لحاص (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في ديوان الهذليين 2/ 192، والكتاب 3/ 298، وابن يعيش 4/ 115، واللسان (حيص)، والخزانة 2/ 435.

معنى " حيص بيص " داهية يضيق المخرج منها، وتلتحصني: تنشبني فيها وتلحجني و " لحاص " هي المنشبة الملحجة. وإذا أضفت " خمسة عشر "، أو أدخلت عليها الألف واللام فهي على حالها، تقول: هذه الخمسة عشر درهما؛ وهذه خمسة عشرك؛ لأن معنى الواو فيه قائم مع الإضافة والألف واللام، وحكى سيبويه أن من العرب من يقول " خمسة عشرك " وهي لغة رديئة، يحملها على بعض ما ترده الإضافة إلى التمكن والأصل وقد مضى نحو ذلك. ولو سمينا رجلا " بخمسة عشر " جرى مجرة " حضر موت " وأعربته، وهو لا ينصرف. تقول: هذا خمسة عشر ومررت بخمسة عشر. وكان الزجاج يجيز فيه الإضافة كما تجوز في حضر موت فيقول: هذه خمسة عشر ورأيت خمسة عشر. قال سيبويه: " ومثل ذلك الخازباز وفيه لغات ذكرتها في المبنيات وهي: الخاذباذ والخاذباز والخازباز والخازباء ". ويضاف فيقال: خازباز كما يقال: حضر موت، والخازباء مثل القاصعاء والراهطاء وهو عند بعض العرب ذباب يكون في الروض، وعند بعضهم " نبت " وعند بعضهم " داء " ويقال إنه داء يأخذ الماشية من هذا النبت. فمن كسر جعل آخره كجير وغاق، ومن فتح جعله بمنزلة خمسة عشر. ومن أعرب " آخره جعله بمنزلة حضر موت، وقال الشاعر في الخزباز: مثل الكلاب تهرّ عند درابها … ورمت لهازمها من الخزباز (¬1) وقال الشاعر في الداء: يا خازباز أرسل اللهازما (¬2) ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 300، والخصائص 3/ 228، وابن يعيش 4/ 122، والإنصاف 1/ 315، واللسان (خزبز). (¬2) من مشطور الرجز، وهو بلا نسبة في الخزانة 6/ 442، وابن يعيش 4/ 122،

وقال آخر وهو عمرو بن أحمر: تفقّأ فوقه القلع السواري … وجنّ الخازباز به جنونا (¬1) فهذا النبت ويقال: " الذباب ". وأما " حيّهل " التي للأمر فمن شيئين، يدلك على ذلك حي على الصلاة، والدليل على أنهما جعلا اسما واحدا قول الشاعر: وهيج الحي من دار فظل لهم … يوم كثير تناديه وحيّهله (¬2) والقوافي مرفوعة. قال: وأنشدناه هكذا أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه من شعر أبيه. وذكر غير سيبويه أن الشعر لرجل من بني أبي بكر بن كلاب. وإنما احتج سيبويه بالبيت ليرى أنه من شيئين، لأنه ليس في الأسماء المفردة ولا في الأفعال مثل هذا البناء، واحتج أيضا بقولهم: حي على الصلاة؛ لأنه قد جعل " على " مكان هل وأنه شيء مضاف إلى حي. وذكر عن بعض السلف أنه قال: إذا ذكر الصالحون فحيّهل بعمر، وفيه ثماني لغات: يقال: حيّ هلا بعمر، وحيّ هلا بعمر، وحيّهل بعمر، وحيّ هل بعمر، وحيّهل بعمر، وحيّهلا بعمر، وحيّ هل إلى عمر، وحيّ هل على عمر. قال أبو سعيد: ويجوز عندي مع " إلى " و " على " الست اللغات التي ذكرتها من كل واحدة من " إلى " و " على ". والذي ذكر سيبويه ثلاث لغات حيّ هلا، وأنشد: يحيّهلا يزجون كل مطيّة … أمام المطابا سيرها المتقاذف (¬3) وحيّ هلا إذا جعلت نكرة، وحيّ هل إذا وصل. جعله بمنزلة قوله أنا فعلت إذا وصل، وإذا وقف قال: أنا. ومعنى حيهل أى أسرع إليه وأعجل. ويقال لنبت من النبات الحيّهل، وإنما قيل له ذلك لسرعة نباته. ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 301، والإنصاف 1/ 313، والخزانة 6/ 442، والكامل 300. (¬2) البيت في الكتاب 3/ 300، وابن يعيش 4/ 46، والخزانة 3/ 42، والمقتضب 3/ 206. (¬3) البيت للنابغة الجعدي في الكتاب 3/ 300، وابن يعيش 4/ 36، والمقتضب 3/ 206، والخزانة 3/ 43، واللسان (حيا).

قال: " وأما عمرويه فإنه زعم- يعني الخليل- أنه أعجمي وأنه ضرب من الأسماء الأعجمية وألزموا آخره شيئا لم يلزم الأعجمية، فكما تركوا صرف الأعجمية جعلوا ذا بمنزلة الصوت؛ لأنهم رأوه قد جمع أمرين فحطّوه درجة عن إسماعيل وأشباهه، وجعلوه في النكرة بمنزلة غاق منونة مكسورة في كل موضع " قال أبو سعيد: الذي أوجب بناء عمرويه أن المضاف إلى عمرو صوت وهو في كلام العجم على غير هذا اللفظ، إنما هو عمروه وإنما هو زيادة صوت في اسم " عمرو " المعروف في كلام العرب، فغيروا لفظ الصوت والصوتية مبقاة؛ لأن أصوات العرب بالبهائم وغيرها تخالف أصوات العجم، كما اختلفت سائر ألفاظهم. وبنوه على الكسره لاجتماع الساكنين، وجعلوا علامة التنكير فيه التنوين. تقول هذا عمرويه وعمرويه آخر، وعلى هذا تقول هذا زبلويه آخر، فينونونه لأنه نكرة. وللمحتج عن المبرد أن يحتج له بقول سيبويه: إنه بني لما انحط عن إسماعيل، كما احتج المبرد في حذام وقطام؛ لأنها لما عدلت صارت أثقل من حازمة وقاطمة معرفة. وأظن أبا العباس أخذ ذلك من لفظ سيبويه. ويجوز أن يكون أراد سيبويه أنه جمع أمرين من اسم وصوت يوجب البناء فحطوه درجة عن إسماعيل لذلك. ولحاق النون في هذه المبنيات علامة للتنكير، إلا أن منها ما لم تستعمله العرب إلا منكورا، ومنها ما استعملته على التنكير والتعريف. فمما استعلمتة منكّرا فقط قولهم: إيها يا زيد إذا أردت اكفف، وويها إذا أغريته، وإيه إذا استزدته، وقد خطّأ الأصمعىّ ذا الرمة في قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم … وما بال تكليم الدّيار البلاقع (¬1) فقال: ترك التنوين في " إيه " وقوم من النحويين أنكروا قول الأصمعي وصوبوا ذا الرمة فقالوا: أتى به معرفة كما يقال غاق وغاق، وقد أصاب الأصمعي في ذلك؛ لأنه أراد أن العرب لم تستعمل " إيه " الا منكورا فلا يجوز استعماله معرفة كما لا يجوز ترك التنوين في " ويها وإيها " وإنما يجعل هذا من ذي الرمة على الضرورة لما اضطر تأوله معرفة. وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا فغاق وغاق، وهو حكاية صوت الغراب، وحاي ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 355، والمقتضب 3/ 179، وابن يعيش 4/ 31، واللسان (ايه).

وعاي، وحاي وعاي وهما صوتان بالغنم، وجاه وجاه وهما زجر السبع، وصه وصه ومه ومه وهيهات وهيهات. وذلك كثير في كلامهم. قال: وسألت الخليل عن قوله فداء فقال: بمنزله أمس يعني أنه مبني وإنما بني، لأنه وضع موضع الأمر كأنه قال ليفدك أبي وأمي، ونوّن لأنه نكرة كما عمل بغاق حين نكر، وإنما صار نكرة لأنهم أرادوا أنه يفديك في ضرب من ضروب ما يفدى به الإنسان من موت أو مرض وهذا كلام مختصر، وكان الأصل جعل الله أبي وأمي فداءك، أو جعل الله فلانا فداءك على حسب ما تذكره، ثم جعله أمرا لذلك الفادي فقال: ليفدك فلان ثم فداء لك فلان، وقد روي بيت النابغة على ثلاثة أوجه، وهو قوله: مهلا فداء لك الأقوام كلهم … وما أثمر من مال ومن ولد (¬1) وفداء، وفداء، والكسر على ما ذكرت له والفتح على المصدر، كأنه قال فداك فداء الأقوام، والرفع على الابتداء والخبر كأنه قال: الأقوام فادون لك. قال: وأما يوم يوم، وصباح مساء، وبيت بيت وبين بين، فإن العرب تختلف في ذلك؛ بعضهم يجعله بمنزلة اسم واحد وبعضهم يضيف الأول إلى الثاني. وإنما يجعل بمنزلة اسم واحد إذا كان ظرفا وحالا. وتجوز إضافته أيضا في الظرف والحال وإذا لم يكن ظرفا ولا حالا لم تجز غير إضافته. تقول: لقيت زيدا صباح مساء ويوم يوم وحين حين، وإن شئت صباح مساء ويوم يوم، فهذا ظرف، وتقول: زيد جارى بيت بيت ولقيته كفة كفة، وإن شئت بيت بيت وكفّة كفّة، فهذا حال، كأنك قلت: هو جاري ملاصقا ولقيته متفاجئين أو متواجهين. فإن قلت آتيك في كل صباح مساء وآتيك في كل يوم يوم لم يجز غير الإضافة، والدليل على ذلك أنهم قد يستعملون فيها حرف الجر، كقولها هو جاري بيتا لبيت، وحكى يونس أن رؤبة كان يقول: لقيته كفّة عن كفة. وحرف الجر إذا حذف أضيف الأول إلى الثاني كقولك: غلام زيد، والأصل: غلام لزيد، وثوب خزّ، والأصل: ثوب من خزّ. ولم يستعمل ذلك بمنزلة اسم واحد في كل مكان، كما لم يستعمل يا ابن عمّ ويا ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 26، والخزانة 6/ 181، وابن يعيش 4/ 73.

ابن أمّ، في غير النداء، لو قلت جاءني ابن عمّ لم يجز؛ لأن الأصل فيه الإضافة، وكثر في النداء حتى استعمل ذلك فيمن ليس بابن عمّ، ولا ابن أم على جهة الملاطفة. والنداء أيضا موضع قد يبنى فيه الاسم ويزول تمكنه، وكذلك استعمل هذا في الحال والظرف؛ لأن الظروف قد تكون غير متمكنة، وكذلك الأحوال قد يستعمل فيها ما لا يستعمل في غير الحال. وقال الفرزدق: لولا يوم يوم ما أردنا … جزاءك والقروض لها جزاء (¬1) فأضاف. ولا يجوز غير الإضافة ومعنى يوم يوم كأنه قال: شدة يوم أو وقعة يوم، وإنما يذكر هذا في شيء قد شهر وانتشر، كما يقال أيام العرب في معنى الوقائع والأشياء التي تشهر. ومما جاء في الشعر في جعلهم ذلك اسما واحد قول الشاعر: نحمي حقيقتنا وبعض القوم يسقط بين بينا (¬2) كأنه قال: يذهب بين هؤلاء وهؤلاء، كأنه يدخل بين فريقين في أمر من الأمور فيسقط ولا يذكر فيه. ومن ذلك همزة بين بين أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها. وقال آخر: ومن لا يصرف الواشين عنه … صباح مساء يبغوه خبالا (¬3) وقال حميد بن ثور: ولم نقعد وأنت لنا ابن عمّ … ولم نلق النّوائب حين حينا (¬4) قال: وأما أيادي سبا، وقالي قلا، وبادي بدا، فإنما هي بمنزلة خمسة عشر، تقول: جاؤوا أيادي سبا. ومن العرب من يجعله مضافا وينوّن سبا. قال الشاعر وهو ذو الرمة: فيالك من دار تحمّل أهلها … أيادي سبا بعدي وطال احتيالها (¬5) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 9، والكتاب 3/ 303، والخزانة 2/ 94، وشرح شذور الذهب 76. (¬2) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه 136، وابن يعيش 4/ 117. (¬3) البيت بلا نسبة في شرح شذور الذهب 72، والهمع 1/ 196. (¬4) لم نعثر عليه في ديوان الشاعر. (¬5) البيت في ديوانه 23، والكتاب 3/ 403، والمقتضب 4/ 26، واللسان (خول)

قال أبو سعيد: اعلم أن سبأ مهموز في الأصل كما قال عز وجل: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ (¬1) وكانوا باليمن فخافوا سيلا يهلكهم فتفرقوا في البلاد وتباعدوا، فضرب المثل بهم للمتفرقين. ويقال: تفرق القوم أيادي سبا وأيدي سبا، والأيدي عبارة عنهم، كأنه قال: تفرقوا أولاد سبا؛ أي تفرّق أولاد سبا، فمنهم من جعلهما اسمين كاسم واحد، فبناهما وجعلهما في موضع الحال، فصار بمنزلة قولك هو جاري بيت بيت، كأنه قال: وجاري ملاصقا. وإذا قال ذهبوا أيادي سبا؛ فمعناه ذهبوا متفرقين. ويجوز أن تضيف فتنون (سبا) لأن سبأ يصرف ولا يصرف، غير أنهم أجمعوا على ترك الهمز فيه من هذا المثل. وقالي قلا بمنزلة حضر موت، ولم تسمع فيه الإضافة، والقياس لا يمنع منها، وقد أنشد: سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا … بقالي قلا أو من وراء دبيل (¬2) وأما بادي بدا فهو في موضع الحال كقولك بيت بيت. وقد أنشد قول أبي نخيلة: وقد علتنى ذرأة بادي بدي … ورثية تنهض في تشدّدي (¬3) يقال بادي بدا وبادي بدي ومعناه فيما ذكر ظاهر الظهور من قولك: بدا يبدو إذا ظهر. قال: " ومثل أيادي سبا وبادي بدا (شفر بفر) ولا بد من أن تحرّك آخره، كما ألزموا التحريك الهاء في ذيّة ونحوها لشبه الهاء بالشيء الذي ضم إلى شيء " قال أبو سعيد: بمعنى أن شفر بفر، وإن كان مثل أيادي سبا وبادي بدا في أنهما جعلا كاسم واحد، فإن آخر الأول منهما مفتوح، وأيادي سبا وما جرى مجراه مما يكون في آخر الاسم الأول منهما ياء تكون الياء ساكنة، وإنما سكنت لأن الياء أثقل من ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآية 15. (¬2) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 305، والمقتضب 4/ 24، واللسان (قلى) (¬3) البيتان من مشطور الرجز، وهما في الكتاب 3/ 304، والمقتضب 4/ 27، والخصائص 2/ 364، واللسان (ذرأ).

الحروف الصحيحة، فلما كان الحرف الصحيح يجب فتحه فيما جعل الاسمان فيه اسما واحدا، والفتح أخف الحركات لم يكن بعد الفتح في التخفيف إلا التسكين. قال: " وشبهوا هذه الياء بألف مثنى حيث عريت من النصب، وقد أجراها الشاعر مجرى الألف حيث سكنها في موضع النصب ". قال رؤبة: سوّى مساحيهن تقطيط الحفق … تفليل ما قارعن من سمر الطّرق (¬1) وقال آخر: كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق … أيدى جوار يتعاطين الورق (¬2) وقال بعض السّعديين: يا دار هند عفت إلّا أثافيها (¬3) ومما يقوي ذلك أنهم لما جعلوا الشيئين شيئا واحدا صارت الياء غير حرف الإعراب فأسكنوها وشبهوها بياء زائدة ساكنة نحو ياء دردبيس (¬4) ومفاتيح ولم يحركوها كتحريك الراء في شفر لاعتلالها. فإن قال قائل: فإذا أضفت الاسم الأول إلى الثاني وفي آخره ياء هل تحرك الياء في النصب كقولك: رأيت قالي قلا وتفرقوا أيادي سبا يا هذا، ورأيت معد يكرب، قيل له لا تحرك الياء وإن أضفت؛ لأن هذه الياء في حال جعلهم إياها اسما واحدا قد كانت مستحقة للفتح كشفر بفر وما أشبهه، ولم تفتح، فلما أضفنا ونصبنا فالنصب في الإعراب كالفتح في البناء فلما أسقطوا الفتح في البناء أسقطوا الفتح في الإعراب وليس ذلك بمنزلة حادي عشر وثماني عشرة؛ لأن ثماني عشرة أمكن؛ لأن الأصل رأيت ثمانيا وعشرة، وكانت مفردة من عشرة مستعملا فيها الفتح. فلما حذفوا الواو لم يزيلوا الفتحة التي ¬

_ (¬1) في ديوانه 106، والكتاب 3/ 306، وابن يعيش 10/ 103، والمقتضب 4/ 22، واللسان (قطط). (¬2) البيتان لرؤبة في ديوانه 179، والخصائص 1/ 306، والخزانة 8/ 347. (¬3) صدر بيت للحطيئة، عجزه: بين الطوى فصارت فوادتها وهو في ديوانه 240، والكتاب 3/ 306، والخصائص 1/ 307، والمنصف 2/ 185. (¬4) خرزة سوداء، اللسان (دردبس).

كانت تكون في ثماني ولم يستثقلوها. ومعنى شفر بفر متفرقين، وذلك أنه يقال للكلب إذا رفع إحدى رجليه للبول وفرّق بينهما وبين الأخرى شفر، وأصل " بفر " من قوله: بفرت السماء إذا أكثرت مطرها. قال الشاعر: بفرة نجم هاج ليلا فانكدر (¬1) والبفر كثرة الشرب. فإذا قال: ذهب النوم شفر بفر فكأنه قال: تفرّقوا فأوسعوا في التّفرّق. قال: " ومثل ذلك قول العرب: لا أفعل ذلك حبري الدهر، وقد زعموا أن بعضهم ينصب الياء ومنهم من يثقل الياء " قال أبو سعيد: وفى حبري ثلاث لغات، منهم من يقول: لا أفعل ذلك حبري دهر وحبري دهر وحبريّ دهر، وهو منصوب في الأصل، فمن شدّده جاء بياء النسبة على أصلها، ومن سكّن الياء حذف الثانية من ياءي النسبة وبقّى الأولى وهي ساكنة، ومن فتح وخفض حذف الأولى من ياءي النسبة، ومعناه لا أفعل ذلك ما حار الدهر، أي لا أفعله أبدا. وحار رجع، والدهر يرجع أبدا لأنه كلما مضى يوم وليلة عاد مثله، فالدهر يرجع أبدا. ومثل ذلك قول العرب: لا أفعل ذلك ما اختلف الجديدان وماكر الليل والنهار. قال: " وأما اثنا عشر فزعم الخليل أنه لا يغير عن حاله قبل التسمية وليس بمنزلة خمسة عشر؛ لأن الاسم الأول مثنى وليس في الكلام اسم مثنى مبني، بل يصير في الرفع ألفا وفي الجر والنصب ياء. ألا ترى أنّك تقول الذي والذين فتبنيه ولا يتغير في النصب والجر. وإذا أضفت اثني عشر وهي عدد فلا يجوز ذلك كما يجوز في سائر العدد، تقول في سائر العدد: هذه خمسة عشري، وهذه عشريّ وهذه خمسة عشراه، وهذه عشروك، ولا تقول: هذه اثنا عشرك؛ لأن عشر من اثني عشر جعل بمنزلة النون من (اثنان)، فلو أضفت وجب حذف عشر كما يجب حذف النون، فكان يلزم أن تقول: اثناك كما تقول غلاماك، ولو قلت هذا لالتبس بإضافة الاثنين اللذين لا عشر معهما، ولو سميت رجلا به جاز إضافته فقلت: ¬

_ (¬1) البيت للعجاج في ابن يعيش 4/ 128، واللسان (بفر).

هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات منهن لامات

هذا اثناك؛ لأنك لست تريد العدد ولا تريد أن تفرق بين عددين، فإنما هو بمنزلة زيدين إذا أضفت تقول: رأيت زيدي بلدك. وقال سيبويه: لا تجوز فيها الإضافة- يعني في اثني عشر- كما لا تجوز في مسلمين، ولا تحذف في اثني عشر. يعنى لو أضفنا اثني عشر لوجب حذف عشر كما يجب حذف النون في " مسلمين " إذا أضفناه ولا تجوز إضافته إلا بحذف النون. قال سيبويه: " وأما أحول أحول فلا يخلو من أن ينون كشفر بفر أو كيوم يوم " يعنى لا يخلو من أن يكون حالا كشفر بفر في معنى متفرقين أو ظروفا كيوم يوم، ويقال أن أخول ما يتساقط من شرر الحديد المحمى. قال ضابئ البرجميّ: يساقط عنه روقه ضارياتها … سقاط حديد القين أخول أخولا (¬1) هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات منهن لامات قال سيبويه: " اعلم أن كل اسم كانت لامه ياء أو واوا ثم كان قبل الياء والواو حرف مكسور أو مضموم فإنها تعتل وتحذف في حال التنوين، واوا كانت أو ياء، ويلزمها كسرة قبلها أبدا فيصير اللفظ بما كان من بنات الياء والواو سواء، واعلم أن كل شيء من بنات الياء والواو وكان على هذه الصفة فإنه ينصرف في حال الجر والرفع، وذلك أنهم حذفوها فخف عليهم فصار التنوين عوضا، وإذا كان شيء منهما في حال النصب نظرت فإن كان نظيره من غير المعتل مصروفا صرفته وإن كان غير مصروف لم تصرف. ونظيره: هذا غاز وقاض وجوار وأدل وأظب. وفى ذلك ما تكون الياء منه أصلية، وهى لام الفعل، كقولنا: غاز ورام، وقاض ومغاز وأدل وأظب؛ لأن غازي " فاعل " ومغازي " مفاعل " وأدلي وأظب " أفعل " ومنها ما يكون زائدا نحو " ثمان " ومسلّق " ويجعب " الياء فيه زائدة، وأصله " سلق " " وجعب "، ¬

_ (¬1) البيت في الأصمعيات 183، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1645، وشرح شذور الذهب 75، والصحاح (خول).

وكذلك الياء في " ثمان " زائدة، ألا ترى أنك تقول: ثمنت القوم وأنا ثامنهم، وكذلك صحار وعذار ومثل ذلك: هذه قلنس وعرق، والعرق: جمع عرقوة الدّلو؟ وهى السّليب، والقلنس جمع قلنسوة، ولكنهم قلبوه ياء؛ لأنه ليس في الأسماء اسم آخره واو والإعراب يقع عليه، فتقرّ واوا بل تقلب ياء ويكسر ما قبلها، ونحو ذلك، دلو وأدل وحقو وأحق، وكان الأصل أدلو وأحقو مثل كلب وأكلب وفلس وأفلس، فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ضمة قلبت ياء. قال الشاعر: حتّى تفضي عرقي الدّليّ (¬1) وقال الآخر: لا مهل حتّى تلحقي بعنس … أهل الربّاط البيض والقلنسي (¬2) وإنما القلنسي و " العرقي " جمع لقلنسوة، وعرقوة على من جعل بين الواحد والجماعة الهاء كتمرة وتمر، وشعيرة وشعير. " وعنس " المذكور في البيت قبيلة من اليمن من مذحج، منهم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة. وفى هذه الجملة خلاف بين الخليل وسيبويه، وبين يونس، فأما الخليل وسيبويه فمذهبهما أن كل ما كان آخره ياء زائدة أو أصلية منقلبة من واو، نكرة كان أو معرفة مما ينصرف نظيره، أو لا ينصرف فإنه في حال الجر والرفع منون إلا أن يضاف أو تدخل عليه الألف واللام، وأما في النصب فإن كان منصرفا حركته ونونته وإن كان غير منصرف فتحته ولم تنون. فأما المنصرف فقولك رأيت غازيا وراميا، وأما غير المنصرف فقولك: رأيت جواري وصحارى. وأما يونس فإنه كان يوافقهم على ذلك في النكرات ويخالفهم في المعارف، فيقول في جواري، وصحارى وما جرى مجراه، إذا لم يكن اسم شيء بعينه: هذه جوار وصحار ولا بد له من ذلك؛ لأن القرآن قد جاء فيه تنوين ذلك بلا خلاف. قال الله عز وجل: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (¬3). ونظيره من الصحيح لا ينصرف؛ لأن " غواشي " فواعل، وفواعل لا ينصرف في معرفة ولا في ¬

_ (¬1) بلا نسبة في الكتاب 3/ 309، وابن يعيش 10/ 108، والخصائص 1/ 235، واللسان (عرق). (¬2) بلا نسبة في الكتاب 3/ 317، وابن يعيش 10/ 107، والاقتضاب 136، واللسان (ربط). (¬3) سورة الأعراف، من الآية 41.

نكرة. وقال يونس: إذا سمي رجل أو امرأة بجواري قيل في الرفع " هذه جواري " بتسكين الياء بغير تنوين، ومررت بجواري ورأيت جواري، وكأن الأصل عنده، هذه جواري، ولكنهم استثقلوا الضمة على الياء ولا يدخل التنوين في شيء من ذلك، وكذلك إذا سمي بشيء من ذوات الياء مما لا ينصرف نظيره عمل به ذلك ولم ينون. وإن انصرف نظيره نون كامرأة سميت بقاض تقول بقول يونس: هذا قاضي يا فتى بغير تنوين، وتثبت الياء وتسكنها، ومررت بقاضي فاعلم، فتجعل المجرور كالمنصوب؛ لأن ما لا ينصرف يستوي لفظ المجرور فيه والمنصوب. وإن سمي رجلا بقاض قال: هذا قاض يا فتى ومررت بقاض يا فتى ورأيت قاضيا يا فتى، لأن فاعلا اسم رجل منصرف واسم امرأة غير منصرف. ومذهب الخليل وسيبويه في امرأة " قاض "، " هذه قاض " و " مررت بقاض " منونا، و " رأيت قاضي " مفتوح غير منون. وقول الخليل هو الجيد؛ لأن ما كان من الجمع على فواعل أو غير ذلك من بنية الجمع الذي ثالثه ألف وبعده حرفان لا ينصرف، في معرفة، ولا نكرة. فإذا دخل التنوين على " غواش " وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة فدخوله على قاضي اسم امرأة أولى؛ لأنها تنصرف في النكرة، وهذا الذي به احتج الخليل، وهو واضح. وأما التنوين الذي دخل المعتل وإن كان نظيره لا ينصرف فالذي ذكره سيبويه أنه بدل من الياء. وكان ابن العباس المبرد يخالف في ذلك فيقول: إنه بدل من ذهاب حركة الياء؛ لأن الأصل في جواري أن تقول جواري فتحذف التنوين؛ لأنه لا ينصرف ثم تحذف حركة الياء لاستثقالها؛ لأن الياء المكسور ما قبلها يستثقل عليها الضم والكسر فتبقى الياء ساكنة، ولا تسقط حتى يدخل التنوين؛ لأن سقوطها لاجتماع الساكنين، فوجب من هذا أن يكون التنوين أتي به عوضا من ذهاب الحركة. ثم التقى ساكنان فأسقط الياء وأسقطها قول سيبويه، فالذي ظهر من كلامهم أنهم جعلوا التنوين عوضا عن الياء. فإن قال قائل: وكيف تجعل التنوين عوضا من الياء، ولا طريق إلى حذف الياء، قبل دخول التنوين؛ لأن سقوط الياء لاجتماع الساكنين هي والتنوين. قيل له: تقدير هذا أن أصل " غواشي غواشي "، وكذلك " جواري " جواري ويكون التنوين لما يستحقه الاسم من الصرف في الأصل، ثم استثقلوا الضمة على الياء في الرفع

والكسرة عليها في الجر فأسكنوها فاجتمع ساكنان الياء والتنوين فحذفوا الياء لاجتماع الساكنين، ثم حذفوا التنوين لمنع هذا البناء الصرف؛ لأن الياء منونة، وإن أتت محذوفة، ثم عوضوا من الياء المحذوفة تنوينا غير تنوين الصرف. فهذا الذي يتوجه من لفظ سيبويه ونظيره أنا لو سمينا امرأة بكتف، وكبد، وعجز، وجميع ما كان من الثلاثي أوسطه متحركا لم تصرفها لتحرك أوسط الحرف. ولو خففنا الحرف الأوسط لقلنا، في كتف، كتف وفى عجز، عجز. لكنا نمنع الصرف؛ لأن الحركة منونة. وبعض أصحاب سيبويه حمل قوله: " عوضا من الياء " على معنى عوضا من حركة الياء وهو مثل قول أبي العباس الذي ذكرناه وأجراه مجرى: (واسأل القرية). وإذا جعلنا مكان الياء ألفا وكان مثاله لا ينصرف لم يدخله التنوين، ولم يكن حكمه حكم الياء كقولنا: صحارى ومدارى. فإن قال قائل: هلا أدخلتم التنوين على الألف في مثل هذا البناء كما أدخلتموه على الياء؟ قيل له بينهما فروق من جهات منها: أنا رأينا ما كان فيه الياء من النكرات منونا وإن كان نظيره لا ينصرف، ورأينا النكرات التي فيها ألف التأنيث غير منونة كقولنا: حبلى وسكرى. وفرق آخر وهو أن الألف في مثل صحارى ومدارى وحبالى بدل من الياء، فلا يدخل عليه التنوين، فيصير بدلا من بدل. وفرق ثالث: وهو أن الألف إذا كان بدلا، فهو بمنزلة متحرك كقولنا قال، وباع، والألف في قال بدل من الواو المتحركة، وفي باع بدل من الياء المتحركة، فكأن الحرف قد حرك، وصار كالصحيح ولم يدخله التنوين، فيحذف لاجتماع الساكنين. وقال سيبويه: عقيب ذكره قلب الواو ياء في أدل وعرق: " ولو سميت رجلا بقيل فيمن ضم القاف يعني فيمن أشمها الضم لا في قول من قال قول بواو محضة ". قال: تكسرها إذا سميت وتزيل الإشمام حتى يكون كبيض. وإنما أراد بهذا الفرق بين الاسم والفعل؛ لأن الضم اختص به الفعل، ليتبين معنى " فعل " وليس في الأسماء هذا وما كان في آخره واو قبلها ضمة، فإنما اختص به الفعل، فإذا صار في الاسم لعارض خولف بينه وبين الفعل، فجعل ياء، كما فعلوا ذلك " يقيل " حين سمي به. وما كان من الياآت مشددة، أو قبلها ساكن، لم تعتل كقولنا: ظبي ودلو؛ لأن

سكون ما قبلها اضطر إلى تحريكها وزال أيضا عنه ثقل الحركة في الياء والواو. ولو سميت رجلا ب (يفزو) لوجب أن تقول: يفز، وهو منون على قول سيبويه والخليل في الرفع والجر. وفى قول يونس: هذا يفزي بسكون الياء، ومررت بيفزي. وقد مضى الكلام في نحوه. وكذلك لو صغرنا " أعمى " وجب أن تقول: أعيم ومررت بأعيم ورأيت أعيمي في قول الخليل وسيبويه ولا تصرفه في النصب؛ لأنه مثل أحيمر وكذلك تقول: مررت بأعيم منك إذا أردت التنكير، كما تقول: مررت بخير منك، ولا يمنع منك من تنوين " أعيم "، كما لم يمنع من خير، وقد تقدم قول يونس فيما كان من ذلك معرفة. ومن أقوى الدليل على بطلان قوله عز وجل: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ (¬1) بالتنوين. وقال الخليل: لو قلنا مررت بجواري في حال المعرفة للزمنا أن نقول: مررت بجواري في النكرة؛ لأن هذا البناء يستوي فيه المعرفة والنكرة في الصحيح وأنشد سيبويه قول الهذلي: أبيت على معاري فاخرات … بهن ملوّب قدم العياط (¬2) على أنه اضطر إلى تحريك الياء في " معاري " فإن قال قائل ليس فيه ضرورة؛ لأن الشاعر لو قال: " على معار فاخرات " لاستوى البيت فهو من الوافر فإن حرك الياء. صار مفاعلتن وإن حذفها ونون فهو " مفاعلن " والجميع جائز. فالجواب أن الضرورة فيه أن الشاعر كره الزحاف، فرد الكلمة إلى أصلها، وجعل الياء كالصحيح، كما قال: لا بارك الله في الغواني هل … يصبحن إلّا لهنّ مطلب (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 41. (¬2) البيت في الكتاب 2/ 58، ديوان الهذليين: 2/ 20، والخصائص: 1/ 334، 3/ 61، واللسان: (عرا). (¬3) المقتضب: 1/ 142، 3/ 354، والخصائص: 1/ 362، 2/ 347، وأمالي ابن الشجري: 2/ 226، شرح شواهد المغني: 211.

وكما قال (¬1): فيوما يوافين الهوى غير ماضي … ويوما ترى منهنّ غولا تفوّل والشاهد في " ماضي "؛ لأنه كسر الياء من " ماضي " للضرورة. وهذا البيت فيما قرأته من شعر جرير: غير ماصبا وذلك لا شاهد فيه وهو أشبه عندي بمعنى البيت؛ لأن المعنى أن هؤلاء النسوة في يوم نيلهن يبذلن اليسير ولا يوفين الصبا حقه، ويوما يمنعن. ومما أنشد فيه: " سماء الإله فوق سبع سمائها " (¬2) فذكر المازني أن في هذا ضرورة من ثلاثة أوجه أحدها أنه جمع سماء على سماء وكان حقه أن يقول: سمايا كما نقول: مطية ومطايا، فأتى بالهمزة على الأصل، وكان عليها أن تكون ياء، وأتى بالياء، وكان حقها أن تكون ألفا، فهذان وجهان، والثالث أنه كان حقه، أن يقول في الجر: فوق سبع سماء كما يقول، هذه سبع غواش ففتح في الجر وهو ضرورة عنده. ومما أنشد سيبويه من الضرورة في تحريك الياء. قد عجبت منّي ومن يعيليا … لما رأتني خلقا مقلوليا (¬3) وكان الوجه عندي يعيل، وهذا بيت يحتج به يونس وهو عنده غير ضرورة؛ لأن (يعيلي) تصغير " يعلي " وهو عنده معرفة وأنشد قول الكميت في الضرورة: خريع دوادي في ملعب … تأزّر طورا وتلقي الإزارا (¬4) ومن الضرورة: ألم يأتيك والأنباء تنمى … بما لاقت لبون بني زياد (¬5) ¬

_ (¬1) البيت لجرير، الكتاب: 3/ 314، المقتضب: 1/ 144، 3/ 354، وابن الشجري: 1/ 86، وابن يعيش: 10/ 101، 104، والعيني: 1/ 227. (¬2) عجز بيت لأمية بن أبي الصلت، انظر ديوانه: 70، المقتضب: 1/ 144، والخزانة: 1/ 118، والخصائص: 1/ 211، 223، والمنصف: 2/ 68. (¬3) نسب إلى الفرزدق: 2/ 228، المقتضب: 2/ 142، الكتاب: 3/ 315، والخصائص: 1/ 6، 3/ 54، والمنصف: 2/ 68، 79، والدرر اللوامع: 1/ 11، والأشموني: 3/ 373. (¬4) استشهد به سيبويه: 3/ 316، المقتضب: 1/ 144، الخصائص: 1/ 334. (¬5) البيت لقيس بن زهير. انظر شواهد سيبويه: 1/ 32.

كأنه يقول في الرفع يأتيك في الضرورة فلما جزم أسقط الضمة. قال: وتقول في رجل سميته ب " أرمه " هذا أرم قد جاء، وتنون في قول الخليل وهو القياس، وتقول رأيت أرمي، وإنما فعلت هذا؛ لأن الهاء تسقط؛ لأنها دخلت للوقف وترد الياء التي هي لام الفعل في أدمي؛ لأنها سقطت للأمر، وتقطع ألف الوصل وعلى ما مر في قول يونس ينتصب في حال الجر فيقول: مررت بأرمي كما ينتصب يعيلي وقد مضى الكلام فيه. قال: وإذا أسميت رجلا يعه قلت: " هذا وع " قد جاء؛ لأنك حذفت الهاء فبقيت العين وحدها وهي حرف واحد ورددت الياء؛ لأن سقوطها كان للأمر وقد صار اسما مستحقا للإعراب فرددت الياء من أجل ذلك، وبقي الاسم على حرفين، الثاني منهما من حروف المد واللين فاحتجت إلى حرف آخر، فرددت الواو التي هي فاء الفعل وفتحتها لأحد أمرين: إما لأن الفتحة أخف الحركات وإما لأن الواو لما ظهرت في الفعل كانت مفتوحة في قولك " وعي، يعي " وكل ما اختل من الأسماء فاحتيج إلى حرف يزاد فيه وكان قد سقط منه حرف فالأولى رد الساقط الذي كان فيه. كرجل كان اسمه عدة أو شية إذا صغرناه قلنا: وعيدة أو شية، فهذا أصل لما كان على هذا، وما لم يكن قد سقط منه حرف واحتيج له إلى زيادة كان له حكم آخر ستقف عليه إن شاء الله. ولو سميت رجلا ب " ره " لأعدت الهمزة والألف فقلت هذا إرا قد جاء؛ لأن (ره) أصله " ارءا " في الأمر فسقطت الألف الأخيرة التي بعد الهمزة للأمر، كما نقول: اخش يا فتى، ثم أسقطت ألف الوصل لتحرك الراء فبقيت الراء وحدها فوقفت بالهاء، فإذا سميت به وجب له الإعراب ورددت البناء إلى أصله وقطعت ألف الوصل. وإن سميت رجلا " قلّ " أو " خف " أو " بع " رددت ما سقط من أجل سكون الأواخر فقلت: " قول " و " خاف " و " بيع " و " اقيم "؛ لأنك إذا سميت بشيء منها رجلا أعربته وحركت آخرة فرجع الحرف الساقط؛ لأن سقوطه كان لاجتماع الساكنين وقد تحرك. واحتج سيبويه فيه بأن قال: إذا قلت " قولا " أو " خافا " أو " بيعا " أو " أقيموا " أظهرت للتحريك فهو هاهنا إذا صار اسما أجدر أن يظهر. قال أبو سعيد: لا يتوهم أن سيبويه أراد أن هذه الحروف رجعت لدخول ألف

التثنية وواو الجمع وأنه لما تحرك وجب رد ما سقط لاجتماع الساكنين؛ لأنا نقول: رمى زيد، ورمت هند فتسقط الألف من رمى باجتماع الساكنين الألف والتاء ثم تدخل الألف للتثنية فتقول: " الهندان رمتا "، ولا تقول: " رماتا " وإنما أصل " قولا " " قولان "، إذا الأمر من المستقبل، وكان في الأصل يقولان فلما وقع الأمر سقطت النون كما تسقط للجزم. وإنما أراد بهذا أن الواو سقطت من قل حيث كانت اللام ساكنة لاجتماع الساكنين. قال سيبويه: ولو سميت رجلا: (لم يردّ) أو (لم يخف) لوجب عليك أن تحكيه. فتقول: (جاءني لم يرد) و (رأيت لم يخف) وليس ذلك بمنزلته لو لم يكن معه العامل. ولو سميته (يرد) مفردا و (يخف) لقلت: هذا يريد و (يخاف). وتقول في رجل سميته ب (إن يردّد): هذا إن يردد، وجاءني إن يردّد فإن أفردت يردد، وسميت به قلت: هذا يردّ، وإن سميت ب " إن يخف " حكيت، وإن أفردته قلت: " هذا يخاف "؛ لأنك لما أفردته لم يتعلق به حكم غيره ووجب إعرابه بالتسمية فجئت به معربا على ما يستحقه كما فعلت في أرمه. في قطع ألف الوصل ورد الياء. وإن سميت رجلا ب (اعضض) قلت: هذا أعضّ؛ لأنه قد وجب عليك إعراب الضاد الثانية فلما وجب تحريكها وجب إدغام الأولى فيها كما تقول: أنا أعض وقطعت الألف. وإن سميت رجلا ب (ألبّب) من قوله (¬1): قد علمت ذاك بنات ألببه تركت على حاله؛ لأن هذا الاسم جاء على الأصل كما قالوا رجاء بن حيوة وكما قالوا: ضيون فجاءوا به على الأصل ومجرى بابه على غير ذلك. قال أبو سعيد: كان الأصل في بنات ألببه أن يقال: ألبّه؛ لأنه أفعل من اللّب ويلزم إدغام " أفعل " مما عينه ولامه من جنس واحد كقولك: " هذا أجل من هذا " وأصله " أجلل " والقياس في " حيوة " و " ضيون " أن يقال حيّة وضيّن؛ لأنه إذا اجتمع الواو والياء والأول ¬

_ (¬1) البيت مجهول القائل، وقد استشهد به سيبويه: 3/ 195، انظر المقتضب: 1/ 171، والخزانة: 3/ 292، والمنصف: 1/ 200، 3/ 34.

هذا باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد

منهما ساكن قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فجاءت " بنات ألببه " و " حيوة " و " ضيون " على الأصل ولم يستعمل فيه التغيير وما يوجبه القياس في نظائره كما جاء (استحوذ عليهم الشّيطان) ونظيره استعاذ واستجار وأصلة استجور فاعلم، ولم يستعمل في استحوذ ما استعمل فيهما فلم نعدل عن استعمالهم وإن كان خارجا عن القياس، وكذلك إن سمينا رجلا بألبب لم ندغم. وإن سميناه ب " حيوة " أو ضيون لم نقلب تسليما لما قالته العرب، كما سلمنا ذلك في استحوذ فاعرف ذلك. هذا باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد قال سيبويه: قال الخليل يوما وسأله أصحابه كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في " لك "، والتي في " مالك " والباء في " ضرب " فقيل له نقول: " باء "، " كاف " فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال: أقول: كه، وبه. قال أبو سعيد: جملة ما في هذا الباب من هذا النحو أنك إذا لفظت بالحرف المتحرك ووقفت عليه زدت عليه هاء الوقف مفتوحا كان أو مضموما أو مكسورا تقول في الكاف من لك: " كه " وفى الباء من يضرب " به " وفى الرّاء من " يضرب " " ره " فإذا كان الحرف ساكنا أدخلت ألف الوصل عليه فقلت في الباء من اضرب " إب " وفى الياء من في: " إي " وهذا ما لا يختلف فيه أصحابنا، ثم اختلفوا إذا سميت رجلا بحرف من هذه الحروف فما كان من ذلك متحركا ففيه أربعة أقوال وما كان ساكنا ففيه ستة أقوال، فأما المتحرك فإنه على قول سيبويه يصيره ثلاثة أحرف بأن يزيد فيه حرفين من جنس حركته فيقول في رجل سمي بالضّاد من " ضحى ": ضوّ. زادوا فيه واوين لضمة الضاد، وذلك أن الاسم الذي يتصرف أقله من ثلاثة أحرف، فلما صيرناه اسما، زدنا فيه حرفين من جنس حركته وكان ذلك أولى؛ لأن عامة المحذوفات يحذف منها الياء، والواو، ك " أب "، " وابن "، و " اسم " وما أشبه ذلك فصارت الضاد لما احتجنا لها إلى الزيادة كأنها قد حذفت منها حرفا مد ولين فتردهما إليها، وإذا سمينا بالضاد من " ضرب " قلنا: (ضاء)؛ لأنا نزيد ألفا من جنس فتحة الضاد، وألفا أخرى لتمام الاسم حتى يكون على ثلاثة أحرف، والألف لا تتحرك فجعلت همزة. وإذا سمينا بالضاد من " ضراب " قلنا ضي، وإنما احتاج الاسم إلى ثلاثة أحرف لما يلحقه من التصغير والجمع، وقد ذكرنا ذلك في موضعه.

وأما الأخفش فإنه يقول: إذا سميناه بالباء من " ضرب " فالضرورة تدعو إلى أن نزيد عليه ما يصيره بمنزلة اسم من الأسماء المعربة، وفى الأسماء المعربة ما يكون على حرفين، ك " دم " و " يد " وأولى ما نرده إليه ما كان في الكلمة التي منها هذه الباء، فترد إليها الضاد فنقول: ضب، ولا نحتاج إلى أن تتكلف أكثر من ذلك؛ لأن الضرورة تزول برد الضاد. ومثل ذلك مما حذف منه عين الفعل قولهم: " سه " والأصل " سنه "؛ لأنك تقول: " أسناه ". وقال المازني: أرد أقرب الحروف إليه وهو الراء، فأقول: رب. ومثله مما حذف منه فاء الفعل، فبقي عينه، ولامه مثل عدة، وزنة، وما أشبه ذلك. وقال أبو العباس المبرد: أرد الحروف كلها فأقول ضرب فهذه أربعة أقاويل، وأما إذا سمي ب " أب " التي في اللفظ بالباء من " اضرب " ففيها ستة أقاويل. قال سيبويه: أقول إذا ابتدأته: إب " قد جاء "، وإذا وصلته بكلام أسقطت ألف الوصل وبقيت الباء وحدها فقال: هذا آب، وقام آب، وما أشبه ذلك. وقال: قد رأيت بعض الأسماء على حرف إذا اتصل بكلام وهو قولنا: من أب لك؟ تريد من أب؟ وتخفف الهمزة فتلقي حركتها على ما قبلها وتسقطها فجعل سقوط ألف الوصل كإلقاء الحركة. ورد أبو العباس المبرد عليه ذلك ففرق بين تخفيف الهمزة وإسقاط ألف الوصل فقال: تخفيف الهمزة غير لازم، وألف الوصل إذا اتصلت سقطت في هذا الموضع ولم يكن مذهبه في هذا مذهب سيبويه. والقول الثاني إذا سمينا بالباء من اضرب رددنا الراء فقلنا: " رب "؛ لأن الراء كانت مكسورة وعلى هذا قياس قول المازني. وتقول على قياس قول الأخفش " ضب " وعلى قول المبرد " اضرب " فترد الكلمة إلى أصلها. وكان الزجاج يقول: إب ويقطع الألف نحو " قام إب " و " هذا إب ". قال: وإنما أقطع الألف لأني لما نقلته من اللفظ به وهي حرف إلى التسمية به قطعت الألف ليكون فرقا بين الاسم والحرف، كما قطعت الألف في رجل يسمى ب " إضرب "؛ لأن الأصل في الأسماء أن لا يكون فيها ألفات وصل وإنما تكون في الأفعال وتكون مع لام التعريف التي هي حرف فهذه خمسة أقوال.

والقول السادس أنه لا يجوز أن يسمى ب " إب "؛ لأنه يحتاج إلى تحريك الباء وتحريكها يمنع من ألف الوصل، وقد ذكر في هذا الباب مع كلام سيبويه هذا وقيل بعده: هذا مذهب قوي. ولو سمينا بأل من قولنا: " القائم " وما أشبه ذلك لكان فيه ثلاثة أقاويل. أما قول سيبويه: " فإنك تقول: " أل " على أن الألف موصولة، وقد تتكلم به العرب مفصولا مما بعد عند التذكير كقول القائل: رأيت " ألي " كأنه أراد شيئا فيه الألف واللام ونسبه فكسر وزاد ياء علامة للتذكير. وقد يقول أيضا: " قدي " إذا أراد قد كان كذا وكذا فوقف عليه فهذه العلامة لتذكر ما نسيه ". وكان الخليل يقول: أل بمنزلة قد وقد فصله الشاعر فقال: دع ذا وعجّل ذا وألحقنا بذل … بالشّحم إنّا قد مللناه بجل (¬1) وكان الزجاج يقول: هذا أل فيقطع الألف على نحو ما ذكرناه من قوله وعلى قياس مذهب الباقين يقال: هذا لي وذلك إن الحرف المكسور الذي لا أصل له في كلمة إذا سمينا به زدنا عليه من جنس حركته بلا خلاف بينهم كرجل سميناه بالكاف من ذلك تقول: كي، وما كان ساكنا فبمنزلة المكسور؛ لأنه يزاد عليه حرف ساكن فيلتقي في آخره ساكنان فيكسر لالتقاء الساكنين ثم يزاد عليه ياء أخرى حتى يكون على ثلاثة أحرف. وإن سمي بمفتوح زيد عليه من جنس الفتحة فيقال للرجل إذا سمي بالكاف من لك كاء، وذكر سيبويه في الباب فقال: إن جعلت أي اسما ثقلت بياء أخرى واكتفيت بها حتى بمنزلة اسم وابن. وهذا يدل على أنه أراد أنا إذا لفظنا بالياء من " غين " أو " عين " أو الياء في " غلامي " أو ما أشبه ذلك من الياءات الساكنة، وجب أن نقول: " أي " ثم إذا سميت به ثقّلت الياء بمنزلة تسميتك ب " في " فقلت: " إىّ " والألف فيه ألف وصل على قول سيبويه، وقد قال الأخفش والمازني والمبرد إنه يرد من الكلمة ما ذهب منها على نحو ما حكينا عنه من ¬

_ (¬1) البيتان لذي الرمة. المقتضب: 1/ 84، 2/ 94، الخصائص: 1/ 291، الكتاب: 3/ 325، 2/ 64، والهمع: 1/ 79، والمنصف: 1/ 66.

هذا باب الحكاية التي لا تغير فيها الأسماء في الرفع والنصب والجر

الاختلاف. وعلى مذهب الزجاج تقطع الألف وتثقل الياء ويجوز أن يكون " إي " من قوله عز وجل: إِي وَرَبِّي فلا خلاف بينهم أنه يقال: " إيّ " بقطع الألف كما قالوا في " في " فيّ ومعنى " إيّ " معنى " نعم " وقد ذكر سيبويه في الباب أيم الله وأنها ألف وصل وقد ذكرته في موضعه واستقصيته. هذا باب الحكاية التي لا تغيّر فيها الأسماء في الرفع والنصب والجر وجملته أن يسمى الشيء بجملة، أو باسم معه عامل، أو حرف يجري مجرى العامل، فمن ذلك قول العرب في رجل يسمى تأبّط شرّا أو برق نحره: هذا تأبّط شرّا قد جاء ورأيت تأبّط شرّا، ومررت بتأبّط شرا، وهذا برق نحره، ورأيت برق نحره ومررت ببرق نحره وفي تأبط ضمير فاعل وهو فعل ماض. وقال الشاعر من بني طهية: إنّ لها مركنا إرزبّا … كأنّه جبهة ذرّى حبّا (¬1) وإن قال قائل: إنه تغير الجملة إذا سمي بها، لزمه أن لو سمي ببيت من الشعر أن يغير كرجل سمي بقوله: ما هاج أحزانا وشجنا قد شجا (¬2) فإن التزم هذا فليت شعري: أي شيء يغير من هذا؛ وهو قول لا يعرّج عليه. وقال الشاعر: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها … بني شاب قرناها تصرّ وتحلب (¬3) " شاب " فعل ماض وقرناها تثنية قرن وهو الخصلة من الشّعر وقرناها رفع ب " شاب " وأضاف بني إليها، وإنما هجاهم بهذا كأنه قال: بني الراعية؛ لأن المعنى ابيضّ رأسها وهي تصرّ الإبل وتحلبها، وعلى هذا تقول: بدأت بالحمد لله ربّ العالمين. ¬

_ (¬1) البيتان من شواهد سيبويه: 3/ 326، المقتضب: 4/ 9، وشرح المفصل: 1/ 28، واللسان: (حبب). (¬2) مغني اللبيب: 2/ 372، العقد الفريد: 5/ 486. (¬3) شواهد سيبويه: 1/ 259، المقتضب: 4/ 9، الخصائص: 2/ 367.

وقال الشاعر: (¬1) وجدنا في كتاب بنى تميم … أحقّ الخيل بالركض المعار والأصل " أحق الخيل بالركض " ابتداء والمعار خبره أوقع عليه وجدنا ولم يغير وكذلك لو قلت: وجدت في كتاب خالد " زيد قائم " " أوقعت عليه وجد " ولم تغيره، وهذا الذي يحكى مما ذكرناه لا يثنى ولا يجمع، فإن اجتمع رجلان أو جماعة رجال اسمهم متفق في هذا قلت في التثنية رأيت رجلين اسمهما " برق نحره " أو هذان كلاهما برق نحره أو هما ذوا برق نحره، ورأيت ذوي ذرّى حبّا ورأيت أحقّ الخيل بالركض المعار في موضعين. ولا تحقره، لا تقول في رجل اسمه زيد أخوك زييد أخوك؛ لأن زيدا الذي هو المبتدأ لم يصيّر اسم الرجل فلا يلحقه التصغير مفردا، وليس في الكلام تصغير يضم اللفظين جميعا، ولا تضيفه إلى نفسك لا تقول: زيد أخوكي ولا برق نحرهي، فإن أخذت من الجملة بعضها ونسبت إليه جاز، فقلت تأبطيّ وبرقي؛ لأن المنسوب إليه ليعلم أنه إليه نسب لا إلى غيره، وربما غيروا وحذفوا فقالوا في النسبة إلى " العالية علويّ وإلى دهر دهريّ، وليس ذلك في التصغير وفي الإضافة إلى المتكلم. ولو سميت باسم له تمام يتصل به أجريته على حاله قبل أن تسمى به وأعربته على الحال الأولى كرجل يسمى " خيرا منك أو " مأخوذا بك " أو " ضاربا رجلا " تقول: " رأيت خيرا منك " وهذا خير منك ومررت بخير منك. وإن كان الاسم الذي بعده تمامه لو أفرد فسمي به رجل أو امرأة لم ينصرف ثم سميت به مع التمام لانصرف، وذلك كرجل سميته " بضاربة زيدا " تقول: هذا ضاربة زيدا، ومررت بضاربة زيدا، فصرفته وأنت لو سميت بضاربة وحدها لم تصرف. وكذلك لو سمينا امرأة بضارب رجلا لنوناها على كل حال ودخلها الرفع والنصب والجر، ولو أفردنا فسمينا امرأة بضارب وحده، لم تصرف، والفرق بينهما أن " ضاربا " إذا كان بعده تمام له فسمينا به فمنتهى الاسم التام. وضارب وحده ليس باسم له فلما لم يكن باسم له حكينا حاله قبل أن نسمي به، وكذلك لو ناديته أو أدخلت عليه " لا " التي للنفي لم تسقط التنوين فقلت: بأخيرا من زيد ¬

_ (¬1) البيت لبشر بن حازم، انظر المقتضب: 4/ 10، المفضليات: 344.

أقبل ويا ضاربا رجلا أقبل، ألا ترى أنك إذا أدخلت " لا " على نكرته لم تبنه معه فقلت: لا خيرا منك في الدار ولا ضاربا رجلا عندك، قال: وإن سميت رجلا " بعاقلة لبيبة " صرفته وأجريته مجراه قبل أن يكون اسما؛ لأن كل واحد منهما مفردا ليس باسم المسمى بهما فحكيت لفظهما قبل التسمية فقلت: هذا عاقلة لبيبة ومررت بعاقلة لبيبة وقد يجوز أن نجعلها ك (حضر موت) فنجعلها اسما واحدا أو نضيف الأول إلى الثاني كما فعلت ب (حضر موت) فإن جعلتهما اسما واحدا قلت: هذا عاقلة لبيبة وهذا عاقل لبيب إن سميت بعاقل لبيب، وكذلك تفعل بالمرأة؛ لأن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا لم ينصرف. ومن أضاف " حضر موت " قال في رجل اسمه عاقلة لبيبة هذا عاقلة لبيبة ونقول في المذكر هذا عاقل لبيب وكذلك تفعل بالمرأة فإن سمي بعاقلة وحدها فالأكثر أن لا تصرف ويجوز صرفها على الحكاية، كأنه قال في امرأة مسماة بعاقلة: هذه امرأة عاقلة فتجيء بها على النعت وإن كان اسما كما سموا بالحسن والعباس والحارث. وإن سميت رجلا أو امرأة بقولك: " من زيد وعن زيد " فالذي قاله سيبويه والخليل أنك تعرب الأول وتضيف إلى الثاني فتقول: هذا من وعن زيد، كما فعل به ذلك مفردا. وأنت لو أفردت " من " " وعن " فسميت بهما لقلت: هذا من ورأيت عنا ومررت بعن، فإذا كان بعدهما مخفوض فهو بمنزلة اسم مضاف إلى ذلك المخفوض، ولم يذكر سيبويه غير ذلك، وقد أجاز الزجاج وأظن أبا العباس المبرد على ذلك أن يحكى فيقال: هذا من زيد ورأيت من زيد واحتج الزجاج بأن قال: إن سيبويه وغيره قال: إذا سمي رجل بقولهم بزيد وكزيد، ولزيد حكينا، لأنها حروف عوامل وكذلك من زيد، ثم زاد على هذا فقال: يجوز أن نغيّر إذا سمينا بزيد ولزيد وكزيد فنقول بى زيد ولى زيد وكاء زيد، ذلك أنهم قالوا في رجل سمي بقولنا في زيد فجعلوه اسما وغيروه. ونحن لو سمينا بالباء وحدها بزيد لقلنا، بي فكذلك ينبغي أن نقول: بي زيد إذا لم نرد الحكاية. قال أبو سعيد: وهذا قياس صحيح إلا قوله " لي زيد " فإن القياس عندي أن يقال لا زيد لأن لام الجر أصلها الفتح. ألا ترى أنك تقول: هذا لك وهذا لهم، فالأصل الفتح، بمنزلة الكاف، ولو سميت عندي بلام الأمر من قولك ليقم زيد لوجب أن تقول: " لي " على السياق الذي ذكرناه.

ولو سميت رجلا ب (قطّ زيد) المبني لأعربته فقلت: قط زيد كما تعربه إذا أفردت، ألا ترى أنك لو سميت رجلا (وزن سبعة) لقلت: هذا وزن سبعة ومررت بوزن سبعة ويكون " سبعة " معرفة ولا ينصرف وتجعل سبعة بمنزلة طلحة. وقد حكاه الزجاج وأن سيبوية قال: إذا سميت رجلا " من زيد " " وعن زيد " لم تحكه. قال أبو سعيد: والذي حكاه الزجاج عن سيبويه تأوّل تأوله عليه وليس بمذهبه؛ لأن سيبويه قال في آخر هذا الباب: " فإن سميت رجلا " عمّ " من: " عمّ يتساءلون " فإن أردت أن تحكي في الاستفهام تركته على حاله كما تدع أزيد؟ وأزيد إذا أردت النداء. وإن أردت أن تجعله اسما تقول: " عن ما "، لأنك جعلته اسما وتمد " ماء " كما تركت تنوين سبعة، لأنك تريد أن تجعله اسما مفردا أضيف إليه. هذا بمنزلة قولك: هذا " وعن " ها هنا مثلها مفرد؛ لأن المضاف في هذا بمنزلة الألف واللام لا نجعل الاسم حكاية كما أن الألف واللام لا يجعلان الاسم حكاية، وإنما هو داخل في الاسم بدل من التنوين فكأنه الألف واللام. وقال في موضع آخر في حشو الباب: وسمعت من العرب: لا من أين يا فتى، حكى ولم يجعلها اسما واحدا. هذا لفظ سيبويه، وإنما تأولوا قوله حين قال: وسألت الخليل عن رجل يسمى من زيد فقال أقول: من زيد وعن زيد وقال هو بعد ذلك: لأني رأيت المضاف لا يكون حكاية كما لا يكون المفرد حكاية. وإنما أراد سيبويه عندي أن ضم " من " إلى " زيد " لم يوجب له الحكاية لا محالة؛ لأن الحروف التي يضم بعضها إلى بعض والأسماء التي يضم إليها الحروف غير حروف الجر؛ لأنها تجري مجرى الاسم المضاف، والمضاف والمفرد بمنزلة شيء واحد، فأراد أنه لا تلزم فيه الحكاية ولا يجري مجرى الحرفين المركبين الحرف والاسم على غير هذا الوجه. وإن سميت رجلا " في زيد " لا تريد به الفم قلت: هذا في زيد ولا تشبه هذا فاعبد الله في قولك رأيت فاعبد الله. لأن هذا لازم له الإضافة، وإنما احتمل ذلك فيه من أجل الإضافة ولو أفرد لقيل " فم ". وصار حرف الإعراب فيه غير متحرك. (وحرف الإعراب يعنى به الألف في " فا " والياء في " في " والواو في " فو " ولا يكسر.

هذا قياس الأسماء في أن مفردها ومضافها بلفظ واحد، وإنما هذه خمسة أسماء رفعها بالواو ونصبها بالألف وجرها بالياء، ولا يقاس عليها، ولا تكون كذلك إلا أن تكون مضافة فإن أفردت تغيرت؛ لأنّا نقول في أبيك وأخيك وحميك إذا أفردنا: أب وأخ وحم ونقول في فيك " فم " وذو مال لا يفرد. وأما قول العجاج: خالط من سلمى خياشيم وفا (¬1) فإنما هو ضرورة جاء بها في آخر البيت حيث لا يلحقه التنوين ولا يصرف، ولو سميت رجلا طلحة وزيدا لم تصرف طلحة وصرفت زيدا؛ لأنك حكيت في التسمية اللفظ الذي كان يجرى عليه هذان الاسمان إذا عطف أحدهما على الآخر بالواو فقلت رأيت طلحة وزيدا وجاءني طلحة وزيد ومررت بطلحة وزيد. وإن ناديت فقلت يا طلحة وزيدا فنصبت على أصل النداء ولم تبنه على الضم؛ لأن طلحة وحده ليس باسم واحد فتضمه. ولو سميت بطلحة وزيد وأنت تريد طلحة من الطلح لحكيته في التسمية فقلت رأيت طلحة وزيدا. ومررت بطلحة وزيد. ولا تثني هذه الأسماء، ولا تحقرها، ولا ترخمها، ولا تجمعها، ولا تضيفها. والإضافة إليها يعني النسبة كالإضافة إلى تأبط شرّا. واعلم أن كل حرفين أو اسم ومعرف أو فعل وحرف ضم أحدهما إلى الآخر فسميت به حكمت لفظه قبل التسمية ولا يغير لأنه يشبه بالجمل كرجل سميته: إنما وأنما " وكأنما " " وحينما " " وإما " من قولك: إما أن تفعل وهى إما التى بمعنى " أو " وأملها عند سيبوية (إن) ضمت إليها " ما " وأنشد. لقد كذبتك نفسك فاكذبنها … فإن جزع وإن إجمال صبر (¬2) ولم تكن " ما " في " إنما " " وحيثما " وما أشبه ذلك بمنزلة " موت " في " حضر موت " فيجعلا كاسمين ضم أحدهما في الآخر؛ لأن العرب قالت: حيثما فلم يغيروا ضمة التاء لدخول " ما " عليها، ولو كان بمنزلة حضر موت لفتحوا التاء، والذي يقول " حيث " ¬

_ (¬1) البيت بالديوان 82، والخزانة 2/ 62، وابن يعيش 6/ 89. (¬2) البيت سبق تخريجه.

مفردة يدعها على فتحتها. وكذلك إن سميت ب " إما " من قولك: أما أنت منطلقا انطلقت معا؛ لأن أصلها أن. ضمت إليها " ما " وإن سميت بإلّا " وإمّا " في الجزاء فهي حكاية في أصلها إن ضمت إليها " لا " و " ما ". وإن نصبت بألا مخفضة التي في الاستفهام أو أما حكيت؛ لأنها ألف الاستفهام دخلت على " لا وما " وإن سميت " بألا " التي للاستثناء أو حتى فإنهما اسمان غير محكيين؛ لأن كل واحد منهما لم يركب من حرفين. وأكثر أصحابنا يذهب إلى أنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وتجعل الألف فيه كألف التأنيث إذا سمي به؛ لأنه أكثر الألفات الزوائد في مثل هذا البناء إنما جاءت لتأنيث، وأجاز بعضهم أن تجعل الألف في " إلا " كألف معزى والألف في " حتى " كألف أرطى فتصرفه في النكرة، وكذلك إذا سميت بأما من قولك أما زيد فمنطلق؛ لأنه ليس بمركب، فلا يكون حكاية وهي بمنزلة " شروى " في الألف؛ أي أنها بمنزلة ألف التأنيث. وإن سميت رجلا من قولك ألا إنه منطلق أو بأما من قولك: " أما إنه طريف " لم تحكه؛ لأنه بمنزلة قفا ورحا؛ لأنه ليس بمركب. وإن سميته بلعل أو عساكا أو كذا. قال الشاعر: يا أيتا علك أو عساكا (¬1) والكاف في " كأن " " وذا " دخلت على ما بعدها، والكاف في " كذلك " " وذلك " لحقت للمخاطبة وكذلك التاء في " أنت "، لو سميت رجلا ب " أنت " لحكيت. وإن سميت " بهذا " أو " هؤلاء " حكيت لأن " ها " ضم إلى ما بعده. وكذلك لو سميته " بهلم " حكيت على لغة أهل الحجاز وبنى تميم؛ لأن (ها) ضم إلى (لمّ)؛ لأن معنى " هلم " معنى (لمّ) وإنما أصله قبل دخول " ها " " للم " في لغة أهل الحجاز. ولغة بنى تميم " لم " يا هذا. ولو سميت رجلا ب " لوما " حكيت. واحتج سيبويه لذلك بقول بعض العرب: " لا من أين يا فتى "، فحكى، ولو سميت رجلا: " وزيد " فلا يخلو من أن يكون عطفا على مرفوع أو منصوب أو مجرور فإن كان عطفا على مرفوع رفعته أبدا لكون ¬

_ (¬1) الرجز لرؤبة بن العجاج واستشهد به سيبويه: 1/ 388، والمقتضب: 3/ 71، الخزانة: 2/ 441، وشرح شواهد المغني: 151، والهمع: 1/ 132، وابن يعيش: 2/ 12، 3/ 132.

هذا باب الإضافة وهو باب النسبة

الواو معه وهي نائبة عن العامل فقلت: هذا وزيد، ورأيت وزيد، ومررت بوزيد، وكذلك إذا سميته بالمخفوض والمنصوب حكيته. وإن سميت رجلا زيد الطويل أو امرأة والطويل خبر لا نعت لقلت مررت بزيد الطويل، وإن ناديت قلت: يا زيد الطويل وإن جعلت الطويل صفة صرفته بالإعراب فقلت يا زيدا الطويل. وإن سميته بطلحة وعمر لم تغيره ولم تصرفه وأعربته بما كنت تعربه به لو كان أحدهما معطوفا على الآخر، فقلت رأيت طلحة وعمر ومررت بطلحة وعمر ولو سميت رجلا " أولاء " من قولك أولاء لأعربته؛ لأنه لم يركب معه " ها " فقلت جاءني أولاء ورأيت أولاء، ومررت بأولاء. وإن سميته الذي مع صلته لم تغيره كرجل سميته " الذي رأيت " تقول: جاءني الذي رأيته ومررت بالذي رأيت. ولا يجوز أن تناديه من أجل الألف واللام. فإن قال قائل: فأنت لو سميته " الرجل منطلق " لقلت: يا الرجل منطلق فهلا قلت: يا الذي رأيت؟ قيل له " الذي رأيت " اسم واحد قد كان يستعمل قبل التسمية به اسما واحدا ولم يغير من حاله بالتسمية، فلم يجز فيه ما كان يمتنع منه قبل التسمية من النداء و " الرجل منطلق " جملة تحكى على حد ما كانت قبل التسمية، ولا يجزم منهما شيء؛ لأنها بمنزلة تأبط شرّا، والذي وصلته بمنزلة الضارب أبوه ولو سميته الرجل والرجلان، لم يجز فيه النداء؛ لأنك إنما سميته بالرجل وعطفت عليه " الرجلان " فلا يجوز أن تناديه؛ لأنه بمنزلة الجملة. والمسمى بما فيه الألف واللام لا يجوز أن تجعله نعتا لاسمها في النداء لا تقول " يا أيها النضر " لرجل اسمه النضر؛ لأنه قد صار علما، وإنما تنعت أيها بالأسماء الأجناس أو صفاتها، وكذلك إذا كان اسمه " الذي رأيت " لم يجز: يا أيها الذي رأيت. هذا باب الإضافة وهو باب النسبة قال سيبويه: اعلم أنك إذا أضفت رجلا إلى رجل فجعلته من آل ذلك الرجل ألحقت ياءي الإضافة، وإن أضفته إلى بلد فجعلته من أهله ألحقته ياءي الإضافة، وكذلك إن أضفت سائر الأسماء إلى سائر البلاد أو إلى حي أو قبيلة أو غير ذلك، وياء الإضافة الأولى منهما ساكنة ولا يكون ما قبلهما إلا مكسورا وهما يغيران آخر الاسم ويخرجانه عن المنتهى ويقع الإعراب عليهما. فهذا أول تغيير منها للاسم، كقولنا في النسبة إلى تميم تميميّ وإلى واسط واسطيّ. وإذا كان في الاسم هاء التأنيث وجب حذفها كقولنا في النسبة إلى البصرة

بصريّ وإلى مكة مكيّ وذلك لازم لا يجوز غيره. وإنما وجب حذف الهاء؛ لأنّا لو بقيناها فقلنا بصرتيّ ومكتيّ في نسبة الرجل إليهما لوجب أن نقول: بصرتية ومكتية في نسبة المرأة، فيجتمع في الاسم تأنيثان، التاء الأولى للمنسوب إليها والثاني للمنسوبة، وهذا لا يكون في اسم واحد، وقد اعتل فيه بعض النحويين بعلة أخرى، ذكر أن الهاء تشبه ياءي النسب؛ لأنهم قالوا: زنجي للواحد وزنج للجميع تجعل بين الواحد والجميع ياءي النسبة، كما قالوا: تمرة وتمر، وشعيرة وشعير، يجعلون بين الجمع والواحد الهاء، فلما صارت الهاء كياءي النسبة ولا يجتمع في الاسم ياءان مشددتان للنسبة لم يجتمع هاء وياء، ثم يلحق المنسوب إليه تغيير في غير الذي ذكرنا مما سنقف عليه إن شاء الله. والتغيير الذي يلحق بعد ما ذكرناه على ضربين؛ أحدهما لا يطرد قياسه ويأتي شاذا يسمع سماعا فيسلم للعرب، والآخر يطرده. قال سيبويه: وقد ذكر التغيير فمنه ما يجيء على غير قياس ومنه ما يعدل وهو القياس الجاري في كلامهم وستراه إن شاء الله. قال أبو سعيد: وأما قوله: فمنه يعني من التغيير ما يجيء على غير قياس وهو الذي ذكرته لك ومنه يعني من التغيير ما يعدل. وهو القياس الجاري يعني ما يغير تغييرا يطرد فيه القياس. وقال الخليل: " كل شيء من ذلك عدلته العرب تركته على ما عدلته عليه، يعني من الأشياء الشاذة التي لا يطرد قياسها. " وما جاء تماما لم تحدث فيه العرب شيئا فهو على القياس " يعني ما لم يغير المنسوب إليه عن حركات حروفه وهو أكثر النسبة كقولنا: بكري وعامري وما أشبه ذلك، ثم ابتدأ فقال: " فمن المعدول الذي على غير قياس قولهم في هذيل هذلي وفى فقيم فقمي وفى مليح خزاعة ملحي وفي ثقيف ثقفي ". قال أبو سعيد: وقد جاءت أسماء كثيرة غير ذلك كقولهم في قريش قرشي وفي سليم سلمي وفى قريم قرمي وهو يكثر حتى يخرج عندي من الشذوذ. قال سيبويه: " ومن الشاذ الذي على غير القياس قالوا في زبينة زباني وفى طيء

طائي وفى العالية علوي، وفى البادية بدوي، وفى البصرة بصري، وفى السهل سهلي، وفى الدهر دهري وفي حي من بني عدي يقال لهم بنو عبيدة عبدي فضموا العين وفتحوا الباء ". قال: " وحدثنا من نثق به أن بعضهم يقول في بني جذيمة جذمي فيضم الجيم ويجريه مجرى عبدي، وقالوا في بني الحبلى من الأنصار حبلي، وفى صنعاء صنعاني، وفى شتاء شتوي وفى بهراء قبيلة من قضاعة بهراني، وفى دستواء دستوائي مثل بحراني. وزعم الخليل أنهم بنوا البحر على فعلان وإنما كان القياس أن يقول بحري، وقال في الأفق: أفقي. ومن العرب من يقول أفقي وهو على القياس، وقالوا في حروراء وجلولاء، وهما موضعان حروري وجلولي، كما قالوا في خراسان خرسي وخراساني أكثر وخراسي لغة. وقد قال بعضهم: إبل حمضيّة إذا أكلت الحمض وحمضية أجود. وبعضهم يجعل النسبة في مثل هذا بغير حرف النسبة ويبني للمنسوب اسما للفاعل غير جار على فعل فيقول: بعير حامض إذا كان يرعى الحمض " وعاضه " إذا كان يرعى العضاه، كما نقول: رجل دارع وناشب ورامح إذا كان ذا درع ونشاب ورمح، فيغني هذا أن نقول: درعيّ ونشابي ورمحي، ومن الشاذ قولهم في النسبة إلى الخريف خرفى، والخرفي أكثر في كلامهم بتسكين الراء من الخريفي، والخرفي، وقالوا إبل طلاحية. وقال بعضهم في النسبة إلى أميّة أمويّ، فهذه الفتحة كالضمة في السهل حين قالوا: سهلي وقالوا: " روحاني " في الرّوحاء. ومنهم من يقول " روحاوي " كما قال بعضهم بهراوي. قال: وحدثني بذلك يونس " وروحاوي " أكثر من " بهراوي " وقالوا في القفاف: قفيّ وفى طهيّة طهوي وقال بعضهم طهوي على القياس. كما قال الشاعر: بكل قريشي إذا ما لقيته … سريع إلى داعي الندى والتكرّم (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 337، وابن يعيش: 6/ 11، واللسان: (قرش).

ومما جاء محدودا عن بنائه محذوفة منه إحدى الياءين ياءي الإضافة قولك في الشام: شآم، وفى تهامة تهام، ومن كسر التاء قال: تهامي وفى اليمن يمان. وزعم الخليل أنهم ألحقوا هذه الألفات عوضا من ذهاب إحدى الياءين، وكأن الذين حذفوا الياء من ثقيف وأشباهه جعلوا الياءين عوضا منها، فقلت أرأيت تهامة أليس فيها الألف فقال: إنهم كسروا الاسم على أن يجعلوه فعليّيا أو فعليا، فلما كان من شأنهم أن يحذفوا إحدى الياءين ردوا الألف كأنهم بنوه تهمي أو تهمي فكأن الذين قالوا تهام هذا البناء كان عندهم في الأصل، وفتحة التاء من تهامة حيث قالوا تهام تدلك على أنهم لم يدعوا الاسم على بنائه، ومنهم من يقول تهامي ويماني وشامي فهذا كبحراني وأشباهه مما غيّر بناؤه في الإضافة. وإن شئت قلت: يمنيّ، وزعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في الإضافة إلى الملائكة والجن روحاني أضيفت إلى الروح، والجميع روحانيون، وزعم أبو عبيدة أن العرب تقوله لكل شيء فيه الروح من الناس والدواب والجن. وزعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول: شامي، وجميع هذه إذا صار اسما في غير هذا فأضفت إليه جرى على القياس كما يجري تحقير ليلة وإنسان ونحوهما إذا حولتهما فجعلتهما اسما علما. وإذا سميت رجلا زبينة لم تقل زباني أو دهرا لم تقل دهريّ، ولن تقول في الإضافة إليه: زبنيّ ودهريّ. قال أبو سعيد: أنا أعيد ما ذكره سيبويه فإذا ما أمللته وأذكر فيه ما يمكن من الأشياء الداعية إلى الشذوذ والخروج عن القياس في ذلك بعون الله ومشيئته. أما ما ذكره من النسبة إلى هذيل هذلي فهذا الباب عندي لكثرته كالخارج من الشذوذ. وذلك خاصة في العرب الذين بتهامة: وما يقرب منها؛ لأنهم قد قالوا قرشي وهذلي وفى فقيم كنانة فقمي، وفى مليح خزاعة ملحي، وفى سليم سلمي، وفى خثيم وقريم وخريب وهم من هذيل قرمي وخثمي وخربي، وهؤلاء كلهم متجاورون بتهامة وما يدانيها. والعلة في حذف الياء أنه يجتمع ثلاث ياءات وكسرة إذا قالوا قريشي فعدلوا إلى الحذف لذلك، وكذلك الكلام في ثقفي، وإنما قال فقيم كنانة؛ لأن في بنى تميم فقيم بن جرير بن دارم والنسبة إليه فقيمي. وإنما قال: مليح خزاعة؛ لأن في العرب مليح بن الهون بن خزيمة وفي السّكون مليح بن عمرو بن ربيعة. وينبغي أن تكون النسبة إليها

مليحي. وهذا الشذوذ يجيء على ضروب منها: العدول من ثقيل إلى ما هو أخف منه، ومنها الفرق بين نسبتين إلى لفظ واحد، ومنها التشبيه بشيء في معناه، فإنما قولهم زباني في زبينة فكان القياس فيه زبني بحذف الياء، غير أنهم كرهوا حذفها لتوفية الكلمة حروفها، وكرهوا الاستثقال أيضا، فأبدلوا من الياء ألفا، وأما النسبة إلى طيء فكان القياس فيه طييّء كما ينسب إلى ميّت ميتى وإلى هيّن هيني، وكرهوا اجتماع ثلاث ياءات بينهما همزة، والهمزة من مخرج الألف وهي تناسب الياء وهي مع ذلك مكسورة فقلبوا الياء ألفا ويجوز أن يكون نسبوا إلى ما اشتق منه. ذكر بعض النحويين أن طيئا مشتق من الطاءة والطاءة بعد الذهاب في الأرض وفي المرعى، ونجد أن الحجاج قال لصاحب خيله: ابغني فرسا بعيد الطاءة، وفى بعض الأخبار: فكيف بكم إذا انطاءت الأسعار، أي غلت وبعدت على المشتري. وأما قولهم في العالية علوي، فإنما نسبوا إلى العلو؛ لأنه في معنى العالية، والعالية بقرب المدينة مواضع مرتفعة على غيرها، والعلو المكان العالي، ويجوز أن يكون أراد الفرق بين النسبة إليها والنسبة إلى امرأة تسمى بالعالية، وإذا نسبت إلى العالية على القياس قيل عليّ أو عالويّ. وأما قولهم في البادية بدوي فنسبوا إلى بدا وهو مصدر أو الفعل الماضي من بدا يبد، وإذا أتى البادية وفيها ماء يقال له بدا. قال الشاعر: وأنت التي حببت شغبا إلى بدا … إليّ وأوطانى بلاد سواها (¬1) والنسبة إليها على القياس باديّ أو بادويّ. وقالوا في البصرة بصري والقياس بصري، فأما كسر الباء فمن الناس من يقول: نسبوه إلى " بصر " وهي حجارة بنص تكون في الموضع الذي سمي بالبصرة، وإنما نسبوا إلى ما فيها. قال الشاعر: إن تك جلمود بصر لا أؤيسه … أوقد عليه فأحميه فينصدع (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لكثير في اللسان: (بدا)، والخزانة: 9/ 462، والمغني: 162، والهمع: 2/ 131، وشرح الكافية للرضي: 2/ 324. (¬2) لعباس بن مرداس في اللسان (بسر).

وبعض النحويين قال: كسروا الباء اتباعا لكسرة الراء؛ لأن الحاجز بينهما ساكن وهو غير حصين. كما قالوا: منخر فكسروا الميم لكسرة الخاء. وقولهم في السّهل: سهليّ وفى الدّهر: " دهري " قال فيه بعض النحويين غير للفرق؛ وذلك أن الدّهري هو الرجل الذي يقول بالدهر من أهل الإلحاد والدّهريّ هو الرجل المسن الذي أتت عليه الدهور، والسّهلي هو المنسوب إلى السهل الذي هو خلاف الجبل، " والسّهلي " هو الرجل المنسوب إلى سهل اسم رجل، وحي من بني عدي يقال لهم بنو عبيدة ينسب إليهم " عبديّ " كأنهم أرادوا الفرق بينهم وبين " عبيدة " من قوم أخر، وكذلك بنو الحبلي من الأنصار ومن ولده عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين يقال في التسمية إليه " حبلي " للفرق بينه وبين آخر. ويقال: إنما قيل له الحبلي لعظم بطنه. وليس اسمه الحبلي. وقالوا في جذيمة جذمي؛ لأن في العرب جماعة اسمهم جذيمة، وفي قريش جذيمة بن مالك بن عامر بن لوءي، وفى خزاعة جذيمة وهو المصطلق، وفى الأزد جذيمة بن زهران بن الحجر بن عمران. وأما قولهم في صنعاء صنعاني، وفي بهراء بهراني وفى دستواء دستواني فلأن الألف والنون تجري مجرى ألفي التأنيث. وقالوا في شتاء شتوي، كأنهم نسبوا إلى شتوة كقولنا صحفة وصحاف. وإذا نسبت إلى جمع فحقه أن ينسب إلى واحده فينسب إلى شتوة لذلك وهو قياس مطرد، وأما النسبة إلى البحرين بحراني فالقياس أن تحذف علامة التثنية في النسبة، كما تحذف هاء التأنيث غير أنهم كرهوا اللبس، ففرقوا بين النسبة إلى البحر وإلى البحرين، وبنوا البحرين لما سموا به على مثل سعدان وسكران ونسبوا إليه على ذلك. وقولهم في النسبة إلى الأفق أفقي فلأن فعلا وفعلا يجتمعان كثيرا كقولهم عجم وعجم وعرب وعرب، ومن قال أفقي بضم الهمزة وتسكين الفاء فهو على القياس؛ لأن فعلا يجوز أن يسكن ثانيه قياسا مطردا، وأما حروراء وجلولاء، فكان القياس حروراري وجلولاوي، كما يقال حمراوي غير أنهم أسقطوا ألفي التأنيث لطول الاسم، وشبهوها بهاء التأنيث، والذي قال في خراسان: خراسي، شبه الألف والنون بهاء التأنيث أيضا. والذي يقول خرسي أسقط الزوائد، وبناه على فعل؛ لأن أخف الأبنية فعل، ولم يغيروا الضمة من خراسان وخمضيّة بفتح الميم، حكي عن أبى العباس المبرد أنه يقال حمض وحمض، فإن صح هذا فليس بشاذ.

وقولهم خرفي في الإضافة إلى الخريف، فالشذوذ فيه كالشذوذ في ثقفي في الإضافة إلى ثقيف، والخرفيّ بفتح الخاء وتسكين الراء أكثر، أضافوه إلى المصدر وهو الخرف، والمصادر قد تستعمل في معنى أسماء الفاعلين كقولهم رجل عدل وماء غور، في معنى عادل وغائر، وقولهم إبل طلاحية إذا أكلت الطلح، فرقوا بينها وبين من ينسب إلى طلحة، كما فرقوا في قولهم: رجل رقباني وجمّاني بين الغليظ الرقبة والذي له جمّة طويلة، وبين من ينسب إلى رجل له رقبة وجمّة. قال أبو سعيد: وغير سيبويه حكى إبل طلاحية بكسر الطاء وأنشد: كيف ترى وقع طلاحيّاتها (¬1) … بالغضويات على علّاتها وأما عضاهيّ فله وجهان: أحدهما شاذ والآخر مطرد، فأما المطرد فعلى لغة من يقول: عضاهة للواحد وعضاه للجمع كقتادة وقتاد فهذا بمنزله الواحد فتكون النسبة إليه على هذا في القياس. وأما الشاذ، فأن يكون جمعا واحده عضة وقد سقطت منه لام الفعل وهى هاء فإذا جمع قيل عضاه، كما يقال في شفة شفاه بمنزلة المياه، فالقياس أن يضاف إلى الواحد من هذا لا إلى الجمع المكسر فنسبتهم إليه " عضاهيّ " على هذا شاذ. وأما من جمع العضة عضوات وجعل الساقط واوا هي لام الفعل فإنه يقول عضويّ. ومن العرب من يقول في أميّه أمويّ كأنه رد إلى التكبير؛ لأن أميّة تصغير أمة. والنسبة إلى أمة أموي فطلب الخفة. وقالوا: روحاني في النسبة إلى روحاء والقياس روحاوي، ومن العرب من يقول روحاوي كما يقول بهزاوي. وأما بالنسبة إلى القفاف " قفي " فهي القياس وليس بشاذ؛ لأن القفاف جمع قفّ، وإنما ينسب إلى الواحد وإن كان " القفاف " اسم رجل أو اسم بقعة بعينها ثم نسب إليها " قفيّ " فهو شاذ. ولعل سيبويه أراد هذا. وذكر سيبويه في " طهيّة " طهوي على الشذوذ وطهوي، وزاد غيره طهوي بفتح الطاء وتسكين الهاء وهو شاذ أيضا. وأما قولهم شام ويمان وتهام، فالأصل فيه شامي وتهمي ويمني، ثم أسقطوا إحدى ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز، اللسان: (فضا).

هذا باب ما حذف الياء والواو فيه القياس

ياءي النسبة وعوضوا مكانها ألفا قبل آخر المنسوب إليه. وأما تهام فاسم البقعة المعروفة تهامة والنسبة إليها تهاميّ، ومن قال: تهام قدر أن الألف في تهامة تحذف وتفتح التاء فيبنى الاسم على تهم أو تهم ثم ينسب إليه كما ينسب إلى يمن وشام وتخفف ياء النسبة وتزاد ألف عوضا منها كما فعل بشام ويمان. قال: ومن العرب من يقول: " تهاميّ ويماني وشاميّ " فأما تهامي فهو منسوب إلى تهامة المعروفة وأما يماني وشامي فهو منسوب إلى المنسوب المخفف كأنهم لما قالوا شام ويمان صار ذلك اسما لكل مكان نسب إلى الشام واليمن، فصار اسم المكان يمان وشام كما قالوا: مدار وعذار، فلو كان مدار وعذار اسم رجل ثم نسب إليه لقيل مداري وعذاري. وأما النسبة إلى الملائكة والجن روحاني فهو نسبة إلى الروح كما نسب إلي جمّة جمّاني. وإنما قيل لهم الروح للطافة أجسامهم وخفائهم علي الرائين، وجميع ما ذكره سيبويه علي أنه شاذ إذا زال عن موضع الشذوذ في النسبة رجع إلى القياس كرجل سمي بدهر أو زبينة إذا نسبت إليه قلت زبني ودهري بفتح الدال، لا يجوز غير ذلك، كما لو حقرت ليلة أو إنسان اسم رجل لم يجز فيه غير لييلة وأنيسان وزال عن الشذوذ. هذا باب ما حذف الياء والواو فيه القياس قال سيبويه: " وذلك قولك: ربعي في ربيعة، وفي حنيفة حنفي، وفي جهينة جهني " فهذا وما جرى مجراه، مما هو علي فعيلة أو فعيلة، القياس فيه عند سيبويه حذف الياء من فعيلة وفعيلة، وفتح العين من فعيلة بعد حذف الياء، والحجة في ذلك أن هذه الياء قد تحذفها العرب من فعيل وفعيل كقولهم ثقفي وسلمي، وليس في الاسم إلا تغيير حركة آخره بدخول ياء النسبة. وتغييره أنّا نلزم آخره الكسرة وهو الفاء من ثقيف، والميم من سليم، فإذا فعلنا ذلك اجتمع ياء النسبة، والكسرة التي قبلها اللازمة، وياء فعيل وفعيل كل ذلك جنس واحد، فحذفوا الياء التي في فعيل وفعيل استثقالا، وإن كان القياس عند سيبويه إثباتها فيقال قريشي وسليمي. فإذا كان الاسم في آخره هاء التأنيث وجب حذفها ثم لزم الكسرة للحذف الذي قبل ياء النسبة، فصار ما فيه الهاء يلزمه تغيير حركة، وحذف حرف، فكان ذلك داعيا إلى لزوم حذف الياء؛ لأن الكلمة كلما زاد التغيير بها كان

هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان على أربعة أحرف فصاعدا إذا كان آخره ياء قبلها حرف منكسر

الحذف لها ألزم فيما يستثقل منها وإن ساواها في الاستثقال غيرها مما لا يلزم فيه تغيير كتغييرها، وجعل سيبويه " فعولة " في التغيير بمنزلة فعيلة. فأسقط الواو كما أسقط الياء، وفتح عين الفعل المضمومة، وذهب في ذلك إلى أن العرب قالت في النسبة إلى شنؤة شنئي وتقديره شنؤعة وشنعي. وكان أبو العباس المبرد يرد القياس علي هذا ويقول: شنئي من شاذ النسبة الذي لا يقاس عليه، واحتج في ذلك بأشياء يفرق بها بين الواو والياء، فمن ذلك أنه لا خلاف بينهم أنك تنسب إلى عدي عدوي وإلى عدو عدوي ففصلوا بين الواو والياء ولم يغيروا الواو. ومن ذلك أنهم يقولون في النسبة إلى سمر وسمرة سمري، وإلى نمر نمري، فغيروا في نمر من أجل الكسرة ولم يغيروا في سمر؛ لأنهم إنما استثقلوا اجتماع الياءات والكسرات فلما خالفت الضمة الكسرة في نمر وسمر، والياء الواو في عدي وعدوي وجب أن تخالف الياء في فعيلة الواو في فعولة وقد شذ في هذا الباب ما جاء على الأصل. ذكر سيبويه أنهم قالوا في سليمة: سليمي، وفي عميرة كلب عميري، وقالوا سليقي للرجل يكون من أهلي السليقة وهو الذي يتكلم بأصل طبعه ولغته ويقرأ القرآن كذلك، وأظنه من الأعراب الذين لا يقرءون على سنة ما تقرؤه القراء، ويقرأ على طبع لغته. وقد جاء أيضا رماح ردينية وهي منسوبة إلي ردينة. وإذا كان فعيلة أو فعيل أو فعيل عين الفعل فيه ولامه من جنس واحد، أو كان عين الفعل واوا لم يحذفوا كقولك في النسب إلى شديدة أو جليلة شديدي وجليلي، وإلى بني طويلة طويلي؛ لأنك لو حذفت الياء لوجب أن تقول شددي فيجتمع حرفان من جنس واحد. وذلك يستثقل، ولو قلت طولي لصارت الواو على لفظ ما يوجب قلبها ألفا. فكان يلزم أن يقال طالي. وقد قالت العرب في بني حويزة حويزي وهم من تيم الرّباب قبيلة مشهورة. هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان على أربعة أحرف فصاعدا إذا كان آخره ياء قبلها حرف منكسر قال أبو سعيد: اعلم أن كل اسم على أربعة أحرف آخرها ياء مكسور ما قبلها، إذا نسبت إليه، فالقياس فيه والأكثر حذف الياء؛ لأنّا لو تركناها ولم نحذفها وجب كسرها لدخول ياء النسبة فكان يلزم في النسبة إلى قاض قاضييّ وإلى بني ناجية ناجييّ

فتكسر ياء قبلها كسرة فأوجب تسكينها فاجتمع ساكنان الياء التي من نفس الحرف والياء الأولى من ياء النسبة، فيقال في رجل من بنى ناجية ناجيّ وفى أدل أدليّ وفى صحار صحاريّ وفى رجل اسمه يمان يمانيّ، حذفت الياء الأولى التي كانت في يمان للنسبة وجئت بياء مشددة للنسبة، وكذلك لو نسبت إلى منسوب فيه ياء مشددة لحذفت الياء المشددة وأحدثت ياءين للنسبة وحذفت الأولين كرجل اسمه يمنيّ وهجريّ تقول: يمنيّ وهجريّ على ذلك اللفظ بعد أن تقدر حذف الأولى وإحداث ياء غيرها. وكذلك لو نسبت إلى شيء في آخره ياء مشددة زائدة وإن لم تعرف إلى أي شيء نسب، كرجل نسبته إلى كرسي وإلى برنيّ. تقول: هذا كرسي وبرني. وإن جمعت بختيّة قلت بخاتيّ غير مصروف؛ لأنه تكسير بختي، فإن سميت رجلا به وهو غير مصروف ثم نسبت إليه وجب أن تقول بخاتيّ مصروفا؛ لأنك قدرت حذف الياء الأولى ودخول ياء أخرى للنسبة فصار بمنزلة جمي لا ينصرف فإذا نسب إليه انصرف، قولا في مدائن مدائنيّ، وفي معافر معافريّ وتقول في رجل اسمه يرمي يرميّ على قياس ما ذكرناه، وقد أجازوا فيما كان على أربعة أحرف وثانيه ساكن وثالثه مكسور أن يفتحوا ثالثة وشبهوا المكسور منه بالمكسور من نمر وشقر وما أشبه ذلك، كأنهم لم يحفلوا بالحرف الساكن فقالوا في يثرب يثربيّ. ومن تغلب تغلبيّ، كأنهم نسبوا إلى يثرب، وتغلب ولم يحفلوا بالثاء والغين، لسكونهما ففتحوا المكسور من أجل ذلك، وليس ذلك بالقياس عند الخليل وسيبويه، فمن قال في يثرب يثربيّ قال فيما كان على أربعة أحرف وثانيه ساكن وآخره ياء قبلها كسره مثل ذلك. ففتح الكسرة وقلب الياء ألفا فقال في يرمي يرموي، كأنه صيره يرما وجعله كالنسبة إلى عم عمويّ. قال سيبويه: وإذا أضفت إلى عرقوة قلت عرقيّ وذلك أنك تحذف الهاء فتبقي الواو طرفا وقبلها ضمة فتقلبها ياء فتصير بمنزلة يرمي وقاضي فتقول عرقي. ويجوز أن تنسب إليه عرقوي وتقول العرب ولم يذكره سيبويه في الجلد الذي يدبغ بالقرنوة وهو نبت يدبغ به قرنويّ، وأنشد سيبويه قول الشاعر: وكيف لنا بالشّرب إن لم يكن لنا … دوّايق عند الحانوي ولا نقد (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه في الكتاب: 3/ 341، وابن يعيش: 5/ 151، والأعلم: 2/ 71.

هذا باب الإضافة إلى كل شيء كان من بنات الياء أو الواو

والوجه الحاني كما قال علقمة بن عبدة: كأس عزيز من الأعناب عتّقها … لبعض أربابها حانيّة حوم (¬1) وذكر بعض أصحابنا أن الموضع الذي يباع فيه الخمر يقال له حانية مثل ناحية، وأنه نسب إليه على مثل التسمية إلى يرمي يرموي، والمعروف في اسم الموضع الذي تباع فيه الخمر أن يقال له حانة. قال الأخطل: وخمرة من جبال الروم جاء بها … ذو حانة تاجر أعظم به حانا (¬2) فجعل الموضع حانة والخمار حانا. ولعل الذي قال الحانوي جعل البقعة حانية؛ لأنها تعطف على الشّراب باللطف واللذة، كما يقال امرأة حانية على ولدها، وصيرها كالأم الحانية على ولدها لاجتماعهم فيها على لذاتهم. وقال الخليل: " الذين قالوا في تغلب تغلبيّ غيّروا كما قالوا سهلي وبصري، ولو كان ذا لازما لقالوا في يشكر يشكري وفى جلهم جلهميّ، وقال أبو العباس المبرد: هذا لا يلزم؛ لأن الضمة لا تشبه الكسرة. وقد مضى الكلام في نحو هذا فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب الإضافة إلى كل شيء كان من بنات الياء أو الواو قال أبو سعيد: اعلم أن كل ما كان على ثلاثة أحرف وثالثه ألفا مما أوله مفتوح أو مضموم أو مكسور فالنسبة إليه تقلب الألف واوا، وإن كانت منقلبة من ياء كقولك في النسبة إلى رجا رجويّ، وإلى فتى فتويّ، وإلى حصا حصويّ، وإلى هدى هدوي، وإلى معى معوي. ولم يجعلوه ياء فيقولون حصييّ ورحييّ لاجتماع ثلاث ياءات مع الكسرة. قال سيبويه: كرهوا توالى الياءات والحركات وكسرتها فيصير قريبا من أميّيّ. قال أبو سعيد: وأميي وإن كان مكروها فإن بعض العرب يقول في النسبة إليه أمييّ ويحتمل الثقل، وأما رحيي فلا يقوله أحد، والفصل بينهما أنّ مثل أميّ وجريّ قد يستعمل قبل النسبة، فأما رحيّ فغير مستعمل؛ لأنه يلزم قلبها ألفا فكرهوا أن يحتملوا الثقل في لفظ غير مستعمل في الواحد، وأما رحوي وحصوي وما أشبه ذلك وإن لم يستعمل حصو قبل النسبة فإن الثقل في الواو وياء النسبة أقل من الياءات. ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 341، 2/ 72، المحتسب: 1/ 134 (¬2) انظر ابن يعيش: 5/ 153.

هذا باب الإضافة إلى فعيل وفعيل من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهن وما كان في اللفظ بمنزلتهما

وإذا نسب إلى فعل وفعل واللام ياء فتحت عين الفعل فقلبت في عم عمويّ، وكلهم يقول في شج شجويّ؛ وذلك لأنهم فتحوا عين الفعل من فعل في الصحيح كقولهم في نمر نمري وفى شقر شقري وفي الحبطات حبطيّ، فلما كان الفتح في الصحيح واجبا كان في المعتل أوجب لئلا تتوالى كسرتان وثلاث ياءات أو واو وياءان إن قلبنا الياء واوا. والذين قالوا في تغلب تغلبي شبهوه في المكسور بنمري. وقال أبو العباس جواز ذلك مطرد، وعند الخليل أنه من الشاذ وقد مضى الكلام في ذلك. فإن كان على أربعة أحرف وتحركت الثلاثة الأحرف كلها لم يجز فتح الحرف المكسور الذي قبل الأخير منها كقولنا في النسبة إلى علبطي وجندليّ، والعلة في ذلك أنّا إنما قلنا في النمر نمري؛ لأنا لو بقينا الكسرة فقلنا نمري لاجتمع كسرتان وياءان وليس في الكلمة ما يقاومها من الحروف التي ليست من جنسها إلا حرف واحد وهو النون. فإذا صار أربعة أحرف والثاني منها ساكن نحو تغلب فمنهم من يبقّ الكسرة؛ لأن في صدر الكلمة حرفين يقاومان الكسرتين والياء المشددة، ومن فتح لم يحفل بالحرف الثاني؛ لأنه ساكن ولم يره حاجزا حصينا، فإذا صار الحرف الأول والثاني متحركين قاوما ما بعدهما من الكسرتين فلم يجز غير ذلك. وتقول في النسبة إلى فعل فعليّ كقولهم في دئل دؤليّ. ولو سمي رجل بضرب لقيل ضربيّ في النسبة إليه. وقالوا في إبل إبلي، ويقال في النسبة إلى صعق صعقيّ، هذا الأصل والقياس. ومن كسر الفاء من فعل إذا كان الحرف الثاني من حروف الحلق مثل شهد ورحم ولعب قال صعق ثم نسب إليه صعقي. قال سيبويه: وقد سمعنا بعضهم يقول الصّعق صعقيّ فلم يغيره، وكسر الصاد وهذا شاذ. هذا باب الإضافة إلى فعيل وفعيل من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات لاماتهن وما كان في اللفظ بمنزلتهما اعلم أن ما كان على هذا فإنه يستوي فيه ما كان آخره هاء وما لم يكن في آخره هاء، والوجه في النسبة إليه حذف ياء فعيل وفتح العين منه وحذف ياء فعيل وقلب الياء واوا؛ كقولك في عدي عدويّ، وفي غنيّ غنويّ، وفى قصيّ قصويّ وفى أمية أمويّ؛ لأنهم

كرهوا توالى أربع ياءات فحذفوا الياء الزائدة، فصار الاسم على عدي، ففتحوا كما فتحوا في عم ونمر، وكذلك فعلوا بقصي لما حذفوا الياء الأولى فبقي قصي قلبوها ألفا فصار بمنزلة هدى وحصى، فقالوا قصوي. وذكر يونس أن ناسا من العرب يقولون " أميّيّ " لما كان الإعراب يدخل على مثل " أميّ " تركوا اللفظ الأول على حاله وشبهوه بالصحيح. وكذلك يقال " عديّيّ " إلا أن هذا أثقل لزيادة كسرة فيه، وتقول في النسبة إلى حيّة حيويّ. كرهوا اجتماع ياءين مشددتين، فبنوا حيّة على فعلة، وهى فعلة فصار حياة ثم نسبوا إليه فقلبوا الألف واوا، فصار حيويّ، ونسبوا إلى حيّة بهدلة وهم من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم حيوي. وإذا نسبت إلى ليّه قلت لووي، وإلى طي قلت طووي؛ لأن هذا من لويت وتلويت وأصلة لويه، وإذا فتحنا الأوسط وجب أن نقول لواة وطويّ؛ لأنه يعتل الأخير ثم ينسب إليه على هذا. ومن قال أمييّ قال حييّ ولييّ؛ لأن الاستثقال فيها واحد. وإذا نسبت إلى عدوّ وكوة قلت عدويّ وكويّ؛ لأنه لم تجتمع الياءات، وإنما تبدل وتغير لكثرة الياءات فيفرون منها إلى الواو، فإذا قدروا على الواو ولو يغيروه، ألا ترى أنهم يقولون في النسبة إلى مرميّ مرميّ فيحذفون الياء المشددة الأولى التي هي لام الفعل وما قبلها ثم يأتون بياء النسبة، كما لو نسبوا إلى يختيّ لقالوا يختيّ بحذف الياء الأولى وإحداث أخرى مكانها. ولو نسبوا إلى مغزو لقالوا مغزويّ؛ لمخالفة الواو الياء في النسبة. قال سيبويه: " فإن أضفت إلى عدوّة قلت عدويّ من أجل الهاء كما قلت في شنوة شنئي " وهذا هو على أصل سيبويه الذي تقدم في أن فعولة إذا نسب إليها قيل فعليّ قياسا على شنئي في النسبة إلى شنؤة. وأبو العباس لا يرى ذلك ويقول: شنئي شاذ والنسبة إلى فعولة عنده فعوليّ، وإلى عدوة عدويّ. وقد مضى الكلام في نحوه. قال سيبويه: " وإذا نسبت إلى تحية قلت تحوي، وتحيّة: أصلها تفعلة؛ لأنه مصدر حيّ وأصلها تحيية، ألقوا كسرة الياء الأولى على الحاء، وأدغموا، وصار لفظها كلفظ فعيلة؛ لأن ثالثها ياء ساكنة قبلها كسرة فنسبوا إليها كما ينسبون إلى فعيلة.

هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ياء وكان الحرف الذي قبل الياء ساكنا وما كان آخره واوا وكان الحرف الذي قبل الواو ساكنا

بحذف الياء الثالثة وتبقى تحية مثل عمية في اللفظ، فيقال تحويّ، كما يقال عمويّ. وتقول في النسبة إلى قسي وثدي ثدوي وقسوي بضم الأول وذلك أن الأصل فيه قسوّ وثدوّ على فعول، فلما قلبنا الواو ياء وكسرنا ما قبلها لتسلم الياء صار قسيّ وثدي ثم كسروا فاء الفعل فاتبعوا الكسر الكسر، فإذا نسبنا إلى شيء من ذلك اسم رجل أو اسم بلد حذفنا الياء الأولى من الياءين وجعلنا الكسرة في الحرف الثاني فتحة فعادت فاء الفعل إلى ضمتها في الأصل. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. ويجوز أن تقول في النسبة إلى مرميّ مرمويّ؛ لأنا نحذف الياء الأولى الساكنة فيبقي مرمي مثل يرمي وقياسه قياس تغلب، فمن أجاز أن يقول: تغلبيّ فيجعل مكان تفعل تفعل جاز أن يجعل مكان مفعل مفعل. وقد قالوا حانويّ وقد ذكرناه فيما مضى. هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ياء وكان الحرف الذي قبل الياء ساكنا وما كان آخره واوا وكان الحرف الذي قبل الواو ساكنا قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان من ذلك لا هاء في آخرة للتأنيث، فلا خلاف بينهم أن النسب إليه نحو ظبي، ورمي وغرو ونحو، تقول فيه ظبييّ ورمييّ وغرويّ ونحويّ ولا تغير ما كان فيه الياء من ذلك؛ لأن ما قبلها ساكن، وهى تصرف وتجري بوجوه الإعراب قبل النسب، فإذا جاز أن يقال في أميّة: أميّيّ ويجتمع فيه أربع ياءات كان هذا أولى أن يجيء على الأصل، فإذا كان في آخره هاء كرمية وظبية ورمية وغزوة فالخليل يجري ذلك مجرى ما ليس فيه هاء فيقول في ظبية ظبييّ وفي دمية دميي وفى فتية فتيّ وهو القياس عنده. وحكى يونس أن أبا عمرو كان يقول ظبييّ في النسبة إلى ظبية، ويقول في غزوة غزوي وفى عروة عروي، ويقوي ذلك أنهم قالوا في بني جروة جروي، وجروة هذا جروة بن نضله من بنى خميس بن أدّ بن طانجة بكسر الجيم. وفى العرب جروة بضم الجيم، وهو جروة بن أسيد بن عمر بن تميم وجروة بن الحارث من بني عبس. وأما يونس فإنه يغير ما كان فيه الهاء فيفتح الحرف الساكن وهو الحرف الثاني فيقول في ظبية ظبويّ وفي رمية رمويّ وفى فتية فتويّ.

ومثل هذا قولهم في حي من العرب يقال لهم بنوا رنيّة رنوي وفى البعلية بعلوي ويقال في البعلية إنها حي من اليمن، وقال الجرمي هي اسم أرض، وقال يونس أيضا في عروة عروي فسوى بين ذوات الواو وذوات الياء، ولم يحتج يونس لقوله بشيء، وقد أنكر قوله جمهور أصحابنا إلا الزجاج فإنه كان يقويه ويقول: إن التغيير إنما وجب فيه من أجل الهاء؛ لأن ما كان فيه الهاء فهو أولى بالتغيير وأقوى فيه. وأما الخليل فعذر يونس في ذوات الياء واحتج له واختار القول الذي ذكرته عنه بعد الاحتجاج ليونس بأنه أقيس وأعرب من قول يونس، وهذا من أشكل مواضع الكتاب التي أوردها الخليل بعد الاحتجاج للأول بأنه أقيس وأعرب من قول يونس، وأنا أبينه بما أرجو به انكشافه. قال سيبويه: وأما يونس فكان يقول في ظبية ظبوي وفى دمية دموي، وفى فتية فتوي، فقال الخليل: كأنهم شبهوها حيث دخلتها الهاء بفعلة؛ لأن اللفظ بفعلة إذا أسكنت العين وفعلة من بنات الواو سواء. قال أبو سعيد: معنى هذا أن ظبية كأنه ظبية، ودمية، دمية، وفتية كأنه فتية، ثم أسكنوا فقيل ظبية كما يقال في فخذ فخد، وقالوا دمية كما يقال في عصر عصر، كما يقال في إبل إبل، فصار عمية بعد الإسكان لها من عمية في لفظ ما كان على فعلة في الأصل، ودمية إذا أسكنا الميم على لفظ فعلة، في الأصل، وفتية على فعلة في الأصل، فإذا نسبنا إلى ذلك رددناه إلى الأصل؛ لأن بردنا له إلى الأصل فائدة في الخفة؛ لأنّا إذا نسبنا إلى عمية أو دمية أو فتية وثوانيها مكسورة وجب فتحها وقلب الياء واوا في النسبة كما لو نسبنا إلى عمية وجب أن تقول: عموي فيصير في اللفظ أخف من عمييّ إذا بقيناها على التخفيف، وكذلك لو بنيت فعلة من بنات الواو لصارت بهذه المنزلة، تقول في فعلة من الغزو: غزية، ومن الربو ربية، فيصير كذوات الياء ويصير المسكن منها عن الكسرة بمنزلة ما أصله الإسكان. قال: فلما رأوا آخرها يعني آخر فعلة يشبه آخرها يعني آخر فعلة جعلوا إضافتها يعنى فعلة كإضافتها يعنى فعلة، وجعلوا دمية كفعلة وجعلوا فتية كفعلة. هذا قول الخليل، واحتجاجه ليونس. وكان الزجاج يرد من هذا على الخليل دمية، ويقول ليس في الأسماء فعلة، ورد عليه فتية؛ لأنه ليس في الأسماء فعل إلا إبل.

قال أبو سعيد: ولو خففنا نمرا فقلنا نمر، وسمي به رجل ثم نسبنا إليه لم نرده إلى الأصل ونسبنا إليه على التخفيف فقلنا نمري. وإنما قدّر الخليل ردّ ذوات الياء إلى الأصل لأنه مستفاد به خفة لنقل الياء إلى الواو وفي " نمر " وما أشبهه لو رددناه إلى الأصل لصار فيه زيادة ثقل بالحركة، وكذلك لم يقدر في ذوات الواو إذا سكن ما قبل الواو حركة في الساكن ويردها في النسبة؛ لأن تقدير ذلك ورده لا يفيد خفة؛ لأن الواو حاصلة والسكون قبلها، فلو رددنا لحركنا ما قبل الواو وبقيت الواو بحالها. وإنما ذلك في ذوات الياء؛ لأن تحريك الثاني منها يوجب قلب الأخير واوا، فلم يقل الخليل في عروة وغزوة إلا عروي وغزوي؛ لأن ذا لا يشبه آخره آخر فعلة، ولا يكون فعلة، ولا فعلة من بنات الواو هكذا. ولا تقول في عروة إلا عروي؛ لأن فعلة من بنات الواو إذا كانت واحدة فعل لم تكن هكذا، وإنما تكون ياء ولو كانت فعلة ليست على فعل كما أن بسرة على بسر لكان الحرف الذي قبل الواو يلزمه التحريك، ولم يشبه عروة، وكنت إذا أضفت إليه وجعلت مكان الواو ياء فعلت ذلك بعرقوة ثم يكون في الإضافة بمنزلة فعل. " وإن أسكنت ما قبل الواو في فعلة من بنات الواو التي ليست واحدة فعل فحذفت الهاء لم تغير الواو لأن ما قبلها ساكن " قال أبو سعيد: أما " غزوة " فلو كانت على " فعلة " لكان حقها أن تكون غزية، ولو كانت " غدوة " على فعلة لكان حقها أن تكون غدية، فلذلك لم يستو للخليل تقديرها على فعلة. ولو كان على فعلة بضم العين على من يدخل هاء التأنيث على فعل وفعل مستعمل بغيرها التأنيث كما يقال بسر وبسرة لوجب أن تقلب الواو ياء؛ وذلك لأنا إذا بنينا من الغزو فعل وجب أن تقول غزي؛ لأنه غزو وتقع الواو طرفا، فتقلب ياء ويكسر ما قبلها، فإذا أدخلنا هاء التأنيث على ما قد لزم فيه هذا التغيير، وجب أن نقول: " غزية ". ولا تثبت الواو فبطل أن تكون غزوة وغدوة على " فعلة " " وفعلة "، و " فعلة " قد دخلت على فعل، ولو كانت فعلة مبنية في أصل الكلمة على التأنيث واللام واو لوجب أن يقال: غزوة وعدوة كما يقال عرقوة وقلنسوة، وهذا معنى قوله: ولو كانت فعلة ليست على فعل كما أن بسرة على بسر لكان الحرف الذي قبل الواو يلزمه التحريك. يريد أنها إذا كانت مثل بسرة على بسر قلت: غزية وإن خففت قلت: " غزية. وإذا لم تكن فعلة

هذا باب الإضافة إلى كل شيء لامه واو أو ياء، وقبلها ألف ساكنة غير مهموزة وذلك نحو سقاية وصلاية

على فعل وجب أن يقال فيه: غزوه وغدوة وعروة، فهذا معنى قوله: لكان الحرف الذي قبل الواو يلزمه التحريك، يعني الضم، ولم يشبه عروة؛ لأن الراء في " عروة " ساكنة لا تضم. ومعنى قوله: وكنت إذا أضفت إليه جعلت مكان الواو ياء كما فعلت ذلك بعرقوة، يعنى أنك لو بنيت فعلة على التأنيث فقلت عروة، ثم نسبت إليه لقلت: عرييّ ثم تفتح الراء كما تفعل في ميم " نمر " فيصير عرويّ، كما لو أضفت إلى عرقوة حذفت الهاء وقلبت بالواو ياء فنسبت إلى عرقي، فإما قلت: عرقيّ وإما قلت: عرقويّ. ويقرب صلة ما ذكرناه من قول الخليل: في عروة إنه عرويّ، فنقول: لا يخلو عروة من أن يكون فعلة على التذكير كبسر وبسرة، أو فعلة لو كان في الكلام فعلة. فيلزمه في هذه الوجهين الياء، وليس عروة كذلك؛ لأن فيه الواو. أو يكون على فعلة مبنيا على التأنيث أو على فعلة في الأصل، فإن كان على فعلة في الأصل فلا سبيل إلى تحريك الراء؛ لأنها ساكنة في أصل مبناها وتصير النسبة إليها كالنسبة إلى " جلبة " و " قدرة "، وما إلى ذلك فيقال " قدريّ وجلبيّ. وإن كان على فعلة مبنيا على التأنيث لزم أن تضم الراء، فإن ألزم التخفيف ثم نسب إليه لم يغير، كما أن نمرا إذا خففت ثم نسبت إليه لم يغير، وقد مضى الكلام في هذا. وقد ذكر أبو بكر مبرمان عن بعض من فسر له أن في الباب وقوع شيء في غير موضعه، وهو قوله لأن اللفظ بفعلة إذا سكنت العين وفعلة من بناء الواو سواء، وأن هذا الكلام وما بعده يحتاج أن يكون بعد قوله: لأن ذا لا يشبه آخره آخر فعلة، فاعرف ذلك إن شاء الله. هذا باب الإضافة إلى كل شيء لامه واو أو ياء، وقبلها ألف ساكنة غير مهموزة وذلك نحو سقاية وصلاية قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب على ضربين: أحدهما تلزم الياء فيه- إذا سقطت الهاء- أن تقلت همزة نحو سقاية وعظاية، ودرحاية، وصلاية وما أشبه ذلك. ولولا الهاء لقيل: سقاء، وصلاء، ودرحاء، كما قيل علياء وأصله علياي، فهذا الباب يلزم في النسبة قلب الياء همزة فيقال: سقائيّ وصلائيّ، وفى النسبة إلى نقاية: نقائي كأنا أفردنا بعد طرح الهاء فقلبنا الياء منه همزة، ثم أدخلنا الياء فصار بمنزلة النسبة إلى رداء وعلياء،

ويجوز قلب ذلك واوا. كما جاز في التثنية. كقولهم في التثنية: كساءان وكساوان وفى رداء: رداءان ورداوان، وعلى ذلك قيل في النسبة إلى شاء شاوي. قال: لا ينفع الشاوي فيها شاته … ولا حماراه ولا علاته (¬1) الضرب الثاني: ما كانت الياء طرفا بعد ألف ولا تقلب همزة كقولهم " راي " في جمع راية وثاي جمع ثاية وطاي جمع طاية وآي جمع آية وهذا الضرب إذا نسبت إليه كان لك فيه ثلاثة أوجه: إن شئت همزت، فقلت: ثائي، وطائي ورائي، وآئي، وإن شئت قلبت الهمزة واوا، فقلت: راوي، وطاوي، وثاوي، وآوي. وإن شئت تركت الياء وقعت بعد ألف، وكان حقها أن تهمز قبل النسبة، وتعل، ولكنهم صححوها وهي شاذة، ولما نسب إليها وزيدت ياء النسبة ولزمت الكسرة الياء الأصلية ثقلت فردوها إلى ما كان بوجهه القياس من الهمزة. وأما من قال راوي وطاوي وآوي فإنه استثقل الهمزة بين الياء والألف، وهي تستثقل لأن الهمزة من جنس الألف والياء قريبة من الألف فجعلوا مكانها حرفا يقاربها في المد واللين. ويفارقها في الموضع وهي الواو، ومن أجل ذلك ألزموا الواو فيما كانت همزته للتأنيث ففي التثنية حمراوان وشقراوان. وفى الجمع بالألف وبالتاء، حمراوات وبرقاوات. وفي النسبة حمراوي وخضراوي وأما من قال رايي وطايي. فأثبت الياء؛ فلأن هذه الياء صحيحة، تجري بوجوه الإعراب قبل النسبة كياء ظبي، ونحي، فلما كانت النسبة إلى ظبى: ظبييّ من عير تغيير الهاء كان رايي كذلك، وإذا كان مكان الياء في جميع ما ذكرنا واوا لم يغير عن الواو البتة، وأقرت واوا، فقيل في النسبة إلى شقاوة، وغباوة وعلاوة، شقاويّ، وغباويّ، وعلاويّ، وذلك لأنا كنا نفر إلى الواو فيما كان لفظه همزة، فإذا ظفرنا بما قد لفظ به واوا لم نعد عنه إلى لفظ آخر، ومثل ذلك أيضا النسبة إلى " واو " نقول: هذه قصيدة واويّة، قال الشاعر وهو جرير في بنات الواو: إذا هبطن سماويّا موارده … من نحو دومة خبت قلّ تعريسي (¬2) ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز، وهما لمبشر بن هذيل الشمخي في اللسان (شوه). (¬2) دومة خبت: اسم موضع، والتعريس: نزول المسافر آخر الليل.=

هذا باب الإضافة إلى كل اسم آخره ألف مبدلة من حرف من نفس الكلمة على أربعة أحرف

ولا يكون في مثل سقاية سقايّي بالياء من غير همزة؛ لأن هذه الياء لا تثبت مفردة كما نثبت ياء آي وراي، ألا ترى أنهم قالوا في قصيّ: قصيّيّ وفى أميّة: أميّيّ؛ لأن هذه الياء يتكلم بها مفردة وإن كانت ثقيلة. وجعلوا سقاية لما نزعوا الهاء بمنزلة سقاء مفردا، وقلبوها همزة، كما أنهم لو نسبوا إلى رجل اسمه ذو جمّة لقالوا: " ذوويّ لأنهم يحذفون جمة وينسبون إلى ذو مفرد، فيقال في النسبة ذوويّ. وعلى قياس ما ذكرنا في سقاية النسبة إلى حولايا وبردرايا إن شئت قلت: حولائي بالهمز وبردوائيّ، وإن شئت: حولاويّ وبردراويّ؛ لأنك تحذف الألف الأخيرة فتبقى الياء طرفا وقبلها ألف فتقلبها همزة، وتجريها مجرى " سقاية " ولو كانت الهمزة أصلية طرفا بعد ألف ونسبت إليه جاز فيه الوجهان أيضا كقولك في النسبة إلى قرّاء، ووضّاء وأصله من قرات ووضوء الرجل- يجوز أن نقول " قرائيّ وقراويّ. هذا باب الإضافة إلى كل اسم آخره ألف مبدلة من حرف من نفس الكلمة على أربعة أحرف قال سيبويه: وذلك نحو ملهى، ومرسى، وأعشى، وأعمى، وأشباها. وذلك يجري مجرى حصا ورحى، وما كان ملحقا بهذا مع الألف فيه زائدة للإلحاق، فهو بهذه المنزلة، تقلب الألف واوا في النسبة فتقول في ملهى: ملهوي وفي أعشى: أعشوي، وفي أحوى: أحووي. قال: كذلك سمع من العرب. قال: وسمعناهم يقولون في أعيا أعيوي، وفى متن كتاب سيبويه أعيا حى من الغرب من جرم. والمعروف عند أهل النسب بنو أعيا من بني أسد، وهو أعيا بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد، وفي هذا الباب وجوه أذكرها بعد ذكر الباب الذي يتلوه. هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفا زائدة لا تنون وكان على أربعة أحرف قال سيبويه: " وذلك نحو حبلى ودفلى، فأحسن القول فيه أن نقول: " حبلي ¬

_ = والبيت في الكتاب 3/ 35، وابن يعيش 5/ 157.

هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفا، وكان على خمسة أحرف

ودفلي؛ لأنها علامة تأنيث زائدة، فهي تشبه هاء التأنيث ولم تجئ لإلحاق بناء ببناء فتكون بمنزلة الأصلي. وقالت العرب في سلّى: " سلّيّ " وذكر أن سلّى قبيلة من جرم وهم باليمامة مع بني هزّان بن عنزة، فهذا هو الوجه الجيد. وقال الشاعر في النسبة إلى بصرى موضع تنسب إليه السيوف: كأنّما يقع البصريّ بينهم … من الطوائف والأعناق بالوذم ومنهم من بعد، فشبه آخره بآخر ما فيه الألف الممدود للتأنيث كحمراوي وصيباوي، فيقول: دفلاويّ. وقالوا في دهنا: دهناويّ، وقالوا في دنيا: دنياوي، والأقيس دفيّيّ على قولهم سلّيّ. ومنهم من يقول: حبلويّ، فيشبه الألف في حبلى بالألف في ملهى. فهذه ثلاثة أوجه في حبلى، وبابها، حبليّ أجودها، ثم حبلاويّ وحبلويّ. وفى باب " ملهى " أيضا ثلاثة أوجه، أجودها ملهويّ، ويجوز ملهيّ فيشبهونها بحبلى، كما قالوا: مدارى جمع مدرى مفعل فجاءوا بها على جمع حبالى، وهو جمع حبلى فأدخلوا بعضا على بعض تشبها. وينبغي أن يجوز أيضا " ملهاويّ ". وأما جمزى فلا يجوز فيها إلا حذف الألف، كما حذفوا في حبارى إذا نسبوا إليها، فيقولون: جمزيّ، ولا يقولون: جمزويّ لتوالي الحركات؛ لأن توالي الحركات يلحقها بحكم ما عدته أربعة أحرف سوى ألف التأنيث. ألا ترى أنّا لو سمينا امرأة بقدم لم نصرفها، وإن سميناها بدعد صرفناها، فصارت " قدم " بمنزلة " عقرب " و " عناق " وكذلك صارت جمزى بمنزلة حبارى. ولم يكن بمنزلة حبلى، وسكرى في جواز قلب الألف منها. والباب في حبارى وما كان عدّته مع الألف خمسة أحرف فصاعدا إذا كانت الألف مقصورة في آخرها أصلية كانت أو زائدة للتأنيث أو غيره أن تحذف. وسترى ذلك فيما يلي هذا الباب. هذا باب الإضافة إلى كل اسم كان آخره ألفا، وكان على خمسة أحرف اعلم أن كل اسم في آخره ألف مقصورة، وهو على خمسة أحرف أو ستة، فإن الألف تسقط، إذا نسبت إليه، وسواء كانت الألف فيه أصلية، أو زائدة، للتأنيث، وغير

التأنيث. فأما ما كانت الألف فيه أصلية فنحو: مرامى ومنتهى ومستدعى تقول في النسبة إلى ذلك: مراميّ ومستدعيّ. وأما ما كانت الألف فيه زائدة، للتأنيث فنحو: قهقرى، ويهيّرّي، وحبارى. تقول: قهقريّ، وحباريّ، وبهيّريّ. وما كانت الألف فيه زائدة، لغير التأنيث، فنحو: حبنطى، ودلنظى وقبعثرى؛ لأنها ألفات، يلحقها التنوين، وهي زوائد لغير التأنيث تقول فيها: حبنطيّ، ودلنظيّ، وقبعثريّ. وإنما وجب إسقاط هذه الألف؛ لأنها ساكنة والياء الأولى من ياءي النسبة ساكنة، وقد كثرت الحروف، فاجتماع ذلك أوجب إسقاطها ومما يسهل حذفها، ويقويه، أنهم قد حذفوا مما هو على أربعة أحرف، كقولهم في حبلى: حبليّ، وفي ملهى: ملهيّ، فإذا كان يجوز حذفها، مما قلت حروفه، لزم فيما كثرت حروفه. ويقوي ذلك أيضا حذفهم الياء الساكنة من ربيعة، وحنيفة فقالوا: ربعيّ، وحنفيّ ولا خلاف بينهم في ذلك، إلا أن يكون على خمسة أحرف، والألف أصلية، وفيها حرف مشدد نحو قولهم، مثنّى، ومعمّى، فإن يونس جعل، مثنى، وما جرى مجراه، بمنزلة معطى وهو قول ضعيف؛ لأن المدغم بزنة ما ليس بمدغم، وهو حرفان في الوزن، الأول منهما ساكن. وقال سيبويه: يلزم يونس أن يقول في عبدّى: عبدّويّ كما جاز في حبلى: حبلوي وإنما ألزمه ذلك؛ لأن يونس كان يفرق بين الألف في مثنى وعبدّى؛ لأنهما في مثنى أصلية، وفي عبدى للتأنيث، فيقال له إن كان مثنى من أجل الإدغام يصير بمنزلة معطى، فينبغي أن يصير عبدى بمنزلة ذكرى، وحبلى. ولما جاز في حبلى، وذكرى حبلوي وذكروي لزمه أن يجيز في عبدّى عبدّويّ. وألزمه سيبويه أيضا أنه جاء اسم مؤنث على مثل " معدّ " أو " خدبّ " أو " حمصّ " أو ما أشبه ذلك فسمينا به مذكرا أن يصرفه. لأنه جعل المدغم كحرف واحد، فصير كرجل سميناه بقدم أو أذن، وقد وافقهم في مرامى وما لم يكن مدغما أن يقال مرامي وأما الممدود مصروفا كان، أو غير مصروف، للتأنيث أو لغير التأنيث، فإنه لا يسقط للنسبة. فما كان منه للتأنيث قلبت الهمزة واوا، كقولنا في خنفساء: خنفساوي، وفي حرملاء حرملاوي وفي معبوراء: معبوراوي. وما كان لغير التأنيث وهو مصروف أو سمي

هذا باب الإضافة إلى بنات الحرفين

به مؤنث فلم ينصرف للتأنيث، والتعريف، فإن النسبة إليه بالهمزة والواو أيضا، كقولك في النسب إلى حراء: حرائي وإن شئت: حرواي. واحتج سيبويه لثبات الممدود فقال: لأن آخر الاسم لما تحرك، يدخله الجر، والرفع والنصب صار بمنزلة " سلامان "، وزعفران، وكالأواخر التي من نفس الحرف. نحو: احرنجام واشهيباب، فصار هكذا كما صار آخر معزى حين نون بمنزلة آخر مرمى. يريد أن كثرة حروف معبوراء، وما أشبهها إذا كان آخرها متحركا لم يجز إسقاط شيء فيها كما لم يجز إسقاط شيء من احرنجام، واشهيباب وإن طالت حروفه؛ لأنّا نقول: سلاماني، واحرنجامي، وفصل بين هذا، وبين ما كان آخره مقصورا لسكون آخر المقصور، وسقوطه إذا لقيه ساكن بعده، كياء ربيعة، وحنيفة الساكنين. ولو تحركت الياء لم تسقط كالنسبة إلى " عثير "، وهو التّراب و " حثيل " وهو من النبات يقال حثيليّ، وعثيرميّ كما يقال حميريّ. والممدود المتحرك كالياء في عثير المتحركة. وإنما أراد سيبويه بهذا أنه قد يكون للمتحرك قوة تمنع من حذفه في الموضع الذي يسقط فيه الساكن ومن الممدود الذي تكثر حروفه ولا تسقط في النسبة قولك في زكرياء، زكرياوي، وفي بروكاء بروكاوي. هذا باب الإضافة إلى بنات الحرفين اعلم أن كل اسم على حرفين، ذهبت لامه، ولم يردّ في تثنيته، إلى الأصل ولا في الجمع، بالتاء وكان أصله فعّل، أو فعل، أو فعل أو ما جرى مجرى ذلك، فإنك فيه بالخيار، إن شئت رددت إليه ما حذف منه، وإن شئت نسبت إلى الحرفين. فأما النسبة إلى الحرفين فقولك في دم: دميّ وفي فد: فديّ وفي يد: يدي. وتقول في ثبة: ثبيّ وفي شفة: شفيّ وفي حر: حريّ وفي ربّ، في لغة من قال: رب رجل فخفف: ربيّ. وأما من ردّ الحرف الذاهب، فإنه يلزم الحرف الثاني الفتح من أي بناء كان فيقول في يد: يدوي وفي دم: دموي وفي غد: غدويّ، وغد في الأصل غدو على فعل. ومن العرب من يقول آتيك غدّوا يريد غدا.

هذا باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرد

قال الشاعر: وما النّاس إلا كالدّيار وأهلها … بها يوم حلّوها وغدوا بلاقع (¬1) " ويد "، و " دم " على مذهب سيبويه فعل، ويستدل على يد بقولهم: أيد، وإنما هي أفعل، جماع " فعل " كقولهم: كلب، وأكلب. ودم أوله مفتوح، وليس لنا أن نثبت في ثانيه حركة لم يقم الدليل عليها وحر أصله فعل، والساقط منه حاء، ويصغر حريح، والجمع أحراح. فإذا نسبنا إليه على رد الذاهب قلنا: حرحي. وإنما ألزمنا الفتحة الحرف الثاني، وإن كان ساكنا، في أصل البنية؛ لأن الحرف الثاني كانت الحركة له لازمة للإعراب. وإنما ردوا الحرف الذاهب لقلة الحروف، فإذا ردوا ما لم يكن فيه، من أجل التكثير، وجب أن لا يزيلوا ما هو فيه من الحركة، وهو تحريك الحرف الثاني، والفتحة أخف الحركات. فإن قال قائل: فكيف تنسب إلى " رب " المخففة برد الذاهب؟ قلت: ربيّ بالإدغام. فإن قال قائل: فقد كانت الباء متحركة قبل أن ترد الباء الثانية فينبغي أن تدعها على حركتها، فتقول: " ربيّ ". قيل: إنما كره ذلك من أجل التضعيف وهو مستثقل، كما استثقل " ردد " فأدغم. وقد نسب إلى " قرة " ويقال إنهم قوم من عبد القيس. فقالوا: قري؛ لأن أصله قرّة، وخففوا ثم ردوا في النسبة، فأدغموا. ألا ترى أنهم قالوا: شديد وشديديّ وشديدة وشديديّ أيضا، كراهة أن يقال " شدديّ "، إذا حذفوا الياء، فالكراهة في " ربيّ " لذلك. هذا باب ما لا يجوز فيه من بنات الحرفين إلا الرد اعلم أن كل ما كان على حرفين، والساقط منه لام " الفعل " وكانت اللام الساقطة ترجع في التثنية، والجمع بالألف والتاء، فإن النسبة إليه ترد الحرف الساقط لا يجوز غير ذلك. فأما ما يرجع في التثنية فقولك في أب: أبوان، وفي أخ أخوان. وأما ما يرجع بالألف والتاء فقولك في سنة: سنوات، فإذا نسبت إلى أب أو أخ، ¬

_ (¬1) المقتضب: 3/ 153، وابن يعيش: 6/ 4.

أو سنة قلت: أبويّ، وأخويّ، وسنويّ لا يجوز غير ذلك. وإنما وجب رد الذاهب، لأنا رأينا النسبة قد ترد الذاهب الذي لا يعود في التثنية، كقولك في يد: يدويّ وفي دم: دموي، وأنت تقول: يدان ودمان. فلما قويت النسبة على رد ما لا ترده التثنية صارت أقوى من التثنية في باب الرد فلما ردت التثنية الحرف الذاهب كانت النسبة أولى بذلك. وقد يرد الشاعر مضطرا الذاهب من يد ودم قال: ولو أنّا على حجر ذبحنا … جرى الدّميان بالخبر اليقين (¬1) وقال: يديان بالمعروف عند محرّق … قد يمنعانك أن تضام وتضهدا (¬2) واعلم أن من العرب من يقول: هذا هنوك، ورأيت هناك، ومررت بهنيك، ويقول في التثنية: هنوان وإذا أفرد، قال: " هن "، كما يقول: أخ، وإذا جمع المؤنث، قال: هنوات. فمن قال هذا ألزمه في النسبة " هنوي " لا غير. قال الشاعر: أرى ابن نزار قد جفاني وملّني … على هنوات كلّها متتابع (¬3) ومن قال: هذا هنك، وقال: هنان في التثنية، وهنات في الجمع، فأنت في لغته مخير في التثنية إن شئت رددت، فقلت: هنويّ، وإن شئت لم ترد فقلت: هنيّ، كما قلت في يد: يديّ، ويدوي. وتقول في النسب إلى أخت: أخويّ، وذلك أن العرب ردتها في الجمع بالألف، والتاء، إلى أصلها فقالوا: أخوات فوجب من أجل ذلك أخويّ. وكان يونس يقول: أختيّ وليس ذلك بقياس عند سيبويه. ¬

_ (¬1) المقتضب: 1/ 231 و 2/ 238 و 3/ 153، وابن يعيش: 4/ 151 و 152 و 5/ 84 و 6/ 5 و 9/ 24، والخزانة: 3/ 349. (¬2) ابن يعيش: 4/ 151 و 6/ 83 و 6/ 5 و 10/ 56، والخزانة: 3/ 347، 350. (¬3) المقتضب: 2/ 570، وابن يعيش: 1/ 53: 85 و 5: 38 و 6/ 3 و 10/ 44540، واللسان: (هنا).

هذا باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين فإن شئت تركته في الإضافة على حاله، وإن شئت رددت

وأنا استقصي الكلام في ذلك في الباب الذي يليه. قال سيبويه: " ومن جعل سنة من بنات الهاء (قال سنهة) قال سانهت فهي بمنزلة شفة، تقول شفهي وسنهي. وتقول في عضة: عضويّ على قول الشاعر: هذا طريق يأزم ألمآزما … وعضوات تقطع اللهازما (¬1) ومن العرب من يقول: عضّيهة، يجعلها من بنات الهاء بمنزلة شفة، إذا قالوا ذلك. فهذا كلام سيبويه على ما ذكرته لك، وقد قال في الباب الذي قبل هذا في شفة: شفيّ وشفهيّ لأن الهاء لا ترجع في التثنية، ولا في الجمع الذي بالألف والتاء. فصرت مخيرا في الوجهين كالتخيير في يد، ودم. ويلزم على هذا أن تقول في سنة على قول من قال: سانهت بالوجهين جميعا: سنيّ، وسنهيّ وكذلك في عضة في قول من قال: عضيهة عضيّ، وعضهيّ؛ لأن الهاء لا ترجع في تثنية، ولا جمع، لا يقال سنهات ولا عضهات. هذا باب الإضافة إلى ما فيه الزوائد من بنات الحرفين فإن شئت تركته في الإضافة على حاله، وإن شئت رددت قال أبو سعيد: واعلم أن هذا الباب يشبه ما كان على حرفين مما حذف آخره، ولم يرجع في التثنية، ولا في الجمع بالألف والتاء وذلك نحو ابن، واسم، واست، واثنان، وابنة فإن تركته على حاله قلت: اسمي، واستي، واثني في اثنين، واثنتين، وإن شئت حذفت الزوائد التي في الاسم، ورددته إلى أصله. والزوائد هي ألفات الوصل التي في أول الاسم فقلت: بنوي، وستهيّ، وسمويّ وفي كتابي الذي منه قرأت: أو سموي؛ لأنه يقال: سم وسم. فهذه الأسماء جعلت زيادة الألف في أولها عوضا من المحذوف، فإذا أقررتها لم ترد شيئا؛ لأن الذاهب عوضه باق وإذا حذفت الزوائد رددت ما كان ذاهبا. ¬

_ (¬1) ابن يعيش: 5/ 38، واللسان: (عضه).

وإنما جئت بالهاء في ستهي؛ لأن لامها هاء، ألا ترى أنك تقول: الأستاء وستيهة في التحقير وتفتح الحرف الذي قبل آخره؛ لأن الحركة كانت تقع عليه وقد مضى الكلام في هذا. قال سيبويه: وتصديق ذلك أن أبا الخطاب كان يقول: إن بعضهم إذا أضاف إلى أبناء فارس قال: بنويّ. وزعم يونس أن أبا عمرو زعم أنهم يقولون ابنيّ فترك على حاله كما ترك دم. وأما الذين حذفوا الزوائد وردوا فإنهم جعلوا الإضافة تقوى على حذف الزوائد كقوتها على الرد وقد ذكرت العلة في هذا. قال: " وسألت الخليل عن الإضافة إلى ابنم فقال: إن شئت حذفت الزوائد فقلت: بنويّ، كأنك أضفت إلى ابن. وإن شئت تركته على حالة فقلت: ابنميّ كما قلت: ابني، واستي. وهذا قياس من الخليل لم تتكلم به العرب. قال: " وأما بنت فإنك تقول: بنويّ، من قبل أن هذه التاء التي هي للتأنيث لا تثبت في الإضافة، كما لا تثبت في الجمع بالتاء؛ وذلك لأنهم شبهوها بهاء التأنيث، فلما حذفوا، وكانت زيادة في الاسم، كتاء سنبتة وتاء عفريت، ولم تكن مضمومة إلى الاسم كالهاء، يدلك على ذلك سكون ما قبلها، جعلناها بمنزلة ابن. فإن قلت: بني جائز كما قلت: بنات فإنه ينبغي لك أن تقول: بني في ابن كما قلت: بنون. فإنما ألزموا هذا الرد في الإضافة لقوتها على الرد؛ ولأنها قد ترد، ولا حذف. فالتاء يعوض منها كما يعوض من غيرها وكذلك كلتا وثنتان، تقول: كلويّ وثنويّ وفي بنتان بنويّ " قال أبو سعيد: اعلم أن تاء التأنيث قد دخلت على أسماء مؤنثة، فجعلت عوضا من المحذوفات في أواخر تلك الأسماء، فأجريت مجرى الحرف الأصلي وسكن ما قبلها، وخولف بها مذهب هاء التأنيث. إذ كان هاء التأنيث بفتح ما قبلها وهذه الأسماء يكون ما قبل التاء فيها ساكنا، وذلك قولهم: بنت، وأخت، وهنت، وذيت، وجعلت أخت بمنزلة قفل، وبنت بمنزلة

جذع، وهنت، وذيت بمنزلة فلس، فصار التأنيث في هذه الأسماء مذهبان: مذهب الحروف الأصلية لسكون ما قبلها. ومذهب هاء التأنيث؛ لأنها لم تقع إلا على مؤنث ومذكرها، بخلاف لفظها، كأخ، وابن، وهن، فجمعتها العرب، وصغرتها بالرد إلى الأصل، وترك الاعتداد بالتاء، فقالوا: أخوات وبنات، وهنات وقالوا في التصغير أخيّة، وبنيّة، وهنية، أو هنيهة، فاختار النحويون ردها إلى الأصل في النسبة، كما ردتها العرب في التصغير والجمع إلى ذلك حين قالوا: أخية، وأخوات وإذا ردوها إلى الأصل وجب أن يقال: بنوي في بنت، وأخوي في أخت، وفتحت الياء؛ لأن الجمع قد دلّ على فتح الياء في الأصل حين قالوا بنات وأخوات. فإن قال قائل: فهلا أجزتم في النسبة إلى بنت: بنيّ، من حيث قالوا: بنات كما قلتم: أخويّ من حيث قالوا أخوات، فإن الجواب عن ذلك أنهم قالوا في المذكر: بنويّ ولم يقولوا فيه: بنيّ إنما قالوا: بنوي، أو ابنيّ، فلم يحملوا على الحذف إذ كانت الإضافة قوية على الحذف. وكان يونس يجيز بنتيّ، وأختيّ على ما ذكرناه من إلحاقهما بجذع، وقفل، وإجراء الملحق بمنزلة الأصل ولم يكن يقول: في هنت، ومنت: هنتيّ ومنتيّ. فقال الخليل: من قال بنتيّ قال: هنتيّ يعني يجب عليه أن يقول هذا. قال: وهذا لا يقوله أحد. واستدل سيبويه على أن أصل " ابن " و " بنت " فعل (كما) أن أختا أيضا فعل بقولهم: أخوك وأخاك، وأخيك، فاستدل بفتح أوله، وبقولهم " آخاء " في الجمع فيما حكاه يونس عن بعض العرب. قال: وأي بنو الآخاء تنبو مناسبه (¬1) وقد ذكرت هذا في غير هذا الموضع. وإنما قالوا في النسبة إلى الاثنين: ثنويّ؛ لأن أصله فعل، وقول العرب ثنتان لا يبطل ذلك، كما أن كسر الباء في بنت لا يبطل أن يكون أصل بنيتها فعلا ويقوي ذلك أيضا ¬

_ (¬1) في اللسان: (أخا).

أنهم يقولون في الاثنين: أثناء كما قالوا: أبناء. وإذا نسبت إلى ذيت قلت ذيويّ؛ لأن هذه التاء بمنزلة التاء في بنت فيلزم حذفها ورد الكلمة إلى أصلها، والأصل ذيّة، فإذا نسبنا إليها قلنا: ذيوي، كما تقول في حيّة: حيويّ. وأما كلتا فإن سيبويه ذكرها بعد بنت، وقد ذكر أن التاء في بنت للتأنيث، وأنهم شبهوها بهاء التأنيث في إسقاطها من النسب فقال على سياق كلامه: كلتا، وثنتان، يقال: كلويّ، وثنويّ. وفي بنتان: " بنويّ " فأوجب ظاهر هذا الكلام أن التاء في كلتا كالتاء في بنت، فإن سمي بها شيئا لم يصرفه في معرفة، ولا نكرة. وهذه التاء بمنزلة التاء في بنت، غير أنها لما صارت للإلحاق جاز أن تلحقها ألف التأنيث فمن حيث وجب رد بنت في النسبة إلى الأصل، وحذف التاء منها وجب رد كلتا إلى الأصل، وحذف التاء منها ثم تحذف ألف التأنيث فيقال: كلويّ، واللام محركة؛ لأنه قد صح تحريكها في كلا فيقال كلويّ من أجل ذلك. ومن فسر من أصحابنا أن التاء في كلتا عوض من الواو فغير خارج عما قلنا؛ لأنّا نقول إن الألف في اسم عوض مما حذف، وكذلك في ابن وما جرى مجراه، ولا يمنع ذلك من رده إلى الأصل في النسبة. ومن قال إن التاء بدل من الواو، كما يبدل الحرف مكان الحرف، في نحو قوله: ستّة وأصلها سدسة لزمه أن يقول: كلتيّ. وكان الجرمي يقول: كلتا فعتل والتاء زائدة، والألف من الأصل، والنسبة إليها كلتويّ كما يقال في ملهى: ملهوي، وليس ذلك بقول مختار. لأن زيادة التاء في مثل هذا الموضع غير موجود؛ لأنها زيادة تاء قبل لام " الفعل " ولا أعلم له في الكلام نظيرا، وإذا نسبت إلى " فم " وأصله فوه؛ لأن جمعه أفواه فإن سيبويه أجاز فيه " فميّ " و " فمويّ ". وقال: ومن قال في التثنية فمان جاز أن يقول: فميّ، وفمويّ كما يقال في دم: دميّ ودمويّ. ومن قال: فموان، فلا يجوز إلا فمويّ، كما يقول في أخ: أخويّ من حيث قال أخوان. وكان أبو العباس المبرد يقول: من لم يقل فميّ فحقه أن يرده إلى الأصل، والأصل

فوه، فيقولون: فوهيّ. وإنما ذهب سيبويه في فمويّ إلى قول الشاعر. هما نفثا في فيّ من فمويهما … على النّابح العاوى أشدّ رجام (¬1) فلما رد الواو في التثنية وجب ردها النسبة. فإن قال قائل: ولم رد الشاعر الواو في التثنية، والميم بدل منها، وإنما يرد ما ذهب والواو كأنها موجودة في الكلمة لوجود بدلها. قيل له لا ينكر في الضرورة مثل ذلك؛ لأنه ربما زيد على الكلمة حرف من لفظ ما هو موجود فيه كقولهم: قطنّ، وخينّ فكيف من لفظ ما قد غيّر. ويجوز أن يكون لمّا كان الساقط من بنات الحرفين إذا كان أخيرا فالأغلب أن يكون واوا ردّ واوا؛ لأنه رأى فما على حرفين. وقال بعضهم إن الميم بدل من الهاء وإن الساقط من فم هو الواو فلذلك ردها. وإذا نسبت إلى رجل اسمه ذو مال قلت: ذوويّ. ترد الذاهب، لأن " ذو " اسم على حرفين، الثاني من حروف المد واللين، ولا يقوم بنفسه مفردا، فرددنا الذاهب، وعين الفعل منه واو مفتوحة، فتقول: ذوو، ووزنه فعل والدليل على ذلك قوله: " ذواتا أفنان ". وكذلك إذا نسبت إلى ذات مال، لأنك تحذف تاء التأنيث فيستوي الذكر والأنثى، وإذا أضفت إلى رجل اسمه " فوزيد، فكأنك إنما تضيف إلى فم فتكون نسبته، كالنسبة إلى " فم " وقد مضى نحو ذلك. قال: (وأما الإضافة إلى شاء فشاويّ، كذلك يتكلمون به. قال الشاعر: فلست بشاويّ عليه دمامة … إذا ما غدا يغدو بقوس وأسهم (¬2) وإن سميت به رجلا أجريته " على القياس " يعني: إذا قلنا: شاو يريد به صاحب شاء، فليس إلا الواو؛ لأن العرب هكذا نسبت في ذا المعنى، كما نسبت إلى الجمّة: جمّانيّ، إذا كان صاحب جمّة. ¬

_ (¬1) المقتضب: 3/ 158، والخزانة 2/ 269 - 272، 2/ 346، واللسان: (فوه). (¬2) شواهد سيبويه: 3/ 367، واللسان: " قرش ".

فإن كان رجل اسمه شاء، ثم نسبت إليه، كان الأجود، " شائي " ويجوز شاويّ. على قياس ما مر. كما أن رجلا لو كان اسمه جمّة ثم نسبنا إليه لقلنا جمّيّ. وإذا أضفت إلى شاة قلت: شاهيّ؛ لأن الذاهب منه هاء، ألا ترى أنك تقول: شويهة في التصغير وشياه في الجمع. قال: (وأما الإضافة إلى لات من اللات، والعزّى فإنك تمدها، كما تمد لا ...). يعني تقول: لائي، وذلك لأنك تحذف التاء؛ لأن من الناس من يقف عليه، فيقول: لاه، ويصلها بالتاء فصار كهاء التأنيث، ويحذف في النسبة فيبقى لا، ولا يبدي ما الذاهب منه على قوله، فزيد حرف آخر من جنس الحرف الثاني منه، وهو الألف كما يقال في " لو " و " كي " و " لا ": " لوّ "، و " كيّ "، و " لاء ". ومن الناس من يقول: إن الذاهب منه هاء، وإن أصله لاهة؛ لأن القوم الذين سموه بذلك هم الذين اتخذوها إلهة، وعبدوها، ولا أحب الخوض في هذا، والنسبة إليه. وأم الإضافة إلى ماء، فمائي. ومن قال: عطاويّ. قال: ماويّ. قال: " وأما الإضافة إلى " امرئ "، فعلى القياس، تقول: امرئيّ وتقديرها " أمرعيّ "، لأنه ليس من بنات الحرفين، وليس الألف هاهنا بعوض فهو كالانطلاق اسم رجل، ولم يخير سيبويه فيه كما خير في اسم، وابن فأجاز فيه بنويّ وابنيّ، وكذلك ما يشبه الابن مما بعد ألف وصله حرفان، وجعل القياس في امرئ: امرئيّ وفرق بينهما؛ لأن ابنا واسما، واستا، قد حذفت أواخرها فصارت كذوات الحرفين نحو دم ويد وامرؤ لم يذهب من حروف أصله شيء، فكانت ألف الوصل فيه، كألف الوصل في انطلاق. وأنت إذا نسبت إلى الانطلاق، لم تحذف منه شيئا وكسرت الراء في " امرئ " على كل حال؛ لأن الهمزة مكسورة، لأجل ياء النسب، فتبعتها الراء. قال: وقد قالوا: مرئيّ في النسبة إلى امرئ القيس. وهذا عنده من الشاذ الخارج عن القياس فهذا قول سيبويه ولا يعرف " امرئيّ " ولكنه أتي به على القياس. والمعروف في كلام العرب مرئيّ.

هذا باب الإضافة إلى ما ذهبت واوه من بنات الحرفين

قال ذو الرمة: ويذهب بينها المرئيّ لغوا … كما ألغيت في الدّبة الحوارا (¬1) وقال محمد بن حبيب: كل من اسمه امرؤ القيس من العرب، فالنسبة إليه مرئي إلا امرأ القيس في كنده، فإنه يقال: مرئيّ ". هذا باب الإضافة إلى ما ذهبت واوه من بنات الحرفين قال أبو سعيد: هذا الباب يشتمل على شيئين: أحدهما: ما ذهب فاء الفعل منه، ولامه حرف صحيح نحو قولنا: عدة وزنة، وما أشبه ذلك. والآخر أن تكون لام الفعل منه ياء كقولهم: دبة، وشية. فأما ما كان لام الفعل منه صحيحا فإنه لا يرد إليه الذاهب كقولنا في النسبة إلى عدة: عدي والى زنة: زنيّ، ولم نرد الذاهب لبعده من ياءي النسبة؛ ولأنه لو ظهر ما كان يتغير بدخول ياء النسبة، كما يتغير لام " الفعل " وينكسر من أجل الياء. ولا يجوز أن تزيد حرفا، في موضع لام الفعل، لم يكن في أصل الكلمة. ألا ترى أنا لو صغرنا، فاحتجنا إلى حرف آخر، لم نرد إلا الذاهب، فقلنا: وعيدة، ووزينة، ويقوي ذلك أن العرب لم ترد في شيء فاء الفعل، مما ذهبت منه في الجمع بالتاء، وفي التثنية كما ردت فيما ذهبت لامه، فقالوا في عضة، وسنة: عضوات، وسنوات، وفي أخ وأب: أخوان وأبوان. فهذا يقوي أن الفاء لا ترد، ولا نعلم في ذلك خلافا. فإن كان لام الفعل ياء، فإن الضرورة توجب رد الذاهب، في النسبة إلى شية، ودية وما أشبه ذلك. تقول فيه على مذهب سيبويه: وشويّ، وودويّ، وأصله وشية، وودية فألقيت كسرة الواو على ما بعدها، وحذفت؛ لأن الفعل قد اعتل، فحذفت منه الواو، في يعد، ويزن فردوا العلة في المصدر من جهة كسرة الواو، ولو كانت الواو مفتوحة لم تعتل، ألا تراهم قالوا: الوثية، والوجبة، والوحدة، فلما نسبنا إلى شية وقد تحركت الشين، فوجب حذف الهاء للنسبة بقيت الشين والياء، وهما حرفان الثاني من حروف المد واللين، ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 196، وابن يعيش 6/ 8.

هذا باب الإضافة إلى كل اسم ولي آخره ياءين مدغمة إحداهما في الأخرى

فوجبت زيادة حرف، فكان أولى ذلك أن يرد ما ذهب منه، وهو الواو مكسورة، فصار: وشييّ، ففتحنا الشين كما قلنا في عم، وشج: عمويّ، وشجويّ. وقال أبو الحسن الأخفش: رد الكلمة إلى أصلها، وهي فعلة. فتكون وشية، ثم تنسب إليه، فيصير وشييّ كما لو نسبنا إلى ظبية، وحمية، قلنا: ظبييّ، وحمييّ، وقول سيبويه أولى؛ لأن الشين متحركة، ولم نحتج إلى تغيير البناء، كما لم نحتج في عدة. وإنما احتجنا إلى حرف آخر فرددنا الحرف؛ لأن الضرورة لم توجب أكثر من رد الحرف الذاهب وتركنا الباقي على حاله. ويقوي أن أصله فعلة قولهم: وجهة وجهة في معنى واحد، وكان أبو العباس يذهب إلى مثل قول الأخفش وأن الشيء إذا رد ما ذهب منه وجب أن ينسب إليه على بنائه. وحكي عن الأخفش غدوي بتسكين الدال لأن الأصل عنده غدو. وقد اختلفوا في دم فمذهب سيبويه أنه " فعل " بتسكين العين وكذلك مذهب الأخفش. وكان أبو العباس يذهب إلى أنه " فعل "، ويستدل على ذلك بقولهم: دمي يدمي دما، كما تقول: فرق يفرق فرقا، وحذر يحذر حذرا، وفاعله دم كما يقال: فرق وحذر والذي احتج به أبو العباس لا يلزم؛ لأن الكلام في الدّم المسفوح لا في مصدره، وقد يكون الشيء على وزن، فإذا صرف منه الفعل، كان مصدر ذلك الفعل على غير لفظه، من ذلك قولهم: جنب الرجل يجنب جنبا إذا اشتكى جنبه، فالفعل مأخوذ من الجنب، ومصدره فعل، والجنب فعل، وكذلك بطن يبطن بطنا إذا كان كثير الأكل، والفعل مصرّف من البطن، ومصدره متحرك العين. هذا باب الإضافة إلى كل اسم ولي آخره ياءين مدغمة إحداهما في الأخرى قال سيبويه: " وذلك نحو أسيّد، وحميّر، ولبيّد، وسيّد، وميّت وهيّن وما جري مجرى ذلك " فالباب في هذا إذا نسبت إليه أن تحذف الياء المتحركة من الياءين، ثم تنسب إليه فتقول: أسيديّ، وحميري، ولبيديّ، وكذلك تنسب العرب إلى هذه الأسماء وتقول في النسبة إلى ميّت وما أشبه: ميتيّ وسيديّ وهينيّ، وإنما كان حذف الياء المتحركة أولى من حذف الياء الساكنة؛ لأن الذي أوجب الحذف توالي الكسرات واجتماع الياءات، فإذا

هذا باب ما لحقته الزيادتان للجمع والتثنية

حذفنا المتحركة، فقد نقصت كسرة وياء، وقد رأيناهم خففوا على هذا المنهاج في غير النسبة فقالوا: سيد، وميت، وهين، ولين، ولو حذفوا الساكن لبقيت كسرة الياء فكان ذلك يثقل لتوالي الكسرات مع قلة مثل ذلك في كلامهم من قبل النسبة، بل لا يكاد يوجد ذلك. وقالت العرب في طيئ: طائيّ، وكان حقه طيئيّ تقديرها طيعيّ، ولكنهم جعلوا الألف مكان الياء كما قالوا في يوجل: ياجل، وقد تقدم الكلام فيه أنه شاذ كزباني في زبينة ... قال: " وإذا أضفنا إلى مهيّيم قلنا: مهيميّ، " فلا نحذف شيئا؛ لأنّا إن حذفنا الهاء التي قبل الميم صار مهيّم، والنسبة إلى مهيّم توجب حذف الياء، فيقال: مهيميّ، كما قلنا في حميّر: حميريّ، فيصير ذلك إخلالا به ". كما أنه إذا حقروا (عبضموز) لم يحذفوا الواو؛ لأنهم إن حذفوا الواو احتاجوا إلى حذف الياء، وإذا حذفوا الياء لم يحتاجوا إلى حذف الواو، فاختاروا ما لا يوجب حذف شيئين إبقاء على توقير حروف الكلمة، وأن لا يحذف منها إلا عند الضرورة، وستقف في باب التصغير على ذلك إن شاء الله تعالى. يقال: هيّم الرجل الحبّ (يهيّمه)، والحبّ مهيّم، فإذا نسبنا إليه وجب التخفيف، فتقول: مهيميّ. وتقول: هوّم الرجل، إذا نام، فهو مهوّم، فإذا صغرناه وجب أن نحذف أحد الواوين. ثم ندخل ياء التصغير فيصير " مهيوم "، ونقلب الواو ياء لاجتماعها فيصير مهيّم، وتعوض من المحذوف للتصغير فيصير مهيّم كما نقول سفيريج وهو معنى مهيّم الذي ذكر. هذا باب ما لحقته الزيادتان للجمع والتثنية قال سيبويه: وذلك قولك مسلمون ورجلان، ونحوهما، فإذا نسبت إلى شيء من ذلك حذفت علامة الجمع والتثنية. فقلت: مسلميّ ورجليّ، وذلك لأنك لو بقّيت العلامة فقلت مسلمونيّ ورجلاني جاز أن نثني المنسوب ونجمعه فنقول: مسلمونيّون، ورجلانيّان وذلك باطل؛ لأن في رجلان إعرابا في التقدير بلفظ الألف، وكذلك في مسلمون، فإذا قدرنا ذلك فيه من هذا اللفظ الظاهر، ثم أدخلنا عليه إعرابا آخر اجتمع فيه في التقدير إعرابان، وما جري مجرى

هذا باب الإضافة إلى كل اسم لحقته التاء للجمع

الجمع من أسماء المواضع فجعل فيه واو في الرفع وياء في الجر والنصب فهو بهذه المنزلة. ومن قال من العرب: هذه قنّسرون، ورأيت قنّسرين وهذه يبرون ورأيت يبربن قال: يبريّ وقنّسريّ، ومن قال هذه يبرين قال: يبرينيّ كما يقول: غسليني وسريحيني، ومثله نصيون وسيلحون إذا جعلته كالجمع ونصيين وسيلحين إذا جعلته كالواحد. هذا باب الإضافة إلى كل اسم لحقته التاء للجمع قال سيبويه: وذلك مسلمات، وثمرات، إذا سميت بشيء من هذا النحو، ثم أضفت إليه قلت: مسلميّ، وثمرى، وتحذف الألف والتاء، كما حذفت الهاء ومثل ذلك قول العرب في أذرعات: أذرعي وفي عانات: عانيّ. جعل الألف والتاء كالهاء في باب الحذف وذلك أنا لو ثبتناها، فقلنا: عاناتي جاز أن ننسب إليها مؤنثا، فيلزمنا عاناتيه، فتجمع بين الألف والتاء وبين الهاء، ولو جاز ذلك لجاز أن تقول: تمرتات ومسلمتات، وذلك باطل لا يقال، لأنهما كالشيء الواحد والألف والتاء إنما تختص بالتأنيث فلا يجمع بين العلامتين. وفي آخر هذا الباب قال: والإضافة إلى محيّ محيّيّ وإن شئت قلت: محويّ، وقال أبو عمر: وهذا أجود الوجهين كما قلت: أمويّ، وأميّيّ، نظير الأول. قال أبو سعيد: وهذا حقه أن يكون في الباب الذي فيه مهيّيهم؛ لأنه أتى بمحيّيّ؛ لأن قبل آخره ياء مشددة مكسورة، كأسيّد، وحميّر، فهو من ذلك الباب. وكان أبو العباس المبرد يقول في هذا: إن محيّيّ أجود من محويّ؛ لأنّا نحذف الياء الأخيرة، لاجتماع الساكنين ووقوعها خامسة، كنحو ما يحذف من مرامي وما أشبهه فيبقى محيّ، فالذي يقول: محويّ بحذف إحدى ياءي محيّ فيختل، فكما أوجب سيبويه في مهيّيم أن لا يحذف الأخيرة، لئلا يلزم حذف آخر، فكذلك لا نختار ما يلزم فيه حرفان، وهو محويّ. هذا باب الإضافة إلى الاسمين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر فجعلا اسما واحدا، نحو " معديكرب وخمسة عشر وبعلبك " وما أشبه ذلك. قال سيبويه: " كان الخليل يقول: تنسب إلى الأول منهما؛ لأنه يجعل الثاني كالهاء، فكان يقول في حضر موت: حضريّ، وفي خمسة عشر خمسيّ، وفي

معديكرب: معديّ " ولم يكن اجتماع الاسمين موجبا أنهما قد صيّرا اسما واحدا في التحقيق كما صير عنتريس، وعيضموز، وما أشبه ذلك مع الزيادة اسما واحدا فيه زيادة، بل صارا بمنزلة المضاف والمضاف إليه في إلقاء أحدهما حيث كانا من شيئين ضم أحدهما إلى الآخر وليس بزيادة في الأول. كما لم يكن المضاف إليه زيادة في المضاف، كما يزاد في الاسم بعض الحروف، ألا ترى أنه قد قيل: أيادي سبأ، وليس في الأسماء اسم على ثمانية أحرف؟ وقالوا: شفر بفر، وليس في الأسماء اسم توالت فيه ست حركات، وكذلك المضاف نحو صاحب جعفر وقدم عمرو. وربما ركّبوا من حروف الاسمين اسما ينسبون إليه قالوا: حضرمي كما ركبوا في المضاف فقالوا في عبد الدار وعبد القيس عبدري وعبقسيّ ومرقسيّ في امرئ القيس. وقد جاءت النسبة إليها جميعا منفردين، قال الشاعر: تزوّجنها راميّة رمزيّة … بفضل الذي أعطى الأمير من الرّزق (¬1) نسبها إلى رام هرمز. وكان الجرمي يجيز النسبة إلى أيهما شئت يقول في " بعل بك ": بعلي وإن شئت " بكّيّ " وفي " حضر موت " إن شئت (حضريّ) وإن شئت (موتيّ). قال: " وسألته يعني الخليل، عن الإضافة إلى رجل اسمه " اثنا عشر " فقال: " ثنوي " في قول من قال (بنويّ) وإن شئت قلت: " اثنيّ " في (اثنين) كما قلت: " ابني " فتشبه عشر بالنون كما شبهت عشر في خمسة عشر بالهاء ". يريد أن قولنا: (اثنا عشر) قد وقعت عشر موقع النون من اثنين واثنان إذا نسبت إليها وجب حذف الألف والنون كما تحذف في النسب إلى (رجلان) فلذلك قلت: (اثني) و (ثنوي)، وقد ذكرنا فيما تقدم النسبة إلى الاثنين وأما اثنا عشر التي للعدد فلا تضاف ولا يضاف إليها. فأما إضافتها فلأنك لو أضفتها وجب أن تحذف " عشر " لأن محل " عشر " محل نون الاثنين وإذا أضفنا " الاثنين " إلى شيء حذفنا النون كقولك غلاماك وثوباك، فلو أضفنا ¬

_ (¬1) بلا نسبة في المخصص 13/ 223، وشرح الأشموني 4/ 190.

هذا باب الإضافة إلى المضاف من الأسماء

وجب أن نقول: (اثناك) كما تقول: " ثوباك " فلو فعلنا ذلك لم يعرف أنك أضفت اثنين أو اثني عشر. وأما الإضافة إليها، وهو يعني النسبة فإنك لو نسبت إليها لوجب أن تقول: اثني، أو ثنوي فكان لا يعرف هل نسبت إلى اثنين أو إلى اثني عشر. فإن قال قائل: فقد أجزتم النسبة إلى رجل اسمه اثنا عشر، فقلتم: ثنوي أو اثنيّ، ويجوز أن يلتبس بالنسبة إلى رجل اسمه اثنان. فالفرق بينهما أن أسماء الأعلام ليست تقع لمعان، فيكون التباسهما يوقع فصلا بين معنيين، وإنما ينسب إليه وقد يقع في المنسوب إليه لبس لا يحفل به لعلم المخاطب بما ينسب إليه كقولنا في ربيعة: ربعيّ وفي حنيفة حنفي، وإن كنا لا نجيز في الأسماء " حنف " و " ربع ". لعلم المخاطب بما تنسب إليه، ولأن اللبس يبعد في ذلك. واثنا عشر واثنان كثيران في العدد، فالنسبة إلى أحدهما بلفظ الآخر يوقع اللّبس. وقد أجاز أبو حاتم السجستاني في مثل هذا النسبة إليهما منفردين لئلا يقع لبس فقال: ثوب إحدى عشري وإحدوي عشري إذا نسبت إلى ثوب طوله إحدى عشرة ذراعا، وعلى لغة من يقول: إحدى عشرة يقول إحديّ عشريّ كما يقول في ثمرة ثمريّ. وقال في النسبة إلى اثني عشر كذلك: اثنيّ عشريّ أو ثنويّ عشريّ وكذلك القياس إلى سائر ذلك إن شاء الله. هذا باب الإضافة إلى المضاف من الأسماء اعلم أن القياس في هذا الباب أن يضاف إلى الاسم الأول منهما. لأن الاسم الثاني بمنزلة تمام الأول وواقع موقع التنوين منه، ولا تجوز النسبة إليهما جميعا فتلحق علامة النسبة الاسم الثاني والأول مضاف إليه؛ لأنه إذا فعل ذلك بقينا الإضافة على حالها وأعربنا الاسم الأول بما يستحقه من الإعراب، وخفضنا الثاني على كل حال بإضافة الأول إليه، فكان يلزمنا إذا نسبنا إلى رجل يقال: له غلام زيد: هذا غلام زيدي ورأيت غلام زيدي، ومررت بغلام زيدى. فيصير كأنا نسبنا إلى زيد وحده ثم أضفنا غلاما إليه كما يضيف غلاما إلى بصرى فيقول: هذا غلام بصري ورأيت غلام بصري، وليس ذلك القصد في النسبة إلى المضاف، لأن هذا نسبة إلى المضاف إليه، وإنما قصدنا النسبة إلى المضاف والمضاف إليه بعضه،

وأيضا فلو نسبنا إلى الثاني وأدخلنا الإعراب عليه لوجد في الاسم إعرابان إذا قلنا: هذا غلام زيدي؛ لأن الغلام في حال الإضافة عامل فيما بعده ويعمل فيه ما قبله فيستحيل أيضا ذلك؛ لأن إضافته إلى ما بعده توجب إعرابه بالعوامل التي تدخل عليه وتوجب خفض ما بعده بإضافته إليه وكان الذي يستحق الخفض منهما بالإضافة يعرب بالرفع، والنصب ولو نسبنا إلى الأول، ثم أضفناه لتغير المعنى؛ لأنّا لو قلنا غلامي زيد ونحن نريد الإضافة إلى غلام زيد فقلنا: غلام فقد نسبنا إلى الغلام وأضفنا المنسوب إلى زيد، والمنسوب إلى الغلام، غير الغلام، فأضفنا غير الغلام إلى زيد وليس ذلك معنى الكلام، فوجب إضافته إلى الأول على كل حال فيما أوجه القياس، إلا أن الغرض ليس يوجب الإضافة إلى الثاني لطلب البيان. فمما أضيف إلى الأول، قولهم في عبد القيس: عبدي وفي امرئ القيس مريّ. ومما أضيف إلى الثاني من أجل اللبس ما كان يعرف من الأسماء بأبي فلان، وابن فلان. فأما ابن فلان فقولك في النسب إلى ابن كراع: كراعي، وإلى ابن الزبير: زبيريّ وإلى أبي مسلم: مسلميّ. وقالوا في النسب إلى أبي بكر بن كلاب: بكرىّ. وقالوا في ابن دعلج: دعلجيّ. وإنما صار كذلك في ابن فلان وأبي فلان؛ لأن الكنى كلها متشابهة في الاسم المضاف ومختلفة في المضاف إليه وباختلاف المضاف إليه يتميز بعض من بعض كقولنا: أبو زيد وأبو جعفر وأبو مسلم، وما جري مجراه. فلو أضفنا إلى الأول لصارت النسبة فيه كله أبوي، ولم يعرف بعض من بعض وكذلك في الابن، ولو نسبنا إلى الأول فقلنا: ابني وقع اللبس فعدلوا إلى الثاني من أجل ذلك. وكان أبو العباس المبرد يقول: إن ما كان من المضاف يعرف أول الاسمين منه بالثاني وكان الثاني معروفا فالقياس إضافته إلى الثاني نحو ابن الزبير وابن كراع. وما كان الثاني منه غير معروف فالقياس الإضافة إلى الأول، مثل عبد القيس وامرئ القيس؛ لأن القيس ليس بشيء معروف معين، يضاف عبد وامرؤ إليه. قال أبو سعيد: ويلزم المبرد في الكنى أن يضيف إلى الأول؛ لأن الثاني غير معروف

هذا باب الإضافة إلى الحكاية

معين كأبي مسلم وأبي بكر وأبي جعفر، وليست الأسماء المضاف إليها أبو بأسماء معروفة مقصود إليها ولا كنى الناس موضوعة على ذلك؛ لأن الإنسان قد يكنّى ولا ولد له، ولو أضافوا إلى الأول لوقع اللبس على ما ذكرت لك، فالأصل أن يضاف إلى الأول فيه كله. وما أضيف إلى الثاني منه فليس الواقع. وربما ركبوا من حروف المضاف والمضاف إليه ما ينسبون إليه كقولهم عبشميّ وهذا ليس بقياس. واحتج سيبويه للإضافة إلى الثاني بعد أن قدم أن القياس الإضافة إلى الأول. فقال: وأما ما يحذف منه الأول فنحو ابن كراع وابن الزبير. تقول: زبيريّ وكراعيّ تجعل ياءي الإضافة في الاسم الذي صار به الأول معرفة فهو أبين وأشهر ولا يخرج الأول من أن يكون المضافون أضيفوا إليه. وأما قولهم في النسب إلى عبد مناف: (منافيّ) فهو على مذهب ابن فلان وأبي فلان لما كثر (عبد) مضافا إلى ما بعده كعبد القيس وعبد مناف وعبد الدار وغير ذلك. أضافوا إلى الثاني؛ لأنه أبعد من اللبس. هذا باب الإضافة إلى الحكاية قال سيبويه: وذلك قولك في تأبط شرّا: تأبطي، وسمعنا من العرب من يقول: كونيّ حيث أضاف إلى كنت. وقال أبو عمر الجرميّ: يقول قوم: كنتيّ في الإضافة إلى (كنت). قال أبو سعيد: فإن قال قائل: لم أضافوا إلى الجملة والجملة لا تدخلها تثنية، ولا جمع ولا إعراب، ولا مضاف إلى المتكلم، ولا إلى غيره، ولا تصغر، ولا تجمع، فكيف خصّت النسبة بذلك؟ قيل له: إنما خصت النسبة بذلك لأن المنسوب غير المنسوب إليه. ألا نرى أن البصري غير البصرة، والكوفي غير الكوفة؟ والتشبيه والجمع والإضافة إلى الاسم المجرور، والتصغير ليس يخرج الاسم عن حاله، فلما كان كذلك وكان المنسوب قد ينسب إلى بعض حروف المنسوب إليه نسبوا إلى بعض حروف الجملة. وأما قولهم في كنت كونيّ فلأنه حذف التاء الفاعلة ونسب ... إلى " كن "، وكانت الواو قد سقطت لاجتماع الساكنين النون والواو، فلما احتاج إلى كسر النون لدخول ياء

هذا باب الإضافة إلى الجمع

النسبة رد الواو. والذي قال: كنتيّ شبه باسم واحد، لما اختلط الفاعل بالفعل. وربما قالوا: كنتنيّ، كأنّه أراد النون ليسلم لفظ كنت، أنشدني الرحّابي عن ثعلب. وما أنا كنتيّ وما أنا عاجن … وشرّ الرجال الكنتنيّ وعاجن (¬1) هذا باب الإضافة إلى الجمع قال سيبويه: واعلم أنك إذا أضفت إلى جميع أبدا فإنك توقع الإضافة على واحده الذي كسر عليه، ليفرق بين ما كان اسما لشيء واحد وبينه إذا لم ترد به إلا الجمع، وذلك قولك في رجل من القبائل: قبليّ، وللمرأة قبليّة؛ لأنك رددتها إلى واحد القبائل وهو قبيلة، وكذلك إذا نسبت إلى الفرائض تقول: فرضيّ تردها إلى الفريضة، والمساجد: مسجدي. وإلى الجمع جمعيّ. وقالوا في أبناء فارس: بنويّ وفي الرّباب: ربّيّ؛ لأن الرّباب جماع واحدته ربّة والربة " الفرقة من الناس " وليس باسم لواحد حتى نضيف إليه، وإنما الرّباب اسم لقبائل، وكل قبيلة منهم ربّة. وربما أضيف إلى الرّباب تجعل هذه القبائل باجتماعهم كشيء واحد، وقالوا في الإضافة إلى عرفاء: عريفيّ لأن الواحد عريف. وإنما اختاروا النسب إلى الواحد؛ لأن المنسوب ملابس لكل واحد من الجماعة. ولفظ الواحد أخف فنسبوه إلى الواحد، وزعم الخليل أن نحو ذلك قولهم في المسامعة: مسمعيّ، والمهالبة مهلّبيّ، لأن المسامعة، والمهالبة جمع فيرد إلى الواحد، والواحد مسمعيّ: مهلّبيّ. فإذا نسبت إلى الواحد حذفت ياء النسبة، ثم أحدثت ياء للنسبة. وإن شئت قلت واحد المهالبة والمسامعة: مهلّب، ومسمع فأضفت إليه. وقال أبو عبيدة: قد قالوا في الإضافة إلى العبلات وهم حيّ من قريش عبليّ. قال أبو سعيد: (العبلات) من بني عبد شمس، وهم أمية الأصغر وعبد أمية، ونوفل، وأمهم عبلة بنت عبيد من بني تميم من البراجم فنسب إلى الواحد وهو أمهم: عبلة، وإنما قيل لهم عبلات؛ لأن كل واحد منهم سمي باسم أمه، ثم جمعوا. فإذا كان الجمع الذي ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في ابن يعيش: 6/ 7، واللسان (عجن)، (كون).

ينسب إليه لا واحد له من لفظه مستعمل نسب إلى الجمع، تقول في النسبة إلى نضر: نضريّ وإلى رهط: رهطي؛ لأنه اسم للجمع، ولا واحد له من لفظه، ولو قال قائل: أنسب إلى رجل؛ لأن واحد الرهط والنفر رجل قيل لو جاز أن تقول: رجليّ؛ لأنه واحد النفر، وإن لم يكن من لفظه لجاز أن تقول في النسبة إلى الجمع واحدي وليس يقول ذلك لك أحد، وتقول في الإضافة إلى أناس " أناسيّ ". ومنهم من يقول: إنساني. أما من يقول: إنساني، فإنه يجعل أناس جمع إنسان كما قالوا في شؤم: شؤام، وفي ظئر: ظؤار وفي فرير: فرار، وقد ذكرت هذا في موضعه من الجمع. وأما من قال: أناس: فإنه يجعله اسما للجمع ولم يجعله مكسرا له إنسان، فصار بمنزلة نفي وهذا هو الأجود عندهم. وقال أبو زيد: النسب إلى " محاسن ": محاسني، وعلى قياس قوله النسبة إلى " مشابه ": مشابهي، وإلى " ملامح ": ملامحي، وإلى مذاكير مذاكيري، وكذلك كل جمع لم يستعمل واحده على اللفظ الذي يقتضيه الجمع؛ لأن هذه الجموع في أولها ميمات، وليس في واحدها المستعمل ميم، ولا يقال محسن ولا مشبه، ولا ملمحة ولا مذكار وتقول في الإضافة إلى نساء: نسوي؛ لأن نساء جمع مكسر لنسوة، ونسوة جمع غير مكسر لامرأة، وإنما هي اسم للجمع. وكذلك لو أضفت إلى أنفار لقلت: نفري؛ لأن أنفار جمع لنفر مكسر. كما قلت في الأنباط نبطيّ. وإن أضفت إلى عباديد قلت: عباديديّ؛ لأنه ليس له واحد يلفظ به، وواحده في القياس يكون على فعلول أو فعليل أو فعلال أو نحو ذلك، فإذا لم يكن له واحد يلفظ به لم نجاوز لفظه حتى نعلم ذلك الواحد بعينه فننسب إليه. قال سيبويه: " وتكون النسبة إليه على لفظه أقوى من أن أحدث شيئا لم تتكلم به العرب ". قال: " وتقول في الأعراب: أعرابي؛ لأنه ليس له واحد على هذا المعنى، ألا ترى أنك تقول: العرب ولا يكون على ذلك المعنى؟ فهذا يقويه ". يعني أن (العرب) من كان من هذا القبيل من سكان الحاضرة، والبادية ... و (الأعراب) إنما هم الذين يسكنون البدو من قبائل العرب، فلم يكن معنى الأعراب معنى العرب، فيكون جمعا للعرب فلذلك نسب إلى الجمع.

هذا باب ما يصير إذا كان علما في الإضافة على غير طريقته

وإذا جاء لفظ الجمع المكسر اسما لواحد نسبنا إلى لفظه ولم نغير. قالوا في أنمار: أنماري؛ لأنه اسم رجل، وقالوا في كلاب: كلابيّ؛ لأنه رجل بعينه. قال: " ولو سميت رجلا ضربات لقلت ضربيّ لا تغير المتحرك؛ لأنك لا تريد أن توقع الإضافة على الواحد ". يريد أن الرجل الذي اسمه (ضربات) لا يرد إلى الواحد؛ لأنه جمع سمي به واحد فلا يراعى واحد ذلك الجمع، بل يضاف إلى لفظه، وإذا أضفنا إلى لفظه حذفنا الألف والتاء، والراء مفتوحة فنسبنا إليه. وأما قولنا في العبلات: عبلي، فهم جماعة واحدهم عبلة على ما ذكرته ومثل ذلك: قولهم: مدائني؛ لأنه اسم بعينه. وفي معافر معافريّ وهم فيما يزعمون: معافر بن مر أخو تميم بن مر. وقالوا في الأنصار: أنصاريّ؛ لأن هذا اللفظ وقع لجماعتهم، ولا يستعمل منه واحد يكون هذا تكسيره. وقالوا في قبائل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم: أبناء، والنسبة إليهم أبناوي، كأنهم جعلوا اسم الحي، والحي كالبلد، وهو واحد يقع على الجميع. والأبناء من بني سعد على ما أخبرنا أبو محمد السكري عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد: أن الأبناءهم: ولد سعد إلا كعبا، وعمرا. وقال علي بن عبد العزيز، عن أبي إسحاق العباسي، وكان أمير مكة عالما بأنساب العرب: إن الأبناءهم: خمسة من بني سعد: عبد شمس، ومالك، وعوف، وعوافة، وجشم. وسائر ولد سعد لا يقال لهم الأبناء، وولد سعد نحو العشرة. هذا باب ما يصير إذا كان علما في الإضافة على غير طريقته وإن كان في الإضافة قبل أن يكون علما على غير طريقة ما هو على بنائه. قال سيبويه: " فمن ذلك قولهم في الطويل الجمّة جمّانيّ، وفي الطويل اللحية: لحيانيّ، وفي الغليظ الرقبة: رقبانيّ ... فإن سميت برقبة أو جمّة أو لحية قلت: رقبيّ وجمّيّ ولحييّ ولحويّ. فترده إلى القياس؛ لأن اللّحياني والجمّانيّ والرّقبانيّ، إنما أرادوا به الطويل اللحية

هذا باب من الإضافة لا تلحق فيه ياءي الإضافة

والغليظ الرقبة فزادوا فيه الألف والنون دلالة على هذا المعنى، وهو خارج عن القياس. والذي قال: لحييّ على قياس قول الخليل. ولحويّ على قياس قول يونس. ومثل ذلك قولهم في الرجل المسن دهريّ، وهو منسوب إلى الدّهر، ولو سميت رجلا بدهر ثم نسبت إليه لم يجز غير دهريّ. على أن بعض النحويين ذكر أنه إنما ضم الدال من دهريّ لأنه أتى عليه دهر بعد دهر، وكأنه نسب إلى جمع، كما يقال في سقف: سقف، وفي رهن: رهن. وفي ورد: ورد. هذا باب من الإضافة لا تلحق فيه ياءي الإضافة قال سيبويه: " وذلك إذا جعلته صاحب شيء يزاوله أو ذا شيء. أما ما يكون صاحب شيء يعالجه فإنه مما يكون فعّالا، وذلك قولك لصاحب الثياب: ثوّاب، ولصاحب العاج: عوّاج، ولصاحب الجمال الذي ينقل عليها: جمّال، ولصاحب الحمر الذي يعمل عليها: حمّار، وللذي يعالج الصرف: صرّاف وهذا أكثر من أن يحصى " قال أبو سعيد: الباب عندي فيما كان صنعة ومعالجة أن يجيء على فعّال؛ لأن فعّالا لتكثير الفعل، وصاحب الصنعة مداوم لصنعته، فجعل له البناء الدال على التكثير، كالبزّاز، والعطّار، وغير ذلك ما لا يحصى كثرة. والباب فيما كان ذا شيء وليس بصنعة يعالجها أن يجيء على فاعل؛ لأنه ليس فيه تكثير كقولنا لذي الدرع: دارع ولذي النّبل: نابل. ولذي النشّاب: ناشب ولذي التمر واللبن: تامر، ولابن، وقالوا لذي السلاح سالح ولذي الفرس فارس وقالوا لصاحب الفعل: فاعل ولصاحب الحذاء: حاذ ولصاحب اللحم: لاحم ولصاحب الشحم: شاحم. وقال الحطيئة: فغررتني وزعمت أنّك لابن بالصّيف تامر (¬1) ويقال لمن كان شيء من هذه الأشياء صنعته " لبّان، وتمّار "، ونبّال وقد يستعمل في ¬

_ (¬1) في ديوانه 17، والكتاب 3/ 381، وابن يعيش 6/ 16.

الشيء الواحد اللفظان جميعا. قالوا: رجل سائف وسيّاف، وقد يستعمل أحدهما في موضع الآخر، قالوا: رجل تّراس أي معه ترس. ذهبوا به إلى أنه ملازم له فأجروه مجرى الصّنعة والعلاج، وقد قالوا: نبّال في الذي معه النّبل على هذا المعنى كأنه يلازمه؛ ولأن عمله به وتعاطيه له صنعة. قال امرؤ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني بهذا … وليس بذي سيف وليس بنبّال (¬1) وقال الخليل: إنما قالوا: عيشة راضية أي ذات رضى. وقالوا رجل طاعم كاس على ذا أي ذو كسوة، وطعام، وهو مما يذمّ به أي ليس له فضل غير أن يأكل ويكتسي. وعلى ذا قال الحطيئة: عن المكارم لا ننهض لبغيتها … واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي (¬2) وقالوا: همّ ناصب، أي ذو نصب، وليس لشيء من ذلك فعل يصرف وإنما جاز على ما ذكرته لك. قال سيبويه: وليس في كل شيء من هذا قيل هذا؛ ألا ترى أنك لا تقول لصاحب البر بّرّار ولا لصاحب الفاكهة فكّاه ولا لصاحب الشعير شعار، ولا لصاحب الدقيق دقاق؟ وإنما يقال لصاحب الدقيق: دقيقي. وتقول مكان آهل أي ذو أهل. قال ذو الرمة: إلى عطن رحب المباءة آهل (¬3) ولا يصرّف له فعل. ومما استدل به سيبويه على أن فعّالا بمنزلة ما نسب بياء النسبة أنهم قالوا: البتّي وهو الذي يبيع المبتوت واحدها بتّ وهي الأكسية، وقالوا أيضا البتّات، وإليه نسب عثمان البتّي من كبار الفقهاء. ¬

_ (¬1) المقتضب: 3/ 162. (¬2) المقتضب: 3/ 163، وابن يعيش: 9/ 15، واللسان: (طعم) (¬3) البيت في الكتاب 3/ 382، وملحقات ديوان الشاعر 672.

هذا باب ما يكون مذكرا، يوصف به المؤنث

هذا باب ما يكون مذكرا، يوصف به المؤنث قال سيبويه: وذلك قولك: هذه امرأة حائض، وطامث، وناقة ضامر يوصف به المؤنث، والمذكر. وذهب الخليل، وسيبويه في ذلك وما كان نحوه أن الهاء إنما سقطت منه؛ لأنه لم يجر على الفعل وإنما يلزم الفرق بين المذكر والمؤنث فيما كان جاريا على الفعل؛ لأن الفعل لا بد من تأنيثه، إذا كان فيه ضمير المؤنث كقولك: هند ذهبت، وموعظة جاءتك، ولزوم التأنيث في المستقبل ألزم وأوجب كقولك: هند تذهب، وموعظة تجيئك، وإنما صار في المستقبل ألزم؛ لأن ترك التأنيث لا يوجب تخفيفا في اللفظ؛ لأنه عدول عن ياء إلى تاء والتاء أخف. وفي الماضي إذا تركت علامة التأنيث فقيل: موعظة جاءك فإنما يسقط حرف وتخف لفظة الفعل، فإذا كان الاسم محمولا على " الفعل " لزم الفرق بين المذكر والمؤنث لما ذكرته لك، فإذا حمل على غير الفعل صار بمنزلة قولهم: رجل دارع، ورامح. ولا يقال: درع ولا رمح، فحائض عندهم بمنزلة: ذات حيض، وكذلك مرضع، بمنزلة: ذات إرضاع. وقوم يقولون: إن سقوط علامة التأنيث من مثل هذا، لأنها أشباه، يختص بها المؤنث، وإنما يحتاج إلى الهاء للفرق بين المؤنث، والمذكر، فلما كانت هذه الأشياء مخصوصا بها المؤنث استغني عن علامة التأنيث. وقول أصحابنا ما قد ذكرت لك، والدليل على صحته أنّا رأينا أشياء يشترك فيها المؤنث والمذكر يسقطون الهاء فيها كقولهم ناقة ضامر، وجمل ضامر، وناقة بازل، وجمل بازل، وذلك كثير في كلامهم. وقد رأينا أشياء يشترك فيها المؤنث والمذكر بالهاء فيهما كقولنا: رجل فروقة، وامرأة فروقة وملولة للذكر والأنثى. ومما يدل على قوة قولهم أيضا أنّا نقول: امرأة حائضة غدا ومرضعة غدا فلا ينزعون الهاء؛ لأنه شيء لم يثبت. وإنما الإخبار عنه على لفظ الفعل، وهو قولنا: تحيض غدا وترضع غدا، وقد يجوز أن تأتي في مثل هذا الهاء على معنى الفعل كقوله تعالى: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا

أَرْضَعَتْ (¬1). وقال الشاعر: رأيت ختون العام والعام قبله … كحائضة يزنى بها غير طاهر (¬2) وهذه الأشياء إذا نزعت عنها الهاء على التأويل الذي ذكرناه فهي مذكرة، لو سمينا رجلا بحائض أو مرضع صرفنا؛ لأنه مذكر، والدليل على تذكيره أن الهاء قد تدخله. ووصفنا المؤنث بالمذكر كوصفنا المذكر بالمؤنث كقولنا: رجل نكحة، وفحل خجأة، ورجل لعبة، وهزأة وضحكة، وكذلك المرأة بالهاء. وذكر الخليل أن فعولا، ومفعالا، نحو قولك: قؤول، ومقوال، إنما يكون في تكثير الشيء وتشديده والمبالغة فيه. وإنما وقع كلامهم على أنه مذكر. قال أبو العباس: يريد أن هذه الأبنية للمبالغة ويستوي فيها المذكر والأنثى تقول: رجل قؤول وامرأة قؤول، ورجل غفور وامرأة غفور، ورجل مقوال، وامرأة مقوال، وكذلك منحار، ومضراب للذكر والأنثى. ولم تدخل الهاء إلا في أحرف منه للذكر والأنثى جميعا كقولهم: رجل مطرابة ومعزابة، ومجذامة، وهو الماضي في الأمور، قال المتنخل. مجذامة لهواه قلقل وقل (¬3) وقال الخليل: هذه الأشياء- يعني ما ذكرنا من أسماء المبالغة- تجري مجرى النسب، كقولنا: قوليّ، وقد ذكرت فيما تقدم أن المبالغة، تكون في النسب، وفي الصنائع؛ لأنه لزوم لشيء، واللازم المداوم بمنزلة من قد كثر منه ذلك الشيء، وأدخل في المبالغة رجل عمل وطعم ولبس. قال: فمعنى ذا كمعنى قؤول، ومقوال في المبالغة، غير أن الهاء تدخل في المنسوب وفي " فعل " المؤنث، ولا تدخل الهاء في مفعال، وفعول. وإنما ذكرت هذا كقولك وامرأة طعمة، وعملة ولبسة، والطّعم الكثير الطّعم ¬

_ (¬1) الحج، من الآية: 2. (¬2) ابن يعيش: 5/ 100، واللسان: (أراد). (¬3) هذا عجز بيت صدره: يجيب بعد الكرى لبيك داعية وهو في شرح ديوان الهذليين 3/ 1283.

واللّبس الكثير اللباس، والعمل الدائم العمل. وتقول في المرأة: قولية، وضربيّة، وقالوا: رجل نهر، يريدون، نهاريّ، أي صاحب عمل بالنهار دون الليل، قال الشاعر: لست بليّليّ ولكنّي نهر … لا أدلج اللّيل ولكن أبتكر (¬1) قوله: نهر، يريد نهاريّ، كما أن قوله عمل، كقولك: عمليّ وقالوا: رجل حرح، ورجل سته، كأنه قال حريّ واسنيّ نسبه إلى ذلك، لضرب من الملازمة له. وقال أبو عمر الجرمي: يقال رجل طعن: كثير الطعن. قال سيبويه: وسألته- يعني الخليل- عن قولهم: موّت مائت، وشغل شاغل، وشعر شاعر فقال: إنما يريدون المبالغة، والإجادة، وهو بمنزلة قولهم: همّ ناصب، وعيشة راضية، في كل هذا وقد اختلفت النسخ في الإجازة، ففي بعضها الإجازة بالزاي وفي بعضها الإجادة، فأما الذي يقول الإجازة، فمعناها النفوذ، كأنه قال في المبالغة، والنفوذ فيما أريد به والذي يقول الإجادة، يريد الجودة. ورأيت بعض من يحقق يقول في قولهم: شعر شاعر، كأنه جيد يستغنى بنفسه عن نسبه إلى شاعر فكأنه هو الشاعر. وعندي على هذا يجوز أن يكون " شغل شاغل " كأنه يشغل عن معرفة سببه، وموت مائت يذهل عن معرفة سببه لشدته. قال أبو سعيد: ونظرت فيما ذكر أصحابنا، فيما قدمته وفي قولهم: عيشة راضية، فرأيت عيشة راضية تقدح فيما عللوا به، إسقاط الهاء؛ لأنهم ذكروا أن حائضا، وما جري مجراه، سقطت الهاء منه لأنه لم يجر على " فعل " وقد ذكروا هم: أن عيشة راضية، غير جارية على فعل؛ لأن العيشة هي مرضية، وإنما فعلها رضيت، فحملوها على أنها ذات رضى من أهلها بها ثم قد أنّثت ويجوز أن تحمل عيشة راضية على أحد وجهين: أحدهما: أن تكون عيشة رضيت أهلها، فهي راضية، كقولك ملازمة لهم. والآخر: أن تكون الهاء دخلت للمبالغة، كما يقال رجل راوية وعلامة. ويجوز أيضا فيه وجه ثالث: وهو أنهم ألزموه الهاء؛ لأن الياء تسقط لو لم تكن هاء، ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في الكتاب 3/ 384، والمخصص 9/ 51، واللسان (ليل)، و (نهر).

هذا باب التثنية

فرأوا ذلك إخلالا، كما قالوا ناقة متليةّ، وظبية ممتلية، فألزموا الهاء بسبب الياء، وهم يقولون فيما ليس فيه الياء ظبية مظفل، ومغزل، ومشدن. ومفعل كمفعال في المبالغة، وأن لا تدخل الهاء عليه في المؤنث كقولهم: مطعن، ومدعي ومقول للذكر والأنثى، وقد أدخلوا الهاء على بعضه فقالوا: مصكّة، فاعرف ذلك. هذا باب التثنية قال أبو سعيد: أنا أسوق حكم التثنية على ما يوجبه قول سيبويه، وأصحابنا البصريين، وأعتل لما يجب الاعتلال له، وقد خالف الكوفيون في بعض ذلك، وأنا أبيّن خلافهم، والحجة لأصحابنا إن شاء الله. اعلم أن التثنية فيما لم يكن آخره ألف مقصورة، أو ممدوة، إنما تلزم لفظ الواحد، بغير تغيير منه، ويزاد عليه ألف ونون في الرفع، وياء ونون في النصب والجر. وذلك مطرد غير منكسر، فيما قلت حروفه أو كثرت، كقولك: رجلان، وتمرتان، ودلوان، عدلان وعودان، وبنتان، وأختان، وسيفان وعربانان، وعطشانان، وفرقدان، وعنكبوتان، ونحو ذلك. وتقول في النصب والجر رأيت الرجلين ومررت بعنكبوتين، ويلزم الفتح قبل الياء وقد ذكرنا علة ذلك في أول الشرح. ويلزم ما كان من المنقوص وهو المقصور التغيير إذا ثنينا، فمن ذلك ما كان على ثلاثة أحرف الثالث منها ألف، فإذا ثنينا فلابد من تحريك الألف، فيرد إلى ما يمكن تحريكه من ياء، أو واو. وإنما وجب تحريكه؛ لأنّا إذا أدخلنا ألف التثنية، اجتمع ساكنان، الألف التي في الاسم وألف التثنية، فلو حذفنا إحدى الألفين لاجتماع الساكنين لوجب أن نقول في تثنية عصا ورحى عصان ورحان، وكان يلزم إذا أضفنا أن نسقط النون، في الإضافة. فيقال: أعجبتني عصاك، ورحاك، وإنما نريد ثنتين فبطل إسقاط أحد الألفين، ووجب التحريك. ولا يمكن تحريك الألف، فجعلت الألف ياء أو واوا وقد علمنا أن ما كان على ثلاثة أحرف، والثالث منها ألف، أن الألف منقلبة من ياء، أو واو، فترد في التثنية الألف، إلى ما هي منقلبة منه فتقول في قفا: قفوان؛ لأنه من قفوت الرجل إذا تبعته من خلفه، وفي

عصا: عصوان، لأنك تقول عصوته إذا ضربته بالعصا ونقول في رجا: رجوان وهي ناحية البئر وغيرها. قال الشاعر: فلا يرمى بي الرجوان أنّي … أقلّ القوّم من يغني مكاني (¬1) وتقول في رضا: رضوان؛ لأن الرضا من الواو، ويدلك على ذلك مرضوّ، ورضوان، وربما قلبوا هذا في بعض تصاريفه لاستخفاف أو عارض، ولا يزيل حكم التثنية عن منهاجها قالوا: مرضيّ حملوه على رضي وأرض مسنيّة، وأصلها جميعا الواو؛ لأنّا تقول سنوت الأرض، أي سقيتها، وحملت " مسنية " على سني أو استثقلت فيها الواو فأبدلت ياء. وقالوا في الكبا: كبوان، والكبا: الكناسة مقصور، حكى أبو الخطاب عن أهل الحجاز أنهم يقولون في تثنيته: كبوان، والكباء ممدود: العود الذي يتبخر به. تقول في عشا العين: عشوان؛ لأن الألف منقلبة من واو وتقول امرأة عشواء، وقالوا رجل عشيّ، وقوم عشّو. ولو سميت رجلا ب " خطا "، ثم ثنيت، لقلت خطوان؛ لأنها من خطوت. ولو جعلت " علي " اسما ثم ثنيت لقلب " علوان "؛ لأنها من علوت، وتقول في تثنية ربا: ربوان. وقالوا: سنا، وسنوان، وهو الدواء المعروف بالسّنا ويثنى بالواو. والجمع بالألف والتاء بمنزلة التثنية فيما كان مقصورا على ثلاثة أحرف. تقول في قطاة، وأداة: قطوات، وأدوات، وقنوات ودل جمعهم ذلك بالواو، على أن الألف في قناة، وأداة، وقطاة، منقلبة من واو. وقالوا في رحى: رحيان، وفي فتى: فتيان، وفي ندى: نديان، فردوها إلى ما الألف منقلبة منه، وهو الياء وقولهم: العموة، والنّدوّة، إنما قلبت فيه الياء واوا للضمة قبلها، وليس ذلك بقياس مطرد، والدليل على أن الألف منقلبة من ياء، أنهم قالوا: فتيان، وفتيان، وفتية للجمع وتقول: عمي، وعميان، لأنك تقول: عميان، وعمي في جمع أعمى وتقول: ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في ابن يعيش 4/ 147، واللسان (رجا)، والمخصص 15/ 112.

هدى، وهديان؛ لأنك تقول: هديت وتقول في جمع حصاة حصيات. قال سيبويه: وما جاء من ذلك ليس له فعل يدل على أنه من ياء أو واو، وألزمت ألفه الانتصاب يعني أنه لا يمال، فهو من بنات الواو، وتمنع فيه الإمالة. وذلك نحو لدى، وإلى وعلى. إذا سميت بشيء منهن ثنيت بالواو، ولا غير، فقلت: لدوان، وإلوان. ولو سميت بمتى، أو بلى، ثم ثنيت، جعلته بالهاء؛ لأنهما ممالان، فقلت: متيان ويليان. ولم يفرق أصحابنا في الثلاثي، بين ما كان أوله مفتوحا، وبين ما كان مكسورا، أو مضموما. واعتبروا انقلاب الألف في أصل الكلمة. وأما الكوفيون فجعلوا ما كان مفتوحا على العبرة التي ذكرنا، وما كان مضموما، أو مكسورا، جعلوه من الياء، وإن كان أصله الواو، وكتبوه بالياء نحو الضّحى، والرّثمى، وما أشبه ذلك. ومن حجة أصحابنا ما حكاه أبو الخطاب من تثنية الكبا كبوان. وقد حكوا هم أيضا عن الكسائي أنه سمع العرب تقول في حمى: حيوان وفي رضا رضوان فهذا القياس، وإذا كان المنقوص على أربعة أحرف فصاعدا ثني بالياء من الواو، كان أصله، أو من الياء أو كانت ألفا لا أصل لها في ياء، ولا واو. فأما ما كان من الواو، فمغزى، وملهى، ومغتزى وأعشى، وأصله من الغزو، واللهو، ومن العشو تقول في تثنيته: أعشيان، وملهيان. وما كان من الياء، فنحو: مرمى، ومجرى، تقول: مرميان ومجريان، وأصله من رميت وجريت. وما كان ألفا في الأصل، فنحو: حبلى، وذكرى، وما أشبه ذلك وإذا ثنيت قلت: حبليان وذكريان. وكذلك لو سميت رجلا ب " حتّى " ثم ثنيت لقلت: حتّيان وإنما وجبت الياء، فيما زاد على ثلاثة أحرف؛ لأنّا لو صرفنا منه فعلا، انقلبت الواو ياء، ضرورة في بعض تصاريفه. تقول في الثلاثي: غزا يغزو، وغزوت فإذا لحقته زائدة قلت: أغزى، يغزي، وغازى، يغازي؛ لأنك إذا قلت: أغزى فهو (أفعل) وإذا قلت: " غازى " فهو فاعل، ولا بد من أن يلزم كسر ما قبل آخره. فإذا جعلناه واوا قلنا: يغزو في المستقبل و " يغازو " فإذا وقفت عليه وقفت على

" واو " ساكنة قبلها كسرة فوجب قلبها ياء. وجعل ما لم يكن له أصل، ملحقا بالياء؛ لأنّا لو صرفنا منه فعلا، وهو على أكثر من ثلاثة أحرف لم يكن بد من أن ينكسر ما قبل آخره، فيصير آخره ياء. ألا ترى أنّا نقول: سلقى، يسلقي، وجعبى يجعبي. ولو صرفنا من " حبلى " أو " حتى " فعلا لكان يجيء على فعلى يفعلى مثل: حبلى يحبلي، وحتّى يحتّي فتنقلب الألف ياء ضرورة، وقد جاء حرف نادر في هذا الباب قالوا: مذروان لطرفي الإليتين، ورأيت المذروين، وكان القياس مذريان ومذريين؛ لأن تقدير الواحد مذرى، غير أنهم لم يستعملوا الواحد مفردا فيجب قلب آخره ياء. وجعلوا حرف التثنية فيه، كالتأنيث الذي يلحق آخر الاسم، فيغير حكمه، تقول: شقاء، وعظاء، وصلاء لا يجوز غير الهمزة في شيء من ذلك، وأصله شقاو وعظاي، وصلاي، فوقعت الواو والياء طرفين، وقبلهما ألف، ثم قالوا: شقاوة، وعظاية وصلاية، فجعلوه واوا أو ياء؛ لأنه لما اتصل به حرف التأنيث ولم يقع الإعراب على الياء والواو وصارتا كأنهما في وسط الكلمة وكذلك مذروان: لما لم تفارقهما علامة التثنية. قال الشاعر: أحولى تنقض أستك مذرويها … لتقتلني فها أنذا عمارا (¬1) ومثل مذروين قولهم: عقله بثنايين، لما لزمته التثنية، جعل بمنزلة عظاية، ولم تقلب الياء التي بعد الألف همزة، فاعرف ذلك. وقال الكوفيون: إن العرب تسقط الألف المقصورة فيما كثرت حروفه إذا ثنّوا، فيقولون في خوزلى وقهقرى، وما كان نحوهما: خوزلان، وقهقران، ولم يفرق أصحابنا بين ما قلت حروفه أو كثرت، ورأيت في شعر العرب " جماديين " فرأيتهم قد أثبتوا الياء فيها، ولم أر أحدا حذف الياء. قال لبيد: آويته حتّى تكفّت حامدا … وأهل بعد جماديين حرام (¬2) ¬

_ (¬1) المقتضب: 1/ 191، ابن يعيش: 4/ 149، الخزانة: 3/ 362، واللسان: " ذرى ". (¬2) البيت في ديوانه 161.

هذا باب تثنية الممدود

وقال أبو وجزة السعدي: تحسر الماء عنه واستجن … إلفان جنا من الكتان والقطب جماديين حسوما لا يعاينه … راء من النّاس في أهل ولا عزب (¬1) وأنشد أبو بكر بن دريد: أصبح زين خفش العينيّنه … فسوته لا تنقضي شهرينه (¬2) شهري ربيع وجمادينه ولم أر الكوفيين استشهدوا على ذلك بشيء. هذا باب تثنية الممدود اعلم أن الممدود على أربعة أضرب، فضرب همزته أصلية، وهي كقولك: رجل قرّاء ووضّاء، وهو من قرأت، ووضّؤت، والوضّاء، الجميل، ووضوء وجه الرجل إذا حسن وأشرق. والضرب الثاني ما كانت همزته منقلبة من حرف أصلي كقولهم: كساء، ورداء، وأصله كساوي ورداي، وإذا وقعت الواو والياء طرفا وقبلها ألف زائدة انقلبت همزة. والواو والياء في كساء، ورداء وما جرى مجراهما أصليتان في موضع اللام من الفعل. والضرب الثالث: ما كانت الهمزة فيه منقلبة من حرف غير أصلي ياء زائدة كقولهم: علباء وحرباء، وحرشاء، وما أشبه ذلك. وكان الأصل علباي، والياء زائدة، لأنك تقول: سيف معلوب ومعلّب، إذا كان مشدود المقبض بالعلباء. قال الشاعر: فلو كنت بالمعلوب سيف ابن ظالم … ضربت فعادت قبر عوّف قرائه وقال ساعدة بن جؤيّة: من كل أظمى عاتر لا شأنه … قصر ولا راض الكعوب معلّب والضرب الرابع: ما كانت همزته منقلبة عن ألف التأنيث، كقولك: حمراء، وخنفساء وعشراء وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) البيتان من شواهد التبصرة والتذكرة 2/ 635، وفي الإنصاف 2/ 756. (¬2) في ابن يعيش 4/ 142، والإنصاف 755، والمخصص 15/ 114.

فأما الوجوه الثلاثة الأول فالباب في تثنيتها الهمزة كقولك: قرّاءان، ووضّاءان، ورداءان وكساءان وعلباءان، وحرباءان. وتجوز فيها الواو، وإنما كان الهمز الوجه؛ لأنه الظاهر في الكلام وهي أكثر في كلام العرب في نحو: قراءان، وكساءان. وأما من جعلها بالواو فلاستثقالهم الهمزة بين ألفين؛ لأن الهمزة من مخرج الألف، فتصير كأنها ثلاث ألفات وبعض هذه الثلاثة أولى في القلب من بعض، فأضعفها في قلب الهمزة واوا ما كانت الهمزة فيه أصلية، كقراء، ورضاء، وبعده ما كانت الهمزة فيه منقلبة من حرف أصلى كرداء، وكساء لمشاركته الأول في أن الهمزة غير زائدة، ولا منقلبة، من زائدة، وأما علباء فإن قلب الهمزة فيه إلى الواو أكثر وأحسن؛ لأن الهمزة فيه منقلبة من حرف زائد فأشبهت ألف التأنيث في حمراء وعشراء. والذي عند أصحابنا في تثنية الممدود المؤنث قلبها واوا. وما حكوا غير ذلك، كقولهم: حمراوان وعثراوان. وذكر أبو العباس المبرد أنه إنما قلبوها واوا؛ لأن الهمزة لما ثقل وقوعها بين ألفين في كلمة ثقيلة بالتأنيث، وأرادوا قلبها كان الواو أولى بها من الياء؛ لأن الهمزة في الواحد منقلبة من ألف تأنيث، وليست الهمزة من علامات التأنيث، وهي بمنزلة الألف في غضبى وسكرى، والألف في غضبى ليس قبلها ساكن، فلم يحتج إلى تغييرها، فإذا قالوا: حمراء أتوا فيها بألف للمد لا للتأنيث وجعلوا بعدها ألف التأنيث ولا يمكن اللفظ بألفين، ولا يجوز إسقاط إحداهما، فقلبوا الألف الثانية إلى الهمزة؛ لأنها من جنسها فصارت الهمزة في الواحدة وهي ليست من علامات التأنيث، حرفا ليس من علامة التأنيث وهو الواو، ولو جعلوها ياء لكانت الياء من علامات التأنيث لأنهم يقولون: أنت تذهبين، وتقومين، والياء علم التأنيث فتركوا الياء للواو في التثنية حتى تشاكل الواحد في الحرف الذي ليس من علم التأنيث. وقال بعضهم: إنما جعلوه واوا، دون الياء؛ لأنه لما كره وقوع الهمزة بين ألفين، وكانت الياء أقرب إلى الألف، كرهوا أيضا الياء لشبهها بالألف، فاختاروا الواو البعيدة منها. وقال بعضهم: اختاروا الواو؛ لأنها أبين في الصوت من الياء، فهذا مذهب أصحابنا. وقد حكى الكسائي أن من العرب من يقول: ردايان، وكسايان فيجتمع فيه على قوله

هذا باب لا تجوز فيه التثنية والجمع بالواو والنون، والياء والنون

ثلاث لغات، ويجيز التثنية بالهمزة في حمراءان وبابه، وأجاز أيضا حمل باب حمراء على جميع ما يجوز في باب رداء، فيقول: حمرايان والمعروف ما ذكرته لك عن أصحابنا. وقد حكى الكوفيون أشياء لم يذكرها أصحابنا، فقالوا: يجوز فيما طال من هذا الممدود حذف الحرفين الأخيرين فاختاروا في قاصعاء، وخنفساء، وحاثياء، ونحو ذلك أن يقال: قاصعان وحاثبان، وخنفسان وقاصعاوان، وحاثياوان واستحسنوا في الممدود إذا كان قبل الألف واوا أن يثنوا بالهمزة، وبالواو، فقالوا في لأواء، وجأواء: لأواءان، ولأواوان. وأجازوا في سوءاء وهي المرأة القبيحة سوءاوان، والله أعلم بالصواب. هذا باب لا تجوز فيه التثنية والجمع بالواو والنون، والياء والنون قال أبو سعيد: جملة هذا الباب أن ما كان فيه علامة تثنية، أو جمع سالم بالواو والنون، والياء والنون، لم تجز تثنيته، ولا جمعه السالم لئلا يجتمع فيه علامتان، لأنّا لو سمينا رجلا بعشرين، أو مسلمون أو مسلمين أو مائتين أو اثنين لم يجز أن نقول إذا ثنينا: عشرونان، ولا مائتانان ولا اثنانان؛ لأن هذا لو فعل لاجتمع في الاسم الواحد رفعان ونصبان وقد مضى نحو هذا. قال سيبويه: وإنما أوقعت العرب الاثنين، في الكلام، يعني في اسم اليوم على حد قولك: اليوم يومان، واليوم خمسة عشر من الشهر، والذين جاءوا بها فقالوا: أثناء إنما جاءوا بها على حد الاثن، كأنهم كسروه على أفعال، كما قالوا: ابن، وأبناء. قال: وقد بلغني أن بعض العرب يقول: اليوم الثّنيّ. قال أبو سعيد: نسختي التي قرأت منها على ابن السراج وهو فعول، مثل قولنا الثدي، وما أشبه ذلك، وفي كتاب أبي بكر مبرمان: الثّنيّ، على لفظ التصغير وهو على ما في نسخته، كأنه قال: أيام الاثنين. ويحتمل أن يكون على لفظ التصغير كأنه قال: يوم الاثنين. وإذا كان الجمع بالألف، والتاء، جازت التثنية، كرجل اسمه: أذرعات، أو تمرات، نقول أذرعاتان، وتمراتان؛ لأنه لا يجتمع فيه إعرابان، فإن جمعت قلت: تمرات، وأذرعات؛ لأنك تحذف التاء كما تفعل ذلك بالهاء، إذا قلت: تمرة، وتمرات، فإذا حذفتها، حذفت معها الألف، ثم تزيد علامة الجمع ألفا، وتاء.

هذا باب تثنية «الأسماء» المبهمة التي أواخرها معتلة

هذا باب تثنية «الأسماء» المبهمة التي أواخرها معتلة قال سيبويه: وتلك الأسماء " ذا " و " تا " و " التي " و " الذي " فإذا ثنيت ذلك حذفت الحرف الأخير، ولم تحرك كما حركت الياء في قاض، إذا قلت القاضيان؛ لأن هذه الياء تتحرك في النصب، إذا قلت: رأيت قاضيا، والقاضي. والياء في " التي والذي " لا تتحرك، إذا قلت: رأيت التي والذي؛ لأنها مبنية، لا تدخلها الحركة بوجه. وقالوا في المؤنث في موضع ذا خمس لغات، فإذا ثني لم يستعمل إلا بعضها، قالوا للمرأة ذي وذه يا هذا و " تي " و " ته " وتا، فإذا ثنوا قالوا " تان " فلا يثنوا " ذه " ولا " ذي " لأنهم لو ثنوا على الذال لأشبه المذكر. وكان يجوز أن يكون على لغة من يقول تا فيحذف الألف لاجتماع الساكنين، ويثبت ألف التثنية، ويجوز أن يكون على لغة من يقول ته فيحذف الهاء؛ لأن الهاء عوض من الياء في " تي " وقد ذكرناه في غير هذا الموضع محكما. وقال الكوفيون: إن الياء في الذي والألف في ذا وما جري مجراهما من المبهمات، دخلت تكثيرا للاسم وأنهم حذفوها في التثنية، لقيام حرف التثنية مقامها في التكثير، وهذا غلط؛ لأنهم قد صغروها؛ لأنهم قالوا: ذيّا والّذيّا، ولا يجوز أن يصغر على أنه اسم إلا برد الذاهب منه إليه. فإن قال قائل: فأنتم إذا سميتم رجلا بقد أو هل أو بحرف من الحروف ثم صغرتموه رددتم إليه في التصغير ما لم يكن له. قيل له: إذا سمينا بقد فقد نقلنا " قد " من الحرف إلى الاسم، فإذا صغرنا، فإنما نصغره، على أنه اسم، فحلينا له حرفا توجبه الاسمية إذا صغرناه، ونحن وإنما نصغر " ذا " و " الّذي " وهما على معناهما الذي وضعا له، فهذا فرق واضح بينهما. فافهم إن شاء الله تعالى. هذا باب جمع الاسم الذي آخره هاء التأنيث قال أبو سعيد: لا خلاف بين أصحابنا، أن الرجل إذا سمي باسم آخره هاء التأنيث، ثم أردت جمعه، جمعته بالتاء، واستدلوا على ذلك، بقول العرب: رجل ربعة،

ورجال ربعات، وبقولهم: طلحة الطّلحات. قال الشاعر: رحم الله أعظما دفنوها … بسجستان طلحة الطّلحات (¬1) وتقول العرب: ما أكثر الهبيرات، يريدون جمع هبيرة، ولم يسمع رجال ربعون ولا طلحة الطلحين- ولم يسمع ما أكثر الهبيرين، ولا جمع شيء من ذلك بالواو والنون. وأجاز الكسائي والفراء جمع ذلك بالواو والنون. فإذا جمع بالواو والنون، سكنوا اللام من (طلحة) لأنهم يقدرون جمع طلح، فلا يحركون اللام. وكان أبو الحسن بن كيسان يذهب إلى جواز ذلك ويحرك اللام. فيقول الطلحون فيفتحها كما فتحوا " أرضون " حملا على أرضات لو جمع بالألف والتاء؛ لأنه بمنزلة ثمرات، والقول الصحيح ما قاله أصحابنا؛ لأنه قول العرب الذي لم يسمع منهم غيره؛ ولأنه القياس؛ لأن " طلحة " فيه هاء التأنيث. والواو والنون (علامة) التذكير، ولا يجتمع في اسم واحد علامتان متضادتان. ومما احتج به ابن كيسان أن التاء تسقط في الطلحات، فمن أجل سقوطها وبقاء الاسم بغير تائه جاز جمعها بالواو والنون. وهذا لا يلزم؛ لأن التاء مقدرة، وإنما دخلت علامة الجمع على التاء التي كانت في الواحد؛ لأن تاء الجمع عوض منها، لئلا يجتمع تاءان فصار بمنزلة ما يسقط لاجتماع الساكنين وهو مقدر. وإذا جمعت بالألف والتاء ما كان في آخره ألف تأنيث مقصورة، فإنك تقلب ألف التأنيث ياء فتقول في حبلى حبليات وفي حبارى حباريات، وفي جمزى جمزيات. فإن قال قائل: فأنتم تقولون: إنما حذفنا التاء في طلحات وتمرات، لئلا يجمع بين علامتي تأنيث لو جمعناه " تمرتات " فقد جمعتم بين الألف التي في حبلى والتاء التي في الجمع. قيل له: ليس سبيل الألف سبيل التاء؛ لأن الألف لا تثبت على لفظ التأنيث، وإنما تنقلب ياء، وليست الياء للتأنيث، فإذا قلنا: حبليات لم نجمع بين لفظي تأنيث، والتاء في " تمرتان " لو قلناها هي علامة للتأنيث فلم يجز الجمع بينهما. ¬

_ (¬1) ابن يعيش: 1/ 47، الخزانة: 3/ 392.

وهو الدليل على أن التاء هي علامة التأنيث، وأن الهاء بدل منها في الوقوف للفرق بين الاسم والفعل، والواحد والجمع، إذ إن علامة التأنيث في الفعل تاء لا غير في الوقف والوصل، وكذلك في جمع مسلمات وما أشبه ذلك، وأيضا فإن التاء دخولها على بناء صحيح للمذكر، ودخول ألف التأنيث على بناء لو نزعت عنه لم يكن له معنى، ألا ترى أنّا لو قلنا في حبلى: حبل لم يكن له معنى. وإذا قلنا في مسلمة: مسلم كان للمذكر فصار ألف التأنيث بمنزلة حرف من نفس الاسم مخالف للعلامة الداخلة على الاسم بكماله. وإذا جمعت المقصور بالواو والنون حذفت الألف لاجتماع الساكنين وبقّيت ما قبله على الفتح فقلت في موسى وعيسى، وحبلى: موسون وعيسون، وحبلون لا يجوز غير ذلك عند أصحابنا وهو القياس وكلام العرب. فأما كلام العرب فقولهم: (المصطفون) و (الأعلون)، ورأيت المصطفين الأعلين. وأما القياس، فلأن الحرف الثابت في الواحد ليس لنا حذفه من الكلمة إلا لضرورة عند اجتماع ساكنين وهو مقدر كقولنا: " قاضون " و " رامون ". فلو قلنا: (عيسون) و (موسون) لكنا نقدر حذف الألف فيهما من قبل دخول علامة الجمع، ولو جاز هذا لجاز أن نقول في حبلى (حبلات) وفي سكرى (سكرات)، وليس أحد يقول هذا فوجب أن علامة الجمع إنما تدخل على (عيسى) و (موسى) والألف فيهما، ثم تسقط الألف، لاجتماع الساكنين، ويبقى ما قبلها مفتوحا. فإن قال قائل: إنما تحذف هذه الألف تشبيها بحذف هاء التأنيث، قيل له: لو جاز ذلك لجاز أن تقول: حبلات، وقد ذكرنا السبب في حذف هاء التأنيث. وأما الممدود فإنك تقلب الهمزة واوا فيه إذا كانت (المدّة) للتأنيث، كما قلبت في التثنية، فتقول في حمراء: حمراوات، وفي (ورقاء): ورقاوات كما قالوا: خضراوات. وإن كان ذلك اسم رجل جمعته بالواو والنون وقلبت الهمزة واوا أيضا، فقلت: ورقاوون وحمراوون ورأيت ورقاوين وحمراوين. وذكر أن المازني كان يجيز في ورقاوون الهمزة، لانضمام الواو وهذا سهو؛ لأن انضامها لواو الجمع بعدها، فهو بمنزلة ضمة الواو للإعراب، أو لالتقاء الساكنين كقولك: (هذه دلوك)، و (هؤلاء مصطفو البلد) ولا يجوز فيه الهمز. وتقول في زكرياء:

هذا باب جمع الرجال والنساء

زكرياوون بمنزلة ورقاوون، وفيمن قصر زكريّون بمنزلة عيسون وموسون وفيه لغات ليس هذا موضع ذكرها. هذا باب جمع الرجال والنساء اعلم أن هذا الباب يشتمل على جميع الأسماء المعارف الأعلام، والباب فيها أن كل اسم سميت به مذكرا يعقل ولم يكن في آخره هاء جاز جمعه بالواو والنون على السلامة، وجاز تكسيره، وسواء كان الاسم قبل ذلك مما يجمع بالواو والنون أو لا يجمع، وكذلك إن سميت به مؤنثا جاز جمعه بالألف والتاء على السلامة، وجاز تكسيره، ويذهب سيبويه: إذا كسّر شيء من ذلك وكانت العرب قد كسّرته اسما قبل التسمية على وجه من الوجوه وإن لم يكن ذلك بالقياس المطرد، فإنه يكسره على ذلك الوجه، ولا يعدل عنه، وإن كان لا يعرف تكسيره في الأسماء قبل التسمية به حملوه على نظائره. وقد ذكرنا جمع ما كان من ذلك في آخره الهاء بما أغنى عن إعادته. فمن ذلك إذا سميت رجلا بزيد أو عمرو أو بكر ثم جمعته على السلامة قلت: الزيدون والعمرون والبكرون، وإن كسرت قلت: (أزياد) في أدنى العدد و (زيود) في الكثير، وقلت في عمرو وبكر في أدنى العدد (الأعمر) و (الأبكر) وفي الكثير العمور والبكور. وأدنى العدد أن تقول: ثلاثة أعمر وعشرة أعمر وإن سميته ب (بشر) أو (برد) أو (حجر) قلت في أدنى العدد ثلاثة أبراد، وعشرة أبشار، وتسعة أحجار، وينبغي أن يقال في الكثير بشور، وبرود، وحجارة. وقال الشاعر وهو زيد الخير: ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفل … وقيس بن أهبان وقيس بن جابر (¬1) وقال: رأيت سعودا من سعود كثيرة … فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 396، والمخصص 17/ 81 اللسان: (قيس). (¬2) البيت لطرفة في ديوانه 99، والكتاب 3/ 396، والمقتضب: 2/ 222.

وقال الفرزدق: وشيّد لي زرارة باذخات … وعمرو الخير إذ ذكر العمور (¬1) وقال آخر: رأيت الصدع من كعب فكانوا … من الشّنآن قد صاروا كعابا (¬2) يعني أنهم قبيلة، أبوهم كعب، فهم كعب واحد إذا كانوا متآلفين، فإذا تفرقوا، وعادى بعضهم بعضا صار كل فرقة منهم تنسب إلى كعب، وهي تخالف الأخرى فكأنهم كعاب جماعة. وقالوا في قوم من العرب اسم كل واحد منهم جندب: أبو الجنادب. وإذا سميت امرأة ب (دعد) فجمعت قلت: دعدات، لأنك لما أدخلت الألف والتاء صار بمنزلة " تمرات " و " جفنات " في جمع (تمرة) و (جفنة). وإن لم يكن في الواحد الهاء؛ لأن الجمع يسقط الهاء، وذلك كقولهم: " أرضات " وإن لم يكن في أرض هاء؛ لأن الجمع لما كان بالألف والتاء صار كجمع (فعلة)، وإن جمعت (جملا) بالألف والتاء جاز أن تقول: (جملات) و (جملات)، و (جملات) بمنزلة جمع (ظلمة). وتقول في هند: (هندات) و (هندات) و (هندات) بمنزلة جمع كسرة إذا جمعت على هذه الوجوه، وإن كسّرت كما كسّرت " بردا " و " بشرا " قلت: (أهناد) و (أجمال) في الجمع القليل وتقول في الكثير: (هنود)، كما تقول: (الجذوع). قال جرير: أخالد قد علقتك بعد هند … فشيّبني الخوالد والهنود (¬3) وإن سميت امرأة ب " قدم " فجمعت بالألف والتاء، قلت: قدمات، ولا يجوز تسكين الدال فيها، وإن كسرت فالذي يوجبه مذهب سيبويه أن تقول أقدام في القليل والكثير؛ لأن العرب قد جمعت " قدما " قبل التسمية على أقدام في القليل والكثير. وإن سميت رجلا ب (أحمر) ثم جمعته، فإن شئت قلت: (أحمرون) على السلامة، وإن شئت ¬

_ (¬1) البيت في المخصص 17/ 81، والمقتضب: 2/ 222، واللسان (عمر). (¬2) أبيات سيبويه: 2/ 259، واللسان: (كعب). (¬3) البيت في الكتاب: 3/ 398، والمقتضب: 1/ 223، واللسان: (هند).

قلت: (أحامر) على التكسير، وكلا هذين الجمعين لم يكن جائزا في أحمر قبل التسمية لأن (أحمر) وبابه لا يجوز فيه أحمرون، ولا أحامر إذا كانت صفة وإنما يجمع على " حمر " ونظيره (بيض) و (شهب) وما أشبه ذلك، فإذا سميت به فحكم الاسم الذي على (أفعل) يخالف حكم الصفة التي على (أفعل) والاسم جمعه (أفاعل) مثل الأرانب والأباطح والأرامل والأباهر. وإن سميت امرأة ب (أحمر) قلت في السلامة (أحمرات) وفي التكسير (أحامر) وقد قالت العرب: (الأجارب) و " الأشاعر "، كأنهم جعلوا كل واحد منهم " أجرب "، على أنه اسم أبيه، ثم جمعوه، كما قالوا: (أرنب)، و (أرانب). وإن سميت رجلا ب (ورقاء) أو ما جرى مجراه فجمعته بالواو والنون قلت: ورقاوون وإن سميت بها امرأة، وجمعتها جمع السلامة، قلت: (ورقاوات) وإن جمعتها جمع التكسير في الرجل والمرأة قلت: (وراق) كما قلت في " صلفاء ": (صلاف) وفي خبراء (خبار). وإن سميت رجلا أو امرأة ب (مسلم) أو ب (خالد) ولم تجمعهما جمع السلامة قلت فيهما: (خوالد) و (مسالم) كما تقول في قادم الرحل أو الضرع وآخره: (القوادم) و (الأواخر). وجمع التكسير يستوي فيه المذكر والمؤنث، وما يعقل وما لا يعقل، ألا تراهم قالوا: غلام، وغلمان، كما قالوا: غراب وغربان، وقالوا: صبيّ وصبيان كما قالوا: قضيب وقضبان. ومما يقوي (خوالد) جمع رجل اسم (خالد) أنهم يقولون في الصفة: فارس وفوارس، وإذا كان هذا في الصفة فهو في الاسم أجدر. والقياس أن يقال في فاعل فواعل؛ لأنه على أربعة أحرف، وعلامة الجمع تنتظم فيه على طريق واحد انتظام علامة التصغير؛ لأنك تقول: (خويلد) وخويتم فتدخل ياء التصغير ثالثة، ويكسر ما بعدها وكذلك تدخل ألف الجمع ثالثة ويكسر ما بعدها. وإن سميت رجلا ب (شفة) أو (أمة) قلت: (آم) في الثلاثة إلى العشرة، وفي الكثير: (إماء). ويجوز (إموان) قال الشاعر:

أمّا الإماء فلا يدعونني ولدا … إذا ترامى بنو الإموان بالعار (¬1) وتقول في شفة: شفاه لا يجوز غير ذلك، وإنما جاز في أمة إذا سميت بها رجلا أو امرأة الوجوه التي ذكرت؛ لأن العرب تجمعها على هذه الوجوه، وهو اسم قبل التسمية بها شيء بعينه، فاستعملناه بعد التسمية ما استعملته العرب قبلها إذا لم تتغير الاسمية فيها. ولم يقل في (شفة) إلا شفاه في الجمع القليل والكثير؛ لأن العرب لم تستعمل غير الشفاه قبل التسمية، ولا يقال فيها (شفات) ولا (إمات)؛ لأن العرب تجتنب ذلك فيها قبل التسمية. ولو سميت رجلا ب " تمرة " أو " قصعة " قلت: تمرات، وقصعات وإن كسرته قلت: تمار وقصاع. وإن سميت رجلا أو امرأة ب (عبلة)، قلت في التكثير: العبلات وفتحت الباء، وقد كان قبل التسمية يقال: امرأة عبلة، ونساء عبلات؛ لأنها كانت صفة، فلما سميت بها صارت بمنزلة تمرة وتمرات. ولا يجوز أن تقول في جمع رجل اسمه تمرة: " تمر " لأن " تمرا " اسم للجنس وليس بجمع مكسر. ولو سميت رجلا أو امرأة ب (سنة) لكنت بالخيار إن شئت قلت: سنوات، وإن شئت قلت: سنون لا تعدو جمعهم إياها قبل ذلك، وهم يجمعون " السنة "، قبل التسمية على هذين الوجهين. ولو سميته (ثبة) لقلت ثبات وثبون. وإن شئت كسرت الثاء، وكذلك نظائر ثبة وإن سميته ب (شية) أو (ظبة) لم تجاوز شيات وظبات؛ لأن العرب لم تجمعه قبل التسمية إلا هكذا، وإن سميته ب (ابن) فجمعت بالواو والنون قلت: (بنون) وإن كسرت قلت: (أبناء). وإن سميت امرأة ب (أم) ثم جمعت جاز: أمهات وأمّات؛ لأن العرب قد جمعتها على هذين الوجهين. ولو سميت رجلا ب (امرئ) لقلت: امرؤون في السلامة، وإن سميت به امرأة قلت: (امرأت). ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 54، والكتاب 3/ 402، والمخصص 17/ 81، واللسان: (أما).

وإن كسرت قلت: (أمراء) كما قلت: (أبناء) و (أسماء) و (أستاه). ولو سميت ب (شاة) لم تجمع بالتاء، ولم تقل إلا (شياه)؛ لأن هذا الاسم قد جمعته العرب مكسر على (شاه)، ولم يجمعوه بجمع السلامة بل لا يحتمل ذلك؛ لأن إذا حذفت الهاء بقي الاسم على حرفين الثاني منهما من حروف المد، واللين، ولا يجوز مثل ذلك إلا أن يكون بعدها هاء، فإن قال قائل: فقد قالوا " شاه " أو " شويّ "؛ لأن الشاه والشّويّ جمعان للشاه، قيل له: هما اسمان للجميع يجريان مجرى الواحد، فإذا سمينا به احتجنا أن نكسره على ما يوجهه اللفظ، ويرد الحرف الذاهب، وأصله " شوهه " يجمع على شياه. وإن سميت رجلا ب (ضرب) قلت: (ضربون) و (ضروب) بمنزلة (عمرو) وعمور، وقد جمعت العرب المصادر من قبل التسمية بها فقالوا: " أمراض " و " أشغال " و " عقول " و " ألباب "، فإذا صار اسما فهو أجدر أن يجمع بتكسير. قال الشاعر: كانت نجائب منذر ومحرّق … أمّاتهنّ وطرقهنّ فحيلا (¬1) ولو سميت به رجلا لقلت: (أمّون)، وإن كسرته فالقياس أن تقول: " إمام ". وإن سميته ب (أب) قلت: (أبوان) في التثنية لا تجاوز ذلك يعني لا تقل: (أبان). وإن سميت رجلا ب (اسم) فجمعت جمع السلامة لم تحذف ألف الوصل وقلت: (أسمون). وإن كسرت قلت أسماء. وكان القياس في (ابن) أن يقال: (إبنون)، غير أنهم جمعوه قبل التسمية على " بنين "، وحذفوا الألف لكثرة استعمالهم إياه، وتركوا الباء كمنين وهنين. ولو سميت رجلا ب (ربة) في لغة من خفف فقال: ربة رجل، قلت: " ربات "، و (ربون) وربون أيضا، وإنما جاز في ربة هذه الوجوه؛ لأنها لم تجمع قبل التسمية، فلما سمي بها وجمع حمل على نظائره الكثيرة، ومما كثر في هذا الباب من النواقص أن يجيء بالألف والتاء والواو والنون نحو ثبات وثبون وكرات وكرون وعزات وعزون. وإن سميته ب (برة) وكسّرت قلت: برى؛ لأن العرب قد كسرته على ذلك، وإن جاء مثل برة مما لم تكسره العرب لم تجمعه إلا بالألف والتاء والواو والنون؛ لأن هذا ¬

_ (¬1) البيت للراعي النميري في ديوانه 127، وابن يعيش: 10/ 4، واللسان: (أمه)، (حرق).

هو الكثير. وإذا سميت بصفة مما يختلف جمع الاسم والصفة فيه جمعته جمع نظائره من الأسماء ولم تجره على ما جمعوه حين كان صفة، إلا أن يكون جمعوه جمع الأسماء، فتجريه على ذلك كرجل سميته ب (سعيد) أو (شريف) تقول في أدنى العدد: ثلاثة أشرفة، وأسعدة، وتقول في الكثير: سعدان وشرفان وسعد وشرف؛ لأن هذا هو الكثير في الأسماء في جمع هذا البناء. تقول: رغيف وأرغفة، وجريب وأجربة، وقالوا: رغفان وجربان، وقالوا: قضب الرّيحان في جمع قضيب، وقالوا: الرغف في جمع رغيف، قال الشاعر: إن الشواء والنشيل والرغف … والقينة الحسناء والكأس الأنف للضاربين الهام والخيل قطف (¬1) وقالوا: سبيل، وسبل، وأميل، وأمل، فهذا هو الكثير فيه. وربما قالوا: الأفعلاء، في الأسماء نحو الأنصباء، والأخمساء، وليس بالكثير، فلو سميت رجلا ب (نصيب) أو (خمين) لقلت (أنصباء) و (أخمساء)؛ لأن العرب قد جمعته وهو صفة على ذلك، وهو من جمع بعض الأسماء كنصيب وأنصباء فلم يغير. وأما والد وصاحب، فإنهما لا يجمعان ونحوهما كما يجمع قادم الناقة، يعني الخلف المقدم من ضرعها؛ لأن هذا وإن تكلم به كما يتكلم بالأسماء، فإن أصله الصفة، وله مؤنث. قال أبو سعيد: ذكر سيبويه " والدا " و " صاحبا " قبل التسمية بهما، فأرى أن " صاحبا " إذا جمعناه لم نقل فيه: (صواحب) وكذلك (والد) لا نقول فيه " أوالد "؛ لأن هذين صفتان من حيث يقال: والد ووالدة وصاحب وصاحبة. وإذا كانت الصفة على " فاعل " للمذكر لم يجمع على فواعل وإنما يقال فيه: فاعلون وهذان الاسمان قد كثرا فجريا مجرى الأسماء، فلم يجب لهما بذلك أن يقال: (صواحب)، و (أوالد) إذ كان يقال في مؤنثهم: صاحبة ووالدة. ¬

_ (¬1) الأبيات من مشطور الرجز وهي بلا نسبة في شواهد سيبويه: 3/ 403، والمخصص 17/ 85 واللسان: (نشل) و (رغف).

ولو سمينا رجلا ب (صاحب) لقلنا في الكثير: " صواحب ". وأما (والد) فقال الجرمي: إذا سمينا به لم نقل إلا (والدون)، فإن سمينا به مؤنثا لم نقل إلا والدات. وإن سمينا ب (والدة) قلنا والدات؛ لأن العرب تنكبت (¬1) في جمع ذلك التكسير في التسمية، فقالوا: والد، ووالدون، ووالدة ووالدات، ولم يقولوا أوالد في الوالدة، وإن كانوا يقولون: قاتلة وقواتل وجالسة وجوالس؛ لأن الأصل (ووالد) ويلزم قلب إحدى الواوين فاقتصروا فيه على السلامة. ولو سميت رجلا ب (فعال) نحو جلال لقلت: " أجلة " على حد قوله: أجربة، فإذا جاوزت قلت: جلان كقولك: جربان وغلمان. واعلم أن العرب تجمع " شجاعا " على خمسة أوجه منها ثلاثة من جمع الأسماء وهي: شجعان مثل قولنا: " زقاق " و " زقان ". وشجعان، مثل غراب وغربان. وشجعة مثل غلام وغلمة. فإذا سميت رجلا ب (شجاع) جاز أن تجمعه على هذه الوجوه الثلاثة، وقد يجمع شجاع على شجاع، وشجعاء نحو كريم وكرام، وكرماء، وظريف وظراف وظرفاء. فإذا سميت ب (شجاع) لم يجز جمعه على هذين الوجهين، ربما جمعت العرب الاسم الذي أصله صفة على لفظ الصفة، كأنهم يذهبون به إلى أنه صفة غلبت كما سموا بما فيه الألف واللام بعد التسمية، كالحسن والعباس والحارث، كأنهم قدروا فيه الصفة وغلبت. وقد ذكر هذا في موضعه. قالوا في بني الأشقر: " الأشاقر " على ما توجبه الاسمية وقالوا: (الشّقر) و (الشّقران) على الوصف. ولو جمع إنسان (الحارث) على ما توجبه الصفة فقال: (الحرّاث) لجاز؛ لأنه صفة غلبت. ومن قال: (الحوارث) فعلى ما ذكرنا من جمع الأسماء. ولو سميت رجلا ب (فعلية) ثم كسّرته قلت: " فعائل " لا غير، وقد جمعت العرب (فعلية) على (فعل) في الأسماء وليس بقياس مطرد، قالوا: (سفينة) و (سفن)، و (صحيفة) و (صحف) وليس بالكثير، فإن سميت رجلا ب (سفينة) أو (صحيفة) جاز جمعه على ¬

_ (¬1) تجنبت.

" سفن " و " صحف ". وإذ سميت رجلا ب (عجوز)، وكسّرت قلت فيه: (العجز)، ولم تقل: " العجائز "، وكذلك لو سميته ب (قلوص) قلت فيه: (القلص) ولم تقل: (القلائص)، وإنما جمعت العرب " قلوصا " و " عجوزا " على قلائص و (عجائز)؛ لأنهما مؤنثان. وإذا سميت بهما رجلا زال التأنيث وصار بمنزلة (عمود) و (عمّد) و (زبور وزبر). وسألته عن " أب " فقال: إن ألحقت به النون والزيادة التي قبلها قلت: (أبون)، وكذلك (أخ) تقول: (أخون)، ولا يغير البناء إلا أن تحدث العرب شيئا، كما تقول: " دمون "، ولا يغير بناء الأب عن حال الحرفين إلا أن تحدث العرب شيئا كما بنوه على غير بناء الحرفين. وقال الشاعر: فلمّا تبيّنّ أصواتنا … بكين وفدّيننا بالأبينا (¬1) أنشدناه من نثق به وزعم أنه جاهلي، وإن شئت قلت: آباء وآخاء. قال: وأما عثمان ونحوه فإنك تعتبره بالتصغير، فما كان مما في آخره ألف ونون زائدتان، وكانت العرب تصغره بقلب الألف كسرت وقلبت الألف ياء، وإن شئت جمعت جمع السلامة. وما كان من ذلك تصغر العرب الصدر منه وتبقى الألف والنون لم يجز في جمعه التكسير، وجمعته جمع السلامة بالواو والنون، فأما ما صغرته العرب وقلبت الألف فيه ياء فنحو (سرحان) و (ضبعان) و (سلطان). إذا سميت بشيء من ذلك رجلا جاز أن تجمعه جمع السلامة، فتقول: (سلطانون) و (ضبعانون)، و (سرحانون)، وجاز أن تكسره فتقول: (ضباعين) و (سلاطين) و (سراحين)، فإن سميته ب (عثمان)، أو (غضبان)، أو نحو ذلك قلت في جمعه: (عثمانون)، و (غضبانون)؛ لأنه يقال في تصغيره (عثيمان) و (غضيبان)، وكذلك تقول في جمع (عربان) و (سعدان) و (مروان) عربانون وسعدانون ومروانون. وإذا ورد شيء من ذلك، ولا يعرف هل تقلب الألف العرب ياء في التصغير أم لا، حملته على باب (غضبان) و (عثمان)؛ لأنه الأكثر. وإن كان فعلان جمعا لم يكن سبيله سبيل الواحد؛ لأن (فعلانا) في الجمع ربّما كسّر فقيل: فعالين كقولهم: مصران ومصارين، ويقال في التصغير (مصيران)؛ لأن الألف ¬

_ (¬1) البيت في المقتضب: 2/ 174، ابن يعيش: 3/ 37، والخزانة: 2/ 276

للجمع، وإذا كانت ألف حادثة للجمع لم تغير في التصغير، كقولهم: أجمال وأجيمال. وعلى هذا لو سميت رجلا ب (مصران) أو ب (أنعام) أو ب (أقوال)، ثم صغرته لقلت: (مصيران) و (أنيعام) و (أقيّال)، ولم تلتفت إلى قولهم في الجمع (مصارين) و (أناعيم) و (أقاويل). واعلم أن بعض ما ذكرنا خولف فيه سيبويه، وأنا أسوق الخلاف فيه، فمن ذلك قوله في رجل سمي ب (عدة): أنه يجوز فيه عدات وعدون، وقد خالف الجرمي والمبرد. لأن (عدة) قد جمعت على (عدات)، ولم تجمع على " عدون " من قبل التسمية، ومن مذهبه أن لا يتجاوز بعد التسمية الجمع الذي كانت تجمعه العرب. ووجه آخر أن الساقط من (عدة) فاء الفعل، وإنما يكثر جمع هذه النواقص بالواو والنون في ما سقط لامه لا في ما سقط فاؤه. ولم يجئ هذا الجمع في ما سقط فاؤه إلا في حرف واحد شاذ وهو قولهم: (لدون)، وذكر سيبويه في رجل اسمه (ظبة) أنه لا يجوز فيه غير (ظبات)، ولم يجز فيه " ظبين " و " ظبون ". وقد خولف في هذا، وأنشد النحويون فيه قول الشاعر: تعاور أيمانهم بينهم … كؤوس المنايا بحدّ الظّبينا (¬1) وفي رجل وامرأة اسمه " سنة " إن شئت قلت: " سنوات "، وإن شئت قلت: (سنون)، وقد أجاز ابن كيسان " سنات " و " سنون " بالفتح فجعل " سنات " قياسا على " بنات "، وسنون قياسا على (بنون) وهذا باطل؛ لأن جمعهما بناء على بنين وابنة على بنات من الشاذ ولا يقاس على شاذ. ولا قوله قياس مطّرد فيستعمله من يرى القياس على ما جمعته العرب، وإن لم تجمعه ولا هو مسموع فيتّبع. وكان يجيز في " شفة " أيضا " شفات "، وأجاز ابن كيسان في رجل اسمه (ابن) أن يجمع على (ابنون)، فقال أصحابنا: العرب تجمع (ابنا) في جمع السلامة على بنين وفي جمع التكسير على (أبناء) فلا نتجاوز هذين، ولا نقول في من اسمه (اسم) و (است): ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في اللسان: (ظبا)

هذا باب يجمع الاسم فيه إن كان لمذكر أو لمؤنث بالتاء

(اسمون) و (استون)؛ لأن العرب لم تجمع هذين جمع السلامة فنتبع مذهبهم في جمع السلامة. وقال سيبويه: إذا سميت ب (أب) قلت في التثنية: (أبوان)، وقلت في الجمع السالم: (أبون)، وفي المكسر: (آباء)، وكذلك في (أخ) ". وأما أبو عمر الجرمي فكان لا يرى فيه الجمع السالم إلا في ضرورة، والبيت الذي أنشده سيبويه: وفدّيننا بالأبينا عنده ضرورة ومذهب سيبويه: أن القياس هو " الأبون "، وأن نقصان الحرف الذاهب من الأب ليس يوجب أن يختلف في الجمع السالم ذلك الحرف؛ لأنّا نقول: في رجل اسمه " يد " و " دم ": " يدون " و " دمون " بل عنده أن قولهم: (أبوان) و (أخوان)، إنما نقوله اتباعا للعرب لا على القياس، وهو معنى قوله: إلا أن تحدث العرب شيئا كما بنوه على غير بناء الحرفين فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب يجمع الاسم فيه إن كان لمذكر أو لمؤنث بالتاء قال سيبويه: وذلك إذا سميت رجلا ب " بنت " أو (هنت)، تقول في " بنت ": (بنات) وفي " أخت ": (أخوات) وفي " هنت ": (هنات). وذلك أن هذه التاء التي في (بنت) و (أخت) و (هنت)، إنما هي في الأصل للتأنيث ثم جعلت للإلحاق، فإذا جمعت أو صغرت جعلوا حكمها كحكم هاء التأنيث فأسقطوها، ثم جمعوا بالألف والتاء. ولم يذكر سيبويه غير هذا الجمع، وهو قول النحويين إلا بعض المتأخرين وهو (ابن كيسان)، أجاز فيه التكسير فيقول في (بنت): (أبناء) وفي (أخت): (آخاء) وهو قول تفرد به. وإن سميت رجلا ب (ذيت) وفيه ثلاث لغات (ذيت) و (ذيت) و (ذيت) وأصلها: (ذيّة)، فمن شدد جمع بالألف والتاء مع التشديد فقال: (ذيّات)، ومن خفف فالذي ذكره الجرمي: (ذيات) مخففا ومثله فقال مثل: (شيات) و (ديات).

هذا باب ما يكسر مما كسر للجمع وما لا يكسر

وزعم ابن كيسان أنه يقال: (ذيّات) بالتشديد مثل (كي) إذا سمينا به شددنا الياء، فإذا جمعناه قلنا: (كيات) وهو وجه من القياس. وذكر أبو عمر الجرميّ: أنا لو سمّينا رجلا أو امرأة ب (هنة) لقلنا: (هنتات)، وكذلك إن كان اسمه (منة). والعرب تقول: (هنات) و (منات) قبل التسمية، فذكر أن هذا شيء لا يعول عليه لأنه خارج من القياس. ولقائل أن يقول: إن سيبويه ومن بعده من أصحابه لزموا الشذوذ في جمع ما يسمى به، ولم يخرجوا عنه إلى غيره، وليست (هنت) كذلك لأنها لم تتمكن كتمكن (بنت) و (أخت)؛ لأن (بنتا) و (أختا) يقال فيهما: (بنت) و (أخت) في الوصل والوقف وليس كذلك (هنت)، لأن الوقف عليها (هنه) والوصل (هنات) فإذا سمّوا به أجروه على ما يوجبه القياس (والذي يوجبه القياس) هنتات. هذا باب ما يكسر مما كسر للجمع وما لا يكسر قال أبو سعيد: هذا الباب يذكر فيه من سمي بجمع من الرجال أو غيرهم من الأعلام كيف يجمع ذلك الجمع. والباب في ذلك أن ما كان منه ثالثة ألف، وبعد الألف حرفان أو ثلاثة أحرف مشددة فلا يجوز تكسيره نحو (مساجد) ومفاتيح ودوابّ وما أشبه ذلك، فإذا سمينا رجلا بشيء من ذلك، ثم جمعناه ألحقنا واوا ونونا، وإن سميت امرأة وما جري مجراها ألحقنا ألفا وتاء، فقلنا في رجل اسمه (مساجد) أو (مفاتيح): (مساجدون)، و (مفاتيحون)، وفي المرأة (مساجدات) و (مفاتيحات)، وقد جمعت العرب (شراحيل): (شراحيلون)، وقالوا في (حضاجر): (حضاجرات)، وفي سراويل ومجراها مجرى الجمع سراويلات. وتقول العرب: ناقة مفاتيح وأينق مفاتيحات. وقال أبو عمر الجرمي: سألت أبا عبيد عن معنى (ناقة مفاتيح) فقال: إذا كانت مخصبة في كثرة الشحم واللبن. وإنما لم يكسر هذا؛ لأنّا لو كسرناه لردنا التكسير إلى مثل لفظه. ألا ترى أنّا إذا كسرنا (عذافر) قلنا: عذافر؛ لأنا نحذف الألف فيبقى (عذفر) فتدخله ألف الجمع ثالثة ويفتح أوله، وكذلك (جوالق) لو جمعنا حذفنا الألف فبقي (جولق) فجمعناه على (جوالق) وعوضنا من المحذوف الياء فصار (جواليق)، وإذا سمينا ب (أعدال) و (أنمار)، قلنا: (أعاديل) و (أنامير)، كما قالوا: (أقاويل) و (أبابيت) و (أناعيم)

في (أقوال) و (أبيات) و (أنعام). وإن سمينا ب (أجربة) قلنا: (أجارب) كما قالوا في (الأسقية) (أساق)، وإذا سميناه ب (أعبد) قلنا: (أعابد)، كما قالوا: (أوطب) و (أواطب) و (أيد) و (أياد). وإذا سميناه ب (ظلم) أو (ثقب) وجب أن نقول (ظلمان) و (ثقبان) لأن الباب في فعل إذا كان واحدا هذا لقولنا: (نغر) و (نغران) و (خزز) و (خزّان). ونحن إذا سمينا بالجمع فقد صاروا حدا، ألا ترى أنا نصغره تصغير الواحد فنقول: فيمن اسمه " ظلم " أو " قرب ": (ظليم) و (قريب). وإذا سمينا ب (قرب) أو ما جري مجراه، فجمعناه جمع التكسير قلنا: (أقراب)، كما نقول في عنب: (أعناب) وفي (معى): (أمعاء). قال: " وإذا سميت رجلا ب (فعول) جاز أن تكسره فتقول: (فعائل) لأن (فعولا) قد يكون الواحد على مثاله ك (الأتي) و (السّدوس)، ولو لم يكن واحدا لم يكن بأبعد من (فعول) من (أفعال) من (إفعال) ". قال أبو سعيد: ذهب سيبويه إلى أن " فعولا " قد يكون في الواحد، ثم أتى ب (الأتيّ) و (السّدوس) و (الأتيّ) هو السيل، والأصل (أتوى) وقلبنا الواو ياء، ثم قال: " ولو لم يكن له نظير في الواحد لكان أيضا يجمع على أقرب الأبنية إليه ". وهو " فعول " كما أن (أفعالا) قد جمعوه هو جمع حين قالوا: (أنعام)، و (أناعيم) و (أبيات) و (أبابيت)، كما يجمع الواحد الذي على (إفعال) كقولهم: (إنكال) و (أناكيل) و (إحلاب) و (أحاليب) فمحل (فعول) الذي هو (جمع) من (فعول) الذي هو واحد ك (محل) (أفعال) الذي هو جمع من (إفعال) الذي هو واحد، وهذا معنى قوله: لم يكن بأبعد من (فعول) يعني لم يكن (فعول) بأبعد من (فعول) كما لم يكن (أفعال) بأبعد من (إفعال)، ثم جمعه على فعائل، وكذلك رأيت قوما من النحويين سلكوا هذا الطريق. والصحيح عندي أن " فعولا " إذا سمينا به رجلا ثم جمعناه للتكسير أن تقول: (فعل)؛ لأنه يصير مذكرا، وفعول إذا كان مذكرا، فالباب فيه (فعل) ك (عمود) و (عمد)، و (صبور) و (صبر). وسياق كلام سيبويه عقب ذكره (فعول) إذا سمي به. قال: ويكون مصدرا والمصدر واحد ك (القعود) و (الرّكوب)، ولو كسرته اسم رجل لكان تكسيره كتكسير الواحد الذي في بنائه نحو (فعول) إذا قلت (فعائل)،

هذا باب جمع الأسماء المضافة

ف (فعول) بمنزلة (فعال) إذا كان جمعا نحو (جمال) إذا سميت بها رجلا لأنها على مثال (جراب). فكلام سيبويه أنه يقال في (فعال) و (فعول): (فعائل)، والوجه أن يكون على (فعل)؛ لأنه قد صار واحدا مذكرا كما تقال: (حمار) و (حمر)، و (جراب) و (جرب)، وقد جعله هو أيضا على مثال (جراب) وأما قول الشاعر: وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما … تقوّب عن غربان أوكارها الخطر (¬1) فالجمائل جمع (جمالة) في معنى (الجمال)، وإن كان الجمال جمع (جمل) أيضا فالجمالة مؤنثة لأنها جمع مكسر قبل التسمية بها، فلأجل التأنيث قال: " جمائل ". ولو سميت رجلا ب (تمرة) لقلت في التكسير: " تمار "، كما تقول: (قصاع) وجفان. هذا باب جمع الأسماء المضافة إذا جمعت اسما مضافا إلى شيء وكان الذي أضيف إليه كل واحد منهم غير الذي أضيف إليه الآخر فلا خلاف في جمع الأول والثاني كرجال وجماعة لكل واحد منهم ابن يقال له (زيد). فجمعهم: هؤلاء (آباء الزيدين) لا خلاف في ذلك بين النحويين. وإذا كان الذي أضيف إليه كل واحد منهم هو الذي أضيف إليه الآخر فلا خلاف أيضا في توحيده كقولنا: (عبد الله)، و (عبيد الله) و (عباد الله) و (عبدو الله) في الجمع على تقدير (عبدون). وإذا كان الاسم المضاف كنية، والاسم الثاني ليس باسم معروف فالاختيار عند سيبويه أن يوحّد ولا يجمع، فيقال في أبي زيد: هؤلاء آباء زيد. وذكر أنه قول يونس. وأنه أحسن من (آباء الزيدين)، وهذا يدل أن (آباء الزيدين) قد قيل، وذكر قوم من النحويين هذا القول يعني (آباء الزيدين) ونسبوه إلى يونس، والذي حكى سيبويه عنه ما ذكرته لك. وإنما اختار سيبويه توحيد الاسم المضاف إليه لأنه ليس لشيء بعينه مجموع. ¬

_ (¬1) البيت لذي الرمة في ديوانه 209، وابن يعيش: 5/ 76.

هذا باب من الجمع بالواو والنون وتكسير الاسم

وذكر أن هذا مثل قولهم: (بنات لبون)؛ لأنهم أرادوا به السن المضاف إلى هذه الصفة. وكذلك (أبناء عم) و (بنو عم) و (أبناء خالة) و (بنو خالة) كأنه قال: هما أبناء هذا الاسم أضيف كل واحد منهما إلى هذه القرابة، وكذلك (آباء زيد) كأنه قال (آباء) هذا الاسم. هذا باب من الجمع بالواو والنون وتكسير الاسم قال سيبويه: " سألت الخليل عن قولهم: (الأشعرون)، فقال: إنما ألحقوا الواو والنون كما كسروا فقالوا: (الأشاعر) و (الأشاعث) و (المسامعة)، فكما كسّروا " مسمعا " و (الأشعث) حين أرادوا بني مسمع وبني الأشعث ألحقوا الواو والنون، وكذلك الأعجمون " قال أبو سعيد: كان القياس في الأشعرون أن يقال: (الأشعريّون)، لأنه جمع (أشعريّ) ولا يقال للواحد " أشعر " وإنما هو " بنو أشعر " ينسب إليه، الواحد (أشعري)، والجمع (أشعرون) جعل كل واحد منهم (أشعر) فسماه باسم أبيه ثم جمعه وهذا ليس بقياس. وإنما يتبع فيما قالوا، وشبهوه بقولهم: " الأشاعر "، و (الأشاعث) و (المسامعة). لأن الأشاعث هو جمع (الأشعث) والمسامعة جمع (مسمع). قال أبو سعيد: وهذا أسوغ وأقيس من الأشعريين؛ لأن هذا كان أصله (أشعثيّ) و (مسمعيّ) فلما جمعنا جمع التكسير صار بمنزلة اسم على ستة أحرف إذا كسّرناه حذفنا اثنين منها و (الأعجمون)، بمنزلة (الأشعرون). ويجوز أن يكون (الأعجمون) على غير وجه النسبة كأنه (أفعل) من (العجمة) وأجري مجرى الأسماء، ولم يذهب به مذهب (الأعجميّ) فيكون بمنزلة (الأشعرين)، وقد قال بعضهم: (النّميرون) على ذلك التأويل، وليس بقياس مطرد. قال: " وسألت الخليل عن قولهم: (مقتويّ) و (مقتوين)، فقال: هما بمنزلة (الأشعريّ) و (ألأشعرين)، فإن قلت: لم لم يقولوا: (مقتون) فإن شئت قلت: جاءوا به على الأصل، كما قالوا: (مقاتوه) حدثنا بذلك أبو الخطاب عن العرب، وليس كل العرب تعرف هذه الكلمة (يعني مقاتوه) وإن شئت قلت هو بمنزلة (مذروين) من حيث لم يكن له واحد يفرد ".

قال أبو سعيد: اعلم أن (مقتوين) شاذ من وجهين، وذلك أن الواحد (مقتويّ) منسوب إلى " مقتا " وهو (مفعل) من (القتو) والقتو: الخدمة و (المقتويّ) الخادم، والنسب إلى مقتا (مقتويّ) كما يقال في (ملهى) (ملهوي) فإذا جمع على لفظه وجب أن يقال: (مقتويّون) كما يقال في تميميّ: (تميمّيون)، وإذا جمع على حذف ياء النسبة كما قالوا في (الأشعري): (الأشعرون) وجب أن يقال " مقتون " لأنا إذا حذفنا ياء النسبة بقي (مقتو) ونقلب الواو ألفا فيصير (مقتا) وإذا جمع لزم فيه " مقتون " كما يقال في (مصطفى): (مصطفون) فأحد وجهي شذوذه إثبات الواو فيه قبل ياء الجمع، والآخر حذف ياء النسبة وإثبات الواو فيه أنهم جعلوها صحيحة غير معتلة فجاءوا بها على الأصل كما قالوا: (مقاتوه)، وكان حق هذا أن يقال: (مقاتيه) ولم يجئ واو طرفا، وقبلها كسره، وإن كان بعدها هاء التأنيث إلا هذا الحرف. وحكي أيضا عن أبي عبيدة حرف آخر وهو قولهم: " سواسرة " في معنى (سواسية) يقال: قوم (سواسية) إذا كانوا (مستوين) في الشر. قال الشاعر: صغيرهم وشيخهم سواء … سواسية كأسنان الحمار (¬1) قال: وأما (النصارى) فإنه جماع (نصري) و (نصران)، أما الخليل فذكر أنه جمع (نصرى) كقولهم: (مهرى) و (مهارى) و (بختىّ) و (بخاتى) حذف إحدى الياءين من (مهريّ) و (بختىّ) فصار: (مهاري) و (مهاري)، وقلب الياء ألفا كما قالوا: (صحارى) وألزموه الألف. والذي اختاره سيبويه أنه جمع (نصران) لأنه جاء في الشعر في المؤنث (نصرانة). وأنشد قول أبي الأخزر الحمّانيّ: فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها … كما سجدت نصرانة لم تحنّف (¬2) وإذا كان المؤنث (نصرانة) فالمذكر (نصران) بمنزلة (ندمان) و (ندمانة) وجمعه (ندامى) فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البيت في المخصص 6/ 205، واللسان: (سوا). (¬2) شواهد سيبويه: 3/ 256 - 3/ 411، واللسان: (نصر).

هذا باب ما يتغير في الإضافة إلى الاسم إذا جعلته اسم رجل أو امرأة وما لا يتغير إذا كان اسم رجل أو امرأة

هذا باب ما يتغير في الإضافة إلى الاسم إذا جعلته اسم رجل أو امرأة وما لا يتغير إذا كان اسم رجل أو امرأة قال سيبويه: أما ما لا يتغير ف (أب) و (أخ) و (نحوهما) تقول: هذا (أبوك) و (أخوك) كإضافتهما قبل أن يكونا اسمين. كما قلت في التثنية: (أبوان)، وكذلك إذا سميت رجلا ب (فم) ثم أضفته تقول: هذا (فمك)، والذين قالوا: (فوك) قبل التسمية لم يضيفوا (فما) المفرد وإنما تكلموا ب (فوك) على حد قولك: (ذو مال)، وليس بمنقول عن (فم). وإذا سميت رجلا ب (ذو) قلت: (ذوا)، فإذا أضفته لم تقل: (ذوك) وإنما تقول: (ذواك) كما قلت: (فمك). وأما ما يتغير في الإضافة فهو (لدى) و (إلى) و (على) إذا سميت بهن رجالا أو نساء. تقول في رجل اسمه (على) أو (لدى) أو (إلى): هذا (لداك) و (علاك) و (إلاك)، وقد كان قبل التسمية يقال: (لديك) و (إليك) و (عليك)، وإنما قلبوها في الإضافة إلى (مكنيّ) عند سيبويه، فرقا بينها وبين الأسماء المتمكنة إذا قلت: (هواك) و (عصاك) و (رحاك) كما فرّقوا بين (عنّى) و (منىّ) وأخواتها وبين (هني) و (يدي) و (دمي)، فزادوا فيها نونا وغيروها، ولم يزيدوا في (يدي) و (دمي). ثم قوّى هذا سيبويه بأن قال: حدثنا الخليل أن ناسا من العرب يقولون: (علاك) و (لداك) و (إلاك)، وسائر علامات المضمر المجرور بمنزلة الكاف. يعني (علاي) و (علاه). واعترض بعض النحويين على ما قاله سيبويه فقال: رأينا ما لا يتمكن من هذه الظروف لم يفرق بينها وبين المتمكن كقولهم: (عندك) و (قبلك)، و (بعدك) وكانت إضافته إلى الظاهر والمكني بمنزلة واحدة. فقال المجيب عن سيبويه: رأينا حروف العلة ينقلب بعضها إلى بعض أكثر من انقلاب غيرها، بل يطرد فيها من الانقلاب ما لا يطرد في غيرها. وقال بعض النحويين: إنما قلبوا في هذا الحروف الألف ياء في الإضافة إلى المكني؛ لأنّا رأينا الإضافة لازمة لهذه

هذا باب إضافة المنقوص إلى الياء التي هي علامة المجرور المضمر

الحروف، كما رأينا اسم الفاعل لازما للفعل، ورأينا اسم الفاعل قد يتغير له الفعل، إذا اتصل به كقولك: (غزا) و (رمى)، ثم نقول: (غزوت) و (رميت) فتنقلب الألف ياء أو واوا، واختاروا الياء في هذا دون الواو؛ لأن في الكنايات كياء المتكلم، فلو قلبوها واوا، فقالوا (علوك) و (علوه)، لقالوا في المتكلم: (علوي) فيجتمع واو وياء الأول منهما ساكن فتنقلب الواو ياء فاختاروا حرفا لا ينقلب، وهو الياء؛ ولأنها أيضا أخف من الواو، وحملوا على (عليك)، و (لديك)، مررت بكليهما، ورأيت كليهما، وهم يقولون في الظاهر مررت بكلا (أخويك) ورأيت كلا (أخويك) فحملوا كلا لما اتصل بالمكني على (عليهما) و (لديهما)، في حال النصب والجر، وقالوا في حال الرفع جاء (أخواك) كلاهما شبهوا (كليهما) للزوم الإضافة ب (عليهما) لما اجتمعا في لزوم الإضافة، وإنما حملوه في الجر والنصب على (عليك) دون الرفع؛ لأن (عليك) قد يقع في موقع مجرور أو منصوب ولا يقع في موضع مرفوع كقولك (من عليه)، و (من لديه) وهذا (عليه) و (لديه)، فهما ظرفان يقعان في موضع الجر والنصب، ولا سبيل إلى الرفع فيهما فحمل " كلا " عليها في الحالين اللتين يكونان لهما. وليست الألف في " كلا " ألف تثنية. وقد استقصينا هذا في موضعه في بعض أبواب التصريف في آخره. هذا باب إضافة المنقوص إلى الياء التي هي علامة المجرور المضمر قال أبو سعيد: اعلم أن ياء المتكلم يكسر ما قبلها، إلا أن يكون ألفا أو ياء متحركا ما قبلها، فأما كسرها لما قبلها فنحو (غلامي) و (ثومي)، وأما الألف فقولك: (براي) و (هداي) و (أعشاي) وأما الياء فنحو (غلاميّ) و (قاضيّ) و (ضاربيّ). قال سيبويه: ومن العرب من يقول: (بشريّ) و (هديّ). قال أبو ذؤيب: سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم … فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع (¬1) وإنما قلبوا الألف ياء؛ لأن الألف خفيّة، فأرادوا التّبيين، كما يقول بعض العرب: (أفعي) مكان (أفعى)، وإنما لم يحركوا الألف والياء التي قبلها حركة؛ لأن الألف لا يمكن ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش: 3/ 33، والدرر اللوامع: 2/ 68، وأمالي بن الشجري: 1/ 281، وديوان الهذليين: 1/ 2.

تحريكها، إلا بأن تقلب فكرهوا قلبها وحركوا ياء الإضافة؛ لأنها متحركة في الأصل، وجعلوها كالكاف وبقّوا (الألف) على لفظها فصار (هواي) و (عصاي) ك (هواك) و (عصاك). وأما الياء المكسور ما قبلها فإنّا إن حركناها لياء الإضافة بعدها حركناها بالكسر، وهي تسكن في موضع الكسر كقولك: مررت ب (قاضيك)، و (راميك)، فوجب أيضا تسكينها في الإضافة؛ لأنها حال كسر، ووجب إدغامها في الياء بعدها كقولك: هذا (قاضيّ)، وهؤلاء (جواريّ)، وكذلك لو كان في آخر الاسم (واو) مضموم ما قبلها، لوجب قبلها ياء وإدغامها في الياء كقولك: هؤلاء (مسلميّ) و (صالحيّ) ولم يجز تحريكها بالكسر استثقالا للكسر عليها كما يستثقل على الياء، ألا ترى أنا نقول: (زيد يغزو القوم) فتحذف الواو ولا تكسرها لالتقاء الساكنين فلما ثقلت الكسرة عليها وجب أن يقال: (مسلموي) و (صالحوي) فتجتمع الواو والياء والأول منهما ساكن فتنقلب الواو ياء، ويكسر ما قبلها لتسلم الياء كما يضم المكسور في الجمع لتسلم الواو كقولك: (قاضون) وما أشبه ذلك. وأما المفتوح فقولك: رأيت (غلاميّ) و (مسلميّ) وما أشبه ذلك؛ لأنك تسقط النون للإضافة فتبقي ياء التثنية ساكنة وبعدها ياء الإضافة فتدغم استثقالا للكسرة عليها. ويقولون في المرفوع المثنى: هذان (غلاماي)، و (صاحباي) ولا يستعملون فيها لغة من يقول: (بشريّ) و (هديّ) و (عصيّ) كراهة أن يلتبس المرفوع بالمنصوب والمجرور. وإذا جمعت ما آخره ياء مكسور ما قبلها بالواو والنون، والياء والنون، حذفت الياء التي هي آخره، كقولك: (قاضون) و (رامون) و (رأيت) (قاضين)، و (رامين)، وأصل ذلك: (قاضيون)، و (راميون)، و (قاضيين) و (راميين) فوجب تسكين الياء؛ لأنها مضمومة أو مكسورة وقبلها كسرة ثم يجتمع ساكنان وهي واو الجمع أو ياء الجمع وهي تسقط ثم يضم المكسور الذي قبلها في حال الرفع لتسلم الواو ذلك: (قاضون) و (رامون). ولم يذكر إذا كان قبل ياء الإضافة واو متحرك ما قبلها؛ لأنه لا يقع في آخر اسم واو متحرك ما قبلها. وإن كان جمع سالم ك (مسلمين) و (مصطفون) ثم أضيف فاجتمع الواو والياء وجب قلب الواو ياء فلذلك لم يذكر الواو.

هذا باب التصغير

وقد دخل في الباب الذي يتلوه وهو باب إضافة كل اسم آخره ياء. هذا باب التصغير اعلم أن التصغير يجيء على وجوه، منها تقليل ما يجوز أن يتوهم كثيرا، أو تحقير ما يجوز أن يتوهّم عظيما، أو تقريب ما يجوز أن يتوهم بعيدا، فأما التقليل فقولك: (عندي دراهم)، فيجوز أن تكون كثيرة، وإن صغرت قلت: (عندي دريهمات) فيعلم أنها قليلة، وأما ما يجوز أن يتوهم أنه عظيم فقولك: ب (كليب) و (رجيل) في كلب ورجل لئلا يتوهم أنه كبير عظيم. وأما التقريب فقولك: (جئتك قبل شهر رمضان)، فيجوز أن يتوهم أن مجيئك قبل شهر رمضان بشهر، أو شهرين أو أكثر، فإذا قلت: (جئتك قبيل شهر رمضان) علم أنه قبله بقليل، وكذلك بعد يجوز أن يكون بعد الشيء بكثير، ويجوز أن يكون بقليل، فإذا قلت: (بعيد) شهر رمضان علم أنه بعده بقليل. واعلم أن التصغير ما يزاد فيه يدل على صفته في القلة والصغر والقرب والتحقير، فتغني علامة التصغير عن الصفة، وذلك كقولك: مررت بكلب فيمكن أن يكون كبيرا أو صغيرا فإذا أردت البيان، قلت: مررت ب (كلب) كبيرا وب (كلب) صغير، فإذا قلت: مررت (بكليب)، أغنى التصغير عن قولك: كلب صغير، وقال بعض النحويين: قد يكون التصغير لتعظيم الأمر. وأنشدوا: وكلّ أناس سوف تدخل بينهم … دويهية تصفرّ منها الأنامل (¬1) فقالوا: دويهية يريدون بها تعظيم الداهية، وأنشدوا أيضا: فويق جبيل سامق الرّأس … لم تكن لتبلغه حتّى تكلّ وتعملا (¬2) فقالوا: قد صغر جبيلا ثم قال: سامق الرأس وهو العالي فدل على أنه للتعظيم. وقالوا: قد يقول الرجل للرجل: أيا (أخيّ) إذا أرادوا المبالغة ويا (صديّقي) كذلك، ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش: 5/ 114، وخزانة الأدب للبغدادي: 2/ 561، وابن الشجري: 1/ 25 - 2/ 49 - 131، والدرر اللوامع: 2/ 228. (¬2) البيت في ابن يعيش: 5/ 114، أمالي الشجري: 1/ 25.

وليس الأمر كما ظنوا فيما احتجوا به. أما دويهية فإن الشاعر أراد بها الصغر، وأن حتف الإنسان قد يكون بصغير الأمر الذي لا يأبه له ولا يترقب، وأما فوق (جبيل) سامق الرأس، فإنما أراد دقيق الرأس وإن كان طويلا فصغره لدقته، وأنه إذا كان كذلك فهو أشد لصعوده. وأما (أخي) و (صدّيقي) فإنما يراد به لطف المنزلة، واللطيف من المنازل في الصداقة والأخوة، إنما يمدح فيه أنه يصل بلطافة ما بينهما إلى ما لا يصل إليه العظيم فهو من باب التصغير والتلطف لا من باب التعظيم. قال سيبويه: اعلم أن التصغير إنما هو في الكلام على ثلاثة أمثلة على (فعيل) و (فعيعل) و (فعيعيل)، فأما (فعيل) فهو تصغير كل ما كان على ثلاثة أحرف من أي بناء كان كقولك: (فلس) و (فليس)، و (جمل)، و (جميل) و (قفل) و (قفيل)، وكذلك سائر الأبنية الثلاثية. وأما (فعيعل) فهو تصغير كل بناء كان على أربعة أحرف من أي بناء كقولك في (جعفر): (جعيفر)، وفي (مطرف): (مطيرف)، وفي غلام: (غليّم)، وفي سيطر: (سييطر)، وفي علبط: (عليبط) ولا يختلف في ذلك شيء مما هو على أربعة أحرف. وأما (فعيعيل) فهو على وجهين، أحدهما أن يكون تصغير شيء على خمسة أحرف، والرابع منها واو أو ألف أو ياء، فالواو قولك: (صندوق) و (صنيديق)، و (قربوس) و (قريبيس)، و (كردوس) و (كريديس) والألف قولك: (مصباح) و (مصيبيح)، و (كرباس) و (كريبيس)، وأما الياء ف (قنديل) و (قنيديل) ولا تبالي اختلاف الأبنية في ذلك. والوجه الثاني أن تصغر شيئا على خمسة أحرف وليس رابعها واوا ولا ياء ولا ألفا فتحتاج أن تحذف منها حرفا فتصغره كما تصغر ما كان على أربعة أحرف ثم تعوض من المحذوف ياء كقولك في تصغير: (سفرجل) (سفيرج)، وفي (فرزدق) (فريزد)، وإن شئت قلت: (سفيريج) و (فريزيد) فتعوض. قال أبو سعيد: ما ذكره سيبويه في أصل الباب: أن التصغير في الباب على ثلاثة أمثلة، (فعيل)، و (فعيعل)، و (فعيعيل)، ولو ضم إلى هذا وجها رابعا لكان يشتمل على التصغير كله، وذلك (أفيععال)، نحو قولنا: (أجمال) و (أجيمال)، و (أنعام)، و (أنيعام)

وسائر ما كان على (أفعال) من الجمع، وأما (فعيلان) و (فعيلاء) و (فعيلى)، وما كان في آخره هاء التأنيث، فصدور هذه الأشياء من الثلاثة التي ذكرها، وإنما النقص في (أفيعال)، فإن قيل لم وجب ضم أول المصغر؟ قيل له: لأنّا إذا صغرنا فلا بد من تغيير المكبر عن لفظه بعلامة تلزم، للدلالة على التصغير وأن الضم أولى بذلك؛ لأنهم قد جعلوا الفتحة للجمع في قولهم: (مساجد)، و (ضوارب) و (قناديل) وما أشبه ذلك، فلم يبق إلا الكسر والضم، واختاروا الضم؛ لأن الياء علامة التصغير، ويقع بعد الياء حرف مكسور، فيما زاد على ثلاثة أحرف كقولهم: (عقيرب) و (عتيّق)، فلو كسروا أوله لاجتمعت كسرتان وياء فعدلوا عنها لثقل ذلك إلى ما يقاوم الياء والكسرة مما يخالفهما. وقال بعض النحويين: لما كان المكبر على أبنية هي في الأصل غير محتاجة إلى إحداث علامة تدل على التكبير؛ لأن العلامات يجلبها تغيير الكلام عن أصوله. وكان التصغير حادثا في المصغر لما بيّناه من نيابة عن الصفة احتيج له إلى علامة فشبه ذلك بما لم يسم فاعله من الفعل؛ لأن الذي يسمى فاعله على الأصل وهو على أبنية مختلفة كقولك: (ضرب) و (علم) و (ظرف)، فإذا جعل لما لم يسم فاعله، ألزموه بناء واحدا وألزموا الضمة أوله فقالوا: (ضرب) و (علم) و (ظرف) في هذا المكان فالمكبر كالفعل الذي سمي فاعله، والمصغر كالفعل الذي لم يسم فاعله. وقال بعض النحويين: الضم يجعل علامة لشيئين كقولك: (نحن)؛ لأنه اسم المتكلم وغيره فضم من أجل ذلك، وما لم يسم فاعله يدل على فاعل محذوف ومفعول مذكور، والتصغير يدل على الاسم المكبر، وعلى صفة له محذوفة؛ لأنا إذا قلنا: " كليب "، كأنا قلنا: (كلب صغير). واعلم أن التصغير في ما جاوز ثلاثة أحرف كالجمع إلا أن علامة التصغير تلزم طريقة واحدة والجمع له مذاهب وضروب، فإذا جمع الشيء وهو على أربعة أحرف فبقيت حروفه في الجمع فهو بمنزلة التصغير إلا أن علامة الجمع فتح أوله وألف ثالثة تقع موقع ياء التصغير، تقول في درهم: (دريهم) وفي مغتسل: (مغيسل)، كما تقول في الجمع (دراهم) و (مغاسل)، وتقول في مصباح (مصيبيح) كما تقول في الجمع: (مصابيح) و (صنيديق) ك (صناديق) لا خلاف بينهما إلا فيما ذكرت ذلك من الفتح والضم والألف والياء.

هذا باب تصغير ما كان على خمسة أحرف ولم يكن رابعه شيئا مما كان رابع ما ذكرنا

هذا باب تصغير ما كان على خمسة أحرف ولم يكن رابعه شيئا مما كان رابع ما ذكرنا يعني ولم يكن رابعه واوا ولا ياء ولا ألفا كقولك: (فرزدق)، و (سفرجل) و (قبعثرى) و (جحمرش) و (صهصلق) فتحقر العرب هذه الأسماء " سفيرج " و " فريزد " و " قبيعث " و " صهيصل "، وإنما حملهم على حذف حرف منها، أنهم إذا جمعوا ثقل أن يأتوا بالحروف كلها، مع ثقل الجمع، وأنه جمع لا ينصرف وإن انصرف دخله التنوين، فيصير النصف الثاني من الاسم أكثر من الأول وحق الصدر أن يكون أقوى من الأخير، وهم إذا صغروا الثلاثي وقعت ياء التصغير ثالثا وقبلها حرفان وبعدها حرف ك (كليب) و (فليس)، وإذا صغروا الرباعي وقعت ياء التصغير في الوسط؛ لأنه ثلاثة أحرف لا يمكن قسمتها بنصفين، فجعلوا القسم الأوفر في الصدر، فعلمنا أن الصدر أولى بالتقوية، فلما جمعوا وصغروا وقد وجب وقوع ألف الجمع وياء التصغير ثالثة كرهوا أن يتموا الحروف فيكون القسم الأخير أكثر من الأول فحذفوا حرفا منهما، وكان أولى الحروف بالحذف الأخير إذا كانت الحروف كلها أصلية؛ لأن الذي أوجب الحذف هو الأخير، وذلك أن الحرفين اللذين في الصدر مضيا على القياس المطرد في تصغير الثلاثي والرباعي والحرف الذي بعد ياء التصغير هو في الثلاثي أيضا والحرف الرابع في الرباعي والخامس هو الذي لا نظير له فيما تقدم من التصغير فكان أولى بالحذف. وحكى سيبويه عن بعض النحويين: (سفيرجل) وفي الجمع: (سفارجل) فقال الخليل: لو كنت محقرا هذه الأسماء ولا أحذف منها شيئا كما قال بعض النحويين لسكنت الذي قبل الأخير فقلت: (سفيرجل) بتسكين الجيم حتى يصير بوزن (دنينير)؛ لأن قبل الآخر الياء الساكنة حتى تصير الجيم مثل الياء. هذا باب تصغير المضاعف الذي قد أدغم أحد الحرفين منه في الآخر قال سيبويه: وذلك (مدقّ)، و (أصمّ)، إذا صغرته قلت: " مديقّ " و " أصيمّ "، كما تقول في الجمع: (مداقّ) و (أصام)؛ لأن هذه الياء في التصغير بمنزلة الألف وإن نقص مدها عن مد الألف بانفتاح ما قبلها؛ لأن الياء الساكنة فيها (مد)، وإن فتح ما قبلها.

هذا باب تصغير ما كان على ثلاثة أحرف

ألا ترى أن الشاعر إذا قال قصيدة قبل آخرها ياء ساكنة قبلها فتحة كانت مردفة فلزمه أن يأتي بها في جميع القصيدة كقول الشاعر: ومهمهين قذفين مرتين … ظهراهما مثل ظهور التّرسين (¬1) هذا باب تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتأنيث صارت عدته مع الزيادة أربعة أحرف قال سيبويه: وذلك نحو " حبلى " و " بشرى " و " أخرى " فتقول: (حبيلي) و (بشيري) و (أخيري)، وإنما تثبت ألف التأنيث؛ لأن الكلمة مع الألف أربعة أحرف، ولا يحذف في التصغير من الأربعة شيء، وفتحوا الحرف الذي بعد ياء التصغير؛ لأن ألف التأنيث يفتح ما قبلها فصارت: (حبيلي) بمنزلة (حبيلة)، ولو كانت الألف لغير التأنيث انقلبت ياء؛ لأنك تكسر ما بعد ياء التصغير، كما تكسره في الرباعي من الأسماء، كقولك: (جعيفر) و (عقيرب)، فتنقلب الألف ياء كقولك في مرمى: (مريم) وفي أرطى: (أريط) وفي معزى: (معيز)، ولم يقلبوا في (حبيلي) و (بشيري)؛ لأن ألف التأنيث كهاء التأنيث بفتح ما قبلها. وقد تجيء أسماء في آخرها ألف التأنيث للعرب فيها مذهبان: منهم من يجعل الألف للتأنيث فيجريها على حكم (حبلى) ومنهم من يجعلها لغير التأنيث فيجريها على حكم الألف التي ينكسر ما قبلها وتنقلب ياء وذلك: (علقى) و (ذفرى)، و (تترى)، منهم من ينون هذه الأسماء فتكون الألف لغير التأنيث؛ لأن الألف التي للتأنيث لا يدخلها تنوين فتقول: (عليق) و (ذفير) و (تتير)، ومنهم من يقول: هذه (علقى) و (ذفرى) و (تترى) فلا ينون فتقول في تصغيره: هذه (عليقى) و (ذفيرى) و (تتيرى) يا فتى بغير تنوين، وإذا كانت الألف خامسة للتأنيث أو لغير التأنيث وهي مقصورة قبلها أربعة أحرف أصول حذفتها، فأما التي للتأنيث فقولك في (قرقرى) (قريقر)، وأما التي لغير التأنيث فقولهم في (حبركى): (حبيرك)، وإنما حذفوا هذه الألف؛ لأن المصغر إذا كان على خمسة أحرف، ولم يكن الحرف ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز، وهما في ابن يعيش: 4/ 155، 156، والخزانة: 3/ 374، الكتاب: 3/ 622، والمخصص 9/ 7.

هذا باب تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته ألف التأنيث بعد ألف فصار مع الألفين خمسة أحرف

الرابع حرف مد ولين حذف منها حرف، والحرف الأخير زائد فهو أولى بالحذف في المؤنث، وفي غير المؤنث مما ذكرنا، هو أولى بالحذف لأنه زائد. فإن قال قائل: فلم لا تحذفون الألف الممدودة للتأنيث وهاء التأنيث إذا كان قبلها أربعة أحرف كقولهم في (خنفساء): " خنيفساء " وفي (سلهبة): " سليهبة ".؟ قيل له: هاء التأنيث والألف الممدودة متحركتان فصار لهما بالحركة مزيّة وصار مع الألف كاسم ضم إلى اسم ومثلهما ياء النسبة والألف والنون الزائدتان، كقولنا في زعفران: (زعيفران) وفي سلهبة: (سليهبة) والمقصورة هي حرف ميّت للسكون الذي يلزمها فحذفت؛ لأنها لم تشبه الاسم الذي يضم إلى اسم. هذا باب تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته ألف التأنيث بعد ألف فصار مع الألفين خمسة أحرف قال سيبويه: وهو ما كان ألف التأنيث فيه ممدودة، وباب ذلك أن تصغر الصدر، ثم تزيد فيه الألف الممدودة كأنها كالهاء لاشتراكهما في الحركة وذلك قولك في (حمراء) و (صفراء) و (طرفاء): (حميراء)، و (صغيراء) و (طريفاء). ومثله (فعلان) الذي له (فعلى) الألف والنون فيه كألفي (حمراء) فتقول في (غضبان): (غضيبان) وفي (سكران) (سكيران)؛ لأنه يجري مجرى (حمراء) و (صفراء) وعدة حروفهما، ونظم الحركات فيهما سواء. فإن جاء بعد ذلك ما كان فيه ألف ونون قبلها ثلاثة أحرف غير (فعلان) الذي له (فعلى)، فإنك تعتبر جمعه، فإن كانت الألف منه تنقلب ياء في الجمع قلبتها في التصغير، وإن كانت لا تنقلب لم تقلبها ياء، وذلك في قولك في (سرحان): (سريحين)، وفي (ضبعان): (ضبيعين) وفي (حومان): (حويمين) وفي (سلطان): (سليطين) وفي (فرزان) (فريزين)؛ لأنك تقول في الجمع (سراحين)، و (ضباعين)، و (حوامين) و (سلاطين)، وتقول: (فرازين) ومن قال: (فرازنة) فهو أيضا يقول: (فريزين)؛ لأن الهاء في فرازنة بدل من الياء في فرازين، كما أنهم يقولون: (جحجاح) و (جحاجحة) و (زنديق) و (زنادقة). وهو في التصغير: (جحيجيح) و (زنيديق)؛ لأن الهاء في الجمع بدل من الياء،

وتقول في ما لم تقلب في جمعه الألف ياء: (عثمان) و (عثيمان) وسعدان و (سعيدان) وما أشبه ذلك. لأنهم يقولون: (عثمان) و (عثمانون) وسعدان و (سعدانون)، وتقول في تصغير عريان: (عريّان)؛ لأنك تقول في جمعه: (عراة) و (عريانون). فإن جاء شيء من هذا الباب في آخره ألف ونون، ولم تدر كيف تجمعه العرب، لم تقلب الألف ياء في التصغير كقولك: (مروان) و (مريّان) و (رعيان) و (رعيّان)، والفرق بين ما قلب فيه الألف ياء وبين ما لم تقلب أن الذي تقلب فيه الألف ياء يجعلون النون فيه للإلحاق، والذين لا يقلبون الألف فيه ياء يجعلونهما بمنزلة ألفي التأنيث فجعلوا (سرحان) ملحقا ب (سربال) وكرباس)، وجعلوا النون فيه بمنزلة الألف، فكما يقال: (سريبيل) و- كريبيس)، وجب أن يقال: (سريحين) وكذلك (ضبعان) و (فرزان)، وجعلوا (سلطان) النون فيه ملحقة بسين (قرطاس)، فمن حيث قالوا: (قريطس) قالوا: (سليطين). فإن قال قائل: وأنتم تقولون في تصغير (ورشان): (وريشين) وفي (حومان): (حويمين)، وليس في الكلام حرف أصلي ملحق به نون (ورشان)؛ لأنه ليس في الكلام (فعلال) بفتح العين. فالجواب عن ذلك أنهم ألحقوا الجمع والتصغير بجمع ما فيه الحرف الأصيل وتصغيره، ولم يلحقوا به الواحد، فكأن (وراشين) و (ورشين) ملحقين ب (سرابيل) و (سريبيل). ولو سميت رجلا ب (سرحان) أو غيره مما ذكرنا لم يتغير بتصغيره وجمعه وقلت في رجل اسمه (سرحان): (سريحين) وفي رجل اسمه " معزى ": (معيز) ولم تقل: (سريحان) ولا (معيزى)، و (سرحان) اسم رجل، و (معزى) لا ينصرفان في التكبير، وإذا صغرتهما انصرفا؛ لأن الذي منع من الصرف لفظ الألف والنون في آخر (سرحان)، ولفظ الألف في آخر (معزى)، وإذا صغرت انقلبت الألف ياء فانصرف، وقد تقدم هذا في موضعه. ومما يشبه (سرحان) و (سريحين) قولهم في (علباء) و (حرباء): (عليبي) و (حريبّي)؛ لأنه في الأصل (علياي) و (حرباي) ملحقين ب (سربال) و (كرباس)، فهو بمنزلة حرف أصلي، وتقول في الجمع: (علابيّ) و (حرابيّ)، وتقول في (سقّاء): (سقيقيّ) وفي (قلاء): (مقيليّ)؛ لأن (سقاء) (فعّال)، و (مقلاء): (مفعال) تقول: (جميميل) و (معيطير)، وقد

هذا باب تحقير ما كان على أربعة أحرف فلحقته ألف التأنيث بعد ألف أو لحقته ألف ونون

يجيء من الممدود ما للعرب فيه مذهبان. بعض يذهب إلى أن المدّة للتأنيث فيجريه مجرى المؤنث الممدود. وبعض يذهب إلى أنه لغير التأنيث فتصغيره على حسب ذلك قولهم: (غرغاء) منهم من يقول: هؤلاء " غوغاء " فلا ينونه ويجعله بمنزلة (عوراء) فإذا صغر قال: (غويغاء)، كما يقولون: (عويراء) و (حميراء)؛ لأن الألف للتأنيث، ومنهم من يقول: هؤلاء (غوغاء) فيجعله " فعلال " بمنزلة (قضقاض) وأصله (غوغاو)، وتنقلب الواو همزة، ويصرفه كما يصرف (قضقاضا) ونحوه. وفي (قوّباء) لغتان: من العرب منهم من يقول: (قوباء) فيفتح الواو والألف للتأنيث في هذه اللغة لا غير، فيقول في تصغيره: (قويباء)، ومنهم من يقول: (قوياء) فيسكن الواو ويصرفه والهمزة لغير التأنيث منقلبة من ياء ملحق ب (قرطاس) كان أصله: (قوياي) بمنزلة (قرطاس) و (فسطاط)، فإذا صغر قال: (قويبي) كما يقول: (قريطيس). وقال سيبويه: " وأما " ظربان " فتحقيره " ظريبان "، كأنك كرسته على " ظرباء "، ولم تكسّره على " ظربان ". ألا ترى أنك تقول: " ظرابيّ " كما تقول: " سلفاء " و " صلافيّ "، ولو جاء شيء من " صلفاء " كانت الهمزة للتأنيث لا يكون من باب (علباء)، و (حرباء)، ولم تكسره على " ظربان "، ألا ترى أن النون قد ذهبت فلم تشبه ب " سريال " حيث لم تثبت في الجمع كما تثبت لام " سريال " وما أشبه ذلك ". يريد أن (ظربان) لا يجوز أن يكون ملحقا؛ لأنه ليس في الكلام " فعلال " فلما جمعته العرب على (ظرابيّ) علمنا أنهم لم يجعلوا الجمع ملحقا كما لم يجعلوا الواحد ملحقا بواحد، وقد عرفتك أنهم جعلوا جمع " ورشان " وتصغيره ملحقين بجمع " سريال " وتصغيره فوجب أن يقال: (ظريبان) وكان جمعهم إياه على (ظرابيّ)؛ لأنهم جعلوا النون كالبدل من ألف، وقد مضى هذا في موضعه فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب تحقير ما كان على أربعة أحرف فلحقته ألف التأنيث بعد ألف أو لحقته ألف ونون قد تقدم أن ما لحق الاسم في آخره من ألف ونون أو ألف ممدودة للتأنيث أو ياء

هذا باب ما يحقر على تكسيرك إياه لو كسرته للجمع على القياس لا على المكسر للجمع على غيره

النسبة فإن التصغير يقع على الصدر كأنه لا زائد في آخره، ثم يلحق بعد التصغير الزائد كقولك في: " خنفساء ": (خنيفساء) وفي (عنصلاء)، و (قرملاء): " عنيصلا " و " قريملا " كما تقول في (عثمان) و (سعدان): " عثيمان " و " سعيدان "، وفي " مهريّ " و " كرسي ": (مهيريّ) و (كريسييّ)؛ لأن هذه الألف الممدودة للتأنيث لما لحقتها الحركة صارت بمنزلة الهاء. وخالفت (قرقرى) و (قهقرى) وما أشبه ذلك، وكذلك الألف والنون في (عصريان) و (عنفوان) لتحركها وتقول في (أقحوانة) و (عنظوانة): (أقيحيانة) و (عنيظيانة)، كأنك حقرت (عنظوانا) و (أقحوانا). وإذا حقرت (عنظوانا) و (أقحوانا) فكأنك حقرت (عنظوة) و (أقحوة)، لأنك تجري الألف والنون مجرى هاء التأنيث، فتصغر ما قبل هاء التأنيث فيصير: (عنيظيّ) و (أقيحيّ)، ثم تدخل الألف والنون فيصير: (عنيظيان) و (أقيحيان)، وتقول في " أسطوانة " إذا صغرتها: (أسيطينة) لقولهم: (أساطين) كما قلت: (سريحين) حيث قالوا: (سراحين) فلما كسّروا الاسم بحذف الزيادة وثبات النون حقرته عليه وقد مضي الكلام في الفرق بين (سريحين) و (عثيمان) بما أغنى عن إعادته. هذا باب ما يحقر على تكسيرك إياه لو كسرته للجمع على القياس لا على المكسر للجمع على غيره قال سيبويه: وذلك قولك في (خاتم): (خويتم)، وفي (طابق): (طويبق) و (دانق): (دوينق). والذين قالوا: (دوانيق) و (خواتيم) و (طوابيق)، إنما جعلوه تكسير " فاعال " وإن لم يكن في كلامهم كما قالوا: (ملامح)، والمستعمل في الكلام (لمحة) ولا يقال: (مليحة) غير أنهم قد قالوا: (خاتام) حدثنا بذلك أبو الخطاب وسمعنا من يقول ممن يوثق به: (خويتم)، وإذا جمع قال: (خواتيم). قال أبو سعيد: اعلم أن (دانقا) و (خاتما) و (طابقا) قياس الجمع فيه أن يكون على (خواتم) و (دوانق) و (طوابق)؛ لأنك إذا جمعت جئت بألف الجمع ثالثة، فتقع بعد ألف (خاتم) و (طابق) و (دانق) فتنقلب الألف فيهن واوا كما نقول في (فارس): " فوارس "، وتكسر ما بعد ألف الجمع، وهو النون في (دانق)، والباء في (طابق)، والتاء في (خاتم)، ولم يكن في الواحد بعد هذه الحروف ألف ولا ياء ولا واو. فلم تحتج إلى الياء التي في

(خواتيم) و (طوابيق) و (دوانيق)، فلما تكلمت العرب بذلك صار بمنزلة جمع على غير الواحد وهو نحو قولهم: (لمحة) و (ملامح) و (حسن) و (محاسن) و (شبه) و (مشابه)، وهذه الجموع ليست بمجموع هذه الأسماء على ما يوجبه القياس. فقدر النحويون أنها جمع (ملمحة) و " محسن " و " مشبه "، وإن كانوا لم يستعملوا هذه الألفاظ في الواحد. وكذلك قدروا أن (دوانيق) جمع (داناق) و (خواتيم) جمع (خاتام) و (طوابيق) جمع (طاباق) وإن لم تكن تستعمل ذلك، غير أنه قد جاء " خاتام " عن بعض العرب، وحكاه سيبويه عن أبي الخطاب وروي فيه شعر وهو: فقل لذات الجورب المشتّق … أخذت خاتامي بغير حقّ (¬1) وحي (داناق) من يحث لا يعمل عليه، فقال سيبويه: فلو صغرنا هذه الأسماء على ما يوجبه القياس لقلنا: (خويتم) و (دوينق) و (طريق) على ما يوجبه قياس الجمع لا على هذا الجمع الشاذ، وهذا معنى قوله: لا على التكسير للجمع على غيره أي على القياس. وقد استدل على ذلك بأنه سمع من العرب من يقول (خويتيم) فإذا جمع قال: (خواتيم) فدل ذلك على أن الجمع ل " خاتام " وأنه شاذ. وقوى ذلك أيضا بما ذكر عن يونس، أن العرب تقول: (خواتيم) و (طوابق) و (دوانق) على (فواعل) كما قالوا: (تابل) و (توابل). ثم قال: ولو قلت: (خويتيم) و (دوينيق) على قياس (خواتيم) و (دوانيق) وتركت القياس فيه من أجل ذلك لوجب أن تقول في (أثفية): (أثيفية)؛ لأن العرب قد قالت: " أثاف "، وكذلك، في (معطاء): (معيط)؛ لأن العرب قد قالت: (معاط)، وفي (مهرية): (مهيرية) كقولهم: (مهارى) حين حذفوا إحدى الياءين، والذي يقال في تصغيره (أثيفيّة)، و (معيلي) و (مهيريّة) على ما يوجبه القياس، ولم يعمل في التصغير على الجمع؛ لأن الذي لحق الجمع في بعضه شاذ. وفي بعضه وهو (أثاف) و (مهارى) ¬

_ (¬1) البيتان في المقتضب 2/ 258 ابن يعيش: 5/ 53، واللسان (ختم).

هذا باب ما يحذف في التحقير من بنات الثلاثة من الزيادات لأنك لو كسرتها للجمع لحذفتها

تخفيف، لكثرة استعمالهم الجمع، وهم إلى تخفيفه أحوج، ثم قوى سيبويه الشذوذ في (طوابيق) و (دوانيق) بأن قال: قد جاء مثل هذا الشذوذ في التصغير من قول بعض العرب قال في تصغير (صفير): (صفيّير) وفي درهم " دريهيم " كأنه حقر " درهاما " و " صفيارا " وليس ذا في كل شيء إلا أن تسمع شيئا فتتبع العرب فيه كما قالوا في تصغير (رجل): (رويجل) فحقروه على راجل وإنما يريدون الرجل. هذا باب ما يحذف في التحقير من بنات الثلاثة من الزيادات لأنك لو كسرتها للجمع لحذفتها قال سيبويه: وذلك قولك في (مغتلم): (مغيلم) كما قلت: (مغالم) فحذفت حين كسرت الجمع، وإن شئت قلت: (مغيليم) فألحقت الهاء عوضا مما حذفت كما قال بعضهم: (مغاليم). وكذلك (جوالق)، إن شئت قلت: (جويلق) وإن شئت قلت: (جويليق) كما قالوا: (جواليق) فالعوض من قول يونس والخليل. قال أبو سعيد: قد تقدم القول إن الاسم إذا كان على خمسة أحرف أصول فصغرناه حذفنا الحرف الأخير منه فإن كان في الخمسة زائد، فالزائد أولى بالحذف أين كان. وإذا كان في الخمسة حرفان زائدان فقد يستويان في الحذف فيكون المصغّر مخيرا في حذف أيهما شاء، وقد يكون أحدهما أولى بالحذف من الآخر. وسترى ذلك من مواضعه. فمن ذلك (مغتلم) الميم والتاء زائدتان؛ لأنه من (الغلمة) غير أن الميم أقوى من التاء وألزم من جهات: فمنها أن هذه التاء لا تكون في اسم إلا ومعها الميم زائدة، وقد تكون الميم زائدة بلا تاء، ألا ترى أنك تقول: (مكرم) و (مفلح)، وفيه ميم زائدة، ولا تكون التاء زائدة إلا مع الميم فصارت الميم أولى إذ لو حذفنا الميم أبقيت التاء بلا ميم وذلك غير موجود. وجهة ثانية: أن الميم تدخل لمعنى فاعل أو مفعول والتاء داخلة لغير معنى محتمل، فكأن الزائد لغير معنى أولى بالحذف لئلا يسقط الدال على المعنى، ولنا في غيره فسحة. وجهة ثالثة: أن الميم أول والأوائل أقوى من الأوساط، والأوساط أقوى من

الأواخر، وعلى هذا إذا صغرت كل ما كان على (مفتعل) تكون التاء أولى بالحذف، وإن صغرت شيئا على (منفعل) فالنون أولى بالحذف كتكسيرك (منطلقا) و (منكسرا) تقول فيه (مطيليق) و (مكيسير) والعلة في حذف النون دون الميم، كالعلة في حذف التاء، وإذا صغرت (مدّكرا) قلت: (مذيكر)؛ لأن (مدكرا) (مفتعل) من " دكر " والدال الثانية هي تاء (مفتعل) فوجب حذفها، والدال الأولى أصلها ذال فعادت إلى الذال. وإذا حقرت (مزدان) وهو (مفتعل) من زان يزين، وقد انقلبت التاء دالا حذفت الدال، فبقي " مزان " فقلت: (مزيّن)، وإذا حقرت: (مختارا) حذفت التاء فبقي (مخار) فقلت: (مخيّر)، وإن شئت عوضت في ذلك كله فقلت: (مذيكير) و (مزيين) و (مخيير). وكذلك في الجمع تقول في جمع (منطلق) و (مدكر) و (مزدان) و (مختار): (مطالق) و (مذاكر) و (مزاين) و (مخاير) وإن عوضت قلت: (مطاليق) و (مزايين) و (مخايير)، وإذا صغرت (المقدم) و (المؤخر) قلت: (مقيدم) و (مؤيخر)؛ لأن إحدى الدالين زائدة، وموقعها موقع التاء من (مغتلم) فهي أولى بالحذف من الميم، وإن شئت عوضت فقلت: (مقيديم) و (مؤيخير)، كما قالوا: (مقاوم) و (مقاويم)، ولا يجوز أن تدع الدال مشدّدة والميم مبقّاة فتقول: (مقيدّم) كما لا تقول في الجمع: (مقادم)؛ لأنهم يحذفون من الأصل إذا كان على خمسة أحرف حرفا فكيف يقرون ما هو زائد. وقد مضى الكلام في نحوه، وتقول في (محمّر): " محيمر " و " محيمير "، وكذلك في جمعه: (محامر) و (محامير)، وتقول في (محمار): (محيمير)، لأنك إذا حذفت إحدى الراءين بقيت ألف (محمار) رابعة في خمسة أحرف. وتقول في تحقير (حمارّة): " حميرّة "، كأنك حقرت (حمرّة)؛ لأنك لو كسرت (حمارة) للجمع قلت: (حمار)؛ لأن في (حمارة) زائدين الألف، وإحدى الراءين فحذفت الألف؛ لأن موقعها موقع ما لا يكون إلا زائدا وموقع الراء المزيدة موقع ما يكون أصليّا، ألا ترى أنك تقول: (دابّة) و (دوابّ)، و (مدقّ)، و (مداقّ)، فالألف زائدة، والباءان والقافان أصليتان، ولم تقل (حمائر) كما لا تقول: (سفارجل). وقد مضي الكلام في حذف ما كان على خمسة أحرف، إلا أن يكون الرابع من حروف المد واللين، وأنا أقدم أصلا فيما يحذف أحد زائديه ليسهل الباب فيه ويدل عليه. اعلم أنه إذا كان الزائد في خمسة أحرف ولم يكن أحدهما رابعا حرف مد ولين

وجب حذف أحدهما، وفي بعض ذلك أنت مخير في حذف أيهما شئت، وفي بعضه أحد الزائدين أولى بالحذف. فمن ذلك أن يكون أحد الزائدين أوّلا إما ميما، أو همزة، أو ياء، فالزائد الذي ليس بأوّل أولى بالحذف كقولك في (مغتسل)، و (منطلق)، و (محمّر)، و (مقدّم): " مغيسل " و " مطيلق " و " محيمر " و " مقيدم ". تقول في (ألندد) (¬1) و (أرندج) و (يلندد) و (يرندج). " أليدّ " و " بليدّ " و " أريدج " و " يريدج "، فتحذف النون، ويبقى الحرف الأول وإنما كان كذلك؛ لأن الأوائل أقوى من الأعجاز وأمكن؛ ولأنها تدخل للمعاني؛ لأن الميم تدخل للفاعل والمفعول والهمزة والياء يدخلان في أول الفعل المضارع للمتكلم والغائب كقولك: (أذهب)، و (يذهب). ومنه أن يدخل أحد الزائدين للإلحاق فيصير بمنزلة الأصلي ثم يدخل بعد ذلك الزائد الثاني (فيكون بالحذف) أولى كقولك في تصغير (عفنجج): (عفينجج)؛ لأن النون تقدّر دخولها على (عفنجج) بعد إلحاقه ب (جعفر) فصارت النون في دخولها على (عفجج) بمنزلة زائد دخل على أصلي. وفي بعض ذلك خلاف وأنا أذكره إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: تقول في " مغدودن ": (مغيدين) إن حذفت الدال الآخرة كأنك حقرت " مغدونا "، وإن حذفت الدال الأولى فهي بمنزلة (جوالق) كأنك حقرت (مغودنا). ومعنى ذلك: لأن إحدى الدالين زائدة يجوز أن تكون الأولى أو الثانية، فإن جعلناها الثانية وحذفناها وقعت الواو رابعة، فيما هو على خمسة أحرف قلت: (مغيدين) وإن حذفت الأولى بقي (مغودن) فوجب أن تقول: (مغيدين)؛ لأن الواو زائدة وهي أولى بالحذف من الميم وصار بمنزلة (جوالق) تحذف الألف؛ لأنها ثالثة وهي أولى بالحذف من الواو. وإذا حقرت " خفيددا " قلت: (خفيدد) و (خفيديد) إذا عوضت والياء أولى بالحذف من أحد الدالين؛ لأنها موضع الألف من (عذافر) و (جوالق) والدال للإلحاق ¬

_ (¬1) ألندد: شديد الخصومة مثل الألد.

كالحجل القواطي

فيصير بمنزلة (قردد) ثم تدخل عليها ياء فألحقتها بالخمسة. وإذا حقرت " غدودنا " قلت: (غديدن) وكانت الواو أولى بالحذف لوقوعها ذلك الموقع؛ لأن الدال من الحروف الأصلية فلها قوة في التبقية، وتقول في " قطوطى ": (قطيط)، و (قطيطيّ) لأنه بمنزلة " غدودن " قال أبو سعيد: جعله سيبويه (فعوعلا) مثل (عثوثل). وكان أبو العباس المبرد يقول: أن تجعله على (فعلعل) أقيس؛ لأن (فعلعلا) في الكلام أكثر من (فعوعل) كقولك: (صمحمح) و (مكمك)، وقول سيبويه في (قطوطي) أولى؛ لأن (القطوطي) هو البطيء في مشيته، ويقال له (قطا يقطو) إذا مشي مثل مشي (القطاة) و (القبج) وما أشبه ذلك. قال المتنخل: كالحجل القواطي (¬1) وذكر أنه يقال: (اقطوطا) و (أقطوطا) هو (افعوعل) لا غير؛ لأنه ليس في الكلام (افعاعل) فلما كان (أفعوعل) كان جعل (قطوطا) (فعوعلا) أولى لأنه منه. وإذا حقرت (مقعنسسا) حذفت النون وإحدى السينين وقلت: (مقيعس) وقال أبو العباس المبرد: تصغيره (قعيسس)؛ لأنه ملحقه ب (محرنجم). وقول سيبويه: أجود لأن إحدى السينين وإن كانت للإلحاق فهي زائدة إلا أن لها قوة الإلحاق وللميم قوتان إحداهما أنها أول والأخرى أنها لمعنى فهي أولى بالترقية. فإذا حقرت (معلوطا) قلت: (معيليط) لا غير؛ لأن الواوين زائدتان، فتحذف إحداهما، وتبقي الاسم على خمسة أحرف والرابع من حروف المد واللين فلا يحذف. وإذا حقرت (عطوّدا) قلت: (عطيّد) و (عطييّد) والأصل (عطيود) و (عطيويد) وفي جمعه (عطاود) و (عطاويد)، كأن سيبويه أسقط الواو الأولى من الواوين؛ لأنها مخالفة، وهي في موضع ألف (عذافر) وياء (حفيد)، وياء (سميدع)، وواو (فدوكس)، وكأنه ألحق أولا ببنات الأربعة فقيل " عطود " ثم زيدت عليه واو ثالثة ساكنة فصار (عطوّدا) كما قيل: (عدبّس) و (عجنس) فثقل بزيادة حرف أدخل على ذوات الأربعة. وإن أبو العباس المبرد يقول: (عطيود)؛ لأنه لم يحذف إحدى الواوين وذكر أن ¬

_ (¬1) انظر أشعار الهذليين: 3/ 1266 - 1267.

الواو الثانية لما كانت زائدة وهي رابعة صارت بمنزلة (مسرول) وسيبويه يقول في (مسرول): (مسيريل) فجعل الواو الزائدة المتحركة بمنزلة الواو الساكنة ولم يحذفها، والقول ما قال سيبويه للأصل الذي قدمته. وإذا حقرت (عثولا) وما جري مجراه، مما ثالثه واو ولامه مشددة، على هذا البناء قلت فيه (عثيّل) و (عثيّل)، وفي الجمع (عثاول) و (عثاويل) و (عثول) أصله من (عثل) ألحق ب (جردحل) وبنائه من ذوات الخمسة فإذا حقرته كان مذهب سيبويه أن حذف إحدى اللامين أولى من حذف الواو فيبقى (عثول) فيقال: (عثيّل) وأصله " عثيول ". قال: لأنهم جاءوا بهذه الواو لتلحق بنات الثلاثة بالأربعة فصارت عندهم ك (شين) (قرشب) وصارت اللام بمنزلة الزائدة في (قرشب) فحذفتها كما حذفت الياء حين قالوا: (قراشب) فحذفوا ما هو بمنزلة الياء وأثبتوا ما هو بمنزلة الشين وكذلك قول العرب وقول الخليل. وقال أبو العباس وحكاه عن المازني أيضا أنه يقال: (عثيل) بحذف الواو؛ لأنها زائدة كما أن اللام زائدة. ومن أكبر حجة لسيبويه حكايته أن ذلك قول العرب ولا يجوز خلافها. قال: وإذا حقرت " ألندد " أو " يلندد " ومعناهما واحد حذفت النون ... وهو الشديد في الخصومة. قال الطّرماح: خصم أبرّ على الخصوم ألندد (¬1) وهو على وزن " أفنعل " فإذا صغرته لم يكن بد من حذف حرف منها وفيه زائدان الألف والنون وبقي (أليدد) على (أفيعل)، والدّالان أصلّيتان إحداهما عين والأخرى لام، وأفعل إذا كان عين الفعل ولامه من جنس واحد أدغم كقولك في (أصم): " أصيمّ " فوجب أن نقول في ألبدد: (أليدّ). وكان أبو العباس المبرد يقول: الصواب (أليدد) لأنه ملحق فصار بمنزلة (قردد) إذا صغرناه قلنا: (قريدد)، ولم تدغم " قرددا "، لأنه ملحق. ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش: 6/ 121، وشواهد سيبويه: 3/ 430، واللسان: (لدد).

ولو سميت رجلا ب (ألبب) ثم حقرته لقلت: (أليبّ)، وكان القياس أن يقال في (أليب): " ألبّ " لأنه (أفعل) من (اللّبّ) و (ألبب) شاذ وإنما قياسه أن يقال: (ألبّ) كما تقول: " أصمّ " و (أحبّ)، و (ألبّ) كما تقول: (أشدّ) و (أجدّ) فإذا صغرته ردّ إلى الأصل في القياس؛ لأن العرب لا تتكلم بتصغيره شاذا فيتبع الشذوذ من كلامها فيرد إلى الأصل. وإذا صغرت (حيوة) اسم رجل قلت: " حييّة "، و (حيوة) شاذ؛ لأن الياء والواو إذا اجتمعتا والأول منهما ساكن قلبت الواو ياء فيقال: (حيّة) مكان (حيوه)، فلما صغرت رددته إلى القياس فصار بمنزلة (صعوة) و (غزوة) في التصغير تقول: (صعيّة) و (غزيّة)، وليس سلامة الواو في (حيوة) بأقوى من سلامتها في (غزوة). وإذا حقرت " استبرق " قلت: " أبيرق " وإن شئت " أبيريق " لأن " استبرق " (استفعل)، والسين والتاء زائدتان، والهمزة أيضا زائدة، ولا بد من حذف زائدين منها، والسين والتاء أولى بالحذف؛ لأن الهمزة أول، وقد تقدم الكلام فيه. وقال أبو إسحاق الزجاج كان أصل " استبرق " (استفعل) مثل " استخرج "، والألف ألف وصل، ثم نقل إلى الاسم، فقطع الألف كما يلزم في مثل ذلك، فإن قال قائل فلم جعلتم الألف والسين والتاء زوائد؟ قيل له: قد علمنا أن في " استبرق " الآن زائدا لا محالة؛ لأنه على ستة أحرف أصول فوجب أن يكون فيه حرف زائد، ولا يخلو أن يكون ذلك الزائد إما الألف وإما السين وإما التاء؛ لأن باقي الحروف وهي الياء والراء والقاف ليس من حروف الزيادة؛ فإن جعلنا الهمزة زائدة والسين والتاء أصليتين أو إحداهما أصلية خرج عن قياس كلام العرب؛ لأن الهمزة لا تدخل أولا زائدة على ذوات الخمسة ولا على ذوات الأربعة فوجب أن تجعل التاء والسين زائدتين، وإذا جعلناهما زائدتين لم يكن بد من أن تجعل الهمزة زائدة؛ لأنها دخلت على ذوات الثلاثة أولا، فحكم عليها بالزيادة فصار على استفعل، ولما كان (استفعل) من أبنية الأفعال حكم عليها بأنه كان فعلا في الأصل وأنه نقل إلى الاسم. وتقول في تصغير (ذرحرج) و (جلعلع) و (صمحمح) و (دمكمك) وما جري مجراه مما أعيد فيه عين الفعل ولامه (ذريرح) و (جليلع)، و (صميمح) و (دميمك)، وفي جمعه: (ذرارح) و (جلالع)، وزعم يونس أنهم يقولون: (صمامح) و (دمامك)، وحذفوا في التصغير اللام الأولى من لامي الفعل، وهي من (ذرحرح): الحاء الأولى، ومن (جلعلع):

العين الأولى، ومن (صمحمح): الحاء الأولى، ومن (دمكمك) الكاف الأولى، وإنما حذفوا لام الفعل الأولى؛ لأنه لا بد من حذف حرف وفيه زائدان: إحدى اللامين وإحدى العينين، فلو حذفوا الأخير من الكلمة وهو اللام " الثانية بقي آخر الكلمة عين الفعل، فإذا صغرنا أو جمعنا قلنا في (ذرحرح): (ذراحر) وفي (جلعلع): " جلاعل "، وهو: (فعالع)، وليس ذلك في الكلام. وكذلك التحقير يقال: (ذريحر) و (جليعل) (فعيلع) وليس في الكلام ذلك، ولو حذفنا الحرف الذي قبل الأخير، وهو عين الفعل الثانية لقلنا: (ذريحح)، و (جليعع)، فيجتمع حرفان من جنس واحد، وهما لامان فيثقل اجتماعهما. وإذا حذفت اللام الأولى زال ذلك لأنا نقول: (ذرارح) و (جلالع)، و (ذريرح) و (جليلع) فتفصل ألف الجمع وياء التصغير بينهما ويصير البناء على (فعاعل)، و (فعيعل)، وذلك كثير في كلام العرب نحو (سلّم)، و (سلالم) و (سليليم) على (فعاعل) و (فعلعيل)، وبيّن سيبويه أن (ذرحرحا) من بنات الثلاثة أن العرب تقول في معناه: (ذرّاح) و (ذرّح). قال: فضاعف بعضهم الراء والحاء. ومعنى (جلعلع) فيما ذكر عن الأصمعي أنه (الخنفساء) التي نصفها طين ونصفها من خلق (الخنفساء)، وأن رجلا كان يكثر أكل الطين فعلى فعطس عطسة فخرج منه (خنفساء) نصفها طين، فرآها رجل من العرب فقال: خرجت منه (جلعلعة)، قال: فما أنسى قوله جلعلعة. وقال صاحب كتاب العين: " (الجلعلع) من الإبل الحديد النفس. والصمحمح الشديد وهو أيضا الأصلح ويقال المحلوق الرأس، والدمكمك: الصلب الشديد. وإن عوضت في ذلك كله قلت: (ذريريح) و (جليليع) و (دميميك) وصميميح. وقال سيبويه في تصغير (مرمريس): (مريريس) ووزن (مرمريس) عنده: (فعفعيل)؛ لأن أصله من المراسة؛ لأن (المرمريس) هو الشديد وهو الداهية، وهو من قولك: رجل (مرس) بالشيء إذا كان معتادا له قويا فيه فإذا حقرته احتجت إلى حذف إحدى الزائدتين إما الميم الثانية، وإما الراء الثانية، وبقيت الميم الأولى؛ لأنّا حذفنا الميم (الثانية) فقلنا: (مريريس) فهو (فعيعيل) كما تقول في (مرّاس): (مريريس) وفي (جمال): (جميميل) وتعلم بذلك أنه من ذوات الثلاثة؛ لأن الحرفين إذا لم يكرّرا ملتقيين في موضع العين، ولام الفعل بعدهما، فأحدهما زائد لا محالة.

هذا باب ما تحذف منه الزوائد من بنات الثلاثة مما أوله الألفات الموصولات

ولو حذفنا الراء وبقّينا الميم فقلنا: (مريميس) صار كأنه من الرباعي من باب (سرحيب) و (سرداح) تقول: (سريحيب)، و (سريديح) فكأن الأولى حذف الميم، لما ذكرته لك. وكل شيء ضوعف الحرفان من أوله وآخره فأصله الثلاثة فالذي ضوعف من أوله (مرمريس)، والذي من آخره وهو الكثير (ذرحرح) و (جلعلع)، و (صمحمح)، و (دمكمك)، وغير ذلك مما يكثر. وإذا حقرت (مسرولا) قلت: (مسيريل)؛ لأن الرابع منه وهو الواو زائد، وهي وإن كانت متحركة حكمها (حكم) الساكن في (صندوق) و (بهلول) وما أشبه ذلك من الزائد. وإذا حقرت (مساجد) اسم رجل قلت: (مسيجد)؛ لأنه خمسة أحرف وفيه زائدان الميم والألف والألف أولى بالحذف كما تقدم. ولو كان (مساجد) جمع (مسجد) ولم يكن اسم رجل لقلت في تصغيره (مسيجدات) وسنقف على بابه إن شاء الله. هذا باب ما تحذف منه الزوائد من بنات الثلاثة مما أوله الألفات الموصولات قال سيبويه: وذلك قولك في (استضراب): (تضريب). قال أبو سعيد: اعلم أن كل ما كان في أوله ألف الوصل فإن التصغير يسقطها؛ لأن المصغر يفتح الحرف الثاني منه، فإذا فتحناه سقطت ألف الوصل فإذا صغرت (استضراب) وأسقطت ألف الوصل بقي ستة أحرف فيها زوائد وهي السين والتاء والألف فإذا حذفنا أحد الزائدين من السين والتاء لم نحتج إلى حذف الألف؛ لأنها تكون رابعة فحذفنا السين من أجل ذلك وكان حذفها أولى من التاء، لأنا إن حذفنا السين فقلنا: (تضيريب) صار بمنزلة (تجيفيف) و (تميسيح)، في (تجفاف)، و (تمساح)، ولحق بتصغير (تفعال)، وليس في الكلام (سفيعيل) ولا (سفعال)، كما فيه (تفيعيل) و (تفعال). ولو صغرت (الافتقار) حذفت ألف الوصل ولم تحتج إلى حذف غيرها؛ لأنه يبقى خمسة أحرف والرابع منها ألف فقلت: (فتيقير) وكذلك ما جري مجراه من (الافتعال) و (الانفعال) كقولك في (الانطلاق): " نطيليق " وفي (احمرار): (حميرير). وإذا حقرت " اشهيبانا " فحذفت ألف الوصل حذفت الياء التي بعد الهاء أيضا وبقيت الألف لأنك إذا حذفت الياء لم تحتج إلى حذف الألف لوقوعها رابعة فقلت: (شهينيب)، كأنك حقرت (شهبابا). وإذا حقرت " اغديدانا " حذفت الياء كما حذفت ياء (اشهياب) وبقيت الألف

هذا باب تحقير ما كان من الثلاثة فيه زائدان تكون فيه بالخيار في حذف إحداهما تحذف أيهما شئت

فقلت (غديدين). وإذا حقرت " اقعنساسا " حذفت النون لأنك إذا حذفتها، وبقيت الألف جاز لأنها رابعة. ولو حذفت الألف وبقيتها لاحتجت إلى حذفها؛ لأنه يبقى (قعنسس) فاحتجت إلى حذف النون فكان حذف النون أولى؛ لأن تبقى الألف، وقد مضى نحو ذلك. وإذا حقرت " أعلوّاطا " فقلت: (علّيط)؛ لأنك تحذف ألف الوصل فيبقى " علواط " فتحذف إحدى الواوين كما مضى في قياس نظائره فيبقى (علواط) فإذا صغرت صار (عليويطا) وقلبت الواو ياء للياء الساكنة قبلها. وإذا حقرت (اضطرابا) قلت: (ضتيريب)؛ لأن الطاء من اضطراب منقلبة من باب (الافتعال) لسكون الضاد فإذا حركناها في التصغير صارت إلى التاء فسار كتصغير (افتقار) والفرق بين الضاد ساكنة ومتحركة أن العرب كلهم يقولون: (مرضت) و (محضت) و (مخضت). فإذا قال المتكلم لنفسه جاز أن يقلب التاء طاء فيقول: (مرضط) وكذلك يقولون: (فحصت) برجلها، و (فحصط) برجلي، فإنما القلب بعد الساكن. هذا باب تحقير ما كان من الثلاثة فيه زائدان تكون فيه بالخيار في حذف إحداهما تحذف أيهما شئت قال سيبويه: وذلك نحو " قلنسوة "، إن شئت قلت: (قليسية) وإن شئت قلت: (قلينسة)، وكذلك قالت العرب في الجمع؛ لأنهم قالوا (قلانس) و (قلاس) وكذلك كل ما جري هذا المجرى بما في آخره زائد وثالثه نون زائدة فأنت مخيّر في حذف النون أو الحرف الأخير إذا كان ألفا أو واوا أو ياء كقولك في (حبنطي): (حبيط) و (حبينط) فإن عوضت قلت: (حبينيط) و (حبيطيّ). قال: ومن ذلك (كوألل)، إن شئت حذفت الواو فقلت: (كويلل) و (كويليل)، وإن شئت قلت: (كويئل) و (كويئيل). وتقديرها: (كويعل) و (كويعيل)؛ لأنهما زائدتان ألحقتا ب (سفرجل) وكل واحد منهما بمنزلة ما هو من نفس الحرف. قال أبو سعيد: اعلم أن " كوأللا " غير مشتق وإنما حكمت على الواو وإحدى

اللامين بالزيادة حملا له على نظائره؛ لأن الواو إذا وجدت غير أول فيما هو على أكثر من ثلاثة أحرف، فالباب فيه الزيادة، واللازم إذا تكرر فيما هو أكثر من ثلاثة حكم عليه بالزيادة (أكثر) أيضا وهما زائدان زيدا للإلحاق معا. وليس بمنزلة (عفنجج)؛ لأن " عفنّججا " تصغيره (عفنجج) كما خير في (كوألل)؛ لأنه قدّر في (عفنجج) أنه ألحق أولا بزيادة الجيم ب (جعفر) ثم دخله النون فألحقته ب (سفرجل) كما ألحقت " جحفل " حين قلت: " جحنفل " وذلك لقوة الواو في (كوألل) بالحركة ووقوعها ثانية وليست النون كذلك. وإذا صغرت مثل (حبارى) و (سمانى) وما جري مجراه مما ثالثه ألف زائدة وفي آخره ألف التأنيث مقصورة فأنت مخيّر في حذف أيهما شئت، فإن حذفت الألف الأولى قلت: (حبيري) كما قلت: (حبيلي). وإن حذفت ألف التأنيث قلب (حبير). وكان أبو عمرو يعوض من ألف التأنيث إذا حذف الهاء فيقول: (حبيرة)؛ لأن الألف كانت علامة. وإنما جاز حذفها؛ لأنها بمنزلة ما هو من نفس الحرف وصارت الألف كألف " حواري " وهي وفيها الهاء بمنزلة ياء جارية، فأشبههما بالحروف التي هي من نفس الحرف أجدر أن لا تحذف، فالياء في آخر الاسم أبدا بمنزلة ما هو من نفس الحرف؛ لأنها (تلحق) بناء ببناء فياء (عفارية) بمنزلة راء (عذافر) كما أن ياء (عفرية) بمنزلة عين (ضفدعة)، فإنما مددت " عذفر " لما قلت: (عذافر). اعلم أن علانية وثمانية و (عفارية) في كل واحد منها سوى الهاء زائدان، ثم حكي أن بعض العرب يقول: " عفيّرة " و " ثميّنة " شبهها بألف (حبارى)، يعني ألف التأنيث إذ كانت زائدة كما أنها زائدة. وإن حقرت رجلا اسمه (مهارى) أو (صحارى) كان " صحير " و " مهير " أحسن؛ لأن هذه الألف لم تجئ للتأنيث، يعني الألف الأخيرة إنما أرادوا: " مهاريّ " و " صحاريّ " فحذفوا إحدى الياءين وأبدلوا في (مهارى) و (صحارى) كما قالوا: " مدارى " و " معايا " فيما هو من نفس الحرف فاختار سيبويه حذف الألف الثالثة في (مهارى) و (صحارى) كما اختاروا في (علانية) و (ثمانية) للعلة التي ذكرنا. وإن حقرت (عفرناة) و (عفرنى) كنت بالخيار إن شئت قلت: (عفيرن) و (عفيرتة)،

وإن شئت قلت: (عفير) و (عفيرية)؛ لأن النون والياء جميعا زائدتان فلم تكن النون في (عفرني) بأضعف من النون في (حبنطى)، وأنت مخير في حذف أيهما شئت، والدليل على زيادتهما أن معنى (عفرنا) و (عفرناة) كمعنى (العفر) و (العفريت) قال الشاعر: ولم أجد بالمصر من حاجاتي … غير عفاريت عفرنيات (¬1) و (عفرنيات) جمع (عفرتاة) وهي صفة (عفاريت) والمعنى فيهما واحد. وأما (العرضنى) فليس إلا (عريض)؛ لأن النون ألحقت الثلاثة بالأربعة، فصارت بمنزلة حرف أصلي ثم دخلت ألف (عرضنى) للتأنيث، فصار بمنزلة دخلوها على ذوات الأربعة كقولك: (قرقرى) إذا حقرتهما، سقطت الألف فقط وصار النون في (عرضن) بمنزلة الراء في (قمطر). وإذا حقرت رجلا اسمه (قبائل) فعلى قول الخليل وسيبويه حذف الألف منها أحسن من حذف الهمزة فيقال: (قبيئل) وإن عوضت قلت: (قبيئيل) وإنما اختاروا حذف الألف؛ لأنها ساكنة وهي ثالثة في موضع تكثر فيه الزوائد نحو (برائل)، و (عذافر)، وما أشبه ذلك. وأما يونس فكان يختار حذف الهمزة لقربها من الطرف، إذ كانت زائدة كما حذفوا ياء (قراسية)، وياء (عفارية). وعند الخليل وسيبويه (عفيرية) و (قريسية) أحسن، تحذف الألف ولا تحذف الياء، والذي يحذف الياء يقول: (قريّسة) و (عفيرة). إذا حقرت (لغيزى) قلت: (لغيغيز) تحذف الألف ولا تحذف الياء الرابعة، وذلك أن " لغّيزى " فيها ثلاثة أحرف زوائد، وهي الغين والياء وألف التأنيث، فأما إحدى الغينين فلا تحذف؛ لأنها من الحروف الأصلية وإذا زيدت كانت أقوى من الحروف الزائدة والياء رابعة، فإذا حذفناها احتجنا إلى حذف ألف التأنيث؛ لأنها تقع بعد حذف الياء خامسة، وإن حذفنا الألف لم نحتج إلى حذف الياء فكان حذف الألف أولى وقد مضى نحو هذا. وليست ياء " لغّيزى " للتصغير؛ لأنها رابعة بمنزلة ألف (خضّارى) وواو " جلّوز " ومثله (قبّيطى) و (جميّزى). ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز وهما بلا نسبة في الكتاب 3/ 438، والمخصص 8/ 63.

فإذا حقرت (عبدّى) حذفت الألف فقلت: (عبيدّ) ولا تحذف إحدى الدالين؛ لأنها ليست من حروف الزيادة، وإنما تدخل للتضعيف وتجري مجرى ما ألحق بناء ببناء، وإن لم يكن ل (عبدّى) من الرباعي ما ألحق عبدّ به، وصارت الألف بمنزلة نون (عفنجج)، وإحدى الدالين بمنزلة إحدى الجيمين في (غفنجج)، ولا تحذف من (عفنجج) غير النون. وإذا حقرت (بروكاء) و (جلولاء) قلت: (بريكاء) و (جليلاء)، وهذا وما جري مجراه مما رده أبو العباس المبرد على سيبويه؛ لأنه قال: إن آخر (جلولاء)، و (بروكاء) ألفان للتأنيث بمنزلة ألفي (حمراء)، وهي نظيرة الهاء ولا خلاف بينهم أنه إذا حقر (جلولة) و (بروكة) حقر (جلول) و (بروك) فيقال: (جليّل) و (بريّك) ثم تلحق هاء التأنيث فيقال: (جليّلة) و (بريكة)، وسيبويه (حذف) الواو من (بروكاء) و (جلولاء) فصغر على الحذف، فصار (جليل) و (بريك)، وألحق ألفي التأنيث، فيقال له إن كان ألفا التأنيث معتدا بهما فينبغي أن لا يصغر الصدر، ويجعل تصغيره كتصغير (علباء) و (حرباء) و (منصور) فتقول: (عليبيّ) و (حريبيّ) و (منيصير). وكذلك على قوله: إذا حذف الواو وكانت الألف بمنزلة ما هو من نفس الحرف أن يقول: " جليليّ " و " بريكيّ " ولا يقول هذا أحد، وإن كانت الألفان بمنزلة شيء ضم إلى الأول فينبغي أن يصغر الأول بأسره، ثم تلحقه ألفي التأنيث فهذا طريق احتجاج أبي العباس عليه. قال أبو سعيد: والذي عندي أن ألفي التأنيث تشبه هاء التأنيث من وجه، وتخالفها من وجه، وذلك أنا رأينا ألفي التأنيث في الجمع قد أجريت مجرى ما هو ملحق بالأصل؛ لأنهم قالوا: (صحراء) و (صحاريّ)، و (عذراء)، و (عذاريّ) كما قالوا: (حرباء) و (حرابيّ) فلما رأيناها قد أجريت مجرى ما هو من الأصل لغير التأنيث ولم يفعل ذلك بالهاء، استعملت لما كثرت حروفه ما يستعمل في تصغير (الترخيم)، وهو أن تحذف منه الزائد الذي فيه، وهو الواو كما قالوا في تصغير (فاطمة): (فطيمة) وفي (أزهر): (زهير) وفي أحمد: (حميد)، وذلك لما كثرت الحروف وكان في آخرها حرفا التأنيث وهي علامة كالهاء فلم يجدوا سبيلا إلى حذفها وجعلوا ما حذفوا منها كحذفهم ألف (برانك) و (عذافر) دون الكاف والراء.

وإذا حقرت (معيوراء) و (معلوجاء) لم تحذف منها شيئا؛ لأن ما قبل ألفي التأنيث في موضع لا يلحقه الحذف؛ لأنه من حروف المد وهو رابع، وليس بمنزلة ألف (مبارك) و (عذافر) وهي ثالثة كما أن واو (بروكاء) و (جلولاء) ثالثة فتقول: (معيّليجاء) و (معيّيراء)، وصار وقوع الواو رابعة يوجب لها حالا في الثبات يخالف ما يحذف غير رابع. قال: " ولو جاء في الكلام (فعولاء) ممدودة لم تحذف الواو؛ لأنها تلحق الثلاثة بالأربعة ". لأن (فعولاء) قد ألحق ب (جعفر) فيصير (فعولاء) بمنزلة (حرملاء)، وما جري مجراه. فإذا صغرناه قلنا: (حريملاء). ثم احتج سيبويه للفرق بين الواو في (بروكاء) والواو في (فعولاء)، أن واو (فعولاء) بالحركة قد صار بمنزلة الواو الأصلية، ألا ترى أنّا نقول في تصغير (جدول): (جديول) كما تقول في (أسود): " أسيود ". ولا يجوز أن تقول في (عجوز) (عجيوز)؛ لأنها واو ميتة غير متحركة وليست للإلحاق، وهذا الذي قاله سيبويه؛ لأنه لا يحذف واو (فعولاء)، إنما هو على قول من يقول في تصغير (أسود) و (جدول): (أسيود) و (جديول) ومن قال: (أسّيد) و (جديّل) لزمه أن يحذف الواو في (فعولاء) فيقول: (فعيلاء)؛ لأنه إذا قلب الواو صارت بمنزلة واو (عجوز) و (بروك) و (جلول) فوجب حذفها. وإذا حقرت (ظريفين) غير اسم رجل أو (ظريفات) أو (دجاجات) قلت: (ظريّفون) و (ظريّفات) و (دجيّجات)؛ لأنك إذا صغرت جمعا سالما أو جمعا غير قليل صغرت الواحد ثم أدخلت علامة الجمع، فكأنك صغرت (ظريفا) أو (ظريفة) و (دجاجة)، وليس ذلك بمنزلة (جلولاء) و (بروكاء)؛ لأن ألفي التأنيث لم تدخل على (جلول) بعد أن استعمل اسما. قال: " وسألت يونس عن تحقير ثلاثين فقال: (ثليثون) ولم يثقل شبهها بواو (جلولاء)؛ لأن (ثلاثا) لا تستعمل مفردة على حد ما يفرد (ظريف)، وإنما ثلاثون بمنزلة (عشرين) لا يفرد ثلاث من (ثلاثين)، كما لا يفرد عشر من عشرين. ولو كانت إنما تلحق هذه الزيادة الثلاث التي تستعملها مفردة لكنت إنما تجعلها (تسعة) فلما كانت هذه الزيادة لا تفارق شبهت بألفي (جلولاء).

هذا باب تحقير ما تثبت زيادته من بنات الثلاثة في التحقير

جعل يونس الواو والنون والياء والنون في (ثلاثين) بمنزلة ألفي (جلولاء) وأسقط في التصغير الألف من ثلاث كما أسقط الواو من (جلول)، ولم يجعله بمنزلة جمع (ظريفين)؛ لأن ظريفا يفرد ويتكلم به، ثم تدخل عليه علامة الجمع، وثلاث من (ثلاثين) لا يفرد؛ لأنك لو أفردتها ثم جمعت صار (ثلاثون) بمعنى تسعة؛ لأن ثلاثا ثلاث مرات بمنزلة تسعة في المعنى وأنت لست تريد ذلك. هذا باب تحقير ما تثبت زيادته من بنات الثلاثة في التحقير قال سيبويه: وذلك نحو (تجفاف) و (إصليت) و (يربوع) نقول: (تجيفيف) و (أصيّليت) و (يريبيع). وكذلك (عفريت) و (ملكوت) تقول: (عفيريت) و (مليكيت) ولا تحذف منها شيئا؛ لأنها على خمسة أحرف ورابعها حرف من حروف المد زائد. وتقول في (رعشن): (رعيشن). وفي (سنبتة): (سنيبتة)، والنون في (رعشن) والتاء في (سنبتة) زائدتان؛ لأنهما (يسقطان) ولا يسقطان؛ لأن الاسمين على أربعة أحرف. وإذا صغّرت (قرنوة)، قلت: (قرينية)؛ لأن (قرنوة) على أربعة أحرف سوى الهاء، والهاء لا يعتد بها وتنقلب الواو ياء، لانكسار ما قبلها، وكذلك (ترقوة) نقول: (تريقية)، ونقول في جمع ذلك كله على نحو التصغير (تجافيف) و (عفاريت) و (رعاشن) و (سنابت) و (تراق) و (قران). وإذا حقرت (بردرايا) أو (حولايا) حذفت الألف الأخيرة؛ لأنها ألف تأنيث مقصورة ولم تحذف من (حولايا) غيرها فتبقى (حولاي) على خمسة أحرف. والرابع منها ألف فلا تسقط وتقلبها ياء لانكسار اللام بعد ياء التصغير فنقول: (حويليّ). وأما بردرايا فإذا حذفت الألف الأخيرة بقي ستة أحرف وهي (بردراي) والألف والياء زائدتان فحذفتهما جميعا فبقي (بردر) فقلت: (بريدر). هذا باب ما يحذف في التحقير من زوائد بنات الأربعة لأنها لم تكن لتثبت لو كسرتها للجمع قال سيبويه: " وذلك قولك في (قمحدوة): (قميحدة)، كما تقول: (قماحد) و (سلحفاة) و (سليحفة) كما قلت: (سلاحف) ". لأن الواو في (قمحدوة)، والألف في (سلحفاة) زائدتان فهما أولى بالحذف،

وكذلك لو كانتا أصليتين لكانتا أيضا أولى لأنهما في الطرف، ونقول في (منجنيق): (مجينيق)، وفي عنكبوت: (عنيكب) و (عنيكيب) وفي (تخربوت): (تخيرب) و (تخيريب)، وإنما قلت في (منجنيق): (مجينيق) و (مجانيق)، ولم تقل: (مجانق) و (مجينق) كما قلت في عنكبوت: (عنيكب) و (عنيكيب) على الوجهين؛ لأن " منجنيق " النون الأولى فيه زائدة. فإذا حذفناها بقي (مجنيق) والياء رابعة في خمسة أحرف فلا تحذفها. وفي (عنكبوت) و (تخربوت) الواو والتاء الأخيرتان زائدتان وهما على ستة أحرف فلا بد من حذفهما ليبقى أربعة أحرف فيقع عليها التصغير والجمع فكأنه (عنكب) و (تخرب) فيجمع على (عناكب) و (تخارب)، وإن عوض قال: (عناكيب) و (تخاريب) وفي التصغير: (عنيكيب) و (تخيريب) على التعويض، وكذلك يجوز التعويض في (قمحدوة) و (سلحفاة) فتقول: (قميحيد) و (سليحيف). قال أبو سعيد: واستدل سيبويه على زيادة التاء في آخر (عنكبوت) و (تخربوت)، والنون في منجنيق أن العرب قد كسّرت ذلك، وهم لا يكسّرون ما كان على خمسة أحرف أصلية إلا أن تستكرههم فيخلّطوا، ومعنى ذلك أن يسألهم سائل فيقول: كيف تجمعون (فرزدقا) و (جردحلا) وما أشبه ذلك، فربما جمعوه على قياس التصغير في مثل (سفرجل) و (فرزدق) وربما جمعوه بالواو والنون أو غير ذلك. وهذا معنى قول سيبويه: " إلا أن تستكرههم فيخلطوا؛ لأنه ليس في كلامهم ". وإذا صغرت مثل (عيضموز) أو (عيطموس) بقي في كل واحد منهما زائدان الياء والواو والذي يحذف من الزائدين الياء وحدها؛ لأنها إذا حذفت لم تحتج إلى أن تحذف الواو فيقال: (عضيميز) و (عطيميس)، ولا يقال (عطيمس) إلا في ضرورة الشعر كما قال غيلان: قد قرّبت ساراتها الرّوائسا … والبكرات الفسّج العطامسا (¬1) وتقول في (جحنفل): " جحيفل " بحذف النون، وإن شئت (جحيفيل) على ¬

_ (¬1) البيتان من شواهد سيبويه: 3/ 445، والمقتضب: 2/ 256، واللسان: (فسج).

العوض، وإنما صارت النون زائدة؛ لأن الجحنفل هو العظيم الجحفلة ويقال: (جيش جحفل) إذا كان عظيما، فالنون فيه زائدة. وتقول في تصغير (عجنّس) و (عدبّس): (عجينس) و (عديبس) فتحذف إحدى النونين والباءين؛ لأنها زائدة. وكذلك إحدى الباءين من (قرشبّ)؛ لأنها زائدة كزيادة إحدى الدالين في (معدّ) إلا أنه لا يحذف من (معدّ) شيء في التصغير؛ لأنه على أربعة أحرف. وإذا صغرت (فدوكسا) (¬1) حذفت الواو؛ لأنها ليست رابعة، وإن صغرت (كنهورا) (¬2) لم تحذف الواو؛ لأنها رابعة فقلت فيه: (كنيهير). وإذا حقرت (عنتريسا) قلت: (عتيريس) حذفت النون؛ لأنها زائدة، واستدل الخليل على زيادتها بأن (العنتريس) الشديد وأن (العترسة) الأخذ بالشدة فاستدل بالمعنى. وإذا حقرت (خنشليلا) (¬3) قلت: (خنيشيل) وذلك أن إحدى اللامين زائدة فحذفنا الأولى منهما فبقي (خنشيل) فقلنا: (خنيشيل)، ولو حذفنا الأخيرة من اللامين لاحتجنا إلى حذف الياء أيضا فلم تحذف إلا الأولى، وقد مضى نحو هذا. وإنما حذفت النون من تصغير (عنتريس)، وأثبتّها في تصغير (خنشليل)؛ لأن الاشتقاق قد بين في (عنتريس) زيادة النون، ولم يكن ل (خنشليل) اشتقاق تسقط فيه النون فجعلها أصلية. وتقول في (منجنون): (منيجين)؛ لأن إحدى النونين الأخيرتين زائدة فحذفت الأولى منهما، لئلا يحذف الواو فيبقى (منجون) فقال: " منيجين " على نحو ما فعل في (خنشليل). وإذا حقرت (طمأنينة) أو (قشعريرة) قلت: (طميئينة)، و (قشيعيرة)؛ وذلك لأن (طمأنينة) و (قشعريرة) ستة أحرف سوى الهاء، والزائد في (طمأنينة) الياء وإحدى النونين وفي (قشعريرة) الياء وإحدى الرائين، فحذف النون الأولى والراء الأولى؛ لأن تبقى فيهما الياء الخامسة فلا تحذف على نحو ما مضى. ¬

_ (¬1) الفدوكس: الشديد، وقيل الغليظ الجافي، والفدوكس: الأسد. اللسان (فدكس) (¬2) الكنهور قطع كالجبال من السحاب، والضخم من الرجال. اللسان (كنهر). (¬3) الخنشليل: السريع الماضي، والجيد الضرب بالسيف. اللسان (خنشل).

وإذا حقرت (قندأوا) (¬1) و (كنتأوا) (¬2) و (حنطأوا) (¬3) وكلمات جئن على هذا البناء فإنك مخير بين حذف الواو وحذف النون منهن. فإن حذفت الواو قلت: (قنيدا) وإن حذفت النون قلت: (قديئي) ورأيت (قديئيا)؛ لأنهما زائدان زيدا على الثلاثي وألحقاه ب (جردحل). وإذا حقرت (إبراهيم) و (إسماعيل) قلت: (بريهيم) و (سميعيل) تحذف الألف فإذا حذفتها صار ما بقي يجيء على مثال (فعيعيل) هذا قول سيبويه. وكان أبو العباس المبرد يرد هذا ويقول: " أبيريه " و " أسيميع "، واحتج في ذلك بأن الهمزة لا تكون زائدة أولا وبعدها أربعة أحرف أصول، وإذا لم تكن زائدة فهي أصلية والكلمة على خمسة أحرف أصول. فإذا احتجنا إلى حذف شيء منها في التصغير حذفنا من آخرها كما يفعل ذلك ب (سفرجل) فيقال: " أبيريه " بحذف الميم و " أسيميع " بحذف اللام كما قيل (سفيريج) بحذف اللام، والذي قاله سيبويه هو الصواب. وقد كفينا الاحتجاج له بتصغير العرب لذلك بحذف الهمزة. روى أبو زيد وغيره عن العرب أنها تصغر إبراهيم (بريهيم)، وحكى سيبويه عن الخليل عنهم في باب التصغير الترخيم في (إبراهيم)، و (إسماعيل): (بريه) و (سميع). وهذه الأسماء أعجمية يجوز أن تكون العرب قدرت فيها غير ما تقدر في الأسماء العربية، وذلك أنه لا يكاد يوجد في الأسماء العربية اسم في أوله همزة بعدها أربعة أحرف أصلية؛ لا إن كانت الهمزة زائدة ولا إن كانت الهمزة أصلية إلا في مصادر الأفعال الرباعية بزوائد كقولهم: (احرنجام) و (اقشعرار). والألف في أولهما ألف وصل، فلما جاءت أسماء كثيرة من أسماء الأنبياء، في أولها ألف مكسورة وبعدها أربعة أحرف أصلية، أو ثلاثة أصول وزوائد، شبهوها بألف الوصل، وأجروا حكمها على الزيادة. ¬

_ (¬1) القندأو: السيئ الغذاء، والغليظ القصير، والكبير الرأس. القاموس المحيط (باب الهمزة، فصل القاف). (¬2) الكنتأو: الجمل الشديد، والعظيم اللحية. القاموس المحيط (باب الهمزة، فصل الكاف) (¬3) الحنطأو: القصير والعظيم البطن. اللسان (حنطأ).

هذا باب تحقير ما أوله ألف الوصل وفيه زيادة من بنات الأربعة

وإذا حقرت (مجرفسا) (¬1) و (مكردسا) (¬2) وكل ما كان على هذا مما أوله ميم زائدة وبعدها أربعة أحرف أصلية فإنك تحذف الميم وتصغر الباقي. وإن شئت عوضت وإن شئت لم تعوض فقلت: (كريدس)، و (جريفس) وإن شئت (كريديس) و (جريفيس)، وإن كان مع الميم حرف آخر زائد حذفته مع الميم كقولك في (مقشعرّ) و (مطمئنّ) فتقول: (قشيعر) و (طميئن). وإذا حقرت " خورنقا " قلت: (خرينق) بحذف الواو؛ لأنها زائدة وإن شئت عوضت فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب تحقير ما أوله ألف الوصل وفيه زيادة من بنات الأربعة قد تقدم أن ألف الوصل تذهب في التصغير من كل اسم، فإذا كان في مصدر من فعل رباعي نحو (احرنجام) و (اقشعرار) و (اصعنفار) و (اطمئنان) وما أشبه ذلك، وهي مصادر على سبعة أحرف فيها ألف الوصل فإذا ذهبت ألف الوصل بقيت ستة أحرف وفيها زائدان فأما باب (احرنجام) و (اصعنفار) وما أشبه ذلك فإن النون فيها زائدة والألف التي في آخرها فتحذف النون دون الألف؛ لأن النون إذا حذفت لم نحتج إلى حذف الألف، ولو حذفنا الألف لاحتيج إلى حذف النون فحذفت النون فقط وذلك (حريجيم) و (صعيفير) وتحذف من (اقشعرار) و (اطمئنان) بعد حذف ألف الوصل الراء الأولى والنون فيقال: (طميئين) و (قشيعير). هذا باب تحقير بنات الخمسة وذلك نحو (سفرجل) و (جردحل) و (همرجل)، و (شمردل) و (جحمرش) وما أشبه ذلك، والباب فيه أن تحذف الحرف؛ لأن ترتيب التصغير يسلم فيها إلى أن تنقضي أربعة أحرف، والترتيب: هو ضم أوله، وفتح ثانيه، ودخول ياء التصغير ثالثة، وكسر الحرف الذي بعد ياء التصغير ودخول الإعراب على الحرف الذي بعده فيصير كقولك: (جعيفر) و (مريجل) وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) جرفسه: صرعه. (¬2) تكردس: انقبض واجتمع.

هذا باب تحقير بنات الحرفين

وفي الجمع كذلك: (جعافر)، و (مراجل) فأخذوا من هذه الخمسة الأحرف الأصلية الأربعة الأول منها، وأدخلوا عليها التصغير فقالوا في (جردحل): (جريدح) وفي (شمردل): (شميرد) وفي (سفرجل): (سفيرج) وفي (جحمرش): (جحيمر) وفي (فرزدق): (فريزد) وقالوا في (قبعثرى): (قبيعث) فأسقطوا منها حرفين؛ لأنها على ستة أحرف، أسقطوا الألف الأخيرة والراء حتى بقي على أربعة أحرف. بعض العرب يحذف الدال من (فرزدق) والنون من (خدرنق) ويقول: (فريزق) و (خديرق) وهذا شاذ وإنما حذفوا الدال من (فرزدق)؛ لأنها تشبه التاء وهي من مخرجها والتاء من حروف الزيادة ... والقاف حرف قوي بعيد من الزيادة، ولها (قلقلة) وزيادة في الصوت، ومن قال (فريزد) قال: (خديرن) وهو القياس. ومن يقول: (خديرق) و (فريزق) فيحذف الحرف الذي قبل الأخير لما ذكرناه لا يحذف الميم من (جحمرش) فيقول: " جحيرش "؛ لأن الميم قد بعدت من الطرف وهي ثالثة والحرف الثالث في التصغير يؤتى به ضرورة، والحرف الرابع الذي هو الدال من " فرزدق " والنون من (خدرنق) هما رابعان. وقد يكون في التصغير ما ليس له رابع، فلما كان الحرف الرابع قد يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد شبّه بالحروف الزوائد إذا كانت من جنسها أو كانت من مخرجها على ما ذكرناه، وقد عرفتك أن الأقيس هو حذف الأخير دون الذي قبله. وإذا كان في الخمسة الأصول زوائد حذفت الزوائد ثم حذف الحرف الخامس كقولهم في (عضرفوط) (¬1): (عضيرف) وفي (قذعميل) (¬2): (قذيعم) و (قذيعل) وفي (خزعبيل): (خزيعيب) ويجوز التعويض في ذلك كله كقولنا: (سفيريج)، و (قذيعيل) و (جحيمير) وجميع الباب. هذا باب تحقير بنات الحرفين اعلم أن كل اسم كان على حرفين فحقرته رددته إلى أصله. وأصله ثلاثة فردّ الحرف الذاهب إليه أين كان، فإن كان الذاهب من أوله رددته كقولك في (عدة) و (زنة) و (شية) وما أشبه ذلك (وعيدة) و (وزينة) و (وشيّة) ويجوز أن تقلب الواو همزة فتقول: (أشيّة)؛ لأنها مضمومة، وحكي الأخفش عن حماد بن الزبرقان النحوي أنه قال في النسبة إلى (شية): " شيويّ " فرد الذاهب من آخره فقال الأخفش: ¬

_ (¬1) دويبة بيضاء ناعمة. (¬2) الشيخ الكبير

كأنهم قلبوا فجعلوا أوله في آخره، وعلى هذا القياس لو صغر لجاز أن نقول: (شويّة) والقول ما ذكرناه أولا. ومما ذهب فاؤه قولهم: (خذ) و (كل) فلو سمي رجل ب (خذ) أو (كل)، ثم صغر لقلت: (أكيل)، و (أخيذ)؛ لأنهما من أخذت وأكلت والألف فاء (فعلت) وما كان الذاهب من وسطه فرجل يسمى ب (مذ) إذا صغرته قلت: (منيذ)؛ لأن أصله (منذ) فرددته في التصغير إلى حاله. ولو سمي رجل ب (سل) من قولنا (اسأل) على تخفيف الهمزة ثم صغرت لقيل: (سؤيل)؛ لأن أصله (اسأل) فالهمزة بين السين واللام. قال: ومن لم يهمز قال: " سويل "؛ لأن من لم يهمز يجعلها من الواو. يقال: (سال) (يسال) مثل (خاف) (يخاف) وهما يتساولان. ويقال: (سلته) فهو (مسول) كما يقال (خفته) فهو مخوف، وهذا الوجه الآخر إذا لم يكن من الهمز، يخالف عندي ما أصّله سيبويه؛ لأن من مذهبه إذا سمي رجل ب (قم) أو (خف) أو (بع) رد إليه في التسمية قبل التصغير ما ذهب منه فيقول في المسمى ب (قم)، هذا (قوم)، وب (خف): هذا (خاف) وب (بع) هذا: (بيع)، فإذا سمي ب (سل) من سال يسال، قيل: (سال)، فإذا صغر قيل (سويل)، فالألف فيه موجودة قبل التصغير. ومما ذهب أوسطه (سه) وهي الإست يقال: (سه) و (إست) و (ست) وأصل ذلك كله (سته)؛ لأنه يقال في جمعه (أستاه) وفي تصغيره: (ستيهة) فمن قال: (سه) حذف التاء التي هي عين الفعل، ومن قال: (ست) حذف الهاء التي هي لام الفعل. ومما ذهب فيه لام الفعل أسماء منها ما كان على حرفين وليس أوله ألف وصل، ومنها ما كان في أوله ألف وصل والتصغير يجمعهما على لفظ واحد؛ لأن ألف الوصل تذهب في التصغير، وترد لام الفعل، فمن ذلك قولهم في (دم): (دميّ) وفي (يد): (يديّة)؛ لأن أصله (دمي) و (يدي) وفي (شفة): (شفيهة)؛ لأن هاء التأنيث لا يعتد بها وأصله (شفهة) والهاء لام الفعل. ألا ترى أنك تقول في الجمع (شفاه) وفي تصريف الفعل (شافهت). ومن ذلك (حر) تقول فيه: (حريح) وفي الجمع: (أحراح) وإنما استثقلوا حرفين بينهما حرف ساكن، وتقول في (سنة): (سنيّة) على قول من جعل الساقط منها واوا، وقال في تصريف الفعل منها (سانيت) ومن قال (سانهت) قال: (سنيهة). ومن قال في (عضة): (عضيهة)؛ لأنهم يجمعونها (عضاها). ومن قال: (عضوات) كما يقال: (سنوات) قال: (عضيّة).

وتقول في تصغير (فل) من قول أبي النجم: في لجّة أمسك فلانا عن فل (¬1) (فلين) لأن الذاهب منها نون وأصله (فلان) فخفف عنه. ولو حقرت: (رب) اسم رجل قلت: (ربيب)؛ لأنه مخفف من (ربّ)، وكذلك (بخ) (¬2) المخففة تقول: (بخيخ) وأصله التشديد. قال العجاج: في حسب بخّ وعزّ أقعسا (¬3) فردّ (بخ) المخففة إلى أصله في التشديد. كما قال: فهي تنوش الحوض نوشا من علا (¬4) وإنما المستعمل من (عل) ومن (عل) فرده إلى أصله؛ لأن أصله (علو) فقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها. قال سيبويه: وأظن (قط) كذلك. يعني (قط) المخففة التي في معنى (حسب) إذا سميت بها رجلا، ثم صغرت قلت: (قطيط) فترد طاء أخرى؛ لأنك تعني به انقطاع الأمر. والقط: قطع فكأنها من التضعيف. وتقول في تصغير (فم): (فويه)؛ لأنك تقول في جمعه (أفواه) وأصله (فوه) والهاء ذاهبة كما ذهبت من (شفه) وأبدلت الواو ميما؛ لأنها من مخرجها، فلما جمعوه وصغروه ردوه إلى الأصل، كما قالوا في جمع (ماء): (أمواه) و (مياه)، وفي تصغيره: (مويه)؛ لأن الهمزة في (ماء) منقلبة من هاء فأصله (موه). ولو صغرت " ذه " من قولنا: (هذه) المرأة وقد جعلته هاهنا اسما لامرأة لقلت: (ذييّه)؛ لأن هذه الهاء بدل من ياء، يقال (ذي) في معنى (ذه)، و (هذي) في معنى (هذه)، والهاء بدل وأصله ياء، ألا ترى أنّا نقول في تصغير (ذا) للمذكر (ذيّا) ولا هاء فيه. ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 452، والمقتضب: 2/ 238، والخزانة: 2/ 389. (¬2) كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء، وتكرر للمبالغة. (¬3) انظر المقتضب: 1/ 234، وابن يعيش: 4/ 78، وآمالي الشجري: 1/ 39. (¬4) انظر الخزانة: 4/ 225 - 261، والكتاب: 3/ 452.

هذا باب تحقير ما كانت فيه تاء التأنيث

ولو جاز أن تبقى الهاء في التصغير لثبتت الميم في تصغير (فم) وجمعه. وإذا خففت " أنّ " ثم سميت بها ثم حقرتها رددتها إلى التضعيف وكذلك المشددة إذا خففتها وسميت بها ثم حقرتها فقلت فيها (أنين). قال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا … أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (¬1) وإنما تقديره أنّه هالك. وقال الله عز وجل: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (¬2). معناه إنه كان وعد ربّنا. وكذلك إن زيد لمنطلق، وأصله (إنّ) زيدا منطلق فخففت كما خففت (لكن)، وأصلها (لكنّ). وأما " إن " التي للجزاء و " إن " التي تلغي في قوله: ما (إن) يقوم، و (إن) التي في معنى (ما) فهي كلها إذا صغرتها بعد أن جعلتها أسماء. زدت فيها ياء فقلت: (أنيّ) كما تقول في (عن): (عنيّ) وفي (من): (منيّ)، وكذلك ما كان على حرفين إذا كان أصله حرفين ولا تعرف الذاهب منه زدت فيه ياء؛ لأن أكثر المحذوفات كذلك نحو (ابن) و (اسم) و (يد). قال أبو سعيد: وكذلك (أن) التي تنصب الأفعال و (أن) الزائدة في قوله: ولمّا (أن) جاءَتْ رُسُلُنا (¬3)، و (أن) التي في معنى الأمر في قوله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ (أَنِ) امْشُوا (¬4) كل ذلك يقال فيه (أنّى)، وما كان في أوله ألف وصل كقولك (سميّ)، و (بنيّ)، و (ستيهه)؛ لأن ألف الوصل تذهب على ما تقدم من علة ذلك. هذا باب تحقير ما كانت فيه تاء التأنيث قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه أراد بتاء التأنيث هاهنا ما كان من الأسماء فيه تاء في الوصل والوقف من المؤنث، وهي في أسماء يسيرة نحو: (أخت) و (بنت) و (هنت) و (منت) و (ذيت) و (كيت) ولم تقع في غير ذلك، فهذه التاء وإن كان قبلها ساكن، وهي ¬

_ (¬1) البيت من شواهد الكتاب: 2/ 137، ابن يعيش: 8/ 74 - 81، والخزانة: 3/ 547 - 4/ 356. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 108. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 33. (¬4) سورة ص، الآية: 6.

للتأنيث كالهاء في (عبلة) و (ثمرة) وما أشبه ذلك، لكنهم جعلوها بدلا من اللام في الوقف وألحقوا بها الاسم الذي حذفت لام الفعل منه بأبنية من الثلاثي، فجعلوا أختا ملحقا ب (قفل)، و (بنتا) ملحقا ب (جذع) وأصل (أخت) " أخوة " وأصل (بنت): " بنوة " أو (بنية) والدليل على ذلك أنهم يقولون: " أخوات وبنات " وجعلوا تغيير أوائلها دلالة على ذلك، فإذا صغرتها رددتها إلى أصلها؛ لأنها في الأصل مزيدة، بعد ما بني الاسم على حرفين للتأنيث، وعلامة التأنيث لا يعتد بها في تصغير ولا جمع، فقالوا: (بنيّة) و (أخيّة)، ثم ردوا الهاء وأبطلوا التاء التي كان يستوي وصلها ووقفها. لأنهم لما ردوا الحرف الذاهب بطل الإلحاق بالتاء فرجع إلى الهاء فجعلت ك (ثمرة) و (صعوة) وما أشبه ذلك، وقالوا في (ذيت): (ذييّة) لأنهم يقولون: (ذيّة). وفي " هنت " وجهان؛ فمنهم من يقول: " هنيّة " لأنهم يجمعونها (هنوات). ومنهم من يقول: (هنيهة) كما قال: (شفيهة) ونقول في (هن): (هنية). ومن قال: " هنيّة " قال في المذكر: (هنيّ). و (كيت) بمنزلة (ذيت) يقال: (كييّة) و (منت) يقال فيه: (منيّة) كما يقال في (من): " منى " لو سمي به. ولو سميت امرأة ب (ضربت) أو رجلا لقلت: (ضريبة)؛ لأنك إن سميته بهذا قلت قبل التصغير: (ضربة) ك (رقبة) و (ورقة) ثم تصغر على ذلك، وهذا يقوي ما ذكرناه في تصغير (أخت) و (بنت)؛ لأنك لو سميت ب (ضربت) جعلت التاء هاء على ما توجبه الاسمية. وكذلك جعلت التاء الساكن ما قبلها في (بنت) و (أخت) لما رددت الذاهب فبطل الإلحاق واحتجت إلى علامة التأنيث هاء. ثم قال سيبويه: وكانت الهاء أولى بها من (بين) علامات التأنيث، لشبهها بها. يعني لشبهها بالتاء. ألا ترى أنها في الوصل تاء. قال: ولأنهم لا يؤنثون بالتاء شيئا إلا شيئا علامته في الوقف الهاء. يعني أن الأسماء التي تثبت فيها التاء في الوقف من الأسماء التي ذكرناها هي أسماء مؤنثة الأصل في علاماتها (الهاء)؛ لأن الأصل فيه (أخوة) و (بنوة) و (هنوة) و (ذيّة) فأصل ذلك كله الهاء.

هذا باب تحقير ما حذف منه ولا يرد في التحقير ما حذف منه من قبل أن ما بقي إذا حقر يكون على مثال المحقر ولا يخرج من أمثلة التحقير، وليس آخره شيئا لحق الاسم بعد بنائه كالتاء التي ذكرنا والهاء

هذا باب تحقير ما حذف منه ولا يرد في التحقير ما حذف منه من قبل أنّ ما بقي إذا حقر يكون على مثال المحقر ولا يخرج من أمثلة التحقير، وليس آخره شيئا لحق الاسم بعد بنائه كالتاء التي ذكرنا والهاء قال سيبويه: " فمن ذلك قولك في (ميت): " مييت " وإنما الأصل (ميّت)، وفي (هار): (هوير)، وإنما الأصل (هاير) ". وكذلك لو صغرت (نرى) و (ترى) و (يرى) بعد التسمية به لقلت: (نريّ) و (تريّ) وكذلك في " مري " من (أرى) (يرى) مستقبل (أرى) نقول فيه: (مريّ) و (يريّ) ولا ترد الهمزة التي في الأصل في (ترى) و (يرى) وفي (مرى) و (يرى). وكذلك لو سميت رجلا ب (يضع) أو (أضع) ثم صغرت لقلت: (يضيع) و (أضيع) وكذلك لو صغرت (خيرا منك)، أو (شرّا منك)، لقلت " خيير منك " و " شرير منك " قال أبو سعيد: هذا كله قول سيبويه في هذه الأسماء، وقد خولف في بعضها، واعتماد سيبويه على أن الحذف لما وقع في هذه الأسماء على جهة التخفيف، لا على علة توجب حذفها، وتزول العلة في التصغير، وكان التصغير غير محوج إلى رد ما حذفوه؛ لأن الباقي ثلاثة أحرف لم ترد المحذوف؛ لأن التخفيف الذي أرادوه في المكبر هم إليه أحوج في المصغر لزيادة حروفه. وحكي عن يونس أن ناسا يقولون: " هويئر " في التصغير. فقال سيبويه: هؤلاء لم يحقروا (هارا) إنما حقروا (هائرا) كما قالوا: (رويجل) كأنهم حقروا (راجلا)، ثم قال: كما قالوا: " ابنون " جمع (ابن)، يقولون: " أبينون ". وليس ذلك بتصغير (أبناء) في لفظه؛ لأن تصغيره (أبيناء)، كما تقول: (أجيمال)، ولا هو تصغير (بنون)؛ لأن تصغير (بنون): " بنيون " لأنك تصغر الواحد (بنيّ) ثم تجمعه فيصير (بنيّون) وكأن قولهم: " أبيّنون " على تقدير شيء غير (أبناء) ولا (بنين) ولا هم صغروا (أبناء) وجمعوه بعد ذلك، فقدر الذي يستوي تقديره فيه أنه (أفعل) مثل " أعمى " وكأنه (أبنى) ثم صغر (أبني) فيصير: (أبيني) ثم جمع فصار (أبينون) كما يصير (أعيمون)، ولا يستعمل " أبني " كما لم يستعمل (راجلا) في معنى

هذا باب تحقير كل حرف كان فيه بدل فإنك تحذف ذلك البدل وترد الذي هو من أصل الحرف إذا حقرته كما تفعل ذلك إذا كسرته للجمع

(رجل)، وإن كان قد صغروه على ذلك. قال أبو سعيد: العرب تقول: (رجل) في معنى (راجل) فيجوز أن يكون (رويجل) في تصغير (رجل) الذي في معنى (راجل). قال الشاعر: أما أقاتل عن ديني على فرس … ولا كذا رجلا إلا بأصحاب (¬1) أراد (راجلا). وذكر يونس أن أبا عمرو كان يقول في (مري): (مريء) مثل (مريعي) بهمز وبجر فألزمه سيبويه أن يقول في (ميت): (مييّت) وفي (ناس): (أنيّس)؛ لأن (ناسا) عند سيبويه أصله (أناس) وحذفت الهمزة تخفيفا كما حذفت الياء الثانية من (ميّت). وحكى أبو العباس المبرد من قوله وقول أبي عثمان المازني: أنه يقول في (يضع): (يويضع) وكذا في (هار): (هويئر)؛ لأنه من (وضع) (يضع) ويرده إلى الأصل، وقد تقدم الاحتجاج لسيبويه، ويلزم هؤلاء أيضا أن يقولوا في (خير منك) و (شرّ منك): " أخيّر " و " أشيرّ "؛ لأن أصله (أخير) منك و (أشرّ منك). هذا باب تحقير كل حرف كان فيه بدل فإنك تحذف ذلك البدل وترد الذي هو من أصل الحرف إذا حقرته كما تفعل ذلك إذا كسرته للجمع قال سيبويه: فمن ذلك (ميعاد)، و (ميزان) و (ميقات)، تقول: (مويزين) و (مويعيد) و (مويقيت) كما يقولون: (موازين) و (مواقيت) وهذا لا خلاف فيه، وقد يجيء من هذا الباب أشياء فيها خلاف، وسنقف عليها إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان من بدل الحرف بحركة أوجبت قلب ما بعده، أو بحرف على حال يوجب قلب حرف بعده، ثم صغرت ذلك أرجعته، فزالت العلة الموجبة للقلب في التصغير أو في الجمع ورددته إلى أصله، فمن ذلك: (ميعاد) و (ميزان)، وما جري مجراها أصله (موعاد) و (موزان) قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، فإذا جمعت أو صغرت حركت الواو فبطل قلبها، وقد حكى بعض اللغويين أن من العرب من ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش: 5/ 133.

لا يردها إلى الواو إذا جمع. وأنشد: حمى لا يحلّ الدّهر إلا بأمرنا … ولا نسأل الأقوام عقد المياثق (¬1) وهو جمع " ميثاق " وأصله من (وثقت). وكذلك لو صغرت (قيلا) أو (ريحا) لقلت: (قويّل) و (رويّحة)؛ لأن أصله (قول) و (روح) ويقال في جمعها (أرواح) برد الواو لتحركها وزوال الكسرة التي قبلها. وذكر أبو حاتم السجستاني أن عمارة بن عقيل غلط فقال في (ريح): " أرياح. قال: فأنكرته عليه، وأنشدته قول جده جرير: إذا هبّ أرواح الشتّاء الزّعازع (¬2) فقال: أما ترى أن في المصحف: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ (¬3). فأخذ طريق القياس فأخطأ. وقد جاء مما لم يرد الياء فيه أشياء كقولهم: (عيد) و (أعياد) وهو شاذ، و (ديمة) و (ديم) و (ثور) و (ثيرة)، ولها في التصريف أحكام ذكرناها فيه. وإذا حقرت (الطّيّ) و (اللّيّ) وما جري مجراه قلت: (طويّ)، و (لويّ)؛ لأن أصل (الطّيّ): (طوي) وأصل (اللّي) (لوي)؛ لأنه من (طويت) و (لويت) فقلبت الواو ياء لسكونها وتقدمها، وترجع في التصغير كما قالوا في جمع (ريّان) و (طيّان): (رواء) و (طواء)؛ لأن أصله (رويان)؛ لأنه من (رويت)، و (طويان)؛ لأنه من (طوي) بطنه ويقال في التصغير (طويّان) و (رويّان)؛ لأن العلة الموجبة للقلب قد زالت في التصغير والجمع. وإذا حقرت (قيّ) قلت: " قويّ " والقيّ: الأرض القفر، وأصله (قوي) لأنه من (القواء) وهي الأرض التي لا شيء فيها. وتقول في تصغير (موقن) و (موسر): " مييقن " و " مييسر "؛ لأنه من (أيقن) و (أيسر)، وجعلت الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها. فلما حركت عادت إلى الياء، ألا تراهم قالوا في الجمع: (مياسير) ومن ذلك أيضا (عطاء) و (قضاء) و (رشاء) وكل ما كانت الهمزة ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش: 5/ 122، واللسان: (وثق). (¬2) انظر بغية الوعاء: 1/ 606. (¬3) سورة الجاثية، الآية: 5.

فيه طرفا في موضع لام الفعل وقبلها ألف والهمزة منقلبة من ياء أو واو، وإذا صغرت أبطلت الهمز ورددتها إلى الأصل؛ لأن الهمزة إنما انقلبت من الياء والواو لتطرفهما بعد ألف، فإذا صغرنا فقد بطلت الألف، تقول في تصغيره: (عتليّ) و (قضيّ) و (رشيّ) فتحذف الياء الأخيرة ولا همزة فيه، ألا ترى أنك تقول في الجمع: (أعطية) و (أقضية) و (أرشية). وما كانت الهمزة فيه أصلية غير منقلبة فإنها تثبت همزة في التصغير ولا تحذف، فمن يقول: (ألاءة) وهي نبت و (أشاءة) وهي الفسيلة يقول في التصغير: (أليئة) و (أشيّئة)؛ لأن الهمزة ليست بمبدلة، والأصل في هذا عند سيبويه أن ما كان معروف الأصل بالاشتقاق من واو أو ياء، فهو من باب (عطاء) و (رشاء)، وما كان لا يعرف، جعل همزة أصلية حتى يقوم الدليل على غيرها؛ لأن الهمزة هي الموجودة فلذلك تقول إذا حقرت (الصّلاء): (صليّ)، و (الصّلاءة): (صليّة)؛ لأنه يقال: (صلاية)، وتقول في (سحاءة): (سحيّة)؛ لأنه يقال فيها: (سحاية)، فوضح أنها من الياء، فإذا لم يعرف، فهو في الحكم همزة وتقول في تصغير (منسأة): (منيسئة)؛ لأنها من (نسأت) إذا سقت وهي (مفعلة)؛ لأنها يساق بها البهائم. والمنسأة العصا، ألا تراهم إذا كسّروا قالوا: مناسئ. وكذلك (البريّة) هو من برأ الله الخلق، وقد خففت العرب الهمزة منها، فإذا صغرت رددت الهمزة فقلت: (بريئة) مثل (مريعة) كما تقول في (ذريعة) (ذريّعة)، وأما من قال: (البريّة) مأخوذ من (البرى) وهو التراب؛ لأن الناس خلقوا منه فتصغيره: (بريّة)؛ لأن أصله (بريّية) بثلاث ياءات فتسقط الأخيرة منه. وأما (النبيّ) فأصله عند سيبويه الهمز، وهو مأخوذ من النبأ وهو الخبر؛ لأنه يخبر عن الله جل وعز. وقد اختلفت العرب في همزه، فأكثرهم يخفف الهمز فيقول: (نبي) وأصله: (نبيء) وتجمعه جمع ذوات الياء فتقول: " أنبياء " كما تقول (أصفياء) و (أنقياء). ومن العرب من يهمز فيقول: (نبيء) وقرأ بذلك نافع وأهل المدينة، وقرأوا في جمعه (أنبياء) وكان القياس إذا همز أن يكون جمعه (نبّاء) مثل (كريم) و (كرماء)، كما قال العباس بن مرداس السّلمي: يا خاتم النّباء إنّك مرسل … بالحقّ كل هدى السّبيل هداكا (¬1) ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 460، والمقتضب 1/ 162.

والذي يقول: أنبياء شبّهه بجمع (فعيل) إذا كان اسما كقولك: (نصيب) و (أنصباء) وقد أحكمنا هذا في الجمع، واستدل سيبويه على أن الأصل الهمز أنه: " ليس من العرب أحد إلا ويقول: تنبّأ مسيلمة " وذكر أن الذين تركوا الهمز في النّبيّ إذا صغروا أو جمعوا تركوا الهمز فقالوا في الجمع: (أنبياء)، وفي التصغير كان (مسيلمة) نبيّ سوء وأصله (نبيّي) بثلاث ياءات فتسقط الأخيرة. وإذا صغرت النّبوّة وأصلها (النّبوءة) ردوا الهمزة فقالوا: كان مسيلمة (نبوّته) (نبيّئة) سوء. وإنما همز؛ لأنه لم يكثر الكلام بها بصغره، فردوها إلى الأصل؛ لأن التخفيف في الموضع الذي خففوه، وهذه العلة توجب أن ترد الهمزة في التصغير إذا قلنا: كان مسيلمة (نبيء سوء)، إلا أن يكون سمع العرب تفصل بينهما فاتبع ذلك. قال: " وأما الشّاء فإن العرب تقول فيه: (شويّ) وفي (شاة): (شويهة) والقول فيه أن (شاء) من بنات الياءات والواوات ". قال أبو سعيد: لا خلاف أن قولنا (شاة) أصله (شاهة) وتصغيرها (شويهة) وجمعها (شياه) والهاء الأصلية هي لام الفعل واختلفوا في (شاء) وهو الجمع، فمذهب سيبويه أن (الشاء) ليس من لفظ (شاه) وأنه اسم للجمع وأصله (شوي) أو (شوو) قلبت عين الفعل منه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقلبت لام الفعل منه همزة؛ لأنها طرف وقبلها ألف، وهذا شاذ؛ لأنه أعل العين واللام جميعا، واستدل على ذلك أن العرب تقول أيضا لجمع (الشاة) (شويّ) ولام الفعل في (شويّ) ياء ثم احتج بأن الجمع قد يجيء على غير الواحد لقولهم (امرأة) و (نسوة)، والنسوة ليست من لفظ (امرأة) و (رجل) و (نفر). و (قيراط) و (دينار) تقول فيه في التصغير والجمع: (قريريط) و (دنينير)، و (قراريط) و (دنانير) ولم تستعمل في التصغير والجمع لفظ الواحد، وكذلك الديباج فيمن قال: (دبابيج) و (الديماس) فيمن قال: (دماميس) واحتج أيضا أنهم جمعوا (سواء) على (سواسية) وليس في الواحد سينان. وقال أبو العباس المبرد: أما الشاء فهو بمنزلة (الماء) والهمزة فيه بدل من الهاء، وهو جمع (شاة) بإسقاط هاء التأنيث، كما قالوا (تمرة) و (تمر) و (شعيرة) و (شعير)، وذلك أن (شاة) أصلها (شاهة) فحذفوا الهاء الأصلية استثقالا للهاءين فلما جمعوه أسقطوا هاء التأنيث فردوا الهاء الأصلية فصار (شاه) ويوقف عليه (شاه)، فتلتبس بالواحدة التي

هذا باب تحقير ما كانت الألف بدلا من عينه

فيها هاء التأنيث، فأبدل همزة، وهي تبدل منها كثيرا. ومما دعا إلى قلب الهاء همزة في (ماء) وأصله (ماه) أن الهاء خفية، والألف أيضا خفية والهمزة تبين الألف، وتظهر معها أكثر من ظهور الألف مع الهاء، فقلبوها همزة، فإذا صغروا أو جمعوا كثرت الحروف بالتصغير والجمع فردوه إلى الأصل، ولم يظهروا في التصغير الألف والياء أبين منها. وأما (شويّ) فهو غير لفظ (شاء) اسما للجمع. ولو سميت رجلا (ذوائب) ثم صغرته لقلت: (ذؤيئب) بهمزة قبل ياء التصغير وأخرى بعدها؛ لأن الواو في ذوائب أصلها الهمز، وكان أصلها (ذآئب)؛ لأنها جمع (ذؤابة) فقلبوا في الجمع استثقالا لاجتماع الهمزتين وبينهما ألف وهي شبيهة الهمزة، وكان ذلك من شذوذ الجمع الذي لا يطرد، فإذا صغر رده إلى القياس، فجعل مكان الواو همزة. هذا باب تحقير ما كانت الألف بدلا من عينه قال أبو سعيد: الباب مشتمل على ما كان من الأسماء على ثلاثة أحرف والثاني منها ألف، وهي على ثلاثة أقسام: قسم منها ألفه منقلبة من واو وقسم من ياء وقسم لا أصل للألف، ولا يعرف أصلها. فأما ما كان من الواو فإنك تقلب الألف فيه واوا. تقول في (باب): (بويب) وفي (مال): (مويل) وفي (غار) (غوير) وفي المثل السائر: " عسى الغوير أبؤسا ". (¬1) وأما ما كان من الياء فإنك تردها في التصغير إلى الياء كقولك في (ناب): (نييب) وفي (غار): (غيير) إذا أردت الغيرة، وفي (رجل) سميته ب (سار) أو (غاب): " سيير " و " غييب "؛ لأنها من قولك (سار يسير) و (غاب يغيب)، ألا ترى أنهم لما جمعوا جعلوه ياء فقالوا (أنياب) في (ناب) الإنسان والناب من الإبل. وأما ما لا يعرف أصله أو لا أصل له في ياء ولا واو فإنه يجعل واوا؛ لأن ذوات الواو في هذا الباب أكثر وذوات الياء قليلة جدّا. فمما لا أصل له قولهم: (سار) يريدون (السّائر) تقول فيه: (سوير) ألا ترى أنّا لو صغرنا (السائر) لقلنا: (سوير) و (ذويهب) وما أشبه ذلك و (سار) في معنى (سائر) الناس لا من (سار يسير)، قال أبو ذؤيب: ¬

_ (¬1) مجمع الأمثال 1/ 640، والكتاب 3/ 158، واللسان (غور).

هذا باب تحقير الأسماء التي يثبت الإبدال فيها ويلزمها

وسوّد ماء المرد فاها فلونه … كلون النّؤور وهي أدماء سارها (¬1) أي (سائرها)، وكذلك لو صغرت (خاف) في معنى (خائف) لقلت: (خويف)؛ لأنه يجوز أن يكون (خائف) وحذفت الهمزة كما حذفت في (سار) أو يكون على (فعل) وأصله (خوف)، وفي كلا الوجهين (خويف) وأما قولهم: (رجل مال) فهو على فعل من قولنا: (مال الرّجل يمال) إذا كثر ماله، وأصله (مول يمول) فهو (مول)، كما تقول: (فزع يفزع) فهو (فزع) وقلبوا الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، كذلك كبش (صاف) ونعجة (صافة) يراد بها (صوف)، وتصغير هذا كله بالواو. ومن العرب من يكسر أول التصغير في ذوات الياء فيقول في تصغير (شيخ): (شييخ)، ويجب أن يقول في (ناب) وبابه من ذوات الياء (نييب)، وفيهم من قال في (ناب): (نويب) فيجيء بالواو على جهة الغلط لكثرة أن تكون الألف من الواو. هذا باب تحقير الأسماء التي يثبت الإبدال فيها ويلزمها قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه جعل كل بدل في موضع العين من الفعل لعلة أجازت ذلك البدل أو في موضع الفاء إذا صغر، فزالت العلة في التصغير، لم تغير البدل وقد خولف في ذلك على وجوه أسوقها بعد ذكر مذهبه إن شاء الله. فمن ذلك أنّا نقول في اسم الفاعل المعتل العين هذا (قائم) و (بائع) وفي التصغير (قويئم) و (بويئع) بالهمز في المصغر والمكبر وتقول في (أفعل) إذا كان عين الفعل واوا (أدور) و (أثوب). ويجوز همز الواو في (أدؤر) و (أثؤب). وإذا صغر قلت على مذهبه: (أديئر) و (أثيئب) بالهمز، وكذلك إذا جمعت تقول: (أدائر) و (أثائب)، وتقول في (فعول) إذا كان عين الفعل واوا نحو (النّوور والسّوور والغوور): (النّؤور، والسّؤور، والغؤور) و (السّؤور) مصدر (سار يسور) و (الغؤور) مصدر (غار يغور) يجوز فيها الواو وهو الأصل ويجوز همزها لانضمامها، فإذا صغرت همزت في التصغير على قول من همز المكبر فقلت: (سؤيّر) و (نئيّر). وقال في (تخمة) و (تراث) و (تدعة) إذا صغره (تخيمة) و (تديعة) و (تريّث) ولا يغير التاء، والتاء فيهن منقلبة من الواو؛ لأن (تخمة) من (الوخامة) و (تراث) من (ورث) و (تدعة) من (ودعته)، ¬

_ (¬1) البيت في المقتضب 1/ 103، وديوان الهذليين 1/ 21.

فلا تغير التاء في التصغير. وكذلك التاء في (التّقاة) و (التّهمة)؛ لأنه من (وقيت) و (وهمت) ومن قوله أيضا في (متّعد) و (متّزن) وبابهما (متيعد) و (متيزن) وذلك أن في (متّعد) تاءين الأولى منهما منقلبة من واو (وعدت) وهي فاء الفعل والثانية تاء افتعل، فإذا صغر صار بمنزلة (مغتسل) ومن ثم تحذف تاء الافتعال منه فيقال: (مغيسل) فلما حذفنا تاء الافتعال من متعد تركنا التاء الأولى المنقلبة من الواو على حالها فقلنا: (متيعد). هذا جملة قول سيبويه في هذا الباب. فأما (قائل) و (قائم) و (بائع) فعند أبي عمر الجرمي أنه إذا صغر ترك همزه فيقال: (قويّل) و (بويّع) بغير همز. قال: لأن العلة التي جعلت من أجلها همزة في " قائل " أنها وقعت بعد ألف وهي واو أصلها في (قائل) " قاول " وفي (بائع) " بايع " فقلبتا همزتين لاعتلالهما بعد ألف كما يقال: (عطاء) و (رداء) وأصله: (عطاو) و (رداي). وأما (أدؤر) إذا صغرته أو جمعته فعند أبي العباس المبرد أنه يترك همزه؛ لأن الواو إنما همزت في (أدؤر) لانضمامها وقد زالت الضمة في التصغير والجمع، وكذا قياس (النّؤور) و (السّؤور). وأما (متّعد) و (متّزن) فإن أبا إسحاق الزجاج كان يقول في تصغيره: (مويعد) و (مويزن). وكذلك كل مفتعل انقلبت واوه وهي فاء الفعل؛ لأن الواو إنما قلبناها تاء للتاء التي بعدها والتاء التي بعدها تسقط في التصغير فترجع الواو. قال أبو سعيد: اعتمد سيبويه في همز تصغير (قائل) على الجمع، ولا خلاف بينهم في همز الجمع كقولك: (قوائم) و (بوائع) ومما يحتج له في ذلك أنه قد تكون واوا وياء فيصبح كقولنا: (عاور) و (صايد) من قولنا: (عور) و (صيد) البعير، فإذا صغرنا ذلك لم نهمزه، ففصلوا بين ما قد يهمز قبل التصغير وبين ما لا يهمز ليدل بالهمز على الأصل. وأما الهمزة في تصغير (أدؤر) فاحتج له الزجاج بأنه لما جاء في (أدؤر) الهمز وتركه جعلوا ثبات الهمز في التصغير دلالة على قول من يهمز، وألزم الزجاج في ذلك أن يقول في (متّعد): (متيعد) على قول سيبويه ليكون فصلا بين من يقول (متعد) وبين من يقول (مويعد) وهي لغة أهل الحجاز، وهذا يلزمه والكلام في " أوائل " و " قبائل " وكل ما كانت

هذا باب تحقير ما كان فيه قلب

همزته منقلبة من شيء قبل آخره فمنزلته منزلة (قائل)، وأما (تخمة) و (تهمة) وما أشبه ذلك فإن التاء تعود في التصغير بإجماع أصحابنا؛ لأنها لم تنقلب لعلة تزول في التصغير. هذا باب تحقير ما كان فيه قلب اعلم أن ما كان من القلب وهو تقديم حرف على غيره من الكلمة والأصل غير ذلك إذا صغر لم يرد إلى الأصل؛ لأن التقديم والتأخير على غير قياس، وإنما جاء في بعض الكلام، ولا يحمل عليه ما سواه؛ لأنه ليست له علة موجبة لذلك يزيلها التصغير، فمن ذلك قولهم في (لائث): (لاث). قال العجاج: لاث به الأشاء والعبريّ (¬1) و (شاك) في قولهم (شائك) والشائك الذي له شوكة مثل (قائل) ثم قدموا الكاف فقالوا (شاك) كقولهم (قاض). قال الشاعر: فتعرّفوني إنّني أنا ذاكم … شاك سلاحي في الحوادث معلم (¬2) وإنما هو بتأخير عين الفعل إلى موضع لامه. وكذلك قولهم: (أينق) في جمع (ناقة) وأصله (أنوق) فقدموا الواو وأبدلوا منها فصار (أينق) ووزنه: (أعقل) و (أنوق) " أفعل ". ووزن (أينق): (أعقل) فيقول في تصغير ذلك (شويك) و (لويث)، كما يقال في (قاض): (قويض) ولا ترده إلى الأصل وتقول في (أينق): (أيينق) كما قالوا في الجمع (أيانق). قال الشاعر: ومسد أمرّ من أيانق ¬

_ (¬1) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 466، وانظر المقتضب: 1/ 115، واللسان: (لوث) (عبر) (أشا) و (لثا). (¬2) انظر الديوان: 67، والمقتضب: 1/ 116، والكتاب: 3/ 466.

ليس بأنياب ولا حقائق (¬1) وكذلك (مطمئنّ) إذا صغرت قلت: (طميئن) فقدمت الميم على الهمزة وأصله من (طأمنت) الهمزة قبل الميم، ومن ذلك (القسيّ) وهي جمع (قوس) وأصله " القووس " فإذا صغرت (قسيّا) اسم رجل لم تردها إلى الأصل وقلت: (قسيّ) وأصلها: (قسيّي) بثلاث ياءات تحذف إحداهن فيصير: (قسي). ومن المقلوب قولهم: " أكره مسائيك "، وإنما جمعت (المساءة) ثم قلبت وكان حقه أن يقول (مساوئك)؛ لأن الألف التي قبل الهمزة في (المساءة) منقلبة من واو (ساء يسوء)، و (المساءة) بمنزلة (المقامة). وتقول في (المقامة): (مقاوم)، الواو عين الفعل ثم قدمت الهمزة على الواو فصار (مسائو) ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وهي طرف، فإذا صغرت لم تغير موضع الهمز. وأنشد سيبويه في تقدير همزة (ساء) قول كعب بن مالك الأنصاري: لقد لقيت قريظة ما ساها … وحلّ بدراهم ذلّ ذليل (¬2) قال: ومثل ذلك في القلب قولهم: قد (راءه) يريدون (رآه) قال الشاعر: وكلّ خليل راءني فهو قائل … من أجلك هذا هامة اليوم أو غد (¬3) وقال بعض العرب: (راءة) في (راية). ذكره عن أبي الخطاب. قال: ومثل الألف التي أبدلت من الهمزة قول الشاعر: سالت هذيل رسول الله فاحشة … ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب (¬4) وهذا الشعر لحسان، ويقال: إن الفاحشة التي سألت هذيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيح لهم الزنى. ولقائل أن يقول: سالت لغة في (سألت) قائمة بنفسها فما وجه استشهاده بهذا. ¬

_ (¬1) انظر الخصائص: 2/ 232، واللسان: (زهق). (¬2) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 467، وانظر ديوان الشاعر: 253. (¬3) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 467، وانظر ديوان الشاعر 1/ 111، واللسان: (رأى). (¬4) البيت من شواهد سيبويه: 3/ 468 - 554، وانظر المقتضب: 1/ 167، وابن يعيش: 4: 122.

هذا باب تحقير كل اسم كانت عينه واوا وكانت العين ثانية أو ثالثة

فالجواب أن هذا الشاعر من لغته الهمز في سألت، وإنما أبدل في هذا الموضع فاعرفه. هذا باب تحقير كل اسم كانت عينه واوا وكانت العين ثانية أو ثالثة قال أبو سعيد: أما ما كانت العين فيه ثانية وهي واو فلا تتغير في التحقير، لأنها متحركة، وبعدها ياء التحقير ساكنة كقولك في (لوزة): (لويزة) وفي (جوزة): (جويزة) وإذا كانت العين فيه ثالثة وهي واو، فلا بدّ من وقوع ياء التصغير قبلها وهي ساكنة، فتجتمع الواو والياء والأول منهما ساكن، فتنقلب الواو ياء كما قلبت في (ميّت) و (سيّد)، و (قيّام) و (قيّوم)، والأصل (ميوت)، و (سيود)، و (قيوام) و (قيووم)، وذلك قولك في (أسود): (أسيّد)، وفي (أعور): (أعيّر)، وفي (مزود): (مزيّد) وفي (أحوى) " أحيّ " وفي (مهوي): (مهيّ) وفي (أرويّة) (أريّة) وفي (مروّيّة): (مرّيّة) وفي العرب من يظهر الواو في هذا والشرط فيه أن تكون قبل التصغير ظاهرة متحركة وهي عين الفعل، فإن كانت ساكنة أو في موضع لام الفعل وجب قلبها ياء للياء الساكنة التي قبلها، فيجوز في (أسود): (أسيّود)، وفي (أعور) (أعيور) وفي (مزّود): (مزيود) وأما (أحويّ) و (مهويّ) فإن الأجود فيه (أحيّ) و (مهيّ)، تقلب الواو ياء لما ذكرنا، وكان الأصل (أحيّوي) و (مهيوي)، فقلبت ياء للياء الساكنة قبلها، فصارت: (أحيّي) بثلاث ياءات فحذفت الياء الطرف، لعلة نذكرها في الباب الذي بعده، ولم يصرف " أحيّى "، لأن الألف الزائدة المانعة من الصرف باقية في أوله، وصرف (مهيّى) لأنه لا مانع له من الصرف. وأما (أرويّة) فإنها على مذهبين أحدهما أنها (فعليّة)، والآخر أنها (أفعولة). وعلى هذا ذكرها سيبويه؛ لأن الباب باب ما كانت عينه واوا، وإذا جعلناها فعليّة، فالواو لام الفعل، فإذا صغرتها على (فعليّة) لم يجز فيها غير (أربيّة) بتشديد الياء؛ لأن الياء الثانية ياء نسبة فتصير بمنزلة منسوبة إلى (مرو) أو إلى (غزو)، وتقول فيه: (مرويّة) و (غزويّة)، فإذا صغرنا لم يجز في تصغيرها غير (مريّيّة) و (غزيّيّة) بتشديد الياءين فيهما، وإنما قال: (أريّة) إذا كانت (أفعولة) لأن الأصل فيه (أرويّة)، وأدغمت في الياء وكسرت ما قبلها لتسلم الياء فصارت (أرويّة)، فإذا صغرنا أدخلنا ياء التصغير قبل الواو فصار (أريويّه) فقلبنا الواو ياء صارت (أريّيّة) فحذفت الراء المشددة الأخيرة كما حذفوا الياء الأخيرة في (أحيّى) و (مهيّى). أما (مرويّة) فهي (مفعولة) من (رويته) بالرّواء أي شددته بالحبل والخبل الرّواء

و (رويت) في معنى (جذبت)، وإذا صغرت فهي مثل (أريّة) في هذا الوجه. وما كانت الواو فيه قبل آخره متحركة وإن كانت زائدة فهي تجري مجرى (أسود) و (مزود) وذلك نحو (جدول) و (قسور) تقول فيه: (جديول) و (قسيور) كما قلت: (أسيود) و (أريوية) والباب فيه (جديّل) و (قسيّر). وقوى سيبويه ظهور الواو في التصغير بظهورها في الجمع وأنشد قول الفرزدق: إلى هادرات صعاب الرّؤوس … قساور للقسور الأصيد (¬1) قال أبو سعيد: وليس ظهورها في الجمع بحجة قوية لظهورها في التصغير؛ لأنه يقال في " مقام " و " مقال ": " مقاوم " و " مقاول ". وقد ذكرنا أن الواو ذا كانت لاما انقلبت كقولك في (غزوة): (غزيّة)، و (رضوى) (رضيّا) وفي (عشواء): (عشيّاء) فهذه الواو لا تثبت كما لا تثبت في: (فيعل) نحو (ميّت) و (سيّد) وهاء التأنيث وألفه وياء النسبة والألف والنون لا يوجب شيء من ذلك إظهار الواو تقول في (غزوان): (غزيّان) كما قلت في (عشواء) (عشيّاء)، وفي (غزويّة) إذا أردت النسب (غزيّيّة) وإنما وجب في اللام القلب لا غير وجاز في العين إقرار الواو على الصفة التي ذكرنا أن العين (أقوى) من اللام، لأنهما إذا اجتمعا ياءين وقيل (أوواوين) أو واوا وياء وإحداهما عين والأخرى لام أعلت اللام دون العين نحو (حوى) (يحوى) و (حيى) (يحيا) و (هوى ونوى) فلما كان الأجود في (أسيّد) قلب الواو ياء وهي عين الفعل لزم في اللام القلب لا غير. ولهذه العلة نقول: إنه لما كان الأجود في الواو المتحركة قبل التصغير قلبها ياء والمتحركة أقوى من الساكنة لزم في الساكنة القلب لا غير كقولك: (عجوز) و (عجيّز) و (حرور) و (حريّر)، ألا ترى أنهم يقولون: (ثوب) و (ثياب) فيقلبون الواو ياء، لسكونها في الواحد، ويقولون: (طويل) و (طوال)، وهو بناء (ثياب) فيقرونها واوا لحركتها في الواحد. وإذا صغرت معاوية في قول من يقول: (أسيود) جاز إقرار الواو، فتقول فيه: (معيّية) وإذا كان على قول من يقول: (أسيّد) قلت: (معيّة) لأنك إذا قلبت الواو ياء اجتمع ثلاث ¬

_ (¬1) البيت بديوان الفرزدق 204، والمنصف لابن جني 3/ 24.

هذا باب تحقير بنات الياء والواو اللاتي لاماتهن ياءات وواوات

ياءات فيحذفون الطرف والعرب قد صغرت (معاوية) على (معيّة) قال الشاعر: وفاء ما معيّة من أبيه … لمن أوفى بعهد أو بعقد (¬1) هذا باب تحقير بنات الياء والواو اللاتي لاماتهن ياءات وواوات اعلم أن ما كان من ذلك على ثلاثة أحرف فإنه تستوي الواو والياء فيه لانقلاب الواو ياء على ما ذكرنا، وذلك قولك في (قفا): (قفىّ) وفي (فتى): (فتيّ) وفي (جرّو): (جري) وفي (ظبّي): (ظبيّ) فإن زيد قبل آخره ألف ثم صغرت اجتمع ثلاث ياءات فحذفت الأخيرة منها كقولك في (عطاء): (عطي)، وفي (قضاء): (قضيّ) وفي (سقاية): (سقيّة) وفي (سقاء): (سقيّ) وفي (إداوة): (أديّة)، فهذا لا يجوز غيره، وحذف الياء الأخيرة من ذلك مثل الحذف في (معيّة) وقد ذكرناه. ونقول في (شاوية): (شويّة)، وفي (غاو): (غويّ) على قول من يقول: (أسيّد) ومن قال (أسيود) فإنه يقول: (شويوية) و (عويوي) لأن الواو في (شاوية) عين الفعل وهي متحركة قبل التصغير فلذلك جاز إقرارها ولم تحذف الياء؛ لأنه لم يجتمع ثلاث ياءات، وإذا صغرنا (أحّوي) على قول من يقول: (أسيود) فلا خلاف بينهم أنه (أحيوي يا فتى)، ورأيت (أحيوي يا فتى). واختلفوا على قول من يقول (أسيّد) فكان سيبويه يحذف الياء الأخيرة بمنزلة النقص في (أصمّ) وأصله (أصمم) وبمنزلة (أرأس) إذا خففنا الهمزة فقلنا (ارس) ولم نصرف. وكان عيسى بن عمر يصرفه وقد رد عليه سيبويه ب (أصمّ) و (أرس)، ورأيت أبا العباس المبرد يبطل رد سيبويه عليه ب (أصم). قال: لأن (أصم) لم يذهب منه شيء لأن حركة الميم الأولى في (أصم) قد ألقيت على الصاد. وليس هذا بشيء، لأن سيبويه إنما أراد (أن) الخفة (مع ثبوت الزائد) والمانع من الصرف لا توجب صرفه، وأصمّ أخف من (أصمم) الذي هو الأصل ولم يجب صرفه، وكذلك لو سمينا رجلا ب (يضع) و (يعد) لم نصرفه، وإن كان قد سقط حرف من وزن الفعل. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: هذا (أحيّي) وقد رده سيبويه، ويدل على صحة قول سيبويه في (أحيّ) بحذف الياء الأخيرة تصغير العرب (معيّة) والبيت الذي أنشدناه فيه. ¬

_ (¬1) انظر شرح المفصل لابن يعيش 5/ 126، وشرح شواهد الشافية 97.

قال سيبويه: واعلم أن كل واو أو ياء أبدل الألف مكانها ولم يكن الحرف الذي الألف بعده واوا ولا ياء فانها ترجع ياء وتحذف الألف. وذلك قولك في (أعمى) و (ملهى) و (أعشى): (أعم)، (مليه) و (أعيش) وكل ما كان في آخره ألف لغير التأنيث إذا كان على أربعة أحرف أو كان على أكثر يصير على أربعة فتقلب الألف فيه ياء، لأن ياء التصغير تقع ثالثة وينكسر الحرف الذي بعدها، فإذا انكسر انقلبت الألف ياء، فأما ما كان على أربعة أحرف فهو نحو (أعمى) و (ملهى) و (مغزى) وما كان على أكثر فه (مثنّى) و (منتهى) وما أشبه ذلك، فإذا صغرناه حذفنا من (مثنّى) إحدى النونين، وحذفنا تاء (منتهى) فقلنا: (مثين) و (منية) وإن عوضنا قلنا: (مثيني)، و (منيهيّ). وإذا كانت الواو والياء خامسة، وقبلها حرف لين، فإنها لا يسقط منها شيء كقولك في (مغزو): (مغيزيّ)، وفي (مرميّ): (مريميّ)، وكذلك إن كان الحرف الخامس همزة منقلبة من ياء أو واو وقبلها ألف ثم صغرنا لم يسقط منه شيء كقولك في (غزّاء) (غزيزيّ) وفي (سقّاء): (سقيقيّ) فترجع الهمزة إلى أصلها. وإذا حقرت (مطايا) اسم رجل قلت: (مطيّ) على قول الخليل ويونس أجمعوا على اللفظ بذلك على تقديرين مختلفين وذلك أن الخليل يرى إذا صغرنا (قبائل) اسم رجل أن نقول: (قبيئل) فتحذف الألف وتبقى الهمزة. ويونس يرى أن يقول: (قبيئل) بحذف الهمزة فيبقى (قبال) ثم يصغر فيقول: (قبيّل) بغير همز، فإذا صغر الخليل (مطايا) وهو في الوزن مثل (قبائل) حذف الألف التي قبل الياء فيبقى (مطيا) فيدخل ياء التصغير بعد الطاء فيدغم ويكسر الياء التي بعد ياء التصغير، فتنقلب الألف الأخيرة ياء فيصير (مطيّي) بثلاث ياءات فيحذف الأخير منها فيصير (مطيّ) كما قلنا (عطيّ). وأما يونس فإنه يحذف الياء التي بين الألفين في (مطايا) فيبقي (مطاء) فتدخل ياء التصغير فتنقلب الألف التي بعدها ياء وتنكسر كما تنقلب الألف التي في (حمار) إذا صغرت فقلت: (حميّر) وينكسر فإذا انكسر صارت الألف الأخرى ياء ثم تحذف لما ذكرنا. ولا يجوز أن تقول في تصغير (مطايا): (مطيء) فإن قال قائل: فلم لا يجوز الهمز على قول الخليل وإنما أصل (مطايا) إذا جمعنا (مطائي) لوقوع (فعيل) بعد ألف الجمع قيل له هذه الهمزة لم يلفظ بها في الصحيح، فصارت الياء في (مطايا) بمنزلة

الياء التي في (مطيّة). ولو صغّرنا (خطايا) اسم رجل لقلت: (خطيئ) فهمزت لأن الألف الأخيرة في (خطايا) أصلها همزة فتردها في التصغير كما رددت الهمزة في (منسأة) إذا صغرت، وكذلك قياس قول الخليل على هذا التقدير. واحتج سيبويه لترك الهمز في (مطايا) بأن قال: لما أبطلنا الهمز في الجمع وأبدلنا منها بدلا لازما يعني الياء في (مطايا) وكانت الهمزة في الجمع أقوى منها في التصغير، فإذا أبدلنا الياء في الأقوى كان التصغير أولى بالياء. ثم قال سيبويه مقويا لذلك: ومع ذا إنك لو قلت (فعائل) من (المطى) لقلت: (مطاء) ولو كسرته لقلت: (مطايا). فهذا أيضا بدل لازم. وتحقير " فعائل " ك (فعائل) من بناء " الياء والواو " ومن غيرهما سواء وهو قول يونس لأنهم (كأنهم) مدوا (فعال) أو (فعيل) أو (فعول) بالألف كما مدوا (عذافرا) والدليل على ذلك أنّا لا نجد (فعائل) إلا مهموزة فهمزة (فعائل) بمنزلتها في (فعائل). وياء (مطايا) بمنزلتهما لو كانت (في) (فعائل). وليست همزة من نفس الحرف فيفعل بها ما يفعل بما هو من نفس الحرف وإنما هي همزة تبدل من واو أو ياء أو ألف، من شيء لا يهمز أبدا إلا بعد ألف كما يفعل ذلك بواو (قائل) فلما صارت بعدها ولم يهمز صارت في أنها لا تهمز بمنزلتها قبل أن تكون بعدها ولم تكن الهمزة (بدلا من شيء من نفس الحرف ولا من نفس الحرف فلم يهمز في التحقير. هذا مع لزوم البدل يقوي وهو قول يونس والخليل. قال أبو سعيد: فيما سقته من كلام سيبويه إلى هذا الموضع إشكال وخلاف أما الخلاف فإن (فعائلا) مثل (مطاء) وغير ذلك إذا جمع قيل فيه: (مطايا) ولا يهمز في الجمع. وذكر المازني أنه لا يجوز غير الهمز لأنها همزة في الواحد، ألا ترى أنّا نقول: (جائية) و (جوائي)، ولا تقل (جوايا)، لأن الهمزة كانت في (جائية). وتقول: (مطيّة) و (مطايا) و (رديّة) و (ردايا) والذي قاله المازني صحيح فيما قاله. وهمزة (فعائل) الذي هو (مطاء) تخالف الذي قال؛ لأنها ليست بهمزة لازمة بدلا وإنما هي همزة بمنزلة همزة (عطاء) وقعت بعد ألف، فإذا جمع أو صغر جرى مجرى ما

ليس مهموزا، وذلك أن (فعائل) كان أصله (فعال) فمدوا بزيادة ألف قبل هذه الألف فوقعت الألف في (فعال) بعدها فهمزوا لاجتماع الألفين وليست همزة من نفس الحرف ولا بدّ لها من حرف أصلي كالهمزة في (قائل)، وفي (جواء) فإذا جمع (مطاء) وحذفنا المدة في الجمع عاد إلى فعال فصار كأنه (مطاي) فيجمع على مطايا للهمزة العارضة في الجمع. وينبغي إذا صغّر (مطاء) أن يقال فيه (مطيّ) وهذا قول يونس والخليل ورأيت بعض أصحابنا (يقول) إن هذا قول يونس وأن قول الخليل (مطاء) بالهمز على ما حكيته عن المازني وإن قوله في التصغير: (مطيّئ) بالهمز والذي عندي أن قول يونس والخليل ما ذكرته أولا لقول سيبويه في آخر الفصل. (وهو قول يونس والخليل) وأن الذي جعله قول يونس وحده إنما توهم لذكر " يونس " وحده في أول الفصل. وإذا حقّرت رجلا اسمه " شهاوى " قلت: (شهيّ)، وإن حذفت الألف أو الواو. (وإذا) حقرت (عدويّ) اسم رجل أو صفة قلت (عديّي) لا يجوز عنده غير ذلك قال: " ومن قال: (عدويّ) فقد أخطأ. وذلك أنه يفصل بين التصغير قبل النسبة وبعد النسبة فإذا صغر قبل النسبة لم يجز (إلا) أن يحذف ياء التصغير (في النسبة)، ألا ترى أنّا إذا نسبنا إلى (جهينة) و (خريبة) والياء ياء التصغير قلنا: (جهنيّ)، و (خربيّ) فتحذف ياء التصغير. لو صغرنا: (جهنيّ) و (خربيّ) لم يكن بد من إثبات الياء كقولك: (جهينيّ) و (خريبيّ). وإذا نسبت إلى (أمية)، وهي مصغرة حذفت ياء التصغير وهي الياء الأولى، وتقلب الثانية واوا فتقول: (أمويّ) فإذا صغرت (أمويّ) لم يكن بد من ياء التصغير فتقول: (أميّي)، ولا يجوز في تصغير (عدويّ): (عديوي) فيمن يقول: (أسيود)، لأن الواو لام الفعل، وياء النسبة بمنزلة الهاء، فلا بدّ من قلب الواو ياء، ومما يدل على أن الياء لا بدّ من الإتيان بها أن قصد المصغّر إنما هو إلى إبانة تصغير المصغر فلا بدّ أن يأتي بالحرف الذي يدل على ما يريده فيحذيه في الاسم، وإذا نسبت إليه وهو مصغر فإنما تريد أن تنسب إليه ولا تبالي ما كان حاله قبل التسمية فيأتي بياء النسبة التي قصده إليها. وإذا حقرت (ملهويّ) أو (حبلويّ) قلت: (مليهيّ) و (حبيليّ)، لأنه لا بدّ من كسر الحرف الذي بعد ياء التصغير، فإذا كسرته انقلبت الواو ياء وقبل الياء كسرة فتسكن الياء وبعدها ياء النسب فتسقط لاجتماع الساكنين.

هذا باب تحقير كل اسم كان من شيئين صغر أحدهما إلى الآخر، فجعلا بمنزلة اسم واحد

فإن قال قائل: " فأنت إذا صغرت (حبلى) قلت: (حبيلى) ولم تكسر الحرف الذي بعد ياء التصغير. قيل له: قد تقدم القوم: أن ما كان في آخره علامة التأنيث إذا صغرناه (إنما) يقدر تصغير الصدر منه ثم تلحق علامة التأنيث، وإذا قلنا (حبلويّ) فليست الآن الواو للتأنيث، وقد تنقلب ألف التأنيث إلى غير التأنيث، ألا ترى أنّا نقول: (حبلى) و (حبالى) و (صحراء وصحاري وصحاريّ) فيتغير حكم الألف التي كانت في (حبلى) و (صحراء) وقد مضى نحو هذا. هذا باب تحقير كل اسم كان من شيئين صغر أحدهما إلى الآخر، فجعلا بمنزلة اسم واحد والباب فيه أن تصغر الصدر وتلحق به الاسم الثاني فيجري على ما كان قبل التصغير. قال سيبويه: وذلك قولك في (حضر موت): (حضير موت)، وفي (بعلبكّ): (بعيلبكّ) وفي (خمسة عشر): (خميسة عشر) وكذلك جميع ما أشبه هذا كأنك حقرت (عبد عمرو) و (طلحة زيد). وإذا حقرت (اثنى عشر) قلت: (ثنيّا عشر)، وفي المؤنث (ثنّيتا عشرة) كأنك حقرت (اثنين) و (اثنتين) و (عشر) و (عشرة) بمنزلة النون كما صارت (موت) من (حضر موت) بمنزلة (ريس) في (عنتريس). يعني أن " ريس " من تمام (عنتريس) و " عنتريس " اسم واحد و (موت) قد ضم إلى " حضر " فصار معه وهما اسمان بمنزلة اسم واحد وهو (عنتريس). هذا باب الترخيم اعلم أن هذا الباب إنما هو في تصغير ما كان فيه زائد أو أكثر من الأسماء. فمن العرب من يحذف الزائد كله ويرد الاسم إلى أصله فيقول في (أزهر): (زهير) وفي (أحمد): (حميد)، وفي (فاطمة): (فطيمة)، وفي (حارث): (حريث) وفي (أسود): (سويد)، وفي (غلاب): (غليبة). وزعم الخليل انه يجوز في (ضفندد) (ضفيد) وفي (خفيدد): (خفيد) وفي (مقعنسس): (قعيس)، لأن النون وإحدى الدالين في (ضفندد) زائدتان، والياء وإحدى الدالين في (خفيدد) كذلك، والميم والنون وإحدى السينين في (مقعنسس) زوائد.

هذا باب ما يجري في كلام العرب مصغرا وترك تكبيره لأنه عندهم مستصغر فاستغني بتصغيره عن تكبيره

وقال الفراء في هذا الضرب من التصغير: إن العرب إنما تفعل ذلك في الأسماء الأعلام مثل رجل اسمه (حارث) أو (أسود) أو امرأة اسمها (غلاب) أو (فاطمة)، ولو صغروا " فاطمة " نعتا من قولنا: فطمت المرأة صبيتها فهي فاطمة. أو صغروا (حارثا) من (حرث يحرث)، وليس باسم رجل أو (أسود) من (فيه سواد) وليس باسم له لم يحذفوا وقالوا: (حويرث) و (أسيّد) (فويطمة) ولم يفرق أصحابنا بين هذين. وقد ذكر في بعض الأمثال: (عرف حميق جمله) (¬1)، وهو تصغير (أحمق)، وليس باسم له، وإذا كان الاسم على أكثر من ثلاثة وفيه زائد حذفت الزائد فقط دون الحروف الأصلية كرجل اسمه (مدحرج) أو (حبركي) أو (جمهور) تقول فيه: (دحيرج) فتحذف الميم فقط. وفي (جمهور) " جميهر " وذكر أنه سمع من العرب في تصغير (إبراهيم) و (إسماعيل): (بريه) و (سميع) وهذا شاذ لا يقاس عليه لأنه قد حذف منه حروف أصلية. وقد ذكرنا فيما تقدم من الأبواب أن الهمزة في " إبراهيم " و " إسماعيل " أصلية على مذهب أبي العباس المبرد. وكذلك الميم واللام في آخر (إبراهيم) و (إسماعيل). ومذهب سيبويه في تصغيرهما ومذهبه. وقولهم (بريه) و (سميع) أن العرب لما سمعت ب (إبراهيم) و (إسماعيل) وليسا من كلامهم وكانت الميم واللام تزادان في كلام العرب ذهبوا بهما مذهب الزيادة وحذفوهما لطول الاسم وأنهما آخرتان، حذفوا الهمزة لأنهم إذا جعلوا الآخر زائدا، وكانت الياء أيضا زائدة لزيادة نظيرها في كلامهم حكم على الهمزة بالزيادة؛ لأنها أول وبعدها ثلاثة أحرف أصول. هذا باب ما يجري في كلام العرب مصغرا وترك تكبيره لأنه عندهم مستصغر فاستغني بتصغيره عن تكبيره قال سيبويه: وذلك قولهم: " جميل " و " كعيت " وهو البلبل. وحكي عن أبي العباس المبرد أنه يشبه البلبل وليس بالبلبل ولكن يقاربه، وقد ¬

_ (¬1) انظر الأمثال للميداني 1/ 634، والمستقصي في أمثال العرب 2/ 16، وشرح الشافية للرضي 1/ 283.

هذا باب ما يحقر لدنوه من الشيء وليس مثله

يصغر الشيء بمقارنة الشيء كقولهم: (درين ذاك) و (فويقه)، وسنقف على ذلك، ويقولون في جمعه: (كعتان) و (جملان) لأن تقدير مكبره أن يكون على (جمل) و (كعت) كقولك (صرد) و (صردان)، (جعل)، و (جعلان) ولا يكبر الاسم المصغر، ولا يجمع إلا بالألف والتاء لأن التصغير مضارع للجمع بما يزاد فيهما من الزوائد، ولأن ألف الجمع تقع ثالثة كما أن ياء التصغير تقع ثالثة، كقولك: (دراهم) و (دريهم) وإن شئت قلت: لأن الجمع تكثير والتصغير تقليل، ولا يجمع إلا جمع السلامة الذي بالواو والنون أو الألف والتاء كقولنا (ضارب) و (ضويرب) و (ضويربون) و (رجيل) و (رجيلون) و (درهم) و (دريهمات) لأن جمع السلامة كالواحد لسلامة لفظ الواحد فيه، فلذلك قالوا: (كتعان) و (جملان) فردوهما إلى (كعت) و (جمل). وأما قولهم: (كميت) فهو تصغير (أكمت) لأن (الكمّتة) لون (يقصر) عن سواد الأدهم و (يزيد) على حمرة الأشقر، وهو بين الحمرة والسواد فإذا جمعوا وقد صغر على حذف الزوائد، وهو للذكر والأنثى يجمع على (كمت) كما يقال: (شقر) و (دهم) جمع (أشقر) و (شقراء) ويقال لما يجئ آخر الخيل: (سكّيت) و (سكيت)، فأما (سكّيت) فهو (فعّيل) مثل (جمّيز) و (علّيق) (¬1) وليس بتصغير وأما (سكيت) المخفف فهو تصغير (سكّيت) على الترخيم؛ لأن الياء وإحدى الكافين في (سكّيت) زائدتان فحذفوهما فبقي (سكت) فصغر: سكيت. ولو صغرت (مبيطرا) (¬2) و (مسيطرا) لقلت: (مبيطر) و (مسيطر) على لفظ مكبره، لأن فيهما زائدين الميم والياء وهما على خمسة أحرف، ولا بدّ من حذف أحد الزائدين وأولاهما بالحذف الياء على ما تقدم. فإذا صغرنا جئنا بياء التصغير فوقعت ثالثة في موضع الياء التي كانت فيه وهي غير تلك الياء واللفظ بهما واحد ولو صغرتهما تصغير الترخيم لقلت: (بطير) و (سطير)؛ لأنك تحذف الميم والياء جميعا. هذا باب ما يحقر لدنوّه من الشيء وليس مثله قال سيبويه: وذلك قولك: " هو أصيغر منك إذا أردت أن تقلل الذي بينهما، ومن ذلك قولك (هو دوين ذلك) قولك: (هو دوين ذاك)، و (فويق ذلك)، وهو (أسيّد) في تصغير (أسود). ¬

_ (¬1) نبات معروف يتعلق بالشجر ويلتوي عليه، انظر اللسان (علق). (¬2) المبيطر: معالج الدواب. انظر اللسان (بطر).

قال أبو سعيد: اعلم أن التصغير في الجملة إنما هو تقليل شيء وتحقيره، وهو يتصرف على وجوه منها أن تصغر الاسم العلم فيكون ذلك دلالة على تصغير مبهم فيه لا يعرف ذلك المعنى الذي ذلك التحقير فيه، كقولك: (زييد) و (عمير) و (بكير) في تصغير (زيد) و (عمرو) و (بكر). ومنها أن تصغر صفة قد استحقها لمعنى فيدل ذلك على تقليل ذلك المعنى وتحقيره كقولك في تصغير (بزّاز) و (عطّار): (بزيزيز) و (عطيطير) فيكون تقليلا لصنعتهما في (البزّ) و (العطر) أي ليسا بكاملين في الصنعتين وإن كانا فاضلين في أشياء غير ذلك. وفي (أصفر) و (أحمر) و (أسود): (أصيفر) و (أحيمر)، و (أسيّد) أي ليست هذه الألوان بالتامة فيهم، كأنه قد قارب السواد والحمرة والصفرة وليس بالكامل. ومنها أن يكون اسم مكان يقع على ما لا نهاية له فيكون التصغير فيه يقربه مما يضاف إليه كقولك: (زيد فوق عمرو ودون عمرو وقبل عمرو وبعد عمرو) ويجوز أن يكون ذلك تكثيرا ويجوز أن يكون تقليلا فإذا صغرت صار تقليلا ألا ترى أن قائلا لو قال: آتيك بعد الأضحى، فأتاه بعد شهرين وثلاثة وسنة وسنين لم يكن مخلفا لوعده. فإذا قال: آتيك بعيد الأضحى وتركه سنة لكان مخلفا. ولو قال السّماء فوقنا كان صادقا، ولو قال: السّماء فويقنا كان كاذبا ولا يكون هذا إلا لما قرب. وتصغر (مثل) تقول: هذا (مثيل) هذا أي المماثلة بينهما قليلة وقالت العرب: (ما أميلح زيدا). كقول الشاعر: يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا … من هؤليّائكنّ تكنّ الضّال والسّمر (¬1) فصغروا الفعل، لأن قولك: ما أملح زيدا " أملح " فعل " و " زيدا " مفعول به ولا خلاف بين النحويين أن الفعل في غير التعجب لا يصغر ومما يبعد تصغير الفعل أن اسم الفاعل إذا صغرناه بطل أن يعمل فيما بعده. تقول: (هذا ضارب زيدا) فإذا صغرت (ضاربا) لم تقل هذا (ضويرب) زيدا، لأن التصغير يخرجه عن مذهب الفعل فلا يعمل. فتصغير " أميلح " وهو فعل شاذ خارج عن القياس وفي جوازه ثلاثة أوجه أحدها أن التصغير كان حقه أن يكون لاحقا لفاعل أملح ¬

_ (¬1) البيت في ابن يعيش 1/ 61، والمخصص 14/ 101، ومغني اللبيب 683.

وهو " ما " و " ما " لا تصغر فجعلوه واقعا على الفعل لأنهم لو عدلوا عن " ما " إلى لفظ آخر لبطل معنى التعجب. والوجه الثاني قد خولف به مذهب الأفعال فصححوه كما يصح هو أفعل منك، وهما يتساويان في معنى التفضيل وفي وزن الفعل وتصحيحه حيث قالوا: (ما أقوم زيدا) كما قالوا: (وهذا أقوم منك) وهم يقولون في غير هذا: أقام يقيم. والوجه الثالث أن قولهم: (ما أميلح زيدا) إنما يريدون الملاحة ونقصانه عما هو أفضل منه، وذلك لا يتبين إلا في لفظ (أملح)، لأنهم لو صغروا (زيدا) جاز أن يكون محقرا في معنى غير الملاحة فجعلوه في لفظ (أملح) وصار بمنزلة قولك (زيد مليّح). قال سيبويه: حقروا هذا اللفظ يعني (أميلح زيدا) وإنما يعنون الذي نصفه بالملح، كأنك قلت: (مليّح) شبهوه بالشيء الذي تلفظ به وأنت تعني شيئا آخر نحو قولك بنو فلان يطؤهم الطريق وصيد عليه يومان. ومعنى تطؤهم الطريق يريدون يطؤهم أهل الطريق الذي يمرون فيه فحذف " أهلا " وأقام الطريق مقامهم. ومعنى يطؤهم الطريق يريد أن بيوتهم على الطريق فمن جاز فيه رآهم وصيد عليه يومان إنما معناه صيد عليه الصيد في يومين وحذف الصيد وأقام " اليومين " مقامه. قال: ولا تصغر علامات الإصغار نحو (هو) و (أنا) و (نحن) من جهتين: أحدهما أن الإضمار يجري مجرى الحروف ولا تحقر الحروف. والأخرى أن أكثر الضمائر على حرف واحد أو حرفين. وليست بثابتة أسماء للشيء الذي أضمر. فإن قال قائل: فقد حقروا المبهمات وهي مبنيات، تجري مجرى الحروف، وفيها ما هو على حرفين، وكذلك (الذي) وتثنيتها وجمعها. فالجواب أن المبهم قد يجوز أن يبتدأ به كقولك: (هذا زيد)، وما أشبه ذلك، وليس فيه شيء يتصل بالفعل، ولا يجوز فصله، كالكاف في (ضربتك) والتاء في (قمت) و (قمتما)، وما أشبه ذلك، فأشبه المبهم الظاهر، لقيامه بنفسه ولا تصغّر (غير) و (سوى) و (سواء) اللذين في معنى (غير) ولسن بمنزلة (مثل) لأن (مثلا) إذا صغرته قلت المماثلة، والمماثلة تقل وتكثر، فتفيد بالتصغير معنى يتفاضل، و (غير) هو اسم لكل ما لم يكن المضاف إليه وإذا كان شيء غير شيء فليس في كونه غيره معنى يكون أنقص من معنى كما كان في (المماثلة) ألا ترى أنه يجوز أن تقول: هذا أكثر (مماثلة) لذا من (غيره) وهذا

أقل (مماثلة)، ولا تقل: (هذا أكثر مغايرة). وقد احتج له سيبويه فقال: " غير ليس باسم متمكن، ألا ترى أنها لا تكون إلا نكرة ولا تجمع ولا يدخلها ألف ولام ". فهذه أيضا فروق بينها وبين مثل، ولا تصغر " أين " ولا " متى " ولا " من " ولا " ما " ولا " أيّهم " لأن هذه أسماء يستفهم بها عن مبهمات لا تعرفها، ويجوز أن يكون ذلك الشيء الذي يستفهم عنه قليلا أو كثيرا، يلزمك أن تبهم ليرد الجواب عنه على ما عند المسئول فيه. ولا تصغر (حيث) ولا (إذ) لأنهما غير متمكنين ويحتاجان إلى إيضاح إنما (حيث) اسم مكان يوضح بما وقع فيه ولا ينفرد، و (إذ) اسم زمان يوضح بما وقع فيه ولا ينفرد وليس الغرض ذكر حال فيهما ويختص بهما فإن قال قائل: فقد صغرتم (الذي) وهي محتاجة إلى إيضاح فهلا صغرتم (إذ) و (حيث) و (من) و (ما) و (أيّهم) إذا كن بمعنى (الذي)؟ قيل له ال (الذي) مزية عليهن؛ لأنها تكون وصفا، وتكون موصوفة كقولك: (مررت بالرجل الذي كلمك) و (مررت بالذي كلمك الفاضل)، ويثنى ويجمع ويؤنث، وليس ذلك في شيء مما ذكرناه فتمكنت " الذي " في التصغير. ولا تصغر " عند "؛ لأن تصغيرها إنما هو تقريب كما تقرب (فويق) و (تحيت) وهي في نهاية التقريب لأن عند (زيد) لا يكون شيء أقرب إليه مما عنده، فلما كانت موضوعة لما يوجبه التصغير في غيرها من الظروف إذا صغرنا لم تصغر. وقال سيبويه: " اعلم أن اليوم، والشّهر، والسّنة، والسّاعة، واللّيلة يحقّرن وأما أمس وغد فلا يحقران؛ لأنهما ليسا اسمين لليومين بمنزلة (زيد) وإنما هما لليوم الذي قبل يومك، واليوم الذي بعد يومك، ولم يتمكنا ك (زيد) و (اليوم) و (الساعة) وأشباههن، ألا ترى أنك تقول هذا (اليوم) وهذه (الليلة) فيكون لما أنت فيه ولما لم يأت، ولما مضى. وتقول: هذا (زيد) و (ذاك) (زيد) فهم اسم ما يكون معك وما يتراخى عنك (وأمس) و (غد) لم يتمكنا تمكن هذه الأسماء فكرهوا أن يحقروهما كما كرهوا تحقير " أين " واستغنوا بالذي هو أشد تمكنا وهو (اليوم) و (الليلة) و (الساعة) وأول من (أمس) ك (أمس) في أنه لا يحقر ".

قال أبو سعيد: أما اليوم والشّهر والساعة والسنة والليلة فأسماء وضعن لمقادير من الزمان في أول الوضع وتصغيرهن على وجهين: أنك إذا صغرت اليوم فقد يكون التصغير له تقليلا ونقصانا عما هو أطول منه، لأنه قد يكون يوم طويل ويوم قصير، وكذلك الساعة تكون ساعة طويلة وساعة قصيرة. والوجه الآخر: أنه قد يقل انتفاع المصغر بشيء في يوم أو في ليلة أو في شهر أو في سنة أو في ساعة، فتحقره من أجل قلة انتفاعه. فإن قال قائل: فلا يكون شهر أطول من شهر ولا سنة أطول من سنة، لأن ما ينقص من أيام الشهر يزيد في لياليه. وما ينقص من لياليه يزيد في أيامه حتى تتعادل الشهور كلها. قيل له: قد يكون التحقير على الوجه الآخر الذي هو قلة الانتفاع وقد قال بعض النحويين: المعتمد على أيام الشهر لا على الليالي، لأن التصرف في الأيام يقع، وأما (أمس) و (غد) فلما كانا متعلقين باليوم الذي أنت فيه صارا بمنزلة الضمير لاحتياجهما إلى حضور اليوم كما أن المضمر يحتاج إلى ذكر يجري للمضمر أو يكون المضمر المتكلم أو المخاطب. وقال بعض النحويين: أما (غد) فإنه لا يصغر؛ لأنه لم يوجد بعد فيستحق التصغير. وأما (أمس) ما كان فيه مما يوجب التصغير فقد عرفه المتكلم والمخاطب فيه قبل أن يصغر (أمس). فإذا ذكروا (أمس) فإنما يذكرونه على ما قد عرفوه في حال وجوده بما يستحقه من التصغير فلا وجه لتصغيره. قال سيبويه: والثّلاثاء والأربعاء والبارحة وأشباههن لا يحقرن، وكذلك أسماء الشهور نحو المحرم وصفر إلى آخر الشهور. وذلك أنها أسماء أعلام تتكرر على هذه الأيام فلم تتمكن وهي معارف كتمكن (زيد) و (عمرو) وسائر الأسماء الأعلام؛ لأن الاسم العلم إنما وضع للشيء على أنه لا شريك له فيه وهذه الأسماء وضعت على الأسبوع وعلى الشهور ليسلم أنه اليوم الأول من الأسبوع أو الثاني أو الشهر الأول من السنة أو الثاني وليس منها شيء يختص فيتغير به وقت يلزمه التصغير.

هذا باب تحقير كل اسم كان ثانيه ياء تثبت في التحقير

وكان الكوفيون يرون تصغيرها وأبو عثمان المازني، وقد حكي عن الجرمي أنه كان يرى تصغير ذلك. وكان أبو الحسن بن كيسان يختار مذهب سيبويه وذلك للعلة التي ذكرنا. وكان بعض النحويين يفرق بين أن يقول: (اليوم الجمعة) و (اليوم السبت) فينصب اليوم. وبين أن يقول: (اليوم الجمعة) و (اليوم السبت) فيرفع اليوم فلا يجيز تصغير الجمعة في النصب ولا تصغير السبت. قال: لأن (السبت والجمعة) في النصب إنما هما لمصدرين: الاجتماع، والراحة وليس الغرض تصغير هذين المصدرين ولا أحد يقصد إليهما في التصغير، ويجيز إذا رفع اليومان لأن (الجمعة) و (السبت) يصيران اسمين لليومين ولا يجيز في النصب تصغير اليوم؛ لأن الاعتماد في الخبر على (وقع ويقع) وهما لا يصغران ولا يقصد إليهما بالتصغير. وقد حكي عن بعض النحويين أنه أجاز التصغير في النصب وأبطل في الرفع وكان المازني يجيزه في ذلك كله. واعلم أنك لا تحقر الاسم إذا كان بمنزلة الفعل، ألا ترى أنه (قبيح): هو (ضويرب) (زيد) و (ضويرب زيدا) إذا أردت ب (ضارب زيد) التنوين، وإن كان (ضارب زيد) لما مضى فتصغيره جيد. لأن " ضارب " إذا نوناه ونصبنا ما بعده فمذهبه مذهب الفعل وليس التصغير مما يلحق الفعل إلا في التعجب وقد ذكرناه. وإذا كان فيما مضى فليس يجوز تنوينه ونصب ما بعده مجراه مجرى غلام (زيد) فلما جاز تصغير غلام (زيد) جاز تصغير (ضارب زيد) فيما مضى، فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب تحقير كل اسم كان ثانيه ياء تثبت في التحقير قال سيبويه: " وذلك قولك: (بيت) و (شيخ) و (سيد) فأحسنه أن تقول: (بييت) و (شييخ) و (سييد) فتضم لأن التحقير يضم أوائل الأسماء وهو له لازم كما أن الياء لازمه ومن العرب من يقول: (شييخ) و (سييد) و (بييت) كراهة الياء بعد الضّمة " فهذان وجهان قد ذكرهما سيبويه وقد ذكر غيره وجها آخر وهو قلب الياء واوا فيقولون: (شويخ) و (بويب) و (شوئ) في تصغير (شيء) وهو أضعف الوجوه، وإنما قلب الواو ياء لانضمام ما قبلها كما قال في (ضارب): (ضويرب).

هذا باب تحقير المؤنث

هذا باب تحقير المؤنث اعلم أن ما كان على ثلاثة أحرف من المؤنث إذا صغرته زدت فيه هاء إلا أحرفا شذت، وذلك قولك في (قدم): (قديمة) وفي (يد): (يديّة) وفي (فهر): (فهيرة) وفي (رجل): (رجيلة) وهو أكثر من أن يحصى، وإذا صغروا المؤنث ما كان على أكثر من ثلاثة أحرف مما ليس فيه هاء التأنيث لم يدخلوا الهاء كقولك في تصغير (عناق): (عنيّق) وفي (عقاب): (عقيّب) وفي (عقرب): (عقيرب)، وإنما أدخلوا الهاء في المؤنث إذا كان على ثلاثة أحرف؛ لأن أصل التأنيث أن يكون بعلامة، وقد يرد التصغير الشيء إلى أصله، فزادوا فيه- لما صغروه- الهاء وردوها للتصغير ولم يفعلوا ذلك في بنات الأربعة؛ لأنها أثقل فصار الحرف الرابع منها كهاء التأنيث فيصير (عنيّق) و (عقيرب) بغير هاء ك (عدّة) (قديمة) و (رجيلة) بالهاء فاجتمع للثلاثة الخفة، وأن أصل التأنيث بالعلامة وإن كان في الرباعي المؤنث ما يوجب التصغير حذف حرف منه، حتى يصير على لفظ الثلاثي وجب رد الهاء كقولك في تصغير (سماء): (سميّة) لأنه كان الأصل (سميّي) بثلاث ياءات فحذفت واحدة منها، كما قالوا في تصغير (عطاء): (عطيّ) بحذف ياء، فلما صار ثلاثي الحروف زادوا الهاء، وكذلك لو صغرنا (عقابا)، و (عناقا) و (سعادا) اسم امرأة و (زينب) على ترخيم التصغير فحذفنا الزائد من (سعاد) وهو الألف ومن (زينب) وهو الياء وقلنا (سعيدة) و (زنيبة) ولو حقرت (امرأة) اسمها (سقّا) قلت: (سقيق) ولم تدخل الهاء؛ لأنه لم يرجع في التصغير إلى مثل عدة ما كان على ثلاثة أحرف، وقالوا في تصغير (حبارى) ثلاثة أقوال، منهم من حذف التأنيث فقال: (حبيّر)، لأنه يبقي (حبار) مثل (عقاب) وتصغيره (حبيّر) مثل (عقيّب). ومنهم من حذف الألف الثالثة فيبقى (حبرى) مثل (حبلى) تقول: (حبيرى) مثل (حبيلى). ومنهم من إذا حذف علامة التأنيث وصغر عوض ها التأنيث من ألف التأنيث فيقول: (حبيّرة). ولا يقولون: (عنيّقة) لأنه لم يكن في (عناق) و (عقاب) علامة التأنيث فإن قال قائل: فلم كانت الهاء تثبت في التصغير ولا يعتد بها والألف المقصورة يعتد بها فيحذفونها من ذوات الخمسة فقد تقدم الجواب عن هذا. وألف التأنيث المقصورة كحرف من حروف الاسم ألا ترى أنها قد تعود في الجمع كقولك: (حبلى) و (حبالى) و (سكرى) و (سكارى)، فمن أجل ذلك لم يقل: (حبيّرا) إذ كانوا لا يصغرون ما كان على خمسة أحرف من مثل هذا البناء إلا بحذف فمن قال في

(حبارى): (حبيّرة) فعوض هاء من الألف قال في (لغّيزى): (لغيغزة) لأن الهاء قد تلحق مثل هذا البناء في التصغير، ألا ترى أنا لو صغرنا (كرباسة) و (هلباجة) لقلنا: (كريبسة)، و (هليبجة). واعلم أن المؤنث قد يوصف بصفة المذكر فإذا صغرت الصفة جرى مجرى المذكر في التصغير: وإن كانت صبغة للمؤنث، كقولك: (هذه امرأة رضي) و (عدل) و (ناقة ضامر) تقول في تصغير (رضي): هذه امرأة (رضيّ) وهذه امرأة (عديل) وهذه ناقة (ضويمر). وإن صغرتها تصغير الترخيم قلت: هذه ناقة (ضمير) ولم تقل (ضميرة). وقد حكى الخليل ما يصدق ذلك من قول العرب، قالت في (الخلق) (خليق) وإن عنوا المؤنث قالوا: (ملحفة خليق) كما يقولون: هذا (خلق)، و (خلق) مذكر يوصف به المذكر والمؤنث. وقد شذت أسماء ثلاثية فصغروها بغيرها منها ثلاثة أسماء ذكرها سيبويه وهي: النّاب المسنة من الإبل يقال في تصغيرها: (نبيب) وفي الحرب (حريب) وفي فرس: (فريس) وهي تقع على المؤنث والمذكر. فأما النّاب من الإبل فإنما قالوا لها: (نييب) لأن النّاب من الأسنان مذكر والسنة من الإبل إنما يقال لها: (ناب) لطول نابها. فكأنهم جعلوها الناب من الأسنان أي هو أعظم ما فيها كما يقال للمرأة: أنت (بطين) إذا كبر بطنها وتقول للرجل: أنت (عين) القوم والعين مؤنث فقد خبّر عن المذكر بالمؤنث وعن المؤنث بالمذكر. وأما (الحرب) فهو مصدر جعل نعتا مثل (العدل) وكان الأصل هذه مقاتلة (حرب) أي حاربة تحرب المال والنفس كما تقول: (عدل) على معنى (عادلة)، وأجريت مجرى الاسم وأسقطوا المنعوت كما قالوا: (الأبطح)، و (الأبرق) و (الأجدل). وأما (الفرس) فهو في الأصل اسم مذكر يقع للذكر والأنثى كما وقع إنسان للرجل والمرأة فصغر على التذكير الذي له في الأصل. وما كان من صفات المؤنث بغير هاء فهو يجري هذا المجرى كقولنا: امرأة (حائض) و (طامث) و (عازب) و (مرض)، و (وجل). ولو صغرنا شيئا من ذلك تصغير الترخيم لقلنا: (حييض) و (طميث) ونحو ذلك، وقد ذكر غير سيبويه من الأسماء الثلاثية- وهو أبو عمر الجزمي-: درع الحديد و (العرس) و (القوس): إنها تصغر بغير هاء وهي أسماء مؤنثات.

قال الشاعر: إنّا وجدنا عرس الحنّاط … لئيمة مذمومة الحوّاط (¬1) والمذهب فيهن كالمذهب فيما ذكرنا من المصدر، فإن قال قائل: أنت إذا سميت امرأة ب (حجر) أو (جبل) أو (جمل) أو ما أشبه ذلك من المذكر ثم صغرته أدخلت الهاء فقلت: (حجيرة) و (جبيلة) فهلا فعلت ذلك بالنعوت؟ قيل له: الأسماء لا يراد بها حقائق الأشياء فيما يسمى بها، والصفات والأخبار يراد بها حقائق الأشياء، والتشبيه بحقائق الأشياء، ألا ترى أنا إذا سمينا امرأة ب (حجر) أو رجلا سميناه ب (حجر)، فليس الغرض أن نجعله (حجرا)، وإنما أردنا إبانته كما سميناه ب (إبراهيم)، و (إسماعيل)، و (نوح) وما أشبه ذلك. وإذا وصفناه به أو أخبرنا به عنه، فإنما نريد الشيء بعينه، أو نريد التشبيه، فصار كأن المذكر لم يزل. ألا ترى أنّا إذا قلنا: مررت بامرأة (عدل) ففيها عدالة فإذا قلنا للمرأة: ما أنت إلّا (رجل) فإنما نريد مثل (رجل) وكذلك نقول: أنت (حجر) إذا لم يكن اسما لها تريد مثل حجر في الصلابة والشدة. وإن سميت رجلا باسم مؤنث على ثلاثة أحرف وليس في آخره هاء التأنيث، ثم صغرته لم تلحق الهاء كرجل سميته ب (أذن) أو (عين) أو (رجل) ثم صغرته تقول: (أذين) و (عيين) و (رجيل) هذا قول سيبويه وعامة النحويين البصريين. ويونس يدخل الهاء ويحتج ب (أذينة) اسم رجل، وهذا عند النحويين إنما سمي بالمصغر وكذلك (عيينة) كأنهم سموه باسم مصغر ولم يسموه باسم مكبر ثم يصغر. ولو سميت امرأة باسم ثلاثي مما ذكرنا أنه لا يدخل في تصغير الهاء ك (حرب) و (ناب) ثم صغرته لأدخلت فيه الهاء فقلت: (حريبة) و (نبيبة) لأنه قد صار اسما لها ك (حجر) إذا صغرته قلت: (حجيرة). وقد جاء من المؤنث ما هو على أكثر من ثلاثة أحرف، وقد ألحقت الهاء به في التصغير كقولك: (زيد قديديمة عمرو ووريّئة) وهو تصغير (قدّام) و (وراء). وإنما لحقتها الهاء وهي أكثر من ثلاثة أحرف لأن قدّاما و (وراء) لا يخبر عنهما بفعل يتبين تأنيثهما فيه لأنهما ظرفان ك (خلف). ¬

_ (¬1) البيتان من الرجز المشطور، وقائلهما دكين في المخصص 17/ 92، وشرح الشافية 1/ 242.

هذا باب ما يحقر على غير بناء مكبره والمستعمل في الكلام

وإنما يتبين تأنيث المؤنث الذي لا علامة فيه بما يخبر عنه من الفعل كقولك: (لسبته العقرب) وهذه (العقرب) و (العقرب رأيتها) وما أشبه ذلك من الضمائر التي تدل على المؤنث، فلما لم يخبر عن قدّام و " وراء " بما يدل ضميرهما عليه من التأنيث جعلوا علامة التأنيث في التصغير. هذا باب ما يحقر على غير بناء مكبره والمستعمل في الكلام قال سيبويه: فمن ذلك قول العرب في (مغرب) الشمس: (مغيربان) الشمس، وفي (العشيّ): أتيتك (عشيّانا) وسمعنا من العرب من يقول في (عشيّة): (عشيشية) كأنهم حقروا (مغربان) و (عشيان) و (عشّاة) لأن (عشيّان) تصغير (عشيان) كما تقول (سعدان) و (سعيدان) و (عشيشية) تصغير (عشّاة) لأن فيها شينين تفصل بينهما ياء التصغير. وقال: وسألت الخليل عن قولك: أتيتك (أصيلالا) فقال: إنما هو (أصيلان) وتصديق ذلك قول العرب: أتيتك (أصيلانا)، وسألته عن قول (بعض) العرب: آتيك (عشيّانات) و (مغيربانات) فقال: جعل ذلك الحين أجزاء؛ لأنه حين كلّما تصوبت فيه الشمس ذهب منه جزء فقال: (عشيّانات) كأنهم سموا كل جزء " عشيّة " قال أبو سعيد: هذا الباب من نوادر التصغير وشواذه، وشذوذه من غير وجه فمنه ما هو على غير حروف مكبرة، ومنه ما يصغر على لفظ الجمع ومكبره واحد. ومنه ما يصغر على جمع لا يصغر على ذلك الجمع مثله. ومن طريف هذا الباب أن جميع ما وقع فيه هذا الشذوذ من أسماء (العشايا) فقط فأما تغيير البناء فقال فيه بعض النحويين أنه لما خالف معنى التصغير فيه معنى التصغير في غيره من الأيام خولف بلفظه كما فعل ذلك في ياء النسبة، ومخالفة معناه لغيره أن تصغير اليوم فيما ذكرنا يقع لأحد أمرين: إذا قلنا: (يويم) وإذا قلنا: (عويم) أو (سويعة) لتصغير (عام) أو (ساعة) أو (سنيّة) لتصغير (سنة) إنما هو أن تريد ب (يويم) قصيره أو قلة الانتفاع فيه، وقد ذكرنا هذا في ما مضى مشروحا وقولهم: (مغيربان) الشمس إنما تصغيره للدلالة على قرب باقي النهار من الليل. كما أنك لو نسبت إلى رجل اسمه (جمّة) أو (لحية) أو (رقبة) لقلت: (جمّيّ) و (لحّييّ) و (رقبيّ)، فإن كان رجل طويل (الجمّة أو اللّحية) أو (غليظ) الرّقبة وأردت

العبارة عن ذلك بلفظ النسبة قلت: (جمّانيّ) و (لحيانيّ) و (رقبانيّ) ففصلوا بين لفظي النسبة لاختلاف المعنيين وكذلك في التصغير وأما جميع ذلك فكما ذكره سيبويه من جعلهم إياه أجزاء كأنهم جعلوا كل جزء منه (عشيّة) إذا كان أجزاؤها تتقضى أولا فأولا، فيكون الباقي منها على غير حكم الأول، ثم يشبه ذلك بأشياء مما جمع فيه الواحد كقولهم: (فّلان شابت مفارقه) وإنما له (مفرق) واحد. وكما قالوا: (جمل ذو عثانين) كأنه جعل كل جزء (عثنونا) فجمعه وأنشدوا قول جرير: قال العواذل ما لجهلك بعد ما … شاب المفارق واكتسين قتيرا (¬1) وأما قولهم: (أصيلال) ففيه شذوذ من ثلاثة أوجه أحدها أنه أبدل اللام من النون في (أصيلان) و " أصيلان " تصغير (أصلان) و (أصلان) جمع (أصيل). كما تقول: (رغيف) و (رغفان) و (قفيز) و (قفزان) و (فعلان) من أبنية الجمع الكثير الذي لا يصغر لفظه وإنما يرده إلى واحده، ألا ترى أنا لو صغرنا (سودانا) و (حمرانا) و (قضبانا) لو يجز أن تقول: (قضيبان) فنرده إلى واحده وهو (قضيب)، فتصغره (قضيّب) ثم تدخل عليه الألف والتاء للجمع، وكان حق (أصيل) إذا صغر أن يقال: (أصيّل) على لفظ الواحد فصار فيه من الشذوذ ثقل لفظ الواحد إلى الجمع وتصغير الجمع الذي لا يصغر مثله وإبدال اللام. ثم ذكر سيبويه (غدوة) و (سحر) و (ضحى) وتصغيرهن على ما يوجبه القياس ليريك أنهن من غير باب (مغيربان) و (عشيّان) فقال: " تحقيرها (غديّة) و (سحير) و (ضحيّا). وأنشد قول النابغة الجعدي: كأنّ الغبار الّذي غادرت … ضحيّا دواخن من تنضب (¬2) وبيّن أن تصغير هذه (الأحيان) و (الساعات) ليست تريد بها تحقيرها في نفسها وإنما تريد أن تقرب (حينا) من (حين) وتقلل الذي بينهما كما فعلت ذلك في الأماكن حين قلت: (دوين ذلك) و (فويق ذلك) وقد مضى هذا. ومضى الكلام في (قبيل) و (بعيد) ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 279، ومعجم الشواهد 145، والمقتضب 3/ 284. (¬2) البيت في ديوانه 16، واللسان (دخن)

هذا باب تحقير الأسماء المبهمة

ومما يحقر على غير بناء مكبره المستعمل في الكلام إنسان تقول فيه (أنيسيان) وفي (بنون): (أبينون) وفي ليلة: (لييلية) كما قالوا: (ليال) وقولهم في " رجل ": (رويجل). أما (أبينون) فقد تقدم الكلام فيه (قبل هذا الباب). وأما (أنيسيان)، فكأن الأصل (إنسيان) على (فعليان) وتصغيره (أنيسيان) (ولييلية) تقديره (ليلاه) والألف زائدة فإذا جمعت قلت: (ليالي)، وإذا صغرت قلت: (لييلية) كما تقول في (سعلاة): (سعالي) و (سعيلية) وقولهم في (رجل): (رويجل) أرادوا (راجلا) لأنه يقال للرّجل (راجل). قال الشاعر: ألا أقاتل عن ديني على فرسي … ولا كذا رجلا إلّا بأصحاب (¬1) أراد (راجلا) وقد مضى نحوه وإذا سميت رجلا أو امرأة بشيء من ذلك ثم صغرته جرى على القياس فقلت في (إنسان) " أنيسان " وفي (ليلة) " لييلة " وفي (رجل) " رجيل ". ومن الشذوذ قولهم في (صبية): (أصيبية) وفي (غلمة): (أغيلمة) كأنهم حقروا (أغلمة) و (أصبية) لأن " غلاما " (فعال) مثل (غراب) و (صبيّ) فعيل (مثل) " قفيز " وبابهما في أدنى العدد (أفعلة) ك (أغربة) و (أقفزة) فردوه في التصغير إلى الباب. ومن العرب من يجيء به على القياس فيقول: (صبيّة) و (غليمة) قال الراجز: صبيّة على الدّخان رمكا … ما إن عدا أصغرهم أن كّا (¬2) وقال أبو العباس المبرد إنما هو لما عدا أكبرهم كأن المعنى يوجب ذلك؛ لأنه أراد تصغيرهم فإذا كان أكبرهم بلغ إلى الزكيك من المشي فمن دونه لا يقدر على ذلك، فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب تحقير الأسماء المبهمة قال سيبويه: " اعلم أن التحقير يضمّ أوائل الأسماء إلا هذه الأسماء، فإنها يترك ¬

_ (¬1) البيت ليحيى بن وائل في ابن يعيش 5/ 133، وشرح شواهد الشافية 103، 106. (¬2) البيتان من الرجز المشطور قائلهما رؤبة في ديوانه 120، وشرح الشواهد للأعلم 2/ 139، والمقتضب 2/ 212، والعيني 4/ 536.

أوائلها على حالها قبل أن تحقر وذلك أن لها نحوا في الكلام ليس لغيرها- وقد بينا ذلك. فأرادوا أن يكون تحقيرها على غير تحقير ما سواها وذلك قولك في (هذا): (هذيّا) وفي (ذاك): (ذيّاك ") وفي (ألا): (أليّا) " قال أبو سعيد: خالفوا بين تصغير المبهم وغيره بأن تركوا أوله على لفظه، وزادوا في آخره ألفا عوضا من الضم الذي هو علامة التصغير في أوله وقوله: " ذيّا " وهو تصغير " ذا " ياء التصغير منه ثانية وحق ياء التصغير أن تكون ثالثة وإنما ذلك لأن " ذا " على حرفين فلما صغروا احتاجوا إلى حرف ثالث فأتوا بياء أخرى لتمام حروف المصغر، ثم أدخلوا ياء التصغير ثالثة فصار: " ذييّ " ثم زادوا الألف التي تزاد في المبهم المصغر، فصار (ذييّا) فاجتمع ثلاث ياءات وذلك مستثقل، فحذفوا واحدة منها، فلم يكن سبيل إلى حذف ياء التصغير لأنها علامته، ولا إلى حذف الياء التي بعد ياء التصغير؛ لأن بعدها ألفا ولا يكون ما قبل الألف إلا متحركا، فلو حذفوها حركوا ياء التصغير، وهي لا تحرك فحذفوا الياء الأولى فبقي " ذيّا " ويقال في المؤنث " تيّا " على لغة من قال (هذه) و (هذي) و (تا) و (تي) يرجعن في التصغير إلى التاء لئلا يقع لبس بين المذكر والمؤنث. وإذا قلنا: (هاذيّا) أو (هاتيّا) للمؤنث ف (ها) للتنبيه والتصغير واقع ب (ذيّا) و (تيّا) وكذلك إذا قلنا: (ذيّالك و (ذيّاك) و (تيّاك) في تصغير (ذاك) و (تلك) فإنما الكاف علامة المخاطب ولا يغير حكم المصغر وإذا صغرت " أولاء " فيمن مد قلت: (أليّاء) قال الشاعر: من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر (¬1) (ها) للتنبيه (وكنّ) لمخاطبة جمع الإناث والمصغر (أليّاء). وقد اختلف أبو العباس المبرد وأبو إسحاق الزجاج في تقدير ذلك، فقال أبو العباس: أدخلوا الألف التي تزاد في تصغير المبهم قبل آخره ضرورة وذلك أنهم لو أدخلوها في آخر المصغر لوقع اللبس بين " ألى " المقصور الذي تقديره " هدى " وتصغيره " أليّا " يا فتى، وذلك أنهم إذا صغروا الممدود لزمهم أن يدخلوا ياء التصغير بعد اللام ويقلبوا الألف التي قبل الهمزة ويكسروها فتنقلب الهمزة ياء فيصير (أليّي) كما تقول في (غراب): (غريّب) ثم تحذف إحدى الياءات كما حذف من تصغير (عطاء) ثم تدخل ¬

_ (¬1) البيت للعرجي في ديوانه 183، وشواهد التبصرة 1/ 272، وابن يعيش 1/ 61، والخزانة 1/ 45.

الألف فتصير " أليّا " على لفظ المقصور فترك هذا وأدخل الألف قبل آخره بين الياء المشددة والياء المنقلبة من الهمزة فصار (أليّاي). وقلبت الياء في همزة، لأن قبلها ألفا ومما يحتج في ذلك أيضا أن (أولاء) وزنه (فعال) فإذا أدخلنا الألف التي تدخل في المبهم طرفا صارت " فعالا " وإذا صغرنا سقطت الألف لأنها خامسة كما تسقط في " حبارى " وإذا قدمنا صارت رابعة فلم تسقط؛ لأن ما كان على خمسة أحرف إذا كان رابعه من حروف المد واللين لم تسقط، ومما يحتج به لأبي العباس أنه إذا دخلت الألف قبل آخره صار بمنزل (حمراء) لأن الألف تدخل بعد ثلاثة أحرف قبل الهمزة للطرف و (حمراء) إذا صغر لم يحذف منه شيء. وأما أبو إسحاق فإنه يقدر أن الهمزة في " أولاء " ألف في الأصل وأنه إذا صغر أدخل ياء التصغير بعد اللام (وقبل) المزيدة، وأدخل الألف للتصغير بعد الألفين فتصير ياء التصغير بعدها ألف، فتنقلب ياء كما تنقلب الألف في (عناق) و (حمار) إذا صغرنا ياء، كقولنا: (عنيّق) و (حميّر) وبقي بعدهما ألفان أحدهما يتصل بالياء فتصير الياء مفتوحة وتنقلب الأخرى همزة لأنه لا يجتمع ألفان في اللفظ ومتى اجتمعا في التقدير قلبت الثانية منهما ياء كقولنا: (حمراء) و (صفراء) وما أشبه ذلك. وما تدخل عليه من هاء التنبيه أو كاف المخاطبة مثل قولك: (هؤلاء) و (أولاك) و (أولئك) لا يعتد به. وتقول في تصغير (الذي) و (التي): (اللّذيّا) و (الّلتيّا) وإذا ثنّيت قلت: (الّلذيّان) و (الّلتيّان) في الرفع و (الّلذيّين) و (الّلتيّيّن) في النصب والجر. وقد اختلف مذهب سيبويه والأخفش في ذلك. فأما سيبويه فإنه يحذف الألف المزيدة لتصغير المبهم ولا يقدرها. وأما الأخفش فإنه يقدرها ويحذف لاجتماع الساكنين، ولا يتغير اللفظ في التثنية، فإذا جمع تبين الخلاف بينهما. يقول سيبويه في جمع (الّلذيّا): (الّلذيّون) و (الّلذيّين) بضم الياء قبل الواو وكسرها قبل الياء. وعلى مذهب الأخفش (الّلذيّون) و (الّلذيّين) بفتح الياء وعلى مذهبه يكون لفظ الجمع كلفظ التثنية لأنه يحذف الألف التي في (الّلذيّا) لاجتماع الساكنين وهما الألف في (الّلذيّا) وياء الجمع كما تقول في (المصطفين) و (الأعلين). وفي مذهب سيبويه أنه لا يقدرها ويدخل علامة الجمع على الياء من غير تقدير

هذا باب تحقير ما كسر عليه الواحد للجمع

حرف بين الياء وبين علامة الجمع. وإلى مذهب الأخفش يذهب أبو العباس المبرد والذي يحتج لسيبويه يقول: إن هذه الألف تعاقب ما يزاد بعدها، فتسقط لأجل هذه المعاقبة، وقد رأينا مثل هذا مما لا يجتمع فيه الزيادتان، فتحذف إحداهما كأنهما لم تكن قط في الكلام كقولك: (وا غلام زيداه)، فتحذف التنوين من (زيد) كأنه لم يكن قط في (زيد) ولو حذفناه لاجتماع الساكنين لجاز أن تقول (وا غلام زيدناه) ولهذا نظائر كرهنا الإطالة بها. وقد مر الكلام في ترك التصغير في " من " وأي " وإن صارا بمعنى (الذّي) لأنهما من حروف الاستفهام بما أغنى عن إعادته. قال سيبويه: اللّاتي لا يحقر استغنوا بجمع الواحد. يعني أنهم استغنوا بجمع الواحد المحقر السالم إذا قلت (الّلتيّات) وقول سيبويه يدل أن العرب تمتنع من ذلك وقد صغر الأخفش (اللّاتي) و (اللّائي) فقال في تصغير (الّلاتي): " اللّوتيا " و (الّلائي): " الّلويّا " وقد حذف منه حرفا، لأنه لو صغر على التمام لصار المصغر بزيادة الألف في آخره على خمسة أحرف سوى ياء التصغير، وهذا لا يكون في المصغر فحذف حرفا منه، وكان الأصل لو جاء به على التمام: (اللّويتيا)، و (الّلويئيا) وجعل الحرف المسقط الياء التي في الطرف قبل الألف. وقال المازني لو كنا محتاجين إلى حذف حرف من أجل الألف الداخلة للإبهام فحذف الحرف الزائد أولى وهو الألف التي بعد اللام من (الّلاتي) و (الّلائي)؛ لأنه في تقدير ألف فاعل فيصير على مذهبه (الّلتيّا) وقد حكوا أنه يقال في (الّلتيّا) و (الّلذيّا): (الّلتيّا) و (الّلذيّا) بالضم والقياس ما ذكرناه أولا. واستشهد سيبويه في استغنائهم ب (اللّتيّات) عن تصغير (الّلاتي) باستغنائهم بقولهم: (أتانا عشيّانا) عن تحقير العصر في قولهم: " أتانا عصرا " وهو العشيّ. هذا باب تحقير ما كسر عليه الواحد للجمع وسأبين لك تحقير ذلك إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: اعلم أن الجمع المكسر على ضربين أحدهما جمع قليل، والآخر جمع كثير، وأبنية الجمع القليل أربعة، وهي (أفعل) كقولك: (أفلس) و (أكلب) و (أفعال) كقولك: (أجمال) و (أرباع) و (أفعلة) كقولك: (أجربة) و (أحمرة) و (فعلة) كقولك: (صبية) و (فتية).

فإذا صغرت بناء من هذه الأبنية لم تجاوز لفظه وقلت في (أفعل): (أفيعل) كقولك: (أفيلس) وفي (أفعال): (أفيعال) كقولك: (أجيمال) وفي (أفعلة): (أفيعلة) كقولك: (أحيمرة) و (أجيرية) وفي (فعلة): (فعيلة) كقولك في (فتية): (فتيّة) وفي (صبية): (صبيّة) وفي (غلمة): (غليمة) وفي (ولدة): (وليدة) فإذا كان الجمع المكسر على غير هذه (الأبنية) فإنك تنظر. فإن كان له بناء آخر من الجمع القليل رددته إلى ذلك البناء ثم حقرته وإن لم يكن لذلك الجمع بناء من أبنية العدد رددته إلى واحد فصغرته ثم جمعته بالواو والنون إن كان من مذكر ما يعقل وبالألف والتاء إن كان من المؤنث أو مما لا يعقل مذكرا كان أو مؤنثا. وإن كان الجمع الذي تريد تصغيره له جمع آخر من أبنية أدنى العدد فأنت مخير إن شئت رددته إلى جمعه القليل وإن شئت رددته إلى واحده فصغرته وجمعته على ما ذكرت لك .. فمن الباب الأول تصغير (الدّراهم) و (الدّنانير) و (المرابد) و (المفاتيح) و (الخنادق) و (القناديل) تقول في تصغيرها: (دريهمات) و (دنينيرات) و (مريّبدات) و (مفيتيحات) و (خنيدقات) و (قنيديلات) لأنك رددت ذلك إلى الواحد، وهو (درهم) و (دينار) و " (مربد) و (مفتاح) و (خندق) و (قنديل) فصغرته ثم أدخلت فيه الألف والتاء، لأنه مما لا يعقل. وإذا صغرت (فقراء) و (رجالا) قلت: (فقيّرون) و (رجيلون) لأنك رددتها إلى (فقير) و (رجل) فجمعته على ذلك. ولو صغرت " حمقى " و " هلكى " و " سكرى " و " جرحى " لقلت: " أحيمقون " و " هويلكون " و " سكيرانون " و " جريحون "، لأنك رددتهم إلى الواحد وواحد (حمقى): (أحمق) فقلت: (أحيمق) ثم جمعته بالواو والنون ورددت (هلكى) إلى (هالك)، فقلت: (هويلك) و (سكرن) إلى (سكران) وجرحى إلى: (جريح) ولو أردت ب (حمقى) جمع (حمقاء) وأردت بهن جمع المؤنث؛ لأنهن يصلحن لجمع المذكر والمؤنث لقلت: (حميقاوات)؛ لأنك رددتها إلى (حمقاء) وتقول: (هويلكات) و (سكيريات)؛ لأنك رددتها إلى (هالكة) و (سكرى). وفي (جرحى) إذا أردت به جمع المؤنث: (جريّحات) وإذا صغرت " الشّموع " رددتها إلى (شمع) فقلت: " شميعات.

وأما ما له جمع قليل فهو أن يقال: صغر (كلابا) أو (فلوسا) فأنت مخير إن شئت قلت: (كليبات) و (فليسات) بأن تردهما إلى (كلب) و (فلس)، وإن شئت قلت: (أكيلب) و (أفيلس) بأن تردهما إلى (أكلب) و (أفلس). وقد يجيء في الجموع في معنى واحد (أفعلاء) و (أفعلة) فإذا أردت تصغير ذلك صغرت أفعلة لأنه جمع قليل ولم تصغر (أفعلاء) نحو قولهم في جمع (ذليل) و (جليل) و (نصيب): " أذلّة " و " أذلّاء " و " أجلّة " و " أجلّاء " و " أنصبة " و" أنصباء " والمصغر من ذلك كله (أفعلة) لأنه بمنزلة (أحمرة) وإنما صغرت العرب الجمع القليل وردت الكثير إلى الواحد فصغرته ثم جمعته بالواو والنون والألف والتاء، لأن تصغير الجمع إنما هو تقليل للعدد، فاختاروا له الجمع الموضوع للقلة؛ لأن غيره من الجموع جعل للتكثير. فإذا صغروا فقد أرادوا تقليله، فلم يجمع بين التقليل بالتصغير والتكثير بلفظ الجمع الكثير، لأن ذلك يتناقض والواو والنون والألف والتاء أصله للقليل وذلك أنك تقول في التثنية: " مسلمان " والاثنان أقل الجمع والذي يلي الاثنين ثلاثة يقال فيهم: " مسلمون " وقد وافق (مسلمون) " مسلمين " بسلامة لفظ الواحد فلما كان ثلاثة وأربعة، وما قرب من هذه الأعداد القليلة أقرب إلى الاثنين مما كثر وبعد عن الاثنين صار الواو والنون هو الأصل في الجمع القليل، ولهذا قال سيبويه: " وإنما صارت الياء والواو والنون لتثليث أقل العدد إلى تعشيره. " وهو الواحد كما صارت الألف والنون للتثنية ومثناه أقل من مثلثه " ثم جمع بين الاثنين والجمع السالم بأن قال: " ألا ترى أن جرّ التاء ونصبها سواء. " يعني فيما جمع بالألف والتاء " وجر الاثنين والثلاثة الذين هم على حد التثنية ". ونصبهم سواء فهذا يقرب أن التاء والواو والنون للأدنى؛ لأنه وافق المثنى. واعلم أن في الجمع ما كان اسما للجمع على غير تكسير فإذا صغرته لم تجاوز لفظه كقولك (راكب) و (ركب) و (راجل) و (رجل) فإذا صغرت قلت: (ركيب) و (رجيل) وكذلك لو صغرت " شربا " الذي هو جمع (شارب) لقلت: (شريب) وقد أحكمنا هذا في باب الجمع وأنشد الأصمعي لأحيحة بن الجلاح: بنيته بعصبة من ماليا

هذا باب ما كسر على غير واحده المستعمل في الكلام

أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا (¬1) يريد تصغير (رجل) وهو جمع (راجل) و (ركب) وهو جمع (راكب) وما كان من الجموع لم يستعمل فيه إلا لفظ الجمع القليل وإن أريد به الكثير كالأرجل والأقدام والأكتاف وما أشبه ذلك إذا صغرته صغرت لفظه ولم تجاوزه إلى غيره؛ لأن ياء التصغير تعلم أنك تعني القليل فتقول: (أريجل) و (أقيدام) ولم تصغر من الجموع الكثيرة على لفظه إلا (أصلان) الذي هو جمع (أصيل) حين قيل منه (أصيلان) و (أصيلال) وقد ذكرناه. وإذا أردت أن تجمع مصغرا لم تكسره وجمعته جمع السلامة فقلت في جميع (رّجيل) و (صبيّ): " رجيلون " و " صبيوّن " وفي جمع (كليب) و (فليس): " كليبات " و " فليسات ". هذا باب ما كسر على غير واحده المستعمل في الكلام قال سيبويه: فإذا أردت أن تحقره حقرته على واحده المستعمل في الكلام الذي هو من لفظه وذلك قولك في (الظروف): (ظريّفون) وفي (السّمحاء) (سميحون) وفي (الشّعراء): (شويعرون) وإذا جاء الجمع ليس له واحد مستعمل في الكلام من لفظه يكون تكسيره عليه قياسا ولا غير ذلك، فتحقيره على واحد هو بناؤه إذا جمع في القياس وذلك نحو (عباديد) فإذا حقرتها قلت: (عبيديدون) لأن (فعاليل) إنما هو جمع (فعلول) أو (فعليل) أو (فعلال) فإذا قلت: (عبيديدات) فأيّا ما كان واحدها فهذا تحقيره. وزعم يونس أن من العرب من يقول في " سراويل ": " سريّيلات " وذلك أنهم جعلوه جمعا بمنزلة (دخاريص) وواحدها: (دخرصة) وهذا يقوي ذلك، ولأنهم إذا أرادوا بها الجمع فليس له واحد في الكلام كسر عليه ولا غير ذلك. وإذا أردت تحقير (الجلوس) و (القعود) قلت: (قويعدون) و (جويلسون) فإنما (جلوس) ها هنا حين أردت الجمع بمنزلة (ظروف) وبمنزلة (الشّهود) و (البكيّ) وإنما واحد الشهود: (الشّاهد) وواحد (البكيّ): (الباكي) هذان المستعملان في الكلام ولم يكسر الشّهود و (البكيّ) عليهما وكذلك (الجلوس). قال أبو سعيد: أما (ظروف) في جمع (ظريف) فإنه شاذ ومع شذوذه فإنه من الجموع المكسرة ولا يكاد يجئ مثله، لأن فعيلا لا يجمع على (فعول) وقد جمع " فاعل " ¬

_ (¬1) البيتان من الرجز المشطور وهما في شرح الشافية 1/ 266، وابن يعيش 5/ 77.

على (فعول)، وهو غير كثير ليس بمطرد: كاطراد غيره، كقولك: (جالس): و (جلوس) و (شاهد)، (شهود)، (قاعد) و (قعود) و (باكي) و (بكيّ) وأصله (بكوى) وقد أدخله سيبويه أيضا في هذا الباب، لأنه لا يطرد كإطراد غيره وكثرته ألا ترى أنك لا تقول (كاتب وكتوب) و (ذاهب وذهوب) وإنما يطرد (فعول) في جمع " فعل " وغيره من الثلاثي كقولك: (فلوس) و (جذوع) وإنما شبهوا ظريفا بفاعل؛ لأن فعيلا وفاعلا قد يشتركان كقولك: (عالم) و (عليم) و (قادر) و (قدير) وقال بعض أصحابنا ردوا (ظريفا) إلى (ظرف) فجمعوه بحذف الزائد الذي فيه، والأول أعجب ولم أر أحدا ذكره، وأما (السّمحاء) في جمع (سمح) فليس بمطرد؛ لأن (فعلا) لا يجمع على (فعلاء) ولكن (فعلا) و (فعيلا) قد يشتركان كقولك: (سمح) و (سميح)، فحمل على (فعيل) كقولنا: (كريم) و (كرماء) و (نبيل) و (نبلاء). وأما الشعراء فهو أيضا جمع " فعيل المطرد " وجمعهم لشاعر على شعراء شاذ إلا أن (فاعلا) و (فعيلا) يشتركان في اسم الفاعل مثل " عالم وعليم " فجعل شعراء كأنه جمع (فعيل) في معنى (فاعل) وإن لم يستعمل. وأما (عباديد) وما جرى مجراه من الألفاظ التي لا تكون إلا للجموع فإنا نردها إلى ما يجوز أن يكون واحدا لها؛ إذ قد أحاط العلم بأنها جمع والواحد هو ما قاله سيبويه: أنه (فعلول) أو (فعليل) أو (فعلال) ويمكن أن يكون (فعلول) مثل (برذون) ونحو ذلك مما جاء يمكن أن يكون واحدا له. وأما " سراويل " فإن يونس ذكر أن من العرب من يقول في تصغيرها: " سريّيلات " لأن لفظها لا يكون إلا للجمع فكأنهم جعلوا كل قطعة منها واحدا كما أن (دخاريص) جعلوها قطعا وكل قطعة منها (دخرصة) وكذلك جعلوا كل قطعة من (السّراويل) " سروالة " وعلى ذلك أنشد أبو العباس: عليه من اللّؤم سروالة … ... (¬1) ومن لم يجعلها جمعا أسقط الألف التي بعد الراء فصغرها على (سريويل)، و (سربّيل) وقد مضى الكلام في هذا. وهذا الباب في رد الجمع فيه إلى الواحد بمنزلة الجموع التي ليست بأدنى الجمع إذا رددناها إلى الواحد غير أن هذا الباب الجموع فيه شاذة وفي غيره مطردة، وليست ¬

_ (¬1) هذا صدر بيت عجزه: ... … فليس يرق لمستعطف انظر ابن يعيش 1/ 64، والخزانة 1/ 233، وشرح شواهد الشافية 100.

هذا باب تحقير ما لم يكسر عليه واحد ولكنه شيء واحد يقع للجمع

الجموع في هذا الباب وإن كانت شاذة كالجمع الذي يجري مجرى الواحد كقولنا: (راكب) و (ركب) و (مسافر) و (سفر) لأن هذا اسم واحد سمي به الجمع فجرى مجرى أسماء الجنس كقولنا: (خيل) و " جامل " و " باقر " وهي آحاد وضعت لجمع أسماء. و (ظروف) و (سمحاء) و (شعراء) و (جلوس) و " قعود " تقع أبنيتها جموع مكسرة، في غير هذه الآحاد كقولنا: (فلس) و (فلوس) و (درب) و (دروب) و (كريم) و (كرماء) و (ظريف) و (ظرفاء). هذا باب تحقير ما لم يكسر عليه واحد ولكنه شيء واحد يقع للجمع وقد مضى نحوه وهو يجري مجرى الواحد كقولك في (قوم): (قويم)، وفي (رجل): (رجيل) وفي (نفر): (نفير) وفي (رهط): (رهيط) وفي (نسوة): (نسيّة). وليست (نسوة) بجمع مكسر، ك (فتى) و (فتية)، و (صبيّ) و (صبية) لأنه لا واحد لها من لظفها ومثل ذلك (الرّجلة) و (الصّحبة) وأن كانت (الرّجلة) تستعمل في أدنى العدد وقد ذكرنا ذلك في باب الجمع، وليس تصغير شيء من ذلك إلا على لفظه فإن جمع شيء من هذا كقولنا: (أقوام) و (أنفار) فصغرته فقلت: (أقيّام) و (أنيفار) لانهما من لفظ أدنى العدد وإذا حقرت " ألاراهط " الذي هو جمع (رهط) قلت: (رهيطون) فترده إلى " رهط " فتصغره وتدخل فيه الواو والنون، على قياس ما مضى يجوز عندي ولم يذكر سيبويه أن تقول: " أريهط " لأن " رهطا " أيضا يجمع على " أرهط " كقول الشاعر: وفاضح مفتضح في أرهطه (¬1) وإن حقرت (الخباث) جمع " خبيث " قلت: (خبيثّون) وقد صغروا أشياء من جمع ما لا يعقل فأدخلوا على تصغير الواحد منها علامة جمع ما يعقل وذلك شاذ كقول الشاعر: قد شربت إلّا دهيدهينا … قليّصات وأبيكرينا (¬2) والدّهداه حاشية الإبل ورذالها وجمع الدهداه في القياس دهاده فكأنه صغر (دهاده) فردها إلى الواحد وهو (دهداه) وتصغيره (دهيديه) ويجوز إسقاط الياء بعد التصغير فيقال: (دهيده) ثم جمع بالياء والنون، وكان حقه أن يكون بالألف والتاء: (دهيدهات) و (دهيديهات) فجعل مكان الألف والتاء الياء والنون، كما قالوا في جمع (أرض): ¬

_ (¬1) البيت من الرجز المشطور. انظر ابن يعيش 5/ 133. (¬2) البيتان من الرجز المشطور، وهما بلا نسبة في الخزانة 8/ 33، وشواهد سيبويه 3/ 494.

(أرضون) والقياس (أرضات) في الجمع السالم منها. وأما " أبيكرين " فالواحد منها (بكر) ثم يجمع في أقل العدد " أبكر " كما تقول: (فلس) و (أفلس) ثم جمع " أبكرا " فصار (أباكر) كما قالوا: (أراهط) فلما صغر " أباكر " إلى الجمع الذي أقامه مقام الواحد فجمعه ثم صغره وكان القياس أن يقول " أبيكرات " فجعل مكان الألف والتاء الياء والنون كما فعل ب (دهيدهين) وقوله: " وإذا حقرت (السّنين) لم تقل إلا (سنيّات). يعني أن (السنين) قد جمع بالواو والنون قبل التحقير. فإذا حقرت لم يجز الجمع إلا بالألف والتاء وذلك أن (سنين) جمع (سنة) وإنما جمع على (سنون) و (سنين) بالواو والنون؛ لأن هذا الجمع له فضل ومزية فجعل عوضا من الذاهب في (سنة) والذاهب منها لام الفعل، فإذا صغرنا وجب رد الذاهب فبطل التعويض، وجمع على ما يوجبه القياس كقولنا: (قصيعة) و (قصيعات) و (صحيفة) و (صحيفات)، وكذلك (أرضون) يقال: (أريضات) لا غير. ألا ترى أنا لو صغرنا (سنة) لم يجز في تصغيرها إلا (سنيّة) برد الذاهب. ولو صغرنا (أرضا) لم يجز فيها إلا (أريضة) بالهاء فصار جمع المصغر: (أريضة) و (سنيّة) فلم يجز فيها إلا الألف والتاء وقد يجوز في " سنين " إعراب النون كقولك: هذه (سنين) ورأيت (سنينا) ومررت ب (سنين) فإذا صغرت على هذا فإن الزجاج يقول: بردها إلى الأصل فيقول: (سنيّات) وغيره قال: (سنيّن). وإذا سميت رجلا أو امرأة ب (أرضين) وجعلتها في الرفع بالواو وفي الجر والنصب بالياء ثم صغرت لم تردها إلى الأصل، وقلت: (أريضون)؛ لأنك لست تريد به الجمع ولا ترده إلى الواحد، فصغرت اللفظ، ألا ترى أنا لو صغرنا (مساجد) من غير أن نسمي به رجلا أو امرأة رددناها إلى الواحد ثم جمعنا المصغر فقلنا: (مسيجدات). ولو سمينا بها رجلا لقلنا: " مسيجد "، وقد ذكرنا قول سيبويه في رجل اسمه (جريبان) أنا نقول في تصغيرها (جريبان) كما تقول في (خراسان): " خريسان " فإن جعلت (سنين) اسم امرأة أو رجل على قول من يقول: " سنون " في الرفع قلت (سنيّون) برد الحرف الذاهب؛ لأن الواو والنون يقدر دخولهما على شيء يجوز أن يقوم بنفسه ولا يكون مصغرا على أقل من ثلاثة أحرف سوى ياء التصغير وكأنك قدرت أن الاسم " سن " فصغرت على (سنيّ) ثم جمعت جمع السلامة بالواو والنون. وإذا كانت التسمية " سنين " التي الإعراب في نونها قلت في الرجل: (سنيّن) مصروفا

وفي المرأة: (هذه سنيّن) غير مصروفة. ولم ترد ياء التصغير شيئا؛ لأن (سنين) ثلاثة أحرف فهو بمنزلة رجل اسمه (يضع) تقول في تصغيره (يضيع) ولا تقول: (يويضع) فترد الواو التي في أصل (وضع) وقد تقدم الكلام في تصغير ما قد حذف منه شيء لا يرده التصغير بما أغنى عن أكثر من هذا. وإذا حقرت " أفعالا " اسم رجل قلت (أفيعال) وكذلك تحقيره قبل أن تسمى به كقولك: (أجيمال) و (أحيجار). وفرقوا بين تصغير (أفعال) و (إفعال) فقالوا في " إفعال " (أفيعيل)، وفي (أفعال): (أفيعال)؛ لأن " أفعالا " لم يقع إلا جمعا فكرهوا إبطال علامة الجمع منه إلا أن يجمع مرة أخرى فيكون ك (أنعام) و (أناعيم) وإذا صغروا لم ينسب التصغير عن الجمع فتقوى علامة الجمع، واستعملوا علامة التصغير. فإن قال قائل: قد اعتبرتم في تصغير ما كان في آخره ألف ونون الجمع فقلتم: إن ما كان من ذلك ينقلب في الجمع، قلبتموه في التصغير كقولنا: (سرحان) و (سريحين) و (سلطان) و (سليطين) لأنا نقول: (سراحين) و (سلاطين) وقلتم في (عثمان) و (عطشان) و (غضبان): (عثيمان) و (عطيشان) و (غضيبان)؟ قيل له إنما اعتبرنا الجمع فيما كان فيه ألف ونون، لأن النون قد تكون للإلحاق بحرف من حروف الأصل فتجري مجرى الأصل، فإذا قيل: " سرحان " و " سراحين " علم أن النون فيه قد جعل كالحاء في (سرداح) والجيم في (هملاج). ونحن نقول في تصغير (سرداح) و (هملاج): (سريديح) و (هميليج) وإذا كان لا ينقلب في الجمع ياء فلم يجعل ملحقا بشيء ك (عطشان) و (عثمان) فقد أحكمنا ذلك في غير هذا الموضع. وقد رد سيبويه ذلك على من عارض به بأن قال: " ولو كان الأمر كذلك لقلت في (جمّال): (جميمال) لأنك لا تقول: (جماميل) ولكن تقول: " جميمل " في (جمّال) وإن كان لا يقال: (جماميل) في الجمع وأراد كسر معارضته في (أنعام) و (أناعيم) ومثل (أنعام) و (أناعيم) وإن كنا لا نقول في تصغير الواحد (أنيعم) لأنه جمع كيلا تبطل علامة الجمع قولنا (مصران) وجمع (مصارين) ولا تقول في تصغير (مصران): (مصيرين) لأن مصران جمع (مصير) والألف فيه للجمع فلا يبطله التصغير.

هذا باب حروف الإضافة إلى المحلوف به وسقوطها للقسم

هذا باب حروف الإضافة إلى المحلوف به وسقوطها للقسم قال سيبويه: والمقسم به أدوات في حروف الجر فأكثرها الواو ثم الباء ثم التاء وتدخل فيه اللام ومن. وأنا أرتب ذلك إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: اعلم أن القسم هو يمين يحلف بها الحالف ليؤكد به شيئا يخبر عنه من إيجاب أو جحد وهو جملة يؤكد بها جملة أخرى. فالجملة المؤكدة هي المقسم عليه والجملة المؤكدة هي القسم والاسم الذي يدخل عليه حرف القسم هو المقسم به، مثل ذلك (أحلف بالله) إنّ زيدا قائم، فقولك: (إن زيدا قائم) هي الجملة المقسم عليها، وقولك: (أحلف بالله) هو القسم الذي وكدت به " إن زيدا قائم " والمقسم به هو (اسم الله عز وجل) وكذلك كل شيء ذكر في قسم لتعظيم المقسم به، فهو المقسم به. وأصل هذه الحروف الباء، والباء صلة للفعل المقدر، وذلك الفعل (أحلف) و (أقسم)، أو ما جرى مجرى ذلك، فإذا قال: (بالله لأضربن)، فكأنه قال: (أحلف بالله) وجعلوا الواو بدلا من الباء، وخصوا بها القسم لأنها من مخرج الباء، واستعملوا الواو أكثر من استعمالهم الباء؛ لأن الباء تدخل في صلة الأفعال في القسم وغيرها، فاختاروا الواو في الاستعمال؛ لانفرادها بالقسم. وقد تدخل الباء في ثلاثة مواضع من القسم، لا تدخلها الواو ولا غيرها. أحدها أن تضمر المقسم به، كقولك إذا أضمرت اسم الله: (بك لأجتهدن يا رب) وإذا ذكروا اسم الله فأردت أن تكني عنه قلت: (به لألزمن المسجد) كما تقول: (بالله لألزمن المسجد). والموضع الثاني أن تحلف على إنسان كقولك له إذا حلفت عليه: (بالله إلا زرتني)، و (بالله لما زرتني)، ولا تدخل الواو هاهنا. والموضع الثالث: أن يظهر فعل القسم كقولك: (أحلف بالله)، ولا تقول: (أحلف والله)، وأما التاء فإنها بدل من الواو كما أبدلت منها في (أتعد)، و (اتزن) وأصله (وعد) و (وزن) ولم تدخل إلا على اسم الله تعالى وحده؛ لأن قولك الله هو الاسم في الأصل والباقي من أسمائه صفات، والتاء أضعف هذه الحروف؛ لأنها بدل من الواو والواو بدل من الباء فبعدت فلم تدخل إلا على اسم الله وحده. وفي التاء معنى التعجب وكذلك اللام تدخل في القسم للتعجب كقول أمية بن أبي عائد:

لله يبقى على الأيام ذو حيد … بمشمخرّ به الظّيّان والآس (¬1) ويروى ذو جيد. ويجوز حذف حرف الجر من المقسم به، فإذا حذفته نصبته كقولك: (الله لأفعلن) و (ويمين الله لأفعلن) وهو بمنزلة قولك: (تعلقت زيدا) (تعلقت بزيد)، إذا لم تدخل الباء، لأنه يقدر للقسم فعل، وإن حذف، فإذا حذفت حروف الجر وصل الفعل إلى المقسم به. وشبهه سيبويه بقولهم: (إنك ذاهب حقا) وقد يجوز (إنك ذاهب بحق) فإذا حذفت الباء نصبته وأنشد قول ذي الرمة: ألا ربّ من قلبي له الله ناصح … ومن قلبه لي في الظّباء السوانح (¬2) بنصب اسم الله. وقال الآخر: إذا ما الخبز تأدمه بلحم … فذاك أمانة الله الثريد (¬3) ولا يجوز حذف التاء من (تالله) ولا اللام من " لله " لأنه لما دخله معنى التعجب بإدخال التاء واللام كرهوا إسقاط حرف المعنى، وربما استعمل (تالله) في غير معنى التعجب، إلا أنك إذا أردت معنى التعجب لم يجز إسقاط التاء. قال سيبويه: " ومن العرب من يقول: " لله " فيخفض الاسم، ويحذف تخفيفا لكثرة الأيمان في كلامهم وشبه ذلك بحذف (ربّ) في مثل قولهم: وبلد عامية أعباؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه (¬4) وأنشد: ¬

_ (¬1) البيت في الكتاب 3/ 497، والخزانة 5/ 177، والمخصص 13/ 111، وديوان الهذليين 3/ 2. (¬2) ملحقات ديوانه 664، والمقتصد 2/ 868، والتبصرة 1/ 447. (¬3) البيت في شرح الشواهد للأعلم 2/ 44، وابن يعيش 9/ 92. (¬4) البيتان من الرجز المشطور لرؤبة. انظر الإنصاف 377، والأمالي الشجرية 1/ 143، والمقتصد للجرجاني 2/ 868.

وجدّاء ما يرجى بها ذو قرابة … لعطف وما يخشى السّماة ربيبها (¬1) إنما يريد " ورب " جداء، وجداء في موضع جر، ولكنها لا تنصرف، وهي الصحراء التي لا نبات فيها، الواو فيها واو العطف، لا واو القسم ومعنى قوله: وما يخشى السماة ربيبها، السماة: الصيادون في نصف النهار، وربيبها: وحشيها. ثم قوى سيبويه حذف حرف الجر بقول العرب: (لاه أبوك) وأصله (لله أبوك) فحذف لام الجر ولام التعريف وكان أبو العباس المبرد يخالفه في هذا ويزعم أن المحذوف لام التعريف واللام الأصلية من الكلمة، وأن الباقي لام الإضافة فقيل له: لام الإضافة مكسورة ولام (لاه) مفتوحة، فقال: أصل لام الجر الفتح ومع ذلك فلو جعلناها مكسورة لانقلبت الألف ياء. وكان الزجاج يذهب إلى قول سيبويه، وهو الصحيح عندي؛ لأن أبا العباس إنما حمله على ذلك الفرار من حذف لام الجر فيقال له: فقد حذف لام التعريف وهي غير مستغنى عنها، وإنما احتمل الحذف الكثير في القسم، والتغيير لكثرته في كلامهم حتى حذف فعل القسم، ولا يكادون يذكرونه مع الواو والتاء. وقال بعض: (لهي أبوك) فبناه على الفتح، وهو مقلوب من (لاه أبوك) فقيل لأبي العباس: إذا كانت اللام لام الخفض فهلا كسروها في (لهى) فقالوا: (لهى) بكسر اللام فكان جوابه: أنه لما قلبوا كرهوا إحداث تغيير آخر مع الحذف الكثير الذي في (لاه) والقلب، وإنما بني (لهي) لأنه حذف منه لام الجر، ولام التعريف، ثم قلب فاختاروا له لفظا واحدا من أخف ما يستعمل وهو أن يكون على ثلاثة أحرف أوسطها وآخرها مفتوح، ومما يقال في ذلك أنهم لما قلبوا وضعوا الهاء موضع الألف فسكنوها كما كانت الألف ساكنة، ثم قلبوا الألف ياء، لاجتماع الساكنين، لأنهم لما تركوها ألفا وقبلها الهاء ساكنة لم يمكن النطق بها، فردوها إلى الياء وهي أخف من الواو، ثم فتحوها لاجتماع الساكنين كما فتحوا آخر أين. " واعلم أن من العرب من يقول: (من ربي لأفعلن) ومنهم من يقول: (من ربّي إنك لأشر) " ولا يستعمل " من " بضم الميم في غير القسم، وذلك لأنهم جعلوا ضمها دلالة على ¬

_ (¬1) انظر معجم الشواهد 44، وشواهد الكتاب 2/ 163.

هذا باب ما يكون فيه ما قبل المحلوف به عوضا من اللفظ بالواو

القسم كما جعلوا الواو مكان الباء دلالة على القسم ولا يدخلون (من) في غير (ربي)، لا يقولون: (من الله لأفعلن) وإنما ذلك لكثرة القسم تصرفوا فيه واستعملوا أشياء مختلفة. قال سيبويه: ولا تدخل الضمة في " من " إلا هاهنا كما لا تدخل الفتحة في " لدن " إلا مع (غدوة) حين قالوا: (لدن غدوة إلى العشي). ولا تقول: (لدن زيدا مال)، فأراد أن يعرفك أن بعض الأشياء يختص بموضع لا يفارقه، فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يكون فيه ما قبل المحلوف به عوضا من اللفظ بالواو قال أبو سعيد: وذلك في أشياء منها قولهم: (أي ها الله ذا)، ومعنى أي: نعم، وقوله: (ها الله)، معناه: (والله ذا). وفي (ها الله) لغتان منهم من يقول: (ها الله) فيثبت الألف في " ها " ويسقط ألف الوصل في (الله) ويكون بعد ألف " ها " لام مشددة كقوله (الضالين)، و (دابة) وما أشبه ذلك. ومنهم من يحذف ألف " ها " لاجتماع الساكنين فيقول: (هلله) ليس بين الهاء واللام ألفا في اللفظ، وليس ذهاب الواو في (ها الله) كذهابها من قولهم: (الله لأفعلن) لأن قولهم: (الله لأفعلن) حذفت الواو استخفافا ولم تدخل ما يكون عوضا، ويجوز أن تدخل عليها الواو. واختلفوا في معنى الكلمة فقال الخليل قولهم: ذا هو المحلوف عليه كأنه قيل (أي والله) الأمر هذا كما تقول: (أي والله لزيد قائم) وحذف الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم وقدم قوم: ها هو ذا وها أنا ذا وهذا قول الخليل. وقال زهير: تعلّمنّ ها لعمر الله ذا قسما … فاقصد بذرعك فانظر أين تنسلك (¬1) أراد: تعلمن هذا قسما ومعنى تعلمن: أعلمن وقال الأخفش: قولهم (ذا) ليس هو المحلوف عليه إنما هو المحلوف به وهو من جملة القسم والدليل على ذلك أنهم قد يأتون بعده بجواب قسم والجواب هو المحلوف عليه، فيقولون: (ها الله ذا لقد كان كذا وكذا). ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 182، والخزانة 2/ 475، ومجمع الأمثال 2/ 92.

فقيل له أو للمحتج عنه: فما وجه دخول (ذا) قسمي، وقد حصل القسم بقوله: (والله) وهو المقسم به، فقال: (ذا قسمي) عبارة عن قوله: (والله) وتفسير له. وكان أبو العباس المبرد يرجح قول الأخفش ويجيز قول الخليل. ومثل ذلك أيضا قولهم: (ألله لتفعلن) صارت ألف الاستفهام بدلا هاهنا بمنزلة " ها " ألا ترى أنك لا تقول: (أو الله) كما لا تقول: (ها والله) فصارت ألف الاستفهام: " ها " يعاقبان واو القسم ومن ذلك أيضا قولهم: (أفألله لتفعلن) بقطع ألف الوصل في اسم الله، وقبل الفاء ألف الاستفهام، والفاء للعطف وقطع ألف الوصل في اسم الله عز وجل عوض من الواو، ولو جاء بالواو سقطت ألف الوصل وقال: (أفو الله)، وإنما يكون هذا إذا قال قائل لآخر: (أبعد دارك) فقال له: نعم، فقال له السائل: (أفألله) لقد كان ذلك فالألف للاسفهام والفاء للعطف، وقطع ألف الوصل للعوض ولو أدخل الفاء من غير استفهام لجاز أن تقول: (فالله لقد كان ذلك) إذ لم تستفهم. وهذه المواضع الثلاثة التي ذكرناها تسقط واو القسم فيها للعوض كما وصفت ولا تسقط في غير ذلك لعوض. وتقول: (أي والله) و (نعم) و (الله ") ومعنى " أي " معنى " نعم " فإذا أسقطت الواو نصبت فقلت: (نعم) (الله لأفعلن) و (أي الله لأفعلن) وفي لفظه ثلاثة أوجه منهم من يقول: (أي الله لأفعلن) فيفتح الياء لاجتماع الساكنين ومنهم من يقول: (أي لله لأفعلن) فيثبت الياء ساكنة وبعدها اللام مشددة كما قالوا: (ها لله). ومنهم من يسقط الياء فيقول: (الله لأفعلن) بهمزة مكسورة بعدها لام مشددة. وقال الخليل في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (¬1) وما أشبه ذلك من القسم في القرآن الذي عطف عليه بالواو أن الواو الثانية للعطف لا للقسم، ولو كانت لبقي الأول بلا جواب، واستدل على ذلك أنه قد يدخل في مثله ثم كقولك: (والله ثم الله) فثم للعطف لا غير، ويكون الجواب لهما جميعا ولو كانا قسمين لاحتاج كل واحد منهما إلى جواب لأنهما قسمان منفصلان، ثم يشارك أحدهما الآخر في العطف ولا يجوز ذلك إلا مستكرها يعني بتأويل ضعيف بأن يضمر للأول مقسم عليه محذوف يدل عليه الثاني. ويجوز أن يكون القسم بالباء والتاء فيقع العطف عليه بالواو وثم، والفاء كقولك: (بالله، والرحمن، وتالله ثم الله لقد كان كذا وكذا). ¬

_ (¬1) سورة الليل، الآيتان: 1، 2.

هذا باب ما عمل بعضه في بعض وفيه معنى القسم

ولو قلت: (والله لآتينك، ثم الله لأضربنك) كنت بالخيار في الثاني إن شئت قطعت ونصبت لأن الأول قد تم بجوابه، وإن شئت عطفت ما بعد ثم على الأول فخفضته، وجئت له بجواب آخر، وإن شئت نصبته على أنه قسم آخر مستأنف، ويكون عطف جملة على جملة. وشبه سيبويه هذا إذا قطعه من الأول بقولك: (مررت بزيد وعمرو خارج) وإذا لم تقطع وجب أن يقال: (والله لآتينك ثم والله لأضربنك) كقولك: (مررت بزيد ثم بعمرو). وإن أخرت القسم عن حرف العطف كان نصبا لا غير كقولك: (والله لآتينك ثم لأضربنك الله.). ولا يجوز فيه الخفض لأن حرف العطف قد ناب عن الخافض، وكان الخافض معه ولا يجوز الفصل بين الخافض والمخفوض، وشبهه بقولك: " مررت بزيد أول من أمس " و " أمس عمرو " وهذا قبيح خبيث للفصل بين الخافض والمخفوض. ولو قال قائل: (وحقك وحق زيد) على وجه النسيان والغلط جاز وتكون الواو الثانية واو القسم، وإن قال: (وحقك حق زيد) على الغلط كانت الواو هي واو القسم. وألغى حقك الذي بعد الواو وكأنه لم يلفظ به، ولو قال: (وحقك وحقك) على التوكيد جاز وكانت الواو واو الجر. هذا باب ما عمل بعضه في بعض وفيه معنى القسم قال أبو سعيد: قد تقدم من كلامي أن القسم إنما هو جملة من ابتداء وخبر أو فعل وفاعل تؤكد بها جملة أخرى فمن الابتداء والخبر قولهم: (لعمر الله) (وأيم الله) (وأيمن الله) (وأيمن الكعبة)، كأنه قال: (لعمر الله) المقسم به، فعمرو مبتدأ والمقسم به المقدر خبره، ولأفعلن هو جوابه، وهو المقسم عليه، ومن ذلك قولهم: (على عهد الله)، فعهد الله مبتدأ وعلى خبره. وألف (أيم) و (أيمن) - فيما حكاه سيبويه عن يونس- ألف موصولة وحكاها يونس عن العرب. وأنشد: وقال فريق القوم لما نشدتهم … نعم وفريق ليمن الله ما ندري (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لنصيب بن رباح في ابن يعيش 9/ 92، والدرر اللوامع 2/ 44.

هذا باب ما يذهب التنوين فيه من الأسماء بغير إضافة، ولا دخول ألف، ولام ولا لأنه لا ينصرف وكان القياس أن يثبت التنوين فيه

وقال أن " أيم " لم يوجد مضافا إلا إلى اسم الله تعالى وإلى الكعبة. وفي النحويين من يقول: أنه جمع يمين وألفه ألف قطع في الأصل. وإنما حذف تخفيفا لكثرة الاستعمال. وقد كان يذهب الزجاج إلى هذا، وهو مذهب الكوفيين، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع مستقصي. قال: سمعت فصحاء العرب يقولون في بيت امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا … ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (¬1) برفع اليمين كما رفع (لعمر الله)، وأضمر، يمين الله قسمي. ومن روى (يمين الله) بالنصب أراد (أحلف بيمين الله) وحذف الباء فنصب. ورفعه كقولهم: (أيمن الله)، و (أيمن الكعبة) و (أيم الله) وفيه معنى القسم وكذلك قولهم: (أمانة لله). قال: " ومثل ذلك قولهم: يعلم الله لأفعلن وعلم الله لأفعلن وإعرابه كإعراب (يذهب زيد)، والمعنى (والله لأفعلن) وذا بمنزلة يرحمك الله. وفيه معنى الدعاء. أراد أن قولنا: (يعلم الله) و (علم الله) لفظه الإخبار بذلك ومعناه معنى القسم كما أن (يرحمك الله) لفظه لفظ الإخبار بان الله يرحمه وفيه معنى الدعاء وكذلك (اتقى الله امرؤ عمل خيرا) لفظه لفظ الخبر ومعناه ليفعل وليعمل وفي نسخة أخرى (ليتق الله). قال: وحدثني هارون القارئ أنه سمع فذاك أمانة الله الثّريد بالرفع على ما فسرنا. هذا باب ما يذهب التنوين فيه من الأسماء بغير إضافة، ولا دخول ألف، ولام ولا لأنه لا ينصرف وكان القياس أن يثبت التنوين فيه ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه 32، والخزانة 4/ 209، والعيني 2/ 13، والخصائص 2/ 284.

وذلك كل اسم غالب وصف بابن، ثم أضيف إلى اسم غالب، أو كنية، أو أم وذلك قولك: (هذا زيد بن عمرو)، وكان القياس أن تقول: (هذا زيد بن عمرو) كما تقول: (هذا زيد الظريف) " وتحريك التنوين لاجتماع الساكنين، وإنما حذفوا التنوين من هذا النحو حيث كثر في كلامهم، لأن التنوين حرف ساكن وقع بعده حرف ساكن. ومن كلامهم أن يحذفوا الأول إذا التقى ساكنان. قال أبو سعيد: اعلم أن حروف المد واللين إذا كان ما قبلها منها، وهي ساكنة (ثم) لقيها ساكن حذفت وهو القياس " والتنوين وما جرى مجراه من النونات السواكن في أصل البنية كنون " من " و " لدن "، ولكن " قد يحذفن إذا كان بعدهن ساكن وليس ذلك بالقياس فيهن، ولكن العرب قد تحذفهما لاجتماع الساكنين والأجود فيهما التحريك، لأن النون لا تثقل فيها الحركة، ولأنّا إذا حذفنا النون الساكنة والتنوين لم يكن ما قبلهما يدل عليهما كما يدل ما قبل الواو من الضمة، وما قبل الياء من الكسرة وما قبل الألف من الفتحة عليهن، فالاختيار في التنوين التحريك، لاجتماع الساكنين. وقد يحذف، وحذفه لاجتماع الساكنين أكثر من حذف نون (لكن) و (لدن)، و (من). وإذا كانتا النون الخفيفة في الفعل فلفظها لفظ التنوين في الوقف والوصل لأنك إذا وصلت قلت: " اضربن زيدا " وإذا وقفت قلت اضربا كما تقول: (رأيت زيدا عندك)، وإذا وقفت قلت: (رأيت زيدا) وهي تخالف التنوين إذا لقيها ساكن، لأنها تحذف لاجتماع الساكنين، كقولك: " يا عمرو اضرب بن زيد " وأنت تعني " اضربن " وألزموها الحذف لأنها أضعف من التنوين من قبل أن الفعل أضعف من الاسم، ولأن النون لا تلزم ما تدخل عليه، والتنوين لازم لما يدخل عليه لعلامة الصرف، ألا ترى أنك تقول: (اضرب زيدا) بلا نون ولا تقول: (رأيت زيد) بلا تنوين، فإذا قالوا: (هذا زيد بن عمرو) تركوا القياس الذي ذكرنا لكثرة ذلك في كلامهم فصار المختار ترك التنوين ولزوم التخفيف على منهاج ما جرى عليه كلام العرب. قال سيبويه: فإذا اضطر الشاعر فيه أجراه على القياس. سمعنا فصحاء العرب أنشدوا هذا البيت: هي ابنتكم وأختكم زعمتم … لثعلبة بن نوفل بن جسر (¬1) ¬

_ (¬1) البيت للقارعة بنت معاوية في الأعلم 2/ 147، وأمالي الشجري 2/ 47.

وقال الأخطل: جارية من قيس بن ثعلبة … كأنها حلية سيف مذهبة (¬1) والكنى في ذلك بمنزلة الأسماء؛ لأنها وضعت علما وهي كالاسم الغالب، وذلك قولك (هذا أبو عمرو ابن العلاء)، و (هذا زيد بن أبي عمرو) فهو للرجل ولابنه كالاسم وقد قالت العرب: هذا رجب من بني أبي بكر بن كلاب) فحذف التنوين من (أبي بكر). وقال الفرزدق: ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها … حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار (¬2) وقال الآخر: فلم أجبن ولم أنكل ولكن … يممت بها أبا صخر بن عمرو (¬3) واختلفوا في السبب الذي حسن حذف التنوين من قولك: (هذا زيد بن عمرو)، فكان سيبويه يذهب في ذلك إلى أن السبب فيه كثرته في الكلام واجتماع الساكنين فإذا لم يجتمع ساكنان لم يحذف. وكان يونس يذهب إلى أن العلة فيه " اجتماع الساكنين ولم يذكر غير ذلك وكان أبو عمرو " يذهب إلى أن العلة فيه كثرته في الكلام. واختلفوا في قولهم: (هذه هند بن زيد) فيمن صرف (هندا) فقال سيبويه ويونس: (هذه هند بنت زيد) بالتنوين لأنه لم يجتمع ساكنان. وقال أبو عمرو: (هذه هند بنت عبد الله) فحذف لكثرته في كلامهم لا لاجتماع الساكنين كما حذفوا (لا أدر) و (لم أبل)، و (لم يك) و (خذ) و (كل) بأشباه ذلك وهذا كثير وقولهم: " هذا فلان ابن فلان " لا خلاف بينهم- فيما ذكره أبو العباس المبرد- أنه يجري مجرى زيد بن عمرو، ومثله، (طامر بن طامر)، و (ضل بن ضل) لأنها جعلت أعلاما للأناسي وهي معارف، وإن كانت كنايات، لأن (فلان ابن فلان) كناية عن العلم الذي لم ¬

_ (¬1) البيتان من الرجز المشطور وهما في الخصائص 5/ 491، وابن الشجري 1/ 382، وابن يعيش 2/ 6، والخزانة 2/ 170. (¬2) البيت في ديوانه 382، وابن يعيش 1/ 27. (¬3) البيت من شواهد سيبويه 3/ 506، وشرح الشواهد للأعلم 2/ 198، والدرر اللوامع 2/ 240.

هذا باب تتحرك فيه النون في الأسماء الغالبة

يذكر و (طامر بن طامر) و (ضل بن ضل) يعبر به عمن لا يعرف وإن كان يدخل في ذلك كل من كان بهذه الصفة كالأسماء الأعلام للأجناس (كأم عمرو للضبع) و (أبي الحارث للأسد). وإذا كنيت من غير الآدميين أدخلت الألف واللام فقلت: الفلان بالفلانة والهن والهنة جعلوه كناية عن الناقة التي تسمى بكذا والفرس الذي يسمى بكذا ليفرقوا بين الآدميين والبهائم. هذا باب تتحرك فيه النون في الأسماء الغالبة وذلك قوله: (هذا زيد ابن أخيك)، و (زيد الطويل)، و (زيد ابن عمرك) وما جرى مجراه مما لم يصف فيه الاسم إلى اسم الأب الذي هو علم. والاختيار في ذلك كله التنوين لأنه لم يكثر ويجوز فيه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وليس ذلك بالمختار. وجوازه كجواز ما روي في (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ) وأنشد في ذلك: لو كنت من هاشم أو من بني أسد … أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد أو في الذّؤابة من تيم مضيت بهم … أو من بني خلف الخضر الجلاعيد (¬1) وقال آخر: لتجدني بالأمير برّا … وبالقناة مدعسا مكرّا إذا غطيف السّلميّ فرّا (¬2) وقوله: (هذا زيد ابن عمرك)، و (زيد ابن زيدك) القياس فيه التنوين. وهو الاختيار لأن زيدا وعمرك ليسا باسم العلم وإنما تعرفا بإضافتهما إلى الكاف بعد أن كان اسميهما زيدا وعمرا ف (ابن زيدك بمنزلة (ابن أخيك). ولو قلت: (مررت بزيد ابن عمرو) ولم تجعله نعتا ولكن جعلته بدلا لنونت لأن ¬

_ (¬1) البيتان من البسيط، ولم نستدل على قائلهما. (¬2) هذه أبيات من الرجز المشطور أنشدها ابن الشجري في أماليه 1/ 345، وأبو زيد في النوادر 91.

هذا باب النون الثقيلة والخفيفة

حذف التنوين إنما هو في الصفة لكثرتها، ولأن الصفة والموصوف كشيء واحد وإذا قلت: (زيد ابن عمرو) فجعلت " زيدا " مبتدأ وجعلت " ابن عمرو " خبرا فلا خلاف بين النحويين أن الاختيار التنوين؛ لأن الخبر منفصل من المبتدأ ولم يكثر الكلام به، وإنما يكون خبرا إذا خاطبت (به) من لا يدري، أزيد ابن عمرو أم ابن غيره فأردت إعلامه نسب زيد من أبيه وهو لا يعرفه. وأما قوله عز وجل: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ (¬1) فقد اختلف القراء في تنوين " عزير " وترك تنوينه، فأما من نون فالحجة له أن هذا خبر وليس بنعت لأن (عزيرا) مبتدأ وابن خبره. وأما من ترك التنوين فله ثلاثة أوجه، الأول منها أنه جعله صفة وأضمر الخبر أو المبتدأ فيكون تقديره: (هذا عزير ابن الله) أو " (عزير بن الله معبودنا) أو (عزير بن الله مرشدنا) ونحو هذا من التقدير. والوجه الثاني أن يكون حذف التنوين لاجتماع الساكنين كما ذكرنا في الأبيات آنفا. والوجه الثالث وهو أجودها أن يكون " عزير " اسما عجميّا منع الصرف لعجمته. وتقول: (هذا زيد بنيّ عمرو) ولا خلاف بينهم، وأبو عمرو أيضا يقوله؛ لأنه لم تكثر إضافته بالتصغير كما كثر هند بنت عبد الله في قول أبي عمرو. هذا باب النون الثقيلة والخفيفة اعلم أن كل شيء دخلته الخفيفة فقد تدخله الثقيلة، وزعم الخليل إنها توكيد ك (ما) التي تكون فضلا فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشد توكيدا. قال أبو سعيد: اعلم أن النون الخفيفة لا تدخل إلا على الفعل المستقبل والفعل المستقبل فيها على ثلاثة أقسام. قسم يلزم دخول النون فيه، وقسم يجوز دخولها فيه، وخروجها عنه وقسم لا تدخل فيه إلا ضرورة. فأما القسم الذي تلزم النون فيه فهو أن يكون الفعل في أوله اللام جوابا للقسم ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: 30.

كقولك: (والله لأضربن زيدا) ولا يجوز (والله لأضرب زيدا). إنما لزمته النون، لئلا يتوهم إنها اللام التي في خبر إن لغير قسم فيزول اللبس بدخول النون تقول: (إن زيدا ليقوم، ولينطلق) فيكون قيامه وانطلاقه يجوز أن يكون للحال، ويجوز أن يكون للمستقبل بمنزلة الفعل الذي لا لام فيه، كقولك: (زيد يقوم، وينطلق) وقد يدخل بعد هذه (اللام) عليه (السين وسوف) كما تدخل على ما لا (لام) فيه كقولك: (إن زيدا لسوف يقوم ولسيقوم)، فإذا قلت: (إن زيدا ليقومن ولينطلقن) كان هذا جوابا لليمين ولم يكن إلا للمستقبل. لا يجوز أن تقول: (إن زيدا لينطلقن الآن) كما جاز أن تقول: (إن زيدا لينطلق الآن) فكان دخول النون لازما مع اللام للفصل. وأما ما يجوز دخول النون فيه للتوكيد وخروجها عنه فالأمر والنهي والاستفهام كقولك: (اضربن زيدا) و (أضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا)، و (هل تضربن زيدا)، و (هل تضربن زيدا) وإن شئت لم تدخلها في شيء من ذلك. وأما ما لا تدخل فيه النون إلا في ضرورة فالخبر. قال سيبويه: ويجوز للمضطر: (أنت تفعلن ذاك). شبهوه بما بعد الاستفهام وبجواب اليمين وكان الفعل فيه مرفوعا مثله في الاستفهام واليمين وأنشد قول جذيمة بن الأبرش، وقد ذكرناه في الباب. ومما جاء فيه النون في كتاب الله عز وجل: وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (¬1)، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (¬2)، والخفيفة منها لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً (¬3) خفيفة، وقوله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ (¬4) وقال الأعشى: فإيّاك والأنصاب لا تقربنّها … ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا (¬5) فلا تقربنها نون ثقيلة، وفاعبدا نون خفيفة وقف عليها بالألف. وقال زهير: ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 89. (¬2) سورة الكهف، الآية 23. (¬3) سورة يوسف، الآية: 32. (¬4) سورة العلق، الآيتان: 15، 16. (¬5) البيت في ديوان الأعشى 103، وروايته: وذا النصب المنصوب لا تنسكه … ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

تعلمّن ها لعمر الله ذا قسما … فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك (¬1) فهذه الخفيفة في تعلمن. وقال الأعشى: أبا ثابت لا تعلقنك رماتنا … أبا ثابت واقعد وعرضك سالم (¬2) وهو كثير في الشعر ومما جاء في جواب اليمين، قول النابغة الجعدي: فمن يك لم يثأر بأعراض قومه … فإنّي وربّ الرّاقصات لأثأرا وهذه النون الخفيفة ولم يقل: (لأثأرن) وقالت ليلى الأخيلية: تساور سوارا إلى المجد والعلى … وفي ذمّتي لئن فعلت ليفعلا ودخول هذه النون في كل موضع دخلت فيه للاستقبال. ولا تدخل على فعل للحال. وكان الأصل في دخولها على الأمر والنهي للتوكيد، والاستفهام مضارع للأمر النهي، لأنه غير واجب وفيه معنى الأمر؛ لأنك إذا قلت: (هل تفعلن كذا؟) فإنك تستدعي منه تعريفك، ولولا ذلك ما صار جواب الاستفهام كجواب الأمر والنهي، فمن ذلك: (هل تقولنّ ذلك؟) و (أتقولنّ ذاك؟) و (كم تمكثن؟) و (انظر متى تفعلن؟) وكذلك جميع حروف الاستفهام. قال الأعشى: ¬

_ (¬1) البيت سبق تخريجه. (¬2) ديوان الأعشى 58.

فهل يمنعنيّ ارتيادي البلا … د من حذر الموت أن يأتين والشاهد في يمنعني وقال: فأقبل على رهطي ورهطك نبتحث … مساعينا حتّى ترى كيف تفعلا وزعم يونس أنك تقول: هلا (تقولن) وألا تقولن وهذا أقرب؛ لأنك تعوض فكأنك قلت (أفعل) لأنه استفهام وفيه معنى العرض ومثل ذلك: " لولا تقولن " ذاك لأنك تعوض. فصار بمنزلة الأمر والنهي؛ لأنه استدعاء كما نستدعي بالأمر، وقد تقدم الكلام في موافقة حروف الاستفهام في الأمر والنهي في باب الجزاء بما أغنى عن إعادته. ومن مواضع النون (حروف الجزاء) إذا دخلت " ما " على حروف المجازاة، لأن " ما " تدخل للتوكيد فشبهوها باللام التي في " لتفعلن " إلا أن اللام تلزمها النون، وأنت مخير في المجازاة، وذلك قولك: (أما تأتيني آتك) وأيهم ما يقولن ذاك يحبه وتصديق ذلك قوله عز وجل: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ (¬1) وقال: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً (¬2). وقد تدخل النون بغير " ما " في الجزاء وذلك قليل في الشعر شبهوا الجزاء بالنهي حيث كانا مجزومين غير واجبين وقال الشاعر: نبتم نبات الخيزرانيّ في الثّرى … حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا (¬3) الشاهد في " ينفعا " وهو جواب ولم يل " ما " وقال ابن الخوع: (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 28. (¬2) سورة مريم، الآية: 26. (¬3) البيت للنجاشي وهو من بحر الطويل انظر الخزانة: 4/ 563، العيني: 3/ 344، الدرر اللوامع: 2/ 97. (¬4) هو عوف بن عطية بن الخوع ويروى أيضا للكميت بن معروف، انظر الخزانة: 4/ 559، العيني:-

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم … ومهما تشأ منه فزارة تمنعا وقال آخر: من يثقفن منهم فليس بآئب … أبدا وقتل بني قتيبة شافي وقد يدخلون (ما) بعد " لم " حيث كانت " لم " جازمة لشبهها بالنهي والجزاء كقول الشاعر: يحسبه الجاهل ما لم يعلما (¬1) … شيخا على كرسيّه معمّما وقد يقولون: " أقسمت لما لم تفعلن " لأن هذا طلب فصار كالأمر والنهي كأنه قال: (لا تفعلن). وقد أدخلوها في أفعال مستقبلة في الخبر، وقبلها " ما " زائدة، وهو قولهم (بجد ما تبلغنّ) و (بجهد ما تنقلنّ) وفي مثل من أمثال العرب: " في عضة ما ينبتنّ شكيرها " (¬2) وقولهم في مثل آخر: " بآلم ما تختننّه " (¬3) وقالوا أيضا: " بعين ما أرينك " فشبهوا دخول ما في هذه الأشياء بدخولها في الجزاء، وجعلوا قوله: ¬

_ - 4/ 330، الأشموني: 3/ 220. (¬1) البيت من الكامل وقد نسبه البغدادي لبنت مرة بن عاهان الحارثي وهو من شواهد الكتاب: 3/ 516، الخزانة: 4/ 565، العيني: 4/ 330، الأشموني: 2/ 310، الهمع: 2/ 79. (¬2) شكرت الشجرة تشكر أي خرج منها الشكير وهو ما ينبت حول الشجرة من أصولها. والعضة: شجرة لها شوك. يضرب في تشبيه الولد بأبيه. ويروى صدر بيت من الطويل لا يعلم قائله هو: ومن عضة ما ينبتن شكيرها … قديما ويقتط الزناد من الزند انظر الأمثال للميداني: 2/ 31، المغني: 340، ابن يعيش: 7/ 103. (¬3) الأمثال للميداني: 1/ 147، المقتضب: 3/ 15.

" بجهد ما تبلغنّ " لما كان لا يبلغ إلا بجهد صار كأنه غير واجب؛ لأنه لم يبلغ على كل حال وكذا بألم ما تختننه أي لا تختن إلا بشرط الألم وهذا المثل يضرب لمن يطلب أمرا لا يناله إلا بمشقة. وقوله: (في عضة ما ينبتن شكيرها) يضرب مثلا لما كان له أصل وأمارة تدل على كون شيء آخر. وقوله بعين " ما أرينك " كأنه يقول: أتحقق الذي أراه ولا أشك فيه فهو توكيد: ودخلت " ما " لأجل التوكيد في الأشياء فشبهت باللام. وقد تدخل في الضرورة وليس معها لام. قال الشاعر وهو جديمة الأبرش: ربّما أوفيت في علم … ترفعن ثوبي شمالات (¬1) وإنما حسن هذا لأن " ما " قد زيدت في " رب " و " ترفعن " من حملتها وزعم يونس أنهم يقولون: (ربما تقولن ذاك)، و (كثر ما تقولن ذاك) لأنه فعل غير واجب و " ما " لازمة. ولا تقل: (رب تقولن)، ولا (كثر تقولن) فأشبهت عندهم لام القسم فجاز دخول النون وليس بمنزلته في القسم؛ لأن اللام إنما ألزمت اليمين ولا يجوز إطراحها. ولزمت النون اللام للعلة التي ذكرتها من الفصل لأن اللام إنما لزمت اليمين كما لزمت النون اللام وليس مع المقسم به بمنزلة حرف واحد، ولو لم تلزم اللام لالتبس بالنفي إذا حلف أنه لا يفعل ف (ما) تجيء لنسهّل الفعل بعد (رب) فلا يشبه ذا القسم. وذلك: " حيث ما تكونن آتك "، لأنها سهلت الفعل أن يكون مجازاة. وإنما كان ترك النون في هذا أجود، لأن (ما) و (رب) بمنزلة حرف واحد نحو (قد) و (سوف) و (ما) و (حيث) بمنزلة (أين) واللام ليست مع المقسم به كحرف واحد وليست ك (ما) التي في: (بألم ما تختننه) لأنها ليست مع ما قبلها بمنزلة حرف واحد؛ لأن اللام لا تسقط كما تسقطها من هذا إن شئت. أما قوله: " فما " تجيء لتسهل الفعل، بعد (رب)، يريد أن (رب) لا تدخل على الفعل. فإذا دخلت ما عليها وليها الفعل وكذلك (حيث) لا يجازى بها فإذا دخلت عليها ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش: 9/ 40، العيني: 3/ 344، المغني: 135، المؤتلف والمختلف: 39.

هذا باب أحوال الحروف التي قبل النون الخفيفة والثقيلة

ما جوزي بها. وإنما يريد بذلك الفرق بين (ربما) و (كثر ما) وبين لام القسم، لأن لام القسم تلزم فيه النون وربما لا تلزم بعد ما النون ومعنى قوله: واللام ليست مع المقسم به كحرف واحد إلى آخر الباب. يعني أن لام القسم ليست كما في (ربما) لأن (ما) و (رب) شيء واحد ولا كما ب (ألم ما تختننه) لأن (ما) بعد (ألم) زائدة لغو واللام لازمة للفعل ومنفصلة من المقسم به. هذا باب أحوال الحروف التي قبل النون الخفيفة والثقيلة قال أبو سعيد: أما فعل الواحد فإن ما قبل النون فيه مفتوح خفيفة وثقيلة وسواء كان الفعل في موضع جزم أو في موضع رفع كقولك في الجزم: (لا تضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا) وإنما فتحوا لأن النون الخفيفة ساكنة والشديدة نونان الأولى منهما ساكنة فاجتمع ساكنان الحرف المجزوم والنون الساكنة فكرهوا ضمه وكسره لأنه لو كسر لالتبس بفعل المؤنث كقولك: (لا تضربنّ زيدا)، وإن ضم التبس بالجمع كقولك للجماعة: (لا تضربنّ زيدا)، وأما في الرفع فقولك: (هل تضربنّ زيدا) (والله لأضربن زيدا) والعلة فيه كالعلة في المجزوم؛ لأنهم لو تركوا الضمة لالتبس بفعل الجماعة فأبطلوا الإعراب في الرفع كما أبطلوه في الجزم ثم فتحوه لاجتماع الساكنين وتقول في الاثنين إذا أدخلت النون الشديدة: (اضربان زيدا) أو (لا تضربان زيدا) كما قال الله: وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (¬1). فإن قال قائل: فهلا حذفوا الألف لاجتماع الساكنين هي والنون الساكنة بعدها كما حذفوا الواو في (لا تضربن) والياء في (لا تضربن) والأصل (لا تضربوا) و (لا تضربي)؟ قيل له لو حذفوا الألف للزم أن يقال: (لا تضربن يا زيدان)، فأشبه فعل الواحد المذكر فاجتنبوا اللبس وأثبتوا الألف وشبهوها بدابة فالنون المشددة بعد الألف كالباء المشددة بعد الألف في دآبة، فإذا كان في موضع رفع في تثنية أو جمع أو فعل مؤنث حذفت النون التي هي علامة الرفع لبطلان الإعراب مع دخول نون التوكيد، ولأن فعل الواحد المذكر إنما دخلت عليه النون وانفتح ما قبلها من الفعل، صار بالفتح كأنه منصوب والفعل المنصوب لا تدخل عليه النون التي هي علامة الرفع، ومن أجل اجتماع النونات أيضا؛ ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 89.

لأنك لو أثبت النون التي هي للإعراب لقلت: (هل تتّبعاننّ)، و (هل تضربوننّ زيدا) فتجتمع ثلاث نونات فحذفوها استثقالا لها ثم أسقطوا الواو في الجمع لاجتماع الساكنين وأسقطوا الياء في المؤنث لذلك فقالوا: (هل تضربنّ زيدا يا قوم)، و (هل تضربنّ زيدا يا هند) واحتج سيبويه لاستثقالهم النونات أنهم حذفوها فيما هو أشد من ذا. قال: بلغنا أن بعض القراء قال: " أَتُحاجُّونِّي " (¬1) وكان يقرأ " فبم تبشروني " (¬2) وهي قراءة أهل المدينة لأنهم استثقلوا التضعيف وقال عمرو بن معد يكرب: تراه كالثّغام يعل مسكا … يسؤ الغاليات إذا فليني (¬3) والأصل (أتحاجّونني)، و (فبم تبشّرونني) وإذا فلينني، فأسقط أحد النونين فإذا كن ثلاثا فهي أثقل، وينبغي أن تكون النون المحذوفة النون (التي مع الياء الثانية) لا التي مع الياء الأولى في (فلينني) فهي ضمير الفاعلات والنون الثانية لغير معنى لا يخل سقوطها بالكلام والنون الأولى في (أتحاجونني) و (تبشرونني) للرفع فتسقط الثانية. وإنما تسقط لدخول النون الواو المضمومة ما قبلها والياء المكسور ما قبلها كما تسقط هذه الواو والياء إذا لقيهما ما فيه ألف الوصل أو الألف واللام كقولك: " أضربوا ابن زيد يا قوم " تسقط الواو في اللفظ، و " اضربي ابن زيد يا هند " فتسقط الياء و " اضربوا القوم " و " اضربي القوم " فإن كان الواو والياء مفتوحا ما قبلهما لم يسقطا لدخول النون وحركتهما لاجتماع الساكنين كما تحركهما إذا كان بعدهما ألف وصل أو الألف واللام تقول إذا أدخت النون على (أرضوا واخشوا وارضي واخشي) (أرضونّ زيدا واخشونّ زيدا وأرضين زيدا وأخشين زيدا) كما تقول: (اخشوا القوم) و (اخشوا ابن زيد) و (أرض القوم) و (أرض ابن زيد). قال المازني: فإن قال قائل: (هلا رددتم الساكن الذاهب في اخشوا وأخشى) حين تحركت الواو والياء في اخشون و (اخشين) والساكن الذاهب كان ألف " أخشى ". وإنما سقطت لسكونها وسكون الواو، والياء، في (اخشوا واخشى) فإذا تحركت الواو والياء، فردوها، كما قلتم قل، فأسقطتم الواو لاجتماع الساكنين فإذا قيل: (قولن) رددتم الواو ولما تحركت اللام. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 80. (¬2) سورة الحجر، الآية: 54. (¬3) انظر ابن يعيش: 3/ 91، الخزانة: 2/ 445، العيني: 1/ 379، واللسان: (فلا).

هذا باب الوقف عند النون الخفيفة

فأجاب بأن اللام في (قولن) أصلها الحركة فإذا تحركت فكأنها في الأصل متحركة فرددنا الواو من أجل ذلك، وليست الواو في الجمع ولا الياء في التأنيث بمتحركتين في الأصل، فإذا حركتا لاجتماع الساكنين فكأن الحركة فيهما عارضة. فعورض هذا الجواب بأنا نقول: " قل الحق " فتحرك اللام ولا نرد الواو، وأقول أنا في هذه المعارضة: إنها تسقط لأن الساكن في " قل الحق " من كلمة أخرى، وليس يلزم لام (قل) أن يلقاها الساكن في كل حال لأنه يجوز أن يوقف عليها ثم يبتدأ ما بعدها. هذا باب الوقف عند النون الخفيفة قال أبو سعيد: اعلم أنك إذا وقفت عليها في فعل الواحد المذكر قلبتها ألفا لانفتاح ما قبلها فصار بمنزلة التنوين في الاسم المنصوب وذلك قولك: (اضربا) و (قوما) إذا وقفت كما تقول: (رأيت زيدا) و (ضربت بكرا)، وليس بينها وبين التنوين في الاسم فرق؛ لأنهما زائدان وقبلهما مفتوح وهما نونان وليست إحداهما بمنزلة حروف الأصل، كما أن نون " رعشن " و " ضيفن " ألحقتا الاسمين بجعفر. وإذا وقفت على النون الخفيفة وقبلها ضمة أو كسرة فقط سقط من بعد الضمة واو الجمع لاجتماع الساكنين وبعد الكسرة ياء التأنيث لاجتماع الساكنين، فإذا وقفت عليها لم تبدل منها عند سيبويه والخليل، وذلك أنا إنما أبدلنا الألف منها، إذا كان قبلها فتحة تشبيها بالاسم المنصوب المنون إذا وقفنا عليه فإذا كان قبلها ضمة، أو كسرة، فالاسم المضموم أو المكسور إذا كانا منونين لم يبدل جل العرب من التنوين شيئا في الوقف كقولك: " جاءني زيد " و " مررت بزيد " وهو لغة أهل الحجاز وعليه القراءة فلما لم يبدل من التنوين في المرفوع والمجرور المنونين في الوقف (كانت النون الخفيفة في الفعل أبعد من البدل في الوقف). لأنها أضعف، وذلك قولك في (اضربن زيدا يا رجال) و (اضربن زيدا يا هند) وإذا وقفت لزم أن تقول: (اضربوا واضربن)؛ لأنك حذفت النون فاحتجت أن ترد ما سقط من أجلها لاجتماع الساكنين، وهو واو الجمع وياء المؤنث. قال سيبويه- وهو يريد المعنى الذي ذكرته- وإذا وقفت عندهما- وقد أذهبت علامة الإضمار التي تذهب إذا كان بعدها ألف خفيفة أو ألف ولام- رددتها كما ترد الألف في مثنى كما ترى إذا سكت وذلك قولك للمرأة وأنت تريد الخفيفة (أضربي) والجمع (أضربوا) و (أرموا) وللمرأة (أرمي) و " (أغزي) فهذا تفسير الخليل وهو قول

العرب ويونس. قال أبو سعيد: أما قوله: وقد أذهبت علامة الإضمار يعني واو الجماعة في (اضربن) وياء التأنيث في (أضربن) وقوله: الذي تذهب إذا كان بعدها ألف خفيفة أو ألف ولام يعني بالألف الخفيفة ألف وصل في مثل ابن واسم تقول: (اضربي ابنك)، و (واضربوا ابن زيد) وفي الألف واللام: (أضربي الرجل) و (أضربوا الرجل) فتسقط الواو والياء في اللفظ لألف الوصل التي بعدها فإذا وقفت عليها عادت الواو والياء اللتان كانتا يسقطان لألف الوصل. وكذلك إذا قلت: (هذا مثنى يا هذا) ثم وقفت قلت: (مثنى) جئت بالألف وهي عند سيبويه الألف التي كانت في أصل (مثنى) وسقطت لسكونها وسكون التنوين وإذا وقفت زال التنوين فعادت الألف. وقد اختلف النحويون في الألف التي تكون في كل اسم مقصور منصرف إذا وقف عليها هل هي الألف التي كانت في أصل المقصور أو هي بدل من التنوين؟ فقال الخليل وسيبويه ومن ذهب مذهبهما: إن الألف الموقوف عليها هي ألف الأصل. وروي عن المازني وهو قول أبي العباس المبرد: إن الألف في (مثنى) و (مغزى) و (مرمى) إذا وقفت عليها هي بدل من التنوين وشبهوا ذلك بقولك: (رأيت زيدا وعمرا) لأن الألف بدل من التنوين. قال أبو سعيد: والقول ما قاله سيبويه وقد حكى أيضا عن الكسائي، والدليل على ذلك أن التنوين إنما يبدل ألفا في الوقف إذا كان قبله فتحة يليها التنوين ونحن إذا قلنا (مثنى) و (مغزى) فالفتحة قبل ألف " مثنى " و " مغزى " ثم دخل التنوين فسقطت الألف التي بين الفتحة والتنوين فإذا وقفنا لم يجز أن تبدل من التنوين ألفا وليس الشرط المسلم في بدل التنوين ألفا أن يكون بعد ألف. ومما يدل على صحة قوله أنّا إذا وقفنا على " مثنى " وغيره مما يجوز أن تمال ألفه كان لنا أن نميلها كقولك: (هذا فتى ومرمى وغيرهما). وقد قال بعض أصحابنا إنه يحتمل على مذهب سيبويه أن تبدل من التنوين ألفا فيجتمع ألفان: الألف الأصلية والألف البدل من التنوين فتسقط الألف التي هي بدل من التنوين لأنها زائدة ومن مذهبه إذا اجتمع حرفان من حروف المد واللين والثاني زائد حذف الزائد كقولك: (مصوغ ومبيع) وذلك مذكور في موضعه.

وإذا وقفت على (اخشون) و (اخشين) فمن مذهب سيبويه والخليل أن نقول (اخشى) و (أخشوا) لانهما لا يعوضان من النون لضمة ما قبلهما وكسرته فإذا حذفوا النون عاد اللفظ كما كان قبل دخولها فقلنا: (اخشى) و (أخشوا). وكان يونس يقول: أبدل من النون واوا إذا كان قبلها ضمة، وياء إذا كان قبلها كسرة فأقول: (أخشووا) و (أخشيي) فقال الخليل: لا أرى ذلك إلا على قول من قال: (هذا عمرو) و (مررت بعمري) إذا وقفت عليه. قال أبو عثمان: أهل اليمن يقولون: (هذا زيدو) وليسوا فصحاء. قال سيبويه: وقول العرب على قول الخليل وإذا وقفت عند النون في فعل مرتفع لجمع رددت النون التي تثبت في الرفع. وكذلك في المؤنث، وذلك قولك: (هل تضربن زيدا يا رجال)، و (هل تضربن زيدا يا هند) فإذا وقفت قلت: (هل تضربين) و (هل تضربون) فرددت الذاهب من أجل النون لما سقط النون لانضمام ما قبلها وانكساره ولا تقول: (هل تضربونا)، ولا (هل تضربينا) إذا وقفت، لأن الألف (إنما) تنقلب من النون في موضع النون ولا تقع نون التوكيد بعد نون الرفع، لأنه لا يجوز أن تقول: (هل تضربونن زيدا) ولا (هل تضربينن زيدا) ولو جاز ذلك لجاز أن يكون بالنون الشديدة، لأن موقعهما واحد فقلت: (هل تضربونن زيدا) و (هل تضربينن زيدا) ولا يقوله أحد. وقال سيبويه: ينبغي لمن قال بقول يونس في (أخشيى) و (أخشووا) إذا وقف على النون الخفيفة أن يقول: (هل تضربوا) فيجعل الواو مكان النون كما فعل ذلك في (أخشيى) ويسقط نون الرفع وأما النون الثقيلة فلا عمل فيها في الوقف ولا تغير لها؛ لأنها لا تنقلب في الوقف إلى غير النون. وإذا كان بعد النون الخفيفة ألف وصل أو ألف ولام سقطت ولم تحرك لاجتماع الساكنين كما يحرك التنوين وذلك قولك: (يا زيد اضرب الرجل) و (اضرب ابنك)، وإنما سقطت ولم تثبت كثبوت التنوين وتحريكه في قولك: (مررت بزيد الطويل) و (هذا زيد ابنك) لأن الاسم أقوى من الفعل وأشد تمكنا، ولأن التنوين في الاسم واجب لا يخير المتكلم بينه وبين تركه في الأسماء المنصرفة وأنت مخير في النون، إن شئت جئت بها في الفعل وإن شئت تركتها.

هذا باب النون الثقيلة والخفيفة من فعل الاثنين وفعل جميع النساء

هذا باب النون الثقيلة والخفيفة من فعل الاثنين وفعل جميع النساء قال أبو سعيد: أما الثقيلة فإنها تدخل في فعل الاثنين وفعل جميع النساء، فالاثنان كقولك: (اضربان زيدا)، وكقوله: وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (¬1) و (هل تفعلانّ ذلك) وتذهب نون الرفع هاهنا كما ذهبت في فعل الجميع. وإنما تثبت الألف في (تذهبانّ) ولا تسقط لاجتماع الساكنين لأنها لو سقطت لأشبه فعل الاثنين فعل الواحد؛ ولأن الذي بعد الألف حرف مشدد فجاز ذلك فيه، كما جاز في (دابّة) و (الضّالّين) وجعل الحرف المشدد كالحرف الواحد المتحرك، وجعل المد في الألف كالعوض من الحركة ولم يسقطوا الألف لاجتماع الساكنين كما أسقطوا الواو في (أضربنّ زيدا) و (اضربنّ زيد يا امرأة). ولو قال: (" اضربون زيدا) و (اضربين يا امرأة) لما كان خارجا عن القياس لأنهم يقولون: " تمود الثّوب " و " أصيمّ " و " مديقّ " في تصغير " أصم " و " مدق " غير أن الحذف أولى وأخف فيما لم يشكل وإذا أشكل كان الإثبات أولى فقالوا: " لا تتبعان " فأثبتوا الألف، لأنهم لو حذفوها لاجتماع الساكنين صار: " لا تتبعنّ " (ووقع لبس) وفي (اضربنّ) و (اضربنّ) لا يقع لبس. وحذفوا نون الرفع مع نون التوكيد؛ لأن الواحد في " تضربن " مبني على الفتح ونظير الفتح الذي هو النصب في المعرب حذف النون كقولك: (زيد لن يقوم يا هذا) و (الزيدان لن يقوما)، و " (الزيدون لن يقوموا) فصار حذف النون بمنزلة النصب وكذلك يصير حذف النون في المثنى بمنزلة الفتح. ومما احتج به سيبويه أنه بمنزلة (راد ويراد) جعل النون المشددة بمنزلة الدال المشددة في (يراد) ولم تسقط الألف. وقال: " ولم يكن لحاق الآخر بعد استقرار الأول ". يعني أنه لو كان إحدى النونين أو إحدى الدالين من (راد) وقعت ساكنة بعد الألف وجب حذف الألف كما وجب في (" لم يخف) و (لا تخف) ولو تحركت الفاء بعد ذلك الساكن كقولك: (لم يخف الرجل) لم ترد الألف الذاهبة بعد الفاء. فإن قال قائل: فلم تثبت الواو في (تمودّ) و (تحوّد) فيما لم يسم فاعله من قوله: مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (¬2) ولم تثبت الواو والياء في (اضربنّ) و (أضربنّ)؟ قيل له: لأن الواو في (تمودّ) وما جرى مجراه منقلبة من ألف " ماددت " فكأنها ألف ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 89. (¬2) سورة التوبة، الآية: 63.

وياء التصغير إذا حذفت لم يكن قبلها شيء يدل عليها لأن ما قبلها مفتوح فلم يحذفا لذلك والضمة والكسرة في (أضربنّ) و (أضربنّ) دليل على الواو والياء المحذوفتين. وقد اختلف النحويون في إدخال النون الخفيفة على التثنية وجمع المؤنث. فكان الخليل وسيبويه لا يريان ذلك. وكان يونس وناس من النحويين سواه يرون ذلك وهو قول الكوفيين. والذي احتج به سيبويه أنّا لو أدخلنا النون الخفيفة على الاثنين لوجب أن تقول: (اضربان زيدا) و (لا تضربان عمرا) فيجتمع حرفان ساكنان في وصل الكلام، الأول من حروف المد واللين والثاني غير مدغم في مثله ولم نر ساكنين اجتمعا في الوسط إلا على أن الأول منهما للمد واللين والثاني مدغم في مثله كقولك: (ضالة) و (دابة) و (تمودّ) و (أصيمّ) فلم يجز إدخال النون الخفيفة، ولسنا بمضطرين إليها على صورة تخرج بها عن كلام العرب. فإن قال قائل فقد يلحقه ما يوجب إدغامه فيه فأجيزوا دخوله كقولك: (اضربا نّعمان) و (اضربانّي) النون الأولى من المشددة: النون الخفيفة، والأخرى: نون نعمان والنون التي في قولنا (ني) للمتكلم. فإن قال قائل: أجيزوا هذا على هذا الوجه لأنها تقع وبعدها نون مشدد، كما قال: " لا تتبعان " وأنتم تجيزون الحرف المشدد إذا كان بعد ألف، فلا يجوز (اضربا نّعمان) و (اضربانيّ) على مذهب سيبويه وأصحابه؛ لأنا لو أجزنا هذا في (اضربا نّعمان) لوجب إجازته في غيره من الأسماء التي لا نون في أولها ويكون الحكم فيها واحدا. ألا ترى أنك تقول: (هذان عبدا الله) فتسقط ألف التثنية في اللفظ دون الخط من " عبدا " للساكن الذي بعدها. ولو قال لنا قائل قولوا: (عبدا الله) فأثبتوا الألف، لأن بعدها لاما مشددة لقلنا له قد يجوز أن نقول: (عبد الواحد) و (عبد الكريم) ولا يقع بعدها لام مشددة فلا تثبت الألف وتحذف لاجتماع الساكنين، فحمل الباب على طريق واحد. وكذلك جعل (اضربا نعمان) بإسقاط النون الخفيفة كقولك: (اضربا سعدان) و (اضربا داود) وما أشبه ذلك. ولو جاز إدخال النون في التثنية لكنا نحتاج أن نحذف ألف التثنية لاجتماع الساكنين فيصير الاثنان كالواحد. قال سيبويه: ولو أدخلنا النون على الاثنين فاتصل بها نون أخرى لكانت تعتل: تدغم

أو تحذف " في قولك: " اضرباني " لأنهم قد خففوا من مثل: " تبشّروني " و " فليني " على ما تقدم القول فيه، وليسوا بمضطرين إليه كما اضطروا إلى علامة الرفع وضمير المؤنث في قوله: " أتحاجّوني " وفي قولك: (هل تضربيني) و (فليني) وما أشبه ذلك. وما قاله سيبويه أنه لو جاز أن تقول: (اضربا نعمان) من أجل الإدغام لجاز أن تقول: (اضربا نباكما) " وأنت تريد (أضربان أباكما). وإذا ألقيت حركة الهمزة من " الأب " على النون؛ لأن النون تتحرك ويقع المتحرك بعد الألف وسيبويه يبطل هذا أيضا، لأن ذا التحريك ليس بلازم كما أن الإدغام ليس بلازم. فلا يجوز إدخال النون الخفيفة على الاثنين بوجه ولا سبب. ويذهب سيبويه إلى أن النون الخفيفة، ليست بمخففة عن الثقيلة، وكل واحدة منهما أصل في نفسها، لأنها لو كانت مخففة من الثقيلة لكانت بمنزلة نون لكن وأن المخففتين من (لكنّ) و (أنّ) وليست كذلك، لأن حكمها في الوقف يخالف حكم النون تقول: (اضربن زيدا) وإذا وقفت قلت: (اضربا) ونون (أن ولكن) لا تتغير في الوقف وأيضا فإن النون الخفيفة في الفعل إذا لقيها ألف وصل سقطت، ونون (لكن وأن) لا تسقط فعلم إنها غير مخففة من الثقيلة. قال الخليل: إذا أردت النون الخفيفة في فعل الاثنين كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة فقال قائل: وكيف يجوز أن تريد الخفيفة وأنت لا تجيز دخولها بوجه على فعل الاثنين؟ فإن الجواب في ذلك على ما ذكره بعض أصحابنا أن رجلا لا يكون من عادته إدخال النون في فعل الواحد والجماعة بضرب مما ينويه من التوكيد إذا أمر، فإذا عرف له فعل الاثنين فأراد ذلك التوكيد لم يتجاوز لفظ الاثنين بلا توكيد، وإن أراد التوكيد الذي جرت عادته به، وما قد عرف منه يغني عن إظهار ذلك في هذا الفعل، إن كان لا يجوز إدخاله فيه. ثم اجتمع سيبويه في إبطال ذلك وإبطال (اضربا نّعمان) بأنه لو جاز (اضربا نعّمان) لما وقع التشديد بعد الألف فيما لم يكن يجوز في غير نعمان لجاز أن تقول: (جيئوني) و (جيئون نعمان) إذا أردت النون الخفيفة، وذلك أنا ندخل النون الخفيفة على (جيئوا) فتقول: " جيئون يا قوم " فتحذف الواو التي كانت في (جيئوا) لاجتماع الساكنين الواو والنون فإذا وصلنا به نون المتكلم ونون نعمان اندغمت فيه النون الخفيفة ولا ترد الواو وإن كان بعدها نون مشددة، لأنها قد سقطت لاجتماع الساكنين والتشديد غير لازم.

قال: وإذا أردت النون الخفيفة في فعل الاثنين المرتفع قلت: (هل تضربان زيدا) وهذه النون نون الرفع ولا يجوز إدخال النون الخفيفة فيه، لأن إدخالها يوجب بطلان نون الرفع، وقد قلنا إنها لا تدخل ونون الرفع ثابتة. " وإذا أدخلت النون الثقيلة في جمع النساء قلت: (اضربنان زيدا)، و " هل تضربنان يا نسوة " والأصل (اضربن) و (هل تضربن) ودخلت النون المشددة، فصارت: (اضربننّ) و (هل تضربننّ) فاستثقلوا اجتماع ثلاث نونات فأدخلوا ألفا بينها، ولاستثقال هذه النونات (استثقالا) ما أجازوا حذف واحدة منها في " إنّني " و (كأنّني) و (لكنّني) حتى قالوا (إني)، و (كأني)، و (لكني). وأما النون الخفيفة فلا يجوز إدخالها على فعل جماعة النساء في قول الخليل وسيبويه ومن ذهب مذهبهما، لأنا لو أدخلنا النون الخفيفة لوجب أن نجعلها في موضع النون المشددة، ولو فعلنا ذلك أدخلنا ألفا بين نونين فقلنا (اضربنان زيدا) ولو فعلنا ذلك لوقعت النون الأخيرة ساكنة بعد ألف فتصير بمنزلتها في فعل الاثنين وقد بينا فساد ذلك. قال: وأما يونس ومن ذهب مذهبه من النحويين فيقولون في التثنية وجمع المؤنث: (اضربان واضربنان) وهذا لم يقله العرب، وليس له نظير في كلامها. لا يقع بعد الألف ساكن إلا أن يدغم ويقولون في الوقف: (اضربا واضربنا) فيمدون وهو قياس قولهم، لأنها تصير ألفا فإذا اجتمعت ألفان مد الحرف. وكان المازني والمبرد يفسران مذهب يونس كما فسره سيبويه، ويقولان: أنه يكون في الوقف ألفان. قال المازني: قياس قولهم أن يبدلوا منها في الوقف ألفا فيقول (اضربا) و (اضربنا) وكان الزجاج منكر هذا، ويقول: لو مدت الألف الواحدة وطال مدها ما زادت على الألف؛ لأن الألف حرف لا تكرر، ولا يؤتي بعدها بمثلها. والذي قاله سيبويه على قياس قول القوم: إنه يجتمع ألفان، وليس هذا بمنكر وهو أن يقدر أن ذلك المد الذي زاد بعد النطق بالألف الأولى يرام به ألف أخرى وإن لم تنكشف في اللفظ كل الانكشاف، وقد رأيناهم بنوا من الممدود شعرا من السريع، وضربه مفعولات، وحروف الروي منه همزة ساكنة وقبل الروي ردف (ألف) كنحو قولهم:

هذا باب إثبات الخفيفة والثقيلة في بنات الواو والياء التي الواوات والياءات لاماتهن

ردي ردن ورد قطاة صمّا (¬1) … كدريّة أعجبها برد الما الأبيات على أسماء ممدودة وقال الراجز: يمتسكون من حذار الإلقا … بتلعات الجذوع الشّيصا (¬2) فهذه حروف، الروي منها همزة وهي تخفف وتخفيفها في الوقف يعسر وإذا خففوها لم تكن إلا ألفا. قال سيبويه: على قياس قول القوم وما يعملونه- إذا لقي هذه النون- بعد ألف التثنية وفعل جماعة المؤنث- ألف ولام، أو ألف موصولة: " جعلوها همزة مخففة وفتحوها. ثم رد عليهم فقال: إنما القياس أن يقولوا: (أضربا الرجل)، كما يقولون في النون الخفيفة بفعل الواحد إذا كان بعدها ألف وصل أو ألف ولام، ذهبت، فينبغي أن يذهبوها لذا، ثم تذهب الألف (كما تذهب) الألف، وأنت تريد النون في الواحد. إذا وقفت فقلت: " أضربا " ثم قلت: " أضرب الرجل "، لأنهم إذا قالوا: (اضربان زيدا) فقد جعلوه بمنزلة " أضربن " زيدا فينبغي لهم أن يحذفوها إذا لقيها ألف وصل كما يحذفون النون التي في " أضربن " إذا لقيها ألف وصل فإذا حذفوها حذفوا الألف التي قبلها أيضا لاجتماع الساكنين فيبقى كلفظ الاثنين إذا لم يكن فيها نون كقولك: (اضربا الرجل) فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب إثبات الخفيفة والثقيلة في بنات الواو والياء التي الواوات والياءات لاماتهن قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان لام الفعل منه واوا أو ياء أو ألفا زائدا كان أو أصليّا فإن ذلك كله يثبت إذا دخلت النون على فعل الواحد المذكر؛ لأنه ينفتح ما قبلها ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور السريع انظر اللسان (صمم). (¬2) البيت سبق تخريجه.

هذا باب ما لا تجوز فيه نون خفيفة ولا ثقيلة

والمفتوحات من حروف العلة في هذا الباب لا تسقط، ولا تعتل وصارت النون كألف التثنية في انتفاء الواو والياء قبلها، وفي قلب الألف واوا أو ياء قبلها إذا قلت: (عصوان)، و (رحيان) وفي الفعل (رنوا) و (رميا) وأريد أن تغزوا وترميا وتخشيا فعلى ذلك تقول في النون (أرمينّ) و (أخشينّ) و (أغزونّ). قال الشاعر: استقدر الله خيرا وأرضينّ به … فبينما العسر إذ دارت مياسير (¬1) والزائد من هذا (سلقينّ) و (جعبينّ) و (تجعبينّ)، و (هل تتجعبينّ) وقد مر جملة هذا الباب فيما ذكرناه قبله. هذا باب ما لا تجوز فيه نون خفيفة ولا ثقيلة وذلك ما كان موضوعا موضع الفعل وليس بفعل أو كان فعلا في الأصل ودخل عليه ما بني معه فألزمه لفظا واحدا ومنعه من التثنية والجمع فأما ما كان موضوعا موضع الفعل وليس بفعل: (ايه) و " (مه) و (صه ") وأما ما كان فعلا في الأصل ودخل عليه ما منعه التثنية والجمع فقولهم: (هلم) في لغة أهل الحجاز يقولون للواحد: (هلم) وللاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد (هلم يا زيدان) و (هلم يا زيدون) و (هلم يا امرأة) و (هلم يا نسوة) قال الله عز وجل: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا (¬2) ولم يجمع فلا يدخل على هذا النون، لأنه خرج عن تصرف الفعل وصار بمنزلة الموضوع موضعه، وأما بنو تميم فإنهم يثنون ويؤنثون ويقولون: (هلمّا يا زيدان)، و (هلمّوا يا رجال) و (هلمّي يا امرأة) و (هلممن يا نسوة) فهؤلاء يدخلون النون فيقولون: (هلمّنّ يا زيد) ويجرون النون الداخلة عليه مجراها في (ردّنّ) وأصل هذا عند سيبويه- وقد ذكره في هذا الباب- " ها " ضم إليها " لم " كما تقول: " ردّ " على لغة بني تميم وحذفوا الألف تخفيفا. ثم اجتمع عليه أهل الحجاز وبنو تميم في اللفظ، ولم يصرفه أهل الحجاز لأنهم جعلوها معها كشيء واحد، وصرفه بنو تميم وغير سيبويه من النحويين يقول: إن أصله " هل " زاد عليه " ام " التي في معنى أقصد وحذفوا الهمزة لما جعلوهما كشيء واحد، وضموا ¬

_ (¬1) نسب هذا البيت في كتاب المعمرين: 40 لحديث بن جبلة ونسب أيضا لابن عيينة المهلبي (انظر ترجمته في معجم الشعراء للمزرباني 267). انظر شرح شذور الذهب 176، وابن الشجري: 2/ 207، والدرر اللوامع: 3/ 100. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 18.

هذا باب مضاعف الفعل واختلاف العرب فيه

اللام وألقوا عليها حركة الهمزة إذا ابتدئ بها وهذا قول قريب، وقد رأينا " هل " قد دخلت عليها (لا) فجعل في معنى التخصيص كقولهم: (هلا) فعلت ذاك، و (هلم) أمر مثل التخصيص. هذا باب مضاعف الفعل واختلاف العرب فيه قال أبو سعيد: اعلم أن المضاعف الذي أراده في هذا الباب وفي الباب الذي بعده هو حرفان في موضع واحد أحدهما عين الفعل والآخر لامه والكلام فيه على إدغام الأول منهما في الثاني أو ترك الإدغام. فإذا كان الثاني متحركا بحركة إعراب أو غير إعراب لا يوجبها ساكن يلقي الحرف من كلمة أخرى فلا خلاف بين العرب في إدغام الأول في الثاني إذا كان ذلك في فعل ماض، أو مستقبل، أو أمر قلت حروفه أو كثرت. أما الماضي فنحو (ردّ يردّ)، و (صدّ يصدّ) و (فرّ يفرّ) و (اجترّ يجترّ) و (استعد يستعدّ) و (ضارّ يضارّ) و (احمارّ يحمارّ) ويجري مستقبله مجرى ماضيه، وكان الأصل تحريك الحرف الأول على ما يلزمه في نظائره من الصحيح الذي لا تضعيف فيه كقولنا: (ضرب يضرب) و (قعد يقعد) و (استمع يستمع) و (استعبد يستعبد) و (قاتل يقاتل) ولكنهم استثقلوا تكرير حرف من جنس الذي قبله فيثقل؛ لأن اللسان عند التصويت يحتاج إلى انبساط في حركاته في نطقه، وإذا اقتصر على النطق من موضع واحد انحصر وثقل ولذلك قل أن يوجد في كلام العرب ثلاثة أحرف متوالية من جنس واحد، وقل أيضا أن يوجد حرفان من جنس واحد بينهما حرف ساكن نحو (الفلق) و (السلس) وما جرى مجراه. وإذا كان الحرف الذي بينهما من حروف المد واللين كان أخف وأكثر كقولنا: (سوس) و (داد الطعام) و (أداد) و (قاق) و (قوق) و (طاط) و (طوط) وما أشبه ذلك؛ لأن حرف المد الذي بينهما بامتداد الصوت فيه يبعد بين الحرف الأول والثاني قليلا وإذا أدغم كان أخف، لأن إخراجهما بالإدغام كالنطق بهما دفعة واحدة. ومما يجب فيه الإدغام أن تلحقه علامة التثنية أو الجمع بالواو أو التأنيث بالياء كقولنا: (ردّا) (يردّان) و (ردّا) و (ردّوا) (يردّون) و (ردّوا)، و (ردّي يا امرأة) و (ضارّي زيدا) و (استعدّي) وهذا لا خلاف بين العرب في شيء منه. فإذا لحق الواحد جزم وسكن الحرف الأخير منه للجزم فأهل الحجاز يظهرون وبنو تميم وكثير من العرب سواهم يدغمون.

وذلك قول أهل (الحجاز): أردد وإن تضارر أضارر وإن تستعدد استعدد. وإن تحرك الثاني لساكن يلقاه من كلمة أخرى لم يتغير إظهار الحرفين ولا يدغمون؛ لأن التحريك ليس بلازم كقولك: (اردد الرجل) و (أن تستعدد اليوم استعدد) يدعونه على حاله ولا يحفلون بالتحريك، لأنه لا يلزمه أبدا أن يلقاه ساكن وبنو تميم ومن تبعهم يقولون (رد وفر وعض وإن تردّ أردّ) وقد جاء القرآن باللغتين جميعا، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ (¬1) وقال تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ (¬2) فإذا أدغم الحرف الأول في الثاني وكان قبل الحرف الأول منهما ساكن ألقوا حركة الأول على الساكن الذي قبله كقولك: (ردّ يردّ وعضّ يعضّ وفرّ يفرّ) وكان الأصل (يردد ويعضض ويفرر). وكذلك إذا قلت (استعد يستعد) فأصله (استعدد يستعدد) فإذا ألقيت حركة الأول منهما على الساكن الذي قبله وكان قبل ذلك الساكن ألف وصل سقطت لتحرك ما بعدها والاستغناء عنها وذلك قولك: (ردّا) و (ردّوا) و (عضّا) و (عضّوا) و (فرّا) و (فرّوا) و (ردّي) و (عضيّ) و (فريّ) والأصل: (ارددا) و (اعضضا) و (ارددوا) و (اعضضوا) و (اعضضي)، فلما ألقيت حركة الدال الأولى على الراء من (ارددا) فتحركت الراء سقطت ألف الوصل للاستغناء عنها. فإن كان بين الحرف الذي ألقيت عليه الحركة وبين ألف الوصل حرف آخر لم يسقط لأن الساكن الذي بعد ألف الوصل بحاله وذلك قولك: (اطمأنّ) و (اقشعرّ) و (اطمئنّوا) و (" استعدّوا) " لأنك إذا قلت: (اقشعر) و (اطمأن) فأصله (اقشعرر) و (اطمأنن) فألقيت حركة الراء الأولى من (اقشعرر) على العين والنون الأولى من (اطمأنن) على الهمزة وبين العين من (اقشعرّ) وألف الوصل حرفان فلم تغير ألف الوصل، لأن الساكن الذي بعدها بحال ومن ذلك (اجترّ) و (احمرّ) و " (انقدّ) أصله (اجترر) و (احمرر) و (انقدد) ولما أدغمت لم تغير الألف ولم تزد على الإدغام شيئا ولم تلق حركة المدغم على ما قبله، لأنه متحرك فتركته على حاله كما قلت: (رد) و (ردوا) وأصله (ردد) و (رددوا) ولما أدغمت لم تغير. وإذا كان الساكن الذي قبل الحرف المدغم ألفا لم تحذفها إذا أدغمت وذلك في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 217. (¬2) سورة البقرة، الآية: 282.

هذا باب اختلاف العرب في تحريك الحرف الآخر لأنه لا يستقيم أن يسكن هو والأول (من غير أهل الحجاز)

ثلاثة أبنية في (فاعل) و (تفاعل) و (افعالل) فأما (فاعل) فنحو (ضارّ يضارّ) و (عاضّ يعاضّ) و (حادّ يحادّ) ولو أسقطوا الألف لالتبس وتدخل عليه التاء فيصير (تفاعل يتفاعل) وكقولك (تمادوا يتمادون) و (تعاضوا يتعاضون) " وأما " افعالّ " فنحو (احمارّ يحمارّ) و (اشهابّ يشهابّ) و (ادهامّ يدهامّ) فاعرفه. هذا باب اختلاف العرب في تحريك الحرف الآخر لأنه لا يستقيم أن يسكن هو والأول (من غير أهل الحجاز) قال أبو سعيد: اعلم أن العرب من غير أهل الحجاز إذا أدغموا في الجزم كانوا في حركة الحرف الأخير على مذاهب: فمنهم من يتبع الحرف الأخير ما قبل الحرف المدغم فيه إن كان مضموما ضمه وإن كان مكسورا كسره وإن كان مفتوحا فتحه وذلك قولك في المضموم: (ردّ يا هذا) و (لم يردّ زيد) وعلى هذا قراءة من قرأ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ (¬1) وهو في موضع جزم وتقول في المكسور: (فرّ يا هذا) و (فرّ يا هذا) و (استعدّ) و (اطمئنّ) وتقول في المفتوح: (عضّ يا هذا) و (إن تعضّ أضربك) و (إن تعدّ تعدّ معه) ومثله (اجترّ) و (احمرّ) و (ضارّ زيدا)، و (مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ) (¬2) يفتح ذلك فيما قبله ألف، لأنك تفتحه فيما قبله فتحة، والألف أجدر، لأن الفتحة منها ولا يتغير ذلك إلا أن يدخل عليها ألف التثنية فتفتحها كقولك: (ردّا وفرّا وعضّا) أو ياء التأنيث فتكسرها كقولك: (ردّي وفرّي وعضّي) أو واو الجماعة فتضمها كقولك: (ردّوا وفرّوا وعضّوا). قال سيبويه: فإذا جاءت الهاء والألف فتحوا أبدا يعني في قولك (ردّها) و (عضّها) و (استعدّها). قال: وسألت الخليل لم ذلك؟ فقال: لأن الهاء خفية فكأنهم قالوا: (ردّا وأمدّا) أراد أنهم لم يعتدوا بالهاء لخفائها. قال: " وإذا كانت الهاء مضمومة ضموا كأنهم قالوا: (مدّوا) و (عضّوا) إذا قالوا (مدّه) و (عضّه). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 120. (¬2) سورة التوبة، الآية: 63.

وقد يتغير أيضا حكمه إذا جئت بالألف واللام والألف الخفية فتكسر في الموضع الذي لا تكسره فيه إذا لم تكن ألف ولام وهو قولهم (رد الرجل) و (غضّ الطرف) و (عضّ القوم) وما أشبه ذلك. وإنما كسروا هذا على الأصل، لأن الأصل في (غضّ الطّرف) (اغضض الطرف) و (أعضض القوم) فتكسره كما تكسر (اضرب الرّجل) و (اضرب ابنك) ولا خلاف في هذا، فكأنهم إذا بقي المجزوم ألف ولام أو ألف خفية اتفقوا على لغة أهل الحجاز وهو الأصل وأقول في هذا وإن الذي يقول: (ردّ) و (عضّ) و (فرّ) كان الأصل فيه (اردد) و (افرر) و (أعضض) فلما أرادوا الإدغام أدغم الحرف الأول في الثاني الذي هو ساكن للجزم أو للأمر وألقى حركة الأول على ما قبله فأسقط ألف الوصل كما بينا ثم اجتمع ساكنان الحرف المدغم والحرف الذي بعده الساكن بالجزم أو بالأمر فاحتاج أن يحركه لا لشيء يلقاه بعده فذهبوا به مذهبين منهم من بناه على الفتح كما بنوا (ثم) و (أين) و (كيف) ومنهم من اتبع كما قالو (منذ) ومنهم من كسر كما قالوا (أمس) و (جبر)، فإذا لقيه ألف ولام أو ألف وصل ليس معها لام التعريف وهي الألف التي يسميها سيبويه الألف الخفية، قدر بعضهم تقديرا غير هذا فجعل الأصل كأنه قال: (أردد الرّجل) و (أعضض القوم) و (أمدد ابنك) و (أعدد اسمك) فتكسر لألف الوصل الذي بعده، وهي توجب كسر ما قبلها من السواكن ثم تدغم بعد ذلك على الترتيب الذي ذكرناه. وإنما سمي سيبويه ألف الوصل التي لا لام معها الألف الخفية، لأنها تسقط في حال وتثبت في حال فيكون سقوطها في حال خفية لها وشبه كسر من كسر (رد الرجل) و (غضّ الطرف) على الأصل بقولهم: (مذ اليوم) و (ذهبتم اليوم) لأن (مذ) مخففة من (منذ) و (ذهبتم) مخففة من (ذهبتمو). فإذا احتيج إلى تحريك ذلك حركوه بالحركة التي يوجبها الأصل. قال سيبويه: ومنهم من يفتح إذا اجتمع ساكنان على كل حال إلا في الألف واللام والألف الخفية وهم من بني أسد وغيرهم من (بني) تميم. يعني أنهم يقولون: (مدّ يا فتى) و (إن تردّ أردّ) و (فرّ) و (عضّ) يختار الفتح كما اختير في " أين " و " كيف " و " ثم " لخفتها ولم يتبع الآخر الأول كما أتبعه من ذكرنا أولا، والذين أتبعوا شبهوه بقولهم في الرفع: (أمرؤ) و (أبنم) وفي الخفض (امرئ) و (ابنم) وفي النصب (امرأ) و (ابنما).

ومن العرب من إذا جاء بالألف واللام والألف الخفيفة تركه على حاله مفتوحا في جميع الأشياء ك (أين). وقد ذكر يونس أنه سمعهم يقولون: فغضّ الطّرف إنّك من نمير … ... (¬1) كأنهم حركوه بالفتح من قبل أن يلقاه الألف واللام ثم دخل عليه الألف واللام وهو مفتوح وقد أجمعت العرب على فتح " هلم " على كل حال؛ لأنه ضعف تمكنه وتصرفه بما ضم إليه فألزموه أخف الحركات كما اجتمعوا على فتح الدال من (رويد) وقد مضى نحوه. " ومن العرب من يكسر هذا أجمع على كل حال فيجعله بمنزلة (اضرب الرجل) فيقول: " رد " و " عض " و " فر " وإن لم يلقه ألف وصل على قياس الكسرة في اجتماع الساكنين وهم (كعب) و (غنى) (¬2) ولا يكسر أحد " هلم " لما ذكرته فإذا اتصلت نون جماعة المؤنث وتاء المتكلم بالفعل سكن ما قبلها وأجمع على ذلك جل العرب من أهل الحجاز وبني تميم وأكثر العرب فيقولون: (رددت) و (هن يرددن) و (يضربن) و (يذهبن) ولزم بنو تميم وغيرهم الإظهار في هذا؛ لأن الحرف الثاني لزمه سكون يؤمن من الحركة فيه لساكن يلقاه من بعد كما يلقاه في قولك: (اردد الرجل) و (اضرب القوم) فلما كان الحرف المتصل به منعه ذلك لم يحركوه بحال. وزعم الخليل وغيره أن ناسا من بكر بن وائل وغيرهم يقولون: (ردّنّ) و (مرنّ) و (ردّت) جعلوه بمنزلة (ردّ) و (مر ") كأنهم أدخلوا النون والتاء على حرف قد أدغم فيه ما قبله فكرهوا نقض بنية الحرف. وهذه لغة رديئة فاشية في عوام أهل بغداد. قال سيبويه: فأما " ردّد " ويردّد " فلم يدغموه لأنه لا يجوز أن يسكن حرفان ¬

_ (¬1) شطر بيت لجرير وتمامه: فلا كعبا بلغت ولا كلابا انظر ديوانه: 75. (¬2) بنو كعب: بطن من خزاعة، وبطن من عذرة، وبطن من عامر بن صعصعة. انظر ابن خلدون في العبر: 2/ 315، بنو غني: بطن من بني عروة بن الزبير بن العوام من بني أسد بن عبد العزى من قريش العدنانية. انظر البيان والإعراب: 46، 47، الجمهرة: 396، 398.

هذا باب المقصور والممدود

فيلتقيا ولم يكونوا ليحركوا العين الأولى؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لم ينجوا من أن يرفعوا ألسنتهم مرتين فلما كان ذلك لا ينجيهم أجروه على الأصل ولم يجز غيره. يريد أنا لو أدغمنا الدال الثانية من (ردّد) و (يردّد) في الدال الثالثة لوجب أن تلقي حركتها على الدال الأولى فنقول: (رددّ) و (يرددّ) وكذلك كل ما كان على (فعّل يفعّل) من هذا نحو (عضّض يعضّض) ولو فعلنا هذا لم ننج من ذكر حرفين أحدهما غير مدغم في الآخر؛ لأن العين الأولى إذا وقعت عليها حركة العين الثانية واندغمت العين الثانية في لام الفعل، فقد ظهرت العين الأولى غير مدغمة والحرف الذي بعدها غير مدغم، وإنما يريد بالإدغام التخفيف، فإذا أدغمنا (ردّد) و (عضّض) فالذي نكرهه من إظهار الحرفين نقع في مثله. وذكر سيبويه: " أن الشعراء إذا اضطروا إلى إظهار المدغم وإخراجه على الأصل فعلوا ذلك ". وأنشد ما قد ذكره في أول الكتاب من الضرورة كقول قعنب ابن أم صاحب: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي … أنيّ أجود لأقوام وإن ضننوا (¬1) وقال الآخر: تشكو الوجى من أظلل وأظلل (¬2) وقد ذكرناه في موضعه. هذا باب المقصور والممدود ويقال للمقصور- أيضا- منقوص، فأما قصرها فهو حبسها عن الهمزة بعدها وأما نقصانها فنقصان الهمزة منها. قال أبو سعيد: اعلم أن المقصور والممدود كل واحد منهما على ضربين فأما ضربا المقصور فأحدهما أن يقع واو أو ياء طرف الاسم وقبلها فتحة فتنقلب ألفا ولا يدخلها إعراب لأنها لا تتحرك، فإذا احتيج إلى تحريكها في التثنية ردت إلى الأصل الذي منه ¬

_ (¬1) البيت في الخصائص: 1/ 160، 257. شرح شواهد المغني 490، ابن يعيش: 3/ 12، الموشح: 94. (¬2) البيت للعجاج انظر ديوانه: 47، والخصائص: 1/ 161، شواهد الشافية: 491.

انقلبت الألف إن كانت واوا ردت إلى الواو وإن كانت ياء ردت إلى الياء. فأما الواو فنحو قولك (رجا) و (عصا) و (قفا) ورجا الشيء: جانبه إذا ثنيت قلت (رجوان ") و (عصيان) و (قفوان) وفي (منا الحديد) (منوان) وكان أصل ذلك (منو) و (عصو) وأما الياء فنحو (رحى) و (فتى) إذا ثنيت قلت: (رحيان) و (فتيان) لأن الأصل في (رحى) و (فتى) وقد تدخل الألف زائدة غير منقلبة من شيء، فإذا دخلت زائدة فإنما تدخلت للتأنيث أو للإلحاق على ما عدته ثلاثة أحرف أو أكثر فإذا احتجت إلى تثنية ذلك ثنيته بالياء على كل حال؛ لأن الواو لا تثبت فيما زاد عدته على ثلاثة أحرف وتنقلب ياء فصار الباب فيما لم يكن له أصل أن يرد إلى الياء إذ كانت الواو لا تثبت في ذلك وإذ كانت الألف لا تتحرك. وأما ألف التأنيث فنحو (حبلى) و (سكرى) و (حبارى) و (جمادى) فإذا ثنيت قلت: (حبليان) و (سكريان) و (حباريان) و (جماديان). وأما ما زيدت الألف فيه لغير التأنيث نحو (أرطي) و (حبنطي) و (قبعثرى) فإذا ثنيت قلت: (أرطيان) و (حبنطيان) و (قبعثريان) كما ذكرته لك. وقد جاء في حرف نادر التثنية بالواو مما زاد على ثلاثة أحرف وذلك قولهم: (مذروان) وكان القياس أن يقال: (مذريان) كما يقال (ملقيان) و (ملهيان) وما أشبه ذلك، وإنما جاء بالواو لأنه لا يفرد له واحد، وينبني على التثنية بالواو كما يبنى على الواو إذا كان بعدها هاء التأنيث في قولهم: (شقاوة) و (غباوة) و (قلنسوة) و (عرقوة) ولولا الهاء لانقلبت الواو فجعلوا لزوم علامة التثنية في بنات الواو كلزوم الهاء. وأما ضربا الممدود فأحدهما أن يقع واو أو ياء طرفا وقبلها ألف فتنقلب همزة والهمزة إذا كانت طرفا وقبلها ألف في اسم سمي ممدودا وذلك قولك: (عطاء) و (كساء) و (رداء) و (ظباء) والأصل (عطاو) و (كساو) لأنه من (عطوت) و (كسوت) وأصل (رداء) و (ظباء)، (رداي) و (ظباي) لأنه من حسن الرّدية، ومن قولك: (ظبي). وأما الضرب الآخر من الممدود، فإن تقع ألف التأنيث وقبلها ألف زائدة، فلا يمكن اجتماع الألفين في اللفظ، ولا يجوز حذف أحدهما فيلتبس المقصور بالممدود فتنقلب الثانية، التي هي طرف همزة؛ لأنها من مخرج الألف فيصير الاسم ممدودا، لوقوع الهمزة طرفا، وقبلها ألف وذلك نحو (حمراء) و (صفراء)، و (فقهاء) و (أغنياء) وما أشبه ذلك. ويدخل الممدود الإعراب، لأن الهمزة تتحرك بوجوه الحركات. واعلم أن بعض المنقوص يعلم بقياس، وبعضه يسمع من العرب سماعا فأما ما يعلم

بقياس، فأن تعرف أن نظيره من الصحيح قبل آخره حرف مفتوح، وذلك (معطى) و (مشترى) و (مغزى) و (ملهى) و (مسلنقى) هذه مقصورات ونظير " معطى ": (مخرج) ونظير " مشترى ": (معترك) و (مستمع) لأنه مفتعل، ونظير " مغزى " و " ملهى " (مفعل) مثل (مضرب) و (مطرح) و (مطرف) و (مخرج) و (مسلنقى) نظيره: " محرنجم " ونظير (مسلقى) " مدحرج " لأن (اسلنقيت) مثل (احرنجمت) و " سلقيت " مثل (دحرجت) و (عمى) و (عشى) و (قنى) من قنى الأنف مقصورات، لأنك تقول للأعشى به (عش) وللأعمى به (عمى) وللأقنى به (قنى) فيكون كقولك للأحول به (حول) وللأصلع به (صلع) فعمى وقنى بمنزلة (فعل). ومن ذلك أيضا أن ما كان على (فعل يفعل) وهو (فعل) يكون مصدره على (فعل) كقولك: (فرق يفرق فرقا) وهو (فرق) و (كسل يكسل كسلا) وهو (كسل) و (لحج يلحج لحجا) وهو (لحج) إذا نشب في شيء. فإذا جاء من نظير هذا من المعتل شيء علمت أن مصدره مقصور كقولك: (هوى يهوى هوى) و (هو هو) و (" ردي يردى ردى) وهو (رد) ومعناه (هلك) و (الرّدى) مقصور: الهلاك، و (لوي يلوى لوى) وهو (لو) " والّلوى مقصور وهو وجع الجوف، و (صدى يصدى صدى) " وهو (صد)، والصّدى: العطش، و " (كري يكرى كرى) وهو (كر) والكرى: النوم و (غوي الصّبر يغوى غوى) وهو (غو) والغوى: أن يشرب اللبن حتى تخثر نفسه. ومن ذلك أن يكون على (فعل يفعل) وفاعله على " فعلان " نحو: (عطش يعطش عطشا) وهو (عطشان) و (ظمي يظمى ظما) وهو (ظمآن) و (غرث يغرث غرثا) وهو (غرثان) ونظيره (طوي يطوى طوى) إذا جاع وهو " (طيّان) وصدي يصدى صدى) وهو (صديان) إذا عطش. قال سيبويه: وقد قالوا: (غري يغرى غرى) وهو (غر) والغراء ممدود شاذ كما قالوا (الظّماء). قال أبو سعيد: الغراء ممدود. وقد اختلف فيه أهل اللغة فأما الأصمعي فكان يقول: (غرى) مقصور، وكان الفراء يقول: (غراء) ممدود وقول كثير ينشد على وجهين:

إذا قيل مهلا فاضت العين بالبكا … غراء ومدّتها مدامع نهّل (¬1) فمد غراء ومن الناس من ينشد: إذا قيل مهلا فاضت العين بالبكا … غراء ومدّتها مدامع نهّل فجعلت " غارت " فاعلت كأنه قال: (غارى يغارى) وكسر الغين من (غراء)، لأنه مصدر فاعل يفاعل كما تقول: (رامي يرامي رماء) و (عادى يعادي عداء) وبعض أصحابنا يقول: إن (غرى): هو المصدر والغراء: الاسم، وكذلك يقول في (الظّماء) كما يقول (تكلّم كلاما) وإنما المصدر (تكلم تكلّما) والكلام الاسم للمصدر على غير الفعل. والذي عندي أنه حمل على ما جاء من المصدر على (فعال) كقولك: (ذهب ذهابا) و (بدأ بداءة) وهو على كل حال شاذ كما ذكره سيبويه، وذكر أشياء من المصادر قد ذكرناها في باب المصدر بما أغني عن ذكره. وأما نظائر الممدود فنحو (استخرجت) و (استمتعت) و (أكرمت) و (احرنجمت) وما جر مجراه مما يكون قبل آخر مصدره ألف، وذلك الاستخراج والاستمتاع والإعطاء والاحرنجام ونظائره من المعتل الممدود (الاشتراء) و (الإعطاء) و (الاحبنطاء) و (الاستسقاء)؛ لأن نظير (استسقيت): " استخرجت " و (أعطيت) نظير (أكرمت)، و (احبنطيت) نظير (احرنجمت). ومما يعلم أنه ممدود أن تجد المصدر مضموم الأول ويكون للصوت نحو (الدّعاء) و (الزّقاء) وقياسه من الصحيح (الصّراخ)، و (النّباح) و (البغاح) و (الصّياح) و (النّهاج) وهو أكثر من أن يحصى. و (البكاء) يمدّ ويقصر، فمن مده ذهب به مذهب الأصوات، ومن قصر جعله كالحزن ولم يذهب به مذهب الصوت ونظيره من المصادر (الهدى) والسّرى: وليسا بصوتين ويكون (فعال) أيضا للعلاج فما كان منه معتلا فهو ممدود نحو (النزاء) ¬

_ (¬1) انظر شرح المفصل لابن يعيش: 6/ 38، وشرح الشواهد للعيني: 4/ 509، والبيت ليس في ديوان الشاعر ولا ملحقاته.

هذا باب الهمزة

و (الغناء) و (الهواء) ونظيره من غير المعتل: (القماص). وقلما يجيء مصدر على فعل بل لا أعرف غير (الهدى) و (السرى) و (البكا) المقصور فهذه وجوه من المقصور والممدود دل القياس على القصر فيها، والمد من نظائرها. ومنها ما لا يقال له: مدّ لكذا ولا يطرد له قياس وإنما تعرفه بالسمع فإذا سمعته علمت في المقصور أنه ياء أو واو وقعت طرفا فقلبت ألفا كقولك: (قلى يقلي قلى) على (فعل)، و (رضي يرضى رضا) وغير ذلك مما لا يعرف إلا بالسماع. ومن الممدود قولهم " الألاء " وهو نبت و (المقلاء) وهي خشبة يلعب بها الصبيان. وقد يدل الجمع على المقصور والمدود فإذا رأيت جمعا على أفعلة علمت أن واحده ممدود فتستدل بالجمع على الواحد كقولك في جمع فناء: " أفنية " وفي " رشاء " (أرشية)، وفي (سماء): " أسمية " فذلك " أفعلة " على مد الواحد، لأن " أفعلة " إنما هي جمع (فعال) أو (فعال) أو (فعال) كقولك: (قذال) و (أقذلة) و (حمار) و (أحمرة) و (غراب)، و (أغربة) وقالوا: (ندى) و (أندية) وهو فيما ذكره سيبويه. والذي أوجب الكلام فيه البيت الذي أنشدوه فيه: في ليلة من جمادى ذات أندية … لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا (¬1) وفيه ثلاثة أوجه منهم من يقول: (أندية) جمع (نديّ) وهو المجلس الذي يجتمعون فيه ليتحاضوا على إطعام الفقراء. ومنهم من يقول: إنه جمع (ندي) على (نداء) كما قالوا: (جمل) و (جمال) و (جبل) و (جبال) ثم جمع (فعال) على (أفعلة) ومنهم من قال إنه شاذ وإذا رأيت الواحد على (فعلة) أو (فعلة) ثم جمع مكسرا كان الجمع مقصورا؛ لأن (فعلة) يجمع على (فعل) و (فعلة) يجمع على (فعل) و (فعل) نظيره؛ لأن قبل آخره فتحة، ولك قولهم: (عروة) و (عرى) و (فرية) و (فرى) نحو (ظلمة) و (ظلم) و (قربة) و (قرب). هذا باب الهمزة قال سيبويه: اعلم أن الهمزة يكون فيها ثلاثة أشياء: التحقيق، والتخفيف، ¬

_ (¬1) البيت من البسيط وقائله مرة بن محكان من قصيدة له في شرح الحماسة: 4/ 123، 129، وانظر الخصائص: 3/ 52، وشرح شواهد الشافية: 277.

والبدل. فالتحقيق قولك: (فرأت)، و (رأس)، و (سأل) و (لؤم) و (يئس) وأشباه ذلك. قال أبو سعيد: أنا أقدم جملة موجزة في تخفيف الهمزة والبدل منها على مذهب سيبويه قبل ذكر كلامه فيما بعد، لأوطّئ بها من جامح كلامه، ومستصعب حكم الهمزة، واذكر ما خالفه فيه غيره في الموضع الأشكل به إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: اعلم أن الهمزة إذا وقعت أولا ولا كلام قبلها فهي محققة لا غير، مضمومة كانت أو مفتوحة أو مكسورة نحو همزة: (أب) و (أم) و (إبل) وهي لا تعد وإذا وقعت غير أول ثلاثة أوجه: إما أن تكون ساكنة، وقبلها متحرك. أو متحركة وقبلها ساكن. أو متحركة، وقبلها متحرك. فإن كانت ساكنة، وقبلها متحرك وأردت تخفيفها فإنك تقلبها إلى الحرف الذي منه حركة ما قلبها فإن كان ما قبلها مفتوحا قلبتها ألفا كقولك في (رأس): (راس)، وفي (فأس): (فاس) وفي (قرأت): (قرات) وإن كان ما قبلها مكسورا قلبتها ياء كقولك (ذئب): (ذيب) وفي (بئر) (بير) وفي (جئت) (جيت). وإن كان ما قبلها مضموما قلبتها واوا كقولك في (جؤنة) (جونة) وفي (لؤم) (لوم) وفي (سؤب) (سوب). وإذا كانت متحركة، وقبلها ساكن فإنها تنقسم قسمين، فإن كان الساكن الذي قبلها من حروف المد واللين فإنك تقلبها إلى ما قبلها وتدغم ما قبلها فيها إن كان ما قبلها ياء قلبتها ياء كقولك في (خطيئة): (خطيّة) وفي (بريء): (بريّ). وإن كان ما قبلها واو قلبتها واوا كقولك في (مقرؤة): (مقروّة) وفي (أزد شنؤه): (أزد شنوّه) وإن كان ما قبلها ألفا جعلتها بين بين، ولم تقلبها ألفا كما قبلتها واوا، لأنه لا يجتمع ألفان ولأن الألف لا تدغم في الألف كقولك في (ساءل): (سال)، وفي (التساؤل): (التساول) وفي (قائل): (قايل) ومعنى قولنا بين بين في هذا الموضع وفي كل موضع يرد بعده من الهمز أن تجعلها من مخرج الهمزة ومخرج الحرف الذي منه حركة الهمزة، فإذا كانت مفتوحة جعلناها متوسطة في إخراجها بين الهمزة وبين الألف؛ لأن الفتحة من الألف وذلك قولك (في) " سأل " إذا خففنا: (سال)، وفي (اقرأ يا فتى) إذا خففنا " إقرأ " وإذا كانت مضمومة فجعلناها بين بين أخرجناها متوسطة بين الهمزة والواو كقولنا: (لؤم)

في تخفيف (لؤم) فإذا كانت مكسورة جعلناها بين الياء وبين الهمزة وذلك قولنا في تخفيف (قائل)، (قايل) فهذا أحد الوجهين فيها إذا كانت متحركة وقبلها ساكن. والوجه الآخر أن يكون الساكن الذي قبلها من غير حروف المد واللين فإذا كان كذلك فحكمها والحد فيها أن تلقى حركتها على ما قبلها وتحذف كقولنا في (مسألة) (مسلة) وفي (مرأة) (مرة) وفي (مرآة) (مراة). وفي قولك: (من أبوك؟): " من أبوك؟ " و (من أمك؟): (من أمّك) وفي: (من إبل) (من أبل). وإن كانت متحركة وقبلها متحرك فانك تجعلها بين بين في كل حال إلا حالين وهما أن تكون مفتوحة وقلبها كسرة أو ضمة، فإن كانت ضمة قلبتها واوا محضة. وإن كانت كسرة قلبتها ياء محضة، فأما حالها بين بين فنحو: (سال) و (لوم) و (سيل) و (ديل) و (شوون) و (رووس) ومن ذلك " يستهزيون " فالهمزة في هذا أجمع إذا خففته عند سيبويه جعلته بين بين على ما عرفتك. وأما إذا كان قبلها كسرة وهي مفتوحة فنحو قولك: (مئر) جمع (مئرة)، وهي التضريب بين القوم والفساد، يقال (مأرت) و (مأست) بينهم: إذا ضربت بينهم، فتخفيف هذا أن تقول: (مير) وتخفيف (جؤن) جمع جؤنة (جون). فإن قال قائل: لم قلبتها في هذه المواضع ياء محضة، واوا محضة وجعلتها بين بين فيما قبل؟ فالجواب في ذلك أن يقال إن همزة بين بين إنما هي الهمزة في الحرف الذي منه حركتها فإذا كانت مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة لم يستقم أن تجعلها بين بين وتنحو بها نحو الألف، لأنها مفتوحة والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا فقلبناها واوا محضة. وقد كان الأخفش يقلبها أيضا ياء، إذا كان قبلها كسرة، وهي مضمومة ولا يجعلها بين بين وذلك نحو (يستهزئون) إذا خففها قال: " يستهزيون " واحتج بأن همزة بين بين تشبه الساكن للتخفيف الذي لحقها. قال: وليس في الكلام كسرة بعدها واو ساكنة فلذلك جعلها ياء محضة، لأنه لو جعلها بين بين لكان قد نحا بها نحو الواو الساكنة وقبلها كسرة. والهمزة إذا كانت أولا فهي لا تجعل بين بين وذلك أن الابتداء لا يقع إلا بمتحرك، وإذا جعلت بين بين قربت من الساكن وإن كانت متحركة في التحصيل، ولا يبتدأ إلا بما قد تمكنت فيه حركته وقد قال أهل الكوفة لهذه العلة بعينها إنها ساكنة واحتج سيبويه على إنها متحركة وإن كانت قد خففت وأخفى حركتها ضربا من الإخفاء بحجة لا يستطاع

دفعها وهو إنها قد تقع مخففة بين بين في الشعر وبعدها ساكن في الموضع الذي لو اجتمع (فيه ساكنان) لانكسر البيت ولم يتزن كقول الأعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضرّبه … ريب المنون ووهر مفسد خبل (¬1) فالنون ساكنة وقبلها همزة مخففة بين بين فعلم إنها متحركة لاستحالة اجتماع الساكنين في هذا الموضع. قال: وإنما جعل هذه الحروف بين بين ولم تجعل ألفات ولا ياءات ولا واوات، لأن أصلها الهمزة فكرهوا أن يخففوا على غير ذلك فتحول عن بابها فجعلوها بين بين ليعلموا أن أصلها عندهم الهمز. يعني أن الهمزة التي حكمها أن تجعل بين بين لم تقلب واوا محضة ولا ياء محضة؛ لئلا تخرج عن حكم الهمزة في جميع وجوهها، فأبقوا فيها بقية من آثار الهمزة على ما قدمنا وصفه. قال: وإنما منعك أن تجعل هذه السواكن بين بين إنها حروف ميّتة وقد بلغت غاية ليس بعدها تضعيف ولا يوصل إلى ذلك ولا تحذف؛ لأنه لا يجيء أمر تحذف له السواكن فألزموا البدل كما ألزموا المفتوح الذي قبله كسرة أو ضمة البدل. قال أبو سعيد: يعني أن الهمزة إذا كانت ساكنة وقبلها متحرك نحو (رأس) و (ذئب) و (لؤم) إذا خففنا قلبناها ألفا أو ياء أو واوا على ما وصفنا ولم نجعلها بين بين؛ لأن معنى قولنا بين بين إنها بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها، فلما وقعت ههنا ساكنة لم تتعلق بحرف آخر يجعلها بين الهمزة وبين ذلك الحرف وأيضا إن همزة بين بين إنما تضرب من الساكن على ما بينا وهي في هذا الموضع ساكنة فقد بلغت غاية ليست بعدها تضعيف، لأن السكون في نهاية الضعف ولا يجوز أن ينحى بالساكن نحو شيء آخر هو أضعف منه كما ينحى بالمتحرك نحو ما هو أضعف منه وهو الساكن. فلم يوصل إلى تضعيف هذا الحرف الساكن بأكثر مما هو فيه وقوله: " ولا تحذف " يريد لا تحذف الهمزة الساكنة إذا خففت؛ لأنه لم يرد ما يوجب حذفها فلما لم تجعل بين بين ولم تحذف أبدل على حركة ما قبله كما تبدل الهمزة في " مئر " ياء وهو في معنى قول ¬

_ (¬1) انظر ديوان الأعشى: 42، وابن يعيش: 3/ 83.

سيبويه، كما ألزموا المفتوح الذي قبله كسرة يعني قوله في (مئر) (مير) أو ضمه يعني في قولنا (جؤن): (جون) وقد تقدم الكلام في هذا وقال الراجز: عجبت من ليلاك وانتيابها (¬1) … من حيث زارتني ولم أورابها والأصل أورأبها، ولا يجوز الهمز في البيت لأن القصيدة مردفة، ولا بدّ من ألف قبل حرف الروي وهو الياء ولو همز لم يجز أن تكون الهمزة ردفا ومعنى قوله: لم أورأ بها لم أعلم بها. قال لبيد يصف الناقة: تسلب الكانس لم يورأ بها … شعبة الساق إذا الظّلّ عقل (¬2) وهذا البيت يجوز فيه أربعة أوجه، يجوز لم (أورأ بها) مثال (أورع بها) معناه أشعر بها وهو من (الوراء) اشتقاقه، كأنه قال لم أشعر بها من ورائي وهذا على مذهب من يجعل الهمزة في وراء أصلية ويقول في تصغيرها: (وريّتة) تقديرها (وريّعة) وتقول في تصريف الفعل منها (ورّأت) بكذا وكذا كأنه قال: (ساترت بكذا) ومنه الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: " كان إذا أراد السفر ورّى عنه بغيره " (¬3). وأصحاب الحديث لم يضبطوا الهمزة. والوجه الثاني من هذا المعنى أن تجعل الهمزة غير أصلية، وتجعلها منقلبة من ياء، أو واو، ويقول (لم يور بها) ويجعل (وراء) مثل (عطاء) والهمزة منقلبة، ومن قال هذا قال في تصغير (وراء) و (وريّة) وأصله (ورية) وتسقط واحدة منها كما قلت في (عطاء) (عطيّ) والأصل (عطيي) وفي (عطاءة) (عطيّة) والأصل: (عطيية). ويقول: (ورّيت عن كذا وكذا) بغير همز. ويجوز أن يقال: (لم يوأر بها)، تقديره لم (يوعر بها) وفاء الفعل منها واو ومعناه لم ¬

_ (¬1) البيتان من الرجز المشطور، انظر الدرر اللوامع: 1/ 28، والهمع: 1/ 52. (¬2) انظر ديوان الشاعر: 139. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 3/ 456، 456، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة باب توبة كعب بن مالك وصاحبه: 4/ 2128 رقم 54.

يذعر بها وهو مشتق من (الإرة) والإرة النّار وهي مثل (عدة) وأصلها (وئرة) وحذفت الواو، وألقى كسرتها على الهمزة ومعناه أنه لم يصبه حر الذعر. ويجوز أن يقال: (تسلب الكانس لم يؤر بها) تقديره: لم يعربها وهو مأخوذ من (الأوار) وهو حر الشمس وفاء الفعل من هذا همزة وعينه واو ولامه راء كأن فعله (آر) " يؤور " وما لم يسم فاعله (إير يؤار) مثل قيل يقال فإذا جزم سقط الألف. قال: فأبدلوا هذه الحروف التي منها الحركات وليست حرف يخلو منها أو من بعضها وبعضها حركات. يعني أنهم أبدلوا الهمزة ألفا في حال وياء في حال، وواوا في حال وهي الحروف المأخوذة منها الحركات، وليس حرف يخلو منها، يعني ليست كلمة تخلو من هذه الحروف أو من بعضها يعني من الحركات المأخوذة منها. قال: وليس حرف أقرب إلى الهمزة من الألف وهي إحدى الثلاث والواو والياء شبيهة بها أيضا مع شكرتها أقرب الحروف منها وسترى ذلك إن شاء الله تعالى. يعني بذلك أن الألف هي شبيهة بالهمزة، والواو والياء أيضا شبيهة بالهمزة، مع شركة الواو والياء لأقرب الحروف منها، أعني من الهمزة وهي الألف، وإنما أراد سيبويه بهذا الذي ذكره تقريب أمر هذه الحروف الثلاثة من الهمزة ليبين أنه شائع إبدالهن منها. فإن قال قائل: ما شبه الواو والياء بالهمزة، فإن شبههما بالهمزة أن الواو والياء يقلبان إليها في مواضع ضرورة. ولا يجوز قلبها إلا إليها نحو قولنا في جمع (عجوز): (عجائز)، وفي اسم الفاعل من قال يقول: (قائل)، وفي (سفينة): (سفائن)، وفي اسم الفاعل من (رام يريم): (رائم). ثم ذكر سيبويه الهمزة المتحركة إذا كان قبلها حرف ساكن على النحو الذي ذكرنا. فقال: ومثل قولك: (الأحمر) على إلقاء حركة الهمزة على اللام. وفي ذلك وجهان: فمنهم من يلقي حركة الهمزة على اللام فتتحرك اللام وتبقى ألف الوصل، فيثبتها ولا يحذفونها. ومنهم من يقول: " لحمر " فيحذف ألف الوصل فأما من أثبتها مع تحريك اللام فلأن هذه اللام ينوي سكونها. وأن هذه الحركة للهمزة المقدورة وقد يحرك الحرف لمعنى عارض فلا يجري على حكم المتحرك في جميع جهاته. وكذلك يسكن فلا يجري مجرى الساكن في جميع جهاته إذا لم يكن السكون لازما له.

فأما المتحرك، فنحو قولك: (لم يقم الرّجل) حركت الميم ولم ترد الواو التي ذهبت لاجتماع الساكنين، وكذلك الانطلاق حركت لام التعريف لسكونها وسكون النون ولم تحذف ألف الوصل؛ لأن الحركة عارضة في اللام ومن قال (لحمر) فإنه حذف ألف الوصل لما تحركت اللام، وإنما الحاجة الداعية إليها سكون اللام. ومن قال في (الأحمر): " (الأحمر) لزمه أن يقول في (اسأل) (اسل)، لأنه يلقي حركة الهمزة على السين، والسين في نية السكون. من قال (لحمر) فحذف ألف الوصل لتحرك اللام في اللفظ لزمه أن يقول في (اسأل) (سل) غير أن الأكثر في كلام العرب إبقاء ألف الوصل مع لام المعرفة وحذفها في غير ذلك. وذلك لأن هذه اللام من صيغتها السكون في أحوالها كلها لا تعتورها الحركة، إلا بسبب غيرها فكأن نية السكون فيها أقوى وألف الوصل إليها أجلب. وحكى الكسائي والفراء أن من العرب من يقلب الهمزة لاما في مثل هذا فيقول في (الأحمر) (اللحمر) وفي (الأرض) (اللرض)، وفي جميع هذا الباب. فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقائلون بها إنما قلبوها ولم يلقوا حركتها على اللام، لأنه ليس من شأن هذه اللام أن تحرك فقلبوها من جنس اللام على جهة المجاورة للتكثير لها كما يقولون (لو ") إذا جعلوها اسما فيزيدون واوا من جنس الواو التي في (لو). قال: ومثله قولك في (المرأة) " المرة " و (الكمأة) " الكمة " فهذا من التخفيف الذي ذكرناه وإلقاء حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها. قال: وقد قالوا (الكمأة)، و (المرأة) ومثله قليل. والذي قال: (الكمأة)، قلب الهمزة ألفا لانفتاحها وفتح ما قبلها، لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، وهذا عند سيبويه والبصريين غير مطرد، والوجه ما ذكرناه في أحكام الهمز، والكسائي والفراء يريان هذا الباب مطّردا، ويقيسان ذلك عليه. قال: وقد قال الذين يخففون: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (¬1) حدثنا بذلك يونس، وإنما حذفت الهمزة هاهنا؛ لأنك لم ترد أن تتم وأردت إخفاء الصوت فلم يكن ليلتقي ساكن وحرف هذه قصته ". يعني أنك إذا خففت الهمزة التي قبلها ساكن لم يجز أن تجعلها بين بين لأن همزة بين ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 25.

بين قد نحي بها نحو الساكن فلو جعلناها بين بين كان كالجمع بين الساكنين. قال: " ألا ترى أن الهمزة إذا كانت مبتدأة محققة في كل لغة فلا تبتدئ بحرف قد أوهنته، لأنه بمنزلة الساكن كما لا تبتدئ بساكن. يعني أن الهمزة إذا كانت مبتدأة لا تجعل بين بين كما لا يبتدأ بساكن. قال: ولم يبدلوا، لأنهم كرهوا أن يدخلوها في بنات الياء والواو اللتين هما لامان يعني أنهم لم يقولوا (الخبو) ولا (الخبي) وكذلك ما كان من نحو هذا ك (دفء) و (ملء) و (رفء) لا يقال فيها عند سيبويه: " دفو " ولا " دفي " بل يلقى حركة الهمزة على الحرف الذي قبلها وتحذف. وقد أجاز الإبدال الكوفيون وغيرهم من البصريين نحو أبي زيد على وجوه مختلفة فمنه ما يبدلونه واوا ومنه ما يبدلونه ياء على غير قياس محصل يقولون في (رفء) مصدر (رفأت الثوب رفو) وفي (خبء): (خبي) كما قالوا في (رفأت): (رفوت) وفي (نشأت): (نشوت ") وفي (خبأت) (خبيت)، وفي (قرأت): (قريت) وهذا عند سيبويه رديء كله وليس له أصل يطرد عليه والباب ما ذكرناه من إلقاء حركة الهمزة وحذفها. قال: فإنما تحتمل الهمزة أن تكون بين بين في موضع لو كان مكانها ساكن لجاز إلا الألف وحدها فإنه يجوز ذلك بعدها فجاز ذلك فيها. يعني أن همزة بين بين لا تقع بعد ساكن إلا الألف نحو قولك في (قائل) إذا خففتها: (قيل) وإنما كانت كذلك في الألف وحدها؛ لأن الألف وحده لا يمكن إلقاء الحركة عليها. قال: " ولا تبالي إن كانت الهمزة في موضع الفاء أو العين أو اللام فهو بهذه المنزلة إلا في موضع لو كان فيه ساكن لجاز ". يعني أن همزة بين بين لا تقع إلا في موضع يقع فيه الساكن لأنه ينحى بها نحو الساكن. فإن قال قائل (فأنت) قد جعلت الهمزة في قولنا: " أأن رأت رجلا " بين بين ولا يصلح أن يكون في موضعها ساكن، لأن النون التي بعدها ساكنة فيجتمع ساكنان؟ قيل له: موضع الهمزة يجوز أن يقع فيه ساكن، لأنها بعد حرف متحرك ولكن متى وقع فيه ساكن لم يجز أن يأتي ساكن آخر لئلا يجتمع ساكنان. وهمزة بين بين إن كانت لا تقع إلا في موضع يقع فيه الساكن فهي عندنا متحركة بالدليل الذي ذكرناه.

قال، ومما حذف في التخفيف لأن ما قبله ساكن قوله: (أرى) و (ترى) و (يرى) و (نرى). يعني أن الأصل في (أرى) و (ترى): (أرأى) و (ترأى) وماضيه (رأى)، فألغيت حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها وحذفتها على ما بينا من حكمها ولم يحذفوا الهمزة في الماضي، لأن قبلها متحركا فلا يكون تخفيفها بإلغائها، وخففوا (ترى) وألزموه التخفيف استثقالا للهمزة مع كثرة استعمالهم له وجواز هذا التخفيف في نظائره. قال: " غير أن كل شيء كان أوله زائد سوى ألف الوصل فقد أجمعت العرب على تخفيفه لكثرة استعمالهم إياه جعلوا الهمزة تعاقب " يعني أن كل شيء كان في أوله زائدة نحو الألف للمتكلم والنون للجماعة والتاء للمخاطب والياء للغائب، فإن العرب تلزمه التخفيف وحذف الهمزة وقوله (سوى) ألف الوصل وهي مستثناة من الزوائد، وذلك أنك متى أدخلت همزة الوصل سكنت الراء، ولا بدّ أن تأتي بالهمزة فتقول: (ارأ) يا فتى فدخول ألف الوصل قد أوجبت تحقيق الهمزة؛ لأنك إذا لم تحققها وخففتها حركت الراء وإذا حركت الراء بطلت ألف الوصل والوجه أن لا تدخل ألف الوصل فتقول: (ره رأيك يا زيد)، لأن الأمر من الفعل المستقبل وقد جرى الفعل المستقبل على حذف الهمزة. وقوله: جعلوا الهمزة تعاقب يعني تعاقب هذه الزوائد، يعني أن العرب اجتمعت على حذف الهمزة في (أرى) و (ترى) و (نرى) و (يرى) كأنهم عوضوا همزة (أرى) التي للمضارعة من الهمزة التي هي عين الفعل وجرى سائر حروف المضارعة على الهمزة. قال: وإذا أردت أن تخفف همزة (ارأوه) قلت: (روه) تلقي حركة الهمزة على الساكن وتلقي ألف الوصل، حيث حركت الذي بعدها؛ لأنك إنما ألحقت ألف الوصل لسكون ما بعدها ويدلك على ذلك: و (ذاك) و (سل) خففوا (ارأ)، و (اسأل) وقد مضى الكلام في نحو هذا. قال: وإذا كانت الهمزة المتحركة بعد ألف لم تحذف؛ لأنك لو حذفتها ثم فعلت بالألف ما فعلت بالسواكن التي ذكرت لك لتحولت حرفا غيرها فكرهوا أن يبدلوا مكان الألف حرفا ويغيروها، لأنه ليس في كلامهم أن يغيروا السواكن فيبدلوا مكانها إذا كان بعدها همزة فخففوا ولو فعلوا ذلك لخرج كلام كثير من حد كلامهم (لأنه ليس من كلامهم) أن تثبت الواو والياء ثانية، فصاعدا وقلبها فتحة إلا أن تكون الياء

أصلها السكون وسنبين ذلك في بابه. والألف، تحتمل أن يكون الحرف المهموز بعدها بين بين؛ لأنها مدّ، كما تحتمل أن يكون بعدها ساكن وذلك قولك في (هباءة): (هباأة) وفي المسائل: (مسايل) " بين بين " وفي (جزاء أمه) " جزاؤامّه ". وقد ذكر سيبويه أن الهمزة إذا كانت متحركة وقبلها ساكن أن تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها إذا كان من غير حروف المد واللين ولحروف المد واللين أحكام غير ذلك. وابتدأ سيبويه فيها بذكر الهمزة التي بعد الألف إذا حققتها وحكمها أن تجعل بين بين؛ لأنه لا يمكن إلقاء حركتها على الألف إذا كانت الألف لا تتحرك أبدا، فلو ألقينا حركتها على الألف تحركت الألف وذلك غير ممكن. ولو قلبنا الهمزة ألفا وأدغمنا الألف فيها كما يفعل بالهمزة بعد الواو والياء في (مقروة) و (بريه) لحركتا الألف. واستحال ذلك لأن الواو والياء يتحركان ولا تتحرك الألف، ولو حذفنا الهمزة رأسا ولم نلق حركتها لخرجت عن باب تخفيف الهمزة على الوجه الذي ذكرنا وقول سيبويه (لم تحذف) أي لم تجعل بين بين. وقوله: " لأنك لو حذفتها يعني لو حذفتها وفعلت بالألف ما فعلت بالسواكن من إلقاء حركة الهمزة عليها لتحولت إلى غير الألف؛ لأن الألف لا تتحرك، فكنت تحتاج إلى أن تجعل مكانها حرفا آخر وليس هذا في تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ساكن ". وقوله: " ولو فعلوا ذلك لخرج كلام كثير من حد كلامهم؛ لأنه ليس من كلامهم أن تثبت الياء والواو ثانية وقبلها فتحة " يريد أنّا لو حولنا الألف حرفا آخر وألقينا عليه حركة الهمزة ما كانت تحول إلا إلى ياء أو واو؛ لأن الألف لا تنقلب إلا إليهما ولو جعلت لوجب قلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، لأن ذلك حكم الواو والياء المتحركين المفتوح ما قبلهما وإنما تثبت الياء والواو إذا كان أصلهما السكون، وذلك حكمهما في التصريف. ولقائل أن يقول: إن ما تحرك من الياء والواو بإلقاء حركة الهمزة عليها لا يجب قلبها ... كقولنا في تخفيف (جيأل): (جيل)، و (مؤألة) (مؤلة)، فلا وجه للاحتجاج بهذا، وفيما احتج به قبله كفاية.

ولا مذهب للهمزة بعد الألف في التخفيف إلا جعلها بين بين أي ألف كانت وأما الواو والياء إذا كانت الهمزة بعد واحدة منهما فتخفيفها على وجهين: أحدهما أن تقلب الهمزة من جنس الواو إن كان قبلها واو ومن جنس الياء إن كان قبلها ياء ويدغم فيها ما قبلها. والوجه الآخر أن تلقي حركتها على ما قبلها من الواو والياء وتحذف كسائر الحروف فأما الواو والياء اللتان تبدل الهمزة بعدهما من جنسهما وتدّغمان فهي الواو الزائدة الساكنة المضموم ما قبلها في حشو الكلام كقولك في (مقروءة) و (مذروءة)، (مقرّرة) و (مذروّة) والياء الزائدة الساكنة المكسور ما قبلها في (حشو) الكلمة كقولنا في (بريئة) و (خطيئة): (برّية) و (خطيّة). وياء التصغير بهذه المنزلة إذا كان بعدها همزة، وإن كان ما قبلها مفتوحا كقولك في تصغير (أفؤس) و (سائل): (أفيئس) و (سويئل) فإن خففت الهمزة قلبتها ياء وأدغمت فيها ما قبلها كقولك: (أفيس) و (سويل) وإنما كرهوا إلقاء حركة الهمزة في ذلك على الواو والياء؛ لأنهم شبهوهما بالألف أما الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها فمشبهان بالألف لاشتراكها في المد، وأما ياء التصغير فلا تكون إلا ساكنة وهي أيضا مشبهة بالألف؛ لأن موقعها من التصغير كموقع الألف من الجمع كقولهم: (دريهم) و (دراهم ") ولم تجعل الهمزة بعدهما بين بين؛ لأن الياء والواو قد يتحركان ويدّغمان، ويدغم فيهما. وكان الأخفش يرى إبدال الهمزة من جنس ما قبلها. وأما الياء والواو اللتان تلقى عليهما حركة الهمزة فهما ما كان أصليا أو ملحقا أو علامة جمع أو طرفا تقول في (أبي إسحاق)، و (أبو إسحاق): (أبي سحاق) و (أبو سحاق) وفي (أبي أيوب) و (ذو أمرهم): (أبي يّوب) و (ذو مرهم) وفي (قاضي أبيك) (قاضي بيك) وفي (يغزو أمه)، (يغزومّه) لأن هذا من نفس الحرف وتقول في (حوايه) (حويه) وهي الدلو الضخمة قال الشاعر: حوأية تنقض بالضلوع (¬1) لأن هذه الواو ألحقت بنات الثلاثة ببنات الأربعة، وإنما هي كواو (جدّول)، ألا ¬

_ (¬1) البيت من مشطور الرجز، انظر اللسان مادة (حأب).

تراها لا تتغير إذا كسرت للجمع تقول: (حوائب) وإنما هي بمنزلة (عين جعفر). قال سيبويه: " وكذا سمعنا العرب الذين يخففون يقولون: " اتبعومره " لأن هذه الواو ليست بمدّة بعدها همزة في كلمة كواو " مقروءة " فصارت بمنزلة همزة في كلمة بعد واو " يدعو " وتقول (اتبعي مره) صارت كياء " يرمي " حيث انفصلت ". قال: ولم تكن مدّة في كلمة واحدة مع الهمزة " لأنها " إذا كانت منفصلة ولم تكن من نفس الحرف أو بمنزلة ما هو من نفس الحرف أو لم تجئ لمعنى، فإنما تجيء لمدة لا لمعنى وواو " اضربوا " و " اتبعوا " هي لمعنى الأسماء وليس بمنزلة الياء في " خطيئة " تكون في الكلمة لغير معنى. ولم تجئ مع المنفصلة لتلحق بناء ببناء فيفصل بينها وبين ما لا يكون ملحقا (بناء ببناء). قوله: (ولم تكن مدّة في كلمة واحدة مع الهمزة) يريد لم تكن واو " اتبعو مره " مدة لغير معنى مع الهمزة في كلمة واحدة، وكذلك ياء خطيئة. والهمزة في اتبعوا أمره من كلمة أخرى وهي (أمره) وقوله: لأنها إذا كانت متصلة، يعني الواو أو الياء إذا اتصلا بالهمزة في كلمة وقوله: ولم تكن من نفس الحرف أي ولم تكن من نفس الحرف كواو " سوءة " وياء " هيئة " أو بمنزلة ما هو من نفس الحرف يعني الملحق كواو " حوأبه " وياء " جيأل ". أو تجيء لمعنى كواو (اتبعوا أمره) وياء (اتبعي أمره) وهذه كلها تلقي عليها حركة الهمزة. وقوله: فإنما تجئ لمدّة إذا لم تكن الواو والياء من نحو ما ذكرنا فهي مدّة لغير معنى كواو مقروءة وياء (خطيئة) وإنما فعل هذا بالهمزة من لم يخففها استثقالا لهما لأنه بعد مخرجها، ولأنها نبرة في الصدر تخرج باجتهاد وهي أبعد الحروف مخرجا فثقل ذلك عليهم؛ لأنه كالتهوع. قال سيبويه: واعلم أن الهمزتين إذا التقتا وكانت كل واحدة منهما من كلمة فإن أهل التحقيق يخففون إحداهما ويستثقلون تحقيقهما لما ذكرت لك، كما يستثقل أهل الحجاز تحقيق الواحدة، فليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحققا. ومن كلام العرب تخفيف الأولى وتحقيق الآخرة وهو قول أبي عمرو وذلك قولك:

فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها (¬1) ويا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ (¬2). ومنهم من يحقق الأولى ويخفف الأخيرة سمعنا ذلك من العرب وهو (قول) " فقد جاء أشراطها " و (يا زكريّا إنّا) وقال: كل غرّاء إذا ما برزت … ترهب العين عليها والحسد (¬3) أي أن تحسد سمعنا من يوثق به من العرب ينشده هكذا. وكان الخليل يستحب هذا القول فقلت له: " لمه؟ " فقال إني رأيتهم حين أرادوا أن يبدلوا إحدى الهمزتين اللتين تلتقيان في كلمة واحدة أبدلوا الأخيرة وذلك قولك " جائي " و (آدم) و (رأيت) أبا عمرو أخذ بهن في قوله: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ (¬4) حقق الأولى، وكل عربي. وقياس من خفف الأولى أن يقول: يا ويلتا األد، والمخففة فيما ذكرنا بمنزلتها محققة في الزّنة، ويدلك على ذلك قول الأعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضرّبه … ريب المنون ودهر تابل خبل (¬5) فلو لم تكن بمنزلتها محققة لانكسر البيت. وقد تقدم تخفيف الهمزة الواحدة لما فيها من الاستثقال فإذا اجتمعت همزتان ازداد الثقل ووجب التخفيف في كلام العرب. أما إذا اجتمعت همزتان في كلمة فلم يحك سيبويه غير تخفيف إحداهما ولم يجز غير ذلك. ومما يحتج له في ذلك أنه لا خلاف في قوله: " آدم " و " آمر " ولم يقل (أأدم) ولا (أأمر) وإن كان أصل ذلك بهمزتين. وأما أبو زيد فحكى أن من العرب من يحقق الهمزتين جميعا فيقول: أأنت قلت ذاك؟ ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 18. (¬2) سورة مريم، الآية: 7. (¬3) البيت من الرمل انظر ابن يعيش: 9/ 118، وشواهد الكتاب: 3/ 549. (¬4) سورة هود، الآية: 72. (¬5) البيت سبق تخريجه.

و (يا زيد أأبوك هذا؟). قال: وسمعت من العرب من يقول: (اغفر لي خطائئي) كقولك: (خطا عمي) همزها أبو السمح ورداد ابن عمه. قال: وتخفيف الهمزة من قولك: (أابوك هذا) و (أأعطيت) أكثر في الكلام لثقل الهمزتين. وقد اختار جماعة من قراء الكوفة ومن غيرهم الجمع بين الهمزتين حتى جمعوا بين همزتين في كلمة فقرؤوا (أأنت) و (أئمة) وقد عرفتك من قوة التخفيف ما وقفت عليه. وإذا اجتمعت همزتان، ولم تكن الأولى منهما ابتداء فإن من كلام العرب تخفيف الأولى وتحقيق الثانية. وذكر سيبويه أنه قول أبي عمرو ومثله فقد جاء " أشراطها و " يا زكريّا إنا نبشرك والذي رأيت عليه أبا بكر بن مجاهد رحمه الله والقراء الذين يقرؤون بحرف أبي عمرو في الهمزتين المختلفتين يحققون الأولى ويلينون الثانية كقوله: آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ (¬1) يحقق الهمز من (السفهاء) ويجعل همزة ألا واوا؛ لأنها مفتوحة وقبلها ضمة وإذا كانتا متفقتين أسقط إحداهما كقوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها وأَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬2) والله أعلم بذلك. وقد رويت عن أبي عمرو روايات كثيرة مختلفة، ولعله كان يختار اختيارات في أوقات فينقل كل فريق ما يسمعونه. أما تخليف الأولى من الهمزتين إذا لم تكن مبتدأة فمشبهة بالتقاء الساكنين بغير الأول منهما دون الثاني كقولك: (ذهبت الهندات) و (لم يقم القوم). وأما تخفيف الثانية، فقد ذكر فيه عن الخليل ما تقدم عن الحجة، يقول: ذلك أن الأولى لو كانت مبتدأة ما جاز غير تحقيقها. وأما أهل الحجاز فيخففون الهمزتين؛ لأنه لو لم تكن إلا واحدة لخففت فيقولون في اقرأ آية: (اقرا آية) يقلبون الأولى ألفا لأنها ساكنة وقبلها فتحة ويجعلون الثانية بين بين وكان أبو زيد يجيز إدغام الهمزة في الهمزة ويحكى ذلك عن العرب ويقول (اقرأيه) يجعلها كسائر الحروف ومن خفف الأولى وحقق الثانية قال (اقرا آية) ويجعل الأولى ألفا ويجعل ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 13. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 32.

الثانية همزة ومن حقق الأولى وخفف الثانية قال: (إقرأيه) فيلقي حركة الهمزة الثانية على الساكن الذي قبلها ويحذفها كما بينا في مثل ذلك. وإذا قلت: (أقرئ أباك السّلام) فإنه على لغة أهل الحجاز إذا خففوهما (اقرئ باك السّلام) فيقلبون الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم يلقون حركة الثانية على الياء وتسقط الثانية، ولا يفعلون ذلك في " اقرأ آية "، لأنهم قلبوا الهمزة في (اقرأ) ألفا، والألف لا يلقى عليها حركة غيرها فإذا قلت: (قرأ أبوك) فإنهما جميعا بين بين على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة غيرهم إذا حققوا الأولى جعلوا الثانية بين بين وإن حققوا الثانية جعلوا الأولى بين بين. قال: ومن العرب ناس يدخلون بين ألف الاستفهام وبين الهمزة ألفا إذا التقتا، وذلك أنهم كرهوا التقاء الهمزتين ففصلوا كما قالوا (اخشيتان) ففصلوا بالألف كراهية التقاء هذه الحروف المضاعفة. قال ذو الرمة: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل … وبين النّقاآ أنت ام أمّ سالم (¬1) وما حكاه مشهور وقد حكاه أبو زيد وقال أنشدنا الأعراب: حزقّ إذا ما القوم أبدوا فكاهة … تفكّر أاإيّاه يعنون أم قردا (¬2) وهي قراءة تروى عن عبد الله بن عامر اليحصبي. قال: وأما أهل الحجاز إذا أدخلوا ألف الاستفهام فمنهم من يقول (آإنك) و (آأنت) وهي التي يختار أبو عمرو وذلك أنهم يخففون الهمزة كما يخفف بنو تميم في اجتماع الهمزتين فكرهوا التقاء الهمزة والذي هو بين بين (فأدخلوا الألف كما أدخلته بنو تميم في التحقيق) يعني أن أهل الحجاز يدخلون ألفا بين الهمزتين لئلا يلتقي همزتان ثم ¬

_ (¬1) لم نعثر عليه في ديوانه انظر ابن يعيش في شرح المفصل: 9/ 119. (¬2) انظر الكامل: 642، والخصائص: 2/ 458، وأمالي ابن الشجري: 1/ 320.

يلينون الثانية. وبنو تميم لينوا الثانية من غير إدخال ألف بينهما إذ كانت همزة بين بين كالهمزة في النية. قال: وأما الذين لا يخففون (الهمزة) فيحققونهما جميعا ولا يدخلون بينهما ألفا فإن جاءت ألف الاستفهام وليس قبلها شيء لم يكن من تحقيقها بدّ وخففوا الثانية على لغتهم يعني أنه لا سبيل إلى تخفيف ألف الاستفهام على كل لغة لأنها تقع أولا. ثم ذكر سيبويه لزوم تخفيف إحدى الهمزتين إذا التقتا في كلمة واحدة وقد ذكرنا ذلك. ثم قال متصلا بذلك: وسألت الخليل عن فعلل من جئت فقال: " جيأى " وتقديرها (جيعا) كما ترى والأصل فيه (جيأأ) على تقدير (جيعع) لأن لام الفعل من جئت همزة فكررت الهمزة فالتقت همزتان فقلبت الثانية ألفا لانفتاح ما قبلها. قال: وإذا جمعت (آدم) قلت: (أوادم). يعني إذا جعلته اسما وجمعته. وإن كان نعتا قلت: (أدم) وإذا حقرت قلت: (أويدم) وذلك أن " آدم " وإن كان الأصل فيه همزة فقد قلبتها ألفا على سبيل التخفيف فصار بمنزلة ما كان ثانيه ألفا نحو (ضارب) و (بازل) و (خابط) فإذا كسرته أو صغرته صيرته بمنزلة هذا فقلت: " أوادم " كما قلت: " بوازل " وقلت " أويدم " كما قلت: " بويزل ". وأما " خطايا " فكأنهم قلبوا ياء أبدلت من آخر (خطايا) ألفا؛ لأن ما قبل آخرها مكسور كما أبدلوا ياء (مطايا) ونحوها ألفا وأبدلوا مكان الهمزة التي قبل آخره ياء وفتحت للألف كما فتحوا راء " مدارى " فرّقوا بينها وبين الهمزة التي تكون من معنى الحرف أو بدلا مما هو من الحرف نفسه. اعلم أن الأصل في (خطايا) (خطائئ) وذلك أن واحدها خطيئة على (فعيلة) ولامها همزة فإذا جمعتها على فعائل انقلبت ياء فعيلة همزة أيضا فصارت (خطائئ) فالتقت همزتان في كلمة واحدة فوجب تخفيف الثانية منهما فجعلت ياء لانكسار ما قبلها فصارت (خطائئ) ثم إنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كانت الهمزة في واحده وبين ما عرضت الهمزة في جمعه، ولم تكن الهمزة في واحده، و (خطائئ) لم تكن الهمزة في واحده. أعني الهمزة التي هي بدل من الياء وإنما هي عارضة في الجمع فرأوا الجمع الذي

عرضت فيه الهمزة أحق بالتغيير من الجمع الذي الهمزة في واحده فقالوا في (خطائي): (خطاأا) جعلوا مكان الياء ألفا فصار (خطاأا) وجعلوا قلب الياء ألفا لازما في ذلك، وذلك أنهم يقلبون الياء ألفا طلبا للتخفيف؛ لأن الألف أخف من الياء فيقولون في (مداري) (مدارى) فلما جاز هذا القلب فيما لم يريدوا به الفرق بينه وبين شيء آخر جعلوه لازما في (خطايا) فلما قلبوها ألفا في (خطاأا) اجتمعت ألفان بينهما همزة مفتوحة والهمزة تشبه (الألف) فصارت كثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء، فقالوا: (خطايا). وإنما قلبوها ياء لأن الياء أقرب إلى الهمزة من الواو، فلم يريدوا إبعادها عن شبه الحرفين اللذين اكتنفاها وكان الخليل يقدر غير هذا التقدير وذلك أنه كان يقول: إن خطيئة لما جمعناها قدمنا لام الفعل على ياء فعيلة فوقعت لام الفعل بعد ألف الجمع، فصار (خطائي) وهذه الهمزة التي بعد الألف همزة " (خطيئة) التي بعد الياء والياء في (خطائي) هي الياء التي في (خطيئة) قبل الهمزة وكذلك مذهبه في " جاءي " مخالف لمذهب النحويين. وذلك أن النحويين يقولون في " جائي " إن الأصل فيه (جائئ) بهمزتين من قبل أنه جاء بمنزلة باع، وقال، وعين الفعل منه معتلة فإذا بنيت منه اسم الفاعل جعلت عين الفعل همزة كما قلت (قائل) فيلزم في " جائي " على هذا القياس أن يقولوا (جائي) فيلتقي همزتان فتنقلب الثانية ياء لانكسار ما قبلها. وزعم الخليل أن الهمزة في " جائي " هي لام الفعل وأن الياء هي عين الفعل وإنما قدموا وأخروا قال: لأني رأيت العرب قد تؤخر عين الفعل إذا كانت معتلة إلى موضع اللام كقولهم في (شائك السلاح) (شاكي السلاح) وقولهم في (هاير) هاري. قال: فلما أخروا عين الفعل إذا كانت معتلة إلى موضع اللام مع صحة اللام لئلا يهمزوا عين الفعل إذ ليس أصلها الهمز لزمهم هذا القلب فيما كان لام الفعل فيه همزة، إذا كانت العين (معتلة) لئلا ينضم همز عين الفعل إلى همز لامه وإذا أخروا لم يلزمهم؛ لأنهم إنما يهمز لوقوعه بعد الألف ثم يعمل الخليل في " خطايا " (ما عمل فيها غيره ممن لا يذهب مذهبه من الإعلال). وقد أنكر ذلك عليه أبو العباس المبرد وادعى عليه (مخالفته لما هو شائع). وذلك أن الهمزة إذا كانت غير عارضة في الجمع لم يجب تغيير الجمع كقولك في (مرآة): (مرائي). فقال: إذا كانت الهمزة في (خطائي) هي الهمزة التي كانت في الواحد فهي غير

باب ذكرك الاسم الذي تبين به العدة كم هي مع تمامها الذي هو من ذلك اللفظ

عارضة في الجمع فينبغي أن لا تغير في الجمع. وللخليل أن يقول إني فرقت بالتغيير بين ما كانت الهمزة فيه مقدمة من آخره إلى أوله في الجمع وبين ما لم يعرض ذلك له في الجمع ولا يجعل العلة أن الهمزة عارضة في الجمع، ولكن يجعل العلة تقديمها عارضا في الجمع. على أن سيبويه قد حكى عن الخليل خلاف هذا المذهب وذلك أنه حكى عنه أنه يختار في المذهبين إذا التقتا من كلمتين تحقيق الأولى وتخفيف الثانية. قال: فقلت له (لمه) فقال: رأيتهم إذا اجتمعت همزتان في كلمة اختاروا تخفيف الأخيرة كقولهم (جائي) و (أادم) " فقد جعل الياء من (جائي) منقلبة من همزة والهمزة في جاء لام الفعل. فهذه الحكاية في " جاء " تدل على أنه لم يقدم. وقد قال بعض النحويين في قلب الياء في " خطايا " ونحوها ألفا قولا قويا وهو أن الياء لو لم تقلب ألفا لوجب إسقاطها في الوقف كما يقال (جوار) و (غواش) في (جواري) و (غواشي) وإذا أسقطنا الياء بقيت الهمزة ساكنة في الوقف فلا فرق بينها وبين أن تكون من الحرف نفسه أو بدلا مما هو من نفس الحرف فالذي هو من نفس الحرف (نائية) و " نوائي " لأنه من (نأيت) فالهمزة عين الفعل. والذي هو يدل مما هو من نفس الحرف الهمزة في (جائية) و (سائية)؛ لأنها بدل من عين الفعل في (جاء) و (ساء) وعين الفعل في (جاء) ياء وفي (ساء) واو. فأما قوله فرقوا بينه وبين الهمزة التي من نفس الحرف أراد الهمزة التي في قولك (رأيت براء) لأن الهمزة في " براء " من الحرف نفسه، لأنه من (برئت). وقوله: أو بدلا مما هو من نفس الحرف أراد الهمزة التي في (رأيت قضاء) وذلك أن الهمزة في (قضاء) منقلبة من ياء؛ لأنه من (قضيت)، فإذا قلت (رأيت براء وقضاء) لم يلزمك أن تقلب هذه الهمزة ياء كم قلبتها في (خطايا). باب ذكرك الاسم الذي تبين به العدة كم هي مع تمامها الذي هو من ذلك اللفظ (فبناء الاثنين وما بعده إلى العشرة " فاعل " وهو مضاف إلى الاسم الذي يبين به العدد). ذكر سيبويه في هذا الباب من كتابه ثاني اثنين وثالث ثلاثة إلى عاشر عشرة. فإذا قلت: هذا ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة أو رابع أربعة فمعناه أحد ثلاثة أو بعض ثلاثة أو تمام

ثلاثة، وقوله في ترجمة الباب: الاسم الذي تبين به العدة كم هي يعني (ثلاثة). وقوله: مع تمامها الذي هو من ذلك اللفظ يعني (ثالثا) لأنه تمام ثلاثة وهذا التمام يبنى على " فاعل " كما قلنا فيقال: ثاني اثنين وثالث ثلاثة، وتجري الأول منها بوجوه الإعراب إلى عاشر عشرة. قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (¬1). وقال تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ (¬2) وقد كنت ذكرت في المبنيّات من أحد عشر إلى تسعة عشر ما فيه كفاية، ولكني أذكرها هنا منه جملة، فيها ما لم أذكره هناك إذ كان هذا بابه إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما وهو الأكثر في كلام العرب على ما قاله سيبويه: أن يكون الأول من لفظ الثاني على معنى أنه تمامه وبعضه وهو قولك هذا ثاني اثنين وثالث ثلاثة وعاشر عشرة ولا ينون هذا فينصب ما بعده فيقال: ثالث ثلاثة؛ لأن ثالثا في هذا ليس يجري مجرى الفعل فيصير بمنزلة (ضارب زيدا) وإنما هو بعض ثلاثة وأنت لا تقول بعض ثلاثة وقد أجمع النحويون على ذلك إلا ما ذكره أبو الحسن بن كيسان عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب أنه أجاز ذلك، قال أبو الحسن قلت له، إذا أجزت ذلك فقد أجريته مجرى الفعل، فهل يجوز أن تقول (تثلّث ثلاثة) فقال: (نعم) على معنى " أتممت ثلاثة " والمعروف قول الجمهور فإذا زدت على العشرة فالذي ذكر سيبويه بناء الأول والثاني وذلك (حادي عشر) و (ثاني عشر) و (ثالث عشر) ففتح الأول والثاني وجعهلما اسما واحدا وفتحهما كفتح ثلاثة عشر وذكر أن الأصل أن يقال (حادي عشر) " أحد عشر " و (ثالث عشر) " ثلاثة عشر " فيكون (حادي عشر) بمنزلة (ثالث) ويكون (أحد عشر) بمنزلة (ثالث). لأن " ثالثا " قد استغرق حروف ثلاثة وبنى معها فكذلك ينبغي أن تستغرق (حادي عشر) حروف " أحد عشر " وقد حكاه أيضا فقال: وبعضهم يقول (ثالث عشر) ثلاثة عشر وهذا القياس. وقد أنكر ثعلب هذا. وذكر أنه غير محتاج إلى أن يقول (ثالث عشر) " ثلاثة عشر " وأن الذي قال سيبويه خلاف مذهب الكوفيين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 73. (¬2) سورة التوبة، الآية: 40.

وكأن حجة الكوفيين فيما يتوجه فيه أن (ثلاثة عشر) لا يمكن أن يبنى من لفظها " فاعل " وإنما يبنى من لفظ أحدهما وهو الثلاثة. فذكر العشر مع ثالث لا وجه له. قال أبو سعيد: وقد قدمت احتجاج سيبويه لذلك مع حكايته (إياه) عن بعضهم ويجوز أن يقال: إنه لما لم يمكن (أن) يبنى منهما فاعل وبني من أحدهما احتيج إلى ذكر الآخر لينفصل ما هو أحد ثلاثة مما هو أحد ثلاثة عشر فأتى باللفظ كله. قال أبو سعيد: والضرب الثاني من الضربين أن يكون التمام يجري مجرى اسم الفاعل الذي يعمل فيما بعده ويكون لفظ التمام من عدد هو أكثر من المتمم بواحد كقولك: (ثالث اثنين ") و (رابع ثلاثة) و (عاشر تسعة) ويجوز أن ينون الأول فيقال (رابع ثلاثة) و (عاشر تسعة) لأنه مأخوذ من الفعل تقول: (كانوا ثلاثة) فربعتهم وتسعة فعشرتهم فأنا عاشرهم كقولك: (ضربت زيدا) فأنا (ضارب زيدا) و (ضارب زيد). قال الله عز وجل: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ (¬1) وقال سيبويه: فيما زاد على العشر في هذا الباب " هذا رابع ثلاثة عشر " كما قلت (خامس أربعة). ولم يحكه عن العرب والقياس عند النحويين أنه لا يجوز ذلك وقد ذكره أبو العباس محمد بن يزيد عن نفسه وعن الأخفش والمازني أنهم لم يجيزوه؛ لأن هذا الباب يجري مجرى الفاعل المأخوذ من الفعل. ونحن لا نقول ربعت ثلاثة عشر ولا أعلم أحدا حكاه. وإن صح أن العرب قالته فقياسه ما قاله سيبويه. وأما قولهم (حادي عشر) وليس (حادي) من لفظ واحد والباب أن يكون اسم الفاعل الذي هو تمام من لفظ ما هو تمامه ففيه قولان؛ أحدهما: أن (حادي) مقلوب من (واحد) استثقالا للواو في أول اللفظ فلما قلب صار (حادو) فوقعت الواو طرفا وقبلها كسرة فقلبوها ياء كما قالوا (غازي) وهو من (غزوت). وأصله " غازو "، وذكر الكسائي أنه سمع من الأسد أو بعض عبد القيس (واحد عشر يا هذا). وقال بعض النحويين وهو الفراء: (حادى عشر) من قولك: (يحدو) أي يسوق ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، الآية: 7.

كأن الواحد الزائد يسوق العشرة وهو معها وأنشد (¬1): ... أنعت عشرا والظليم حادي … ... كأنّهنّ بأعالي الوادي ... يرفلن في ملاحف جيادي وفي ثالث عشر وبابها ثلاثة أوجه، فإن جئت بها على التمام على ما ذكر سيبويه فقلت: (ثالث عشر) ثلاثة عشر فتحت الأولين والآخرين لا يجوز غير ذلك. وإن حذفت فقلت: (ثالث ثلاثة عشر) أعربت ثالثا بوجوه الإعراب وفتحت الآخرين فقلت: هذا ثالث ثلاثة عشر، ورأيت (ثالث ثلاثة عشر) ومررت بثالث ثلاثة عشر لا يجوز غير ذلك عند النحويين كلهم. وإن حذفت ما بين (ثالث وعشر الأخير) فالذي ذكره سيبويه فتحهما جميعا. وذكر الكوفيون أنه يجوز أن يجرى ثالث بوجوه الإعراب ويجوز أن يفتح فمن أجرى بوجوب الإعراب أراد هذا ثالث ثلاثة عشر ومررت بثالث ثلاثة عشر ثم حذف ثلاثة تخفيفا وبقّى ثالثا على حكمه. ومن بني ثالثا مع عشر أقامه مقام ثلاثة حين حذفها، وهذا قول قريب، ولم ينكره أصحابنا. وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: هذا ثالث عشر وثالث عشر فرفعوا ونصبوا. قال سيبويه: " وتقول: هذا حادي أحد عشر إذا كّن عشر نسوة معهن رجل، لأن المذكر يغلب المؤنث، ومثل ذلك قولك: خامس خمسة إذا كن أربع نسوة فيهن رجل كأنك قلت هو تمام خمسة " ونقول: هو خامس أربع إذا أردت أنه صيّر أربع نسوة خمسا ". قال سيبويه: (وأما بضعة عشر فبمنزلة تسعة عشر في كل شيء، وبضع عشرة كتسع عشرة في كل شيء). قال أبو سعيد: (بضعة) بالهاء عدد مبهم من ثلاثة إلى تسعة من المذكر، وبضع بغير الهاء عدد مبهم من ثلاث إلى تسع من المؤنث وهي تجرى مفردة ومع العشرة مجرى ¬

_ (¬1) الأبيات من مشطور الرجز، انظر المخصص: 17/ 110.

الثلاثة إلى التسعة في الإعراب والبناء تقول: هؤلاء بضعة رجال، وبضع نسوة. قال الله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ (¬1). وفيما زاد على العشرة هؤلاء بضعة عشر رجلا وبضع عشرة امرأة. وهي مشتقة- والله اعلم- من (بضعت الشيء) إذا قطعته كأنه قطعة من العدد وقد كان حقه أن يذكر في الباب الأول، لأن هذا الباب إنما ذكر فيه العدد المتمم نحو (ثالث ثلاثة) و (رابع أربعة) ولكنه ذكرها هنا لترى أنه ليس بمنزلة (ثالث عشر) أو (ثالثة عشرة) فاعلمه. ومن قول الكسائي: " هذا الجزء العاشر عشرين ومن قول سيبويه والفراء: (هذا الجزء العشرون) و " هذه الورقة العشرون " على معنى تمام العشرين فنحذف التمام ونقيم العشرين مقامه، وكذلك نقول: " هذا الجزء الواحد والعشرون " و " الأحد والعشرون " و (هذه الورقة الإحدى والعشرون) و " الواحدة والعشرون ". وكذلك " الثاني والعشرون " و " الثانية والعشرون " وما بعده إلى قولك: " التاسع والتسعون ". ونقول: هو الأول والثاني والثالث والرابع والخامس وقد قالوا: " الخامي ". قال أبو سعيد: وهو من شواذ المحوّل كقولهم: (أمليت) في أملك ولا (أملاه) يريدون (لا أملّه). إلا أن هذا حوّل للتضعيف " وخامس " ليس فيه تضعيف فإذا هو من باب حسيت " و " أخسيت " في " حسست " و " أحسست ". وقالوا: (سادس وساد) على حد (خام). وأنشد ابن السكيت: إذا ما عدا أربعة فسال … فزوجك خامس وحموك سادي (¬2) وفي هذا ثلاث لغات، جاء (سادسا) و (ساديا) و (ساتّا)، فمن قال: (سادسا) أخرجه على الأصل ومن قال (ساتا) فعلى اللفظ ومن قال (ساديا) فعلى الإبدال والتحويل الذي قدمنا. وأنشد ابن السكيت: ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآيتان: 3، 4. (¬2) البيت من الطويل مذكور في معجم الشواهد: 1/ 420.

هذا باب المؤنث الذي يقع على المؤنث والمذكر وأصله التأنيث

يوجزل أعوام أذاعت بخسة … وتجعلني إن لم يق الله ساديا (¬1) وأنشد أيضا: مضى ثلاث سنين منذ حل بها … وعام حلّت وهذا التابع الخامي يريد الخامس. قال أبو سعيد في العقود كلها: هو الموفّى كذا وهي الموفّية كذا كقولك: (الموفّى عشرين) والموفّية عشرين. هذا باب المؤنث الذي يقع على المؤنث والمذكر وأصله التأنيث اعلم أن المذكر قد يعبر عنه باللفظ المؤنث فيجري حكم اللفظ على التأنيث وإن كان المعبر عنه مذكرا في الحقيقة ويكون ذلك بعلامة التأنيث، وبغير علامة. فأما ما كان بعلامة التأنيث فقولك: (هذه شاة) وإن أردت تيسا، و (هذه بقرة) وإن أردت ثورا، و (هذه حمامة) و (هذه بطة) وإن أردت الذكر وأما ما كان بغير علامة فقولك: (عندي ثلاث من الغنم)، و (ثلاث من الإبل) وقد جعلت العرب (الإبل) أو (الغنم) مؤنثين وجعلت الواحد منها مؤنث اللفظ كأن فيه هاء، وإن كان مذكرا في المعنى، كما جعلت العين والأذن والرجل مؤنثات بغير علامة. فإن قال قائل: فلم لا يقال (هذه طلحة) لرجل يسمى طلحة لتأنيث اللفظ كما قالوا: (هذه بقرة) للثور؟ فالجواب أن (طلحة) لقب وليس باسم موضوع له في الأصل وأسماء الأجناس موضوعة لها لازمة ومن ثم فرقت العرب بينهما. وقد ذكر سيبويه في الباب أشياء محمولة على الأصل الذي ذكرته وأشياء قريبة منها. وأنا أسوق ذلك وأفسر ما أحتاج منه إلى تفسيره. قال سيبويه: " فإذا جئت بالأسماء التي تبين بها العدة أجريت الباب على التأنيث في التثليث إلى تسع عشرة وذلك قولك: (له ثلاث شياه ذكور)، و (له ثلاث من ¬

_ (¬1) نسب إلى النابغة الجعدي يهجو ليلى الأخيلية: انظر ابن يعيش: 2/ 258، والهمع: 2/ 153.

الشاء) فأجريت ذلك على الأصل؛ لأن الشاء أصلها التأنيث، وإن وقعت على المذكر كما أنك تقول: (هذه غنم ذكور) فالغنم مؤنثة وقد تقع على المذكر " قال أبو سعيد: يعني أنها تقع على ما فيها من المذكر من التيوس والكباش، ويقال: (هذه غنم) وأن كانت كلها كباشا أو تيوسا. وكذلك: (عندي ثلاث من الغنم) وإن كانت كباشا أو تيوسا، لأنه جعل الواحد منها كأن فيه علامة التأنيث كما جعلت العين والرجل كأن فيهما علامة التأنيث. وقال الخليل: قولك: (هذا شاة) بمنزلة قوله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي (¬1). قال أبو سعيد: يريد أن تذكير هذا مع تأنيث شاة كتذكير هذا مع تأنيث رحمة والتأويل في ذلك كأنك قلت: (هذا الشيء شاة) و (هذا الشيء رحمة من ربي). قال سيبويه: " وتقول له خمس من الإبل ذكور وخمس من الغنم ذكور من قبل أن (الإبل) و (الغنم) اسمان مؤنثان، كما أن ما فيه الهاء مؤنث الأصل وإن وقع على المذكر " فلما كان (الإبل) و (الغنم) لذلك جاء تثليثها على التأنيث، لأنك إنما أردت التثليث من اسم مؤنث بمنزلة (قدم) ولم يكسر عليه مذكر للجمع فالتثليث منه كتثليث ما فيه الهاء كأنك قلت: (هذه ثلاث غنم) بهذا يوضح وإن كان لا يتكلم به كما تقول: (ثلاثمائه) فتدع الهاء؛ لأن المائة أنثى. قال أبو سعيد: قول سيبويه (الغنم) و (الإبل) و (الشاء) مؤنثات يريد كل واحد منها إذا قرن بمنزلة مؤنث فيه علامة التأنيث أو مؤنث لا علامة فيه كقولك: (هذه ثلاث من الغنم) ولم تقل: (ثلاثة) وإن أردت بها كباشا أو تيوسا، وكذلك (ثلاث من الإبل) وإن أردت بها مذكرا أو مؤنثا. وقوله: بمنزلة (قدم)، لأن (القدم) أنثى بغير علامة وكذلك (الثلاث) فقولك: (ثلاث من الإبل والغنم) لا يفرد لها واحد فيه علامة التأنيث. وقوله: لم يكسر عليه مذكر للجمع يعني لم يقل ثلاثة ذكور فيكون ذكور جمعا مكسرا لذكر فتذكر ثلاثة من أجل ذلك. وقوله: كأنك قلت: (هذه ثلاث غنم) يريد كأن (غنما) تكسير للواحد المؤنث ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 98.

كما تقول: (ثلاثمائة) فتترك الهاء من (ثلاث)؛ لأن المائة مؤنثة ومائة واحد في معنى جمع المؤنث قال سيبويه: وتقول: (له) ثلاث من البط؛ لأنك تصيره إلى بطة. قال أبو سعيد: يريد كأنك قلت له: (ثلاث بطات) من البط قال سيبويه: " وتقول له ثلاثة ذكور من الإبل لأنك لم تجئ بشيء من التأنيث، وإنما ثلثت الذكر ثم جئت بالتفسير من الإبل لا تذهب الهاء. كما أن قولك: (ذكور) بعد قولك (من الإبل) لا تثبت الهاء " ... قال أبو سعيد: يريد أن الحكم في اللفظ للسابق من لفظ المؤنث أو المذكر، فإذا قلت: ثلاث من الإبل أو الغنم (ذكور) نزعت الهاء، لأن قولك من الإبل أو من الغنم يوجب التأنيث. وإنما قلت: (ذكور) بعد ما يوجب تأنيث اللفظ فلم تغير. وكذلك إذا قلت: (ثلاثة ذكور من الإبل) فقد لزم حكم التذكير بقولك: (ثلاثة ذكور) فإذا قلت بعد ذلك من الإبل لم يتغير اللفظ الأول. قال سيبويه: وتقول: ثلاثة أشخص، وإن عنيت نساء لأن الشخص اسم مذكر. قال أبو سعيد: هذا ضد الأول، لأن الأول تؤنثه للفظ وهو مذكر في المعنى، وهذا تذكره للفظ وهو مؤنث في المعنى. قال سيبويه: " ومثله قولهم: ثلاث أعين وإن كانوا رجالا لأن العين مؤنثة. قال أبو سعيد: وهذا يشبه الأول، وإنما أنثوا لأنهم جعلوا الرجال كأنهم أعين من ينظرون لهم. قال سيبويه: " وقالوا ثلاثة أنفس، لأن النفس عندهم إنسان ألا ترى أنهم يقولون نفس واحد ولا يدخلون الهاء ". قال أبو سعيد: النفس مؤنث وقد حمل على المعنى في قولهم ثلاثة أنفس إذا أريد به الرجال. قال الشاعر وهو الحطيئة: ثلاثة أنفس وثلاث ذود … لقد جار الزمان على عيالي (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ديوان الحطيئة: 120، والخزانة: 3/ 301، والخصائص: 2/ 214، ومجالس ثعلب: 304.

يريد ثلاثة أناسيّ. قال: وتقول: ثلاث نسابات " وهو قبيح وذلك أن النسابة صفة فكأنه لفظ بمذكره ثم وصفه ولم يجعل الصفة تقوى قوة الاسم فإنا يجيء كأنك لفظت بالمذكر ثم وصفته كأنك قلت ثلاثة رجال نسابات. وتقول: (ثلاث دواب) إذا أردت المذكر، لان أصل (الدّابّة) عندهم صفة، وإنما هي من (دببت) فأجروها على الأصل، وإن كان لا يتكلم بها إلا كما يتكلم بالأسماء كما أن (أبطح) صفة واستعمل استعمال الأسماء. قال أبو سعيد: الأصل أن أسماء العدد تفسر بالأنواع فيقال: " ثلاثة رجال " و (أربعة أثواب) فلذلك لم يعمل على تأنيث ما أضيف إليه، إذ كان صفة وقدر قبله الموصوف وجعل حكم تذكير العدد على ذلك الموصوف فيكون التقدير ثلاثة رجال نسابات وثلاثة ذكور دواب وإن كانوا قد حذفوا الموصوف في دابة لكثرته في كلامهم كما أن أبطح صفة في الأصل لأنهم يقولون: (أبطح وبطحاء) كما يقال: (أحمر وحمراء) وهم يقولون: (كنا في الأبطح ونزلنا في البطحاء) فلا يذكرون الموصوف كأنهما اسمان. قال سيبويه: " وتقول ثلاثة أفراس إذا أردت المذكر؛ لأن الفرس قد ألزموه التأنيث وصار في كلامهم للمؤنث أكثر منه للمذكر حتى صار بمنزلة القدم كما أن النفس في المذكر أكثر. قال أبو سعيد: أتت ثلاث أفراس في هذا الموضع؛ لأن لفظ الفرس مؤنث وإن وقع على مذكر. وقد ذكره في الباب الأول حيث قال (خمسة أفراس). إذا كان الواحد مذكرا وهذا (في) المعنى. قال سيبويه: وتقول (سار خمس عشرة) من بين يوم وليلة، لأنك ألقيت الاسم على الليالي ثم بيّنت فقلت: (من بين يوم وليلة) ألا ترى أنك تقول: (لخمس بقين أو خلون) ويعلم المخاطب أن الأيام قد دخلت في الليالي، فإذا ألقى الاسم على الليالي اكتفى بذلك عن ذكر الأيام كما أنه يقول: (أتيته ضحوة وبكرة) فيعلم المخاطب أنها ضحوة يومه وبكرة يومه وأشباه هذا في الكلام فإنما قوله: (من بين يوم وليلة) توكيد بعد ما وقع على الليالي لأنه قد علم أن الأيام داخلة مع الليالي. وقال الشاعر وهو الجعدي:

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة … وكان النكير أن تضيف وتجأرا (¬1) قال أبو سعيد: اعلم أن الأيام والليالي إذا اجتمعت غلب التأنيث على التذكير وهو على خلاف المعروف من غلبة التذكير على التأنيث في عامة الأشياء. والسبب في ذلك أن ابتداء الأيام الليالي؛ لأن دخول الشهر الجديد من شهور العرب برؤية الهلال والهلال يرى في أول الليل فتصير الليلة مع اليوم الذي بعدها يوما في حساب أيام الشهر والليلة هي السابقة فجرى الحكم لها في اللفظ. فإذا أبهمت ولم تذكر الأيام ولا الليالي جرى اللفظ على التأنيث فقلت: (أقام زيد عندنا ثلاثا). تريد ثلاثة أيام وثلاث ليال، قال الله عز وجل: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬2) يريد عشرة أيام مع الليالي فأجرى اللفظ على الليالي وأنث، ولذلك جرت العادة في التواريخ بالليالي، فيقال: (لخمس خلون) و (لخمس بقين) يريد لخمس ليال، وكذلك: " لاثنتي عشرة ليلة " خلت فلذلك قال: (سار خمس عشرة)، فجاء بها على تأنيث الليالي. ثم وكد بقوله: (من بين يوم وليلة) ومثله قول النابغة: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ومعنى البيت أنه يصف بقرة وحشية فقدت ولدها فطافت ثلاث ليال وأيامها، تطلبه، ولم تقدر إن تنكر من الحال التي دفعت إليها أكثر من أن " تضيف " ومعناه تشفق، وتحذر، وتجأر ... معناه تصيح في طلبها له. قال سيبويه: " وتقول: أعطاه خمسة عشر بين عبد وجارية " لا يكون في هذا إلا هذا " لأن المتكلم لا يجوز أن يقول له خمسة عشر عبدا فيعلم أن ثمّ من الجواري بعدتهم، ولا خمس عشرة جارية، فيعلم إن ثم من العبيد بعدتهن فلا يكون هذا إلا مختلطا يقع عليهم الاسم الذي بيّن به العدد " قال أبو سعيد: بيّن الفرق بين هذا، وبين خمس عشرة ليلة، لأن خمس عشرة ليلة يعلم أن معها أياما بعدتها. ¬

_ (¬1) انظر ديوانه: 64، والخزانة: 3/ 317، والمغني: 660. (¬2) سورة البقرة، الآية: 234.

إذا فإذا قلت خمس عشرة بين يوم وليلة فالمراد خمس عشرة ليلة وخمسة عشر يوما وإذا قلت خمسة عشر من بين عبد وجارية فبعض الخمسة عشر عبيد وبعضها جوار فأختلط المذكر والمؤنث وليس ذلك في الأيام فوجب التذكير. قال سيبويه: " وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة وليس بحر كلام العرب " قال أبو سعيد: إنما جاز ذلك؛ لأنا قد نقول: ثلاثة أيام ونحن نريدها مع لياليها كما نقول: ثلاث ليال ونحن نريدها مع أيامها، قال الله تعالى لزكريا عليه السّلام: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً (¬1) آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (¬2) وهي قصة واحدة. قال سيبويه: (وتقول: ثلاث ذود، لأن الذود أنثى وليس باسم كسر عليه مذكر). قال أبو سعيد: ثلاث ذود يجوز أن تريد بهن ذكورا وتؤنث اللفظ كقولك: ثلاث من الإبل فالزود بمنزلة الإبل والغنم. قال سيبويه: (وأما ثلاثة أشياء فقالوها، لأنهم جعلوا أشياء بمنزلة أفعال، لو كسروا عليها " فعلا " وصار بدلا من أفعال. قال أبو سعيد: يريد أن (أشياء) وإن كان مؤنثا لا يشبه (الزود) وكان حق هذا على موضوع سيبويه الظاهر أن يقال: (ثلاث أشياء)، لأن (أشياء) مؤنث واحد موضوع للجمع على قوله وقول الخليل لأن وزنه عنده (فعلاء) وليس بمكسر كما أن غنما وإبلا وذودا أسماء مؤنثة وليست بجموع مكسورة. فجعل واحد كل اسم من هذه الأسماء كأنه مؤنث فقال: جعلوا (أشياء) وهي التي لا تنصرف ووزنها (فعلاء) نائبة عن جمع شيء لو كسر على القياس، وشيء إذا كسر على القياس فحقه أن يقال (أشياء) كما يقال: (بيت وأبيات) و (شيخ وأشياخ) فقالوا: (ثلاثة أشياء) كما يقال (ثلاثة أشياء) لو كسروا شيئا على القياس. قال سيبويه: " ومثل ذلك ثلاثة (رجلة) في جمع رجل، لأن رجلة صار بدلا من أرجال ". قال أبو سعيد: أراد إنهم قالوا: ثلاثة رجلة ورجلة مؤنث وليس بجمع مكسر لأن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 41. (¬2) سورة مريم، الآية: 10.

(فعلة) ليس في المجموع المكسرة لأنهم جعلوا (رجلة) نائبا عن (أرجال) ومكتفي بها من (أرجال) وكان القياس أن يقال: (ثلاثة أرجال) لأن (رجلا) وزنه وزن (عجز) و (عضد) ويجمع على (أعجاز) و (أعضاد) وليست الإبل والغنم والذود من ذلك، لأنه لا واحد لها من لفظها قال سيبويه: وزعم يونس عن رؤبة أنه قال: (ثلاث أنفس على تأنيث النفس) كما يقال (ثلاث أعين للعين من الناس) وكما يقال (ثلاثة أشخص) في النساء. قال الشاعر: وإنّ كلابا هذه عشر أبطن … وأنت بريء من قبائلها العشر (¬1) يريد عشر قبائل لأنه يقال للقبيلة بطن من بطون العرب. وقال الكلابيّ: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة … وللسّبع خير من ثلاث وأكثر (¬2) فقال: (وأنتم ثلاثة) فذكّر على تأويل (ثلاثة أبطن) أو (ثلاثة أحياء) ثم ردها إلى معنى القبائل فقال: و (للسبع خير من ثلاث) على معنى (ثلاث قبائل). وقال عمر بن أبي ربيعة: فكان نصيري دون من كنت أتقى … ثلاث شخوص كاعيان ومعصر (¬3) فأنث الشخوص، لأن المعنى ثلاث نسوة. ومما يقوى الحمل على المعنى وإن لم يكن من العدد ما حكاه أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع من الأعراب من يقول إذا قيل: (أين فلانة؟) وهي قريبة: (ها هوذه) قال: فأنكرت ذلك عليه فقال: (قد سمعته من أكثر من مائة من الأعراب). وقال: " قد سمعت من يفتح الذال فيقول: ها هوذا، فهذا يكون محمولا مرة على الشخص ومرة على المرأة، وإنما المعروف (ها هي ذه) والمذكر " ها هوذا ". وزعم أبو حاتم أن أهل مكة يقولون: (هوذا) وأهل مكة أفصح من أهل العراق، وأهل المدينة أفصح من أهل مكة، فهذه شيء عرض. ثم نعود إلى باب العدد، وكان الفراء لا يجيز أن ينسق على المؤنث بالمذكر ولا على ¬

_ (¬1) البيت للنواح الكادبي انظر الكامل: 5/ 270، الخصائص: 2/ 417. (¬2) انظر طبقات الشعراء: 166، المخصص: 17/ 117. (¬3) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 92، الخزانة: 3/ 312، العيني: 4/ 483، الخصائص: 2/ 417.

هذا باب ما لا يحسن أن تضيف إليه الأسماء التي تبين بها العدد إذا جاوزت الاثنين إلى العشرة

المذكر بالمؤنث وذلك انك إذا قلت: (عندي ستة رجال ونساء) فقد عقدت (أن عندك ستة رجال فليس لك أن تجعل) بعضهم مذكرا وبعضهم مؤنثا وقد عقدت إنهم مذكرون. وإذا قلت: (عندي ثلاث بنات عرس وأربع بنات آوى) كان الاختيار أن تدخل الهاء في العدد فتقول: (عندي ثلاثة بنات عرس) و (أربعة بنات آوى). (وإنما كان) الاختيار أن تدخل الهاء في العدد، لان الواحد (ابن عرس) و (ابن آوى). وقال الفراء: " كان بعض من مضى من أهل النحو يقول: " ثلاث بنات عرس "، و " ثلاث بنات آوى " وما أشبه ذلك مما يجمع بالتاء من الذكران ويقولون: لا يجتمع (مع التاء) (ثلاثة)، ولكنا نقول: (ثلاث بنات عرس ذكور)، و (ثلاث بنات آوى) وما أشبه ذلك. " ولم يصنعوا شيئا، لأن العرب تقول: (لي حمامات ثلاثة) و (الطلحات الثلاثة عندنا)، يريدون رجالا أسماؤهم الطلحات. هذا باب ما لا يحسن أن تضيف إليه الأسماء التي تبين بها العدد إذا جاوزت الاثنين إلى العشرة وذلك الوصف تقول: (هؤلاء ثلاثة قرشيون) و (ثلاثة مسلمون)، و (ثلاثة صالحون) فهذا وجه الكلام كراهية أن تجعل الصفة كالاسم إلا أن يضطر شاعر، وهذا يدلك على أن " النسابات " إذا قلت: " ثلاثة نسابات " إنما يجئ كأنه وصف لمذكر، لأنه ليس موضعا يحسن فيه الصفة، كما يحسن الاسم، فلما لم يقع إلا وصفا صار المتكلم كأنه قد لفظ بمذكرين ثم وصفهم بها. قال الله عز وجل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (¬1). قال أبو سعيد: قد تقدم من الكلام أن العدد حقه أن يبين بالأنواع لا بالصفات، فلذلك لم يحسن أن تقول (ثلاثة قرشيين)؛ لأنهم ليسوا بنوع وإنما ينبغي أن تقول: (ثلاثة رجال قرشيين) وليس إقامة الصفة مقام الموصوف بالمستحسنة في كل موضع، وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الموصوف فيستغنى بها لكثرتها عن الموصوف كقولك: (مررت بمثلك)، ولذلك قال عز وجل: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أي عشر حسنات أمثالها. هذا باب تكسير الواحد للجمع أما ما كان من الأسماء على ثلاثة أحرف. وكان (فعلا) فإنك إذا ثلثته إلى أن تعشره ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 160.

فإن تكسيره (أفعل). وذلك قولك (كلب) و (أكلب)، و (كعب) و (أكعب)، و " (فزع) و (أفزع) و (نسر) و (أنسر) ". فإذا جاوز العدد هذا فإن البناء قد يجئ على (فعال) وعلى (فعول) وذلك قولك: (كلاب) و " (كباش) " و (بغال "). وأما الفعول ف (نسور)، و (بطون) وربما كانت فيه اللغتان فقالوا: (فعول) و (فعال ") وذلك قولهم: (فروخ)، و (فراخ)، و (كعوب) و (كعاب) و (فحول) و (فحال). ومما جاء (فعيلا) وهو قليل نحو: (الكليب) و (" العبيد) والمضاعف يجري هذا المجرى، وذلك قولك: (ضبّ) و (أضبّ) و (ضباب)، كما قلت: (كلب) و (أكلب) و (كلاب)، و (صكّ) و (أصكّ) و (صكاك) و (صكوك) كما قالوا: (فرخ) و (أفرخ) و (فراخ) و (فروخ)، و (بت) و (أبتّ) و (بتوت) و (بتات). كما قالوا: (كلب) و (كلبان) و (أكلب) و (كلاب) و (دلو) و (دلوان) و (أدل) و (دلاء) و (ثدي) و (ثديان) و (أثد) و (ثديّ). كما قالوا: (أصقر) و (صقور). ونظير (فراخ) و (فروخ) قولهم: (الدلاء) و (الدّلىّ). واعلم أنه قد يجيء في فعل (أفعال) مكان أفعل. قال الشاعر، الأعشى: وجدت إذا اصطلحوا خيرهم … وزندك أثقب أزنادها (¬1) وليس ذلك بالباب في كلام العرب. ومن ذلك قولهم: (أفراخ) و (أجداد) و (أفراد) و (أحدّ عربية) وهي الأصل. و (رأد) و (أرآد) و (الرأد) أصل الّلجييين. وربما كثر الفعل على (فعلة) كما كسر على (فعال) و (فعول)، وليس ذلك بالأصل. وذلك قولهم: (جب) وهو الكمأة الحمراء، و (جبأة) و (فقع) وفقعة، وقعب وقعبة. وقد يكسر على (فعولة وفعالة)، فيلحقون هاء التأنيث البناء وهو القياس أن يكسر عليه وزعم الخليل أنهم إنما أرادوا أن يحققوا التأنيث. وذلك نحو (الفحالة) و (البعولة) ¬

_ (¬1) الديوان: 73، والعيني: 4/ 526، وابن يعيش: 5/ 16، وابن الشجري: 1/ 329.

و (العمومة). والقياس في (فعل) ما ذكرنا. وأما ما سوى ذلك فلا يعلم إلا بالسمع ثم نطلب النظائر، كما أنك تطلب نظائر الأفعال هاهنا، فتجعل نظير (الأزناد) قول الشاعر وهو الأعشى: إذا روّح الرّاعي الّلقاح معزّيا … وأمست على آنافها عبراتها (¬1) وقد يجيء " خمسة كلاب " يراد به خمسة من الكلاب كما تقول: (هذا صوت كلاب) أي هذا من هذا الجنس. وكما تقول: (هذا حبّ رمّان). وقال الراجز: كأنّ خصيّيه من التّدلدل … ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (¬2) وقال الآخر: قد جعلت ميّ على الظّرار … خمس بنان قانئ الأظفار (¬3) وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فإنك إذا كسّرته لأدنى العدد بنيته على (أفعال). وذلك قولك: (جمل) و (أجمال)، و (جبل) و (أجبال)، و (أسد) و (آساد)، فإذا جاوزوا به أدنى العدد فإنه يجيء على (فعال وفعول). فأما الفعال فنحو (جمال وجبال)، وأما الفعول فنحو (أسود) و (ذكور) ... والفعال في هذا أكثر. وقد يجيء إذا جاوزوا به أدنى العدد على (فعلان وفعلان). فأما (فعلان) فنحو (خربان) وبرقان وورلان. وأما (فعلان) فنحو: ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى: 64، وابن يعيش: 5/ 17. (¬2) البيت لخطام المجاشعي انظر الخزانة: 3/ 314، وابن يعيش: 3/ 143، 144، وابن الشجري: 1/ 20. (¬3) انظر اللسان مادة (بنان)، والمخصص: 2/ 7، والمقتضب: 2/ 159.

(حملان) و (سلعان) فإذا لم تجاوز أدنى العدد قلت: (أبراق) و (أحمال) و (أوراك) و (أحزان) و (سلق) وأسلاق). وربما جاء (الأفعال) يستغنى به أن يأسر الاسم على البناء الذي هو لأكثر العدد، فيعني به ما عني بذلك البناء من العدد، وذلك نحو: (قتيب وأقتاب) و (رسن) و (أرسان) ونظير ذلك من باب الفعل (الأكفّ والأرآد). وقد يجيء الفعل (فعلانا)، وذلك قولك: (ثغب وثغبان). و (الثّغب: الغدير) و (بطن) و (بطنان)، و (ظهر) و (ظهران). وقد يجيء على (فعلان) وهو أقلهما نحو: (حجل وحجلان)، ورأل ورئلان، وجحش و (جحشان) و (عبد) و (عبدان). وقد يلحقون (الفعال) الهاء، كما ألحقوا (الفعال) التي في (الفعل). وذلك قولهم في (جمل): (جمالة)، و (حجر): (حجارة)، و (ذكر): (ذكارة) وذلك قليل. والقيان على ما ذكرنا. وقد كسّر على (فعل) وذلك قليل، كما أن (فعلة) في باب (فعل) قليل، وذلك نحو: (أسّد) و (أسد) بلغنا أنها قراءة. وبلغني أن بعض العرب يقول: (نصف) و (نصف). وربما كسروا فعلا على ((أفعل)) كما كسّروا فعلا على (أفعال) وذلك قولك: (زمن) و (أزمن). وبلغنا أن بعضهم يقول: (جبل) و (أجبل). وقال الشاعر وهو ذو الرمة: أمنزلأيّ منّ سلام عليكما … هل الأزمن اللّائي مضين رواجع (¬1) وبنات الياء والواو تجري هذا المجرى، قالوا: (قفا وأقفاء)، و (قفيّ) و (عصى)، و (عصيّ) و (صفا) و (أصفاء) و (صفيّ)، كما قالوا: (آساد) و (أسود)، و (أشعار) و (شعور). وقالوا: (رحى) و (أرحاء) فلم يكسّروها على غير لك، كما لم يكسّروا الأرسان والأقدام على غير ذلك ولو فعلوا كان قياسا ولكني لم أسمعه. وقالوا: (عصى) و (أعصى)، كما قالوا: (أزمن)، وقالوا: (عصيّ) كما قالوا: (أسود) ولا نعلمهم قالوا: (أعصاء)، جعلوا (أعصى) بدلا من (أعصاء) جعلوا هذا بدلا منها. وتقول في المضاعف: (لبّب) و (ألبّاب)، و (مدد) و (أمداد)، و (فنن) و (أفنان)، ولم يجاوزا الأفعال كما لم يجاوزوا الأقدام والأرسان والأغلاق. ¬

_ (¬1) ديوانه ص 50، والكامل 37، والمخصص 9/ 63، وابن يعيش 5/ 17.

والثبات في باب فعل على الأفعال أكثر من الثبات في باب فعل على الأفعال. فإن بنى المضاعف على فعال أو فعول أو فعلان أو فعلان فهو القياس على ما ذكرنا، كما جاء المضاعف في باب فعل على قياس غير المضاعف فكل شيء دخل المضاعف مما دخل الأول فهو له نظير. وقالوا: الحجار فجاءوا به على الأكثر والأقيس، وهو في الكلام قليل. قال الشاعر: كأنها من حجار الفيل ألبسها … مضارب الماء لون الطّحلّب اللّزب (¬1) وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فإنما تكسّره من أبنية أدنى العدد على (أفعال) وذلك نحو: (كتف) و (أكتاف) و (كبد) و (أكباد)، و (فخذ) و (أفخاذ) و (نمر) و (أنمار) وقلما يجاوزون به؛ لأن هذا البناء نحو (كتف) أقل من (فعل) بكثير، كما أن (فعلا) أقل من (فعل). ألا ترى أن ما لزم منه بناء الأقل أكثر، فلم يفعل به ما فعل بفعل إذ لم يكن كثيرا مثله كما لم يجئ في مضاعف فكل ما جاء في مضاعف فقل لقلته. ولم يجئ في بنات الياء والواو من فعل ((جميع ما جاء في بنات الياء والواو من فعل)) لقلتها وهي على ذلك أكثر من المضاعف. وذلك أن (فعلا) أكثر من (فعل). وقد قالوا: النّمور والوعول شبهوها بالأسود وهذا النحو قليل، فلما جاز لهم أن يثبتوا في الأكثر على أفعال كانوا له في الأقل ألزم. وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فهو بمنزلة (الفعل) وهو أقل، وذلك قولك: (قمع) و (أقماع)، و (معّى) و (أمعاء)، و (عنب) و (أعناب)، و (ضلع) و (أضلاع) و (إرم) و (آرام)، وقد قالوا: (الضّلوع) و (الأروم) كما قالوا (النمور)، وقد قال بعضهم: (الأضلع)، شبها ب (الأزمن). وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعل) فهو ك (فعل) و (فعل)، وهو أقل في الكلام منهما وذلك قولك: (عجز) و (أعجاز)، و (عضد) و (أعضاد). وقد بني على (فعال) قالوا: (أرجل) و (رجال)، و (سبع) و (سباع)، جاءوا به على (فعال) كما جاءوا ب (الضّلع) على (فعول). و (فعال) و (فعول) أختان وجعلوا أمثلته على بناء لم يكسّر عليه واحده، وذلك قولهم: (ثلاثة رجلة)، واستغنوا بها عن (أرجال). ¬

_ (¬1) البيت بالكتاب 3/ 572، وابن يعيش 5/ 18، والمخصص 10/ 90، واللسان (حجر).

وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فهو بمنزلة الفعل، لأنه (قليل) مثله، وهو قولك: (عنق وأعناق)، و (طنب) و (أطناب)، و (أذن) و (آذان) وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فإن العرب تكسّره على (فعلان) وإن أرادوا أدنى العدد لم يجاوزوه، واستغنوا به كما استغنوا ب (أفعل) و (أفعال) فيما ذكر ذلك، فلم يجاوزوه في القليل والكثير وذلك قولك: (صرد) وصردان، و (نغر) و (نغران) و (جعل) و (جعلان) و (خزز) وخزّان. وقد أجرت العرب شيئا منه مجرى فعل وهو قولهم (ربع) و (أرباع)، و (رطب) و (أرطاب)، كقولك: (جمل) و (أجمال). وقد جاء من الأسماء (اسم) واحد على (فعل) لم نجد مثله، وهو (إبل) وقالوا: آبال، كما قالوا: (أكتاف) فهذه حال ما كان على ثلاثة أحرف وتحركت حروفه جمع، وقال الراجز: فيها عبايبل أسود ونمر ففعل به ما فعل بالأسد حين قال: أسد. وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فإنه إذا كسّر على ما يكون لأدنى العدد كسّر على (أفعال)، ويجاوزون به بناء أدنى العدد فيكسّر على (فعول وفعال) والفعول فيه أكثر فمن ذلك قولهم (حمل) و (أحمال) و (حمول) و (عدل) و (أعدال) و (عدول) و (جذع) و (أجذاع) و (جذوع) و (عرق) و (أعراق) و (عروق) و (عذق) و (أعذاق) و (عذوق). وأما الفعال فنحو: (بئر) و (أبار) و (بئار)، و (ذئب) و (ذئاب)، وربما لم يجاوزوا أفعالا في هذا البناء كما لم يجاوزوا الأفعل والأفعال فيما ذكرنا، وذلك نحو (خمس) و (أخماس)، و (ستر) و (أستار)، و (شبر) و (أشبار) و (طمر) و (أطمار) وقد يكسّر على (فعلة) نحو: (قرد) و (قردة) و (حسل) و (حسلة) و (أحسال) إذا أردت بناء أدنى العدد. فأما (القردّة) فاستغنى بها عن (أقراد) كما قالوا: (ثلاثة شموع) فاستغنوا بها عن (أشماع). وقالوا: (ثلاثة قروء) فاستغنوا بها عن (ثلاثة أقروء). وربما بنى (فعل) على (أفعل) من أبنية أدنى العدد، وذلك قولهم: (ذئب) و (أذؤب)، و (قطع) و (أقطع) و (جرو) و (أجر)، وقالوا: (جراء) كما قالوا: (ذئاب)، و (رجل) و (أرجل) إلا أنهم لا يجاوزون الأفعّل كما أنهم لم يجاوزوا (الأكفّ). وبقية المضاعف هاهنا وبنات الياء والواو كقصتها في باب فعل، وقالوا: (نحى) و (أنحاء) و (نحاء) كما قالوا: (أبار) و (بئار) وقالوا في جمع (نحى): (نحىّ) كما قالوا: (لص) و (لصوص)، وقالوا في الذئب: (ذؤبان)

جعلوه ك (ثغب) و (ثغبان). وقالوا: (اللّصوص) في (اللص). كما قالوا: (القدور) في (القدر) و (أقدر) حين أرادوا بناء الأقل. وكما قالوا: (فرخ) و (أفراخ) و (فراخ) قالوا: (قدح) و (أقداح) و (قداح) جعلوها كفعل. وقالوا: (رئد) و (رئدان) كما قالوا: (صنو) و (صنوان) و (قنو) و (قنوان)، وقال بعضهم: (صنوان) و (قنوان) كقوله: (ذؤبان) والرئد: فرخ الشجرة. وقالوا: (شقذ) و (شقذان). و (الشّقذ): ولد الحرباء. وقالوا: (صرم) و (صرمان)، كما قالوا: (ذئب) و (ذؤبان). وقالوا: (ضرس) و (ضريس) كما قالوا: (كليب) و (عبيد). وقالوا: (زقّ) و (زقاق) و (أزقاق)، كما قالوا: (بئر) و (بئار) و (أبار) وقال: (زقّان) كما قالوا: (ذؤبان). وأما ما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا)، فإنه يكسر من أبنية أدنى العدد على (أفعال). وقد يجاوزون به بناء أدنى العدد فيكسرونه على (فعول وفعال)، و (فعول) أكثر، وذلك قولهم: (جند وأجناد وجنود) و (برد وأبراد وبرود) و (برج وأبراج وبروج)، وقالوا: (جرح) و (جروح) ولم يقولوا: (أجراح)، كما لم يقولوا: (أفراد). وأما الفعال فقولهم: (جمد وأجماد وجماد)، و (قرط وأقراط وقراط). والفعال في المضاعف منه كثير، وذلك قولهم: (أخصاص) و (خصاص)، و (أعشاش) و (عشاش)، و (أقفاف) و (قفاف)، و (أخفاف) و (خفاف) تجريه مجرى: (أجماد)، و (جماد) وقد يجيء إذا جاوز بناء أدنى العدد على (فعلة) نحو: (جحر وأجحار وجحرة). قال الشاعر: كرام حين تنكفث الأفاعي … إلى أجحارهنّ من الصّقيع (¬1) ونظيره من المضاعف (حبّ وأحباب وحبيه) نحو: (قلب وأقلاب وقلبة)، و (خرج) و (خرجه)، ولم يقولوا: أخراج كما لم يقولوا (أجراح)، و (صلب وأصلاب وصلبة) و (كرز وأكراز وكرزة) وهو كثير. وربما استغنى بأفعال في هذا الباب فلم يجاوز، كما كان ذلك في (فعل) و (فعل)، وذلك نحو: (ركن) و (أركان)، و (جزء) و (أجزاء)، و (شفر) و (أشفار). وأما بنات الياء والواو منه فقليل، قالوا: (مدى) و (أمداء)، لا يجاوزون به ذلك لقلته في هذا الباب وبنات الياء والواو أقل منها، في جميع ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) استشهد سيبويه به: 3/ 577 على جمع (حجر) على أحجار انظر المخصص: 7/ 76، المقتضب: 2/ 197.

وقد كسّر حرف منه على (فعل) كما كسّر عليه (فعل) وذلك قولك للواحد: (هو الفلك) فتذكر، وللجميع: (هي الفلك)، وقال الله عز وجل: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (¬1) فلما جمع قال: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (¬2) كقولك: (أسد) و (أسد) وهذا قول الخليل ومثله: (رهن) و (رهن) وقالوا: (ركن، وأركن). وقال الراجز وهو رؤبة: وزحم ركنيك شداد الأركن (¬3) كما قالوا: (أقداح) في (القدح)، وقالوا: (حشّن وحشّان وحشّان) كقولهم: (رئد) و (رئدان). وأما ما كان على (فعلة) فإنك إذا أردت أدنى العدد جمعتها بالتاء وفتحت العين وذلك قولك (قصعة) و (قصعات)، و (صحفة) و (صحفات) و (جفنة) و (جفنات) و (شفرة) و (شفرات) و (جمرة) و (جمرات). فإذا جاوزت أدنى العدد كسّرت على (فعال)، وذلك: (قصعة) و (قصاع)، و (جفنة) و (جفان)، و (شفرة) و (شفار) و (جمرة) و (جمار). وقد جاء على (فعول) وهو قليل وذلك قولك: (بدرة) و (بدور) و (مأنه) و (مؤون)، فأدخلوا فعولا في هذا الباب لأن فعالا وفعولا أختان، فأدخلوها هاهنا كما دخلت في باب فعل مع فعال. غير أنه في هذا الباب قليل وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير. وقال الشاعر، وهو حسان بن ثابت: لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى … وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (¬4) فلم يرد أدنى العدد. وبنات الياء والواو بتلك المنزلة، تقول: (ركوة) و (ركاء) و (ركوات)، و (قشوة) و (قشاء) و (قشوات)، و (غلوة) و (غلاء) و (غلوات)، و (ظبية) و (ظباء) واظبيات، وقالوا: (جديات الرّحل) ولم يكسروا الجدية على (بناء) الأكثر استغناء بهذا، إذ جاز أن يعنوا به الكثير. ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 41. (¬2) سورة البقرة، الآية: 164. (¬3) انظر ديوان الشاعر: 164، والمقرب: 94، واللسان: (ركن)، والبيت من مشطور الرجز. (¬4) انظر ديوان الشاعر: 371، الخزانة: 3/ 430، وابن يعيش: 5/ 10، المقتضب: 2/ 188.

والمضاعف من هذا البناء بتلك المنزلة، تقول: (سلّة وسلال وسلات)، و (دبة ودباب ودبّات). وأما ما كان (فعلة) فهو في أدنى العدد وبناء الأكثر بمنزلة ((فعلة)) وذلك قولك: (رحبة ورحبات ورحاب)، و (رقبة ورقبات ورقاب) وإن جاء شيء من بنات الياء والواو والمضاعف أجرى هذا المجرى إذ كان مثل ما ذكرنا ولكنه عزيز. وأما ما كان (فعله) فإنك إذا كسرته على بناء أدنى العدد ألحقت التاء وحركت العين بضمه، وذلك قولك: (كمه) قالوا (سرّة وسرّات وسرر) و (جدّة وجدّات وجدد) وهي الخط يكون في الشيء من غير لونه ولا يحركون العين، لأنها كانت مدغمة، ولا يقولون في (جدة جددات) ولا في (سرّة سررات) لأنهم يطلبون الإدغام فيما كان فيه حرفان من جنس واحد فلا يبطلونه في الجمع. ولهم عنه مندوحة إلى جمع آخر. قال: و (الفعال) كثير في المضاعف نحو (جلة وجلال) و (قبّة وقباب) و (جبّة وجباب). قال: وما كان على (فعلة) فإنك إذا كسّرته على بناء أدنى العدد أدخلت التاء وحركت العين بكسرة وذلك قولك: (قربات) و (سدرات) و (كسرات). ومن العرب من يفتح العين كما فتحت عين (فعلة) وذلك قولك: (قربات) و (سدرات) فإذا أردت بناء الأكثر قلت: (سدر) و (قرب) و (كسر)، ومن قال: (غرفات) قال (كسرات) (وقد) يريدون الأقل فيقولون: (كسر) و (فقر). وذلك أن (غرفات) أكثر في كلامهم من (كسرات وفقرات) لأن التقاء الكسرتين في كلمة أقل من التقاء ضمتين، ألا ترى أنه ليس في الكلام فعل إلا (إبل)، وقال بعضهم: (إطل) و (بلز) وفعل كثير في الكلام كقولك (جنب) و (عنق) و (عطل) وأشباه لذلك كثير. قال سيبويه: وذلك لقلة استعمالهم التاء في هذا الباب لكراهية الكسرتين، والتاء في الفعلة أكثر لأن ما يلتقي في أوله كسرتان قليل. قال: وبنات الياء والواو بهذه المنزلة تقول: (لحية) و (لحى)، و (فرية وفرى) و (رشوة) و (رشا) ولا يجمعون بالتاء كراهية أن تجيء الواو بعد كسرة فاستثقلوا الياء هنا بعد كسرة فتركوا هذه استثقالا واجتزؤوا ببناء الأكثر. يعني أنهم لا يكادون يجمعون (فرية)، و (لحية) و (رشوة) بالألف والتاء، لئلا يلزمهم

كسر الثاني وقد عرفتك أن التقاء الكسرتين في الصحيح قليل فكيف في المعتل، ولو فعلوا ذلك في (رشوة) لزمهم (رشيات)، وقلب الواو ياء فلم يجز ذلك في (رشوة) كما لم يجز في (مدية) (فعلات). وأما (لحية) و (فرية) فيجوز فيهما لأنه لا ينقلب فيهما حرف إلى حرف. وقال غير سيبويه قد جاء في فعلة من هذا الباب (ما) على فعل قال: (وهما لحية) و (لحى) و (حلية) و (حلى) والكسرة فيها أجود. قال: والمضاعف منه كالمضاعف من (فعلة) وذلك قولهم (قدّة) و (قدّات) و (قدد) و (ربّة) و (ربّات) و (ربب)، و (عدّة المرأة) و (عدّات) و (عدد). و (القدة) القطعة من الناس وغيرهم، و (الرّبة) نبت. قال: وقد كسّرت (فعلة) على (أفعل) وذلك قليل عزيز ليس بالأصل قالوا: (نعمة) و (أنعم) و (شدّة) و (أشدّ). قال أبو سعيد: وهذا بعينه قول الفراء. وقال أبو عبيدة: معمر بن المثنى: أشدّ جمع لا واحد له. وقال غير أبي عبيدة: (أشد) جمع (شدّ) كما قالوا: (قدّ)، وقال أبو العباس محمد بن يزيد: أنعم عندنا (جمع) المصدر وهو (نعم) على القياس وكذا قال في (أشدّ) جمع (شدّ). قال سيبويه: فأما (الفعلة) فإذا كسّرت على بناء الجمع، ولم تجمع بالتاء كسّرت على (فعل) وذلك قوله: (نقمة) و (نقم) و (معدة) و (معّد). قال أبو سعيد: ومثل هذا قليل، ولا يستمر قياسه، لا يقال في (خلفة) (خلف) ولا في (كلمة) (كلم)، ولا في (خربة) (خرب) وإنما جمع (نقمة) و (معدة) على (نقم) و (معد) لأنهم يقولون فيهما: (نقمة) و (معدة) ك (فريّة) و (كرّة) فجمع على ذلك. قال: وأما (الفعلة) فتكسّر على فعل إن لمن تجمع بالتاء وذلك (تخمة) و (تخم) و (تهمة) و (تهم) وليس كل (رطبة) و (رطب)، ألا ترى أن (الرّطب) مذكر ك (البر) و (التمر) وهذا مؤنث ك (الظلم) و (الغرف). قال أبو سعيد: أما (تخمّة) و (تخم)، فأنهم أجروا (فعلة) مجرى (فعلة) كما أجروا (فعلة) مجرى (فعلة)، ألا ترأهم قالوا: (رقبة) و (رقاب) كما قالوا (جفنة) و (جفان)، وكذلك (تخمة) كأنهم قالوا: (تخمة) مثل (ظلمة) و (غرفة)، و (تخم) و (تهم) مثل

هذا باب ما يكون واحدا يقع للجمع ويكون واحدة على بنائه من لفظه إلا أنه مؤنث تلحقه هاء التأنيث ليتبين الواحد من الجميع

(غرف) و (ظلم). وأما (الرطب) و (المصع) و (الرقع) مما قد ذكرناه في الأجناس فهو بمنزلة (تمر) و (تمرة) وهو اسم يقع للجنس مذكرا يجري مجرى الواحد ثم يفصل منه الواحد بزيادة الهاء. ولو صغرت (رطبا) لقلت: (رطيبا)، ولو صغرت (تخما) لقلت: (تخيمات) لأنه جمع مكسر. وإنما تجيء أسماء الأجناس فيما يخلق الله جمعه جملة. وقد تقدم ذلك بما أغنى عن إعادته. فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يكون واحدا يقع للجمع ويكون واحدة على بنائه من لفظه إلا أنه مؤنث تلحقه هاء التأنيث ليتبين الواحد من الجميع فأما ما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فهو نحو (طلح) والواحدة (طلحة) و (تمر) والواحدة (تمرة) و (نخل) والواحدة (نخلة). قال أبو سعيد: قد كنا ذكرنا أن هذا الجمع يقع الاسم لنوعه كما يقع للواحد، لأنه نوع يخلقه الله جملة ثم تلحق الواحد منه علامة التأنيث بما أغنى عن استقصائه في هذا الموضع. قال سيبويه: فإذا أردت أدنى العدد جمعت الواحد بالتاء وإذا أردت الكثير صرت إلى الاسم الذي يقع على الجمع ولم يكسر الواحد على بناء آخر، وربما جاءت " الفعلة " من هذا الباب " فعال "، وذلك قولك (سخلة) و (سخال) و (سخل) و (بهمة) و (بهام) و (بهم) و (طلحة) و (طلاح) و (طلح) شبهوها بالقصاع وقد قال بعضهم (صخرة) و (صخور) فجعلت بمنزلة (بدرة) و (بدور)، و (مأنة) و (مؤون) والمأنة تحت الكركرة. (¬1) قال أبو سعيد: الباب في هذا النحو أن يكون الجمع الكثير منه غير مكسر، وإنما يكون اسم النوع الموضوع (للقليل والكثير والباب) أن يكون القليل منه بالألف والتاء كقولك: (نملة) للواحدة والكثير (نمل) والقليل (نملات)، و (برّة) للواحدة و (برّ) للكثير، و (برّات) للقليل، و (نبقة) للواحدة و (نبق) للكثير و (نبقات) للقليل. وما جاء منه مكسرا فهو مشبه بما كان من غير هذا الباب مما يصنعه الآدميون ولم ¬

_ (¬1) الكركرة بالكسر: رحى زور البعير أو صدر كل ذي خف. انظر القاموس: 2/ 126، باب الكاف فصل الراء (كرّ).

يقع الخلق على جملته، ويكثر ذلك فيما كثر استعمالهم له، وما لم يكثر فلا يكاد يجيء فيه ذلك، قالوا (نملة) و (نمل)، و (تينة) و (تين)، و (موزة) و (موز) و (سروة) و (سّرو) و (مروة) و (مرو)، ولم يجئ في شيء من ذلك جمع مكسر وقالوا (تمرة) و (تمر) و (تمور)، وقالوا: (عنبة) و (عنب) و (أعناب)؛ لأنهم للتمر والعنب أكثر استعمالا. قال سيبويه: وقالوا: (صعوة) و (صعو) و (صعاء) كما قالوا: (طلاح) ومثل ما ذكرنا (شريّة) و (شرى) و (هدية) و (هدى) (الشّوية): الحنظلة ومن المضاعف مثل (حبة) و (حبّ) و (قتّة) و (قتّ). قال: وأما ما كان على ثلاثة أحرف وكان " فعلا " فإن قصته كقصة (فعل)، وذلك قولك (بقرة) و (بقرات) و (بقر)، و (شجرة) و (شجرات) و (شجر)، و (خرزة) و (خرزات) و (خرز)، وقد كسّروا الواحد منه على (فعال) كما فعلوا ذلك في (فعل) قالوا: (أكمة) و (إكام)، و " أكم " و (جذبة) و (جذاب) و (جذب)، و (أجمة) و (إجام) و (أجم)، و (ثمرة) و (ثمار) و (ثمر) ونظير هذا من بنات الياء والواو قالوا (حصاة) و (حصى) و (حصيات)، و (قطاة وقطى وقطوات) وقالوا: (أضاء وأضا وإضاء). كما قالوا: (إكام) و (أكم) سمعنا ذلك من العرب. والذين قالوا: (أكام) و (أكم) ونحوها شبهوها ب (الرحاب) ونحوها كما شبهوا الطّلاح وطلحة ب (جفنة) و (جفان). قال أبو سعيد: الذي ذكره سيبويه في جمع (أكمة) في هذا الموضع " أكم " على أنه جنس و (إكام) على أنه جمع مكسر، وليس ذلك ببابه، لأنه ليس من مصنوعات الآدميين ثم قال: شبهوها ب (الرحاب) و (الرّحاب) جمع (رحبة) وهي من مصنوعات الآدميين، كما شبهوا (الطّلاح) جمع (طلحة) وليست من المصنوعة ب (جفنه) و (جفان) وهي من المصنوعات ويقال (أكمة) و (أكم) و (إكام) و (أكام) و (آكم) وكأن الذي قال: " آكام " جمع " أكّما " جمع التكسير كما يقال (جبل) و (أجبال). والذي قال: (آاكم) جمع أكّما)) على " آاكم " كما قالوا: " زمن وأزمن " وقد قالوا: في (شجر أشجار) وفي " أجم آاجام " وقولهم: (أضاة) وهو الغدير و (إضاء) بمنزلة (إكام في أكمة) و (الجذبة): " الجمّارة ". قال: وقد قالوا: " حلق " و " فلك " ثم قالوا: (حلقة) و (فلكة) فخففوا في الواحد حيث ألحقوه الزيادة وغيّر المعنى كما فعلوا ذلك في الإضافة وهو قليل وزعم يونس عن أبي

عمرو أنهم يقولون حلقة ". وكان في حاشية كتاب أبي بكر بن السراج وفي نسخة أخرى: " ومن العرب من يقول: (حلقة) و (حلق) وقد حكى أبو زيد (حلقة) و (حلق). قال أبو سعيد: قولهم (حلق) و (فلك) في الجمع وفي الواحد (حلقة) و (فلكة) من الشاذ. وشبه سيبويه شذوذه بما يغير في الإضافة وهي النسب. ومما يخفف قولهم: " ربيعة " وفي النسب: " ربعىّ " و " نمر " وفي النسب " نمرىّ " وياء النسب تشبه في بعض المواضع هاء التأنيث لأنهم قالوا (زنجىّ) للواحد، و (رومي) للواحد. وللجمع: (زنج)، و (روم)، فياء النسب علامة الواحد كما كان الهاء علامة الواحد في (تمرة) و (طلحة). وأما حلقة على ما حكى عن أبي عمرو " حلقة وحلق " فليس بشاذ؛ لأنه بمنزلة (شجرة) و (شجر). والذي قال (حلقة) و (حلق) فليس ذلك أيضا بشاذ كشذوذ (حلقة) و (حلق) لأنهم قد قالوا (ضيعة) و (ضيع) و (بدرة) و (بدر). قال: وأما ما كان " فعلا " فقصته كقصة (فعل) إلا أنا لم نسمعهم كسّروا الواحد على بناء سوى الواحد الذي يقع على الجميع، وذلك أنه أقل في الكلام من " فعل " وذلك قولك (نبق) و (نبقة) و (نبقات)، و (خربة) و (خربات) و (خرب)، و (لبنة) و (لبن) و (لبنات) و (كلمة) و (كلمات) و (كلم). قال أبو سعيد: لا يكاد يجيء في هذا مكسر كما جاء في فعل كقولنا: صخر وصخور وفي (فعل) كقولنا (ثمر) و (ثمار) لكثرة (فعل) و (فعل) في الأبنية وقلة (فعل). قال المازني: يقال: (نبقة) و (نبقة) و (نبقة) و (نبقة) أربع لغات. قال سيبويه: " وأما ما كان " فعلا " فهو بمنزلته يعنى بمنزلة " فعل " وهو أقل منه يعني من (فعل) أراد أنه لا يكاد يكسر (فعلة) وهو أقل منه في الكلام. وذلك نحو (عنبة) و (عنب) و (حداة) و (حدأ) و (حدآت) و (إبرة) و (إبر) و (إبرات) وهو فسيل المقل ". قال: وأما ما كان " فعلة " فهو بهذه المنزلة وهو أقل من الفعل، وهو (سمرة) و (سمر)، و (ثمرة)، و (ثمر) و (ثمرات) و (سمرات)، و (فقرة) و (فقر) و (فقرات). والفقرة

نبت ولا أعلم أحدا جاء بثمرة إلا سيبويه. قال: وما كان " فعلا " فنحو: (بسر) و (بسرة) و (بسرات)، و (هدب)، و (هدّبة) وهدبات، وما كان " فعلا " فهو كذلك وهو قولك (عشر) و (عشرة)، و (عشرات) و (رطب) و (رطبة) و (رطبات)، ويقول ناس للرّطب (أرطاب) كما قالوا: (عنب) و (أعناب) ونظيرها (ربع) و (أرباع)، و (نغرة) و (نغر) و (نغرات) والنّغر داء يأخذ الإبل في رؤوسها، وقد تقدم في قولنا على ما ذكر. قال: ونظيرها من الياء قول العرب (مهاة) و (مهى) وهو ماء الفحل في رحم الناقة. وزعم أبو الخطاب أن واحد (الطّلى) (طلاة) وإن أردت أدنى العدد جمعت بالتاء. قال أبو سعيد: سبيله إذا جمع بالتاء أن يقال (مهيات) و (طليات). قال: وقالوا: (الحكا) والواحدة حكاة- وهي العظيم من العظاء- والمرع والواحدة (مرعة) وهي طائر. قال أبو سعيد: في (الطّلاة) لغتان: (طلاوة) و (طلية) والجمع فيهما جميعا " الطّلى " وهي صفحة العنق. قال ذو الرمة: أضلّة راعيا كلبيّة صدرا … عن مطلب وطلى الأعناق تضطرب (¬1) وقال الأعشى في الطّلاة: متى تسق من أنيابها بعد هجعة … من اللّيل شربا حين مالت طلاتها (¬2) أي حين نامت. قال: وأما ما كان على ثلاثة أحرف وكان " فعلا " فإن قصته كقصة ما ذكرناه وذلك (سدر) و (سدرة) و (سدرات)، و (سلق) و (سلقة) و (سلقات)، و (تبن) و (تبنة) و (تبنات)، و (عرب) و (عربة) و (عربات)، والعربة: البهمى وهو يبيس البهمى. قال: وقالوا (سدرة) و (سدر) جعلوها ك (كسر) كما جعلوا (الطلحة)، حين ¬

_ (¬1) انظر ديوان الشاعر: 30. (¬2) انظر ديوان الشاعر: 210.

قالوا: (الطّلاح) ك (القصاع) فشبهوا هذه ب (لقحة) و " لقح " كما شبهوا (طلحة) ب (صفحة) و (صحاف) وقالوا (لقحة) و (لقاح) كما قالوا في باب " فعلة " (فعال) نحو (جفرة) و (جفار) ومثل ذلك (حقّة) و (حقاق). قال أبو سعيد: وإنما كسّروا (لقحة) و (لقاح) و (حقّة) و (حقاق)، لأن أشخاص البهائم تتغير وكل شخص منها بضرب من الملابسة، له خاصة وليس يقع الخلق عليها جملة فتجري مجرى (تمرة) و (تمر)، بل يعرض فيه أن يفرق بين المذكر والمؤنث بالهاء لا بين الجمع والواحد كقولهم (ثنيّة) و (ثنى) و (جذعة) و (جذع) و (حقّة) للمؤنث و (حقّ) للمذكر، كما قال الشاعر: إذا سهيل مغرب الشّمس طلع … فابن اللّبون الحقّ والحقّ جذع (¬1) قال: وقد قالوا: (حقّة وحقق) - كذا في كتاب ابن السراج " حقق " بالضم والصواب " حقق ". وأنشد قول المسيب: قد نالني منهم على عدم … مثل الفسيل صغارها الحقق (¬2) والصحيح أن يكون صغارها الحقق. قال: وما كان على ثلاثة أحرف وكان (فعلا) فقصته كقصة (فعل)، وذلك قولك: (دخن) و (دخنة) و (دخنات)، و (نقد) و (نقدة) و (نقدات) وهو شجر، و (حرف) و (حرفة) و (حرفات) ومثل ذلك من المضاعف (درّ) و (درّة) و (درّات) و (برّ) و (برّة) و (برّات)، وقد قالوا: (درر) وكسروا الاسم على فعل كما كسّروا (سدرة) على (سدر) ومثله (التّوم) تقول (تومة) و (تومات) و (توم). يعني مثله في التكسير ويجوز (تومة) و (توم) كما تقول: (درة) و (درر)، والتومة شبيهة بالدرة من فضة فاعلم ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز مذكوران في اللسان (حقق) والشاهد فيهما (حقّ) حيث ورد في البيت للمذكر. (¬2) البيت من الكامل وهو من شواهد سيبويه: 3/ 586، والرواية فيه (حقق) والشاهد فيه جمع حقّة على حقق والمستعمل تكسيرها على حقاق. انظر شرح الشواهد للأعلم: 2/ 184.

هذا باب نظير ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات فيهن عينات

هذا باب نظير ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي الياءات والواوات فيهن عينات أما ما كان (فعلا) من بنات (الياء) والواو فإنك إذا كسرته على بناء أدنى العدد كسرته على " أفعال "، وذلك قولك: (سوط) و (أسواط) و (ثوب) و (أثواب) و (قوس) و (أقواس)، وإنما منعهم " من " أن يبنوه على (أفعل) كراهية الضمة في الواو فلما ثقل (ذلك) بنوه على أفعال وله في ذلك أيضا نظائر من غير المعتل نحو (أفراخ) و (أفراد) و (رفغ) و (أرفاغ) فلما كان غير المعتل يبني على هذا البناء كان هذا عندهم أولى. قال أبو سعيد: يعني لو بنوه على " أفعل " كقولهم (كلب) و (أكلب) لقالوا (سوط) و (أسوط) فاستثقلت الضمة على الواو فعدلوا إلى (أفعال)، وقد عدلوا إليها فيما لا يثقل كقولهم أفراد وأفراخ فكيف (فيما) يثقل. قال: وإذا أرادوا بناء الكثير بنوه على (فعال) وذلك قولهم: (سياط) و (نيات) و (قياس) تركوا (فعولا) كراهية الضمة في الواو والضمة التي قبل الواو فجعلوها على (فعال) إذا كانت متمكنة في غير المعتل. يعني أنهم جعلوا الباب في الجمع إذا كان كثيرا (فعالا) وعدلوا عن (فعول)، لأنهم لو قالوا " فعول " كان (سووط) و (قووس) و (ثووب) فتجتمع في ذلك واو مضمومة وقبلها ضمة وبعدها واو ساكنة. وفي الصحيح " فعال " في هذا الجمع كثير نحو (كلاب) و (كعاب) و (فراخ)، فعدلوا إليه إذ كان أخف من (فعول)، ومعنى قوله: إذ كانت متمكنة في غير المعتل. أي: إذ كانت " فعال " في جمع (فعل) كثيرة في غير المعتل. قال: وقد يبني على (فعلان) لأكثر العدد وذلك نحو (ثور) و (ثيران) و (قوز) و (قيزان). ونظيره من غير هذا الباب (وجذ) و (وجذان) فلما بنى عليه ما لم يعتل فروا إليه كما لزموا غير المعتل. يعني " فعل " و " أفعال " هو القياس في الصحيح كقولنا (جذع) و (أجذاع) و (عرق) و (أعراق) فهو في المعتل أولى أن يقال فيه (فيل) و (أفيال)، لأنا إن عدلنا من " أفعال " إلى " أفعل " فقلنا (فيل) و (أفيل) لثقل وقد يقتصرون في هذا الباب على (أفعال) كما اقتصروا على ذلك في باب (فعل) و (فعل) من المعتل نحو قولهم: (نير) و (أنيار)،

و (كير) و (أكيار). قال: وقد يجوز أن يكون ما ذكرنا " فعلا ". قال أبو سعيد: عند الخليل وسيبويه إذا كان " فعلا " ثانيه ياء وجب كسر الفاء. فيصير على لفظ (فعل) سواء كان جمعا أو واحدا. و (لو) بنينا (فعلا) من الكيل لوجب أن نقول على قولهما (كيل) ومن البيع (بيع). وكان الأخفش يقول ذلك في الجمع، وإذا كان في الواحد قلب الفاء واوا تقول في الجمع (أبيض) و (بيض) و (أعيس) و (عيس) وكان الأصل (بيض) و (عيس) بضم الأول فكسر لتسلم الياء. وإذا بنى " فعلا " من الكيل والبيع اسما واحدا قال: (كول) و (بوع) ومن أجل ذلك قال سيبويه: " قيل وميل وصيد وديك وكيس " وما أشبه ذلك يجوز أن يكون (فعلا) ويجوز أن يكون (فعلا). وكان الأخفش يقول: لا يكون إلا فعلا وهذا مستقصى في التصريف وستراه إن شاء الله. قال: وقالوا في (فعل) من بنات الواو: (ريح) و (أرواح) و (رياح) ونظيره (بئر) و (آبار) و (بئار) قالوا فيه: (فعال) كما قالوه في (فعل) حين قلت (حوض) و (أحواض) و (حياض). قال: وأما ما كان (فعلا) من بنات الواو فأنك تكسره على " أفعال " إذا أردت بناء أدنى العدد وهو القياس والأصل. ألا تراه في غير المعتل كذلك، وذلك قولك (عود) و (أعواد) و (غول) و (أغوال) و (حوت) و (أحوات) و (كوز) و (أكواز)، فإذا أردت بناء أكثر العدد لم تكسره على (فعول) ولا (فعال) ولا (فعلة) وأجرة مجرى (فعل) وانفرد به " فعلان " كما أنه غلب على " فعل " من الواو " الفعال " فكذلك هذا فرقوا بينه وبين " فعل " من (بنات) الياء كما فرقوا بين " فعل " من الياء و (فعل) من الواو ووافق " فعلا " في الأكثر كموافقته إياه في الأقل. وذلك قولك عيدان و " غيلان " و " كيزان " و (حيتان) و (نينان) جماعة النون وهو الحوت. يريد أنهم فرّقوا بين " فعل " من الياء وهو الذي ذكر أنه يمكن أن يكون " فعلا " ولا يقطع عليه، وذلك الفيل، والجيد. قالوا في قليله (أفيال) و (أجياد) وفي كثيره " فعول " وهو (فيول) و (جيود). وبين فعل من الواو.

وقالوا في " كوز " (أكواز)، وفي كثيره " كيزان " وعود و (أعواد) و (عيدان) ففرقوا بين الكثير من الياء والكثير من الواو وإن استويا في القليل كما فرقوا بين كثير من " فعل " من الواو و " فعل " من الياء فقالوا في الواو: (فعال) كقولهم: (حياض) و (سياط) وفي الياء (شيوخ) و (بيوت) وإن استويا في القليل حين قالوا (أحواض) و (أبيات)، وحملوه على (فعل) فقالوا: (عيدان) و (كيزان) كما قالوا (تاج) و (تيجان) و (جار) و (جيران). قال: وقد جاء مثل ذلك في غير المعتل قالوا (حشّ) و (حشّان) كما قالوا في " فعل " من بنات الواو (ثور) و (ثيران) و (قوز) و (قيزان)، كما جاء في الصحيح (عبد) و (عبدان)، و (رأل) و (رئلان). (والحش: البستان). قال: وإذا كسرت " فعلة " من بناء الياء والواو على بناء أدنى العدد كسرتها على البناء الذي كسرت عليه غير المعتل وذلك قولك (عيبة) و (عياب) و (ضيعة) و (ضياع) كما تقول (جفنة) و (جفان) و (صحفة) و (صحاف) وإذا أردت القليل من ذلك ألحقت التاء ولم تحرك العين. يعني تقول فيه (عيبات) و (جوزات) و (روضات) و (بيضات). وهذا مذهب أكثر العرب. كرهوا أن يحركوا فيقولوا " جوزات ". و " بيضات " كما قالوا " تمرات "، و " زفرات "، لأن الواو والياء، إذا تحركتا وانفتح ما قبلها قلبتا ألفين. ومن العرب من يفتح فيقول (جوزات) و (بيضات) ولا يقلب؛ لأن الفتحة عارضة وهي لغة لهذيل وقد أنشد الفراء فيه: أبر بيضات رائح متاوّت … رفيق بمسح المنكبين سبوح (¬1) قال: وقد قالوا: " فعلة " في بنات الواو وكسّروها على " فعل " كما كسّروا " فعلا " على بناء غيره وذلك قولهم (ثوبة) و (ثوب)، و (جوبة) و (جوب) و (رولة) و (رول) ومثلها (قرية) و (قرى) و (نزوة) و (نزى). يريد أن (ثوبة) و (ثوب)، في جمع (ثوبة) محمول على جمع " فعل " كقولهم " سوقة " و " سوق " و " دولة " و " دول " كما كان " فعلان " في (فعل) محمولا على غيره كأنهم حملوه على جمع (فعال) أو (فعل) أو (فعلة). و (فعل) ليس بقياس يطرد، ولم يذكر (نزوة) ¬

_ (¬1) البيت من شواهد التبصرة والتذكرة: 2/ 694، والخصائص: 3/ 184، والخزانة: 3/ 429، والعيني: 4/ 517.

و (نزى) إلا سيبويه والجرمي. ولم أر أحدا من الكوفيين ذكر ذلك. ومثله من بنات الياء (فعلة) و (فعل): قالوا: (ضيعة) و (ضيع) و (خيبة) و (خيب) ونظيرها من غير المعتل (هضبة) و (هضب)، و (حلقّة) و (حلق)، وليس هذا بالقياس. قال: " وأما ما كان (فعلة) فهو بمنزلة غير المعتل وتجمعه بالتاء إذا أردت أدنى العدد وذلك قولك " دولة " و " دولات " لا تحرك الواو فإنها ثانية. " يعني لا تقول: (دولات) كما تقول (ظلمة) (ظلمات) فتحركها من أجل أنها ثانية كما حركت الثاني من (ظلمات) فإذا لم ترد الجمع بالتاء قلت (دول) و (سوقة) و (سوق) و (سورة) و (سور). قال: " وأما ما كان (فعلة) فهو بمنزلة غير المعتل وذلك قولك " قيمة " و " قيمات " و (ريبة) و (ريبات) و (ديمة) و (ديمات) ولا تكسّر الثاني كما كسّرت في (كسرات) و (قربات) استثقالا ولأن التسكين أيضا في الصحيح جيد مستحسن. قال: وأما ما كان على (فعلة) فإنه يكسر على (فعال)، قالوا (ناقة) و (نياق). كما قالوا: (رقبة) و (رقاب) وقد كسروه على (فعل) قالوا: (ناقة) و (نوق) و (قارة) و (قور) و (لابة) و (لوب). وأدنى العدد (لابات) و (قارات) و (ساحة) و (سوح) ونظيرهن من غير المعتل (بدنة) و (بدن)، و (خشبة) و (خشب)، و (أكمة) و (أكم) وليس بالأصل في فعلة. يعني ليس بالمطرد الكثير (فعل) في جمع (فعلة). قال: " وقالوا (أينق) ونظيرها (أكمة) و (آكم) " في جمع " أكمة "، وكان الأصل في (أنيق) (أنوق) فاستثقلوا الضمة على الواو فقدموا عين الفعل إلى موضع الفاء من الفعل فأبدلوا من الواو ياء، لأنها أخف من الواو فاختاروا الأخف لكثرة (أينق) في كلامهم. قال: وقد كسّرت على (فعل) كما كسّرت ضيعة، قالوا: (قامة) و (قيم)، و (تارة) و (تير). قال الراجز:

هذا باب ما يكون واحدا يقع على الجمع من بنات الياء والواو ويكون واحده على بنائه ومن لفظه

يقوم تارات ويمشي تيرا (¬1) وإنما اعتلت عين الفعل في بنات الواو لأن القالب الذي هو حد الكلام في (فعلة) في غير المعتل (فعال). قال أبو سعيد: (الفعال) أولى بالإعلال من (فعلة)، ألا تراهم قالوا (حوض) و (حياض) و (سوط) و (سياط) و (ثوب) و (ثياب) فقلبوا الواو ياء ولا يجيء في مثل ذلك واو وتعتل فتقلبها ياء وقالوا " عود " و " عودة " و (زوج) و (زوجة) فجاءوا بالواو فعلم أن الإعلال في (فعال) أقوى. قال سيبويه: إنما قالوا: (قامة) و (قيم) وأصلها من الواو لأنه محمول على فعال الذي حقه أن يعل و (فعال) هو الحد في جمع (فعلة) في غير المعتل كقولهم في (رقبة) و (رقاب) و (رحبة) و (رحاب). هذا باب ما يكون واحدا يقع على الجمع من بنات الياء والواو ويكون واحده على بنائه ومن لفظه إلا أنه تلحقه هاء التأنيث ليتبين الواحد من الجميع أما ما كان (فعلا) فقصته قصة غير المعتل وذلك قولك (جوز) و (جوزة) و (جوزات)، و (لوز) و (لوزة) و (لوزات)، و (بيض) و (بيضة) و (بيضات)، و (خيم) و (خيمة) و (خيمات)، وقد قالوا (خيام) و (روضة) و (روضات) و (رياض) و (روض) كما قالوا (طلاح) و (سخال). وأما ما كان (فعلا) فهو بمنزلة " الفعل " من غير المعتل وذلك قولك (سوس) و (سوسة) و (سوسات)، و (صوف)، و (صوفة) و (صوفات) وقالوا: (ثومة) و (ثومات) و (ثوم) كما قالوا: (درر). وأما ما كان (فعلا) فقصته قصة غير المعتل وذلك قولك (تين) و (تينة) و (تينات) و (ليف) و (ليفة) و (ليفات)، و (طين) و (طينة) و (طينات). وقد يجوز أن يكون هذا (فعلا) كما يجوز أن يكون الفيل (فعلا) وسنرى بيان ¬

_ (¬1) البيت من مشطور الرجز في شرح الشواهد للأعلم: 2/ 188، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 22. والشاهد فيه جمع (تارة) على (تير) والقياس (تيار) بالألف مثل (رحبة) (رحاب).

هذا باب ما هو اسم واحد يقع على جميع وفيه علامة التأنيث وواحده على بنائه ولفظه وفيه علامة التأنيث التي فيه

ذلك في بابه إن شاء الله تعالى. وأما ما كان (فعلا) فهو بمنزلة (الفعل) في غير المعتل إلا أنك إذا جمعت بالتاء لم تغير الاسم عن حاله وذلك قولك: (هام) و (هامة)، و (هامات) و (راح) و (راحة) و (راحات) - تريد راحة الكف- و (شامة) و (شامات) قال الشاعر وهو القطامّي: وكنا كالحريق أصاب غابا … فيخبو ساعة ويهبّ ساعا (¬1) فقال: ساعة و " ساع " كقولهم: هامة و " هام " ومثله (آية) و (آي) ومثله قول العجاج: وخطرت أيدي الكماة وخطر … راي إذا أورده الطّعن صدر (¬2) قال أبو سعيد: راي جمع راية وهو مرفوع بقوله و " خطر " كأنه قال: خطرت أيدي الكماة وخطرت الرايات في هذه الحرص. وقوله: " ألا ترى أنك إذا جمعت بالتاء لم تغير الاسم عن حاله فقلت (هامات) " يريد أنك لا تحرك الألف فتردها إلى الواو فتقول (هومات) أو (هومات)، لأنها في (هامة) " فعلة " وانقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ولا يزيدها الجمع بالتاء إلا توكيدا للحركة التي من أجلها وجب انقلابها ألفا ووزنها في الجمع بالتاء (فعلات)، كما أن وزنها في الواحد (فعلة) واللفظ واحد. وهذا الباب قد أتى عليه شرحنا في تفسير ما كان من الأجناس التي بينها وبين واحدها الهاء وإنما أفرد سيبويه هذا الباب ليذكر في الأجناس ما ثانيه واو أو ياء أو ألف كما أفرد ما ثانيه هذه الحروف في باب مفرد فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما هو اسم واحد يقع على جميع وفيه علامة التأنيث وواحده على بنائه ولفظه وفيه علامة التأنيث التي فيه وذلك قولك " حلفاء " للجميع و (حلفاء) واحدة و (طرفاء) للجميع و (طرفاء) واحدة و " بهمي " واحدة " وبهمي " للجميع لما كانت تقع للجميع ولم تكن أسماء كسر ¬

_ (¬1) انظر الديوان ص: 39، وشرح الشواهد للأعلم: 2/ 189. (¬2) انظر ديوان العجاج ص: 18، والخصائص: 1/ 18، والمقتضب: 1/ 153.

عليها الواحد. أرادوا أن يكون الواحد من بناء فيه علامة التأنيث، كما كان ذلك في الأكثر الذي ليس فيه علامة التأنيث ويقع مذكرا، نحو (التمر) و (البر) و (الشعير) بأشباه ذلك ولم يجاوزوا البناء الذي يقع للجميع حيث أرادوا واحدا فيه علامة تأنيث؛ لأنه فيه علامة التأنيث فاكتفوا بذلك وبينوا الواحدة بأن وصفوها واحدة، ولم يجيئوا بعلامة سوى العلامة التي في الجميع لتفرق بين هذا وبين الاسم الذي يقع على الجميع وليس فيه علامة التأنيث نحو (التمر) و (البر). قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان من الأجناس فيه ألف التّأنيث مقصورة أو ممدودة فالباب في واحدة أن يكون على لفظ الجميع نحو قولك (طرفاء) و (حلفاء) و (بهمي) و (شكاعي) و (شقّاري) و (لصيقي) وهذه كلها أسماء نبات موضوعة للجنس كما وضع النخل والشجر والتّين والعنب للجنس فإذا أردنا الواحد من هذا الجنس قلنا: (طرفاء) واحدة، وعندي (حلفاء) واحدة، و (بهمي) واحدة، ولم يجز إدخال الهاء عليها فيقال: (حلفاءة) و (بهماة) و (طرفاءة) كما قيل في واحد النخل (نخلة) وفي واحد العنب (عنبة)؛ لأن كون ألف التأنيث في هذه الأسماء يمنع من دخول هاء التأنيث، لئلا يجتمع تأنيثان فاكتفوا بما فيه من التأنيث وبينوا الواحد بالوصف فقالوا: (طرفاء) واحدة. وكنت قرأت " كتاب الشجر والكلأ " لأبي زيد على أبي بكر بن دريد رحمه الله. فقرأت عليه (شقّارى) للجميع و (شقارى) واحدة و (لصيقي) للجميع و (لصيقي) واحدة فذكر ابن دريد أن الواحد " شقّاراة " و " لصيقاة " وهذا لا تعمل عليه لأن كثيرا من أهل اللغة لا يضبطون النحو في مثل هذا ويغلطون فيه، وإنما يقوم بهذا مثل سيبويه وأبي زيد وهؤلاء الأعلام. وقد ذكر أهل اللغة للطرفاء والحلفاء واحدة على هذا اللفظ قالوا: (طرفاء)، و (طرفة) و (قصباء) و (قصبة)، واختلفوا في الحلفاء فقال الأصمعي (حلفاء) و (حلفة) بكسر اللام. وقال أبو زيد والفراء وغيرهما (حلفة) على قياس (طرفة) و (قصبة). وقد كسر (حلفاء) فقيل (حلافي) و (حلافي) ذكر ذلك أبو عمر الجرمي. قال: وتقول (أرطي) و (أرطاة) و (علقي) و (علقاة) لأن الألفات لم تلحق التأنيث. يعني أن ألف (أرطي) التي بعد الطاء وألف (علقي) لغير التأنيث لأنك تقول: هذا (أرطي) و (علقي) فتنون، وألف التأنيث لا تنون، فلما كانت لغير التأنيث جاز أن تدخل عليها الهاء للواحدة.

هذا باب ما كان على حرفين وليست فيه علامة التأنيث

ومن العرب من لا ينون (علقّي) ويجعل الألف للتأنيث فيقول: هذه (علقي) كثيرة وهذه (علقي) واحدة يا فتى وأنشدوا بيت العجاج: يستنّ في علقي وفي مكور (¬1) غير منون. هذا باب ما كان على حرفين وليست فيه علامة التأنيث أما ما كان أصله " فعلا " فإنه إذا كسّر على بناء أدنى العدد كسّر على أفعل (وذلك) نحو (يد) و (أيد) وإن كسّر على بناء (أكثر) العدد كسّر على " فعال " و " فعول " وذلك قولهم: (دماء) و (دميّ) لمّا ردوا ما ذهب من الحروف كسّروه على تكسيرهم إياه لو كان غير منتقص عن الأصل نحو (ظبي) و (دلو). قال أبو سعيد: اعلم أنّ هذا المؤنث الذي ليس في آخره هاء يجمع على تقدير التمام. فما أوجبه بناؤه على التمام من الجمع عمل عليه، فمن ذلك (يد) و (دم) هما عند سيبويه " فعل ". كان أصله " يدي و " دمي " بتسكين الحرف الثاني وهذا البناء جمعه القليل يجيء على " أفعل " وكثيره على (فعال) و (فعول) فجمع (يد) على الجمع القليل فقيل " أيد " وهو (أفعل) كما قيل (ثدي) و " أثد " و " ظبي " و " أظب " و (جدى) و " أجد " وجمع " دم " على الجمع الكثير فقيل " دماء " كما قيل (ظباء) و " دميّ " كما قيل " ثديّ "، فكان بمنزلة ما جاء جمعه الكثير على فعال وفعول كقولنا (كعاب) و (كعوب) و (فراخ) و (فروخ). وقد كان أبو العباس محمد بن يزيد يذهب إلى أن " دما " (فعل) ويستدل على ذلك بأشياء منها أن الشاعر حين اضطر إلى ردّ الذاهب بناه على " فعل " فقال: ولو أنّا على جحّر ذبحنا … جرى الدّميان بالخبر اليقين (¬2) ومنها أنك تقول " دميت " ومصدر فعلت يجيء على فعل كقولنا (فرقت فرقا) وفيما قرأناه على أبي بكر بن دريد رحمه الله: ¬

_ (¬1) البيت من مشطور الرجز. انظر ديوان الشاعر ص: 29، والخصائص: 1/ 173، والتبصرة والتذكرة: 2/ 549، والمخصص: 16/ 88. (¬2) البيت من أبيات نسبها ابن دريد لعلي بن بدال، وأدخلها ابن الشجري وصاحب الحماسة البصرية في قصيدة المثقب العبدي وليست في ديوانه وقصيدة المثقب في المفضليات 288 - 292، وليس فيها هذا الشاهد.

غفلت ثمّ أتت ترمقه … فإذا هي بعظام ودما (¬1) فبناه على مثل (رحى) وخبرنا أن قولنا: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا … ولكن على أعقابنا يقطر الدّما (¬2) أنه في موضع رفع وأنه على بناء رجى. أما ما احتج به لأبي العباس فلا حجة له فيه؛ لأن الشاعر إذا اضطر إلى رد الذاهب ترك ما كان متحركا على حركته، ولم يبنه بناء الأصل وقد قال الشاعر: يديان بالمعروف عند محرق … قد تمنعانك أن تضام وتضهدا (¬3) فحرك الدال وهي ساكنة في الأصل. وقال آخر: هما نفثا في فيّ من فمويهما (¬4) فحرك وأصله (فعل). وأما ما أنشدته عن أبي بكر ابن دريد فضرورات يطول شرحها وإنما جعله سيبويه " فعلا " لأن الأصل السكون وليس لنا أن نزيد حركة إلا بثبت. ولو قال قائل: إن (يدا) " فعل " وإن " أيدي " (أفعل) كما قالوا (زمن) و (أزمن) لم يكن ذلك بالبعيد عندي إذا صح ما روي مما أنشده بعض أهل اللغة. يا رب سار سار ما توسدا … إلا ذراع العيس أو كف اليدا (¬5) وقد بناه على فعل، وقد يجوز أن يجمع (أيد) فنقول (أيادي). وروى عن أبي ¬

_ (¬1) البيت من الرمل. انظر مجالس العلماء: 249، والخزانة: 7/ 491، والدرر اللوامع: 1/ 13، وابن يعيش: 5/ 84. (¬2) البيت من الطويل وهو فيما رواه أبو تمام والأعلم للحصين بن الحمام المري. انظر المنصف: 2/ 148، وأمالي ابن الشجري: 2/ 34، والخزانة 3/ 352، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي: 198. (¬3) انظر الخزانة: 7/ 482، والمنصف: 1/ 64، وابن يعيش: 4/ 151 وهو من الكامل. (¬4) هذا صدر بيت من الطويل وتمامه: على النابح العادي أشد رجام وقائله الفرزدق انظر ديوان الشاعر: 771، والخزانة: 2/ 269، والخصائص: 1/ 170، والمقتضب: 3/ 158. (¬5) البيتان من مشطور الرجز. انظر الخزانة: 7/ 477، وابن يعيش: 4/ 152، والهمع: 1/ 139.

عمرو بن العلاء أنه قال " الأيدي " جمع " اليد " التي هي العضو، و " الأيادي " الصنائع والنعم والمعروف. وقد كان أبو الخطاب الأخفش ذكر أن أبا عمرو نسي- وكان علم ذلك عنده- ويذهب أن (الأيادي) تقال في الأعضاء و (يد)، و (أيد) و (أياد) في المعروف فأما في الأعضاء فقال عدى بن زيد: ساءها ما تأمّلت في أيادي … نا وإشناقها إلى الأعناق (¬1) وقال آخر: كأنهما بالصحصحان الأنجل … قطن سخام بأيادي غزّل (¬2) وأما في النعم فقول الله عز وجل: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (¬3). المعنى أولى النعم في الدين والبصائر فيه ولم يمدحهم بأن لهم " أيديا " و " أبصارا " من الجوارح. وقال أبو دهبل: (¬4) فكيف أنساك لا أيديك واحدة … عندي ولا بالذي أسديت من قدم (¬5) وقال النابغة: إنّي أتمم أيساري وأمنحهم … مثنى الأيادي، وأكسو الجفنة الأدما (¬6) أراد بالأيادي: النعم، والمعروف. ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف وهو في اللسان (يدي)، والخزانة: 7/ 481، والشاهد في (أيادينا) حيث وردت في البيت مرادا بها الأعضاء. (¬2) البيتان من مشطور الرجز وهما في اللسان (يدي) وقد نسبا فيه إلى: جندل بن المثنى الطهوي، انظر الخزانة: 7/ 479. (¬3) سورة ص، الآية: 45. (¬4) هو وهب بن زمعة بن أسيد الجمحي: كان شاعرا عفيفا وقال الشعر في آخر خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومدح معاوية وعبد الله بن الزبير، انظر مهذب الأغاني: 6/ 154. (¬5) البيت من البسيط مذكور في تجريد الأغاني: 2/ 85، والشاهد فيه قوله (أيديك) حيث أراد بها (النعم). (¬6) البيت من البسيط والشاهد في (الأيادي) حيث استعمله الشاعر مرادا به (النعم).

قال: وإن كان أصله " فعلا " كسّر من أدنى العدد على (أفعال) كما فعل ذلك بما لم يحذف منه شيء وذلك قولك: (أبّ) و (آباء). وزعم يونس أنهم يقولون: (أخّ) و (آخاء). وقالوا: (أخوان) كما قالوا (خرب) و (خربان) قال ابن أخي المهلب: وجدتم بنيكم دوننا إن نسيتم … فبأيّ بني الآخاء تنأى مناسبه؟ (¬1) قال: وأما ما كان من بنات الحرفين وفيه الهاء للتأنيث فإنك إذا أردت الجمع لم تكسرّه على بناء يرد ما ذهب (منه) وذلك لأنها فعل بها ما لم يفعل بما فيه الهاء. مما لم يحذف منه شيء، وذلك أنهم يجمعونها بالتاء، والواو والنون كما يجمعون المذكر نحو " مسلمون " فكأنه عوض فإذا جمعت بالتاء لم يغيروا البناء وذلك قولك: (هنة) و (هنان) و (فئة) و (فئات) و (شية) و (شيات) و (ثبة) و (ثبات) و (قلة وقلات). وربما ردوها إلى الأصل إذا جمعوها بالتاء وذلك قولهم: (سنوات) و (عضوات) وإذا جمعوا بالواو والنون كسروا الحرف الأول وغيروا الاسم وذلك قولهم (سنون) و (قلون) و (ثبون) و (مئون)، وإنما غيروا أول هذه لأنهم ألحقوا آخره شيئا ليس هو في الأصل للمؤنث ولا يلحق شيئا فيه الهاء ليس على حرفين، فلما كان كذلك غيروا أول الحرف كراهية أن يكون بمنزلة ما الواو والنون له في الأصل نحو قولهم: (هنون)، و (منون) و (بنون) وبعضهم يقول (قلون) فلا يغير. قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان على حرفين وفيه هاء التأنيث فله باب ينفرد به ولا يشاركه فيه غيره إلا ما شذ مما يشبه به، وباب ذلك أنه يجمع بالألف والتاء فلا يغير لفظه كقولهم (قلة) و (قلات) و (كرة) و (كرات) و (ثبة) و (ثبات). ويجوز جمع ذلك بالواو والنون وليس الباب في شيء آخره هاء التأنيث أن يجمع بالواو والنون، لأن هذا الجمع إنما هو للمذكر مما يعقل وإنما جمعوا هذا المنقوص بالواو والنون، لأنهم جعلوا ذلك عوضا مما منعه من جمع التكسير لأن جمع التكسير لا يكاد يجيء في ذلك وغيروا مع الواو والنون والياء والنون أوله فكسروه فيما كان مضموما كقولهم: (قلون) و (ثبون) وواحدها (قلة) و (ثبة)، وفيما كان مفتوحا كقولهم: (سنون) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل وجاء في اللسان، والشاهد جمع (أخ) على (آخاء).

وواحدها (سنة). وذلك توكيد للتغيير فيه وأن هذا الجمع خارج عن قياس نظائره. وأما قولهم: (مائة) و (مئون) فقال بعض النحويين إن هذه الكسرة غير الكسرة التي في (مائة) كما أن الألف التي في " تهام " ليست الألف في " تهامة ". وذكر أبو عمر الجرمي أن الجمع بالألف والتاء في هذا للقليل وبالواو والنون للكثير تقول: (هذه ثبات) قليلة و (ثبون كثيرة) والدليل عندي على صحة ما قلت إنهم إذا صغروا لم يكن بغير الألف والتاء يقولون: (سنيّات) و (شبيهات) و (ثبيات) ويجوز أن يكون إنما صار التصغير بالألف والتاء لأنا نرد بالتصغير الحرف الذاهب فيصير بمنزلة التام وليس الباب في التام مما فيه هاء التأنيث أن يجمع بالواو والنون. وبعض العرب لا يغير الأول فيقولون: (قلون) و (ثبون)، ولا نعلم أحدا قال في (سنين) بغير الكسر. قال: وأما (هنة) و (منة) فلا يجمعان إلا بالتاء لأنهما قد ذكرتا. يريد أنه لا يجوز في (هنة) ما جاز في (سنة) من الجمع بالواو والنون؛ لأنّا نقول: (هنون) فيكون هذا الجمع للمذكر ولا نقول في (سنة) " سن ". قال سيبويه: وقد يجمعون الشيء بالتاء والألف لا يجاوزون به ذلك استغناء وذلك: (ظبة وظبات)، و (شية وشيات)، والتاء تدخل على ما دخلت فيه الواو والنون، لأنهما الأصل). يعني أن الألف والتاء هي الأصل، فلذلك استعملت في (ظبات) و (شيات) ولم يستعمل غيرهما. قال: وقد يكسّرون هذا النحو على بناء يرد ما ذهب من الحرف، وذلك قولهم: (شفة) و (شفاه) و (شاة وشياه)، تركوا الواو والنون حيث ردوا ما حذف منه واستغنوا عن التاء حيث عفوا به أدنى العدد، وإن كانت من أبنية أكثر العدد كما استغنوا بثلاثة جروح عن أجراح وتركوا الواو والنون كما تركوا التاء حيث كسّروه على شيء يرد ما حذف منه واستغني به. قال أبو سعيد: اعلم أن أصل (شفة) (شفهة) وأصل (شاة) " شوهة " فجمعوها على فعال كما قالوا في " رقبة " (رقاب)، واستغنوا بذلك عن الجمع بالواو والنون، لأنهم قد أتموا، وعن الجمع بالتاء، لأن الجمع بالتاء للقليل وهم قد يستغنون بالكثير عن القليل كقولهم: (جروح) في جمع (جرح)، ولم يقولوا: (أجراح) فكذلك قالوا: (شفاه) ولم

يقولوا (أشفاه) وقد تقدم نحو ذلك فيما مضى قال سيبويه: " وقالوا: (أمة) و (آم) و (إماء)، فهي بمنزلة (أكمة) و (آكم) (وأكام)، وإنما جعلناها على فعلة لأنا قد رأيناهم كسروا فعلة على أفعل مما لم يحذف منه شيء ". قال أبو سعيد: يريد جعلنا أمة فعلة حيث جمع على (آم)، و (آم) " أفعل " وكان الأصل فيه " آموا " فعمل بها ما عمل ب " أدلو " جمع " دلو " حيث قالوا " أدل " والذي هو على " فعلة " من الصحيح وجمع على (أفعل) قولهم: (أكمة) و (آكم). ولم يقولوا: (إمون) كما قالوا في سنة: (سنون)، لأنهم قد كسروا (أمة)، فردوا الذاهب بالتكسير حيث قالوا (إماء): و (إموان) وهما جمعان للكثير، ولم يقولوا: (أمات)، لأنهم استغنوا ب " آم " عنها، لأن " الأمات " للتقليل، و (آم أفعل) للتقليل فاستغنى بأحدهما عن الآخر. قال: وقالوا (برّة) و (برات) و (برون) و (لغة) و (لغى) فكسروها على الأصل كما كسّروا نظائرها التي لم يحذف منها شيء نحو (كلية) و (كلى). قال: وسألت الخليل عن قول العرب (أرض) و (أرضات) فقال: لما كانت مؤنثة وجمعت بالتاء ثقّلت كما ثقلت (طلحات) و (صفحات)، قلت: فلم جمعت بالواو والنون؟ قال: شبهت بالسنين ونحوها من بنات الحرفين لأنها مؤنثة، ولأن الجمع بالتاء أقل والجمع بالواو والنون أعم، ولم يقولوا: (آراض) ولا (أرض) فيجمعونه كما جمعوا " فعل ". قلت: فهلّا قالوا: (أرضون) كما قالوا: (أهلون)؟ قال: إنها لما كانت تدخلها التاء أرادوا أن يجمعوها بالواو والنون كما جمعوها بالتاء و (أهل) مذكر لا تدخله التاء ولا تغيره الواو والنون كما لا تغير غيره من المذكر نحو (صعب) و (فسل). قال أبو سعيد: اعلم أن " فعلا " إذا كان مؤنثا وجمع بالألف والتاء حرك أوسطه وإن لم يكن فيه هاء التأنيث كما يحرك أوسط ما فيه هاء التأنيث، وذلك في امرأة اسمها (دعد): (دعدات) وإن كانت اسمها (سعدا) و (جبرا): (سعدات) و (جبرات) كما تقول في (ثمرة) و (جفنة) (ثمرات) و (جفنات) وكذلك (أرض) لما جمعت بالألف والتاء حرك أوسطها وقد جمعوها بالواو والنون فقالوا: (أرضون) شبهوها من أجل التأنيث بالمؤنث

المنقوص نحو (سنة)، و (ثبة) وما أشبه ذلك. ومن الناس من احتج لذلك فقال: لمّا كان هاء التأنيث مقدرة فيها محذوفة منها صار بمنزلة المنقوص الذي يقدر فيه حرف يحذف منه وحركوا ثانيه لعلتين- يجوز أن يكونوا حملوها على الجمع بالألف والتاء، لأنهما جمعان سالمان قد اشتركا في السلامة وقد لزم فتح الراء في أحدهما لما ذكرناه، فكان الآخر مثله ويجوز أن يكونوا جعلوا التغيير الذي لزم أوائل ما يجمع من المنقوصات بالواو والنون في ثاني هذا الحرف فيغني من تغيير أوله كقولهم (سنة) و (سنون)، و (ثبة) و (ثبون). ولذلك قال سيبويه: ولم يكسروا أول (أرضين)، لأن التغيير قد لزم الحرف الأوسط كما لزم التغيير الأول من (سنة) في الجمع. قال: وقد زعم يونس أنهم يقولون (حرّة) و (حرّون) (يشبهونها بقولهم (أرض) و (أرضون) وقالوا (إوزّة) و (إوزّون). كما قالوا (حرة) وحرّون). وزعم يونس أنهم يقولون (حرّة) و (أحرّون) يعنون (الحرار) كأنه جمع (إحرّة) ولكن لا يتكلم بها. هذا ما حكاه سيبويه عن يونس، وقد حكى الجرمي عنه: أنهم يقولون: " أحرون " بفتح الألف وكل ذلك شاذ ليس بالمطرد، وإنما شبهوا " حرّة " للإدغام الذي فيها بالمنقوص؛ لأن النطق بالحرفين في دفعة واحدة فصار كحرف واحد. وقد أنشدنا أبو بكر بن دريد في " إخرون " بالكسر على ما حكاه سيبويه وقد حكاه الأصمعي: إنّ أباك فر في يوم صفّين … لما رأى عكّا والأشعريين وحاجيا يستن في الطائيين … وذا الكلاع سيّد اليمانين وقيس عيلان الهوازنيّين … قال لنفس السوء هل تفريّن؟ لا خمس إلا جندل الأحرين … والخمس قد أحشمنك الأمريّن (¬1) ركّضا إلى الكوفة من قنّسرين هذا رجل حارب مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان سمع أنه كان يفرق خمسمائة خمسمائة فتجشم من قنّسرين إلى الكوفة وحارب لأجلها ثم هرب ¬

_ (¬1) الأبيات من مشطور الرجز مذكورة في لسان العرب (حرر).

فقال: لا خمس يريد لا خمسمائة درهم. قرأته على أبي بكر: " وحاجيا " يستن وقال غيره: " حابسا ". على أن العرب ربما جمعوا بالواو والنون من المؤنث الذي فيه الهاء ما ليس بمنقوص ذكر أبو عمر الجرمي، قال: أنشد خلفّ أبو محرز في مجلس يونس وهو خلف الأحمر: فأنك لو رأيت ولن تراه … أكفّ القوم تخرق بالقنينا (¬1) قال: هذا جمع " قتاة " فما رأيت أحدا عرفه. واعلم أن المنقوص الذي يجمع بالواو والنون يجيز فيه كثير من النحويين أن تعرب النون فيه ويلزم قبل النون الياء فيقال: هذه (سنينك) ورأيت (سنينك) وعجبت من (سنينك). وقالوا إنما فعل بها ذلك، لأن النون قامت مقام الذاهب وجعلوها كلام الفعل وأنشدوا: ذراني من نجد فإن سنينه … لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا (¬2) وقال آخر: مثل المغالي ضربت قلينها (¬3) وقال آخر: إلى برين الصّفّر الملوّيات (¬4) وقد قال بعضهم في هذا المنقوص: إذا جمع بالألف والتاء يجوز أن تفتح التاء في النصب وتقام مقام لام " الفعل " فيقال سمعت لغاتهم. وأنشدوا بيت أبي ذؤيب: فلمّا جلاها بالأيام تحيّزت … ثباتا عليها ذلّها واكتئابها (¬5) والأفصح الأشهر ما ذكره سيبويه من الجمع بالواو والنون. وسقوط هذه النون في ¬

_ (¬1) البيت من الوافر ولم نستدل إلى قائله. (¬2) البيت من الطويل وقائله الصمة بن عبد الله القشيري وهو شاعر إسلامي بدوي مقل من شعراء الدولة الأموية. انظر شرح الأشموني: 1/ 86، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 11. (¬3) البيت من مشطور الرجز مذكور في اللسان (قلا). (¬4) البيت من مشطور الرجز والشاهد منه (برين) حيث أجريت مجرى الحين في الإعراب بالحركات. (¬5) انظر ديوان الهذليين: 1/ 79، ابن يعيش: 5/ 4، الخصائص لابن جنى: 3/ 304، والبيت من الطويل.

الإضافة وكسر تاء الجمع في النصب تقول: (هذه سنون) و (رأيت سنين) وعجبت من (سنين)، وفي الإضافة: (هذه سنو زيد) و (سنوك) ورأيت (سني زيد) و (سنيك) وعجبت من (سني زيد وسنيك) وتقول سمعت لغات القوم ورأيت (ثبات) وقال الله عز وجل: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ (¬1). وقال سيبويه: وقد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كما يجمعون ما فيه الهاء؛ لأنه مؤنث مثله وذلك قولهم: (عرسات) و (أرضات) و (عير) و (عيرات) حركوا الياء واجتمعوا فيها على لغة هذيل، لأنهم يقولون: (بيضات) و (جوزات). قال أبو سعيد: رأيت النّسخ والروايات في كتاب سيبويه: " عير وعيرات " بفتح العين وهو عندي غلط في النقل؛ لأن سيبويه قال: وقد يجمعون المؤنث، وعير ليس بمؤنث وقد تكلف بعض من احتج عنه بأنه عير الكتف وهو النائي في وسطه، ولا يعرف تأنيث هذا ولا جمعه على عيرات، وإنما دعاهم عندي إلى هذا قول سيبويه واجتمعوا فيها على لغة هذيل، لأنهم يقولون (بيضات) و (جوزات)، فأرادوا أن يسووا بين اللفظين والصواب عندي أن يقال (عير) و (عيرات) و (عير) مؤنث، قال الله عز وجل: وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها (¬2) وكان حقها أن يقال (عيرات) لأن جمع السّلامة في فعل وفعل إذا كان بالألف والتاء أن يقال (فعلات) ك (ظلمات) و (فعلات) ك (سدرات). وإذا كان فيه واو أو ياء استثقل الضم والكسر فيقولون في (تومة) (تومات)، وفي (تينة) (تينات)، وقالوا في (عير) (عيرات) فحركوا على لغة هذيل في تحريك الثاني من (بيضات) وقال الكميت: عيرات الفعال والحسب الذي … عود إليهم معدودة الأعكام (¬3) قال: " وقالوا: " سموات " فاستغنوا بهذا أرادوا جمع سماء لا من المطر، وجعلوا التاء بدلا من التكسير كما كان ذلك في العير والأرض ". يريد أن السماء إذا جمعت كان الجمع بالألف والتاء، وقد اضطر الشاعر فجمعها بغير الألف والتاء فقال: ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 71. (¬2) سورة يوسف، الآية: 82. (¬3) البيت للكميت بن زيد وهو من الخفيف ليس في ديوانه، وهذا البيت من قصيدة له يمتدح بها أهل البيت رضوان الله عليهم أجمعين. انظر ابن يعيش 5: 31 - 33.

سماء الإله فوق سبع سمائيا (¬1) وسترى ذلك مستقصى في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد يقال للمطر (سماء) وجمعه (أسمية) في أدنى العدد وسميّ للكثير. قال: وقد قالوا (عيرات) وقد عرفتك ما في (عيرات)، وقالوا (أهلات) فخففوا شبهوها ب (صعبات) حيث كان أهل مذكرا تدخله الواو والنون، فلما جاء مؤنثا كمؤنث صعب فعل به ما فعل بمؤنث صعب. يعني أنهم يقولون (أهل وأهلون). و (أهل) مذكر ثم قالوا (أهلة وأهلات) فأشبه فعلة نعتا وهو قولك: (رجل ضخم وعبل وشهم) وامرأة (عبلة) و (صعبة)، وإذا جمع بالألف والتاء قلنا: (عبلات) و (صعبات) فكذلك (أهلة) و (أهلات). قال الشاعر: وأهلة ودقد تبريت ودّهم … وأبليتهم في الحمد جهدى ونائلي (¬2) قال: وقد قالوا (أهلات) فثقلوا كما قالوا (أرضات) قال الشاعر وهو المخبّل: وهم أهلات حول قيس بن عاصم … إذا أدلجوا بالليل يدعون كوثرا (¬3) وإنما ثقّلوا؛ لأنه اسم وإن كان يشبه الصفة من الوجه الذي ذكرنا. قال: " وقالوا: (إموان) جمع (الأمة) كما قالوا (إخوان) لأنهم جمعوها كما جمعوا ما ليس فيه الهاء ". يعني قولهم (خرب) و (خربان) فأمة أصله (فعلة) و (فعلة) قد جمع على (فعلان). وقال القتّال الكلابي: أمّا الإماء فلا يدعونني ولدا … إذا ترامي بنو الإموان بالعار (¬4) ¬

_ (¬1) عجز بيت من الطويل لأمية بن أبي الصلت وصدره: له ما رأت عين البصير وفوته انظر ديوانه: 70، والخصائص: 1/ 211، والخزانة: 1/ 118. (¬2) البيت لأبي الطمحان القيني وهو من الطويل. انظر لسان العرب (أهل) والخزانة: 8/ 91، وابن يعيش: 5/ 31. (¬3) البيت للمخبل السعدي وهو من الطويل. انظر الخزانة: 8/ 96، أسرار البلاغة للجرجاني: 191، وابن يعيش: 5/ 33. (¬4) انظر ديوان الشاعر: 54، وأمالي ابن الشجري: 2/ 53، واللسان (أما)، والكامل: 34، وهو من البسيط.

هذا باب تكسير ما عدة حروفه أربعة أحرف للجميع

هذا باب تكسير ما عدّة حروفه أربعة أحرف للجميع أما ما كان " فعالا " فإنك إذا كسّرته على بناء أدنى العدد كسّرته على " أفعلة " وذلك قولك (حمار) و (أحمرة) و (خمار) و (أخمرة) و (إزار) و (أوزرة) و (مثال) و (أمثلة) و (فراش) و (أفرشة)، فإذا أردت أكثر العدد بنيته على فعل وذلك قولك (حمار) و (حمر) و (خمار) و (خمر) و (إزار) و (أزر) و (فراش) و (فرش) وإن شئت خففت جميع هذا في لغة بني تميم. " يعني تقول (فرش) و (خمر) فتسكن الثّاني. وهذا التخفيف يجوز في كل ما كان على (فعل) أن يسكن ثانيه كقولك (رسل) و (رسل) و (صبر) و (صبر). قال: وربما عنوا ببناء أكثر العدد (أدنى العدد) كما فعلوا ذلك بما ذكرنا من بنات الثلاثة، وذلك قولهم (ثلاثة جدر) و (ثلاثة كتب). يعني أنهم لم يقولوا ثلاثة (أجدرة) في جمع (جدار)، ولا ثلاثة (أكتبة) في (كتاب) كما قالوا ثلاثة (أحمرة) في جمع (حمار). قال: وأما ما كان (منه) مضاعفا فإنهم لم يجاوزوا به بناء أدنى العدد وإن عنوا الكثير تركوا ذلك كراهية التضعيف إذ كان من كلامهم ألا يجاوزوا بناء أدنى العدد فيما هو غير معتل وذلك قولهم: (خلال) و (أخلة) و (عنان) و (أعنّة) و (كنان) و (أكنة). يعني لم يقولوا فيه (عنن) و (كنن) واستغنوا بأدنى العدد فيه كما استغنوا بأكتاف و (أرسان) ونحو ذلك من الصحيح الذي استغنوا فيه بأدنى العدد مع استثقالهم التضعيف، لو قالوا (فعل) لقالوا (عنن) فكرروا النون من غير إدغام. ولقالوا (جلل) وأدنى العدد يوجب الإدغام وهو أخف ومعنى كنان: هو الشيء الذي يسترك من مطر أو برد أو حر. قال الشاعر: أيّنا بات ليلّة … بين غصبين يوبل تحت عين كتاننا … برد عصب مرحّل (¬1) يريد يظلل. وذكر بعضهم مكان خلال وأخّلة " جلال وأجلة " على أن " جلالا " واحد وليس بجمع ل (جلّة) ولا (جلّ). ¬

_ (¬1) البيتان لعمر بن أبي ربيعة من الخفيف المجزوء المخبون وانظر اللسان مادة (كنن).

قال الشاعر: ففرّجت كرب النّفس عني بحلفة … كقدّك عن متن الجواد جلالها (¬1) أراد: جلّها وهو واحد. قال: " وأما ما كان منه من بنات الياء والواو فإنه لا يجاوز به أدنى العدد كراهية هذه الياء مع الضمة والكسرة لو ثقلوا والياء مع الضمة لو خففوا وذلك قولهم: (رشاء) و (أرشية) و (سقاء) و (أسقية) و (رداء) و (أردية)، و (إناء) و (آنية) و (كساء) و (أكسية). وإنما قال من بنات الياء والواو، لأن هذه الهمزات منقلبات من الياء والواو لأن قولك " كساء " أصله " كساو " والدليل على ذلك قولهم: (كسوت)، و (الكسوة) والهمزة في " سقاء " بدل من الياء، والأصل " سقاى "، فلو جمعوا ذلك على مثل (حمار) و (حمر) للزمهم أن يقولوا: " سقى " و (كسى). وذلك أن " فعلا " من هذا الباب إذا أتى به على أصله وجب أن يكون آخره واو لانضمام ما قبلها فيقال (كسوّ) و (سقوّ) ثم تقلب الواو ياء لأنه لا يقع في الأسماء واو قبلها ضمة كما قالوا في (أدلو) " أدل ". فلما كان الجمع الكثير الذي هو (فعل) يؤديهم إلى هذا التغيير تجنبوه، فإن قيل: فإذا خفف لم يؤد إلى هذا الاجتماع، قيل له إن الذي يخفف إنما يخففه عن المثقل وقد عرفتك ما يلزم المثقل من التغيير. قال: وأما ما كان منه من بنات الواو التي الواوات فيهن عينات، فإنك إذا أردت بناء أدنى العدد كسرته على (أفعلة) وذلك قولك (خوان) و (أخونة) و (رواق) و (أروقة) و (بوان) و (أبونة)، فإذا أردت بناء أكثر العدد لم تثقل وجاء على (فعل) كلغة بني تميم في الخمر وذلك (خون) و (روق) و (بون)، والبوان عمود الخيمة، وإنما خففوا كراهية الضمة. يعني لو قالوا: (خوّن) و (روق) لثقل فخفّفوا وكذلك قالوا (رجل عزول) و (قوم قول) ولم يضموا الواو، والأصل الضم كقولهم (صبور) و (صبر)، وإذا اضمر الشاعر جاز له أن يضم. قال عدي بن زيد: قد حان أنّ تصحو أوان تقصر … وقد أتى لما عهدت عصر ¬

_ (¬1) البيت من الطويل والشاهد فيه (جلالها) حيث جاء في البيت مرادا به الجل فهو واحد وليس بجمع.

عن مبرقات بالبرين وتبدو … بالأكفّ اللّامعات سور (¬1) وهو جمع سوار. قال: وإذا كان في موضع الواو من " خوان " ياء ثقل في لغة من يثقل وذلك: (عيان) و (عين) والعيان حديدة تكون في متاع الفدان ثقلوا هذا كما قالوا: (بيوض) و (بيض). وإنما ثقّلوه، لأن الضم على الياء أخف من الضم على الواو. قال: وأما من يخفف فيقول " خمر " و " رسل " من بني تميم فإنه يقول في هذا (عين) لأن الياء تسكن وقبلها ضمة فيصير مثل قولهم " أبيض " و " بيض " و " أعيس " و " عيس ". وعلى هذا حكى يونس أن من العرب من يقول: (صيود) و (صيد) و (بيوض) و (بيض) وهو على قياس من قال في (الرّسل) " رسل ". قال: وأما ما كان " فعالا " فإنهم إذا كسروه على بناء أدنى العدد فعلوا به ما فعلوا " بفعال "، لأنه مثله في الزيادة والتحريك والسكون إلا أن أوله مفتوح، وذلك (زمان) و (أزمنة) و (مكان) و (أمكنة) و (فدان) و (أفدنة) و (قذال) و (أقذلة) وإذا أردت بناء أكثر العدد قلت (قذل) و (فدن)، وقد يقتصرون على بناء أدنى العدد كقولهم (أزمنة) و (أمكنة). قال: وأما ما كان منه من بنات الياء والواو فعل به ما فعل بما كان من باب " فعال " وذلك قولهم (سماء) و (أسمية)، و (عطاء) و (أعطية) وكرهوا بناء الأكثر، لاعتلال هذه الياء لما ذكرت لك، ولأنها أقل الياءات احتمالا وأضعفها و " فعال " في جميع الأشياء بمنزلة " فعال " ومعنى قوله أقل الياءات احتمالا وأضعفها يعني أنها لام الفعل، ولام الفعل أضعف من عين الفعل، وسنقف على ذلك في التصريف إن شاء الله. وقوله: (سماء) و (أسمية) ليس بالسماء ذات البروج ومعناه المطر، يقال للمطر (سماء) و (أسمية) في أدنى العدد والكثير (سميّ). ¬

_ (¬1) البيتان من الكامل. انظر ديوان الشاعر: 127، والمقتضب: 1/ 113، والمنصف: 1/ 338، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 44، والدرر اللوامع: 2/ 227.

قال العجاج: تلفّه الرياح والسّميّ … في دفء أرطاة لها حتيّ (¬1) وقد قيل لأبي الحسن الأخفش لم لم يجز أن يقولوا في لغة من خفف: (عطر) والياء لا تعتل على هذا الوجه؟ فقال: لأن هذا في لغة من يقول (علم) والأصل عندهم التثقيل، ولكنهم يخففون. والدليل على أن الأصل التثقيل أنهم يقولون (ظرفت) و (علمت) فيلزمون الكسر ولا يذهبون به إلى حركة أخرى. ومعنى قول أبي الحسن: أنهم: يقولون ظرف الرجل وعلم الرجل والثاني منهما ساكن. فإذا كان الفعل للمتكلم احتاجوا إلى تحريك الثاني فيضمون في (ظرفت) ويكسرون في (علمت) فعرف بذلك أنهم ردوهما إلى أصلهما. قال: " وأما ما كان " فعالا " فإنه في بناء أدنى العدد بمنزلة " فعال "، لأنه ليس بينهما شيء إلا الضم والكسر وذلك قولك: (غراب) و (أغربة) و (خراج) و (أخرجة) و (بغاث) و (أبغثة). " والبغاث: خشاش الطير وفيه ثلاث لغات (بغاث) و (بغاث) و (بغاث) وعلى ذلك رووا: بغاث الطّير أكثرها فراخا … وأمّ الصّقر مقلات نزور (¬2) قال: " وإذا أردت بناء أكثر العدد كسّرته على " فعلان " كقولك: (غراب)، و (غربان) و (خراج) و (خرجان) و (غلام) و (غلمان) ولم يقولوا أغلمة. استغنوا بقولهم: (ثلاثة غلمة) كما استغنوا ب (فتية) عن أن يقولوا (أفتاء). " قال أبو سعيد: لأن (غلمة) و (فتية) (فعلة) وهي من بناء أقل العدد، وقد يردونه في التصغير إلى قياس الباب فيقولون: (أغيلمة) وقال بعض النحويين: ¬

_ (¬1) انظر ديوان الشاعر: 69، والبيتان من مشطور الرجز، والمخصص: 9/ 4، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 44، واللسان: (سما). (¬2) البيت لعباس بن مرادس مذكور في اللسان (بغث) وهو من الوافر، وانظر آمالي ابن الشجري: 2/ 288، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي: 1154.

إنما قالوا في كثيره (فعلان) لأنهم جعلوا الألف فيه كأنها قد زيدت على فعل للمد، فيحذفون هذه الألف فيصير كأنه (غرب) و (غربان) كقولهم: (صرد) و (صردان). قال: وقالوا في المضاعف حين أرادوا بناء (أدنى) العدد كما قالوا في المضاعف في " فعال " كقولهم: (ذباب) و (أذبّة) والكثير (ذبّان) ولم يقتصروا على أدنى العدد لأنهم أمنوا التضعيف. يريد أن " فعلانا " من المضاعف تدغم عين الفعل في لامه ضرورة لأن العين ساكنة وفي " فعال " يجيء على " فعل " ولا يلزم فيه الإدغام فلذلك جاء في فعال من المضاعف الجمع الكثير ولم يجيء في (فعال). قال: " وقالوا " حوار " و " حيران " كما قالوا: (غراب) و (غربان) وقالوا في أدنى العدد: (أحورة) والذين يقولون: (حوار) يقولون (حيران)، و (صوار) و (صيران). جعلوا هذه بمنزلة " فعال " كما أنهما متفقان في بناء أدنى العدد. " يريد أن " حوارا " فيه " لغتان " (حوار) و (حوار) وكذلك (صوار) فيه لغتان (صوار) و (صوار) فلغة الضم توجب أن يكون الجمع الكثير على (فعلان). ولغة الكسر توجب أن يكون الكثير على (فعل) كقولهم (خوان) و (خون) فاتفقوا في جمع هذين الحرفين على لغة الضم فقالوا (حيران) و (صيران) كما أن " فعالا "، و (فعالا) قد اتفقا في أدنى العدد على أفعلة وعلى نحو ذلك (سوار) فيه لغتان: (سوار) و (سوار) وقد اتفقوا في جمعه الكثير على لغة الكسر فقالوا: (سور) كما قالوا: (خوان) و (خون). قال: " وقد قال قوم: (حوارن). وله نظير سمعنا بعض العرب يقول: " زقاق " و " زقّاق ". يريد أن " فعلانا " فيما واحده (فعال) قليل لم يجئ إلا (حوران) في جمع (حوار) و (زقّان) في جمع (زقاق) والباب فيه الكسر كقولك (غربان) و (غلمان) وبعض الناس يروي مكان (زقاق) و (زقّان): و (رقاق) و (رقّان) يعني (الرّقاق) من الخبز وقد يقتصر على أدنى العدد في ذلك قالوا: (فؤاد) و (أفئدة). وقالوا: (قراد) و (قرد) فجعلوه موافقا " لفعال " كما قالوا (جدار) و (جدر)، ومثل ذلك في باب " فعال " (ذباب) و (ذبّ). قال: وأما ما كان " فعيلا " فإنه في بناء أدنى العدد بمنزلة " فعال " و " فعال "؛ لأن الزيادة التي فيه مدة، كما أن الزيادة التي فيهما مدة، ولم تجئ الياء التي في فعيل

لتلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة. كما لم تجئ الألف في (فعال)، و (فعال) لذلك وهو بعد في الزنة والتحريك والسكون مثلهما، فهن أخوات، وذلك قولك (جريب) و (أجربة) و (كتيب) و (أكتبة) و (رغيف) و (أرغفة). " جعل " فعيلا " نظير " فعال " و " فعال " لأن حرف المد واللين في فعيل هو الياء وهو ثالث وفي (فعال) و (فعال) ثالث وهو الألف ومع ذلك فلم تدخل الياء والألف في واحد منهما للإلحاق فلذلك استوين في " أفعلة " ويجيء الكثير على " فعلان " كقولك: (رغفان) و (جربان) و (كثبان) و (صلبان) و (عسيب) و (عسبان)، ويكسر على " فعل " أيضا كقولك " رغيف " و " رغف " و " قليب " و " قلب " (وكثيب وكثب) و (قضيب) و (قضب) و (أميل) و (أمل) و (عصيب) و (عصب) و (عسيب) و (عسب) و (صليب)، و (صلب). قال: وربما كسّروا هذا على " أفعلاء "، وذلك قولهم (نصيب)، و (أنصباء) و (خميس) و (أخمساء) و (ربيع) و (أربعاء) وهي في أدنى العدد بمنزلة ما قبلهن. يعني أن القليل يقال فيه (ثلاثة أنصبة) و (عشرة أخمسة) و (سبعة أربعة)، والكثير (أخمساء) و (أنصباء) و (أربعاء). قال: " وقد كسّره بعضهم على " فعلان " كقولهم (ظليم) و (ظلمان)، و (قضيب) و (قضبان) ويقال فيه أيضا (قضبان) و (فصيل) و (فصلان) و (عريض) و (عرضان) شبهوه ب (فعال)، والعريض: التّيس. قال الشاعر: ما بال زيد لحية العريض … مرّ بنا كالخزز المريض (¬1) وذوات الواو والياء منه كذلك، كقولهم: (قرىّ) و (أقرية) و (قريان) والقرىّ: مسيل الماء إلى الروضة ومثله: (سرىّ) و (أسرية) و (سريان) - والسّرىّ: النهر- وقالوا: (صبيّ) و (صبيان) ك (ظليم) و (ظلمان) ولم يقولوا (أصبية)، استغنوا بصبية عنها، وقالوا في التضعيف كما قالوا في (الجريب). وقالوا: (حزيز) و (أحزّة) و (حزّان). وبعضهم قال: (حزّان) كما قالوا " ظلّمان " وقالوا (سرير) و (أسرّة) و (سرر) كما قالوا (قليب) و (أقلبة) و (قلب) وقالوا: (فصيل) و (فصال) شبهوه ب (ظريف) و (ظراف) ودخل مع الصفة في بنائه كما دخلت الصفة في ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز. انظر اللسان مادة (عرض) والشاهد فيه قوله (العريض) حيث جاء في البيت مرادا به التيس.

بناء الاسم. قال: " وأما ما كان من هذه الأسماء (الأربعة) مؤنثا- يعني فعال وفعال وفعال وفعيل- فإنهم إذا كسّروه على بناء أدنى العدد كسّروه على (أفعل)، وذلك قولك (عناق) و (أعنق) وقالوا في الجميع- يعني الكثير- (عنوق) فكسروها على " فعول " كما كسروها على " أفعل " بنوه على ما هو بمنزلة " أفعل " كأنهم أرادوا أن يفصلوا بين المذكر والمؤنث كأنهم جعلوا الزيادة التي فيه إذ كان مؤنثا بمنزلة الهاء في (قصعة) و (رحبة) وكرهوا أن يجمعوه جمع (قصعة)، لأن زيادته ليست كالهاء فكسروه تكسير ما ليس فيه زيادة من الثلاثة حيث شبه بما فيه الهاء منه، ولم تبلغ زيادته الهاء، لأنها في الحرف نفسه وليست علامة تأنيث لحقت الاسم بعد ما بني ك (حضر موت). " قال أبو سعيد: قد تقدم أن أقل العدد من هذه الأبنية الأربعة في المذكر على " أفعلة " كقولنا (حمار) و (أحمرة) و (غراب) و (أغربة) و (قذال) و (أقذلة) ورغيف و (أرغفة)، وفي المؤنث على " أفعل " كقولنا (عناق) و (أعنق) و (ذراع) و (أذرع) و (عقاب) و (أعقب) و (يمين) و (أيمن). قال سيبويه: جعلوا التأنيث الذي فيه وإن لم يكن بعلامة كالتأنيث الذي في (قصعة) و (رحبة) (ففصلوا بين ما فيه التأنيث كما فصلوا بين قصعة ورحبة) وبين (كلب) و (جمل)، ألا ترى أنه لا يقال في (قصعة) (أقصع) كما يقال في (كلب): (أكلب) ولا في (رحبة): (أرحاب) كما يقال في " جمل ": (أجمال) ولم يجمعوه جمع ما فيه هاء التأنيث، لأن (فعالة) و (فعالة) و (فعيلة) لا يجمع في أدنى العدد على (أفعل). وإنما أراد سيبويه أنهم فرقوا بين المذكر والمؤنث كما فرقوا بين (قصعة)، و (فلس) فجمعوه على خلاف جمع المذكر واختاروا له أخف أبنية أدنى العدد وشبهوه بنزعهم الهاء من عدد المؤنث وإثباتهم إياها في المذكر كقولنا في المؤنث: (ثلاث وأربع وخمس) وفي المذكر (ثلاثة وأربعة وخمسة). ومعنى قوله: " وكرهوا أن يجمعوه جمع (قصعة) لأن زيادته ليست كالهاء " يعني أنهم كرهوا أن يجمعوه جمع (فعالة) و (فعالة)، لأن التأنيث الذي فيه ليس بعلامة، وإنما هو شيء في نفس الحرف فأسقط منه الزيادة يعني الألف في " فعال " والياء في " فعيل " فصار على ثلاثة أحرف. وبنى على " أفعل " كما بنى ما كان على ثلاثة أحرف (كفعل). ومعنى قوله: " قالوا في الجميع (عنوق) فكسروها على " فعول " كما كسروها على " أفعل " بنوه

على ما هو بمنزلة أفعل ". يعني أنهم لما قالوا: (عناق) و (أعنق) وأجروه مجرى (فلس) و (أفلس) جمعوه في الكثير على (فعول) فقالوا (عنوق) كما قالوا (فلوس)، وهذا معنى قوله بنوه على ما هو بمنزلة (أفعل) لأن فعولا في الكثير كأفعل في القليل، وذكر أبو حاتم السجستاني أنه يقال: (عناق) و (عنوق) و (عنق) وقد أنشد أبو زيد (¬1): أنشد من أم عنوق حمحم (¬2) ويقال أيضا في التخفيف (عنق) وفي بعض الأمثال " العنوق بعد النّوق " يضرب مثلا للذي يفتقر كأنه يملك العنوق بعد ملكه النوق. قال: ونظير عنوق قول بعض العرب في السماء (سميّ) وقال أبو نخيلة: كنهور كان من أعقاب السّميّ (¬3) الكنهور الغيم المتراكب. وقالوا (أسمية) فجاءوا به على الأصل. وإن قال قائل: لم قالوا " أسمية " والسماء مؤنثة من السماء ذات البروج ومن السماء التي هي المطر، يقال أصابتنا سماء أي مطرة. قيل له، قد تذكر السماء قال الله عز وجل: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ (¬4). وقال بعضهم: إنما ذكره على تأويل السّقف كقوله: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً (¬5). وقال بعضهم: ذكره لأن السماء جمع كجمع الجنس وأصله سماوة للواحد وسماء للجمع وقد ذكره سيبويه قبل هذا الفصل في جملة المذكر، وذلك قولك سماء وأسمية و (عطاء) و (أعطية)، وذكره في هذا الموضع مع المؤنث فقال جاءوا به على الأصل أي جاءوا به على ما يجب للمذكر، والمذكر هو الأصل فيجوز أن يكون سيبويه ذكره في الموضعين لأنه يذكر ويؤنث واختاروا في جمعه في الموضعين " أسمية " كراهية " لأفعل " لأنها تعتل إذا قلنا " أسم " يا هذا كما نقول (أدل) و (أثد) فعدلوا إلى ما لا يعتل. ¬

_ (¬1) هو سعيد أوس بن ثابت الأنصاري نحوي لغوي حدث عن أبي عمرو بن العلاء وروى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وله عدة كتب منها " النوادر " انظر بغية الوعاة: 1/ 582 وإنباه الرواة: 2/ 30. (¬2) انظر اللسان وتاج العروس (حمم) والتبصرة والتذكرة: 2/ 663. (¬3) البيت من مشطور الرجز. انظر الأعلم: 2/ 194، والمنصف: 2/ 68، واللسان (كنهر). (¬4) سورة المزمل، الآية: 18. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 32.

قال: وأما من أنث اللسان فإنه يقول (ألسن) ومن ذكر قال (ألسنة) " قال: وقالوا (ذراع)، و (أذرع) حيث كانت مؤنثة (ولا يجاوز بها هذا البناء) وإن عنوا الأكثر، كما فعل ذلك بالأكفّ و (الأرجل) وقالوا: (شمال) و (أشمل) وقد كسرت على (عدم) حذف الزيادة التي فيها فقالوا: (شمائل). " يعني كسرت على أنه لم يحذف من شمال شيء والذي يقول أشمل قد حذف الألف ثم جمع ثلاثة أحرف على أفعل وقالوا " شمل " على قياس (جدار) و (جدر). قال الأزرق العنبري: طرن انقطاعة أوتار محظرية … في أقؤس نازعتها أيمن شملا (¬1) يصف طيرا ثارت من مكان وتفرقت في الطيران فشبهها في التفرق بأوتار محكمة الشد انقطعت في المد والذي يمد القوس يمينه تنازع شماله، لأن كل واحدة من اليدين تمد إلى خلاف جانب الأخرى كأنهما يتنازعان القوس. قال سيبويه: " وقالوا: (عقاب) و (أعقب) وقالوا (عقبان)، كما قالوا: (غربان)، وقالوا: (كراع) و (أكرع) و (أتان) و (آتن) كما قالوا: (أشمل)، وقالوا: (يمين) و (أيمن) لأنها مؤنثة. وقال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل (¬2) وقالوا: " أيمان " فكسروها على " أفعال " كما كسروها على (أفعل) إذ كانا لما عدده ثلاثة أحرف ". يعني " أفعال " و " أفعل " هما جمع للثلاثي. وقد يكون للثلاثي ما يجتمع فيه أفعل وأفعال كقولك (أفرخ) و (أفراخ). قال: وأما ما كان (فعولا) فإنه بمنزلة (فعيل) إذا أردت بناء أدنى العدد لأنها كفعيل في كل شيء، إلا أن زيادتها واو، وذلك قولك: (قعود) و (أقعدة) و (عمود) و (أعمدة) و (خروف) و (أخرفة) فإذا أردت أكثر العدد كسرته على (فعلان) وذلك قولك (خرفان) ¬

_ (¬1) البيت من البسيط. انظر شرح الأعلم: 2/ 194، والإنصاف: 405، والمفصل لابن يعيش: 5/ 34، 41. (¬2) انظر الخصائص: 2/ 130، والخزانة: 1/ 401، ونوادر أبي زيد: 165، وانظر التبصرة والتذكرة: 2/ 663.

و (قعدان) و (عمّود) و (عمدان) خالفت (فعيلا) كما خالفتها " فعال " في أول الحرف.) يريد خالفت " فعيلا " كما خالفت (فعال) فعيلا وذلك أن (فعيلا) يجمع على (فعلان) كقولنا (قفيز) و (قفزان) و (جريب) و (جربان). و " فعال " يجمع على (فعلان) كقولنا (غراب) و (غربان) و (غلام) و (غلمان) و " فعول " بمنزلة (فعال)، لأنهم قالوا: (خروف) و (خرفان) و (قعود) و (قعدان) ومعنى قوله في أول الحرف يعني في حركة أول الحرف في الجمع على ما ذكرنا. قال: وقالوا: (عمود) و (عمد) و (زبور) و (زبر) و (قدوم) و (قدم) فهذا بمنزلة (قلب) و (قضب) و (كثب) وقالوا: (قدائم) كما قالوا: (شمائل) وقالوا (قلص) و (قلائص)، وكسروا أشياء منه من بنات الواو على (أفعال)، قالوا: (أفلاء) و (أعداء) والواحد (فلوّ) و (عدوّ). قال أبو سعيد: لم يذكر سيبويه في (فلوّ) غير (أفلاء). وقد ذكر أبو عمر الجرمي (فلوّ) و (أفلاء) و (فلاء) و (فليّ) و (فليّ) وهو على (فعول). قال سيبويه: " وكرهوا " فعلا " كما كرهوا " فعال " وكرهوا " فعلانا " للكسرة التي قبل الواو وإن كان بينهما حرف ساكن لأنه ليس حاجزا حصينا و " عدوّ " وصف ولكنه ضارع الاسم. قوله: كرهوا " فعلا " لأنه يلزمهم- إذا بنوه على فعل- أن يقولوا " عدى " و " فلى " وإذا بنوه على (فعلان) قالوا: (فلوان) و (عدوان) فيقع بين الكسرة والواو حرف ساكن وليس بحاجز حصين. وكان الباب في " عدوّ " أن يجمع بالواو والنون، لأن " فعولا " إذا كان صفة لما يعقل جمع جمع السلامة كقولك: (عفوّ) و (عفوّون) ولكنه ضارع الاسم لكثرته حتى يقال: (هذا عد ولزيد) و (مررت بعد ولزيد) وإن لم يكن قبله منعوت. قال: وأما ما كان عدد حروفه أربعة أحرف وكان (فعلى الأفعل) فإنك تكسره على الفعل. قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان على " أفعل " وأنثاه " فعلى " فالباب فيهما أن يستعملا بالألف واللام ولا يسقطا كقولك (الأصغر والصّغرى) و (الأكبر والكبرى) و (الأعزّ والعزّى)، و (الأدنى والدّنيا) و (الأقصى والقصيا) و (الأطول والطّولى)، ويجوز فيهما جمع السلامة وجمع التكسير فجمع السلامة في المذكر (الأصغرون) و (الأكبرون) و (الأرذلون)،

قال الله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (¬1)، وجمع التكسير (الأفاعل) كقولنا (الأكابر) و (الأراذل). قال الله عز وجل: أَكابِرَ مُجْرِمِيها (¬2) والَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا (¬3). وتقول في المؤنث في جمع السلامة (الصّغريات) والكبريات) وفي جمع التكسير الفعل كقولك (الصّغر) والكبر) و (العزز) في جمع (العزّى) و (السّبع) الطّول لأنها جمع القصيدة (الطّولى) من القصائد وجعلوا ألف التأنيث التي في الفعلى بمنزلة هاء التأنيث كأنهم جعلوا (الكبرى) ك (الكبرة) فصارت بمنزلة (ظلمة) وبذلك احتج سيبويه. قال: " وإنما صيروا الفعلى هاهنا بمنزلة (الفعلة)، لأنها على بنائها ولأن فيها علامة التأنيث وليفرقوا بينها وبين ما لم يكن فعلى أفعل ". يعني بينها وبين (حبلى) و (سعدى) وما أشبه ذلك. قال: وأما ما كان على أربعة أحرف وكان أخره ألف التأنيث فإن أردت أن تكسره فإنك تحذف الزيادة التي هي للتأنيث ويبنى على فعالى، وتبدل الياء ألفا كقولك في (حبلى): (حبالى) وفي (ذفرى): (ذفارى)، وقد قال بعضهم (ذفرى) و (ذفار)، ولم ينونوا (ذفرى) وكذلك ما كانت الألفات في آخره للتأنيث، وذلك قولك (صحراء) و (صحارى) و (عذراء)، و (عذارى)، وقد قالوا: (صحار) و (عذار) حذفوا الألف التي قبل علامة التأنيث ليكون آخره كأخر ما فيه علامة التأنيث إذ كانوا يحذفونه من غيره وليفرقوا بين هذا وبين (علباء) ونحوه، وألزموا هذا ما كان فيه علامة التأنيث إذ كانوا يحذفونه من غيره، وذلك (مهرية) و (مهار) و (أثفيّة) و (أثاف)، جعلوا (صحراء) بمنزلة ما في آخره ألف إذ كانا أواخرهما علامة التأنيث مع كراهيتهم الياءات حتى قالوا: (مدارى) و (مهارى) فهم في هذا أجدر أن يقولوه لئلا يكون بمنزلة ما آخره لغير التأنيث. قال أبو سعيد: اعلم أن المقصور مما هو على أربعة أحرف على ضربين: أحدهما أن تكون الألف فيه للتأنيث والآخر لغير التأنيث، فإذا جمع جمع التكسير فما كان منه للتأنيث، فإن الباب أن تقلب ألف التأنيث التي كانت في الواحدة ألفا في الجمع بعد أن ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 111. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 123. (¬3) سورة هود، الآية: 27.

تقلب ياء في التقدير وذلك قولنا (حبلى) و (حبالى) و (ذفرى) و (ذفارى) الأصل فيه (حبالى) و (ذفارى). غير أنهم يقلبونها ألفا لأن الألف أخف من الياء ولأنها لا تسقط في الوصل والوقف فتقول: (هؤلاء حبالى)، إذا وقفت، وهؤلاء (حبالى) فاعلم إذا وصلت. وقد يقلبون ما ليس للتأنيث فيقولون في (مدرى) (مدار) و (مدارى) وفي (معى) (معاء) و (معايا) وألزموا باب حبالى الألف، وليست هذه الألف في حبالى للتأنيث بل هي منقلبة من ياء، والدليل على أنها ليست للتأنيث أن رجلا لو كان اسمه (حبالى) وصغرناه لم نعمل به ما نعمل في تصغير (حبارى) لأن " حبّارى " إذا صغرناه جاز أن يحذف الألف الأولى فنقول: (حبيرى) كما نقول في تصغير (حبلى) (حبيلى) ولنا أن نحذف الألف الأخيرة فنقول (حبيّر). وإذا صغرنا (حبالى) اسم رجل فحذفنا الألف الأولى قلنا: (حبيل) فقلبنا الألف ياء لانكسار ما قبلها وصار بمنزلة تصغير (ملهى) إذا قلنا (ملبة)، وقد حكى سيبويه (ذفرى) و (ذفار) فيمن لا ينون (ذفرى) يريد فيمن يجعل الألف في (ذفرى) للتأنيث، وهذا خارج عن الباب وإذا كانت الألف لغير التأنيث فإن الباب فيه أن تقلب ياء كقولك " أرطى " و " أراط " و " ملهى " و " ملاه " و " معزى " و " معاز "، وقد يبدلون من الياء ألفا لخفة الألف، قالوا (مدرى) و (مداري). ويجوز في الباب كله قلب الياء ألفا؛ لأنه لا يقع فيه إشكال. وما كان من الممدود منه مما ألفه للتأنيث فإنه يجوز فيه أن يجري مجرى (حبلى) و (حبالى). ويجوز أن تقلب ياء قالوا: (صحراء) و (صحارى) و (عذراء) و (عذارى). وقد قالوا: (صحار) و (عذار) حذفوا الألف التي قبل الهمزة، ليكون آخره كآخر (حبلى) وليفرقوا بين ما كانت المدة فيه لغير التأنيث نحو (علباء) ونحوه، وذلك أن الباب في (علباء) ونحوه أن يقال (علابيّ) و (حرابيّ)، لأن (عباء) ملحق به (سرداح)، فلما كان الباب في (سرداح) أن يقال (سراديح) ولا يقال (سرادح) وجب أن يكون الباب في (علباء) " علابي " وذلك أنهم يدخلون ألف الجمع ثالثة فتقع بعد الألف (الباء) فتكسر الباء التي بعد ألف الجمع فتنقلب من أجل كسرتها الألف التي قبل الهمزة في (علباء) ياء وتنقلب الهمزة ياء أيضا؛ لأن أصلها الياء، وإنما انقلبت همزة لوقوعها بعد الألف فتعود إلى الياء وربما شدّدوا الممدود المؤنث فيقولون (صحراء) و (صحاريّ) فيأتون به على استيفاء الحروف، لأن الألف في الواحد رابعة ولا يوجب الجمع إسقاطها وآثروا التخفيف في (صحراء) ونحوه، إذ قد خففوا (في) ما ليس فيه ألف التأنيث (فقالوا) (مهريّة) و (مهار)

و (أثفيّة) و (أثاف)، وكان القياس أن يقال: (مهاريّ) و (أثافيّ) لأن ألف الجمع تقع بعدها ألف فتكسر ما بعدها. والحرف الرابع من الواحد ياء فلا يجب إسقاطها كما لا يجب إسقاط ياء (قنديل) إذا قلت (قناديل) فهم في التأنيث أجدر أن يخففوه لئلا يكون آخره بمنزلة ما جاء لغير التأنيث، إذ كان في التأنيث أثقل. قال: وقالوا: (ربّى) و (رباب) حذفوا الألف وبنوه على هذا البناء، كما حذفوا الهاء من (جفرة) فقالوا: (جفار) إلا أنهم قد ضموا أول ذا، كما قالوا (طئر) و (طئار) و (رخل) و (رخال) ولم يكسروا أوله كما قالوا (بناء) و (قداح). " قال أبو سعيد: اعلم أن " فعالا " في الجمع قليل وإنما جاء في سبعة أسماء قالوا: (ربّى) و (رباب) والرّبّى: هي الشاة التي تربّي ولدها، وقالوا: (ظئر) و (ظئار) والظّئر في النوق بمنزلة (الرّابّة) في الناس ويقال أيضا (أظآر)، قال متمم: فما وجد أظآر ثلاث روائم … رأين مخرا من حوار ومصرعا (¬1) و (رخل) و (رخال)، وفيه أربع لغات (رخل) و (رخل) و (رخل) و (رخل) و (فرير) و (فرار) والفرير: الحمل، ويقال أيضا لولد البقرة (فرير) و (عرق) و (عراق) والعرق العظم الذي عليها اللحم، و (ثني) و (ثناء)، والثّني الناقة التي نتجت مرتين ويقال أيضا (ثناء) و (تؤم) و (تؤام) ويقال أيضا (توائم). قال الراجز: قالت له ودمعها تؤام … كالدرّ إذ أسلمه النّظام على الّذين ارتحلوا السّلام (¬2) قال سيبويه: وإذا أردت ما هو أدنى العدد- يعني في المؤنث الذي آخره ألف- جمعت بالتاء تقول (خبراوات) و (صحراوات) و (ذفريات) و (دفليات) و (حبليات) وقالوا (أنثى) و (إناث) فذا بمنزلة (جفرة) و (جفار). قال: وأما ما كان عدد حروفه أربعة أحرف فيه هاء التأنيث وكان (فعيلة) فإنك ¬

_ (¬1) البيت مذكور في اللسان (ظأر) فهو شاهد على جمع الظئور وليس بشاهد على جمع الظئر، وهو من الطويل. (¬2) من مشطور الرجز مذكور في اللسان (تأم) والشاهد في (تؤام) إذ هو جمع تؤم.

تكسره على " فعائل " كقولهم (صحيفة) و (صحائف)، و (قبيلة) و (قبائل)، وذلك أكثر من أن يحصى، وربما كسروه على (فعل)، قالوا: (سفينة) و (سفن) و (صحيفة) و (صحف) شبهوه ب (قليب) و (قلب) كأنهم لم يعتدوا بالهاء وجمعوا (سفين) و (صحيف)، كما أنهم قالوا (جفرة) و (جفار) جعلوا الهاء كأنها لم تكن في الواحد فصار (جفر) وجفار كقولهم: (جمد) و (جماد). قال: وقد يقولون: (ثلاث صحائف) و (ثلاث كتائب) وذاك لأنها صارت على مثال (حضاجر) و (بلابل) و (جنادب) فأجروها مجراها ومثل (صحائف) من بنات الياء والواو (صفيّة) و (صفايا) و (مطيّة) و (مطايا). يعني أنهم قالوا: (ثلاث صحائف) في القليل وقد كان يمكنهم أن يقولوا (ثلاث صحيفات) والجمع بالألف والتاء يكون للقليل و (فعائل) من الجوع الكثيرة فشبهوها بما لا يحسن جمعه بالألف والتاء نحو (حضجر) و (حضاجر) و (بلبل) و (بلابل) و (جندب) و (جنادب) وهذه أسماء مذكرة لا يحسن أن تقول فيها (بلبلات) و (حضجرات) فحملوا ثلاث صحائف على هذا إذ كان رباعيا مثله. قال: وأما (فعالة) فهو بهذه المنزلة لأن عدة الحروف واحدة، والزنة، والزيادة مدّ كما أن زيادة (فعيلة) مدّ، وذلك قولك إذا جمعت بالتاء (رسالات) و (كنانات)، و (عمامات) و (جنازات)، فإذا كسرته على (فعائل) قلت: (جنائز) و (رسائل)، وما كان على (فعالة) فهو بهذه المنزلة لأنه ليس بينهما إلا الفتح والكسر كقولك (حمامة) و (حمائم)، و (دجاجة) و (دجائج) و (فعالة) مثل ذلك كقولك: (ذؤابة) و (ذؤابات) و (قوارة)، و (ذبابة) و (ذبابات) فإذا كسرت قلت: (ذوائب) و (ذبائب) " وفعولة " بمنزلة " فعيلة " لأنها مثلها في الزنة والعدة وحرف المد وذلك قولهم (حمولة) و (حمائل) و (حلوية) و (حلائب)، وإن شئت قلت (حمولات) و (حلوبات) و (ركوبات). ومعنى قول سيبويه، لأن فعولة بمنزلة فعيلة في الزنة والعدة وحرف المد. أما العدة فإنه يريد به عدد الحروف. وأما حروف المد فأراد أن حرف المد فيها ثالث لأن الواو في فعولة ثالثة، والياء في فعيلة ثالثة. وأما الزنة فإن فعولة متحركان وساكن، وكذلك فعيلة فالوزن واحد. قال سيبويه: " وكل شيء كان من هذا أقل كان تكسيره أقل كما كان في بنات

الثلاثة ". يريد أن " فعيلة " أكثر من " فعولة " و " فعالة " و " فعالة " وقد استغنوا في جمعها فقالوا: " فعل " ل (سفن) و (صحف) ولم يجئ في " فعالة " و " فعولة " مثل ذلك. قال: واعلم أن (فعالا وفعيلا وفعالا وفعالا) إذا كان شيء منها يقع على الجميع فإن واحده يكون على بنائه ومن لفظه وتلحقه هاء التأنيث وأمرها كأمر ما كان على ثلاثة أحرف وذلك قولك: (دجاج) و (دجاجة) و (دجاجات). وبعضهم يقول: (دجاجة) و (دجاج) و (دجاجات) ومثله من بنات الياء: (أضاءة) و (أضاء) و (أضاءات)، و (شعيرة) و (شعير) و (شعيرات) و (سفين) و (سفينة) و (سفينات) ومثله من بنات الواو (رّكيّة) و (ركيّ) و (مطيّة) و (مطيّ) و (ركيّات) و (مطيّات)، و (مرار) و (مرارة) و (مرارات) و (يمام) و (يمامة) و (يمامات) و (حمام) و (حمامة) و (حمامات) ومثله من بنات الياء والواو (عظاءة) و (عظاء) و (عظاءات)، و (صلاءة) و (صلاء) و (صلاءات). قال أبو سعيد: هذا الذي ذكره من الأجناس بمنزلة (تمر) و (تمرة) وهو زائد على ثلاثة أحرف ولا فرق بين ما قلت حروفه أو كثرت عن ذلك. وقوله: " أضاءة " و " أضاء " لا أعلم أحدا ذكر (أضاءة) بالمد غيره وكل يقول (أضاة) و (أضا) مثل (حصاة) و (حصى)، وذكره هو أيضا مقصورا فيما تقدم ومده نادر. وقوله: ومثله من بنات الياء والواو (عظاءة) و (صلاءة) وللقائل أن يقول: (عظاءة) و (صلاءة) من بنات الياء، لأنا نقول (عظاية) و (صلاية)، فلم قال من بنات الياء والواو فيقال له: بنات الياء والواو تجري مجرى واحدا فمثل ببعض ذلك لأن التمثيل هو جزء يدل على غيره. قال: " وكل شيء كان واحدا مذكرا، وكان يقع على الجميع فإن واحده وإياه بمنزلة ما كان على ثلاثة أحرف مما ذكرنا كثرت عدة حروفه أو قلت. " يعني أن اسم الجنس واحد مذكر وهو يقع على الجميع؛ لأن الجنس جمع وقوله " وإياه كناية عن الجمع الذي ذكر كأنه قال: فإن واحده وجمعه مما زاد على الثلاثة ومن الثلاثة واحد. ((وأما ما كان من بنات الأربعة لا زيادة فيه فإنه يكسر على مفاعل، وذلك قولك: (ضفدع) و (ضفادع) و (حبرج) و (حبارج) و (خنجر) و (خناجر) و (جنجن) وجناجن) و (قمطر) و (قماطر)).

قال أبو سعيد: جمع الرباعي على اختلاف بنيته يكون على مثال لفظ واحد، وذلك أنك إذا جمعت رباعيا فتحت أوله وأدخلت ألف الجمع ثالثة وكسرت الحرف الذي بعد ألف الجمع فلا يختلف. تقول: (ضفدع) و (ضفادع) فتفتح الضاد وكانت مكسورة و (حبرج) و (حبارج) فتفتح الحاء، وكانت مضمومة، والحبرج: ذكر الحبارى والجنجن: عظم الصدر، وبعضهم يقول: (جنجن). قال: " فإن عنيت الأقل لم تجاوز ذا لأنك لا تصل إلى التاء. " يريد أنك تقول (ثلاثة قماطر) وهو جمع كثير، لأنه لا يمكن أن تحذف حرفا من الأربعة ثم تجمع الثلاثة الباقية الجمع القليل ولا يحسن أيضا أن تجمعه بالألف والتاء لأنه مذكر فلم يجز فيه غير ما ذكر من (ضفادع) و (حبارج) وما أشبه ذلك، وإن كان في ذوات الأربع حرف من حروف المد واللين زائد رابع كسرته على مثال (مفاعيل) كقولك (قنديل) و (قناديل) و (كرسوع) و (كراسيع) و (غربال) و (غرابيل)، فأتقن الجمع كله على لفظ واحد، لأنك تفتح أوله وتكسر الحرف الذي بعد الألف فإن كان بعد ذلك الحرف واو قلبتها (ياء لانكسار) ما قبلها فقلبت واو (كرسوع) ياء في (كراسيع) وألف (غربال) أيضا تقلبها ياء في (غرابيل) لانكسار ما قبلها وما ألحق ببنات الأربعة من الثلاثي يجري في الجمع كبنات الأربعة كقولهم (جدول) و (جداول) و (عثير) و (عثاير) و (سلّم) و (سلالم) و (تولب) و (توالب) وهو ولد الحمار، و (جندب) و (جنادب) و (قردد) و (قرادد) وقد قالوا: (قراديد) كراهية التضعيف يعني كرهوا التقاء الدالين فمدوا الكسرة. وما لم يلحق ببنات الأربعة وفيه زيادة وليست بمدة فإنك إذا كسرته كسرته على مثال مفاعل وذلك (تنضب) و (تناضب) و (أجدل وأجادل) و (أخيل) و (أخايل). فإن قال قائل لم قال سيبويه: وكل شيء من بنات الثلاثة فهي بناء بنات الأربعة وألحق ببنائها ثم ذكر (سلّم وسلالم) و (جندب وجنادب) وليس من مذهبه أن في بنات الأربعة " فعلل " وإن كان الأخفش وغيره يقولون: إن " جخدب " (فعلل) وقد حكوا (برقع)، و (برقع) و (جؤذر) و (جؤذر). قيل له هذه الأسماء تجري عنده مجرى الملحق لأنه " جخدبا " حروفه أصلية فإنما عدل عن أن يجعله أصلا في الرباعي، لأنه مخفف من " جخادب " عنده وصار بمنزلة الرباعي الأصلي لأن حروفه كلها أصلية وصار (سلّم) و (دمّل) و (خرّب) ملحقا به. قال سيبويه: وكل شيء مما ذكرنا كانت فيه (هاء) التأنيث يكسر على ما ذكرنا إلا أنك تجمع بالتاء إذا أردت بناء أدنى العدد وذلك قولك (جمجمة) و (جماجم)

و (زردمة) و (زرادم) و (مكرّمة) و (مكارم) و (عودقة) و (عوادق) وهو الكلّوب الذي يخرج به الدّلو. قال: وكل شيء من بنات الثلاثة قد ألحق ببنات الأربعة وصار رابعه حرف مد فهو بمنزلة ما كان من بنات الأربعة له رابع حرف مد وذلك (قرطاط) و (قراطيط) و (جريال) و (جراييل) و (قرواح) و (قراويح). قال أبو سعيد: أصل (قرطاط) " قرط " وإحدى الطاءين زائدة بذوات الأربع وأصل " جريال " (جرل) والياء زائدة والواو في (قرواح) زائدة فصار بمنزلة اسم على أربعة أحرف أصلية وزيدت فيها ألف رابعة كقولنا " سرداح " و " حذفار " فإذا جمعت هذا الملحق جمعته كالأصلي فصار (قراطيط)، و (قراويح) و (جراييس) بمنزلة (سراديح) و (حذافير). قال: وكذلك ما كانت فيه زيادة ليست بمدة وكان رابعه حرف مد، ولم يبن بناء بنات الأربعة التي رابعها حرف مد وذلك نحو (كلّوب) و (كلاليب) و (يربوع) و (يرابيع) إحدى اللامين في (كلّوب) زائدة وليست من حروف المد والواو فيه زائدة وهي حرف مد رابع فجمع على (كلاليب) مثل (قراويح) و (قراريط). قال: وما كان من الأسماء على " فاعل أو فاعل " فإنه يكسر على بناء " فواعل وذلك (تابل) و (ترابل) و " طابق " و " طوابق " و (حاجز) و (حواجز) و (حائط) و (حوائط) " قال أبو سعيد: وقد جاء فاعل فواعيل نحو (طابق) و (طوابيق) و (دانق) و (دوانيق) و (خاتم) و (خواتيم) وليس ذلك بقياس يطرد وبعضهم يقول في (خاتم) (خاتام) وأنشد: أخذت خاتامي بغير حق (¬1) فعلى هذه اللغة قياسه (خواتيم) وقد ذكر الفراء أنه لم يجئ في فاعل (فواعيل) إلا شيء واحد من كلام المولدين قالوا (باءبل) و (بواءابل) شبهوه ب (طابق) و (طوابيق). قال سيبويه: وقد يكسرون الفاعل على (فعلان) نحو (حاجر) و (حجران)، ¬

_ (¬1) هذا البيت من مشطور الرجز وهو من شواهد المبرد في المقتضب: 2/ 258 والكامل: 363، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 53، والعقد الفريد: 2/ 273.

و (سالّ) و (سلّان) و (حائر) و (محوران) وقد قال بعضهم (حيران) كما قالوا (جانّ) و (جنّان)، وكما قال بعضهم (غائط) و (غيطان) و (حائط) و (حيطان) قلبوها حين صارت الواو بعد كسرة " يعني أن الأصل في (غائط) و (حائط) الواو؛ لأن (الغائط) الأرض المنهبطة ويقال لها (الغوطة) ومنه سميت " الغوطة ": قرية بقرب دمشق. و (حائط) من قولك (حاط) (يحوط) فقلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كما قالوا (صيران) و (ميقات)، والحاجر: أرض مستديرة، و (السّالّ) موضع يكون فيه شجر، والحائر الموضع الذي يسميه العامة (الحير) وهو مستفل من الأرض يجتمع فيه الماء. قال: والأصل (فعلان) وقد قالوا (غالّ) و (غلّان) و (فالق) و (فلقان) " والغالّ: المكان المطمئن من الأرض والفالق المكان المستدير الذي ليس فيه نبت وفي النسخ (مالّ) و (ملّان) وما رأيت أحدا فسره، وفعلان في ذلك أكثر وهو الأصل. قال: ولا يمتنع شيء من ذا من فواعل كقولك: (حاجر) و (حواجر) و (حائر) و (حوائر) و (حائط) و (حوائط). قال: وأما ما كان صفة فأجري مجرى الأسماء فقد يبنونه على " فعلان " كما يبنونها وذلك قولك: (راكب) و (ركبان) و (صاحب) و (صحبان) و (فارس) و (فرسان) و (راع) و (رعيان) " قال أبو سعيد: وهذه صفات تجري مجرى الأسماء؛ وذلك أنهم يقولون: " راكب " لراكب البعير و (ركبان) للجماعة، ويقولون لراكب الفرس: (فارس) فقد اختص الراكب بشيء على غير طريق الفعل، وكذلك (راع) يختص به من يرعى ضربا من المواشي ولا يقال لكلّ من رعى شيئا وحفظه (راع) على الإطلاق بل لا يفهم إذا قيل (فلان راع لشيء من الأنعام). وقوله: (فقد يبنونه على فعلان) كقولك (راكب) و (ركبان) كما يبنون الأسماء كقولنا (حاجر) و (حجران) و (فالق) و (فلقان). قال: وقد كسروه على (فعال) حيث جعلوه بمنزلة (فعيل) نحو (جريب)، و (جربان). وسترى بيانه إن شاء الله تعالى: لم أجري ذلك المجرى، فأدخلوا الفعال هاهنا كما أدخلوه ثمّة حين قالوا: (إفال وفصال) وذلك نحو " صحاب ".

يريد أنهم جمعوا (فاعلا) الذي هو صفة يجري مجرى الاسم على فعال فقالوا: (صاحب) و (صحاب)، لأنهم قد أجروا " فاعلا " مجرى " فعيل " حين قالوا " فالق " و (فلقان) كما قالوا (جريب) و (جربان)، وقد أجازوا في (فعيل) الذي هو اسم (فعال) كقولهم: (إقال) و (فصال) في جمع (أفيل) و (فصيل) فأجازوا ذلك أيضا في (فاعل) قالوا: (صاحب) و (صحاب). قال سيبويه: ولا يكون فيه (فواعل) كما كان في (تابل) و (خاتم) و (حاجر)؛ لأن أصله صفة وله مؤنث، فيفصلون بينهما، إلا في (فوارس) فإنهم قالوا: (فوارس) كما قالوا (حواجر) لأن هذا اللفظ لا يقع في كلامهم إلا للرجال وليس في أصل كلامهم أن يكون إلا لهم، فلما لم يخافوا الالتباس قالوا: (فواعل) كما قالوا: (فعلان) وكما قالوا (حوارث) حيث كان اسما خاصا ك (زيد). منع سيبويه أن يجمع (فاعل) الذي هو صفة أجري مجرى الاسم على فواعل، وكذلك (الفاعل) الذي هو صفة لم يجر مجرى الاسم واستثنى من ذلك " فوارس " واحتج بأنه لا يشاركه المؤنث. وما كان كذلك فهو كالاسم، لأن الأسماء في هذا الباب غير جارية على الأفعال لها مؤنث، وهذه الصفات لها مؤنث نحو صاحب (وصاحبة) و (راكب) و (راكبة) و (راع) و (راعية). وقال غيره: قد جاء (فاعل) و (فواعل) في حرفين (فارس) و (فوارس) و (فلان هالك في الهوالك). قال: تجاوزت هندا رغبة عن قتاله … إلى مالك أعشو إلى ذكر مالك وأيقنت أنّى عند ذلك بائن … غدا تئذ وهالك في الهوالك (¬1) وقد وجدت غير ذلك في كلام العرب، وإن كان المستعمل الكثير ما قاله سيبويه. قال عتيبة بن الحارث ألا من مبلغ جزء بن سعد … وكيف أصاب بعدكم الثّفيل ¬

_ (¬1) قائل البيت ابن جذل الطّعان. انظر اللسان: (هلك) وابن يعيش 5/ 79، والتصريح على التوضيح: 2/ 313.

هذا باب ما يجمع من المذكر بالتاء

أحامي عن ذمار بنى أبيكم … ومثلي في غوائبكم قليل (¬1) فقال جزء بن سعد لمّا بلغه ذلك: (نعم وفي شواهدنا) إنما هو جمع " غائب " وشاهد من الناس: وقد ذكر أبو العباس المبرد أنه الأصل، وأنه في الشعر شائع جائز. وأنشد قول الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم … خضع الرقاب نواكس الأبصار (¬2) وإذا كان " فاعل " لما لا يعقل من المذكر فإنه على فواعل، وإن كان صفة كقولك: (جبل شاهق) و (جبال شواهق) و (شامخ وشوامخ) و (حمار ناهق) و (نواهق)، و (فرس صاهل) و (صواهل). وإذا سميت بالصفة أيضا ثم جمعته كان على فواعل كقولك (حارث) اسم رجل و (حوارث) و (خواتم) وهذا هو القياس في الأصل، لأن قياس هذا الجمع قياس التصغير، ويقال في التصغير (ضارب) و (ضويرب)، و (قاتل) و (قويتل) وكان حقه أن يقال: (ضوارب) و (قواتل) غير أنهم عدلوا عن ذلك؛ لأن الجمع له وجوه ولا وجه للتصغير إلا واحد تقول في التصغير (ضارب) و (ضويرب) لا غير، وتقول في الجمع (ضارب) و (ضاربون) و (ضرّاب) و (كاتب) و (كاتبون) و (كتّاب) و (كتبة)، فجعلوا (فواعل) جمع " فاعلة " أو ما جرى مجراها مما لا يعقل كقولك " قاتلة " و " قواتل " و (شاهق) و (شواهق) وتركوا الأسماء على أصل القياس وقد جاء فاعل على " أفعلة " اسما ولم يذكر سيبويه. وذلك (واد) و (أودية) كأنهم حملوه على فعيل ك (جريب) و (أجربة)، وكرهوا فيه فواعل لئلا يجتمع واوان في أول الكلمة وكرهوا أيضا " فعلان " و " فعلان " لئلا تنضم الواو وتنكسر. هذا باب ما يجمع من المذكر بالتاء لأنه يصير إلى تأنيث إذا جمع، فمنه شيء لم يكسر على بناء من أبنية الجمع فجمع بالتاء إذ منع ذلك. وذلك قولك: (سرادقات) و (حمّامات) و (إوانات)، ومنه قولهم: (جمل سبحل) و (جمال سبحلات) و (ربحلات) و (جمال سيطرات). وقالوا: (جوالق) و (جواليق) ولم ¬

_ (¬1) البيتان من الوافر. انظر شرح الشافية للرضي: 2/ 153، وشرح شواهد الشافية ص: 141. (¬2) انظر ديوان الفرزدق: 376، الخزانة: 1/ 99، والمخصص: 14/ 117، وابن يعيش: 5/ 56 وهو من بحر الكامل.

هذا باب ما جاء بناء جمعه على غير ما يكون في مثله ولم يكسر هو على البناء

يقولوا (جوالقات) حين قالوا (جواليق) والمؤنث الذي فيه علامة التأنيث أجرى هذا المجرى. ألا ترى أنك لا تقول (فرسنات) حين قلت: (فراسن) ولا (خنصرات) حين قلت: (خناصر) ولا (محلجات) حين قلت (محالج ومحاليج) وقالوا (عيرات) حين لم يكسروها على بناء يكسر عليه مثلها. قال أبو سعيد: اعلم أن الجمع بالألف والتاء بابه أن يكون للمؤنث الذي فيه علامة التأنيث أو المذكر المسمى باسم فيه هاء التأنيث أو المنعوت بنعت فيه هاء التأنيث، فأما المؤنث فقولك: (امرأة ذاهبة) و (نسوة ذاهبات)، والمذكر المسمى باسم فيه هاء التأنيث فقولنا (طلحة والطلحات) و (حمزة والحمزات) والمنعوت قولنا: (رجل ربعة) و (رجال ربعات) وما كان غير ذلك فمشبّه به، وذلك (سرادق) و (سرادقات) و (حمّام) و (حمّامات)، ووجه التشبيه أن جمع المذكر يصير مؤنثا في التكسير فجعل (سرادقات) بمنزلة الجمع المكسر المؤنث، وجعل تأنيثه الحادث من أجل الجمع بالألف والتاء، وكذلك سائر ما ذكره، وإنما يفعلون أكثر ذلك فيما لم يكسروه، وربما كسروا وجمعوا بالألف والتاء وذلك فيما ذكره سيبويه: " بوانات " و " بوان " (للواحد) وبوق للجماعة كما قالوا (عرسات) و (أعراس) في جمع العرس. قال سيبويه: فهذه حروف تحفظ ثم يجاء بالنظائر ". يعني الجمع بالألف والتاء فيما ليس فيه الهاء، وقد قال بعضهم في شمال شمالات. وقال الشاعر: ربما أوفيت في علم … ترفعن ثوبي شمالات (¬1) هذا باب ما جاء بناء جمعه على غير ما يكون في مثله ولم يكسر هو على البناء قال سيبويه: فمن ذلك قولهم: (رهط) و (أراهط) كأنهم كسروا " أرهط " ومن ذلك (باطل) و (أباطيل) لأن ذلك ليس بناء (باطل) ونحوه إذا كسرته فكأنك كسرت عليه (إبطيل) و (إبطال) ومثل ذلك (كراع) و (أكارع)، لأن ذا ليس من أبنية (فعال) إذا كسر بزيادة أو بغير زيادة فكأنه كسّر عليه (أكرع) ومثل ذلك: (حديث) و (أحاديث)، و (عروس) و (أعاريس) و (قطيع) و (أقاطيع)، لأن هذا لو كسرته إذا ¬

_ (¬1) الشاعر هو جذيمة الأبرش والبيت من المديد. انظر ابن يعيش: 9/ 40، العيني: 3/ 344، المغني: 135، الدرر اللوامع: 2/ 41.

كانت عدة حروفه أربعة أحرف بالزيادة التي فيها لكانت " فعائل " ولم تكن لتدخل زيادة في أول الكلمة كما أنك لا تكسر (جدولا) ونحوه على ما تكسّر عليه بنات الأربعة. وكذلك هذا إذا كسّرته بالزيادة لا تدخل زيادة سوى زيادته، فيصير اسما أوله ألف ورابعه حرف لين فهذه الحروف لم تكسر على ذا، ألا ترى أنك لو حقرتها لم تقل " أحيديث " ولا " أعيريض " ولا " أكيرع " فلو كان ذا أصلا لجاز ذا التحقير، وإنما يجري التحقير على أصل الجمع إذا أردت ما جاوز ثلاثة أحرف مثل (مفاعل) و (مفاعيل). قال أبو سعيد: ما كان من الجمع ثالثه ألف وبعدها حرفان أو ثلاثة فلا يجوز أن يكون واحده ثلاثة أحرف، لأن هذا الجمع يجري مجرى التصغير إنما يزاد على واحده الألف ثالثة فقط كما تزاد التصغير ثالثة ويؤتى بالحركات على ما يوجبه الجمع أو التصغير كقولك (جعفر) و (جعافر) و (جعيفر) و (بلبل) و (بليبل) و (بلابل) و (زبرج) و (زبيرج) و (زبارج) و (صندوق) و (صنيديق) و (صناديق)، فجعل (أراهط) كأنه جمع (أرهط) لا جمع " رهط "، وإن كان " أرهط " لا يستعمل. والدليل على ما قال، أن الشاعر قد قال " أرهط " لما احتاج إليه: وفاضح مفتضح في أرهطه … من أرفع الوادي ولا من ثعبطه (¬1) وكذلك (باطل) و (أباطيل) لو جمع " باطل " على هذا القياس لقيل " بواطل " فعلم أن " أباطيل " ليس بجمع " باطل " وكذلك " أكارع " ليس بجمع " كراع " وكذلك سائر ما ذكره. ولو جمع ما ذكر على لفظه لقيل في " كراع ": (كرائع) وفي حديث (حدائث) وفي عروض (عرائض) كما يقال في (قلوص): (قلائص) وفي (سفينة): (سفائن)، لأن ألف الجمع تدخل ثالثة ولا يزاد غيرها، وقوى سيبويه ذلك بأنا لو صغرنا لم نذهب بالتصغير مذهب الجمع لا يقال: (أحيديث) ولا (أعيريض) ولا (أكيرع) كما تقول في الجموع التي أتت على قياس الواحد ك (صناديق) و (صنيديق) و (أباريق) و (أبيريق) و (أباطح) و (أبيطح) فاعرف ذلك إن شاء الله. ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز أنشدهما الأصمعي ولم ينسبهما إلى أحد وهما من شواهد شرح المفصل لابن يعيش: 5/ 73، وشرح الشافية للرضي: 2/ 205.

قال: ومثل (أراهط) (أهل) و (أهال) و (ليلة) و (ليال). يعني أن (ليالي) ليس بجمع (ليلة) على لفظها ولا (أهالي) جمع " أهل " وإنما هو على تقدير (أهلاه) وإن لم يستعمل، قالوا (لييلية) فجاءت على (ليلاة) في التصغير كما جاءت عليه في الجمع. قال: وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض " أفعال " كما قالوا أهل وآهال. قال أبو سعيد: والذي عندي أن هذا غلط وقع في الكتاب من جهتين أحدهما أن سيبويه ذكر فيما تقدم أنهم لم يقولوا " آراض " ولا (آرض) والأخرى أن هذا الباب إنما ذكر فيه ما جاء جمعه على غير الواحد، ونحن إذا قلنا أنه (أرض) و (آراض) و (أهل) فهو على الواحد كما يقال: (زند) و (أزناد) و (فرخ) و (أفراخ) وإن كان الأكثر فيه " أفعل " وقد ذكر سيبويه مثل هذا فيما تقدم من الأبواب وأظنه: (أرض) و (أراض) كما قالوا: (أهل) و (أهال) فيكون بمنزلة (ليلة) و (ليال)، فيشاكل الباب. قال سيبويه: وقال بعض العرب أمكن ... يعني في جمع (مكان) ويكون التقدير أنه جمع (مكن) بحذف الألف من مكان. قال: لأنا لم نر فعيلا ولا فعالا ولا فعالا (ولا فعالا) يكسّرن مذكرات على (أفعل) ومثل ذلك (توأم) و (تؤام) كأنهم كسروا عليه (تئم) كما قالوا (ظئر) و (ظؤار) و (رخل) و (رخال). وإنما قال سيبويه: كأنهم كسروا عليه (تئم) لأن الباب عنده في فعال أن يكون جمع فعل لأن أكثره جمع فعل وذلك (ظئر) و (ظؤار) و (رخل) و (رخال) و (ثنى) و (ثناء). قال: وقالوا (كروان) وللجميع " كروان " وإنما يكسر عليه " كرا " كأنهم ردوا (كروان) وهو (فعلان) إلى فعل فصار " كرا " وجمع على فعلان كما قالوا: (خرب) و (خربان) و (أخ) و (إخوان)، وقالوا في مثل: أطرق كرا، إن النّعام في القرى. وقال: لنا يوم وللكروان يوم … تطير البائسات ولا نظير (¬1) ¬

_ (¬1) البيت من الوافر وهو شاهد على جمع (كرا) على (كروان) ولم أهتد إلى قائل له.

هذا باب ما عدد حروفه خمسة أحرف وخامسه ألف التأنيث أو ألفان للتأنيث

وقد حكى سيبويه (ورشان)، وللجمع (ورشان). قال سيبويه: ومثل هذا (حمار) و (حمير) ومثل ذا (أصحاب) و (أطيار) و (فلوّ) و (أفلاء). قال أبو سعيد: جعل سيبويه ما كان من جمع الثلاثي مما ذكر إذا جاء جمعا لما كان من أحرف فهو بحذف حرفا منه في التقدير وليس ذلك بمطرد فيكون كأنهم قدروا (حمارا) على (حمر) وجمعوه على (حمير) كما قالوا (كلب) و (كليب) و (عبد) و (عبيد) وجعلوا (صاحب) و (طائر) على (صحب) و (طير) وجمعوه على (أصحاب) و (أطيار)، كما قالوا (بيت) و (أبيات) وجعلوا (فلوّ) على " فعل " وجمعوه على (أفعال) كما قالوا (عجز) و (أعجاز). هذا باب ما عدد حروفه خمسة أحرف وخامسه ألف التأنيث أو ألفان للتأنيث قال سيبويه: أما ما كان على (فعالى) فإنه يجمع بالتاء وذلك (حبارى)، و (حباريات) و (سمانى) و (سمانيات) و (لبادى) و (لباديات). وذلك كله أسماء لضروب من الطير، ولم يقولوا حبائر ولا حباريّ ليفرقوا بينها وبين فعلاء وفعاله وأخواتها وفعيلة وفعالة وأخواتها. أما قوله: لم يقولوا: (حبائر) ولا (حباريّ) فإنا لو كسرنا (حبارى) للجمع لوجب أن تقول: (حبائر) أو (حبارى) كما تقول في التصغير: (حبيّر) و (حبيرى) وذلك أنها خمسة أحرف وفيها زائدان الألف بعد الياء وألف التأنيث ولنا أن نحذف أيهما شئنا فإن حذفنا ألف التأنيث بقي (حبار) وتصغيره (حبير) وجمعه (حبائر) على طريق التصغير (فإن حذفنا الألف الأولى بقي حبرى) وتصغيره (حبيرى) وجمعه (حبارى). كما قالوا (حبلى) و (حبالى)، وما كان من ذلك على (فعلاء) أو (فعالة) فإنه يكسر كقولهم: (صحراء) و (صحارى) و (عذراء) و (عذارى) و " فعالة " نحو (رسالة) و (رسائل) وأخوات ذلك: ما كان على (فعلاء) نحو (فيفاء) و (فيافي) و (زيزاء) و (زيازي) و (جلذاء) و (جلاذي). و (فعيلة) نحو (سفينة) و (سفائن) و (قريبة) و (قرائب) " وفعالة " نحو (ذؤابة) و (ذوائب) وأخوات ذلك ما كان مما ضم أوله أو فتح كقولنا (معييه) و (معاي) و (مرضعة) و (مراضع) و (سحابة) و (سحائب) و (دجاجة) و (دجائج) وفرقوا بين " فعالى " حين عدلوا عن تكسيرها إلى جمع السلامة وبين هذه الأبنية الأخر حين جمعوا هذه الأبنية جمع التكسير.

هذا باب جمع الجمع

قال: وأما ما كان آخره ألفان للتأنيث (وكان فاعلا) فإنه يكسر على (فواعل) شبه ب (فاعلة)، لأنه علم تأنيث كما أن الهاء في (فاعلة) علم التأنيث وذلك (قاصعاء) و (قواصع) و (نافقاء) و (نوافق)، و (دامّاء) و (دوام) - وكلها جحرة اليرابيع- وسمعنا من يوثق به من العرب يقول: (سابياء) و (سواب) و (حاثياء) و (حواث). وإنما جعلوا ألفي التأنيث بمنزلة هاء التأنيث فصار (قاصعاء) بمنزلة (قاصعة) و (دامّاء) بمنزلة (دامّة) فجمع على (فواعل)، كما يقال (قاتلة) و (قواتل) و (دابة) و (دوابّ) وعلى ذلك قالوا (خنفساء) و (خنافس) كما يقال (قنبرة) و (قنابر) و (بهترة) و (بهاتر). هذا باب جمع الجمع قال سيبويه: أما أبنية أدنى العدد فيكسر منها (أفعلة وأفعل) على (أفاعيل) لأن (أفعل) بزنه " أفعل " و " أفعلة " بزنة (أفعلة)، كما أن (أفعالا) بزنة (إفعال) وذلك نحو (أيد) و (أياد) و (أوطب) و (أواطب) قال الراجز: يحلب منها ستّة الأواطب (¬1) و (أسقية) و (أساق). قال أبو سعيد: اعلم أن جمع الجمع ليس بقياس مطرد وإنما يقال فيما قالوه ولا يتجاوز، وكذلك قال أبو عمر الجرمي قال: ولو قلنا في (أفلس): (أفالس) وفي (أكلب) (أكالب) وفي (أدل) (أدال) لم يجز. وأما قول سيبويه: لأن " أفعل " بمنزلة (أفعل " و " أفعلة " بمنزلة " أفعلة " يعني أن اختلاف الحركات في الواحد لا يوجب اختلاف الجمع في الرباعي. ألا ترى أنا نقول (حبرج) و (حبارج) كقولنا (زبرج) و (زبارج) و (جعفر) و (جعافر) و (قمطر) و (قماطر) و (هجرع) و (هجارع) فصار لفظ الجمع واحدا وإن اختلفت الآحاد وكذلك (أفعل) وهو (أوطب) و (أيد) بمنزلة (أرنب) و (أيدع). تقول فيه: (أرانب) و (أيادع) و (أفعلة) ك (أفعلة) تقول (أشكلة) و (أشاكل) و (أزملة) و (أزامل)، كما قلنا: (أسقية) و (أساق). ¬

_ (¬1) البيت من مشطور الراجز. انظر المفصل لابن يعيش 5/ 75، والمخصص 4/ 101، والتبصرة والتذكرة 2/ 681. والشاهد جمعه الأوطب وهو جمع (وطب) على (أواطب) لتكثير العدد.

قال سيبويه: وأما ما كان أفعالا فإنه يكسر على أفاعيل، لأن أفعالا بمنزلة إفعال وذلك نحو أنعام وأناعيم وأقوال وأقاويل وقد جمعوا أفعلة بالتاء كما كسروها على أفاعل شبهوها بأنملة وأنامل وأنملات وذلك قولهم أعطيات وأسقيات. يريد أنهم كما استجازوا جمعه على التكسير استجازوه على السلامة بالألف والتاء. قال: وقالوا جمال وجمائل فكسروها على فعائل؛ لأنها بمنزلة شمال وشمائل في الزّنة. كأنهم جعلوا جمالا واحدا بمنزلة (شمال) التي هي واحد. وقال ذو الرمة: وقربن بالزّرق الجمائل بعد ما … تقوّب عن غربان أوراكها الخطر (¬1) وقالوا جمالات ورجالات وكلابات وبيوتات لأنها جموع مكسرة مؤنثة فجمعوها بالألف والتاء كما يجمع المؤنث ومثل ذلك (الحمرات) و (الطّرقات) و (الجزرات) لجمع الحمر التي هي جمع (حمار) والطّرق والجزر اللتين هما جمعان للطريق والجزور. قال: واعلم أنه ليس كل جمع يجمع كما أنه ليس كل مصدر يجمع كالأشغال والعقول والحلوم والألباب، ألا ترى أنك لا تجمع الفكر والعلم والنظر، كما أنهم لا يجمعون كل اسم يقع على الجميع نحو (التمر). قال أبو سعيد: ذكر سيبويه ثلاثة أشياء الباب فيها ألا تجمع وما جمع منها فهو مسلم والباقي على قياسه. منها الجمع المكسر وقد ذكرناه وما لم يذكره سيبويه وصح أن العرب جمعته فإنه مسلم. وقد روي (أسماء) و (أسامي)، وقد روي (مواليات بني هاشم) ذكرها الفراء وربما اضطر الشاعر فجمع الجمع قال: ترمي الفجاع والفيافي في القصى … بأعينات لم يخالطها قذى (¬2) والثاني من الثلاثة المصادر التي تدل على نوع المصدر ونحو القتل والشتم والضرب لا يقال (قتول) ولا (شتوم) في جمع ذلك وإنما جاء (أشغال) و (حلوم) و (عقول) ¬

_ (¬1) انظر ديوان الشاعر: 566، وابن يعيش: 5/ 76، والمخصص: 7/ 23 واللسان (غرب) والبيت من الطويل. والشاهد قوله (الجمائل) حيث ورد في البيت جمعا مفرده (جمال) كأنهم جعلوه واحدا. (¬2) البيتان في اللسان (عين) وشرح الشافية للرضي: 2/ 209. والشاهد في (أعينات) حيث إنها جمع (أعين) وأعين جمع عين والبيتان من مشطور الرجز.

هذا باب ما كان من الأعجمية على أربعة أحرف وقد أعرب وكسرته على مثال مفاعل

و (ألباب) فلا يتجاوز ذلك، وكذلك أسماء الأجناس نحو التمر والبر والشعير، لأن كل لفظ من ذلك يدل على الجنس بأسره فلا حاجة بالمتكلم إلى جمعه فإن جمعت العرب شيئا من ذلك فإنما يريدون بذلك الدلالة على اختلاف ألوانه كقولهم (التمرات) و (التمور) وقد ذكر عن أبي العباس أنه قال (تمر) و (أتمر) و (بر) و (أبرار) إذا أردت أجناسا مختلفة، وقد منع سيبويه أن يقال (أبرار) في جمع (برّ). (قال: ويقولون مصران ومصارين كأبيات وأبابيت). جعلوا الألف في مصران كالألف في أبيات وقلبوها في الجمع كما تقلب الألف في كرباس إذا قلت (كرابيس) وقالوا: (أسورة) و (أساورة) وقالوا (عوذ) و (عوذات) و (العوذ) جمع (عائذ) من الإبل وهي الحديثة العهد بالنتاج قال الراعي: لها بحفيل فالنّميرة منزل … ترى الوحش عوذات به ومتاليا (¬1) ويروى بالنميرة وقالوا: دودات في جمع دود كما قالوا (عوذات) وقالوا في (حشّان) جمع (حشّ) (حشاشين) كما قالوا (مصران) و (مصارين) وقال الراجز: ترعى أناض من جزير الحمض ويروى أناض فمن قال أناض جمع النضو أنضاء وجمع الأنضاء أناض فيكون النضو ما قد رعي وبقيت منه بقية كالنّضو من الإبل الذي ينضيه السفر ويهزله. ومن قال أناص جعله جمع نصيّ والنصيّ على أنصاء بحذف الزوائد. كما قالوا شريف وأشراف ثم جمع أيضا على أناص، وهذا ضعيف؛ لأنه قال من جزير الحمض والنصي ليس بحمض. هذا باب ما كان من الأعجمية على أربعة أحرف وقد أعرب وكسرته على مثال مفاعل زعم الخليل أنهم يلحقون جمعه الهاء إلا قليلا وكذلك وجدوا أكثره فيما زعم (الخليل). قال سيبويه: وذلك قولك " موزج " و " موازجة " و " صوبج " و " صوابجة " و " كربج " و " كرابجة " و " طيلسان " و " طيالسة " و " جورب " و " جواربة " وقد قالوا: " جوارب " و " كيالج " جعلوها ك (الصّوامع) و (الكواكب) وقد أدخلوا الهاء أيضا فقالوا (كبالجة) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل وهو من شواهد الكتاب: 3/ 619، وابن يعيش: 5/ 76 والشاهد فيه جمعه (عوذات) وهو جمع (عائذ) بالألف والتاء للتكسير.

ونظيره من العربية (صيقل) و (صياقلة) و " صيرف " و " صيارفة " و " قشعم " و " قشاعمة " فقد جاء أعرب ك (ملك) و (ملائكة)، وقالوا: (أناسيه) لجمع (إنسان) وكذلك إذا كسرت الاسم وأنت تريد (آل فلان) أو جماعة الحي أو بني فلان وذلك قولك (المسامحة) و (المناذرة) و (الأحامرة) و (الأزارقة)، وقالوا: (الدّياسم) و (المعاول)، كما قالوا: (جوارب) شبهوه بالكواكب حين أعرب وجعلوا (الدّياسم) بمنزلة (الغيالم) والواحد (غيلم) ومثل ذلك (الأشاعرة)، وقالوا: (البرابرة) و (السّيابجة) فاجتمع فيها العجمة وأنها من الإضافة إنما يعني البربريين كما أرادت ب (المسامعة) المسمعيّين وأهل الأرض (كالحي). قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان من الأعجمي والمنسوب رباعيا فإن أكثر ما يجيء جمعه بالهاء وهو الباب فيه وما لم يأت بالهاء فهو مشبه بالعربي وبغير المنسوب فأما المنسوب فمثل قولنا المسامعة وأحدهم (مسمعيّ) و (المناذرة) وأحدهم (منذريّ) وواحد (المهالبة) (مهلّبيّ) وكذلك (أحمريّ) و (أزرقي) ولزوم الهاء في ذلك على وجهين أحدهما توكيد التأنيث فيه كما ذكر في بعض ما مضى من الجمع كقولنا (حجر) و (حجارة) و (ذكر) و (ذكور) و (ذكارة) ونظيرهما مما لا هاء فيه (جمل) و (جمال) و (جبل) و (جبال) وقالوا (أسد) و (أسود) فزيادة الهاء في حجارة وذكورة توكيد للتأنيث لأنه جمع مكسر وربما قالوا في (جمال) (جمالة) وفي (حجار) (حجارة) وقد مضى ذلك والوجه الثاني أن المنسوب إذا جمع فقد حذف منه ياء النسب والمحذوف عن الواحد قد يعوض في التصغير والجمع كقولنا في جمع (سفرجل) (سفاريج) وفي تصغيره (سفيريج) وفي جمع (حبنطى) و (قلنسوة) وتصغيرهما " حبانيط " و " قلانيس " و (حبينيط) و (قلينيس) والهاء تكون عوضا عن الياء كقولهم (زنادقة) و (جحاجحة) والأصل (زناديق) و (جحاجيح)؛ لأنه جمع (زنديق) و (جحجاج) وحقه أن يكون بالياء وذكر سيبويه أن الهاء عوض عن الياء فتكون الهاء في هذه الجموع عوضا مما حذف من أحدهما. ويكون الأعجمي مخصوصا بدخول الهاء لتوكيد التأنيث في الجمع المكسر والدلالة على أنه أعجمي. والذي يقول (جوارب) و (كيالج) شبهه بالعربي وهو الصوامع و (الكواكب) والذي يدخل الهاء لم يخرج أيضا عن قياس العربي لأنهم قالوا (صيقل) و (صياقلة) و (قشعم) و (قشاعمة). وأما (ملك) و (ملائكة) فالأصل في (ملك) (ملأك) وهو مأخوذ من (المألكة) وهي

الرسالة وقال الشاعر: فلست لإنسىّ ولكن لملأك … تنزل من جوّ السّماء يصوب (¬1) وكان حقه أن يجمع على (ملآئك) كما تقول (مصنع) و (مصانع) ولكن أكدوا تأنيثه بالهاء، ويجوز أن يكون قدّروا فيه النسبة إلى هذا الجنس. وأما قولهم (أناسية) في جمع (إنسان) ففيه وجهان (أحدهما) أن يجعلوا الهاء عوضا من إحدى ياءى (أناسي) كما قال عز وجل: وَأَناسِيَّ كَثِيراً (¬2) وأصله (أناسين) وتكون الياء الأولى من الياءين منقلبة من الألف التي بعد السين، والثانية منقلبة من النون كما تنقلب النون منها إذا نسبت إلى (صنعاء) و (بهراء) فقلت: (صنعانيّ) و (بهرانيّ). والوجه الثاني أن تحذف الألف والنون في إنسان تقديرا ويؤتى بالياء التي تكون في تصغيره إذا قالوا (أنيسيان) وكأنهم ردوا في الجمع الياء التي يردونها في التصغير فيصير (أناسي) ويدخلون الهاء لتحقيق التأنيث. وقال أبو العباس المبرد: (أناسية) جمع " إنسّي " والهاء عوض من الياء المحذوفة لأنه كان يجب " أناسيّ " وقالوا: (الدّياسم) و (المعاول) وهو من المنسوب الواحد (ديسميّ) و " معوليّ " وهم من قبائل العرب (المعاول) من الأزد من الجهاضم والنسبة إليهم (معوليّ)، وبعض العامة يقول (معولي) والصواب الفتح وفي المحدثين رجل ينسب إليهم فأتوا به على غير تعويض كما يقال في (قلنسوة) (قلانس) بغير تعويض وفي (سفرجل) (سفارج) وجوز أيضا فيه وجه آخر وهو أن يجعل جمعا غير منسوب وذلك أن العرب قد تطلق لفظ الأب على كل واحد من الحي كأنه مسمى باسم الأب الأكبر فيقولون الأشعرون في معنى (الأشعريّين) كأن كل واحد منهم (أشعر) وقد قال بعض أهل العلم في قول الله عز وجل: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (¬3) إنه في معنى (ال ياسيّن) الذين اتبعوا إلياس فسمى كل واحد منهم (إلياس) وجمعهم. وقد روى بعض الرواة: قدني من نصر الخبيبين قدي ¬

_ (¬1) البيت مذكور في لسان العرب (ألك) وهو من بحر الطويل. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 49. (¬3) سورة الصافات، الآية: 130.

هذا باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع

ليس الإمام بالشّحيح الملحد (¬1) ويروى الخبيبين فمن قال: الخبيبين أراد الخبيبيّن وهم منسوبون إلى عبد الله بن الزبير وكان يكنى أبا خبيب فجعل المنسوبين إليه كل واحد فيهم فسمى بخبيب، ومن ثنى أراد عبد الله ومصعبا، وقوله السيابجة واحدهم (سيبجيّ) وهم قوم من الهند يبذرقون المراكب في البحر وقد يقال بالألف " سابج ". قال هميان بن قحافة: لو لقي الفيل بأرض سابجا … لدقّ عنق الفيل والدّوارجا (¬2) والموزج: الخف، والصّوبج: الجوبك والكربج: الحانوت وهو أيضا اسم موضع، ولعله له سمي بحانوت كان فيه ويقال: كريق وقربق قال: ما شربت بعد دلوىّ القربق … من شربة غير النّجاء الأدفق (¬3) ومعنى قوله فأهل الأرض كالحي يريد أن البرابرة والسيابجة وهم منسوبون إلى بلادهم بمنزلة المسامعة وهم من أحياء العرب. هذا باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع وهو أن يكون (الشيئان) كل واحد منهما بعض شيء مفرد من صاحبه. قال سيبويه: وذلك قولك ما أحسن رؤوسهما وأحسن عواليهما وقال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (¬4)، وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬5). فرقوا بين المثنى الذي ثني على حده وبين ذا. ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز. انظر الخزانة: 2/ 449، والعيني: 1/ 375، وابن يعيش: 3/ 124، وشواهد المغني: 166. (¬2) البيتان من مشطور الرجز في اللسان (سبج) وشرح الشافية للرضي: 2/ 187. (¬3) البيتان من مشطور الرجز وهما (لسالم بن قحفان) والشاهد في البيتين قوله (القربق) حيث إنها تطلق على الحانوت وقد يراد بها اسم موضع، اللسان (قربق). (¬4) سورة التحريم، الآية: 4. (¬5) سورة المائدة، الآية: 38.

قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان في البدن منه واحد فضم إلى مثله من بدن آخر فإن الوجه الأكثر من كلام العرب جمعه قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ويجوز تثنيته وتوحيده، فأما جمعه فلأن التثنية جمع لأن أحدهما قد جمع مع الآخر وضم إليه ويستوي لفظ المثنى والجمع للمتكلم، لأنه يقول: نحن فعلنا كذا إن كانوا اثنين أو جماعة فنحن للاثنين والجماعة والنون والألف للاثنين والجماعة، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (الاثنان فما فوقهما جماعة) (¬1) وقد قال الله عز وجل: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (¬2) والاثنان يوجبان لهما السدس فعلم أن الأخوة قد تقع على الاثنين وهو قول الجمهور من العلماء والحجة معهم. وقال أهل البصرة إنما اختاروا الجمع في هذا فرقا بين ما كان في البدن منه واحد إذا ضم إلى مثله من بدن آخر، وبين ما كان في البدن منه اثنان إذا ضم أحدهما إلى مثله من بدن آخر يقول القائل: (قطعت أنف الزيدين) وهو أنف من هذا وأنف من هذا وتقول (قطعت أذني الزيدين) وهو إحدى الأذنين من هذا وإحدى الأذنين من هذا. وقال الفراء: إنما جمعوا ذلك لأن الأعضاء أكثرها اثنان اثنان كالعينين والحاجبين والخدين والرجلين واليدين فإذا كان في البدن منه واحد أقيم مقام الاثنين فإذا ضممناه إلى الآخر صار كأنهما أربعة فجمعا لذلك، ويقوى ما قاله أن الدية فيما كان في اليدين منه واحد دية كاملة وما كان منه اثنان فلكل واحد منهما نصف الدية، وأما قوله عز وجل: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (¬3) فجمع وفي البدن منه اثنان؛ لأن القصد إلى أيمانهما. واليمين واحدة وكذلك في قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيديهما). وأما تثنيتهما فعلى حقيقة لفظ التثنية قال الشاعر: ومهمهين قذفين مرتين … ظهراهما مثل ظهور التّرسين (¬4) ¬

_ (¬1) الحديث انظر البخاري (باب الآذان) رقم 250، والنسائي (باب الإمامة) 42/ 45، ومسند أحمد بن حنبل: 5/ 254، 269. (¬2) سورة النساء، الآية: 11. (¬3) سورة المائدة، الآية: 83. (¬4) البيتان من مشطور السريع الموقوف وقد نسبا إلى خطام المجاشعي. انظر أمالي ابن الشجري: 1/ 12، وابن يعيش: 4/ 155، والخزانة: 3/ 374، والعيني: 4/ 89.

فجاء بالتثنية والجمع جميعا. وهذا الشعر المنسوب إلى هميان في النسخة التي قرأتها على ابن السراج والمشهور أنه لخطام المجاشعي (¬1)، وقال أبو ذؤيب: فتخالسا نفسيهما بنوافذ … كنوافذ العبط الّتي لا ترقع (¬2) وقال الفرزدق: هما نفثا في فيّ من فمويهما … على النّابح العاوي أشدّ رجام (¬3) وقال أيضا: بما في فؤادينا من الشّوق والهوى … فيجير منهاض الفؤاد المشعّف (¬4) وأما توحيده فلأنه إذا أضيف إلى اثنين علم أن مثنى اكتفى بلفظ الواحد من الاثنين وقال الشاعر: كأنّه وجه تزكّيين قد غضبا … مستهدف لطعان غير تذبيب (¬5) أراد وجها تزكيين. وقد يعبر بالواحد عن الاثنين فيما يصطحب من الاثنين ولا يفارق أحدهما صاحبه كقولك (عيني لا تنام) وإنما يريد عينين. كما قال زهير: كأنّ عيني وقد سال السّليل بهم … وجيرة ما هم لو أنّهم أمم (¬6) أراد عيني وقد جمعت العرب الاثنين في غير ذلك. وزعم يونس أنهم يقولون: ضع رحالهما وغلمانهما وإن هما اثنان واستشهد أيضا بقوله عز وجل: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ¬

_ (¬1) خطام بكسر الخاء ومعناه الزّمام. قال الآمدي في المؤتلف والمختلف هو خطام الريح المجاشعي الراجز، وهو خطام بن نصر بن عياض بن يربوع من بني الأبيض بن مجاشع بن دارم. انظر الخزانة: 2/ 318. (¬2) البيت في لسان العرب (عبط)، انظر الخزانة: 3/ 372 والشاهد تثنية (نفسيهما) على الحقيقة والوجه هو الجمع والبيت من الكامل. (¬3) سبق تخريجه والشاهد (فمويهما) حيث جاء على حقيقة التثنية والوجه في هذا هو الجمع وإن كانت التثنية جائزة. (¬4) البيت في ديوان الفرزدق: 554، ابن يعيش: 4/ 155، والخزانة: 3/ 374. (¬5) البيت من البسيط. انظر التبصرة والتذكرة: 2/ 685، والخزانة: 7/ 532، وابن يعيش: 4/ 157. (¬6) البيت من البسيط انظر ديوان زهير، اللسان (أمم).

فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ (¬1) وقال تعالى: فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (¬2). وللقائل أن يقول الخصم قد يقع على جماعة ألا تراه قال: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا وهو ضمير الخصم، فالحجة لسيبويه إذ الخطاب وقع لداود عليه السّلام من اثنين من لفظ الجماعة؛ لأنه قال: قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي فهو واحد لا أكثر، والذي خاصمه واحد لا أكثر؛ لأنه أخوه وقد عبر عنهما بقوله قالوا لا تخف، وقوله " إنّا معكم " والقول لموسى وهارون ولم يقل معكما وللقائل أن يقول إن فرعون داخل في الجماعة، ولسيبويه أن يقول إنه قال في موضع آخر: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (¬3) فثنى ومع ذلك فإن الله تعالى مع موسى وهارون على جهة النصرة لهما والمعونة ولا يقال إنه مع فرعون على هذا الطريق. قال سيبويه: واعلم أن من قال: (أقاويل) و (أباييت) و (أناييب) في أنياب لا يقولون (أقوالان) ولا (أبياتان). قلت: فلم ذلك؟ قال: لأنك لا تريد لقولك: هذه (أنعام) وهذه (أبيات) وهذه (بيوت) ما تريد بقولك (هذا رجل) وأنت تريد (هذا) رجل واحد ولكنك تريد الجمع وإنما قلت: (أقاويل) فبنيت هذا البناء حين أردت أن تكثر وتبالغ في ذلك كما تقول (قطّعه) و (كسّره) حين تكثر عمله ولو قلت (قطعة) جاز. واكتفيت به وكذلك تقول (بيوت) فتجتزئ به وكذلك (الحلم) و (البسر) و (التّمر) إلا أنك تقول: (عقلان) و (بسران) و (تمران) أي ضربان مختلفان. وقالوا: (إبلان) لأنه اسم لم يكسّر عليه وإنما يريدون قطيعين وذلك يعنون وقالوا: (لقاحين سوداوين) جعلوها بمنزلة ذا وإنما يسمع ذا الضرب ثم تأتي بالعلة والنظائر وذلك لأنهم يقولون (لقاح واحدة) كقولك: قطعة وهي في إبل أقوى لأنه لم يكسر عليه شيء. ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 21 و 22. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 15. (¬3) سورة طه، الآية: 46.

قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ذكر (أقاويل) و (أبابيت) و (أناييب) وهي جمع (أقوال) و (أبيات) و (أنياب). فيقول القائل: إذا كان (أقاويل) جمع (أقوال) و (أباييت) جمع (أبيات) فلم لا يثنّى فيقال (أقوالان) و (أبياتان) وإنما سبيل الواحد الذي يجوز فيه الجمع أن يثنّى أولا ثم يجمع؟. فالجواب في ذلك أن الجمع قد يكثر توكيدا فيعبر بكثيره عن قليل الجنس وكثيره، كما يعبر بسباع ورجال وشسوع عن القليل والكثير فكذلك يعبر ب (أقاويل) و (أباييت) عن (أقوال) و (أبيات) التي في لفظ القليل ويعبر عن الكثير أيضا. وقد يكون في لفظ الجمع ما لا يستعمل واحده ولا تثنيته كقولهم (مشابه) و (محاسن) و (مطايب) الجزور. وليس تستعمل التثنية إلا فيما استعمل واحد إلا في أشياء مقترنة لا يفرد الواحد منهما كقولك (مذروان) وهما طرفا الأليتين ولا يقال للواحد (مذرى) و (ثنايان) لحبلين ويستعمل أحدهما مع الآخر ومفراضان وهي أحرف معدودة وقد تقدم أن القياس والباب في الجمع أن لا يجمع إلا فيما جمعته العرب وكذلك الجمع لا يثنى إلا فيما ثنته العرب وإنما تثنيه العرب فيما يذهبون فيه مذهب شيئين مختلفين كقولهم (إبلان) أرادوا (إبل) قبيلة و (إبل) قبيلة أخرى أو (إبلا سوداء) و (إبلا حمراء) كأنهم قالوا قطعتان من الإبل وكذلك لقاحان على ما ذكره سيبويه. وقد قال أبو النجم: تبقّلت في أولّ التّبقّل … بين رماحي مالك ونهشل (¬1) فثنى رماحا لأنه أراد رماح هذه القبيلة ورماح هذه القبيلة وهو مالك بن ضبيعة ونهشل بن دارم. وقال آخر: (¬2) سعى عقالا فلم يترك لنا سيّدا … وكيف لو قد سعى عمر وعقالين لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا … عند التّفرّق في الهيجا جمالين (¬3) فثنى جمالا وبين أنه للتفرق وانحياز جمال من جمال فكأنه قال قطعتين من الجمال ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز، في شرح المفصل لابن يعيش: 4/ 155، والخزانة: 1/ 401. (¬2) هو عمرو بن العداء الكلبي. انظر الخزانة: 7/ 585. (¬3) انظر الأغاني: 18/ 49، وابن يعيش: 4/ 153، الخزانة: 7/ 579.

هذا باب ما هو اسم يقع على الجمع لم يكسر عليه واحد ولكنه بمنزلة قوم ونفر وذود إلا أن لفظه من لفظ واحده

والرماح وقد تقدم أن المصدر والجنس يجري مجرى الجموع في أنها لا تثنى ولا تجمع فذكر العقل الذي هو مصدر والبسر والتمر اللذين هما جنسان فقال: إلا أن تقول عقلان وبسران وتمران أي ضربان مختلفان. قال سيبويه: وسألت الخليل عن ثلاثة كلاب فقال يجوز في الشعر شبهوه بثلاثة قرود ونحوها. يريد أن الوجه أن يقال ثلاثة أكلب لأن له جمعا قليلا وهو الأكلب وإنما تضاف ثلاثة وما فوقها من الآحاد إلى جمع قليل وقد ترد ولا يستعمل فيها الجمع القليل فشبهوا ما يستعمل فيه الجمع القليل بما لا يستعمل فيه الجمع القليل. قال: وتكون ثلاثة كلاب على غير وجه ثلاثة أكلب ولكن على قوله ثلاثة من الكلاب. كما قال: ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (¬1) يريد ثنتان من الحنظل وكذلك خمس بنان يريد خمس من البنان وكذلك قولهم (ثوب) خز في معنى (ثوب من خز) وعلى هذا يحمل قول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (¬2) لأن القرؤ جمع كثير ويستعمل فيه الأقراء وهو جمع قليل فتحمله على الوجه الثاني الذي قال فيه تقديره من ولا يحمله على الوجه الأول، قال فيه ثلاثة كلاب يجوز في الشعر شبهوه بثلاثة قرود ... هذا باب ما هو اسم يقع على الجمع لم يكسر عليه واحد ولكنه بمنزلة قوم ونفر وذود إلا أن لفظه من لفظ واحده قال سيبويه: وذلك قولك (ركب) و (سفر) فالركب لم يكسر عليه راكب، ألا ترى أنك تقول في التحقير (ركيب) و (سفير). قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب ذكر فيه سيبويه الجمع الذي هو من الواحد وليس بجمع مكسر وإنما هو اسم للجميع كما أن قوما ونفرا وذودا أسماء للجميع وليست من ¬

_ (¬1) انظر الخزانة: 3/ 314، العيني: 4/ 485، وابن يعيش: 3/ 143، ابن الشجري: 1/ 20، الدرر: 1/ 209. (¬2) سورة البقرة، الآية: 228.

لفظ واحده. ف (ركب) و (سفر) اسم للجمع ك (قوم) و (نفر) إلا أنه من لفظ واحده، وسائر ما يتلو هذا عند سيبويه بهذه المنزلة وقال الأخفش (ركب) و (سفر) وجميع ما يجمع من (فاعل) على فعل كقولك (صاحب) و (صحب) و (شارب) و (شرب) جمع مكسر فإذا صغر على مذهبه رد إلى الواحد وصغر لفظه ثم تلحقه الواو والنون إذا كان لمذكر ما يعقل وإن كان للمؤنث أو لما لا يعقل جمع بالألف والتاء فتقول في تصغير (ركب) و (رويكبون) وفي تصغير سفر (مسيفرون) لأنه يرد إلى مسافر فتصغره وتجمعه. وتقول في تصغير (زور) إذا كان جمع (زائر) مذكر (زويرون) وإن كان للنساء (زويرات) وفي (طير) وهو جمع (طائر) على مذهب الأخفش (طويرات). وقال الزجاج محتجّا لسيبويه في أن فعلا ليس بجمع مكسر وإنما هو اسم للجمع المكسر حقه أن يزيد على لفظ الواحد، وهذا أخف أبنية الواحد، فليس بجمع مكسر وإنما هو اسم للجمع واسم الجمع يجري مجرى الواحد ولا يستمر قياس هذا في الجموع. لا يقال جالس وجلس ولا (كاتب) و (كتب). قال: وزعم الخليل أن مثل ذلك (الكمأة) وكذلك الجبأة وهي ضرب من (الكمأة) ولم يكسّر عليه (كمء) تقول " كميئة " يريد أن (الكمأة) جمع الكمء، لا على سبيل التكسير وتصغيره (كميئة) ولو كان مكسرّا لوجب أن يقال (كميئات) لأن كمأ يصغر (كميء) ثم تزاد عليه الألف والتاء للجمع فيقال (كميئات). وهذا مما يذكر من نادر الجمع؛ لأن الهاء تكون في الواحد وحذفها، علامة الجمع كقولهم (تمرة واحدة) و (تمر للجمع) و (بسرة وبسر) وهذا (كمأ) للواحد و (كمأة) للجمع وقال الشاعر فجمع (كمأ) على (أكمؤ) كما جمع (كلب) على (أكلب). قال: ومثل ذلك في الكلام (أخ) و (أخوة) و (سريّ) و (سراة) ويدلك على هذا قولهم (سروات) فلو كانت بمنزلة (فسقة) و (رماة) لم تجمع ومع هذا أن نظير (فسقة) من بنات الياء والواو يجيء مضمومها. قال أبو سعيد: أما (أخ) و (إخوة) فهكذا رأيته في هذه النسخة وغيرها من النسخ وهو غلط عندي؛ لأن (إخوة) (فعلة) و (فعلة) من الجموع المكسرة القليلة ك (أفعل) و (أفعلة) و (أفعال) كما قالوا (فتى) و (فتية) و (صبيّ) و (صبية) و (غلام) و (غلمة)

هذا باب تكسير الصفة للجمع

والصواب أن يكون مكان (إخوة) و (أخوة) حتى يكون بمنزلة (صحبة) و (فرهة) و (ظؤرة) وقد حكى الفراء في جمع (أخ) (أخوة) وأما (سراة) فأستدل سيبويه أنه اسم للجمع وليس بمكسر بشيئين أحدهما أنهم يقولون (سروات) في جمعه ولا يقولون في (فسقة) (فسّقات)، والثاني أنه لو كان جمعا مكسّرا لكان حقه أن يقولوا (سراة) لأن لامه معتلة ويقال فيما كان معتل اللام في مكسرة (فعلة) كقولهم (غزاة) و (رماة) وفيما كان غير معتل فعلة كقولهم (كتبة) و (فسقة) ومن الباب (فارة) و (فرهة) و (غائب) و (غيب) و (خادم) و (خدم) و (إهاب) و (أهب) و " ماعز " و " معز " و (ضائن) و (ضأن) ويقال (معز) و (ضأن) بتسكين الثاني ومنه أيضا (فعيل) كقولهم (عازب)، و (عزيب) و (غار) و (غزيّ) و (قاطن) و (قطين) وقال امرؤ القيس: سريت بهم حتّى تكلّ ركابهم … وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (¬1) هذا باب تكسير الصفة للجمع قال أبو سعيد: اعلم أن الباب في جمع الصفة أن يكون مسلّما غير مكسّر، لأنها تجري على الفعل والفعل يلحقه الضمير المذكر والمؤنث فالجاري عليه تلحقه علامة التذكير وعلامة التأنيث وإذا لحقته العلامتان لم يكن بد من السلامة كقولهم (قائم) و (قائمون) و (قائمة) و (قائمات) ويضعف فيه التكسير أيضا أنه لا يضاف إليه ثلاثة وأربعة إلى عشرة إلا بتقديم الموصوف لا يقال ثلاثة قائمين ولا (ثلاث قائمات) حتى تقول (ثلاثة رجال قائمين) و (ثلاث نسوة قائمات) فلما كانت الصفة على ما ذكرنا كان التكسير فيها أضعف منه في الاسم وقد ذكر سيبويه في هذا الباب ما كان من الثلاثي بكلام مشروح أنا أسوقه وأذكره بزيادة يسيرة مما ذكر غيره. قال سيبويه: وأما ما كان في الأسماء يعني قولهم في (فعل) " كلب " و " كلاب " و (كعب) و (كعاب) كقولهم: (جمّل) و (جمال) و (جبل) و (جبال) في الأسماء واتفقا أيضا في الصفات حين قالوا (صعب) و (صعاب) و (عبل) و (عبال) وقالوا: (حسن) و (حسان) و (سبط) و (سباط) و (قطط) و (قطاط) وربما كسروه على " أفعال " لأنه مما يكسر عليه فعل فاستغنوا به عن فعال وذلك قولهم (بطل) و (أبطال) ¬

_ (¬1) البيت من الطويل وهو من شواهد سيبويه: 3/ 27، والمخصص: 14/ 61، وانظر ديوان الشاعر: 93، ومجالس ثعلب: 78، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 79.

و (عزب) و (أعزاب). وذكر غير سيبويه (خلق) و (أخلاق) و (سمل) و (أسمال) وهو الخلق أيضا و (حدث) و (أحداث) والعزب يقال: للذكر والأنثى قالت ابنة الحمارس: يا من يدلّ عزبا على عزب … على ابنة الحمارس الشّيخ الأزبّ (¬1) وكان لعبد القيس فرس يقال لها هراوه عزاب يركبها العزب ويغزو عليها فإذا تأهل أعطوها عزبا آخر ولهذا يقول لبيد: تهدى أوائلهن كلّ طمرّة … جرداء مثل هراوة الأعزاب (¬2) وقد ذكر (عزبة) للأنثى قال أبو عمر الجرمي: لا ينكر (عزبة) ولكني لم أسمع به. قال سيبويه: (فإذا لحقته الهاء للتأنيث كسر على فعال) كأنه يعني (حسنة) و (حسان) و (سبطة) و (سباط) ولا يمتنع من الواو والنون للمذكرين الآدميين كقولهم (حسنون) و (عزبون) ومن الألف والتاء للمؤنث كقولهم (حسنة) و (حسنات) و (بطلة) و (بطلات). قال (من قبل أن مذكره لم يجمع على فعال) يعني لم يقل: (بطل) و (بطال) كما يقال (حسن) و (حسان) ولم يصلح أن يقال في (بطلة): (أبطال) كما قيل في (بطل) (أبطال) لأن " أفعال " جمع لما ليس في واحده هاء فلم يقل: غير بطلات وإنما قيل في (حسنة) و (سبطة): (حسان) و (سباط) كما قيل (حسن) و (حسان) و (سبط) و (سباط) وقد تقدم أن " فعالا " يجمع عليها ما فيه الهاء. وقالوا (رجل صنع) و (قوم صنعون) و (رجل رجل) و (قوم رجلون) والرّجل: الّرجل الشعر ولم يكسروها استغنى بذلك عن تكسيرهما وقد ذكرت لك قوة الجمع السالم في الصفة. قال: (وأما الفعل في الصفات فقليل وهو قولك (جنب) فمن جمع العرب. قال: (أجناب) كما قالوا: (أبطال) وإن شئت قلت: (جنبون)، كما قالوا: (صنعون). قال الأخفش في (جنب) لغتان منهم من يقول (جنب) للواحد والجمع ¬

_ (¬1) البيتان من مشطور الرجز مذكوران في اللسان (عزب). (¬2) انظر ديوان لبيد ص: 21، المغني: 141، ابن يعيش: 5/ 25، شواهد المحتسب: 1/ 254.

وهذا أجود، قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا (¬1) لأنه كالمصدر وقالوا (رجل شلل) وهو الخفيف في الحاجة والجمع (شللون) ولا يجاوزونه. قال الشاعر: (¬2) وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني … شاو مشلّ شلول شلشل شول قال: (وأما ما كان " فعلا " فإنهم قد كسروه على أفعال وهو في القلة بمنزلة فعل وذلك قولك (جلف) و (أجلاف) ونضو وأنضاء و (نقض) و (أنقاض) ومؤنثه إذا لحقته الهاء بمنزلة مؤنث ما كسر على أفعال من باب (فعل) يعني أن المؤنث الذي بالهاء من هذا الباب يجمع بالألف والتاء فيقال في (علجة) (علجات)، كما يقال في (بطلة) (بطلات). (وقد قال بعض العرب: أجلف كما قالوا: أذؤب في (ذئب) فأجراه مجرى الأسماء. (وقالوا: رجل صنع وقوم صنعون لم يجاوزوا ذلك). (قال: وليس شيء مما ذكرناه يمتنع من الواو والنون إذا عنيت الآدميين وقالوا: جلفون ويضوون وقالوا علج وأعلاج فجمعوه كالأسماء مثل جذع وأجذاع، ومثله في القلة " فعل " قالوا: رجل حلو " و (قوم حلوون) ومؤنثه يجمع بالتاء وقالوا: (مرّ) و (أمرار) كما قالوا (جلف) و (أجلاف) لأن " فعل " و " فعل " شريكان في أفعال ومؤنثه كمؤنث " فعل ". يقولون رجل جدّ للعظيم الجدّ وهو الحظ وشاطئ البحر فلا يجمعون إلا بالواو والنون كما لم يجمعوا (صنع) إلا كذلك يقولون: (جدّون وصار فعل أقلّ من فعل في الصفات إذ كان أقل منه في الأسماء ". قال: وأما ما كان " فعلا " فإنه لا يكسر على " فعال " ولا فعول كما لم تكسر عليه الأسماء ولكنه يجمع بالواو والنون وذلك قولك (حذرون) و (عجلون) و (ندسون) " والنّدس هو الذي يبحث عن الأخبار ويكون بصيرا بها ولم يجئ من هذا البناء مكسرا ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) هو الأعشى ميمون انظر الديوان: 45، الخصائص: 2/ 411، وشرح القصائد العشر للتبريزي ص: 146 - 147، والخزانة: 8/ 391 والبيت من البسيط.

هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات عدة حروفه أربعة أحرف

إلا حرفان وهو قولهم (نجد) و (أنجاد) والنّجد المجرب و (يقظ) و (أيقاظ). وقد حكى أبو عمرو الشيباني (يقظ) و (يقاظ) على " فعال " ومعنى قوله لم تكسر عليه الأسماء بعض أن الباب في فعل في الأسماء أن يجيء على أفعال ولا يجاوزها كقولهم (عجز) و (أعجاز) و (عضد) و (أعضاد) وجاء منها " رجل ورجال " و (سبع) و (سباع) وليس ذلك بمطرد فإذا كان ذلك في الأسماء فالتكسير في الصفات أقل تمكنا فلذلك قال فهو في هذا أجدر ألا يكسر وقد بينه فقال: (وإنما صارت الصفة أبعد من " الفعول " و " الفعال " لأن الواو والنون يقدر عليهما في الصفة ولا يقدر عليهما في الأسماء لأن الأسماء أشد تمكنا في التكسير). قال " وفعل " بهذه المنزلة وذلك قولهم (قوم فزعون)، و (قوم فرقون)، و (قوم وجلون). وقالوا: (نكد) و (أنكاد) كما قالوا (بطل) و (أبطال) و (أجلاف)، وقال الجرمي: (فرح) و (فرحون) و (أفراح) جائزة ويقال (فراح) قال الشاعر: وجوه النّاس ما عمّرت بيض … طليقات وأنفسهم فراح (¬1) هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات عدة حروفه أربعة أحرف قال سيبويه: (أما ما كان فاعلا فإنك تكسره على فعّل وذلك قولك (شاهد) المصر (شهّد)، في معنى شاهد للمصر وليس بغائب و (بازل) و (بزّل) و (شارد) و (شرّد) و (سابق) و (سبّق) و (قارح) و (قرّح) ومثله من بنات الواو والياء التي هي عينات (صائم) و (صوّم) و (نائم) و (نوّم). ويجوز (صيّم) و (نيّم)، وبعضهم يقول (صيّم) و (نيّم) وليس ذلك بخارج عن فعّل وإنما كسروه للياء كما قالوا في (بيوت) و (شيوخ): (بيوت) و (شيوخ) كما يقال في تصغير (بيت) و (شيخ): (شييخ) و (بييت)، و (شييخ) و (بييت) فهذه الكسرات للياء لا من أجل البناء (وقالوا غائب وغيّب وحائض وحيّض) ومثله من الياء والواو التي هي لامات (غاز) و (غزّى) و (عاف) و (عفّى) في معنى (دارس) و (درّس) ويكسرونه أيضا على (فعّال) وذلك قولك (شاهد) و (شهّاد). ¬

_ (¬1) البيت من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل: 5/ 26، وهو من الوافر والشاهد فيه (فراح) فإنه جمع مفرده (فرح) والكثير (فرحون) إذ قياس هذا الباب أن يجمع بالواو والنون.

وقال القطامي: ... وما قومي بشهّاد .. و (جاهل) و (جهّال) و (راكب) و (ركّاب) و (عارض) و (عرّاض) و (زائر) و (زوّار) و (غائب) و (غيّاب) وهذا النحو كثير) وهما الأصل في جمع فاعل صفة وكأن فعّلا مخففا من فعّال، وبدأ سيبويه بهما وهما الأكثر ثم ساق (ما) يليهما. قال: ويكسرونه على " فعلة " وذلك (فسقة وبررة وجهلة وظلمة وفجرة وكفرة) ومثله في المعتل (خونة وحوكة وباعة) وكان القياس أن يقال (خانة وحاكمة) وقد قيل ذلك: و (خونة) و (حوكة) على الأصل وستعرفه في التصريف إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: ونظيره من بنات الياء والواو التي هي لام يجيء على " فعلة " وذلك نحو (قضاة) و (رماة) وهذا الجمع لا يجيء معه الصحيح مثله لا يجيء مثل (كاتب) و (كتبة) واختص المعتل " بفعلة " واختص الصحيح بفعلة. وبعض الكوفيين زعم أن أصل (قضاة) و (رماة) (قضىّ) و (رمىّ) مثل (فرّح) و (سبّق) فاستثقلوا التشديد فأبدلوا الهاء من إحدى العينين وخففوا وليس على هذا دليل وقد جاء في المعتل أبنية لا يكون مثلها في الصحيح وقد ذكر ذلك في التصريف قال: وقد جاء شيء منه كثير على فعل شبهوه " بفعول " حين حذفت زيادته وكسر على " فعل " لأنه مثله في الزيادة والزنة وعدة حروفه وذلك (بازل) و (بزل)، و (شارف) و (شرف) وهي المسنة من الإبل و (عائذ) و (عوذ) وهي القريبة العهد بالنتاج و (حائل) و (حول) و (عائط) و (عوط) ومعناها الحائل. وأصل (عوذ) (عوذ) فاستثقلوا الضمة على الواو فسكنوا، وأصل (عيط) (عيط) فاستثقلوا الضمة على الياء وكسروا العين لتسلم الياء كما قالوا في (أبيض): (بيض) والأصل ضمة الياء وكما قالوا في أحمر (حمر) ومعنى قوله: شبهوه بفعول، لأن فعولا يجمع على فعل كقولك (صبور) و (صبر) و (غفور) و (غفر) حذفوا الواو التي في " فعول " وجمع على فعل لأن الواو زائدة وكذلك حذفوا الألف التي في فاعل لأنها زائدة فمثلوه بفعول لأن (في) كل واحد منهما زائدة ولأن الزائدة ساكنة منهما وذلك معنى قوله: لأنه مثله في الزيادة والزنة ومثله أيضا في عدة الحروف لأنهما على أربعة أحرف. قال: " وقد كسر على " فعلاء " شبّه بفعيل كما شبه في " فعل " بفعول وذلك (شاعر) و (شعراء) و (جاهل) و (جهلاء) و (علم) و (علماء) فصار بمنزلة (كريم)

و (كرماء) و (حليم) و (حلماء) كما صار (بازل) و (بزل) بمنزلة (صبور) و (صبر) قال سيبويه: " وليس شيء من هذا إذا كان للآدميين يمتنع من الواو والنون وذلك (فاسقون) و (جاهلون) و (عالمون) و (عاقلون) وليس فعل ولا فعلاء بالقياس المتمكن في هذا الباب ". يعني في باب فاعل إلا ما سمع وقد سمع (صالح) و (صلحاء) وجاء على فعال نحو صاحب و (صحاب) و (جائع) و (جياع) و (نائم) و (نيام) وقالوا: (ناو) و (نواء) وهو السمين. و (راع) و (رعاء) وقالوا: (كافر) و (كفار). قال القطامي: وشقّ البحر عن أصحاب موسى … وغرّقت الفراعنة الكفار (¬1) وقد جاء على (فعلان) كقولك (راع) و (رعيان) و (شابّ) و (شبّان)، شبهوه بالاسم حين قالوا: فالق وفلقان " و (حاجز وحجزان)، وقد جاء على فعول ولم يذكره سيبويه في الباب قالوا (شاهد) و (شهود). قال الشاعر: وبايعت ليلى بالخلاء ولم يكن … شهود على ليلى عدول مقانع (¬2) وقالوا: (جالس) و (جلوس) و (قاعد) و (قعود) وليس بالكثير. قال: (وإذا لحقته الهاء للتأنيث كسّر على " فواعل " وذلك قولك: " ضاربة " و " ضوارب " و " قاتلة " و " قواتل "، و " خارجة " و " خوارج "، وكذلك إن كان صفة للمؤنث ولم تكن فيه هاء التأنيث، وذلك " جواسر " و " حوائض " ويكسّرونه على فعّل نحو " حيّض " و " جسّر " و " مخّض " و " نائمة " و " نوّم " و " زائرة " و " زوّر "). فهذا هو القياس، لأن الهاء لا يعتد بها ولا تدخل في البنات فصارت (نائمة) بمنزلة (نائم). وإذا أردت جمع السلامة لم يمتنع شيء فيه الهاء منه وذلك قولك: (ضاربات)، و (خارجات). ¬

_ (¬1) انظر ديوان الشاعر ص: 84، البيت من الوافر وانظر ابن يعيش: 5/ 55، واللسان: (كفر). (¬2) البيت من شواهد ابن يعيش: 5/ 55، وذكره الأمالي لأبي علي القالي: 1/ 169، واللسان (قنع). والشاهد فيه قوله (شهود) حيث جاءت جمعا ل (شاهد) و (فعول) مما يكسر عليه (فاعل).

وإن كان فاعل لغير الآدميين كسّر على فواعل، وإن كان لمذكر أيضا لأنه لا يجوز فيه ما جاز في الآدميين من الواو والنون فضارع المؤنث ولم يقو قوة الآدميين كقولك (جمل بازل) و (جمال بوازل)، و (عاضة) و (عواضة) وهو الذي يرعى العضاة،: ضرب من الشجر. قال: وقد اضطر الشاعر فقال: وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم … خضع الرّقاب نواكس الأبصار (¬1) وقد كان تقدم في جمع فاعل من الشرح ما يغني عن ذكره. " وأما ما كان فعيلا فإنه يكسر على (فعلاء) وعلى " فعال "، فأما ما كان " فعلاء " فنحو (فقهاء) و (بخلاء) و (ظرفاء) و (حلماء) و (حكماء). وأما ما جاء على فعال فنحو (ظريف) و (ظراف) و (كريم) و (كرام) و (لئيم) و (لئام) و (بريء) و (براء). ويقال: (بريء) و (برآء)، قال الله تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ (¬2) ويقال أيضا (براء) في معنى (برآء) استثقالا للهمزتين وبينهما ألف. ويقال أيضا: براء، وليس بجمع مكسر وهو كالمصدر يقع للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث يقال: (رجل براء) و (رجلان براء) و (رجال براء) و (امرأة براء) و (نسوة براء). قال الله عز وجل: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (¬3). وفعال بمنزلة فعيل؛ لأنهما أختان، ألا ترى أنك تقول طويل وطوال وبعيد وبعاد. قال: وسمعناهم يقولون: (شجيع وشجاع وخفيف وخفاف) وتدخل في مؤنث " فعال " الهاء كما تدخّلها في مؤنث " فعيل " تقول امرأة طويلة وطوالة وخفيفة وخفافة. وما كان من هذا مضاعفا كسّر على " فعال " كما كسر غير المضاعف، وذلك ¬

_ (¬1) البيت للفرزدق وهو من قصيده يمدح بها آل المهلب وخص من بينهم ابنه " يزيد " والشاهد فيه جمع (ناكس) صفة العاقل على (نواكس) انظر الكامل: 262، المخصص: 14/ 117، ابن يعيش: 5/ 56، والخزانة: 1/ 99. (¬2) سورة الممتحنة، الآية: 4. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 26.

(شديد) و (شداد) و (حديد) و (حداد) ونظير " فعلاء " فيه أفعلاء وذلك شديد وأشدّاء "، و (لبيب) و (ألبّاء) وشحيح وأشحّاء)). وإنما كرهوا فعلاء في هذا الباب لتكرير حرف واحد غير مدغم لأنهم لو جمعوه على فعلاء لقالوا (شدداء) و (شححاء) و (لبباء) وذلك مستثقل. " وقد يكسرون المضاعف على " أفعلة " كما كسروه على " أفعلاء " وهما على بناء واحد آخرهما علامة التأنيث فأفعلة بالهاء وأفعلاء بالألف وذلك نحو أشحّة وأعزّة وأذلّة وهو كثير ". " وأما ما كان من بنات الياء والواو فإن نظير فعلاء فيه أفعلاء وذلك نحو (أغنياء) و (أشقياء وأغوياء). و (أكرياء) و " أصفياء " وذلك أنهم يكرهون (تحريك) هذه الياءات والواوات وقبلها حرف مفتوح. يعني لو جمعوا (غنيّا) على " فعلاء " لقالوا: (غنياء) وفي (شقيّ): (شقياء)، وكانت الياء متحركة وقبلها فتحة، ومن شأنهم قلب الياء ألفا والواو، إذا تحركتا وقبلهما فتحة في كثير من المواضع كقولهم في الفعل: (مال) و (باع) أصلهما: (ميل) و (بيع)، وقال: أصله (قول)، وفي الأسم (دار) وأصله (دور)، و (ناب) وأصله: (نيب) فعدلوا كراهة لذلك إلى جمع آخر وهو (أفعلاء) ولا يلزمهم فيه ما كرهوه وقد جاء حرف نادر من هذا الباب (على فعلاء لا يعرف غيره وهو) تقيّ وتقواء، ولما شذ غيروا الياء فيه إلى الواو وكان حقه أن يكون (تقياء) ولا يعلم غيره. ومما حكاه البصريون والفراء (سريّ) و (سرّواء) و (أسرواء) و (أسرياء). وأما ما كان من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن عينات فإنه لم يكسر على أفعلاء ولا فعلاء، واستغني عنهما بفعال، لأنه أقل مما ذكرنا في الكلام، وذلك قولك (طويل) و (طوال) و (قويم) و " قوام ". وقد تقلب الواو فيه ياء وليس بالباب قالوا (طويل) و (طيال) وأنشدوا: تبيّن لي أنّ القماءة ذلّة … وأنّ أشدّاء الرّجال طيالها (¬1) ¬

_ (¬1) البيت لأنيف (بضم الهمزة وفتح النون) بن زبان النبهاني من طيء وهو إسلامي. انظر شرح الشواهد ص: 387. البيت من الطويل وهو من شواهد ابن جني في المنصف: 1/ 242، وابن-

((ولا يمتنع جمع ذلك للآدميين بالواو والنون كقولك: (ظريفون) و (طويلون) و (لبيبون) و (حليمون) وقد كسر شيء منه على " فعل " شبه بالأسماء لأن البناء واحد وهو (نذير) و (نذر) و (جديد) وجدد و (سديس) و (سدس). وقال في غير هذا الموضع (صديق) و (صدق)، وقال غيره (فصيح) و (فصح). قال الشاعر: خرس بلاء في كلّ مكرمة … فصح بقول " نعم " وبالفعل (¬1) و (لذيذ) و (لذذ) و (لذّ) أيضا بالتخفيف. قال الشاعر: لذّ بأطراف الحديث إذا … حبّ القرى وتنوزع الفجر (¬2) ومثل ذلك من بنات الياء (ثنيّ) و (ثن) وأصله (ثنى) مثل (سدس) غير أنهم يكسرون ما قبل الأخير لئلا تنقلب واوا كما قالوا (دلو) و (أدل) ويجوز تخفيفه فيقال: (ثني) كما يقال: (نذر). وقالوا (شجعان) شبهوه ب (جربان) ومثله (ثنىّ) و (ثنيان). كأنهم جعلوا شجعان جمع (شجيع) فشبهوه ب (جريب) و (جربان). وقالوا (خصىّ) و (خصيان) شبهوه ب (ظليم) و (ظلمان) كما قالوا " خلقان " و " جدعان " شبهوه بحملان إذ كان البناء واحدا)). يريد أنهم شبهوا جمع " خلق " وهو نعت بجمع " حمل " وهو اسم، و (جذعان) جمع (جذع) وهو أيضا نعت. " وقد كسروا منه شيئا على " أفعال " كما كسروا عليه " فاعل " نحو شاهد و (صاحب). وقالوا: (أشهاد) و (أصحاب) وقالوا: (يتيم) و (أيتام) و (شريف) و (أشراف). قال: ولأن العدّة والزّنة والزيادة واحدة " فالعدة أن كل واحد منهما أربعة ¬

_ - يعيش: 5/ 45، وأمالي الشجري: 1/ 56، والشاهد (طيالها) شاذ قياسا واستعمالا والقياس (طوالها). (¬1) البيت من الكامل وهو من شواهد شرح المفصل لابن يعيش: 5/ 46، والشاهد (فصح) بضمتين حيث جاء جمعا لفصيح. (¬2) البيت من الكامل وهو من شواهد المفصل: 5/ 6، والقاموس المحيط (الحب)، والشاهد (لذّ) حيث جاء جمعا (لذيد).

أحرف، والزنة أن الحرف الزائد منهما زائد والزيادة أنهما حرفا لين. قال: (وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أبيل وآبال)، والأبيل: القسّ. قال الشاعر: وما سبّح الرّهبان في كلّ موطن … أبيل الأبيلين المسيح ابن مريما (¬1) قال: وإذا لحقت الهاء " فعيلا " للتأنيث فإن المؤنث يوافق المذكر على " فعال " وذلك " صبيحة " و (صباح) و " ظريفة " و (ظراف)، وقد يكسر على " فعائل " كما كسرت عليه الأسماء، وهو نظير " أفعلاء " و (فعلاء) هاهنا وذلك نحو (صبائح) و (صحائح) و (طائب) ". وهذه صفات، والأسماء نحو " صحيفة " و " صحائف " و " سفينة " و " سفائن " وهذا البناء للمؤنث. " أفعلاء " و " فعلاء " للمذكر في الصفات، نحو (أغنياء) و (أصفياء) و (فعلاء) نحو (كرماء) و (شهداء). وليس في المؤنث " فعلاء " إلا حرفان، قالوا: (امرأة فقيرة) و (نسوة فقراء) و (سفيهة) و (سفهاء)، ويقال " سفائة "، كما قالوا: (صحيحة) و (صحائح) ولا نعلم غير هذين الحرفين. قال: وقد يدعون " فعائل " استغناء بغيرها كما تركوا " فعلاء. قالوا: (صغيرة) و (صغار) و (كبيرة) و (كبار) و (سمينة) و (سمان)، ولم يقولوا (كبائر) و (صغائر) في السن. وقالوها في الذنوب والجنايات. وقالوا: (صبي صغير) و (صغار) ولم يقولوا: (صغراء). وكذلك (سمين) و (سمان) ولم يقولوا (سمناء) وقالوا (سريّ) و (سراة) ولم يقولوا: " أسرياء " كما قالوا (غنيّ) و " أغنياء "، وقالوا: (خليفة) و (خلائف) و (خلفاء)، قال الله عز وجل: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ (¬2) وقال خَلائِفَ الْأَرْضِ (¬3) وإنما قيل (خلفاء) والواحد (خليفة)، لأن الخليفة ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن عبد الجن انظر اللسان (أبل)، البيت من الطويل. انظر الإنصاف في مسائل الخلاف: 318، وشرح المفصل لابن يعيش: 5/ 47، والخزانة: 3/ 240، والشاهد فيه قوله (أبيل) حيث جاءت في البيت بمعنى القس. (¬2) سورة النمل، الآية: 62. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 165.

لا يكون إلا مذكرا، وكأنهم جمعوا خليفا على (خلفاء) كما قالوا: (ظريف) و (ظرفاء) وقد حكى " خليف ". قال الشاعر: إنّ من القوم موجودا خليفته … وما خليف أبي وهب بموجود (¬1) قال سيبويه: وزعم الخليل أن قولهم: (ظريف) و (ظروف) لم يكسر عليه ظريف كما أن المذاكير لم يكسر عليه ذكر. قال أبو عمر: أقول في (ظروف) هو جمع (ظريف) كسّر على غير بابه وليس مثل ذلك والدليل على ذلك أنك إذا صغرت قلت: (ظريّفون) ولا تقول ذلك في مذاكير. قال أبو سعيد: أما الخليل فإنه يجعل " ظروفا " اسما للجمع في (ظريف) أو (يجعله) جمعا ل (ظرف)، وإن كان لا يستعمل ويكون (ظرف) في معنى (ظريف) كما يقال " عدل " في معنى (عادل) فيكون (ظرف) و (ظروف) كقولنا (فلس) و (فلوس) كما أن مذاكير وإن كان جمعا فالتقدير أنه جمع لمذكار ومذكار في معنى ذكر وإن لم يستعمل. وقال أبو عمر الجرمي: (ظروف) جمع ل (ظريف) وإن كان الباب في (ظريف) أن لا يجمع على (ظروف) كما أن كثيرا من الجموع قد خرجت من بابها حملا على غيرها كما أن قولهم: (أزناد) جمع (زند) و (أزمن) جمع (زمن) محمول على غيره وقد مضى نحو هذا كثير. قال سيبويه: " وأما ما كان (فعولا) فإنه يكسّر على " فعل " عنيت جمع المؤنث أو المذكر وذلك قولك: (صبور) و (صبر) و (غدور) و (غدر). " وإنما استويا لأنه لا علامة للمؤنث فيه وإنما يجمعون المؤنث منه على (فعائل) كقولهم (عجوز) و (عجائز) وقد قالوا: (عجز). قال الشاعر: جاءت به عجز مقابلة … ما هنّ من جرم ولا عكل (¬2) و (جدود) و (جدائد) و (صعود) و (صعائد). ¬

_ (¬1) هذا البيت لأوس بن حجر انظر المفصل لابن يعيش: 5/ 52، انظر ديوانه ص: 25، والبيت من البسيط. (¬2) البيت من المنسرح من شواهد شرح المفصل لابن يعيش: 5/ 47 والشاهد قوله (عجز) في جمع (عجوز) والعجوز: الزوجة، اللسان (عجز).

وإنما جاء على فعائل لأنه مؤنث فكأن علامة التأنيث فيه مقدرة فصارت بمنزلة صحيحة وصحائح، والجدود التي لا لبن لها، والصّعود التي قد عطفت على غير ولدها بعد إسقاطها، وقالوا، للواله: (عجول) و (عجل) ولم يقولوا (عجائل)، و (سلوب) و (سلائب) والسّلوب التي فارقها ولدها بموت أو ذبح أو غير ذلك. وشبهوا فعول وفعائل في النعت بالاسم كقولهم: (قدوم) و (قدائم) و (قدم) و (قلوص) و (قلائص) و (قلص). وقد يستغنى ببعض هذا عن بعض قالوا: (صعائد) ولا يقال (صعد) وقالوا: (عجل) ولا يقال (عجائل). قال سيبويه: " وليس شيء من هذا وإن عنيت به الآدميين يجمع بالواو والنون كما أن مؤنثه لا يجمع بالتاء لأنه ليست فيه علامة التأنيث لأنه مذكر الأصل " قال أبو سعيد: لم يجمع (صبور) وبابه في المذكر والمؤنث جمع السلامة لأن (صبورا) قد استعملت للمؤنث بغيرها من أجل أنها لم تجر على الفعل فلما أطرحت الهاء في الواحد وإن كان التأنيث يوجب الهاء كرهوا أن يأتوا بجمع يوجب ما كرهوا في الواحد فعدل به عن السلامة إلى التكسير في المؤنث، فلما عدل إلى التكسير في المؤنث أجرى المذكر مجراه. قال سيبويه: (ومثل هذا " مريّ " و " صفيّ " وقالوا: (مرايا) و (صفايا) فعائل غير أن الإعلال أوجب لها هذا اللفظ كما يقال في (خطيّة): (خطايا) وفي (مطيّة): (مطايا) وهذا يحكم في التصريف إن شاء الله: " والمريّ " التي يمريها الرجل يستدرّها للحلب و (الصّفيّ) الغزيرة اللبن وقد يجوز أن يكون وزنها (فعيلا) و (فعولا) وقالوا للمذكر (جزور) و (جزائر) لما لم يكن من الآدميين صار في الجمع كالمؤنث وقد تقدم أن ما لا يعقل يجري مجرى المؤنث في الجمع. قال: " وشبهوه بالذنوب " و " الذّنائب " وقال غيره " الذّنوب " يذكر ويؤنث فمن ذكره قال في أدنى العدد " أذنبة " وقد روى أن الملك الغسّاني الذي كان أسر (شاسا) أخذ علقمة بن عبدة لما مدحه علقمة وسأله إطلاق أخيه أنشده القصيدة إلى أن بلغ قوله:

وفي كلّ حيّ قد خبطت بنعمة … فحقّ لشأس من نذاك ذنوب (¬1) قال: نعم " وأذنبة " وأحسن إليه وأراد سيبويه بالذنائب على اللغتين جميعا. قال سيبويه: " وقالوا رجل ودود ورجال ودداء شبهوه بفعيل لأنه مثله في (الزيادة) في الزنة ولم يتقوا التضعيف لأن هذا اللفظ في كلامهم نحو حششآء ". قال أبو سعيد: أما قولهم ودود وودداء ففيه مخالفة للقياس من جهتين إحداهما أن فعولا لا يجمع على فعلاء وإنما يجمع عليه فعيل ككريم وكرماء والثانية أن فعيلا إذا كان عين الفعل ولامه من جنس واحد فإنه لا يجمع على فعلاء لا يقولون: (شديد) و (شدداء) ولا (جليل) و (جللاء) وإنما قالوا: (ودداء) لأنه لما خرج عن بابه فشذ في وزن الجمع احتملوا شذوذه أيضا في التضعيف وشبهوه ب (خششاء) في احتمال التضعيف، وقوله: لأنه مثله في الزنة يريد زنة حرف اللين في سكونه من فعيل وفعول والزيادة فيهما أن الواو زائدة والياء زائدة. (وقالوا عدوّ وعدوّة شبهوه بصديق وصديقة كما قالوا للجمع عدو وصديق). قال أبو سعيد: يقال: (عدوّ) للواحد والاثنين والجماعة، والمؤنث والمذكر، قال الله عز وجل: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (¬2). وقال: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (¬3). وكذلك يقال (الصّديق) للواحد والجماعة والمؤنث والمذكر وقد يدخلون الهاء عليهما جميعا لأنهما لما تضادا جريا مجرى واحدا. قال سيبويه: " وقد أجري شيء من فعيل مستويا في المؤنث والمذكر وذلك قولك (جديد) و (سديس) و (كتيبة خصيف) و (ريح خريق) وقالوا (مدية هذام) و (مدية جزاز). والباب أن المذكر والمؤنث يختلف في " فعيل " إذا لم يكن فعيل في معنى مفعول تقول رجل كريم وشريف و (امرأة كريمة وشريفة) وفعول يستوي فيهما تقول: (رجل ¬

_ (¬1) البيت من الطويل وذكر في اللسان (شأس) وهو من قصيدة مدح بها الحرث الوهاب سيد بني غسان وملك الشام انظر ابن يعيش: 5/ 48. والشاهد (ذنوب) حيث أفردها وجمعها الملك على (أذنبة) فدل هذا على أن (فعول) المذكر مما يكسّر على (أفعلة) في أدنى العدد. (¬2) سورة النساء، الآية: 102. (¬3) سورة الشعراء، الآية: 77.

صبور وغدور) و (امرأة صبور وغدور) قد ذكر سيبويه " فعولا " في هذه الأحرف أنه قد استوى فيهما المذكر والمؤنث وجرت على حكم فعول وقال بعض الناس في (جديد) أنه في معنى مفعول وأن معناه (مجدود) أي مقطوع من صبغته لأن الثوب وما جرى مجراه قد يقطع إذا فرغ منه، ويحتمل سائر ما ذكرناه التأويل وإن كان قوله أظهر. ومعنى كتيبة خصيف أنه قد ظهر فيها سواد الحديد فقد صارت ذات لونين. (وقالوا: فلوّ وفلوّة لأنها اسم فصارت ك " فعيل " و " فعيلة ". وقد ذكرنا في جمع فلوّ أنه يقال (أفلاء) و (فلاء) و (فليّ) و (فليّ). " وقالوا امرأة فروقة وملولة " ومثله رجل ملولة وفروقة " فوقع للذكر والأنثى كما يقال (حمولة) للذكر والأنثى و (ربعة) للذكر والأنثى قال أبو الحسن الأخفش: قالوا: (فروقة وملولة وحمولة) فألحقوا الهاء حيث أرادوا التكثير كما قالوا (نسّابة وراوية) فألحقوا الهاء حين أرادوا التكثير وقال أبو عمر الجرمي يقال أيضا (فروق) و (ملول) فمن قال (فروقة) و (ملولة) قال (فروقات) و (ملولات) ومن قال (فروق) و (ملول) قال (فرق) و (ملل) كما يقال (صبر) و (غدر)، وقال الأخفش: بعض الناس يقولون (رجل صرورة) و (رجال صرورة) فمن قال هذا أجراه مجرى المصدر (وأما فعال فبمنزلة فعول وذلك قولك صناع وصنع وجماد وجمد كما قالوا صبور وصبر) و (الصّناع الحاذق) و (الجماد الممسكة) يقال: (سنة جماد) و (امرأة جماد) إذا كانت بخيلة ومثله من بنات الياء والواو التي الواو عينه نوار ونور وجواد وجود وعوان وعون) فخفف استثقالا للضمة على الواو، وقوله من بنات الياء والواو ثم لم يأت للياء بمثال لأن إحداهما تغني عن الأخرى وهما كالحيز الواحد. قال: " وتقول رجل جبان وقوم جبناء وشبهوه بفعيل لأنه مثله في الصفة والزنة والزيادة " يريد أن " جبان " صفة كما أن ظريف صفة وحرف اللين ساكن فيهما وهو الألف في (جبان) والياء في ظريف وهما زائدان فيهما فجعل (جبناء) بمنزلة (ظرفاء) وقال غيره يقال " امرأة جبان " و " جبانة " وقد جاء في شعر هذيل " أجبان " وسأذكر بابا لما شذ من الجمع في الشعر إن شاء الله. قال: وأما " فعال " فبمنزلة " فعال " ألا ترى أنك تقول: ناقة (كناز) اللحم

ويقولون للجمل العظيم: (جمل كناز) ويقولون (كنز) - يعني للجمع- ويقال (رجل لكاك اللّحم) يعني كثير اللحم وامرأة لكاك) وكذلك يقال في الناقة والجمل وجمعه (لكك) وهو الكثير اللحم، و (جمل دلاث) و (ناقة دلاث) وهو الماضي السريع والجمع (دلث). قال: (وزعم الخليل أن قولهم هجان للجماعة بمنزلة " ظراف " وكسّروا عليه " فعالا " فوافق " فعيلا " هاهنا كما وافقه في الأسماء " قال أبو سعيد: اعلم أن " هجانا " يستعمل للواحد والجمع فيه مذهبان وذكر سيبويه أحدهما دون الآخر فأما الأول منهما وهو الذي ذكره سيبويه أنه يقال (هذا هجان) ومعناه كريم خالص و (هذان هجانان) وهؤلاء هحان) وذلك أن " هجانا " الواحد هو فعال وفعال يجري مجرى فعيل فمن حيث جاز أن يجمع " فعيل " على " فعال " جاز أن يجمع فعال على فعال لاستواء فعيل وفعال. وأما المذهب الآخر فيقال هذا هجان وهذان هجان وهؤلاء هجان فيستوي الواحد والتثنية والجمع فيجري مجرى المصدر ولم يذكره سيبويه. وقد ذكره الجرمي قال سيبويه: (وزعم أبو الخطاب أنهم يجعلون الشّمال جمعا وقد قالوا شمائل كما قالوا: هجائن) والشّمال: الخلق وقد قالوا في قول عبد يغوث: ... وما لومي أخي من شماليا ... قالوا شمال هاهنا جمع بمنزلة هجان جمعا " وقالوا درع دلاص وأدرع دلاص " وفيها ما في (هجان) من المذهبين وقالوا (جواد) و (جياد) للجميع لأن جوادا مشبه بفعيل فصار بمنزلة قولك (طويل) و (طوال) واستعملوه بالياء دون الواو كما قال بعضهم (طيال) في معنى (طوال). قال: وبذلك على أن " هجانا " و " دلاصا " جمع لدلاص وهجان وأنه كجواد وجياد وليس كجنب قولهم (هجانان) و (دلاصان) فالتثنية دليل في هذا النحو. قال أبو سعيد: قد ظهر من مذهب سيبويه أن " دلاص وهجان " إذا كان للجمع فهو جمع مكسر لدلاص وهجان إذا كان للواحد وأنه ليس فيه مذهب غير ذلك وشبهه بجواد وجياد لينكشف لك قصده فيه؛ لأن الجواد الذي هو واحد لفظه خلاف لفظ جياد، الذي هو جمع فقال هجان الذي هو جمع بمنزلة جياد وهجان الذي هو واحد بمنزلة (جواد) وإن اتفق لفظهما واستدل على قوله بالتثنية حين قالوا: (دلاصان)، ولو كان على مذهب المصدر الذي يستوي فيه التثنية والجمع لكان لا يثنى و (جنب) على مذهبه لا يثنى

لأنه عنده مصدر ففصل بينهما وقد تقدم القول في (جنب) وما ذكرت فيه عن الأخفش من جواز التثنية والجمع. قال سيبويه: وأما ما كان " مفعالا " فإنه يكسر على (مثال) (مفاعيل) (كالأسماء) وذلك لأنه شبه بفعول، حيث كان المذكر والمؤنث فيه سواء ففعل ذلك به كما كسّر " فعول " على " فعل " فوافق الأسماء ولا يجمع بالواو والنون كما لا يجمع فعول وذلك قولك: (مكثار) و (مكاثير) و (مهذار) و (مهاذير) و (مقلات) و (مقاليت). - والمقلات: المرأة التي لا يعيش لها ولد- وما كان " مفعلا " فهو بمنزلته لأنه للمذكر والمؤنث سواء فأما " مفعل " فنحو (مدعس) و (مقول) تقول (مداعس) و (مقاول) وكذلك المرأة- والمدعس: الجيد الطعن- وأما (مفعيل) فنحو (محضير) و (محاضير) و (مئشير) (¬1) و (مآشير). قال أبو سعيد: اعلم أن ما كان من هذه الأسماء يستوي فيه المذكر والمؤنث فالباب في جمعه التكسير كقولنا (صبور) و (عجول) للذكر والأنثى و (مفعال) كقولنا (مكثار) و (مهذار) للذكر والأنثى وما كان أيضا ذكره على خلاف بنية أنثاه كقولنا: (أحمر) و (حمراء) و (سكران) و (سكرى) فالباب في جمعه التكسير ولا يجمع المذكر منه بالواو والنون ولا المؤنث بالألف والتاء إلا ما يشذ ويضطر إليه شاعر فيشبهه بغيره من الجموع كقول الكميث: فما وجدت بنات بني نزار … حلائل أحمرين وأسودينا (¬2) والباب فيه (حمر) و (سود) و (حمران) و (سودان) وإذا كان شيء من ذلك اسما جمع بالواو والنون والألف والتاء تقول في (الأحمر) و (الحمراء) إذا كانا نعتين (حمر) للذكر والأنثى وإن سميت امرأة ب (حمراء) قلت (حمراوات) كما جاء في الحديث " ليس في الخضراوات شيء " (¬3) لأنه اسم ولو سميت رجلا ب (أحمر) و (أسود) جاز أن تجمعه ¬

_ (¬1) في اللسان (أشر): الأشر: المرح، الأشر: البطر. (¬2) نسبه ابن عصفور أيضا إلى الكميت في المقرب: 2/ 50 وهو من قصيدة لحكيم بن عياش الكلبي وهو المعروف بالأعور الكلبي من شعراء الشام يهجو بها مضر. انظر ابن يعيش: 5/ 60، الخزانة: 1/ 86 - 3/ 395، والدرر: 1/ 19، والأشموني: 1/ 132. والشاهد في البيت قوله: أسودين وأحمرين حيث جمع أسود وأحمر جمع مذكر سالم بالياء والنون. (¬3) الحديث أخرجه الترمذي في صحيحه: 3/ 132 - 133، (باب ما جاء في زكاة الخضراوات) =

جمع السلامة فتقول (الأحمرون) و (الأسودون) كما قالوا (الأشعرون) وإن صغرت شيئا من ذلك جمع بالواو والنون والألف والتاء لو صغرت (حمراء) و (سوداء) وأنت تريد المذكر لقلت (أسيودون) و (أحيمرون) وإن أردت به المؤنث قلت: (حميراوات) و (سويدات). وما كان مذكره على نية مؤنثه وكان في المؤنث الهاء ولم تكن في المذكر فالباب فيه أن يجمع جمع السلامة؛ لأن بعضه يجري على الفعل وبعضه بمنزلة ما جرى على الفعل فأما ما جرى على الفعل فقولك (قائم) و (قائمة) و (ذاهب) و (ذاهبة) و (منطلق) و (منطلقة) تقول في جمع (منطلق) (منطلقون) وفي (منطلقة) (منطلقات) وفي قائم (قائمون) وفي (قائمة) (قائمات) وذلك أن هذا الباب لما جرى على الفعل شبه لفظ جمعه بلفظ الفعل الذي يتصل به ضمير الجمع؛ لأن الفعل يسلم ويتغير ما اتصل به فيجعل " منطلقون " كقولك (ينطلقون) و (مكرمون) بمنزلة (يكرمون) و (قائمون) بمنزلة (يقومون) و (منطلقات) بمنزلة (ينطلقن) و (ذاهبات) بمنزلة (يذهبن) لسلامة لفظ الفعل. قال سيبويه: وقالوا: (مسكينة) شبهت ب (فقيرة) فصار بمنزلة (فقير) و (فقيرة) وإن شئت قلت: (مسكينون) كما قلت (فقيرون) وقالوا: (مساكين) كما قالوا (مآشير). وقالوا: أيضا (امرأة مسكين) فقاسوه على امرأة (جبان) وهي " رسول ". وإنما قالوا: (مسكينون) كما قالوا: (مسكين) و (مسكينة). قال: " وأما ما كان (فعّالا فإنه لا يكسر لأنه تدخله الواو والنون فيستغنى بهما ويجمع مؤنثه بالتاء لأن الهاء تدخله ". قال أبو سعيد: فصلوا بين " فعّال " و " فعول " وهما للمبالغة لأنهم جعلوا (فعّالا) (لمفعّل) في المبالغة و (مفعّل) يجرى على فعّل كقولك (كسّر) فهو (مكسّر) و (حرّك) فهو (محرّك) وتدخله الهاء للمؤنث نحو (محرّكة) و (مكسّرة) وكذلك في (فعّال) يقول للذكر (شرّاب) والأنثى (شرّابة) و (شرّابون): و (قتّالون)، و (شرّابات) و (قتّالات). ¬

_ = برواية " ليس في الخضراوات صدقة ". وكذلك أخرجه الدارقطني في سننه ص 200 والحديث مرسل ضعيف من كل طرقه.

وفعّال بهذه المنزلة (رجل كرّام) و (حسّان) و (امرأة كرّامة وحسّانة) قال الشماخ: ... … يا ظبية عطلا حسّانة الجيد (¬1) وفي جمع المذكر (حسّانون) و (كرّامون) وللأنثى (حسّانات) و (كرّامات) لما كان الفصل بين الذكر والأنثى بالهاء جعلوه بمنزلة ما جرى على الفعل وقالوا: (عوّار) و (عواوير) - والعوّار الرجل الجبان- وكسّروه لأنهم أجروه مجرى الاسم؛ لأنهم لا يقولون للمرأة (عوّارة) لأن الشجاعة والجبن في الأغلب من أوصاف الرجال الذين يحضرون الحرب والقتال قال الأعشى: غير ميل ولا عواوير في الهي … جا ولا عزّل ولا أكفال (¬2) وقال الليث: لا عواوير في الحروب تنابيل … ولا رائمون بوّ اهتضام (¬3) وشبهوا (عوّار) و (عواوير) ب (نقّاز) و (نقاقيز) والنقّاز: العصفور وفي بعض النسخ من كتاب (سيبويه) (نقّار) و (نقاقير) وهو غلط ذكر أبو حاتم أن النّقّاز سمي بذلك لأنه ينقز وذكره أبو بكر بن دريد في باب الزاي والقاف والنون. ومفعول بمنزلة فعّال ومما يجمع مجمع السلامة فقيل نحو (الشّريّب) و (الفسيّق) ويقال للمرأة (شرّيفة) و (فسّيقة) ونقول في المفعول (مضروبون) و (مقصودون) وقد يجيء مكسرا تشبيها بغيره كقولهم (مكسور) و (مكاسير) و (ملعون) و (ملاعين) و (مشؤوم) و (مشائيم) و (مسلوخة) و (مساليخ) شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن وقد عرفتك أن باب الأسماء على هذا التكسير فأما مجرى الكلام الأكثر فإنه يجمع بالواو والنون والمؤنث بالتاء كقولهم في المذكر (ملعونون) و (مهزومون). قال الله عز وجل: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا (¬4) وكذلك جميع ما جرى على الفعل كقولك (مفعل) و (مفعل) إلا أنهم قد قالوا (منكر) و (مناكير) و (مفطر) و (مفاطير) ¬

_ (¬1) هذا شطر بيت صدره: دار الفتاة التي كنا نقول لها … ... انظر الخصائص: 3/ 266، المنصف: 1/ 241، ديوان الشاعر ص: 21، ابن يعيش: 5/ 66. (¬2) البيت من الخفيف انظر ديوان الشاعر ص: 11، وشرح المفصل: 5/ 67، اللسان (عور). (¬3) البيت من الخفيف سبق تخريجه. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 61.

و (موسر) و (مياسير) والباب الأكثر السلامة. ومعنى قول سيبويه: شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن وقد قال في الأبنية: إن مفعولا لم يجئ في الأسماء فمعنى قوله شبهوها بما يكون من الأسماء على هذا الوزن يريد بما كان على خمسة أحرف ورابعه حرف من حروف المد واللين مما يكون على فعلول أو مفعول كقولنا: (بهلول) و (بهاليل) و (مغرود) و (مغاريد). (وفعّل بمنزلة فعّال نحو (زمّل) و (جبّأ) والزّمّل الضعيف والجبّأ الجبان- يجمع فعّل بالواو والنون ومؤنثه بالتاء وكذلك فعّيل كقولنا زمّيل و (سكّيت) قال: وأما مفعل الذي لا تدخله الهاء في المؤنث وأكثر ذلك مما يختص به المؤنث فإنه يكسر كقولك: (مطفل) و (مطافل) و (مشدن) و (مشادن) والمطفل: الأم التي معها طفل. والمشدن: الظبية التي قد شدن غزالها شبهوا هذا بالصّعود والسّلوب لما لم تدخل فيه الهاء وقد يجيء من هذا الباب بالهاء قالوا: (مثل) و (مثلية) للتي تدخل فيه الهاء) وقد يجيء من هذا الباب بالهاء قالوا: (متل) و (متلية) للتي يتلوها وولدها و (مجر) و (مجرية) وإنما أثبتوا الهاء؛ لأنه معتل ولو أسقطوا الهاء لسقطت الياء في قولهم: (متل) و (مجر) (¬1) فكرهوا الإخلال بحذف علم التأنيث وعرف من نفس الكلمة وأما فيعل فبمنزلة " فعّال " نحو (قيّم) و (سيّد) و (بيّع) يقولون للمذكر: (بيّعون) وللمؤنث (بيّعات) لأنه يقال للمذكر (سيّد) وللمؤنث (سيّدة) و (ميّت) و (ميّتة). وربما كسر بعض ذلك قالوا (ميّت) و (أموات) شبهوا " فيعل " بفاعل حين قالوا (شاهد) و (أشهاد) (ومثل ذلك قيل وأقيال) وأصل (قيل) (قيّل) من القول وهو الملك وأصله (قيول) وإنما قيل له (قيل) لأنه قوله نافذ في جميع ما يقول وذكر سيبويه " أقيال " وفي بعض الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى الأقيال العباهلة، و (كيس) و (أكياس) قال (فلو لم يكن الأصل " فيعل " لما جمعوا بالواو والنون فقالوا (قيلون وكيسون) .. و (ميتون) لأنه ما كان على (فعل) فالتكسير فيه أكثر نحو (صعب) و (صعاب) و (خدل) و (خدال). أراد سيبويه أن ما كان من المخفف عن (فيعل) إنما جاء جمعه سالما لأنه بمنزلة (فيعل) والباب في (فيعل) جمع السلامة لأنه بمنزلة (فاعل) ومثله (هين) و (هينون) و (لين) و (لينون) لأن أصله (فيعل) ولكن خفف وحذف منه فلو كان قيل وكيس فعلا ولم يكن ¬

_ (¬1) في اللسان (تلا): ناقة متل ومتلية: يتلوها ولدها أي يتبعها. وأيضا (جرو): وكلية مجر ومجرية أي ذات جرو.

أصله (فيعل) لكان التكسير أغلب عليه. ويقولون للمؤنث (أموات) فيوافق المذكر كما وافقه في بعض ما مضى ومثل ذلك (امرأة حيّة) و (أحياء) كما يقال (رجل حيّ) والجميع (أحياء) و (نضوة) و (أنضاء) و (نقضة) و (أنقاض) كأنك كسرت (نقض) إذا كسرت فكأن الحرف لا هاء فيه وقالوا (هيّن) و (أهوناء) وذكر الجرمي (جيّد) و (أجوداء) وهذا مما يحتج به الفراء أن (ميّت) و (سيّدا) أصله فعيل لأن فعيلا تجيء على أفعلاء فلما قالوا (هيّن) و (أهوناء) و (جيّد) و (أجوداء) دل على أن الواحد (فعيل) ولا حجة له في ذلك من وجهين أحدهما أنهم قد يجمعون الشيء على غير بابه كجمعهم فاعل على فعلاء قالوا (شاعر) و (شعراء) و (جاهل) و (جهلاء) وإنما فعلاء من جمع فعيل وقد قالوا: (جبان) و (جبناء) فحملوا " فاعل وفعال " على " فعيل " لاشتراكهن في أربعة أحرف فيها حرف من حروف المد واللين، والوجه الثاني أن باب (ميّت) و (سيّد) لا يجمع جمعا مطردا كجمع " فعيل " المعتل ولا فعيل الصحيح وإنما يجمع جمع السلامة وهو الكثير فيه. وجمع التكسير على وجوه مختلفة ولم يلزم طريقا واحدا لأن (فيعل) ليس له نظير في الصحيح وهو أكثر الكلام فعل النظير الذي يحمل عليه. قالوا (سيّد) و (سادة) فعلة وهو من جمع فاعل، كما قالوا: (قائد) و (قادة) و (حائك) و (حاكة). وقالوا (ميّت) و (أموات) وهو من جمع فعل كما يقال (أثواب) و (أحواض) وما أشبه ذلك فكان (أهوناء) في جمعه على فيعل كسادة في حمله على فاعل. قال: (ونضّوة ونسوة ونسوان) كأن الهاء لم تكن في الكلام يريد أنهم قالوا في (نضوة): (أنضاء) كما قالوا: (نقضة) و (أنقاض) وقالوا: في نسوة (نسوان) كما قالوا في (ريد): (ريدان) وهو فرخ الشجرة وقالوا: (شفذ) و (شفذان) وهو ولد الحرباء كأن الهاء لم تكن في (نضوة) ولا (نسوة). قال: (وأمّا ما ألحق (من) بنات الثلاثة ببنات الأربعة فأنه يكسر كما تكسر بنات الأربعة- وتكسيرها بأن تزاد الألف ثالثة ويفتح أولها ويكسر ما بعد الألف- وذلك (قسورة) و (قساور) و (توأم) و (توائم) الواو فيهما زائدة وكذلك (غيلم) و (غيالم) وألحق ذلك ب (سملق) و (سمالق) و (قشعم) و (قشاعم)، وأفعل بهذه المنزلة إذا كان اسما نحو (أجرب) و (أجارب) و (أبطح) و (أباطح) وقد جاء شيء من (فيعل) في المؤنث

والمذكر سواء قالوا: (ناقة ريّض) وهي الصّعبة التي تراض قال الراعي: (¬1) وكأنّ ريّضها إذا ياسرتها … كانت معوّدة الرّحيل ذلولا (¬2) طرحوا الهاء منها كما طرحوا من (سديس) و (جديد) ويجوز أن يكون طرح الهاء منها تشبيها بامرأة (قتيل) و (جريح) لأنها في معنى (مروضة) مفعول بها. قال: وأما (أفعل) إذا كانت صفة كسّرت على فعل ولا يضم الثاني منه وذلك (أحمر) و (حمر) وأخضر و (خضر)، إلا أن يضطر شاعر فيقول (خضر) و (حمر) وقد ذكرنا ذلك ويكسر أيضا على " فعلان " كقولك (حمران "، و (سودان) و (بيضان) و (شمطان) و (أدمان) والمؤنث مثل المذكر كقولك (حمراء) و (حمر) و (صفراء) و (صفر) " ولا يجمع جمع السلامة إلا أن يضطر شاعر وقد ذكرنا ذلك ورأيت ابن كيسان يذكر أنه لا يرى بأسا بذلك وقد مضى شرح تعليله. قال سيبويه: وأما الأصغر والأكبر فإنه يكسر على (أفاعل) ألا ترى أنك لا تصف به كما تصف بالأحمر لا تقول (رجل أصغر ولا رجل أكبر). قال أبو سعيد: اعلم أن الأفعل الذي فيه معنى التفضيل له أحكام يبين بها من " أفعل " الذي يستعمل منكورا. وأفعل الذي يستعمل منكورا في أول وضعه على (أضرب) منها أن يكون (أفعل وأنثاه فعلاء) وليس فيه تفضيل شيء على شيء وإنما هو صفة صيغ لشيء من أجل لونه وما يجري مجرى اللون كقولنا (أحمر وحمراء) و (أحمق وحمقاء) و (أشتر وشتراء). أو يكون " أفعل " صفة يكون مذكره بغير هاء ومؤنثه بالهاء كقولنا (رجل أرمل وامرأة أرملة). أو يكون فيه تفضيل شيء على شيء ويلزمه (من) كقولنا: زيد أفضل من عمرو ومررت برجل أفضل منك. ومنها أن يكون اسما غير صفة كقولنا أفكل للرعدة وأيدع لصبغ. فإذا أدخلت الألف واللام على " أفعل " الذي للتفضيل سقطت (من) كقولنا مررت ¬

_ (¬1) هو حصين بن معاوية ابن بني نمير، وكان يقال لأبيه في الجاهلية الرئيس وسمي الراعي؛ لأنه كان يكثر من وصف الرعاة في شعره وهجاه جرير؛ لأنه اتهمه بالميل إلى الفرزدق. (¬2) انظر ديوانه: 127، جمهرة أشعار العرب: 173، اللسان (روض). والشاهد (ريض) بدون هاء للمؤنث.

بالأفضل والأشرف والأطول والأصغر والأكبر. ولا يستعمل إلا بالألف واللام أو الإضافة لا يقال مررت برجل أفضل. ويجري مجرى الأسماء في جمعه ويخالف أفعل الذي أنثاه فعلاء وأفعل منك في جمعه وفي مؤنثه وذلك أن مؤنث الأفعل الذي تلزمه الألف واللام الفعلى كقولك الأفضل والفضلى والأعزّ والعزّى ويجمع الأفعل منه جمع السلامة والتكسير فجمع السلامة كقولك الأكبر والأكبرون. قال الله عز وجل: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (¬1) وجمع التكسير كقولك الأكابر والأصاغر، قال الله عز وجل: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ (¬2) ويقال في جمع المؤنث السالم (الفضلّيات) و (الطّوليات) وفي التكسير: " الفضل " و (الطّول) ومنه قيل: (السّور الطّول) يعنون البقرة وستّ السّور بعدها والقصائد الطّول الواحدة (الطّولى) وإنما حسن جمع السلامة فيه والتكسير؛ لأنه لمّا لم ينكر نقص بذلك عن مجرى الصفات فأجرى مجرى الأسماء الأعلام والأسماء لا تمتنع من السلامة إذا كانت للآدميين ولذلك كسر على الأفاعل كما قالوا الأجادل والأداهم والأباطح، وأفعل إذا كان معه منك فإنه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث نقول مررت برجل أفضل منك ورجلين أفضل منكما وامرأة أفضل منك ونساء أفضل منكن وقد جمعوا آخر على جمع السلامة فقالوا: الآخرون ولم يقولوا (الأواخر) كراهة أن تلتبس بجمع آخر. قال: وأما " فعلان " إذا كان صفة وله (فعلى) فإنه يكسر على " فعال " بحذف الزيادة التي في آخره كما حذفت ألف إناث وألف (رباب) وذلك كقولك (عجلان) و (عجال) و (عطشان) و (عطاش) و (غرثان) و (غراث) وكذلك مؤنثه (وافقه) كما وافق فعيل فعيلة، كأنهم طرحوا الألف والنون من عجلان وعطشان وألف التأنيث من عجلى وعطشى وبقي عجل وعطشى فكسر على فعال كما قالوا: (خدل) و (خدال) و (صعب) و (صعاب) وقد كسر على (فعالى) كقولهم (سكران) و (سكارى) و (حيران) و (حيارى) و (خزيان) و (خزايى) و (غيران) و (غيارى) وكذلك المؤنث يعني (سكرى) و (سكارى)، و (حيرى) و (حيارى) كأنهم شبهوا الألف والنون بألفي التأنيث فقالوا ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 111. (¬2) سورة هود، الآية: 27.

(سكران) و (سكارى) كما قالوا (صحراء) و (صحارى) وفي المؤنث (سكرى) و (سكارى) كما قالوا (حبلى) و (حبالى) وقد يضمون الأول من بعض ذلك قالوا (سكارى) و (عجالى). وإنما كسروا من جمع " فعلان " خاصة دلالة على أنه جمع هذا الضرب اختصاصا له ولا يجمع بالواو والنون ولا مؤنثه بالألف والتاء كما لم يفعلوا ذلك في باب (أحمر) و (حمراء) وقد ذكرنا علة ذلك إلا أن يضطر شاعر إليه. وما كان في مؤنثه الهاء وفي آخره ألف ونون زائدتان فقد يجمعون مذكره ومؤنثه على فعال كأنهم اطّرحوا ما فيه من الزيادة كقولهم: (ندمانة وندمان) وفي الجمع (ندام) وقالوا: (ندامى) كما قالوا (عبالى) و (سكارى) و (خمصانة) و (خمصان). ومن العرب من يقول (خمصان) ومما جرى مجرى هذا من الأسماء فشبه بالصفة كما تشبه الصفة بالاسم قولهم: (سرحان) و (سراح) و (ضبعان) و (ضباع)، والضّبعان ذكر الضبع كأنهم طرحوا الألف والنون منهما وجمعوا الصدر على فعال ورأيت بعض أهل اللغة يقول في (ضباع): أنه مشتمل على جمع (الضّبع) و (الضّبعان) وأنه غلب المؤنث فيه على المذكر. قال: لأن المؤنث في الكلام لفظها يزيد على لفظ المذكر بعلامة التأنيث ولفظ المذكر في هذا يزيد على المؤنث فلما حملوا المؤنث على المذكر في غيره حملوا المذكر على المؤنث فيه لنقصان اللفظ. قال سيبويه: وإن شئت قلت في (خمصان) (خمصانون) وفي (ندمان) (ندمانون) لأنك تقول في المؤنث (ندمانات) و (خمصانات وكذلك في (عريان) (عريانون) وفي (عريانة) (عريانات) لدخول الهاء في المؤنث وخروجها من المذكر (وهذا) ما حسن فيه جمع السلامة ولم يقولوا في (عريان) (عراء) استغنوا ب (عراة) لأن (عريان) في معنى (عار) و (عراة) من جمع فاعل واستغنوا به. قال: " وقد يكسّرون " فعل " على فعالى لأن " فعلا " وفعلان يجتمعان في معنى كقولهم (رجل عجل وسكر) في معنى (عجلان وسكران) فمن أجل ذلك قالوا (حذر) و (حذارى) و (بعير حبط) و (إبل حباطى) كأنهم قالوا: (حذران) و (حبطان) وإن لم يتكلم به والحبط المنتفخ الجوف، وقالوا (رجل ورجل الشعر) و (قوم رجالى) وقال بعضهم (رجلان) و (امرأة رجلى) وقالوا: (رجال) كما قالوا (عجال) ويقال (شاه

حرمى) و (شياه حرام) و (حرامى) كما قالوا (عجلى) وللجميع (عجال) و (عجالى) وليس (لحرمى) ذكر لأن الحرام شهوة الأنثى، إلا أنهم أجروه مجرى ما ذكره (حرمان). قال: (وأما " فعلاء " فهي بمنزلة " فعلة " من الصفات كما كانت " فعلاء " بمنزلة (فعلة) من الأسماء وذلك قولك (نفساء) و (نفساوات). وقد حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: (نفساء) و (نفساوات) و (عشراء) و (عشراوات) و (نفاس) و (عشار) كما قالوا: (ربعة) و (ربعات) و (رباع) شبهوها بها، لأن البناء واحد ولأن آخره علامة التأنيث كما أن آخر هذا علامة التأنيث). يريد أن (ربعة) مثل (نفساء) في التأنيث وإن أحدهما بالهاء والآخر بالألف. قال: " وليس شيء من الصفات آخره علامة التأنيث يمتنع من الجمع بالتاء غير " فعلاء " أفعل وفعلى فعلان وافقن الأسماء كما وافق غيرهن من الصفات الأسماء " يعني وافقت الصفات التي تجمع بالألف والتاء الأسماء في جمع السلامة ومما جرى مجرى الأسماء قولهم: (بطحاوات) لأنها جرت مجرى الأسماء حين حسن أن نقول (الأبطح) و (البطحاء) ولا يذكر المكان كما قالوا (صحراوات) وقالوا في (الأبطح): (الأباطح) حيث ضارع الأسماء. ومن العرب من يقول (نفاس) كما يقول (رباب) الواحدة (ربّى) وقالوا (بطحاء) و (بطاح) كما قالوا (صحفة) و (صحاف) و (عطشى) و (عطاش). هذا الذي في أصل كتابي الذي قرأت منه على أبي بكر بن السراج. وفي كتاب أبي بكر محمد بن علي مبرمان- وهو أشبه بالصواب-: " ومن العرب من يقول: (نفاس) كما تقول: (رباب) وقالوا: (بطحاء) و (بطاح) كما قالوا: (صحفة) و (صحاف) ". فهذا كلام منتظم يتصل به " صحاف ". ويقويه به أيضا إنه ذكر " نفاس " و (عشار) قبل هذا بأسطر. قال سيبويه: " وقالوا برقاء وبراق كقولهم: شاة حرمى وحرام وحرامى) كأنهم جعلوا ألف التأنيث بمنزلة الهاء فصار كأنه برقة وحرمة، وهو صحفة وجفنة. قال: وأما فعيل إذا كان في معنى مفعول، فهو في المؤنث والمذكر سواء وهو بمنزلة فعول، (ولا تجمعه بالواو والنون كما لا تجمع فعول) لأن قصته كقصته فإذا

كسرته كسرته على فعلى وذلك قولك (قتيل) و (قتلى) و (جريح) و (جرحى) و (عقير) و (عقرى) و (لديغ) و (لدغى). قال أبو سعيد: اعلم أن " فعيلا " إذا كان في معنى مفعول لم تدخله الهاء في المؤنث كما لا تدخل في فعول ولا يجمع بالواو والنون، لأنهم لو جمعوا بالواو والنون لوجب أن يجمع المؤنث بالألف والتاء فيقال (قتيلون) و (قتيلات) فينفصل في الجمع المذكر من المؤنث فكرهوا فصل ما بينهما في الجمع وقد اتفقا في الواحد وهذه العلة تجري في كل ما كان الباب فيه أن يتفق لفظ المؤنث والمذكر وقد مضى نحو من هذا واستواء (فعول)، و (فعيل) الذي ذكره سيبويه إنما هو في حذف الهاء واستواء لفظ المذكر والمؤنث. وأما جمعه على فعلى فليس يجمع من ذلك على فعلى إلا ما كان من الآفات والمكاره التي يصاب بها الحي وهو كاره حتى صار هذا الجمع (يأتي أيضا لغير) فعيل الذي في معنى مفعول إذا شاركه في معنى المكروه وسيتضح من كلام سيبويه ما يتبين لك ذلك إن شاء الله تعالى وما يخرج عن القياس الذي ذكرناه ويشذ. قال سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول (قتلاء بني أسد) يشبّهه بظريف وزيادته وذكر في غير هذا الموضع أسير و (أسراء) لأنه في معنى (مأسور) وتقول (شاة ذبيح) كما تقول (ناقة كسير) وتقول هذه (ذبيحة فلان) و (ذبيحتك) وذلك أنك لم ترد أن تخبر أنها قد ذبحت، ألا ترى أنك تقول ذاك وهي حيّة وإنما هي بمنزلة (ضحيّة) وتقول (شاة رميّ) إذا أردت أن تخبر أنها قد رميت وقالوا (بئست الرّميّة) الأرنب إنما تريد بئس الشيء مما يرمى فهذه بمنزلة الذّبيحة " قال أبو سعيد: اعلم أنهم يدخلون الهاء في فعيل الذي في معنى مفعول على غير القصد إلى وقوع الفعل به وحصوله فيه ومذهبهم في ذلك الإخبار عن الشيء المتخذ لذلك الفعل والذي يصلح له كقولهم (ضحيّة) للذكر والأنثى ويجوز أن يقال ذلك من قبل أن يضحى به و (ذبيحة فلان) لما قد اتخذه للذبح وقولهم (بئس الرّميّة) الأرنب أي الشيء الذي يرمى سواء (رمي) أم لم (يرم) ولم أر أحدا علله في كتاب، والعلة عندي أن ما قد حصل فيه الفعل يذهب به مذهب الأسماء وما لم يحصل فيه ذهب به مذهب الفعل لأنه كالفعل المستقبل. ألا ترى أنك تقول امرأة حائض فإذا قلت (حائضة) غدا لم يحسن فيه غير الهاء ونقول (زيد ميّت) إذا حصل فيه الموت ولا تقل (مائت) وإذا أردت المستقبل قلت (زيد مائت) غدا فتجعل فاعلا جاريا على فعل.

وذكر غير سيبويه (شاة ذبيح) و (امرأة ذبحى) فيما قد ذبح. وفي (ضحيّة) أربع لغات: يقال (أضحيّة) و (إضحيّة) وجمعها (أضاحيّ) وإن شئت خففت فقلت (أضاحي) و (ضحيّة) و (ضحايا) كما يقال (مطيّة) و (مطايا) و (أضحاة) و (أضحّى) من باب الجمع الذي بينه وبين واحدة الهاء وبذلك سمي الأضحى أي يوم هذه الذبائح. وقالوا: (نعجة نطيح) ويقال (نطيحة) شبهوها (بسمين وسمينة) يعني شبهوا نطيحة وهي في معنى مفعول بسمينة وهي في معنى فاعل والباب في المفعول ألّا تلحقه الهاء. قال سيبويه: وأما الذّبيحة فبمنزلة (القتوبة) و (الحلوبة) وإنما تريد هذه مما يقتبون، وهذه مما (يحلبون) فيجوز أن تقول (قتوبة) ولم (تقتب) و (ركوبة) ولم (تركب) وكذلك (فريسة الأسد) بمنزلة (الضّحيّة) وكذلك " أكيلة ". يعني أن هذه أشياء دخلتها الهاء لأنها متخذة لهذه المعاني وإن لم يقع بها الفعل وكذلك (أكيلة) كأنها متخذة للأكل. قال: وقالوا: (رجل حميد) و (امرأة حميدة) شبه بسعيد وسعيدة، حيث كان نحوهما في المعنى واتفق في البناء كما قالوا (قتلاء) و (أسراء) فشبهوها ب (ظرفاء) يعني أدخلوا الهاء في (حميدة) وهي في معنى (محمودة) لأن (الحمد) يشتهيه المحمود ويجتلبه فصار بمنزلة ما هو (فعلة) وشبه ب (سعيدة) و (رشيدة) لأنه يقال (سعدت) و (رشدت) وأما من يقول (سعدت) فهي (سعيدة) فهو بمنزلة (حميدة). (وقالوا عقيم وعقم شبهوها بجديد وجدد) وعقيم (فعيل) في معنى (مفعولة) يقال (عقمت المرأة فهي عقيم ومعقومة)، وكان حد الجمع في ذلك " عقمى " ولكن شبهوه ب (جديد) و (جدد) وهو في معنى (فاعل). على ما دل عليه كلام سيبويه في هذا الموضع وفيما قبله ومثله (نذير) و (نذر). وبعض الناس يجعل (جديدا) في معنى مفعول ويتأول فيه أن معناه قريب عهد بالفراغ منه بقطعه. يقال: (جدّ الشيء) إذا قطع و (جدّ الحائك الثوب) إذا قطعه. واستدل أيضا على ذلك بأنه يقال (ملحفة جديدة) كما يقال: (امّرأة قتيلة) وقال المحتج عند سيبويه: إنه (قد يلفظ بلفظ مذكر للمذكر والمؤنث) في الشيء الذي يكون الباب فيه إدخال الهاء على المؤنث كقولهم للرجل (صديق) وللمرأة (صديق) وقولهم (ميت) للرجل والمرأة وإن كان الباب فيه (ميتة) وقالوا (حزين) إذا أرادوا به المكان أو أرادوا به البقعة.

قال: ولو قيل إنها لم تجئ على فعل كما أن حزين لم يجئ على (حزن كان مذهبا) يعني أن قائلا لو قال لم تجئ (عقيم) على (عقم) كما أن حزين لم يجئ على حزن (لكان مذهبا) إذ كانوا يقولون (رجل حزين) و (امّرأة حزينة). قال: ومثله مما جاء على فعل لم يستعمل: مريّ ومريّة) يقولون (ناقة مريّ ومريت) والفعل منه (مريت) وكان حقها (مريّ) مثل (قتيل) ولكنها جاءت على الفعل لها و (المريّ) التي تمسح لتدرّ. قال سيبويه: (وقال الخليل: إنما قالوا: (مرضى وهلكى وموتى وجربى) وأشباه ذلك لأن هذا أمر يبتلون به وأدخلوا فيه وهم كارهون له فلما كان المعنى معنى المفعول كسروه على هذا). قال أبو سعيد: الباب فيما يجمع على " فعلى " أن يكون " فعله " ما لم يسم فاعله مثل " قتيل " و " جريح " و " عقير " والجمع فيه " قتلى " و " جرحى " و " عقرى " فإذا جاء ما يسمى فاعله من الآفات كان محمولا على (قتلى) و (جرحى) (وقد قالوا: هلّاك وهالكون فجاءوا به على قياس هذا البناء). يعني جاءوا على قياسه الصحيح المستقيم وهو (هلك) فهو (هالك) وجمعه المكسر (هلّاك) وجمع السلامة (هالكون) فهذا هو الأصل وقوله (لم يكسروه على هذا المعنى) يعني معنى الآفة حين قالوا: (هلّاك). وقوله (إذ كان بمنزلته في البناء وفي الفعل) يعني بمنزلة فاعل في بنائه وفي الفعل، في (هلك يهلك) فصار بمنزلة (ضارب) و (ضرّاب) و (ضاربون) (وهو على هذا أكثر في الكلام). ألا تراهم قالوا " دامر ودمّار ودامرون وضامر وضمّر ولا يقولون: ضمرى) لأن " فعّل " قد يجئ في بعض الجمع المكسر وفعّال قد يجئ في بعضه (ومثل الهلّاك ومرّاض وسقّام ولم يقولوا سقمى) لأن القياس في مثل (سقيم) و (مريض): (سقام) و (مراض) كما تقول (ظريف) و (ظراف). وقالوا: (رجل وجع وقوم وجعى) كما قالوا: (هلكى للآفة) وقالوا: (وجاعى). كما قالوا: (حباطى) و (حذارى) وكما قالوا: (بعير حبج) و (إبل حباجى). وقالوا: (قوم وجاع) كما قالوا (بعير) جرب، و (إبل جراب) جعلوها بمنزلة (حسن وحسان) فوافق فعل فعلا هنا كما يوافقه في الأسماء. يعني أنه قد جاء " فعالى " في الآفات كما جاء " فعلى " وليس " فعالى " في الآفات بالكثير وإنما " فعالى " فيما كان واحده فعل يحمل على " فعلان " لأن " فعلان "، و (فعل)

يشتركان كثيرا كقولهم: (عطش) و (عطشان) و (عجل) و (عجلان) وقد ذكرنا " فعل " في باب " فعلان " وموافقة فعل فعلا أنك تقول (حسن وحسان) كما تقول (جرب وجراب) ووافقه أيضا أنك تقول: (بطل وأبطال) كما تقول (نكد وأنكاد) فهذا في الصفات. وأما في الأسماء فقولك: " جمل وأجمال " كما تقول: (كتف وأكتاف). وقولك: (أسد وأسود) كما تقول (نمر ونمور). قال سيبويه: وقالوا: مائق (موقى)، وأحمق وحمقى، وأنوك و " نوكى " وذلك لأنهم جعلوه شيئا قد أصيبوا به في عقولهم كما أصيبوا ببعض ما ذكرنا في أبدانهم. وقالوا (أهوج) و " هوج " فجاءوا به على القياس و " أنوك " و " نوك "، وقالوا " رجل سكران " و " امّرأة سكرى " وذلك أنهم جعلوه كالمرضى، وقالوا: " رجال روبى " جعلوه بمنزلة " سكرى " والرّوبى: الذين استثقلوا نوما شبهوه بالسكران وقالوا للذين قد أثخنهم السفر والوجع " روبى " أيضا والواحد " رائب " وقالوا " زمن " و " زمنى " و " هرم " و " هرمى " و " ضمن " و " ضمنى " كما قالوا " وجعى " لأنه بلاء ضربوا به فصار في التكسير لذا المعنى ك " كسير وكسرى " و " رهيص ورهصى " و " حسير وحسرى " وإن شئت قلت: " زمنون " و " هرمون ". والضّمن: الزّمن والرّهيص: الذي أصابته الرّهصة وهو داء في الرّجل في رجل الفرس والحسير: المعيى (وقالوا أسرى كما قالوا هلكى وأسارى) كما قالوا (كسالى) وقد تقدم أن فعالى قد يجرونه لما كان بليّة وآفة وإن لم يطرد اطراد فعلى. وقالوا وج ووجيا للجمع والوجي هو الحفي والجمع " وجيا " كما قالوا زمن وزمنى وأجروا ذلك على هذا المعنى) كما أنهم قالوا (حميدة) فأخرجوها من باب فعل فجاءوا بها على المعنى لأن المفعول هنا يطلب ما فيه ويرغب فيه وبفعله فأخرجت إلى باب فعيلة التي نقول فيها (فعلت) وكذلك قلت: (حميدة) فجعلتها بمنزلة (ظريفة) يريد أنهم قالوا: (زمن وزمنى) فجمعوه على (فعلى) وهو (فاعل) لأن ذلك الفعل إذا كان له في اللفظ فهو شيء أصيب به ولا يريده فأجرى مجرى (قتيل) و (جريح) كما أجرى (حميدة) وإن كانت (مفعولة) مجرى الفاعل لأنها تريد الحمد وتطلبه وترغب فيه. قال سيبويه: " وقد قالوا ساقط وسقطى كما قالوا مائق وموقى وفاسد وفسدى وليس يجيء في كل هذا المعنى لم يقولوا (نجلى) ولا سقمى لأنه ليس الباب فيما كان فاعلا في اللفظ أن يقال في جمعه " فعلى ".

قال: (وقد جاء شيء منه كثير) على فعالى قالوا " يتامى " شبهوه ب (وجاعى) و (حباطى) لأنها مصائب قد ابتلوا بها فشبهت بالأوجاع) (حين جاءت على فعلى) وقد عرفتك أن " فعالى " يجيء في التقدير جمعا لفعلان وتكون الألف والنون بمنزلة ألفي التأنيث (كأنهم) قالوا: (يتمان) و (يتامى) كما نقول (ندمان) و (ندامى) و (وجعان) و (وجاعى) و (حبطان) و (حباطى) وإنما قال: (يتامى) شبهوه ب (وجاعى) وجعل (وجاعى) هو لأن واحده: (وجع) وواحد (حباطى): (حبط) وفعل يكون في معنى " فعلان " وليس يكون في (يتيم) (يتم). قال سيبويه: (وقالوا: " طلحت النّاقة " و (ناقة طليح) شبهوها ب " حسير " لأنها قريبة من معناها وليس ذا بالقياس لأنها ليست " طلحت " فإنما هي ك " مريضة " و (سقيمة) ولكن المعنى أنه فعل ذا بها كما قالوا: (زمنى) والحمل على هذه الأشياء ليس بالأصل ولو كان أصلا لقبح " هالكون " و " زمنون " ونحو ذلك). يعني أن قولهم (طلحت الناقة) - معناه أعييت- يوجب أن يقال " طليحة "، لأن الفعل لها كما تقول: (مرضت) فهي (مريضة)، و (سقمت) فهي (سقيمة) ولكنه لما كان الإعياء شيئا يصيب الإنسان من غير شهوة ولا اختيار شبه بالفعل الذي لم يسم فاعله فأشبه (جرحت) فهي (جريح) ونحو ذلك. وقوله: ولو كان أصلا لقبح (هالكون) و (زمنون) يعني لو كانت هذه الأشياء التي وضعت على " فعلى " وواحدها غير فعيل الذي بمعنى مفعول (أصلا) لقبح أن يقال (هالكون) و (زمنون) وذلك فعيل الذي بمعنى مفعول نحو (قتيل) و (جريح) يستوي فيه الذكر والأنثى ولا تدخله الهاء للمؤنث وما كان هذا سبيله فليس الباب أن يجمع جمع السلامة وقد مضى هذا وقولهم (هالك) و (هلكى) و (زمن) و (زمنى) و (مريض) و (مرضى) قد حمل على (جريح) و (قتيل) لأنه شيء أصابه وهو كاره فكان الواحد (هليك)، و (زمين) في معنى (مهلوك) كما يقال (قتيل) و (جريح) في معنى (مقتول) و (مجروح) وهذا ليس يقاس لفظه لأن لفظة (هالك) للمذكر و (هالكة) للمؤنث، و (زمن) للمذكر و (زمنة) للمؤنث و (مريض) للمذكر و (مريضة) للمؤنث. وما كان هذا سبيله فجمع السلامة مستحسن فيه، وإنما يقال (مرضى) و (هلكى) حملا على المعنى الذي ذكرته لك. فقال سيبويه: حمل هذه الأشياء على المعنى ليس (بالأصل ولو كان) بالأصل لقبح جمع السلامة كما يقبح في (قتيل) و (جريح) فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب بناء الأفعال التي هي أعمال تعداك إلى غيرك وتوقعها به ومصادرها

هذا باب بناء الأفعال التي هي أعمال تعداك إلى غيرك وتوقعها به ومصادرها قال سيبويه: " فالأفعال تكون من هذا على ثلاثة أبنية: على فعل يفعل، وفعل يفعل، (وفعل يفعل). ويكون المصدر فعلا، والاسم فاعلا. فأما فعل يفعل ومصدره فقتل يقتل قتلا، والاسم قاتل، وخلقه يخلقه خلقا، والاسم خالق، ودقه يدقه دقا، والاسم داق. وأما فعل يفعل فنحو: ضرب يضرب، وهو ضارب، وحبس يحبس وهو حابس. وأما فعل يفعل ومصدره والاسم فنحو: لحس يلحس لحسا وهو لاحس، ولقمه يلقمه لقما وهو لاقم، وشربه يشربه شربا وهو شارب، وملجه يملجه ملجا وهو مالج ". ومعناه مصه يمصه، ورضعه، ومنه ما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (أنه قال): (لا تحرّم إلا ملاجة وإلا ملاجتان) (¬1)، يريد الرضعة والرضعتين " وقد جاء بعض ما ذكرنا من هذه الأبنية على فعول "، يعني ما يتعدى، وذلك: لزمه يلزمه لزوما، ونهكه ينهكه نهوكا، ووردت الماء ورودا، وجحدته جحودا، شبهه بجلس جلوسا، وقعد قعودا، وركن يركن ركونا ". شبهوا ما يتعدى بما لا يتعدى. " لأن بناء الفعل واحد، وقد جاء مصدر فعل يفعل، وفعل يفعل على فعل، وذلك: حلبها يحلبها حلبا، وطردها يطردها طردا، وسرق يسرق سرقا. وقد جاء المصدر على فعل أيضا، وذلك: خنقه يخنقه خنقا، وكذب يكذب كذبا، وقالوا: كذابا، (فجاءوا به على فعال، كما جاءوا به على فعول. ومثله) حرمه يحرمه حرما، وسرقه يسرقه سرقا. وقالوا: عمله يعمله عملا، فجاء على فعل كما جاء السرق والطلب. ومع ذا أن بناء فعله كبناء فعل الفزع، فشبه به " قال أبو سعيد- (رحمه الله) -: ذكر سيبويه هذه المصادر المختلفة في الأفعال المتعدية، والأصل فيها عنده أن يكون المصدر على فعل، بل الأصل في الأفعال كلها الثلاثية أن تكون مصادرها على فعل، لأنه أخف الأبنية، ولأنا نقول فيها كلها إذا أردنا المرة الواحدة فعله، كقولنا: جلس جلسة، وقام قومة، وفعل هو جمع فعلة، كما يقال: تمرة وتمر، فيكون الضرب من الضربة كالتمر من التمرة، وما خرج عن هذا فهو الذي ¬

_ (¬1) قاله ابن سيده في المخصص: 14/ 131.

يذكره. فقد ذكر فعل وفعل، ثم قال في عمله يعمله عملا: أنهم شبهوه بالفزع الذي هو مصدر فزع، وفزع لا يتعدى. والباب في فعل الذي لا يتعدى إذا كان فاعله يأتي على فعل أن يكون مصدره على فعل كقولنا: فرق فرقا فهو فرق، وحذر يحذر حذرا فهو حذر، فشبّه بالعمل، وهو مصدر فعل يتعدى بالفزع، وهو مصدر فعل لا يتعدى، لاستواء لفظ فزع وعمل، وإن اختلفا في التعدّي، وحمل الطلب والسّرق على العمل. " وقد جاء المصدر على نحو الشّرب والشغل، وعلى فعل، كقولنا: قال قيلا. وقالوا: سخطه سخطا، شبهه بالغضب حين اتفق البناء ". يعني أن سخط مصدر فعل يتعدى (وقد شبه بالغضب، وهو مصدر فعل لا يتعدى) لاتفاقهما في وزن الفعل، وفي المعنى. قال: " وبذلك ساخط وسخطته على أنه مدخل في باب الأعمال التي ترى وتصنع " (قال أبو سعيد): في غير هذه النسخة ترى وتسمع. " وهي موقعة بغيرها ". يعني بالأعمال التي ترى الأعمال المتعدية، لأن فيها علاجا من الذي يوقعه للذي يوقع به، فتشاهد وترى، فجعل سخطه مدخلا في التعدي، كأنه بمنزلة ما يرى. وقولهم ساخط دليل على ذلك، لأنهم لا يقولون غاضب. ومعنى الغضب والسخط واحد، فجعلوا الغضب بمنزلة فعل تتغير به ذات الشيء، والسخط بمنزلة فعل عولج إيقاعه بغير فاعله. " وقالوا: وددته ودا، مثل شربته شربا، وقالوا: ذكره ذكرا لحفظه حفظا " قال سيبويه: " وقد جاء شيء من هذا المتعدي على فعيل. قالوا: ضريب قداح للذي يضرب بالقداح، وصريم للصارم، وقال طريف بن تميم العنبري: أو كلما ورّدت عكاظ قبيلة … بعثوا إلى عريفهم يتوسم (¬1) يريد عارفهم ". والباب في ذلك أن يكون بناؤه على فاعل كضارب وقاتل، وما أشبه ذلك. ويجوز أن يكون قالوا: ضريب قداح فرقا بينه وبين من يضرب في معنى آخر، وبين الصريم في القطيعة وبين من يصرم في معنى سواه، وبين العريف الذي يتعرف الأنساب ¬

_ (¬1) الشاهد فيه بناء (عارف) على (عريف) لمعنى المبالغة في الوصف بالمعرفة، البيت في الأصمعيات ص: 127، وفي شرح محمد بن حبيب لديوان جرير: 1/ 436.

وبين العارف بشيء سواه. " وقد جاء المصدر على فعال، قالوا: كذبته كذابا، وكتبته كتابا، وحجبته حجابا " قال الشاعر: فصدقته وكذبته … والمرء ينفعه كذابه (¬1) " وقالوا: كتبته كتبا على القياس، وقالوا: سقتها سياقا، ونكحتها نكاحا، وسفدها سفادا. وقالوا: قرعها قرعا. وقد جاء على فعلان، قالوا: حرمه يحرمه حرمانا، ووجد الشيء يجده وجدانا " بمعنى أصابه. " ويقال: أتيته آتيه إتيانا، وقالوا: أتيا على القياس " قال الشاعر: إني وأتيي ابن غلاق ليقريني … كغابط الكلب يبغي الطرق في الذنب (¬2) " ولقيته لقيانا وعرفته عرفانا ورئمته رئمانا " إذا ألفه وعطف عليه. " وحسبه حسبانا، ورضيه رضوانا، وغشيه غشيانا. وقد جاء على فعال، كما جاء على فعول، كقولك: سمعته سماعا، مثل لزمته لزوما، وعلى فعلان، نحو: الشكران والغفران ". وقد قيل: الكفران، قال اله عز وجل: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ (¬3). " وقالوا: الشكور، كما قالوا: الجحود، وقالوا: الكفر كالشغل، وقالوا: سألته سؤالا فجاءوا به على فعال، كما جاءوا به على فعال. وجاء على فعالة، كقولك: نكيت في العدو نكاية، وحميته حماية. وقالوا: حميا على القياس. وقالوا: حميت المريض حمية، كما قالوا: نشدته نشدة، فهذا على فعلة، وقد جاء على فعلة، كقولهم: رحمته رحمة " وليس يراد به مرة واحدة. وكذلك لقيته لقيه، ونظيرها: خلته خيله " يريد نظيرها في المصدر لا في الوزن. وقالوا: نصح نصاحة، فأدخلوا الهاء، وقالوا: غلب غلبة، كما قالوا: نهمة، وقالوا: الغلب، كما قالوا: السرق. وقالوا ضربها الفحل ضرابا، كالنكاح، والقياس (ضربا، ولا يقولونه، كما لا يقولون نكحا، وهو القياس). وقالوا: دفعها دفعا ¬

_ (¬1) قائله الأعشى انظر المبرد في الكامل: 2/ 210، والمخصص: 14/ 128، واللسان: (صدق) ولم يوجد في ديوانه. (¬2) إصلاح المنطق: 239، واللسان (أتى)، والمخصص: 14/ 133. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 94.

كالقرع، وذقطها ذقطا، وهو النكاح، ونحوه من باب المباضعة. وقالوا: سرقة، كما قالوا: فطنة. وقالوا: لويته حقه ليانا على فعلان " قال أبو سعيد: ذكر بعض أصحابنا، وهو عندي جيد، أن ليانا أصله ليانا، لأنه ليس في المصادر فعلان، وإنما يجئ على فعلان وفعلان كثيرا، كالوجدان والإتيان والعرفان، فكأن أصله ليّان أو ليّان، فاستثقلوا الكسرة والضمة مع الياء المشددة، ففتحوا استثقالا. وقد ذكر أبو زيد في كتابه (عن بعض العرب) لويته ليانا بالكسر، وهذا من أوضح الدلائل على ما ذكرنا. " وقالوا: رحمته رحمة كالغلبة ". وجميع ما ذكره سيبويه إلى هذا الموضع في الأفعال الخمسة وقال: " وأما كل عمل لم يتعد إلى منصوب فإنه يكون فعله على ما ذكرنا في الذي يتعدى، ويكون الاسم فاعلا، والمصدر يكون فعولا، وذلك نحو: قعد قعودا وهو قاعد، وجلس جلوسا وهو جالس، وسكت سكوتا وهو ساكت، وثبت ثبوتا وهو ثابت، وذهب ذهوبا وهو ذاهب. وقالوا: الذّهاب والثّبات، فبنوه على فعال كما بنوه على فعول، والفعول فيه أكثر. وقالوا: ركن يركن ركونا وهو راكن. وقالوا في بعض مصادر هذا، فجاءوا به على فعل، كما جاءوا ببعض مصادر الأول على فعول، وذلك قولك: سكت يسكت سكتا، وهدأ الليل يهدأ هدءا، وعجز عجزا، وحرد يحرد حردا وهو حارد، وقولهم: فاعل يدلك على أنهم جعلوه من هذا الباب. أراد سيبويه أنهم حملوا مصادر ما لا يتعدى على ما يتعدى في قولهم: عجزا وسكتا، والباب فيه الفعول، كما حملوا ما يتعدى، حيث قالوا: لزم لزوما، وجحد جحودا والباب فيه لزما وجحدا، على ما لا يتعدى، وقوى حملهم ذلك على ما يتعدى أنهم قالوا: حارد، وكأن القياس في مثله أن يقال: حرد حردا فهو حردان، كما قالوا: غضب غضبا فهو غضبان، فأخرجوه عن باب غضبان: تخفيف الحرد، وبقولهم حارد، ومعنى قول سيبويه: " فإنه يكون فعله على ما ذكرنا في الذي يتعدى "، ويريد من باب فعل يفعل، كقولنا: قعد يقعد، وفعل يفعل، كقولنا: جلس يجلس، وفعل يفعل، كقولنا: حرد يحرد، فهذه الأفعال لها نظائر فيما يتعدى، ويجيء فيما لا يتعدى بناء ينفرد كقولنا: ظرف يظرف، وكرم يكرم. وستقف على ذلك إن شاء الله.

قال سيبويه: " وقالوا: لبث لبثا، فجعلوه بمنزلة عمل عملا، وقولهم: لابث يدلك على أنه من هذا الباب. وقالوا: مكث يمكث مكوثا، كما قالوا: قعد يقعد قعودا، وقال بعضهم: مكث، شبهوه بظرف، لأنه فعل لا يتعدى، كما أن هذا فعل لا يتعدى. وقالوا: المكث كالشّغل والقبح، لأن بناء الفعل واحد " في مكث يمكث وقبح ويقبح. " وقال بعض العرب: مجن يمجن مجنا كالشغل " فيما يتعدى ". " وقالوا: فسق فسقا، كما قالوا: فعل فعلا " مما يتعدى. " وحلف حلفا، كما قالوا: سرق سرقا " فيما يتعدى. قال: " وأما دخلته دخولا، وولجته ولوجا، فإنما هو دلجت فيه ودخلت فيه، ولكنه ألقى فيه استخفافا، كما قالوا: نبئت زيدا، وإنما تريد نبئت عن زيد " وقد مضى الكلام في أول الكتاب فيما قاله سيبويه إن دخلت في الأصل غير متعد، وما خالفه فيه الجرمي من تعديه بما أغنى عن إعادته. قال: " ومثل الحارد والحرد: حميت الشمس تحمى حميا، وهي حامية " قال الشاعر: تفور علينا قدرهم فنديمها … ونفثؤها عنا إذا حميها غلا (¬1) وقالوا: لعب يلعب لعبا، وضحك يضحك ضحكا، كما قالوا: الحلف. وقالوا: حجّ حجّا، كما قالوا: ذكر ذكرا. وقد جاء بعضه على فعال، كما جاء على فعال وفعول قالوا: نعس نعاسا، وعطش عطاشا، ومزج مزاجا. قال أبو سعيد: وقد يجيء الفعال والفعالة والفعال والفعالة في أشياء تكثر فيها وتكون أبوابا لها، وكذلك الفعيل. وأما الفعال فقد كثر في الأصوات، وصار الباب لها، ويتلوه في ذلك الفعيل، تقول: الصراح والنباح والبعار والبغام والحصاض والخّباج، وهما الضراط، والرغاء والدعاء والعواء والمكاء. وفي فعيل صهيل وزئير وطنين وصريف، وهو صوت احتكاك الأسنان ونزيب: صوت الظباء، ونئيب التيس، والضجيج والنئيم والنهيت، وهو كثير. ¬

_ (¬1) قاله النابغة الجعدي ديوانه: 118. الشاهد في قوله (حميها) حيث جاء المصدر وهو قوله (حمي) على فعل للفعل (حمي) على القياس.

ومما اجتمع فيه فعيل وفعال شحيج البغل وشحاجه، ونهيق الحمار ونهاقه وسحيله وسحاله، ونبيح ونباح، وضغيب، الأرنب وضغابها، وأنين وأنان وزحير وزحار، وفعيل وفعال أختان، كما اتفقا في النعت، كقولك: طويل وطوال، وخفيف وخفاف، وعجيب وعجاب. ويكثر فعال في الأدواء، كقولنا: السكات والبوال والدّوار والعطاس والسهام، وهو تغير من حر وشمس، والنحاز والسعال مثله، والنفاض: داء ينتفض منه، والقياء: القيء، والصراع والصداع والقّلاب. وقال الأصمعي: وقع في الإبل السواف، وهو الهلاك والموت. وقال أبو عمرو الشيباني: السواف، بفتح السين، فأنكر الأصمعي وغيره ما قاله أبو عمرو. وقال: الباب في الأدواء بالضم، فقال أبو عمرو: هكذا سمعته. ويقوى ما قاله أبو عمرو أن سيبويه قال بعد أسطر: " كما أنك قد تجيء ببعض ما يكون من داء على فعال، وبابه فعال ". فيمكن أن يكون السواف منه. وقالوا: سمع الله غواثه وغواثه، وهو استغاثته، والباب فيه غواث، لأن من الصوت. ويجوز عندي أن يكون فتحهم لذلك استثقالا للضم الذي بعده الواو. " ويجيء فعال فيما كان نحو: الدقاق والحطام والجذاذ والفضاض والفتات والرّفات " وهو مصدر واقع على مفعول. " وتجيء الفعالة فيما كان فاضلا عن الشيء إذا أخذ منه نحو: الفضالة والقوارة والقراضة والتّفاغة والنقاوة والحسالة والحثالة والحشافة والكساحة والجرامة، وهي ما يصرم من النخل وقت الفراغ منه، ومثله الظلامة والخباسة وهي الغنيمة، " والعمالة " وهي مشبهة بالفضالات. وقد يجيء الفعال فيما كان هياجا من ذكر أو أنثى، فالذكر نحو الهباب، والقراع والضراب والنكاح، والأنثى نحو: الصراف والحرام والوداق وذلك شهوتها للذكر. ومما قارب ذلك المعنى: الفرار والسراد والشماس والطماح والضراح إذا ضرحت برجلها ورمحت " وذلك كله يشبه باب الهياج؛ لأنه تحرك وخروج عن الاعتدال " ومثله الخلاء " والحران "، لأنه يشبه ذلك بالممانعة والتباعد مما يرى منه. وقد يجيء فعال في الأصوات، وليس بكثرة فعال وفعيل، كالذمار والعرار، وهما من أصوات النعام. وقالوا: الهتاف والهتاف، والصياح والصياح. " ويجيء فعال في انتهاء الزمان، ويدخل عليه فعال، كقولهم: الصرام والصرام،

والجزاز والجزاز، والقطاع والقطاع، والحصاد والحصاد " والرفاع والرفاع، وهو أن يرفع الزرع ليجمع في بيدره. وقال الكسائي: ما سمعت فيه الكسر. وقال الأموي: الكناز بالفتح. وقالوا: القطاف والقطاف. " وتجيء الفعالة فيما كان ولاية أو صناعة، فالولاية نحو: الخلافة والإمارة والنكابة " من المنكب، والمنكب الذي في يده اثنتا عشرة عرافة. " والعرافة والإبالة، وهي السياسة، ومثلها العياسة، وقد قالوا: العوس فخرج عن القياس كما خرج غواث وسواف عن القياس، والباب فيه الفعال. " وقالوا في الصناعة: القصابة والحياكة والخياطة والنجارة ". وفتحوا الأول في بعض ذلك، قالوا: الوكالة والوكالة، والجراية والجراية وهي الوكالة، والولاية والولاية، والدلالة والدلالة " ويجيء في المصادر فعلة على معنى الإنابة عن الكيفية، كقولهم: فلان حسن الجلسة والركبة. ويدخل فيه الكظة والبطنة والملأة، والكظة امتلاء من الطعام. وقد دخل كلام سيبويه فيما ذكرته بما أغنى عن سياقه. قال سيبويه: " وأما الوسم فيجيء على فعال نحو: الخباط والعلاط والعراض والجناب والكشاح، فالأثر يكون على فعال، والعمل يكون فعلا، كقولك: وسمت وسما، وخبطت البعير خبطا، وكشحته كشحا. وأما المشط والدلو والخطاف " يعني في السمات، " فأنما أرادوا صورة هذه الأشياء أنها وسمت به، فكأنه قال: عليه صورة الدلو، ومعنى الخباط في السمة الأثر على الوجه، والعلاط والعراض على العنق، والجناب على الجنب، والكشاح على الكشح. وجاء بعض السمات على غير الفعال، نحو: القرمة والجرف، اكتفوا بالعمل، يعني المصدر، والفعلة فأوقعوها على الأثر ". والجرف أن يقلع شيء من الجلد بحديد، والقرمة أن يقطع شيء من الجلد يكون معلقا عليه. قال: " ومن المصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت المعاني قولك: النزوان والنقزان والقفزان، وإنما جاءت هذه الأشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع " قال أبو سعيد: باب الفعلان مصدرا فيما كان يضطرب، ولا يجيء في غير ذلك. " ومثله العسلان والرتكان " وهما ضربان من العدو.

" وربما جاء ما كان فيه اضطراب على غير الفعلان، نحو: النزاء والقماص كما جاء عليه الصوت، نحو: الصراخ والنباح، لأن الصوت قد تكلف فيه من نفسه ما تكلف من نفسه في النزوان ونحوه. وقالوا: النزو والنقز، كما قالوا: السكت والفقر والعجز، لأن بناء الفعل واحد لا يتعدى، كما لا يتعدى هذا. ومثل ذلك الغليان والغثيان؛ لأن النفس تضطرب وتثور، وكذلك الخطران واللمعان، لأنه اضطراب وتحرك، واللهبان والصخدان والوهجان، لأنه تحرك الحر وثورة، فهو بمنزلة الغليان. وقالوا: وجب قلبه وجيبا ورجف رجيفا، ورسم البعير رسيما "، وهو ضرب من السير. " فجاء على فعيل، كما جاء على فعال " يعني النزاء والقماص. " وكما جاء فعيل في الصوت مجيء فعال، كالهدير والضجيج والقليخ والصهيل والنهيق والشحيج، قالوا: قلخ البعير يقلخ قليخا وهو الهدير " قال سيبويه: " وأكثر ما يكون الفعلان في هذا الضرب، ولا يجيء فعله يتعدى الفاعل إلا أن يشذ شيء منه، نحو: شنئته شنآنا ". ولا نعلم فعلا يتعدى، مصدره فعلان غير شنئته شنآنا. " وقالوا: الّلمع والخطف، كما قالوا: الهدر، فما جاء منه على فعل فهو الأصل، وقد جاءوا بالفعلان في أشياء تقاربت في اشتراكها في الاضطراب والحركة كالطوفان والدوران والجولان تشبيها بالغليان والغثيان، لأن الغليان تقلب ما في القدر وتصرفه. وقد قالوا: الجول والغلي. وقالوا: الحيدان والميلان، فأدخلوا الفعلان في هذا كما أن ما ذكرنا من المصادر قد دخل بعضها على بعض وهذه الأشياء لا تضبط بقياس ولا بأمر أحكم من هذا، وهكذا مأخذ الخليل " يعني أن الحيدان والميلان شاذ خارج عن قياس فعلان، كما يخرج بعض المصادر عن بابه. قال أبو سعيد: وقد يجوز عندي أن يكون على الباب؛ لأن الحيدان والميلان إنما هما أخذ في جهة ما عادلة عن جهة أخرى، فهما بمنزلة الروغان، وهو عدو في جهة الميل. وقال بعضهم: لأن الحيدان والميلان ليس فيهما زعزعة شديدة، وما ذكر فيه زعزعة شديدة، فلذلك قال ما قال. " وقالوا: وثب وثبا ووثوبا، كما قالوا: هدأ هدءا وهدوءا، ورقص رقصا كما قالوا: طلب طلبا، ومثله خبّ يخبّ خبا، وقالوا: خبيبا، كما قالوا: الذميل والصهيل. وقد جاء

هذا باب ما جاء من الأدواء على مثال وجع يوجع وجعا وهو وجع لتقارب المعاني

من الصوت شيء على فعلة، نحو: الرّزمة، والجلبة والحدمة والوحاة. وقالوا: الطيران كما قالوا: النزوان، وقالوا: نفيان المطر، شبهوه بالطيران؛ لأنه ينفي بجناحيه، والسحاب تنفيه أول شيء رشا أو بردا، ونفيان الريح أيضا التراب، وتنفي المطر تصرفه كما يصرف التراب. ومما جاءت مصادره على مثال لتقارب المعاني قولك: يئست يأسا ويآسة، وسئمت سأما وسآمة، وزهدت زهدا وزهادة، وإنما جملة هذا لترك الشيء وجاءت الأسماء (على فاعل)، لأنها جعلت من باب شربت وركبت ". قوله: " لأنها جعلت من باب شربت وركبت " ينبغي أن يكون ذكر شربت لأنه عمل، كما أن زهدت عمل، ويجوز أن يكون شربت على معنى رويت، لأن رويت انتهاء وترك كسئمت. " وقالوا: زهد، كما قالوا: ذهب. وقالوا: الزهد، كما قالوا: المكث. وقد جاء أيضا ما كان من الترك والانتهاء على فعل يفعل فعلا، وجاء الاسم على فعل، وذلك أجم يأجم أجما وهو أجم " إذا بشم من الشيء وكرهه. " وسنق يسنق سنقا وهو سنق " كبشم، " وغرض يغرض غرضا وهو غرض. وجاءوا بضد الزهد والغرض على بناء الغرض، وذلك هوي يهوى هوى وهو هو. وقالوا: قنع يقنع قناعة، كما قالوا: زهد يزهد زهاده، وقالوا: قانع، كما قالوا زاهد، وقنع كما قالوا: غرض، لأن الفعل واحد، وأنه ضد وترك للشيء، ومثل هذا في التقارب بطن يبطن بطنا وهو بطين، وبطن، وتبن تبنا وهو تبن، وثمل يثمل ثملا وهو ثمل، وقالوا: طبن طبنا وهو طبن ". قال أبو سعيد: قال بعض أصحابنا: زيدت الياء في بطين للزوم الكسرة لهذا الباب، يعني لفعل، فيصير بمنزلة المريض والسقيم وما أشبه ذلك. وقال: هذه الأشياء إنما هي خلق كالأشر والفرح وهو لما يقع في الجسم. ومعنى تبن فطن، أي ذلك من طبعه (ومن سوسه)، وقال بعضهم: تبن بطنه إذا انتفخ. هذا باب ما جاء من الأدواء على مثال وجع يوجع وجعا وهو وجع لتقارب المعاني قال سيبويه: " وذلك حبط يحبط حبطا، وحبج يحبج حبجا " وهو انتفاخ البطن. " وقد يجيء الاسم فعيلا، نحو: مرض يمرض مرضا، وهو مريض، وسقم يسقم سقما وهو سقيم. وبعض العرب يقول: سقم، كما قالوا: كرم كرما وهو كريم، وعسر

عسرا وهو عسير، وقد قالوا: عسر، وقالوا: السقم، كما قالوا: الحزن. وقالوا: حزن يحزن حزنا وهو حزين، جعلوه بمنزلة المرض لأنه داء. وقالوا مثل وجع يوجع: وجل يوجل وجلا وهو وجل، وردى يردى ردى وهو رد " ومعناه هلك. " ولوى يلوى لوى وهو لو " من وجع الجوف، " ووجي يوجى وجى " وهو الحفاء ورقة أسفل الرّجل من المشي، " وعمي قلبه يعمى عمّى وهو عم "، لأنه كالداء والمرض. والعرب تقول: عميت عينه تعمى عمى فهو أعمى، وعمي قلبه يعمى عمى فهو عم، ففصلوا بينهما في اسم الفاعل للفرق. " وقالوا: فزع فزعا وهو فزع، وفرق فرقا وهو فرق، ووجل وجلا وهو وجل ووجر وجرا وهو وجر " ومعناه وجل. " أجروا الذعر والخوف مجرى الداء لأنه بلاء، وقالوا: أوجر، فأدخلوا الفعل هاهنا على فعل لأنهما قد يجتمعان، كقولك: شعث وأشعث، وحدب وأحدب، وكدر وأكدر، وحمق وأحمق، وقعس وأقعس ". وهو ضد الأحدب في خروج صدره، والأحدب: الذي يخرج ظهره. " فأفعل دخل في هذا الباب كما دخل فعل في أخش وأكدر، وكما دخل فعل في باب فعلان. يريد أن باب الأدواء يجيء على فعل يفعل فهو فعل فإذا استعمل فيه أفعل فقد دخل في غير بابه، وباب الخلق والألوان أفعل، فإذا دخل فيه فعل فقد دخل في غير بابه، فأخش من الخلق، وأكدر من الألوان، فإذا استعمل فيهما خشن وكدر فقد دخل عليهما فعل من غير بابهما. ومثل ذلك في باب العطش والجوع والرّى، ونحو ذلك فعلان، كقولك: عطشان وصديان ورجلان، وقد قالوا: صد وعطش ورجل. قال: " واعلم أن فرقته وفزعته إنما معناهما فرقت منه، ولكن حذفوا منه، كما قالوا: أمرتك الخير وإنما يريدون أمرتك بالخير " يريد أن الباب في فعل يفعل وهو فعل أن لا يتعدى، وإنما فرقته وفزعته على حذف حرف الجر، كما قالوا: أمرتك الخير بمعنى أمرتك بالخير. وقالوا: خشي فهو خاش، كما قالوا: رحم وهو راحم، فلم يجيئوا باللفظ كلفظ ما معناه كمعناه، ولكن جاءوا بالمصدر والاسم على ما بناء فعله كبناء فعله. قال أبو سعيد: اعلم أن فعل يفعل إذا كان اسم الفاعل منه على فاعل، فهو يجري

مجرى ما يتعدى، وإن كان لا يتعدى، كقولك: سخط يسخط وهو ساخط، وخشي يخشى وهو خاش، وكان الأصل سخط منه، كما تقول: غضب منه، وخشي منه، كما تقول: وجل منه، فجعلوا خشي وهو خاش كقولهم: رحم وهو راحم، ولا يقدر في رحم حرف من حروف الجر، ومعنى قول سيبويه: " فلم يجيئوا باللفظ كلفظ ما معناه كمعناه "، يريد، لم يقولوا: خش، كما قالوا: فرق ووجل. وقوله: " ولكن جاءوا بالمصدر والاسم على ما بناء فعله كبناء فعله " يعني بالمصدر الخشية، والاسم يعني الخاشي. فالخشية بمنزلة الرحمة في وزنها، والخاشي كالراحم في وزنه، وبناء خشي يخشى كبناء رحم يرحم، وهو ضده. وقد يحمل الضد في اللفظ على ما يضاده لتلبسهما بحيز واحد وإن كانا يتنافيان في ذلك الحّيز، كالألوان المتضادة والروائح والطعوم المتضادات. قال سيبويه: " وجاءوا بضد ما ذكرنا على بنائه " قال: " وقالوا: أشر يأشر أشرا وهو أشر، وبطر يبطر بطرا وهو بطر، وفرح يفرح فرحا وهو فرح، وجذل يجذل جذلا وهو جذل " بمعنى فرح. " وقالوا: جذلان وجذل، كما قالوا: سكران وسكر، وكسلان وكسل، وقالوا: نشط ينشط وهو نشيط، كما قالوا: الحزين، وقالوا: النشاط، كما قالوا: السقام، (وجعلوا السّقام) والسقيم كالجمال والجميل. وقالوا: سهك يسهك سهكا وهو سهك، وقنم يقنم قنما وهو قنم، جعلوه كالداء لأنه عيب. وقالوا: قنمة وسهكة ". والقنمة الرائحة المنكرة، ويروى أن بعض الأعراب كان تؤخذ عنه العربية بالبصرة، وكان أهل العلم يتبعونه ليأخذوا ألفاظه، وكانت به لوثة وضعف في عقله وتقزز فصعد يوما على تل من السّماد، وبسط شيئا معه عليه، وجلس وهم حوله، فارتفعت رائحة منتنة، فتأفف من الرائحة وقال: ما هذه القنمة، والله لكأننا على حششة فقال له أبو الخطاب الأخفش: أنك منها على ثبج عظيم. " وقالوا: عقرت عقرا، كما قالوا: سقمت سقما. وقالوا: عاقر، كما قالوا: ماكث " قال أبو سعيد: وليس الباب فيما كان على فعل يفعل أن يجئ على فاعل، فإذا جاء شيء منه على فاعل فهو محمول على غيره، وهو قليل، كقولهم: فره العبد يفره فهو فاره، وعقر فهو عاقر.

قال سيبويه: " وقالوا: خمط خمطا، وهو خمط في ضد القنم "، والخمط رائحة طيبة. قال: " (وقد جاء) على فعل يفعل وهو فعل أشياء تقاربت معانيها، لأن جملتها هيج، وذلك قولك: أرج يأرج أرجا وهو أرج، وإنما أراد تحرك الريح وسطوعها، وحمس يحمس حمسا، وهو حمس، وذلك حين يهيج ويغضب ". والحمس الذي يغضب للقتال، وهو الشديد الشجاع. وقالوا: أحمس، كما قالوا: أوجر، وصار أفعل هاهنا بمنزلة فعلان وغضبان، وقد يدخل أفعل على فعلان، كما دخل فعل عليهما، فلا يفارقهما في بناء الفعل، ويشبه فعلان بمؤنث أفعل، وقد بينا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف ". يريد أن دخول أفعل على فعلان لاجتماعهما في بناء الفعل والمصدر في مواضع كثيرة منها: غضب يغضب غضبا وهو غضبان، كما تقول: عور يعور عورا وهو أعور، فقد اجتمعا في بناء الفعل والمصدر، ولأن فعلان يشبه فعلاء، وفعلاء مؤنث أفعل. قال: " وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: رجل أهيم وهيمان، وهم يريدون شيئا واحدا، وهو العطشان. وقالوا: سلس يسلس سلسا وهو سلس، وقلق يقلق قلقا وهو قلق، ونزق ينزق نزقا وهو نزق، جعلوا هذا حيث كان خفة وتحركا مثل الحمس والأرج، ومثله غلق يغلق غلقا لأنه طيش وخفة " والغلق الذي يطيش حتى تذهب حجته. وقد بنوا أشياء على فعل يفعل فعلا وهو فعل لتقاربها في المعنى، وذلك ما تعذر عليك ولم يسهل، كقولك: عسر يعسر عسرا، وشكس يشكس شكسا " وهو شكس)، وقالوا: الشكاسة، كما قالوا: السّقامة، وقالوا: لقس يلقس لقسا، وهو لقس، ولحز يلحز لحزا، وهو لحز، فلما صارت هذه الأشياء مكروهة عندهم صارت بمنزلة الأوجاع ". واللقس: سوء الخلق، واللّحز: الضيّق والشّح. وصار بمنزلة ما رموا به من الأدواء. وقد قالوا: عسر الأمر فهو عسير، كما قالوا: سقم فهو سقيم. وقالوا: نكد ينكد نكدا وهو نكد، وقالوا: أنكد كما قالوا: أجرب وجرب. وقالوا: لحج يلحج لحجا وهو لحج، لأن معناه قريب من معنى السّقم، لحج في الشيء إذا نشب فيه ولم يمكنه التخلص منه إلّا بشدة.

هذا باب فعلان ومصدره وفعله

هذا باب فعلان ومصدره وفعله قال سيبويه: " أما ما كان من الجوع والعطش فإنه أكثر ما يبنى في الأسماء على فعلان، ويكون المصدر على الفعل، ويكون الفعل على فعل يفعل، وذلك ظمئ يظمأ ظمأ وهو ظمآن، وعطش يعطش عطشا وهو عطشان، وصدي يصدى صدى وهو صديان. وقالوا: الظماءة، كما قالوا: السقامة، لأن المعنيين قريب، كلاهما ضرر على النفس وأذى، وغرث يغرث غرثا، وهو غرثان، وعله يعله علها وهو علهان، وهو شدة الغرث والحرص على الأكل، وتقول: عله، كما تقول: عجل، ومعناه قريب من وجع. وقالوا: طوى يطوي طوى وهو طيّان " ومعناه الجوع، قال عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظله … حتى أنال به لذيذ المأكل (¬1) وبعض العرب يقول: الطوى، فيبينه على فعل، لأن زنة فعل وفعل شيء واحد، وليس بينهما إلا كسرة الأول وفتحة، وضد ما ذكرنا يجيء على ما ذكرنا " يعني ضد الجوع، " وهو قولهم: شبع شبعا وهو شبعان، كسروا الشبع، كما قالوا: الطوى، وشبهوه بالكبر والسمن حيث كان بناء الفعل واحدا. وقالوا: روي يروي ريا وهو ريان، فأدخلوا الفعل في هذه المصادر، كما أدخلوا الفعل فيها حين قالوا السكر ". يعني الري، وزنه فعل، ودخل في هذا الباب وليس بمصادر فيه، ولقائل أن يقول: هو فعل، وكسر من أجل الياء، كما قالوا: قرن ألوى، وقرون لي وليّ. وفي السكر ثلاث لغات: السكر والسكر، وحكى عن الأخفش، السكر. قال سيبويه: " ومثله خزيان، والمصدر الخزي، وقالوا: الخزى في المصدر، كالعطش اتفقت المصادر كاتفاق بناء الفعل والاسم ". يعني في الخزي والرّي كاتفاق خزي يخزي، وهو خزيان، وروى ريا وهو ريان. قال: " وقد جاء من هذا على باب خرج يخرج، قال: سغب يسغب سغبا وهو ساغب، كما قالوا: سفل يسفل سّفلا وهو سافل، ومثله جاع يجوع جوعا وهو جائع، وناع ينوع نوعا وهو نائع ". (وقال بعضهم: النائع المتألم من الجوع)، وقال بعضهم: هو المائل من الجوع، ¬

_ (¬1) انظر الديوان ص: 249، المخصص: 14/ 142، واللسان (ظل).

وقال بعضهم: إتّباع للجائع، ونوعا اتباع لجوعا. وقال بعضهم: النائع العطشان، قال الشاعر: لعمر بنى شهاب ما أقاموا … صدور الخيل والأسل النياعا (¬1) " وقالوا: جوعان، فأدخلوها هاهنا على فاعل، لأن معناها معنى غرثان " قال الشاعر: لو أنني جاءني جوعان مهتلك … من جوع الناس عنه الخير محجوز (¬2) فجاء بجوعان، وبجوع، وهو جمع جائع. " وقالوا من العطش أيضا: هام يهيم هيما وهو هائم، وقالوا: هيمانّ لأن معناه: عطشان. ومثل هذا قولهم: ساغب وسغاب، وجائع وجياع، وهائم وهيام، لما كان المعنى معنى فراث وعطاش، بني على فعال، كما أدخل قوم عليه فعلان، إذ كان المعنى معنى فراث. وقالوا: سكر يسكر سكرا. وقال أبو الحسن: فيها ثلاث لغات، وقدموا ذلك. " وقالوا: سكران، لما كان من الامتلاء جعلوه بمنزلة شبعان، ومثل ذلك ملآن. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: ملئت من الطعام، كما قالوا: شبعت وسكرت. وقالوا: قدح نصفان وجمجمه نصفى " وهي أيضا قدح. " وقدح: قربان، وجمجمة قربى " إذا قارب الامتلاء " جعلوا ذلك بمنزلة الملآن، لأن ذلك معناه معنى الامتلاء، لأن النّصف قد امتلأ والقربان ممتلئ أيضا إلى حيث بلغ، ولم نسمعهم قالوا قرب ولا نصف، اكتفوا بقارب ونصف، ولكنهم جاءوا به، كأنهم يقولون: قرب ونصف، كما قالوا: مذاكير، ولم يقولوا: مذكير ولا مذكار، وكما قالوا: أعزل وعزل، ولم يقولوا: أعازل " قال أبو سعيد: اعلم أن أعزل، وإن كان على لفظ أحمر، فلم يذهب به مذهب أحمر، لأنه لا مؤنث له، ذهبوا به مذهب الأسماء كأفكل وأيدع، ولم يجمعوه كجمع الأسماء في ¬

_ (¬1) نسبه ابن سيدة في المخصص: 14/ 35، وصاحب اللسان (نوع) للقطامي ولم نجده في ديوانه ونسبه ابن بري لدريد بن الصمة، والشاهد في قوله (النياعا) جمع (نائع) وهو العطشان. (¬2) قائله المتنخل الهذلي انظر ديوان الهذليين: 2/ 15 وشرح المفصل: 10/ 135، وشرح شواهد الشافية: 489، واللسان (هلك). الشاهد في قوله (جوعان) على أنه بمعنى (جائع) حيث أدخل (فعلان) على (فاعل) لأن معناهما واحد.

هذا الوزن، لم يقولوا: أعازل، كما قالوا: أفاكل، وقالوا: عزل، كأنهم قد روا أعزل وعزلاء مثل أحمر وحمراء، وأن لم يستعملوه، كما قالوا في جمع ذكر مذاكير على تقدير أن الواحد مذكار أو مذكير، وإن لم يستعملوه. وقالوا: عزّل على أن الواحد عازل، وأن لم يستعملوه، قال الأعشى: غير ميل ولا عواوير في ال … هيجا ولا عزل ولا أكفال " وقالوا: رجل شهوان وامرأة شهوى، لأنه بمنزلة الغرثان والغرثى، وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: شهيت شهوة، فجاءوا بالمصدر على فعلة، كما قالوا: حرت تحار حيرة وهو حيران. وقد جاء فعلان وفعلى في غير هذا الباب، قالوا: خزيان وخزيا. وروى أبو الحسن رجلان رجلى " ومعناه الراجل. وقالوا: عجلان وعجلى، وقد دخل في هذا الباب فاعل، كما دخل فعل فشبهوه بسخط يسخط سخطا وهو ساخط، كما شبهوا فعل بفزع وهو فزع " يعني أنهم قالوا: " نادم وراجل وصاد "، كما قالوا: صد وعطش. وقالوا: غضب يغضب غضبا وهو غضبان وغضبى، لأن الغضب يكون في جوفه كما يكون فيه العطش. وقالوا: ملآنة شبهوها بخمصانة وندمانة ". وقال غيره: إن فعلان الذي أنثاه فعلى بنو أسد يدخلون الهاء في مؤنثه، ويخرجونها من المذكر، فيقولون: ملآنة وملآن، وسكرانة وسكران، كما قالوا: خمصانة وندمانة، وللمذكر خمصان وندمان، ويلزم على لغة هؤلاء أن يصرفوا ملآنا وغضبانا. " وقالوا: ثكل يثكل ثكلا وهو ثكلان بالأنثى ثكلى، ومثله لهفان ولهفى، وقالوا: لهف يلهف لهفا. وقالوا حزنان وحزنى، لأنه غم في جوفه، وهو كالثكل، لأن الثكل من الحزن ". قال أبو سعيد: ورأيت في نسخة أبي بكر مبرمان بخطه في الحاشية في نسخة أبي العباس جربان وجربى، وفي العمود بهذا الهجاء ما عليه نقط الخاء والزاي كأنه خزيان وخزيا. قال: " والندمان مثله وندمى ". قال أبو العباس: ندمان الذي من الندامة على الشيء، المؤنث منه ندمى، ولا يقال: ندمانة، إنما ندمان وندمانة لباب المنادمة. " وأما جربان وجربى فإنه لما كان بلاء أصيبوا به بنوه على هذا، كما بنوه على أفعل وفعلاء، نحو: أجرب وجرباء. وقالوا: عبرت تعبر عبرا (وهي عبرى) مثل ثكلى، والثّكل

هذا باب ما يبنى على أفعل

مثل السكر، والعبر مثل العطش، فقالوا: عبرى، كما قالوا: ثكلى. وأما ما كان من هذا من بنات الياء والواو التي هي عين فأنها تجيء على فعل يفعل معتلة لا على الأصل، وذلك عمت تعام عمة وهو عيمان وهي عيمانة، جعلوه كالعطش، وهو الذي يشتهي اللبن كما يشتهي ذلك الشراب، وجاءوا بالمصدر على فعلة، لأنه كان في الأصل على فعل، كما كان العطش ونحوه على فعل، ولكنهم أسكنوا الياء وأماتوها "، يعني أعلوها، " كما فعلوا في الفعّل، فكأن الهاء عوض من الحركة مثل: غرت تغار غيرة، وهو في المعنى كالغضبان، وقالوا: حرت تحار حيرة (وهو حيران)، وهي حيرى، وهو في المعنى كالسكران لأن كليهما مرتج عليه. هذا باب ما يبنى على أفعل قال سيبويه: " أما الألوان فإنها تبنى على أفعل، ويكون الفعل على فعل يفعل، والمصدر على فعلة أكثر، وربما جاء الفعل فعل يفعل، وذلك قولك: أدم يأدم أدمة، ومن العرب من يقول: أدم يأدم أدمة، وشهب يشهب شهبة، وقهب يقهب قهبة " وهو سواد يضرب إلى الحمرة، قال: والأقهبين: الفيل والجاموسا " وكهب يكهب كهبة، وقالوا: كهب يكهب كهبة " وهو غبرة وكدورة في اللون، " وشهب يشهب شهبة، وصدئ يصدأ صدأة، وقالوا: صدأ، كما قالوا: الغبس، والأغبس: البعير الذي يضرب إلى البياض، وقالوا: الغبسة، كما قالوا: الحمرة، وفي نسخة أخرى العيسة، وأصلها العيسة، فكسرت العين لتسلم الياء. " واعلم أنهم يبنون الفعل منه على أفعال، نحو: أشهاب وأدهام وأيدام. فهذا لا يكاد ينكسر في الألوان، وإن قلت فيها فعل يفعل، أو فعل يفعل. وقد يستغنى بأفعال عن فعل وفعل، وذلك نحو: أزراق وأخضار وأصفار وأحمار وأشراب وأبياض وأسواد وأسود وأبيض وأخضر وأحمر، وأصفر أكثر كلامهم، والأصل ذلك لأنه كثر فحذفوه " يعني الأصل أفعال وهو أحمار وأسواد، ثم خفف فقالوا: احمرّ وأسود والمخفف الذي ذكره أكثر في الكلام، وفعل فيما ذكره بعض أصحابنا مخفف عن أفعل، ويستدل على ذلك أنهم يقولون: عور وحول، فلا يعلون الواو؛ لأنه في معنى أعورّ وأحولّ، وهما لا يعتلان. والوجه عندي أنه لم يعل عور وحول لأنه في معنى فعل لا يعتل، لا أنه مخفف

منه، كما قالوا: اجتوروا، فلم يعلوه لأنه في معنى تجاوروا، وهذا يحكم في التصريف إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " وقالوا: الصهوبة، فشبهوا ذلك بأرعن والرعونة. وقالوا: البياض والسواد، كما قالوا: الصباح والمساء، لأنهما لونان بمنزلتهما، لأن المساء سواد، وقد جاء شيء من الألوان على فعل، قالوا: جون وورد ". والورد: الفرس الأصفر اللون، والجون: الأسود. " وجاءوا بمصدر على مصدر بناء أفعل، وذلك قولهم: الوردة والجونة " وإنما قالوا: ورد وجون على حذف الزوائد. قال سيبويه: " وقد جاء شيء منه على فعيل، وذلك: خصيف،. وقالوا: أخصف، وهو أقيس، والخصيف: الأسود ". وما كان من هذه المصادر على غير فعلة أو فعل فهو من الشاذ الذي لا يطرد وما كان من الأسماء على فعل أو فعيل أو بناء غير أفعل فهو من الشاذ أيضا الذي لا يطرد. قال: " وقد يأتي على أفعل، ويكون الفعل (منه على) فعل يفعل والمصدر فعل، كما كان داء أو عيبا، لأن العيب نحو الداء، ففعلوا ذلك كما قالوا: أجرب وأنكد، وذلك قولهم: عور يعور عورا، وأدر يأدر أدرا وهو آدر، وشتر يشتر شترا وهو أشتر، وحبن يحبن حبنا وهو أحبن " والأحبن: المنتفخ البطن من الاستسقاء. " وصلع يصلع صلعا وهو أصلع. وقالوا: رجل أجذم وأقطع، فكان هذا على جذم وقطع وإن لم يتكلم به " يريد أن الفعل من قولنا: أقطع وأجذم قطعت يده وجذمت، وكان القياس أن يقال مقطوعة ومجذومة، ولكنهم قالوا: أقطع وأجذم، على أن فعله قطع وجذم وإن لم يستعمل. وقد قالوا لموضع القطّع: القطعة، والجذمة والجذمة ". كما قالوا: النزعة، والنزعة " والصلّعة والصلعة للموضع. وقالوا: امرأة ستهاء، ورجل أسته، فجاءوا به على بناء ضده وهو قولهم أرسح ورسحاء، وأخرم وخرماء "، والأرسح ضد الأسته، لأن الأرسح الممسوح العجز، وكذلك الأزل والأرصع والأخرم

(المقطوع الأنف). وقالوا: أهضم وهضماء، والمصدر الهضم "، وهو عيب في الخيل، والأهضم: الذي ليس بمجفر الوسط، وهو صغر البطن، قال النابغة الجعدي: خيط على زفرة فتمّ ولم … يرجع إلى دغة ولا هضم وقالوا: أزبر وأغلب، والأغلب: العظيم الرقبة، والأزبر: العظيم الزبرة، والزبرة: موضع الكاهل، فجاءوا بهذا النحو على أفعل، كما جاء على أفعلّ ما يكرهون وقالوا: آذن وأذناء، كما قالوا: سكاء. والآذن: العظيم الأذن، والأسك: الصغير الأذن جدا. وقالوا: أخلق وأملس وأجرد "، والأخلق: الأملس، وخلقنه: ملسته. وقالوا: أخشن، وهو ضد الأملس، وقالوا: الخشنة، كما قالوا: الحمرة، والخشونة، كما قالوا: الصهوبة ". قال سيبويه: " واعلم أن مؤنث كل أفعل صفة فعلاء، وهي تجري في المصدر والفعل مجرى أفعل. وقالوا: مال يميل وهو مائل، وقالوا: أميل، فلم يجيئوا به على مال يميل " يريد أن باب أفعل ليس باب فعله أن يكون على فعل يفعل، وذلك أن أميل أفعل، وفعله مال يميل، وكان حقه أن يكون ميل يميل ميلا، وإنما حكى سيبويه مال يميل. ومثل هذا شاب يشيب فهو أشيب، وليس ذلك بالقياس. وقد حكى غير سيبويه: ميل يميل ميلا فهو أميل، كما قالوا: جيد يجيد جيدا فهو أجيد. وقالوا في الأصيد: صيد يصيد صيدا، وقالوا: شاب يشيب، كما قالوا: شاخ يشيخ، وقالوا: أشيب، كما قالوا: أشمط، فجاءوا بالاسم على بناء ما معناه كمعناه، وبالفعل على ما هو نحوه أيضا. يريد جاءوا باسم أشيب على بناء أشمط، ومعناه كمعناه، وجاءوا بفعل أشيب على شاب يشيب، مثل شاخ يشيخ، فاسمه على بناء أشمط، وفعله على فعل شاخ يشيخ. وقالوا: أشعر، كما قالوا: أجرد للذي لا شعر له. وقالوا: أزبّ، كما قالوا: أشعر، فالأجرد بمنزلة الأرسح. لأن الأجرد، الذي لا شعر له، والأرسح: الذي لا عجز له.

هذا باب أيضا للخصال التي تكون في الأشياء

" وقالوا: هوج يهوج هوجا، كما قالوا: ثول يثول ثولا وأثول، وهو جنون ". هذا باب أيضا للخصال التي تكون في الأشياء قال سيبويه: " أما ما كان حسنا أو قبحا فأنه مما يبنى فعله على فعل يفعل، ويكون المصدر فعالا وفعالة وفعلا "، يريد وما سوى ذلك يحفظ حفظا ". وذلك قولك: قبح يقبح قباحة، وبعضهم يقول: قبوحة، فبناه على فعولة، كما بناه على فعالة، ووسم يوسم وسامة، وقال بعضهم: وساما، فلم يؤنث " يعني لم يدخل الهاء. كما قالوا: السقام والسقامة، ومثل ذلك جمل جمالا. ويجيء الاسم على فعيل، وذلك: قبيح ووسيم وجميل وشقيح وذميم، وقالوا: حسن، فبنوه على فعل، كما قالوا: بطل ورجل قدم وامرأة قدمة، يعني أن لها قدما في الخير، فلم يجيئوا به على مثل جريء وشجاع وكمي وشديد " يريد أن الباب في فعل يفعل أن يجيء الاسم على فعيل أو فعال، فإذا خرج عن هذين البناءين فهو شاذ ليس بالباب ويحفظ حفظا، والكثير فعيل وفعال. كقولك: نظف ينظف وهو نظيف، وقبح يقبح وهو قبيح، وجمل يجمل وهو جميل، وفعيل أكثر من فعال. قال: وأما الفعل من هذه المصادر فنحو: الحسن والقبح، والفعالة أكثر. وقالوا: نضر وجهه ينضر فبنوه على فعل يفعل مثل خرج يخرج، لأن هذا فعل لا يتعداك إلى غيرك، كما أن هذا فعل لا يتعداك. وقالوا: ناضر، كما قالوا: نضر " وإنما ذكر سيبويه نضر وجهه لأنه من باب الحسن والقبح الذي يأتي فعله على فعل يفعل، ليريك خروجه عن الباب، واسم فاعله ناضر ونضير ونضر، فناضر على قياس ما يوجبه فعله، كقولك: خرج يخرج وهو خارج. ونضير، كما قالوا: وسيم؛ لأنه نحوه في المعنى، وقالوا: نضر، كما قالوا: حسن، إلا أن هذا مسكن الأوسط، وقالوا: ضخم، ولم يقولوا: ضخيم، كما قالوا: عظيم "، وقد حكى أبو العباس المبرد ضخيم. وقالوا: النّضارة، كما قالوا: الوسامة. ومثل الحسن السبط والقطط. وقالوا: سبط سباطه وسبوطه. ومثل النّضر الجعد، وقالوا: رجل سبط كما بنوه على " فعل " يعني أنه يقال: سبط وسبط.

وقالوا: ملح ملاحة وهو مليح، وسمج سماجة وهو سمج، وقالوا: سميج كقبيح " ولا تقول: سمج، وإن كانت العامة أولعت به. وقالوا: بهو يبهو بهاء، (وهو بهيّ)، كجمل جمالا وهو جميل. وقالوا: شنع شناعة وهو شنيع، وقالوا: أشنع، فأدخلوا أفعل في هذا إذ صار خصلة فيه كاللون، وقالوا: شنيع، كما قالوا: خصيف، فأدخلوه على أفعل. وقالوا: نظف نظافة كصبح صباحة وصبيح. وقالوا: طهر طهرا وطهارة، وهو طاهر "، ولم يقولوا: طهير. وقالوا: طهرت المرأة، فاستعملوا طاهرا على طهرت، لا على قولهم: طهرت. وقالوا: مكث مكثا وهو ماكث "، وقد قالوا: مكيث، فيحمل ماكث على مكث، ومكيث على مكث. وقال أبو الحسن الأخفش: سبط وسبط وسبط بمعنى واحد. قال سيبويه: " وما كان من الصغر والكبر فهو نحو من هذا، قالوا: عظم عظامة وهو عظيم، ونبل نباله وهو نبيل، وصغر صغارة وهو صغير، وقدم قدامة وهو قديم. وقد يجيء المصدر على فعل، وذلك قولك: الصغر والكبر والقدم والعظم والضخم. وقد يبنون الاسم على فعل، وذلك نحو: ضخم وفخم وعبل وجهم. وقد يجيء المصدر على فعولة، كما قالوا: القبوحة، وذلك قولهم: الجهومة والملوحة والبحوحة. وقالوا: كثر كثارة وهو كثير، وقالوا: الكثرة، فبنوه على الفعلة، والكثير نحو من العظيم في المعنى، إلا أن هذا في العدد " يريد أن الكثير مركب من شيء متزايد قد كثر عدته، والعظيم اسم واقع على جملة من غير أن يقدر فيه شيء تزايد وتضاعف، والكبير بمنزلة العظيم وضد العظيم والكبير الصغير، وهذا الكثير القليل؛ لأنه يقصد به قصد تقليل الأضعاف التي فيه أو تكثيرها، والصغير والكبير المقصد فيه جملة الشيء من غير تقدير أضعاف ما تركّب منه. " وقد يقال للإنسان قليل، كما يقال قصير، فقد وافق ضده وهو العظيم والطويل، والقصير نحو العظيم والصغير ". يريد أن القليل قد يستعمل على غير معنى العدد، كما يستعمل القصير والحقير. قال: " والطول في البناء كالقبح ". يريد في بناء الفعل؛ لأن وزنهما فعل. وهو نحوه في المعنى؛ لأنه زيادة ونقصان. وقالوا: سمن سمنا وهو سمين، ككبر كبرا وهو كبير. وقالوا: كبر عليّ الأمر كعظم.

وقالوا: بطن يبطن بطنة وهو بطين، كما قالوا: عظيم، وبطن ككبر. وما كان من الشدة والجرأة والضعف والجبن فإنه نحو من هذا، قالوا: ضعّف ضعفا وهو ضعيف، وقالوا: شجع شجاعة وهو شجاع، وقالوا: شجيع، وفعال أخو فعيل ". وقد ذكرنا فيما مضى أن فعيلا وفعالا أخوان، قالوا: طويل وطوال وكبير وكبار، وخفيف وخفاف. وقد بنوا الاسم على فعال، كما بنوا على فعول، قالوا: جبان وقالوا: وقور، وقالوا: الوقارة، كما قالوا: الرّزانة. وقالوا: جروء يجرؤ جرأة. وجراءة وهو جريء، (ولغة العرب الضّعف كما قالوا: الظّرف وظريف، والفقر وفقير. وقالوا: غلظ يغلظ غلظا وهو غليظ، كما قالوا: عظم عظما وهو عظيم، وقالوا: سهل سهولة وسهل، مثله: جهم جهومة وجهم، وسهل بمنزلة ضخم. وقد قال بعض العرب: جبن يجبن، كما قالوا: نضر ينضر " والأكثر جبن يجبن. وقالوا: قوى يقوى قواية، وهو قويّ، كما قالوا: سعد يسعد سعادة وهو سعيد. وقالوا: القوّة، كما قالوا: الشّدّة، إلا أن هذا مضموم الأول. وقالوا: سرع سرعا وهو سريع، ويقال سرعة وسرع ويسرع، قال الأعشى: واستخبري قافل المركبان وانتظري … أوب المسافر إن ريثا وإن سرعا (¬1) وقالوا: بطؤ بطأ وهو بطيء، وغلّظ غلظا وهو غليظ، وثقل ثقلا وهو ثقيل. وقالوا: كمش كماشة وهو كميش، مثل سرع، والكماشة مثل الشّجاعة. وقالوا: حزن حزونة للمكان، وهو حزن، كما قالوا: سهل سهولة وهو سهل. وقالوا: صعب صعوبة وهو صعب، لأن هذا إنما هو الغلظ والحزونة، وما كان من الرفعة والضّعة، وقالوا: الضّعة، فهو نحو من هذا ". اعلم أن الضعة، وزنها فعلة، والأصل وضعة، مثل قولنا: عدة وزنة، وربما فتحوا شيئا من ذلك إذا كان فيه شيء من حروف الحلق (كما يفتحون في الفعل من أجل حروف الحلق) ما لا يفتح في غيره. وقالوا: ضعة وضعة، وقوحة وقحة، ولا يقولون في مثل زنة وصفة، زنة وصفة لعدم حرف الحلق. ¬

_ (¬1) الشاهد في قوله (سرعا) حيث جاء المصدر على (فعل) للفعل سرع. انظر المخصص: 14/ 149، والمنصف: 1/ 240.

وقالوا: غني يغني غنى وهو غنيّ، كما قالوا: كبر كبرا وهو كبير، وقالوا: فقير كما قالوا: صغير وضعيف. وقالوا: الفقر كما قالوا: الضّعف، والفقر كما قالوا: الضّعف، ولم نسمعهم قالوا: فقر، كما لم يقولوا في التشديد، شدد، استغنوا باشتد وافتقر، كما استغنوا باحمارّ عن حمر ". قال أبو سعيد: قولهم افتقر فهو فقير، واشتد فهو شديد، لم يأت فقير وشديد على هذا الفعل، وإنما أتى على فعل لم يستعمل، وهو فقر، كما تقول: ضعف وشددت على فعلت، واستغنوا بافتقر واشتد عن ذلك، كما استغنوا باحمارّ عن حمر؛ لأن الألوان يستعمل فيها فعل كثيرا، كما قالوا: أدم يأدم، وكهب يكهب، وشهب يشهب وما أشبه ذلك، ولم يقولوا: حمر، استغنوا عنه باحمارّ. قال: " وهذا هنا نحو من الشديد والقويّ، قالوا: شرف شرفا وهو شريف، وكرم كرما وهو كريم، ولؤم لآمة وهو لئيم، كما قالوا: قبح قباحة، ودنؤ دناءة وهو دنيء، وملؤ ملاءة وهو مليء. وقالوا: وضع ضعة وهو وضيع، والضّعة مثل الكثرة، والضعة مثل الرفعة ". يعني في فتح أوله وكسره، وقوله: " وهذا هنا نحو من الشديد والقوي " إشارة إلى ما بعده. وقالوا: رفيع، ولم نسمعهم قالوا رفع، وعليه جاء رفيع وإن لم يتكلموا به، فاستغنوا بارتفع، وقالوا: نبه ينبه وهو نابه وهي النّباهة. كما قالوا: نضر ينضر وهو ناضر، وهي النّضارة، وقالوا: نبيه، كما قالوا: نضير، جعلوه بمنزلة ما هو مثله في المعنى "، يريد معنى نبيه. وقالوا: (سعد يسعد سعادة)، وشقي يشقى شقاوة، وهو سعيد وشقيّ، فأحدهما مرفوع، والآخر موضوع، وقالوا: الشّقاء، كما قالوا: الجمال والّلذاذ، (حذفوا الهاء استخفافا) "، يريد حذفوا الهاء من الّلذاذة. وقالوا: رشد يرشد رشدا وراشد، وقالوا: الرشد، كما قالوا: سخط يسخط سخطا، والسّخط وساخط. وقالوا: رشيد، كما قالوا: سعيد. وقالوا: الرّشاد (كما قالوا: الشّقاء). وقالوا: بخل يبخل بخلا، والبخل كاللؤم " يعني في الوزن " والفعل كفعل شقي وسعد. وقالوا: بخيل، وبعضهم يقول: البخل كالفقر، والبخل كالفقر، وبعضهم يقول: البخل كالكرم. وقالوا: أمر علينا

وهو أمير كنبه وهو نبيه " وفي بعض النسخ أمر علينا كنبه مفتوحان، والفتح أجود وأفصح ومما يلقى من أبيات المعاني: قد أمر المهلّب … فكرنبوا ودولبوا وحيث شئتم فاذهبوا (¬1) يريد: قد ولي الإمارة، يخاطب قوما من الشّراة " والإمرة كالرفعة، والإمارة كالولاية " ويقولون: أمر علينا وهو أمير وقالوا: وكيل ووصيّ، وجريّ كما قالوا: أمير لأنها ولاية. ومثل هذا لتقاربه: الجليس والعديل والقعيد والضجيج والكميع (وهو الجليس) والخليط والنزيع، وأصل هذا كله العديل، ألا ترى أنك تقول في هذا كله: فاعلته " تقول: عادلته فهو عديل، وجالسته فهو جليس. وإنما قال: " أصل هذا كله العديل "؛ لأنهما تعادلا في فعل كل واحد منهما بالآخر. وقد جاء فعل، قالوا: خصم، وقالوا: خصيم " قال: " وما أتى من العقل فهو نحو من هذا، قالوا: حلم يحلم حلما فهو حليم، فجاء فعل في هذا الباب كما جاء فعل فيما ذكرنا. وقالوا في ضد الحلم: جهل يجهل فهو جاهل. كما قالوا: حرد يحرد فهو حارد، فهذا ارتفاع في الفعل " يعني حلم " واتضاع " يعني جهل. وقالوا: علم علما، فالفعل كبخل يبخل والمصدر كالحلم. وقالوا: عالم، كما قالوا في الضد: جاهل، وقالوا: عليم، كما قالوا: حليم. وقالوا: فقه وهو فقيه، والمصدر فقه (كما قالوا: علم علما وهو عليم. وقالوا: اللّب واللّبابة ولبيب، كما قالوا: الّلؤم واللآمة ولئيم. وقالوا: فهم يفهم فهما وهو فهم، ونقه، ينقه نقها وهو نقه. وقالوا: الفهامة، كما قالوا: الّبابة، وسمعناهم يقولون: ناقة، كما قالوا: عالم. وقالوا: لبق يلبق لباقة وهو لبق، لأن هذا علم وعقل ونفاذ، فهو بمنزلة الفهم والفهامة ". وقد ذكر غير سيبويه الفهم بتسكين الهاء، وبه سمّي فهم وعدوان قبيلتان من قيس. وقالوا: الحذق، كما قالوا: العلم، وقالوا: حذق يحذق، كما قالوا: صبر يصبر. ¬

_ (¬1) قائل الأبيات حارثة بن بدر يوم وقعة دولاب. انظر كتاب الاشتقاق 229، وشرح شواهد الشافية: 503 - 504.

وقالوا: رفق يرفق رفقا وهو رفيق، كما قالوا: حلم يحلم وحليم. وقالوا: رفق، كما قالوا: فقه، وقالوا: عقل يعقل عقلا وهو عاقل، كما قالوا: عجز يعجز وهو عاجز، أدخلوه في باب عجز يعجز، لأنه مثله في أنه لا يتعدى. وقالوا: رزن رزانة (وهو رزين) ورزينة. وقالوا للمرأة: حصنت حصنا وهي حصان، وجبنت جبنا وهو جبان، وإنما هذا كالحلم والعقل. وقالوا: حصنا، كقولهم: جبنا، وقالوا لها أيضا: ثقال ورزان. وقالوا: صلف يصلف صلفا، وصلف، وفهم فهما، وفهم. وقالوا: رقع رقاعة، كقولهم: حمق حماقة؛ لأنه مثله في المعنى، وقالوا: الحمق، كما قالوا: الحصن، (وقالوا أحمق) وفي بعض النسخ كما قالوا: الجبن. وقالوا: أحمق، كما قالوا: أشنع. وقالوا: خرق خرقا، وأخرق، وقالوا: النّواكة، وأنوك، وقالوا: استنوك، ولم نسمعهم قالوا نوك، كما لم يقولوا فقر. يريد أن أنوّك لم يجئ على استنوك، وإنما جاء على نوك وإن كان لم يستعمل، كما لم يستعمل فقر. وقالوا: حمق في معنى أحمق، كما قالوا: نكد وأنكد. قال سيبويه: واعلم أن ما كان من التضعيف من هذه الأشياء فإنه لا يكاد يكون فيه فعلت وفعل؛ لأنهم قد يستثقلون فعل والتضعيف، فلما اجتمعا حادوا إلى غير ذلك، وهو قولك: ذلّ يذلّ ذلّا وذلّة وذليل، فالاسم والمصدر يوافق ما ذكرنا. والفعل يجيء على باب جلس يجلس. وقالوا: شحيح والشح كالبخيل والبخل. وقالوا: شحّ يشح، وقالوا: شححت كما قالوا: بخلت، وذلك لأن الكسرة أخف عليهم من الضمة. ألا ترى أن فعل أكثر في الكلام من فعل، والياء أخف من الواو وأكثر. وقالوا: ضننت ضنّا كرفقت رفقا، وقالوا: ضننت ضنانة كسقمت سقامة " قال أبو سعيد: حكى سيبويه ضننت تضنّ كعضضت تعضّ، وضننت تضن كقررت تقرّ والأول أفصح. وحكى شحّ يشح مثل قرّ يقرّ، وشححت تشحّ مثل عضضت تعض، والأول أفصح. قال: وليس شيء أكثر في كلامهم من فعل، ألا ترى أن الذي يخفف عضدا وكبدا لا يخفف جملا "، فتقول جمّل كما تقول: عضد وكبد، وإنما يريد سيبويه بذكر

هذا باب علم كل فعل تعداك إلى غيرك

ما ذكر ثقل الضم في نفسه، وثقله مع التضعيف. وقالوا: لبّ يلب، وقالوا: اللّب الّلبابة والّلبيب. وقالوا: قلّ يقلّ، ولم يقولوا فيه كما قالوا في كثر وظرف " يريد لم يقولوا قللت كما قالوا: كثرت استثقالا. " وقالوا: عفّ يعفّ وهو عفيف، وزعم يونس أن من العرب من يقول: لببت تلبّ، كما قالوا: ظرفت تظرف، وإنما قلّ هذا لأن الضمة تستثقل فيما ذكرت لك "، يعني في عضد ونحوه. " فلما صارت فيما يستثقلون فاجتمعا فروا منهما ". يعني صارت في المضاعف، والأكثر في الكلام لببت تلبّ. قالت صفية بنت عبد المطلب (¬1) في ابنها الزبير وهو صغير: أضربه لكي يلبّ … وكي يقود ذا اللّجب (¬2) هذا باب علم كل فعل تعداك إلى غيرك " اعلم أنه يكون كل ما تعداك إلى غيرك على ثلاثة أبنية: على فعل يفعل، وفعل يفعل (وفعل يفعل)، وذلك نحو: ضرب يضرب، وقتل يقتل، ولقم يلقم. وهذه الأضرب تكون فيما لا يتعداك، وذلك نحو: جلس يجلس، وقعد يقعد، وركن يركن، ولما لا يتعداك ضرب رابع لا يشركه فيه ما تعداك نحو: كرم يكرم، وليس في الكلام فعلته متعديا. وضروب الأفعال أربعة يجتمع في ثلاثة: منها ما يتعدى (وما لا يتعدى)، ويبين بالرابع ما لا يتعدى وهو فعل يفعل. وليفعل أبنية يشترك فيها ما يتعدى وما لا يتعدى: يفعل ويفعل ويفعل، نحو: يضرب ويقتل ويلقم، وفعل على ثلاثة أبنية، وذلك فعل وفعل وفعل، نحو: قتل ولزم ومكث. فالأولان يشترك فيهما المتعدي وغيره، والآخر لما لا يتعدى كما جعلته لما لا يتعدى حيث وقع جعلته رابعا ". ¬

_ (¬1) هي أخت حمزة بن عبد المطلب لأمه، وابنها الزبير من زوجها العوام بن خويلد، أسلمت وبايعت الرسول وهاجرت إلى المدينة وتوفيت في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) انظر إصلاح المنطق: 210، ابن يعيش في شرح الملوكي: 47، اللسان (جلب) والمخصص لابن سيده: 14/ 152.

قال أبو سعيد: جملة هذا الكلام أن الأفعال المتعدية يكون على وزنها ما لا يتعدى، لأن ضرب يضرب يتعدى، وعلى وزنه جلس يجلس لا يتعدى، وقتل يقتل يتعدى، وعلى وزنه قعد يقعد وهو لا يتعدى، ولقم يلقم يتعدى، وعلى وزنه كمد يكمد لا يتعدى. فهذه الأفعال الثلاثية، ثلاثة اشترك فيها ما يتعدى وما لا يتعدى، وقد انفرد ما لا يتعدى ببناء وهو فعل، ولا يكون مستقبله إلا يفعل، نحو كرم يكرم، وظرف يظرف، فقد صار فعل يفعل بناء رابعا ينفرد به ما لا يتعدى، والماضي من الثلاثي فعل وفعل وفعل، فاشترك المتعدي وغير المتعدي في فعل وفعل، وهو الذي قال سيبويه. فالأولان يشترك فيهما المتعدي وغير المتعدي، والآخر لما لا يتعدى يعني فعل، ويقرب هذا كله عليك أن تحفظ أن ما كان ماضيه على فعل لا يتعدى البتة. وذكر سيبويه بعد هذا الفصل إلى آخر الباب ما شذ عن قياسه في المستقبل والماضي، فمن ذلك أربعة أفعال من الصحيح جاءت على فعل يفعل، والقياس في فعل أن يكون مستقبله على يفعل، إلا أنهم شبهوا فعل يفعل بقولهم: فعل يفعل، وذلك قولهم: حسب يحسب، ويئس ييئس، ويبس ييبس، ونعم ينعم. قال: " وسمعنا من العرب من يقول: وهل ينعمن من كان في العصر الخالي (¬1) وأنشدوا: وأعوجّ غصنك من لحو ومن قدم … لا ينعم الغصن حتى ينعم الورق (¬2) وقال الفرزدق: وكوم تنعم الأضياف عينا … وتصبح في مباركها ثقالا (¬3) والفتح في هذه الأفعال جيد، وهو أقيس ". يعني حسب يحسب، ويئس ييأس، يبس ييبس ونعم ينعم. " وقد جاء في الكلام فعل يفعل (في حرفين)، وذلك: فضل يفضل، ومتّ تموت، وفضل يفضل، ومت تموت أقيس ". قال أبو سعيد: قد ذكرت فيما مضى من غير سيبويه حضر يحضر بشاهده من ¬

_ (¬1) قائله امرؤ القيس انظر الديوان ص: 27. (¬2) انظر المخصص: 14/ 54، المحكم: 2/ 140. (¬3) ديوان الفرزدق: 2/ 69، اللسان (نعم).

هذا باب ما جاء من المصادر فيه ألف التأنيث

الشعر. قال سيبويه: " وقد قال بعض العرب: كدت تكاد، فقال: فعلت تفعل، كما قالوا: فعلت أفعل ". قال: " فكما ترك الكسرة، كذلك ترك الضمة، وهذا قول الخليل، وهو شاذ من بابه، كما أن فضل يفضل شاذ من بابه ". أي فكما ترك كسرة كدت، كذلك ترك ضمة متّ. قال: " فكما شركت يفعل يفعل، كذلك شركت يفعل يفعل، وهذه الحروف من فعل يفعل إلى منتهى الفصل شواذ " يعني سواء في الشذوذ، ومعنى قوله: " كما شركت يفعل يفعل، كذلك شركت يفعل "، يريد: أما شركة يفعل يفعل فقولهم: فضل يفضل، وكان القياس أن يقال يفضل، وشركة يفعل يفعل أنهم قالوا: كدت تكاد، وكان القياس أن تقول: تكود، كما تقول: قلت تقول. هذا باب ما جاء من المصادر فيه ألف التأنيث قال سيبويه: " وذلك قولك: رجعته رجعى، وبشّرته بشرى، وذكّرته ذكرى واشتكيت شكوى، وأفتيته فتيا، وأعداه عدوى والبقيا. ومعنى البقيا الإبقاء على الشيء، تقول: ما عند فلان بقيا على فلان، أي لا يبقي عليه في مكروه أو غير ذلك، قال: فما بقيا عليّ تركتماني … ولكن خفتما صرد النّبال " فأما الحذيا فالعطيّة، والسّقيا ما سقيت، والدّعوى ما أدّعيت. وقال بعض العرب: اللهم أشركنا في دعوى المسلمين " أي في دعائهم " وقال بغر بن النّكث: ولّت دعواها كثير صخبه دخلت الألف كدخول الهاء " جعل سيبويه ما ذكره مصادر مؤنثه بالألف، كما يكون المصدر مؤنثا بالهاء كقولك: العدة والزنة والركبة والجلسة وغير ذلك. وأما الحذيا والسّقيا فمصدران في الأصل مثل الفتيا والرّجعى، وإن كان قد وقعا على المفعول؛ لأن المصدر قد يقع على المفعول كقولهم: درهم ضرب في معنى مضروب، وأنت رجائي في معنى مرجوّي. واللهم

هذا باب ما تجيء فيه الفعلة تريد بها ضربا من الفعل

أغفر لنا علمك فينا أي معلومك من ذنوبنا. وأما الدّعوى فقد تكون الشيء المدّعى مثل الحذيا ومثل السّقيا، وقد تكون الكلام الذي هو دعاء، وقوله: كثير صخبه فأدخلوا الهاء في صخبه لدعواها، والدعوى مؤنث؛ وذكّره لأنه أراد دعاءها. وقالوا: الكبرياء للكبر. قال سيبويه: " وأما الفعيلى فتجيء على وجه آخر، تقول: كان بينهم رمّيّا، فليس يريد رميا، ولكنه يريد ما كان بينهم من الترامي وكثرة الرّمي، ولا يكون الرّمّيا واحدا، وكذلك الحجّيزى. وأما الحثيثى فكثرة الحثّ، كما أن الرّميّا كثرة الرّمي، ولا يكون من واحد " يعني ما ذكره من الرّميا والحثّيثى والحجّيزى، وقد يكون من هذا الوزن ما يكون لواحد. قالوا: الدّلّيلى يراد به كثرة العلم بالدّلالة والرسوخ فيها، وقالوا: القتّيتى " وهي النّميمة " والهجّيرى: كثرة القول والكلام ". وقال " أبو الحسن: الاهجيرى، وهو كثرة كلامه بالغي يردده، ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لولا الخلّيفى لأذّنت، يعني الخلافة وشغلنه بحقوقها والقيام بها على مراعاة الأوقات التي يراعيها المؤذنون. وفعّيلى عند النحويين والذين حكوا عن العرب مقصور كله، ولا يعرف فيه المدّ، إلا ما حكي عن الكسائي أنه سمع خصيّصا قوما، والأمر بينهم فيضوضاء، بالمد والقصر، والفيضوضاء الأمر المشترك بين القوم، وأجاز قياسا على هذا في جميع الباب المد والقصر، وخالفة الفراء في ذلك، ولا نعلم واحدا قال ما قاله. هذا باب ما تجيء فيه الفعلة تريد بها ضربا من الفعل قال سيبويه: " وذلك قولك: هو حصن الطعمة، ومثله قتلة سوء، وبئست الميتة وإنما تريد الضرب الذي أصابه من القتل والذي هو عليه من الطّعم، مثل الركبة والجلسة والقعدة، وقد تجيء الفعلة لا يراد بها هذا المعنى، وذلك نحو: الشدّة والشعرة والدرّة " قال أبو سعيد: اعلم أن الفعلة قد تجيء على ضربين: أحدهما للحال التي عليها المصدر، ولا يراد بها العدد، كقولنا: فلان حسن الرّكبة والجلسة، يراد بذلك أنه متى ركب كان ركوبه حسنا، وإذا جلس كان جلوسه حسنا في أوقات ركوبه وجلوسه، وأن ذلك عادته في الركوب والجلوس، وحسن الطّعمة، أي ذلك فيه موجود لا يفارقه، والوجه

الآخر أن يكون مصدرا كسائر المصادر، لا يراد حال الفاعل في فعله، كقولك: درى فلان درية، ولفلان شدّة وبأس، وشعر فلان بالشّعر شعرة. قال سيبويه: " وقالوا: ليت شعري في هذا الموضع استخفافا ". والأصل عنده (ليت شعرتي)، يريد به معنى علمي ومعرفتي، وما أشعره، وأسقطت الهاء لكثرة استعمالهم، وأنه صار كالمثل حتى لا يقال: ليت علمي، وصار بمنزلة قولهم: ذهب فلان بعذرة امرأته إذا افتضّها، ثم يقال للرجل إذا بنى بالمرأة: هذا أبو عذرها، فيحذفون الهاء؛ لأنه صار مثلا. ويقولون: تسمع بالمعيديّ لا أن تراه، وهو تصغير معدّيّ، بتشديد الدال، وكان حكمه معيّديّ، بتشديد الدال والياء، فخففوا الدال لأنه مثل. وتجيء فعلة مصدرا لما كان فاء الفعل منه واوا، كقولهم: وزن وزنا وزنة، ووعد وعدا وعدة، ووثق به ثقة، وأصله وزنة ووعدة ووثقة. وتقول: هو بزنته، تريد أنه بقدره، ويقال: العدّة، كما يقال: القتلة والضّعة والقحة، ويقولون: وقاح بيّن القحة، لا تريد شيئا من هذا، كما تقول: الشدة والدّرية والرّدّة، وأنت تريد الارتداد. يريد أن القحة مصدر لا تريد به حال الفعل، بل يكون بمنزلة الشدة والدّرية، وأنشد بيتا فاسدا ذكر أن المازني لم يحسن أن يقرأه وهو: فرحن ورحت إلى قليل … ردّتي إلا أمامي ولم أعلم أن أحدا يرويه، وهو مكسور ناقص، فاستدللت منه على ما لو جعل تماما له لم يبعد ولم يخرج عما دل عليه بقية البيت وهو: فرحن ورحت منه إلى ثقال … قليل ردّتي إلا أمامي (¬1) كأن قائل هذا الشعر شيخ قد كبر، فإذا ركب لم يمكنه أن يردّ ما يركبه إلى خلفه لعجزه، والثّقال: البطيء الذي لا ينبعث، فإذا لم يرجع إلى خلفه وهو على ثقال، فهو إذا كان على غيره أبعد من الرجوع. قال سيبويه: " وإذا أردت المرة الواحدة (من الفعل) جئت به أبدا على فعلة على ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 14/ 158 - 159، لأن القحة مصدر لا تريد به حال الفعل، بل يكون بمنزلة الشّدّة والدّرية.

الأصل؛ لأن الأصل فعل، فإذا قلت: الجلوس والذّهاب وغير ذلك فقد ألحقت زيادة ليست من الأصل، ولم تكن في الفعل، وليس هذا الضرب من المصادر لازما بزياداته لباب فعل كلزوم الإفعال والاستفعال ونحوهما لأفعالهما، فكان ما جاء على فعل فأصله عندهم الفعل، فإذا جاءوا بالمرة جاءوا بها على فعلة، كما جاءوا بتمرة على تمر، وذلك قولك: فعدت قعدة وأتيت أتية " قال أبو سعيد: واعلم أن أصل المصدر في الفعل الثلاثي فعل، بفتح الفاء وتسكين العين، وإن نطق بغيره أو زيد فيه زيادات. واستدلّ سيبويه أنه قد يقال في المرة الواحدة فعلة، وإن كان في المصدر زيادة، كقولهم: جلست جلسة، وقمت قومة، وشربت شربة. والمرة الواحدة إذا كانت بالهاء، فالباب في الجنس أن يكون بطرح الهاء من ذلك اللفظ، كقولهم: تمرة وتمر وجمرة وجمر، وكان الأصل أن تقول جلس جلسا، وقعد قعدا؛ لأن الواحدة قعدة وجلسة، ولكنهم تصرفوا في مصادر الثلاثي، فزادوا وغيّروا، كالجلوس والذّهاب والقيام. وما كان فيه الزيادات من الأفعال الثلاثية، أو كان على أكثر من ثلاثة أحرف، فالمصدر لا يتغير كالأفعال في مصدر أفعل، كقولهم: أكرم إكراما، وأمضى إمضاء، والاستفعال في مصدر استفعل، كقولك: استغفر استغفارا، واستخرج استخراجا. وقد يزيدون الهاء على المصدر الذي فيه الزيادة، يريدون به مرة واحدة. تقول: أتيته إتيانة، ولقيته لقاءة واحدة، فجاءوا به على المصدر المستعمل في الكلام كما قالوا: أعطى إعطاء، واستدرج استدراجا. وما كان من الفعل على أكثر من ثلاثة أحرف، فالمرة الواحدة بزيادة الهاء على مصدره المستعمل لا غير، كالاستغفار والإعطاء والتكسير، يراد بذلك كله مرة واحدة. وقالوا: غزاة، فأرادوا عمل وجه واحدا كما قيل: حجّة تريد عمل سنة، ولم يجيئوا به على الأصل. يريد أنه كان حقه أن يقول للمرة الواحدة: غزوة وحجّة، ولكنه جعل اسما لعمل سنة واحدة في الحجّ، وغزوة في وجه واحد. " وقالوا: قنمة، وسهكة، وخمطة، جعلوه اسما لبعض الريح، كالبنّة والشّهدة والعسلة، ولم يرد به فعل فعلة " يعني أن القنمة اسم للرائحة الموجودة في الوقت، والخمطة: تغيّر الشراب إلى الحموضة، والبنّة: رائحة موضع الغنم وأبعارها.

هذا باب نظائر ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي الياء والواو منهن في موضع اللامات

هذا باب نظائر ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي الياء والواو منهن في موضع اللامات قال سيبويه: " قالوا: رميته رميا وهو رام، كما قالوا: ضربته ضربا وهو ضارب، ومثل ذلك مراه يمريه مريا، وطلاه يطليه طليا، وهو مار وطال، وغزاه يغزوه غزوا وهو غاز، ومحاه يمحوه محوا وهو ماح، وقلاه يقليه قليا وهو قال، وقالوا: لقيته لقاء، كما قالوا: سفدها سفادا، وقالوا: اللّقيّ، كما قالوا: النّهوك ". يريد أن وزن اللّقيّ فعول، وأصله لقوي، وقلبت الواو ياء لسبقها بالسكون. وقالوا: قليته فأنا أقليه قلى، كما قالوا: شريته شرى. وقد جاء في هذا الباب المصدر على فعل، قالوا: هديته هدى، ولم يكن هذا في غير هدى، وذلك لأن الفعل لا يكون مصدرا في هديت، فصار هدى عوضا منه. قال أبو سعيد: اعلم أن فعلا يقلّ في المصادر، وكلام سيبويه ظاهره يوجب أنه لم يأت مصدر على فعل غير هدى. وللقائل أن يقول: قد وجدنا تقى وسرى وسلى فيمن قصر، وقد تكلم النحويون فيه، فذكر عن المبرد أنه قال: وإن تقى تعل، وأن التاء زائدة وفاء الفعل محذوفة، وذلك أن العرب يقولون في موضع اتقى يتقي بفتح التاء من (تقى يتقي)، وذلك أنهم يحذفون التاء الأولى الساكنة التي هي بدل (من الواو في وقيت)، فإذا حذفوها وليت ألف الوصل التاء الثانية المتحركة فسقطت، فصار تقى، وصار في المستقبل يتقي، فإذا أمرت قلت: تق ربك يا زيد، وللمرأة: تقي ربك يا هند، وبعض الناس يظن أنه يقال: تقى يتقي بسكون التاء، ولو كان كما ظن لكان بمنزلة رمى يرمي، ولكان الأمر منه اتق يا زيد، كما تقول: ارم يا زيد، وكلام العرب على ما ذكرناه أولا، قال الشاعر: زيادتنا نعمان لا تنسينّها … تق الله فينا والكتاب الذي تتلو (¬1) وقال آخر: تقوه أيّها الفتّيان إنّي … رأيت الله قد غلب الجدودا (¬2) ¬

_ (¬1) قائله خداش بن زهير، انظر: إصلاح المنطق ص: 24، وسر صناعة الإعراب: 1/ 209 - 210. (¬2) الشاهد في قوله: (تقوه) يريد (اتقّوه)، فبني الأمر على المخفف بحذف إحدى التاءين مع الألف. في النوادر ص: 4، " ويروى: غلب الجنودا ".

وقال آخر (في المتصل): جلاها الصّيقلون فأخلصوها … فجاءت كلّها يتقي بأثر (¬1) فمذهب أبي العباس أن فاء الفعل سقطت في المصدر كسقوطها في الفعل، وأن الباقية هي تاء افتعل، فلهذا وزنه يتعل. وقال أبو إسحاق الزجاج: هو فعل، وكان يقول: إن تقي مخفف من اتّقى يتّقي، وهو متعد، وكان يزعم أن سيبويه إنما قال في هدى: إنه لم يجئ غيره، يرد في الفعل المتعدى، وأن سرى مصدر فعل لا يتعدى، والذي قاله غير معروف؛ لأنه لا يعرف تقى يتقي، ولا يؤمر منه باتق، كما يقال: ارم. وبكى فيه لغتان: المد والقصر، وكأن القصر تخفيف، والأصل المد لأنه صوت، والصوت بابه أن يجيء على فعال في المصادر. وقد مضي الكلام على نحو ذلك. ومعنى قول سيبويه: " وذلك لأن الفعل لا يكون مصدرا في هديت " معناه وذلك: في هديت، يعني وهدى في هديت خاص؛ لأن الفعل بلغت معه، فصار هدى عوضا من الفعل؛ لأن الفعل يكثر في المصادر. وقال: قليته قلى، وقريته قرى، فأشركوا بينهما. يعني بين فعل قلى، وبين فعل في هدى، فصار هذان البناءان عوضا من الفعل في المصدر؛ لأن الأصل الفعل، وكان حقه أن يقال في الأصل: هديته هديا، وقليته قليا، وقريته قريا. فدخل كل واحد منهما في صاحبه، كما قالوا: كسوة وكسا، وجذوة وجذا وصّوة وصوى، والصّوّة حجارة تجمع وتجعل علامة في الطريق. وفعل وفعل أخوان؛ لأنك إذا جمعت فعلة قلت: فعل، وإذا جمعت فعلة قلت: فعل، فلم تزد على فتح الثاني فيهما، وكذلك إذا جمعتهما بالتاء جاز في كل واحد منهما ثلاث لغات: الإتباع وفتح الثاني وتسكينه، تقول في ظلمة: ظلمات وظلمات وظلمات، وفي كسرة: كسرات وكسرات وكسرات، فهما يجريان مجرى واحدا. وفي المعتل يقال: رشوة ورشا، ورشوة ورشا، وكذلك في جذوة، وفي كسوة. " وقالوا: شريته شرى، ورضيته رضى، فالمعتل يختص بأشياء، وستراه فيما ¬

_ (¬1) انظر إصلاح المنطق ص: 23، والمخصص: 14/ 160، والنظائر: 1/ 108.

يستقبل إن شاء الله " فاختصاص المعتل الذي ذكره سيبويه أن فعل يقل في مصادر غير المعتل، وقد كثر المعتل، وفعل لا يوجد في غير المعتل. قال: " وقالوا: عتا يعتو عتوا، ودنا يدنو دنوّا، وثوى يثوى ثويّا، ونمى ينمي نماء، وبدا يبدو بداء، ونثا ينثو نثاءا، وقضي يقضي قضاء ". وذكر بعد هذا بدا ونثا، بالقصر. قال: " وإنما كثر الفعال في هذا كراهية الياءات والواوات مع الضمة ". يريد أنهم عدلوا عن فعول إلى فعال؛ لأنهم لو جاءوا به على فعول قالوا: بدا بدوّا، ونثا نثوّا، وقضي قضيّا، كما قالوا: ثوي ثويّا، ودنا دنوّا، على أن الفعال جاء في غير المعتل، نحو: الذّهاب والصّواب والثّبات. وقالوا: جرى جريا، كما قالوا: سكت سكتا، وقالوا: زنى زنا، وسرى يسرى سرى، والتّقى، فصارتا عوضا من فعل أيضا، فعلى هذا يجري الفعل المعتل الذي حرف الاعتلال منه لام " وقد جاء المد في زناء وشراء؛ لأنه فعل يقع من الاثنين، كل واحد منهما مثل فعل الآخر، فصار بمنزلة ضاربته ضرابا، وقاتلته قتالا (فاعرف ذلك إن شاء الله). قال سيبويه: " وقالوا: قوم غزّى وبدّى وعفّى، كما قالوا: ضمّر وشهّد وقرّح، وقالوا: السّقاء والجنّاء، كما قالوا: الجلّاس والعبّاد والنسّاك " قال أبو سعيد: ذكر سيبويه جمع الفاعل في هذا الموضع، وليس بباب له شاهدا على ما مر من المصادر مقصورا وممدودا، كقولهم: بدا وبداء، وما جاء على فعل وفعال، فالفعل نحو: الحلب والسّلب، والفعال نحو: الذّهاب والثّبات، ومثله من أسماء الفاعلين فعّل وفعّال، بثبات الألف قبل آخره وسقوطها، والجنّاء مصدر الجاني الذي يجني الثّمرة، بتشديد النون. قال: " وقالوا: بهو يبهو بهاء وهو بهيّ، وسرو يسرو سروّا، وهو سرىّ، كما قالوا: ظرف يظرف ظرفا، وهو ظريف، وقالوا: بذو يبذو بذاء وهو بذيّ، كما قالوا: سقم سقاما وهو سقيم. وبعض العرب يقول: بذيت كما تقول شقيت، ودهوت وهو دهيّ، والمصدر الدّهاء، كما تقول: سمح سماحا، وقالوا: داه، كما قالوا: عاقل، ومثله في اللفظ عقر وهو

عاقر. وقد مضى الكلام على فعل وهو فاعل. " وقالوا: دها يدهو وداه، كما قالوا: عقل وعاقل، وقالوا: دهيّ كما قالوا: لبيب. ثم ذكر المعتل العين، والذي مضى المعتل اللام، فقال: تقول: بعته بيعا وكلته كيلا، وسقته سوقا، وقلته قولا، وقالوا: زرته زيارة، وعدته عيادة، وحكته حياكة، أرادوا الفعول ففروا إلى هذا كراهية الواوات والضمات، ومع هذا أنهم قالوا في الصحيح: عبد عبادة وعمر عمارة. ولو أتوا به على فعول لقالوا: زرته زؤورا، وعدته عؤودا. وقد جاء مثل ذلك على استثقاله. وقد ذكر سيبويه في آخر الباب، وهو سرته فأنا أسوره سؤورا، ومعناه سرت إليه، أي ارتفعت إليه. وقالوا: غار يغور غؤورا إذا غاب، قال الأخطل: لمّا أتوها بمصباح ومبزلهم … سارت إليهم سؤور الأبجل الضّاري (¬1) وقالوا: خفته فأنا أخافه خوفا وهو خائف، كما يقال: لقمته ألقمه لقما وهو لاقم، وهبته أهابه هيبة وهو هائب، كما قالوا: خشيته خشية وهو خاش، وقالوا: رجل خاف. وأصله خوف، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وخوف بمنزلة فزع وفرق والمعنى واحد. " وقالوا: ذمته أذيمه ذاما، وعيبته أعيبه عابا، كما تقول: سرقه سرقا " وزن الذّام والعاب فعل. وسؤته سوءا، وقتّه قوتا (وقد قال قبل هذا: قتّه قوتا) في المصدر، وجعل القوت اسما لما يقتات. وعفته عيافة فأنا أعافه، وهو عائف. وقالوا: غابت الشمس تغيب غيوبا، وبادت تبيد بيودا، وقام يقوم قياما، وصام يصوم صياما كراهية للفعول لو قلت: قؤوما وصؤوما، ونظيره من الصحيح نفر نفارا. وقالوا: آبت الشمس إيابا، وقال بعضهم: أؤوبا، كما قالوا: الغؤور والسّؤور، ونظيرها من غير المعتل الرجوع، ومع هذا أنهم أدخلوا الفعال يعني في الصحيح. فقالوا: النّفار والنّفور، وشبّ شبابا وشبوبا، فهذا يكثر نظيره من العلة، وقالوا: ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 14/ 163.

هذا باب نظائر بعض ما ذكرناه من بنات الواو التي فيهن فاء

ناح ينوح نياحة، وقاف يقوف قيافة، وصاح صياحا، وغابت الشمس غيابا، كراهية للمفعول في بنات الياء. وقد ذكر الغيوب والبيود على استثقالهم إيّاه. وقالوا: دام يدوم دواما، وهو دائم، وزال يزول زوالا وهو زائل، وراح يروح رواحا وهو رائح، كراهية للفعول. وقالوا: حاضت المرأة حيضا، وصامت المرأة صوما، وحال الرجل حولا، كما تقول: سكت سكتا، وعجز عجزا. وقالوا: لعت تلاعا لاعا، وهو لاع، كما قالوا: جزع جزعا وهو جزع. وقالوا: دئت تداء داء وهو داء، فاعلم. وقالوا: وجع يوجع وجعا وهو وجع. وقالوا: لعت وهو لائع مثل بعت وهو بائع، ولاع أكثر. هذا باب نظائر بعض ما ذكرناه من بنات الواو التي فيهن فاء قال سيبويه: " تقول: وعدته أعده وعدا، ووزنته أزنه وزنا، ووأدته أئده وأدا "، والوأد: قتل البنات. كما قالوا: كسرته أكسره كسرا، ولا يجيء في هذا الباب يفعل. لأنهم استثقلوا الواو مع الياء، وكان أصله يوعد ويوزن. قال: " والدليل على استثقالهم الياء مع الواو أنهم يقولون: ياجل وييجل في يوجل ". فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وألزموا هذا الباب يفعل إذا كان الماضي على فعل؛ لأنهم إذا حذفوا الواو كانت الياء مع كسرة أخف من الياء مع ضمة، والياء مع الواو والكسرة في تقدير ياعد الذي هو يعد أخف من الياء والواو والضمة في يوعد ويوزن لو جاء على يفعل، فصرفوه إلى يفعل، وحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة. والكوفيون يقولون: إن الواو سقطت فرقا بين ما يتعدى وبين ما لا يتعدى من هذا الباب. فما يتعدى منه فنحو: وعده يعده، ووزنه يزنه، ووقمه يقمه، وما لا يتعدى نحو قولنا: وجل يوجل، ووحل يوحل، ووهم يوهم، والذي قالوه من ذلك باطل من غير وجه، من ذلك أن ما جاء على فعل يفعل من هذا الباب تسقط واوه، وإن كان لا يتعدى، وذلك كثير، كقولنا: وكف يكف، ووجب القلب يجب، وونم الذباب ينم إذا ذرق، ووخد البعير يخد ووجد عليه في الموجدة يجد، وهو أكثر من أن يحصى. ومن الدليل أيضا على ذلك أنّا رأينا بعض الأفعال من هذا الباب يجيء مستقبله على يفعل ويفعل، وكان يفعل منه بإثبات

الواو، ويفعل بإسقاطها. وقالوا: وحر صدره على يحر، ووغر يغر، وقالوا: يوغر ويوحر، فأثبتوا الواو في يفعل، وأسقطوها في يفعل. فوضح بذلك أن سقوط الواو في يعد ويزن من أجل وقوعها بين ياء وكسرة لا من أجل التعدي. فإن قال قائل: فإذا كان سقوط الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، فلم أسقطوها من يهب ويضع ويطأ ويقع؟ قيل: الأصل في ذلك يفعل، وكان يوهب ويوضع ويوطيء ويوقع، ووطيء يوطيء منه على فعل يفعل، نحو: حسب يحسب، وفي المعتل: وثق يثق، فسقطت الواو منه لوقوعها بين ياء وكسرة، فصار يهب ويطيء ويضع ويقع، ثم فتح من أجل حرف الحلق، كما قالوا: صنع يصنع، وقرأ يقرأ من أجل حرف الحلق، وما لم يكن فيه حرف الحلق في موضع عينه أو لامه لم نجز فيه ذلك. فإن قال قائل: إذا قلتم إن الواو تسقط لوقوعها بين ياء وكسرة استثقالا لذلك فهلا أسقطتموها لوقوعها بين ياء وضمة استثقالا لذلك، وهي أثقل في قولك: وضؤ يوضؤ، ووسم يوسم إذا صار وسيما، ووقح الحافر يوقح؟ قيل له: إنما أتموا هذا الباب لأنه لزم طريقا واحدا لا يمكن فيه التغيّر في وزنه، فلما ألزموه ذلك ألزموا التمام فيه، وهو أن باب وعد ووزن هو على فعل، وفعل يجيء مستقبله على يفعل ويفعل، فاقتصروا على يفعل منه لما ذكرنا من العلة، فكان اقتصارهم على يفعل تغيّرا لما يوجبه القياس في مستقبل فعل، فحملهم التغيير في ذلك على أن حذفوا الواو أيضا، وهو تغيير أيضا آخر لما فيه من الاستثقال، فكأنهم أتبعوا التغيير التغيير، وهذا التغيير يسلكه سيبويه كثيرا. وأما قولهم: وسم يوسم فإنه على فعل، ويلزم مستقبل فعل يفعل، فلما لم يغيّر مستقبله الذي هو واجب في الصحيح في مثل: ظرف وكرم لم تحذف الواو منه؛ لأن الأصل هو يفعل فيه، وإن ثبتت الواو، فلما لم يغيّر أحدهما لم يغيّر الآخر. ومما يقوي ذلك أن فعل لا يأتي مستقبله إذا كان في موضع عينه أو لامه حرف من حروف الحلق فيجعل على يفعل، كما يجعل ما كان ماضيه على فعل. فإن قال قائل: فقد تقع الواو بين ياء وكسرة في مثل يوقن ويوصل فهلا حذفت؟ فالجواب فيه نحو ما ذكرنا أن مستقبل أفعل لا يتغير عن يفعل، كما أن مستقبل فعل لا يتغير عن يفعل، ومع ذلك فإن الواو الساكنة إذا كان قبلها ضمة كالإشباع للضمة، والاستثقال لها أقل.

هذا باب افتراق فعلت وأفعلت

وقد ذكر سيبويه أن من العرب من يقول: يجد، وذلك قليل، وحذفوا الواو من يجد؛ لأن الأصل فيه يجد، فسقطت الواو من أجله. " وقالوا: ورم يرم، وورع يرع ورعا وورما، ويورع لغة، ووغر صدره يغر، ووحر يحر وحرا ووغرا، ويوغر ويوحر أكثر، وولي يلي، ووثق يثق، وومق يمق، وورث يرث " وقد كثر في المعتل من هذا الباب فعل يفعل على قلته في الصحيح. والسبب في ذلك كراهتهم الجمع بين ياء وواو لو قالوا: ولي يولي، ووثق يوثق، فحللوه على بناء تسقط فيه الواو، وما كان من الياء فإنه لا تسقط منه الياء، لوقوعها بين ياء وكسرة، كقولهم يئس ييئس، وييس ييس ويسر ييسر من الميسر، ويمن ييمن من اليمن؛ لأن الياء أخف من الواو؛ لأنهم يفرون من الواو إلى الياء، ولا يفرون من الياء إلى الواو، فلما كانت الياء أخف سلّموه إذ كانت فاء الفعل. ومن العرب من يجري الياء مجرى الواو وهو قليل، فيقول: يئس يئس، والأصل فيه ييئس، فسقطت الثانية منه لوقوعها بين ياء وكسرة كسقوط الواو في يعد ويزن. هذا باب افتراق فعلت وأفعلت قال سيبويه: " تقول: دخل وخرج وجلس، فإذا خبّرت أن غيره صيره إلى شيء من هذا قلت: أدخله وأخرجه وأجلسه، وتقول: فزع وأفزعته، وخاف وأخفته، وجال وأجلته. فأكثر ما يكون إذا أردت أن غيره أدخله في ذلك يبنى الفعل منه على أفعلت، ومن ذلك أيضا مكث وأمكثه. وقد يجيء الشيء على فعّلت فيشرك أفعلت، كما أنهما قد يشتركان في غير هذا. وذلك قولك: فرح وفرّحته، وإن شئت قلت أفرحته، وغرم وغرمته وأغرمته إن شئت، كما تقول فزّعته وأفزعته، وقالوا: ملح وملّحته، وسمعنا من العرب من يقول: أملحته، كما تقول: أفزعته. وقالوا: ظرف وظرّفته، ونبل ونبّلته، ولا يستنكر أفعلت فيهما، ولكن هذا أكثر، واستغني به. ومثل أفرحته وفرّحته أنزلت ونزّلته، قال الله عز وجل: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً (¬1)، وكثّرهم وأكثرهم. ويدخل في ذلك عرف زيد أمره وعرّفت زيدا أمره ". ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 37.

قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب يسمى باب نقل الفعل عن فاعله وتصييره مفعولا، وذلك أن الفعل الثلاثي إذا أردت أن تجعل الفاعل فيه مفعولا جئت بفاعل أدخلته في ذلك الفعل، فيصير مفعولا، وعلامة نقل الفعل أن تزيد همزة في أوله، أو تشدّد عين الفعل، وزيادة الهمزة في أوله أكثر وأعمّ، فإن كان الفعل غير متعد تعدى إلى واحد، كقولك: ذهب زيد، وأذهب عمرو زيدا، وجلس زيد، وأجلس عمرو زيدا. وإن كان الفعل متعديا إلى مفعول صار بالنقل متعديا إلى مفعولين؛ لأن فاعله يصير مفعولا، كقولك: لبس الثوب، وألبست زيدا الثوب، ودخل زيد الدار، وأدخل عمرو زيدا الدار. وإن كان متعديا إلى مفعولين تعدى بالنقل إلى ثلاثة، ولا يكون أكثر من ذلك، وذلك قولك: علم عمرا خارجا، ثم تقول: أعلم الله زيدا عمرا خارجا، وقد يجوز أن يكون الفعل يصير فاعله مفعولا على غير لفظ النقل الذي ذكرته لك، وذلك قولك: زاد مالك، وزاد الله مالك، وشحا فوك، وشحا عمرو فا زيد. وقد يجوز أن يدخل أفعل وفعّل على غير وجه النقل، وسنبيّن لك تصرّف وجوه ذلك من كلام سيبويه إن شاء الله. قال سيبويه: " فأما طردته فنّحيته، وأطردته جعلته طريدا " يعني أن أطردته ليس بنقل لطردته، " وطردت الكلاب الصيد، أي جعلت تنحيّه. ويقال: طلعت أي بدوت وطلعت الشمس أي بدت، وأطلعت عليهم أي هجمت عليهم، وشرقت الشمس بدت وأشرقت: أضاءت، وأسرع: عجل، وأبطأ: احتبس. وأما سرع وبطؤ فكأنهما غريزة كقولهم: خفّ وثقل، ولا تنفذهما إلى شيء، كما تقول: طوّلت الأمر وعجّلته. يعني أن أسرع وأبطأ لا يتعديان، وإن كانا على أفعل، ثم فضّل بينهما وبين سرع وبطؤ وإن كان ذلك كله لا يتعدى بأن قال: " سرع وبطؤ كأنهما غريزة "، أي صار طبعه الإسراع والإبطاء، وفي أسرع وأبطأ ليس بطبع. وقوله: " ولا تنفذهما إلى شيء " يعني لا يتعدى أسرع وأبطأ، كما يتعدى طوّلت الأمر وعجّلته. " ويقولون: فتن الرجل وفتنته، وحزن وحزنته، ورجع ورجعته، وزعم الخليل أنك حيث قلت فتنته وحزنته لم ترد أن تقول: جعلته حزينا، وجعلته فاتنا، كما أنك حين قلت أدخلته وجعلته داخلا، ولكنك أردت أن تقول: جعلت فيه حزنا وفتنة فقلت: فتنته، كما قلت: كحلته جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه دهنا " قال أبو سعيد: مذهب سيبويه أن أفعلته الذي للنقل معناه جعلته فاعلا للفعل الذي كان له، أي صيّرته فاعلا، وفعلته أي جعلت فيه ذلك الفعل. فإذا قلت: أدخلته أي جعلته

داخلا. وإذا قلت ضربته أي جعلت فيه ضربا، وإذا قلت: بنيته جعلت فيه بناء، وإذا قلت: أبنيت زيدا الدار معناه جعلته بانيا لها، وكذلك قالوا: فتنت الرجل وأفتنته، فمن قال فتنته أراد جعلت فيه فتنة، ومن قال أفتنته أي جعلته فاتنا. يقال: فتن الرجل فهو فاتن، ويسمّي سيبويه النقل الذي قدمنا ذكره التغيير، ولذلك قال في فتنته وكحلته وحزنته: " لم ترد بفعلته هاهنا تغيير قوله حزن وفتن "، يعني نقله على ما ذكرته لك. " ولو أردت ذلك لقلت أحزنته وأفتنته، وفتن من فتنته كحزن من حزنته. ومثله شتر الرجل وشترت عينه، فإذا أردت تغيير شتر لم تقل إلا أشترته، كما تقول: فزع وأفزعته، وإذا قال: شترت عينه لم يعرض لشتر الرجل، وإنما جاء ببناء على حدة، كأنه قال: جعلت فيه شترا، كما أنك إذا قلت: طردته وأطردته فهما مختلفان، ومثل ذلك: عورت عينه وعرتها ليس بتغيير عورت عينه. وقد قالوا حين أرادوا التغيير والنّقل: أعورت عينه، ومثل ذلك: سودت وسدت غيرى، أي سودته، " وقال نصيب: سودت فلم أملك سوادي وتحته … قميص من القوهيّ بيض بنائقه (¬1) وقال بعضهم: سدت يريد فعلت " تحصيل هذا أنه يقال: اسواددت واسوددت وسودت وسدت بمعنى واحد، وذلك كله غير متعد، يقال من سدت: ساد يسود في معنى اسودّ يسودّ، فإذا أردت المتعدي جاز أن تقول: سدته وسوّدته، فأما سدته فجعلت فيه سوادا، وأما سوّدته فجعلته أسود. " وقالوا: عوّرته، كما قالوا: فرّحته، وقالوا: جبرت يده وجبرتها، وركضت الدابة وركضتها، ونزحت الرّكيّة ونزحتها، وسار الدابة وسرتها. وقالوا: رجس الرجل ورجسته، ونقص الدرهم ونقصته " وبعض العرب يقولون: رجس، " وغاض الماء وغضته " وقد ذكرنا نحو هذا، والمتعدى منه ليس على طريق النقل والتغيير لما لا يتعدى، ولكن على معنى جعلت ذلك الفعل فيه. قال: " وقد جاء فعّلته إذا أردت أن تجعله مفعلا، وذلك: فطّرته فأفطر، وبشّرته فأبشر، وهذا النحو قليل ". ¬

_ (¬1) البيت لنصيب بن رباح، البيت في ديوانه ص 110، وانظر سيبويه: 2/ 234، والمخصص: 14/ 168.

ومعنى ذلك أنه جعل فعّلته نقلا لأفعلت، والباب أن يكون نقلا لفعلت، كما يقال: عرف وعرّفته، ونبل ونبّلته، وفرح وفرّحته. قال: " وأما خطّأته فإنما أردت سمّيته مخطئا، كما أنك حيث قلت: فسّقته وزنّيته، أي سمّيته بالزّنى والفسق، كما يقال حيّيته، أي استقبلته بحياك الله، كقولك: سقّيته ورعّيته، أي قلت سقاك الله ورعاك الله ". فالباب فيما نسبته إلى الشيء أن يكون على فعّلت، كقولك: لحّنته وخطّأته، وصوّبته وجهّلته، ومثله ما يدعي به له أو عليه، كقولك: " جدّعته وعقّرته، أي قلت له: جدعك الله وعقرك، وأفّفت به، أي قلت له: أفّ. وقالوا: أسقيته في معنى سقّيته، تعني به الدعاء له. فدخلت أفعلت على فعّلت، كما تدخل فعّلت عليها. يريد أن الباب في نقل الفعل وتغييره أفعلت، وقد استعملوا فيه فعّلت، كفرّجت وفزّعت، والباب في الدعاء والتسمية فعّلت، وقد أدخلوا عليه أفعلت، فقالوا: سقّيته في معنى دعوت له بالسّقيا. قال ذو الرمة: وقفت على ربع لميّة ناقتي … فما زلت أبكي حوله وأخاطبه وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه … تكلّمني أحجاره وملاعبه (¬1) " قال سيبويه: " ويجيء أفعلته على أن تعرضه لأمر وذلك أقتلته، أي عرّضته للقتل، ويجيء مثل قبرته وأقبرته، فقبرته دفنته، وأقبرته جعلت له قبرا. ويقال: سقيته فشرب، وأسقيته جعلت له ماء وسقيا. قال الخليل: سقيته مثل كسوته، وأسقيته مثل ألبسته. هذا الصحيح؛ لأن في بعض النسخ سقيته مثل كسوته، وأسقيه مثل ألبسته والصواب هذا والأول؛ لأن كسوته معناه جعلت له كسوة وإن لم يلبسها، وألبسته إذا جعلته لابسا، فألبسته مثل سقيته، وكسوته مثل أسقيته على ما ذكر من الفرق بين سقيته وأسقيته، وبعض أهل اللغة ذكر أنه لا فرق بينهما، وأنشد للبيد: سقى قومي بني مجد وأسقى … نميرا والقبائل من هلال (¬2) ¬

_ (¬1) البيت في ديوانه ص: 38، والنوادر ص: 213، والمخصص: 12/ 11، والدرر اللوامع: 1/ 109. (¬2) انظر المخصص: 14/ 169.

قال: " وتقول: أجرب الرجل وانحز وأحال، أي صار صاحب جرب وحيال ونحاز في ماله ". وهذا الباب يجيء على أربعة أوجه: منها أن يكون الرجل صاحب شيء قد صار بتلك الصفة كقولنا: رجل " مشدّ مقطف ومقو "، أي صاحب إبل قويّة وخيل تقطف وإبل شداد. وعلى هذا يقال: امرأة مطفل أي لها أطفال، وظبية مشدن مغزل، أي ولدها غزال وشادن. ومن ذلك يقال: فلان خبيث مخبث، أي هو خبيث في نفسه، وله أصحاب خبثاء، ومنها أن يقال لمن يصادف الشيء على صفة أفعلته، أي صادفته كذلك، كقولك: أبخلت الرجل، أي وجدته بخيلا. وروي أن عمرو بن معد يكرب سأل مجاشع بن مسعود السّلميّ بالبصرة فمدح بني سليم، فقال: (سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم)، أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. ومنها أن يأتي وقت يستحق فيه شيء فيقال لمستحقّه ذلك، كقولك: " أصرم النخل وأمضغ وأحصد الزرع وأجزّ النخل وأقطع، أي قد استحق أن يصرم ويمضغ ويحصد. ويقال في قولهم: " ألام الرجل، أي صار صاحب لائمة "، أي صاحب من يلومه، فإذا صار له لوّام قيل: مليم، كما يقال لصاحب الإبل الجربى: مجرب، ويقال: إنه قيل له: ألام لأنه استحق أن يلام، فصار بمنزلة قولهم: أصرم النخل. ووجه رابع أن يقال: أفعل من الدخول في الشيء، كقولك: أفجرنا، أي دخلنا في وقت الفجر، وأمسينا وأصبحنا وأظهرنا دخلنا في المساء والصباح والظّهر، ومنه يقال: أشملنا وأجئبنا وأصبينا وأدبرنا وإذا دخلنا في الشمال والجنوب، والصبّا والدّبور. ويقال: أشهرنا إذا دخلنا في الشهر، قال الشاعر: ما زلت مذ أشهر السّفّار أنظرهم … مثل انتظار المضحّي راعي الإبل (¬1) وإنما يستعمل ذلك في الأوقات وما جرى مجراها. قال: " وتقول لما أصابه: هذا نحز وجرب وحالت الناقة " يعني أنه ليس يقال للبعير الذي أصابه الجرب في نفسه مجرب، ولا للذي أصابه النحاز منحز، إنما يقال: منحوز، والمنحز صاحبه، والنّحاز: السّمال، وفي غير ذلك إذا لم يكن على الوجوه التي ذكرناها لام الرجل صاحبه وصرم النخل وجذّه وقطفه وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) بلا نسبة في المخصص 14/ 170، واللسان (شهر).

قال سيبويه: " ومثل ذلك: أسمنت وأكرمت فأربط " يقال ذلك للرجل إذا وجد شيئا نفيسا يرغب فيه أن يتمسك به، فمعنى أسمنت أي وجدت سمينا، وأكرمت أي وجدت فرسا كريما أو غير ذلك، فاربط، أي اتّخذه. قال: " فأما أحمدته فوجدته مستحقا للحمد. وقالوا: أراب، كما قالوا: ألام، أي صار صاحب ريبة، كما قالوا: ألام، أي استحق أن يلام. وأما رابني فتقول: جعل فيّ ريبة، كما تقول: قطعت النخل، أي أوصلت إليه القطع " فأراب غير متعد، وراب متعد، لا تقل أرابني ولا أربته، لأنك لم تفعل به إلا رابة، وإنما استوجبت الريبة أو صرت صاحب ريبة. وقال بعض أهل اللغة: رابني إذا تبيّنت منه الريبة، وأراب إذا اتّهم به ولم تتبيّن، ولذلك قال بعض الشعراء: أخوك الذي إن ربته قال: إنما … أربت، وإن عاتبته لان جانبه (¬1) فمعناه إن تبيّن منك ريبة قال لم أتبيّن بعد. ومثل ذلك: أبقّت المرأة، وأبقّ الرجل إذا كثر أولادهما، وهو يدخل في باب المجرب والمنجز، أي لهما أولاد كثير، وإن جئت بالفعل من ذلك قلت: بقّت المرأة ولدا، وبقّت كلاما، كقولك: نثرت ولدا ونثرت كلاما، ومثل المجرب المقطف والمعسر والموسر والمقلّ. وأما عسّرته فمعناه ضيّقت عليه، ويسّرته وسعت عليه. وقد يكون فعلت وأفعلت بمعنى واحد. كأن كل واحد منهما لغة لقوم ثم تختلط، فتستعمل اللغتان كقولك: قلته البيع وأقلته، وشغله وأشغله، وصرّ أذنيه وأصرّ إذا أقامهما، وبكر وأبكر. وقالوا: بكّر فأدخلوها مع أبكر، فبكّر أدخل مع أبكر. كما قالوا: أدنف فبنوه على أفعل، وهو من الثلاثة، ولم يقولوا: دنف. يريد أن الباب من الثلاثة في الأمراض أن يجيء على فعل، فلم يستعملوا ما يوجبه الباب وهو دنف، واستعملوا أدنف. وقالوا: أشكل أمرك ولم يستعملوا غيره، وقالوا: حرثت الظّهر أي أتعبته، والظّهر المركوب، وأحرثت. ¬

_ (¬1) الشاهد في قوله (ربته)، انظر المخصص: 14/ 170، ومعاني القرآن للزجاج: 1/ 31، والحماسة البصرية: 2/ 34، والقصائد السبع ص: 471، واللسان (أربت).

قال: " ومثل أدنفت أصبحنا وأمسينا وأفجرنا شبّهوه بهذه التي تكون في الأحيان، كأن معناه دخلت في وقت الدّنف، كما دخلت في وقت السّحر. قال: " ومثل ذلك: نعم الله بك عينا، وأنعم الله بك عينا " فهذا من باب فعلت وأفعلت بمعنى واحد. ويقال: إن قوما من الفقهاء كانوا يكرهون استعمال هذه اللفظة، وهي نعم الله بك عينا؛ لأنه لا يستعمل في الله (عز وجل) نعم الله. وللقائل أن يقول: الباء في بك بمنزلة التعدي، ألا ترى أنك تقول: ذهب الله به وأذهبه، ومعناهما واحد. وزلته من مكانه وأزلته، وتقول: غفلت، أي صرت غافلا، وأغفلت إذا خبّرت بأنك تركت شيئا، ووصلت غفلتك إليه. وقد يقال: أغفلت الإنسان إذا وجدته غافلا، كما يقال: أجبنته إذا وجدته جبانا، وعلى ذلك يحمل قوله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا (¬1)، أي وجدناه غافلا. وغفلت عنه بمعنى أغفلت. ومثل ذلك: لطف له وألطف غيره، ولطف به كغفل عنه، وألطفه كأغفله. ولطف له بمعنى تلطّف به ورفق به. ويقال: بصر الرجل فهو بصير، إذا خبّرت عن وجود بصره وصحته لا على معنى وقوع الرؤية منه؛ لأنه قد يقال بصير لمن غمّض عينه ولم ير شيئا لصحة بصره، فإذا قلت: أبصر، أخبرت بوقوع رؤيته على الشيء. وتقول: وهم يهم، وأوهم يوهم، ووهم يوهم. فأما وهم يوهم فهو الغلط في الشيء، تقول: وهمت في الحساب أوهم وهما، إذا غلطت فيه، ووهمت إلى الشيء إذا ذهب قلبي إليه أهم وهما، وأوهمت الشيء أوهمه إيهاما إذا تركته كلّه. قال: " وقد يجيء فعّلت وأفعلت في معنى واحد مشتركين، كما جاء فيما صيّرته فاعلا، وذلك: وعزت إليه وأوعزت، وخبّرت وأخبرت، وسمّيت وأسميت ". فقد اشتركا في هذا كما اشتركا في باب نقل الفاعل إلى المفعول في قولك: غرّمته وأغرمته، وفرّحته وأفرحته، وليس هذا من ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 28.

" وقد يجيئان مفترقين " من معنى واحد، فيكون لكل واحد منهما غير معنى الآخر. كقولك: أذّنت وأذنت، وكقولك: علّمته وأعلمته، فعلّمت أدّبت، وأعلمت آذنت، وآذنت أعلمت وأذّنت، إذا ناديت للصلاة. النداء والتصويب بإعلام. وبعض العرب يجري أذّنت وآذنت مجرى سمّيت وأسميت. ويقول: أمرضته إذا جعلته مريضا، ومرّضته إذا قمت عليه ووليته، ومثله أقذيت عينه، أي طرحت فيها القذى وجعلتها قذيّة، وقذّيتها: نظفتها. وقد قيل في قول الله عز وجل: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ (¬1): أذهب الفزع عنها على معنى مرّضته، أي أزلت مرضه. وتقول: أكثر الله فينا مثلك وكثّر. فأما أكثر فمعناه أدخل الله فينا مثلك كثيرا. وأما كثّر فمعناه جعل القليل كثيرا. وكذلك أقللت وقلّلت. فأما أقللت فمعناه جئت بقليل، وكذلك أوتحت، أي جئت بوتح قليل، وقلّلت، أي جعلت الكثير قليلا، وهو في معنى صيّرت. وقد يقال: أقللت وأكثرت في معنى قلّلت وكثّرت. قال: " وتقول: أصبحنا وأمسينا وأسحرنا، وذلك إذا صرت في حين صبح ومساء وسحر. وقد مضى نحو ذلك ". " وأما صبّحنا ومسّينا وسحّرنا فمعناه أتينا صباحا ومساء وسحرا، ومثله بيّتناه أتيناه بياتا ". قال: " وما بني على يفعّل، يشجّع ويجبّن ويقوّى، أي يرمى بذلك ". ومعناه أنه يذكر به وينسب إليه كما تقول: يفسّق ويضلّل. ومثله: قد شيّع الرجل، أي قد رمى بذلك " والمشيّع: الشجاع، كأنه نسب إلى الشجاعة وقيلت فيه. ويقال: أغلقت وغلّقت الأبواب حين أكثروا العمل، وسترى ذلك في باب فعّلت، وإن قلت: أغلقت الأبواب كان عربيّا جيدا، وقال الفرزدق: ¬

_ (¬1) سورة النبأ، الآية: 23.

هذا باب دخول فعلت على فعلت لا يشركه في ذلك أفعلت

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها … حتّى أتيت أبا عمرو عمّار (¬1) قال أبو سعيد: اعلم أن اللفظ يدلّ به على التكثير، فهو تشديد عن الفعل في الفعل، وإن كان قد يقع التشديد لغير التكثير، كقولنا: حرّكته، ولا تريد كثيرا. فما يدل على التكثير أنك تقول: أغلقت الباب الواحد، ولا تقول: (غلّقته، وتقول: غلّقت الأبواب، وتقول: ذبحت الشاة، ولا تقول: ذبّحتها، وتقول: ذبّحت الغنم. وأما سائر الأفعال فليس فيها دليل على أحدهما، وقد يقع للقليل والكثير، فمن أجل ذلك يجوز أن تستعملها للكثير، فتريد بها ما تريد بالمشدّد، ومن أجل ذلك صار أغلق أبوابا بمعنى أغلّق أبوابا، وقوله: وأفتحها بمعنى أفتّحها. وقد أعاد سيبويه هذا البيت بعينه في الباب الذي يلي هذا شاهدا في أن أفتحها في معنى أفتّحها، وفي هذا الموضع أغلق في معنى أغلّق. وقد استعملوا أنزل ونزل في معنى واحد، وقد يستعمل نزل في معنى الكثير. فأما أنزل ونزل بمعنى واحد غير التكثير فقوله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (¬2)، وقال عز وجل: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً (¬3)، فهذا لغير التكثير؛ لأن آية واحدة لا يقع فيها تكثير الإنزال. وكان أبو عمرو يختار التخفيف في كل موضع ليس فيه دلالة من الخط على التثقيل إلا في موضعين: أحدهما قوله عز وجل: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (¬4) اختار التثقيل في هذا؛ لأنه تنزيل بعد تنزيل، فصار من باب التكثير. والموضع الآخر: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً فاختار التثقيل في ينزل حتى يشاكل نزل؛ لأن المعنى واحد. فالأول للتكثير، وهذا للمطابقة، وليس فيها تكثير. وقد يجوز أن يكون بيّن في معنى أبان، ويجوز أن يكون للتكثير. هذا باب دخول فعّلت على فعلت لا يشركه في ذلك أفعلت قال سيبويه: " تقول: كسرتها وقطعتها، فإذا أردت كثرة العمل قلت: كسّرتها ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 1/ 107. (¬2) سورة محمد، الآية: 20. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 37. (¬4) سورة الحجر، الآية: 21.

وقطّعتها، ومما يدلّك على ذلك قولهم: علّطت البعير، وإبل معلّطة، وبعير معلوط، ولا يقال: معلّط؛ لأن الإبل كثير، فقد تكرر فيه العلاط، وعلى هذا شاة مذبوح، وغنم مذبّحة، وباب مغلق وأبواب مغلّقة. وجرحت الرجل إذا جرحته مرة أو أكثر، و " جرّحته " إذا أكثرت الجراحات في جسده. وقالوا: ظلّ يفرّسها السّبع ويؤكّلها إذا أكثر ذلك فيها. وقالوا: موّتت وقوّمت إذا أردت جماعة الإبل أنها ماتت وقامت. وقالوا: ولدت الشاة وولّدت الغنم؛ لأنها كثيرة. وقالوا: يجوّل ويطوّف، يكثر الجولان والطّوف. قال: " واعلم أن التخفيف في هذا كله جائز عربي، إلا أن فعّلت إدخالها هاهنا لتبيّن الكثير، وقد يدخل في هذا التخفيف، كما أن الركبة والجلسة معناهما في الركوب والجلوس، ولكن بيّنوا بها الضّرب، كما أن هذا بناء خاص للتكثير " يريد أن التخفيف قد يجوز أن يراد به القليل والكثير، فإذا شدّدت دللت به على الكثير، وقد مضى هذا، كما أن الركوب والجلوس قد يقع لقليل الفعل وكثيره ولجميع صنوفه، فإذا قلت: الركبة والجلسة على هيئته وحاله. وإذا قلت: الركبة والجلسة دل على مرة واحدة، والجلوس قد يجوز أن يراد به المرة، ويجوز أن يراد به الهيئة التي تقع عليها الجلسة، فصار اختصاص الجلسة والجلسة بشيء خاص كاختصاص يطوّف ويجوّل بشيء خاص، وصار الركوب والجلوس بمنزلة يجوّل ويطوّف في أنه يصلح للأمرين. قال: " وكما أن الصوف والريح قد يكون فيه معنى صوفة وريحة ". يريد أنك إذا قلت: شممت ريحا فيجوز أن تريد معنى الرائحة، كأنه جعل الرائحة للواحدة والريح للجنس، فهذا في الاستعمال، قال الله عز وجل: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ (¬1)، فعبّر عنها بالريح وهي للكثير، فأما الرائحة فأكثر ما تستعمل فيما يفوح في دفعة واحدة ثم أنشد: ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ثم قال: " وفتحت أحسن في هذا، كما أن قعدة في ذلك أحسن " يريد أن اللفظ الخاص الموضوع لمعنى أكشف لذلك المعنى من أن يأتي مبهما. ¬

_ (¬1) سورة النبأ، الآية: 12.

وقد قال الله عز وجل: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (¬1). وقال: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً (¬2) فهذا وجه فعلت وفعّلت مبيّنا في هذه الأبواب، وهكذا صفته ثم ذكر: " باب ما طاوع الذي فعله على فعل يكون على انفعل وافتعل " والباب فيه انفعل، وافتعل قليل. تقول: كسّرته فانكسر، وحطمته، فانحطم، وحسرته فانحسر، ودفعته فاندفع. ومعنى قولنا مطاوعة أن المفعول به لم يمتنع مما رامه الفاعل، ألا ترى أنك تقول فيما امتنع مما رمته دفعته فلم يندفع، وكسّرته فلم ينكسر؛ أي أوردت أسباب الكسر فلم تؤثر. وتقول: شويه فانشوى، وبعضهم يقول: فاشتوى، بمعنى شويته فانشوى. وقد تقول: اشتويته بمعنى شويته؛ أي اتخذته مشويّا، وكذلك اطبّخت في معنى طبخت؛ أي اتخذت طبيخا. " وتقول: غممته فاغتمّ، وانغمّ عربية، وصرفته فانصرف ". وأما أفعلت الشيء فمطاوعه هو الفعل الذي دخل عليه أفعلت، كقولك: " أدخلته فدخل وأخرجته فخرج. غير أن الأصل في قولك: قطعته فانقطع، قطعت الأصل وانقطع فرعه المطاوع. وقوله: أدخلته فدخل، الأصل دخل، وقولك: أدخلته أي صيّرته داخلا. " وربما استغني عن انفعل في هذا الباب فلم يستعمل، وذلك قولهم: طردته فذهب، ولا يقولون: انطرد، ولا فاطّرد "، استغنوا عنه كما استغنوا بترك عن ودع. ونظير هذا من المطاوعة فعّل تفعّل، كقولك: كسّرته فتكسّر، وعشيّته فتعشى، وغدّيته فتغدّى، وفي فاعلته فتفاعل كقولك: ناولته فتناول، وفتحت التاء؛ لأن معناه معنى الافتعال والانفعال. يعني تاء تفاعل فتحت؛ لأنها أول فعل ماض سمي فاعله، وإن كانت زائدة للمطاوعة كالافتعال والانفعال، وليست بألف وصل، دخولها لسكون لما بعدها. " ونظير ذلك في بنات الأربعة على مثال تفعلل، نحو: دحرجته فتدحرج، وقلقلته فتقلقل، ومعددته فتمعدد، وصعررته فتصعرر ". ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 50. (¬2) سورة القمر، الآية: 12.

هذا باب ما جاء فعل منه على غير فعلت

ومعنى معددته حملته على الخشونة والصّلابة، قال الشاعر: ربّيته حتى إذا تمعددا … وآض نهدا كالحصان أجردا كان جزائي بالعصا أن أجلدا (¬1) ومعنى صعررته دورته. قال: " وأما تقيّس وتنزر وتتمّم فإنما يجري على نحو كسّرته، كأنه قال: تمّم فتتمّم، وقيّس فتقيس، ونزر فتنزر ". ومعنى قيّس نسب إلى نزار، وتقيّس انتسب إلى قيس، وتتمّم انتسب إلى تميم، وتنزر انتسب إلى نزار. قال ذو الرمة: إذا ما تمضّرنا فما الناس غيرنا … ونضعف إضعافا ولم نتمضّر (¬2) أي انتسبنا إلى مضر. قال: " وكذلك كل شيء على زنة فعللته، عدد حروفه أربعة ما خلا أفعلت، فإنه لم يلحق ببنات الأربعة ". يريد أن كل شيء من الفعل كان ماضيه على أربعة أحرف يجوز أن تزاد في أوله التاء ما خلا أفعلت، فإنه لا تزاد فيه التاء. والذي تزاد فيه التاء ثلاثة أبنية: فعللت وما كان ملحقا به فعللت، كقولك: دحرجت مرهفت وعذلجت، تقول فيه: تسرهف وتعذلج، وفاعلت كقولك: عالجته فتعالج، وفعّلت كقولك: كسّرته فتكسّر، ولا تقع زيادة في باب أفعلت، لا تقول: أكرمته فتأكرم، ولا يجوز ذلك فاعرفه. هذا باب ما جاء فعل منه على غير فعلت قال سيبويه: " وذلك نحو: جنّ وسلّ وزكم وورد "، ومعنى ورد: حمّ، وكذلك وعك، ومورود وموعوك ومحموم بمعنى واحد. وقال على هذا: مجنون ومسلول ومحموم ومورود، وإنما جاءت هذه الحروف على جننت وسللت، وإن لم يستعمل في الكلام ". كما أن رجلا أقطع جاء على قطع، وكما يقال: أعور من عور، ولا يستعمل قطع، ¬

_ (¬1) انظر المنصف: 3/ 20، وكتاب الاشتقاق ص: 31. (¬2) البيت في ديوانه ص: 236، وانظر المخصص: 14/ 176.

هذا باب دخول الزيادة في فعلت للمعاني

استغني عنه بقطع، وقال بعضهم: رجل محبوب، وكان حقه أن يقال في فعله: حببته فهو محبوب. وقال بعضهم: حببته. قال الشاعر: فو الله لولا تمره ما حببته … ولا كان أدنى من عبيد ومشرق (¬1) وذكر أن بعض القراء قرأ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ (¬2)، وذكر غير سيبويه أن هذه الأشياء ليست من أفعال الآدميين قد جاءت على مفعول، وفعله فيما لم يسمّ فاعله إذا نسب الفعل إلى الله عز وجل كان على أفعل، فيقال: أجنّة الله، وأسلّه وأزكه وأورده، أي فعل الله به ذلك. هذا باب دخول الزيادة في فعلت للمعاني " اعلم أنك إذا قلت فاعلته فقد كان من غيرك إليك مثل ما كان منك إليه حين قلت فاعلته، ومثل ذلك: ضاربته وفارقته، وعازّني وعازرته وخاصمته " كذلك سائر ما يكون الفعل منه بين اثنين كقاتلته وشاتمته وما أشبه ذلك. فإذا غلب أحدهما كان فعله على فعل يفعل وإن كان المستعمل في الأصل على يفعل. قال سيبويه: واعلم أن يفعل من هذا الباب على مثال يخرج، تقول: خاصمني فخصمته أخصمه، وتقول: غالبني فغلبته أغلبه، وشاتمني فشتمته أشتمه ". إلا أن يكون فيه من الحروف ما يلزم فيه يفعل أو يفعل فيجري عليه، فمن ذلك ما لامه أو عينه ياء، أو فاؤه واو، فإنه يجيء على فعل يفعل؛ لأن ذلك يلزم فيه في الأصل قياسا لا ينكسر، فتقول: بايعني فبعته أبيعه، وراماني فرميته أرميه، وواعدني فوعدته أعده، وواخذني فوخذته أخذه. " وعازّني فعززته أعزّه ". قال: " وليس في كل شيء يكون هذا، ألا ترى أنك لا تقول: نازعني فنزعته، استغني عنها بغلبته وأشباه ذلك " ومما جاء من هذا الباب قولك: طاولته فطلته، وتقول: طال زيد عمرا إذا غالبه في الطول فغلبه، ويكون الفعل متعديا، فإن لم ترد هذا لم يتعد فعله، وكان على فعل، ¬

_ (¬1) انظر ابن يعيش: 7/ 138، وخزانة الأدب: 4/ 122، والخصائص: 2/ 220، وشواهد المغنى: 2/ 780، والمرصفي في رغبة الآمل: 4/ 4، واللسان (حبب). (¬2) سورة آل عمران، الآية: 31.

كقولك: طال يطول فهو طويل، قال الشاعر: إنّ الفرزدق صخرة عادية … طالت فلا تسطيعها الأوعالا (¬1) يعني طالت الأوعال، على معنى غلبتها في الطول، فهذا الباب في فاعلت. قال سيبويه: " وقد يجيء فاعلت لا تريد به عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت، كقولك: ناولته وعاقبته وعافاه الله وسافرت وظاهرت " ومعنى ظاهرت عليه، أي أضعفت عليه لباسه، كقولك: ظاهر عليه درعين وثوبين، أي جعل أحدهما ظهارة والآخر بطانة، ومن هذا قولهم: تظاهرت نعم الله عليه، وظاهرت كتبه إليه أي تابعت بعضها لبعض فصار بعضها أظهر لبعض، فصارت هذه الأفعال كسائر الأبنية التي ترد فيما يتعدى من الأفعال كقولك: أكرمته وما أشبه ذلك. " وقالوا: ضاعفت وضعّفت، وناعمته ونعّمته، كما قالوا: عاقبته، وتقول: تعاطينا تعطّينا، فيكون تعاطيه من اثنين " وكأنك قلت: عاطيته الكأس، أي أعطاني كأسا فأعطيته مثلها، فإذا قلت: تعطّينا فقد أردت التكثير في هذا المعنى. قال: " ولا يجوز أن يكون معملا في مفعول ولا يتعدى الفعل إلى منسوب، ففي تفاعلنا يلفظ بالمعنى الذي كان في فاعلته، وذلك قولك: تضاربنا وتقاتلنا " قال أبو سعيد: اعلم أن فاعلته يجوز أن يكون من فعل متعدّ إلى مفعول ثان غير الذي يفعل بك مثل فعلك، ويجوز أن لا يكون متعديا إلى غيرك، والذي لا يكون متعديا أكثر، كقولك: ضاربت زيدا أو شاتمته، وليس بعد زيد مفعول آخر، فإذا قلت تضاربنا وتشاتمنا فقد ذكرت فعل كل واحد منكما بالآخر ولا مفعول غيركما، وهو الذي أراد سيبويه أنه لا يكون معملا في مفعول. وقد يجوز أن يكون الفعل متعديا إلى مفعولين في الأصل، فيؤتى بمفعول آخر في قولك: فتفاعلنا، وذلك قولك: عاطيت زيدا الكأس ونازعته المال، فإذا جعلت الفعل لنا قلت: تعاطينا الكأس وتنازعنا المال، قال الشاعر: فلمّا تنازعنا الحديث وأسمحت … هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال (¬2) وقال الأعشى: ¬

_ (¬1) قال الأعلم في هامش سيبويه: 2/ 356، وانظر آمال الشجري: 1/ 194، والمنصف: 3/ 41. (¬2) قائله امرؤ القيس في ديوانه 32.

هذا باب استفعلت

نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا … وقهوة مزّة راووقها خضل (¬1) وقال عمر بن أبي ربيعة: ولمّا تفاوضنا الحديث وأسفرت … وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا (¬2) وقد يجيء تفاعلوا وافتعلوا في معنى واحد، كقولك: تضاربوا واضطربوا، وتقاتلوا واقتتلوا، وتجاوروا واجتوروا، وتلاقوا والتقوا، وقد يجيء تفاعلت على غير معنى فاعلته فتفاعلنا، كما جاء عاقبته ونحوها وأنت لا تريد بها الفعل من اثنين، وذلك قولك: تقاربت من ذلك وتراءيت له، وتقاضيته وتماريت في ذلك " أي شككت " وتعاطيت منه أمرا قبيحا، وقد يجيء تفاعلت ليريك أنه في حال ليس فيها، من ذلك قوله: تغافلت وتعاميت وتعاشيت وتعارجت " إذا رأيت من نفس ما ليس فيك. من ذلك قال الشاعر: إذا تخازرت وما بي من خزر … ثمّ كسرت العين من غير عور ألفيتني ألوي بعيد المستمر … أحمل ما حمّلت من خير وشر (¬3) ومعنى تخازرت صغّرت عيني، وما كانت عينه صغيرة. ويقال: تذاءبت الرياح إذا جاءت من كل ناحية. هذا باب استفعلت قال سيبويه: " تقول استجدته، أي أصبته جيدا، واستكرمته أي أصبته كريما، واستعظمته أي أصبته عظيما، واستسمنته أي أصبته سمينا. وقد يجيء على غير هذا المعنى، كما جاء تذاءبت وعاقبت " قال أبو سعيد: اعلم أن أصل استفعلت الشيء في معنى طلبته واستدعيته، وهو الأكثر، وما خرج عن هذا فهو يحفظ وليس بالباب، وأنا أسوقه إليك على ما قال سيبويه، ويكون أيضا استفعلته على معنى أصبته، وهو كالباب فيه، ولذلك قال سيبويه: " وقد يجيء على غير هذا المعنى كما جاء تذاءبت الريح وعاقبت "، وليس بالباب، وقد مضى الكلام فيه، وتقول: استلأم إذا لبس اللأمة، واستخلف لأهله، كما تقول: أخلف ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 14/ 179. (¬2) انظر رواية الديوان ص: 171، والمخصص: 14/ 179، والكامل: 2/ 203. (¬3) انظر ديوان العجاج ص: 319، ومجالس ثعلب: 1/ 9.

والمعنى واحد. وتقول: استعطيت، أي طلبت العطيّة، واستعتبته، أي طلبت إليه العتبى، وهي الرّضا من العتب، " واستفهمت، أي طلبت أن يفهمني، وكذلك استجرت واستثرت واستخرجته، أي لم أزل أطلب إليه حتى خرج. وقد يقولون: اخترجته شبهوه بافتعلت وانتزعته ". وذكر أبو بكر مبرمان عن أصحابه الذين أخذ منهم التفسير أن استخرجته طلبت خروجه وقتا بعد وقت، واخترجته أخرجته دفعة، كما قالوا: انتزعته. " وقالوا: قرّ في مكانه واستقرّ، وقالوا: جلب الجرح وأجلب " والمعنى واحد. قال سيبويه: وأما استحقّه فإنه يقول: طلب حقه، واستخفّه: طلب خفّته، واستعمله: طلب إليه العمل، واستعجلت زيدا إذا طلبت عجلته، فإذا قلت: استعجلت غير متعدّ إلى مفعول فمعناه طلبت ذلك من نفسي وكلّفتها إياه. والباب في استفعلت الشيء أن يكون للطلب أو الإصابة، كقولك: استجدته، وما عدا ذلك فإنه يحفظ حفظا، كقولك: " علا قرنه واستعلاه، وقرّ في المكان واستقرّ، ومنه في التحول من حال إلى حال: استنوق الجمل، إذا تخلّق بأخلاق الناقة، واستتيست الشاة إذا أشبّهت بالتيس. قال: " وإذا أراد الرجل أن يدخل نفسه في أمر حتى يضاف إليه ويكون من أهله فإنك تقول: تفعّل، وذلك تشجّع وتبصّر وتحلّم وتجلّد وتمرّأ، وتقديرها تمرّع، أي صار ذا مروءة، وقال حاتم طيّيء: تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم … ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما (¬1) وليس هذا بمنزلة تجاهل؛ لأن هذا يطلب أن يصير حليما. وتجاهل يري من نفسه غير الذي هو، وقد مضى ذلك. " وقد تجيء تقيّس وتنزر وتعرّب على هذا ". يعني أنه يقال للرجل: تقيّس إذا دخل في قيس حتى يضاف إليه، ويكون من أهله، وكذلك تنزر إذا دخل في نسب نزار. وقد دخل استفعل هاهنا، قالوا: تعظم واستعظم، وتكبّر واستكبر، كما شارك تفاعلت تفعّلت الذي ليس في هذا المعنى، ولكنه استثبات، وذلك قولهم: ¬

_ (¬1) انظر ملحق ديوانه ص: 312، ديوان حاتم الطائي ص: 81.

تيقّنت واستيقنت، وتبيّنت واستبنت، وتثبّتّ واستثبتّ، ومثل ذلك، يعني تحلّم، تقعّدته، أي ريّئته عن حاجته وعفته، ومثله تهيّبتني البلاد، وتكأدني ذلك الأمر " معناه هابني أهل البلاد، وتكأدني معناه شقّ عليّ، من قولهم للمكان الشّاقّ المصعد كؤود وكأداء. قال سيبويه: وأما قوله: تنقّصته وتنقّصني فكأنه الأخذ من الشيء الأول فالأول. وأما تفهّم وتبصّر وتأمّل فاستثبات بمنزلة تيقّن، وقد يشركه استفعل، نحو: استثبت. وأما يتجرّعه ويتحسّاه ويتفوّقه فهو يتنقّصه؛ لأنه يأخذ منه شيئا بعد شيء، وليس من معالجتك الشيء بمرة واحدة، ولكنه في مهلة. وأما تعقّله فنحو: تقعّده، لأنه يريد أن يختله عن أمر يعوقه عنه، ويتملّقه نحو ذلك؛ لأنه إنما يديره عن شيء. وقالوا: تظلّمني، أي ظلمني مالي، فبناه على تفعّل، كما قالوا: جزته وجاوزته، وهو يريد شيئا "، قال الشاعر. تظلّمني حقّي كذا ولوى يدي … لوى يده الله الذي هو قاتله (¬1) " وقلته وأقلته، ولقت وألقت، وهو إذا لطخته بالطين، وألقت الدواة ولقتها. وأما تهّيبه فإنه حصر ليس فيه معنى شيء مما ذكرنا، كما أنك تقول: استعليته لا تريد إلى معنى علوته " يريد أن معنى تهيّبه في معنى هابه، ولم يبن على تفعّل لزيادة معنى في فعل، كما أن استعليته لم يزد معناه على علوته، ومعنى قوله: " فإنه حصر "، يريد أن الهيبة حصلت للإنسان عن الإقدام. " وأما تخوفه فهو أن يوقع أمرا يقع بك، فلا تأمنه في حالك التي تكلمت فيها. وأما خافه فقد يكون وهو لا يتوقّع منه في تلك الحال شيئا " قال أبو سعيد: فرّق سيبويه بين تخوّف وخاف، ولم يفرّق بين تهيّب وهاب. قال سيبويه: " وأما تخوّنته الأيام فهو تنقّصته، وليس في تخوّنته من هذه المعاني شيء، كما لم يكن استنهيته في نهيته ". يريد أنه ليس في تخوّفته معنى خفته المطلق، كما لم يكن في نهيته معنى استنهيته؛ ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 14/ 182، وخزانة الأدب للعيني: 1/ 98، وابن الأنباري ص: 191، أبي حاتم السجستاني ص: 128، وأبي الطيب اللغوي: 1/ 475، وشرح الملوكي ص: 77، معجم الشعراء ص: 189، واللسان (ظلم).

هذا باب موضع افتعلت

لأن استنهيته إنما هو معاودته في النهي، ونهيته هو النهي مطلقا، وقد بين هو الفصل بين تخوّفته وخفته. " وأما يتسمّع ويتحفّظ فهو يتبصّر "، قال: " وهذه الأشياء نحو يتجرّع ويتفوّق لأنها في مهلة ". يعني أنه ليس يسمع في مرة واحدة، وإنما هو شيء يتصل، ومعنى يتفّوّق أنه يتشرّبه بعد شيء، وهو مأخوذ من الفراق. ومثل ذلك تخيّره، كأنه تمهّل في اختياره. وأما التغمّج والتعمّق والتدخّل فنحو من هذا؛ لأنه عمل بعد عمل في مهلة " والتغمّج الشرب، والتعمّق التشديد. وأما تنجّز حوائجه واستنجز فهو بمنزلة تيقّن واستيقن في شركة استفعلت في الاستثبات، والتقعّد والتحجّز والتنقّص، وهذا النحو كله في مهلة وعمل. قد بيّن وجوه تفعّل الذي ليس فيه مهلة. هذا باب موضع افتعلت تقول: اشتوى القوم، أي اتخذوا شواء، وأما شويت فكقولك: أنضجت، وكذلك اختبز وخبز، واطّبخ وطبخ، واذّبح وذبح. فأما ذبح فمنزلة قوله: قتله، وأما اذّبح فتقول: اتخذ ذبيحة، وقد يبنى على افتعل ما لا يراد به شيء من ذلك، كما بنوا على أفعلت وغيره من الأبنية، وذلك افتقر واشتدّ، فقالوا هذا كما قالوا: استلمت، فبنوه على افتعل، كما بنوا على أفعل. يريد أنهم يبنون على افتعل ما لا يراد به إلا معنى فعل لا زيادة فيه، ولا يستعمل إلا بالزيادة، كقولهم: افتقر فهو فقير، ولا يستعمل فقر. وقالوا: اشتد الأمر فهو شديد، ولا يستعمل بغير الزيادة في هذا المعنى. وقالوا: استلم الحجر، ولم يقولوا: أسلمه، ولا سلّمه. ومثل هذا في أفعل قولهم: أفلح الرجل وما أشبهه ولا يستعمل بغير الزيادة. قال سيبويه: " وأما كسب فإنه أصاب، واكتسب فهو التصرّف والطلب والاجتهاد بمنزلة الاضطراب ". قال أبو سعيد: فرّق سيبويه بين كسب واكتسب، وقال غيره: لا فرق بينهما، قال

هذا باب افعوعلت وما هو على مثاله مما لم تذكره

الله عز وجل: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (¬1)، والمعنى واحد. قال سيبويه: " وأما قولك: حبسته فبمنزلة قولك: ضبطته، واحتبسته بمنزلة اتخذته حبيسا، كأنه بمنزلة شوى واشتوى. وقالوا: ادّخلوا وادّلجوا وتدخّلوا وتولّجوا " والمعنى دخلوا، قال الشاعر: رأيت القوافي يتّلجن موالجا … تضايق عنها أن تولّجها الإبر (¬2) " وقالوا: قرأت واقترأت، يريدون شيئا واحدا، كما قالوا: علاه واستعلاه وخطف واختطف. وأما انتزع فإنما هو خطفة، كقولك: استلب، وأما نزع فهو تحويلك إياه وإن كان على نحو الاستلاب، وكذلك قلع واقتلع وجذب واجتذب. وأمّا اصطبّ الماء فبمنزلة اشتوه، كأنه يقول: اتّخذه لنفسك، وكذلك اكتل واتّزن. وقد يجيء على وزنته وكلته فاكتل واتّزن ". وقد أنشد سيبويه آخر الباب عقيب ما أمللته: وقال رؤبة: يعرضن إعراضا لدين المفتن (¬3) وليس بشاهد لما تقدّمه، فقال بعض أصحابنا: يريد أن الفتن والفتون واحد، فقال: فتن وأفتن، فجاء هذا كما جاء قلع واقتلع، وجذب واجتذب. هذا باب افعوعلت وما هو على مثاله مما لم تذكره " قالوا: خشن، وقالوا: اخشوشن، وسألت الخليل فقال: كأنهم أرادوا المبالغة والتوكيد، كما أنه إذا قال: اعشوشبت الأرض فإنما يريد أن يجعل ذلك عاما كثيرا قد بالغ، وكذلك احلولى، وربما بني عليه الفعل فلم يفارقه، كما أنه قد يجيء الشيء على أفعلت وافتعلت ونحو ذلك لا يفارقه بمعنى، ولا يستعمل في الكلام إلا على زيادة. يريد أن افعوعل ربما جاء من لفظه ومعناه الفعل بغير زيادة، كقولهم: حلا واحلولى، وخلق الشيء واخلولق، وربما جاء بالزيادة ولا يستعمل بحذفها، كقولهم: اذلولى، وذكرا أفعالا فيها زيادات ولم تستعمل إلا بها، كقولهم: " اقطرّ النبت واقطارّ إذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 286. (¬2) انظر المخصص: 14/ 183، وشرح التصريح على التوضيح: 2/ 390، وسر صناعة الإعراب: 1/ 163، واللسان (ولج). (¬3) انظر سيبويه: 2/ 241.

هذا باب ما لا يجوز فيه فعلته

ولّي وأخذ يجف، وابهارّ الليل، إذا اشتدت ظلمته وتوسّط، وهو مأخوذ من البهرة، وبهرة الشيء وسطه، وكذلك: " ابهارّ القمر إذا كثر ضوؤه "، وكذلك " ارعويت " لم يستعمل إلا بالزيادة، " واجلوّذ إذا جدّبه السير، واعلوّطه إذا لاركبه بغير سرج، " واعرّوريت الفلوّ إذا ركبته عريا "، ومما استعمل بالزيادة " اقشعرّ واشمأزّ واسحنكك اسودّ "، ولم يستعمل إلا بالزيادة، يقال: شعر سحكوك إذا اسودّ، وهو فعلول، وإحدى الكافين زائدة، قال الشاعر: واستنوكت وللشّباب نوك … وقد يشيب الشّعر السّحكوك (¬1) قال سيبويه: " وأرادوا بافعنلل أن يبلغوا به بناء احرنجم، كما أنهم أرادوا بصعررت بناء دحرجت ". قال أبو سعيد: يريد أنهم ألحقوا قعنسس واسحنكك باحرنجم بزيادة سين على اقعنسس، وكاف على اسحنكك، كما ألحقوا صعررت بدحرجت، بإحدى راءيّ صعررت، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما لا يجوز فيه فعلته (¬2) هذا باب مصادر ما لحقته الزوائد من الفعل من بنات الثلاثة قال سيبويه: " فالمصدر على أفعلت إفعالا أبدا، وذلك قولك: أعطت إعطاء وأخرجت إخراجا. وأما افتعلت فمصدره افتعالا، وألفه موصولة، كما كانت موصولة في الفعل، وكذلك ما كان على مثاله. ولزوم الوصل هاهنا كلزوم القطع في أعطيت، وذلك قولك: احتبست احتباسا، وانطلقت انطلاقا " وجملة الأمر أن ما كان من الفعل في أول ماضيه ألف وصل فمصدره أن يزاد قبل آخره ألف، ويؤتى بحروفه مع ألف الوصل، وذلك تسعة أبنية: ثلاثة منها خماسية وستة سداسية. فأما الخماسية فافتعلت افتعالا، نحو: احتبست احتباسا، وانفعلت انفعالا، نحو: انطلقت انطلاقا، وافعللت افعلالا، نحو: احمررت احمرارا. وأما السداسية فاستفعلت استفعالا، كقولك: استخرجت استخراجا، وافعاللت افعيلالا، ¬

_ (¬1) انظر المخصص: 14/ 184. (¬2) أسقط أبو سعيد هذا الباب، وكأنه رأى أنه ليس في حاجة إلى شرح. انظر سيبويه: 2/ 242 - 243.

كقولك: اشهاببت اشهيبابا، وافعنللت افعنلالا، كقولك: اقعنسست اقعنساسا واحرنجمت احرنجاما، وافعولت افعوّالا، كقولك: اجلوذت اجلوّاذا، وافعوعلت افعيعالا، كقولك: اغدودنت اغديدانا، وافعلّلت افعلالا، كقولك: اقشعررت اقشعرارا. قال سيبويه: " وأما فعّلت فالمصدر منه التفعيل، جعلوا التاء التي في أوله بدلا من العين الزائدة في فعّلت، وجعلوا الياء بمنزلة ألف الإفعال، فغيّروا أوله كما غيروا آخره، وذلك قولك: كسّرته تكسيرا، وعذّبته تعذيبا. وقد قال قوم: كلّمته كلّاما وحمّلته حمّالا، أرادوا أن يجيئوا به على الإفعال فكسّروا أوله " قال أبو سعيد: من قال كلّمته كلّاما فهو نحو: أفعل إفعالا؛ لأن إفعالا على حروف أفعل، وقد زيد في آخره ألف وكسر أوله، فكذلك كلّام وحمّال قد زيد قبل آخره ألف وكسر أوله، وأتي بحروف الفعل على جملتها. وأما مصدر تفعّلت فإنه التفعّل، جاءوا به بجميع ما في تفعّل وضموا العين لأنه ليس في الكلام اسم على تفعّل. ولم يزيدوا ياء ولا ألفا قبل آخره؛ لأنهم جعلوا زيادة التاء في أوله وتشديد عين الفعل منه عوضا مما يزاد، وذلك قولك: تكلّمت تكلّما، وتقوّلت تقوّلا. قال: " وأما الذين قالوا: كذّابا، فإنهم قالوا: تحّملت تحمّالا، أرادوا أن يدخلوا الألف كما أدخلوها في أفعلت واستفعلت " يعني أنهم أتوا بحروف الفعل بأسرها وزادوا قبل آخرها ألفا، وكسروا أولها كما يفعلون ذلك في مصدر أفعلت واستفعلت، وإنما يزيدون في المصدر ما لم يكن في الفعل، لأن المصدر اسم، والأسماء أخف من الأفعال وأحمل للزيادة ". " وأما فاعلت فإن المصدر منه الذي لا ينكسر أبدا مفاعلة، جعلوا الميم عوضا من الألف التي بعد أول حرف منه، والهاء عوض من الألف التي قبل آخر حرف، وذلك: جالسته مجالسة وقاعدته مقاعدة وشاربته مشاربة، وجاء كالمفعول؛ لأن المصدر مفعول ". قال أبو سعيد: كلام سيبويه في هذا مختلّ، وقد أنكر، وذلك أنه جعل الميم عوضا من الألف التي بعد أول حرف منه، وذلك غلط، لأن الألف التي بعد أول حرف هي موجودة في مفاعلة، ألا ترى أنك تقول: قاتلت، وبعد القاف ألف زائدة، وتقول: مقاتلة

هذا باب ما جاء المصدر فيه من غير الفعل لأن المعنى واحد

في المصدر، وبعد القاف ألف زائدة، فالألف موجودة في المصدر والفعل، فكيف تكون الميم عوضا من الألف، والألف لم تذهب. وأما قوله: " جاء كالمفعول "، يعني مجالسة، لفظ كلفظ مجالس وهو المفعول من جالسته، والجيد في هذا ما وجدته في نسخة أبي بكر مبرمان، وهو أن هذه المصادر جاءت مخالفة للأصل كفعلت، وذلك أن فعلت يجيء مصدره مخالفا لما يوجبه قياس الفعل، وتزاد في أوله الميم، كما يقال: ضربه مضربا، وشربته مشربا، وقد تزاد فيه مع الميم الهاء، كما يقال المرحمة، وألزموا الهاء في هذا لما ذكره من تعويض الألف التي قبل آخر المصدر. قال سيبويه: " وأما الذين يقولون: تحملت تحمّالا فإنهم يقولون: قاتلت قيتالا، فيوفرون الحروف ويجيئون به على مثال إفعال، وعلى مثال قولهم: كلّمته كلّاما، وقالوا: ماريته مراء، وقاتلته قتالا " قال أبو سعيد: يريد أنهم يأتون بحروف فاعل موفّرة ويزيدون الألف قبل آخرها ويكسرون أول المصدر، فإذا كسروه انقلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها فيصير فيعالا، وقد يحذفون هذه الياء لكثرة هذا المصدر في كلامهم، ويكتفون بالكسرة، فيقولون: قتالا ومراء، واللازم عند سيبويه في مصدر فاعلت المفاعلة، وقد يدعون الفعال والفعال في مصدره ويدعون مفاعلة، قالوا: جالسته مجالسة، وقاعدته مقاعدة، ولم يسمع جلاسا ولا جيلاسا، ولا قعادا ولا قيعادا. قال سيبويه: وأما تفاعلت فالمصدر التّفاعل، كما أن التفعّل مصدر تفعلت؛ لأن الزنة وعدّة الحروف واحدة، وتفاعلت من فاعلت بمنزلة تفعّلت من فعّلت، وضموا العين لئلا يشبه الجمع، ولم يفتحوا لأنه ليس في الكلام تفاعل في الأسماء ". هذا باب ما جاء المصدر فيه من غير الفعل لأن المعنى واحد وفي بعض النسخ على غير الفعل (¬1). قال سيبويه: " وذلك قولك: اجتوروا وتجاوروا اجتوارا؛ لأن معنى اجتوروا وتجاوروا واحد، ومثل ذلك: انكسر كسرا، وكسر انكسارا "، وكذلك كل فعلين في معنى واحد أو يرجعان إلى معنى واحد إذا ذكرت أحدهما جاز أن تأتي بمصدر الآخر فتجعله في ¬

_ (¬1) هذه الرواية موافقة لسيبويه 2/ 244.

هذا باب ما لحقته هاء التأنيث عوضا لما ذهب

موضع مصدره، فمن ذلك: قول الله عز وجل: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (¬1) "، ومصدر تبتّل تبتّلا، وتبتيلا مصدر بتّل، فكأنه قال: بتّل، ومنه وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (¬2)، لأنه إذا أنبتهم فقد نبتوا، ونباتا مصدر نبت، فكأنه قال نبتم نباتا. وزعموا أن في قراءة عبد الله بن مسعود: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (¬3) لأن معنى أنزل ونزول واحد، وقال القطامي: وخير الأمر ما استقبلت منه … وليس بأن تتبّعه اتّباعا لأن تتبّعت واتّبعت في المعنى واحد. قال رؤبة: وقد تطوّيت انطواء الحضب لأن معنى تطوّيت وانطويت واحد. والحضب: الحية. وقد يجيء المصدر على خلاف حروف الفعل إذا كان الفعلان متساويين في المعنى، كقولك: أدعه تركا شديدا؛ لأن معنى يدع ويترك واحد، ورضته إذلالا شديدا وتذليلا حسنا، وذلّلته رياضة جيدة، كما قال: فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا … ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (¬4) هذا باب ما لحقته هاء التأنيث عوضا لما ذهب " وذلك قولك: أقمته إقامة، واستعنته استعانة، وأريته إراءة " مثل إراعة، وإن شئت لم تعوّض وتركت الحروف على الأصل، قال الله عز وجل: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ (¬5) " قال أبو سعيد: اعلم أن الأصل في هذا الباب هو أن يكون الفعل على أفعل وعين الفعل منه واو أو ياء فإنهما يعتلان وتلقى حركتهما على ما قبلهما وتقلب كل واحدة منهما ألفا في الماضي وياء في المستقبل، كقولك: أقام يقيم، وألان يلين، والأصل أقوم يقوم، وألين يلين، فألقيت حركة الياء والواو على ما قبلهما، وقلبتهما ألفا بعد الفتحة وياء بعد الكسرة، ثم يعلّ المصدر لإعلال الفعل، فتقول: إقامة وإلانة، وكان الأصل إقواما ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 8. (¬2) سورة نوح، الآية: 17. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 25. (¬4) قاله امرؤ القيس في ديوانه 32، وانظر المخصص: 14/ 187. (¬5) سورة النور، الآية: 37.

وإليانا، كما تقول: أكرم يكرم إكراما، غير أنك لمّا أعللت الواو والياء في الفعل أعللتهما في المصدر، فألقيت حركتهما على ما قبلهما فسكنتا وبعدهما ألف إفعال وهي الألف التي في الإقوام والإليان قبل الميم والنون فاجتمع ساكنان: أحدهما عين الفعل المعتلة، والآخر ألف إفعال، فأسقط أحدهما وجعلت هاء التأنيث عوضا من الحرف الذاهب فقالوا: إقامة وإلانة. وكذلك يعمل في استفعل ومصدره كقولك: استعان يستعين استعانة، واستلان يستلين استلانة، والأصل استعون يستعون استعوانا، واستلين يستلين استليانا، فاختلف النحويون في الذاهب من الحرفين لاجتماع الساكنين، فقال الخليل وسيبويه: الذاهب هو الساكن الثاني؛ لأن الساكن الثاني زائد والأول أصلي، وإسقاط الزائد أولى. وقال الأخفش والفراء: الذاهب هو الأول؛ لأن حق اجتماع الساكنين أن يسقط الأول منهما، وقد أحكمنا الاحتجاج لهذا في التصريف. وقد أجاز سيبويه ألا تدخل الهاء عوضا، واحتج بقوله عز وجل: وَأَقامَ الصَّلاةَ، * ولم يفصل بين ما كان مضافا وغير مضاف، وذكر الفراء أن الهاء لا تسقط إلا مما كان مضافا، فالإضافة عوض منها، وأنشد: إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا … وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا (¬1) وذكر أن الأصل: عدة الأمر والهاء سقطت للإضافة وأن ذلك لا يجوز في غير الإضافة، وقال خالد بن كلثوم: عد الأمر، جمع عدوة، والعدوة: الناحية والجانب من قوله عز وجل: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى (¬2) وإنما أراد الشاعر نواحي الأمر وجوانبه، فأجاز سيبويه أقمته إقاما ولم يجزه الفراء. وأما قوله: " أريته إراءة " فليس من هذا الباب؛ لأنه لم يعتل عين الفعل فيه، ولكنه دخله النقص لتليين الهمزة، فعوّض الهاء والأصل أرأيته إرءاء، كما تقول: أرعيته إرعاعا، فخفّفت الهمزة في المصدر كما خففت في الفعل بأن ألقيت حركتها على الراء وأسقطت فجعلت الهاء عوضا من ذلك، وإذا كان الفعل على انفعل وافتعل وعين الفعل واو أو ياء فإنه لا يسقط من مصدره شيء؛ لأنه لا يلتقي فيه ساكنان، ولا تلزمه الهاء؛ لأنه لم يسقط منه شيء تكون الهاء عوضا منه، ¬

_ (¬1) انظر الخصائص: 3/ 171، والمخصص: 14/ 187 - 188، وانظر شرح شواهد الشافية ص: 65. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 42.

وذلك قولك: انقاد انقيادا، وانحاز انحيازا، واكتال اكتيالا، واختار اختيارا. قال سيبويه: " وأما عزّيت تعزية ونحوها فلا يجوز الحذف فيه ولا فيما أشبهه، لأنهم لا يجيئون بالياء في شيء من بنات الياء والواو مما هما في موضع اللام، وقد يجيء في الأول نحو: الإحواذ والاستحواذ ونحوه " يريد أن ما كان على فعل فمصدره التفعيل أو تفعلة في الصحيح، كقولك: كرّمته تكرمة وتكريما، وعظّمته تعظمة وتعظيما، والباب فيه تفعيل، فإذا كان لام الفعل منه معتلا ألزموه تفعلة كتكرمة كراهة أن يقع الإعراب على الياء، وأرادوا أن تعرب الهاء، وتكون الياء مفتوحة أبدا، كقولك: عزيته تعزية، وسويته تسوية، ولم يقولوا عزّيته تعزيّا، وهذا تعزيّك، وعجبت من تعزيك؛ لأن لهم عنه مندوحة باستعمالهم الوجه الآخر. وفرق سيبويه بين هذا وبين (إقام الصلاة)، فلم يجز في هذا حذف الهاء، كما أجاز في (إقام الصلاة) بأن قال: " إنه قد جاء في باب إقام الصلاة المصدر على الأصل بغير هاء، كقولهم: الإحواذ والاستحواذ، ولم يقولوا في هذا الباب بإسقاط الهاء ". قال أبو سعيد: وقد جاء في الشعر، قال الراجز: بات ينزي حوضة تنزيّا … كما تنزي شهلة صبيّا (¬1) قال سيبويه: " ولا يجوز حذف الهاء في تجزئة وتهنئة، وتقديرهما تجرعة وتهنعة؛ لأنهم ألحقوا الهاء بأختيها من بنات الياء والواو كما ألحقوا حين قالوا: أريت وأقمت " قال أبو العباس المبرد: الذي قاله في تفعلة مصدر فعلت من الهمز جيد بالغ، والإتمام على تفعيل كغير المعتل أجود وأكثر عن أبي زيد وجميع النحويين، تقول: هنأته تهنيئا وتهنئة، وخطّأته تخطيئا وتخطئة. قال أبو سعيد: الذي عنده أن سيبويه لم يرد ما قاله أبو العباس من الإتيان بالمصدر على التمام، وإنما أراد أنه لا يجوز حذف الهاء من الناقص من تفعلة كما جاز في (إقام الصلاة)، لا تقول: جزأته تجزئا (ولا هنّأته) تهنئا، والدليل على ذلك أن سيبويه قال في باب المفعول الذي يتعداه فعله إلى مفعولين: " ونبّئت تنبيئا "، ولو كان ذلك لا يجوز عنده ما استعمله. ¬

_ (¬1) بلا نسبة في الخصائص 2/ 302، والمنصف 2/ 195، وشرح الشافية 1/ 165، واللسان (نزا).

هذا باب ما تكثر فيه المصدر من فعلت فتلحق الزوائد وتبنيه ببناء آخر كما أنك قلت في فعلت حين كثرت الفعل

هذا باب ما تكثّر فيه المصدر من فعلت فتلحق الزوائد وتبنيه ببناء آخر كما أنك قلت في فعلت حين كثّرت الفعل " وذلك قولك في الهدر: التّهدار، وفي اللّعب: التّلعاب، وفي الرّدّ: التّرداد، وفي الصّفق: التّصفاق، وفي الجولان: التّجوال والتّقتال والتّسيار، وليس شيء من هذا مصدر فعّلت، ولكن لمّا أردت التكثير بنيت المصدر على هذا كما بنيت فعلت على فعّلت " قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه يجعل التّفعال تكثيرا للمصدر الذي هو للفعل الثلاثي فيصير التّهدار بمنزلة قولك: التهدر الكثير، والتّلعاب بمنزلة قولك: اللّعب الكثير. وكان الفراء وغيره من الكوفيين يجعلون التّفعال بمنزلة التفعيل، والألف عوضا من الياء، ويجعلون ألف التّكرار والترّداد بمنزلة ياء تكرير وترديد، والقول ما قاله سيبويه؛ لأنه يقال: التّلعاب، ولا يقال: التّلعب. قال سيبويه: " وأما التّبيان فليس على شيء من الفعل لحقته الزيادة، ولكنه بني هذا البناء فلحقته الزيادة، كما لحقت الرئمان (¬1)، وهي من الثلاثة وليس من باب التّفعال، لو كان أصلها من ذلك فتحوا التاء، فإنما هي من بيّنت، كالغارة من أغرت والنّبات من أنبت ". يريد أن التّبيان ليس بمصدر لبيّنت، وإنما مصدره التّبين والتّبيان اسم جعل موضع المصدر، وكذلك مصدر أغرت إغارة، وتجعل غارة مكان إغارة، ومصدر أنبت إنبات، ويستعمل النبات موضع الإنبات. قال سيبويه: " ونظيرها التّلقاء يريد اللّقيان، قال الراعي: أمّلت خيرك هل تدنو مواعده … فاليوم قصّر عن تلقائك الأمل (¬2) " يريد عن لقائك، والمصادر كلها على تفعال بفتح التاء، وإنما يجيء تفعال في الأسماء، وليس بالكثير، وقد ذكر بعض أهل اللغة منها ستة عشر حرفا لا يكاد يوجد غيرها، منها: التّبيان والتلقاء، ومرّ تهوام الليل وتبراك وتعشار وتربعاع مواضع، وتمساح: ¬

_ (¬1) الرئمان: العطف والمحبة. (¬2) انظر البيت في ديوانه ص: 107، وأدب الكاتب ص: 628، وسيبويه: 2/ 345.

هذا باب مصادر بنات الأربعة

الدابة المعروفة، والتّمساح: الرجل الكذّاب وتجفاف وتمثال وتمراد بيت للحمام، (وتلفاق) هو ثوبان يلفقان، وتلقام: سريع اللّقم، ويقال: أتت الناقة على تضرابها، أي الوقت الذي ضربها الفحل فيه، وتلعاب: كثير اللّعب، وتقصار: وهي المخنقة، وتنبال: وهو القصير. هذا باب مصادر بنات الأربعة " فالزم لها الذي لا ينكسر عليه أي يجيء على مثال فعللة، وكذلك كل شيء ألحق من بنات الثلاثة بالأربعة، وذلك نحو: دحرجته دحرجة، وزلزلته زلزلة، فهذا الأصلي، والملحق نحو: " حوقلته حوقلة، وزحولته زحولة "، وهو من الزّحلة، وإنما ألحقوا الهاء عوضا من الألف التي تكون قبل آخر حرف، وذلك ألف زلزال، وقالوا: زلزلته زلزالا، وقلقلته قلقالا، وسرهفته سرهافا، كأنهم أرادوا مثال الإعطاء والكذّاب؛ لأن مثال دحرجت وزنتها على أفعلت وفعّلت " قال أبو سعيد: قد كنت ذكرت ما يلزم المصدر في أكثر ما جاوز الثلاثة من ألف تزاد قبل آخره بما أغني عن إعادته، ولفعللت مصدران: أحدهما فعللة والآخر فعلان، كقولك: سرهفته سرهفة وسرهافا، والأغلب فيه الألزم الفعللة؛ لأنها عامة في جميعها، وربما لم يأت فعلال، نحو: دحرجته دحرجة، ولم يسمع دحراج. وألزموا فعللة الهاء عوضا من الألف التي قبل آخر فعلال، فإذا كان فعللته مضاعفا جاز الفعلال. " وتقول: الزّلزال والقلقال، ففتحوا كما فتحوا أول التّفعيل ". كأنهم حذفوا الهاء من فعللة وزادوا الألف عوضا منها، وفي غير المضاعف لا يفتحون أوله، لا يقولون السرهاف. " والفعللة هاهنا بمنزلة المفاعلة في فاعلت، والفعلال بمنزلة الفعال في فاعلت، تمكّنهما هاهنا كتمكّن ذينك هناك " قال أبو سعيد: قد ذكرنا في مصدر فاعلت أنه مفاعلة، وفعال، فإن الأصل مفاعلة، وكذلك مصدر فعللت فعللة وفعلال، والأصل فعللة. قال: " وأما ما لحقته الزيادة من بنات الأربعة وجاء على مثال استفعلت وما لحق من بنات الثلاثة ببنات الأربعة فإن مصدره يجيء على مثال استفعلت، وذلك: احرنجمت احرنجاما، واطمأننت اطمئنانا، والطّمأنينة والقشعريرة ليس واحد منهما بمصدر على اطمأننت واقشعررت، كما أن النبات ليس بمصدر على أنبت، فمنزلة

هذا باب نظير ضربته ضربة ورميته رمية من هذا الباب

اقشعررت من القشعريرة، واطمأننت من الطمأنينة بمنزلة أنبت من النّبات " يريد أن القشعريرة والطّمأنينة اسمان وليسا بمصدرين لهذين الفعلين، وإن كانا قد يوضعان في موضع المصدر، فيقال: اطمأننت طمأنينة، واقشعررت قشعريرة، كما أن النبات ليس بمصدر لأنبتّ، وإن كان يوضع في موضعه، قال الله عز وجل: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (¬1)، والمسرهف: المنعّم الذي قد أحسن غذاؤه. هذا باب نظير ضربته ضربة ورميته رمية من هذا الباب قال أبو سعيد: اعلم أن حكم المرة الواحدة من مصدر ما تجاوز الثلاثة أن تزيد على مصدره الهاء، فإن كان المصدر تلزمه الهاء اكتفيت بما يلزمه من الهاء، وإن كان للفعل مصدران جعلت الواحد من لفظ المصدر الذي هو الأصل والأكثر. وتقول: أعطيت إعطاءة، وأخرجت إخراجة " إذا أردت المرة الواحدة. وقولك: احترزت احترازة، وانطلقت انطلاقة واحدة، واستخرجت استخراجة واحدة، واقعنست اقعنساسة، واغدودنت اغديدانة، وفعلّت بهذه المنزلة، تقول: عذّبته تعذيبة، وروّحته ترويحة. والتفعّل كذلك، وذلك قولهم: تقلّب تقلّبة واحدة. وكذلك التفاعل، تقول: تغافل تغافلة، وتعاقل تعاقلة واحدة، وأما فاعلت فإنك إن أردت الواحدة قلت: قاتلته مقاتلة، وراميته مراماة ". ولا تقول قاتلته قتالا؛ لأن أصل المصدر في فاعلت مفاعلة لا فعال، وإنما تجعل المرة على لفظ المصدر الذي هو الأصل، وأغنتك الهاء عن هاء تجلبها للمرة. فالمقاتلة بمنزلة الإقالة والاستغاثة؛ لأنك لو أردت الفعلة في هذا لم تجاوز لفظ المصدر للهاء التي في المصدر. قال: " ولو أردت الواحدة من اجتورت فقلت تجاورة جاز؛ لأن المعنى واحد، فكما جاز تجاورا كذلك يجوز هذا ". يعني في مصدر اجتور جاز تجاورة في الواحدة من مصدر اجتور. ومثل ذلك: يدعه تركة واحدة، كما يقال في غير الواحد: يدعه تركا. هذا باب نظير ما ذكرنا من بنات الأربعة وما ألحق ببنائها من بنات الثلاثة " تقول: دحرجته دحرجة واحدة، وزلزلته زلزلة واحدة، تجيء بالواحدة على ¬

_ (¬1) سورة نوح، الآية: 17.

هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها

المصدر الأغلب الأكثر " يريد أنك لا تقول زلزلة؛ لأن الأصل والأكثر في مصدر فعللت فعللة. " وأما ما لحقته الزوائد فجاء على مثل استفعلت، فإن الواحدة تجيء على مثال استفعالة، وذلك قولك: احرنجمت احرنجامة، واقشعررت اقشعرارة. وقد مضى الكلام في نحوه. هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها " أما ما كان من فعل يفعل فإن موضع الفعل مفعل، وذلك قولك: هذا مجلسنا ومضربنا ومحبسنا، كأنهم بنوه على بناء يفعل، وكسروا العين كما كسروها في يفعل، فإذا أردت المصدر بنيته على مفعل، وذلك قولك: إن في ألف درهم لمضربا، أي لضربا، قال الله عز وجل: أَيْنَ الْمَفَرُّ (¬1)، يريد أين الفرار، فإذا أراد المكان قال: المفر، كما قال: المبيت حين أراد المكان؛ لأنها من بات يبيت، وقال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (¬2)، أي جعلناه عيشا. وقد يجيء المفعول يراد به الحين، فإذا كان من فعل يفعل بنيته على مفعل، يجعل الحين الذي فيه الفعل كالمكان الذي فيه الفعل، وذلك قولك: أتت الناقة على مضربها، وأتت على منتجها، إنما تريد الحين الذي فيه النّتاج والضّراب، وربما بنوا المصدر على المفعل كما بنوا المكان عليه والقياس المفعل، فما بنوا فيه المصدر على المفعل المرجع، قال الله عز وجل: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ (¬3) " ومن ذلك فيما ذكره سيبويه المطلع في معنى الطلوع، وقد قرأ الكسائي: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (¬4) ومعناه حتى طلوع الفجر، وقال بعض الناس: المطلع الموضع الذي يطلع فيه الفجر، والمطلع المصدر، والقول ما قاله سيبويه؛ لأنه لا يجوز إبطال قراءة من قرأ بالكسر، ولا يحتمل إلى الطّلوع؛ لأن (حتى) إنما يقع بعدها في التوقيت ما يحدث، والطلوع هو الذي يحدث، والمطلع ليس بحادث في آخر الليل؛ لأنه الموضع. ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآية: 10. (¬2) سورة النبأ، الآية: 11. (¬3) سورة المائدة، الآية: 48 و 105 - وسورة هود، الآية: 4. (¬4) سورة القدر، الآية: 5.

وقال الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ (¬1) أي الحيض، وقالوا: المعجز، يريدون العجز، وقالوا: المعجز على القياس، وربما ألحقوا هاء التأنيث فقالوا: المعجزة، كما قالوا: المعيشة. وكذلك يدخلون الهاء في المواضع، قالوا: المزلّة، أي موضع الزّلل وقالوا: المعذرة والمعتبة، فألحقوا الهاء وفتحوا على القياس، وقالوا: المصيف، كما قالوا: أتت الناقة على مضربها، أي على زمان ضرابها، والمصيف زمان، وقالوا: المشتاة فأنثوا وفتحوا؛ لأنه من يفعل. وما كان على فعل يفعل فاسم المكان منه مفعل، كما يقال: مقتل؛ لأنه من قتل يقتل، وقالوا: في هذا: شتا يشتو. وقالوا: المعصية والمعرفة كقولهم: المعجزة، وربما استغنوا بالمفعلة عن غيرها، وذلك قولك: المشيئة والمحمية، وقالوا: المزلّة. وقال الراعي: بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة … لا يستطيع بها القراد مقيلا يريد قيلولة. قال: " وأما ما كان على يفعل مفتوحا فإن اسم المكان مفعل، وذلك قولك: شرب يشرب، وتقول للمكان مشرب، ولبس يلبس والمكان الملبس، وإذا أردت المصدر فتحته أيضا، كما فتحته في يفعل، فإذا كان، مفتوحا في المكسور فهو في المفتوح أجدر أن يفتح. وقد كسر المصدر كما كسر في الأول، قالوا: علاه المكبر، وتقول: المذهب للمكان، وأردت مذهبا، أي ذهابا فتفتح؛ لأنك تقول: يذهب. وقالوا: مشربة فأنثوا، كما أنثوا الأول، وكسروا كما كسروا الأول ". فإذا جاء المفعل في مصدر فعل يفعل كان في فعل يفعل أولى، وكذلك في فعل يفعل، وقد مضى الكلام في نحو ذلك. " وأما ما كان يفعل منه مضموما فهو بمنزلة ما كان يفعل منه مفتوحا، ولم يبنوه على مثال يفعل؛ لأنه ليس في الكلام مفعل، فلما لم يكن إلى ذلك سبيل وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخفهما، وذلك: قتل يقتل، وهذا المقتل، وقام يقوم، وهذا المقام، وقالوا: أكره مقال الناس وملامهم، وقالوا: الملامة والمقالة فأنثوا. وقالوا: المردّ والمكرّ، يريدون الرّدّ والكرور. وقالوا: المدعاة والمأدبة، يريدون ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 222.

الدّعاء إلى الطعام، وقد كسروا المصدر كما كسروا في يفعل، فقالوا: أتيتك عند مطلع الشمس، أي عند طلوع الشمس، وهذه لغة بني تميم. وأما أهل الحجاز فيفتحون، وقد كسروا الأماكن أيضا في هذا، كأنهم أدخلوا الكسر أيضا كما أدخلوا الفتح " قال أبو سعيد: اعلم أن مذهب العرب في الأماكن والأزمنة كأنهم يبنونها على لفظ المستقبل، فقالوا فيما كان المستقبل منه يفعل: المفعل للمكان والزمان، كقولهم: المحبس والمجلس والمضرب. وقالوا فيما كان المستقبل منه يفعل: الملبس والمشرب والمذهب، وكان يلزم على هذا أن يقال فيما كان المستقبل منه يفعل مفعل، فيقال في المكان من قتل يقتل: المقتل، ومن قعد يقعد: مقعد، غير أنهم عدلوا عن هذا؛ لأنه ليس في الكلام مفعل إلا بالهاء، كقولك: مكرمة وميسرة ومقبرة ومسربة، فعدلوا إلى أحد اللفظين الآخرين، وهما مفعل أو مفعل، فاختاروا مفعل حرفا؛ لأن الفتح أخف، وقد جاءت عن العرب أحد عشر حرفا على مفعل مما فعله على فعل يفعل، وهي منسك ومحزر ومنبت ومطلع ومشرق ومغرب، ومفرق ومسقط ومسكن ومرفق ومسجد، كأنهم حملوا يفعل على يفعل؛ لأنهما أخوان. وقد ذكر بعض الكوفيين أنه قد جاء مفعل، وأنشد في ذلك: ليوم روع أو فعال مكرم (¬1) وأنشد أيضا: بثين الزمي لا، إنّ لا إن لزمته … على كثرة الواشين أيّ معون (¬2) فقال بعضهم: معون في معنى معونة، وأصله معون، وقال بعضهم: معون جمع معونة، وليس في شيء من ذلك ما يمنع ما قاله سيبويه؛ لأن أصل الكلام مكرمة ومعونة وإنما اضطر الشاعر إلى حذف الهاء، والنية الهاء، ومثل هذا كثير في الشعر، كقوله: أما تريني اليوم أمّ حمز يريد حمزة، وقول الآخر: أمال بن حنظل يريد حنظلة. قال سيبويه: " وأما المسجد فإنه اسم للبيت، ولست تريد به موضع السجود ¬

_ (¬1) منسوب لأبي الأخزر الحماني (راجز إسلامي) في شرح شواهد الشافية 68، واللسان (كرم). (¬2) البيت في ديوانه ص: 212.

هذا باب ما كان اسما من هذا النحو من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن لام

وموضع جبهتك، ولو أردت ذلك لقلت مسجد، ويقوي ذلك ما روي عن الحجاج أنه قال: " ليلزم كل رجل مسجده " أراد مواضعهم من المسجد؛ لئلا يكون لهم تجمع في المسجد للفتن ". قال: " ونظير ذلك المكحلة والمحلب والميسم، لم ترد موضع الفعل، ولكنه اسم لوعاء الكحل، وكذلك المدق صار اسما كالجلمود، وكذلك المقبرة والمشرقة "، يريدون الموضع الذي تجمّع فيه القبور، ويقع فيه (التشريق). ولو أرادوا موضع الفعل لقالوا: مقبر، ولكنه اسم بمنزلة المسجد، ومثل ذلك المشربة، وإنما هو اسم لها (كالغرفة) وكذلك: المدهن والمظلمة بهذه المنزلة، إنما هي اسم ما أخذ منك، ولم ترد مصدرا ولا موضع فعل. وقالوا: مضربة السيف، جعلوه اسما للحديدة، وبعض العرب يقول: مضربة كما تقول: مقبرة ومشربة، فالكسر في مضربة كالضم في مقبرة، والمنخر بمنزلة المدهن، كسروا الحرف كما ضمّ ثمّة " قال أبو سعيد: ولقائل أن يقول: إن منخر هو من باب منسك؛ لأنه هو موضع النّخور، وفعله نخر ينخر، ومنهم من يكسر الميم اتباعا للخاء. قال: " وأما المسربة، وهو الشّعر الممدود في الصدر وفي السّرّة فبمنزلة المشرقة، لم ترد مصدرا ولا موضعا لفعل، وإنما هو اسم مخطّ الشّعر الممدود في الصدر، وكذلك المأثرة والمكرمة. وقد قال قوم: معذرة كالمأدبة، ومثله: (فنظرة إلى ميسرة ". ويقرأ: ميسره، وهو منكر ليس في الكلام مفعل على ما ذكرناه. قال: " ويجيء المفعل اسما، كما جاء في المسجد والمنكب، وذلك المطبخ والمربد. كل هذه الأبنية تقع أسماء للتي ذكرنا من هذه الفصول لا لمصدر ولا لموضع عمل ". هذا باب ما كان اسما من هذا النحو من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن لام " فالموضع والمصدر فيهن سواء؛ لأنه معتل، وكان الألف والفتح أخف عليهم من الكسرة من الكسرة مع الياء، ففروا إلى مفعل، وقد كسروا في نحو: معصية ومحمية ولا يجيء مكسورا أبدا بغير الهاء؛ لأن الإعراب يقع على الياء، ويلحقها الاعتلال، فصار هذا

هذا باب ما كان من هذا النحو من بنات الواو التي الواو فيهن فاء

بمنزلة الشّقاء والشّقاوة، وتثبت الواو مع الهاء وتبدل مع ذهابها. يريد أن الشّقاء أصله الشقاو، فوقعت الواو طرفا بعد ألف واستثقل الإعراب عليها، فقلبت همزة، فإذا كان بعد هاء يقع الإعراب عليها جاز أن لا تقلب كالشقاوة فكذلك معصية ومحمية لا تجيء إلا بالهاء إذا بنيته على مفعل، والباب فيه مفعل، مثل المومى والمقضى وما أشبه ذلك وبنات الواو أولى بذلك، لأن فعلها على يفعل، كقولك: دعا يدعو ودنا يدنو، والموضع المدعى والمدنى. وذكر الفراء أنه قد جاء في ذلك مأوي الإبل، وذكر غيره مأوي الإبل ومآقي العين، والذي ذكر مآقي العين غالط عندي، لأن الميم أصلية في قولنا: مأق وآماق وموق وأمواق. هذا باب ما كان من هذا النحو من بنات الواو التي الواو فيهن فاء " فكل شيء من هذا كان فعل فإن المصدر منه والمكان والزمان يبنى على مفعل، وذلك قولك للمكان: الموعد والموضع والمورد وفي المصدر الموجدة والموعدة. " يعني أنه قد تزاد في المصدر الهاء للتأنيث، وإنما جاء على مفعل؛ لأن ما كان على فعل وأوله واو يلزم مستقبله بفعل، ويلزمه الإعلال وهو حذف الواو من المستقبل، كقولك: وعد يعد ووجد يجد ووصل يصل، ثم حملوا ما كان منه على فعل يفعل على ذلك، " فقالوا في وجل يوجل ووحل يوحل موجل وموجل ". قال سيبويه: " وذلك أن يوجل وأشباههما في هذا الباب من فعل يفعل قد يعتل، فتقلب الواو مرة ياء ومرة ألفا، وتعتل لها الهاء التي قلبها حتى تكسر، فلما كانت كذلك شبهوها بالأول لأنها في حال اعتلال ولأن الواو منها في موضع الواو من الأول، فهم ما يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع حالاته ". ومعنى قول سيبويه: " تقلب الواو ياء " أنه يجوز في يوجل ويوحل ييجل وييحل، وقوله " مرة " يعني قولهم: ياجل وياحل، وقوله: " تعتل لها الياء " يريد أنهم يقولون: ييجل وييحل، فيكسرون الياء الأولى، وحقها الفتح ومما يقوى كسر الموجل " والموحل وإن كان من وجل يوجل (إنهم قالوا): علاه المكبر في الصحيح، وهو من كبر يكبر. قال: " وحدثنا يونس وغيره أن ناسا من العرب يقولون في " وجل " " يوجل " ونحوه: " موجل " و " موحل "، وكأنهم الذين يقولون: " يوجل "، فسلّموه، فلما سلّم من

هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة

الإعلال وكان يفعل ك " يركب " شبه به ". قال: " وقالوا: مودّة، لأن الواو تسلّم ولا تقلب " يعني في قولهم: وديود، ولا يقال: ييد، كما يقال: ييجل، فصار بمنزلة الصحيح إذا قلت: شرب يشرب، والمشرب المصدر والمكان، وقد جاء على مفعل من هذا الباب أسماء ليست بمصادر ولا أمكنة للفعل، فمن ذلك: موحد، وهو اسم معدول في باب العدد، يقال: موحد وأحاد، ومثنى وثناء، ومثلث وثلاث، ومربع ورباع، وهذا قد ذكر في بابه، وجاء معدولا كما عدل عمر عن عامر، وموهب اسم رجل، وموألة اسم رجل، ومورق اسم وقالوا: فلان بن مورق، والموهبة الغدير من الماء، ومؤكل اسم موضع أو رجل. " وبنات الياء بمنزلة غير المعتل لأنها تتم ولا تعتلّ، وذلك لأن الياء مع الياء أخف عليهم، ألا تراهم قالوا: ميسرة، وقال بعضهم: ميسرة ". ومعنى قوله: " الياء مع الياء أخف عليهم " أنك تقول: يسر ييسر، ويعر ييعر فتثبت الياء التي هي فاء الفعل وقبلها ياء الاستقبال. وتقول: وعد يعد فتسقط الواو، فصارت الواو مع الياء أثقل من الياء مع الياء. هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة " وذلك إذا أردت أن تكثر الشيء بالمكان " والباب فيه مفعلة، وذلك قولك: أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة إذا أردت أرضا كثر بها السباع والذئاب والأسد، وليس في كل شيء يقال، يعني لم تقل العرب في كل شيء من هذا " فإن قست على ما تكلمت به العرب كان هذا لفظه. قال: " ولم يجيئوا بنظير هذا فيما جاوز ثلاثة أحرف من نحو: الضفدع والثعلب كراهية أن يثقل عليهم؛ لأنهم قد يستغنون بأن يقولوا: كثيرة الثعالب ونحو ذلك: وإنما اختصوا بها بنات الثلاثة لخفتها، ولو قلت من بنات الأربعة نحو قولك: مأسدة، لقلت: مثعلبة، لأن ما جاوز الثلاثة يكون نظير المفعل منه بمنزلة المفعول " يريد أن لفظ المصدر والمكان والزمان الذي في أوله الميم زائدة جعل ثلاثة أحرف يجيء على لفظ المفعول سواء، وفي الثلاثة على غير لفظ المفعول، ألا ترى أنك تقول: في الثلاثة للمصدر: المضرب والمقتل، والمفعول مضروب ومقتول. وتقول فيما جاوز الثلاثة: المقاتل في معنى القتال، والمسرح في معنى التسريح، والموقّى في معنى التّوقية

هذا باب ما عالجت به

ولفظ المفعول أيضا كذلك، تقول: قاتلت زيدا فهو مقاتل، وسرحته فهو مسرّح، ووّقيته فهو موقّى، فقالوا على ذلك: أرض مثعلبة، وأرض معقربة. ومن قال: ثعالة قال: مثعلة " لأن ثعالة من الثلاثي والألف زائدة. وقالوا: أرض محياة ومفعاة فيها أفاع وحيّات، ومقثاة فيها القثّاء. مذهب سيبويه أن عين الفعل من حية ياء، ولذلك قالوا: " أرض محياة "، وقال غيره: هي واو. وقال صاحب كتاب العين: أرض محواة، وقالوا: رجل حوّاء صاحب حيات، وفي ذلك دليل على أن عين الفعل واو. هذا باب ما عالجت به ذكر في هذا الباب ما كان في أوله ميم زائدة من الآلات، فالباب في ذلك إذا كان شيء يعالج به وينقل وكان الفعل ثلاثيا أن تكون الميم مكسورة، ويكون على مفعل أو مفعلة، وربما على مفعال. وقد تجتمع اللغتان في شيء واحد، قالوا: مقص للذي يقص به ومحلب للإناء الذي يحلب فيه ومنجل ومكسحة ومسلّة ومصفاة ومخرز ومخيط، وقد يجيء على مفعال نحو مقراض ومفتاح ومصباح. " وقالوا: المفتح، كما قالوا: المخرز، وقالوا: المسرجة، كما قالوا: المكسحة، وقد جاء منه أحرف بضم الميم، قالوا: مكحلة ومسعط ومنخل ومدق ومدهن، لم يذهبوا بها مذهب الفعل، ولكنها جعلت أسماء لهذه الأوعية، كما جعل المغفور والمغرود والمعلوق والمغثور، وهذه أربعة أحرف جاءت على مفعول لا نظير لها في كلام العرب، وليست مأخوذة من فعل، فعلى ذلك جرت مكحلة والأربعة التي معها، أما المغفور والمغثور فلضرب من الصمغ الذي يقع على الشجر وفيه حلاوة، والمغرور ضرب من الكمأة، والمعلوق المعلاق. هذا باب نظائر ما ذكرنا مما جاوز بنات الثلاثة بزيادة أو غير زيادة " فالمكان والمصدر يبنى من جميع هذا بناء المفعول، وكان بناء المفعول أولى به (لأن المصدر مفعول والمكان مفعول فيه، فيضمون أوله كما يضمون المفعول) لأنه قد خرج من بنات الثلاثة، فيفعل بأوله ما يفعل بأول مفعوله، كما أن أول ما ذكرت لك من بنات الثلاثة كأول مفعوله مفتوح " يعني أن اشتراك المصدر والمكان والمفعول في وصول الفعل إليهن ونصبه إياهن يوجب اشتراكهن في اللفظ، فيجب أن يكون بناء المصدر الذي في أوله الميم وبناء

المكان والزمان كبناء المفعول فيما جاوز ثلاثة أحرف، وجعل في الثلاثة علامة المفعول واو قبل آخره كواو مضروب. قال سيبويه: " وإنما منعك أن تجعل قبل آخر حرف من مفعوله " يعني فيما جاوز الثلاثة. " واو كواو مضروب، أن ذلك ليس من كلامهم ولا مما بنوا عليه " يعني زيادة الواو فيما جاوز الثلاثة، ولأن ذلك يثقل أيضا فيما تكثر حروفه والثلاثة أخف. يقولون للمكان: هذا مخرجنا ومدخلنا (ومصبحنا ومسانا، وكذلك إذا أردت المصدر. قال أمية بن أبي الصّلت: (الحمد لله مسانا ومصبحنا … بالخير صبّحنا ربي ومسانا) (¬1) ويقولون للمكان: هذا متحاملنا ويقولون: ما فيه متحامل، أي ما فيه تحامل، ويقولون: " مقاتلنا "، وتعني المكان، وكذلك تقول إذا أردت المقاتلة، قال أبو كعب بن مالك "، قال أبو سعيد: في نسختي قال مالك بن أبي كعب: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا … وأنجو إذا غمّ الجبان من الكرب (¬2) وقال زيد الخيل: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا … وأنجو إذا لم ينج إلا المكيّس (¬3) وقال في المكان: هذا موتانا، وقال: (أن الموقى مثل ما وقّيت) يريد التّوقية، وكذلك هذه الأشياء، وأما قوله: دعه إلى معسوره وإلى ميسوره دع معسوره، ودعه إلى ميسوره، فإنما يجيء هذا على المفعول، كأنه قال: دعه إلى أمر يوسر عليه أو يعسر فيه، وكذلك المرفوع والموضوع، كأنه يقول: له ما يرفعه هو وله ما يضعه، وكذلك المعقول، كأنه قال: عقل له شيء، أي حبس له لبه وشدّ، ويستغنى بهذا عن ¬

_ (¬1) الشاهد فيه استعمال " الممسى "، " المصبح " مصدرين بمعني الإمساء، والإصباح فحذف الوقت وأقام المصدر مقامه. (¬2) الشاهد فيه استعمال " مقاتل " مصدرا ميميا بمعنى القتال، انظر شرح المفصل 6/ 55. (¬3) انظر ديوانه 73 والنوادر 79

هذا باب ما لا يجوز فيه ما أفعله

المفعل الذي يكون مصدرا، لأن في هذا دليلا عليه. قال أبو سعيد: اعلم أن المفعول عند بعض النحويين يجوز أن يكون مصدرا، وجعلوا هذه المفعولات التي ذكرها سيبويه مصادره، فالميسر عندهم بمنزلة اليسر، والمعسور كالعسر، والمرفوع والموضوع والمعقول كالرفع والوضع والعقل. وقالوا في قوله عز وجل: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، أي بأيكم الفتنة. وكلام سيبويه يدل على أنها غير مصادر وأنها مفعولات، فجعل الميسور والمعسور زمانا يعسر فيه ويوسر فيه، كما تقول: هذا وقت مضروب فيه زيد، وعجبت من زمان مضروب فيه زيد، وجعل المرفوع والموضوع هو الشيء الذي يضعه ويرفعه، وتقول: هذا مرفوع ما عندي وموضوعه، أي ما أرفعه وأضعه، وجعل المعقول مشتقا من قولك: عقل له، أي شدّ له وحبس، فكأن عقله قد حبس وشد، واستغن بهذه المفعولات التي ذكرها عن المفعل الذي يكون مصدرا، ولأن فيها دليلا على المفعل، وقال بعض أهل العلم في قوله عز وجل: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ): إن الباء زائدة، ومعناه أيكم المفتون. ومثله في زيادة الباء قوله عز وجل في بعض الأقاويل: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (¬1) (أي تنبت الدّهن) وقال الشاعر: هنّ الحرائر لا ربات أحمرة … سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (¬2) أي لا يقرأن السّور، ويجوز في قوله: " بأيكم المفتون " قول آخر وهو: أن الكفار ادّعوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مجنون وأن به جنيا فردّ الله عز وجل ذلك عليهم وتوعدهم فقال: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (¬3)، يعني الجنّي فيما يحتمل التأويل لأن الجنّي مفتون. هذا باب ما لا يجوز فيه ما أفعله " وذلك ما كان أفعل لونا أو خلقة، ألا ترى أنك لا تقول ما أحمره ولا ما أبيضه، ولا تقول في الأعرج ما أعرجه، ولا في الأعشى ما أعشاه، إنما تقول: ما أشد عشاه، وما لم يكن فيه ما أفعله لم يكن فيه أفعل به رجلا، ولا هو أفعل منه لأنك تريد أن ترفعه من ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: 20 (¬2) الشاهد فيه زيادة الباء في قوله " بالسور " يريد: يقرأن السور وفي ديوان الراعي واللسان: أحمرة، بالحاء المعجمة. (¬3) سورة القلم: 5، 6

غاية دونه كما أنك إذا قلت ما أفعله فأنت تريد أن ترفعه عن الغاية الدنيا، والمعنى في أفعل به وما أفعله واحد، وكذلك أفعل منه " وقد ذكرنا فيما تقدم أن التعجب يشترك فيه أربعة أشياء على لفظ، فما جاز في واحد منها جاز في الباقي، وذلك أنها مشتركة في رفع الشيء عن منزلة إلى ما فوقها، وهو قولك: ما أفعله وأفعل به وهو أفعل منه وأفعل الناس. تقول: " ما أظرف زيدا " و " أظرف بزيد "، " وزيد أظرف من عمرو "، " وزيد أظرف الناس "، ولا يجوز أن تقول: " ما أبيض زيدا ولا أبيض بزيد "، " ولا هو أبيض من عمرو ولا أبيض الناس "، فما جاز في واحد منها جاز في الباقي، وما لم يجز فيه لم يجز في الباقي وإنما اشتركت في البناء لاشتراكها في المعنى، لأن التعجب والتفضيل إنما هو رفع الشيء عن منزلة ما دونه. فأما ما أفعل زيدا وأفعل به ففعلان، وأما هو أفعل الناس وهو أفعل منه فاسمان. قال: " وإنما دعاهم إلى ذلك أن هذا البناء داخل على الفعل، ألا ترى قلّته في الأسماء وكثرته في الصفة لمضارعتها الفعل، فلما كان مضارعا للفعل موافقا له في البناء كره فيه ما لا يكون في فعله " يريد: إنما دعاهم إلى أن لا يقولوا: " أفعل منه فيما لا يقولون فيه ما أفعله أن أفعله فعل، فإذا كان يمتنع في الفعل فهو في الاسم أشد امتناعا؛ لأن أصل هذا البناء للفعل، ومما يدل على أن أصله للفعل أن كل فعل مستقبله على " يفعل " فهو للمتكلم على أفعل مثل " أذهب " و " أصنع "، وإنما لم يجز " ما أحمره " و " لا ما أبيضه " لعلتين: إحداهما أن الخليل قال هذه خلق يخلق عليها الإنسان في لونه كما تخلق أعضاؤه كاليد والرجل، فكما لا يقال ما (أيداه) ولا ما (أرجله)، فكذلك لا يقال ما أبيضه ولا ما أحمره وإنما يقال ما أشدّ بياضه وما أشدّ حمرته، والعلة الثنية أن فعل هذه الأشياء على أكثر من ثلاثة أحرف وإنما تدخل الهمزة زائدة في أول الفعل الثلاثي تنقل الفعل عن فاعله إلى فاعل آخر كقولك: " علم زيد " و " أعلم عمرو زيدا "، وكذلك " دخل زيد " و " أدخل عمرو زيدا "، وكذلك " حسن زيد " و " أحسن عمرو زيدا "، أي صيّره حسنا. قال: " ولا تكون هذه الأشياء في مفعال ولا فعول، كما تقول: ضروب ورجل محسان، لأن هذا في معنى ما أحسنه، وإنما تريد أن تبالغ ولا تريد أن تجعله بمنزلة كل من وقع عليه ضارب وحسن. "

هذا باب ما يستغنى فيه عن ما أفعله بما أفعل فعله وعن أفعل منه بقولهم هو أفعل منه فعلا كما استغني بتركت عن ودعت، وكما استغني بنسوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها

يعني سيبويه أن مفعالا وفعولا إن كان فيهما معنى المبالغة فليس يجري مجرى أفعل في تصرفه في المواضع الأربعة التي ذكرناها وإنما هي في معنى ما أفعله في المبالغة. قال: " وأما قولهم في الأحمق ما أحمقه وفي الأرعن ما أرعنه، وفي الأنوك ما أنوكه، وفي الألد ما ألدّه، فإنما هذا عندهم من العلم ونقصان العقل والفطنة، فصارت " ما ألدّه " بمنزلة ما أمرسه وما أعلمه، وصارت " ما أحمقه " بمنزلة ما أبلده، وما أشجعه وما أجنّه، لأن هذا ليس بلون ولا خلقة في جسد، وإنما هو كقولك ما ألسنه وما أذكره وما أعرفه وأنظره، تريد نظر التفكّر، وما أشنعه؛ لأنه عندهم من القبح وليس بلون ولا خلقة من الجسد ولا نقصان فيه، فألحقوه بباب القبح كما ألحقوا ألدّ وأحمق بما ذكرت لك؛ لأن أصل بناء أحمق ونحوه أن يكون على غير بناء أفعل، نحو: بليد وعظيم وجاهل وعاقل وفهم وحصيف، وكذلك الأهوج، تقول: " ما أهوجه " كقولك " ما أجنّه ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه لما ذكر أحمر وأبيض وما كان من أفعل لونا وخلقة فأبطل فيه التعجب ذكر ما كان على أفعل مما لا يجوز فيه التعجب، وفصل بينه وبين ما كان لونا وخلقة ونقصا وشينا في الأعضاء كالعرج والعشا والعمى والعور، فذكر الأحمق والأنوك والأرعن فجعل ذلك بمنزلة الجهل، وأنه كان حقه في الأصل أن يجيء مثل بليد وجاهل. وما كان من العقل نحو ألد وهو الشديد الخصومة بمنزلة العقل واللسن وما أشبه ذلك، فأجاز فيهما التعجب كما تقول: ما أبلده وما أجهله، وما جرى مجرى الفعل ما أشجعه وألسنه، وشبه قولهم ما هو أهوجه بقولك: ما أجنّه. ولقائل أن يقول: وكيف جاز أن يقال: ما أجنّه وأصل فعله ما لم يسمّ فاعله كقولك: جنّ ولا يتعجب مما لم يسمّ فاعله؟ فالجواب أن ذلك جائز في أشياء تذكر وتشرح في الباب الثالث من هذا إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يستغنى فيه عن ما أفعله بما أفعل فعله وعن أفعل منه بقولهم هو أفعل منه فعلا كما استغني بتركت عن ودعت، وكما استغني بنسوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها " وذلك في الجواب، ألا ترى أنك لا تقول ما أجوبه، إنما تقول: ما أجود جوابه، ولا تقول " هذا أجوب منه جوابا " ونحو ذلك، وكذلك لا تقول أجوب به ولكن

هذا باب ما أفعله على معنيين

تقول: أجود بجوابه، ولا يقولون في قال يقيل ما أقيله، استغنوا بما أكثر قائلته، وما أنومه في ساعة كذا كما قالوا تركت ولما يقولوا ودعت " قال أبو سعيد: اعلم أن ظاهر كلام سيبويه أنه جعل هذا الباب خارجا عن القياس الذي ينبغي، والفعل الذي يستعمل من هذا " أفعل يفعل " وهو " أجاب يجيب "، والذي يذكره كثير من النحويين أن ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف فليس الباب أن يتعجب به، وجعلوا قولهم ما أعطاه وما أولاه على غير قياس وظاهر كلام سيبويه يدل على أن التعجب بما فعله أفعل كثير مستمر وأنه لم يستعمل فيه هذا الحرف على طريق الاستغناء بالشيء عن الشيء كما قالوا: ما أكثر قائلته، ولم يقولوا ما أقيله وإن كان الفعل منه قال يقيل، وهذا مما استدل به بعض النحويين أن سيبويه يرى الباب في أفعل يفعل مما يجوز فيه التعجب ويستمر وأنه تحذف منه الهمزة الأصلية، وتلحق همزة التعجب. ومثله مما جاء فيه التعجب وفعله على أفعل قولك: ما أيسر زيدا، وهو من " أيسر يوسر "، وما أعدمه وهو معدم في معنى الإعدام الفقر، والفعل منه " أعدم يعدم "، " وما أسنه " وقد أسن وهو مسن، " وما أوحش الدار " وقد أوحشت وهي موحشة، وما أمتعه وقد أمتع وهو ممتع، وما أسرفه وقد أسرف وهو مسرف، وما أفرط جهله وهو مفرط، وفلان أفلس من طست، وقد أفلس وهو مفلس. وتقول: هو أسرع من الريح قد أسرع وهو مسرع، وهو أبطأ منك، وهو مبطئ. وقد يقال: سرع الرجل وبطؤ، ومنه: أنت أكرم لي من زيد على معنى " أنت تكرمني أكثر منه "، وقد أقفر المكان، وهذا أقفر من غيره. هذا باب ما أفعله على معنيين " تقول: ما أبغضني له، وما أمقتني له، وما أشهاني لذلك، إنما تريد أنك ماقت وأنك مبغض وأنك مشته، فإن عنيت غيرك قلت: ما أفعله، وإنما تعني به هذا المعنى، وتقول: ما أمقته إليّ وما أبغضه إليّ وإنما تريد أنه مقيت وأنه مبغض، كما تقول: ما أقبحه وإنما تريد أنه قبيح في عينيك، وما أقذره وإنما تريد أنه قذر عندك. وتقول: ما أشهاها إليّ، أي هي شهية عندي " كما قال أبو كبير: أم لا سبيل إلى الشباب وذكره … أشهى إليّ من الرحيق السّلسل (¬1) ¬

_ (¬1) الشاهد في قوله " أشهى إليّ على معنى هو شهي عندي أي هو مشتهى فجاءت " إليّ " بمعنى " عندي " انظر ديوان الهذليين 2/ 89.

" وتقول: ما أحظاها عندي، أي حظيت عندي، فكأن ما أمقته وما أشهاها على " فعل " وإن لم يستعمل، كما تقول: ما أبغضه إليّ على بغض إليّ فيجيء على " فعل " و " فعل " وإن لم يستعمل كأشياء فبما مضى وأشياء ستراها ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه قد ذكر التعجب من المفعول في هذا الباب في أشياء تتكلم بها العرب، والأصل أن المفعول لا يتعجّب منه لعلتين: إحداهما أن دخول الهمزة لنقل الفعل إنما تدخل على الفاعل كقولك: " لبس زيد وألبسه عمرو "، و " دخل زيد وأدخله غيره "، وقعد وأقعده غيره، ولو قلت " ضرب زيد " لم تدخل عليه الهمزة لنقل الفعل، وباب التعجب باب نقل فيه الفعل عن فاعله إلى فاعل آخر، والوجه الآخر أنه لو تعجب من المفعول لوقي اللبس بينه وبين الفاعل، فقال سيبويه: ما تعجب منه من المفعول كأنه يقدّر له فعل فإذا قال: " ما أبغضه إليّ " فكأن فعله " بغض "، وإذا قال: " ما أمقته عندي " فكأنه قال " مقت "، وإذا قال: " ما أشهاه إليّ " كأنه قال " شهي " وإن لم يستعمل، ويكون معنى شهى في هذا التقدير، أي دعا إلى أن يشتهى بالأحوال التي تظهر فيه، ويفرق بين الفاعل والمفعول في ذلك أنه يدخل مع الفعل حرف ومع المفعول حرف آخر، فمن ذلك اللام التي تدخل مع الفاعل، تقول: " ما أبغضني لزيد وما أمقتني له "، وأنت المبغض والماقت، وتقول للمفعول: " ما أبغضه إليّ وما أمقته عندي ". ومثله هو " أكرم لي منك للفاعل "، أي يكرمني أكثر من إكرامك، وهو أكرم علي منك بمعنيين، وما آنسك لي وما آنسك بي بمعنيين مختلفين. ومما لم يأت في هذا الباب " ما أجنّ زيدا " من الجنون وهو أجنّ من غيره، وإنما الفعل المستعمل منه " جنّ "، وكذلك ما أشغله وهو أشغل من غيره وهو أعذر من غيره وألوم من غيره وأعنى بالشيء من غيره، وأعرف منه وأنكر منه. والفعل من ذلك كله يستعمل على ما لم يسمّ فاعله، كقولك " شغل وعذر وليم وعني وأنكر "، ولكنه يقدّر له فعل ينظّم به التعجب. وقد قال سيبويه في أول الكتاب: (وهم ببيانه) أعني على هذا الذي ذكرناه. وتقول: " ما أعجبني به وأعجبه إليّ "، " وأسرني به وأسّره إليّ ". وقولهم: " ما أبغضني له " يقوّي قول من يرى التعجب من أفعل، لأن الفعل منه " أبغض " " يبغض "، وروي ابن الإعرابي عن العرب عنيت به فأنا معني به، وعنيت به فأنا به عن، فإذا حمل قول سيبويه: (وهم ببيانه)، أعني على هذه اللغة، فهو على القياس المطرد.

هذا باب ما تقول العرب ما أفعله، وليس فيه فعل وإنما يحفظ هذا حفظا ولا يقاس عليه

هذا باب ما تقول العرب ما أفعله، وليس فيه فعل وإنما يحفظ هذا حفظا ولا يقاس عليه " قالوا: " أحنك الشاتين " و " أحنك البعيرين "، كما قالوا: " أكل الشاتين " كأنهم قالوا: حنك ونحو ذلك، فإنما جاءوا بأفعل على نحو هذا وإن لم يتكلموا به، وقالوا: آبل الناس كلهم، كما قالوا: أرعى الناس كلهم، كأنهم قالوا: أبل يأبل. وقالوا: رجل آبل وإن لم يتكلموا بالفعل. وقالوا: آبل الناس بمنزلة آبل منه، لأن ما جاز فيه أفعل الناس جاز فيه هذا، وما لم يجز فيه ذلك لم يجز فيه هذا. وهذه الأشياء التي ليس فيها فعل ليس القياس فيها أن يقال أفعل منه ونحو ذلك. وقد قالوا: فلان آبل منه كما قالوا: أحنك الشاتين " قال أبو سعيد: اعلم أن الأصل في التعجب أن يدخل على ما له فعل، لأنه نقل الفعل بدخول الهمزة في أوله، كقولك: قعد وأقعده غيره، وذهب وأذهبه غيره، ولم يستعمل حنك ولا أبل. وقد قالوا: أحنك الشاتين وآبل الناس كأنهم قدروا له فعلا. وقد قالوا: آبل وإن لم يكن له فعل، كما قالوا: رابح ونابل وإن لم يكن له فعل، وآبل فاعل، وبناء فاعل يجري على الفعل، فصار كأن له فعلا. ومثله مما ليس في الباس فارس، وما أفرسه، وهو أفرس وإن لم يستعملوا منه فعلا، فأجروه على ما ذكرت لك. هذا باب ما يكون " يفعل " من " فعل " فيه مفتوحا " وذلك إذا كانت الهمزة أو الهاء أو العين أو الغين أو الحاء أو الخاء لاما أو عينا، وذلك قولك: قرأ يقرأ، وبدأ يبدأ، وخبأ يخبأ، وجبه يجبه، وقلع يقلع، ونفع ينفع، وقرع يقرع، وسبع يسبع، وضبع يضبع، وذبح يذبح، ومنح يمنح، وسلخ يسلخ، ونسخ ينسخ " ولم يذكر سيبويه الغين لاما، وقد جاء منه دمغ يدمغ، وثلغ رأسه يثلغه " فهذه الحروف في هذه الأفعال لامات، وأما ما كانت فيه عينات فهو كقولك: سأل يسأل، وثأر يثأر، وذأل يذأل، والذألان: المرّ الخفيف، وذهب يذهب، وقهر يقهر، ومهر يمهر، وبعث يبعث، وفعل يفعل، ونحل ينحل، ونخر ينخر، وشحج يشحج، ومغث يمغث، وفغر يفغر، وشغر يشغر " والشّغر: أن يرفع الكلب إحدى رجليه ليبول، والمغث: تقلّب النفس وغثيانها، والفغر: فتح الفم. " وإنما فتحوا هذه الحروف لأنها سفلت في الحلق، وكرهوا أن يتناولوا حركة ما

قبلها بحركة ما ارتفع من الحروف، فجعلوا حركتها من الحرف الذي في حيزها وهو الألف، وإنما الحركات من الألف والياء والواو إذ كنّ عينات، وكذلك حّركوهنّ. قال أبو سعيد: اعلم أن هذه الحروف التي من الحلق هي مستفلة عن اللسان، والحركات ثلاث: الضم والكسر والفتح، وكل حركة منها مأخوذة من حرف من الحروف، فالضمة مأخوذة من الواو، والكسرة من الياء، والفتحة من الألف، ومخرج الواو من بين الشفتين، والياء من وسط اللسان، والألف من الحلق، فإذا كانت حروف الحلق عينات أو لامات ثقل عليهم أن يضموا أو يكسروا، لأنهم إذا ضموا فقد تكلّفوا الضمة من بين الشفتين؛ لأن منه مخرج الواو، وإن كسروا فقد تكلّفوا الكسرة من وسط اللسان، وإن فتحوا، فالفتحة من الحلق، فثقل الضم والكسر، لأن حرف الحلق مستعل والحركة عالية متباعدة منه، فحركوه بحركة من موضعه وهي الفتح، لأن ذلك أخف عليهم وأقل مشقة. وكان الأصل فيما كان الماضي منه على فعل أن يجيء مستقبله على يفعل أو يفعل، نحو: ضرب يضرب، وقتل يقتل، وإنما يجيء مفتوحا فيما كان في موضع العين واللام منه حرف من حروف الحلق لما ذكرته لك من العلة. وقد يجيء ما كان في موضع العين واللام منه حرف من حروف الحلق على الأصل، فيكون على فعل يفعل، وفعل يفعل. وقد ذكر سيبويه منه أشياء، فمن ذلك قولهم: برأ يبرؤ. ويقال: برأ الله الخلق يبرؤهم ويبرؤهم، ولم يأت مما لام الفعل منه همزة على فعل يفعل غير هذا الحرف. وقالوا: هنأ يهنئ، كما قالوا: ضرب يضرب تجيء هذه الأفعال على فعل يفعل ويفعل في الهمز أقل، " لأن الهمز أقصر الحروف وأشدها سفولا، وكذلك الهاء، لأنه ليس في الستة أقرب إلى الهمزة منها وإنما الألف بينهما. وقالوا: نزع ينزع ورجع يرجع، ونضح ينضح، ونبح ينبح، ونطح ينطح ومنح يمنح "، كل ذلك على مثال ضرب يضرب. وقالوا: جنح يجنح، وصلح يصلح، وفرغ يفرغ، ومضغ يمضغ، ونفخ ينفخ، وطبخ يطبخ، ومرخ يمرخ "، كل ذلك على مثال قتل يقتل. وما كان من ذلك فيه الخاء والغين فيفعل ويفعل فيه أكثر منه في غيرهما، لأنهما أشد الستة ارتفاعا وأقربها إلى حروف اللسان. ومن أجل ذلك أخفى بعض القراء النون الساكنة قبلهما في مثل قوله عز وجل: (مِنْ خَوْفٍ) (¬1)، وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) سورة قريش، الآية: 4، وهي قراءة نافع انظر روح المعاني 30/ 241.

قال: " ومما جاء على الأصل مما فيه هذه الحروف عينات قولهم: زأر يزئر، ونأم ينئم من الصوت، كما قالوا: هتف يهتف، وقالوا: نهق ينهق، ونهت ينهت، " والنّهيت: الصوت. " وقالوا: نعر ينعر، ورعدت ترعد كما قالوا: هتف يهتف، وقعد يقعد. وقالوا: شحج يشحج، ونحت ينحت مثل ضرب يضرب. " وقالوا: شحب يشحب مثل قعد يقعد، ونغرت القدر تنغر " ونحز ينحز، والنّحاز: السّعال. " وقالوا: لغب يلغب، وشعر يشعر، ونخل ينخل، كل ذلك مثل " قتل يقتل ". قال سيبويه بعد ذكره فتح ما يفتح من أجل حرف الحلق: " ولم يفعل هذا بما هو من موضع الواو ولا الياء، لأنها من الحروف التي ارتفعت، والحروف المرتفعة حيزّ على حدة، فإنما يتناول المرتفع حركة من مرتفع، وكره أن يتناول للذي قد سفل حركة من هذا الحيز ". يريد أن ما كان من موضع الواو والياء من الحروف لا يلزمه أن تكون الحركة مأخوذة من الواو ولا من الياء، بل يجيء على قياسه، ولا تغيّر الواو ولا الياء حكم القياس فيه، يعني بالواو من الشفة، وبالياء من وسط اللسان، والذي هو من مخرج الواو الباء والميم، والذي من مخرج الياء الجيم والشين، تقول: ضرب يضرب، وصبر يصبر، وبسم يبسم، وحمل يحمل، فكسر هذه الحروف وإن كانت من مخرج الواو، وتقول: شجب يشجب، ومجن يمجن، ومشق يمشق، ولم يكسر ذلك من أجل الياء، لأن موضع الواو والياء بمنزلة ما هو من مخرج واحد لاجتماعهما في العلوّ عن الحلق وتقارب ما بينهما. قال أبو سعيد: واعلم أن فعل يفعل إنما جاز فيه الخروج عن قياس نظائره في حروف الحلق، لأن فعل لا يلزم في مستقبله شيء واحد، لأنه يجيء على يفعل ويفعل، كقولك: ضرب يضرب، وقتل يقتل، فاستجازوا أن يخرجوا منه إلى يفعل لما ذكرت لك من العلة. وإذا كان الفعل يلزمه وزن لا يتغير لم يحفلوا بحرف الحلق، ولزموا القياس الذي يوجبه الفعل، فمن ذلك ما زاد ماضيه على ثلاثة أحرف، كقولهم: " استبرأ يستبرئ، وأبرأ يبرئ، وانتزع ينتزع " وأجرأ يجرئ، واطلنفأ بالأرض يطلنفئ إذا لصق بها، وانتزع ينتزع والتحم يلتحم، وقالوا فيما كان ماضيه على فعل يفعل، ولا يغيره حرف الحلق، لأن ما كان على فعل لزم فيه يفعل مما ليس فيه حرف الحلق، كقولك: (ظرف يظرف، وصلب

هذا باب ما هذه الحروف فيه فاءات

يصلب، فجرى عليه ما كان فيه حرف الحلق) " صبح " يصبح، وقبح يقبح، وضخم يضخم، وقالوا: ملؤ يملؤ " من قولنا: رجل مليء " وقمؤ يقمؤ " من القماءة وهي الدّمامة، " وضعف يضعف ". قال سيبويه: " وقالوا: ملؤ، فلم يفتحوها، لأنهم لم يريدوا أن يخرجوا فعل من هذا الباب، وأرادوا أن تكون الأبنية الثلاثة: فعل وفعل وفعل في هذا الباب، فلو فتحوا لالتبس فخرج فعل من البناء، وإنما فتحوا يفعل من فعل لأنه يختلف، فإذا قلت فعل ثم قلت يفعل علم أن أصله الكسر أو الضم، ولا تجد في حيز ملؤ هذا " قال أبو سعيد: كأن سائلا سأل فقال: لم لم ينقل فعل إلى فعل من أجل حرف الحلق، فيقال مكان ملؤ: ملأ، ومكان قبح، قبح، فأجيب عنه بجوابين: أحدهما أنا لو فعلنا ذلك لأخرجنا فعل من باب فعل لحروف الحلق، وأسقطناه، فكرهوا إخراجه من ذلك لاشتراك هذه الأبنية، والجواب الآخر أنا لو فتحناه لم نعلم هل أصله فعل أو فعل، لأن مستقبله يجيء على يفعل أو يفعل، فلو جاء على يفعل لكان من باب صبغ يصبغ، فلم يلزم أن يقدّر ماضيه على فعل. ولو جاء على يفعل لكان بمنزلة رجع يرجع، وإنما جاز أن يفتح في المستقبل فتقول: ذبح يذبح، وقرأ يقرأ، لأن فعل قد دل على أن المستقبل يفعل أو يفعل كما يوجبه القياس، وأن المفتوح أصلح يفعل أو يفعل. قال: " ولا يفتح فعل لأنه بناء لا يتغير، وليس ك " يفعل " من " فعل "؛ لأنه يجيء مختلفا، فصار بمنزلة يقرئ ويستبرئ، وإنما كان فعل كذلك لأنه أكثر في الكلام، وصار فيه ضربان، ألا ترى أن فعل فيما تعدى أكثر من فعل، وهي فيما لا يتعدى أكثر، نحو جلس وقصد " قال أبو سعيد: يريد أن فعل إذا كان فيه حرف الحلق لم يقلب إلى فعل، لأنه يلزم مستقبله أن يكون على يفعل، وما كان مستقبله في الأصل على يفعل لزم ماضيه أن يكون على فعل، فصار بمنزلة يقرئ ويستبرئ الذي لا يغيّره حرف الحلق، وليس مثل فعل الذي يكون مستقبله يفعل أو يفعل، وعلى أن فعل في الكلام أكثر، فجاز فيه من التصرف لكثرته ما لا يجوز في غيره. هذا باب ما هذه الحروف فيه فاءات " تقول: أمر يأمر، وأبق يأبق، وأكل يأكل، وأفل يأفل، لأنها ساكنة وليس ما

بعدها بمنزلة ما قبل اللامات، لأن هذا إنما هو مثل الإدغام، والإدغام إنما يدخل فيه الأول في الآخر، والآخر على حاله، ويقلب الأول فيدخل في الآخر حتى يصير هو والآخر من موضع واحد، ويكون الآخر على حاله، فإنما شبه هذا بهذا الضرب من الإدغام، ولا يتبعون الآخر الأول في الإدغام، فعلى هذا أجري هذا. قال أبو سعيد: ذكر سيبويه في الباب الذي قبل هذا أن حروف الحلق إذا كانت عينا أو لاما جاز أن يأتي الفعل على يفعل، وماضيه فعل وذكر في هذا الباب أنه إذا كان حرف الحلق فاء الفعل، وكان الماضي على فعل لم يأت مستقبله على يفعل، وإنما يأتي على يفعل أو يفعل بمنزلة ما ليس فيه حرف من حروف الحلق وفرق بينهما بأنه إذا كان حرف الحلق فاء من الفعل فهو يسكن في المستقبل، وأن هذا الساكن لا يوجب فتح ما بعده لضعفه بالسكون، كما أوجب لام الفعل إذا كان من حروف الحلق فتح ما قبله، لأن اللام متحركة، ثم شبه ذلك بالإدغام بأن الأول يتبع الثاني، يريد أن عين الفعل يجوز أن تتبع لام الفعل إذا كان لام الفعل من حروف الحلق، كما أن الحرف الأول يدغم فيما بعده، ولا تتبع عين الفعل فاءه؛ لأن الفاء قبل العين. قال: " ومع هذا أن الذي قبل اللام فتحته اللام حيث قرب جواره منها؛ لأن الهمز وأخواته لو كنّ عينات فتحن، فلما وقع موضعهن الحرف الذي كنّ يفتحن به لو قرب فتح، وكرهوا أن يفتحوا هنا حرفا لو كان في موضع الهمزة لم يحرّك، ولزمه السكون، فحالهما في الفاء واحدة، كما أن حال هذين في العين واحدة " يريد أن لام الفعل إذا كان من حروف الحلق فتحت العين، كما أن العين إذا كانت من حروف الحلق فتحت نفسها، فلما كانت تفتح نفسها إذا كانت من حروف الحلق وجب أن يفتحها ما يجاورها لاشتراكهما في الحركة، لأن العين واللام متحركتان جميعا، وليست كذلك الفاء والعين، لأن الفاء ساكنة في المستقبل والعين متحركة، فهما مختلفان ولو جعلت العين مكان الفاء سكنت وخالفت حالها الأولى في الحركة، ولو جعلت اللام مكان العين لم تخرج عن الحركة التي كانت تلزمها، هذا كلام سيبويه. وعندي فيه وجه آخر يقوّي ما قال، وهو أن الفتحة التي تجتلبها حروف الحلق إنما هي على العين، والحركة في الحرف المتحرك يقدر أنها بعده، فهي بعد العين وقبل اللام، فتوسّطها بينهما ومجاورتها لهما واحدة، فمن أجل ذلك جاز أن تكون الفتحة تجتلبها العين واللام، وليست الفاء كذلك، لأن الفتحة بعيدة من الفاء إذا كانت تقع بعد الحرف

الذي بعده. قال سيبويه: " وقالوا: أبى يأبى فشبهوه بيقرأ " أراد إنهم شبهوا الهمزة التي في أول أبى، وهي فاء الفعل منها، بالهمزة التي تكون لاما في مثل: قرأ يقرأ، ففتحوا عين الفعل من أجل الفاء، كما فتحوها من أجل اللام التي هي همزة. قال: " وفي يأبى وجه آخر، وهو أن يكون مثل حسب يحسب، فتحا كما كسرا " قال أبو سعيد: والفرق بين هذين الوجهين أن الأول كان التقدير فيه أبى يأبى، ثم فتحت الألف عين الفعل، كما قيل: صنع يصنع تشبيها للفاء باللام، والوجه الثاني إنهم بنوه في الأصل على فعل يفعل، كما بنوا في الأصل " حسب يحسب " على " فعل يفعل ". قال: " وقالوا: جبى يجبى، وقلى يقلى، فشبهوا هذا بقرأ يقرأ ونحوه، وأتبعوا به الأول، كما قالوا: وعدّه، يريدون وعدته، وكما قالوا: مضّجع، ولا نعلم إلا هذا الحرف، وأما غير هذا فجاء على القياس مثل: عمر يعمر، وهرب يهرب، وحزر يحزر، وقالوا: عضضت تعضّ " قال أبو سعيد: حكى أبو إسحاق الزجاج عن إسماعيل بن إسحاق القاضي أنه علل أبى يأبى فقال: إنما جاء على فعل يفعل، لأن الألف من مخرج الهمزة. وقال: إن ما سبقه إليه أحد، واستحسنه. وعندي أن ذلك غلط؛ لأن الألف ليست بأصل في أبى يأبى، وإنما هي منقلبة من ياء أبيت لانفتاح ما قبلها، فإذا قلنا في الماضي أبى لانفتاح ما قبلها فحقّها أن تكون في المستقبل على يأبي، كما تقول: أتى يأتي، ورمى يرمي. وإنما تنقلب في المستقبل ألفا إذا فتحنا ما قبلها، فإذا كان القياس يوجب إلا يفتح ما قبلها فلا سبيل إلى الألف التي من أجلها. قال الزجاج عن الفراء: زعم القاضي أنه جاء على فعل يفعل من أجل ذلك. وكلام سيبويه يدل على ما قلنا، لأنه قال: " فشبهوا هذا بقرأ يقرأ ونحوه، وأتبعوه الأول، كما قالوا: وعدّه ". يريد أتبعوا الفتحة في أبى يأبى الهمزة التي في أوله، كما قالوا: وعدّه (فالأصل وعدته)، فأتبعوا التاء الدال التي قبلها، وكان القياس أن تكون الدال هي التابعة، لأن الأول يتبع الأخير، وكذا مضّجع أصله مضطجع، وجعلوا الطاء تابعة للضاد. ومعنى قوله: " ولا نعلم إلا هذا الحرف " فإن الإشارة إلى أبى يأبى فيما

هذا باب ما كان من الياء والواو

ذكره أصحابنا ". " وقالوا: جبى يجبى، وقلى يقلى ". لم يصحّا عنده كصحة أبى يأبى، وقد حكى أبو زيد في كتاب المصادر: جبوت الخراج أجبى وأجبو. وقوله: " وأما غير هذا فجاء على القياس مثل عمر يعمر ". يريد غير الذي ذكر من أبى يأبى مما فاء الفعل منه من حروف الحلق لم يجئ إلا على القياس، كقولنا: هرب يهرب، وحزر يحزر وحمل يحمل. وقد دل هذا أيضا أن سيبويه ذهب في أبى يأبى إنهم فتحوا من أجل تشبيه الهمزة الأولى بما الهمزة فيه أخيرة، ومثله: " عضضت تعض " الذي حكاه وهو شاذ. هذا باب ما كان من الياء والواو " قالوا: شأى يشأى، وسعى يسعى، ومحا يمحى وصفا يصفى ونحا ينحى، فعلوا به ما فعلوا بنظائره من غير المعتل ". ومعنى شأى: سبق، يقال: شأى يشأى وشآني ويشآني، وشاءني يشآني. " وقالوا: بهو يبهو، لأن نظير هذا أبدا من غير المعتل لا يكون إلا يفعل، ونظائر الأول مختلفات في يفعل. وقد قالوا: يمحو ويصفو ويزهوهم الآل، وينحو ويرغو، كما فعلوا بغير المعتل، وقالوا: فيدعو. وقد تقدم من كلامه أن فعل يفعل لا تغيّره حروف الحلق، لأن ما كان ماضيه فعل فيفعل لازم لمستقبله، فلذلك يلزم في بهو ونحوه أن يقال ذلك في مستقبله. وأما الحروف التي يلزم سكون عين الفعل فيها، فإن حرف الحلق لا يقلب يفعل ويفعل إلى يفعل، وذلك فيما كان معتلا من ذوات الواو والياء، أو كان مدغما. فذوات الياء نحو: جاء يجيء، وباع يبيع، وتاه يتيه، وذوات الواو: ساء يسوء، وجاع يجوع، وناح ينوح، والمدغم نحو: دعّ يدعّ، وسحّ يسحّ ويسحّ، وشحّ يشحّ، ويشحّ. قال: " لأن هذه الحروف التي هي عينات أكثر ما تكون سواكن، ولا تحرّك إلا في مواضع الجزم من لغة أهل الحجاز " يعني فيما كان مدغما أنها تكون سواكن كذوات الواو والياء، وإن كان أهل الحجاز يحركونها في الجزم، كقولك: لم يشحح ولم يشحح، فهذا لا يعمل عليه، لأن الحركة فيه غير لازمة، وكذلك حركته في فعلن ويفعلن، كقوله: " رددن ويرددن "، وعلى أن هذا

هذا باب الحروف الستة إذا كان واحد منها عينا وكانت الفاء قبلها مفتوحة وكان فعل

يسكنّه بعض العرب، فيقولون: (رددن ردن) " فلما كان السكون فيه الكثير جعل بمنزلة ما لا يكون فيه إلا ساكنا " يعني ذوات الواو والياء. قال: " وزعم يونس إنهم قالوا: كعّ يكعّ، ويكعّ أجود، لمّا كانت قد تحرك في بعض المواضع جعلت بمنزلة يدعّ ونحوها في هذه اللغة، وخالفت باب جئت، كما خالفتها في أنها قد تحرك " أراد أن الذي يقول: يكعّ، وماضيه كععت جاء على مثال صنع يصنع، لأن باب كعّ لما كانت عين الفعل قد تتحرك في يكعع وكععن صار بمنزلة صنعن يصنعن، وخالف باب جئت من ذوات الواو والياء؛ لأنهما لا تتحركان إلا إذا كانتا عينين. هذا باب الحروف الستة إذا كان واحد منها عينا وكانت الفاء قبلها مفتوحة وكان فعل " إذا كان ثانيه من الحروف الستة فإن فيه أربع لغات مطّرد فيه فعل وفعل وفعل وفعل، إذا كان فعلا أو اسما أو صفة فهو سواء. وفي فعيل لغتان: فعيل وفعيل، إذا كان الثاني من الحروف الستة مطّرد ذلك فيهما لا ينكسر في فعيل ولا فعل، إذا كانت كذلك كسرت الفاء في لغة تميم، وذلك لئيم وشهيد وسعيد ونحيب ورغيف وبخيل وبئيس، وشهد ومحك ولعب ونغل ورحم ووخم، وكذلك إذا كان صفة أو فعلا أو اسما، وذلك قولك: رجل لعب، ورجل محك، وهذا ما ضغ لهم ". واللهم: الكثير البلع، وهذا رجل وغل، أي طفيلي كثير الدخول على من يشرب من غير أن يدعى، " ورجل جئز " وهو الذي يغصّ بما يأكل، والجأز: الغصص، " وهذا عير نعر " (وهو الصياح) " وفخذ " " وإنما كان هذا في هذه الحروف، لأن هذه الحروف قد فعلت في يفعل ما ذكرت لك حيث كانت لامات من فتح العين، ولم تفتح هي أنفسها ها هنا لأنه ليس في الكلام فعيل، وكراهية أن يلتبس فعل بفعل فيخرج من هذه الحروف فعل، فلزمها الكسر هاهنا وكان أقرب الأشياء إلى الفتح وكانت من الحروف التي تقع الفتحة قبلها بما ذكرت لك، فكسرت ما قبلها حيث لزمها الكسرة وكان ذلك أخف عليهم حيث كانت الكسرة تشبه الألف، فأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد، كما أنهم إذا أدغموا فإنما أرادوا أن يرفعوا ألسنتهم من موضع واحد، وإنما جاز هذا في هذه الحروف حيث كانت تفعل في يفعل ما ذكرت لك، فصارت لها قوة في ذلك

ليست لغيرها. قال أبو سعيد: اعلم أن حروف الحلق لمّا أثرت في يفعل إذا كان واحد منها في موضع عين الفعل أو لامه، وكان الفعل الماضي على فعل فجوزت أن يصير على يفعل ما حقه أن يأتي على يفعل أو يفعل على ما مضى من شرحه قبل هذا الباب، فجعلت هذه الحروف في فعل وفعيل مجوزه تغيير ذلك وإن كان التغييران مختلفين، وذلك أن في يفعل أن يفتح ما ليس حقه الفتح، وفي هذا أن يكسر ما ليس حقه الكسر، لأن الفاء في فعل وفعيل في الأصل مفتوحة، وإنما جاز كسرها في فعل وفعيل من أجل حرف الحلق، فقال سيبويه: " لم تفتح هي أنفسها " يعني حروف الحلق في فعيل، لأنها لو فتحت أنفسها لوجب أن تقول: فعيل، فتقول في بخيل: بخيل، وفي شهيد، شهيد، كما قلنا يشحب، وفتحناه لأنه ليس في الكلام فعيل، ولو قلنا شهيد، لكان بناء خارجا عن الكلام. وإذا قلنا يشحب ففتحناه من أجل حرف الحلق بقي الكلام له نظير كقولنا: يعمل ويفرق. ولو فتحت أنفسها في فعيل لخرجت إلى فعل، فكان يبطل أن يوجد فعل مما حرف الحلق ثانيه، وكان أيضا يقع لبس بين ما أصله فعل وبين ما أصله فعل، وكسر الأول إتباعا للثاني، ولأن الكسر قريب من الفتح والياء تشبه الألف، وأتبعوا الأول في الكسر الثاني كما يتبعون الأول الثاني في الإدغام. وأهل الحجاز لا يغيرون البناء، لا يقولون في شهيد بألا يفتح الأول، وكذلك في شهد. ومن قال شهد فخفف قال: شهد، ومن قال شهد قال: شهد. وعامة العرب قالوا في نعم وبئس بكسر الأول، كأنهم اتفقوا على لغة بني تميم، ثم أسكنوا الثاني. وإذا كان البناء على فعل أو فعول لم يغيّروا، وإن كان الثاني من حروف الحلق، كقولهم: رؤف ورؤوف ولا يقولون: رؤوف ولا رؤف استثقالا للضمتين ولبعد الواو من الألف. " كما أنك تقول: " من مثلك " فتجعل النون ميما، ولا تقول: هل مثلك " فتجعل اللام ميما " لأن النون لها بالميم شبه ليس للام، وسترى ذلك في باب الإدغام إن شاء الله تعالى ". قال: " وسمعت بعض العرب يقول: بيس فلا يحقق الهمزة، كما قالوا: شهد فخففوا وتركوا السين على الأصل " يريد أن الهمزة قد يترك تحقيقها ولا يتغيّر كسر الأول، وكذلك شهد إنما كسرت الشين لكسرة الهاء في الأصل، ولما سكنت الهاء لم يغيّر كسر الشين، لأن النية كسر الهاء

وتحقيق الهمزة، وإن كان قد لحقه هذا التخفيف. قال: " وأما الذين قالوا: مغيرة ومغيرة فليس على هذا، ولكنهم أتبعوا الكسرة الكسرة، كما قالوا: منتن وأنبؤك وأجؤك، يريد أنبئك وأجيئك " يريد أن هذا شاذ لا يطرد فيه قياس، وليس من أجل حرف الحلق ما عمل ذلك، ولكنه كثر في كلامهم، فأتبعوا هذه الحروف خاصة، ولا يقولون في مجير: مجير ولا في معينة: معينة، ولا في أبيعك: أبوعك، ولا في أقرئك: أقرؤك. قال: " وقالوا في حرف شاذ: أحبّ ويحبّ ونحبّ، شبهوه بقولهم: منتن، وإنما جاء على فعل وإن لم يقولوا: حببت. وقالوا: يحبّ، كما قالوا: يئس، فلما جاء شاذا عن بابه على يفعل خولف به، كما قالوا: يا ألله، وقالوا: ليس، ولم يقولوا: لاس. فكذلك يحبّ لم يجئ على أفعلت، فجاء على ما لا يستعمل، كما أن يدع ويذر على ودعت ووذرت وإن لم يستعمل، فعلوا هذا بهذا لكثرته في كلامهم " قال أبو سعيد: اعلم أن في يحبّ قولان: أحدهما ما قال سيبويه أن أصله حبّ، وإن لم يستعمل حبّ، وقد تقدم القول بأن حبّ قد استعمل، وذكرت فيه ما روي عن أبي رجاء العطارديّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (¬1)، وشعرا أنشدته فيه، غير ذلك قول بعض بني مازن من تميم: لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكا لمؤداد ممّا حبّ بعدا (¬2) وكان حقه على ما قدره سيبويه أن يقال: يحبّ بفتح الياء، لكنه أتبع الياء الحاء، وقال غيره: يحبّ، بالكسر، أصله يحب من قولنا: أحبّ يحبّ، وشذوذه إنهم أتبعوا الياء المضمومة الحاء كما قالوا: مغيرة، والأصل مغيرة، فكسروه من مضموم. وهذا القول أعجب إليّ، لأن الكسرة بعد الضمة أثقل وأقل في الكلام، فالأولى أن يظن إنهم اختاروا الشاذ عدولا عن الأثقل. ومن حجة سيبويه إنهم قالوا: يئبى، والأصل يأبى، فقد كسروا المفتوح، وإنما كسروا في يئبى، وحق الكسر أن يكون في أوائل يفعل مما ماضيه على فعل إذا كان الأول ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 31 (¬2) الشاهد في قوله (حبّ) ومضارعه (يحب) وهو قليل الاستعمال، والمشهور المستعمل (أحبّ) (يحب)

هذا باب تكسر فيه أوائل الأفعال المضارعة للأسماء كما كسرت ثاني الحروف حين قلت فعل

تاء أو نونا أو ألفا، ولا تدخل على الياء، تقول في علم: أنت تعلم، وأنا اعلم، ونحن نعلم، ولا يقولون زيد يحلم، وسترى ذلك في الباب الذي بعد هذا، فصار يئبى شاذا من وجهين: أحدهما أن أبى يأبى شاذ، وكسر الياء فيه شاذ. وعند سيبويه إنهم ربما شذ الحر في كلامهم، فخرج عن نظائره، فيجسرهم ذلك على ركوب شذوذ آخر فيه، فمن ذلك قولهم: يا ألله، وليس من كلامهم نداء ما فيه الألف واللام، ولا يقطعون ألف الوصل، فلما قالوا: يا ألله فنادوا ما فيه الألف واللام، قطعوا الألف فخرجوا عن نظائره من الوجهين. ولم يقولوا في ليس: لاس، وكان حقه أن يقال، لأنه فعل ماضي وثانيه ياء وهو على فعل، وإذا تحركت الياء وقبلها فتحة قلبوها ألفا، كما قالوا: هاب ونال، وأصله: هيب ونيل. فقولهم ليس شاذّا، وكذلك قولهم: يدع ويذر، لم يستعملوا فيه ودعت ولا وذرت، وتركهم ذلك من الشاذ. قال: " وأما أجيء ونحوها فعلى القياس، وعلى ما كانت تكون عليه لو أتموا ". يعني أنه يفتح الألف في أجيء، ولا يكون مثل يحبّ وإحبّ، لأن هذا شاذ، ويجيء وأجيء ونحوه جاء على ما ينبغي أن يكون. هذا باب تكسر فيه أوائل الأفعال المضارعة للأسماء كما كسرت ثاني الحروف حين قلت فعل " وذلك في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز، وذلك قولك: أنت تعلم ذلك، وأنا اعلم ذلك وهي تعلم ذلك، ونحن نعلم ذلك، وكذلك كل شيء قلت فيه: فعل من بنات الياء والواو التي الواو والياء فيهن لام أو عين والمضاعف، وذلك قولك: شقيت، وأنت تشقى، وخشيت فأنا إخشى، وخال فنحن نخال، وعضّ فأنتن تعضضن وأنت تعضّين ". لأن خال فعل، أصله خيل، وعضّ أصله عضضت. قال: " وإنما كسروا هذه الأوائل، لأنهم أرادوا أن تكون أوائلها كثواني فعل، كما ألزموا الفتح ما كان ثانيه مفتوحا في فعل " يعني أنهم كسروا أول المستقبل فيما كان الثاني منه في الماضي مكسورا، كما ألزموا الفتح فيما كان الثاني منه مفتوحا، كقولك: ضربت تضرب، وقتلت تقتل، وأجروا أوائل المستقبل على ثواني الماضي في ذلك. ولم يمكنهم أن يكسروا الثاني من المستقبل، كما

كسروه من الماضي؛ لأن الثاني يلزمه السكون في أصل البنية، " فجعل ذلك في الأول ". قال: " وجميع هذا إذا قلت فيه يفعل فأدخلت الياء فتحت، وذلك إنهم كرهوا الكسرة في الياء حيث لم يخافوا انتقاض معنى فيحتملوا ذلك كما يكرهون الياءات والواو مع الياء وأشباه ذلك " يعني أن الذين يقولون تعلم بكسر التاء لا يقولون: " يعلم بكسر الياء، لاستثقالهم الكسر على الياء ولا يدعوهم إلى كسرها داع يوجب تغيير معنى أو لفظ، وقد كسروا الياء فيما كان فاء الفعل منه واوا، قالوا: وجل ييجل، لأنهم أرادوا بكسرها قلب الواو ياء استثقالا للواو، وكذلك: وجل يوجل، ووحل يوحل، وما جرى مجراه. ولا يكسر في هذا الباب شيء كان ثانيه مفتوحا، نحو: ذهب وضرب وأشباههما. وقالوا: أبى وأنت تئبى، وذلك أنه من الحروف التي يستعمل فيها يفعل مفتوحا وأخواتها، وليس القياس أن يفتح، وإنما هو حرف شاذ، فلما جاء مجيء ما فعل منه مكسور فعلوا به ما فعلوا بذلك " يعني أنه لما كان يأبى على وزن يوجب أن يكون ماضيه أبي بكسر الباء كسر منه الياء في يئبى، وجعلوه بمنزلة يخشى الذي ماضيه خشي فكسروا الياء فيه أيضا فقالوا: يئبى، وهم لا يقولون يخشى، بكسر الياء، لأنهم قد ركبوا الشذوذ في تئبى، بكسر التاء، فجّرأهم ذلك على كسر الياء الذي هو شذوذ آخر، كأنهم أتبعوا الشذوذ الشذوذ. " وشبهوه بييجل " في كسر الياء " حين أدخلت في باب فعل، وكان إلى جنب الياء حرف اعتلال، وهم ممّا يغيّرون في كلامهم الأكثر، ويجسرون عليه إذ صار عندهم مخالفا ". يعني إنهم شبهوا الهمزة في يئبى بعد ياء الاستقبال، إذ كان يجوز تليينها وقلبها إلى الياء بقلب الواو إلى الياء في ييجل. ومعنى قوله: " وهم مما يغيّرون في كلامهم الأكثر إذ صار عندهم مخالفا "، يعني لمّا صار مخالفا للقياس في شيء احتملوا مخالفة أخرى فيه. قال: " وجميع ما ذكرت مفتوح في لغة أهل الحجاز، وهو الأصل " يعني نعلم وتعلم وما أشبه ذلك، وصارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها إسماعيل، وكان مسكنه مكة، ومع ذلك فإن العرب مجمعة على فتح ما كان ماضيه على فعل أو فعل في المستقبل، فعلمنا أن الفتح الأصل.

قال: " وأما تسع وتطأ فإنهم فتحوا، لأن فعل يفعل حسب يحسب، فتحوا الهمزة والعين، كما قالوا: يقرأ ويفزع، فلما جاءت على مثال ما فعل منه مفتوح لم يكسروا كما كسروا يأبى حيث جاءت على مثل ما فعل منه مكسور، وأن أصل يسع يوسع، ويطأ يوطئ، وإنما فتح من أجل حرف الحلق، فصار بمنزلة حسب يحسب، فلم يكسروه، لأن ما كان على يفعل كان ماضيه على فعل، ولا يكسر أول مستقبل ما ماضيه فعل، وإنما كسروا في يأبى على شذوذه، لأنه جاء على مثال ما ماضيه مكسور الثاني. قال: " وأما وجل يوجل ونحوه فإن أهل الحجاز يقولون يوجل فيجرونه مجرى علمت، وغيرهم من العرب يقولون: هو ييجل، وأنا إيجل، ونحن نيجل، وإذا قلت: يفعل منه، فبعض العرب يقولون، ييجل، كراهية الواو مع الياء، شبهوا ذلك بأيام ونحوها، وقال بعضهم، ياجل، فأبدل مكانها أيضا كراهية الواو مع الياء كما يبدلونها من الهمزة الساكنة " يعني كما يقولون في ذئب: ذيب، فقلبوا الياء من الهمزة الساكنة وشبهوا قلب الواو ياء في يوجل بأيام ونحوها، والأصل أيوام. " وقال بعضهم: ياجل "، فأبدل مكان الياء ألفا، " كراهية الواو مع الياء كما يبدلونها من الهمزة الساكنة "، يعني إذا خففوا همزة رأس قالوا: راس، بألف. قال بعضهم: ييجل، كأنه لمّا كره الياء مع الواو كسر الياء لتقلّب الواو ياء؛ لأنه قد علم أن الواو الساكنة إذا كانت قبلها كسرة صارت ياء، ولم تكن عند الواو التي تقلب مع الياء حيث كانت الياء التي قبلها متحرك، فأرادوا أن يقلبوها إلى هذا الحد، وكره أن يقلبها على ذلك الوجه ". يريد أن الواو لا يجب قلبها ياء إلا أن يكون المتحرك الذي قبلها مكسورا، فالذي كسر الياء في ييجل استثقل الواو في يوجل، ولم ير الياء المفتوحة توجب قلب الواو، فكسرها لتنقلب الواو. قال: " واعلم أن كل شيء كانت ألفه موصولة في فعل، فإنك تكسر أوائل الأفعال المضارعة للأسماء، وذلك لأنهم أرادوا أن يكسروا أوائلها كما كسروا أوائل فعل، فلما أرادوا الأفعال المضارعة على هذا المعنى كسروا أوائلها، كأنهم شبهوا هذا بذلك، وإنما منعهم أن يكسروا الثواني في باب فعل أنها لم تكن تحرّك، فوضعوا ذلك في الأوائل، ولم يكونوا ليكسروا الثالث فيلتبس " يفعل " " بيفعل "، وذلك قولك:

استغفر فأنت تستغفر، واحرنجم فأنت تحرنجم، واغدودن فأنت تغدودن، واقعنسس فأنا اقعنسس. يريد أنهم شبهوا ما كان في ماضيه ألف وصل بما كان الماضي منه على فعل لاجتماعهما في كسر ألف الوصل أولا وكسرة عين فعل ثانيا، وكرهوا كسر الحرف الثاني من مستقبل " فعل "، لأن صيغته السكون، وكرهوا كسر الثالث لئلّا يلتبس " يفعل " " بيفعل "، فوجب كسر الأول، ثم حملوا مستقبل ما فيه ألف الوصل على مستقبل " فعل "، فكسروا أوله. " وكل شيء من تفعّلت أو تفاعلت أو تفعللت يجري هذا المجرى، لأنه كان في الأصل مما ينبغي أن يكون أوله ألف موصولة، لأن معناه معنى الانفعال، وهو بمنزلة انفتح وانطلق، ولكنهم لم يستعملوه استخفافا " قال أبو سعيد: إنه يجوز أن يقال في مستقبل تدحرج وتعالج وتمكّن: يتدحرج ويتعالج ويتمكّن، لأنه كان الأصل فيما زاد على أربعة من الأفعال الثلاثية أن تكون فيها ألف وصل، فحمل كسر هذه الأفعال على كسر ما في أوله ألف وصل، فتصير جملة ما يجوز كسر أول مستقبله ثلاثة عشر بناء، منها تسعة أبنية في أوائلها ألف الوصل، وثلاثة في أوائلها التاء الزائدة، وفعل الذي ذكرناه أولا. قال: " والدليل على ذلك إنهم يفتحون الياءات في يفعل " يريد أن الدليل على أن ما في أوله التاء الزائدة في الماضي كان حقه ألف الوصل أن مستقبله يفتح أوله، ولا يجري مجرى الرباعي، كقولك: يتعالج ويتكبر، فصار بمنزلة ما فيه ألف الوصل نحو ينطلق ويستغفر وما أشبه ذلك، فاعرفه إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " ومثل ذلك قولهم: تقى الله رجل، ثم قالوا: يتقي الله، أجروه على الأصل وإن كانوا لم يستعملوا الألف، حذفوها والحرف الذي بعدها " قال أبو سعيد: اعلم أن العرب تقول: تقى زيد يتقى، بفتح التاء في المستقبل، وكان الظاهر من هذا أن يقال: تقى يتقي، وإنما هو على الحذف، وأصله اتّقى يتّقي، حذفوا فاء الفعل وهو التاء الأولى من اتّقى وهي ساكنة فسقطت ألف الوصل من اتقى لأن بعدها متحركا، وفي المستقبل يتّقي، حذفوا منه التاء أيضا الأولى، فبقى يتقى، وإذا أمروا قالوا: " تق الله، وأصله اتّق الله، سقطت التاء التي هي مكان فاء الفعل وسقطت ألف الوصل. وأصل هذه التاء الساقطة واو، لأنها من وقيت، والتاء في قولهم: تقى الله رجل

ويتّقي وتق الله في الأمر هي تاء افتعل، وهي زائدة. واختلفوا في تاء تقى. وكان أبو العباس المبرد يقول هي زائدة، ووزن تقى تعل، وكان الزجاج يقول هي منقلبة من واو وقى، وهي فعل، مثل قولهم: تكأة وتخمة، والأصل وكأة ووخمة، ولا يقال يتقي في المستقبل بتسكين التاء، لأن الأصل ما ذكرته، ولو كان يجوز التسكين لقيل في الأمر: اتق، كما يقال في يرمي: ارم، قال الشاعر: تقوه أيّها الفتيان إني … رأيت الله قد غلب الجدودا (¬1) وقال آخر: يتقي به نفيان كلّ عشيّة … فالمساء فوق متونه يتصبّب (¬2) وقال آخر: جلاها الصيقلون فأخلصوها … فجاءت كلّها يتقي بأثر ومثل هذا يتخذ على معنى يتّخذ، فحذفوا التاء الأولى، كما حذفوا من يتقي. وقالوا في معنى الماضي: تخذ، فكان الزجاج يقول: أصل تخذ اتّخذ، وليس الأمر عندي كما قال، لأنه لو كان اتّخذ، وحذفت التاء منه لوجب أن يقال تنخذ، وليس أحد يقول تخذ بفتح الخاء، وحكى أبو زيد تخذ يتخذ تخذا. وفيما قرأته على ابن أبي الأزهر عن بندار: ولا تكثرا تخذ العشار فإنّها … تريد مباءات فسيحا فناؤها (¬3) وإنما أراد سيبويه إنهم قالوا في المستقبل: يتقي، وإن كان الماضي تقى، لأن أصل تقى اتّقى، فردوه إلى أصل اتّقى، فقالوا: يتقي تخفيفا عن يتّقي، وقد مضى ذلك. قال سيبويه: وأما فعل فإنه لا يضم منه ما كسر من فعل، لأن الضم أثقل عندهم، فكرهوا الضمتين ولم يخافوا التباس معنيين، فعمدوا إلى الأخف " يريد أنهم لم يقولوا في مستقبل " فعل " " يفعل " على ما توجبه ضمة الماضي، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه: انظر المخصص 14/ 219. (¬2) قائله ساعدة بن جؤبة الهذلي انظر ديوان الهذليين 1/ 169، والشاهد فيه (يتقي) بفتح التاء مع التخفيف في موضع (يتّقي) وهو ماضي (تقى). (¬3) الشاهد في قوله (تخذ) بسكون الخاء حيث جاء به مصدرا للفعل (تخذ)، انظر المخصص 14/ 219.

هذا باب ما يسكن استخفافا وهو في الأصل عندهم متحرك

كما كسروا أول مستقبل فعل حين قالوا: تعلم، لأن الكسر مع الفتح أخف من اجتماع ضمتين، ولم تكن بهم حاجة إلى تحمل ثقل الضمتين؛ لأن المعنى لا يتغير فتكون إبانة المعنى داعية لهم إلى تحمل الثقل، فهذا معنى قوله: " ولم يخافوا التباسا، فعمدوا إلى الأخفّ ". قال سيبويه: " ولم يريدوا تفريقا بين معنيين، كما أردت ذلك في فعل " يريد بذلك أن في فعل حين قالوا: تفعل في مستقبله فرقوا بهذه الكسرة بين ما كان ماضيه على فعل وما كان ماضيه على فعل، فقالوا: تعلم، ولم يقولوا تذهب، وجعله سيبويه معنيين وإن لم يكن من المعاني التي تغير مقاصد القائلين فيما غيّروا، وإنما هو حكمة في إتباع اللفظ اللفظ. هذا باب ما يسكن استخفافا وهو في الأصل عندهم متحرك " وذلك قولهم في فخذ: فخذ، وفي كبد: كبد، وفي عضد: عضد، وفي كرم الرجل: كرم الرجل، وفي علم: علم، وهي لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، وقالوا في مثل: لم يحرم من فصد له " يعني فصد البعير للضيف (وفصده للضيف) أنه عند عوز الطعام يفصدون البعير ليشرب الضيف من دمه فيمسك جوعه. " وقال أبو النجم: لو عصر منها المسك والبان انعصر (¬1) يريد عصر، وهذه اللغة كثيرة في تغلب وأبو النجم من بكر بن غالب وهو أخو بكر بن وائل، وقال القطامي: ألم يخز التفرّق جند كسرى … ونفخوا في مدائنهم فطاروا (¬2) " وإنما حملهم على هذا إنهم كرهوا أن يرفعوا ألسنتهم عن المفتوح إلى ¬

_ (¬1) رجز للفضل بن قدامة العجلي الشاهد فيه (عصر) يريد (عصر) ولكنه خفف الكلمة بحذف الكسرة ويوجد به شاهد آخر (الواو) في (والبان) بمعنى (أو). انظر إصلاح المنطق 36، المنصف 1/ 24، أدب الكاتب 563. (¬2) الشاهد في قوله (ونفخوا) يريد (نفخوا) فحذف الكسرة للتخفيف. انظر ديوان القطامي 84، والمخصص 14/ 220.

المكسور، والمفتوح أخف عليهم، فكرهوا أن ينتقلوا من الأخف إلى الأثقل، وكرهوا في عصر الكسرة بعد الضمة كما يكرهون الواو مع الياء في مواضع، ومع هذا أنه بناء ليس من كلامهم إلا في هذا الموضع من الفعل، فكرهوا أن يحوّلوا ألسنتهم إلى الاستثقال " يريد أنه ليس في كلامهم فعل إلا فيما لم يسم فاعله من الثلاثي. " وإذا تتابعت الضمتان خففوا أيضا وكرهوا ذلك كما يكرهون الواوين، وإنما الضمتان من الواوين، وذلك قولك: الرّسل والطّنب والعنق، تريد الرّسل والطّنب والعنق، وكذلك الكسرتان تكرهان عند هؤلاء كما تكره الياءان في مواضع، وإنما الكسرة من الياء، فكرهوا الكسرتين كما تكره الياءان، وذلك قولك في إبل إبل "، قال الشاعر، ألبان إبل تعلّة بن مسافر … مادام يملكها على حرام (¬1) " وأما ما توالت فيه الفتحتان فإنهم لا يسكّنون منه، لأن الفتح أخف عليهم من الضم والكسر، كما أن الألف أخف من الواو والياء، وسترى ذلك إن شاء الله، وذلك نحو: جمل وحمل ونحو ذلك. ومما أشبه الأول مما ليس على ثلاثة أحرف قولهم: أراك منتفخا علي، بتسكين الفاء " سكّن لأن قولنا نفخ كقولنا فخذ وكبد، فأسكن كما أسكن الخاء من فخذ، " ومن ذلك قولهم: " انطلق يا هذا "، بتسكين اللام وفتح القاف، وكان الأصل انطلق، اللام مكسورة والقاف ساكنة، فسكنت اللام للكسرة، فاجتمع ساكنان: اللام والقاف، فحركوا القاف وفتحوه، كما قالوا: أين وفتحوا النون. قال سيبويه: " حدثنا الخليل عن العرب بذلك، وأنشدنا بيتا لرجل من أزد السراة، وهو: عجبت لمولود وليس له أب … وذي ولد لم يلده أبوان (¬2) ¬

_ (¬1) البيت نسبه أبو العباس المبرد إلى رجل من بني تميم انظر خزانة الأدب 3/ 438، المخصص 14/ 221، رغبة الآمل 1/ 196، والشاهد فيه (إبل) ويريد (إبل) فسكن العين للتخفيف (¬2) نسبه الشنقيطي في الدرر اللوامع 1/ 31، والعيني في هامش الخزانة 2/ 355 لرجل من أزد السراة، والشاهد فيه (لم يلده) ويريد (لم يلده) فسكن المكسور تخفيفا.

وهذا ما أسكن من هذا الباب وترك أول الحرف على أصله لو حرك، لأن الأصل عندهم أن يكون الثاني متحركا وغير الثاني أول الحرف

يريد لم يلده، فأسكن اللام، فاجتمع ساكنان، اللام والدال، ففتح الدال لاجتماع الساكنين. " سمعناه من العرب كما أنشده الخليل، ففتحوا الدال كي لا يلتقي ساكنان، حيث أسكنوا موضع العين حركوا الدال ". وزعموا إنهم يقولون: " ورك وورك، وكتف وكتف. وهذا ما أسكن من هذا الباب وترك أول الحرف على أصله لو حرك، لأن الأصل عندهم أن يكون الثاني متحركا وغير الثاني أول الحرف " وذلك قولهم: شهد ولعب، تسكّن العين كما أسكنتها في علم، وتدع الأول مكسورا لأنه عندهم بمنزلة ما حرّكوا فصار كأول ابن. سمعناهم ينشدون هذا البيت هكذا للأخطل: إذا غاب عنا، غاب عنا فراتنا ... وإن شهد أجدى فضله وجداوله (¬1) ومثل ذلك نعم وبئس، وإنما هو فعل " قال أبو سعيد: قد كنت ذكرت في باب قبل هذا أن ما كان على " فعل " وثانيه حرف من حروف الحلق ففيه أربع لغات: منها " فعل "، وهو الذي أراد سيبويه في هذا الموضع، لأن شهد ولعب جاء على أصله لو حرّك معناه أنه جاء على شهد ولعب ثم أسكن من ذاك. " ومثل ذلك: " غزي الرجل " لا تحوّل الياء واوا، لأنها إنما خففت والأصل عندهم التحريك، وأن تجرى ياء كما أن الذي خفف الأصل التحريك عنده، وأن يجري الأول في خلافه مكسورا ". قال أبو سعيد: اعلم أن أصل غزي غزو؛ لأنه من الغزو، انقلبت الواو ياء لأنها طرف وقبلها كسرة، فكأنّ قائلا قال: إذا أسكنا الزاي وجب أن تعود الواو؛ لأن العلة التي كانت تقلبها ياء قد زالت، فقال سيبويه: " هذا التخفيف ليس بواجب، ولا هو بناء بني عليه اللفظ في الأصل، وإنما هو ¬

_ (¬1) الشاهد تسكين الهاء من قوله (شهد) بعد تحريك الشين بالكسر اتباعا لحركة عينها قبل السكون، انظر ديوانه: 1/ 348، الهمع: 2/ 84، الدرر: 2/ 109

هذا باب ما تمال فيه الألفات

عارض، كما أن الذي يقول: علم وكرم في علم وكرم الأصل عنده علم وكرم وإن خفّف ". والدليل على أن الأصل هذا أنه لو جعل الفعل لنفسه لقال: علمت وكرمت، فرد البناء إلى أصله، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما تمال فيه الألفات اعلم أن معنى الإمالة أن تميل الألف نحو الياء فتكون بين الألف والياء في اللفظ، والذي دعا إلى ذلك أنه إذا كان في الكلمة كسرة أو ياء نحوا بالألف نحو الياء وأجنحوها إتباعا للكسرة، ولأن الياء أقرب إلى الألف من الواو. والأشياء التي من أجلها تمال الألف، الياء أو الكسرة إذا كانتا ظاهرتين أو مقدرتين، أو كان في تصاريف الكلمة التي فيها الممال ياء أو كسرة، أو يكون مآل الألف ومرجعها إلى الياء في بعض تصريفها، أو ليفرق بين لفظين، فيشبّه ما لا أصل له في الإمالة بما يمال لاشتراكهما في لفظ الألف وذلك على مراتب منها ما تقوى فيه الإمالة، ومنها ما يجوز، وليس بقوي، ومنها ما يقبح، وقد تكلّم به على فتحه، ومنها ما جاء شاذا تكلمت به العرب، وأنت تقف على جميع ذلك مما أسوقه من كلام سيبويه. قال سيبويه: " فالألف تمال إذا كان بعدها حرف مكسور، وذلك قولك: عابد وعالم ومساجد ومفاتيح وعذافر وهابيل، وإنما أمالوها للكسرة التي بعدها، أرادوا أن يقرّبوها منها كما قربوا في الإدغام الصاد من الزاي حين قالوا صدر، فجعلوها بين الصاد والزاي، فقربوها من الزاي والصاد التماس الخفة، لأن الصاد قريبة من الدال فقربوها من أشبه الحروف من موضعها بالدال، وبيان ذلك في الإدغام، فكما يريد في الإدغام أن يرفع لسانه من موضع واحد كذلك يقرب الحرف إلى الحرف على قدر ذلك فالألف قد تشبه الياء فأرادوا أن يقربوها منها " قال أبو سعيد: اعلم أن الصاد والدال متقاربا المخرج، وبينهما على تقاربهما اختلاف في كيفيتهما، وذلك أن الصاد مهموسة والدال مجهورة والصاد مطبقة مستعلية وليست الدال كذلك والصاد رخوة والدال شديدة والصاد من حروف الصفير، وليست الدال منها، فلهذا التباين استثقلوا تحقيق الصاد وبعدها الدال فاختاروا حرفا من مخرج الصاد يوافق الدال في بعض ما خالفتها الصاد فيه، وذلك الحرف الزاي لأن الزاي مجهورة مثل الدال وليست بمستعلية ولا مطبقة، كما أن الدال كذلك فجعلوا الصاد بين الصاد

والزاي لتقرب من الدال، وكذلك قربوا الألف من الياء بالإمالة للكسر العارض ولشبه الألف بالياء، وإنما قال: " كما قرّبوا في الإدغام "، وليس تقريب الصاد من الزاي إدغاما لأنه أراد أن الكلام في هذا يكون في باب الإدغام. قال سيبويه: " وإذا كان بين أول حرف من الكلمة وبين الألف حرف متحرّك والأول مكسور أملت الألف لأنه لا يتفاوت ما بينهما بحرف ألا تراهم قالوا: صبقت فجعلوها صادا لمكان القاف فقالوا: صقت، وكذلك إن كان الذي بينه وبين الألف حرفان: الأول ساكن، لأن الساكن ليس بحاجز قوي وإنما يرفع لسانه عن الحرف المتحرك رفعة واحدة كما رفعه في الأول، فلم يتفاوت بهذا كما لم يتفاوت الحرفان حين قلت صويق، وذلك قولهم: سربال وشملال وعماد وكلاب " قال أبو سعيد: يريد أن الكسرة في عماد وكلاب هي التي دعت إلى إمالة الألف؛ لأن الحرف الذي قبل الألف تمال فتحته إلى الكسرة وهو بعد الكسرة في عماد وكلاب والحرف الساكن الذي في " سربال " وهو الراء بعد السين والذي في " شملال " وهو الميم بعد الشين لم يحفل به لسكونه وأنه ليس بحاجز قوي، فصار كأنك قلت " سبال " و " شمال "، وقد فعلوا ذلك فيما يشاكل ذلك ما هو أقوى مما ذكرنا، فقالوا: صبقت والأصل سبقت، لأن القاف إذا كانت بعد السين فبعض العرب يقلب السين صادا لعلة نذكرها في موضعها فقلبت القاف السين في سبقت صادا وبينهما الباء كما قلبتها في " صقت " وأصلها " سقت " وليس بينهما حرف وقلبتها في " صويق " يريدون به " سويق " وبينهما حرفان الأول متحرك والثاني ساكن. قال سيبويه: " وجميع هذا لا يميله أهل الحجاز ". يريد أنهم يقولون عابد وعالم ومفاتيح وهابيل مكسورات كلها، وعلى ذلك قراءة القرآن إلا بعض ما يختلف فيه القراء وهو يسير. قال: " فإذا كان ما بعد الألف مضموما أو مفتوحا لم يكن فيه إمالة، وذلك نحو آجر تابل وخاتم لأن الفتح من الألف فهي ألزم لها من الكسر ". يعني الفتحة للألف ألزم. قال سيبويه: " ولا تتبع الواو لأنها لا تشبهها، ألا ترى أنك لو أردت التقريب من الواو انقلبت فلم تكن ألفا ". قال أبو سعيد: يريد أن الألف إذا كان بعدها ضمة لم تملها إلى الواو كما أملتها

إلى الياء إذا كان بعدها كسرة لبعدها من الواو ولأن اللفظ لا يتأتى فيه، ومتى أملناها صارت واوا كقولنا أوجرّ. قال سيبويه: " وكذلك إذا كان الحرف الذي قبل الألف مفتوحا أو مضموما نحو رباب، وجماد والبلبال والجمّاع والخطّاف " يريد أنه لا يمال ذلك لأنه لا كسرة قبله ولا بعده. " وتقول: الاسوداد يميل الألف ها هنا من أمالها في الفعال، لأن وداد بمنزلة كلاب ". قال سيبويه: " ومما يميلون ألفه كل شيء من بنات الياء والواو كانت عينه مفتوحة. أما ما كان من بنات الياء فتمال ألفه، لأنها في موضع ياء وبدل منها، فنحوا نحوها كما أن بعضهم يقول في ردّ ردّ، فيشم الكسر. " قال الفرزدق: وما حلّ من جهل حبا حلمائنا … ولا قائل المعروف فينا يعنّف (¬1) فيشم كأنه ينحو نحو فعل فكذا نحوا نحو الياء ". وهذا كلام لم يأت له بتمثيل وذلك لأن ما أراده مفهوم، استغني بفهمه وهو كل ما كانت ألفه طرفا وهي منقلبة من ياء مما كان أصله ياء أو ما كان أصله واوا، ثم انقلبت ياء أو كان أصله ألفا مما يثنى بالياء. فأما ما كان أصله ياء فقولك: رحى ورمى ومرمى، لأن أصله رميت، وتقول رحيان في التثنية، وما كان أصله واوا انقلبت ياء نحو: أدنى وملهى، وجميع ما كان من ذوات الواو إذا وقعت الواو رابعة وقبلها فتحة انقلبت ياء ثم انقلبت ألفا، فجرى مجرى الياء في حكم الإمالة، ألا ترى أنا نقول غزوت ثم نقول أغزيت وأغزيا واستغزيا تثنية استغزى. وأما ما كان أصله ألفا فحبلى وسكرى؛ لأنك تقول: حبليان وسكريان، فهذا كله حكم الياء الأصلية في الإمالة. وأما ما كانت ألفه منقلبة من واو، وذلك إنما يكون في الثلاثي فإنه تجوز إمالته أيضا وهو الذي قال سيبويه: ¬

_ (¬1) الشاهد فيه مراعاة كسرة الثاني من قوله (حل) التي هي في أصل المثال قبل الإدغام، ومثل ذلك لا يكاد يضبط بالمشافهة. انظر ديوانه: 2/ 29، شرح شواهد المغني: 1/ 489.

" وأما بنات الواو فأمالوا ألفها لغلبة الياء على هذه اللام ولأن هذه اللام هي واو، وإذا جاوزت ثلاثة أحرف قلبت ياء، والياء لا تقلب على هذه الصفة واوا، فأميلت لتمكّن الياء في بنات الواو، ألا تراهم يقولون " معدي ومسنية والقنى والعصي "، ولا تفعل هذا الواو بالياء، فأمالوها لما ذكرت لك والياء أخف عليهم من الواو فنحوا نحوها. يعني في قولهم العشا والمكا، وهو جحر الضّب وأصله من الواو، لأنه يقال: امرأة عشواء، ويقال: مكا ومكوان، وإنما أمالوا هذا وإن كان من الواو لما ذكر سيبويه من غلبة الياء على الواو، وغلبتها أنها تنقلب إذا جاوزت ثلاثة أحرف، ولأنها تقلب في غير ذلك إلى الياء وهو قولهم " معدي " وأصله " معدو " وأرض مسنيّة في معنى مسنوّة، أي مسقية يقال: " سنوت الأرض سقيتها "، و " القنى والعصي " أصلها القنوّ والعصوّ لأنه يقال: قناة وقنوات وعصا وعصوان. قال سيبويه: " والإمالة في الفعل لا تنكسر إذا قلت غزا وصفا ودعا، وإنما كان في الفعل مستتبا لأن الفعل لا يثبت على هذه الحال، ألا ترى أنك تقول: غزا ثم تقول: غزي فتدخله الياء وتغلب عليه وعدة الحروف على حالها، وتقول: أغزوا، فإذا قلت: أفعل قلت: أغزى قلبت وعدة الحروف على حالها، فآخر الحروف أضعف لتغيّره، وتخرج إلى الياء تقول: لأغرينّ، ولا يكون ذلك في الأسماء " والأسماء التي لا يميلونها من هذا النحو نحو قفا وعصا والقنا، ولا يمتنعون من إمالة شيء من الأفعال لما ذكره سيبويه من قلبها إلى الياء في تصاريف الفعل. " فصارت الألف أضعف في الفعل لما يلزمها من التغيير. وإذا بلغت الأسماء أربعة أحرف أو جاوزت من بنات الواو فالإمالة مستتبّة لأنها قد خرجت إلى الياء، وجميع هذا لا يميله ناس كثير من بني تميم وغيرهم ". قال: ومما يميلون ألفه كل اسم كانت في آخره ألف زائدة للتأنيث أو لغير ذلك لأنها بمنزلة ما هو من بنات الياء، ألا ترى أنك لو قلت في معزى وفي حبلى فعلت على عدّة الحروف لم يجئ واحد من الحرفين إلا من بنات الياء، وكذلك كل شيء كان مثلهما مما يصير في تثنية أو فعل ياء، فلما كانت في حروف لا تكون من بنات الواو أبدا صارت عندهم بمنزلة ألف رمي ونحوها " يريد أن ألف حبلى ومعزى تمال، لأنها تنقلب ياء لو صرّفنا منها الفعل فقلنا:

حبليت ومعزيت، كما تقول: جعبينا، أو ثنينا فقلنا: حبليان ومعزيان كما قلنا رمى لأنه من رميت. " وناس لا يميلون حبلى ومعزى، ومما يميلون ألفه كل شيء كان من بنات الياء والواو مما هما فيه عين إذا كان أول فعلت منه مكسورا نحوا نحو الكسرة كما نحوا نحو الياء فيما كانت ألفه في موضع الياء وهي لغة لبعض أهل الحجاز، وأما العامة فلا يميلون ما كانت الواو فيه عينا، وذلك: خاف وطاب وهاب، وبلغنا عن أبي إسحاق أنه سمع كثيّر عزّة يقول صار بمكان كذا وكذا. وقرأ بعضهم (خاف). قال أبو سعيد: أما إمالة خاف فلأنه على فعل وأصله خوف، فمكسرة المقدرة في الألف جازت إمالته وتكسر أيضا إذا جعلت الفعل لنفسك فقلت خفت، وكل ما كان في فعل المتكلم مكسورا جازت إمالته من ذوات الواو وكان أو من ذوات الياء. قال: " ولا يميلون بنات الواو إذا كانت الواو عينا إلا ما كان على فعلت مكسور الأول ليس غير ". يريد لا يميلون قال وقام وجار وما أشبه ذلك، لأنه من ذوات الواو وليس تلحقه كسرة في أصل بنيته لأنه على فعل، ولا في شيء من تصرف فعله، لأنك تقول، قلت، ولا تكسر كما كسرت " خفت "، ومثله " طلت ". " ولا تشبّه ببنات الواو والتي الواو فيهن لام أن الواو قوية هاهنا، ولا تضعف ضعفها ثمة، ألا تراها ثابتة في فعلت وأفعل وفاعلت ونحوه، فلمّا قويت هاهنا تباعدت من الياء والإمالة وذلك قولك: قام ودار لا يميلونهما " قال أبو سعيد: يريد أن الواو إذا كانت عين الفعل وانقلبت ألفا ولم تلحقها كسرة لم تمل في " قام ودار " وما أشبههما كما أميلت في " غزا وونى ودعا "، لأنها إذا كانت لاما كان انقلابها إلى الياء أكثر من انقلابها إذا كانت عينا لأنها أولى بالإعلال، ولو اجتمعت عين الفعل ولامه وهما من حروف العلة لأعلّت اللام دون العين، فلذلك جاز في اللام من الإمالة ما لم يجز في العين، وقوّي ذلك أنك تقول في فعّلت قوّمت، وفي فاعلت قاومت، فلا تعل الواو، ولو كانت لام الفعل لانقلبت ياء، ألا ترى أنك تقول: غازيت وسمّيت وأصله الواو فتنقلب ياء. قال: " وقالوا " مات " وهم الذين يقولون " متّ "، ومن لغتهم " صار وخاف "،

والذين يقولون " متّ " لا يقولون " مات "، لأنه لا تلحقه كسرة في تقدير ولا لفظ ". قال: " ومما تمال ألفه كيّال وبيّاع، وسمعنا بعض يوثق بعربيته يقول: كيال كما ترى فيميل وإنما فعلوا هذا، لأن قبلها ياء فصارت بمنزلة الكسرة التي تكون قبلها نحو سراج وجمال، وكثير من العرب وأهل الحجاز لا يميلون هذه الألف ومن يميل يقول: شوك السّيال والضّياح، كما قلت كيّال وبيّاع " والسّيال شجر، والضّياح لبن ممزوج. " وقالوا: شيبان وقيس عيلان وغيلان، فأمالوا للياء، والذين لا يميلون في كيّال لا يميلون ها هنا، ومما يميلون ألفه قولهم: مررت ببابه وأخذت من ماله، هذا في موضع الجر، شبهوه بفاعل نحو كاتب وساجد، والإمالة في هذا أضعف لأن الكسرة لا تلزم ". قال أبو سعيد: يريد أن الكسرة في الباء واللام من بابه وماله بعد الألف شبهت بكسرة عين فاعل بعد الألف، وكسرة عين فاعل لازمة، فهي أقوى في إمالة الألف التي قبلها، وكسرة بابه وماله تزول في الرفع والنصب. " وسمعناهم يقولون من أهل عاد " لكسرة الدال " فأما في موضع الرفع والنصب فلا تكون الإمالة كما لا تكون في آجر وتابل، وقالوا: رأيت زيدا فأمالوا كما فعلوا ذلك في غيلان، والإمالة في زيد أضعف لأنه يدخله الرفع " يريد أن غيلان الألف التي دخلت عليها الإمالة لا تفارق، والألف في زيد إنما تكون في النصب، فأمالوا من أجل الياء، وشبهوا ألف زيدا بألف غيلان. " ولا يقولون: رأيت عبدا، لأنه لا ياء فيه، كما لا تميل " كسلان " ولا " دهمان " لأنه لا ياء فيه، وقالوا: درهمان ". والإمالة في درهمان شاذة لبعد كسرة الدال من الألف، والذين أمالوا لم يحفلوا بالهاء لخفائها، وسترى الكلام على خفاء الهاء وأنها لا يعتدّ بها، فيصير كأنهم قالوا: درمان. وقالوا: رأيت قزحا، وهو أبزار القدر، ورأيت علما، جعلوا الكسرة كالياء، وقالوا: النجادين، كما قالوا: مررت ببابه فأمالوا الألف ". ولا يميلون في النجادين لأنه لا كسرة فيه. وقالوا: مررت بعجلانك، كما قالوا: مررت ببابك ". ولا يميلون هذا عجلانك ولا هذا بابك.

وقالوا: مررت بمال كثير، ومررت بالمال، كما تقول: هذا ماش وهذا داع " فإذا وقف على ذلك " فمنهم من ينصب لأنه لا يتكلم بالكسرة ". فيقول: هذا ماش وهذا داع ومنهم من يميل، لأن النية فيه الكسر إذا وصل، فيقول: هذا داع وهذا ماش، وعلى هذين الوجهين يختلف من يقرأ لأبي عمرو فيما يميله إذا وقف منهم من يقول: أَصْحابُ النَّارِ (¬1)، فيميل كما يميل في الوصل، ومنهم من يقول النّار فيفتح. قال: " وقال ناس: رأيت عمادا، فأمالوا للإمالة كما أمالوا للكسرة " يريد أنهم أمالوا الألف التي بعد الدال لإمالة الألف التي بعد الميم لكسرة العين التي قبل الميم، لأن الإمالة كالكسرة. قال: " وقوم يقولون: رأيت علما، ونصبوا عمادا لما لم يكن قبلها ياء ولا كسرة ". يريد أن الألف التي بعد الدال ليس قبلها ياء ولا كسرة، فصار بمنزلة رأيت عبدا. قال: " وقال بعض الذين يقولون في السّكت بمال فلا يميلون من عند الله ولزيد مال شبهوه بألف عماد للكسرة التي قبلها، فهذا أقل من مررت بمالك لأن الكسرة منفصلة ". الإمالة في قولنا من عند الله أنه يجعل الدال المكسورة موصولة بما بعدها فيصير كأنه بالله كلمة، ويصير بمال من قولنا: لزيد مال كأنه كلمة فيصير كقولنا: مصباح وشملال وما أشبه ذلك، فلا يحفل بالحرف الساكن فيصير كأنه عماد. ثم قال: " فهذا أقل من مررت بمالك ". يريد أن الباء المكسورة متصلة بالميم والدال من عند ومن زيد ليست متصلة بما بعدها، فصارت الإمالة في قولنا بمالك أقوى. وقوله: " والذين قالوا: من عند الله أكثر لكثرة هذا الحرف في كلامهم ". يعني أكثر من لزيد مال. " ولم يقولوا ذا مال يريدون ذا التي في هذا، لأن الألف إذا لم تكن طرفا شبهت بألف فاعل ". ¬

_ (¬1) سورة الرعد: 5

هذا باب من إمالة الألف يميلها فيه ناس من العرب كثير

يريد أنهم لم يميلوا الألف في مال إذا أمالوا الألف في ذا، ولم يجعلوه بمنزلة عمادا، لأن الألف الثانية في عمادا طرف وليست في مال طرفا، فشبهت ألف مال بألف فاعل فلم تمل. فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب من إمالة الألف يميلها فيه ناس من العرب كثير " وذلك قولك: نريد أن نضربها، ونريد أن ننزعها، وذلك لأن الهاء خفيّة والحرف الذي قبل الحرف الذي يليه مكسور فكأنه قال: نريد أن نضربا، كما إنهم قالوا: ردّها كأنه قال ردّا، فلذلك قال هذا من قال ردّ وردّه، صار ما بعد الضاد في يضربها بمنزلة علما، وقالوا في هذه اللغة: منها، فأمالوا وقالوا في مضربها وبها وبنا، وهذا أجدر لأنه ليس بينه وبين الكسرة إلا حرف، فإذا كانت تمال مع الهاء وبينها وبين المكسورة حرف فهي إذا لم يكن بين الهاء وبين الكسرة شيء أجدر أن تمال، والهاء خفية، فكما تقلب الألف للكسرة ياء كذلك أملتها حيث قربت منها هذا القرب " قال أبو سعيد: يريد أن الهاء لخفائها لا يعتدّ بها، وكأنها ليست في الكلام، فصار أن تضربها بمنزلة تضربا، والكسرة إذا كانت بينهما وبين الألف حرف أميلت الألف كقولنا صفاف وجمال وكلاب وما أشبه ذلك، ثم استدل على أن الهاء بمنزلة ما لا يعتد به أنهم قالوا: ردّها، ففتحوا الدال كأن بعدها الألف، والألف توجب فتحها ولم يعتدوا بالهاء، والذين قالوا: ردّها بعضهم يقول: ردّ وردّه، فعلم أن الدال فتحت من أجل الألف لا من أجل نفسه ولا من أجل الهاء، والإمالة في بها وبنا أقوى منها في يضربها لأنه قبل الهاء كسرة في هذا وقبل الهاء فتحة في يضربها، قال سيبويه: " وقالوا: بيني وبينها، فأمالوا في الياء كما أمالوا في الكسرة، وقالوا: نريد أن نكيلها ولم نكلها، وليس شيء من هذا تمال ألفه في الرفع إذا قال: هو يكيلها وذلك أنه وقع بين الألف وبين الكسرة الضمة فصارت حاجزا فمنعت الإمالة لأن الباء في قولنا: يضربها فيه إمالة ولا يكون في المضموم إمالة كما لا يكون في الواو الساكنة إمالة، وإنما كان في الفتح لشبه الياء بالألف ". قال أبو سعيد: يريد أن الضمة إذا كانت قبل الهاء منعت الإمالة ولم تكن بمنزلة الفتحة التي قبل الهاء، لأن الفتحة يمكن أن تميلها وتنحو بها نحو الكسرة كما تميل

الألف وتنحو به نحو الياء فتقول: يريد أن يضربها فتميل الباء والهاء والألف، وإذا قلنا يضربها لم تكن إمالة الباء للضمة كما لا يكون في الواو الساكنة إمالة، والياء قريبة الشّبه من الألف، فلذلك كان المفتوح الذي قبل الهاء يمال كما يمال الحرف الذي قبل الألف وهو مفتوح. " ولا تكون إمالة في لم يعلمها ولم يخفها لأنها ليست ها هنا ياء ولا كسرة تميل الألف، وقالوا: فينا وملينا تميل الألف للياء حيث قربت من الألف. وقالوا: بيني وبينها، وقالوا: رأيت يدا ويدها فأمالوا للياء كما قالوا يضربا ويضربها. وقال هؤلاء: رأيت دما ودمها فلم يميلوا؛ لأنه لا كسرة فيه ولا ياء. وقال هؤلاء: عندها؛ لأنه لو قال عند أمال لم يعتد بالهاء. قال سيبويه: " واعلم أن الذين قالوا رأيت عدا الألف ألف نصب ويريد أن يضربها يقولون هو منّا وإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (¬1) وهم بنو تميم، وبقوله أيضا قوم من قيس وأسد، حدثنا بذلك من ترضى عربيته، فقالوا: هو منّا وإنا لمختلفون، فجعلها بمنزلة عدا وقال هؤلاء: رأيت عنبا فلم يميلوا لأنه وقع بين الكسرة والألف حاجزان قويان، ولم يكن الذي قبل الألف هاء فتصير كأنها لم تذكر، وقالوا في رجل اسمه ذه ذها أملت الألف كأنك قلت ذا في لغة من يقول: يضربا. ومر بنا لقربها من الكسر كقرب ألف يضربا. واعلم أنه ليس كل من أمال الألف وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه فينصب بعض ما يميل صاحبه، ويميل بعض ما ينصب صاحبه، وكذلك من كان النصب من لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأول في الكسر، فإذا رأيت عربيا كذلك فلا ترينّه خلّط في لغته. " قال أبو سعيد: يريد أن أمر العرب في الإمالة لا يطرد على قياس لا يخالفونه وكذلك ترك الإمالة لا يطرد. قال سيبويه: " ومن قال رأيت يدا قال رأيت زينا " جمع زينة " فقوله ينا بمنزلة يدا، وقال هؤلاء كسرت يدنا ". فلم يميلوا لأن بين الياء وبين الألف حرفين مفتوحين. " فصار بمنزلة الكسرة في قولك: رأيت عنبا. واعلم أن من لا يميل الألف ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 156.

فيما ذكرنا قبل هذا الباب لا يميلون شيئا منها في هذا الباب " قال أبو سعيد: يعني من يقول كيال والسيال ومررت بمال كثير وما أشبه ذلك مما تضمنه الباب المتقدم، فلا يميل شيئا مما ذكر إمالته في هذا الباب. " واعلم أن الألف إذا دخلتها الإمالة دخل الإمالة ما قبلها ". يريد أن الألف إذا أميلت وجب إمالة ما قبلها ضرورة، لأن الألف لا يكون ما قبلها مفتوحا فلا يمكن إمالتها حتى يمال ما قبلها. " وإذا كانت الألف بعد الهاء فأملتها أملت ما قبل الهاء لأنك كأنك لم تذكر الهاء، فكما تتبعها ما قبلها منصوبة كذلك تتبعها ما قبلها ممالة ". وذلك قولك: أريد أن تضربها تميل الباء والهاء والألف، لأنك لما لم تعتد بالهاء، وأملت الألف صارت كأنها قبل الألف فأملتها. " واعلم أن بعض من يميل يقول: رأيت يدا ويدها، فلا يميل، تكون الفتحة أغلب وصارت الياء بمنزلة دال دم لأنها لا تشبه المعتلّ منصوبة " قال أبو سعيد: ترك الإمالة في يدا لأنه لم يحفل بالياء، لأن الفتحة التي في الياء هي بعد الياء في التقدير فغلبت عليها لأنها أقرب إلى الألف. " وقال هؤلاء: رأيت زينا ". قال سيبويه: " فهذا ما ذكرت لك من مخالفة بعضهم بعضا، وقال أكثر الفريقين إمالة: رمى، فلم يمل، كره أن ينحو نحو الياء إذ كان إنما فرّ منها كما أن أكثرهم يقول: ردّ في فعل فلا ينحو نحو الكسرة لأنه فرّ مما تبين فيه الكسرة ولا يقول ذاك في حبلى لأنه لم يفرّ من ياء ولا في مغزى: قال أبو سعيد: يريد أن قوما لا يميلون رمى وإن كانت الألف منقلبة من ياء قال سيبويه: " لأن قلبهم الياء ألفا فرار من الياء فلا يقربون الألف من شيء فرّوا منه ". كما أن أكثر من قال " ردّ " لا يقول " ردّ " لأن الأصل ردد، وقد أبطلت الكسرة وفرّ منها فلا يقرّبونها من شيء قد فرّوا منه ويميلون في حبلى لأنها ألف تأنيث وليست بمنقلبة من شيء فروا منه وألف معزى زائدة بمنزلة ألف حبلى. قال سيبويه: " واعلم أن ناسا ممن يميل في يضربها ومنّا ومنها وبنا وأشباه هذا مما فيه

هذا باب ما أميل على غير قياس وإنما هو شاذ

علامة الإضمار إذا فصلوا نصبوها فقالوا: أن يضربا زيدا ويريد أن يضربها زيد ومنا ذاك، وذاك لأنهم أرادوا في الوقف إذ كانت الألف تمال في هذا النحو أن يبينوا في الوقف حيث وصلوا إلى الإمالة كما قالوا: أفعى في أفعى جعلوها في الوقف ياء، وإذا أمالوا كان آمن لها لأنه ينحو نحو الياء، فإذا وصل ترك ذلك، لأن الألف في الوصل أبين كما قال أولئك في الوصل أفعى زيد، وقال هؤلاء: بيني وبينها، وبين وبينها مال. " قال أبو سعيد: يريد أنه إذا وقف على يضربها ومنّا وبنا صارت الألف طرفا والطرف أولى بالإعلال وبقلبها إلى الياء، ولأن الألف إذا وقف عليها كانت خفية والياء أبين منها والإمالة نحو الياء، فإذا وصلت بشيء بيّنها ذلك الشيء واستغني عن الإمالة التي يوجبها تطرف الألف والوقوف عليها وشبهها بأفعى زيد بالألف في أفعى وإذا وقف عليه، فمنهم من يقول أفعى. قال: " وقد قال قوم فأمالوا أشياء ليست فيها علة مما ذكرنا فيما مضى وذلك قليل، سمعناهم يقولون: (طلبنا) " ممال " وطلبنا زيد شبه هذه الألف بألف حبلى حيث كانت آخر الكلام ولم تكن بدلا من ياء، وقال رأيت عبدا " ممالا، ورأيت عنبا وسمعنا هؤلاء قالوا تباعد عنّا فأجروه على القياس وقول العامة، وقالوا: معزانا في قول من قال: عمادا " ممال " فأمالهما جميعا " قال أبو سعيد: يعني أمال الألف الأخيرة في معزانا لإمالة الألف التي بعد الزاي، وكذلك الألف الأخيرة في عمادا لإمالة الألف التي قبلها. " ومن قال عمادا قال معزانا وهما مسلمان وذا قياس قول غيرهم من العرب؛ لأن قوله لمان بمنزلة عماد والنون بعده مكسورة، فهذا أجدر فجملة هذا أن كل ما كانت له الكسرة ألزم كان أقوى في الإمالة نحو: " عابد وعلما ومعزى ". هذا باب ما أميل على غير قياس وإنما هو شاذّ " وذلك الحجاج إذا كان اسما لرجل وذلك لأنه كثر في كلامهم، فحملوه على الأكثر، لأن الإمالة أكثر في كلامهم وأكثر العرب تنصبه ولا تميل ألف حجّاج إذا كان صفة، يجرونه على القياس. وأما النّاس فيميله من لا يقول هذا مال بمنزلة الحجاج وهم أكثر العرب، لأنها كألف فاعل إذا كانت ثانية فلم تمل في غير الجر كراهية أن تكون ك باب " رميت " و " غزوت "، لأن الواو والياء في " قلت " و " بعت " أقرب إلى

هذا باب ما يمتنع من الإمالة من الألفات التي أملتها فيما مضى

غير المعتل وأقوى " ذكر سيبويه إمالة ألف الحجاج وهي شاذة؛ لأنه ليس فيها كسرة ولا ياء، وكذلك إمالة الناس، وإنما أراد إمالة ذلك في حال الرفع والنصب، لأنه يجوز أن يقال: هذا الحجّاج وهؤلاء الناس فيمال، وعلى أن أكثر العرب ينصب ذلك ولا يميله، وفرق بين الناس وبين مال فقال: " وأما الناس فيميله من لا يقول هذا مال " وإنما يمال مال إذا كسرت اللام بعدها، وهذا معنى قوله: " لأنها كألف فاعل إذا كانت ثانية، يعني ألف مال كألف فاعل إذا كان بعدها كسرة كالكسرة بعد ألف فاعل فلم يمل في غير الجر، يعني ألف مال. وقوله: " كراهية أن يكون ك باب " رميت " و " غزوت ". يريد أن ألف مال عين الفعل وهي منقلبة من واو، وباب رميت وغزوت الياء والواو فيه لام الفعل، (وعين الفعل) بعد من الاعتلال. ثم قال: " وقال ناس يوثق بعربيتهم، هذا باب وهذا مال " وهذا ناب " وهذا عاب ". فأما ناب وعاب فالإمالة فيهما لأن الألف فيهما منقلبة من ياء. وأما باب ومال فشبهوا الألف فيهما، وإن كانت منقلبة من واو، بألف غدا ودنا المنقلبة من واو، فأجروا عين الفعل كلامه، وإن كانت العين أبعد من الإمالة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: لا تجوز إمالة باب ومال، لأن لام الفعل قد تنقلب ياء وعين الفعل لا تنقلب. قال أبو سعيد: وليس الأمر على ما قال والذي حكاه سيبويه صحيح وله وجه من القياس، لأن عين الفعل إذا كانت واوا فقد تنقلب فيما لم يسمّ فاعله، وفي مستقبل ما يسمى فاعله إذا زيدت فيه زيادة. فأما ما لم يسم فاعله فقولك قيل وقيد وما أشبه ذلك. وأما ما سمّي فاعله فقولك أقام يقيم وأجاد يجيد. قال: " والذين لا يميلون في الرفع والنصب أكثر العرب وهو أعم في كلامهم " يريد ترك إمالة باب ومال. ولا يميلون في الفعل نحو: قال، لأنهم يفرقون بين ما فعلت منه مكسور وبين ما فعلت منه مضموم ". يعني يفرقون بين قام وقال ورام وسام وبين خاف، لأنك تقول في " قال قلت " " وقمت وقمت "، وتقول في " خاف خفت ". هذا باب ما يمتنع من الإمالة من الألفات التي أملتها فيما مضى " والحروف التي تمنعها من الإمالة هذه السبعة: الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والقاف والخاء إذا كان حرف منها قبل الألف والألف تليه، وذلك قولك:

قاعد وغائب وخامد وصاعد وطائف وضامر وظالم. وإنما منعت هذه الحروف الإمالة، لأنها حروف مستعلية إلى الحنك الأعلى، فالألف إذا خرجت من موضعها استعلت إلى الحنك، فلما كانت مع هذه الحروف المستعلية غلبت عليها كما غلبت عليها الكسرة في مساجد ونحوها فلما كانت مع هذه الحروف مستعلية وكانت الألف تستعلي وقربت من الألف كان العمل من وجه واحد أخف عليهم، كما أن الحرفين إذا تقارب موضعهما كان رفع اللسان من موضع واحد أخفّ عليهم فيدغمونه " قال أبو سعيد: يريد أنه لما كان الحرفان المختلفان المتقاربان قد يقلبون أحدهما إلى الآخر ويدغمونه فيه ليكون اللفظ على وجه واحد كان هذا مثله في أن يكون اللفظ من وجه واحد في الاستعلاء. قال: " ولا نعلم أحدا يميل هذه الألف إلا من لا يؤخذ بلغته " قال: وكذلك إذا كان الحرف من هذه الحروف بعد ألف يليها وذلك قولك: ناقد وعاطس وعاصم وعاضد وعاظل وناخل وواقد، ونحو من هذا قولهم: صقت " بالصاد " لما كان بعدها القاف نظروا إلى أشبه الحروف من موضعها بالقاف فأبدلوها مكانه " وقد ذكرنا هذا فيما تقدّم. وكذلك إن كانت بعد الألف بحرف، وذلك قولك: نافخ ونابغ ونافق وشاحط وفائط وناهض وفائص، ولم يمنعه الحرف الذي بينهما من هذا كما لم يمنع السين من الصاد في صبقت. واعلم أن هذه الألفات لا يميلها أحد إلا من لا يؤخذ بلغته، لأنها إذا كانت ممّا ينصب في غير هذه الحروف فلم يفارقها إذ كانت قد تدخلها مع غير هذه الحروف، وكذلك إن كان شيء منها بعد الألف بحرفين، وذلك قولك: مناشيط ومعاليق ومنافيخ ومقاريض ومواعيظ ومباليغ، ولم يمنع الحرفان النصب كما لم يمنع السين من الصاد في صويق ونحوه، وقد قال قوم المناشيط حين تراخت وهي قليلة " وفي بعض النسخ مكان المقاريض المفاريض جمع مفراض وهي حديدة يقطع بها، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال: " وإذا كان حرف من هذه الحروف قبل الألف بحرف وكان مكسورا فإنه لا يمنع الألف من الإمالة وليس بمنزلة ما يكون بعد الألف، لأنهم يضعون ألسنتهم في موضع المستعلية ثم يصوّبون ألسنتهم. فالانحدار أخفّ عليهم من الإصعاد، ألا تراهم يقولون " صقت " و " صبقت " و " صويق " لمّا كان يثقل عليهم أن يكونوا في حال تسفل ثم

يصعّدوا ألسنتهم أرادوا أن يكونوا في حال استعلاء وأن لا يعملوا الإصعاد بعد التسفل فأرادوا أن تقع ألسنتهم موقعا واحدا. وقالوا: " قسوت " و " قسمت " لأنهم انحدروا وكان الانحدار أخف عليهم من الاستعلاء من أن يصعّدوا في حال التسفل وذلك قولك: الصّفاف والصّعاب والطّباب والقباب والقفاف والخباث والغلاب، وهو في معنى المغالبة من قولك غالبته غلابا وكذلك ما كان بالظاء نحو الظّماء والظّباء. وجملة هذا الكلام أن حروف الاستعلاء في تأخرها عن الألف أشد منعا للإمالة منها في تقدمها على الألف، فتأخرها ما ذكره في المناشيط والمعاليق والنافخ والنابغ وما أشبه ذلك، ومنع الإمالة من الألف تشبيها، ثم أجاز في الصّفاف والصّعاب والطّباب وما أشبه ذلك، وجعل الفصل بينهما أنها إذا كانت متأخرة وأملنا الألف قبلها كان الناطق بها كأنه يصعد من سفل إلى علو؛ لأن الإمالة استفال والنصب استعلاء، والصعود من سفل إلى علو أصعب من النزول من علو إلى سفل. وإذا كان حرف الاستعلاء قبل الألف وأملت فأنت في علو من موضع حرف الاستعلاء ثم تنزل منه إلى الإمالة، فلذلك كان هذا أخف. وشبهه سيبويه بأن القاف إذا كان بعد السين قلب لها السين إلى الصاد، وإذا كانت قبل السين لم تقلب إلى الصاد لأنها إذا كانت بعد السين، ففي السين تسفّل وفي القاف صعود واستعلاء، فقلبوا السين إلى الصاد حتى يستعلي لأن الصاد من الحروف المستعلية. وإذا كانت القاف قبل السين فأنت في استعلاء ثم تنزل إلى السين وذلك مما يخف فلا حاجة بك إلى قلب السين صادا. قال: " ولا يكون في قائم وقوائم إمالة " كما كان في صفاف وقفاف وما أشبه ذلك، لأن صفافا فيها كسرة أقرب إلى الألف من حرف الاستعلاء وليس في قائم كسرة قبل الألف. " فلما كانت الفتحة تمنع الألف الإمالة في عذاب وتابل كان الحرف المستعلي مع الفتحة أغلب إذ كانت الفتحة تمنع الإمالة، فلمّا اجتمعا قويا على الكسرة ". يعني اجتمع حرف الاستعلاء والفتحة. قال: " وإذا كان أول الحرف مكسورا وبين الألف والكسرة حرفان أحدهما ساكن، والساكن أحد هذه الحروف فإن الإمالة تدخل الألف، لأنك كنت تميل لو لم يدخل الساكن للكسرة، فلما كان قبل الألف مع حرف تمال معه الألف صار كأنه هو المكسور وصار بمنزلة القاف في قفاف، وذلك قولك: ناقة مقلات ". وهي التي لا

يعيش لها ولد. " والمصباح والمطعان وكذلك سائر هذه الحروف " قال أبو سعيد: يريد أن حرف الاستعلاء إذا كان ساكنا بين الكسرة وبين الحرف الذي يلي الألف، فبعض العرب لا يعتد به لسكونه وأنه كحرف ميت لا يعتد به ويكون في جملة الحرف الأول الذي قبله فكأن الكسرة فيه. " وبعض من يقول قفاف ويميل ألف مفعال وليس فيها شيء من هذه الحروف ينصب الألف في مصباح ونحوه، لأن حرف الاستعلاء جاء ساكنا غير مكسور وجاء بعده، فلما جاء ساكنا تليه الفتحة صار بمنزلة لو كان متحركا بعده الألف وصار بمنزلة القاف في قوائم، وكلاهما عربي له مذهب " قال أبو سعيد: وهذا كلام واضح. قال: " وتقول رأيت قزحا وأتيت ضمنا فتميل، وهما ها هنا بمنزلتهما في صفاف وقفاف، وتقول: رأيت عرقا ورأيت ملغا " فلا تميل " لأنهما بمنزلتهما في غانم وقائم ". قال أبو سعيد: يريد أن الإمالة في قزحا وضمنا جائزة؛ لأن حرف الاستعلاء قبل الكسرة وفي عرقا وملغا الفتح؛ لأن حرف الاستعلاء بعد الكسرة والألف تليه. قال: " وسمعناهم يقولون: أراد أن يضربها زيد فأمالوا، ويقولون: أراد أن يضربها قبل فنصبوا للقاف وأخواتها. وأما ناب ومال وباع فإنه من يميل يلزمها الإمالة على كل حال لأنه إنما ينحو نحو الياء التي الألف في موضعها ". يعني أن ألف ناب ومال وباع منقلبة من ياء لأنك تقول: ناب وأنياب وباع يبيع ومال يميل. وقالوا: خاف فأمالوا، لأن أصله خوف. " وكذلك ألف حبلى لأنها من بنات الياء، وقد بيّن ذلك، ألا تراهم يقولون طاب وخاف ومعطي وسقي فلا تمنعهم هذه الحروف من الإمالة ". يريد أن حروف الاستعلاء لا تمنع الألف الإمالة إذا كانت الألف منقلبة من ياء أو رجعت إلى الياء في التثنية والجمع وليست بمنزلة ألف فاعل ومفاعل وما أشبه ذلك، لأن هذه الألف أصل وليست بمنقلبة من شيء. " وكذلك باب غزا لأن الألف ها هنا كأنها مبدلة من ياء، ألا ترى إنهم يقولون صفا وضفا ".

وقد تقدم أن الألف التي في موضع اللام من الفعل وإن كان أصلها الواو فهي بمنزلة ما أصلها الياء في الإمالة. قال: " ومما لا تمال ألفه فاعل من المضاعف ومفاعل وما أشبه ذلك كقولك: " هذا جادّ وجوادّ " و " مررت برجل جاد ". لأن الكسرة التي كانت توجب الإمالة قد ذهبت وقد أمال قوم ذلك لأن الكسرة مقدرة، كما أمالوا خاف وإن لم تكن في اللفظ كسرة لتقدير خوف أو لأنه يرجع إلى خفت. قال سيبويه: " شبهوها بمالك إذا جعلت الكاف اسم المضاف إليه ". قال أبو سعيد: وجه احتجاج سيبويه بمالك لإمالة ماد وجواد أن الكسرة في مالك كسرة إعراب لا تثبت ولا يعتد بها، وقد أميل الألف من أجلها، فكذلك أيضا كسرة جواد وجاد المقدرة تمال من أجلها وإن ذهبت في اللفظ، وأصل جادّ جادد وجواد وجوادد؛ لأنه فاعل وفواعل. ومثل هذا قولهم ماش. أمالوا مع الوقف ولا كسرة فيه لأنه يكسر إذا وصل الكلام، فبيّنوا بالإمالة الكسرة في الأصل. قال: " وقالوا: مررت بمال قاسم ومررت بمال ملق ومررت بمال ينقل، ففتح هذا كله، وقالوا: مررت بمال زيد، وإنما فتحوا الأول للقاف، شبّه ذلك بعاقد وناعق ومناشيط، وقال بعضهم: بمال قاسم ففرق بين المنفصل والمتصل. يريد أنه لا يحفل بحرف الاستعلاء، لأنه ليس من الكلمة وهو منفصل منها، فصار بمنزلة قولك: مررت بمال والفرق بين المنفصل والمتصل في أشياء كثيرة مما مضى وسيمضي إن شاء الله تعالى. قال: " وسمعناهم يقولون: أراد أن يضربها زيد ومنّا زيد فلما جاءوا بالقاف في هذا النحو نصبوا فقالوا: أراد أن يضربها قاسم ومنّا فضل وأراد أن يعلمها ملق وأراد أن يضربها سملق وأراد أن يضربها ينقل وأراد أن يضربها بسوط نصبوا لهذه المستعلية وقلبت كما قلبت في مناشيط ونحوها، وضارعت الألف في فاعل ومفاعيل ولم يمنع النصب ما بين الألف وهذه الحروف كما لم يمنع في السماليق قلب السين صادا ". أراد أنه يجوز من أجل القاف وإن بعد ما بين القاف والسين، قال: " وصارت المستعلية في هذه الحروف أقوى منها في مال قاسم، لأن القاف ها هنا ليست من الحرف، وإنما شبّهت ألف مال بألف فاعل ".

وتشبيهه بألف فاعل أن قولنا مالق إذا أضفنا قاف قاسم إلى اللام فهو لفظ فاعل. قال: " ومع هذا أنها في كلامهم ينصبها أكثرهم فيقولون: منّا زيد ويضربها زيد أجروها على ما وصفت إذ لم تشبه الألفات الأخر " قال: " ولو فعل بها ما فعل بالمال لم يستنكر في قول من قال: بمال قاسم، وقالوا: هذا عماد قاسم، وهذا عالم قاسم، فلم يكن عندهم بمنزلة المال ومتاع وعجلان، وذلك أن المال آخره يتغير، وإنما يمال في الجر في لغة من أمال، فإن تغيّر آخره عن الجرّ نصبت ألفه، والذي أمال له الألف في عماد وعابد ونحوهما مما لا يتغيّر فإمالة هذا أبدا لازمة، فلما قويت هذه القوة لم يقو عليها المنفصل " قال: " وقالوا: لم يضربها الذي تعلم فلم يميلوا، لأن الألف قد ذهبت ولم يجعلها بمنزلة ألف حبلى ومرمى ونحوهما. وقالوا: أراد أن يعلما وأن يضبطا وأراد أن يضبطها، وقالوا: أراد أن يعقلا، لأن القاف مكسورة فهي بمنزلة قفاف، وقالوا: رأيت ضيقا ومضيقا كما قالوا: رأيت عرقا ". لم يميلوه لأن القاف تلي الألف والقاف بعد الكسرة. " وقالوا: رأيت علما كثيرا فلم يميلوا لأنها نون وليست كالألف في معنى ومعزى " قال أبو سعيد: يريد أنت إذا وصلت علما بما بعده كان بعد الميم تنوين ولا إمالة فيه، وإنما يمال إذا وقفت عليه لأنه يصير ألفا في قولك: علما. قال: " وقد أمال قوم في هذا ما لا ينبغي أن يمال في القياس وهو قليل، كما قالوا: طلبنا وعنبا، وذلك قول بعضهم: رأيت عرقا ورأيت ضيقا. كما قالوا: طلبنا وعنبا فشبهوها بألف حبلى جرأهم ذلك على هذا حيث كانت فيها علّة تميل القاف وهي الكسرة التي في أولها وكان هذا أجدر أن يكون عندهم، وسمعناهم قالوا: رأيت سبقا حيث فتحوا، وإنما طلبنا وعرقا كالشواذ لقتلها ". يريد أن الذين أمالوا شبهوا هذه الألف لمّا وقعت طرفا بألف التأنيث المقصورة، ولا خلاف في جواز إمالة الألف المقصورة للتأنيث، لأنها تنقلب ياء في التثنية وقد مضى الكلام على نحو هذا. قال: " واعلم أن بعض من يقول عابد من العرب يقول: مررت بمالك فينصب، لأن

الكسرة ليست في موضع يلزم وآخر الحرف قد يتغيّر، فلم يقو عندهم كما قال بعضهم بمال قاسم، ولم يقولوا: عماد قاسم " يريد أن الذين قالوا بمالك فنصبوا وهم يميلون عابد لأنهم لم يحفلوا بكسرة اللام في مالك لأنها ليست بلازمة، إذ كان يجوز أن تقول: " هذا مالك " و " رأيت مالك "، كما أن الذين قالوا: بمال قاسم فأمالوا لم يحفلوا بالقاف التي بعدها من قاسم، ولم يجعلوا قاف قاسم في منع الإمالة كالقاف من شمالق لأنها غير لازمة، ولم يقولوا أيضا عماد قاسم فمنعوا إمالة عماد من أجل القاف إذ كانت غير لازمة. قال: " ومما لا يميلون ألفه " حتى " و " أما " و " إلا "، فرقوا بينها وبين ألفات الأسماء نحو " حبلى " و " عطشى ". لأن الحروف غير متصرفة ولا يلحقها تثنية ولا جمع ولا تغيير، ولا تصير ألفاتها ياءات، وما كان من الأسماء التي لا تتمكن ولا تصرّف تلحقه الإمالة كقولنا: متى، وقولنا: ذا في الإشارة الأجود فيها الفتح وتجوز إمالتها. " وقال الخليل: لو سميت رجلا بها أو امرأة يعني ب " حتى وأما وإلّا " جازت فيها الإمالة، وقد أمالوا " أنى " لأن " أنى " مثل أين، وإنما هو اسم صار ظرفا فقرب من عطشى، وقالوا: لا، فلم يميلوا لمّا لم يكن اسما، فرقوا بينها وبين " ذا "، وقالوا: ما، فلم يميلوا، لأنها لم تمكّن تمكن " ذا "، ولأنها لا تتم اسما إلا بصلة مع أنها لم تمكّن تمكّن المبهمة، فرقوا بين المبهمين إذ كان حالهما متفرقين. " يريد فرقوا بين ما وذا؛ لأن ما أشدّ إبهاما وأقرب إلى الحروف، لأنها تكون حرفا في الجحد وتكون زائدة للتوكيد وتقع في الاستفهام والجزاء وتكون بمعنى الذي محتاجة إلى صلة. قال: " وقالوا: " با " و " تا " في حروف المعجم، لأنها أسماء ما يلفظ به وليس فيها ما في " قد " " ولا "، وإنما جاءت كسائر الأسماء لا لمعنى آخر ". يريد أن حروف المعجم أسماء، ولذلك جازت الإمالة فيها وليست بمنزلة " لا ". " وقالوا: يا زيد " فأمالوا، وإن كان حرفا، من أجل الياء " ومن قال: هذا مال ورأيت بابا فإنه لا يقول على حال " ساق " ولا " قار " ولا " غاب "، والغاب الأجمة، فهي كألف فاعل عند عامتهم، لأن المعتل وسطا أقوى فلم يبلغ من أمرها أن تمال مع مستعل كما إنهم لم يقولوا " بال " من " بلت " حيث لم تكن الإمالة قوية ولا مستحسنة عند العامة ".

قال أبو سعيد: يريد أن الذين أمالوا " هذا مال " و " رأيت بابا " وما جرى هذا المجرى على ضعف في ذلك لا يميلون إذا كان بعد الألف من هذا الجنس حرف مستعل أو قبله، نحو: " ساق " و " قار " و " غاب " وما أشبه ذلك، لأنه لم يبلغ من قوة الإمالة في " مال وباب " أن يمال مع حرف الاستعلاء.

هذا باب الراء

بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا باب الراء " والراء إذا تكلمت بها خرجت كأنها مضاعفة والوقف يزيدها إيضاحا، فلما كانت الراء كذلك قالوا: هذا " راشد " وهذا " فراش " فلم يميلوا؛ كأنهم تكلموا براءين مفتوحتين، فلما كانت كذلك قويت على نصب الألفات وصارت بمنزلة القاف حيث كانت بمنزلة حرفين مفتوحين، فلما كان الفتح كأنه مضاعف وإنما هو من الألف كان العمل من وجه واحد أخف عليهم ". قال أبو سعيد: اعلم أن الراء فيها تكرير إذا نطق بها ومدّ الصوت، والتكرير الذي فيها يمنع الإمالة إذا كانت مضمومة أو مفتوحة أكثر من منع غيرها من الحروف سوى الحروف المستعلية، وإذا كانت مكسورة فهي تقوى على الإمالة أكثر من قوة غيرها من الحروف المكسورة؛ لأنها إذا كانت مضمومة أو مفتوحة فكأن الفتح أو الضم يتضاعف فيها وهما يمنعان الإمالة، وإذا كانت مكسورة فكأن الكسر يتضاعف فيها وهو يقوي الإمالة. قال سيبويه: " وإذا كانت الراء بعد ألف تمال لو كان بعدها غير الراء لم تمل في الرفع والنصب، وذلك قولك " حمار " كأنك قلت هذا " فعالل " وكذلك في النصب إذا قلت " رأيت حمارا " كأنك قلت " فعالل " فغلبت هنا فنصبت كما فعلت ذلك قبل الألف " في راشد " فأمّا في الجر فتميل الألف كان أول الحرف مكسورا أو مفتوحا أو مضموما؛ لأنها كأنها حرفان مكسوران فتميل ها هنا كما غلبت حيث كانت مفتوحة فنصبت الألف، وذلك قولك في " حماره " ومن " عواره " ومن " المعار " ومن " الدوار " كأنك قلت " فعالل "، و " فعالل " و " فعالل "، ومما تغلب فيه الراء قولك: " قارب " و " فارم "، وهذا طارد، وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف التي تليها؛ وذلك لأن الراء لما كانت تقوى على كسر الألف في فعال وفعال في الجر لما ذكرنا من التضعيف قويت على هذه الألف إذ كنت إنما تضع لسانك في موضع استعلاء ثم تنحدر وصارت المستعلية هاهنا بمنزلتها في قفاف، وتقول: هذه ناقة فارق وأينق مفاريق، فتنصب كما فعلت ذلك حين قلت " ناعق " و " مفارق " و " مناشط ". قال أبو سعيد: قد تقدم أن الحرف المستعلي إذا كان بعد الألف في فاعل وما جرى

مجراه فهو أشد منعا من الإمالة منه إذا كان قبل الألف؛ لأنه إذا كان قبل الألف فهو بمنزلة النزول من علو إلى سفل إذا أملت الألف، وإذا كان بعد الألف وأملت الألف فهو بمنزلة الصعود من سفل إلى علو، فمن أجل ذلك أجازوا الإمالة في ما كان قبل الألف حرف مستعل وبعده راء مكسورة كنحو " قارب " " ضارب " ولم يجيزوا في " فارق " و " ناعق ". قال: وقالوا: من قرارك فغلبت كما غلبت القاف وأخواتها. قال أبو سعيد: يريد أن فتحة الراء في قرارك إذا كان بعد الألف راء مكسورة لم تمنع الإمالة، وقلبت الكسرة لفتح الراء التي قبل الألف حتى أميل كما قلبت الراء المكسورة ما قبلها في الإمالة، وهو حرف الاستعلاء الذي قبل الألف، ولم تكن الراء المفتوحة التي قبل الألف بأقوى من حرف الاستعلاء في منع الإمالة. قال: " لأن الراء وإن كانت كأنها حرفان مفتوحان فإنما هي حرف واحد وبزنته، كما أن الألف في غار والياء في قيل بمنزلة غيرهما في الرد إذا صغّرت ردّت إلى الواو، وإن كان فيهما من اللين ما ليس في غيرهما، فإنما شبهت الراء بالقاف وليس في الراء استعلاء، فجعلت مفتوحة تفتح نحو المستعلية، فلما قويت على القاف كانت الراء أقوى ". قال أبو سعيد: يريد أن الألف في غار والياء في قيل وإن كانتا قد فصلتا باللين والمد فليس يوجب لهما ذلك أن يكونا بمنزلة الحروف التي لا يردها التصغير إلى أصلها، فيقال في تصغير " غار " و " قيل " " غوير " و " قويل " فيرد إلى الواو التي هي الأصل، كقولنا في تصغير " ود " " وتيد " وفي تصغير " ستة " " سديسة " ترده إلى أصله لما زالت العلة الموجبة للقلب، وكذلك الراء شبهت بالقاف في منع الإمالة وهي أضعف من القاف في ذلك، فلما قويت الراء المكسورة على القاف كانت الراء المكسورة على الراء المفتوحة أقوى منها على القاف المفتوحة. قال سيبويه: " والذين يقولون " مساجد " و " عابد " ينصبون جميع ما أملت في الراء، واعلم أن قوما من العرب يقولون " الكافرون " و " الكافر " وهي المنابر لما بعدت وصار بينها وبين الألف حرف لم تقو قوة المستعلية؛ لأنها من موضع اللام وقريبة من الياء، ألا ترى أن الألثغ يجعلها ياء، فلما كانت كذلك عملت الكسرة عملها إذ لم يكن بعدها راء ". يريد أن الراء في الكافر لما صار بينها وبين الألف حرف وكانت مضمومة أو

مفتوحة لم تمنع من الإمالة كما منعت حروف الاستعلاء لقوة حرف الاستعلاء، ولأن الراء وإن كانت مكررة فهي من مخرج اللام وهي قريبة من الياء، ألا ترى أن الألثغ قد يجعل الراء ياء فيقول: " بايك الله عليك " في " موضع بارك الله عليك ". قال: " وأما قوم آخرون فنصبوا الألف في النصب والرفع، وجعلوها بمنزلتها إذ لم يحل بينها وبين الألف كسر، وجعلوا ذلك لا يمنع كما لم يمنع في القاف وأخواتها، وأمالوا في الجر كما أمالوا حيث لم يكن بينها وبين الألف شيء، وكان ذلك عندهم أولى حيث كان قبلها حرف تمال له لو لم يكن بعده راء ". يريد أن الذين نصبوا في " كافر " و " كافرا " لم يحفلوا بالكسرة بين الألف والراء وجعلوا الراء كأنها تلي الألف، كما أن القاف في السمالق كما أنها تلي الألف في منع الإمالة، وإذا كانت الراء مجرورة في " الكافر " و " الكافرين " و " المنابر " أمالوا كأن الراء تلي الألف. قال: " وأما بعض من يقول: " مررت بالحمار " فإنه يقول: " مررت بالكافر " فينصب الألف؛ وذلك لأنك قد تترك الإمالة في الرفع والنصب كما تتركها في القاف، فلما صارت في هذا كالقاف تركتها في الجر على حالها؛ حيث كانت تنصب في الأكثر يعني في الرفع والنصب، وكان من كلامهم أن ينصبوا نحو " عابد " وجعل الحرف الذي قبل الراء يبعده من أن يمال كما جعله قوم حيث قالوا: هو كافر يبعده من أن ينصب، فلما بعد وكان النصب عندهم أكثر تركوه على حاله إذ كان من كلامهم أن يقولوا " عابد " والأصل في " فاعل " أن تنصب الألف ولكنها تمال لما ذكرت لك من العلة، ألا تراها لا تمال في " تابل "، فلما كان ذلك الأصل تركوها على حالها في الرفع والنصب، وهذه اللغة أقل في قول: من قال " عابد " و " عالم ". قال أبو سعيد: جملة هذا الكلام إنه قد يميل " مررت بالحمار " لانكسار الراء بعد الألف من لا يميل مررت بالكافر لبعد الراء المكسورة من الألف، وقوّى سيبويه نصب " مررت بالكافر " بأشياء منها أن القاف المانعة من الإمالة وإن كسرناها لم نغير حكمها في منع الإمالة، ومنها أن الراء قد بعدت وهي تمنع الإمالة إذا كانت مرفوعة أو منصوبة فجعلت في الجر مثلها في الرفع والنصب، ومما احتج له أن الألف في الأصل غير ممالة، وإنما الإمالة شيء حادث داخل عليها، وهذه الوجوه قرب بها فتح الألف في " الكافر " وإن كانوا يميلون مثله.

قال: واعلم أن الذين يقولون: " هذا قارب "، يقولون: " مررت بقادر "، ينصبون الألف ولم يجعلوها حيث بعدت تقوى كما أنها في لغة الذين قالوا: " مررت بكافر " لم تقو على الإمالة. قال أبو سعيد: هؤلاء فصلوا بين قارب وبين قادر؛ لأن الراء في " قارب " مكسورة تلي الألف، وكسرتها لازمة، وفي " قادر " بعيدة من الألف وكسرتها غير لازمة، فضعفت عن مقاومة القاف التي هي حرف الاستعلاء. قال: " وقد قال قوم ترضى عربيتهم: " مررت بقادر " حيث كانت مكسورة، وذلك أنه يقول: " قارب " كما يقول: " جازم "، فاستوت القاف وغيرها. يعني استوت القاف وغيرها مما ليس بمستعل، إذا كانت بعد الألف راء مكسورة، فكذلك إذا كانت بعد الألف بحرف راء مكسورة فيصير " بقادر " بمنزلة " بكافر ". قال: " وسمعنا من نثق به من العرب يقول والبيت لهدبة بن خشرم: عسى الله يغنى عن بلاد ابن قادر … بمنهمر جون الرباب سكوب (¬1) وتقول: هو قادر، فيفتح. قال: " واعلم أن من يقول: " مررت بكافر " أكثر ممن يقول " مررت بقادر " لفصل حرف الاستعلاء. واعلم أن من العرب من يقول: " مرت بحمار قاسم " فينصبون للقاف كما نصبوا حين قالوا: " مررت بمال قاسم " إلا أن الإمالة في الحمار وأشباهه أكثر؛ لأن الألف في الراء كأنها بينها وبين القاف حرفان مكسوران، فلذلك صارت الإمالة فيها أكثر منها في المال، ولكنهم لو قالوا: " جارم قاسم " لم يكن بمنزلة " حمار قاسم " لأن الذي يميل ألف جارم لا يتغير فبين " حمار قاسم " و " جارم قاسم " ما بين " مال قاسم " و " عابد قاسم ". قال أبو سعيد: يريد أن الإمالة في " جارم قاسم " أقوى منها في " جار قاسم " من جهتين: إحداهما أن كسرة الراء في جارم لازمة في كل حال، وكسرة الراء في الحمار تتغير بالرفع والنصب، والجهة الأخرى أن حرف الاستعلاء قد بعد من ألف جارم أكثر من بعده عن ألف حمار، وكذلك الإمالة في " عابد قاسم " أقوى منه في " مال قاسم ". قال: يريد أنهم أمالوا بفارّ؛ لأن الراء المكسورة بينها وبين الألف راء ساكنة قد ¬

_ (¬1) البيت في شرح التصريح على التوضيح 2/ 351، وخزانة الأدب 4/ 82.

أدغمت فيها فكأنهما راء واحدة مكسورة. قال: " وتقول: هذه صعارر، وإذا اضطر الشاعر قال: " الموارر "، وهذه بمنزلة " مررت بفارّ "؛ لأنه إذا كان من كلامهم هي " المنابر " كان اللازم لهذه الإمالة إذا كانت الراء بعد الألف مكسورة، وقال: كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ (¬1). ومعنى قوله: وإذا اضطر الشاعر قال: " الموارر "؛ لأن حقه أن يدغم فيقال: " الموارّ "، وأصله " الموارر "، وللشاعر عند الضرورة أن يردها إلى الأصل. قال: " ومن قال: " هذا جادّ " فأمال، لم يمل " هذا فارّ " لقوة الراء إذا كانت مضمومة أو مفتوحة في منع الإمالة. وتقول: هذه " دنانير " كما قلت " كافر "، وهذا أجدر؛ لأن الراء أبعد، يعني الإمالة في هذه " دنانير " أقوى من قولك " هذا كافر " لبعد الراء المضمومة من الألف الممالة. " وقد قالوا: " مناشيط " فأمالوا لبعد الطاء " فإذا كانت في الجر فقصتها قصة كافر ". يعني إذا " جررت الدنانير " فهو كجرّ " كافر ". قال: واعلم أن الذين يقولون هذا داع في السكون فلا يميلون؛ لأنهم لم يلفظوا بالكسر كسرة العين، يقولون: " مررت بحمار " فيميلون؛ لأن الراء كأنها عندهم مضاعفة فكأنه جر راء قبل الراء، وذلك قولك: " مررت بالحمار " و" استجير " من النار وقالوا في " مهارى " تميل الهاء وما قبلها. وقال سيبويه: سمعت العرب تقول: " ضربت " " ضربة " و " أخذت " " أخذة " ممال، شبه الهاء بألف فأمال ما قبلها كما تميل ما قبل الألف. وإمالة ما قبل الهاء فاشية بالبصرة والكوفة والموصل وما قرب منهن، فلذلك أميلت الهاء في " مهاري ". قال سيبويه: " ومن قال: " أراد أن يضربها قاسم " قال: " أراد أن يضربها راشد "، ومن قال: " بمال قاسم " قال: " بمال راشد "، والراء أضعف في ذلك من القاف لما ذكرت ". قال أبو سعيد: يعني تمنع الراء في راشد الإمالة فيما ذكر كما تمنع القاف، والقاف ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، من الآية 15، 16.

أقوى في منع الإمالة من الراء. قال سيبويه: " وتقول: " رأيت عفرا "، كما تقول: " رأيت علقا "، و " رأيت عيرا " كما تقول: " رأيت ضيقا "، وهذا " عمران " كما تقول: " حمقان ". جعل الراء في إيجاب النصب بمنزلة القاف. " واعلم أن قوما يقولون: " رأيت عفرا " فيميلون للكسرة؛ لأن الألف في آخر الحرف، فلما كانت الراء ليست كالمستعلية وكانت قبلها كسرة، وكان الألف في آخر الحرف شبهوها بألف حبلى، وكان هذا ألزم حيث قال بعضهم: " رأيت عرقا "، وقال: أراد أن " يعقرها " وأراد أن " يعقرا " ورأيتك " عسرا "، جعلوا هذه الأشياء بمنزلة ما ليس فيه راء. قال سيبويه: قال أبو سعيد: يريد أن قوما لا يميلون مع الحروف المستعلية يميلون مع الراء؛ لأن الراء أضعف أمرا في منع الإمالة فيقولون: " رأيت عفرا " وشبهوا هذه الألف لما كانت طرفا بألف حبلى الممالة، ثم قوي ذلك بأن من العرب من يميل نحو ما ذكر مما في آخره ألف وإن كان فيه حرف من المستعلية نحو: " رأيت عرقا. قال سيبويه: وقالوا: " رأيت عيرا "، فإذا كانت الكسرة تميل فالياء أجدر أن تميل، وقالوا: " النّغران " حيث كسرت أول الحرف وكانت الألف بعد ما هو من نفس الحرف فشبه بما يبنى على الكلمة نحو ألف حبلى، وقالوا: " عمران " ولم يقولوا " برقان " ولا " حمقان " لأنها من الحروف المستعلية. هؤلاء فرقوا بين الراء والمستعلية فأمالوا في الراء ولم يميلوا في المستعلية لقوتها، وشبهوا الألف في " عمران " و " نغران " بألف حبلى، وجعلوها كالطرف ولم يعتدوا بالنون ". قال سيبويه: " ومن قال: هذا " عمران " فأمال قال في رجل يسمى " عقران ": هذا " عقران " كما قالوا: " جلباب " فلم يمنع ما بينهما الإمالة كما لم يمنع الصاد في " صمالق ". قال أبو سعيد: يريد أن القاف في " عقران " لم تمنع الإمالة التي أوجبتها كسرة العين وإن كان بين الكسرة والألف والقاف، كما أن السين في " سمالق " تقلبها صادا من أجل القاف فتقول: " صمالق "، وإن كان بينهما أحرف. " وتقول: هذا " فراش " وهذا " جراب " فتميل للكسرة قبلها شبهت " بنغران " والنصب فيه كله أحسن؛ لأنها ليست كألف حبلى.

هذا باب ما يمال من الحروف التي ليست بعدها ألف إذا كانت الراء بعدها مكسورة

هذا باب ما يمال من الحروف التي ليست بعدها ألف إذا كانت الراء بعدها مكسورة وذلك قولك: " من الضّرر " و " من البعر " و " من الكبر " و " من الصّغر " و " من الفقر "، لما كانت الراء كأنها حرفان مكسوران وكانت تشبه الياء أمالوا المفتوح كما أمالوا الألف؛ لأن الفتحة من الألف، وشبه الفتحة بالكسرة كشبه الألف بالياء، فصارت الحروف هاهنا بمنزلتها إذا كانت قبل الألف وبعد الألف والراء وإن كان الذي قبل الألف من المستعلية نحو " ضارب " و " قارب ". قال أبو سعيد: اعلم أن الراء فيما ذكره سيبويه في هذا الباب وقبله حرف لا نظير له للتكرير الذي فيه ولاختصاصه بأحكام ينفرد بها، منها ما انفرد به في هذا الباب من إمالة ما قبله إذا كان مكسورا وقبله فتحة، ومن جواز الإمالة من أجله فيما تمنع حروف الاستعلاء من إمالته وقد تقدم الكلام على ذلك. قال سيبويه: " وتقول: " من عمرو " فتميل العين؛ لأن الميم ساكنة، وتقول " في المحاذر " فتميل الذال ولا تقوى على إمالة الألف؛ لأن بعد الألف فتحا وقبلها أيضا مفتوح. قال أبو سعيد: يريد لا تقوى الراء على إمالة الألف للمفتوح الذي بينهما. قال سيبويه: فصارت الإمالة لا تعمل بالألف شيئا كما إنك تقول: " حاضر " فلا تميل؛ لأنها من الحروف المستعلية، وكما لم تمل الألف للكسرة كذلك لم تملها لإمالة الذال. قال أبو سعيد: اعلم أنك لم تمل الألف في حاضر؛ لأن بينها وبين الراء الضاد، كذلك أيضا لم تمل الألف في المحاذر للذال المفتوحة التي بين الألف والراء، وإن أملت الذال من أجل الراء قال أبو الحسن الأخفش: أقول في " ابن أم مذعور " و " ابن بور " أميل ما قبل الواو فأما الواو فلا أميلها. وسيبويه يقول: أروم الكسرة في الواو، تقول: " هذا ابن أمّ مذعور " و " ابن بور " وفى بعض النسخ " ابن ثور " كأنك تروم الكسرة؛ لأن الراء كأنها حرفان مكسوران ولا تميل الواو؛ لأنها لا تشبه الياء، ولو أملتها أملت ما قبلها، ولكنك تروم الكسر كما تقول ردّ. قال أبو سعيد: مذهب سيبويه أنه لا يميل الواو الساكنة؛ لأن إمالتها توجب إمالة

ما قبلها، كما أن إمالة الألف توجب إمالة ما قبلها، ولكنك تروم الكسرة في الواو فيكون رومها كالإمالة كما رمت الكسرة في ردّ. ومن مذهب الأخفش أن الواو تمال ويمال ما قبلها معها كما يفعل بالألف. قال سيبويه: " ومثل ذلك: " عجبت من السّمر " و " شربت من المنقر "، والمنقر الرّكيّة الكثيرة الماء، وقالوا: " رأيت خبط الريف " كما قالوا: " من المطر "، وقالوا: " رأيت خبط فرند "، كما قالوا " من الكافرين ". قال أبو سعيد: يريد أنهم أمالوا ما قبل الراء المكسورة ولا حرف بينهما في خبط الريف كما أمالوا في المطر وأمالوا ما بينه وبين الراء حرف كما أمالوا من الكافرين وبين الألف والراء حرف. ويقال: هذا خبط رياح كما قالوا: من المنقر وقالوا: مررت بعير ومررت بخير فلا تشمم؛ لأنها لا تخفى مع الياء " يعني أن إشمامه الكسرة يخفى مع الياء. كما أن الكسر نفسه في الياء أخفى، وكذلك مررت ببعير؛ لأن العين مكسورة ولكنهم يقولون هذا ابن ثور وقد مضى الكلام فيه. وتقول: " هذا قفا رياح " كما قلت: " رأيت خبط رياح " فتميل طاء خبط للراء المنفصلة المكسورة، وكذلك ألف قفا تميلها للراء المكسورة التي بعدها وإن كانت منفصلة. قال سيبويه: " وأما من قال: مررت بمال قاسم فلم ينصب لأنها منفصلة قال: رأيت خبط رياح وقفا رياح فلم يمل، سمعنا جميع ما ذكرنا لك من الإمالة والنصب في هذه الأبواب من العرب ". قال أبو سعيد: الذي يفرق بين المنفصل والمتصل أنه يجعل اللام المكسورة في مال كأنها لم تتصل بقاف قاسم؛ لأنها كلمة أخرى، وكذلك الطاء المفتوحة في رأيت خبط رياح كأنها لم تتصل بكسرة الراء في رياح فلا تميل الطاء؛ لأنه لا يعتد بالراء من رياح؛ لأنها من كلمة أخرى. " ومن قال: من عمرو ممال والنّغر فأمال لم يمل من الشّرق؛ لأن بعد الراء حرفا مستعليا، فلا يكون ذا كما لم يكن هذا مارق ". قال أبو سعيد: يريد أن حرف الاستعلاء إذا كان بعد الراء المكسورة منع من إمالة ما قبل الراء وهو إمالة الشين من الشرق كما منع من إمالة الألف في مارق.

هذا باب ما يلحق الكلمة إذا اختلت حتى تصير حرفا فلا يستطاع أن يتكلم بها في الوقف فيعتمد بذلك اللاحق في الوقف

قال سيبويه: " تحسب وتسع وتضع لا يكون فيه إلا الفتح في التاء والنون والهمزة وهو قول العرب ". قال أبو سعيد: ليس ذكر هذا من هذا الباب وقد مضى في موضعه، وهو أن فعل يفعل لا يكسر في مستقبله حرف الاستقبال كما يفعل ذلك في فعل يفعل نحو علمت تعلم ونعلم واعلم، ولا تقول في حسب تحسب ولا تضع في تضع؛ لأن أصله توضع، وإنما فتح لحرف الحلق، ورأيت بعض أصحابنا يذكر أنه لا يجوز أن تقول تحسب فتكسر التاء في لغة من يفتح السين؛ لأن الأكثر في تحسب بكسر السين، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يلحق الكلمة إذا اختلت حتى تصير حرفا فلا يستطاع أن يتكلم بها في الوقف فيعتمد بذلك اللاحق في الوقف وذلك قولك: عه وشه وكذلك جميع ما كان من باب وعى يعي، فإذا وصلت قلت ع حديثا وش ثوبا حذفت؛ لأنك وصلت إلى التكلم به فاستغنيت عن الهاء ". قال أبو سعيد: اعلم أنه لا يتكلم بحرف واحد مفردا لأنه (لابد) أن يبتدأ بمتحرك ويوقف على ساكن، فأقل شيء يتكلم به مفردا حرفان، الأول متحرك والثاني ساكن، وهذا الفعل الذي في الباب على ثلاثة أحرف، أوله وهو فاء الفعل وآخره وهو لام الفعل معتلان، فإذا أمرت منه سقط أوله وآخره وبقي عين الفعل، وهو حرف واحد، فإذا تكلم به مفردا عمد بالهاء؛ لأن الهاء تدخل للوقف، وإذا كان بعده كلام موصول به استغني عن الهاء، وأصل قولنا عه وشه من وعى يعي ووشى يشي ومثله وقى يقي وورى يري، وهو أكثر من أن يحصى. فالواو التي في أوله كالواو التي في وعد ووزن، وهي تسقط في المستقبل والأمر تقول: يعد ويزن وعد وزن، والياء التي في آخره كالياء التي في يقضي ويرمي، وهي تسقط في الأمر كقولنا: اقض ارم فاجتمع في هذا حذف الأول والأخير لاعتلالهما. هذا باب ما يتقدم أول الحروف وهي زائدة قدّمت لإسكان أول الحروف فلم تصل إلى أن تبتدئ بساكن فقدّمت الزيادة متحركة لتصل إلى التكلم بها " والزيادة ها هنا الألف الموصولة وأكثر ما تكون في الأفعال فتكون في الأمر

من باب فعل يفعل ما لم يتحرك ما بعدها، وذلك قولك: اضرب اقتل اسمع اذهب؛ لأنهم جعلوا هذا في موضع يسكن أوله فيما بنوّا من الكلام ويكون في انفعلت وافتعلت وافعللت، وهذه الثلاثة على زنة واحدة ومثال واحد، فالألف تلزمهنّ في فعل وفعلت والأمر؛ لأنهم جعلوه يسكن أوله هاهنا فيما بنوا من الكلام وذلك: انطلق واحتبس واحمررت وهذا النحو ويكون في استفعلت وافعنللت وافعاللت وافعوّلت وافعوّملت، هذه الخمسة على مثال واحد وحال الألف فيهن كحالها في افتعلت وقصتهنّ في ذلك كقصتهن في افتعلت وذلك نحو: استخرجت واقعنست واشهاببت واجلوّذت واعشوشبت، وكذلك ما جاء من بنات الأربعة على مثال استفعلت نحو احرنجمت واقشعررت " فحالهنّ حال استفعلت. قال أبو سعيد: اعلم أن أصل ألف الوصل إنما تكون في الأفعال؛ لأنه يعرض فيها ما يوجب سكون أولها فيحتاج إلى ألف الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن والذي يجب ذلك فيه من الأفعال ما كان ماضيه على ثلاثة أحرف غير معتلّ ولا مدغم، نحو قولك: ذهب يذهب، وقتل يقتل، وضرب يضرب، وقد كان يجب أن يحرك الأول في المستقبل كما حرك في الماضي، فيقال ذهب يذهب وقتل يقتل وضرب يضرب، فاجتمع أربع متحركات واستثقلوا توالي الحركات فلم يكن سبيل إلى تسكين الأول؛ لأنه لا يبتدأ بساكن ولا إلى تسكين الثالث الذي هو عين الفعل؛ لأنه بحركته يعرف اختلاف الأبنية ولا إلى تسكين الرابع؛ لأنه يقع عليه الإعراب، الرفع والنصب، فأسكنوا الثاني؛ لأنه لا يمنع من إسكانه مانع، فقال: يذهب ويقتل ويضرب، فإذا أرادوا الأمر حذفوا حرف الاستقبال، فبقي فاء الفعل ساكنة واحتاجوا لها إلى ألف الوصل ولو كان الفعل معتلا أو مدغما لم تدخله ألف الوصل لتحرّك فاء الفعل نحو قولنا: قام يقوم وقم، وردّ يردّ وردّ. وأما انفعل فأدخلوا على الفعل الثلاثي نونا، وكرهوا تحريكها لئلا تجتمع أربع متحركات فأدخلوها ساكنة ثم أدخلوا لسكونها ألف الوصل وجعلوا قولهم: اطلق من انطلق بمنزلة فعل ثلاثيّ، وكذلك افتعل لمّا ادخلوا التاء سكّنوا الفاء التي قبلها؛ لأنهم لو تركوها على الحركة وقد حركوا التاء لاجتمع أربع متحركات، وكذلك احمرّ أصله احمرر لمّا زادوا إحدى الرائين متحركة احتاجوا إلى تسكين الحاء لينتظم البناء فيهنّ على مثال انفعل، وإنما يقال: احمرّ وأصله احمرر، كما يقال ردّ وأصله ردد، وإذا زاد على هذا المثال حرفا آخر نحو: استفعل وما ذكر معه سكنوا أيضا؛ لأنهم

كرهوا كثرة الزيادة وكثرة الحركات، فسكّنوا قال: وأما ألف أفعلت فلم تلحق؛ لأنهم أسكنوا الفاء ولكنها بني بها الكلمة وصارت فيها بمنزلة ألف فاعلت في فاعلت، فلما كانت كذلك صارت بمنزلة ما ألحق ببنات الأربعة، ألا ترى أنهم يقولون يخرج وأنا أخرج فيضمون كما يضمون في بنات الأربعة؛ لأن الألف لم تلحق لساكن أحدثوه. قال أبو سعيد: اعلم أن الفعل الثلاثي أول مستقبله مفتوح، وما كان من الفعل ماضيه على أربعة أحرف فإن أول مستقبله مضموم، وإنما فتحوا في الثلاثي وضموا في الرباعي للفرق بينهما، واختاروا الفتح في الثلاثي؛ لأنه أكثر في الكلام، والفتح أخف فاختاروا الأخف للأكثر لئلا يكثر استعمال الثقيل. وما ماضيه على أفعل فهو من الرباعي وإن كان مستقبله بعدّة الثلاثي، كقولنا: أخرج وهو يخرج؛ لأن أصله يؤخرج، وإنما أسقطوا الهمزة التي في أول الماضي لئلا تجتمع همزتان في فعل المتكلّم إذا قال أؤخرج، وصار يخرج وأصله يؤخرج بمنزلة دحرج يدحرج وقاتل يقاتل وكسّر يكسّر، وقد ذكرت في كتاب ألفات الوصل ما هو أتمّ من هذا الاعتلال وإنما أراد سيبويه أن يفرق بين ألف افعلت وألف الوصل إن هذه الألف قد صيّرت بمنزلة ما هو من نفس الكلمة وإن كانت زائدة وبنيت الكلمة عليها كما بنيت على زيادة ألف فاعلت؛ لأنها تجيء لمعنى وليست كألف الوصل التي لا معنى لها سوى التوصل إلى النطق بالساكن الذي بعدها، وكل شيء كانت ألفه موصولة في الماضي فمستقبله يأتي بفتح أوله، والعلة في فتحه دون ضمه أن ما كانت في ماضيه ألف الوصل وهو تسعة أبنية: سبعة منها ثلاثي في الأصل واثنان رباعيان. فأما الثلاثي فقولك: انفعلت وافعللت وافتعلت واستفعلت وافعنللت إذا كان إحدى اللامين للإلحاق، وافعاللت وافعوّلت وافعوملت، فهذه الثمانية أصلها الثلاثي ففتح أوائل المستقبل كما تفتح في الثلاثي. وأما الاثنان اللذان أصلهما الرباعي فنحو: احرنجمت واقشعررت. وإنما ذكرت سبعة في الأول وثمانية في الثاني؛ لأن افعنللت قد يكون وزنا لاقعنسست وإحدى السينين زائدة وأصلها الثلاثي، ويكون وزنا لاحرنجمت والجيم والميم أصليتان. قال سيبويه: وأما كل شيء كانت ألفه موصولة فإنّ يفعل منه وأفعل ونفعل وتفعل مفتوحة الأوائل؛ لأنها ليست تلزم الكلمة وإنما هي ها هنا كالهاء في عه، فهي في هذا الطرف كالهاء في هذاك (الطّرف، فلمّا لم تقرب من بنات الأربعة نحو: دحرجت

وصلصلت جعلت أوائل) ما ذكرنا مفتوحا كأوائل ما كان من فعلت الذي هو على ثلاثة أحرف نحو ذهب وضرب وقتل وعلم وصارت احرنجمت واقشعررت كاستفعلت لأنها لم تكن هذه الألفات فيها إلا لما حدث من السكون ولم تلحق لتخرج بناء الأربعة إلى بناء من الفعل أكثر من الأربعة كما أن أفعل خرجت من الثلاثة إلى بناء من الفعل على الأربعة؛ لأنه لا يكون الفعل من نحو سفرجل لا تجد في الكلام مثل سفرجلت، فلما لم تكن كذلك صرفت إلى باب استفعلت فأجري مجرى ما أصله الثلاثة ". هذا الفصل من كلام سيبويه احتجاج في فتح المستقبل مما في ماضيه ألف الوصل، فقال: لأنها تعني ألف الوصل لا تلزم الكلمة فهي كالهاء في عه وإذا لم تلزم الكلمة وقد دخلت على ما أصله الثلاثي لم يجب الضمّ الذي يجب في مثل قولنا: أكرم يكرم، وقاتل يقاتل، وصار احرنجمت واقشعررت اللذان أصلهما الرباعي كاستفعلت؛ لأن الألف لم تدخل في احرنجمت واقشعررت لتنقله إلى بناء من الفعل أكثر من الرباعي؛ لأنه ليس في الكلام فعل من الخماسي مثل سفرجلت ولم يكن مثل أفعل الذي دخلت الألف على الثلاثي فيه فأخرجته إلى مثال الرباعي في اللفظ كدحرج وصلصل وما أشبه ذلك قال: " واعلم أن هذه الألفات إذا كان قبلها كلام حذفت؛ لأن الكلام قد جاء قبله ما يستغنى به عن الألف كما حذفت الهاء حين قلت ع يا فتى، فجاء بعدها كلام وذلك قولك: " يا زيد اضرب " و " يا زيد اقتل " و " يا عثمان استخرج " وإن ذلك حرنجم وكذلك جميع ما كانت ألفه موصولة ". قال أبو سعيد: يريد أن ألف الوصل إذا كان قبلها كلام سقطت من اللفظ؛ لأنها وصلة إلى الساكن قبلها، فالكلام الذي قبلها يغني عنها في الوصلة إلى الساكن فتسقط من الوصل كما تسقط الهاء من عه إذا وصلت فقلت ع يا فتى. واعلم أن ألف الوصل مكسورة أبدا في الاسم والفعل؛ لأنها جعلت وصلة إلى الساكن فحركت بالحركة التي تجب في التقاء الساكنين وهي الكسرة، فإن كان الحرف الثالث من ألف الوصل مضموما ضموا الألف كقولك: أقتل أخرج أستضعف أحتقر وما أشبه ذلك؛ وذلك لأنهم كرهوا أن يخرجوا من كسرة إلى ضمة وليس بينهما إلا حرف ساكن وليس في الكلام مثل هذا ولا في الكلام فعل فأتبعوا الضمة الضمة كما يقلبون في باب الإدغام الحرف إلى ما يقاربه ليدغم أحدهما في الآخر فيكون اللفظ من وجه واحد ويرفع اللسان من موضع واحد. " ودعاهم ذلك إلى أن قال بعضهم: أنا أجؤك وأنبؤك وهو منحدر من الجبل " أي

منحدر ". قال سيبويه: " أنبأنا بذلك الخليل ". ومعنى أجؤك أجيئك والهمزة مضمومة، فضموا الجيم لضمة الهمزة، وقوله: " أنبؤك " أصله أنبئك من أنبأ ينبئ فضموا الباء لضمة الهمزة الأخيرة، وضم الدال من منحدر لضمة الراء، ولا يفعلون هذا في حال النصب والجرّ. " وقالوا أيضا لإمّك ". فكسروا الألف من أمّ لكسرة اللام وقد يكسرون أيضا الألف من أمّ إذا كان قبلها ياء ساكنة كقوله تعالى: حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا (¬1)، وحكى سيبويه: اضرب الساقين إمّك هابل فكسر الألف من أم لكسرة النون من الساقين " فكسرهما جميعا ". يعني الألف من أم والحرف المكسور الذي قبلها " كما ضمّ في ذلك "، يعني كما ضم في أنبؤك وأجؤك ومثل ذلك قول النعمان بن بشير: ويلمهّا في هواء الجو طالبة … ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (¬2) قال أبو سعيد: يريد وي لأمّها ووي لإمّها، فحذف الهمزة وهذا الوجه يجوز أن تقدّره فيقال: وي لأمها فتحذف الهمزة مقدرة بالضم أو بالكسر ويجوز أن يكون ويل أمها وتكون بانفصال ويل من أمّ وتكون الأم مخفوضة بإضافة ويل إليها وحذفت الهمزة فصارت ويل أمّها بفتح اللام وكسر الميم، ثم كسرت اللام اتباعا لكسرة الميم، ومن الناس من يقول: ويل أمّها فيضم اللام ويلقي ضمة الألف من أمّ على اللام بعد أن يسكّنها ويحذف الألف من أمّ. قال سيبويه: " وتكون موصولة في الحرف الذي تعرّف به الأسماء وهو الحرف الذي في قولك: القوم والرجل والناس فإنما هما حرف بمنزلة قد وسوف، وقد بيّنّا ذلك فيما ينصرف وما لا ينصرف، ألا ترى أن الرجل يقول إذا نسي فتذكر ولم يرد أن يقطع أولى كما تقول: قفري ثم يقول: كان وكان، ولا يكون ذلك في ابن ولا في امرئ؛ لأن الميم ليست منفصلة ولا الباء وقال غيلان: ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 59. (¬2) البيت ليس في ديوانه وهو منسوب لامرئ القيس انظر ديوانه 227، خزانة الأدب 4/ 91.

دع ذا وعجّل ذا وألحقنا بذل … بالشّحم إنّا قد مللنا بجل (¬1) كما تقول: أنه قدي، ثم تقول: قد كان كذا وكذا ولكنه لم يكسر اللام في قوله: بذل ويجيء بالياء؛ لأن البناء قد تمّ، وزعم الخليل أنها مفصولة كقد وسوف ولكنها جاءت لمعنى كما يجيئان للمعاني، فلما لم تكن الألف في فعل ولا اسم كانت في الابتداء مفتوحة فرق بينهما وبين ما في الأسماء والأفعال وصارت في ألف الاستفهام إذا كانت قبلها لا تحذف شبّهت بألف أحمر؛ لأنها زائدة كما أنها زائدة وهي مفتوحة مثلها؛ لأنها لمّا كانت في الابتداء مفتوحة كرهوا أن يحذفوها فيكون لفظ الخبر والاستفهام واحدا فأرادوا أن يفصلوا ويبيّنوا ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الفصل إلى الموضع الذي انتهى إليه الكلام في فتح ألف الوصل التي تدخل على لام المعرفة والفعل بينها وبين سائر ألفات الوصل؛ لأن هذه مفتوحة وتلك مكسورة إلا ما استثنى من المضموم فيها فابتدأ فقال: إنها بمنزلة قد وسوف وشبهها بقد وسوف وإنها تدخل على اسم مبهم يقع على أشياء فيتعرّف بها كقولك رجل وفرس فيكون مبهما لا يعرف به شيء بعينه. ثم تقول: الرجل، فيقع على معين وكذلك سوف تدخل على يفعل فتصيّره للمستقبل وقد كان يحتمل المستقبل والحال، وقد تدخل على فعل متوقع وتصيّر الفعل الماضي في معنى الحال وقد ذكرنا في موضعه، ثم قال: " ألا ترى أن الإنسان إذا نسي الاسم الذي فيه ألف ولام جاز أن يقف على الألف واللام ويتذكر ويجعل علامة الوقف عليه والتذكر الياء التي تزيدها فتقول ألي ثم تقول الفرس كما تقول قدي إذا نسي ما بعده، واستشهد بقوله: " وألحقنا بذل " إلا أنه لم يزد فيه ياء للقافية. وقد كان ابن كيسان يتعلق بهذا ويجعلها ألف قطع ولكنها لما كثرت في الكلام طرحوها واستخفوا حذفها وليس سبيلها كسبيل الألف في ابن وامرئ؛ لأن الميم ليست منفصلة ولا الباء كما كانت اللام منفصلة من الاسم كانفصال قد من الفعل وفى فتحها وجوه منها أنهم أرادوا الفصل بين ألف الوصل الداخلة على الحرف وبين الداخلة على الاسم والفعل فجعلوا الداخلة على الحرف أخف في اللفظ من الداخلة على الاسم والفعل؛ لأن الحرف أضعف وأقلّ تصرفا، فاختاروا للداخل عليه أخفّ الحركات، ومن العلّة لذلك أن الألف الداخلة على لام ¬

_ (¬1) انظر الخصائص 1/ 291، خزانة الأدب 3/ 233، همع الهوامع 1/ 79.

التعريف أكثر؛ لأنه اسم منكور محتاج إلى أن يعرّف بالألف واللام، والأسماء المنكورة أكثر من أن تحصى فاختاروا للكثير أخف الآلات، ومن العلة لذلك ما ذكره سيبويه أنها شبهت بألف أحمر، وذلك أنه لا ألف وصل إلا تسقط إذا كان قبلها كلام أي كلام كان إلا هذه الألف فإنها لا تسقط إذا كان قبلها ألف الاستفهام كقولك: الرجل قال ذلك؟ قال الشاعر: الخير الذي أنا أبتغيه … أم الشّرّ الذي لا يأتليني (¬1) فأثبت ألف الخير مع ألف الاستفهام، فلما كانت تثبت كما تثبت ألف احمرّ شبهت بها ففتحت. قال سيبويه: " ومثلها من ألفات الوصل الألف التي في أيم وأيمن لمّا كانت في اسم لا يتمكّن تمكّن الأسماء التي فيها ألف الوصل نحو: ابن واسم وامرئ، وإنما هي في اسم لا يستعمل إلا في موضع واحد شبّهتها هنا بالتي في أل فيما ليس له باسم " ولا فعل " إذ كانت فيما لا يتمكّن تمكّن ما ذكرنا وضارع ما ليس باسم ولا فعل والدليل على أنها موصولة قولهم: ليمن الله وليم الله. قال الشاعر: وقال فريق القوم لمّا نشتدتهم … نعم وفريق ليمن الله ما ندرى (¬2) قال أبو سعيد: جعل ألف ايم وأيمن ألف وصل وذكر أنهم جعلوها مفتوحة وإن كانت داخلة على اسمين؛ لأن ايم وايمن لا يستعملان إلا في القسم، فلم يتمكّنا فشبّها بلام التعريف وقد حكى يونس أن من العرب من يكسر فيقول: إيم الله. وهذه الألف هي ألف وصل عند البصريين، وايمن اسم موضوع للقسم غير مشتق من شيء من الأسماء المعروفة. وذكر أبو إسحاق الزجاج وهو قول الكوفيين إن أيمن جمع يمين كما قال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل (¬3) وإن ايم محذوف منها النون، ومنهم من يقول م الله لأفعلنّ كأنه تكلم بالميم من أيمن، ومنهم من يقول م الله لأفعلنّ، بكسر الميم، كأنه تكلم بالميم من يمين. وذكر أن الألف سقطت من ليمن الله وليم الله؛ لأن اللام صارت عوضا منها كما قالوا لاها الله ذا، وإنما هو لا والله هذا، فجعلوها عوضا من واو القسم ولم يذكروها. " فقصة أيم " عند ¬

_ (¬1) قائله المثقب العبدي انظر ديوانه 213، الشعر والشعراء 234. (¬2) انظر المنصف 1/ 61، والنوادر 165، شرح المفصل 8/ 36. (¬3) انظر خزانة الأدب 2/ 345، المخصص 5/ 138.

هذا باب كينونتها في الأسماء

سيبويه والخليل " قصة الألف واللام "، وما حكاه يونس من قول بعضهم " إيم الله " بالكسر تشبيه بألف ابن. هذا باب كينونتها في الأسماء " وإنما تكون في أسماء معلومة أسكنوا أوائلها فيما بنوا من الكلام وليست لها أسماء تتلئبّ فيها كالأفعال، هكذا أجروا ذا في كلامهم. وتلك الأسماء ابن وألحقوه الهاء للتأنيث فقالوا: ابنة واثنان وألحقوه الهاء للتأنيث فقالوا: اثنتان كقولك: ابنتان، وامرؤ وألحقوه الهاء للتأنيث، فقالوا: امرأة وابنم واسم واست، وجميع هذه الألفات مكسورة في الابتداء وإن كان الثالث مضموما نحو: ابنم وامرؤ؛ لأنها ليست ضمة تثبت في هذا البناء على كل حال، إنما يضمّ في حال الرفع، فلما كان كذلك فرقوا بينها وبين الأفعال نحو، أقتل أستضعف؛ لأن الضمة فيهن ثابتة، فتركوا الألف في امرئ وابنم على حالها والأصل الكسر؛ لأنها مكسورة أبدا في الأسماء والأفعال إلا في الفعل المضموم الثالث كما قالوا: أنا أنبؤك والأصل كسر الباء، فصارت الضمة في: امرؤ إذ لم تكن ثابتة كالرّفعة في نون: ابن؛ لأنها ضمة إنما تكون في حالة الرفع ". قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد تقدم أن الأصل دخول ألفات الوصل في الأفعال دون الأسماء؛ لأن فيها علّة توجب ذلك وأن الأسماء التي ليست بمصادر للأفعال التي فيها ألفات الوصل من الخماسي والسداسي إنما هي أسماء معدودة وقد جمعها سيبويه وهي: ابن وابنة واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة واست ابنم واسم، ويدخل في ذلك أيم الله وأيمن الله على ما ذكرنا من الكلام فيها، وإنما دخلت هذه الأسماء ألفات الوصل؛ لأنها أسماء معتلة سقط أواخرها للاعتلال، فسكن أوائلها لتكون ألفات الوصل عوضا مما سقط منها. فأما ابن، وكان أصله: بنو أو بني وبني، فأسقط آخره وأما اثنان فكان أصله ثنيان؛ لأنه من ثنيت الشيء. وأما اسم فأصله سمو أو سمو؛ لأنه مشتق من سما يسمو إذا علا، والاسم في المعنى بمنزلة الشيء الذي يعلو على المسمّى، ويكون علما دالا عليه، ألا تراهم يقولون: وقع هذا الشيء تحت هذا الاسم، فعلم أن الاسم كالطابع على المسمّى وتحذف منه الواو فيكون فيه لغات بعد حذفها. يقال سم وسم.

قال الشاعر: والله أسماك سما مباركا … آثرك الله به إيثاركا (¬1) ويروى سما ويسكن أوله فتدخل ألف الوصل مكسورة على قياس ما ذكرنا من كسر ألف الوصل، ولم يحك سيبويه في ألف الوصل في هذه الأسماء غير الكسر، وقد حكى غيره في اسم: اسم، والوجه ما حكاه سيبويه. وأما است فأصله ستة، وقد اختلفت فيه العرب؛ فمنهم من يحذف التاء فيقول: سه، ومنهم من يحذف التاء، ويسكّن السين ويدخل ألف الوصل فيقول: است. وأمّا امرؤ فإنهم شبهوا الهمزة بحرف معتل؛ لأنه يلحقها التخفيف ولم يحفلوا بها فشبهوه بالاسم الذي قد أسقط آخره، فسكن أوله وأدخل ألف الوصل عليه. وأما ابنم فزيدت فيه الميم على ابن للتوكيد والمبالغة كما يقال للأزرق زرقم، وللعظيم العجز ستهم يراد به عظيم الاست. وذكر سيبويه أنا نقول: ابنم امرؤ فيكسر ألف الوصل، وإن كان الثالث مضموما، وقد كنا ذكرنا أنهم ضموا ألف الوصل من أقتل لضمة الثالث، ففرق بين أقتل وامرؤ؛ لأن هذه الضمة التي في الراء من امرئ وفي النون من ابنم ليست بثابتة؛ لأنها تتبع ضمة الإعراب، تقول: هذا ابنم وامرؤ ورأيت ابنما وامرأ، ومررت بابنم وامرئ، فلما كانت الضمة فيهما الثالثة تابعة لضمة الإعراب ولم تضم لها ألف الوصل؛ لأنها غير ثابتة، فصار بمنزلة قولنا: ابنك خرج، اسم زيد في الديوان، فلا تضمّ الألف لأجل الرفع الذي فيه؛ لأنه غير ثابت قال: " واعلم أن هذه الألفات ألفات الوصل تحذف جميعا إذا كان قبلها كلام إلا ما ذكرت من ألف اللام في الاستفهام وفى أيمن "، يعني إذا قال الرجل: قام أيمن الله؛ لأنها مفتوحة، ولو لم يمدّوا وقع لبس بين الخبر والاستفهام " وتذهب في غير ذلك إذا كان قبلها كلام إلا أن تقطع فتدع كلامك الأول وتستأنف كما قالت الشعراء في أنصاف البيوت؛ لأنها مواضع فصول وإنما ابتدأوا بعد قطع، قال الشاعر: ولا يبادر في الشتاء وليدنا … القدر ينزلها بغير جعال (¬2) ويروى: ولا تبادر بالشتاء وليدنا (القدر تنزلها)، والجعال: الخرقة التي تنزل بها ¬

_ (¬1) قائل البيت ابن خالد القنائي انظر إصلاح المنطق 134، الإنصاف 1/ 15، أوضح المسالك 1/ 25. (¬2) نسبه ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه لحاجب بن جندب 2/ 322، ونسب في شرح شواهد الشافية عن ابن عصفور للبيد العامري ولم أجده في ديوانه.

القدر؛ وقطع ألف القدر لأنه ابتداء النصف الثاني من البيت. وقال لبيد: أو مذهب جدد على ألواحه … الناطق المزبور والمختوم (¬1) فقطع ألف الوصل من الناطق؛ لأنه النصف الثاني من البيت. وقد روي: على ألواحهن الناطق المزبور، ولا شاهد فيه على هذه الرواية والمزبور: المكتوب ويروى المبرور في معنى المبرز قال: " واعلم أن كل شيء كان أول الكلمة وكان متحركا سوى ألف الوصل فإنه إذا كان قبله كلام لم يحذف ولم يتغير إلا ما كان من هو وهي فإن الهاء تسكن إذا كان قبلها واو أو فاء أو لام، وذلك قولك: وهو ذاهب، ولهو خير منك وفهو قائم، وكذلك هي لمّا كثرتا في الكلام، وكانت هذه الحروف لا يلفظ بها إلا مع ما بعدها صارت بمنزلة ما هو من نفس الحرف، فأسكنوا كما قالوا في فخذ فخذ وفي رضي رضي وفي حذر حذر وفي سرو سرو. فعلوا ذلك حيث كثرت في كلامهم وصارت تستعمل كثيرا فأسكنت في هذه الحروف استخفافا ". قال أبو سعيد: يريد أن قولهم فهو وهو لمّا كثرت في كلامهم وكانت الواو والفاء لا ينفردان صار بمنزلة سرو وقضو وعضد وعجز وكثرتا في الكلام اختير فيها تسكين الهاء. وفي الناس من يقول: وهو وفهي فيضم الهاء ويكسرها ولا يخفف، وهو جيد بالغ. قال: " وفعلوا بلام الأمر مع الفاء والواو مثل ذلك؛ لأنها كثرت في كلامهم وصارت بمنزلة الهاء في أنها لا يلفظ بها إلا مع ما بعدها وذلك قولك فلينظر وليضرب ". قال أبو سعيد: يعني أن لام الأمر إذا اتصل بها الفاء والواو تسكن، وذلك لشيئين: أحدهما ما ذكره من كثرة ذلك وأن الفاء والواو لا ينفردان واللام بعدهما مكسورة تسكن كما تسكن الخاء من فخذ حين قالوا: فخذ ويجوز أن يكون فصلوا بين لام الأمر ولام كي؛ لأنهم لا يسكنون في لام كي، كما أسكنوا في لام الأمر، قال الله عز وجل: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ (¬2) ولم يسكنوا اللام فيها؛ لأنها لام كي، وقد أسكن بعضهم لام الأمر مع ثم، قرأ الكسائي وغيره: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (¬3) بتسكين اللام، واستقبح أهل البصرة ¬

_ (¬1) انظر الديوان 159، الخصائص 1/ 193. (¬2) سورة القصص، الآية: 13. (¬3) سورة الحج، الآية: 29.

هذا باب تحرك أواخر الكلم الساكنة إذا حذفت ألف الوصل بعدها لالتقاء الساكنين

ذلك؛ لأن ثم يوقف عليها وإنما العلة في التسكين عندهم أن الفاء والواو لا يوقف عليهما وإن كان ما قرأوا به من تسكين اللام مع ثم جائزا فليس بالمختار. قال سيبويه: " ومن ترك الهاء على حالها في " هي " و " هو " ترك الكسرة في اللام على حالها ". قال أبو سعيد: يريد أن من قال وهو وهي فحرّك الهاء حرّك اللام في قوله: فلينظر وليضرب. هذا باب تحرّك أواخر الكلم الساكنة إذا حذفت ألف الوصل بعدها لالتقاء الساكنين " وإنما حذفوا الألف ها هنا بعد الساكن؛ لأن من كلامهم أن يحذف وهو بعد غير ساكن فلما كان ذلك من كلامهم حذفوها ها هنا وجعل التحرك في الساكنة الأولى حيث لم يكن ليلتقي ساكنان وجعلوا هذا سبيلها ليفرقوا بينها وبين الألف المقطوعة، فجملة هذا الباب أن يكون الساكن الأول مكسورا وذلك قولك: اضرب ابنك وأكرم الرجل واذهب اذهب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ (¬1)؛ لأن التنوين ساكن وقع بعده حرف ساكن فصار بمنزلة باء اضرب ونحو ذلك. ومن ذلك: إن الله عافاني فعلت، وعين الرجل وقط الرّجل ولَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ (¬2) ونظير الكسر ها هنا قولهم: حذار وبداد ألزموهما الكسر كلامهم، فجعلوا سبيل هذا الكسر في كلامهم، فاستقام هذا الضرب على هذا ما لم يكن اسما نحو حذام لئلا يلتقي ساكنان ونحوه قولهم: جير يا فتى وفاق فاق كسروا هذا إذ كان من كلامهم أن يكسروا إذا التقي ساكنان. وقال الله عز وجل: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ (¬3) فضموا الساكن حيث حركوه كما ضموا الألف في الابتداء وكرهوا الكسر ها هنا كما كرهوه في الألف فخالفت سائر السواكن كما خالفت الألف سائر الألفات. وقد كسر قوم فقالوا: قل انظروا، وأجروه على الباب الأول ولم يجعلوها كالألف ولكنهم جعلوها كآخر جير. وأما الذين يضمون فإنهم يضمون في كل ساكن يكسر في ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص، الآية: 1، 2. (¬2) سورة التوبة، الآية: 42. (¬3) سورة يونس، الآية: 101.

غير الألف المضمومة، فمن ذلك قوله عز وجل: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ (¬1) وَعَذابٍ * ارْكُضْ (¬2)، ومثله أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (¬3) وهذا كله عربي قد قرئ به وهي قراءة الحسن. " ومن قال (قل انظروا) كسر جميع هذا ". قال سيبويه: " واعلم أن العرب قد فتحت الساكن في هذا الباب في حرفين: أحدهما قوله تبارك وتعالى: الم اللَّهُ لما كان من كلامهم أن يفتحوا لالتقاء الساكنين فتحوا هذا وفرّقوا بينه وبين ما ليس بهجاء، نظير ذلك قولهم: من الله ومن الرسول ومن المؤمنين لمّا كثرت في كلامهم ولم تكن فعلا وكان الفتح أخف عليهم فتحوا وشبهوها بأين وكيف. وزعموا أن ناسا من العرب يقولون: من الله فيكسرون ويجرونه على القياس. وأمّا (الم) فلا يكسر، لم يجعلوه في ألف الوصل بمنزلة غيره، ولكنهم جعلوه كبعض ما يتحرك لالتقاء الساكنين ونحو ذلك: لم يلده واعلمّن ذلك؛ لأن للهجاء حالا قد تبيّنّ. وقد اختلف العرب في من إذا كان بعدها ألف وصل غير ألف اللام فكسره قوم على القياس وهي أكثر في كلامهم، وهي الجيدة ولم يكسروا في ألف اللام؛ لأنها مع ألف اللام أكثر؛ لأن الألف واللام كثيرة في الكلام تدخل في كل اسم ففتحوا استخفافا فصار من الله بمنزلة الشاذ، وذلك قولك: من ابنك ومن امرئ، وقد فتح قوم فصحاء فقالوا: من ابنك فأجروها مجرى من المسلمين ". قال أبو سعيد: اعلم أن الحرف الساكن إذا لقيه ألف الوصل فهو على ضربين: أحدهما أن يكون الساكن من حروف المدّ واللين، وهي الألف والياء التي قبلها حرف مكسور والواو التي قبلها حرف مضموم؛ والآخر أن يكون الساكن غير هذه الحروف، فإن كان الساكن من حرف المدّ واللين التي ذكرت لك سقط في اللفظ؛ لأن ألف الوصل تسقط ويلتقي ساكنان فيسقط الأول منهما لاجتماع الساكنين إذ كان من حروف المدّ الذي لا يحرّك. فأما الألف فقولك: رمي الرجل وتحفّي الرجل. وأما الياء فقولك: يرمي الرجل ويقضي الحقّ. وأما الواو فقولك: يغزو القوم ويدعو الرجل، وأما غير هذه الحروف فإنه يحرّك لالتقاء الساكنين، فمنه ما يحرّك بالكسر لا غير، ومنه ما يجوز ¬

_ (¬1) سورة يوسف، الآية: 31. (¬2) سورة ص، الآية: 42، 41. (¬3) سورة المزمل، الآية: 3.

تحريكه بغير الكسر وفي بعض ذلك، فأما ما لا يجوز فيه غير الكسر فأن يكون الساكن غير واو مفتوح ما قبلها وتكون ألف الوصل التي أسقطت غير مضمومة فإن ذلك كله مكسور لا غير كقولك: اضرب الرجل واضرب ابنك واذهب اذهب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- 1 اللَّهُ الصَّمَدُ- 2 وزيد العاقل وزيد اضربه وما أشبه ذلك. وقد شذ من ذلك حرفان ففتحا وذلك قولهم: من الله ومن الرسول ومن المؤمنين والآخر (الم الله). فأما قولهم من الله فبعض العرب يقول: من الله فيكسر. وإنما فتح من الله وخرج عن قياس نظيره؛ لأنه كثر في كلامهم هذا الحرف وكان الألف واللام كثيرا في كلامهم؛ لأنه يدخل على كل منكور والميم مكسورة فكرهوا توالي الكسرتين مع الكثرة فعدلوا إلى أخف الحركات وكسروا ما لم يكثر مما هو على صورته كقولك: إن الله أمكنني فعلت وكقولك: زن الدرهم وعد الرجل وصل ابنك وما أشبه ذلك. وكان الكسائي يقول: إنّ من فتحت النون فيها؛ لأن الأصل منا ولم يأت في ذلك بحجة مقنعة. وقد قال: إن كم أصلها كما وخلاف بينهم أنه يقال كم الغلمان وكم الثياب فيكسرون، وروي عن الكسائي أنه فتح الميم في كم. وإذا كان ألف الوصل بعد من مع غير لام التعريف فإن الكسر عند سيبويه أكثر في النون، كقولك: من ابنك؛ لأن ألف الوصل في غير لام التعريف لم يكثر، وأما (الم الله) فكان الأخفش يجيز فيها الكسر (الم الله)، وقد منع سيبويه ذلك، وفي فتح الميم منها وجهان: أحدهما أنه لالتقاء الساكنين الميم واللام الأولى من الله ولم يكسروا؛ لأن قبل الميم ياء وقبل الياء كسرة، فكرهوا الكسر فيها كما كرهوا الكسر في أين وكيف، والميم أثقل؛ لأن قبل الياء منها كسرة. والوجه الثاني أنه ألقى فتحة الألف من قولنا: ألله على الميم؛ لأن هذه الميم موقوفة حقها أن تبتدأ الألف بعدها مفتوحة؛ فلما وصلت جعلت الهمزة وهي الألف مخفّفة فألقي حركتها على الميم كما يفعل في تخفيف الهمزة، وإذا كانت ألف الوصل المحذوفة مضمومة جاز الكسر والضم. فأما الكسر فعلى قياس ما يوجبه التقاء الساكنين من الكسر. وأما من ضم فإنه يقيم الحرف الساكن مقام ألف الوصل المحذوفة والضم في بعض ذلك أحسن من بعض؛ وذلك قولك: قل انظر؛ لأن الأصل قل أنظر فحذفت ألف الوصل المضمومة وأقمت اللام مقامها في التحريك؛ وكذلك: (أو انقص منه قليلا). وكان أبو العباس المبرد لا يستحسن في عذاب اركض ما يستحسنه في قل انظر، لأن قوله: عذاب اركض يخرج من كسرة إلى ضمة وذلك مستثقل معدوم في أصل " الأبنية " وإذا كسرت " قل انظروا " " وعذاب اركض " و " قالت اخرج عليهن " فهو على أصل القياس ويشبّه سيبويه

هذا باب ما يضم من السواكن إذا حذفت بعده ألف الوصل

الكسر كسر الساكن الذي بعده ألف الوصل بحذار وبداد ونظار؛ لأنه كان عنده أن نظار وحذار آخرهما ساكن وأنه اجتمع ساكنان في ذلك فكسر آخره لاجتماع الساكنين، ولم يكن ذلك في حذام، اسم امرأة، لأن العرب تختلف في كسر حذام ولم تختلف في نظار وحذار، وذلك مذكور في موضعه، ومثل الكسر قولهم جير ومعناه نعم قال الشاعر: متى تنأى ببيتك في معد … تقل تصديقك العلماء جير (¬1) وهو حرف، وجعل نظير ما فتح من الساكن قبل ألف الوصل قولهم: لم يلده واعلمن ذاك. فأما لم يلده فأصله يلده وحذفوا الكسرة من اللام ثم حركوا الدال لاجتماع الساكنين وفتحوه اتباعا لفتحة الياء، وكرهوا الكسرة في الدال لأنهم هربوا من الكسر فكرهوا العود إلى ما هربوا منه. وأما قولهم: اعلمن ذاك فلان الفتح أخف الحركات ولأنهم أرادوا أيضا الفرق بين المؤنث والمذكر والواحد والجمع، لأنهم يقولون للمؤنث اعلمن ذاك وللجميع اعلمن ذاك. هذا باب ما يضم من السواكن إذا حذفت بعده ألف الوصل " وذلك الحرف الواو التي هي علامة الإضمار إذا كان ما قبلها مفتوحا؛ وذلك قولك: (ولا تنسوا الفضل بينكم)؛ ورموا ابنك، واخشوا الله؛ فزعم الخليل أنهم جعلوا حركة الواو منها ليفصل بين الواو التي هي من نفس الحرف وبينها نحو واو " لو " و " أو ". وقد قال قوم: (ولا تنسوا الفضل بينكم) جعلوها بمنزلة ما كسروا من السواكن وهي قليلة. وقال قوم: لو استطعنا شبهوها بواو واخشوا الرجل ونحوها حيث كانت ساكنة مفتوحا ما قبلها وهي في القلة بمنزلة: ولا تنسوا الفضل بينكم ". قال أبو سعيد: وقال غير سيبويه: إنما اختاروا الضم لأنه قد سقط من الكلام ضمة كانت قبل واو الجمع، فلما احتاجوا إلى التحريك حركوه بمثل تلك الضمة وكان الأصل " لا تنسيوا الفضل " و " رميوا ابنك "، فاستثقلوا الضمة على الياء وقلبوا الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفوا الألف لاجتماع الساكنين في الكلمة ثم حركوا الواو لاجتماع الساكنين في الكلمتين وضموا للضمة المقدرة قال: " وأما الياء التي هي علامة الإضمار وقبلها حرف مفتوح فهي مكسورة في ألف ¬

_ (¬1) انظر الأمالي الشجرية 1/ 347.

هذا باب ما يحذف من السواكن إذا وقع بعدها ساكن

الوصل، وذلك قولك: اخشى الرجل لأنهم لما جعلوا حركة الواو من الواو وجعلوا حركة الياء من الياء فصارت تجري ها هنا كما تجري الواو " ثم. قال أبو سعيد: يعني أنهم اختاروا أن تكون حركة الياء كسرة للمشاكلة كما اختاروا أن تكون حركة الواو ضمة للمشاكلة وأن الكسرة من الياء كما أن الضمة من الواو قال. " وإن أجريتها مجرى (ولا تنسوا الفضل بينكم) كسرت فهي على كل حال مكسورة " يعني أن الذين يقولون: (ولا تنسوا الفضل بينكم) اجروا الواو مجرى سائر الحروف في الكسر كقولك: لا تذهب اليوم، ولا تقتل الرجل فهو أيضا يكسر الياء على ذا المذهب في اخشى الرجل. قال: " ومثل هذه الواو واو مصطفون لأنها واو زائدة لحقت للجمع كما لحقت واو اخشوا وحذفت من الاسم ما حذفت واو اخشوا، فهذه في الاسم كتلك في الفعل والياء في مصطفين مثلها في اخش وذلك مصطفو الله، ومن مصطفي الله ". وفي هذا الموضع ذكر سيبويه أن الياء التي في فعل المؤنث علامة الإضمار وهي اسم على هذا المذهب كالتاء في فعلت وغيره، ومن الناس من يذهب في أن الياء علامة التأنيث في اضربي واخشي وأنها بمنزلة التاء في قالت هند، واحتج بأنها لو كانت علامة إضمار لواحد لصار علامة إضمار لاثنين على حرفين كما كان في الماضي بزيادة تزداد على إضمار الواحد، كقولنا: فعلت وفعلتما. هذا باب ما يحذف من السواكن إذا وقع بعدها ساكن " وذلك ثلاثة أحرف: الألف والياء التي قبلها حرف مكسور وهي ساكنة " فأما حذف الألف فقولك: رم الرجل وأنت تريد رمى، ولم يخف الرجل، وأنما كرهوا تحريكها لأنها إذا حركت صارت ياء أو واو، فكرهوا أن يصيروا إلى ما استثقلوا فحذفوا الألف حيث لم يخافوا التباسا ومثل ذلك: هذه حبلى الرجل ومعزى القوم وأنت تريد المعزى والحبلى كرهوا أن يصيروا إلى ما هو أثقل من الألف، فحذفوا حيث لم يخافوا التباسا ومثله رمت ". يريد أن التاء دخلت وهي ساكنة على رمى فاجتمع ساكنان الألف من رمى والتاء

فسقطت الألف كما سقطت في قولك: رمى الرجل. قال: " وقالوا: رميا فجاءوا بالياء وقالوا: غزوا فجاؤا بالواو لئلا يلتبس الاثنان بالواحد وقالوا: حبليان وذفريان، لأنهم لو حذفوا لالتبس بما ليس في آخره ألف التأنيث من الأسماء، وأنت إذا قلت هذه حبلى الرجل ومن حبلى الرجل علم أن في آخرها ألفا. فإن قلت قد تقول رأيت حبلى الرجل فيوافق اللفظ لفظ ما ليس في آخره ألف التأنيث، فان هذا لا يلزمه في كل موضع، وإن لو قلت حبلان لم تجد موضعا إلا والألف منه ساقطة ولفظ بالاسم حينئذ ولفظ ما ليست فيه الألف سواء ". قال أبو سعيد: أعلم أن الساكن من حروف المد واللين وان حذفناه لاجتماع الساكنين فقد يرد مثله فلا يحذف لما يقع في حذفه من اللبس، وذلك ما كان في آخره ألف من الاسم والفعل إذا ثنيناه قلبنا الألف التي في الواحد ياء أو واوا، أدخلنا حرف التثنية وذلك قولك في رمى رميا، وفي قضى قضيا، وفي دعا دعوا، قال الله عز وجل: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما) (¬1). وتقول في دنا دنوا، وفي غزا غزوا، وتقول في تثنية الاسم في حبلى حبليان وفى ذفرى ذفريان، وفي فتى فتيان، وفي رحى رحيان، وما كان من ذوات الواو نحو عصا ومنا وقفا ورجا عصوان ومنوان وقفوان ورجوان، وإنما فعل ذلك لأنا لو أدخلنا على رمى ألف التثنية فحذفنا الألف التي في رمى لسكونها وسكون ألف التثنية لصار لفظ المثنى كلفظ الواحد، ولو حذفنا في الاسم لقلنا في حبلى حبلان، وفي ذفرى ذفران، ورحان وفتان في تثنية رحى وفتى، وعصان ومنان في تثنية عصا ومنا، ولو فعلنا ذلك ثم أضفنا سقطت النون للإضافة فصار لفظ الواحد كلفظ الاثنين، لأنك إذا قلت رحان في تثنية رحى وعصان في تثنية عصا، ثم أضفتها إلى زيد قلت رحى زيد فصار كالواحد، وكذلك عصا زيد. فإن قال قائل فأنت قد تقول: رأيت حبلى الرجل فيوافق اللفظ لفظ ما في آخره ألف التأنيث لأنه في موضع النصب مفتوح، فكذلك التثنية، ففرق سيبويه بينهما فقال: " إن هذا لا يلزم في كل موضع " يريد أن الألف من حبلى قد لا يلقاها ساكن يسقطها فتثبت، كقولك: هذه حبلى زيد، رأيت حبلى زيد ومررت بحبلى زيد فتظهر ألف حبلى وأنت إذا أسقطت الألف لاجتماع الساكنين في التثنية فهي ساقطة على كل حال، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية 189.

فلذلك لم تسقط في التثنية كما سقطت في غيرها، وما يسقط فيزول معناه ويلتبس بمعنى آخر أشد مما يسقط فيلتبس إعرابه قال: " وأما حذف الياء التي قبلها كسرة فقولك: هو يرمي الرجل ويقضي الحق وأنت تريد يقضي ويرمي كرهوا الكسرة كما كرهوا الجر) في قاض، والضم فيه كما كرهوا الرفع فيه ولم يكونوا ليفتحوا فيلتبس بالنصب، لأن سبيل هذا أن يكسر فحذفوا حيث لم يخافوا التباسا ". قال أبو سعيد: يريد أنهم إذا قالوا يقضي الرجل ويرمي الرجل فلا بد لهذه الياء من أن تسكن فتحذف لاجتماع الساكنين وهو الذي عقد عليه الباب، أو تحرك، فإن حركت بالكسر صار بمنزلة قولنا مررت بقاضيك وكسرة الياء التي قبلها كسرة مستثقلة والعرب تسكنها في حال الكسر ولم تكن لتضم، لأن الضمة فيها مستثقلة كما استثقلوا الضم في رفع القاضي حين لم يقولوا هذا قاضيك، وكرهوا الفتح في قولك: هو يرمي الرجل، لم يقولوا يرمي الرجل، لأنهم لو فتحوه لالتبس بالمنصوب، ولأن اجتماع الساكنين لا يوجب الفتح. قال: " وأما حذف الواو التي قبلها حرف مضموم كقولك: يغزو القوم ويدعو القوم، فكرهوا الكسر كما كرهوا الضم هناك، وكرهوا الضم كما كرهوا الكسر في يرمي ". قال أبو سعيد: يريد أنّا لو كسرنا الواو في يغزو لثقل، لأنه واو قبلها ضمة كما كرهوا الضم في الياء التي قبلها كسرة، وكرهوا الضم في يغزو القوم كما كرهوا الكسر في مررت بقاضيك وهذا يرمي الرجل قال: " وأما اخشوا القوم ورموا الرجل واخشى الرجل فإنهم لو حذفوا لالتبس الواحد بالجميع والأنثى بالذكر وليس هنا موضع التباس ". قال أبو سعيد: يريد أن الواو المفتوح ما قبلها والياء المفتوح ما قبلها لا تسقط لاجتماع الساكنين، لأنها لو سقطت لأوقعت لبسا، لأنك لو قلت اخشوا زيدا ثم قلت اخشوا القوم لو أسقطت واو الجمع للساكن الذي بعدها لقلت اخش القوم على لفظ الواحد، فتجنبوا هذا، وكذلك تقول للمرأة اخشي زيدا، فلو قلت اخش القوم وحذفت الياء لاجتماع الساكنين لبقيت الشين وحدها مفتوحة على لفظ الواحد المذكر. " ومع ذلك أن قبل هذه الواو والياء أخف الحركات ".

هذا باب ما لا يرد من هذه الأحرف الثلاثة لتحرك ما بعده

فلم يستثقل تحريك الواو والياء لخفة ما قبلها، وإذا كان الواو قبلها ضمة والياء قبلها كسرة، فإنه يجتمع في تحريك الواو والياء أنه أثقل " وأنه لا يخاف فيه الالتباس فحذف، ومثل ذلك لم يبع ولم يقل حذفت الواو والياء ولم تحركا كما حذفت الألف في تخاف فقيل لم تخف والواجب في تخاف حذفت الألف إذا سكنت الفاء، لأن الألف لم يمكن تحريكها، فحمل لم يبع ولم يقل على الألف لأنها أخوات. ومع هذا فإنه يستثقل أن يقال لم يبيع ولم يقول فيحرك لاجتماع الساكنين. هذا باب ما لا يرد من هذه الأحرف الثلاثة لتحرك ما بعده " وهو قولك: لم يخف الرجل، ولم يبع الرجل، ولم يقل القوم ورمت المرأة ورمتا، لأنهم إنما حركوا هذا الساكن لساكن وقع بعده وليست بحركة تلزم، ألا ترى أنك لو قلت لم يخف زيد ولم يبع عمرو أسكنت وكذلك لو قلت رمت، فلم تجئ بالألف لحذفته، فلما كانت هذه السواكن لا تحرك حذفت الألف حيث أسكنت الياء والواو، لم يرجعوا هذه الأحرف الثلاثة حيث تحركت لالتقاء الساكنين لأنك إذا لم تذكر بعدها ساكنا سكنت، وكذلك إذا قلت لم تخف أباك في لغة أهل الحجاز وأنت تريد لم تخف أباك ولم يبع أبوك، ولم تقل أبوك لأنك إنما حركت حيث لم تجد بدا من أن تحذف الألف وتلقي حركتها على الساكن الذي قبلها، ولم تكن تقدر على التخفيف إلا كذا لم تجد في التقاء الساكنين من التحريك بدا، فإذا لم تذكر بعد الساكن همزة تخفف كانت ساكنة على حالها كسكونها إذا لم يكن بعدها ساكن ". قال أبو سعيد: يريد أن ما أسقطناه من الألف والواو والياء في لم تخف ورمت ولم تقم ولم يبع لاجتماع الساكنين في هذه الحروف وما أشبهها إذا لقي الساكن منها ساكن بعده، فيحرك لاجتماع الساكنين لم يرد الساكن الذاهب، لأن هذا التحريك عارض وليس بحركة تلزم الحرف، لأنه لا يلزمك في كل حال أن تقول لم يخف الرجل، لأنك تقول لم يخف زيد ولم يبع عمرو، وكذلك إذا قلت رمت المرأة يجوز أن تقول رمت هند، وقد جاء في الشعر مثل رماتا على قول بعض العلماء، وذلك أنه أدخل ألف التثنية بعد التاء فتحركت التاء حركة لازمة ولم يمكن قطع التاء من الألف، فرد الألف الذاهبة قبل التاء، وعلى ذلك تأول بعضهم قول امرئ القيس: لها متنان خظاتا كما … أكب على ساعديه النمر (¬1) ¬

_ (¬1) انظر خزانة الأدب 3/ 356.

هذا باب ما تلحقه الهاء في الوقف لتحرك آخر الكلمة

إنه فعل ماض وأن الأصل كان خظا، فدخل عليه تاء التأنيث فصار خظت، كقولك: رمت في رمى، ثم ثنى فدخلت ألف التثنية على التاء فتحركت، فرددت الألف الذاهبة قبل التاء لتحرك التاء، وقيل في البيت غير هذا وليس بموضع تفسيره، وكذلك إذا حركت شيئا منه بإلقاء حركة الهمزة بعده عليه لم ترد الساكن لأنها حركة عارضة، وذلك قول أهل الحجاز لم تخف أباك، ولم يبع أبوك، ولم تقل أبوك. قال: " وأما قولهم: لم يخافا ولم يقولا ولم يبيعا فإن هذه الحركات لوازم على كل حال، وإنما حذفت النون للجزم كما حذفت الحركة من فعل الواحد، ولم تدخل الألف ها هنا على ساكن، ولو كان كذلك لقال لم يخفا كما قال رمتا، فلم تلحق التثنية شيئا مجزوما كما أن الألف لحقت في رمتا شيئا مجزوما ". قال أبو سعيد: يريد أن الأصل في يخافا ويقولا ويبيعا يخافان ويقولان ويبيعان، فدخل الجزم فسقطت له النون ولم تدخل ألف التثنية على شيء مجزوم، فلذلك تثبت الألف والواو والياء في يخافا ويقولا ويبيعا، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب ما تلحقه الهاء في الوقف لتحرك آخر الكلمة " وذلك قولك في بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن لام في حال الجزم وذلك قولك: ارمه ولم يغزه واخشه ولم يرضه ولم يقضه وذلك أنهم كرهوا ذهاب اللامات والإسكان جميعا، فلما كان ذلك اخلالا بالحرف كرهوا أن يسكنوا المتحرك. فهذا تبيان أنه قد حذف آخر هذه الحروف، وكذلك كل فعل كان آخره ياء أو واو وإن كانت الياء زائدة، لأنها تجري مجرى ما هو من نفس الحرف، فإذا كان بعد ذلك كلام تركت الهاء لأنك إذا لم تقف تحركت، وإنما كان السكون للوقف، فإذا لم تقف استغنيت عنها فتركتها ". قال أبو سعيد: يريد أن ما كان من الفعل المعتل آخره إذا لحقه الجزم أو الأمر فحذفت آخره ووقفت جعلوا الهاء عوضا مما حذفت، لأن إدخال الهاء يوجب تبقية حركة ما قبل المحذوف، وذلك قولك: ارمه، ولم يرضه، لأن الأصل ارم ولم يرض، فحذفت الياء والألف وكذلك الواو من يغزو إذا قلت لم يغزه، فلو لم تأت بالهاء وجب سكون الميم والضاد والزاي، فكرهوا أن يخلوا بحذف الحرف والحركة فادخلوا الهاء لتبقى الحركة على حالها، وهم قد يدخلون الهاء فبما لم يختل هذا الاختلال، كقولك ماليه وحسابيه، فكان هذا أوجب وألزم وبعض العرب فيما رواه سيبويه عن عيسى بن عمر

ويونس يقف بحذف الهاء فتقول: ارم، اغز، اخش. قال سيبويه: " وهذه اللغة أقل اللغتين " وإنما سكنوا بغيرها، لأن الكلمة على أكثر من حرف، فصار بمنزلة ما كان على حرفين أو ثلاثة من الكلام، فأمكن أن يبتدأ بمتحرك ويوقف على ساكن، وذكر سيبويه أن من وقف بالهاء فيما ذكر إذا وصل الكلام، أسقط الهاء، لأن الهاء هاء وقف يراد بإدخالها بيان حركة ما قبلها، فإذا وصلوا الكلام تحرك الحرف الذي قبل الهاء بما وصل به من الكلام الذي بعده واستغني عن الهاء، كقولك: ارم زيدا واغز بلد الروم واخش عمرا وما أشبه ذلك قال: " فأما لا تقه من وقيت وإن تع أعه من وعيت، فإنه يلزمها الهاء في الوقف من تركها في اخش، لأنه مجحف بها لأنها ذهبت منها الفاء واللام، فكرهوا أن يسكنوا في الوقف فيقولوا: إن تع أع فيسكنوا العين مع ذهاب حرفين من نفس الحرف، وإنما ذهبت من نفس الأول حرف وفيه ألف الوصل فهو على ثلاثة وهذا على حرفين وقد ذهب من نفسه حرفان ". قال أبو سعيد: يريد أن قولنا (وعى يعي ووقى يقي) لم يع ولم يق قد ذهبت منه حرفان، وهو فاء الفعل ولامه، لأنه من وقى يقي ووعى يعي، فإثبات الهاء فيه أوجب وألزم من إثباتها في ارم واخش لأن الإجحاف بها أكثر والعوض لها ألزم، ومن العرب من لا يثبت الهاء في ذلك أيضا لأنه على حرفين: الأول منهما متحرك يبتدأ به، والثاني ساكن والذي يتكلم بهذا ويحذف الهاء منه أقل ممن يحذف الهاء من ارم واخش، لأن ارم على ثلاثة أحرف والذاهب منه حرف واحد على ما عرفتك. قال: " وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون: ادعه من دعوت فيكسرون العين كأنها لما كانت في موضع الجزم توهموا أنها ساكنة إذ كانت آخر شيء في الكلمة في موضع الجزم)، فكسروا حيث كانت الدال ساكنة لأنه لا يلتقي ساكنان كما قالوا رد يا فتى، وهذه لغة رديئة وإنما هي غلط كما قال زهير: بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى … ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (¬1) والرواية الجيدة: ولا سابقا، والذي يروي ولا سابق يخفضه على أن مدركا فيه الباء مقدرة، لأن الباء تدخل كثيرا، فكأنه قال: لست بمدرك ما مضى. ¬

_ (¬1) انظر ديوان زهير بن أبي سلمى 169، كتاب القوافي 25، مغني اللبيب 1/ 96.

هذا باب ما تلحقه الهاء لتبين الحركة من غير ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي حذفت أواخرها ولكنها تبين حركة أواخر الحروف التي لم يذهب بعدها شيء

وسيبويه يجري مثل هذا على الغلط والتوهم، وكذلك جعل ادعه كأنهم توهموا إسكان العين، ثم حركوها بالكسر لاجتماع الساكنين. وفيه عندي وجه آخر وذلك أن من العرب من يسكن الحرف الذي يبقى بعد المحذوف من المجزوم فيقول: اشتر ثوبا واتق زيدا، فيحذف الياء ثم يسكن المتحرك الذي قبل الياء المحذوفة قال الشاعر: ومن يتّق فإنّ الله معه … ورزق الله مؤناب وغاد وقال آخر قالت سليمى اشتر لنا دقيقا … وهات خبز البرّ أو سويقا (¬1) فلما كان هذا قد يسكن قدر إسكان العين من ادعه على هذه اللغة فاجتمع ساكنان وهو الذي نحاه سيبويه عندي وإن لم يلفظ به وقد حكى أبو زيد عن القشيري: لم يأل عن ذلك بكسر اللام، وهو من ألا يالو، وقالوا ادعه واغزه فكسر في الجزم. هذا باب ما تلحقه الهاء لتبين الحركة من غير ما ذكرنا من بنات الياء والواو التي حذفت أواخرها ولكنها تبين حركة أواخر الحروف التي لم يذهب بعدها شيء " فمن ذلك النونات التي ليست بحروف إعراب، ولكنها نون الاثنين والجميع وكان هذا أجدر أن تبين حركته حيث كان من كلامهم أن يبينوا حركة ما قبله متحركا مما لم يحذف من آخره شيء لأن ما قبله مسكن فكرهوا أن يسكن ويسكن ما قبله وذلك إخلال به وذلك قولك: هما رجلانه وهما ضاربانه وهم مسلمونه، ومن ذلك هنّه وضربتنه وذهبئنه، فعلوا ذلك لما ذكرت لك ومع ذلك أن النون خفية فذلك أيضا مما يؤكد التحريك إذا كان يحرك ما هو أبين منه، وسترى ذلك وما حرّك وقبله متحرك، ومثل ذلك أينه تريد أين، لأنها نون قبلها ساكن وليست بنون تغير للإعراب ولكنها مفتوحة على كل حال فأجريت ذلك المجرى ". قال أبو سعيد: اعلم أن هذا الباب ذكر فيه سيبويه ما تلحقه هاء الوقف مما قبله ساكن، وجملة الأمر أن هاء الوقف لا تلحق المعرب، لأن حركات المعرب تتغير وتختلف، وقد يدخل المعرب التنوين فجعل الحركات الداخلة عليه عوضا من الهاء، وذلك أن الهاء أصل دخولها عوضا من النقص الذي يلحق الكلم، فمن ذلك دخولها في عه وارمه ¬

_ (¬1) قائله العذافر الكندي انظر الخصائص 2/ 340، شرح شواهد الشافية 225.

وبهداهم اقتده للنقص الذي دخله على ما تقدم الكلام به ويدخل في المبنيات لنقصان تصرفها عن المعرب فإنها مقصورة على شيء واحد،، وقد يمتنع من بعض المبنيات لعلل تمر بك إن شاء الله. فذكر سيبويه ما دخله الهاء من المبنيات التي قبل أواخرها ساكن، ودخول الهاء عليها أقوى من دخولها على ما قبل آخره متحرك، لأن ما آخره ساكن إذا وقف عليه اجتمع ساكنان فيجتمع نقصان البناء ونقصان تسكين المتحرك فأدخلوا الهاء لبيان الحركة وبدأ بما كان آخره نون، لأن النون أخفى من غيرها فهي أحوج إلى تبينها بالهاء وترك حركتها عليها، ثم انتقل إلى غير النون فقال: " ومثل ذلك قولهم ثمة " لأنه قد اجتمع في هذا الحرف أن ما قبله ساكن وهي خفية كالنون وهي أشبه الحروف بها في الصوت، فلذلك كانت مثلها في الخفاء ". قال أبو سعيد: يعني الميم في ثمة هما ميمان الأولى منهما ساكنة والميم الثانية مبنية على الفتح فيبينونها بالهاء لأنها تشبه النون في الخفاء. " ويبين ذلك في الإدغام " إن شاء الله " ومثل ذلك قولهم: هلمّه وإنما يريد هلم. قال الراجز: يا أيها الناس ألا هلمّه (¬1) وإنما يريد هلم ". قال سيبويه: " غير هؤلاء من العرب وهم كثير لا يلحقون الهاء في الوقف ولا يبينون الحركة لأنهم لم يحذفوا شيئا يلزم هذا الاسم في كلامهم في هذا الموضع، كما فعلوا ذلك في بنات الياء والواو ". قال أبو سعيد: يريد أن قوما يدخلون الهاء في ارمه ولم يغزه وما أشبه ذلك مما ذهب منه حرف أو حرفان ولا يدخلونها في ما ذكره في هذا الباب، لأنهم قدروا إدخالها عوضا من الذاهب في ارمه ونحوه ولم يذهب من هذا الباب شيء يجعل الهاء عوضا من ذهابه قال: " وجميع هذا إذا كان بعده كلام ذهبت منه الهاء، لأنه قد يستغنى عنها وإنما أحتاج إليها في الوقف لأنه لا يستطيع أن يحرك ما سكنت عنده، ومثل ما ذكرنا قول العرب: إنّه، وهم يريدون أن ومعناه أجل قال الشاعر: ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 36، شرح المفصل 4/ 42.

هذا باب ما يبينون حركته وما قبله متحرك

ويقلن شيب قد علا … ك وقد كبرت فقلت إنّه (¬1) ومثل نون الجمع قولهم اعلمنّه لأنها نون زائدة وليست بحرف إعراب وقبلها ساكن فصار هذا الحرف بمنزلة هن، وقالوا في الوقف كيفه وليته ولعله في كيف وليت ولعل لما لم يكن حرفا يتصرف بالإعراب وكان ما قبلها ساكنا جعلوها بمنزلة ما ذكرنا وزعم الخليل أنهم يقولون: انطلقته يريدون انطلقت لأنها ليست بتاء إعراب وما قبلها ساكن قال أبو سعيد: ومنع بعض أصحابنا جواز ذلك لأنه يلتبس بالمفعول أو المصدر ولو جاز ذلك لجاز أن تقول ضربته والهاء للوقف، وهذا يلتبس بالمفعول، وقولهم انطلقته يلتبس بالمصدر الذي هو الانطلاق ولا خلاف بينهم أنه يجوز أن تقول ضربته زيدا على ضربت الضرب زيدا ويضمر الضرب لأن ضربت قد دل عليه واستدل أيضا على صحة قولهم أنهم يقولون: مسلمانه على ما حكاه سيبويه ومسلمونه، ولا يقولون يضربانه لأن يضربانه يصلح أن تكون الهاء للمفعول ولا تصلح أن تكون الهاء في ضاربانه وضاربونه للمفعول، لأن اسم الفاعل إذا اتصل به كناية المفعول لم يثبت فيه تنوين ولا نون فتثبت في الفعل النون، تقول: الزيدان ضارباك والزيدون ضاربوك، ولا يجوز الزيدان ضاربانك ولا الزيدون ضاربونك، ونحو: الزيدان يضربانك والزيدون يضربونك والقول عندي ما قال سيبويه والخليل، لأن سيبويه قد حكى ضربتنه والهاء للوقف وإن جاز أن تقع الهاء للمفعول، وكذلك أعلمنه، ولو كان يبطل لوقوع اللبس على ما قاله هذا القائل لم يجز في ليته ولعله، لأنه يلتبس باسم ليت ولعل، وقد حكاه سيبويه عن العرب. قال سيبويه: " ومما أجري مجرى مسلمونه علامة المضمر التي هي ياء وقبلها ألف أو ياء، لأنها جمعت أنها خفية وأن قبلها ساكنا فأجريت مجرى مسلمانه ومسلمونه. هذا باب ما يبينون حركته وما قبله متحرك " فمن ذلك الباء التي تكون علامة المضمر المجرور أو تكون علامة المضمر المنصوب وذلك قولك: هذا غلاميه، وجاء من بعديه، وأنه ضربنيه، كرهوا أن يسكنوها إذ لم تكن حروف الإعراب وكانت خفية فبينوها، وأما من رأى أن يسكن الياء فإنه لا يلحق الهاء، لأن ذلك أمرها في الوصل فلم يحذف منها في الوقف شيء. وقالوا: هيه وهم يريدون هي، شبهها بياء بعدي، وقالوا: هوه لما كانت الواو لا ¬

_ (¬1) قائله عبيد الله بن قيس الرقيات انظر ديوانه 66، ابن يعيش 6/ 8.

تصرف بالإعراب، كرهوا أن يلزموها الإسكان في الوقف فجعلوها بمنزلة الياء، كما جعلوا كيفه بمنزلة مسلمونه. قال الشاعر: إذا ما ترعرع فينا الغلام … فما أن يقال له من هوه (¬1) قال أبو سعيد: وإنما قال سيبويه: شبهوا هيه بياء بعدي، لأن الياء في بعدى حرف واحد وهي اسم وهي حرفان، وما كان على حرف واحد فه أولى بالهاء لقلته ونقصانه قال سيبويه: " ومثل ذلك قولهم: خذه بحكمكه ". فالكاف بمنزلة الياء، وجميع هذا في الوصل تسقط منه الهاء قال سيبويه: " وقد استعملوا في شيء من هذا الباب الألف (في الوقف كما استعملوا الهاء، لأن الهاء اقرب المخارج إلى الألف) وهي شبيهة بها، فمن ذلك قول العرب: حيهلا، فإذا وصلوا قالوا: حيهل بعمر قلت: حيهل يعني في الوقف، ولم يدخلوا الألف. " كما تقول: بحكمك، ومن ذلك قولهم أنا، فإذا وصل قال: أن أقول ذاك، ولا يكون في الوقف في أنا إلا الألف، ولم تجعل بمنزلة هو، لأن هو آخرها حرف مد والنون خفية فجمعت إنها على اقل عدد ما يتكلم به مفردا، وأن آخرها خفي ليس بحرف إعراب، فحملهم ذلك على هذا ". قال أبو سعيد: يريد أنهم قد وقفوا على هذا بغيرها، يعني هو ويجوز أن يوقف عليه بالهاء فيقال هوه، وأنا لا يجوز الوقوف عليه إلا بالألف، والفرق بينهما أن النون خفية وهي على مذهبه أخفى من الواو والكلمة على حرفين عدد ما يتكلم به مفردا وليس آخرها بحرف إعراب كآخر يد ودم، فاختلت بخفاء النون وقلة عدد الحروف وأن آخرها ليس بحرف إعراب وبعض العرب من طئ يقف عليها بالهاء، فيقول: إنه وروي أن حاتم الطائي كان أسيرا في قوم فأمر أن يفصد بعيرا فنحره فقيل له: لم فعلت هذا، فقال: هذا فصدي إنه، وذكر سيبويه أن من العرب من يصل أنا بالألف فيقول: آنا فعلت هذا، وهي قراءة نافع في بعض القرآن كقوله: (أنا أتيك به) (¬2)، (أنا أحي وأميت) (¬3) في أحرف سواها وقال الشاعر: ¬

_ (¬1) البيت لحسان بن ثابت انظر ديوانه 258. (¬2) سورة النمل 40. (¬3) سورة البقرة 258.

أنا سيف العشيرة فاعرفوني … حميد قد تفرويت السناما (¬1) ولم تقف العرب بالألف لبيان الحركة إلا في هذين الحرفين حبهلا وآنا، وتقف في الباقي بالهاء قال سيبويه: " ونظير أنا مع هذا الهاء التي تلزم طلحة في أكثر كلامهم في النداء إذا وقفت، وكما لزمت تلك لزمت هذه الألف ". قال أبو سعيد: يريد أن الألف لازمة في أنا إذا وقفت، ومثله في أكثر كلامهم لزوم الهاء إذا رخمت طلحة ووقفت عليه، فإذا وصله قال: يا طلع أقبل. قال سيبويه: " وأما أحمر ونحوه إذا قلت رأيت أحمر لم تلحق الهاء، لأن، هذا الآخر حرف إعراب يدخله الرفع والنصب وهو اسم تدخله الألف واللام فيجر آخره ففرقوا بينه وبين ما ليس كذلك، وكرهوا الهاء في هذا الاسم في كل موضع وأدخلوها في التي لا تزول حركتها، وصار دخول كل الحركات فيه، وأن نظيره مما ينصرف منون عوضا من الهاء حيث قويت هذه القوة ". قال أبو سعيد: وقد ذكرنا الفرق بين المعرب والمبني بما أغنى عن إعادته. قال سيبويه: " وكذلك الأفعال نحو: ظن وضرب لما كانت اللام قد تصرف حتى يدخلها الرفع والنصب والجزم شبهت بأحمر ". قال أبو سعيد: يريد أن الفعل الماضي وإن كان مبنيا عليه لا تدخله الهاء للوقف، لأن آخر الفعل الماضي هو الذي يعرب في المستقبل، فصار له بذلك قوة فلم تدخل عليه الهاء كما أن حكم وجعفر إذا بني في النداء لم يسكن وبني على حركة فصار إعرابه في حال قوة له في حال البناء. قال سيبويه: " وأما قولهم: علامه وفيمه ولمه وبمه وحتامه، فالهاء في هذه الحروف أجود إذا وقفت، لأنك حذفت الألف من ما فصار آخره كآخر " ارمه واغزه ". وقد قال قوم: فيم وعلام وبم ولم كما قالوا: اخش يعني في الوقف وقد جاء في بعض الشعر سكون الميم في الوصل في بعض هذه الحروف قال الشاعر: يا أبا الأسود لم خليتني … لهموم طارقات وذكر (¬2) ¬

_ (¬1) قائل البيت حميد بن حريث انظر شواهد الشافية 223، خزانة الأدب 5/ 78، شرح المفصل 3/ 93. (¬2) انظر خزانة الأدب 3/ 197، شرح الشافية 2/ 297، الدرر اللوامع 2/ 237.

قال سيبويه: " وليس هذا مثل إن، لأنه لم يحذف منها شيء من آخرها ". قال أبو سعيد: يعني أن إثبات الهاء في ارمه واغزه في الوقف الزم منها في أن إذا وقفت عليها، لأنه قد حذف من آخر ارمه ما تكون الهاء عوضا منه، ولم يحذف من أن شيء. قال: " وأما قولهم: مجيء م جئت ومثل م أنت فإنك إذا وقفت ألزمتها الهاء ولم يكن فيها إلا ثبات الهاء، لأن مجيء ومثل يستعملان في الكلام مفردين لأنهما اسمان وأما الحروف الأول فإنها لا يتكلم بها مفردة من ما لأنها ليست باسم، فصار الأول والأخر بمنزلة حرف واحد لذلك، ومع هذا أنه أكثر في كلامهم، فصار هذا بمنزلة حرف واحد نحو: اخش، والأول من مجيء م جئت، ومثل م أنت ليس كذلك، ألا تراهم يقولون: مثل ما أنت ومجيء ما جئت، لأن الأول اسم، وإنما حذفوا لأنهم شبهوها بالحروف الأولى، فلما كانت الألف قد تلزم في هذا الموضع كانت الهاء في الحرف لازمة في الوقف ليفرق بينها وبين الحرف الأول ". قال أبو سعيد: فرق سيبويه بين حروف الخفض المتصلة بما في الاستفهام وبين الأسماء المتصلة بما، وذلك أن حروف الخفض إذا اتصلت بما في الاستفهام، فالعرب تسقط الألف من ما وتجعلها مع الحروف بمنزلة شيء واحد، (وكثر ذلك في كلامهم فصارت ككلمة واحدة، فإذا وقفوا عليها اختاروا أن يقفوا على الهاء عوضا من الألف المحذوفة، كقولك: علامه وفيمه كما يقفون على ارمه واغزه وبعض العرب لا يحذف الألف وليس ذلك بالكثير وأما الأسماء نحو مجيء م جئت ومثل م أنت فلم يكثر في كلامهم، وقد يتكلم بها مفردة من ما وغيرها، لأنه يجوز أن تقول: جئت مجيئا، وما رأيت لك مثلا، والحروف لا تنفرد، فلما كانت الحروف محتاجة إلى ما بعدها حاجة لازمة كان جعلها وما بعدها بمنزلة شيء واحد أول وألزم، فلما كان كذلك صارت كلمة قائمة على أكثر من حرف، فجاز إدخال الهاء وإسقاطها، وإن كان إثباتها أجود، وما بعد مثل ومجيء حرف قائم بنفسه غير مختلط بما قبله فإذا حذفت الألف بقيت الميم وحدها فاحتاجت إلى الهاء ضرورة وإنما شبهوا مجيء ومثل وما جرى مجراهما إذا أضيفت إلى ما الاستفهام بحروف الجر، لأن الأسماء تجر ما بعدها، كما أن الحروف تجر ما بعدها، فكانت الهاء لها لازمة في الوقف لما ذكرت لك، وليفرق بينهما وبين الحروف. قال: " وقد لحقت هذه الهاءات بعد الألف في الوقف، لأن الألف خفية فأرادوا

هذا باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل

البيان، وذلك قولهم: هؤلاء وهاهنا، ولا يقولانه في أفعى وأعمى ونحوهما من الأسماء المتمكنة كراهية أن تلتبس بهاء الإضافة، ومع هذا أن هذه الألفات حروف إعراب، ألا ترى أن لو كان في موضعها غير الألف دخله الرفع والنصب والجر كما يدخل راء أحمر، ولو كان في موضع ألف هؤلاء حرف متحرك سواها كانت لها حركة واحدة كحركة أنا وهو، فلما كان كذلك أجروا الألف مجرى ما يتحرك في موضعهما. يعني أن ما كان في آخره ألف إن كان مبنيا جاز أن تدخله الهاء في الوقف وذلك نحو: هذا وهاتا ونحوهما،، تقول: هذاه وهاتاه وهاهناه وما أشبه ذلك، وإن كان الألف معربا في التقدير، وهو أن يكون نظيره من غير الألف معربا لم يوقف عليه بالهاء، لا تقول هذا أفعاه ولا هذا أعماه، لأنه على أفعل، ونظيره أحمر وأصفر وهو معرب فلا تدخله الهاء كما لا تدخل المعربات، ومع ذلك أنهم لو أدخلوا الهاء لالتبس بالإضافة فيصير بمنزلة قولنا: عصاه ورحاه إذا أضفنا. قال: " واعلم أنهم لا يتبعون الهاء ساكنا سوى هذا الحرف الممدود، لأنه خفي فأرادوا البيان كما أرادوا أن يحركوا ". قال أبو سعيد: يعني أن الهاء تدخل فيما كان آخره ألفا فقط دون ما كان آخره ياء أو واوا لأن الألف أخفى وهو إلى البيان أحوج، فلا يقولون جاءتني هدية، ولا في شيء غير ذلك من المبنيات على السكون نحو: من وكم. قال: " وقد يلحقون في الوقف هذه الهاء الألف التي في النداء، والألف والياء والواو في الندبة لأنه موضع تصويت وتبيين، فأرادوا أن يمدوا فألزمزها الهاء في الوقف لذلك، وتركوها في الوصل، لأنه لا يستغنى عنها كما يستغنى عنها في المتحرك في الوصل، لأنه يجيء ما يقوم مقامها، وذلك قولك: يا غلاماه ووا غلاماه ووا زيداه ووا غلامهوه ووا ذهاب غلامهيه ". قال أبو سعيد: هذا كلام سيبويه واحتجاجه، ويجوز أن يحتج في ذلك بدخول الهاء على الواو والياء الساكنتين في الندبة أنهما بدل من الألف، وإنما دخلنا للفرق بين ملتبسين، وقد ذكر ذلك في الندبة. هذا باب الوقف في أواخر الكلم المتحركة في الوصل " أما كل اسم منون فإنه يلحقه في حال النصب في الوقف الألف كراهية أن يكون التنوين بمنزلة النون اللازمة للحرف منه أو زائدة فيه لم تجئ علامة للمنصرف،

فأرادوا أن يفرقوا بين التنوين والنون ". قال أبو سعيد: اعلم أن العرب لا تقف على تنوين، لأنه زائد دخل للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وهو كالإعراب لأنه يتبع الإعراب ولأنه لا يوقف على الإعراب كما لا يوقف عليه، ومع أنهم أرادوا الفرق بين النون الأصلية وما جرى مجرى الأصلية وبين هذا التنوين في الوقف فأما الأصلية فنحو حسن، وما جرى مجرى الأصلية فنحو رعشن وخلبن، فلو قالوا زيدا لأشبه رعشن في الوقف، ويقلبون من التنوين إذا كان بعد فتحة النصب ألفا في الوقف، فيقولون رأيت زيدا، وعلى هذا كل العرب إلا ما حكى الأخفش عن قوم منهم أنهم يقولون: رأيت زيد بلا ألف. قال أبو العباس محمد بن زيد: من قال رأيت زيد بغير ألف يلزمه أن يقول في جمل جمل، يريد أنه إذا وقف على المنصوب بلا ألف فأجراه مجرى المخفوض والمرفوع، وسوى بين ذلك لزمه أن يسوي بين الفتح والضم والكسر، فيخفف الفتحة في جمل كما يخفف الضمة في عضد، فيقول: عضد والكسرة في فخذ فيقول: فخذ وإنما أبدل من التنوين ألفا إذا كان قبلها فتحة النصب، لأن الألف والفتحة خفيفتان، وقد بين ذلك وتبين بما يزيدك إيضاحا إن شاء الله. قال: " ومثل هذا في الاختلاف الحرف الذي فيه هاء التأنيث، فعلامة التأنيث إذا وصلته التاء، وإذا وقفت ألحقت الهاء، أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي من نفس الحرف من نحو تاء ألقت وما هو بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو تاء سنبته وتاء عفريت؛ لأنهم أرادوا أن يلحقوهما ببناء قحطبة وقنديل، وكذلك التاء في بنت وأخت، لأن الاسمين ألحقا بالتاء ببناء عمر وعدل. قال أبو سعيد: يريد أنهم فصلوا في الوقف بين النون الأصلية والملحقة بالأصلية في حسن ورعشن وبين التنوين في زيد وعمرو، كما فصلوا بين علامة التأنيث التي هي التاء وبين ما التاء فيه أصلية أو ملحقة بالأصلية، فقالوا في علامة التأنيث: هذه تمرة وطلحة وما أشبه ذلك، ووقفوا عليها بالهاء، فإذا وصلوا قالوا: تمرتك وطلحتك وقالوا في الأصلية: قت في الوقف وقتّ في الوصل، فهي تاء في الحالين والملحق به التاء في سنبت وتاء عفريت والتاء في بنت وأخت. قال أبو سعيد: وفي كلام سيبويه سهو لأنه مثل بتاء سنبته ولا يقع عليها وقف وإنما ينبغي أن تكون تاء سنبت أو ما أشبهه مما يوقف على التاء فيه.

قال: " وفرقوا بينها وبين تاء منطلقات، لأنها كأنها منفصلة من الأول، كما أن موت منفصل من حضر في حضر موت، وتاء الجميع أقرب إلى التاء التي هي بمنزلة ما هو من نفس الحرف من تاء طلحة لأن تاء طلحة كأنها منفصلة ". قال أبو سعيد: الوقف على تاء الجميع بالتاء وتاء التأنيث للواحدة بالهاء، لأنها إذا كانت مع الألف فهي والألف علامة الجمع والتأنيث فكأنها دخلت على الألف لا على الاسم، وإذا كانت وحدها فقد ضمت إلى الاسم، فهي منفصلة مما قبلها وفي الجمع ليست منفصلة من الألف، فهي إلى تاء الإلحاق أقرب، فلذلك جعلوها تاء في الوصل والوقف. قال: " وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون طلحت في الوقف كما قالوا في تاء الجميع قولا واحدا في الوقف والوصل ". قال: " وإنما ابتدأت في ذكر هذا لأبين لك المنصرف ". يعني ما فيه التنوين لنبين لك كيف حاله في الوقف وما يبدل من تنوينه وما ليس بمنصرف لا يدخل في ذلك، وقد ذكر لك حال المنصوب المنصرف في الوقف. قال: " وأما في حال الجر والرفع فإنهم يحذفون الياء والواو، لأن الياء والواو أثقل عليهم من الألف، فإذا كان قبل الياء كسرة وقبل الواو ضمة، كانا أثقل وقد يحذفون في الوقف الياء التي قبلها كسرة وهي من نفس الحرف نحو القاض، فإذا كانت الياء هكذا فالواو بعد الضمة أثقل عليهم من الكسرة لأن الياء أخف عليهم من الواو، فلما كان في كلامهم أن يحذفوها وهي من نفس الحرف كانت ها هنا يلزمها الحذف إذ لم تكن من نفس الحرف ولا بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو ياء محبنطي ومجعبي. قال أبو سعيد: يريد أنهم لا يقولون مررت بزيدي ولا جاءني زيدو في الوقف، ولا يبدلون من التنوين واوا في المرفوع ولا ياء في المخفوض، لأن الياء والواو يثقلان، وقد حذفوا الياء الأصلية في قولهم القاض والضمة في عضد والكسرة في فخذ، فقالوا: القاض وفخذ وعضد. فإذا حذفوا ما هو من نفس الحرف استثقالا كان حذف الزائد أولى والياء في محبنطي ومجعبي للإلحاق، فهي بمنزلة ما هو من نفس الحرف، ومعنى مجعبي مصارع، يقال: جعبه وجعباه إذا صرعه. قال: " فأما الألف فليست كذلك لأنها أخف عليهم، ألا تراهم يفرون إليها في مثنى

هذا باب الوقف في آخر الكلم المتحركة في الوصل التي لا تلحقها زيادة في الوقف

ونحوه ولا يحذفونها في وقف، ويقولون في فخذ فخذ، وفي رسل رسل، ولا يقولون في جمل جمل ولا يخففون، لأن الفتحة أخف عليهم من الضمة والكسرة كما أن الألف أخف من الياء والواو، وسترى بيان ذلك إن شاء الله. وزعم أبو الخطاب أن أزد السراة يقولون: هذا زيدو، وهذا عمرو، ومررت بزيدي وعمري، جعلوه قياسا واحدا فأثبتوا الياء والواو كما أثبتوا الألف. هذا باب الوقف في آخر الكلم المتحركة في الوصل التي لا تلحقها زيادة في الوقف " فأما المرفوع والمضموم فانه يوقف عنده على أربعة أوجه بالإشمام وبغير الإشمام كما تقف عند المجزوم الساكن وبأن تروم التحريك وبالتضعيف. فأما الذين أشموا وأرادوا أن يفرقوا بين ما يلزمه التحريك وبين ما يلزمه الإسكان على كل حال. وأما الذين لم يشموا فقد علموا أنهم لا يقفون أبدا إلا عند حرف ساكن، فلما سكن في الوقف جعلوه بمنزلة ما يسكن على كل حال، لأنه وافقه في هذا الموضع. وأما الذين راموا الحركة فإنهم دعاهم إلى ذلك الحرص على أن يخرجوها من حال ما لزمه الإسكان على كل حال وأن يعلموا أن حالها عندهم ليس كحال ما سكن على كل حال، وذلك أراد الذين أشموا إلا أن هؤلاء أشد توكيدا. وأما الذين ضاعفوا فهم أشد توكيدا أرادوا أن يجيئوا بحرف لا يكون الذي بعده إلا متحركا لأنه لا يلتقي ساكنان، فهؤلاء اشد مبالغة واجمع، لأنك لو لم تشم كنت قد أعلمت أنها متحركة في غير الوقف ". قال أبو سعيد: اعلم أن القياس في الوقف أن يكون على سكون فقط، وأكثر العرب يقف كذلك وهو القياس. ومنهم من إذا وقف أتى في الوقف بما يدل به على تحريك الكلمة في الوصل، والعرب في الإتيان بذلك على مراتب بعضها أوكد من بعض فمنهم من يشم وهو أنه يأتي بالحرف ساكنا ثم يضم شفتيه في الرفع، لأن علامة المرفوع وهو الضم من الواو، والواو من بين الشفتين فيراه المخاطب أنه يريد الضمة من موضع الضم ولا يرى ذلك الأعمى، ومنهم من يروم الحركة، والروم صويت ضعيف بالضم في المرفوع وبالفتح في المفتوح وبالكسر في المكسور، يتبع ذلك الصوت الحرف الذي يقف عليه فيعلم أنه محرك بتلك الحركة في الوصل، ومنهم من يشدد الحرف فيقول: خالد، وهو أوكد في البيان مما قبله، لأنه بين بحرف، والذي قبله بين بإشارة أو بحركة ضعيفة،

فيقول: هذا خالد ومررت بخالد، فإذا وصل أو نصب المنصرف ذهب التشديد، فيقول: هذا خالد يا فتى ومررت بخالد يا فتى، ورأيت خالدا، لأنه قد تحركت الدال، وإنما جعلت هذه العلامات من الإشمام والتشديد للفرق بين ما يكون مبنيا على السكون في كل حال وبين ما تحرك في الوصل، فإذا شددوا ووقفوا على الحرف مشددا فالحرف المشدد حرفان، وإذا وقفوا عليه اجتمع ساكنان، فيعلم أنه لا بد من التحريك في الوصل، فإذا وصلوا أو تحرك المنصوب باتصال الألف المبدلة من التنوين به استغنوا عن التشديد. وبعض النحويين لا يعرف الإشمام الذي ذكره سيبويه، ولا يفرق بين الإشمام والروم. قال سيبويه: " ولهذا علامات، فللإشمام نقطة وللذي أجرى مجرى الجزم والإسكان الخاء، ولروم الحركة خط بين يدي الحرف، وللتضعيف الشين فالإشمام قولك: هذا خالد، وهذا فرج، وهذا يجعل وأما الذي أجري مجرى الإسكان والجزم فقولك: مخلد وخالد ويجعل. وأما الذين راموا الحركة فهم الذين قالوا: عمر، وهذا أحمد، كأنه يريد أن يرفع لسانه. حدثنا بذلك عن العرب الخليل وأبو الخطاب، وحدثنا الخليل أيضا بغير الإشمام وإجراء الساكن، وأما التضعيف فقولك: هذا خالد وهو يجعل وهذا فرج حدثنا بذلك الخليل عن العرب ". قال أبو سعيد: أما جعله الخاء لما أجري مجرى الجزم والإسكان فلأن الخاء أول قولك .. خفيف، فدل به على السكون لأنه تخفيف. وأما جعله لتضعيف الشين فلأن الشين أول حرف في شديد، فدل به عليه، لأن الحرف مشدد، وأما النقطة للإشمام، فلأنّ الإشمام أضعف من الروم فجعل للإشمام نقطة وللروم خطا، لأن النقطة أنقص من الخط. قال: " ومن ثم قالت العرب في الشعر في القوافي: سبسبا تريد السبسب وعيهل تريد العيهل، لأن التضعيف لما كان في كلامهم في الوقف اتبعوه الياء في الوصل والواو على ذلك كما يلحقون الياء والواو في القوافي فيما لا تدخله ياء ولا واو في الكلام، وأجروا الألف مجراهما لأنهما شريكتاها في القوافي وتمد بها في غير موضع التنوين ويلحقونها في غير التنوين، فألحقوها بهما فيما ينون في الكلام، وجعلوا سبسب كأنه مما لا يلحقه الألف في النصب إذا وقفت. قال الشاعر وهو رجل من بني أسد:

ببازل وجناء أو عيهل (¬1) وقال رؤبة: لقد خشيت أن أرى جدبا … في عامنا ذا بعد ما أخصبا (¬2) وبعضهم يروي جدبا وقال رؤبة: بد يحب الخلق الأضخما (¬3) فعلوا هذا إذ كان من كلامهم أن يضاعفوا ". قال أبو سعيد: الأصل في إلحاق التشديد فيما فيه تنوين المرفوع والمخفوض دون المنصوب، وذلك أن المنصوب المنون إذا وقف عليه أبدلوا من التنوين ألفا فيتحرك حرف الإعراب الذي قبل الألف، لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، وإذا تحرك حرف الإعراب استغني عن التشديد ثم يلحق المرفوع والمجرور في القوافي الوصل بالواو والياء، فيقال: عيهلوا وعيهلي على وجه إطلاق الشعر لا على أنه بدل من التنوين لأن القوافي يدخلها من الياء والواو ما لا يدخل في الكلام، كقول الشاعر: عفا من آل ليلى … السّهب فالأملاح فالغمرو (¬4) وكقول الآخر: لعب الرّياح بها وغيّرها … بعدى سوافي المور والقطري (¬5) يدخل على المشدد في الوقف، والواو والياء لإطلاق القافية، وبقي التشديد على حاله كقوله: كأنّ مهواها على الكلكل … موضع كف راهب يصلّي (¬6) فلما جرى في المرفوع والمخفوض ألحقوا بهما المنصوب، فأدخلوا فيه الألف للإطلاق، فقالوا: الأضخما وأخصبا، لأن الألف والواو والياء يجرين مجرى واحدا في ¬

_ (¬1) البيت لمنظور بن مرثد الفقعسي الأسدي انظر النوادر 53، شرح شواهد الشافية 248. (¬2) البيت في ملحق ديوان رؤبة 169، المخصص 12/ 134. (¬3) البيت في ملحق ديوانه 183، المحكم 2/ 24، وسر صناعة الإعراب 1/ 179. (¬4) قائل البيت طرفة بن العبد انظر ديوانه 154. (¬5) البيت لزهير بن أبي سلمى انظر ديوانه 114. (¬6) البيت لمنظور بن مرثد الأسدي انظر النوادر 53، وشرح شواهد الشافية 250.

القوافي؛ لأنهن مشتركات في الوصل لأن القصيدة المنصوبة توصل بالألف كما توصل المرفوعة والمجرورة بالواو والياء؛ ولأن الألف تكون ردفا كما تكون الواو والياء، ولأن الألف قد يمد بها في مواضع كقولك: الكلكل والكلكال والخاتم والخاتام ويلحقونها في غير البدل من التنوين، فيقولون: رأيت الرجلا في الوقف كما قال عز وجل: (فأضلونا السبيلا) ويلحق ضرب إذا كان في آخر البيت فيقال: ضربا ولن يضربا وكذلك جميع ما لا ينون يجوز أن تلحقه الألف في آخر البيت، فكأنهم جعلوا سبسب مما لا تلحقه الألف في النصب إذا وقف عليه ثم لحقه الألف للإطلاق فصار سبسبا، وإنما أحوجه إلى ذكر هذا أنه لا يشدد في الوقف للألف الذي تلحقه فيه، وقد ذكرنا هذا. قال سيبويه: " فإن كان الحرف الذي قبل آخر كل حرف ساكنا لم يضعفوا، نحو: عمرو وزيد وأشباه ذلك، لأن الذي قبله لا يكون ما بعده ساكنا ". قال أبو سعيد: يريد أن زيدا ووبكرا وكل ما كان قبل آخره ساكن قد علم أن آخره يتحرك في الوصل فاستغني بذلك عن التشديد، ويجوز فيه من الإشمام والروم والسكون ما جاز في خالد ونحوه. قال سيبويه: " وأما ما كان في موضع نصب أو جر فإنك تروم فيه الحركة وتضاعف وتفعل به ما تفعل بالمجزوم على كل حال وهو أكثر في كلامهم. فأما الإشمام فليس إليه سبيل، وإنما كان في الرفع لأن الضمة من الواو فأنت تقدر أن تضع لسانك في أي موضع شئت من الحروف ثم تضم شفتيك، لأن ضمك شفتيك كتحريك بعض جسدك، وإشمامك في الرفع للرؤية وليس بصوت للأذن، ألا ترى أنك لو قلت هذا معن فأشممت كانت عند الأعمى بمنزلتها إذا لم تشمم، فأنت تقدر أن تضع لسانك موضع الحرف قبل تزجية الصوت ثم تضم شفتيك ولا تقدر على ذلك، ثم تحرك موضع الألف والياء، فالنصب والجر لا يوافقان الرفع في الإشمام وهو قول العرب ويونس والخليل ". قال أبو سعيد: يعني أنّا إذا قلنا هذا خالد في الإشمام فإنّا ننطق ثم نضم الشفتين فيراهما المخاطب مضمومتين فيعلم أنّا أردنا بضمهما الحركة التي من موضعها وهي الضمة فإذا قلنا: مررت بالرجل، أو رأيت الرجل، ووقفنا عليه لم يمكن الإشمام، لأنّا إذا نطقنا باللام ساكنة لم يمكنا أن نعمل لمخرج الكسرة وهي من وسط اللسان ومخرج الفتحة وهي من الحلق تحريكا أو سببا يعلم به المخاطب إذا شاهد التكلم أنه يريد الفتح أو الكسر، فلا يكون الإشمام البتة إلا

هذا باب الساكن الذي يكون قبل آخر الحرف فيحرك لكراهيتهم التقاء الساكنين

في الرفع، والوقف على ذلك كله أكثر في كلام العرب من الإشمام والروم، لأنهم لا يسكنون ولا يريدون أن يحدثوا فيه شيئا سوى ما يكون في الساكن. قال سيبويه: " وحدثني من أثق به أنه سمع عربيا يقول: أعطني أبيضه، يريد أبيض وألحق الهاء كما ألحقها في هنه وهو يريد هن ". قال أبو سعيد: وهذا الذي حكاه من أقبح ما يكون الشذوذ، وبعض أصحابنا يقول هو غلط من قائله، وإنما قبح ذلك من جهتين: إحداهما أن سيبويه ذكر قبل هذا الباب أن ما كان معربا لا تلحقه هاء الوقف، ولا يقال رأيت أحمره وقد علمنا أن أبيض معرب فلا وجه لهاء الوقف، والجهة الأخرى أن التشديد إنما يلحق في الوقف إذا سكن الحرف الموقوف عليه، فإذا حركناه بإدخال الهاء استغنينا عن التشديد وهذا الباب إنما هو فيما لا تلحقه زيادة، من ذلك الألف التي لا تكون بدلا من التنوين، كقولك: رأيت زيدا وجعفرا، والواو والياء اللتان تلحقهما أزد السراة في قولهم: هذا زيدو، ومررت بزيدي وعمري، فاعرف ذلك إن شاء الله وإنما قال: " حدثنا " لأن الشاعر ربما زاد للضرورة حرفا يتبعه الحرف، كما تزيد حركة تتبعها الحركة كقوله: بسبت يلعج الجلدا (¬1) ومثله: قطنة من جيّد القطن (¬2) هذا باب الساكن الذي يكون قبل آخر الحرف فيحرك لكراهيتهم التقاء الساكنين " وذلك في الوقف لا في الوصل لأن الوصل في كلامهم كثير معروف، وإذا جاز الشيء في الكلام فهو في الشعر أجوز، وذلك قولك: هذا بكر ومن بكر، ولم يقولوا رأيت البكر لأنه في موضع التنوين، وقد يلحق ما يبين حركته، والمجرور والمرفوع لا يلحقها ذلك في كلامهم، ومن ثم قال الراجز، بعض السعديين: أنا ابن ماويّة إذا جدّ النقر (¬3) ¬

_ (¬1) قائله عبد مناف بن ربع الهذلي ديوان الهذليين 2/ 39. (¬2) قائله قارب بن سالم المري انظر النوادر 167 - 168، المخصص 4/ 69. (¬3) نسب هذا البيت إلى فدكن بن عبد الله المنقري انظر الخزانة الأدب 4/ 559، والدرر 2/ 234.

أراد: النقر إذا نقر بالخيل، ولا يقال في الكلام إلا النقر في الرفع وغيره ". قال أبو سعيد: اعلم أن بعض العرب يكره اجتماع الساكنين في الوقف كما لا يجتمعان في الوصل، فيلقي الحركة التي تكون في الوصل على الساكن الذي قبله إذا كان ضما أو كسرا، ولا يلقيه إذا كان فتحا على ما نشرح لك إن شاء الله تعالى، تقول: هذا بكر، والأصل بكر، فلما وقف عليه بطل التنوين والإعراب ألقى ضمة الإعراب على الكاف، وكذلك أخذته من بكر، فإذا قال: رأيت البكر لم يحرك الكاف ولم يلق فتحة الراء على الكاف، وذلك أن الأصل من قبل دخول الألف واللام أن تقول: رأيت بكرا إذا وقفت فتحرك الراء وتستغني عن إلقاء حركتها على الكاف فلما أدخلت الألف واللام قام الألف واللام مقام التنوين فلم تغير الكاف كما لا تغير في رأيت بكرا حين جعلت الألف بدلا من التنوين. وقال بعض أصحابنا ينبغي على ما حكاه الأخفش من قول من يقول من العرب: رأيت عمرو وضربت زيد فيقف عليه كما يقف على المرفوع، ألا يعوض بأن يقول: رأيت البكر ورأيت عمر، لأنه يلقي حركة الإعراب على الساكن قبله إذ لم يبدل من التنوين ألفا، والنقر هو صويت بصوت بالفرس إذا استدعى ليركب، ومن العرب فيما حكاه سيبويه من يحرك الساكن الأول في الوقف على حركة ما قبله ولا يلقي عليه حركة ما بعده، فيقول: " هذا عدل وفسل فأتبعوها الكسرة الأولى ولم يفعلوا ما فعلوا لأنه ليس في كلامهم فشبهوها بمنتن، وقالوا في البسر ولم يكسروا في الجر لأنه ليس في الأسماء فعل، فأتبعوها الأول وهم الذين يخففون في الصلة البسر وقالوا: رأيت العكم وفي بعض النسخ رأيت العكم، فلم يفتحوا الكاف كما لم يفتحوا كاف البكر، وجعلوا الضمة إذا كانت قبلها بمنزلتها إذا كانت بعدها وهو قولك: رأيت الجحر، وإنما فعلوا ذلك في هذا لأنهم لما جعلوا ما قبل الساكن في الرفع والجر مثله بعده صار في النصب كأنه بعد الساكن ". قال أبو سعيد: جملة ذلك أنه لا يحرك الساكن الأول بالفتح في حال من الأحوال لا بإلقاء فتحة ما بعده، ولا باتباع فتحة ما قبلة لا تقول رأيت البكر ولا هذا البكر فتتبع الكاف الباء وإنما يحرك الساكن الأول بالضم أو الكسر فإن كان الحرف الأول مفتوحا حركه بحركة ما بعده كقولك: هذا بكر وأخذت من بكر وإن، كان الحرف الأول مضموما أو مكسورا أتبع ما قبله كقولك: هذا عدل وهذا بسر في لغة من يقول هذا بسر بإسكان السين، ومن قال: هذا بسر فلا عمل في لغته وإنما كرهوا إلقاء حركة الأخير في

قولهم: هذا عدل لأنهم لو ألقوا الضم الذي في اللام على الدال لصار عدل وليس في الكلام فعل فكان الإتباع أولى عندهم، وكذلك لو ألقوا كسرة الحرف الأخير على السين، إذا قلت في البسر البسر صار على فعل وليس في الأسماء فعل فكان الإتباع للأول أولى، ولو قلت: مررت بعدل أو شبل جاز أن تكون كسرة الحرف الثاني للإتباع لما قبل، وجاز أن تكون بإلقاء حركة ما بعده عليه، وتقول: رأيت الجحر والعدل فلا يكون إلا إتباعا، لأن حركة المنصوب لا تلق على ما قبله، وقد ذكرنا ذلك. قال: " ولا يكون هذا في زيد وعون ونحوهما، لأنهما حرفا مد فهما يحتملان ذلك كما احتملا أشياء في القوافي لم يحتملها غيرهما، وكذلك الألف، ومع هذا كراهية الضم والكسر في الياء والواو، وأنك لو أردت ذلك في الألف قلبت الحرف ". قال أبو سعيد: يريد أنك لا تقول: هذا زيد وعون، ولا أخذت من زيد وعون كما قلت هذا بكر وأخذت من بكر، لأن الياء والواو يستثقل فيهما الضم والكسر وهما من حروف المد واللين، فاحتملا اجتماع الساكنين في الوقف أشد من احتمال غيرهما كما اختصا في القوافي بأشياء لم يحتملها غيرهما، وسنقف على ذلك من اختصاصهما في القوافي وغير ذلك، وقد مر بعضه. قال: " واعلم أن من الحروف حروفا مشربة ضغطت من مواضعها، فإذا وقفت خرج معها من الفم صوبت ونبا اللسان عن موضعه، وهي حروف القلقلة وستبين في الإدغام، وذلك القاف والجيم والطاء والدال والباء، والدليل على ذلك أنك تقول: الحذق فلا تستطيع أن تقف إلا مع الصويت لشدة ضغط الحرف، وبعض العرب أشد صوتا كأنهم الذين يرومون الحركة ". قال أبو سعيد: ينبغي إذا أردت امتحان ذلك أن تبتدئ بحرف من الحروف وتثني بأحد هذه الحروف الخمسة فتقف عليه، فإنك تسمع صويتا عند الوقف عليه كقولك: اق واج واط واد وات، وقد تدخل في ذلك الكاف كقولك اك، وذلك أن هذه الحروف لما انضغط موضعها ولم يكن للصوت منفذ صار الوقف عليه وقطعه بمنزلة قطع شيء شديد التحزيق، والتحزيق الذي يوجب التصويت؛ لأن ما كان منفذا لم يكن له في التصويت من الأثر ما للمحزق. قال: " ومن المشربة حروف إذا وقفت عندها خرج معها نحو النفخة ولم تضغط ضغط الأول وهي الطاء والذال والضاد والزاي، لأن هذه الحروف إذا خرجت

بصوت الصدر انسّل آخره وقد فتر من بين الثنايا، لأنه لا يجد منفذا فيسمع نحو النفخة، وبعض العرب أشد صوتا وهم كأنهم الذين يرومون الحركة، والضاد تجد المنفذ من بين الأضراس، وسنبين هذه الحروف في باب الإدغام إن شاء الله تعالى، وذلك قولك: هذا نشز، وهذا خفض " وإذا امتحنته بما ذكرته لك وجدت النفخة التي ذكرها إذا قلت: اظ، اذ، اض، از، ومعنى قوله " انسّل آخره وقد فتر من بين الثنايا لأنه لا يجد منفذا ". يريد انسّل آخر هذه الحروف من بين الثنايا لأنه لا يجد منفذا غير ذلك، وانسلاله هو النفخ، ومعنى قوله " وقد فتر " يريد إذا ضعف وما يخرج في الظاء والذال والزاي من بين الثنايا يخرج في الضاد من بين الأضراس. قال: " وأما الحروف المهموسة فكلها تقف عندها مع نفخ، لأنهن يخرجن مع التنفس لا صوت الصدر، وإنما تنسل معه وبعض العرب أشد نفخا كأنهم الذين يرومون الحركة فلابد من النفخ، لأن النفس نسمعه كالنفخ ". قال أبو سعيد: ذكر الأربعة الظاء والذال والضاد والزاي لأنها من الحروف المجهورة ومثلها في النفخ جميع الحروف المهموسة، فأجملها وهي عشرة أحرف السين والشين والصاد والحاء والخاء والثاء والكاف والفاء والهاء والتاء، وقد ذكر التاء في حروف القلقلة وهي من الحروف المهموسة، وقد ذكر لها نفخا. قال: ومنها حروف مشربة لا تسمع بعدها في الوقف شيئا مما ذكرنا لأنها لم تضغط ضغط القاف ولا تجد منفذا كما وجد في الحروف الأربعة ". يعني في الظاء والذال والضاد والزاي، وذلك اللام والنون لأنهما ارتفعا عن الثنايا، فلم يجدا منفذا وكذلك الميم لأنك تضم شفتيك ولا تجافيهما، يعني لا تجافى شفتيك، كما جافيت لسانك في الأربعة حيث وجدنا المنفذ، وكذلك العين والغين والهمزة، لأنك لو أردت النفخ من مواضعها لم يكن كما لا يكون من مواضع اللام والميم، وما ذكرت لك من نحوهما، ولو وضعت لسانك في مواضع الأربعة لاستطعت النفخ، وكان آخر الصوت حين يفتر نفخا والراء نحو الضاد. قال: " اعلم أن هذه الحروف التي يسمع معها الصويت والنفخة في الوقف لا يكون فيهن في الوصل إذا سكن، لأنك لا تنتظر أن ينبو لسانك ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتا، وكذلك المهموس لأنك لا تدع صوت الفم يطول حتى تبتدئ صوتا

" كما لا يكون في المضاعف في الحرف الأول إذا قلت احذ ودق ورش".

وذلك قولك: ايقظ عميرا واخرج حاتما واحرز مالا وافرش خالدا وحرك عامرا، وإذا وقفت في المهموس والأربعة ". يعني الظاء والذال والضاد والزاي قلت افرش واحبس، فمددت وسمعت النفخ فيتفطن لذلك، وكذلك الفظ وخذ فنفخت فتفطن، فإنك تجده إن شاء الله، ولا يكون شيء من هذه الأشياء في الوصل نحو أذهب زيدا وخذهما واحرسهما " وبعض يروي واحرشهما. " كما لا يكون في المضاعف في الحرف الأول إذا قلت احذّ ودقّ ورشّ ". يعني أن الحرف الأول من الذالين في احذ، والقافين في دقّ، والشينين في رشّ لا يمكن أن يكون بعده تصويت بلا نفخ لاتصال الحرف الثاني به، فكذلك هذه الحروف المدغمة التي لم تدغم إذا وصلت بغيرها وبطل فيها الصويت والنفخ، وبعض أصحابنا جعل مكان أذهب زيدا أبهت لأن التاء ليست من الحروف التي معها صويت ولا نفخ، ورأى أذهب كالغلط في الرواية والنسخ على أذهب، واحتجاج سيبويه عندي بالزاي من زيد لا بالباء من أذهب، فاعرفه إن شاء الله تعالى. هذا باب الوقف في الياء والواو والألف " وهذه الحروف غير مهموسات وهي حروف مد ولين، ومخارجها متسعة لهواء الصوت وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمد للصوت، فإذا وقفت عندها لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها فيهوي الصوت، إذا وجد متسعا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة وإذا تفطنت وجدت ذلك، وهو قولك: ظلموا ورموا وعمى وحبلى، وزعم الخليل أن بعضهم يقول: رأيت رجلأ فيهمز، وهذه حبلأ وتقديرهما رجلع وحبلع، فهمز لقرب الألف من الهمزة حيث علم أنه يصير إلى موضع الهمزة فأراد أن يجعلها همزة واحدة، وكان أخف عليهم، وسمعناهم يقولون: هو يضربها فيهمز كل ألف في الوقف كما يستخفون في الإدغام، فإذا وصلت لم يكن هذا لأن أخذك في ابتداء صوت آخر يمنع الصوت أن يبلغ تلك الغاية ". قال أبو سعيد: أراد أن يفصل بين ما كان آخره حرف من حروف المد واللين وبين ما قبله من سائر الحروف في حكم الوقف، ويبين أنه ليس في حروف المد إشمام ولا روم الحركة ولا تشديد، لأن امتدادها أغنى عن ذلك، وذلك لأنها لما اتسع مخرجها امتد الصوت فيها، ولذلك قال الخليل: إن الألف المثبتة في الخط في قولهم كفروا وظلموا وما

هذا باب الوقف في الهمز

أشبه ذلك من أجل أن منقطع صوت الواو عند مخرج الألف، وقال الأخفش: إنما اثبتوا الألف لأن يفصل بين واو العطف وواو الجمع، وقال غيرهما: إنما زادوا الألف ليفصلوا بين ما اتصل به ضمير مفعول وبين ما لم يتصل به كقولك في ضمير المنصوب ظلموهم وظلموكم يكتب بغير ألف، وإذا قلت ظلموا هم فجعلت هم توكيدا للواو، كقولك: قاموا هم، أثبت الألف وكذلك حمل قوله عز وجل: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (¬1)، أن " هم " في موضع مفعول، لأن الخط في المصحف بغير ألف، ولهذا موضع يشرح فيه إن شاء الله. وأما من جعل مكان الألف همزة فلأن الهمزة إذا كان قبلها متحرك فهي أبين من الألف. ومعنى قول سيبويه: " همزة واحدة " يريد أنهم لم يشددوا الهمزة كما قالوا في جعفر جعفر في الوقف، وكان ذلك أخف عليهم من أن يتكلفوا للوقف إحدى العلامات التي تقدم ذكرها، وشبهوا ذلك بالإدغام، لأن الإدغام يقع فيه تغيير الحرف الأول من أجل الحرف الثاني، فتغير علما أنهم يصيرون إلى موضعه، وكذلك غير الألف إلى الهمزة حيث علموا أنهم يصيرون إلى موضع الهمزة، وكان في الهمزة تبيان أتم من تبيان الألف، فإذا وصل بشيء استغنوا عن التغيير وصيروه ألفا. هذا باب الوقف في الهمز " أما كل همزة قبلها حرف ساكن فإنه يلزمها في الجر والرفع والنصب ما يلزم الفرع في هذه المواضع التي ذكرت لك من الإشمام وروم الحركة ومن إجراء الساكن، وذلك قولهم: هذا الخبء والخبء والخبء ". قال أبو سعيد: يريد أن من حقق الهمزة في الوقف جرت عليها الوجوه التي تجري على قولنا البكر والفلس وزيد وعمرو وما أشبه ذلك إذا وقفت عليه ويكون منزلته منزلة العين، وكذلك شبهه بالفرع، لأن الهمزة تشبه بالعين. قال: " واعلم أن ناسا من العرب كثيرا يلقون على الساكن الذي قبل الهمزة حركة الهمزة، سمعنا ذلك من تميم وأسد يريدون بذلك بيان الهمزة وهو أبين لها إذا وليت صوتا والساكن لا ترفع لسانك عنه بصوت لو رفعت بصوت حركته، فلما كانت الهمزة أبعد الحروف وأخفاها حركوا ما قبلها، وذلك قولهم هو الوثؤ ومن ¬

_ (¬1) سورة المطففين الآية 3.

الوثيء ورأيت الوثأ وهو البطؤ ومن البطيء ورأيت البطأ وهو الردؤ وتقديرها الردع ومن الرديء وتقديرها الردع. قال أبو سعيد: فهؤلاء من العرب خالفوا بين ما كان آخره همزة قبلها ساكن وما كان آخره غير همزة، فألقوا الحركات في الهمز على الساكن قبلها ضمة كانت أو فتحة أو كسرة، وسووا بين ما كان أوله مفتوحا أو مضموما أو مكسورا ولم يفعلوا ذلك في غير الهمز على ما تقدم ذكره، وإنما فرقوا بين الهمزة وغيرها لأنها تخفى جدا إذا كان قبلها ساكن، فدعاهم ذلك إلى تحريك ما قبلها بأكثر ما يدعو إلى تحريك ما قبل غيرها واستجازوا الردؤ والبطيء وإن لم يكن في الكلام فعل ولا في الأسماء فعل، لأن هذا ليس ببناء للكلمة، وإذا وصل تغير. قال: " وأما ناس من بني تميم فيقولون هو الرديء كرهوا الضم بعد الكسرة لأنه ليس في الكلام فعل، فتنكبوا هذا اللفظ لاستنكار هذا في كلامهم، وقالوا: رأيت الرديء، ففعلوا هذا في النصب كما فعلوه في الرفع أرادوا أن يسووا بينهما، وقالوا من البطؤ لأنه ليس في الأسماء فعل، وقالوا: رأيت البطؤ، أرادوا أن يسووا بينهما إذ قالوا من الرديء وهو البطوء إلا يتبعونه الأول وأرادوا أن يسووا بينهن إذ أجرين مجرى واحدا واتبعوه الأول كما قالوا ردّ وفرّ ". قال أبو سعيد: الذين اتبعوا في الهمز فجعلوا الحرف الثاني تابعا لما قبله آجري مجرى غير الهمزة كما قالوا: هذا عدل وشبل، وقالوا في البسر ورأيت العلم ورأيت الجحر وقد مر ذلك قبل هذا الباب. ومعنى قول سيبويه: " أرادوا أن يسووا بينهن "، يعني بين الحرف الأول والثاني إذا جرى مجرى واحدا في أن الحرفيين ليسا بحرفي إعراب ولا حركتاهما إعرابا، فاتبعوا الثاني الأول كما اتبعوا ضمة الدال في رد ضمة الفاء وكسرة الراء في فر كسرة الفاء فكسرة الراء في فر تكون لوجهين، تكون لالتقاء الساكنين وللاتباع، وقد ذكرت ذلك. قال: " ومن العرب من يقول هذا الوثؤ فيجعلها واوا حرصا على البيان، ويقول: من الوثي فيجعلها ياء، ويسكن ما قبل الياء والواو، ويقول في المنصوب رأيت الوثا فتفتح الثاء، لأنه إذا قلب من المضموم واوا، ومن المكسور ياء أمكن أن يكون ما قبلهما ساكنا، وإذا قلب من المنصوب ألفا لم يمكن أن يكون ما قبلها ساكنا، وإذا قلب من المنصوب ألفا لم يمكن أن يكون ما قبلها ساكنا، فيصير الوثا بمنزلة القفا

قال: " وأما من لم يقل من البطيء، ولا هو الردؤ فأنه ينبغي لمن اتقى ما اتقوا أن يلزم الواو والياء ". قال أبو سعيد: يعني أنه ينبغي لهم أن يقولوا من البطي أو من البطو وهو الردو أو الردي، أما أن يقلب الهمزة على حركة نفسها أو على حركة الحرف الأول. قال: " فإذا كان الحرف الذي قبل الهمزة متحركا لزم الهمزة ما يلزم النطع من الإشمام وإجراء الجزم وروم الحركة، وكذلك يلزمها هذه الأشياء إذا حركت الساكن قبلها الذي ذكرت لك، وذلك قولك هو الخطأ ولم نسمعهم ضاعفوا ". يعني أنهم لا يشددون الهمز كما شددوا آخر خالد وجعفر، لأنهم لا يضاعفون الهمزة، فكرهوا فيه ما لم يكرهوه في جعفر إذا كانت الهمزة الواحدة مستثقلة فكيف إذا تضاعفت وهم يلينونها استثقالا لها، وهذه الوجوه التي ذكر في الخطأ مثلها في الوثؤ والردؤ، ولأنا إذا حركنا الساكن الأوسط وبعدها همزة جرى مجرى الخطأ في اللفظ فجرت عليها فيها وجوه أحكام الوقف في الخطأ. قال: " ومن العرب من يقول: هو الكلو حرصا على البيان كما قالوا الوثو ويقول من الكلي يجعلها ياء كما قالوا الوثي، ويقول: رأيت الكلا ورأيت الحبا يجعلها ألفا كما جعلها في الجر ياء وفي الرفع واوا كما قالوا: الوثا، وحرك الثاء لأن الألف لابد لها من حرف قبلها مفتوح، وهذا وقف الذين يحققون الهمز ". قال أبو سعيد: يريد أن هذه الوجوه التي ذكر من الوقف على الهمزة التي قبلها ساكن والهمزة التي تحرك على تحقيق الهمز في الوقف وعلى الإبدال على ما ذكرناه يفعله من يحقق الهمز في الوصل ثم يختلفون في الوقف على ما ذكرناه. " وأما من يلين الهمز من أهل الحجاز " إذا وصل " فقولهم هذا الحبا " ورأيت الحبا ومررت بالحبا، لأنها همزة ساكنة وقبلها فتحة، فإنما هي كألف رأس إذا خففت ولا تشم، لأنها كألف مثنى ولو كان ما قبلها مضموما لزمها الواو نحو اكمو، ولو كان مكسورا لزمت الياء نحو أهني وتقديرها أهنع ". يريد إذا وقفت على مذهب من لا يحقق الهمز قلت أكموا وأهيى بواو محضة وياء محضة، ولم يكن فيها على مذهب أهل الحجاز، ومن لا يحقق إشمام ولا روم ولا غير ذلك من الوجوه التي تخالف الوقف على حروف المد واللين، وإذا كانت الهمزة قبلها ساكن وهي طرف ووقفت عليها على مذهب من يخفف الهمز ألقيت حركتها في التقدير على

هذا باب الساكن الذي تحركه في الوقف إذا كان بعده هاء المذكور الذي هو علامة الإضمار ليكون أبين لها كما أردت ذلك في الهمزة

الحرف الذي قبلها وحذفتها البتة فيصير ما قبلها إذا وصل متحركا غير مهموز، كقولك: هذا الوث يا هذا، وهذا الخب ومررت بالوث والخب ورأيت الوث والخب وكذلك تقول: هذا دف في دفء، ورأيت دفا ومررت بدف فإذا وقفت على هذا المذهب جرى على آخره الإشمام وإجراء الجزم وروم الحركة والتضعيف. تقول: هذا الوث والوث والوث والوث، وإنما صار فيه أربعة أوجه لأنه تحرك الحرف الذي قبل الموقوف عليه فصار بمنزلة خالد إذا وقفت عليه، ومعنى الردء المعين من قول جل وعز: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي (¬1)، والحبا وزير الملك وخاصته الذين يجلسون معه، يقال: هؤلاء أحباء الملك وأقاربه، والكلو الذي ذكر إنما هو الكلأ من العشب. هذا باب الساكن الذي تحركه في الوقف إذا كان بعده هاء المذكور الذي هو علامة الإضمار ليكون أبين لها كما أردت ذلك في الهمزة وذلك قولك ضربته واضربه وقده ومنه وعنه، سمعنا ذلك من العرب، ألقوا عليه حركة الهاء حيث حركوا لبيانها قال الشاعر، وهو زياد الأعجم: عجبت والدهر كثير عجبه … من عنزي سبّني لم أضربه وقال أبو النجم: فقرّبن هذا وهذا أزحله (¬2) أي آخره. قال أبو سعيد: فهذا ألقى حركة الهاء في الوصل على الساكن الذي قبلها في الوقف، فإذا وصل عاد إلى السكون وحرك الهاء فقال: قده وضربته يا فتى ومنه وأخذته وما أشبه ذلك. قال: " وسمعنا بعض تميم من بني عدي يقولون: قد ضربته وأخذته، كسروا حيث أرادوا أن يحركوا لبيان الساكن الذي بعدها لإعراب يحدثه شيء قبلها كما حركوا بالكسر إذا وقع بعدها ساكن يسكن في الوصل ". قال أبو سعيد: إنما اختاروا تحريك ما قبل الهاء في الوقف إذا كان ساكنا، لأنهم إذا ¬

_ (¬1) سورة القصص الآية 34. (¬2) انظر شرح المفصل 9/ 71.

هذا باب الحرف الذي تبدل في الوقف مكانه حرفا أبين منه يشبهه

وقفوا أسكنوا الهاء وما قبلها ساكن فيجتمع ساكنان والهاء خفية، ولا تبين إذا كانت ساكنة وقبلها حرف ساكن فحركوا ما قبلها لأن تبين الهاء ولا تخفى فأكثر العرب يضمون ما قبلها بإلقاء حركتها على ما قبلها وبعض وهم بنو عدي لما اجتمع الساكنان في الوقف وأراد أن يحرك ما قبل الهاء لبيان الهاء حرّكه بالكسر كما يكسر الحرف الأول لاجتماع الساكنين، كقولنا: لم يقم الرجل، وذهبت الهندات. وقول سيبويه: " أرادوا أن يحركوا لبيان الساكن الذي قبلها يعني الهاء لا من أجل إعراب كما يكسرون للساكن الذي ذكرت لك في لم يقم الرجل وذهبت الهندات وما أشبه ذلك ". قال: " فإذا وصلت أسكنت جميع هذا، لأنك تحرك الهاء فتبين وتتبعها واوا كما إنك تسكن في الهمزة إذا وصلت فقلت هذا وثء كما ترى، لأنها تبين، وكذلك قد ضربته فلأنه وعنه أخذت فتسكن كما تسكن إذا قلت عنها أخذت، يعني تسكن النون وفعلوا هذا بالهاء لأنها في الخفاء نحو الهمزة ". هذا باب الحرف الذي تبدل في الوقف مكانه حرفا أبين منه يشبهه لأنه خفي وكان الذي يشبهه أولى كما أنك إذا قلت مصطفين جئت بأشبه الحروف بالصاد من موضع التاء لا من موضع آخر " وذلك قول بعض العرب في أفعى: هذه أفعى، وفي حبلى: هذه حبلى، وفي مثنّى مثنّى، فإذا وصلت صيرتها ألفا، وكذلك كل ألف في آخر الاسم، حدثنا بذلك الخليل وأبو الخطاب أنها لغة لفزارة وناس من قيس وهي قليلة: فأما الأكثر الأعرف، فأن تدع الألف في الوقف على حالها ولا تبدلها ياء، وإذا وصلت استوت اللغتان، لأنه إذا كان بعدها كلام كان أبين لها منها إذا سكت عندها؛ لأنك إذا استعملت الصوت كان أبين وأما طيئ فزعموا أنهم يدعونها في الوصل على حالها في الوقف، لأنها خفية لا تحرك قريبة من الهمزة حدثنا بذلك أبو الخطاب وغيره من العرب، وزعموا أن بعض طيئ يقول: أفعو لأنها أبين من الياء ولم يجيئوا بغيرها لأنها تشبه الألف في سعة المخرج والمد، لأن الألف تبدل مكانها كما تبدل مكان الياء، وتبدلان مكان الألف أيضا وهن أخوات ". قال أبو سعيد: قد تقدم في الشرح ما أغنى عن تفسير هذا الفصل، وطيئ يجعلون الألف ياء في الوصل والوقف، ومنهم من يجعلها واوا لأن الألف خفية لا تحرك وهي قريبة من الهمزة، فجعلوا مكانها ياء لأنها أبين من الألف، والذي جعل مكانها واوا منهم

إنما اختاروا الواو لأنها أبين من الياء ولم يجيئوا بغير الواو والياء لأنهما يشبهان الألف في سعة المخرج والمد، وهن أخوات يبدل بعضها مكان بعض. قال: " ونحو ما ذكرنا قول بني تميم في الوقف هذه، فإذا وصلوا قالوا: هذي فلانة، لأن الياء خفية، فإذا سكت عندها كان أخفى، والكسرة مع الياء أخفى، فإذا أخفيت الكسرة ازدادت الياء خفاء كما ازدادت الكسرة فأبدلوا مكانها حرفا من موضع أكثر الحروف بها مشابهة وتكون الكسرة معه أبين ". قال أبو سعيد: يعني أن أصل هذه هذي غير أن الكسرة التي بعدها الياء أخفى من الكسرة التي بعدها الهاء فأبدلوا من الياء هاء في الوقف ليكون أبين للكسرة التي قبلها، وإنما اختاروا الهاء لأنها من مخرج الألف، والألف أكثر الحروف بالياء مشابهة، فإذا وصل هؤلاء ردوا الهاء إلى الياء فقالوا: هذي فلانة لأن ما بعد الياء يبينها. وأهل الحجاز وقيس يجعلون الوقف والوصل سواء بالهاء كما جعلت طيئ الوقف والوصل سواء بالياء في أفعى. قال: " وهذه الهاء لا تطرد في كل ياء هكذا ". يعني أنه لا يبدل من كل ياء هاء، لا يقال في الذي الذه. " وإنما إبدالها شاذ ولكنه نظير للمطرد الأول ". يعني بالمطرد الأول قلب الياء من الألف لأنه يقلب من كل ألف ولا تقلب الهاء من كل ياء. قال: وأما ناس من بني سعد فإنهم يبدلون الجيم مكان الياء في الوقف لأنها خفية فأبدلوا من موضعها أبين الحروف، وذلك قولهم هذا " تميمج " يريدون " تميمي " وهذا " علج " يريدون " علي "، وسمعت بعضهم يقول " عربانج " يريد " عرباني ". قال: وحدثني من سمعهم يقولون: خالي عويف وأبو علج … المطعمان الشّحم بالعشج وبالغداة فلق البرنج (¬1) يريد البرني، فزعم أنهم أنشدوه هكذا. قال أبو سعيد: وقد أنشد أبو زيد في الياء الخفيفة: ¬

_ (¬1) انظر المنصف 1/ 178، 3/ 79، شرح المفصل 10/ 50، شرح الأشموني 3/ 821.

هذا باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وهي الياءات

يا رب إن كنت قبلت حجتج … فلا يزال شاحج يأتيك بج أقمر نهات ينزي وفرتج (¬1) هذا باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وهي الياءات " وذلك قولك: هذا قاض وهذا غاز وهذا عم، تريد العمي أذهبوها في الوقف كما ذهبت في الوصل، فهذا الكلام الجيد ". قال أبو سعيد: وإنما أذهبوها في الوصل لأن الأصل هذا قاضي وغازي وعمي ومررت بقاضي وغازي وعمي، فاستثقلت الضمة والكسرة على الياء التي قبلها كسرة فسكنت والتقى ساكنان: الياء والتنوين، فحذفت الياء لاجتماع الساكنين الياء والتنوين، فإذا وقفوا لم يردوا الياء وان لم يكن تنوين، لأن التنوين في النية إذا وصلوه، وهذا أكثر كلام العرب، وبعضهم يرد الياء في الوقف على ما ذكره سيبويه عن أبي الخطاب ويونس عن بعض من يوثق بعربيته من العرب انه يقول: هذا رامي وغازي وعمي، لأنه ذهب التنوين في الوقف فرد الياء. وقد قرأ ابن كثير في مواضع من القرآن منها: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (¬2) فإذا أدخلت الألف واللام كان إظهار الياء أجود لأنها لا تسقط في الوصل. " وذلك قولك: هذا القاضي وهذا العمي ومن العرب من يحذف هذا في الوقف، شبهوه بما ليس فيه ألف ولام إذ كانت الياء تذهب في الوصل في التنوين لو لم تكن الألف واللام، وفعلوا هذا لأن الياء من الكسرة تستثقل كما تستثقل الياءات، فقد اجتمع الأمران ولم يحذفوا في الوصل في الألف واللام لأنه لا يلحقه في الوصل ما يضطره إلى الحذف كما لحقه وليست فيه ألف ولام وهو التنوين لأنه لا يلتقي ساكنان، وكرهوا التحريك لاستثقال ياء فيها كسرة بعد كسرة ". قال أبو سعيد: الذي ذكر سيبويه في هذا الفصل أن منهم من يحذف الياء مما فيه الألف واللام في الوقف أثبته في الوصل وهو نحو ما روي عن نافع وأبي عمرو في بني إسرائيل والكهف: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ (¬3) إذا وقف بغير ياء، وإذا وصل أثبت الياء. ¬

_ (¬1) انظر النوادر 164، مجا اسثعلب 1/ 117، شرح المفصل 10/ 50. (¬2) سورة الرعد الآية: 7. (¬3) سورة الكهف الآية: 17.

وإنما فرق بين الوصل والوقف أنه يستوي لفظ الوقف فيما فيه ألف ولام وما ليس فيه ألف ولام، فحمل ما فيه الألف واللام على ما ليستا فيه وإذا وصل دخل ما ليس فيه ألف ولام تنوين يوجب إسقاط الياء لاجتماع الساكنين، وما فيه الألف واللام لا يدخله التنوين فلم يحمل عليه. قال: " وأما في حال النصب فليس إلا البيان لأنها ثابتة في الوصل فيما ليست فيه ألف ولام، ومع هذا أنه لما تحركت الياء أشبهت غير المعتل، وذلك قولك: رأيت القاضي، وقال الله تبارك وتعالى: (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (¬1) وتقول رأيت جواري لأنها ثابتة في الوصل متحركة ". قال أبو سعيد: بيد أن الياء ثابتة في الوقف في المنصوب لأنها لا تسقط بحال في النصب وليست كالمرفوع والمخفوض، لأن الياء فيها تسقط في حال. قال: " وسألت الخليل عن القاضي في النداء فقال: اختار يا قاضي، لأنه ليس بمنون، كما اختار هذا القاضي وأما يونس فقال: يا قاض، وقول يونس أقوى، لأنه لما كان من كلامهم أن يحذفوا في غير النداء كانوا في النداء أجدر، لأن النداء موضع حذف يحذفون فيه التنوين، ويقولون: يا حار " ويا عام " ويا غلام أقبل ". قال أبو سعيد: اختار سيبويه قول يونس لما ذكره، وبعض أصحابنا يختار قول الخليل رأيت ذلك في سياق كلام نسب أوله إلى أبي العباس المبرد فيما حكاه محمد بن علي مبرمان، والحجة في ذلك أن المنادى المعرفة لا يدخله تنوين في وقف ولا وصل، والذي يسقط الياء هو التنوين، فوجب أن تثبت الياء لأنها لام الفعل كما يثبت غيرها من سائر الحروف، وأجمع يونس والخليل جميعا على ثبوت الياء في الوقف في قولنا: أرى يرى فهو مر إذا وقفت فقلت: هذا مري، ومررت بمري، وكرهوا أن يقولوا: هذا مر يا فتى، ومررت بمر يا فتى، لأنك لو أسقطت الياء في الوقف لأخللت بالكلمة لحذف بعد حذف، وذلك أن أصله مرئي وأصل الفعل أرأي يرئي، فلينوا الهمزة أسقطوها وحذفوا الحركة من الياء. فإذا وصلوا حذفوا الياء لاجتماع الساكنين الياء والتنوين، وإذا وقفوا ردوا الياء لئلا تختل الكلمة بحذف بعد حذف فصار الياء عوضا. قال: " وأما الأفعال فلا يحذف منها شيء لأنها لا تذهب في الوصل في حال، ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآية: 26.

وذلك لا أقضي وهو يقضي ويغزو ". وإنما كان كذلك لأنه لا تنوين فيها، وربما حذفوا من بعض الأفعال مما يكثر في كلامهم، ولا يقاس عليه، قالوا: لا أدر، ولا يقولون: لا أرم، كما قالوا: لم يك زيد، ولا يقولون: لم يه زيد، ولا لم يص زيد في معنى لم يهن زيد، ولم يصن زيد. قال: " ولا يقولون: لم يك الرجل " لأنها إذا لقيها ألف ولام أو ألف وصل تحركت النون فخرجت عن شبه حروف المد واللين كقوله عز وجل: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬1)، وهذا هو المعروف، وقد ذكر أبو زيد في نوادره شعرا نسبه إلى حسيل بن عرفطة، وقال أبو حاتم: وهو جاهلي: لم يك الحق عليّ أن هاجه … رسم دار قد تعفى بالسّرر وقال أبو حاتم: بالسّرر غير الجدّة من عرفانها خرق … الريح وطوفان المطر (¬2) وهذا شاذ. قال: " وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه ترك الحذف مما ذكرنا يجوز حذفه في الفواصل والقوافي، فالفواصل قول الله عز وجل: (والليل إذا يسر) (¬3) و (ذلك ما كنا نبغ) (¬4) و (يوم التناد) (¬5) و (الكبير المتعال) (¬6) ". إنما يريد بالفواصل، رؤوس الآي ومقاطع الكلام، والأسماء في الحذف أولى من الأفعال، والحذف فيها أقوى لأنها يلحقها التنوين في الكلام فيحذف منها الياء. " وأما القوافي فنحو قول زهير: وأراك تفري ما خلقت … وبعض القوم يخلق ثم لا يفر (¬7) فيحذف الياء من يفر للقافية. قال: " وإثبات الياءات والواوات أقيس الكلامين، وهذا جائز عربي كثير ". ¬

_ (¬1) سورة البينة الآية 1. (¬2) انظر النوادر 77، والخزانة 4/ 72. (¬3) سورة الفجر الآية: 4. (¬4) سورة الكهف الآية: 64. (¬5) سورة غافر الآية: 32. (¬6) سورة الرعد الآية: 9. (¬7) انظر ديوان زهير 119 والمنصف 2/ 74.

هذا باب ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف

هذا باب ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف التي لا تذهب في الوصل ولا يلحقها تنوين، وتركها في الوقف أقيس وأكثر، لأنها في هذه الحال، ولأنها ياء لا يلحقها التنوين على كل الحال شبهوها بياء قاضي لأنها ياء بعد كسرة ساكنة في اسم. " وذلك قولك: هذا غلام وأنت تريد غلامي، وقد أسقان وأنت تريد أسقاني، وأسقن وأنت تريد أسقني، لأن ني اسم، وقد قرأ أبو عمرو: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (¬1) و (رَبِّي أَهانَنِ) (¬2) ". قال أبو سعيد: أما ياء المتكلم في الفعل فالحذف فيها حسن لأنها لا تكون إلا وقبلها نون، فالنون تدل عليها ولا لبس فيها، ولذلك كثر في القرآن. وأما قولنا هذا غلام إذا وقفنا عليه ذكرته من كلامه، لأن الوصل يبينه بكسر الميم أو الياء. وقال الشاعر وهو النابغة: إذا حاولت في أسد فجورا … فإني لست منك ولست مني (¬3) وقال: وهم وردوا الجفار على تميم … وهم أصحاب يوم عكاظ إن يريد إني. شهدت لهم مواطن صالحات … أتينهم بود الصدر من سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم وترك الحذف أقيس ". والقصيدة التي منها هذه الأبيات مطلقة، وتمام الوزن فيها مثنى وإني، وإنما ذكر سيبويه في بعض وجوه إنشاد المطلق، وستقف على ذلك. وقال الأعشى فيما هو مقيد: فهل يمنعنّي ارتيادي البلا … د من حذر الموت أن يأتين " أليس أخو الموت مستوثقّا … على وإن قلت قد ينسأن (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الفجر الآية: 15. (¬2) سورة الفجر الآية: 16. (¬3) انظر ديوان نابغة الذبياني 124، أمالي الشجري 2/ 165. (¬4) انظر ديوان الأعشى 65، ابن يعيش 9/ 86.

(يريد يأتيني، وينسأني، كما قال أكرمن وأهانن). قال: " وأما ياء هذا قاضي وهذان غلاماي ورأيت غلامي، فلا تحذف لأنها لا تشبه ياء هذا القاضي لأن ما قبلها ساكن، ولأنها متحركة كياء القاضي في النصب، فهي لا تشبه ياء هذا القاضي ولا تحذف في النداء إذا وصلت كما قلت يا غلام أقبل، لأن ما قبلها ساكن، فلا يكون للإضافة علم ". قال أبو سعيد: جملة الأمر، إذا كانت ياء المتكلم لا كسرة قبلها لم يجز فها، لأن الذي يحذفها إذا كان قبلها كسرة يكتفي بدلالة الكسرة عليها، فإذا حذفت هي والكسرة لم يجز لأن لا دلالة عليها في وقف ولا وصل. قال: " ومن قال هذا غلامي فاعلم، وإني ذاهب لم يحذف في الوقف لأنها كياء القاضي في النصب وإنما لم يحذفوا الياء إذا تحركت لأنها إذا تحركت قويت وصار كالحروف غير المعتلة ". قال: " ولكنهم مما يحذفون الهاء في الوقف، " أي يلحقون، " فيبنون الحركة، كقولك: ما ليه وحسابيه، فإذا كان في النداء حذفت متحركة كانت أو غير متحركة، كقولك: يا غلام أقبل، وهذا مبين في النداء. قال: " وأما الألقاب التي تذهب في الوصل فإنها لا تحذف في الوقف، لأن الفتحة والألف أخف، ألا تراهم يفرون إلى الألف من الياء والواو إذا كانت العين قبل كل واحدة منهما مفتوحة، وفروا إليها في قولهم: قد رضا ونها. قال الشاعر زيد الخيل: أفي كلّ عام مأتم تبعثونه … على محمر ثويتموه وما رضا (¬1) أراد: ما رضي. " وقال طفيل الغنوي: إنّ الغوي إذا نها لم يعتب أراد ما ينهي. ويقولون في " فخذ " " فخذ " وفي " عضد " " عضد "، ولا يقولون في جمل جمل لا يخفّفون، لأن الفتح أخف عليهم والألف، فمن ثمّ لم تحذف الألف إلّا أن يضطّر شاعر ¬

_ (¬1) انظر ديوانه 25، النوادر 80، الشعر والشعراء 158، خزانة الأدب 3/ 148.

هذا باب ثبات الياء والواو في الهاء التي هي علامة الإضمار وحذفهما

فيشبّهها بالراء لأنها أختها وهي قد تذهب مع التنوين. قال الشاعر حيث اضطرّ وهو لبيد: وقبيل من لكيز شاهد … رهط مرجوم ورهط أين المعل يريد المعلّى ". قال أبو سعيد: أما قوله: " الألقاب التي تذهب في الوصل لا تحذف في الوقف ". يريد الألف في قولنا هذه عصا يا فتى، ورحّى يا فتى، ومولّى وما أشبه ذلك إذا وصلتها ذهبت في اللفظ لاجتماع الساكنين: التنوين والألف. فإذا وقفت فذهب التنوين عادت الألف فقلت هذه عصا ورحى ومولى، ولم يكن كذلك هذا قاض لخفة الألف. وهذا الموضوع يدل على أن مذهب سيبويه أن الألف التي تثبت في الوقف هي الألف التي كانت في الحرف لقوله؛ وأما الألفات التي تذهب في الوصل فإنها لا تحذف في الوقف، ويقوّي ذلك أيضا أنك تقول هذا فتى فتميل. وقد قال بعض النحويين: أن هذه الألف منقلبة من التنوين، ولو كانت كذلك ما أميلت، ثم دل على خفة الألف بأنهم قلبوا الياء إليها في قولهم: قد رضا ونها، وأصله رضي ونهي، ففروا إليها لخفتها، وأنهم لا يخففون المفتوح كما خففوا المضموم والمكسور في قولهم فخذ وعضد، ولم يقولوا في جمل جمل. والبيت الذي أنشده سيبويه في حذف الألف من المعلى مثله في ضرورة الشاعر: حذف الفتحة من الياء في موضع النصب. قال الشاعر: فكسوت عار لحمه فتركته … جذلان جاد قميصه ورداؤه (¬1) يريد عاريا، فسكّن الياء ثم حذفها لاجتماع الساكنين. ومثله في تسكين المنصوب قوله: كأن أيديهنّ بالقاع القرق … أيدي جوار يتعاطين الورق (¬2) هذا باب ثبات الياء والواو في الهاء التي هي علامة الإضمار وحذفهما فأمّا الثبات فقولك: ضربهو زيدّ، وعليهي مال، ولديهو رجل، جاءت الهاء مع ما بعدها ها هنا في المذكر كما جاءت وبعدها الألف في المؤنث، وذلك قولك: ضربها زيد ¬

_ (¬1) همع الهوامع 1/ 53. الدرر اللوامع 1/ 29. (¬2) انظر الخزانة 3/ 529، إصلاح المنطق 419.

وعليها مال. قال أبو سعيد: اختلف أصحابنا في الياء والواو المتصلتين بضربهو وعليهي، فبعض جعله من نفس الاسم وبعضهم جعله زائدا ولا خلاف بينهم أن الألف في قولهم عليها وضربها هما جميعا الاسم، وقد اختلفوا في مذهب سيبويه في الواو والياء في ضربهو وعليهي، فقال أبو إسحاق الزجاج: أن مذهب سيبويه أن الواو والياء بمنزلة الألف وإنهما من الاسم كالألف، وذكر أن مذهبه أنهما ليسا من نفس الاسم. قال: والدليل على ذلك أن الواو والياء لا يوقف عليهما إذا قلت: ضربته ومررت به، ويوقف على الألف إذا قلت: ضربتها. وللقائل أن يقول: قد يجوز أن يحذف في الوقف ما هو من نفس الاسم في قولنا: هذا قاض، فلا يكون لأبي إسحاق في ذلك حجة. وبعض أصحابنا يذهب إلى أن مذهب سيبويه أن الواو والياء ليستا من الاسم، وستقف على ذلك إذا انتهينا من هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال: فإذا كان قبل الهاء حرف لين فإن حذف الياء والواو في الوصل أحسن، لأن الهاء من مخرج الألف، والألف تشبه الياء، والواو تشبههما في المدّ وهي أختهما، فلما اجتمعت حروف متشابهة حذفوا، وذلك قولك: عليه مال ورأيت أباه قبل وهذا أبوه كما ترى، وأحسن القراءتين: (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) (¬1) و (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) (¬2)، (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) (¬3) و (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) (¬4)، والإتمام عربي، ولا تحذف الألف في مؤنث فيلتبس المؤنث بالمذكر ". يعني أنك لو حذفت الألف لوجب أن تسكن الهاء في الوقف فيقع لبس بين المذكر والمؤنث في الوقف، فيصير ضربته للمؤنث والمذكر. قال: " فإن لم يكن قبل هاء التوكيد حرف لين أثبتوا الواو والياء في الوصل وقد يحذف بعض العرب الحرف الذي بعد الهاء إذا كان ما قبل الهاء ساكنا "، لأنهم كرهوا حرفين ساكنين بينهما حرف خفي نحو الألف فكما كرهوا التقاء الساكنين في أين ونوها، كرهوا ألا يكون بينهما حرف قوي، وذلك قول بعضهم منه يا فتى، وأصابته جائحة، والإتمام أجود لأن هذا الساكن ليس بحرف لين، والهاء حرف متحرك ". قال أبو سعيد: فصل سيبويه بين الهاء التي قبلها ياء ساكنة أو واو ساكنة أو ألف، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 106. (¬2) سورة الأعراف الآية: 176. (¬3) سورة يوسف الآية: 20. (¬4) سورة الحاقة الآية: 30.

فجعل الاختيار فيها أن تحرك ولا توصل بحرف، وجعل الهاء التي قبلها ساكن غير الياء والواو، والألف الاختيار فيها أن توصل بالواو، واختار أن يقال عليه وألقى عصاه وخدوه بغير حرف، واختار منهو آيات، وأصابتهو جائحة، واختار أبو العباس حذف الصلة في منه وأصابته، ولم يفرق بين حرف اللين وغيره، وهذا هو الصحيح، لأن أكثر القراء والجمهور على: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (¬1)، والعلة في هذا كالعلة في حروف اللين، وذلك أن الهاء حرف خفي، فلو وصلت بحرف ساكن وهي لخفائها كأنها ساكن فيصير كأنه ثلاثة سواكن. قال سيبويه: " فإن كان الحرف الذي قبل الهاء متحركا فالإثبات ليس إلّا كما تثبت الألف في التأنيث، لأنه لم تأت علة مما ذكرنا فجرى على الأصل إلّا أن يضطرب شاعر فيحذف كما يحذف ألف معلّى، وكما حذف فقال: وطرت بمنصلي في بعملات … دوامي الأيد يخبطن السّريحا (¬2) وهذا أجدر أن يحذف في الشعر، لأنه قد يحذف في مواضع من الكلام وهي المواضع التي ذكرت لك في حروف اللين نحو عليه، والساكن، ولو أثبتوا كان أصلا وكلاما حسنا من كلامهم، فإذا حذفوها على هذه الحال كانت في الشعر في تلك المواضع أجدر أن تحذف إذ حذفت مما لا يحذف منه في الكلام على الحال، ولم يفعلوا هذا بذه هي ومن هي ونحوهما، وفرق بينهما لأن هاء الإضمار أكثر استعمالا " في الكلام والهاء التي هي هاء الإضمار الياء التي بعدها أيضا مع هذا أضعف لأنها ليست بحرف من نفس الكلمة ولا بمنزلته وليست الياء في هي وحدها باسم كياء غلامي ". قال أبو سعيد: يريد أن الهاء التي قبلها حركة لا بد من أن توصل، وحذف الوصل منها إنما يجوز في الشعر كما جاز حذف ألف معلّى حين قيل في الشعر معلّ، وحذف الياء من الأيد، وحذّف صلة الهاء أجدر لأنها قد تحذف في الكلام من: عليه ومنه، ولا تحذف من: هي وهو لأن الياء والواو مع الهاء التي قبلهما هما الاسم، ولأن الواو والياء في هو وهي يوقف عليهما وليس ذلك في ضربته ولا مررت به وكذلك ضعّف الوصل فقال: الهاء هي هاء الإضمار، الياء التي بعدها مع هذا أضعف لأنها ليست بحرف من نفس ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية: 7. (¬2) قائل البيت مضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي، انظر شرح شواهد المغني 2/ 598.

الكلمة، وهذا مما يدل على أن الهاء وحدها عند سيبويه الاسم، وقوله: " وليست الياء في هي وحدها باسم "، ويدل أيضا أن الياء مع الهاء اسم، وقد استدلّ بعض أصحابنا أيضا " على أن الهاء وحدها الاسم. يقول سيبويه: " هذا الإضمار واعلم أنك لا تستبين الواو التي بعد الهاء ولا الياء في الوقف ولكنهما محذوفتان لأنهم لمّا كان من كلامهم أن يحذفوا في الوقف ما لا يذهب في الوصل على حال نحو يا غلامي وضربني إلا أن يحذف هي، ليس من أصل كلامهم كالتقاء الساكنين ألزموا الحذف هذا الحرف الذي قد يحذف في الوصل، ولو ترك كان حسنا وكان على أصل كلامهم، فلم يكن فيه في الوقف إلا الحذف حيث كان في الوصل أضعف ". قال أبو سعيد: يريد أن الوقف على الهاء غير موصولة بحرف، لأنهم قد يحذفون في الوقف ما يثبتونه في الوصل، والصلة في الهاء ضعيفة لأنها ليست من الكلمة ولأنها يختار حذفها في الوصل إذا كان قبلها ساكن، فاختير حذفها في الوقف. ومعنى قول سيبويه: " ولو ترك كان حسنا " وكان على أصل كلامهم معناه عندي لو ترك وصل الهاء في الوقف والوصل كان حسنا إذ لم تكن الواو من نفس الكلمة. وبعض أصحابنا ذهب إلى أنه لو لم تحذف في الوقف الياء والواو من الهاء لجاز لبيان الهاء، لأنهم يلحقون للبيان ولكنهم لزموا الحذف، خاصة في الوقف ليدلّوا على أنهما ليسا من نفس الحروف، والذي قلته أولا هي الوجه، لأن سيبويه إنما ذكر ما يقوي حذفه في الوقف ويحسنه فإنما يحتاج إلى تقوية الإثبات. قال سيبويه: " وإذا كانت الواو والياء بعد الميم التي هي علامة الإضمار كنت بالخيار إن شئت حذفت وإن شئت أثبت، فإن حذفت أسكنت الميم، والإثبات " عليكمو مال " و " أنتمو ذاهبون " و " لديهمي مال " قال: " فأثبتوا كما تثبت الألف في التثنية إذا قلت عليكما وأنتما ولديهما، وأما الحذف والإسكان، فقولهم: عليكم مال وأنتم ذاهبون ولديهم مال، لما كثر استعمالهم هذا في الكلام واجتمعت الضمتان مع الواو والكسرتان مع الياء والكسرات مع الياء نحو بهمي داء، والواو مع الضمتين والواو نحو أبوهمو ذاهب، والضمات مع الواو نحو رسلهمو بالبيّنات، حذفوا من الهاء في الباب الأول حيث اجتمع فيه ما ذكرت إذ

صارت الهاء بين حرفي لين وفيها مع أنها بين حرفّي لين أنها خفيّة بين ساكنين، ففيها أيضا مثل ما في أصابته، وأسكنوا الميم لأنهم لمّا حذفوا الياء والواو كرهوا أن يدعوا بعد الميم شيئا منهما إذ كانتا تحذفان استثقالا فصارت الضمة بعدها نحو الواو. قال أبو سعيد: يريد أنه إذا جمع الهاء زيد عليها ميم وواو إذا كانت الهاء مضمومة، كقولك: همو، وكذلك لو جمع ما فيه الكاف والتاء كقولك: عليكمو أنتمو وان كانت الهاء مكسورة ففي الميم قولان منهم من يكسر ويصلها بياء فيقول: عليهمي، ومنهم من يكسر الهاء ويضم الميم ويصلها بواو فيقول: عليهمو، فوصل الميم هو الأصل كما يصلونها بالألف في التثنية عليهما وعليكما وقد يجوز أن تحذف الوصل وتسكّن الميم فأمّا حذفها فعلى ما ذكره، واحتج به، وتسكن الميم عنده لئلا يبقوا لما حذفوه من الياء والواو أثرا، واحتج غيره بأنه حذف الواو كراهة للواو في آخر الكلمة وحذفوا الضمة من الميم لأنه لا يقع فيه ليس بعد استثقالهم لها، وذلك أن الواحد لا ميم فيه والاثنين فيهما ميم موصولة بألف لا تسقط، فإذا وجدت الميم في الجمع ولم تتصل بألف علم أنه جمع، وأغنت الميم عن الضمة والواو. قال سيبويه: " ولو فعلوا ذلك لاجتمعت في كلامهم أربع متحركات ليس معهن ساكن نحو رسلكمو وهم يكرهون هذا، ألا ترى أنه ليس في كلامهم اسم على أربعة أحرف متحرك كله، وسترى بيان ذلك في غير هذا الموضع إن شاء الله ". قال أبو سعيد: يريد أن قولهم رسلكمو يثقل فاختير لأجل ذلك تسكين الميم وحذف الواو بعدها، وقد أنكر من كلام سيبويه " لاجتمعت في كلامهم أربع متحركات "، لأنا وإن أسكنا الميم في رسلكم ففيه أربع متحركات متوالية وإذا حركنا الميم ففيه خمس متحركات وهي رسلكمو، وهذا على أحد وجهين: إما أن يكون سها في عده الحروف وأما أن يكون على ما قال بعض أصحابنا لاجتمعت أربع متحركات من قبل تحريك الميم، فإذا حركناها زاد على أربع متحركات، فيكون زائدا على نهاية الثقل المستعمل في الشعر الموجود في كلمة واحدة، كقولنا: علبط وما أشبه ذلك. قال سيبويه: " فأما الهاء فحركت في الباب لأنه لا يلتقي ساكنان، وإذا وقفت لم يكن إلا الحذف ولزومه إذ كنت تحذف في الوصل كما فعلت في الأول ". قال أبو سعيد: يعني أن الهاء تسكن كما سكنت الميم في، أبوهم ورسلهم وما أشبه ذلك، لأن الميم لا يكون ما قبلها إلا مضموما، فإذا سكناه لم يلتق ساكنان، والهاء قد

يكون ما قبلها ساكنا، كقولنا: ألقى عصاه وعليه وما أشبه ذلك، فلو سكناها اجتمع ساكنان. قال: " فإذا قلت أريد أن أعطيه حقه فنصبت الياء فليس إلا البيان والإثبات، لأنها لما تحركت خرجت من أن تكون حرف لين ". قال أبو سعيد: يعني أن الياء إذا تحركت وانفتحت واتصل بها هاء الضمير وصلت بالواو ولم يكن سبيلها كسبيل الهاء الساكنة، وكذلك الواو إذا انفتحت. كقولك: أريد أن أغزوهو يافتى لأنها لما تحركت صارت كسائر الحروف المتحركة: وإنما كنا نحذف وصل الهاء لأجل الساكن الذي قبلها على ما تقدم من ذكر ذلك، وفرّق بين الهاء والميم لأن الميم لا تكون أبدا إلا وقبلها حرف مضموم، كقولك: ضربهم ورأيتهم أو مكسور كقولك: مررت بهم، والهاء قد يسكن ما قبلها ويتحرك كقولك: اضربه وعليه وما أشبه ذلك. قال: " فالهاء تصرف والميم يلزمها أبدا ما يستثقلون فلذلك جاز إسكانها للبدل الذي يلزمها ألا تراهم قالوا في كبد كبد، وفي عضد عضد، ولا يقولون ذلك في جمل، ولا يحذفون الساكن في سفرجل، لأنه ليس فيه شيء من هذا ". قال أبو سعيد: يريد أن المستقبل قد يجوز أن يخفف، وكان تسكينهم الميم لضمّتها ولزوم الضمة قبلها كتسكين كبد وعضد، وليس في جمل ما يستثقلون، لأن الميم مفتوحة. وقوله: " ولا يحذفون الساكن في سفرجل لأنه ليس فيه شيء من هذا ". قال أبو سعيد: يريد أن الحذف إنما يقع استثقالا أو لداع يدعو إليه، وليس كل ما أراد مريد حذفه كان له ذلك، فلا يجوز له حذف شيء من سفرجل، لأنه لا شيء فيه من نظائر ما يحذف. قال: " واعلم أن من أسكن هذا الميمات في الوصل لا يكسرها إذا كانت بعدها ألف وصل، ولكن يضمها لأنها في الأصل متحركة بعدها واو، كما أنها في الاثنين متحركة بعدها ألف ". وإنما أسكنت الميم تخفيفا فإذا اضطر إلى التحريك حركها بما كان لها في الأصل كقولك: كنتم اليوم وفعلتم الخير. ألا ترى أن شاعرا لو اضطر إلى تحريك الدال الأولى من: رادّ لقال رادد لأنه الأصل، ولو اضطر إلى تحريك " رادّ يرادّ " لقال " رادد " فيرده إلى

هذا باب ما تكسر فيه الهاء التي هي علامة الإضمار

أصل حركته، وفي عليهم إذا سكنت الميم وجهان: إن شئت ضممت الهاء فقلت عليهم، وان شئت كسرت فقلت عليهم. فأمّا من ضم الهاء فهو يضم الميم إذا لقيها ساكن فيقول: عليهم المال، وأما من كسر فهم على مذهبين: إذا لقيها ساكن منهم من يكسر الميم، فيقول: عليهم المال والذي يقول هذا الأصل عنده عليهمي فيردّ الميم إلى كسرتها في الأصل، ومنهم من يضمّ الميم مع كسرة الهاء فيقول عليهم المال، وهذا الأصل عنده عليهمو، ثم تسكن الميم لّما ذكرنا من علة إسكانها ثم يحركها في الأصل إذا لقيها الساكن. قال سيبويه: " لو كان أصل الميم السكون لم يقل ما لا يحصى من العرب كنتمو فاعلين " فاحتج لضم الميم إذا لقيها ساكن بشيئين أحدهما أنه يضمها بالضمة التي كانت فيها، فيردها إلى أصلها، كما قالوا: مذ اليوم فضممت الذال، لأن الأصل منذ، ثم تخفف فتسكن الذال فيقال مذ، فإذا لقيها ساكن قلت: مذ اليوم فحركتها بالحركة التي كانت لها، والوجه الثاني أنه لما كانت هذه الميم بعدها واو في التقدير ثم اضطر إلى تحريكها، " جعلوا حركتها من الواو التي بعدها في الأصل كما قلت اخشوا القوم حيث كانت علامة إضمار ". قال: " والتفسير الأول أجود، ألا ترى أنه لا يقول كنتم اليوم من يقول اخشوا الرجل ". قال أبو سعيد: يريد أنّا لو كنا نضم الميم من أجل الواو بعدها في التقدير لكان يلزمنا إذا كسرنا الواو في اخشوا الرجل أن نكسر الميم لأنهما قد حذف مهما، ويجوز أن يفرق بينهما لأن الميم قد حذف الواو بعدها والواو في اخشوا لم يحذف بعدها واو، وإنما حذف قبلها ضمة وألف، لأنه كان الأصل اخشوا فحذفت الضمة وقلبت الياء ألفا " وحذفت الألف لاجتماع الساكنين: واو الجمع والألف التي قبلها وكان الأصل اخشا وبعد قلب الألف، فلما حذفت صار اخشوا. هذا باب ما تكسر فيه الهاء التي هي علامة الإضمار " اعلم أن أصلها الضم وبعدها الواو، لأنها في الكلام كله هكذا إلّا أن تدركها هذه العلة التي أذكرها لك وليس بمنهم ما أذكره لك أيضا من أن يخرجوها على الأصل، كما أن الياء خفيّة، فالهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة لأنها خفية وهي من حروف الزيادة وهي من موضع الألف، وهي أشبه الحروف بالياء، فكما أمالوا الألف في مواضع استخفافا، كذلك كسروا هذه الهاء وقلبوا الواو ياء، لأنها لا تثبت

واوا ساكنة وقبلها كسرة، فالكسرة ها هنا كالإمالة في الألف لكسرة ما قبلها وما بعدها ". قال أبو سعيد: اعلم أن هاء الضمير أصلها الضم، ولا يجوز كسرها إلا أن يكون قبلها أو ياء ساكنة فإنه يجوز في هذه الحال كسرها للياء والكسرة ويجوز ضمها على الأصل وكان ابن شهاب الزهري يضمها في جميع القرآن وهو مدني حجازي ولذلك قال سيبويه: " وأهل الحجاز يقولون: مررت بهو قبل ولديهو مال ويقرؤون (فخسفنا بهو وبدارهو الأرض) ". ولعل سيبويه أراده بهذه القراءة، وإنما جاز كسرها لكسر ما قبلها أو للياء لأنها أشبه الحروف بالألف، فكما أمالوا الألف ونحوا بها الكسرة للكسرة بعدها أو قبلها أو للياء على ما شرحناه كسروا الهاء أيضا من أجل ذلك. والذي يقول عليهمو أتبع الهاء كسرة الهاء، لأن الهاء كالألف وترك الميم على ضمتها لأنها لا تشبه الياء ولا الألف. " كما أنك تقول في الإدغام مصدر فتقرّ بها من أشبه الحروف من موضعها بالدال وهي الزاي، ولا يفعل ذلك بالصاد مع الراء والقاف ونحوهما، لأن موضعهما " يعني موضع الراء والقاف " لم يقرب من الصاد كقرب الدال، وزعم هارون أنها قراءة الأعرج وهي قراءة أهل مكة اليوم حتى يصدر الرّعاء بين الزاي والصاد ". قال أبو سعيد: أراد سيبويه أن الحروف قد تقرب إلى ما يجاورها كتقريب الصاد إلى الدال بأن جعلت كالزاي، لأن الزاي تشبه الدال بالجهر والصاد قريبة من الدال في المخرج والزاي من مخرج الصاد، فقّربت منها بأن جعلت بين الصاد والزاي لمناسبة الدال للزاي، وكذلك كسر الهاء لما ذكرناه. قال: " واعلم أن قوما من ربيعة يقولون منهم، أتبعوها الكسرة ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عندهم، وهذه لغة رديئة إذا فصلت بالنون بين الهاء وبين الكسرة فالزم الأصل؛ لأنك قد تجرى على الأصل ولا حاجز بينهما، فإذا تراخت وكان بينهما حاجز لم تلتق المتشابهة، ألا ترى أنك إذا حرّكت الصاد فقلت صدق كان من يحقق الصاد أكثر لأن بينهما حركة. فإذا قال مصادر فجعل بينهما حرفا ازداد التحقيق كثرة، فكذلك هذا ". قال أبو سعيد: الذي يقول منهم لا يحفل بالنون فيكسر الهاء لكسرة الميم، والنون

خفية، وقد رأيناهم في حروف غير هذه عاملوا ما قبل النون الساكنة معاملة ما بعدها، كقولهم: هو ابن عمّى دنيا والأصل دنوا لأنه من الدنو. وقالوا: منتن فكسروا الميم لكسرة التاء وأتبعوها إياها وكأنه ليس بينهما نون. قال: " وقال ناس من بكر بن وائل: من أحلامكم شبهها بالهاء لأنها علم إضمار قد وقعت بعد الكسرة فأتبعوا الكسرة حيث كانت حرف إضمار وكان أخفّ عليهم من أن يضمّ بعد أن يكسر، هذه لغة رديئة جدّا وسمعنا أهل هذه اللغة يقولون للحطيئة: وإن قال مولاهم على جلّ حادث … من الدّهر ردّوا فضل أحلامك ردّوا (¬1) قال: " وإذا حركت فقلت رأيت قاضية قبل لم تكسر، لأنها إذا تحركت لم تكن حرف لين فبعد شبهها من الألف، لأن الألف لا تحرك أبدا " وليست كالهاء لأن الهاء من مخرج الألف فهي وان تحركت في الخفاء نحوّ من الألف والياء الساكنين ألا تراها جعلت في القوافي متحركة بمنزلة الياء والواو ساكنتين فصارت كالألف، وذلك قولك: خليلها، فاللام حرف الروي وهي بمنزلة خليلو، وإنما ذكرت هذا لئلا تقول قد تحركت الهاء فلم جعلتها بمنزلة الألف فهي متحركة كالألف ". قال أبو سعيد: " أراد سيبويه أن الياء إذا تحركت بطل الكسر في الهاء ووصلت الهاء بواو لأنها لما تحركت بطل الكسر في الهاء بعد شبهها من الألف لأن الألف لا تكون إلا ساكنة، وإنما تشبه الواو والياء والألف إذا كانت ساكنة والهاء خفية تشبه الألف وإن كانت متحركة لأنها من مخرج الألف فهي تشبهها وإن كانت متحركة، ويقوي ذلك أن الحروف التي تكون وصلا لحرف الروي في القافية أربعة الألف والواو والياء والهاء، والألف الواو والياء إذا كنّ وصلا لم يجز أن يتحركن، وأما الهاء فإنها قد تكون وصلا وتتحرك، فيكون بعدها الألف والواو والياء، وقد تكون الهاء وصلا " وهي ساكنة. فأما هاء الوصل الساكنة فقوله: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله … وعرّي أفراس الصّبا ورواحله (¬2) فاللام حرف الروي والهاء وصل وهي ساكنة، وأما إذا كانت متحرك وبعدها ألف ¬

_ (¬1) قائل البيت جرول بن أوس بن مالك انظر معاني القرآن وإعرابه 1/ 15. (¬2) البيت لزهير بن أبي سلمى انظر ديوانه 45.

فقوله: عفت الديار محلّها فمقامها … بمنّى تأبّد قولها فرجامها (¬1) فالميم حرف الروي والهاء وصل وبعدها ألف وهي تسمى بعد الهاء الخروج، وما بعد الهاء ياء قوله: إذا علا علياء من عليائهي … شقّ بها ما صحّ من سقائهي الهمزة حرف الروي والهاء وصل وبعدها ياء هي خروج والواو قوله: وبلد عامية أعماؤه … كأنّ لون أرضه سماؤه الهمزة حرف الروي والهاء وصل وبعدها واو هي خروج، ولذلك قال سيبويه: " خليلها "، كقولك: خليلو، لأن الواو في خليلو وصل، والهاء في خليلها وصل، فالهاء بتحركه كالواو ساكنة. قال: " وأما هاء هذه فإنهم أجروها مجرى الهاء التي هي علامة الإضمار، إضمار المذكر لأنها علامة للتأنيث كما أن هذه علامة للمذكر فهي مثلها في أنها علامة وأنها ليست من الكلمة التي قبلها، وذلك قولك: هذ هي سبيلي، فإذا وقفت لم يكن إلّا الحذف كما تفعل ذلك في به وعليه، إلّا أن من العرب من يسكّن هذه الهاء في الوصل، يشبهّها بميم عليهم وعليكم لأن هذه الهاء لا تحول عن هذه الكسرة إلى فتح ولا تصرّف كما تصرف الهاء، فلما ألزمت الكسرة قبلها حيث أبدلت من الياء وشبهوها بالميم التي تلزم الكسرة والضمة وكثر هذا الحرف في الكلام كما كثرت الميم في الإضمار. سمعت من يوثق بعربيته من العرب يقول: هذه أمة الله فيسكّن ". قال أبو سعيد: أصل هذه هذي، وإنما أبدلت الهاء من الياء، وكثير من العرب لا يبدلون ويقولون هذي، فمن أبدل فإنه يجري هذه الهاء مجرى هاء الضمير التي قبلها كسرة فيكسرها، ولا أعلم أحدا يضمها لأنهم شبهوها بهاء الضمير وليست للضمير فحملوها على أكثر الكلام، وأكثر الكلام كسر الهاء إذا كان قبلها كسرة، ووصلها بالياء كما وصلوا بهي وغلامهي يا فتى، فإذا وقفوا سكّنوا كما يسكّنون به وبغلامه إذا وقفوا، والذين أسكنوا الهاء في هذه إذا وصلوا لا يسكنونها في قولك بغلامهي وبدارهي وفي سائر أحوال هاء الضمير لأن هاء الضمير أشد تصرفا لأنها قد يكون ما قبلها ساكنا ومفتوحا ¬

_ (¬1) البيت للبيد بن ربيعة العامري انظر شرح ديوانه 205.

هذا باب الكاف التي هي علامة المضمر

ومضموما، ولا يلزمها الكسر كما يلزم الذال في هذه قبل الهاء، فلقلة تصرفها جاز لهم إسكانها، لأنها مبنية وبدل من شيء لو كان حرفا صحيحا للزمه البناء على السكون، وذلك أنها بدل من ياء في حرف إشارة مبنية على السكون فجاز فيها السكون لذلك. هذا باب الكاف التي هي علامة المضمر " اعلم أنها في التأنيث مكسورة وفي التذكير مفتوحة، وذلك قولك: رأيتك للمرأة، ورأيتك للرجل، والتاء التي هي علامة الإضمار، كذلك تقول: ذهبت للمؤنث وذهبت للمذكر فأما ناس كثير من تميم وناس من أسد فإنهم يجعلون مكان الكاف للمؤنث الشين وذلك أنهم أرادوا البيان في الوقف لأنها ساكنة في الوقف، فأرادوا أن يفصلوا بين المذكر والمؤنث وأرادوا التحقيق والتوكيد في الفصل لأنهم إذا فصلوا بين المذكر والمؤنث بحرف كان أقوى من أن يفصلوا بحركة، فأرادوا أن يفصلوا بين المذكر والمؤنث بهذا الحرف كما فصلوا بين المذكر والمؤنث بالنون حين قالوا ذهبوا وذهبن وأنتم وأنتن وجعلوا مكانها مهموسا من الحلق لأنها ليست من حروف الحلق، وذلك قولك: إنّش ذاهبة وما لش ذاهبة يريد إنك ومالك ". وقد أنشدنا أبو بكر بن دريد: تضحك منّي أن رأتني أحترش … ولو حرشت لكشفت عن حرش (¬1) وأنشد ثعلب: عليّ فيما أبتغي أبغيش … بيضاء ترضيني ولا ترضيش وتطلبي ودّ بني أبيش … إذا دنوت جعلت تنّبتيش وان نأيت جعلت تدنيش … حتى تنقيّ كنقيق الدّيش (¬2) وإنما أبدلوا من الكاف شينا لتقاربهما في المخرج واجتماعهما في الهمس. قال: " واعلم أن ناسا من العرب يلحقون الكاف السين لّيبينوا كسرة التأنيث، وإنما ألحقوا السين لأنها قد تكون من حروف الزيادة في استفعل، وذلك قولهم: ¬

_ (¬1) انظر شرح شواهد الشافية 419، الخزانة 4/ 594. (¬2) هو أبو العباس أحمد بن يحيي بن يسار الشيباني إمام الكوفيين في النحو واللغة والحديث توفي 291 هـ انظر مجالس ثعلب 1/ 116، خزانة الدي 4/ 594.

أعطيتكس وأكرمتكس، فإذا وصلوا لم يجيئوا بها لأن الكسرة تبين، وقوم يلحقون الشين ليبينوا بها الكسرة في الوقف كما أبدلوا مكانها لبيّنوا، وذلك قولهم: أعطيتكش وأكرمتكش ". وهذه اللغة تسمى الكشكشة ويقال إنها في قوم من بكر بن وائل. وفي بعض الأخبار قال معاوية يوما لمن حضره من أفصح الناس، فقال رجل منهم: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن عنعنة تميم وتياسروا عن كشكشة بكر ليس فيهم غمغمة قضامة ولا طمطمانية حمير. والذين ألحقوا الكاف السين والشين إنما يلحقونها في الوقف، لأنهم إذا وقفوا عليها سكنت الكاف فلم يكن فصل بين المؤنث والمذكر، فأرادوا بيان المؤنث في الوقف وجعلوا تركها أعني السين والشين علامة المذكر. قال: " اعلم أن ناسا من العرب يلحقون الكاف التي هي علامة الإضمار إذا وقعت بعدها هاء الإضمار ألفا في التذكير وياء في التأنيث لأنه أشدّ توكيدا في الفصل بين المذكر والمؤنث كما فعلوا ذلك حيث أبدلوا مكانها الشين في التأنيث وأرادوا في الوقف بيان الهاء إذا أضمرت المذكر لأن الهاء خفية، وإذا ألحق الألف بين أن الهاء قد لحقت وإنما فعلوا هذا بها مع الهاء لأنها مهموسة كما أن الهاء مهموسة وهي علامة الإضمار كما أن الهاء علامة إضمار، فلما كانت الهاء يلحقها حرف مد ألحقوا الكاف معها حرفّ مدّ وجعلوهما إذا التقيا سواء، وذلك قولك: أعطيكيها وأعطيكيه للمؤنث، وتقول في التذكير: أعطيتكاه وأعطيكاها ". قال أبو سعيد: قوله " لأنه أشد توكيدا في الفصل " يريد أن زيادة الألف والياء على الكاف أشد توكيدا في الفصل بين المؤنث والمذكر، لأنك تقول فيمن لا يريد التوكيد أعطيتكه للمذكر وأعطيتكه للمؤنث، فيكون الفصل بينهما الفتحة والكسرة. وإذا قلت للمذكر أعطيتكاه وللمؤنث أعطيتكيه فإن الفصل بينهما بالحركة والحرف كما كان ذلك بالشين، وشبهوا إلحاق الألف والياء بالكاف على حركة الكاف كما يلحقون الواو والياء والألف بالهاء، كقولك: غلامها، وهذا غلامهو، ومررت بغلامهي، لأن الكاف والهاء يشتركان في أنهما للضمير ويشتركان في أنهما مهموسان فلا ينكر حمل أحدهما على الآخر للشركة مع ما تقدم من التعليل. قال: " وحدثني الخليل أن ناسا يقولون: ضربتيه، فيلحقون الياء، وهذه قليلة، فأجود اللغتين وأحسنهما ألا تلحق حرف المد في الكاف، وإنما لزم ذلك في الهاء في

هذا باب ما يلحق التاء والكاف اللتين للإضمار إذا جاوزت الواحد

التذكير كما لحقت الألف في التأنيث، والكاف والتاء لم يفعل بهما ذلك، وإنما فعلوا ذلك بالهاء لخفائها وخفّتها لأنها نحو الألف ". قال أبو سعيد: يريد أن الأجود أن لا تزاد على الكاف ألف ولا ياء وإنما تزاد على الهاء لأنها خفيّة خفيفة لشبهها بالألف فاحتملت الزيادة لذلك. وقد تقدم ما يغني عن شرحه إن شاء الله تعالى. هذا باب ما يلحق التاء والكاف اللتين للإضمار إذا جاوزت الواحد " فإذا عنيت مذكرين أو مؤنثين ألحقت ميما تزيد حرفا كما زدت في العدد وتلحق الميم في التثنية الألف، وفي جماعة المذكرين الواو، ولم يفرقوا بالحركة وبالغوا في هذا ولم يزيدوا لما جاوزوا اثنين شيئا، لأن الاثنين جمع كما أن ما جاوزهما جمع، ألا ترى أنك تقول ذهبنا فيستوي الاثنان والثلاثة، وتقول نحن فيها، وتقول: قطعت رؤوسهما، وذلك قولك: ذهبتما وذهبتمو أجمعون، وأعطيتكما وأعطيتكمو خيرا وتلزم التاء والكاف الضمة وتدع الحركتين اللتين كانتا للتذكير والتأنيث في الواحدة لأن العلامة فيما بعدها والفرق فألزموها حركة لا تزال، وكرهوا أن يحركوا واحدة منهما بشيء كان علامة للواحد حيث انتقلوا عنها وصارت العلامة فيما بعدها ولم يسكنوا التاء لأن ما قبلها ساكن ولا الكاف لأنها تقع بعد الساكن كثيرا، ولأن الحركة لها لازمة مفردة فجعلوها كأختها التاء ". قال أبو سعيد: ذكر سيبويه لحاق الميم في تثنية التاء والكاف وجمعها، وضمّ ما قبل الميم ولزوم ضمّ ما قبل الميم، فأما الميم فذكر أنها لحقت التثنية والجمع لأنهم بالغوا فجعلوا الفرق بين الواحد والجمع بحرف سوى الحرف الذي كان يلحق في الاسم الظاهر كقولنا: زيدان وزيدون، وأن هذه الميم لحقت في التثنية لأن التثنية جمع كما تلحق في الجمع وتختلف العلامة اللاحقة بعد الميم فيهما فتكون للتثنية بالألف كقولك: ذهبتما وفي الجمع بالواو كقولك: ذهبتمو. وأما لزوم الضم لما قبل الميم، فلأن هذه الميم لحقت التاء وكانت حركة التاء قبل لحاق الميم تختلف للفرق بين المذكر والمؤنث، كقولك: ذهبت يا رجل وذهبت يا امرأة، فلما ثنوا وجمعوا صارت العلامة علامة الجمع فيما بعد الميم كقولك: قمتوا يا رجال وقمتنّ يا نسوة وضربتكمو وضربتكنّ فأغنى عن تغيير التاء والكاف للفرق فألزموها حركة ما كانت تدخل على أحدهما وهي ضمة التاء والكاف في المتكلم، فإن قال قائل: كيف كانت التاء مضمومة في المتكلم؟ قيل له: المتكلم لا تلحقه

الميم وإنما تلحق المخاطب وتاء المخاطب، وكافة لا تكون إلا مكسورة أو مفتوحة ولم يسكنوا التاء، لأن ما قبلها ساكن أبدا فيجوز الجمع بين ساكنين، وحملوا الكاف على التاء لأن الكاف قد يكون ما قبلها ساكنا ومتحركا، والمتحرك قولك: ضربكما، والساكن: أعطاكما. وذكر الزجاج أن الأصل لحاق الميم لتاء المخاطب كقولك: قمتما وقمتم وأنتما وأنتم، وذلك أن أنا لا يثنّى في التّحصيل، لأنه لم يقع على أنا، وإنما يقع على أنا وهو، فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر أتى بلفظ غير الواحد، فقيل: نحن، كما يقال للسواد والبياض إذا اجتمعا: بلقّ، وهو لفظ غيرهما، وكذلك التاء في قمتم، تقول قمنا لأنه لا يمكن فيه التثنية لاختلاف الاثنين، المضموم أحدهما إلى الآخر، والمخاطب يمكن أن يضم إليه يقال له أنت، فيمكن تثنيته على اللفظ، فإذا قلنا أنتما فله شبه من المتكلم وشبه من المثنى، فأما شبهه من المثنى فيوجب أن تزاد فيه الألف بحق التثنية، والواو بحق الجمع كما يقال: زيد وزيدان وزيدون. وأما شبهه من المتكلم فلأن أنا الذي للمتكلم هو أنا الذي للمخاطب وإنما تزاد فيه التاء علامة للخطاب، فاحتاجوا من أجل شبه المخاطب إلى ألف للتثنية وواو للجمع، ومن أجل المتكلم إلى حرف لا يكون في الواحد كقولهم: نحن، فزادوا الميم من أجل المتكلم، والألف والواو من أجل المخاطب، ثم حملوا الكاف على ذلك وألزموا التاء الضم وذلك أن تاء المتكلم مضمومة والمتكلم هو الأصل، وتاء المخاطب تفتح وتكسر للفرق بين المؤنث والمذكر، فلما لحقت الميم واستغني بما بعده عن الفرق بحركة التاء رجعت التاء إلى الأصل وهو الضم. وقال الزجاج: لمّا ثنوا هو فزادوا الميم أسقطوا الواو اكتفاء بالميم لأن الميم من مخرج الواو، فاستغّنوا بها عن الواو، وإنما اختاروا الميم، لأنها تلحق الأواخر زائدة كقولنا فسحم وزرقم ولأنها شبيهة بالنون، والنون قد تدخل للإعراب ولغيره من العلامات. قال سيبويه: " قلت: ما بالك تقول ذهبن وأذهبن فلا تضاعف النون، فإذا قلت: أنتنّ وضربكنّ ضاعفت؟ قال: أراهم ضاعفوا النون ها هنا، كما ألحقوا الألف والواو مع الميم، وقالوا: ذهبّن؛ لأنك لو ذكرت لم تزد إلّا حرفا واحدا على فعل، فلذلك لم تضاعف ومع هذا أيضا أنهم كرهوا أن يتوالي في كلامهم في كلمة واحدة أربع متحركات أو خمس ليس فيهن ساكن نحو ضربكنّ ويدكنّ وهي في غير هذا ما قبلها ساكن كالتاء فعلى هذا جرت هذه الأشياء في كلامهم ". قال أبو سعيد: احتج الخليل لما سأله سيبويه بشيئين: أحدهما أن يكون حمل

هذا باب الإشباع في الجر والرفع وغير الإشباع والحركة كما هي

المؤنث على المذكر فلما كان للمذكر بحرف واحد جعل للمؤنث بنون واحدة، كقولك: قالوا وذهبوا، فالواو علامة جمع المذكر وهي حرف واحد للمؤنث: قلن وذهبن بنون واحدة، فلما قلت للمذكر قلتمو وذهبتمو أو ضربتكمو قلت للمؤنث: ذهبتنّ وضربتكنّ. فجعلت النون المشددة مكان الميم والواو، والثاني أنه لو لم تشدّد النون لاجتمع أربع متحركات أو خمس على ما ذكر، ثم قوّى أنه يحتاج إلى نون أخرى ساكنة كما أن النون المنفردة ما قبلها ساكن كقولك: ذهبن وانطلقن، كما تقول: ذهبت وانطلقت فيسكن ما قبل التاء. هذا باب الإشباع في الجر والرفع وغير الإشباع والحركة كما هي " فأما الذين يشبعون فيمطّطون وعلامتها واو وياء، وهذا تحكمه لك المشافهة، وذلك قولك: يضربها ومن مأمنك. وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاسا، وذلك يضربها ومن مأمنك. ومن ثم قرأ أبو عمرو (إلى بارئكم)، وبذلك على أنها متحركة قولهم: من مأمنك فيبيّنون النون، ولو كانت ساكنة لم تحقق النون ولا يكون هذا في النصب، لأن الفتح أخف عليهم كما لم يحذفوا الألف حيث حذفوا الياءات وزنة الحركة ثابتة كما تثبت في الهمزة حيث صارت بين بين ". قال أبو سعيد: يريد أن ما كان مضموما أو مكسورا يجوز اختلاس الضمة والكسرة، واختلاسها إضعاف الصوت بها في سرعة، وعلى ذلك يحمل أصحابنا قراءة أبي عمرو (إلى بارئكم) أنها مختلسة وليست بساكنة وكذلك ما يروى عنه في قوله تعالى و (بارئكم) و (ينصركم) و (وما يشعركم) وما أشبه ذلك يحمل ذلك كله على الاختلاس، وبعض أصحابه يحكي عنه أنه يسكنها. والذي عنه سيبويه أنها مختلسة وأنها بزنتها متحركة، كما أن الهمزة المجعولة بين هي بزنتها محقّقة. قال: " وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور في الشعر شبهوا ذلك بكسرة فخذ حين حذفوا فقالوا: فخذ وبضمة عضد حين حذفوا فقالوا: عضد لأن الرفعة ضمة والجرة كسرة، وقال الشاعر " الفرزدق: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد … بدا هنك من المئزر (¬1) ¬

_ (¬1) انظر الخزانة 2/ 279، الأمالي الشجرية 2/ 37. ولم أجده في ديوان الفرزدق ويروى أنه للأقيشر الأسدي.

هذا باب وجوه القوافي في الإنشاد

يريد: هنك، وأظن في شعره حرّك. قال: " ومما أسكنوا في الشعر وهو بمنزلة الجّرة إلا أن من قال فخذ لم يسكّن ذلك، قال الراجز: إذا اعوججن قلت صاحب قوّم … بالدّوّ أمثال السّفين العوّم (¬1) فسألنا من ينشد هذا البيت من العرب فزعم أنه يريد صاحبي، قد يسكّن بعضهم في الشعر ويشمّ، وذلك قول الشاعر: فاليوم أشرب غير مستحقب … إثما من الله ولا واغل (¬2) وجعلت النقطة علامة الإشمام، ولم يجئ هذا في النصب، لأن الذين يقولون: كبد وفخذ، " في كبد وفخذ، " لا يقولون في جمل جمل ". قال أبو سعيد: اعلم أن الذي ذكر سيبويه من تسكين ما أجاز تسكينه في الشعر وقد أنكره المبرد وغيره ورووا: وقد بدا ذاك من المئزر، ورووا في مكان صاحب قوّم: صاح قوّم. ومكان فاليوم أشرب غير مستحقب: فاليوم أسقى، ومنهم من يروي: فاليوم فاشرب. والذي قاله سيبويه عندي صحيح وذلك أن الذين أنكروا هذا إنما أنكروه من أجل ذهاب الإعراب ولا خلاف بينهم أن الإعراب قد يزول بالإدغام، والقراء على إدغام النون في قوله عز وجل: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا (¬3) والأصل لا تأمننّا، فذهبت الضمة التي هي علامة الرفع، وقوّي قوله مع القياس الذي ذكرت لك الرواية. هذا باب وجوه القوافي في الإنشاد قال أبو سعيد: اعلم أني لو اقتصرت على تفسير ألفاظ سيبويه فيما ذكره من القوافي لسقط الكثير مما يحتاج إليه فيها، لأنه لم يستوعب ذكرها ولا قصد إلى استيفاء معرفتها وما يتعلق بها، فعملت على أن أتقصى ذكرها وما يتعلق بها مع شرح كلامه، وأفرد من ذلك ما يحتمل الإفراد وبالله أستعين على جميع الأمور. قال سيبويه: " أما إذا ترنّموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو وما ينوّن وما لا ينون لأنهم أرادوا مدّ الصوت وذلك قولهم: ¬

_ (¬1) قاله أبو نخيلة انظر شرح أبيات سيبويه 2/ 341، شواهد الشافية 225. (¬2) البيت لامرئ القيس انظر ديوانه 122، الخزانة 2/ 279. (¬3) سورة يوسف الآية: 11.

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي (¬1) وقال في النصب ابن الطثريّة (¬2): فبتنا تحيد الوحش عنّا كأننا … قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا (¬3) وقال في الرفع الأعشى: هريرة ودّعها وإن لام لاثمو (¬4) فهذا ما ينّون فيه وما لا ينون فيه قولهم وهو لجرير: أقلّي اللوم عاذل والعتابا وقال في الرفع جرير: متى كان الخيام بذي طلوح … سقت الغيت أيتها الخيامو وقال في الجر: أيهات منزلنا بنعف سويقة … كانت مباركة من الأيامي وإنما ألحقوا هذه المدة في حروف الروي، لأن الشعر وضع للغناء والترنم، فألحقوا كل حرف الذي حركته منه، فإذا أنشدوا ولم يترنموا فعلى ثلاثة أوجه، أما أهل الحجاز فيدعون هذه القوافي ما نوّن منها ومما لم ينّون على حالها في الترنم ليفرقوا بينها وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء. وأما ناس كثير من بني تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينوّن وما لا ينوّن لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نونا ولفظوا بتمام البناء وما هو منه كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد. سمعناهم يقولون: يا أبتا علّك أو عساكن (¬5) وللعجاج: يا صاح ما هاج الدّموع الذرفن ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس انظر ديوانه 8. (¬2) هو يزيد بن الطثرية، والطثرية أمه وهي من طثر بن عنز بن وائل. (¬3) نسب هذا البيت لامرئ القيس في ديوانه 242 والخزانة 4/ 227، ونسب لابن الطثرية في ملحق ديوانه 93. (¬4) انظر الخزانة 4/ 227، شرح شواهد سيبويه 2/ 298. (¬5) قائله رؤبة بن العجاج انظر ملحق ديوانه 181.

وقال: من طلل كالأتحميّ أنهجن وكذلك الجر والنصب والرفع والمكسور والمفتوح والمضموم في جميع هذا كله كالمجرور والمنصوب. وأما الثالث فأن يجروا القوافي مجراها لو كانت في الكلام ولم تكن قوافي شعر جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا، وتركوا المدة لعلمهم أنها في أصل البناء. سمعناهم يقولون: أقلّى الّلوم عاذل والعتاب وللأخطل: واسأل بمصقلة البكري ما فعل وكان هذا أخف عليهم ويقولون: قد رابني حفص فحرك حفصا تثبت الألف لأنها كذلك في الكلام ". قال الأخفش: وبعضهم يقف على المنصوب منونا كان أو غير منون بالألف فيقول: أقلى اللوم عاذل والعتابا وإذا وقف في الجر والرفع أسكن فقال: أيتها الخيام أفاطم مهلا بعد هذا التدلّل (¬1) وسمعت من العرب من يقف على الروي المنصوب إذا كان من الفعل أو من شيء لا يدخله التنوين في وجه من الوجوه بالإسكان. يقول: ولا تبقي خمور الأندرين (¬2) وينشدون: أهدموا بيتك لا أبا لك … وحسبوا أنك لا أخا لك (¬3) ¬

_ (¬1) شطر بيت من معلقة امرئ القيس انظر ديوانه 12. (¬2) عجز بيت لعمرو بن كلثوم الكلبي انظر جمهرة أشعار العرب 139، شرح القصائد التسع 2/ 771. (¬3) انظر كتاب القوافي 107، الدرر اللوامع 1/ 15، شرح شواهد الشافية 172.

وأنا أمشى الدّ ألي حوالك ولا يلحقون الألف، وهذا لا يكون إلّا مطلقا إلّا أنهم يريدون الوقف. وقال هؤلاء بشبّان يرون القتل مجدا … وشيب في الحروب مجّربين (¬1) فسكن بعد الياء، لأن هذا لا يدخله تنوين في وجه من الوجوه. وأما: تسف الجلّة الخور الدّرينا فالدرين اسم فيقفون عليه بالألف لأنه لو لم تكن هذه الألف واللام كان منونا، وكل ما كان كذلك ألحقوا الألف في وقفه فيقول هؤلاء: أقلّي اللوم عاذل والعتابا لأنه إذا لم يكن بالألف واللام كان منونا، فلذلك ألحقوا الألف في السّكت. قال أبو سعيد: وأما قوله: لأن الشعر وضع للغناء والترنم، " فهو من أصح الكلام وذلك أن الغناء يحتاج إلى ألحان موزونة ونغم منظومة تكرر على مقادير من الحروف وبسبب لا يختلف فلا يجوز أن يحمل ذلك إلّا كلام موزون يكون قدر بعضه إلى بعض معروفا، ولولا ذلك ما احتيج إلى المنظوم، وهذا في جميع الألسنة ما أرادوا الترنم به والغناء من الكلام كان موزونا، ومنهم من يلزم حرفا بعينه مع الوزن، ومنهم من يعتمد على اتفاق الوزن ومقدار الحروف وإن لم يقف على حرف معلوم ولولا أن الكتاب لا يحتمل لأطلته أكثر من هذا، فلما كان موضوع الشعر للغناء والترنم احتاجوا إذا ترنموا إلى الحروف التي يمد فيها الصوت وهي الألف والواو والياء، وهذه الحروف مأخوذة من الحركات، فجعلوا ما كان مفتوحا من الحروف فتتبع فتحته الألف، وما كان مضمونا تتبع ضمته الواو، وما كان مكسورا تتبع كسرته الياء لامتداد الصوت في هذه الحروف، فإن قال قائل: كان موضوع الشعر للغناء والترنم فلم جاز أن يكون في الشعر مقيد؟ قيل له: يجوز أن يكون الترنم به قبل حرف رويّه، لأنه ليس جميع حروف البيت يقع عليه المدّ والنغمة، وإنما تقع النغمة والتمديد ببعضه على حسب الطريق الذي يسلكونه فيه، وعلى أنه قد روي عن العرب إطلاق الموقوف وإلحاق الوصل به، وكذلك تحريك الهاء ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن كلثوم انظر جمهرة أشعار العرب 143، وشرح القصائد السبع 399.

الساكنة إذا كانت وصلا، وذلك عندي على طريق الشعر، كما روي قوله: لمّا رأيت الدهر جمّا خبلهو … أخطل والدهر كثير خطلهو (¬1) ومثله قول أبي النجم: تنفش منه الخيل ما لا تغزلهو وإنما الوزن: جمّا خبله، و: تنفش منه الخيل ما لا تغز له. وسأذكر هذا في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى. فإذا أنشدوا على غير وجه الترنم فأهل الحجاز أجروا آخره مجرى الترنم على كل حال، ولزموا الأصل الذي يوجبه الشعر من التغني به وفرقوا بينه وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء. وأما من أبدل مكان المدة النون من بني تميم فإنهم أرادوا إتمام الوزن فجعلوا مكان حرف المد نونا، لأن أكثر الأواخر في الكلام منوّن، فلزموا التنوين في ذلك كله، فحرسوا ولم ينقصوا منه شيئا وفصلوا بين ما يترنم به وما لا يترنم به. وأما الذين أجروه مجرى الكلام فذهبوا إلى أنه لما ترك الترنم به زال عنه المقصد الذي يقصد بالشعر الموزون فأجروه مجرى سائر الكلام واحتمل النقصان الوزن في اللفظ لزوال الترنم والغناء الذي يحتاج معه إلى التمام واستيفاء النغمة. قال: " واعلم أن الياءات والواوات اللوائي هن لامات إذا كان ما قبلها حرف الروي فعل بها ما فعل بالياء والواو اللتين ألّحقتا للمدّ في القوافي لأنها تكون في المد بمنزلة الملحقة ويكون ما قبلها رويا كما كان ما قبل تلك رويّا، فلما ساوتها في هذه المنزلة ألحقت بها في المنزلة الأخرى وذلك قولهم: وبعض القوم يخلق ثم لا يفر وكذلك يغزو إذا كانت في قافية كنت حاذفها إن شئت، وهذه اللامات لا تحذف في الكلام، وما حذف منهن في الكلام فهو ها هنا أجدر أن يحذف إذ كنت تحذف ما لا يحذف في الكلام ". قال أبو سعيد: يريد أن الياء الأصلية يجوز أن تقع وصلا في القافية المجرورة فتجري مجرى الياء الزائدة التي تتبع الكسرة، فإذا جرت مجراها جاز أن تسقط في الوقف كما تسقط الزائدة، لأن القافية واحدة، وذلك قوله: لعب الرياح بها وغيّرها … بعدي سوافي المور والقطري ¬

_ (¬1) قائله أبو النجم العجلي انظر شرح المعلقات التسع 2/ 825.

والياء في القطري صلة وهي زائدة، لأن الأصل القطر، ويجوز أن تقول سوافي المور والقطر بتسكين الراء، وفي هذه القصيدة: ولأنت أشجع حين تتجه ال … أبطال من ليت أبي أجري ولأنت تفري ما خلقت وبعض … القوم يخلق ثمّ لا يفري والياء في يفري أصلية وهي لام الفعل، لأنك تقول: فرى يفري، فلما اجتمع الأصلي والزائد في قصيدة واحدة أجريا في الحذف مجرى واحدا، وكذلك الواو وهو نحو قول زهير. صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو … وأقفر من سلمى التعانيق فالثقلو فالواو في الثقل زائدة وقد يجوز أن يوقف على اللام فيقال فالثّقل وتحذف الواو، ثم قال: وقد كنت من سلمى سنين ثمانيا … على صير لأمر ما يمرّ وما يحلو فالواو في يحلو أصلية وهي لام الفعل، لأنها من حلا يحلو وهي وصل جرت مجرى الواو في الثقلو، فلما جاز حذف الواو في الثقلو جاز حذف الواو في يحلو، لأنها من قصيدة واحدة فيقال: ما يمرّ وما يحل. قال: " وأما يخشى ويرضى ونحوهما فإنه لا يحذف منهنّ الألف لأن هذه الألف لما كانت تثبت في الكلام جعلت بمنزلة ألف النصب التي تكون في الألف بدلا من التنوين، فكما تثبت تلك الألف في القوافي فلا تحذف كذلك لا تحذف هذه الألف، فلو كانت تحذف في الكلام ولا تمدّ إلّا في القوافي لحذفت ألف يخّش كما حذفت ياء يقضي حيث شبّهتها بالياء التي في الأيامي، وإذا ثبتت التي بمنزلة التنوين في القوافي التي هي لام أسوأ حالا منها، ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: لم يعلم لنا الناس مصرع فتحذف الألف لأن هذا لا يكون في الكلام فهو في القوافي أيضا لا يكون فإنما فعلوا ذلك بيقضي ويغزو لأن بناءهما لا يخرج نظيرهما، إلّا في القوافي وإن شئت حذفته، وإنما ألحقتا بما لا يخرج في الكلام وألحقت تلك بما يثبت على كل حال، ألا ترى أنك تقول:

داينت أروى والديون تقضى … فمطلت بعضا وأدّت بعضا (¬1) وكما لا تحذف ألف بعضا لا تحذف ألف تقضى ". قال أبو سعيد: بنى سيبويه ما يحذف من الألفات والياءات والواوات الأصليات في القوافي على ما يحذف منهن في الكلام إذا لم يكن أصليا، فمن ذلك أن الألف التي هي يدل من التنوين إذا وقف عليها لا تحذف، تقول رأيت زيدا ورأيت فرسا لا يحسن حذفه، فإذا كان في قافية لم يحسن أيضا حذفه، فإذا كان معه ألف أصلية جرت مجراها في أن لا يحسن حذفه مثل الألف في يقضي لا تحذف كما لا تحذف الألف في بعضا، وأما المضموم والمكسور المنونان إذا وقفت عليهما لم تبدل منهما ياء ولا واوا، كقولك: جاءني زيد ومررت بزيد فشبه الياء في يفري والواو في يحلو في حذفهما بحذف الواو والياء في الإبدال من التنوين في قولك: جاءني زيد ومررت بزيدي فيمن يجريه مجرى الألف، وهي لغة رديئة. ولو كنا نحذف الألف في رأيت زيد إذا وقفت عليه لجاز حذف ألف يخشى، وينبغي على قياس من يقول: رأيت زيدا إذا وقف عليه أن يجيز حذف الألف في يخشي وذلك معنى قول سيبويه: " لو كانت تحذف في الكلام ولا تمد إلّا في القوافي لحذفت ألف يخشى ". وقد ذكر سيبويه أن الشاعر إذا اضطر جاز له أن يحذف الألف وأنشد: وقبيل من لكيز شاهد … رهط مرجوم ورهط ابن المعل أراد المعلى. ومعنى قوله: " فإنما فعلوا ذلك بيقضي ويغزو، لأن بناءهما لا يخرج عن نظيره إلا في القوافي "، لأنه ليس في الكلام ما يبدل من تنوينه ياء ولا واو، إنما يكون في القوافي كقولك: من حبيب ومنزلي، وقولك: طحابك قلب في الحسان طروبو (¬2) قال: " وزعم الخليل أن ياء يقضي واو يغزو إذا كانت واحدة منهما حرف الروي لم تحذف، لأنها ليست بوصل حينئذ وهي حرف روي كما أن القاف في قوله. وقاتم الأعماق خاوي المخترق (¬3) حرف الواو، فكما لا تحذف هذه القاف لا تحذف واحدة منهما ". ¬

_ (¬1) البيت لرؤبة بن العجاج انظر ديوانه 79. (¬2) قائله علقمة بن عبدة انظر ديوانه 33. (¬3) قائله رؤبة بن العجاج انظر ديوانه 104.

وذلك نحو قوله: ألم تكن أقسمت بالله العليّ … أنّ مطاياك لمن خير المطيّ (¬1) فالياء حرف الروي ولا يجوز حذفها. قال: وقد دعاهم حذف ياء يقض إلى أن حذف ناس كثير من قيس وأسد الواو والياء اللتين هما علامة المضمر، ولم تكثر واحدة منهما في الحذف ككثرة ياء يقضي، لأنهما تجيئان لمعنى الأسماء وليستا حرفين بنيا على ما قبلها، فهما بمنزلة الهاء في: يا عجبا للدهر شتّى طرائقه (¬2) وسمعت من يروي هذا الشعر من العرب ينشده: لا يبعد الله أصحابا تركتهم … لم أدر بعد غداة البين ما صنع (¬3) يريد: صنعوا. وقال: لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها … سوف العيوف لراح الرّكب قد قنع يريد: قنعوا. وقال: طافت بأعلاقه خود يمانية … تدعو العرانين من بكر وما جمع يريد: جمعوا. وقال: جزيت ابن أوفى بالمدينة قرضه … وقلت لشفّاع المدينة أوجف (¬4) يريد: أوجفوا. فحذف الواو وهي ضمير الفاعلين في هذه الأبيات لأنه شبّهها بواو يغزو، وحرف الروي العين، وحذفها دون حذف واو يغزو في الحسن، لأن الواو ها هنا اسم وواو يغزو حرف. وقال عنترة: يا دار عبلة بالجواء تكلم ¬

_ (¬1) انظر خزانة الأدب 4/ 328، الخصائص 1/ 315. (¬2) قائله الراعي النميري انظر شرح أبيات سيبويه 2/ 342. (¬3) قائل الأبيات الثلاثة ابن مقبل انظر ديوانه 168، 172، 170. (¬4) المصدر السابق ص 197.

يريد: تكلّمي. وقال الخزز بن لوذان: كذب العتيق وماء شنّ بارّد … إن كنت سائلتي غبوقا فاذهب يريد: فاذهبي ". وحذف الياء في يفري أحسن من حذف الياء من تكلّمي واذهبي، لأن الياء في تكلمي واذهبي ضمير المؤنث، وهي اسم، والياء في يفري حرف. قال: " وأما الهاء فلا تحذف من قولك: شتّى طرائقه، لأن الهاء ليست من حروف المدّ واللين ". وإنما جاز حذف الياء التي هي الضمير لأنها قد شبّهت بمثلها في اللفظ من حروف المد واللين كقوله: " الحمد لله الوهوب المجزلي " ويجوز المجزل، وإذا كانت الألف ضميرا لم تحذف كقوله: " خليلّي طيرا بالتفّرق أوقعا " " فلم يحذف الألف كما لم يحذفها من تقضى ". قال: " واعلم أن الساكن والمجزوم يقعان في القوافي "، يريد القوافي المتحركة المطلقة. قال: " لأنهم لو لم يفعلوا ذلك لضاق عليهم، ولكنهم، توسعوا بذلك، فإذا وقع واحد منهما في القافية حرك ". يريد بالساكن هو المبنى على السكون والمجزوم الفعل المستقبل. " وليس تحريكهم إياه بأشذّ من إلحاق حرف المدّ ما ليس هو فيه ولا يلزمه في الكلام ". يريد أن الشعر قد أحوجهم أن يلحقوا الواو والياء والألف فيما لا يدخله ذلك في الكلام، كقوله: وأقفر من سلمى التعانيق فالثقلو وقوله: سواقي الموز والقطري. فإدخالهم هذا المدّ كتحريكهم الساكن لكي يسمعوا، وجعلوا حركة ذلك كسرا " كما أنهم إذا اضطروا إلى تحريك الساكن في التقاء الساكنين كسروا، فكذلك جعلوها في

القوافي المجرورة حين احتاجوا إليها، كما أن أصلها في التقاء الساكنين الكسر، وقال: أغرك منّي أن حبك قاتلي … وأنك مهما تأمري القلب يفعلي (¬1) ويفعل مجزوم لأنه جواب مهما. " وقال طرفة: متى تأتني أصبحك كأسا رؤيّة وإن … كنت عنها غانيا فاغن وازددي " وأصل ازدد السكون. ولو جاء هذا الساكن في قافية مرفوعة أو منصوبة كان إقواء، وقال أبو النجم: إذا استحثّوها بحوب أوحلي وحل في الكلام مسكّنة " قال: " ويقول الرجل إذا تذكر ولم يرد أن يقطع كلامه: قالا، فيمد قال، ويقولوا فيمدّ يقول، ومن العامي فيمدّ العام وسمعناهم يتكلمون به في الكلام ويجعلونه علامة يتذكر به ولم يقطع كلامه، فإذا اضطروا إلى مثل هذا في الساكن كسروا، سمعناهم يقولون: إنه قدي في قد، ويقولون: ألي في الألف واللام يتذكر الحارث ونحوه. وسمعنا من يوثق به في ذلك. يقول: هذا سيفني يريد: سيف، ولكنه يتذكر بعد كلاما ولم يرد أن يقطع اللفظ لأن التنوين حرف ساكن فيكسر كما يكسر دال قد ". " قال المفسر: احتج سيبويه في هذا الفصل لتحريك الساكن في القوافي بالكسر، فقال المتذكر في كلام العرب إذا وقف على شيء متحرك وهو يتذكر ما بعده أتبعه حرفا من جنس الحركة، فيقول في قال: قالا، وفي يقول: يقولوا، وفي العام: العامي، فإذا كان ساكنا كسره واتبعه الياء، كقوله: قدي في قد، وألي إذا أردت أن تقول: الحارث أو القاسم أو الفرس، فقال: ألونسى ما بعده فوقف متذكرا لما يصل به كلامه كسر الساكن وألحقه الياء، وكذلك قال: سيفني، لأن التنوين نون ساكنة، وأراد أن يصله بكلام بعده فنسيه فوقف متذكرا له فكسر النون الساكنة التي هي التنوين وألحقها ياء "، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه إنما ذكر وجوه القوافي في الإنشاد ليعلمك حكم اللفظ بأواخر الشعر في الوقف والوصل كما أعلمك في الأبواب التي قبلها في غير الشعر، وذكر فصل ما بين الكلام والشعر في ذلك، فكان ما ذكره منه على ما يوجبه النحو من ¬

_ (¬1) البيت من معلقة امرئ القيس انظر ديوانه 13.

حكم اللفظ بآخر الكلمة الموقوفة والموصولة لا على ما ينحوه أهل العروض والقوافي، غير أن كلامه اشتمل على أسماء يختص بها علم القوافي دعاني إلى تفسيرها ذكره لها في جملة كلامه. فمن ذلك القوافي، وقد اختلف الناس في القافية على الحقيقة ما هي، فقال الخليل فيما ذكره الأخفش وغيره: إن القافية آخر ساكن في البيت إلى أول ساكن يلقاه مع المتحرك قبل الساكن. وقال الأخفش: القافية آخر كلمة في البيت، وقال غيرهما: القافية جميع ما يلزم الشاعر إعادته من حرف وحركة وأقل ذلك عنده حرف وحركة. وقال آخرون: القافية آخر حرف في البيت سواء كان زائدا أو أصليا أو حرف روي وصل أو خروج. وقال آخرون: آخر حرف أصلي في البيت. وقال آخرون: القافية هي حرف الرويّ وهو المختار عندي. والظاهر من كلام سيبويه أنه مذهبه، وذلك أنه قال: " ولو لم يقفوا إلّا بكل حرف فيه حرف مدّ لصاق عليهم "، يريد لو لم يقفوا إلا بكل متحرك يعني حرف الروي فإذا كان التقفية بحرف الروي فهو قافية ويدل على أن حرف الرويّ هو القافية أنه يلزم آخر كل فن من الشعر كما أن القافية يلزم آخر كل فنّ منه، وقد يخلو آخر الشعر مما سوى حرف الروي من التأسيس والردف والوصل والخروج، ويدل أيضا على ذلك أنه لا تدافع بين أهل الصناعة أن يقول القائل: ما قافية هذه القصيدة فيقال له الياء أو الدال أو غير ذلك، يريدون به حرف الروي، وليس أحد منهم يقول الدال وشيء آخر. ويقولون إذا نسبوا القصائد إلى قوافيها هي قصيدة دالية. ولامية أو ما أشبه ذلك. فإن قال قائل: لو كان حرف الرويّ هو القافية لجاز أن يأتي المردف أو المؤسس مع ما ليس بمردف ولا مؤسس، إذا كان حرف الروي فيهما واحدا، فالجواب في ذلك أن يقال: أن الشاعر قد يلزمه حراسة أشياء إذا ابتدأ شعره عليها ويحتاج إلى لزومها إذا كرّر، وليست تلك الأشياء كلها بقافية كالوزن الذي يلزمه أن يأتي به وليس بقافية، فكذلك الرّدف والتأسيس وما جرى مجراهما، غير أن الذي يلزم الشعر عامّا الوزن والقافية التي هي حرف الروي. وأما قول الخليل على ما حكى عنه فلا دليل عليه ولا رأيت أحدا ينصره ويذهب إليه، وبعض الناس غلط الحاكي عنه، وذكر أنه توهّم على الخليل غير الذي أراده. وأما قول الأخفش إنه آخر كلمة في البيت فإنه احتجّ لذلك بأن شاعرا لو قال لك اجمع لي قوافي لجمعت له كلمات نحو سلام وغلام، وكذلك لو قال شعرا إلّا الأخيرة لقيل قد بقيت القافية، واحتجّ أيضا بأن القافية لو كانت هي الحرف

يعني حرّف الروي لكان يجوز أن يأتي المردف وغيره والمؤسس في قصيدة واحدة، ولكان قول العجاج: وخندف هامة هذا العالم غير معيب في القصيدة التي أولها: يا دار سلمى يا اسلمي ثم أسلمي … بسمسم أو عن يمين سمسم لأن القافيتين متفقتان إذا كانتا ميمين. واحتج أيضا بأن حرف الروي لو كان هو القافية لكان لا يؤنث، لأن الحرف مذكر والقافية مؤنثة. قال أبو سعيد: كأن عنده أن القافية هي الكلمة للقافية لما قبلها، تقفوه تتبعه. وقال: أما قول الأخفش: لجمعت له كلمات فليس ذلك من أجل. إن الكلمة هي القافية، ولكن حرف الروي لا يقوم بنفسه، وإنما يكون في كلمة فتجمع الكلمات من أجل ذلك، وكذلك إذا بقيت كلمة فإنما يقال بقيت القافية، لأن حرف الروي في الكلمة، وأما قوله لو كانت القافية الحرف لجاز أن يكون في القصيدة مردف وغير مردف، ومؤسّس وغير مؤسّس فقد تقدم ما يكون جوابا لهذا. وأما قوله: إن الحرف مذكر والقافية مؤنث، فكل حرف من حروف المعجم الأغلب عليه التأنيث كقولنا: ياء حسنه وكاف مكتوبة وما أشبه ذلك، كما قال الشاعر: كما بيّت كاف تلوح وميمها ومما يدل على ما ذكرناه أن ما يلزم إعادته يحتاج أن يكون معلوما أو كالوزن المعلوم عدّة حروفه وترتيب حركاته وسكونه وما يجوز فيه من الزحاف، وكحروف الروي المعلومة وكاللواحق المعلومة من التأسيس والردف والوصل والخروج. وإذا كانت القافية كلمة فهي غير معلومة لتباين ما بين طولها وقصرها، ويدخل عليه أيضا أن يقال: إذا كانت القافية هي الكلمة الأخيرة، فقول زهير: من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا … ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى بدا لي أني لست مدرك ما مضى … ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا فالكلمة الأخيرة في البيت الأول ليا وليس فيها تأسيس، والكلمة الأخيرة في البيت الثاني جائيا وهي مؤسسة. وأما الذي قال أن القافية هي ما يلزم الشاعر إعادته من حرف أو حركة أو أكثر من ذلك، فقد تقدم فيما ذكرناه من الاحتجاج مما يدل على بطلان قوله، ومن مذهب هذا القائل أن أقلّ ما يلزم الشاعر حرف وحركة، وذلك أنه يقول: إذا

كان ما قبل حرف الروي متحركا لزم الشاعر الحركة التي قبله، إن كانت فتحة لم يجز أن يأتي بغيرها، وتسمى هذه الحركة التوجيه وإن كانت ضمة أو كسرة جاز له أن يأتي بالضم والكسر جميعا في قصيدة واحدة يتناوبان فيهما، ولا يجوز معهما الفتح بمنزلة الواو والياء في الردف، ولا يجوز معهما الألف. وزعم أنه من جمع بين الفتح والكسر، أو الفتح والضم فقد أخطأ، وأن رؤبة قد أخطأ في قوله: ألّف شتّى ليس بالراعي الحمق وقوله: مضبورة قرواء هرجاب فتق. في قصيدته التي أولها: وقاتم الأعماق خاوي المخترق وأن بيت امرئ القيس: إذا ركبوا الخيل واستلأموا … تحرّقت الأرض واليوم قرّ في قصيدته التي أولها: لا وأبيك ابنة العامري … لا يدّعي القوم أني أفرّ أخطأ، وذكر أنه يروى: واليوم قرّ واليوم صرّ، وأن ذلك أولى بأن ينسب إلى امرئ القيس، ورأيت هذا القائل يعتقد أن ذلك نادر لا يوجد مثله ولم يوجد غير الذي ذكره، وهذا يدل على قلة تفتيش لأشعار العرب المتقدمين، وقد ذكرت لثلاثة من الشعراء ليسوا كلهم مكثرين ما استطلت أن أذكر أكثر منه مما جمعوا فيه بين المفتوح والمكسور والمضموم، على أني لا أنكر أن لزوم الفتح إذا ابتدئ به أحسن، ولزوم الضم والكسر للمبتدئ به أحسن، كما يكون في اللفظ وجهان يختار أحدهما على الآخر، ولا يكون الآخر خطأ ساقطا. قال عدي بن زيد العبادي: طال ذا الليل علينا واعتكر … وكأنّي ناذر الصبح سمر من نجي الّهم عندي ثاويا … بين ما أعلن منه وأسر وقال في أخرى: قد حان أن تصحو أو تقصر … وقد أتى لما عهدت عصر ثم قال: قد فاض فيه كالعهون من ال … أرواح لما أن علاه الزّهر

أهبطته بالعتد الأجرد … فيه سهمة وضمر فهو مثل السيد يفزعه النقر والصفر إذا يصفر. وقال المرقش الأكبر: هل تعرف الدار عفا رسمها … إلّا الأثافّي ومبنى الخيم ثم قال: أمست خلاء بعد سكانها … مقفرة ما إن بها من أرم وقال أيضا: أتتني لسان بني عامر … فجلّت أحاديثها عن بصر بأن بني الوخم ساروا معا … بجيش كضوء نجوم السّحر ثم قال: وكأنّ بجمران من مزعف … ومن رجل وجهه قد عفر ويروى: منعفر، وقال الأعشى: وبها خشيم إنه يوم ذكر … وزاحم الأعداء بالثبّت الغدر في قصيدة أولها: كونوا كسمّ ناقع فيه الصّبر … وارجها إذا ما ضيّع القوم الّدبر وقال أيضا الأعشى في قصيدة لامية أولها: أقصر فكلّ طالب سيمل … إذ لم يكن عن الحبيب عول علقتها بالشيطين فقد … شقّ علينا حبّها وشغل ثم قال: تجري السّواك بالبنان على … ألمي كأطراف السيال رتل ترقى إليه من جهينة مجتاب … المسوك وفي الهضاب وقل وفيها: متى القتود والفتيان بأل … واح شداد تحتهن عجل آنس طملا من حدبلة مش … غوفا بنوه بالسما رغيل

وقال: لعمرك ما طول هذا الزّمن … على المرء إلّا عناء معن وفيها: وبيداء قفر كبرد السّدير … مناهلها داثرات أجن فهذه الأبيات قد اجتمع وفيها المفتوح مع المكسور والمضموم على ما ذكرنا من جواز ذلك وكثرته وإنّ كان لزوم الفتح فيه أجود. وقال المجبر السلولي في قصيدة طويلة نحو مائة وعشرين بيتا موقوفة حركة ما قبل حرف الروي منها كأنها نصفان: نصف فتح ونصف ضم وكسرة وأولها: يا أخويّ من معد عرّجا … فحيّيا الرّبع كأعشار الخلق ثم سلاة لي سؤالا نافعا … إن بين القوم الجواب أو نطق وما سؤال الرّبع قد غيّره … تتابع الأضياف والهوج الخرق طاوي المراض بحتري بالضّحى … أقب مجلود رفليّ يلق بذله الربع وقد تغّنى به … أوانس مثل الغمامات البسق يرتاده كل رفل هيكل … كأنه محجاب دياج لهق وأما الذي يقول أن القافية آخر حرف في البيت إذا لم يكن بعده شيء، رويا كان أو وصلا أو خروجا فقد ذكره الأخفش أن تسمية الوصل والخروج قافية على المجاز، لأنه آخر الحروف وهو يقفو جميع ما قبله، أي يتبعه، وإنما سميت القافية من البيت لاتباعها ما قبلها من أوله. وذكر الأخفش أنه رأى العرب إلى ذلك يذهبون؛ هذا- كما ذكر الأخفش- مجاز، كما استجازوا تسمية غير ذلك بالقافية مما يوزن بلام الفعل، فإن ذلك بين الفساد، لأنا نرى القصيدة حرف الروي في بعض أبياتها لام الفعل، وفي بعضها غيره، ومن ذلك قول الأعشى: لعمرك ما طول هذا الزّمن … على المرء إلّا عناء معنّ فالنون في معن حرف الروي وهي عين الفعل، وأصلة معنى مفعل، والياء من معنى لام الفعل، وقد أجمعوا أن الياء المحذوفة التي هي لام الفعل غير داخلة في الروي ولا في القافية. ثم قال:

يظّل رجيما لريب المنون … وللسقم في أهله والحزن فالنون لام الفعل في هذا البيت، فقد صار حرف الروي في أحد البيتين عين الفعل، وفي الآخر لامه، وفي القصيدة نون زائدة لا هي عين الفعل ولا لامه، وذلك قوله: فهل يمنعني ارتيادي البّلاد … من حذر الموت أن يأتين والنون زائدة لأن معناه يأتيني، والياء للمتكلم. وقال رؤبة: يا أيّها الكاسر عين الأغضن … والقائل الأقوال ما لم يرني وفيها: من كلّ رعشاء وناج رعشن فالقصيدة نونية، والنون في الأغضن لام الفعل، وفي يرني ليست من الكلمة في شيء، لأن النون زائدة والياء ضمير المتكلم متصل ببرني وهو فعل مجزوم ورعشن فعلن، لأنه من الارتعاش والنون زائدة والشين التي هي لام الفعل لا حكم لها في القافية ولا يلزم إعادتها، والشواهد في إبطال هذا كثيرة وقد ذكر الأخفش عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن النصف الأخير بأسره هو القافية، فهؤلاء قسموا البيت نصفين فجعلوا النصف الثاني قافية لأنه يتبع الأول، وقد انطوى كلامنا على تحقيق القافية بما أغنى عن إعادتنا الكلام في هذا، وقد اتسعت العرب في تسمية القافية، فمنهم من سمى القصيدة قافية، ومنهم من سمى البيت قافية، ويمكن أن يكون ذلك لأن في كل بيت قافية، فسمى باسم ما لا يفارقه، وهذا كثير في كلام العرب، فأما تسمية القصيدة قافية فقد حكى الأخفش أنه سمع عربيا يقول عنده قواف كثيرة، فقلت: وما القوافي؟ قال: هي القصائد. قال: وسمعت آخر فصيحا يقول: القافية القصيدة، وأنشد: وقافية مثل حد السّنان تبقى … ويهلك من قالها (¬1) وقال حسان: فنحكم بالقوافي من هجانا … ونضرب حين تختلط الدّماء يريد نحكي بالقصائد، وقال جرير يهجو البعيث: لقد سرى لحب القوافي بأنفه … وعلب جلد الحاجبين وشومها ¬

_ (¬1) البيت للخنساء ترثي أخاها صخرا انظر الديوان 122.

وقال آخر: نبئت قافية قيلت تناشدها … قوم سأترك في أعراضهم ندبا وأما تسمية البيت قافية فقد قيل أن بيت عبد بني الحسحاس: أشارت بمدراها وقالت لتربها … أعبد بنى الحسحاس يزجى القوافيا يريد يعمل قصيدة يزجى أبياتها، أي ينظمها ويسوقها. وفي قول الفرزدق: إذا ما قلت قافية شرودا … تنحلها ابن حمراء العجان قال أبو عبيد: إن البعيث وهو ابن حمراء العجان لما قال جرير: أترجو كليب أن يجيء حديثها … بخير وقد أعيا كليبا قديمها سرقه الفرزدق، وقد كان الفرزدق قال قبل ذلك: أترجو ربيع أن يجئ صغارها … بخير وقد أعيا ربيعا كبارها وأما حرف الروي فحرف مجمع عليه وتختلف عبارات الناس عنه وتحديدهم له وأصح ذلك أن يقال هو الحرف الذي لا يخلو منه جميع فنون الشعر، وقد يخلو من الإطلاق وقد يخلو من التقييد والردف والتأسيس وغير ذلك مما هو سوى حرف الروي، وهو القاف في: وقاتم الأعماق خاوي المخترق واللام في: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله … وعزى أفراس الصّبا ورواحله ورأيت الأخفش لا يفرق بين الروي وبين حرف الروي بل الأغلب في عبارته الروي، وترجم في كتاب القوافي في هذا باب ما يكون رويا من الياء والواو والألف، ويقويه قول النابغة: بحسبك أن تهاض بمحكمات … يمر بها الرّوي على لساني فسر الرواة أن الروي هو القافية، ورأيت بعض المحدثين يذكر أن الرويّ غير حرف الروي، يقول: أن الروي هو جملة ما به قوام الشعر من الوزن والقافية فيقال قصيدة كذا على روي قصيدة كذا إذا اتفقنا في الوزن والقافية، فإن اتفقنا في أحدهما دون الآخر لم يقل إنهما على روي واحد، وقد ذكر أن الروي ما يحمل أشعار العرب من الوزن والقافية، وأنه سمي رويا لحمله الشعر، وحمله له أنه لا يتم إلا به، قال: وإن قيل لحامل

هذا باب عدة ما يكون عليه الكلم

الأشعار راوية للشعر وكحامل لغة العرب راوية لغة لحملهما ما حملا من ذلك، وليس الأمر عندي كما قال بل اشتقاق ذلك عندي من شد الحبل على الشيء وضبطه به، ويقال للحبل الرواء، وجمعه أروية، ويقال روي فوقه وروي عليه إذا شد فوقه الحبل، قال الطرماح: مزايد خرقاء اليدين مسيفة … يخب بها مستخلف غير آين روى فوقها راو عنيف وأقصيت … إلى الحنو من ظهر القعود المداجن يريد أنه شد الحبل فوقه، وإنما قيل راوية للشعر واللغة وغير ذلك، لأنه قد ضبط ما يرويه وشده، وكذلك الروي هو الذي ينعقد به الشعر. وروى أهل اللغة هذا الشعر على قرء وقرئ واحد، أي على روي واحد، والقرء ضم الشيء كأنه هو الذي ضم الشعر، وهو نحو معنى الروي. هذا باب عدة ما يكون عليه الكلم " فأقل ما تكون عليه الكلمة حرف واحد، وسأكتب لك ما جاء على حرف بمعناه إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: هذا الباب لا يحتاج إلى كبير تفسير، لأنه يجري مجرى اللغة، وأنا أسوق كلامه، وأذكر بعض ما لم يذكره، وإن كان فيه شيء يحتاج إلى إيضاح أوضحته في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد اشتمل هذا الباب على حروف وأسماء وليس في الكلام فعل على حرف. قال: " أما ما يكون قبل الحرف الذي يجاء به له فالواو التي في قولك: مررت بعمرو وزيد إنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما، وليس فيه دليل على أن أحدهما قبل الآخر، والفاء وهي تضم الشيء إلى الشيء كما فعلت الواو، غير أنها تجعل ذلك متسقا بعضه في إثر بعض، وذلك قولك: مررت بزيد فعمرو فخالد، وسقط المطر مكان كذا فمكان كذا، وإنما يقرو أحدهما بعد الآخر ". يريد إنما يقرو المطر أحدهما بعد الآخر، ومعنى يقرو يتبع. " وكاف الجر التي تجيء للتشبيه، وذلك قولك: أنت كزيد، ولام الإضافة ومعناها الملك واستحقاق الشيء، ألا ترى أنك تقول: الغلام لك والعبد لك، فيكون في معنى هو عبدك وهو أخ لك، فيصير نحو: هو أخوك، فيكون مستحقا لهذا كما يكون مستحقا لما يملك ".

وإنما ذكر سيبويه الملك والاستحقاق، لأن بعض ما تدخل عليه اللام لا يحسن أن يقال إنه يملك ما أضيف إليه، وبعضه يحسن. فأما الذي يحسن فقولك: " دار زيد " المعنى " ملك الدار لزيد "، والذي لا يحسن أن تقول زيد صاحب الدار، والله رب الخلق ورب للخلق، فالخلق يستحقون أن يكون الله ربهم، ولا يقال إنهم يملكون، ولا يقال أن الدار مالكة لصاحبها، وهذه اللام تسمى لام الإضافة. قال: " وياء الجر إنما هي للإلزاق والاختلاط، وذلك قولك: " به داء " ودخلت به وضربته بالسوط، ألزقت ضربك إياه بالسوط، فما اتسع من هذا في الكلام فهذا أصله ". قال أبو سعيد: وإنما قال هذا لأنه قد يستعمل بالباء ما لا يكون إلزاقا كقولك: مررت بزيد ولم يلتزق المرور به، وإنما تريد أن المرور قد التزق بالموضع الذي يقرب منه ويقع فيه مشاهدته والإحساس به. قال سيبويه: " والواو التي تكون للقسم بمنزلة الباء، وذلك قولك: والله لا أفعل، والتاء التي في القسم بمنزتها وهي تالله لأفعلن، والسين التي في قولك: سيفعل، وزعم الخليل أنها جواب قوله لن يفعل، وألف الاستفهام ولام اليمين التي في لأفعلن ". وهذه الحروف كلها حروف غير أسماء، وكاف التشبيه هي حرف في الأصل وإن كانت استعملت اسما بمعنى مثل في بعض المواضع. وذكر بعض الناس وزيادة على ما ذكره منها الميم في م الله والتنوين والنون الخفيفة، وهذه حروف مفردة، وهذا الذي ذكره الذاكر ليس فيه استدراك، لأن سيبويه إنما يدخل التنوين والنون في أوائل الكلم عليها، ولا يدخل في ذلك التنوين وإنما يدخل التنوين والنون الخفيفة والتاء التي للتأنيث فيما يلحق آخر الكلمة. وأمام الله فبعض يقول إنما من حذفت منها النون، وبعض يقول إنها الميم من يمين، وبعض يقول إنها الميم من أيم الله وتضم فيقال م الله. ثم ذكر ما كان على حرف مما هو اسم وغير اسم يلحق آخر الكلمة، فمن ذلك الكاف في رأيتك وغلامك والتاء التي في فعلت وذهبت والهاء التي في عليه ونحوها وذلك كله أسماء. قال: " وقد تكون الكاف غير اسم ولكنها تجيء للمخاطبة، وذلك نحو كاف ذاك، فالكاف هاهنا بمنزلة التاء في فعلت فلانه ونحو ذلك. والتاء تكون بمنزلتها وهي التاء في أنت ". فهذه حروف، أعني الكاف في " ذاك "، والتاء في " فعلت " وفي " أنت " قال: " واعلم

أن ما جاء من الكلام على حرف واحد قليل، ولم يشذ عنا منه شيء، وذلك لأنه عندهم إجحاف أن يذهب من أقل الكلام عدد حروف وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: معنى هذا أن أصل الكلام الأسماء الظاهرة التي تقع تحتها الأشياء ووضع كل واحدة منها على شيء كالميم له، وأقل الأسماء حروفا ما كان على ثلاثة أحرف، فكرهوا أن يختل الاسم بذهاب حرفين وبقاء واحد. قال: " اعلم أنه لا يكون اسم مظهر على حرف أبدا، لأن المظهر يسكت عليه وليس قبله شيء ولا يلحق به شيء ولا يوصل إلى ذلك بحرف، ولم يكونوا ليجحفوا بالاسم فيجعلوه بمنزلة ما ليس باسم ولا فعل، وإنما يجيء لمعنى ". يريد أن الاسم الظاهر يجوز أن ينفرد اللفظ به، وأقل ما ينفرد به حرفان لأنه لابد من أن يبتدئ بمتحرك ويوقف على ساكن، وإنما وجب أن ينفرد اللفظ بالاسم الظاهر أن سائلا لو سألك عن الاسم المسمى باسم فقال: ما اسم هذا لأوردت اسمه، فإن كان على حرف لم يستقم لما عرفتك من الاحتياج إلى متحرك في الابتداء وساكن في الانتهاء. قال: " فالاسم أبدا له من القوه ما ليس لغيره، ألا ترى أنك لو جعلت في ولو ونحوهما اسما ثقلت ". يعني وجب أن ثقلهما فتقول: في ولو، كما قال: إن لوا ذاك أعيانا (¬1) وإنما صارت علامة الإضمار حرفا في بعض المواضع لأنها ليست بأول، وليست بالاسم الموضوع للمسمى تمييزا لنوع من نوع أو لشخص من شخص، فأشبه الضمير الحرف الذي ليس باسم ولا فعل. قال: " ولم يكونوا ليخلوا بالأول وهو المظهر إذ كان ذلك قليلا في سوى الاسم المظهر ". يريد أن ما كان سوى الاسم المظهر من الحروف والأسماء المكنية على حرف واحد قليل جدا يعد ويحصى بأهون التكلف، فلم يستقم أن يكون المظهر على حرف، وإنما كان الاسم الأول لأنه لا يستغنى عنه في شيء من الكلام، وقد يستغنى عن الفعل ¬

_ (¬1) قائله النمر بن تولب انظر ديوانه 120، المخصص 17/ 50.

والحرف، تقول: الله ربنا ومحمد صلّى الله عليه نبينا، وليس فيه فعل ولا حرف، ويتلو الاسم الفعل لأن الكلام ينعقد بالاسم والفعل ولا ينعقد بالاسم والحرف، كقولك: يقوم زيد ويذهب عمرو، ولا يستغنى الحرف عنهما ولا يستغنى به الاسم كاستغنائه بالفعل، ولا تقول إن زيدا، ولا زيد فإن قال قائل: فأنت تقول زيد في الدار، والغلام لك، فإن هذا الكلام قد اجتمع فيه اسمان، ومع ذلك فإن الحرف يقدر له فعل كأنه قال: زيد استقر في الدار، والغلام استقر لك. وأما قولهم: يا زيد فإنما يقدر فيه أدعو زيدا، ونابت يا عن أدعو، وهذا مستقصى في النداء ". قال: " ولا يكون شيء من الفعل على حرف واحد لأن منه ما يضارع الاسم وهو يتصرف ويبنى أبنيه وهو الذي يلي الاسم، فلما قرب هذا القرب لم يجحف به إلا أن تدرك الفعل علة مطردة في كلامهم في موضع واحد وتصيره على حرف واحد، فإذا جاوزت ذلك الموضع رددت ما حذفت، ولم يلزمها أن تكون على حرف واحد إلا في ذلك الموضع، وذلك قولك: ع كلاما ". وإنما صار الفعل هكذا لأنه كالاسم الظاهر، لأن أحدهما مشتق من الآخر وله مصدر وفاعل ومفعول وكل ذلك أسماء وهي تتصرف بالأبنية، والأبنية مختلفة، فعل وفعل وفعل وما أشبه ذلك مما يحتاج إلى حروف يتبين فيها اختلاف الأبنية، وفيها الذي في أوله الزوائد الأربع وهو أكثر من حرف، وإنما يجيء في بعض المواضع على حرف واحد ما فاؤه ولامه معتلّان، كقولنا: ع كلاما، وف لزيد، وق أخاك، وما أشبه ذلك، وقد تقدم القول فيه. قال سيبويه: " ثم الذي يلي ما يكون على حرف ما يكون على حرفين، وقد يكون عليهما الأسماء المظهرة المتمكنة والأفعال المتصرفة وذلك قليل لأنه إخلال عندهم بهن لأنه حذف من أقل الحروف عددا، فمن الأسماء التي وصفت لك يد ودم وفم وحر وسه وست وهي الاست، ودد وهو اللهو ". قال أبو سعيد: وفيه ثلاث لغات: دد مثل يد، وددا مثل عصا، وددن مثل شجن. قال الشاعر: أيّها القلب تعلل بددن … إنّ همي في سماع وأذن (¬1) ¬

_ (¬1) قائله عدي بن زيد انظر كتاب عدي بن زيد الشاعر المبتكر 46، اللسان " ددن ".

" فإذا ألحقتها الهاء كثرت لأنها تقوى وتصير عدتها ثلاثة أحرف. فأما الأفعال التي على حرفين فنحو خذ وكل ومر، وبعض العرب يقول أو كل فيتم ". ولا أعلم أحدا حكاه غير سيبويه في هذا الموضع، وقد كنت ذكرت في أول الكتاب بيتا فيه أوخذ. وأما أومر فمستعمل كثير، ومنه قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ (¬1)، ومن قال في خذ وكل أوخذ وأوكل كمن قال في غد غدو على الأصل، وهذا الذي ذكره على حرفين في الأسماء والأفعال هو جميع ما جاء في كلامهم محذوفا من هذا الضرب. " فإن كان شذ شيء فقليل، إلا أن تلحق الفعل علة مطردة في كلامهم، فتصيره على حرفين في موضع واحد، ثم إذا جاوزت ذلك الموضع رددت إليه ما حذف منه، وذلك قولك: قل وإن تق أقه ". وللمعارض أن يقول: لم قلت أن خذ وكل ومر إنما لحقه الحذف في الأمر وإن كان الفعل ماضيا أو مستقبلا فلا غير الأمر لم يلحقه حذف؛ لأنك تقول أمر يأمر وأكل يأكل، والفصل بينهما ما ذكره سيبويه أن هذه الأفعال لا يحذف من مثلها ما حذف منها، ولا يطرد في غيرها الحذف، لا تقول في أجر يأجر وأمل يأمل: جر ومل، كما تقول في كل ما كان على مثل قال يقول ما قلت في قل، تقول: قم وجز ورم في رام يروم، وكذلك أخوات أن تق أقه. قال: " وما كان فيه الهاء من الأسماء على حرفين أكثر مما لم تكن فيه الهاء، لأنه قد قوي بالهاء نحو: قلة وثبة ولثة وشية وشفه وزنة وعدة وأشباه ذلك ". وما كان فيه الهاء من الثلاثة أكثر مما حذف منه حرف، لأن التمام هو الأصل. قال: " ولا يكون شيء على حرفين صفة حيث قل في الاسم وهو الأول الأمكن ". يعني أن الاسم قبل الصفة وهو أمكن منه، فلما قل فيه ما هو على حرفين فجاء منه أحرف " معدود " لم يقع شيء منه في الصفة. قال: " وقد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل كالفاء والواو، وهو على حرفين أكثر لأنه أقوى، وهو في هذا أجدر أن يكون، إذ كان يكون على حرف، وسنكتب ذلك بمعناه إن شاء الله ". ¬

_ (¬1) سورة طه 132.

يريد أنه جاء من الحروف على حرفين وهو أكثر مما جاء على حرف واحتمل مجيئه على حرفين لأنه قد جاء منه على حرف ولا تصرف له فيحتاج إلى تكثير الحروف. فمن ذلك أم وأو وقد بين معناهما في بابهما وهل وهي للاستفهام، ولم وهي نفي لقوله فعل ولن وهي لقوله سيفعل، وإن وهي للجزاء فتكون لغوا في قولك: ما أن يفعل. وما أن طببنا جبن (¬1) قال أبو سعيد: قوله " وتكون أن لغوا في قوله ما أن يفعل " فإن الفراء يقول إنهما جميعا للنفي، وزاد على ذلك بأنه يقال: إن ما، فتكون الثلاثة للجحد، وأنشد: إلا أواري لا إن ما أبينها والذي قاله عندي فاسد، لأن الجحد إذا دخل على جحد صار إيجابا، فإذا قلنا: ما أن قام زيد، وجعلناهما جميعا للجحد صار الكلام إيجابا، والذي قاله أصحابنا هو صحيح، لأنهم جعلوا أحدهما لغوا واعتمدوا بالجحد على الآخر. وأما البيت الذي أنشده فرواية الناس " لأيا ما أبينها ". " وأما إن مع ما في لغة أهل الحجاز فهي بمنزلة ما في قولك: إنما الثقيلة تجعلها من حروف الابتداء ". يعني أن ما إن زيد قائم في لغة بني تميم تكون إن فيها لغوا وتأكيدا على ما ذكرناه، لأنهم لا يعملون ما، وأما في لغة أهل الحجاز فإن تكون كافة لما من العمل حتى يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا، كما تدخل " ما " على " إن " فيليها الابتداء، كقولك: إنما زيد قائم. قال: " وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، وتكون بمنزلة ليس في المعنى، تقول عبد الله منطلق، فتقول: ما عبد الله منطلق أو منطلقا، فتنفي بهذا اللفظ كما تقول: ليس عبد الله منطلقا، وتكون توكيدا لغوا، وذلك قولك: متى ما تأتني آتك، وتقول: غضبت من غير ما جرم، وقال الله تعالى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) (¬2)، فهي لغو في أنها لم تحدث إذا جاءت شيئا لم تكن قبل أن تجيء من العمل، وهي توكيد للكلام ". ¬

_ (¬1) قائله فروة بن مسيك المرادي الصحابي، انظر الوحشيات 28، الخصائص 3/ 108، ابن يعيش 8/ 129. (¬2) سورة النساء الآية: 155.

قال المفسر: قد بيّن سيبويه عن معنى اللغو في الحرف الذي يسمونه لغوا وميز أنه للتوكيد لئلا يظن إنسان أنه دخل الحرف لغير معنى البتة، لأن التوكيد معنى صحيح. قال: " وقد تغير الحرف " يعني " ما " حتى يصير يعمل بمجيئها غير عمله الذي كان قبل أن تجيء، وذلك قولك إنما وكأنما ولعلما جعلتهن بمنزلة حروف الابتداء ". يعني جعلت ما إن وكأن ولعل بدخولها عليهن يليهن الابتداء والخبر. " ومن ذلك حيثما صارت بمجيئها بمنزلة أين. قال أبو سعيد: يعني صارت حيث بمجيء ما مما يجازي به فتقول: حيثما تكن أكن، كما تقول: أين تكن أكن، ولا يجوز أن تقول حيث تكن أكن بغير ما. قال: " وتكون إن كما في معنى ليس " كقوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (¬1). قال: " وأما لا فتكون كما في التوكيد واللغو، قال الله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ (¬2)، وتكون نفيا لقوله يفعل، ولم تقع للفعل، فتقول لا يفعل ". يريد أن لا يفعل وهو نفي فعل مستقبل، والتي تنفي فعل الحال هو ما إذا قلت ما تفعل. قال: " وقد تغير الشيء عن الحال ". يعني كما تفعل ما، وذلك: لولا صارت لو في معنى آخر، كما صارت حين قلت: لو ما تغيرت كما تغيرت حيث بما وإن بما. قال أبو سعيد: يريد أنك تقول: لو جئتني لأكرمتك، ويكون معناها أن الكرامة انتفت لانتفاء المجيء، فإذا زدت عليها لتغيّر معنى هذا إلى شيئين: أحدهما أن ينتفي الشيء بحضور غيره، كقولك: عبد الله لأكريتك والآخر أن يكون خصيصا كقولك: لولا زيدا تضرب، ولو ما زيدا تضرب، وهلا زيدا تضرب، وإلا زيدا تضرب، ومعناها كلها واحد، وإنما كان الأصل لو وهل، وإن دخلت عليها هذه الحروف فغيرت معناها. قال: " وقد تكون لا ضدا لنعم وبلى، وقد بيّن أحوالها في باب النفي. قال: " وأما أن فتكون بمنزلة لام القسم في قوله: أما والله أن لو فعلت لفعلت، وقد بينا ذلك في موضعه. ¬

_ (¬1) سورة الملك الآية: 20. (¬2) سورة الحديد الآية: 29.

قال أبو سعيد: يعني أنّ تكون جوابا للقسم إذا أقسم على شيء في أوله لو، ولا تكون جوابا له في غير ذلك. " وتكون توكيدا في قولك: لما أن فعل ". يقال: لما جاء زيد أكرمته، ولما أن جاء زيد، وكما قال جل وعز: وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً (¬1)، وقد تدخل أن المكسورة على ما إذا استعملت اسما في معنى الحين، وذلك أنك تقول: انتظرني إلى ما جلس القاضي، تريد زمان جلوسه كأنه قال: انتظرني جلوس القاضي أي حين جلوسه، ويجوز أن تدخل على هذا أن فتقول: انتظرني ما إن جلس القاضي. قال الشاعر المعلوط بن بدل القريعي: ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته … عن السّن خيرا لا يزال يزيد يريد على السن والكبر، كما تقول فلان يزداد خيرا على السن والكبر، يقول: استعمل عن في معنى على. قال سيبويه: " أما كي فجواب لقوله كيمه، كما يقول لمه فتقول ليفعل كذا وكذا، وقد بين أمرها في بابها. وأما بل فلترك شيء من الكلام وأخذ في غيره. قال الشاعر أبو ذؤيب حيث ترك أول الحديث: بل هل أريك حمول الحي غادية … كالنّخل زينّها ينع وإفضاح (¬2) وقال لبيد: بل من يرى البرق بتّ أرقبه … يزجي حبيا إذا خبا ثقبا (¬3) قال أبو سعيد: وليست بترك الأول على جهة الإبطال له في كل حال، ولكنها تكون للإبطال تارة وللإيذان تارة، قصة الأول قد تمت وأخذ في غيرها، وقد يقع في كلام الله تعالى بل بعد شيء من كلامه كقوله عز وجل: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها (¬4)، والشاعر إذا قال بل لم يرد أن ما تكلم قبل باطل، وإنما يريد أنه قد تم وأخذ في غيره، كما يقول الشاعر: دع ذا واترك ذا وما أشبه ذلك عنده تمام ما تكلم به والانتقال إلى غيره. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت الآية: 33. (¬2) انظر ديوان الهذليين 1/ 45. (¬3) انظر ديوان لبيد 12. (¬4) سورة النمل الآية: 66.

قال امرؤ القيس: فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة … ذمول إذا صام النّهار وهجرا قال سيبويه: " وأما قد فجواب لقوله لما يفعل، فيقول: قد فعل ". قال الخليل: هذا الكلام لقوم ينظرون الخبر ". يعني أن الإنسان إذا سأل عن فعل فاعل، أو علم أنه يتوقع أن يخبر به، قيل له: قد فعل، وإذا كان المخبر مبتدئا، قلت: فعل فلان كذا وكذا، وإذا أردت أن تنفي والمحدث يتوقع إخبارك عن ذلك الفعل قلت لما يفعل، وهو نقيض قد فعل، وإذا ابتدأت قلت لم يفعل، وإنما دخلت " ما " على " لم " فغيرت المعنى كما غيرت " لو " إذا قلت " لو ما " ونحوها، ألا ترى أنك تقول " لما " ولا تتبعها شيئا، ولا تقول ذلك في " لم ". قال أبو سعيد: العرب تتسع في حذف الفعل بعد قد وبعد لما، لأنهما لتوقع الفعل أو لفعل قد دل عليه ما قبله، فيقول القائل: يريد زيد أن يخرج ولما، أي " ولما يخرج "، و " كأن قد "، أي و " كأنه قد خرج "، ويريد " أن يخرج ولما "، أي " ولما يخرج ". قال النابغة: أفد الترحّل غير أنّ ركابنا … لما تزل برحالنا وكأنّ قد (¬1) أي كأن قد زالت. قال سيبويه: " وقد تكون قد بمنزلة ربما، قال الهذلي: قد أترك القرن مصفرا أنامله … كأنّ أثوابه مجت بفرصاد (¬2) كأنه قال " ربما ". قال سيبويه: " وأما لو فلما كان سيقع لوقوع غيره. وأما " يا " فتنبيه، ألا تراها في النداء وفي الأمر كأنك تنبه المأمور " قال الشماخ: ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال " قال أبو سعيد: كأنه قال اسقياني، وقوله: ألا ويا جميعا للتنبيه، وقد تكون يا لتنبيه ¬

_ (¬1) انظر خزانة الأدب 3/ 232، الدرر اللوامع 1/ 121. (¬2) انظر المخصص 14/ 55، ابن يعيش 8/ 147، الخزانة 4/ 502، ونسب إلى عبيد ابن الأبرص في شرح أبيات سيبويه 2/ 317.

المخاطب فيما يحدثه وإن لم يكن بعدها منادى كقولك الشاعر: يا لعنة الله والأقوام كلهم … والصّالحين على سمعان من جار (¬1) كأنه قال: لعنة الله على سمعان، فدخول يا كدخول ألا للتنبيه في هذا الموضع. " وأما من فتكون لابتداء الغاية في الأماكن، وذلك قولك: من مكان كذا إلى مكان كذا، وتقول إذا كنت كتابا من فلان إلى فلان، فهذه الأسماء سوى الأماكن بمنزلتها " كأي بمنزلة الأماكن " وتكون أيضا في التبعيض، تقول: هذا من الثوب وهذا منهم، كأنك قلت بعضه وبعضهم، وقد تدخل في موضع لو لم تدخل فيه كان الكلام مستقيما، ولكنها توكيد بمنزلة ما، إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة وذلك قولك: ما أتاني من رجل، وما رأيت من أحد، لو أخرجت من كان الكلام حسنا، ولكنه أكد بمن لأن هذا موضع تبعيض، فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس ". قال أبو سعيد: وقدره بعض النحويين عليه، فقال: إذا قلنا ما جاءني رجل احتمل أن يكون واحدا وأن يكون للجنس، وإذا دخلت من صارت للجنس لا غير. قال أبو سعيد: وليس ذلك بمفسد لكلام سيبويه، لأن المتكلم إذا قال: ما جاءني رجل يجوز أن تنفي الجنس بهذا اللفظ كما تنفيه بقوله: ما جاءني أحد، فإذا أدخل من فإنما يدخلها توكيدا، لأنه لم يتغير المعنى الذي قصده بدخول من، وإنما تزاد من، لأن فيه تأول البعض، لأنه قد نفي كل بعض للجنس الذي نفاه مفردا، كأنه قال: ما جاءني زيد ولا عمرو ولا غير ذلك من أبعاض هذا الجنس. " وكذلك ويحه من رجل إنما أردت أن تجعل التعجب من بعض الرجال، وكذلك ملؤه لي من عسل، وكذلك هو أفضل من زيد " وشر من زيد " إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم، وجعل زيدا الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه في قولك: شر من زيد ". قال أبو سعيد: الأولى في هذا أن يجعل النفي من الباب ابتداء الغايات لأنه إذا قال: هو أفضل من زيد فقد ارتفع عن زيد وعن مكانه، فارتفاعه عن محل زيد هو ابتداء ارتفاعه حتى يفضي بذلك إلى أنه أفضل من كل من محله كمحل زيد أو دونه، لأنه ارتفع عن ذلك المكان، وللمعترض أن يقول: إذا جعل هذا تبعيضا فقد تقول: هو أفضل من ¬

_ (¬1) انظر المفصل 2/ 24، مغني اللبيب 2/ 373، الهمع 1/ 174، الدرر اللوامع 1/ 150.

الخلق ومن كل أحد ولا تبعيض. قال: " وكذلك إذا قال: أخزى الله الكاذب مني ومنك، إلا أن هذا وأفضل منك لا يستغنى عن " من " فيهما لأنه توصل الأمر إلى ما بعدها ". قال أبو سعيد: ومعنى أخزى الله الكاذب منا وابتداء الخزي من قال أحدهما: ويحتاج إلى " من " لبيان المعنى كما احتاجت إليه في " أفضل من زيد ". قال: " وقد تكون باء الإضافة بمنزلتها في التوكيد، وذلك قولك: ما زيد بمنطلق ولست بذاهب " أراد أن يكون مؤكدا حيث نفى الانطلاق والذهاب وكذلك كفى بالشهب، لو ألقى الباء استقام الكلام قال الشاعر: كفى الشّيب والإسّلام للمرء ناهيا (¬1) قال أبو سعيد: إنما ذكر باء الإضافة ليجعلها نظير من في الزيادة وتوكيد الجحد في قوله: ما أتأنى من رجل ومن واحد. قال: " وتقول رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء والمنتهى ". قال أبو سعيد: ومعنى هذا أنك ترى شيئا في مكان فتقول: رأيته من ذلك المكان، فكان ذلك المكان منه ابتداء رؤيتك إذا لم تصح الرؤية إلا منه قال: " وأل تعرف الاسم في قولك: القوم والرجل ". قال أبو سعيد: أفرد أل التي تعرف الاسم وجعلها من حيز ما جاء على حرفين من الحروف لأنها يبتدأ بها كذلك. قال: " وأما مذ فتكون لابتداء غاية الأيام والأحيان كما كانت من فيما ذكرت لك: ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها، وذلك قولك: ما لقيته مذ يوم الجمعة إلى اليوم، ومذ غدوة إلى الساعة، وما لقيته مذ اليوم إلى ساعتك هذه، فجعلت اليوم أول غايتك، فأجريت في بابها كما جرت من حيث قلت من مكان كذا إلى مكان كذا، وتقول: ما رأيته مذ يومين فجعلتها غاية، كما قلت أخذته من ذلك المكان فجعلته ¬

_ (¬1) البيت لسحيم عبد بني الحسحاس انظر ديوانه 16، وسيبويه 2/ 308.

غاية ولم ترد منتهى ". قال أبو سعيد: اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الموضع مذ على أنها حرف، وما بعدها مخفوض، وذكر بعد هذا مذ على أنها اسم في حيز ما ذكر من الأسماء غير المتمكنة على حرفين، وقد أحكم فيها وفي منذ كلام في موضعهما. قال: " وأما في فهي للوعاء، تقول: هو في الجراب وفي الكيس، وهو وفي بطن أمه، وكذلك هو في الغل، لأنه جعله إذا أدخله فيه كالوعاء له، وكذلك هو في القبة وهو في الدار، وإن اتسعت في الكلام فهي على هذا، وإنما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشيء وليس مثله ". قال أبو سعيد: إذا قال هذا في ملكي وهذا في ظني وفي علم زيد، والضيعة في يدي، وهذه أشياء يتسع فيها، لأن الظن ليس بوعاء للشيء المظنون، ولا هو مكان له، ويدك ليست بوعاء للضيعة، فهذا معنى كلام سيبويه، فإن اتسعت في الكلام فهي على هذا. " وأما عن فلما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمهم عن جوع، جعل الجوع منصرفا تاركا له قد جاوزه وقال: سقاه عن العيمة وكساه عن العري جعلهما قد تراخيا عنه، ورميت عن القوس، لأنه بها قذف سهمه عنها وعداها، وتقول: جلس عن يمينه فجعله متراخيا عن بدنه وجعله في المكان الذي بحيال يمينه، وتقول: أضربت عنه وأعرضت عنه، وإنما تريد تراخى عنه وجاوزه إلى غيره، وتقول: أخذت عنه حديثا أي عدا منه إلى حديث " فهذا يقال. قال أبو سعيد: هذا تقديره، وإن كان أصل الحديث باقيا مع المأخوذ عنه، لأن الحديث الذي أخذته عنه وصل إليك كما يصل الدرهم منه إليك فلا يبقى معه الدرهم إذا وصل إليك فمجازهما واحد في عن. قال: " وقد تقع من موقعها، تقول: أطعمه من جوع وكساه من العري وسقاه من العيمة " وهو يشبه الغاية. قال: " وما جاء من الأسماء غير المتمكنة على حرفين أكثر مما جاء من المتمكنة؛ لأنها حيث لم تمكن ضارعت هذه الحروف لأنها لم يفعل بها ما فعل بتلك ولم تصرف تصرفها ". قال أبو سعيد: يريد أن الأسماء التي لا تتمكن وهي على حرفين أكثر من المتمكن

على حرفين، لأن المتمكنة تحتاج إلى زيادة حروف لتصرفها وغير المتمكن بمنزلة الحروف، وقد مضى الكلام في نحو ذلك. قال: " وما جاء على حرفين مما وضع مواضع الفعل أكثر مما جاء من الفعل المتصرف، لأنها حيث لم تصرف ضارعت هذه الحروف، لأنها ليست بفعل يتصرف " ثم عد الأسماء غير المتمكنة على حرفين. " فمن الأسماء ذا وذه ومعناهما أنك بحضرتهما وهما اسمان مبهمان، وقد بينا في غير هذا الموضع، وأنا وهي علامة المضمر، وكذلك هو وهي وكم، وهي للمسألة عن العدد، ومن وهي للمسألة عن الأناسي، ويكون بها الجزاء للأناسي وتكون بمنزلة الذي للأناسي، وقد بين جميع ذلك في موضعه، وما مثلها إلا أنها مبهمة تقع على كل شيء، وأن بمنزلة الذي تكون مع الصلة بمنزلة الذي مع صلتها اسما، فيصير " يريد أن يفعل " بمنزلة يريد الفعل، كما أن الذي ضرب بمنزلة الضارب، وقد بينت في بابها ". قال أبو سعيد: جعل أن اسما بمنزلة الذي، وللمعترض أن يقول: إن أن ليست باسم وحدها، والذي وحدها اسم، لأنها يرجع إليها الضمير في الذي ضربته وما أشبه ذلك. قال: " وقط معناها الاكتفاء، ومع وهي للصحبة ومذ فيمن رفع بمنزلة إذ وحيث ومعناها إذا رفعت قد بيّن فيما مضى يقول الخليل " قال: " وأما " عن " فاسم إذا قلت من عن يمينك، لأن " من " لا تعمل إلا في الأسماء ". قال أبو سعيد: وقد ذكر سيبويه " عن " في الفصل الأول مع الحروف، وفي هذا الموضع مع الأسماء، لأن من تدخل عليها. قال القطامي: فقلت للركب لما أن علا بهم … من عن يمين الحبيا نظره قبل أي من جانب اليمين الذي قد تجوزها وعداها. وقال: " وعل ومعناها الإتيان من فوق، قال الشاعر: كجلمود صخر حطه السّيل من عل (¬1) وقال الفرزدق: أتيت فوق بني كليب من عل (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لامرئ القيس ديوانه 19، سيبويه 2/ 309. (¬2) ديوان الفرزدق 2/ 161، أوضح المسالك 2/ 220.

" وإذ وهي لما مضى من الدهر وهي ظرف بمنزلة مع " قال: " وأما ما هو في موضع الفعل فقولهم " مه وصه وحل للناقة " وهو زجر لها " وسأ للحمار وما مثل ذلك في الكلام على نحوه في الأسماء إلا أنا تركنا ذكره، لأنه إنما هو أمر ونهي بمعنى هلم وإيه ". قال أبو سعيد: إن ما كان على حرفين فما وضع موضع الفعل تركنا تكثير ذكره، لأنه إنما يأتي في الأصوات على جهة الزجر والأمر كقولهم: هج في الزجر. قال الشاعر: سفرت فقلت لها هج فتبرقعت … فذكرت حين تبرقعت ضبارا ويقال للجمل إخ إذا جذبته للبروك، وما أشبه ذلك من الأصوات ولا يختلف ذلك اختلاف الأسماء في المعاني. وأما قوله: " أن ما جاء على حرفين: مما وضع مواضع الفعل أكثر مما جاء من الفعل التصرف " فإنما يريد بالفعل المتصرف الأحرف الثلاثة التي ذكرها وهي قل وخذ ومر، وليست بمطردة. وأما ما يدخله الإعلال فيصير على حرفين في الأمر فكثير نحو قولنا: قل وبع وخف وما أشبه ذلك، وليس بالذي أراده سيبويه. قال: " واعلم أن بعض العرب يقول م الله فعلن، يريد ايم الله، فحذف حتى صيرها على حرف واحد حيث لم يكن متمكنا يتكلم به وحده، فجاء على حرف كما كثرت الأسماء في الحرفين حيث ضارعت ما قبلها من غير الأسماء ". قال أبو سعيد: فهذا قول سيبويه، وغيره يقول إنها الميم من من، وقد قيل: من ربي لأفعلن، وقال بعضهم هي الميم من يمين، وهذا أولى به لأنها مكسورة، وميم ايم مضمومة. قال: " وأما ما جاء على ثلاثة أحرف فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما مزيدا فيه وغير مزيد فيه لأنه كان هو الأول، فمن ثم تمكن في الكلام ثم ما كان على أربعة أحرف بعده ثم بنات الخمسة وهي أقل، ولا تقول في الفعل البتة ولا يكسر بتمامه للجمع لأنها الغاية في الكثرة، فاستثقل ذلك فيها. فالخمسة أقصى الغاية، فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة زيادة فيها ولا نقصان، والخمسة أقل الثلاثة في الكلام ".

يعني بالثلاثة الثلاثي والرباعي والخماسي من الأسماء، والخماسي أقلها. قال: " فالثلاثة أكثر ما تبلغ الزيادة سبعة أحرف وهي أقصى الغاية والمجهود، وذلك نحو اشهيباب، فهي تجري على ما بين الثلاثة والسبعة. يريد أن الثلاثة قد يزاد عليها حرف وحرفان وثلاثة وأربعة، والأربعة يزاد عليها حرف وحرفان وثلاثة، فتصير سبعة نحو احرنجام. " ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين ". يريد فيما كان الفعل منه على ستة أحرف مع الزوائد. " وأما بنات الخمسة فتبلغ بالزيادة ستة نحو: عضرفوط، ولا تبلغ سبعة أحرف كما تبلغها الثلاثة والأربعة، لأنها لا تكون في الفعل، فيكون لها مصدر نحو هذا، وعلى هذا عدة حروف الكلم. فما قصر عن الثلاثة فمحذوف، وما جاوز الخمسة فمزيد فيه. وسأكتب لك من معاني ما عدة حروف ثلاثة فصاعدا نحو ما كتبت لك من معاني الحرف والحرفين إن شاء الله تعالى ". قال أبو سعيد: وللقائل أن يقول: قد رأينا بنات الخمسة قد بلغت بالزيادة سبعة، وذلك قولهم: قرعبلانة، وهي دويبة، وهزنبزان وهو الجلد الشديد، والذي قال سيبويه إنه لا يبلغ سبعة. وللمحتج لسيبويه أن يقول: إنه لم يعتد بالألف والنون كما لا يعتد بهاء التأنيث وليس كذلك عضرفوط، لأن الواو في حشو الكلمة. وبدأ سيبويه فسر ما كان على ثلاثة أحرف من الحروف وما لا يتمكن من الأسماء وما يجري مجرى الأدوات فقال: " أما على فاستعلاء الشيء، تقول: هذا على ظهر الجبل وعلى رأسه ويكون أن تطوي الشيء مستعليا كقولك: مر الماء عليه، وأمررت يدي عليه. فأما مررت على فلان فمعناه مررت على مكانه " لأنك فوقه " كقولك: مر الماء عليه، وقولهم علينا أمير وعليه مال فهذا قد اتسع فيه، وجعل المال كأنه قد علاه وصار فوقه، بالسلطان والقهر، وهذا اتساع، وتستعمل حرفا واسما، ولا يكون إلا ظرفا ويدل على أنه اسم، قول بعض العرب: وهو كعب بن زهير أو مزاحم بن العقيل:

غدت من عليه بعد ما ما تم خمسها … تصل وعن قيض ببيداء مجهل (¬1) يصف قطاة في أشد أحوالها وحاجتها إلى الطيران من عطشها وحاجة فرخها إلى الرنق؛ لأنها غدت في اليوم الخامس من شربها الماء، وجوفها يصوت من يبسه وبعد عهده بالماء، وعن قيض يعني عن فراخ، والقيض في الأصل اسم لما تقشر عنه من البيض عن الفراخ، وإنما يريد أن يذكر سرعة طيرانها من أجل ذلك. قال سيبويه: " وأما إلى فمنتهى لابتداء الغاية، تقول: من كذا إلى كذا، وكذلك حتى: وقد بيّن أمرها في بابها " ولا تقول حتاه " ولها في الفعل نحو ليس لإلى، ويقول الرجل إنما أنا إليك، أي أنت غايتي، ولا تكون حتى هاهنا، فهذا أمر إلي وأصله وهي أعم في الكلام من " حتى " تقول: قمت إليه فجعلته منتهاك من مكانك، ولا تقول حتاه ". وقد أحكم ذلك في موضعه. قال: " وأما " حسب " فمعناه كمعنى " قط ". وأما " غير وسوى " فبدل، و " كل وعم وبعض " اختصاص و " مثل " تسوية. وقد ذكرت ذلك كله في موضعه ". قال أبو سعيد: فأما بله زيد فتقول: دع زيدا، وبله ها هنا بمنزلة المصدر كما تقول: ضرب زيد. قال الشاعر: تذر الجماجم ضاحياها ماتها … بله الأكفّ كأنها لم تخلق كأنه قال: دع الأكف، ثم جاء ببله فجعله مكان المصدر كأنه قال: ترك الأكف، كما قال جل وعز: (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (¬2)، أي فاضربوا الرقاب ضربا، ثم أضاف المصدر إلى المفعول، ومنهم من نصب فقال: بله الأكف، ولم يذكره سيبويه، ويحتمل ذلك من وجهين: أن تقدر بالها الأكف وحذف التنوين لاجتماع الساكنين، والآخر أن بله لا يتمكن فوضع موضع الفعل كما قيل رويد زيدا وما أشبه. قال سيبويه: " وعند لحضور الشيء ودنوه منه. وأما قبل فهو لما ولي الشيء، تقول: ذهبت قبل السوق، أي نحو السوق، ولي قبلك مال، أي فيما يليك، ولكنه اتسع حتى جرى مجرى على إذا قلت: لي عليك. ¬

_ (¬1) قائله مزاحم بن عقيل انظر النوادر 163، خزانة الأدب 4/ 255، الدرر 2/ 36. (¬2) سورة محمد الآية: 4.

قال: " وأما قول فتقول: قولك أن تفعل كذا وكذا، أي ينبغي لك فعل كذا وكذا، وأصله من التناول، كأنه قال: تناولك كذا وكذا، وإذا قال لأنولك فكأنه قال: أقصر: ولكن صار فيه معنى ينبغي لك ". قال أبو سعيد: يستعمل نولك للشيء الممكن تناوله، ويشار بتناوله، ويقال: نولك أن تفعل كما يقال ينبغي لك أن تفعل. قال: " وأما " إذا " فلما يستقبل من الدهر، وفيها مجازاة، وهي ظرف، وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها، وذلك قولك: مررت فإذا زيد قائم، وتكون إذ مثلها أيضا ولا تليها إلا الفعل الواجب، وذلك قولك: بينما أنا كذلك إذ جاء زيد، وقصدت قصده إذ انتفح عليه فلان فهذا لما توافقه وتهجم عليه مع حال أنت فيها ". قال أبو سعيد: اعلم أن إذا التي للموافقة كان أبو العباس محمد بن يزيد يقول: إنّها ظرف من المكان، فيجوز أن تقول: خرجت فإذا زيد كأنه قال: فحضرني زيد، كما تقول: أمامي زيد قائم، وخرجت فإذا زيد قائما كقولك أمامي زيد قائما، وكان الزجاج يقول: إذا على كل حال للزمان، وأن قولهم: خرجت فإذا زيد كأنه قال: خرجت فالزمان حضور زيد أو قال فللزمان مفاجأة زيد، لأنه قد فاجأه وإذا قال: فإذا زيد قائم فتقديره: فالزمان زيد قائم فتقديره تقدير الزمان، وإذا انفرد زيد بعدها قدرت زيدا تقدير الحضور والمفاجأة، لأن ظروف الزمان تكون أخبارا للمصادر فإذا قلت: " بينما " فبينما هو زمان مضاف إلى ما بعده من ابتداء وخبر أو فعل وفاعل وإذا قلت بينما زيد قائم جاء عمرو فهو الوجه المختار، إلا أن يدخل على جاء إذا، قال الشاعر: فبينما نحن ننظره أتانا … معلق وفضة وزناد راع وقد جاء بينما زيد قائم إذ جاء عمرو، فمن الناس من يقول: إن إذ زائدة، ومن الناس من يقول: أن إذ خبر لبينما، كأنا قلنا: وقت زيد قائم وقت جاء عمرو، وربما أدخلوا إذا مكان إذ، لأنه زمان يحتمل فيه المضي والاستقبال، لأنه غير منقطع وهو ممتد، قال الشاعر: استقدر الله خيرا وارضين به … فبينما العسر إذ دارت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبط … إذا هو الرّمس تعفوه الأعاصير فجاء بإذ في البيت الأول وبإذا في البيت الثاني، ويجوز أن تكون بينما وإذ جميعا ظرفين لما بعد بينما، وبعض الناس يجعلها زائدة مع بينما. وقد قال أبو عبيدة: أن إذ

زائدة في مثل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ (¬1)، وقد رد أصحابنا هذا، وحملوا ما لم يكن فيه فعل ظاهر يعمل على إضمار اذكر، كأنه قال: واذكر إذ قال ربك للملائكة. " وأما لكن خفيفة وثقيلة فتوجب بها بعد نفي ". قال أبو سعيد: وإنما كانت كذلك لأنها للاستدراك، فلا تقع مبتدأة. قال: " وأما سوف فتنفيس فيما لم يكن بعد، ألا تراه يقول: سوفته. وأما قبل فللأول، وبعد للآخر وهما اسمان يكونان ظرفين، ومعنى كيف على أي حال وأين أي مكان، ومتى أي حين ومتى وأي حين زمان ". قال أبو سعيد: وللقائل أن يقول: إذا كان معنى كيف على أي حال فلم لا تقول: على كيف زيد كما تقول على أي حال زيد، وفي أي مكان زيد؟ فالجواب أن كيف هو اسم زيد، كأنا قلنا: أصحيح زيد أم مريض؟ أعاقل زيد أم أحمق؟ فإنما جاء بذلك على المعنى، لأن الإنسان إذا كان صحيحا فهو على صحة، وإنما تضيق عنها عبارة تبين للسامعين وأكشفها. قال سيبويه: " وأما حيث فمكان بمنزلة قولك في المكان الذي فيه زيد، وهذه الأسماء لا تكون إلا ظروفا " يعني أين ومتى وحيث. " وأما خلف فمؤخر الشيء، وأمام مقدمه، وقدام بمنزلة أمام، وفوق أعلى الشيء. وقالوا: فوقك في العلم والعقل على نحو المثل، وهذه أسماء تكون ظروفا وليس نفي، وأي مسألة، ليتبين لك بعض الأمر، وهي تجري مجرى ما في كل شيء، ومن مثل أي أيضا، إلا أنه للناس وأنّ توكيد كقوله أن زيدا منطلق، وإذا خففت فهي كذلك تؤكد ما تكلم به، غير أن لام التوكيد تلزمها عوضا لما حذفت منها ". قال أبو سعيد: إن إذا خففت من إن المشددة ففيها مذهبان: أحدهما أن تعمل مخففة كعملها مشددة، فإذا كانت كذلك فأنت مخير في دخول اللام بعدها، كما كنت مخيرا في المشددة، تقول: إن زيدا قائم، وإن زيدا لقائم، كما قلت: إن زيدا لقائم. فإذا أبطلت عملها لزمتها اللام لتكون فصلا بينها وبين أن التي بمعنى ماه تقول: إن زيد لقائم إذا أردت الإيجاب، وإذا أردت الجحد: إن زيد قائم، فاللام وتركها تفصل بينهما وهذه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 34.

اللام تدخل على آخر ما يتعلق بالكلام، كقولك: أن ضربت لزيدا وإن كان زيد لقائما، قال الله تعالى: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (¬1)، وأهل الكوفة يقدرون أن في ذلك بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، ويقولون في قول الشاعر: شلت يمينك إن قتلت لمسلما … وجبت عليك عقوبة المتعمّد (¬2) إن معناه ما قتلت إلا مسلما. وهذا الذي قالوا ينبغي أن يكون تقديرا أو اعتبارا، لا على معنى " أن " معنى اللام معنى إلا، لأن ذلك غير معروف في شيء من الكلام. قال: " وليت تمن، ولعل وعسى طمع وإشفاق، وأمّا لدن فالموضع الذي هو أول الغاية وهو اسم يكون ظرفا يدلك على أنه اسم. قولهم: من لدن، وقد يحذف بعض العرب النون حتى تصير على حرفين قال الراجز: يستوعب البوعين من جريره … من لد لحييه إلى منحوره ولد بمنزلة عند. وأما دون فتقصير عن الغاية، هو يكون ظرفا ". يريد أن كل ما كان مقصورا عن أعلى الشيء فهو دونه إن كان من أسفله أو وسطه أو قرب أعلاه. قال: " واعلم أن ما يكون ظرفا فبعضه أشدّ تمكنا من بعض، ومنه ما لا يكون إلا ظرفا، وقد بين ذلك في موضعه. وأما قبالة فمواجهة وهو اسم يكون ظرفا. وأما بلى فتوجب به بعد النفي. وأما نعم فعدة وتصديق وليسا باسمين ". قال أبو سعيد: أما بلى فلا تأتي إلا بعد جحد فتبطله، سواء كان الجحد معه حرف استفهام أو لم يكن، وسواء كان بمعنى التقرير أو بمعنى الاستفهام متى وردت بلى حققت ذلك الشيء الذي وقع عليه لفظ الجحود كقول القائل: ما جاء زيد، فتقول: بلى أي قد جاء، ويقول القائل: ألم يقم زيد فتقول: أي قد قام. وأما نعم فهو تصديق للكلام على " ما يورده المتكلم من جحد وإيجاب، كقولنا، قام زيد، فإذا قلت: نعم فقد صدقته على أنه قام، وإذا قال لم يقم زيد فقلت نعم صدقته على انه لم يقم، وإذا كان في الكلام استفهام ثم قلت نعم فهو تصديق بإطراح حرف استفهام كقول القائل: هل قام زيد، فإذا ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 108. (¬2) قائلته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، انظر الخزانة 4/ 350، الدرر اللوامع 1/ 119.

قلت نعم فقد قلت إنه قام، وإذا قلت: ألم يقم زيد فقد قلت نعم، فكأنك قلت: لم يقم، وقوله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى (¬1)، لو قال إنسان نعم وقيل له ألم تؤمن بالله كان كافرا، لأنه قد صدّق على الجحد بإطراح حرف الاستفهام، ولا يجوز أن يقال للإنسان قام زيد، وهل قام زيد فيقول بلى لأن بلى لا تقع إلا بعد حرف الجحد. " وأما بجل فبمنزلة حسب وأما إذن فجواب وجزاء ". قال أبو سعيد: يريد أن فيها معنى الجزاء، وذلك أنك إذا قلت لإنسان أنا أزورك فقال إذن أكرمك، فالإكرام إنما يقع مجازاة للزيارة. قال سيبويه: " وأما لما فهي للأمر الذي وقع لوقوع غيره، وإنما هي بمنزلة لو فيما ذكرنا، وإنما هو لابتداء، وجواب ". قال أبو سعيد: قوله: " وإنما هي بمنزلة لو " يريد أنها ضد لو، وذلك أن لو ينتفي بها الشيء لانتفاء غيره كقولك: لو جئتني أعطيتك، دللت على أنه لم يقع مجيء ولا إعطاء، ولما يقع بها الشيء لوقوع غيره، كقولك: لما جاءني أكرمته، وقد وقع المجيء والكرامة، ول " لما " موضع آخر قد مر. قال: " وكذلك لولا ولو ما هما لابتداء وجواب، فالأول سبب ما وقع وما لم يقع ". قال أبو سعيد: يريد أنك تقول: لولا زيد لأكرمتك، فزيد سبب أنه لم يكرمه، وتقول: لولا زيد لم أكرمك، فزيد سبب كرامته، والثاني الذي هو الجواب أن كان منفيا في اللفظ فهو موجب في المعنى وان كان موجبا في اللفظ فهو منفي في المعنى، ولولا ولو ما معناهما واحد في هذا الموضع، ولهما موضع آخر، يقال: لولا ولو ما وهلّا وألّا ومعناهما واحد للتخصيص. " وأما " أما " ففيها معنى الجزاء كأنه يقول: عبد الله مهما يكن في أمر فمنطلق، ألا ترى أن الفاء لازمة لها ". قال أبو سعيد: يريد أنا إذا قلنا: أما عبد الله فمنطلق. " وأما ألا فتنبيه، تقول: إلا أنه ذاهب ألا بلى " قال: " وأما كلّا فردع وزجر ". قال أبو سعيد: كأن قائلا قال هيئا تنكره فقال كلا، أي ليس ذلك كقوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 260.

فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ * كَلَّا (¬1) ليس الأمر على ما قاله، لأنه قد يوسّع على من لا يكرمه من الكفرة، وقد تضيق حال الأنبياء والصالحين للاستصلاح. قال سيبويه: " وأنّى تكون في معنى كيف "، ويقال معنى أنى أين وأين " أي " مكان. قال سيبويه: " وإنما كتبنا من الثلاثة وما جاوزها غير المتمكّن الكثير الاستعمال من الأسماء وغيرها التي تكلم بها العامة، لأنه أشدّ تفسيرا، وكذلك الواضح عند كل واحد هو أشد تفسيرا، لأنه توضح بها الأشياء فكأنه تفسير التفسير، ألا ترى لو أن إنسانا قال: ما معنى أيان فقلت متى، كنت قد أوضحت، فإذا قال لك ما معنى في أي زمان، فسألك عن الواضح شق عليك أن تجيء بما توضح به الواضح، وإنما كتبنا من الثلاثة على نحو الحرف والحرفين وفيه الإشكال والنظر ". قال أبو سعيد: جملة كلام سيبويه أن من سئل عن الغامض فسره بالمفهوم من الألفاظ المعتادة، فقرب على السائل فهم التفسير، فإذا سئل عن الواضح المعتاد احتاج أن يتكلف لفظا ليس بمعتاد هو أغمض عند السائل من الذي سأل عنه، فبعد عليه، فلذلك صار تفسير الواضح أشد، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " وهي عشرة أحرف " الهمزة والألف والهاء والياء والنون والتاء والسين والميم والواو واللام، ويجمعها قولك: " اليوم تنساه " فهذه حروف قد توجد زائدة وغير زائدة ". وأنا اذكر الطرق المؤدية إلى معرفة زيادتها في باب الأبنية وقد تكون الزيادة بغير هذه الحروف، وذلك بأن يعاد بعض الاسم أو يشدد، فالتشديد قولك: حرّك الراء المشددة في حرك تعدل راءين إحداهما زائدة لأن أصلها حركة فكذلك ابيض، الضاد مشددة وهما ضادان، والأصل ضاد واحدة لأنها من البياض، وهي ضاد واحدة، وأما المعاد فنحو قردد ودمكمك إحدى الدالين في قردد زائدة معادة، والميم والكاف في دمكمك زائدتان معادتان، وسنقف على ذلك بأتم من هذا الشرح إن شاء الله تعالى. واعلم أن هذه الزوائد قد يكون لبعضها موضع تكثر زيادته فيه، حتى يغلب عليه ويصير الحكم فيه انه متى ما ورد في ذلك الموضع حكم عليه بالزيادة، وإن لم يعرف أصله حتى يرد دليل يدل على أنه غير زائد. ومنه ما تكون زيادته في موضع بعينه لا ¬

_ (¬1) سورة الفجر 15، 16، 17.

يتجاوزه، ومنه ما تكون زيادته في أكثر من موضع. بدأ سيبويه بذكر الزوائد ففصلها وذكر مواضع زيادتها غير مستقصي اعتمادا على ما يجيء من بعد. فقال: " الهمزة تزداد إذا كانت أول حرف في الاسم والفعل رابعة فصاعدا، فالاسم نحو افكل والفعل مثل اضرب ". ومثل أفكل أحمر وأصفر وأشهب وما أشبه ذلك، الهمزة في كل ذلك زائدة، وكذلك ما ورد من هذا الباب إذا كان بعد الهمزة ثلاثة أحرف، وذلك أن أقل الأسماء حروفا في الأصل إذا كان مما يحتمل الجمع والتصغير ما كان على ثلاثة أحرف، فإذا وجدنا الهمزة في أول اسم أو أول فعل وبعدها ثلاثة أحرف علم أنها زائدة لأن الحكم على الهمزة إذا وقعت أولا أن تكون زائدة إذا كان بعدها من الحروف مما سمي بها اسم، وإذا رأينا أفكلا وبعد الهمزة فاء وكاف، لام، وهي ثلاثة أحرف، ونحن نجد في الأسماء ما يكون على حرف وحرفين، فالحرف نحو الكاف في ضربتك، والحرفان نحو يدودم وغد ومن وما أشبه ذلك؟ قيل له: أما الكاف وما جرى مجراها في الكنايات وما ومن وما أشبههما من الاستفهام فلم يدخل ذلك في شرطنا، لأنا شرطنا الأسماء التي يدخلها الجمع والتصغير، وهذه الأسماء لا يدخلها جمع ولا تصغير. وأما يدودم والأصل فيه ثلاثة أحرف وحذف منها حرف ولها نظائر قد فعل بها ذلك، والدليل على ما قلنا أنك صغرت دما فقلت دميّ فتجيء بياء بعد الميم، وتأتي بياء التصغير فتدغم الياء في الياء فتشددها وكذلك إذا جمعته تقول: دماء مثل كلاب تأتي بألف تزيدها للجمع بعد الميم وتأتي بالياء التي كانت ذهبت في دم فتجعلها بعد الألف المزيدة للجمع فتقلبها همزة، ويقوى ذلك أن الشاعر لما اضطر رد ما كان ذهب من دم في التثنية فقال: ولو أنّا على حجر ذبحنا … جرى الدّميان بالخبر اليقين وكذلك إذا جمعت يدا قلت أيد فجئت بياء في الجمع، كأنك جمعت يدي فقلت أيدي، كما تقول: ظبي وأظب، فإذا صغرت قلت يدية، فتأتي بياء أخرى غير ياء التصغير، وقد يضطر الشاعر في تثنية يد فيرد ما ذهب منها، قال: يديان بالمعروف عند محرق … قد يمنعان أن تضام وتضهدا (¬1) ¬

_ (¬1) انظر المنصف 1/ 64، 2/ 148، خزانة الأدب 3/ 347، شرح المفصل 4/ 151.

وأما غد فأصله غدوة، وقد جاء ذلك في الشعر، قال: وما الناس إلا كالديار وأهلها … بها يوم حلوها وغدوة بلاقع فإن قيل: فلم جعلتم التصغير دلالة على أن أقل الأسماء حروفا ما كان على ثلاثة أحرف إذا كان الاسم مما يصغر؟ قيل له: لأن الاسم إذا صغر فلابد من ضم أوله وفتح ثانيه، وتلحق ياء التصغير ثالثة ساكنة ويقع الإعراب على ما بعدها، فلابد ضرورة من حرف يأتي بعد ياء التصغير يقع الإعراب عليه فالحاجة إلى ثلاثة أحرف داعية لا محالة الحرف أول للضم والثاني للفتح والثالث بعد ياء التصغير، فهذا معنى قوله: (رابعة فصاعدا) إذا كانت الهمزة لا تكون زائدة إلا وبعدها ثلاثة أحرف أو أكثر فإذا كان بعد الهمزة حرفان أو أحرف كانت أصلية، والحرف نحو: أكل وأصل وأمر وأجل وإبل وإطل وما أشبه ذلك. والحرف نحو أب وأخ، وإنما صارت أصلية لأن الحاجة داعية إلى تتميم حرف الاسم بها إذا كان مبنى الاسم لا يكون أقل من ثلاثة أحرف. وإذا كان في أول الاسم أو الفعل ألف وصل وكان بعد الألف حرفان أو أكثر فالألف زائدة نحو ألف ابن واسم واست وارم واغر وما أشبه ذلك لأن هذه الألف دخلت لسكون ما بعدها من قبل أن الابتداء بساكن لا يمكن فدخلت هذه الألف ليتوصل بها إلى النطق بساكن فإذا كان بعدها كلام سقطت من اللفظ كقولك: بابنك ولاسمك فضيلة ورأيت اسمك يفصل الأسماء، فهي زائدة على كل حال، فإذا كان بعدها حرفان علم أنه قد سقط منه حرف لا محالة ويرده التصغير، كقولنا: ابن واسم واست، إذا صغرتها رجع الحرف الساقط كقولنا بني وسمي. وقد تزاد الهمزة غير أول إلا أن زيادتها غير أول قليل لا يطرد فيها ولا يقع عليها حكم كزيادتها في شأمل وشمأل وذلك أنك تقول: شملت الريح فتسقط الهمزة فعلمت أن الهمزة زائدة، والقياس المطرد في زيادتها أن تكون مبتداة وفي غير الابتداء لا يحكم عليها بالزيادة إلا بثبت. وذكر سيبويه بعد زيادة الهمزة زيادة الألف ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وذلك حكم الألف إذا وجدت في اسم وفيه ثلاثة أحرف سواها قضي عليها بالزيادة حتى يدل دليل على أنها أصلية، وذلك لأنها وجدت زائدة كذلك بالمحنة التي تمتحن بها الزوائد من الأصل، فقضى عليها بالزيادة لذلك. فأما الألف في عماد وعطشى ومعزى فيدل على زيادتها سقوطها من أصول هذه الكلمات، لأنه من العمد والعطش والمعز، وأما الجلبلاب ونحوه مما الألف فيه خامسة فقد عهد في أشياء كثيرة من هذا النحو زيادتها، فحمل الباب عليه كالألف في حبنطى

ودلنظى وزعفران. فإن الحبنطى العظيم البطن، وأصله من حبط بطنه إذا عظم، ودلنظى من دلظ إذا مرّ وأسرع وجلبلاب نبت، وبعضهم يقول: هو الذي تسميه العامة اللبلاب وجحجبى بطن من الأنصار، وقد تدخل الألف ولم يذكرها سيبويه وهي الألف في قبعثرى، ومصادر الأفعال السداسية نحو: اشهيباب واحرنجام والقبعثرى الجمل العظيم، وبعضهم يقول الفصيل الضئيل. فأما الهاء فإنما تزداد لمعنى واحد لا تتجاوزه وذلك أنها تزاد في آخر الكلمة لبيان حركة أو حرف، فأما بيان الحركة فنحو: الهاء التي تبين بها الحركات التي ليست بأعراب، وأكثر ذلك في الفتح لأنه أخفى الحركات كقوله (ماهية) و (حسابية) وأما بيان الحرف فالهاء التي تدخل على ألف الندبة، كقولك: يا زيداه، ويا من يعطي الرغيبا، لأن الألف أخفى الحروف، فتبين بهذه الحروف إذا وقف عليها لخفائها، فإذا وصلتها بكلام آخر سقطت، لأن الكلام الذي بعدها يقوم مقام الهاء في إبانتها. وأما الياء فإنها تزاد في مواضع كثيرة قد ذكرها سيبويه منها: حذرية، وهي الأرض الغليظة، وسلحفية وهي واحدة السلاحف. قال: " وتلحق مضاعفة كل اسم إذا أضيف نحو هني ". يعني ياء النسبة كقولك: بصري وتميمي وقيسي وما أشبه ذلك، وهو يسمى النسبة الإضافة، وذلك لأنك إذا نسبت اسما إلى اسم فقد أضفته إليه بأن جعلته في حيزه. قال: " كما تلحق الألف كل اسم جمعت بالتاء قبل التاء ". يعني أن الياء تكون للنسبة في كل اسم ينسب إليه علامة لازمة كما تكون الألف في كل اسم جمع جمع المؤنث بالألف والتاء. ثم ذكر زيادة النون وموضعها حتى ذكر رعشن والعرضنة فأما زيادتها في رعشن فلأنه من الارتعاش وزيادتها في عرضنة فلأنه من الاعتراض، يقال: ناقة فيها عرضنة إذا كان فيها اعتراض عن قصد الطريق، وذلك لنشاطها. وذكر زيادتها في عنسل وقلنسوة. فأما زيادتها في عنسل فلأن العنسل الناقة السريعة، وأصله من العسلان وهو السرعة، يقال عسل الذئب إذا مشى بسرعة.

وأما زيادتها في قلنسوة فلأن فيها لغتين، يقال: قلنسوة وقلنسية فتسقط النون، ويقال: قلست الرجل، أي ألبسته القلنسوة. ثم ذكرنا زيادة التاء حتى زيادة التاء التي للتأنيث، وذكر معها تاء بنت وأخت. ولقائل أن يقول: إذا كانت تاء البنت والأخت للتأنيث، فلم سكن ما قبلها، وحكم تاء التأنيث أن ينفتح ما قبلها، كقولك: شجرة وتمرة وما أشبه ذلك؟ قيل له: هذه التاء للتأنيث كما قال، للبراهين التي قامت على ذلك، وهي أنا نقول بنت وبنات وأخت وأخوات فتسقط التاء كما تسقط في مسلمة ومسلمات وتمرة وتمرات، إلا أنها وإن كانت للتأنيث فقد جعلت ملحقة لبنت بجذع وأخت بقفل، وذلك أن لام الفعل من أخت وبنت قد سقطت، لأن الأصل فيها أخوة وبنوة، والدليل على ذلك أنا نقول: هذه بنت بينة البنوة، وأخت بينة الأخوة، ولو نسبت إليهما لقلت: بنوي وأخوي، فلما سقطت لام الفعل منهما بقيتا على حرفين، فزيدت عليهما تاء التأنيث للدلالة على تأنيثهما، وألحقتهما بجذع وقفل كما ذكرنا كما يزاد على الاسم الثلاثي حرف فيلحقه بالرباعي كزيادتهم الواو في كوثر، وأصله من الكثرة ليلحق كوثرا ببناء جعفر، فقد اجتمع في تاء بنت وأخت التأنيث والإلحاق، وذكر بعض النحويين أن التاء فيهما منقلبة من واو كانقلاب التاء في تراث وتجاه وتخمة وتقى، والأصل وراث ووجاه ووخمة ووقى، وليس الذي ذكر بالقوي، لأن هذه الواو لا تكاد تقلب تاء في غير الأوائل، إنما قلبت في غير أول في قولهم: أسنت القوم إذا أصابهم القحط والسنة، وأصله أسنوا، ومثل ذلك التاء في كلتا وهنت، وفيهما من الخلاف مثل الذي ذكره. فإن قيل: فما وزن بنت وأخت؟ قيل له وزنهما عندي على هذا البناء فعت وفعت، وعلى الأصل الذي يقع جمعهما عليه والنسبة إليه فعل، وإنما جعلته فعتا وفعتا لأن الزائد يوزن بلفظه والأصل يوزن بالفاء والعين واللام، والتاء في هذين الاسمين زائدة. وقد قال الجرمي في كلتا إنه فعتل، لأن التاء زائدة فوزنها بلفظها، فإن قيل: فإذا لم تأت بالساقط من بنت وأخت في الوزن، فقد لزمك ألا تزن شيئا ساقطا من اسم في المثال الذي تمثله به ووجب عليك أن تقول: أن وزن يد ودم فع، وأن ابن واست وزنهما افع لسقوط لام الفعل في اللفظ، قيل له: ليس بنت وأخت والفصل بينهما أن بنتا وأختا ألحقتهما التاء ببناءين بنيتا عليهما من أبنية الأسماء الثلاثية فخرجنا إلى هذين البناءين من البناء الأصلي الذي كان لهما فوزناهما بالبناء الذي بنيتا عليه. وأما يد ودم وما أشبههما فلم يغير بناؤهما بل حذف منهما ما حذف والبناء على

حاله منوي لهما لم يخرجا عنه إلى غيره، وذكر زيادة التاء في سنبته، والدليل على زيادتها. أنّا نقول: سنبة في معنى سنبتة فتسقط التاء، يقال: مر عليه سنبة من الدهر ولا تاء فيه غير ما للتأنيث، وتقول: مر عليه سنبتة من الدهر فيكون فيه تاء والمعنى واحد، فعلمت أن التاء زائدة. وأما التاء في عفريت فبين زيادتها لأنها من العفر والعفريت في معنى العفرية، ولا تاء في العفرية. والتاء في عنكبوت زائدة لأنك تقول: عنكباء في معنى عنكبوت، وقد استدل قوم على زيادتها بقولهم في الجمع عناكب، وليس في ذلك دليل، لأنا نقول في جمع عضرفوط عضارف، والطاء غير زائدة. والتاء في تجفاف زائدة لأنه مشتق من الجفاف. وأما تنضب وهو شجر يعمل منها القسي فالتاء زائدة فيه، وذلك أنها لو جعلت أصلية صار تنضب على وزن فعلل، وليس في الكلام مثل فعلل كقولك جعفر. وترتب التاء الأولى فيه زائدة بدليلين: أحدهما انه مأخوذ من الراتب والثاني مثل دليل تنصب. وذكر زيادة الواو في مواضعها فذكر حوقل، وهو يكون اسما وفعلا، فأما الاسم فهو قولك: رجل حوقل إذا كان كبيرا مسنا، وحوقل يحوقل حوقلة إذا مشى مشية ضعيفة من مشي الكبار، والواو فيه زائدة كالواو في كوثر، والواو في قسور زائدة كالواو في جهور، ولقسور ثلاثة معان يقال: قسور وقسورة للأسد، وهو مشتق من القسر وهو القهر والغلبة. ويقال للصائد قسورة وهو من القسر أيضا لأنه يقسر الصيد ويقهره، والقسورة أيضا شجرة من الشجرة الحمص، والجمع قسور. قال الشاعر: فجاءت كأن القسور الجون … بجها عساليجه والثّامر المتناوح والقرنوة شجر يدبغ به، والعضرفوط، دويبة يقال: أنها تقاتل الأسد. وأما السين فإنها لا تزاد إلا في المستقبل، نحو استخبر واستغفر، وهذا مطرد كثير، وقد زيدت أيضا في استطاع يستطيع وليست على استفعل في هذه اللغة. فأن قيل السين في هذا تدخل في حروف البدل، لأن سيبويه يقول في أول الكتاب: " أنهم جعلوا السين في اسطاع عوضا عن ذهاب حركة الواو وفي أطوع، قيل له: هي، وإن كانت عوضا من ذهاب حركة الواو فهي زائدة، لأنها لم تكن قبل ذلك، ولا هي عوض من حرف قد ذهب كما تكون الهمزة عوضا من الواو في عطاء وكساء والتاء عوضا من الواو في تجاه وتخمة ".

هذا باب حروف البدل من غير أن تدغم حرفا في حرف وترفع لسانك من موضع واحد

وذكر زيادة اللام في ذلك وعبدل. فأما في ذلك فهو في معنى ذاك وذكر أبو العباس أنك إذا قلت ذلك فهو أبعد في الإشارة. وذكر الزجاج أن اللام عوض من الهاء التي للتنبيه، وأنه يجوز أن يقال ها ذاك كما تقول هذا، فإذا أدخلت اللام لم تقل ها ذاك. ونحو ذلك في الزيادة: تالك للمؤنث وأولالك للجمع كما قال: وأنّ لتالك الغمى انقشاعا وأما عبدل فذكر الأخفش أن معناه عبد الله، فهذا يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون اللام زائدة كما ذكر سيبويه، والوجه الثاني أن تكون اللام التي في قولك: الله كأنك بنيت عبدلا من حروف عبد ومن بعض حروف قولنا الله: كما قالوا في النسبة إلى عبد الدار عبدري وعبقسي في النسبة إلى عبد القيس. " وأما الميم فتزاد أولا في مفعول ومفعال ومفعل ومفعل وأشباهه ". قال أبو سعيد: والميم تزاد أولا في أول مفعول من الفعل الثلاثي كمضروب ومحدور ومقتول ومخوف وما أشبه ذلك، وفي مصدره كالمغرب والمطلع والمقبل والمذهب، وفي اسم المكان والزمان كالمطلع والمحرز والمشتى والمصيف وقد تقدم شرح هذا. وتزاد في اسم الفاعل واسم المفعول الذي عدده أربعة أحرف أصلية كانت أو زائدة، تقول: دحرج فهو مدحرج وقاتل فهو مقاتل، والمفعول مقاتل. وكذلك إن كثرت حروف الفعل، مصدره واسم المكان والزمان منه على لفظ المفعول، وتزاد في الأسماء التي تستعمل. ومفعل، وتكون الميم في أولها مكسورة كالمكنسة والملعقة وما أشبه ذلك، وفي مفعال أيضا كالمفتاح، وفي مفعول كالمغفور والمغرود والمعلوق وما أشبه ذلك وفي أشياء في الأبنية إن شاء الله تعالى، ولم يذكرها سيبويه غير أول في هذا الموضع، وذكر في غيره أنها تزاد وسطا في دلامص، فيكون وزنه فعامل وقد قيل فيه دمالص، ووزنه فماعل على هذا، وتزاد في آخر الاسم في زرقم، ووزنه فعلم وهو الأزرق، وستهم وهو العظيم الإست، وغير ذلك. هذا باب حروف البدل من غير أن تدغم حرفا في حرف وترفع لسانك من موضع واحد وحروف البدل أحد عشر حرفا، منها ثمانية أحرف من حروف الزيادة وهي: الهمزة والألف والنون والهاء والياء والتاء والميم والواو فهذه من حروف الزيادة، ومنها ثلاثة من غيرها وهي الطاء والدال والجيم، وتجمع حروف البدل كلها في اللفظ أجد

طويت منها، فهذا الذي ذكره من حروف البدل في عقد هذا الباب، وقد جاء من حروف البدل غيرها مما ذكره سيبويه وغيره، وسنقف عليه. بدأ فذكر من حروف البدل الهمزة فقال: " الهمزة تبدل من الياء والواو إذا كانتا لامين وكان قبلهما ألف ". أراد إذا وقعتا طرفا في موضع اللام من الفعل وقبلهما ألف كقولك قضاء وشقاء، والأصل قضاي وشقاي، وإنما وجب ذلك من قبل أن الياء والواو إذا كانت قبلهما فتحة قلبتا ألفين إذا كانتا في موضع حركة، كقولك دنا ودعا وقضى ورمى، والأصل دنو وقضي فتحركت الواو والياء وقبلهما فتحة فقلبتا ألفين، وكذلك قال وباع ودار وناب، الأصل فيه قول وبيع فلما تحركت الواو والياء وقبلهما فتحة قلبت ألفا، ولو سكنت لم تقلب، كقولك: بيع وقول، فلما وقعت الواو والياء طرفا في موضع تلزمهما فيه الحركة وقبلها وجب قلبها كما وجب قلبهما إذا كانت قبلهما فتحة، لأن الألف والفتحة من حيز واحد، فقلبتا للألف التي قبلهما ألفين، كما قلبتا ألفين مع الفتحة، ولما قلبتا ألفين اجتمعت ألفان وهما الألف التي في الكلمة، والألف المنقلبة من الياء والواو، واستحال اجتماع ألفين في المنطق فوجب إسقاط إحداهما لاجتماع الساكنين أو تجريد أحدهما ليتوصل بذلك إلى النطق بهما، فلو أسقطنا إحداهما صار بمنزلة المقصور في اللفظ والتبس المقصور بالممدود، ولا سبيل إلى تحريك الألف لأن الألف لا تتحرك، ولا تمكن الحركة فيها فقلبت إلى أقرب الحروف من الألف مما يمكن تحريكه وهو الهمزة. وذكر بدل الهمزة من الواو المضمومة في أدؤر وأنؤر، والأصل أدور وأنور، لأنها جمع دار ونار، وليست فيهما همزة، وإنما تقلب الواو همزة إذا كانت مضمومة ضمة بناء لا ضمة إعراب ولا ضمة التقاء الساكنين. وسواء كانت الواو المضمومة في أول كلمة أو في حشوها، كقولك في أول الكلمة في وجوه أوجه، قال الله تعالى: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (¬1)، وأصله وقتت لأنه من الوقت، وفي الحشو نحو همزة أدؤر منقلبة من الواو كما ذكرنا وإذا كانت الواو مضمومة للإعراب لم يجز فيها القلب، قولك: هذا غزوك ودلوك، ولا يجوز غزؤك ودلؤك، وكذلك (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) (¬2) و (لَتُبْلَوُنَّ) (¬3) لا يجوز همز هذه الواو، لأنها ضمت لاجتماع الساكنين، وقد ¬

_ (¬1) سورة المرسلات الآية: 11. (¬2) سورة البقرة الآية: 16. (¬3) سورة آل عمران الآية: 186.

مضى هذا، وإذا كانت الواو مكسورة في أول الكلمة جاز قلبها كقولنا في وسادة إسادة، وفي وفادة إفادة، قال الشاعر: إلا الإفادة فاستولت ركائبنا … عند الجبابير بالباساء والنعم (¬1) ولا يجوز قلبها في الحشو إلا في شيء جاء شاذا، لا يجوز في طويل طئيل، ولا في محاول محائل وذكر بدل الألف فقال: " تكون بدلا من الياء والواو إذا كانتا لامين في رمى وغزا ". وقد ذكرنا هذا البدل، وكذلك " إذا كانتا في وضع العين " من القول، وكذلك باع وقال. وإنما وجب هذا القلب من قبل أنهم لو لم يقلبوا لزمهم ما يستثقلون، وذلك أنك لو قلت في قال قول، وفي باع بيع فصححته للزمك أن تقول في المستقبل يقول ويبيع، فتسثقل الضمة على الواو، والكسرة على الياء، فلما استثقلت الضمة على الواو وألقوها على ما قبلها فقيل تقول، وكذلك ألقوا الكسرة على ما قبل الياء فقيل: يبيع، فلما لزم في المستقبل ما ذكرنا من إلقاء الضمة والكسرة من الواو والياء على ما قبلهما وتسكينهما وجب ذلك في الماضي فألقيت من الماضي حركة الواو والياء وهي العين من الواو وقلبت ألفا لانفتاح ما قبلها، فقيل قال وباع، وكذلك مستقبل غزا ورمى لو صحح لقيل يغزو ويرمي فتستثقل الضمة على الياء والواو فيسكنان، فلما سكنتا في المستقبل وتبعتا ما قبلهما سكنتا في الماضي وتبعتا الفتحة التي قبلهما فقلبتا ألفين، ثم تبع الاسم في ذلك الفعل، وإن كان الاسم لا يتصرف، فقيل: دار وناب وقفا ورحى فاعرف ذلك وذكر بدل الهاء. فقال: " تكون بدلا من التاء التي يؤنث بها في الوقف، كقولك: هذه طلحة ". الأصل في هذه الهاء التاء، لأن التأنيث بالتاء لا بالهاء، والدليل على ذلك أن تأنيث الفعل بالتاء فقط في الوصل والوقف، وكذلك الجمع بالألف والتاء، كقولك: قامت وذهبت، والمسلمات والهندات، فإذا قلت تمرة ومسلمة جعلتهما تاء في الوصل وهاء في الوقف، والأصل التاء وإنما جعلت هاء من قبل أنهم أرادوا الفصل بين الاسم والفعل، ألا ترى أنه ينون وتدخله ياء النسبة ولا يكون ذلك في الفعل، وإنما اتسع بعض النحويين فقال: هاء التأنيث وليست للتأنيث هاء في الحقيقة، إنما هذه الهاء بدل من التاء التي ذكرنا. قال: " أبدلت الهاء من الهمزة في هرقت وهمزت ". يعني أن الأصل أرقت وأمرت الرجل، وأبدلوا الهاء من الهمزة وقد أبدلوا أيضا من ¬

_ (¬1) البيت لتميم بن مقبل انظر ديوانه 398.

همزة إياك فقالوا هياك، قال الشاعر: فهياك والأمر إن توسّعت … موارده ضاقت عليك مصادره وقالوا: هأنت في معنى أأنت، فأبدلوا من ألف الاستفهام، قال الشاعر: وأتي صواحبها فقلن هذا الذي … منح المودة غيرنا وجفانا أراد إذا الذي، وهذا البدل غير مطرد وإنما يسمع ويتبع. قال: " وأبدلت الهاء أيضا من الياء في قولهم هذه ". اعلم أن الأصل في هذه هذي، ها للتنبيه وذي اسم المؤنث المشار إليه، كما أن ها في هذا للتنبيه وذا اسم المذكر المشار إليه، فإن قيل: وما الدليل على أن الهاء في هذه بدل من الياء في هذي دون أن تكون الياء في هذي بدلا من الهاء في هذه وأن الأصل الهاء؟ قيل له: الدليل على أن الأصل الياء أنا قد رأينا الياء للتأنيث في بعض المواضع، وهي الياء في تذهبين ولن تقومي وما أشبه ذلك من فعل الأمر، ولم نر الهاء للتأنيث في حال من الأحوال، والذي ذكرناه من شجرة وتمرة الأصل في الهاء التاء على ما ذكرناه، فجعلنا الأصل في هذه الياء. وفي هذه لغات سنقف عليها. وقال عقيب ذكر إبدال الهاء من الياء في هذه: " وذلك في كلامهم قليل كما أن تبيين الحركة بالألف في كلامهم قليل، إنما جاء في أنا وحيهلا ". يعني أن إبدال الهاء من الياء في القلة نظير تبيين الحركة بالألف في القلة، وذلك أن الحركة إنما تبين بالهاء على ما ذكرنا في كتابيه وحسابيه، وجاء في أنا تبيين النون بالألف في الوقف، ومن العرب من يقول أنه على ما يوجبه قياس بابه، وكذلك حركة اللام في حيهل تبين بالألف، ومنهم من يبينها بالهاء فيقول: حيهلة، ودخلت الهاء على الهمزة في البدل الذي ذكرنا لتقارب مخرجيهما، وكذلك دخلت الألف على الهاء في الوقف لتقارب المخرجين. وذكر بدل الياء فقال تبدل من الواو فاء وعينا. فبدلها فاء قولهم: ميزان، والأصل موزان، والواو فاء للفصل، ووزنه مفعال لأنه من وزنت، وبدلها عينا قولك: قيل وسيقا، والأصل فيه قول مثل قتل وضرب، فألقيت حركة الواو لاعتلالها على ما قبلها فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فصار قول فقلبت ياء. وفي الجملة كل واو سكنت بمعنى يوجب سكونها فانكسر ما قبلها وجب قلبها ياء استثقالا لواو ساكنة بعد كسرة.

قال: " وتبدل الياء مكان الواو والألف في مسلمين ومسلمين ". يعني أن الأصل هو المرفوع وعلامته في الجمع واو وفي التثنية ألف. فإذا جعل المنصوب والمجرور بالياء في الجمع والتثنية فكأن الياء بدلا من الواو والألف. قال: " وتبدل الياء من الواو والألف إذا جمعت أو حقرت في بهيليل وقريطيس وبهاليل وقراطيس ونحوهما من الكلام ". وبذلك أن الأصل بهلول وقرطاس، فإذا جمعته أدخلت ألف الجمع ثالثة وفتحت أوله فوقعت ألف الجمع بعد الهاء من بهلول والراء من قرطاس، فلم يمكن أن تكون بعد اللام المكسورة واو ولا بعد الطاء المكسورة ألف فانقلبت الواو والألف ياء لما ذكرنا. وكذلك قصة التصغير؛ لأنك إذا صغرت اسما على أربعة أحرف أدخلت ياء التصغير ثالثة وكسرت الحرف الذي بعد ياء التصغير كما تكسر الحرف الذي بعد ألف الجمع. قال: " وتبدل الياء من الواو إذا كانت عينا نحو ليّة ". والأصل في ليّة لوية، وهو مصدر لويت، ولكن الياء والواو متى اجتمعتا في كلمة والأولى منهما ساكنة قلبت الواو ياء وكانت الأولى ياء أو واو، فالواو نحو لية وشويته شيا والأصل لوية وشويا، وإذا كانت الأولى ياء فنحو ميت وسيد وما أشبه ذلك والأصل فيه ميوت وسيود، فقلبوا الواو ياء. والدليل على أن الياء متقدمة أنهم إذا خففوا قالوا: ميت وسيد، فيبين الساكن وهو الحرف الأول ياء. فإن قيل: لم وجب قلب الواو في الحالين دون أن تقلب الياء واو في الحالين وفي إحداهما؟ قيل له: الياء أشد استيلاء على الواو من الواو على الياء، وكذلك كان قلب الواو إلى الياء أكثر من قلب الياء إلى الواو. وإنما صار كذلك لشيئين: أحدهما أن الياء في نفسها أخف من الواو، والآخر أن مخرج الياء أمكن من مخرج الواو، لأن الياء من وسط اللسان والحرف المتوسط للحروف أمكن أولى برد غيره إليه. قال: " وتبدل من الألف في الوقف على لغة من يقول في الوقف أفعى وحبلى ". وإنما يفعل ذلك لأن الألف فيها خفاء إذا وقف عليها، ولذلك لحقتها الهاء في الندبة إذا وقف عليها والياء أبين منها وأظهر، فلذلك أبدلوها في الوقف. وأما في الوصل فما بعد ألف يبينها فلا تبدل منها الياء، وتبدل الياء من الهمزة يعني في ذئب ونحوه، وقد بيناه في تخفيف الهمزة.

قال: " وتبدل الياء من الحرف المدغم نحو قيراط ". وكان الأصل قرّاط، فاجتمع التشديد والكسر وهما مثقلان، فأبدلا من الحرف الأول منهما ياء فقالوا: قيراط، فإذا ذال التشديد والكسر عاد الحرف إلى أصله وذلك في الجمع إذا قلت قراريط، لأنك فتحت الحرف الأول المكسور وفصلت بين الراءين بالألف. قال: " وتبدل من الواو في ييجل ". والأصل يوجل لأنه من وجل، ولكنهم قلبوها ياء لأنها أخف من الواو، ولكنها انقلبت ياء في بعض تصاريف الفعل، وهو الأمر إذا قلت ايجل، وفي بعض اللغات يكسرون حرف المضارعة فيقولون ييجل ونيجل. قال: وتبدل من الواو إذا كانت الواو لاما في القصيا والدنيا ونحوهما. اعلم أن الواو إذا كانت من فعلى في موضع لام الفعل قلبت ياء كقولك الدنيا وأصله الدنوى لأنها من الدنو، وكذلك العليا لأنها من العلو وله باب يأتي، وقد جاء منه على الأصل القصوى وهو شاذ والباب القصيا وتبدل في غاز وداع من الواو، والأصل غازو وداعو لأنه من الغزو ومن دعوت ولكنها وقعت طرفا ولزمها السكون في الوقف وقبلها كسرة فقلبت ياء لما ذكرنا، وتبدل الياء في شقيت ونحوه من الواو لأنها من الشقوة، وانقلبت ياء لانكسار ما قبلها وسكونها. وذكر بدل التاء. قال: " تبدل مكان الواو فاء فاء ". يعني إذا كانت الواو فاء، وذلك في افتعل من " وزن " و " وعد " قالوا: اتزن واتعد، وكان الأصل أوتزن وأوتعد، ولكنهم عدلوا عن ذلك وقلبوا الواو تاء لأنهم لو لم يقلبوها لم تثبت على حال واحدة؛ لأنك إذا قلت أوتزن لزمك أن تقلب الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فتقول: ايتزن، فتردها إلى أصلها وفي اسم الفاعل موتزن لانضمام ما قبلها، فقلبوا هذه الواو تاء، لأن التاء لا تنقلب إلى غير جنسها لشيء من الحركات، فاختاروا التاء دون غيرها لعلتين: إحداهما أنهم قلبوا من الواو تاء حيث لا ضرورة تدعو إلى ذلك، وذلك قولهم: تجاه في وجاه، وتراث في وراث. والعلة الأخرى أنهم اختاروا حرفا يشاكل تاء افتعل لتدغم فيها فيكون أخف عليهم. فإن قيل: ولم قلبوا الواو في هذه المواضع التي ذكرت؟ قيل له: الواو تستثقل ما لا يستثقل غيرها من الحروف، فإذا كان ذلك في أول الكلمة كان أثقل من أن يكون في الحشو منها. وقد يكون أكثر ما قلب من الواوات ما

كان منها مضموما في أول الكلمة نحو: تخمة وتراث. والدليل على أن الواو أثقل من غيرها أن قلبها إلى غيرها أكثر من قلب غيرها إليها. والدليل على أن الضمة فيها تثقلها أنها متى كانت مضمومة جاز قلبها إلى همزة أين وقعت على الشرط الذي وصفنا والدليل على أن أول الكلمة أثقل وأولى بالإعلال من الحشو أن الواو إذا كانت مكسورة في أول الكلمة جاز همزها كقولنا في وسادة إسادة وفي وشاح إشاح، فلما كان ذلك على ما ذكرنا ووقعت الواو مضمومة في أول الكلمة جاز إبدالها لما ذكرنا، فقلبت إما همزة وإما تاء. فأما قلبها همزة فلأن الهمزة تشارك حروف المد واللين كلها وتقلب منهن وتقلبن منها وذلك قولك في وجوه أوجه. وأما قلبها تاء فلأن الحرفين اللذين من مخرج الواو هما الباء والميم لم يصلح قلب الواو إليهما. أما الباء فلأنها ليست من حروف الزيادة ولا هي من حروف البدل. وأما الميم فلأنها تزاد في أوائل أسماء الفاعلين والمفعولين، فكرهوا أن يبدلوا الميم منها فيظن أن الميم علامة الفاعل أو المفعول به فتجاوزوا إلى ما يقارب مخرجها، فكان أقرب الحروف منها وأشبهها بها في الزيادة والبدل التاء لأنها من حروف الزيادة وهي أيضا من حروف البدل، فقلبوا الواو تاء لذلك، وهذا القول غير لازم ولا مطرد، ولكن متى رأيناه عللنا له. وبعض العرب من أهل الحجاز يلزم في افتعل الأصل ولا يقلب الواو تاء. وتقول في افتعل من بابه: ابتعد باتعد فهو متعد. وإذا كانت فاء الفعل ياء فبدل التاء منها كبدلها من الواو، كقولنا في افتعل من يئست وبأست اتئست واتأست وإنما صار كذلك؛ لأنك لو لم تقلب منها تاء لوجب أن تقول: ايتأس في الماضي وفي المستقبل تاتئس، وفي اسم الفاعل موتئس فتنقلب الياء وتتبع ما قبلها ويصير لفظها كلفظ ما فيه الواو، فعمل بها ما عمل بالواو، ومن أهل الحجاز من يقلبها ياء ويجريها مجرى الواو على لغتهم. وذكر قلب التاء من الدال والسين في ست وستة، وذلك أن الأصل فيهما سدس وسدسة، ألا ترى أنك تقول سدس وأسداس وسادس وسادسة، وإنما قلبتا تاء من قبل أن الدال والسين من مخرجين مختلفين وهما أيضا مختلفان في الهمس والجهر، لأن الدال مجهورة والسين مهموسة، فالتمس حرف يقرب منها ويتوسط بينهما، فكانت التاء كذلك لأنها شاركت الدال والسين جميعا، فأما مشاركتها الدال فلأنها من مخرج واحد، وأما مشاركتها السين فلأنها مهموسة، والسين مهموسة، وليس هذا القلب بواجب ولا لازم، ولكن جاء واحتج له، وقد قالوا: سدس فلم يدغموا، وقالوا سدس في إظماء الإبل وهو وردها اليوم السادس، كما أن الخمس وردها اليوم الخامس.

قال: " وقد أبدلوا التاء من الياء إذا كانت لاما ". وفي بعض النسخ من الواو إذا كانت لاما، وذلك قولهم: أمنتوا إذا أصابهم القحط والشدة، وكان ينبغي أن يكون أسنى القوم يسنون لأنه أفعل من سنة وأصلها على هذه اللغة سنوة، ألا ترى أنه يقال سنة وسنوات، ولكنهم قلبوا منها تاء فرقا بين معنيين، وذلك أنه يقال: أسنى القوم يسنون إذا أتى الحول عليهم، وهو السنة، فإذا أصابتهم السنة وهي الشدة الشديدة، اسنتوا لأنهم لو قالوا أسنوا في القحط والسنة المجدبة لالتبس بحلول السنة عليهم. وأما اختلاف النسخ في الياء والواو فهو محتمل، وذلك أن الأصل في الكلمة الواو لأنها سنوة، فإذا قال التاء منقلبة من الواو على هذا التأويل فهو وجه، وهذه الكلمة وإن كان أصلها الواو فإنها تنقلب ياء في الفعل لأنها وقعت رابعة، والواو إذا وقعت رابعة في الفعل انقلبت ياء فجاز أن يقال: إن التاء منقلبة من الياء على هذا. وذكر بدل الدال من التاء في افتعل وذلك إن كان فاء الفعل أحد ثلاثة أحرف الزاي والذال والدال نحو: افتعل من زجر وهو ازدجر، ومن ذكر ادكر، ومن دلج ادلج، وكان الأصل ارتجر واذتكر وادتلج، فاجتمع الزاي مع التاء، والذال والدال مع التاء، وهي متقاربات المخارج وهي مختلفات في الهمس والجهر، وذلك لأن التاء مهموسة وهذه الحروف مجهورات والدال مجهورة تشاكل الزاي والدال في الجهر وهي مخرج التاء، فتوسطت بين التاء وبين هذه الحروف، فجعلت مكان التاء وتركوا التاء لأن النطق بحرفين متقاربين من غير إدغام مستثقل ولا سيما إذا اختلفا في الهمس والجهر. فإن قيل: فهلا اختاروا الطاء وهي من مخرج التاء مجهورة؟ قيل: لمخالفة التاء لهذه الحروف في الإطباق والاستعلاء، فإذا بنيت افتعل وفاء الفعل حرفا من حروف الاستعلاء لم تقلب التاء دالا بل تقلبها طاء لمشاكلة الطاء لحروف الاستعلاء بما فيه من الاستعلاء والإطباق وذلك افتعل مما فاء الفعل منه صاد أو ضاد أو ظاء، لأن هذه من حروف منطبقة مستعلية وليس في التاء إطباق ولا استعلاء فاختاروا حرفا من مخرج التاء مستعليا وهو الطاء فجعلوه مكان التاء فقالوا في افتعل من صبر اصطبر ومن صنع اصطنع، وكذلك من ضجع اضطجع ومن ظلم اظطلم، والأجود فيه الإدغام، وهو أن تقول اظلم ومن طلع اطلع وسنقف على ألقاب هذه الحروف التي ذكرناها وسنشرحها إذا انتهيت إلى الإدغام، فهذا الذي ذكرناه بدل الطاء وقد ذكر أيضا بدل الطاء من التاء في فعلت إذا كان لام الفعل حرفا من حروف الإطباق وهي لغة لبعض تميم وليست بالكثيرة كقولك: " فحصط برجلك " تريد " فحصت "، و " حصط عني " يريدون " حصط عني " أي حدث، وكذلك يقلبون الدال من تاء فعلت إذا

كان لام الفعل حرفا من هذه الحروف الثلاثة الزاي والدال والذال كقولهم: " فزد " في معنى " فزت " يشبهون هذه التاء بتاء افتعل وليس هذا بالكثير، لأن تاء افتعل من نفس الحرف لأنها اسم الفعل. وذكر بدل الميم. فقال: " تكون بدلا من النون في العنبر وشنباء، وكذلك كل نون ساكنة إذا كان بعدها باء فإنها تنقلب ميما، ولو رام أحد إلا يجعلها ميما ويخرجها نونا لشق عليها ذلك، وذلك أن النون الساكنة مخرجها من الخيشوم وليس لها تصرف في الفم إلا أن يتكلف متكلف إخراجها من الفم وذلك مع حروف الحلق لأن النون الساكنة تبينها حروف الحلق، فلما كانت النون بهذه الصورة وكانت الباء حرفا شديد اللزوم لموضعه نبت النون عن الباء نبوا شديدا، فجعل مكانها ميما لأن الميم متوسطة بين الباء والنون مشابهة لهما، وذلك أنهما من مخرج الباء وفيها غنة تشاكل بها النون، فتوسطت بينهما، لذلك قال: " وتكون الميم بدلا من الواو في فم وذلك قليل ". يعني أن بدل الميم من الواو قليل. قال: " كم أن بدل الهمزة من الهاء في ماء ونحوه قليل ". يعني أن الأصل في فم فوه، أسقطوا الهاء فبقي فو فأبدلوا منها ميما لأن الميم من مخرج الواو، ولأنه لا يجوز التكلم بفو، لأنه ليس في الأسماء المعربة اسم على حرفين، والثاني منهما حرف مد ولين لعلة تقف عليها، فاختاروا بدل الواو حرفا من مخرجه يصح فيه الإعراب والتنوين وهو الميم ويروى عن الأخفش أنه قال: الميم في فم بدل من الهاء، فاستدل على ذلك بان المنقوص منه حرف إذا اضطر الشاعر رد ذلك الحرف إليه، كما قال: لا تقلواها وادلواها دلوا … إن مع اليوم أخاه غدوا فاضطر فردّ الواو إلى غد لأنها هي الذاهبة منه، فلما رد الشاعر إلى فم في التثنية الواو مع كون الميم فقال: هما نفثا في فيّ من فمويهما … على النّابع الغاوى أشّد رجام (¬1) علمنا أن الذاهب من فم الواو لرد الشاعر لها، فإذا كان الذاهب هو الواو وجب أن تكون الميم بدلا من الهاء. وأما ماء فالأصل فيه موه، فقلبوا الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار ماه، ثم قلبوا الهاء همزة لأنهما من موضع واحد فقالوا ماء، والدليل على أن ¬

_ (¬1) قائله الفرزدق انظر ديوانه 2/ 215.

الأصل ما ذكرناه أن جمع ماء أمواه ومياه ثم ذكر عقيب بدل الميم من الواو فأراد أن يبين أن ذلك ليس بمطرد كما أن إبدال الواو تاء في تجاه وتخمة وما أشبه ذلك ليس بالمطرد الكثير وقوله: " فأبدلوا الهمزة منها إذ كانت تشبه الياء ". يعني إبدال الهمزة من الواو المضمومة، لأن الهمزة تشبه الباء وسائر حروف المد واللين لأنها تنقلب إليهن وينقلبن إليها. وذكر " بدل الجيم من الياء المشددة في الوقف نحو علج وعوفج يريد عليّ وعوفّي " والسبب في ذلك أن الياء من مخرج الجيم لأنها من وسط اللسان إلا أن الجيم أبين في الوقف من الياء. وقد قال الجرمي وغيره: أن الجيم قد تكون أيضا بدلا من الياء الخفيفة في الوقف كما تكون بدلا من الياء الشديدة فالشاهد في الياء الشديدة قوله: خالي عويف وأبو علج … المطعمان الشّحم بالعشج وبالغداة فلق البرنج والشاهد في المخفف قوله: يا رب إن كنت قلبت حجّتج … فلا يزال شاحج يأتيك بج أقمر نهات ينزي وفرتج وقد أنشدوا في ذلك أيضا: حتى إذا ما أمسجت وأمسجا أراد أمسيت وأمسي، وإنما قلب الجيم من ياء أمسيت لأن الألف في أمسي منقلبة من ياء أمسيت. ثم ذكر " بدل النون من الهمزة في فعلان فعلى " وذلك أنه يجعل النون في غضبان وسكران بدلا من الهمزة كان الأصل عنده في سكران سكراء، وفي غضبان غضباء، ولذلك لم ينصرف سكران وغضبان، ومن وجه آخر وهو أن غضبان وسكران لا تدخل عليهما هاء التأنيث، فلا يقال سكرانة. فإن قيل: فلم جعلتم الهمزة هي الأصل للنون دون أن تكون النون أصلا للهمزة؟ قيل له لعلتين: أحدهما أنّا رأيناه غير منصرف، والأصل في منع الصرف الألف أعني ألف التأنيث لا النون، بل النون محمولة في باب ما لا ينصرف على ألف التأنيث في منع

الصرف، والعلة الثانية أنّا رأينا الهمزة في صنعاء وبهراء أبدل منها النون في النسبة فقالوا بهراني وصنعاني، والكلام في هذا مستقصى في باب ما لا ينصرف وما لا ينصرف. ثم قال عقيب ذلك: " كما أن الألف بدل من ألف حمرى ". يعني أن الهمزة في حمراء أصلها ألف، وذلك أن علامة التأنيث إنما هي بالألف لا بالهمزة، ألا ترى أن سكرى وبها علامة التأنيث فيها الألف، ولكن الألف في سكرى وريّا ليس قبلهما ما يوجب قلب الألف من أجله همزة. وأما حمراء وصفراء وما أشبه ذلك فزيدت فيها ألفان: الأولى منهما للمد كالألف في حمار، وليست بعلامة للتأنيث، والألف الثانية لعلامة التأنيث كألف سكرى، ولأنها وقعت بعد ألف، ولا يجوز أن يجتمع ألفان، فقلبت ألف التأنيث همزة لقرب مخرج الهمزة من الألف، لأنه لا بد من تحريك الألف الثانية أو حذف الأولى، ولو حذفنا الأولى لالتبس المقصور بالممدود، وقد مضى نحو هذا. ثم ذكر سيبويه: " إبدال اللام من النون، وذلك قليل جدا، قالوا: أصيلان وإنما هو أصيلان ". اعلم أن اللام لم تدخل فيما عقد به سيبويه الباب من حروف البدل ولا دخلت في عددها، وقد ذكرها هنا، وإنما أبدلت اللام من النون لأنهما من مخرج واحد، فإن كان أصلان جمعا فصغر على أصيلان فهذا تصغير شاذ لأن التصغير في الجمع غير جائز إلا في أربعة أبنية وهي أبنية الجمع القليل: أفعل نحو أكلب وأفعال نحو أجمال وأفعلة نحو أحمرة وفعلة نحو غلمة وغزله وصبية، وان كان أصلان جمع أصيل كما يقال رغيف ورغفان فهو شاذ إذ كان هذا الجمع لا يصغر، ويكون مع شذوذه محمولا على أفعال، وان كان أصلان واحدا كما يقال رمان وربان كان تصغيره على أصيلان غير شاذ ثم ذكر إبدال الواو، فذكر أنها " تبدل مكان الياء إذا كانت فاء في موقن وموسر ونحوهما ". وإنما انقلبت الياء واوا في موسر، لأن الأصل فيه ميسر لأنه من اليسار ومن قولك أيسر، فانضمت الميم والياء ساكنة فقلبناها واوا، فإذا انفتحت الميم في الجمع عادت الياء فقلنا مياسير ومياقين. قال: " وتبدل مكان الياء في عم إذا أضفت " إلى رحى وإلى عم إضافة النسبة قلت: عمويّ ورحويّ. فأما رحويّ فلو لم تقلب الياء واوا لوجب أن تقول رحييّ، فكنت تجمع بين ثلاث ياءات والكسرة كأنها ياء فيصير كأنك جمعت أربع ياءات وذلك

مستثقل. وأما عم فوزنه فعل، وفعل في النسبة ينقل إلى فعل كقولك في النسبة إلى نمر نمري وشقرة شقري استثقالا للضمتين المتواليتين قبل ياء النسبة، فنقل عم وهو فعل إلى فعل فصار عمى مثل رحى، فنسبت كما نسبت إلى رحى. وتبدل الواو من الهمزة إذا لينت الهمزة، وذلك قولك في جؤنة ولؤم إذا لينتها فقلت: جونة ولوم. قال: " وتبدل مكان الياء إذا كانت لاما في شروى وتقوى ونحوهما ". يعني أنا إذا بنينا فعلى مما لامه ياء فجعلنا الياء واوا، وهذا مطرد في جميع العربية إذا كان اسما لا نعتا كقولك: شروى وتقوى ويقوى وفتوى، وأصلهن من الياء، لأن شروى الشيء مثله، وأصله من شريت، لأن ما يشري الشيء فهو مثله، ويقوى من يقيت، وتقوى أصله من وقيت. فإذا كان نعتا لم تقلب الياء واوا كقولك رجل خزيان وأمرا مخزيا وصديان وصديا. وإذا كانت عينا في فعلى وكانت اسما قلبت واوا لتسلم الصفة، وإذا كانت نعتا جعلت الضمة سرة لتسلم الياء، وذلك قولك في الاسم: طوبى وكوسى، والكوس هو الكيس والطوبى هو الطيب، فقلبت واوا لسكونها وانضمام ما قبلها. وإذا كانت نعتا جعلت الضمه كسرة كقولك: (قسمة ضيزى)، وأصله ضيزى، لأنه ليس في النعت فعلى، وإنما أرادوا الفصل بين النعت والاسم، وسنقف على شرح ذلك مستقصى. قال: " تبدل مكان الألف في الوقف، وذلك قول بعضهم: أفعو وحبلو ". وإنما فعلوا ذلك لأن الألف تخفى في الوقف والواو أبين منهما، وقد ذكرنا في الياء نحو هذا، ومن العرب من يجعل الواو التي هي بدل من ألف أفعى وحبلى والياء أيضا ما تبين في الوصل والوقف حرصا على إبانة الحرف. قال: " وتكون بدلا من الألف في ضورب وتضورب ". يعني الألف في ضارب وتضارب، فإذا جعلت الفعل مما لم يسم فاعله ضممت أوله فانقلبت الألف واوا، وكذلك الواو في ضويرب ودوينق، لأن الأصل ضارب ودانق، فإذا صغرته لم يكن بد من ضم أوله لعلامة التصغير، فإذا ضممت انقلبت الألف واوا بسبب الضمة، وكذلك إذا جمعت قلت ضوارب، فقلبت الألف واوا وحملت الجمع على التصغير. " قال: وتكون بدلا من ألف التأنيث الممدودة إذا أضفت ".

يعني نسبته " أو ثنيت، وذلك قولك: حمراوان وحمراوي "، وإنما قلبت الهمزة واوا لأنها في التثنية في حال الرفع تصير حمراوان، فتقع الهمزة بين طرفين، والهمزة تشبه بالألف لأنها من مخرجها فتصير بمنزلة ثلاثة ألفات، فقلبت الهمزة واوا وكان أولى من الياء، لأن الياء أقرب إلى الألف من مخرجها ومذهبها، والياء تقارب الألف، فكانت الواو أولى. ثم لزم ذلك في حمراوين وحمل حمراوي على حمراوين. قال: " وتبدل مكان الياء في فتوى وفتو وذلك قليل، كما أبدلوا مكان الواو في عني وعصي ونحوهما ". يعني أن الفتو كان حكمه أن يكون الفتي، والفتوة الفتية، لأن الفتو جمع فتى، والفتوة مصدره وأصلها الياء لأنك تقول فتى وفتيان، وهؤلاء فتية وفتيان وكان ينبغي أن يكون الفتى، لأن فتو فعول ولام الفعل ياء فيكون على فتوى، وتجتمع الواو والياء والأول منهما ساكن، فتقلب الواو ياء وتدغم الياء في الياء ثم تكسر التاء لتسلم الياء، وإنما قالوا فتوة فقلبوا الياء واوا لأن أكثر ما جاء من المصادر على فعولة من ذوات الواو، كقولهم: الأبوة والبنوة والأخوة فحملوا الياء على الواو لأن الباب للواو، مثل ذلك قولهم: الشكاية، وكان ينبغي أن تكون الشكاوة لأنها من ذوات الواو، لأنك تقول: شكا يشكو، ولكنهم حملوا الشكاية على ذوات الياء، لأن فعالة في المصادر لذوات الياء، كقولهم: ولاية وسعاية ووشاية وما أشبه ذلك. وأما فتو فهو شاذ من وجهين: أحدهما أنه من الياء، وصير واوا، والآخر أن الواو في مثل هذا الجمع حكمها أن تصير ياء، كقولهم: عات وعتى وعصا وعصى، والأصل فيهن الواو لأنك تقول: عتا يعتو وجثا يجثو وعصا وعصوان، وهذا يحكم في موضعه والذي عندي أن فتو في الجمع محمول على مصدره، لأن المصدر قد حصل فيه الخروج عن القياس، وحمله على غيره بالتأويل الذي ذكرناه، فحمل الجمع على الواحد ليجريا مجرى واحدا. ثم قال: " كما أبدلوا مكان الواو في عتى وعصى ونحوهما "، يعني أن الأصل كان فيه أن يقال عتو وعصو لأنه فعول، وهو جمع اجتمع فيه واوان: إحداهما لام الفعل والأخرى واو فعول. غير أنهم استثقلوا هذه الواو المشددة لا سيما وهو في جمع، والجمع أثقل من الواحد، وقد يلحق هذه الواو المشددة الضم فيزيدها ثقلا إلى ثقل، وقد رأيناهم يقلبون هذه الواو ياء في الواحد، وهو أخف من الجمع فيقولون فيه مغزو مغزي وفي معدو معدي. قال الشاعر:

وقد علمت عرسي مليكة أنني … أنا اللّيث معديا عليه وعاديا فلما كانوا قد يقلبون في الواحد الذي هو أخف لزمهم قلبها في الجمع إذ كان أثقل من الواحد. قال: " وتبدل مكان الهمزة المبدلة من الياء والواو في التثنية والإضافة ". يعني تثنية كساء ورداء، والأصل كساو ورداي. وقلبت الهمزة من الياء والواو لأنهما وقعتا طرفا وقبلها ألف، وقد بينا ذلك فيما مضى. فإذا ثنوا رداء وكساء قالوا: رداءان ورداوان، وفمن قال رداوان استثقل وقوع الهمزة بين ألفين لأنها تشبه الألف فتسير كأنها ثلاث ألفات فقلبوها واوا لمثل ما ذكرنا في علة حمراوان، غير أن قلب الهمزة في حمراوان ألزم منه في كساوان لأنه قد اجتمع في حمراوان مع ما ذكرنا أنها مؤنثة وأن الهمزة زائدة والتأنيث أثقل من التذكير، والزيادة أثقل من الأصل، فتثقل حمراوان من الجهات التي ذكرناها لزمها القلب ولم يلزم كساوان وجاز أن يقال كساءان، بل هو اختيار عند النحويين، وصارت النسبة تابعة للتسلية لأنها تشبهها، وذلك أن التثنية في حال النصب والجر بالياء كقولك: رداوين والنسبة بالياء فصارت ياء النسبة بعد الواو كياء التثنية في النصب والجر وذكر أن: " الخليل زعم أن الفتحة والكسرة والضمة زوائد، وهن يلحقن الحرف إلى المتكلم به، والبناء هو الساكن ". أراد أن الحركات تجرى مجرى الحروف الزوائد التي تزاد على ما كان أصليا. فالحركات يزدن على الحروف والأصل الحروف والحركات مأخوذة منها، والدليل على أن الأصل حروف أنه يجوز أن يوجد حرف ولا حركة، وهو الحرف الساكن، ولا يجوز أن توجد حركة في غير حرف. قال: " فالفتحة من الألف والكسرة من الياء والضمة من الواو ". يعني أن الفتحة تزاد على الحرف ومخرجها من مخرج الألف وكذلك الكسرة مخرجها من مخرج الياء والضمة من مخرج الواو. قال بعضهم: الفتحة حرف من الألف والكسرة حرف من الياء وكذلك الضمة حرف من الواو، واستدل على ذلك بشيئين: أحدهما أن نرى الضمة متى أشبعناها صارت واوا في مثل قولنا: زيدو والرجلو وقد علمنا أنها كانت ضمة في ابتداء النطق بها ثم صارت واوا عند تطويلها، وإن تأملت ذلك وجدته كما وصفنا، وكذلك الفتحة متى أشبعناها صارت ألفا إذا مددت الصوت بها كقولك

عمرا والرجلا، وإذا تأملت وجدت ابتداءها فتحة ثم صارت، وكذلك الكسرة كقولك: عمري وغلامي والرجلي، وابتداؤها كسرة تصير ياء، ويدلك على هذا المعنى أنه قد يكتفي بالكسرة من الياء في مواضع كثيرة كقولك: يا غلام ويا رب واتبعون وما أشبه ذلك. ويكتفي بالضمة من الواو في قولهم: القوم قام وانطلق في معنى قاموا وانطلقوا والاستدلال الثاني ما قاله سيبويه حين ذكر الواو والياء والألف فقال: " لأن الكلام لا يخلو منهن أو من بعضهن ". يعني ببعضهن الحركات المأخوذة منهن نحو الضمة والفتحة والكسرة، ويدخل على هذا القول أن يقال: إذا كانت الكسرة بعض الياء فينبغي إذا أتممنا الكسرة ومددناها فصارت ياء أن لا يكون بعد الكسرة ياء تامة، لأن الكسرة بعض هذه الياء والذي بعد الكسرة هو البعض الآخر، وفي هذا ما فيه، ويلزم أيضا أن يكون ما بعد الكسرة إن لم يكن حرفا تاما ألا تدخل عليه الحركات، لأن الحركات لا تدخل على بعض حرف، ونحن نجد ضد هذه الحال، لأن الكسرة قد يجوز أن تدخل على ما قبلها كسرة ولا تستحيل، كقول الشاعر: لا بارك الله في الغواني … هل يصبحن إلا لهن مطلب (¬1) وكذلك الضمة لو اضطر شاعر فقال قاضي في الشعر جاز. وأما الفتحة فكثير شائع، كقولك: رأيت القاضي، قال الله تعالى: (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) (¬2). قد ذكرنا حروف البدل التي ذكرها سيبويه في أول الباب واللام التي زادها في حشو الباب ولم يذكرها في أول عقد الباب، والمبدل أحرف أخر لم يأت بها في الباب، وذلك نحو الزاي التي تكون بدلا من كل صاد ساكنة في حشو الكلام كقوله: يزدر في موضع " يصدر "، " وفزد " في موضع " فصد "، وكذلك يؤثر الكلام المعزو إلى حاتم طيئ أنه قال حين نحر ناقة أمر بفصدها: كذلك فزدي أنه، وقلب السين صادا إذا كانت بعدها قاف أو خاء كقولهم: " صقت " في " سقت "، وصلخت في سلخت، كإبدال الشين من كاف المؤنث، كقولهم للمؤنث في لغة بعض العرب: ضربتش في معنى ضربتك، قال الشاعر: تضحك مني أن رأتني أحترش … ولو حرشت لكشفت عن حرش ¬

_ (¬1) قائل البيت عبد الله بن قيس الرقيات، انظر ديوانه 3، الخصائص 2/ 347. (¬2) سورة الإنسان الآية: 21.

يعني عن حرك. " ما بنت العرب من الأسماء والصفات والأفعال غير المعتلة، وما قيس من المعتل الذي لا يتكلمون به ولم يجئ في كلامهم إلا نظيره من غير بابه، وهو الذي يسميه النحويون التصريف والفعل أما قوله: " ما بنت العرب من الأسماء والصفات " فللسائل أن يسأل فيقول: ما وجه فصله بين الأسماء والصفات، والصفات أيضا أسماء؟ فالجواب أن الصفات، وإن كانت أسماء، ففي الكلام أسماء ليست بصفات، وأسماء هي صفات. وإنما أراد الفصل بين الأسماء التي هي صفات، والأسماء التي ليست بصفات نحو: زيد وعمرو وسائر الأعلام وأسماء الأجناس كرجل وفرس، لأن لكل واحد من هذين النوعين أحكاما تفارق بها الآخر في مواضع ستقف عليها، من ذلك جمع أفعل فعل نحو: أحمر وحمر وأشهب وشهب، وجمع أفعل اسما أفاعل، نحو أفكل وأفاكل وأحمد وأحامد، وجمع فاعل نعتا لمذكر يعقل فاعلون وفعال وفعل كقولك " شاهد " و " شهاد " و " شهد " و " ضارب " و " ضراب "، ولا يكون فيه فواعل إلا شاذة نحو فارس وفوارس. فإذا كان فاعل اسما وإن كان لمذكر يعقل كان على فواعل نحو قوم كل واحد منهم يسمى حاتما فإنهم يجمعون حواتم، وكذلك عامر اسم رجل وجمعه عوامر. وقد يوافق جمع الأسماء جمع الصفات في أشياء ستقف عليها مستقصاة. فأما المعتل فهو ما لزمه التغيير ووجب فيه القلب من الياءات والواوات فعلا كان أو اسما، والتغيير على ضربين: أحدهما أن يقلب الحرف على لفظه ويخرج من حيزه إلى حيز حرف آخر نحو " قال وباع " أصله " قول وبيع " فقلبت الواو والياء فيهما ألفين فأعلتا بما وجب من فيهما. وكذلك " ميزان وميقات " كان الأصل فيهما " موزان وموقات ". فقلبت الواو باء فأعلت بما وجب فيها من القلب وإذا لم تتغير الواو والياء عن حلهما لم تكونا معتلتين كقولنا: قول وبيع والضرب الثاني من ضربي التغيير أن يلحق الواو والياء سكون في الموضع الذي يتحرك فيه غيرهما كقولنا: يرمي ويقضي والقاضي والرامي وذلك أنك تقول: ترمي فتسكن الياء في حال الرفع، وحكمها أن تكون مضمومة كقولك في غيرها: يجلس ويضرب وأما الواو فنحو يدعو ويغزو، تسكن الواو في حال الرفع وغيرها يضم كقولك يقتل ويقمد. وأما قوله: " وما قيس من المعتل "، فقد اختلف النحويون في ذلك. فقال سيبويه ومن ذهب مذهبه: كل بناء من اسم أو فعل عرف في كلام العرب

يجوز لنا أن نبني مثلهم وإن كانت العرب لن تبنيه، كقائل قال لنا: كيف تبني من ضرب مثال جعفر؟ فالجواب ضربب وليس في كلام العرب وضربب ولكن في كلامهم مثاله وهو جعفر. وكذلك قيل لنا: ابنوا مثل جحنفل من ضرب قلنا: ضرنبب، وليس في كلامهم ضرنبب، ولكن في كلامهم مثاله وهو جحنفل وشرنبث وما أشبه ذلك ولو قال: ابنوا من ضرب مثل جالينوس لم نبن منه هذا المثال ولم يجز ذلك، وذلك أن العرب لما تجنبت هذا المثال وما أشبهه من الأمثلة التي ليست في كلامهم تميزت أمثلة كلام العرب من غيرها حتى لو ورد علينا شيء ليس في كلام العرب مثاله لرددناه وأنكرنا أن يكون من كلام العرب، فإذا كان الذي يدلنا على أن الكلمة ليست من كلام العرب خروجها عن أمثلتهم لم يجر أن نبني مثالا غير مثالها، فيكون خارجا عن كلام العرب. وإنما نريد أن نتكلم بكلامها ونقيس عليه ونقتدي به. وأما الأخفش فإنه كان يجيز أن نبني من كلام العرب أمثله ليست في كلامها على قياس أمثلتها من الصحيح والمعتل، وذلك أنه لو سئل كيف نبني من ضرب مثال فعل لقال ضرب وليس في كلام العرب فعل. واحتج في ذلك بأن من يخالفه قد بنى مثل فعل من ضرب فقال ضرب، وضرب لا معنى له في كلام العرب، فإذا جاز أن نبني ما، لا نظير له من الأمثلة. ومما يحتج له في ذلك أن القائل لو قال: ابنوا لي مثل جالينوس من ضرب فهو لم يسألنا أن نجعل هذا البناء من كلام العرب أو يلحق به وإنما سألنا أن نكرر من حروف ضرب ونجعل فيه من الزوائد ما يصيره على مثال جالينوس، فجاز أن نفعل ذلك وإن لم يستعمل في الأبنية كلها قياس استعمال العرب فيها استعملت فيه. وقال الجرمي: لا نبني من الكلام شيئا لم تبنه العرب، وذلك أن متى بنينا من ضرب فعل مثل كبد، أو فعلل مثل جعفر فقلنا ضرب أو ضربب كنا قد أتينا بما لا معنى له ولا تتحصل به فائدة ومنا لا معنى له ساقط لا وجه للتشاغل به فسقط كثير من تعب التصريف على قول أبي عمر الجرمي. ومعنى قول سيبويه: " وما قيس من المعتل الذي لا يتكلمون به ولم يجئ في نظيره من غير باب ". يريد ما قاسه النحويون على الأمثلة التي تكلمت بها العرب مما لم تتكلم به، كقول القائل: ابن لي من " غزا " مثل " دحرج "، فجوابه " غزوى " وهو معتل، ولم يجئ في كلامهم غزوى وإنما جاء نظيره وهو سلقى. وأما التصريف فهو تغيير الكلمة بالحركات والزيادات والقلب للحروف التي رسمنا جوازها حتى تصير على مثال كلمة أخرى، والفعل بمثلها بالكلمة ووزنها به كقوله ابن لي من ضرب مثل جلجل فوزنا جلجل بالفعل فوجدناه فعلل

فقلنا ضربب، فتغيير الضاد إلى الضم وزيادة الباء ونظم الحروف التي في ضربب على الحركات التي فيها هو التصريف. والفعل هو تمثيله بفعلل الذي هو مثال جلجل. وأنا أذكر أصول الأبنية من الأسماء والأفعال في كلام العرب في الطرق التي بها يتوصل إلى معرفتها، وكيفية وزن الكلمة بالفعل مقدما وذلك على شرح الغريب الذي يشتمل عليه تمثيلات سيبويه من الأبنية، لأن البناء في الترتيب قبل التمثيل له. ألا ترى أنك تقول في كلام العرب فعل، مثاله كلب، فالبناء فعل وتمثيله كلب. فإذا ذكرنا خواص الأبنية وما يدل عليها ويتعلق بها ذكرنا شرح الأمثلة بغريبها. أما أصول الأسماء المجمع عليها التي لا زيادة فيها فتسعة عشر بناء: عشرة منها ثلاثية وخمسة رباعية وأربعة خماسية. والعشرة الثلاثية، فعل: كلب، وفعل: جمل، وفعل: كتف، وفعل: رجل، وفعل: قفل، وفعل: حرز، وفعل: صرد، وفعل: جذع، وفعل: إبل، وفعل: عنب. والخمسة الرباعية، فعلل: جعفر، فعلل هجرع، فعل غير مدغم الحرف الثالث والرابع نحو: قمطر وسيطر فان كان الحرف الثالث مدغما في الرابع فليس من هذا الباب نحو: خدبّ وحور، وفعلل برثن، وفعلل زبرج. والخماسي فعلّل: سفرجل، فعلل: جردحل، فعلّل: جحمرش، فعلّل قذّعمل. واختلف النحويون في فعلل، فلم يعنه سيبويه في الأبنية الرباعية، وعده الأخفش ومن ذهب مذهبه فيه وقالوا: قد جاء جخدب فقيل لهم: أن جخدبا يقال فيه جخادب، فكأنه جاء مخففا من جخادب، كما قالوا علبط وهدبد تخفيفا من علابط وهدابد فحذف الألف. ومثله عرتن في عرنتن بحذف النون ولا يعد علبط وعرتن في الأبنية الرباعية، لأن الأصل فيها ما ذكرنا، فكذلك جخدب لأن الأصل فيه جخادب، إلا أن جخدبا قد خفف من جهتين بحذف الألف وتسكين الخاء، وسائر ما ذكرنا خفف بحذف حرف واحد فقط، وما كان من الأسماء بعد التي ذكرناها بزوائد دخلت نحو حمار وفلوس على فعال وفعول، الألف زائدة في حمار، والواو زائدة في فلوس، غير أن الزائدة تنقسم قسمين: منه ما يدخل على الاسم أو الفعل ليلحقه ببناء آخر، ومنه ما يدخل عليه لا لإلحاقه ببناء آخر. فأما الذي يدخل عليه لا لإلحاقه ببناء آخر فهو أن تكون حروف الاسم ثلاثة أحرف ثم يدخل عليه حرف زائد فيلحقه بما كان أصله أربعة أحرف من الأبنية التي ذكرنا، فيصير اللاحق مثل الأصلي في ترتيب سواكن حروفه ومتحركاتها ومساواة اللفظ، وذلك كوثر وجلبب وجهور وعثير وخدبّ وكوثر أصله من الكثرة والواو فيه زائدة قد ألحقته بوزن جعفر ونظم حروفه، وكذلك جلبب إحدى الباءين

زائدة، والواو في جهور زائدة، وقد لحق بجعفر. وأما عثير الياء فيه زائدة وقد ألحقته بوزن هجرع ودرهم. وأما خدبّ فإحدى الباءين زائدة وقد ألحقته بوزن قمطر. ويزاد فيه حرفان أيضا فيلحقانه بذوات الخمسة نحو: عفنجج ودلنظى، والأصل فيه عفج ودلظ، فزيدت فيه النون وإحدى الجيمين، والنون والياء، فصار على مثال سفرجل بالزيادتين، وقد يزاد على ذوات الأربعة حرف فيلحقها بذوات الخمسة كنحو جحنفل وسرومط، والنون في جحنفل والواو في سرومط زائدتان وقد ألحقناهما بسفرجل. وأما الزيادة التي تجيء لغير الإلحاق فكثير جدا نحو الألف في ضارب والياء في سعيد والواو في عجوز والنون في قرنفل وغير ذلك مما ستقف عليه. وأما الأفعال فلها أربعة أمثلة أصلية وخمسة عشر مثالا زوائد. فأما الأمثلة الأصلية فهي من الثلاثي ثلاثة ومن الرباعي واحد، والثلاثي من فعل: جلس وهرب، وفعل: عمل وعلم، وفعل: ظرف وكرم، والرباعي فعلل: دحرج وقرقم، وقد ألحق بهذا البناء خاصة من هذه الأبنية أبنية تقف عليها كقولهم: حوقل وسلقى. وأما الأبنية التي فيها الزوائد من الأفعال غير الملحق منها بدحرج فهي من الرباعية ثلاثة ومن الخماسية ستة ومن السداسية ستة. فأما الرباعية بالزوائد فأفعل: أكرم وأفلح، وفعّل: كسّر وحرّك، وفاعل: قاتل وعالج. وأما الخماسية فثلاثة: منها بزيادة التاء في أولها وهي داخلة على الرباعي، وثلاثة بألفات وصل في أولها. فأما التي بزيادة التاء فهي تفعلل: تدحرج وتسرهف، وتفعّل: تحرّك وتجبّر وتفاعل تعالج وتماثل. وأما الثلاثة التي في أول ماضيها ألف الوصل فهي انفعل: انطلق، وافتعل: اعتبط وافعلّ: احمرّ، وأصله احمرر، فأدغم لاجتماع حرفين من جنس واحد في آخر الفعل. وأما الفعل السداسي فهو ستة أبنية في أول ماضيها ألف الوصل فمنها استفعل: استغفر، وأفعالّ: احمارّ وأصله احمارر، وافعوعل: اغدودن وافعّول: اعلّوط، وافعللّ: اقشعرّ، وافعنلل: احرنجم. فجملة الأفعال تسعة عشر بناء لما سمي فاعله سوى ما لحق ببعضه، والأسماء التي فيها زوائد كثيرة وقد أتى عليها سيبويه واحدا واحدا ولم تشذ عليه منها إلا أسماء يسيرة نذكرها في موضعها وأما الطرق التي يتوصل بها إلى معرفة الزيادة فهي ثلاثة الاشتقاق والخروج عن الأمثلة والقياس على زيادة النظر فأما الاشتقاق فهو أن ترد عليك الكلمة وفيها بعض حروف الزيادة فإذا صرفتها سقط ذلك الحرف في بعض تصاريفها، فيحكم على الحرف بالزيادة لسقوطه في بعض تصاريف الكلمة وذلك نحو الهمزة في أحمر والألف

في ضارب والواو في كوثر والياء في سعيد، لأنك إذا اعتبرت أحمر وجدت الفعل الذي تصرف منه أحمر يحمر، لتجد الهمزة ساقطة في يحمر، وتجد أيضا المصدر الذي هو مأخوذ منه الحمرة وليس فيها همزة. وإذا اعتبرت ضارب علمت أن الأصل فيه ضرب والفعل ضرب يضرب، وليس فيه ألف بعد الضاد. وإذا اعتبرت معنى كوثر وصرفته رأيت الواو ساقطة منه، لأن معناه الكثرة، وذلك أن الكوثر هو الكثير الفضائل قال الشاعر: وأنت كثير يا ابن مروان طيب … وكان أبوك ابن العقائل كوثرا أراد بكوثر كثيرا. واعتبرت " سعيد " وجدته من السعادة وفعله سعد وليس فيه ياء. وأما الخروج عن الأمثلة فهو أن ترد الكلمة وفيها بعض الزوائد وليس لها تصريف ولا اشتقاق، غير أن ذلك الحرف الذي يمكن أن يكون أصلا متى جعلنا، أصلا لم يكن له نظير في الأمثلة الأصيلة التي ذكرناها من كلام العرب، من ذلك نرجس يمكن قبل الاعتبار أن تكون زائدة، ويمكن أن تكون أصلية، غير أنا متى جعلنا النون أصلية صارت الكلمة على فعلل وليس في الكلام فعلل على مثال جعفر، فعلم بأن النون ليست بأصلية إذ كان ذلك يخرج الكلمة عن الأمثلة الصحيحة، ومثل ذلك قرنفل وكنهبل يمكن أن تكون زائدة ويمكن أن تكون أصلية، إلا إنها إذا جعلت أصلية صارت الكلمة فعلل مثل سفرجل، وليس في الكلام نظير لذلك، فجعلنا النون زائدة فصار قرنفل فعنلل، وكنهبل فنعلل، فإن قيل: فإن فنعلل وفعنلل ليس في كلام العرب من حيث يقوم عليه الدليل الصحيح، كما ليس في كلام العرب فعلل مثل سفرجل، فما جعل أحد الدعوتين أولى من الأخرى؟ فإن الجواب في ذلك وبالله التوفيق أنه متى وردت علينا كلمة وفيها حرف زائد إذا جعلناه أصليا خرجت الكلمة عن الأمثلة الصحيحة التي لا زيادة فيها، وعن الأمثلة التي فيها الزيادة، فالأولى أن نجعلها زائدة، وذلك أنا رأينا الأمثلة الصحيحة قليلة محصورة وهي التسعة عشر بناء التي ذكرناها والأمثلة التي ذكرها سيبويه من أبنية الأسماء بالزوائد أكثر من أن يؤتى عليه لكثرته وانتشاره، فكأن الزوائد أولى به، وحمله على الكثير أقرب. وأما الحمل على النظير فهو أن تمتحن الحروف في بعض المواضع فيعلم أنه زائد، وتكثر زيادته في ذلك الموضع وبالاشتقاق. فإذا ورد عليك الحرف في مثل ذلك الموضع ولا اشتقاق له قضي عليه بالزيادة حملا على ما قد عرف بالاشتقاق، من ذلك أنا اعتبرنا الهمزة في أوائل

الكلمه وبعدها ثلاثة أحرف فرأيناها زائدة من الاشتقاق في أشياء كثيرة نحو الهمزة في أصفر وأشهب وأكرم، وذلك أن الأصل فيه من الصفرة والشهبة والكرم. ثم ورد علينا أفكل وهو الرعدة، وأيدع وهو صبغ وليس لهما اشتقاق، إلا أن الهمزة قد وقعت منهما في الموضع الذي تقع فيه من الزائد الذي عرف بالاشتقاق وهو أصفر وأشهب، فقضي على أفكل بزيادة الهمزة حملا على أصفر وبابه. ومن ذلك أن رأينا الألف زائدة في أشياء كثيرة إذا وقعت باشتقاق في نحو ثبات وقذال، لأن ثباتا من ثبت، وقذالا يجمع على أقذلة فتسقط الألف التي كانت بعد الدال، فإذا ورد ما لا اشتقاق له والألف في هذا الموضع قضينا عليه بالزيادة نحو الألف الذي في حماط وآلاء وهما شجران. وأما الذي يوزن به الكلام الأصلي فهو الفاء والعين واللام نحو كلب يمثّل ويوزن يفعل، وقفل يوزن بفعل، وكذلك ما سواهما، ويكون نظم الحركات والسكون في المثال كنظمها في الممثل. فإذا كان الاسم أو الفعل على ثلاثة أحرف لم تزد على الفاء والعين واللام في المثال وإن كان على أربعة أحرف وكلها أصول جئت بالفاء والعين واللام، ثم كررت اللام كقولك في مثال جعفر ودحرج: فعلل وفي حبرج: وزبرج فعلل تأتي بالفاء والعين واللام، ثم تكرر اللام وتحرك الحروف على ترتيب الممثل من المثال، وإن كان على خمسة أحرف نحو سفرجل: فعلّل، وجردحل: فعللّ، وتأتي بالحركات على نظمها وترتيبها. فإذا كان الاسم أو الفعل على أربعة أحرف أو أكثر وفيه زيادة في أوله أو وسطه أو آخره مثلت ما كان من الحروف أصليا بالفاء ثم بالعين ثم باللام وجئت بالزوائد على ألفاظها محكية بحروفها، وذلك قولك في كوثر: فوعل، والواو في كوثر زائدة والباقي من حروفه أصلي فوزنت الكاف بالفاء لأنها أصلية وجئت بالواو التي في كوثر على لفظها واوا في فوعل لأنها زائدة، وجئت بالتاء فمثلته بالعين لأنها أصلية، وكذلك قرنفل حروفه كلها أصلية إلا النون، فإذا مثلته حكيت النون في المثال نونا والباقي من حروفه تمثله بالفاء والعين واللام فقلت: فعنلل، ومثله في حيدر: فيعل، وفي ضارب: فاعل: جئت باللام في المثال على لفظها لأنها زائدة قد وطّانا جمهور قصد التصريف والأبنية بما قدمناه وشملناه ما يأتي من كلام سيبويه في الأبنية، وأنا ابتدئ شرح اللغة من مثالاته والزيادة في إيضاح ما استغلق من كلامه، وتقصي ما قصرت فيه إشفاقا من قصور فهم المبتدئ واتكالا على ما يأتي إذا بلغت إليه. أما الباب الأول الذي ذكرناه فغرض سيبويه أن يذكر الأبنية الأصلية وهي العشرة

التي ذكرناها، وأنت تقف على ذلك إذا تأملت كلامه، وأنا أشرح غريبه فمن ذلك الخدل وهو الممتلئ من الأعضاء، ولا يستعمل ذلك في الشراب ولا يقال للمتلئ من الشراب خدل، والجلف وهو الأعرابي الذي لم يخالط أهل الحضر، وهو صفة، وأصله الشاه المسلوخة تسمى جلفا إذا كانت على هيئتها بعد السلخ ولم تقطع، وهو على هذا الوجه اسم، وأتى به سيبويه صفة على الوجه الأول والهرط وهي النعجة المسنة الهرمة، والنقض وهو الجمل الذي هزله السفر، فكأنه نقض عن بنيته وهيئته، والنضو وهو قريب المعنى من النقض الذي أضناه السفر، والصّنع الحاذق الذي يحسن أن يعمل كل شيء، ويقال: رجل صنع وصنع، قال الشاعر: داود أو صنع السّوابغ تبغ وقال أهل اللغة: أن صنع إنما يقال في الإضافة دون غيرها، يقال: رجل صنع اليد، فإذا لم تضف قلت: رجل صنع، " الخرص " وهو حلقة القرط أو غيره، وفي بعض النسخ الحرض، وهو الأشنان، والأكثر في ذلك الخوص ويقال ناقة عبر أسفار، إذا كانت قوية عليها، وهو مشتق من العبور، كأنها تعبر عليها الأسفار، ورجل جد، أي ذو جد، وهو الحظ و " الوقل "، الخفيف الذي يتوقل في الجبل أي يصعد فيه، يقال: وعل وقل ورجل وقل ووقل، يقالان جميعا، قال المتنخل: يجيب بعد الكرى لبيك داعية … وجذامة لهواه قلقل وقل ويروى: وقل، والرجل وهو اللين من الشعر، شعر رجل ومرجل إذا كان مليئا، ويقال: شعر رجل والخلط، والندس، القبول من الرجال الذي يخالط الناس ويخف عليهم، والصّرد والنّغر طائران، " وربع " ولد الناقة الذي يولد في الربيع وجمع صرد ونغر صردان ونغران وجمع ربع أرباع، والحطام الذي يحطم كل شيء ويكثره لقوته وشدته، قال الراجز: قد لفّها الليل بسواق حطم " واللبد " الكثير، قال الله تعالى: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) (¬1)، والختع الدليل وقيل: الخرتع، وسكع ضد الختع، لأن الختع هو المتحيّر الذي لا يهتدي لوجهة ولا يقصدها و " الطّنب " الحبل الذي يشد إلى وتد البيت، وجمعه اطناب، والجمد جبل، قال أمية بن أبي الصلت: ¬

_ (¬1) سورة البلد الآية: 6.

هذا باب ما لحقته الزائد من بنات الثلاثة من غير الفعل

سبحانه ثم سبحانا يعود له … وقبلنا سبح الجودي والجمد والجودى والجمد جبلان، " الأجد " الشديد الخلق، يقال: ناقة أجد إذا كانت كذلك، والنضد هو المنضود، و " النكر " المنكر، قال الله تعالى: (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (¬1)، والأنف أول كل شيء رعيا كان أو غيره، ومنه قول القائل استأنفت هذا الشيء، أي ابتدأته، وبه سمى أنف الإنسان لأنه متقدم في وجهه على سائر الأعضاء والسجح القصد، يقال: مشيت مشية سجحا، أي قصدا. وقال في فعل: " لا نعلمه جاء صفة إلا في حرف من المعتل وهو قولهم: قوم عدى ". وهم الأعداء، فإذا ضممت العين قلت: عداة، وقد تكون العدى الغرباء، وإن لم يكونوا أعداء قال الشاعر: إذا كنت في قوم عدي لست منهم … فكل ما علفت من خبيث وطيب وقد جاء في الصفة غير ما قال سيبويه، من ذلك قراءة بعضهم: (دينا قيما) في معنى قيما، وللمحتج عن سيبويه أن يقول: أن قيما في معنى قياما، والقيام مصدر فيكون القيم مصدرا جعل فيه موضع الصفة. وقالوا: لحم زيم إذا كان متفرقا، قال زهير: لحمها زيم أي متفرق. وقال النابغة: بذي المجاز تراعى منزلا زيما أي متفرق النبات. وقال سيبويه: " لا نعلم في الأسماء والصفات فعل إلا إبل ". وقال الأخفش: يقال امرأة بلذ وهي العظيمة الحسنة، ويقال أيضا للصفرة في الأسنان حبرة، والمعروف في ذلك حبرة، قال: ولست بسعدي على فيه حبرة ويقال للأيطل، وهو الخاصرة، إطل وإطل وأيطل. هذا باب ما لحقته الزائد من بنات الثلاثة من غير الفعل اعلم أن هذا الباب مشتمل على ما كان أصله ثلاثة أحرف فزيدت فيه زيادة أو زيادتان أو أكثر، وهو ينقسم قسمين: منه ما زيد فيه حرف واحد ألحقه ببنات الأربعة، أو ¬

_ (¬1) سورة القمر الآية: 6.

حرفان ألحقاه ببنات الخمسة، ومنه ما زيد فيه حرف أو حرفان أو أكثر ولم يلحق بشيء من الأبنية. وجملة الأمر ما كان في أوله همزة وبعدها ثلاثة أحرف لم يكن ملحقا ببنات الأربعة وسكونها من " أفكل " الهمزة فيه زائدة، ولا يقال أنه ملحق بجعفر، " وأبلم " الهمزة فيه زائدة ولا يقال ملحق ببرثن وكذلك " أجرد " الهمزة فيه زائدة ولا يقال لمحق بزبرج، وذلك لعلة ترد فيما بعد وما كان من ذلك فيه ألف أو واو ساكنة مضموم ما قبلها أو ياء ساكنة قبلها كسرة، فالألف نحو حمار ولسان، فالألف لم تلحق حمارا ولسانا بقمطر، وكذلك الألف في خاتم لم تلحقه بجعفر، ثم اعتبر بعد ذلك. فإن كان الحرف الذي يزاد على ذوات الثلاثة تصير به الكلمة على زنة ذوات الأربعة التي عرفتها في نظم حركتها فهي ملحقة، وإلا فليست ملحقة، وكذلك ذوات الخمسة، وأنت تقف على ذلك من كلام سيبويه إذا تأملته وأنا مفسر غريب هذا الباب وما يعرض فيه مما أهملته. من ذلك " الأفكل " الرعدة، " والأيدع " قال بعضهم دم الأخوين، وقيل الزعفران، وقيل صبغ، قال أبو ذؤيب: فنحا لها بمذلقين كأنما بهما … من النضج المجدح أيدع المجدح: المخوض، " والأجدل " الصقر، " والأئمد " شبيه بالكحل، ويقال: الكحل، " والإجرد " نبت يخرج عند الكماة، ويستدل به عليها، وأنشد المبرد في ذلك: جنيتها من مجتنى عويص … ومن منبت الإجرد والقصيص " وأبرم " موضع، " وأبين " ويقال: أبين موضع بعدن، يقال عدن أبين وأبين، " وأشّفى " وهو المخرز، " والأنّفحة " والانفحة لغتان بالتشديد والتخفيف، ويقال: منفحة أيضا، والذي ذكره سيبويه من ذلك التخفيف، " والإسنام " الواحدة إسنامة، خبرنا ابن دريد بذلك، " والإمخاص " السقاء الذي يمخص فيه، " والإسكاف " عند العرب النجار وهما بمعنى واحد، وكل صانع يقال له إسكاف وأسكوف، قال الشاعر: وشعبتا ميس براها الإسكاف يريد نجارا، وقال آخر: أثبت الأسكوف فيها رقعا … مثل ما يرقع بالكي الطحل الإخليج: الفرس الجواد السريع عن ابن دريد، وقال غيره: الإخليج الناقة المختلج منها ولدها، وقال ثعلب فيما فسر به أبنية كتاب سيبويه المرأة المختلجة من زوجها بموت أو طلاق، فهو في هذا الوجه صفة، وروي عن أبي مالك الأعرابي أن الاخليج نبت فهو في هذا الوجه اسم. والأسلوب الطريق، ويقال أنف فلان أسلوب إذا كان متكبرا،

قال الراجز: أنوفهم ملفخر في أسكوب … وشعر الأستاه في الجبوب والجبوب: ظاهر الأرض والأخدود شق في الأرض من قوله: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (¬1). لأنهم حفروا حفرة في الأرض وجعلوا فيها نارا ليحرقوا المؤمنين، والأزكوب جماعة الركبان، والأملود اللين الناعم والأسكوب والأثعوب وهما واحد، وهو المنثعب المنسكب، قال الشاعر: الطّاعن الطّعنه النّجلاء يتبعها … مثعنجر من دم الأجواف أثعوب وقال آخر: برق يضيء أمام البيت أسكوب " والأفنون " يقال فلان ذو أفانين، أي ذو فنون واحدها أفنون وأفنون، قال الشاعر التغلبي سمي ببيت قاله، وهو قوله: منيتنا الود يا مطنون مطنونا … أزماننا إن للشبان أفنونا أي فنا، فسمي بهذا البيت. ومن ذلك ما ذكره سيبويه في الأسماء أدابر وأجارد وأحامر قال: قالوا في الصفة: رجل أباتر. وأما أدابر فما رأيت أحدا فسره في شيء من الأسماء، وما ذكره سيبويه لا يثبت، وقد ذكر الجرمي فقال: الأدابر هو الرجل يقطع رحمه ويدبر عنها، وقال أبو عبيدة: رجل أدابر لا يقبل قول أحد، وأما أجارد وأحامر فجبلان، وغير مستنكر أن يكون أدابر اسم موضع فيكون في الأسماء. وأما أباتر فزعم الجرمي أنه القصير، وكان اشتقاقه من البتر وهو القطع وكأنه بتر عن حد التمام. ومن ذلك حمار أبتر إذا كان مقطوع الذنب، ورجل أبتر إذا كان منفردا لا نسل له. وقال بعضهم: الأباتر الذي يقطع رحمه ويبترها، وأنشد: شديد وكاء البطن ضب ضغينة … على قطع ذي القربى أحذ أباتر وفيما فسره ثعلب أن أباتر اسم موضع، وهذا عندي غلط، وقع في الكتاب من أدابر إلى أباتر. " والادرون ": الدرن والدنس، قال: فلان يرجع إلى إدرونه، أي إلى أصله ¬

_ (¬1) سورة البروج الآية: 4.

الرديء، " والإسحوف " الواسع من أحاليل الضرع، يقال: إنه لاسحوف، وناقة إسحوف إذا كانت ثرة غزيرة اللبن، " والإزمول " الضعيف. قال سيبويه: " إنما يريدون بالإزمول الذي يزمل " يريد الذي يتبع غيره لضعفه. قال ابن مقبل: مودا أحم القرى أزموله وقلا … ياتى تراث أبيه يتبع القذفا يريد أنه يتبع ما قذف به ولا يطلب معالي الأمور. " ألنجج " هو العود، يقال: ألنجج ويلنجج، وألنجوج، يلنجوج، ويقال فيه أنجوج وينجوج قال أبو دؤاد: يكتبين الأنجوج في كبة المش … تى وبله أحلامهن وسام " وأبنيم " موضع، ويقال له بينهم، قال حميد بن ثور: أو النّخل من تثليث أو من بينهما " وألندد " الشديد الخصومة وهو ألالد، قال الطرماح: يضحى على جزم الجذول كأنه … خصم أبرّ على الخصوم ألندد " وإهجيري " وهجيري وإجريا، ومنهم من يحد إجريا، وذلك كله العادة للشيء والتخلق به، قال ذو الرمة: فانصعن والويل هجيراه والحرب " والأجفلى " وهي الجفلى الكثيرة، تقول: فلان يدعو الجفلى إلى طعامه إذا كان يعم ولا يخص أحدا، قال طرفة نحن في المشتّاة ندعو الجفلى … لا ترى الأدب فينا ينتقر يريد لا ترى الداعي منا يخص، ويروي: الأجفلى، وأسطمة الشيء وسطمته وسطه ومعظمه، " والإرزب " الغليظ، قال الشاعر: إنّ لها مركبا إرزبّا … كأنه جبهة ذرّي حبا المركب يعني به مركب المرأة، وذري حبا: اسم رجل ذري حبا، وقال بعضهم: يريد جبهة رجل يذري الحبوب، " وأيجلي " موضع، وإزفنة فيها وجهان، يقال: رجل إزفنة أي فيه خفه، ويقال: رجل إزفنه إذا كان خفيفا كثير الحركات، " والأنفجل " الذي قد أسن وكبر، قال الراجز: لما رأتني خلقا انفجلا " والألعبان " اللعاب، والأثعبان المنسعب، " والإسحمان " اسم وهو جبل بعينه،

ويروى عن المبرد أنه قال: الإسحمان اسم شجر، ورأيت بعض أهل اللغة أيضا فسر الأسحمان الأسود، وذلك غلط، إنما الأسود الأسحم والذي يروى عن المبرد غلط أيضا، إنما الشجر يقال له: الأسحمان بالضم، وهو شجر يبقى على الجدب، وأنشد الأصمعي: ولا يزال الأسحمان الأسحم … تلقى الدواهي تحته ويسلم (¬1) " الإضحيان " المضي، يقال: " ليلة أضحيانة " أي مضيئة، " والأنبجان، يقال: عجين أنبجان " إذا كان سقي ماء كثيرا وأحكم عجنه، " والأرونان " الشديد، " يقال يوم أرونان إذا كان شديدا قال النابغة الجعدي فظل لنسوة النعمان منا … على سفوان يوم أرونان. وكان بعض الناس ينكر هذا ويزعم أن القصيدة مجرورة أولها: ألا أبلغ بني خلف رسولا … أحقا أن أخطلكم هجاني فهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون قد أقوى، والأخر أن يكون نسب النعت إلى نفسه، والعرب قد تفعل هذا، كما قال العجاج: والدهر بالإنسان دواري … أفنى القرون وهو قعري أراد الدهر بالإنسان دوار " والإمدان " بقية الماء في الحوض، ويقال: الإمدان النز، قال الشاعر: فأصبحن قد أقهين مني كما أبت … حياض الإمدان الظماء القوامح والإربيان هو الذي يسميه العامة الروبيان، واليوم " الأربعاء "، ذكر سيبويه فيه لغتين: الأربعاء والأربعاء، والأربعاء عنده جمع وهو من أبنية الجمع نحو " أصفياء وأنصباء "، وقال صاحب كتاب الفصيح: الاختيار الأربعاء، وقد ذكر أيضا عن الأصمعي، وضبيا، اسم وصفة، فأما كونها اسما فلأنها الأرض التي لا نبات بها، وهي أيضا المرأة التي لا ينبت لها ثدي، وهي أيضا المرأة التي لا تحيض وفيه لغتان: مقصور وممدود، يقال: ضبياء مثل حمراء ممدود غير منصرف، وضبيا مقصور ومنصرف مهموز والهمزة في ضبياء زائدة، وذلك أنهم يقولون: ضبياء مثل حمراء، فالهمزة التي فيها للتأنيث، ويحذفون الهمزة بعد الياء، فعلمنا أنها زائدة. قال الزجاج: ضبيا فعيل، وهو مشتق من ضاهات، أي شابهت وفيها لغتان: الهمز ¬

_ (¬1) انظر الكامل 3/ 407، الخصائص 1/ 229.

وتركه، ويقرأ (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (¬1) (يضاهئون). والمعنى أنها المرأة التي تشبه الرجل، أي أنها لا تحيض، وليس في الكلام فعيل إلا هذا على ما ذكره، وحرف آخر في كتاب العين وهو مما ينكر. " والحطائط " الصغير والهمزة فيه زائدة ووزنه فعائل، واشتقاقه من الحط، كأنه حط عن جرم كبير. " والجرائض " هو العظيم الخلق الضخم وقال بعضهم إنما أخذ من قولنا جرض بريقه إذا غص، لأن ذلك مما ينتفخ له، والشمأل والشأمل والشمل، ويقال: شملت الريح فعلم أن الهمزة فيها زائدة، لأنه يقال الشمال، والصناع المرأة التي تحسن أعمال بيتها، اللطيفة الكف فيما تعاطاه، وبضدها الخرقاء، قال الشاعر: وليست يد الخرقاء مثل يد الصناع " والحاطوم " الممرئ، يقال: ماء حاطوم إذا كان ممرئا، " والفاتور " الفاتر، وناقة كناز اللحم، وضناك إذا كانت مجتمعة مكتنزة اللحم، " والدلاث " السريعة، " والعاقول " الموضع الذي فيه العاطف، " والناموس " الذي يعقد فيه الصائد، واتسع بذلك حتى قيل للسرار الناموس ومنه قول ورقة بن نوفل للنبي: أنه يأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى، يعني الوحي والسرار، وهو جبريل، " والعاطوس " ما يعطس منه، والخاتام الخاتم، قال الشاعر: يا عز ذات الجورب المنشق … أخذت خاتامي بغير حق وخرتام أيضا. قال سيبويه في فصل من هذا الباب: " وأما ما لحقته من ذلك ثالثة " وهو يعني ما لحقته الألف ثالثة. فيكون على مفاعل في الصفة (نحو مقاتل ومسافر، ولا نعلمه جاء اسما وقد يختصون الصفة) بالبناء دون الاسم والاسم دون الصفة، ويكون البناء في أحدهما دون الآخر. فكل واحد منهما يعوض إذا اختص أو كثر فيه البناء لما قل فيه من غير ذلك من الأبنية، ولما صرف عنه من الأبنية، وقد كتب بعض ما اختص به أحدهما دون الآخر، وسنكتب البقية إن شاء الله. قد كنا ذكرنا فيما تقدم أن الصفة وإن كانت اسما فقد يلزم قي بعض الأحوال لأحدهما من الحكم ما يباين به الآخر، فمما باين به الأسم الصفة ما ذكره سيبويه في هذا الفصل أن الصفة قد جاءت على مفاعل نحو: مقاتل ومجاهد، وأنه لا يعلم شيئا من الأسماء ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 30.

جاء على مفاعل، وهو يعني من الأسماء التي ليست بصفات، لأن مفاعلا إنما يجيء مشتقا من فاعل كمقاتل من قاتل ومجادل من جادل، وربما كثر بناء من الأبنية في أحد هذين النوعين، أعني الأسم والصفة، وقل في الآخر كما كثر إفعال في المصادر نحو: " إسلام " وإخراج وإنفاق، وهي مصادر أسلم وأخرج وأنفق. وقل في الصفات كقولهم: رجل " إسكاف "، وكثر في الصفات أفعل كقولهم: " أحمر " وأشهب وأدهم، وما أشبه ذلك وقل في الأسماء إنما جاء " أفكل " وهو الرعدة، " أيدع " وهو صبغ، وأرطي وهو شجر فيمن قال: أديم مرطي، ولا يكاد يعرف غيره. ومعنى قول سيبويه: " فقل واحد منهما يعوض إذا اختص أو كثر فيه البناء لما قل فيه من غير ذلك " أنه متى قل الصفات في بناء من الأبنية وكثرت الأسماء جعل عوض هذا أن تكثر الصفات في بناء آخر وتقل الأسماء كنحو ما ذكرنا. " والقاصعاء " والنافقاء من حجرة اليرابيع، " والسابياء " الجلدة التي تخرج على الولد إذا سقط عن بطن أمه، ولا يقال السابياء إلا لإناث المال على ما ذكر بعض أهل اللغة. وسميت السابياء لسيب النتاج، وهو راجع إلى الجلدة التي ذكرنا. " الجوائز " جمع جائز الخشبة التي تشرع في الأروقة، " وحواجز " جمع حاجز مثل الفراسن والجوائز، والحواجز ذكرها سيبويه في الأسماء ومعناهما ما ذكرنا. فإذا قلت: نسوة جوائز مكان كذا، وعواجز من قولك: جزن وعجزن فهو نعت. " والمداعس " جمع مدعس، تقول: رجل مدعس بالريح، إذا كان حاذقا بالطعن، وهو من دعسه أي طعنه، " البلاليط " الأرضون المستويات، مأخوذ من البلاط وهو وجه الأرض ولا نعلم لها واحدا، " والبلاليق " جمع بلوقة وهي الفجوة في الرمل والطريق فيه. قال: " والصفة نحو العواوير والجبابير ". فأما العواوير فجمع عوار، وهو الرجل الضعيف الجبان، وقد يكون اسما، ولم يذكره سيبويه اسما، فإذا كان اسما فهو البثر في العين والقذى، قالت فيه الخنساء: أقذى بعينك أم بالعين عوار … لكن نكبت لمن أفوت به الدار والجبابير واحدها جبار وهو المتعظم، والجبار أيضا النخلة التي طالت حتى تفوت يد المجتني، قال ابن مقبل: إلا الإفادة فاستولت ركائبنا … عند الجبابير بالبأساء والنعم

" والذراريح "، ويقال الذراريح جمع ذراح، ويقال: ذروح وذرحرح قال الراجز: قالت له وريا إذا تنحنح … يا ليته يسقى على الذرحرح والذرحرح دويبة لها اسم إذا أكل في طعام " والزرارق " جمع زرق وهو الطائر المعروف، ورجل زرق إذا كان حاد النظر، ورجل " حول " إذا كان محتالا حسن لطيف الحيلة " والذفارى " جمع ذفرى وهو العظم الناتي خلف أذن البعير، وقد يستعمل غيره، ومنهم من يجعل الألف للتأنيث فلا ينونها، تقول: هذه ذفرى ينون ويجعل الألف للإلحاق، فإن شئت جمعت على ذفارى، وإن شئت قلت ذفاريا هذا. " وزرافي " يريدون الزرافات، ويروى عن الحجاج أنه قال: إياي وهذه الزرافات، يريد الجماعات، " وفياف " جمع فيفاه وهي الصحراء، " وسعال " ذكرها سيبويه في الصفات، يقال: امرأة سعلاة إذا كانت صخابة، والسعلاة دابة تكون في الصحراء، فهي اسم من هذا الوجه، " وعفارى " جمع عفرية وهو الداهي المنكر، يقال: عفرية نفرية، وعفريت في معنى ذلك، " والجلالبيب " جمع جلباب وهو القميص، " وفساطيط " جمع فسطاط، ومنهم من يقول: فسطاط، ومنهم من يقول فساط وفساطيط " والظنابيب " جمع ظنبوب وهو عظم الساق، ويقال: قرع لهذا الأمر ظنبوبة إذا جد فيه، قال الشاعر: كنا إذا ما آتانا صارخ فزع … كان الصراخ له قرع الظنابيب " والشماليل " جمع شملال، ويقال: شمليل وهو السريع والسريعة. قال كعب بن زهير: حرف أخوها أبوها من مهجنة … وعمها وخالها قوداء شمليل " والرعاديد " جمع رعديد وهو الجبان، " والبهاليل " جمع بهلول وهو السيد، " القرادد " جمع قردد، وهو من الأرض مستواها، " والرعابب " جمع رعبب ورعبوب، وهي الناعمة البدن المرتجة، " والقعادد " جمع قعدد، وله موضعان، يقال: رجل قعدد إذا كان أقرب عشيرته نسبا إلى الجد، ورجل قعدد إذا كان لئيما، قال الفرزدق: قرنبي يحك قفا مقرف لئيم مآثره قعدد " والسراحين " جمع سرحان، ومن العرب من يجعله الذئب، ومنهم من يجعله الأسد، " والضباعين " جمع ضبعان، وهو الذكر من جنسه، يقال للأنثى: ضبع وللذكر ضبعان، " والرعاشن " جمع رعشن، وهو الذي يرتعش ويرتعد، " والعلاجن " جمع علجن

وهو العظيم، والنون فيه زائدة، لأنه مأخوذ من العلج، " والضيافن " جمع ضيفن، وهو الذي يتبع الضيف كالطفيلي، قال الشاعر: إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفن … فأودى بما تقري الضيوف الضيافن والنون زائدة على ما قال سيبويه، لأنه مشتق من الضيف، وقال أبو زيد: يقال ضفن الرجل يضفن إذا عمل ذلك، فالنون أصلية على قول أبي زيد، والهاء زائدة " والفراسن " جمع فرسن وهو مقدم خف البعير، والنون فيه زائدة، لأنه مشتق من فرسه إذا دقه، " والجداول " جمع جدول وهو الأرض ذات الحجارة الكبار، " والقساور " جمع قسور وقسورة، واختلف المفسرون في (فرّت من قسورة)، وقال بعضهم من الصيائد، وقال بعضهم من الأسد. " والحاشور " جمع الحشور، وهو العظيم البطن المنتفخ الجنبين، قال الشاعر: آبك أية أو مصدر … من حمر الجلة جأب حشور إبل في معنى وبلن، " والعثاير " جمع عثير، وهو الغبار، " والحثايل " جمع حثيل، وهو نبت أو شجرة، " والغيلم " ذكره سيبويه في الأسماء، وهو دابة في البحر يقال لها السلحفاة. قال أبو سعيد: رأيت بعض العرب المجاورين للبحر يسمونها الحمسة، وذكر أبو عبيدة أن الغيلم المرأة الحسناء، فإن كان هذا صحيحا فهي صفة في هذا الموضوع، وأنشد المصراع الأخير من قول البريق الهذلي: من المدعين إذا نوكروا … تريع إلى قوله الغيلم وبعضهم يروي هذا البيت الغيلم، والغيلم العظيم. " والغيطل "، ويقال: الغيطلة الشجر الملتف، وهو البقرة كما قال زهير: كما استغاث بشيء فز غيطلة … خاف العيون فلم ينظر به الحشك والغيطلة أيضا اختلاط الظلمة، وربما توسعوا فسموا الجلبة والأصوات المختلطة غيطلة، " والدياسق " جمع ديسق وهو بياض السراب عن ابن دريد، وأنشد: يشق ريعان السراب الديسقا " والغيلم " البئر الغزيرة الواسعة، " والجياحل " جمع جيحل وهو العظيم من كل شيء فيما ذكره الجرمي، وذكر الدريدي أنها الصخرة العظيمة، والدياميس، " جمع ديماس، وهو الشرب العظيم، والدياميم " جمع ديموم وديمومة وهي الأرض البعيدة التي يدوم فيها

السير، " والتتاغل "، جمع تتغل وتتغل، وهو ولد الثعلب، " التناضب " جمع تنضب وهو شجر تتخذ منه القسي، " واليعاسيب " جمع يعسوب وهو رئيس النحل، واليحاميم " جمع يحموم، وهو الأسود، " واليخاضير، " جمع يخضور وهو الأخضر، " قال الراجز: عيدان شطى دجلة اليخضور " وقال العجاج: بالخشب تحت الهذب اليخضور ويقال للبحر خضارة، لخضرة مائه إذا نظر الناظر إليه، قال الشاعر: فإذا خضارة مزيد … غصان يرمى بالزبد واليحامد جمع اليحمد، وهي قبيلة من الأزد، وفي العرب قبيلة يقال لها اليحمد، " واليرامع " جمع يرمع، وهو حجر رخو، ينفت إذا فرك، قال الشاعر: كفا مطلقة تفت اليرمعا والقراويح جمع قرواح وهو الفضاء الذي لا ساتر فيه، قال الشاعر: فمن بنجوته كمن بعقوته … والمستكن كمن يمشي بقرواح " والجلاويخ " جمع جلواخ، قال الجرمي: هو الوادي العظيم والنهر العظيم، وقال المبرد: يقال لما يرتفع من الأرض شعبة، فإذا ارتفع عن ذلك إلى نصف الوادي قيل له الميثا، فإذا زاد على ذلك قيل له ميثا جلواخ، " والكراييس " جمع كرياس، وهو الكثيف، واشتقاقه من الكرس، وهو ما يتلّبد من البول والنّجو من بيى آدم وغيرهم، " والعفاريت " جمع عفريت، وهو المنكر من الجن والإنس، " والجنادب والعناظب " ضربان من الجراد واحدها عنطب وجندب، " والعنابس " جمع عنبس وعنبسة، وهما من نعت الأسد، وهو مشتق من العبوس، والنون زائدة، " والعناسل " جمع عنسل وهو السريع، من عسل يعسل إذا عدا، والنون زائدة، " وسماني ولبادي وحباري " ضروب من الطير، " وماء سخاخين "، إذا كان سخنا، " والبراكاء " الثّبات في القتال قال بشر: ولا ينجب من الغمرات … إلا براكاء القتال أو الفرار " والعجاساء " جماعة من الإبل، " والعياياء " العيي الذي يتوجه للضراب و " الطّباقاء " مثله، وهو الرجل الأحمق قال الشاعر:

طباقاء لم يشهد خصوما ولم ينخ … قلاصا على أكوارها حين تعكف " وسلامان " في أربع قبائل من العرب، في طيئ ومذحج وقضاعة وقيس وعيلان. وأما في مرار فسلمان بتسكين اللام، وهم رهط عبيدة السّلماني، وأصحاب الحديث يقولون السّلماني، وهو خطأ، " وحماطان "، قال الجرمي: هو موضع وأنشد: يا دار سلمى بحماطان أسلمي وقال ثعلب: هو نبت، " وصواعق وعوارض " معروفان، والدّواسر الشديد الماضي. وذكر سيبويه " الزّعارّة والحمارّة والعبالّة "، فأما الزعارة فسوء الخلق، الحمارّة شدة الحر، والعبالة الثقل، يقال: ألقى عليه عبالته أي ثقله، والصّبارة، ولم يذكرها سيبويه، شدة البرد، وليس في الكلام على هذا المثال إلا هذه الأربعة الأحرف، " والهبارية " والهبرية كل ذلك الحزاز في الرأس، " والصّراحية " كالتخليص والتصريح، " والعفارية " الشديد، " والقراسية " الفحل العظيم، قال الفرزدق: ولنا قراسية تظل خواضما … منه مخافته القروم البزل " والرّفاهية " السّعة والدّعة، والعباقية " الرجل الداهية المنكرة ويقال: هو الذي يعبق به كل شيء يتعاطاه للباقته، والحزابية " الحمار الغليظ، قال أميه بن أبي عائذ: أو أصحم حام جراميزه … حزابيه حيدى بالدحال " والعلقى " نبت، فمنهم من ينون ومنهم من لا ينون، " وتترى " تواتر، " وأرطى " شجر يدبغ، " وناقة حلباه ركباه " إذا كانت تحلب وتركب، ويقال: حلبانه ركبانه، قال الشاعر: حلبانة ركبانة صفوف … تخلط بين وبر وصوف " ورجل عزهاة إذا كان لا يشهد اللهو ولا يريده، " ورضوى " اسم جبل، وهو من اسم النساء أيضا، " وعبرى " كثيرة الدموع حزينة، " والبهمي " شوك، يقال للواحد والجميع بهمى والألف للتأنيث، وقال بعضهم: يقال للواحد بهماة، فمن قال ذلك جعل الألف لغير التأنيث، والأول أكثر وأعرف، وقلهي أرض وأجلى أرض، وقال بعضهم هي جبل، قال الراجز: حلت سليمى جانب الجريب … بأجلى محلة الغريب

" ودقرى " قال بعضهم: روضة باليمامة، قال الجرمي: دقرى، " ونملى " وصورى مياه بقرب المدينة، " وجمزى ": الذي يجمز في سيره. وقال الأصمعي: كل ما جاء على فعلى فهو مؤنث، نحو: بشكى ووقدى إلا جمزى فإنه مذكر، وأنشد قول أمية بن أبي عائد: كأني ورحلي إذا رعتها … على جمزى جازي بالرمال والذي عندي أنه قد جاء غير ما قال الأصمعي منه في هذه القصيدة وهو قوله: أو أصحم حام جراميزه … حزابية حيدى بالدحال فحيدى نعت لأصحم وهو عير، " وبشكى " سريعة، " والمرطى ": ضرب من المد والسريع، قال طفيل: تقريبها المرطى والجوز معتدل … كأنه سبد بالماء مغسول قال الراجز: لو أن من بالأدمي والدام … عندي ومن بالعقد الركام لم أخف خيطانا من النعام " وصفوى ": موضع، " وجلباب "، قال بعضهم: قميص، وقال بعضهم: ملاءة، " وقرطاط " " قرطاط " برذعة الحمار، " وسنداد ": موضع، " والشّملال ": السريع، " والطّملال ": الذي ليست ثيابه ببيض، والطّملال: الذئب الأطلس،: " والصفتات " الغليظ الشديد. وقال: ويكون على تفعال في الأسماء نحو: تجفاف وتبيان وتلقاء. قال: " ولا نعلمه جاء وصفا " وقال بعضهم: رجل تلقاء إذا كان كثير الأكل، ورجل تمساح وتمسح إذا كان كذّابا، والّتنبال القصير، فهذه الأحرف إذا كانت على تفعال فهي على غير ما قال سيبويه، لأنها أوصاف. " والكلاء ": الموضع الذي تحبس فيه السفن، وهو المرسى " والقذّاف: " الميزان، والجبّار: النخلة الطويلة " والنشّاب ": طائر، و " الكّرام " الكريم، " والخرشاء " قشر البيضة، وهو جلد الحية أيضا، والخششاء والخشّاء: العظم الذي خلف الأذن، قال: في خششاوي حرة التحرير " والطّرفاء والحلفاء والقصباء "، واحد القصباء قصبة، وواحد الحلفاء حلفة، في قول الأصمعي. وقال أبو زيد: هي حلفة مثل طرفة، وقال الأصمعي: هي جموع، فواحد

الطرفاء طرفة، وواحد القصباء قصبة، " والخضّارى " طائر أخضر، " والشّقارى نبت، " والخيلاء والخيلاء التكبر، " والسّيراء " ضرب من ثياب الحرير، " وقرماء وجنفاء " موضعان، " وسولاف ": اسم موضع، " والسّعدان والضّمران " نبتان، " والعلجان " نبت، قال عبد بني الحسحاس: " والدّرواس ": الكبير الرأس، ويقال: الدّرواس الشديد، " والعصواد ": موضع الحرب، وقال الجرمي: هو الجلبة والصّياح، " والقرواش " من أسماء الرجال، " وجريال ": صبغ أحمر، " والدّيماس ": مثل الدّيماس، " والغيداق " الكبير الواسع، قال تأبط شرّا: بواله من قبيض الشد غيداق وفيما وجد بخط ثعلب من تفسير الأبنية الغيداق من الخيل الطويل، والغيداق أيضا من أسماء ولد الضب، يقال لأول ما يخرج من بيضه الحسل ثم الغيداق ثم المطبّخ، ويقال للضب قبل أن يبلغ غيداق، " والتّوارب " التّراب، " والقنعاس "، من الإبل الشديد، " والفرناس " من نعوت الأسد، وهو مأخوذ من الفرس، والنون زائدة، " وعتوارة " من كنانة، " والقرنبي ": دويبة صغيرة من الحشرات، وهو معروف، " والعلندى " شجر، قال عنترة: سيأتيكم عني وإن كنت نائيا … دخان العلندى دون بيتي مذود وهذا معنى ما يوجبه كلام سيبويه، لأنه جعله اسما، " وقال بعضهم: جمل علندى إذا كان شديدا، " وهذا وصف " ويقال: " جمل علندى " مصروف، " وعلادى " غير مصروف، " والحبنطى ": الممتلئ من غضب أو بطنة، وقد يهمز فيقال: المحبنطي وهو القصير، وحكى الدريدي عن أبي حاتم عن أبي زيد قال: قلت لأعرابي: ما المتكأكي؟ قال: المتأزّف، فقلت: وما المتأزف؟ قال: المحبنطي يا أحمق، والسّبندى والسّرندى، ويقال السبنتى، وهو الجريء الماضي، وهي مصروفة كلها، " والعفرنى ": وهو من نعوت الأسد مأخوذ من العفر، " العنصلاء "، ويقال فيه أيضا: العنصل والعنصل: البعل البرئ، " والحنظباء " ذكر الجراد. " والزّمكى "، والزمجى أصل ذنب الطائر، " والجرشى " النّفس، قال الشاعر: بكت جزعا من أن تموت وأجهشت … إليه الجرشى وارمعل خنينها " والعبدّى " العبيد. هذه الأحرف كلها غير مصروفة، لأن الألف للتأنيث، " والحوصلاء " هي الحوصلة، ويقال: الحوصلّة، والكمرّى عن أبي دريد أنه القصير، وعن

غيره موضع. وذكر سيبويه في الأسماء حيسمان، وهو نبت، وقد جاء صفه، قالوا: رجل حيسمان إذا كان طويلا سمينا آدم، " الخيزران " معروف، وكل عود متثن فهو خيزران، والخيزرانة: سكان الزورق، قال النابغة: يظل من خوفه السلاح معتصما … بالخيزرانة بعد الأين والنجد " والهيردان " نبت، وهو اسم على ما ذكره سيبويه، وفيما فسره ثعلب هو اللص، مأخوذ من الهرد، " والكيذبان " الكذب، " والقيقبان " خشب تعمل منه السروج، قال العجاج: يكاد يرمى القيقبان السرجا … لولا الأبازيم وأن المنسجا ناهي عن الذئبة أن تفرجا " والسيسبان " شجرة، " والهيّبان " الجبان، وقد قالوا: هو الراعي، " والصّليان " نبت " والبلّيان " قالوا: بلد، ويقال: ذهب بذي بليان: أي ذهب حيث لا يدري، قال الشاعر: تنام ويدلج الأقوام حتى … يقال أتوا على ذي بليان " العنظيان " الناعم، ويقال هو أول الشباب، أبو عمرو: العنظيان: الجافي " والخرّبان " الجبان، " والعنظوان " ابتداء الشباب وأوله، وذكر سيبويه بعد العنظوان والعنفوان أحرفا اختلفت فيها النسخ، وجمعها ابن السراج على اختلافها وخرّجها في ورقة. قال أبو بكر بن السراج: وجدت في النسخ بعد ذكر العنفوان، فأما نسخة المبرد " فيكون فعلان الحومّان، والصفة عمدّان والجلبان، ويكون على فعلان نحو فركان وعرفان، ولا نعلمه جاء وصفا ". وفي كتاب ثعلب بخطه بعد العنفوان، ويكون على فعلان في الاسم والصفة، فالاسم خرمان نبت أراه، والجلبان بقلة، والصفة نحو: العمدان طويل، والجلبان صاحب جلبة ويكون على فعلان فركان بغض، واحدّان لا نعرفه اسم رجل، وقد وصفوا به فقالوا: عفتّان، وهو الجافي الأخرق، وهو قليل، وفي النسخة المنسوخة من كتاب القاضي المقروءة على أبي العباس يتبع بناء عنفوان، ويكون فعّلان في الاسم والصفة، فالاسم: النومان والجلبان، والصفة: العمدان، ويكون على فعّلان نحو: فرّكان وعرّفان، ولا نعلمه جاء وصفا. وكذا وجدته في الأبنية للجرمي. قال: ويكون على فعّلان، قالوا: جلّبان ونوّمان، وهما نبتان، والصفة يقولون رجل عمّدان للطويل، إلا أنه يفسد، قول سيبويه بعد

سطور: " وقد قالوا: فعّلان، وهو قليل جدا قالوا: قمّحان وهو اسم ". فهذا يدل على أن الذي مضى إنما هو فعّلان أو فعّلان بتشديد اللام، إلى ما هنا كلام أبي بكر بن السراج. والحومان والخرمان: نبتان، والغمدان: الطويل، ويقال: غمد السيف الطويل، والجلبان: صاحب جلبة، وكذلك في قول من قال: العمدان والجلبان والفركان: البغض من قولك: فركت المرأة زوجها إذا أبغضته، والعرفان اسم رجل، قال الراعي: كفاني العرفان الكرى وكفيته … كلوء النجوم والنعاس معانقه وقال بعضهم: عرفان الكرى، وقال بعضهم: هو المعرفة، وملأمان وملكعان ومكرمان، فهذه أسماء معارف تقع في النداء. فأما مكرمان فمأخوذ من الكرامة، وأما ملأمان فمن اللؤم، وملكعان فمن العبودة والهجنة، " والكبرياء ": الكبر " والسيمياء ": السّيما، فإذا قلت: سيما فهو مقصور، وإذا قلت: السّيمياء فهو ممدود من العلامة، قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعا … له سيمياء لا تشق على البصر أي لا يستثقل الناظر النظر إليه لحسنه، " والجربياء ": الشّمال الباردة، قال الشاعر بهجل من قسا ذفر الخزامى … تداعى الجربياء به الحنينا " والدّبوقاء ": الدّبق، ويقال لكل ما يمتد ويلتزق الدبوقاء، قال رؤبة: لولا دبوقاء إسته لم يبطغ ومعناه لم يتلطخ، " وجلولاء ": موضع، " ومشورى ": موضع، " والحلبلاب " نبت، وزعم بعضهم أنه اللّبلاب، وأن اللّبلاب خطأ، " والسرطراط ": الطويل، وهو الذي أراد سيبويه، لأنه جعلة صفة، والسرطراط: الفالوذج، " والفرنداد " موضع قال العجاج: وبالفرنداد له أمطي وهو شجر، والعجيساء: هي ظلمة الليل ومعظمه، القمّحان: نبت، وقيل صبغ أحمر، قال النابغة: إذا فضت خواتمه علاه … يبيس القمّحان من المدام " والسّمهي " والسّمه: الباطل، ومثل هذا البناء لبدى، ولم يذكرها سيبويه، ومعناها طائر، ويقال للقوم المجتمعين: لبّدى. وذكر سيبويه مكان هذا الحرف البذّرى " وما رأيت

أحدا فسره تفسيرا يرضي، وقال أبو حاتم في تفسير أبنية كتاب سيبويه: بدّرى، بالدال غير المعجمة الباطل، وكذلك حدّرى، " وحوتنان اسم واد في شعر ابن مقبل، وحوفزان ": اسم رجل، وهو الحوفزان بن شريك الشيباني، واسمه الحرث، وإنما سمي بهذا لأن قيس بن عاصم المنقري طعنه فحفزه. قال سيبويه: " ويكون على فعلان "، قالوا: تنفّان ذلك، وتنفه ذاك، ومعناه أول الشيء، تقول: جاءنا علف تئفان ذاك، وتئفه ذاك، وقال بعضهم: معناه النشاط، وهو يرجع إلى المعنى الأول، لأن النشاط يقع في أول الأمر، " وهجيراه ": العادة للشيء واللهج به، " والقتيتي: اللميمة والحثيثي ": " الحث، والمشيوخاء ": " الشيوخ، واللغّيزي ": بعض بيوت اليربوع، وهو مأخوذ من اللغز، " وبقّيري ": لعبة، " والخليطي ": الأمر المختلط، " واليهيري: الباطل "، وهو اليهيّر واليهير أيضا، وحكى أبو عبيدة أن أعرابيا قال لقتيبة الأحمر بالجمزي: ذهبت في اليهيري، يريد ذهبت في الباطل، " ومرحيّا ": زجر، يقال عند الرمي. وبرديّا نهر، زعموا أنه بالشام، والنهر المعروف بالشام بردى، " ورغبوتي ورهبوتي "، ويقال: رغبوت ورهبوت، ومعناه الرغبة والرهبة، تقول العرب: رهبوتي خير من رحموتي، وهو الأغلب على ألسنتهم، ومعناه أن ترهب خير من أن ترحم، " والمكورّى "، يقال: رجل مكورّى إذا كان عظيم روثة الأنف. ويقال: مكورى وامرأة مكوراة إذا كانت كذلك، " واليرمع ": حجر رخو، واليلمق: القباء، " واليعمل ": البعير، ويقال للأنثى: اليعملة وليس بصفة، لأنه لا يقال: بعير يعمل، وإنما يقال: يعمل، فيعلم أنه البعير، ولذلك قال سيبويه: " ولا نعلم يفعلا جاء وصفا "، وبعضهم يرد هذا ويزعم أنه وصف، " واليرقوع " صفة من صفات الجوع، يقال: جوع يرقوع إذا كان شديدا، ويقال أيضا: ديقوع، " واليقطين " كل شجرة لا ساق لها نحو الدّباء، " واليعضيد ": شجر، قال النابغة: يتحلب اليعضيد من أشداقها … صفرا مناخرها من الجرجار " واليسروع ": دويبة تكون في الرمل، وقد تتبع العرب الضمة الضمة، فيقولون: يسروع كما قالوا استضعف، فاتبعوا ضمة الألف ضمة التاء، ومثل ذلك قولهم في الأسود بن يعفر، فضمة الياء لضمة الفاء، ومنهم من يقول: يعفر، ثم يضم الفاء لضمة الياء. " والخيعل ": كساء يخاط طرفاه وتلبسه المرأة للبذلة، " والضّيغم "، من نعوت الأسد، وهو مشتق من الضغم، والضغم العضّ، " والخيفق السريع، والصيرف ":

المتصرف، قال الشاعر: قد كنت خراجا ولوجا صيرفا … لم تلتحصني حيص بيص لحاص " والجيئل ": الضبع، " والقيصوم ": نبت، " والحيزوم " الصدر، سمي بذلك لوقوع الحزام عليه، " والعيثوم " الشديد العظيم من الجمال " قال علقمة: يهدي بما أكلف الخدين مختبر … من الجمال كثير اللحم عيثوم وقال بعضهم: العيثوم الأنثى من الأفيال، وعلى هذا المذهب يكون اسما، وجاء به سيبويه، وصفاء. " والدّيموم ": الغلاقة التي يدوم فيها الشراب، " قال الشاعر: قد عرضت دويبة ديموم " والحيفس "، قال بعضهم: الرجل الجيد البضعة، وقيل: القصير، " والصيهم "، قيل: الذي يرفع رأسه، وقيل: العظيم الغليظ، وقيل: هو مثل الحيفس، وفيهم من يشدد فيقول: صيّهم، والضيعل الصغير الرأس مثل الصّعل، " وحمير " قبيلة، " والحثيل " شجر، وطريم، " ورجل طريم إذا كان طويلا، والحفيثل " اسم شجر، " والخفيدد " السريع، " والهبيّخ " فيما ذكر أبو حاتم السوادي، وهو من كلام أهل اليمن، " والهبيغ " العظيم، واد هبيغ، ونهر هبيغ كان عظيما. الفراء: الهبيغ: المسترخي الأحمق، وأنشد: لا تعدليني بأمرئ هبيخ … هلباجة بخرئه ملطخ وفي كتاب العين، الهبيخة: الجارية التارة. " والخفيفد " مثل الخفيدد " والكديون " دردي الزيت، " ذهيوط " اسم بلد، " عذيوط " الذي يخرج من الغائط عند المجامعة " عليب اسم واد "، قال ساعدة بن جؤية: والإثل من سعيا وحلية منزل … والدوم جاء به الشجون فعليب والشجون شعب تكون في الحرة، وهي مسائل ماء، وعليب اسم واد. " الحذرية ": الأرض الغليظة، " والزّبنية " الواحد من الزّبانية، وهو الشديد، الإعليط الوسم في العنق، من قولك: علطه إذا وسمه، والعلاط: الوسم في العنق، " والمريق " معروف، وأهل اليمامة يسمونه الإحريض، والإحريض العصفر وهما يتقاربان. قال سيبويه عن أبي الخطاب: (كوكب دريء)، وهو أضعف اللغات فيه، يقال كوكب دري، بكسر الدال إذا كان مضيئا، وهو مشتق من درأ يدرأ، كأن ضوءه يدفع بعضه بعضا من لمعانه، ويقال: دري غير مهموز منسوب إلى الدر، ومن قال درّي فلم يهمز خفف الهمزة

من درّي، كما قالوا في خطيئة خطيّة، ومن قال درئ فهو مأخوذ من الضؤ والتلألؤ في معنى دريء، وليس بمنسوب إلى الدّر. " والعليق " شجر، وقال بعضهم: شيء يتعلق بالشجر، " والقبيط " وهو القبّاط معروف وهو الناطف، " والدميص " شجرة، " والسكيت " وقد يخفف فيقال: السكيت، وهو آخر ما يجيء من الخيل في السبق، " والسريط " وهو الأكول لأنه يسترط، وقال بعضهم: يقال للفالوذج: السريط، والسريط: الاستراط، ومن أمثال العرب: الأكل سريطا والقضاء ضريطا. " والمشريق " المشرقة، " المحضير "، فرس محضير إذا كان جوادا، الكرديد: جلة التمر، " الصهميم ": الشديد، " والصنديد ": الريس الشجاع، " وعزويت " اسم موضع، وقيل القصير، وليس هذا بمشاكل ما قال سيبويه، لأن سيبويه جعله اسما، وهذا وصف. " والغسلين ": الغسالة، ومعناه في القرآن عصارة أهل النار، وهو الصديد وما أشبه ذلك. " والحمصيص ": نبت، " والصمكيك " الشديد، " والمرمريس ": الداهية، وهو مأخوذ من المراسة والدربة، " والخنفقيق " الداهية، " والخنشليل ": الجريء الماضي، قال الشاعر: قد علمت جارية عطبول … أنى بنصل السيف خنشليل والخنشليل: الكبير المسن، قال الراجز: خنشلت يا شيخ وفوق الخنشلة … حركت ساقين ورجلا موهنة " والعنظب ": الذكر من الجراد، وقال بعضهم: " جندب " للجندب من الجراد. الحنظأو والكنتأو والسندأو والقندأو والكندأو، والعندأو. فأما الحنظأو فالقصير، وقال بعضهم: هو العظيم البطن، وأما الكنتأو فبعضهم يقول بالتاء وبعضهم بالثاء، ومعناه العظيم اللحية الكثها، وأما السندأو فالجريء المقدم، وأما القندأو فذكر الدريدي أنه الجريء المقدم مثل السندأو، وقال الجرمي معناه القصير، وقال أبو حاتم هو الكبير الرأس الصغير الجسم المهزول، وقال في الحنظأو العظيم البطن، والكندأو: الجمل العظيم الغليظ الشديد. ويقال: " رجل ذو خلفنة " إذا كان ذا خلاف، " والبلغن ": البلاغة، " والعقنقل: الجبل من الرمل، وعقنقل الضب: كشيته، أي شحمه، " وعصنصر ": جبل، وبعضهم يقول موضع، " والضفندد ": الشديد العظيم، " والعفنجج ": الأحمق البليد، قال الراجز: فاحذر ولا تكتر كريا أهوجا … رخوا إذا ساق بنا عفنججا " والعرند ": الشديد، ويقال: عرد وقال الراجز:

والقوس فيها وتر عرند " والجرنبة ": الكثير، يقال: على فلان مال جرنبة، ويقال: جربّة، أي يركبون كما يركب الجرب، " وتنضب ": شجر تعمل منه القسي، " وتتفل وتتفل وتتفل "، وتتفل، كلمة بمعنى واحد وهو الثعلب، ويقال للأنثى: " تتفلة "، وفيها اللغات الأربع، قال الزاجر: وهل علمت يا قفي التتفلة … وفرسن العجل وساق العجلة وغضن الضب ونفخ الأصلة. " والنضرة ": الضّر، " والتّسرة ": السرور، " والتدرأ ": المدافعة في حرب أو خصومة يقال: رجل ذو تدرأ إذا كان ذا مدافعة، قال العباس بن مرداس السلمي: وقد كنت في الحرب ذا تدرأ … فلم أعط شيئا ولم أمنع وهو مأخوذ من درأت، أي دفعت. " الترتب ": النابت، يقال: عليه المجد ترتب، أي ثابت، وهو مأخوذ من الراتب، أي الثابت، وناقة " تحلبه وتحلبه وتحلبه " إذا حلبت لبنا قبل أن يضربها الفحل، " وتقدمة "، وبعضهم يقول: تقديمة، وهو أول تقدم الخيل، " وتحلى ": وهو ما حلي من الأديم، أي قشر وبشر، " وترنموت "، من ترنّم القوس إذا نزع عنها، وذكر الدريدي قال: قوس ترنموت، بتشديد النون إذا كان لها حنين بعد الرمي، " والتمتين " واحد التّماتين، وهو خيوط يشد بها الفسطاط والخيمة، وذكر الجرمي أنه مصدر متن يمتن، " والتنبيت " ما نبت على الأرض، قال رؤبة: صحراء لم ينبت بها تنبيت … ينشق عنى الحزن والبريت وأنشد الدريدي: تنبيت، بكسر التاء، والوجه الأول، لأنه ليس في كلام العرب تفعيل إلا ما كان أصله تفعيل ثم أتبع، لأن سيبويه قد ذكر الترعيب، وهو قطع السنام واحدها ترعيبه، وفيهم من يقول: ترعيب فيتبع الكسر الكسر، قال الشاعر: كأن تطلع الترعيب فيها … عذار يطلعن إلى عذار " والتّرعية "، والتّرعية ومعناهما الراعي، والتعضوض: ضرب من التمر، " والتحموت ": الحميت وهو زق السمن المربوب، " والتذنوب ": البسرة إذا أرطبت من أسفلها قليلا، فهي تذنوب ومذنبة، فإذا بلغت النصف فهي مجزعة، فإذا أرطب أكثرها فهي محلقنة وحلقانة، وقد حلقنت تحلقن، فإذا أرطبت كلها فهي مغوة ومهوة وثعدة، والجمع مغو ومهو وثعد، " والتدورة ": المجلس، والتدورة: الفجوة في الرمل، " والتودية ": العيدان التي يصر بها أخلاف الناقة لئلا يرضعها الفصيل ويطلى ببعر حار، ويسمى الذيار،

قال الشاعر: فإن أودى ثعالة ذات … يوم بتودية أمر بها ذيارا " والتنهية " مستنقع الماء في الموضع الذي ينتهي إليه السيل، " والتؤثور " حديدة يوسم بها الإبل، " والتهبط ": اسم أرض، ويروى عن أبي عبيدة أنه قال: التهبط وتبشر طائر، وبعضهم يقول: التبشر. قال: وفي الأسماء غير المصادر التنوط، وهو طائر يعلق بيضه في أغصان الشجرة، ويعشش فيها يسمى تنوطا، لأنه يقال: نوطت الشيء ونطته إذا علقته به، " وسنبتة "، يقال: مرت عليه سنبتة من الدهر، أي حين منه، وسنبته من الدهر كذلك، " رغبوت "، ويقال: رغبوتي، ومنه الرغبة، " ورهبيت "، ويقال: رهبوتي من الرهبة، وجبروت " جبرية، " والملكوت ": الملك، " ورجل خلبوت "، إذا كان خداعا، قال الشاعر: ولا ائتمنت على مال ولا ولد … إلا يد الخلبوت الخدعة وناقة تربوت إذا كانت فارهة وقال بعضهم: التاء بدل من الدال، والأصل دربوت، فقلبوا الدال تاء لأنهما من مخرج واحد، وقوس " ترنموت "، ويقال: ترنموت إذا صوّتت بعد النزع، والمنجل: حديدة يقطع بها السعف، شبيهة بالكلاب، ورجل " مدعس " إذا كان طمعان بالربح، وكذلك مطعن، ورجل مخصف إذا كان خصّافا، والمخصف: الآلة التي يخصف بها، " والمخدع " بيت صغير " والمنصل " السيف. قال سيبويه: " منتن ومغيرة، كسروا الميم على الاتباع، والأصل منتن من النتن، ومغيرة من الإغارة، والإغارة على أربعة أوجه، تكون من الغارة، وتكون من السرعة، ويقال للخيل مغيرة لأنها غائرة ". وتقول العرب: أشرق ثبير كيما نغير، أي كيما نرحل ونسرع، والإغارة شدة الفتل، والإغارة إتيان الغور، يقال: غار وأغار، وغار أجود. ومن الإتباع الذي ذكره سيبويه: " منخر " والأصل منخر، " وأجؤك " والأصل فيه أجيئك، فضم الجيم لضم الهمزة. " والمعلوق المعلاق "، ولم يجئ في كلام العرب على مفعول إلا أربعة أحرف: المعلوق والمغرود، وهو ضرب من الكمأة، والمغفور والمغثور وهما واحد معناه صمغ، " والزرقم " الأزرق، " وستهم: الإسته " وهو العظيم الإست " والذلقم ": الناقة المسنة والميم زائدة، وأصله من الدلق وهو الخروج عن الشيء، يقال سيف دلوق إذا كان سريع

الخروج عن الغمد، ويقال: ضربه فاندلقت أقتاب بطنه أي خرجت، وإنما سميت دلقما لأنها لا أسنان لها، فلسانها يندلق، والدردء: الدرداء وهي التي لا أسنان لها " والدلامص " والدمالص والدليمص والدلاص كله البراق وحوقل وهو الذي قد أدبر عن النساء، قال الراجز: وحوقل سقنا به فناما فما … درى إذ يهلج الأحلاما أينا سقنا به أو شاما ويهلج الأحلام، أي يغوص فيها، وفي نسخة القاضي مكان حوقل " حومل " ولا تعرف حوملا في الصفات، وإنما جعله سيبويه في الصفات. " وهوزب " الناقة المسنة، " والكوألل ": القصير، قال الشاعر: ليس بزميل ولا كوالل (¬1) وذكر الدريدي في بعض أماليه كوألك، بالكاف، القصير، ولا نعرف هذا إلا من جهته، " والجزول " الأرض الغليظة ذات الحجارة، بزوق: نبت، " حشور " عظيم الجنبين وبحون: المتراكب من الرمل، قال الراجز: من رمل ترنا ذي الركام البحون " والخروع ": كل مالان من الشجرة، وعتود: دويبة وفي كثير من النسخ " علود " والصحيح عتود، ولا أعرف معنى علود في الأسماء، وقد يقال في الصفات: " علود "، " غليظ العنق " والعثول " وهو الضخم الثقيل المسترخي، قال الشاعر: قد قرنوني بامرئ عثول … رخو كحبل الثلة المبتل " والعلود ": الشديد، " والعسود ": دويبة، ويقال: العظاية، " والأتي " مسيل الماء، وقيل أتيّ والأصمعي كان ينكر الضم، " والسّدوس " ضرب من الطيالسة الملونة الخضر، قال الشاعر: فداويتها حتى شتت حبشية … كأن عليها سندسا وسدوسا (¬2) وقال آخر: والليل كالدأماء مستحلس … ومن دونه لونا كلون السدوس فهذا بالضم وأما القبيلة التي يقال لها سدوس فبالفتح، هذا قول أكثر أهل اللغة. ¬

_ (¬1) قاله العجاج انظر ديوانه 151. (¬2) قائله يزيد بن خذاق العبدي انظر المفضليات 143، والأشباه والنظائر 4/ 189.

وكان الأصمعي يقول: القبيلة سدوس بالضم، والطيلسان سدوس بالفتح، وقال ابن حبيب: كل ما في العرب سدوس بالفتح إلا سدوس بن أصمع بن نبهان. " والعطود " السفر البعيد، " والكروس " العظيم الرأس، وهو من صفات الأسد، " والعثوثل " المسترخي كالعثول، " والقطوطى ": البطيء " والغدودن ": الشاب الناعم " زحبونن " اسم واد، العرقوة الخشبة التي على الدلو، " والقرنوة " نبت يدبغ، " والعنفوة ": القطعة من يبيس الحليّ، وهو يابس النص يجمع في الصيف وقد اختلف النسخ في الخنذوة فأما كتاب القاضي فالخنذوة وهي شعبة من الجبل لأن الخنذيذة الشمراخ المشرف من الجبل، والجمع خناذيذ، وهي أيضا من الخيل. وأما في كتاب أبي العباس فالخنزوة، وهي أكبر مثل الخنزوانة، وقد رأيت في بعض النسخ: " حنذوة " وجنذوة وكل يفسر على أنه القطعة من الجبل، وقد ذكره سيبويه بكسر الأول " حنذوة " وقيل بالحاء والجيم والخاء، وهو بناء منكر لأنه ليس في أبنية كلام العرب شيء فيه كسرة وبعدها ضمة وبينهما حرف ساكن. وقد قال بعض النحويين: أصل البناء بضم الأول، وإنما كسر استثقالا للضمتين مع الواو وعلى إنها لغة في المضموم وفي بعض النسخ خنذوة بكسر الحرف الذي قبل الواو، وهذا لا يجوز، لأن سيبويه ذكر بعد هذا إنه ليس في الكلام، واو طرف قبلها كسرة، وإن كان بعد الواو ما يقع الإعراب عليه، يعني حرف التأنيث " والعجّول " ولد البقرة، " والقلّوب " الذئب قال الشاعر: فيا جحمتا بكى أم مالك … أكيلة قلوب بإحدى المذانب " والجحمة ": العين، " والخنّوص ": جرو الخنزير، " والسروط ": الأكول " والضروط ": الضّراط. " والتّنوم ": نبت، ويقال: الشهدانج، " والطخرور ": السحاب، قال الشاعر: إنّا إذا قلت طخارير القزع … نفحلها البيض القليلات الطبع وأما الطحرور بالحاء فإنه يقال: ما عليه طحرور إذا لم يكن عليه شيء من الثياب، " والهذلول ": واحد الهذاليل، وهي الرمال المنقادة المشرفة، " والشؤبوب ": الدفعة من المطر، " والبهلول ": السيد الجامع لكل خير، " والحلكوك والحلبوب ": الأسود، " والبلصوص ": طائر، " والجمع البلنصى "، " والبعكوك ": الرّهج والغبار " والحلكوك ": الأسود. ذكر سيبويه في هذا الباب أن أفعل لم يجئ الا في الجمع نحو: كلب أو أكلب، وأنه لا يكون في الأسماء والصفات غير الجمع، وقال غيره: قد جاء آنك، وهو أفعل

وكذلك آجر، والذيقالة القائل لا يفسد قول سيبويه، لأن آنك أعجمي، وكذلك آجر فهو بمنزلة سوسن وإبريسم وما أشبه ذلك من الأبنية الأعجمية التي لم يأت نظيرها في الكلام؛ كلام العرب. وفي آجر لغات: آجر وآجور وآجر. قال سيبويه: " وقد جاء الأزمول إفعول في الاسم والصفة، والاسم إدرون والصفة إزمول " ثم أنشد لابن مقبل: " عودا أحم القرا إزمولة وقلا … يأتي تراث أبيه يتبع القذفا " فقال: " إنما لحقت الهاء كما تقول نسابة للنساب وليست الهاء من البناء في شيء إنما تلحق بعد البناء ". يعني أن الهاء في أزمولة إنما لحقت بعد أن صح البناء على أزمول، لأن هاء التأنيث بمنزلة شيء ضم إلى شيء وقد مر هذا فيما مضى. ويروى: القذفا والقذفا، ورواه أبو عبيد: أزمولة، وسيبويه: يروي إزمولة، ورواه أبو عبيد أزمولة في باب أفعولة في غريب المصنف. قال: " وقد تكون على فعالى مبدلة الياء فيهما فالاسم صحارى وحبالى وزرافى وقد تكون غير مبدلة الياء فيهما نحو صحار وذفار وفياف ". يعني أن الأصل في هذا البناء الياء، صحاري وذفاري، فإذا قلنا صحارى وذفارى بالألف فإنما أبدلنا الألف من الياء، وإنما صار الأصل الياء من قبل أن ألف الجمع إذا دخلت ثالثة في نحو هذا البناء كسر ما بعدها، كقولك: مسجد ومساجد وقنديل وقناديل فإذا جمعنا ذفرى أدخلنا ألف الجمع ثالثة بعد الفاء كما نفعل ذلك في درهم ثم كسرنا الراء لوقوعها بعد ألف الجمع، فإذا كسرنا الراء انقلبت الألف التي في ذفرى ياء لوقوعها بعد كسرة الراء في الجمع، وكذلك الكلام في ذفرى مقصور. وأما صحار ففيه ثلاثة أوجه: يقال صحاريّ بالتشديد وصحاري بكسر الراء والياء بلا تشديد وصحارى بفتح الراء والألف. فأما من قال صحارى وهو الأصل فإنه جمع صحراء فأدخل ألف الجمع ثالثة بعد الحاء ثم كسر الراء التي بعد الحاء فانقلبت الألف التي بعد الراء ياء ثم قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء فيها. وأما من خفف فإنه يحذف الياء الساكنة التي انقلبت من الألف فتصير بعد الراء ياء ساكنة، وهي تسقط في حال الرفع والجر ويكون التنوين عوضا منها كقولك: هذه صحار ومررت بصحار، وتثبت في النصب كقولك: رأيت صحاري طيبة. ونظير حذف هذه حذفهم إياها في كرابس وقراقر، والأصل كرابيس وقراقير، لأنه جمع

كرباس وقرقور، فإذا أدخلت ألف الجمع بعد الراء في كرباس انكسرت الياء فتنقلب الألف ياء ثم تأتي بالسين، وكذلك إن أدخلت الألف بعد الراء في قرقور وانكسرت القاف فانقلبت الواو ياء ثم تأتي بالراء فإذا قلبتها ألفا فقلت صحارى فإنما قلبت الياء ألفا، لأن الألف أخف من الياء، ولأن الألف أيضا لا تسقط بلحاق التنوين بها كسقوط الياء في قولك: صحار وعذار، وإنما لم تسقط الألف لأنها لا تتحرك، ولأن التنوين لم يلحقها إذا كان البناء غير منصرف ولحق التنوين الياء من قبل أن البناء قد كان الأصل فيه أن يقال: عذارى وصحارى بحق الأسمية إذ كانت الأسماء كلها في الأصل منصرفة، ومنع البناء الصرف كما منع قواتل ومساجد، ثم استثقلت الضمة على الياء فسكنت في حال الضم، فاجتمع في هذا البناء شيئان: أحدهما منع التنوين الذي هو له في الأصل، والآخر تسكين الياء، فأجحف به ذلك فعوضوا منه تنوينا بعد الياء الساكنة فاجتمع له ساكنان: الياء والتنوين، فسقطت الياء لاجتماع الساكنين. وقال الزجاج في هذا: إن التنوين الذي فيه هو التنوين الذي يدخل الاسم علامة للصرف وليس يعوض من المحذوف، ولكن الاسم نون على ما يستحقه من التنوين في الأصل، ثم سكنت الياء استثقالا للضم والكسر عليها، فاجتمع ساكنان فحذفت الياء، ويلزم الزجاج عندي أن يضمن نحو مطايا ومدارى بالتنوين الذي هو الأصل لأنه قد بقي التنوين قبل حذف الياء في قوله جوار ثم حذف الياء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه عقيب قوله: " ويكون على فياعل فيهما ": فالأسماء نحو: جنادب وخنافس وعناظب، والصفة: عنابس وعناسل، فجميع ما ذكرت لك من هذا المثال الذي لحقته الألف ثالثة لا يكون إلا للجمع، فلا تلحقه ثالثة في هذا المثال إلا بثبات زيادة قد كانت في الواحد قبل أن يكسر أو زيادتين كانتا في الاسم قبل أن يكسر إذا كانت إحداهما رابعة حرف لين، فإن لم تكن إحداهما رابعة حرف لين لم تثبت إلا زيادة واحدة إلا أن يلحق إذا جمع حرف اللين فإنهم قد يلحقون حرف اللين إذا جمعوا، وإن لم يكن ثابتا رابعا في الواحد. وقد بينا ما جاء من هذا المثال والهمزة في أوله مزيدة في باب ما الهمزة فيه زائدة وليس شيء عدته أربعة أو خمسة وكسر بعدته يخرج عن مثال مفاعل ومفاعيل فمن ثم جعلنا حبالي الألف فيه مبدله من الياء كبدلها من الياء مدارى. وقد قال بعض العرب: بخاتي، كما قالوا: مهارى، فحذفوا كما حذفوا أثاف ثم أبدلوا كما أبدلوا صحارى أما قوله:

فجميع ما ذكرت لك من هذا المثال الذي لحقته الألف ثالثه لا يكون إلا للجميع. يعني جميع ما ذكره من حد قوله: " ويكون على مفاعل ومفاعيل في الاسم والصفة "، وكذلك كل ما كان في كلام العرب أوله مفتوح وثالثه ألف وبعد الألف حرفان أو ثلاثة أو حرف مشدد وليس في آخرها هاء التأنيث فإنه جمع لا يكون إلا ذلك. فأما الذي بعد ألفه حرفان فمساجد وقواتل، وأما الذي ألفه ثلاثة أحرف فقناديل وكرابيس، والذي بعده حرف مشدد فنحو: دوابّ ومداقّ. وإذا كان في آخره هاء التأنيث جاز أن يكون للواحد كقولك: رجل عباقيه وحمار حزابية وكراهية ورفاهية وما أشبه ذلك. فإن قال قائل: فقد رأينا هذا المثال للواحد وهو قولهم للضبع حضاجر، قيل له: ليس الأمر على ما ظننته، وذلك أن حضاجر جمع حضجر، وهو العظيم البطن، قال الشاعر: حضجر كأم التوأمين توكأت … على مرفقيها مستهلة عاشر وإنما سميت الضبع حضاجر بجمع حضجر كأنها جماعة ضم بعضها إلى بعض. قوله: " فلا تلحقه ثالثة في هذا المثال إلا بثبات زيادة فقد كانت في الواحد أو زيادتين ". يعني أن الجموع التي ذكرها من الفصل الذي ذكرناه إلى حيث انتهى فيها سوى ألف الجمع إما زيادة وإما زيادتين، وذلك أن الباب من أوله إلى آخره يشتمل على ما كان أصله ثلاثة أحرف ويزاد فيه حرف أو حرفان، فإذا جمع فالجمع ما فيه زيادة حرف أو حرفين. فأما ما فيه زيادة حرف سوى ألف الجمع فعناسل ويرامع وجداول، لأن النون في عنسل والياء في يرمع والواو في جدول زوائد، وليس في هذه الأسماء من الزوائد غير واحدة. وأما ما فيه زيادة حرفين سوى ألف الجمع فنحو عفاريت وقراويح وذلك أنهما جمع عفريت وقرواح، والياء والتاء في عفريت زائدتان وكذلك الواو والألف في قرواح زائدتان. وقوله: زائدتين كانتا في الاسم قبل أن يكسر إذا كانت إحداهما رابعة حرف لين، فإن لم تكن إحداهما رابعة حرف لين لم تثبت إلا زيادة واحدة ". يعني أنه متى كان في الثلاثي زائدتان ثم جمعناه حذف أحد الزائدتين، لأن الاسم لا يجمع إذا كان على خمسة أحرف إلا أن يكون الرابع خوفا من حروف المد واللين وهي الألف والواو والياء، فجمعنا عفريتا وبهلولا وجلبابا، فالياء والتاء في عفريت زائدتان،

والياء رابعة وإحدى اللامين في بهلول مع الواو زائدتان، وكذلك إحدى الياءين مع الألف في جلباب زائدتان، والألف والواو رابعتان فثبت ذلك كله في الجمع لأنها رابعة. فإذا كان في الاسم زائدتان وليس أحدهما من حروف المد واللين رابعا سقط أحد الزائدين في الجمع كقولك في حبنطي ودلنظى وعفنجج وقلنسوة، النون في هذه الأسماء والحرف الأخير زائدتان، فإذا جمعنا، أسقطنا أحد الحرفين، ولنا أن نسقط أيهما شي ءنا. فإن أسقطنا النون قلنا دلاظى وحباطى، وإن أسقطنا الأخير قلنا حبائط ودلانظ ونحو ذلك مغتسل، الميم والتاء فيه زائدتان لأنه من الغسل. وإذا جمعناه قلنا مغاسل لا غير. وفي الرباعي الذي لا زائد فيه هذا الجمع كقولنا: سلهب وسلاهب، وجعفر وجعافر، ويجمع الخماسى فيحذف منه حرف كقولنا: فرزدق وفرازد، وسفرجل وسفارج، وهمرجل وهمارج. وقوله: " لم تثبت إلا زيادة واحدة إلا أن تلحق إذا جمع حرف اللين فإنهم قد يلحقون حرف اللين إذا جمعوا وإن لم يكن ثابتا رابعا في الواحد ". يعني أنهم قد يجمعون الاسم الذي على أربعة أحرف وليس رابعه حرف مد فيزيدون في جمعه ما لم يكن في الواحد كقولهم: درهم ودراهم، وصيرف وصيارف، وذلك لأحد وجهين: إما أن يكون لإشباع كسرة الحرف الذي وقع بعد الألف، كقولهم: دراهيم وصياريف. قال سيبويه: " مدوه "، يعني زادوا هذه الياء بعد الكسرة بعد الياء فمدوا، ولم يكن في الواحد، وكأنهم جمعوا في التقدير درهام وإن لم يكن مستعملا. والوجه الثاني أن تزاد هذه الياء عوضا من محذوف، وذلك في فرزدق ونحوه إذا جمعناه فحذفنا منه حرفا جاز أن نعوض من ذلك الحرف ياء فنقول إذا لم نعوض في سفرجل وفرزدق: فرازد وسفارج، فإذا عوضنا: فرازيد وسفاريج، وقوله: " وليس شيء عدته أربعة أو خمسة يكسر بعدته يخرج عن مثال مفاعل ومفاعيل ". ويعني ليس اسم على أربعة أحرف أو خمسة أحرف قد جمع على تمام حروفه إلا وهو على هذين المثالين مفاعل ومفاعيل. فالأربعة على مثال مفاعل نحو: مسجد ومساجد، وقردد وقرادد، وقلوص وقلائص، والخمسة نحو: قنديل وقناديل، ومنديل ومناديل، وقنطار وقناطير، وبهلول وبهاليل، وقد يكون الاسم على أربعة أحرف ولا يجمع على تمام حروفه فلا يكون على مثال مفاعل ومفاعيل كقولنا: قلوص وقلص، وكتاب

وكتب، وبلصوص وبلنص. " فمن ثم جعلنا حبالى الألف فيه مبدلة من الياء كبدلها من ياء مدارى ". يعني أن حبلى لما جمعت على تمام حروفه وجب أن يقال: حبالى لما ذكرنا أن ما بعد ألف الجمع مكسور ولما ذكره سيبويه أن ما جمع على تمامه مما هو على أربعة أحرف أو خمسة يكون على مثال مفاعل أو مفاعيل، والحرف الذي بعد الألف مكسور، فإذا رأينا حبالى اللام مفتوحة وهي جمع حبلى علمنا أن الأصل فيه حبالى حتى يكون على مثال مفاعل. فإن قيل: فهذه الجموع التي ذكرها سيبويه ما كان على أربعة أحرف أو خمسة أحرف منها ما هو على مفاعل ومفاعيل نحو: مساجد ومفاتيح ومنها على غير مفاعل ومفاعيل لأن فيها فعاعل نحو: سلالم ودرارح وفيها فعاليل نحو: كلاليب وغير ذلك من الأبنية، فلم جعلها كلها على مثال مفاعل ومفاعيل؟ قيل له: إنما جعلها سيبويه على مثال مفاعل ومفاعيل في أن بعد ألف جمعه حرفان، وإن كان ثلاثة أحرف فهو على مثال مفاعيل، ولم يقل سيبويه هذه الجموع على مفاعل ومفاعيل، ولو قال على مفاعل ومفاعيل كان قد وزنهما بهذين المثالين، وكان الظاهر يوهم ما توهمته، ولكنه قال: على مثال مفاعل ومفاعيل، فتبين الفصل بينهما. " وقد قال بعض العرب بخاتى كما قالوا مهارى، حذفوا كما حذفوا أثافى، ثم أبدلوا كما أبدلوا صحارى. يعني أنهم قالوا: بخاتى والأصل بخاتّي بالتشديد لأنها جمع بختي، فإذا أدخلنا على بختى ألف الجمع ثالثة بعد الخاء كسرنا التاء وبقيت الياء على التشديد ولم يحذف شيئا، لأن في الواحد حرفا من حروف اللين قد وقع رابعا وهي الياء الأولى من الياءين، وصارت الياء الأولى بمنزلة الياء في مفاعيل، وقد بينا أن مثل هذه الياء قد تحذف، مثل قولهم: قراقر وكرابس في قراقير وكرابيس، وقد ذكرنا ذلك في صحار، فلما خففوا هذه الياء وحذفوها صارت بخاتى، وقلبوا الياء ألفا لما ذكرناه، وكذلك مهارى كان أصله مهاريّ لأنه جمع مهرية أو مهري، وهو ما كان من الإبل منسوبا إلى مهرة بن حيدان، وهم قبيلة من اليمن من قضاعة بناحية الشجر، والعمل في مهارى كالعمل في بخاتي. وأما أثافى فالأصل فيه أيضا أثافيّ لأنه جمع أثفيّة، ثم حذفوا الياء الأولى لما ذكرناه فصار أثافه ولا يكادون يقلبونها ألفا فيقولون أثافى كما فعلوا ذلك بمهارى، وإنما شبه سيبويه مهارى باثافى بالتخفيف في القلب، قلب الياء ألفا. فإذا ورد مثل الجمع الذي مضى بضم أوله فإنما صير واحدا يدل على جمع، كقولهم سكارى وكسالى، جعل

سكارى وبابه بمنزلة حبارى وسمانى والألف للتأنيث، وإذا فتحت أوله فقلت سكارى وكسالى فليست الألف للتأنيث، بل هي بدل من الياء، وفي سكارى وببابها قولان: أحدهما أن هذا الجمع بمنزلة اسم مبنى الواحد، ودل به على جمع كقولهم: بقر وجامل ونفر ورهط، هذه أسماء أحاد وهي دالة على جموع، والوجه الثاني أن سكارى وكسالى ليست بجمع سكران وكسلان على توفية حروفه، ولكنها جمع على حذف الزوائد منه، ألا ترى أنك تقول: قلوص وقلاص، فقلاص ليست بجمع قلوص على توفية حروفه، لأن الواو التي كانت في قلوص لم نأت بها في قلاص، بل حذفنا الواو ثم جمعنا الباقي على قلاص كما يجمع كلب على كلاب، وكعب على كعاب، ولو قلنا قلائص كنا قد وفينا الحروف، لأنا جئنا بألف الجمع فأدخلناها ثالثة فوقعت بعد اللام وجعلنا الواو في قلوص همزة، وكذلك كسالى وسكارى كأنا جمعنا سكر وكسل على سكارى وكسالى، ويقوى ذلك أن نجمع زمنا وضمنا على زمنى وضمنى فنجمعهما على غير زيادة، ونأتي في الجمع بألف تأنيث، فكذلك كسالى زدنا ألفا في الجمع كما نزيدها في كلاب، وألفا للتأنيث كما نزيدها في زمنى وضمنى وهذا أقوى القولين وأشبههما بمذهب سيبويه، لأن سيبويه ذكر أن فعالى لا يكون وصفا إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو مجالى وسكارى. فقوله: " إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع "، دليل على أن الألف الأولى وألف التأنيث زيدا للجمع على سبيل التكسير، كما زيدت ألف كلاب وألف زمنى وضمنى. قال سيبويه: " وليس في الكلام مفعال ولا فعلال ولا تفعال إلا مصدا " فأما مفعال فلا يعرف في الكلام البتة، وأما فعلال فقد جاء في الرباعي كثيرا نحو قولك: صلصال وخلخال وناقة خزعال وإنما أراد سيبويه فعلال الذي إحدى اللامين فيه زائدة لأنه في باب الثلاثي وهذا كما قاله. وأما تفعال فإن المصادر تجيء بفتح التاء كقولك: ترداد وتكرار وتثقال، وهذه الألف بمنزلة الياء في تكرير وتقتيل وترديد، والياء مفتوحة فيهما، ولم يجئ في المصادر بالكسر إلا حرف واحد وهو تبيان مصدر بيّن. وقال بعض أهل العلم: لم يجئ تبيان على أنه مصدر وإنما هو اسم وافق معناه معنى المصدر فاستعمل في موضعه كما استعمل كثير من الأسماء مواضع المصادر، ألا ترى أنك تقول: أطعمت زيدا طعاما والطعام هو المأكول فجعل طعام في موضع إطعام. وليس في الكلام تفعال إلا مصدرا، كما ليس أفعال إلا جمعا. وأما الأسماء فيجيء، فيها تفعال نحو: تجفاف وتمثال وتعشار موضع وتمساح هو الكذاب، ومرّ من الليل تهواء، ونظائره كثيرة لهذه الأسماء بكسر التاء.

وقال: " وجاء في الكلام على فعلاء نحو قوباء " فإن قيل: لم جعل الواو في قوباء أصلية فجعلها عين الفعل وهو قد قال: طومار وسولاف إنهما على فوعال فجعل الواو زائدة، قيل له: أما طومار فإنه جعل الواو زائدة، لأن من حكم الياء والواو والألف إذا وجدناهن في شيء من الكلام ووجدنا سواهن ثلاثة أحرف قضينا عليهن بالزيادة لكثرة ما وجدناهن زوائد إلا أن يدل دليل على أنها أصول، وطومار قد وجدنا سواهن ثلاثة أحرف، وهي الطاء والميم والراء فقضينا على الواو والألف بالزيادة. وأما قوباء فهي معنى قباء، وقوباء فعلا فثبت أن الواو أصلية، وأيضا فإنه مشتق من القوب، والواو أصلية وذكر فيعال فقال " شيطان "، فجعل النون أصلية وجعله مشتقا من شطن ومعناه البعد، فكأن الشيطان هو المبعد في الشر، وقد قال الشاعر: أيما شاطن عصاه عكاه … ثم يلقى في السجن والأغلال وقد قال بعض أهل اللغة الشيطان فعلان والنون زائدة والياء أصلية، وهو مشتق من شاط يشيط، وشاط معناه هلك، فكأنه الهالك خبثا وتمردا. قال: " وتلحق خامسة "، يعني الألف مع زيادة غيرها لغير التأنيث، ولا يلحق خامسة في بنات الثلاثة إلا مع غيرها من الزوائد، لأن بنات الثلاثة لا تصير به عدة الحروف أربعة إلا بزيادة، لأنك تريد أن تجاوز الأصل؛ يعني أنها تلحق مع زيادة أخرى ذوات الثلاثة لغير التأنيث، وإنما تتبين الألف التي هي للتأنيث من التي لغير التأنيث بالتنوين، لأن ألف التأنيث لا يدخلها تنوين كقولك: هذه حبلى وحبارى وزمكى وما أشبه ذلك. والألف التي لغير التأنيث يدخلها التنوين كقولك: حنبطى وملهى وما أشبه ذلك. وإنما دخلها التنوين لأن الأصل فيها إما ياء وإما واو، وقعت طرفا وانفتح ما قبلها، وذلك قولك: حبنطى وقرنبى، والأصل فيه حبنطي، فانقلبت الياء ألفا وبقي التنوين الذي كان فيه. وقوله: " ولا تلحق في بنات الثلاثة إلا مع غيرها من الزوائد ". فلقائل أن يقول: إن هذا كلام لا فائدة فيه، لأنا قد علمنا أنه لا يدخل حرف على ذوات الثلاثة فيصر خامسا منها إلا ومع ذلك الحرف الخامس حرف آخر، وإلا ما كان يصير خامسا. فالذي عندي أنه أراد بذلك أن الألف إذا كانت خامسة لغير التأنيث في ذوات الثلاثة فمنعها غيرها من الزوائد التي لم تدغم في حرف من الاسم كما قد يكون

ذلك فيما ألفه للتأنيث سمهّى وزمكّى وعبدّى، فهذه الألفات للتأنيث، ولا يكون في نحو هذه الأسماء الألف لغير التأنيث. قال: " وقد بينا ما لحقت للتأنيث خامسة فيما لحقته الألف رابعة ببنائه مما جاء فيها وفي ما الهمزة أوله فريدة وفيما لحقته الألف ثالثة ". يعني قد ذكر ألفات التأنيث خامسة في الأسماء التي عقبها بهذا الكلام. وقد كان ذكر ألف التأنيث خامسة في فعلاء ونحوها كحمراء وعزلاء، فألف التأنيث قد وقعت في حمراء خامسة وقبلها ألف زائدة رابعة، فقلبت ألف التأنيث همزة. وقوله: " وفيما الهمزة أوله مزيدة ". يعني وقد بينا أيضا ألف التأنيث خامسة فيما الهمزة أوله فريدة نحو: أجفلى وأيجلى. وقوله: " وفيما لحقته الألف ثالثة "، يعني في جمادى وسكارى، لأن ثالثها ألف زائدة وخامسها ألف التأنيث. قال: " ويكون الاسم فيعلان نحو: الضميران والأيهقان ". وهما نبتان، فقال قائل: إن زعمتم أن الأيهقان فيعلان فهلا جعلتموه أفعلان، لأن من حكم الهمزة إذا كانت أولا وبعدها ثلاثة أحرف أن نقضي عليها بالزيادة، قيل له: من حكم الهمزة إذا كانت أولا أن نقضي عليها بالزيادة وإذا كانت على ما وصفت، ومن حكم الياء إذا وقعت في كلمة وفيها ثلاثة أحرف سواها أن نقضي عليها بالزيادة، فقد اجتمع الأمران في هذه الكلمة، ولا بد من جعل إحداهما زائدة إذ لا سبيل إلى جعلهما زائدتين لأنهما لو جعلناهما زائدتين والألف والنون أيضا زائدتان بقيت الهاء والقاف أصليتين فقط، ولا يكون الاسم على حرفين. فلما صح أن الهمزة والياء إحداهما زائدة نظرنا أيهما أولى بالزيادة في هذا الموضع واعتبرنا ذلك بالنظائر فرأينا الياء أولى بالزيادة، لأنا إذا جعلناها زائدة صارت الكلمة على فيعلان نحو: ضيمران وخيزران. وإذا جعلنا الهمزة زائدة صارت على أفعلان، وليس في الكلام أفعلان. وقال بعد ذكر الألفات خامسة وبعدهن حرف من الكلمة: " وقد بينا ما لحقته خامسة لغير التأنيث فيما مضى ". يعني الألف نحو سرطراط، والألف التي قبل الهمزة في دبوقاء وبروكاء. وقال بعد فصل ذكر فيه الألف أنها تلحق سادسة للتأنيث ولغير التأنيث، فأما التي للتأنيث فقد بينها ونص عليها كالألف التي هجيرى وقتيتى، وأما التي لغير التأنيث فهي الألف التي قبل الهمزة في معبوراء ومعلوجاء، ومثلها ألف في أشهيباب ونحوه.

هذا باب الزيادة من موضع غير حروف الزوائد

ثم قال: " وليس في الكلام بفعال ولا بفعول. فأما قول العرب: في اليسعروع يسروع فإنما ضموا الياء لضمة الراء، كما قالوا استضعف " اقتل " لضمة التاء ". يعني أنهم شبهوا اتباع الياء للراء في الضم باتباع الهمزة للتاء في استضعف، أقتل، وكان الأصل في ألف استضعف، اقتل الكسر لأنها ألف وصل أتي بها للتوصل إلى الساكن الذي بعدها فصار بمنزلة ما يكسر من الحروف لاجتماع الساكنين نحو: قامت المرأة، ولم يقم القسم، وكرهوا أن يخرجوا من كسره إلى ضمة ليس بينهما إلا حرف ساكن ليس بحاجز حصين، وليس في كلامهم شيء مبناه على كسرة بعدها ضمة نحو: فعل، فأتبعوا الكسر الضم ليدل على ما لم يسم فاعله إذا كان الضم دليلا على ما لم يسم فاعله، ثم اتبعوا الفتح الضم أيضا في يسروع ويعفر تشبيها باستضعف واقتل. قال: " ويكون الاسم على فعلوه نحو: حنذوة، والهاء لا تفارق هذه الواو كما لا تفارق الهاء ياء حذرية وأخواتها ". يعني أنه قد جاء فعلوه وأنها لا تفارق هذا البناء كما لم تفارق حذرية، وقد عرفتك أن من الناس من يقول حنذوه بكسر الأول وضم الحرف الذي قبل الواو. ومنهم من يكسر الحرفين جميعا، وبنيت لك خطأ قول من قال إن الحرف الذي قبل الواو مكسور بالهاء فعلوه، كما جاء فعليه نحو: حذريه وعفريه. وفي هذا الباب أشياء كثيرة قد جعلها سيبويه زوائد، وقد يمكن أن يعتقد أنها أصلية على ما يوجبه ظاهر العربية والتصريف، وأنا أذكرها حرفا حرفا وأبين زيادة الزائد منها بالاشتقاقات والدلائل التي لا يقع لمتأمليها ريب فيها إن شاء الله تعالى هذا باب الزيادة من موضع غير حروف الزوائد اعلم أن الزيادة في الثلاثي قد تقع في موضع عين الفعل، وإن لم يكن ذلك الحرف من حروف الزيادة؛ كقولنا قوم سرّق إحدى الراءين في سرق قد زيدت على الراء التي في الأصل؛ لأن الأصل راء واحدة إذا كانت من السرقة والراء عين الفعل وليست من حروف الزيادة. زادت العرب في الثلاثي من موضع عين الفعل في أربعة أمثلة وهي فعّل وفعل وفعل؛ فإما فعّل فذكره سيبويه اسما وصفة، فالاسم حمّر وهو جمع حمّرة وهي طائر، والعلف ثمر الطلح واحدته علافة والصفة فيما ذكره سيبويه الزمج، والمعروف أن الزمج اسم؛ لأنه الطائر الجارح المعروف.

وكذلك أبو عمر الجرمي الزمج وفسرها هذا التفسير، غير أنه لم يذكر هل هو اسم أو صفة والزمج والزماج الخفيف الرجلين فيما ذكره، وفيما فسره ثعلب من الأبنية عن سيبويه الزمح بالحاء اللئيم، وهذا صفة وهو أشبه بما قاله سيبويه. قال أبو بكر بن دريد الزمج الضعيف والزمل وهو الضعيف والجبّأ وهو الجبان قال الشاعر: فما أنا من ريب المنون بجبّأ … ولا أنا من سيب الإله بيائس (¬1) وأما فعل فالاسم قنب وهو معروف، والبنف وهو يابس الغدير، والقنع مثله وقد قال بعد هذا سيبويه في باب فعل ما تجعله زائدة من حروف الزوائد والأمرة والأمعة صفتان؛ فظاهر هذا يوهم المناقضة لأنه قال في الباب الأول أنه اسم، وفي الباب الثاني أنه صفة، وكلا القولين صحيح، أما جعله اسما فلأن الأمر والأمرة من ولد الفنان، وأما جعله إياه صفة فلأنه يقال رجل لآمر إذا كان يأتمر لكل من أمره بشيء قال امرؤ القيس: ولست بذي رثية أمرا … إذا قيد مستكرها أصحبا (¬2) والصفة ذنب وهو القصير، ويقال دنم في هذا المعنى ودنبة ودنمة والأمّعة الذي لا رأي له، ويتبع كل إنسان على رأيه وهواه؛ فإن قال قائل لم جعلتم أمعة فعّلة وجعلتم الهمزة أصلية وهلا جعلتموها زائدة، وقلتم إنها أفعلة؛ قيل له ليس في النعوت أفعلة وأمعة نعت؛ فإن قال ففي الأسماء أفعلة نحو أونرة فهلا جعلتم أمرة أفعله؛ قيل له لو جعلناه أفعله كنا قد جعلنا فاء الفعل وعينه ميمين، وليس في الأسماء ما عينه وفاؤه من جنس واحد إلا أحرفا يسيرة نحو أول وكوكب؛ فعدلنا به إلى الباب الأكثر وهو فعل نحو قنب وفلق والهيج وهو الفحل الهائج مأخوذ من الهبيح والجاز من حب الحبوب يكون بالشام، ورجل جاز وامرأة جازة إذا كانا بخيلين، وقال أبو حاتم الجاز القصير، وقال ثعلب في تفسير الأبنية جاز، وهو شجر قصار والمعروف على هذه الحروف الجلوز وهو البيذق والبيذق فارسي، وإما فعل فهو تبع معناه الظل يقال تبع وتبع قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر المخصص 5/ 11، تاج العروس 3/ 83. (¬2) انظر أساس البلاغة 1/ 348، انظر تهذيب اللغة 15/ 209.

يرد المياه حضيره ونفيضه … ورد القطاة إذا أسمال التبع (¬1) وأما ما زيد على لامه من الثلاثي حرف من جنس اللام فهو على ضربين منه؛ فتدغم وهو ما سكن الأول من حرفيه في نفس البنية، ومنه غير مدغم وهو ما تحرك الأول من حرفيه، فإما الذي ليس بمدغم فهو أربعة أمثلة فعلل وفعلل وفعلل وفعلل ملحقات بالأصول بجعفر وبرثن وزبرج وفعلل وفعلل وفعلل على قول الأخفش ومن تبعه ملحق بجحذب ونحوه، وعلى قول غيره ليس في الأصول فعلل فلم تجعل فعلل بزيادة إحدى لاميه ملحقا فإما فعلل نحو قردد ومهدد و " قردد " الأرض المستوية ومهدد اسم امرأة فإن قال قائل لم لا تجعلون مهدد مفعل والميم زائدة إذا كانت الميم تقع زائدة في أول الاسم كثيرا، قيل له لو كان مهدد مفعل لكان مهد مثل مرد ومفر؛ لأن مفعل إذا كان عينه ولامه من جنس واحد أدغمت العين في اللام كقولنا مكر ومجر، وإنما أظهروا في قردد ومهدد الدالين، ولم يدغموا لأنهم ألحقوهما بجعفر؛ فجاءوا بهما على لفظ جعفر ولم يدغموا الدال للفظ لأنه كان تسكن الدال الأولى التي هي بإزاء الفعل من جعفر وهي متحركة فتخالف لفظ الملحق به، وإما فعلل فهو سردد اسم موضع ملحق ببرثن، وإحدى داليه زائدة وشربب وهو اسم شجر واسم موضع أيضا، ودعبب وله معنيان الدعبب عنب الثعب والدعبب الدعابة، وفي الصفة قعدد وهو أقرب القبيلة نسبا إلى جده، والقعدد أيضا الضعيف الذي يقعد عن المكارم قال الشاعر: هرنبي يحك قفا مقرف … لئيم ما تره قعدد والدخلل المداخل للرجل المستبطن لأمره، وإما فعلل فهو قولهم رمدد وملحق بزبرج قالوا رماد رمدد إذا كان أتى عليه الدهر وحال عن حاله، وإما فعلل فهو عندد يقال " ما لي عنك عندد " أي بد في معناه، وليس من لفظه " ما لي عنك معلندد " أي بد فإن قال قائل فهلا جعلتم النون فيه زائدة وجعلتموه فنعل مثل جندب، قيل له جندب ليس فيه من الزوائد غير النون، وعندد أعيد آخره وكرر، ومن حكم المكرر أن يكون زائدا إلا أن يقوم الدليل على أنه أصل، وذلك لما سنبينه إن شاء الله، وعنبب والصفة فيه قعدد ودخلل وفيهما لغتان قعدد وقعدد ودخلل. ودخلل وإما المدغم من هذا فعلى سبعة أمثلة فعّل وفعّل وفعّل وفعّل وفعّل وفعّل أما فعّل نشرته وهي اسم بلد قال الشاعر: ¬

_ (¬1) انظر إصلاح المنطق 1/ 355، الأصمعيات 1/ 103، جمهرة اللغة 2/ 1089.

وإلا فإنا بالشربة واللّوى … معترامات الرباع ونبسر ومعده وهو موضع رجل الفارس من الدابة إذا ركب قال الشاعر: فا ما زال سرج من معد … وأجدر بالحوادث إن نكرنا فإن قال قائل فما تنكرون أن يكون معد مفعل؛ قيل له علمنا أن الميم فيه زائدة بالاشتقاق، وذلك بقولهم تمعدد الرجل تشبه بمعد في خشونة العيش والتضمر والشدة قال الشاعر: ربّيته حتى إذا تمعددا … وصار نهدا كالحصان أجردا (¬1) كان جزائي بالعصا أن أجلدا والهبي الصبي الصغير فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون تمعدد تمفعل، كما قالوا تمدرع إذا لبس المدرعة، وتمسكن إذا تعاطي المسكنة، وأصلها من السكون قيل له هذا، وإن كان قد جاء فليس بالوجه إنما هو شاذ قليل، والوجه الجيد تدرع وتسكن، وإذا رجعنا إلى تأمل معناه كان كالدليل على أن الميم أصلية، وذلك أنا إذا جعلنا الميم أصلية فهي من معد الرجل يمعد إذا عدا قال الشاعر: رحّال بين حربا فمعدا … لا يحسبان الله إلا رقدا والمعد هو الموضع الذي تقع عليه رجل الفارس إذا ركض الدابة وبعثه على العدو فهو شبيه بمعنى معد، وإذا جعلنا الميم زائدة فهو من عد يعد ولا معنى للعد ها هنا والجربة وهي العانة من الحمير فيما ذكره أبو بكر بن دريد قال الراجز: ليس بنا فقرا إلى التّسكن … جربة لحرالا والجربة الجماعة من النبات والجربة الجماعة الأشداء إذا اجتمعوا، وإما فعل فالاسم خدب والصفة خدب وهو الضخم الشديد، وهجف وهو الجافي الأخرق، وهتف وهو العظيم وإما فعل فالجبن والفلح وهو الصنف يقال الناس فلجان أي صنفان، والرجف وهو جمع رجفة وهو الغيم والظلمة، والصفة تمد وصمل وهما الشديدان والعتل اللفظ الغليظ، وإما فعل فهو جبر قال الشاعر: فعودة نفقا جبر … ليس به من أهل عريب ¬

_ (¬1) أساس البلاغة 1/ 599، تاج العروس 9/ 180، جمهرة اللغة 2/ 655.

والفلز خبث الفضة والحمر معظم المطر، والطمر الفرس الوثاب في جريه يقال طمر إذا وثب، وإنما يراد به سرعته والهبر المنقطع من قولك هبرت اللحم أهبره إذا قطعته ومنه سيف هبا إذا كان قطاعا والحنق السريع يقال إنه لحنق العنق وهو الإسراع، وإما فعل فحكاها سيبويه بالهاء وهي تئفة يقال جئتك على تئفة ذاك، وعلى تفئة ذاك، وعلى إفان ذاك إذا كان بالقرب من وقته، وإما فعلة فدرجة ومعناها الدرجة والمرقاة، والجمع درج، وإما فعل فاستعمل بالهاء منه ثلاثة وهي الحاجة قال ابن مقبل: يا حراست فلتات العباد عبت … فلست منها على عين ولا أثر فإن قال قائل أخبرونا عن هذه الأشياء المكررة من عينات الفعل ولاماته التي جعلتموها زوائد ما الدليل على زيادتها، وهلا جعلتموها أصلية؛ قيل له الدليل على زيادتها أنا اعتبرنا هاهنا ما له اشتقاق فرأيناه زائدا؛ فحملنا ما لا اشتقاق له في الزيادة على ما له اشتقاق فأما ما له اشتقاق في الأسماء فإنا رأينا الجمع يجيء كثيرا في فعل كقولك نادر وندر وسارق وسرق وغاز وغزى، ولو رأينا هذه الحروف المشددة أصلها التخفيف لأنها من ندر وسرق وغزا فعلمنا أن أحد الحرفين قد زيد فيه ونرى الفعل أيضا كذلك لأنا نقول حرّك وسبّح ودبّح وهو من التحريك والتسبيح والتدبيح براء وقاف وباء واحدة، ورأينا هذا الاشتقاق أيضا فيما كرر لامه في الأسماء والأفعال موجودا، فإما الأسماء فإنا رأينا فيها قعدد أو اشتقاقه من القعود بدال واحدة لأن الضعيف سمي بذلك لقعوده عن المساعي، ويقال القعدد في النسب هذا أقعد من هذا بدال واحدة؛ فعلمنا أن إحدى الدالين زائدة، وكذلك داخلل إحدى لاميه زائدة؛ لأنه من الدخول والسؤدة إحدى داليه زائدة؛ لأنه من ساد يسود وإحدى الدالين من رمدد زائدة؛ لأن أصله مشتق من الرماد، وكذلك حيّف لأنه يقال حيف بالتخفيف، وكذلك إحدى الجيمين في فلجّ لأنه نصف مكيال فوقه ولهذا سمي الفالج فالجا لذهاب نصف الإنسان فيه، ويقال الناس فلجان أي نصفان صنفان، وفي الفعل احمرّ واشهبّ بتشديد اللام وأصله من الحمرة والشهبة؛ فصار الباب كله إذا تكرر العين من الفعل أو اللام أن يجعل زائد إذا تم ثلاثة أحرف أصول سوى الحرف المكرر فإذا كان الحرف المكرر لو جعلناه زائدا لم نثبت للاسم أو الفعل ثلاثة أحرف جعلناه أصليا ضرورة إذا كان أقل الأسماء والأفعال على ثلاثة أحرف، وذلك قولنا رد وقل وكر وجد لأنا لو جعلنا أحد الحرفين زائدا بقي من الاسم والفعل حرفان والاسم والفعل أقل ما يكون عليه ثلاثة أحرف.

هذا باب الزيادة من موضع العين واللام إذا ضوعفا

هذا باب الزيادة من موضع العين واللام إذا ضوعفا اعلم أن هذا الباب قد كرر في الاسم موضع عينه، ولامه فيحكم عليهما قياسا بالزيادة لذلك في ثلاثة أمثلة فقط وهي فعلعل وفلعل وفعلعال فأما فعلعل فهو أكثرهما وذلك جبربر وكبربر وجورور ومعناها كلها واحد يقال ما أصبت منه جبربرا ولا تبربرا ولا جورورا؛ أي ما أصبت منه شيئا، ولا يستعمل ذلك إلا في النفي لأنه لا يقال أصبت منه جبربرا في معنى أصبت منه شيئا، والصفة صمحمح وهو الغليظ القصير، ويقال الصمحمح الأصلع ويقال المحلوق الرأس أنشد أبو عمر: صمحمح قد لاحه الهواجر ودمكمك غليظ شديد والبرهرة والبرهرهة الصافية اللون وإما فعلعل فنحو جلعلع وهو الجعل والذرحرج واحد الذراريح وهو دويبة، وإما فعلعال فنحو جلبلاب وقد ذكر تفسيره وزعم الفراء أن صمحمح ودمكمك فعل مثل سفرجل، وأنكر أن يكون فعلعل، واحتج بأن قال لو جاز أن يكون صمحمح على فعلعل لتكرير لفظ العين واللام فيه لجاز أن يكون صرصر ومحسح على فعفع لتكرير لفظ الفاء فيه، فلما بطل أن يكون صرصر على فعفع بطل أن يكون صمحمح على فعلعل والقول ما قاله سيبويه، والذي احتج به الفراء غير صحيح، وذلك إن الحرف لا يحصل زائدا في الاسم ولا في الفعل حتى يوجد فيه ثلاثة أحرف سواه تكون فاء الفعل وعينه ولامه، فكذلك لم يحسن أن يجعل صرصر فعفع لأنا لو فعلنا ذلك كما قد أسقطنا من الفعل لامه فلم يجز ذلك وإذا جعلنا عين الفعل مكررة استقام، ولم يفسر لأنا لم نجعل اللام ساقطة، ألا ترى إنما نجعل إحدى الراءين في احمرّ زائدة، ولم نجعل إحدى الراءين في كر وصر زائدة، لأنا لو جعلنا إحداهما زائدة بطل لام الفعل أو عينه، ومما يبطل قول الفراء قولهم جلعلع لو سلكنا به مذهب سفرجل لم يكن له نظير في كلام العرب؛ لأنه ليس في كلامهم مثل سفرجل، ومتى خرج اللفظ من أبنية الفعل الصحيحة كان خروجه من الأبنية أحد الدلائل عن زيادة الحرف فيه كما قد ذكرناه فاعرفه إن شاء الله تعالى، ومما يدل على صحة قول سيبويه وفساد قول غيره أن الفراء يزعم أن أخلولق وبابه افعوعل مكرر العين، ولم يجعله أفعولل وأفعلل، فإن قال قائل ليس في الأفعال أفعلل؛ قيل له يلزم الفراء أن يجعله أفعلل ولا يجعله أفعوعل، ولا يكرر العين إذا كان قد أبطل تكرير العين فيما ذكرناه.

هذا باب لحاق الزيادة بنات الثلاثة من الفعل

هذا باب لحاق الزيادة بنات الثلاثة من الفعل " فأما ما لا زيادة فيه فقد كتب فعل سنه، ويفعل منه، وقيس ". قال أبو سعيد رحمه الله تعالى: اعلم أن الفعل على تسعة عشر بناء مختلفة لما سمي فاعله غير ما ألحق ببعض هذه التسعة عشر مما سنبين؛ فهذه التسعة عشر بعضها بحروف أصلية وبعضها بزوائد، وإنما أتى على جميع ذلك مستقصى إن شاء الله تعالى، وهي فعل نحو ضرب، وفعل نحو كرم، وفعل نحو علم وعمل، وفعلل دحرج، وافعل نحو أكرم، وفعّل نثر، وفاعل قاتل، وافتعل ارتبط، وانفعل انطلق، وافعلّ احمر، وتفعلل تدحرج، وتفاعل تعالج، وفعّل تحرك، وافعال احمار، واستفعل استغفر، وافعول أجلوذ، وافعوعل أغدودن، وافعلل اقشعرّ افعنعل احرنجم؛ فهذه التسعة عشر بناء ثلاثة منها ثلاثية الحروف وأربعة منها رباعية وستة خماسية وستة سداسية؛ فأما الأصول منها فأربعة أبنية منها الثلاثة وواحد رباعي؛ وهو فعلل نحو دحرج؛ فأما الثلاثي منها فأصل لأثني عشر بناء محققة زوائد مختلفة؛ فصار على هذه الأبنية الأثني عشر فمن ذلك أفعل أكرم أصله كرم فلحقه الهمزة وفاعل قاتل أصله قتل فلحقه الألف بعد فاء الفعل، وفعل نحو حرّك وكسّر شدد عين الفعل منه وأصله عين واحدة من كسر وحرك فهذه ثلاثة أفعال زيد على الثلاثي حرف واحد حتى صار على ما ذكرته، وفيها ما زيد عليه حرفان وذلك فعلل نحو تكسّر أصله كسّر زيد عليه تاء، وشدد موضع العين منه وتفاعل نحو تعالج وتقاتل زيد على قتل تاء في أوله وألف بعد فاء الفعل، وأفعل نحو أحمر زيد عليه ألف الوصل وإحدى الراءين؛ لأن أصله حمّر وافتعل نحو ارتبط زيد عليه ألف الوصل وتاء بعد فاء الفعل؛ لأن أصله ربط وانفعل نحو انطلق زيد عليه ألف الوصل ونون قبل فاء الفعل ومنها فعوعل زيد عليها واو وإحدى عيني الفعل ومنها افعول نحو اعلوط وهو أن يركب الفرس عريا مأخوذ من العلط وألف الوصل والواو المشددة وهي واو زائدة؛ فهذه أربعة أفعال على ستة أحرف وأصلها ثلاثة أحرف وأما الرباعي فهو أصل الثلاثة أبنية منها تفعلل نحو تدحرج زيدت فيه التاء وأصله دحرج ومنها افعنلل نحو اخرنطم ومعناه تكبر وأصله خرطم زيدت فيه ألف الوصل والنون ومنها افعلل وهو اقشعر الألف فيه زائدة وإحدى الراءين والأصل قشعر، وليس في الأفعال فعل فيه خمسة أحرف أصلية لأن نهاية الاسم خمسة سفرجل، ونهاية ما يبلغ الفعل بالزيادة ستة أحرف سوى تاء التأنيث نحو احرنجم واخرنطمم فيكون للاسم على الفعل فضيلة في الأصل والزائد؛ فهذه جملة يتناول بها ما

ذكره سيبويه في الأفعال وزوائدها في هذا الباب وغيره بسهولة عن قرب إن شاء الله تعالى؛ فأما هذا الباب فذكر فيه سيبويه خمسة أبنية وهي أفعل وفعل وفاعل ونفعل وتفاعل وأسماء الفاعلين والمفعولين المأخوذة من هذه الأفعال، وأنا أشرح من هذا الباب ما اعتاص من لفظه من مستغلق في عرضه إن شاء الله تعالى. قال سيبويه في أول الباب " فأما ما لا زيادة فيه فقد كتب منه فعل ويفعل منه، وقيس " فهو يعني الماضي والمستقبل؛ فإن كان على فعل وفعل ويفعل ويفعل، ويستعمل هذا أيضا فيما زاد على ثلاثة أحرف؛ فيقال فعل من الاستغفار، ويفعل منه يستغفر، ولما لم يسم فاعله فعل ويفعل، وإن كان المثال على غير ذلك؛ فإن قال قائل كيف جاز أن يعبر بفعل عن حلف وانطلق وما أشبه ذلك مما ليس هو على مثاله قيل له الفعل لفظ ومعنى فإذا أردت العبارة عما معناه في مضيه واستقباله جاز أن يعبر عنه بفعل ويفعل وإن لم يكن على لفظه ألا ترى أن القائل قد يقول لمخاطبه هل استعدت فيقول قد فعلت أو انطلقت يقول قد فعلت وما يريد مثال الفعل، وإن أردت المثال عبرت عن كل فعل بلفظه فقلت في ظرف فعل، وفي انطلق انفعل، وفي يستغفر يستفعل، وذكر ما يزاد في أوله ألف وهو أفعل، ثم قال فهذا الذي على أربعة أبدا يجري مستقبله على مثال يفعل في الأفعال كلها مزيدة وغير مزيدة، وذلك نحو أخرج ويخرج؛ فإن قال قائل فهذا المثال لا يجيء أبدا إلا بزيادة الألف فما معنى قوله مزيدة وغير مزيدة؛ قيل له أراد أن كل فعل كان ماضيه على أربعة أحرف؛ فإن مستقبله مضموم الأول زائدا كان أو أصليا؛ فالأصل نحو دحرج يدحرج وسرهف يسرهف، والزائد نحو أكرم يكرم، وقاتل يقاتل، والأصل في كل ما كان ماضيه على أربعة أحرف أن يضم أول مستقبله، وتعاد حروف ماضيه كقولك قاتل يقاتل ودحرج يدحرج، غير أنك تكسر ما قبل آخره فيما سمي فاعله، وتفتحه فيما لم يسم فاعله؛ فإن قال قائل فإذا كانت حروف الماضي يجب إعادتها في المستقبل فلم قالوا أكرم يكرم وأخرج يخرج فأسقطوا الهمزة التي كانت موجودة في الماضي؛ قيل له قد كان الأصل أن يقال يؤكرم ويدحرج، وكذلك تؤكرم وتدحرج وتؤكرم وإكرم، ولكن فعل المتكلم يجتمع فيها همزتان إحداهما التي كانت في الماضي والأخرى همزة المتكلم، وكثر هذا المثال في كلامهم فاستثقلوا اجتماع الهمزتين مع الكسرة؛ فأسقطوا الهمزة التي كانت موجودة في الماضي، وقوي حذفها إنها زائدة، ثم لزم الحذف في سائر المضارع مع الياء والتاء والنون والأصل الموجب للحذف فعل المتكلم، ومثل ذلك حذفهم الواو، وفي يعد والأصل يوعد لوقوعها بين ياء وكسرة ثم قالوا تعد

ونعد وأعد فأسقطوها حتى لا يختلف الفعل. قال سيبويه: " وحذفوا الهمزة من باب فعل فاطرد الحذف فيه لأن الهمزة تثقل عليهم كما وصفت لك، وكثر في كلامهم فحذفوه واجتمعوا على حذفه، كما اجتمعوا على كل وخذ ويرى، وكان هذا أجدر أن يحذف حيث حذف ذلك الذي من نفس الحرف لأنه زيادة لحقته؛ فاجتمع فيه الزيادة، وإنه يستثقل وإن له عوضا إذا ذهب ". يعني اجتمعوا على حذف الهمزة من يؤكرم ويدحرج، كما اجتمعوا على حذف كل وخذ، وكان الأصل أوكل على وزن أفعل مثل أقتل؛ فحذفت الهمزة الثانية التي هي فاء الفعل فسقطت الهمزة لأنها ألف وصل دخلت لسكون ما بعدها؛ وهي فاء الفعل فلما سقطت بقيت الكاف وهي مضمومة فلم يحتج إلى ألف الوصل فسقطت، وكان الأصل في يرى يرأى لأنه من رأيت فألقوا فتحة الهمزة في الفعل المضارع على الراء لأنها ساكنة وأسقطوا الهمزة وهذا حكم تخفيف الهمزة، وقد بينا فيما مضى من أحكام الهمزة ذلك. وقوله: " وكان هذا أجدر أن يحذف ". يعني الهمزة في يؤكرم لأنها زائدة وهي في كل أصلية؛ إذ كانت في موضع الفاء من الفعل. وقوله " وإن له عوضا ". يعني في يكرم الياء وسائر حروف المضارعة عوض من حذف الهمزة، وليس ذلك في كل لأنه ليس فيه عوض من ذهاب الهمزة، قال ويجيء في الشعر يؤكرم على الأصل قال الشاعر: وصاليات ككما يؤتفين وهذا البيت له فيه حجة من وجه، ولا حجة له فيه من وجه؛ فأما الحجة فيه فهو أن يجعل أتفية أفعولة فتكون الهمزة زائدة، ويكون أتفيت أفعلت، وأما الوجه الذي لا حجة له فيه؛ فهو أن يكون أتفية فعلية فيكون أتفيت فعليت بمنزلة سلقيت، ويكون يؤتفين يفعلين مثل يسلقين وقال كرات غلام من كساء مؤرنب، ومعنى مؤرنب متخذ من جلود الأرانب، ويقال فيه صور الأرانب فهو أرنب مؤفعل، والهمزة زائدة عند سيبويه لأن أرنب عنده أفعل، ومن النحويين من يقول أرنب فعلل، ويجعل الهمزة أصلية واسم الفاعل والمفعول من أفعل وفاعل وفعل على لفظ الفعل المستقبل، غير أنك تجعل معاني حروف المضارعة فيها مضمومة كقولك مكرم ومكرم ومقاتل ومقاتل ويفصل بين الفاعل

هذا باب ما تسكن أوائله من الأفعال المزيدة

والمفعول بكسر ما قبل آخره وفتحه؛ فتكسره من الفاعل وتفتحه من المفعول به كقولك مكرم ومكرم كما كان ذلك في الفعل حين قلت يكرم ويكرم، وكذلك هذا المعنى في كل فعل زادت حروف ماضيه على ثلاثة أحرف يكون اسم الفاعل والمفعول على حروف الفعل المستقبل غير أنه يجعل في أوله ميم مضمومة، ويفصل بين الفاعل والمفعول به بكسر ما قبل آخره للفاعل، وفتحه للمفعول كقولك مستغفر ومستغفر ومرتبط ومرتبط ومتناوله ومتناول ومتجهم ومتجهم فصلوا بين الفاعل والمفعول به بالكسر والفتح، وإما تفاعل وتفعل فإن مستقبلهما على يتفعل ويتفاعل، وما لم يسم فاعله يتفاعل ويتفعل بفتح ما قبل آخرهما، ويفرق بين ما سمي فاعله وما لم يسم فاعله بضم أوله؛ فإن قال قائل قد رأينا الأفعال الزائدة على ثلاثة في الماضي قد فرق بين ما سمي فاعله وما لم يسم فاعله في مستقبلهما بكسر ما قبل آخره وفتحه كقولك يستغفر ويستغفر ويشترى ويشتري فما بال هذين البناءين لم يفعل بهما ذلك قيل له أما ما كان على أربعة أحرف فإن الفرق فيه لازم بالكسر والفتح؛ لأن أوله مضموم مما سمي فاعله، وما لم يسم فاعله، كقولك يكرم ويقاتل؛ فاحتاجوا إلى الفرق بالكسر والفتح لأن ضم أوله لا يدل على الفرق إذا كان مضمومي الأول، وأما ما جاوز أربعة أحرف فإنه مفتوح الأول مكسور ما قبل الآخر فيما سمي فاعله، ومضموم الأول مفتوح ما قبل الآخر فيما يسم فاعله، إلا في تفعل وتفاعل وإنما صار يتفعل ويتفاعل بفتح ما قبل آخرهما من قبل أنهما كثرت الفتحات في أولهما، فاتبعوا ما قبل آخرها فتحات أولهما، وليس ذلك في فعل سواهما لأن كل واحد منهما في أوله ثلاث فتحات متواليات وليس كذلك غيرهما. هذا باب ما تسكن أوائله من الأفعال المزيدة " اعلم أن هذا الباب يشتمل على ما لحقته ألف الوصل مما أصله ثلاثة أحرف ولحقته زيادة واحدة سوى الألف أو زيادتان، وقد ذكرنا جملته فيما مضى، وإنما لحقته ألف الوصل بسكون أوله، وإنما سكن أوله لأن لو تحرك لتوالي أكثر من ثلاث متحركات، ألا ترى أن لو حركنا النون من انطلق والطاء واللام والقاف متحركات لتوالى أربع متحركات، وذلك مفقود في كلامهم في كلمة واحدة إلا ما خفف والأصل غيره نحو علبط وهدبد والأصل علابط وهدابد، وذكر الأمثلة فجعل افتعل على مثال انفعل وجعل أفعال على مثال استغفر، وليس يريد المثال على ما يوزن به الفعل، وإنما يريد عدد حروفه وقصد سواكنه ومتحركاته والأصل في أفعل وإفعال وافعلل وافعالل؛

فأدغم الحرف الأول في الثاني لأنه من جنسه نحو احمر واسود والأصل فيه احمرر واسودد؛ فأدغمت كما أدغم ردّ والأصل ردد والدليل على ذلك أنهم قد قالوا ارعوي واحووي، والأصل في أرعوي أرعووا وأحووا مثل احمرر واسودد فقلبت الواو الأخيرة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما قلبتها ألفا بطل الإدغام فيه وصح الإدغام في آخر احمرر لثبات الراء الأخيرة، ثم ذكر سيبويه بعد تسوية بناء استفعلت فافعاللت فقال وإن أردت أفعل منه ". يعني ما لم يسم فاعله من أفعاللت قلبت الألف والضمة التي قبلها كما فعل في فوعل، وذلك قولك استهابيت واستهوب في هذا المكان فهو على مثال استفعل، إلا أنه قد يغيره الإسكان عن مثال استخرج كما يتغير استفعل عن المضاعف؛ نحو استعيدد إن أدركه السكون عن استخرج يعني أن استهوب في الوزن مثل استخرج غير أن الباء الأولى من استهوب بحذاء الراء من استخرج، غير أن الباء الأولى من استهوب استعدد مثل استخرج فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على العين؛ فتغير البناء في اللفظ والأصل ما ذكرناه. قال سيبويه: " وأما هرقت وهرحت فأبدلوا مكان الهمزة الهاء، كما تحذف استثقالا لها، فلما جاء حرف أخف من الهمزة لم يحذف في شيء ولزم لزوم الألف في ضارب، وأجري مجرى ما ينبغي لألف أفعل أن تكون عليه في الأصل، وأما الذين قالوا اهرقت فإنما جعلوها عوضا من حذفهم العين، وإسكانهم إياها، كما جعلوا ياء أينق وألف يمان عوضا، وجعلوا الهاء العوض لأن الهاء تزاد ونظير هذا قولهم استطاع يستطيع جعلوا العوض السين لأنه فعل، فلما كانت السين تزاد في الفعل زيدت في العوض لأنها من حروف الزوائد التي تزاد في الفعل، وجعلوا الهاء بمنزلتها تلحق الفعل في قولهم ارمه وعه ونحوهما ". قال أبو سعيد رحمه الله أما هرقت وهرجت فالأصل فيهما إراق وأراج، والهاء بدل من الهمزة كما قالوا هياك في إياك، ومستقبله يهريق ويهريج، وكان الأصل يوريق ويوريح غير أنهم في الهمزة يحذفون على ما ذكرنا أن الأصل في يكرم يؤكرم، وإنما يحذفون الهمزة لئلا يجتمع همزتان في فعل المتكلم؛ فإن أبدل من الهمزة هاء لم يجتمع همزتان في فعل المتكلم فكذلك ثبتت الهاء التي هي بدل الهمزة، ولأثبتت الهمزة وفي هراق لغة أخرى وهي إهراق ومستقبله يهريق فمن قال هذا فإنما زاد ألفا على إراق كما زادا السين في

هذا باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة

إطاع يقال أسطاع بقطع الألف وزيادة الهاء في إهراق والسين في أسطاع؛ إنما هي عوض من ذهاب عين الفعل منها ونقلها إلى ما قبلها، وذلك أن الأصل في إراق وأطاع أروق وأطوع فأعلت الواو وألقيت حركتها على ما قبلها؛ فكان زيادة الهاء والسين عوضا من ذلك، وأما قوله: " كما جعلوا ياء أينق وألف يمان عوضا ". يعني أن الأصل في أينق أنوق لأنه جمع ناقة والأصل في ناقة نوقة فجمع على أفعل، ثم استثقل الضم على الواو فحذفت الواو وعوض منها الياء في أينق؛ فإن قال قائل فهلا عوضت الياء في موضع الواو قيل له لو عوضت الياء في موضع الواو فقالوا أنيق جاز أن يتوهم متوهم أن الياء ليست بعوض، وأن الألف في ناقة بدل من الياء، وأن الأصل نيقة وعوضوها في غير موضعها ليزول ذلك التوهم وأما ألف يمان فالأصل فيه يمني لأنه منسوب إلى اليمن فأبدلوا ألف يمان من إحدى الياءين، ومنهم من يقول يماني، ومن قال ذلك فإنما نسب إلى منسوب كأن نسبنا مكانا إلى اليمن فقلنا يمان، ثم نسبنا إلى يمان فقلنا يماني كما لو نسبنا إلى صحار فقلنا صحاري، ومن العوض للمحذوف قولهم ارمه وعه الأصل ارمي وعي فحذفت الياء للجزم فعوضت الياء التي حذفت للجزم غير أن الهاء في عه وما كان مثله نحو قه، وما أشبه ذلك لازمة عوضا لأن الفعل يبقى على حرف واحد بعد سقوط الياء للجزم، ولا يجوز النطق بحرف واحد لأنه من الابتداء بمتحرك والوقف على ساكن فجعلوا الهاء عوضا لأن ما في عه وبابه لما ذكرناه، وإما ارمه وما كان أكثر من حرفين فالهاء غير لازمة كقولك ارمه، وإن شئنا ارم إذ لم يعوض. هذا باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وألحق ببنات الأربعة حتى صارت على مثال دحرج بزيادة حروف مختلفة فيها؛ وهي فعلل بزيادة حرف من جنس لام الفعل كقولك شملل وجلبب، ومعنى شملل أخذ من النخل بعد لقاطه ما يبقى من ثمره، وجلبب ألبسته الجلباب وهو القميص، وفوعل كقولك حوقل وصومع؛ إذ طول البناء أو غيره على هيئة الصومعة، وفيعل نحو بيطر وهينم، ومعناه تكلم كلاما خفيا وتقول جهور وهرول ومعناه أسرع وفعلى سلقى وجعبى ومعناه صرع يقال سلقيته سلقاة وجعوبته جعباة وفنعل قلنسته إذا ألبسته القلنسوة؛ فهذه الأبنية الستة ملحقة بدحرج ودخلت هذه الزيادة عليها للإلحاق، وليست هذه الزيادات بمنزلة الهمزة في أفعل والألف في قاتل وزيادة إحدى العينين في فعل، وذلك أن مصادر تلك الأفعال الستة كمصدر دحرج وبابه تقول حوقل حوقلة وحيقا لا كقولك سرهف سرهفة

وسرهافا، وكذلك سلقى سلقاه كقولك دحرج دحرجة وأصل سلقاه سلقية ولكنك قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وليست مصادر هذه الأفعال الثلاثة الآخر، كذلك لأنك تقول أكرم إكراما وأكسّر تكسيرا وقاتل مقاتلة فتبين الفصل بينهما إن شاء الله، وقد تلحق التاء هذه الأفعال الملحقة فتصير بمنزلة تدحرج كقولك تشيطن وتجعبي كما تقول تدحرج، وليست بمنزلة تعالج وتكسر لأن تعالج وتكسر غير ملحقين بدحرج، ولحقت التاء تشيطن وجعبى وهما ملحقان، وقد ألحق أيضا بتدحرج تمفعل بزيادة الميم فقالوا تمسكن وتمدرع، ولم ترد هذه الميم للإلحاق إلا مع التاء لأنه لم يسمع مسكن ولا مدرع، وقد ألحق أيضا من بنات الثلاثة ببنات الأربعة بناءان آخران وهما اقعنلل بزيادة حرف من موضع لام الفعل وافعلي بزيادة ياء بعد الألف وذلك قولك اقعنسس وافعنجج واسلنقى واحرنبى معنى اقعنسس ثبت وتمكن قال الشاعر: تقاعس المجد بنا فاقعنسسا ومعنى أفعجج ضخم واسترخى ووخم والعفنج المسترخي، واستلقى نام على ظهره، وأحربني إذا انتفش، ويقال للديك إذا انتفش احربني، وكذلك الغضبان إذا غضب، وألحقت هذه الأفعال باحرنجم واخرنطم، وفي احرنجم زائدان الألف والنون والباقي منها وهو أربعة أحرف الحاء والراء والجيم والميم أصول، والذي في اقعنسس واسلنقى من الحروف الأصلية ثلاثة قعس وسلق وزيد على قعس سين أخرى، وعلى سلقي ياء فصار بمنزلة حرجم، ثم زيد عليهما ما زيد على حرجم من ألف الوصل والنون فصارا قعنس واحرنبى فالحرف الذي ألحق قعنسس واحرنبى باحرنجم إنما هو السين الثانية في اقعنسس، والباء في احرنبي، وأما النون وألف الوصل فليستا للإلحاق لأنهما زائدتان في ذوات الأربعة، والثلاثة جميعا. قال سيبويه بعد ذكره اقعنسس وأحرنبى: " فكما لحقا ببنات الأربعة وليس فيهما إلا زيادة واحدة "، كذلك زيد فيهما ما يزاد في بنات الأربعة، وذلك نحو اخرنطم واحرنجم أما قوله: " فكما لحقا ببنات الأربعة وليس فيهما إلا زيادة واحدة ". يعني أن التاء قد تزاد في ذوات الثلاثة لتلحق الأربعة كقولك سلقي زيد على سلق الياء فلحق بدحرج، وكذلك زيد مثل لام الفعل على جلب وشمل فصار جلبب وشملل فلحق بدحرج فقد لحق ذوات الثلاثة بزيادة حرف من غيرها وبزيادة حرف من جنس

لام الفعل بدحرج، وليس في دحرج زيادة فلذلك لحق اقعنسس واحرنبي باحرنجم واخرنطم وفيهما زائدتان وهما الألف والنون فقد صار ذوات تلحق الرباعي الذي لا زائد فيه وهو لحاق سلقي بدحرج، ويلحق بالرباعي الذي النون فيه كلحاق اقعنسس واحرنبى باحرنجم، وفي احرنجم زائدان وليس في دحرج زائد قال: " ولم ترد هذه النون في هذه الأشياء إلا فيما كانت الزيادة فيه من موضع اللام إذا كانت الياء آخرة زائدة لأن النون ها هنا تقع بين حرفين من نفس الحرف كما يقع في احرنجم ونحوه ". يعني لم تزد هذه النون في فعل فيه ألف وصل إلا في هذا البناء، ولا يكون هذا البناء من ذوات الثلاثة إلا ما زيد على موضع لامه مثله أو زيد فيه بعد اللام ياء. وقوله " لأن النون ها هنا تقع بين حرفين ". يعني: أن الإلحاق باحرنجم إنما وقع بزيادة حرف بعد لام الثلاثي الذي به يلحق إما من جنسه وإما باقعنسس واحرنبى من قبل أن النون هي الزائدة بعد عين الفعل فلو جعلوا الحرف الذي جيء به الإلحاق بعد عين الفعل، أو قبلها لتوالي زائدين ألا ترى أنا لو جعلنا الباء التي في احرنبي بعد النون وجب أن نقول أحرنبيت فيجتمع النون والياء وهما زائدان. فيخالف ما لحق به لأن النون في احرنجم وقعت بين حرفين أصليين وهما الراء والجيم، وكذلك لو جعلنا الياء قبل النون لتوالي زائدين لأنا كنا نقول احينرب ولو جعلناها قبل الحاء ايحنرب، فخرجت عن الحروف الملحقة لأنها لا تقع أولا، وقد يقع الإلحاق في غير هذا البناء بعد عين الفعل وقبلها كقولك كوثر وجوهر قال: " وإذا ألحقوها في البقية توالت زائدتان مخالفة احرنجم ففرق بينهما، كذلك فهذا جميع ما ألحق من بنات الثلاثة ببنات الأربعة مزيدة أو غير مزيدة ". يعني: لو ألحقوا الزيادة الملحقة اقعنسس واحرنبى في غير موضعهما بعد لام الفعل لتوالى زائدين يعني النون والحرف المزيد؛ ففرق بين النون والحرف المزيد لذلك. وقوله: " وهذا بجميع ما ألحق من بنات الثلاثة ببنات الأربعة مزيدا وغير مزيد ". يعني: بالمزيد ما ألحق من بنات الثلاثة ببنات الأربعة لحاق اقعنسس واحرنبى باحرنجم واخرنظم، ويعني بغير المزيد لحاق سيلقى وكوثر بدحرج وجعفر. قال: " وقد بين شركة الزوائد وغير ذلك شركتهما في الأسماء والأفعال من بنات الثلاثة ".

هذا باب من بنات الأربعة

يعني: أن الحروف الزوائد قد يشتركن في وقوعهن موقعا واحدا كما أن الياء والواو والألف قد اشتركن في وقوعهن موقعا واحدا؛ أي قولك بهلول وحلتيت وشملال قال ولا تلحق الياء رابعة ها هنا، ولا الميم فيقال " بهليل " ولا الميم فيقال " بهلمل " فالفاء والواو والألف قد اشتركن في لحاقهن رابعا فيما ذكرنا، ولم يشاركن غيرهن من الحروف في ذلك، وتقول أفكل فتلحق الهمزة زائدة أولا ولا تلحق الواو زائدة أولا؛ فقد بين أن الحروف الزوائد قد تشترك في موضع وتختلف في موضع فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. هذا باب من بنات الأربعة في الأسماء والصفات غير مزيدة وما لحقتها من بنات الثلاثة بالزيادة كما لحقتها في الفعل أعلم أن هذا الباب يشتمل على الأبنية الرباعية الأصلية التي ذكرناها قبل؛ وهي خمسة أبنية فعلل وفعلل وفعلل وفعلل وفعل غير مضاعف، ويشتمل على ما لحق بهذه من الثلاثة، فأما فعلل فلحق به من الثلاثي ثمانية أبنية وهي فوعل نحو حوقل وفيعل نحو زينب، وفعول نحو جدول وفعلل بتضعيف لام الفعل كقولك مهدد وفعلى كقولك علقى وفعلن كقولك وعشن وفعلته كقولك سنبتة وفنعل كقولك عنسل وقد بينا فيما مضى أن هذه الحروف زوائد بما ذكرناه من الاشتقاق، وأما سنبتة فالدليل على زيادة التاء فيها أن سنبة في معناها يقال مرت عليه سنية من الدهر، وسبتة من الدهر، وأما فعلل وهو نحو ترتم وحبرج فلحق به بناء واحد وهو فعلل بتكرير لام الفعل كقولك قعدد ودخلل، وهذا الذي ذكره سيبويه وما زاد عليه وقد ألحقوا به بناء آخر غير الذي قال، وهو فعلم بزيادة الميم في آخره كقولك زرقم وستهم وإما فعلل نحو زبرج فما ذكر سيبويه شيئا الحق به، وقال غيره قد ألحق به بزيادة الميم دلقم؛ وهي الناقة المسنة التي تكسرت أسنانها من الكبر وسال لعابها وهو مأخوذ من الدلق، وهو خروج الشيء عن وعائه ومستقرة، ويقال سيف دلوق إذا كان لا يستقر في غمده، فلسيلان لعابها، وإنها لا يستقر في فيها قيل ولقم وإما فعلل فنحو درهم فالذي ألحق به فيما ذكر سيبويه بناء واحد وهو فعيل بزيادة الياء بعد عين الفعل كقولك عثير وحذيم، وأما فعل غير مضاف نحو قمطر وصغفل فالذي ألحق به بناء واحد بتضعيف اللام، وبناء بزيادة ياء، فإما الذي بتضعيف اللام فقولهم خدب، وإما البناء الذي بزيادة الياء فقولهم جيفس؛ فإن قال قائل فلم جعلتم خدبا ملحقا بقطر ولم تجعلوا معدا ملحقا بجعفر، قيل له لأنها بحذاء الطاء من قمطر والطاء ساكنة والدال بحذاء الميم والميم مفتوحة والدال مفتوحة، وأما معد فلو جعلناه على فعلل لوجب

أنا نقول معدد ليكون على نظم حركاته فإذا جعلت معد فعلل، فقد حركت العين من معد؛ وهي ساكنة من فعلل والدال الأولى ساكنة والذي بحذائها من فعلل اللام الأولى وهي متحركة؛ فعلم أن معدد غير ملحق بجعفر إذ كان الملحق والملحق به نظم متحركاتهما وسكونهما وسواكنهما واحد؛ فهذه أبنية الرباعي الأصول لا غير. قال سيبويه: " وليس في الكلام فعلل إلا أن يكون محذوفا من مثال فعالل لأنه ليس حرف في الكلام يتوالى فيه أربع متحركات، وذلك علبط إنما حذفت الألف من علابط وعرتن وجندل ليست من أصول الأبنية في الرباعي لأنهن مخففات عن غيرهن، واستدل على ذلك أيضا بتوالي أربع متحركات فيهن، وليس ذلك في شيء من الأبنية تفسير الغريب من الباب سلهب وطلحم طويلان شجعم من صفات الحيات وهو الضخم ". قال الشاعر: قد سالم الحيّات منه القدما … الأفعوان الشّجاع الشّجعما وقال غير سيبويه الميم في شجعم زائدة لأنه مأخوذ من الشجاعة، وحطه سيبويه مع سلهب وخلجم، وكأنه في مذهبه حروفه أصلية كلها جدول فهو والواو وزائدة، ومهدد اسم امرأة، وإحدى الدالين زائدة، وعلقى نبت والترتم ما يبقى على المائدة من الطعام، وكذلك ما يبقى على القصارة. قال الشاعر: لا تحسبن طعان قيس بالقنا … وضرابها بالبيض حسر الترتم والبرثن برثن السبع والطائر والحبرج، والجرشع من الخيل العظيم البطن، والبصع الصغير الرأس الصلب، والكندر الشديد من الحمير وغيرها، وكذلك الكنيدر والكدرر والكنادر، وقد جعل كندرا فعللا لأنه جاء به مع الجرشع، ولقائل عندي أن يقول أنه فنعلل لأنهم يقولون كدر في معناه؛ فتسقط النون والزبرج السحاب الأحمر، والزبرج الذهب والزبرج زينة الدنيا، الجفرد نبت، العنقص المرأة الذميمة الخفيفة، والحزمل الحمقاء ورجل زهلق سريع، وكذلك حمار زهلق والقلعم، وهو فيما زعم أبو عمر الجرمي من أسماء الرجال ومثله الدرقم، وهو الساقط، والهبلع الأكول، والهجرج الطويل المضطربة والفطحل، قال أبو عبيدة الفطحل زمن كانت الحجارة رطبة، وكذلك تقول العرب أن الحجارة كانت رطبة.

هذا باب ألحقته الزوائد من بنات الأربعة غير الفعل

قال رؤبة: فقلت لو عمّرت عمر الحسل … أو عمر نوح زمن الفطحل والصتعل تمر يحلب عليه لبن والهدمل من الرمل المستوي، والهدمل بلد، والهزبر من صفة الأسد، والسبطر الطويل، وعلابط وعلبط الغليظ من اللبن، قال الراجز: ما راعني إلا جناح هابطا … على البيوت قوطت العلابطا والقوط القطيع من الغنم، وإنما أراد القطيع الضخم، والعجلط والعجالط والعكلط اللبن الخاثر، والدودم والدوادم قال أبو عبيدة صمغ، وقال بعضهم صمغ السمر والعرنتن نبات والجندل والجنادل؛ وهو جمع الجندل وهو الصخر، ومثله ذلاذل وذلذل؛ وهو ما تخرق من أسفل القميص فناس من نواحيه ناس بالشيء إذا تعلق واضطرب. هذا باب ألحقته الزوائد من بنات الأربعة غير الفعل اعلم أن هذا الباب يشتمل على ما لحقته الزوائد من بنات الأربعة، وكانت الزوائد التي لحقته تنقسم قسمين: أحدهما ملحق بذوات الخمسة، والآخر غير ملحق بها، فإما الملحق بها فهو ما كان على خمسة أحرف فيها زائد واحد، وكان نظم سواكنه ومتحركاته على نظم سواكن ما لحق به، ومتحركاته، ولم يكن الزائد الذي فيه واو مضموم ما قبلها ولا ياء مكسور، ما قبلها، ولا الفاء، وذلك نحو عميثل ملحق بسفرجل بزيادة الباء عليها، وجحنفل ملحق به بزيادة النون. وفردوس ملحق بجردجل بزيادة الواو، وأنت تقف على الملحق من هذا الباب باستقرائه وتأمل كلام سيبويه، وقياسه بأيسر الفكر إن شاء الله، وأما غير الملحق فهو ما لم يكن على نظم متحركات بنات الخمسة وسواكنها وعدتها، وكان فيها ياء مكسور ما قبلها أو مضموم ما قبلها، أو ألف نحو عنقود وقربوس وقمحدوة، وما أشبه ذلك، وقد يتفق في ذوات الأربعة التي لحقتها الزوائد في الملحق منها وغير الملحق. أن يشاركها ذوات الثلاثة في البناء الذي بنيت عليه بزائد، ومثلها من زوائد الثلاثة قلنسوة والنون في قلنسوة زائدة إلا أنها قد جعلت بمنزلة الحاء في قحدوة، والحاء أصلية، وذكر سيبويه المنجنون ببناءين مختلفين؛ فقال في موضع من هذا الباب فعللول، وقال بعده بقليل فعنلول فجعل النون الأولى زائدة، فإما القول الأول فيوجب أن يكون من ذوات الأربعة لأن الميم أصلية، والميم الأولى أصلية، والجيم وإحدى

النونين الأخريين، ويقضي على إحدى النونين الأخريين بالزيادة بسبب تكريرها في موضع لام الفعل على ما تقدم من جعل النون زائدة؛ فهو من ذوات الثلاثة، وإحدى النونين الأخريين زائدة لا محالة؛ لأنهما قد تكررتا في محل في موضع لام الفعل، ومن جعل الأولى أصلية جمعه على مناجين، وكذلك تجمعه عامة العرب، ومن جعلها زائدة جمعها على مجانين، وهذان الوجهان من زيادة النون الأولى وغيرها قد ذكرهما الفراء على النحو الذي ذكره سيبويه، وذكر فعنليل؛ فقال منجنيق فجعل الميم أصلية والنون زائدة، فأما جعله النون زائدة فلأنهم يجمعون المنجنيق على مجانيق؛ فعلم أن النون زائدة، فلما صح أن النون زائدة جعلت الميم أصلية لئلا يجتمع زائدان في أول الاسم. وبهذا احتج بعض أصحابنا وقال بعض أهل العلم غير سيبويه أن النون الأولى والميم زائدتان، وذكر أن من العرب من يقول جنقناهم إذا رميناهم بالمنجنيق. وقد خبرنا أبو بكر بن دريد عن أبي عبيدة أنه حكي بعض العرب أنه قال مازلنا بخنق ووزنها على هذا القول نفعل، وذلك الفراء جنقناهم فزعم أنه مولد قال، ولم أر أن الميم تزاد على نحو هذا، وهذا يقوي أن الميم أصلية والنون زائدة. قال سيبويه في أول هذا الباب: " اعلم أنه لا يلحق ذوات الأربعة شيء من الزوائد أولا الأسماء من أفعالهن؛ فإنها بمنزلة أفعلت يلحقها الميم أولا ". يعني أن كل اسم وجد في أوله ميم وهمزة وبعدها أربعة أحرف أصول؛ فإن الهمزة والميم يقضى عليهما بأنهما أصلان، إلا أن تلحق الميم اسم فاعل جري على فعله كقولك دحرج وسرهف؛ فهو مدحرج ومسرهف، ولو وجدت الميم والهمزة في أول اسم وبعدهما ثلاثة أحرف يقضي عليهما بالزيادة، إلا أن يقوم دليل يبين أنهما أصلان كالهمزة في أفكل والميم في تعقل، وهذا أصل كبير من أصول التصريف ومعرفة الزوائد، وكذلك قال النحويون في الهمزة في إبراهيم وإسماعيل أصلية لأن بعدها أربعة أحرف هي أصول، وهي في إبراهيم الباء والراء والهاء والميم، وفي إسمعيل السين والميم والعين واللام والهمزة والهمزة في الياس، وفي أيدع زائدة لأن بعدها ثلاثة أحرف هي أصول فأما اليأس؛ فبعد الهمزة للام والياء والسين والألف زائدة؛ فقضي على الهمزة بالزيادة والياء بمنزلة الميم، والهمزة إذا وجدت في أول اسم وبعدها ثلاثة أحرف أصول قضي عليها بالزيادة، فمن ذلك يعقوب ويسروع ويرمع يقضى على الياء بالزيادة، ولأن بعدها ثلاثة أحرف أصلية لأن العين والقاف والباء في يعقوب أصلية والواو زائدة، وكذلك الواو زائدة في يسروع،

وإذا كانت بعد الياء أربعة أحرف أصلية كقولهم يستعور السين والتاء والعين والراء أصليات؛ وهي أربعة أحرف بعد الياء قضي على الياء بأنها أصلية على ما بينا فيستعور فعللول والياء أصلية، وهو اسم موضع وقوله: " بمنزلة افعلت تلحقها الميم ". يعني: أن دحرج يلحقها الميم في اسم الفاعل كما يلحق كرمت. قال: " فأما بنات الأربعة فكل شيء جاء منه على مثال سفرجل فهو ملحق ببنات الخمسة لأنك لو أكرهتها حتى تكون فعلا لاتفقا، وإن كان الفعل لا تكون بنات الخمسة ولكنه تمثيل كما مثلت في باب التحقير؛ إلا أن يلحقها الألف ألف عذافر وألف سرداح فإنما هذه كالياء بعد الكسرة، والواو بعد الضمة " يعني أن كل شيء من بنات الأربعة زيد عليه حرف؛ فصار على مثال الخمسة في نضد سواكنه ومتحركاته؛ فهو ملحق بالخمسة على ما بينا. ومعنى قوله: " لأنك لو أكرهتها حتى تكون فعلا " يعني لو شئت منها فعلا لكان سبيل ذلك الفعل كسبيل الذي يمكن بناؤه من سفرجل، وإن كان لا يبنى منه فإن قال قائل فكيف يكون الفعل الذي يمكن بناؤه من سفرجل على الإكراه الذي ذكر سيبويه، وإن كان لا يبنى منه. قيل له تقول سفرجل يسفرجل يشبهه تدحرج يتدحرج، لأن تدحرج على خمسة أحرف، وسفرجل على خمسة أحرف. كما أنهم لو قالوا في جمع سفرجل وتصغيره على تمام حروفه لقلنا في الجمع سفارجل وفي التصغير سفيرجل تشبيها بصناديق وصنيديق لأن صندوقا على خمسة أحرف، كما أن سفرجلا على خمسة أحرف، ولا يسقط من سفرجل شيء كما لم يسقط من صندوق، ويسكن الحرف الرابع منه في الجمع كما سكن من صندوق فهذا تمثيل أن لو بني منه فعل أو جمع لعمل على هذا، فإذا وجدنا مثل مجنفل وحبنطي وأردنا أن نكرهه على بناء الفعل صار على مثال سفرجل؛ فعلم أن جحنفل وحبنطى وما جري مجراها بمنزلة سفرجل، وملحق به. ومعنى قوله " أن يلحقها الألف ألف عذافر " قد بينا أن كل شيء فيه ألف أو ياء مكسور ما قبلها أو واو مضموم ما قبلها إنه ليس بملحق ففرافد وسرداح من ذلك، وكذلك قنديل وزنبور لأن الياء والواو فيهما بمنزلة الألف حبوكر وحبوكري الداهية،

فدوكس على ما ذكره أحمد بن يحيى في تفسير الأبنية الشديد. وقال أبو بكر بن دريد: هو الغليظ الجافي، وهو أيضا حي من تغلب بن وائل وصنوبر شجر والسرومط كساء يستظل به كالخباء، وقال بعضهم كساء يلف فيه وطب اللبن أو غيره من الإزقاق، وفي كتاب أبي عمر السرومط الطويل وأظنه غلطا والعشوزن الشديد والعرومط الطويل، حبوتن موضع عبوثران، ويقال عبيثران وهو نبت، والكنهور السحاب العظام واحدها كنهورة، بكهور ملك الهند، يقال لكل ملك عظيم بكهور، قندويل عظيم الرأس وهو مأخوذ من القندل، والقندل العظيم الرأس والهندويل الضخم والشخوط والسرحوب الطويلان، والقرضوب الفقي، والبهلول السيد الضحاك والزرجون الخمر سميت بذلك لأنها في لون الذهب، وأصلها من الفارسية ذرجون ذرذهب وجون اللون. وقال أبو عمر الجرمي: هو صبغ أحمر وقرقوس قاع أملس، وقلمون مطارف كثيرة الألوان، وحلكوك أسوة شديد السواد، ويقال أيضا حلكوك، فردوس روضة والحرزون قال أبو عمر الجرمي دابة، وفي تفسير الأبنية لثعلب عطاية، والعلطرس قال أبو عمر الناقة الخيار الفارهة، وقال بعضهم المرأة الحسناء والمعنيان يتقاربان، والعذيوط الذي يحدث إذا دنا من امرأته، والخيتحور الداهية وقال بعضهم. ما يغر ويخدع قال الشاعر: كل أنثى وإن بدا لك منها … آية الحب حبها خيتحور الخيسفوج شجرة، عيسجور الشديد من الإبل يخربوت ناقة فارهة حندقوق طويل مضطرب وقال بعضهم، وهو شبه المجنون لإفراط طوله واضطرابه، وأما هذا الذي تسميه العامة الحندقوق فهو عند العرب يسمى الزرق سميدع سيد العميثل الجلد النشيط الحفيتا القصير الحنيتل العريقصان ويخفف فيقال العرقصان دابة ويتكلم بالحذف، والإثبات البرطيل حجارة دقاق تكون نحو ذراع، كندير اسم رجل الشنظير السيئ الخلق، الحرنبيش الخبيثة من الأفاعي، واليهميم الذي يزبد ويهمهم، والزحليل السريع، والصهميم الشديد، والخنذيذ الخصي والغرنيق الرفيع السيد، والجمع الغرانقة دابة، والبلهنية العيش الذي لا كدر فيه كنابيل اسم أرض وهي معرفة، عرطيل طويل وقالوا غليظ، حلقويز ثقيل، ويقال عجوز كبيرة فيها بقية وغلفقيق داهية، ويقال سريع، وقمطرير شديد فنشليل قاله أبو عمر الجرمي هو معرفة البرمة، وحكى عن الأصمعي عن خلف الأحمر أنه قال أغتا هي

أعجمية، وإنما هي كفجلان فأعربته العرب، وهذا التفسير ليس بمشاكل لما قال سيبويه لأنه ذكر فعلليل؛ فقال بعد ذكره أمثلته ولا نعلمه جاء اسما؛ فقد جعله صفة فيحتاج إلى طلب شيء يكون فنشليل نعتا له عفشليل الجافي، وقد وجدنا أحرفا من هذا البناء غير نعت من ذلك قولهم ما يملك خريصيصا وفرنسيسا؛ أي شيئا وبرقعيد اسم موضع يقال كساء عفشليل إذا كان جافيا، ويقال للضبع عفشليل لجفائها برائل عرف كل شيء برائله، ويقال برأل الديك إذا أنفش برائله، وجعله سيبويه فعالل وجعل الهمزة أصلية لأنه ليس على زيادتها دليل، وقال بعضهم هي زائدة، واستدلوا على ذلك بالنظير لأن حطائط الهمزة فيه زائدة الجحادب ضرب من الجراد عتائد موضع، فرافص من صفات الأسد، الشديد القرافر الغليظ الشديد الدواسر الغليظ الجانب القراشب جمع قرشب وهو الحسن، ويقال خاصة للقراة الحسن قرشب، غرانيق جمع غرنوق، وهو طائر، السرداح الأرض الواسعة، ويقال لكل ضخم أيضا سرداح، والحملاق ما ظهر من الغين مما تواريه الأجفان، السنغاف أعلى الشيء، وهلباج الأحمق الكثير العيوب من الرجال. قال سيبويه: " ولا يعلم في الكلام على مثال فعلال لا المضاعف من بنات الأربعة " يعني ما تكرر فيه لفظ فاء الفعل وعينه كقولك زلزال وجرجار، وما أشبه ذلك وذكر غيره حرفا على فعلال غير مضاعف، وهو خزعال يقال ناقة هاخزعال؛ وهو سوء مشي من داء البرناسا والبرنساء الناس يقال " ما أدري أي البرناسا " هو " أي الناس هو " الغرناس ما يشخص من الجبل قال الهذلي: في رأس شاهقة ابنو بها خصر … دون السّماء له في الجو فرناس والفرناس أيضا شيء يلف عليه الصوف والقطن ثم يغزل، حبركي قصير الظهر وطويل الرجل هذا قول أبي عمر الجرمي، وفي تفسير الأبنية لثعلب الطويل الظهر القصير الرجلين، وحبركي أيضا القراد جلعبي شديد غليظ، قال أبو عمر الجرمي سألت الأصمعي، فقال هو الممتلئ غضبا أو بطنه؛ وهو مشتق من حبط بطته إذا امتلأ وعظم، الحضبار الضخم، محنبار وهو الضخم أيضا، وفرنداد موضع، جبار فرخ الحباري ومثله الجنبر، طرماح طويل وفي تفسير ثعلب متكبر، شقراق طائر شنقار خفيف جلباب وما رأيت أحدا فسره وأظنه يريد به الجلباب؛ وهو القميص، عقرباء معفوفة اسم بلدة، وكذلك حرملا اسم بلد، طرمسا شديدة الظلمة، وقد جعلها سيبويه صفة فينبغي على

قوله أن يقال " ظلمة طرمساء "؛ أي شديدة حتى يكون صفة، والجلخطاء من الأرض الحزن منها يقال تركته بجلخطاء من الأرض أي بحزن، غليظ الجربياء الريح الشمال الباردة، العقربان الذكر من العقارب، ويقال هو دخال الأذن، وقردمان قال أبو عمر هو القباء المحشو، وحكي عن أبي عبيدة أنه قال أصلها فارسية، ولكنها أعربت قال بعضهم هو اسم للحديد، وما يعمل منه وهو بالفارسية كردماني أي عمل وبقي، وقال بعضهم هو اسم لبلد يعمل فيه السلاح، عرقصان حكي عن أبي زياد أنه قال هو الخندقوق، رقرقان وهو البراق الذي يترقرق والدحمسان وهو الرجل الأدم السمين، والعردمان الشديد الغليظ الرقبة، والحندمان وهو اسم قبيلة ويقال الخندمان، حدرحان قصير شعشعان طويل خفيف، ححجب حي من الأمصار وقرقري موضع وفرتن أمة، وهي أيضا اسم امرأة واسم قصر، والقهقري الرجوع إلى خلف والخيزلي مشية، ويقال الخوزلي والخيزري والخوزري في هذا المعنى وذكر سيبويه هندباء في أسماء، وفي موضع آخر هندبا بفتح الدال مقصور وممدود وهو اسم هذه البقلة، وفسر أبو عمر الجرمي هندبا فقال هو الرجل الخفيف في الحاجة، ويقال أن هذا تصحيف من أبي عمر من جهتين إحداهما أن سيبويه قال هندبا اسم، وعلى تفسير أبي عمر يجب أن يكون نعتا والجهة الأخرى أن الخفيف في الحاجة يقال له مندباء مأخوذ من رجل ندب، وهو الخفيف في الحاجة، وهو مفعلا، من ذلك الهربذي مشية والصحيح فيما ذكره في الهندبا أن يكون الموضع الأول هندباء ممدود، والموضع الثاني هندبا مقصور؛ لأنه جاء بعد ذلك بهربذي فجعله بناء آخر، وهو فعللي، سطري مشية فيها تبختر وضبغطي وضبغطري شيء يفزع به، خنعبة الناقة الغزيرة اللبن كنهبل ضرب من الشجر حزنبل قصير وحزنبل نبات أيضا عبنقس سيئ الخلق قال الراجز: ولو أراد خلقا عبنقسا … أقرة النّاس ولو تعجسا فلنفس هجين من طرفيه قال أبو عمر الذي أبواه هجينان قال الراجز: العبد والهجين والقلنفس … ثلاثة فأيهم تلمّس وفي تفسير الأبنية لثعلب القلنفس في الجاهلية ولد الزنا، وفي الإسلام مولى معرب وفي تفسيره أيضا القلنفس ناقة شديدة فإن قال قائل لم جعل سيبويه النون في حزنبل وعبنقس زائدة وقد يمكن أن يكون على وزن سفرجل، وليس على زيادة النون دلالة من اشتقاق ولا غيره قيل له قد كثرت زيادة النون؛ إذا وقعت ثالثة ساكنة فيما عرف بالاشتقاق نحو النون في حبنطي، وما أشبه ذلك فحمل ما لم يعرف له اشتقاق على ما

هذا باب لحاق التضعيف فيه لازم كما ذكرت لك في بنات الثلاثة

عرف اشتقاقه جحنفل غليظ الشفة عفنجج جلف جاف قال الراجز: جلف إذا ساق بنا عفنججا والضفندد الضخم الذي لا غناء عنده قال الراجز: إني على ما كان من تحددي … ودقة في عظم ساقي ويدي أروي على ذي العكف الصفنددي أروي أي أشد عليه بالرواء في السفر، والرواء الحبل يشد به العكمان، والقنفخر بكسر القاف، وبضمها الفارة في نوعه، وقد ذكرناه فيما تقدم إن شاء الله تعالى. هذا باب لحاق التضعيف فيه لازم كما ذكرت لك في بنات الثلاثة اعلم أن هذا الباب يشتمل على ذوات الأربعة التي لحق عينها تضعيف، أو لحق عينها تضعيف أو لحق لامها، فمنه ما يلحق بذوات الخمسة لاستواء نظم السواكن والحركات، وليس فيه شيء يفسر سوى غريبه فمن ذلك علكة. قال أبو عمر الجرمي وثعلب في تفسير الأبنية هو الغليظ، ويروى عن أبي العباس المبرد أنه قال العلكد والعلكاء في معنى واحد وهي العجوز المسنة، وأنشد عن التوزي عن أبي زيد وعلكد ختلتها كالخف الخنلة ما بين السرة والركبة والهلقس الشديد من الجمال والناس والشنعم بالعين غير المعجمة ذكره سيبويه ولم يعرفه أحد، ولكن قال أبو العباس ثعلب يقال رحم رجل شعم أي عريض قال فأظن شنعم منه كما قالوا في شجم شنجم، وهذا الذي قال أبو العباس يخالف غرض سيبويه لأن الباب إنما يذكر فيه ذوات الأربعة التي لحقها حرف من جنس عينه أو لامه، وإذا جعلنا أصله شقم فقد جعلناه من ذوات الثلاثة، الهمقع نبت قال أبو عمر الجرمي هو ثمر القضب قال الفراء قد كنت سمعت أنه نبت فقال لي أبو شنبل الهمقع والهمقعة الأحمق والحمقاء، وما يوجبه كلام سيبويه أنه نبت أو ثمرة، وأنه ليس بالأحمق؛ لأنه يقال هو اسم الزملق، قال أبو عمر الذي ينزل قبل أن يجامع قال ثعلب في تفسير الأبنية الدملص والزملق الذي ينسل من القوم يخرج من بينهم، الضمخر الضخم العظيم من الإبل والرجال، والشمخر المتعظم، الزنجس الضخم والهنفرج الاختلاط الشفلخ ثمر الكبر على كلام سيبويه لأنه جعله اسما، والشفلخ في باب الصفة الغليظ الشفتين، العدبس الضخم، العملس الخفيف، ويقال للذئب عملس من أجل ذلك، العجفس الضخم الثقيل البطيء، الصفرق قال ثعلب في الأبنية هو نبت والزمرد

هذا باب تمثيل الفعل من بنات الأربعة

معروف والزونك والزوزنك والزونكى كله القصير قال الراجز: وزوجها زونزك زونزى … يفزع إن خوّف بالضّبغطى (¬1) العطود يقال سفر عطود إذا كان طويلا، سبهلل الفارع، ويقال الضلال ابن السبهل لما لا يحصل، ومثله في المثال، والمعنى جميعا السبغلل والصمحدد مثله في المعالي ومعناه الخالص من الشيء يقال شربنا صمحدة؛ أي خالصة، القفعدد القصير في تفسير الأبنية لثعلب العربد حية بفتح، ولا ضرر لها، ومنه سمي المعربد، وقال ثعلب حية خفيفة، القرشب المسن القهقب الضخم، القسقم الضخم، وكذلك قسحب الطرطب الهرشف الشديد الشرب، وقال بعضهم خرقة ينشف بها الماء من الحوض قال الراجز: ربّ عجوز رأسها كالقفّه … تحمل جفا معها هرشفّه (¬2) الغلود الشديد. هذا باب تمثيل الفعل من بنات الأربعة مزيدا وغير مزيد فإذا كان غير مزيد فإنه لا يكون إلا على مثال فعلل، اعلم أن هذا الباب غرض سيبويه فيه تبيين الفعل الذي فيه أربعة أحرف أصلية؛ وهو على ضربين أحدهما ليس فيه زائد وهو دحرج وسرهف وما أشبه ذلك، والثاني فيه زيادة وهو ثلاثة أبنية أحدها تفعلل مثل تدحرج بزيادة التاء وحدها، والثاني فعلل نحو افعلل واطمأن والثالث افعنلل نحو اجرنجم واخرنطم فمعنى قوله مزيدا يعني هذه الثلاثة الأبنية، وغير مزيد يعني دحرج وسرهف وما أشبه ذلك، وقد ذكرنا هذه الأبنية مستقصاه فيما تقدم. هذا باب تمثيل ما بنت العرب من الأسماء والصفات من بنات الخمسة وليس لبنات الخمسة فعل كما أنه لا يكسر للجمع لأنها بلغت أكثر الغاية؛ مما ليس فيه زيادة فاستثقلوا أن تلزمهم الزوائد فيها لأنها إذا كانت فعلا فلابد من لزوم الزيادة. اعلم أن هذا الباب يشتمل على أبنية الخماسية؛ وهي أربعة أبنية، وقد ذكرناها فعلل سفرجل وفعلل نحو قزعمل وفعلل نحو قهلبس. قال سيبويه: " ولا يكون من هذا فعل استثقالا لا أن تلزم الزيادة ". يعني: أنك لو صرفت من ذلك فعلا لزمك أن تجعل فيه علامة الاستقبال في أوله، ¬

_ (¬1) تاج العروس 19/ 443، المخصص 4/ 495. (¬2) تاج العروس 23/ 89، جمهرة اللغة 2/ 1152، المخصص 2/ 464.

وضمائر الفاعلين في آخره، وتجعل في اسم الفاعل الميم؛ فتكثر حروفه فيستثقل، وقد يلحق بالخمسة ذوات الثلاثة على ضربين أحدهما أن يلحق ذو الثلاثة بالخمسة بزيادتين يلحقانه معا فيصير لا حقا بالخمسة، والآخر أن يلحق ذو الثلاثة بذوات الأربعة بزيادة، ثم تلحق زيادة أخرى فتلحقه بذوات الخمسة، فأما ما لحق من ذوات الثلاثة، وذوات الخمسة في أول أمره فهو ما لم أسقطت أحد زائديه لم يكن الباقي من حروفه على مثال ما يلحق بالأربعة كصمحمح وعثوثل لحقت عثوثل بسفرجل بزيادة الواو وإحدى التاءين، ولو أسقطنا الواو يعني عثعثل فيلحق عينان من مثال الفعل، وليس في شيء من الملحق زيادة عين على عين غير مدغم، وأما ما يلحق بالرباعي فهو ما يزاد عليه من جنس لامه، أو في وضع اللام، ثم يزاد عليه من جنس لامه أو في موضع اللام، ثم يزاد عليه حرف آخر، وذلك قولك عفنجج وحبنطى كان الفعول، ودخلت على عنجج وحبنط وعنجج وحبنط قد يكون مثله ملحقا به وعثوثل كقولك قردد، وعلقي تفسير الغريب منه الشمردل الطويل كفعلل وجنعدل غليظ شديد همرجل خفيف سريع عثوثل؛ وهو الضخم المسترخي القهبلس العظيم من الكمر الجمحرش العجوز المسنة. قال الراجز: قد قرنوني بعجوز جحمرش … كإنما دلالها على الفرش (¬1) من آخر الليل كلاب تهترش صهصلة صخابة حادة الصوت. قال سيبويه: " همرش " ملحق بقهبلس بزيادة عين الفعل منه وهو الميم فمثاله على ما قال فعلل وخالفه الأخفش؛ فقال همرش هو فعللل في الأصل غير ملحق بشيء، وليس فيه حرف زائد، وهذه الميم المشددة هي في الأصل نون وميم أدغمت النون في الميم، وكان الأصل هنمرش، وإذا صغر قال هنيمر فيحذف الشين كما يقول في تصغير قهبلس قهيبل، واستدل الأخفش على ذلك بأن قال لم نجد في بنات الأربعة شيئا على هذا المثال يعني شيئا ملحقا به فحملناه على ذوات الخمسة، وليس الأمر على ما قاله الأخفش لأنا قد وجدنا في كلامهم جروقمروش، وهو ملحق بجحمرش بزيادة الواو ومعناه إذا كبر الجرو وخدش؛ فإن قال قائل فما تقول في ميم همقع قيل له هما ميمان لأن همّع لو جعلنا إحدى ¬

_ (¬1) لسان العرب 4/ 124، الحيوان 7/ 161.

هذا باب ما لحقته الزيادة من بنات الخمسة

ميميه نونا لكان خارجا على أمثلة ذوات الخمسة الأصلية فلم يحتج إلى أن يجعل أصله نونا لتلحقه بذوات الخمسة، وإذا صغرت همرش على قول سيبويه قلت هميرش لأن إحدى الميمين عنده زائدة؛ فهي أولى بالحذف، وقد أجاز الأخفش تصغيره على هذا الوجه فإن قال قائل لم لم تبين النون في همرش على مذهب النون كما بينت في أنملة، قيل له إنما أدغمت في همرش لزوال اللبس بينت في أنمله لو لم يبينوها في أنملة لقالوا أملة فالتبس بفعله مثل بقم وبابه، وليس لهم مثال يلتبس به لو أدغم ألا ترى أنهم قالوا أنملة فبينوا، وقالوا أمححي الكتاب فإذا أدغموا لزال اللبس؛ إذ قد علم أنه على انفعل، وليس له مثال يلتبس به في هذا الموضع، ولم يقولوا انمحى، ومعنى هموش عجوز مسنة، وفي كتاب العين الرباعي من الهاء همرش جحمرش، وهذا يدل على أن الخليل جعل الميم مضاعفة ولم يقدر نونا وقال: إنّ الكلاب تحترش … في بطن أم الهمّرش قبعثن الضخم من الإبل قد عمل يقال ما أعطاني قد عمله أي ما أعطاني شيئا، ويقال للناقة الشديدة قذعملة، وقذعميل القرطعب يقال ما في السماء قرطعب ولا قرطعبة أي سحاب، وقال ثعلب قرطعب دابة شديدة جردحل ضخم شديد حقرقر قصير هردحل قصير عريض العقنقل الرمل المعوج. هذا باب ما لحقته الزيادة من بنات الخمسة كلام سيبويه في هذا الباب مفهوم، وفيه أحرف من الغريب نفسرها، فمن ذلك السلسبيل اللين الذي لا خشونة فيه، والخندريس من أسماء الخمر والعندليب، ويقال العندليب طائر صغير والعرب تقول وهو يصيد ما بين الكركي إلى العندليب دردبيس الداهية والدردبيس العجوز المسنة قال الراجز: عجيز لطعاء دردربيس … أحسن منها منظرا إبليس (¬1) والدردبيس خرزة تحبب المرأة إلى زوجها عندهم علطميس وفي كتاب سيبويه في موضع علطميس عرطبيس، وفسره بعضهم الشابة وفيه نظر قذعميل في معنى قذعمل، وقد مضى التفسير وخزعبيل الباطل من كلام ومزاح خنفبيل شديد بلعبيس الأعاجيب درخميل ودرخمين داهية والدرخمين الضخم من الإبل وغيرها قال الراجز: ¬

_ (¬1) تاج العروس 16/ 63، جمهرة اللغة 2/ 916.

هذا باب ما أعرب من الأعجمية

أنقب عبرعانة درخمين عضرفوط دابة، قرطبوش داهية، قرطيوس ناقة عظيمة شديدة، يستعور بلد بالحجاز، ويقال ذهب في اليستعور أي ذهب في الباطل قال الشاعر: أطعت الآمرين بصرم سلمى … فطاروا في عضاه اليستعور (¬1) وهو في هذا الموضع يحتمل الأمرين، قبعثري جمل ضخم شديد، ملزز كثير الوبر ضبغطري شديد. هذا باب ما أعرب من الأعجمية اعلم أن هذا الباب يشتمل على ثلاثة أوجه؛ فوجه منها غيرت حروفه أو حركاته، وألحق بأبنية العرب، ووجه غيرت حروفه ولم يلحق بأبنية كلامهم ووجه لم تغير حروفه، ولم يزل بناؤه، وكان لفظه في العربية كلفظه في الأعجمية، فأما ما غيرت حروفه أو حركاته، وألحق ببناء العرب؛ فنحو درهم وبهجر وبهرج ألحق بهجرع وجعفر وغير ذلك مما ذكره سيبويه، وأما ما غيرت حروفه ولم يلحق بأبنيتهم فأبريسم وإسماعيل وسراويل والأصل فيهن السين، وفيروز وفاؤه بين الفاء والباء وليس فيه باء وأصل قهرمان بالفارسية كهرمان بالكاف، وأما ما يغير منه شيء فنحو خراسان، وخرم موضع والكركم ومعناه الزعفران والكركمان الرزق. قال الراجز: كل امرئ ميسّر لشأنه … لرزق الغادي وكركمانه قال سيبويه عقيب ذكره ما غيرته العرب من أبنية كلام العرب وحركاته: " وإنما دعاهم إلى ذلك أن الأعجمية يغيرها دخولها العربية بإبدال حروفها؛ فحملهم هذا التغيير على أن أبدلوا وغيروا الحركة كما يغيرون في الإضافة إذا قالوا هني نحو زباني وثقفي " يعني أنهم يغيرون كلام العرب في أبنيته وحركاته كما جاز أن يغيروا حروفه؛ لأنه قد يكون في حروفهم ما ليس مثله في حروف كلام العرب فيغيرونه إلى أقرب الحروف منه وأشبهها به، فمن حيث جاز لهم تغيير الحروف جاز لهم تغيير الأبنية، وكما يغيرون في النسبة كقولهم زباني في النسبة إلى زبنية، وثقفي في النسبة إلى ثقيف، وكما قالوا دهري وسهلي في النسبة إلى الدهر والسهل. ¬

_ (¬1) قائل البيت عروة بن الورد انظر جمهرة اللغة 2/ 1222.

هذا باب اطراد الإبدال في الفارسية

وقال سيبويه في آخر هذا الباب " وربما غيروا الحرف الذي ليس من حروفهم ولم يغيروه عن بنائه في الفارسية نحو فرند وبقم وآجر وجربز يعني غيروا لفظ الحرف فجعلوه فاء محضة أو ياء محضة، وأصلها ليس كذلك ثم لم يجعلوه على شيء من أمثلتهم. هذا باب اطراد الإبدال في الفارسية اعلم أن العرب تبدل من كلام العجم، وذلك في عشرة أحرف؛ وهي الجيم والكاف والباء والفاء والقاف والسين والشين والعين واللام والزاي، وهذه الحروف تنقسم قسمين أحدهما يطرد إبداله، والآخر لا يطرد إبداله؛ فأما ما يطرد فخمسة أحرف الجيم والكاف والباء والفاء والقاف، وأما ما لا يطرد إبداله فخمسة أحرف السين والعين والشين واللام والزاي، فأما الجيم والكاف فتبدلان من الحرف الذي بين الجيم والكاف فربما كان البدل من ذلك الجيم، وربما كان الكاف، فأما قولك جورب وجزبر والآجر، وأما الكاف فقولك كربج وكوشج، وربما أبدلوا من ذلك قافا كقولهم قربق وكيلقة، ويبدلون الجيم من الهاء في آخر الكلمة كقولهم في الحق موزج وكوسج وفالوزج، وإنما أبدلوا من الهاء جيما لأن ما كان آخره هاء في كلام الفرس إذا وقفوا جعلوه هاء وإذا وصلوا جعلوه ياء والياء من مخرج الجيم؛ فجعلته العرب جيما من أجل الياء التي تنقلب إليه في الوصل ألا ترى أنهم يبدلون من الياء جيما في الوقف في قولهم علج وبرنج في موضع علي وبرني، وربما قلبوا الجيم قافا فقالوا فالوذق وفالوزج وكربج وكربق. قال الشاعر: ما شربت بعد طويّ القربق … من قطرة غير النّجاء الأدفق (¬1) وأما الباء والفاء فيبدلان من الحروف الياء والقاف فربما جعلوه باء، وربما جعلوه فاء؛ فأما ما جعل فاء فقولهم فندق وفرند، وأما الباء فقولهم برند بالباء، وأما السين فيبدلونها من السين كقولهم ابريسم، وأصله بالشين في كلام العجم، وكذلك إسماعيل اسماول وربما أبدلت الشين من السين لاجتماعهما في الهمس والانسلال ومثله سراويل وأصله شروال والعين في إسماعيل بدل من الواو في اسماول، وإنما أبدلوا العين من هذه الواو لأن هذه الواو في لغتهم بين الهمزة والواو فكأنها بدل من الهمزة لقربها منها، وأما ما أبدل ¬

_ (¬1) كتاب سيبويه 4/ 306، لسان العرب 10/ 320.

هذا باب ما تجعله زائدا

من اللام فقولهم فقشليل ومعناه المعرفة وأصلة في لغتهم كفجليز فجعلوا الزاي لاما، واتبعوه اللام الأولى وجعلوا الكاف قافا، وجعلوا الجيم شينا، وذلك لأنها ليست بالجيم المحضة في لغتهم، وإنما هي بين الجيم والشين، وأما الزاي فقولهم في النسب إلى الري رازي وإلى مرو مروزي، وذلك لأن النسبة في لغتهم إلى هاتين المدينتين بالجيم كقولهم مروجي وراجي. هذا باب ما تجعله زائدا من حروف الزوائد وما تجعله من نفس الحرف اعلم أنا قد ذكرنا جملة الطرق التي يعلم الحرف الزائد في ابتداء تفسير التصريف من هذا الكتاب، ولكنا نذكر ما اعتاص من لفظه في هذا الباب فنفسره ونتبع ما أغفلناه هناك فنستقصيه ها هنا إن شاء الله تعالى. قال سيبويه: " فالهمزة إذا لحقت أولا رابعة فصاعدا فهي مزيدة أبدا عندهم ألا ترى أنك لو سميت رجلا بأفكل وأيدع لم تصرفه، وأنت لا تشتق ما تذهب فيه الألف " يعني: أن الهمزة إذا دخلت في أول الكلام، وبعدها ثلاثة أحرف حكم عليها بأنها زائدة نحو أحمر وأشهب، وكذلك إذا دخلت أولا وبعدها أكثر من ثلاثة أحرف غير أن فيما بعدها زوائد، وقد عرفت وتبقى منها ثلاثة أحرف أصول نحو أفحاض وأسحلان يحكم على الهمزة الأولى بالزيادة، ومعنى قوله " رابعة فصاعدا " يعني رابعة في العدد فصاعدا فإن قال قائل ليس من قولك إذا دخلت على اسم أولا وبعدها أربعة أحرف أصلية قضي عليها بأنها أصلية، ولم يحكم عليها بالزيادة كالهمزة في إبراهيم وإسماعيل، وما أشبه ذلك قيل له نعم فإن قال فإذا كان كذلك فلم جعل الهمزة مزيدة أبدا إذا لحقت رابعة فصاعدا قيل له يعني بقوله فصاعدا في العدد، ويكون شرط الزيادة لا يكون بعدها أربعة أحرف أصول. ومعنى قوله " ألا ترى أنك لو سميت بأفكل، وأبدع لم تصرفه " يعني أن الهمزة في أفكل وأيدع قد قضي عليها بالزيادة لما ذكرناه من كثرة زيادة الهمزة في مثل هذا الموضع بالاشتقاق، وأفكل وأيدع لا اشتقاق لهما فحملا على ما له اشتقاق فلما حملا على ما عرف زيادته صار بمنزلة المشتق؛ فإذا سمي رجل بأفكل وأيدع لم ينصرف لاجتماع علتين فيهما، وهما التعريف ووزن الفعل لأنهما على وزن أفعل مثل أذهب.

قال سيبويه: " ومما يقوى أنها زائدة أنها لم تجئ ولا في الفعل فتكون عندهم بمنزلة رحرح فترك صرف العرب لها وتركها أولا زائدة والحالة التي وصفت في الفعل يقوي إنها زائدة " يعني: أن الهمزة في أفكل وأيدع يقوي أنها زائدة أنا لم نر في كلام العرب فعلا في أوله همزة، وبعدها ثلاثة أحرف على قولهم رجل مالوق إذا كان به أولق وهو جنون وإنما صار مالوق أبين في الاستبدال لأن التي تجوز أن تكون ولق وقلبت الواو همزة لانضمامها مثل قوله " إذا الرسل أقتت " في معنى وقتت قال وكذلك الأرطى. يعني أن الهمزة فيه أصلية لأنك تقول أديم ما روط وزنه مفعول والهمزة فاء الفعل والألف التي في آخره زائدة، ولو كانت الهمزة زائدة لوجب أن تكون الألف منقلبة من ياء أصلية أو واو فكان يلزم أن يقال في مفعول مرطي، أو مرطو كما يقال مرمي ومغزو، وعن أبي عمر الجرمي قد حكي أديم مرطي فمن قال ذلك جعل الهمزة زائدة والياء أصلية. قال: " والأمر لأنه صفة فيه مثل ما قبله " يعني أن الهمزة في أمر غير زائدة لأنه صفة والصفة تجيء على فعل وفعلة، كقولك مررت بنحل يصح ورجل امعة، ولا يجيء على أفعل فلو جعلنا الهمزة زائدة صار على أفعل صفة، وليس ذلك في الكلام قال أمرؤ القيس: ولست بذي رثية أمر ... إذا قيد مستكرها أصحبا (¬1) قال سيبويه: " ومنبج الميم منزلة الألف " يعني: أنه يقضي على الميم بالزيادة إذا وجدت في أول اسم وبعدها ثلاثة أحرف أصلية بمنزلة الهمزة لكثرة دخولها ذلك كالميم في معقل ومحرن ومنجل، وما أشبه ذلك فمنبج لم يعرف له اشتقاق فحمل على نظائره نحوه مضرب ومسجد وما أشبه ذلك. قال: " فأما المغري فالميم من نفس الحرف لأنك تقول مغر، ولو كانت زائدة لقلت غرا " يعني: أنهم لما قالوا مغر علم أن الميم أصلية لأنه لا يجوز أن تكون كلمة على ثلاثة أحرف، وأولها ميم زائدة ومغر على فعل ولو كانت الميم زائدة في مغري، ثم بنينا منه فعل لقلنا غرا، وكذلك الميم في مغر أصلية بقولهم تمعدد الرجل إذا ذهب مذهب ¬

_ (¬1) الديوان 48، مقاييس اللغة 1/ 138، أساس البلاغة 1/ 348.

معدو تمعدد تفعلل، ولو كانت الميم زائدة كان تمعدد على وزن تفعل، ولا يعرف تمفعل إلا في قولهم تمسكن من المسكنة وتمدرع من المدرعة، وتمندل من المنديل، والأجود في هذه الأحرف تسكن وتدرع، وتندل، قال: فأما منجنيق والميم فيه من نفس الحرف لأنك إن جعلت النون من نفس الحرف فالزيادة لا تلحق بنات الأربعة أولا، وإن كانت النون زائدة فلا تزاد لأنه لا ينتقي في الأسماء ولا في الصفات التي ليست على الأفعال المزيدة في أولها حرفان زائدان متواليان قد كنا بينا إن النون منجنيق زائدة، وأن الميم أصلية فيما سلف من التفسير. فأما سيبويه فإنه قصد أن يبين أن الميم في منجنيق زائدة، فقال الدليل على زيادتها أن النون لا تخلو من أن تكون أصلية أو زائدة؛ فإن كانت أصلية فبعد الميم أربعة أحرف وهي النون الأولى والجيم والنون والقاف، وإذا دخلت الميم على أربعة أحرف أصلية لا يحكم عليها بالزيادة كالهمزة إذا دخلت على أربعة أحرف لا يحكم عليها بالزيادة، وإن كانت النون زائدة قضي أيضا على الميم أنها أصلية لأنه لا يجتمع في أول الأسماء والصفات حرفان زائدان إلا أن يكون من أسماء الفاعلين التي تجري على الأفعال كقولنا منطلق به ومستغفر؛ لأنه جار على انطلق واستغفر ثم قال: " ولو لم يكن في هذا لأن الهمزة التي هي نظيرتها لم تقع بعدها الزيادة لكانت حجة " يعني: أنه لو لم يكن في هذا من الحجة إلا أن الهمزة التي هي نظيرة الميم في زيادتها لم توجد زيادة وبعدها حرف زائد؛ لكان حجة على أن النون لما كانت زائدة لم يخل أن تكون الميم زائدة. قال: " فإنما منجنيق بمنزلة عنتريس ومنجنون بمنزلة عرطليل " يعني: أن منجنيق فنعليل، والنون الأولى فيه زائدة بمنزلة عنتريس، والنون في عنتريس زائدة لأنه مأخوذ من العترسة؛ وهي الشدة والعنتريس الشديد والنون الأولى في منجنون أصلية فهي بمنزلة الراء من عرطليل، ووزنه فعلليل، والعرطليل والعرطل الطويل، وقد ذكرنا تفسير منجنون ومنجنيق فيما مضى مستقصى. قال: " وكذلك ميم ماحج ومهدد " وهما أصليتان ملحقتان بجعفر، والدليل على أنهما أصليتان أنهما لو كانتا زائدتين لقيل ماج ومهدكما قيل مدد ومغر إلا أنه قد جاء باجج اسم موضع، وكان ينبغي أن يكون يبنج وهو يفعل فجاء على الأصل كما قالوا قود

ومشت الدابة تمشش؛ فللقائل أن يقول ماجج ومهدد جاء على الشذوذ والأصل هو يفعل كما جاء باجج والأقوى ما قاله سيبويه، وأما مرعزي فهو مفعلي، ولكن كسرة الميم كسرة ميم منخز ومنتن وليست كفريسا يدلك على ذلك مرعزي كما قالوا مكوري للعظيم روتة الأنف، وقالوا يهيري فليس شيء من الأربعة على هذا المثال لحقته ألف التأنيث، وإنما كان هذا فيما أوله حروف الزوائد؛ فهذا دليل أنه من بنات الثلاثة، ولا نعلم في الأربعة على هذا المثال بغير ألف جعل سيبويه الميم في مرغوي زائدة لأنها دخلت على الثلاثي، لأن الراء والعين والزاي ثلاثة أحرف؛ وهن أصول والألف الأخيرة زائدة لأنها للتأنيث فكان دخول الميم على مرعزي كدخولها على مكوري وهو العظيم روثة الأنف قد علم أن الميم في مكوري زائدة مشتق من الكور كأنه قد جمع روثة وألقى كالعادة والكور الجماعة قال أبو ذؤيب الهذلي: ولا شبوب من الثّيران أفرده ... من كوره كثرة الإغراء والطّرد (¬1) فلما كانت ميم مرعزي زائدة كانت مرعزاء بالكسر زائدة أيضا، وكسرت الميم فيه للإتباع كما كسرت في منخر ومنتن، والأصل منخر ومنتن. ومعنى قوله " ليست كطرمساء " هو أن طرمساء من ذوات الأربعة لحقه ألف التأنيث، وليس كذلك مرعزاء قال لأن مرعزاء في معنى مرعزي ومرعزي لم يوجد له من ذوات الأربعة نظير قد لحقه ألف التأنيث على هذا المثال؛ يعني لم يوجد من ذوات الأربعة ما شدد لامه ولحقه ألف التأنيث وقد وجد في بنات الثلاثة ما شدد لامه ولحقه ألف التأنيث فمن ذلك مكوري، ومنه يهيري ويهيري من ذوات الثلاثة لأنهم يقولون يهير ويهيير فيعلم أن الياء الأولى زائدة لأنها بمنزلة الياء في يرمع ويهمل، ولا تجعل الثانية زائدة لأنا لو جعلنا الياء الثانية زائدة لجعلنا الأولى أصلية وصارت الكلمة على فعيل، وليس في الكلام فعيل الأحرف زعموا أنه مصنوع وهو ضهيد. قال سيبويه: " وأما الألف فلا تلحق رابعة فصاعدا إلا مزيدة لأنها كثرت مزيدة كما كثرت الهمزة أولا فهي بمنزلتها أولا وثانية وثالثة ورابعة؛ إلا أن يجيء ثبت وهي أجدر أن تكون كذلك من الهمزة لأنها تكثر ككثرتها أولا، وأنه ليس في الكلام حرف إلا وبعضها فيه أو بعض الياء والواو ". ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 14/ 74، المخصص 2/ 267.

قال أبو سعيد: رحمه الله أعلم أن الألف لا تكون أصلا في الكلام أبدا وإنما تجيء زائدة أو منقلبة من حرف زائد أو أصلي، فأما كونها زائدة من غير أن تكون منقلبة من شيء فللتأنيث وغير التأنيث فأما التأنيث والألف في حبلى وسكرى وحبارى وما أشبه ذلك، وأما الذي لغير التأنيث فالألف في ضارب والألف في كتاب وما أشبه ذلك وأما كونها منقلبة من حرف زائد فكالألف في معزى وأرطى وسلقى لأن الأصل معز وأرط وسلق وزيدت عليهن ياءات ليلحقن بالأبنية الرباعية فأما معزى فزيدت عليه الياء فصارت معزى على وزن درهم وهجرع فوقعت الياء طرفا، وقبلها فتحة وأما أرط فزيدت فيه الياء وجعل بمنزلة جعفر فصار أرطي فقلبت الباء ألفا لانفتاح ما قبلها، وكذلك سلقي زيدت فيه الياء، ثم قلبت ألفا كما ذكرنا وأما انقلابها من حرف أصلي فهو على ضربين، إما أن ينقلب من ياء أو واو فانقلابها من ياء أصلية في نحو رحي وقضي وانقلابها من واو في نحو عصا ودنا وتفا، وإذا وجدت الألف في كلمة ثانية أو ثالثة أو رابعة أو خامسة أو سادسة، وفي الكلمة ثلاثة أحرف سواها قضيت بالزيادة عليها حتى يتبين لك أنها منقلبة من حرف أصلي وذلك أنها قد كثرت زائدة فيما ذكرناه، وعرف ذلك بالاشتقاق نحو الألف في ضارب وفي مقاتل وكتاب ودينار وقيراط وحبنطي ودلنظي وقبعثري وضغطري، وما أشبه ذلك فحمل الباب كله على ذلك، وإذا وجدت الألف في كلمة على ثلاثة أحرف علمت أنها منقلبة من حرف أصلي إما ياء، وإما واو كالألف في قضى ورمى ورحى وفتى وناب وعار وباع وهاب؛ فالألف في هذه الأشياء منقلبة من ياء ألا ترى أنك تقول قضيت ورميت ورحيان وفتيان وباع مشتق من البيع، وهاب من الهيبة والمنقلبة من الواو نحو دنا وغزا وتفا وعصا ومنا ودار، وقال وما أشبه ذلك لأنك تقول دنوت وغزوت وتفوان وعصوان وقال مشتق من القول ودار من الدور وهذه الأشياء وما جرى مجراها تبين فيها أنها منقلبة من حرف أصلي لأنه لا يجوز أن يكون اسم وفعل على أقل من ثلاثة أحرف أصلية وأما ما زاد على ثلاثة أحرف، وكانت الألف فيه منقلبة من حرف أصلي فيحتاج إلى دليل آخر. قال سيبويه: " فأما الثبت الذي يجعلها بدلا من حرف هو من نفس الحرف فكل شيء تبين لك من الثلاثة أنه من بنات الياء والواو " يعني: كل شيء كان على ثلاثة أحرف وفيه ألف، وقد ذكرنا هذا. قال سيبويه: " أو تكون رابعة وأول الحرف الهمزة أو الميم إلا أن يكون ثبت

أنهما في نفس الحرف، وذلك نحو أفعى وموسى فالألف فيهما بمنزلتها في مرمى فإذا لم يكن ثبت فهي زائدة " بمعنى أن الألف إذا كانت رابعة، وكان في أول الاسم همزة أو ميم قضي على الهمزة والميم بالزيادة فإذا قضي عليهما بالزيادة قضي على الألف بأنها من نفس الحرف وأنها منقلبة من حرف أصلي فمن ذلك أعمى وأعشى وملهى ومقضى ومغزى، الهمزة في أعمى وأعشى زائدة والألف فيهما منقلبة من حرف أصلي فهي في أعمى من ياء وهي في أعشى أصلها واو وهي في مغزى وملهى أصلها واو والميم زائدة، وفي مقضى ياء لأنه من قضيت، وكذلك أفعى وموسى نقضي على الميم والهمزة بالزيادة وعلى الألف أنها منقلبة من حرف أصلي وذلك من جهات منها أن الهمزة والميم إذا كانتا أولتين والألف أخيرة فالكثير الذي عرف بالاشتقاق زيادة الهمزة كما ذكرنا في أعمى وأعشى وملهى ومقضى، ومنها إن الهمزة والميم قد سبقتا فقضي عليهما بالزيادة لسبقهما إلى موضع الزيادة؛ فلما قضي عليهما وجب القضاء على الألف بأنها منقلبة عن حرف أصلي، ومنها أن الاشتقاق في هذين يوجب زيادة الهمزة والميم دون الألف، وذلك أن أفعى قد يقال فيه أفعوان فإن جعلنا الهمزة زائدة فوزنه أفعلان نحو أسجلان وأملوان، وإن جعلناها أصلية فوزنه فعلوان، ولا يعرف في الكلام فعلوان في أوله همزة كثيرا ولم يجز ذلك أيضا فيه لأنهم يقولون أرض مفعات إذا كانت كثيرة الأفاعي، وأما موسى فقد قيل أوسيت الشعر والشعر موسى، وكذلك موسى الجديد وموسى اسم رجل. ومعنى قوله: " وإن لم تشتق من الحرف شيئا وإلا زعمت أن مثل الرابح والعالم إن لم تشتق منه ما تذهب فيه الألف كجعفر وأن السرداج مثل الجردحل، وإنما فعل هذه لكثرة تبينها لك زائدة في الكلام كتبين الهمزة أولا، ويدخلان كنابيل بمنزلة قدميل، ومثل اللهافة إن لم تشتق ما تذهب فيه كهذملة فإن قلت ذا قلت ما لا يقوله أحد ألا ترى إنهم لا يصرفون حبنطى ونحوه في المعرفة أبدا، وإن لم يشتقوا منه شيئا تذهب فيه الألف لأنها عندهم بمنزلة الهمزة. قوله: " وإلا زعمت إن مثل الرابح والعالم إن لم يشتق لم تذهب فيه الألف كجعفر " يعني: لم تقل إن الهمزة زائدة في أفعى، والميم في موسى، لزمك أن لا تقول إن الألف في الرابح أو العالم زائدة لأنه لا اشتقاق له يدل على زيادة الألف، كما لا اشتقاق

للأفعى، وكان هذا القائل إنما يثبت الزيادة فيما دل عليه الاشتقاق دون ما يحمل على النظير الذي تكثر زيادته، ويلزمه أيضا أن يقول إن الألف في سرداح غير زائدة، وأنها بمنزلة الحاء في جردحل، وإن الألف في كنابيل بمنزلة العين من قذعميل والألف في اللهابة بمنزلة الميم من هدملة، وهذا لا يقوله أحد لكثرة تبين مثلها زائد فيما دل الاشتقاق عليه، ولأنا إذا اعتبرنا جمعه وتصغيره لنا عليه أما سرداح فإنهم يجمعونها سراديح وسرادح، وهذا الجمع يدل على أن الألف زائدة لأنها لو كانت أصلية لكان يجب أن تسقط الحاء لأن ذوات الخمسة إذا جمعت سقط الحرف الأخير منها، وسرداح يدل على زيادة الألف لسقوطها في الجمع، وأما كنابل فأنا نجمعه كنابيل فتصير ألف كنابيل ألف جمع مثل ألف دنانير وصناديق؛ وهي زائدة للجمع فلو كانت ألف كنابيل أصلية لم تسقط، وأما اللهابة فأنا نجمعها لهائب مثل رسالة ورسائل فلو كانت أصلية لم تجعل همزة، ولكانت تجعل واوا أو ياء كقولنا مقامة ومقاوم ومعيشة ومعايش بياء محضة غير مهموزة وقوله: " ألا ترى أنهم لا يصرفون حبنطى إذا سموا به " يعني: أن الألف لو كانت أصلية لا تصرف كما ينصرف معلى ومعنى؛ لأن الألف فيهما من نفس الاسم وليست بزائدة. ثم قال سيبويه بعد هذا كلاما وهو: " أن قلت حبنطى ألفه أصلية لأنه لا اشتقاق له لزمك أن تقول ألف سرداح أصلية لأنه لا اشتقاق له، وقد مضى الكلام في هذا، ثم ذكرأ أحرفا كثيرة فيها ألفات زوائد بالاشتقاق ليجعلها دلائل على زيادة الألف فيما لا اشتقاق له، وأما قطوطى فبينّه أنها على فعوعل، لأنك تقول قطوان فتشتق ما تذهب فيه الواو والطاء وتثبت ما الألف بدل منه، وكذلك أنا ولي لأنك تقول لويت وإنما هي أفعوعلت وكذلك تجوجى، وإن لم يشتق منه لأنه ليس في الكلام فعولى وفيه فعوعل " يعني: أنهم لما قالوا قطوان في معنى قطوطي، وكانت النون والألف زائدتين علم أن الأصل قطو فإذا قيل قطوطى فقد أعيدت عين الفعل، وهي الطاء واحتمل أن تكون الواو الأولى هي الأصل، واحتمل أن تكون الواو الأولى زائدة والواو الأصلية قد صارت الألف النافي الطرف، فإذا جعلنا الواو في قطوطى هي الأصل صار وزنه فعلعلى، وليس له نظير في الكلام، وإذا صيرناها زائدة وصيرنا الأصلية هي الأخيرة المنقلبة ألفا صار وزنها على فعوعل مثل عثونل؛ فهذا الوجه أولى لأن له نظيرا في الكلام، وأما شجوجى فكذلك فعوعل الواو الأولى زائدة والألف منقلبة من حرف أصلي، وذلك لأنا لو جعلنا الواو

الأولى أصلية خرج عن أبنية كلامهم لأنها تصير فعلعلى، ولو جعلنا الجيمين أصليتين وصيرناه من باب رد وإحدى الجيمين عين الفعل والأخرى لام الفعل لصار على وزن فعولى وليس ذلك في أبنية كلام العرب؛ فبهذا السبب جعلت الألف في قطوطى وتحوجى وادلولى أصلية قال سيبويه عقيب ذلك: " كما جعلت المراجل تلي ما من نفس الحرف ". كما قال العجاج: مشية كمشية المموجل يعني: الميم في المراجل أصلية وكان الحكم عليها في الظاهر أن تكون زائدة لأنا قد شرطنا أن الميم والهمزة إذا وقعت أولا وبعدها ثلاثة أحرف أنه يقضي عليها بالزيادة؛ إلا أن يقوم دليل يبين أنها أصلية، والدليل الذي دل أن ميم المراجل أصلية قولهم ممرجل للتباب التي تعمل على نحو المراجل أو نقشها أو صورها فلو جعلنا الميم زائدة في المراجل كان ممرجل ممفعل، وليس في الكلام ممفعل وإذا جعلناها أصلية كان ممرجل مفعلل نحو مدحرج ومسرهف، وأما أشبه ذلك فإن قيل لا يدخل الزامج ونحو اللهابة لأن الفعل لا يكون فيهما إلا بذهاب الحرف الذي يزاد فالألف عنده ما لم تشتق فتذهب بدل من ياء أو واو كألف حاحيت وألف حاحى يعني: إن قال قائل أن ألف الزامج واللهابة زائدة لأنا لو بنينا منه فعلا سقطت الألف منه لأنا كنا نقول زمج أو زمج ولهب ولهب فاعلم أن الألف زائدة بهذا، وما كان غير هذا نحو ألف هلبى وجفرى وعلقى وقضي عليه بأنه أصلي لأنك لو صرفت منه فعلا ثبتت فيه الألف فقلت علقى يعلقي وجفرى يجفري. فقال سيبويه: " إذا كنت لا تجعل الألف زائدة إلا باشتقاق لزمك أن تجعل كل ألف لا يسقطها الاشتقاق سواء ثبتت فيما يصرف من الفعل أو لم تثبت إذا لم يأت اشتقاق يذهبهما، فلزمك من هذا أن ألف زامج ولهابة أصلية، وألف حاحيت وحاحى أصلية لدليل سنقف عليه فقال سيبويه للقائل كان ينبغي لك أن تجعل الألف في اللهابة والزامج أصلية كألف حا حيت قال وكذلك الياء، وأن ألحق الحرف ببنات الأربعة لأنها أخت الألف فأكثر اللحاق زائدة " يعني: أن الياء أيضا متى وجدناها في اسم وفعل وفيه سواها ثلاثة أحرف قضينا عليها بالزيادة، وإن كان ذلك الاسم قد لحق بذوات

الأربعة في البناء نحو الياء في حيل وحيدر، لأنها قد رأيناها زائدة بالاشتقاق فيما لحق بالأربعة كثيرا وذلك ضيغم وهينغ وميلع وصيقل، وما لا يحصى كثرة من نحو ذلك، وقد علم أن هذه الياءات زوائد؛ لأن ضيغم من ضغمت وهينغ من هانغت وميلع من ملعت وقيصم من قصمت، ومعنا كسرت وصيقل من صقلت. قال: " فكما جعلت ما لحق ببنات الأربعة وآخره ألف زائد الآخر، وأن تشتق منه شيئا تذهب فيه الألف كذلك تفعل بالياء " يعني: أنك لما جعلت الألف مثل غلقى وجفرى زائدة وإن لم تشتقه من شيء تذهب فيه الألف، وكان له نظير من الصحيح نحو جعفر ودرهم فكل ذلك يفعل بالياء؛ فتجعل الياء في حيل وحيدر زائدة، وإن كان نظيره من الصحيح جعفر وسلهب، ثم ذكر سيبويه أشياء من ذوات الياء بيّن الاشتقاق؛ أي الباء فيها زائدة ليجعلها دلائل على زيادة ما لم يعرف له اشتقاق. قال: " وأما ما لا يجيء على مثال الأربعة ولا الخمسة فهو بمنزلة الذي يشتق منه ما ليس فيه زيادة، لأنك إذا قلت حماطة ويربوع كان هذا المثال بمنزلة قولك ربعت وحمطت، لأنه ليس في الكلام مثل سنطر ولا مثل دملوح " يعني: إذا متى رأينا الزائد في اسم ليس في كلام العرب له نظير فيما ليس فيه زائد كان خروجه من الأمثلة دلالة على زيادته، وأعفانا عن طلب الدلالة على زيادته، وقام ذلك مقام الاشتقاق نحو يربوع قد علمنا أن الياء فيه زائدة ووزنه يفعول لأنا لو جعلناها أصلية كان وزنه فعلول، وليس في كلام العرب. فعلول إلا حرف واحد وهو صعفوق، ولا يحمل عليه لأنه نادر شاذ، وكذلك حماطة لو جعلنا الألف أصلية لصار على مثال سبطر، وليس ذلك في الكلام، وأما لهابة وكنابيل وسرداح فليس من هذا الوجه عرفنا زيادة الألفات فيهن، لأنا لو جعلنا ألفاتهن أصولا ما كن يخرجن عن الأمثلة كخروج حماطة لأنه يصير لهابة إذا جعلت الألف فيها أصلا نحو هدملة وكنابيل كقذعميل وسرداح بمنزلة جردجل، وقد بينا من غير هذا الطريق زيادة الألف فيهن، وذكر زيادة الياء الأولى في يهير، وقد بينا هذا. قال: " ألا ترى أن يرمع بمنزلة أفكل " يعني: أن الياء بمنزلة الألف في الزيادة قال: " فلما كان لو قلت أهير كانت الألف هي الزائدة كذلك الياء قال ولو لم يكن يشتق من أصبع ما تذهب منه الهمزة لقضي عليها بالزيادة ".

يعني: أن الهمزة في إصبع زائدة لأنا نقول صبعت له فتذهب الهمزة، ولو لم نقل صبعت لكان أيضا يحكم بالزيادة عليها أكثر لزيادة الهمزة أولا، وكذلك الهمزة المضمومة والمكسورة بهذه المنزلة يحكم عليها بالزيادة كقولنا أبلم وأجرد وأثمد. قال: " وأما يأجج فالياء فيها من نفس الحرف وهو فعلل، ولو كانت الياء زائدة كان يفعل، وكان ينبغي أن يقال ياجّ كما يقال يعضّ ويشفّ ". اعلم أن ياجج اسم موضع وأصحاب الحديث يقولون ياجج بكسر الجيم، وقد ذكرناه فيما مضى على ما يقوله أصحاب الحديث محفوظا بكسر الجيم الأولى فقد بينا وجه الشذوذ فيه، وإن لم يكن محفوظا فالقياس الصحيح ما قاله سيبويه قال: وأما يستعور فالياء فيه بمنزلة عين عضرفوط لأن الحروف الزوائد ويلحق بنات الأربعة أولا إلا الميم أي في الاسم الذي يكون على فعلة، وقد ذكرنا هذا فيما مضى. قال: " وكذلك ياء ضوصيت " لأن هذا موضع تضعيف بمنزلة صلصلت، كما أن الذين قالوا غوغاء، فصرفوها جعلوها بمنزلة صلصال، وكذلك دهديت فيما زعم الخليل؛ لأن الياء شبيهة بالهاء في خفتها وخفائها؛ الدليل على ذلك قولهم دهدهت فصارت الياء كالهاء ومثله عاعيت وحاحيت وهاهيت لأنك تقول الهاهاة والحاحاة والحيحاء كالزلزلة والزلزال، وقد قالوا معاعاة، كما قالوا مغترسة، وقوقيت بمنزلة ضوضيت وحاحيت؛ لأن الألف بمنزلة الواو في ضوضيت، وبمنزلة الياء في صيصية؛ فإذا ضوعف الحرفان في الأربعة فهو كالحرفين في الثلاثة، ولا تزيد إلا بثبت فهما كياءي حبيت. قوله: " وكذلك ياء ضوضيت " يعني: أن ياء ضوضيت أصلية بثبت وبرهان، وذلك أن ضوضيت الأصل ضوضوت مثل صلصلت وقلبوا الواو ياء لوقوعها رابعة، وإذا وقعت رابعة في المكرر قضي عليها بأنها أصلية وصار تكريرها أخيرا كتكريرها أولا في قوله وحوح ووعوع؛ فإن قال قائل ولم قضيت على الياء أنها منقلبة عن الواو دون أن تقضي عليها أنها منقلبة من ياء، وتكون زائدة وتصير بمنزلة سلقيت وجعبيت. قيل له لأن باب صلصلت ورقرقت أكثر في الكلام من باب سلقيت وجعبيت فحملناه على الأكثر، وأما دهديت فالياء أيضا غير زائدة لأنها بدل من الهاء في دهدهت كما قالوا تطفيت، والأصل تطففت استثقالا لاجتماع أحرف من جنس واحد وأما

عاعيت وحاحيت فهو عند أصحابنا فعللت دون فاعلت وهو عندهم بمنزلة صلصلت، وليس بمنزلة قاتلت، واستدلوا على ذلك بمصدره لأنهم يقولون حاحاة وهاهاة وعاعاة، وأصله حاحية وهاهية فقلبوا الياء ألفا لانفتاح ما قبلها وتحركها، وصار حاحاة بمنزلة صلصلة ورقرقة في مصدر صلصل ورقرق. ومعنى قوله: " والحاحاة والحيحاء بمنزلة الزلزلة والزلزال " يعني: أنه قد جاء لحاحيت مصدران يشبهان مصدر صلصلت، لأنهم يقولون في باب صلصلت فعللة وفعلال نحو زلزلت زلزلة وزلزالا؛ فالحاحاة بمنزلة الزلزلة، والحيحاء بمنزلة الزلزال؛ فكأن قائلا قال لسيبويه فقد رأيناهم يقولون في مصدره حاحاة وهي تشبه مصدر قاتلت تقول قاتلت مقاتلة؛ فحاحاة بمنزلة مقاتلة قيل له وليست المحاحاة مفاعلة، ولكنها مفعللة والأصل محاحيّة، وقلبت ألفا لانفتاح ما قبلها كقولهم معترسة إذا أردت به مرة واحدة، وليست محاجاة بمفاعلة لأنها لو كانت كذلك لكانت مصدر فاعلت، ولو كان الفعل على فاعلت ما كان ليجيء مصدره على فعللة، وهي حاحاة فأما الألف في حاحيت فهي عند أصحابنا منقلبة من ياء كما قالوا في ييجل ياجل قالوا: وليست بمنقلبة من واو لأنها لو كانت كذلك فجاءت على الأصل كنظائره من قوقيت وزوزيت وضوضيت ولا يعرف شيء من الياء في هذا الباب على أصله فحمل على الياء لأجل ذلك، قال بعض النحويين هذه الألف غير منقلبة من ياء ولا واو، بل الياء في حاحيت منقلبة، والأصل حاحا فإذا قيل حاحيت والياء منقلبة من ألف كقولنا في تثنية حبلى حبليان؛ فالأصل الألف في حبلى، ثم تصبر ياء في التثنية، وإنما صار الألف في حاحا أصلها الألف، ولم تكن منقلبة من قبل أن الألف فيه الصوت حا وحا الثانية تكرير للأولى فلما ركبا تغيرا فعلا ووقع التغير بالأخيرة منهما، لأنهما لا يجوزان أن تقع ياء المتكلم على ألف في الفعل حتى تغير، كما إذا وقعت ألف التثنية أو ياؤها على ألف غيرت الألف الأولى فصيرت ياء أو واوا. قال سيبويه: " وكذلك الواوان ألحقت الحرف ببنات الأربعة والأربعة بالخمسة كانت الألف كذلك والياء " يعني: أن سبيل الواو كسبيل الألف والياء متى رأيناها ثانية أو ثالثة أو رابعة أو خامسة، وفي الاسم ثلاثة أحرف سواها أصلية قضينا عليها بالزيادة كما كان كذلك حكم الألف والياء وإن كان الاسم الذي فيه الواو على وزن ذوات الأربعة

والخمسة ولا حقا بهما غير أن الواو لا تكون زائدة. قال: " لأن الواو كسرت ككسرتها، ولأن إحدى الحركات منها " يعني: لأن كثرة زيادة الواو فيما عرف بالاشتقاق كثرة زيادة الألف والياء؛ فحمل ما لم يعرف على ما عرف. ومعنى قوله " ولأن إحدى الحركات منها " يريد به الضمة من الواو كما أن الكسرة والفتحة من الياء والألف فهذه الحروف أخوات، ومعظم الزيادة منهن والحركات المأخوذة منهن لا محالة زوائد في الأسماء. قال: " وهذه الحروف أولى أن تكون زوائد من الهمزة " يعني: الواو والياء والألف لأنه ليس حرف في الدنيا يخلو من أن يكون إحداها فيه زائدة، أو فيه حركة والحركة زائدة وهي بعض الحرف الذي هي مأخوذة منه فهذا معنى قوله: أو بعضها، ثم ذكر سيبويه أحرفا فيها الواو زائدة وبين زيادة الواو فيهن بالاشتقاق. ثم قال: " وأما قرنوة فهو بمنزلة ما اشتققت ما ذهبت فيه الواو " يعني: أن الواو في قرنوة زائدة والذي دل على زيادتها خروجها عن الأمثلة لأنها لو كانت أصلية كانت على فعللة، وليس في الكلام فعللة مثل قحطبة. قال: " فمن قال قرواح لا يدخل لأنها أكثر من مثل جردحل، فما جاء به على مثال الأربعة فيه فالواو والياء والألف أكثر مما ألحق به من بنات الأربعة " يعني: أن قائلا ممّن لا يحكم على الألف بالزيادة على مذهب سيبويه لو قال إن الألف في سرداح زائدة، لأنه لا يدخل في باب جردحل إلا قل ولا يلحق به إذا كان أكثر من جردحل؛ لأن ما جاء على وزن جردحل أقل مما جاء على وزن سرداح. قيل له ليس هذا بحجة لأنا قد رأينا ما الحق ببنات الأربعة من ذوات الأربعة، ولم يمنع ذلك أن يلحق بها فكذلك سرداح يلحق بجردحل، وإن كان مثاله أكثر من مثال جردحل. قال: " ومن أدخل عليه سرداح " يعني: من جعل سرداحا مثل جردحل لزم أن يجعل عذافر مثل قذعمل لتساوى نظم متحركاتهما وسواكنهما، وقد بينا فيما مضى أن ما كان فيه ألف في حشوه لا يكون لا حقا بشيء من ذوات الأربعة ولا ذوات الخمسة.

قال: " فما خلا هذه الحروف الثلاثة من الزوائد والهمزة والميم أولا فإنه لا يزاد إلا بثبت " يعني: أن الياء والواو والألف إذا جئن على الشرط الذي قدمناه قضي عليهن بالزيادة حتى يصح ببرهان أنهن أصول، وكذلك الميم والهمزة إذا كانتا أولين، فأما سائر حروف الزيادة فلا يقضي عليهن بالزيادة إلا بثبت فمن ذلك التاء في تنصب وتتغل، ويقضي عليهما بدلالة خروجهما عن الأمثلة، ولو قضينا على أنها أصل ووزنه تفعل مثل تقتل وتقعد، ولو كانت أصلية لكانت فعلا، وليس في الكلام ففعل، وأما تتفل بضم التاء الأولى، فالتاء فيه زائدة ووزنه تفعل والدليل على زيادتها أن تتفل بضم التاء الأولى في معنى تتفل بفتح التاء، فلما صحت زيادة التاء في تتفل قضي على المضمومة بالزيادة، وكذلك التاء في ترتب وتدرأ لأنهما من رتب ودرأ، وكذلك جبروت وملكوت وعفريت يعني أن التاء في هذه الأشياء زائدة بالاشتقاق الذي ذكره. قال: " وكذلك التاء في عزويت لأنه ليس في الكلام فعويل " يعني: أن التاء لو كانت أصلية في عزويت لوجب أن تجعل الواو والياء زائدتين لأن حكم الواو والياء إذا وجدتا في اسم وفيه سواهما ثلاثة أحرف أصول حكم عليهما بالزيادة، وقد وجد في عزويت ثلاثة أحرف أصول وهي العين والزاي والتاء؛ فإذا جعلنا التاء أصلية صار الوزن فعوعل، وليس ذلك في الكلام، وإذا صيرنا التاء زائدة فلابد من جعل الواو أصلية فيصير على وزن فعليت مثل عفريت، ثم ذكر سيبويه فيها التاء زائدة باشتقاقات ذكر منها أن قال: " وكذلك التنبيت والتمتين من المتن والنبات ولو لم نجد ما ذهب فيه التاء لعلمت أنها زائدة لأنه ليس في الكلام مثل قنديل " يعني: أن التاء في تنبيت زيادة والذي يدل عليه الاشتقاق لأنه من النبات ولو لم تجد له اشتقاقا لقضيت بالزيادة لخروجها عن الأمثلة؛ لأن التاء لو كانت أصلية لكان الوزن على فعليل مثل قنديل وجرجير وليس في الكلام فعليل وفيه فعليل كثير مثل قنديل وجرجير وذكر أشياء استدل على زيادة فيها لخروجها عن الأمثلة. ثم قال: " وإنما دعاهم الحال لا يجعلون التاء زائدة إلا بثبت لأنها لم تكثر في الأسماء والصفة ككثرة الأحرف الثلاثة والهمزة والميم أولا، ويعرف ذلك، فإنك قد أحصيت كل ما جاءت فيه إلا القليل فلما قلت هذه الأشياء في هذه المواضع صارت بمنزلة الميم والهمزة رابعة " يعني: أن التاء إنما لم تجعل زائدة إلا بثبت لقلة زيادتها في

الأسماء، والدليل على قلة زيادتها أن جميع ما جاءت فيه التاء زائدة هو الأسماء، والدليل على قلة زيادتها أن جميع ما جاءت فيه التاء زائدة هو الأسماء التي أحصاها وجمعها في هذا الموضع، وأنشد منها الشيء اليسير، وكان سبيل التاء في هذه الأشياء سبيل الهمزة والميم إذا جاءت أول كقولنا سمأل وزرقم لم يحكم عليهما بالزيادة إلا بثبت ثم ذكر المواضع التي تكثر فيها التاء من الجموع والأفعال والمصادر، ثم ذكر احتجاجا في أن التاء لا تجعل زائدة إلا بثبت. فقال: " لو جعلتها زائدة للزمك أن تجعل تاء تبعا زائدة، وتسأل وسبروت ونحو ذلك لكثرتها في هذه المواضع ولجعلت السين زائدة إذا كانت في مثل سلحم " يعني: أنه لو جاز القضاء عليها بالزيادة من غير أن تكثر زيادتها لقضيت على هذه الأشياء بالزيادة، وعلى السين في سلجم بالزيادة، وإن لم تكثر زيادة السين في هذه المواضع، وهذا غير جائز لأن الأسماء حكمها أن تجعل كميتها التي جاءت من الحروف حتى يقوم الدليل على زيادة حرف فيجعل زائدا وأما " تنبالة وتنبال " فعلى مذهب سيبويه فعلال والتاء أصلية، ومن أهل اللغة من تجعل التاء في تنبال زائدة كالتاء في " تجفاف وتبيان " ويزعم أن التنبال هو القصير والنبل هم القصار فتنبال تفعال بما ذكرناه من الاشتقاق، وقد جاءت أحرف على وزن تجفاف فيها التاء زائدة لم يذكرها من ذلك قولهم من تهواء من الليل، ورجل تمساح إذا كان كذابا، وتمراد بيت للحمام، ورجل تقوالة، ومن غير هذا المثال تعضوض لضرب من التمر، وإنما تبينت زيادة التاء بالاشتقاق لأن تهواء من الليل من قولك مرهوي من الليل وتمساح من المسح وتمراد من المراد كذلك قصر مارد إذا كان طويلا عاليا، وتقوالة من القول وتعضوض من العض، ولو كانت التاء أصلية لكان فعلول، وليس ذلك في أبنية كلامهم إلا الحرف الذي ذكرناه، ثم ذكر سيبويه حكم النون ومواضع زيادتها والقضايا على ذلك؛ وهو ينقسم قسمين أحدهما يحكم عليه بالزيادة حتى يتبين أنه أصلي والآخر يحكم عليه بأنه أصلي حتى يتبين أنه زائد، وإنا نبين هذين القسمين إن شاء الله تعالى. فمن ذلك إذا كانت أولا لا يقضي عليها بالزيادة؛ بل يقضي عليها بأنها أصل حتى يتبين أنها زائدة كالنون في نهشل ونهضل ونهسر، فهذه الأسماء وما كان على مثالها على وزن جعفر فالنون فيها أصلية، وأما نون نرجس فقد تبين أنها زائدة بالوزن لأنا لو جعلناها أصلية لكان على مثال فعلل، وليس ذلك في الكلام وأما النون إذا جاءت ثانية قضي عليها بأنها أصلية حتى يتبين أنها زائدة باشتقاق أو غيره كالنون في عنتر وحنزقر وما

أشبه ذلك، وقد تبين زيادتها في أشياء منها بالاشتقاق ومنها بغيره فما تبين بالاشتقاق زيادتها فيه النون في عنسل لأنه من عسل يعسل إذا أسرع والنون في عنتريس لأنه من العترسة، وفي خنفقيق لأنه من الخفق والعنبس من العبوس ومما تبين فيه زيادتها ثانية بغير الاشتقاق النون في جندب ومنصل وما كان على مثالهما النون فيهن زائدة لأنا لو جعلناها أصلية لكانت على فعلل، وليس في الكلام عند سيبويه فعلل، ومن جهة أخرى وهي أن النون قد لزمت هذا البناء دون غيرها من حروف المعجم فكان لزومها لهذا البناء كلزوم الحرف لمعنى، وكل ما دخل من الحروف على شيء لمعنى فهو زائد فيه، ومن جهة أخرى يتبين أن النون فيه زائدة أنه قد تبين في بعضها بالاشتقاق أنه زائد فحمل على ما لم يتبين بالاشتقاق على ما تبين، والذي قد تبين زيادة النون فيه بالاشتقاق له من هذا قولهم " قنبر " و " قبر " فتسقط النون في " قبر " والنون في " جندب " زائدة، وإن كان يمكن أن يكون على وزن درهم لأن جندبا في معنى جندب، وقد تبين زيادتها في جندب وأما " كنتأو " و " قندأ " وفذكر سيبويه أن النون والواو فيهما، وفيما كان مثلهما زائدتان واستدل على ذلك بشيء لطيف، وذلك أنه قد تبين زيادة الواو لكثرة كونها زائدة على ما تقدم شرحنا، وبقيت النون والهمزة وإحداهما لازمة للأخرى في هذا البناء؛ فيجوز أن تكون الهمزة على الأصل والنون زائدة، ويجوز أن تكون النون الأصل والهمزة زائدة؛ فجعل الهمزة أولى بالأصل والنون أولى بالزيادة لأن زيادة النون حشو أكثر من زيادة الهمزة فإن قال قائل ولم يكونان جميعا أصليتين؛ قيل له قد بينا أن الحرف إذا لزم بناء أو حرفا فهو بمنزلة دخوله لمعنى، وإذا دخل لمعنى فهو زائد فيما دخل فيه. قال سيبويه: وإنما لزمت الواو هذا البناء طرفا لأن الهمزة تخفى في الوقف، واختصت بها ليكون لزوم البيان عوضا في هذا لما يدخله من الخفاء، وقال الفراء في " كنتأو " و " قندأو " وبابهما أن تكون النون وحدها هي الزائدة فيكون على فنعل، ويجوز أن تكون النون والواو زائدتين فتكون على فنعلو، ويجوز أن تكون النون والهمزة زائدتين فيكون على فنعال فلم يحصل قولا من هذه الأقاويل، وجعل النون زائدة على كل حال وكان ينبغي له أن يقول ويجوز أن يكون على فعلل مثل جردحل، وتكون النون كنون حنزقر وكان جعل الواو زائدة على كل حال أولى من جعل النون زائدة؛ لأن زيادة النون أقل من زيادة الواو، وأما النون ثالثة فإذا كانت في اسم على خمسة أحرف وكانت ساكنة قضي عليها بالزيادة لكثرة ما تبين من زيادتها في هذا الموضع وذلك كالنون في جحنفل وشرنبث وقلنسوة وحفنظل وما أشبه ذلك؛ لأن أكثر ما يجيء من النونات ساكنة ثالثة قد

تبين زيادتها بالاشتقاق فقضي على الباب بالزيادة، فأما شرنبث فيقال في معناه شرابت وجرنفش وجرافش ودلنظي من دلظ وسرندي من سرد ومما يقوي زيادتها ثالثة ساكنة في هذا البناء، أنه موضع تكثر فيه الزوائد من الواوات والياءات والألفات كألف " عذافر " وواو " فدوكس " وياء " سميدع "، وإذا كانت النون ثالثة في غير ذوات الخمسة لم يحكم على زيادتها إلا بثبت. وذلك كالنون في " فرناس " و " برنس " وأما النون في درنوح فزائدة؛ لأنك تقول في معناه ذروح، وأما النون رابعة فيقضي عليها بأنها أصلية حتى تثبت أنها زائدة كالنون في جعنف وحورنق وما أشبه ذلك وقد تبين زيادة النون في رعشن؛ لأنه من الارتعاش وفي علجن، لأنه من العلج وفي عرضنة وخلفنة لأنه من الاعتراض والاختلاف، وإذا جاءت النون في جمع على فعلان أو فعلان أفعلان فقضي عليها بالزيادة نحو رغفان وقضبان وما أشبههما وإذا كانت النون بعد ألف فكانت لو جعلت أصلية كان الاسم في أبنيتهم جعلت أصلية وإن كانت إذا جعلت أصلية خرج الاسم عن أمثلتهم جعلت زائدة، وذلك كالنون في دهقان وشيطان تجعلها أصلية، وكذلك فعل سيبويه وذلك إنا إذا جعلنا النون في دهقان أصلية صار على فعلال ونظيره كرباس وسرهاف، وإذا جعلنا النون في شيطان أصلية فيه خرج عن أمثلتهم فمنه ما كان على فعلان نحو عجلان وشبهان أن جعلنا النون زائدة كان مثل غليان وإن جعلناها أصلية كان فعلال، وليس في الكلام مثل فعلاه فجعلناه فعلان وكذلك سعدان النون فيه زائدة لأنها لو جعلت أصلية كانت فعلال، وليس في الكلام فعلال إلا مضاعف وقيقبان والقبان لو جعلت أصلية كانت قيقبان فيعلال واثعبان أفعلال وليس له نظير في الأبنية فهذه قصة النون وقد اكتفيت من تقصية ما ذكره سيبويه قال: وأما الميم إذا جاءت غير أولى فإنها لا تجعلها زائدة إلا بثبت لقلتها زائدة غير أول، وإنما جاءت غير أول زائدة في أحرف يسيرة منها ستهم وهو العظيم الإست والأصل استه وليست فيه ميم و " زرقم " الأزرق فهذا بين لا يحتاج إلى تفسير، وكذلك الهمزة إذا جاءت غير أول فكذلك لا تزاد إلا بثبت فمما جاءت بثبت حروف ذكرها سيبويه منها قولهم ضهيا مقصور ووزنه فعلا الهمزة زائدة والياء أصلية، والدليل على زيادة الهمزة أنهم يمدون في هذا المعنى فيقولون ضهياء مثل عمياء وصفراء فإذا جعلوها بمنزلة عميا وصفرا فقد يتبين أن الهمزة زائدة التأنيث فإذا كانت الهمزة في ضهياء ممدودة للتأنيث وهي زائدة فقد تبين زيادتها في ضهياء مقصور على مثال ضهيع والياء أصلية لأنه لم يبق بعد زيادة الهمزة إلا ثلاثة أحرف، ومما يدل على زيادة الهمزة في ضهيا إنا لو جعلناها أصلية لوجب جعل الياء زائدة لثبوت ثلاثة أحرف أصلية سواها وإذا جعلت الياء زائدة صارت الكلمة على فعيل وفعيل لا يصح في

الكلام وذكر أحرفا أخر فيها الهمزة زائدة غير أول فدل على زيادتها مما أغنى عن ذكره في غير هذا الموضع تفسير الغريب من هذا الباب مما لم نذكره، وما عرض فيه واعتاص من لفظه مما أهملناه كنابيل أرض معروفة، اللهابة كساء تجعل فيه حجارة أو غيرها يعدل بها الحمل إذا ركبه راكب في شق الباصر قتب صغير الزايج والزامج والزوبر والزابر بمعنى واحد يقال أخذته بزامجه وبزوبره؛ أي بجملته والزامج طيب من الطيب، استسعلت المرأة إذا خبث خلقها وطال لسانها والمرأة سعلاة إذا كانت كذلك أصلية ماض قال الراجز: كأنني سيف بها أصليت (¬1) قال: فظل لنسوة النعمان منا … على سفوان يوم أرونان قطوطي وقطوان وهو الذي يتبختر في مشيته، وقد بينا ما قاله سيبويه في وزنه وهو فعوعل. قال أبو عمر: ويجوز أن يكون فعلعل مثل صمحمح لأن أصله قطا بقطو لام الفعل منه واو وعينه طاء فأعيدتا كما فعل ذلك، وكذلك شجوجي على قول سيبويه فعوعل وعلى قول أبي عمر يجوز أن يكون فعوعل وفعلعل ومعنى الشجوجي الطويل إذ لوي الرجل انطلق في استخفاء حاحيت بالغنم صوت بها، الضيغم من نعوت الأسد وهو مشتق من الضغم العض والهيهيغ المرأة الضحاكة المغازلة لزوجها قال الراجز: كقولا كتحديث الهلوك الهبيغ .. وهانغت المرأة إذا ضاحكتها، الميلع الناقة السريعة وملعت أسرعت، الحذيم الحاذق بالشيء، وحذمت الشيء وحذقته أي قطعته، العيضموز الناقة المسنة والعيطموس الحسنة التامة، عضرفوط دابة يقال أنها تقاتل الحية، زبنية واحد الزبانية وكذلك عفرية وهما متقاربان المعنى في الشدة، وحماطة وحماط الجمع ضرب من الشجر تتخذ منه القسي، السميدع السيد الأبلم خوص المقل وأثمد شبيه بالكحل ياجج موضع فإما سيبويه فحكاه بالفتح أعني فتح الجيم الأولى وهو عنده على فعلل والياء أصلية. وقال أبو عمر الجرمي: الياء أصلية على ما قال سيبويه إلا أنه حكى كسر الجيم ¬

_ (¬1) الرجز لرؤبة انظر تاج العروس 4/ 440، جمهرة اللغة 1/ 400، الاشتقاق 1/ 71.

الأولى وهو عنده على فعلل وجاز ذلك لأن إحدى الجيمين زائدة وقد ذكرنا فيما مضى وجها آخر في كسر الجيم غير هذا وهو أن يكون على يفعل الياء زائدة فيما ظهرت الجيم ولم تدغم قالوا مششت الدابة والححت عينه ضوضيت من الضوضاء، وهي الجلبة وغوغاء فيها لغتان إحداهما الصرف، وهي التي ذكرها سيبويه في هذا الموضع ووزنها في هذه الثلاثة فعلال بمنزلة صلصال، وكان الأصل غوغا وفوقعت الواو طرفا وقبلها ألف فهمزتها واللغة الأخرى أن لا تصرف غوغاء فتكون بمنزلة حمراء، دهديت الشيء دهدهة إذا دحرجته قال الفرزدق: له دهدية إن خاف شيئا … من الجعلان أحرزها اختفارا وعاعيت وحاحيت وهاهيت يتعارين في المعنى وهن أصوات البهائم، وقوقيت أي صوّت وأكثر ما يقال للديك وللدجاجة عند البيض الصيصية صيصة الديك وهي شوكته وصيصية الثور قرنه، وكل شيء احتميت به صيصية وبه سميت الحصون الصياصي، وكذلك فسر في قوله من صياصيهم وصيصية الحائك الشوكة التي يمدها على الثوب والصيصية القرن الذي يقلع به التمر، الشوحط شجر تتخذ منه القسي، الصوفعة خرقة تجعلها المرأة على رأسها دون خمارها، والواو زائدة لأنها مأخوذة من الصفاع وهو برقع على رأس الدابة إذا ضربه على رأسه، عنفوان الشيء أوله واعتنفته إذا استأنفته وابتدأته، والدواسر الشديد وكذلك الدوسر، القرواح الأرض القراح ورنثل الشعر يقال وقع في ورنثل أي شدة قرنوة نبت يدبغ به، خروع نبت لين والخروع اللين والضعف، والتنضب شجر يتخذ منه الشيء وندرا القوم الذي يدفعون به الضيم يقال درأت أي دفعت وهو ذو تدرئهم، التحلئ والتحلئة ما يقع من الأديم إذا قشعر يقال حلأت الأديم إذا قشرته، وفي مثل للعرب يقال حلأت حالئة عن كومها، التربوت الناقة الذلول والتاء بدل من الدال وهو مشتق من الدوبة وضده دولج في معنى تولج جعلت الدال عوضا من التاء ها هنا كما جعلت التاء عوضا من الدال هناك والتولج المدخل والأصل فيه دولج لأنه من ولج، اثفر إذا ثبت ثفره وهو افتعل وأصله اثتفر وأدغمت التاء في الثاء، وفيهم من يقول أدغر فيقلب منهما دالا كما قلب في دولج من التاء دالا، نخربوت الناقة الفارهة الخيار، ولما فرغ سيبويه من ذكر التاءات الزائدة بالاشتقاق قال: وتعرف ذلك بأنك قد أحصيت كل ما تزاد فيه التاء إلا القليل إن كان شذ فأوهم أن الذي ذكره هو جميع ما جاءت التاء فيه زائدة من غير الأفعال والمصادر وقد رأينا من التاءات الزائدة

نحوا مما ذكر أو أكثر من ذلك. تنهية وهي الأرض المنخفضة يتناهى اليها ماء السماء فهو مأخوذ من نهى ومنها تلهية وهي الحديث الذي يتلهى به، والترقوة معروفة يقول بعضهم إن من رقى يرقى تربيق، وهو خيط تربق به الشاة تشد به في عنقها، وترفيل رجل يرفل في ثوبه، وتودية والجمع توادي عيدان صغار تصير على أخلاف الناقة، والتؤثور حديدة يؤثر بها في بواطن أخفاف الإبل فالتاء زائدة لأنها من الأثر، وترعية الحسن القيام على رعية الإبل، رجل تفرجة ضعيف ويقال نفرجة، وكذلك فرج والترعيب قطع السنام والتاء زائدة والواحد ترعيبة قال الشاعر: كأنّ تطلّع التّرعيب فيها … عذارى يطّلعن إلى عذارى (¬1) وتذنوب وهو أول ما يبدأ الإرطاب في البسرة من قبل ذنبها يقولون تدوكنت البسرة وبسرة موكتة وموكة إذا وقع فيها الإرطاب إرطاب قليل، النهشل والنهس الذئب، والنهضل الشيخ الكبير جعبل الغصن، وعنتر ضرب من الذباب، وزرنب نبت طيب الريح حبتر قصير ويقال حباتر وكأنه مقلوب حبتر عفرنا الشديد وهو من صفات الأسد ويقال هم في بلهنية وهم في عيش أبله إذا كانوا في نعمة وعيش صاف، عصنصر جبل، الضبعان ذكر الضبع ويقال في جمعه ضباع كما يقال في جمع الضبع ضبع بإسقاط الزيادة وهي الألف والنون وهذا نادر من الجمع لأن المؤنث يحمل على المذكر في سائر الجموع إذ كان لفظ المذكر أخف من لفظ المؤنث، وإنما حمل المذكر على المؤنث في هذا الموضع إذ كان لفظ المؤنث أخف وقد يجمع أيضا على ضباعين، وأما سرحان فمنهم من يجمعه بلفظه على سراحين، ومنهم من يجمعه على إسقاط الزيادة فيقول سراح ومعنى ذلك في لغة بعض العرب الذئب، وفي لغة بعضهم الأسد الأتعبان ما ينتعب، القيقبان والقيقب. قال أبو بكر بن دريد: هو عند العرب خشب السرج وعند المولدين سير يعترض وراء القربوس وأنشدنا: يكاد يرمي القيقبان المسرجا … لولا الأبازيم وأنّ المنسجا (¬2) باهي عن الديبة إن تفرجا ¬

_ (¬1) البخلاء 2/ 197، تاج العروس 2/ 505. (¬2) انظر جمهرة اللغة 2/ 1173.

هذا باب ما الزيادة فيه من غير حروف الزيادة ولزمه التضعيف

وقد جعل سيبويه شيطانا فيعالا واحده من شطن كما قال عدي: أيما شاطن عصاه عكا … ثم يلقي في السجن والأغلال ومنهم من يقول هو فعلان وأصله من شاط الشيء يشيط إذا احترق وبطل كما قال الأعشى: وقد يشيط على أرماحنا البطل (¬1) أي يبطل، شرنبث وشرابث شديد قبيح المنظر، وعزه جرنفش وجرافس غليظ، وبعضهم يقوله بالشين المعجمة الجفطري، والجفنطار الشره النهم، الشنافر الخدرنق الذكر من العناكب، جرواص وجرابص وجريص عظيم ثقيل حطايط قصير. هذا باب ما الزيادة فيه من غير حروف الزيادة ولزمه التضعيف ذكر سيبويه في هذا الباب أن كل اسم ضوعف إما عين وإما لام منه أو كرر وكان فيه سوى ذلك الحرف ثلاثة أحرف أصول قضيت على ذلك الحرف بالزيادة، إلا أن يتبين لك أنه أصلي فيكون من باب مددت وجررت، وذلك نحو سردد ورمدد وحين يقضي على أحد الدالين من سردد ورمدد بالزيادة، وعلى إحدى النونين من جبنن بالزيادة، لأنه قد تبين لك أن الأصل فيه من السرد والرماد والجبن، وإذا جاء ما لا اشتقاق له قضيت أيضا عليه بالزيادة لكثرة ما تبين لك من زيادة كنحو إحدى اللامين من سلّم وإحدى الميمين من حمّر وإحدى النونين من ذنّب، واحتج في ذلك بالحمل على النظائر التي قد تبينت فيها الزيادة بالاشتقاق ألا ترى أن نظير سلّم وحمّر رجلّ حوّل قلّب، وقد تبين أن إحدى اللامين وإحدى الواوين زائدة لأنه من القلب والحول وعلى أنه يقال حمر بتخفيف الميم قال ابن أحمر: إن لا تداركهم تصبح منازلهم … قفرا تبيّض على أرجائها الحمر (¬2) وقلب نظير قنب وأنب تقول قنبته تقنيبا فتبين أن إحدى النونين زائدة، وهذه أيضا قصة ما كرر من الحروف ولم يدغم نحو شملال وطهملال وعثوثل، وقد علم بالاشتقاق ¬

_ (¬1) هذا عجز بيت قاله الأعشى في ديوانه 167، انظر تاج العروس 30/ 203، أساس البلاغة 1/ 342. (¬2) انظر تاج العروس 11/ 81، تصحيح لسان العرب 1/ 35، تهذيب اللغة 5/ 36.

هذا باب ما ضوعفت فيه العين واللام كما ضوعفت العين وحدها

أن إحدى الحرفين المكررين زائد لأنه يقال طمل وعثول فحمل على هذا ما لا اشتقاق له نحو بهلول وعقنقل وما أشبه ذلك، وكذلك القياس في ذوات الأربعة إذا كرر فيها الحرف أو شدد نحو قفعدد وعدبس، وأما ما تبين من المضاعف أنه أصلي فنحو صلصل وصيرصر، وما أشبه ذلك لأنا لو جعلنا الحرفين الآخرين تكريرا للأولين كانت الكلمة على فعفع وهذا خطأ لأن أقل ما يكون الاسم والفعل على ثلاثة أحرف هي فاء وعين ولام من الفعل تفسير غريب الباب جلوز ثمر شجر البندق والجباء ممدود بمنزلة جبا مقصور، وهو الضعيف الجبان خفيدد خفيف، شملال وزحليل سريع بهلول شديد الطمل، والطخملال الذيب الأطلس، وهو أيضا الرجل الذي ليست ثيابه بيضاء. هذا باب ما ضوعفت فيه العين واللام كما ضوعفت العين وحدها قال أبو سعيد رحمه الله: ذكر سيبويه أن ما تكرر فيه حرفان من جنس واحد إما فاؤه وعينه وإما عينه ولامه فهما زائدتان، واستدل على ذلك بدليلين أحدهما أنه قد تبين له في بعض هذا المثال أنه زائد بالاشتقاق وذلك في ذرحرح لما قالوا ذراح؛ فأسقطوا إحدى الحاءين في ذراح وفي جلبلاب لما قالوا جلب؛ فسقطت إحدى الباءين وسرطراط إن كان أراد به الفالوذج فهو مأخوذ من سرطته يعني بلعته ومرمريس، وهو من المراسة لأن معناه الداهية فهو قد مارس الأشياء وباشرها؛ فحمل ما ليس فيه دليل من الاشتقاق على تبين زيادتها بالاشتقاق والدليل والثاني أنه قد رأى صمحمح وبرهره قد جمع صمامح وبراره، وليس من شأن العرب جمع ما كان على خمسة أحرف أصلية بغير الألف والتاء لا يكادون يقولون سفارج وفرازد، فإن اضطروا إلى ذلك حذفوا الحرف الأخير فلو كان صمحمح وبرهره كذلك، ولم يكن فيه زائد لأسقطوا الحرف الأخير فقط فقالوا صماحم وبراهر فإن قال قائل فإذا كان الحرفان عندكم زائدين فكيف صار الحاء أولى بالحذف بل كيف صار الحاء الأولى أولى من الثانية، ومن الميم فالجواب عن ذلك وبالله التوفيق أنهم لو حذفوا الحاء الأخيرة فقالوا صماحم وبراهو لصار على فعالع وليس في الكلام شيء تقع عين الفعل منه طرفا مما هو على ثلاثة أحرف فصاعدا، ولو حذفوا الميم الأخيرة لقالوا صماصح فاجتمع حرفان من جنس واحد واستثقل. هذا باب تمييز بنات الأربعة والخمسة من الثلاثة قال أبو سعيد رحمه الله: ذكر سيبويه في هذا الباب أن بنات الأربعة وبنات الخمسة

هما صنفان غير بنات الثلاثة، وإن كان مثل جعفر وفرزدق لا زائد في واحد منهما وإن وزن جعفر فعلل ووزن فرزدق فعلل، واحتج على قوم من النحويين جعلوا كل اسم زادت حروفه على ثلاثة أحرف فيه حرف زائد، وكل اسم زادت حروفه فزادت على خمسة أحرف مثل فرزدق ففيه حرفان زائدان فقال لا يخلو الزائد الذي في جعفر من أن يكون هو الراء أو الفاء أو العين أو الجيم؛ فإن كان الزائد هو الراء وجب أن يكون وزنه فعالان الزائد يوزن بلفظه، وإن كان الزائد ألفا وجب أن يكون وزنه فعلل، وإن كان الزائد العين من جعفر كان وزنه فعلل وإن كان الزائد الجيم وجب أن يكون الوزن جفعل ثم ألزمهم في وزن فرزدق مثل ذلك ثم قال بعد ذلك: وهذا لا يقوله أحد ولعمري أن الذي ألزمهم صحيح فإذا كان أحد لا يقوله فقد فسد ما قالوه، وهذا الذي ذكر سيبويه قول الكسائي والفراء على اختلاف بينهم فيه. قال الفراء: جعفر فعللال وإلا قوي أن يكون الزائد فيه الحرف الأخير وفرزدق فعلل، والزائد فيه الأخيران. وقال الكسائي: جعفر الزائد فيه الحرف الذي قبل آخره وهو الفاء، وحكى الفراء نحو قوم من النحويين أن الراء هي الزائدة وأن وزنه من الفعل فعلل، ثم استقبحوها فقالوا لا ندري ما هو من الفعل والقول ما قال سيبويه وقد ناقض الفراء والكسائي، ومن نحا نحوهما وذلك أنهم قد اتفقوا أنهم متى عرفوا في الاسم زائدا قد يسقط في حال وزنوا الزائد بلفظه فقالوا في صيقل فيعل وفي كوثر فوصل وفي سلقى فعلى وفي عنسل فنعل فلو كان الزائد في جعفر شيئا من حروفه لوزن بلفظه فقيل فيه فعلل إن كانت الراء هي الزائدة أو فعفل إن كانت الفاء هي الزائدة كما قيل في صيقل وعنسل ورعشن فيعل وفنعل وفعلن فإن قال قائل فأنتم تقولون أن إحدى الدالين في قعدد ومهدد وقردد زائدة ووزنه عندكم فعلل فقد وزنتم الدال الزائدة باللام، وكذلك الميم عين الفعل والحاء لامه ثم أعيدتا تكسيرا لهما فصار المعاد زائدا غير أنه من جنس الأول؛ فأعيد بلفظ الأول فجعلت الميم والحاء الأولين عينا ولاما وقد زعم الفراء أن صمحمح وما جري مجراه أصله صمحح وأنهم فصلوا بين الحاءين لاجتماعهما استثقالا لهما فجعلوا مكان الوسطى منهما ميما فقالوا صمحمح، وهذا قول لا دليل عليه بل زيادة عين الفعل ولامه وتكريرها كتكرير فاء الفعل وعينه في مرمريس ليس لأن أصله المراسة فإن قال قائل إذا كنتم تزنون جعفر بفعلل وتزنون فرزدق بفعلل، وقد علمنا أن أصل فعلل وفعلل فاء وعين ولام واحدة فقد علمنا

هذا باب علم مواضع الزوائد من مواضع الحروف غير الزوائد

أن إحدى اللامين في فعلل الذي هو مثال جعفر زائدة، وأن لامين في فعلل زائدة الذي هو على مثال سفرجل وإذا كانت إحدى اللامين في مثال جعفر زائدة، فقد علمنا أن في جعفر حرفا زائدا من حرفيه الأخيرين كما أن إحدى اللامين من جعفر زائدة، قيل له هذا غلط وجهل بموضوع وزن الأسماء وتمثيلها بالفعل دون غيره والأصل أن التمثيل بالفعل إنما وقع ليعلم الزائد من الأصلي وذلك أنا إذا جئنا إلى جعفر فمثلناه بفعلل لم يكن فيه شيء ينبئ عن زائد دخله، وإذا جئنا إلى صيقل فمثلناه بفيعل فقد علم بالمثال أن الباء زائدة، واختاروا الفعل لأنه ثلاثي وهو عبارة عن كل شيء من الألفاظ التي تنصرف ألا ترى أنك قد تقول لصاحبك هل صارعت زيدا أو ضربته أو لقيته، وما أشبه ذلك فيقول قد فعلت وكان الثلاثي أولى بذلك من قبل أن أقل الأسماء والأفعال أصلا ذوات الثلاثة وفيها ذوات الأربعة والخمسة فلو وقع التمثيل بشيء على أربعة أحرف أو خمسة لبطل وزنه الثلاثي لأنه لا يمكن وزن الثلاثي به إلا بإسقاط شيء منه ألا ترى أنا لو قد نجعل ذوات الثلاثة على أربعة أحرف وخمسة بزيادة حرف وحرفين كقولنا صيقل وهو من الصقل ودلنظي وسرندي، وهو من الدلظ والسرد ولم نر شيئا من ذوات الأربعة والخمسة معنى منه شيء على ثلاثة أحرف فلما كان الأمر على ما ذكرناه، ووجب التمثيل بالفعل ثم احتجنا إلى تمثيل رباعي أو خماسي زدنا ما يلحقه بلفظ الرباعي والخماسي فهذا الذي نزيده على الفعل هو زائد وإن كان الممثل أصليا؛ لأن الضرورة قد قادت إلى أن زيد على الفعل ليلحق الممثل بالممثل به. هذا باب علم مواضع الزوائد من مواضع الحروف غير الزوائد قال سيبويه: سألت الخليل فقلت سلّم أيتهما الزائدة؛ فقال الأولى هي الزائدة لأن الواو والياء والألف يقعن ثواني فوعل وفاعل وفيعل. وقال يعني الخليل في فعلل نحو مهدد وقردد الأولى زائدة وفي نحو خبّق وهبّر الأولى من الحرفين هو الزائد لأن الياء والواو والألف يقعن ثوالث نحو جدول وعتير وشمأل وكذلك عدّبس الأول منهما هو الزائد في موضع واو قدوكس. جملة هذا الباب أنه إذا اجتمع زائدان فالأول منهما أولى بأن يجعل زائدا على قول الخليل وعلى قول غيره النافي أولى بالزيادة وقد صوب سيبويه القولين جميعا لأنه قد وجد لما قاله الخليل نظائر في الزيادة ولما قال غيره أيضا نظائر قد ذكرها فاحتمل الأمرين جميعا

هذا باب ما كانت الواو فيه أولا وكانت فاء

ثم ذكر همقع والفرق بينه وبين همرس وقد مضى الكلام فيهما مستقصى. هذا باب ما كانت الواو فيه أولا وكانت فاء هذا الباب يشتمل على قلب الواو إلى غيرها لضرب الاستثقال يلزمها وهي تنقلب إلى حرفين الهمزة والتاء وينقسم انقلابهما قسمين أحدهما مطرد بقياس لازم والآخر غير مطرد وإنما يسمع سماعا أما ما يطرد قلبه فهو أن تقع الواو مضمومة بناء تبنى الكلمة عليه ولم تكن لإعراب ولا لالتقاء الساكنين وسواء كانت الواو في أول الكلام أو في حشوه كالواو في وجوه ووعد وداور وأنور ويجوز في ذلك أن تقول أوجه وأعد وأدور وأنوار فأنت في ذلك بالخيار إن شئت أقررتها على حالها وإن شئت أبدلتها همزة وإنما جاز إبدالها همزة من قبل أن الضمة كالواو فإذا وقعت الواو على واو فكأنه قد اجتمعت واوان والواو في نفسها مستثقلة فتضاعف ثقلها بالضم فقلبت واختير لها الهمزة من قبل أن الذي يشاكل الواو من الحروف ويواخيها الياء والألف، فإما الألف فلا يصلح جعلها مكان الواو المضمومة، لأنها لا تكون إلا ساكنة وأما الياء فسيثقل عليها الضم كاستثقاله على الواو إن كانت الواو فيه أثقل فاختاروا الهمزة وبالهمزة تواخي الألف في المخرج وتواخي الياء والواو، لأنها تقلب إليهما وإلى الألف ويقلبن إليها فإذا كانت ضمة الواو إعرابا كقولك هذه دلوك أو غزوزيه أو كانت لالتقاء الساكنين كقوله اشتروا الضلالة بالهدى لم يجز همزة لأن هذه الضمة غير لازمة ولم يعتد بعقلها لزوالها بتغير الإعراب في مررت بدلوك ورأيت دلوك وتسكن الواو المضمومة لاجتماع الساكنين كقولنا اشتروا غلاما فلم يعتد بذلك كما لم يعتد بالكسرة في لم يقم الرجل ولم يرد، والواو في يقوم وإن كانت قد سقطت الواو لاجتماع الساكنين وإذا كانت الواو مكسورة لم تقلب إلا إذا كانت أولا كقولهم في وسادة إسادة وفي وشاح إشاح ولا تقلب في غير الأول لا يقال في معاون معاين وإنما كان القلب في المكسورة إذا كانت أولا فقط لأن المكسورة أخف من المضمومة إذا كانت الضمة من جنس الواو فلما كانت المضمومة أثقل جاز قلبها في كل موضع ولم يجز قلب المكسورة في الحشو كما كان ذلك في الأول، لأن الحشو أقوى من الأول لا ترى أن الواوين إذا اجتمعتا في أول الكلمة قلبت إحداها لا غير كقولهم في تصغير واصل أو يصل وأصله وويصل ولم يلزموا قلبها في أحووي وعوور إن كانت الواوان حشوا وقد جاءت الواو المكسورة منقلبة همزة في الحشو في قولهم مصائب وهو شاذ وله وجهان مع شذوذه إما أن يكون وهي مفعلة مشبهة بفعيلة فجمعوها كجمع

فعيلة وذلك أن مفعلة من هذا الباب الياء منه في موضع عين الفعل فإذا جمعوها ردوها إلى أصلها إن كان أصلها واوا ردوها إلى الواو وإن كان أصلها ياء جعلوها ياء كقولهم مقيمة ومقاوم ومجيدة ومجاود ومن الياء مريبة ومرايب ومنيلة ومنايل، لأنها من النيل وإذا كانت فعيلة همزوا كقولهم ظريفة وظرائف وسعيدة وسعائد وسفينة وسفائن فكان حق مصيبة أن يقال مصاوب؛ لأنه من الصوب والواو في موضع عين الفعل فشبهوا مصيبة بسفينة فهذا وجه والوجه الثاني أنهم شبهوا الواو المكسورة في مصاوب بالواو الأولى في نحو وسادة ووفادة فسووا بين الواوين المكسورتين حشوا وابتداء كما سووا بين المضمومتين حشوا وابتداء ومن يقول مصاوب من العرب كثير على الأصل الذي ذكرناه وأما الواو مفتوحة، فلا يلزم قلبها همزة إلا أن العرب قد قلبتها همزة في أحرف ذكرها سيبويه كقولهم امرأة أناة واجم واحد والأصل فيه وناة لأن معناه لينة ساكنة وهو من وني وأصل أجم وجم ومعناه كرهه واحد من وحد. وقال بعض النحويين: أصل " أخذ " و " خذ " لأنهم قالوا اتخذ فشدوا التاء ولم يهمزوا وجعلوه من باب وعد ووزن حيث قالوا اتعدا واتزن ولم يقولوا ائتخذكما قالوا ائتمن يأتمن وائتكل ياتكل وأما الوجه الذي لا يطرد فقلبها تاء في غير افتعل في الأسماء التي ذكرها سيبويه وأكثر ذلك يقع في أول الكلام عند حال من ثلاث إما أن يكون لانضمام الواو ولاجتماع واوين أو لاجتماع واو وياء وأكثر ذلك لانضمام الواو كقولهم تراث وتجاه وتقى وتخمة والأصل وارث لأنه من ورث وتجاه من وجه والأصل وجاه وتخمة والأصل منه وخمة لأنها من الوخامة وأما التي قلبت لاجتماع واو وياء فقول العجاج: فإن يكن أمسى البلى تيقوري (¬1) أراد وقاري وأراد بالبلى الكبر والشيخوخة وأصل تيقوري فيعول وهو فيعول من الوقار وأما التي قلبت تاء لاجتماع واوين فقولهم تولج وهو فوعل من ولجت وأصله وولج ومنهم من قلب من التاء دالا فقال دولج وليس قلب التاء بمطرد في شيء من ذلك وقال بعضهم في تولج أنه تفعل واختار الخليل فوعل لأن فوعل أكثر في الأسماء من تفعل فحمله على البناء الأكثر وقد بينا فيما مضى لم أبدلت الواو تاء من بين سائر الحروف وما الوصلة بين التاء والواو وقد أبدلوا تاء في قولهم أسنت القوم إذا أصابتهم السنة وقد بينا العلة في ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 14/ 376، تهذيب اللغة 14/ 222، لسان العرب 5/ 270.

هذا باب ما تقلب فيه الواو ياء وذلك إذا سكنت وقبلها كسرة

ذلك قال: " وسألت الخليل عن فعل من وأيت فقال ووي كما ترى فسألته عنها فيمن خفف الهمز فقال أوي كا ترى فأبدل من الواو همزة وقال لا بد من قلبها همزة لاجتماع الواوين ومعنى هذا إذا قلت روي ثم خففت قلبت الهمزة واوا لسكونها وانضمام ما قبلها كما ذكرنا ذلك في باب تخفيف الهمزة فاجتمع واوان الأولى مضمومة والثانية ساكنة فوجب قلب الأولى همزة كما وجب ذلك في تصغير واصل حين قلت اويصل فأنكر المازني ذلك فقال الواو والثانية في نية الهمزة فيجوز أن لا تقلب همزة لأنه لم يجتمع واوان في التحصيل إذا كانت الثانية في الهمزة وشبه ذلك بقولك وروى يجوز أن لا يقلب الواو الأولى همزة إذا كانت الثانية مدة وهي منقلبة من ألف ولكن يجوز أن تقلب الواو الأولى عنده لأنها مضمومة لا لاجتماع واوين وإذا قلبت المضمومة همزة لأنها مضمومة كنت مخيرا بين همزها وبين تركها واوا وإذا قلبت لاجتماع واوين همزة لزم قلبها ولم يجر تركها واوا فعلى مذهب الخليل يلزم قلبها لأنه يقلبها لاجتماع واوين وعلى مذهب المازني لا يلزم قلبها لاجتماع واوين ولكن للضمة فلذلك خيرك بين قلبها وتركها وقد أنكر أبو العباس المبرد ما قاله الخليل من غير الجهة التي أنكرها المازني وذلك أنه قال الذين يحققون الهمزة في وؤى إنما يستثقلون الهمزة ويطلبون العدول عن لفظها إلى لفظ آخر فإذا كان ذلك من مذهبهم لم يخل أن يفروا من الهمزة الساكنة ويجتلبوا همزة متحركة لهم منها متسع ومندوحة وليس الأمر كما ظن أبو العباس وذلك أنهم إنما آثروا قلب الهمزة الساكنة واوا لأن الواو الساكنة لفظ من الهمزة الساكنة فعدلوا عن الشيء إلى ما هو أخف منه وأما الواو المضمومة فهي أتقل من الهمزة المضمومة بسبب الضم المشاكل للواو فلذلك جاز أن يقلبوا الهمزة الساكنة واوا والواو المضمومة همزة وكل ذلك يفعلونه طلبا للخفة ومعنى تولج المكان الذي يلج فيه ويبيت الوحشي والمكان الذي يلج فيه تولج وولج وكما قال: متخذا من عضوات تولجا ومعنى وأيت وعدت يقال وأيته بكذا وكذا أي وعدته. هذا باب ما تقلب فيه الواو ياء وذلك إذا سكنت وقبلها كسرة اعلم أن الواو متى سكنت وقبلها كسرة قلبت ياء وذلك قولك ميزان وميقات وميثاق والأصل موزان لأنه من الوزن والوقت فإذا انفتحت الميم أو تحركت عادت واوا كقولك موازين ومواقيت ورجل مود وإنما امتنعت العرب من واو ساكنة بعد كسرة استثقالا للجمع بينهما ألا ترى أنه ليس في كلامهم ضمة بعد كسرة إلا أن تكون ضمة

هذا باب ما يلزمه بدل التاء

إعراب كقولهم لعب وفخذ، وإذا كانت الواو مفتوحة وقبلها كسرة لم تقلب لأن الفتحة كالحاجز بينهما وبين الكسرة، فإن قال قائل فإذا كانت الكسرة تقلب الواو الساكنة التي بعدها ياء على كل حال ولم يوجد في الكلام غير ذلك فهلا قلبت الكسرة للواو ياء متى دخلت عليه لأنها إذا كانت تقلب ما بعدها فهي تقلب. هذا باب ما يلزمه بدل التاء من هذه الواوات التي تكون في موضع الفاء، وذلك في الافتعال كقولهم متعد ومتعد. قال أبو سعيد رحمه الله: قد كنا بينا أنا افتعل من وعد في لغة الجمهور وتقلب الواو وهي فاء الفعل فيه تاء فتدغم في تاء الافتعال لأنهم لو لم يفعلوا ذلك لتغيرت فكانوا يقولون في الماضي ايتعد وفيما لم يسم فاعله واتعد وفي المستقبل يأتعد فاختاروا التاء مكان الواو لمشاكلة تاء الانفعال ولأن التاء قد تبدل من الواو في قولهم تجاه وتخمة وفي العرب من لا يقلبها تاء ولكنه يقلبها على ما قبلها فيجعلها ياء لانكسار ما قبلها والفاء لأنفتاح ما قبلها واوا لانضمام ما قبلها كما فعل " يقال " وهو " يقول " و " قيل " فجعل الواو ألفا في " قال " لانفتاح ما قبلها وواوا في " يقول " لانضمام ما قبلها وياء في " قيل " لانكسار ما قبلها قال: وقد أبدلت في أفعلت وذلك قليل غير مطرد كقولهم أتخمه وضربه حتى أبكاه وإنما المعنى أوخمه وأوكاه وليس ذلك بمنزلة اتعد واتزن لأن اتعد واتزن مطرد وإنما قالوا أتخمه وأتلجه لأنهم قد قلبوا هذه الواو تاء قبل دخول ألف أفعلت حيث قالوا تخمة وتكاه وتولج وإن كان شيئا من ذلك غير مطرد وأما التقية فالأصل فيها وقية لأنها فعيلة من وقيتة لكنهم قلبوا الواو تاء وإن لم يكن فيها شيء يستقل من أجله الواو لأنهم قد قالوا تقي فقلبوا الواو تاء للضم ثم أجروا كل ما كان من ذلك هذا المجرى حملا على تقي فقالوا هو أتقى الله منك. تقلب ما دخلت عليه أولى كقولنا وشاح ومعاون ومقاوم وما أشبه ذلك قيل له بين أن تدخل الكسرة على الواو نفسها وبين أن تدخل على ما قبلها فرق وذلك أن الكسرة إذا دخلت على ما قبل الواو ثم أتت الواو فقد نطقت بالكسرة وهي من حيز الياء ثم أتت الواو وهي بعيدة من حيز الياء بل هي نقيضتها فكرهوا أن ينطقوا بشيئين متباينين فقلبوا الواو ياء لمشاكلة ما قبلها إذ لا حاجز بينهما وأما الواو المكسورة في نفسها فإنما ينطق بها أولا قبل كسرتها ثم تصير الكسرة فيها في التقدير كالعرض فلم يغيرها ما ورد عليها بعد النطق بها. قال سيبويه: " وإنما كرهوا ذلك كما كرهوا الواو مع الياء في ليّه وسيّد ونحوهما

وكما يكرهون الضمة بعد الكسرة " يعني: أنهم كرهوا الخروج عن الكسرة إلى الواو الساكنة في قولهم موزان فقلبوها ياء فقالوا ميزان كما كرهوا الواو مع الياء في لية وسيد فقالوا ليّة وسيّد وإنما هو من لوى يلوي وساد يسود وكرهوا اجتماع الواو والياء والأول منهما ساكن لأنهم لا يجدون سبيلا إلى إدغام إحداهما في الأخرى إذا قلبوا فيكون النطق بهما من جهة واحدة من اللسان فكانت الياء هي الغالبة على الواو تقدمت أو تأخرت لأن الغرض قلب أحدهما إلى الآخر ليكون النطق بهما من جهة واحدة والياء أخف من الواو وأشد تمكنا فإما خفتها فهي تتبين بالامتحان كما أن الكسرة أخف من الضمة وتمكنها أنها من وسط اللسان والواو من بين الشفتين ووسط اللسان أمكن ثم ذكر سيبويه كما استغنى بوضوحه عن التفسير إلى أن قال: " ويقول في تفعلة وتفعل إذا كانا اسمين ولم يكونا من الفعل توعدة وتوعد كما تقول في الموضع والموركة فإنما الياء والتاء بمنزلة هذه الميم ولم تذهب الواو وكما ذهبت في الفعل ولم تحذف من موعد لأنه ليس فيه من العلة بما في يعد ولأنها اسم ويدلك على أن الواو تثبت قولهم تودية وتوسعة فأما فعلة إذا كانت مصدرا فإنهم يحذفون الواو منها كما يحذفونها من فعلها لأن الكسر يستثقل في الواو فاطرد ذلك في المصدر وشبه بالفعل إذا كان الفعل تذهب الواو منه وإذا كانت المصادر تضارع الفعل كثيرا في قولك سعيا وأشباه ذلك فإذا لم تكن الهاء فلا حذف لأنه ليس عوضا وقد أتموا. فقالوا وجهة في جهة وإنما فعلوا ذلك بها مكسورة كما يفعل بها في الفعل وبعد هذا كثير يجوز ذلك شبهت فأما في الأسماء فتثبت قالوا ولدة وقالوا لدة كما حذفوا وأوعدة وإنما جاز فيما كان من المصادر مكسور الواو إذا كان فعلة لأنه يعدو يفعل ووزنه فيلقون حركة الفاء على العين كما يفعلون ذلك في الهمزة وإذا حذفت بعد ساكن فإن بنيت اسما من وعد على فعلة قلت وعدة وإن بنيت مصدرا قلت عدة. أما قوله: في تفعلة توعدة وتوعد فإنما أراد الفرق بين توعد وتوعدة اسمين فعلين لأنك إذا بنيت تفعل ويفعل من الوعد فعلا لقلت تعد ويعد وفيما بينا العلة في سقوط هذه الواو في الفعل وتعيدها ها هنا جملة الأصل في سقوط هذه الواو في تعيد فعلا أن يعد أصله توعد فوقعت الواو بين ياء وكسرة وذلك ثقبل والفعل ثقيل فأسقطت الواو ثم تتبع سائر الماضي الياء فقالوا تعد ويعد وأعد فإذ بنيت اسما فالاسم أخف من الفعل فكان وقوع الواو في الاسم بين ياء وكسرة أخف من وقوعها بينهما في الفعل ويشهد للفرق بين الاسم والفعل قولهم توسعة وتودية ولو كان في الفعل لقلت تسع وتدى.

هذا باب ما كانت الياء فيه أولا وكانت فاء

وقوله: " وأما فعلة إذا كانت مصدرا فإنهم يحذفون الواو منها " يعني: إذا جئنا بفعلة مصدرا للفعل الذي سقطت واوه لوقوعها بين ياء وكسرة كيعد ويزن وما أشبه ذلك سقطت الواو أيضا من المصدر وذلك لأنها تكون على وعدة فتنكسر الواو فيلقون كسرتها على العين ويحذفونها فيعلون هذه الواو في المصدر بسبب كسرها كما أعلوها في الفعل لوقوعها بين ياء وكسرة فإذا فتحت هذه الواو في المصدر لم تعل ولم تحذف فقالوا وعده وعدا ووعدة ووزنه وزنا ووزنة وإنما أجري المصدر على الفعل لأن المصادر تعمل عمل الأفعال وتقوم مقامها ألا تراهم قالوا سقيا ورعيا على معنى سقاك الله ورعاك وجعلوا الهاء التي في عدة عوضا من حذف الواو فلا يسقطون هذه الهاء البتة مع سقوط الواو إلا في ضرورة الشعر إذا أضافوا فيقيمون المضاف إليه مقام الهاء في التعويض قال الشاعر: إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا … وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا (¬1) فإذا بنيت اسما على فعلة من وعد ولم تجعله مصدرا قلت وعدة كما قالوا ولدة جمع ولد وأما قولهم لدة فلأن في معنى أنه ممن ولد معه فإنما هو مصدر في الأصل سمي به المولود مع الإنسان كما قالوا أنت رجامي في معنى مرجوي حدهم ضرب في معنى مضروب وماء غور في معنى غائر فلذلك الدة مصدر لحقه به بالحذف ما يلحق المصادر ثم سمي بالمصدر المولود مع الإنسان وقوله: " وإنما جاز فيما كان من المصادر مكسور الواو إذا كان فعلة لأنه بعدد يفعل فيلقون حركة الفاء على العين كما يفعلون ذلك في الهمزة إذا حذفت بعد ساكن ". يعني أن وزنه على عدد يوزن لأن كل واحد منهما أربعة أحرف والثاني من وزنه ساكن كالثاني من يوزن لأن كل واحد منهما أوجبت سقوطها وكذلك وزنه فلما أعلوها في وزنة ألقوا حركتها على الزاي وأسقطوها ولم يكن قبل الواو شيء تلقى حركة الواو عليه فألقيت حركتها على ما بعدها وصارت بمنزلة إذا خففت وقبلها ساكن ألقيت حركتها على ما قبلها وسقطت هي. هذا باب ما كانت الياء فيه أولا وكانت فاء وذلك يسر ييسر ضرب بالقداح ويبس ييبس ويئل ييئل وهو انثناء الأسنان إلى ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 19/ 259، ديوان المتنبي 176، لسان العرب 1/ 651.

داخل الفم قال أبو سعيد رحمة الله: اعلم أن الغرض في هذا الباب الفرق بين الواو والياء ولذلك أن الواو تسقط لوقوعها بين ياء وكسرة والياء لا تسقط لوقوعها بين ياء وكسرة في ييسر وييعر وهو من صوت الجدي وذلك لأن الياء أخف من الواو عندهم ألا ترى أن الياء والواو إذا اجتمعتا والأول منهما ساكن قلبت الواو ياء تقدمت الواو والياء وكذلك هذه الياء إذا ضمت لم تهمزكما يفعل ذلك بالواو ولا يقال في يسر أسركما يقال في وعد أعد شبه الضمة بالواو فكما أن الواو بعد الياء غير مستثقلة في حيود وصيود ويوم فكذلك الضمة على الياء في يسر، ولما كانت الياء بعد الواو مستثقلة لذلك جاز همز الواو وإذا كانت مضمومة على ما بينا وشبه الياء قبل الواو في يوم وحيود وما أشبههما بالألف قبل الواو في عاود وطال وما أشبه ذلك لأن الياء قريبة الشبه من الألف ومما يدل على خفة الياء وثقل الواو أنك تقول يا به ويوابس ويابسة ويوابس ولا تقول واعدة وواعد ولا وازنة ووزان بل تقول أوعد واو أوزن. قال: " فإن أسكنتها وقبلها ضمة قلبتها واوا كما قلبت الواو ياء في ميزان وذلك نحو مويس وموقن ومؤسر ويا زيد واس " يعني: أن الياء تنقلب واوا لانضمام ما قبلها لأن أصل موقن ميقن فكرهوا الخروج من ضمة إلى ياء ساكنة فقلبوا الياء واوا فإذا فتحوا ردوها إلى الياء فقالوا في يسر وفي موقن مياقن وإن تحركت هذه الياء عادت ياء ولم تبدل لانضمام ما قبلها فقالوا في تصغير " موسر " " مييسر ". قال: " وقد قال بعضهم يا زيد ياس شبهها بقيل " يعني: أن من العرب من لا يقلب الياء الساكنة واوا إن كانت الضمة التي قبلها من كلمة والياء من كلمة أخرى كالضمة التي في الحاء من صالح وبعدها ياء. قال: " وشبهوا بقيل في لغة من يشير إلى ضم القاف مع الياء في قيل واستضعف سيبويه هذه اللغة وقال يلزم عليها أن يقول يا غلام يوجل " يعني: يلزمهم أن لا يقلبوا واو يوجل إذا كان قبلها كسرة ميم غلام لأنهما من كلمتين منفصلتين قال والياء توافق الواو من افتعال لأنها ياء، ولأنها قد تضعف ها هنا فتقلب واوا لو جاؤوا بها على الأصل في مفتعل وافتعل وهي موضع الواو وهي أختها في الاعتلال فأبدلوا مكانها حرفا هو أجلد منها حيث كانت فاء وكانت أختها فيما ذكرت لك فشبهوها بها فأما أفعل فإنه يسلم لأن

هذا باب ما الياء والواو فيه ثانية وهما في موضع العين منه

الواو تسلم في أفعاله وأسمائه إلا أن يشذ الحرف. قوله: " والياء توافق الواو في افتعال " يعني: إذا بنينا افتعل من يئس جعلنا مكان الياء التي هي فاء الفعل تاء فقلت اناس كما فعلنا ذلك بوعد وإنما اتفق ذوات الياء والواو في هذا البناء لأنهما لو لم يقلبا تاء لاستوى لفظاهما ولحق الياء من التغيير ما يلحق الواو فكنت تقول في افتعل من يئس ايتأس وفي مستقبله يايئس وفي اسم الفاعل مويئس كما كنت قائلا في افتعل من وعدا يتعد وموتعد فاستويا في باب افتعل حيث قلت وعد يعد ولم تقل يئس يئس لما بيناه من وقوع الواو بين ياء وكسرة وثقل ذلك. وقوله: " وأما أفعل فإن يسلم " يعني: لا تقلب ياؤه تاء وكانت في موضع فاء الفعل كقوله أيقن وأينع وأيسر وما أشبه ذلك كما لم تغير الواو في أفعل ولم تقلب تاء كقولك أوصل وأورق والأصل في القلب الواو فلما لم يحب قلب الواو تاء في أوصل وبابه لم يحب قلب الياء وإنما لم يحب قلب الواو في أوصل وبابه تاء لأن واوه لا تتغير في مستقبله واسم الفاعل نحو يوصل وموصل ومعنى قوله إلا أن يشذ نحو أثلج واتكفأ قلبوا الواو تاء والأصل أولج وأوكأ وقلب التاء شاذ. قال: وقد قالوا يا أس ويائس ويأيس فجعلوها بمنزلتها إذ صارت بمنزلتها في التاء فليست تطرد العلة إلا فيما ذكرت لك إلا أن يشذ حرف قالوا يئس ويئس ويئس فشبهوها بيعد أما الذي قال ياأس ويأيس فإنه يقلب من الياء الساكنة ألفا في قولك سئس وسئس وليس ذلك بالوجه وإنما تقلب الياء والواو ألفا إذا تحركت وانفتح ما قبلها ولكنهم شبهوا قلب هذه الياء ألفا بقلبهم الواو ألفا في يوجل ويوجل وما أشبه ذلك حين قالوا يا جلي وياجل وإنما قلبوا الواو ألفا استثقالا للواو مع الياء في يوجل والألف أخف أبدلوها منها وأما ييس وييس فمشبه مع شذوذه بيزن ويعد. هذا باب ما الياء والواو فيه ثانية وهما في موضع العين منه اعلم أن الفعل الثلاثي إذا كان ثانيه ياء أو واوا، وكان الحرف الأخير من غير حروف المد واللين وجب أن تقلب ثانية ألفا، وذلك لتحركه وانفتاح ما قبله كقولك قال وباع وهاب وخاف والأصل قول وبيع وهيب وخوف، وإنما قلبت الواو ياء ألفا لاستثقال الحركات عليهما وكثرة هذه الأحرف في كلامهم، ولأن هذه الأفعال لو سلمت

في الماضي للزمها في المستقبل ما يثقلها وذلك أنهم لو قالوا قول وبيع، لأنهم قد جعلوا قول بمنزلة الصحيح مثل قتل فينبغي أن يكون المستقبل بمنزلة يقتل فيقال يقول ويبيع فلو قالوا يقول ويبيع لانضمت الواو وانكسرت الياء، فثقل ذلك عليهم لاجتماع أشياء منها أن الفعل ثقبل ومنها أن هذه الأفعال كثيرة في كلامهم والشيء الكثير الدور في الكلام يتضاعف ما فيه من الفعل لتكرره في الكلام ومنها إن ضم الواو ثقيل لثقله يجوز إبدال الهمزة من الواو المضمومة لغير إعراب كقولهم في وجوه أجوه وفي دور أدور فلما كان ذلك ثقيلا أسكنوها في المستقبل وألقوا حركتها على ما قبلها فقالوا في يقول يقول وفي يبيع يبيع وقلبوها في الماضي ألفا وذلك أن ما قبلها مفتوح فلم يلقوا حركتها لتحرك ما قبلها ولكن سكنوها فقلبوها ألفا ليكون قلبهم إياها ألفا دلالة على أنها قد كانت متحركة، لأنهم لو تركوها ساكنة لأشبهت بيع وقول وهما مصدران فجعلوا قلبها ألفا دلالة على ما ذكرناه واعلم أن الماضي من هذا النوع على ثلاثة أوزان أما فعل وأما فعل وأما فعل وينقلب الثاني من هذه الأوزان كلها ألفا حتى يصرن في اللفظ على صورة واحدة فأما فعل نحو قال وباع وأصله قول وبيع وأما فعل فنحو خاف وهاب والأصل خوف وهيب وأما فعل فنحو طال وجاد إذا كان طويلا وجوادا والأصل طول وجود وصورة قال وباع وهاب وخاف وطال واحدة وإنما تستدل على كل وزن من هذه الأوزان بشيء غير صفته إن كانت صفته تشاكل صيغة الوزن الآخر فأما قال وباع فإنما حكم على أنهما فعل لأن مستقبل قال يقول وهو يفعل ومستقبل باع يبيع وهو يفعل وإذا كان المستقبل على يفعل ويفعل فالباب في الماضي أن يكون على فعل متى كان الفعل متعديا، وكان اسم الفاعل منه على فاعل دون فعيل أو غيره من الأبنية كقولك يضرب ويشتم ويفرض ويقبل ويحسب ويرحم وفاعله على وزن فاعل كقولك ضارب وشاتم وقاتل وراحم وهو متعدّ، لأنك تقول يضربه ويرجمه ويقبله وماضي هذه الأفعال كقولك ضرب وشتم ورجم فلما كان يقول ويبيع على يفعل ويفعل مثل يضرب ويقبل ووزن الفاعل منه بايع وقائل كضارب وقاتل وكان متعديا كتعدي يضرب ويقتل لأنك تقول بعته وقلته حكموا على أن الماضي منه على وزن فعل كما كان الماضي من يضرب ويقبل على ضرب وقبل فهذا هو الباب الذي يعمل القياس عليه وقد يجيء ما يخالف هذا شاذ غير متخذ أصلا وسنقف عليه إن شاء الله وإما خاف وهاب فإنما حكم عليهما أنهما على

فعل من أجل أن المستقبل على يفعل كقولك يهاب ويخاف والأصل يهيب ويخوف وإذا كان المستقبل على يفعل ولم يكن عليه عين الفعل ولامه من حروف الحلق فحكم الماضي أن يكون على فعل كقولك عمل يعمل وفرق يفرق، فأما طال وجاد فإنما حكم عليه أنه فعل دون فعل لأنه يقال طال فهو طويل ولا يقال طائل كما يقال قال وقام فهو قائل وقائم فصار طال بمنزلة ظرف وطويل بمنزلة ظريف، وإذا قلت طال زيد عمرا على معنى غلبه في الطول فهذا هو فعل بمنزلة قام وقال وذلك من جهتين إحداهما أن يقال زيد طائل عمرا بمعنى غالب له في الطول والجهة الأخرى أنه متعد إلى عمر، وفعل لا يكون متعديا ليس في الكلام مثل ظرف يتعدى إلى مفعول قال الشاعر في تعديه: إن الفرزدق صخرة عادية … طالت فلا تستطيعها الأوعال (¬1) أراد طالت الأوعال وغلبتها فلا تستطيعها الأوعال وإذا جعلت ما كان على فعل لنفسك أو لمخاطبيك من باب قال وباع فإنك تغير البناء، فجاعل ما كان من ذوات الواو على فعل وما كان من ذوات الياء على فعل وذلك قولك في قال وقام قلت وقمت وفي باع وسار بعت وسرت، وكان الأصل في قمت قومت فنقلوه إلى قومت ثم نقلوا ضمة الواو فألقوها على القاف وسكنوا الواو كما سكنوها في قام فلما سكنوها اجتمع ساكنان الميم والواو فسقطت لاجتماع الساكنين وكذلك أصل بعت بيعت على فعلت نقلوا كسرة الياء إلى الباء وسكنوا الباء كما سكنوها في باع ثم حذفوا الياء لاجتماع الساكنين فإن قال قائل وما الذي أحوج إلى هذا التغيير قيل له أرادوا الدلالة على ما كان من ذوات الواو وما كان من ذوات الياء فبنوا ذوات الواو على فعل وذوات الياء على فعل كما فرقوا بينهما في المستقبل فبنوا ذوات الواو على يفعل لا غير كقولهم يقوم ويقول، وفي ذوات الياء يبيع ويسير فإن قال وكيف صار فعل المتكلم أولى بالتغيير من فعل الغائب وهلا فصلوا في فعل الغائب بين ذوات الياء والواو ولم نرهم فعلوا ذلك، لأنهم قالوا قام كما قالوا باع فلم يفصلوا قيل له أرادوا فصلا بين ذوات الواو والياء في الماضي كما فصل في المستقبل، وكان الفصل في فعل المتكلم والمخاطب في كل موضع تسقط فيه عين الفعل، لسكون لامه بسبب اتصال الضمير به أولى وألزم وذلك من قبل شيئين ¬

_ (¬1) المخصص/ 309، المحكم 9/ 235، لسان العرب 11/ 411

أحدهما أن فعل المتكلم تسقط عين الفعل منه، فلو تركوه على فعل لوجب أن يقال في قام وباع قمت وبعت فكانت تسقط وليس منها أثر باق ولا تعويض وإذا نقل إلى فعل وفعل فإنه ينقل حركة العين ألفا فإذا سقطت عين الفعل فحركتها المنقولة الفاء باقية وفعل الغائب عين الفعل منه غير ساقطة فلم يحتج إلى تعويض منها فهذا وجه، والوجه الثاني وهو أن فعل الغائب الماضي قد لزم فيه إن تجعل عين الفعل فيه تابعة للفاء، لأن الفاء مفتوحة والعين قد اعتلت فصارت تابعة لما قبلها فجعلت ألفا لأن ما قبلها مفتوح ألا ترى أنهم قالوا قام الآن والأصل أقوم وألين فألقوا حركة عين الفعل على الفاء ثم قلبوها ألفا لانفتاح ما قبلها فلما كان الفاء من الفعل في الثلاثي مفتوحا في فعل منه وفعل وفعل قلبوا العين ألفا لانفتاح الفاء فاستوت أبنية الثلاثي وصارت الألف فيها بمنزلة ما يسكن من عينات الفعل والفاءات باقية على حركتها وفتحها كقولك علم زيد وظرف زيد ومما يقوي الفرق بين فعل المتكلم والمخاطب وبين فعل الغائب أن فعل المتكلم يلحقه لا محالة التعيين بتسكين آخره وفعل الغائب لا يكون فيه ذلك فما كان التبيين لازما له أولى بتغييره. قال سيبويه: " اعلم أن فعلت وفعلت وفعلت منهما معتلة كما تعتل ياء يرمي وواو يغزو وإنما كان هذا الاعتلال في الياء والواو لكثرة ما ذكرت لك من استعمالهم إياهما وكثرة دخولهما في الكلام وأنه ليس حرف يعري منهما ومن الألف أو من بعضهن " قوله: " فعلت وفعلت وفعلت منهما معتلة " يعني: يفعل قال وفعل طال وفعل خاف وهاب. وقوله: " منهما يعني من الواو والياء " وقد بينا ذلك وقوله: " كما يعتل ياء يرمي وواو يغزو " يعني انقلبت الواو والياء في قال وباع ألفا فسكنت كما سكنت ياء يرمي وواو يغزو فلم يدخلهما إعراب واعتلالهما هو تسكينهما في موضع كان يستحق فيه الحركة. وقوله: " لكثرة ما ذكرت لك من استعمالهم إياهما وكثرة دخولهما في الكلام " يعني: إنما اعتلت الواو والياء في هذه المواضع التي ذكرها لكثرتها في كلامهم وهي في نفسها تستثقل تحريكها فلما اجتمع فيها الاستثقال لتحريكها وإنها كثيرة خففوها بالتسكين. وقوله: " وإنه ليس حرف يعرى منهما ومن الألف أو من بعضهن " أراد أن يدل

على كثرتها في الكلام ليس في الكلام كلمة إلا وفيها ياء أو واو أو ألف أو حركات هي مأخوذة من الياء والواو والألف، لأن الكسرة من الياء والضمة من الواو والفتحة من الألف والحركات بعض الحروف وقد مضى الكلام في نحو هذا. قال: " فلما اعتلت هذه الأحرف جعلت الحركة التي في العين محمولة على الفاء وكرهوا أن يدعوا حركة الأصل حيث اعتلت العين كما أن يفعل من غزوت لا تكون حركة عينه إلا من الواو " يعني: أن يفعل من رميت لا تكون حركة عينه إلا من الياء حيث اعتلت كما أن يفعل من غزوت لا يكون متحركة عينه إلا من الواو. وقوله: " فلما اعتلت هذه الأحرف جعلت الحركة التي في العين محمولة على الفاء " يعني: أنهم بنوا من قال فعل ومن باع فعل ثم قالوا قلت بعت ثم ألقوا ضمة العين على الفاء في قلت وكسرتها على الفاء في بعت وكرهوا أن يدعوا فتحة فاء الفعل ولا يلقوا عليها حركة العين لأنهم أرادوا الدلالة على ذوات الواو والياء بإلقاء الضمة والكسرة فألزموه ذلك كما ألزموا مستقبل غزا يفعل يغزو ومستقبل رمى يرمي يفعل، لأنها معتلة فألزموا كل واحد منهما من البناء ما يشاكل الحرف الذي هو فيه وفرقوا بين المعتل لأن المعتل أقل تصرفا لاستثقال الحركة عليه. قال: " ألا ترى أن خفّت وهبّت فعلت فألقوا حركتها على الفاء واذهبوا حركة الفاء فجعلوا حركتها الحركة التي كانت في المعتل الذي بعدها " يعني: أن خفت وهبت أصله فعلت وقد ألقوا حركة العين على الفاء في فعل المتكلم ولم يفعلوا ذلك في فعل الغائب لما ذكرناه وجعل ذلك حجة لقلت وبعت في إلقاء حركة العين على فاء الفعل وإن كان خفت وهبت في الأصل على فعلت وقلت وبعت الأصل فيهما فعل ثم نقل إلى فعل وفعل. قال: " وإنما حولت إلى فعلت ليغيروا حركة الفاء عن حالها لو لم تعتل فلو لم يحولوها وجعلوها تعتل من قولت لكانت الفاء إذا هي التي عليها حركة العين غير متغيرة عن حالها لو لم تعتل فلذلك حولوها إلى فعلت " قال أبو سعيد رحمه الله: احتج لتحويل بناء قلت من فعلت إلى فعلت وأنهم لو لم يحولوها إلى فعلت لبقيت فاء الفعل مفتوحة على حالها فلم يكن متبين الفصل بين ذوات الياء والواو وقد استقصينا الكلام في هذا.

قال: " ويدلك على أن أصله فعلت أنه ليس في الكلام فعلته " يعني: أن الدليل على أن أصل قلت فعلت إنما رأيناه متعديا كقولك قلته وجزته ورمته وما أشبه ذلك وليس في الكلام فعل متعديا. قال: " ونظيره في الاعتلال من محول إليه يعد ويزن " وقد تبين ذلك يعني: أن يعد ويزن وبابهما يجئ على يعل وماضيه على فعل وقد كان حكم الماضي إذا كان على فعل أن يكون مستقبله على يفعل ويفعل فألزم باب يعد يفعل وقصر عليه وحول إليه من يفعل كما حول باب رمى من ذوات الياء إلى يفعل وإنما فعل بباب بعد هذا التحويل لتقع الواو بين ياء وكسرة فتسقط. قال: " وليس في بنات الياء فعلت وذلك لأن الياء أخف عليهم من الواو وأكثر تحويلا للواو من الواو لها وكرهوا أن ينقلوا الخفيف إلى ما يستثقلون ودخلت فعلت على بنات الواو كما دخلت في باب غزوت في قوله شقيت وغبيت لأنها نقلت من الأثقل إلى الأخف " يعني: أنه ليس فيما عينه ياء ولا ما لامه ياء فعلت أما ما عينه ياء فنحو باع وهاب، لأنه من البيع والهيبة وأما ما لامه ياء فنحو رمي وقضى لا يجوز أن يكون في هذين البابين فعل لأنه لو كان فعل لكان مستقبله يفعل ولو جعل كذلك لقيل في باع وبابه باع يبوع وهاب يهوب وقيل في باب رمى يرمو ونقل الياء إلى الواو ثقيل، لأن الواو أثقل من الياء لم يبنوا من الياء بناء يخرجهم إلى ما يستثقلون وقد يجيء في باب التعجب من ذوات الياء كقولهم لقضو الرجل وإنما جاز ذلك لأن فعل قد صار بمعنى التعجب ولا يأتي منه مستقبل وهو قليل في كلامهم وقد جاء في ذوات الواو فعل مما عينه واو كقولهم خاف وقد قلنا أن أصله خوف، وما لامه واو كقولهم غبي وشقي وهو من الغباوة والشقوة، لأن قلب الواو ياء خروج من ثقيل إلى خفيف. قال: " وقالوا وجد يجد فلم يقولوا في يفعل يوجد وهو القياس ليعلموا أن أصله يجد " يعني: أن يجد لو كان أصله يفعل لوجب أن يقال يوجد ولم يكن تسقط الواو وإنما تسقط في يعد ويزن لوقوعها بين ياء وكسرة فأصل يجد على الباب قال الشاعر في يجد: لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة … يدع الصّوادي لا يجدن غليلا (¬1) ¬

_ (¬1) قائل البيت جرير انظر الديوان 1/ 483، انظر تاج العروس 22/ 283، العين 1/ 172.

قال: " وقال بعضهم طلته مثل قلته وهو فعلت منقول إلى فعلت ". وقد بينا أن طلته هذا المتعدي بمعنى طاولني فطلته أي غلبته في الطول وقد ذكرنا. طالت فلا يستطيعها الأوعال قال: " وإذا قلت يفعل من قلت. قلت يقول لأنه إذا قال فعل فقد لزمه يفعل وإذا قلت يفعل من بعت قلت يبيع ألزموه يفعل حيث كان محولا إلى فعلت من فعلت ليجري مجرى ما حول إلى فعلت وصار يفعل لهذا لازما إذ كان في كلامهم فعل يفعل في غير المعتل فكما وافقه في تغيير الفاء كذلك وافقه في يفعل ". يعني: إن قلت لما نقلنا فعلت منه إلى فعلت لزم في المستقبل منه يفعل، لأنه متى كان الماضي منه على فعل والمستقبل منه يفعل، ثم ألزموا ذوات الياء منه يفعل فقالوا يبيع فكأن قائلا قال لسيبويه كيف جعلت بعت فعلت وفعل يفعل قليل في الكلام. فقال سيبويه: المعتل يحتمل من الأبنية أكثر من الصحيح، وقد رأينا في الأبنية فعل يفعل في غير المعتل كقولك حسب يحسب فلما كان هذا جائزا في غير المعتل كان في المعتل لازما وقوي ذلك أن نظيره من ذوات الواو وهو قلت وبابه قد لزم فيه فعلت افعل وكذلك الزم ذوات الياء فعلت افعل وأما يفعل من خفت وهبت فإنه يخاف ويهاب، لأن فعل يلزمه يفعل وإنما خالفنا يبيع ويزيد لأنهما لم تعتلا محولتين وإنما اعتلتا من بناء ما الذي هو لهما في الأصل فكما اعتلتا في فعلت من البناء الذي هو لهما كذلك اعتلت في يفعل منه ". يعني: أن يخاف ويهاب ماضيهما فعل في الأصل ولم يكن مثل بعت وزدت لأن بعت كان فعلت فحول إلى فعلت وليس كذلك خفت. قال: " وإذا قلت فعل في هذه الأشياء كسرت الفاء وحولت عليها حركة العين كما فعلت ذلك في فعلت وفعلت لتغيير حركة الأصل لو لم تعتل كما كسرت الفاء حيث كانت العين منكسرة وأصلها الفتح كذلك تكسر الفاء وأصلها الضم حيث كانت العين منكسرة للاعتلال وذلك قولك خيف وبيع وهيب ". وقيل يعني أن ما لم يتم فاعله مما عينه واو وياء يبنى على فعل مثل ضرب ثم يلقي كسرة العين على الفاء ويسكن العين فإن كانت واوا انقلبت ياء بسكونها وانكسار ما قبلها كقولك " قيل " أصله " قول " ألقيت كسرة الواو على القاف فانكسرت القاف وسكنت الواو فقلبناها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها.

قال وإنما ألقيت كسرة العين على الفاء فيما لم يسم فاعله كما ألقيت ضمة العين وكسرتها على الفاء في قلت وبعت فإن قال قائل كيف صار ما سمي فاعله تسكن عينه ولا تلقي حركتها على الفاء بل تقلب ألفا لأنفتاح الفاء ولا يكون ما لم يسم فاعله تابعا للفاء. قيل له اتبعوا في كل واحد منهما ما يليق بمذاهب العرب من إيثار التخفيف وذلك أن اتباع العين الفاء فيما سمي فاعله، لأن الفاء مفتوحة وإذا اتبعوها العين صيروها ألفا والألف أخف الحروف ولو ألقوا على الفاء حركة العين لصارت الفاء مرة مكسورة ومرة مضمومة لأن في الفعل ما هو على فعل وفعل نحو طال وخاف فكانت تضم العين مع الضمة واوا ومع الكسرة ياء والألف أخف منهما وأما ما لم يسم فاعله فإلقاء حركة العين أخف من اتباع العين الفاء وذلك أن الفاء مضمومة والعين مكسورة فإذا ألقينا حركة العين على الفاء انكسرت الفاء وانقلبت العين ياء إن كانت واوا فتصير الفاء مكسورة والعين ياء إذا جعلنا العين تابعة للفاء صيرناها واوا وإن كانت ياء في الأصل فقلنا بوع ورود وما أشبه ذلك فالكسرة والياء أخف من الضمة والواو. قال: " ومن العرب من يشمّ الضم فيما لم يسم فاعله حرصا على البيان لعلامة ما لم يسم فاعله إن كانت علامته ضم أوله فيقول خيف وبيع ومنهم من يحمل ما لم يسم فاعله على ما سمي فاعله فيتبع عين الفعل فإذن كما فعل ذلك بما سمي فاعله فيقول " بوع وقول " كما يقول " باع وقال " وليس ذلك بالكثير في كلامهم ". قال: " فإذا قلت فعل صارت العين تابعة وذلك قولك " باع وخاف وهاب " ولو لم يجعله تابعا للفاء فيجعل العين ألفا لالتبس ما سمي فاعله بما لم يسم فاعله؛ لأنا نقول فيما لم يسم فاعله خيف وهيب على ما ذكرنا من إلقاء حركة العين على الفاء وكان يكون خيف وهيب فيما سمي فاعله أيضا وذلك أن أصل خاف خوف وهاب هيب فكنا نلقي حركة الواو على الخاء فتصير الخاء مكسورة والواو ساكنة فتنقلب ياء فتصير حرفا فكرهوا أن يساوى ما سمي فاعله وما لم يسم فاعله فإن قال قائل فقد استوى ما سمي فاعله وما لم يسم فاعله في فعل المتكلم وذلك أن خاف يقول فيه المتكلم لنفسه خفت وخيف أيضا يقول فيه المتكلم لنفسه خفت قيل له فعل المتكلم قد تتغير فيه الأبنية الموضوعية في الأصل فلا يجعل أصلا يحتذى عليه ألا ترى أن " قال " و " باع " فعل فإذا قلت " قلت " و " بعت " صار فعلت وفعلت والأصل فعلت أو لا ترى أن فعل المتكلم تسكن لامه فيلحقه من التغيير ما ليس له في الأصل وهو أيضا أقل من فعل الغائب فإذا

حصل الفرق في فعل الغائب الذي هو كثير كان القليل كالنادر من الباب. قال: " وحدثنا أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون قد كيد زيد يفعل وما زيل يفعل ذاك يزيدون كاد وزال هؤلاء ناس من العرب يلقون حركة العين على الفاء فيما سمي فاعله كما يفعلون فيما لم يسم فاعله وذلك أن أصل " كاد وزال " " كيد وزيل " فألقوا كسرة الياء على الكاف والزاي فقالوا كيد وزيل كما فعلوا بما لم يسم فاعله حيث قالوا بيع فقال الشاعر ويروي لأبي خراش: وكيد ضباع القفّ يأكلن جثّتي … وكيد خراش يوم ذالك ييتم (¬1) قال: " فإذا قلت فعلت أو فعلن أو فعلنا من هذه الأشياء ففيها لغات أما من قال قد بيع وزين وهيب وخيف فإنه يقول قد خفنا وبعنا وخفن وهبن وزنت وبعت وهبت يدع الكسرة على حالها وذلك أن من لغته بيع وخيف فإذا اتصلت بها تاء المتكلم أو نون جمع المؤنث سكن ما قبل التاء والنون والياء ساكنة فاجتمع ساكنان فحذفت الياء وبقيت الفاء مكسورة على حالها وكذلك من ضم وكذلك من ضم بإشمام نحو هاب وخاف، فإذا قالوا لست لم يغيروا حركته وقياس نظائره أن يقال لست بكسر اللام كما يقال خفت وهبت، لأنهم جعلوا هذه الياء ساكنة ولم يقلبوها ألفا فتكون في نية حركة، فلما سكنوها من غير قلب صارت بمنزلة حرف السكون فيه أصل فإذا اتصلت التاء بها أو نون الجماعة فسكنت السين حذفوا الياء لاجتماع الساكنين، وبقوا اللام على فتحها وصار بمنزلة ظلت على لغة من فتح وذلك؛ لأن الأصل فيه ظل اللام الأولى ساكنة ثم سكنت الثانية باتصال التاء بها فاجتمعت اللامان ساكنتين فحذفوا الأولى وابقوا الطاء على فتحتها ولم يكن سبيلها سبيل هبت، لأن هاب الألف منه في نية حركة فألقيت تلك الحركة التي كانت في الألف منه في نية حركة فألقيت تلك الحركة التي كانت في الألف على الهاء. ومعنى قوله " وإنما فعلوا ذلك بها حيث لم يكن في يفعل وفيما مضى من الفعل " والمعنى يؤول إلى شيء واحد يريد لزم السكون ياء ليس ولم يغيروا فتحة اللام منها في لست، لأنها ليس لها مستقبل وماض كما لسائر الأفعال التي تعتل من نحو هبت، لأنك تقول خفت أخاف وهبت أهاب ولم يكن لها اسم فاعل نحو لا يائس كما يقال هائب ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 9/ 117، لسان العرب 3/ 383، المحكم 7/ 105.

ولا له مصدر كما لهاب وخاف قال: " ولا يكون له اشتقاق لأنه لا يعرف من أي شيء اشتق كما يعرف أن هاب مشتق من الهيبة. قال: " فلما لم تصرف تصرف أخواتها جعلت بمنزلة ما ليس من الفعل نحو ليت لأنها صارعتها ففعل بها ما فعل بما هو بمنزلة الفعل وليس منه " يعني: أن ليس لما نقصت عن سائر الأفعال بنقصان تصرفها شبهت بالحروف التي لا تنصرف وهي ليت ونحوها. قال: " وأما قولهم عور يعور وحول يحول وصيد يصيد فإنما جاؤوا بهن على الأصل لأنه في معنى ما لا بد له أن يخرج على الأصل نحو اعوررت واخوللت وابيضضت واسوددت فلما كن في معنى ما لا بد من أن يخرج على الأصل لسكون ما قبله تحركن، فلو لم يكن في هذا المعنى اعتلت ولكنها بنيت على الأصل إذا كان الأمر فيهن على هذا " قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن " عور " فعل وكذلك " حول " و " صيد " وقد بينا أن فعل إذا كانت عين الفعل منه واوا وياء أنها تنقلب ألفا نحو " خاف " و " هاب " والأصل فيه " خوف " و " هيب " ولكن عرض في " حول " و " عور " و " صيد " ما منعه من الاعتلال وذلك أن أفعل لا تعتل نحو أبيض وأسود والواو والياء فيها بمنزلة الحروف الصحيحة كقولك أحمر وأشهب وإنما لم يعتل أسود وأبيض من قبل أنا لو أعللناهما لأدى إلى ضرب من الإجحاف، لأن الياء والواو متى أعللناهما سكناهما فألقينا حركتهما على ما قبلهما إن كان ما قبلهما ساكنا كما قلنا في أقام وأجاز والأصل أقوم وأجوز ألقينا حركة الواو على القاف والجيم وقلبناها ألفا وكذلك يعمل بأسود وأبيض لو أعللناهما فإذا سكنا الواو والياء وألقينا حركتها على ما قبلها تحرك ما قبلها وهو فاء الفعل، فسقطت ألف الوصل فيصير ساد وباض فيجتمع ما كان الألف وإحدى الدالين وإحدى الضادين فتسقط لاجتماع الساكنين فيصير سد وبض. فإن قال قائل إذا صار ساد وباض لم يحتج إلى سقط الألف، لأنه يصير بمنزلة راد وصال. قيل له يجتمع في ساد وباض ثلاثة تغييرات وليس ذلك بمنزلة في راد وصال من قبل أن الأصل فعلل يفعلل فعللة نحو دحرج دحرجة فلو كانت الهمزة أصلية كانت تكون فاء للفعل وتكون بمنزلة اللام من " دحرج " والسين من " سرهف " فعدم مثل هذا في كلام العرب مع ترك العرب لصرف أفكل إذا سمي به رجل مع زيادة نظائره بالاشتقاق نحو أشهب وأبلق كلها دلائل على زيادتها.

قال سيبويه: " فإن لم تقل ذلك دخل عليك أن تزعم أن ألحقت بمنزلة دحرجت فإن قيل تذهب الألف في يفعل فهذه أجدر أن تذهب إن كانت زائدة وصار المصدر كالزلزال ولم يجدوا فيه كالزلزلة للحذف الذي في يفعل فأرادوا أن يعوضوا حرفا يكون في نفسه بمنزلة الذي قد ذهب فإذا صير إلى هذا فقد صير إلى ما لم يقله أحد ". قوله " فإن لم تقل ذلك " يعني: فإن لم تقل أن الهمزة في أفكل زائدة وأنها تخالف الحروف الأصلية التي تكون في أوائل الأسماء والأفعال لزمك أن تجعلها في ألحقت بمنزلة الدال من دحرجت، وإذا جعلتها كذلك وجب أن تجري مجرى دحرجت كما جرى حوقل وبيطر مجرى دحرج، ولو جرى ما في أوله الهمزة مجرى دحرج لوجب أن يقال ألحق ألحقة وأكرم أكرمة كما قلت حوقل حوقلة فلما لم يقل ألحق ألحقة علمنا أنه ليس بمنزلة دحرج. وقوله: " فإن قيل تذهب الألف في يفعل فلا يجعلها بمنزلة أفكل " يعني: أن فرق مفرق بين الهمزة في أفكل والهمزة في ألحق فقال الهمزة في ألحق تسقط في المستقبل إذا قلت يلحق ولا تسقط من أفكل بحال فعلمنا أن الهمزة من الحق ليست بمنزلة الدال لسقوطها في المستقبل وليست في أفكل كذلك لأنها تسقط. فأبطل سيبويه هذا الجواب بأن قال: " قيل ذهبت الهمزة كما ذهبت واو وعد في يفعل " يعني: أن سقوط الهمزة في المستقبل ليس بدلالة على أن الهمزة في ألحق لم تجر مجرى الدال في زيد لأنا قد رأينا الواو من وعد بمنزلة الضاد من ضرب، لأنها فاء الفعل ومع ذلك فإن الواو تسقط في يعد على أن الهمزة في يلحق أولى بالسقوط وأجدر أن تذهب لأنها زائدة. ثم قال: " وصار المصدر كالزلزال ولم يجدوا فيه كالزلزلة للحذف الذي في يفعل فأرادوا أن يعوضوا حرفا يكون في نفسه بمنزلة الذي ذهب ". كأن هذا القائل الذي طالبه سيبويه بأن يجعل ألحق بمنزلة دحرج احتج للفصل بين ألحق ودحرج بأن قال أن مصدر دحرج دحرجة وهي فعللة وفيها فعلال نحو زلزل زلزالا وسرهف سرهافا ومصدر ألحق إلحاق جعل بمنزلة سرهاف وزلزال ولم يأت في باب ألحق إلحقة مثل دحرجة وزلزلة لأنهم أحبوا أن يجيء المصدر على التمام بمنزلة سرهاف لتكون

هذا باب ما يكون من هذه الأفعال المعتلة من بنات الثلاثة

هذه الألف التي قبل الكلمة عوضا من الهمزة التي تذهب في يتحقق وسائر مستقبل بابه فلما أبطل سيبويه على من فصل بين ألحق ودحرج إذا كان قول هذا القائل أن الهمزة في أفكل بمنزلة الجيم من جعفر لزم أن يقول أن ألحق بمنزلة دحرج. وإذا قال: " أن ألحق بمنزلة دحرج " قال " لم يقله أحد " قال: وأما أولق فالألف من نفس الحرف يدلك على ذلك قولهم ألق فهو ما لوق وإنما أولق فوعل ولولا هذا الثبت لحمل على الأكثر " يعني: أن الهمزة في أولق أصلية ولم تجعل بمنزلة أفكل، لأن الاشتقاق قد دل على أن الهمزة أصلية وهو قولهم ألق وزنه فعل وفاء الفعل همزة والواو زائدة وأجود من هذا الاستدلال في فعلت وفعلت وفعلت ونفعل ويفعل. يعني: أنهم لو لم يعلوا ما كان من هذه الأفعال التي عيناتها واوات أو ياءات لدخلت الضمة على الواو في يفعل وفعل فقلت تقول وقولت والكسرة على الياء فقلت تبيع وبيعت وما أشبه ذلك فكان الحذف والإسكان أخف عليهم من ذلك. هذا باب ما يكون من هذه الأفعال المعتلة من بنات الثلاثة فإذا كان الحرف قبل الحرف المعتل ساكنا في الأصل، ولم يكن ألفا ولا واوا فإنك تسكن المعتل وتلقي حركته على الساكن وذلك مطرد في كلامهم وإنما دعاهم إلى ذلك أنهم أرادوا أن تعتل وما قبلها إذا لحق الحرف الزيادة كما اعتل ولا زيادة فيه ولم يجعلوه معتلا من محوّل إليه كراهة ما يحول إلى ما ليس من كلامهم ولو كان يخرج إلى ما هو من كلامهم لاستغنى بذا، لأن ما قبل المعتل قد تغير عن حاله في الأصل كتغير قلت ونحوه وذلك نحو أجاد وأقال وأبان وأخاف واستراث واستعاذ. اعلم أن الأفعال التي تلحقها الزوائد وتعل أربعة وهي أفعل وافتعل وانفعل واستفعل فأما أفعل فنحو أجاد وأبان وأقال والأصل فيه أجود وأقول وأبين ألقوا فتحة الياء والواو على الساكن، وهو فاء الفعل وقلبوهما ألفا فقالوا أجاد وأبان، وأما افتعل فنحو اختار واقتود والأصل اختير وقئود قلبوا الياء والواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا ذلك بباع، وكذلك انفعل نحو انقاد وانساب والأصل انقود وانسيب قلبوا الواو والياء ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما فقالوا انقاد وانساب وصار ما قبل الياء والواو من فاء الفعل بمنزلته حيث لم يكن زائدا كان قود وسيب في انقود وانسيب بمنزلة قول وبيع ولم يحفلوا بالألف والنون، وأما استفعل فهو كقولك استجار واستبان واستقام والأصل استقوم

واستبين فألقيت فتحة الياء والواو على ما قبلهما وقلبتهما ألفا، فأما علة إعلال افتعلن وانفعل فقد ذكرناها وأما إعلال أفعل واستفعل فلأنهما يجريان مجرى ما لم يلحقه زيادة، أما أفعل فلأنه يشبه مستقبل الثلاثي مثل أخاف وأهاب وما أشبه ذلك فلما وجب إعلال الثلاثي بما ذكرناه وجب أن يفعل هذا إذا كان مثله لا غير وأما استفعل فإنا متى طرحنا منه الألف والسين كان الباقي منه تفعل، وتفعل هو مستقبل الثلاثي وقد وجب إعلاله وسائر الأفعال لا يجب إعلاله وقد ذكرنا علة امتناع افعل وتفاعل من الإعلال وأما فعل فلا يعتل كقولك زين وعود وإنما لم يعتل لأنا لو أعللنا الواو المتحركة أو الياء فسكناها احتجنا إلى تحريك الساكنة وهذه الساكنة لا تحرك أبدا، لأنها عين من الفعل أيضا وإذا اجتمعت عينان من الفعل الأولى منهما لا تكون إلا ساكنة وأما تفعل وتفاعل فلا يعتلان كقولك تعود وتعاودنا، لأن هذه الفاء دخلت على فعل وفاعل وقد بينا امتناعهم من الإعلال. أما قوله: " إذا كان الحرف الذي قبل الحرف المعتل ساكنا ولم تكن ألفا ولا واوا ولا ياء ". يعني: في أفعل واستفعل كقولك أجاد لأن الأصل أجود واستعودوا بين ما قبل الواو والياء ساكن وليس بألف ولا واو فأعللته بإلقاء حركة الياء والواو على ما قبلهما وقلبهما ولو كان قبلهما ألف أو واو ما اعتلتا وذلك نحو قاول وساير وقوول وسوير وقد بينا العلة المانعة من إعلال هذا. وقوله: " ولم يجعلوه يعتل من محول إليه كراهة أن يحول إلى ما ليس في كلامهم ". يعني: أنهم إذا قالوا أقام وأجاد فهو أفعل وإذا قالوا استعاد واستراب فهو استفعل ولم يكن على بناء غير هذا فحوّل إليه كما كان قلت وبعت على فعلت، ثم حوّل إلى فعلت وفعلت وليس في الكلام بناء على هذا النحو إلى أفعل. وقوله: " ولو كان يخرج إلى ما هو من كلامهم لاستغني بذا، لأن ما قبل المعتل قد تغير عن حاله في الأصل " يعني: لو كان في الكلام بناء يخرج إليه هذا البناء كما خرج قلت إلى فعلت الذي هو مثله في كلامهم لاستغنى بهذا عن البناء الآخر، لأنه قد عمل به ما يعمل به لو حوّل من بناء إلى بناء آخر ألا ترى إن أجاد وأخاف قد غيروا الفعل منه وهو قلت وبعت ولا يعتل في فاعلت؛ لأنهم لو أسكنوا حذفوا الألف والواو والياء في فاعلت وصار الحرف على لفظ ما لا زيادة فيه من باب قلت وبعت وكرهوا الإجحاف بالحرف والالتباس.

قال سيبويه: قد بينا العلة المانعة من إعلال فاعلت وأنا لو أعللناه وجب أن نقول قال بعد سقوط قال وجاءت حروف على الأصل غير معتلة مما أسكن ما قبله فيما ذكرت قبل هذا شبهوه بفاعلت إن كان ما قبله ساكنا. يعني أن أفعل واستفعل وأن كانا مستوجبين للإعلال فقد تكلمت العرب بأحرف منها على الأصل غير معتلة تشبيها بفاعلت إذا كان قد اشتركا في سكون ما قبل حرف الاعتلال وذلك نحو قولهم اجودت واطولت واستحوذ واستروح واطيب واخيلت واغيلت واغيمت واستقبل. " وقد سمع من العرب إعلال هذه الأحرف إلا استحوذ واستروح من شم الريح قد سمع من العرب أجادوا طاب وغيرهما من الحروف ولم يسمع منهم استحاذ واستراح الريح في موضع استحوذ واستروح الريح ولا ينكر أن يجعلوها معتلة في هذا الذي استثنينا لأن الإعلال هو الكثير المطرد ". يعني أن استحوذ واغيلت المرأة واستروح لا ينكر فيها أن تجيء معتلة نحو استحاذ واستراح وأغالت لأن القياس فيها الاعتلال وقد حكى أهل اللغة أغيلت المرأة وأغالت وهي مغيلة ومغيلة حكاه يعقوب بن السكيت وغيره من أهل اللغة والنحو. قال: " وإذا كان الحرف قبل المعتل متحركا في الأصل لم يغير ولم يعتل الحرف من محول إليه كراهية أن يحول إلى ما ليس من كلامهم وذلك نحو اختاروا واعتادوا وأهاسوا " يعني: كافتعل وانفعل إذا كانت عين الفعل منه واوا أو ياء وقد ذكرنا هذا فيما مضى بعلته. ومعنى قوله: " ولم يعتل الحرف من محول إليه " يعني: لم يكن على بناء غير هذا فحول إلى هذا كما حول قولت إلى قوّلت. قال: " وإذا قلت افتعل وانفعل قلت اختير وانقيد ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن ما لم يسم فاعله في افتعل وانفعل من الصحيح تضم الألف منه والحرف الثالث كقولك ارتبط هذا الفرس ارتجع من زيد انطلق بأخيك وعلامة ما لم يسم فاعله ضم الثالث من الحروف أما من افتعل فضمة التاء الزائدة، وأما من انفعل فضمة تاء الفعل ثم ضمت ألف الوصل ولم تكسر لئلا يخرج من ضمة إلى كسرة وليس بينهما إلا حرف ساكن كما فعل في قولهم اقتل أخرج وإنما صارت العلامة

بضم الحرف الثالث من قبل أن ألف الوصل غير معتد بها، لأنها اجتلبت للتوصل بها إلى الساكن الذي بعدها فضم أول حرف متحرك في الكلمة فلما كان الأمر على ما وصفنا ووجب ضم الحرف الثالث الذي قبل الواو والياء، ووجب كسر الياء والواو لأن فعل من انفعل وفعل من افتعل قد صار بمنزلة الثلاثي فإذا وجب ضم أوله، وجب كسر الحرف الثاني فيصير بمنزلة ضرب فإذا صار من الصحيح بمنزلة ضرب صار بمنزلة بيع وقيل من المعتل، وقد ذكرنا اللغات في قيل وهي ثلاث منهم من يقول قيل بلا إشمام ومنهم من يقول قيل بإشمام ومنهم من يقول فهذه اللغات الثلاث هي موجودة في افتعل وانفعل فقال اختير وانقيد بلا إشمام ومنهم من يقول اختير وانقيد بإشمام ومنهم من يقول اختور وانقود. وذكر أن العرب تقول: " احتشوا واهتشوا وإن لم يقولوا تفاعلوا " يعني: أن احتشوا واهتشوا إنما صحتا لأنهما في معنى تهاوشوا وتحاوشوا وإن كان لا يستعمل تهاوشوا وتحاوشوا، ولكن هذا التقدير فيهما ألا ترى أنا تقول رجل فقير على معنى فقر، ومثل ذلك قولهم صيد البعير لأنه في معنى أصيد ولا يستعمل أصيد وصيد في معناه لأنه من باب الخلق وهو التواء في عنق البعير. قال: " فهما يعتوران باب افعلّ ". يعني: أن فعل وافعلّ كثيرا يشتركان في هذا الباب كقولهم سود واسودّ وثول واثولّ. قال: " فإذا لم تعتل الواو في هذا ولا الياء نحو عورت وصيدت، فإن الواو والياء لا يعتلان إذ ألحق الأفعال الزيادة وتصرفت، لأن الواو بمنزلة واو شويت والياء بمنزلة ياء حييت ألا ترى أنك تقول ألا أعور الله عينه إلا أردت أفعلت من عورت وأصيد الله بعيره " يعني: أن الفعل متى صح قبل دخول الزوائد عليه، ثم دخلت عليه الزوائد صح كقولك عوروا واعوره الله وصيد البعير واصيده الله إذا صيره كذلك، وإنما صح مع الزوائد لأن الزوائد دخلت على شيء صحيح ولم تكن بمنزلة أقام وأخاف وأبان بالأصل في ذلك قبل الزوائد قام وباب وخاف فدخلت عليها الزوائد فبقيت معتلة وأما قول ابن أحمر:

هذا باب ما اعتل من الأسماء من الأفعال المعتلة على اعتلالها

تسائل بابن أحمر من رآه … أعارت عينه أم لم تعارا (¬1) في معنى اعورت عينه أم لم تعور فإنما اعتل لأنه لم يذهب به مذهب افعل فكأنه قال: " عارت عينه تعور " من قال هذا كان القياس أن يقول أعار الله عينه فتأمل وقس عليه إن شاء الله. هذا باب ما اعتل من الأسماء من الأفعال المعتلة على اعتلالها ومعنى الترجمة ما اعتل من الأسماء المشتقة من الأفعال وهي أسماء الفاعلين كقائل المشتق من قال وخائف المشتق من " خاف " ومقيم المشتق من " أقام " و " مقام " المشتق من " أقيم " وغير ذلك مما سنقف عليه إن شاء الله. قال سيبويه: " اعلم أن فاعلا منها مهموز العين وذلك أنهم يكرهون أن يجيء على الأصل مجيء ما لا يعتل فعل يفعل منه ولم يصلوا إلى الإسكان مع الألف وكرهوا الإسكان والحذف فيه فيلتبس بغيره فهمزوا الواو والياء إذا كانتا معتلتين وكانتا تقعان بعد الألفات وذلك قولهم " قائم وخائف وبائع ". قد بينا أن عين الألف إذا كانت واوا أو ياء فإنها تعتل في الفعل الماضي والمستقبل كقولنا قام وخاف وباع وهاب ويقوم ويسير ويبيع ويخاف لما كان هذا الاعتلال لازما للفعل على ما بينا وكان اسم الفاعل جاريا على الفعل أرادوا أن يعلوا منه ما اعتل في الفعل وهو عين الفعل فكما وقعت عين الفعل من الاسم بعد ألف في فاعل ووجب تسكينها بالإعلال لزم بعد التسكين أحد أمرين إما أن تحذفها لاجتماع الساكنين وإما أن تحركها فلو حذفناها لاجتماع الساكنين التبس الفعل بالاسم ونمثل ذلك ليقرب من الفهم فنقول إن الأصل في " قال وباع وخاف " " قول وبيع وخوف " كقولنا " علم وضرب " واسم الفاعل من " ضرب وعلم " " ضارب وعال " م فكان قياسه من " قول وبيع " إذا صح ولم يعل " قاول وبايع " غير أنا قد أعللنا " قال وباع " فسكنا موضع العين من الفعل فوجب تسكين ذلك من " قاول وبايع " كما سكناه من " قال وباع " فلما وجب تسكين الواو والياء وجب قلبهما ألفا في " قال " و " باع " لأن الألف في قاول وبايع كفتحة القاف والباء في " قال " و " باع " وإنما يقلب على ما قبله كما قلبنا الواو في يقيم ومقيم ياء لانكسار ما قبلها فلما ¬

_ (¬1) انظر خزانة الادب 5/ 196، المخصص 4/ 238.

قلبت الواو والياء في " قاول وبايع " ألفا لما ذكرنا واجتمعت ألفان وهما ساكنان فلم يمكنا الجمع بينهما في اللفظ فوجب أحد أمرين إما أن تحذف إحدى الألفين لاجتماع الساكنين فيصير قاول وبايع على لفظ " قال وباع " فيصير اسم الفاعل على لفظ الفعل الماضي وهذا غير جائز للبس الذي فيه وأما إن تحرك إحدى الألفين لاجتماع الساكنين والتحريك في الألف محال، لأنها لا تكون إلا ساكنة فلما استحال تحريك الألف جعلوا أقرب الحروف من الألف مكان عين الفعل وهو الهمزة وحركوه فقالوا قائل وبائع وكانت أولى بالتحريك من الألف الأولى، لأن ألف فاعل لا أصل لها في الحركة ولم تتحرك قط لتحريك عين الفعل وإنما كانت أقرب إلى الألف، لأن الهمزة والألف متجاوران في الحلق ولذلك كتبت الهمزة ألفا إذا كانت ولمثل هذه العلة قلبوا الواو والياء متى وقعت واحدة منهما طرفا وقبلهما ألف كقولهم عطاء وسقاء والأصل سقاي وعطاي وقد لزم أن الياء والواو متى وقعتا متحركتين وقبلهما فتحة إنهما تقلبان ألفا في اسم كانتا أو فعل فالاسم نحو " دار وعار " والأصل " دور وعي " ر والفعل نحو " غزا ورمى " و " قال وباع " والأصل " غزو ورمي " و " قول وبيع " فلما اعتلت الواو والياء إذا كانتا متحركتين وقبلهما فتحة لزم اعتلالهما إذا كان قبلهما ألف وهما طرفان؛ لأن الاعتلال في الطرف أقوى وأكثر ولأن الألف تشبه الفتحة وتضارعها فلما وجب اعتلالها في عطاو وسقاي وجب قلبهما ألفا ذكرنا في قايل وبايع فإذا قلبناها ألفا اجتمعت ألفان ولا يمكن اللفظ بهما فوجب إسقاط إحداهما أو التحريك فلو سقطت إحداهما التبس المقصور بالممدود، لأن الواو في عطاو والياء في سقاي متى قلبناهما ألفا ثم أسقطنا إحدى الألفين لاختراع الساكنين صار عطا وسقا مثل قفا ومعا فوجب قلب إحدى الألفين حرفا يمكن تحريكه فكانت الهمزة أولى بذلك لما ذكرناه. ومعنى قوله: " وذلك أنهم يكرهون أن يجيء على الأصل مجيء ما لا يعتل فعل منه " يعني: أنهم لو قالوا " قاول وقاوم وبايع وهايب " بغير همز صار بمنزلة " مقاوم ومقاول ومبايع " الذي قد فتح فعله في " قاول وقاوم وبايع " فكرهوا أن يساوى ما اعتل فعله من أسماء الفاعلين ما صح فعله. وقوله: " ولم يصلوا إلى الإسكان مع الألف " يعني: لو أسكنوا الواو في قاول والياء في بايع لاجتمع ساكنان ولا يمكن الجمع بينهما.

وقوله: " وكرهوا الإسكان والحذف فيه فيلتبس بغيره " يعني: كرهوا الحذف لاجتماع الساكنين فيلتبس قاول بقال وبايع يباع إذا أعللنا الواو والياء ثم حذفناهما لاجتماع الساكنين. قال: " ويعتل مفعول منهما كما اعتل فعل لأن الاسم على فعل مفعول منهما كما اعتل أن الاسم على فعل فاعل فتقول " مزور " و " مصوغ " وإنما كان الأصل مزوور فاسكنوا الأولى كما أسكنوها في يفعل وفعل وحذفت واو مفعول لأنه لا يلتقي ساكنان ". يعني: تعتل العين من الفعل الذي لم يسم فاعله وذلك أن المأخوذ من قيل وخيف وما أشبههما من المعتل " مقول ومخوف " وذلك أن الأصل فيه مخووف ومقوول كما تقول مضروب ومقتول غير أن عين الفعل من قيل وخيف قد اعتلت وسكنت فأعلت من مفعول ومخووف وهي الواو الأولى منهما، فإذا أعللناها سكناها وألقينا ضمتها على ما قبلها فاجتمعت واوان ساكنتان، فإن أسقطنا إحداهما لاجتماع الساكنين وكان الساقط من الواوين عند سيبويه والخليل الواو الثانية، لأنها زائدة والواو الأولى هي أصلية لأنها عين الفعل فإذا اجتمعتا إحداهما زائدة واحتجنا إلى حذف إحداهما كان الزائد أولى بالحذف لأنه مجتلب لم يكن أصليا واحتجنا إلى حذف أحدهما موجودا من قبل فنرد الشيء إلى أصله. وقال الأخفش: الواو الأولى هي المحذوفة وإن كانت عين الفعل لأن الساكنين إذا اجتمعا فالأول أولى بالتغيير والحذف ألا ترى أنا نكسر الحرف الأول لاجتماع الساكنين كقولك قامت المرأة ولم يقم الرجل. قال: " وتقول في الياء مبيع ومهيب أسكنت العين وأذهبت واو مفعول، لأنه لا يلتقي ساكنان وجعلت الفاء تابعة للياء حين أسكنتها، كما جعلتها تابعة في بيض وكان ذلك أخف عليهم من الواو والضمة فلم يجعلوها تابعة للضمة، فصار هذا الوجه عندهم إذ كان من كلامهم أن يقلبوا الواو ياء ولا يتبعوها الضمة فرارا من الضمة والواو إلى الياء لشبهها بالألف، وذلك قولهم مشوب ومشيب ومنول ومنيل ". قال أبو سعيد رحمه الله تعالى: اعلم أن المفعول إذا كان مما عينه ياء كمفعول بيع وهيب وخيط فالأصل فيه مبيوع ومهيوب ومخيوط ويجب أن تعل عينه كما أعلت في الفعل فتسكن وتلقى ضمتها على ما قبلها فتسكن الياء التي هي عين الفعل وواو مفعول

ساكنة فيجتمع ساكنان الواو والياء فتسقط على قول الخليل وسيبويه الواو، لأنها زائدة فإذا سقطت الواو من مخيوط وقد ألقينا ضمة الياء على الخاء صار بسكون الياء وضمة الخاء، فكسرت الخاء لتسلم الياء لأنها لو تركت على ضمتها لوجب قلب الياء واوا، فكان يصير مخوط على لفظ مقول فتلتبس ذوات الياء بذوات الواو فتصير الخاء مكسورة لتسلم الياء كما قالوا في جمع أبيض وأميل بيض وميل كقولك أحمر وحمر وأشهب وشهب وأبلق وبلق وأصل بيض وميل بضمة أوائلهما فكسرت أوائلهما لتسلم الياء، وزعم الأخفش أن المحذوف في مبيع ومخيط الياء التي كانت في مبيوع ومخيوط وهي عين الفعل كما نقول أنهم لما ألقوا ضمة الياء على ما قبلها، فسكنت اجتمع ساكنان الياء والواو والأول منهما أولى بالحذف على ما مضى من قوله فقيل له فإذا كان المحذوف هو الياء والمبقى هو واو مفعول وقبلها الضمة التي كانت في الياء فألقيناها على باء مبيوع وخاء مخيوط فما هذه الياء التي في مخيط ومبيع فجوابه في ذلك أنه لما ألقى ضمة الياء على ما قبلها كسر ما قبل الياء قبل حذفها لتسلم الياء، ثم حذف الياء لاجتماع الساكنين فقلب واو مفعول ياء للكسرة التي قبلها. ومعنى قول سيبويه: " وجعلت الفاء تابعة للياء حين أسكنها " يعني: كسرة فاء الفعل التي ألقيت عليها ضمة الياء فتكون الكسرة تابعة للياء إذا كانت منها ومشاكلة لها. ومعنى قوله: " ولم يجعلوها تابعة للضمة " يعني: ولم يجعلوا الياء تابعة للضمة فيقلبوها واوا فيقال مبوع ومخوط قال إذ كان من كلامهم أن يقلبوا الواو ياء فرارا من الضمة والواو إلى الياء كشبهها. بالألف الأصل أن الياء والكسرة أخف من الواو والضمة، والياء أقرب شبها بالألف من الواو لأن الياء مبسوطة في مخرجها وخفتها بين الألف والواو، وقد رأيناهم الواو ياء من غير كسرة قبلها، ولا سبب يوجب قلبها أكثر من ثقل الواو وخفة الياء، فقالوا " مشيب " في " مشوب " و " منيل " " ومنول " وهو من قولك نلته أي أعطيته، فلما قيل " مشيب " " و " مسيب " ولم يكن ياء ولا كسرة لزم أن يقال مبيع ومخيط إذا كانت الياء موجودة فيه. وبعض النحويين يقول أن مشيب ومنيل إنما قلبت الواو فيهما ياء لانقلابها في الفعل، وذلك أنك تقول شيب الشراب ونيل زيد معروفا ويجري مجرى هذا قولهم رجل مهوب حملا على لغة من يقول بوع وهوب وإن كان من الياء، لأنه من الهيبة والبيع وقياس هذا عندي أن تقول مبوع ومزود في لغة من قال بوع وهوب.

وقال عقيب قلب الواو ياء " وقالوا في " حور " " حير " وأنشد أبو العباس: عيناء حوراء من العين الحير (¬1) * وذكر بعض النحويين: أن الحير ليست بمنزلة مشيب وأنه لا يقال حير إلا في الإتباع وإنما قال الشاعر " الحير " لتقدم العين وذكرها معها، ولولا العين ما جاز الحير كما قالوا الغدايا والعشايا ولولا العشايا ما جاز الغدايا، ومثله فأخذ ما قدم وما حدث ولا يقال حدث إلا مع قدم، وبعض العرب يخرجه على الأصل فيقول مخيوط ومبيوع فشبهوها بصيود وغيور حيث كان بعدها حرف ساكن ولم تكن بعد الألف فتهمز " يعني: أنهم شبهوا مخيوط بصيود في ضم الياء وترك الإعلال ولو كانت هذه الياء بعد ألف لهمزت كما همزت في بائع وهائب وزائد، فليس كونها بعد الألف فهذا معنى قوله: " ولم تكن بعد الألف فتهمز. قال: " ولا نعلمهم أتموا في الواوات؛ لأن الواوات أثقل عليهم من الياءات ومنها يفرون إلى الياء فكرهوا اجتماعهما مع الضمة " يعني: كرهوا اجتماع الواو مع الضمة في ذوات الواو لو جاءت على الأصل فقالوا " مقوول " و " مصووغ " و " مخووف " كما قالوا " مخيوط " و " مجيء " " مخيوط " وبابه على الأصل أخف من الضمة على الواو في " اسودّ " " اسودد " فألقينا حركة الواو على السين، فتحركت السين وسقطت ألف الوصل فهذا تغيير وانقلبت الواو ألفا، فهذا تغيير ثان وسكنت الدال الأولى وكانت متحركة، فأدغمت في الدال الثانية فهذه تغييرات كثيرة مجحفة، وليس ذلك في راد وضال، لأن الأصل في " راد " " رادد " فأدغمت الدال الأولى في الثانية فلم يكن من التغيير سواه وأيضا لو قلنا ساد وباض، ثم صير الفعل للمتكلم لقال ساددت وباضضت فيشبه فاعلت، فلما وجب أن يكون أفعل لا يعتل إذا كان عين الفعل معه واوا أو ياء ذكرنا في أسود وأبيض وجب أن يصح أعور وأحول وأصيد، فإذا صح أعور كان عور في معناه لم يعل حتى يعلم أنه في معنى لا يعتل ومن حيزه، وإنما يجيء فعل في أفعلّ نحو احمرّ واصفرّ واشهبّ ومثل ذلك أن تفاعل لا يعتل وافتعل يعتل فأمّا افتعل فنحو اختار واقتاد في اقتاد والأصل فيه اختير واقتود واعتلت الياء والواو في هذا البناء من قبل أن تاء افتعل مفتوحة والياء والواو بعدها ¬

_ (¬1) المخصص 1/ 416، إصلاح المنطق 1/ 127، أدب الكاتب 1/ 486.

متحركة وبعد ذلك لام الفعل فصارت هذه الثلاثة بمنزلة قول وبيع، فانقلبت الواو والياء ألفا لأنها بمنزلة قال وباع قد تحركت الياء والواو وقبلها فتحة وأما تفاعل فلا يعتل من قبل أنا لو أعللناها لسكنّاها وإذا سكناها سقطت هي أو الألف التي قبلها لاجتماع الساكنين فكان يبقى تمات وإذا بقي تمات، ثم صير الفعل للمتكلم بها سكنت التاء لاتصال ضمير المتكلم بها، فإذا سكنت اجتمع ساكنان التاء والألف التي قبلها فتسقط الألف لاجتماع الساكنين فيبقى تمت وتملت في تمايل، وهذا إجحاف فإن قال قائل: إذا أعللت تمايل وتمادد فسكنت الياء والواو وقلبتهما همزة لوقوعهما بعد الألف الساكنة قبل تصحيح الياء والواو أولى من إلحاقها تغييرا أبعد تغيير إذا كانت تصحان إذا سكن ما قبلهما في غزو وظبي؛ وقد يجيء غير معتل ما حكمه أن يعتل كقوله استحوذ عليهم الشيطان وقولهم اغيلت المرأة والقود وما أشبه ذلك مما سنراه في موضعه إن شاء الله، فلما وجب بما ذكرناه أن لا يعل تفاعل وجب بما ذكرناه أن لا يعل تفاعل وجب ترك إعلال افتعل في معنى تفاعل، إذ كان في معناه حتى يعلم أنه من بابه وفي حيزه وذلك اجتور القوم في معنى تجاوروا واعتونوا في معنى تعاونوا. قال الخليل: لو بنيت افتعل على غير معنى تفاعل لقلت اجتازوا واعتانوا. قال: " وأما طاح يطيح وتاه يتيه فزعم الخليل أنها فعل يفعل بمنزلة حسب يحسب وهي من الواو ويدلك على ذلك طوحت وتوهت وهو أطوح منه وأتوه منه فإنما هي فعل يفعل من الواو ". قال أبو سعيد رحمه الله تعالى: اعلم أن طاح يطيح وتاه يتيه قد يكون من الياء والواو فإذا كانت من الياء فهو فعل يفعل بمنزلة باع يبيع وزاد يزيد، وإذا كان من الواو فلا يجوز أن يكون فعل، لأن ما كانت عينه واوا كان ماضيه على فعل فمستقبله يفعل مثل قال يقول وجاز يجوز، فلما رأينا مستقبله على يفعل علمنا أن ماضيه على فعل ويدلك على ذلك قولهم لهت وطحت، فلو كان ماضيه فعل كان ينقل إلى فعلت كما يقال قلت وجزت، فلما كان كذلك صح أنها فعل مثل خاف وخفت ومستقبله يفعل مثل حسب يحسب وكان أصله يتوه ويطوح فألقيت كسرة الواو على ما قبلها فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فانقلبت الواو ياء. قال وإنما دعاهم إلى هذا الإعلال ما ذكرت لك من كثرة الحرفين فلو لم يفعلوا

ذلك على الأصل دخلت الميم على الياء والواو والكسرة عليهما وإنما دعاهم إلى هذا الاعتلال ما ذكرت لك من كثرة والواو عليهما ولا سيما إذا اجتمعت واوان ولم يحملوا مقوول ومخووف على قولهم غؤور مصدر غار يغور وقؤول؛ لأن غؤور وقؤول وبابهما لا يعتل لتحرك ما قبل الواو المضمومة، وقد زعم الكسائي أنه سمع ذوات الواو على الأصل كقولهم خاتم مصووغ وأجاز فيه كله أن يأتي على الأصل ولعل الذي حكاه الكسائي إنما سمعه من قوم لا يحتج سيبويه بمثلهم ومجيء ذوات الياء على الأصل مشهور في كلام العرب قال الشاعر عباس بن مرداس: وقد كان قومك يحسبونك سيّدا … وكفاك أنّك سيّد معيون (¬1) " ويجري مفعل مجرى يفعل فيهما فيعتل كما اعتل فعلهما؛ لأنه على مثالهما وزيادته في موضع زيادتهما فيجري مجرى يفعل في الاعتلال كما قالوا مخافة فأجروها مجرى يخاف ويهاب فكذلك اعتل هذا؛ لأنهم لم يجيئوا ذلك المثال من المعتل إلا أنهم وضعوا ميما مكان ياء وذلك قولهم مقام ومقال ومشابه فصار دخول الميم كدخول الألف في أفعل ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن دخول الميم في أول المصادر يوجب لها من الإعلال ما أوجبه المفعل؛ لأنه ليس بينهما فرق في عدد الحروف ونظم الحركات وذلك قولك مقام ومقال والأصل مقوم ومقول ألقوا حركة الواو على القاف وقلبوها ألفا كما فعلوا ب يخاف ويمال، والأصل يخوف ويمول وكذلك المغاث والمعاش وأصله مغيث ومعيش، فأعلوا الياء فيهما كما فعلوا ذلك في يهاب وينال وأصله يهيب وينيل وإنما أعلوا هذه المصادر من جهتين إحداهما أنها مصادر أفعال معتلة والجهة الأخرى أنهم قد أعلوا ما كان من الأسماء على وزن الفعل كقولهم دار وجار وناب وعار، والأصل دور ونيب فأعلّوه كما أعلّوا قول وبيع وقالوا " قفا ورحا " والأصل " قفو ورحى " فأعلوهما كما أعلوا " غزا ورمى "، فقد حملوا الأسماء على الأفعال في الأفعال إذا اتفقت في الأوزان، فلما كان هذا المصدر أعني مفعل وما جري مجراه يوافق الفعل في عدد الحروف ونظم الحركات حمل عليه في الإعلال. فإن قال قائل: إنما يحمل الاسم على الفعل في الإعلال إذا اتفقا في الوزن والمصدر إذا كان على مفعل فلا نظير له في الأفعال وزنا، إذ ليس في الأفعال مفعل ¬

_ (¬1) الأغاني 6/ 358، تاج العروس 35/ 463، تاريخ دمشق 26/ 428، جمهرة اللغة 2/ 956.

قيل له المصدر وإن كان على مفعل؛ فإنه موافق لأفعل إلا في زيادة الميم والهمزة وهما نظيران وذلك أن الهمزة الباب فيها أن تكون من زيادات الأفعال وما وجد منها في الأسماء فهو محمول على الفعل وموضعها أول الكلام والميم تكون من زيادة الأسماء وموضعها أول الكلام ويجري مفعل مجرى مفعل في الإعلال فيصير بمنزلة يفعل في الفعل، وذلك قولك المصير تقول يصير ويسير وكذلك مفعلة تجري مجرى يفعل في الإعلال وذلك المثوبة والمشورة والمعونة هي بمنزلة يقوم ويجود، فإن قال قائل ما أنكرتم أن تكون المثوبة والمشورة والمعونة على وزن مفعولة، فيصير بمنزلة مقول ومخوف وهما مفعولان فيكون مشورة مفعولة، وقد سقط منه إحدى الواوين قيل له الأولى أن تكون مفعلة؛ لأن مفعولة في المصادر أقل من مفعلة ألا ترى أنهم يقولون ما أكدوا مقدرة وميسرة على أن سيبويه يذكره في صوم صيم ولم يقولوا في صوام صيام وكذلك في الباب أجمع لبعده من الطرف بدخول الألف وإذا وقع فعل فعلا ولام الفعل ياء انقلبت واوا واتبعت ما قبلها فقلت في فعل من رمي رمو، ومن قضى قضوا والأصل رمى وقضى فإن قال قائل فهلا جعلوا مكان الضمة كسرة لتسلم الياء كما فعلوا ذلك ببيض ومعيشة على مذهب الخليل وسيبويه، قيل له أن فعل يدخل في ذوات الياء في معنى التعجب كقولهم لسرو الرجل ولفضل في معنى ما أفضله فلو جعلوا مكان الضمة كسرة فقالوا رمى بطل معنى التعجب وأيضا فإن العرب قد فرقت بين الاسم والفعل من هذا الباب فقالوا سرو الرجل ويغزو ولو جعلت ذلك اسما لجعلت مكان الواو ياء ومكان الضمة كسرة فقلت سري ويغزي ألا تراهم قالوا في جمع دلو أدلى والأصل أدلو فنقول في ذوات الواو على مفعل من القول مقول، ومن القيام مقوم ومن الزيادة مزور وتقول في ذوات الياء على مفعلة من البيع مبيعة ومن زاد مزيدة والأصل مبيعة ومزيدة ألقيت الضمة على ما قبل الياء وانضم ما قبل الياء وسكنت الياء فكسرت ما قبل الياء لتسلم الياء كما فعلت ذلك في مفعلة من معيشة وأما الأخفش فقوله في مفعل من ذوات الياء مثل مسعط مبوع فتقلب الياء لانضمام ما قبلها لما ألقيت ضمتها على ما قبلها كما قالوا في مفعلة من العيش معوشة. قال: " وقد قال قوم في مفعلة فجاءوا بها على الأصل وذلك قول بعضهم أن الفكاهة مقودة إلى الأذى وهذا ليس بمطرد " يعني: أن هذه المصادر التي ذكرنا وجوب إعلالها قد تجيء على الأصل كا يجيء الفعل على الأصل وليس ذلك بقياس مطرد في هذه المصادر ولا في الفعل، وإنما يجيء نادرا فالذي جاء في المصادر مقودة ومطيبة وكأن القياس أن يقال مقادة ومطابة، والذي جاء في الفعل نحو قولهم أجود وأغيلت المرأة

واستحوذ عليهم الشيطان. قال: " وقد جاء في الأسماء الإعلام على الأصل نحو مكوزة اسم رجل ومزيد والقياس مكازة ومزادة ". قال: وإنما جاء هذا كما جاء تهلل اسم وكان القياس أن يقال تهلّ بالإدغام؛ لأن تفعل من المضاعف الذي عينه ولامه من جنس واحد يدغم كقولك تعضّ وتشمّ وما أشبه ذلك وفي الأسماء أظلّ وأقلّ والأصل يعضض ويشمم وأظلل وأقلل ألا ترى أن الشاعر لما اضطر في أظل رده إلى أصله فقال: تشكو الوجا من أظلل وأظلل ومن الشاذ الذي ذكره سيبويه قولهم حيوة وكان القياس أن يقال حية، لأن الياء والواو إذا اجتمعتا والأولى منهما ساكنة قلبت الواو ياء وتدغم. قال: " وليس مزيد ومكوزة بأشد من لزومهم استحوذ وأغيلت يعني أن مجيء استحوذ وأغيلت على غير الأصل والفتحة أولى من مجيء مزيد ومكوزة؛ لأن الفعل أولى بالإعلال من الاسم ومن الشاذ أيضا قولهم محبب وكان ينبغي في القياس أن يكون محب قال: " ويتم أفعل اسما وذلك قولك هو أقول الناس وأبيع الناس وهو أقول منك وأبيع منك وإنما أتموا ليفعلوا بينه وبين الفعل المنصرف نحو أقال وأقام ويتم في قولك ما أقوله وأبيعه كان معناه نحو من معنى أفعل منك وأفعل الناس، لأنك تفضله على من لم يجاوزا لزمه قائل وبائع كما فضلت الأول على غيره وعلى الناس وهو بعد نحو الاسم لا يتصرف تصرفه ولا يقوى قوته فأرادوا أن يفرقوا بين هذا وبين الفعل المنصرف نحو أقال وأقام وكذلك أفعل به؛ لأن معناه معنى ما أفعله وذلك قولك أقول به وأبيع به ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن كل شيء في أوله إحدى زوائد الفعل الهمزة والياء والتاء والنون وكان على وزن الفعل الذي فيه الزوائد فإنه لا يعتل كاعتلال الفعل إذا كانت عينه واوا أو ياء كقولك هذا أقوم من هذا وأبيع منه وإنما صح هذا فرقا بين الاسم والفعل، لأن الفعل يعتل على هذا الوزن كقولك أقام وأبان فإن قال قائل فقد رأينا الاسم والفعل يستويان في الإعلال في هذا البناء وغيره أما في هذا البناء، فإن ما كان لام الفعل منه واوا يعتل في الاسم والفعل كقولك في الفعل أعطى وأمضى وفي الاسم رجل أعشى وأعمى، وأما في غير هذا البناء فقد رأينا الثلاثي إذا كان عين الفعل أو لامه واوا فإنه يعتل

في الاسم والفعل فأما عين الفعل فقولك في الفعل " قال وباع " وفي الاسم حدّ وباب وأما لام الفعل فقولك " غزا وقضى " وفي الاسم " قفا ورحى " فالجواب وبالله التوفيق أما فعل الذي لامه معتلة وإن كان قد استوى الاسم والفعل فيه فقد رأينا أفعل الذي لامه معتلة يخالف فيه الاسم الفعل وذلك أن الاسم تنقلب الواو منه ياء كقولك في جمع دلو أدل والأصل أدلو وإذا كان في الفعل صحت الواو ولم تنقلب كقولك أغزو وأدلو، فلما كان الاسم فلا يخالف الفعل فيما كان الإعلال منه طرفا وكان الاسم أخف من الفعل وأولى بالتصحيح والوسط أقوى من الطرف وأشد تمكنا جاز أن يصح الاسم في الموضع الذي يعتل فيه الفعل إن كان أخف من الفعل ومما يوجب تصحيح الاسم الذي في أوله زوائد الفعل إذا كانت عينه واوا أو ياء أنّا قد رأيناهم خالفوا بين الاسم والفعل في أفعل إذا كانت لامه معتلة واللام أضعف من العين، فلما فرقوا بينهما في لام الفعل فرقوا في عين الفعل إذا كانت عين الفعل أقوى ومن الفرق بين أفعل إذا كانت عين الفعل منه معتلة في الاسم وإذا كانت لام الفعل منه معتلة أن عين الفعل إذا كانت معتلة فيما قبلها ساكن والياء والواو إذا سكن ما قبلهما بعدتا من الإعلال ألا ترى أن الأفعال التي لا تعتل عيناتها وهي واوات وياءات ما قبل عيناتها ساكن نحو فاعل كجاور وبايع ونحو أفعل كقولك أسود وأبيض وفعل كقولك " جوز " و " روع " و " مير " فإذا كانت لام الفعل معتلة فما قبلها متحرك؛ لأن عين الفعل متحركة فكان الإعلال أقوى ألا ترى أنك تقول ظبي وغزو فلا تعتل الواو والياء لسكون ما قبلهما فإذا قلت قفا ورحى اعتلت الواو والياء لتحرك ما قبلهما فأما الثلاثي فإنما استوى الاسم والفعل فيه، لأن بناء الثلاثي من فعل وفعل ليس الفعل أولى به من الاسم والاسم أولى به من الفعل وإذا كان بناء الثلاثي في الاسم غير داخل على الفعل ولم يكن البناء للفعل صار بمنزلة مفعال الذي لم يعله وليس في الفعل نظير له فإذا جئنا إلى بناء هو للفعل ودخل عليه الاسم لم نعله للفرق بينهما وذلك ما كان في أوله الزوائد التي هي بالفعل أولى ولهذا قال سيبويه ومن تقدم من نحوي أهل البصرة أنا متى بنينا تفعل أو تفعل أو غير ذلك مما يخرج عن بناء الفعل وفي أوله زائد أعللناها كما فعل مفعل فعلى هذا لو بنينا تفعل من القوم والسوم لقلنا " تقوم وتسوم " والأصل تقوم وتسوم فألقينا ضمة الواو على ما قبلها كما فعلت ذلك بتقوم وتسوم في الفعل وإذا بنينا تفعل من البيع ومن ذوات الياء قلنا على مذهب سيبويه والخليل تبيع وتعيش كما ذكر ذلك في تفعل. وأما قول الأخفش: فإنه يقول في هذا تبوع وتعوش وإذا بنينا تفعل من ذوات الياء والواو فعلى القولين جميعا يعل فنقول في من تفعل من القول تقيل والأصل تقول ألقينا

كسرة الواو على القاف فسكنت الواو وقبلها كسرة فانقلبت وتفعل من البيع تبيع. وقال أبو العباس المبرد: تفعل وتفعل من ذوات الياء لا تعل وذلك أنهما ليستا بمصدرين يجريان في الاعتلال على الفعل فعلى قول أبي العباس تقول " تقول " في تفعل من القول وتبيع من البيع وفي تفعل تقول وتبيع وعنده إن ما كان من المصادر وجاء على الأصل فهو غير محمول على الفعل نحو مزيد وإن مكوزة اسم لم يجيء على الفعل فصح، ثم ترجع إلى لفظ سيبويه في الكتاب فيفسره قول ما أقوله وأبيعه لأن معناه نحو من معنى أفعل منك وأفعل الناس يعني: إن قولك ما أقوله وأبيعه وإن كان فعلا فإنه لا يعل؛ لأنه فعل لا ينصرف، وقد لزم وجها واحدا فصار كأنه اسم ولذلك صغر قال الشاعر: يا ما أميلح غزلان شدن لنا … من هاؤليائكنّ الضال والسمر ووجه آخر وهو الذي قال سيبويه أن فعل التعجب لا يعل التعجب، وهو ما أقوله وأبيعه؛ لأنه في معنى ما لا يعل من الأسماء وهو قولك هذا أقول منك وأبيع منك وأبيع الناس وأقول الناس، وقد بينا فيما مضى إن ما كان مما يعل إذا كان في معنى ما لا يعل لم يعل منه مثل عور وحول لا يعل، لأنه في معنى أعور وأحول ولم يعل اجتوروا، لأنه في معنى تجاوروا فكذلك لم يعل ما أقوله وأبيعه؛ لأنه في معنى أقول منه وأبيع منه وكذلك أقول به وأبيع به في معنى ما أقوله وأبيعه لا يعل؛ لأنه في ذلك المعنى والدليل على أن ما أقوله وأقول به وهو أقول منه وأقول الناس يجري مجرى واحدا إن كل شيء لا يقال فيه ما أفعله لا يقال أفعل به وهو أفعل منه، وكل شيء يقال فيه ما أفعله جاز فيه الباقي ألا ترى أنك تقول ما أحسنه وأحسن به وهو أحسن منه ولما لم يجز ما أبيض زيدا لم يجز أبيض به ولا هو أبيض منه ولا أبيض الناس. ثم قال عقيب قوله: " لأن معنى " ما أقوله " معنى " أقول به " و " أبيع به " قال؛ لأنك تفضله على من لم يجاوز أن لزمه قائل وبائع كما فضلت الأول على غيره وعلى الناس " يعني أنك إذا قلت ما أقوله وأبيعه فأنت تفضله على غيره وإذا قلت هو أقول الناس وأبيع منك فأنت تفضله فهما في معنى واحد. وقوله " لأنك تفضله على من يجاوز إن لزمه قائل وبايع " يعني: أن التفضيل بقوله ما أقوله وأبيعه وبقولك هو أقول منك وأبيع الناس لا يقع لكل من قال شيئا أو باعه؛ لأنك إذا قلت ما أقوله فإنما تفضله معنى قائل آخر وإذا قلت هو أبيع منك أو أقول

منك فإنما تفضله على المخاطب، وإذا قلت هو أقول الناس فإنما تفضله على الناس القائلين فلو كان كل من قال قولا أو باع بيعا يقع عليه ما أقوله وأبيعه لبطل معنى التفضيل وإنما يقع على من قال قولا أو باع بيعا اسم قائل وبايع فقط، فإذا تكرر قوله وبيعه وصار إلى حد يفضل جاز أن يقال ما أقوله وأبيعه فتفضله على من يستحق أن يقال قايل وبايع فقط. وهذا معنى قوله " تفضله على من لم يجاوز إن لزمه قائل وبائع ". أي على من لا يستحق إلا اسم قائل وبائع. ومعنى قوله " كما فضلت الأول على غيره وعلى الناس " يعني تفضل بقولك ما أقوله وأبيعه على من يستحق اسم قائل وبائع فقط كما أنك إذا قلت هو أقول منك فقد فضلته على غيره، وإذا قلت هو أقول الناس وأبيع الناس فقد فضلته على الناس، ثم ذكر سيبويه أسماء قد صحت في أوائلها زوائد الأفعال وهي على وزنها، وقد ذكرنا من تفسير جملة ذلك ما أغني عن سياقه ألفاظه إلى أن قال " ولم نذكر أفعل لأنه ليس في الكلام أفعل اسما ولا صفة " يعني: أنه ذكر اسما على صفة الفعل الذي في أوله الهمزة زائدة ولم يذكر في الأسماء أفعل؛ لأنه ليس في الأسماء أفعل وإنما أفعل يكون فعلا ماضيا لم يسم فاعله وفعل المتكلم كقولك أكرم زيدا وأنا أكرم زيدا. ثم قال: " وكان الإتمام لازما لهذا مع ما ذكرنا إن كان يتم في أجود ونحوه ". يعني: أنه لما كان بعض الأفعال من هذا الوزن مما كان في أوله الهمزة الزائدة قد جاء على الأصل وسلم من الإعلال نحو أجود كان في الاسم أولى فلزمت السلامة في الاسم، لأنه أحق بالسلامة من الفعل ويتم تفعل اسما وتفعل منهما ليفرق بينهما وبين تفعل وتفعل في الفعل معنى تفسير هذا في جملة ما ذكرناه وإنما عمد سيبويه في هذا فبدأ بما أوله همزة زائدة فذكر منه اسما على أبنية الفعل كأفعل نحو أقول وأبيع وكأفعلة نحو أقولة وأعينة وأفعل نحو أعين وأدور وذكر أفعل كأصبع وغير ذلك وذكر أبنية مختلفة أولها التاء زائدة نحو تنضب وترتب ليرى قياسها مما فيه ياء أو واو في موضع عينه. ثم قال: " وإنما منعنا أن نذكر هذه الأمثلة فيما أوله ياء أنها ليست في الأسماء والصفة إلا في يفعل " يعني: أنه لم يذكر أبنية مختلفة في أولها ياء زائدة؛ لأنه لم يجئ في الأسماء شيء أوله ياء زائدة على مثال الفعل إلا في يفعل خاصة نحو يعمل ويرمع، فإن قال

قائل فقد قال يعفر قيل له يجوز أن يكون يعفر اتباعا أما أن يكون أصله يعفر فاتبعوا الياء الفاء أو يكون يعفو فاتبعوا الفاء الياء. قال: " ولم تجر هذه الأسماء مجرى ما جاء على مثال الفعل وأوله ميم، لأن الأفعال لا تكون زيادتها التي في أوائلها ميما فمن، ثم لم يحتاجوا إلى التفرقة ". يعني أن الاسم الذي في أوله الميم الزائدة فعل؛ لأن الميم قد دلت على الفرق، لأنها لا تكون زائدة إلا في أول الاسم فاستغنوا بدلالة الميم أن يصحح الاسم، فيدل التصحيح على الاسم كما فعلنا ذلك في بأقول. " وأما تفعل مثل التنقل فإنه لا يكون فعلا فهو بمنزلة ما جاء على مثال الفعل ولا يكون فعلا " قال أبو سعيد رحمه الله: هذا كلام قد تقدم شرحه وهو أن تفعل لما لم يكن له في الفعل نظير وجب أن نعله؛ لأنا لا نحتاج أن نفرق بينه وبين الفعل كما أعللنا ما في الميم فتعل من القول قلنا نقول ومن البيع تبيع على قول سيبويه وعلى قول الأخفش تبوع وتفعل من القول والبيع تقول وتبيع. فقال سيبويه عقيب هذا: " وإنما تشبه الأسماء بأفعل وإفعل ليس بينهما إلا إسكان متحرك وتحريك مسكن ويفرق بينها وبينهما إذا كانتا مسكنتين على الأصل قبل أن يدركهما الحذف لا على ما استعمل في الكلام ولا على الأصل قبل الإسكان ولكنهما إذا كانتا بمنزلة أقام وأقال ليس فيهما إلا إسكان متحرك أو تحريك ساكن " يعني: أن تفعل من القول إذا بنيناه معتلا فقلنا تقول فقد شبه بالفعل. ومعنى قوله: " ويفرق بينها وبينهما إذا كانتا مسكنتين عن الأصل قبل أن يدركهما الحذف لا على ما استعمل في الكلام " يعني: أنا إذا قلنا قم وبع فأصل أقول وأبيع على أفعل مثل أقيل وأفعل مثل أضرب، ثم تعلهما بعلتي حركة الواو والياء على ما قبلهما فيصير أقول وأبيع، ثم يحذف منه ألف الوصل على ما تقدم من شرحه فإذا بنينا تفعل وهو تقول أو تفعل وهو تبيع فهو مشبه بأقول وأبيع بعد إلقاء الحركة عن الواو والياء على ما قبلهما قبل حذف ألف الوصل. فمعنى قوله " مسكنتين على الأصل " يعني: بعد أن أسكنت الواو والياء بإلقاء حركتهما على ما قبلهما.

هذا باب أتم الاسم فيه على مثال الفعل

ومعنى " قبل أن يدركهما الحذف " يعني قبل حذف ألف الوصل يقع التشبيه. وقوله: " لا على ما استعمل في الكلام ولا على الأصل " يعني: أن المستعمل في الكلام قم وبع بغير ألف وصل والأصل ضم الواو وكسر الياء في أقول وأبيع ولم يقع التشبيه بهذا المستعمل في الكلام أن لا ألف وصل فيه ولا بالحال بالأصل، لأن الواو في الأصل والياء متحركان، وإنما وقع التشبيه بالحال التي كانت بين الحالين وهي إلقاء الحركة على الواو والياء على ما قبلهما قبل حذف ألف الوصل، ولكنهما إذا كانت بمنزلة أقام وأقال ليس فيهما إلا إسكان متحرك وتحريك ساكن يعني إنما وقع التشبيه إذا كانت بمنزلة أقام، لأن أقام أصله أقوم وألقيت حركة الواو على القاف وسكنت الواو فإذا ألقيت من أقول حركة الواو على القاف قبل أن يلقى ألف الوصل وقد صارت بمنزلة أقام؛ لأنك لم تفعل ولم تعمل بواحد منهما أكثر من أن ألقيت حركة الواو على الساكن الذي قبلها فسكن الواو ويحرك الساكن الذي قبلها فهذا معنى قوله إسكان متحرك وتحريك ساكن. هذا باب أتم الاسم فيه على مثال الفعل فيمثل به ولكنه أتم لسكون ما قبله وما بعده كما يتم التضعيف إذا سكن ما بعده نحو أردد وسترى ذلك في أشياء فيما بعد إن شاء الله. وذلك قولك " فعّل وفعّال نحو حول وعوار وكذلك فعّال نحو قوال ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن سيبويه ذكر في أول هذا الباب ما لا يعتل من الأسماء فذكر ما حكيناه عنه من الأسماء وغير ذلك من الأسماء التي لا تعتل لبعد شبهها من الأفعال والأسماء المعتلة ولا يشبه هذا الباب الذي قبله اسما على نظم الأفعال المعتلة وعدة حروفها وإنما الزوائد في أوائلها مختلفة كمفعل الذي أعللناه؛ لأنه بمنزلة يفعل إلا أن الزيادة من هذا ياء والزيادة من هذا ميم وكتفعل الذي ذكرنا اعتلاله؛ لأنه بمنزلة أفعل إلا أن الزيادة من هذا تاء ومن هذا همزة. قال: " ومن ذلك أهونا، وأبينا، واغيلاء قد قالوا أعياء " يعني: ومما صح ولم يعتل أهوناء وأبيناء وإنما صح لأن صدره على مثال الفعل وهو أهون وأبين وألف التأنيث فيهما غير معتد بها ألا ترى أنك لو صغرت شيئا فيه ألف التأنيث لصغرت الصدر وجئت بالألف من بعد قولك في تصغير حمراء وخنفساء حميراء، وخنيفسا، وأما قولهم أعياء فأصله

اعيياء فأدغموا لاجتماع الياءين للزوم الفتحة الثانية وإن شئت أظهرت كما قلت في الفعل الماضي حيي وحي ويحى ووعى قال الله عز وجل وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (¬1) وبعضهم يقول حيي قال ومن العرب من يقول أبيناء فيلقي كسرة الياء على الياء فيعل والقياس أن لا يعل لما ذكرناه ومن أعله فإنما استثقل الكسرة فألقاها على الساكن الذي قبلها وسهل ذلك أن بناء الفعل قد زال باتصال ألف التأنيث. قال: " وأسكنوا الياء في أبينا كراهة الكسرة في الياء كما كرهوا الضمة في الواو في فعل فاسكنوا نحو نور وقول وليس هذا بالمطرد " يعني: أن تسكين من أسكن الياء من أبيناء كراهة الكسرة بمنزلة تسكين الضمة في فعل وذلك أن الاسم إذا كان على فعال أو فعول فالباب في جمعه فعل نحو قذال وقذل وجماد وجمد ورسول ورسل وقلوص وقلص، وقد يجوز في فعل التخفيف فيقال فعل ورسل وقلص وقذل، فإذا كانت العين واوا لم تجمع على فعل بضمتين واقتصروا فقال في جمع قذال قذل وفي جمع نوار وهي النافرة نور وربما جاؤوا بمثله على أصل الجمع قال عدي بن زيد: وعن مبرقات بالبرين وتبدو … في الأكف اللامعات سور (¬2) وإنما هو جمع سوار مثل خمار وخمر وكتاب وكتب، ومعنى قوله " وليس هذا بالمطرد " يريد ليس إعلال أبيناء بمطرد؛ لأنه اسم قال وأما الإقامة والاستقامة فإنما اعتلتا كما اعتلت أفعالهما، لأن الزوم الاستفعال والأفعال لاستفعل وأفعل كلزوم يستفعل ويفعل لهما، ولو كانتا تفارقان كما تفارق بنات الثلاثة التي لا زيادة فيها مصادرها لتمت كما تتم فعول منهما ونحوه، وقد بينا فيما مضى من الكتاب أن أفعل واستفعل يعتلان إذا كان موضع العين منهما ياء أو واوا، فإذا اعتلا فلابد من إعلال مصادرهما فأما مصدر أفعل من المعتل العين فالإقامة نحوها وأما مصدر استفعل فالاستقامة نحوها وكان الأصل في الإقامة الأقوام، لأنه مصدر أفعل مثل أكرم ومصدره الإكرام، وقد كانت هذه الواو ألقيت حركتها في الفعل على ما قبلها وقلبت ألفا فقلبت في المصدر ألفا فاجتمعت ألفان إحداهما المنقلبة من الواو والأخرى ألف إفعال فأسقطت إحداهما لاجتماع الساكنين فعلى قول الخليل وسيبويه الساقطة هي الألف الثانية، لأنها زائدة وقال الأخفش الساقطة الأولى، لأن ¬

_ (¬1) الأنفال الآية: 42. (¬2) اللباب في علوم الكتاب 2/ 160، المخصص 1/ 370.

التغيير عند اجتماع الساكنين يلحق الأول وقد مضى نحو هذا من الخلاف، وكذلك الاستقامة أصلها الاستقوام مثل استغفار من استغفر فعمل بالواو مثل ما ذكرنا في واو أقوام وجعلت الهاء لازمة عوضا من حذف إحدى الألفين. وقوله: " لأن لزوم الاستفعال والأفعال لأفعل كلزوم يستفعل ويفعل لهما ". يعني أعل المصدر من هذين الفعلين بلزوم لهما كما أعل المستقبل بلزومه الماضي أراد أن الأشياء الملازمة ما يجري مجرى على جميعها. وقوله: " لو كانتا تفارقان كما تتفارق بنات الثلاثة التي لا زيادة فيها مصادرها لتمت كما يتم فعول منها " يعني: أن الإقامة والاستقامة مصدران لازمان لأفعل واستفعل اللذين بينا إعلالهما وليسا كمصادر الأفعال الثلاثية التي لا تلزم طريقا واحدا كفعول مصدر " غار " " يغور " " غؤورا " و " قعد " " قعودا " وليس كل ثلاثي مصدره فعول لأنك تقول قدر قدرة وعلم علما وقد صح فعول لأنه ليس بمصدر لازم لفعل معتل. قال: " وأما مفعول فإنهم حذفوه فيهما وأسكنوه؛ لأنه الاسم من فعل وهو لازم كلزوم الأفعال والاستفعال لأفعالهما، وقد بينا إعلال مفعول كمزور ومبيع ومقول، فإن قال طويل لم يعتل وهو من طال يطول وطال معتل ". قال أبو سعيد: طويل لم يأت على يطول ولا على الفعل ألا ترى أنك لو أردت الاسم على يفعل لقلت طائل ولو كان جاء عليه لاعتل يعني لو كان طويل على الفعل لاعتل. قال: " فإنما هو كفعيل " يعني به مفعول، وقد جاء مفعول على الأصل وبذا أجدر يعني لما جاء مفعول على الأصل غير معل نحو مخيوط ومعيون كان فعيل بالأصل أولى والسلامة ألزم. قال: " ولم يهمزوا مقاول ومعايش لأنهما ليستا بالاسم على الفعل فتعتلا عليه وإنما هو جمع مقالة ومعيشة وأصله التحريك فجمعت على الأصل كأنك جمعت معيشة ومقولة ولم تجعله بمنزلة ما اعتل على فعله ولكنه أجرى مجرى مفعال " يعني: أنه متى جمع مقال ومقام ومعيشة وما جرى مجرى ذلك فإن حروف المد تدق إلى أصولها في الجمع ولا تعل فيقال في جمع مقال مقاول وخط على معايش قال الله عز وجل مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فلم يهمز الياء في معايش.

وقال الشاعر: وإني لقوّام مقاوم لم يكن … جرير ولا مولى جرير يقومها (¬1) ولم يقل مقايم ولم يعتل هذا الجمع كما اعتل واحده، لأن واحده يجري على الفعل إن كان مصدر الفعل والمصدر لازم للفعل وليس كذلك أجمع، فإن قال قائل فقد أعل جمع الفاعل كما أعل الفاعل فقالوا قائمة وقوائم وبائنة وبوائن قيل له ليس اسم الفاعل من المصدر في شيء وذلك أنك إذا قلت قائمة، ثم قلت قوائم فالحرف المعتل في الجمع وقع في مثل موقعه من الواحد متحركا في الجمع بعد ألف الجمع كما كان في الواحد بعد ألف فاعل فلم يغيروه وحرف العلة في المصدر ساكن كقولك مقام ومعاش فإذا جمعنا احتجنا إلى تحريكه، فرّد إلى الأصل ولم يعل كما أعل الواحد؛ لأنه قد خالف منهاجه وسألته عن مفعل لأي شيء أتم ولم يجر مجرى أفعل. فقال: " لأن مفعلا إنما هو في مفعال " يعني أن مفعلا وإن كان نظيره من الفعل أفعل فهو في معنى مفعال الذي لا نظير له في الفعل ولا يعتل قال والدليل على أن مفعول في معنى مفعال اشتراكهما في أشياء كثيرة ألا ترى أنك تقول مطعن ومطعان ومفسد ومفساد فاردت بمفعل من المبالغة في الفعل ما أردته بمفعال وتقول مخصف ومفتاح وهما اللّتان، وقد قالوا مفتح ومفتاح ومنسج ومنساج ومقول ومقوال فاعتور هذان البناءان هذه الأشياء لأنهما كشيء واحد ومفعل مقصور من مفعال. قال: " فأما قولهم مصائب فإنما هو غلط منهم وذلك أنهم توهموا أن مصيبة فعيلة وإنما هي مفعلة، وقد قالوا مصاوب ". اعلم أن كل ياء ساكنة معتلة في الواحد وهي عين الفعل منه متى أجمعنا صحت في الجمع فرجع ما كان منه من ذوات الواو إلى الواو وما كان منه من ذوات الياء إلى الياء ولم يهمز شيء من ذلك ويكون ذلك فيما يكون أوله ميم زائدة نحو ما ذكرناه من مقام ومقال ومثوبة ومعيشة وما جرى مجرى ذلك وكان الأصل في مصيبة مصوبة، فألقيت كسرة الواو على الصاد وقلبت الواو ياء فإذا جمعناهما فالوجه أن يقال مصاوب كما ذكرنا في مقام ومقاوم وإذا كان الاسم على فعال أو فعال أو فعول أو فعيل أو على أربعة أحرف ¬

_ (¬1) البيت للأخطل انظر ديوانه 276، محاضرات الأدباء 1/ 121، المخصص 4/ 209.

وثالثه حرف من حروف المد واللين زائد ساكن إما ألف وإما واو ساكنة مضموم ما قبلها فإنك إذا جمعت شيئا من ذلك على تمام حروفه أدخلت ألف الجمع ثالثة، فوقع حرف اللين الذي كان في الواحد ساكنا بعد ألف الجمع، فاجتمع ساكنان فوجب حذف أحدهما أو التحريك فلو حذف أحدهما بطل علامة الجمع فوجب التحريك فحرك بأقرب الحروف من الألف وهو الهمز وذلك قولنا في قلوص قلائص وفي سفينة سفائن وفي رسالة رسائل، ولو لم يحركوا لقالوا رسال وسفاف في جمع رسالة وسفينة. قال سيبويه: " فالذين قالوا مصاوب توهموا أنها فعيلة مثل سفينة فلذلك همزوا وقالوا غيره إنما جمع مصيبة مصاوب، لأن أصله الصوب يقال صاب يصوب في نحو معنى أصاب يصيب فوقعت الواو مكسورة في نحو الكلام فشبهوها بالواو المكسورة في أول الكلام همزة نحو وسادة وإسادة ووشاح وإشاح، ثم ذكر همز واو عجوز وألف رسالة وياء صحيفة في الجمع إذا قلت عجائز ورسائل وصحائف، وقد ذكرناه فيما مضى ". قال: فأما جمع ما أصله الحركة فهو بمنزلة ما حركت كجدول وهذه حروف لما لم يكن أصلها التحريك وكانت ميتة لا تدخلها الحركة على حال، وقد وقعت بعد ألف لم تكن أقوى حالا مما أصله متحرك، وقد تدخله الحركة في مواضع كثيرة وذلك نحو قولك: قال وباع ويغزو ويرمي فهمزه بعد الألف كما يهمز سقا، وقضاء وكما تهمز قائل وأصله التحريك يعني: أن جمع ما أصله الحركة بمنزل جدول وجداول وعثير وعثاير وهو مقام ومقاوم ومعاش ومعايش لأن أصله مقوم ومعيش. وقوله " وهذه الحروف لما لم يكن أصلها التحريك " يعني: ألف رسالة وواو عجوز وياء صحيفة. وقوله: " لم يكن أقوى حالا مما أصله متحرك " يعني لم يكن ألف رسالة وواو عجوز أقوى حالا من ألف قال وواو يقول، وقد قلبت في اسم الفاعل همزة في قولك قائل فلذلك تقلب ألف رسالة وواو عجوز همزة. قال: " فهذه الأحرف الميتة أصلها الحركة أجدر أن تتغير " يعني أن الألف في رسالة والواو في عجوز أولى بالإعلال من ألف " قال " وواو " يقول " إذ كان الأصل في ألف " قال " وواو " يقول " الحركة.

قال: " فهذه الأشياء بمنزلة ما اعتل على فعله نحو يبيع ويقول " يعني: أن رسالة وعجوز وسفينة إذا جمع فهو بمنزلة ما اعتل نحو أسماء الفاعلين من يقول ويبيع قال: " وأما فاعل من عورت فإذا قالوا فاعل قلت عاور غدا. قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن اسم الفاعل يصح من عور لصحة الفعل ولا يشتق منه اسم الفاعل لما مضى يقال عور فهو أعور ويعور فهو عاور غدا وكذلك صيد البعير فهو أصيد وتصيد فهو صائد ". قال: " وتجري ياء صيدت مجرى ياء حييت إلا أنه لا يدركها الإدغام " يعني: أن ياء حييت الأولى تصح وهي مع صحتها لا يجوز إدغامها في الياء الثانية التي هي لام الفعل في اسم الفاعل ولا يجري مجرى عضضت، لأنك تقول عاض ولا تقول جاي بالإدغام بل تقول جايي، لأن الياء الثانية تسكن فيبطل الإدغام فيها وليس كذلك الضاد الثانية من عضضت. قال: " ولو كان يقول اسما ثم أردت أن تكسر للجمع لقلت تقاول وكذلك تبيع تبايع وهو مثل جمع معونة ومعيشة " وقد مضى. قال: " ويتم فاعل نحو عاور، وقد مضى فإذا قلت فواعل من عورت وصيدت همزت تقول من شويت شواء ياء ولو قلت شواوي كما ترى قلت عواور، ولم يغير، فلما صارت منه على هذا همزت نظيرها كما تهمز نظير مطايا من غير بنات الياء والواو نحو صحائف، فلم تكن الواو لتترك في فواعل من عورت، وقد فعل نظيرها ما فعل بمطايا فهمزت كما همزت صحائف وفيها من الاستثقال نحو ما في سواوي لالتقاء الواوين وليس بينهما حاجز حصين، فصارت بمنزلة الواوين للتبيان فقد اجتمع الأمران وتجري فواعل من صيدت مجراها كما اتفقا في الهمز في حال الاعتلال، لأنها تهمز هنا كما تهمز معتلة ولأن نظيرها من جئت يجري مجرى شويت، فتوافقها كما اتفقا في الاعتلال في قلت وبعت ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن ألف الجمع متى وقعت بين الواوين وكانت الواو الثانية منهما قيل الطرف وليس بينه وبين الطرف حرف آخر وجب قلب الواو الثانية همزة، والأصل في ذلك أنهم رأوا العرب قد همزت أوائل، وقد علموا أن الأصل فيه أواول؛ لأن الواحد أول وهو أفعل فاء الفعل وعينه واوان فإنما فعلت العرب ذلك؛ لأن اجتماع واوين تقيل واعتلال الأطراف كثير فغيروا إحدى الواوين وشبهوها باجتماع واوين في

أول الكلمة وذلك يوجب الهمز كتصغير واصل اويصل وغير ذلك مما مضى ذكره وقاس سيبويه ذلك فزعم أن اجتماع الياءين أو الياء والواو إذا وقعت ألف الجمع بينهما كاجتماع الواوين كقولك في جمع بعير صائد غدا يعر صوائد تهمز الياء لوقوع ألف الجمع بينهما وبين الواو ولو جمعت لينا هذا الجمع لوجب على قوله أن تعل الياءين فتهمز الياء لوقوع ألف الجمع بينها وبين الياء الأولى وجعلوا الأصل في ذلك ما سمع من العرب في جمع عيل عائل مهموز، وقد وقعت الألف بين ياءين فهمزت الثانية. وقال الأخفش: القياس أن لا تهمز في الياءين ولا في الواو والياء كما أن اجتماع الواوين في أول الكلام يوجب قلبها همزة واجتماع الياءين والياء والواو لا يوجب ذلك فأما الياء والواو فقولك يوم والياء كقولك بين وهو اسم موضع ولم تقلب واحدة منهما وذهب الأخفش إلى هذا، واختاره مذهبا وإذا صار بين الواو الثانية وبين الطرف حرف لم تقلب همزة كقولك طاوس وطواويس وناوس ونواويس وكذلك الياءان والياء والواو كقولك في جمع قيام قياويم وفي جمع " عيال " " عياييل " وقيام فيعال من القيام وأصله " قيوام " و " عيال " فعال من " عال " " يعيل " إذا تبختر قال الشاعر: كالمرزبانيّ عيّال بأصال (¬1) وأما عيل وعياييل فهو الفقير وهو مأخوذ من عال يعيل إذا افتقر فإذا اضطر أن يمد جمع عيل لم يهمز كما لم يهمز جمع طواويس فتقول عيل وعياييل قال الشاعر: فيها عياييل أسود ونمر وإنما لم يهمز طواويس في الجمع ولم يكن أصلها الهمز، فإن لام الفعل تقلب ألفا كما تقلب الألف ياء وذلك في مسائل كثيرة سنقف عليها إن شاء الله فمن ذلك جمع شاوية يقال فيها شوايا والأصل شواوي كما تقول في قاتلة قواتل، فلما جمعت شواوي وقعت ألف الجمع بين واوين وهي قريبة من الطرف؛ لأن الواو الثانية ليس بينها وبين الطرف حرف فوجب همزها كما ذكرنا في أوائل فصار شواوي فعرضت هذه الهمزة في الجمع ولام الفعل معتلة، فقلبت الياء ألفا كما ذكرنا فصار شواء فوقعت الهمزة بين ألفين والهمزة تشبه الألف فصارت شوايا. فإن قال قائل: ولم وجب قلب اللام المعتلة ألفا إذا ¬

_ (¬1) البيت لأوس بن حجر انظر ديوانه 66، تاج العروس 2/ 496، تهذيب اللغة 3/ 126.

هذا باب ما جاء من أسماء هذا المعتل على ثلاثة أحرف لا زيادة فيه

عرضت الهمزة في الجمع قيل له قد رأينا العرب تقلبت اللام المعتلة من الياء إلى الألف فيما لم تعرض فيه همزة في الجمع كقولهم في مداري وعذاري مدارا وعذارا، إذ كانت الألف من الياء، فلما كانوا يعدلون إلى التخفيف فيما لم يعرض فيه ما ينقله من الهمزة فإذا عرضت فيه الهمزة وجب قلب الياء التي هي لام الفعل ألفا وكذلك مطايا هي جمع مطية، ومطية فعيلة مأخوذة من المطا وهو الظهر والمد في السير فإذا جمعناها كان جمعها كجمع صحيفة فينبغي إذا أن تهمز في الجمع ياء مطية الأولى كما همزت ياء صحيفة في صحائف، فقالوا مطائي فعرضت هذه الهمزة في الجمع وبعدها لام الفعل وهي ياء فوجب قلبها ألفا فيصير مطاء فيجتمع ألفان بينهما همزة فتجعل الهمزة ياء لما ذكرناه فيقال مطايا وإذا بنيت من جئت اسم فاعل قلت جائي فإذا جمعته فعلى قول سيبويه جوايا، وعلى قول الأخفش جوائي وذلك أنه على قول سيبويه في الباب ولأن نظيرها من حييت يجري مجرى شويت فتوافقها كما اتفقا في الاعتلال في " قلت " و " بعت ". يعني: أن ذوات الياء وهي حييت وذوات الواو وهي شويت تجري في الجمع مجرى واحدا في باب الاعتلال يقال في هذا شوايا وحوايا كما اتفق " قلت " و " بعت " في الاعتلال. هذا باب ما جاء من أسماء هذا المعتل على ثلاثة أحرف لا زيادة فيه " اعلم أن هذا الباب قد تقدم تفسيره؛ لأنه ضمن أن ما كان من الأسماء الثلاثية على وزن الفعل وعينه واو أو ياء اعتلت وقلبت كما فعل ذلك بالفعل وذلك في ثلاثة أبنية وهي فعل وفعل وفعل كقولهم باب وساق وناب فهذا على فعل والذي على فعل رجل خاف ولبس صاف إذا كان كثير الخوف وكثير الصوف ورجل مال إذا كان كثير المال، ويوم راح إذا كان ذا ريح وإنما علم أن هذه الأسماء على فعل؛ لأنهم يقولون خاف يخاف، وقد مال الرجل بمال فقد بنوا الفعل منه على فعل يفعل يجيء فاعله على فعل كقولهم بطر يبطر فهو بطر ونزق ينزق فهو نزق، وقد جاءت أسماء على الأصل غير معتلة فمن ذلك على فعل القود والحركة والغيب جمع غائب وسيل اسم، وقد جاء في فعل رجل حول إذا كان كثير الحيلة وروع إذا كان فزعا وأما فعل فلم يجئ منه شيء استثقالا للضمة على الواو. قال سيبويه: " وأما فعل فلم يجيئوا به على الأصل كراهة للضمة في الواو ولما عرفوا أنهم يصيرون إليه من الاعتلال من الإسكان أو الهمز كما فعلوا ذلك بأدؤر وخون ".

هذا باب تقلب فيه الواو ياء لا لياء قبلها ساكنة ولا لسكونها وبعدها ياء

يعني: أنه لم يجئ على الأصل فعل كما جاء روع وحول استثقالا للواو وللضمة، وقد علموا أنهم إذا ضموا الواو فجاؤوا بها على الأصل لزمهم أن يجعلوها مثل أدؤر فيهمزونها أو يسكنونها مثل خون وهو جمع خوان وكان حكمه أن يقال خون كما يقال حمار وحمر وكتاب وكتب وما لا نظير له في الأفعال لا يعتل نحو فعل وفعل وكقولك في فعل نوم يقال رجل نوم كثير النوم ورجل سولة من السؤال على لغة من قال سلت أسال ولم يهمز وهي لغة على غير تخفيف الهمز، ويجوز أن يكون سؤلة من قولك رجل أسول أي مستريح قال المتنخل: كالسّحل البيض جلا لونها … سحّ نجاء الحمل الأسول (¬1) يعني: المسترخي بالمطر ورجل لومه كثير اللوم وعيبه كثير العيب، وفعل بهذه المنزلة كقولك حول وهو المتحول عن المكان قال الله تعالى لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا وصير جمع صيرة وهي حجارة تنبت كالخطيرة وبيع وديم ولو بنيت فعل لم تعله من ذوات الواو والياء؛ لأنه لا نظير له في الفعل كذلك بيع قال: " وأما فعل فإن الواو فيه تسكن لاجتماع الضمتين والواو " يعني: فيما كان عينه واوا كقولهم " عوان " و " عون " و " نوار " و " نور " والعوان التي بين الكبيرة والصغيرة والنوار النافرة والأصل عون ونور ولكنهم استثقلوا الضمة على الواو، وقد مضى هذا، وقد يجيء في الشعر مثقلا كما قال عدي بن زيد: وتبدو في الأكف اللامعات سور وأما فعل من الياء فإنه لا يستثقل فيه الضمة؛ لأن الياء أخف من الواو وذلك رجل غيور وقوم غير ودجاجة بيوض ودجاج بيض فإذا أجريته مجرى رسل وحمر وخففت قلت قوم غير ودجاج بيض لأن الياء قد سكنت وقبلها ضمة فكسر ما قبلها حتى تسلم الياء كما قالوا في جمع أبيض بيض. قال أبو الحسن الأخفش: لو بنيت فعلا من البياض والبيع من غير أن تجعله جمعا قلت بوض وبوع، وقد بينا مذهب الأخفش بالفرق بين الجمع والواحد. هذا باب تقلب فيه الواو ياء لا لياء قبلها ساكنة ولا لسكونها وبعدها ياء وذلك قولك حالت حيالا وقمت قياما وإنما قلبوها حيث كانت معتلة في الفعل ¬

_ (¬1) انظر الأمالي 2/ 126، تاج العروس 28/ 352، تهذيب اللغة 4/ 178.

فأرادوا أن تعتل إذا كانت قبلها كسرة وبعدها حرف يشبه الياء، فلما كان ذلك فيها مع الاعتلال لم يقروها وكان العمل من وجه واحد أخف عليهم وجسروا على ذلك الاعتلال. اعلم أن كون الألف بعد الواو يوجب لها من الإعلال ما يوجبه سقوطها ولا يجب الإعلال بكون الألف بعد الواو فقط حتى ينضم إلى ذلك كسر ما قبل الواو وبكون الواو في مصدر قد اعتل فعله أو في جمع قد سكنت الواو في واحده، فباجتماع هذه الأسباب يجب قلب الواو ياء وإعلالها وذلك قولك في المصدر الذي اعتل فعله قام قياما وحال حيالا، وفي الجمع الذي سكنت الواو في واحده حوض وحياض وسوط وسياط وثوب وثياب، فإذا صح الفعل أو تحركت الواو في الواحد لم يعتل وصحت الواو ولم تنقلب ياء كقولك قاوم قواما وجاءوا في جمع طويل طوال وربما قيل طيال تشبيها بحياض وأنشد المبرد في ذلك: تبين لي أنّ القماءة ذلّة … وأنّ أشدّ الرّجال طيالها (¬1) وإذا كان ذلك في الواحد ولم يكن مصدرا لم يعتل كقولك خوان وإذا لم يكن في الجمع ألف بعد الواو لم تعتل الواو وإن كان ما قبلهما مكسورا وكانت الواو في الواحد ساكنة كقولك كوز وكوزة وعود وعودة وزوج وزوجة والفرق بين حياض وسياط وبين عودة وزوجة أن هذه الألف هي تشبه الياء لمشاركتها إياها في المد واللين وانقلابها في أحوال، فهذه الألف وإن لم تكن في الياء فكأنها جزء من الياء بالشبه فإذا انضم إلى هذا الكسرة واعتلال الفعل أو سكون الواو وصارت الواو بما قبلها من الكسرة وما بعدها من الألف مع علة الأصل وسكونه بمنزلة واو معها ياء ساكنة فقلبت كما قلبت في سيد وميت ومن وجه آخر لما كانت الفتحة في الواو ليست بمحضة لها بل قد يجوز أن يقال أن الألف جلبتها؛ لأنها لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا أشبهت هذه الواو الساكنة التي قبلها كسرة في الهاء تنقلب ياء ومعنى قوله " وكان العمل من وجه واحد أخف ". يعني: صار الخروج من كسرة إلى ياء بعدها ألف تشاكل الياء أخف عليهم من الخروج عن كسرة إلى الواو وكان الذي جسرهم ذلك الاعتلال الذي ذكرناه. قال: " مثل ذلك سوط وسياط وثوب وثياب " يعني: مثل المصدر الذي ذكره وهو ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 29/ 386، المحكم 9/ 235، اللباب في علوم الكتاب 16/ 34.

حيال وقيام، الجمع الذي في واحدة واو ساكنة ميتة شبهوها بواو يقول " لأنها ساكنة مثلها " يعني أنهم شبهوا واو " حوض " بواو " يقول: لسكونها، فلما أعلوا مصدر هذا أعلوا جمع هذا. قال: " ألا ترى أن ذلك دعاهم إلى أنهم لا يستثقلونها في فعلات إذ كان ما أصله التحريك يسكن وصارت الكسرة بمنزلة ياء قبلها وعملت فيها الألف لشبهها بالياء كما عملت ياء يوجل في ييجل قوله لم يستثقلوها في فعلات ". يعني: أنهم في جمع جوزة ودولة يقولون جوزات ودولات فيسكنونها وهم يحركون غيرها من الحروف الصحيحة كقولهم ثمرة وثمرات وضربة وضربات وإنما لم يحركوها، لأنها من حروف العلة، وقد سكن في مثل هذا الجمع الحروف الصحيحة كقول الشاعر: فتستريح النفس من زفراتها (¬1) فإذا كان ما ليس فيه علة قد يسكن، كان حرف العلة أولى بذلك وبعض النحويين يقول العلة في تسكينهم الواو والياء في فعلات كجوزات وبيضات أنهم لو حركوها فقالوا جوزات وبيضات كما قالوا ثمرات وضربات ألزمهم قلب الواو والياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها كما قالوا دار وناب ونار وقوم من هذيل يفتحونها فيقولون جوزات وبيضات ولا يقلبونها ألفا إذا كانت الحركة عارضة في الجمع وليست بلازمة إذ قد يسكن الحرف الصحيح في هذا الجمع. وقوله: " وصارت الكسرة بمنزلة ياء قبلها " يعني: الكسرة في قيام ورياض بمنزلة الياء في ميوت وهو أصل ميت قلبت الواو ياء من أجل الياء فصارت الكسرة في قيام كالياء في بيوت. وقوله: " وعملت فيها الألف لشبهها بالياء كما عملت ياء يوجل في ييجل " يعني اجتماع الياء والألف في قيام وأصله قوام وحياض وأصله حواض كاجتماع الياء والواو في يوجل؛ لأنه قد جعل الألف كالياء لشبهها بها وتقدم الواو وتأخرها في القلب واحد ألا ترى أنك تقول لويته ليا وأصله لويا الواو قبل الياء وتقول في تصغير صعو صعي وأصله صعيو والياء قبل الواو، فلما كان كذلك كان تقدم الواو على الألف في قوام وحواض كتأخرها في يوجل. ¬

_ (¬1) تاريخ دمشق 17/ 276، تفسير الثعالبي 8/ 276، الخصائص 1/ 316.

قال: " وأما ما قد قلب في الواحد فإنه لا يثبت في الجمع إذا كان قبله الكسر؛ لأنهم قد يكرهون الواو بعد الكسرة حتى يقلبوها فيما قد تثبت في واحدة، فلما كان ذلك من كلامهم ألزموا البدل ما قلب في الواحد وذلك قولهم ديمة وديم وحيلة وحيل وقامة وقيم وتارة وتير ودار وديار " يعني: أن ما قلب من الواحد فإنه لا يثبت في الجمع إذا كان قبله الكسر، لأنهم قد يكرهون الواو بعد الكسرة حتى يقلبوها فيما تثبت في واحده، فلما كان ذلك من كلامهم ألزموا البدل ما قلب في الواحد وذلك قولهم " ديمة وديم " و " حيلة وحيل " و " قامة وقيم " و " تارة وتير " و " دار وديار " يعني أن ما قلب من الواحد أولى بالإعلال مما سكنت الواو فيه ولم تقلب فصار ما قلبت واوه في الواحد تقلب في الجميع وإن لم يكن بعدها ألف كقولهم ديمة وديم والأصل من ذوات الواو، لأنه من دام يدوم وكذلك قامة وقيم، لأنها من القوام وإذا كانت الواو ساكنة في الواحد لم تقلب في الجمع ياء بانكسار ما قبلها حتى ينضم إلى ذلك أن يكون بعدها ألف كما ذكرناه، وقد بينا أن ما كان واحده على فعل وعين الفعل منه واو ساكنة، ثم جمعت على فعلة صحت الواو كعود وعودة وزوج وزوجة وكوز وكوزة وربما شذ قالوا ثور وثورة وثيرة. قال سيبويه: " شبهوا ثيرة بديم " كأنهم شبهوا الواو الساكنة في ثور والواو المنقلبة ياء في ديمة وفيه عندي وجه آخر وهو أنهم قالوا ثيرة على فعلة كما قالوا غلمة وصبية وقنية وقالوا ثيران قال الأعشى: تراعي ثيرة رتعا (¬1) فلما كان ثيرة وثيران في معنى واحد، وقد أوجبت الضرورة قلبها في ثيرة وثيران لسكونها وانكسار ما قبلها حملوا بعض الجمع على بعض، كما حملوا الجمع على الواحد في ديمة وديم وثيرة ليس بمطرد. قال: " وإذا جمعت قيل قلت أقوال؛ لأنه ليس قبلها ما يستثقل معه من كسرة أو ياء أراد أن يبين أن قيل وأقوال ليس بمنزلة ديمة وديم ". وذلك أنه قال ديم في الجمع حملا على الواحد ولم يحمل أقوال على قيل، لأن ديم قبل الياء كسرة فحمل على الواحد الكسرة التي قبلها وليس كذلك أقوال لبطلان الكسرة ¬

_ (¬1) ديوان الأعشى 117، جمهرة اللغة 1/ 424، تاج العروس 21/ 60.

التي في قيل فأشبهت ميزان. قال: " ولو جمعت الحياكة والخيانة كما قلت رسالة ورسائل لقلت حوائك وخوائن " يعني: أنك لا تقول حيائك ولا خيائن وإن كان واحده مكسورا وليس ذلك بمنزلة ديمة وديم لأن حيائك قد انفتحت فيه الحاء فردت الواو إلى أصلها وفي ديم قد انكسرت الدال التي قبل الواو فتركت ياء كما كانت إذا كانت العلة التي من أجلها قلبت في الواحد ياء انكسار ما قبلها، والكسر موجود في الجمع وكانت الواو بعد الفتحة أخف عليهم وبعدها الألف ألا ترى أنك تقول عاود فتقلبها واوا كما قلت ميزان وموازين يعني أنك تقول عيد، ثم تقول منه عاود الألف التي قبل الواو وتقول موازين في جمع ميزان للفتحة التي قبلها. قال: " فلا يكون أسوأ حالا في الرد إلى الأصل من الساكن " يعني: حيث قلت " قيل " و " أقوال " وليس " ميزان " و " موازين " بأبعد من ردّ " قيل " إلى " أقوال ". قال: " ومما أجري مجرى حالت حيالا ونام نياما اجتزت اجتيازا وانقدت انقيادا قلبت الواو ياء حيث كانت بين كسرة وألف ولم يحذفوا كما حذفوا في الإقالة والاستعاذة، لأن ما قبل هذا المعتل لم يكن ساكنا في الأصل حرك بحركة ما بعده فيفعل ذلك بمصدره، ولكن ما قبله بمنزلة قاف " قام " ونون " نام " و " قاد " يجري مجراهما والحرف الذي قبل المعتل فيما ذكرت لك ساكن الأصل ومصدره كذلك فأجري مجراه ". يعني: كأن مصدر انفعل وافتعل يلحقه من الاعتلال ما لحق " قيام " و " حيال " وذلك أن " انقاد " وهو الفعل وأخت أواخرها وهو " قاد " و " نار " بمنزلة " قام " و " حال " فيقال " انقياد واختيار " كما يقال " قيام وحيال " قال فأما اسم اختار واختير فمعتل كما اعتل اسم " قال " و " قيل " فاسم اختار مختار وأصله مختور فكتب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذلك اسم اختير أيضا مختار وأصله مختور فقلبتها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فيصير اللفظ بهما واحدا. قال: " فأما الفعال من جاورت فتقول فيه بالأصل وذلك الجوار والحوار ومثل شيء كل شيء قد صح فعله، وقد بينا ذلك فيما مضى، وأما الفعول في نحو قلت مصدرا ومن نحو سوط جمعا فليس قبل الواو فيه كسرة فتقلبها كما تقلبها ساكنة فهم

يدعونها على الأصل كما يدعون أدؤر أو يهمزون كما يهمزونه والوجهان مطردان " يعني: أن لا تعتل ولا تقلب الواو فيه ياء وإن كان فعله معتلا أو كان جمعا واحده ساكن الواو لأن الذي كان يوجب الإعلال في ذلك الكسرة مع سائر ما ذكرناه والكسرة مفقودة في فعول فأما فعول مصدرا فغار غؤورا وسار سؤورا إذا علا على الشيء فأما فعول جمعا فحول وحؤول وخوور خؤور والخور الغامض من البحر كالنهر فيه والفعول بهذه المنزلة لا يعتل وهو أولى بالصحة من فعول أو مثله بسبب الفتحة في أوله. قال: " ولم يسكنوا فيحذفوا فيصيرا بمنزلة ما لا زيادة فيه نحو فعل وفعل لما ذكر سيبويه فعول وفعول وأنهما لا يعتلان قال عقيب ذلك ولم يسكنوا ". يعني: لم يعلوا الواو فيهما فيسكنوها؛ لأنهم لو أسكنوها اجتمعت واوان ساكنتان إحداهما عين الفعل والأخرى واو فعول وفعول وإذا اجتمع ساكنان فلا بد من حذف أحدهما فإذ حذفنا إحدى الواوين بعد التسكين يبقى فعل وفعل ومثل ذلك لو أعللنا الواو في غؤور وقؤول سكناها فإذا حذفنا إحداهما بقي عور وقول فيلتبس بناء ما فيه زيادة وما لا زيادة فيه. قال: " ولكنها تقلب ياء في فعل وذلك قولهم صيّم في صوّم وقيّم في قوّم وقيّل في قوّل ونيّم في نوّم ". يعني: ولكن الواو تقلب ياء في فعل؛ لأنه قد ذكر أنها لا تقلب في فعول، وإنما قلبت الواو في صيمّ وقيلّ تشبيها بعتي وعصي وذلك أن عتى وعصى يجب القلب فيهما وفيما جرى مجراهما، الأصل فيهما عتو وعصو ووقعت طرفا في جمع فقلبت ياء استثقالا لواو مشددة طرفا في جمع إن كان الجمع أثقل من الواحد وصوّم وقوّل قد قربت واوهما من الطرف فشبهت بواو عتو إذ كانت مشددة مثلها فإذا بعدت من الطرف لم يجز فيها هذا القلب، كقولهم صوّام وزوّار لا يجوز فيه صيّام وزيّار، لأن الألف قد صارت بين الواو وبين الطرف، وزعم بعضهم أنه قد جاء مثل ذلك وهو صيّابة تقول في صيّابة قومه أي في كثرتهم وفي أهل الشدة منهم وزعم أن الأصل فيه صوّابه، لأنه من صاب يصوب. قال: " وقد قالوا مشوب ومشيب وحور وحير وهذا النحو فشبهوه بفعل " يعني: شبهوه بصيّم في قلب الواو ياء، وقد ذكرنا قصة مشوب. قال: " وأما طويل وطوال فبمنزلة جاور وجوار " يعني أنه لا يعتل جمع طويل

لتحرك الواو في واحده كما لا يعتل مصدر جاور لصحة فعله وقد مضى هذا. قال " وأما فعلان فيجري على الأصل وفعلى نحو جولان وحيدان وصوري وصيدي ". جعلوه بالزيادة حين لحقته بمنزلة ما لا زيادة فيه مما لم يجئ على بناء الفعل نحو الحول والغير واللومة جعل سيبويه فعلان وفعلى إذا كانت عين الفعل واوا أو ياء بمنزلة ما لا يعتل وهو كلام العرب الشائع الكثير، وذلك أنهم جعلوه بهذه الزيادة خارجا عن وزن الفعل ولا حقا بما لا يعمل ولا يشبه الفعل بحول وغير ولم تكن الألف والنون في " جولان " وألفا التأنيث في " حيى وصورى " بمنزلة هاء التأنيث؛ لأن ألف التأنيث والألف والنون قد يجمع الاسم عليهما فيعتد بهما في جمعه كقولك في جمع " حبلى " " حبالى " وفي جمع سرحان سراحين وليس ذلك في هاء التأنيث وأيضا فإن هاء التأنيث تدخل على بناء التذكير فلا تغيره وألف التأنيث تدخل فتغيره كقولك سكران وسكرى وأحمر وحمرا وكذلك الألف والنون؛ لأنهما بمنزلة ما قد بني الاسم عليه. ثم قوي سيبويه ذلك بأن قال: " لما رأينا فعلان إذا كانت لام الفعل منه واوا أو ياء لا تعتل نحو النزوان وغزوان ونفيان ولام الفعل أولى بالإعلال من عينه وجب أن لا تعتل العين في هذا البناء إذا لم تعتل اللام التي هي أولى بالإعلال منها فإن قال قائل: ولم لا تعل لام الفعل في مثل نزوان ونفيان قيل له لو أعللناها سكناها فاجتمع ساكنان ألف فعلان واللام المعتلة ووجب إسقاط أحدهما فإذا أسقط بقي نزان ونفان فيشبه فعال وبعض العرب يعل فعلان الذي عينه واوا وياء فيقول داران وحادان وهامان ودالان وأصل حادان حيدان من حاد يحيد وهامان هيمان من هام يهيم وداران من داريد ورودالان من دال يدول من الدولة، وهذا شاذ قليل وكان أبو العباس المبرد يقول القياس إعلال جولان وحيدان، لأن الألف والنون عنده بمنزلة هاء التأنيث وجولان وحيدان عنده شاذ خارج عن القياس قال وفعلاء بمنزلة ذلك قالوا قوباء وخيلاء ". يعني: أن هذا يصح ولا يعتل لأن صدره فعل يشبه وزن الفعل كنوم ونوّم وكذلك فعلاء نحو السيراء أو الهاء كأول قيم وسير ودول وقام المقر على فعلاء بسبب الياء، كما قالوا بيوت وعيون بمعنى عيون وبيوت وكما قالوا في التصغير يبيت وعيينة في معنى بييت

هذا باب ما تقلب فيه الياء واوا

فكسروا استثقالا للضمة مع الياء والذي قاله ليس ببعيد لأنا لم نر اسما على فعلاء إلا ما كان عين الفعل منه ياء. هذا باب ما تقلب فيه الياء واوا " وذلك فعلى إذا كانت اسما وذلك الطّوبي والكوسي؛ لأنها لا تكون وصفا بغير ألف ولام فأجريت مجرى الأسماء التي لا تكون وصفا، وأما إذا كانت وصفا بغير ألف ولام فإنها بمنزلة فعل منها يعني بيض وذلك قولهم امرأة حيكى ويدلك على أنها فعلى أنه لا يكون فعلى صفة ومثل ذلك قسمة ضيزى القصد في هذا الباب وفيما قبله من الأبواب وفي أبواب بعده إلى ذكر أحوال عين الفعل وما يلزمها ". اعلم أنهم فرقوا بين الاسم والصفة في أبنية، فأجروا الاسم لخفته مجرى تجنبوه في النعت فمن ذلك فعلى إن كان اسما وكان عين الفعل منه ياء قلبوها واوا لانضمام ما قبلها وإن كان صفة كسروا ما قبل الياء حتى تسلم الياء، فقالوا في الاسم طوبى والأصل طيبي لأنه من الطيب وقالوا في الصفة امرأة حيكى وقسمة ضيزى والأصل حيكي وضيزي، لأنه من حاكت في مشيتها تحيك حيكانا وضيزي من ضاز يضيز وليس في الصفات فعلى فيصير حيكى وضيزى مثل بيض وأصله بيّض فإذا كان فعلى في المؤنث نظير الأفعل في المذكر كان بمنزلة الاسم وإن كان نعتا؛ لأنه لا يستعمل إلا بالألف واللام كقولك في تأنيث الأكيس، الكوسي وفي تأنيث الأجود والأبين الجودي والبوني كما قلت في تأنيث الأفضل الفضلى والأعز العزي شبهوا الاسم في قلب الياء منه واوا لانضمام ما قبلها بموسر وموقن وشبهوا الصفة في كسر ما قبل الياء ببيض وعين وكانت سلامة الياء في الصفة أولى، لأن الصفة أثقل من الاسم والياء أخف من الواو فجعل لفظ الخفيف للثقيل كما قد مضى مثل ذلك في نظائره وإذا كان الاسم أو النعت على فعلى وموضع عين الفعل منه ياء أو واو لم تتغير، لأنهما ساكنتان وقبلهما فتحة كقولك فوصى وامرأة جوعى وعيثى تأنيث عيثان وهو المفسد وامرأة غيرى. قال سيبويه عقيب ذكره الفرق بين الصفة والاسم في الكوسي والحيكي وإنما فرقوا بين الاسم والصفة في هذا كما فرقوا بين فعلى اسما وبين فعلى صفة في بنات الياء التي الياء فيهن لام وذلك قولهم شروى وتقوى في الأسماء وتقول في الصفات صديا وخزيا فلا تقلب شبه بفرقتهم بين الاسم والنعت والعين ياء في فعلى بتفرقتهم بين الاسم والنعت واللام ياء في فعلى وذلك أن فعلى إذا كانت اسما ولام الفعل منه ياء

هذا باب ما تقلب الواو فيه ياء إذا كانت متحركة والياء قبلها ساكنة أو كانت ساكنة والياء بعدها متحركة

جعلوه واوا فقالوا هذا شروي أي مثله وهو اسم وأصله ياء؛ لأنه من شريت مأخوذ لأن شريت الشيء بالشيء أي أعطيته وأخذت به وكان شروى الشيء هو الذي يشري به وتقوى اسم وأصلها ياء؛ لأنها من وقيت وإذا كان نعتا أقرت الياء على حالها كقولهم صديا وخزيا تأنيث صديان وهو العطشان وخزيان وهو المستحي من فعل فعلة النادم عليه. قال: " وصارت فعلى نظيره فعلي حيث كانت الياء ثانية " يعني: أن فعلى إذا كانت عين الفعل ياء لم تغير في اسم ولا صفة كما ذكرنا في عيثى فليس فعلى التي عينها ياء بمنزلة فعلى؛ لأن الفتح إذا كان بعده ياء ساكنة لم توجب لها قلبا ولا تغييرا. قال: " وإنما أرادوا أن تحوّل إن كانت ثانية من علة، فكان ذلك تعويضا لها من كثرة دخول الياء عليها ". قال أبو سعيد رحمه الله: كأن القياس كان عند سيبويه أن يكون فعلى اسما إذا كان ثانيه ياء أن تسلم الياء لقربها من الطرف ولم يحفل بألف التأنيث فيقال الكيسي وكيسي ولكن العرب اختارت الواو وقلب الياء إليها تعويضا من قلب الواو ياء في مواضع كثيرة، لأن دخول الياء والواو على ذلك أكثر من دخول الواو على الياء وكذلك الكلام في شروى وتقوى في باب قلب الياء والواو. هذا باب ما تقلب الواو فيه ياء إذا كانت متحركة والياء قبلها ساكنة أو كانت ساكنة والياء بعدها متحركة " وذلك لأن الواو والياء بمنزلة التي تدانت مخارجها لكثرة استعمالهم إياهما وممرها على ألسنتهم، فلما كانت الواو ليس بينها وبين الياء حاجر بعد الياء " ولا قبلها كان العمل من وجد واحد أخف عليهم وكانت الياء الغالبة في القلب لا الواو؛ لأنها أخف عليهم لشبهها بالألف وذلك قولك في فيعل سيّد وميّت. قال أبو سعيد رحمه الله: قد بينا فيما مضى أن الياء والواو إذا اجتمعتا والأولى منهما ساكنة أن الواو تقلب ياء تأخرت أو تقدمت، وإنما كان ذلك لما ذكر سيبويه أنهما بمنزلة حرفين وإن كانا متباعدين، لأنهما متشاركان في المدّ واللين وفي أشياء كثيرة فصارا باشتراكهما في هذه الأشياء بمنزلة حرفين متقاربي المخرج مثل التاء والدال والذال، فلما كان الحرفان المتقاربان إذا اجتمعا جاز إدغامهما أو وجب إدغامهما كان ذلك في الياء

والواو أوجب، وله ألزم والذي أدغم من الحرفين المتقاربين كقولك أذكروا أصله ذال وتاء صيرت التاء دالا فصارت ذالا ودالا وكقولك مضت وعد وصارت الياء أولى وقلب الواو إليها أوجب لما ذكرناه من تمكن موضعها من اللسان وتوسطه، ولخفة الياء وشبهها بالألف فأصل سيد وميت سيود وميوت، لأنه من ساد يسود ومن الموت وزعم الفراء أن سيد وميت فعيل اعتلت عين الفعل منه في مات يموت وصان يصون، فقدم وأخّر وقلبت الواو ياء وأنه ليس في الكلام فيعل الذي تعتل عينه إنما يجيء على هذا الوزن وأن طويل شاذ لم يجئ على قياس طال يطول وكان ينبغي إذا جاء على طال يطول أن يقال طيل كما قيل سيد وصيت وإذا لم يكن على فعل معتل صح كقولك سويق وعويل وحويل والذي قاله سيبويه أولى، لأن الظاهر من وزن البناء هو فعل فيعل وقد خصوا فيما ذكر سيبويه المعتل بأبنية لم يجعلوها لغيره فمنها فعيل كسيد وميت ولغير المعتل فيعل كصيقل وحيدر، ومنها فعلة جمع فاعل كقاض وقضاة وغاز وغزاة وفي غير المعتل تكون على فعلة نحو كاتبه وكتبة وبار وبررة، ومنها فيعولة نحو كينونة وقيدودة الأصل كينونة وقيدودة وذكر الفراء أن هذه الأبنية كأبنية الصحيح كما ذكرناه وأصل قضاة عنده فعل كشاهد وشهد وجاثم وجثم فكان أصل قضاة قضي كما تقول غاز وغزي واستثقلوا التشديد على عين الفعل فخففوا وعوضوا من الحرف الذي حذفوه كما قالوا عدة فعوضوا هاء من الواو المحذوفة، وأما كينونة فالأصل فيه عند الفراء كونونة على فعلولة مثل بهلول وصندوق ثم فتحوه؛ لأن أكثر ما يجيء من هذه المصادر ومصادر ذوات الياء كقولهم صار صيرورة وسار سيرورة ففتحوه حتى تسلم الياء، لأن الباب للياء، ثم حملوا ذوات الواو على ذوات الياء فقلبوا الواو ياء في نحو كينونة وقيدودة والقول في ذلك كله ما قاله سيبويه. قال أبو سعيد رحمه الله: أما فيعل كسيد فقد ذكرناه ونقوي ذلك بأن نقول إن كان أصل سيد سويد على فعيل قالوا وفيه إما أن تكون في موضعها أو قد أخرت فإن كانت الواو في موضعها فينبغي إذ خففت في سيد وميت أن تردها إلى الواو فتقول سود وموت كما نقول أموات، لأن الذي حذفناه هو الحرف الثاني وإن كانت الواو قد قدمت عليها ياء فعيل وأخرت هي فقد تفرد المعتل بهذا التقديم الذي لا يوجد مثله في الصحيح، لأن ياء فعيل لا تقدم على عينه في شيء من الصحيح فإذا جاز أن يختص المعتل من التقديم والتأخير بما لا يوجد مثله في الصحيح جاز أن يخص ببناء لا يوجد مثله في الصحيح وأما كينونة فهي عند سيبويه فيعلولة والأصل كينونة ولكنهم خففوها كما خففوا سيد وميت كما أن التخفيف والتشديد في سيد وميت جائزان وفي كينونة يجب التخفيف لكثرة

حروفه وذلك أن نهاية الاسم أن يكون على سبعة أحرف بالزيادة وهي على ستة أحرف، وقد لزمتها هاء التأنيث وقد يخففون منها لكثرة حروفها كقولهم في اشهيباب اشهباب، فلما جاز التخفيف فيما قلّت حروفه وهو سيد لزم التخفيف فيما كثرت حروفه وهو كينونة ولو كانت فعلولة قودودة وكونونة وأما قول القائل أنهم غلبوا الياء على الواو، لأن الباب للياء فليس شيء، لأن المصادر على هذا الوزن قليلة وما جاء منها فذوات الواو منه قريبة في العدد من ذوات الياء أو مثلها كقولك كينونة وقيدودة وحال حيلولة، واستدل على أنه ليس بفيعل أعني سيد وميت أنه لو كان فيعل لوجب أن يقال سيد وميت كما قالوا تيحان وهيبان فالتيحان فيعلان ومعناه الذي يعترض في كل شيء والهيبان الجبان الذي يهاب كل شيء، وقد شكر سيبويه أن قوما قالوا سيد فيعل وأنه كسر عين الفعل كما قالوا في بصري بصري وكما قالوا في أموي أموي وقالوا أخت والأصل الفتح لأن أصلها أخوة، وقد مضى هذا مفسرا وإنما قال هذا القائل أن وزنه فيعل؛ لأنه وجد فيعلا في الكلام ولم يجد فيعل فجعله فيعلا، ثم جعل الكسر تغييرا كما غير في بصري في النسبة إلى البصرة وفي النسبة إلى دهر دهري إذا أردت أنه قد أتى عليه الدهر وهو مسن فإذا نسبته إلى القول بالدهر قلت دهري، وقد جاء في بعض هذا المعتل فيعل قال الشاعر: ما بال عيني كالشعيب العيّن (¬1) قال: " فإنما يحمل هذا على الاطراد حيث تركوها مفتوحة فيما ذكرت لك ووجدت بناء في المعتل لم يكن في غيره ولا نحمله على الشاذ الذي لا يطرد، وقد وجدت سبيلا إلى أن يكون فيعلا " يعني: أن هذا البناء إنما يحمل على فيعل؛ لأنه المطرد في الباب ولو كان فيعل لترك على الفتح فقيل في سيّد سيد كما قيل عين، ثم قوي حمل سيد على فيعل أنهم قد وجدوا في المعتل بناء ليس مثله في الصحيح. قوله " ولا نحمله على الشاذ الذي لا يطرد " يعني: لا يحمل على فيعل مثل عين وأنت تجد سبيلا إلى أن تجعله فيعلا على لفظه. قال: " وأما قولهم ميت وهين ولين فإنهم يحذفون العين كما يحذفون الهمزة من هاير لاستثقالهم الياءات كذلك حذفوها في كينونة وقيدودة ". ¬

_ (¬1) الإنصاف 2/ 801، تاج العروس 35/ 456، جمهرة اللغة 2/ 956.

يعني: أنهم حذفوا عين الفعل من سيد وكان أصله سيود وعين الفعل منه واو ومن ميت فبقي ميت استثقالا لياءين وكسرة وكان هذا الحذف لازما في كينونة لما ذكرناه وشبه سيبويه حذف عين الفعل من ميت وهين بحذفهم الهمزة من هاير وهي أيضا عين الفعل استثقالا للكسرة على همزة هاير ويجوز لقائل أن يقول أنهارا إنما الأصل فيه هار يهور، وعين الفعل وقعت ساكنة معتلة في هار يهور فإذا جاؤوا باسم الفاعل وقعت عين الفعل ساكنة في أسماء الفاعل كما كانت ساكنة، فاجتمع ساكنان فحذفوا أحدهما لاجتماع الساكنين قال عقب حذف العين من كينونة وقيدودة لما كانوا يحذفونها في العدد الأقل ألزموهن الحذف إذ كثر عددهن وبلغن الغاية في العدد حرفا واحدا وإنما أرادوا بهن مثال عيضموز يعني ألزموا كينونة الحذف؛ لأنها على ستة أحرف والغاية في العدد سبعة أحرف مع الزيادة فكينونة مثل الغاية إلا حرفا واحدا. وقوله " إنما أرادوا بهن مثل عيضموز " يعني: في عدة الحروف وزيادة الياء ثانية. قال: " وإذا أردت فيعل من قلت قيّل فلو كان يغير شيء من الحركة باطراد لغيروا الحركة ها هنا فهذه تقوية؛ لأن يحمل سيد على فيعل إذ كانت الكسرة مطردة كثيرة وبنات الياء وبنات الواو وسواء " يعني: أنا لو بنينا فاعل من القول لوجب أن نقول قيل وذلك أنا نزيد ياء فيعل فيصير قيول فتقلب الواو ياء لسكون الياء التي قبلها وتدغم. ومعنى قوله " ولو كان يغير شيء من الحركة باطراد لغيروا الحركة ". هاهنا يريد لو كان فيعل من ذوات الواو والياء يوجب الكسر كما زعم من حكى عنه سيبويه في سيد وميت؛ أنه فيعل لوجب أن يقال قيّل ولاطردن لك وبنات الياء والواو سواء في فيعل فبنات الواو كسيد وصيت وبنات الياء كلين ودين. قال: " ومما قلبوا الواو فيه ياء ديّار وقيّام وإنما كان الحد قيوام وديوار وقالوا قيّوم وديّور إنما الأصل قيووم وديوور، لأنهما بنيا على فيعال وفيعول ولو كان ديار على فعال لوجب أن يقال قووم؛ لأن عين الفعل واو قال وأما فعيل مثل حذيم فبمنزلة فيعل إلا أنك تكسر أول حرف فيه " يعني: أنه يستوي لفظ فيعل وفعيل مما عينه واو أو ياء إلا في كسر أوله فمن ذلك أنا لو بنينا فعيل من قام لوجب أن تقول قيّم والأصل قويم

فاجتمعت الواو والياء والأولى منهما ساكنة، فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء فيها وفيعل من القول تقول فيه قيّل على ما بينا فليس بينهما فرق إلا في كسر أوله وفتحه قال وأما زيّلت ففعّلت من زايلت، وإنما زايلت بارحت والدليل على ذلك قولك في المصدر تزييلا كما تقول كسرت تكسيرا وإنما صارت ياء؛ لأنها من زاله يزيل إذا فرّقه وزايلته أي بارحته فقد تبين أنه من الياء ولو كان من زال يزول لوجب أن يقال زوّلت تزويلا كما تقول قوّمت تقويما قال ولو كان زيّلت فيعلت لقلت في المصدر زيله ولم تقل تزييلا في الأصل فقال لو كان زيولت في الأصل لوجب أن يكون مصدره زيولة ينقل إلى زيلة، فلما لم يقل زيلة وقيل تزييل علمنا أنه ليس فيعلت. قال: " وأما تحيزت فتفيعلت من حزت والتحيّز تفعيل " وإنما علمنا أن تحيزت تفيعلت لأنه لو تفعلت لوجب أن يقال تحوزت إن كان من حاز يحوز من الواو لكان المصدر تحوزا قال وأما صيود وطويل وما أشبه ذلك فإنما منعهم أن يقلبوا الواو فيهن ياء إن الحرف الأول المتحرك فلم يكن ليكون إدغام إلا بسكون الأول ألا ترى أن الحرفين إذا تقارب موضعهما فتحركا أو تحرك الأول وسكن الآخر لم يدغموا نحو قولهم وتد ووتد فعل ولم يجيزوا ودّه على هذه فيجعلوه بمنزلة مدّ لأن الحرفين ليسا من موضع تضعيف فهم في الواو والياء أجدر أن لا يفعلوا ذلك ولم يجيزوا يدو أول هذا الفصل بيّن من كلام سيبويه فأما قوله فلم يجيزوا ودّه فإنه يعني لم يجيزوا إدغام الدال في التاء في وتد فعل ماض فيقولون ودّه لأن الحركة تمنع الإدغام ولم يجيزوا يد في يتد محركة التاء، ولأنهم لو فعلوا ذلك لجمعوا على الحرف علتين إحداهما حذف الواو وهي فاء الفعل كما حذفوها من يعد ويزن وما أشبهه والأحرى التسكين والإدغام، وجعل سيبويه اجتماع الواو والياء بمنزلة الحرفين المتقاربي المخرج، فلما لم يدغم الحرفان المتقاربان المخرج نحو وتد ويتد لم تدغم أيضا الواو والياء إحداهما في الأخرى لتحرك الأولى منهما كما ذكر في صيود وطويل، ولأنه فيما ذكر أن الواو والياء مشبهتان بحرفين متقاربي المخرج، فإذا كان ما تقارب مخرجه لا يدغم إذا ترك الأول فكذلك الياء والواو إذا تحركت الأولى منهما وإذا كان الحرفان من جنس واحد والأول منهما متحرك جاز أن يدغم نحو مد ومد، لأن الحرفين إذا كانا من موضع واحد اختاروا أن يرفعوا اللسان رفعة واحدة فأدغموا وإن كان الحرفان من موضعين لم يرفعوا اللسان بهما رفعة واحدة، فتركوا كل واحد منهما على أصله.

قال: " وفوعل من بعت بيّع وتقلب الواو كما قلبتها وهي عين في فيعل وفيعل من قلت وإنما قلت بيع " لأن الأصل بويع فقلبت الواو ياء لتقدمها الياء وسكونها نحو لويته ليا والأصل لويا، وقد مضى نحو هذا وكذلك فعيل من بعت وفعول تقول بيّع وبيّع؛ لأن أصله بيوع قلبت الياء واوا قال: " وسألت الخليل عن سوير وبويع ما منعهم أن يقلبوا الواو ياء فقال؛ لأن هذه الواو ليست بلازمة ولا بأصل وإنما صارت بالضمة حيث قلت فوعل ألا ترى أنك تقول سابر وساير فلا تكون فيهما الواو، وكذلك تفوعل نحو تبويع؛ لأن الواو ليست بلازمة وإنما الأصل الألف ومثل ذلك قولهم روية ورويا ونويّ لم يقلبوها ياء حيث تركوا الهمزة؛ لأن الأصل ليس بالواو فهي في سوير أجدر أن يدعوها؛ لأن الواو تفارقها إذا تركت فوعّل وهي في هذه الأشياء لا تفارق إذا تركت الهمزة ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد ذكرنا أن الواو والياء إذا اجتمعا والأولى منهما ساكنة أن الواو تقلب ياء وتدغم، وقد رأينا الياء والواو قد اجتمعتا في سويد والأولى منهما ساكنة فلم تقلب الواو ولم تدغم والسبب في ذلك أن هذه الواو لا تثبت واوا إنما هي ألف ساير في الأصل، فلما جعل الفعل لما لم يسم فاعله لم يكن بد من ضم أوله علامة لما لم يسم فاعله فضمت السين من ساير، فصارت الألف واوا اتباعا فجعلت على حكم الألف مدة، ولم تدغم في الياء كما لم تدغم الألف في الياء وكذلك تفوعل نحو تبويع، والأصل تبايع فلما لم يسم فاعله ضم أوله وثانيه علامة لما لم يسم فاعله كما قيل تدحرج، فلما ضممت الحرف الثاني انقلبت الألف واوا كما كان ذلك في سوير وصارت الواو في تبويع كالألف في تبايع ومثل ذلك رؤية ونوى إذا خففت الهمزة صارت واوا لسكونهما وانضمام ما قبلهما، ثم لا تقلب ياء للياء التي قبلها لأنها همزة قد خففت فالنية فيه نية الهمزة وكذلك سوير لما كانت النية في الواو منها نية الألف ثم تقلب ياء. قال: " وهي في سوير أولى أن لا تقلب لأن الواو تفارقها في ساير ورؤية ورؤيا ونوى تجوز الواو فيهن في كل حال ". قال: " وبعضهم يقول ريا ورية فجعلها بمنزلة الواو التي ليست ببدل من شيء ولا يكون في سوير وتبويع " يعني: أن روية إذا خففت الهمزة منها يجوز قلبها فيقال رية وقد قالته العرب تعل سوير إلا بالواو لان هذه الواو هي الألف التي في ساير، ولأن لا شبه

هذا باب ما يجري فيه بعض ما ذكرنا إذا كسر للجمع على الأصل

فعل نحو سير وبيع مثل سوير وتبويع والواو بمنزلته ولم تهمز في عواور لأنها بمنزلة واو بعدها ياء. هذا باب ما يجري فيه بعض ما ذكرنا إذا كسر للجمع على الأصل فمن ذلك فيعال نحو ديار وقيام وديّور وقيّوم تقول دياوير ومثله عوّار وعواوير ولا يهمز هذا لبعده من الطرف وقد ذكرناه. قال: " وإنما خالفت الحروف الأول هذه الحروف لأن كل شيء من الأول همز على اعتلال فعله أو واحده فإنما شبه حيث قرب من آخر الحروف بالياء والواو اللتين يكونان لامين إذا وقعتا بعد الألف ولا شئ بعدهما نحو سقاء وقضاء فجعلت الواوات والياءات هنا كأنهن أواخر الحروف كما جعلت الواوان في صيم كأنهما أواخر الحروف " يعني: أن دياوير وعواوير خالفت سيايد واوايل وسائر ما تضمنه الباب الذي قبل هذا وإن الذي يهمز لاجتماع الواوين أو الياءين أو الياء والواو إنما يحمل على اعتلال واحد كسيايد حملا على سيد أو على اعتلال فعله كقوايل حملا على قايلة إذا كان قريبا من الطرف تشبيها بالطرف والطرف سقاء وقضاء وجعل ما قبل الطرف كالطرف كما جعل صيّم كعتيّ. قال: " وإذا فصلت بينهن وبين أواخر الحروف بحرف جرين على الأصل ". يعني في طواويس ودياوير كما تقول الشقاوة والغواية فتخرجهما على الأصل يعني أنك تقول الشقا والأصل شقاو وقعت الواو طرفا فلم يجز غير إعلالها وهمزها فان قلت شقاوة، فصارت الهاء في الطرف وصارت الهاء هي الطرف ووقع الإعراب عليها جاز أن لا تعل. قال: " فإذا كان هذا النحو هكذا فالمعتل الذي هو أقوى وقد منعه أن يكون آخر الحروف حرفان أقرب إلى البيان والأصل له ألزم " يعني: أنه لما كانت شقاوة قد صحت حيث صار الطرف غيرها والواو فيها لام الفعل فالمعتل الأقوى هو عين الفعل أولى بالتصحيح إذا بعد من الطرف، وكان الأصل له ألزم وذلك نحو عواوير ودياوير. قال: " ومثل هذا قولهم زوّار وصوّام لما بعدت من آخر الكلمة قويت كما قويت الواو في اخوّة وابوّة حيث لم يكونا أواخر الحرفين فالبيان أولى والأصل في

هذا باب فعل من فوعلت من قلت وفيعلت من بعت

الصّوّام يجب أن يكون ألزم وأثبت لأنه أقوى المعتلين " يعني: أن اخوة وابوة إذا كانا جمعا لأخ وأب مثل عمومة وخؤولة جمعا لخال وعم لولا الهاء فيهما لكان الوجه فيهما أخي وأبي مثل عني وجني، ولكن لما وقع الإعراب على الهاء صارت الهاء هي الطرف فلم تقلب الواو فصار لزوم الواو في صوام وزوار يجب إذا كانت الواو في صوام عين الفعل، وعين الفعل أقوى من اللام ومع ذلك فهو أبعد من الطرف واخوة وابوة قد يكونان مصدرين كقولك أخ بيّن الأخوة وأب بيّن الأبوة وقد يكونان جمعين كقولك أب وأبوّة وأخ وأخوّة كقولك عمّ وعمومة وخال وخؤولة والذي قصده سيبويه الجمع ومتى كان على فعول وفي آخره واو مشددة فالوجه قلب الواو ياء متي كان طرفا كما ذكرنا في عتىّ وجنى فلما وقعت بعد الواو هاء في أخوة وأبوة وصار الإعراب على الهاء زال عن الطرف فقوي فلم يقلب فإذا كان بعده قد صح ولم يقلب ياء لوقوع الهاء طرفا بعد الواو والواو لام الفعل فالصوام أولى بالتصحيح لبعد الواو عن الطرف لأنها عين الفعل وعين الفعل أولى بالصحة من لامه وأقوى. هذا باب فعل من فوعلت من قلت وفيعلت من بعت " وذلك قولهم قد قوول وبويع في فيعلت وفوعلت فمددت كما مددت في فاعلت وإنما وافق فوعلت وفيعلت فاعلت ها هنا كما اتفقن في غير المعتل ألا ترى أنك تقول بيطرت فتقول بوطر " قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الأصل في مد ما لم يسم فاعله وترك إدغامه لما كان على فاعل أو تفاعل كقولك فيما لم يسم فاعله من بايع وتبايع وقاول وتقاول بويع وتبويع وقوول تقول وكان ترك الإدغام لازما فيه، لأن الواو الأولى منقلبة من ألف وقد بينا ذلك فيما مضى، ثم عرض بعد ذلك ما يجري مجرى فاعل ثلاثة أبنية وهي فيعل وفوعل وفعول ويجب فيما لم يسم فاعله منهن من ترك الإدغام والمد مثل ما وجب في باب فاعل فأما فيعل وفوعل فقد رأينا الصحيح يجب فيه ضرورة مثل ما يجب في فاعل وذلك نحو يبطر وصومع إذا لم يسم فاعله احتجت إلى ضم أوله علامة لما لم يسم فاعله فإذا ضممت أول بيطر وقعت الواو ساكنة بعد الياء وهي مضمومة فيجب قلبها واوا فيصير بوطر على لفظ قوتل وموحل اللذين هما من قاتل وماحل فإذا صار ما لم يسمّ فاعله من بيطر بمنزلة ما لم يسم فاعله من قاتل لاستوى حكم فيعل وفاعل فيما لم يسم فاعله من المعتل، وكذلك تفعيل وتفوعل وتنوعل بمنزلة

تفاعل وذلك إنك إذا قلت تقيهق الحوض ثم جعلته لما لم يسم فاعله ضممت التاء والحرف الذي بعده وهو الفاء والياء ساكنة بعد الفاء وقبلها ضمة فانقلبت واوا فصارت تفوهق فأشبه تعولج وتموحل فمن ذلك إنا لو رأينا من القول فيعل وجب أن نقول قيل والأصل قيول فاجتمع الواو والياء والأول منهما ساكن، فإذا جعلت لما لم يسم فاعله قلت قوول مثل بوطر وكذلك لو بنيت منه فعول لقلت قول فإذا بنيت منه لما لم يسم فاعله قلت قوول قالوا والأولى عين الفعل والثانية زائدة فإذا بنيت من البيع فيعل قلت بيّع، فإذا جعلته لما لم يسم فاعله قلته بويع قالوا وبدل من ياء فيعل والياء عين الفعل ولم تدغمه لما ذكرنا أن ما لم يسم فاعله من فيعل وفاعل واحد ولذلك لو بنينا منه فوعل لقلنا بيع والأصل بويع فإذا جعلناه لما لم يسم فاعله قلنا بويع ولو كان شئ من هذا على فعل أو يفعل ما كان إلا مدغما على كل حال ولا يجوز فيه إلا ترك الإدغام وذلك قولك في فعل من " قال " " قول " ومن " باع " " بيع " وتفعل منهما " تقول " و " تبيع " وإذا جعلته لما لم يسم فاعله قلت قول وتقول وبيع وتبيع وإنما كان كذلك، لأن العينين من الفعل إذا اجتمعتا لم تفارق إحداهما الأخرى ولا تكون إلا مدغمة في جميع الكلام صحيحة ومعتلة. فان قال قائل: قد بان بما ذكرت مساواة ما لم يسم فاعله من فيعل وفوعل لفاعل ومساواة تفعيل وتفوعل لتفاعل فلم جعلتم فعول بمنزلة فاعل بما لم يسم فاعله، ونحن لا نجد صحيح به كصحيح فاعل كما وجدنا صحيح فعل كصحيح فاعل ألا ترى آنا نقول بيطر الرجل وحوقل، ثم تقول بوطر وحوقل كما تقول قاتل وقوتل فيستويان في اللفظ، ثم تقول جهور الرجل وفيما لم يسم فاعله جهور فلا يكون مساويا لقوتل فما الذي أوجب حمل فعول على فوعل وفيعل فيما لم يسم فاعله. قيل له إنما وجب حمل فعول على فيعل وفعول وترك الإدغام فيما لم يسم فاعله أن الواو الزائدة منه مباينة لعين الفعل كمباينة واو فوعل وياء فيعل وإنما وجب الإدغام فيما سمي فاعله لتشاكل الحرفين في اللفظ وزوال المد كما وجب في فوعل من قال وفيعل من باع، فإذا جعلته لما لم يسم فاعله وجئت بالضم وجب المد فتباين الحرفان كتباين قوول وبويع وليس بين فعوعل وفوعل فرق إلا بتقديم الواو الزائدة وتأخيرها والحكم فيهما واحد وأما فيعلت فليس في الكلام وربما وقع في بعض النسخ غلط في موضع فيعلت فلا تلتفتن إليه. قال: " وتقول في افعوعلت من سرت اسييّرت تقلب الواو ياء لأنها ساكنة بعدها ياء " يعني: أن أمثلة اسيويرت لأنك تأتي بالواو الزائدة فتجعلها بين ياءين وهما عينا الفعل

كما كانت في افعوعل مكررة ثم تقلب الواو ياء لسكونها وكون الياء بعدها فإذا قلت فعلت منه قلت اسيويرت ولم تقل اسييرت، لأنك لما ضممت ما قبل هذه الواو وعلامة لما لم يسم فاعله مددت الواو كما فعلت ذلك بفيعل مما لم يسم فاعله ألا ترى أن هذه الواو تصير مدة في الصحيح كقولك اغدودن كما قلت في صحيح بيطر بوطر. قال: " وإنما اسيوير فيما لم يسم فاعله لأن هذه الواو تقع وليست بعدها ياء " يعني أن الياء التي وقعت قبلها الواو الزائدة قد يقع في موقعها حرف آخر فيمد نحو اغدودن فإذا وقعت الياء لم تذهب المدة وإنما ادغم فيما سمي فاعله لزوال المد فإذا بنيت من قال افعوعل قلت على قول سيبويه اقوول وكان الأخفش يقول أقويل كراهة لاجتماع الواوات فتقلب الواو الطرف فتصير اقوويل، ثم تقلب الواو الساكنة الزائدة ياء لسكونها وكون ياء بعدها ولم يكن سيبويه يحفل باجتماع الواوات لأنه يجتمع في حشو الاسم من الواوات ما لا يجوز مثله في الطرفين ألا ترى أنهم قالوا غرت غؤورا وسرت سؤورا فجمعوا بين ضمتين وواوين، والضمات كالواو فكأنها ثلاث واوات وليس مثله في الطرفين فإذا بنيت منه ما لم يسم فاعله قلت على القولين أقوول للمد الذي فيه وإنما جاز على قول الأخفش لاجتماع ثلاث واوات من قبل أن الواو الوسطى منها بمنزلة ألف ألا ترى أنك تقول ووري فلا يلزمك قلب الواو همزة لاجتماع الواوين في أول الكلمة من قبل أن الواو الثانية مدة، فهي بمنزلة الألف في وارى ولا يكون سبيلها سبيل واوين يجتمعان في أول الكلمة وليس فيهما مد كتصغير واصل وجمع واصلة لأنك تقول اويصل والأصل وويصل فتقلب الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين وكذلك جمع واصلة أواصل والأصل وواصل فقلبت الواو الأولى همزة. قال: " وسألته عن اليوم يعني الخليل عن اليوم ". فقال: " كأنه من يمت وإن لم يستعملوا هذا في كلامهم كراهة أن يجمعوا بين هذا المعتل وياء تدخلها الضمة في فعل كراهية أن يجتمع في يفعل ياءان في إحداهما ضمة مع المعتل فلما كانوا يستثقلون الواو وحدها في الفعل رفضوها في هذا لما يلزمهم من الاستثقال في تصرف الفعل ومما جاء على فعل لا يتكلم به كراهية نحو ما ذكر أول والواو وآأة وويح وويس وويل بمنزلة اليوم كأنها من ولت ووحت واوت وإن لم يتكلم بها تقديرها ععت من قولك آأة لما يجتمع فيه مما يستثقلون فان قال قائل ما معنى قوله كأنه من يمت وما الذي أحوج إلى أن ترده إلى الفعل والأسماء أصول والأفعال فروع وهذا الذي يتردد في مواضع من الكتاب قيل له لم يرد أن يوم مأخوذ من يمت، وإن كان لا

يتكلم به وإنما أراد أن لو بني من يوم فعل لقيل يمت وإن كان لا يبنى منه ألا ترى أن سيبويه والخليل قد أجاز أن يبنى الفعل من كل اسم يورد السائل حتى لو قال ابن لي من عمر ومثل ضرب يضرب لقيل عمر يعمر، وإن قال ابن لي من جعفر مثل دحرج يدحرج قلت جعفر يجعفر فلا يمتنع بناء الأفعال من جميع الأسماء التي لها نظائر فإذا قال ابن لي من يوم فعل يفعل كان ممتنعا، لأنه ليس في شيء من الأفعال ما عينه وفاؤه من حروف العلة وإنما يقدح ذلك في الأسماء التي لا يتصرف منها فعل نحو ويح وويس وويل وأول من هذا الباب يزن أول أفعل ففاء الفعل وعينه واوان وكذلك الفعل لا يبنى من آأة وهي بنت لأن عين الفعل واو وفاؤه ولامه همزتان ولو بني من شيء من هذا فعل لزمه ما يستثقل مع الإعلال فمن ذلك أنه لو بني مثل قال يقول من يوم وجب أن يقال يام ييوم فيجتمع ياءان في إحداهما ضمة مع الاعتلال الذي قد لزم في تسكين عين الفعل وكذلك في ويح وويس مثل باع يبيع واح ييوح، والأصل ويح يويح فيجب حذف الواو التي هي فاء الفعل لدخولها في باب وعد يعد ويجب إعلال الياء التي هي عين الفعل لدخولها في باب باع يبيع فيلحقه إعلالان من جهتين فان قال قائل فقد بني الفعل مما فاؤه ولامه من حروف العلة كقولهم وفى يفي ووقى يقي قيل له لا يشبه وقى يقي ما ذكرناه لأن الذي ذكرناه تتوالى الياء والواو منه في موضع واحد فإذا اجتمع مع ذلك ضم أو كسر أو زيادة إعلال ثقل فاطرح ووفى قد فصل بين حرف العلة منه عين الفعل وقد تفتح في النصب ياوه حتى تخرج من الإعلال كقولك لن يفي ولن يشي وقد صنع بعض النحويين في مثل ويح وويس شعرا في فعل مصرف منه ولا أصل له في كلام العرب كبيت أنشدنيه بعضهم آخره: فما واح ولا واش أبو عمرو فلا تلتفتن إليه فانه مصنوع وأما آأة فلو بني منه فعل يلزمه تغيير بعد تغيير، لأنه يلزمه في الماضي آأة يؤوه إن كانت ألفه منقلبة من واو فان كانت منقلبة من ياء قلت يبنى فإذا كان الفعل للمتكلم قلت أويت وتقلب الهمزة التي هي لام الفعل واوا أو ياء لاجتماع الهمزتين، لأنه لما سقط عين الفعل اجتمعت همزتان وهما فاء الفعل ولامه فيجتمع فيه إعلال بعد إعلال قال وسألته كيف ينبغي له أن يقول أفعلت في القياس من اليوم على من قال اطولت واجودت فقال أيّمت فتقلب الواو هاهنا كما قلبتها في أيام وفي كل موضع تصح فيه ياء أيقنت فإذا قلت افعل ومفعل ويفعل قلت اووم

هذا باب تقلب فيه الياء واوا

ويووم ومووم لأن الياء لا يلزمها أن تكون بعدها ياء كفعّلت من بعت وقد تقع وحدها فكما أجريت فيعلت وفوعلت مجرى بيطرت وصومعت كذلك جرى هذا مجرى أيقنت " يعني أنك إذا بنيت منه أفعل أعني من يوم فيصير مثل فيعل من قمت وهو قيوم وتنقلب الواو فيه فتكون ياء فيقال يسم وكذلك من أيوم أيّم فإذا بنيت الفعل لما لم يسم فاعله أو لما يجب فيه ضم أوله انقلبت الياء التي هي فاء الفعل من يوم واوا وصارت مدة وبطل الإدغام كما بطل في قوول إذا كانت لفيعل أو فوعل من القول فيما لم يسم فاعله من القول وكذلك إذا كانت مفعل أو يفعل قلت يؤوم ومروم لضم أوله وصار الكلام فيه كالكلام فيما لم يسم فاعله. وإنما قال سيبويه: " أفعلت في القياس من اليوم على من قال أطولت وأجودت " يعني: إذا بني من اليوم افعل على قول من لم يعل وأما من أعل فقال أجاد وأطال فانه لا يبنى أفعل من اليوم لأنه يلزمه أن يقول فيما سمي فاعله أيام ييم وفيما لم يسم فاعله اييم ييام فيلزمه بعد الإعلال ضم الياء وكسرها فلم يبنوا منه أفعل على الإعلال كما لم يبنوا منه أفعل وإذا قلت أفعل من اليوم قلت أيّم كما قلت أيام والأصل أيوم وأيوام وإنما جاز أن تبنى منه أفعل اسما، لأن أفعل يصح في الاسم فإذا كسرت على الجميع همزت فقلت أيايم، لأنها اعتلت ها هنا كما اعتلت في سيد والياء قد تستثقل مع الواو يعني أنك إذا جمعت أيم الذي هو أفعل من يوم قلت أيايم فهمزت لوقوع ألف الجمع بين ياء وواو كما همزت في سيد إذا جمعت فقلت سيايد وأصله سياود وقد مضي هذا. قال: " فكما أجري سيد مجرى فوعل من قلت كذلك يجري هذا مجرى أول " يعني: أن فوعل من قلت لو جمعته يجري مجرى أول فقلت قوايل كما قلت أوايل والأصل قواول وأواول فلما جرى فوعل مجرى أفعل كذلك جرى أيم وهو أفعل مجرى سيد وهو فيعل، لأن أصل أيم ياء وواو كما أن أصل سيد كذلك ثم ذكرا فعوعلت من قلت وما لم يسم فاعله منه وقد بيناه فيما تقدم. هذا باب تقلب فيه الياء واوا وذلك قولك في فعلل من كلت كولل وفعلل إذا أردت الفعل كولل ولم تجعل هذه الأشياء بمنزلة بيض وبيع حيث خرجت إلى مثالها لبعدها من هذا وصارت على أربعة أحرف وكان الاسم منها لا تحرك ياؤه ما دام على هذه العدة وكان الفعل ليس أصل يائه

هذا باب ما الهمزة فيه في موضع اللام من بنات الياء والواو

التحريك، فلما كان هذا هكذا جرى فعله في فعل مجرى بوطر من البيطرة وأيقن يوقن وأوقن والاسم يجري مجرى موقن سمعنا من العرب من يقول تعيّطت الناقة وقال .. مظاهرة نيا عتيقا وعوططا … فقد احكما خلقا لها متباينا (¬1) العوطط: فعلل يعني إن بني من الكيل فعلل أو فعلل قلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها وبعدها من الطرف، لأن هذه الياء لا تكون في تعاريف هذا البناء إلا ساكنة ألا ترى أنك إذا قلت فعلل قلت في مستقبله يفعلل وفي اسم الفاعل مفعلل فتجد العين منه ساكنة في جميع هذه الأحوال، ولا يشبه فعلل وفعلل من الكيل بيض وبيع وذلك أن بيض جمع أبيض والياء قريبة من الطرف وبيع فعل بتحريك العين منه وهو أيضا قريب من الطرف فلما كانت الياء في فعلل، وهي عين الفعل لا تحرك في تصاريفه أشبه ياء بيطر وأيقن فلما قلت فيما لم يسم فاعله وفيما انضم أوله بوطر وأوقن وجب أن يقال كولل، وأما العوطط الذي ذكره سيبويه أنه من الياء وهو اعطياط رحم الناقة والأتان، واعطباطها حبالها وهو أن لا تحمل ويقال للناقة أو الأتان إذا كانت كذلك عايط قال أبو ذؤيب: فرمى فانفذ من نحوص عايط … سهما فخر وريشه متصمع (¬2) قال أبو عبيد: يجمع عايط عيط وعوط فمن قال عيط فهو كما قال سيبويه وهي بمنزلة بيض، ومن قال عوط جعلها من الواو بمنزلة سود وحينئذ لا يكون لسيبويه حجة في عوطط في الاستشهاد على كولل من الكيل. هذا باب ما الهمزة فيه في موضع اللام من بنات الياء والواو " وذلك نحو ساء يسوء وداء يداه وجاء يجيء وشاء يشاء اعلم أن الواو والياء لا يعلان واللام ياء أو واو لأنهم إذا فعلوا ذلك صاروا إلى ما يستثقلون وإلى الالتباس والإجحاف فإنما اعتلتا ثانية للتخفيف فلما كان ذلك يصير إلى ما ذكرت رفض فهذه الحروف تجري مجرى قال يقول وباع يبيع وخاف يخاف وهاب يهاب إلا أنك تحول اللام ياء إذا همزت العين، وذلك قولك حائي كما ترى همزت العين التي همزت في بائع واللام مهموزة فالتقت همزتان ولم تكن لتجعل اللام بين بين من قبل إنهما في كلمة واحدة ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 19/ 497، كتاب سيبويه 4/ 376، المحكم والمحيط الأعظم 2/ 225. (¬2) انظر تاج العروس 21/ 360 وتهذيب اللغة 2/ 38، جمهرة اللغة 2/ 887.

وإنهما لا يفترقان، فصار بمنزلة ما يلزمه الإدغام لأنه في كلمة واحدة وأن التضعيف لا يفارقه وسترى ذلك في باب الإدغام إن شاء الله فلما لزمت الهمزتان ازدادتا ثقلا، فحولوا اللام أخرجوهما من شبه الهمزة وجميع ما ذكرت لك في فاعل بمنزلة جائي ولم يجعلوا هذا بمنزلة خطايا، لأن الهمزة لم تعرض في الجمع فاجري هذا مجرى شائي وبائي من شأوت وبأيت وأما خطايا فحيث كانت همزتها تعرض في الجمع أجريت مجرى مطايا ". أما قوله: " الواو والياء لا تعلان واللام ياءا وواوا " يعني: أن عين الفعل إذا كانت ولام الفعل واوا أو ياء صحت عين الفعل واعتلت اللام وذلك جوى ونوى وحيى يحيى وما أشبه ذلك من قبل أن الإعلال تخفيف، ولو اعلوا العين فسكنوها وقلبوها ألفا كما فعلوا ذلك بواو فال وياء باع لاجتمعت ألفان واحتاجوا إلى قلب الثانية همزة أو حذفها، فلو حذفوها أخلوا بالفعل ولو قلبوها همزة كانوا قد ثقلوها وكثروا تغييرها وذلك إجحاف ولو فعلوا التبس بين ما كان همزة في الأصل وبين ما أصله الواو والياء، فان قال قائل فإذا كرهوا الجمع بين إعلالين كيف صارت اللام أولى بالإعلال من عين الفعل قيل له من قبل أن عين الفعل متوسطة وهي منتخبة عن الطرف واللام طرف وهي أولى بالإعلال وقد مضى هذا في غير موضع من الكتاب وإنما أراد سيبويه بهذه المقدمة أن يبين أن الأفعال الثلاثة التي لاماتها همزات وعيناتها ألفات نحو ما ذكر من شاء وساء وجاء وما أشبه ذلك من باب حوى وأحيا، وأن هذه الهمزات هي أصلية غير منقلبة من ياء ولا واو وأن سبيل الهمزة في جاء يجيء كسبيل العين في باع يبيع وسبيلها في ساء يسوء كسبيل اللام في قال يقول وأن اللام من الفعل صحيحة والعين معتلة فان أعلت السين بأن قلبت ألفا وتركت اللام همزة كما كانت فإذا بنيت منه اسم فاعل قلت جائي وسائي وشائي والأصل جائي وسائي وإنما صار كذلك من قبل أن عين الفعل معتلة بمنزلته في قال واسم الفاعل من قال قائل ومن هاب هائب بالهمز، فكذلك عين الفعل من جاء وساء هي في اسم الفاعل همزة فتلقي همزتان في كلمة واحدة فيجب قلب الثانية على حركة ما قبلها وهي كسرة فتقلب ياء فقيل جاءي وشاءي هذا قول سيبويه، وأما الخليل فقد كان يقول عين الفعل لو قلبناها همزة في اسم الفاعل لاعتلال الفعل كما فعلنا بقائل وهائب واجتمع في اسم الفاعل همزتان إحداهما المنقلبة من عين الفعل والأخرى لام الفعل، وإذا اجتمعتا لم يكن من تخفيف إحداهما بد وكانت الثانية أولى بالتخفيف والقلب، لأنها الطرف فتحقق

الأولى التي هي عين الفعل في الأصل وليست بهمزة في الأصل وتخفف الهمزة الأصلية فهذا ليس بالمرضي عند الخليل بل المرضي عنده أن يكون جاءي وبابه قد أراد فيه القلب لطلب التخفيف، وذلك أنا رأيناهم قد استثقلوا هذه الهمزة المنقلبة من الواو والياء في قائل وبائع وهائب وليس بعدها همزة حتى قدموا وأخروا، فقالوا في شائك شاك ولائث لاث فلما أخروا عين الفعل إلى موضع لامه لئلا يلزمهم هذه الهمزة وفعلوا ذلك بالصحيح فرارا من هذه الهمزة وكان قلبهم الواو والياء إلى آخر الكلام وتقديم لام الفعل فيما يجتمع فيه همزتان أولى فجاءي وشاءي قد نقل عند الخليل عن فاعل إلى فالع. وقوله: " فالتقت همزتان وإن لم تكن لتجعل بين بين من قبل أنهما في كلمة واحدة ". يعني: أن جاءي وإن كان أصله همزتان فلا يجوز تخفيف إحداهما بأن تجعلها بين بين وتحقيق الأخرى كما قد جاز أن تجعلها بين بين في قائل وهائب، لأن جعل الهمزة بين بين أثر الهمزة فيها لأن همزة بين بين هي الهمزة التي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها، فإذا جعلنا همزة قائل بين بين جعلناها بين الهمزة وبين الياء لأنها مكسورة والكسرة من الياء فكما لا يجتمع همزتان في كلمة واحدة كذلك لا تجتمع همزة بين همزتين مخففة، لأنها كالهمزتين فلما كان كذلك لم تخفف إحدى همزتي جاءي فتصير بين بين بل تجعل منقلبة إلى الياء لانكسار ما قبلها. ومعنى قوله: " ولم يجعل هذا بمنزلة الجمع الواحد من جهة أنه أثقل من الواحد ومن جهة أنه لا يقع اللبس في الجمع كوقوعه في الواحد ألا ترى أنه لا يجوز في قاض قاضي كما جاز في عذارى عذاري قال واعلم أن ياء فعائل مهموزة أبدا ولم تزد إلا كذلك وشبهت بفعاعل " يعني: أن فعائل ليست تكون إلا جمع فعول أو فعيل أو فعال ونحو هذا مما يسكن ثالثة من الواو والياء والألف وقد بينا هذا فيما مضى فإذا تحركت الياء في الواحد لم تهمزها ف الجمع كقولك عثير وعثاير وحذيم وحذايم وإنما قصد المعنى الأول. وقوله: " وشبهت بفعاعل " يعني بفعاعل مما اعتلت عينه لنحو جمع قول وبيع يقال فيها قوائل وبيائع مهموزتين لوقوع الجمع بين واوين أو ياءين وقربها من الطرف وقد بينا فيما تقدم.

قال: " فإذا قلت فواعل من جئت قلت جوائي كما تقول من شاوت شوائي لتجريا في الجمع على حد ما كانت عليه في الواحد لأنك أجريت واحدها مجرى الواحد من شأوت " يعني: جوائي ولا تقل جوايا كما قلت خطايا وذلك من قبل أن همزة جوائي قد كانت موجودة في جائية فلم تعرض هذه الهمزة في جمع وصارت بمنزلة همزة شاءي وناءي، وما أشبه ذلك مما الهمزة فيه عين الفعل فهمزة جاءي وشاءي وإن كانت منقلبة من ياء وواو بمنزلة همزة شاي وناي الأصلية، لأنها لم تعرض في جمع وأما فعايل من جئت وسؤت فنحو خطايا تقول جيايا وسوأيا وذلك أن فعائل إما أن يكون جمع فعيل أو فعول أو فعول أو فعال ونحو ذلك مما سكن حرف المد في واحده ولحقته المدة وإما أن يكون جمع فعيل نحو عثير وما أشبه ذلك فان كان جمع الأول فهو مهموز كما همز جمع سفينة وعجوز ورسالة وإن كان من الثاني وقعت ألف الجمع بين ياءين وواو وهي بقرب الطرف فهمزت لذلك وقد أحكم هذا النحو فيما تقدم وذكر قول الخليل في جاءي وشاءي الذي ذكرناه في قلب الهمزة وتقديمها إلى موضع عين الفعل وتأخير عين الفعل واستشهد بقول العجاج: لاث به الاستاء والعبرى يريد به لائث أي ملتف أي بهذا الموضع الإشاء والعبري والإشاء صغار النحل والعبرى السدر البستاني وقال طريف بن تميم العنبري: تعرفوني أنني أنا ذاكم … شاك سلاحي في الحوادث معلم (¬1) أراد شائك لأنه مأخوذ من الشوكة فهو فاعل منها وقد يجوز أن يكون شاك مأخوذ من شاك بتشديد الكاف واستثقلوا التشديد فحذفوا أحد الحرفين ياء والشاك مأخوذ من الشكة وهي السلاح التام قال: " وأكثر العرب يقول لاث وشاك سلاحه فهؤلاء حذفوا الهمزة وهؤلاء كأنهم لم يقلبوا اللام في جئت حين قالوا فاعل، لأن من شأنهم الحذف لا القلب ولم يصلوا إلى حذفها كراهية أن تلتقي الألف والياء وهما ساكنتان فهذا تقوية لمن زعم أن الهمزة في جاءي هي الهمزة التي تبدل من العين وكلا القولين حسن جميل " يعني: أن من حذف الهمزة البتة فقال لاث وشاك حذفوا عين الفعل ¬

_ (¬1) تاج العروس 33/ 131، لسان العرب 12/ 419، كتاب سيبويه 4/ 378.

البتة؛ لأنها قد اعتلت وسكنت في الفعل ثم وقعت بعد الألف فكرهوا أن يلتقيا وهما ساكنان فحذفوا وهذا معنى قوله أن تلتقي الألف والياء بعد ألف فاعل والحرف المعتل وهذا تقوية لقول الخليل لأنهم إنما حذفوها استثقالا للهمزة عليها وتأخيرها يزيل الهمزة عنها وأما قول الله عز وجل على شفا جرف هار فانه يحتمل الأمرين جميعا يحتمل أن يكون على قول من قال لاث وهو في موضع خفض ويحتمل أن يكون على قول من قال لاث. قال: " وأما فعائل من حيث فجاءي ومن سوت سواءي لأنها ليست همزة تعرض في جمع فهي كمفاعل من شأوت " يعني: أنا متى بنينا فعائل من جئت اجتمعت في آخره همزتان فجعلنا الأخيرة ياء كراهية لاجتماع الهمزتين وذلك من قبل أن لام الفعل من جئت همزة، وفي فعائل همزة زائدة بعد الألف فيلتقي همزتان ولم يجز أن نقول جبايا، لأن الهمزة لم تعرض في جمع لأن فعائل لا يكون جمعا. قال: " وأما فعلل من جئت وقرأت فانك تقول فيه جياي وقرأي وفعلل منهما قرئي وجوئي وفعلل قرئي وجيئي " يعني: فعلل أصله قرأ أو جياأ فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية على حركة ما قبلها فقلبتها في فعلل ألفا وهي فعلل ياء وأما فعلل فكان الأصل فيه قرؤؤ، فاجتمعت همزتان والأولى مضمومة فقلبت الثانية واوا فصار قرؤو ووقعت الواو طرفا وقبلها ضمة ولا يكون في الأسماء اسم آخره واو قبلها ضمة وإذا وقع ذلك في الاسم قلبت الواو ياء وكسر ما قبلها لتسلم الياء كما قالوا دلو وأدلى كذلك يقال قرئي قلبوا الواو ياء وكسروا الهمزة. قال: " وليس يكون ها هنا قلب كما كان في جاءي لأنه ليس ها هنا شيء أصله الواو ولا الياء فإذا جعلته طرفا جعلته كياء قاض وإنما الأصل هاهنا في الهمزة فإنما أجري جاءي في قول من زعم أنه مقلوب مجرى لاث حيث قلبوا الواو كراهية الهمزة وليس هاهنا شيء يهمز أصله غير الهمز " يعني: أن من قلب في جاءى ومشاءى على ما ذكره من مذهب الخليل لم يقلب في قرئي وجيئي وإن هاهنا همزتين التقتا وليست منهما واحدة أصلها واو ولا ياء فيجعل التي أصلها الواو والياء طرفا حتى تصير كياء قاض وراع وإنما أجرى جاءى في القلب مجرى لاث، وليس في قرئى شيء يهمز وليس أصله الهمز.

قال: " وإذا جمعت قلت قراء وحياء لأن الهمزة ثابتة في الواحد وليست تعرض في الجمع فأجريت مجرى مشأى ومشاء ونحو هذا والذي قاله مفهوم وقد مضى وأما فعاعل من جئت وسئوت فتقول فيه سوايا وجيايا لأن فعاعل من بعت وقلت مهموزتان ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد بينا أن ما وقع ألف جمعه بين واوين أو ياءين لانفتاح ما قبلها وبعض ما قيل في قوله إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أن تقديره لم يتسنن فقلبت النون الثانية ياء ثم قلبها ألفا لتطرفها وانفتاح ما قبلها وحذفها للجزم ثم جعل مكانها هاء للوقف كما قال الله عز وجل فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. وقال العجاج: تقضي البازي إذا البازي كسر يريد تقضض وهو الانقضاض وتقال تقضيب من القضة. وقوله: " رمى فلان آمي من فلان " من قولك أممت وهذا مثل أملى في معنى أمل وذكر أن التاء مبدلة من الياء وقد ذكر في غير هذا الموضع أن التاء مبدلة من الواو وكلا القولين صحيح وذلك أن أصل اسنتوا من السنة وهي القحط ومعنى أصابهم القحط وأصل سنة سنواه فيمن قال سنوات فإذا بنوا منها أفعل وجب أن يقال أسنينا والأصل أسنونا فقلبت الواو ياء كما يقال أغزينا واذنينا وهو من الغزو والدنو وقد مضت علة ذلك فاختاروا التاء كما قالوا أتلج في معنى أولج وتجاه وتراث وهذا كله شاذ لأنّا نقول في تحبب وتجسس تحبي وتجسي وأصل ست سدس وبدل التاء فيه. وقوله: " وكل هذا التضعيف فيه عربي كثير جيد " يعني: ترك القلب إلى الياء عربي جيد إذا قلت تظننت وتسروت وقد جعل سيبويه الياء في تسريت بدلا من الراء وأصله تسروت وهو من السرور فيما قاله أبو الحسن الأخفش، لأن السرية يسرّ بها صاحبها وقال أبو بكر بن السراج هو عندي من الستر لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرمه. وقال أبو سعيد رحمه الله: الأولى عندي أن يكون من السر الذي معناه النكاح وقال غير سيبويه ليس الأصل فيه تسررت وإنما هو تسريت بمعنى ركبت سراتها أي أعلاها وسراة كل شيء أعلاه.

وقال آخر: إنما هو من سريت والقول ما ذكرناه أولا أنه من تسررت وأما كلا وكل فليس أحد اللفظين من الآخر لأن موضعهما مختلف تقول كلا أخويك قائم، ورأيت كلا أخويك ولا تقول كلا أخويك قائم ولا يجوز أن تجعل الألف في كلا بدلا من إحدى اللامين في كل إلا بثبت ولم يقم الدليل على ذلك. قال سيبويه: " ولا يكون فيه تضعيف والألف في كلا هي لام الفعل كالألف في معا " لا خلاف بين أصحابنا في ذلك وهو واحد مضاف إلى اثنين كما تقول حجا أخويك واستدلوا على ذلك بقولهم كلا أخويك قائم فيوجدون جزء وكل يضاف إلى المعرفة والنكرة كقولك كل القوم وكل رجل وكل قد قال ذلك ولا يضاف كلا إلا إلى معرفتين ولا تفرد وإنما ذكر سيبويه كلا وكل في هذا الباب ليريك أن ألف كلا ليست منقلبة من لام كما أن ياء تظنيت منقلبة من نون، وأختلف النحويون في ألف كلا هل هي ألف تثنية أم من بنية الواحد فقال البصريون كلا موحدة وهو فعل بمنزلة معا وأضيف إلى اثنين كما يقال رجا أخويك وحجا صاحبيك واستدلوا على ذلك بما ذكرناه ولو كانت الألف علامة التثنية لقلت رأيت علي أخويك ومررت بكلي أخويك، كما تقول رأيت غلامي أخويك ومررت بغلامي أخويك. وقد قال الشاعر: كلا أبويكم كان فرعا دعامة … ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا فوحّد كان فرعا دعامة وهو خبر كلا وأنت لا تقول أبواك كان قائما وقال الفراء الألف في كلا وكلتا للتثنية وتعلق ببيت أنشده لا يعرف قائله ولا فيه حجة وهو قوله: في كلت رجليها سلامى واحده … كلتاهما مقرونة بزائده (¬1) وهذا غلط من المحتج به لأنه أضافه إلى رجليها وهما اثنتان فان كانت كلتا مثناة وهي مضافة إلى اثنين فالواحدة مضافة إلى واحدة فكان ينبغي أن يقال في كلت رجلها، وأما ما حكاه عن أبي الخطاب أنهم يقولون هاتان يريدون معنى هنين ففيه مذهبان أحدهما أن يقال أن سيبويه أراد أن هنانين وإن كان بمعنى هنين فهو لفظ على حياله ليس بمشتق ¬

_ (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه 202، خزانة الأدب 1/ 140، تاج العروس 39/ 414.

هذا باب تضعيف اللام في غير ما عينه ولامه من موضع واحد

من هن كما أن كلا ليس بمأخوذ من لفظ كل والمذهب الآخر أن هي لام الفعل منه واو يجمع هنوات ولام الفعل من هنانان نون فصار كأنه في الواحد هنن وأبدلت الثانية واوا. هذا باب تضعيف اللام في غير ما عينه ولامه من موضع واحد فإذا ضاعفت اللام وأردت بناء الأربعة لم تسكن الأول فيه وتدغم وذلك قولك " قردد لم تدغم لأنك أردت أن تلحقه بجعفر وسلهب ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الثلاثي قد يزاد في آخره حرف من جنس لامه ثم ينقسم ذلك قسمين أحدهما ملحق بالرباعي والآخر غير ملحق به فأما الملحق به فهو الذي يصير بالزيادة على بنية الرباعي الأصلي وكيفية حركاته ونظمها ونظم سكونه غير مغير منه شيء وذلك قولك قردد ومهدد وفي الفعل جلبب وشملل وقعدد ورمدد وجدب وهقب فأما قردد فملحق بجعفر وجلبب وشملل بدحرج وقعدد ملحق ببرثن وحبرج ورمدد ملحق بزبرج وخدب ملحق بقمطر، وهذه الأشياء على كيفية حركات ما ألحقت به غير مغير منها شيء وأما الذي في آخره حرف من جنس لامه وليس بملحق فهو ما لم يكن له نظير من الرباعي الأصلي على كيفية نظم حركاته وذلك قولك معد وجبن وما أشبه ذلك إلا أن معدا فعل وجبن فعل والميم في معد أصلية، لأنهم قالوا تمعدد الرجل وإنما قلنا أنهما ليسا بملحقين، لأنه ليس في الرباعي الأصلي شيء على كيفية حركاتهما ونظمهما فان قال قائل لم لا يكونان ملحقين فيكون معد ملحقا بجعفر ويكون تقديره معدد فادغم كما كان مرّد مفعلا وأصله مردد وكذلك جبنّ ملحق ببرثن وأصله " جبنن " قيل له لو كان كذلك صار معد بمنزلة " قردد " فلم يكن يجوز فيه غير معدد، كما لم يجز في قردد الإدغام وكان يلزم أن يقال في " جبنن " كما قيل في قعدد، وكذلك " خبق " و " حلز " لو كان ملحقا لقيل " خبقق " و " حلزز " كما قيل " رمدد " والدال الأولى في " معد " والنون الأولى في " جبن " والقاف الأولى في خبق في أصل بنيتهن سواكن ولم يكن متحركات فألقيت حركتهن على سواكن فيجب قلب الثانية منهما همزة فتصير هذه الهمزة عارضة في جمع فيعمل بها ما يعمل بخطايا. قال: " فلما وافقت اللام مهموزة لم يكن من قلب اللام ياء بد كما قلبتها في جاءي وخطايا فلما كانت تقلب وكانت إنما تكون في حال الجمع أجريت مجرى فواعل من شويت وحييت حين قلت شوايا " يعني: أن فعاعل من جئت وسؤت لامهما

مهموزة ووقعت ألف الجمع بين ياءين في حييت وبين واوين في سؤت فوجب قلب الثانية منهما همزة كما قد بيناه، ولام الفعل همزة فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء لانكسار ما قبلها كما قلبتها في جاءي وفي خطايا قبل أن تقلبها ألفا، ثم عملت بها كما عملت في جمع شاوية وجائية تقول شواوي وجوائي فتقلب الواو الثانية أو الياء همزة فتصير الهمزة عارضة في الجمع فتقول شوايا على ما بينا. قال: " ومن جعلها مقلوبة فشبهها بقوله شواع وإنما يريد شوائع فهو ينبغي له أن يقول جياءي وسواءي لأنهما همزتا الأصل التي تكون في الواحد قال: وكأن صرعيها كعاب مقامر … ضربت على شزن فهنّ شواعي (¬1) يريد شوائع " يعني: من ذهب مذهب الخليل فجعل الهمزة مقلوبة مقدمة على الياء وجب عليه أن يقول جياءي وسواءي وذاك أنهم يقدمون الهمزة التي هي لام الفعل في الأصل إلى موضع العين فتصير حينئذ غير عارضة فلا يقال جيايا يقال جياءي كما يقال في جمع جائية جواءي، لأن الهمزة لم تعرض في جمع وإنما جعلت العين التي أصلها الياء أو الواو طرفا فصارت بمنزلة واو شاوت وياء نأيت في فاعل. قال: " وأما افعللت من صدئت فاصدأيت تقلبها ياء كما تقلبها في مفعلل وذلك قولك مصدئ ويفعلل يصدئي لم تكن لتكون هاهنا بمنزلة بنات الياء وتكون في فعلت ألفا ومن ثم لم يجعلوها ألفا ساكنة كما أنك لم تقل اغزوت إذ كنت تقول يغزي، فلم تكن لتجعل فعلت منه بمنزلة الهمزة وسائرة كبنات الياء فاجري هذا مجرى رمى يرمي وهذا قول الخليل يعني اصدأيت أصل هذه الياء همزة وذلك أنه من الصدأة افعللت فالهمزة مكررة لأنها لام الفعل فكان ينبغي أن يقول اصدأأت، فكرهوا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة فخففوا الثانية ولم يكن تخفيفها كتخفيف الهمزة التي يجوز تخفيفها وذلك أنهم لم يقولوا اصدأأت فيجعلوها ألفا لانفتاح ما قبلها إلى الياء وكان قلبها إلى الياء أولى بها من قبل أن المستقبل على يفعلل فتقع الهمزة الثانية طرفا وقبلها كسرة فقلبوها ياء لانكسار ما قبلها ثم لزمت هذه الياء في الماضي كما قالوا اغزيت ودانيت وهو من الغزو ومن الدنو فقلبوها ياء، لأنها تنقلب في المستقبل ياء لانكسار ما قبلها إذا قلت يفعل ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 35/ 274، جمهرة اللغة 2/ 811، تهذيب اللغة 3/ 42.

ويفاعل يغزي ويداني، والأصل يغزو ويدانو فتقع الواو طرفا ويوقف عليها ساكنة وقبلها كسرة فتقلب ياء لانكسار ما قبلها وسكونها في الوقف، ثم جعلوا هذه الياء لازمة في كل حال فقالوا أغزيت والأصل أغزوت. قال: " وفياعل من سؤت وجئت بمنزلة فعاعل تقول حيايا وسيايا والأصل سواؤي وحيائي " فقلبت ما بعد الألف همزة لوقوع الألف بين ياء وواو أو ياءين على ما مضى من نحو هذا قال: " وسألته عن قوله سئوته سوائية " فقال: " هي فعالية بمنزلة علانية والذين قالوا سواية حذفوا الهمزة كما حذفوا همزة هان ولاث كما اجتمع أكثرهم على ترك الهمز في ملك وأصله الهمز أما سوائية فهي على التمام ولا تغيير فيها وسواية قد حذف منها الهمز على ما ذكر قال وسألته عن مسائية فقال: " هي مقلوبة وكذلك أشياء وأشاوي ونظير ذلك من المقلوب قسي وإنما أصلها قووس فكرهوا الواوين والضمتين ومثل ذلك قول الشاعر: مروان مروان أخو اليوم اليمي وصارت الواو ياء لأن الميم قدمت كما كانت متحركة فلما تحرك ما قبل الواو انقلبت فاضطر إلى هذا " قال أبو سعيد رحمه الله أما مسائية فهي مفاعلة من ساء يسوء وعين الفعل واو ولامها همزة وكان الوجه أن يقال مساوية فجعلوا اللام من الفعل في موضع عين الفعل لتنقلب الواو ياء للكسرة قبلها كراهية لجمع الواو والهمزة وهما حرفان مستثقلان ثم استشهد على ذلك بأشياء من المقلوب منها قسي وهو جمع قوس على فعول كما تقول فلس وفلوس غير أنهم جعلوا قوس قسو، فقدموا لام الفعل إلى موضع عينه وجمعوا قوس على قسو فوقعت الواو في الجمع طرفا فقلبوها ياء، وكسروا السين لتسلم الياء كما ذكرنا في عتي وجثي كما كسورا القاف اتباعا للسين وكراهية للخروج من ضمة إلى كسرة وليس ذلك إلا في الأفعال وإن شئت جعلت هذا الاتباع في عتي فتقول في عتي وإنما أثروا هذا القلب في قسي عندي لأن الباب في جمع ما عينه واو إذا كان كثيرا فعال نحو ثياب وما أشبه ذلك وما كان عينه ياء فعول نحو بيوت وعيون وسيور وما أشبه ذلك فلما جمعوا قوسا وأصلها الواو على غير بابها غيروا لفظها وأيضا لو لم يقلبوها لقالوا قووس بضم الواو فكرهوا ضمتين وواوين في جمع وهذا هو السبب الذي من أجله عدلوا عن جمع ذوات الواو عينا على فعول وأما قول الشاعر:

" أخو اليوم اليمي " فالأصل فيه أخو اليوم اليوم كما قالوا أن مع اليوم أخاه غدوا فقدم الميم بضمتها إلى موضع الواو فصار اليمو فوقعت الواو طرفا وقبلها ضمة فقلبت ياء وكسر ما قبلها كما قيل في جمع دلو أدل والأصل أدلوا. قال: " ومثل هذا أن هذه الواو تعتل في فعل وتكره فهي مع الياء أحذر أن تكره فصار اليوم بمنزلة القووس " يعني: أن اليوم لو تركت الواو ولم تقلب لاعتلت لتحركها وانفتاح ما قبلها، ويكره كونها مضمومة فإذا انضم إلى ضمتها كون الياء من يوم كان اشد للكراهة فصارت في اليوم كضمة واو قؤوس وأما أشاوي فإنها جمع أشاوة مثل اداوة واداوي وهراوة وهراوي واشاوة غير مستعملة ولا هي ممن لفظ شيء فزعم سيبويه أن اشاوة أصلها شيا لأن عين الفعل من شيء ياء ولامه همزة فإذا بنينا منه فعالة مثل هراوة صار شياءة، ثم قدمت الهمزة التي هي لام الفعل إلى موضع فاء الفعل كما فعل ذلك بأشياء وأصلها شيئاء عند الخليل وسيبويه وقد بينا هذا في كتاب الهمز، فإذا قدمت الهمزة في شيئاء صار أشاية فقلبت من الياء واوا وإنما فعلوا ذلك لدخول الياء على الواو كثيرا وكذلك العليا والعلياء أصلها بالواو لأنه من علا يعلو فالياء والواو يتداخلان للمشاركة التي بينهما فلما جمعوا أشاوة قالوا أشاوي كما قالوا اداوة. قال: " ومثل هذا في القلب طامن واطمأن فإنما حمل هذه الأشياء على القلب حيث كان معناها معنى ما لا يطرد ذلك فيه، وكان اللفظ فيه إذا أنت قلبته ذلك اللفظ فصار هذا بمنزلة ما يكون فيه الحرف من حروف الزوائد ثم يشتق من لفظه في معناه ما يذهب فيه الحرف الزائد " يعني: أن القلب إنما يعرف بأن لا يثبت الحرف في تصاريفه على ترتيب القلب كقولنا إذا صرفنا مسائية في وجوهها قلنا هي من ساء يسوء سوءا فتحة الواو قبل الهمزة في هذه التصاريف، وكذلك سوائية فإذا وجدنا في مسائية همزة قبل الواو علمنا أنها قد قلبت وكذلك لما رأينا قسيّا لا يطرد فيه تقديم السين في قوس وفي أقواس وقياس ورجل قواس ومقوس، علمنا أن قسي مقلوب وكذلك أشاوى لما رأينا الواو فيها لا تطرد في قولنا شيء وأشياء علمنا أن الواو بدل وكذلك اليمي قد علم باليوم وسائر تصاريفه أن الميم مقدمة فأما طامن واطمأن فالأصل فيه اطمأن بتقديم الميم على الهمزة، فطامن مقلوب والدليل على أن الأصل اطمأن أن نجد الميم قبل الهمزة في جميع

هذا باب ما كانت الياء والواو فيه لامات

تصاريفه، كقولك اطمأن وطمأن وهو يطمئن اطمئنانا ولا يصرف طامن في هذه الوجوه ولا يقال اطمأن اطمئنانا. قال: " وأما جذبت وجبذت فليس فيه قلب وكل واحد منهما على حدته، لأن ذلك يطرد فيهما في كل معنى ويتصرف الفعل فيه، وليس هذا بمنزلة ما لا يطرد مما إذا قلبت حروفه عما تكلموا به وجدت لفظه لفظ ما هو في معناه من فعل أو واحد هو الأصل الذي ينبغي أن يكون ذلك داخلا عليه كدخول الزوائد وجميع هذا قول الخليل " يعني: أن جذب وجبذ ليس كل واحد منهما مقلوبا عن الآخر، لأنهما على هذا النظم في جميع تصاريفهما تقول " جذب " و " جبذ " " يجذب " و " يجبذ " " جذبا " و " جبذا " فهو " جاذب " و " جابذ " وليس المقلوب الذي ذكرناه بهذه المنزلة لأنا إذا صرفناه وجدناه غير مطرد فعلمنا أنه ليس بأصل للكلمة ألا ترى أنا إذا صرفنا كلمة في مواضع فرأينا بعض حروفها يسقط حكمنا عليه بأنه زائد فكذلك المقلوب قال وأما كل وكلا فمن لفظين لأنه ليس ها هنا قلب ولا حرف من حروف الزوائد يعرف هذا له موضعا يعني أن الألف في كلا لم تقلب من إحدى لامي كل وليس أحد اللفظين مشتقا من الآخر، لأن كل له مذهب سوى مذهب كلا وليسا في معنى واحد ولا في واحد منهما حرف زائد لأنهما على ثلاثة أحرف فليس فيها زائد. هذا باب ما كانت الياء والواو فيه لامات " اعلم أنهن لامات أشد اعتلالا وأضعف، لأنهن حروف إعراب وعليهن يقع التنوين والإضافة إلى نفسك بالياء والتثنية والإضافة نحو هنّى فإنما ضعفت، لأنها اعتمد عليها بهذه الأشياء وكلما بعدتا من آخر الحرف كان أقوى لهما فهما عينات أقوى وهما فاءات أقوى منهما عينات ولامات وذلك نحو غزوت ورميت ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن سيبويه قدم هذه المقدمة ليرى أن اللام من الفعل أضعف من العين العين ليعلم أن ما استثقل في عين الفعل، فهو مستثقل في لامه وليس كل ما استثقل في لامه يستثقل في عينه، واحتج لذلك بأن اللام من الفعل يقع عليها التنوين وياء الإضافة للمتكلم، وهي تكسر ما قبلها وياء النسبية وسماها سيبويه ياء الإضافة نحو الهنّي يعني البصري والتميمي وما أشبه ذلك فبسبب هذه العوارض التي تعرض للأواخر كان الإعلال بها ألزم؛ لأن الإعلال أخف من النطق بالحرف على أصله وأما ما ذكره من

قوة فاء الفعل وبعدها من الإعلال فمن قبل أن فاء الفعل بعيدة من الطرف وليس قبلها أيضا شيء يعتمد عليه في الإعلال ألا ترى أن عين الفعل يعل وتلقى حركته على ما قبله كقولنا يقول ويبيع وتعل لام الفعل لتحرك ما قبلها كقولنا غزى وغزى ولو سكن ما قبلها صحت نحو غزو ودلو ثم ذكر ما مضى إلى أن قال: " واعلم أن الواو في يفعل تعتل إذا كان قبلها ضمة ولا تقلب ياء ولا يدخلها الرفع " يعني: أن الواو في آخر الفعل لا يدخلها الضم في حال الرفع في يغزو ويدعو استثقالا للضمة عليها وقبلها مضموم كما استثقلوا ذلك على عين الفعل وهي أقوى فقالوا " نوار " و " نور " و " عوان " و " عون " بالتسكين والأصل نور وعون كما قالوا قذال وقذل و " نهار " و " نهر " وأما الفتحة فمستخفة عليها تقول لن أغزو أريد أن أدعوك كما استخف الفتحة عليها وهي عين الفعل كقولك نومة ولومة فالضمة بعد الواو كواو وبعدها والواوان تثقلان والفتحة بعدها كألف بعدها وهي لا تثقل. قال: " وإذا كان قبل الياء كسرة لم يدخلها جر كما لم يدخلها الواو والضم " يعني: أن الكسرة على الياء المكسور ما قبلها كالضمة على الواو المضموم ما قبلها في باب طرح الكسرة عليها وتسكينها يعني ما كان من نحو القاضي والتوقي وراميكم وما أشبه ذلك. قال: " ولا يدخلها الرفع إذا كره الجر فيها " يعني: ولا يدخل الياء المكسور ما قبلها ضم أيضا، لأن الضم أثقل فإذا تركوا الكسر كانوا للضم أترك ويدخل الفتح عليها كما دخل على واو يغزو، لأنه أخف الحركات. قال وأما غزوة وغزون ورميت ورمين فإنما جئن على الأصل لأنه موضع لا تحرك فيه اللام وإنما أصلها في هذا الموضع السكون فإنما تقلب ألفا إذا كانت متحركة في الأصل كما اعتلت الياء وقبلها الكسرة والواو وقبلها الضمة وأصلهما التحرك يعني أن الواو والياء متى سكنتا في موضع لام الفعل باتصال ما يوجب سكونهما من تاء المتكلم والمخاطب وضمير جماعة النساء ولم يعلا كما يعلان إذا سكنتا في موضع عين الفعل نحو قول وبيع، لأنها تقلب ألفا في قال لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكذلك في قضى وغزا لتحرك الطرف وانفتاح ما قبله وكذلك الياء في قاضي وراميكم إنما اعتلت لتحرك ما قبلها وهي في موضع حركة وكذلك الواو في

يغزو اعتلت وقبلها ضمة في موضع حركة واعلم أن الواو إذا كان قبلها حرف مضموم وكانت حرف الإعراب قلبت ياء وكسر المضموم كما كسرت الياء في مبيع وذلك قولك دلو وادل وحقو وأحق كما ترى فصارت الواو هاهنا أضعف منها في الفعل حين قلت يغزو ويسر، ولأن التنوين يقع عليها والإضافة بالياء نحو قولك هني والتثنية والإضافة إلى نفسك بالياء فلا تجد بدا من أن تقلبها فلما كثرت هذه الأشياء عليها وكانت الياء قد تغلب عليها لو ثبتت أبدلوها مكانها لأنها والكسرة أخف عليهم من الواو والضمة وهي أغلب على الواو من الواو عليها ". قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن الاسم متى كان في آخره واو قبلها ضمة وجب قلبها كقولنا في ادلو ادل وفي احقو احق وليس هو مثل الفعل كيغزو ويدعو، وذلك لأن الاسم يلحقه التنوين والنسبة وسائر ما ذكر فيجب في بعضها تغيير إلى الياء فآثروا قلب الواو ياء في كل حال أما النسبة فلو بقينا ادل على حالها ثم نسبنا إليها لوجب أن نقول ادلى فنحذف الواو وكراهية للكسرة عليها مع انضمام ما قبلها وإنما قبلها ادل ثم ننسب فنقول أدلى كما نقول في النسبة إلى قاض قاضي بحذف الياء فإذا نسبنا إلى أدلو بحذف الواو قلنا أدلو وما قبل ياء النسبة مضموم فيجب كسره لتسلم الياء، ولن ياء النسبة لا يكون ما قبلها إلا مكسورا فإذا لزم في أدلو لو تركناها واوا كسر اللام في حال النسبة فيلحقه بالكسر ما يرده إلى حكم ذوات الياء من الكسر فجعلوه ياء من أجل ذلك فأما ياء الإضافة إلى المتكلم، فإذا دخلت على هذه الواو فهي لا محالة تنقلب ياء كقوله هذه أدلى كما تقول هذا قاضي وذلك أنا إذا قلنا ادلو ثم أدخلنا ياء المتكلم لم يصلح أن تكسر الواو استثقالا للكسرة عليها وقبلها مضموم فإذا سكنت هذه الواو بعدها ياء المتكلم فلا بد من فتحها لئلا يجتمع ساكنان، فإذا صار كذلك فقد اجتمعت واو وياء الأولى منهما ساكنة فقلبت الواو ياء وإذا انقلبت ياء كسر ما قبلها وأما التنوين والتثنية فانهما غير موجبين لقلب الواو ياء في الاسم لأنا إذا أدخلنا التنوين على أدلو حذفت الواو لسكونها، وسكون التنوين ولا يلحق اللام تغيير فنقول أدل وأما التثنية فيقال فيها أدلوان كما يقال يغزوان، وإنما ذكر سيبويه التنوين والتثنية لأنهما من الزوائد في آخر الاسم مع ياء النسبة وياء المتكلم وما يلحق من الزوائد ما يثقل ما يدخل عليه فإذا كانت الواو أثقل

من الياء فالياء أولى بأن تكون مهياة للزيادة ألا ترى أن ما كان من الأسماء التي تلحق بالجمع السالم فيكون إعرابها بالواو والياء ونونها مفتوحة أبدا كقولك قنسرون ونصيبون وسنون متى جعلنا الإعراب في النون جعلناها ياء على كل حال كقولك سنين وقنسرين وما أشبههما. قال: " فان كان قبل الواو ضمة ولم تكن حرف إعراب ثبتت وذلك نحو عنفوان وقمحدوة وأفعوان لأن هذه الأشياء التي وقعت على الواو وقعت هاهنا على الهاء " يعني: أن الاسم إذا كان في آخره واو مضموم ما قبلها، وكان بعد الواو هاء تأنيث أو ألف ونون أو غير ذلك مما يقع الإعراب عليه لم يجب قلبها وذلك من قبل أن الذي أوجب قلب الواو ياء في أدل إنما هو ما يلحقه من التنوين والتثنية والإضافة التي هي النسبة والإضافة إلى ياء المتكلم كما ذكر سيبويه وليس ذلك في الاسم الذي بعد واو الطرف منه ما يقع عليه الإعراب وقالوا قلنسوة ثم قالوا في الجمع القلنسي لما بطلت الهاء ووقع الإعراب على الواو. قال الراجز: لا صبر حتى تلحقي بعبس … أهل الرباط البيض والقلنسي وإذا سكن ما قبل الياء والواو جرتا بوجوه الإعراب مجرى المعتل نحو ظبي ودلو؛ لأنه لا يجتمع ياء وكسرة ولا واو وضمة ولم يكن ما قبله مفتوحا فتنقلب الياء والواو ألفا وأيضا فان الاعتلال يلحق الطرف على حسب ما قبله فان كان مفتوحا انقلبت ألفا كقولك ملهى وعصا وإن كان مكسورا انقلبت ياء كقولك ملهي وقاضى وما أشبه ذلك، لأنه صار ما قبله يعله ساكنا بطل عنه تدبير غيره له وقام بنفسه فصار كسائر الحروف وهذا نحو قول سيبويه وقويت حيث ضعف ما قبلها. قال: " ومن ثم قالوا مغزو وعتو " يعني: إنما قالوا مغزو وعتوّ من قبل أن الواو المشددة واوان الأولى منهما ساكنة فصار مغزو بمنزلة دلو وغزو ومنهم من يقول مغزي يشبهها بأدلو لانضمام ما قبل الواو وهي طرف وليس بينها وبين الضمة إلا الواو الساكنة المدغمة فيه وليست بحاجز حصين إلا أن الوجه مغزو. قال: " والوجه في الجمع الياء وذلك ثدي وعصي وحقي " وقد بينا هذا فيما مضى

حتى ذكرنا العتو مصدرا وجمعا وأدخل ثدى في هذا الباب وليس منه لأنه جمع ثدي من ذوات الياء وهي على فعول وتقدير ثدوى وقلب الواو ياء يلزم لاجتماعهما وسكون الأولى منهما لا لأنها جمع والذي عندي أنه إنما ذكر ثدي لأن العرب قد جعلت ذوات الياء في هذا الباب كذوات الواو على لفظها حتى سوت بينهما فيما كان شاذا منه فقالوا أنه لينظر في نحو كثيرة وهو جمع نحو من ذوات الواو وقالوا إنهم فتو صدق وهو جمع فتى وفتيان وقال الشاعر: ربما أوفيت في علم … ترفعا ثوبي شمالات في فتو أنا رأيتهم … من كلا عزوة ماتوا قال: " فإنما لزمتها الياء حيث كانت الياء فيما هو أبعد شبها ". يعني: أنهم لما قلبوا الواو ياء في صوم فقالوا صيم وهي عين الفعل بعيدة كانوا لقلبها في عتي ألزم وقد ذكرناه فيما مضى. قال: " ويكسرون أول الحرف لما بعده نحو حقي وثدي والأصل الضم ولكنهم كسروه اتباعا ولئلا يخرجوا من ضمة إلى كسرة على ما تقدم ". قال: " وقد قالوا يسنوها وهي أرض مسنية وقالوا مرضي وإنما أصله الواو وقالوا مرضوّ فجاؤا به على الأصل والقياس وهذا مثل مغزو الذي ذكرناه وجواز الياء فيه كجوازها في مغزى ثم ذكر حكم الواو والياء إذا وقعت طرفا بعد ألف وقد ذكرناه وإنما قلبت الهمزة في نحو سقا وشقاء أن ما قبل الألف مفتوح والألف حرف ساكن لم يعتدوا به فحملوا الواو والياء على انفتاح ما قبل الألف فلزمهم أن يقلبوها ألفا كما قلبوا عصا ورحى فلم يكن قلبها ألفا للألف التي قبلها على ما شرحناه. قال: " وألزموها الاعتلال في الألف لأنها بعد الفتحة أشد اعتلالا ألا ترى أن الواو بعد الضمة تثبت في الفعل وفي قمحدوة وتدخلها الفتحة والياء بعد الكسرة تدخلها الفتحة ولا تغير فتحول من موضعها وهما بعد الفتحة لا يكونان إلا مقلوبتين لازما لهما السكون ". قال أبو سعيد رحمه الله: أراد سيبويه بهذا أن الفتحة توجب من الإعلال أكثر ما توجبه الضمة والكسرة لما بعدهما لأن ما بعد الضمة وما بعد الكسرة من الياء يغزو

ويرمي قد يكون متحركا مفتوحا كقولك لن يغزو ولن يرمي وما بعد الفتحة لا يكون متحركا نحو رحى ويخشى وما أشبه ذلك فالإعلال سقاء وقضاء وعطاء ألزم بسبب الفتحة على ما ذكرنا فإن قال قائل: قد ذكرتم أن الواو والياء إذا وقعتا طرفا وقبلها ساكن أنهما يصحان ويتحركان كظبي وغزو فلم أعللتم الواو والياء بعد الألف وهي ساكنة قيل له هذه الألف زائدة وإنما يقدر دخولها بعد ما لزم الحرف الإعلال كان سقاء وعطاء أصلهما سقى وعطو فلزم الواو والياء الإعلال بتطرفهما وتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ثم دخلت الألف فلم تحل بين الفتحة وحرف العلة ولم تمنع من الإعلال والحرف الساكن في ظبى وغزو ودلو لا يقدر فيه هذا التقدير لأنه أصلي لا يقدر سقوطه. قال: " ولا يكون هذا ي دلو وظبي ونحوهما لأن المتحرك ليس بالعين ولأنك لو أردت ذلك لغيرت البناء وحركت الساكن " يعني: أن انفتاح الظاء من ظبي والدال من دلو لا يوجب إعلال الياء والواو، لأن الحرف الساكن الذي قد حال بينهما ولا يشبه الحرف الساكن في هذا الألف في سقاء وقضاء وعطاء وما أشبهه؛ لأن الحرف الساكن في ظبي ودلو هو عين الفعل وفي سقاء وعطاء زائد كما ذكرنا ولو عللنا الياء من ظبي والواو من دلو لحركنا الساكن منهما إذ كان محتملا للتحريك كما تقول أقام يقيم وأبان يبين وأصله قوم وأبين وليست الألف في سقاء وعطاء كذلك؛ لأنها لا تحتمل الحركة فإذا أعل ما بعدها صير همزة ولو غيرنا الساكن في ظبي ودلو لتغير البناء وأشبه فعل نحو رحى وعصا فاعرفه إن شاء الله. قال سيبويه رحمه الله: " واعلم أن هذه الواو لا تقع قبلها أبدا كسرة إلا قلبت ياء وذلك نحو غاز وغزي لأن هذه الواو إذا وقعت طرفا وقف عليها بالسكون؛ وقبلها كسرة وكل واو ساكنة قبلها كسرة تنقلب ياء لا محالة " قال وسألته عن قوله غزي وشقي إذا خففت في قول من قال عصر وعلم ذاك. فقال: " إذا فعلت ذلك تركتها ياء على حالها لأني إنما خففت ما قد لزمته الياء وإنما أصلها التحريك وقل الواو وليس أصل هذا بفعل ولا فعل ألا تراهم قالوا لقضو الرجل، ثم قالوا تقضو الرجل فلما كانت مخففة مما أصله التحريك وقلب الواو لم يغيروا الواو ولو قالوا غزو وشقو لقالوا قضي " اعلم أن الحرف متى لزمه البدل إلى حرف آخر لعلة أوجبت البدل صار بمنزلة حرف من الكلمة وثبت فيها وإن زالت العلة

الموجبة للبدل ما لم تغير الكلمة عن معناها في نفسها فمن ذلك أنا نقول أغزيت ودانيت والأصل اغزيت ودانوت ولكن الواو تنقلب في المستقبل ياء في قولك يغزي ويداني لانكسار ما قبلها فجعلت في الماضي كذلك وإن لم يكن ما قبلها مكسورا؛ لأن المضي والاستقبال ليس باختلاف معنى ألا ترى أن المستقبل يصير ماضيا إذا أتى عليه زمان كونه وكذلك هما يغزوان ويدعيان؛ لأن الماضي قد لزم فيه القلب تقول غزي ودعي للكسر الذي قبله فجعل في المستقبل كذلك، فإذا كان القلب الذي يجب في المستقبل يجري في الماضي والذي يجري في الماضي يلزم في المستقبل على ما بينا والذي بيّن الفعل التام الحركات والفعل الذي خفف بعض حركاته، والاستقبال أقرب وذلك قولك غزى وشقى إذا خففناه قلنا غزى وشقى ولم ترد الواو التي انقلبت منها ياء كما لم تردها في يغزيان ويشقيان، لأن غزى وشقى أولى أن يحمل على غزي وشقي من حمل يغزي ويشقي عليه إذ كان معناهما وزمانهما واحدا وكذلك لقضو الرجل في باب التعجب قلبت الواو ياء لانضمام ما قبلها فإذا سكناها تخفيفا بقيت الواو كما بقيت الياء في غزى فهذا حكم الحرف الذي يبدل ثم يعرض لهذا المخفف أعني غزي ورضي ما يخالف حكم غزى ورضى وذلك أنا إنما جمعنا فألحقنا ضمير المذكرين الواو قلنا في المخفف غزيوا ورضيوا فأثبتنا الياء ولم نحذفها ولو دخلنا على غزى ورضى لحذفت الياء فقلنا رضوا وغزوا فان قال قائل: فقد فرقتم بين حكم المخفف والمشبع في الجمع فهلا فرقتم بينهما في رد الواو، قيل له إنما فرقنا بينهما في الجمع لأنا إذا ألحقنا رضى وغزى علامة الجمع وهي الواو سكنت الياء استثقالا لضمها وقبلها كسرة فاجتمع ساكنان الواو والياء فأسقطنا الياء لاجتماع الساكنين وضممنا قبل الواو لتسلم علامة الجمع ومتى قلنا رضى وغزو ثم جمعنا لم نحذف شيئا لأن الياء إذا انضمت وقبلها ساكن لم يستثقل فلم نحتج إلى تسكين الياء إذا سكنا ما قبلها وما حذف لاجتماع الساكنين من كلمة واحدة يعود إذا لم يجتمع ساكنان كقولك غلاما الرجل فتسقط ألف الوصل في اللفظ لاجتماع الساكنين وكذلك هذان عبدا الله وهؤلاء مسلمو البلد بسقوط الواو فإذا زال اجتماع الساكنين عاد الحرف في اللفظ كقولك غلاما زيد ومسلمو بلدك ألا ترى أنك إذا نسبت إلى ناجية أو إلى قاض قلت ناجي وقاضي، فإذا رخمته قلت يا قاضي ويا ناجي وذلك إنما حذفت الياء التي في قاضي وناجي لاجتماع الساكنين ياء قاضي والياء الأولى من ياءي النسب فلما حذفت ياءي النسب للترخيم عادت الياء التي ذهبت لاجتماع الساكنين مثل ذلك الحركة إذا دخلت بسبب حرف، ثم زال ذلك الحرف زالت الحركة كقولك دجاجة بيوض ودجاج

هذا باب ما يخرج على الأصل إذا لم يكن حرف إعراب

بيض فإن خففنا فسكنّا الياء قلنا دجاج بيض فكسرنا الياء لسكون الياء حتى تسلم فإذا حركنا الياء زالت الكسرة وكذلك لو بنينا من جئت فعل لقلنا جيء على مذهب الخليل وسيبويه ومتى خففنا الهمزة قلنا جي وذلك أن الأصل في جيء جي وكسرنا الجيم لتسلم الياء كما قلنا في بيض لسكون الياء فإذا ألقينا حركة الهمزة على الياء تحركت الياء فعادت ضمة الجيم التي هي لها في الأصل وإذا بنينا منه فعلل قلنا جويء والأصل جييء وقلبنا الياء واوا لانضمام ما قبلها وسكونها وبعدها من الطرف كما قلبناها في عوطط وكولل وهو فعلل من الكيل، فإذا خففنا الهمزة ألقينا حركتها على الواو فتحركت فرجعت إلى الياء ألا ترى أنك تقول موقن والأصل ميقن فتقلب الياء واوا لسكونها وانضمام ما قبلها فإذا صغرت أو جمعت قلت مييقن ومياقن لتحرك الياء وتقول في تصغير ليّة لويّة وذلك أن الأصل في ليّة لوية ثم قلبت الواو ياء لسكونها وكون الياء بعدها فإذا صغرناها تحركت فعادت الواو وليس شيء من ذلك بمنزلة غزى لأن الواو إنما قلبت للكسرة فصارت كأنها من الياء ولزمتها الياء كما أغزيت بسبب يغزي. هذا باب ما يخرج على الأصل إذا لم يكن حرف إعراب وذلك قولك الشقاوة والأداوة والنقاوة والنقاية والنهاية قويت حيث لم يكن حرف إعراب. قال أبو سعيد رحمه الله: " قد كنا بينا أن الياء والواو إذا وقعتا بعد ألف أنهما تقلبان همزة وإذا اتصلت بهما هاء أو غيرها مما يقع الإعراب عليه أقرّتا على لفظهما وكذلك الواو إذا وقعت طرفا وقبلها ضمة قلبت ياء كادل واحق فإذا اتصل بها ما يقع عليه الإعراب لم تقلب نحو عرقوة وقلنسوة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فأما قولهم صلاءة وعباءة وغطاءة فالأصل فيها صلاي وعظاي وعباي فهمزت هذه الياءات بوقوعهن طرفا بعد ألف ثم دخلت الهاء عليهن بعد انقلابهن همزات، ومن قال صلاية وعباية وعظاية لم نقدر الياء منفصلة من الهاء وكأن بنية الكلمة وقعت على التأنيث في أوليتها كما قالوا النهاية والنقاية ومثل عظاءة وصلاءة قولهم مسنية ومرضية للمؤنث والأصل مسنو ومرضو؛ لأنه من سنوت ومن الرضوان ووقعت الواو طرفا فشبهوها بعتيّ وادل وقد فسر هذا ثم دخلت هاء التأنيث عليها بعد انقلاب الواو ياء بوقوعها طرفا ولو لم يقدر سقوط الهاء لم يجز قلب الواو، لأنها لم تقع طرفا وكانت تكون بمنزلة قلنسوة ". قال: " وأما من قال صلاية وعباية فانه لم يجئ بالواحد على الصلاء والعباء كما

أنه إذا قال خصيان لم يبنه على الواحد المستعمل في الكلام ولو أراد ذلك لقال خصيتان " يعني أن صلاية وعباية ليست بتأنيث عباء وصلاء لأنها لو كانت تأنيث عباء وصلاء لقيل عباة وصلاة ولكنها جاءت على غير المذكور المستعمل كما أن قولهم خصيان ليس بتثنية خصية المستعمل في الكلام بل هي تثنية خصي، وإن كان خصي لا يستعمل في الكلام ومثل هذا كثير في كلامهم ألا تراهم قالوا افتقر الرجل فهو فقير، وفقر من فقر وفقر يستعمل وقولهم في جمع ذكر مذاكي، ر ومذاكير إنما هو جمع مذكار ومذكار لا يستعمل وكذلك محاسن وملامح إنما هي جمع محسن وملمح وإن كانا لا يستعملان في الكلام ومثل خصيين الياءان تثنية إليه قال الشاعر: يرتج الياه ارتجاج الوطب وقال آخر: كأن خصييه من التدلدل … ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل قال وسألته عن الثنايين فقال: " هو بمنزلة النهاية لأن الزيادة في آخره لا تفارقه أشبهت الهاء ومن ثم قالوا مذروان فجاؤا به على الأصل، لأن ما بعده من الزيادة لا يفارقه وإذا كان قبل الياء والواو حرف مفتوح كانت الهاء لازمة لم يكن إلا بمنزلتها لو لم تكن هاء وذلك قولك علاة وهناة وقناة وليس هذا بمنزلة قمحدوة لأنها حيث فتحت وقبلها الضمة كانت بمنزلتها منصوبة في الفعل ". قال أبو سعيد رحمه الله: أما الثنايان فهذه الياء وقعت بعد ألف واتصلت بها علامة التثنية فلم يجب قلبها همزة، لأن واحدها لا يفرد كما أن هاء النهاية لما اتصلت بالياء وقع الإعراب عليها لم يجب قلبها همزة والثنايان حبلان أحدهما مشدود مع الآخر أو حبل واحد يعطف في الشد حتى يصير كحبلين يقال عقلته بثنايين ومثله مما لا يقلب للزوم علامة التثنية له قولهم مذروان وهما طرفا الإلية قال الشاعر: أحولي تنفض إستك مذرويها … لتقتلني فها أنا ذا عمارا ولا يستعمل في الكلام واحد المذروين ولو استعمل واحده لقيل مذري كما يقال مغزي وكان يثنى على مذريان لأنا إذا قلنا مذري فالألف تكون منقلبة من ياء، لأنها وقعت رابعة طرفا في موضع تنقلب الواو فيه ياء كقولنا في أغزى أغزيت ودانى دانيت وهو من الواو ولكن مذروان لما اتصل بها علامة التثنية ولم تقع طرفا صارت بمنزلة

قمحدوة فإن قال قائل: فإن سيبويه فرق بين الواو التي قبلها ضمة وبين الواو التي قبلها فتحة فجعل الواو التي قبلها ضمة إذا انفتحت تصح كما صحت في لن يغزو حتى وقع الإعراب على غيرها كقولهم قمحدوة وإذا انفتح ما قبل الواو انقلبت ألفا نحو غزا ودعا واستدل بهذا على أن الواو إذا كانت قبلها فتحة أشد اعتلالا فكيف تثبت الواو في مذروان وقبلها فتحة قيل له قد كان حكم هذه الواو أن تقلب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ولو جعلناها ألفا ثم اتصلت بها علامة التثنية لرجعت الألف إلى الياء والواو كما يقال في تثنية رحى رحيان، وقفا قفوان وليس الكلام في مذروان من جهة إعلال الواو وإنما الكلام فيه أنهما لم يفردا فتقلب الواو ياء ثم تثنى بالياء فتكون شاهدا للصلاية والعطاية أنها لم تذكر فتصير الياء همزة وكذلك النهاية والدراية وما أشبه ذلك على أن سيبويه إنما قصد إلى الواو والياء إذا انفتح ما قبلهما وهما في موضع لام الفعل واتصلت بهما هاء التأنيث اعتلت وانقلبتا ألفين نحو علاة ومناة وشياة وما أشبه ذلك وإذا انضم ما قبل الواو صحت إذا كانت الهاء بعدها نحو قلنسوة وعرقوة وفرق بين المضموم ما قبله والمفتوح وليست علامة التثنية بمنزلة التأنيث؛ لأن علامة التثنية لا يكون ما قبلها ساكنا ولم توجد الواو لاما وقبلها فتحة إلا معتلة وإذا كانت قبلها ضمة جاز أن لا تعتل كقولك سرو يريد أن يغزوك. قال: " وأما النفيان والغثيان فإنما دعاهم إلى التحريك أن بعدها ساكنا فحركوا كما قالوا رميا وغزوا " وقد ذكرنا هذا فيما مضى مشروحا. قال: " وإذا كانت الكسرة قبل الواو ثم كان بعدها ما يقع عليه الإعراب لازما أو غير لازم فهي مبدلة مكانها الياء؛ لأنهم قد قلبوا الواو في المعتل الأقوى ياء، وهي متحركة لما قبلها من الكسر وذلك نحو القيام والثيرة والسياط ". قال أبو سعيد- رحمه الله-: يعني متى وقعت قبل الواو كسرة وهي لام الفعل انقلبت ياء، وإن كانت بعدها هاء التأنيث كقولك محنية والأصل محنوة، وإنما انقلبت الواو ياء للكسرة قبلها وإن لم يقع الإعراب عليها لأنها قد انقلبت ياء فيما هو أقوى من واو محنوة وأبعد من الطرف وذلك في قيام وسياط وثيرة، وذلك أن الياء في قيام منقلبة من واو وهي عين الفعل وقد بعدت من الطرف، ووقع الإعراب على غيرها ومما يقوي هذا أنهم يقولون هذا قنية، وإنما هو في الأصل قنوة فجعلوا الواو ياء لكسرة القاف، وبينهما النون الساكنة وقد وقع الإعراب على الهاء، فإذ أجاز قلب الواو التي هي لام الفعل ياء لكسرة بينهما وبين الواو حرف ساكن وجب أن تقلب ياء متى وليت الكسرة ولم يكن بينهما حرف.

هذا باب ما تقلب فيه الياء واوا ليفصل بين الصفة والاسم

هذا باب ما تقلب فيه الياء واوا ليفصل بين الصفة والاسم " وذلك فعلى إذا كانت اسما أبدلوا مكانها الواو نحو الشروى والتقوى والرعوى والفتوى وإذا كانت صفة تركوها على الأصل وذلك نحو صديا وخزيا وريّا ولو كانت ريا اسما لقلت روّى لأنك كنت تبدل الواو وموضع اللام وتثبت الواو التي هي عين الفعل ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الذي يشتمل عليه هذا الباب قد مضى بيان أكثره وأنا أعيده وأبين جملة الباب وجملته إنه شذ فيه بابان عما يوجبه القياس إحدهما فعلى إذا كانت لامه ياء وهو اسم قلبت واوا نحو رعوى وشروى وكان القياس رعيا وشريا، لأنه من رعيت وشريت وليس قبلها ما يوجب قلب الياء واوا والآخر فعلى إذا كان اسما ولام الفعل منه واو تقلب ياء، وذلك قولك العليا والدنيا والقياس فيها العلوي والدنوي وهما شاذان ومع الشذوذ قد زعم سيبويه أنهم أرادوا الفعل بين الاسم والصفة فجعلوا الاسم في فعلي من ذوات الياء بالواو لأن الاسم أخف وهو أجمل للواو الصفة متروكة على الياء لأن الياء أخف فإذا كان ريان وريا صفة فالأصل فيه رويا من رويت وقلبت الواو ياء ولو بنينا من فعلي اسما مثل شروى ورعوى لقلنا روي، لأن عين الفعل واو في الأصل وقلبنا لامه واوا لأنه اسم فاجتمعت واوان وذكر سيبويه في غير هذا الموضع أنهم أبدلوا الياء واوا في رعوي وشروي عوضا للواو من كثرة دخول الياء عليها وذكر أن الصفة من باب فعلى من ذوات الواو على الأصل ولم أجده ذكر صفة على فعلي مما لامه واوا إلا ما يستعمل بالألف واللام نحو الدنيا والعليا وما أشبه ذلك وهذه عند سيبويه بمنزلة الأسماء وإنما ذكر أن فعلي من بنات الواو، إذا كانت صفة على أصلها وإن كان لا يحفظ في كلامهم شيء من ذلك على فعلا لأن القياس أن يحمل على أصله حتى يتبين أنه خارج عن أصله شاذ عن بابه وأما القصوى فالباب فيه القصيا كما قالوا الدنيا والعليا وإنما قالوا القصوى، لأنها صفة بالألف واللام وإن كانت الصفات اللاتي لا يستعملن إلا بالألف واللام بمنزلة الأسماء. هذا باب ما إذا التقت فيه الهمزة والياء قلبت الهمزة والياء ألفا وذلك قولك مطيّة ومطايا وركيّة وركايا وقد ذكرنا هذا فيما مضى ونعيد بعضه هاهنا ركية فعيلة مثل صحيفة وسفينة فإذا جمعنا أدخلنا ألف الجمع بعد الكاف ثالثة فانقلبت الياء الأولى من ركية همزة ووقعت بعد ألف الجمع وهي فعلية كما قلت صحائف فوقعت ياء فعيلة بعد الجمع مهموزة فصارت ركائي والهمزة ثقيلة والياء من حروف

الاعتلال فقلبوا الياء ألفا كما قلبوها في مدارى حيث قالوا مدارا غير أن القلب في مدارى غير لازم، لأنه لم يعرض قبل الياء حرف ثقيل معتل وهو الهمزة وفي ركائي لازم لاجتماع هذين الحرفين الثقيلين ثم غيروا الهمزة كما غيروا ما بعدها لأن باجتماعهما ثقل الاسم فلحقهما التغيير فلما غيروا الهمزة لم يمكن تغييرها إلى الألف إذ كانت أشبه حروف الاعتلال بها فغيرت إلى الياء لأن الياء أقرب إلى الألف من الواو ووجه آخر وهو أن الهمزة وقعت بين ألف فصارت هي والألفان كهمزتين لقرب شبه الألف منها فوجب الإبدال كما تبدل من الهمزتين فإذا اجتمعتا فأبدلت إلى أقرب الحروف شبها بالألف وهو الياء. ثم قال سيبويه عقب هذا الاحتجاج بذلك: " إن الذين يقولون سلاء فيحققون كما ترى يقولون رأيت سلا فلا يحققون كأنها همزة جاءت بعدها همزة " يعني أنهم إذا قالوا سلا فليست ها هنا همزة وألفان فإذا نصبت جعلت بعد الهمزة ألفا بدلا من النون فصارت الهمزة بين ألفين فلم يحققوا، لأنهم أقاموا الألفين مقام همزة فكأن همزتين قد اجتمعتا فيجب التخفيف والتليين. قال: " وأبدلوا مكان الهمزة الياء التي كانت ثابتة في الواحد كما أبدلوا مكان حركته قلت التي في القاف وحركة ياء بعت اللتين كانتا في العينين ليعلم أن الياء في الواحد كما علم أن ما بعد الياء والقاف مضموم ومكسور " يعني أنهم إنما أبدلوا الياء من الهمزة في مطايا لأن الياء كانت في الواحد ظاهرة فجعلوها على فعلت لتلقى حركة العين على الفاء فيعلم بحركة الفاء حركة العين كأنه قد علم حركة الواو المحذوفة من قلت أنها كانت ضمة بضمة القاف وعلم حركة الياء المحذوفة من بعت أنها كانت كسرة بكسرة الياء. قال: " وقد قال بعضهم هداوي فأبدلوا الواو لأن الواو قد تبدل من الهمزة " يعني أنهم قد يبدلون من الهمزة واوا في حمراوان وسماوى ونحو ذلك. قال: " وأما ما كانت الواو فيه ثابتة نحو أداوة وعلاوة وهراوة فإنهم يقولون هراوي وعلاوي وأداوي وألزموا الواو هاهنا كما ألزموا في ذلك ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن أداوة تجري مجرى جمع مطية في كل حال إلا في قلب الهمزة التي بين ألفين فأنها تقلب في جمع مطية ياء وفي أداوة واوا وإنما استويا في الجمع من قبل أن أداوة فعالة على وزن رسالة فإذا جمعناها أدخلنا ألف الجمع عليها ثالثة بعد الدال كما تدخل ألف الجمع ثالثة بعد السين فيقع بعد ألف الجمع ألف أداوة وألف

رسالة فلا يمكن تحريك الألف فجعلت همزة، لأنها أقرب الحروف إلى الألف فلما صيرت همزة وكسرت انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وتطرفها فصارت ادائي مثل مطائي ثم صيرت الياء المتطرفة ألفا فصارت اداأا كما صارت مطاأا فقلبوا همزة مطاأا ياء لظهور الياء في مطية وقلبوا الهمزة في أداأا واوا لظهور الواو في واحدها وليست الواو في اداوي هي الواو في اداوة لأن الواو في أداوة قد انقلبت ياء وهي طرف الواو في اداوي هي منقلبة من الهمزة التي كانت بدلا من ألف أداوة والألف في اداوة ليست للتأنيث بل هي بدل من ياء كما ذكرنا مثل ألف مدارى وعذارى. قال: " ولم يفعلوا هذا في جاءي لأنه ليس على مثال قاضي ونحوه تبدل فيه الياء ألفا " يعني أنهم لا يجعلون الألف بدلا من الياء في قاضي ونحوه، لأنهم لو فعلوا ذلك فصيروه قاضا لصار بمنزلة ضارب نحو جاري وقاضي زيد عمرا إذا حاكمه وليس كذلك مداري إذا قلبت ياؤها ألفا لأنه ليس في الكلام مفاعل فلا يقع لبس. قال: " وفواعل منهما بمنزلة فواعل من جئت وسوت في أنك تهمز ولا تبدل من الهمزة ياء كما فعلت ذلك في عورت وذلك قولك عوائر لا يكون أمثل حالا من فواعل وأوائل وذلك قولك شواءي " يعني أن فواعل من عورت وصيدت عواور وصيايد، فتقع ألف فواعل بين واوين أو ياءين فتقلب الثانية منهما همزة كما فعلت ذلك بأوائل وسائر ما مضى فإن قال قائل: فإن أوائل وسيايد ما بعد ألف الجمع منهما همزة لأنه جمع وللجمع حال في الاعتلال ليست لغيره قيل له فواعل وإن لم يكن جمعا فإن أوله مضموم، فضم أوله قد ألحقه ثقلا وقد رأينا الواحد يلحق بالجمع في الاعتلال، وإن كان الجمع أقوى في ذلك كما قالوا معزى وعتى مصدرا، فضم الأول قد صار له كالجمع فقوي فيه الاعتلال وكان الأخفش والزجاج لا يرى إعلال هذا ويقول فيه عواود وصيايد؛ لأنه ليس بجمع فإن قال قائل فإذا أعللتم فواعل من عورت وصيدت وأجريتموه مجرى فواعل في وجوه الإعلال فهلا أجريتموه مجرى فواعل في وجوه الإعلال كلها فيلزم إذا بنيتم فواعل من جئت وسؤت أن تقولوا جوايا وسوايا والأصل جواريي، وسواوي فوقعت الألف بين واوين أو واو وياء فقلبت الحرف الذي بعدها همزة كما تفعل في فواعل فإذا لزم في فواعل أن تقولوا جوايا وسوايا وجب في فواعل ففرق سيبويه بين فواعل وفواعل فقال فواعل إذا فتحناه وقلبنا الياء لا يلتبس ببناء آخر وفواعل متى قلبنا الياء ألفا التبس بحباري وشكاعي وما أشبه ذلك.

هذا باب ما بني على أفعلاء وأصله فعلاء

قال: " ولو بنينا فعائل من ذوات الياء لقلنا فيهما مطاءي ورماءي " ولم نقل مطايا ورمايا لما ذكرناه فان جمعناه قلنا مطاي ورماي ولم نقل مطايا ورمايا؛ لأن هذه همزة كانت في الواحد ولم تعرض في جمع فصارت كهمزة جائية وجوائي وذكر في هذا الفصل إلى آخر الباب ما أتى شرحنا عليه فيما تقدم. هذا باب ما بني على أفعلاء وأصله فعلاء وذلك أثرياء وأغنياء وأشقياء وإنما صرفوها عن سرواء وغنياء وشقياء؛ لأنهم يكرهون تحريك الياء والواو وقبلهما الفتحة إلا أن يخافوا التباسا في نحو رميا وغزوا ونحوهما قد بينا أن الياء إذا كانت قبلها فتحة والواو إذا كانت قبلها فتحة أشد اعتلالا منهما إذا كانت قبلهما كسرة لا ضمة وقد رأينا جمع فعيل يكون عليه أفعلاء وفعلاء، فإذا جمعنا شقيا وغنيا على فعلاء صارت شقواء وغنياء فوقعت قبل الياء والواو فتحة وإذا جمعناها على أفعلا، فقلنا أشقياء وأغنياء صار قبل الياء كسرة وكان أخف كما يقال شقي وغني فاقتصروا على هذا الجمع الأخف ومما جاء من فعيل على أفعلاء نصيب وانصباء وقريب وأقرباء وكذلك الكلام في فعيل المضاعف وهو ما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو جليل وأجلاء وحبيب وأحباء ولبيب ولباء، واختاروا هذا الجمع واقتصروا عليه؛ لأنهم لو جمعوه على فعلاء لقالوا لبيب ولبباء وحبيب وحبباء فثقل بإظهار الحرفين والإدغام في أحباء والباء أخف. هذا باب ما يلزم الواو فيه بدل الياء " وذلك إذا كانت فعلت على خمسة أحرف فصاعدا وذلك قولك اغزيت وغازيت واسترشيت. قال: " وسألت الخليل عن ذلك فقال إنما قلبت ياء لأنك إذا قلت يفعل لم تثبت الواو للكسرة فلم يكن ليكون فعلت على الأصل وقد أخرجت يفعل إلى الياء وأفعل وتفعل ونفعل ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد مضى فيما تقدم من شرح هذا جملة كافية ولكنا نعيد منها ما يتسق عليه الكلام الذي يأتي بعده اعلم أن الفعل متى كان ماضيه على أربعة أحرف فصاعدا فلابد من كسر ما قبل آخر مستقبله كقولك أكرم يكرم وقاتل يقاتل ودحرج يدحرج وكسر يكسر وانطلق ينطلق وارتبط يرتبط وغيرها من الأفعال التي ماضيها على أربعة أحرف أو أكثر، فإذا كان لام الفعل واوا فلا محالة أنها تنقلب ياء في

المستقبل؛ لأنك إذا وقفت عليها سكنت وقبلها كسرة فتنقلب ياء كما انقلبت ياء ميزان وما أشبهه فلما انقلبت ياء في جميع المستقبل من أفعل وفاعل وسائر ما ذكرنا لانكسار ما قبلها وسكونها في الوقف وجب قلبها في جميع تصاريف الفعل. قال: " قلت فما بال تغازينا وترجينا وأنت إذا قلت يفعل منهما كان بمنزلة يفعل من غزوت قال الألف هاهنا بدل من الياء التي أبدلت مكان الياء وإنما أدخلت التاء على غازيت ورجيت " قوله " قلت " يعني قت للخليل لم قالوا تغازينا وترجينا فقلبوا الواو التي كانت في غزوت ورجوت ياء ومستقبل هذين الفعلين لا ينكسر ما قبل آخره، لأن تفاعل وتفعل تقول في مستقبلهما يتفعل ويتفاعل فإذا قلت يترجى ويتغازى لم ينكسر ما قبل آخرهما وإنما كان السبب في قلب الواو ياء في اغزيت ورجيت انقلابها في المستقبل إذا قلت يغزي ويرجي وليست هذه العلة موجودة في يتغازى ويترجى لانفتاح ما قبل آخرهما في المستقبل فقال الخليل مجيبا إن تغازيت وترجيت أصلهما غازيت ورجيت وانقلابها ياء في غازيت ورجيت للعلة التي ذكرناها. وقال: " ضوضيت وقوقيت بمنزلة ضعضعت ولكنهم أبدلوا الياء إذا كانت رابعة فإذا كررت الحرفين فهما بمنزلة تكريرك الحرف الواحد " يعني أن الأصل في ضوضيت وقوقيت ضوضوت وقوقوت وقلبت الواو ياء للعلة التي لها قلبت الواو ياء في اغزيت وسائر ما ذكرناه وهي انكسار ما قبلها في المستقبل وإنما حكمنا أن الياء في قوقيت منقلبة من واو دون أن يكون ياء في أصلها أنّا رأينا أكثر هذه الأفعال الرباعية مضاعفة كقولك صعصعت وصلصلت وجرجرت وما أشبه ذلك فقضينا ضوضيت وقوقيت بالأغلب في الباب وفعلل من المكرر يجيء على ضربين أحدهما أن يكون أصله مما عينه ولامه من جنس واحد فاذا بنوا منه فعلل اجتمع فيه ثلاثة أحرف من جنس واحد وأشبه لفظة لفظ فعل فيقلبون الأوسط من الثلاثة الأحرف وهو لام الفعل مثل الحرف الذي في موضع الفاء من الفعل كقولك كفكفتة من كففته وكبكبت من كببت قال الله عز وجل فَكُبْكِبُوا فِيها أي فكبوا فيها وأصله كببوا وكففته واستثقل ثلاثة أحرف من جنس واحد مع اللبس الذي يقع بين فعللت وفعلته فقلبوا واحدا منها على لفظ أقرب الحروف إليه وهو فاء الفعل ولو تركوه ولم يقلبوه فقالوا كففته وكببته لكان لفظه كلفظ فعلت فكان يجتمع مع الاستثقال ليس بين بناءين والدليل على أنهم يستثقلون كففته وكببته وما جرى مجراهما

لاجتماع حروف من جنس واحد قولهم دسيت في دسست وقد قال الله عز وجل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها في معنى من دسسها وكما قال تظنيت في معنى تظننت وذكر الفراء أن كبكبت وما كان نحوه مما عينه ولامه جنس واحد في الأصل يجوز أن يكون فعل ويجوز أن يكون فعلل فأما فعلل فقد ذكرناه ولا يجوز أن يكون فعل كما ذكره وذلك أن فعل مصدره تفعيل أو تفعله فلو كان كبكبت فعلت لوجب أن يكون مصدره تكبيب أو تكبة فلما قالوا كبكبت كبكبة علمنا أنه فعللت والضرب الثاني من هذا ما كان مبنيا لصوت على حرفين يتكرران كقولك قرقر الطائر وقعقع الحلي إذا صوت، وذاذا الحجر إذا تدحرج من علو جبل إلى قراره. فإن قال قائل فكيف اقتصروا من هذا الصوت المكرر على اثنين فلم يجاوزوه ولم ينقصوه فيصيروه واحدا قيل له أما مجاوزة الواحد فقد وجبت بالتكرير الذي يلزم الصوت وأما الاقتصار على الاثنين فلو لم يقتصروا على الاثنين للزمهم أن يذكروا عدد ما يكرر عليه الصوت من المرات ومثل ذلك قولهم قام القوم رجلا رجلا رضوا من عدد الرجال برجلين فلم يجاوزوهما ولم يقتصروا على واحد وذلك أن المعنى يراد منه التردد فلم يكتف بالواحد ولو جاوز الاثنين لاحتاجوا أن يعدوا جمع الرجال وقد يجيء على فعللت مضاعفا ما لا يعرف منه فعل عينه ولامه من جنس واحد ولا هو من الأصوات المكررة كقولك عسعس الليل إذا أدبر وولى، وقال بعضهم: إذا اعتكر وتراكبت ظلمته وصعصع القوم إذا اضطربوا ونحو ذلك فهذا إما أن يكون أصله ما ذكرناه وإما أن يكون على فعلل مثل دحرج واتفق أن يكون لاماه من جنس عينه وفائه. قال: " فإنما الواوان هاهنا بمنزلة ياءي حييت وواوي قوّة لأنك ضاعفت " يعني أن الواوين في ضوضوت وقوقوت وإن كانت الثانية منهما منقلبة ياء بمنزلة ياءي حييت وواوي قوّة وذلك إن ياءي حييت وإن كانتا ياءين على لفظ واحد هما عين الفعل والأخرى لامه فكذلك واو ضوضوت إحداهما عين والأخرى لام. قال: " وكذلك حاحيت وعاعيت وهاهيت ولكنهم أبدلوا الألف لشبهها بالياء فصارت كأنها هي " يعني أن حاحيت فعللت مثل ضوضيت والألف فيه منقلبة من ياء والأصل حيحيت والدليل على أن الألف منقلبة من ياء أنا رأينا ذوات الواو من هذا الباب تجيء على أصلها كقولك ضوضيت وقوقيت ولم نر شيئا من ذوات الياء جاء من هذا

الباب، والألف لا تكون أصلا وإنما هي منقلبة فجعل انقلابها من ياء وقد ذكرنا هذا فيما مضى بأتم من هذا التفسير مع ذكر الخلاف الذي فيه وقد يقلبون من الياء الساكنة ألفا كقولك ياجل في ييجل. قال: " يدلك " على أنها ليست فاعلت قولهم الحيحاء والعيعاء كما قالوا السرهاف والفرشاط والقلقال والحاحاة والهاهاة فأجري مجرى دعدعت إذ كن للتصويت كأن متوهما توهم أن حاحيت وهاهيت وعاعيت فاعلت فاحتج عليه سيبويه بمصدرهن وذلك أن مصدر فاعلت مفاعلة ومصدر فعللت فعللة فلما قالوا في مصدر حاحيت حاحاة وحاحاة فعللة قضي على حاحيت أنه على فعللت لما ذكرناه. ومعنى قوله " فأجري مجرى دعدعت " يعني أن دعدعت قد علم أنه فعللت وأنه ليس بفاعلت وهو تصويت فكذلك حاحيت وهاهيت وكذلك أكثر ما يجيء من الأصوات على هذا الوزن كقولك جهجهت بالسبع وساسات بالحمار وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. قال: " كما أن دهديت هي فيما زعم الخليل دهدهت بمنزلة دحرجت ولكنه بدل الياء من الهاء لشبهها بها وإنها من الخفاء والخفة نحوها فأبدلت كما أبدلت من الياء في هذه " يعني أن دهديت أصله دهدهت وقلبوا من الهاء الثانية ياء لاجتماع الهاءين فكذلك حاحيت أصله حيحيت ولاجتماع الياءين قلبت إحداهما وكان قلب الأولى أولى، لأن الثانية طرف ولو كانت غير ياء انقلبت ياء فإن قال قائل: إذا كانوا يقولون دهدهت ودهديت ودهدية ودهدوهة فكيف صارت الهاء الأصل والياء بدل منها قيل له الهاء أولى أن تكون أصلا وذلك أنا رأيناهم قد يبدلون للتضعيف أحد الحرفين إلى الياء كقولهم في تظننت لاجتماع النونات فكذلك دهديت أصلها دهدهت فقلبوا إحدى الهاءين فإن قال قائل: فما وزن دهدية قيل له فعلولة مثل دهدوهة ودحروجة وكان أصله دهدوية فاجتمعت واو وياء الأولى منهما ساكنة فقلبت الواو ياء وأدغمت الدال لتسلم الياء. قال: " فأما الغوغاء ففيها قولان أما من قال غوغاء فأنث ولم يصرف فهي عنده مثل عوراء " يعني تكون الألف للتأنيث وتكون غوغاء على فعلال مثل صلصال وأصله غوغاو.

وقال: " وكذلك الصيصية والدوداة والشوشاة فإنما يضاعف حرف ياء وواو كما ضاعفت القمقام فجعلت هؤلاء بمنزلتها " يعني أن شوشاة أصلها شوشوة ودوداة دودوة وقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فوزنهما فعللة وليس فيها زائد غير هاء التأنيث ومعنى شوشاة السريعة ودوداة أرجوجة من أراجيج الصبيان فإنما جعل شوشاة فعللة ولم يجعل شيئا من حروفه زائدا؛ لأنها أولى بها من سائر الأبنية وذلك أنها تحتمل أن تكون فوعلة إذا جعلت الواو زائدة ويحتمل أن تكون فعلاة إذا جعلت الواو أصلية والألف زائدة، ويحتمل أن تكون فعللة بأن تكون الواو أصلية وتكون الألف منقلبة من واو ويكون أصلها شوشة وهذا البناء أولى بها وأن فعللة أكثر في الكلام من فوعلة وفعلاة وكذلك صيصية الياءان أصليتان وهي فعللة مثل سمسمة وجعل صيصية بمنزلة سمسمة وشوشاة بمنزلة خلخلة وجميع ذلك من الرباعي بمنزلة واحدة على وزن واحد وإن كان في بعضه حروف العلة مع أن وزن الحيا كوزن الغصص، ووزن جئت كوزن غصصت فقد تساوي ذوات الحروف الزوائد غيرها من سائر الحروف ومثل ذلك الموماة هي فعللة وإن كانت الميم من حروف الزيادة والأصل موموة ومثل مرمر فعلل لتكرير الميم وقد كثر فعلل من هذا المكرر فحمل عليه. قال: " ولا تجعل موماة بمنزلة تمسكن لأن ما جاء هكذا والأول من نفس الحرف هو الكلام الكثير ولا تكاد تجد في هذا الضرب الميم زائدة إلا قليلا " يعني أن الميم فيه أصلية بسبب التكرير الذي فيه ولو كان بدل مرمر مرتع أو غير ذلك لقضي على الميم الأولى بالزيادة ولكن يقضي عليها بالأصل لما ذكرناه وذلك معنى قوله " لا تكاد تجد الميم في هذا الضرب زائدة " يعني فيما تكرر لفظ عينه وفائه وقد تبين أن الميم زائدة في تمسكن بالاشتقاق لأن أصله من السكوت ولأنه يقال أيضا في معنى تمسكن تسكن. قال: " وأما قولهم الفيفاة فالألف زائدة لأنهم يقولون الفيف " يعني أن فيفاة هي فعلاة مثل علقاة وأرطاة وليست بمنزلة شوشاة ودوداة وذلك أنهم يقولون فيف ثم تزاد عليه الألف. قال: " وأما الفيفاء والزيزاء فبمنزلة العلياء لأنه لا يكون في الكلام بمنزلة القلقال إلا مصدرا " يعني أن زيزاء وفيفاء ليسا من المضاعف والحرف الذي انقلبت منه الهمزة زائد وهو إما ياء وإما واو وزنه فعلاء كما أن علياء وزنه فعلاء ولو كانت الهمزة

منقلبة من حرف أصلي لكان وزنها فعلال وليس في الكلام فعلال مضاعف مكرر لفظ الفاء والعين إلا مصدرا كقولك زلزل زلزالا وقلقل قلقالا والقياس في فيفاء وزيزاء أن تخالف الياء الأولى منها في التقدير الهمزة إن كانت منقلبة من ياء فالياء الأولى منقلبة من واو لسكونها وانكسار ما قبلها وإن كانت الهمزة منقلبة من واو فالياء الأولى غير منقلبة من واو وذلك أن الياء الأولى لو كانت من جنس الهمزة لكان بمنزلة القلقال وليس بمصدر ومثل غير موجود في الكلام. قال: " وإذا كانت الياء رابعة في الكلام فهي تجري مجرى ما هو من نفس الحرف وذلك نحو سلقيت وجعبيت تجريهما وأشباههما مجرى ضوضيت وقوقيت " يعني أن الياء متى لحقت في آخر الثلاثي رابعة كانت للإلحاق فيكون سلقيت الذي من سلق بمنزلة ضوضيت الذي حروفه أصلية. قال: " وأما المروراة فبمنزلة الشجوحي وهما بمنزلة صمحمح ولا تجعلهما على عثوثل لأن مثل صمحمح أكثر ". قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن شجوجي يحتمل أن يكون فعلعل مثل صمحمح فتكون السين فاء الفعل والجيم الأولى عينه والواو لامه، ثم أعاد الجيم والواو للشين هما عين ولام وقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ويحتمل أن يكون فعوعل مثل عثوثل فتكون الواو الأولى زائدة غير أن فعلعل أولى به لأنه أكثر في الأبنية من فعوعل وقطوطي مثل شجوجي. قال: " وقالوا القيقاءة والزيزاءة " أراد سيبويه أن يريك أن الهمزة في القيقاء والزيزاء ليست للتأنيث كما كانت في حمراء وخنفساء بإدخال الهاء عليها، والهاء التي للتأنيث لا تدخل على ما فيه علامة التأنيث. قال: " وبعضهم يقول قيقاءة وقواقي " إن الذي يقول قيقاءة وقواقي جعل الياء في قيقاءة منقلبة من واو بسبب انكسار ما قبلها وسكونها فلما انفتح ما قبلها في الجمع وتحركت عادت الواو كقولنا ميزان وموازين وقد يقال في جمعها قراق ولم يذكره سيبويه أنشدنا أبو بكر بن دريد: إذا تبارين على القياقي … لاقين منه أدنى عناق قال: " وسألته عن أثفية فقال هي فعلية فيمن قال اثّفت " يعني إن اثّفت فعلت

هذا باب التضعيف في بنات الياء

فالهمزة فاء الفعل والثاء عينه والفاء لامه فاثفية على هذا فعلية قال النابغة: لا تقذفني بركن لاكفاء له … وإن تأثفك الأعداء بالرفد (¬1) فقال تاثّفنك ووزنه تفّعلك ومن قال ثفيت القدر فأثفية أفعولة لأن الهمزة زائدة وأصلها أثفوية فقلبت الواو ياء. هذا باب التضعيف في بنات الياء " وذلك نحو عييت وحييت واحييت واعييت اعلم أن آخر المضاعف من بنات الياء يجري مجرى ما ليس فيه تضعيف من بات الياء ولا يجعل بمنزلة المضاعف من غير الياء، لأنها إذا كانت وحدها لاما لم تكن بمنزلة اللام من غير الياء فكذلك إذا كانت مضاعفة وذلك نحو يعيا ويحيا ". قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن ما كان من الفعل عينه ولامه من جنس واحد وهو ياء لم يجب فيه من الإدغام ما يجب في سائر الحروف كقولنا حيي وعيي ولا يلزم فيه إدغام كما لزم عضّ ومسّ ومصّ والأصل عضض ومسس وأدغمت الحرف الأول في الآخر وإنما لم يلزم في حيي مثل في عضض من قبل أن الضادين في عضّ والسينين في مسّ وكذلك غيرها من الحروف لا يلزم قلب الضاد منها والسين إلى حرف سواه والياء الثانية من حييت تنقلب ألفا في المستقبل لانفتاح ما قبلها فلما كان حيي وعيي في المستقبل منهما تقول يحيا ويحيى كانت الألف الثانية في عيي غير لازمة فلما لم تكن لازمة لم يلزم إدغام الياء الأولى فيها إذا كان حرف لا يثبت ولكن يجوز إدغامه في كل موضع تلزم الثانية فيه الفتحة بناء كقولك في الماضي حيي وفي الجمع أحية مكان أحيية وقد مضى الكلام في هذا وشبهه. ومعنى قوله: " يجري مجرى ما ليس فيه تضعيف " يعني أن آخر حيي كآخر خشى في أنه يعتل في المستقبل فتنقلب ألفا ولا يدغم فيها ما قبلها في الماضي كما لم يدغم في خشى ولم يجر مجرى المضاعف وهو باب عض ومس. ومعنى قوله: " إذا كانت وحدها لاما لم تكن بمنزلة اللام من غير الياء " يعني أن الياء إذا كانت وحدها في موضع لام الفعل ولم يكن قبلها ياء مثلها لم يكن سبيلها سبيل سائر الحروف لأن سائر الحروف لا تنقلب في المستقبل كانقلاب الياء ألفا في قولك حيي ¬

_ (¬1) انظر الحلل في شرح أبيات الجمل 1/ 97، روح المعاني 30/ 277.

يحيا وكذلك إذا كان قبلها ياء لم يكن سبيلها سبيل الحرفين المتجانسين إذا كان أحدهما عين الفعل والآخر لامه. قال: " فإذا وقع شيء من التضعيف بالياء في موضع تلزم ياء يخشى فيه الحركة وياء يرمي لا تفارقهما فان الإدغام جائز فيه لأن اللام من يرمي ويخشى قد صارتا بمنزلة غير المعتل " يعني أن الياء الثانية إذا لزمتها فتحة لا تفارقها جاز الإدغام ولم يكن لازما كما ذكرنا في عي وحي وأحية على معنى عيي وحيي وأحيية للزوم الفتحة لهن فأما إذا قلت لن يحيى فلا تدغم، لأن الفتحة في لن يحيى للنصب وهي تزول في حال الرفع والجزم ثم مثل ما أجاز الإدغام فيه من ذلك وشبهه بما صح لما لزمت فيه الحركة فقال وذلك قولك قد حي في هذا المكان ومعنى حي في هذا المكان حيي لما لم يسم فاعله ويجوز ضمه على الأصل ويجوز كسره بسبب الياء اتباعا وتسليما لها فإن قال قائل: لم أجزت الضمة والكسر في حي وحيي ولم يجز مثلها في عتى وجثى ونحوهما وجعلت ما قبل الياء منهن مكسورا لا غير؟ فالجواب أن عتي وبابه إنما ألزمنا ما قبل الياء فيه الكسر، لأن بناءه لا يشكل ولا يتوهم بكسر ما قبل الياء أنه على غير فعول في الوزن وإذا كان على ثلاثة أحرف فكسرنا جاز أن يتوهم أنه فعل كقولنا قرن ألوى وقرون لي كما تقول أحمر وحمر ويجوز أن تقول لي لتسلم الياء ولقائل أن يقول في لي مكسورا أنه بمنزلة بيض، لأن الياء المشددة الأولى منهما ساكنة، وكذلك حي في هذا المكان بمنزلة قيل ومن العرب من يقول عيي واعيياء فيظهر ولا يدغم كما قال حيي وحياء وأحيية وهو حياء الناقة. قال: " فإذا قلت يحيى أو يعيى ثم أدركه النصب فقلت رأيت معييا، وتريد أن تجيبه لم تدغم لأن الحركة غير لازمة " يعني فتحة النصب لأنها تزول في الرفع وتسكن الياء ولكن إن شئت أخفيتها وهي متحركة وإن شئت بينتها ومثل ذلك التثنية وما لحقته هاء التأنيث، وجاز أن يفارقه كقولك معيية ومحيية ومعييان ومحييان لأن الهاء دخلت على معيي وكذلك علامة التثنية فإذا فارقتها بطلت الفتحة فيها وكذلك حيان تثنية حيا من الغيث لا يجوز فيها الإدغام ولكن يجوز في ذلك الإخفاء والتبيين، والتبيين في حييان أحسن لانفتاح الياء الأولى وخفة النطق بها وإذا كانت الياء الأولى مكسورة كان الإخفاء أجود لأن الكسرة فيها بمنزلة ياء أخرى فكأنها ثلاث ياءات فآثروا الإخفاء لذلك. قال: " فأما تحية فبمنزلة أحيية وهي تفعلة ".

هذا باب ما جاء على أن فعلت منه مثل بعت وإن كان لم يستعمل في الكلام

قال أبو سعيد رحمه الله: فرق سيبويه بين معيية ومحيية وبني أحيية وتحية وأصلها تحيية، لأنها مصدر حييت كما تقول كرمت تكرمه فأجاز في أحيية وتحيية الإظهار والإدغام كما ذكرناه، لأن الهاء في أحيية وتحيية لا تفارقها ولا يكون فيها تذكير، فالحركة لازمة للياء الثانية وفي محيية ومعيية يلحقها التذكير فتزول حركة الياء ثم قال في آخر الباب محتجا لجواز إدغام الياء في محيية وأحية. قال: " وأما المضاعف من الياء فقليل لأن الياء قد تثقل وحدها لاما فإذا كان قبلها ياء كان أثقل لها يعني اجتماع ياءين قليل في كلامهم لأن الياء وحدها قد تستثقل في نحو القاضي والرامي وحيي تسكن في موضع الرفع والجر وتحذف في نحو يرمي في الجزم فإذا اجتمعت ياءان ولزمت الثانية الحركة أدغموا لأن الإدغام أخف من الإظهار. هذا باب ما جاء على أن فعلت منه مثل بعت وإن كان لم يستعمل في الكلام " لأنهم لو فعلوا ذلك صاروا بعد الاعتلال إلى الاعتلال والالتباس فلو قلت يفعل من حيي ولم تحذف لقلت يحيي فرفعت ما لا يدخله الرفع في كلامهم فكرهوا ذلك كما كرهوا في التضعيف فإن حذفت فقلت يحيي أدركته علة لا تقع في كلامهم وصار ملتبسا بغيره يعني يعي ويقي ونحو ذلك ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد كنا بينا فيما تقدم أن حرفي علة إذا اجتمعا في آخر الفعل لم يجز إعلالهما جميعا وإنما يعل أحدها والأولى بالإعلال منهما الأخير وهو لام الفعل دون عينه كقولك حيى وشوى وأحيى وأغوى وفي المستقبل يحيا ويشوى ويحيى ويغوى جعلنا الحرف الأولى بمنزلة حرف صحيح وأقررناه على لفظه في الماضي والمستقبل ووفيناه ما يستحقه من الحركات في مواضعها ولحق الثاني القلب والتغيير والسكون والحذف فالقلب والتغيير قولك في مستقبل حيى يحيا وشوى بألف والأصل شويت بالياء والسكون في يشوي ويحيي في حال الرفع والحذف في الجزم، كقولك لم يشو ولم يحي ولو صححنا لام الفعل وأعللنا عينه لخرج عن منهاج كلامهم ودخله اللبس ووجب أن نقول في يفعل ويفعل من حي يحيى ويحيى لأنا إذا أعللنا عين الفعل وجب أن نقول في حيي حاي كما نقول فيما اعتلت عينه وصحت لامه نحو باع وهاب وأن نقول في احيي احاي كما نقول أبان وألان ومتى قلنا ذلك كان المستقبل كالمستقبل فنقول يحيى كما نقول تبيع ونقول يحيى كما نقول يبين ويلين، فتضم الياء في الفعل المستقبل

علامة للرفع وليس بموجود في شيء من الفعل لأن الياء تسكن في الفعل في موضع الرفع ولو قال قائل تسكن الياء في الفعل في موضع الرفع ولو قال قائل تسكن الياء في الرفع لزمه أن يحذف الياء الأولى التي هي عين الفعل لسكونها وسكون لام الفعل في موضع الرفع فيقول يحيى فإذا قال يحيى أشبه يفي ويعي ونحوه ما فاء الفعل منه واو ولامه معتلة فيصير يحيى كمستقبل وحي يحيى ووعى يعي وما أشبهه ثم يلحقه الجزم فتسقط ياؤه كقولك لم يحي وفي ذلك إلباس وإخلال واعتلال بعد اعتلال. قال: " فمما جاء في الكلام على أن فعله مثل بعت أي وغاية وآية وراية وجمعها راي كما قالوا آية وآي وتاية جعلوهن بمنزلة باب ودار وليس هذا بمطرد؛ لأن فعله بمنزلة خشيت ورميت وتجرى عينه على الأصل " يعني أنه قد جاءت أسماء شاذة اجتمع في آخرها حرفا علة فاعل الأول منهما وهو عين الفعل وكان القياس أن يعل الثاني الذي هو لام الفعل، وهي الأسماء التي ذكرها وكان القياس فيها أن يقال غواة أو غياة واوا أو ياء، وذلك أن الألف من غاية إن كانت منقلبة من الياء فأصلها غيية وإن كانت منقلبة من واو فأصلها غوية فيجتمع حرفا علة فالوجه على ما قدمناه من قياس الفعل أن نعلّ الثاني ونصحح الأول فإذا صححنا الأول وأعللنا الثاني وجب أن نقول عيا إن كان من الياء وغوى إن كان من الواو كما نقول حيا وغوى وما أشبه ذلك ولكن هذا جاء شاذا محمولا على دار وباب في إعلال اللام وشبه شذوذ هذا بشذوذ قود وروع وحول. فقال: " وهذا شاذ كما شذ قود وروع وحول في باب قلت ولم يشذ هذا في فعلت لكثرة تصرف الفعل وتقلب ما يكرهون فيه في فعل ويفعل ونحو ذلك " يعني أن هذا الشذوذ الذي أتى في غاية وراية ونحوهما إنما أتى في الأسماء دون الأفعال والتقدير أن لو أتى الفعل على ذلك لاعتلت عينه وصحت، لأنه نحو بعت وهبت ولكن لم يأت في الفعل ذلك بسبب ما ذكرناه من الاختلال والخروج عن مذهب كلام العرب وأشبه غاية وسائر ما ذكرنا معها في الشذوذ قودا وروعا وذلك أن قودا وروعا اسمان شذا في تصحيح موضع العين منهما وكان حكمهما أن تكنا معتلتين فيقال قاد وراع لأنهما من باب قال وقام وهذا الشذوذ لم يأت في شيء من الفعل إنما أتى في الاسم ولم يأت قوم يقوم وبيع يبيع في الفعل لما يلزم الفعل من التغيير والتصرف، فكذلك الشذوذ في إعلال عين الفعل وتصحيح لامه مما اجتمع في آخره حرفا علة إنما أتى في الاسم دون الفعل وحكى سيبويه

أن غير الخليل يقول أن أصل آية أية وأي ولكنهم قلبوا الياء واوا وأبدلوا مكانها الألف لاجتماعهما، لأنهما تكرهان كما تكره الواوان فأبدلوا الألف كما قالوا: الجيران وكما قالوا: ذوائب، فأبدلوا الواو كراهية الألف بين همزتين وهذا قول الخليل. اعلم أن الخليل ومن ذهب مذهبه، يقول أن آية وزنها فعلة وقلبت عين الفعل منها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وقد مضى الكلام فيها على مذهبه وذهب الذي حكى عنه سيبويه وهو أيضا قول الفراء إلى أن وزنه فعلة وأنهم استثقلوا اجتماع ياءين فقلبوا إحداهما ألفا ثم استشهد سيبويه على قلبهم أحد الحرفين إذا اجتمعا وهما من حروف العلة فمن ذلك قلب إحدى الواوين إذا اجتمعتا في أول كلمة في جمع واصلة وتصغيرها أواصل وأويصلة والأصل وواصل وويصلة وكقلبهم الواو في حيوان والأصل حييان عنده وكما قالوا ذوائب والأصل ذائب وذلك أنها جمع ذؤابة فإذا جمعناها أدخلنا ألف الجمع بعد الهمزة فوقعت ألف ذؤابة بعد ألف الجمع فهمزت كما فعل برسالة ورسائل فاجتمعت همزتان بينهما ألف الجمع، فقلبت الأولى منهما واوا وقد مضى الكلام في هذا في باب الهمز مستقصى ومما احتج به الفراء أيضا في هذا قولهم عيب وعاب قلبوا الياء ألفا وهي ساكنة لا ياء معها فكيف إذا اجتمعت معها ياء أخرى. وقال الكسائي آية وزنها فعلة وكان أصلها أيية فاستثقلوا اجتماع الياءين مع الكسرة فحذفوا إحداهما. قال سيبويه: " وجاء استحييت على حاي مثل باع وفاعلة جاءي مثل بائع مهموز وإن لم يستعمل كما أنه يقول يذر ويدع ولا يستعمل فعل وهذا النحو كثير ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن استحيت فيه لغتان إحداهما استحييت والأخرى استحيتو فأما استحييت بياءين فهي لغة أهل الحجاز وهو على ما ينبغي أن يكون في القياس، لأنهم صححوا الياء الأولى وهي عين الفعل وأعلوا الثانية وهي لام الفعل، فقالوا استحيي يستحيي واستحييت كما تقول استحلى يستحلي واستحليت، وأما اللغة الأخرى وهي استحيت فهي لغة بني تميم، واختلف فيها النحويون وفي السبب الذي حذفت إحدى الياءين لأجله. فقال الخليل وهو الذي حكاه سيبويه عنه إن استحيت استفعل وعين الفعل منه معتلة كأنه كان في الأصل قبل دخول السين حاي، كقولك باع بإعلال العين ثم دخلت السين على حاي فتقول استحاي كما تقول استباع، ثم اتصلت تاء المتكلم بياء استحاي

فسكنت الياء لاتصال تاء المتكلم هاء فاجتمع ساكنان الألف والياء فسقطت الألف لاجتماع الساكنين. ومعنى قوله: " جاء على حاي مثل باع وفاعله حاءي مثل بائع مهموز " إن استحيت إنما جاء على حاءي المعتل ولو بنينا منه فاعل لوجب همز موضع العين منه لأنه يقال بائع وقائل ولا يستعمل حاءي الذي جاء على استحيت كما يستعمل يذر ويدع على أن ماضيهما وذر وودع ولا يستعمل وذر ولا ودع والمستعمل حاي غير مهموز، لأن عين الفعل من حيث صحيحة فإذا صحت الياء في الفعل لم تنقلب همزة في اسم الفاعل والقول الثاني إن استحيت أصله استحييت فاستثقلوا اجتماع ياءين فألقوا الأولى منهما تخفيفا وألقوا حركتها على الحاء وألزموها هذا الحذف تخفيفا في لغة بني تميم كما ألزمت العرب يرى وأرى ونرى وترى تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء والأصل يرأى وممن ذهب إلى هذا القول أيضا أبو عثمان المازني، قال أبو عثمان المازني: ولا تحذف لالتقاء الساكنين ولو كان حذفها له لردت إذا قلت هو يفعل فقلت يستحي. يعني أبو عثمان إن استحيت لو كان جاء على اعتلال العين كاستبعت وجب أن تقول في المستقبل يستحي مثل يستبيع. فقال المحتج عن الخليل: حذفوا الياء لالتقاء الساكنين في الماضي كما فعل باستبعت ولم يردوها في المستقبل لأنهم لو ردوها لقالوا يستحيي فرفعوا ما لا يرتفع مثله وذلك لأن الأفعال المضارعة إذا كان آخرها ياء لم يدخلها الرفع في شيء من الكلام والذي يوجبه قول الخليل في يستحي أن أصله يستحي فاعلوا الياء الأولى كما أعلوا ياء يستبيع ثم اسكنوا الياء الثانية؛ لأنهم يسكنونها في موضع الرفع فاجتمع ساكنان فحذفوا الأولى منها وأما استحيى على هذه اللغة فكان حكمة أن يقال استحاي ولم يوجد في شيء من الأفعال ياء متحركة وقبلها ساكن فسكنوها فاجتمع ساكنان فحذفوا الأولى منهما وقلبوا هذه الياء ألفا لانفتاح ما قبلها. قال المازني: ومما يقوي أن حذف الياء في استحيت ليس لالتقاء الساكنين قولهم في الاثنين استحيالات اللام لا ضمة فيها ولكن هذا حذف لكثرة الاستعمال كما قالوا في أشياء كثيرة بالحذف مثل أحست وظلت ومست. يعني أن عين الفعل وإن كانت معتلة لا تسقط من فعل الاثنين الغائبين كقولنا

استباعا لتحرك لام الفعل فلو استحيت على استبعت لوجب أن يقال استحايا كما يقال استباعا، فلما قالوا استحيا علمنا أنهم حذفوا تخفيفا من غير علة توجب حذفها كما قالوا احست وظلت ومست والأصل احسست وظللت ومسست فحذفوا أحد الحرفين تخفيفا وقالوا حيوة كأنها من حيوت وإن لم يقل لأنهم قد كرهوا الواو ساكنة وقلبها الياء فيما لا تكون الياء لازمة في تصرف الفعل منه نحو يوجل حتى قالوا يبجل فلما كان هذا لازما رفضوه كما رفضوا أن يكون من يوم يمت كراهية لاجتماع ما يستثقلون، ولكن مثل لويت كثير لأن الواو تحيى ولم تعتل في يلوي كييجل فيكون هذا مرفوضا، فشبهت واو ييجل بالواو الساكنة وبعدها ياء فقلبت ياء كما قلبت أولا، وكانت الكسرة في الواو والياء بعدها أخف من الضمة في الياء والواو بعدها، لأن الياء والكسرة نحو الفتحة والألف وهذا إذا صرت إلى يفعل. أما قوله: " قالوا حيوة كأنها من حيوت " وإن لم يقل فإنه يعني أن حيوة شاذ لأن حكم الياء إذا كانت ساكنة وبعدها واوان تقلب الواو ياء وتدغم فكان يلزم أن يقال حية كما يقال في تصغير قشوة قشية ولكن حيوة أي كأنها من حيوت أن كأنها من فعل تكون عينة ولامه واوا ولا يوجد ذلك في شيء من الأفعال. وقوله: " لأنهم قد كرهوا الواو ساكنة وقبلها الياء فيما لا تكون الياء لازمة في تصرف الفعل " يعني أنهم قد استثقلوا الواو في يوجل لكون الياء قبلها، فقالوا ييجل وإن لم تكن الياء التي قبلها لازمة لأنك تقول أوجل توجل وتوجل فإذا كانوا قد استثقلوا يوجل فهم لحيوت أشد استثقالا. وقوله: " فلما كان هذا لازما رفضوه " يعني لما كان هذا الاستثقال يلزم الياء في حيوت رفضوا استعمال الفعل منه كما رفضوا أن يبنوا من يوم فعلا وقد ذكرنا السبب في امتناعهم من بناء فعل ثلاثي من يوم ونحوه فيما مضى. ومعنى قوله: " ولكن مثل لويت لأن الواو تحيا ولم تعتل في يلوي كييجل فيكون هذا مرفوضا " يعني أن الواو إذا كانت متحركة وبعدها ياء لا تستثقل كما استثقلت الواو إذا كان قبلها ياء وذلك إن قولنا يلوي ويحوي أخف من يوجل ويحيو، وذلك لأن الياء أخف من الواو والكسرة أخف من الضمة فإذا بدأت بواو ثم جئت بعدها بكسرة أو ياء كان أخف من أن تبدأ بياء، ثم تأتي بعدها بضمة أو واو لأنك في يحوي ويلوي تنقل

هذا باب التضعيف في بنات الواو

الأثقل إلى الأخف وفي يحيو تنقل الأخف إلى الأثقل. وقوله: " فشبهت واو ييجل بالواو الساكنة وبعدها ياء " يعني شبهت واو يوجل حين قلبت ياء بواو لويت حين قلبت فقالوا ليّة، لأن لوية الواو فيها أول فقلبت الواو في يوجل وهي ثانية من الياء كما قلبت أولا في لوية. وقوله: " وكانت الكسرة في الواو والياء بعدها أخف من الضمة في الياء والواو بعدها " يعني يروي ويلوي أخف من يحيو وحيوت فلذلك لم يأت حيوت ويحيو. وقوله: " لأن الياء والكسرة نحو الفتحة والألف وهذا إذا صرت إلى يفعل " يعني أن الياء والكسرة في الخفة كالألف والفتحة، لأن الياء والكسرة أخف من الواو والضمة أقرب شبها بالألف والفتحة. ومعنى قوله: " إذا صرت إلى يفعل " يعني في المستقبل إذا قلت يحيو وقد مضى الكلام في هذا. هذا باب التضعيف في بنات الواو " اعلم أنهما لا تثبتان كما تثبت الياءان في الفعل وإنما كرهتا كما كرهت الهمزتان حتى تركوا فعلت كما تركوه من الهمزة في كلامهم فإنما يجيء أبدا على فعلت شيء تقلب الواو ياء ولا يكون فعلت ولا فعلت كراهة أن تثبت الواوان ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الاسم قد يجوز أن يجتمع في آخره واوان طرفا واحدا هما عين الفعل والأخرى لامه نحو جوّ وحوّة وقوّ وقوّة وبوّ وما أشبه ذلك فإذا بنيت من شيء من هذا فعلا ثلاثيا على زنة لا توجب قلب إحداهما ياء لم يجز لا يجوز أن تبني من شيء منه فعلت ولا فعلت لأنك لو بنيت منه ذلك لقلت من القوة قووت وقووت وفي مستقبله يقوو وفي النصب لن يقوو، فيجتمع واوان إحداهما مضمومة وقد تتحرك الأخرى بالنصب وذلك مستثقل فإذا بنيته على زنة توجب قلب إحداهما ياء جاز وهو أن تبنيه على فعلت كقولك قويت وحويت من القوة والحوة؛ لأن الواو إذا انكسرت وصار بعدها ياء خفت كقولك يلوي ويحوي وما أشبه ذلك وقد يجوز أن يجتمع واوان في حشو الفعل إذا لم تكن إحداهما طرفا كقولك احووي وهو أفعل من الحوة مثل احمرّ وأصله احمرر فاجتمع حرفان من جنس واحد فأدغموا أحدهما في الآخر كما قالوا ردّ

وأصله ردد وكذلك أحووي وأصله أحوو وقلبوا الواو الأخيرة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فبطل الإدغام لانقلاب الواو ألفا لم يكن سبيل الواوين في أحوي كالواوين في قووت؛ لأن الواوين في أحووي في حشو الفعل فهي أقوى وأمكن مما يكون طرفا. قال: " ولم يقولوا قد قو لأن العين وهي على الأصل قلبت الواو الأخيرة إلى الياء فلا يلتقي حرفان من موضع واحد فكسرت العين فاتبعتها الواو " يعني لم يقولوا في فعّل من القوة قوّ كما قالوا عضّ وذلك أن أصل عضّ عضض فأدغموا إحدى الضادين في الأخرى وقوّ وإن كان أصله قوو، فإن الواو الثانية تنقلب ياء لانكسار ما قبلها وسكونها في الوقف فتبطل. ومعنى قوله: " فكسرت العين فاتبعتها الواو " يعني كسرت عين الفعل من قوو وهي الواو الأولى فاتبعتها الواو الثانية بأن انقلبت ياء اتباعا للكسرة التي قبلها. قال: " وإذا كان أصل العين الإسكان تثبت وذلك قولك قوّة وصوّة وجوّ وحوّة وبوّ " يعني أن الواوين إذا اجتمعتا في كلمة وكانت بنية الكلمة توجب سكون الواو الأولى والإدغام جاز كنحو ما ذكر من فعلة كقوة وفعلة ككوة وفعل كبو وما أشبه ذلك. قال: " لما كانت لا تثبت مع حركة العين اسما كما لا تثبت واو غزوت في الاسم، والعين متحركة بنوها كما بنيت والعين ساكنة في مثل غزو وغزوة ونحو ذلك ". قال أبو سعيد رحمه الله: يعني أن قوّة وبوّ وما جرى مجراهما إذا كان الواو الأولى متحركة لم تثبت الواو الثانية واوا وذلك إن ما قبلها إن كان مفتوحا وجب أن يقلب ألفا فيقال قوا وبوا، وإن كان مكسورا وجب أن تقلب ياء فيقال قوي وبوي، ولا يجوز أن يكون ما قبلها مضموما وهو اسم لأنه ليس في الأسماء اسم في آخره واو قبلها مضمومة.، ومتى كان قبلها مضموم قلبها ياء وقلب الضمة كسرة فيصير على لفظ فعل كما ذكرنا ذلك في ادل فلا يثبت الواو الأخيرة على كل حال متى كان قبلها متحرك وكذلك هذا الحكم في غزوت متى بنينا منه اسما وتحركت الزاي، لم تثبت الواو وجب قلبها ياء إذا انكسر ما قبلها أو انضم أو ألفا إذا انفتح ما قبلها وإذا سكن ما قبلها ثبتت كقولك غزو وغزوة قال: " قلت فهلا قالوا قووت تقوو كما قالوا غزوت تغزو ".

قال: " إنما ذاك لأنه مضاعف فيرفع لسانه ثم يعيده وهو هاهنا يرفع لسانه دفعة واحدة ". قوله " قلت " يعني الخليل " هلا قالوا قووت " فقال الخليل إنما لم يقولوا قووت؛ لأنه مضاعف لأن الواو فيه مكررة في اللفظ وبتكريرها يتكلفها اللسان أكثر من مرة واحدة فيثقل؛ وإذا كانت الواو مدغمة في قوة ونحوها فإنما اللسان يعالج إخراجها مرة واحدة وشبه الخليل ذلك بالهمزة التي تشدد إذا كانت عينا فيجوز سأال ورأاس وإذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة مدغمة إحداهما في الأخرى لم يجز فجعل جواز قوة ساال وفساد قووت كفساد همزتين في كلمة واحدة. قال: " فلم يكن قووت كما لم يكن أصدأأت وأأت وكانت قوة كما كانت سأال واحتمل هذا في سأال لأنه أخف كما كان أصمّ أخف عليهم من أصمم " يعني لو بنيت من الصدأة مثل احمررت ما جاز أن تقول احمررت وإن كانت الهمزة منها بمنزلة الراء من الحمرة لأن الهمزتين لا يجوز اجتماعهما كما جاز اجتماع الراءين والوجه أن تقول اصدأيت وأما أأت فهو من آأة وأصلها أواة فإذا بنيت منه فعل يفعل والعرب لا تبني من مثلها فعل يفعل قلت آأكقولك. قال: " وإذا اتصل التاء بها قلت أأت كقولك قلت فيستثقل هذا لاجتماع الهمزتين وجازت قوة كما جاز سأال واحتمل هذا في سأأل " يعني احتمل اجتماع الهمزتين بسبب الإدغام إذ كان الإدغام أخف من الإظهار كما كان أصم أخف من أصمم قال: " واعلم أن الفاء لا تكون واوا واللام واوا في حرف واحد، ألا ترى إنه ليس مثل وعوت في الكلام كرهوا ذلك كما كرهوا أن تكون العين واوا، واللام ثابتة فلما كان ذلك مكروها في موضع يكثر فيه التضعيف نحو رددت وصممت طرحوا هذا من الكلام مبدلا وعلى الأصل حيث كان مثل قلق وسلس أقل من مثل رددت وصممت وسيبين ذلك في الإدغام " يعني أن استثقالهم مثل وعوت في الكلام كاستثقالهم قووت بل هو أشد وذلك أنا رأينا في الحروف الصحيحة ما كان عين الفعل ولامه من جنس واحد أكثر مما فاؤه ولامه من جنس واحد نحو رددت ومللت وجررت وما أشبه ذلك والذي فاؤه ولامه من جنس قوله قلق وسلس وخرج الخاتم في اليد وهو أقل من الكلام فوعوت أحق بأن لا يوجد إذا كان رددت أوسع من باب قلقت وقووت من باب رددت ووعوت

من باب قلقت. قال: " وقد جاء في الياء كما جاءت العين واللام ياءين وأن يكون فاء ولاما أقل كما كان سلس أقل وذلك قولهم يديت إليه يدا ولا يكون في الهمزة إذا لم يكن في الواو " يعني أن الذي منع في ذوات الواو يجوز مثله في الياء وذلك يديت فاؤه ولامه ياءان ولا يجوز أيضا أن يكون فعل ثلاثي فاؤه ولامه همزتان كما لم يكن فاؤه ولامه واوين، ولم يوجد ذلك استثقالا لاجتماع همزتين إحداهما عين الفعل والأخرى لامه فكذلك فاء الفعل ولامه. قال: " ولكنه يكون في بنات الأربعة نحو الوزوزة والوحوحة لأنه يكثر فيها مثل قلقل وسلسل ولم يغير لأن بينهما حاجزا وما قبلها ساكن، فلم تغير وتكون الهمزة ثانية ورابعة لأن مثل نفنف كثير ويكون في الكلام نحو ضوضيت وهي في الواو أجدر؛ لأنها أخف من الهمزة فإذا كان شيء من هذا في الهمزة فهو للواو وألزم لأنها أخف من الهمزة وهم لها أشد احتمالا ". قال أبو سعيد رحمه الله: أما الوزوزة والوحوحة فإنما جازتا وإن كانت الواو الأولى فاء الفعل والثانية لام الفعل وقد ذكرناه فيما مضى آنفا لأنه ليس في الكلام مثل وعوت لأن وزوزة رباعي، وقد كثر في باب الرباعي ما فاؤه من جنس لامه الأولى، وعينه من جنس لامه الثانية كالوعوعة والقلقلة والسلسلة وجلجل وجرجر وما لا يحصى كثرة. وقوله: " ولم تغير لأن بينهما حاجزا وما قبلها ساكن " يعني لم تغير الواو الثانية في وحوح لأن بينها وبين الواو حاجزا وهو الحاء وما قبلها ساكن يعني الحاء التي قبل الواو الساكنة ولم تكن كوعوت؛ لأن العين التي قبل الواو الثانية متحركة وحرف العلة متى سكن ما قبله كان أصح له وأبعد من الإعلال. وقوله: " وتكون الهمزة ثانية ورابعة " يعني قد جاء في باب الهمز نحو الدأدأة واللألأة والنأنأة، فإذا كثر هذا في الهمز في ذوات الأربعة وكان الهمزة أثقل من الواو جاز في الواو. وقوله: " لأن مثل نفنف كثير في الكلام " يعني أن مثل نفنف أكثر من باب قلق وسلس فقد جاز في الرباعي ما لا يكون مثله في الثلاثي.

وقوله: " ويكون في الواو نحو ضوضيت " يعني وتكون الواو ثانية ورابعة مثل ما ذكر في الهمز وقد بينا فيما مضى أن ضوضيت أصلها ضوضوت. ومعنى قوله: " وهي في الواحد أجدر لأنها أخف " يعني لما جاءت الهمزة ثانية ورابعة كان مجيء الواو ثانية ورابعة أولى لأنها أخف من الهمزة. قال: " واعلم أن افعاللت من رميت بمنزلة أحييت في الإدغام والبيان والخفاء وهي متحركة وكذلك افعللت وذلك قولك ارماييت وهو يرمايي وأحب أن يرمايي " يعني أنك لو بنيت من رميت مثل أحمر واحمار واحمررت واحماررت لم يكن سبيلها سبيل احمرّ في باب الإدغام وذلك لأن احمرّ أصله احمرر واجتمع حر فان من جنس واحد فوجب الإدغام كما وجب في ردّ وأصله ردد فإذا بنيت من رميت مثل أحمر فأصله أن تقوارميي كان الأصل احمرر فتعيد لام الفعل فإذا قلت ارميي فالياء الساكنة قد تحركت وانفتح ما قبلها فوجب أن تقلبها ألفا فإذا قلبتها ألفا اختلفتا فصارت الثانية ألفا والأولى ياء فبطل الإدغام؛ لأن الألف لا تدغم فيها وكذلك احمار أصله احمارر وأدغمت الراء في الراء لأنهما من جنس واحد والثانية منهما متحركة، فإذا بنينا من رمى مثلها فالأصل أن يقال ارمايي مثل احمارر فتقلب الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فبطل الإدغام لاختلاف الحرفين، فإذا صرف هذا الفعل أعني ارميا وارمايا فيما لم يسم فاعله حتى يظهر الياءان جميعا وتلزم الثانية منهما الحركة جاز حينئذ الإدغام والإظهار، وذلك قولك فيما لم يسم فاعله ارمي وارمويي يجوز أن تقول ارميي وارمي وارمويي واحيي واحيويي وارموي كما قلت احيي واحي وحيي وحي؛ لأن الفتحة لازمة ولا يجوز الإدغام في التثنية ولا في المؤنث ولا في المنصوب إذا قلت في التثنية ارمييا لم يجز إدغامه كما لم يجز في احييا وقد مضى نحو هذا ممثلا. ومعنى قوله: " افعاللت من رميت بمنزلة احييت في الإدغام والبيان والخفاء " يعني يجوز إدغام افعاللت من رميت في الموضع الذي يجوز فيه إدغام احييت والموضع الذي يجوز فيه ذلك من احييت فيما لم يسم فاعله إذا كان الفعل ماضيا كقولك ارمويي وارموي ويجوز فيه أيضا البيان كما جاز في أحيي وإذا لزم البيان في أحييت لزم في ارماييت وذلك في التثنية إذا قلت ارمييا كما تقول أحييا ويجوز الإخفاء في المواضع التي يظهر فيها الياءان وذلك يتبين في اللفظ.

ومعنى قوله: " وهي متحركة " يعني أن الخفاء إنما يكون مع الإظهار وحركة الياء الأولى لأنها لو سكنت لأدغمت. ثم قال عقيب قوله: " ارموي في هذا المكان لأن الفتحة لازمة ولا تقلب الواو ياء لأنها كواو سويز لا تلزم وهي موضع مد " يعني أن الواو في ارموي منقلبة من ألف أومايا، فإذا قلنا ارمواي لم يجز قلبها ياء بسبب سكونها وكون الياء بعدها كما لم يجز قلب الواو في سوير ياء لسكونها وكون الياء بعدها؛ لأن الواو فيها بمنزلة الألف والألف للمد ولا يجوز الإدغام فيها ولا إدغامها وقد مضى الكلام في هذا وشبهه ثم ذكر مسائل قد أتى كلامنا عليها إلى أن قال: " والمصدر ارميّاء وارمياء واحيياء ". قال أبو سعيد رحمه الله: أما ارمياء فمصدر ارمايا وكذلك احيياء مصدر احيايا ووزن المصدر افعيلال فإذا قيل ارميا فالياء الأولى من الياء المشددة ياء افعيلال وهي بدل من ألف ارمايا والياء الثانية هي ياء ارمايا والألف التي بعدها هي الألف التي زيدت في المصدر والهمزة هي بدل من ألف ارمايا الأخيرة وكذلك الكلام في احيياء وللقائل أن يقول إذا كانت الياء الأولى منقلبة من ألف ارمايا الأولى فلم أدغمت في الياء الثانية وهي منقلبة من ألف هي للمد فيجوز أن يقال في جوابه أن هذه الياء وقعت في المصدر وبعدها ياء مثلها لا يجوز النطق بإحداهما دون الأخرى فأدغمت لأنه لم يحصل في لفظها المد وفيه نظر وأما ارمييا واحييا مخفف فمصدر أرميا وأحييا قال: " وأما افعللت وافعاللت من غزوت فاغزويت واغزاويت لا يقع فيها الإدغام ولا الإخفاء لأنه لا يلتقي حرفان من موضع واحد ومثل ذلك من الكلام ارعويت، أثبتت الواو الأولى لأنه لا يعرض لها في يفعل ما يقلبها ولم يكن لتحولها ألفا وبعدها ساكن فإنما هي بمنزلة نزوات " يعني أنا إذا بنينا افعللت مثل احمررت من غزوت قلنا اغزوى واغزويت ولا نقول اغزوّ كما نقول احمرّ ولا نقول اغزووت كما نقول احمررت وإنما نقول اغزوى، لأن الأصل اغزوو فوقعت الواو الثانية طرفا وقبلها فتحة فانقلبت فلم يجز إدغام واو في ألف وفي المستقبل يغزوو تقع الواو الثانية طرفا وقبلها كسرة فتنقلب ياء فلا يجوز إدغام الواو فيها فلم يكن سبيل اغزوى واغزويت كسبيل احمرّ واحمررت لتباين الواو في اغزويت وانقلاب إحداهما وأما ارعوى فأصله ارعوو فعمل به ما ذكرناه في اغزوى وهو من باب احمررت. وأما قوله " وأثبتت الواو الأولى " يصح لأن الياء قد اعتلت وهي طرف وإذا اجتمع

حرفا علة فالطرف أولى بالإعلال. وقوله: " لأنه لا يعرض لها في يفعل ما يقلبها ياء " وذلك أن الواو إنما تقلب ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كما ذكرنا في يغزي ويغزوي ونحوهما، ولم تقلب أيضا ألفا لما ذكره من سكون ياء بعدها؛ لأن ما بعدها ألف إذا قلت اغزوى ولو قلبوها ألفا سقطت وبطل البناء. قال: " وأما افعاللت من حييت فبمنزلتها من رميت وافعللت بمنزلة ارمييت إلا أنه يدركها مثل ما يدرك اقتتلت وتبين كما تبين لأنهما ياءان في وسط الكلمة كالتاءين في وسطها ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن اقتتل يقتتل نحو إدغام إحدى التاءين في الأخرى ويجوز إظهارهما فإذا أدغمت في اقتتل جاز لك وجهان أحدهما قتل بفتح القاف والثاني قتل بكسرها وتسقط ألف الوصل لتحرك القاف فأما من قال قتل بفتح القاف فإنه ألقى على القاف حركة التاء وأدغم التاء في التاء وفتح القاف وأسقط ألف الوصل وأما من كسر القاف فإنه لما حذف حركة التاء الأولى ليدغمها اجتمع ساكنان التاء الأولى والقاف فكسر القاف لاجتماع الساكنين، وهذا قول أهل البصرة وأما تقتتل فيجوز فيه ثلاثة ألفاظ إذا أدغمت تقتل بفتح القاف وتقتل بكسر القاف وفتح ياء المضارعة ويجوز فيه كسر حرف الاستقبال كقولك يقتل فأما فتح القاف وكسرها فهو كما مضى في اقتتل وأما كسر حرف المضارعة في قوله يقتل فللاتباع. وقال الكوفيون: في كسر القاف أنها كسرت بسبب انكسار الألف في الماضي إذا قلت اقتتل أنكروا ما قاله أهل البصرة فقالوا لو كان كسر القاف لالتقاء الساكنين لوجب أن نجيز يعض ويرد وذلك أن أصله يعضض ويردد فإذا أجزنا أن يسكن الحرف الأول الإدغام وكسر فاء الفعل لالتقاء الساكنين لصار على وزن فعل مثل يفر فاستعملوا في باب يعض، ويرد أحد الوجهين وهو إلقاء الحركة دون الكسر لالتقاء الساكنين، ثم ذكر سيبويه مسائل أرى بها التسوية بين اقتتل واحييا في جميع متصرفاته إلى أن قال وإنما منعهم أن يجعلوا اقتتلوا بمنزلة رددت فيلزمه الإدغام أنه في وسط الكلمة ولم يكن طرفا فيضعف كما تضعف الواو ولكنه بمنزلة الواو الوسطى في القوة وسنبين ذلك في الإدغام إن شاء الله. يعني إن اقتتل لم يلزم فيه الإدغام إنما تكون بالخيار إن شئت أدغمت وإن شئت لم

تدغم ولم يجعلوه بمنزلة ردّ لأن ردّ يجب فيه الإدغام ولا يجوز فيه ردد يردد إلا أن يضطر إليه شاعر وإنما صار الإدغام لازما في ردّ، لأن الدالين وقعتا طرفا ولم تقع التاءان في اقتتل طرفا وإنما وقعتا متوسطتين بحيث تقوى فيه الحروف لتمكنها من الكلمة ألا ترى أن الواو المتوسطة أقوى من المتطرفة في قولك ارعوي وإنما كان ارعوو فانقلبت المتطرفة وثبتت المتوسطة وهذا معنى قول سيبويه ولكنه بمنزلة الواو الوسطى في القوة. قال: " وأما افعاللت من الواوين فبمنزلة غزوت وذلك قول العرب قد احواوت الشاة واحواويت فالواو بمنزلة واو غزوت والعين بمنزلتها في افعاللت من عورت ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد كنا بينا جواز اجتماع الواوين في احووي وهو على وزن احمرّ الذي أصله احمرر فإذا بنيت من الحوة مثل احمار وأصلها احمارر، وجب أن يقال احواوو فتقع الواو طرفا وقبلها فتحة فتنقلب ألفا فيصير أحواوي والحواويت فمن قال أحووي فمصدره أحوواء مثل احمرار ومن قال أحواوي فمصدر أحوياء فيما ذكر سيبويه والأصل احويواء وذلك أن الياء منقلبة من ألف احواوي فقلبت الواو التي بعد الياء ياء لكون الياء الساكنة قبلها وأدغمت وللقائل أن يقول قد منع سيبويه قلب الواو ياء في سوير، لأن الواو بدل من ألف ساير فيلزم على هذا أن يمتنع من قلب الواو في احويواء لأن الياء التي قبلها بدل من ألف احواوي وللمحتج عن سيبويه أن يقول بينهما فرق وذلك أن سوير هو فعل مثل ساير وإنما ضم أوله للدلالة على ما لم يسم فاعله وليس كذلك المصدر؛ لأن المصدر قد تلحقه زيادات حروف على الفعل كقولك كسر يكسر تكسيرا فقد ردت على المصدر فاء لم تكن في الفعل وياء لم تكن فيه ونقصت منه سينا كانت فيه فلما لحق المصدر ما ذكرناه من التغيير لم يعتبر ألف احواوي في مصدره ألا ترى أن الياء المنقلبة عن ألف في الجمع لا تجرى مجرى حرف المد كقولنا حرباء وحرابي وعلياء وعلالي والياء الأولى من الياء المشددة هي منقلبة من ألف حرباء فأدغمت فيما بعدها ولم يجعل فيها من المد ما كان في ألف حرباء، لأن الجمع بغير عن منهاج الواحد بزيادة حرف وتغيير ما وليس كذلك ما لم يسم فاعله لأنه لا يغير من الفعل شيء إلا الضم والكسر ولا يزاد فيه حرف كما يزاد في المصدر والجمع وبعض الناس يقول احويواء على ما ذكرنا من القياس في المد ومن قال احووي يحووي فالواوان بمنزلة التاءين

في اقتتل، والياءين من القياس في المد ومن قال احووي يحووي في احييا فما جاز في اقتتل من الإدغام والإظهار جاز في احووي فإذا أظهرت فمصدره اقتتال واحوواء وإذا أدغمت فمصدره قتال وحواء حذفت ألف الوصل لما كسرت القاف وكسرت القاف بإلقاء حركة التاء الأولى عليها وإن شئت لالتقاء الساكنين على ما مضى وإنما جاز اجتماع واوين قي احووي لما ذكره سيبويه حين قال: " فلما اعتل المضاعف من غير المعتل في الطرف كانوا للواوين تاركين إذا كانت تعتل وحدها ولما قوي التضعيف من غير المعتل وسطا جعلوا الواوين وسطا بمنزلته فأجرى احوويت على اقتتلت " يعني لما جاز تضعيف التاءين وترك الإدغام في قولك اقتتل ولم يجز في ردد الإدغام علمنا أن لا واسط الكلمة مزية وقوة فلذلك جاز فيه اجتماع واوين وإن لم يجز مثله في الطرف وقد مضى نحو هذا. قال: " وتقول في فعل من شويت شي قلبت الواو حين كانت ساكنة بعدها ياء وكسرت الشين كما كسرت تاء عتى وصاد عصى كراهية الضمة مع الياء كما تكره الواو الساكنة وبعدها الياء وكذلك فعل من أحييت وقد ضم بعض العرب الأول ولم يجعلها كبيض لأنه حين أدغم ذهب المد وصار كأنه بعده حرف متحرك نحو صيد ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد كنا بينا فيما مضى أن فعل متى كانت العين منه واوا واللام ياء قلبت الواو ياء وكسرت فاء الفعل لتسلم الياء وأدغمت كما تكسر التاء في عتى والصاد في عصى وكانتا مضمومتين ونحو ضم فاء الفعل من فعل على الأصل فيقال شيء ولا يجوز ضم التاء من عتى والصاد من عصى فيقال عتى وعصى والفرق بينهما إن كسر التاء من عتي والصاد من عصي يوقع لبسا بين بناءين لأن عتى وعصى فعول وإذا كسرنا التاء والصاد لم يوهم بناء آخر يكسره وإذا كسرنا الشين من شيّ الذي هو فعل جاز أن يتوهم أنه فعل فيقع لبس بين بناءين. وقوله: " ولم يجعلها كبيض لأنه حيث أدغم ذهب المد " يعني أن بيضا لا يجوز فيها إلا كسر الباء لأن الياء غير مدغمة في الصاد والياء الأولى في شيّ مدغمة في الياء الثانية وبإدغامها يذهب المد فصار كأن بعده حرفا متحركا نحو صيد يعني صارت الشين في شيّ كأن بعدها حرفا متحركا ي أن لا تقلب ضمتها كسرة كما لم تقلب ضمة صيد

لتحرك الياء وقوله: " ألا ترى أنها لو كانت في قافية مع عمى جاز فهذا دليل على أنها ليست بمنزلة بيض " يعني إن قولنا شيّ أو شيّ وما جرى مجراهما مما في آخره ياء مشددة لو جعل في قافية شعر في بيت وجعل عمى أو ظبي أو نحو ذلك في بيت آخر جاز؛ لأن الياء الأولى لما أدغمت وذهب عنها المد لم تجعل ردفا فجاز أن تأتي مع عمى الذي ليس بمردف ولا يجوز أن يأتي بيض مع رفض ولا نقض، لأن بيضا مردفة بالياء التي قبل الضاد فلا تأتي مع نقض الذي هو غير مردف ولا يحتمل هذا الموضع إطالة الكلام في شرح الردف وما جانسه من علم القوافي. وقوله: " ولم يجعلوها كتاء عتى لأنهن عينات وصاد عصى ونون مسنية لأنهن عينات " يعني التاء من عتى والصاد من عصى وما جرى مجراهما فصيرن في لزوم الكسر بمنزلة اللام من ادل لأن اللام عين الفعل كما أن التاء من عتى عين. قال: " وقالوا قرن الوي وقرون لي سمعنا ذلك منهم ومثل ذلك قولهم ريّا ورية حيث قلبوا الواو المبدلة من الهمزة فجعلوها كواو شويت قرن الوى معوج وزنه أفعل مثل احمر ويجمع على فعل فيقال لوى مثل حمر فتجتمع واو وياء والأولى منهما ساكنة فتقلب الواو ياء على ما تقدم وتدغمه بكسر اللام عين الفعل لتسلم الياء كما فعل ذلك ببيض وإن كان يجوز في لي ضم اللام لما ذكره سيبويه وبيناه وأما ريا ورية فاصلها رويا وروية فخففت الهمزة وهي ساكنة ومن حكم الهمزة الساكنة إذا خففتها وقلبتها ضمة أن تجعلها واو كقولك في جؤنة جونة فقلت في رؤيا رويا فإذا قلنا رويا بتخفيف الهمزة فمن العرب من لا يقلب الواو هاهنا ياء وإن كان بعدها ياء فيقول رويا وروية لأن هذه الواو في نية الهمزة ومنهم من يقلب الواو ياء ولا يفرق بين الواو المنقلبة من الهمزة وغيرها فيقول رويا وروية ومنهم من يكسر على ما ذكرنا من شيّ وقرون لي ومنهم من يضم ومن قال رية قال في فعل من وأيت فيمن ترك الهمز ويّ ويدع الواو على حالها لأنه لم تلتق واوان إلا في قول من قال ربّا فكسر الراء قال ويّ فكسر الواو إلا في قول من قال إسادة ". قال أبو سعيد رحمه الله: إذا بنيت من وأيت فعلا فالأصل أن تقول وؤي فإذا خففت الهمزة صار ووي فإذا قلبت الواو الثانية ياء لسكونها وكون الياء بعدها على قول من قال في روية رية لزمه أن يقول وي ويدع الواو الأولى على حالها، لأنه لم يتكلم

بواوين فيلزمه قلب إحداهما همزة كما تقول في تصغير واصل أويصل ولكن له أن يقول أي كما يقول في وعد أعد وفي وجوه أجوه فتهمز الواو ولانضمامها فقط لا لاجتماع الواوين ومن قال رية وكسر قال وي وجاز له أن يهمزها فيقول إي مثل إسادة وإشاح في وسادة ووشاح ومن قال روية إذا خفف الهمزة ولم يقلب الواو ياء قال اوي وقد ذكرنا هذا وما فيه من الخلاف مستقصى في باب الهمز بما أغنى عن إعادته. قال: " وسألته عن قولهم معايا فقال الوجه معاي وهو المطرد وهو قول يونس إنما قالوا معايا كما قالوا مدارى وصحارى وكانت مع الياء أثقل إذا كانت تستثقل وحدها ". قال أبو سعيد رحمه الله: معايا جمع معيى أو معية جمل معيى وجمال معايا وناقة معيية ونوق معايا وكان الأصل معاي وهو معنى قول الخليل الوجه أن يقال معاي وذلك إنك أدخلت ألف الجمع على معيي فوقعت بعد العين ثم كسرت الياء الأولى بعد ألف الجمع لأنها قد صحت في أعيي يعيي فهو معيي وجرت مجرى الحروف الصحيحة، فصار بمنزلة الطاء في معطي ومعطية واللام في مبتلى ومبتلية ولم تكن فيه علة توجب تغييره وجب أن يقال معاي كما يقال معاط ومثال، وعلى أن عين الفعل إذا كانت معتلة في الواحد صحت في الجمع كقولك معونة ومعاون ومقاوم ومعيشة ومعايش وتلك الألف عندهم أخف من الياء فقلبوا الياء الثانية ألفا من جهتين إحداهما أن الألف أخف من الياء والثانية أن الياء يلحقها التنوين فتسقط إذا قلت هذه معايي ومررت بمعايي ولما قلبوا الياء في مدارى وصحارى ألفا وليس قبلها ياء كان قلبها في معايي ولي لاجتماع الياءين. قال وسألته عن قولهم لم أبل فقال: " هي من باليت ولكنهم لما أسكنوا اللام حذفوا الألف لأنه لا يلتقي ساكنان وإنما فعلوا ذلك في الجزم، لأنه موضع حذف فلما حذفوا الياء التي هي من نفس الحرف بعد اللام صارت عندهم بمنزلة نون يكن حين أسكنت فإسكان اللام هنا بمنزلة حذف النون من يكن ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن باليت مثل أعطيت في الوزن ومستقبله يبالي مثل يعاطي فإذا لحقه الجزم حذفت منه الياء كما حذفت الياء من يرمي ويقضي إذا قيل لم يرم ولم يقض فيقال لم يبال وتكون اللام مكسورة بعد حذف الياء على ما كانت عليه في الأصل ولكن من العرب من يقول لم أبال على ما ذكرناه من القياس ومنهم من يقول لم ابل بتسكين اللام ومنهم من يقول لم أبل بكسر اللام فأما من سكن اللام فإنما أسكنها

على أحد مذهبين أحدهما أن يقول في الرفع لا أبال فيحذف الياء ويكتفي بالكسرة كما يقول لا أدر ثم يدخل الجازم عليه فيسكن اللام وإن الجازم صادف لاما متحركة فسكنها وكذلك حكم الجازم إذا صادف متحركا سكنه وإذا صادف ساكنا حذفه فلما سكنت اللام بدخول الجازم اجتمع ساكنان فحذفت اللام لاجتماع الساكنين وأما أن يكون كسرة ترك حرف متحرك في مجزوم فاتبع حذف الحركة حذف الياء كما اتبعوا في إعراب الاسم حين قالوا هذا امرؤ صالح ومررت بامرئ صالح ورأيت امرءا صالحا فاتبعوا إعراب الهمزة في امرئ حركة الراء وهذا التسكين كثير في كلام العرب وأشعارها وقرئ " أرنا اللذين " بتسكين الراء على معنى أرنا وقال الشاعر: ومن يتق فإنّ الله معه … ورزق الله مؤتاب وغادي وقال آخر: قالت سليمى اشتر لنا سويقا … وهات خبز البر أو دقيقا (¬1) وقوله: " صارت عندهم بمنزلة نون يكن حين أسكنت فإسكان اللام هاهنا بمنزلة حذف النون من يكن يعني أنك إذا قلت لم أبال فقد جزمته بحذف الياء، كما أنك إذا قلت لم يكن فقد جزمته بتسكين النون ثم سكنت اللام كأنك أدخلت جازما على يكن، فحذفت النون تشبيها للنون بواو يغزو وياء يرمي وقد ذكرنا وجه الشبه بين النون وحروف المد واللين فيما مضى من الشروح. وقوله: " وإنما فعلوا هذا بهذين حيث كثر في كلامهم إذ كان من كلامهم حذف النون والحركات وذلك نحو مذ ولد وقد علم " وإنما الأصل لدن ومنذ وقد علم وهذا من الشواذ وليس مما يقاس عليه ويطرد ابن فرزدق مثل جردحل قلت فرزدق وإن كان المبني منه زوائد ألقيتها ولم تحفل بها كقائل قال لك ابن من مستغفر مثل جذع فهذا جائز تلقي الزوائد من مستغفر وهي السين والتاء والميم فتقول غفر وإن كانت حروف المبني منه أقل من حروف المبني على مثاله زدت في موضع اللام من المبني من جنسه ما يلحقه المبني على مثاله كقول القائل ابن لي من جذع مثال جعفر فتقول جذعع ومثال فرزدق جذعع وإن كان من في المبني على مثاله زوائد زدتها في المبني منه على مثل مواضعها من المبني منه كقائل قال لك مثل كوثر من ضرب فتقول ضورب وإن قال مثل جهور فتقول ¬

_ (¬1) انظر الخصائص 3/ 96، تاج العروس 25/ 219، اللباب 2/ 400.

ضروب وإن قال مثل حيدر قلت صيرب وإن قال مثل ضيمران قلت ضيربان فعلى هذا يجري قياس الباب كله فتأمله وقس عليه إن شاء الله فإذا بنيت من رميت مثل حمصيصة وهي فعليلة فالتاء من رميت لا يعتد بها؛ لأنها ضمير الفاعل وليست من الكلمة فتفتح الراء والميم من رميت وهما فاء الفعل وعينه وتكسر الياء التي هي لام الفعل بحذاء كسر الصاد ثم تزيد ياء ساكنة بحذاء زيادة الياء بعد الصاد في حمصيصة، ثم تأتي بياء مفتوحة هي لام ثانية للفعل وتلحقها هاء التأنيث فتصير رميية فيجتمع ثلاث ياءات وفي الأولى منها كسرة وقبلها فتحة فقلبوها ألفا ثم ردوها إلى الواو فقالوا رموية وقاسوا ذلك على النسبة إلى رحى حين قالوا رحوية والأصل رحيية لأنهم نسبوا إلى رحى وأصله رحى فزادوا ياءي النسبة وكسروا ما قبلها فصارت رحيي واستثقلوا ثلاث ياءات مع الكسرة فقلبوا الأولى منها واوا. وقوله: " فلما كانت كذلك قد تعتل ويكون البدل أخف عليهم وكرهوها وهي واحدة كانوا لها في توالي الياءان والكسرة فيها أكره " يعني أن الياء قد تعتل وليس معها ياء أخرى في قولهم رحى والأصل رحى فإذا كرهوها وحدها فهم لها مع ياءين أخريين أكره وكذلك إذا بنيت من رميت مثل حلكوكة قلت رموية وكان لفظ فعلول كلفظ فعليل وذلك أن فعلول من رميت يكون رميوي زدت بعد لام الفعل واو زائدة مثلها في حلكوك، ثم كررت لام الفعل وهي ياء فصار رميوي، فاجتمع في آخره واو وياء والأولى منهما ساكنة فقلبت الواو ياء وكسرت ما قبل الواو لتسلم الياء ولو بنيت منه على مثال بهلول قلت رميي ولم تستثقل ذلك؛ لأن الياء إذا سكن ما قبلها لم تستثقل ألا تراهم قالوا في النسبة إلى ظبي ظبيي وإلى رمى رميي الياء الأولى لام الفعل في فعليل والياء الثانية الساكنة مكان ياء فعليل والياء الثالثة تكرير لام الفعل من رميت الثانية. قال: " وإذا بنيت من غزوت فعليل قلت غزوى وأصله غزويو فقلبت الواو ياء لكون الياء الساكنة قبلها وكذلك فعيل من الغزو تقول فيه غزى وأصله غزيو ". قال: " وأما فعلول منها فغزوي وأصلها غزو فلما كانوا يستثقلون الواوين في عتى ومعدى ألزم هذا بدل الياء حيث اجتمعت ثلاث واوات مع الضمتين في فعلول فالزم هذا التغيير كما ألزم مثل محيية البدل إذا غيرت في ثيرة والسياط ونحوها " يعني:

أنا إذا قلنا غزوو اجتمعت ثلاث واوات وقد رأينا العرب يستثقلون واوين فيقلبونهما ياءين في قولك عتى ومعدى وأصله عتو ومعدو فلما جاز قلب الواوين استثقالا لزم القلب في ثلاث واوات ولم يجز إقرارها. وقوله: " فالزم هذا التغيير كما الزم مثل محنية البدل إذ غيرت في ثيرة السياط ونحوهما " يعني: فالزم غزو والتغيير إذ كان أثقل من عتو ومعدو وقد غيروا عتوا ومعدوا كما ألزموا محنية التغيير والأصل محنوة وإذ كان محنوة أثقل من ثيرة وسياط وذلك أن أصلها ثور وسوط والواو منهما في موضع عين الفعل والواو في محنوة في موضع لام الفعل ولام الفعل أثقل من عينه وأولى بالعلة فلما قلبوا في ثيرة وسياط الواو ياء لانكسار ما قبلها كان محنية أولى بذلك. قال: " وتقول في مفعول من قويت هذا مكان مقوى فيه والأصل مقوو والعلة في قلبها كالعلة في قلب فعلول من غزوت وإنما يلزمون القلب في قولهم هذا مكان مقوى فيه لأنهم قد يقلبون في مشقو وأرض مستوة فيقولون مشقى وأرض مسنية فلما جاز القلب في مشقو ومسنوة ولم يجتمع ثلاث واوات لزم القلب في مقوو إذ قد اجتمعت ثلاث واوات فيه " قال: " وتقول في فعلول من قويت قوى فاجتمعت أربع واوات فقلبت الواوان المتطرفتان وبقيت واو مشددة بعدها ياء فأشبه النسبة إلى قو وحو لو سمي به رجل ثم نسب إليه ". قال: " وتقول في أفعولة من غزوت اغزوة ثبتت كما ثبتت في مغزوة وقد قالوا في الكلام أدعوة وأدعية فأما أدعوه فعلى القياس الذي ذكرناه وأما أدعية فبمنزلة أرض مسنية والأصل مسنوة وليس بلازم قلبها وتقول في أفعول من قويت وأصلها اقوو، لأن فيها ما في المفعول من الواوات فغيرت فيها ما غيرت في المفعول " يعني: أفعول من قويت فيه ثلاث واوات كهي في مفعول وقد وجب فيها القلب. قال: " وتقول في فعلول من غزوت غزوى والأصل غزوو " وقد مضى وتقول في فعلول من شويت وطويت شووي وطووي وإنما حدها وقد قلبوا الواوين طيي وشيي ولكنك كرهت الياءات كما كرهتها في حيي حين أضفت إلى حية فقلت حيوي. قال أبو سعيد رحمه الله: إذا بنيت من شويت وطويت فعلول فالأصل أن تقول شويوي وطويوي ووجب أن تقلب الواوين ياءين لسكونهما وكون ياءين متحركتين

بعدهما فيصير طيي وشيي يشبه النسبة إلى حية ولية ومتى نسبت إلى حية ولية، فالقياس يوجب حيي وليي غير أن العرب يستثقلون اجتماع أربع ياءات في حيي وليي فيقولون في النسبة إلى حية حيوي وإلى لية لووي وذلك أن حية وزنها فعلة وأصلها حيوة فيبنونها على فعلة فيصير حياة، فإذا نسبوا إليها أسقطوا هاء التأنيث فتبقى حيا مثل رحى فيقولون حيوي وإذا نسبوا إلى لية بنوها على فعلة وأصلها لوية فتصير لواة فإذا نسبوا إليها أسقطوا هاء التأنيث ونسبوا إلى لوي فقالوا لووي فلما كان أصل شيي وطيي شويوي فتحوا الياء الأولى كما فعلوا بحية ولية التي كانت ساكنة وردوها إلى أصلها، وأصلها الواو وقلبوا الياء الثانية واوا لأنها لام الفعل وقد فتح ما قبلها وقد شبهت الياء المشددة التي في الطرف بياء النسبة فصار بمنزلة لووي. وقال: " كذلك فيعول من طويت لأنها طيووي فتنقلب الواو الأولى ياء لتحركها وسكون الياء الأولى ياء لتحركها وسكون الياء قبلها وتنقلب الواو الثانية لسكونها وتحرك الياء بعدها فيصير طيي فيلزم فيه ما لزم في النسبة إلى حية ولية وذلك أنّا نحرك الياء الأولى الساكنة ونردها إلى أصلها لأنها ياء فيعول فيصير طيوي ومن قال في النسبة إلى أمية أميي وإلى حية حيي تركها على حالها " فقال: " في فعلول طيي ومن قال لي وطي فيمن قال لي " يعني: أن من العرب من يجري النسب إلى حية وأمية على القياس فيجمع بين أربع ياءات ويتحمل ذلك مع ثقلة لزوم القياس ولا فرق في اللفظ بين أربع ياءات في ليييّ وطيييّ وشيييّ وأما الشين والطاء فان شئت تركتها على ضمتها في الأصل كما تركت الضمة في لي جمع ألوى وإن شئت كسرتها لما ذكرناه من العلل وأقرب من هذا شبها به قولهم عتى وعصى يكسرون ما بعد العين لتسلم الياء كما كسروا الياء المتحركة الأولى لتسلم الياء الثانية فقال شيي وظيي وأما عين عتى وعصى فإن شئت كسرتها اتباعا ولئلا تخرج من ضمة إلى كسرة وليس ذلك في شيء من صيغ الأسماء ومن ضم تركها على حالها لأن الكسرة التي بعد العين ليست من صيغة الكلمة وإنما جعلت لتسلم الياء التي بعدها وكذلك الكلام في كسر شين شيء وضمها فاعرفه إن شاء الله وأما فيعول من غزوت فغيز وبمنزلة مغزو. قال: " هي من قويت قيو والأصل قيووو فنقلب الواو الأولى ياء لتحركها وسكون الياء قبلها فتصير قيو ولم يكن فيها ما يوجب تغيير الواو

الأخيرة المشددة ". وقوله: " وأثبت واو فيعول الزائدة لأن الياء التي قبلها متحركة " يعني: أن واو فيعول ساكنة وقبلها حرف متحرك لا يعتل وهو عين الفعل ولو اعتلت عين الفعل توجب سقوط إحداهما إما عين الفعل، وإما واو فيعول على ما ذكرنا من الخلاف بين الخليل وسيبويه في مفعول وهو مبيع ومقول وإنما صحت عين الفعل في قيو، لأن لامه من حروف العلة وإذا كانت العين واللام من حروف العلة فاللام أولى بالإعلال وقد مضى هذا مستقصي لحججة. قال: " وتقول في فيعل من حويت وقويت حيا وقيا والأصل حيوي وقيوي وقلبت الواو ياء لتحركها وكون الياء الساكنة قبلها فان قال قائل فقد جمعت إعلالين إعلال عين الفعل ولامه وذلك أنك قلبت الواو ياء وهي عين الفعل وقلبت لام الفعل ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها قيل له الإعلال الذي منعنا من جمعه في اللام والعين هو أن تسكن العين واللام جميعا من جهة الإعلال وتقول منها فيعل قي، لأن العين منها واو كما هي في قلت وإنما منعهم من أن تعتل الواو وتسكن في مثل قويت ما وصفت لك في حييت وينبغي أن يكون فيعل هو وجه الكلام فيه، لأن فيعل عاقب فيعل فيما الواو فيه عين ولا ينبغي أن يكون في قول الكوفيين إلا فيعل مكسور العين، لأنهم يزعمون أنه فيعل وأنه محدود من أصله وأما الخليل فكان يقول عاقبت فيعل فيما الواو والياء فيه عين واختصت بها كما عاقبت فعلة للجمع فعلة فيما الياء والواو فيه لام وكذلك شويت وحييت بهذه المنزلة فإذا قلت فيعل قلت حي وقي وشي يحذف منها ما يحذف من تصغير أحوي، لأنه إذا كان آخره كآخره فهو مثله في قولك أحي إلا أنك لا تصرف أحي أما قوله وتقول منها فيعل فلأن العين منها كما هي في قلت " يعني: أن عين الفعل لو لم تكن واوا كانت حرفا من الحروف الصحاح ما جاز أن يبنى منها فيعل لو قال قائل ابنوا من ضرب فيعل مثل ميت ما جاز أن تقول ضيرب، لأن هذا البناء لم يوجد في كلام العرب إلا فيما عينه واو وياء قالوا ونحو ميت وسيد وأصله ميوت وسيود والياء نحو لين وبين وهو من لان يلين وبان يبين. وقوله: " وإنما منعهم من أن تعتل الواو وتسكن في مثل قويت ما وصفت لك " يعني: إنما لم تعتل الواو التي هي عين الفعل في قويت ونحوه ولم تسكن، لأن اللام منه معتلة فلما اعتلت اللام لم يجز سكون العين وقد مضى نحوه.

وقوله: " وينبغي أن يكون فيعل وجه الكلام " يعني: أن الباب الكثير أن يبنى فيعل مما عينه من الحروف الصحيحة سوى الواو والياء كقولك حيدر وصيقل وصيرف وما أشبه ذلك وإذا بني مما عينه ياء هذا البناء جعل فيعل نحو سيد وميت فلذلك أثر أن يكون البناء من حييت وقويت على فيعل، لأن عين الفعل منه واو أو ياء والياء فيه فيعل وقوله: " لأن فيعل عاقب فيعل فيما الواو فيه " يعني: أن ما كان عينه واوا كان الباب فيه فيعل وفيعل فيما صحت عين فعله وإنما خص سيبويه الواو بالذكر وإن كانت الياء مشاركة لها، لأن الأكثر في الباب الواو. ومعنى قوله " عاقبت " يريد أن فيعل في المعتل يمنع فيعل فيه كما أن فيعل في الصحيح يمنع فيعلا فيه فكأنهما يتعاقبان فإن قال قائل فإذا منعتم أن تبنوا من الصحيح فيعل كضيرب فهلا منعتم أن تبنوا مما عينه واو فيعل، لأن كل واحد منهما مختص بأحد البناءين فتمنعوا أن يبنى من قويت وحييت فيعل كحيا قيل له إنما أجزنا أن يبنى فيعل مما عينه واو وياء وإن كان ذلك قليلا لأنا رأينا فيه فيعلا كقولهم وقال الراجز: ما بال عيني كالشعب العين وقوله: " ولا ينبغي أن يكون في قول الكوفيين إلا فيعل مكسور العين " يعني: أن قول الكوفيين كقول البصريين في اختيار فيعل في قويت وحويت وإن كانوا هم يزعمون أن الأصل فيعل فيما حكاه سيبويه عنهم والذي حكى أنه فيعل الرواسي وهو من الكوفيين وكان استاذ الكسائي وقد ذكرنا فيما مضى ما قال الفراء أنه فيعل وقول الخليل كما عاقبت فعلة الجمع فعلة فيما الياء والواو فيه لام يعني أن فاعل إذا كانت لام الفعل منه ياء أصليا أو منقلبا من واو فإن جمعه فعلة نحو قاض وقضاة ورام ورماة وهذه الياء أصل وغاز وغزاة وسام وسماة أصله واو منقلبة، لأنه من سموت وغزوت وإذا كان لام الفعل غير ياء أو ياء منقلبة من واو فإن جمعه يجيء على فعلة نحو كاتب وكتبة وخائن وخونة وقائد وقودة ولا يكون فيه فعلة ولا يكون في المعتل فعلة ففيعل في المعتل بمنزلة فعلة فيه وفيعل في الصحيح بمنزلة فعلة فيه وكل واحد منهما يعقب الآخر. وقوله: " فإذا قلت فيعل قلت حي وشي وفي " يعني إذا بنينا فيعل من هذه الأشياء اجتمعت ثلاث ياءات فيحذف الطرف منها ومثله إذا صغرت احوى على قول من يقول في تصغير أسود أسيد وذلك أنك تدخل ياء التصغير ثالثة بعد الحاء فيصير احيوى فيجتمع ياء وواو والأول منهما ساكن فتقلب الواو ياء فيصير أحيي فيجتمع ثلاث ياءات فتحذف

منها الطرف. قال: " وتقول في فعلان من قويت قووان وكذلك حييت قالوا والأولى بمنزلة واو عور وقويت الواو الأخيرة كقوتها في نزوان وصارت بمنزلة غير المعتل ولم يستثقلوهما مفتوحتين كما قالوا لووي وحووي ولا تدغم لأن هذا الضرب لا يدغم في رددت ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد تبين فيما مضى من كلام سيبويه أن لام الفعل من فعلان لا تعتل كقولهم نزوان وقطوان ونفيان وريان وإن اللام والعين إذا اجتمعتا وهما من حروف العلة لم تعتل العين البتة فإذا كان الأمر على ما وصفنا وبنينا منه فعلان أعني من قويت وأصل البناء فيه واو قلنا قووان لأن الواو الأولى عين الفعل فلا تعتل لكون اللام واوا، بعدها والواو الثانية لا تعتل كما لا تعتل في نزوان ولم يجز إدغام إحدى الواوين في الأخرى، لأن ما كان على فعل اسما وكانت عينه ولامه من جنس واحد لم يجز إدغام إحداهما في الأخرى كما تقول في قصص وعسس وفنن قصّ وعسّ وفنّ وستقف على علة ذلك في باب الإدغام إن شاء الله وإنما جاز إدغام أقووي وأحووي لأنه فعل والفعل يجوز الإدغام فيه كما تقول ردّ وجرّ وقرّ والأصل ردد وقرر وشبهوه باقتتل لأنه أيضا فعل. قال: " وتقول في فعلان من قويت ومن حييت قوان وحيان تدغم لأنك تدغم فعلا من رددت وقد قويت الواو الآخرة كقوتها في نزوان فصارت بمنزلة غير المعتل ومن قال حيي عن بينة قال قووان ". قال أبو سعيد رحمه الله: أما إدغام قووان فلأن فعل وفعل مما عينه ولامه من جنس واحد في الاسم والفعل الصحيحين يجب فيه الإدغام لو بنينا فعلا من رددت اسما لقلنا ردّ وأصله ردد وإذا بنيناه فعلا لكنا قلنا رد وأصله ردد وكذلك فعل تقول فيه اسما ردّ وأصله ردد وفعلا ردّ وأصله ردد وإنما جاز الإظهار، لأن الواو الثانية تنقلب ألفا لو تطرفت ولم تكن تثبت فصار بمنزلة حيي الذي يجوز فيه الإدغام كعضّ ومسّ إذا كانا حرفين من جنس واحد ويجوز فيه الإظهار، ولأن الياء الثانية تنقلب ألفا في يحيا. قال أبو العباس المبرد: وقووان غلط ينبغي لمن لا يدغم أن يقول قويان فيكسر الأولى ويقلب الثانية ياء لأنه اجتمع واوان في إحداهما ضمة والأخرى متحركة وهذا قول أبي عمر الجرمي وأكثر أهل العلم ومما يؤيد قول الجرمي وأبي العباس ما قاله سيبويه بعد

هذا إذا بنيت فعلوة من غزوت قلت غزوية استثقالا لغزووة، فلما كانت في غزووة لا تثبتان وجب أن لا تثبت في قووان وكان الزجاج لا يجيز أن يبنى من قويت فعلان وأنه ليس في الكلام البتة اسم ولا فعل على فعل مما عينه ولامه واوان استثقالا للواوين مع الضمة في هذا البناء بل يعدلون فيه إلى فعل حتى تنقلب الواو الثانية ياء. وأما قولهم حيوان فإنهم كرهوا أن تكون الياء الأولى ساكنة ولم يكونوا ليلزموها الحركة هاهنا والأخرى غير معتلة من موضعها فأبدلوا الواو ليختلف الحرفان كما أبدلوا في رحوي حيث كرهوا الياء فصارت الأولى على الأصل كما صارت اللام الأولى في مملي ونحوه على الأصل حين أبدلت الياء من آخره. قال أبو العباس: حيوان أصله فعلان ساكن العين، لأن فعلان إنما يجيء فيما يكون اضطرابا نحو الغليان والنزيان فلما قلبوا اللام واوا لزمها القلب فتصير واوا قبلها ياء فيلزمها الإدغام فيصير حيان مثل أيام فحركوا العين وأبدلوا اللام وإنما استثقلوا حيان كما استثقلوا ارحيي وإن كان رحيي أثقل. ومعنى قوله: " ولم يكونوا ليلزموها الحركة هاهنا والأخرى غير معتلة من موضعها " يعني: إنه كان في حيان ياءان الأولى ساكنة والأخرى متحركة فغيروا الأولى بأن فتحوها فكرهوا ترك الثانية على حالها وقد غيروا الأولى ليعلم أن الكلمة مغيرة بوجود الواو في موضع الياء وقوله: " كما صارت اللام في مملي ونحوه على الأصل حين أبدلت الياء من آخره " يعني أن مملي أصله ممل ولكنهم كرهوا التضعيف في قولك أمللت فأبدلوا اللام ياء كما قالوا تظنت والأصل تظنت وغيروا الحرف الثاني دون الأول كما غيروا الحرف الثاني في حيوان حين صيروه واوا قال: " وكذلك فعلان من حيث يدغم إلا في اللغة الأخرى وذلك قولك حان ولا تدغم في لأنك قلبت اللام ياء " يعني أن فعلان من حييت إن شئت أدغمت فقلت حيان كما تقول حي وإن شئت أظهرت فقلت حييان كما تقول حيي وأما قويان فلا يجوز فيه الإدغام، لأن الواو الثانية تنقلب ياء للكسرة قبلها فيتباين الحرفان كما لم يدغم قوي لتباين الواو والياء. قال: " ومن قال عمية فأسكن قال قويان ". قال أبو سعيد رحمه الله: قد تقدم فيما مضى من الكتاب أن فعل يجوز فيه فعل تخفيفا كقولهم في فخذ فخذ وفي كبد كبد وفي الفعل في علم علم في لعب لعب فإذا كان

هذا التخفيف جائز أجاز أن تقول في قويان قويان وفي عمية عمية بل التخفيف في قويان وعمية أجود وأقوى بسبب الياء إذا كانت الياء أثقل من الحروف الصحاح. قال: " ولا تقلب الواو ياء لأنك لا تلزم الإسكان وليس الأصل الإسكان ومن قال رية في روية قلبها فقال قيان " يعني أن الذي قال قويان تخفيفا من قويان لا يقلب الواو ياء لسكونها وتحرك الياء بعدها لأن أصلها قويان والواو متحركة مكسورة فكان الذي يقول قويان مخفف ينوي للواو كسرة تمنع من قلبها ياء ومثل ذلك روية فيمن خفف الهمزة لا يقلب الواو ياء، لأنه ينوي الهمزة المخففة والهمزة لو كانت حاضرة ما جاز قلبها ياء وكذلك إذا كانت منوية وأما من قال في روية رية فراعى اللفظ فإنه يقول قيان في قويان لأنه اجتمع واو وياء والأول منهما ساكن قال: " وتقول في فيعلان من حييت وقويت وشويت حيان وقيان لأنك تحذف ياء هنا كما حذفتها في فيعل وكما كنت حاذفها في افعيلان لحق التصغير في اشويان لو كانت اسما أصل فيعلان من حييت حييان بثلاث ومن شويت شيويان وتقلب الواو ياء فيصير شييان بثلاث ياءات ومن قويت قيووان فتقلب الواو الأخيرة ياء لانكسار ما قبلها مع اجتماع الواوين وتقلب الواو الأولى، لأن ما قبلها ياء ساكنة فتجتمع فيه أيضا ثلاث ياءات ويصير قييان فتسقط منهن الياء الأخيرة فتصير حيان وشيان وقيان كما كان ذلك في فيعل حين قلت حي وقي وشي وقصة افعلان في إسقاط الياء كهذه القصة وذلك أنك إذا صغرت اشويان لو كان اسما لقلت اشيويان وقلبت الواو ياء أدغمت فيها الياء الأولى فصار اشييان ثم حذفت منها الياء الأخيرة قال فهم يكرهون هاهنا ما يكرهون في تصغير شاوية وراوية إذا قلت شوية؛ لأنها لم تعد إن كانت كألف النصب والهاء، لأنهما يخرجان الياء في فاعل ونحوه على الحركة في الأصل كما يخرجه في فيعلان لو جاءت في رميت فأجروا رميت مجرى شويت وغويت قوله فهم يكرهون هاهنا ما يكرهون في تصغير شاوية وراوية إذا قلت شوية وروية فيصير شويوه ويجتمع واو وياء والأول منهما ساكن فتصير الواو الثانية ياء فصارت شويية فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداهن فصارت شوية فهي بمنزلة فيعلان وسائر ما ذكرناه مما حذفت منه ياء لاجتماع ثلاث ياءات. وقوله: " ولم تعد إن كانت كألف النصب والهاء " يعني أن ألف فيعلان كألف النصب وهاء التأنيث وذلك أنهم قالوا شيان كما قالوا رأيت شيا وشيية إن بني منه فيعل ثم

دخل عليه النصب وهاء التأنيث. وقوله: " لأنهما يخرجان الياء في فاعل ونحوه على الحركة في الأصل كما يخرجه في فيعلان لو جاءت في رميت " يعني أن ألف النصب وهاء التأنيث تفتح الياء كقولك رأيت راميا ورامية فيصح ولو بنيت منه فعلان وكان في الكلام له نظير لصحت أيضا فقلت رميان فتستوي الياء وتصح في دخول هذه الحروف بعدها وقوله التصريف وهو «خطوات» و «خطوات»، أما من سكن؛ فقال: خطوات؛ فلا شيء يدعو إلى تغيير الواو منه؛ لأنها واو قبلها حرف ساكن، وإذا سكن ما قبل الواو صحت كغزو وحلو، وما أشبههما، وأما من قال: خطوات؛ فللقائل أن يقول: هلا قلبوا الواو فيها ياء؛ لأنها وقعت طرفا وقبلها ضمة، والألف، والتاء علامة الجمع؛ فالجواب في ذلك أن يقال: أن الإعراب إنما وقع على التاء دون الواو، ولم توجد هذه الواو قط طرفا، وقبلها ضمة، وذلك أن الضمة إنما حدثت في الجمع كما حدثت ضمة الكاف في " ركيات " واللام في " ظلمات " في الجمع فلما كانت كذلك صارت بمنزلة " غباوة " و " نهاية " في سلامة الياء والواو منهما لوقوع الإعراب على الهاء، وقوله لأنهم لم يجمعوا فعل يعني لو كان خطوات جمع فعل لوجب أن يقال خطيات؛ لأن فعل من هذا إذا كان واحدا وجب أن تقلب الواو منه ياء؛ لأن خطوات الواو منه طرفا وقبلها ضمة فيقال خطى؛ فإذا جمع قيل: خطيات. وقوله: «ولا فعله» جاءت على فعل يعني، وخطوات ليست أيضا جمع خطوة؛ لأن خطوة مبنية على خطو لأنها لو كانت كذلك لوجب قلب الياء في خطى، ثم تقول: خطية، ثم تقول: خطيات، وإنما يكون خطوة على خطويات تجمع الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، كقولهم: نمرة ومقلة، ومقل؛ فيلزمهم حينئذ أن يقلبوا الواو ياء في خطو. وقوله «فهذا بمنزلة فعله وليس مذكرا»: يعني خطوات بمنزلة فعله، وليس مذكرا يعني خطوات بمنزلة خطوة إذا بنينا خطوة على التأنيث، ولم يقدر أن الهاء تسقط من خطوة كما ذكرنا ذلك في رموة ومرموة، وما أشبه ذلك. قال: ومن قال: خطوات بالتثقيل؛ فإن قياس ذلك في كلية كليات، ولكنهم لم يتكلموا إلا بكليات مخففة فرارا من أن يصيروا إلى ما يستثقلون فالزموها التخفيف إذ كانوا يخففون في غير المعتل كما خففوا فعل من باب بون ولكنه لا بأس بأن تقول في " مدية " " مديات " كما قيلت في " خطوة "

" خطوات "؛ لأن الياء مع الكسرة كالواو مع الضمة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد بينا أن جمع فعله يجيء على فعلات، وقد يعرض في الجموع ما يستثقل فيه فعلات، وذلك نحو مدية، وكلية وذلك إنا إذا جمعناها على فعلات صارت " كليات " و " مديات "؛ فتقع قبل الياء ضمة، فيجب قلبها واو فتصير كلوات ومدوات؛ فلما كان هذا الجمع يؤدي إلى التغيير اقتصروا على الضرب الآخر من الجمع واستغنوا به فقالوا: " مديات "، و " كليات ". قوله: «فألزموها التخفيف إذ كانوا يخففون في غير المعتل» يعني: ألزموا مديات وكليات التسكين؛ لأنهم قد يسكنون ظلمات وركيات؛ فإذا كانوا يسكنون ركيات ولا علة فيها وجب تسكين كليات. وقوله «كما خففوا فعل من باب يون» يعني: أن إلزامهم تخفيف كليات كإلزامهم تخفيف بون وبابه، وذلك أن بون جمع بوان، والباب فيه فعل في الصحيح، ويجوز فيه التخفيف كقولك في جمع حمار حمر، وفي كتاب كتب، ويجوز فيها حمر وكتب؛ فإذا جمعنا بوان بتسكين الواو كما قلنا حمر، وكتب ولم يجز فيها بون استثقالا للضمة على الواو. وقوله «ولكنه لا بأس أن تقول في مدية مديات». قال أبو سعيد- رحمه الله- يريد أن مدية على لغة من كسر الميم يجوز أن يجريه مجرى كسرة فيقول فيه مدية، ومديات، ومديات كما تقول كسرات وكسرات؛ لأن مدية في ذوات الياء كخطوة في ذوات الواو وتثقيل مديات لا يوجب قلب الواو وإخراجها عن بابها ولفظها كما أن تثقيل خطوات يوجب تغيير الواو، وإخراجها عن بابها قال: ومن نقل في مديات فقياسه أن يقول في جروة: جريات؛ لأن فيها كسرة، وهي لام ولكنهم لا يتكلمون بذلك إلا مخففا فرارا من الاستثقال والتغيير يعني أن جروه فعله فمتى جمعت على قياس مديات وكسرات بالتثقيل، وجب أن تنقلب الواو فيه ياء فيقال جريات فعدلوا عن هذا الجمع كراهية لتغيير الواو، واقتصروا على الوجه الآخر؛ فقالوا: جروات، كما قالوا: مديات، وكسرات. قال: " فإذا كانت الياء مع الكسرة والواو مع الضمة؛ فكأنك رفعت لسانك بحرفين من موضع واحد رفعة؛ لأن العمل من موضع واحد؛ فإذا خالفت الحركة؛

فكأنهما حرفان من موضعين متقاربين الأول منهما ساكن نحو: وتد " يعني أن التثقيل في خطوة وخطوات ومدية، ومديات يستخف؛ لأن الضمة في خطوات من جنس الواو، والكسرة في مديات من جنس الياء؛ فاللسان بهما يعمل من جهة واحدة، وإذا كانت جروة لم تقل جروات؛ لأن الكسرة مع الواو كأنهما من موضعين متقاربين والواو والياء بمنزلة حرفين متقاربين وإن كانا من مخرجين متباعدين لما يجمعهما من شركة المد واللين، وغير ذلك، ومثله بالتاء والدال من وتد لأنهما متقاربان. قال: «وفعللة من رميت بمنزلة فعلوة». وتفسيرها تفسيرها (¬1) يعني أنك إذا بنيت فعللة من رميت قلت: رموة والأصل: رميية، وقلبت الياء الأخيرة واوا للضمة التي قبلها. قال: «وتقول في ملكوت من رميت رموة، ومن غزوة غزوة تجعل هذا بمنزلة فعلوا ويفعلون كما جعلت فعلان بمنزلة الاثنين وفعليل بمنزلة فعلى وذلك قولك ارميا جاءوا بها على الأصل كراهية إلتباس الواحد بالاثنين». قالوا: رحوى ولم يحذفوا؛ لأنهم لو حذفوا التبس ما العين فيه مكسورة بما العين فيه مفتوحة، أما إذا بنيت من رميت مثل ملكوت، والأصل فيه رميوت فقلبت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها؛ فاجتمع ساكنان واو ملكوت والياء التي قبلها فحذفت الياء فبقيت رموت، وكذلك من غزوت غزوة؛ فقلبت الواو الأولى ألفا؛ لانفتاح ما قبلها وتحركها، ثم أسقطتها لاجتماع الساكنين فبقي غزوت وهذا البناء بمنزلة الجمع؛ لأنك تقول في جمع رميت وغزوت رموا وغزوا والأصل رميوا وغزووا وفعل بالواو والياء ما ذكرناه لما استثقل الضم عليهما؛ فلهذا قال: يجعل بمنزلة فعلوا. وقوله: «كما جعلت فعلان بمنزلة فعلا». يعني: أنك لو بنيت فعلان من رميت وغزوت لقلبت رميان وغزوان، ولم تكن تحذف الواو والياء لأنهما قد انفتحتا فصارا بمنزلة فعلا يعني لو بنيت فعليل من رميت لقلبت رموي والأصل رمي وقد مضى. وقوله: «وقالوا: رحوى، ولم يحذفوا لأنهم لو حذفوا التبس ما العين فيه ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل.

مكسورة بما العين فيه مفتوحة» يعني لو احذفوا الألف من رحى في النسبة لاجتماع، وهما ألف رحى والياء الأولى من ياء النسبة لكسروا الحاء فقالوا: رحى كما قالوا في النسبة إلى قبعثري ومعلى قبعثري ومعلى لالتبس رحى بيدي ودمي لو نسبت إلى يد ودم ورحا عين الفعل فيه مفتوحة، وهي الحاء وليست كذلك يد ودم لأن عين الفعل من يد ودم يلحقها الكسر قال: وتقول في فوعلة، من غزوات غزوة وافعلة اغزوة في فعل غزو، وفي فعل غزوو لا تقول في فوعل غزوى لأنك تقول في فوعلت غوزيت من قبل أنك لم تبن فوعل ولا افعل من فوعلت وإنما بنيت هذا الاسم من غزوت من الأصل، ولو كان الأصل كذلك لم تقل في أفعولة ادعوة لأنك لو قلت أفعل وأفعلت لم تكن إلا ياء ولدخل عليك أن تقول في مفعول مغزى لأنك حركت ما لو لم يكن ما قبله الحرف الساكن ثم كان فعلا لكان على بنات الياء ولو ثنيته أخرجته إلى الياء فأنت لم تحرك الآخر بعد ما كان مفعل ولكنك إنما بنيت على مفعول، ولم يلحقه واو مفعول بعد ما كان مفعل ولكنك: إنما بنيت على مفعول، ولم يلحقه واو مفعول بعد ما كان مفعل، وكذلك فوصل، لم يلحقها التثقيل بعد ما كان فوعل، ولكنه بني وهذا له لازم كمفعول. قال أبو سعيد: رحمه الله: أما فوعلة فسائر ما ذكر مما شدد لامه فإن الواو تثبت فيه: لأن الواو المشددة تثبت في الواحد، ولا تقلب كما تقلب واو مغزوي وعدوا وما أشبهها، وإنما تقلب في الجمع نحو: عت، وعصى، والأصل عتو، وعصو. وقوله: «ولا يقال في فوعل؛ لأنك تقول في فوعلت غوزيت». يعني أنك لا تقلب الواو ياء في فوعل حملا على قلبك له في فوعلت كما لو بنيت من غزوت فوعل قلبت الواو ياء ثم تقلبها ألفا لانفتاح ما قبلها وإنما قلبت في فوعل مخفف حملا على الفعل؛ لأنك لو بنيت منه فعلا لقلت غوزيت. قال: ولا يحمل غزوو الذي هو فوعل مشدد على الفعل؛ لأنك لم تبن فوعل، ولا افعل من فوعلت الذي هو غوزيت، وقد انقلبت الواو فيه ياء، وإنما فوعل وافعل مبني من غزوات قبل أن تنقلب الواو فيه ياء ولذلك قال: ادعو لأنها من دعوت، ولو حملنا غوزو على غوزيت لوجب أن تحمل ادعو على افعلت مثل اغزيت وادعيت ولدخل عليك أن تقول مغزى في مغزو وذلك أن مغزو مفعول والواو من مفعول لو لم تكن لكان مغزا مخففا مفعل ولو بنيت منه فعلا لقلت مغزيت، وكذلك لو ثنيت مغزا

اسما لقلت مغزوان فلو بنيت مغزو من غزوت بزيادة واو ساكنة صحت الواو الأخيرة ولو كان مغزو مبنيا من مفعل لقيل مغزو لأن الواو تنقلب في مفعول مفعل ياء فكذلك لما بنينا فوعل وافعل وفعل من غزوت صحت الواوات فيهن وتقول في فوعلة من رميت رموية وأفعله أرميه بكسر العين كما تكسرها في فعول. قال أبو سعيد- رحمه الله- أما فوعلة؛ فالكلام فيها بين؛ لأنه لم يغير منها شيئا، وأما أفعلة فإن أصله أرميه بضم الميم غير أنهم يكسروها لتسلم الياء، كما قالوا: مضى وأصله مضوي فاجتمعت الواو والياء فانقلبت الواو ياء فصار مضى وكسروا الضاد لتسلم الياء، وكذلك ثدي، وأصلها ثدوي. قال: " ومن قال: عتي قال في أفعلة من غزوت اغزية، ولا يقول رومياه، كما قال في افعل ارميا ". يعني، ومن قال عتي في المصدر لا في الجمع؛ لأن الجمع يلزم فيه عني والمصدر يجوز فيه عتي، والأجود عتو فمن قال: عتي في المصدر قال في أغزوة أغزية. وقوله: «ولا تقول رومياه». يعني: ولا تقول في فوعل رومياه من رميت كما قلت في افعل ارميا، وذلك أن افعل أصله افعلل فأدغم؛ فإذا بنينا مثله من رميت صارا رمي فتقلب الياء الثانية ألفا لانفتاح ما قبلها فبطل لإدغام، وإذا بنينا فوعلة فقلنا رومية فالياء الأولى في نفس البنية ساكنة؛ فإذا كانت الياء الأولى ساكنة في الأصل لم تقلب الثانية ألفا؛ لأنك إنما تقلبها ألفا لانفتاح ما قبلها ثم ذكر كلاما مفهوما يدل على صحة ما ذكره ثم قال: " ولو كان كذلك لقلت في فعل روميا؛ لأن أصله الحركة ". يعني لو كان أصل فوعل فوعلل بتحريك اللام الأولى؛ لكان أصل فعل بتحريك اللام الأولى؛ فيكون أصله فعلل، ولو كان أصله فعلل لزمك أن تقول في فعل من رميت رميا؛ لأن الياء الثانية تنقلب ألفا لانفتاح ما قبلها، وهذا باطل؛ لأن العرب تقول هبية وهبي للصبية والصبي، ولو كان الأصل فيها التحريك لقالوا: هبياه. قال: " تقول في فعلالة من غزوت غزواوة إذا لم يكن على فعلال كما كانت صلاة على صلاة؛ فإن كانت كذلك قلت: غزواة، ولا تقول غزواية؛ لأنك تقول: غزويت ".

هذا باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجز في الكلام نظيره إلا من غير المعتل

يعني أنك لو بنيت فعلالة ولم تقدر هاء التأنيث منها منزوعة في حال يعني: أن قوله: لم أبل، وإن كان على الوجهين اللذين ذكرنا ولم يك، وإن كان حذف نونها على ما شرحنا فليس ذلك بالقياس المطرد؛ لأنا نقول: لم أعط زيدا، ولم أجر أخاك في معنى: لم أعط زيدا، ولم أجر أخاك، ولا تقول لم يص زيد عمرا في معنى لم يصن زيد لأنهم إنما حذفوا النون من يكن تخفيفا لكثرة دور هذه الكلمة في كلامهم، وذكر ما حذف منه النون تخفيفا نحو: مذ وأصله منذ، ولد وأصله لدن. قال أبو سعيد رحمه الله: ذكر سيبويه ذلك حجة لحذف النون من لم يك، وذكر علم وأصله علم حجة لحذف الكسرة من لم أبال وسكون اللام. قال: وزعم الخليل أن ناسا من العرب يقولون: لم أبله لا يزيدون على حذف الألف حيث كثر الحذف في كلامهم كما حذفوا ألف أحمر وألف غلبط، وواو غد يعني أن أصل لم أبله، لم أبال ثم يخففون لغير علة توجب التخفيف فيسقطون الألف فيصير لم أبله كما يقولون في علابط علبط تخفيفا قال: وكذلك فعلوا بقولهم: ما أباليه بالة، كلها بالية بمنزلة العافية، ولم يحذفوا لا أبالي؛ لأن الحرف يقوى هاهنا، ولا يلزمه حذف كما أنهم إذ قالوا: لم يكن الرجل فكانت في موضع تحرك لم تحذف، وإنما جعلوا الألف تثبت مع الحركة، ألا ترى أنها لا تحذف في أبالي في غير موضع الجزم، وإنما تحذف في الموضع الذي تحذف منه الحركة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن باله يباليته أباليه على غير ما يوجبه قياس مصدر باليته، ولكن هي اسم المصدر كما تقول: عافاه الله عافية؛ فالمحذوف من باله الياء التي في موضع اللام من الفعل؛ فإذا رددناها إلى موضعها صارت بالية كقولك: عافية، وواقية، وإنما حذفوا هذه الياء كما حذفوا لام الفعل من سنة وتبة وعزة، وما أشبه ذلك. وقوله: «ولم يحذفوا ألا أبالي؛ لأن الحرف يقوى هاهنا، ولا يلزمه حذف». يعني: أن قوله: «لا أبالي» في موضع رفع، وليس بموضع جزم يقع فيه حذف كما أنهم إذا قالوا: لم يكن الرجل؛ فتحركت النون لاجتماع الساكنين بطل حذفها، وإنما حذفهم الألف من لم أبل بسبب ما ذكرناه، ولأن المجزوم في موضع حذف؛ فاعرفه إن شاء الله. هذا باب ما قيس من المعتل من بنات الياء والواو ولم يجز في الكلام نظيره إلا من غير المعتل «تقول في مثل حمصيصة من رميت رموية، وإنما أصلها رميية ولكنهم كرهوا

هاهنا ما كهروا في رحييّ حيث نسبوا إلى رحى فقالوا: رحويّ لأن الياء التي بعد الميم لو لم يكن بعدها شيء كانت كياء رحّى في الاعتلال؛ فلما كانت كذلك قد تعتل، ويكون البدل أخف عليهم وكرهوها وهي واحدة كانوا لها في توالي الياءان، والكسرة فيها أكره فرفضوها؛ فإنما أمرها كأمر رحى في الإضافة». قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد كنا بينا أنك إذا بنيت اسما على بناء اسم آخر من شيء؛ فإنك تعتبر الاسم الذي تبني مثاله فإن كانت حروفه كلها أصلية اعتبرت الاسم الذي من حروفه شيء مثال الاسم الذي سئلت أن تبنى مثاله؛ فالمسألة باطلة كقائل قال لك ابن من جعفر؟ مثال: جذع أو من فرزدق، مثال جعفر: فهذا غير جائز، وإن كانت حروف المبنى منه كعدة حروف المبني على مثاله بدأت بها على ترتيبها، وجعلت المتحرك بحذاء المتحرك على نحو: حركته والساكن بحذاء الساكن كقائل: قال ابن من جعفر؟ مثال: هرقل؛ فالجواب: جعفر، وإن قال: قلت: غزواوة، ولم تقلب واو الطرف همزة لوقوعها بعد الألف كما لم تقلب واو غباوة همزة؛ لأن الإعراب منها يقع على هاء التأنيث، وقد مضى نحو هذا، وإن قدرت غزوا ومنفردا، ثم أدخلت عليه الهاء انقلبت الواو همزة كما قلت صلاءة حين قدرت الهاء داخلة على صلاء، وقد مضى نحو هذا. قال: «ولا تقول غزواية؛ لأنك تقول: غزويت أي: لا تجعلها ياء حملا على غزويت، كما لم تفعل ذلك بغوزية؛ لأن غزواوة وغوزوة ليست بمأخوذة من فعل قد انقلبت فيه الواو ياء». وذكر سيبويه كلاما يشذ به هذا المعنى إلى أن قال: «وتقول في مثل كوالل من رميت روميا ومن غزوت غوزوا، وتقولها من قويت قووا ومن حييت حويا ومن سويت سويا وحدها سوويا، ولكنك قلبت الواو ياءا إذا كانت ساكنة». قال أبو سعيد- رحمه الله- اعلم أن كوالل وزنه فوعلل الواو زائدة، وإحدى اللامين والهمزة أصلية؛ فإذا بنينا مثله من رميت فأصله رومي وقلبت الياء الثانية ألفا لانفتاح ما قبلها، ومن غزوت غزوو وقلبت الواو الثانية ألفا لانفتاح ما قبلها، ومن قويت قووا، وذلك لأن عين الفعل منه، ولامه واوان؛ لأنه من القوة؛ فالواو الأولى واو فوعلل الزائدة، والواو المشددة عين الفعل، ولامه والألف هي بدل من واو وهي لام معادة في فوعلل لانفتاح ما قبلها ويجب على قياس قول الأخفش في فوعلل من قويت قويا لاجتماع ثلاث واوات كما قال في أفعوعل من قال أقوبل وسيبويه يقول أقووك، قال:

وتقول في فعول من غزوت من غزوت غزوو، ولا تقلب الواو الثانية المشددة ياء لانفتاح ما قبلها كما قلبت في عتوّ فقيل عتى؛ لأن ما قبل واو عتو مضموم ألا تراهم، لو بنوا فعل من غزوت؛ لقالوا غزوو ولم يقولوا غزى، وقد فصلوا بين الواو إذا انضم ما قبلها، وإذا انفتح ما قبلها؛ فقالوا في صوم صيم، ولم يقولوا في صوم صيم، ولا في سود سيد، وكذلك عثول من قويت فيووا، والأصل قيوو، وقلبت الواو بعد الياء لسكون الياء قبلها، وتحركها. قال: «وتقول في مثل خلفنة من رميت وغزوت رمينة وغزونة لا تغير لأن أصلها السكون فصارتا بمنزلة غزون ورمين يعني لم تغير الياء، والواو؛ لأنهما ساكنتان في نفس البناء؛ فلم تنقلب ألفين لانفتاح ما قبلها كما لم تنقلب في غزوت ورميت قال: وتقول في مثل صمحمح من رميت رميما. قال أبو سعيد: قد بينا أن صمحمح على مذهب سيبويه مفلعل فإذا بنيناه من رميت احتجنا أن نعيد عين الفعل ولامه فيصير رميمي فتقلب الياء الطرف ألفا لانفتاح ما قبلها، وتقول في مثال جليلاب من غزوت ورميت رميما. وغزيراء جلبلاب فعلعال فيصير من غزوت غزوزا، فتقلب الواو الأولى لسكونها وانكسار ما قبلها وتقلب الواو الثانية همزة لوقوعها طرفا وقبلها ألف والهمزة في رميماء كذلك قال: وتقول في فوعلة: من أعطيت عوطوه على الأصل لأنها من عطوت يعني أنا إذا بنينا فوعلة من أعطيت ألقينا الهمزة من أعطيت لأنها زائدة، وقد بينا أنك متى سئلت مثالا من كلمة وكان في الكلمة زوائد ألقيتها؛ فإذا كان يوجب أن تلقى الهمزة الزائدة من أعطيت وترد أعطيت إلى أصله وأصله عطوت أي تناولت فكأنه قيل لك: ابن من عطوت فوعلة وعطوت مثل غزوت وفوعلة من غزوت غوزوة فكذلك من أعطيت عوطوة. وقد مضى نحو هذا قال فأجر أول وعيت على أول وعدت وآخره على آخر رميت وأول وجبت على أول وجلت وآخره على آخر خشيت في جميع الأشياء يعني إن وعيت ونحوه فيه اعتلال من موضعين أحدهما فاء الفعل والآخر لامه ففاؤه حكمها كحكم واو " وعدت " تعتل في المستقبل وتسقط كقولك " يعد " و " يزل " وفي المصدر كقولك " عدة " و " زنة " وكذلك في " وعيت " " وومشيت " كقولك يعي ويشي شية ووديته أدية دية وآخر وعيت وهو لامه يعتل كما تعتل ياء رميت في انقلابها ألفا في الماضي وسكونها في المستقبل في الرفع وسقوطها في الجزم كقولك: أرميي ويرمى ولم يرم ومثله

" وعى " " يعي " ولم يع وقوله أول وجيت على أول وجلت يعني ثبتت في المستقبل من وجيت الواو كما ثبتت من وجلت فيقال توجي وتوجل وياؤه كياء خشيت لأنها تنقلب ألفا في المستقبل إذا قلت يخشى ويوجي. وقوله: يعني أن الهمزة في وأيت بمنزلة حرف صحيح والاعتلال في واوه التي هي لام الفعل بمنزلة وعيت كما أن أويت كغويت وشويت يعني أن الهمزة في أويت بمنزلة حرف صحيح كغين غويت وشين شويت قال: وتقول في فعلية من غزوت غزوية ومن رميت رمية تخفي وتحقق وتجري ذلك مجرى فعلية من غير المعتل ولا تجعلها، وإن كانت على غير تذكير كأحييه ولكن كقعدد. قال أبو سعيد- رحمه الله- فعلية من غزوت ورميت وغيرها من المعتل، والصحيح ملحق بفعللة كجعثنة وقلقلة ومما ألحق بها عفرية نفرية؛ فإذا بنينا مثله من غزوت والأصل فيه واللفظ غزوية، ولم تغير الواو لسكون ما قبلها. وإذا بنيناه من رميت قلنا رميية وأنت في الياءين بالخيار إن شئت حققتهما وبنيتهما وإن شئت أخفيتهما. ولا يجوز الإدغام فيهما ألبتة بأن تلقي حركة الياء الأولى على الميم وتدغمها في الياء الثانية فتقول: رمية ولا يشبه رميية أحييه الذي هو جمع حيا. وقد أجزنا الإدغام في أحييته، وذلك إن أحييته أفعلة، وأفعلة ليست بملحقة بغيرها، وقد يلحقها الإدغام فيما عينه ولامه واحد كقولك أخلة وأسّرة وأصلها أخللة وأسررة وفعلية ملحقة بجعثية ولا تغير نظم حركاتها حتى لا تختلفا ولهذا قال: " ولا تجعلها، وإن كانت على غير تذكير كأحيية، ولكن كقعدد " يعني إن رميية وإن كانت الهاء لازمة؛ فلا يجوز فيها الإدغام كما جاز في أحيية. ومعنى قوله: " وإن كانت على غير تذكير " أي وإن كانت هاء التأنيث لم تفارق رميية فيصير رمي، ولكن هو كقعدد لأن قعدد ملحق ببرثن وجلجل ولهذا لم يدغموه فيقولوا قعد لإلحاقها ببرثن. قال: وتقول في فعل من غزوت غزي ألزمتها البدل إذ كانت تبدل، وقبلها الضمة وهي هاهنا بمنزلة محنية. يعني أنا لما كنا نجيز في " غزو " " غزى " كما قلنا في " عتو " " عتى " تقلب الواو ياء وقبلها ضمة وتجعل الضمة كسرة وجب قلبها ياء إذا كان فيها كسرة؛ ألا ترى أنا قلبناها

في محنية وأصلها محنوة لانكسار ما قبل الواو. قال: وتقول في فعلوة من غزوت غزوية ولا تقول غزووة؛ لأنك إذا قلت عرقوة؛ فإنما تجعلها كالواو في سرو ولغزو فإذا كانت قبلها واو مضمومة لم تثبت كما لا يكون فعلت مضاعفا من الواو في الفعل نحو قووت. إنما لم تثبت الواوان في غزووة لاجتماع واوين من الضمة التي في الأولى منهما، ومما يبطل اجتماع الواوين أنهما لم يجتمعا في فعل قط، وإن لم يأت مثل قووت؛ فإن قال قائل: فقد أجاز سيبويه قووان فلم لا يجوز في غزووة قيل له الفرق بين غزووة وقووان على مذهبه أن الأولى من قووان عين الفعل والواوان في غزووة إحداهما زائدة والأخرى لام الفعل ولام الفعل أولى بالإعلال وأيضا فإن الألف والنون قد تصحح ما يعتل مع هاء التأنيث كنزوان ونفيان ولو كان مكان الألف والنون هاء التأنيث لقلت نزاة ونفاة فكان قووان أقوى وأصح من غزووة كما كان نزوان أصح من نزاة. قال: وأما غزوّ فلما انفتحت الزاي صارت الواو الأولى بمنزلة غير المعتل وصارت الزاي مفتوحة فلم يغيروا ما بعدها؛ لأنها مفتوحة كما أنه لا يكون في فعل تغيير ألبتة لا يغير مثل الواو المشددة فلما لم يكن ما قبل الواو المشددة ما كانت تعتل به من الضمة صارت بمنزلة واو قوة. قال أبو سعيد رحمه الله: أراد سيبويه أن يبين الفرق بين غزو وبين غزو وذلك من قبل إن غزو يجب فيه قلب الواو ياء لما ذكرناه وغزو يجوز فيه قلب الواو ياء على ما ذكرناه لانكسار ما قبل الواو المشددة وانضمامه ولا يجب ذلك في غزو لانفتاح ما قبل الواو. ولا يلحق غزو تغيير لأنه فعل وفعل لا يغير البتة ألا ترى أنك تقول قول وبيع وما أشبه ذلك، وقيل ليس قبل واوه ما يثقلها. وقوله: فلما لم يكن قبل الواو المشددة ما كانت تعتل به صارت بمنزلة واو قو يعني لما لم يكن ما قبل واو غزو بمنزلة ما قبل واو عتو وغزو ولم يغير كما غير عتو وغزو من الضم فقيل عتى وغزى. وفي بعض النسخ وأما غزوو فلما سكنت الزاي وصارت الواو الأولى بمنزلة غير المعتل يعني صارت الواو الأولى بمنزلة الحرف الصحيح بأن انفتحت فصحت الواو الثانية المشددة لانفتاح ما قبلها.

قال: وأما فعلول فلما اجتمعت فيه ثلاث واوات مع الضمة صارت بمنزلة محنية إذ كانوا يغيرون الثنيتين كما ألزموا محنية البدل إذ كانوا يغيرون الأقوى. يعني أنك إذا بنيت فعلول من غزوة قلت غزوي والأصل غزووّة فاجتمعت ثلاث واوات الأولى مضمومة فغيروا الأخيرة. وقوله: إذ كانوا يغيرون الثنتين يعني قلبوا الواو الأخيرة في غزووّ وياء كما قلبوا واو عتوّ ياء وغزوو أثقل من عتوّ لأن في عتو واوين وفي غزووّ ثلاث واوات. وقوله: " كما ألزموا محنية البدل إذ كانوا يغيرون الأقوى ". يعني أن محنية أصلها محنوة، وألزموا الواو البدل لما كانت طرفا وقبلها كسرة إذ قد أبدلوا عين الفعل في قولهم صيم بدل صوم وعين الفعل أقوى من اللام. قال: " وتقول في فيعلى من غزوت غيزوي؛ لأنك لم تلحق الألف فيعلا ولكنك بنيت الاسم على هذا ألا تراهم قالوا مذروان إذ كانوا لا يفردون الواحد فهو في فيعلي أجدر أن يكون؛ لأن هذا يجيء كأنه لحق شيئا قد تكلم به غير علامة التثنية كما أن الهاء تلحق بعد بناء الاسم ". وقد بينا ذلك فيما مضى. يعني أن لام الفعل، وهي واو تصح في غيزوي وإن كان قبلها فتحة كما صحت في نزوان، وما أشبه ذلك، ولا تقلب ياء وإن وقعت رابعة فتصير غيزيا كما تقلب الواو ياء إذ صارت رابعة في نحو أغزيت وغازيت واستغزيت، وإنما صارت كذلك لأنا لم نبن فيعل مفردا ثم ألحقنا به ألف التأنيث بل أضفناها في أول أمرها على ألف التأنيث؛ ألا ترى أنا لو بنينا فيعل من غزوت لقلنا غيزا وإذا ثنيناه قلبنا غيزيات على ما ذكرناه من علل الباب؛ لأنها قد انقلبت ياء في الواحد، ولو بنيت على التثنية من غير تقدير الواحد لقيل غيزوان كما قيل مذروان؛ لأنهما لا يفردان ولا يقال مذري. وقوله: ألا تراهم قالوا: مذروان إذ كانوا لا يفردون الواحد فهو في فيعلى أجدر أن يكون. يعني أن ثبات الواو في غيزوي أولى من ثباتها في مذروان وذلك أن مذروان تثنية فهي وإن كان لم ينطق بواحدها كان علامة التثنية منها قد لحقت الواحد وغيزوي لا يقدر لها شيء تسقط فيه ألف التأنيث وليست الألف في التأنيث كالهاء؛ لأن الهاء تلحق بناء المذكر كقولك: قائمة وقائمة، والألف لا تلحق بناء المذكر بل تصاغ الكلمة معها غير

هذا باب تكسير بعض ما ذكرنا على بناء الجمع الذي هو بناء مفاعل ومفاعيل

صياغة المذكر كقولك: غضبان وغضبى وسكران وسكرى وأشهب وشهباء؛ فاعرفه إن شاء الله. هذا باب تكسير بعض ما ذكرنا على بناء الجمع الذي هو بناء مفاعل ومفاعيل " فإذا جمعت فعل نحو رميّ وهبيّ قلت رمايّ وهبايّ لأنها بمنزلة غير المعتل نحو معد وجبن ولا تغير الألف في الجمع الذي يليها لأن بعدها حرفا لازما، ويجري الآخر على الأصل؛ لأن ما قبله ساكن وليس بألف وكذلك من غزوت غزاو ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن ألف الجمع تقع ثالثة فيما كان واحده على أربعة أحرف في الأصل أن يكسر الحرف الذي بعدهما متحركا كان الحرف الذي بعدها في الواحد أو ساكنا فالمتحرك قولهم: " درهم " و " دراهم " و " زبرج " و " زبارج " و " جلجل " وجلاجل والساكن نحو: سبطر وسباطر، وقمطر وقماطر وإذا كان الساكن الذي في الواحد قد أدغم في مثله في الواحد أدغم أيضا في الجمع كقولك: معدّ ومعادّ ومدقّ ومداقّ فلما كان هبيّ ورميّ قد جعل في الواحد كجبنّ ومدق جعلا في الجمع كذلك. فإن قال قائل: إنما قلنا معادّ وجبانّ في جمع جبنّ ومعدّ لاجتماع حرفين من جنس واحد، وأصله معادد وجبانن كما قلنا دواب ومداق، وأصلها دوايب ومداقق؛ لأنها على فواعل ومفاعل وليست كذلك هباي، وغزاو وذلك أنا إذا قلنا هباي، وغزاو ومثل معادّ بطل الإدغام فيها؛ لأن الياء الثانية في هبايّ تسكن فلا يمكن الإدغام بها والواو الثانية في غزاو وتنقلب ياء فيبطل اإدغام الواو الأولى، قيل له: ليس التقدير في معاد وجبان معادد وجبانن، وذلك أن الدال الأولى في معاد ومعد والنون الأولى في جبان وجبن لم تكن قط في الواحد والجمع إلا ساكنة مدغمة في الذي بعدها لفظا وتقديرا. وأما دوابّ ومداقّ وما جرى مجراهما فهو في تقدير الحركة؛ لأن دوابّ جمع دابة ووزن دابة فاعلة؛ لأنه من دبّ يدبّ ووزنه فعل يفعل واسم الفاعل داب ودابة على فاعلة، والجمع فواعل ومدق مفعل وأصله مدقق والجمع مداقق؛ لأنه مفاعل، ثم يدغم لتجانس الحرفين، وإمكان الإدغام. ولو بنينا من ذوات الياء والواو شيئا على مفاعل وفواعل لم يدغم كقولك في مفاعل من القوة مقاوي ومن حييت محايي. قوله: ولا تغير الألف في الجمع الذي يليها. يعني ولا تكسر الألف في هباي الياء الأولى من ياءي هبايّ على ما ذكرنا من كسر

هذه الألف لما بعدها. وقوله: لأن بعدها حرفا لازما يعني لأن بعد الألف حرفا يلزم السكون والإدغام فيما بعده، وليس هذا الحرف الساكن بعد الألف بألف، تقلبها همزة لاجتماع الألفين وسكونهما كما مر في حكم الألف التي تقع بعد ألف. قال: وأما فعلل من رميت فرميا ومن غزوت غزوا والجمع غزوا ورماي لا يهمز لأن الذي يلي الألف ليس بحرف الإعراب، واعتلت الآخرة لأن ما قبلها مكسور. يعني أنا إذا قلنا رمايي وغزاوي لم تقلب الياء والواو اللتين بعد الألف في رداء وعطاء، واصله رداي وعطا، ولأن الياء والواو اللتين بعد الألف في رداي وعطا وطرف والياء والواو اللتان بعد الألف في غزاوي ورمايي ليستا بطرف لأن بعدها حرفا آخر. قال: وأما فعاليل من رميت فرمائي، والأصل: رمائي، ولكنك همزت كما هموا في راية وآية جين قالوا رائي وآيي فأجريته مجرى هذا حيث كثرت الياءات بعد الألف كما أجريت فعليلة مجرى فعلية. يعني لما اجتمعت ثلاث ياءات بعد ألف وغير منه ما غير من ذلك وذلك في النسبة إلى غاية وطاية وراية يكون رايّي وطاييّ بثلاث ياءات الأولى منها مكسورة ثم تبدل الأولى منها همزة فيقال رائي، وكذلك تقول في فعاليل من رميت رمائي، فتهمز. وقوله: " كما أجريت فعليّة مجرى فعليلة يعني أنك لو بنيت من رميت فعليلة كان على لفظ فعليلة وذلك أنك تقول في فعليلة رميية ثم تقلب الياء الأولى منها واوا فتقول رموية وكذلك تفعل بفعليّة فاجتمع فعليّة وفعليلة في قلب الياء الأولى واوا فكذلك يجتمع فعالل التي هي رمايي ورايي وطائي في قلب الياء الأولى همزة ". قال: " ومن قال: راويّ فجعلها واوا قال رماويّ ". يعني من لم يهمز في النسبة إلى راية وقلب الياء الأولى واوا فعل مثل ذلك في فعالل من رميت وقلب الياء الأولى واوا قال: ومن قال أمييّ وقال آنيّ قال رماييّ يعني من لزم الأصل في النسبة إذا اجتمعت الياءات وتحتمل الثقل قال أمييّ فجمع بين أربع ياءات. وقال: " آييّ فجمع بين ثلاث ياءات وقال: رماييّ فجمع بين ثلاث ياءات ولم يغير قال: وكذلك فعاليل من حييت ومفاعيل ". يعني أنك تقول فيها حيايي ومحايي فمن همز في رائي همز في " محايي " و " حيايي " ومن قلبها واوا قال حياوي ومن أقر الياءات في رايي قال: حيايي فأقر الياءات ولم يغير.

قال: " وقد كرهوا الياءين وليستا تليان الألف حتى حذفوا إحداهما فقال: آثاف ومعطاء ومعاط فهم لهذا أكره وأشد استثقالا إذا كن ثلاثا بعد ألف قد تكره بعدها الياءات " احتج لتغيير الياء الأولى في رمايي فقال: قد كرهت العرب اجتماع ياءين في أثافي ومعاطي فحففوا فقالوا: " أثاف " و " معاط ". فإذا كرهوا ياءين فهم لثلاث ياءات أكره وأشد استثقالا ولا سيما إذا كانت ثلاث ياءات بعد ألف لأن الياء بعد الألف أولى بالإعلال ألا ترى أن الياء إذا وقعت بعد ألف طرفا قلبت همزة كقولك " رداء " و " سقاء " وأصله " رداي " و " سقاي " ولو كان الحرف الذي قبل الياء غير الألف، وهو ساكن والياء طرف لصحت ولم تعتل ولم تغير كقولك ظبي وهدي، وما أشبه ذلك. قال: " ولو قال إنسان احذف في جميع هذا إذ كان يحذفون في نحو أثاف وأواق ومعطاء ومعاط حيث كرهوا الياءين قال: قولا قويا إلا أنه يلزم الحذف هذا لأنه أثقل للياءات بعد الألف والكسرة التي في الياء الأولى كما ألزم التغيير مطايا ". يعني لو قال إنسان أنه يحذف إحدى الياءات الثلاث في " رماييّ " وراييّ فيقول رمايي ورايي مثل أثاف كان قوله قويا. وقوله: إلا أنه يلزم الحذف يعني أن الذي يحذف إحدى الياءات في رمايي ورايي يجب عليه أن يلتزم الحذف أبدا، ولا يكون بمنزلة أثاف ومعاط لأن الذي يقول أثاف ومعاط فيخفف قد يقول أثافي ومعاطي فيشدد والذي يحذف في رمايي فيحذف لا يجوز له التشديد وذلك أن أثاف ومعاط قد كان يجوز فيه الحذف والإثبات لاجتماع الياءين فلما كان رمايي فيه ثلاث ياءات وهي أثقل من أثافي ألزموا الأثقل التخفيف وشبه ذلك بمطايا وذلك أن مطايا يلزم قلب آخرها ألفا. وأصلها مطاي وإنما لزم قلب الياء الأخيرة منها ألفا؛ لأنهم قد يقلبون في مداري فيقولون مداري ومطاي أثقل من مداري فلما جاز في مداري قلب الياء ألفا وجاز أيضا تركها ياء لزم قلبها في مطاي. وقد مضى الكلام في مطايا والياء المحذوفة من رمايي ورايي هي الياء الثانية الساكنة وكانت هي أولى بالحذف، وأنها ياء فعاليل، ولا تكون إلا زائدة في فعاليل وقد تحذف مما لم يجتمع فيه ياءان كقولك " قراقير " و " قراقر " و " جراميز وجرامز ". قال: " ومن قال: اغيرّ لأنهم قد يستثقلون يغيرون ولا يحذفون فهو قوي وذلك

راويّ في راية لم يحذفوا فتجريها عليها كما أجروا فعليلة مجرى فعليّة ". يعني من قال: أغير الياء ولا أحذف جعلها واوا. وقد مضى. ثم قال: وما يغير للاستثقال ولم يحذف أكثر من أن يحصى فمن ذلك في الجمع معايا ومدارى ومكاكي وفي غير ذلك جاءي وأدؤر وهذا النحو أكثر من أن يحصى. يعني أن من غير الياء الأولى في رمايي فجعلها همزة أو واوا ولم يحذفها؛ فقد حمله على أشياء من كلام العرب لحقها تغيير ولم يلحقها حذف فمن ذلك معايا جمع معيي وكان الوجه أن يقال معايي فقلبوا الياء ألفا ولم يحذفوها، وكذلك مداري أصلها مداري جمع مدري ومكاكي وأصلها مكاكيك لأنه قد جمع مكوكا ولكنهم استثقلوا اجتماع ثلاث كافات؛ فقلبوا الأخيرة ياء وأما جاءي فأصله جاءي الياء قبل الهمزة؛ لأن الياء عين الفعل والهمزة لامه؛ لأنه من جاء يجيء فغيروا بأن همزوا عين الفعل، وجعلوا اللام ياء. وقد مضى تفسير ذلك، وأما أدور؛ فأصلها أدور بواو جمع دار ولا همزة فيه فقلبوا يعني الواو همزة. قال: وأما فعاليل من غزوت فعلى الأصل لا يحذف، ولا يهمز وذلك قولك غزاوي؛ لأن الواوي بمنزلة الحاء في أضاحي ولم يكونوا ليغيروها وهم قد يدعون الهمزة إليها في مثل غزاوي والياءات قد تكرهن إذا ضوعفن واجتمعن كما يكره التضعيف من غير المعتل نحو مكاكي وتظنيت فلذلك أدخلت الواو عليها، وإن كانت أخف منها، ولم تعرّ الواو من أن تدخل على الياء إذ كانت أختها كما دخلت الباء عليها ألا تراهم قالوا: موقن وعوطط وقالوا: في أشد من هذا حبيت جباوة وأتيته أتوة وأدخلوها عليها لكثرة دخول الياء على الواو فلم يريدوا أن يعروها من أن تدخل عليها، ولها أيضا خاصة ليست للياء وقد بينا ذلك فيما مضى. قال أبو سعيد رحمه الله: أما قوله فعاليل من غزوت غزاوي والأصل فيها غزاويوا فقلبت الواو الثانية ياء لتحركها وسكون الياء قبلها فقيل غزاوي، ولم تغير الواو الأولى؛ لأنها لو غيرت لكانت تغير إلى ياء أو همزة فلو غيرناها إلى الياء لاجتمعت ثلاث ياءات ووجب التغيير فيها، وقلب الأولى منها وغير جائز قلب الواو إلى الهمزة؛ لأن الهمزة قد تقلب في مثل هذا. ألا تراهم يقولون في تثنية حمراء حمراوان وفي رداء رداءان ورداوان؛ فإذا كانت الهمزة تقلب إلى الواو استثقالا للهمزة واستخفافا للواو في هذا الموضع لم يجز قلب الواو

همزة ولا يلزم أن تخفف الياء فيقال غزاوي، لأن التخفيف يلزم رمايي على أحد الوجوه فيها إنما هو سبب اجتماع ثلاث ياءات ولم يجتمع في غزاوي ثلاث ياءات وصير الواو في غزاوي بمنزلة الحاء في أضاحي يريد أن الواو تصح في هذا الموضع كصحة الحاء. وقوله: ولم يكونوا ليغيروها وهم قد يدعون الهمزة إليها يعني لم يكونوا يغيروا. وقالوا: ومن غزاوي فيجعلوها همزة، وهم يفرون من الهمزة إلى الواو في مثل هذا إذا قلت دلوي وحمراوي وما أشبه ذلك. وقوله: " فالياءات قد تكره " يعني أن الياءات في رمايي ورائي قد تكره فيغيرون التغيير الذي وصفناه كما يكرهون اجتماع غير الياء فيغيرون كقولهم مكاكي أصلها مكاكيك، وكرهوا اجتماع ثلاث كافات وتظنيت وأصلها تظننت كرهوا اجتماع ثلاث نونان. وإذا كانوا يكرهون اجتماع ثلاثة أحرف سوى الواو والياء فهم للياء أشد استثقالا. وقوله: فلذلك أدخلت الواو عليها، وإن كانت أخف منها. يعني أنك أدخلت الواو على الياء في رمايي؛ فقلت رماوي وراوي في رايي استثقالا لاجتماع الياءات، وإن كانت الياء في نفسها أخف من الواو ولكن عرض فيها لاجتماع الياءات ما صير الواو أخف منها. وقوله: ولم تعر الواو من أن تدخل على الياء إذ كانت أختها. يعني أن إبدال الياء واوا غير مستنكر إذ كانتا أختين في المد واللين ولأنها أبدلت منها في موقن وغوطط وهو من اليقين ومن تعيطت. وقوله: وقالوا في أشد من هذا جباوة، وأتوة. يعني أن الأصل جباية لأنها مصدر جبيت وأتية لأنها مصدر أتيت وقلبوها واوا لغير علة أوجبت ذلك فقلبهم إياها واوا أشد من قلب الياء في موقن؛ لأن الياء في موقن ساكنة وقبلها ضمة. وقد قال بعضهم أتوته قال الراجز: يا قوم مالي وأبا ذؤيب … كنت إذا أتوته من غيب يشمّ عطفي ويبزّ ثوبي … كأنني أربته بريب (¬1) ¬

_ (¬1) لخالد بن زهير الهذلي. انظر تاج العروس 15/ 33، الروض الآنف 2/ 382، العين 8/ 145.

هذا باب التضعيف

ولا حجة لسيبويه في توهن هذه اللغة وإنما حجته في لغة من قال: أتيته أتوه وجبيته جباوة. وقوله: ولها أيضا خاصة ليست للياء. يعني أن الياء، وإن كانت مواخية للواو والواو مواحية لها فلكل واحدة منهما خاصية تنفرد بها قد تقلب الواو ياء في كل حال، ولا ألياء واوا في كل حال بل تقلب إحداهما إلى الأخرى في الحال التي ذكرنا قبلها لما بينهما من المواخاة وتمنع من القلب في حال أخرى لما في كل واحدة منهما من الخاصية فاعرفه إن شاء الله. هذا باب التضعيف اعلم أن التضعيف يثقل على ألسنتهم وأن اختلاف الحروف أخف عليهم من أن يكون من موضع واحد، ألا ترى أنهم لم يجيئوا بشيء من الثلاثة على مثال الخمسة نحو: ضربّب: ولم يجيء فعلّل ولا فعلّل ولا فعلّل إلا قليلا أما ثقل التضعيف، وهو توالي الحروف من جنس واحد؛ فلا حاجة بنا إلى الاحتجاج لوضوحه. وأما قوله: ولم يجئ فعلّل ولا فعلّل فزعم قوم أن ذكر سيبويه لذلك لا معنى له، وأظنهم أنكروا ذلك لأن فعلل في الكلام نحو سفرجل وفعلل نحو جردحل وفعلل نحو قذعمل، وقد غلطوا في ذلك وذهب عليهم ما قصده سيبويه، وإنما أراد سيبويه أنه لم يجئ فعلل ولاماته الثلاث من جنس واحد مثل فعلل الذي وزن به المثال. ألا ترى أنه قال عقيب ذلك، ولم يبنوهن على فعالل كراهية التضعيف يعني لم يأت على فعالل واللامان من جنس واحد ولم يجئ على فعالل واللامان مختلفان كقولهم عذافر وحمارس كما جاء على فعالل، واللامان مختلفان كقولهم سفرجل وسمردل. قال: وذلك لأنه يثقل عليهم أن يستعملوا ألسنتهم من موضع واحد ثم يعودوا إليه فلما صار ذلك تعيا عليهم أن يداركوا في موضع واحد، ولا يكون مهلة كرهوه، وأدغموه لتكون دفعة واحدة، وكان أخف. قوله: وذلك يثقل عليهم أن يستعملوا ألسنتهم من موضع واحد. يعني أنهم متى نطقوا بحرف متحرك ثم عقبوه بحرف آخر من غير مخرج الحرف الأول، فهو أخف عليهم من أن يكون من مخرجه، وذلك أن اللسان فيه اعتمادات في وقت النطق ينتقل بها إلى خارج الحروف ويعتمد عليها، فمضيه عن الموضع الذي يعتمد عليه أخف من تحركه فيه كما أن الماشي قدما حركته أخف من الذي يحرك رجليه في

مكان واحد، وهذا شيء يتنبه الممتحن له من نفسه ويستغنى عن الاحتجاج، والاستشهاد عليه. وقوله: فلما صار تعبا عليهم أن يداركوا في موضع واحد، ولا يكون مهلة. يعني أنه تعب عليهم أن يتابعوا وهو معنى يداركوا حرفين أو أكثر في موضع واحد يعني في موضع مخرج واحد من اللسان من غير مهلة بين الحرفين اللذين من موضع واحد، والمهلة أن يكون بينهما حرف آخر كقولهم قلقل وصلصل قد فصل بين القافين والصادين اللام فسهل لفصل اللام النطق بالقافين واللامين. وقوله: فأدغموا ليكون رفعة واحدة. يعني أنه ليس استثقال النطق بحرفين من موضع واحد من اللسان أدغموا الحرف الأول منهما في الثاني كنحو رد يرد ومرد وأصله ردد يردد ومردد. فإذا أدغموا كان أخف؛ لأن اللسان يرتفع مرة واحدة بالحرف. ثم قال: أما ما كانت عينه ولامه من جنس واحد؛ فإذا تحركت اللام منه، وهو فعل ألزموه الإدغام وأسكنوا العين منه فهذا متلئب في لغة تميم وأهل الحجاز. يعني إن مثل رد ويرد وردا وراد واستعد ويستعد يجب أن يدغم الأول منه في الثاني لأن الثاني متحرك؛ فسكن الأول، وأدغم فيه وأصله مستعدد ورادد وهذا لا خلاف فيه بين العرب إلا أن يضطر شاعر فيرده إلى أصله، ولا يدغم كما قال: إني أجود لأقوام وإن ضننوا. قال: فإن سكنت اللام فإن أهل الحجاز يجرونه على الأصل؛ لأنه لا يسكن حرفان. وأما بنو تميم فيسكنون الأول ويحركون الآخر لئلا يجزم حرفان بمنزلة إخراج الآخرين على الأصل لئلا يسكنا. قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الحرفين اللذين من جنس واحد إذا اجتمعا في آخر الكلمة وكان الآخر منهما ساكنا سكونا لا يمنعه من التحريك لاجتماع الساكنين أظهر أهل الحجاز الحرفين جميعا وذلك في الأمر والجزم كقولك اردد زيدا ولم يعضض شيئا وإنما أظهروا الحرفين جميعا؛ لأن الثاني لما سكن بطل إدغام الأول فيه؛ لأنه لا يدغم في ساكن فكرهوا الإدغام لئلا يلزمهم تحريك ما ليس بمحرك وأما بنو تميم فذهبوا إلى أن الحرف الثاني من هذين الحرفين قد يتحرك لاجتماع الساكنين إذا قلت اردد الرجل ولم

يعضض اليوم شيئا. فلما جاز تحريكه لاجتماع الساكنين سكناه بالجزم أو بالأمر، وتركنا الأول على سكونه قبل اجزم، والأمر، ثم حركنا الثاني لاجتماع الساكنين كما حركته في لم يردد الرجل وقد ذكر سيبويه اختلاف أهل الحجاز وبني تميم واختلاف لغات بني تميم في ذلك فيما تقدم من الكتاب، وإذا سكن الحرف الثاني سكونا لا يلحقه حركة لاجتماع الساكنين أظهرت في اللغتين كقولك: رددت والهندات يرددن لأن التاء والنون يسكن لهما ما قبلهما من الفعل. قال: فإن قيل: ما بالهم قالوا في فعل ردد فأجروه على الأصل؛ فإنهم لو أسكنوا صاروا إلى مثل ذلك إذ قالوا ردد. يعني أن ردد هو على نحو كسر وقطع ولم يغير منه شيء كما غير من رد حيث أدغموا عين الفعل في لامه، والأصل ردد وإنما لم يغيروا اردد لأنهم لو أدغموا عينه في لامه كما فعلوا ذلك برد لألقوا حركة الدال التي قبل اللام على الدال الساكنة التي قبلها وقالوا: ردد ولو فعلوا لم يعروا من جمع بين ثلاث دالات وتحريك اثنتين فلم يغيروا شيئا من ذلك إذ كان التغيير لا يخرجهم إلى حال هي أخف من الأصل، ومع ذلك أن الدال الأولى هي عين فعل مدغمة في مثلها، وإذا اجتمعت عينان؛ فالأولى منهما أبدا ساكنة في الاسم والفعل فكرهوا ادغام العين الثانية في اللام لئلا تتحرك العين الأولى فيخرج عن منهاج كلام الغرب إذ كانت العينان لا تجتمعان إلا والأولى منهما ساكنة أبدا. قال: " وليست بمنزلة افعل واستفعل ونحو ذلك؛ لأن الفاء تحرك وبعدها العين ولا تحرك العين وبعدها العين أبدا ". يعني أن ردد لا يغير منه شيء ولا يشبه افعل وذلك أن افعل إذا كانت عينه ولامه من جنس واحد ألقيت حركة العين على الفاء وأدغمت العين في اللام، وذلك قولك " أجلّ " و " ادرّ " و " اقرّ " أصله " احلل " و " ادرر " و " اقرر " فألقيت حركة العين على الفاء. وكذلك استفعل نحو: استعدّوا واستمدّ أصله استعدد واستمدد فألقيت حركة الدال الأولى وهي عين الفعل على فاء الفعل، ولم يفعل ذلك بفعل الذي هو ردد ونحوه للعلة التي ذكرناها من أن العينين إذا اجتمعتا لا تحرك الأولى منهما أبدا وفاء الفعل قد تتحرك إذا كان بعدها عين كقولك ذهب ويقوم وما أشبه ذلك. قال: واعلم أن كل شيء من الأسماء جاوز ثلاثة أحرف؛ فإنه يجري مجرى الفعل

الذي يكون على أربعة أحرف إن كان يكون ذلك اللفظ فعلا أو كان على مثال الفعل ولا يكون فعلا أو كان على غير واحد من هذين، لأن فيه من الاستثقال مثل ما في الفعل فإن كان الذي قبل ما سكن ساكنا حركته وألقيت عليه حركة المسكّن وذلك قولك مستردّ ومستعدّ، وممدّ وممدّ ومستعدّ وإنما كان الأصل مستعدد ومدد وكذلك مدقّ والأصل مدقق ومردّ، وأصله مرد وإن كان الذي قبل المسكن متحركا تركته على حركته، وذلك قولك مرتدّ وأصله مرتدد وكانت حركته أولى فتركته على حركته إذ لم تضطر إلى تحريكه وإن كان قبل المسكنة ألف لم تغير الألف واحتملت ذلك الألف، لأنها حرف مد وذلك قولك رادّ، ومادّ فصارت بمنزلة متحرك ". قال أبو سعيد: أما قوله: إن ما جاوز ثلاثة أحرف فإنه يجري مجرى الفعل الذي على أربعة أحرف يعني ما جاوز ثلاثة أحرف وعينه ولامه من جنس واحد من الأسماء يجب فيه الإدغام كما يجب ذلك في الفعل نحو: اظلّ والدّ ومدقّ ومستعدّ، والأصل فيه اظلل والدد ومدقق ومستعدد وتلقى حركة العين على فاء الفعل كما تفعل ذلك بالفعل نفسه كقولك أملّ واقرّ وأصله املل واقرر. وأما قوله: " إن كان يكون ذلك اللفظ فعلا " يعني أجل وأدل يقول: هذا الرجل من هذا فتدغم ولفظ أجل قد يكون فعلا كقولك أجل زيد عمرا. وقوله أو كان على مثال الفعل يعني ما كان من المصادر التي في أوائلها ميمات حركاتها كحركات حروف المضارعة نحو مقر ومردّ على زنة يقر غير أن الزائد من يعفو ويقر ياء ومن مقر ومرد ميم، وكذلك مستعدّ وممدّ وما كان مثله يدخل فيما كان على مثال الفعل؛ لأن مستعد وممد يجري على يستعد ويمد ويكون على مثاله إلا أن أول الاسم ميم مضمومة، وأول الفعل غير الميم. وقوله: " أو على غير واحد من هذين " يعني ما كان على غير لفظ الفعل كالد واظل وعلى غير مثاله كمرد وممد وهو نحو مدق وأصله مدقق. وقوله: فإن كان الذي قبل المسكن متحركا تركته على حركته، وهو قولك: مرتد وأصله مرتدد؛ لأنه مفتعل من ذلك سكنت الأول ولم تلق حركته على ما قبله؛ لأن ما قبله متحرك؛ ألا ترى أنك تقول: ردّ وأصله ردد فأدغمت ولم تغير المتحرك الذي قبل الحرف المدغم عينه ولامه من جنس واحد وله نظير من الأفعال؛ فإنه يدغم كما يدغم الفعل إلا حرفا واحدا.

فأما ما يدغم من الأسماء الثلاثية حملا على الأفعال فبناءان وهما فعل وفعل لو بنيت من رددت فعل لقلت ردّ وكذلك فعل تقول فيه رد وأصله ردد وردد ولكنك أدغمت في الفعل حين قلت عضّ وبضّ وأصل عضض وبضض وأما ما لا يحمل على الفعل ففعل من الاسم نحو: عدد وقصص يدغم نحو هذا في الفعل كقول القائل: عدّو وقصّ وأصله عدد وقصص، ولكنهم استثقلوا التضعيف في الفعل؛ لأن الفعل ثقيل والتضعيف ثقيل. وأما الاسم فهو أخف والفتحة خفيفة فاستخف في الاسم الإظهار لخفة الاسم وخفة الفتحة؛ فقالوا: قصص وعدد ومع الاستخفاف فإن الاسم الذي على فعل لو أدغمنا فقلنا في قصص قصّ وفي شرر شرّ لكان لا يعرف فعل من فعل، وأما الفعل فإن فعل المتكلم والمخاطب وجمع المؤنث يدل على البناء كقولك في قصّ وردّ قصصت وجررت ورددت فإن قال قائل: فلم أعلوا ما كان على فعل مما ثانيه واو أو ياء من الأسماء ولم تدغم فعل؟ قيل له: لأن فعل من ذوات الواو والياء إذا أعللناه قلبنا الواو والياء فيه ألفا فدل على البناء وإذا كان مدغما لم يدل على البناء، وأما صبّ فيحتمل لفظه أن يكون فعلا وفعلا وفعلا غير أن الخليل استدل على أنه فعل بالحمل على نظائره وذلك أن فعل أكثر ما يجيء فاعله في فعل كقولك: حذر فهو حذر ورمد فهو رمد فلما قالوا: صببت، وأنت صبّ قد وصب تقدير صبب ومثله رجل طب وطبيب؛ لأنك تقول: طببت وطب بمنزلة قرح وقريح، ومذل ومذيل. قال: " ويدلك على أن فعل مدغم أنك لم تجد في الكلام مثل طب على أصله " يعني أنا لم نرهم قالوا: طبب فيقول: أن طبب هو فعل لو كانوا يقولون طبب وطب لجاز أن يقال أن فعل لا يجب فيه الإدغام قال: وكذلك رجل خاف وكذلك فعل اجري هذا مجرى الثلاثة من باب. قلت: على الفعل حيث قالوا في فعل وفعل قال: وخاف ولم يفرقوا بين هذا والفعل كما فرقوا بينهما في أفعل لأنهما على الأصل فجعلوا أمرهما واحدا حيث لم يجاوزوا الأصل، وإنما جاء التفريق حيث جاوزوا عدد الأصل فكما لم يحدث عدد غير ذلك فكذلك لم يحدث خلاف ألا ترى أنهم أجروا فعل اسما من التضعيف على الأصل، وألزموه ذلك إذ كانوا يجرونه على الأصل فيما لا يصح فعله في فعلت من بنات الواو ولا في موضع جزم كما يصح المضاعف وذلك نحو: الحركة والخونة، والقود وذلك نحو: شرر ومرد. أما قوله: " وكذلك رجل خاف " يعني أن " رجل خاف " أصله خوف، ولكنه أعل

كما أدغم صب وطب واستوى الاسم والفعل في خاف وطب. وقوله: " ولم يفرقوا بين هذا وبين الفعل كما فرقوا بينهما في أفعل " يعني أن فعل اسما وفعلا يعتل وكذلك فعل وفعل من باب ما عينه واوا أو ياء وأما أفعل فيعتل الفعل فيه ويصح الاسم فالفعل قولك: أقام وأبان والاسم هذا أقوم من هذا وأبين منه. وقوله: وإنما جاء التفريق حيث جاوزوا عدد الأصل يعني جاء التفريق بين الاسم والفعل؛ لأنه قد جاوز الثلاثي الذي هو عدد الأصل. وقوله: فكما لم يحدث عدد لم يحدث خلاف يعني كما لم تحدث زيادة على خاف لم يختلف الاسم والفعل في الإعلال وإذا زيدت عليه زيادة، وهي الألف صح الاسم واعتل الفعل. وقوله: إلا أنهم أجروا فعل اسما من التضعيف على الأصل يعني أن فعل من المضاعف يصح نحو عدد وقصص. وترك ادغامه؛ لأنهم قد صححوا فعل فيما لا يصح فع له ألبتة، وهو قولهم: قود وخونة، وفعل منه لا يصح فعلا؛ لأنه يجيء. قلت: وبعت فإن قال قائل: فهذا صححوا فعل مما عينه واو وياء كما فعلوا ذلك بعدد وقصص قيل له: ما عينه واو أو ياء لزم الاعتلال مما عينه ولامه من جنس واحد، وذلك أن ما اعتل عينه ولامه جنسا واحدا قد يصح في فعل المتكلم والمخاطب وجمع النساء ويظهر الحرف الأول كقولك قصصت وغصصت وما أشبه ذلك؛ فلما جاز أن يجيء فعل من باب قلت وبعت على الأصل لزم التصحيح في باب قصص وعدد. قال: ولم يفعلوا ذلك في فعل؛ لأنه لا يخرج على الأصل في باب قلت، ولأن الضمة في المعتل أثقل عليهم. يعني أن عدد وقصص إنما ظهر ولم يدغم لأنه قدر إن فعل في المعتل قد جاء صحيحا وهو القود والخونة، ولم نر فعل قد جاء من ذلك لم يجئ مثل قول وبيع فلما يجيء هذا في باب المعتل صحيحا لم يظهروه في المضاعف ولا فيما كان منه على فعل، ثم قال: ألا ترى أنك لا تكاد تجد فعلت في التضعيف ولا فعلت لأنها ليست تكثر كثرة فعل في باب. قلت: ولأن الكسرة أثقل من الفتحة فكرهوها في المعتل ألا تراهم يقولون فخذ ساكنة وعضد ولا يقولون جمل فهم لها في التضعيف أكره، وأما قوله: لا تكاد تجد فعلت في التضعيف ولا فعلت فلعمري إن فعلت في التضعيف لا يكاد يوجد، وأما فعلت

فهو موجود وليس بالكثير بالإضافة إلى فعلت ففعلت فيه نحو: مسست وعضضت وشممت. وقال بعض أصحابنا: فعلت بكسر العين في التضعيف كثير وهذه الحكاية في الكتاب كما وجدناها في كل نسخة وأحسب سيبويه. يريد أن فعلت قليلة في المعتل في باب قلت، وبعت إنما جاء منه هاب يهاب وخاف يخاف ونال ينال وأحرف يسيرة وأنها في المضاعف وإن كثرت نحو: غضضت وشممت فهي أقل من فعلت نحو: رددت، وما أشبهه. وقوله: " ألا تراهم يقولون في فخذ فخذ ساكنة ولا يقولون جمل " أراد أن يبين الفرق بين فعل من المضاعف وفعل بأنهم خففوا فخذ إذ كان على فعل ولم يخففوا جمل إذ كان على فعل لأن الفتحة أخف الحركات. قال: وقد قال قوم في فعل فأجروها على الأصل إذ كانت تصح في باب قلت، وكانت الكسرة نحو الألف وذلك قولهم: رجل ضفف وقوم ضففوا الحال يعني: قد شذ في المضاعف فجاء فعل منه على الأصل كقولهم: رجل روع وكان ينبغي أن يقال راع وضف. قال: وأما ما كان على ثلاثة أحرف، وليس يكون فعلا فعلى الأصل كما يكون ذلك في باب قلت فيفرق بينهما كما يفرق بين افعل اسما وفعلا من باب قلت: يعني ما كان على ثلاثة أحرف من المضاعف وليس له نظير في الأفعال؛ فلا يدغم كما أن المعتل الذي لا نظير له في الفعل يصح ولا يعتل كقولك درر وقدد وفعل نحو سرر واقدد ولم يدغم هذا كما لم يعتل صير وبوله ونومه وضوع. قال: وفعل سرر وحضض ومدد وبلل وشدد وسنن. وقد قالوا: عميمة وعمّ فألزموها التخفيف إذ كانوا يخففون غير المعتل كما قالوا بون في جمع بوان. يعني أن فعل لا يلزمه الاعتلال إذ لا نظير له في الفعل، ولا يلزمه أيضا الإدغام إذ قد قالوا: سرر وحضض ولكن قد يخفف كما يخفف الصحيح الذي لا تضعيف فيه كقولهم رسل ورسل وحمر وحمر. فإذا خففوه أدغم الحرف الأول في الثاني كما قالوا: عميمة وعمّ وأصلها عمم ولكنهم جعلوها كرسل وأدغمت وألزموا عما التخفيف إذ كانوا قد خففوا رسلا وحمرا، وهو أخف من غم وإلزامهم عما التخفيف كإلزامهم بونا التخفيف جمع بوان.

هذا باب ما شذ من المضاعف فشبه بباب أقمت وليس بمتلئب

وكان ينبغي أن يكون بون مثل " جران " و " جرن "، ولما جاز في " جرن " " جرن " لزم في " بّون " " بون " إذ كانت أثقل من جرن قال: ومن ذلك ثني فألزمها التخفيف يعني أن ثني جمع ثني وهو على فعيل وفعيل يكون على فعل نحو: رغيف ورغف ونشيل ونشل ويجوز في " زغف " و " نشل " " رغف " و " نشل ". وكان يجب على هذا القياس أن يقال ثني وثني؛ فلو تكلموا به على قياس رغيف ورغف على التثقيل لقالوا: ثنوا فقلبوا الياء واوا لانضمام ما قبلها ولو قالوا ذلك للزمهم قلب الواو ياء أو كسر ما قبلها كما قالوا في ادلو أدل فلما كان يلزمهم ذلك عدلوا إلى التخفيف فقالوا: ثني كما قالوا: رغف ونشل قال: ومن قال في " صيد " صيد " قال في " سرر " " سر " فخفف، ولا يستنكر في عميمة عمم يعني من قال في صيد الذي هو جمع صيود صيد وأصل صيد صيد ولكنك كسرت الصاد لتسلم الياء لأنه لا تكون ياء ساكنة وقبلها ضمة؛ فمن قال صيد في صيد قال: سرّ في سرر ولا يستنكر في عميمة عمم مثل سرير وسرر. قال: " فأما الثني ونحو؛ فالتخفيف ". يعني لم يستعملوا في ثني وفيما كان لامه ياء أو واوا فعل مثقل بغير تخفيف، قال: ولم يستعملوا في كلامهم الياء والواو عينات في باب فعل، واحتمل هذا في الثلاثة أيضا لخفتها، وأنها أقل الأصول عددا. وأما قوله: " ولم يستعملوا في كلامهم من بنات الياء والواو عينات في باب فعل يعني لم يكثر ذلك في كلامهم ". وقد استعمل ذلك مع قلته كقولهم صيد في جمع صيود وبيض في جمع دجاجة بيوض وفي الواو سوار وسور. وقال الشاعر: وفي الأكف اللامعات سور وهو قليل، وقوله: واحتمل هذا في الثلاثة لخفتها. يعني احتمل التضعيف في الثلاثة في مدد وسرر ولو زاد على ثلاثة أحرف لأدغم إلا أن يكون الإلحاق كقولك فيما ليس بالإلحاق مدّق وأصله مدقق وفيما هو الإلحاق رمدد وقعدد. هذا باب ما شذ من المضاعف فشبه بباب أقمت وليس بمتلئب " وذلك قولهم: أحست يريدون احسست وأحسن يريدون احسسن وكذلك

تفعل به في كل بناء تبنى اللام فيه من الفعل على السكون، ولا تصل إليه الحركة شبهوها بأقمت؛ لأنهم أسكنوا الأولى فلم تكن لتثبت والآخرة ساكنة؛ فإذا قلت لم أحس لم تحذف لأن اللام في موضع قد تدخله الحركة ولم يبن على سكون لا تناله الحركة فهم لا يكرهون تحريكها ". قال أبو سعيد رحمه الله: اعلم أن الحذف في هذا الباب شاذ غير مطرد والذين استعملوه مع شذوذه تأولوا فيه ضربا من التأول فإذا قال: أحست أو النسوة أحسنّ في المستقبل يحسن؛ فالأصل في ذلك قبل هذا التغيير أحس ويحس ثم دخلت التاء للمتكلم أو المخاطب أو النون لجماعة النساء فسكن ما قبلها وهو السين الأخيرة وقد كانت السين الأولى ساكنة مدغمة في الأخيرة فكرهوا تحريك واحدة منهما فحذفوا إحداهما. وقوله: «فشبهوها بأقمت» يعني: إن أقمت حذفوا الألف منها لأنها ساكنة وقد سكنت الميم فاجتمع ساكنان. وكذلك لما اجتمع السينان ساكنتين. وقوله: ولا تصل الحركة إليها. يعني أن ما اتصل به تاء المتكلم أو نون جماعة النساء لا يحرك لاجتماع الساكنين وليس بمنزلة ما يسكن في الجزم أو الأمر؛ ألا ترى أنك تقول: لم يذهب الرجل فتكسر الباء لاجتماع الساكنين، ولذلك قالت بنو تميم: لم يرد وقالوا: لم يرددن ورددت فأظهروا عند اتصال التاء والنون، وأدغموا في الجزم إذا كان المجزوم قد يتحرك. قال: " ألا ترى أن يقولون: لا تردّ يقولون رددت كراهية للتحريك في فعلت فلما صاروا في موضع قد يحركون فيه اللام من رددت أثبتوا الأولى، لأنه صار بمنزلة تحريك الإعراب إذا أدرك نحو: يقول، ويبيع وإذا كانوا في موضع يحتملون فيه التضعيف لكراهية التحريك حذفوا؛ لأنه لا يلتقي ساكنان ". قال أبو سعيد- رحمه الله- قد بينا ما ذكره في هذا الفصل من الفرق بين ما اتصلت به تاء المتكلم ونون جماعة النساء وبين ما كان مجزوما على لغة بني تميم، وقال: " أثبتوا الأولى؛ لأنه بمنزلة تحريك الإعراب ". يعني أن ما تحرك لاجتماع الساكنين على هذه اللغة بمنزلة ما حرك الإعراب فلا

يسقط أحد الحرفين في حال الجزم لا يقال: لم يحسن زيد ولا أحسن يا زيد قال: ومثل ذلك قولك: ظلت ومست يعني أن ظلت ومسست أصله ظللت ومسست فحذفوا الفتحة التي في أول الكلمة وألقوا الحركة على فاء الفعل، وهو الحرف الأول حركة عين الفعل، وهو الحرف الثاني ومنهم من يقول: ظلت ومسست فيقر الفتحة على حالها كما تقول: لست، وأصل لست ليست مثل ظللت ومسست فأسقطوا الياء وأقروا فتحة اللام على حالها، وكذلك فعلوا بظلت ومست ولم يقولوا: لست بكسر اللام كما قالوا: ظلت لأن ليس لم تتمكن تمكن ظل يظل ومس يمس فلم يتوسعوا فيها باللغتين. وقوله: وليس هذا النحو إلا شاذا، والأصل في هذا عربي كثير. يعني أن أحسست وظلت ومست شاذ والكلام به على الأصل عربي، وهو أن تقول: أحسست وظللت ومسست وليس كل شاذ تتكلم العرب بأصله لأنهم قالوا: استحوذ عليهم الشيطان وهو شاذ والقياس أن يقال: استحاذو العرب لا تتكلم به، وكذلك دينار وقيراط، والأصل دنار وقراط، ولا يتكلم به، ثم قال بعد منعه أن يقال لست بكسر اللام لأنه لم يتمكن تمكن ظل يظل ومس يمس فلم يتوسعوا فيها باللغتين. وخالفت الأفعال الصحيحة في إن لم تكسر ياؤها كما علم وعمل وصير وما أشبهه، وخالفت الأفعال في أن لم يجعل لها مستقبل ولا مصدر ولا اسم فاعل كذلك خالفت الأفعال في حذف الياء منها، وترك القاء حركتها على اللام. وقوله: " ولا نعلم شيئا من المضاعف شذ إلا هذه الأحرف ". يعني لم يشذ إلا أحسست وظلت ومست والباقي من المضاعف كله على الأصل كقولك: عضضت، ومللت وما أشبهه. واعلم أن لغة للعرب مطردة تجري فيها فعل من رددت مجرى فعل من قلت، وذلك قولك ردّ يا هذا، أو هدر ورحبت بلادك وظلت لما أسكنوا العين ألقوا حركتها على الفاء كما فعل ذلك في خيف، ولم يفعلوا ذلك في فعل نحو: عضّ وصبت كراهية الالتباس كما كره الالتباس في فعل وفعل من باب بعت. قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد بينا فيما مضى أن ما لم يسم فاعله من باب بعت وقلت أصله بيع وقول. وتلقى كسرة العين على فاء الفعل فتكسر فاء الفعل؛ فيقال: قيل وبيع، وما سمي

فاعل لا تلتقي حركة عين الفعل فيه على الفاء بل تتبع عين الفعل الفاء كقولهم: خاف وطال وأصله خوف وطول حذفوا الكسرة والضمة وقلبوا الواو والفاء وذلك للفرق بين ما سمي فاعله، وما لم يسم فاعله فمن العرب من يجعل باب المضاعف كذلك فيقول فيما لم يسم فاعله، رد وصد وأصله ردد فتلقى كسرة الدال الأولى على الراء وتقول فيما سمي فاعله، وبين ما لم يسم فاعله، وذوات الواو والياء ألزم لهذا التغيير. وأولى؛ لأنها لا تصح في حال وذوات التضعيف قد تصح في أفعل المتكلم والمخاطب وجماعة المؤنث كقولك: رددت ورددت. قال: " وقد قال قوم قد ردّ فأمالوا الفاء ليعلموا أن بعد الياء كسرة قد ذهبت كما قالوا للمرأة اغزى فأشموا الزاي ليعلموا أن هذه الزاي أصلها الضم فيه، ومع الضم أشموه الكسر للدلالة على أن الدال كانت مكسورة كما قالوا للمرأة اغزى فكسروا الزاي بسبب الياء التي بعدها حتى تسلم، ثم أشموه الضم للدلالة على أنها كانت مضمومة وذلك أن أصل اغزى اغزوي مثل اقتلي فكرهوا الكسر على الواو لانضمام ما قبلها فسكنوها فاجتمع ساكنان الواو والياء؛ فحذفوا الواو لاجتماع الساكنين، ثم كسروا الزاي لتسلم الياء لأنها علامة التأنيث، ثم أشموه الضم لما ذكرناه قال: ولم يضموا فتقلب الواو ياء فيلتبس بجمع القوم ولم تكن لتضم الياء بعدها لكراهية الضمة وبعدها الياء إذ قدروا على أن يشموا الضم؛ فالياء تقلب الضمة كسرة كما تقلب الواو في ليّة ونحوها إنما قالوا من قبل أن القاف ليس قبلها كلام فيشمّون. يعني لم يضموا الزاي في اغزي ضما محضا لأنهم لو فعلوا ذلك لانقلبت الياء واوا فقيل اغزو فيلتبس بجمع المذكر، وقد استغنوا عن ضم الزاي الإشمام. وقوله: " فالياء تقلب الضمة كسرة كما تقلب الواو في ليّة ". يعني أن الياء التي في اغزي قلبت ضمة الزاي كسرة في لوية الواو ياء. وفصل سيبويه بين اغزي وتغزين وبين قيل ورد وما أشبه ذلك فجعل الإشمام لازما في اغزي ضمة ألف الوصل وهي متعلقة بضمة الحرف الثاني، ومن أجل ضمته ضمت ألف الوصل؛ فكرهوا إبطالها أصلا والألف مضمومة ووجه ثان أن تغزين الياء فيها غير لازمة لأنك تقول للمذكر تغزو وتفعل لازمة لكل ما كان ماضيه فعل ولام الفعل منه واو

هذا باب ما تتعد فأبدل مكان اللام ياء لكراهية التضعيف وليس بمطرد

وليس فيها ياء ولا تغيير وأما رد، وقيل فلا يتغير حكمه لمذكر كان أو لمؤنث ووجه ثالث وهو أن الأصل اغزوي وتغزوين كما تقول: التقي وتقتلين فأسقطت الواو وضمتها فكرهوا كسر الزاي وهي مضمومة بلا إشمام فيكون إجحافا شديدا وليس في فعل الذي هو رد وقيل: إسقاط حرف وأصل كلامهم تغيير فعل لأنه نقل مما سمي فاعله إلى ما لم يسم فاعله، ولا بد من تغيير بنية الفعل فلزوم التغيير له في الأصل جوز أن يلزم فيه ذلك من غير إشمام وأجود الكلام وأكثره في رد الضم، وفي قيل، وبيع الكسرة؛ لأن الفعل المعتل الثاني يتغير أوله في الثلاثي إذا كان الفعل للمتكلم أو المخاطب أو جماعة النساء كقولك: قام وخاف والقاف والخاء مفتوحتان، ثم يقول: قمن وقمت والهندات قمن وخفت وخفت والهندات خفن. والأصل في قمت قومت فألقيت ضمة الواو على القاف وفي خفت خوفت فألقيت كسرة الواو على الخاء وكذلك قيل أصله قول فألقيت كسرة الواو على القاف وأما رد وبابه فإن المضاعف لا تلقى حركة ثانية على أوله في المتكلم ولا غيره تقول عضّ وعضضت، وأوله مفتوح لا يتغير فكذلك لا يتغير فيما لم يسم فاعله؛ لأن أوله مفتوح. هذا باب ما تتعد فأبدل مكان اللام ياء لكراهية التضعيف وليس بمطرد وذلك قولك: " تسرّيت وتظنيّت وتقصّيت من القصة، وأمليت وزعم أن التاء في اسنتوا مبدلة من الياء أرادوا حرفا أخف عليهم، وأجلد كما فعلوا ذلك في أثلج وبدلها شاذ هنا بمنزلتها في ستّ وكل هذا التضعيف فيه عربي كثير جيد، وأما كلا وكل فكل واحدة من لفظ ألا ترى أنه يقول: رأيت كلا أخويك فيكون مثل معي، ولا يكون فيه تضعيف. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون هنانان يريدون معنى هنيين فهذا نظيره يجعل الواحد هنان ". قال أبو سعيد- رحمه الله- ذكر سيبويه بدل الياء في هذه الأحرف. وقد جاء غيرها فما أرى أحدا حصره فمنه قول الله عز وجل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] قيل فيه: دسسها، وابدل الياء من السين الآخرة، ثم قلبها ألفا.

وقوله: وإن كانت قبل المسكنة ألف لم تغير الألف، واحتملت ذلك الألف لأنها مد يعني رادّ ومادّ وجادّة وأصلها مادد وجاددة وجاز إدغامها، والجمع بين ساكنين، وهما ألف مادّ والدال الأولى من الدالين لأن الألف فيها مد فيكون مدها عوضا من الحركة. ولا يجمع بين ساكنين إلا أن يكون الساكن الأول من حروف المد واللين والساكن الثاني مدغما في مثله نحو ضالّ ورادّ وجادّة، وما أشبه ذلك. وأما ما يكون فعلا فنحو: ألدّ وأشد، وإنما الأصل ألدد وأشدد، ولكنهم ألفوا حركة المسكن عليها؛ فأجريت هذه الأسماء مجرى الأفعال في تحريك الساكن والإلزام الإدغام، وترك المتحرك الذي قبل المدغم، وترك الألف التي قبل المدغم، ولا تجري الألف مجرى الألف في يضربانني إذا ثنيت؛ لأن هذه النون الأولى قد تفارقها الأخرى، وهذه الدال التي في رادّ لا تفارقها الآخرة فما يستثقلون لام للحرف. قوله: فأجريت هذه الأسماء مجرى الأفعال. يعني يجري ألدّ الذي هو اسم مجرى أملّ الذي هو فعل الإدغام، وتحريك الساكن فيما كان فاؤه ساكنا نحو أملّ واستعدّ وأصله أملل واستعدد، وكذلك أجري مرتد مجرى يرتد، وأصل التاء متحركة؛ لأن أصله يرتدد ومرتدد. قوله: " وترك الألف قبل المدغم يعني أن الألف في دابة وراد ومادّ وقوله: ولا تجري الألف مجرى الألف في يضربانني إذا ثنيت ". يعني: أن النونين في يضربانني، وإن كانتا من جنس واحد؛ فليس يلزم إدغام إحداهما في الأخرى كما لزم إدغام إحدى الدالين في الأخرى في راد وماد، والأصل رادد ومادد. وقال محتجا لترك إدغام إحدى النونين في الأخرى في يرضانني قال: " لأن هذه النون الأولى قد تفارقها الأخرى، وهذه الدال الأولى التي في رادّ لا تفارقها الأخرى " يعني أن النون الأولى التي في يضربانني يجوز أن تتصل بغير المتكلم فيجتمع نونان لغير المتكلم كقولك يضربانك ويضربان زيدا. فإذا كانت النون الثانية غير لازمة لم يجب إدغام الأولى؛ لأن الأولى قد ثنيت فيها الحركة لفظا قبل مجيء الثانية فلا تبطل هذه الحركة بمجيء الثانية. وقد يجوز إدغامها وإن كان إدغامها غير واجب كقولك يضرباني وفي الجمع أيضا كقولك يضربوني، قال الله عز وجل أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ [الأنعام: 80].

وقوله: «فما يستثقلون لازم للحرف» يعني يستثقلونه من اجتماع الحرفين من جنس واحد لازم لرادّ وماد قال. ولا يكون الاعتلال إذا فصل وذلك نحو: الإمداد والمقداد يعني إذا وقع بين الحرفين المتجانسين حرف يفصل بينهما في اللفظ بطل الإدغام والتغيير وصحا جميعا كفصل الألف بين دالي إمداد. وفصل الواو بين راءي سرور وفصل الياء بين كافي ركيك قال؛ فأما ما جاء على ثلاثة أحرف لا زيادة فيه فإن كان يكون فعلا فهو بمنزلته وهو فعل وذلك قولك صب في فعل زعم الخليل أنها فعل؛ لأنك تقول صببت صبابة كما تقول قنعت قناعة، وهو قنع. قال أبو سعيد- رحمه الله- اعلم أن كل شيء من الثلاثي من الأسماء قيلهن كما فعل بمردّ ومفرّ ومدقّ وأصلها مردد ومفرر ومدقق مثل مسعط. قال سيبويه: وإنما معدّ بمنزلة خدبّ ولا تقول أصله فعلل، وكذلك معد ليس من فعلل في شيء يريد أن معدّا ليس أصله معدد على مثال جعفر كما أن خدبا لا يقال فيه أصله خدبب، ثم ألقيت فتحة الياء الأولى على الدال، ثم أدغمت بل بنيت الباء الأولى على السكون والدال على الفتحة كما فعل ذلك بمعد وخدب ملحق بقمطر وقعدد وسردد ملحق بجعشم. قال سيبويه: ومنزلة جبن منها منزلة يريد منزلة جبن من قعدد كمنزلة معد من قرد لأن جبنا فيه ضمتان وحرف مزيد من جنس آخر كقعدد وليس بملحق كقعدد كما أن معدا فيه فتحتان وحرف مزيد من جنس آخر، وليس بملحق كقرد وظمر من رمدد بهذه المنزلة. قال سيبويه: وأما قعدد فإنما أرادوا أن يلحقوه بجندب وعنصل بالتضعيف كما ألحقوا ما ذكرت من بنات الأربعة ودرجة فيه بمنزلة فعل من فعلل. فإن قال قائل: ولم جعل سيبويه قعددا ملحقا بجندب وعنصل والنون فيها زائدة. وإنما يكون إلحاق ما فيه زائد بما ليس فيه زائد فالجواب أنه جعل عنصلا وجندبا كالأصل في وزن ما أوله مضمومه وثانيه ساكن وثالثه مفتوح؛ لأن النون الذي هو حرف الزيادة لا يسقط بحال، ولا يعرف له اشتقاق من شيء تسقط فيه النون وقعدد معروف الاشتقاق، ويقال فيه: هذا أقعد من هذا ودرجة منه بمنزلة فعل من فعلل يريد أن درجة ليس بملحق بجندب كلحوق قعد ولكنه قد صار فيه ضمة بعدها فتحة وبعد لام الفعل منه حرف زائد فمنزلة درجة من قعدد كمنزلة طمر من رمدد. وقد مضى نحو هذا.

قال سيبويه: " وقالوا: عفنجج فلم يغيروه عن زنة جحنفل كما لم يكن ليغير بغير نون عن زنة جحنفل، ولا تلحق هذه النون " فقل؛ لأنها إنما تلحق ما تلحقه ببنات الأربعة الخمسة، وإنما ضاعفت اللام يريد أن عفنجج قد لحق بالرباعي فصار عفجج وعفجج ملحق بجحفل وعلى وزنه ثم زيدت عليه النون؛ فألحق بالخمسة فصار بمنزلة الرباعي إذا ألحق بالخمسة بزيادة النون، وذلك بجحنفل وهو ملحق بسفرجل. وإنما أراد سيبويه أن يؤكد أن ما يلحق بغيره ولا يغير عن ترتيب حركات ما ألحق به، ويجوز أن يقال أن عفنجج زيدت النون عليه وإحدى اللامين فألحقناه بسفرجل كما زيدت على جحفل النون فألحقته بسفرجل وفعل نحو معدّ لا تلحقه هذه النون ولو كان فعللا جاز أن تلحقه كما لحقت عفنجج وقوله: ولأنها إنما تلحق ما تلحقه ببنات الخمسة وليس معد بملحق فتلحقه النون وإنما ضوعفت فيه اللام على غير الإلحاق. وقد تلحق الزيادة شيئا ملحقا بشيء فيكون سبيله بعد الزيادة كالأصلي الذي ألحق به إذا ألحقته تلك الزيادة كقولك: جلببت وهو ملحق بدحرجت ثم تزيد التاء عليه؛ فتقول تجلبب يتجلبب كما قالوا: تدحرج فزيدت فيه التاء. واعلم أن الفعل ليس فيه بناء يلحق به غيره إلا بناءان أحدهما فعلل وهو دحرج ألحق به جلبب وحوقل، وما أشبه ذلك، والآخر افعنلل الذي فيه أربعة أحرف أصلية، وهو أحرنجم واخرنطم، وما أشبه ذلك. وألحق به البناء الثلاثي بإحدى زيادتين فقط، أما بزيادة ألف في آخره مع النون كقولك احرنبي واحبنطي، أو حرف من جنس لامه كقولك افعنسس واسحنكك والتقدير: أنا لو استعملنا أحرنجم بلا زيادة فعلا وجب أن يقال حرجم وألحقنا به حربي وحبطي وقعسس وسحكك، ثم زدنا على الملحق الزيادة التي زدناها على الأصل من الهمزة والنون فقلنا: احرنبي واقعنسس كما قلنا احرنجم فصارا اقعنسس غير مدغم كما كان قعسس غير مدغم مثل جلبب وشملل. قال سيبويه: وقالوا: " اقعنسس فأجروه على زنة احرنجم؛ فكل زيادة دخلت على ما يكون ملحقا ببنات الأربعة بالتضعيف بغير زيادة سوى اللام فإن تلك الزيادة إن كانت تلحق ببنات الأربعة فهذا ملحق بتلك الزنة من بنات الأربعة كما كان ملحقا وليس زيادة سوى ما ألحقها بالأربعة ". يريد أن الزيادة التي تدخل على بنات الأربعة الأصلية قد تدخل تلك الزيادة على

الملحق ببنات الأربعة. مثال هذا أن عفجج ملحق بجحفل وجحفل حروفه أصلية ثم زيد على جحفل نون فصار جحنفل. وكذلك زيدت هذه النون على عفجج فقيل عفنجج فلم تتغير عن منهاج جحنفل، ولفظه وقعسس الحق بحرجم ثم زيد على حرجم ألف ونون زائدتان فصارا احرنجم وزيد مثله من الزيادة على الملحق به فقيل اقعسس فصارا اقعنسس على منهاج احرنجم. وذكر سيبويه احمررت واستهاببت وأنه لم يلحق بشيء فلم يمتنع من الإدغام، وقالوا فيه احمر واشهابّ وأصله احمرر واشهابب ومثله مما أدغم وأصله غير ذلك؛ لأنه ليس بملحق اقشعر واطمأن وأصله اقشعرر واطمأنن ومثله استعدّ وأصله استعدد؛ لأنه على وزن استفعل. وإنما أدغم كما أدغم عد وفّر، وأصله عدد وفر، ثم دخلت السين والتاء على عد وقد وجب إدغامه فترك على الإدغام. قال سيبويه: " فإن قلت: هلا قالوا: استعدد على زنة استخرج فإن هذه الزيادة لم تلحق بناء يكون ملحقا ببناء وإنما لحقت شيئا يكون معتلا وهو على أصله كما أن أخرجت على الأصل ولو كان يخرج من شيء إلى شيء لفعل به ذلك. ولما أدغموا في أعد كما لم يدغموا في جلبب ". يريد أن استعد على أصله في البناء لم يلحق بشيء كما أن باب أخرجت وهو افعلت يلحقه الإعلال؛ فيقال: أقام وأعد، وهو غير ملحق ببناء آخر. ومعنى قوله: " ولو كان يخرج من شيء إلى شيء لفعل به ذلك ". يعني لو كان ملحقا بشيء أتوا به على وزن ذلك الشيء، ولما أدغموا باب أعد كما لم يدغموا باب جلبب وسبيل الرباعي إذا زيد في آخره حرف من جنس آخره ليلحق بالخماسي كسبيل الثلاثي إذا ألحق بالرباعي بحرف من جنس آخره في أنه لا يدغم، وذلك قولك: سبيهلل وقفعدد ألحق بهمرجل كما ألحق قردد بجعفر. ومعنى سهلل الفارغ يقال: أتاني أتاني عثريا أي فارغا وقفعدد قصير وبعد ذلك في الباب من كلام سيبويه ما يغني عن تفسيره ما تقدم إن شاء الله.

هذا باب ما قيس من المعتل الذي عينه ولامه من موضع واحد ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غير بابه

هذا باب ما قيس من المعتل الذي عينه ولامه من موضع واحد ولم يجئ في الكلام إلا نظيره من غير بابه تقول في فعل من رددت ردد كما أخرجت فعلا على الأصل؛ لأنه لا يكون فعلا. قال أبو سعيد: اعلم أن جميع ما كان عينه ولامه من جنس واحد إذا كان في فعل فلا بد من إدغام العين إذا لم تكن مشددة في اللام، ولا تقع عين الفعل إلا متحركة، وذلك قولك ردّ وعضّ واعدّ واستقلّ وحادّ يحادّ وأصله ردّد وعضض واعدد واستقل وحادد، وترديد الحرف مستثقل فسكن الأول، وأدغم ليكون النطق به في مرة واحدة. وإذا كانت مشددة لم تدغم العين في اللام وهي في بناءين فعل وتفعل نحو: ردّد وتردّد، وإنما لم تدغم عين الفعل في لامه؛ لأن غرض الإدغام التخفيف استثقالا لتكرير الحرفين المتحركين من جنس واحد. ولو أدغمنا العين في اللام في ردد وتردد لم تحصل به خفة لأنا لو أدغمنا أسكنا الدال الثانية وألقينا حركتها على الدال الأولى فصار ردد وقد تكرر فيه حرفان متحركان من جنس واحد وكل ما كان من الأسماء عينه ولامه من جنس واحد وعينه متحركة على بنية واحدة ليست للفعل؛ فإنه لا تدغم عينه في لامه كقولنا قدد وسرر وجدد وعلى ذلك. قال سيبويه في فعل ردد لأنه على غير بنية الفعل، وإذا كان على بنية الفعل فهو يدغم كما يدغم الفعل إلا فعلا قط، وذلك قولك: رجل برّ وطبّت وأظلّ البعير وهو أسفل خفه وأصله برر وطبب وأظلل قال الشاعر أبو النجم: تشكو الوجا من أظلل واظلل وأما الذي لا يدغم وهو فعل فنحو قصص وشرر وغرر وإنما سلم فعل، ولم يدغم لخفة الفتحة، ولأن فعلا يسلم كثيرا في المعتل وفيه ما تطرد سلامته. فأما الذي يسلم وليست سلامته بمطردة بقياس قولهم حوونه وحوكة والقود في القصاص وغيب، وفاطمة بنت سيل وغير ذلك، وأما ما يطرد فكل مصدر لفعل صحيح كقولك عود وحول وصيد وميل. ولما كان هذا البناء قد صح في المعتل الذي تسقط عينه في الفعل الماضي أحق بالسلامة كقولك: قصصت وجددت وسررت. قال سيبويه: وتقول في فعلان ردان وفعلان ردان يجري المصدر في هذا مجراه، ولو

لم يكن بعده زيادة، ألا تراهم قالوا الخسيساء. قال: وتقول في فعلان ردان وفعلان ردّان تجريهما مجراهما وهما على ثلاثة أحرف وليس بعدها شيء كما فعلت فعلان لأنها من غزوت لا تسكن ولكنك إن شئت همزت فيمن همز تؤول من قلت وأدؤد وكذلك فعلان تقول: تولان، ولا تجعل ذلك بمنزلة المضاعف ولكنك تجريه مجرى فعل من بابه؛ لأنه يوافقه وهو على ثلاثة أحرف ثم يصير على الأصل بالزيادة وكذلك هذا يتحرك مع حرك واو غزوت. قال أبو سعيد- رحمه الله- أجري سيبويه المضاعف بعد زيادة الألف والنون على حكمه قبل دخولهما وجعل ما عين الفعل منه واو إذا دخلت عليه الألف والنون على غير حكمه قبل دخولهما. ورتب الاحتجاج لذلك أحسن ترتيب، وذلك أن فعل من المضاعف مخالف بفعل، وفعل قبل الألف والنون؛ فيدغم فعل وفعل ولا يدغم فعل. وأما ما عينه واو فلا فرق بين فعل منه وفعل قبل دخول الألف والنون تقول: دار وجار ووزنه فعل ورجل مال وكبش صاف ووزنهما عند أصحابنا كلهم فعل أصله مول وصوف، ثم قالت العرب في كل شيء على فعلان وعين الفعل منه واو أو ياء بتصحيح عين الفعل فقالوا: الجولان والروغان والهيمان والحيكان، وهي مشية والفعلان منه والفعلان في التصحيح كالفعلان كما كن في الإعلال قبل دخول الألف والنون بمنزلة واحدة. فإن قال قائل: فلم صح من ذلك دخول الألف والنون ما كان معتلا؟ فالجواب أنهم حملوه على ما كان لام الفعل فيه معتلا، وهو يعتل قبل دخول الألف والنون ويصح بعد دخولهما لعلة تضطر إليه وذلك قولك النزوان والكروان والنفيان والغليان، وذلك أنهما لو أعلوها قلبوها ألفا فأسقطوها لاجتماع الساكنين؛ فكان يلتبس بفعال الذي النون فيه أصلية، ثم رأوا عين الفعل أقوى من اللام. وقد صححوا اللام في هذا البناء؛ فكانت العين أولى بذلك، وقد صححوا الواو والياء عينين بزيادة أضعف من زيادة الألف والنون، وهي ألف التأنيث فقالوا: صوري وحيدي. وقد خالف أبو العباس المبرد؛ فزعم أن القياس أن يقال قالان، وألزم سيبويه المناقضة حيث لم يعتد بالألف والنون في رددان واعتد بهما في قولان، واحتج بأن العرب قالت: رالان، وداران وماهان وهامان وليس في ذلك حجة.

وقد ذكرنا الحجة لسيبويه فيما مضى، وأما الأسماء التي ذكرها فماهان وهامان أعجميان، وأما رالان فاسم رجل من طيء يعرف ابنه بجابر بن رالان، وداران اسم. ويجوز أن يكون أصلهما عجميا كما قالوا في أسمائهم قابوس ورختنوس. ويجوز أن يكونا عربيين ولا يطرد لهما قياس كقياس جولان وروغان وهيمان المطرد في المصادر وكثرته، ثم ركب سيبويه مسائل من رد وفرعها على أبنية مختلفة وتركيب المسائل من رد ومن ضرب واحد؛ إلا أنه يجتمع من رد أحرف من جنس واحد يجوز في بعضها الإدغام، والتغيير ولا يجوز في بعضها وذلك على طريقين ما كان ملحقا برباعي أو خماسي؛ فإنه يؤتى بالزوائد في مواضعها، ولا يغير نظم حركاته، وترتيبها، وما كان غير ملحق؛ فإنه يجوز ذلك فيه على ما أنا سائقه من كلامه إن شاء الله. تقول في: افعللت من رددن اردددن وفي الغائب ارددّ مثل أحمرّ ومصدره ارداد يجوز فيه رداد لاجتماع الدالين إذا أدغمت الدال في الدال كما يجوز في اقتتال قتال، وتقول في افعالت أردادت وفي الغائب ارداد مثل اشهابيت وأشهاب، وتقول في مثل غوثل ردودر؛ فلا تدغم لأنه ملحق بسفرجل، وإذا قلت افعوعلت وافعوعل كما قلت اغدودن قلت ارددود مكان أصله اردودد، ولم يكن ملحقا بشيء فأدغمت وفي المستقبل يردودّ واصله يردودد فجرى مجرى أحمر بحمر وأصله احمرر لأنه لا نظير له في الرباعي يلحق به قال وتقول: في مثل اقعنسس اردتدد فلا تدغم لأنه يلحق بأحرنجم والدال الأولى بمنزلة العين من افعنسس والدالان الأخريان بمنزلة السينين وتقول في مثل فعلل ردد وهو ملحق ولم تغيره عن منهاج الملحق به لأن الراء بمنزلة جيم جعفر والدال الأولى بمنزلة عين جعفر؛ فأدغمت الدال الأولى في الثانية وتقلت وجبت بدال أخرى بمنزلة راء جعفر ومثل دخلل ومثل رمدد ردد على قياس الملحق وتقول في مثل صمحح ردده لأنه ملحق بسفرجل لو هو على نظم حركاته وسكونه قال: وتقول في جلعلع رددّد. ولم تدغم في الآخرة كما لم تفعل ذلك في مردد فتركوا الحرف على أصله لأنهم يصيرون إلى مثل ما يفرون منه فيدعون الحرف على الأصل، وإنما علل سيبويه ذلك لأن جلعلع غير ملحق وفي غير الملحق يجب إدغام ما قبل الطرف في الطرف كما وجب في أحمر وما أشبه ذلك. فقال سيبويه: " فلو أدغموا الدال التي في الطرف لوجب أن يقال: ردد تلقى حركة الدال التي قبل الطرف على ما قبله وتسكن ما قبل الطرف فتدغم في الطرف فيصير التشديد الذي كان في الحرف الذي قبل الطرف في الطرف ولا يحدث تغيير

الوزن خفة فكان تركه على حالة أولى فصار بمنزلة ردد يردد ومردد الذي لم يغير عن حاله. وقد مضى الكلام فيه قال، وتقول في خلفنه رددنه لأن الحرف ليس مما يصل إليه المتحرك فإنما هو بمنزلة رددت ". يريد أنه لا يلزم لام الفعل وهي الدال الثانية السكون، ولو أدغمت لقضي البناء ولا يجوز ذلك لأنه ملحق بقمطر وفي مثل فوعل رودد لأنه ملحق بجعفر وهو مثل حوقل وفي الفعل رودد يرودد، وكذلك فيعل ميل حيدر ملحق. قال: " ويقوي رودد ونحوه قولهم: الندد لأنها ملحقة بالخمسة كعقنقل وعثوثل يريد أن ألندد قد ظهرت فيه الدالان لإلحاقها بسفرجل فأجرى مجراه، ولم يقولوا فيه الند قال: والدليل على ذلك أن هذه النون لا تلحق ثالثة والعدة على خمسة إلا والحرف على مثال سفرجل ". يريد أن النون إذا زيدت ثالثة فليست تكون إلا في بناء قد ألحق بالخماسي ولقائل أن يقول قرنفل فيه النون ثالثة زائدة، وليس بملحق بالخمسة؛ لأنه ليس في الكلام فعلل مثل سفرجل أنه قد أسقط من النسخة يكاد كأنه قالا والدليل على ذلك أن هذه النون لا تكاد تلحق ثالثة أي: هو قليل جدا ومن ذلك الهليل قرنفل لا تكاد تلحق وليست آخر مع ألف إلا وهي تخرج من بناء إلى بناء يريد أن النون إذا لم تكن مع الألف في آخر الكلمة كعطشان وقربان وغليان وما أشبه ذلك. فلا تكاد تزاد إلا لإلحاق بناء وإلحاقها بناء ببناء كثير جدا منهار رعشن ملحق بالنون من جعفر وخلفنة وعرضنة ملحقتان بهدملة وجحنفل ودلنطي وحبنطي ملحق بسفرجل وعنبس وعنبر ملحقان بالنون بجعفر والذي ليس بملحق قليل كقولهم كهنبل شجر والنون زائدة، وقرنفل ونرجس ونحوه، وهو قليل قال: فإن قلت: أقول جلبب ورودّ لأن إحدى اللامين زائدة فأجاب بأنهم قد يدغمون واحدا هما زائدة كما يدغمون وهما من نفس الحرف. وأما ما أدغم وإحداهما زائدة فاحمر واطمأنّ والذي أدغم وهو من نفس الحرف قولهم رد وعض واستعد وكذلك كرهوا الإدغام فيما إحداهما فيه زائدة كقولهم عفنجج وفيما هما فيه أصل وذلك ألندد وهو افنعل والدا لأن عين الفعل ولامه فعلم بذلك أن الإظهار والإدغام لم يتعلق بالزائد، والأصلي إنما هو معلق بالملحق وغيره. قال سيبويه: " وإن قلت: إنما ألحقتها بالواو فإن التضعيف لا يمنع أن يكون على

هذا باب ما جاء شاذا من المعتل على الأصل

زنة جعفر وكعسب كما لم يمنع ذلك في جلبب إذ كانت اللامان قد تكرهان كما يكره التضعيف، وليس فيه زيادة إذا لم يكن له مثال في الأربعة على ما ذكرت لك فكم كان يوافق في هذا أما أحد حرفيه غير زائد، ويقوي هذا ألندد لأن الدالين من نفس الحرف إحداهما موضع العين والأخرى موضع اللام، وأما فعول فردود وليس فيه اعتلال، ولا تشديد لأنك قد فصلت بينهما ". قال أبو سعيد- رحمه الله- معناه إن قال قائل: إن ألحقت ودود بجعفر بالواو دون غيرها فلم تدغم الدال؛ فأجاب بأن التضعيف، وإن كان بالواو فعلينا أن نأتي بحركات الملحق على منهاج الملحق به والتضعيف يعني إظهار الدالين ليس يمنع من ذلك كما لم يمنع في جلببت إظهار الباءين حين ألحقناه بكعسب ومعنى إذ كانت اللامان تكرهان كما يكره التضعيف، وليس فيه زيادة، يريد أن استثقال التضعيف، وهو إظهار الحرفين من جنس واحد في اللامين واحد هما زائدة في قولك احمر وأشهب ولم يقل احمرر وأشهبب لكراهة إظهارهما أصليتين في قولنا رد وعض ولم تقل ردد وعضض فلما استويا الزائد والأصلي في الإدغام استويا في الإظهار، فلم يكن فرق يوجب أن يكون ردودد والدالان أصليتان بمنزلة جلبب وإحدى الباءين زائدة وقوي ردود الندد إذ كانت الدالان أصليتين فاعرف ذلك إن شاء الله. هذا باب ما جاء شاذا من المعتل على الأصل وذلك نحو ضيون وقولهم: قد علمت ذاك بنات الببة، وحيوة وتهلل ويوم أيوم للشديد؛ فأبنية كلام العرب صحيحها ومعتلها وما قيس من معتلها، ولم يجئ إلا نظيره من غيره على ما ذكرت لك أما ضيون فكان حقه أن يقال ضين؛ لأن الياء والواو إذا اجتمعتا والأول منهما ساكن قلبته الواو وياء، وأدغمت الياء في الياء كقولك طويت طيا وأصله طويا وكقولك في تصغير صعوة صعية، وأصله صعيوة ومعنى الضيون السنور. ويجوز عندي أن تكون العرب قالت: ضيون؛ لأنه لا يعرف له اشتقاق ولا فعل يتصرف؛ فلو قالوا: ضين لم يعرف أهو من الياء أم الواو. وقد علمت ذاك بنات الببة. معناه بنات أعقله، وهو من اللب، ومعناه قد علم ذاك العقلاء منهم، وكان حقه أ، يقال ألبه كما يقال أجله وأشد لأن أفعل تدغم عينه في لامه إذا كانا من جنس واحد. وقال قوم: ألببه وهو جمع لب وبنات الألبب هي القلوب ومواضع العقول، وأما

تهلل فإن سيبويه ذكره على أنه تفعل، وأن الشذوذ فيه إظهار التضعيف وإحداهما عين الفعل والأخرى لام الفعل، ولا يكون مثل ذلك إلا مدغما كقولك: تمش وتعض والذي عندي أن تهلل فعلل مثل قردد؛ لأن التاء لا يحكم عليها في أصل الكلمة بالزيادة إلا بثبت ولو كانت اللام مدغمة لقضينا على التاء بالزيادة؛ لأنها لا تدغم إلا في تفعل والتاء في تفعل زائدة ولجاز أيضا أن تكون التاء أصلية، وتكون كميم معد ويقوي ذلك أنه قد جاء في الشعر تهل في معنى تهلل قال الراجز: امض ودع عنك شعاب تهلا … حتى تسوق الحي أرضا سهلا أخذت أهلا وتركت أهلا وذكر في أخبار طيء وانتقاله من اليمن إلى الجبلين أنه ظعن بمن معه، وخرجت مراد في آثارهم حتى خرجت طيء من ثنية في جبل يقال له تهلل إلى جنب ذات القصص، وهي قلعة جرش وكان طيء كاهنا فعال رئية. امض ودع عنك شعاب تهلا. في حديث يطول، وأما حيوة فكان القياس فيه أن يقال حية لاجتماع الواو والياء والأول منهما ساكن ويجوز أن يكونوا أظهروا الواو؛ لأنه لا يتصرف تصرفا لعلم به أن أصله واو. قوله: فأبنية كلام العرب على ما ذكرت أي على ما قدمت ذكره صحيحها ومعتلها والمقيس على ذلك، ثم قال: واعلم أن الشيء قد يقل في كلامهم، وقد يتكلمون بمثله كراهية أن يكثر في كلامهم ما يستثقلون فما قل فعلل وفعلل وهم يقولون ردد الرجل يردد وقد يطرحونه وذلك نحو فعالل وفعلل كراهية كثرة ما يستثقلون في الكلام يريد أنه قل في الكلام فعلل الملحق من الثلاثي بجعفر مثل قردد وكذلك فعلل الملحق ببرثن نحو: قعدد، وإن كانوا قد يستعملون كثيرا نحو: رد وردد من المضاعف وقد اطرحوا أصلا من كلامهم فعالل نحو: ضرابب وفعلل نحو: صربب، وذلك كله كراهية ما يستثقلون، وإن كانوا قد يستعملون مثله في الثقل أو أثقل منه؛ لأنه لا يستنكر أن يعدل الإنسان عند استثقال الشيء إلى ما هو أخف منه، وأن يصبر على ما يثقل عليه، ويستعمله. وأراد سيبويه بما ذكره، وما يذكره في الباب تسهيل أمر الشاذ في أحرف لم يتجاوزها كما يستعملون ما يثقل في شيء ويلزمونه ويدعونه في شيء آخر استثقالا.

قال سيبويه: وقد يقل ما هو أخف مما يستعملون كراهية ذلك أيضا، وذلك نحو سبس وقلق ولم يكثر كثرة رددت في الثلاثة كراهية كثرة التضعيف في كلامهم؛ فكأن هذه الأشياء تعاقب يعني أن سلس وقلق لم يكثر وجميع ما كان فاء الفعل فيه ولامه من جنس واحد، وهو قليل في الكلام، وأثقل منه ما كان عين الفعل ولامه من جنس واحد نحو: رددت وعضضت. والحرفان من جنس واحد إذا اجتمعا كان أثقل من أن يكون بينهما حرف حاجز فقد قلّ اجتماع الأخف وكثر اجتماع الأثقل. ومعنى قوله: فكان هذه الأشياء تعاقب يريد كأنهم عوضوا استعمال التثقيل في موضع استعمالهم إياه من تركهم له في مواضع تركه ثم وكد سيبويه بذلك. فإن قال: وقد يطرحون الشيء وغيره أثقل منه في كلامهم كراهية ذلك وهو ويموت وحيوت، وتقول حييت وحيي تبل فتضاعف، وتقول: احووي فهذا أثقل، وإن كانوا يكرهون المعتلين بينهما حرف، والمعتلين وإن اختلفا يريد أن حيي واحووى أثقل من وعوت وحيوت؛ لأن في احووي واوين متواليين وهما من جنس واحد؛ فهي أثقل من الياء والواو في حيوت. ثم قال: " فهذا أثقل يعني حييت واحووي، وإن كانوا يكرهون وعوت وحيوت، قال: ومما قل مما ذكرت لك نحو يدي وددا " يعني أنه قل ما فاؤه ولامه ياء بل ليس في الكلام الأحرف واحد، وهو يد وأصله يدي ويديته إذا ضربت يده فهو مبدي ويدي الرجل إذا اشتكى يده ويديت إليه يدا إذا أسديت إليه يدا، وأما فاؤه ولامه واوان فليس بموجود. وأما ما فاؤه وعينه من جنس واحد فقليل منها ددا وددت ودد وذلك كله في معنى واحد، وهو اللهو ومثله في الكلام في أحرف منها بين وهو واد بقرب المدينة فيه ضياع وعمارة ومنها أول وهو أفعل فالواوان فاء الفعل وعليه وكوكب فالواو زائدة والكافان فاء الفعل والواو زائدة ومنها قولهم: الياس على بنان واحد وعين الفعل وفاؤه باءان وهما من جنس واحد ووزنه فعال والنون أصلية وقال: قور وزنه فعلان وذلك غلط لئلا يصير الفاء والعين واللام من جنس واحد وذلك غير موجود في شيء من الكلام. قال: " وقد يدعون البناء من الشيء قد يتكلمون بمثله لما ذكرت لك وذلك

هذا باب ذكر فيه ما فات سيبويه من أبنية كلام العرب

نحو رشاء لا يكسر على فعل ومن ثم تركوا من المعتل من جاء نظيره في غيره ". وقد يجيء الاسم على ما قد طرح من الفعل، وقد بينا ذلك وما يجيء من المعتل على غير أصله، وما يجيء على أصله بعلله فهذه حال كلام العرب في الصحيح، والمعتل فعال يجمع على فعل في الصحيح كقولهم: حمار وحمر وخمار وخمر وحجاب وحجب، وكتاب وكتب، وفعال في المعتل لا يجمع على فعل نحو: رشاء ورداء وكساء وغطاء لا يقال فيه رشى وهو فعل، ولا رشى وهو فعل مخفف. ومن ثم تركوا من المعتل ما نظيره في غيره، وذلك في أشياء كثيرة منها أن فعلاء كقولك: كريم وكرماء وظريف وظرفاء ورحيم ورحماء، ويجمعون من المعتل على أفعلاء نحو: قوي وأقوياء وصفي وأصفياء ولا يجمعون على فعلاء ومنها ما يعمل من الأفعال المعتلة ونظائرها من الصحيح على غير منهاجا. وقوله: " وقد يجيء الاسم على ما طرح من الفعل " مثل قولهم، ويل وويج وآى هـ وقوة وآية وظاية وما أشبه ذلك لا يجيء فعل من شيء من ذلك، وقد بين ما يجيء من المعتل على أصله نحو: استحوذ واغيلت المرأة واعوز الشيء والخونة والحوكة والقود، وما يجيء على غير أصله، وهو قال: وباع وأقام، وأبان، وما أشبه ذلك؛ فاعرفه إن شاء الله. هذا باب ذكر فيه ما فات سيبويه من أبنية كلام العرب قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن سيبويه سبق إلى حصر أبنية كلام العرب ولم يحاول ذلك أحد قبله، ولا في عصره، وأظن ذلك أجمعون، وبعد تناوله، ولأن الحاصر يحتاج إلى الإحاطة بكلامها والتخيل له كله. وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج على ممارسة شديدة وتصفح طويل أن الذي فات سيبويه من كلام العرب ثلاثة أبنية وهي هندلع اسم بقلة ودرداقس وهو طرف العظم الناتئ فوق القفا قال الأصمعي، واظنهار رومية وأنشد أبو زيد: بالسيف هامته عن الدارداقيس … فبمن زال عن قصد السبيل ترايلت ومثله خزارنق وهو ثياب ديباج وأصله بالفارسية وشمنصير، وهو اسم موضع قال الهذلي: لعلك هالك أما غلام … تبوأ من شمنصير مقاما ثم ذكر أبو بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج أسماء أنا أسوقها على ما

ذكره في موضعه من كتاب الأصول التي ذكرها أبو بكر بن السراج من الفائت، تلقامة، وتلعابة، وفرناس وفرانس، وتنوفي، ترجمان، شحم امهج عياهم، ترامز، تماضر، ينابعات، رحرح فعلين، ليث عفرين، ترعاية، الصنبر زيتون، كذبذب، هزنزان اسم رجل هديكر، ضرب من المشتيه، هندلع بقلة دردافس خرارنق. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أكثر ما ذكره أبو بكر غير داخل على سيبويه ولا مستدرك عليه فأنت أما تلقامه وتلعابة فقد ذكر سيبويه في باب المصادر تحملت تحمالا، وإذا أردنا الواحدة منه زدنا الهاء فقلنا: تحمالة ووزن تلقامة وتلعابة تفعالة له مثل تحمالة. وقد ذكر فرناس في الأبنية وأما تنوفي فما رأيت أحدا ذكره وجاء في شعر امرئ القيس: كأن دثارا احلقت بلبونة … عقاب تنوفي لأعقاب الفواعل وفي اللفظ خلاف وروى أبو عمرو وابن الأعرابي عقاب تنوف. وروى أبو عبيدة ينوفي والأصمعي وأبو حاتم تنوفي وهي فيما قال أبو حاتم ثنية طيء مرتفعة وتصير على رواية أبي عبيدة بناء آخر، ويحتمل أن يكون ممدودا فيكون تنوفاء مثل جلولاء وبروكاء فقصره شاعره ضرورة. وأما ترجمان فقد رأيت من ذكر أنه ترجمان، والتاء أصلية فهو فعلان. وقد ذكر سيبويه فعللان مثل عقربان ونحوه، وأما قوله: شحم أمهج رقيقي فوزن أمهج افعل. وقد ذكر سيبويه أفعل في الأسماء دون الصفات والاستدراك عليه أن أمهج صفة فللمحتج عن سيبويه أن يقول: ربما وصفوا بالأسماء كما قالوا: مررت بنسوة أربع وأربع اسم وأمهج مأخوذ من المهجة وهي دم القلب فشبه الرقيق بدم القلب؛ لأنه أزق الدم، وأصفاه والمعروف المحفوظ أمهجان أن يقال لبن: أمهجان وماهج قال الراجز: وعرضوا المجلس محضا ماهجا وأما مهوان فقد ذكر سيبويه نظيره معلمان ومعسعر وهو مفعلل وأظن أبا بكر اعتقد أن الواو فيه زائدة وأنه مفوعل، لأن الواو يحكم عليها بالزيادة فيما جاوز ثلاثة أحرف وليس ذلك في كل شيء لأنه لا يحكم على واو ضوضاء وغوغاء بالزيادة لأن بناءه يمنع من ذلك، وكذلك مهوان، وأما عياهم فإن الذي ذكره هو صاحب كتاب العين، وأظنه قاسه على عيهم ووزنه فياعل، وهو السريع من الإبل وكثير مما في كتاب

العين ينكر وليس المؤلف له الخليل وترامز يقال بعير ترامز صلب شديد قال الراجز: إذا أردت السير في المفاوز … فاعمل كل بازل ترامز ومثله دلامز قال رؤبة: دلامز على الدلمز والتاء فيه أصلية مثل الدال وهو فعالل وجاء به أبو بكر على أن التاء زائدة من الرمز، وليس كذلك، وأما تماضر فاسم امرأة يقال: تماضر بنت الأصبع، وهي في الأصل فعل سميت به كما سمي بتغلب ويزيد دينابعات هي جمع ينابع. وقد ذكر سيبويه بفاعل، وإن كان ينابعات ففي الفعل على يفاعل سمي به المكان، ثم جمع، وأما دحندح فذكر أبو بكر بن دريد أنه يقال رحندح موصول ورح رح بلا تنوين فدل دح دح على أنه صوت اعند وأنه ليس بكلمة واحدة، وأن النون فيه تنوين كقولنا بخ بخ وبخ بخ. ومعناه فيما ذكر قد أقررت فاسكت، وقال محمد بن حبيب يقال: هو أهون علي من رحنه ح وهي دويبة صغيرة، وأما ليث عفر بن فأصله عفر، وهو مثل قلز وطمر، ثم لحقته علامة الجمع، كما قالوا اليرحين والفتكرين المدواهي ترعاية تفعالة جاء بها أبو بكر على أن تفعالة لم ترعاية تفعالة جاء بها أبو بكر على أن تفعالة لم يجئ صفة فيما ذكره سيبويه لأنه قال بعد ذكر تفاعيل نحو: التجافيف والتماثيل ولا نعلمه جاء وصفا وترعاية وترعية في معنى واحد. ويجوز أن يكونوا قلبوا الياء الساكنة في ترعية ألفا استثقالا كما قالوا في بيجل وييئس ياجل ويايس. وقد ذكر سيبويه في مثل الصنبر وهو العلكد والهلقس، وإن كان أبو بكر أراد الصنبر بكسر الباء على ما جاء في شعر طرفة: بجعان تعتري نادينا من … سديف حين هاج الصنبر فهذا يجوز أن يكون لما سكن الراء للوقف كسر كقولك: ضربته وقتلته واغزه وارعه في الوقف وذلك كسر لالتقاء الساكنين. وأما هزيزان وغفرران فهما في بعض نسخ كتاب سيبويه، والهزبزان السيء الخلق قال الراجز: لو قد منيت بهزبزان

وعفزران اسم رجل وأما هديكر فإن المحفوظ المعروف هيدكر يقال تهدكرت المرأة إذا ترجرجرت في مشيتها تهدكرا كما يقال تدحرجت ويقال للمرأة إذا مشت كذلك هيدكر قال المرار: فهي بداء إذا ما أقبلت … ضخمة الجسم رداح هيدكر وأصلها هيدكور قال أبو بكر بن دريد يقال: رجل هيدكور من قولهم: يتهدكر على الناس أي يتنزى عليهم، والمعنى قريب من الأول والهيدكور رجل من العرب من كنده وخفف كما قيل في عرنتن عرنتن وفي علابط علبط. وقد ذكر في كلام الزجاج بعض ما ذكره أبو بكر بن السراج، وقد خرج قوم في الفائت ما لا يكون استداركا عليه مما يضطر إليه شاعر أو يراه سيبويه على وزن ويراه غيره على غير ذلك الوزن أو رواه بعض العلماء وأنكره غيره أو شيئا يحتمل تأويلا غير الاستدراك فمن ذلك مفعل. قال سيبويه: ليس في الكلام مفعل بغير الهاء. وذكر بعض الكوفيين مكرم ومعون وأنشد قول الشاعر: ليوم روع أو فعال مكرم وقوله: بثين الزمي لا أن لا إن لزمته … على كثرة الواشين أي معون وذكر أن مكرم ومعون جمع مكرمة ومعونة، وليس الأمر كذلك لأنه لا يعرف في الكلام مكرم ومعون جمع مكرمة ومعونة، وإنما اضطر الشاعر فحذف الهاء كبعض ما يحذف في الضرورة ولعله شبهه بما يجوز بالهاء وطرحها موعد وموعدة بمعنى واحد ومنه قول رؤبة: ما بال عيني كالشعيب العين والذي عليه أهل المنظر والتحصيل من النحويين العين بكسر الياء، والذي يقول: العين بفتح الياء يحمله على فيعل في الصحيح مثل حيدر وصيرف بل في النحويين من يقول في ميت وهين أصله فيعل كذا حكى سيبويه فلعل الذي فتح ممن يعتقد هذا الرأي ومنه جلندا قد ذكره سيبويه مقصورا وقد أجازوا فيه المد أنشدنا أبو بكر بن دريد: وجلندا في عمان مقيما

وهذا وقد أنشد في مد المقصور نحو: قلت أخت بني السعلاء ومنه كسر اللام في طيلسان، وقد أنكره الأصمعي، وذكره الأخفش والمازني ومحمد بن يزيد على تصريف مسائل النحو عليه بالرواية العنعيفة لا على تحقيق الرواية فيه ومنه نقل في الأسماء لم يذكر سيبويه، ويجوز أن يكون أصله فعل سمي به كاسمي ضرب من الطير بتنوط لأنها تعلق عشها ومعنى تنوط: تعلق ودئل من الدالان ضرب من المشي فيكون قد سمي من هذا، ومن ذلك ما يجيء في الشعر من زيادة حرف المد كقولهم في انظر انظور وفي ينبع ينباع قال الشاعر: من حيث ما سلكوا أدنوفأ فطور. وقول عنترة: ينباع من ذي فري غضوب جسرة … زيافة مثل الفنيق المكرم ومثله مما جاء في الشعر قرنفول في قرنفل قال الشاعر (¬1): فهو كقولهم دراهم دراهيم وفي صيارف صياريف ومثله في الزيادة من جنس ما قبله من قول الشعراء في حدب وقطن حدب وقطن ومنه فعولي مقصور أنشدنا أبو بكر بن دريد عن أبي عثمان الأستاذ للمرار: فأصبحت مهموما كأن مطيتي … بخبت مسولي أو تؤجرة ظالم وأصله عندي مسؤولا مثل دبوقد وجلولاء وقصره للضرورة، ومما رآه سيبويه على وزن، ورآه غيره على غير ذلك فيها قال سيبويه، وهو فعلا لأنهم قد يمدونه فيقولون ضهياء كحمراء فيعلم أن الهمزة زائدة للتأنيث وأن الياء لام الفعل فإذا قصر جعلت الياء لام الفعل أيضا والهمزة زائدة فصار فعلاء. ¬

_ (¬1) سقط بالأصل، وهو: أنشد في لسان العرب بيتين أحدهما: وابأبي ثغرك ذاك المغسول … كأن في أنيابه القرنفول والآخر: خود أناة كاملهاه وعطبول … كأن في أنيابها القرنفول فلعل الشارح أورد أحدهما وسقط في النسخة.

أما أبو إسحاق الزجاج فقال: هو فعيل مأخوذ من قوله عز وجل على قراءة من همز يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [التوبة: 30] أي: يشابهون الضهباء التي لا تحيض ولا ينبت لها ثدي كأنها تشابه الرجل في ذلك. وقد حكي وليس يثبت ضهيد، وهو فعيل، والذي عليه أهل العلم إنه مصنوع، ومن ذلك ويستعور قال سيبويه هو فعلول مثل عظم [] (¬1) والياء والتاء أصليتان. وقال أحمد بن يحيى ثعلب وأبو بكر بن دريد هو يفتعول وليس ذلك شيء. وقال سيبويه في مثل شحشح ورقرق وما أشبه ذلك فعلل. وقال صاحب كتاب العين وهو قول الزجاج وهو فعفل ومما جاء في شعر العرب أشياء للتوهم منها أنها من غير كلام العرب، وإذا لم تكن من كلامها فلا استدراك على سيبويه فيها منها السليطيط وهو فعيليل ومعناه من: المسلط قال أمية: إن الأنام رعايا الله كلهم … هو السليطيط فوق الأرض مستطر والسليطيط في البيت القاهر ومستطر قادر وخرنباش نبت طيب الريح قال الشاعر: اتتنا رياح الغور من نحو أرضها … بريح خرنباش الصرائم والحقل والماجشون ثياب منصبغة قال أمية بن أبي عائذ الهذلي: ويخفي بفتحاء مغبرة … تخال القتام بها الماجشونا والماطرون اسم موضع بناحية الشام واطئها. رومية قال الشاعر: طال ليلي وبت كالمحزون … واعترتني الهموم بالماطرون وقد ذكر ثقات من أهل اللغة حروفا لم يذكر سيبويه مثالها دزبذبان وكذبذب وكذبذب مخففا ومشددا وذلك كله الكذاب قال الشاعر: فإذا سمعت بأنني قد بعتها … بوصال غانية فقل كذبذب وصعفوق وهو فعلول قال العجاج: من آل صعفوق واتباع أخر ¬

_ (¬1) كشط بالأصل.

كتاب الإدغام قال سيبويه: هذا باب عدد الحروف ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مهموسها ومجهورها

وهم فيها ذكر حول باليمامة، وذكر الفراء ناقة، بها خزعال أي طلع. وقال سيبويه: لم يجيء فعلال في غير المضاعف وفي شعر أمية بن أبي عائد: مطاريح بالوعث من الحشور … هاجرن رماحة زيزفونا زيزفون فيما ذكر فيفعول من الزفن والزيزفون السريعة والزفن ضرب من الحركة والرماحة القوس وفعللان قرعبلانة اسم دابة. كتاب الإدغام قال سيبويه: هذا باب عدد الحروف ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مهموسها ومجهورها فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا: الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والقاف والكاف والجيم والشين والطاء والدال والتاء والفاء والباء والميم والياء والواو والضاد واللام والراء والنون والظاء والذال والثاء والصاد والزاي والسين وترتيبها في كتاب أبي بكر مبرمان الهمزة والألف والهاء والعين والحاء والغين والخاء والقاف والكاف والضاد والجيم والشين والياء واللام والراء والنون والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والثاء والفاء والباء والميم والواو. وتكون خمسة وثلاثين حرفا بحروف هي فروع وأصلها من التسعة والعشرين وهي كثيرة تستحسن ويؤخذ بها في قراءة القرآن والأشعار، وهو النون الخفيفة والهمزة التي بين بين وألف الترخيم يعني ألف الإمالة والشين التي كالجيم والصاد التي كالزاي وألف التفخيم يعني بلغة، وهي الألف التي نحي بها نحو الواو في لغة أهل الحجاز نحو: الزكوة والصلوة، وهي اثنان وأربعون حرفا بحروف غير مستحسنة ولا كثيرة في لغة من ترتضى عربيته ولا تستحسن في قراءة قرآن ولا إنشاد شعر وهي الكاف التي بين الجيم والكاف والجيم التي كالكاف والجيم التي كالشين والطاء التي كالتاء والصاد والضعيفة والصاد التي كالسين والظاء التي كالثاء والباء التي كالفاء، وهذه التي تمت بها اثنين وأربعين جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون ولا تبين إلا بالمشافهة إلا أن الضاد الضعيفة مكلف من الجانب الأيمن وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر وهي أخف؛ لأنها من حافة اللسان، وإنما تخالط مخرج غيرها بعد خروجها مستطيلة حتى تخالط حروف اللسان فسهل

تحويلها إلى الأيسر لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ذلك ما كانت في الأيمن، ثم يتسل من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان كما كانت كذلك في الأيمن. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أما التسعة والعشرون حرفا فهي معروفة لا تحتاج إلى تفسير، وأما النون الخفيفة؛ فإنه يريد النون الساكنة التي مخرجها من الخيشوم نحو: النون في منك وعنك ومن زيد ورأيت في كتاب أبي بكر مبرمان في الحاشية الرواية الخفيفة، وقد يجب أن تكون الخفية لأن التفسير يدل عليه وإنما تكون هذه النون من الخيشوم مع خمسة عشر حرفا من حروف الفم، وهي القاف والكاف والجيم والشين والضاد والزاي والسين والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء والفاء وهي متى كانت ساكنة وبعدها حرف من هذه الحروف مخرجها من الخيشوم لا علاج على الفم في إخراجها وكذلك يتبينها السامع ولو نطق بها ناطق وبعدها حرف من هذه الحروف وسد أنفه لبان اختلالها. قال أبو سعيد- رحمه الله-: ولو تكلف متكلف إخراجها من الفم مع هذه الخمسة عشر حرفا لا يمكن بعلاج وهذا يتبين بالمحنة، وإذا كانت النون ساكنة وبعدها حروف الحلق وهي ستة كانت مخرجها من الفم من موضع الراء واللام، وكانت بينة غير خفية، وتدغم النون الساكنة في خمسة أحرف وهي الراء واللام والميم والواو والياء ويجمعها ويرمل. فإذا أدغمت في حرف من هذه الحروف صارت من جنس ذلك الحرف وذلك قولك: من رحمك ومن لجأ إليك، ومن معك، ومن وراءك ومن يكون معك، وتنقلب ميما مع الباء كقولك في عنبر وشنباء عمير وشمباء ولو تكلف المتكلم إخراجها من الفم وبعد هاء لأمكن على مشتقه وبعلاج. وإنما تخرج من الخيشوم وهي ساكنة وبعدها الباء فتنقلب ميما لأن الباء لازمة لموضعها ولا تخطي لها عنه ولا مدار لصوتها في غيره فكرهوا تكلف إخراجها من الفم لما ذكرته لك وتباعد ما بين الخيشوم وبين فرج الباء من الشفتين ولم يكن بينهما مشابهة تجمعهما فطلبوا حرفا يتوسط بينهما بملابسة بينه وبين كل واحد منهما وهو الميم، وذلك أن الميم من مخرج الباء تدغم الباء فيه؛ فهذه ملابسة الميم للباء وفي الميم غنة في الخيشوم فهذه ملابسة الميم للنون التي من الخيشوم. فإن قال قائل: فهلا كانت الباء كالحروف الخمسة عشر التي تخفي النون الساكنة قبلها أو كحروف الحلق التي تتبين قبلها النون؛ فالجواب أن النون الخفية إنما تخرج من حروف الأنف الذي ينجذب إلى داخل الفم لا من المنخر فلذلك خفيت مع حروف الفم

لأنهن يخالطنها وتتبين عند حروف الحلق لبعدهن عن الخرق الذي تخرج منه الغنة وحروف الشفتين تنطبق عليهن الشفتان فتنحصر الغنة وقد أطبق على الباء فتصير بمنزلة غنة ليس بعدها حرف. والنون الساكنة إذا لم يكن بعدها حرف كانت من الفم وبطلت الغنة كقولك: عن ومن ونحو ذلك، مما يوقف عليه من النونان فكانت الميم أسهل عليهم لما فيها من الغنة ولأنها من مخرج الباء من بيانها. فإن قال قائل: لم لا يوقف على النون الخفية قيل له أصل خروج النون مخلوط بشيء من الغنة من الأنف، ثم يلحقها في الوقف لانتهاء إلى موضعها من الفم البيان باستقرارها في موضعها من الفم. وإذا كان بعدها حرف من الخمسة عشر أغني عن ذلك كما أن القاف إذا وقف عليها كانت بعدها صويت هي القلقلة، وإذا وصلت بطلت، وأما الهمة التي بين بين سيبويه عدها حرفا واحدا وينبغي عندي في التحقيق أن بعد ثلاثة أحرف وذلك أن همزة بين بين هي الهمزة التي تجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها. فإذا كانت الهمزة مكسورة فجعلتها بين بين فهي بين الهمزة والياء. وإذا كانت مضمومة فجعلت بين بين فهي بين الهمزة والواو وإذا كانت مفتوحة فهي بين الهمزة والواو وإذا كانت مفتوحة فهي بين الهمزة والألف ولما كانت الياء غير الواو ووجب أن يكون الحرف الذي بين الهمزة والياء غير الحرف الذي بين الهمزة والواو. وكذلك الذي بين الهمزة والألف، وقد مر الكلام في همزة بين بين في باب الهمز وألف الترخيم يعني الإمالة وسماها ألف الترخيم لأن الترخيم تليين الصوت ونقصان الجهر فيه قال ذو الرمة: لها بشر مثل الحرير ومنطق … رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر وقد مر باب الإمالة وأحكامها. وأما الشين التي كالجيم كقولك في اشدق اجدق؛ لأن الدال حرف مجهور شديد والجيم مجهور شديد والشين حرف مهموس رخو فهو ضد الدال بالهمس والرخاوية فقربوها من لفظ الجيم؛ لأن الجيم قريبة من مخرجها، وهي موافقة للدال في الشدة والجهر، وكذلك الصاد كالزاء في مصدر والتصدير ويصدف ونحوه، وسيأتي ذلك فيما بعد إن شاء الله.

وقد قرئ زاي الصراط المستقيم بإشمام الزاي للصاد وهي في قراءة حمزة. وروي عن أبي عمرو أربع قراءات منها الصراط بين الصاد والزاي. روى عربان بن أبي سفيان أنه سمع أبا عمرو يقرأ الصراط بين الصاد والزاي، وأما ألف التفخيم فهي عند الإمالة؛ لأن الإمالة ينحى بالألف فيها نحو الياء، وهذه ينحى بها نحو الواو، وزعموا أن كتبهم الصلوة والزكوة ونحو ذلك مما كتب بالواو على هذه اللغة وأما السبعة الأحرف التي هي تتمة الاثنين والأربعين حرفا فأولها الكاف التي بين الجيم والكاف. وقد أخبرنا أبو بكر بن دريد أنها لغة في اليمن يقولون في جمل كما وهي كثيرة في عوام أهل بغداد يقول بعضهم كمل وركل في جمل ورجل وهي عند أهل المعرفة منهم معيبة مرذولة والجيم التي كالكاف هي كذلك وهما جميعا شيء واحد إلا أن أصل أحدهما الجيم والأصل الآخر الكاف، ثم يقلبونه إلى هذا الحرف الذي بينهما، والدليل على أنهما شيء واحد أنك إذا عددت ما بعد الخمسة والثلاثين فهو سبعة بعدهما واحد وثمانية بعدهما اثنان والجيم كالشين ويكثر ذلك في الجيم إذا سكنت وبعدهما دال أو تاء نحو: اجتمعوا والأجدر يقولون فيه اشتمعوا والأشدر فيقربون الجيم من الشين؛ لأنهما من مخرج واحد والشين أسلس وألين وأفشى فإذا كانت الجيم مع بعض الحروف المقاربة لها ولا سيما إذا كانت ساكنة صعب إخراجها لشدة الجيم، ومال الطبع بالنطق إلى الأسهل. وذكر سيبويه الشين التي كالجيم في تتمة الخمسة والثلاثين حرفا وذلك عنده من الكثير المستحسن وذكر الجيم كالشين في التتمة الاثنين والأربعين حرفا وذلك عنده مما لا يستحسن والفرق بينهما أن الشين التي كالجيم في نحو: الأشدق إنما قربت فيه الشين من الجيم بسبب الدال لما بين الجيم والدال من الموافقة في الشدة والجهر كراهة لجمع الشين والدال لما بينهما من التباين. وإذا كانت الجيم قبل الدال في الأجدر وقبل التاء في اجتمعوا فليس بين الجيم والدال وبين الجيم والتاء من التنافر والتباعد ما بين الشين والدال؛ فكذلك حسن الشين التي كالجيم وضعف الجيم التي كالشين. وأما الطاء التي كالتاء فإنها تسمع من عجم أهل المشرق كثيرا لأن الطاء في أصل لغتهم معدومة فإذا احتاجوا إلى النطق بشيء فيه طاء تكلفوا ما ليس في لغتهم فضعف نطقهم بها والضاد الضعيفة من لغة قوم ليس في أصل حروفهم ضاد. فإذا احتاجوا إلى التكلم بها من العربية اعتاصت عليهم فربما أخرجوها ظاء وذلك

أنهم يخرجونها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، وربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم تتأت لهم فخرجت من بين الضاد والظاء ورأيت في كتاب أبي بكر مبرمان في الحاشية الضاد الضعيفة يقولون في إثر واضروله يقربون الثاء من الضاد التي كالسين فيما ذكروه كأنها كانت في الأصل صادا فقربها بعض من تكلم لها من السين لأن السين والصاد من مخرج واحد والظاء التي كالتاء والباء التي كالفاء هي كثيرة في لغة الفرس وغيرهم من العجم وهي على لفظين أحدهما لفظ الباء أغلب عليه من الفاء والآخر لفظ الفاء أغلب عليه من الباء. وقد جعلا حرفين من حروفهم سوى الباء والفاء المخلصين. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وأظن الذين تكلموا بهذه الأحرف المسترذلة من العرب خالطوا العجم؛ فأخذوا من لغتهم. قال سيبويه: إلا أن الصاد الضعيفة تتكلف من الجانب الأيمن وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر وهي أخف؛ لأنها من حافة اللسان وإنما تخالط مخرج غيرها بعد خروجها فتستطيل حتى تخالط حروف اللسان فسهل تحويلها إلى الأيسر؛ لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر إلى مثل ما كانت في الأيمن، ثم تنسل من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان كما كانت في الأيمن، وإنما قال: هي أخف؛ لأن الجانب الأيمن قد اعتاد الضاد الصحيحة، وإخراج الضعيفة من موضع قد اعتاد الصحيحة أصعب من إخراجها من موضع لم يعتد الصحيحة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وتجيء على قياس ما عدّ سيبويه الحروف أكثر من اثنين وأربعين حرفا لأنه ذكر بعد تفصيل الاثنين وأربعين حرفا الشين التي كالزاي والجيم التي كالزاي في باب قبيل آخر الكتاب ويدخل في هذا اللام المقحمة التي في اسم الله عز وجل في لغة أهل الحجاز، ومن يليهم من العرب ومن يليهم ناحية العراق إلى الكوفة وبغداد ورأينا من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف والجيم التي كالكاف. قال سيبويه: وحروف العربية ستة عشر مخرجا: فللحلق منها ثلاثة أقصاها مخرجا الهمزة والهاء والألف. ومن وسط الحلق: مخرج العين والحاء. وأدنى مخارج الحلق إلى اللسان: الغين والخاء. ومن أقصى اللسان ومما فوقه من الحنك الأعلى: مخرج القاف.

ومن أسفل من موضع القاف: من اللسان قليلا. ومما يليه من الحنك الأعلى: مخرج الكاف. ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى: مخرج الجيم والشين والياء. ومن أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس: مخرج الصاد. ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مما فويق الضاحك والناس والرباعية والثنية مخرج اللام. ومن طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا: مخرج النون ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى مخرج اللام مخرج الراء. ومن بين طرف اللسان وأصول الثنايا: مخرج الطاء والدال والتاء. ومن بين طرف اللسان وفويق الثنايا: مخرج الصاد والزاي والسين. ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا: مخرج الظاء والثاء، والذال. ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلي: مخرج الفاء. ومما بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو. ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة. وذكر الليث بن المظفر في كتاب العين عن الخليل أن الحروف تسعة وعشرون حرفا خمسة وعشرون صحاح لها أجواف وأربعة جوف؛ فقال: الواو أجوف ومثله الياء والألف اللينة والهمزة جوفاء؛ لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج الحلق ولا مدارج اللهاة ولا مدارج اللسان وهي في الهواء. قال: وكان الخليل يقول كثيرا: الألف اللينة والواو والياء هوائية أي أنها في الهواء. وأقصى الحروف كلها: العين وأرفع منها الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت الهاء لقرب مخرج الهاء من مخرج الحاء. فهذه الثلاثة الأحرف في حيز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الخاء والغين وهما في حيز واحد وهما لهويتان والكاف أرفع من القاف، ثم الجيم واحد وهما لهويتان. والكاف أرفع من القاف، ثم الجيم والشين والضاد، وهي في حيز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الصاد والسين والزاي، وهي في حيز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الطاء والدال والتاء في حيز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الواو واللام والنون في حيز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الفاء والباء والميم في حيز واحد بعضها أرفع من بعض. ثم الواو والياء والألف ثلاثة في الهواء لم يكن لها حيز تنسب إليه.

قال الليث، قال الخليل: فالعين والحاء والهاء والغين والخاء حلقية؛ لأن مبدأها من الحلق والقاف والكاف لهويتان لأن مبدأهما من اللهاة والجيم والشين والضاد شجرية والشجر مفرج الفم؛ لأن مبدأهما من شجر الفم، والصاد والسين والزاي أسلية لأن مبدأها من أسلة اللسان، وهي مستدق طرف اللسان، والطاء والدال والتاء نطعية؛ لأن مبدأها من نطع الفك الأعلى والظاء والذال والثاء لثوية، لأن مبدأها من اللثة والراء واللام والنون ذلقية والواحد أذلق وذلق وذلق، كل شديد تحديد طرفه كذلق اللسان، ومبدأها من ذلق اللسان والفاء والباء والميم شفهية. وقال: مرة شفوية أي مبدأها من الشفة والباء، والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد؛ لأنها في الهواء لا يتعلق بها شيء. وقال الفراء: اعلم بأن الألف والهمزة والعين والحاء أخوات وذلك لتقاربهن في المخرج من أقصى الحلق إذا امتحنت ذلك وجدته والذي يتلوهن في القرب منهن، والبعد من غيرهن الغين والخاء؛ فلذلك بينت العرب النون عند الحاء، وأخواتها فلم يكن إلا التبين وبينوها مرة وأخفوها عند الخاء والغين فلقربهما من أخواتهما بينوها ولارتفاعهما عن درجاتهن لم يبينوا فهذا لأقصى المخارج، وأبعد الحروف من الحاء وأخواتها الهاء والميم والفاء، وذلك أن الفاء وأختيها من الشفتين مخارجهن فهي الغاية في البعد من الحاء وأخواتها والياء والواو أختان وإنما تآختا كل التآخي لأن مخرجهما من حروف الفم لا يلتقي بهما موضع من الفم كما يلتقي على غيره. تجد ذلك إذا امتحنته واضح ذلك، وحسنه ما ذكره سيبويه وفصله. وقد خالف الفراء سيبويه في موضعين: أحدهما: أنه جعل الواو والياء مخرجهما واحد من حروف الفم. والآخر: أنه جعل الفاء والباء والميم من بين الشفتين وذكر الألف التي هي الهمزة، ولم يذكر الألف في الحقيقة، وأظن الفراء أخذ ما ذكره في الواو والياء، والفاء من صاحب كتاب العين جعل الألف والواو والياء في الهواء، ولم يكن لها حيز تنسب إليه. وجعل أيضا صاحب كتاب العين الفاء والباء والميم حيزا واحدا وسماهن الحروف الشفوية. واختار المفصل بن سلمة في الواو والياء قول الفراء. واحتج له بأن أحدهما يدغم في الآخر وينقلب إليه بالإدغام نحو لويته ليا وطويته طيا، وأما القلب فنحو موقن وموسر، والأصل ميقن وميسر؛ لأنه من اليقين واليسار.

والذي قاله غلط؛ لأن الحروف قد تتآخى باتفاقات بينها على غير جهة كونها في حيز واحد وغير التجاوز في المخرج لاشتراكهما في الغنة، وقد تقلب الهمزة واوا وياء وليست من مخرجهما كقولك في مؤمن وجؤنة وذئب وبئر مومن وبير وقد كفانا امتحان ذلك؛ فإنه كالمشاهد لأنك لو بدأت بحرف مفتوح ثم وصلت به واوا أو ياء أو ألفا، ثم وقفت تبين لك اختلاف مخارجها نحو قولك: لولا لا وهذا لا يحتاج إلى إقامة البراهين عليه. وأما ما ذكره صاحب كتاب العين في المخارج فذكرت جملته ليوقف عليه وكرهت شرحه، والكلام عليه؛ لأن القصد في هذا الكتاب تفسير كلام سيبويه. قال سيبويه: فأما المجهورة فالهمزة والألف والعين والغين والقاف والجيم والضاد واللام والنون والراء والطاء والدال والزاي والظاء والذال والباء والميم والواو؛ فذلك تسعة عشر حرفا. فأما المهموسة فالهاء والحاء والخاء والكاف والسين والصاد والتاء والثاء والفاء فذلك عشرة أحرف. فالمجهورة حرف أشبع الاعتماد في موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه، ويجري الصوت فهذه حال المجهورة في الحلق والفم؛ إلا أن النون والميم قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنة، والدليل على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما لرأيت ذلك قد أخل بهما. وأما المهموس فحرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفس؛ فأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت ورددت الحرف مع جري النفس ولو أردت ذلك في المجهور لم تقدر عليه. فإذا أردت اعتبار الحرف فأنت ترفع صوتك إن شئت بحروف المد وبما فيها منها، وإن شئت أخفيت. قال أبو سعيد- رحمه الله- سمى سيبويه هذه الحروف مجهورة لما فيها من إشباع الاعتماد المانع من جري النفس معه عند الترديد لأن قوة الصوت باقية أخذه سيبويه من الجهر وسمي الحروف الأخر مهموسة، لأن الهمس الصوت الخفي فلضعف الاعتماد فيها وجري النفس مع ترديد الحرف تضعف. وقد جعلت لحروف الهمس كلمتين وهما ستشحثك خصفه يجمعانها في الأصل ليسهل حفظهما لأن الناظر في النحو ليس يكثر الاعتياد لها.

وإنما الحاجة إلى ذكرها بسبب الإدغام، وهو آخر النحو، وإذا حفظت المهموسة فالباقي من الحروف مجهورة. وقوله: إذا أردت اعتبار الحرف فإنك ترفع صوتك إن شئت بحروف المد، وبما فيها منها، وإن شئت أخفيت. قال أبو سعيد: اعلم أن ترديد الحرف الذي يعرف به المجهور من المهموس لا يمكن إلا بتحريكه؛ لأن الساكن لا يمكن ترديده، ومعنى كلامه أن ترديد الحرف على الوصف الذي ذكر يعرف به المجهور من المهموس سواء رفعت صوتك أو أخفيت وحروف المد هي الألف والواو والياء وما فيها منها يعني الحركات. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله فيها لحروف المد، ويكون معنى فيها معها كأنه قال: وما معها من الحركات المأخوذة منها. ومثال ذلك أنا نعتبر القاف فندخل عليها ألفا فنقول قافا قا أو واوا فنقول قوقو قو أو ياء فنقول في في في فنرفع صوتنا بالألف التي بعد القاف وبفتحة القاف أو بالواو والضمة، أو بالياء والكسرة ويحتمل أن يكون الضمير في قوله فيها للحروف المهموسة والمجهورة فيكون الترديد مرة بزيادة حرف المد على الحرف المردد، وزيادة حركة ومرة بزيادة حركة فقط، كأنا قلنا ق ق ق أو قلنا ق ق ق أو قلنا ق ق ق. قال سيبويه: ومن الحروف الشديد وهو الذي يمنع الصوت أن يجري فيه وهو الهمزة والقاف والكاف والجيم والطاء، والدال والتاء والباء وذلك أنك لو قلت الحج ثم مددت صوتك لم يجر ذلك. وقد قيدتها للحفظ بقولي أجدك قبطت، قال: ومنها الرخوة وهي الحاء والهاء والغين والخاء والشين والضاد والصاد والزاي والسين، والظاء، والذال والثاء والفاء. قال أبو سعيد- رحمه الله-: الرخوة ضد الشديدة، والفرق بينهما أن الحرف الشديد إذا وقفت عليه انحصر الصوت، والرخو إذا وقفت عليه لم ينحصر الصوت تقول اق فتحد القاف منحصر أو تقول اش أو اخ فتجد جاريا. ثم ذكر سيبويه ثمانية أحرف جعل بعضها بين الشديدة والرخوة، وجعل بعضها شديدا، وفيه شبيه الرخو، وأنا أحكي لفظه في كل حرف منها. وقد قيدتها بقولي: لم يروعنا، وإنما جعلها كذلك؛ لأن الحرف الشديد هو الذي ينحصر الصوت في موضعه عند الوقف عليه، ولا ينحصر على ما ذكرناه وهذه الأحرف الثمانية لا يجري الصوت في مواضعها عند الوقف، ولكن يعرض لها إعراض توجب

خروج الصوت باتصاله بغير مواضعها وانسلاله على غير الشرط في الحرف الرخو. وقد ابتدأ سيبويه في ذكر هذه الحروف فقال: فأما العين فبين الرخو والشديدة تصل إلى الترديد فيها لشببها الحاء؛ كأن صوتها ينسل عند الوقف إلى الحاء فليس لصوتها الانحصار التام، ولا جرى الرخو فجعله بينهما. قال: ومنها المنحرف، وهو حرف شديد جرى فيه الصوت الانحراف المشبان مع الصوت، ولم يعترض على الصوت كاعتراض الحروف الشددية، وهو اللام إن شئت مددت فيها الصوت، وليست كالرخوة لأن طرف لا يتجافى عن موضعه، وليس يخرج الصوت من موضع اللام، ولكنه من ناحيتي مستدق اللسان فوثق ذلك وأنت إذا تأملت الذي قاله سيبويه وجدته كما قال، ولو سددت جانبي موضع اللام لانحصر الصوت ولم يجز ألبتة. قال سيبويه: ومنها حرف شديد يجري معه الصوت؛ لأن ذلك الصوت غنة من الأنف وإنما تجري من أنفك واللسان لازم لموضع الحرف لأنك لو أمسكت بأنفك لم يجر معه الصوت، وهو النون والميم والذي قاله بين إذا تأملته، وكذلك الراء في ابتداء النطق به ينحصر الصوت في مكانه ولا يجري فإذا كررته انحرف إلى اللام فتجافي لجري الصوت. قال: ومنها اللينة وهي الباء والواو، ولأن مخرجهما يتسع لهواء الصوت أشد من اتساع غيرهما كقولك وأي والواو وإن شئت أجريت الصوت ومددت ومنها الهاوي وهو حرف لين اتسع لهواء الصوت مخرجه استد من اتساع مخرج الياء والواو لأنك قد تضم شفتيك في الواو وترفع في الياء لسانك قبل الحنك وهي الألف وهذه الثلاثة أخفى الحروف لاتساع مخارجهن وأخفاهن وأوسعن مخرجا الألف. ونسخة أبي بكر مبرمان ثم الياء والواو، وقال أبو سعيد- رحمه الله-: هذه الثلاثة الأحرف وهي الواو والياء والألف لاتساع مخارجها، وأن الحركات منها ولا يمد في الغناء وسائر الألحان حرف سواهن كل واحدة منهن لها صوت في غير موضع مخرجها من الفم فصارت مشبهة للرخوة بالصوت الذي يجري عند الوقف عليها وهو تشبه الشديد للزومها مواضعها وليس الصوت فيها مثله في الحروف الرخوة؛ لأن الرخوة إنما صوتها الجاري عند الوقف من موضعها. قال أبو الحسن الأخفش: سألت سيبويه عن الفصل بين المهموس والمجهور؛ فقال المهموس إذا خففته ثم كررته أمكنك ذلك فيه وأما المجهور فلا يمكنك ذلك فيه ثم كرر

باب الإدغام في الحرفين اللذين تضع لسانك بهما موضعا لا يزول عنه

سيبويه التاء بلسانه، وأخفى فقال: ألا ترى كيف يمكن تكرار الطاء والدال وهما من مخرج التاء فلم يمكن وأحسبه ذكر ذلك عن الخليل قال سيبويه، وإنما فرق بين المجهور والمهموس أنك لا تصل إلى تبيين المجهور ولا أن يدخله الصوت الذي يخرج من الصدر فالمجهور كلها هكذا يخرج صوتهن من الصدر، ويجري في الحلق غير أن الجيم والنون تخرج أصواتهما من الصدر وتجري في الصدر والخيشوم فيصير ما جرى في الخيشوم غنة يخالط ما جرى في الحلق، والدليل على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك ثم تكلمت بهما رأيت ذلك قد أخل بهما. وأما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها، وذلك مما يزجي الصوت ولم يعتمد عليه فيها كاعتمادهم في المهموز فأخرج الصوت من الفم ضعيفا والدليل على ذلك أنك إذا أخفيت همست بهذه الحروف ولا تصل إلى ذلك في المجهور؛ فإذا قلت شخص فإن الذي أزجى هذه الحروف صوت الفم، ولكنك تتبع صوت الصدر هذه الحروف بعد ما يزجها صوت الفم ليبلغ ويفهم بالصوت فالصوت الذي من الصدر هاهنا نظير ذلك الصوت الذي ترفعه بعد ما يزجي صوت الصدر ألا ترى أنك ت قول قام فإن شئت أخفيت وإن شئت رفعت صوتك؛ فإذا رفعت صوتك فقد أحدثت صوتا آخر. قال أبو إسحاق: معنى جهرت أعلنت وأظهرت وكشفت ومعنى همست أخفيت فليس في الطاقة حرف يمتنع من أن يجهر به، وفي الحروف ما لا ينطق به إلا مجهورا وهي التسعة عشر حرفا فمتى رمت أن تنطق بشيء منها لم يتهيأ لك أن تأتي به خفيا فرم ذلك في العين والقاف والطاء والداء؛ فإنه يمتنع ولا يسمع إلا مجهورا، ومنها ما يتهيأ لك أن تنطق به ومسمع عنك خفيا، وهي الأحرف العشرة فرم ذلك في التاء؛ فإنك تجده وذلك قولك ت ت ت فهذه تسمع منك خفية وإن شئت جهرت بها وأخواتها أيضا يجرين مجراها في أنه يتهيأ أن يسمعن خفيات وهن مع هذا يختلفن لما فيهن من الرخاوة والشدة والتاء أثبتهن في الهمس. باب الإدغام في الحرفين اللذين تضع لسانك بهما موضعا لا يزول عنه وقد بينا أمرهما إذا كانا في كلمة لا يفترقان، وإنما بينتهما في الانفصال؛ فأحسن ما يكون الإدغام في الحرفين المتحركين اللذين هما سواء إذا كانا منفصلين أن تتوالى خمسة أحرف تحرك بهما فصاعدا. ألا ترى أن بنات الخمسة وما كان عدته خمسة لا تتوالى حروفها متحركة استثقالا

للحركات مع هذه العدة فلا بد من ساكن، وقد تتوالى الأربعة متحركة في مثل علبط ولا يكون ذلك في غير المحذوف. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن سيبويه ذكر فيما مضى من الكتاب إدغام الحرف في نظيره إذا كانا من كلمة واحدة نحو مد يمد ورد يرد وأحمر يحمر فأصله ردد يردد واحمرر يحمرر وإنما يذكر في هذا الموضع إدغام الحرفين من جنس واحد في كلمتين، أما إدغام الحرفين من جنس واحد في كلمة واحدة فهو واجب لا يجوز إظهاره إلا في ضرورة الشاعر كقولك: ردد يردد وضنن يضنن واحمرر يحمرر. وقد أنشد سيبويه قول قعنب ابن أم صاحب: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي … أني أجود لأقوام وإن ضنوا وأما إدغام الحرف في نظيره من كلمتين فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الأول ساكنا والثاني متحركا وليسا من حروف المد واللين فإن الحروف المد في ذلك حكما يفرد ذكره في كلمة أو كلمتين، والضرب الآخر أن يكونا متحركين فإن كان الأول ساكنا فالإدغام واجب ضرورة كقولك لم يرح حاتم ولم يقل لبر شيئا، وقد دار فيها وإن كانا في كلمتين متحركين؛ فالإدغام غير واجب في الكلام ولا في الشعر، وأنت مخير فيه إن شئت أدغمت وإن شئت لم تدغم. فابتدأ سيبويه فقال: فأحسن ما يكون الإدغام في الحرفين المتحركين اللذين هما سواء إذا كانا منفصلين أن تتوالى خمسة أحرف متحركة بهما فصاعدا وتوالي خمسة أحرف قولك: جعل لك وذهب بمالك وسرق قميصك؛ فإن شئت أدغمت اللام من جعل في اللام من لك والباء من ذهب في الباء التي من بمالك والقاف من سرق في قاف قميصك فاستحسن سيبويه في مثل ذلك الإدغام لتوالي خمسة أحرف متحركة. ثم قال: ألا ترى أن بنات الخمسة وما كان عدته خمسة لا تتوالى حروفها متحركة استثقالا للحركات مع هذه العدة يريد أنه لا يوجد في الكلام كلمة أصلها خمسة أحرف تتوالى حروفها متحركة ولا كلمة على خمسة أحرف، وفيها زائد وزائدان توجد حروفها متحركة كلها فعلم بعدم ذلك في الكلام أن توالي خمس متحركات أهل من أن يكون فيها ساكن؛ فلذلك كان الإدغام حسنا، وعلى قياس ما قال: لو توالت ست متحركات، وأكثر فالإدغام أحسن كقولك برع عمر وذهب بابك. قال: وقد تتوالى الأربعة متحركة في مثل علبط، ولا يكون ذلك في غير المحذوف

يريد أن أصل علبط علابط، وأن أربع متحركات متواليات ليست بأصل ليقوى بذلك حسن الإدغام فيما توالت فيه خمس متحركات، ويدلك على حسن الإدغام أنه لا يتوالى في تأليف الشعر خمسة أحرف متحركة، وذلك نحو فعل لك وهذا بين لأن أكثر ما يتوالى في الشعر أربع متحركات وهي فعلتن ويقال لها في ألقاب العروض المخبول. وذلك معروف في العروض. قال: والبيان في جميع هذا عربي جيد حجازي، ولم يكن هذا بمنزلة مر واحمرّ ونحو ذلك لأن الحرف المنفصل لا يلزمه أن يكون بعده الذي هو مثله يريد أن البيان فيما كان من كلمتين جيد حجازي. وقد ذكرناه ولم يكن بمنزلة مرّ واحمرّ في لزوم الإدغام والفرق بين ما كان من كلمتين وكلمة أن الكلمة الواحدة لا يوقف فيها على الحرف الأول من الحرفين المثلين ولا يفارق أحدهما الآخر في وقف ولا وصل فإذا كانا من كلمتين فيجوز أن يوقف على أحدهما، ثم يبتدئ الآخر، ولا يلزم الحرف الأول أن يأتي بعده مثفله ألا ترى أنك إذا قلت: جعل لك خيرا جاز فيه جعل خيرا لك. وإذا قلت: ذهب بثيابه اليوم جاز ذهب اليوم بثيابه فليس يلزم الحرف الأول أن يليه مثله قال: فإن كان قبل الحرف المتحرك الذي وقع بعده حرف مثله حرف متحرك ليس إلا وكان بعد الذي هو مثله حرف ساكن حسن الإدغام، وذلك مثل يددا أود يعني قبل الحرف المدغم متحرك وبعد الحرف المدغم فيه ساكن ومثله بيدد أود لأنه قصد واعتدال وقوع المتحرك بين ساكنين. قال سيبويه: وإذا التقى الحرفان المثلان وقبل الحرف الأول حرف لين؛ فإن الإدغام حسن لأن حرف المد بمنزلة متحرك في الإدغام ألا تراهم في غير الانفصال قالوا: راد ورود وذلك قولك إنّ المالك لك وهم يظلموني وهما يظلماني وأنت تظلميني والبيان هاهنا يزداد حسنا لسكون ما قبله. قال أبو سعيد: اعلم أن اجتماع الساكنين في الوقف مستقيم كقولك: زيد وعمرو، وبكر إذا وقفت عليه، وفي الدرج غير ممكن، وإذا كان قبل الأول من الساكنين حرف من حروف المد واللين، وكان الثاني مدغما في مثله جاز كقولك دابة وضال، وما أشبهه، وذلك أن زمان الحرف الممدود أطول من زمان غيره. كما أن زمان الحرف المتحرك أطول من زمان الحرف الساكن؛ ف صار الممدود بزيادته وطوله كالمتحرك ومما يدل على ذلك أنا لو أردنا أن نطول الحرف إلى أي زمان

شئنا لم يمكن ذلك إلا في حروف المد واللين، وهي الألف والواو والياء الساكنتان والمدغم في مثله ينحي بالحرفين نحو الحرف الواحد؛ فاجتمع في ذلك مد الحرف الذي كالحركة وكون الحرفين كالحرف الواحد وفي الثاني منهما حركة فحسن لذلك اجتماع الساكنين وجعل يظلموني ويظلماني وتظلميني بمنزلة المنفصل لأنا وإن كنا لا نقف على النون الأولى دون الثانية فإن الأولى قد كان ينطق بها وليس معها نون أخرى. وقد يدخل عليها النصب والجزم فيقال: لن تظلموني ولن تظلماني، ولن تظلميني فتسقط النون الأولى فهو بمنزلة المنفصل. قال: ومما يدلك على أن حرف المد بمنزلة متحرك أنهم إذا حذفوا في بعض القوافي لم يجز أن يكون مكان المحذوف الآخر في لين ومد كأنه يعوض ذلك لأنه حرف ممطول. قال أبو سعيد- رحمه الله-: إذا حذف من الجزء الأخير من البيت حرف متحرك أو وزنه متحرك لزم الردف عوضا من المحذوف ولم يحسن أن لا يكون مردفا والردف ألف أو وواو أو ياء قبل حرف الروي وذلك في الضرب الثالث من الطويل كقول الشاعر: فإن تسلوني بالنساء فإنني … بصير بادواء النساء طبيب لو قال شاعر: بصير بادواء النساء وطب لم يحسن وإن كان وزنه وزن طبيب وذلك أن طبيب فعلون، وهو الجزء الثامن من الضرب الثالث وأصله مفاعيلن، فحذفت اللام والنون فبقي مفاعي فنقل إلى فعلون ولزمه الردف عوضا وهذا يتسقصي في العروض، ولا يتسع لاستقصائه هذا الموضع. قال: وإذا كان قبل الحرف المتحرك الذي بعده مثله حرف ساكن لم يجز أن يسكن ولكن إن شئت أخفيت وكان بزنة المتحرك من قبل أن التضعيف لا يلزم في المنفصل كما يلزم في مدق ونحوه مما التضعيف فيه غير منفصل يريد أن الحرفين المثلين من كلمتين إذا كان قبل الأول منهما حرف ساكن من غير حروف المد لم يدغم؛ لأنه لو أدغم كان إدغامه على أحد وجهين أما أن يدغم ويترك الحرف الساكن الذي قبله على سكون فيجتمع ساكنان. وأما أن تلقي حركة الحرف الأول المدغم على الساكن الذي قبله فيغير بناؤه كقولنا في شهر رمضان: شهرمضان، وفي كنز زيد كنزيد، ويجوز مثل هذا في كلمة واحدة نحو: مدق ومرد والأصل فيه مدقق ومردد وألقوا حركة القاف على الدال.

وأدغموا. وكذلك ألقوا حركة الدال الأولى من مردد على الراء، وإنما حسن في كلمة واحدة ولم يجز في كلمتين؛ لأن الإدغام في كلمتين غير واجب وإن كان الحرف الذي قبل المدغم متحركا فلذلك لم يغير بنية الكلمة الأولى، والإدغام في كلمة واحدة، وأجب كما يجب الإعلال. وقال في تمثيل ما ذكره وذلك قولك: ابن نوح، واسم موسى، فلو أنهم كانوا يحركون لحذفوا الألف لأنهم قد استغنوا عنه؛ كما قالوا: قتلوا وخطف، فلم يقو هذا على تغيير البناء، كما لم يقو على لا يجوز البيان فيما ذكرت لك. قال أبو سعيد- رحمه الله-: يريد لو أدغمنا نون ابن نوح؛ فألقينا حركته على الباء لوجب أن نقول بنوح وأسقطنا ألف الوصل لتحرك الباء كما قلنا في أسل لما خففنا الهمزة وألقينا حركتها على السين، وكذلك يلزم في اسم موسى أن نقول سموسى وذلك غير جائز لانفصاله كما قد ذكرناه. وليس ذلك بمنزلة قتلوا وخطف؛ لأن قتلوا وخطف من كلمة واحدة وأصله اقتتلوا؛ فأدغم التاء في التاء، وأما القاف فيجوز فتحها وكسرها فمن فتحها ألقى فتحة التاء عليها، ومن كسرها فلاجتماع الساكنين، وكذلك تفتح الخاء في خطف وتكسر فإن قال قائل: فقد أصلتم أن المثلين إذا كانا في كلمة وجب الإدغام نحو: رد يرد وفي كلمتين أنت مخير في الإدغام فلم أجزتم في اقتتلوا الإدغام والإظهار والتاءان في كلمة واحدة فالجواب أن التاءين في اقتتلوا ونحوها لما وقعنا وسطا قويتا لأن الأوساط أقوى من الأطراف. وقد مضى ذلك في التصريف؛ فلما كان الإعلال في الأطراف لازم كان الإدغام فيها ألزم، ولما كانت الأوساط أبعد من الإعلال كان الإدغام فيها أبعد؛ فحسن إظهار الحرفين في الوسط فصار الوسط كالمنفصلين. وأما قوله: فلم يقو هذا على تغيير البناء لم يقو على أن لا يجوز البيان فيما ذكرت لك كذا؛ فإن معناه أن المثلين إذا كانا متحركين من كلمتين وكان الحرف الذي قبل الأول منهما ساكنا لم يقو الإدغام على تحريك الساكن تحرك المثل الأول، وتغيير الكلمة كما لم يقو على أن لا يجوز إظهارهما غير مدغمتين يريد أن ابن نوح لا يجري مجرى مدقق؛ فنقول: بنوح كما قلت مدق كما أن جعل لك لا يجري مجرى احمرر فيلزم فيه جعل لك كما يلزم أحمر ذلك لما قد تقدم من الفرق بين المثلين إذا كانا من كلمتين وبينهما إذا كانا

من كلمة. قال: ومما يدلك على أنه يخفى ويكون بمنزلة المتحرك قوله يعني غيلان بن حريث: إني بما قد كلفتني عشيرتي … من الذب عن عرضها لحقيق الشاهد فيه إخفاء الياء مع الميم في بما ولو أدغم انكسر البيت لأن الياء في أني ساكنة وتسكن الباء في بما فيجتمع ساكنان. وقال أيضا: وامتاح مني حلبات الهاجم … شاو مدل سابق اللهامم الشاهد: إخفاء الميم الأولى، ولو أدغم؛ فقال: اللهام لانكسر البيت وقال غيلان: وغير سفع مثل يحامم أخفى الميم الأولى في يحامم، حكى سيبويه في ذلك كله الإخفاء. قال: ولو قال: إني بما قد كلفتني فأدغم الباء في الميم لجاز لأن قبله حرف مد يعني يجوز ذلك في الكلام. وأما الشعر فلا يجوز ذلك فيه لاجتماع الساكنين ولا يجوز في اللهامم الإسكان في الكلام لا لهمم ملحق بربرج فلا يجوز فيه غير الإظهار، وإلا ذهب الإلحاق، ومثله قرادد وهمم لا يدغم فيكره أن يجيء جمعه على جمع ما واحد مدغم يريد أنه كره أن يجيء جمع قردد، ولهمم مدغما فيكون كجمع معد ومدق لأنك تقول: معاد ومداق؛ لأن معدا ومدقا غير ملحقتين وليس جواز الإدغام في أني بما كإدغام قردد وقرادد لأن قرددا ملحق. قال: ولكنك إن شئت قلت قرادد فأخفيت كما تقول: متعفف يعني أن متعففا وبابه متفعل ومتفعل لا يقع فيه إدغام بغير لفظ بنيته. قال: فأما قراءة بعضهم: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا فليس على لغة من قال: نعم فأسكن العين، ولكنه على لغة من قال: نعم فحرك العين، وهي لغة هذيل، وكسر النون كما قالوا: لعب يريد أن الذي يقول: نعم لا يدغم ميمها في مم كما لم يدغم اسم موسى وابن نوح لأن العين قبل الميم ساكنة وإنما تدغم على لغة من قال: نعم، وفيما كان على فعل، والثاني منه حرف من حروف الحلق أربع لغات فعل نحو نعم: ولعب وفعل نحو: نعم ولعب وفعل نحو: نعم ولعب قال.

وأما قوله عز وجل: فَلا تَتَناجَوْا فإن شئت أدغمت التاء الأولى؛ لأن قبلها حرف مد، وهو الألف التي في فلا. وزعموا أن أهل مكة لا يبينون التاءين. قال أبو سعيد- رحمه الله-: يريد أنهم يقولون ولا تناجوا وأنا أذكر ذلك مستقصيا في باب أفردته لإدغام القراء إن شاء الله. قال: وتقول: هذا ثوب بكر فالبيان في هذا حسن منه في الألف؛ لأن حركة ما قبل واو ثوب ليست منه فتكون بمنزلة الألف، وكذلك جيب بكر ألا ترى أنك تقول: اخشووا قدا وأخشى ياسرا فتجريه مجرى غير الواو والياء. قال أبو سعيد: اعلم أن الياء والواو إذا كانتا ساكنتين وانفتح ما قبلهما ففيهما مد دون المد الذي تكون فيهما إذا انضم ما قبل الواو، وانكسر ما قبل الياء وذلك أن الألف التي هي أوسع حروف المد واللين مخرجا وأبلغهما مدى لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا والفتحة من الألف؛ فإذا كان قبل الواو والساكنة ضمة وقبل الياء كسرة فهما على منهاج الألف فلذلك يستحسن الإدغام في قولك: هذا كوب بكر، وجيب بكر، كما يستحسن المال لك، ولم يكن ثوب بكر وجيب بكر كذلك. واحتج سيبويه بأن المفتوح ما قبله من الواوات والياءات ليس كالمضموم ما قبله من الواوات والمكسور ما قبله من الياءات بأنك تقول: اخشووا وقد فتدغم واخشوا في واو وقد وكذلك تدغم ياء أخشى ياسرا وذلك لنقصان المد من أجل الفتحة. قال الله تعالى: تَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ بإدغام الواو من تولوا في واو واستغنى الله المفتحة. وقال الله تعالى: قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فلم تدغم الواو من قالوا في واو اقبلوا وعلى هذا تقول: وأكرمي ياسرا؛ فلا تدغم. قال سيبويه: ولا يجوز في القوافي المحذوفة وذلك أن كل شعر حذفت من أتم بنائه حرفا متحركا أو وزنه حرف متحرك؛ فلابد من حرف الردف وأنشد: وما كل ذي لبّ بمؤتيك نصحه … وما كل موت نصحه بلبيب لم يجز سيبويه في الضرب الثالث من الطويل، وما جرى مجراه مما يلزمه الردف على ظاهر هذا الكلام أن يكون ردفه واوا مفتوحا ما قبلها، أو ياء مفتوحا ما قبلها. وقد ذكرنا لزوم الردف لهذا النحو فيما مضى ثم قال: وإن شئت أدغمت؛ لأن

الواو التي في ثوب والياء التي في جيب مدا ولينا وإن لم يبلغا الألف كما قالوا ذلك في غير المنفصل نحو أصيم فياء التحقير لا تحرك لأنها نظيرة الألف في مفاعل ومفاعيل؛ لأن التحقير عليها يجري إذا جاوز الثلاثة فيما كانوا يصلون إلى إسكان حرفين في الوقف من سواهما احتمل هذا في الكلام لما فيها من المد. قال أبو سعيد: يعني أن ثوب بكر وجيب بكر إن لم يستحين فيه الإدغام لما ذكرنا فإن إدغامه جائز لأن مدا والمدات تتفاضل فأتمها مدا الألف ثم الواو والساكنة المضموم ما قبلها والياء الساكنة المكسور ما قبلها، ثم الواو والياء الساكنتان المفتوح ما قبلها واستدل على المد الذي فيه بتصغير أصم على اصيم والياء أصيم ساكنة لأنها في موضع ألف الجمع في أصام ومداق ودواب ولو صغرت مدقا ودابة لقلب مديق ودويبة. وتجري أحكام المصغر في ذوات الأربعة كأحكام الجمع غير أن مديقا وأصيم واجبان وثوب بكر وجيب بكر غير مستحسن؛ لأن هذا منفصل ولست بمضطر إلى إدغامه وأصيم كلمة واحدة، وصارت الياء فيه نظيرة الألف في أصام ومداق ووجوب أصيم ومديق طريق إلى جواز إدغام ثوب بكر وجيب بكر، وإن لم يكن مستحسنا. قال: وتقول هذا دلو وقد وظبي ياسر فتجري الواوين والياءين هاهنا مجرى الميمين في قولك اسم موسى يعني، ولا تدغم دلو وقد وظبي ياسر؛ لأنك إذا أدغمت بقيت اللام من دلو والياء من ظبي ساكنتين وبعدهما حرف ساكن وليسا من حروف المد واللين أو تلقي عليهما حركة ما بعدهما فتغير الياء، وقد ذكرنا فساد ذلك. وقال سيبويه: وإذا قلت مررت بولي يزيد وعدو وليد فإن شئت أخفيت وإن شئت بنيت ولا تدغم؛ لأنك حين أدغمت الواو في عدو والياء في ولي فرفعت لسانك رفعة واحدة ذهب المد وصارتا بمنزلة ما يدغم من غير المعتل؛ فصارت الواو الأولى في عدو بمنزلة اللام في دلو والياء الأولى في ولي بمنزلة الياء في ظبي. والدليل على ذلك أنه يجوز في القوافي ليا مع ظبيا ودوا مع غزوا. قال أبو سعيد: يريد أنه لا تدغم الثانية المتحركة من ولي في ياء يزيد لأنا إذا أدغمناها سكناها بطل إدغام الياء الأولى الساكنة من ولي فيها. وإذا لم ندغمها فظهرت وهي ياء ساكنة قبلها كسرة صار فيها مد وقد كان المد بطل بإدغام، وقد تقدم أنا لا ندغم في المنفصلين إذا كان الإدغام يوجب تغيير بنية الكلمة، وكذلك القول في عدو وليد. وأما قوله يجوز في القوافي ليا مع ظبيا فلأن المد قد ذهب من ليا فصارت الياء

الأولى لما ذهب المد فيها بمنزلة الياء في ظبيا. وعندي أن قائلا: لو قال أن ذلك لا يجوز لأن فيه مدا أما لم يكن بعيدا، والدليل على ذلك أنا رأينا القوافي المبنية على الياء المشددة لا يأتي فيها غير الياء المشددة كقول العجاج: بكيت والمختزن البكي … وإنما أتي الصبي الصبي إلى آخر القصيدة قد لزم فيها الياء المشددة، وقال أبو الأسود الدؤلي: يقولون الأرذلون بنو قشير … طوال الدهر لا تنسى عليّا فقلت لهم، وكيف يكون تركي … من الأعمال ما يقضي عليّا أحب محمدا حبا شديدا … وعباسا وحمزة والوصيّا بنو عم النبي وأقربوه … أحب الناس كلهم إليّا فإن يك حبهم رشدا أصبه … ولست بمخطئ إن كان غيّا إلى آخر القصيدة. وقد ذكر سيبويه في فصل بعد هذا أن الياء المدغمة فيها لين وذلك قوله في الجيم لا تدغم في الياء وفي الميم لا تدغم في الواو؛ لأنك تدخل اللين فيما لا يكون فيه لين نحو: اخرج ياسرا لم يجز ادغام الجيم من إخراج في الياء من ياسر فيقال: أخر ياسرا لأنك تدخل الجيم لينا إذا أدغمته في ياسرا وإنما يصير الجيم الياء المدغمة؛ فعلم أن الياء، وإن أدغمت فيه لين. قال سيبويه: وإذا كانت الواو قبلها ضمة والياء قبلها كسرة؛ فإنها لا تدغم إذا كان بعدها مثلها سواء، وذلك قولك: ظلموا واقد والظمي ياسرا ويعلو واقد ويقضي ياسر. وإنما تركوا المد على حاله في الانفصال كما قالوا قوول حيث لم تلزم الواو واردوا أن يكون على مثال فأول؛ فكذلك هذه لما لم تكن الواو لازمة لها أرادوا أن يكون ظلموا على زنة ظلما واقد وقضى ياسرا ولم تقو هذه الواو عليها كما لم يقو المنفصلان على تحريم الساكن في قولك اسم موسى. وإذا قلت: وأنت تأمر أتخشى ياسرا واخشوا واقد أدغمت لأنهما ليسا في المد كالألف، وإنما هو كقولك أحمد داود واذهب بناء فهذا لا تصل فيه إلا إلى الإدغام. قال أبو سعيد- رحمه الله- الواو إذا انضم ما قبلها وسكنت فقد تكامل مدها

باجتماع الضمة والواو وكذلك الياء إذا سكنت وانكسر ما قبلها فقد تكامل مدها باجتماع الكسرة والياء كاجتماع الفتحة التي قبل الألف والألف فقد حصلت المدة في الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها في كلمة. فإذا لقيها مثلها من كلمة أخرى لم تدغم لئلا يبطل المد الذي قد لزم فيما لا يلزم فيه الإدغام وللمد مزية وقوة لا يجوز إبطالها مما قد وجبت فيه، وإنما وجب المد في الواو الأولى من الكلمة الأولى لأنه يجوز السكوت عليها، ويجوز أن لا يلقاها كلمة أولها واو. وكذلك الياء المكسورة ما قبلها وهي ساكنة إذا كان آخر الكلمة قد وجب فيه المد فلا يبطل بالياء التي تلقاها من كلمة أخرى في اظلمي ياسرا والعلة فيها وفي الواو واحدة ولو كانت الواوان أو الياءان على السبيل الذي ذكرناه في كلمة واحدة أدغمت إحداهما في الأخرى. أما الواو فقولك مغزو وزنه مفعول وعدو وزنه فعول، وأما الياءان فقولك: حمى وعصى ووزنهما فعيل وإنما وجب الإدغام في كلمة واحدة؛ لأن مدة الواو الأولى والياء الأولى لم تثبت في لفظ الكلمة فقط؛ فلم يكن إدغامها يزيل عنها شيئا قد وجب لها. ومعنى قوله: وإنما تركوا المد على حاله في الانفعال كما قالوا قوول حيث لم تلزم الواو، وأرادوا أن يكون على مثال قاول يريد أنهم تركوا المد على حاله في ظلموا واقدا واظلمي ياسرا في المنفصلين كما مدوا في قوول وإن كانت الواوان في كلمة لأن قوول من قاول وقد ثبت المد فيه قبل قوول فإذا قالوا قوول لم يبطلوا ذلك فحملوا قوول على بعض أحوال الكلمة وحملوا يقضي ياسرا على قضى ياسرا. لأن الياء في يقضي هي الألف في قضى ياسرا كما أن الواو الأولى في قوول هي الألف في قاول، وكذلك الواو في ظلموا تجري مجرى الألف في ظلما وواقعة موقعها وتالية لها في ترتيب الحروف الاثنين والجماعة. وقوله: ولم تقو هذه عليها كما لم يقو المنفصلان على تحريك الساكن في قولك اسم موسى يعني به أن الواو الثانية في قوول لم تقو على الأولى؛ فتدغم الأولى فيها للعلة التي ذكرنا. وإذا قلت: أخشى ياسرا واخشوا وقد أدغمت ذلك لنقصان المد من أجل مخالفة ما قبل الواو والياء لهما وإذا وقع بعد الساكن مثله من الحروف لم يمكن اللفظ به إلا مدغما فقولك: اخشى ياسرا واخشوا، وقد كقولك أحمد داود واذهب بنا إلا أن يكون بينهما مد على ما ذكرنا وسكتة.

وقد ذكرنا ذلك في قوله: تَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6]. قال سيبويه: وأما الهمزتان فليس فيهما إدغام كقولك: قرأ أبوك وأقرئ أباك؛ لأنهما لا يجوز تحقيقهما فتصير كأنك إنما أدغمت ما يجوز فيه البيان وكذلك قالت العرب وهو قول الخليل ويونس. وزعموا أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وناس معه وهي رديئة فقد يجوز فيه الإدغام في قول هؤلاء. قال أبو سعيد- رحمه الله- قد ذكرنا في تفسير باب الهمز ما يجب في التقاء الهمزتين من تلاشي أحدهما وتحقيقها ما يغني عن إعادته في هذا الموضع، ومعنى لينت أحداهما فقد خرجت عن جنس الهمز فلا يجوز إدغامها في الأخرى؛ لأنه لا يدغم الشيء فيما ليس من جنسه، وذكر عن قوم تحقيق الهمزتين وأنه يجوز الإدغام في قول هؤلاء وذلك أنه إذا حقق الهمزتين وجمع بينهما فقد صيرهما كحرفين يلتقيان دالين أو ميمين، وما أشبه ذلك. فإذا اجتمعت الهمزتان وكانت الأولى ساكنة وحققهما محقق فبالضرورة تدغم الأولى في الثانية، وتوهم بعض القراء أن سيبويه أنكر ادغام الهمزة وليس الأمر على ما توهمه، وإنما أنكره على مذهب من خفف الهمزة، وهو المختار عندنا. وقد بين ذلك بقوله؛ فقد يجوز الإدغام في قول هؤلاء قال سيبويه: ومما أجرى مجرى المنفصلين قولهم: اقتتلوا ويقتتلون وأظهروا التاءين ولم يجعلوهما بمنزلة أحمر وأصله أحمرر. قال: لأن التضعيف لازم لهذه الزيادة يعني أن تاء الفعل يزاد على لام الفعل مثلها في اللفظ كقولنا: احمر وابيض واسود فصارت بمنزلة العين واللام اللتين من موضع واحد نحو يرد وأشباهه. ويقتتل يفتعل ولا يلزم أن يكون بعد تاء يفتعل مثلها ألا تراهم قالوا: يستمع ويرتحل ويغتسل وغير ذلك من حروف المعجم فلما كان الحرف الذي بعد تاء الأفعال غير لازم تاء أشبه المنفصلين. وقد احتججنا له قبل هذا الموضع بغيرها. قال: وقد أدغم بعض العرب فأسكن لما كان الحرفان في كلمة واحدة، وذلك قولهم يقتل وقتلوا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أما الإدغام في قوله: يقتل وقتلوا؛ فأمره بيّن لأنه لا

يخلو من أن يكون حكمه حكم كلمة واحدة؛ فالإدغام في كلمة واحدة واجب نحو رد واحمر وحك كلمتين: فالإدغام في كلمتين جائز نحو: جعل لك ويد داود فأما لفظ الإدغام في ذلك في الفعل الماضي؛ فإنه يقال فيه قتل بفتح القاف، وقتل بكسرها فأما من قال: قتل بالفتح فإنه كان اقتتل فألقي فتحة التاء الأولى على القاف وانفتحت القاف فأسقط ألف الوصل وأدغمت التاء في التاء وأن من كسر فإنه لما سكن التاء اجتمع ساكنان التاء والقاف فكسرت لاجتماع الساكنين ثم أسقطت ألف الوصل لتحرك القاف، وأما المستقبل؛ فيقال: يقتل بفتح القاف ويقتل بفتح الياء وكسر القاف ويقتل بكسر الياء والقاف وذكر عن بعضهم وجه رابع وهو تسكين القاف مع الإدغام، ويجمع بين ساكنين، أما من قال يقتل بفتح الياء والقاف؛ فإنه ألقى فتحة الياء فإنه سكن التاء الأولى، وأدغم ولم يلحق فتحها على القاف واجتمع ساكنان القاف والتاء الأولى؛ فكسر القاف لاجتماع الساكنين وأن من كسر الياء مع كسر القاف فإنه اتبع الكسر كما قالوا: منخر وأصله منخر ومنتن، وأصله منتن. وأما من سكن القاف مع الإدغام فإن وجه بمستضعف لأنه يجمع بين الساكنين وليس الأول منهما من حروف المد واللين وأكثر الناس ينكر ذلك. قال سيبويه: وقد كسروا القاف في يقتل وقتل لأنهما ساكنان التقيا فشبه برد يا فتى يعني أن كسر دال رد يا فتى لاجتماع الساكنين. وأنكر الفراء كسر القاف لاجتماع الساكنين وزعم أن كسرها طلبا للكسر الذي في اقتتل وحملا عليه. وزعم أنه لو كسر لاجتماع الساكنين لجاز في يعفو ويرد يعض ويرد فرد بعض أصحابنا هذا عليه وفصلوا بين يقتل وبين يعض ويرد فقالوا: يقتل يفتعل وليس يلتبس به بناء آخر؛ فإذا قلنا يقتل فكسرنا لا يتوهم أنه غير يفتعل ومتى قلنا بعض ويرد توهم أنه يفعل؛ لأن في الكلام يفعل. قال سيبويه: " لا يكون في هذا وأشباهه إلقاء الحركة على ما قبلها من الساكن ". يعني لا يكون في باب يعض ويرد ويفر وما كان عينه ولامه من جنس واحد إلا تحويل الحركة على ما قبلها؛ لأن يعض ويرد ويفر أصله يعضض ويردد ويفرر. وإنما ألقيت على فاء الفعل حركة عينه ولا يكون فيه غير ألقاء حركة العين على الفاء، ولا يجوز كسره لاجتماع الساكنين، وذلك لما ذكرناه من وقوع اللبس. قال: وجاز في قاف يقتلون الفتح والكسر؛ لأنه يجوز في الكلام فيه الإظهار، والإخفاء

والإدغام، فكما جاز هذا فيه وتصرف دخله شيئان يعرضان في التقاء الساكنين يعني أن اقتتل وما أشبهه إنما جاز فيه وجه إلقاء حركة التاء الأولى على القاف وكسرها لاجتماع الساكنين حين تصرف بإظهار الحرفين وتبيينه والإخفاء وهو إظهار الحرفين مع اختلاس. وبالإدغام فيجوز هذه الوجوه عليها تصرفوا فيها بإلقاء الحركة والكسر لاجتماع الساكنين ولم يتصرفوا في باب يعض ويرد بالإظهار فلم يزيدوه على إلقاء الحركة. قال: وتحذف ألف الوصل حيث حركت القاف يعني في قتل وقتل كما حذفت في رد يريد أنك لا تقول: اقتل فيبقى ألف الوصل مع تحريك القاف كما لا تقول ارد فيبقى ألف الوصل مع تحريك الراء والأصل اردد فلما ألقيت حركة الدال على الراء: أذهبت ألف الوصل وكذلك حذفت الألف في قل وكان الأصل أقول فألقيت حركة الواو على القاف وحذفت ألف الوصل وحذفت الواو لاجتماع الساكنين الواو واللام. وقول سيبويه: لأنهما في كلمة واحدة لحقهما الإدغام يعني التاءين في اقتتل. قال: وتصديق ذلك قراءة الحسن «إلّا من خطّف الخطفة» يريد أن قراءة الحسن شاهد لجواز الإدغام. قال: " وحدثني الخليل بن أحمد وهارون القاري أن ناسا يقرؤون مُرْدِفِينَ يريدون مرتدفين، وهي قراءة لأهل مكة. وإنما ضموا الراء للضمة التي قبلها ". قال أبو سعيد- رحمه الله-: هذا الإتباع مثل اتباع الدال ضمة الراء في قولك: رد ولم يرد ومثله جريا فتى ولم يجر قال ومثل ذهاب الألف ذهابها في سل عين حركت السين يعني ذهاب الألف في قتل وقتل ورد وقل في الأمر مثل ذهاب الألف في مثل وذهاب الألف في سل لأنه كان أسل فلما خففت الهمزة ألقيت حركتها على السين فتحركت السين وذهبت ألف الوصل كذهاب الألف في قتل ودد وقل. قال سيبويه: " فإن قال قائل: فما بالهم قالوا الحمر فلم يحذفوا الألف حين حركوا اللام فلأن هذه الألف قد ضارعت الألف المقطوعة نحو ألف أحمر ألا ترى أنك إذا ابتدأت فتحت وإذا استفهمت ثبتّ؛ فلما كانت كذلك قويت كما قلت الجواد معبد وجاورت ". وتقول: فالله فلا تقوى في [] (¬1) الاستفهام وفي نسخة [] (¬2) تتقوى في مواضع ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل.

[] (¬1) الإدغام كحسنه في قولهم جعل [] (¬2) ولأنه مضارع حين كان الحرفان غير منفصلين نحو احمررت. قال أبو سعيد- رحمه الله- لما ذكر سيبويه سقوط ألف الوصل لتحرك ما بعدها في قتل ورد وقل في الأمر وسل إذا لينت الهمزة عارض نفسه بقولهم: ألحمر إذا خففوا الهمزة من قولهم الأحمر على أخذ وجهي تخفيف الهمزة فيه وذلك أن من العرب من يقول لحمر ويحذف ألف الوصل لتحرك اللام ومنهم من يقول ألحمر يحرك اللام ولا يسقط ألف الوصل ينوي أن تكون اللام على سكونها. وإن تحركت لأن الحركة للهمزة ومن ذلك قولهم: لم يقم القسم ولم يقم أبوك إذا ألقيت فتحة همزة أبوك على الميم تحرك الميم في يقم ولا ترد الواو الساقطة في يقوم لأن الحركة لا يعتد بها؛ لأنها حركة عارضة لاجتماع الساكنين ويسأل السائل فيقول لم جاز إثبات ألف الوصل في الحمر ولا يجوز في نسل؟ فيقال له: لأن السين في نية السكون وحركتها حركة الهمزة المحذوفة وقد فرق بينهما بثلاثة أشياء منها ما فرق به سيبويه بينهما وهو قوله: إن هذه الألف يعني ألف لام [] (¬3) مضارع بالألف المقطوعة يعني ألف أحمر بانفتاحها [] (¬4). في قولك آلرجل وآلذكرين حرم أم الانثيين. قال: فلما كانت كذلك قويت كما قلت الجوارحين جاورت أي ثباتها في الاستفهام وفتحها في الابتداء أوجبا لها قوة كما أن الجوار حين كان مصدر فعل لا يعتل وهو جاورت لم يعل. ولو كان مصدر فعل معتل لانقلبت الواو ياء كقولك قام قياما وحال يحول حيالا وأصله قواما وأحوالا؛ لأن قام وحال معتلان. وكذلك قويت هذه الألف لما كانت تثبت في الاستفهام دون سائر ألفات الوصل ثم قوي ذلك بقولهم أي ها الله. فأما قوله: " أفا الله فإنه يهمز بعد الفاء ألف الوصل عوضا من واو القسم، وأما أي ها الله فإن ألف ها تثبته ولا تحذف لاجتماع الساكنين كان الهمزة من الله باقية وإن حذفت في اللفظ، كما أن اللام من قولنا الحمر كأنها ساكنة وإن حركت بإلقاء ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل. (¬4) كشط بالأصل.

هذا باب الإدغام في الحروف المتقاربة التي هي من مخرج واحد والحروف المتقاربة مخارجها

حركة ألف أحمر عليها ". وقد مضى الكلام في أفاء الله وها الله في باب القسم مشروحا مستقصى، وكما يقوي ذلك ايضا مما لم يستشهد به سيبويه قولهم في النداء يا الله بقطع الألف وقد ذكر ذلك فيما تقدم، ومما يقوي هذه الألف أن الخليل جعل أن بمنزلة قد لان اختصاصها الاسم كاختصاص [] (¬1). أنها ألف قطع، وأن سقوطها لكثرة الاستعمال. وذكر أبو بكر مبرمان وجها ثانيا أظنه عن أبي إسحاق وهو أنه ليس كل فعل يلزمه ألف الوصل وكل لام معرفة يلزمها ذلك. قال أبو سعيد- رحمه الله- ووقع لي وجه ثالث وهو أن هذه السين قد تتحرك في تصاريف الكلمة كقولنا سال وهو سائل واللام لا تزول عن السكون بحال فحق الألف أن لا تفارقها للزوم السكون إذا كانت الألف إنما دخلت من أجل سكون ما بعدها والسكون لازم في الحكم. ووجه آخر أيضا أن هذه الألف تسقط في المستقبل إذا قلت يسل فلما كانت هذه الألف قبل السين عارضة غير لازمة لم تكن قوتها كقوة الألف مع اللام التي لا تفارقها. وقد حكى بعض النحويين أسل على نحو الحمر، ويفسد ما حكاه أنه ليس أحد يقول اقتلوا ولا يرد قال: وأما رد داود فبمنزلة اسم موسى يعني لو أدغمنا الدال الثانية من رد في دال داود لوجب إن تحرك الدال وتغير كما لو أدغمنا الميم لوجب تحريك [] (¬2) فساد ذلك. هذا باب الإدغام في الحروف المتقاربة التي هي من مخرج واحد والحروف المتقاربة مخارجها فإذا أدغمت فإن حالها حال الحرفين اللذين هما سواء في حسن الإدغام وفيما يزداد البيان فيه حسنا وفيما لا يجوز فيه الإخفاء وفي نسخة مبرمان الإخفاء واحدة وفيما يجوز فيه الإخفاء والإسكان والإظهار وفي الحروف التي هي حيز واحد وفي نسخته هي مخرج واحد وليست بأمثال سواء أحسن لأنها قد اختلفت وهي في المختلفة المخارج أحسن لأنها أشد تباعدا والإظهار كلما تباعدت المخارج ازداد حسنا ومن الحروف ما لا يدغم ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) ما بين المعقوفين كشط بالأصل.

حروف الحلق

في مقاربة ولا يدغم مقاربة فيه كما لا يدغم في مثله وذلك الحرف الهمزة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن الإدغام على ضربين: أحدهما: توجبه الضرورة والآخر يطلب به الخفة؛ فأما الذي توجبه الضرورة؛ فهو أن يلتقي حرفان من جنس واحد الأول منهما ساكن، والثاني متحرك من غير الهمز. وحروف المد واللين، فإن الهمزتين إذا التقتا وحروف المد واللين في التقائها أحكام قد ذكرنا [] (¬1) مفردة وبعضها يذكر فيما بعد إن شاء الله. فإن التقى حرفان الأول منهما ساكن، والثاني متحرك وأدرجت الكلام ولم تقف على الأول؛ فأحدهما مدغم في الآخر قصدت ذلك أو لم تقصده كقولك لم تجد داود، ولم يذهب بمالك، ولم يعلم من هو، ولو أردت تبين الحرف لم يكن إلا بوقفة، وإن خفيت وقصر زمانها، والضرب الثاني يطلب به الخفة، وهذا الضرب هو على ضربين أحدهما التقاء حرفين متحركين من جنس واحد فيسكن الأول منهما تخفيفا، ويدغم في الآخر، وذلك إما في كلمة أو كلمتين نحو قولنا: رد يرد واحمر يحمر، وأصله ردد يردد واحمرر يحمرر. والكلمتان نحو: جعل لك ويد داود والأصل جعل لك ويد داود وقد مضى الكلام على ذلك بما يغني عن إعادته والضرب الثاني من ضربي طلب التخفيف إدغام الحرف في غير جنسه بأن يقلب إلى جنس ما يدغم فيه وذلك على الترتيب الذي نذكره من كلام سيبويه وما يكشفه ويؤكده وزيادة وغير ذلك مما يقتضيه الموضع ويلحق به إن شاء الله أقدم جملة [] (¬2) ومعرفتها كلام سيبويه [] (¬3) فيما بعد إن شاء الله. حروف الحلق وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء؛ فأما الهمزة فلا تدغم في غيرها إلا أن تلين إلى ياء أو واو فتصادف ما تدغم فيه الياء والواو فيجوز إدغامه على أنها ياء أو واو كقولهم في رؤيا ورؤية إذا خففوا قالوا: رويا وروية تجعل واوا ويجوز [] (¬4) لم يدغم فلان الواو تنوي الهمزة. ومن أدغم فلأنه واو ساكنة بعدها ياء كقولهم كويته طيا وأصله طويا ولا يدغم فيها غيرها إلا أن تجعل كقولهم في تليين خطيئة ومقروءة خطية ومقروة. ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل. (¬4) كشط بالأصل.

وأما إدغام الهمزتين إذا التقتا وليستا عينين للفعل فقال سيبويه إذا التقت الهمزتان لينت إحداهما واستقبح فيها الإدغام إلا في قول من حقق الهمزتين إذا التقتا نحو: أانت وإذا وليس ذلك بالمختار وقد مضى ذكرنا في تفسير الهمزة. وأما الألف فلا تدغم، ولا يدغم فيها، وأما الهاء فيدغم فيها مثلها فقط كقولك أحبه هلا لا ولا يدغم فيها شيء غيرها، وتدغم في الحاء كقولهم: أحبه حاتما وكذلك إذا كانت الحاء قبلها قلبت الهاء حاء ثم أدغمت فيها الحاء الأولى كقولك: أذبح هذه لفظها [] العين فيدغم فيها مثلها فقط نحو: ارفع عليا ولا يدغم فيها غيرها ألبتة، ولكنها تدغم في الحاء كقولك ارفع حاتما، وكذلك إذا كانت الحاء قبلها قلبت العين حاء ثم أدغمت الحاء الأولى في الحاء المنقلبة عن العين كقولك اذبح عتود لفظه إذ بحتودا وإذا جتمع العين والهاء جاز قلبها حاءين وإدغام إحداهما في الأخرى تقول في معهم محهم، وأما الحاء فيجوز إدغامها في مثلها فقط كقولك: اذبح حملا وتدغم فيها الهاء والعين كما ذكرنا. وأما الغين والخاء فكل واحدة منهما تدغم في مثلها، وتدغم في الأخرى فقط؛ فإدغام العين في الخاء كقولك: ادمغ خلفا وإدغام الخاء في الغين كقولك: اسلخ غنمك، وأول مخارج الفم يلي حروف الحلق، وهو مخرج القاف والكاف وكل واحد منهما يدغم في مثله ويدغم في صاحبه، ولا يدغم واحد منهما في غير صاحبه فإدغام القاف في الكاف كقولك: اطلق كوثرا وإدغام الكاف في القاف: اترك قاسما والجيم والشين والياء. فأما الجيم فإنها تدغم في الشين كقولك: اخرج شيئا ولا تدغم الشين في الجيم وتدغم في ستة أحرف من غير مخرجها وهي الطاء والدال والتاء والظاء في مثل وجبت جنوبها، وأما الشين؛ فإنها لا تدغم في شيء وتدغم فيها الجيم والطاء والدال والتاء والظاء والذال والتاء. وأما الياء فتدغم فيها النون، وتدغم فيها الواو في قولك: طويت طيا، وما أشبه ذلك، وأما الضاد فلا تدغم في شيء وتدغم فيها الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء واللام، وهذه الستة الأحرف أحكامها في الإدغام متساوية على تفاضل بينها فيه وهي الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء وكل ما جاز أن تدغم فيها واحدة منهن جاز أن تدغم في البواقي ويجوز إدغامهن في أمثالهن ويجوز إدغام بعضهن في بعض كل واحد من الستة يجوز إدغامه في الخمسة البواقي ويجوز إدغام الخمسة فيه ويجوز إدغامهن في الشين والضاد والجيم كقولك صببت شمال، وأصابت ضربتك، وقرئ وجبت جنوبها بإدغام التاء في الجيم.

ولم يذكر سيبويه إدغامهن في الجيم ويدغمن في حروف الصفير وهي الصاد والسين والزاي كقولك: اخلط صاعك وحط سالما وارسته زيدا أو سائر الحروف كذلك ولا تدغم في الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء ما أدغمت فيه ولا يدغم فيهن، ومن غيرهن إلا اللام لا يدغم فيهن الشين والجيم والصاد والسين فيهن من غيرهن اللام فقط. وأما الصاد والسين والزاي فإن كل واحدة منهن تدغم في الباقيتين ولا تدغم في شيء سواهما ويدغم فيهن أيضا من غيرهن سبعة أحرف وهي الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء واللام والراء واللام والنون. أما الراء؛ فلا تدغم في شيء وتدغم فيها اللام فتدغم في مثلها، وفي ثلاثة عشر حرفا سواها وهي التاء والثاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء والنون. ولا يدغم فيها غير النون وإدغام الراء فيها قبيح. وقد روي عن بعض القراء وسأذكره في باب أفرده في إدغام القراء إن شاء الله، وأما النون فتدغم في مثلها أحرف سواها وهي الواو والباء والراء والميم ويجمعها ويرمل ولا يدغم فيها شييء غير اللام. وأما الفاء فلا تدغم في شيء، وتدغم فيها الباء. وقد ذكر عن الكسائي إدغامها في الباء في قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سبأ: 9] وسأذكره في بابه إن شاء الله. والباء والميم والواو فأما الباء فتدغم في الفاء والميم ولا يدغم فيها شيء ولا تدغم الميم في شيء وتدغم فيها النون والباء و [] (¬1) في مثلها وتدغم. قولنا: طويت طيا وأصله طويا وتدغم فيها النون، وقد ذكرنا ذلك في الحروف الخمسة التي تدغم فيها النون. قال أبو سعيد- رحمه الله- بدأ سيبويه بما لا يدغم في مثله فقال: وذلك الحرف الهمزة، وقد تقدم الكلام في الهمزتين إذا التقتا أنه يلزم تخفيف إحداهما ويجوز تخفيفهما جميعا. وذكر أن ابن أبي إسحاق خففهما وهي لغة رديئة، ويجوز في هذه اللغة إدغام إحداهما في الأخرى، وإذا كانت الهمزة لا تدغم فيها الهمزة فإدغام غيرها فيها أبعد، وكذلك الهمزة لا تدغم في غير الهمزة؛ لأنها إذا كانت لا تدغم في مثلها فإدغامها في غيرها أبعد. ¬

_ (¬1) كشط بالأصل.

وإذا كانت الهمزة وحدها ثقيلة ولثقلها يجوز تخفيفها بالحذف والتغيير. وقد مضى الكلام في باب الهمزة مستقصى بما يغني عن إعادته؛ فإذا كانت الهمزة وحدها مستثقلة يجوز فيها الحذف والتغيير، وهي مع مثلها أثقل والتغيير لها ألزم. قال سيبويه: فإذا جاءت مع مثلها، أو ما قرب منها أجريت على ما أجريت عليه وحدها يعني إذا جاءت الهمزة مع همزة أخرى خفف كما تخفف وحدها. وقوله: ما قرب منها يعني كتغييرها أما الألف نحو قولهم حمراوان في حمراآن قلبوها حين وقعت الهمزة بين ألفين، وقالوا حمراوي في حمراءي حين وقعت بين ألف وياء. قال: وكذلك الألف لا تدغم في الهاء ولا فيما يقاربها لأن الألف لا تدغم في مثلها؛ لأنها لو أدغمت في مثلها تحركت الثانية، وإذا تحركت بطلت أن تكون ألفا وصارت حرفا أخر وانقلبت معها. قال سيبويه؛ لأنهما لو فعل بهما ذلك فأجريتا مجرى الدالين والتاءين تغيرتا فكانتا غير الألفين، وإلا لم تكونا كالذالين يعني أنه إن لم تتغير الألفان لم يمكن الإدغام؛ لأن الألف لا تكون إلا ساكنة، ولا تدغم في ساكن. والإدغام يصيرهما مثل الدالين؛ فإن لم يغيرا عن الألفين إلى شيء آخر لم يكونا مثل الدالين. قال: ولا تدغم الياء، وإن كانت قبلها فتحة، ولا الواو، وإن كانت قبلها فتحة في شيء من المقاربة لأن فيها مدا ولينا فلم تقو الجيم على الياء ولا الياء ع لى الواو، وما ليس فيه مد من الحروف أن تجعلهما مدغمتين؛ لأنهما يخرجان ما فيه مد ولين إلى ما ليس فيه. وسائر الحروف لا تزيد فيها على أن تذهب الحركة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن حروف المد واللين لها فضيلة على سائر الحروف بما فيها من الحركات من مأخوذة من المد [] (¬1) منهن فهن يباين الحروف والمقاربة لهن في المخرج فمن أجل ذلك لا يدغمن فيما كان من مخرجهن منهن فهن يباين الحروف [] (¬2) والمقاربة لهن في المخرج؛ فمن أجل ذلك لا يدغمن فيما كان من مخرجهن؛ فلذلك لم تقو الجيم على الباء بأن تدغم في الجيم. وإن كانت الياء من مخرج الجيم، وكذلك لا تدغم الواو في الياء، وهما من مخرج ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل.

واحد؛ لأنه بإدغام الياء في الجيم والواو في الياء يصيران جيما وياء فيذهب المد واللين فيهما. قال: ولو كان مع هذه الياء التي ما قبلها مفتوح، والواو التي ما قبلها كذلك ما هو مثلها سواء أدغمتا، ولم تستطع إلا ذلك لأن الحرفين استويا في اللين يعني أن الياء تغم في ياء مثلها إذا انفتح ما قبل الأولى نحو: اخشى ياسرا وكذلك الواو في نحو: اخشوا واقد لأنهما قد استويا ولا يستطاع إلا ذلك. وقد مضى الكلام فيه قال: فصارت هذه الياء والواو مع الجيم والباء نحوا من الألف مع المقاربة لأن فيهما لينا وإن لم يبلغا الألف ولكن فيهما شبه منها ألا تراهما إذا كانت واحدة منهما في القوافي لم يجر في مثل ذلك الموضع من القافية غيرها إذا كانت قبل حرف الروي فلم تقو المقاربة عليها لما ذكرت لك يعني أن الياء مع الجيم والواو مع الياء التي من مخرجها في تباين الكيفية والحكم كالألف من الحروف المقاربة لما فيها من اللين وإن لم يبلغا منزلة الألف. ومعنى قوله: إذا كانت [] (¬1) كانت الواو ساكنة والياء في موضع ردف لم يجز في مكانها غيرها كقول الشاعر: يا قوم مالي وأبا ذؤيب … كنت إذا أتوته من غيب يشم عطفي وبين ثوبي … كأنني أربته بريب الياء في ذؤيب وغيب والواو في ثوب ردف ولو قال: أتوته من غرب لم يجز أن يكون بيت مردفا وبيت غير مردف، ثم ذكر قاضي جابر وغلامي جابر تمثيلا لما ذكر أن لا يجوز من إدغام الياء في الجيم ومثل إدغام الواو في الميم بقوله: رأيت دلو مالك وهذا سهو وغلط في الكتاب؛ لأنه لو قال: سلم مالك ما أدغمت الميم في الميم لسكون ما قبل الأولى، وينبغي أن يجعل التمثيل هؤلاء مصطفو مالك. قال: ولا يدغمان في هذه الياء والواو؛ لأنك تدخل اللين فيما لا يكون فيه لين يعني لا تدغم الجيم في الياء ولا الميم في الواو؛ فتصير الميم والجيم من حروف المد، واللين؛ لأن تباعد ما بين حروف المد واللين، وما بين غيرهما أشد من الحروف المتباعدة المخرج. ¬

_ (¬1) كشط بالأصل.

ألا ترى أن حروف المد واللين وإن تباعدت مخارجهن يجتمعن في أحكام وينقلب بعضهن إلى بعض؛ لأن ما بينهن في المد واللين أقوى مما يكون بين المتقاربات في المخرج، ولقائل أن يقول إن منع سيبويه إدغام الجيم في الياء والميم في الواو ولئلا يدخل الميم فيما لا يكون فيه لين. وقد أدغم النون في الياء والواو وليس في النون لين؛ فإن الجواب في ذلك أن النون لما فيه من الغنة وأن له مخرجا من الخيشوم أجري مجرى حروفه المد واللين في الإعراب في يذهبان ويذهبون، وتذهبين والتنوين الشائع للإعراب وبدل الألف منهما في زيدا واضربا فقربت بذلك من حروف اللين وحملت عليها وليس كذلك غيرها. قال: وإذا كانت الواو قبلهن ضمة والياء قبلها كسرة فهو أبعد للإدغام لأنهما حينئذ أشبه بالألف وهذا مما يقوي ترك الإدغام فيهما وما قبلهما مفتوح؛ لأنهما يكونان كالألف في المد والطول وذلك نحو: ظلموا مالكا واظلمي جابرا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: ذكر سيبويه أولا أنه لا يجوز إدغام الياء المفتوح ما قبلها في الجيم والواو المفتوح ما قبلها في الميم ثم قال: وإذا كان ما قبل الواو [] (¬1) أبعد لإدغامهما في الميم والجيم ومثلهما يظلموا مالكا واظلمي جابرا. وقوله: وهذا مما يقوي ترك الإدغام فيهما وما قبلهما مفتوح يعني أن الواو والياء المفتوح ما قبلهما مد؛ فلا يدغمان في الميم والجيم كما تدغم الواو المضموم ما قبلها والباء المكسور ما قبلها في الميم والجيم لاشتراكهن في المد. وقوله: لأنهما يكونان كالألف في المد والطول راجع إلى الواو والمضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها. قال: ومن الحروف حروف لا تدغم في المقاربة والمقاربة فيها وتلك الحروف الميم والراء والفاء والشين. واعلم أن هذه الحروف لكل واحد منهن ضرب من الفضل على غيره كرهوا ذهاب ذلك الفضل بإدغامه في غيره ويذكر في موضعه إن شاء الله، وذلك نحو قولك اكرم به لا يدغمون الميم في الباء؛ لأنهم يقلبون النون ميما إذا كانت ساكنة وبعدها ياء في نحو قولهم: العنبر، ومن بدأك فلما وقع من الباء الحرف الذي يفرون إليه من النون ولم يغيروه وجعلوه بمنزلة النون إذا كانا حرفي غنة؛ لأن الميم لها غنة، وليس الباء التي من ¬

_ (¬1) كشط بالأصل.

مخرجها غنة [] (¬1) وأيضا فإن النون الساكنة بعيدة من الباء في المخرج ومباينة لها في الخواص التي توجب الشركة بينهما. فإذا كانت النون ساكنة قبل الواو وقلبوها ميما فلما قلبت ميما لما بين الميم والنون من الاشتراك في الغنة، ولم تدغم الميم المنقلبة من النون في الباء كانت الميم الأصلية أولى أن لا تدغم فيها الباء. وهذا معنى قول سيبويه؛ فلما وقع مع الباء الحرف الذي يفرون إليه من النون يعني الميم؛ لأنهم فروا إليه من النون في عنبر لم يغيروه يعني لم يغيروا الميم وجعلوه كالنون التي لا تدغم في الباء إذ كانت النون والميم حرفي غنة. وقوله: الفاء لا تدغم في الباء؛ لأنها من باطن الشفة يريد أن حروف الفم أقوى من حروف الشفتين وحروف الحلق؛ لأن معظم الحروف في الفم واللسان، وهو وسط مواضع النطق والحلق والشفتان طرفان فصارت الفاء لذلك أقوى من الباء؛ لأنها من باطن الشفتين وهي من الفم والباء من الطرف. قال: والباء تدغم في الفاء المتقارب ولأنها قد ضارعت التاء فقويت على ذلك لكثرة الإدغام لحروف الفم، وذلك قولك: اذهب في ذلك ت بدل من الباء فاء كما فعلت في قولك: أصحاب مطرا والتقارب [] (¬2) إنك تعمل في الفاء الشفة السفلى [] (¬3) وأطراف الثنايا وتعمل في الباء الشفة السفلى والعلاي ويقوي ذلك أن في حروف الفرس حرفا بين الفاء والباء والباء الأغلب وحرفا بين الفاء والباء والفاء الأغلب. قال: والراء لا تدغم في اللام ولا في النون؛ لأن الراء مكررة فهي أفشى، كما أن معها غيرها؛ فكرهوا أن يجحفوا بها فيدغم فيها ما ليس فيه تفش في الفم مثلها، ولا تكرير. ويقوي هذا أن الطاء وهي مطبقة إذا أدغمت في التاء أشربت الإطباق ولا تجعل خالصة؛ لأن الطاء أفشى منها بالإطباق فهذه أجدر أن لا تدغم إذا كانت مكررة، وذلك قولك: اختر له واختر نفلا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد عرفتك أن الحرف إذا كانت له مزية يخرجه إدغامه فيما ليست له تلك الفضيلة عنها فيذهب ماله من الفضيلة كثرة إدغامه فيما يذهب ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل.

فضيلته، ولذلك لا يختار إدغام الطاء في التاء؛ لأن الطاء مطبقة فيكره ذهاب إطباقها بإدغامها في التاء، ولذلك كان أبو عمر يقرأ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة: 28]، وقال: أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل: 22]، فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56]، ونحوه يدغم الطاء في التاء، ويبقى منها صوتا لئلا يخل بحرف الإطباق. قال: وتدغم اللام والنون [] (¬1) لا يذهب بفضيلة لهما من تفش ولا غيره كقولك: هل رأيت، ومن رأيت. قال سيبويه: والشين لا تدغم في الجيم لاستطالة مخرج الشين ورخاوتها حتى اتصلت مخرج الطاء فصارت منزلتها منها نحو من منزلة الفاء مع الباء فاجتمع فيها هذا والتفشي فكرهوا أن يدغموها في الجيم كما كرهوا أن يدغموا الراء فيما ذكرت لك، وذلك قولك افرش جبلة. قال أبو سعيد: قد ذكرنا من حال الشين المانع من إدغامها في الجيم ما يغني عن الاحتجاج له، وتدغم الجيم في الشين كما أدغخمت اللام والنون في الراء؛ لأن الأقل تفشيا يدغم في الأكثر تفشيا. قال: فهذا تلخيص لحروف لا تدغم في شيء يعني الهمزة، والألف وحروف لا تدغم في المقاربة يعني الميم والراء والفاء والشين. وقد مضى ذلك مشروحا. قال سيبويه: ثم نعود إلى الإدغام في المقاربة التي تدغم بعضها في بعض إن شاء الله. الهاء مع الحاء كقولك: أجبه حملا، والبيان أحسن لاختلاف الحرفين، وأن حروف الحلق ليست بأصل للإدغام اقلبها. قال: والإدغام عربي حسن لقرب المخرجين، وأنهما مهموسان، قال: ولا تدغم الحاء في الهاء كما لا تدغم الفاء [] (¬2) إلى حروف الفم كان أقوى على الإدغام يعني على الإدغام فيه مثل امدح هلالا وهذا كله بين. قال: ولا تدغم العين مع الهاء كقولك: اقطع هلالا والبيان أحسن فإن أدغمت لقرب المخرجين حولت الهاء حاء لأن الأقرب إلى الفم لا يدغم في الذي قبله فأبدلت مكانها أشبه الحرفين بها لكيلا يكون الإدغام في الذي فوقه، ولكن في الذي من مخرجه ولم يدغموا الهاء في العين، وإن كانت أقصى من العين واشتركتا في حروف الحلق لأنها حالفتها ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل.

في الهمس والرخاوة، ولأن العين لم يدغم ما هو من مخرجها فيها وهو الحاء فبعد إدغام ما ليس هو من مخرجها فيها مع ضعف الإدغام في حروف الحلق في لغة على قوم وخفف عليهم النطق به، وقل في لغة أخرى واستثقلها فالحاء أخف من العين، وإن كانا من مخرج واحد؛ لأن الحاء مهموسة وهي رخوة والهمس والرخاوة، وذلك قال سيبويه: ومع هذا فإن التقاء الحاءين أخف في الكلام من التقاء العينين واحدة كثيرا ولا تجد عينين كذلك؛ ألا ترى أنهم يقولون بح ورح وارح وصح ومح وغير ذلك مما يكثر ولا يوجد ذلك في العين إلا قليلا كقولك: دع يدع وكع يكع. قال: ومثله أحبه عتبة يعني مثله في أنك لا تدغم الهاء في العين. قال: ومما قالت العرب تصديقا لهذا في الإدغام قول بني تميم محم يريدون معهم ثقل النطق بهما لأن التقاء حروف الحلق مستثقل وتنافر الهاء والعين لما بينهما من الحلاف من الهمس والرخاوة والشدة والجهر فطلبوا حرفا متوسطا بينهما فقلب إليه، وهو الحاء وذلك أن الحاء مؤاخ للهاء بالهمس والرخاوة وهو مؤاخر بأنهما من مخرج واحد ومثله ست أصله سدس فاستثقلوا الجمع بين الدال والسين؛ فقلبوا إلى حرف متوسط بينهما وهو التاء؛ لأن التاء مؤاخر للدال بأنهما من مخرج واحد، وهو مؤاخ للسين بالهمس. قال: ومما أدغمت العرب الهاء في الحاء. قول الراجز: كأنها بعد كلال الزاجر … ومسحة مرّ عقاب كاسر قال أبو سعيد- رحمه الله-: أما إدغام الهاء في الحاء إذا كانت قبلها بأن تقلبها حاء وإدغام الحاء فيها إذا كانت بعد الحاء بأن تقلب حاء تصحيح قد ذكرناه وأما الاستشهاد بهذا الشعر فسهو أو غلط؛ لأن الإدغام لا يصح في البيت من أجل اجتماع الساكنين لأن السين ساكنة، والحرف الأول من المدغم، وهو الحاء الأولى بعد السين ساكن أيضا، ولا يدغم حرف بعد ساكن في مثله إلا أن يكون الساكن من حروف المد واللين نحو دابة وأصم وثمود الثوب. ويبطله أيضا أن الإدغام فيه يكسر البيت ويبطله أيضا أنه قال: ومما أدغمت العرب الهاء فيه في الحاء وليس الأمر كذلك؛ لأن الحاء قبل الهاء في الكلمة فكيف يدغم الثاني في الأول. قال: والعين مع الحاء كقولك: اقطع حملا الإدغام والبيان حسنان لأنهما من مخرج

واحد، ولا تدغم الحاء في العين في قولك: امدح عرفة؛ لأن الحاء قد يفرون إليها إذا وقعت الهاء مع الغين وهي مثلها في الهمس والرخاوة مع قرب المخرجين؛ فأجريت مجرى الميم مع الباء فجعلتها يعني العين بمنزلة الهاء كما جعلت الميم بمنزلة النون مع الباء. ولم تقو العين على الحاء إذا كانت هذه قصتها وهما من المخرج الثاني من الحلق، ولكنك لو قلت: امدح حرفة فجعلت العين حاء جاز. اعلم أن الحاء تشبه الأربعة الأحرف بأنها يدغم فيها ما قاربها، ولا تدغم هي (... ...) ذكرنا علة ذلك والحاء بهذه المنزلة وذلك أن الهاء والعين تدغمان فيها وهي لا تدغم في واحد منهما ولا في غيرهما فصارت الحاء تدغم فيها الهاء [] (¬1) وهي لا تدغم في شيء، وإنما صارت كذلك [] (¬2) ومن أقصى الحلق الهمزة والألف والهاء ويجاورها من مخرجها العين [] (¬3) مما يلي الفم الخاء والغين؛ فأما الهمزة فقد ذكر سيبويه: أنها لا تدغم في شيء ولا يدغم فيها. وذكرنا عليه فيما مضى، وأما الألف فإنه يكره الإدغام فيها؛ لأنها لا تكون إلا ساكنة [] (¬4) أن تدغم؛ لأن ما فيها من المد واللين [] (¬5) حكم الاشتراك فالمجاوزة إلى [] (¬6) اللفظ وخفته فاجتمع للحاء هذا وأن الحرف الذي من مخرجها موضعه الحلق وليس يتمكن، ولا حروف الحلق بأصل الإدغام فضعفت العين عن إدغام الحاء فيها، وحسن إدغام العين في الحاء. وأما الغين والخاء فإنهما قربا من حروف المد جدا حتى إن من الناس من يجريهما مجرى حروف الفم فتخفي الحروف الساكنة معها كما تخفيها [] (¬7) حروف الفم فتقول منحل ومنغل. وقد روى نافع إخفاء النون مع الخاء والغين المسبين. وروى الأكثر من الرواة عنه بيان النون قبل الغين، والخاء على ما ذكرنا في هذين الحرفين من اللغتين ذكرناهما عن العرب فصار العين والخاء حيزا مفردا بين حروف الحلق. وحروف الفم فتدغم أحدهما في الآخر، ولا تدغم في واحد منهما من حروف ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل. (¬4) كشط بالأصل. (¬5) كشط بالأصل. (¬6) كشط بالأصل. (¬7) كشط بالأصل.

الحلق، ولا ما بعدها من حروف الفم. وأما قول سيبويه لا تدغم الحاء في العين في قولك امدح عرفة يريد أنك تبين الحاء من امدح والعين من عرفة. وقوله: لأن الحاء قد يفرون إليها إذا وقعت الهاء مع العين يريد أن الهاء والعين إذا اجتمعتا وأرادوا الإدغام قلبوا الهاء حاء والعين حاء؛ فلو كانت الحاء تدغم في العين لكانوا لاي قلبون الهاء حاء بل كانوا يدغمونها في العين كما أن الميم لو كانت تدغم في الياء ما كانت تقلب النون ميما مع الباء في قولك عنبر وشنبا بل كانوا يدغمونها في الباء فيقولون عبر وشبا فأجريت العين مع الحاء مجرى الميم مع الباء فجلتها بمنزلة [] (¬1) إذا كانت الهاء مع العين كما جعلت الميم بمنزلة النون في عنبر وشنباء. وقوله: ولم تقو العين على الحاء أي لم تقو على إدغام الحاء فيها. قال: ولو قلت: امدح حرفه فجعلت العين حاء جاز، وقد مضى القول في جواز إدغام العين في الحاء، وما جاز إدغامه جاز أن يقلب إلى جنس ذلك الحرف إذا كان متأخرا. قال سيبويه: والغين مع الخاء الإدغام والبيان حسنان، وذلك قولك [] (¬2) كما قلت ذلك في العين والحاء والخاء مع الغين البيان فيهما أحسن؛ لأن الغين [] (¬3) وهما من حروف الحلق، وقد خالف [] (¬4) الهمس فشبهت بالحاء مع العين وقد [] (¬5) الإدغام فيهما لأنهما مخرج الثالث من الحلق وهو أدنى المخارج من الحلق إلى [] (¬6). ألا ترى أن بعض العرب يقول: منخل، نغل فيخفي النون معهما كما يخفيها مع حروف اللسان والفم، وذلك قولك: انسخ غنمك وذلك على حسن البيان عزتها في باب [] (¬7). قال أبو سعيد رحمه الله: قد ذكرنا [] (¬8) والغين وأنهما حيز لا يختلط بحروف الحلق وحروف الفم في الإدغام، وأن كل واحد يدغم بالآخر. ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل. (¬4) كشط بالأصل. (¬5) كشط بالأصل. (¬6) كشط بالأصل. (¬7) كشط بالأصل. (¬8) كشط بالأصل.

وقد فرق سيبويه [] (¬1) في العين فقال في [] (¬2) الغين في الخاء البيان أحسن، وإنما قال ذلك؛ لأن الغين مجهورة كالعين والخاء مهموسة رخوة كالحاء. فلما كان إدغام العين في الحاء والبيان فيهما أحسن من إدغام الخاء في الغين، وإدغامهما جائز، وإنما جاز إدغام الخاء في الغين، ولم يجز إدغام الحاء في العين لما ذكرت لك، ولأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، ولا يقوي فيها، والحاء والعين من وسط الحلق والخاء والغين قريبان من حروف الفم. وقد أجريا مجرى حروف الفم في إخفاء النون الساكنة عندها في بعض اللغات، وقد ذكرنا ذلك. وقوله: ويدلك على حسن البيان عزتها في باب رددت يريد أن التقاء الغينين أقل من التقاء الخاءين ألا ترى أن ما عين فعله ولامه خاء قد جاء منه حروف جماعة نحو رخ العجين ورخ في قفاه إذا وقع ورخها يرخها إذا نكحها وشح البول إذا أخرجه قليلا، والمخ وألفخ والصخ الصياخة. ولا أعلم غينين التقتا عينا ولاما وقد تكون الغينان غينا ولاما وبينهما حاجز قالوا: ضغيغة من بقل، ومن عشب إذا كانت الروضة ناضرة متخيلة والرغيغة لبن يحفن حتى يشتد حمصه [] (¬3) باب رددت يوجب حسن البيان إذا كانت خاء بعدها غين لأنا لو لم نبين وأدغمنا الخاء في الغين لالتقت غينان. قال: والقاف مع الكاف كقولك: الحق كلدة الإدغام والبيان حسنان لقرب المخرجين، وإنهما من حروف اللسان، وإنهما متفقان في الشدة والكاف مع القاف كقولك انهك قطعا البيان أحسن، والإدغام حسن؛ لأن القاف مجهورة فشبهت بالخاء مع الغين كما شبه أقرب مخارج الحلق إلى اللسان بحروف اللسان فيما ذكرنا من البيان والإدغام. قال أبو سعيد- رحمه الله-: القاف والكاف هما في أقصى الفم مما يلي الحلق والغين والخاء في طرف الحلق مما يلي الفم بالحيز فما يتجاوران والقاف كالغين؛ لأن القاف والغين مجهوران والكاف كالخاء؛ لأنهما مهموسان. فلما كان البيان في الخاء التي بعدها الغين أحسن كذلك البيان في الكاف التي بعدها ¬

_ (¬1) كشط بالأصل. (¬2) كشط بالأصل. (¬3) كشط بالأصل.

الكاف. ولما كان البيان والإدغام حسنين في الغين التي بعدها الخاء كذلك البيان والإدغام في القاف التي بعدها الكاف حسنان والجيم والشين والبيان والإدغام حسنان؛ لأنهما من مخرج واحد وهما من حروف وسط اللسان، وقد بينا أنه لا يجوز إدغام الشين في الجيم. قال سيبويه: واللام مع الراء كقولك: اشتغل رجب لقرب المخرجين، ولأن الراء فيها انحراف نحو: اللام قليلا، وقاربتها في طرف اللسان، وهما في الشدة وحصر الصوت، سواء، وليس بين مخرجيها مخرج وكذلك النون مع الراء لقرب المخرجين على طرف اللسان وهي مثلها في الشدة وذلك قولك من راشد ومن رأيت وتدغم بلا غنة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: ذكر سيبويه إدغام اللام والنون في الراء بلفظ لا يحتاج إلى تفسير وليس يدغم في الراء غير هذين الحرفين والأجود في إدغام النون في الراء أن تكون بغنة؛ لأن الغنة فرق واضح. وذكر بعض أصحاب أبي العباس المبرد عنه قال: لو بنيت من كسرت مثل افعلل لم يجز لأنك إن بنيت النون فقلت: اسكنرر منعتها ما يجب فيها من الإدغام، وإن أدغمتها بطل لفظ الحرف؛ لأن اكسنرر ملحق بأحرنجم. وقال مرة أخرى: هذا جائز؛ لأنه ليس في الكلام على مثال فعلل شيء فيعلم أنه افعنلل ولا يجوز أن تدغم الراء وتحول حركتها على النون؛ فيقال اكسنر مثل اقشر لئلا يلتبس بباب افعلل فعلى قوله في الجواز اكسرّر النون مدغمة في الراء الأولى ولم يجز القاء حركتها على النون من جهتين إحداهما أن النون ساكنة من الملحق به، وما بعد النون منه مفتوح والأخرى أنه يلتبس بباب اقشعر. وإذا أدغمت النون في الراء فقلت: اكسر صار مثل اقعنسس، وقد اختلف النحويون إذا بنى مثل اقعشر من ضرب؛ فقال الأخفش اضربت يشدد الباء الطرف التي في موضع الراء من اقعشر. وقال المازني، وذكره عن النحويين اضرب بتشديد الباء التي تلي الراء وهما بناء اقعشر في الأصل؛ لأن الأصل اقشعرر كما أن أصل احمر احمرر وتتبين في اقشعررت واحمررت؛ فإذا قلت: اكسرر فهو بمنزلة اضربب على مذهب المازني، ويقع ليس بينهما في القولين نظر، والله الموفق.

وذكر سيبويه إدغام النون في الراء، ثم [] (¬1) إدغامها في جميع ما تدغم فيه، وهي تدغم في خمسة أحرف: الراء واللام والميم والواو والياء يجمعهن، ويرمل. وقد ذكرناها قبل؛ فإذا أدغمت فيها تحولت من جنسها وصار مخرجها من مخرجها، وكذلك النون إذا أدغمت في النون صار مخرجها من الفم؛ لأن الحرفين إذا أدغم أحدهما في الآخر لم يجز أن يختلف مخرجاهما؛ فلما كان مخرج النون المتحركة من الفم وجب أن تكون الساكنة المدغمة فيها من الفم؛ لأنها لو كانت من الخيشوم اختلف المخرجان. وإذا أدغمت النون في الراء واللام والواو والياء؛ فإنها تدغم بغنة، وغير غنة، أما إذا أدغمت بغير غنة؛ فلأنها إذا أدغمت في هذه الحروف صارت من جنسها فتصير مع الراء راء، ومع اللام لاما، ومع الواو واوا، ومع الياء ياء، وهذه الحروف ليس لها غنة. وأما إذا أدغمت بغنة؛ فلأن النون لها غنة في نفسها سواء كانت من الفم أو من الأنف والغنة صوت من الخيشوم يتبع الحرف، وإن كان خروج الحرف من الفم. وقد كان للنون من قبل الإدغام غنة فكرهوا إبطالها، حتى لا يكون للنون أثر من صوتها ألبتة، وهم يجدون سبيلا إلى الإتيان بها، ورأيت بعض النحويين يقول: الغنة فيهن أجود؛ لأن الغنة فرق واضح وبين القراء اختلاف في اختيار الغنة في بعض ذلك، وتركها في بعض، وسأذكره في باب الإدغام في القراءات إن شاء الله. وأما الميم إذا أدغمت النون فيها فليست بمحتاجة إلى غنة من أجل النون؛ لأن الميم فيها غنة، وإن كان مخرجها من الشفتين يغني عن غنة النون، وكذلك إذا أدغمت في نون مثلها فالنون الثانية، وإن كان مخرجها من الفم فيها غنة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وأنا أسوق لفظ سيبويه في إدغام النون في هذه الحروف، وأشرح ما استغلق منه إن شاء الله. قال سيبويه: والنون مع الراء لقرب المخرجين يريد تدغم النون في الراء وذلك مثل قولك من راشد ومن رأيت، وتدغم بغنة وبلا غنة، وإدغامها يجوز بغنة وغير غنة؛ لأن الراء فيها فضيلة التكرير ويغلب لفظها على ما أدغمت فيه. والراء ليس فيها غنة فيتوهم المتوهم أنه لا يجوز فيها الغنة؛ لأنها قد أدخلت في الراء وغلب عليها فضيلة التكرير فأراد أن يبين أنها من إدغامها في الراء فيها غنة؛ لأن الغنة ¬

_ (¬1) كشط بالأصل.

زيادة في الصوت؛ فكرهوا إبطالها، ومن أدغم بغير غنة فهو القياس، والأصل لأنك إذا أدغمتها في الراء فقد صيرتها راء وليس في الراء غنة. وقد جاءت القراءات وكلام العرب بالأمرين جميعا وتدغم مع اللام لأنها قريبة منها، وذلك من لك إن شئت كان الإدغام بغنة وإن شئت بغير غنة لأن لها صوتا من الخياشيم فيترك على حاله لأن الذي بعده ليس له في الخياشيم نصيب فيغلب عليه الأنفاق. قوله: «لأن لها صوتا في الخياشيم» يعني النون، وقوله: لأن الذي بعده يعني اللام ليس لها نصيب في الخياشيم، ولو كان له نصيب في الخياشيم لما احتجنا إلى أن نتكلف غنة من أجل النون كما أنا إذا أدغمنا النون في الميم استغنينا بما للميم من الصوت في الخيشوم عن الغنة التي تتكلف للنون. قال: وتدغم النون مع الميم؛ لأن صوتهما واحد وهما مجهوران، وقد خالف سائر الحروف في الصوت حتى إنك تسمع الميم كالنون والنون كالميم حتى تتبين فصارتا بمنزلة اللام والراء يريد أن النون والميم، وإن كان مخرجاهما متباعدين فقد جمعهما على بعد مخرجيهما شيئان يوجبان إدغام النون في الميم وهما الجهر والغنة حتى صارتا متشابهتين في السمع، وقد تتشابه الحروف بالكيفيات على بعد مخرجها بأقوى من التشابه بتقاربها في المخرج. كما ذكرنا ذلك في تشابه حروف المد واللين على تباعدها في المخرج، قال: وتقلب النون مع الباء ميما؛ لأن الباء من موضع تعتل فيه النون؛ فأرادوا أن يدغموا هاهنا إذ كانت الباء من موضع الميم، كما أدغموها فيما يقرب من الراء في الموضع؛ فجعلوا ما هو من موضع ما وافقها فقالوا: مترد وأصله متترد ومصبر وأصله مصطبر على قلب الثاني من جنس الأول. ثم قال: وأقيسهما مظلم، واحتج لذلك بأن الإدغام أن يتبع الأول الآخر في نحو ذهب به وبين له، ولو كان الثاني ساكنا لم يدغم فيه الأول نحو: ذهب ابن زيد؛ لأن باء ابن ساكنة؛ فلما كان الثاني إن كان متحركا أدغم فيه، وإن كان ساكنا لم يدغم دل على أن الثاني يتبعه الأول، ومع ذلك يجوز قلب الأول للثاني كما قيل مترد ومصبر قال: وكذلك الدال تبدل من مكان التاء أشبه الحروف بها؛ لأنهما إذا كانا في حرف واحد لزم أن لا يثبتا إن كانا يدغمان منفصلين يريد أن الدال والتاء لما كانتا إذا التقتا من كلمتين جاز الإدغام وقلب أحدهما إلى الآخر كقولك: لم يعد تمام، وكذلك الدال والدال كقولك: لم يقعد داود كان كونهما في كلمة أثقل وجب الإدغام والقلب لاسيما مع تاء

الافتعال لكثرته في الكلام أو شبه الحروف بالذال من موضع التاء الدال؛ لأن الذال والدال مجهوران. وقوله: وكرهوا هذا الإجحاف. يعني إدغام الدال في التاء، وإن لم يجعل مكان التاء دالا لأن التاء إذا جعلت دالا؛ فالدال مجهورة مثل الذال والقياس مذكر. وقد تقدم ذكر جوازه بالذال، وقد ذكرنا وجه ذلك. قال: وإنما منعهم أن يقولوا مذدكر كما قالوا مزدان لأن كل واحد منهما قد يدغم في صاحبه في الانفصال فلم يجيزوا في الحرف الواحد إلا الإدغام والزاي لا تدغم في الدال على حال؛ فلم يشبهوها بها. وذكر سيبويه مضطجع ومضجع، وهو على قياس ما مضى، وذكر أن بعضهم قال مطجع حيث كانت الطاء مطبقة، ولم تكن في السمع كالصاد، وقربت منها وصارت في كلمة واحدة؛ فلما اجتمعت هذه الأشياء وكان وقوعها معها في كلمة واحدة أكثر من وقوعها معها في الانفصال اغتفروا ذلك، وأدغموها وصارت كلام المعرفة حيث ألزموها الإدغام فيما لا تدغم فيه في الانفصال، وو لا يدغمونها في الطاء يعني الصاد في الانفصال؛ لأنها لم يكثر معها في كلمة واحدة ككثرة لام المعرفة مع تلك الحروف. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أما مطجع؛ فإنما أدغم فيه الضاد في الطاء؛ لأن الإدغام في كلمة واحدة ألزم منه في كلمتين، وأقوى وتجاوز حرفين متقاربين، والأول منهما ساكن ثقيل، وإذا كانا في كلمة واحدة؛ فهو أثقل، ولذلك ألزموا لام المعرفة الإدغام فيما أدغمت فيه، ولم يلزموها إذا كان ما يلقاها من كلمة أخرى نحو: هل ثوب، وبل تؤثرون. وسهل إدغام الضاد في الطاء أن الطاء مثل الصاد في الإطباق، وأن الضاد قبلها ساكنة ولاستثقال تجاوز هذين الحرفين في الكلمة الواحدة ما روي أن بعض العرب يقول الطجع؛ فأبدل من الضاد لاما لأنه رأى تلاقي حرفين مطبقين أثقل من تلاقي حرفين أحدهما مطبق، والآخر غير مطبق ولاشتراك الضاد واللام في الانحراف وقرب الضاد منهما في استطالتها. ولم يدغموا الضاد في الطاء في المنفصلين كما جوزوا ادغام اللام في المنفصلين في كل ما تدغم فيه لام المعرفة؛ لأن لام المعرفة كثرت جدا لأنها تدخل على كل اسم مكسور، واجتماع الضاد والطاء في كلمة واحدة قليل. قال: وإذا كانت الطاء مع التاء فهو أجدر أن تدغم لأنهما في الانفصال أثقل من

جميع ما ذكرنا، ولم يدغموها؛ لأنهم لم يريدوا أن يبقى الإطباق إذ كان يذهب في الانفصال؛ فكرهوا أن يلزموه ذلك في حرف من حروف الإطباق، وذلك قولهم اظعنوا، وفي نسخة أبي بكر مبرمان؛ فهو أجدر أن تقلب التاء طاء. ولا تدغم الطاء في التاء فتخل بالحرف؛ لأنهما في الانفصال أثقل من جميع ما ذكرنا يريد أن الطاء إذا كان بعدها تاء الافتعال قلبت التاء طاء وقلبها طاء مع الطاء أجدر من سائر ما ذكر قلبها معه طاء. وقوله: لأنهما في الانفصال أثقل يريد أن التقاءهما في الانفصال ثقيل فإذا التقتا في كلمة ازدادت ثقلا فقوله: ولم يدغموها؛ لأنهم لم يريدوا أن يبقى الإطباق إذ كان يذهب في الانفصال يريد أنهم لم يدغموا الطاء في التاء؛ لأنهم لم يريدوا أن لا يبقى الإطباق كما قال عز وجل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176]. ولو أدغموها في التاء لذهب الإطباق. وقوله: إذ كان يذهب في الانفصال معناه: أنهم لم يريدوا أن لا يبقى الإطباق حسبما يذهب الإطباق في المنفصل إذا التقى في الصوت بمنزلة ما قرب من أقرب الحروف في الموضع، ولا يدغمون النون في الباء للبعد منها في المخرج، وأنها ليست فيها غنة، ولكنها أبدلوا مكانها أشبه الحروف بالنون، وهي الميم وذلك قولك من يك وشنباء والعنبر يريد تقلب النون الساكنة إذا كانت بعدها باء ميما كقولك من بك وشنباء؛ لأن الباء من موضع الميم والنون تعتل مع الميم واعتلالها أن تنقلب ميما؛ فأرادوا قلبها ميما مع الباء إذ كانت الباء من مخرج الميم. كما أدغموها فيما يقرب من الراء كما أدغموا النون في الياء؛ لأن الباء تقرب من الراء والراء أقرب الحروف من النون في قلبها ياء، وسترى قرب الراء من الياء إن شاء الله. فإن قال قائل: فهل يلزم على ذلك إذا أدغم حرف في حرف أن يقلب الحرف المدغم مع كل حرف من مخرج الحرف المدغم فيه قيل له: لا يلزم ذلك حتى يكون معه معنى آخر يوجب ذلك القلب، وذلك المعنى هو ما يلحق النون إذا كان بعد هاء؛ لأن ابتداء صوت النون من الخيشوم ولها حالان حال ابتداء وحال انتهاء؛ لأنها يتقرر مخرجها؛ فإذا ابتدأت إخراجها وحركاتها كانت من الفم لا غير وذلك بين إذا امتحنته كقولك منا ومنى ومنو، وكذلك إذا وقفت عليها ساكنة، وهي من الفم كقولك: من وعن وهو بين إذا امتحنته. وإذا وصلتها بما تخفى معه تفردت بالخيشوم كقولك: منك وعنك فأشد أصواتها

واحد من موضع واحد، والانتهاء مختلف، ألا ترى أنك لو قلت من وفي نفسك الكاف فقطعك عن لفظك بالكاف قاطع صار اللفظ من كما يكون من مفردة إذا لم تنو معها الكاف؛ فإذا بدأت بإخراج نون عنبر من الخيشوم على ما ذكرناه، وصوت الخيشوم مشترك بين النون والميم في المبدأ، وإنما يتغير في المقطع؛ فاعتماد المتكلم على إخراج الباء يمنع من استمداد الصوت بغنة الخيشوم. واحتاج المتكلم إلى أحد أمرين في المقطع إما أن يجعله من مخرج النون من الفم فيقول: عنبر ببيان النون وإخراجها من الفم وذلك ممكن وفيه مشقة. وأما أن يجعل المقطع من موضع الميم وهو مخرج الباء فيجعله ميما، وذلك أسهل فهذا سبب جعلها ميما والله أعلم. ولا تدغم النون في الباء للبعد بينهما في المخرج إن كانت ومن الفم ومن الخيشوم لأنهما لا يجتمعان في المخرج ولا في الغنة المقرية إذا بينهما على بعد المخرجين فإن قيل؛ فهل يجوز إذا قلبت النون ميما أن تجعل الباء ميما، وتدغم الميم في الميم فتقول: عمر في عنبر وشمّاء في شنباء. كما يجوز لك في قولك: أقم البصرة أن تقلب الباء ميما، وتدغم فتقول: أقم البصرة قلت: ذلك لا يجوز عندي لما يقع فيه من اللبس بما عينه ولامه ميم؛ ألا تراهم قد بينوا في قنبة وزنمة النون وأخرجوها من الفم لئلا يدغموا فيقولوا فيه وزمة فيتوهم أنهما باءان وميمان، وتدغم مع الواو بغنة وبلا غنة؛ لأنها من مخرج ما أدغمت فيه، وإنما منعها أن تقلب مع الواو ميما أن الواو حرف لين يتجافى عنه اللسان والميم كالباء في الشدة ولزوم الشفتين فكرهوا أن يكون مكانها أشبه الحروف عن موضعها بالنون وليس مثلها في اللين والتجافي والمدة؛ فاجتملت الإدغام كما احتملته اللام وكثرة البدل لما ذكرت لك. قال أبو سعيد: أما إدغام النون في الواو بغنة وغير غنة؛ فقد ذكرناه، وأما قوله؛ لأنها من مخرج ما أدغمت فيه يريد لأن الواو من مخرج الميم، وقد أدغمت النون في الميم. وقوله: إنما منعتها أن تقلب مع الواو ميما كما قلبت مع الباء ميما في اعنبر، وأشباهه أن الواو يتجافى عنها اللسان، ويريد باللسان الشفتين وفي الواو أيضا مد ولين فتباعد ما بين الواو والميم كالباء في الشدة، ولزوم الشفتين فمن أجل بعد الميم من الواو وشبهها بالباء جعلت النون وهي شبيهة الميم مع الباء ميما ولم يجعل مع الواو ميما. وقوله: فكرهوا أن يكون مكانها أشبه الحروف من موضعها أي كرهوا أن تجعل النون ميما والميم أشبه الحروف من موضع الواو بالنون وليس مثلها في اللين والتجافي

والمد كما كانت الميم مثل الباء في الشدة ولزوم الشفتين. وقوله: واحتملت الإدغام في الواو كما احتملت اللام الإدغام؛ لأن اللام، وهي من مخرج النون تدغم في ثلاثة عشر حرفا سوى النون، وكثرة بدل اللام أنها تبدل إلى الحروف التي تدغم فيها كلها. قال: وتدغم مع الياء بغنة وبلا غنة؛ لأن الياء أخت الواو وقد تدغم فيها فكأنهما من مخرج واحد؛ لأنه ليس مخرج من طرف اللسان أقرب إلى الياء من الراء؛ ألا ترى أن الألتغ بالراء يجعلها ياء، وكذلك الألتع باللام؛ لأنها أقرب الحروف من حيث ذكرت لك منهما جعل سيبويه إدغام النون نفي الياء حملا على إدغامها في الواو؛ لأن الياء والواو كأنها من مخرج واحد، وإن تباعد مخرجهما لما بينهما من الاجتماع في المد واللين. وقد تدغم الواو في الياء نحو: طويته طيا، وشوية شيا، وأصله طويا وشويا؛ فإدغام الواو في الياء قد صيرهما بمنزلة المتجاورين فكان الياء من بين الشفتين. وقد ذكرنا حال النون، وأن خروجها قبل الحروف التي من بين الشفتين من الخيشوم غير ممكن، وخروجها قبل هذه الحروف من الفم مستثقل؛ فلا بد من قلبها. وقوله: لأنه ليس مخرج من طرف اللسان أقرب إلى الياء من الراء يريد أنه ليس بعد حروف طرف اللسان كالطاء وأختيها والظاء أقرب إلى الياء من الراء والنون من مخرج الراء، ويدغمون النون فيها ليريك ملابسة النون للياء بهذه الضروب من التعلق لتصحح إدغامها في الياء وهذه علة ثانية في إدغام النون في الياء. وقد احتج سيبويه في ادغام النون في الياء بحجتين: إحداهما تشبيه بالواو وردها إليها، والأصل إدغام النون في الواو، وإدغامها في الياء قياس على الواو. والحجة الثانية: أن تقول ليس مخرج من طرف اللسان أقرب إلى الياء من الراء، ويجوز طرح الواو في نحو هذا كقولك: زيد عالم، وشجاع وزيد عالم شجاع، ثم أيد ذلك بجعل الألتغ الراء ياء ليعلم قرب الياء من الراء والراء والنون متقاربان. ومعنى قوله: لأنها أقرب الحروف إلى الياء؛ لأن الياء أقرب الحروف من حيث ذكرت يعني من طرف اللسان منهما من الراء واللام. قال سيبويه: وتكون يعني النون مع سائر حروف الفم حرفا مخرجه من الخياشيم وذلك أنها من حروف الفم، وأصل الإدغام لحروف الفم؛ لأنها أكثر الحروف؛ فلما وصلوا إلى أن يكون لها مخرج من غير الفم كان أخف عليهم أن لا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة،

وكان العلم بأنها نون من ذلك الموضع مثله إذا كانت من الفم؛ لأنه ليس حرف يخرج من ذلك الموضع غيرها؛ فاختاروا الخفة إذا لم يكن لبس وذلك قولك من كان ومن قال، ومن جاء. قال أبو سعيد- رحمه الله-: جملة قول سيبويه أن النون تخفى إذا كانت ساكنة قبل خمسة عشر حرفا من حروف الفم وهي القاف والكاف والجيم والشين والضاد والصاد والسين والزاي والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء والفاء. ومن الناس من يخفيها قبل الغين والخاء، وإنما أخفاها عند هذه الحروف؛ لأنها حروف الفم وللنون مخرج من الفم فصارت هذه الحروف ملابسة للنون باشتراكهن في الفم ومع ذلك أن النون تدغم في حروف من حروف الفم والإخفاء في طلب الخفة كالإدغام في طلب الخفة؛ فلما أمكن استعمال الخيشوم وحده في النون ثم استعمال الفم فيما بعده كان ذلك أخف من أن يستعملوا الفم في إخراج النون ثم يعودوا إلى الفم فيما بعد النون وهذا معنى قوله: كان أخف عليهم أن لا يستعملوا ألسنتهم إلا مرة. ولا يقع لبس في خروجها من الخيشوم، وإنما ساغ هذا في حروف الفم خاصة دون حروف الحلق لقرب مدخل الخيشوم، ومخرجه من حروف الفم دون حروف الحلق. قال: وهي يعني النون مع الراء واللام والياء والواو إذا أدغمت بغنة فليس مخرجها من الخياشيم؛ لأنها لا تدغم في شيء من الحروف حتى يحول من جنس ذلك الحرف؛ فإذا أدغمت في حرف فمخرجه مخرج ذلك الحرف ولا يمكن إدغامها في هذه الحروف حتى تكون مثلهن سواء في كل شيء. وهذه الحروف لا حظ لها في الخياشيم، وإنما يشرب صوت الفم غنة، ثم ذكر حروف الحلق وهي الهمزة والهاء والعين والغين والخاء. وأن النون قبلها بنية موضعها من الفم قال: وذلك أن هذه الحروف تباعدت وليس من قبيلها فلم تخف هاهنا، كما أن حروف اللسان لا تدغم في حروف الحلق، وإنما خفيت مع حروف الفم كما أدغمت في اللام وأخواتها. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن حروف الحلق أشد علاجا وأصعب إخراجا وأحوج إلى تمكين آلة الصوت من غيرها، ومن أجل ذلك لا يمكن النطق بأربعة أحرف من حروف الحلق، وهي الهمزة والهاء والعين والحاء إذا كان قبلها النون الساكنة التي مخرجها من الخيشوم؛ لأنه لا علاج في إخراجها ولا اعتماد وإخراج حروف الحلق محتاج إلى اعتمادات تكون في اللسان؛ فإذا كان قبلها نون ساكنة بينة أمكن إخراجها؛ لأن النون

البينة مخرجها من اللسان وسبيلها سبيل سائر حروف اللسان كالراء واللام، وما أشبه ذلك. وسمعت أبا بكر بن مجاهد رحمه الله يقول: حروف الحلق التي تبين النون قبلها ستة؛ فأما ثلاثة منها فإن النون الساكنة تتبين عندها ضرورة من غير تعمل وهي الحاء والهاء والعين كقولك من عندك ومن حملك ومن هلال. وأما الهمزة إذا تعمل لتحقيقها تبينت النون كقولك: من أبوك؟ وقد يتوانى المتكلم عن تحقيقها فتنقلب حركتها على النون، وتنحذف كقولك من أبوك؟ وأما الغين والخاء فبعض العرب وبعض القراء يخرجها مخفاة فيحتاج في تثبيتها إلى تفقد وتعمل. وقد مضى أمر النون مع الغين والخاء وسنبين منه أيضا ما تقف عليه إن شاء الله. واحتج سيبويه لبيان النون عند حروف الحلق الستة فقال: وذلك أن هذه الستة تباعدت عن مخرج النون وليست من قبيلها يريد تباعد صوت الخيشوم من هذه الحروف وتعذر إخراجها بعد النون وقربت حروف الفم أنها أنها قد أدغمت في اللام وأخواتها يعني الراء واللام والياء فجعل ذلك سبب إخفائها مع ما يخفى عنده من حروف الفم. قال: ولم نسمعهم قالوا في ذلك هذا ختن سليمان؛ فأسكنوا مع هذه الحروف التي مخرجها معها من الخياشيم يعني إذا تحركت النون قبل السين وأخواتها وسائر الحروف التي تخفى قبلها النون وتخرج من الخيشوم لم تسكن كما تسكن النون المتحركة قبل الحروف التي تدغم فيها الإدغام من قبل أنها لا تحول حتى تصير من مخرج الذي بعدها. وترتيب لفظ سيبويه، ولم نسمعهم قالوا ختن سليمان كأنه قال لك ولم نسمعهم أسكنوا النون المتحركة مع الحروف التي تخفي النون معها نحو السين والقاف وسائر حروف الفم سوى ما تدغم فيه. ومعنى قوله: من قبل أنها لا تحول حتى تصير من مخرج التي بعدها أي لا تحول يعني النون مع السين والقاف والكاف وسائر حروف الفم كما تحول مع الستة الأحرف وهي الواو واللام والنون والميم والواو والياء. قال: وإن قيل: لم يستنكر يريد لو أسكنت العرب النون المتحركة مع الحروف التي تخفي قبلها من حروف الفم لم يستنكر ذلك؛ لأنهم يطلبون هاهنا من الاستخفاف ما يطلبون إذا تحولوا يريد أنهم يطلبون التخفيف بإخراج النون من الخيشوم مع حروف الفم فغير مستنكر أن يسكنوا النون المتحركة ليحصل لهم خروجها من الخيشوم وخفاؤها كما يسكنوها إذا أرادوا إدغامها فيحولونها إلى جنس ما تدغم فيه.

قال: ولم تقو هذه الحروف على أن لا تقلبها؛ لأنها تراخت عنها ولم تقرب قرب هذه الستة يعني: ولم تقو الحروف التي تخفي النون قبلها على أن تقلب النون إلى جنسها لتراخي ما بينهما وتباعده. وقد ذكرنا الحروف الستة التي تقلب النون قبلها ومعنى قوله: فلم يحتمل عندهم حرف ليس من مخرجه غيره للمقاربة أكثر من هذه الستة يريد لم يحتمل النون وهي حرف ليس من مخرجه غيره قبلها حرف سوى هذه الأحرف الستة من المقاربة والمناسبة وليس غير هذه الستة مثلها. قال سيبويه: وتكون ساكنة مع الميم إذا كانت من نفس الحروف والواو والياء بينة بمنزلتها مع حروف الحلق كقولهم شاة زنماء وغنم زنم وقثواء وقنية وكنية ومنية لأملهم على البيان مخافة الالتباس حتى يصير الحرف كأنه من المضاعف؛ لأن هذا قد يكون مضاعفا. ألا تراهم قالوا: محى حيث لم يخافوا الالتباس؛ لأن هذا مثال لا تضاعف فيه الميم أبدا. قال أبو سعيد- رحمه الله- قد ذكرنا أن النون تدغم في ستة أحرف تدغم في النون والراء واللام والميم والواو والياء. وقد يعرض في ثلاثة أحرف من هذه الستة علة توجب أن تبين النون الساكنة قبلها، وتخرج من الفم وهي الميم والواو والياء. وعلة ذلك أن تقع النون الساكنة في كلمة وبعدها ما يكون إدغامها فيه يوهم أن الأصل ليس بنون وذلك في مثل ما ذكره سيبويه شاة زنماء وغنم زم لتوهم أن عين الفعل ولامه ميمان، وأن منزلته كقولك شاة جماء وغنم جم. ولو أدغموا في الواو والياء في قنو قو وفي كنية ومنية كنة ومية فيصير بمنزلة ما عينه ولامه واوان كقولك: قو وجو أو ياءان جي. وإذا لم يقع لبس أدغم وذلك في شيئين أحدهما أن تكون الكلمتان منفصلتين فيعلم بالانفصال حرف كل واحدة من حروف الأخرى كقولك: من مالك ومن راقد ومن ياسر، والآخر أن تكون الكلمة يعرف من بنيتها أن فيها نونا مدغمة كقولك: امحى وهو انفعل؛ لأنا إن لم نجعلها انفعل وجعلنا المستددة أصلية صارت أفعل وليس في الكلام أفعل. ولو بنينا من وجل انفعل قلنا: اوّجل ومن يسر ايّسر فأدغمنا لزوال اللبس فصار ما

يزول فيه اللبس من كلمة واحدة قبلهما نون ساكنة ظاهرة في كلمة واحدة، ولا كلمتين. أما كلمة واحدة فلم تبن على نون ساكنة بعدها راء، وإما في كلمتين فإذا لقيت النون الساكنة لاما أو راء وجب إدغامها فيها كقولك: من لك، ومن رآك. والفرق بينهما وبين الميم والواو والياء أن الميم والواو والياء هن بعيدات من موضع النون، وإنما يجمع بينهن لأحوال التي ذكرناها فتبين النون معهن غير منكر للبعد بينهن. وأما الراء واللام والنون فبينهن من المقاربة ما يعدهن به بعض الناس من مخرج واحد. قال سيبويه: ولا نعلم النون وقعت ساكنة قبل الراء واللام؛ لأنهم إن بينوا نقل عليهم لقرب المخرجين كما نقلت التاء مع الدال في ود وعدان. وإن أدغموا التبس بالمضاعف ولم يجز فيه ما جاز في ود فيدغم؛ لأن هذين حرفان كل واحد منهما يدغم في صاحبه وصوتهما من الفم والنون ليست كذلك؛ لأن فيها غنة فتلبس بما ليس فيه غنة إذ كان ذلك مما تضاعف فيه الراء، وذلك أنه ليس في الكلام مثل قبر وعنل. وإنما احتمل ذلك في الواو والياء لبعد المخارج يريد أنه لو جاءت النون مع الراء واللام في كلمة فبينوها نثقل عليهم نحو قنر وعنل وإن أدغموها فقالوا: قر وعل لم يذر أنها نون قد أدغمت أم هما راءان، ولامان في الأصل. وقد أظهرت العرب التاء مع الدال على ثقل ذلك وكونها في موضع واحد؛ فقالوا: وتد الوتد يتده وعتود وعتدان. وليس يلزمهم إذا احتملوا الثقل في ذلك أن يحتملوه في جميع ما يستثقل ومنهم من يدغم فيقول ودّ في معنى وتد وعدان في معنى عتدان. قال الأخطل: واذكر غداته عدّانا مزنمة … من الحلق تبنى حولها الصبر ومنهم من يلزم في المصدر تده كقولك وعد يعد عدة استثقالا لوتد ومنهم من يلزم في الاسم اللغة الحجازية وهي وتد استثقالا لسكون التاء والدال بعدها، وكراهة الإدغام لئلا يدخل في باب رد وسد والذي يقول ود يعتمد على أنه قد علم بتصريف الفعل، وهو وتد يتد. وأما الجمع فقولهم أوتاد ومعنى قول سيبويه كما تقلب التاء مع الدال في ود وعدان

يريد في وتد وعتدان؛ فأدغموا. وقوله: ولم يجز فيه ما جاز في ود يعني من الإدغام فرق بين إدغام التاء في الدال، وإدغام النون في الراء، واللام فجعل إدغام التاء في الدال أقوى؛ لأن كل واحدة منهما تدغم في الأخرى، والراء لا تدغم في النون وإدغام اللام فيها ليس بالقوي وهما جميعا من الفم وصوتهما منه والنون ليست كذلك؛ لأن فيها غنة وهي من الخيشوم، وإذا أدغمت ذهبت. وقوله: وإنما احتمل ذلك في الواو والياء يعني احتمل بيان النون معهما في كلمة نحو قنو وكنية. قال سيبويه: وليس حرف من الحروف التي تكون النون معهم من الخياشيم تدغم في النون؛ لأن النون لم تدغم فيهن حتى يكون صوتها من الفم وتقلب حرفا بمنزلة الذي بعده، وإنما هي معهن حرف بائن مخرجه من الخياشيم فلا يدغمن فيها كما لا تدغم هي فيهن كما فعل ذلك بها معهن لبعدهن منها وقلة شبهها بهن؛ فلم يحتمل لهن أن تصير من مخارجهن. قال أبو سعيد: اعلم أنهم جعلوا الإدغام في النون ضعيفا لتغيرها وخروجها مرة من الفم ومرة من الخيشوم؛ فصار ذلك طريقا لإدغامها فيما بعد من مخرجها وقلبها إلى غيرها من غير إدغام كنحو قلبها في عنبر وهن بك فلم يدغموا فيها شيئا من الحروف التي معها من الخياشيم لبعدها منهن. قال: وأما اللام قد تدعم فيها وذلك قولك هنري والبيان أحسن؛ لأنه قد امتنع أن يدغم في النون ما أدغمت فيه سوى اللام؛ فكأنهم يستوحشون من الإدغام فيها يريد أن النون إذا كانت لا تدغم هي فيه؛ فلا تدغم هي فيه أبعد من أن تدغم فيها. وأما إدغام اللام فيها فلان اللام حرف وقع التعريف به مع الألف فأدغمت لكثرتها في حروف كثيرة حتى أدغمت فيما بعد من مخرجها وهو الضاد والشين فكان إدغامها في النون وهو من مخرجها أولى؛ فلما أدغمت اللام في النون في حال التعريف جاز إدغامها فيها في غير التعريف والبيان أحسن لضعف النون عن الإدغام فيها؛ ولأن النون قد أدغمت في أحرف لم يدغم فيها شيء منهن فكأنهم يستوحشون من الإدغام فيها لخروجها عن نظائرها. قال: ولم يدغموا الميم في النون؛ لأنها لا تدغم في الياء هي من مخرجها وهي مثلها في الشدة ولزوم الشفتين يعني إذا كانت الميم لا تدغم في الياء، وهي من مخرجها ومثلها

في الشدة ولزوم الشفتين؛ فهي أولى بأن لا تدغم في النون لبعدها منها ولا موافقة بينهما إلا في الغنة وهي دون موافقة ما بينهما وبين الياء. ثم ذكر إدغام لام المعرفة؛ فقال: وأما لام المعرفة؛ فتدغم في ثلاثة عشر حرفا لا يجوز فيها معهن إلا الإدغام لكثرة لام المعرفة في الكلام، وكثرة موافقتها لهذه الحروف واللام من طرف اللسان، وحرفان يخالطان طرف اللسان. فلا اجتمع فيها هذا وكثرتها في الكلام لم يجز إلا الإدغام. كما لم يجز في يرى حين كثر في كلامهم إلا حذف الهمزة إذ كانت الهمزة تستثقل، ولو قلت: ينأى لكنت بالخيار، والأخذ عشر حرفا النون والراء والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين والظاء والذال والتاء واللذان يخالطان الضاد والشين؛ لأن الضاد اتصلت لرخاوتها واستطالت حتى صارت إلى مخرج اللام والشين كذلك حتى اتصلت بمخرج الطاء. قال أبو سعيد: لام المعرفة يلزم إدغامها في هذه الحروف، وسائر اللامات لا يلزم إدغامها في هذه الحروف لام المعرفة، كما أن الهمزة في يرى يلزم تخفيفها، والأصل فيها يرأى مثل ينأى. وقد أجمعوا على تخفيف يرى وصار تخفيفا لازما، ولا يلزم تخفيف ينأى وتخفيف أنهم طرحوا حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها، وأسقطوا الهمزة، وقد مر ذلك في تخفيف الهمزة، ولا يلزم ينا إلا أن يختار مختار التخفيف، والأكثر الهمز. قال: فإذا كانت غير لام المعرفة نحو: هل وقل؛ فإن الإدغام في بعضها أحسن، وذلك قولك: هل رأيت؛ لأنها أقرب الحروف إلى اللام وأشبهها بها فضارعتا الحرفين اللذين يكونان من موضع واحد إذا كانت اللام ليس حرف أشبه بها منه، ولا أقرب كما أن الفاء ليس شيء أقرب إليها، ولا أشبه بها من الدال وإن لم تدغم فقلت: هل رأيت فهي لغة أهل الحجاز وهي غريبة جائزة. قال أبو سعيد- رحمه الله-: قد عرفك أن غير لام المعرفة ليس يلزم إدغامها في هذه الحروف، وأنه يجوز إدغامها وإظهارها وأن إدغامها في بعض أحسن منه في بعض؛ فبدأنا بإدغامها في الراء، وهي أحسن من إدغامها في سائر الحروف؛ ولأن الراء أقرب الحروف إلى اللام وأشبهها بها حتى أنك لترى بعض من يصعب عليه إخراج الراء يتكلم مكانها باللام فصارا وإن كانا متقاربين بمنزلة الحرفين اللذين من موضع واحد؛ فصارت اللام ليس شيء أقرب إليها من الراء، كما أن الطاء ليس شيء أقرب إليها، ولا أشبه بها

من الدال يريد أن اللام وإن لم تكن من مخرج الراء فليس حرف أقرب إليها من الراء فصارا بمنزلة الحرفين اللذين من مخرج واحد، وإنما تصير الدال أقرب إلى الطاء من التاء وهما من مخرج واحد؛ لأن التاء مهموسة والطاء والدال مجهوران؛ فالدال أشبه بالطاء من التاء. وقوله: «إن لم تدغم» فقلت: هل رأيت فهي لغة أهل الحجاز وقد تقدم أن غير لام المعرفة قد يجوز ترك الإدغام فيه. قال: وهي مع الطاء والتاء والدال والضاد والسين والزاي جائزة، وليس ككثرتها مع الراء؛ لأنهن تراخين عنها وهي من الثنايا وليس فيهن انحراف أراد وإدغاما للام في هذه الحروف الستة جائز وهي التي تلي الراء في حسن إدغام اللام فيها إذا لم تكن لام التعريف وليس جواز الإدغام فيها لكثرتها مع الراء؛ لأن الراء من مخرجها، وفيها انحراف مثل ما فيها وهذه الحروف تراخين عنها ومخرجها من الثنايا وليس فيهن انحراف كما فيها وفي الراء، ثم ذكر وجه جواز إدغامها مع هذه الحروف فقال: وجواز الإدغام على أن آخر مخرج اللام قريب من مخرجهن وهي حروف طرف اللسان، واللام كذلك؛ فالذي جوز إدغامها في التاء والذال والظاء وليس كحسن إدغامها مع هذه الحروف الستة؛ لأنهن من أطراف الثنايا، وقاربن مخرج الفاء. قال: وإنما جعل الإدغام في الثاء وأخواتها أضعف يعني بأخواتها الظاء والذال وفي الطاء وأخواتها أقوى؛ لأن اللام لم تسفل إلى أطراف الأسنان، كما لم تفعل ذلك الطاء وأخواتها. قال أبو سعيد: مخرج اللام إذا اعتبرت ذلك في الوقف عليها على اعتدال إخراجها من طرف اللسان ملصقا بما فوق أصول إحدى الرباعيتين وإحدى الثنيتين العاليتين غير نازلة إلى الثنايا والرباعيات، ولو تكلف إنسان إخراجها نازلا إلى نفس الثنايا والرباعيات أو منحرفا إلى الناب أمكن. والطاء والدال والتاء من طرف اللسان، وأصول الثنايا العلى. والظاء والذال والثاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا؛ فعلم أن اللام أقرب إلى الطاء وأختيها؛ لأنهن اشتركن من تقوية إدغام اللام في الطاء وأختيها. وقد سوى سيبويه بين الطاء والدال والتاء وبين الصاد والسين والزاي والصاد وأختاها أسفل من الطاء وأختيها، والصاد وأختاها أبعد من الطاء وأختيها؛ فكان ينبغي أن يكون الإدغام في الصاد أضعف.

هذا باب الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا

وللمحتج عن سيبويه أن يقول: إن الصاد والسين والزاي من حروف الصفير، ولهن قوة في باب الإدغام حتى يدغم فيهن غيرهن ولا يدغمن في غيرهن؛ فمن أجل ذلك ألحقهن في إدغام اللام فيهن بما قرب. قال: وهي مع الصاد والشين أضعف؛ لأن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان، والشين من وسطه، ولكنه يجوز الإدغام فيها لما ذكرت لك من اتصال مخرجها وأنشد قول: طريف بن تميم: يقول إذا استهلكت مالا للذة … فكيهة هل شيء بكفيك لائق يريد هل شيء. وقرأ أبو عمرو: وهثوب الكفار. قال: فأما التاء؛ فعلى ما ذكرت لك وكذلك أخواتها يعني ما ذكره من قوة إدغام التاء وأخواتها، وهي تلين الراء في قوة إدغام اللام. قال: وقرئ بتؤثرون الحياة الدنيا [الأعلى: 16] بالإدغام، ثم ذكر إدغام اللام في النون. قال: وهي أقبح من هذه الحروف وأتبع ذلك بكلام مفهوم إلى آخر الباب. هذا باب الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا حروف طرف اللسان اثنا عشر حرفا: الراء واللام، والنون والطاء والتاء والدال والصاد والزاي والسين والذال والظاء والثاء. فأما الراء منها؛ فلا تدغم في شيء لما فيها من التكرير. وقد روي إدغامها في اللام وسأذكره في إدغام القراءات إن شاء الله. وأما اللام والنون؛ فقد ذكر إدغامهما. والإدغام فيهما بما يغني عن إعادته، وأما الطاء والتاء والدال والظاء والثاء والذال؛ فكل واحدة من هذه الحروف الستة تدغم في عشرة أحرف منها الخمسة الباقية معها، وحروف الصفير كلها، وهي الصاد والزاي والسين، وفي الضاد والشين. وحروف الصفير لا تدغم في غيرها، ويدغم بعضها في بعض، وقد رتب سيبويه إدغام بعض ذلك في بعض ما يستحسن منه، ويقوي ما يضعف، وأنا أسوق كلامه وأفسر ما يحتاج إلى تفسير إن شاء الله. قال: الطاء مع الدال كقولك: اضبط دّلما لأنهما من موضع واحد، وهي مثلها في الشدة إلا أنك تدع الإطباق على حاله فلا تذهبه؛ لأن الدال ليس فيها إطباق والمطبق

أفشى في السمع ورأوا إجحاقا أن تغليب الدال على الإطباق، ومثل ذلك إدغامهم النون فيما تدغم فيه بغنة، وبعض العرب يذهب الإطباق حتى يجعلها دالا خالصة أرادوا أن لا تخالفها إذ آثروا أن يقلبوها دالا كما أدغموا النون بلا غنة، وكذلك الطاء مع التاء؛ إلا أن ذهاب الإطباق مع الدال أمثل قليلا؛ لأن الطاء كالدال في الجهر والتاء مهموسة، وكل عربي وهو قولك: اضبط توأما وتصير الدال مع الطاء طاء، وذلك قولك: انقذ طالبصا وكذلك التاء كقولك: ابعث طالبا؛ لأنك لا تجحف بهما في الإطباق، ولا غيره وكذلك التاء مع الدال؛ لأنه ليس بينهما إلا الهمس والجهر وليس في واحد منهما إطباق ولا استطالة ولا تكرير يريد ليس بين التاء والدال فضل إلا أن الدال مجهورة والتاء مهموس، وليس يفضل بذلك أحدهما على الآخر في الصوت فضلا بينا وليس في أحدهما فضل إطباق ولا فضل استطالة كما في الضاد والشين من الاستطالة ولا تكرير كما في الراء من التكرير واستشهد لبعض ما قدمه بقول العرب حتّهم يريدون حطتهم وبعده كلام يغني عنه ما مضى، ولو تبينت فقلت: اضبط دلاما واضبط تلك وانقذ تلك وانعت دلاما جاز. والبيان في هذا يثقل لشدتهن ولزوم اللسان موضعين لا يتجافى عنه فيثقل البيان في هذه الحروف إذا تلاقت؛ لأنها من موضع واحد وهي شديدة ولو كانت من موضع واحد، وكان رخوة لكان البيان أحسن، وذلك في الصاد والزاي والسين لرخاوتهن. قال: فإن قلت: أقول أصحب مطرا، وهما شديدتان؛ فالبيان فيهما أحسن فإنما ذلك لاستعانة الميم بصوت الخياشيم فضارعت ما لا يدغم ما قرب إليه فيه، وهو النون يريد أن الميم فيها غنة، والغنة من الخيشوم فصار بمنزلة ما تجافى عن موضعه وجرى فيه الصوت. وقد ضارعت الميم النون بالغنة والنون لا تدغم فيها فحسن ذلك الإظهار، والبيان وعلى أن الباء شديدة والرخوة والطاء والدال والتاء شديدات فما بين الباء والميم أبعد. قال: وقصة الصاد مع السين والزاي كقصة الطاء مع الدال والتاء إلى قوله، والبيان أحسن لرخاوتهن وتجافي اللسان عنهن يريد أن البيان في الصاد وأختيها أحسن منه في الطاء وأختها. قال: وقصة الظاء والثاء والذال كذلك إلى قوله: والبيان فيهن أمثل منه في الصاد والسين والزاي؛ لأن رخاوتهن أشد من رخاوتهن لانحدار طرف اللسان، ولم يكن له رد يعني أن الظاء والذال والثاء أشد رخاوة؛ لأن اللسان في النطق بهن يخرج عن الأسنان، ولا تردهن الأسنان كما ترد السين والزاي والصاد، وذلك أن الظاء والذال والثاء إذا وقفت

على كل واحد منهما رأيت طرف اللسان خارجا عن أطراف الثنايا والصاد والزاي والسين إذا وقفت على واحدة منهن رأيت الأسنان العليا مطبقة على الأسنان السفلى واللسان من وراء الأسنان إلى الفم. قال: والإدغام فيهن أجود وأكثر من البيان فيهن؛ لأن أصل الإدغام لحروف اللسان، وأكثر حروف الفم من طرف اللسان، وهو أكثر حروفا من طرف الثنايا يريد أن الإدغام في الحرفين اللذين يلتقيان من مخرج واحد، والأول منهما ساكن من حروف طرف اللسان أجود، وإن كان البيان في بعضهن أحسن منه في بعض؛ لأن أصل الإدغام في حروف اللسان والفم، وأكثر حروف الفم من طرف اللسان؛ لأن حروف الفم تسعة عشر حرفا منها اثنا عشر حرفا من طرف اللسان وطرف اللسان أكثر حروفا من طرف الثنايا؛ لأن حروف الثنايا من طرف اللسان، وليس كل حروف طرف اللسان من طرف الثنايا. قال: والطاء والدال والتاء يدغمن في الصاد والزاي والسين لقرب المخرجين لأنهما من الثنايا وطرف اللسان ألا ترى أن الطاء وأختيها من أصل الثنايا، وهي من أسفله قليلا ما بين الثنايا يعني الصاد وأختيها، وذلك قولك: ذهبت سلمى فتدغم التاء في السين، وقد سمعت فتدغم واضطر رده وقد سمعناهم ينشدون لابن مقبل. وكأنما اغتبقت صبر غمامة … بعر اتصفقه الرياح زلالا فأدغم التاء في الصاد، وقرأ بعضهم لا يسمعون يريدون لا يتسمعون، والبيان عربي جيد لاختلاف المخرجين. قال: وكذلك الطاء والثاء والذال؛ لأنهن من طرف اللسان، وأطراف الثنايا فهن الخوت، ومن حيز واحد والذي بينهما من الثنيتين يسير وذلك قولك: ابعث سلمة فتدغم واحفظ زد، وخذ صابرا وسمعناهم يقولون مدزمان فيدغمون الذال في الزاي ومذ ساعة وفي نسخة أبي بكر مبرمان فيدغمونها في السين والبيان فيهن أمثل؛ لأنهن أبعد من الصاد وأختيها، وهي رخوة يريد أن الطاء والدال والتاء أبعد من الضاد وأختيها الذال والثاء؛ فلذلك كان بيان الظاء وأختيها عند الصاد أمثل من بيان الطاء وأختيها عند الصاد وأختيها؛ فإن قال قائل: كيف صارت الطاء وأختاها أبعد من الصاد وأختيها قيل له: قد ذكرنا أن الطاء وأختيها والصاد وأختيها تنطبق الأسنان على اللسان عند النطق بهن، ولا يخرج اللسان عن الأسنان؛ فقد اشتركن في ذلك والظاء والذال والثاء يخرج اللسان عن الأسنان فيهن خاصة فقد باينهن وصارت الطاء وأختاها أقرب من الصاد وأختيها ومع

ذلك؛ فإن البيان تقوية رخاوة الطاء وأختيها. وقد مضى الكلام في نحو ذلك. قال: والظاء والذال والثاء أخوات الطاء والثاء والدال لا يمتنع بعضهن من بعض في الإدغام؛ لأنهن من حيز واحد، وليس بينهن إلا ما بين أصل الثنية وطرفها، وذلك قولك: اضبط ظالما، وابعد ذلك وانعت ثابتا، واحفظ طالبا، وخذ داود وابعث تلك وحجته قولهم: ثلاثة دراهم، فأدغموا، وقالوا: حدثتهم فجعلوا الثاء تاء والبيان فيهن جيد هذا كله بين من كلام سيبويه. وأما إدغام ثلاثة دراهم فلأن الهاء في ثلاثة تنقلب تاء في الدرج، وتسكن لإدغام في الدال من دراهم، وأما الصاد والسين، والزاي؛ فلا يدغمن في شيء من هذه الحروف التي أدغمت فيهن؛ لأنهن حروف الصفير وهير أندى في السمع، وهذه الحروف الثلاثة هي حروف الصفير وبها من الفضل في الصوت بما فيها من الصفير أكثر من التفاضل بين المجهور والمهموس والرخو ومثلهن فضل الحرف المكرر بالتكرير وهو الراء على ما يجاوزها مما ليس فيه تكرير؛ فلذلك لم تدغم الصاد والزاي والسين والراء فيما جاوزهن ومعنى أندى في السمع أي أبعد ذهابا كما قال الشاعر: فقلت ادعي وادع فإنه … أندى لصوت أن ينادي داعيان قال: وتدغم الطاء والتاء والدال في الضاد؛ لأنها اتصلت بمخرج اللام وتطأطأت عن اللام حتى اتصلت بما اللام فوقه من الأسنان، وفي نسخة أبي بكر مبرمان حتى خالطت أصول ما اللام فوقه ولم تقع من الثنية موقع الطاء لانحرافها؛ لأنك تضع للطاء لسانك بين الثنيتين وهي مع ذلك مطبقة؛ فلما قاربت الطاء فيما ذكرت أدغموها فيها كما أدغموها في الصاد، وأختيها، وأدغم فيها التاء والدال، كما أدغموها في الصاد؛ لأنهما من موضعها وذلك قولك: اضبط ضرمة وابعد ضرمة وانعت ضرمة وسمعتها ممن يوثق بد من العرب قال: ثار فضّجّت ضّجّة ركائبه فأدغم التاء في الضاد وكذلك أدغم فيها الظاء والذال والثاء لأنه من حروف طرف اللسان والثنايا. قال أبو سعيد- رحمه الله- جعل السبب في إدغام هذه الحروف في الضاد أن هذه الحروف قريبة المخرج من اللام، وأن الضاد قد اتصلت باللام وهي منحطة عن اللام

قليلا، وتشترك اللام وهذه الحروف جميعا في أنهن حروف طرف اللسان، وقد مضى تحقيق مخارجهن؛ فلما كانت اللام تدغم في الصاد أدغمت هذه الحروف فيها، وقوي ذلك بأن قال: وهي مع ذلك مطبقة يعني الضاد فلما قربت الطاء أدغموها يعني أنه قد صار بين الضاد والطاء سوى ما ذكر الإطباق فصارت الضاد للطاء أكثر مشابهة؛ فأدغمت الطاء فيها كما أدغمت في الصاد وأختيها ثم أرغموا أختيها الباء والدال في الصاد كما أدغموها في الصاد؛ لأنهما والطاء من مخرج واحد. قال: وكذلك الطاء؛ فالدال والثاء؛ لأنهن من حروف طرف اللسان والثنايا ويدغمن جميعا في الصاد والزاي والسين وهي من حيز واحد وهن بعد في الإطباق والرخاوة كالضاد فصارت الطاء، وأختاها كأنهن حيز واحد وفي الكتاب وهن بعد في الإطباق، وأظنه غلطا والذي يصحح عليه الكلام وهي بعد في الإطباق والرخاوة كالطاء يعني الضاد في الإطباق والرخاوة كالطاء فصارت الضاد بمنزلة حروف الثنايا. قال: ولا تدغم الضاد في الصاد والسين والزاي لاستطالتها كما امتنعت الشين ولا تدغم الصاد وأختاها فيها لما ذكرت لك فكل واحد منهما له حاجز ويكرهون أن يدغموها فيما أدغم فيها من هذه الحروف كما كرهوا الشين. والبيان عربي جيد لبعد الموضعين فهو فيه أقوى منه فيما مضى من حروف الثنايا أراه أنه لا تدغم الضاد في الصاد وأختيها لئلا تذهب استطالة الضاد، وهي فضيلة لها ولا تدغم الصاد وأختاها في الضاد لئلا يذهب الصفير الذي لهن وهو فضيلة لهن ففي كل واحد من الحيزين فضيلة هي حاجز له أن يدغم في الآخر. ومنزلة الضاد منزلة الشين في الامتناع من الإدغام في غيرها لما لكل واحد من الشين والضاد من الاستطالة. وقول سيبويه: ويكرهون أن يدغموها فيما أدغم فيها من هذه الحروف يعني أنهم يكرهون أن يدغموا الضاد فيما أدغم فيها من الحروف وذلك أن الضاد يدغم فيها سبعة أحرف وهي الطاء والتاء والدال والظاء والثاء والذال واللام والضاد لا تدغم في شيء منهن لما فيها من الاستطالة وهي بمنزلة الشين وفي إدغامها ذهاب الاستطالة. وقوله: والبيان عربي جيد لبعد الموضعين فهو أقوى منه فيما مضى من حروف الثنايا يريد أن ما أدغم في الضاد من هذه الحروف بيانها مع الصاد أجود من بيانها مع غيرها من حروف طرف اللسان التي مضى ذكرها قبل الضاد لبعد الضاد من هذه الحروف.

قال: وتدغم الطاء والتاء والدال في الشين لاستطالتها حين اتصلت بمخرجها وذلك قولك: اضبط شبثا وابعت شبثا وانقد شبثا. والإدغام في الضاد أقوى؛ لأنها قد خالطت استطالتها الثنية وهي مع ذلك مطبقة ولم تجاف عن الموضع الذي قربت فيه من الطاء تجافيها. ومما يحتج به في هذا قولهم عنبر وشنباء؛ فأدغموا. وتدغم الظاء والذال والثاء فيها؛ لأنهم أنزلوها منزلة الضاد، وذلك قولك: احفظ شنباء وابعث شنباء وخذ شنباء، والبيان عربي جيد، وهو أجود منه في الضاد لبعض المخرجين، وأنه ليس فيها إطباق، ولا ما ذكرت لك في الضاد. وقد تقدم القول بأن الضاد والشين بما فيهما من الاستطالة وليستا من حروف اللسان قد أدغم فيهما اللام، وأدغم في الضاد ما ذكرناه سوى اللام، وأدغم في الشين جميع ما أدغم في الصاد. والإدغام في الضاد أقوى؛ لأنها قد خالطت استطالتها الثنية، وهذه الحروف من الثنايا والضاد مع ذلك مطبقة والإطباق فضيلة، ولم تجاف الضاد عن الموضع الذي قربت منه الطاء تجافي الشين. قال: واعلم أن جميع ما أدغمته وهو ساكن يجوز فيه الإدغام إذا كان متحركا كما تفعل ذلك بالمثلين وحاله فيما يحسن فيه الإدغام ويقبح فيه وما يكون فيه أحسن، وما يكون خفيا وهو بمنزلته. وفي نسخة أبي بكر قبل أن يخفى كحال المثلين، وقد مضى القول في المثلين، وأن الأول منهما إذا كان متحركا جاز إسكانه وإدغامه، والمتقاربان اللذان يدغم أحدهما في الآخر يجريان مجرى المثلين؛ لأنا إذا أدغمنا أحدهما في الآخر مكانهما مثلات، وكلامه مفهوم. قال: وإذا كانت هذه الحروف المتقاربة في حرف واحد ولم يكن الحرفان منفصلين ازداد تعلا واعتلالا كما كان ذلك في المثلين، وأن الحرف لا يفارقه ما يستثقلون وهذا كلام مفهوم غير أن المثلين في كلمة وكلمتين إذا كان الأول منهما ساكنا لزم الإدغام ضرورة. وإذا كان متحركا في كلمة لزم الإدغام في أكثر الكلام ولم يلزم في الحروف المتقاربة الإدغام سواء كان ساكنا أو متحركا. قال: فمن ذلك قولهم في مثبرد مترد، فإنهما متقاربان مهموسان فالبيان حسن

وبعض العرب يقول: مترد وهي عربية جيدة والقياس مترد؛ لأن أصل الإدغام أن تدغم الأول في الثاني. قال أبو سعيد- رحمه الله- في مثرد وهو مفتعل من الثريد ثلاث لغات: مثترد وهو الأصل، ومترد على إدغام التاء في التاء، وهو القياس والأولى؛ لأن الأول إنما يدغم في الثاني ومثرد يقلب الثاني إلى جنس الأول، وإدغام أحدهما في الآخر أما الإدغام فلتقاربهما وهما مع التقارب مهموسان، وذلك مما يقوي إدغام أحدهما في الآخر. وأما البيان؛ فلأنهما ليسا بحرفين متجانسين يضطر الناطق إلى الإدغام إذا سكن الأول منهما، وأما إدغام الثاني في الأول بأن يقلب الثاني إلى جنس الأول ويدغم الأول فيه فقد مضى بعضه، وذلك في الحاء والعين إذا كانت الحاء أولا والعين ثانيا واخترنا الإدغام قلبنا العين جاء وأدغمنا الحاء في الحاء. وقالوا في مفتعل من صرت مصطبر أرادوا التخفيف حين تقاربا، ولم يكن بينهما إلا ما ذكرت لك وصارا في حرف واحد ولم يجز إدخال الصاد فيها لما ذكرنا في المنفصلين يعني من الصفير فأبدلوا من مكانها أشبه الحروف بالضاد وهي الطاء ليستعملوا ألسنتهم في ضرب واحد من الحروف، وليكون عملهم من وجه واحد إذ لم يضلوا إلى الإدغام، وأراد بعضهم الإدغام حيث اجتمعت الصاد والطاء فقالبوا الطاء صادا فقالوا: مصبر لما امتنعت الصاد أن تدخل في الطاء، وقلبوا الطاء صادا فقالوا: مصبر. وحدثنا هارون القاري أن بعضهم قرأ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن تاء الافتعال يلزم قلبها طاء مع أربعة أحرف ودالا مع ثلاثة أحرف؛ فأما الحروف التي يلزم قلبها معها طاء فهي حروف الإطباق الضاد والطاء والطاء والصاد. وأما الحروف التي يلزم قلبها معها دالا فثلاثة أحرف وهي الدال والذال والزاي فأما قلبها طاء مع حروف الإطباق؛ فلما بين الطاء وبين هذه الحروف من الإطباق فطلبوا حرفا من مخرج التاء يوافقها في الإطباق وهي الطاء. وقد علم أنه لا يقع لبس في ذلك، وأما قلبها دالا مع هذه الحروف؛ فلأن هذه الحروف مجهورة والتاء مهموسة. والتمسوا حرفا مجهورا من مخرج التاء موافقا لهذه الحروف في الجهر غير مطبق مثلهن، وهو الدال فمن ذلك ما ذكره سيبويه، وهو مصطبر أصله مصتبر فقلبنا تاء

الافتعال طاء لما ذكرناه فصار مصطبر ولك في مصطبر وجهان: أحدهما: مصطبر بالبيان لاختلاف الحرفين. وقال بعضهم: مصّبر فقلب الطاء صادا، ثم أدغم الصاد في الصاد، ولا يجوز إدغام الصاد في الطاء؛ فيقال: مطبر لما مضى أن حروف الصفير لا يدغمن في غيرهن، وسائر كلامه غير محتاج إلى تفسير. قال: والزاي تبدل بها التاء دالا وذلك مزدان؛ لأنه ليس شيء أشبه بالزاي من موضعها من الدال وهي مجهورة مثلها وليست مطبقة ومن قال: مصّبر قال: مزّان. قال أبو سعيد- رحمه الله- الأصل في مزدان مزتان لأنه مفتعل من الزاي وقلبت التاء دالا لما ذكرنا فصار مزدان؛ فإن أظهرت فالبيان حسن جيد لاختلاف المخرجين. وإن أدغمت قلبت الذال زايا ثم أدغمت الزاي في الزاي فقلت: مزّان كما تقول في مصطبر مصّبر وتقول في مستمع بالإدغام أن شئت لأنهما مهموسان فتقول: مسمع كما تقول مصبر فتقلب التاء سينا، ولا يجوز إدغام السين في التاء؛ لما ذكرنا. قال: وقد قالوا في اضطجر كقولهم مصطبر اضطجر افتعل من الضجر وقلبت الطاء تاء لما ذكرناه قلبا لازما، ثم لك أن تدغم الطاء في الضاد؛ فتقول اضجر ولا تدغم الضاد في الطاء فتقول اطجر، وكذلك الطاء إذا كانا منفصلين جاز البيان وترك الإطباق على حاله إن أدغمت فلما صار في حرف واحد ازدادا تقلا كانا يستثقلان في المنفصلين، وألزموها ما ألزموا الصاد والتاء؛ فأبدلوا مكانها أشبه الحروف بالتاء وهو الطاء ليكون العمل من وجه واحد كما قالوا: مقاعد ومغالق فلم يحتجوا الألف وكان ذلك أخف عليهم ليكون الإدغام في حرف مثله إذا لم يجز البيان والإطباق حيث كانا في حرف واحد، ولزم الإدغام بلا إطباق يريد أن الطاء إذا كان معها تاء افتعل مثل الضاد والصاد والطاء في قلب التاء طاء؛ فيقال في مفتفعل من ظلم مضطلم ثم أنت بالخيار أن شئت أظهرت وإن شئت أدغمت الظاء في الطاء فقلبت مظلم، وإن شئت قلت: مظلم فقلبت الثاني للأول على ما ذكرنا. وقوله: فأبدلوا مكانه أشبه الحروف بالطاء يريد أبدلوا مكان تاء الافتعال مع الظاء الطاء من مخرج التاء لاشتراك الظاء والطاء في الإطباق والاستعمال والجهر لئلا يتباعد بين الظاء والتاء. وقوله: كما قالوا قاعد ومعالق فلم يحتجوا الألف يريد أن القاف من حروف الاستعلاء، ولم يميلوا الألف عند دخولها لئلا يكونوا في صعود بالاستعلاء، وفي نزول

بالإمالة. وقد مضى شرح ذلك في الإمالة، وقوله: ليكون الإدغام في حرف مثله يعني إدغام الظاء في حرف مثله في الإطباق، ومن قال: مثرد ومصبر قال: مظلم وأقيسهما مظلم؛ لأن أصل الإدغام أن يتبع الأول الآخر ألا ترى أنك لو قلت في المنفصلين في نحو: ذهب به، وبين له فاسكنت الآخر لم يكن إدغام حتى تسكن الأول فلما كان كذلك جعلوا الآخر يتبعه الأول ولم يجعلوا الأصل أن يقينوا فيجعل من موضع الأول. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أجاز سيبويه مظّلم على قلب التاء ظاء، وقد تكلمت العرب بمثله الظاء والتاء في كلمتين وجاز فيهما إدغام الظاء في التاء ذهاب الإطباق في كلمة واحدة لا يجوز لقوة الإدغام في كلمة واحدة. وفضل الإطباق، وقوله: فكرهوا أن يلزموه ذلك في حرف ليس من حروف الإطباق يعني كرهوا أن يلزموه الإدغام في التاء في كلمة واحدة لذهاب الإطباق فقالوا: اظعنوا ولم يقولوا اتعنوا والأصل اظعنوا. قال: وكذلك الدال وهو قولك: أدانوا؛ لأنه قد يجوز فيه البيان في الانفصال مع ما ذكرنا من الثقل وهو بعد حرف مجهور؛ فلما كان هاهنا لم يكن سبيل إلى أن يفرد من التاء كما أفرد في الانفصال فيكون بعده غيره من الحروف فكرهوا أن يذهب جهره كما كرهوا إذ لا مع الدال يريد أن الدال مع التاء إذا التقتا في كلمتين جاز فيه والبيان على فقل لأنهما من مخرج واحد فإذا التقتا في كلمة واحدة لم يجز على الإدغام فقلبوا تاء الافتعال دالا وقلبها دالا أولى من قلب الداء تاء، وأن يقال مكان أدان أتان من جهتين: إحداهما ما ذكره سيبويه أن الدال فيما جهر فيكرهون قلبها تاء؛ فيذهب الجهر الذي في الدال والجهة الأخرى إن تاء الأفتعال زائدة فهي أولى بالتغيير من الأصلي. قال: وشبه بعض العرب ممن ترتضى عربيته هذه الحروف الأربعة الضاد والضاد والطاء والطاء في فقلت بهن في افتعل؛ لأن الفعل بني على التاء فأسكنت لامه كما أسكنت الفاء في افتعل وذلك قولك: حصط تريد حصت وخبطه تريد خبطته، وحفظ يريد حفظت وسمعناهم ينشدون كعلقمة. وفي كلّ حيّ قد تخبّط بنعمة … فحقّ لشاش من نداك ذنوب يريد أن من العرب من قلب باء المتكلم، والمخاطب التي هي ضمير الفاعل طاء إذا كان قبلها هذه الحروف الأربعة كما فعل بتاء الافتعال؛ لأن التاء لما اتصلت بما قبلها

وسكن لها ما قبلها ولم يمكن فصلها من الفعل صارت ككلمة واحدة، وأشبهت تاء افتعل، ثم قال: واعرب اللغتين، وأجودهما أن لا تقلب التاء هاهنا طاء؛ لأن التاء هاهنا علامة إضمار، وإنما تجيء لمعنى وتلزم الفعل ألا ترى أنك إذا أضمرت غائبا، قلت: فعل فلم يكن فيه وليست في الإظهار بمنزلة المنفصل يريد أن الأجود أن لا تقلب التاء طاء في فعلت وفعلت وفصل بين تاء الافتعال في هذه التاء بكلام واضح. قال: وقال: بعضهم عدة يريد عدته شبهها بها في أدان كما شبه الصاد وأخواتها بهن في افتعل قالوا فقده يريدون نقدته، وقياس هذه العلة أن تقلب تاء المتكلم، والمخاطب إذا كان قبلها دال أو دال وزاي ودالا كما يدل ذلك بتاء الافتعال. ولم يحكه سيبويه عنهم إلا في الدال. قال: واعلم أن ترك البيان أقوى منه في المنفصلين لأنه مضارع وأن تقول: احفظ تلك وخذ تلك وابعث تلك فتبين أحسن من حفظت وأخذت وبعثت وإن كان هذا حسنا عربيا حدثنا من لانتهم أنه سمعهم يقولون أخذت فيبينون يريد أن تاء المتكلم، والمخاطب إذا اتصلت بحرف تدغم فيه؛ فإن الإدغام فيه أقوى من إدغام ذلك الحرف في تاء منفصلة كان قولك أخذت وابعثت وحفظت إدغام ما قبل التاء في التاء أقوى من احفظ تلك خذ تلك وإذا كانت التاء متحركة وبعدها هذه الحروف ساكنة لم يكن إدغام؛ لأن أصل الإدغام أن يكون الأول ساكنا لما ذكرت لك في المنفصلين نحو تبين له، وذهب به فإن قلت: هلا قالوا: تبين أنهم فجعلوا اللام نونا، وأنهم لو فعلوا ذلك كان الأول هو الساكن؛ فلما كان كذلك كان الآخر أقوى عليه يريد أن التاء في استفعل إذا وقع بعدها حرف من هذه الحروف لم تغير التاء، ولا ذلك الحرف كقولك: استطعم واستضعف واستدرك وهذا واضح؛ لأن الأول متحرك، والثاني ساكن، ولا سبيل إلى الإدغام والتغيير إنما هو من توابع الإدغام، ولو كان بعد التاء في هذا البناء تاء أخرى لم تدغم كقولك: استتبع واستتلى واستد على أن ذلك لا إدغام فيه بأن المثلين فيهما يسكن ثانية ويتحرك أوله كقولك: رددت ورددن؛ لأن اللام لاتصل إليها، وكذلك لا سبيل إلى تسكين هذه التاء؛ لأن قبلها السين من استفعل ساكنة؛ فلو سكنت ألقيت حركتها على السين وحذفت ألف الوصل؛ فكثر التغيير فتجنبوا ذلك. وقوله: وأصل الإدغام أن يكون الأول ساكنا لما ذكرت لك في المنفصلين لهم وذهب به فإن قلت: هلا قالوا: تبين أنهم فجعلوا اللام نونا؛ فإنهم لو فعلوا ذلك كان الأول هو الساكن؛ فلما كان كذلك كان الآخر أقوى عليه.

قال: وقد يحرك في فعل ويفعلون ونحوهما والتاء هنا بين ساكنين في بناء لا يتحرك واحد منهما فيه في اسم ولا فعل يريد بفعل رد ويفعلون يريدون وأنه لما تحركت الدال الثانية أدغموا؛ لأنه لا بد في الإدغام من تحريك الثاني ليريد أنه لا يدغم في باب استفعل الثاء في الحرف الذي بعده لسكونه. وقوله: والتاء هنا بين ساكنين يريد استفعل قبلها ساكن، وهو السين، وبعدها ساكن، وهو فاء الفعل. وقد مضى الكلام في ذلك قال: ودعاهم سكون الآخر في المثلين أن بين أهل الحجاز في الجزم فقالوا: اردد ولا تردد وهي اللغة القديمة الجيدة يريد أن ينع مع سكون الثاني في الإدغام أن أهل الحجاز يبينون في المجزوم في الحرفين المثلين، وإن كان سكون الثاني في الجزم ليس بلازم كما يلزم السكون فاء استفعل؛ لأن المجزوم يجوز أن يبطل جزمه ويرفع وينصب ويدركه التثنية والجمع والنون الخفيفة والألف واللام وألف الوصل؛ فيحول لهن. وقد مضى الكلام في المضاعف وما بين أهل الحجاز وبين تميم من الاختلاف، وذكر اردد في الجزم لأن حكمه كحكمه في اللفظ وبنو تميم يدغمون فيقولون رد ولا ترد ولا يجعلونه كرددت لأن رد ولا ترد يدركها التثنية والجمع والنون الخفيفة والثقيلة والألف واللام في قولك: اردد الرجل ولا تردد الغلام وألف الوصل في قولك: اردد ابنك ولا تردد ابنتك، ورددت لا يدركه من ذلك شيء. قال: فإذا كان هذا في المثلين لم يكن في المتقاربين إلا البيان نحو وتدته فلهذا الذي ذكرت لم يكن في استفعل إلا البيان يريد أن الحرفين المثلين إذا كانا لا يدغمان في رددت ورددن في كلام العرب وفي اردد ولا تردد على لغة أهل الحجاز لسكون الثاني؛ فالمتقاربان أولى أن لا يدغم إذا سكن الثاني. قال: ولا تدغمها في استدار واستطال واستضاء كراهة تحريك هذه السين ولا تقع إلا ساكنة، ولا يعلم لها موضع تحرك فيه ومع ذا إن بعدها حرفا أصله السكون تحرك لعلة أدركته فكانوا خلقاء أن لو لم يكن إلا هذا أن لا يحملوا على الحرف في أصله أكثر من هذا فقد اجتمع فيه الأمران يريد أن التاء في استدان واستطال لا تدغم في الدال والطاء، وإن كانتا متحركتين لأنه كان يمنع من إدغامها في الطاء في استطعم لسكون الطاء؛ فكان قائلا قال: الطاء في استطال قد تحركت فهلا أدغمت التاء في الطاء؟ فتقول له: لو أدغمت التاء في الطاء لألقيت حركتها على السين، وهذه السين لم تكن قط إلا ساكنة وقوي ذلك بأن قال: والحرف الذي بعده في نية سكون يعني الطاء المتحركة في استطال

بعد التاء في نية سكون. وقوله: فكانوا خلقاء أن لو لم يكن إلا هذا يعني إلا هذا الإعلال أن لا يزيدوا فيه إدغاما وتغييرا لأنه إجحاف. قال: وأما اختصموا، واقتتلوا فليستا كذلك؛ لأنهما حرفان وقعا متحركين والتحرك أصلهما، كما أن الأصل في ممد تحرك الدال. وقد مضى الكلام في اختصموا وممدد وأشباه ذلك مستقصى. قال، وقالوا: وتد يتد ووطد يطد كراهية أن يلتبس بباب مددت يريد أنهم لو أدغموا التاء والطاء في الدال وجب أن يقال: ود يد فكان يلتبس عض يعض، ورد يرد ويلتبس برد من رددت ومع هذا لو قالوا: يد لجمعوا عليه ذهاب الواو التي هي فاء الفعل والإدغام الذي فيه الالتباس وذلك إجحاف ولم يوجد مثله فيما كان فيه الحرفان من جنس واحد إذا كان فاء الفعل واوا ولم يجئ مثل وددت إذ قال: ولم يكونوا ليظهروا الواو فيكون فيها كسرة وقبلها ياء وقد حذفوها، والكسرة بعدها يريد: لو أظهر الواو في يتد ويطد، وأدغموا الطاء والتاء في الدال لوجب أن يقولوا: يود بكسر الواو لأن الأصل في يتد يؤتد ويوطد فتلقى كسرة التاء والطاء على الواو؛ لأنه من باب وعد يعد ووزن يزن والأصل فيهما يوزن ويوعد. قال: ومن ثم عز في الكلام مثل رددت وموضع الفاء واو وليس في الكلام فعل فاء الفعل منه واو وعينه ولامه من جنس واحد؛ لأنه يلزمه إسقاط الواو في المستقبل نحو: وزن يزن وإدغام العين في اللام نحو: فر يفر وعض يعض فيلحقه إجحاف بإسقاط الواو مع الإدغام فقال: عز على معنى امتنع وجوده. قال: وأما اصبروا وظلموا ويخصمون وومضجع وأشباه ذلك؛ فقد علموا أن هذا البناء لا تضاعف فيه الصاد والضاد والطاء والدال فهذه الأشياء ليس فيها التباس وإن كان أصله اصطبر واظطلم ويختصمون ومضطجع؛ فلا يتوهم أن الضاد المشددة صارت في الأصل؛ لأنه ليس في الكلام بناء على حرف مشدد بعد ألف وصل وهما من جنس واحد في الأصل كما يتوهم في وتد ووطد إذا دغمنا فقلنا: ود لأنه ليس يلتبس بود من وددت وبمد وما أشبه ذلك. قال: وقالوا: محتد؛ فلم يدغموا لأنه يكون في موضع التاء دال يريد أنهم لو أدغموا في محتد فقالوا: محد فيشبه مفرد ومحد مما عينه ولامه من جنس واحد قولهم: يطوعون في يتطوعون ويذكرون في يتذكرون ويسمعون في يتسمعون والإدغام في هذا أحسن وأقوى إذا كان يكون في المنفصلين والبيان عربي؛ لأنهما متحركان كما حسن ذلك في يختصون،

وتصديق الإدغام قوله: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ويذكّرون. قال: أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن تفعل وتفاعل يتفاعل إذا كان فاء الفعل منه حرفا تدغم في التاء جاز إدغامه وإظهاره والحروف التي تدغم فيها التاء اثنا عشر حرفا: التاء نفسها، والطاء والدال، والظاء، والذال، والثاء، والصاد، والزاي، والسين، والضاد، والشين، والجيم؛ فإذا كان شيء من هذه الحروف بعد التاء، وكان الفعل مستقبلا، وآثرت الإدغام أدغمت التاء فيما بعده وقلبته إليه كقولك: في يتسمع ويتطير ويتشرب ويجبر يسمع ويذكر ويطير كما قال الله عز وجل يَذْكُرُونَ * ويَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ وفي يتفاعل نحو: يتطارق ويتدارك ويتساقط، وما أشبه ذلك يطارق ويدّارك ويسّاقط. وإذا كان في الماضي وآثروا إدغامه احتاجوا إلى تسكين التاء وإدغامه، وإذا سكنوا التاء لم يكن بد من ألف الوصل، وذلك قولك في تطوع اطّوّع وفي تزينت ازّينت وفي تدارأ القوم ادّارأ القوم وفي تثاقل اثاقل. وقال الله عز وجل: فَادَّارَأْتُمْ فِيها. وقال: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، وكذلك يجوز الإدغام في مصدر هذين الفعلين إذا كان التاء أحد الحروف التي تدغم التاء فيها كقولك: اطوع اطوعا وازين ازينا وادارأتم ادارأوا وأثاقلا والأصل تطوع وتزين وتدارأ وتثاقل. فلما أدغم وصار بألف الوصل صار على اطوع وازين وادارأ واثاقل، والإدغام فيما كان من مخرج التاء أقوى، وأما قول سيبويه؛ فإن وقع حرف مع ما هو من مخرجه مبتدأ أدغموا وألحقوا الألف الخفيفة يريد الفعل الماضي؛ لأن التاء في الفعل الماضي مبتدأ ليس قبله شيء. وقوله: أدغموا يعني أرادوا الإدغام؛ لأن الإدغام غير لازم والألف الخفيفة يريد بها ألف الوصل، قال: ودعاهم إلى إلحاق الألف ما دعاهم إلى إسقاطها حين قالوا: خطف فحركوا الخاء يريد أنهم لما سكنوا التاء مبتدأ احتاجوا إلى ألف الوصل فيما ليس ألف الوصل كما أنهم لما حركوا الحرف الساكن فيما فيه ألف الوصل وهو اختطف أسقطوا لأن الحاجة إلى ألف الوصل إنما هي لسكون الحرف المبتدأ، ويستغنى عنها بتحريكه. قال: فإن التقت التاءان في تفعيل نحو: تتكلمون؛ فأنت بالخيار إن شئت أثبت وإن شئت حذفت وتصديق ذلك تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ وتَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ فإن شئت حذفت الثانية كما قال تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ.

قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن ما كان على تفاعل أو تفعل فلحقته تاء أخرى للمخاطب أو للمؤنثة جاز حذف إحداهما؛ فأما سيبويه والبصريون فيقولون: المحذوفة الثانية، وذلك قولك: ما زيد لا تكلم في هذا ولا تغافل عنه وتقديره لا تتكلم فيه ولا تتغافل عنه وكذلك هند تكلم في هذا وزينب تغافل عنه. قال الله عز وجل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وتقديره: تتنزل وكذلك التقدير تتمنوا في كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ وكذلك لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أصله: تتولوا عنه، وإنما حذفوا إحداهما استخفافا؛ لأن لفظهما واحد؛ فإن انضمت الأولى لم يجز حذف إحداهما، ولو قلت: تتحمل وتتنازع على ما لم يسم فاعله لم يجز حذف إحداهما لاختلاف الحركتين، ولأنه يقع لبس بين تتفعل وتفعل. وقال بعض الكوفيين: التاء المحذوفة هي الأولى، وقال بعضهم: يجوز أن تكون المحذوفة هي الأولى ويجوز أن تكون الثانية. قال سيبويه محتجا: لأن المحذوفة هي الثانية قال: وإنما كانت الثانية أولى بالحذف؛ لأنها هي التي تسكن فتدغم في ازينت وادّارأتم، لأنها أسكنت وأدغمت وكذلك في تسمعون وتطير للمخاطب، والمؤنثة الغائبة تدغم التاء الثانية، وتسلم الأولى؛ فلما كان الاعتلال يلحقها دون الأولى كان الحذف لها دون الأولى؛ لأن الحذف كالاعتلال. قال: وهذه التاء لا تعتل في الذال إذا حذفت الهمزة، ولا تدغم لأنه يفسد الحرف ويلتبس لو حذفت واحدة منهما يريد أن الذال إذا خففوا همزتها فألقوا حركتها على الدال فصار تدل لم يجز إدغام التاء في الدال، ولا إدغام الدال في التاء في تدع وهما من مخرج واحد ولو فعلوا ذلك فسد لزوال لفظ الاستقبال. قال: ولا يسكنون هذه التاء في تتكلمون ونحوها ويلحقون الألف الخفيفة لأن ألف الوصل إنما لحقت واختص بها ما كان في معنى فعل وافعل في الأمر؛ فأما الأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين فأرادوا أن يخلصوها من باب فعل وافعل ولا يجوز حذف حرف جاء لمعنى المخاطبة، أو التأنيث ولم تكن لتحذف الدال من نفس الحرف فيفسد الحرف وتخل به ولم يروا ذلك محتملا إذ كان الباين عربيا؛ فكذلك تركت التاء التي للخطاب والاستقبال وهي الأولى على حالها، ولم تغير وفي آخر هذا الباب من نسخة أبي بكر مبرمان. قال: وأما الدكر فإنهم كانوا يقلبونها في مدكر وشبهه يقلبونها هاهنا وقلبها شاذ شبيه بالغلط.

هذا باب الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه والحرف الذي يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه ليقربوه فيما بعد

قال أبو سعيد- رحمه الله- الدكر جمع ذكره ولا طريق لقلبها دالا إلا من وجه يبعد، وهو أنهم قد قلبوا الدال من مدكر وأصلها مذتكر وقد ذكرنا ذلك فيما مضى. هذا باب الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه والحرف الذي يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه ليقربوه فيما بعد فأما الحرف الذي يضارع به الحرف الذي من مخرجه؛ فالضاد الساكنة إذا كانت بعدها الدال وذلك نحو: قولك: مصدر وأصدر التصدر لأنهما قد صارتا في كلمة واحدة، كما صارت مع التاء في افتعل؛ فلم تدغم في التاء لحالها التي ذكرت لك. ولم تدغم الدال فيها، ولم تبدل؛ لأنها عين، وهي من نفس الكلمة فلما كانت من نفس الحرف آخريتا مجرى المضاعف الذي هو من نفس الحرف من باب مددت؛ فجعلوا الأول تابعا للآخر فضارعوا به أشبه الحروف من موضعه بالدال، وهي الزاي؛ لأنها مجهورة غير مطبقة ولم يبدلوها زايا خالصة كراهة أن يجحفوا بها لإطباق كما كرهوا ذلك فيما ذكرنا قبل هذا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أما الحرف الذي يضارع به فهو الضاد والحرف الذي من موضعه هو الزاي من موضع الصاد ومضارعته له أما أن تجعل الصاد والزاي الذي هو من موضعه وشرطه أن تسكن الصاد وبعدها دال كقولك: مصدر واصدر والتصدير، وليس يلزمك أن تجعل الصاد الساكنة التي بعدها الدال بين الصاد والزاي بل لك في ذلك ثلاثة أوجه إن شئت جعلتها بين الصاد والزاي وإن شئت جعلتها زايا خالصة، وجواز قلبها زايا خالصة، وقلبها حرفا بين الصاد والزاي أن الصاد مهموسة رخوة مطبقة، والدال مجهورة شديدة غير مطبقة فنبت الصاد عن الدال لما بينهما هذه المخالفات بعض النبو فجعل مكان الصاد حرف بين الصاد والدال هو الذي هو من مخرجها يقارب الدال ويوافقها في بعض صفاتها؛ فيكون أشد ملاءمة للدال، وأقل نبوأ عنها من الصاد وذلك الحرف هو الزاي مجهورة غير مطبقة فوافق الدال بالجهر وعدم الإطباق ووافق الصاد بأنهما من مخرج واحد، وبالصفير الذي في الصاد والزاي فمن قلبها زايا خالصة فيما ذكرناه من موافقة الزاي للصاد والدال. وأما من جعلها بين الصاد والزاي فإنه كره أن يقلبها زايا خالصة فيذهب الإطباق الذي في الضاد، والإطباق فضيلة في الضاد، وقد ذكرناه فيما مضى، ويكون ذهاب

الإطباق إجحافا بها. وقوله: وقد صارتا في كلمة واحدة يعني الصاد والدال؛ فلم تدغم الصاد في الدال كما صارت في التاء مع الثاء في افتعل؛ فلم تدغم في التاء لحالها التي ذكرت لك يريد أن الصاد والدال إذا اجتمعتا في كلمة واحدة أشبهتها افتعل من صبر وذلك قولك: اصطبر وأصله اصتبر فلم تدغم الصاد في تاء اصتبر بل قلبت طاء، وكذلك لا تدغم الصاد في الدال من يصدر بل جعلت بالصاد بين الزاي وبين الصاد. وقد تقدم أن الصاد وأختيها لا يدغمن في شيء من غير مخرجهن للصفير الذي فيهن وهذا معنى قوله؛ فلم تدغم في التاء لحالها يعني لسبب الحال التي لها من الصفير لم تدغم في التاء. وقوله: ولم تدغم الدال فيها، ولم تبدل؛ لأنها عين، وهي من نفس الكلمة أجريتا مجرى المضاعف الذي هو من نفس الحرف من باب مددت فجعلوا الأول تابعا للآخر فضارعوا به أشبه الحروف من موضعه بالدال، وهي الزاي؛ لأنها مجهورة غير مطبقة، ولم يبدلوها زايا خالصة كراهة أن يجحفوا بها الإطباق كما كرهوا ذلك فيما ذكرنا قبل هذا يريد لم تدغم الدال فيها فيقال مصر لأن الدال من نفس الحرف والصاد قبلها فكرهوا أن يجعلوا الآخر تابعا للثاني على السبيل الذي ذكره كما أن باب مددت يقولون فيه مد يمد وأصله مدد يمدد فيجعلون الأول تابعا للثاني في الإدغام فيه. وسائر كلامه مفهوم قال: وسمعت الفصحاء من العرب يجعلونها زايا خالصة كما جعلوا الإطباق ذاهبا في الإدغام وذلك قولهم في التصدير والتزدير وفي اصدر ازدر وفي القصد القزد وإنما دعاهم إلى أن يقربوا ويبدلوا أن يكون عملهم من وجه واحد ولم يصلوا إلى الإدغام ولم يحسروا على إبدال الدال؛ لأنها ليست بزائدة كالتاء في افتعل والبيان عربي يني أن يقربوا أي إلى أن يجعلوا الصاد مقربة من الزاي، وهي الصاد التي بين الصاد والزاي ويبدلوا يجعلونها زايا خالصة دعاهم نبو هذه الصاد عن الدال وتباعد ما بينهما مما ذكرناه إلى تغيير الصاد بالتقريب والإبدال على ما قد مضى، ولم يصلوا إلى إدغام الصاد في الدال؛ لأن الصاد وأختها من حروف الصغير ولا يدغمن في غيرهن ولم يبدلوا الدال كما أبدلوا التاء التي قبلها صاد في اصبر طاء حين قالوا: اصطبر لأن التاء في افتعل زائدة، والدال في مصدر أصلية قال: فإن تحركت الصاد لم تبدل؛ لأنه قد وقع بينهما شيء فامتنع من الإبدال إذ كان الوجه ترك الإبدال وهي ساكنة، ولكنهم قد يضارعون بها فيقولون صدر وصدف البيان فيه أحسن وربما صارعوا بها وهي بعيدة نحو يصاد والصراط؛ لأن

الطاء كالذال والمضارعة هاهنا حين بعدت الدال كقولهم صويق ومصاليق فأبدلوا السين صادا كما أبدلوها حين لم يكن بينهما شيء في سقت ونحوها، ولم تكن المضارعة هاهنا الوجه لأنك تخل بالصاد لأنها مطبقة، وأنت في صقت تضع موضع السين حرفا أفشى في الفم منها للإطباق؛ فلما كان البيان هاهنا أحسن لم يجز البدل. قال أبو سعيد- رحمه الله-: إذا تحركت الصاد صار بين الصاد والدال حركة والحركة بعد الحرف المتحرك في التقدير فصار بين الصاد والدال حاجز وصار ما بينهما من التنافر والنبو أخف لأنه إنما ينافره وينبو عنه بالاجتماع فأجازوا فيه أضعف الأمرين وهو أن ينحى بالضاد نحو الزاي وذلك مستمر في كل صاد متحركة بعدها دال ولا يجوز قلبها زايا خالصة إلا فيما سمع من العرب وإذا فصل بين الصاد والدال بأكثر من حركة لم يلزم جواز جعلها بين الصاد والمضارعة بالصاد الزاي لم يستمر ذلك ولم يقل إلا فيما سمع نحو: مصادر والصراط لأن الطاء كالدال وقد قلبوها زايا في الصراط وذلك غير مطرد في جميع الصادات التي يبعد ما بينهما وبين الطاء والمضارعة بالصاد الزاي هاهنا حين بعدت من الدال كقولهم صويق ومصاليق فأبدلوها صادا كما أبدلوها حين لم يكن بينهما شيء في سقت ونحوها وذلك أن القاف إذا كانت بعد السين في كلمة واحدة فبعض العرب يقلب السين صادا إن كانت القاف إلى نصب السين أو كان بينهما حاجز كقولك: كقولك صقت وسبقت وصلق في سقت وصملق فشبهوا الصاد التي بينها وبين الدال بعد في كلمة واحدة بالسين التي بينها وبين القاف بعد في قلب القاف إياها صادا على بعدها منه وتغيير الصاد على بعد الدال منها في كلمة واحدة؛ فصار مصادر والصراط كصدر كما أن سملق وسبق كسقت. قوله: ولم تكن المضارعة هاهنا الوجه يعني الصاد المتحركة إذا كان كان بعدها دال فإقرارها على الصاد أحسن من جعلها بين الصاد والزاي ومضارعة الزاي بها؛ لأنها إذا ضارعت الزاي بها ذهب عنها الإطباق الذي كان لها وقلب السين صادا في صنت أجود من مضارعة الصاد بالزاي؛ لأنك إذا قلبت السين صادا فقد قلبتها إلى ما هو أفشى في الفم منها، وهو الصاد للإطباق الذي فيها، وهو فضيلة للصاد والمضارعة بالصاد الزاي دون الصاد الخالصة؛ فلما كان بيان الصاد أجود من جعلها بين بين لم يجز بدل الصاد المتحركة زايا لذهاب الإطباق إلا فيما شذ. وقد قرئ الزراط وذكرناه فيما تقدم. قال: فإذا كانت سين في موضع الصاد، وكانت ساكنة لم يحسن البدل، وذلك قولهم في يسدر يزدر وفي يسدل يزدل؛ لأنها من

مخرج الزاي وليست بمطبقة فيبقى فيها الإطباق والبيان فيها أحسن؛ لأن المضارعة في الصاد أكثر من البدل، وأعرب والبيان أكثر فيها أيضا، وفي نسخة أبي بكر أكثر من البدل وأعرف يريد أن السين إذا كان بعدها الدال وهي ساكنة لا يجوز أن تبدل منها زاي خالصة كما تبدل الصاد الزاي الخالصة، وإنما يضارع بالسين الزاي كما يضارع بالصاد الزاي. وإنما جاز أن يبدل من الصاد الزاي، ولا يبدل من السين؛ لأن الدال أشد نبوة عن الصاد منها عن السين؛ لأن الدال والسين ليستا بمطبقتين فهما مشتركتان في عدم الإطباق فيهما؛ فلم يبلغ من نبوة الدال من السين وبعدها منه ما أوجب قلبها زايا خالصة فاقتصروا على المضارعة فقط وأيضا فإن المضارعة في الصاد أكبر ومن البدل وأعرب والبيان في السين والصاد جميعا أكثر. قال: فأما الحرف الذي ليس من موضعه فالشين لأنها استطالت حتى خالطت أعلى الثنيتين وهي في الهمس والرخاوة كالصاد والسين، وإذا أجريت فيهما الصوت وجدت ذلك بين طرف اللسان، وأعلى الثنيتين وذلك قولك: اشدق فتضارع بها الزاي والبيان أعرب وأكثر وهذا عربي كثير. والجيم أيضا قد قربت من الزاي فجعلت بمنزلة الشين، وذلك قولهم في الأجدر أشدر، وإنما حملهم على ذلك أنها من موضع حرف قد قرب من الزاي كما قلبوا حرف تقلب فيه النون ميما وذلك الحرف الميم وقد قربها منها في افتعلوا حين قالوا: اجدمعوا واجدروا يريدون اجتمعوا واحتوروا ليكون العمل من وجه واحد، ولا يجوز أن يجعلها يعني الجيم زايا خالصة ولا الشين لأنها ليست من مخرجها. قال أبو سعيد: أما الشين فهو الحرف الذي ذكره في الباب حيث قال: والحرف الذي يضارع به ذلك الحرف والمجرور الشين والمرفوع الزاي وليس من موضعه يعني به والشين الذي يضارع به الزاي وليس الزاي من موضع الشين، والسبب الذي من أجله جاز أن يضارع بالشين الزاي إذا كانت ساكنة وبعدها دال أن الشين استطالت حتى خالطت أعلى الثنيتين. وإذا أجريت فيها الصوت يخرج من انفراج أعلى الثنيتين وذلك نحو موضع السين والصاد والشين في الهمس والرخاوة كالصاد والسين فهذه المشابهة أجروها مجرى الصاد والسين في المضارعة بها الزاي ثم تبعتها الجيم وحملت عليها، وإن لم يكن في الجيم من مشابهة الصاد والسين، ولا في مقاربة مخرج الصوت مثل ما بين الشين وبين الصاد والسين من أجل أن الجيم من مخرج السين فعمل بها ما عمل بالشين كما قلبوا النون ميما مع الباء

هذا باب تقلب فيه السين صادا في بعض اللغات تقلبها القاف إذا كانت بعدها في كلمة

في عمير ونحوه لا لملابسة بينهما أكثر من أن الباء من مخرج الميم والنون تقلب مع الميم ميما وكذلك لا ملابسة بين الجيم والزاي أكثر من أن الشين الذي هو من مخرج الجيم قد صورع به الزاي. ومعنى قوله: من موضع حرف قد قرب من الزاي، وذلك الحرف الشين ومعنى قربوها يعني قربوا الجيم. وقوله: منها: يعني من الزاي وجعلوا تاء افتعلوا إذا كان قبلها جيم دالا لأنها من مخرجها وهي شديدة فقالوا: اخدمعوا واجدروا في معنى اجتمعوا واجتوروا فجعلوا الجيم بين الزاي والجيم. وقوله: لأنهما ليستا يعني الجيم والسين من مخرجها يعني من مخرج الزاي. هذا باب تقلب فيه السين صادا في بعض اللغات تقلبها القاف إذا كانت بعدها في كلمة وذلك قولك: صقت وصبقت والصملق وذلك أنها من أقصى اللسان فلم تنحدر انحدار الكاف إلى الفم، وتصعدت إلى ما فوقها من الحنك الأعلى والدليل على ذلك أنك لو جافيت بين فكيك وفي نسخة أبي بكر مبران بين منكبك فبالغت، ثم قلت: تق لوجدت ذلك لانحل بالقاف ولو فعلت بالكاف وما بعدها من حروف اللسان أخل بهن ذلك فهذا آية لك على أن معتمدها على الحنك الأعلى؛ فلما كانت كذلك أبدلوا من مكان السين أشبه الحروف بالقا فليكون العمل من وجه واحد وهي الصاد؛ لأنك ترفع لسانك إلى الحنك الأعلى للإطباق فشبه بإبدالهم الطاء في مصطبر والدال من مزدجر ولم يبالوا ما بين السين والقاف من الحواجز وذلك لأنها قلبتها على بعد المخرجين فكما لم يبالوا بعد المخرجين لم يبالوا ما بينهما من الحروف إذ كانت تقوي عليها والمخرجان متفاوتان هذا كلام واضح مفهوم. وأقصى اللسان يريد به أقصى الفم، قال: ومثل ذلك قولهم: جلباب وفي نسخة أبي بكر جلبلاب لم يبالوا ما بينهما وجعلوها بمنزلة عالم، وإنما فعلوا هذا لأن الألف قد تمال في غير الكسر في صار وغرقى وحبالى ونحوها، وكذلك القاف لما قويت على البعد لم يبالوا الحاجز يريد أن القاف قد قويت على قلب السين صادا، وإن كان بينهما حاجز كما أن الكسرة التي هي أحد الأسباب الموجبة لإمالة الألف قد يكون بينها وبين الألف الممالة حاجز كقولهم جلباب، وبين الكسرة والجيم والألف الممالة لام جلباب وباؤه

وسائر ما ذكره بين. قال: والعين والخاء بمنزلة القاف من الفم وقربهما من الفم كقرب القاف من الحلق وذلك قولهم صالغ في سالغ وصلخ في سلخ وهذا كلام ظاهر. قال: وإذا قلت: زقا أو زنوا لم يغيرها؛ لأنها حرف مجهور لا يتصعد وإنما تصعدت الصاد من بالسين وهي مهموسة مثلها؛ فلم يبلغوا هذا إذ كان الأعراب الأجود الأكثر في كلامهم ترك السين على حالها، وإنما يقولها من العرب بنو العنبر يريد أن الزاي وهي من مخرج السين إذا كان بعدها قاف لم تقلب صادا كما قلبت السين؛ لأن السين والصاد مهموستان فقلب السين صادا على اتفاقهما في المخرج واتفاقهما في الهمس والرخاوة أقوى من قلب الزاي صادا وهما مختلفان في الهمس والجهر. وقوله: لأنها حرف مجهور لا يتصعد يريد أنها لا تجعل مطبقة مثل الصاد في الاستعلاء لاختلافهما في الجهر والهمس وإنما تصعدت الصاد من السين أي انقلبت منها والصاد مستعلية فكان السين قد استعلت بهذا الانقلاب ولم يبلغ من تنافر الزاي والقاف أن يقلبوها صادا على بعد ما بين الصاد والزاي في الجهر والهمس وترك القلب في السين هو الأعراب الأكثر وإنما يقلبها بنو العنبر الذين ذكرتهم. قال: وقالوا: ضاطع في ساطع لأنهم في التصعد مثل القاف وهي أولى بهذا لبعد المخرجين يريد أن الطاء في الاستعلاء مثل القاف؛ فكان قلب السين في ساطع أولى من قلبها مع القاف لأن السين أقرب إلى الطاء منها إلى القاف. قال: ولا يكون هذا في التاء إذا قلت نتق ولا في الثاء من ثقب فيخرجها إلى الطاء لأنها ليست كالطاء في الجهر والعشو في الفم والسين كالصاد في الهمس والصفير والرخاوة؛ فإنما يخرج من الحرف إلى مثله في كل شيء إلا الإطباق؛ فإن قيل: هل يجوز في ذقطها أن تجعل الذال ظاء؛ لأنهما مجهورتان ومثلان في الرخاوة فإنه لا يكون لأنها لا تقرب من القاف قرب الصاد، ولأن القلب أيضا في السين ليس بالأكثر؛ لأن السين قد ضارعوا بها حرفا من مخرجها بما هو غير مقارب لمخرجها ولا حيزها وإنما بينه وبين القاف مخرج واحد. وكذلك قربوا من هذا المخرج ما يتصعد إلى القاف؛ فأما التاء والثاء؛ فلا يكون في موضعهما هذا، ولا يكون فيهما مع هذا ما يكون في السين من البدل قبل الدال في التسدير إذا قلت التزدير. ألا ترى أنك لو قلت: التثدير لم تجعل الثاء ذالا لأن الظاء لا تقع وهنا ولأن

الثاء كذا. وفي نسخة أبي بكر مبكران ولأن الثاء لم يضارعوا من مخرجها بما هو غير مقارب لمخرجها كما فعلوا ذلك بالسين. قال أبو سعيد- رحمه الله-: اعلم أن سيبويه فرق بين قلب السين صادا مع القاف وبين قلب التاء طاء والثاء ظاء مع القاف بأشياء منها أن ما بين السين والصاد من الموافقة أكثر مما بين التاء والطاء والثاء والظاء؛ لأن السين كالصاد في الهمس والصفير والرخاوة وإنما يخرج من السين إلى صاد؛ لأنها مثلها في كل شيء الإطباق ثم أبطل سيبويه قلب التاء في نتو طاء وقلب الثاء ظاء بأن قال: قلب السين صادا قبل القاف ليس بالمختار ولا بالكثير في كلامهم، وإنما يتكلم به بنو العنبر مع القرب من القاف وبما بين الصاد والسين من المشابهة والموافقات وإذا كان قلب السين صادا ليس بالمختار مع ما بينهما كان ما دونه باطلا غير جائز. ومما فصل بيه بين السين وبين التاء والثاء أن السين قد ضارعوا بها حرفا يعني الزاي من من مخرجها يعني: من مخرج السين: لأن الزاي من مخرج السين بما هو غير مقارب لمخرجها يعني بين الشين، والجيم هما من مخرج واحد وبين القاف ومخرج واحد هو مخرج الكاف. وقوله: فقربوا من هذا المخرج ما يتصعد إلى القاف معناه قربوا من مخرج الزاي السين بأن قلبوا السين صاد لتصعد إلى القاف؛ فلما كان في مخرج السين الزاي، وهو مضارع بالجيم والشين القريبتين من القاف، ولم يكن من مخرج الثاء والتاء هو في يصارع مما يقرب من القاف كان ذلك مما يقوي حكم السين في قلبها صادا مع القاف، ومما يفصل بين السين وبين التاء خاصة أن السين يجوز أن يبدل منها حرف من مخرجها وهو الزاي ولا يجوز أن يبدل من التاء حرف من مخرجه وذلك قولهم في التسدير التزدير ولا يجعل مكان الثاء في قولك: التثدير التذدير لجعل مكان التاء وهي نظيرة السين في مخرجها يعني الذال وهي من الثاء بمحل الزاي من السين. قال أبو سعيد- رحمه الله-: الذي في الكتاب التصدير ولا أعرف له معنى في اللغة ولو جعل مكانه التذدير وهو كثرة اللحم على الرجل كان أحب إلي؛ لأن له معنى مفهوما، ثم قوى الظاء الذي هو حرف الإطباق من مخرجه لا يقع قبل الداء، وحرف الإطباق من مخرج السين وهو الصاد يقع قبل الدال في قولك: تصدير وتصدم، وتصدح، وغير ذلك.

هذا باب ما جاء شاذا مما خففوه على ألسنتهم وليس بمطرد

وباقي الباب مفهوم. هذا باب ما جاء شاذا مما خففوه على ألسنتهم وليس بمطرد فمن ذلك ست، وإنما أصلها سدس ودعاهم إلى ذلك كثرة استعمالهم إياه في كلامهم، ولأن السين مضاعفة وليس بينهما حاجز قوي، والحاجز أيضا مخرجه أقرب المخارج إلى مخرج السين فكرهوا إدغام الدال فيزداد الحرف سينا فتلتقي السينات ولم تكن السين تدغم في الدال لما ذكرت لك فأبدلوا من السين أشبه الحروف بها من موضع لئلا يصيروا إلى أثقل مما فروا منه إذا أدغموا وذلك الحرف التاء كأنه قال: سدت ثم أدغموا الدال في التاء، ولم يبدلوا الصاد لأنه ليس بينهما إلا الإطباق. قال أبو سعيد- رحمه الله-: كلام سيبويه بين وأنا أرتب إدغامه، وأقرب إن شاء الله فأول ذلك إن ستا شاذ وأصله سد بهن والدليل على شذوذه أنه لو كان يلزم فيه الإدغام لوقوع الدال الساكنة بين السينين لكان يلزم في سدس الشيء ست وفي سدس الإظماء ست وذلك ما لا يقوله أحد وإنما أدغموا ستا وستة على الشذوذ في الإدغام وأصلها سدس وسدسة لأنهما اسمان للعدد ودورهما في الكلام كثير؛ فاستثقلوا السينين المتطرفتين في موضع فاء الفعل، ولامه وبينهما دال والدال قريبة المخرج من السين فتصير كأنها ثلاث سينات، وقد تقدم في إدغام الحروف أن الدال تدغم في السين والسين لا تدغم في الدال فلو أدغموا على ما يوجب حكم الإدغام لوجب أن يقال: سس فيجتمع ثلاث سينات؛ فكرهوا ذاك إذ هم قدبوا من سينين بينهما دال وكرهوا أن يقلبوا السين دالا فيدغموا الدال في الدال كما يعمل في الإدغام من قلب الثاني إلى جنس الأول فيقولوا: سد فيصير كأنهم أدغموا السين في الدال فقلبوا السين إلى أشبه الحروف بها من مخرج الدال وهو التاء؛ لأن التاء والسين مهموستان فصار سدت ثم أدغموا الدال في التاء؛ لأنهما من مخرج واحد، وقد سبقت الدال التاء وهي ساكنة فثقل إظهارها، ولم يقلبوا من السين صادا لأنه ليس بينهما إلا الإطباق، وكذلك لم يقلبوا من السين زايا؛ لأن ليس بينهما إلا أن الزاي مجهورة والسين مهموسة فلو قلبوا السين صادا وزايا كانتا كالسين. وقد استثقل ذلك واجتنب قال: ومثل مجيئهم بالتاء قولهم: يبجل كسروا ليقلبوا الواو، وقولهم: أدل لأنهم لو لم يكسروا لم يصيرا ياءين كما أنهم لو لم يجيئوا بالتاء ما كان إدغام. قال أبو سعيد- رحمه الله-: الأصل في يبجل يوجل فاستثقلوا فكسروا الياء ليكون

كسرها طريقا إلى قلب الواو ياء ولم يكن كسرها يوقع لبسا ولا يوهم بناء غير بنائه وأصل أدل ادلو لأنه جمع دلو مثل كلب واكلب فكرهوا وقوع الواو طرفا في الاسم وقبلها ضمة وكسروا ما قبل الواو لتنقلب الواو ياء. وقوله: لأنهم لو لم يكسروا لم يصيرا ياءين يريد الواو في يوجل والواو في ادلوا. قال: ومثل ذلك ورد وإنما أصلها وتد وهي الحجازية؛ ولكنهم أسكنوا أعنى بني تميم كما قالوا: فخذ وأدغموا ولم يكن مطرد لما ذكرت لك من الالتباس بالمضاعف حتى إنهم تجشموا وطد ووتدا وكان الأجود عندهم تدة وطدة إذا كانوا يتجشمون البيان يريد أن إدغام الدال في التاء في ست ليس بالمطرد لأنهما في كلمة واحدة فيلتبس بما عينه ولامه من جنس واحد، ومثل ذلك ود وأصله وتد وقد مضى الكلام في نحو ذلك. قال: ومما يبينون فيه قولهم: عتدان وقالوا: عدان شبهوه بود وقل ما تقع التاء في كلامهم ساكنة قبل الدال لما فيه من الثقل؛ فإنما يفرون إلى موضع يحرك فيه وهذا شاذ مشبه بما ليس مثله نحو: يهتدي ويقتدي. قال ابو سعيد- رحمه الله- عتدان جمع عتود وهو التبس وفيه لغتان اعتدان وعدان فأما عدان فشاذ كشذوذ دود في وتد لأنهما في كلمة واحدة ويجوز أن يتوهم أن المشدد عين ولام. وقوله: وإنما يفرون إلى موضع يحرك فيه يريد أنهم يختارون في المصدر يده وطدة ولا يختارون وتدا ولا وطدا لسكون التاء والطاء وبعدهما الدال وذلك مستثقل. وقوله: وهذا شاذ مشبه بما ليس مثله يعني ود وعدان شاذ وقد شبه بيهدي ويقدي في إدغام تاء يهتدي ويقتدي في الدال وتاء يهتدي ويقتد زائدة، ولا يقع في بنائه لبس؛ لأنه يعلم أنه يفتعل وليس كذلك ود وعد أن قال: ومن الشاذ قولهم: أحست ومست وظلت كرهوا التضعيف وكرهوا تحريك هذا الحرف الذي لا تصل إليه الحركة في فعلت الذي هو غير مضاعف؛ فحذفوا كما حذفوا التاء من قولهم: يستطيع لما كثرت في كلامهم كراهية تحريك السين، وهذا أحرى إذا كان زائدا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: أصل أحسست احسست وأصل مسست وظلت مسست وظللت وكرهوا الحرفين من جنس واحد ظاهرين غير مدغم أحدهما في الآخر فحذفوا الأول منهما المتحرك؛ لأنهم لو حذفوا الثاءان احتاجوا إلى تسكين الأول وإذا كانت التاء التي للفاعل والنون التي في جمع المؤنث يسكن ما قبلها فتكثر التغييرات، ومثل ذلك يستطيع أصله يستطيع وكثر في كلامهم فحذفوا أحد الحرفين فمنهم من يقول

يستطيع ومنهم من يقول يستبع وكرهوا إدغام لأنها لو لم تكن مخففة من اتقيت لكان بمنزلة رميت ومضيت وكان يلزم أن يكون يتقي بتسكين التاء بمنزلة يرمي ويمضي وكان يلزم الأمر منه: اتق بألف وصل كما يقال: ارم وامض. قال: وبعض العرب يقول: استخذ فلان ارضا يريد اتخذ كأنهم أبدلوا السين مكان التاء في اتخذ حيث كثرت في كلامهم وكانت تاءين فأبدلوا السين مكانها، كما أبدلت التاء مكانها في ست، وإنما فعل هذا كراهية التضعيف، ومثل ذلك قول بعض العرب الطجع في اضطجع أبدل الضاد مكان الصاد كراهية التقاء المطبقين فأبدل مكانها أقرب الحروف منها في المخرج والانحراف. وقد بين ذلك وكذلك السين، لم يجد حرفا أقرب إلى التاء في المخرج والهمس حيث أرادوا التخفيف منها، وإنما فعلوا هذا؛ لأن التضعيف مستثقل في كلامهم وفيها قول آخر أن يكون استفعل فحذف التاء للتضعيف من استتخذ كما حذفوا لام ظلت. وقال بعضهم في يستطيع يستع فإن شئت قلت: حذف الظاء كما حذف لام ظلت وتركوا الزيادة كما تركوها في تقيت وإن شئت قلت: أبدلوا التاء مكان الطاء ليكون ما بعد السين مهموسا مثلها كما قالوا: أزدان ليكون ما بعده مجهورا فأبدلوا من موضعها أشبه الحروف بالسين فأبدلوها مكانها كما تبدل هي مكانها في الإطباق. قال أبو سعيد- رحمه الله- أما الوجه الأول من تفسير وجهي سيبويه لقولهم: استخذ فأن يكون اتخذ بتشديد التاء ووزنه افتعل فأبدل من التاء الأولى وهي فاء الفعل سينا كما أبدلت التاء من السين في ست، وأصلها سدس ويقوي بهذا حذفهم هذه التاء الأولى من يتقي ويتسع على معنى يتقي ويتسع وليس إبدال السين من التاء على ما بينهما من الاشتراك في الهمس وتقارب المخرجين بأشد من حذفها في تقيت ويتقي ذلك لاستثقال التشديد وكراهيتهم له والحرف شاذ وكلامه فيه واضح وشبه إبدال التاء الأولى في اتخذ سينافي استخذ لما بين التاء والسين من الشبه بقلب بعض العرب لاما في الطدع يريد اضطجع استثقالا للحرفين المطبقين وهما الضاد والطاء واختاروا اللام لمشاركتها الضاد في الانحراف والمقاربة، وقد ذكرنا ما بينهما في الموضع الذي ذكر فيه إدغام لام المعرفة في الضاد والوجه الثاني أن يكون استفعل استخذ وحذفوا التاء الثانية الساكنة لأنهم لو حذفوا الأولى اجتمع ساكنان فأحوجهم ذلك إلى تغيير آخر وشبه سيبويه حذف إحدى التاءين في استتخذ بحذف إحدى اللامين من ظللت غير أن التاء المحذوفة من استتخذ هي الثانية واللام المحذوفة من ظللت هي الأولى لئلا يكثر التغيير.

قال: ومن الشاذ قولهم في بني العنبر وبني الحارث بلعنبر وبلحارث حذفوا النون وكذلك يفعلون بكل قبيلة يظهر فيها لام المعرفة فأما إذا لم يظهروا اللام فيها؛ فلا يكون ذلك فيها؛ لأنها لما كانت مما كثر في كلامهم، وكانت اللام والنون قريبتي المخارج حذفوها وشبهوها بمست لأنهما حرفان متقاربان ولم يصلوا إلى الإدغام كما لم يصلوا في مست لسكون اللام وهذا أبعد؛ لأنه اجتمع فيه أنه منفصل، وأنه ساكن ليتصرف تصرف الفعل بين تدركه الحركة ومثل هذا قول بعضهم علماء بنو فلان فحذف اللام وهو يريد على الماء بنو فلان. وفي نسخة أبي بكر مبرمان زيادة على كثير من النسخ وذلك قولك معنبر وبلحارث وعلماء بنو فلان وقال الشاعر: وما غلب القيسي من ضعف قوة … ولكن علت عمر له قنبر وقال: فما أصبحت عرض نفس بريئة … ولا غيرها إلا سليمان ما لها قال أبو سعيد- رحمه الله-: يريد أنك إذا وصلت صارت النون متحركة وبعدها اللام ساكنة، وقد سقطت الياء التي في بني لاجتماع الساكنين فصار بنو الحارث وبنو العنبر بنلحارث وبنلعنبر في تحريك النون وسكون اللام بعدها بمنزلة مسست في تحرك السين الأولى، وسكون الأخرى؛ فلم يقع إدغام فيهما لسكون الثاني فحذفوا النون كما حذفوا السين الأولى. وقوله: وهذا أبعد يريد والإدغام في بلعنبر أبعد منه في مسست من جهتين إحداهما أن اللام في بلعنبر ومن كلمة والنون من كلمة قبلها؛ لأن أصلها بني العنبر ومسست كلمة واحدة وقد تقدم أن الإدغام فيما كان منه في كلمة أقوى مما يكون في كلمتين والجهة الأخرى أن لام المعرفة مبنية على السكون لا تصرف لها في الحركة والسينان في مسست من كلمة واحدة والثانية منهما قد تكون متحركة من قولك مس يمس. وإنما يقع الإدغام في متحرك والذي لا يكون إلا ساكنا لا يقع فيه الإدغام. وقوله: «وإنما يقولون بلحارث وبلعنبر وما أشبه ذلك وبلهجيم وما أشبه ذلك ولا يحذف في بني النجار وبني النمر وما أشبه ذلك» لأن لام المعرفة إذا ظهرت بأن مخرجها فظهرت النون واللام وكأنهما من جنس واحد لما بينهما من التجاور لأن النون تدغم في اللام فصارتا كأنهما سينا مسست وأحسست ولاما ظللت وإذا أدغمت لام المعرفة في

هذا باب أفردته بعد الفراغ من إدغام كتاب سيبويه وتفسيره

حرف آخر باين ذلك الحرف النون، وأيضا فإن لام التعريف إذا أدغمت؛ فأبدلت الإدغام فقد اعلت فكرهوا حذف ما قبلها لئلا يدخلوا علة على علة. وقولهم: علماء بنو فلان أصله عللماء فحذفت اللام الأولى كما حذفت السين الأولى من مسست. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وقد تدخل على ونحوها على الألف واللام اللتين للتعريف الواقعتين على ما أوله همزة؛ فإذا لينت الهمزة وألقيت حركتها على اللام جاز إدغام لام على في لام المعرفة التي تحركت بالقاء حركة الهمزة، وذلك قولك علرض أصلها علل أرض ثم لينت همزة الأرض، وألقيت حركتها على لام التصريف فتصير عللرض لأن ألف على بعد لامها تسقط، ثم تدغم فتصير علرض وهذا قياس مطرد يجوز في جلاء الأمر وسلا الإقامة أن تقول: جلمر وسلقامة وأصله بعد تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها جللمر وسللقامة. وقد حكى أهل اللغة لعرض ونحوه على هذا التقدير ومثله (لكن هو الله ربي) على معنى لكن أنا ويخفف لكننا وليس هذا مثل علماء بنو فلان لأن هذا قد حذف منه إحدى اللامين وهو مثل ظلت ومست ولا يقاس عليه ومن روي فقد أصبحت علرض فهو قياس مطرد، ومن قال على أرض ولا يقبل ذلك منه إلا بثبت ورواية فاعرف ذلك إن شاء الله. هذا باب أفردته بعد الفراغ من إدغام كتاب سيبويه وتفسيره لذكر ما ذكره الكوفيون من الإدغام وبعضه يخالف مذهب سيبويه، وذكر الشاذ والاحتجاج في بعض ذلك، ومذهب الكوفيين في الإدغام قليل ليس بعام مستوعب للحروف والكلام عليها، ولم يصنفوا الحروف على ما صنفه سيبويه، ولم يلقبوها كتلقيبه وأنا ذاكر ما ذكره مما يحتاج إلى ذكره إن شاء الله. فمن ذلك أن الفراء سمى بعض الحروف مصوبا وذكر من الصوت الصاد والصاد وسمي بعضها أخرس وذكر منه التاء والباء وأظنه أراد بالمصوت ما جرى فيه من الصوت نحو: الضاد والصاد والضاد والزاي، والظاء والذال والثاء ونحو ذلك. وأراد بالأخرس الحروف الشديدة التي يلزم اللسان فيها مكانة، وهو الثمانية الأحرف الشديدة التي يجمعها قولك: أجدك قطبت؛ لأنه لما ذكر الباء قال: الشفتان ينضمان انضمام الأخرس لا صوت له وضعف الانضمام بالميم لأن الصوت من الخيشوم

يبقى في الميم مع انضمام الشفتين. وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن الفراء قال: إنما يعلم ما تناسب من الحروف باللغة أن يبدل الحرف من أخيه ويكون مع أخيه في قافية واحدة مثل مدح ومده والنون والميم في قافية والعين والهمزة مثل استأديت واستعديت وهذا كثير يبدل الحرف من أخيه فيدغم فيه إذا قرب ذا القرب. فقال الفراء: الهمزة والعين والحاء والهاء أخوات، وذلك أنهن متقاربات في المخارج إذا امتحنت ذلك وجدته. وقال أحمد بن يحيى بعد كلام الفراء: وقد ذكر إدغام الهاء في الحاء والحاء في الهاء؛ فقال: وقد قلنا أن اللغة قد أوجبت إدغام كل واحد منهما في صاحبه إذ وجب أن يقوم كل واحد منهما مقام صاحبه في قولهم: المدح والمده وهذا القياس وكذلك جعل الهمزة والعين متداخلتين من حيز واحد لإبدال أحدهما من الآخر في قولهم: استعديت واستأديت وهذا كله خطأ فاحش في باب الإدغام؛ لأنه يلزم قائله إذا اعتبر الإدغام بالقلب والإبدال في بعض المواضع أن يدغم الهمزة في العين والعين في الهمزة من حيث قالوا: استأديت واستعديت، وهذا لا يقوله أحد، ويلزمه أيضا أن يدغم الهاء في الهمزة والهمزة في العين من حيث قالوا: إياك وهياك وهيهات وايهات فيقول في أجبه أحمد أجبا أحمد، وفي اقرأ هذا قر هذا وذا مستشفع لا يقوله أحد، وكذلك تدغم الياء في الهمزة والهمزة في الياء من حيث قالوا: يلمعي والمعي إذا كان طريقا ويرقان وارقان ويلندد والندد ومعناه شديد الخصومة وطير يناديد متفرقة وكذلك إدغام الجيم في الحاء والحاء في الجيم من حيث قالوا: تركت فلانا يجوس بني فلان يعني يدوسهم ويطلب فيهم وكذلك يحوسهم بهذا المعنى وأحم الأمر وأجم إذا حان وقته؛ فيقال في الإدغام في قولنا: أخرج حاتما أخر حاتما وفي اذبح جذعا اذبحذعا وهذا مستشنع منكر لا يقوله أحد. وكذلك إدغام الثاء في الفاء والفاء في الثاء؛ لأنهم قالوا: جدت وجدف والدفي والدثي وغير ذلك مما يطول شرحه، وليس أحد يدغم بعض ما ذكرناه في بعض والنون تدغم في الراء ليس بين الناس في ذلك خلاف ولا تدغم الراء في النون عند الفراء ولا غيره؛ فيقال للمحتج عند اليس ألنون إذا ادغمت في الراء فإنما تدغم فيها لما بينهما من المؤاخاة لاجتماعهما في قافية أو بدل أحداهما من الأخرى ما ذكرناه عنه من صفة الحروف التي يدغم بعضها في بعض؟ فإذا قال: نعم قيل له؛ فبهذا المعنى أجز ادغام الراء في النون لأن الاتفاق بينهما قائم وقد ناقض فيه والصحيح ما قاله سيبويه من أن الراء فيها

تكرير وهو صوت تختص به الراء دون ما قاربها في المخرج. وأبدل منها، وكذلك غيرها من الحروف التي بها صوت، وتفش واستطالة نحو الصاد والزاي والسين والشين فكرهوا إدغامها لئلا يذهب ذلك الصوت ومن ذلك أن الفراء ذكر أن تاء افتعل إذا كان فاء الفعل من حروف الإطباق، وغنما قلبت طاء؛ لأن التاء حرف أخرس لا يخرج له صوت إذا بلوت ذلك وجدته فكرهوا إدغام مصوت في حرف أخرس فلما فاتهم الإدغام وجدوا الطاء معتدلة في المخرج بين الثاء والضاد لتكون غير ذاهبة بواحد من الحرفين. قال أبو سعيد- رحمه الله-: هذا كلام غير صحيح؛ لأن التاء إنما صار أخرس لأنه يلزم مكانه ولا يجري فيه الصوت والطاء مثله في الشدة أو أشد وكذلك الدال وهما في الخرس مثل التاء؛ لأن الطاء والدال يلزمان مكانهما ولا يجري فيهما الصوت إذا قلت اط واد كما لا يجري في قولك: ات فإن كاف إنما أزيل التاء للخرس؛ فلا ينبغي أن يجعل مكانه حرف مثله في الخرس. وقال سيبويه: إنما أتوا بالطاء مكان التاء مع حروف الإطباق التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء؛ لأن الطاء من حروف الإطباق وهي من مخرج التاء فجعلوها مكان التاء لموافقتها حروف الإطباق. وقوله: فلما فاتهم الإدغام وجدوا الطاء معتدلة في المخرج بين التاء والصاد والضاد؛ فإن الطاء من مخرج التاء والدال، وإنما بينهما وبين الطاء والدال أن التاء مهموسة غير مطبقة، والطاء والدال مجهورتان والطاء مطبقة، ومما يدل على بطلان ما قاله في ذلك أنهم يقلبون التاء دالا إذا كان فاء الفعل ذالا أو وزايا والتاء مثل الداء في المخرج والخرس والذي بينهما من الفرق الجهر والهمس. والصحيح ما ذكرناه عن سيبويه في موضعه الذي تقدم ومن ذلك أن أبا العباس أحمد بن يحيى لما حكي عن سيبويه عند ذكر الصاد والزاي والسين أنها تدغم أخواتها فيها ولا تدغم هي فيهن؛ لأن الصاد والزاي والسين وردت الصفير، وهي أندى في السمع وأن الصاد لا تدغم في الصاد والزاي والسين لاستطالة الصاد اعترض على سيبويه؛ فقال: قد أدغم النون وهي مغنونة في اللام؛ فما الفرق بين المغنونة وبين المستطيلة والتي فيها صفير؟ فطالب بفرق ولم يزد على ذلك. قال أبو سعيد- رحمه الله-: ولا يخلو أبو العباس في طلبه الفرق بين ذلك من أن يكون يرى أن النون لا تدغم في غيرها كما لا تدغم حروف الصفير والصاد في غيرهن أو

يرى أن حروف الصفير والصاد يدغمن في غيرهن كما أن النون تدغم في غيرها أو يكون ساكنا في ذلك طالبا للفرق فإن كان يرى أن النون لا تدغم في غيرها فذلك مخالف لمذهبه ومذهب أصحابه. والقراء في إدغام النون في خمسة أحرف قد ذكرناهن يجمعهن ويرمل ومذهب العرب هو الحجة في ذلك، وحسب مخطئ العرب في لغتها بتخطئته إياها وإن كان يرى أن يدغم حروف الصفير في غيرها فينبغي أن يقول في اصطعط وهو من الصعوط اصعط ويقول في اصطبر اطبر والذي قالته العرب إذا آثروا الإدغام اصعط واصبر. وقد حكى الفراء عليك بأبوال الإبل فاصطعطها، وقد قرئ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وهو إدغام من يصطلحا ولم يقل أحد بطلحاء ولا فاطعطها وإن كان شاكا طالبا للفرق ففيما ذكرنا من الحجة كفاية ونذكر فرقا بينهما لمن تدبره إن شاء الله، وهو أن النون مبتدأ مخرجها ومفتحها من الخيشوم إذا وقعت عليها أو حركتها أو أدغمتها في نون أو كانت ساكنة وبعدها حروف الحلق؛ فإن منتهاها من الفم في مخرج النون الذي يقارب مخرج الراء واللام، وإن كان بعدها الخمسة عشر التي تخفي معها، وهي مقصورة على الخيشوم لا تجاوزه إلى موضعها فهي في هذه الحالة أضعف منها إذا تجاوزت الخيشوم إلى الفم؛ فإذا أدغمت ازدادت قوة لأن حروف الفم أقوى، وهذه إذا تجاوزت الخيشوم إلى الفم أقوى منها إذا انفردت بالخيشوم؛ فليست تسلب إلا صوتا ضعيفا الذي صارت إليه أقوى من الذي سلبته وليس كذلك حروف الصفير لأنها من الفم وأصوبها فأشبه رخوة جارية تزيد فشوا على غيرها من حروف الفم. وقال الفراء: العنبر وكل نون ساكنة قبل الباء مخفى أخفيت النون قبل الباء، والذي قال سيبويه والبصريون الها ميم وهو الصحيح، ويمكن أن تجعل نونا إلا أنها إذا جعلت نونا فلا بد من بيانها كما تبين النون الساكنة قبل الحاء والهاء والعين لا يمكن إخراجها على مثال إخراجها قبل الكاف والقاف؛ فإن ادعى مدع أنها نون مخفاة غير بينة وهي ساكنة بعد هاء ياء قيل له: اجعلها ميما؛ فإذا جعلها ميما؛ فانظر هل بينها وبين النون المخفاة فرق لا يوجد فرق بينهما إذا تأملته وإذا كانت مخفاة مع الباء فهي بمنزلتها مع القاف والكاف ونحوهما، والذي شدد أدى مثله إلا الميم فإنها إذا شددت أدت نونا؛ فلذلك أدغمت في الميم ولم تدغم في أختها يعني الباء، وإنما امتنعت الباء أن تؤدي ما أدت الميم أن الشفتين ينضمان بالباء انضمام الأخرس الذي لا صوت له وضعف الانضمام بالميم فأدت النون من الأنف.

قال أبو سعيد- رحمه الله-: وفي هذا الكلام أشياء منها أنه ذكر أن تشديد الميم يؤدي نونا، وقد استقصيت امتحان ذاك فوجدت أن الميم المشددة لا تؤدي إلا ميما ولنفس الميم صوت من الخيشوم أظنه توهم أن ذلك الصوت هو النون وقد يشترك الحرفان والأكثر في شيء يختصان به ويباينان فيه سائر الحروف كاشتراك حروف الصفير. وحروف الإطباق وحروف الاستعلاء، وكذلك الميم والنون اشتركا في صوت الخيشوم، ومنها أنه منع إدغام النون في الباء. وقد رأينا أحدهما أبدل من الآخر قالوا: الذان والذاب في معنى العيب وأنشدوا: رددنا الكتيبة مفلولة … بها أفنها وبها ذابها ويروى هذا البيت في قصيدة أخرى: بها أفنها وهاذا أنها وما قاله الفراء في جواز الإدغام فيما يجوز البدل منه يوجب إدغام النون في الباء، وقد أباه ومنها أنه يجعل سبب إدغام النون في الميم أن الميم تؤديها. وقد زعم أن جميع الحروف لا تؤدي غيرها إلا الميم افترى جميع ما أدغم فيه غيره من الحروف لا يؤدي ذلك الحرف الذي أدغم فيه. قال الفراء: حكى الكسائي أنه سمع العرب تبين اللام يعني لام المعرفة عند كل الحروف إلا عند اللام مثلها، أو الراء والنون. قال: يقول بعضهم: الصامت، ولم أسمعها من العرب، وكان صد وقافي روايته والذي حكاه الكسائي لم يحكه أيضا البصريون. وإذا كانت اللام غير لام المعرفة لم يلزم إدغامها في الحروف التي تدغم فيها لام المعرفة وسأذكر بعض ذلك في باب القراءات إن شاء الله. وذكر الفراء أن العرب كرهوا إدغام الطاء والظاء في تاء افتعل كراهة أن يلتبس بافتعل من الوزن وبابه نحو: اتزن واتعد وقال قالوا: ما ترك جهدا، وهو يشاكل الافتعال من وزنت؛ لأنها تاء مع تاء فلا بد من الإدغام، وإنما فرقوا في الوزن الذي لا يلزمه كل اللزوم إدغام بعضه في بعض لاختلاف لفوظه وهم إذا قارنتها مضطرون إلى الإدغام لسكون الأول، وحركة الثاني. قال أبو سعيد- رحمه الله-: جملة هذا الكلام أن الفراء زعم أن الطاء والظاء لم تدغما في تاء افتعل إذا قيل اطلع واظلم وأصله اطتلع واظتلم ولم يقل اتلع واتلم لئلا يلتبس

اتلع واتلم بأتزن، وهو افتعل فكان قائلا قال: فقد قالوا ما ترك جهدا وهو افتعل فلم لم يطلب الفرق من اطلع وبين اترك فقال: إنما طلبوا الفرق في افتعل بين حيزين وقع في كل واحد منهما قبل تاء افتعل حرف غير التاء؛ لأن باب اتزن وايأس يقع قبل تاء الافتعال واوا وياء وباب اطلع واظلم وقع قبل تاء الافتعال ظاء أو طاء ففصل بينهما وباب اترك إنما وقعت فيه تاء ساكنة قبل تاء افتعل فأدغمت ضرورة لأنها ساكنة قبل تاء افتعل، ولم يبين الفراء لم صار باب اتزن واتأس أولى بالياء من باب اطلع واظلم. وقد ذكرنا في تفسير كلام سيبويه في ذلك ما يكتفي به إن شاء الله. قال الفراء: ومما يدل على أنهم أرادوا الإدغام في التاء وأخواتها، ثم انثنوا عنه للفرق أنهم قالوا مذكر فقلبوا الأول لما كرهوا الإدغام الأول في الثاني واحتمالهم أن يدخل المتحرك في الساكن دليل على أنهم أرادوا الإدغام في التاء فلما فاتهم ردوا الثاني إلى ما كان يدغم فيه. قال أبو سعيد- رحمه الله- استدل الفراء على أن العرب أرادوا الإدغام في التاء في باب افتعل الذي فاؤه طاء أو ظاء أو ضاد أو زاي أو دال ثم أنثنوا عنه، وتركوه للفرق بينه وبين باب اتزن واتأس والأمر على خلاف ما قاله؛ لأنه اعتبر الفرق بين بابين مجملا ولم يعتبر خواص الحروف في أنفسها وأحكام إدغامها والإدغام فيها. وإنما ينبغي أن يعتبر أحكام الحروف في ذلك والدليل على ذلك أنا رأينا افتعل من غير باب اتزن واتأس الذي فاء الفعل فيه واو أو باء وغير باب اتجر واترك الذي فاء الفعل فيه تاء قد جاء مختلفا في الإدغام حسب ما يوجب حكم الإدغام في الحروف كقولنا: اصطبر واصطلح يجوز أن تقلب الطاء صادا وتدغم الصاد في الصاد فتقول: اصبر واصلح ولا يجوز أن تدغم الصاد في الطاء فتقول: اطبر واطح وتقول فيما فاؤه ظاء إذا بني على افتعل نحو: افتعل من الظلم ومن الظن تقول: اظطلم واظطن وإن شئت قلت: اطلم، واطن، فتقلب الظاء طاء، ويجوز اظلم واظن، فتقلب الطاء ظاء ومثل هذا اذكر وادكر لأن كل واحد من الظاء والطاء يدغم في صاحبه، وكذلك كل واحد من الدال والذال يدغم في صاحبه. ولو قلت: ازدرع جاز أن تقول فيه ازرع، ولا تقول فيه: ادرع؛ لأن الزاي لا تدغم في الدال كما لا تدغم الصاد والضاد في الطاء، وتدغم الدال في الزاي والطاء في الصاد والضاد، وقالوا في افتعل من الثريد انثرد وقالوا: ترد واترد؛ لأن كل واحد من الثاء والتاء يدغم في صاحبه، ولم يسقطوا أثرد لمشابهة باب اتزن فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال الفراء: فإن قلت: فكيف قالوا: يتخذ من غير هذا الجنس وغير الياء والواو؟ قلت: أصلها من الأخذ وكثر بها تاء الافتعال فصارت بمنزلة اتقيت حتى توهمها بالتاء أنها أصل ووجدوا الهمزة مقاربا باللواو فاحتملوا ذلك وقواهم عليه قولهم: خذ بحذف الهمزة فضارعت رن وجنسها؛ فإن قال: فينبغي أن تجيزه في تتكل من اكلت وتتمر من أمرت لقولهم مر وكل قلت لو أن ذاك أني فيها لكان مذهبا، والأول أكثر لكثرته، وقالوا فيه لما كثرها تخذها سربه تقعده فكسر الحاء فصارت عند العرب كأنها فعلت وكان ينبغي أن تكون تخذها كما قالوا: تقاك كما قال الشاعر: تقاك بكعب واحد وتلذه … يداك إذا ما هر بالكف يعسل قال أبو سعيد- رحمه الله-: إذا كان اتخذ افتعل من الأخذ فالقياس فيه أن يقال: اتخذ يأتخذ ائتخاذا كما يقال في افتعل من الأمر ائتمر يأتمر ائتمارا ومن الأكل ائتكل الضرس ياتكل ائتكالا ويمكن أن يكون قلبوا الهمزة واوا ثم أدخلوه في باب اتزن، واتعد من الوعد والوزن. وأما قوله: قواهم عليه خذلانه يشبه زن في الحذف والنقصان ضعيف لأنهم يقولون: كل ومر بالنقصان ولا يقولون: اتمر واتكل، ويقال للمحتج عنه إذا زعمت أن ترك الإدغام في التاء في باب اطلع واظلم للفرق بينه وبين باب اتزن فهلا أدغموا في التاء الطاء إذا كانت عين الفعل معتلة من واو أو ياء لأن عين الفعل لا تعتل في باب اتزن فيقال في افتعل من طاع يطوع وإن يزن اتاع يتاع وأثاب يثاب وكلام العرب أطاع يطاع وازان يزان. فإن قال: لما وجب في الصحيح الفرق حمل عليه المعتل قيل له: فهلا حملت المنقوص في الأمر مما عينه من واو على الصحيح؛ فقلب في المعتل من جاز يجوز وجاز اتار واتار لأنك تقول: جز في الطريق وجزلنا يا ربنا، وهذا أبين ضعفا من أن يتشاغل به أكثر من ذا. وقد جعل الفراء تخذها مخففا من اتخذها كما يقال: تقاك من اتقاك، وهذا وهم؛ لأن تقاك خففت من اتقاك بأن حذفت التاء الأولى من اتقاك تخفيفا فبقيت التاء الثانية وهي تاء افتعل قلبها ألف الوصل وهي متحركة فاستغنى عنها فطرحت، وإذا فعل هذا باتخذ سقطت التاء الأولى وبقي تخذ ولا طريق لدخول الكسر. قال أبو سعيد- رحمه الله-: والوجه لتخذ أن تكون الياء منقلبة من فاء الفعل؛ أما

من الهمزة، وأما قلبت الهمزة واوا ثم قلبت الواو تاء وصرف منها فعل يفعل كما قالوا: اتلج يتلج أولج يولج فقلبوا التاء من الواو وصاغوا الفعل منه كما صاغوه من الواو والدليل على هذا أن أبا زيد الأنصاري حكى تخذ يتخذ وقال الشاعر: وقد تخذت رحلي إلى جنب غررها … نسيفا كافحوس القطاة المطرق وقال أبو زيد: يقال: اتخذنا مالا فنحن تخذه اتخاذا وقد ائتخذنا في القتال نأتخذ ائتخاذا بمعنى اتجهنا، وهو أيضا عندي بمنزلة تتخذنا وأصله من الواو من واجه بعضنا بعضا وصيغ الفعل من تاء مقلوبة من واو وأنشد أبو زيد: قصرت له القبيلة إذا تجهنا … وما ضاقت بشدته ذراعي وقال الأصمعي: تجهنا فقول الأصمعي في تجهنا يحتمل أن يكون على إسقاط التاء الأولى والقبيلة اسم فرسه وقال صخر الغي: تجهنا عاد بين فساد الفتى … بواحدها وأسلها تليدي قال الفراء: مما يدلك أنهم أرادوا الفرق بين وزنت والدال وأخواتها أين وجدت الذين يقولون: يتزن من كلامهم ياتزن وياتسع لك الطريق ويتزن، وإنما أرادوا أن لا يوافقوا يترك وأنشد: وايتصلت بمثل فنو الفرقد وقد ذكرنا فساد ما ذكره من طلب العرب الفرق بين حيزين. وقال الفراء: إنما قالوا: اتصلت فاتزنت فخلفوا الواو بالتاء وهي بعيد أنهم وجدوا الواو تسقط في يزن وتزن وتسقط في زنة فأحبوا أن يبنوا الفعل على النقص فلما جاءت تاء الافتعال، ويلزمها الحركة فلم يجدوا بدا من حرف يسكن قبلها ليخرج وزن افتعلت صحيحا، ومن شأنهم سقوط الواو وزادوا على التاء تاء ساكنة كما قالوا من وعن وكما قالوا الذي فزادوا على اللام متنها وأن الذين خلطوا فبدلوه مرة بالألف في ياتسع ومرة يتسع فإنهم قالوا في التاء والألف والنون بالكسر فلما لم يكسروا الياء جعلوا الواو تابعة لفتحة الياء من يفعل والذين قالوا: يتسع فإنهم أرادوا أن يخرجوا الياء صحيحة فكرهوا أن يعودوا إلى الواو، وقد أسقمت فردوه إلى الياء بناء على التاء والألف والنون. قال أبو سعيد- رحمه الله-: هذا الذي ذكره الفراء مذهب تفرد به والبصريون يدفعون أصل المذهب والحجة التي احتج بها، وأصل المذهب أن الفراء يقول: أن التاء الأولى من اتزنت واتصلت لا أصل لها في الكلمة وأنها ليست مبدلة من واو وصل ووزن

أن الواو التي كانت في وزن ووصل فاء الفعل قد سقطت في افتعل كما سقطت في يزن وازن وتزن وفي زنة وأن تاء الافتعال احتاجت إلى حرف ساكن قبلها فجاءوا بتاء مثلها تكثير الهاء كما زادوا اللام على لام المعرفة في الذي تكثير الهاء كما زادوا اللام وكما قالوا: مني وعني فزادوا نونا بسبب النون الذي في من وعن والذي قاله فاسد من جهات منها أن الذي يقولون ياتزن وياتسع هم يقولون في غير افتعل يزن ويصل وفي زنة وصلة وتزن وتصل وزنه فينقصون في يزن ويصل وفي زنة وصلة ما جرى مجراهما ولم يحملهم النقص في غير افتعل على النقص ومنها أنا رأينا الواو تبدل منها التاء في نحو: تراث وتجاه وتخمة وتؤدة وغير ذلك مما يكثر ويطول وليس بينهما مناسبة ولا مجاورة توجب ذلك أكثر من إبدال الواو تاء في افتعل الذي هو اتزن واتعد واتجه وما أشبه ذلك، ومنها أن الذي احتج به ليس على ما ادعاه لأن البصريين يقولون: أن أصل الذي دخلت عليه الألف واللام وأن النون في مني وعني لم ترد من أجل النون في من وعن بل النون ت زاد قبل ياء المتكلم في كل ما أرادوا حراسة بناء ما قبله من متحرك وساكن نونا كان أو غيره كقولهم: قدني وقطني وليتني وفي الفعل الواقع بالمتكلم نحو: أكرمني، وأتابني ويكرمني ويتيبني والذي حكاه البصريون في يفتعل من وزنت وبابه وجهان يتزن وياتزن ولم يحكوا بيتزن. وإنما حكاه الفراء وأصحابه وليس ذلك مما ينكر، وقال الفراء إذا قالوا: اختصموا واحتجموا وما أشبهه مما جاز فيه الإدغام فإنك إذا أدغمته فحركت ما بعد الألف إلى كسر أو فتح أشبه الألف إذا لم يكن قبلها كلام فقلت: اهدوا واخصموا وخصموا بكسر الثاني وبفتحه والأول مكسور وبكسر الألف والخاء وإنما تثبت الألف وقد تحرك ما بعدها فأنت تقول: في امدد وامسس وما أشبهه مس ومد فتسقط الألف، وقد تحرك امد وامس وليس بالوجه الوجه في هذا إسقاط الألف وفي افتعل أن لا تسقط وذلك أن خلفه الفاء في كل ما كان مثل استفعل وافتعل أن لا يحرك فاء الفعل في مدار العربية فلما لزمها السكون في كل موضع لزمتها الألف لأن تسكينها كالخلقة وقد يسكن في يفعل ويتحرك على أنه في التقدير، وقد اختصموا ثم ادغم وحرك الخاء وترك كسرة دال قد على حكم سكون الخاء، وإن كان قبلها حرف يسقط لاجتماع الساكنين نحو الياء والواو والألف ففيه وجهان: إن شئت لم تحذف، وإن شئت حذفت على نية السكون كقولك: القاضي خصموا عنده والقاضي خصموا عنده وكذلك كان خصما عنده بإثبات ألف كانا وقد خصما عنده بحذف ألف كانا.

وقد ذكر أنه سمع من العرب في ائتدم الناس وهو افتعل من الأدم أدموا وأدغم التاء في الدال كما يدغمها في الصاد من اختصموا فوجب أن يقال في ذلك أدموا وأدموا، وعلى جواز ألف الوصل في مذهب الفراء ادموا وادموا فذكر أنه سمع ما أدموا ومادموا كما تقول: ما خصموا ومخصموا بإثبات ألف ما وحذفها على ما ذكرنا أجاز الفراء إدغام الراء في الراء من شهر رمضان على وجهين أحدهما أن يجمع بين ساكنين الهاء من شهر والراء منه، وهذا عنده جيد ليس بمنكر والوجه الآخر أن تلقى حركة الراء على الهاء فتقول: شهر رمضان واستضعف هذا الوجه وأجازه. وزعم أنه كالمتصل وسيبويه ينكر إدغام ذلك على الوجه الأول والثاني وقد مضى ذلك من كلام سيبويه واحتج الفراء بأنهم قالوا في عبد شمس التميمة عبشمس كأنه يقول: أنهم ألقوا حركة الدال على الباء، وأدغموا الدال في الشين والبصريون يقولون عبشمس ضوء الشمس فيقال أصله عب الشمس والهمزة قد خففت فهذا يبطل احتجاج الفراء ومما يدل على ما قاله البصريون بيت أنشد في ذلك أنشدناه أبو بكر بن دريد: إذا ما رأت حربا عب شمس شمرت … إلى زملها والجارمي عميدها وكسر السين بغير تنوين فيه دليل على أن أصله عب الشمس وفي بني سعد عبشمس. قال: صورج: عبد شمس بن زيد مناة بن تميم وعبد شمس بن كعب بن سعد بن زيد مناة. وقال محمد بن حبيب: كل شيء في العرب عبد شمس إلا عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم وعبشمس بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن تعل بن عمرو بن الغوث ابن طيء. وقال أبو العباس قال الكسائي في باب أحست أجيزه في كل موضع سكنت فيه لام الفعل سكونا لا تناله الحركة لم تجز في فعلن ويفعلن لأن اللام تتحرك في الواحدة في فعلت وفعلتا وتفعل وتفعلان فلم يجزه إذا كان الجمع مبنيا على واحدة متحركة. وقال: سقطت الأولى لاستثقال الحركة فيها، ولم يقل شبهت بالثلاثي، وقال: كذلك أقول في فعلن ويفعلن؛ لأني لم أجد الفعل مبنيا على واحدته ألا ترى أنك تقول تفعل وتفعلان بالتاء ويفعلن بالياء فلم يبن على الواحدة في جمع التأنيث. وقال: سمعت من يحطن علينا يريد ينحططن.

هذا باب في إدغام القراء

وقال: قرئ وقرن في يريد واقررن والذي احتج به الفراء على الكسائي صحيح والذي قرأ بهذا عاصم ومعناه أقررن من القرار يقال: قررت بالمكان أقر وقررت أقر وقراءة عاصم من هذه اللغة ومن قرأ وقرن في بيوتكن بكسر القاف ففيه وجهان أجودهما أن يكون من وقر بالمكان يقر من الوقار كما تقول: وقف يقف وقفن يانسوة والوجه الآخر أن يكون واقررن فحذفت الراء المكسورة وألقيت حركتها على القاف وذلك لا يختار لأنه لا ضرورة إليه. وقد روى بيت أبي زبيد: سوى أن العتاق من المطايا … أحسن به فهن إليه شوس هذا باب في إدغام القراء اذكر فيه ما أدغموه وأكتفي بذكر بعضه عن ذكر جميعه، فما كان منه موافقا لمذهب سيبويه فقد مر الاحتجاج له في جملة ما مضى من كلامه، وذكر احتجاجه وشرحنا إياه وما خالفه ذكرنا من الاحتجاج له ما نتحرى فيه الحق وبالله نستعين وإليه نهتدي وأنا أبتدئ بترتيب ذلك على حروف اب ت ت فإنه أقرب متناولا، وأبلغ استيعابا إن شاء الله الباء تدغم في مثلها. قرأ أبو عمرو لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: 20] والرُّعْبَ بِما [آل عمران: 151]، وهذا مذهب أبي عمرو، والذي حكاه الفراء عنه من الجمع بين ساكنين في حروف كثيرة في الإدغام تقف على بعضها إن شاء الله. وقد أباه سيبويه والبصريون وحملوا ذلك على الإخفاء من أبي عمرو وأجاز الجمع بين ساكنين الفراء والكوفيون. ودغم أبو عمرو الباء في الميم في يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [المائدة: 18]، يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هود: 42]، ولا خلاف في جواز إدغام الباء في الميم. وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الميم في الباء إذا تحرك ما قبل الميم مثل مَرْيَمَ بُهْتاناً [النساء: 156]، ولِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج: 5]، بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53]. فإذا سألت أصحابه عن اللفظ بما ترجموه عنه من إدغام ذلك لم يأتوا بباء مشددة. وقد سألت أبا بكر بن مجاهد- رحمه الله- عنه فذكر أنهم يترجمونه عنه بإدغام أو نحو هذا من اللفظ.

قال أبو سعيد- رحمه الله-: والذي يتبين من لفظه ما حكوه تسكين الميم والباء وهو على أحد وجهين أما أن يكون أخفى الحركة على ما يعتقده كثير من البصريين، ويتأوله أبو بكر بن مجاهد- رحمه الله- في بعض ما روي عن أبي عمرو، وذلك أنه حكى عن اليزيدي عن أبي عمرو تسكين في يَنْصُرْكُمْ [التوبة: 14]، ويَأْمُرُكُمْ [البقرة: 67]، وذكر عقيبة أن سيبويه ونحويي البصريين ينكرونه وينفون أن يكون محفوظا عن أبي عمرو ويحكون أن أبا عمرو كان يميله إلى التخفيف يختلس الكسرة والضمة إذا توالت الحركات فيرى من يسمعه ممن لا يضبط سمعه ما خفيت حركته أنه أسكن ولم يسكن. قال أبو بكر: ولا أحسب القول إلا ما قال، وحكي عن جماعة عن أبي عمرو ما يضعف رواية اليزيد عنه ويقوي ما قاله سيبويه، وأهل البصرة؛ فأما أن يكون على التسكين الذي حكي عنه في قوله: يَنْصُرْكُمْ ويَأْمُرُكُمْ حكاه عنه اليزيدي. وقد حكي عن الكسائي أيضا فيما كان مثل يَأْمُرُكُمْ ثلاث لغات الإشباع والتخفيف والجزم، وإنما هو تسكين ضمة بين حرفين متحركين كقولهم في رسل ورسل وفي عجز ورجل عجز ورجل وكذلك في المكسور نحو قولنا: في فخذ فخذ وفي علم علم، ومذهب سيبويه أن لا تدغم الفاء في الباء. وكذلك ذكر أبو بكر بن مجاهد قال: قال اليزيدي: كان أبو عمرو لا يدغم الفاء في الباء. قال: ولم يذكر عنه في الباء مع الفاء شيئا. قال أبو بكر: والقياس يوجب إدغامها تعريفا منها ويحتمل تركه ذكرها إذا ذكر ما لا يدغم فيها أن يكون أباح إدغامها ... والله أعلم. قال: ولم أر من أدركت من الذين يقرؤون قراءة أبي عمرو بحثوا عن إدغام الباء في الفاء، وما ذكر أبو بكر هو مذهب سيبويه لأنه يدغم الباء في الفاء ولا يدغم الفاء في الباء. وقد ذكر في موضعه من كلام سيبويه، وقد أدغم الكسائي وحده الفاء في الباء في قوله إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سبأ: 9]، لأن أقرب المخارج إلى مخرج الباء مخرج الفاء، وهو قليل ضعيف وأما التاء؛ فإنها تدغم في مثلها إذا كانت الأولى ساكنة ضرورة وإذا كانت الأولى متحركة فإن أبا عمرو يدغم في بعض ولا يدغم في بعض؛ فما أدغم قوله ذاتِ الشَّوْكَةِ [الأنفال: 7]، في تاء تكون ومما لم يدغم كُنْتَ تَرْجُوا [القصص: 86]، وكُنْتُ تُراباً [النبأ: 40]، وكِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء: 74]،

وأَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ [الزخرف: 40]؛ لأن كنت قد نقصت عين الفعل منه، وهو واو في كان يكون وفي كدت قد أدغمت الدال في التاء فلم يمكن إدغام الحرف المشدد في شيء بعده، وأما أنت فإنما ترك إدغامها لقلة حروف الكلمة وخفاء النون. وكان أبو عمرو يدغم التاء في أحد عشر حرفا سوى نفسها يدغمها في الطاء كقوله عز وجل قالَتْ طائِفَةٌ [آل عمران: 72] هَمَّتْ طائِفَتانِ [الأنفال: 122]، ولا يدغم خَلَقْتَ طِيناً؛ لأن القاف ساكنة ويدغم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114]؛ لأن القاف ساكنة ويدغم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] لأن الساكن الأول ألف، وفي الدال كقوله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ وفي الظاء كقوله كانَتْ ظالِمَةً وفي التاء كقوله: رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ وفي الذال كقوله: الذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: 1] فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً [المرسلات: 5] وهذا قول اليزيدي وبعض يروي عنه أنه كان لا يدغم الذَّارِياتِ ذَرْواً [الذاريات: 1] ولا فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً [المرسلات: 5]. وفي السين كقوله: أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261] ومَضَتْ سُنَّتُ [الأنفال: 38]، والصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ [النساء: 57]. ولم يدغم أُوتِيتَ سُؤْلَكَ [طه: 36] وفرق بينه وبين الألف في قوله الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ [النساء: 57]؛ لأن الألف أقوى في المد من الياء والواو وليس كل شيء جاز إدغامه يدغمه أبو عمرو؛ لأن الإدغام ليس بلازم فيدغم شيئا ويمنع ما هو أضعف منه في الإدغام. وفي الصاد كقوله: الصَّافَّاتِ صَفًّا وفَالْمُغِيراتِ صُبْحاً [العاديات: 3]. وفي الضاد كقوله: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً [العاديات: 1]. وفي الزاي في قوله خَبَتْ زِدْناهُمْ [الإسراء: 97]، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً [الصافات: 2]. وفي الشين كقوله بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 4]. وفي الجيم كقوله: الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ * وفَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 9]، ووَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء: 85]، وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 94] ولا تدغم في قوله إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ [الكهف: 39] لسكون اللام وفتح التاء. ولم يذكر سيبويه إدغام التاء ولا غيرها في الجيم وقد أدغم أبو عمرو التاء وأختيها الطاء والدال فيها.

ومذهب الكوفيين إدغام التاء فيهما، والطاء والدال بمنزلة التاء، وهما من مخرجها وأحكام هذه الثلاثة سواء في الإدغام. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وإدغام التاء والدال والطاء في الجيم عندي قوي؛ لأن المخرجين مجاوران ليس بينهما فصل، والجيم أقوى منهما، وأمكن؛ لأنها من وسط اللسان وهذه الحروف من الطرف ووسط اللسان أمكن من طرفه، كما أن داخل الفم أمكن من الشفتين ومن أجل ذلك أدغمت الباء التي من بين الشفتين في الفاء؛ لأن الفاء من داخل الفم والباء من بين الشفتين. وكان أبو عمرو يدغم الطاء في التاء في قوله لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ وأَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وفَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ وفَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ويبقي منها صوتا لئلا يخل بحرف الإطباق. ولا يدغم الظاء في التاء؛ لأن بينهما تراخيا لا لأن الإدغام فيها لا يجوز، ولكنه يختاره في بعض لقوته ويدع في بعض لنقصان سببه. ويدغم الدال في التاء كقوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]، وذكر أبو بكر بن مجاهد أنه لم يكن أحد ممن لا يرى الإدغام من الأئمة يظهر دال قد عند التاء إلا ابن المسيبي قد روى عن نافع قد تبين بإظهار الدال، وهذا استكراه وصعوبة على اللسان. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وقد بينوا الطاء عند التاء في فرطت وأحطت، والطاء مثل الداء في المخرج والشدة، ولكن بيان الطاء مع التاء؛ لأن الطاء مطبقة والداء والتاء ليستا بمطبقتين فبانفراد الطاء بالإطباق واجتماع الدال والتاء في عدم الإطباق صارت الطاء من الدال أبعد من الدال منها، وإنما يثقل اجتماع ما هو أقرب وبيانه وأدغم أبو عمرو لام هل في التاء، ولم يدغم لام بل فيها. قرأ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وفَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ، وروى عنه أيضا هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، ولم يدغم بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً ونحوها. وذكر بعض من احتج عنه للفرق بينهما أنه اتبع الأثر؛ لأن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عباس يقول: هَلْ تَرى من يرى يدغمها يعني اللام في التاء هكذا نقل هذا الحرف مدغما. وقد أدغم اللام من هل وبل في التاء حمزة والكسائي في قوله بَلْ تُؤْثِرُونَ وهَلْ تَرى ونحوه.

وقد مضى الكلام في إدغام ما يدغم في التاء في موضعه، وقد روي عن عبد الله بن كثير إدغام التاء في أول الفعل المستقبل علامة للمخاطب أو للمؤنثة الغائبة في تاء بعدها في أحرف كثيرة منها ما قبله متحرك، ومنها ما قبله ساكن من حروف المد واللين، ومنها ما قبله ساكن من حروف المد واللين؛ فأما ما قبله متحرك فنحو قوله فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وهي تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ، * وأما ما كان قبله ساكن من حروف المد واللين فقوله وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ووَ لا تَفَرَّقُوا ووَ لا تَنازَعُوا. وأما ما كان قبله ساكن من غير حروف المد فقوله عز وجل وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وسيبويه ومن اتبعه لا يجيزون إسكان هذه التاء في تتكلمون ونحوها؛ لأنهم إذا أسكنوها احتاجوا إلى إدخال ألف الوصل وألف الوصل إنما تلحق ويختص بها ما كان في معنى فعل وافعل في الأمر يعني أن ألف الوصل إنما تدخل على الفعل الماضي نحو: انطلق واستغفر وفعل الأمر نحو: اجلس واقعد وانطلق واستغفر ولم يدخلوا ألف الوصل على فعل مضارع في أوله أحد الزوائد الأربع، وأما الثاء فأدغمها أبو عمرو في مثلها كقوله: ثالِثُ ثَلاثَةٍ ويدغمها في الذال كقوله يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ ويشمها الكسر أعني الثاء. وكان أبو بكر بن مجاهد رحمه الله يحمل ما أشم الكسر أو الضم من نحو هذا على أنه اختلاس للحركة لئلا يكون جمع بين ساكنين تدغمها في الشين ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ وحَيْثُ شِئْتُمْ * وفي السين كقوله بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ. وفي الضاد حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، وفي التاء كقوله: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وقد أدغم في الثاء الفراء ثلاثة أحرف التاء والذال واللام وقد ذكرتها في مواضعها، وأما الجيم فإن سيبويه ذكر إدغامها في الشين فقط، ويروي اليزيدي عن أبي عمرو إدغامها في التاء كقوله ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ. وروي عنه إدغامها في الشين كقوله أَخْرَجَ شَطْأَهُ، وكان أبو عمرو يدغم الجيم في التاء والدال والذال وهي مذكورة في مواضع إدغام هذه الحروف. وأما الحاء فإن أبا عمرو كان يدغمها في مثلها كقوله عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى. وقد روي عنه روايتان في إدغامها في العين إحداهما إدغامها في العين، وروي اليزيد عنه أنه لم يكن يدغم الحاء في العين إلا في قوله فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، والأخرى ما رواه اليزيدي عن أبي عمرو قال: من العرب من يدغم الحاء في العين كقوله فَمَنْ زُحْزِحَ

عَنِ النَّارِ. قال: وكان أبو عمرو لا يرى ذلك، وهذا أصح وقد ذكرنا من مذهب سيبويه أن الحاء لا تدغم في العين، والغين تدغم في الحاء واحتججنا له في موضعه بما يستغنى عن إعادته. وأما الخاء والغين وهما من مخرج واحد، وكل واحدة منهما لا تدغم إلا في مثلها وفي الأخرى، ولم أر أحدا ذكر إدغام واحدة منهما في مثلها، وفي الأخرى في القرآن إلا في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ فإن أبا عمرو أدغمه فيه. وأما الدال فسبيلها سبيل التاء، وقد أدغمها أبو عمرو في عشرة أحرف أدغمها في التاء كقوله قَدْ تَبَيَّنَ، * وهي أقرب الحروف منها وفي الدال كقوله عز وجل وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ والْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ، ولم يدغمها في فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ لأنه يشم الحركة فيصير مخفيا لحركة الدال ولا يقدر على الإشمام. وزعم اليزيدي أنه كان يدغم وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها. وفصل بين هذا وبين بَعْدَ ذلِكَ؛ لأن التاء من مخرج الداء وهي أقرب الحروف والذال أبعد منها، وقد جمع بين ساكنين، وليس فيه إشمام؛ لأنه نصب وسيبويه لا يرى ذلك للجمع بين الساكنين والفراء يجيز ذلك. وقد ذكرنا قوله فيما مضى، وكان يدغم الدال في الشين كقوله وَشَهِدَ شاهِدٌ * وقَدْ شَغَفَها حُبًّا ويدغمها في السين كقوله يَكادُ سَنا بَرْقِهِ وعَدَدَ سِنِينَ وفي الزاي كقوله يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ. وكان يدغمها في الظاء كقوله لَقَدْ ظَلَمَكَ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً، * ولا يدغم لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ. والكلام فيه كالكلام في بعد ذلك وفي الثاء كقوله ثَوابَ الدُّنْيا *. وفي الجيم كقوله لَقَدْ جاءَكُمْ، * ولَقَدْ جِئْناكُمْ وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. وفي الضاد في قوله قَدْ ضَلُّوا * ولَقَدْ ضَرَبْنا * وأدغم مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ، * ومِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ؛ لأنه خفض ويشم الكسرة فيجري مجرى الذي ليس بمدغم، ولا يدغم في قوله: نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ لأن فتحة الدال لا يتهيأ إشمامها؛ لأن الضم والكسر يشم والفتح لا يمكن فيه ذلك. وفي الصاد كقوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا * وفِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ويشم الدال فيها الكسرة فهذه عشرة أحرف تدغم الدال فيها، وقد ذكر إدغام التاء في أحد

عشر حرفا، وإنما نقص منها واحد؛ لأنه لم يتفق إدغام الذال والطاء كما أدغمت الدال في الطاء، وإدغام التاء فيما بعدها أكثر من إدغام الدال؛ لأن التاء علامة تلتبث الاسم والفعل، وهو كثير لا يحصى ويدغم في الدال جميع ما يجوز إدغامه في التاء في القياس إلا أن الذي وجدناه في قراءة القراء مدغما في الدال حرفان: التاء والدال. وقد ذكرناهما في موضعهما، وأما الذال فقد أدغمها أبو عمرو في مثلها في قوله إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً في سبعة أحرف سواها في التاء كقوله إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152] ويدغمها في ياء المتكلم كقوله أَخَذَتِ * ولَاتَّخَذْتَ * واتَّخَذْتُمُ * وأَخَذْتُمْ * وعُذْتُ بِرَبِّي * وفَنَبَذْتُها ويدغمها في الظاء كقوله: إِذْ ظَلَمْتُمْ وفي السين كقوله إِذْ سَمِعْتُمُوهُ * وفي الصاد كقوله وَإِذْ صَرَفْنا وفي الزاي كقوله وَإِذْ زَيَّنَ وفي الدال كقوله إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ وفي الجيم كقوله إِذْ جاؤُكُمْ ولم يدغمها أحد من القراء في الجيم غير أبي عمرو. وأدغموا من القرآن في الذال أربعة أحرف مذكورة في مواضعها وهي اللام والتاء وأما الراء؛ فإنها تدغم في مثلها. وروي عن ابي عمرو بن العلاء أنه كان يدغم الراء في مثلها ساكنا كان ما قبلها، أو متحركا، والساكن ما قبلها قوله شَهْرُ رَمَضانَ وعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ * وذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ، واتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً، ويشير إلى ما كان من المدغم مضموما أو مكسورا بالضم والكسر كالإشارة إلى شهر رمضان بالضم وإلى أمرهم بالكسر، وليس في اترك البحر إشارة؛ لأنه مفتوح؛ لا يمكن الإشارة إليه. قال أبو بكر بن مجاهد: يعني فيما كان مشارا فيه إلى ضم أو كسر هذا إخفاء وليس بالإدغام؛ لأنه يخفى الحركة فتخف بعض الخفة فيشبه الإدغام والإدغام في مثل هذا رديء وأن ما قبله ليس من حروف المد واللين ولا يجوز أن تنقل حركة المدغم إلى ما قبله؛ لأن ذلك إنما يكون في كلمة واحدة مثل يمد وأصله يمدد وهذا مذهب سيبويه؛ لأنه كان لا يجيز الإدغام في شهر رمضان، وأمر ربهم، لأنه لا يخلو من أن تبقى الهاء من شهر والميم من أمر على سكونهما وتنقل حركة ما قبله إليه وكلاهما غير جائز عنده، لأن ترك الساكن على حاله وإدغام ما بعده في مثله يوجب الجمع بين ساكنين وليس الأول منهما من حروف المد واللين، وليس ذلك من كلام العرب أو نقل حركة ما قبله إليه وليس ذلك بمعروف إلا أن يكون في كلمة واحدة وذلك في مثل أمد وأصله امدد وكان الفراء يجيز الإدغام في ذلك على الوجهين من الجمع بين الساكنين ومن التاء الحركة.

وقد مضى الكلام على ذلك فيما حكاه من مذهب الفراء وقد اختلف النحويون في إدغام الراء في اللام فقال سيبويه، وأصحابه لا تدغم الراء في اللام ولا في النون، وإن كانتا مقارنتين لها لما في الراء من التكرير ولتكريرها تشبه بحرفين ولا أعلم أحدا من النحويين البصريين بعده خالفه إلا ما روي عن يعقوب الحضرمي. وقد ذكرته وحكى أبو بكر بن مجاهد رحمه الله عن أبي عمرو بن العلاء أنه يدغم الراء في اللام ساكنة كانت الراء أو متحركة فالساكنة قوله عز وجل فَاغْفِرْ لَنا * واسْتَغْفِرْ لَهُمْ * ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، * وما كان مثله، والمتحركة قوله سَخَّرَ لَكُمُ * إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا، هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، أو ما كان مثله؛ فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر كقوله حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ ولا يدغم في النصب كقوله مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ وسَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا. قال أبو سعيد- رحمه الله-: وقد ذكرت الفصل بين المنصوب وبين المرفوع والمجرور قبيل هذا الموضع، وكان الفراء يجيز إدغام الراء في اللام، ويرويه. وروى أبو بكر بن مجاهد عن أحمد بن يحيى ثعلب عن أصحابه عن الفراء أنه قال: كان أبو عمرو يروي عن العرب إدغام الراء في اللام، وقد أجازه الكسائي أيضا ومما يحتج به لأبي عمرو وغيره ممن أدغم الراء في اللام أن الراء إذا أدغمت في اللام صارت لاما ولفظ اللام أسهل وأخف من أن يأتي براء فتكرير وبعدها لام هي مقاربة للراء فيصير كالنطق بثلاثة أحرف من مخرج واحد فطلب التخفيف بذلك. وقد روى أبو بكر بن مجاهد بإسناد ذكره عن يعقوب الحضرمي أنه كان يدغم الراء في اللام في قوله يَغْفِرْ لَكُمْ * وما أشبهه. قال أبو بكر ولم يقرأ بذلك أحد علمناه بعد أبي عمرو وسواه، ولم تدغم في شيء سوى اللام وقد أدغمت اللام والنون فيها، وجواز ذلك بإجماع وستراه في موضع اللام والنون إن شاء الله. وأما الزاي فما أعلمها أدغمت في شيء من حروف القرآن، وقد أدغم فيها من الحروف ما يذكر في موضعه إن شاء الله. وأما السين فإن أبا عمرو كان يدغمها في مثلها كقوله وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً وهذا جمع بين ساكنين وليس قبله حرف لين، وقد تكلمنا على نحوه وأدغمها في جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً.

وأدغمها في الذال كقوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ورأيت الرواية اختلفت عن أبي عمرو في إدغام السين في الشين في قوله عز وجل اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فمنهم من روى أنه أدغم ومنهم من روى أنه منع من الإدغام والذي عليه النحويون البصريون أن السين لا تدغم في الشين ولا الشين في السين. وقد روي عن أبي عمرو إدغام كل واحدة منهما في الأخرى كقوله إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، وأظنه ذهب إلى أنهما متواخيتان في التفشي والصوت فكأنهما من مخرج واحد، وإن تباعد مخرجاهما كما أن حروف المد واللين على تباعد مخراجها متواخية في قلب بعضها إلى بعض وبدل بعضها من بعض، ويدغم في السين والشين ما يذكر في موضعه. وأما الصاد فليس فيها شيء يذكر من إدغامها في شيء، وما يدغم فيها مذكور في موضعه إن شاء الله. وأما الضاد فلم يلتق في القرآن ضادان فتدغم إحداهما في الأخرى ولم تدغم في شيء إلا ما ذكر أبو بكر بن مجاهد أن أبا شعيب السوسي روي عن الترمذي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الضاد في الشين في قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. قال أبو بكر: ولم يرو عن أبي عمرو إدغام الضاد في الشين إلا أبو شعيب السوسي عن اليزيد وهو خلاف ما ذكره سيبويه، وإدغام الصاد في الشين عندي ليس بالمنكر؛ لأنها مقاربة للشين في المخرج والشين أشد استطالة من الضاد وفي الشين تفش ليس. وعلى أن سيبويه قد حكى اطجع بإدغام الضاد في الطاء فدل ذلك على جواز إدغامها في الشين لأن الشين أقوى منها وأفشى، وما أدغم في الضاد مذكور في موضعه، وأما الطاء والظاء فليس في إدغامها شيء يذكر، وما يدغم فيهما مذكور في موضعه، وأما العين فتدغم في مثلها لا غير كقوله مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ وقد الفين مع الخاء وأما الفاء فتدغم في مثلها كقوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ولا تدغم إلا في مثلها لأن فيها تفشيا، ولأنها أمكن موضعا وما روي عن الكسائي من إدغامها في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ ضعيف عندهم شاذ وهو شيء تفرد به الكسائي. وأما لقاف فإنها تدغم في مثلها كقوله عز وجل فَلَمَّا أَفاقَ وأَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ وتدغم في الكاف في كلمتين أو كلمة واحدة كقوله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ وخَلَقَكُمْ * ورَزَقَكُمُ * وكذلك الكاف تدغم في مثلها وتدغم في القاف فإدغامها في مثلها كقوله كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وإدغامها في القاف كقوله إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا وَكانَ

اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً. وأما اللام؛ فإن أبا عمرو كان يدغمها في مثلها ساكنا ما قبلها أو متحركا كقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ * فَقالَ لَهُمُ * وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي والمتحرك ما قبلها قوله جَعَلَ لَكُمُ * وَجَعَلَ لَكُمْ؛ * فأما اللام الساكنة إذا ألقيت لاما متحركة فهي مدغمة فيه ضرورة وكان يدغم اللام في الراء كقوله رَبُّكِ تَحْتَكِ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. وتدغم اللام في التاء في هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وفَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ويدغمها في الثاء في قوله هَلْ ثُوِّبَ. واتفق حمزة والكسائي على إدغام لام هل وبل في التاء والسين في جميع القرآن؛ فقرأ بَلْ تُؤْثِرُونَ وهَلْ ثُوِّبَ وبَلْ سَوَّلَتْ * وتفرد الكسائي وحده بإدغام لام هل وبل في الطاء والضاد والزاي والظاء والنون فقرأ بَلْ طَبَعَ وبَلْ ضَلُّوا بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا مدغما في جميع ذلك. وقد روى أبو الحارث عن الكسائي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ * بإدغام اللام في الذال في هذا الحرف أين وقع من القرآن، وأما الميم فإن أبا عمرو يدغمها في مثلها كقوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ويَعْلَمُ ما بَيْنَ * ويَعْلَمُ ما تُبْدُونَ * ونحو ذلك. وقد ذكرنا حالها في الباء في باب الباء وأما النون فإن أبا عمرو وكان يدغمها في مثلها ساكنا كان ما قبلها أو متحركا ما لم تكن الأولى مشددة كقوله وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ * وتَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ. وكان يدغم النون في اللام إذا تحرك ما قبلها كقوله لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ * فإذا سكن ما قبلها لم تدغم كقوله وتكون لكم إلا في قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * يدغم في هذا الحرف وحده في النون في اللام ويشمها ضمة. وقد ذكر نحو ذلك وما قيل فيه من الإخفاء ويدغمها في الراء إذا كان ما قبلها متحركا وذلك قوله وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ فإن سكن لم تدغم مثل قوله بِإِذْنِ رَبِّهِمْ * وإذا لقي التنوين أو النون الساكنة أحد الحروف الخمسة التي تدغم النون فيها وهي اللام والراء والميم والواو والياء؛ فإن أبا عمرو كان أدغم النون فيه أدغم عند اللام والراء بغير غنة وعند الميم والياء والواو بغنة وكذلك قراءة القراء إلا حمزة وحده فإنه يترك الغنة عند الواو والياء في جميع القرآن كقوله ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ وروي عن الكسائي من

يقول أما بغير غنة. وقد أجاز سيبويه في ذلك كله الغنة، وترك الغنة وإذا أدغمت في الميم فالغنة للميم. وقال أبو بكر بن مجاهد النون الساكنة والتنوين مدغمان عند اللام والراء بغنة وبغير غنة. قال: وعادة القراء أن لا يظهروا الغنة عند الراء واللام؛ لأن في إظهارها كلفة لتداخل الحرفين. قال: وإظهار الغنة جائز لأن الراء واللام لا صوت لهما؛ فلا يدغم مصوت في غير مصوت مَنْ يَبْخَلُ * وإنما تبقى منه غنة كما تبقى من المطبق إذا رمت إدغامه في غير مطبق أثر من الإطباق كرومك الحركة. وروى أبو بكر عن ابن رومي ومحمد بن عمر عن اليزيدي هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يدغم التنوين في اللام وتبقى غنة قال: ولم أر أحدا يحكي هذا عنه، وأما الواو؛ فإن أبا بكر بن مجاهد ذكر أن أبا عمرو كان يدغمها في مثلها كقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ. قال: وأما إذا انضم مثل قوله هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ وجاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ؛ فإن إدغام الواو هاهنا قبيح جدا؛ لأن الهاء مضمومة. وإذا أردنا إدغام الواو سكنت الإدغام فيكون واوا منقلبة بعد ضمة فيصير الإدغام أثقل هذا معنى كلام أبي بكر بن مجاهد. قال: فإنما تدغم ليخف وإذا كان الإظهار أخف كان أولى أن لا يتجاوز قال: وإن قست على قوله أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ * ونُودِيَ يا مُوسى أنه أدغم الياء إذا انفتحت وانكسر ما قبلها فكذلك الواو إذا كانت مفتوحة ما قبلها مضموم فهو قياس وما أحبه وإنما الإدغام تخفيف وحذف إعراب؛ فإذا كان الإظهار أخف فهو الذي يختار وأظن أبا بكر ابن مجاهد فرق بين الواو والياء؛ لأن الياء أخف من الواو. وأما الهاء؛ فإن أبا عمرو كان لا يدغمها إلا في مثلها كقوله فِيهِ هُدىً * وفَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ * وقالَ اللَّهُ هذا وقد جمع في ذلك بين ياءين لا أن الأول من حروف المد واللين وهو لما فيهن من المد واللين كالمتحركات وقد تقدم الاحتجاج لهذا الموضع.

وقد أدغم أبو عمرو هاءات سبيلهن أن يوصلن بواوات نحو قوله إِلهَهُ هَواهُ * واللفظ به الههو هواه بين الهاءين وأوصله للواو الأولى فأصله بينهما قبل الإدغام. فإن قال قائل: وهل يجوز إدغام حرف بينه وبين الذي أدغم فيه واو قيل له ذلك غير ممتنع من جهتين إحداهما أن هذه الواو الصلة لا أصل لها في لام الفعل ولا غير ذلك، وإنما أدخلت بتكثير اللهاء ولذلك لا يوقف عليها؛ فلما أراد الإدغام أسقطها كأنه جعل إدغام الهاء بمنزلة الوقف عليها إذا كان الإدغام يوجب السكون كما أن الوقف يوجب السكون، والوقف على الهاء يسقط الواو والجهة الأخرى أن يكون أبو عمرو ذهب في هذه الحروف إلى من ضم الهاء من غير صلة أنشدنا أبو بكر قال أنشدني محمد بن الجهم عن الفراء: إن ابن كلاب وابن أوس فمن يكن … قناعة مغطيا فإني لمجتلي فلم يصل الهاء من قناعه وضمها وأما الياء فإن أبا عمرو كان يدغمها في مثلها إذا سكن ما قبلها، أو تحرك كقوله الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ ومِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ وفَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وذكر أبو بكر عنه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ * واستقبحه لأن هذه الياء إذا أدغمت في ياء سكنت ولقيتها ياء أخرى من كلمة أخرى وحكم الياء الساكنة في آخر كلمة إذا لقيتها ياء من كلمة أن لا تدغم فيها وذلك في نحو فِي يَتامَى النِّساءِ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ لا يجوز إدغام ياء في ياء يتامى بإجماع وكذلك يدع ويفصل بينها وبين هي يومئذ بأن الياء الساكنة من في قد نطق بها ساكنة منفردة فحصل فيها كسر ما قبلها وسكونها فصارت بمنزلة الألف وقوله فهي منفردة لم يحصل فيها سكون الياء منطوقا به قبل الإدغام، وإنما بالإدغام صارت ساكنة وليس السكون مع الإدغام كالسكون المنفرد ألا ترى أنا نقول في ميزان وميثرة موزان وموترة وهو الأصل؛ الواو الساكنة غير المدغمة إذا كان قبلها كسرة انقلبت ياء وإن كانت مدغمة لم تنقلب ياء كقولهم: اعلولط وأخروط لأن الواو الساكنة بعد الكسرة لم تنفرد فيلزمها القلب وكذلك الواو إذا كانت متحركة فأدغمت في مثلها نحو هو والذين وهو والملائكة لو كانت الواو نطق بها وحدها ساكنة ما جاز إدغامها كقوله قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ وآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ * لا يجوز الإدغام في ذلك بإجماع لأنه قد حصل فيها مد قبل الإدغام لا يجوز إبطاله فتأمل ذلك إن شاء الله.

تم الجزء الخامس من شرح كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافي وبتمامه قد تم الشرح جميعه والحمد لله على التمام والكمال وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا قد تم مقابلة هذا الجزء على الأصل الموجود بدار الكتب السلطانية وذلك في شهر جمادى الآخرة سنة 1337 هجرية. قد نسخ هذا الجزء بقلم الفقير محمود حمدي من النسخة الموجودة بدار الكتب المصرية على ذمة صاحب السعادة المفضال أحمد بيك تيمور أعلاه وكان الفراغ من نسخه موافق يوم الأحد خامس عشر جمادى الأولى من سنة 1337 سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة من خلق على أكمل وصف سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

§1/1