شرح كتاب سيبويه للرماني

أبو الحسن الرماني

باب الندبة

باب الندبة الغرض فيه: أن يبين [ما يجوز] في الندبة مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الندبة؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز فيها حرف النداء كما يجوز في غيرها؟ ولم جاز لحاق ألف الندبة في آخر الاسم، وحذفها؟ ولم جازت الندبة بيا أو وا، ولم تجز بغير ذلك من حروف النداء؟ ولم تبع ما قبل ألف الندبة الألف في الاسم الظاهر، ولم يتبعه في المضمر؟ وهل ذلك لأنه في الظاهر لا يلبس كما يلبس في المضمر؟

وما حكم: وازيداه، في الندبة؟ ولم زيدت فيه الألف؟ ولم زيدت فيه الهاء؟ وما حكمه إذا كان مضافا إلى المتكلم؟ ولم جاز فيه؟ وازيداه، على إذهاب علامة الإضافة؟ وهل ذلك لأن الألف ما قبلها في الاسم الظاهر، وكان قبل الإضافة: وازيد، ففتحت المكسور كما تفتح المضموم في: وازيد؟ وما قيل ذلك على مذهب من أثبت الياء ساكنة، فقال: يا غلامي، وقرأ: {يَا عِبَادِيَ}؟ ولم جاز فيه على هذا المذهب وجهان: الحذف، والإثبات؟

وهلا وجب الإثبات لئلا يلتبس بغير المضاف؟ وهل ذلك لأنه موضع يرتفع فيه اللبس بشهرة حال المندوب حتى جاز في وازيد: وازيداه؟ وما قياس ذلك على مذهب من يقول: يا غلامي أقبل؟ ولم وجب فيه إثبات الياء لا غير؟ وهل يجوز/ 193 ب: واغلاميه، بحذف ألف الندبة؟ ولم جاز؟ ولم لحقت الهاء في الوقف؟ وما الشاهد في قول ابن قيس الرقيات: (تبكيهم دهماء معولة ... وتقول سلمى وارزيتيه؟ )

ولم جاز في الندبة: وازيد، ووازيد، ووازيدي، بإثبات الياء. ولم حسن الإثبات في الندبة بما لم يحسن في غيره من النداء؟ وهل ذلك لأنه موضع زيادة وتفخيم؟ وما حكم: وانقطاع ظهرياه؟ ولم قوي فيه إثبات ياء الإضافة في: وانقطاع ظهري؟ وهل ذلك لأنه غير منادي؟ ولم ذهبت الهاء في الوصل؟ وما حكم: واغلام زيداه؟ ولم ذهب التنوين فيه؟ وهلا حرك لالتقاء الساكنين؟ وهل ذلك لأجل الزيادة التي لحقت للندبة مع طلب الاستخفاف في النداء فصارت معاقبة؟

وهل يجوز: واغلام زيد؟ ولم جاز؟ وما الشاهد في قول رؤبة: (فهي ترثى يا أبي وابنيما؟ ) ولم جاز:

( ... يا أبا وابناما) مع اختلاف ذلك في القافية، وقد منع منه أبو العباس؟ فما وجه قول سيبويه فيه؟ وهل ذلك على أن من العرب من ينشده بالياء، ومنهم من ينشده بالألف على طريق التمثل من غير أن يذكر شيئا من القصيدة التي هو فيها، ولا يدري كيف هو في القصيدة، فينشه على ما يجوز في لغته؟ وما وجه الحكاية فيه؟ .

وما حكم ياء الإضافة إذا كان قبلها ياء ساكنة في الندبة؟ ولم وجب فيه: واغلامياه، وواقاضياه، وواغلامي، وواقاضي؟ ولم لابد من تحريك ياء الإضافة في: وامثناياه؟ وهلا حذفت كما تحذف ألف (مثنى) إذا دخلت عليها ألف الندبة؟ وهل ذلك لأنها تثبت في (مثناي) قبل لحاق ألف الندبة؟ الجواب: الذي يجوز في الندبة لحاق ألف الندبة في آخر الاسم مع الهاء في الوقوف، وحذفها في الوصل.

ولا يجوز حذف حرف النداء في الندبة كما يجوز في غيره؛ لأنه موضع مد الصوت، مع أن الندبة فرع على باب النداء، فلا يقوي قيه الحذف. ولا يجوز أن يلحق من أدوات النداء إلا: لأنها أم حروف النداء، أو وا؛ لأنها لباب الندبة خاصة؟ . وما قبل ألف الندبة يتبع الألف بالفتح في الاسم الظاهر؛ لأنه لا يلتبس، ولا يتبعه في المضمر؛ لأنه يلتبس المذكر بالمؤنث، والتثنية بالجمع. وتقول: وازيداه، فتحلق: وا، لأنها تخص الندبة، والألف؛ لأنها علامة الندبة مع مد الصوت بها، وتلحق الهاء في الوقف؛ لبيان الألف، فإذا وصلت أسقطتها؛ للاستغناء عنها بحرف الوصل.

وإذا كان المندوب مضافا إلى المتكلم جاز/ 194 فيه وجهان: وازيداه، ووازيدياه. أما: وازيداه، على أن الأصل: وازيد؛ فلأن الألف تفتح المكسور كما تفتح المضموم. وأما على مذهب من يثبت الياء ساكنة؛ فيجوز فيه وجهان: الحذف، والإثبات. أما الإثبات فلأنها ردت عند الحاجة إلى حركتها إلى أصلها، وأما الحذف فلالتقاء الساكنين في موضع لا يلبس، وهو موضع استخفاف؛ لذلك جاز في وازيد: وازيداه، لأن المندوب من شأنه أن يشتهر حاله. ومن أثبت الياء متحركة لم يجز على مذهبه إلا إثباتها في الندبة.

وقال ابن قيس الرقيات: (تبكيهم دهماء معولة ... وتقول سلمى وارزيتيه) فألحق الهاء في الوقف لبيان الحركة ويجوز في الندبة: وازيد، ووازيدي، ووازيدي، بفتح الياء، كل ذلك جائز حسن؛ لأن الندبة موضع تفخيم، ومد الصوت. وتقول: وانقطاع ظهرياه، فتثبت الياء؛ لأنه غير منادي، وإنما هو مضاف إليه،

فتثبت فيه الياء كما تثبت في غيره من الكلام. وتقول: واغلام زيداه، فتحذف التنوين؛ لأن علامة الندبة صارت معاقبة له؛ لأنها على حرف واحد كما أنه على حرف واحد، وهي زيادة في آخر الاسم كما أن التنوين كذلك، مع الاستخفاف الذي فيه. كما أن التنوين كذلك، مع الاستخفاف الذي فيه. وتقول: واغلام زيد، فتسقط ألف الندبة كما تسقطها من المندوب إذا قلت: وازيد. وقال رؤبة. (فهي ترثى يا أبي وابنيما)

/فأثبت ياء الإضافة في الندبة، ويجوز ( ... يا أبا وابناما) حكاه سيبويه على أنه مسموع على الوجهين، ولم يجز أبو العباس إلا: ( ... يا أبي وابنيما) لأجل القافية؛ وذلك أن الياء ردف، والميم حرف الروي، والألف وصل، ولا يجوز مع الياء الألف في الردف، ولكن قد يجوز الواو مع الياء.

وهذا كما قال أبو العباس، إلا أن وجه قول سيبويه على أن الذي روى: ( ... وابنيما) عرف القصيدة، فأنشده على ما توجبه القافية، ومن روى: ( ... وابناما) فإنه تمثل به، ولم يعلم كيف هو في القصيدة؛ لأنه رواه وحده على ما توجبه لغته. وحكم ياء الإضافة إذا [كان] قبلها ياء ساكنة أن تثبت في الندبة، فتقول: واغلامياه، وواقاضياه؛ لأنها كانت ثابتة قبل الندبة، فجرت على ذلك، وكذلك /194 ب إذا كان قبلها ألف في قولك: وامثناياه، ولم يجز أن تحذف في هذا الموضع؛ لأنها بمنزلتها في غير الندبة، فأما ألف مثنى؛ فيحذف في الندبة؛ لالتقاء الساكينين، ولا يقلب إلى الياء المتحركة؛ لاستثقال ذلك، مع أنه موضع يرتفع فيه الإلباس.

باب ألف الندبة التي تتبع ما قبلها

باب ألف الندبة التي تتبع ما قبلها الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ألف الندبة التابعة لما قلبها مما لا يجوز؟ مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ألف الندبة التابعة لما قبلها؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز إلا أن تتبع في المضمر دون المظهر؟ وهل ذلك لما يلزم من الالتباس في المذكر والمؤنث، والتثنية والجمع؟ وما الندبة في: ظهره؟ ولم وجب: واظهرهوه، وفي المؤنث: واظهرهاه؟ وما الندبة إلى: ظهرهم؟ ولم وجب: واظهرهموه، وفي التثنية: واظهرهماه؟ ولم حذفت الألف منه؟ وما قياسه من: وامثناه؟ . وما الندبة في: غلامك؟ ولم وجب: واغلامكيه، وفي المذكر: واغلامكاه؟

وما الندبة في: انقطاع ظهره؟ ولم وجب: وانقطاع ظهرهوه، أو واانفطاع ظهرهيه؟ وما الندبة في قولك: أبو عمري؟ ولم وجب/ واأبا عمرياه، على لحاق العلامة في عمرو، مع أن المندوب هو الأب؟ فلم جاز ذلك؟ وهل ذلك؛ لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد، فلم يصح أن تلحق العلامة إلا في آخر الاسم؟ ولم جاز: أبو عمري، على لحاق الياء في عمرو، وإنما المضاف إليك هو الأب؟ وهل ذلك؛ لأنه لما كان عمرو تمام الاسم؛ صار كأنه لك، كما تقول: يا أبا عمري؟ وما في امتناع: هذا أبو النضرك، وهذه ثلاثة الأثوابك، من الدليل على أن الثاني كأنه المضاف إلى المخاطب في الحقيقة؟ وهل ذلك من جهة أنه يعترف به؟ ولو كانت إضافة لفظية؛ لم يتعرف، ولجاز: هذا أبو النضرك، وهذه ثلاثة الأثوابك؟ .

باب ما يمتنع فيه ألف الندبة

باب ما يمتنع فيه ألف الندبة الغرض فيه: أن يبين ما يمتنع فيه ألف الندبة مما لا يمتنع. مسائل هذا الباب: ما الذي يمتنع فيه ألف الندبة؟ وما الذي لا يمتنع؟ ولم / 195 أذلك؟ ولم امتنعت من الصفة، ولم تمتنع من المضاف إليه؟ ولم جاز: وازيد الظريف، والظريف، بالرفع، والنصب مع لحاق ألف الندبة الموصوف دون الصفة؟ . وهل ذلك لأن (الظريف) ليس بمنادي، ولا داخل في اسم المنادي على معاقبة حرف منه، فيجب له مثل حكمه؟

وهل يلزم من أحلق الصفة علامة الندبة أن يقول: وازيدا أنت الفارس البطلاه؟ وهل وجه هذا الإلزام أن الثاني هو الأول مع أنه غير منادي، ولا داخل في اسم المنادي؟ وهلا انفصل ذلك من جهة أن الصفة والموصوف بمنزلة اسم

واحد، وليس كذلك الجملة مع الاسم المنادى؟ وهل يرد إلى الإلزام أن الثاني هو الأول، وإن انفصل من جهة أنه في الجملة، كما أن الثاني في الصفة هو الأول مع جواز الانفصال بالخبر، فجواز الانفصال بالخبر يقتضي المنع من لحاق العلامة كما أن الانفصال بالاسم المخبر عنه يقتضي المنع من لحاق العلامة، وإن كان أحدهما أوكد من الآخر كما يكون ذم الظالم بالقتل أوكد من ذم الظالم بالغضب، وأحدهما لازم من الآخر، لأن المقتضي فيهما واحد، فمن أعطى ذم الظالم بالفتل؛ لزمه ذم الظالم بغضب المال؟ وما الندبة في: أمير المؤمنين؟ ولم جاز: واأمير المؤمنيناه، وفي (عبد القيس) واعبد قيساه، وواعبد القيساه؟ وما في أنه لا يجوز (عبد) أو (أمير) مع إرادة الإضافة، ويجوز (زيد) مع إرادة الصفة، وإن لم تذكر؛ من الدليل؟ وهل ذلك لأنه إذا نون الأول بطلت نية الإضافة، وليس كذلك في الصفة، فهذا دليل على

المعاقبة لما هو حرف من الاسم، فألف الندبة لآخر الاسم، وآخر الاسم المضاف إليه؟ وما وجه قول يونس: وازيد الظريفاه؟ وهل ذلك لأنه رأى الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد؟ ولم زعم الخليل أن هذا خطأ؟ وهل ذلك لأنه ليس بآخر الاسم، وإنما تلحق ألف الندبة في آخر الاسم، وإنما تشبه آخر الاسم من وجه لا يقوي به الحكم كحكم آخر الاسم كما يقوي المضاف إليه؟ وما الندبة في: قنسرين: ؟ ولم وجب فيه: واقنشروناه؟ وما الندبة في رجل اسمه: اثنا عشر؟ ولم وجب فيه: واثنا عشراه؟ وهل

ذلك واجب مما هو أوكد في المضاف إليه؛ لأنه أشد اتصالا بالأول من المضاف إليه؟ وما الندبة في رجل سمي: ضربوا؟ /195 ب ولم وجب فيه: واضربوه، وفي (ضربا): واضرباه، وفي (غلامهم) إذا سمي به: واغلامهموه وفي (غلامهما): واغلامهماه؟ فلم وجب أن تكون ألف الندبة تابعة في التسمية كما تتبع في غيره؟ وهل ذلك ليظهر ما سمي به من تثنية، أو جمع، أو مذكر، أو مؤنث؟

الجواب عن باب ألف الندبة التي تتبع ما قبلها

الجواب عن باب ألف الندبة التي تتبع ما قبلها: الذي يجوز في ألف الندبة أن تتبع حركة المضمر؛ للفرق بين المذكر والمؤنث، والتثنية والجمع، ولا يجوز أن تتبع حركة المظهر؛ لأن المظهر بالبيان الذي فيه من جهة ظهوره لا يقع فيه التباس؛ لقوة بيانه. والندبة في (ظهره) واظهرهوه، وفي المؤنث: واظهرهاه، وفي (ظهرهم): واظهرهموه، فيمن قال: رأيت ظهرهم قبل، ومن قال: رأيت ظهرهم قبل؛ لأنك ترد الضمة كما تردها في: رأيت ظهرهم اليوم. وتقول في التثنية: واظهرهماه، فتحذف الألف كما تحذفها من: وامثناه؛

للمعاقبة مع [التقاء] الساكنين. والندبة في (غلامك) للمؤنث: واغلامكيه، وفي المذكر/: واغلامكاه, ز والندبر في (انقطاع ظهره): وا انقطاع ظهرهوه، ووا انقطاع ظهرهيه، على المذهبين في: مررت بظهره قبل، و: مرت بظهره قبل. والندبة في (أبي عمري): وا أبا عمرياه، على لحاق العلامة في (عمري)، وإن كان المندوب هو الأول؛ لأن المضاف إليه داخل في الاسم الأول، ولا يجوز أن يفصل بألف الندبة كما لا يفصل بالظرف، والخبر، وكذلك تقول: يا أبا عمري، فتلحق الياء في: عمرو، والمضاف في المعنى هو الأول، وفي امتناع: هذا أبو النضرك، وهذه ثلاثة الأثوابك، دليل على أن الثاني كأنه المضاف إلى المخاطب في

الحقيقية من جهة أنه يتعرف به، إذا لو لم يتعرف به؛ لجازت الألف واللام، وليست إضافة لفظية؛ لأنها لو كانت لفظية؛ لاجتمعت مع الألف واللام كما تجتمع في: الحسن والوجه، والضارب الرجل.

الجواب عن باب ما يمتنع فيه ألف الندبة؟

الجواب عن باب ما يمتنع فيه ألف الندبة؟ الذي يجوز فيه امتناع ألف الندبة من كل منفصل من الأول بما يصلح أن يقع بينه وبينه من ظرف، أو خبر، فلا يلحق الصفة لهذه العلة، ولا ما الثاني فيه هو الأول إذا بني على مخبر عنه. ولا يمتنع من المضاف إليه، ومن المركب؛ لأنه لا يصلح أن ينفصل بظرف، أو خبر. وتقول: وازيدا الظريف، والظريف، فتلحق ألف الندبة الاسم، ولا تلحقها الصفة، وتجري الصفة على حكم اللفظ- إن شئت- أو /196 أالموضع؛ لأن

اللفظ في حكم المضموم، وإن انفتح لألف الندبة. ويلزم من ألحق الصفة علامة الندبة أن يقول: وازيدا أنت الفارس البطلاه؛ لأنه ألحق العلامة الثاني الذي هو الأول مع جواز الانفصال بغيره من الكلام، ولا يعصم من ذلك أن الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، فأمرها أوكد؛ لأن العلة الصحيحة من جواز الانفصال بالظرف والخبر تقتضي استواء الحكم فيهما في الجواز والامتناع، وإن كان أحدهما أوكد. والندبة في (أمير المؤمنين): وا أميرا المؤمنيناه، وفي (عبد القيس): واعبد القيساه، وإذا امتنع (عبد) أو (أمير) مع إرادة الإضافة، ولم يمتنع مع إرادة الصفة؛ ففي ذلك دليل على دخول المضاف إليه في الاسم المضاف الأول من وجهين: أحدهما: أن ذكر التنوين قد أبطل الإضافة؛ لبطلان المعاقبة.

والوجه الآخر: أن فيه الإيذان بأنه لا يذكر المضاف إليه، فلو ذكر؛ لناقض ذلك، وليس كذلك الصفة، فألف الندبة لآخر الاسم، وآخر الاسم المضاف إليه بمعاقبته حرفا منه يمنع أن يفصل عنه. ويونس يقول: وازيد الظريفاه، فليحص ألف الندبة في الصفة، وهو خطأ عند الخليل، لما بينا، ووجه ذلك أن الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، إلا أنه- وإن كان هكذا- فإنه مما لا يمنع ألف الندبة أن تلحق الأول، كما لا يمنع من الفصل بالظرف، والخبر.

والندبة في (قنسرين): واقنسروناه، وفي رجل اسمه [اثنا عشر: وا] اثنا عشراه، وهو في هذا أوكد من المضاف إليه؛ لأنه- مع معاقبته التنوين- مبني معه، حتى يكون كبعض حروفه. والندبة في رجل يسمى (ضربوا): واضربوه، وفي (ضربا): واضرباه، وفي (غلامهم) - إذا سمي به-: واغلامهموم، وفي (غلامهما): واغلامهماه، تتبع ألف الندبة في التسمية كما تتبع في غيرها؛ ليظهر ما سمي به من تثنية، أو جمع، أو مذكر، أو مؤنث.

باب ما تمتنع فيه الندبة

باب ما تمتنع فيه الندبة الغرض فيه: أن يبين ما يمتنع فيه الندبة مما لا يمتنع. مسائل هذا الباب: ما الذي يمتنع فيه الندبة؟ وما الذي لا يمتنع؟ ولم ذلك. ولم امتنعت من المبهم الذي هو معرفة؟ وهلا كان التعريف الذي فيه قد أظهره إظهار العلم الذي تجوز فيه الندبة؟ ولم جاز أن يجتمع الإبهام مع التعريف؟ وهل الإبهام فيه من جهة/ 196 ب أنه لا يقوي بنفسه في البيان عن معناه، والتعريف من جهة ما صحبه من الإشارة إلى الشيء بعينه؟ ولم لا يجوز: واهذاه، إذا كان (هذا) معرفة؟ وهل ذلك لأنه ليس فيه بيان عن معنى يعذر من أجله المتفجع عليه؟ ولم جاز: وازيداه، مع أنه ليس فيه معنى من معاني الصفات يعذر لأجله بالتفجع عليه؟ وهل ذلك لأن العلم يدل على معاني الصفات كما يدل: محمد

ابن عبد الله، على معنى النبي، وكما يدل: موسى بن عمران، على معنى: رسول الله؟ ولم لا يجوز: وارجلا ظريفاً، مع أن فيه معنى يعذر بالتفجع عليه، وإن كان؟ وهل ذلك لأنه لا يعذر بالتفجع على ما هو نكرة لم يوجه التفجع إليه بعينه فيما يدل عليه اسمه؛ لأنه خلطه بغيره يضعف التفجع عليه، حتى لا يعتد به، واختصاصه بعينه يقوي التفجع عليه، كما أن ذم إنسان بطريق النكرة على أنه واحد من جملة الناس يضعف الذم حتى يصير بمنزلة ما لم يقع؛ إذ لا يلحقه بذلك غم، ولا عيب يوجه إليه، ولا معنى يصرف الوجوه عنه، فهو بمنزلة ما لم يقع؟ ولم لابد في كل ندبة من شيئين: تعريف للشيء بعينه، ومعنى يحسن أن ينفجع لأجله في دلالة اسمه؟ وهل الندبة إظهار مصيبة قد وقع صاحبها في عظيم، وأصابه جسيم؟ وهل يجوز: وامن في الداراه؟ ولم لا يجوز هذا كما جاز: وامن حفر زمزماه؟

وهل ذلك لأن من حفر زمزم معروف بعينه، وهو على معنى من الجلالة يتفجع عليه لأجله؟ ولم صار المبهم بمنزلة قول القائل: وامن لا يعنيني أمرهوه؟ وهل ذلك لأنه لو اكتفى بالتعريف فقط في الندبة؛ لجاز هذا؛ لأنه معرفة، ولكن يحتاج إلى معرفة ومعنى يصلح أن يتفجع لأجله، فليس في المبهم دلالة على معنى يصلح أن يتفجع لأجله، وإن كان معرفة؟

باب الاسم المعطوف الذي بمنزلة الموصول في الندبة والنداء

باب الاسم المعطوف الذي بمنزلة الموصول في الندبة والنداء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في المعطوف الذي بمنزلة الموصول في النداء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يجري مجرى غيره من المعطوف؟ وهل ذلك/ 197 ألأنه قد انعقد الثاني مع الأول انعقاد الاسم الواحد؟ وما حكم: ثلاثة وثلاثين، في الندابة؟ ولم جاز: واثلاثة وثلاثيناه؟ وهل ذلك لأنه معرفة بالإقبال عليهم بأعيانهم، وفيه معنى يتفجع عليهم لأجله بكثرة عددهم؟

وما حكمه في النداء من غير ندبة؟ ولم جاز: يا ثلاثة وثلاثين، ولم يجز مثل ذلك في: يا زيد وعمرو؟ وهل ذلك لأن ثلاثة وثلاثين بمنزلة اسم واحد لهذا العدد كقولك: ثلاثة عشر، وإنما منعت النون بقوتها أن يبني بناء: ثلاثة عشر، فيقال: ثلاثة ثلاثين، فهو على ذلك المعنى بمنزلة اسم واحد- وإن دخله حرف العطف- كما هو مقدر في: ثلاثة عشر؟ ولم جاز: يا زيد ويا عمرو، على نداءين، ولم يجز: يا ثلاثة ويا ثلاثون، على نداءين في ذلك لاختلافهم بما لا يتميز الثلاثة من الثلاثين منهم؟ وهل لو تميز [الثلاثة] بمكانهم من الثلاثين حتى يكون هؤلاء يمنة، وأولئك يسرة بفصل بينهم، قد تباعد كل واحدة من الجملتين عن الأخرى، لجاز: يا ثلاثة ويا ثلاثون أقبلوا. وما حكمهم في: ثلاثة عشر، إذا انفصلوا هذا الانفصال؟ فهل يجوز: يا ثلاثة ويا عشر؟ ولم لا يجوز ذلك على معنى: ثلاثة عشر؟ وهل امتناعه لأنه قد استغنى عن الواو فيه كما يستغنى إذا قلت: يا ثلاثة ويا ثلاثون، عن الواو التي تدخل على (ثلاثين) بدخول الواو على حرف النداء، فإنما يجوز على أنه نودي ثلاثة

على حيالهم، ونودي عشرة على حيالهم، ويصلح أن يجمع هذا، فيقال: نودي ثلاثة عشر، كما يضرب ثلاثة في وقت، ويضرب عشرة في وقت، ثم يجمع ذلك، فيقال: ضرب ثلاثة عشر؟ ولم جاز: يا ثلاثة وثلاثين، بمنزلة: يا ضاربا رجلا، مع أن الأول عامل في الثاني، وليس كذلك: ثلاثة وثلاثون؟ وهل ذلك لأن العمل يعقد الثاني بالأول عقد الاسم الواحد، فكذلك كل ما عقد الثاني بالأول عقد الاسم الواحد، فعقد الواو (ثلاثة وثلاثين) بالأول عقد (خمسة عشر) وإن لم يعمل (خمسة) في (عشر)؟ ولم وجب: يا خيرا منك، بالنصب مع أنه معرفة؟ وهل يجوز: يا ضارب رجل، على أنه معرفة؟ ولم لا يجوز في: يا أخا رجل، أن يكون معرفة كما جاز في: يا ضارب رجل، أن يكون معرفة؟ وهل ذلك لأن هذه الإضافة حقيقية، وتلك لفظية على تقدير الانفصال؟ .

الجواب: الذي تمتنع فيه الندبة المبهم، والنكرة؛ لأن المبهم ليس فيه معنى يعذر المتفجع لأجله، وأما النكرة/ 197 ب فلا يجوز لأنه لم يوجه التفجع بالمعنى إلى الشيء يعبنه الذي هو أهل أن يتفجع عليه، فيصير التفجع بمنزلة ما لم يكن، كما أن الذم للنكرة- وهو واحد من جملة الناس لم يوجه الذم إليه بعينه- لا يشين ذلك الذي هو مستحق له، ولا يعمه، ولا يصرف الوجوه عنه، ولا يحط من منزلته، فيصير على هذا الوجه بمنزلة ما لم يقع، فكذلك التفجع على ما هو نكرة لا يعرف، فقد بان علة كل واحد منهما.

وتجوز ندبة العلم، وإن لم يكن فيه ذكر ال المعنى الذي يعذر بالتفجع عليه، إلا أنه دليل على معنى صفته من حيث هو علم عليه، كما يدل الاسم العلم في: محمد بن عبد الله؛ أنه نبي، فعلى هذا جاز في العلم، ولم يجز في المبهم وإن كان معرفة، لأن التعريف بتعيين الشيء بعينه يحتمل أن يكون مما لا لتفت إليه، ولا يحسن التفجع عليه، ويحتمل أن يكون ممن هو على خلاف هذه الصفة؛ لأنه بمنزلة رؤية إنسان بعينه حتى قد عرف بمعرفة تخصه من غير أن يعلم ما يستحقه من الصفات التي هو عليها، فلا يصلح أن يتفجع عليه وهذه منزلته، كما لا يصلح أن يحمد أو يذم، ولا أن يعظم، ولا أن يحقر حتى تعرف منزلته، فلهذه العلة جاز أن يجتمع الإبهام مع التعريف، فيجوز: وازيداه، ولا يجوز: واهذاه؛ لما بينا من أن (هذا) مبهم، و (زيد) علم. ولا يجوز: وارجلا ظريفا، وإن ذكر معنى يحسن أن يتفجع لأجله، لأنه نكرة يقع التفجع عليه موقع اللغو كما يقع الذم لرجل من الناس لا يعرف بعينه موقع اللغو الذي لا يلتفت إليه. وإنما الندبة علامة لمصيبة في خطب عظيم، وأمر جسيم، فإذا لم تدل العلامة على هذا المعنى؛ خرجت عن هذا الحد.

ولا يجوز: وامن في الداراه؛ لأنه مبهم، ولكن يجوز: وامن حفر زمزماه؛ لأن هذا قد جل على أمر كبير يحسن أن يتفجع لأجله، وهو معروف بعينه. ولو جاز: واهذاه، مع إبهامه؛ لجاز: وامن لا يعنيني أمرهوه؛ لأن التعريف بعينه يحتمل أن يكون ممن لا يعنيه أمرهن ويحتمل أن يكون ممن يعنيه أمره، فلا يحسن التفجع عليه؛ لاحتمال ذلك، كما لا يحسن التفجع عليه مع القطع على ذلك؛ لأنهما جميعا يقتضيان رفض التفجع على ما هذه منزلته.

الجواب عن الباب الذي يليه

الجواب عن الباب الذي يليه: الذي يجوز في المعطوف الذي بمنزلة الموصول في النداء النصب، ولحاق علامة الندبة في الثاني؛ لأنه مع الأول بمنزلة اسم واحد/ 198 أوإن كان معطوفا عليه. ولا يجوز ذلك في كل معطوف؛ لأنه إذا صلح تفصيل النداء له كما يصلح: يا زيد ويا عمرو؛ لم يكن الثاني مع الأول بمنزلة اسم واحد؛ فلم يجب فيه ما وجب في المعطوف الذي يصير الثاني فيه مع الأول بمنزلة اسم واحد للعدد، فتقول: يا ثلاثة وثلاثين أقبلوا، وتقول في الندبة: واثلاثة وثلاثيناهن ولا يجوز في (زيد وعمرو) مثل هذا؛ لما بينا، وصار (ثلاثة وثلاثون) بمنزلة (ثلاثة عشر) لأن الأصل فيه: ثلاثة وعشرة، حذفت الواو، وجعل الاسم الثاني مع الأول بمنزلة اسم واحد، وكذلك كان يجب في كل ما بين العقدين، كما وجب فيما بين العشرة والعشرين، فكان يجب فيما بين العشرين والثلاثين مثل ذلك، وما بين الثلاثين والأربعين على هذا القياس، إلا إنه منع من ذلك مانع من جهة اللفظ، وهو قوة النون بحركتها عن أن تحذف، كما تقوى فتمنع بقوتها أن تحذف مع الألف واللام،

فعدل لهذه العلة عن الاسم المركب من جهة حكم اللفظ، والمعنى فيه كالمعنى في (ثلاثة عشر) في أنه كله هدد يصلح أن يقع عليه الاسم الواحد) ويجوز: يا زيد ويا عمرو، على نداءين، ولا يجوز: يا ثلاثة ويا ثلاثون، على نداءين، إذا كانوا مختلطين، ولكن لو كان الثلاثة في جهة، والثلاثون في جهة أخرى منفصلة عن تلك الجهات؛ لجاز/ يا ثلاثة ويا ثلاثون أقبلوا؛ لأن هذا اسم مركب قد منع التركيب من أن يفصل بحرف النداء، أو بغيره، ولكن يجوز في (ثلاثة وعشرة) إذا كان أحد القسمين في جهة منفصلة عن الجهة التي فيها القسم الآخر؛ أن نقول: يا ثلاثة ويا عشرة أقبلوا

وثلاثة وثلاثون يتصل الثاني بالأول كاتصال: ضارب رجلا، وإن كان أحدهما عاملا في الثاني، والآخر ليس بعامل، فإنه بمنزلته في السبب الذي عقد الثاني بالأول حتى يصير بمنزلة اسم واحد، فأحدهما يعقده العمل، والآخر يعقده حرف العطف عقدا يخلطه به حتى يكون معه بمنزلة اسم واحد، كما يقال: هذا حلو حامض، فتعقده الصفة حتى يصير بمنزلة: هذا مز. وتقول: يا خيراً من زيد، بالنصب؛ لأنه موصول بمعموله، كما تقول: يا ضاربا في الدار. وتقول: يا ضارب رجل، على أنه معرفة، كما يتعرف: يا إنسان، ولا يجوز: يا أخا رجل، على أنه معرفة؛ لأن هذه إضافة حقيقية يتعرف الأول فيها بالثاني المعرفة، ويتنكر بالثاني النكرة، فيكتسي من الثاني تنكيره/ 198 ب كما يكتسي منه تعريفه، وليس كذلك الإضافة اللفظية؛ لأنها بمنزلة المنفصل في قولك: يا ضاربا رجلا.

باب حروف النداء

باب حروف النداء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في حروف النداء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في حروف النداء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تستوي في وقوع بعضها موقع بعض؟ وهل ذلك لأن منها ما وضع للبعيد، ومنها ما وضع للقريب، ومنها ما وضع للجميع؟ وكم حروف النداء؟ وما الفرق بين الأحرف الخمسة التي هي للنداء: يا، وأيا وهيا، وأي، والألف؟ .

ولم وجب أن (يا) أم حروف النداء؟ وهل ذلك لأنها تدور في جميع وجوهه؟ وما الشاهد في قوله: (أحار بن عمرو كأني خمر ... ؟ )

ولم جاز المد في الأحرف الأربعة، ولم يجز في الألف؟ وهل ذلك لأنها موضوعة للقريب مع إخلائها من حرف المد؟ ولم كان: أي، وهيا؛ للبعيد؟ وهل ذلك لأنها موضوعة له مع تمكين حرف المد فيها بالياء، والألف؟ ولم كانت (أي) للوسط بين القريب، والبعيد؟ وهل ذلك لأنها موضوعة له من غير تمكين حرف المد فيها؛ إذ هو على ياء ساكنة، والمد لا يتمكن إلا بحرف المد الذي ما قبله [منه] ولم جاز أن تستعمل التي للمد في موضع الألف، (ولم يجز أن تستعمل الألف في موضع التي) للمد؟ وهل ذلك لأنه لا مد في الهمزة؛ إذ لم تكن حرف مد،

وإنما تنزل القريب منزلة الغافل، أو منزلة المؤكد عنده الأمر، فيجوز لهذه العلة أن ينادي بحرف المد؟ ولم جاز حذف (يا) من النداء في العلم، ولم يجز في النكرة، ولا المبهم؟ وهل ذلك لأن الذي كان نكرة فتعرف بالنداء قد حذف منه؟ فلم جاز: زيد أقبل، ولم يجز: رجل أقبل، ولا: هذا تعال، على حذف حرف النداء؟ وهل يجوز: من لا يزال محسنا افعل، على حذف حرف النداء؟ ولم جاز، لم يجز في المبهم؟ وما الشاهد في قول العجاج: (جاري لا تستنكري عذيري؟ )

ولم جاز في الضرورة حذف (يا) من المنكرة؟ وما الشاهد في قول العرب: افتد مخنوق، وأصبح ليل، و: (أطرق كرا ... ؟ ) /199 وهل ذلك على طريق النادر في الكلام للإيذان بقوة تعريف النداء؟ ولم لا يجوز في المستغاث به حذف (يا) كما يجوز في غيره من المنادى؟ وهل ذلك لأنه موضع هو أحق بمد الصوت، مع أنه فرع على أصل النداء؟ وهل يجري التعجب ذلك المجرى في: يا للناس، ويا للماء! ؟

وهل المستغاث به بمنزلة الغافل عن الآبدة النازلة، أو المتراخي عنها؟ ولم لزمت الندبة (يا)، و (وا) دون غيرهما من أدوات النداء؟ وهل ذلك لأن (يا) أم حروف النداء، فعل لازمة في كل وجوهه، وأما (وا) فلأنها مختصة بالندبة؛ لتدل عليها خاصة، مع أن الندبة موضع مد الصوت بالمندوب في أبعد البعد بهلاكه، ومع ذلك أن الندبة مما يترنمون فيها، [فيلزمها] المد لهذه العلة؟

باب الجاري على طريقة النداء من غير أن يكون منادي

باب الجاري على طريقة النداء من غير أن يكون منادي الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الجاري على طريقة النداء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تدخل فيه (يا)؟ وهل ذلك لأنه ليس بنداء، وإنما هو على معنى الاختصاص، كاختصاص المنادي بمعنى النداء؟ وما نظيره من التسوية التي تجري على طريقة الاستفهام في: ما أدري أفعل أم لم يفعل؟ وما حكم قولهم: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، ونحن نفعل كذا وكذا

أيها القوم؟ وهل (الرجل)، و (القوم) في هذا على معنى المخاطب، أم على معنى المتكلم.؟ ولم وجب أن يكون على معنى المتكلم الذي يختص نفسه بذلك الأمر؟ . وما دليله من قول العرب: اللهم اغفر لما أيتها العصابة؟ وما حكم قولهم: على المضارب الوضعية أيها البائع؟ وهل (البائع) في نفس المتكلم؟ ولم جاز هذا الاختصاص مع دلالة (أنا) و (نحن) عليه؟ وهل ذلك لما فيه من البيان أنه يلزمه بأنه بائع، وقد يجيء على التأكيد توطئة لهذا البيان في قولك: أنا أفعل كذا وكذا أيها الرجل؟ وما نظيره من قولهم للذي هو مقبل عليهم: كان الأمر كذا يا أبا فلان؟ ولم جاز أن يجري على طريقة النداء في: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، /199 ب، ولم يجز أن يجري على حرف النداء في: يا أيتها العصابة؟ وهل ذلك لأنه لم يستوف معنى النداء؟ إذ هو على الاختصاص، وطلب الإجابة، وإنما هذا الباب على الاختصاص فقط؟

الجواب عن باب حروف النداء؟

الجواب عن باب حروف النداء؟ الذي يجوز فيه إجراء الحروف التي ينادي بها على أربعة أوجه: حرف للبعيد، وحرف للقريب، وحرف للوسط بين القريب والبعيد، وحرف للجميع؛ ليكون أم حروف النداء ولا يجوز أن يستعمل الحرف الذي هو للقريب في موضع البعيد؛ لأنه ليس فيه شيء من حروف المد واللين. وحروف النداء خمسة: أيا، وهيا، وأي، والألف ويا، فـ (أيا) و (هيا) للبعيد؛ لأنه قد مكن حرف المد فيه بالألف، والياء، وهما حرفا المد، وإنما (هيا) على بدل الهاء من الهمزة؛ للمناسبة التي بينهما بمخرج الحرف. فأما (أي) فللوسط بين القريب والبعيد؛ لأن فيه حرف مد لم يمكن تمكين (أيا) إذ ليس ما قبله [منه، وهو حرف واحد، وهي الياء.

وأما النداء الذي للقريب؛ فالألف، كقولك: أزيد أقبل] كما قال ذو الرمة: (أداراً بحزوي هجت للعين عبرة .. فماء الهوى يرفض أو يترقرق) فهذا دليل على أنه منها قريب، وإنما وقف عليها، فقال هذا القول. وأما (يا) فهي للجميع؛ لأن فيها حرفي المد على أتم حال، مع إيجاز لفظه، فهو أحق بأن يكون أما؛ لتمكنه مع خفته.

ويجوز أن تستعمل الأحرف التي للبعيد والوسط بينهما في موضع القريب على أحد وجهين. إما على تنزيل المنادي منزلة الغافل عنك بضرب مما يشغله، فيحتاج إلى ذلك فيه. وإما للتوكيد الذي يدل على شدة مبالغتك في أنك مناد له بخطابك إياه دون غيره. إلا أن الأغلب هو ما بدأنا به قبل. ولا يجوز في الألف أن تكون للبعيد؛ لأنه ليس فيها مد. ويجوز حذف حرف النداء مع الاسم العلم؛ لأن البيان الذي فيه بكونه علماً، مع الإقبال عليه قد يستغنى به عن حرف النداء، كقولهم: (حاربن كعب ... )

وفي التنزيل: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}، وفيه: {رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، و {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. ولا يجوز حذف حرف النداء من النكرة ولا المبهم، لأنه قد حذف منه (أيها)؛ إذ الأصل: يا أيها الرجل، ويا أيهذا، فلم يجمع عليه حذف حرف النداء، وحذف الوصلة إلى ندائه؛ لئلا يخل به. /200 أويجوز: من لا يزال محسناً افعل كذا وكذا؛ لأنه ليس مما حذف معه (أيها)، فيصلح حذف النداء؛ لأنه لا يخل به. وقال العجاج: (جاري لا تستنكري عذيري)

فحذف (يا) مع النكرة للضرورة على تشبيهه بالمعرفة التي تحذف معه (يا). وقيل في مثل: افتد مخنوق، وأصبح ليل، و: أطرق كرا .... وهو قليل نادر، وإنما جاز للإيذان بقوة النداء على التغيير، مع أن المثل نادر، فشوكل به النادر في حذف حرف الندار. ولا يجوز في المستغاث به إلا (يا)؛ لأنها أم حروف النداء؛ تدخل في سائر وجوهه من أصله وفرعه، فأصله النداء المجرد، وفرعه نداء المستغاث به، ونداء

المندوب. ولا يجوز حذفها من المستغاث به؛ لأنه أحق بمد الصوت للاجتهاد في الاستغاثة، مع أنه يطلب الإجابة، وكشف البلية، فهو موضع تحقيق، وتوكيد. وكذلك التعجب يلزمه (يا)؛ لأنه قد دخله مع النداء معنى التعجب؛ فلم يصلح فيه الحذف؛ لأنه لما زاد المعنى؛ اقتضى زيادة اللفظ، أو تمامه. ولا يجوز حذف (يا)، أو (وا) من الندبة؛ لأنها موضع اجتهاد في مد الصوت للبيان عن عظيم ما نزل من المصيبة، ومع ذلك أن الندبة موضع ترنم على طريق التحزن، فلا يصلح فيها الحذف.

الجواب عن باب الجاري على طريق النداء من غير أن يكون منادي

الجواب عن باب الجاري على طريق النداء من غير أن يكون منادي: الذي يجوز فيه إجراؤه على طريق النداء في (أيها) ونصب المضاف. ولا يجوز إدخال حرف النداء عليه؛ لأنه ليس بمنادي، وإنما هو مشبه للمنادي في الاختصاص الذي يدل عليه الكلام دلالة التضمن من غير إفصاح بذكر الاختصاص، فوجب له ما يدل على هذا الاختصاص، ولم يجب له حرف النداء؛ لأنه ليس بمنادي. ونظير ذلك إجراء الكلام على طريق الاستفهام من غير استفهام للتسوية التي يكون عليها الاستفهام، كقولك: قد علمت أزيد في الدار أم عمرو، وما أدري أفعل

أم لم يفعل، إلا أن هذا أتى بصيغة الاستفهام على التمام، والمختص أتي بطريقة النداء من غير تمام؛ لأنه فيه ما يدل على الطريقة من غير حرف النداء، وليس /200 ب كذلك الاستفهام. وتقول: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل، فأيها الرجل هو المتكلم لا المخاطب، على جهة اختصاصه بالفعل الذي ذكر له؛ تحقيقا لذلك وتوكيدا، ودليله: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. يتلوه- إن شاء الله تعالى- وتقول: نحن نفعل كذا وكذا أيها القوم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وصحبه، وأتباعه أجمعين، وسلم تسليما كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

/201 أالجزء الخامس والعشرون من شرح كتاب سيبويه. إملاء أبي الحسن علي بن عيسى النحوي. رحمة الله عليه. /201 ب بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر ولا تعسر. وتقول: نحن نفعل كذا وكذا أيها القوم، وعلى المضارب الوضيعة أيها البائع، فالبائع هو المتكلم. وإنما جاز ذلك- مع قوله: أنا- على طريق التوكيد؛ لئلا يتوهم أنه يدخل معه في خبره غيره ممن يتبعه، ويوافقه على رأيه، فحقق الاختصاص بهذا الأمر. ونظيره قولك لمن هو مقبل عليك، قريب منك، منصت لك: يا أبا فلان، فهذا تحقيق لتوجيه الخطاب إليه؛ لئلا يتوهم أنه يدخل في الخطاب غيره ممن حضر،

أو قد كان يجوز أن يوجه الكلام إليه، فيجوز: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، ولا يجوز: اللهم اغفر لنا [يا] أيتها العصابة؛ لأنها ليست بمناداة، وإنما هي مختصة بالمعنى الذي ذكر من طلب المغفرة له.

باب الاختصاص الذي يجري على طريقة النداء في النصب

باب الاختصاص الذي يجري على طريقة النداء في النصب الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاختصاص الذي يجري على طريقة النداء في النصب مما لا يجوز مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاختصاص الذي يجري على طريقة النداء في النصب؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز أن يمتنع منه الألف واللام كما امتنع من المنادي؛ إذ هو على طريقة النداء؟ وهل ذلك لأن الاختصاص ليس فيه ما يعرف بالاسم من أجل امتناع حرف النداء منه، كما بينا قبل؟ وما حكم قولهم: إنا- معشر العرب- نفعل كذا وكذا؟ ولم انتصب: معشر العرب؟ وهل ذلك على معنى: أعني، أو أختص، كما ينتصب المضاف في النداء

على تقدير: أعني، وإن لم يظهر العامل؟ ولم لا يجوز أن يظهر العامل في الاختصاص، كما جاز أن يدخله الألف واللام؟ وهل ذلك للاستغناء عن العامل الذي يخرجه عن طريقة النداء، ولا يستغنى عن الألف واللام؛ للحاجة إلى تعريف الاسم؟ وهل إظهار العامل يخرجه إلى الخبر، كما أنه لو ظهر العامل في النداء؛ لأخرجه عن حد النداء إلى الخبر في قولك: عبد الله، لو قلت: أعني عبد الله؛ لبطل النداء، فكذلك لو قلت: إنا أعني معشر العرب؛ لخرج عن حد الاختصاص الذي على طريقة النداء إلى الخبر، فلا يجوز أن يظهر العامل في الاختصاص كما لا يجوز أن يظهر في النداء؛ لأنه يخرجه/ 202 أعن حده، ولا يخرجه لحاق الألف واللام، ولا امتناع حرف النداء؛ لأن ما بقي فيه من خاصة النداء دليل على الاختصاص الذي يجري على طريقة النداء، ولو ظهر العامل لم يبق ما يدل على تلك الطريقة؟ وما الشاهد في قول عمرو بن الأهتم: (إن- بني منقر- قوم ذوو حسب ... فينا سراو بني سعد وناديها؟ )

ومن أين دخله معنى الافتخار؟ وهل ذلك لأن الاختصاص بالذكر لما قد دل عليه في الجملة إنما هو لتحقير، أو تعظيم، فلما قال: إنا، دل على المتكلم فصار ذكره بني منقر للتعظيم في مفوم الكلام. وما الشاهد في قول الفرزدق: (ألم تر أنا بني دارم ... زراة منا أبو معبد) فهذا على الافتخار؟ وما الشاهد في قول رؤبة:

(بنا- تميما- يكشف الضباب؟ ) وما وجه قولهم: نحن- العرب- أقرى الناس لضيف.؟ ولم جاز دخول الألف واللام في (العرب)، وهو في موضع المنادي على طريقته؟ وهل ذلك لأنه لما امتنع حرف النداء الذي يعرفه؛ لحقت الألف واللام للتعريف؛ لأنه لا يصلح الافتخار على طريقة الاختصاص بما هو نكرة؟ ولم وجب فيه النصب، ولم يجز الرفع كما يجوز في صفة المنادي المضموم؟ وهل ذلك لأن الصفة تبعت الموصوف على شبه المرفوع، وليس كذلك ما فيه الألف واللام من غير إتباع ولا وقوع المنادي في الخطاب؛ لأنه لا يجب للاسم في النداء أن يبني إلا بأن يكون معرفة، مفرداً، مخاطباً، فإذا بطل الخطاب؛ بطل البناء؛ لخروجه عن شبه المكني؟ ولم لو قال شاعر: يا العرب؛ لضم الاسم، كما قال في الضرورة.

(فيا الغلامان اللذان فرا ... إيا كما أن تكسبانا شرا) وإذا قال: نحن- العرب- أقرى الناس لضيف؛ لم يجز إلا النصب، وكذلك لو قال: نحن- الغلامين- أشجع الناس، على الاختصاص والافتخار؛ لم يجز إلا النصب؟ ولم جاز دخول (أي) وحدها من علامات النداء، ولم يجز دخول غيرها من حروف النداء؟ وهل ذلك لأن (أيا) وصلة إلى ذكر ما فيه الألف واللام في النداء، يصلح أن تذكر، ويصلح أن تترك في النداء، فيقال: يا أيها الرجل، ويا رجل، وليس كذلك حروف النداء؛ لأنها تدخل ليجيب المنادي المخاطب، وليس ذلك في الاختصاص؛ لأنه للمتكلم، لا للمخاطب؟ ولم جاز: إني- أيها الرجل- أفعل كذا، ولم يجب/ 202 ب مثل ذلك في قولهم: نحن- أيها العرب- أقرى الناس لضيف؟ وهل ذلك لأن (أيا) في النداء يصلح أن تذكر، وأن تترك، فجرت [في] الاختصاص على تلك الطريقة؟ وما الشاهد في قول لبيد؟

نحن بنو أم البنين الأربعة؟ فلم رفع (بنو).؟ وهلا نصب على الاختصاص؟ وهل ذلك لأنه ليس فيه مفخر؛ إذ هو كثير في الناس أن يكونوا بني أم البنين، فلا معنى للافتخار بهذا، فجاء على طريقة الخبر، لا على طريق الافتخار. وما وجه قولهم: إنا- معشر الصعاليك- لا قوة بنا على المروة؟ وهل ذلك على تصغير أمرهم؛ إذ يجري النقيض في التصغير والتعظيم مجرى واحداً؟

وهل يجوز على ذلك: إنا- المساكين- مرحومون، وإنا- الضعفاء- معرضون للمكاره؟ وما وجه قولهم: بك- الله- نرجو الفضل، وسبحانك الله العظيم؟ وهل هذا على اختصاص النداء؟ وهل أسقطوا حرف النداء؛ لأنه لم يستوف شروطه في المعنى، فلم يستوف شروطه في اللفظ؟ وهل يجوز: إني- هذا- أفعل. ولم لا يجوز؟ وهل ذلك لأنه لا يصلح الافتخار على طريق الاختصاص لما قد ذكر بمبهم؛ لأن ذكر المختص عذر في الافتخار به، فإذا أبهم؛ بطل هذا المعنى؛ لأنه لا يدل على معنى يفتخر بمثله؟ ولم لا يجوز الاختصاص بالنكرة؟ وهل ذلك بمنزلة ندبة النكرة على العلة التي بينا؟ ولم لا يجوز: إنا- قوما كراما- نرى الجود لازما، على الاختصاص؟ وعل ذلك لأن توجيه الافتخار إلى المفتخر به بعينه أحق به من أن يكون شائعا يحتمله وغيره؟ وهل يلزم من ذلك: إنا- قوما- نرى الجود واجباً؟ ومن أين لزم هذا، وليس في قوله (قوماً) ما يفتخر به، كما في قوله: قوماً كراماً؟ وهل ذلك لأنه مدلول

عليه بقول: نرى الجود فضلا واجبا، فكان يلزم من هذه الجهة، فلا يحسن ذلك حتى يقع الإفصاح بالشيء بعينه الذي يدل على معنى الافتخار؟ ولم كثر في هذا الباب: بنو فلان، ومعشر مضافة، وأهل البيت، وآل فلان؟ وهل ذلك لأن جميعه يشرف إلى ما يتشرف به ويعظم؛ لأن الأب الأكبر معظم، ومعشر المسلمين معظمون، وأهل بيت الرسول، وآل النبي على هذه المنزلة في التعظيم. وهل يجوز: إنهم فعلوا أيتها العصابة؟ ولم لا يجوز ذلك في الغائب أصلا؟ وهل ذلك لأنه إنما يجوز في الحاضر المتكلم؛ لأنه على طريقة الحاضر المنادي، فأما الغائب فخارج عن طريقة/ 203 أالمنادي؟ وما الشاهد في قول الصلتان العبدي:

(أيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله .... جرير ولكن في كليب تواضع) فلم لا يكون على اختصاص النداء؟ وهل يمنع من ذلك أمران: أنه نكره، وأن معه حرفا من حروف النداء، وكلاهما لا يجوز في المختص على طريقة النداء؟ ولم حمله الخليل على أنه غير منادي، ولكن على حذف المنادي، كأنه قال: يا قائل الشعر شاعراً؟ وهل ذلك لأن الافتخار لا يصح إلا على هذه الجهة، كأنه لما نادي قال: حسبك به شاعراً، فصار مفسراً بمنزلة هذا القول لو أفصح به، فقيل: حسبك به شاعرا. وما نظيره في الحذف من قولهم: تالله رجلا، على معنى: الله لا أرى رجلا كرجل أراه اليوم؟ وما نظيره من قولهم: يالك فارساً؟

وما الشاهد في قول شريح بن الأحوص الكلابي: (تمناني ليلقاني لقيط ... أعام- لك- ابن صعصعة بن سعد؟ ) فمن أين دخله معنى التعجب؟ وهل ذلك لأن نبه بالنداء على معنى يتعجب من مثله بعد قوله: (تمناني ليلقاني لقيط ... )

كأنه قال: يا عجباً له؟ وما الشاهد في قول الشاعر: (أيام جمل خليلاً لو يخاف لها ... صرما لخولط منه العقل والجسد) وعلام نصب (خليلاً)؟ وهل ذلك على اختصاص النداء، أم علي: حسبك بها خليلاً، ثم قال: لو يخاف لها صرماً، أي: لو يخاف هذا الإنسان لها صرماً؛ لخولط منه العقل والجسد؟ ولم لم يكن على الاختصاص؟ وهل ذلك (خليلا) نكرة، كأنه قال: أيام جمل خليلا لو يخاف خليلها لها صرماً؛ لخولط منه العقل والجسد؟ وما خير (جمل)؟ هل هو مدلول عليه؛ إذ فيه معنى: حسبك بها خليلاً؟ وما الشاهد في قول الشاعر:

(يا هند هند بين خلب وكبد) ولم رفع بالتنوين: هند بين خلب وكبد؟ ولم لا يجوز أن يكون على عطف البيان، كما تقول: يا زيد زيد أقبل؟ وهل ذلك لأنه وصفها بالنكرة؟ فصارت نكرة، ولا يكون عطف البيان على المعرفة بالنكرة، لأنه لا يجري مجرى الصفة؟ ولم جعله على: أنت هند بين خلب وكبد؟ وهل ذلك لأن (بين خلب) إذا كان صفة (هند)؛ فلابد لها من مبتدأ؛ لأنها حينئذ خبر مبتدأ محذوف. وهل يجوز أن تكون معرفة على معنى/ 203 ب الإقبال على غيرها ممن تحدثه، فتقول: عند هذه بين خلب وكبد، فتكون معرفة على هذا الوجه؟ الجواب: الذي يجوز في الاختصاص على طريقة النداء في النصب نصب المضاف،

وما فيه الألف واللام على عامل لا يظهر كما لا يظهر في النداء؛ لأنه لو ظهر لخرج عن طريقة الاختصاص الذي للنداء إلى معنى الخبر. ولا يجوز امتناع الألف واللام من الاسم فيه كما يمتنع في النداء؛ لأن الذي كان يعرف المنادي من حرف النداء قد امتنع في الاختصاص، فلم يكن بد للنكرة من معرف فيه. وتقول: إنا- معشر العرب- نفعل كذا وكذا، فتنصبه كما تنصب المضاف في النداء، ولا يجوز أن يظهر العامل، [وإن] كان تقديره: أعني معشر العرب؛ لأنه لو ظهر؛ لخرج عن طريقة النداء إلى الخبر، والألف واللام لا يخرجه عن طريقة النداء أصلا؛ لأن ما بقى فيه من العلامة التي هي النصب من غير إظهار العامل دليل على طريقة النداء، وكذلك لو قلت في النداء: عبد الله، وأظهرت العامل، فقلت: أعني عبد الله؛ لأخرجته عن حد النداء. وقال عمرو بن الأهتم: (إنا- بني منقر- قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعد وناديها)

فهذا على الافتخار؛ لأن ما ذكر في الجملة، فإنما يفرد بالذكر للافتخار أو الانتقاص الذي قد بان من الجملة، وكذلك التحقير أو التعظيم يجري هذا المجرى. وقال الفرزدق: (ألم تر أنا بني دارم ... زارة منا أبو معبد) فهذا افتخار بالأب المعظم. وقال رؤبة: (بنا- تميما- يكشف الضباب) فهذا افتخار موجه إلى ذكر المعظم بعينه. وقالوا: نحن العرب- أقرى للناس لضيف، فهذا على الافتخار بما للعرب مما ليس لغيرهم من البيان العظيم، وهو موجه إليهم بأعيانهم على الاختصاص لهم، ولا يجوز فيه إلا النصب على أصل ما يجب في النداء للمضاف والموصول. وما لم يقع موقع المنادي على معنى النداء وفيه الألف واللام؛ فهو يجري هذا المجرى؛ لأنه يجب أن يعرب من أجل أنه ليس مخاطباً يشبه المكني، فلما خرج عن شبه المكني بأنه ليس بمخاطب، مع أنه فيه الألف واللام؛ جري مجرى المضاف في الخروج إلى النصب الذي هو الأصل في النداء.

ولو قال شاعر: يا العرب؛ لرفع؛ لأنه قد وقع موقع/ 204 أالمنادي المخاطب، وهو معرفة مفرد، فشبه الكناية فيه قائم، فيجب أن يضم لهذه العلة، وإن كانت ضمته ضمة إعراب؛ لدخول الألف واللام فيه، وكذلك التثنية في الاختصاص منصوبة، وفي النداء مرفوعة كقوله في

الضرورة: فيا الغلامان اللذان فرا فكذلك لو قال: نحن- الغلامين- أجسر الناس على عظيمة؛ لكان بالنصب. وإنما جاز دخول (أي) وحدها في الاختصاص، ولم يجز غيرها من أدوات النداء؛ لأنها وصلة إلى ذكر ما فيه الألف اللام في موقع لا يدخله الألف واللام. ويصلح ذكرها وتركها في النداء، كقولك: يا أيها الرجل، ويا رجل، وليس كذلك حروف النداء؛ لأنها تطلب إقبال المخاطب عليك، فيجوز: إني- أيها الرجل- افعل كذا، ويجوز أني- الرجل- أفعل كذا، كما قالوا: نحن العرب- أقرى الناس لضيف، ولو قيل: أيها العرب أقرى الناس لضيف لجاز. وقال لبيد: نحن بنو أم البنين الأربعة فهذا لا يجوز إلا بالرفع على الخبر، ولا يجوز على الاختصاص الذي على طريق

النداء؛ لأنه ليس مما يفتخر به أن يكونوا بني أم البنين؛ لكثرة هذا في الناس، مع احتماله التوضيع، فلا معنى للافتخار بهذا. وتقول: إنا- معشر الصعاليك- لا قوة بنا على المروة، فهذا على تصغير الشأن الذي يجري على طريقة نقيضه من تعظيم الشأن، وعلى ذلك تقول: نحن- المساكين- مرحومون، ونحن- الضعفاء- معرضون للمكاره. وأما قولهم: بك- الله- نرجو الفضل، وسبحانك الله العظيم؛ فهذا على اختصاص النداء؛ إلا أنه لا يذكر فيه حرف النداء؛ ليؤذن ذلك بأنه على اختصاص النداء، دون أن يكون فيه منادى.

ولا يجوز: إني- هذا أفعل، على اختصاص النداء؛ لأنه مبهم، والمبهم لا يصلح أن يوجه الافتخار إليه؛ للتقصير به عما يوفي حقه من توجيهه إليه بعينه على المعنى الذي يدل على الافتخار؛ ولهذا لم يحسن في النكرة؛ لأنه يحتاج إلى جمع أمرين: البيان عن معنى يفتخر بمثله، وليس ذلك في المبهم، مع توجيه الافتخار إلى مستحقه [بعينه؛ لأن خلاف ذلك تقصير به] ولو جاز: إنا- قوماً كراماً- نرى الجود فضلا واجبا، على اختصاص النداء؛ لجاز: إنا- قوما- نرى الجود فضلا لازما؛ لأنه إذا اقتصر على دلالة مفهوم الكلام على الشيء بعينه؛ جاز أن يقتصر- أيضا- في الشيء يفتخر بمثله على دلالة مفهوم الكلام. ويكثر في هذا الباب: بنو فلان، ومعشر كذا، وأهل البيت، وآل فلان؛ لأن جميع ذلك مضاف إلى المعظم الشأن في مجرى كلام الناس. ولا يجوز: إنهم فعلوا أيتها العصابة؛ لأنه على معنى الماضي/ 204 ب، وإنما يجري على اختصاص النداء المتكلم؛ لأنه حاضر كحضور المنادي. وقال الصلتان اللعبدي: (أيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع) فليس هذا على اختصاص النداء؛ لأنه نكرة، ولا على نداء النكرة؛ لأنه لا يفتخر بذكر النكرة المنادي، ولكنه على حذف المنادي، بتقدير: يا قائل الشعر شاعرا،

كأنه قال: حسبك به شاعراً، فجاء على [تفسير] حال المعظم في المعظم في: حسبك به، ولم يكن هو الدليل على المعظم بعينه؛ لأنه نكرة. والحذف فيه كقولهم: يا لك فارساً! ، كأنه قال: يا إنسان حسبك به، أو أكرم به فارساً. وكثرة الحذف [فيه] ككثرته في قولهم: تالله رجلا؛ لأن دلالة الحال،

مع ما تضمن من دلالة القول؛ يفهم بها هذا المعنى. وقال شريح بن الأحوص: (تمناني ليلقاني لقيط ... أعام- لك- ابن صعصعة بن سعد) فهذا تعجب؛ لأنه نبه على معنى يتعجب من مثله لما قال: (تمناني ليلقاني لقيط ... ..... ) تعجب بطريق النداء، كأنه قال: يا عجبا لذلك. وقال الشاعر: (أيام جمل خليلا لو يخاف لها ... صرماً لخولط منه العقل والجسد) فليس هذا على اختصاص النداء؛ لأنه نكرة، ولكنه كأنه قال: أيام حمل حسبك بها خليلاً، لو يخاف خليلها لها صرما؛ لخولط منه العقل والجسد، فعلى هذا معنى الكلام.

وقال الشاعر: يا هند هند بين خلب وكبد ف، (هند) ليس على النداء على عطف البيان؛ لأن قولك (ببين خلب وكبد ) إما صفة لـ (هند) فتكون نكرة، وإما خبر، فتكون جملة تخرج عن عطف البيان، كأنه قال لمن يحدثه: هند هذه بين خلب وكبد، وعلى الوجه الآخر كأنه قال: أنت هند بين خلب وكبد. لا يصلح إلا ذلك على صفتها بالنكرة

باب الترخيم

باب الترخيم الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الترخيم مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الترخيم؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الترخيم إلا في النداء؟ ولم لا يجوز/ 205 أترخيم كل منادي؟ وهل ذلك للإخلال بما لم يغيره النداء بالإخراج من الإعراب إلى البناء، والإجحاف بما كان على أقل عدة الأسماء؟ وما الترخيم؟ وما نظير الترخيم من حذف التنوين، وحذف ياء الإضافة في النداء؟ ولم [لا] يرخم المضاف إليه، ولا الصفة؟ وهل ذلك لأنه غير منادى؟

ولم لا يرخم الاسم المنون في النداء؟ ولم لا يرخم المضاف، ولا المستغاث به؟ ولم لا يرخم المندوب؟ وهل ذلك لئلا يجمع عليه حذف علامة الندبة مع حذف آخر الاسم؟ ولم لا يرخم مع إثبات علامة الندبة؟ وهل ذلك لأنها كالتتنوين مع أن الندبة موضع تفخيم، وتعظيم كالاستغاثة؟ وما حكم الحرف الذي قبل المحذوف في الترخيم؟ ولم كان الوجه أن يترك على حاله؟ وهل ذلك لأنه أدل على المحذوف منه؟ ولم جاز أن يضم؟ وهل ذلك لأنه صار في موقع آخر الاسم في النداء؟ ولم جاز في (حارث): يا حار، على أنه الوجه، وجاز: يا حار، على جعل الاسم بمنزلة ما لم يحذف من شيء؟ وما ترخيم (سلمة) على: يا حار، ويا حار؟ وما ترخيم (برثن) على الوجهين؟

وما ترخيم (هرقل).؟ الجواب: الذي يجوز في الترخيم حذف آخر الاسم في النداء من غير إخلال، ولا إجحاف، ولا يجوز الترخيم في غير النداء [لأن النداء] موضع تخفيف وتغيير؛ إذ هو مفتاح كلام؛ ليقبل عليك المخاطب، فتخبره، أو تستخبره، أو تأمره، أو تنهاه. ولا يجوز ترخيم كل منادي؛ لما يلحق بذلك من الإخلال، أو الإجحاف. أم الإخلال؛ فلما قد وجب له بعلة صحيحة أن يجري على أصله في الإعراب، فلو رخم؛ لأخل به ذلك، لمخالفة مقتضى العلة الصحيحة التي أوجبت له الإعراب. وإنما يجوز أن يرخم ما غيره النداء بالإخراج عن الإعراب إلى البناء، فيطرق عليه ذلك تغيير الترخيم؛ لأنه لما قوي على التغيير إلى البناء؛ قوي على التغيير إلى الترخيم، ولما ضعف عن التغيير بالإخراج عن الإعراب؛ ضعف عن التغيير بالإخراج عن صيغة الاسم. والترخيم: حذف آخر الاسم للتخفيف من غير إخلال، ولا إجحاف، فهذا حقيقة الترخيم، والأصل الذي يعمل عليه في بابه. ونظير الترخيم حذف التنوين مع البناء؛ لأنه موضع تخفيف، وكذلك حذف ياء الإضافة بما لا يحسن في غير النداء، ويقوى كقوته في النداء.

ولا يجوز ترخيم المضاف إليه؛ لأنه ليس بمنادي، وكذلك الصفة لا يجوز ترخيمها؛ لأنها صفة المنادي، وليست/ 205 ب بمنادي. فإن قال قائل: إذا كان الثاني في الصفة هو الأول، فنودي الأول؛ فقد نودي الثاني. قيل له: لا يجب ذلك على الوجه الذي يصح فيه؛ لأنه ليس بمنادي بالصيغة التي تنبئ عن أنه المنادي، وإنما له صيغة الصفة، ويوضح ذلك دخول الألف واللام في الصفة، وامتناعها من المنادي فليست الصفة هي المنادي بالصيغة التي تدل على أنه المدعو، وعلى هذا قيل: ليس بمنادي. وليس كل اسم للشيء ينعقد بمعنى النداء، وإنما ينعقد به ما وضع في الموضع الذي هو للمنادي على معنى النداء، فإذا قيل: ليس بمنادي بهذا الاسم، أو هذا المعنى؛ فهو صحيح؛ لأنه لم يعقد فيه [مع] الحرف. ولا يرخم المضاف، ولا المستغاث به؛ لأنه جري. وإن كان قد عقد باسمه الآخر؛ كندائه بكنيته، وترك ندائه باسمه؛ فهو منادي بـ (أبي عبد الله) وليس بمنادي بـ (زيد)، فكذلك هو منادي بالاسم، وليس بمنادي بالصفة؟

ولا يجوز ترخيم الاسم المنون في النداء؛ لأن التنوين يمنع من ذلك؛ إذ العلة التي أوجبت زيادته تمنع من حذف ما هو على أصله في الإعراب بعلة صحيحة، والترخيم يذهب الإعراب الذي قد وجب للاسم، فلا يجوز ذلك. ولا يجوز ترخيم المندوب؛ لأنه لا يجمع عليه حذف علامة الندبة، وحذف آخره، ولا تثبت علامة الندبة مع الترخيم؛ لأنها بمنزلة التنوين في الزيادة، والمعاقبة. والحرف الذي قبل المحذوف في الترخيم يجوز فيه وجهان: الأجود منهما تركه على حاله؛ لأنه أدل على المحذوف منه. ويجوز أن يضم؛ لأنه قد وقع موقع آخر الاسم الذي يستحق الضم. وترخيم (حارث): يا حار، فهذا الأجود؛ لما بينا، ويجوز: يا حار. وترخيم (سلمة) على (ياحار): ي سلم أقبل، وعلى (ياحار): يا سلم أقبل، \ وترخيم (برثن): يا برث، على الوجهين. وترخيم (هرقل): يا هرقل أقبل، على (يا حار) ويا هرق، على (يا حار)

باب ترخيم ما آخره هاء التأنيث

باب ترخيم ما آخره هاء التأنيث الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم ما آخره الهاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم ما آخره هاء التأنيث؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز حذف شيء من الزوائد مع هاء التأنيث؟ وهل ذلك لأنه لا يتبع الهاء في الحذف زائد غيرها، كما يتبع ما زيد للمد آخر الاسم في (عمار) وبابه؛ لأن التابع إنما يتبع بضعفه/ 206 أمن جهة سكونه، وزيادته، وما قبل هاء التأنيث متحرك أبداً، وهاء التأنيث أحق بالحذف من كل زائد يقع آخر الاسم، وإنما يتبع ما هو أحق بالحذف لما هو أثبت إذا حذف؟ ولم جاز ترخيم ما هو على ثلاثة أحرف مع هاء التأنيث؟ ولم كانت هاء التأنيث أحق بالحذف في الترخيم؟ وهل ذلك لأنها منفصلة بمنزلة اسم ضم إلى اسم، فلا يلحق بحذفها ضعف الاسم الأول كما يلحق بغيرها؛ لأنه رد إلى الأصل المستعمل في نفسه، ونظائره؟

وما الشاهد في قول العجاج: (جاري لا تستنكري عذيري؟ ) وهل رخم النكرة، أم كان نكرة تعرف بالنداء؟ ولم وجهه أبو العباس على أنه شاهد في ترخيم النكرة؟ ولم جاز: يا شا ارجني ويا ثب أقبلي، ولم يجز ترخيم (عمرو) ونحوه مما هو على ثلاثة أحرف. وهل يحوز: يا سلمة أقبل؟ ولم جاز؟ . وما شاهده من قول النابغة: (كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب؟ )

وما هذه الهاء التي في قوله: يا أميمة؟ وهل هي هاء الإقحام؟ وهل ذلك لأنها أجريت مجرى آخر الاسم في ترخيمه بعد ذهاب هاء التأنيث منه، فعوملت معاملة الهاء من (طلحة)، / إذا قلت: يا طلح أقبل؟ وما وجه قول بعض العرب: يا سلمة، ويا طلحة، في الوقف، فإذا وصل؛ حذف، فقال: يا سلم، ويا طلح؟ وهل هذه الهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا وصل الاسم؛ سقطت؛ للاستغناء عنها بحرف الوصل؟ وما وجه هاء لحاق الإقحام مع حذف هاء التأنيث للترخيم؟ وهل ذلك للتأكيد المبين أن المقدر في النية بمنزلة المذكور، ولولا ذلك لم تصح في موضع الحذف للتخفيف زيادة يستغنى عنها، ولكن فيها بيان أن المقدر بمنزلة المذكور؛ لتمكين

هذا المعنى في النفس؟ ولم لزمت الهاء في: يا طلحه، وفي الوقف عند بعض العرب، من غير أن يكون المتكلم بالخيار في حذفها، أو إثباتها؟ وهل ذلك لأنها لما كانت تلحق في الوقف؛ لبيان الحركة فقط، ثم اجتمع مع بيان الحركة حذف يقتضي العوض منه؛ كانت ألزم وأثبت- لهذه العلة- منها في: سلطانية، ونحوه؟ وهل قياس ذلك كقياس: ارمه؟ وهل قياسه [قياس]: قه؟ ولم صار على/ 206 ب قياس: ارمه، ولم يكن بمنزلة: قه؟ وهل ذلك لأن في (قه) ثلاثة أسباب تقتضي لحاق هاء التأنيث: بيان الحركة، والحذف، وكونه على حرف واحد، إلا أنه قد جرى مجراه في لزوم الهاء في الوقف، وإن كان السبب في (قه) أوكد؟ وما حكم هاء الوقف في ضرورة الشاعر على مذهب هذا الفريق من العرب؟ ولم جاز حذفها؟ وهل ذلك لأن حرف الوصل عوض منها؟ وما الشاهد في قول ابن الخرع: (كادت فزارة تشقى بنا ... فأولى فزارة أولى فزاراً)

وقول القطامي: (قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ....... ) وقول هدبة:

عوجي علينا واربعي يا فاطما؟ ولم كان ترخيم ما فيه الهاء أكثر من غيره، وأقوى؟ وهل ذلك لأن الهاء مما يتغير في الوصل عن حاله في الوقف، وفقوي تغييره بالحذف؛ لأن ما لزمه من التغيير يؤنس بمثله في الحذف؟ وهل يجوز في (حرملة): يا حرمل، في الوقف، من غير هاء؟ ولم جاز ذلك؟ وهل جوازه لأن الاسم لا يلحقه اختلال بترك هاء الوقف، وإنما هو لزيادة بيان يقوي سببه، فإن ترك فللاستغناء بصيغة الاسم في الأصل، وإن ذكر فلزيادة البيان عن

حركته التي كانت فيه قبل حذف هاء التأنيث؟ وما ترخيم (طائفية)؟ ولم وجب فيه/: يا طائفي أقبلي، وفي (مرجانة): يا مرجان أقبلي، وفي (رعشنة): يا رعشن أقبلي، وفي (سعلاة) / يا سعلا أقبلي؟ ولم [لا] يجوز حذف شيء من هذه الزوائد مع الهاء؟ وهل ذلك لأنها أثبت من الهاء، ولا يتبع الأثبت ما ليس بأثبت؟ وما ترخيم رجل سمي: عثمانة؟ ولم لا يجوز فيه: يا عثم أقبل؟ وهل يلزم من حذف شيئا من هذه الزوائد مع الهاء أن يحذف الأصلي، فيقول في ترخيم (فاطمة): يا فاط لا تفعلي؟ ولم لزم ذلك/ وهل لأنه حذف الأثبت، فجعله تابعا لما ليس بأثبت؟

الجواب: الذي يجوز في ترخيم ما آخره الهاء حذف [الهاء]، على أنه أقوى من كل ما يحذف للترخيم؛ لأن الهاء، بمنزلة اسم ضم إلى اسم، فلا يلحق الاسم المرخم بحذفها وهن كما يلحق بحذف غيرها، ولا يجوز أن يحذف معها شيء من الزوائد التي قبلها؛ لأنها أثبت منها، كما أن الأصلي أثبت من الزائد، ولا يتبع الأثبت ما ليس/ 207 أبأثبت. ويجوز ترخيم ما هو على ثلاثة أحرف مع هاء التأنيث؛ من قبل قوة الحذف في الهاء، فلا يقع بالاسم اختلال إذا حذفت؛ لأنه يرد إلى الأصل المستعمل في النفس، والنظائر، وليس كذلك الحرف الأصلي؛ فلهذا جاز: يا شا ارجني، وياثب أقبلي، في شاة، وثبة، ولم يجز في (عمر): يا عم أقبل؛ لما بينا من الفرق بين الهاء، والحرف الأصلي، إذ الأصلي أثبت من الزائد، والزائد الذي بمنزلة ما وقع في حشو الاسم، ودخل في بنيته أثبت من الزائد الذي على تقدير المنفصل منه.

وقال العجاج: جاري لا تستنكري عذيري فهذا رخم ما كان نكرة يعرف بالنداء، وتأوله أبو العباس على إجازة سيبويه ترخيم النكرة، وخالفه في ذلك، فقال: لا يجوز ترخيم النكرة. وليس في هذا خلاف عندي؛ وإنما هو سوء تأويل؛ لأن سيبويه إنما أراد النكرة التي تتعرف بالنداء، ويوضح ذلك إطلاق سيبويه في الباب الذي تقدم أنه لا يجوز ترخيم ما فيه التنوين، والنكرة التي لم تتعرف بالنداء تنون، فلا ترخيم فيها. ويجوز: يا سلمة أقبل، على هاء الإقحام، وقال النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب .... وإنما فتحت هاء الإقحام؛ لأنها وقعت آخر الاسم الذي لا يكون إلا مفتوحاً بعد حذف هاء التأنيث، فعوملت معاملة الآخر، فهاء الإقحام مفتوحة أبداً في النداء. ومن النحويين من يذهب إلى أنها فتحت؛ لأن تقدير هاء التأنيث بعدها، فهي تفتحها في التقدير كما تفتحها لو ذكرت بعدها، كأنها تذكر على طريق التكرير لها. وإنما جاء زيادة هاء الإقحام في موضع الحذف والتخفيف؛ للتأكيد المبين أن المقدر بمنزلة المذكور. وبعض العرب يقول: يا سلمه، ويا طلحه، في الوقف، فإذا وصل حذف؛

لأن هذه الهاء لبيان الحركة مع العوض من المحذوف؛ ولذلك لم يكن في الحذف وتركه على التخيير؛ لاجتماع السببين اللذين قد ثبتت بأحدهما في: سلطانيه، ونحوه. وقياسها كقياس (ارمه) في أنها لبيان الحركة مع العوض من المحذوف، فأما (قه) فهو أوك\ سبباً؛ لأنه- مع ذلك 0 على حرف واحد. ويجوز في ضرورة الشاعر حذف هاء الوقف؛ لأن حرف الوصل عوض منها/كما قال ابن الخرع: (كادت فزارة تشقى بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا)

وقال القطامي: (قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ..... ) وقال هبة بن خشرم: /207 ب (عوجي علينا واربعي يا فاطما) وترخيم ما فيه الهاء أكثر وأقوى؛ لأن الهاء تتغير، فتكون في الوصل على خلاف حالها في الوقف، فيؤنس ذلك بالحذف، ولا يوحش كإيحاش حذف الحرف الأصلي. ويجوز: يا حرمل، في الوقف، من غير هاء السكت، لأن صيغة الاسم يجوز أن يستغنى بها دون زيادة البيان عن حركته، وإن قوي سببه؛ لأن الاسم لا يختل بذلك. وتقول في ترخيم (طائفية): يا طائفي أقبلي، وفي (سعلاة) / يا سعلا أقبلي، وكذلك كل زائد قبل الهاء، وكذلك في رجل سمي، (عثمانة): يا عثمان أقبل. ولا يجوز الحذف في شيء من الزوائد قبل الهاء؛ لأنه لا يتبع الأثبت ما ليس بأثبت.

ويلزم من حذف شيئا من هذه الزوائد أن يحذف الأصلي، فيقول في (فاطمة): يا فاط أقلبي، وإنما لزم ذلك، لأنه جعل الأثبت تابعاً لما ليس بأثبت، فلزمه في كل ما هو أثبت، وإن كان بعضه أقوي من بعض في الثبوت.

باب ترخيم ما فيه الهاء على: يا حار

باب ترخيم ما فيه الهاء على: يا حار الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم الاسم الذي فيها الهاء على: يا حار، مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم الاسم الذي فيه الهاء على: يا حار؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز ترخيمه في غير النداء؛ لقوة حذف الهاء؟ ولم كان ترخيم ما فيه الهاء أقوى من غيره؟ ولم قوي فيه المذهبان في: يا حار، ت ويا حار، مما ليس لغيره؟ وما الشاهد في قول عنتره العبسي: (يدعو عنتر والرماح كأنها .... أشطان بير في لبان الأدهم؟ )

ولم جاز (عنتر) بالضم على وجهين؟ وما الشاهد في قول الأسود بن يعفر: (وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلبني نفسي أمال بن حنظل) ولم جاز ترخيم (حنظلة) في غير النداء على: يا حار، ولم يجز على: يا حار؟ وهل ذلك لأن من رخم على: يا حار، فقد جعل الاسم بمنزلة ما لم يحذف منه شيء،

فاقتضى له ذلك أن يجري في غير النداء؛ إذ هو بمنزلة ما لم يحذف منه شيء وما الشاهد في قول رؤبة: (208 أإما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بين عنقي وجمزي) ولم جاز (أم حمز) بالكسر، ولم يجز (أم حمز) بالفتح على حركة الأصل، كما يجوز في المنادي: يا حمز، ويا حمز. وما الشاهد في قول ذي الرمة: (ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب)

ولم جاز في قوله (مي) أن يكون على الترخيم في الضرورة، وجاز أن يكون على تسميتها (مياً) من غير ضرورة؟ وهل ذلك لأن هذه الضرورة قد ثبتت بالقياس، والاستعمال، فلا يمتنع أن يكون أجراها على ذلك؛ إذ ليس فيه قبح، وإن ضعف عن منزلة غيره؟ ولم جاز: يا فل، على حذف حرفين، يبقى الاسم فيه على أقل من ثلاثة أحرف؟ وهل ذلك لأن ليس على الترخيم، ولكن على تغيير النداء الذي يكون تارة بالنقصان، وتارة بالزيادة، كقولهم: يا هناه، ويا نومان؟ وما في امتناعهم أن يقولوا: يا فلا، من الدليل على أن: يا فل، بمنزلة

(دم) في الحذف؟ وهل ذلك للزوم الحذف فيهما، من غير جواز الرد إلى الأصل، إذ الأصل في ترخيم (فلان): يا فلا، فلك يرد إلى الأصل في: يا فلا، كما لم يرد (دم) إلى الأصل في (دمي)؟ وهل يجوز في المرأة: يا فلة؟ ولم جاز ذلك؟ وهل هو لقوة هذا الحذف؛ للزومه حتى صارت هاء التأنيث تلحق اللام فيه، كما تلحق حرف الأصل؟ وما الذي اقتضى له هذا من جهة أنه كنابة؟ وهل ذلك لأن الكناية على نقصان بيان، فاقتضى له نقصان الاسم؛ ليؤذن بنقصان البيان؟ وما الفرق بين الكناية في قولهم: يا هناه، وبينها في قولهم: يا فل، حتى زيد في أحدهما، ونقص في الآخر؟ وهل ذلك لأن قولهم: (هن) ناقص، لم يحتمل النقصان في النداء، فصارت الزيادة على اللفظ الكثير الاستعمال بالنقصان بمنزلة النقص في الاسم الذي يدل على نقص البيان، وليس كذلك (فلان)؛ لأنه تام يحتمل النقصان في الاسم؛ لنقصان البيان؟

وما الشاهد في قول أبي النجم: (في لجة أمسك فلانا عن فل) وهل ذلك لأنه لما استعمله في غير النداء؛ أجراه على قياس ما لم يحذف منه شيء، وهو في هذا أقوى مما فيه الهاء؛ لأن الحذف له ألزم؟ ولم لا يجوز: يا فل أقبل، كما يجوز: يا حمز أقبل؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة (دم) في لزوم الحذف، وليس كذلك: /208 يا حمز؟

الجواب: الذي يجوز في ترخيم الاسم الذي فيه الهاء على: يا حار، ت حذف الهاء على أنه أقوى في ذلك من كل ما ليست فيه الهاء؛ لأن الهاء لما كانت تتغير في الوصل عن حالها في الوقف؛ آنس ذلك بتغيير الترخيم، وطرق إليه. ولا يجوز- وإن كان على هذه القوة- ترخيمه في غير النداء إلا ضرورة؛ لأنه إنما اقتضى له ذلك قوة النداء على الترخيم، مع قوته بالتغيير، فإذا خرج عن النداء؛ كان الأصل أحق به. وقال عنترة العبسي: يدعون عنتر، والرماح كأنها ... أشطان بير في لبان الأدهم فيجوز في (عنتر) وجهان: أحدهما: الترخيم على: يا عنتر والآخر: إجراؤه على مذهب من يسميه (عنترا) من غير هاء في سائر المواضع. وقال الأسود بن يعفر: (وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلبني عزي أمال بن حنظل) فرخم (حنظلة) في غير النداء على: يا حار، وجاز ذلك للضرورة ولم يجز

على: يا حار؛ لأن من يقول: يا حار؛ إنما يجوز له ذلك على أنه يجعله بمنزلة اسم لم يحذف منه شيء، وهذا يطرق عليه أن يجري في غير النداء كما جرى في النداء؛ لأنه منزلة ما لم يحذف منه شيء. وقال رؤبة: (إما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بين عنقي وجمزي) فرخم في غير النداء، وجاز (أم حمز) - بالكسر- على: يا حار، ولم يجز (أم حمز) - بالفتح- على: يا حار، وإن كان أقوى الوجهين؛ لأنه لم يجعله بمنزلة اسم [حذف] منه شيء، وما لم يحذف منه شيء فهو يجري في النداء، وغير النداء على طريقة واحدة وقال ذو الرمة: (ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب) ويجوز في قوله: (مي) وجهان على أصلين مختلفين: أحدهما: أن يكون على أن اسمها (مية) فلا يجوز إلا على ترخيم الضرورة.

والآخر: على أن يكون اسمها (مياً) فلا يجوز على الضرورة، ولكن على هذا الأصل الذي يقتضي إجراء الاسم هذا المجرى. فإن قال قائل: ولم جاز- مع توجه الكلام على غير الضرورة- أن يحمل على الضرورة؟ قيل له: لأنه على أصلين مختلفين بمنزلة لغتين تداخلتا، فلا يكون على إحدى اللغتين/ 209 أإلا ضرورة، وعلى اللغة الأخرى إلا غير ضرورة، وهذا يصلح في الشعر، ولو جاء مثله في غير الشعر؛ لم تحمله إلا على الوجه الذي ليس فيه ضرورة لأن الكلام الذي ليس بشعر لا تجوز فيه الضرورة أصلا. وتقول: يا فل، وإنما جاز ذلك على تغيير النداء المؤذن بقوته على التغيير، لا على الترخيم. والدليل على ذلك أنه لا يقول عربي: يا فل، ولو كان على الترخيم، لجاز فيه الوجهان، كما يجوز/ يا حار، ويا حار.

وقد وقع في (الكتاب): ((لا يقول عربي: يا فلا)) بالألف، ووجه الاستشهاد بذلك أنه لو كان على التغيير العارض الذي لا يجري مجرى الحذف في (دم)؛ لجاز رده إلى الأصل في الترخيم، فكان يجوز: إلى يا فلا، فلما امتنع من ذلك كما يمتنع من (دمي) بالرد إلى الأصل؛ دل على أنه حذف لازم، كالحذف في (دم). والشاهد الأول أبين، وكلاهما دليل. وإنما جاز هذا النقصان في: يا فل، لأنه كناية على نقصان بيان، فاقتضى له نقصان الاسم؛ ليؤذن بنقصان البيان. ولا يلزم مثل ذلك في: يا هناه؛ لأنه ناقص قبل النداء في قولهم: هن، فلم يحتمل النقصان، وغير تغييرا يؤذن بنقصان البيان بما لحقه مما يخرجه عن الطريقة التي يكون عليها في أكثر الاستعمال. وتقول للمرأة: يا فلة؛ لأنه لما لزم الحذف؛ صار اللام فيه بمنزلة آخر الاسم في لحاق العلامات. وقال أبو النجم: (في لجة أمسك فلانا عن فل)

فأجراه- للضرورة- في غير النداء، وهو أقوى مما فيه الهاء؛ لأن الحذف له ألزم. وإنما لم يجز: يافل- بالفتح- كما يجوز: [يا حمز] أقبل؛ للزوم الحذف له كما يلزم في (دم) ولا يلزم (حمزة) الحذف، وإنما هو ترخيم يجري في النداء خاصة، ويجوز فيه الإتمام.

باب الترخيم على: يا حار

باب الترخيم على: يا حار الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الترخيم على: يا حار، مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الترخيم على: يا حار، وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز في المعتل اللام على: يا حار، ما يجوز على: يا حار؟ وهل ذلك لأنه يجعل بمنزلة اسم لم يحذف منه شيء؛ من أجل أنه يضم آخره كما يضم ما لم يحذف منه شيء؟ وما ترخيم (قمحدوة) على: يا حار؟ ولم وجب فيه على هذا الأصل: يا قمحدي، وعلى يا حار: يا قمحدو أقبل؟ وما ترخيم (رعوم) - اسم رجل- على الأصلين؟ ولم وجب/ 209 ب في أحدهما: يا رعي، وعلى الآخر: يا رعو؟

وما ترخيم: قطوان؟ ولم وجب فيه: يا قطا، ويا قطو، على الأصلين المختلفين؟ وما ترخيم: طفاوة؟ ولم وجب فيه: يا طفاء، ويا طفاو أقبل؟ ولم كان الترخيم على: يا حار، أكثر؟ وهل ذلك لأنه أدل على الأصل بترك الحرف على ما كان عليه قبل الحذف، مع أن الحذف عارض. ولم جاز الوجه الآخر؟ وهل ذلك ليشاكل نظائره في النداء بضم آخره؛ وإن كان قد انفصل منه بالحذف الذي وقع فيه، فجاز حرصا على طلب المشاكلة؟ وما الشاهد في قول العجاج: (فقد رأى الراؤون غير البطل ... أنك يا معاو يابن الأفضل؟ )

ولم جاز في هذا أن يحذف مع الهاء غيرها، وهو مخالف للأصول المطردة في هذا الباب، والتي ينبغي أن يكون عليها الكلام في القياس؟ وهل ذلك لأنه قدره تقدير ما لم تكن فيه الهاء؛ للإيذان بقوة حذف الهاء، حتى كأن الاسم لم يحذف منه شيء، وهذا على طريق النادر؛ للإيذان بهذا المعنى. وما ترخيم (حيوة) على الأصلين؟ ولم وجب فيه: يا حيو، ويا حيو، ولم يجز قلب الواو ياء كما تقلب في قوله: لويت يده ليا؟ وهل ذلك لأن هذا الاسم قد أظهر فيه الواو؛ للإيذان بحروف الأصل، فالعلة فيه في حال الترخيم كالعلة قبل الترخيم؟ ولم جاز: يا طلح أقبل، في (طلحة)، ولم يجز: يا خبيث أقبلي؟ وهل ذلك لأن الهاء في هذا؛ الفرق بين المؤنث، والمذكر، فلا يجوز أن تحذف على: يا حار، وهو صفة، ويجوز أن تحذف على: يا حار، والاسم علم؟

ولم كان ترك الحذف فيما ليست فيه الهاء أكثر؟ وهل ذلك لأنه أبعد من الإخلال بالاسم بحذف التنوين، وإذهاب الإعراب، وحذف حرف من نفس الاسم، فهذا كالإجحاف به، فقل في الكلام؛ لهذه العلة؟ ولم جاز مع هذا الإجحاف؟ وهل ذلك للتخفيف من غير إجحاف؛ للبيان الذي يقع في الحال للمخاطب من الإقبال عليه، والإشارة إليه؟ ولم كان الترخيم في حارث، ومالك، وعامر أغلب منه في غيرها من الأسماء؟ وهل ذلك لكثرة التسمية بها على منزلة تزيد على غيرها؟ وما الشاهد في قول مهلهل بن ربيعة: يا حار لا تجهل على أشياخنا ... إنا ذوو السورات والأحلام

وقال امرئ القيس: /210 أأحار ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل وقول الأنصاري: ( ..................... ... يا مال، والحق عنده، فقفوا)

وقول النابغة: (فصالحونا جميعاً إن بدا لكم ... ولا تقولوا لنا أمثالها عام؟ ) ولم جاز الترخيم في غير هذه الأسماء، مع أنها أحق به؛ لكثرتها؟ وهل ذلك للتخفيف من غير إخلال بالاسم؟ وما الشاهد في قول يزيد بن مخرم: (فقلتم: تعال يا يزي بن مخرم ... فقلت لكم: إن حليف صداء)

وقول مجنون بني عامر: (ألا يا ليل إن خيرت فينا ... بنفسي فانظري أين الخيار) وقول أوس بن حجر: (تنكرت منا بعد معرفة لمي ... .... ) وقو امرئ القيس:

(لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر) فلم جاز ترخيم (مال) في غير النداء؟ وقول رجل من بني مازن: (على دماء البدن إن لم تفارقي .... أبا حردب- ليلاً- وأصحاب حردب)

وقول طرفة: (أسعد بن مال ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق) ولم لا يجوز ترخيم اسم على ثلاثة أحرف، ليست فيه الهاء؟ وهل ذلك لأنه لما كان المطلوب بالترخيم تخفيف الاسم، وكانت الثلاثة أخف الأسماء، وأمكنها، وأكثرها استعمالا؛ لم يجز أن يرخم؛ لأنه الأخف، وترخيمه يخرجه عن المطلوب بالترخيم- وهو التخفيف- إلى الإخلال به، والإخلال ثقيل على الطباع في الكلام. ولم لا يجوز ترخيم غير الاسم العلم، إذا لم تكن فيه هاء التأنيث؟ وهل ذلك لأن العلم أكثر، فهو أحق بأن يخفف؟

وما نظيره من قولهم: هذا زيد بن عمرو، ولا يجوز: هذا زيد بن أخينا؟ وهل يلزم من رخم غير العلم أن يقول في ترخيم (مسلمين): يا مسلم أقبلوا؟ ولم جاز: يا صاح، ولم يجز: ياراك؛ وكلاهما غير علم؟ وهل ذلك لكثرة استعمال (صاحب) فجاز كما جاز: لم يك، و [لا] أدر، ولم أبل؟ الجواب: الذي يجوز في الترخيم على: يا حار، إجراء المعتل مجراه لو لم يحذف منه شيء في الكلام، فما كان يجب أن يعل/ 210 ب بالقلب إلى الياء، أو إلى الألف، أو الهمزة أجري على ذلك المجرى؛ لأنه قد جعل بمنزلة اسم لم يحذف منه شيء. وأما على: يا حار؛ فيترك على حاله؛ لأنه ينوي فيه الحرف المحذوف، فكأنه موجود في الاسم، فلا يغير بأكثر من الحذف. ولا يجوز أن يسوي بينهما؛ لاختلاف التقدير فيهما؛ إذ أحدهما على تقدير اسم لم يحذف منه شيء، يضم آخره كضم ما لم يحذف منه شيء، والآخر على

تقدير المحذوف، فترك آخره على حاله. فعلى هذا قياس المعتل اللام. وترخيم (قمحدوة) على يا حار: يا قمحدي، وعلى يا حار: يا قمحدو أقبل، وكذلك ترخيم (رعوم) - اسم رجل-: يا رعي على: يا حار، ويا رعو، على: يا حار. وترخيم (قطوان): يا قطا، ويا قطو أقببل، على الأصلين. وترخيم (طفاوة): يا طفاء أقبل، ويا طفاو أقبل، على الأصلين؛ لأنه بمنزلة (شقاوة)، إذا حذفت منه الهاء، فليس فيه إلا (شقاء) والترخيم عل: يا حار، أكثر؛ لأنه أدل على الأصل، ويجوز الترخيم على: يا حار؛ للمشاكلة بينه وبين نظائره في النداء بضم آخره كضمها. وقال العجاج: (فقد رأى الراؤون غير البطل ... أنك يا معاو يا بن الأفضل) وإنما جاز حذف الياء من (معاوية)؛ للإيذان بأن للهاء منزلة ليست لغيرها في قوة الحذف، حتى إن الاسم يصير مع حذفها بمنزلة ما لم يحذف منه شيء فعلى هذا جاز ترخيمه بعد حذف الهاء بأنه بمنزلة اسم لم يرخم، فرخم بحذف الياء.

وترخيم (حيوة): يا حيو، ويا حيو، على الأصلين، من غير تغيير بأكثر من الضم، لأن هذا الاسم قد ظهرت فيه (الواو)؛ للإيذان بالأصل فهو يجري على ذلك في سائر المواقع من فاعل، مفعول، مضاف، ومرخم على قياس واحد؛ لأن العلة لازمة له. وتقول: يا طلح أقبل، ولا يجوز في (خبيثة): يا خبيث أقبلي؛ لأن الهاء للفرق بين المذكر والمؤنث في المعنى، فلو جاز هذا؛ لجاز: هذه خبيث قد أقبلت، وهذا خطأ، وليس كذلك (طلحة)؛ لأن الهاء فيه لتأنيث الاسم فقط، فلا يخل بالمعنى حذفها، ولا بالاسم؛ لأنه حذف زائد يجري مجرى ما زيد لتكثير الاسم، فهو يحذف في حال التقليل والتخفيف. وترك الحذف فيما ليست فيه الهاء أكثر؛ لأنه أبعد من الإخلال بالاسم بحذف التنوين، وإذهاب الإعراب، وحذف حرف من نفس الاسم، ولكنه جائز؛ لما يكون في النداء من البيان بالإقبال على المنادي، والإشارة إليه، فيصير

لذلك تخفيفا لا يخل بالاسم، ويجوز لهذه العلة. والترخيم في: حارث، / 211 أومالك وعامر؛ أكثر؛ لكثرة هذه الأسماء في الاستعمال؛ لأن العرب تسمي بها أكثر. وقال مهلهل بن ربيعة: (يا حار لا تجهل على أشياخنا ... إنا ذوو السورات والأحلام) وقال امرؤ القيس: (أحار ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل) وقال الأنصاري: ( ... ... يا مال، والحق عنده فقفوا) وقال الذبياني: (فصالحونا جميعاً إن بدا لكم ... ولا تقولوا لنا أمثالنا عام) ويجوز الترخيم في غير هذه الأسماء؛ لأنه تخفيف، من غير إخلال، وإن كان في تلك أكثر، وقال يزيد بن مخرم: (فقلتم: تعال يا يزي بن مخرم ... فقلت لكم إني حليف صداء) وقال مجنون بني عامر: (ألا يا ليل إن خيرت فينا ... بنفسي فانظري أين الخيار) فهذه شواهد في غير الأسماء التي كثرت في التسمية,.

وقال امرؤ القيس: (لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر) فرخم في غير النداء على: يا حار. وقال رجل من بني مازن: (علي دماء البدن إن لم تفارقي ... أبا حردب [ليلا، وأصحاب] حردب أراد (ليلى) فرخم، وصرف، كأنه سمي بـ (ليل) وليس هذا على ترخيم (حردبة): لأنه في ذكر ترخيم ما ليس فيه الهاء. وقال طرفة: (أسعد بن مال ألم تعلموا .... وذو الرأي مهما يقل يصدق) ولا يجوز ترخيم ما هو على ثلاثة أحرف ليست فيها الهاء؛ لأنه أخف الأبنية،

وأكثرها، وأمكنها، فلما بلغ من التخفيف إلى الأعلى في الخفة الذي ليس فوقه ما هو أعلى منه؛ صار ترخيمه لا يجوز؛ لأنه يصير تثقيلا على الطباخ بإخراج المتمكن عن البناء هو أمكن، كإخراجه لو جعل على حرف واحد. وليس التخفيف كله بالحذف، إذ قد يكون بكثرة الاستعمال، وقد يكون بالتمكن الذي يخف النطق به على الطباع. /211 ب ولا يجوز ترخيم غير الاسم العلم، إذا لم تكن فيه الهاء؛ لأن العلم أكثر، فهو بالتخفيف أحق، ونظير ذلك قولهم: هذا زيد بن عمرو، بحذف التنوين؛ لوقوع (ابن) صفة بين علمين، ولا يجوز: هذا زيد ابن أخينا إلا بالتنوين؛ لأن (أخانا) ليس بعلم. ويلزم من رخم غير العلم أم يقول في ترخيم (مسلمين): يا مسلم أقلبوا. فإن قال: هذا يلبس، قيل له: وترخيم الثلاثي يخل بالاسم، فإذا جاز الإخلال للتخفيف؛ جاز الإلباس لما يصحبه من البيان الذي ينفيه عن الاسم. ويجوز: يا صاح؛ لكثرة استعمال (صاحب) ولا يجوز في (راكب): يا راك؛

لأنه لم يكثر استعماله إلى ذلك الحد، كما يجوز (لم يك) في: لم يكن، ولا يجوز في (لم يحن): لم يح.

باب ترخيم ما آخره زائدان زيدا معا

باب ترخيم ما آخره زائدان زيداً معا الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم الاسم الذي آخره زائدان زيداً معا مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز أن يحذف الزائد الأخير، دون الأول؟ وهل ذلك لأنهما زيدا معاً، وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يحذف الزائد الأخير، دون الأول؟ وهل ذلك لأنهما زيداً معاً، فحذف معاً؛ لاصطحابهما على اللزوم في الحذف والثبوت؟ وما ترخيم: عثمان، ومروان؟ ولم جاز فيه: يا عثم أقبل، وفي (مروان): يا مرو أقبل؟ وما ترخيم: أسماء، وحمراء؟ ولم جاز فيه: يا أسم أقلبي، ويا حمر. وما الشاهد في قول الفرزدق:

(يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم ييئس) وقول الراجز: (يا نعم هل تحلف لا تدينها) وقول لبيد: (يا أسم صبرا على ما كان من حدث ... إن الحوادث ملقي ومنتظر؟ )

وما نظير الزائدين معا من ياءي النسبة. و[من] علامة الجمع والتثنية؟ وما الزائدان اللذان زيدا معا؟ وما الزائدان اللذان زيدا أحدهما قبل الآخر؟ وهل ذلك ما يتعاقب على الحرف الزائد، فيثبت تارة، ويحذف تارة، نحو: علقاة، وعلقي، وأرطاة، وأرطي؛ لأن الألف زيدت للإلحاق، / فهي تجري مجرى الأصول، والهاء زيدت للإلحاق، فهي تجري مجرى الأصول، والهاء زيدت للتأنيث على أن تذهب في التذكير، وكذلك (رعشنان) اسم رجل، النون في (رعشن؟ ) أثبت من علامة التثنية؛ لأنها تتعاقب عليها؟

وما ترخيم رجل اسمه: مسلمون؟ ولم وجب حذف/ 212 أالواو، والنون؟ ولم لو كانت الواو قد لزمت، حتى تكون بمنزلة شيء من نفس الحرف، ثم لحقتها زيادة؛ لم تكن حرف الإعراب؟ وهل ذلك لأنها كانت تجري مجرى (أرطأة) في أن حرف الإعراب الزائد الذي لحق، وقد بطل أن يكون الأول حرف إعراب؟ ولم وجب في ترخيم رجل اسمه (مسلمان): يا مسلم أقبل؟ وما ترخيم رجل اسمه: بنون؟ ولم وجب فيه: يا بنو، بطرح النون وحدها؟ وهل ذلك لئلا يبقى الاسم على أقل من ثلاثة أحرف. وما ترخيمه على: يا حار؟ ولم وجب فيه: يا بني؟

باب ترخيم الاسم الذي قبل آخره [زائد يكون معه بمنزلة حرف واحد]

باب ترخيم الاسم الذي قبل آخره [زائد يكون معه بمنزلة حرف واحد] الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم الاسم الذي قبل آخره زائد يكون معه بمنزلة حرف واحد. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم الاسم الذي قبل آخره زائد يكون معه بمنزلة حرف واحد؟ . وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يحذف الآخر، دون الزائد؟ وهل ذلك لأنه إذا وجب حذف الزائدين معاً؛ لأنه ليس أحدهما أثبت من الآخر، ثم وجب حذف الأصلي الذي هو أثبت؛ فواجب أن يتبعه الزائد الذي ليس بأثبت مع أنه ساكن ميت، وليس يتبع الزائد في الحذف إلا وهو ساكن ميت؟ وما ترخيم: منصور، وعمار، وشملال، وعنتريس، اسم رجل؟ ولم وجب فيه: يا منص أقبل، ويا عم، ويا شمل، ويا عنتر أقبل؟

وهلا جاز حذف الزائدي معا؛ لمشاكلة حال الحذف لحال الثبوت، ولم يجب مثل ذلك في الأصلي مع الزائد؟ وهل [ذلك] لقوة الأصلي على الزائد في حذفه معه، وحذفه على انفراده، فهذا نظير تلك العلة في الحذف؟

الجواب: الذي يجوز في ترخيم الاسم الذي آخره زائدان زيداً معا حذفهما معا كما زيدا معا. ولا يجوز أن يحذف الآخر منهما فقط، لأنهما لما اصطحبا في الثبوت على اللزوم، اصطحبا في الحذف على اللزوم؟ .و وتقول في ترخيم (عثمان): يا عثم أقبل، وفي (مروان): يا مرو، وفي (أسماء) يا أسم أقبلي، وقال الفرزدق. (يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء، وربها لم ييئس) فرخم (مروان) بحذف الألف، والنون وقال الراجز: (يا نعم هل تحلف لا تدينها) فحذف الألف والنون من نعمان وقال لبيد:

/ 212 ب (يا اسم صبرا على ما كان من حدث ... إن الحوادث ملقي ومنتظر) فحذف الألفين من: أسماء. وترخيم رجل اسمه (مسلمي): يا مسلم أقبل، على حذف ياءي النسب، لأنهما زائدان زيدا معا. وكذلك رجل اسمه (مسلمان): يا مسلم أقبل، وفي رجل اسمه (مسلمون): يا مسلم أقبل. وكل زائدين زيادا معا فالأول منهما ساكن، وكل زائدين لم يزدادا معاً فإن الثاني يتعاقب على الأول كتعاقب الهاء على: أرطاة، وأرطي. وتقول في ترخيم رجل اسمه (رعشان): يا رعشن أقبل، فلا تحذف النون الزائد من (رعشن)؛ لأنها أثبت من علامة التثنية. ولو كانت الواو في (مسلمون) زيدت أولاً، ثم لحقتها الزائدة الثانية؛ لم تكن حرف الإعراب؛ لأنها كانت تجري مجرى: أرطي، وأرطاة.

وتقول في ترخيم رجل اسمه (بنون): يا بنو أقبل، فلا تحذف الواو، لئلا يبقى الاسم على أقل من ثلاثة أحرف. ومن قال: يا حار؛ قال: يا بني؛ لوقوع الواو في آخر الاسم، وقبلها ضمة.

الجواب عن الباب في ترخيم الاسم الذي قبل آخره زائد

الجواب عن الباب في ترخيم الاسم الذي قبل آخره زائد. الاسم الذي قبل آخره زائد يكون معه بمنزلة حرف واحد يحذف الآخر مع الزائد في الترخيم. ولا يجوز حذف الآخر دون الزائد، لأنه ساكن ميت، قد جاور الأصلي الذي هو أثبت منه، فلزم أن يتبعه في الحذف كما يتبع الزائد الذي بعده زائد في الحذف، فإتباع الأصلي أحق من اتباع الزائد.

وتقول في ترخيم (منصور): يا منص أقبل، وفي (عمار): يا عم، وفي (شملال): يا شمل، وفي (عنتريس): يا عنتر، إذا كان اسم رجل. فإن قال قائل: هلا جاز حذف الزائدين معاً؛ ليشاكل حال الحذف حال الثبوت، ولم يجب مثل ذلك في الأصلي مع الزائد. قيل له: يجب ذلك لقوة الأصلي على الزائد، حتى يحذف الزائد على جهة الإتباع، والانفراد، ولا يكون مثل هذا في الأصلي، كقولك في الإتباع: يا منص، وفي الإنفراد: هذا نصر، فتحذف الزائد على الانفراد في التصرف، وتبقى الأصلي. فهذا نظير تلك العلة في إيجاب الحكم.

باب ترخيم ما قبل آخره زائد بمنزلة الأصلي

باب ترخيم ما قبل آخره زائد بمنزلة الأصلي الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد بمنزلة الأصلي، مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد بمنزلة الأصلي؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز حذف الزائد مع الأصلي؛ إذ قد حذف ما هو أثبت منه؟ وهل/ 213 أذلك لأن الملحق لما كان في حكم الأصلي؛ لم يتبع في الحذف كما لا يتبع الحرف الأصلي؟ وما ترخيم (قنور)؟ ولم وجب فيه: يا قنو أقبل، وفي (هبيخ): يا هبي أقبل؟ وما دليل أن الملحق بمنزلة الأصلي من صرف (أرطى)، و (معزى)، ومن لحاق الزوائد للملحق كما تلحق الأصلي في قولهم: جلواخ

وجريال، فالواو في موضع الدال من (سرداح) وكذلك الياء؟ وهل (قنور) بمنزلة: فدوكس، وخفيدد، في الإلحاق بسفرجل، وبمنزلة: سميدع؟ وهل يلزم- لو حذف من (سميدع) حرفان- أن يحذف من (مهاجر) حرفان، فيقال: يا مها أقبل؟ ومن أين لزم هذا؟ وهل ذلك لأنه حذف حرفين أصليين مما هو على خمسة أحرف؟ ولم لا يجوز مثل هذا؟ وهل ذلك لأنه إجحاف بالاسم من جهة حذف حرفين أصليين؟

باب ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك ليس بملحق

باب ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك ليس بملحق الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز حذف المتحرك الزائد قبل آخر الاسم؟ وهل ذلك لقوته بالحركة، فيمتنع أن يتبع؛ من أجل أنه حي قوي بالحركة؟ وما ترخيم (حولايا) اسم رجل، أو (بردرايا)؟ ولم وجب فيه: يا حولاي أقبل، ويا يردراي أقبل؟ وما الفرق بين هذا الزائد الذي قبل ألف التأنيث، وبين الزائد الذي يكون مع الألف بمنزلة حرف واحد؟ وهل ذلك لأن ما يكون مع غيره من الحروف بمنزلة حرف واحد لا يكون إلا ساكنا؛ لأن الساكن يصلح أن يتبع المتحرك؛ لضعفه؟

ولم صار الألف في (حولايا) بمنزلة الهاء في (درحاية)؟ هل ذلك لأن إلزامه الحركة يوجب أنه منفصل من الزائد؛ لاستغنائه عنه بحركته؛ إذ المتحرك يستغنى عن الساكن، ولا يستغنى الساكن عن المتحرك. وما في قولهم: سعيلية، من الدليل على أن الألف في (سعلاة) ليست مع الهاء بمنزلة حرف واحد؟ وهل ذلك لأنها لو كانت بمنزلة حرف واحد؛ لجرت مجرى (سريحين) في السكون؟ وما في قولهم: حولائي، كقولك في (درحاية): درحائي، من الدليل على أن الألف ليست مع الزائد الذي قبلها بمنزلة حرف واحد؟ وهل ذلك لأنها لو كانت معه بمنزلة حرف واحد، ولم يصلح أن يحذفا جميعاً؛ قلب الثاني كما يقلب في: خنفساوي؟

الجواب: الذي يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد بمنزلة الأصل حذف آخره دون الزائد؛ لأنه/ 213 ب ملحق، والملحق بمنزلة الأصلي، فلا يجوز أن يحذف ألبتة، كما لا يجوز أن يحذف الأصلي؛ لقوته بأنه أصلي أو بمنزلته، فلا يتبع غيره في الحذف. وترخيم (قنور): يا قنو أقبل، على حذف الراء فقط، وترخيم (هبيخ): يا هبي أقبل، على حذف الخاء. والدليل على أن الملحق بمنزلة الأصلي صرف (أرطي)، وامتناع صرف (علقي) إذا كانت ألفها للتأنيث. وليل آخر، وهو أن الملحق تلحقه الزيادة كما تلحق الأصلي، نحو (جلواخ)، و (جريال) فقد لحقت الألف الواو، والياء، كما لحقت الدال من (سرداح). و(قنور) بمنزلة (فدوكس)، و (هبيخ) بمنزلة (سميدع) في الإلحاق بسفرجل، إلا أن (قنور)، و (هبيخ) خرجا من الثلاثة إلى الخمسة.

و (فدوكس)، و (سميدع) خرجا من الأربعة إلى الخمسة. ويلزم من حذف حرفين من (سميدع) مثل ذلك من (مهاجر) لأنه حذف حرفين أصليين ما هو على خمسة أحرف، وذلك لا يجوز؛ لأنه إجحاف بالاسم؛ إذ حذف حرف هو أقل ما يخفف به الاسم فلا يجحف، فإذا زاد على ذلك أجحف.

الجواب عن ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك

الجواب عن ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك: الذي يجوز في ترخيم ما قبل آخره زائد متحرك حذف الآخر فقط، ولا يجوز حذف المتحرك؛ لقوته بالحركة، فلا يتبع وهو حي قوي كما يتبع الميت الضعيف بسككونه؛ لأنه إنما احتمل ذلك الزائد لضعفه من جهة سكونه، فإذا خرج إلى [القوة] بحركته، أو كونه ملحقا بمنزلة الحرف الأصلي؛ امتنع لقوته أن يتبع. وترخيم (حولايا) اسم رجل: يا حولاي أقبل، وكذلك (بردريا) يا بردراي تعال. والفرق بين الزائد الذي قبل الألف، وهو معها بمنزلة حرف واحد، وبين هذا الزائد أن الذي يكون معها بمنزلة حرف واحد على حال ضعف يصلح أن يتبعها في الحذف، ولا يكون على حال قوة، فيقوم بنفسه، ولا يكون معها بمنزلة حرف واحد. فالألف في (حولايا) بمنزلة الهاء في (درحاية) في الامتناع أن تكونا بمنزلة حرف واحد، وأما الهاء فلأنها لا تكون- أصلا- مع ما قبلها بمنزلة حرف واحد، [وأما الألف؛ فلأن الزائد الذي قبلها قوي بالحركة، فقد امتنع عليها أن يكون معها بمنزلة حرف واحد]

والدليل على أن المتحرك أقوى من الساكن أن الساكن لا يستغني عن المتحرك، وحتى إنه لا يمكن أن ينطق به ساكا، إلا ومعه متحرك، وليس يحتاج المتحرك إلى الساكن. وقولهم: سعيلية، يدل على أن الهاء ليست مع الزائد الذي قبلها/214 أبمنزلة حرف واحد؛ لأنها لو كانت كذلك؛ لجرت مجرى (سريحين) في سكون ما قبله. وقولهم: حولائي، كما قالوا في (درحاية): درحائي، دليل على أن الألف ليست مع الزائد الذي قبلها بمنزلة حرف واحد، لأنها لو كانت كذلك، ولم يصلح أن يحذفا جميعاً؛ لقلب الثاني كما يقلب في: خنفساوي، ولم يجز حذفه دون ما هو معه بمنزلة حرف واحد.

باب ترخيم ما يرد إليه بعد الحذف حرف

باب ترخيم ما يرد إليه بعد الحذف حرف الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم ما يرد إليه بعد الحذف حرف مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم ما يرد إليه بعد الحذف حرف. وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ وما ترخيم رجل اسمه (قاضون)؟ ولم وجب فيه: يا قاضي، برد الياء. وهلا كان بمنزلة {قُمِ اللَّيْلَ} في أنه لا يرد المحذوف؛ لزوال ما له حذف؟ وهل ذلك لأن التقاء الساكنين من كلمتين عارض؛ إذ لا يلزم الأولى أن يكون بعدها الساكن الذي في الكلمة الثانية، مع أن القياس فيما وجب من الحكم لعلة أن يزول [بزوال] العلة، ومع أن المحذوف في موضع العين، وهو موضع لا يقوي على التغيير كقوة لام الفعل، فباجتماع هذه الأسباب انفصل {قُمِ اللَّيْلَ} من هذا الليل؟ يتلوه- إن شاء الله تعالى- وما ترخيم رجل اسمه (ناجي) الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

[الجزء السادس والعشرون من شرح كتاب سيبويه، إملاء أبي الحسن علي بن عيسى النحوي، رحمة الله عليه] /ج 13 ب بسم الله الرحمن الرحيم، رب يسر بفضلك وما ترخيم رجل اسمه (ناجي)؟ ولم وجب فيه: يا ناجي، بإثبات الياء مع حذف ياءي النسب؟ وما ترخيم رجل اسمه (مصطفون)؟ ولم وجب فيه: يا مصطفى أقبل؟ وما الوقف في {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} إذا لم يذكر {الصَّيْدِ}؟ . ولم كان (محلي) بياء؟ وهل ذلك لبطلان الساكن الذي حذف لأجله، مع أنه في موضع لام الفعل؟ الجواب: الذي يجوز في ترخيم ما يرد إليه حرف بعد الحذف أنه كان حرف قد حذف في الاسم؛ لالتقاء الساكنين، ثم بطل الساكن بالحذف؛ رد حرف الأصل؛

لذهاب ما لأجله حذف، إذا كان في موضع اللام الذي يقوي فيه التغيير. ولا يجوز أن يجري في ترك الرد مجرى {قُمِ اللَّيْلَ}؛ لأن هذا في موضع عين الفعل، وهو موضع يضعف فيه التغيير. وتقول في ترخيم (قاضون) اسم رجل: يا قاضي أقبل، فترد الياء؛ لذهاب ما لأجله حذفت. وفي ترخيم رجل اسمه (ناجي): يا ناجي أقبل، فتحذف ياءي النسب؛ لأنهما زيداً معا، وترد الياء التي هي لام الفعل، فتقول: يا ناجي أقبل. وفي ترخيم رجل اسمه (مصطفون): يا مصطفى أقبل، فترد الألف المحذوفة؛ لذهاب ما لأجله حذفت. فأما {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فلو وقف عليه من غير ذكر {الصَّيْدِ} لكان {غَيْرَ مُحِلِّي} بالياء؛ لأنه في موضع لام الفعل، وهو موضع يقوي فيه التغيير على قياس ما بينا.

باب ترخيم ما يحرك فيه الحرف لالتقاء الساكنين

باب ترخيم ما يحرك فيه الحرف لالتقاء الساكنين الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم ما يحرك فيه الحرف؛ لالتقاء الساكنين مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم ما يحرك فيه الحرف؛ لالتقاء الساكنين؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز فيما لا أصل في الحركة إلا أن يرد إلى أصله؟ وما ترخيم رجل اسمه (راد)؟ ولم وجب فيه: يا راد أقبل؟ وما ترخيم (مفر) اسم رجل؟ ولم وجب فيه: يا مفر أقبل، بالسكون؟ وما ترخيم (محمار)، أو (مضار)؟ ولم جاز فيه: يا مضار، ويا مضار، بالكسر والفتح؟

وما ترخيم/2 أ (محمر) اسم رجل؟ ولم جاز فيه: يا محمر، بالسكون؟ وهل يلزم من ذهب إلى أن الزائد في المضاعف هو الأول أن يحذفه مع الثاني في الترخيم؟ ولم لا يلزم ذلك؟ وهل تبيين أنه لا يجري مجرى حروف المد واللين أنه لو جرى، كما يجوز: محامير. وما ترخيم (إسحار) اسم رجل؟ ولم وجب فيه: يا إسحار أقبل، بالفتح؟ وهل ذلك لأنه يلي الألف التي منها الفتحة، فجرى على الإتباع؛ ليستمر اللسان في جهة واحدة، كما وقع الإتباع في: لم يرد، ولم يرد، ولم يفر، وكذلك: لم يضار، فلو يني (إسحار) لكان قياسه أن يبني على الفتح كما بني: لم يضار، ولو احتيج إلى تسكينه، وتحريك الأول؛ لنقلت الحركة كما نقلت في (مد)؟

وهل يجوز أن يفتح: يا إسحار على فتحة اللام من قولك: انطلق، ولم يلد؛ لأنه لما كان موضع يغير فيه للتخفيف؛ طلب له أخف الحركات، فالترخيم للتخفيف كما أن التسكين في (انطلق) للتخفيف؟ وما الشاهد في قول رجل من أزد السراة: (ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان) ولم لا يجوز: يا إسحار، كما يجوز: يا محمار؟ وهل ذلك لأن (إسحار): إفعال، وقع مدغما لا أصل له في الحركة، كما أن (الحمر) فعل، على ذلك،

وكذلك (شراب): فعال، لا أصل لرائه الأولى في الحركة، إلا أن مثل هذا يقع في العين أكثر من وقوعه في اللام؟ الجواب: الذي يجوز في ترخيم ما يحرك فيه الحرف؛ لالتقاء الساكنين رده إلى أصله في الحركة، إن كان له أصل فيها، وإن لم يكن له أصل فيها؛ حرك بأقرب الحركات منه؛ للإتباع. ولا يجوز فيما له أصل إلا الرد إليه؛ لأنه أحق إذا احتيج إلى حركته، فحركة الأصل أحق به؛ لأن الكلام ينبغي أن يجري على أصله إلا أن يعرض عارض يمنع منه. وترخيم (راد) اسم رجل: يا راد أقبل، بالكسر؛ لأنه الأصل؛ إذ هو (فاعل) من: رد، يرد، فهو راد.

وترخيم (مفر) اسم رجل: يا مفر أقبل، بالسكون؛ لأنه/2 ب لا يحتاج إلى الحركة في هذا؛ إذ لم يلتق فيه ساكنان. وترخيم (محمار)، أو (مضمار) يجوز فيه وجهان: يا مضار، ويا مضار، على: مضارر، ومضارر. فأما (محمر)؛ فتقول فيه: يا محمرـ، بالسكون؛ لأن الذي قبله متحرك. ومن ذهب إلى أن الزائد في المضاعف هو الأول؛ لم يلزمه أن يحذفه مع الثاني؛ لأنه ليس من حروف المد واللين التي تتبع الأصلي في الحذف؛ لقوتها في التغيير، وشبهها بالحركات التي تتعاقب على الحرف. ولو لزم ذلك؛ لجاز في تصغير (محمر): محيمر، كما يجوز في (محمار: محيمير، ولجاز في الجمع (محامر) كما يجوز: محامير، وهذا يدل على ان زيادة التضعيف تجري مجرى الحرف الصحيح.

وترخيم (إسحار) اسم رجل: يا إسحار أقبل، بالفتح، تحركه بأقرب الحركات منه، والألف كالفتحة؛ لأن الفتحة منه، فالإتباع أحق بهذا، كما يقولون: لم يضار، فيفتحون على الإتباع، وبين الحرفين حرف ساكن، فالذي يلي الألف أحق بالإتباع. ولو بني مثل (إسحار) لبني على الفتح؛ ليكون على قياس: لم يضار، ولو احتيج إلى تسكين الثاني، وتحريك الأول؛ لنقلت الحركة إلى الأول على قياس (مد) في نقل الحركة.

وفيه وجه آخر، وهو أن يحرك بالفتح على قياس: انطلق، ولم يلد؛ لأنه لما كان موضع تخفيف؛ طلب له أخف الحركات، فيكون على هذا القياس، لأن الترخيم للتخفيف، كما أن التسكين في هذا التخفيف. وقال رجل من أزد السراة: (ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان) فسكن [العين] من قوله: لم يلده، ثم فتح اللام. ولا يجوز في: يا إسحار، ما جاز في: يا محمار؛ لأن هذا له أصل رد إليه، وليس كذلك (إسحار)؛ لأنه قد وقع مدغما في أول حاله، لا أصل لرائه الأولى في الحركة، بمنزلة: الحمر، وشراب، إلا أن هذا يقع في العين أكثر منه في اللام، لأن التضعيف في العين من قولك: (فعل) يدل على معنى التكثير، وليس كذلك اللام.

باب ترخيم الاسم المركب من أسمين

باب ترخيم الاسم المركب من أسمين الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في ترخيم الاسم المركب من اسمن مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم/3 أالاسم المركب من اسمين؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز حذف أكثر من الاسم الثاني؟ فهلا حذفت هاء التأنيث معه في مثل: خمسة عشر؟ وما ترخيم: حضر موت، ومعدي كرب، وبخت نصر، ومارسرجس؟ وما ترخيم: خمسة عشر، اسم رجل؟ وما ترخيم: عمروبه؟ ولم وجب في ذلك كله حذف ما ضم إلى الصدر من الاسم الثاني فقط، أو الصوت في: عمرويه. وما نظير ذلك من تحقير الصدر من غير أن يعرض للاسم الثاني، كقولك: حضير موت؟ ولم وجب أنه بمنزلة هاء التأنيث. وهل ذلك لأنه زيادة في الاسم

منفصلة بوجودها له بعد تمام صيغته؟ وما نظير ذلك من النسب إلى الصدر، وحذف الثاني، فهو في كل هذا يعامل معاملة الهاء. ولم لا يجوز أن تكون هاء التأنيث تلحق بناء ببناء؟ وهل ذلك لأنه تجيء بعد تمام الاسم والملحق يجري مجرى الأصول؟ ولم لا يغير لهاء التأنيث بناء، كما يغير لألف التأنيث المقصورة، والممدودة، وكما يغير لياءي النسبة في مثل: حنفي، ونمري؟ وهل ذلك للإيذان بأنها تلحق بعد تمام الاسم؟ وهل منزلة الاسم المركب كمنزلة المضاف، إلا أن المركب أدخل في الأول بالبناء معه، حتى صار كبعض حروفه، فالمضاف داخل في الأول بمعاقبة التنوين الذي

هو منه، والمركب داخل فيه بهذا الوجه، وبالبناء معه؟ وما ترخيم (خمسة عشر) اسم رجل؟ ولم جاز فيه: يا خمسة أقبل، ولم يجز حذف الهاء؛ لأنهما بمنزلة زائدين زيدا معا؟ وهل ذلك لأن الهاء أثبت من الاسم الثاني؛ إذ كانت تثبت في إفراده وتركيبه؟ ولم لا يجوز: يا خمسة، وفي الوقف؛ لأن الاسم الثاني في النية؟ وهل ذلك لأنها الهاء التي في (خمسة) وقد وقف عليها في الترخيم كما يوقف عليها إذا قطعت عن كلام بعدها؟ وما ترخيم (مسلمتين) اسم رجل؟ ولم جاز فيه؟ يا مسلمه، في الوقف؟ وما ترخيم رجل اسمه: اثنا عشر؟ ولم وجب فيه: يا اثن، بحذف الألف مع (عشر)، ولم يجب حذف الهاء مع (عشر)؟ وهل ذلك لأن (عشر) بمنزلة النون، والألف مصاخبة/ 3 ب للنون؛ لأنهما زيداً معا، فيحذفان معا كما زيداً معا، وليست الهاء بدلا من حرف هذه منزلته؟

وما حكم الحكاية في الترخيم؟ ولم لا يجوز أن يرخم الحكاية؟ هل ذلك لأنه ليس مما يغيره النداء، نحو: تأبط شراً، وبرق نحره، ففيه إعراب لا يغيره النداء، فجرى مجرى المضاف، والموصول؟ وهل يلزم على ترخيم الحكاية أن يرخم رجل يسمى: يا دار عبلة بالجواء تكلمي .... ؟ وهل ترخيم مثل هذا يبطل ما لأجله جازت الحكاية؛ لأنه يغير الكلام عن صورته؟ الجواب: الذي يجوز في ترخيم الاسم المركب حذف الثاني فقط، ولا يجوز أن يحذف

معه زائد قبله على طريق التبع له، لأن الزائد الذي قبله أثبت منه؛ من أجل أنه يثبت في الإفراد، والتركيب، وليس كذلك الاسم المركب. فترخيم رجل اسمه (خمسة عشر): يا خمسة أقبل، لا تحذف الهاء، لأنها أثبت من الاسم الثاني. وترخيم (حضر موت): يا حضر أقبل، وكذلك: يخت نصر، ومارسرجس، ومعدي كرب، تجعله بمنزلة ما لم يكن فيه إلا الصدر خاصة، فتقول: يا معدي أقبل. وتقول في ترخيم (عمرويه): يا عمر أقبل، فتحذف الصوت كما يحذف الاسم؛ لأنه ضم إلى الأول كما يضم الاسم الثاني إلى الأول. ونظير ذلك تحقير الصدر في (حضير موت) كما يحقر ما فيه الهاء على ذلك الحد، كقولك: تميرة، ودجيجة في: دجاجة، وتمرة. فالاسم بمنزلة هاء التأنيث في اللحاق بعد تمام الاسم الأول، وأنه على تقدير المنفصل ولا يغير له البناء، ولا يلحق بناء ببناء، لأنه يجيء بعد تمام الاسم على تقدير المنفصل، والملحق يجري مجرى ما هو من نفس الكلمة.

ومنزلة الاسم المركب كمنزلة المضاف إلا أنه أدخل في الأول؛ لأنه دخل فيه بوجهين: معاقبة التنوين، والبناء. ودخل المضاف بوجه واحد. وتقول في الوقف/ يا خمسة، ولا يجوز الوقف على التاء، وإن كان المحذوف للترخيم في النية؛ لأنه بمنزلة الوقوف عليه وإن كان الكلام المتصل به في النية، قياسهما واحد. /4 أوكذلك ترخيم (مسلمتين) اسم رجل، يقال فيه: يا مسلمه؛ لأنها هاء التأنيث التي يلزمها هذا الحكم في الوقف. وأما ترخيم رجل اسمه (اثنا عشر)؛ فتقول فيه: يا اثن أقبل، بحذف الألف مع (عشر)؛ لأن (عشر) بمنزلة النون المصاحبة للألف في أنهما زيدا معاً، ويحذفان معا كما زيدا معاً، وليس كذلك هاء التأنيث؛ لأنها ليست ببدل مع الأول بمنزلة شيء واحد، وهي أثبت من الاسم الثاني في المركب.

والحكاية لا ترخم؛ لأن الترخيم يخرجها عما لأجله جازت، وهو تأدية الصيغة التي كان عليها الكلام، وأيضا فلأنها معربة لا يغيرها النداء بالإخراج عن الإعراب إلى البناء، كما لا يغير المضاف، ولا الموصول، ولا النكرة، فقياس هذه الأشياء كلها سواء في أنها لا ترخم. ويلزم من رخم (تأبط شرا) أو (برق نحره) أن يرخم: يا دار عبلة بالجواء تكلمي إذا كان اسم رجل، وذلك فاسد يبطل ما لأجله جازت التسمية بهذا الكلام على طوله؛ لأن الترخيم يغيره عن صيغته، مع أنه يلزم الحذف الكثير الذي يجحف به؛ ليرده إلى طريقة الاسم المفرد، ففسد لفساد ما يلزم عليه.

باب الترخيم في ضرورة الشعر

باب الترخيم في ضرورة الشعر الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الترخيم في ضرورة الشعر مما لا يجوز مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ترخيم الشاعر في الضرورة؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يرخم للضرورة على: يا حا؟ وما الشاهد في قول الراجز: وقد وسطت مالكا وحنظلا وقول ابن أحمر:

(أبو حنش يؤرقنا وطلق ... وعمار وآونة أثالا؟ ) وما الخلاف فيه؟ ولم حمله على معنى (أثالة)، وحمله أبو العباس على: يا أثالة؟ وما الذي يقوي قول سيبويه من تفسير الأصمعي/ إن هؤلاء من قومه يراهم في النوم، إذا أعفى؛ لأنه يتشوق إليهم، فهذا يدل على انه ليس فيه نداء؟

وقول جرير: (ألا أضحت حبالكم رماما ... وأضحت منك شاسعة أماما) وهل الخلاف 4 ب فيه كالخلاف في الذي قبله. ولم أنشد البيت الثاني؟ وهل ليدل ذلك على انه مفتوح، فقال: (يشج بها العساقل منجدات ... وكل عرندس ينفي اللغاما)

وقول زهير: (خذوا حظكم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا، والرحمن بالغيب تذكر) وقول ابن حبناء: (إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا)

وما الشاهد في قول الأسود بن يعفر: (أودي ابن جلهم عباد بصرمته ... إن ابن جلهم أمسى حية الوادي) فلم لا يكون على ترخيم _جلهمة)؟ وهل ذلك لأنه أراد أمه، والعرب تسمي المرأة (جلهم)، والرجل (جلهمة).؟ فلم جرى هذا على القلب مما يقتضيه التأنيث؟ وهل ذلك لأنه جرى على العلم الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين المؤنث والمذكر، كما يسمى الرجل (طلحة () والمرأة (دعد) فيسمى المذكر بالاسم الذي فيه علامة، والمؤنث بالاسم الذي ليس فيه علامة؛ ليدل على أن التأنيث فيه يكون في الاسم فقط؟

وما الشاهد في قول رجل من بني يشكر؟ (لها أشارير من لحم تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها) ولم لا يجوز أن يكون في هذا على الترخيم، والعوض من المحذوف؟ وهل ذلك لأن الترخيم موضع تخفيف بالحذف، ولا يستحق عوضا؛ لمناقضته لعلة جوازه؟

وما وجه قوله: من الثعالي، ومن ارانيها، إذا لم يكن ترخيماً؟ وهل ذلك على البدل؟ ولم جاز أن يبدل الياء من الباء؟ وهل ذلك لأن الباء من مخرج الواو التي هي أخت الياء. وما الشاهد في قول الشاعر؟ (ومنهل ليس له حوازق ... ولضفادي جمه نقانق) ولم جاز أن يبدل الياء من العين، فقال: ضفادي، في موضع: ضفادع؟ وهل ذلك لأنه لا يصلح من حروف المد واللين التي هي أحق بالزيادة والإبدال إلا الياء، فأبدلها من العين، وإن بعد مخرجها منها؛ لأن المد الذي فيها يقارب وصلها بمخرج العين. /5 أوهل يلزم من حذف للترخيم، وعوض في هذا أن يجيز العوض في ترخيم

(حارث) على: يا حار، فيجيز، يا حاري، وفي (مروان): يا مروي؟ . وهل لزمه ذلك؛ لأن العوض إن لم يستحقه الأصل، فالفرع أجدر أن لا يستحقه، فلا وجه للعرض؛ لأنه قد منع مانع في الأصل، والمانع موجود في الفرع، وهو مناقضة ما لأجله جاز الترخيم؟ الجواب: الذي جوز في ترخيم الشاعر للضرورة حذف الهاء في غير النداء؛ لقوة الترخيم باطراده في النداء، مع قوة حذف الهاء؛ لأنها موضع تغيير، يكون حالها في الوقف على خلاف حالها في الوصل، فهذا الذي وجد في أشعار العرب، وكثر فيها، ولو جاء في غير الهاء، لم يمتنع. [ولا يجوز الترخيم إلا على: يا حار] لأنه لما كان له في النداء طريقان: أحدهما يكو ن الاسم فيه بمنزلة ما لم يحذف منه شيء، والآخر ليس كذلك؛

كان الاسم الذي لم يحذف منه شيء أحق بأن يحمل عليه عير النداء؛ فإن جاء شيء على خلاف ذلك، فهو شاذ في الضرورة. وقال الراجز: وقد وسطت مالكا وحنظلا فهذا على ما يطرد في الضرورة: وقال ابن أحمر: (أبو حنش يؤرقنا وطلق ... وعمار وآونة أثالا) فاختلفوا في هذا، سيبويه إلى أنه ترخيم في غير النداء على (حار) وأبي ذلك أبو العباس، وقال: إن المعنى: يا أثالة، فهو ترخيم في النداء، ولم يجز الترخيم في غير النداء على: يا حار

وفسر الأصمعي هذا البيت بما يدل على قول سيبويه، فقال: هؤلاء من قومه، يراهم في النوم إذا أغفى، لأنه يتشوق إليهم. وقد بينا في الأصل أنه لا يمتنع في الهاء أن يجيء الترخيم على: يا حار؛ لقوة حذف الهاء، فيجيء على طريق النادر. واختلفوا- أيضا- في قول جرير: (ألا أضحت حبالكم رماما .. وأوضحت منك شاسعة أماما) فذهب أبو العباس إلى أنه على: يا أمامة وذهب سيبويه إلى أنه على: أضحت أمامة/ 5 ب منك شاسعة وقد بينا وجه القول في التأويلين. وأنشد سيبويه البيت الثاني؛ ليدل على أنه مفتوح مطلق، فقال: (يشج بها العساقل منجدات ... وكل عرندس ينفي اللغاما)

ولولا ذلك لجاز أن يكون (أمام) على الضم، وإطلاق القافية. وقال زهير: (خذوا حظكم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر) فلا خلاف في هذا أنه ترخيم في غير النداء للضرورة. وقال ابن حبناء: (إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا) يريد: ابن حارثة، فرخم في عير النداء للضرورة. وقال الأسود بن يعفر: (أودي ابن جلهم عباد بصرمته ... أن ابن جلهم أمسى حيى الوادي) يريد بقوله: (جلهم) أمه، ولا يجوز أن يكون- مع ذلك- ترخيم (جلهمة)؛ لأن العرب تسمى المرأة (جلهم)، والرجل (جلهمة) ووجه ذلك أنه علم

لا يحتاج فيه إلى الفرق بين المؤنث والمذكر، إلا أنه سمي به المذكر بما فيه علامة التأنيث، ليدل على أن التأنيث قد يكون في الاسم فقط. وقال رجل من بني يشكر: (لها أشارير من لحم تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها) فهذا لا يجوز أن يكون على الترخيم والعوض من المحذوف؛ لأن الترخيم موضع تخفيف بالحذف، فلا يجوز العوض من المحذوف فيه؛ لمناقضته التخفيف الذي لأجله جاز ولكنه على البدل، وإنما جاز ان تبدل الياء من الباء؛ لأن الباء من مخرج الواو التي هي أخت الياء والأصل فيه: من الثعالب، ومن أرانبها فأبدل حرفا لا تدخله الكسرة كما لا تدخل الألف وقال الشاعر: (ومنهل ليس له حوازق ... ولضفادي جمه نقانق) يريد: لضفادع، فأبدل الياء من العين؛ لأنه لا يصلح في هذا الموضع من حروف المد

واللين التي هي أحق بالزيادة إلا الياء، لأنه احتيج إلى حرف لا تدخله الحركة وقبله كسرة، ومع ذلك /6 فإن الياء بالمد الذي فيها تقارب الاتصال بمخرج العين. ويلزم من حذف في هذا الترخيم وعوض أن يجيز في ترخيم (حارث): يا حاري، وفي ترخيم (مروان) يا مروي؛ لأنه إنما يمتنع في الأصل لعلة موجودة في الفرع، فإذا لم يلتفت إليها في الفرع، لزمه ألا يلتفت إليها في الأصل؛ وهذا لأن العوض مناقض لما لأجله جاز الترخيم.

باب النفي بلا

باب النفي بلا الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي بلا مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي بلا. وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز أن تعمل إلا في نكرة؟ وهل ذلك لأنها تنفي نفياً عاماً على الجملة، والتفصيل، كما يكون في (من) إذا دخلت لاستغراق الجنس في قولك: ما من رجل فيها. ولم عملت النصب في النكرة؟ ولم حذف التنوين فيها؟ ومن أي وجه صار النصب فيها كالنصب في (إن)؟ ولم بنيت مع ما عملت فيه؟ وهل ذلك لأنها جواب: عل من رجل في الدار، وما كان على طريقته؟ ولم وجب أن (لا) وما تعمل فيه في موضع ابتداء؟ وهل ذلك لأنها نقيضة

[إن]؟ . وما نظيرها من (رب)، و (كم)؟ ولم لا تعمل (رب) إلا في نكرة؟ وهل ذلك لأنها تدخل على واحد في موضع جميع؛ لتدل على تقليل الجميع الذي هذا واحده؟ وهل (كم) نظيرها في الخبر، لأنها لتكثير الجميع الذي النكرة واحده؟ ولم خرجت (رب) عن طريقة أخواتها.؟ وهل ذلك لما تضمنت من التقليل على جهة التفصيل؟ وما نظيرها من (أيهم) في مخالفة (الذي) في حذف المبتدأ من الصلة، فبنبت بناء بعض الاسم؛ للحذف الذي وقع فيها، على خلاف ما يصلح في أخواتها؟ وما نظير ذلك من قولهم: يا الله؟ ولم خالف الأسماء التي فيها الألف واللام في النداء؟ وهل ذلك لأنها عوض من حرف أصلي في الاسم؟ ولم بني (لا رجل) على الفتح، ولم يبن على ما ليس له بحق الإعراب، كما لزم في {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وهل ذلك لأنه مركب من شيئين، والمركب مختار له الفتح على قياس: خمسة عشر؟ .

وما نظير ذلك من قولهم: يا بن أم، وإنما موضع (أم) جر؟ /6 ب ولم وجب فيها أن تكون جوابا لقوله: هل من عبد أو جارية؟ ولم غلب عليها حذف الخبر كما غلب في قولهم: ما من رجل، وما من شيء؟ وما تقديره في الإظهار؟ وهل ذلك على قولك: [في] زمان، أو مكان، بتقدير: لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان؟ وما في قول أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك، ومن الدليل على أن (لا رجل) في موضع اسم مبتدأ؟ ولم جاز هذا ولم يجز: رب رجل أفضل منك؟ ولم جاز: ما من رجل أفضل منك؟ وما حكم (لا) في الفصل بينها وبين الاسم الذي تعمل فيه؟ ولم لا يجوز

ذلك كما يجوز في (إن)؟ ولم وجب أن يكون بمنزلة: هل من فيها رجل، لو قلت: لا فيها رجل . الجواب: الذي يجوز في النفس بلا أن تعمل النصب في النكرة بغير تنوين، وإنما عملت النصب؛ لأنها نقيضة (إن)، والنقيضان يجريان في الإهراب مجرى واحداً، كقولك ضربت زيداً، وما ضربت زيداً.

وعملت بغير تنوين؛ لأنها مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد؛ لتدل على أنها جواب ما هذه منزلته من قولك: هل من رجل في الدار؟ ونحوه، فبنيت مع ما عملت فيه، ولم يبن (من) مع ما عمل فيه؛ لأن الجر يدل على أن العامل والمعمول بمنزلة اسم واحد، [وليس كذلك النصب؛ لأن أكثر الكلام على أن الناصب والمنصوب ليس بمنزلة اسم واحد] فلم يكن بد من البناء؛ ليدل أنه مع

ما عمل فيه بمنزلة اسم واحد. ولا يحوز أن تعمل إلا في نكرة؛ لأنها نفي أعم العام على الجملة والتفصيل، كما أن (من) في استغراق الجنس على هذا المعنى، فلو دخلت على معرفة بعينها؛ لبطل معناها في النفي على هذا الوجه. و(لا) مع ما تعمل فيه في موضع اسم مبتدأ، كما أن [إن] بهذه المنزلة. ويدل على ذلك قول العرب من أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك،

وكذلك يقولون: ما من رجل أفضل منك. ولا يجوز: رب رجل أفضل منك؛ لأن حرف الجر لا يعمل فيه إلا فعل، فليس في موضع اسم مبتدأ. ونظير (لا) في أنها لا تعمل إلا في نكرة (رب) و (كم) وإن اختلفت العلل، فقد استوت في الحكم بأنها لا تعمل إلا في نكرة. فعله (رب) تقليل جملة يدل عليها واحد منكور؛ إذا كل واحد من الجملة له مثل اسمه، وهذا شرط النكرة. /7 أوعلة (كم) تكثير جملة يدل عليها واحد منكور، يكون كل واحد من الجملة له مثل اسمه.

وقد خرجت هذه الأشياء من (لا)، و (رب)، و (كم) عن حكم أخواتها، بعلل تختص كل واحد منها. وكذلك (أيهم) إذا حذف المبتدأ من صلته في قولك: مررت بأيهم أفضل؛ خرج عن حد (الذي) بأطراد الحذف فيه، وبني ليؤذن البناء با، هـ ترك بعض الاسم وبعض الاسم مبني. وكذلك قولهم: يا الله خالف أخواته من الأسماء التي فيها الألف واللام؛ لأنها لا تثبت في النداء، وتثبت في: يا اله، لأنها عوض من حرف أصلي، وهو الهمزة في: (إله) فثبت الألف واللام، كما يثبت الحرف الأصلي في الاسم إذا قلت: يا إلهي. وبني (لا رجل) على الفتح، ولم يبن على حركة ليست له بحق الإعراب كما يبني (قبل) و (بعد) لأنه مركب من كلمتين، فجرى مجرى (خمسة عشر)

في اختيار الفتح؛ لأنه أخف. وكذلك قولهم: يا بن أم، وإن كان موضع (أم) جراً إلا أنه عدل به في البناء إلى الفتج كما بينا. والغالب على النفي بلا حذف الخبر، لأن عموم النفي يقتضي كعنى الخبر ويدل عليه كقولك: لا رجل؛ أي: في زمان، أو مكان. ولم يجب مثل ذلك في (إن) بل الغالب عليها ذكر الخبر؛ لأن الإيجاب لا يدل على معنى الخبر. ولا يجوز أن يفصل بين (لا) وما عملت فيها؛ لأنها بمنزلة (خمسة عشر) في البناء معه، فلو جاز: لا فيها رجل؛ لجاز: ما من فيها رجل بل هو في المركب أقبح وأبعد من الصواب، كما أنه في التفريق بين بعض الاسم وبعض أقبح منه في المركب، وكل ذلك قبيح لا يجوز في الكلام.

باب النفي بلام الإضافة

باب النفي بلام الإضافة الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي بلا. وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز أن يذهب النون مع لام الإضافة إلا إذا كانت مقحمة في النفي أو النداء؟ وما اللام المقحمة؟ وهل هي الزائدة على تقدير الطرح؟ ولم جاز أن تزاد على هذه الجهة؟ وهل ذلك ليكون الاسم في حال بين المنفصل والمضاف؟ وهل الإضافة المحضة بحق الأصل، والانفصال المحض بحق الأصل، والحال بين الإضافة المحضة والانفصال بحق الشبه للإضافة إذ اللفظ على الإضافة

/ 7 ب المحضة، والمعنى على الانفصال، فكذلك هذا الباب اللفظ على الانفصال، والمعنى على الإضافة المحضة؟ ولما جاز [في]: لا غلام لك، الإعراب والبناء؟ وهل ذلك لأنه في إقحام اللام بمنزلة: لا مثل زيد؟ وما في قول العرب: لا أبالك، ولا غلامي لك، ومن الدليل؟ ولم جاز: لا أباك، في معنى: لا أبالك؟ وهل ذلك على الإضافة اللفظية؟ وما نظير اللام من قولهم: يا تيم تيم عدي ....

في الإقحام، ومن قولهم: يا طلحة أقبل؟ وهل الإقحام كله بمنزلة التكرير للتأكيد؟ وما الشاهد في قول النابغة: (كليني لهم يا أميمة ناصب ... ....... ) وقول الآخر: ( ............. ... يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام) ولم جاز الإقحام في النفي والنداء، دون غيرهما من الكلام؟ ولم صار النفي موضع تخفيف؟

ولم صار النداء موضع تخفيف؟ وهل ذلك لما يلزمه من حرف النفي، وأن النداء مفتاح الكلام بما يقتضي الإيجاز قبل الدخول في غرض الكلام. ولم جاز: لا مسلمي لك، على تقدير حذف اللام، ولم يجز: لا مسلميك.؟ وهل ذلك لأنه من المفسرات التي لا تصلح استعمالها للخلف اللازم منها؟ وما حكم: لا يدين بها لك، ولا يدين اليوم لك؟ ولم كان الوجه في هذا إثبات النون؟ وهلا كان الفصل بالظرف كالفصل باللام؟ هل ذلك؟ لأن اللام لو طرحت؛ اتصل الاسم على الإضافة المحض، وليس كذلك مع الفصل بالظرف. ولم صار القبح فيك لا يدري بها لك، بمنزلة القبح في: لا مثل بها زيد؟ ولم جاز في الضرورة: لا أخا هذين اليومين [لك]. وما الشاهد في قول ذي الرمة: (كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج؟ ]

وما نظير ثبات النون في: لا يدين بها لك، في قولهم: كم بها رجلا مصاباً. وما وجه قول يونس في: لا يدي بها لك، وكم بها رجل مصاب: يجوز؛ لأن الكلام لا يستغني؟ وهل ذلك لأنه إذا كان ناقصاً؛ اقتضى متمم كما يقتضي المضاف متمماً؟ ولم خالفه سيبويه في هذا، وذهب إلى ان ما يستغني به الكلام، وما لا يستغني به قبحهما واحد، وهل ذلك لأن /8 أالفصل قد وقع بما هو بمنزلة الفصل بين بعض الاسم، وبعض فلا يعصم من ذلك أن الذي لا يستغني أشبه بالمضاف؟ وهل مذهب الخليل وسيبويه في هذا واحد على خلاف مذهب يونس؟ وما حكم: لاغلامين، ولا جارتي لك؟ ولم جاز في الثاني [إثبات] النون وحذفها، ولم يجز في الأول إلا

إثباتها؟ وما نظير اختصاص (لا) بالإقحام، دون نظائرها من حروف النفي من اختصاص (لدن) مع: (غدوة) بما ليس لنظائره (غدوة) في قولهم: لدن غدوة، ولا يجوز: لدن عشية؟ وهل ذلك لكثرة (لدن) مع غدوة حتى صارت تقتضيها اقتضاء الناصب للمنصوب، وكثرت مع (غدوة) بما ليس لـ (عشية)؛ لأن (غدوة) ابتداء الأفعال في غالب الأمر. وما نظيره من قولهم: ملامح، ومذاكير على تقدير أن واحده. ملمحة، ومذكار كم غير أن يجوز في الاستعمال؟ وهل ذلك لتمكين المقدرات في الكلام؟ وما نظيره من قولهم: عذيرك على طريقة قولهم: " ضربا، وضربك، ولا يجوز تنكير: عذيرك؟ وهل ذلك لأنه مصدر لم يتمكن بالإجراء على الفعل، مع أنه كالمثل الذي لا يغير، وذلك أن الثاني يقوله على حد ما قاله الأول من مصاحبة حال تدل على المبالغة في معنى: اعذر، فمن هاهنا صار كالمثل؟

ولم لو جاز: تيم تيم عدي، لم يستقم إلا أن تقول: ذاهبون، فتأتي بخبر؟ وما في ذلك من الدليل على ان: لا أبالك لابد من أن يكون له خير قد حذف كأنك قلت: لا أبالك في مكان؟ وما الشاهد في قول الشاعر، وهو نهار بن توسعة اليشكري: (أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذ افتخروا بقيس أو تميم) وهل قال: لا أبالي؟ ولم حذف التنوين للبناء مع (لا)؛ ولم يحذف النون حتى جاز: لا غلام عندك، ولا يجوز: لا غلامي عندك؟ وهل ذلك لأن النون أقوى من التنوين بالحركة؟ ولم جاز إقحام اللام، ولم يجز إقحام (في) وكلاهما من حروف الإضافة، فجاز: لا أبالك، ولم يجز: لا أبا فيها؟ وهل لأن الإضافة المحضة فيها معنى

اللام، وليس فيها معنى (في)؟ وما حكم: لا غلام وجارية فيها؟ ولم لا يجوز الثاني إلا بالتنوين؟ وما الشاهد في قول الشاعر: (فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزراً) وكم وجها/ 8 ب يجوز في: لا رجل ولا امرأة؟

وما الشاهد في قول أنس بن العباس: (لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الفتق على الراتق) وهل يجوز: ليس عبد الله، وليس أخوه فيها؟ ولم جاز في كل ما تعلم فيه (رب) أن تعمل فيه (لا).؟ وما حكم: ولاسيما زيد؟ ولم أدخله في هذا الباب؟ وهل ذلك لأن (ما)

زائدة تشبه اللام في الإقحام. ولم جاز: ولاسيما زيد؟ وهل ذلك على تقدير: ولا مثل شيء هو زيد، كقولهم: دع ما زيد، أي: دع شيئا هو زيد، وكقراءة من قرأ بالرفع: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} وهل يجوز: ولاسيما زيدا؟ ولم أجازه على معنى الاستثناء، كقولك: إلا زيداً، كما أنشدوا: ( ...... ... ولاسيما يوما بدارة جلجل) على الأوجه الثلاثة؟ .

وما الشاهد في قول أبي محجن الثقفي: (يارب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق) الجواب: الذي يجوز في النفي بلام الإضافة- إذا كانت مقحمة- حذف التنوين والنون؛ للإضافة؛ لأنها على تقدير الطرح.

ولا يجوز أن تكون اللام مقحمة إلا في الموضع الذي يقوى فيه التغيير كالنفي والنداء؛ لأن إقحامها إنما يجب لها بحق الشبه، لا بحق الأصل؛ وذلك أن الإضافة التي بحق الأصل توجب معنى خلاف معنى الإضافة التي بحق الشبه، وما كان بحق الشبه فإنما اللفظ فيه على الإضافة، والمعنى على الانفصال فلما كان الشبه يقوى في الموضع الذي يقوى فيه التغير؛ أوجب الحكم ولما كان الشبه يضعف في غير ذلك الموضع؛ لم يوجب حكما. وإنما قوي الشبه في الموضع الذي يقوى فيه التغيير؛ لأنه موضع يطلب فيه التغيير؛ للشبه، فيظهر في الموضع الذي يطلب فيه، ويخفى في الموضع الذي لا يطلب فيه؛ لأنه ليس من مواضع التغيير. واللام المقحمة هي الزائدة لزيادة البيان على طريقة التأكيد، والنية بها

الطرح، على أصل قياس ما يزاد للتأكيد. (ولما كانت الإضافة) بغير حرف على وجهين: إضافة حقيقية، وإضافة لفظية؛ جاءت الإضافة بحرف على وجهين: إضافة بحق /9 أالأصل، وإضافة بحق الشبه. فالإضافة بحق الأصل الحقيقية، والإضافة بحق الشبه لفظية، وحكمهما مختلف. والإضافة بحق الشبه حال بين الحالين من الانفصال بحق الأصل والإضافة بحق الأصل، وهذا القسم الثالث بين المنفصل والمضاف؛ لأن اللفظ على الانفصال باللام، ,التقدير على الإضافة بغير الم وإن لم يجز استعمال حذف اللام في هذا الباب لأنها هي التي تدل على الإضافة

اللفظية، إذا كانت مقحمة، ولو كان الدليل غيرها؛ لأجاز أن تسقط، كما يقال: ضارب زيد، فيكون على الإضافة اللفظية، ودليله وقوع (فاعل) موقع (يفعل). وتقول: لا غلام لك، فيجوز على وجهين: أحدهما: ذهاب التنوين؛ للبناء إذا كانت اللام غير مقحمة، ولكن على معنى الخبر في: لك. ويجوز ذهاب التنوين؛ للإضافة إذا كانت اللام مقحمة، ويكون على حذف الخبر. وقول العرب: لا أبا لك، ولا مسلمي لك، دليل على ان الإضافة باللام على جهة الإقحام. ويجوز: لا أباك على معنى: لا أبا لك؛ لأنه كثر حتى فهم منه معنى الإضافة اللفظية التي لا تعرف الأول بالثاني، كما قال الشاعر:

(أبالموت الذي لابد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني) ونظير إقحام اللام قولهم: (يا تيم تيم عدي ... ..... ) وقولهم: يا طلحة أقبل، فالإقحام كله بمنزلة التكرير للتأكيد. وقال النابغة: (كليني لهم يا أميمة ناصب ... ..... ) وقال الآخر: ( .... ... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام)

وإنما صار النفي موضع تخفيف، لما يلزمه من زيادة حرف النفي مع الاستغناء في كثير من الكلام عن ذكر الخبر فيه، كقولك: لا ملجأ، ولا دماء، ولا كري. وما أشبه ذلك. وصار النداء موضع تخفيف؛ لأنه مفتاح الكلام الذي ندخل به إلى الغرض من الخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي، ونحو ذلك. وتقول: لا مسلمي لك، على تقدير: لا مسلميك، ولا يجوز هذا المقدر. لأنه لا دليل يدل على التنكير كما تدل اللام بإيجابها الانفصال، حتى يكون بمنزلة (ضارب زيد) الذي هو على تقدير الانفصال /9 ب في: ضارب زيداً. وتقول: لا يدين بها لك، ولا يجوز إقحام اللام هاهنا؛ للفصل الذي قد وقع بين الثاني والأول في قولك: (بها) وكذلك: لا يدين اليوم لك. ويجوز مثل هذا في الضرورة، كما قال ذو الرمة: (كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج) ونظير الفصل في هذا: كم بها رجلا مصاباً، فهو نظيره في المنع من الإضافة.

ويونس يذهب إلى أنه يجوز: لا يدي بها لك، وكم بها رجل مصاب؛ لأن الكلام لا يستغني. ووجه ذلك أن الكلام إذا كان لا يستغني؛ أشبه المضاف، فجاز مع الفصل، وإذا كان يستغني لم يجز مع الفصل، كقولك: لا رجل فيها لك. وسيبويه يذهب إلى أن ما يستغني به الكلام، وما لا يستغني قبحهما سواء. ووجه ذلك أن مالا يستغني لا يختص المضاف دون المركب، والموصول، والموصوف، فليس هو بشيء للإضافة خاصة فيحتمل له الفصل؛ إذا هو مشترط بين الإضافة وغيرها. ومذهب الخليل كمذهب سيبويه. وتقول: لا غلامين ولا جاريتي لك، وإن شئت قلت: ولا جاريتين لك، فأما الأول؛ فليس فيه إلا ثبات النون. ونظير اختصاص (لا (بالإقحام دون غيرها من حروف النفي اختصاص (لدن) مع (غدوة) واختصاص: ملامح، ومذاكير، بإهمال واحده،

واختصاص (عذيرك) بالمعرفة دون النكرة، وكل ذلك لعلل قد أشعرنا بها في السؤال. وتقول: لا أب لك، فلا تحتاج إلى محذوف، فإن قلت: لا أبا لك، فلابد من محذوف؛ لأنه بمنزلة الاسم المفرد. وقال نهار بن توسعة: (أبي الإسلام لا أب لي سواه .. إذا افتخروا بقيس أو تميم) فهذا على أن (لي) خبر ولو جعله مضافاً؛ لقال: لا أبالي سواه. والنون تحذف للإضافة، ولا تحذف للبناء؛ لأنها أقوى من التنوين بالحركة؛ ولذلك تثبت مع الألف واللام، وفي الوقف إلا أن المضاف إليه لما كان يقع موقع التنوين؛ لم يكن بد من حرف النون/ 10 أعلى المعاقبة؛ لأن موقعهما واحد، ولا يصلح أن يجتمعا [فيه] فلا يجوز: لا غلامي عندك، كما يجوز لا غلام عندك. وأبو العباس يذهب [إلى] أن النون لا تحذف للبناء؛ لأنه لم يقع تركيب

اسم مع اسم مثنى أو مجموع- أصلا- في الكلام، كما وقع تركيب اسم مع اسم مفرد، فإنما حمل هذا على نظيره من تركيب الاسم مع الاسم. وكلا العلتين صحيح حسن. ويجوز إقحام اللام، ولا يجوز إقحام غيرها من حروف الإضافة؛ لأنها تصلح للتأكيد؛ إذ كل إضافة بغير حرف فإنه يصلح فيها معنى اللام- وإن كان يوجد ذلك تعريف- إذا لم تكن الإضافة على معنى النوع من الجنس. فالغالب على الإضافة أن تكون بمعنى اللام؛ فلذلك صلح أن يقع بها الإقحام؛ للتأكيد، ولم يصلح بغيرها من حروف الإضافة. وتقول: لا غلام وجارية فيها، بالتنوين في: جارية/، لا غير؛ لأنه ليس فيه بناء، ولا إضافة، وقال الشاعر:

(فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا) وتقول: لا رجل ولا امرأة، فيجوز في المعطوف ثلاثة أوجه: النصب بالتنوين إذا كانت (لا) الثانية مؤكدة، والنصب بغير تنوين إذا كانت نافية نظيرة الأولى، والرفع بالتنوين عطفا على الموضع، وقال أنس بن العباس: (لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الفتق على الراتق) وتقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فيجوز على حذف خبر الأول، فكذلك: لا رجل ولا امرأة يا هذا، بغير تنوين. وكل ما جاز أن تعمل فيه (رب) فإنه يجوز أن تعمل فيه (لا)؛ لأنهما جميعا للنكرة. أما (رب) فلأن الواحد منها يقع موقع الجميع؛ للدلالة على التفصيل في تقليل جملة واحدة النكرة، وأما (لا) فلأنها نفي أعم العام بواحد يقع موقع الجميع؛ للتفصيل. وتقول: ولا سيما زيد؛ لأنها بمنزلة: ولا مثل زيد، و (ما) في هذا الوجه صلة. وتقول: ولا سيما زيد، كأنك قلت: ولا مثل شيء هو زيد، كقولك: دع ما زيد؛ أي: دع شيئا هو زيد.

ويجوز: ولا سيما زيدا - فيما حكاه الكوفيون - على معنى: إلا زيدا، وأنشدوا: (ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوما بدارة جلجل) على الأوجه الثلاثة. ولم يذكر سيبويه النصب في هذا، وليس بممتنع على قياس فولهم: حاشا زيدا، كأنك تخرجه من الجملة المذكورة قبله منزها له، فكذلك تخرج الثاني عن الجملة المذكورة قبله بأنه قد فاقها، وزاد عليها، كهذا البيت فيما يقتضيه معناه من إخراج (يوما بدارة جلجل) عن المذكور قبله بعظم شأنه عن ذلك الحد. وقال أبو محجن الثقفي: (يارب مثلك في النساء غريزة ... بيضاء قد متعتها بطلاق) فدل على أن (مثلك) نكرة بدخول (رب) عليها.

باب النفي الذي يثبت فيه التنوين في الاسم

باب النفي الذي يثبت فيه التنوين في الاسم [الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي يثبت فيه التنوين في الاسم]، مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي يثبت فيه التنوين في الاسم؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز في الاسم الموصول إلا ثبات التنوين؟ وهل ذلك لأنه قد امتنع البناء كما يمتنع من الموصول في النداء؟ . ولم جاز: لا خيرا منه لك، ولا حسنا وجهه لك، ولا ضاربا زيدا لك، بالتنوين، ولم يجز بحذفه؟ . ولم ذكر: لا عشرين درهما لك، في هذا الباب، ولم يثبت النون لأنه موصول، إذ هو بمنزلة: لا مسلمين؟ وهل ذلك ليرى أنه بمنزلته في أنه

موصول، وإن كان لو لم يوصل؛ لم يحذف النون؟ . وما حكم: لا آمرا بالمعروف لك؟ ولم جاز بالتنوين، وترك التنوين؟ وما الفرق بينهما في المعنى؟ وهل أحدهما على نفي الآمرين بالمعروف خاصة، والآخر على نفي الآمرين عامة، بالمنكر كان أو بالمعروف؛ لأن أحدهما مطلق، والآخر قد خصصته الإضافة؟ . ولم جاز: [لا] آمر يوم الجمعة فيها، بالتنوين؟ وما الفرق بينهما في المعنى؟ وهل أحدهما على نفي آمري يوم الجمعة خاصة، والآخر على نفي الآمرين عامة، ويكون (فيها) خبرا، و (يوم الجمعة) متصلا به؟ . ولم جاز: لا داعيا إلى الله لك، بالتنوين، وترك التنوين؟ وما الفرق بينهما؟ وهل أحدهما على نفي الداعي إلى الله خاصة، والآخر على نفي الداعي عاما؛ لأن أحدهما مطلق، ويكون ذكر (إلى الله) على طريق البيان بعد ما قد وجب البناء بعموم النفي، كأنه قيل - بعد ما قال: لا داعي لك - قال: يدعو إلى الله عز وجل، فهو على مخرج عموم النفي، ثم بين أنه ليس له من يدعو إلى الله،

وكأنه قال - بعد قوله: لا داعي لك -: أعني إلى الله؟ . وما نظير ذلك من: سقيا لك؟ وهل تقديره على الانفصال؛ لكثرة ما يقال: سقيا، وسقيا ورعيا، من غير (لأك)، فكأنه استدرك بقول: لك، فلم يجب العمل مع الاستدراك، كما لا يجب في: (ظننت)، وأخواتها؟ . وهل ذلك بمنزلة: لا مغيرا على الأعداء لك؟ وهل جواز ذلك على تقدير: لا مغير لك، بالوقف عليه، ثم يستدرك، فيقول: على الأعداء؟ . وما حكم: لا ضاربا يوم الجمعة؟ وهل يجوز فيه الوجهان؟ وما الفرق بينهما؟ .

باب النفي الذي يوصف فيه المنفي

باب النفي الذي يوصف فيه المنفي الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي يوصف فيه المنفي مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي يوصف فيه المنفي؟ وما الذي يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز في الصفة الثانية إلا التنوين؟ . ولم جاز في صفة المنفي ثلاثة أوجه: النصب بغير تنوين، والنصب بالتنوين، والرفع بالتنوين؟ ولم كان النصب بالتنوين أكثر في الكلام؟ . وما حكم: لا غلام ظريفا لك؟ ولم جاز: لا غلام ظريف لك؟ . ولم كان الأجود النصب بالتنوين، ثم النصب بغير التنوين، ثم الرفع؟ . ولم جاز: لا غلام ظريفا عاقلا لك، على الخيار في الصفة الأولى، دون الثانية؟ .

ولم لا يكون ثلاثة أشياء بمنزلة اسم واحد؟ وهل ذلك لخروجه عن التعديل، ولا يلزم في الاسمين إذا جعلا بمنزلة اسم واحد؛ لأنهما على أقل ما يصح به التركيب، فجرى الثاني مجرى زيادة هاء التأنيث؟ . ولم لا يجوز في قولك: لا غلام فيها ظريفا، إلا التنوين؟ . وما حكم التكرير في هذا الباب؟ ولم جاز فيه ما يجوز في الصفة، إذا قلت: لا ماء باردا، ولا ماء باردا؟ ولم لا يجوز عنده إلا التنوين في: البارد؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة الصفة الثانية؟ . وهل يتوجه على ترك التنوين فيه إذا كرر الأول بعين، ولم يقدر على غيره، فتقول: لا ماء ماء باردا، كما تقول: إن إن زيدا منطلق، وضربت زيدا زيدا، لا على تعدية (ضربت) إلى مفعولين، ولا على الإتباع، ولكن على تكرير الأول بعينه في التقدير؟ .

الجواب: الذي يجوز في النفي الذي يثبت فيه التنوين في الاسم - إذا كان موصولا بمعمول فيه - النصب بالتنوين؛ لأنه قد امتنع البناء بأن المعمول من تمام الاسم العامل، ولا تبنى ثلاثة أشياء، فتجعل بمنزلة اسم واحد، فسبيل ذلك أن ينون كما ينون في النداء؛ لأنه موصول بمعموله كما هو موصول في النداء بمعموله، ولا يجوز مثل ذلك فيما كان على معنى الخبر؛ لأنه منفصل من الاسم بأنه مذكور للفائدة، لا للسان عن معنى الاسم. وتقول: لا خيرا منه لك، ولا حسنا وجهه لك، ولا ضاربا زيدا لك، بالتنوين في جميع ذلك، ولا يجوز حذفه؛ لأنه الثاني لا يتوجه إلا على أنه معمول الأول. فأما: لا عشرين درهما لك؛ فهو بمنزلة ما ذكرنا في أنه موصول، وليس بمنزلته في ذهاب النون. وتقول: لا آمرا بالمعروف لك، فيجوز بالتنوين، وترك التنوين، والفرق

بينهما أن أحدهما نفي عام، والآخر نفي خاص بالمعمول؛ إذ المعمول يخصص كما تخصص الإضافة، وكما تخصص الصفة، وكل ذلك مذكور للبيان عن معنى الاسم الأول، وإذا جعل منفصلا؛ جرى الأول على عموم النفي، وصار العامل في الثاني عاملا آخر، إما مذكور أو محذوف، فالمذكور كقولك: (لك) على معنى الخبر، كأنك قلت: لم يستقروا لك بالمعروف، فليس العامل هو الاسم، بل هو على عموم النفي في هذا الوجه. وكذلك: لا آمر يوم الجمعة فيها، بالتنوين، وترك التنوين، على أن أحدهما على النفي العام؛ لأنه مطلق، والآخر على النفي الخاص؛ لأنه مقيد بالمعمول المخصص له، ويصلح تقديم: يوم الجمعة على أنه ظرف ملغي، كأنك قلت: لا آمر فيها يوم الجمعة، فالخبر (فيها)، و (يوم الجمعة) متصل، كقولك: زيد في الدار يوم الجمعة، أي: يستقر في الدار يوم الجمعة. وتقول: لا داعي إلى الله لك، فيجوز بالتنوين، وترك التنوين، فالتنوين على الإعمال، وترك التنوين على قطعة عن العمل، كأنك أردت أن تقول: لا داعي

لك أصلا، ثم استدركت بالبيان، فقلت: إلى الله؛ أي: أعني إلى الله. وكذلك: لا مغيرا على الأعداء لك، يجوز فيه الوجهان: من التنوين، وترك التنوين. ونظيره: سقيا لك، في أن (لك) ليس بخبر، ولا معمول (سقيا)؛ لأنه قد كثر (سقيا) من غير ذكر (لك)، فإذا ذكر؛ فكأنه استدرك به بعد ما قد مضى (سقيا) على الإلغاء من العمل. وتقول: لا ضاربا يوم الجمعة لك، فيجوز فيه الوجهان: على عموم نفي الضاربين، وعلى خصوص نفي ضاربي يوم الجمعة إذا نصبت بالتنوين، فقلت: لا ضاربا يوم الجمعة لك.

والجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في النفي الذي يوصف فيه المنفى إجراء الصفة على ثلاثة أوجه: النصب بالتنوين، وهو الأجود، ثم النصب بغير تنوين، ثم الرفع بالتنوين. وإنما كان النصب بالتنوين أجود؛ لأنه أشكل بالموصوف، وأجرى في الباب، وأشبه بالنظير من النداء، وأبعد من الكلفة بفك الاسم من (لا) ثم بنائه مع الصفة. وإنما جاز النصب بغير تنوين مع تكلف فك [الاسم] من (لا)؛ طلبا للنظير الأكثر من بناء اسم مع اسم من نحو: خمسة عشر. وجاز الرفع بالتنوين؛ حملا على الموضع؛ إذ كانت (لا) مع الاسم بمنزلة اسم واحد موضعه رفع. ولا يجوز في الصفة الثانية إلا بالتنوين؛ لأنه لا تبنى ثلاثة أشياء فتكون بمنزلة اسم واحد، كما لا يجوز في الفصل بين الصفة والموصوف بالظرف إلا التنوين.

وتقول: لا غلام ظريفا لك، ولا غلام ظريف لك، ولا غلام ظريف لك، فيجوز فيه الأوجه الثلاثة، على ما بينا. وإذا قلت: لا غلام ظريفا عاقلا لك؛ فليس في (عاقل) إلا التنوين؛ لما بينا من أنه لا تبنى ثلاثة أشياء فتكون بمنزلة اسم واحد؛ وذلك لأنه خروج عن التعديل بكثرة التركيب، ولا يكون بأقل قليل التركيب خروجا عن التعديل. وتقول: لا غلام فيها ظريفا؛ فلا يجوز إلا التنوين؛ للفصل بالظرف. وحكم التكرير كحكم الصفة عنده، تقول: لا ماء ماء باردا، ولا ماء ماء باردا، فهذا [على] أن المكرر الثاني في اللفظ غير الأول، فلا يجوز في

الصفة على هذا إلا التنوين. وقد يجوز - عندي - أن يكرر الأول بعينه، كقول العرب: ضربت زيدا زيدا، على أن الثاني ليس بتابع الأول، وإنما هو مكرر لم يتعمد الفعل فيه إلى مفعولين. وإنما يصح هذا فيما اتفق فيه اللفظ، والمعنى على أن الثاني هو الأول على معناه، فيصح أن يقدر تقدير الشيء بعينه، فيجوز على هذا: لا ماء ماء بارد. ولو كرره أكثر من مرتين؛ لجاز أيضا: فقال: لا ماء ماء [ماء] بارد؛ جاز وحسن على هذا الوجه.

باب النفي الذي لا تكون الصفة فيه إلا منونة

باب النفي الذي لا تكون الصفة فيه إلا منونة الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي لا تكون الصفة فيه إلا منونة مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي لا تكون الصفة فيه إلا منونة؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا تكون الصفة مع الفصل إلا منونة؟ وما حكم: لا رجل اليوم ظريفا، ولا رجل فيها عاقلا، ولا رجل فيك راغبا؟ . وما نظير ذلك من الفصل بين: خمسة وعشر، إذا قلت: عندي خمسة جياد وعشرة دون ذلك؟ وما حكم: لا ماء سماء لك باردا، ولا مثله عاقلا؟ ولم لا يكون المضاف مع غيره بمنزلة: خمسة عشر؟ .

وما حكم: لا ماء ولا لبن باردا؟ ولم جاز في (بارد) التنوين، وترك التنوين؟ . وما حكم: لا لبن ولا ماء حليبا؟ ولم لا يجوز في (حليب) إلا التنوين؟ .

باب النفي الذي لا تسقط فيه النون لإقحام اللام

باب النفي الذي لا تسقط فيه النون لإقحام اللام الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي لا تسقط فيه النون؛ لإقحام اللام مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي لا تسقط منه النون لإقحام اللام؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا تسقد من صفة المنفي لإقحام اللام في: لك؟ . وما حكم: لا غلامين ظريفين لك، ولا مسلمين صالحين [لك]؟ ولم لا يجوز إقحام اللام في هذا؟ . ولم جاز إقحام اللام مع المنفي، ولم يجز مع صفة المنفي؟ وما نظير ذلك في النداء مع جواز ترخيم المنادى دون صفته، ومن بنائه دون بناء صفته، ومن لحاق الزيادات فيه دون صفته؟ .

ولم قوي التغيير في المنفي، ولم يقو في صفته؟ . الجواب: الذي يجوز في النفي الذي لا تكون الصفة فيه إلا منونة أنه إذا وقع فصل بين المنفي، وبين صفته؛ ثبت التنوين في الصفة؛ لأنه قد امتنع البناء بالفصل، والبناء هو السبب الذي لأجله يذهب التنوين، فإذا بطل السبب؛ بطل موجبه، ولا يجوز أن يحذف التنوين من الصفة مع الفصل أصلا؛ لأنه لا وجه له في غير النفي. وتقول: لا رجل اليوم ظريفا، ولا رجل فيها عاقلا، ولا رجل فيه راغبا، فلابد من تنوين الصفة في هذا الفصل الذي يمنع البناء. ونظير ذلك من الفصل في: خمسة عشر، إذا قلت: خمسة فيها وعشرة، فهذا لا يجوز أن يبني؛ للفصل بين الاسمين بالظرف. وتقول: لا ماء سماء باردا، ولا مثله عاقلا، فليس في صفة المضاف إلا التنوين؛ لأن الإضافة تمنع البناء. وتقول: لا لبن ولا ماء باردا، فإن جعلت (باردا) من صفة اللبن؛ فليس فيه إلا التنوين، وإن جعلته من صفة الماء؛ جاز التنوين، وترك التنوين. فإن قلت: لا لبن ولا ماء حليبا؛ لم يجز إلا التنوين؛ لأن (حليبا) من صفة الأول، لا محالة.

الجواب عن الباب الذي يليه

الجواب عن الباب الذي يليه: الذي يجوز في النفي الذي لا يسقط منه النون لإقحام اللام أن اللام إذا جاءت بعد صفة المنفي؛ لم يذهب النون من الصفة؛ لأن اللام لا تكون مقحمة إلا مع المنفي، دون صفته؛ لأن المنفي هو الذي يقوى فيه التغيير كما يقوى في المنادى، فلا يجوز من صفته ما يجوز فيه مما توجيه قوة التغيير في المنفي، كما أنه في النداء على هذا القياس، فيجوز في المنادى الترخيم، والبناء، ولا يجوز ذلك في صفته، ويجوز فيه لحاق الزيادات من نحو: يا هناه، ويا نومان، ويا زيداه، ولا يجوز مثل ذلك في صفته. وتقول: لا غلامين ظريفين لك، ولا مسلمين صالحين لك، فلا يجوز سقوط النون في هذا؛ لأن اللام لا تكون مقحمة مع غير المنفي، ولا تقحم مع صفته؛ لأنها عارضة في بابه، فلا تقوى قوة اللام في باب النفي؛ وذلك أن المنفي لازم، فالقوة التي تجب له لازمة، وليس كذلك الصفة؛ لأنه لا تجب لها قوة التغيير؛ إذ كانت عارضة، والمطلوب بالإقحام ماله قوة التغيير في النفي.

باب النفي الذي يجري الاسم فيه على الموضع

باب النفي الذي يجري الاسم فيه على الموضع الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي يجري الاسم فيه على الموضع مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي يجري فيه الاسم على الموضع؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يجري الاسم على موضع معرب، ولكن على التأويل فيه؟ وهل ذلك لأن العامل لا يعمل في اللفظ والموضع، فما ظهر الإعراب في لفظه؛ لم يعمل في موضعه عامل؟ . وما الشاهد في قول ذي الرمة: (بها العين والآرام لا عد عندها ... ولا كرع إلا المغارات والربل؟ )

وما تقدير العامل في: إلا المغارات والربل؟ وما الشاهد في قول رجل من مذحج: (هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي - إن كان ذاك - ولا أب) وقول الأسدي: (معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا؟ )

ولم لا يكون (الحديدا) عطفا على (الجبال) وإنما هو عطف على موضع (بالجبال)؟ وهل ذلك لأن (الجبال) ليس له موضع، وإنما الموضع لقوله: بالجبال؟ . وما حكم قول العرب: لا مال له قليل ولا كثير؟ ولم كان على موضع: لا مال، لا على موضع: مال؟ . وما حكم: لا مثله أحد؟ ولم كان على الموضع؟ ولا كزيد أحد؟ وهل هو على موضع (كزيد) أم على موضع: ولا كزيد؟ وهل يجوز النصب بالحمل على (لا)؟ . وما حكم: لا مثله رجل؟ وما تقدير العامل فيه إذا رفع من الكلام المبدل منه، فصار: رجل؟ فكيف يصح هذا؟ وهل ذلك محمول على المعنى، كأنه

قيل: ليس رجل، أو رجل ليس هناك، فيكون (رجل) محمولا على العامل الذي هو الابتداء، وهو الذي عمل في موضع (لا مثله)، إلا أنه إذا رفع؛ فلابد من أن يؤتى بما يدل على النفي، ويستغنى عنه إذا ذكر المبدل منه؟ . وكم وجها يجوز في: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ . ولم جاز: لا مثله رجلا، على: لي مثله غلاما، نصب بالتمييز؛ أي: من الغلمان؟ . وما الشاهد في قول ذي الرمة: (هي الدار إذ مي لأهلك جيرة ... ليالي لا أمثالهن لياليا؟ ) فلم كان نصب (ليال) على التمييز؟ وما دليله من دخول (من) عليه؟ . ولم وجب أن: لا رجل، في موضع اسم مبتدأ؟ وما دليل ذلك من قولهم: لا رجل أفضل منك؟ وما الفرق بينه وبين: (رب رجل) حتى امتنع أن يكون هذا في موضع اسم مبتدأ، وجاز في ذاك؟ . وما الشاهد في قول العرب: بحسبك قول السوء؟ ولم جاز زيادة الباء في

المبتدأ؟ وما نظيره من زيادتها في الفاعل في قولهم: كفى بالله؟ وهل ذلك لتأكيد انعقاد معنى الفاعل بالفعل، ومعنى المبتدأ بالخبر؛ إذ كانت الباء تعقد المعنى بغيره، والإحساب موضع مبالغة وتأكيد؛ لأنه كفاية من كل جهة، والباء مؤكد تشعر بذلك، فهو على طريق النادر؟ . (وما الشاهد في قول جرير: ... لا كالعشية زائرا ومزورا؟ ) ولم لا يكون محمولا على الموضع؟ ولم حمله على المفعول بتقدير: لا أرى كالعشية زائرا ومزورا؟ ولم لا يرفع على الموضع كما يجوز: لا كالعشية عشية، ولا كزيد رجل؟ وما نظير الحذف في هذا من قولهم: ما رأيت كاليوم

رجلا، وسبحان الله رجلا؟ ولم لا يجوز إظهار العامل في هذا؟ وهل ذلك للاستغناء عنه بما صار كالمثل؟ . وما الشاهد في قول امرئ القيس: (ويلمها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب؟ ) ولم كان: (مطلوب) محمولا على الموضع؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

( ....... ... فهل في معد فوق ذلك مرفدا؟ ) فلم حمله على التمييز، كقولك: لا أحد كزيد رجلا، وجوز أن يكون على: لا مال [له] قليلا ولا كثيرا؟ . ولم جاز: لا عليك؟ وما دليل المحذوف؟ وما تقديره من: لا بأس عليك، ولا شيء عليك؟ وهل هو أبلغ من الذكر؟ . الجواب: الذي يجوز في النفي الذي يجري فيه الاسم على الموضع إذا تقدم عاملان: أحدهما يعمل في اللفظ، والآخر يعمل في الموضع؛ صلح حمل الثاني على عامل اللفظ، وعلى عامل الموضع. ولا يجوز أن يجري الاسم على موضع معرب؛ لأن العامل لا يعمل في اسم

واحد عملين مختلفين، فإذا ظهر الإعراب في الاسم؛ فلا موضع له، ولكن قد يكون الموضع له مع ما يتصل به، فيصح أن يحمل على ذلك. فالحمل على الأول يكون على ثلاثة أوجه: حمل على اللفظ، وحمل على الموضع، وحمل على التأويل إذا كان الكلام قد وقع موقع ما يخالف إعرابه إعراب المذكور، إلا أنه يدل عليه؛ جاز أن يحمل الثاني على إعراب المقدر الذي دل عليه المذكور، كقولك: لا أحد فيها إلا عبد الله، فهذا يدل على التأويل؛ لأن تأويل (لا أحد فيها): ليس فيها أحد، فكأنك قلت: ليس فيها أحد إلا عبد الله. وقال ذو الرمة: (بها العين والآرام لا عد عندها ... لا كرع إلا المغارات والربل) فقوله (ولا كرع) عطف على موضع (لا عد)، وقوله: إلا المغارات والربل، [محمول على تأويل (لا عد)؛ لأن تأويله: ليس عد عندها إلا المغارات والربل]. وقال رجل من مذحج: (هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب) فقوله (ولا أب) معطوف على موضع: لا أم.

وقال الأسدي: (معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا) فهذا معطوف أعلى موضع: بالجبال، لا على: الجبال؛ لأن هذا الموقع لا يكون الاسم فيه إلا مجرورا. وتقول: لا مال له قليل ولا كثير، فهذا صفة على الموضع، ويجوز: لا مال له قليلا ولا كثيرا، بالصفة على اللفظ. فإن حملته على البدل؛ لم يجز على الموضع، ولكن على التأويل بتقدير: ليس له مال قليل ولا كثير، حتى يصير بمنزلة: ليس له قليل ولا كثير. وتقول: لا مثله أحد، فإن حملته على البيان الذي يجري مجرى الصفة؛ جاز على الموضع، وإن حملته على البدل؛ لم يجز إلا على التأويل، حتى يصح التقدير فيه، وكذلك: لا كزيد أحد. وتقول: لا مثله رجل، على البيان، وإن حملته على الموضع؛ لم يجز ولكن على تأويل الموضع، كأنك قلت: ليس مثله فيها رجل. وتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيجوز فيه ثلاثة أوجه: النصب بغير تنوين على أن (لا) نافية، ويجوز بالتنوين على أن (لا) مؤكدة، والاسم معطوف على اللفظ، ويجوز الرفع بالعطف على الموضع.

وتقول: لا مثله رجلا، على: لي مثله غلاما، فتجعله تمييزا؛ لأن الأول مبهم، كأنه قال: لي مثله من الغلمان، ويحسن أن يستفهم إذا قال: لي مثله، فيقال: من أي شيء؟ ؛ ليتبين هذا المبهم، فيقول: من الغلمان، أو من الرجال، أو من الفرسان. وقال ذو المرمة: (هي الدار إذ مي لأهلك جيرة ... ليالي لا أمثالهم لياليا) فنصب على التمييز، كأنه قال: لا أمثالهن من الليالي. و(لا رجل) في موضع اسم مبتدأ، ودليله قول العرب: لا رجل أفضل منك، وأنه نقيض: إن رجلا، على الإيجاب، فيقول المجيب: لا رجل. ولس كذلك سبيل: رب رجل؛ لأن (رب) حرف إضافة، وحرف الإضافة لا يكون إلا مبنيا على الفعل العامل فيه. وتقول: بحسبك قول السوء، وتزيد الباء في المبتدأ كما تزاد في الفاعل من قولهم: كفى بالله؛ لأن الإحساب موضع مبالغة وتأكيد؛ لأن كفاية من كل جهة، وهو على طريق النادر لنادر المعنى، وإنما كان تأكيدا للإضافة؛ إذ تحصل إضافة المعنى من وجهين: أحدهما: ما يجب من إضافة الفعل إلى الفاعل؛ لاختصاصه به. والآخر: ما يجب بحرف الإضافة. وكذلك انعقاد المبتدأ بالخبر بحق ماله من هذه الجهة، والآخر من جهة حرف الإضافة، فانعقاد المعنى بغيره في هذا من وجهين: أحدهما: بحق ما يجب للمبتدأ.

والآخر: بحق ما يجب بحرف الإضافة. قال جرير: ( ........ ... لا كالعيشة زائرا ومزورا) فهذا لا يصلح فيه حمل الثاني على الأول على وجه؛ لأنه غيره، ولكن يحمل على حذف القعل بتقدير: لا أرى كالعيشة زائرا ومزورا. ونظيره قول العرب: لا كاليوم رجلا، أي: لا أرى كاليوم رجلا، وكذلك: تالله رجلا، وسبحان الله رجلا، أي: لا أرى كهذا رجلا. ولا يظهر هذا العامل؛ للاستغناء عنه؛ لكثرة الاستعمال لهذا الكلام حتى ظهر المعنى به ظهورا لا تحتاج فيه إلى ذكر العامل؛ ولأنه قد جرى كالمثل، والأمثال لا تغير. ويجوز: لا كالعيشة عيشة، ولا كزيد رجل، بالحمل على الأول؛ لأن الثاني فيه هو الأول.

وقال امرؤ القيس: (ويلمها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب) فـ (مطلوب) صفة على الموضع، ويجوز أن يقع موقع التمييز، كأنه قال: ولا كهذا الذي في الأرض من المطلوبات. وقال جرير: ( ..... ... فهل في معد فوق ذلك مرفدا) فحمله على التمييز، كأنه قال: فهل في معد فوق ذلك من المرافد. وتقول: لا أحد كزيد رجلا، على قولك: من الرجال، ويجوز أن يكون على قوله: لا مال له قليلا ولا كثيرا. وتقول: لا عليك، والمعنى: لا بأس عليك، وإنما جاز هذا الحذف؛ لأنه لا يقال إلا في موضع خوف، فينفي ذلك بهذا القول، وهو أبلغ من الذكر، وأوجز في اللفظ.

باب النفي الذي تلغى فيه (لا) عن العمل

باب النفي الذي تلغى فيه (لا) عن العمل [الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في (لا) الملغاة عن العمل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في (لا) الملغاة عن العمل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ .]. ولم لا يجوز أن تلغى إلا مكررة؟ . وما الفرق بينها معملة وملغاة في المعنى؟ ولم كانت الملغاة هي الجواب لقوله: أغلام عندك أم جارية؟ ومن أين دلت الملغاة على الادعاء في السؤال، ولم تدل المعملة؟ ومن أين دلت المعملة على العموم، ولم تدل على الملغاة؟ . ولم لا يجوز في تفصيل ما أجملته (أي) إلا الألف مع (أم)، حتى جرى الجواب على ذلك الحد؟ . وما تأول: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة: 38]؟ ولم رفع، والمعنى على نفي أعم العام للخوف، والحزن؟ وهل ذلك لأجل العطف بالمعرفة؟ .

ولم لا تعمل (لا) إلا في نكرة؟ . وما الشاهد في قول الراعي: (وما صرمتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل؟ يتلوه - إن شاء الله -: وهل يجوز أن تعمل (لا) عمل: ليس؟ . والحمد لله وحده.

[الجزء السابع والعشرون من شرح كتاب سيبويه. إملاء أبي الحسن علي ين عيسى النحوي. رحمه الله عليه] بسم الله الرحمن الرحيم وبالله التوفيق. وهل يجوز أن تعمل (لا) عمل: ليس؟ ولم ذلك؟ . ولم جاز أن تعمل عمل (ليس) في النكرة دون المعرفة؟ . ولم قل عملها [عن] عمل: ليس؟ وهل ذلك لضعف الشبه؛ إذ هو من جهة النفي فقط، وليس كـ (ما)؟ ؛ إذ هو في (ما) من ثلاثة أوجه: النفي، والحال، وصدر الكلام، فلم تعمل إلا في نكرة؛ لأنه أشبه بعملها إذا جري على الأغلب فيها؟ . وما الشاهد في قول سعد بن مالك: (من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح؟

ولم تأوله على: ليس لنا براح، ولا براح لنا؟ وما تأويل: لا هيثم الليلة للمطي؟ ولم جاز أن تعمل في: (هيثم)، وهو معرفة؟ وهل ذلك لأنه وقع موقع النكرة على تقدير: لا مثل هيثم؟ . ولم جاز: لا بصرة لكم؟ . وما الشاهد في قول ابن الزبير الأسدي:

(أرى الحاجات عند أبي خبيث ... نكدن ولا أمية بالبلاد؟ ) ولم جاز أن تعمل في: أمية، وهي معرفة؟ . ولم جاز: قضية ولا أبا حسن؟ . ولم يوجه في كل هذا وجهان: حذف (مثل)، وتقدير النكرة؟ وما الفرق بينهما؟ وهل ذلك على أنه إذا قدر (مثل)؛ فنفي المثل لا يوجب نفي النفس، وإذا قدر على النكرة؛ فنفي كل ما شارك في الاسم على العموم يوجب نفي النفس؛ ولذلك كان أولى من تقدير: مثل؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (فرطن فلا رد لما بت فانقضى ... ولكن بغوض أن يقال عديم؟ ) وهل هذا على معنى: ليس رد لما بت فانقضى؟

وما الشاهد في قول الشاعر: (بكت حزنا واسترجعت ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها؟ ) ولم كان هذا ضرورة في الشعر؟ . وما حكم (لا) إذا فصلت من الاسم بحشو؟ ولم لا يحسن ذلك إلا مع إعادة: لا؟ . ولم لا تكون مع الفصل بمنزلة: ليس؟ وهل ذلك لعموم النفي مع قلة إجرائها مجرى: ليس؟ . وما تأويل: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}؟ [الصافات: 47].

ولم لا يجوز: لا فيها أحد، إلا على ضعف، وكذلك: لا فيك خير؟ ولم لا تكون في هذا بمنزلة: ليس؟ وهل ذلك لأنها لا تعمل مع الفصل كما لا تعمل مع التعريف، فليس يتوجه إلا على الوجه القبيح؟ . وما [حكم]: لا أحد أفضل منك، ولا أحد خير منك، ولم كان ذلك على الخير دون الصفة على الموضع؟ وهل ذلك لأنه تضعف الصفة على الموضع من جهتين: الحذف، والحمل على الموضع دون اللفظ، فالخبر أولى به؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

(ورد جازرهم حرفا مصرمة ... ولا كريم من الولدان مصبوح؟ ولم كان (مصبوح) على الخبر دون الوصف؟ وهل يجوز: لا أحد أفضل منك؟ ولم جاز ذلك على تقدير: ليس؟ . وهلا جعلت مع ما بعدها كاسم واحد، مع إجرائها على: ليس؟ وهل ذلك لأنه لا وجه لها في البناء على هذه الجهة كما لها إذا كانت جواب: هل من رجل، ولأنه إنما أخرجت إلى: ليس؛ لتخرج عن لزوم أعم العام، فلا يكون الرافع فيها

كالناصب؟ . ولم نقصت عن (ليس) بثلاثة أوجه: امتناع الفصل بينهما وبين اسمها، وامتناع العمل في المعرفة؛ وامتناع العمل إذا خرج الكلام إلى الإيجاب؟ . الجواب: الذي يجوز في: (لا) الملغاة عن العمل أنها، إذا كانت على معنى السؤال: أذا أم ذا؟ وهو السؤال الذي يكرر فيه معنى الاستفهام؛ أن تكرر (لا)، وتلغى عن العمل؛ لتكون على حد ما هي جوابه، فهذا وجه. والوجه الثاني: إذا وقع بينهما وبين الاسم فصل؛ أن تلغى. والوجه الثالث: إذا دخلت على معرفة؛ أن تلغى من العمل من هذه الأوجه الثلاثة؛ لأنها على جهة لا تقتضي لها العمل؛ لأنه لا يصح مع البناء الفصل [كما لا يصح أن يفصل بين بعض الاسم وبعض، ولا يصح - إذا خرجت إلى معنى: ليس - الفصل]؛ لضعف الشبه. ولا يصح في التكرير العمل؛ لأنها جواب ما لا يعمل، فلا يجوز أن

تعمل، كما أنها إذا كانت جواب ما يعمل؛ لزمت العمل. ولا يجوز - إذا ارتفعت النكرة بعدها على إلغائها من العمل - إلا تكرير (لا)؛ لأن هذا الموضع هي التي تكون فيه جواب الاستفهام المكرر، وإن كان لفظ الثاني بـ (أم)، والأول بالألف؛ فكلاهما للاستفهام، إلا أنه خالف لفظة (أم) الألف؛ لتدل على العطف مع الاستفهام، وليس يحتاج في النفي إلى مثل ذلك؛ لأن حرف العطف موجود معه، وليس [له] حرف قد تضمن النفي والعطف في حال كما للاستفهام حرف قد تضمن العطف والاستفهام في حال؛ لأن الاستفهام فرع على الخبر، يحتمل أن يتضمن الحرف فيه ذلك على تقدير حرفين في الأصل، والنفي خبر لا يحتمل ذلك؛ لأنه ليس له ما يقدر به؛ لأنه أول. والملغاة تدل على الادعاء في السؤال؛ لأن السؤال فيها إنما هو تفصيل ما أجملته (أي)، كما أن السؤال بـ (أي) تفصيل ما أجملته (ما)، وجواب

ذلك جزء من السؤال، كقوله: أرجل عندك أم امرأة؟ فجوابه: امرأة، بهذا اللفظ، أو يقول: رجل، بهذا اللفظ. وفي التنزيل: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، فتأويله على العموم في نفي الخوف والحزن، إلا أنه خرج مخرج الخاص؛ من أجل العطف بالمعرفة. وقد يتوجه فيه الخصوص على أن الآخرة مواطن: موطن ينتفي عنهم الخوف والحزن، وموطن لا ينتفي، وكل ذلك قبل دخول الجنة، كما قال جل وعز: {[يوم] يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [سورة الحج: 2]، وعلى ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس يحشرون حفاة عراة غولا، فقالت عائشة: يا رسول الله، أفلا يحتشم المرء من ذلك فقال لها: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ (يُغْنِيهِ)} [سورة عبس: 37]؛ أي: يشغله عن ذلك.

وقد بينا لم لا تعمل (لا) إلا في نكرة، وهو لأنها تعمل على نفي أعم العام، أو شبه (ليس) الذي يضعف عن منزلة: ما. وقال الراعي: (وما صرمتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل) فهذا جواب: أناقة لك في هذا أم جمل؟ فقالت: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. ويجوز أن تعمل (لا) عمل (ليس)، إلا أنها على نقضان خمس مراتب عن مراتب العوامل: امتناع العمل مع تقديم الخبر، وامتناع العمل مع الفصل بالظرف الملغي، وامتناع العمل مع خروج الخبر إلى الإيجاب، وامتناع العمل في المعرفة، وقلة العمل على هذا الوجه في الكلام، وكل ذلك؛ لضعف الشبه عن منزلة: ما. وقال سعد بن مالك: (من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح) فهذا على معنى: ليس براح لنا، كأنه: لا براح لنا، وحذف الخبر ليس على معنى تكرير الاستفهام في: أرجل أم امرأة؟ وما كان على هذه الطريقة، ولا على معنى النفي العام على تقدير جواب: هل من براح؟ ؛ فلهذا توجهت على معنى:

ليس. وقال الشاعر: (لا هيثم الليلة للمطي) ففي هذا وجهان: أحدهما: حذف (مثل)، كأنه قال: لا مثل هيثم، وعامل المعرفة معاملة النكرة؛ لإقامته المضاف إليه مقام المضاف. والوجه الآخر: أن يكون قدر (هيثما) تقدير النكرة، فأجراه على تقدير جماعة كل واحد منهم هيثم، ونفي ذلك. والفرق بينهما في حقيقة معنى اللفظ أن نفي مثله لا يوجب نفيه، وإنما يحتاج إلى دليل يصحبه؛ حتى يظهر به انتفاؤه كانتفاء مثله، وأما نفي كل مسمى بهذا الاسم على مثل هذا المعنى؛ فيدخل فيه نفيه، فهذا أشد مطابفة لمعنى الكلام، وهو الاختيار عندي. ومثله قول الشاعر: (أرى الحاجات عند أبي خبيث ... نكدن ولا أمية بالبلاد) ومثله: لا بصرة لكم، وقضية ولا أبا حسن، وإنما المعنى فيها على - رضوان الله عليه - بعينه، ولكن التقدير يتوجه في جميع ذلك على ما بينا في (هيثم).

وقال الشاعر: (فوطن فلا رد لما بت فانقضى ... ولكن بغوض أن يقال عديم) فهذا على معنى: ليس، والعل فيه كالعلة في: لا براح، إلا أن هذا قد ذكر فيه الخبر. وقال الشاعر: (بكت حزنا واسترجعت ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها) فليس يجوز أن تعمل في مثل هذا الموضع؛ لأن الاسم معرفة، وقد وقع - أيضا - بينه وبين (لا) الفصل، فهو الموضع الذي يقتضي التكرير، إلا أن الشاعر تركه ضرورة، كأنه قال: أن لا إلينا رجوعها، ولا إلى البقعة التي انتقلت عنها. وإذا فصل بين (لا والاسم النكرة بحشو؛ لم يجز إلا تكرير (لا)؛ لأنه الموضع الذي لا تعمل فيه. وفي التنزيل: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [سورة الصافات: 47]، فهذا على النفي العام، إلا أنه خرج مخرج الخاص؛ لأجل العطف بالمعرفة. ولا يجوز: لا فيها أحد، إلا على ضعف؛ لأنه الموضع الذي يقتضي

التكرير، وكذلك: لا فيك خير، وكأنه قال: لا فيك خير ولا شر، كما قال الشاعر: (وأنت مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر) أي: لا يصلح للخير ولا للشر، وهذا أعظم الذم. وتقول: لا أحد أفضل منك، ولا أحد خير منك، على الخبر، لئلا تحمل الكلام على الحذف مع توجه التمام، وعلى الضعف مع توجه القوة، وقال الشاعر: (ورد جازرهم حرفا مصرمة ... ولا كريم من الولدان مصبوح) فهذا مرفوع على الخبر.

ويجوز: لا أحد أفضل منك، على معنى: ليس، ولا يجوز أن تجعل - إذا عملت عمل (ليس) - مع ما بعدها بمنزلة اسم واحد؛ لأنه ليس ليها ما يقتضي ذلك، وقد أخرجت عن البناء مع الاسم إلى وجه الرفع على معنى (ليس)؛ ليختلف اللفظ باختلاف المعنى، فلو كان على البناء؛ لم يكن قد اقتضى اختلاف المعنى حتى تصير بمنزلة (ليس) التي لا تكون مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد كما تكون (من) ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد، وقد بينا لم نقصت عن (ليس) في العمل من خمسة أوجه، وما الأوجه، وما العلة في ذلك.

باب النفي الذي لا يصلح أن يعطف فيه إلا على الموضع

باب النفي الذي لا يصلح أن يعطف فيه إلا على الموضع الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في النفي الذي لا يعطف فيه إلا على الموضع مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي لا يعطف فيه إلا على الموضع؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن تعطف المعرفة في النفي إلا على الموضع؟ . وما حكم: لا غلام لك ولا العباس؟ وما تقديره؟ وهل هو في الحقيقة معطوف على تأويل الأول؛ إذ تأويله: ليس لك غلام ولا العباس، أم هو المعطوف على موضع: لا غلام لك؟ ولم كان الوجه عطفه على الموضع، ولم يجز في البدل مثل ذلك إذا قلت: لا غلام لك إلا عبد الله؟ وهل ذلك لأن البدل على تقدير رفع الأول، وإعمال العامل في الثاني، فإذا كان العامل ينتفي بانتفاء المعمول؛ بطل البدل، وصار محمولا على التأويل؛ إذ تأوبل الكلام: ليس لك غلام إلا عبد الله، فهذا صحيح في التقدير على قولك: ليس لك إلا عبد الله؟ . وهل يلزم من أعمل (لا) في المعرفة، فقال: لا غلام لك ولا العباس، أن

يعمل (رب) في المعرفة، فيقول: رب رجل لك والعباس؛ ولم لزم ذلك؟ . ولم جاز الرفع في (لا) بالحمل على الموضع، ولم يجز في (رب) كما جاز في (لا)؟ فمن أين استويا في ذاك، وافترقا في هذا؟ وهل ذلك لأن (لا) مع ما عملت فيه من موضع ابتداء، وليس كذلك (رب)؛ لأن حرف الجر لا يكون إلا معمول الفعل؟ . وما حكم: لا غلام لك ولا أخوه؟ . وهل يلزم من قال: كل نعجة وسخلتها بدرهم؛ أن يقول: لا رجل لك وأخاه، كأنه قال: لا رجل لك وأخا له؟ ولم لزم هذا؟ .

باب النفي الذي لا تغير فيه (لا) الاسم عن حاله الذي كان عليها

باب النفي الذي لا تغير فيه (لا) الاسم عن حاله الذي كان عليها [الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في (لا) التي لا تغير الاسم عن حاله التي كان عليها] مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في النفي الذي لا تغير فيه (لا) عما كان عليه؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز - إذا دخلت على اسم قد عمل فيه عامل قبل دخولها - أن تغيره عن ذلك الحد؟ وهل ذلك لأنه لا يعمل في الاسم الواحد عاملان في حال، وقد وجب له عمل الأول، فبطل عمل الثاني؟ . ولم لا تعمل (لا) النافية في الفعل؟ وهل ذلك لأنها إنما تعمل بشبه (إن) من حيث هي نقيضتها، و (إن) لا تعمل في الفعل؛ لأنها بمنزلة الفعل، والفعل لا يعمل في الفعل؟ .

ولم لا يلزم في هذا الباب تكرير (لا) كما يلزم في غيره، إذا ألغيت من العمل؟ وهل ذلك لأنها ليست جواب ما يتكرر فيه حرف الاستفهام؟ . وما حكم قولهم: لا مرحبا ولا أهلا، ولا كرامة، ولا مسرة، ولا شللا، ولا سقا ولا رعيا، ولا هنيئا ولا مريئا، فمنها ما هو دعاء له كقولك: لا شللا، أي: لا تشل، ومنها ما هو دعاء عليه؟ . وما حكم: لا سلام عليك؟ ولم رفع هذا، ونصب الأول؟ وهل ذلك لأنه جرى مجراه قبل دخول (لا) من بناء على الفعل، أو على الابتداء؟ . ولم جاز الدهاء بالبناء تارة على الفعل، وتارة على الابتداء؟ وهل الفعل بحق الأصل، والابتداء بحق الشبه لما هو ثابت لازم على طريق التفاؤل، كأن السلام قد ثبت ولزم له، وإن كان فيه معنى الدعاء؟ . وما الشاهد في قول جرير: (ونبئت جوابا وسكنا يسبني ... وعمرو بن عفرى لا سلام على عمرو؟ )

وهل فيه معنى: لا سلم الله عليه؟ . ولم جاز: لا بك السوء، على معنى الدعاء له في: لا ساءك الله؟ وهل ذلك مما خرج مخرج ما هو لمعنى، وهو على خلاف ذلك المعنى؛ لعلة المبالغة بالتفاؤل بنفي السوء عنه، لا محالة؟ . ولم جاز: نعم، وكرامة، ومسرة؛ ونعمة عين؟ وما دليل المحذوف؟ وهل الإجابة دليل على وقوع الفعل، والمصدر دليل على جنس ذلك الفعل، وهو: وأكرمك كرامة، وأسرك مسرة، وأنعمك نعمة عين؟ وهل يجوز في النقيض مثل ذلك في: ولا كرامة، ولا مسرة، ولا نعمة عين؟ . ولم جاز في الدعاء: لا مرحبا ولا أهلا، ولم يجز في الأمر: لا ضربا، أي: لا اضرب؟ وهل ذلك لأن الدعاء يخرج مخرج الخبر، والمعنى معنى الدعاء، كقولك: أدام الله عزك، والأصل: ليدم الله عزك، وليطل الله بقاءك، إلا أنه خرج مخرج الخبر؛ للتفاؤل بأنه واقع، ولا يجوز مثل ذلك في الأمر إلا على طريق النادر؛ لأن ما يسأل الله - جل وعز - فيه فهو في الأمر الكبير الذي تشتد الحاجة إليه في غالب الأمر، فيقضي ذلك التفاؤل له بالواقع، وليس كذلك أمر العباد؛ إذ لا يقدرون على ما يقدر الله عليه من كبير الأمر وصغيره؟ .

ولم جاز: لا سواء، وليس فيه معنى دعاء، ولا جواب سؤال؟ وهل ذلك لأنه جواب الإيجاب على طريق النقيض إذا قال القائل: هما سواء، فقلت: لا سواء، وكذلك لو قال: هذان سواء، فقلت: لا سواء، ولا يجوز إظهار ما ارتفع عليه (سواء)؛ لأن (لا) معاقبة له؛ لتدل على أنها جوابه، فوقوعها موقعة على طريق المعاقبة له دليل على أنها نافية له، وقد قامت مقامه في تتميم الكلام؛ أي: بهذا يتم ويصح، وهو النفي لا الإيجاب؛ فمن أجل هذا جاز: لا سواء، ولا يجز: هذان لا سواء؛ لأنه أبلغ في النفي أن تكون به صحة الكلام من غير أن يحتاج إلى طريق الإيجاب؟ . وما نظير ذلك من قولهم: لا ها الله ذا، فصارت (ها) تقوم مقام الواو في الجر، كما صارت (لا) تقوم مقام المبتدأ في صحة الكلام، ولم يجز أن يجتمعا؛ من أجل ما يقتضي لهما أن يتعاقبا؟ . ولم جازت: لا نولك أن تفعل، من غير معنى الدعاء، ولا الجواب؟ وهل ذلك لأنه صار بدلا من: لا ينبغي لك أن تفعل، يقوم مقامه، ويسد مسده، فجرى مجراه في ترك تكرير: لا؟ . ولم جاز في [لا] النافية أم تقع في حشو الكلام، ولا تمنع العامل الذي قبلها أن يعمل فيما بعدها، ولم يجز مثل ذلك في (ما)؟ وهل ذلك لأنها تنفي معنى

المفرد على طريق النقيض لإيجابه، وليس كذلك (ما)؛ لأنها تنفي معنى الجملة، فلها بذلك صدر الكلام؟ . ولم جاز: أخذته بلا ذنب، وغضبت من لا شيء، وذهبت بلا عتاد؟ وهل ذلك على نقيض: أخذته بذنب، وغضبت من شيء، وذهبت بعتاد؟ . وما الفرق بين: غضبت لا من شيء، وغضبت من لا شيء؟ وهل ذلك أن تقدير: غضبت من لا شيء، تقدير ما قد جعل له ما يغضب منه على التوهم، وليس كذلك الوجه الآخر، كأنه يقدر في نفسه ما يغضب منه على التوهم، وليس بشيء في الحقيقة؟ . وهل يجوز: أجئتنا بلا شيء؛ أي: خاليا من شيء؟ . وهل يجوز: ما كان إلا كل شيء؟ ولم جاز هذا؟ وهل ذلك لأنه قدر على التوهم ما يشبه به هذا به هذا الحقير، وليس بشيء في الحقيقة؟ . وهل يجوز: إنك ولا شيئا سواء؟ وهل هذا الكلام لا يصح إلا على تقدير متوهم ليس بشيء في الحقيقة، وإنما متعلق التوهم شيء في التقدير الذي يسبق إلى النفس؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

(تركتني حين لا مال أعيش به ... وحين جن زمان الناس أو كلبا؟ ) وهل يجوز: حين لا مال أعيش به، بالرفع؟ ولم جاز على: . لا مستصرخ؟ وهل يجوز: حين لا مال أعيش به؟ ولم جاز؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (حنت قلوصي حين لا حين محن)

ولم جاز الإضافة إلى (لا) الناصبة، وهي في موضع ابتداء؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة الإضافة إلى الجمل؟ . وما الشاهد في قول جرير: (ما بال جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين؟ ) ولم حمل (لا) ها هنا على الصلة؟ وهل ذلك لأن المعنى عليه؛ إذ علاه المشيب في ذلك الوقت، كأنه قال: حين حين؟ . فهل يجوز: مررت برجل لا فارس؟ ولم قبح ذلك، حتى تقول: ولا شجاع؟ وكذلك: هذا زيد لا فارسا، ولا شجاعا؟ . وما الشاهد في قول رجل من بني سلول: (أنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا نفع وموتك فاجع؟ )

فلم جاز من غير تكرير (لا) في الضرورة؟ وهل ذلك لأنه قد دل على معنى: حياتك لا نفع ولا ضر؟ . وما الشاهد في قول حسان بن ثابت: (ألا طعان ولا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم عند التنانير؟ ) ولم عملت في الاستفهام كعملها في الخبر، وقالوا في مثل: ألا قماص بالعير؟ .

وما حكم (لا) مع ألف الاستفهام إذا دخله معنى التمني؟ وهل ذلك على منزلتها إذا تجرد الاستفهام فيها؟ فلم جاز: ألا ماء باردا، وألا ماء بارد، وألا أبالي، وألا غلامي [لي]. وما الشاهد في قول الشاعر: (ألا رجلا جزاه الله خيرا ... يدل على محصل تبيت؟ ) ولم حمله الخليل على: ألا ترونني رجلا جزاه الله خيرا، على التحضيض، كما تقول: ألا خيرا من ذلك، وحمله يونس على التمني، ونون مضطرا؟ .

ولم حمل يونس قوله: لا نسب اليوم ولا خلة .... على الاضطرار؟ وهل ذلك لأنه جعل (لا) نظيرة الأولى في أنها النافية كنفي الأولى، لا على معنى المؤكدة الزائدة؟ . وما حكم: ألا ماء وعسلا باردا حلوا؟ ولم لا تجوز الصفة في هذا إلا بالتنوين؟ . وما حكم: ألا غلام أفضل منك؟ ولم لا يجوز في (أفضل) الرفع على الموضع؟ وهل ذلك لأنه دخله معنى التمني على تقدير: اللهم غلاما، أي: هب لي غلاما، فكأنه قال: اللهم اجعله أفضل مني، أي: من هذا المخاطب؟ ولم أجاز أبو عثمان الرفع في هذا، ولم يجز عند يبويه وأبي عمر الجرمي؟ .

الجواب: الذي يجوز في النفي الذي لا يعطف فيه إلا على الموضع إلا كان المعطوف يصلح أن يعمل فيه عامل الموضع، ولا يصلح فيه عامل اللفظ؛ حمل على الموضع، ولم يجز أن يحمل على اللفظ، إذ كان من العوامل ما لا يعمل إلا في النكرة، [ومنها ما يعمل في النكرة والمعرفة، فإذا عطف - وعامل اللفظ لا يعمل إلا في النكرة]، وعامل الموضع يصلح أن يعمل في النكرة والمعرفة - حملت المعرفة على الموضع لا محالة، ولم يجز أن تحمل على عامل اللفظ؛ لا متناعه من المعرفة. وتقول: لا غلام لك ولا العباس، فتعطف على الموضع، ولا يكون هذا العطف محمولا على التأويل الخارج عن حد الموضع؛ لأن المعطوف يعمل فيه العامل وهو في موضعه، من غير أن تقدره في موضع الأول. ولكن لا يصلح في البدل في مثل هذا إلا أن يكون على التأويل، كقولك: لا أحد فيها إلا عبد الله؛ لأن البدل يقدر على رفع الأول، فإذا ارتفع المعمول فيه مع العامل؛ لم يبق شيء يعمل في البدل، ويصير الكلام على تقدير: فيها إلا عبد الله، وهذا فاسد، فإذا لابد من أن يحمل على التأويل؛ إذ تأويله: ليس فيها أحد إلا عبد الله، فإذا رفعت الأول؛ صار: ليس فيها إلا عبد الله، فصح تقدير البدل في هذا.

ويلزم من أعمل (لا) في المعرفة [فقال]: لا غلام لك ولا العباس، إعمال (رب) في المعرفة، فيقول: رب رجل لك والعباس. ولا يلزم من رفع (العباس) بالعطف على موضع (لا) أن يرفعه بالعطف على موضع (رب)؛ إذ كانت (لا) في موضع اسم مبتدأ، وليس كذلك (رب)؛ لأن حروف الجر لابد [من] أن تكون مبنية على الفعل. وتقول: لا غلام لك ولا أخوه. ويلزم من قال: [كل] نعجة وسخلتها بدرهم، أن يقول: لا رجل لك وأخاه، كأنه قال: لا رجل لك وأخا له؛ لأنه يقدر فيهما على الإضافة اللفظية التي المعنى فيها على الانفصال.

الجواب عن الباب الذي يلي هذا: الذي يجوز في النفي الذي لا تغير فيه (لا) الاسم عما كان عليه إذا كان قد عمل في الاسم عامل، ثم دخلت (لا)؛ لتنتفي على حد ذلك العامل؛ وجب فيها الإلغاء وترك التكرير الذي يلزم في غير هذا الموضع؛ لأن الاسم (لما كان قد عمل فيه الفعل أو غيره من العوامل)، ولم يصلح أن يعمل فيه عامل آخر، ألغيت (لا) عن العمل بالرد إلى أصلها، إذ كانت إنما تعمل بحق الشبه، ولم يجز أن يلغى الفعل ولا الابتداء؛ إذ كانت تعمل بحق الأصل. ولم يلزم التكرير كما لا يلزم في الفعل العامل في الاسم قبل دخول (لا)؛ لأنه ليس من جواب ما يجب فيه تكرير حرف الاستفهام. ولم يصلح أن تعمل (لا) في الفعل؛ لأنها مشبهة بـ (إن) و (من) التي لعموم اشتغراق الجنس، فهي كـ (إن) من جهة أنها نقيضتها، والنقيض على حد نقيضه، وهي بمنزلة (من) في استغراق الجنس، وكل واحدة منهما لا تعمل في الفعل؛ لأن

(إن) بمنزلة الفعل، والفعل لا يعمل في الفعل، و (من) من حروف الإضافة، والإضافة لا تكون إلى الفعل في الحقيقة؛ لأن المضاف يذكر للبيان عن المضاف الأول، والفعل للفائدة، ولا إضافة إليه في الحقيقة. وتقول: لا مرحبا ولا أهلا، ولا كرامة، ولا مسرة، ولا شللا، ولا سقيا ولا رعيا، ولا هنيئا ولا مريئا، فكل هذا فيه معنى الدعاء، إلا أن منه ما هو للمذكور كقولك: لا شللا؛ أي: لا تشل، ومنه ما هو عليه. والدعاء إنما يكون في الحقيقة بالفعل، فحال الدعاء قد دلت على الفعل، والمصدر قد دل على جنس الفعل، ونصبه يدل على أنه محمول عليه. وتقول: لا سلام عليك، فإذا نصب المصدر في الدعاء؛ فذاك له بحق الأصل، وإذا رفع؛ فذاك له بحق الشبه لما هو كائن ثابت على طريق التفاؤل، كأن السلام قد ثبت له ولزم، وإن كان في حقيقة المعنى يطلب وقوعه له من الله، جل وعز. وقال جرير: (ونبئت وسكنا يسبني ... وعمرو بن عفرى لا سلام على عمرو) كأنه قال: لا سلم الله عليه

وتقول: لا بك السوء، ففيه معنى: لا ساءك الله. وتقول: نعم، وكرامة، ومسرة، ونعمة عين، فهذا في الإجابة على هذه الحال، كأنه قال: نعم، وأكرمك كرامة، وأسرك مسرة، وأنعمك نعمة عين، ودليل المحذوف الإجابة إلى ما طلب من الفعل، إلا أنه على جهة التقصير. وتقول في الدعاء: لا مرحبا ولا أهلا، ولا يجوز في الأمر: لا ضربا، بمعنى: لا اضرب؛ لأن الأمر له صيغة، وللنهي صيغة، فمنعت صيغة الأمر من دخول (لا)؛ لتخلص لصيغة النهي، فيدل بذلك على أن الأمر غير النهي، وليس كذلك الدعاء؛ لأنه قد يكون بغير صيغة الأمر؛ لما يحتاج فيه إلى التفاؤل بالكائن الثابت، كقولك: أعزك الله، وأطال الله بقاءك، فهذا دعاء، ومخرجه مخرج الخبر عما كان. وتقول: لا سواء، فترفع؛ لأنه على جواب الإيجاب في قولهم: هما سواء، ولا يجوز أن تقول: هذان لا سواء؛ لأن (لا) قد وقعت موقع المبتدأ على طريق المعاقبة، ليدل على أن النفي فيه على الصحة، فلا يجوز إظهار ما ارتفع عليه (سواء)؛ لأن (لا) معاقبة له؛ لتدل على أنها جوابه.

ونظير ذلك قولهم: لا ها الله، فـ (ها) للتنبيه، والواو للقسم، وقد وقع حرف التنبيه موقع حرف القسم على المعاقبة، كما وقعت (لا) موقع المبتدأ في الجواب على طريق المعاقبة. وتقول: لا نولك أن تفعل، فترفع، ولا يلزمك تكير؛ لأنه بمنزلة: ليس ينبغي لك أن تفعل، فكأنه قال: لا ينبغي لك ذاك. وإنما جاز في (لا) النافية أن تقع في حشو الكلام، ولم يجز في (ما)؛ لأن (لا) تدخل على المفرد، و (ما) للجملة. وتقول: أخذته بلا ذنب، وغضبت من لا شيء، وذهبت بلا عتاد، والفرق بينه وبين: غضبت لا من شيء، أنه إذا دخلت (من) على (لا)؛ فهناك مقدر يغضب منه، وليس بشيء في الحقيقة. وإذا أبديت (لا)، فقيل: غضبت لا من شيء؛ فقد تجرد الغضب من شيء في الحقيقة، إذا قلت: لا من شيء. وتقول: أجئتنا بلا شيء، أي: خاليا، ويجوز: أجئتنا لا بشيء، على ما بينا.

وتقول: ما كان إلا كلا شيء، هذا لا يصح إلا بمقدر، كأنك قلت: ما كان إلا كمقدر متوهم ليس بشيء في الحقيقة. وكذلك: إنك ولا شيئا سواء، ولولا التقدير لاستحال هذا المعنى؛ لأن [السواء] لا يكون إلا بين شيئين. وقال الشاعر: (تركتني حين لا مال أعيش فيه ... وحين جن زمان الناس أو كلبا) فهذا على إلقائها في حشو الكلام، ويجوز: حين لا مال أعيش به، على (لا) العاملة، ويجوز: حين لا مال أعيش به، على معنى (ليس). وقال الشاعر: (حنت قلوصي حين لا حين محن) فجاء بها على النافية العاملة، وهي في موضع جملة؛ ولذلك جاز إضافة (حين) إليه؛ لأنه مما يضاف إلى الجملة. وقال جرير: (ما بل جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين)

فهذا على (لا) التي هي صلة، كأنه قال: حين حين؛ لأن الشيب وقع في ذلك الحين. وتقول: مررت برجل لا فارس ولا شجاع، ولا يجوز: لا فارس، حين تصله بمنفى آخر؛ لأنه الموضع الذي يقتضي التكرير. وقال رجل من بني سلول: (أنت امرؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتك لا نفع وموتك فاجع) فهذا على الضرورة، اقتصر على نفي المفرد بالرفع من غير تكرير، وكأنه قدر التكرير على: حياتك لا نفع ولا ضر. وقال حسان: (ألا طعان ولا فتيان عادية ... [إلا تجشؤكم] ..... ) فأجرى الاستفهام على المنفي مجرى الخبر، وقالوا في مثل: ألا قماص بالعير.

وحق (لا) مع ألف الاستفهام - إذا دخله معنى التمني - أن تدرى على مجرد الخبر عن النفي، فتقول: ألا ماء باردا، وألا ماء بارد، وألا أبالي، وألا غلامي لي. وقال الشاعر: (ألا رجلا جزاه الله خيرا ... يدل على محصلة تبيت) فهذا على التحضيض عند الخليل؛ كأنه قال: هلا ترونني رجلا؛ لأن (ألا) قد يكون بمعنى (هلا) في التحضيض، كما تقول: ألا خيرا من ذلك. وأما يونس فحمله على التمني، ونون مضطرا؛ لأن التمني أغلب على هذا الباب. وحمل يونس قوله: (لا نسب اليوم ولا خلة .... ) على الاضطرار؛ لأنه جعل (لا) الثانية نظيرة الأولى، فلزم ذلك. وله وجه يخرجه عن الاضطرار، وهو أن تكون (لا) المؤكدة للنفي، فلا يكون مضطرا؛ لأن دخولها وخروجها - حينئذ - واحد، ويصير بمنزلة قوله:

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه ... وتقول: ألا ماء وعسلا باردا حلوا، فلا يجوز في الصفة إلا التنوين؛ للفصل بينها وبين الموصوف. وتقول: ألا غلام أفضل منك، بالنصب؛ لأنه دخله معنى الدعاء، فصار بمنزلة قولهم: اللهم غلاما؛ أي: هب لي غلاما، فكذلك فيه معنى: اللهم اجعله أفضل منه، فهذا لا يجوز فيه إلا النصب عند سيبويه وأكثر النحويين، إلا المازني فإنه أجاز فيه الرفع؛ لأنه قد يكون اللفظ على مخرج معنى، وهو على خلاف ذلك المعنى في كثير من الكلام، فأجازه على هذا الوجه. والصواب فيه مذهب سيبويه؛ لأنه - وإن كان ما ذكره أبو عثمان على ما ذكر - فإنه لا يقاس عليه، ولا يتجاوز به ما استعمل على طريقة المغير عن أصله، وحقيقته إلى نادر في بابه.

باب الاستثناء

باب الاستثناء الغرض فيه أن يبين ما يجوز في الاستثناء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . وما أصل حروف الاستثناء؟ ولم وجب أن يكون الأصل فيها: إلا؟ . ولم وجب ألا يستثني إلا بحرف في الأصل؟ . وما الذي يجوز أن يستثنى به سوى: إلا؟ وهل ذلك ما كان فيه معنى (إلا) فجائز أن يستثنى به، وما لم يكن فيه معنى (إلا) فلا يجوز أن يستثنى؟ . وما الاستثناء؟ ولم وجب أنه كحروف الجر في التقدير؟ ولم عمل حرف الجر، ولم يعمل حرف الاستثناء، وكلاهما للتعدية؟ وهل ذلك لأن حرف الجر مع أنه للتعدية - هو للإضافة التي يجب لها ضرب من الإعراب في أصل القسمة؟ . ومن أين صار في: غير، وسوى، معنى: إلا؟ وما الوجه الذي يجتمعان فيه؟ ، وما الوجه الذي يفترقان فيه؟ .

ومن أين صار [في]: لا يكون، وليس، وعدا، وخلا معنى: إلا؟ . ومن أين صار في (حاشا) معنى: إلا؟ وهلا كان أصلا في الاستثناء؛ إذ هو حرف فيه معنى الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه يخرج عن معنى الاستثناء، فيرجع إلى أصله من حروف الإضافة، وليس [يجب] لحرف الاستثناء العمل، وإنما هو مسلط للعامل كتسليط حروف الإشراك؟ . ولم وقع الاشتراك في خلا بين الفعل والحرف؟ (وهل ذلك كوقوعه في (على) بين الفعل والحرف)، فإذا تصرف على طريقة: فعل يفعل؛ فهو فعل، وإذا جر الاسم؛ فهو حرف إضافة، على قياس: على؟ .

باب الاستثناء بإلا

باب الاستثناء بإلا الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء بإلا مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء بإلا، وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . وما (إلا) المسلطة؟ وما الملغاة؟ ولم جاز فيها التسليط والإلغاء؟ وهل المسلطة هي الواقعة قي الإيجاب، والملغاة هي الواقعة في النفي على تقدير تفريغ العامل؟ . وما نظير الملغاة من قولهم: لا مرحبا، ولا سلام عليك؟ . ولم كان الإيجاب أحق بالتسليط على العمل؟ وهل ذلك لأنه لا يصلح فيه تفريغ العامل كما يصلح في النفي؟ ولم ذلك؟ . ولم صارت ملغاة في: ما أتاني إلا زيد، وما لقيت إلا زيدا، وما مررت [إلا بزيد]. ولم يجوز في: سار القوم إلا زيدا، تفريغ العامل؟ .

الجواب [عن الباب الأول]: الذي يجوز في الاستثناء من الحروف ما فيه معنى إخراج بعض من كل؛ لأن الاستثناء على هذا المعنى. ولا يجوز أن يكون في الأصل إلا بالحرف؛ لأنه لتعدية الفعل، كما أن حرف الجر للتعدية، وكما أن حرف العطف للتعدية، إلا أن حرف الجر - مع ذلك - عامل؛ لما فيه من معنى الإضافة التي يجب لها ضرب من الإعراب في أصل القسمة. وأصل حروف الاستثناء (إلا)؛ لأنه حرف لازم لمعنى الاستثناء، فأما ما كان من غيره فيه معنى (إلا)؛ فجائز أن يستثنى به، وما ليس فيه معنى (إلا) فلا يجوز أن يستثنى به.

وكل ما يستثنى به سوى (إلا) فهو تفريع عليها، فمن ذلك: غير، وسوى، يجوز أن يستثنى بهما إذا كان فيهما معنى (إلا)، ولا يجوز أن يستثنى بهما إذا خرجا عن ذلك. وإنما دخل (غير) معنى (إلا)؛ لأنها مما يلزمه الإضافة، ويكون الثاني فيه على خلاف معنى الأول، فإذا جرى على كلام قبله يوجب أن الفعل لما بعد (إلا)، وأن الاسم المضاف خارج من ذلك المعنى؛ صار - حينئذ بمنزلة (إلا) في إخراج بعض من كل بإيجاب، أو نفي. وإذا استؤنف الكلام به؛ بطل معنى الاستثناء، كقولك: غير زيد عندي. وكذلك سوى؛ لأنها بمنزلة (غير) فيما ذكرنا، فهذه الأسماء التي جرت مجرى (إلا) في الاستثناء. وأما: ليس، ولا يكون، وخلا، وعدا؛ فهي أفعال يدخلها معنى: إلا، فيستثنى بها، ويخرج عنها بالرجوع إلى أصلها فلا يستثنى بها. وإنما دخلها معنى (إلا) إذا اتصلت بإيجاب [ما] فبلها، ونفت ما بعدها، فصارت كإلا في إيجاب ما قبلها، ونفي ما بعدها، فإذا استؤنف الكلام بها، بطل أن يستثنى بها؛ لأنها قد خرجت عن معنى (إلا)، وكان ذلك لها بحق الأصل فيها.

وحاشا حرف يكون فيه معنى الاستثناء إذا اتصل بإيجاب معنى لما قبله، وتنزيه ما بعده عنه، فصار يدل على الإيجاب والنفي على طريقة: إلا. ولا يجوز أن يكون أصلا في حروف الاستثناء؛ لأنه يجر، وحرف الاستثناء لا يجب له العمل، وقد تقول: حاشا زيد أن يدخل في هذا الأمر القبيح، فيخرج بهذا عن جهة الاستثناء؛ لأنك نفيت عنه الدخول في هذا الأمر فقط، من غير أن توجبه لأحد يكون هو خارجا عنهم، فهذا دليل على أنه ليس بأصل في الاستثناء. والاشتراك في (خلا) بين الفعل والحرف كالاشتراك في (على) بينهما، فإذا تصرف، فقيل: خلا، يخلو؛ فهو بمنزلة: علا، في أنه فعل، وإذا جر الاسم، ولم يتصرف، فقيل: خلا زيد؛ فهو: كعلى زيد، في أنه حرف إضافة يجر، ومعناه فيما دخل عليه.

الجواب عن الباب الذي يليه: الذي يجوز في الاستثناء بإلا إجراؤه على وجهين: التسليط، والإلغاء، فالتسليط في الإيجاب كقولك: سار القوم إلا زيدا، والإلغاء في النفي؛ لأنه يصلح فيه تفريغ العامل لما بعد (إلا) كقولك: ما قام إلا زيدا، وما ضربت إلا زيدا، وما مررت إلا بزيد، فالعامل بمنزلته لو لم تكن (إلا) معه، فهي ملغاة من الإعراب، دخولها مخروجها فيه، إلا أنها لمعناها في إخراج بعض من كل على هذه الجهة، فالمسلطة هي الواقعة في الإيجاب، والملغاة هي الواقعة في النفي على تفريغ العامل. ونظير الملغاة قولهم: لا مرحبا ولا سلام، فهي ملغاة ها هنا من العمل وتسليك العامل، وهي على أصلها في النفي، فكذلك (إلا) هي ملغاة من التسليط، وهي على معناها في الاستثناء. وإنما كان الإيجاب أحق بالتسليط على العمل؛ لأنه لا يصح فيه أعم العام، وإنما يصح فيه الوسائط، وهي على معان كثيرة، إذا تركت؛ لم يدل الفعل على شيء منها. فأما النفي فيصح فيه أعم العام، وهو معنى واحد يدل الفعل المنفي عليه، ولا يعارض هذا أخص الخاص في الإيجاب؛ لأن أخص الخاص لا يستثنى منه. وإنما كانت (إلا) للتعدية في: سار القوم إلا زيدا؛ لأنك لو قلت: سار القوم زيدا؛ لم يكن له معنى، كما لو قلت: مررت بزيدا؛ لم يكن له معنى، فإذا قلت: مررت بزيد؛ صار له معنى، فكذلك إذا قلت: سار القوم إلا زيدا؛ صار له معنى.

باب الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه بدلا من الأول

باب الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه بدلا من الأول الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه بدلا من الأول مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يكون فيه بدلا من الأول؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز البدل إلا من الموجود، دون المقدر؟ . ولم جاز البدل من غير أن يقع الثاني موقع الأول في التقدير؟ وهل ذلك لأنه قد وقع موقعه في المرتبة التي له من العامل؛ إذ لو فرغ العامل؛ لعمل فيه في هذا الموضع، وإن لم يل العامل؟ . وما حكم: ما أتاني أحد إلا زيد، وما رأيت أحدا إلا عمرا، وما مررت بأحد إلا زيد؟ . وما دليل صحة البدل في هذا؟ وهل دليله تفريغ العامل في: ما لقيت إلا زيد،

وما أتاني إلا زيد؟ . وما حكم: ما أتاني القوم إلا عمرو، وما فيها القوم إلا زيد، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررت بالقوم إلا أخيك؟ . ولم جاز في (القوم) ما جاز في (أحد) [مع] أن (أحد) لأعم العام، وليس كذلك القوم؟ وهل ذلك لأن صحة البدل فيهما على قياس واحد، وإن انفصلا من جهة الحذف، فجاز حذف (أحد)، ولم يجز حذف: القوم؟ . وهل يلزم من قال: ما أتاني القوم إلا أباك؛ (لأنه بمنزلة الإيجاب في: أتاني القوم إلا أباك)، أن يقول: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 66]، وأن يرد ما هو مسموع عن أبي عمرو بن العلاء في: [ما] أتاني القوم إلا عبد الله؟ .

وهل يلزمه ألا يجيز: ما أتانب أحد، كما لا يجوز: أتاني أحد؛ إذ قد جعل النفي في هذا على حد الإيجاب؟ . وهل يلزمه، إذا اعتل بأن الأول جمع ينفصل من (أحد)؛ ليس بجمع، فيصلح بدل الاسم الذي ليس بجمع من الاسم الذي ليس بجميع؛ أن يمتنع البدل في: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [سورة النور: 6]، وأن يجوز في: ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيد؛ لأنه ذكر واحدا، فيلزمه هذا الفساد على العلة الفاسدة؟ وما حكم: ما فيهم أحد اتخذت عنده يدا إلا زيد؟ . ولم جاز: ما مررت بأحد يقول ذاك إلا عبد الله؟ ولم يكن إلا جرا على البدل؟ . وما حكم: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا؟ ولم جاز بالنصب والرفع، ولم يجز: ما ضربت أحد يقول ذاك إلا زيدًا، بالرفع؟ .

وما الشاهد في قول عدي بن زيد: (في ليلة لا نرى بها أحد ... يحكى علينا إلا كواكبها؟ ) فلم جاز بالرفع؟ . ولم جاز: ما أظن أحدا يقول ذاك إلا زيدا، بالنصب والرفع، وما علمت أحدا يقول ذلك إلا زيدا، وزيد، بالنصب والرفع؟ . ولم كان الاختيار النصب؟ وهل ذلك لأنه أجرى في قياس النظائر؛ إذ يجوز في كل فعل من (ضربت) ونحوه، ولا يجوز الرفع في مثل هذا إلا في الأفعال التي تلغى؟ . وما نظيره في الحمل على المعنى من قولهم: قد عرفت زيد أبو من هو؟ .

وهل يجوز: ما أظن أحدا فيها إلا زيد؟ ، وهل ذلك بالحمل على التأويل، كأنه قيل: ما فيها إلا زيد فيما أظن؟ . وما حكم: لا أحد منهم اتخذت عنده يدا إلا زيد؟ ، ولم جاز بالجر والرفع على موضع: لا أحد، ولم يجز بالنصب على لفظ: أحد؟ . ولم كان (رأيت) من رؤية العين بمنزلة: ضربت؟ . وما في قولهم: ما رأيته يقول ذاك إلا زيد، وما أظنه يقول ذاك إلا عمرو؟ وهل يدل على أنه اعتمد على القول؛ إذ ليس قبله ما يصلح أن يبدل منه، كأنك قلت: ما أظن هذا الأمر يقوله إلا عمرو، بمنزلة: ما يقوله إلا عمرو؟ . وما حكم: أقل رجل يقول ذاك إلا زيد؟ ولم وجب أنه محمول على التأويل في قولك: ما أحد يقول ذاك إلا زيد؟ ولم يجوز أن يكون بدلا من (أقل) في الحقيقة؟ وهل ذلك لأنه إذا ارتفع من الكلام؛ ارتفع العامل معه، فلم يبق ما يعمل في زيد؟ .

ولم وجب أن: قل رجل يقول ذاك إلا زيد، لا يجوز فيه أن يكون بدلا من الرجل في (قل)، ولكن (قل رجل) في موضع (أقل رجل)، وهو محمول على التأويل؟ . وهل يجري: أقل من، وقل من، مجرى (رجل) في هذا إذا كانت (من) نكرة؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (رب ما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال؟ ) الجواب: الذي يجوز في الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه بدلا من الأول، إذا وقع

في النفي، وكان يصلح تفريغ العامل للثاني؛ أن يبدل الثاني من الأول كأنه قد فرغ له في التقدير. ولا يجوز أن يبدل الثاني من الأول المقدر إذا كان محذوفا؛ لأنه يتبعه بأن يجتذى بالثاني على مثال الأول. ونظير ذلك مقدار يقطع عليه، فإذا حصر؛ صح القطع عليه، وإذا لم يحصر؛ لم يصح أن يقطع عليه، وإن عمل العامل على ما يوافق ذلك المقدار، فإنما يعمله، لا أنه قطع على مقدار من المقادير، وكذلك جميع التوابع. وإنما جاز البدل، وإن لم يقع الثاني موقع الأول الذي يلي العامل؛ لأنه وقع موقعه في تفريغ العامل له في التقدير. وتقول: ما أتاني أحد إلا زيد، وما رأيت أحدا إلا عمرا، وما مررت بأحد إلا زيد، فهذا كله على البدل؛ لأن على تفريغ العامل للثاني كقولك: ما لقيت إلا زيدا، وما أتاني إلا زيد. وتقول: ما أتاني القوم إلا عمرو، وما فيها القوم إلا زيد، وليس فيها القوم إلا أخوك، وما مررت بالقوم إلا أخيك، فيجوز في (القوم) ما جاز في (أحد). وقد خالف في ذلك بعض النحويين المتقدمين، فذهب إلى أن (القوم) يجري

أمرهم في النفي مجرى الإيجاب، وفرق بينهم وبين (أحد) بعلل ثلاث: فمنهم من اعتل في ذلك بأن (أحدا) على معنى أعم العام الذي لو ترك؛ لكان النفي يدل عليه في قولك: ما قام إلا زيد، وليس كذلك (القوم)، فألزمه سيبويه أن ينصب {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [سورة النساء: 66] على هذه العلة التي أوجبت عنده: ما قام إلا زيدا. والعلة الثانية: أنه يصح أن يبدل الاسم الذي ليس بجميع من الاسم الذي ليس بجمع في (أحد)، ولا يصلح في (القوم)، فألزمه على هذا سيبويه ألا يجوز {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [سورة النور: 5]؛ لأن الشهداء جمع هو أعم، والأنفس أخص بمنزلة الواحد من الكل. والعلة الثالثة: أن النفي في (القوم) على حد الإيجاب، على أصل ما يجب في النفي من قولك: ضربت زيدا، وما ضربت زيدا، فألزمه على هذا ألا يجيز: ما قام أحد كما لا يجوز: قام أحد. فإن قال قائل: فما علتكم في جواز البدل من (القوم) في: ما قام القوم إلا زيد؛ قيل له: إنه على قياس البدل في جميع الكلام، إذا كان الثاني هو الأول، أو بعض الأول، كقولك: رأيت قومك ناسا منهم، أو كان المعنى مشتملا عليه، فلما كان زيد بعض القوم، والمعنى مشتمل عليه؛ جاز البدل فيه على قياس غيره من سائر

الأبدال، وجرى في بابه مجر (أحد). وحكى أبو عمرو: ما أتاني القوم إلا عبد الله، فهذا كلام العرب يجرون (القوم) وما أشبهه مجرى (عبد الله)، وقد ذكرنا الشاهد على ذلك من القرآن. وتقول: ما فيهم أحد اتخذت عنده يدا إلا زيد، على البدل من (أحد)، ويجوز إلا زيد، على البدل من الهاء في (عنده)، كأنك قلت: إلا عند زيد. وتقول: ما فيهم خير إلا زيد، إذا كان الخير هو زيد. وتقول: ما مررت بأحد يقول ذاك إلا عبد الله، على البدل من (أحد). وتقول: ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا، بالنصب والرفع، فيجوز هذا في الأفعال التي تلغى من: علمت وأخواتها، ولا يجوز في الأفعال التي لا تلغى، فلا يجوز: ما ضربت أحدا يقول ذاك إلا زيد، بالرفع على البل مما في: يقول؛ لأنه ليس بمنزلة: ما يقول ذاك إلا زيد، كما أنه في (علمت) بهذه المنزلة، كأنك قلت: ما يقوله إلا زيد فيما أعلم.

وكذلك: ما أظن أحدا يقول ذاك إلا زيد؛ لأنه بمنزلة: ما يقول إلا زيد فيما أظن. وقال عدي بن زيد: (في ليلة لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلا كواكبها) فأبدل مما في (يحكي)، كأنه قال: لا يحكي علينا إلا كواكبها فيما نرى. والاختيار النصب؛ لأنه أجرى في قياس النظائر؛ إذ يجوز في كل من: ضربت، ونحوه. ونظيره في الحمل على المعنى: وقد عرفت زيد أبو من هو. وتقول: لا أحد منهم اتخذت عنده يدا إلا زيد، على البدل من الهاء في: عنده، ويجوز الرفع على البدل من موضع: لا أحد، بالحمل على التأويل، ولا يجوز النصب على (أحد)؛ لأن (لا) لا تعمل في معرفة. وقول العرب: ما أظنه يقول ذاك إلا عمرو، يدل على إلغاء الظن أن الاعتماد على القول، كأنه قال: ما يقول ذاك إلا عمرو.

[وتقول: أقل رجل يقول ذاك إلا زيد، كأنك قلت: ما رجل يقول ذاك إلا زيد] وما أحد يقوله إلا عمرو، فهذا محمول على التأويل. وكذلك: قل رجل يقول ذاك إلا زيد، لا يجوز فيه أن يبدل من (رجل)؛ لأن (قل) لا يعمل في الاسم العلم، وإنما هو محمول على التأويل، كأنه قال: ما أحد يقول ذاك إلا زيد، فقد أفصح سيبويه بأن هذا ليس ببدل من (رجل)، وإنما هو محمول على التأويل، وأنه في موضع: أقل رجل، وبمنزلة: ما أحد يقول ذاك إلا زيد. وسبيل (من) سبيل (رجل) إذا كان نكرة، وقال الشاعر: (رب ما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل [العقال]. وعلى ذلك قال الشاعر:

(فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا)

باب الاستثناء الذي يحمل المستثنى فيه على الموضع

باب الاستثناء الذي يحمل المستثنى فيه على الموضع الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يحمل المستثنى فيه على الموضع مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يحمل المستثنى فيه على الموضع؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الحمل على الموضع إلا إذا تقدم عاملان في هذا الباب؟ وما الذي لا يجوز حمله إلا على اللفظ؟ وما الذي لا يجوز إلا على الموضع؟ وما الذي يجوز على كل واحد منهما؟ . وما حكم: ما أتاني من أحد إلا زيد، وما رأيت من أحد إلا زيدا؟ ولم لا يكون مثل هذا إلا على الموضع؟ . وما حكم: ما أنت بشيء إلا لا يعبأ به؟ وكيف يحمل على الموضع في لغة أهل الحجاز بالرفع، والموضع موضع نصب، وقد امتنع الحمل على اللفظ؟ وهل ذلك محمول على التأويل لا على الموضع واللفظ، كقولك: لا أنت بشيء

إلا شيء لا يعبأ به؟ . وما حكم: لست بشيء إلا شيئا لا يعبأ به؟ ولم لا يجوز هذا إلا على الموضع؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (يا ابني لبيني لستما بيد ... إلا يدا ليست لها عضد؟ ) وما حكم: لا أحد فيها إلا عبد الله؟ ولم لا يجوز مثل هذا إلا على تأويل الموضع؟ .

وما حكم: ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد؟ ولم لا يكون هذا إلا على الموضع؟ . وما حكم: لا أحد رأيته إلا زيد؟ ولم لا يكون هذا إلا على تأويل الموضع؟ . ولم استوى الخبر والصفة في: رأيته؟ وهلا حمل على الهاء في: رأيته؟ وهل ذلك لأن المستثنى إنما هو مما وقع حرف النفي عليه؟ . وما حكم: ما فيها إلا زيد، وما علمت أن فيها إلا زيدا؟ . ولم لا يجوز تقديم المستثنى في هذا كقولك: ما إلا زيد فيها، وما علمت أن إلا زيدا فيها؟ وهل ذلك لضعف العامل، مع أن أصل الاستثناء تقديم المستثنى منه وتأخير المستثنى؟ . وهل يجوز: إن أحدا لا يقول ذاك؟ ولم ضعف وقبح؟ وما نظيره في الجواز من قولهم: قد عرفت زيد أبو من هو؟ . وهل يجوز على هذا: إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا، [رأيت أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا]؟ وما الفرق بينه وبين: ما أعلم أن أحد يقول ذاك؟ ولم جاز فيه:

(إلا زيدًا) بالنصب والرفع؟ . ولم لا يجوز الابتداء بحرف الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه يخص ما مخرجه مخرج العموم مما تقدم ذكره، على جهة التقييد له، ولا يكون تقييدا له قبل أن يوجد؟ . الجواب: الذي يجوز في الاستثناء الذي يحمل المستثنى [فيه] على الموضع: إذا تقدم عاملان: أحدهما يعمل في الموضع، والآخر يعمل في اللفظ، وكان المستثنى يصح [حمله] على عامل الموضع في المعنى؛ حمل عليه، وإن كان يصح على عامل اللفظ؛ حمل عليه، وإن صح على الأمرين؛ جاز أن يحمل على كل واحد منهما. ولا يجوز الحمل على الموضع في هذا الباب إلا إذا تقدم عاملان؛ لأنه ليس يذهب [به] إلى الاستثناء من مبنى موضعه رفع أو نصب، كقولك: ما جاءني أولئك إلا زيد، فليس هذا غرض الباب، وإنما هو على ما بينا من حكم عاملين: عامل موضع، وعامل لفظ، إذا جاء الاستثناء بعدهما. والذي يجوز حمله إلا على اللفظ هو الذي لا ينعقد إلا بعامل اللفظ، كقولك: ما جاءني أحد إلا زيد، فهذا لا يكون إلا على اللفظ.

والذي لا يكون إلا على الموضع هو الذي لا ينعقد إلا بعامل الموضع، كقولك: ما أتاني من أحد إلا زيد. والذي يصلح على اللفظ والموضع هو الذي ينعقد بكل واحد منهما، كقولك: ما أحد اتخذت عنده يدا إلا زيد، وإلا زيد، كأنك قلت: إلا عند زيد. وتقول: ما أتاني من أحد إلا زيد، فلا يكون هذا إلا على الموضع؛ لأن (من) التي لاستغراق الجنس لا تدخل على المعرفة، ولا في الواجب. وتقول: ما أنت بشيء إلا شيء لا يعبأ به، فهذا على الموضع في مذهب بني تميم، وأما على مذهب أهل الحجاز؛ فلا يصح على اللفظ، ولا على الموضع؛ لأن (بشيء) في موضع نصب، ولا يحمل مرفوع على منصوب، ولكنه محمول على تأويل الموضع، كأنه قيل: لا أنت شيء إلا شيء يعبأ به. وتقول: لست بشيء إلا شيئا لا يعبأ به، فهذا لا يجوز إلا على الموضع، كأنه قيل: لست شيئا إلا شيئا لا يعبأ به، [ومثله] قول الشاعر:

(يا ابني لبيني لستما بيد ... إلا يدا ليست لها عضد) وتقول: لا أحد فيها إلا عبد الله، فهذا لا يجوز إلا على تأويل الموضع بتقدير عامل آخ، كقولك: ليس أحد فيها إلا عبد الله. وتقول: ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد، فهذا لا يصلح إلا على الموضع، كقولك: ما أتاني لا عبد الله ولا زيد. وتقول: لا أحد رأيته إلا زيد، فهذا على تأويل الموضع، كأنك قلت: ليس أحد رأيته إلا زيد، ولا يصلح حمل المستثنى على الهاء في: رأيته؛ لأنه إن كان خبرا؛ فهو في موضع (منطلق)، إذا قلت: ليس أحد منطلقا إلا زيد، فلا يحمل إلا على الاسم الذي دخل عليه حرف النفي لتخصيصه، وإن جعلت (رأيته) صفة؛ فهو مع الأول بمنزلة اسم واحد، وإنما يخصص الأول. وتقول: ما فيها إلا زيد، وما علمت أن فيها إلا زيدا، ولا يجوز تقديم المستثنى؛ لاجتماع سببين:

أحدهما: ضعف العامل؛ لأنه حرف لا يتصرف. والآخر: ضعف ما قام مقام المستثنى منه عن أن يتقدم عليه المستثنى. فلما اجتمع الضعفان؛ لزم طريقة واحدة، ولم يصلح فيه التقديم والتأخير. وتقول: إنه لا يقول ذلك أحد إلا زيد، فإن تقدمت (أحدا)، فقلت: إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا، قبح؛ لأنك أوقعت (أحدا) في الواجب، وإنما حقها أن تكون في النفي وغير الواجب. ولكن قد أجازوه على ضعفه؛ لأنه داخل في معنى النفي، كما جاز: قد عرفت زيد أبو من هو؛ لأنه داخل في معنى الاستفهام، فكذلك هو داخل في معنى النفي. وتقول: ما أعلم أن أحدا يقول ذاك إلا زيدا، فيجوز مثل هذا؛ لتقديم حرف النفي. ولا يجوز الابتداء بحرف الاستثناء؛ لأنه تقييد ما خرج مخرج العموم، ولا يجوز تقييد شيء لم يوجد بعد؛ فلهذا لا يجوز الابتداء بحرف الاستثناء أصلا. ولكن إذا تقدم كلام قام مقام المستثنى منه، صلح أن يؤتى بحرف

الاستثناء؛ لأنه بمنزلة ما تقدم المستثنى منه، فصلح هذا في مثل: ما لي إلا أباك صديق؛ لأن قولك: ما لي، قد يقوم مقام المستثنى منه، فتقول: ما لي إلا أبوك، كأنك قلت: ما لي أحد إلا أبوك؛ فلهذا صلح التقديم في هذا الموضع، ولم يجز الابتداء بحرف الاستثناء.

باب الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه نصبا في النفي

باب الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه نصبا في النفي الغرض فيه: أن يبين ما يجوز الاستثناء الذي يكون المستثنى فيه نصبا في النفي مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يكون فيه نصبا في النفي؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يحمل على النصب في هذا الباب إلا بعد تمام الكلام؟ وهل ذلك لأنه على طريقة الإيجاب في الإتيان بعد التمام؟ . وما حكم: ما مررت بأحد إلا زيدا، وما أتاني أحد إلا زيدا، وما رأيت أحدا إلا زيدا، ولم وجب النصب في جميع هذا؟ وهل ذلك لأنه إذا بطل البدل، وجاء بعد تمام الكلام؛ صار كالإيجاب في تسليط (إلا) العامل على ما بعدها؟ . ولم شبه بإلا في معنى: لكن؟ وهل ذلك لأن الانقطاع في الاستثناء لا يكون إلا بعد التمام؟ . وما حكم قولهم: إن لفلان - والله - مالا إلا أنه شقي؟ فلم وجب أن يكون

منقطعا، وهو استثناء من موجب؟ وما تقديره إذا رد إلى أصل الاستثناء في إخراج بعض من كل؟ وهل ذلك على تقدير: إن لفلان مالا يوجب السعادة في كل أحد إلا فيه بالشقوة التي هو عليها، أو: إن لفلان مالا يوجب السعادة لكل أحد إلا له لشقائه، أو: إن لفلان مالا يسعد بها كل أحد إلا هو بشقائه، أو: إلا إياه بشقائه، ولولا أن هذا الكلام المذكور يدل على الكلام المقدر لم يصلح أن يقدر به؟ . وما موضع: أنه شقي؟ ولم وجب أنه نصب؟ وما العامل فيه؟ وهل هو محمول على التأويل، كأنه قيل: ماله من ماله شيء إلا الشقاء، أو قيل: إن لفلان - والله - مالا يسعد بمثله كل أحد إلا صاحب الشقاء، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فكان نصبا من هذه الجهة، وكل هذه التقديرات يدل عليها الكلام المذكور إلا أن بعضها أقرب من بعض، وهذا الأخير أقربها؛ لأنه ليس فيه إلا حذف المضاف وصفة المال في قولك: يسعد به كل أحد، والكلام على حاله، والتقدير الآخر على أنه كلام وقع موقع كلام غيره؟ . ولم لا يجوز أن تعمل (إن) في المستثنى؟ وهل ذلك لأن ليس لها معنى تخصيص، فلو قالت: إن المال لفلان إلا درهما؛ لم تكن [إلا] هي العاملة؟ لأن الاستثناء مخصص من المال على معنى الملك، لا على معنى التأكيد؟ .

وما الفرق بين البدل والنصب في: ما جاءني أحد إلا زيدا، في المعنى؟ وهل ذلك يختلف من جهة المعتمد، فهو في البدل على أن معتمد البيان على (زيد) كأنك قلت: ما جاءني إلا زيد، وفي النصب يكون فضلة في الكلام، والمعتمد (أحد) على جهة النفي؟ .

باب الاستثناء المنقطع الذي يحتمل المتصل

باب الاستثناء المنقطع الذي يحتمل المتصل الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء المنقطع الذي يحتمل المتصل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء المنقطع الذي يحتمل المتصل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز فيه المتصل حتى يكون الثاني مما يحمل على الأول، كقولهم: ( ... ... ... تحية بينهم ضرب وجيع) عند أهل الحجاز؟ .

وما حكم: ما فيها أحد إلا حمارا؟ ولم جاز فيه النصب على مذهب أهل الحجاز، والرفع على مذهب بني تميم؟ ولم كان الاختيار النصب؟ وهل ذلك لأن المنقطع لا يأتي إلا بعد تمام الكلام، فأشبه لذلك الإيجاب؟ . وكيف يرجع إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه [نفي] أن يكون بها أحد، أو ما يتبع الأحدين، فكأنه قال: ما بها شيء إلا حمارا، وما بها حيوان إلا حمار، فهذا لا يكون إلا نصبا عند أهل الحجاز، وإنما رفع بنو تميم؛ لأنهم قدروا الأول كأنه لم يذكر؛ للاعتماد على الثاني، وفيه وجهان: إن جعلت الحمار إنسان ذلك الموضع؛ جاز الرفع على المذهبين جميعا، وإن لم تجله كذلك؛ فالنصب على مذهب أهل الحجاز، والرفع على مذهب بني تميم؟ . وما الشاهد في قول أبي ذؤيب الهذلي: (فإن تمس في قبر برهوة ثاويا ... أنيسك أصداء القبور تصيح)

فجعل الأصداء أنيسه كما يجعل الحمار أيس ذلك الموضع؟ . وما نظيره من قولهم: ما لي عتاب السيف، وما أنت إلا سير؟ . وما الشاهد في قول النابغة الذبياني: (يا دار مية بالعلياء فالسند ... ... ... ) ثم قال: ( ... ... .... وما بالربع من أحد) (إلا أوراي لأيا .... .) بالرفع على مذهب بني تميم على كل حال، وعلى تقدير أن الأواري أنيس ذلك الربع، على مذهب أهل الحجاز، وقد أنشد بالنصب على المذهب الآخر؟ .

وما الشاهد في قوله: (وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس؟ ) ولم جاز على وجهين، وكلاهما بدل؟ . وما حكم قولهم: ما له عليه سلطان إلا التكلف؟ وهل يجوز فيه الرفع؟ . وما الشاهد في قوله جل وعز: {مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ}؟ [سورة النساء: 157] (وهل يجوز فيه الرفع؟ وهل تقديره: ما لهم به من عقد يعملون عليه إلا اتباع الظن)؟ .

وما الشاهد في: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا}؟ [سورة يس: 42، 43] وهل فيه معنى: لا نفع لهم إلا رحمة؟ . وما الشاهد في قول النابغة: (حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب) كأنه قال: ولا عقد يعمل عليه إلا حسن ظن؟ . ولم جاز الرفع في جميع ذا على مذهب بني تميم؟ . وما الشاهد في قول ابن الأيهم التغلبي: (ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب؟ ) وهل هو بمنزلة: إلا طعن الكلى؟ ولم نصبه أهل الحجاز؟ .

وما الشاهد في قول الحارث بن عباد: (والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح؟ ) وما تقديره؟ ولم كان على تقدير: إلا مراح الفتى الصبار؟ . وما الشاهد في قوله: (لم يغدها الرسل ولا أيسارها ... إلا طري اللحم واستجزارها)

كأنه قال: لم يغذها غذاء إلا طري اللحم، وقوله: (عشية لا تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم) كأنه قال: لا تغني السلاح إلا النشرفي؟ . وهل يجوز: ما أتاني زيد إلا عمرو؟ ولم جاز؟ وهل تقديره: ما أتاني إلا عمرو، إلا أنه ذكر (زيدا)؛ للبيان عمن لم يأته، كأنه قال: ما أتاني زيد ولا غيره إلا عمرو؟ . وهل يجوز: ما أعانه إخوانكم إلا إخواته؟ وهل هذا على نفي الإخوان وتبعهم؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الاستثناء الذي يحمل على النصب في النفي - إذا كان الاستثناء قد أتى بعد تمام الكلام - النصب؛ لأنه - حينئذ - على طريقة الموجب إذا لم يقدر فيه البدل؛ فإن الاسم الثاني لا يتصل بالأول إلا بإلا، فصار كالموجب في تسليط العامل على ما بعد (إلا) بما لو لم تكن لم يتسلط عليه. ولا يجوز فيه النصب قبل تمام الكلام على طريقة الموجب؛ لأنه - حينئذ - يكون قد فرغ العامل له، فيعمل فيه على أن (إلا) كانت، أو لم تكن، فهو عامل فيه؛ لأنه مفرغ له. وتقول: ما أتاني أحد إلا زيدا، وما مررت بأحد إلا زيدا، وما رأيت أحدا إلا زيدا، فالنصب في جميع هذا على طريقة الموجب؛ لأنه إذا لم يقدر فيه البدل صارت (إلا) هي التي تصل الثاني بالأول، وهو يشبه الاستثناء المنقطع في أنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وأما قولهم: إن لفلان - والله - مالا إلا أنه شقي؛ فموضع: أنه شقي، نصب، والعامل فيه مقدر، كأنه قيل: إن لفلان مالا يسعد به صاحبه إلا صاحب الشقاء الذي قد ذكر، وعلى هذا يرجع إلى أصل الاستثناء في إخراج

بعض من كل. ولا يجوز أن تعمل فيه (إن)؛ لأن (إلا) إنما تخصص على أن تنفي عن الثاني ما وجب للأول، أو توجب له ما انتفى عن الأول، فلما كانت (إن) ليس لها معنى يصح في هذا؛ إذ معناها التوكيد؛ لم يصلح أن يستثنى منها، وإنما استثنى على معنى نفي السعادة بالمال الذي تحصل به لغيره، فهذا معنى الكلام، وليس معناه على نفي التأكيد الذي حصل للمعنى الأول، وله ضروب من التقديرات يدل هذا الكلام عليها، إلا أن أقربها وأحسنها ما ذكرنا. والفرق بين البدل والنصب في: ما جاءني أحد إلا زيدا، أن النصب على أن معتمد البيان (أحد)، والرفع على البدل يكون على أن معتمد البيان (زيد).

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الاستثناء المنقطع المحتمل للمتصل إذا كان الثاني من غير جنس الأول، إلا أنه يصلح أن يحمل عليه؛ ففيه وجهان: النصب على الانقطاع، والبدل على أن الثاني يصلح أن يحمل على الأول على طريق الاتساع؛ للمبالغة في التشبيه، كولهم: ( ... ... ... تحية بينهم ضرب وجيع) وهذا على مذهب أهل الحجاز، فأما بنو تميم فيبدلون على تقدير تفريغ العامل، كأنه لم يذكر الأول؛ لأنه لما جاز أن يترك، ويعتمد على الثاني في تفريغ العامل؛ جاز أن يذكر عمن نفى عنه الفعل بعض ذلك على طريق البيان، يعتمد على الثاني كأنه لم يذكر الأول. ولا يجوز أن يجري على طريقة المتصل حتى يكون الثاني مما يصلح أن يحمل على الأول في مذهب أهل الحجاز، وإن جاز ذلك على مذهب بني تميم. وتقول: ما فيها أحد إلا حمارا. والحمد لله وحده، وصلى على محمد وآله.

الجزء الثامن والعشرون من شرح كتاب سيبويه. إملاء أبي الحسن علي بن عيسى النحوي. رحمة الله عليه. بسم الله الرحمن الرحيم وتقول: ما فيها أحد إلا حمارا، على الاستثناء المنقطع؛ لأن الثاني من غير جنس الأول، فإن جعلته أنيس ذلك المكان على الاتساع؛ قلت: ما فيها أحد إلا حمار. فأما بنو تميم فيرفعون على كل حال، كأن الأول لم يذكر. والاختيار النصب؛ لأنه لما كان لا يأتي إلا بعد تمام الكلام؛ أشبه الاستثناء من موجب. وأما رجوعه إلى أصل الاستثناء؛ فإنه لما كان على نفي الأحدين، وما يتبعهم؛ صار كأنه قال: ما فيها شيء إلا حمارا؛ لأنه جعل كل شيء يكون في الديار يتبع الأحدين في أنه ينتفي عنها بانتفائهم، ولولا ذلك لم يكن للاستثناء معنى على المذهبين جميعا؛ لأن بني تميم وإن قدروه على معنى: ما فيها إلا حمار، فالمستثنى منه مدلول عليه، وإن لم يكن على جهة الحذف. وقال أبو ذؤيب الهذلي:

(فإن تمس في قبر برهوة ثاويا ... أنيسك أصداء القبور تصيح) فحمل الثاني على الأول على الاتساع، ومثله: ما لي عتاب إلا السيف، وما أنت إلا سير. وقال النابغة الذبياني: (يا دار مية بالعلياء فالسند ... ... ... ) ثم قال: ( ... ... ... وما بالربع من أحد) (إلا أواري لأيا .... ... ... ) بالرفع على مذهب بعض بني تميم على كل حال، وأما أهل الحجاز فينصبون على الاستثناء المنقطع بأن الثاني من غير جنس الأول، ويجيزون الرفع على أنه جعل (الأواري) أنيس ذلك الربع، كما قال الآخر: (وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس) وتقول: ما له عليه سلطان إلا التكلف، بالنصب على الاستثناء المنقطع، ويجوز فيه الرفع على أنه سلطانه هو التكلف. وفي التنزيل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [سورة النساء: 157]، كأنه قيل: ما لهم [به] من شيء يعمل عليه إلا الظن.

وفيه: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} [سورة يس: 34]، كأنه قيل: ما لهم شيء ينتفعون به إلا رحمة منا. وقال النابغة: (حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب) كأنه قال: لا شيء يعمل عليه إلا حسن ظن. والرفع في جميع هذا جائز على مذهب بني تميم. وقال ابن الأيهم التغلبي: (ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب) كأنه قال: ليس بيني وبينهم إلا طعن الكلى، وأهل الحجاز ينصبونه على الاستثناء المنقطع. وقال الحارث بن عباد: (والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح) كأنه قال: إلا تخيل الفتى الصبار ومراحه. وقال الشاعر: (لم يغذها الرسل ولا أيسارها ... إلا طري اللحم واستجزارها)

كأنه قال: لم يغذها غذاء إلا طري اللحم. وقال: (عشي لا تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم) كأنه قال: ولا شيء من السلاح إلا المشرفي. وتقول: ما أتاني زيد إلا عمرو، فهذا صحيح على مذهب بني تميم، كأنه قال: ما أتاني إلا عمرو، وذكر زيدا؛ ليبين أنه ممن لم يأته. وكذلك: ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، كأنه قال: ما أعانه إلا إخوانه، وذكر إخوانكم؛ لأنه ممن لم يعنه.

باب الاستثناء المنقطع الذي لا يحتمل المتصل

باب الاستثناء المنقطع الذي لا يحتمل المتصل الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء المنقطع الذي لا يحتمل المتصل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء المنقطع الذي لا يحتمل المتصل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز في هذا الاستثناء المنقطع حمل الثاني على الأول؟ وهل ذلك لأنه غيره مما لم يقرب من شبهه [به] حتى يكون في أعلى مراتب الأشبهه؟ . وما تأويل قوله جل وعز: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [سورة هود: 43]. ولم قدر (إلا) في هذا الباب بلكن؟ . ولم لا يجوز أن يحمل الثاني على الأول؟ وهل ذلك لأن المعصوم ليس هو العاصم، ولا هو أشبه به على ما يقتضي حذف أداة التشبيه؟ ولم جاز أن يستثنى المعصوم من العاصم؟ وهل ذلك لأنه ينتفي بانتفائه؛ لأنه إذا كان لا عاصم؛ فلا معصوم؟ وهل يجيء على ذلك: لا ضارب اليوم إلا من جنى؟ .

وما تأويل: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}؟ [سورة يونس: 98] فلم جاز أن يستثنى قوم يونس من القرية؟ وهل ذلك لأنها في تأويل: فلولا كانت أهل قرية؟ ولم لا يجوز فيه المتصل؟ وهل ذلك لأن قوم يونس لا يحملون على القرية، فيقال: القرية قوم يونس؟ . وما تأويل: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}؟ [سورة هود: 116] ولم حمل على الاستثناء المنقطع؟ وهل ذلك لأنه لم يعتد بالقليل من المفسدين الذين تقدموا الذين لا ينهون عن الفساد؛ وذلك نصب {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [سورة هود: 116] فصار كأنه قد أطلق لفظ النفي؛ ولذلك لم يجز فيه المتصل؟ . وما تأويل قوله جل وعز: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}؟ [سورة الحج: 40] وهل ذلك بمنزلة: الذين أخرجوا من ديارهم بغير سبب إلا أن يقولوا: ربنا الله، كأنه قيل: إلا قولهم ربنا الله؟ ولم لا يحتمل المتصل؟ . وما حكم قولهم: لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاما بسلام؟ وهل هو بمنزلة: لا يكن أمرك معه [في] شيء من الأشياء إلا سلاما بسلام؟ .

وما حكم: ما زاد إلا ما نقص؟ ولم كان منقطعا؟ وهل ذلك لأنه بمعنى: ولكن نقص، ولو كان متصلا؛ لكان على خلاف هذا المعنى، ولوجب: ما زاد شيئا إلا الناقص، كأنه نقص الماء ثم زاد مقدار النفصان، وليس هذا معنى الكلام، وإنما معناه: ما زاد لكن نقص، وكذلك: ما نفع إلا ما ضر، لو حمل على موجب الصيغة؛ لكان: ما نفع إلا الضار، أي: نفع في شيء وضر في شيء، وليس هذا معنى الكلام، وإنما معناه: ما نفع أصلا ولكن ضر؟ . ولم جاز: ما نفع لكن ضر، ولم يجز: ما نفع إلا ضر؟ وهل ذلك لأن (إلا) تقتضي في المنقطع - كما تقتضي في الاستثناء من موجب - أن يكون بعدها اسم مخصص للأول، وإنما يجوز الفعل بعدها إذا كانت ملغاة، كقولك: ما منهم أحد إلا قد قم، وما زيد إلا يضحك؛ فلهذا لم يجز بغير: ما؟ . وما الشاهد في قول النابغة: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب؟ ) وهل حمله على المتصل يوجب أن ما مدحهم به عيب؟ وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ . وهل ذلك لأنه بمنزلة: لا عيب فيهم ولا في شيء من آلتهم إلا

إلا الفلول في السيوف من قراع الكتائب، وليس ذلك بعيب فيهم؟ . وقول النابغة الجعدي: (فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فلا يبقى من المال باقيا؟ ) وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك على معنى: كملت خيراته في نفسه وجميع أموره إلا ذهاب ماله بالجود؟ . وقول الفرزدق: (وما سجنوني غبر أني ابن غالب ... وأني من الأثرين غير الزعائف؟ ) ولم صار هذا الاستثناء منقطعا؟ وهل هو على تقدير: إلا لأني ابن غالب؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: وما سجنوني لأمر يوجب السجن إلا أني ابن غالب، وهذا

لا يجوب السجن، فبهذا كان منقطعا؟ وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لما فيه من معنى: وما سجنوني لأمر من الأمور إلا أني ابن غالب؟ . وقول عنز بن دجاجة: (من كان أشرك في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت) (إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت؟ ) وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لما يدل عليه البيت الأول من: أن حالكم في الإشراك في تفرق فالج كحال ناشرة الذي ضيعتم، فكأنه قيل: ما حالكم في ذلك الإشراك المنكر إلا كحال ناشرة الذي ضيعتم؟ . وقوله: (لولا ابن حارثة الأمير لقد ... أغضيت من شتمي على رغم)

(إلا كمعرض المحسر بكره ... عمدا يسببني على الظلم؟ ) وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك ما يدل عليه الكلام في البيت من: أنه كان يرغم؛ لشتمه إياه لولا الأمير، وما كان يكون في ذاك إلا كمعرض المحسر بكره؟ . الجواب: الذي يجوز في الاستثناء المنقطع الذي لا يحتمل المتصل - إذا كان الثاني غير الأول مما لا يصلح أن يشبه عليه - أن يكون منقعطا، نصبا أبدا. ولا يجوز أن يكون على تقدير المتصل إلا أن يصلح حمله على الأول إما بالحقيقة، وإما بالشبه. وقوله جل ثناؤه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [سورة هود: 43] استثناء

منقطع؛ لأن المعصوم غير العاصم، ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أنه بمنزلة: لا معصوم من أمر الله إلا من رحم؛ لأنه إذا نفى العاصم؛ انتفى المعصوم، كقولك: لا عاصم فهذا يدل على: لا معصوم، فلاستثناء من مدلول الكلام الأول، كأنه قيل: لا معصوم من أمر الله إلا من رحم. ويجوز على ذلك: لا قاتل اليوم إلا من وجب عليه قصاص بقتله. وقوله جل ثناؤه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [سورة يونس: 98]، فهذا منقطع؛ لأن قوم يونس غير القرية، ووجه رجوعه إلى المتصل أنه بمنزلة: فلولا كان أهل قرية آمنوا إلا قوم يونس، ولم يجز في مثل هذا المتصل؛ لأنه

لا يحمل الثاني على الأول. وقوله جل ثناؤه: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [سورة يونس: 116]، فهذا استثناء منقطع؛ لأنه لم يعتد بالقليل في كثير من كان لا ينهي عن الفساد، حتى صح أن يطلق: ما كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد؛ للتغليب بالتكثير؛ ولذلك نصب: {إِلَّا قَلِيلًا} [سورة هود: 116] على الانقطاع، ولم يرفع على البدل من قوله: {أُولُو بَقِيَّةٍ} [سورة هود: 116]. وقوله جل وعز: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [سورة الحج: 40]، فلو حمل على المتصل لم يصلح؛ لأنه بمنزلة: الذي أخرجوا من ديارهم بغير ذنب، فهو منقطع، ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أنه بمنزلة: الذي أخرجوا من ديارهم بغير سبب إلا قولهم: ربنا الله، كأنه قيل: ليس لإخراجهم سب إلا هذا. وقول العرب: لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاما بسلام، كأنه قيل: لا يكن

أمرك من فلان في شيء إلا سلاما بسلام، فهذا وجه الاتصال، (وأما الانقطاع؛ فلأنه لم يذكر ما يستثنى منه: سلام بسلام). وقولهم: ما زاد إلا ما نقص، استثناء منقطع؛ لأنه بمنزلة: ما زاد أصلا لكن نقص، فليس في هذا إخراج بعض من كل، ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أنه بمنزلة: هو على حاله إلا النصان الذي وقع فيه، فهذا وجه الاتصال. وقولهم: ما نفع إلا ما ضر، استثناء منقطع؛ لأن معناه: ما نفع أصلا لكن ضر؛ ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أنه بمنزلة: هو على حاله إلا الضر الذي وقع منه، ولولا (ما) لم يصلح الاستثناء ها هنا، وإن كان يصلح في (لكن)؛ لأن (لكن) حرف عطف، و (إلا) حرف استثناء يقتضي معنى الاسم الذي يخرج بعضا من كل، إلا في الموضع الذي تكون ملغاة. وقال النابغة: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب)

فهذا استثناء منقطع؛ لأن الفلول ليس بعيب فيهم، ووجه الاتصال كأنه قال: ولا عيب في شيء منهم ولا من آلتهم إلا فلول بسيفهم من قراع الكتائب. وقال النابغة الجعدي: (فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فلا يبقى من المال باقيا) فهذا استثناء منقطع، لا يصلح أن يستثنى من كمال خيراته في نفسه إلا على الذم، وليس المعنى على ذلك، وإنما هو: كملت خيراته في نفسه، وجميع أموره إلا المال الذي أتلفه بجوده، فهذا وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء، وهو عيب في المال أن يخرج عن يد الجواد، وليس في الجواد عيب، كما أن كونه في يد الجواد فضيلة للمال، وحصوله في يد البخيل نقيصة للمال. وقال الفرزدق: (وما سجنوني غير أني ابن غالب ... وأني من الأثرين غير الزعائف) فهذا استثناء منقطع؛ لأنه ليس قبله ما يخرج عنه، ووجه رجوعه إلى

المتصل أنه بمنزلة: وما سجنوني لسبب من الأسباب إلا ابن غالب. وقال عنز بن دجاجة: (من كان أشرك في تفرق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت) (إلا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المتنبت) فهذا استثناء منقطع؛ لأنه لم يذكر قبله ما يخرج عن المستثنى، ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أنه بمنزلة: ما كانت حالكم في الإشراك في تفرق فالج إلا كحال ناشرة الذي ضيعتم، فهو محمول على مدلول الكلام الأول [لا] على لفظه، بل هو منقطع من لفظه. وقال: (لولا ابن حارث الأمير لقد ... أغضيت من شتمي على رغم) (إلا كمعرض المحسر بكره ... عمدا يسببني على الظلم) فهو استثناء منقطع؛ لأنه لم يذكر قبله ما يخرج عنه المستثنى، وهو يرجع إلى أصل الاستثناء بمدلول الكلام الذي تقدم؛ إذ هو بمنزلة: ما حالكم في الإغضاء من شتمي على رغم - لولا الأمير - إلا كحال معرض المحسر بكره، فهذا وجه الاتصال.

باب الاستثناء الذي تقع فيه أن بعد إلا

باب الاستثناء الذي تقع فيه أن بعد إلا الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي تقع فيه (أن) بعد (إلا) مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي تقع فيه (أن) بعد (إلا)؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك. ولم لا يجوز أن تقع (أن) بعد (إلا) في الموجب إلا وفيها معنى النفي؟ وهل ذلك لأن الأصل في (إلا) أن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها في الإيجاب والنفي؟ . ولم جاز الاستثناء بـ[لكن]، وليست على معنى إخراج بعض من كل؟ وهل ذلك لأنه يرجع في التأويل إلى إخراج بعض من كل؟ . وما حكم: ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا؟ وهل يرجع في التقدير إلى: ما أتاني شيء إلا قولهم: كذا وكذا؟ . وما موضع (أن) في قولك: ما منعني إلا أن يغضب علي فلان؟ .

وما الشاهد في قول الشاعر: (لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... جمامة في غصون ذات أو قال؟ ) ولم جاز في: (غير) الرفع والنصب؟ وهل النصب على البناء؛ من أجل أنه مبهم أضيف إلى ما أصله البناء؟ ولم جاز بناء مثل هذا، ولم يجز البناء في: مررت بغيرك، ولا: مررت بغير هذا؟ .

وما الشاهد في قول النابغة: على حين عاتبت المشيب .... .

باب الاستثناء من موجب

باب الاستثناء من موجب الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء من موجب، مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء من موجب؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز الاستثناء من موجب إلا بالنصب؟ وهل ذلك لأنه لا يصلح فيه تفريغ العامل لما بعد (إلا) كما يصلح في النفي؟ . ولم وجب أنه مفعول لا يتسلط العامل عليه إلا بإلا؟ . وما الفرق بينه وبين حروف الجر في تسليط العامل على ما بعدها؟ ولم وجب أن تكون مسلطة عاملة، ولم يجب مثل ذلك في: إلا؟ . وما حكم: أتاني القوم بإلا أباك، ومررت بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك؟ وما العامل في: أبيك؟ .

ولم يجوز في الاستثناء من موجب البدل؟ وهل ذلك لأنه لو جاز البدل جاز تفريغ العامل لما بعد (إلا)؛ إذ المبدل منه على تقدير الطرح من الكلام؟ . وما حكم قولهم: ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا؟ [ولم] كان هذا استثناء من موجب، مع دخول حرف النفي في أول الكلام؟ وهل ذلك لأنه بمعنى: قد قالوا ذلك إلا زيدا؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الاستثناء الذي تقع فيه (أن) بعد (إلا) أن يكون على معنى المصدر وتقديره. ولا يجوز أن تكون في الموجب إلا على معنى النفي؛ لأن (إلا) لابد من أن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها في الإيجاب والنفي، كما أن (لكن) بهذه المنزلة، إلا أن (إلا) تختص بإخراج بعض من كل، وليس كذلك (لكن)، ولابد أن يرجع في التأويل إلى أصل الاستثناء من إخراج بعض من كل، وإن اختلفت التقديرات في ذلك. وتقول: ما أتاني إلا أنهم قالوا ذاك، كأنك قلت: ما أتاني شيء إلا قولهم ذاك. وتقول: ما منعني إلا أن يغضب على فلان، كأنك قلت: ما منعني إلا غضب فلان علي. وقال الشاعر: (لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أو قال) فيجوز في (غير) الرفع والنصب. أما الرفع فلأنه فاعل (يمنع)، وأما النصب

فعلى البناء؛ لأنه مبهم أضيف إلى مبني أصله البناء، وعلى ذلك يجري القياس في كل مبهم أضيف إلى مبني أصله البناء. ولا يجوز - إذا أضيف إلى مبني أصله الإعراب - أن يبني، لو قلت: لم يمنع الشرب منها غيرك؛ لم يجز؛ لما بينا من أنه أضيف إلى مبني أصله الإعراب. وعلى ذلك قول النابغة: (على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت: ألما تصح والشيب وازع) فبني (حين)؛ لأنه أضافه إلى مبني أصله البناء، إلا أن الاختيار في مثل هذا البناء؛ لا طراد إضافة أسماء الزمان فيه، فالإضافة بكثرتها فيه تقوى ما تقتضيه، وهي بقلتها في الحرف تضعفه عن هذه المنزلة.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الاستثناء من موجب النصب؛ لأنه مفعول على معنى المستثنى، إلا أن الفعل لا يدل على أنه مستثنى إلا بوسيطة (إلا)، ولو دل بحقيقة معناه؛ لعمل فيه كما يعمل: استثنيت زيدا، وأستثنى زيدا. فلا يجوز الاستثناء من موجب إلا بالنصب؛ لأنه لا يصلح فيه تفريغ العامل لما بعد (إلا)، ولا تكون (إلا) فيه إلا مسلطة للعامل بعد تمام الكلام في التقدير. والفرق بينه وبين حروف الجر - وإن اجتمعا في التسليط - أن حروف الجر عاملة؛ لأنها على معنى الإضافة، والجر في أصل قسمة الموضوع للإضافة، كما أن الرفع للفاعل وما أشبه الفاعل، والنصب للمعول وما أشبه المفعول، فكذلك الجر للمضاف إليه وما أشبهه. ولا يجوز في الاستثناء من موجب البدل؛ لأنه لو جاز البدل؛ جاز تفريغ العامل لما بعد (إلا)، وليس يجوز ذلك في الإيجاب؛ لأنه يضمن الكلام بمدلول لا يدل عليه، وليس كذلك النفي؛ لأنه يدل - إذا أطلق - على أعم العام. وليس يعارض هذا أن الإيجاب - إذا أطلق يدل على أخص الخاص؛ [لأن أخص الخاص] لا يستثنى منه شيء، نحو: زيد، وعمرو، مع أن أخص الخاص

ينقسم قسمة تبطل دلالة الفعل عليه، حتى يكون مستغنى عنه، وليس كذلك: (أحد)؛ لأن الفعل المنفي إذا أطلق في الاستثناء؛ دل عليه دلالة توجب أنه مستغنى عن ذكره، وليس في الإيجاب مثل هذا. وتقول: أتاني القوم إلا أباك، ومررت بالقوم إلا أباك، والقوم فيها إلا أباك، فالعامل فيه معنى الاستقرار الذي الظرف خلف منه، وقد عمل معنى الاستقرار في المعرفة ها هنا. وتقول: ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا، فهذا استثناء من موجب؛ إذ المعنى: قد قالوا كلهم ذاك إلا زيدا.

باب الاستثناء الذي تكون إلا فيه بمنزلة غير في الصفة

باب الاستثناء الذي تكون إلا فيه بمنزلة غير في الصفة الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي تكون (إلا) فيه بمنزلة (غير) في الصفة مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي تكون (إلا) فيه بمنزلة (غير)؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم يجوز [أن تكون بمنزلة: غير] حتى تجري على موصوف؟ وهل ذلك لأنها مدخلة على باب الصفة بالشبه، والوصف لـ (غير) بحق الأصل، ولـ (إلا) بحق الشبه، فلم تقو على أن تقدم مقام الموصوف، وقويت (غير) على ذلك، تقول: ما جاءني غير زيد، فتكون (غير) قد قامت مقام الموصوف، ولا يجوز: ما جاءني إلا زيد، على أن (إلا) قامت مقام الموصوف، ولكن على تفريغ العامل؟ . وما حكم: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، فإلا في هذا صفة بمنزلة: لو كان معنا رجل غير زيد لغلبنا؟ .

ولم لا يجوز: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة الاستثناء من موجب، من غير ذكر المستثنى منه، كقولك: سار إلا زيد، فهذا محال، ولو قلت: سار القوم إلا زيد، جاز على الصفة، ولا يجوز: سار إلا زيد، على الصفة، ولا على الاستثناء؟ . ولم خالف في ذلك أبو العباس، فأجاز: لو كان معنا إلا زيد لهلكنا؟ وهل ذلك لأنه شبه بالنفي، ولا يشبهه؛ لأنه لا يصح فيه أعم العام على الجمل والتفصيل كما يصح في النفي، ويوضح أنه موجب أنه يجيب عنه الجواب بتقدير الإيجاب، كقولك: لو كان زيد ها هنا لسررنا به، فالسرور [جواب] عن معنى موجب في التقدير، لا عن منفي؟ . وما تأويل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}؟ [سورة الأنبياء: 23]، ولم جاز الرفع على الصفة، ولم يجز على البدل؟ وهل ذلك لأنه لو كان على البدل؛ لجاز: لو كان فيهما إلا الله لفسدتا، ولجاز: سار القوم إلا زيد، على البدل؟ .

وهل يجوز النصب في مثل هذا، فتقول: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، ولو سار القوم إلا زيدا لتعذر عليهم الأمر. وما الشاهد في قول ذي الرمة: (أنيخت فألقت بلد فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها؟ ) ولم لا يكون مثل هذا على البدل؟ وهل ذلك لأنه يوجب جواز: قليل بها إلا بغامها، وهذا لا يصح؛ لأنه في الموجب، ولا يكون إلا على الصفة، كأنه قال: قليل بها الأصوات غير بغامها؟ . وما تأويل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}؟ [سورة النساء: 95] (ولم لا يكون على البدل، مع أنه يجوز: لا يستوي غير أولى الضرر) والمجاهدون؟ وهل ذلك لأن الصفة أحق بـ (غير) إذا جرت على موصوف يصح أن تكون صفة له، كما هو في قولك: جاءني زيد الكريم، ولا يصلح فيه البدل مع توجه الصفة، وأنه لهذا الكلام بحق الأصل، فلا وجه للعدول عنه بغير سبب؟ . وما الشاهد في قول لبيد: (وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى غير الجمل؟ )

ولم لا يجوز في هذا أن يكون على البدل الذي يجوز: إلا؟ وهل ذلك لأنه موجب, فلا يكون إلا على الصفة, أو الاستثناء الذي تكون فيه (إلا) مسلطة للعامل؟ . وما الشاهد في قوله: (لوكان غيري-سليمي- اليوم غيره ... وقع الحوادث إلا الصارم الذكر) فما الموصوف بالإ هاهنا؟ ولم كان على أنه صفة لغير, كقولك: لو كان غيري غير الصارم الذكر؛ غيره وقع الحوادث, فغير الثانية صفة للأولى؟ . وهل يجوز في مثل هذا النصب؛ إذ المعنى: لو كان شيء غيري إلا الصارم الذكر؛ غيره وقع الحوادث؟ . وما حكم: ما أتاني أحد إلا زيد؟ ولم جاز على الصفة, والبدل؟ وما الفرق

بينهما في المعنى؟ وهل ذلك لأنه في البدل قد اثبت إتيان زيد, وفي الصفة أبهمه, ولم يثبته, كما أنه في قولك: ما أتاني أحد مثل زيد, لا يوجب أن زيداً قد أتى, ولا أنه لم يأت؟ . وهل يجوز: ما أتاني إلا زيد, على الصفة؟ ولم لا يجوز ذلك؟ وما نظيره من قولهم: أجمعون, في أنه لا يكون تأكيداً إلا تابعاً, كما لا يكون صفةً إلا تابعاً؟ . وما الشاهد في قول عمرو بن معدي كرب: (وكل أخ مفارقه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان)؟ ولم لا يكون الرفع في قوله: الفرقدان, إلا على الصفة؟ وهل ذلك لأنه بعد موجب؟ .

وقول الشامخ: (وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليل صارم أو معارز؟ /36 ب ولم يجوز: إلا الفرقدان, على جهة: إلا أن يكون الفرقدان؟ وهل ذلك لأن الموصول لا يحذف؛ لأنه معتمد البيان الذي تذكر الصلة لأجله, وهي متممة له تتميم الناقص, وليس الموصول كالصفة في هذا؛ لأن الصفة على تقدير التمام, فيصلح أن تقوم الصفة مقام الموصوف, ولا يجوز أن تقوم الصلة مقام الموصول؛ لأنه ناقص يحتاج إلى البيان عنه؟ . الجواب: الذي يجوز في الاستثناء الذي تكون (إلا) فيه بمنزلة (غير) أن يتبع الاسم بعدها ما قبلها في الإعراب كما تتبع الصفة الموصوف. ولا يجوز أن تجري (إلا) مجرى (غير) إذا لم يكن الموصوف مذكوراً؛

لأنها تضعف عن أن تقوم مقام الموصوف؛ لأن الوصف لها بحق الشبه, وهو لـ (غير) بحق الأصل؛ فلذلك جاز: ما جاءني غير زيد, على الصفة, ولم يجز: ما جاءني إلا زيد, على الصفة, ولكن على تفريغ العامل. وتقول: لو كان معنا رجل [إلا زيد لغلبنا] , فإلا - هاهنا - صفة, كأنك قلت: ولو كان معنا رجل غير زيد لغلبنا, ولا يجوز هذا البدل؛ لأنه بعد موجب, لو قلت: لو كان معنا إلا زيد لغلبنا؛ كان فاسدً كفساد: سار إلا زيد؛ لأن الموجب لابد من أن يذكر فيه المستثنى منه. ولكن يجوز: سار القوم إلا زيد, على الصفة, كما قال الشاعر: (وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان) فهذا على الصفة, ولا يجوز فيه البدل, ولا في نظائره؛ لأنه بعد موجب وخالف في ذلك أبو العباس, فأجاز: لو كان معنا إلا زيد لغلبنا, وشبهه بالنفي.

والصواب مذهب سيبويه؛ لأن هذا موجب, والدليل على ذلك الفرق بين: لو كان عندنا زيد لسررنا, فإذا قدر تقدير الإيجاب؛ فحكمه حكم الإيجاب, كما أنه إذا قدر تقدير النفي, كما يصح في القطع على النفي, ويوضح ذلك أن أعلم العام يصح في تقدير النفي, كما يصح في القطع على النفي, ويمتنع في تقدير الإيجاب كما يمتنع في القطع على الإيجاب, فلو قلت: لو لم يكن معنا أحد إلا زيد لغلبنا؛ فأحد - هاهنا - هي التي تقع في النفي, ويجوز فيه: لو لم يكن معنا إلا زيد لغلبنا, على البدل, فأما: لو كان معنا أحد إلا زيد لغلبنا؛ فلا يكون (أحد) - هاهنا- إلا بمعنى: /37 أواحد, ولا يصلح فيه البدل كما لا يصلح في القطع على الإيجاب. وأما قول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] على الصفة, ولا يجوز فيه البدل؛ لأن الذي قبله موجب, ولكن يصلح في مثله الاستثناء بالنصب كالاستثناء موجب, وذلك على قياس: سار القوم إلا زيد,

[على] معنى: سار القوم غير زيد, فإن استثنيت على غير جهة الصفة؛ قلت: سار القوم إلا زيداً. ولا يجوز فيه البدل؛ لا يجوز في الموجب تفريغ العامل, فلا يجوز: سار إلا زيد, لا على الصفة, ولا على الاستثناء. وقال ذو الرمة: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها)) فهذا على الصفة, كأنه قال: غير بغامها, ولا يكون على البدل؛ لأنه بعد موجب. وقول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] على الصفة ولا يحسن فيه البدل؛ لأن الصفة إذا جاءت في موضعها بعد ذكر الموصوف؛ كانت بمعنى الصفة أحق منها بمعنى البدل, كقولك: مررت بزيد العاقل, فلا يحسن في مثل هذا البدل, ولكن قد يجوز غير أولي الضرر, على الاستثناء الذي يجري مجرى الاستثناء من موجب,

والرفع أحسن. وقال لبيد: (وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى غير الجمل) فهذا على الصفة؛ لأنه بعد موجب. وقال الشاعر: (لو كان غيري - سليمي - اليوم غيره ... وقع الحوادث إلا الصارم الذكر) فهذا على الصفة, كأنه قال: لو كان غيري غير الصارم الذكر غيره وقع الذكر غيره وقع الحوادث. تقول: ما أتاني, فيجوز في هذا البدل والصفة؛ لأنه في النفي, وقد ذكر قبله ما يصلح أن يكون موصوفاً, إلا أن الفرق بين الصفة والبدل أن البدل يوجب إثبات الفعل لما بعد (إلا) , والصفة لا توجب ذلك؛ لأنها بمنزلة /37 ب: جاءني مثل زيد.

وتقول: ما أتاني إلا زيد, فلا يجوز هذا على الصفة؛ لأنه لم يذكر قبله موصوف, ونظيره: أجمعون, (في أنه لا يكون) إلا تابعاً, ولا يلي العامل من غير متبوع بينه وبين العامل, فهو نظيره في حكمه, وإن اختلفت العلة فيهما. وقال عمرو بن معدي كرب: (وكل أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان) فهذا على الصفة؛ لأنه بعد موجب. وكذلك قول الشماخ: (وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليل صارم أو معارز) فغير صفة (كل) , ولا يصلح في مثل هذا النصب؛ لأنه لم يأت بعد تمام الكلام في الموجب.

ولا يجوز: (إلا الفرقدان) على: إلا أن يكون الفرقدان؛ لأن (أن) موصلة, ولا يجوز حذف الموصول؛ لأنه معتمد البيان, تتممه الصلة تمام الناقص, فلابد من ذكره إذا كان المعنى عليه.

باب الاستثناء الذي يقدم فيه المستثنى

باب الاستثناء الذي يقدم فيه المستثنى الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يقدم فيه المستثنى مما يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي فيه المستثني؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يقدم المستثنى في أول الكلام كما جاز أن يقدم على المستثنى منه؟ وهل ذلك لأنه تقييد لما دل أول الكلام عليه باقتضائه له, وإن لم يذكر المستثى منه؟ وما حكم: ما فيها إلا إباك أحد, ومالي إلا أباك صديق؟ فلم جاز النصب على الاستثناء بطريقة الموجب, ولم يجز البدل؟ ولم لا يتقدم البدل على المبدل منه؟ وهل ذلك تابع له مقدر به, والمقدر لا يصح إلا بعد حضور والمقدر به, وهلا كان الوجه الرفع في الأول, وجعل (أحد) بلا منه؟ وهل ذلك لايصلح؛ لأنه إنما يستثنى الأخص من الأعم, و (أحد) أعم,

فهو المقدم الذي يستثنى منه؟ ولم صار الوجه الضعيف في التأخر هو القوي الذي لا يجوز غيره في التقديم؟ وما نظير ذلك في تقديم/ 38 أصفة النكرة؟ . وما الشاهد في قول كعب بن مالك: الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر؟ وهلا امتنع التقديم؛ لما يوجب من الحمل على الوجه الضعيف؟ وهل ذلك لأنه يبطل سبب الضعف في التقديم, وهو اقتضاء الإتباع؟ . وهل يبطل الضعف في التقديم, وهو اقضاء الإتباع؟ . وما حكم: ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد, وما مررت بأحد إلا

عمرٍو خير من زيد؟ ولم جاز بالرفع والنصب إذا تأخرت صفة الأول؟ . وما مذهب أبي عثمان في هذا ولم اختار النصب؟ وهل ذلك لأنه فر من أن يوصف مالا يعتد به في الكلام كما لا يعتد بالمبدل منه, فإذا نصب؛ بطل أن يكون لا يعتد به, وحسنت الصفة له؟ وهل يقوى قول سيبويه أن الصفة وقعت موقع المستدرك به بعد ما مضى البدل؟ . وما حكم: من ولي إلا زيد صديقا؟ ولم حمل (صديقاً) على الحال؟ وهل هو على تفريغ العامل لزيد, حتى عمل فيه على جهة الخبر, وجاءت الحال بعد تمام الكلام؟ . وما وجه قول بعضهم: ما مررت بأحد إلا زيداً خير منك, ومالي [أحد]

إلا زيداً صديق؟ وهل ذلك على أن تأخير الصفة بمنزلة تأخير الموصوف؛ إذا الصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد؟ وما وجه قول بعض العرب: مالي إلا أبوك أحد, وما مررت بمثله أحد؟ وهل ذلك على الاستدراك بأحد؟ ولم جاز: مالي إلا أبوك صديقا؟ وهل هو بمنزلة: لي أبوك صديقاً, وبمنزلة: ما مررت بأحد إلا أبيك خيراً منه؟ . وما الشاهد في قول الكحلبة: ( ... ... ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعاً؟ ).

وهل هو على: فيها رجل قائما, ويجوز على قولك: لا أحد فيها إلا زيداً؟ . وهل يجوز: من لي إلا زيد صديق, على أن يكون زيد بدلاً من (من) , ويكون صديق خبر الابتداء؟ وهل يجيء على هذا: ما مررت بأحد إلا زيد خير منك, في أن البدل قبل الوصف بمنزلته قبل الخبر؟ . الجواب: /38 ب الذي يجوز في الاستثناء الذي يقدم فيه المستثنى النصب على طريقة الاستثناء من موجب؛ لأنه كان يجوز فيه وجهان في التأخير: البدل, والنصب على طريقة الاستثناء من موجب, فلما تقدم بطل البدل, وبقي الوجه الاخر. ولا يجوز تقديم الاستثناء في أول الكلام؛ لأنه تقييد لما قبله, ولا يصح التقييد لما لم يوجد.

ولا يعارض هذا تقديمه على المستثنى منه؛ لأن المستثنى منه إذا كان يجوز تركه؛ لدلالة الكلام عليه؛ فتأخيره أجوز, وقد صار الكلام الذي يدل على المستثنى منه بمنزلة ذكره في التقديم. وتقول: ما فيها إلا أباك أحد, ومالي إلا أباك صديق, فتنصب الاستثناء المقدم على طريقة الموجب. ولا يجوز البدل؛ لأنه تابع يحتذي فيه على مثال المقدم, ولا يجوز أن يكون الوجه الرفع على جعل (أحد) بدلاً منه؛ لأن في ذلك استثناء الأعم من الأخص, وفي هذا قلب ما يجب أن يكون عليه؛ إذ (أحد) أعم, فلا يصلح: ما مررت إلا بزيد أحد, على هذا الوجه. وجاز الوجه الضعيف في التأخير؛ قد بطل سبب الضعف, وهو ما يقتضي الإتباع.

ونظير ذلك من تقديم صفة النكرة قول الشاعر: (لمية موحشاً طلل .... ) فهذا على الحال, وقد كانت تضعف في التأخير؛ لاقتضاء النكرة أن تتبعها الصفة النكرة, فلما تقدم؛ بطل سبب الضعف, وصار لا يجوز غير الحال, فالاستثناء المقدم على هذا القياس. وقال كعب بن مالك: (الناس ألب علينا فيك, ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر) فهذا على تقديم الاستثناء. وتقول: مالي إلا أباك صديق, فصديق يجري مجرى أحد في أنه الأعم.

وتقول ما أتاني أحد إلا خير من زيد, وما مررت بأحد إلا عمرو خير من زيد, فسيبويه يجيز في هذا الرفع والنصب على منزلة واحدة, والمازني يختار النصب؛ لأن البدل بمنزلة ما ليس في الكلام, فلا يحسن أن تصفه صفة / 39 أتقوم مقام التوكيد, أو أكثر, وهو - مع ذلك - يجعله بمنزلة مالا يعتد به. ويلزمه على هذا أن يكون [لو] أتى بالصفة في موضعها؛ لكان الوجه النصب أيضا, كقول: ما أتاني أحد خير من زيد إلا أباك. ويقوي مذهب سيبويه أن الصفة تقع موقع الاستدراك بعدما مضى صدر الكلام على البدل, فيحسن هذا, ولا يعترض عليه ما ذكره أبو عثمان. وتقول: من لي إلا زيد صديقاً, على الحال؛ لأن الكلام قد تم في قولك: من لي إلا زيد.

وبعض العرب يقول: ما مررت بأحد إلا زيداً خير منك, ومالي إلا زيداً صديق؛ لأنه إذا أخر الصفة؛ صار بمنزلة تأخير الموصوف؛ إذ الصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد, كما أنه إذا قدم الموصوف؛ صار بمنزلة تقديم الصفة؛ لهذه العلة. فكلا الوجهين جائز. وبعض العرب يقول: مالي إلا أبوك أحد, وما مررت بمثله أحد, فيبدل الأعم من الأخص؛ لأنه جعله في الموضع الذي يستدرك [به] , كأنه أراد أن يقول: مالي إلا أبوك, ثم استدرك بقوله: أحد؛ ليدل على مثل المعنى إذا قال: مالي أحد إلا أبوك. وتقول: مالي إلا أبوك صديقاً, على الحال, بمنزلة: لي أبوك صديقاً, وبمنزلة ما مررت بأحد إلا أبيك خيراً منه. وقال الكحلبة: ( ... .... ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا) فجاء بالحال من نكرة, وقد قيل: إنها من الضمير في:

المعصي, ويجوز أن يكون على الاستثناء, كقولك: لا أحد فيها إلا زيداً. وتقول: من لي إلا زيد صديق, على البدل من (من) , وجعل (صديق) خبر الابتداء, وهو بمنزلة: ما مررت بأحد إلا زيد خير منك, في أن الصفة بعد البدل, كما أن الخبر بعد البدل في الأول.

باب الاستثناء المقدم الذي يعطف عليه

باب الاستثناء المقدم الذي يُعطف عليه الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء المقدم الذي يُعطف عليه مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء المقدم الذي يُعطف عليه؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يُعطف على الاستثناء / 39 ب المقدم بالرفع إلا أن يحمل الكلام على التأويل؟ وهل ذلك لأنه لا يُعطف مرفوع على منصوب إلا على طريق الحمل على التأويل؟ . ولم جاز فيه الوجهان من الحمل على تأويل الأول, والرفع بالابتداء وحذف الخبر؟ . وما حكم: مالي إلا زيداً صديق وعمراً, وعمرو؟ ولم جاز: وزيد؟ وما الفرق بين الرفع على تقدير: وزيد لي, وبين الرفع على تقدير أن الأول كأنه قيل فيه: مالي إلا أبوك وزيد؟ وهل ذلك لأنه في احدهما على خبر واحد, وفي الآخر على خبرين؟ .

ومن الذي أجاز الوجهين في هذا على الاطراد؟ ولم حكاه سيبويه عن يونس والخليل؟ وهل ذلك لما في الرفع من الإشكال, فبين أنه مذهب يونس, والخليل؟ .

باب الاستثناء الذي يكرر فيه المستثنى

باب الاستثناء الذي يُكرر فيه المستثنى الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يُكرر فيه الاستثناء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز الرفع فيهما إذا كان الثاني غير الأول؟ . وما حكم: ما أتاني إلا زيد إلا عمراً؟ ولم جاز رفع الأول ونصب الثاني, ونصب الأول ورفع الثاني, ولم يجز رفعهما جميعاً, ولا نصبهما جميعاً؟ ولم لا يكون الثاني بدلاً من الأول؟ وهل ذلك لأنه غيره مما ليس المعنى مشتملاً عليه؛ وما أتاني أحد إلا زيد؛ ليس زيد فيه غير أحد, ولكنه بعضه, والبعض يبذل من الكل؟ . وما حكم: ما أتاني إلا عمراً إلا بشراً أحد؟ ولم قدر أحدهما على البدل المقدم, ولم يجز مثل ذلك في الآخر؟ وهل وجه نصبه على طريقة الاستثناء من موجب, من غير أن يكون على معنى البدل المقدم؛ لأنه لا يبدل من (أحد) إلا واحد, [لو] قلت: ما أتاني أحد إلا عمرو إلا بشر؛ لم يصلح على البدل في الثاني؛

لأنه إذا وقع البدل بالأول؛ صار بمنزلة ما لم يُذكر, وامتنع أن يبدل منه الثاني فلهذا قدره هذا التقدير؟ . وما الشاهد في قول الكُميت: (فمالي إلا الله رب غيره ... ومالي إلا الله غيرك ناصر)؟ وهل في هذا دليل على أنه بمنزلة المعطوف؟ ولم جاز أن تكون (إلا) بمنزلة حرف العطف في هذا, كأنه قال: مالي إلا الله وإياك ناصر؟ . وما الفرق بين حرف العطف وبين (إلا) في هذا, حتى جاز: ما أتاني إلا زيد وعمرو, لم يجز: ما أتاني إلا زيد إلا عمرو؟ وهل ذلك لن (إلا) توجب أن الثاني فضلة في الكلام كالمفعول, والواو توجب الشركة في فعل الفاعل, و (إلا) تقع موقع الاستدراك الذي يقيد به الكلام مما لو لم يقيد بإلا لم يصح؛ إذ قولك: مالي إلا زيد إلا عمراً أحد, (لو أطلق القول فيه فقيل: مالي إلا زيد أحد)؛ [لا ختل المعنى اختلال ما لم يقيد] , وهو في الواو يختل اختلال ما افرد عن الشركة, وهو عليها؟ .

وما الشاهد في قول حارثة بن بدر الغداني: (يا كعب صبراً على ما كان من مضض ... يا كعب لم يبق منا غير أجساد) (إلا بقيات أنفاس نحشرجها ... كراحل رائح أو باكر غاد؟ ) فلم رفع الأول والثاني؟ ولم جعله سيبويه على تفسير: لم يبق منا مثل أجساد؟ وهل يقع الثاني على البدل من الأول أم على الصفة؟ . وما الشاهد في قول الفرزدق: (ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروان؟ )

وكم وجهاً يجوز في هذا البيت؟ ولم جاز فيه أربعة أوجه: رفعهما جميعاً, [ونصبهما جميعاً] , ورفع الأول ونصب الثاني, ورفع الثاني ونصب الأول؟ . ولم إذا كانت (غير) بمنزلة (إلا) في الاستثناء؛ لم يكن بد من نصب أحدهما؟ ولم حكاه ابن أبي إسحاق؟ (وهل ذلك لأنة موضع إشكال)؟ . (ولم جاز: مالي غير زيد إلا عمرو, ولم يجز: مالي إلا زيد إلا عمرو)؟ . وهل ذلك لأن (إلا) لا تكون صفة بمنزلة: [مثل, إلا أن يذكر قبلها موصوف, وليس كذلك غير؟ . وما حكم: ما أتاني إلا زيد] إلا أبو عبد الله؟ ولم جار رفعهما جميعاً, ولم يجز: ما أتاني إلا زيد إلا عمرو؛ وهل ذلك لأنه إذا كان الثاني هو الأول؛ جرت مجرى التكرير للتوكيد, كقول العرب: رأيت زيداً زيداً؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

(/40 ب مالك من شيخك إلا عمله .... إلا رسيمه وإلا رمله؟ ) فلم رفعهما جميعاً؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الاستثناء المقدم الذي يعطف عليه وجهان: النصب, والرفع. أما النصب؛ فلأنه عطف منصوب على منصوب. وأما الرفع؛ فلأنه حمل على تأويل المرفوع بوجهين: أحدهما: أن الأول في تأويل مرفوع. والآخر: أنه مبتدأ قد دل الكلام الأول على خبره, فيصير بمنزلة خبرين, والأول خبر واحد. ولا يجوز أن يعطف على الاستثناء المقدم بالرفع إلا أن يحمل الكلام على التأويل؛ لأن ما ظهر فيه النصب؛ فليس له موضع يحمل الثاني عليه, ولكنه قد يكون في تأويل كلام آخر يحمل الثاني عليه. وتقول: مالي إلا زيداً صديق وعمراً, وعمرو. أما النصب؛ فلأنه عطف منصوب على منصوب, وأما الرفع؛ فلأنه حمل على التأويل؛ لأن تأويل الأول: مالى صديق إلا زيد. وقياس الرفع حكاه سيبويه عن يونس, والخليل, فبين ذلك؛ لأنه موضوع إشكال.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الاستثناء الذي يكرر فيه المستثنى رفع أحدهما, ونصب الآخر, وإن كانا في معنى الفاعل. ولا يجوز رفعهما جميعاً كما يجوز بالواو؛ (إلا) ليست حرف عطف, وإنما توجب تقييد الكلام بما يصحح المعنى, فهمي بمنزلة المفعول الذي يأتي بعد تمام الكلام في أنه فضلة فيه, والواو توجب الشركة في العامل, ولا يجب بها التقييد لا محالة؛ لأنك لو قلت: سار القوم وزيد, فتركت المعطوف, فقلت: سار القوم؛ لصح الكلام, وليس كذلك (إلا) , لو قلت: سار القوم, والمعنى على: سار القوم إلا زيداً؛ لم يصح؛ لأنك تركت تقييده بما يصحح المعنى. فهذا في (إلا) لازم في كل موضع, وليس كذلك الواو. وتقولك ما أتاني إلا زيد إلا عمراً, وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيداً إلا عمرو. ولا يجوز رفعهما جميعاً؛ لما بينا من أن أحدهما على تقدير المفعول الذي هو فضله في الكلام, ولا يجوز فيه البدل من الأول / 41 أ؛ لأنه غيره مما ليس المعنى مشتملاً عليه. ولا يجوز نصبهما جميعاً؛ لأنه يبقى الفعل من غير فاعل.

ولكن ترفع أيهما شئت, وتنصب الآخر. وتقول: ما أتاني إلا عمراً إلا بشراً أحد, فبشر على تقدير البدل المقدم, وعمرو على [تقدير] الاستثناء من موجب, كأنك قلت: ما أتاني أحد إلا بشر إلا عمراً, ثم قدمت عمراً في هذا الكلام, فصار: ما أتاني إلا عمراً أحد إلا بشر, ثم قدمت بشراً - أيضاً - فصار: ما أتاني إلا عمراً إلا بشراً أحد. ولو قلت: ما أتاني أحد إلا عمرو إلا بشر, على البدل لم يجز في الأول والثاني؛ لأنك إذا أبدلت الأول؛ صار المبدل منه في تقدير المنتفي, فلم يصلح أن يبدل منه بعد ذلك. وقال الكميت: (فمالي إلا الله لا رب غيره ... ومالي إلا [الله] غيرك ناصر)

كأنه قال: إلا الله إلا إياك ناصر, فلا يجوز إلا نصبهما جميعاً على التقدير الذي بينا, وإنما خرجت (إلا) إلى مقاربة معنى الواو في هذا؛ لأنه يقيد بالواو في النفي كما يقيد بـ (إلا). فأما الإيجاب فيختلف حكمها فيه, فيجوز: ما أتاني إلا زيد وعمرو, ولا يجوز: ما أتاني إلا زيد إلا عمرو؛ لأن (إلا) للتقييد في هذا بمنزلة الفضلة في الكلام, ولا توجب شركة. وقال حارثة بن بدر الغداني: (يا كعب صبراً على ما كان من مضض ... يا كعب لم يبق منا غير أجساد) إلا بقيات أنفاس نحشرجها ... كراحل رائح أو باكر غاد)) فرفعهما جميعاً, لو كان موضع غير: إلا؛ لم يجز ذلك؛ لما بينا, ولكن جعل: غير أجساد, في هذا الموضع صفة بمنزلة: مثل أجساد, وأبدل الثاني منه, أو جعله وصفاً له. وقال الفرزدق: (ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروان)

فقد سمع برفعهما جميعاً على هذا الذي بينا من جعل (غير) بمنزلة (مثل) , ومن جعلها بمنزلة (إلا) في الاستثناء؛ لم يكن بد من نصب أحدهما. ويجوز في البيت أربعة أوجه: رفعهما جميعا / 41 ب, ونصبهما جميعاً, ورفع الأول ونصب الثاني, ونصب الأول ورفع الثاني. أما رفعهما جميعاً؛ فقد بينا وجهه. وأما نصبهما جميعاً؛ فعلى طريقة الاستثناء من موجب. وأما رفع الأول ونصب الثاني؛ فعلى أن الأول صفة (دار) , والثاني على الاستثناء بدل من (دار). وتقول: مالي غير زيد إلا عمرو, ولا يجوز: مالي إلا زيد إلا عمرو؛ لأن (إلا) لا تكون صفة إلا أن يتقدم موصوف, وليس كذلك (غير)؛ لأنها يجوز أن تقوم مقام الموصوف مع ترك ذكره.

وتقول: ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله, فترفعهما جميعاً؛ لأن الثاني هو الأول, وهو يجري مجرى التكرير, كأنك قلت: ما جاءني إلا زيد إلا زيد, ومثله قول الشاعر: (مالك من شيخك إلا عمله ... إلا رسيمه وإلا رمله) فرسيمه ورمله هو عمله, فالثاني فيه هو الأول؛ فلذلك جاز رفعهما جميعاً.

باب الاستثناء الذي يبتدأ فيه ما بعد إلا

باب الاستثناء الذي يُبتدأ فيه ما بعد إلا الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يبتدأ فيه ما بعد (إلا) مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يبتدأ فيه ما بعد: إلا؟ [وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يكون الاستثناء يبتدأ فيه ما بعد] (إلا) إلا في النفي, دون الإيجاب؟ وهل ذلك لأنه يدخله معنى أعم العام, ثم يقع الاختصاص, ولأن الاستثناء من موجب بمنزلة مفعول: ضربت, وما جرى مجراه مما لا يكون إلا مفرداً, دون جملة؟ . وما حكم: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه؟ . وما الفرق بين: مررت بقوم زيد خير منهم, وبين: مررت بقوم إلا زيد خير منهم؟ . وما حكم قول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا؟

ولم وجب أن يكون هذا الاستثناء منقطعاً بمعنى: ولكن حل ذلك أن أفعل كذا وكذا؟ /42 أوهل هذا الاستثناء على معنى تحلة اليمين بإيقاع أقل القليل مما يحلف عليه؟ . وما حكم قولهم: والله لا أفعل إلا أن تفعل؟ ولم لا يكون: أن تفعل - هاهنا - على معنى الجملة, وإنما هو استثناء بالمفرد؟ وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: والله لا يقع مني فعل إلا فعل منعقد بفعلك لكذا؟ . وما وجه رجوع: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه, إلى أصل الاستثناء في إخراج بعض من كل؟ وهل وجه ذلك أنه بمنزلة: ما مررت إنسان إلا إنسان زيد خير منه؟ . وما وجه رجوع: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا, إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: والله لأفعلن كذا إلا ما لا يقع منه لتحلة اليمين؟ .

باب الاستثناء بغير

باب الاستثناء بغير الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء بغير مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء بغير؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز وقوع المبتدأ بعد (غير) كما يجوز بعد (إلا)؟ وهل ذلك لأن (غير) لا يضاف [إلا] إلى المفرد على الإضافة الحقيقية؟ . وما حكم: أتاني القوم غير زيد؟ ولم أعرب (غير) بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا) في الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه لما دل على معنى التعدية إليه؛ عمل الفعل فيه, كما أنه لو دل زيد على معنى الاستثناء من غير ذكر (إلا)؛ لجاز: أتاني القوم زيداً, وصار بمنزلة: أتاني القوم زيداً؟ وما الفرق بين: أتاني القوم غير زيد, بالرفع على الصفة, وبينه بالنصب على الاستثناء؟ وهل ذلك أن الرفع لا يوجب أن زيداً لم يجيء؛ بمنزلة: أتاني القوم مثل زيد؟ . وما حكم: ما أتاني غير زيد؟ وما الفرق بينه على الاستثناء, وبينه على الصفة؟ وهل هو في الصفة بمنزلة: ما أتاني مثل زيد, في احتمال أن يكون زيد قد

أتى, واحتمال أن يكون ما أتى؟ . وهل كل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا, فإنه يجوز بغير, إلا أن يقع بعد (إلا) مبتدأ وخبر,.إنما يصلح في المفرد الذي يخرج بعضاً من كل, / 42 ب ولا يجوز أن يكون بمنزلة الاسم المبتدأ بعد (إلا) , لأنه يفسد معنى الجملة؟ . وما معنى: أتاني غير عمرو؟ وهل يصلح في هذا الكلام أن يكون قد أتاه عمرو؟ ولم ذلك, مع دلالته في غالب أمره على أنه لم يأته؟ . وما معنى: ما أتاني غير زيد؟ وهل يحتمل أن يكون على طريق الصفة, ويقوم مقام الاستثناء؟ ولم جاز ذلك؟ وهل لتقارب المعاني؛ لأنها إذ تقاربت تداخلت؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في استثناء الذي يبتدأ فيه ما بعد (إلا) - إذا كان الاستثناء يرجع إلى معنى الجملة في النفي - أن يقع بعد (إلا) مبتدأ وخبر. ولا يجوز ذلك في الإيجاب؛ لأنه بمنزلة مفعول: ضربت, ونحوه في أنه لا يكون مفرداً, وإذا كانت (إلا) فيه لتعديه الفعل على جهة إخراج بعض من كل. وتقول: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه, فهذه الجملة في موضع صفة (أحد) , كأنك قلت: مررت بإنسان زيد خير منه, ثم أدخلت (إلا) لمعنى الاختصاص, فقلت: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه. والفرق بين: مررت بقوم زيد خير منهم, وبين: ما مررت بقوم إلا زيد خير منهم, أن الأول يحتمل أن يكون قد مر بقوم آخرين هم خير من زيد, ولا يحتمله الكلام الثاني. وقول العرب: والله لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا, فهذا الاستثناء منقطع, بمعنى: لكن حل ذلك أن أفعل كذا وكذا, ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أن فيه معنى: ليقعن فعل كذا إلا مالا يقع منه لتحلة اليمين.

وقولهم: والله لا أفعل إلا أن تفعل, فهذا في موضع المصدر, وليس هو من باب الاستثناء بالابتداء والخبر, وإن كان فيه معنى الجملة, ووجه رجوعه إلى أصل الاستثناء أن فيه معنى: والله لا يقع مني فعل إلا فعل منعقد بفعلك. ووجه رجوع: ما مررت بأحد إلا زيد خير منه, إلى أصل الاستثناء أن فيه معنى: ما مررت بإنسان إلا إنسان خير منه.

الجواب / 43 أعن الباب الثاني: الذي يجوز في الاستثناء بغير أن تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا) إذا كان مفرداً. ولا يجوز إذا كان ابتداء وخبراً؛ لأن (غيراً) لا تضاف إلى الجملة, كما لا تضاف: مثل؛ لأنها تقتضي المفرد كما تقتضيه: مثل. وتقول: أتاني القوم غير زيد, فهذا بمنزلة: أتاني القوم إلا زيداً. ووجب الإعراب لغير الذي يكون مستثنى؛ لأنها لما كانت اسماً يدل على تعدي الفعل؛ عمل فيها, كما أنه إذا دل الفعل على التعدية؛ عمل في الاسم, فإن لم يدل المعمول, ولا العامل على التعدية؛ فلابد من وسيطة حرف؛ ولذلك قال سيبويه: لو دل زيد على التعدية بمعنى الاستثناء؛ لجاز: سار القوم زيداً.

فلما كانت (غير) تدل على الاستثناء؛ استغنت عن الحرف, وعمل فيها الفعل. ونظير ذلك مما يدل المعمول فيه على العامل وقوله جل وعز: } [محمد: 4] , أي اضربوا الرقاب, وكذلك: سقياً ورعياً؛ أي: فَضَرْبَ الرِّقَابِ { سقاك ورعاك, والمعمول في هذا يدل على العامل, فكذلك (غير) معمول يدل على تعدية العامل في معنى الاستثناء. والفرق بين: أتاني القوم غير زيد, بالرفع على الصفة, وبينه بالنصب على الاستثناء أن الصفة لا توجب أن زيداً قد أتى, ولا أنه لم يأت؛ لأنه بمنزلة: أتاني القوم مثل زيد. وكذلك: ما أتاني غير زيد, إذا كان على الصفة أو الاستثناء , فالاستغناء يوجب أنه قد أتى زيد, كما يوجبه في: ما أتاني إلا زيد, وليس كذلك الصفة إذا جرت على أصلها, ولكن قد تكفي من الاستثناء. وكل موضع جاز فيه الاستثناء بإلا في المفرد فإنه يجوز بغير, ولا يجوز في الجمل: لما بينا.

وقد تقول أتاني غير زيد, على جهة الصفة, ويكفي من الاستثناء؛ لأنه في غالب الأمر قد جرى على هذا, فإن صحبه دليل؛ جاز أن يرجع إلى موجب الصيغة في الأصل. وإنما جاز مثل هذا؛ لتقارب المعاني, وهي إذا تقاربت تداخلت.

باب الاستثناء الذي يحمل المعطوف فيه على التأويل

باب الاستثناء الذي يحمل المعطوف فيه على التأويل الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي يحمل المعطوف فيه على التأويل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يحمل المعطوف فيه / 43 ب على التأويل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يحمل على موضع المعرب, مع جواز الحمل على تأويله؟ وما حكم: أتاني غير زيد وعمرو؟ ولم جاز فيه الجر, والرفع؟ ولم كان الجر الوجه؟ . وما نظير الرفع من قوله: ( ... ... ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا؟ ) ولم وجب أن يكون على هذا القياس مع أن للأول موضعاً فيه, وليس كذلك سبيل (غير)؛ لأنه لا يقع اسم مفرد في هذا الموضع إلا كان رفعاً؟ . ولم لا يكون الرفع في المعطوف لأنه عطف على (غير)؟ وهل ذلك لأنه يحيل

المعنى, فيصير على معنى: ما أتاني عمرو, بمنزلة: ما أتاني مثل زيد وعمرو؟ . ولم وجب أن تأويل: ما أتاني غير زيد, وهو: ما أتاني إلا زيد؟ . وما في قولهم: ما أتاني غير زيد وإلا عمرو, من الدليل؟ وهل ذلك لأنه لو لم تكن (غير) في معنى (إلا)؛ لم يُعطف عليها بإلا, كما لا يجوز: ما أتاني مثل زيد وإلا عمرو؟ .

باب الاستثناء الذي يحذف فيه المستثنى

باب الاستثناء الذي يحذف فيه المستثنى الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء الذي فيه المستثنى] مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء الذي يحذف [فيه] المستثنى؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز الحذف إلا وقد صحب الكلام دليل يقوم مقام المحذوف في إفهام المعنى؟ . وما حكم قولهم: ليس غير, وليس إلا؟ ولم قدر على: ليس غير ذاك, وليس إلا ذاك؟ . وما دليل المحذوف؟ وهل هو حال تقتضي لزوم أمر لابد منه, فيقال: ليس إلا, في حال اقتضاء لزوم أمر لا ينفك منه, فيفهم معنى الكلام, وكأنه مؤكدا لما قد دلت عليه الحال من أن ذلك الأمر لابد منه؛ ولهذا قدر بليس إلا ذاك؛ لأنه إشارة إلى ما قد دلت الحال عليه؟ .

وهل يجوز: ما منعهما مات حتى رأيته في حال كذا وكذا؟ وما دليل المحذوف فيه؟ وهل هو حال ذكر اثنين, يفصل أحدهما بمن في قوله: ما منهما, فيقتضي: ما منهما أحد إلا بصفة كذا؟ . وما تأويل قوله جل وعز: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159]؟ وهل دليل المحذوف حال ذكر أهل الكتاب مع فصل بعضهم بمن, فيقتضي ذلك: وإن من أهل [الكتاب] أحد إلا / 33 ألَيُؤْمِنَنَّ [به]؟ . وما الشاهد في قول النابغة: (كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن)؟ وما دليل المحذوف؟ وهل هو ذكر جمال قد فصل بعضها بمن؛ ليصفه بالصفة التي ذكر, فاقتضى ذلك: كأنك من جمال بني أقيش جمل يقعقع خلف رجليه بشن؟ .

وما الشاهد في قوله: (لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلها في حسب وميسم؟ وما دليل المحذوف فيه؟ وهل هو ما يقتضيه حرف النفي من الاسم العام إذا أطلق, كما يقتضي في قولك: ما فيها إلا زيد, فيقتضى ليوصف بالصفة التي ذكرت في البيت, فتقديره: لو قلت: ما في قومها لم تيثم أحد يفضلها؟ . وهل يجوز: لو أن زيداً هاهنا؟ ولم جاز على حذف الجواب؟ وما دليله؟ وهل هو حال تفخيم الشأن في خير أو شر؛ ولذلك كان حذف الجواب أبلغ في مثل هذا؟ .

وهل يجوز: ليس أحد؟ وما دليل المحذوف فيه؟ وهل هو حال طلب إنسان هناك, فقيل: ليس أحد, أي: ليس أحد هاهنا؟ . وما الشاهد في قول ابن مقبل: (وما الدهر إلا تارتان فمنها ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح؟ ) وما دليل المحذوف فيه؟ وهل هو حال ذكر تاركتين قد فصلت إحداهما بـ (من) , فاقتضى: إلا تارتان فمنها تارة أموت, ومع ذلك فقوله: وأخرى أبتغي العيش أكدح, دليل على تقدم ذكر (تارة) في التقدير والمفهوم؟ . وهل يجوز: هذا الذي أمس؟ وما دليل المحذوف فيه؟ وهل هو حال فعل له أمس قد اشتهر, فكأنه قيل: هذا الذي فعل أمس؟ .

وما الشاهد في قول العجاج: (بعد التيا والتيا والتي)؟ وما دليل المحذوف فيه؟ وهل [هو] حال حدوث أمور عظام, فكأنه قال: بعد اللتيا حدثت من تلك الأمور؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الاستثناء الذي يحمل المعطوف فيه على التأويل وجهان: أحدهما: الحمل على اللفظ. والآخر: الحمل على معنى كلام يخالف المذكور في الإعراب, ويوافقه في المعنى. ولا يجوز أن يحمل على موضع مفرد معرب؛ لأنه لا موضع له غير ما ظهر في لفظه؛ / 44 ب إذ كان لا يقع موقعه اسم مفرد إلا ظهر فيه مثل ذلك الإعراب وتقول: ما أتاني غير زيد وعمرو, فيجوز في عمرو وجهان: الجر بالعطف على اللفظ, والرفع بالعطف على تأويل الكلام, إذا تأويله: ما أتاني إلا زيد وعمرو, فالجر الوجه؛ لأنه أشكل في اللفظ, مع اتفاق المعنى. فأما قول الشاعر: ( ... ... ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا) فهذا عطف على الموضع؛ لأن موضع (بالجبال) نصب؛ وإذ لو وقع موقعه مفرد معرب؛ لظهر النصب, وإنما الحمل على التأويل مشبه لهذا من جهة أنه حمل على

غير صريح اللفظ, إلا أنه ينفصل من الوجه الذي بينت لك, فلا يجوز أن تعطف على (غير)؛ لأنه ينقلب المعنى, فيوجب أن عمراً لم يأت, كما يوجبه في: ما أتاني مثل زيد ولا عمرو. وقول العرب: ما أتاني غير زيد وإلا عمرو, دليل على أن الأول في معنى الاستثناء, حتى صح أن يعطف بإلا؛ إذ لا يجوز: ما أتاني مثل زيد وإلا عمرو, وما أتاني غلام زيد وإلا عمرو, فهذا يفسد؛ لأنه لم يتقدم معنى الاستثناء.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الاستثناء الذي يحذف فيه المستثنى إذا ظهر دليلٌ يقوم مقام المحذوف في الإفهام؛ جاز حذفه. ولا يجوز إذا لم يكن دليلٌ يقوم مقام المحذوف في الإفهام؛ لأنه لا يعمل على كلامٍ لا يفهم له معنى. وتقول: ليس غير، وليس إلا، وتقديره: ليس غير ذاك، وليس إلا ذاك، ودليل المحذوف حالٌ تقتضي لزوم أمرٍ لابد منه، فيقول القائل: ليس إلا، فيتحقق ذلك الأمر أنه لابد منه، وتكون الحال التي ذكرنا قد قامت مقام المحذوف في: ليس إلا ذاك الذي لابد منه. ومما حذف للدلالة عليه قولهم: ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا وكذا،

فدليله ذكر شيئين قد فصل أحدهما بمن ليوصف بصفٍ خاصةٍ، فاقتضى ذلك: ما منهما أحدٌ مات حتى كان كذا. وفي التنزيل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء: 159]، ودليل المحذوف فصل (من) بعض أهل الكتاب، فاقتضى ذلك: وإن من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمنن به. وقال النابغة: (/45 أكأنَّكَ مِنْ جِمالِ بني أْقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفُ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ) ودليل المحذوف فصل (مِنْ) بعض الجمال؛ ليوصف بالصفة الذي ذكرت، فاقتضى ذلك أن يكون على معنى: كأنك من جِمالِ بني أْقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفُ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ. يتلوه: وقال الشاعر: لو قُلْتَ ما في قومِها لم تِيْثَمِ والحمد لله وحده، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

الجزء التاسع والعشرون من شرح كتاب سيبويه، إملاء أبي الحسن على بن عيسى النحوي. /45 ب بسم الله الرحمن الرحيم، وبالله التوفيق. وقال الشاعر: (لو قُلْتَ ما في قومِها لم تِيْثَمِ ... يَفْضُلُها في حَسَبٍ ومِيْسَمِ) فدليل الحذف حرف النفي الذي يقتضي الاسم العام، مع الصفة التي تقتضي الموصوف، وذلك على قياس: (ما في الدار إلا زيدٌ، في دلالته على (أحدٍ) التي تقوم مقام اللفظ) به، (فتقديره: لو قلت): ما في قومها، لم تِيْثَمِ أحدٌ يَفْضُلُها في حَسَبٍ ومِيْسَمِ. وتقول: لو أن زيداً هاهنا، على حذف الجواب في حال تفخيم الشأن، كما تقول: لو أن علياً بين الصفين، فهذا في تعظيم شأنه في الفتاء، فإذا ذكرت جباناً مشهوراً بالجبن، فقلت: لو كان فلان بين الصفين، لفهم المعنى] أنه [: لكادت نفسه أن تخرج، أو لذهب عقله من جزعه، أو لولى مدبراً لا يلوي على شيءٍ، فهذا في ضد تلك الحال.

وتقول: ليس أحدٌ، فدليل المحذوف حال طلب إنسانٍ هناك، فكأنه قيل: ليس أحدٌ هاهنا. وقال ابن مقبلٍ: (وما الدَّهْرُ إِلا تارَتانِ فمِنْهما ... أَمُوتُ وأُخرى أَبْتَغي العَيْشَ أكْدَحُ) ودليل المحذوف ذكر تارتين، ] ثم [فصلهما بمن؛ ليوصف المفصول، فاقتضى ذلك: فمنهما تارةٌ أموت، وبين ذلك بقوله: وأخرى. وتقول: هذا الذي أمس، ودليل المحذوف اشتهار إنسانٍ بفعلٍ، فكأنك قلت: هذا الذي فعل أمس. وقال العجاج: بَعْدَ اللَّتَيّا واللَّتَيّا والَّتي فحذف الصلة، ودليل المحذوف حدوث أمور عظامٍ، فكأنه قال: بَعْدَ اللَّتَيّا حدثت من الأمور العظام، وأوضح ذلك بالتكرير للتأكيد؛ لأنه لا يؤكد إلا ما عظم شأنه.

باب الاستثناء بليس ولا يكون

باب الاستثناء بليس ولا يكون الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الاستثناء بليس، ولا يكون] مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاستثناء بليس، ولا يكون [؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز إظهار الضمير الذي في: ليس، ولا يكون، في الاستثناء؟ ولم لابد فيهما من ضميرٍ؟ وما نظير ذلك في: حسبك، من أنه لا يقع فيه معنى النهي إلا أن يكون/ 46 أمبتدأً؟ ولم ذلك؟ وهل هو لأن معنى النهي عارضٌ فيه، فلزم أقوى الوجوه الذي يجري عليها، كما أن معنى الاستثناء في: ليس، ولا يكون، عارضٌ فيه، فلزم أقوى الوجوه الذي يكون عليه الفعل، وهو الضمير فيه؟ . ولم صار المبتدأ أقوى الوجوه التي يكون عليها الاسم؟ وهل ذلك لأنه معتمد البيان، مع أن له صدر الكلام؟ فلم صار الإضمار في الفعل أقوى الوجوه التي يكون

عليه؟ وهل ذلك لأنه خاصته التي لا تكون لغيره، كما أن الجر لما كان من خاصة الاسم؛ كان أقوى فيه؟ . ولم وجب في: ليس، ولا يكون، أنهما ليسا بأصل في الاستثناء؟ . وما وجه شبه ليس بإلا حتى جاز بها الاستثناء؟ . وما حكم: ما أتاني القوم ليس زيداً، وأتوني لا يكون عمراً؟ . ولم جاز الاستثناء بهما بعد الإيجاب والنفي؟ وهل ذلك لموافقتهما معنى (إلا) في هذا الموضع؛ إذ نفي النفي إيجابٌ، ] فما أتاني القوم نفيٌ، وليس زيداً نفيٌ عن بعضهم ذلك النفي، فصار زيدٌ على معنى الإيجاب؟ [. وهل يشبه الجواب من جهة أنه إذا قال: أتوني؛ صار المخاطب بمنزلة من قال: بعضهم زيدٌ؛ لوقوع ذلك في نفسه، فكأنه قال: ليس بعضهم زيداً؟ . ولم لا يجوز إظهار بعضهم في الاستثناء؟ وهل ذلك للاستغناء اللازم، مع وقوعه موقع حرفٍ لا يتصرف ولا له عملٌ ظاهرٌ؟ . وما نظيره من الإضمار في: لات حين ذاك؟ وهل ذلك للاستغناء عنه مع ضعف (لات) أن تعمل على وجهين، فكان أخف الوجهين أحق بأن يلزم؟ .

وهل يجوز في: ليس، ولا يكون؛ الإجراء على معنى الصفة؟ ، وما دليله من قولهم: أتتني امرأة لا تكون فلانة، وما أتتني امرأة ليست فلانة، ولو كان استثناء لم يؤنث، كما تقول: أتينني لا يكون فلانة، وليس فلانة؟ . وما وجه الاستثناء بخلا، وعدا؟ ، ولم جاز الاستثناء بعدا، وخلا، ولم يجز الوصف بهما كما جاز بليس، ولا يكون؟ وهل ذلك لضعفهما في معنى النفي، فلم يصلح أن يوصف بهما مع دلالة الاستثناء فيهما؟ . وما حكم قولك: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، وأتاني القوم عدا عمراً؟ . ولم لا يجوز: ما أتتني امرأة خلت فلانة، /46 ب ولا: أتتني امرأةٌ عدت فلانة؟ . ولم جاز: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، ولم يجز: ما أتاني أحدٌ جاوز زيداً، مع موافقته لـ (خلا) في المعنى؟ فهلا جاز الاستثناء فيه كما جاز بخلا؟ وهل ذلك لأن خلا أشد اقتضاءً لمعنى النفي الذي يوافق نظيره من: ليس، ولا يكون؛ إذ قد

يصح: خلا، بأن انتفى، ولا يصح: ] جاوز، بأن انتفى [فإنما هو متقارب في المعنى؟ . وما حكم: أتاني القوم ما عدا زيداً، وأتوني ما خلا زيداً؟ ولم لا يجوز هاهنا الجر كما يجوز في: عدا، وخلا بغير (ما) في مذهب بعض العرب؟ . وما حكم: أتوني إلا أن يكون زيدٌ؟ ولم جاز الرفع في هذا الموضع؟ ولم لا يجوز أن يكون استثناء؟ وهل ذلك لأنه لا يدخل استثناءٌ على استثناءٍ، مع أنه في صلة (أن) بمنزلة: لا يأتونك إلا أن يأتيك زيدٌ؟ وما وجه رجوعه إلى أصل الاستثناء؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: كان منهم إتيانٌ إلا إتياناً من زيدٍ؟ . وما في امتناع عدا، وخلا من هذا الموضع من الدليل؟ وهل ذلك لأنه لما لم يجز: أتوني إلا عدا زيداً، ولا: أتوني إلا خلا زيداً؛ دل ذلك على أن هذا الموقع لا يقع فيه حرف الاستثناء؟ .

وما في قوله جل ثناؤه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]؟ وهل ذلك لأن الرفع قد دل على خروجه عن حد الاستثناء؟ ولم جاز فيه النصب؟ وهل ذلك لأنه وجه على خبر (تكون)، كأنه قيل: إلا أن تكون الأموال تجارةً عن تراضٍ منكم؟ . وما حكم: حاشا؟ ولم وجب أنه حرف جر في قولهم: ذهب القوم حاشا زيدٍ؟ وهل ذلك لأنه على معنى إضافة انتفاء الذهاب إلى زيدٍ على جهة التنزيه له عن ذلك، فهذا معنى الحرف، وهو خارجٌ مما دخل فيه ما قبله؛ فهذا معنى الاستثناء؟ . وما وجه قول بعض العرب: ما أتاني القوم خلا عبد الله؟ ولم وجب أنها في هذا الموضع حرف جر؟ وهل ذلك لأنها على قياس: على زيدٍ، في الاشتراك، وقد أضافت الإتيان إلى عبد الله، على أنه موجب بعد منفى؟ . ولم جاز: أتوني ما خلا عبد الله، ولم يجز مثل ذلك في: أتوني ما حاشا زيدٍ؟ وهل ذلك لأنه لا يوصل بحرف الجر على معنى المصدر؟ .

/47 أوما حكم: أتاني القوم سواك؟ ولم كان استثناءً مع أنه منصوبٌ على الظرف؟ وهلا جاز: أتاني القوم مكانك، وما أتاني أحدٌ مكانك، كما جاز: سواك؟ وهل ذلك لأن سواك فيها معنى: غيرك، وليس كذلك: مكانك؟ . الجواب: الذي يجوز في الاستثناء بليس، ولا يكون - إذا وقع أحدهما موقع (إلا) بعد كلام يصلح أن يستثنى منه - نصب المستثنى على أنه خبرٌ، والاسم مضمرٌ في: ليس، ولا يكون. ولا يجوز أن يظهر المضمر؛ للاستغناء عنه؛ لأنه لا يكون إلا على معنىً واحدٍ، وهو: بعضهم، وليس كذلك الإضمار فيهما في غير هذا الموضع؛ لأنه يكون بحسب ما تقدم به الذكر من المعاني المختلفة، مع أنه وقع موقع حرفٍ لا يتصرف، فلم يتصرف في عمله بالإضمار والإظهار؛ لأن ذلك أدل على وقوعه موقع إلا.

ونظير ذلك: حسبك، في النهي؛ لأنه لما عرض فيه معنى النهي؛ لزم أقوى الوجوه التي يكون عليها الاسم، وهي وجه المبتدأ؛ لأنه معتمد البيان، وله صدر الكلام، فلم يجز أن يتضمن معنى] النهي [إلا في هذا الموضع، كما أنه لما عرض في ليس معنى الاستثناء؛ لزم أقوى الوجوه التي يكون عليها الفعل، وهو الإضمار المستقر فيه؛ لأنه من خاصة الفعل، فجرى على قياس: حسبك، في النهي من هذه الأوجه التي بينا. وليس، ولا يكون ليسا بأصلٍ في الاستثناء؛ لأنهما لا يلزمانه؛ إذ يجوز أن يبتدأ بهما، فيخرجا عن حد الاستثناء] بالرجوع [إلى أصلهما، ولا يجوز مثل ذلك في: إلا، وإنما دخلهما معنى الاستثناء في الموقع الذي يصلح فيه: إلا؛ لأنهما على معنى النفي، فإذا تقدم إيجابٌ؛ خرج الثاني مما دخل فيه الأول، وإذا تقدم نفيٌ؛ صار بمعنى نفي النفي، وخرج الثاني من النفي الأول إلى الإيجاب. وتقول: ما أتاني القوم ليس زيداً، وأتوني لا يكون عمراً، على الاستثناء، وهو يشبه الجواب من جهة أن المخاطب بمنزلة من قال: بعضهم زيدٌ؛ لوقوع ذلك في نفسه، فكأن المتكلم قال: ليس بعضهم زيداً. ونظير امتناع إظهار (بعضهم) من الاستثناء امتناع إظهار الاسم في {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] للاستغناء اللازم عنه؛ إذ هو على معنى:

لات الحين حين مناص /47 ب، مع ضعف (لات) عن أن تعمل على الإضمار والإظهار، فلزمت أحق الوجهين بها من جهة الاستخفاف، والإيذان بضعف العمل؛ إذ كانت كأنها لم تعمل شيئاً لما أختزل معمولها. ويجوز في: ليس، ولا يكون، الإجراء على جهة الصفة، ودليله قولهم: أتتني امرأةٌ لا تكون فلانة، وما أتتني امرأةٌ ليست فلانة، بالتأنيث، ولو لم تكن صفة؛ لم يجز التأنيث؛ لأن المضمر في: ليس، ولا يكون، مذكرٌ. وخلا، وعدا يجوز الاستثناء بهما؛ لشبههما بليس، ولا يكون، في النفي. ولا يجوز الوصف بهما؛ لضعفهما في معنى النفي؛ إذ هما على مخرج الإيجاب، ومعنى النفي، فلا يجوز: أتتني امرأةٌ خلت فلانة، وما أتتني امرأةٌ عدث فلانة؛ لما بينا من أنه لا يجوز الوصف بهما.

وإنما جاز: ما أتاني أحدٌ خلا زيداً، ولم يجز: ما أتاني أحدٌ جاوز زيداً، في الاستثناء؛ لأن خلا أشد اقتضاء لمعنى النفي على طريقة: ليس، ولا يكون؛ إذ يصح: خلا، بأن انتفى، ولا يصح: جاوز، بأن انتفى، فإنما هو مقاربٌ في المعنى. ويجوز على مذهب بعض العرب: أتوني خلا زيدٍ، فإذا قلت: أتوني ما خلا زيداً؛ لم يجز إلا النصب؛ لأن (ما) لا توصل على معنى المصدر إلا بالفعل. وتقول: أتوني إلا أن يكون زيدٌ، فـ: يكون - هاهنا - ليس باستثناءٍ؛ لأنه لا يدخل استثناءٌ على استثناءٍ، ودليل ذلك امتناع: خلا، وعدا، من هذا الموقع، لا يجوز: أتوني إلا عدا زيداً، فإنما هو صلةٌ لـ: أن، كأنك قلت: وقع إتيان القوم إلا كون إتيان زيدٍ. وفي التنزيل: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] بالرفع على: إلا أن تقع تجارةٌ، ويجوز فيه النصب على: إلا أن تكون الأموال تجارةً؛ لأنه قد

تقدم ذكرها بقوله جل وعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وحاشا حرف جر فيه معنى الاستثناء، تقول: هلك القوم حاشا زيدٍ، فزيدٌ منزهٌ عما دخل فيه القوم من الهلاك، فهو حرفٌ؛ لأن معناه فيما دخل عليه. وقول بعض العرب: أتاني القوم خلا عبد الله، يجري مجرى حاشا في حرف الجر. ولا يجوز: أتوني ما حاشا زيدٍ؛ لأن (ما) التي بمعنى المصدر /48 ألا توصل بالحرف، ولا توصل إلا بالفعل الذي يدل على معنى المصدر. وتقول: أتاني القوم سواك، فتستثني بقولك: سواك، كما تستثني بغيرٍ، إلا أن غيراً ليس لها إعرابٌ هي أحق به إلا بحسب ما تبنى عليه من العامل، وسواك ظرفٌ له إعراب هو أحق به، فهو يلزمه، ويقع فيه الاستثناء على ذلك الوجه من إعراب الظرف، وهو النصب في كل حالٍ، فتقول: ما أتاني أحدٌ سواك، وأتاني

القوم سواك، ومررت بهم سواك، كأنك قلت: مكانك، إلا أنه ليس في: مكانك، استثناءٌ؛ لأنه ليس على معنى: غيرٍ، كما أن سواك على معنى: غيرٍ، فلم يدخله الاستثناء لهذه.

أبواب علامة المضمر

أبواب علامة المضمر باب علامة المضمر المرفوع المنفصل الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في علامة المضمر المرفوع المنفصل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في علامة المضمر المرفوع المنفصل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يقع المتصل موضع المنفصل، ولا المنفصل موقع المتصل؟ وهل ذلك للاستغناء بالمتصل الذي هو أوجز عن المنفصل؛ فلهذا لم يقع المنفصل موقع المتصل، ولا يقع المتصل موقع المنفصل؛ لأن الإيجاز فيه أوجب اتصاله بالعامل حتى يكون كبعض حروفه، ولا يقوم بنفسه في البيان عن معناه؟ . وما المتصل؟ وما المنفصل؟ وما المضمر؟ وما قسمته؟ وما المظهر؟ وما قسمته؟ . ولم جاز في المضمر المتصل والمنفصل؟ وهلا كان جميع المضمر متصلاً، أو منفصلاً؟ وهل ذلك لأن الأصل في المضمر هو المتصل؛ للإيجاز الذي فيه، وإنما

المنفصل فرعٌ عليه، لما احتيج إلى دوره في المواقع بالتقديم والفرق بينه وبين العامل؛ أتي به على طريقة ما يمكن أن يبتدأ به ويوقف عليه؛ للحاجة إلى هذه المواضع التي لا يصلح فيها المتصل؟ . وما الفرق بين المضمر وبين المكنى؟ ولم جاز أن تكون الكناية بالاسم الظاهر، ولم يجز أن يكون الإضمار بالاسم الظاهر؟ . وهل الكناية هي المضمنة بالاسم الغالب / 48 ب من غير إفصاحٍ؟ . وهل الإضمار كنايةٌ عن الاسم بما يجري مجرى الجزء منه؟ . وما علامة المضمر المرفوع في المتكلم الواحد؟ وما علامته في الاثنين والجميع؟ . وما علامته في المخاطب الواحد؟ وما علامته في الاثنين والجميع؟ . وما علامته في الغائب الواحد؟ وما علامته في الاثنين والجميع؟ وما علامة المؤنث في جميع ذلك؟ . فما العلامة المنفصلة في هذه الأوجه؟ .

ولم كان علامة المرفوع المتكلم الواحد: أنا، وفي المخاطب: أنت، وفي الغائب: هو؟ وهل ذلك لأنه لما اجتمع المتكلم والمخاطب في معنى الحاضر؛ كانت العلامة لهما متناسبة، فأنا بغير زيادةٍ للمتكلم؛ لأنه الأصل في الأوجه الثلاثة بأنه الأظهر، ثم الزيادة التي تدل على الحضور والمخاطبة في: أنت، ثم الانفراد بعلامةٍ خارجةٍ عن ذلك الغائب، وهي: هو. وجعلت الهمزة التي هي أحق بأول الكلمة، الذي هو أحق بالأصل، والتي هي أظهر من الهاء للذي هو أظهر، من المتكلم والمخاطب. والهاء المناسبة لها بأنها من حروف الحلق إلا أنها أخفى للذي هو أخفى، من الغائب، فجرت هذه الأشياء على عللٍ صحيحةٍ بما بينا. وعلامته في الاثنين، والجميع: نحن، وإنما جاز ذلك، ولم يجز في المخاطب؛ لأن المتكلم لا يكون إلا واحداً في الحقيقة. وعلامته في المخاطب: أنتَ، وأنتما، وأنتم، وفي الغائب: هو، وهما، وهم. وفي المؤنث المتكلم كالمذكر؛ لأنه أظهر بما يغني عن الفرق، وعلامته في المخاطب: أنتِ، وأنتما، كالمذكر؛ لأن التثنية لا تختلف، وأنتن، للجميع؟ .

ولم لا يقع أنا موضع التاء في: فَعَلْتُ؟ وهل ذلك لأنه يجب للضمير المتصل بالعامل من شدة الاتصال - حتى يغير له العامل - ما لا يجب للمنفصل؛ فلذلك جاز: فَعَلْتُ، ولم يجز: فَعَلَ أنا، ولا في فَعَلْنا: فَعَلَ نحنُ؟ . ولم لا يجوز: فَعَلَ أَنْتَ، في موضعِ: فَعَلْتَ، ولا فَعَلَ أنتما، في موضع: فعلتما، ولا فَعَلَ أنتم، في موضع: فعلتم، ولا فَعَلَ أنتن، في موضع: فعلتن؟ . ولم جاز: هو، بالواو للمذكر، وهي، بالياء للمؤنث؟ فلم كان المذكر أحق بالواو؟ . ولم لا يجوز: فَعَلَ هو في موضع الضمير المستتر، ولا هما، في موضع: ضربا، فلا يجوز: ضرب هما، /49 أ، ولا يضرب هما، ولا ضرب هم، في موضع: ضربوا، ولا ضربت هي، في موضع: ضربت؟ . الجواب: الذي يجوز في المضمر المرفوع المنفصل اختصاصه على ثلاثة أوجهٍ: اختصاصٍ بالمتكلم، واختصاصٍ بالمخاطب، واختصاصٍ بالغائب. ولا يجوز مثل هذا في الظاهر؛ لأن الإضمار لما كان للإيجاز عند الاستغناء عن

الإظهار؛ اقتضى هذا التفصيل؛ لأنه يستغني بحضور المتكلم والمخاطب عن الإظهار، فيجب له الإضمار الذي هو موضوعٌ على الإيجاز. ويصير ذلك نظير الاستغناء بالمذكور المتقدم عن إظهاره فيما بعد، فيجب أن يضمر ضميراً يعود إليه، فهذا قياس هذه الأوجه الثلاثة بالعلة الموجبة على طريقة واحدةٍ في أنه يجب للاستغناء عن الإظهار الإضمار في كل واحدٍ منها؛ فلذلك جاز التفصيل في المتكلم، والمخاطب، والغائب بالعلامات المختلفة، ولم يجز مثل ذلك في الظاهر؛ لأنه حق قد لزم للمضمر بالعلة التي بينا. ولا يجوز أن يقع المنفصل موقع المتصل؛ لأن الأصل في ذلك إنما هو للمتصل بما فيه من الإيجاز، وتوفيه العامل حقه؛ إذ كان لما لم يعمل في لفظه؛ لزم موقعه منه، ولم يجز تقديمه، ولا الفرق بينه وبينه؛ لأن ذلك منعٌ للعامل من حقه؛ إذ من حق العامل أن يعمل في لفظ الاسم إذا أمكن ظهور عمله فيه، فإذا لم يمكن؛ لزم موقعه منه؛ حتى يصير ذلك بمنزلة عمله فيه، وهو إيجابه للزوم موقعه منه. وهذا شبيه بقولك: ضرب موسى عيسى، وكلم هذا ذاك، في أنه لا يصلح فيه التقديم والتأخير، لما امتنع أن يعمل العامل في لفظه؛ أوجب أن يلزم موقعه منه،

فصار وقوع المنفصل يناقض الأصل الذي لأجله جاز الضمير المتصل في إيجازه وتوفيه العامل حقه بلزوم موقعه منه، فلا يجوز أن يقع المنفصل موقع المتصل لهذه العلة. ولا يجوز - أيضاً - أن يقع المتصل موقع المنفصل؛ لأنه إبطال حق العامل، وإيهام للفساد في الفرق، لو جاز أن تقول: ما قام إلا إياك؛ لأوهم أنه قد اتصل /49 ب بالعامل الذي هو أنتَ، (مع أنه) لو جاز أن يقع كل واحدٍ منهما موقع صاحبه؛ لم يكن لوضع متصلٍ ومنفصلٍ معنى، وكان لزوم أحدهما أحق بالإضمار، فلما كان مناقضاً لوضع متصلٍ ومنفصلٍ، ومخالفاً لأصل ما وجب له الإضمار بما بينا؛ لم يجز - أصلاً - في الكلام. وحقيقة المضمر: هو المكني عن الشيء بما هو كالجزء من اسمه، فإذا جمع هذين الوجهين؛ كان مضمراً، ولو انفرد بأحدهما لم يكن مضمراً؛ إذ الكناية قد تكون بالاسم التام، نحو: فلانٍ، وفلانة، فليس هذا بمضمرٍ، وكذلك: كان من الأمر كيت وكيت وذيت وذيت، فهذا كنايةٌ، وليس بمضمرٍ، وكذلك: هنٌ، وهنةٌ.

فنقيض الكناية الإفصاح، ونقيض الإضمار الإظهار، وفي هذا دليلٌ على الفرق واضحٌ. ولو كان الاسم ناقصاً لا كناية فيه؛ لم يكن مضمراً، نحو: الذي، هو اسمٌ ناقصٌ يحتاج إلى صلةٍ، وليس بمضمرٍ، كما أن: فلاناً، ليس بمضمرٍ؛ لما بينا. وقسمة المضمر على ثلاثة أوجهٍ: مرفوعٍ، ومنصوبٍ، ومجرورٍ، إلا أنه على طريق اختصاص الاسم بالوجه الواحد من هذه الأوجه، لا على طريق الإعراب المتعاقب على الاسم الواحد؛ لأن كل مضمرٍ فهو مبني؛ من أجل أنه بمنزلة الجزء من الاسم، وذلك لا ينافي أن يكون فيه دليلٌ على الرفع من جهة اختصاصه به، لا من جهة إعرابٍ فيه. وهذا الاختصاص الذي يجري عليه كالاختصاص الذي يجري على الأوجه الثلاثة في التشاكل، فأمره يجري على منهاجٍ منتظمٍ بما هو أحق به على ما بينا من أمره، والأوجه الثلاثة: المتكلم، والمخاطب، والغائب. فمكني ظاهرٌ لا يمتنع، ومضمرٌ ظاهرٌ ممتنعٌ؛ لأنه نقيضه، والنقيضان لا يصحان لشيءٍ واحدٍ.

فأما المكني فليس بنقيض الظاهر؛ لأنه قد يكون اسماً تاماً في البيان عن معناه، وتاماً في نفسه بتمام حروفه، فيجب أن يكون ظاهراً من هذه الجهة، وإذا كان ناقصاً يتم بصلته، ولم يكن به عن شيءٍ؛ فهو - أيضاً - ظاهرٌ؛ إذ المضمر لا يكون إلا ما جمع الكناية والنقصان، فالظاهر هو المصرح بمعناه من غير جمع نقصانٍ وكنايةٍ. وهذا الباب على ثلاثة أقسامٍ: إبهامٍ ونقيضه الإيضاح، وكنايةٍ ونقيضها /50 أالإفصاح، وإضمارٍ ونقيضه الإظهار. وأحكامها مختلفةٌ، فكل مكني فهو مبهمٌ، وليس كل مبهمٍ مكنياً، وكذلك كل مضمرٍ مبهمٌ، وليس كل مبهمٍ مضمراً؛ وذلك أن المبهم هو المحتمل للوجوه المختلفة؛ ولذلك صار نقيض الإيضاح بالبيان الذي يخص الوجه الواحد، فالشيء مبهمٌ؛ ؟ لأنه أعم العامٌ، وهو محتملٌ للوجوه المختلفة. ومن المبهم ما يصلح للأعم إلا أنه لا يقوم بنفسه في البيان عن معناه دون إشارةٍ تصحبه، فدخله الإبهام من وجهين، نحو: هذا، وذاك، وتلك. ومن المبهم ما يكون مضمناً بصلةٍ توضحه كـ: الذي، ونحوه. فالمبهم أعم هذه الأوجه، وحقيقته: المحتمل للوجوه المختلفة، ثم قد يدخله الإبهام بوجوهٍ زائدةٍ على هذا الوجه، فيتعاظم إبهامه، فبعض المبهمات أشد إبهاماً من بعضٍ. وكل مكني فهو مبهمٌ؛ لأنه في موضعه، يحتمل الوجوه المختلفة، وهو مع ذلك

مضمنٌ بما يصرفه إلى واحدٍ منها دون غيره، نحو: فلان، يحتمل أن يكون كنايةً عن: زيدٍ، أو عمروٍ، أو بكرٍ، أو غير ذلك، فإذا قيل: جاءني فلانٌ؛ أتي بذلك المحتمل، وضمن في هذا الكلام بما يوجهه إلى زيدٍ بعينه، إن لم يحب المتكلم أن يفصح بذكره عند من حضر، فأراد أن يخص بذلك المخاطب الذي قد تقررت له حالٌ يفهم بها ما عني بهذا الاسم، فهو مبهمٌ؛ لما بينا، وهو كنايةٌ؛ لهذا الوجه الآخر. وأما المضمر فلابد من أن يكون فيه كنايةٌ على نحو الكناية بفلانٍ، وفيه - مع ذلك - أنه بمنزلة الجزء من اسمه الذي كني به عنه؛ لأن موضوعه يقتضي ذلك، وهو الإيجاز مع توفيه العامل حقه منه إذا كان متصلاً أو منفصلاً. فتدبر هذا الذي شرحت لك، فإنه فقه هذا الباب. وعلامة المضمر المرفوع في المتكلم الواحد: أنا، وفي التثنية والجمع: نحن، وإنما وقع الاشتراك في: نحن؛ لأنه للمثنى بحق الشبه، لا بحق الأصل؛ إذ المتكلم بالكلام الواحد لا يكون أكثر من واحدٍ، وقد يكون المخاطب بالخطاب الواحد أكثر من واحدٍ في الحقيقة، فالتثنية للمخاطب والجمع بحق الأصل،

فوجبت له / 50 ب علامةٌ تفصل الواحد من التثنية والجمع على الحقيقة، وكذلك سبيل الغائب، ولم يجب مثل ذلك في المتكلم؛ لأنه له بحق الشبه، كأنه يتكلم بالكلام الواحد عن نفسه، وعن غيره، فكان الكلام الواحد لهما، فجرى هذا على القياس الصحيح. وعلامة المخاطب الواحد: أنتَ، وفي التثنية: أنتما، وفي الجمع: أنتم. وعلامة الغائب: هو، وفي التثنية: هما، وفي الجمع: هم. وفي المؤنث: أنتِ، وفي التثنية: أنتما؛ لأن التثنية تجري على طريقةٍ واحدةٍ بما قد بيناه في غير موضعٍ، وفي الجمع: أنتن. وإنما كان علامة المتكلم: أنا، بالهمزة والنون فقط؛ لأن الهمزة أحق شيءٍ بأن يكون أول الكلمة؛ لأنها أول المخارج مع قوتها بقوة الاعتماد لها؛ ولذلك كثر زيادتها أولاً، فأما النون فأحق شيءٍ بأن تكثر في الكلام؛ لحسنها في المسموع مع الغنة التي فيها، فاختير للمتكلم أولى الحروف بأن يكثر في الكلام،

ثم جعل للمخاطب بعلامة تدل على الخطاب؛ لأنهما يجمعهما معنى الحضور، والمتكلم أظهر، فهو أحق بالأصل، والمخاطب أحق بزيادة العلامة. وأما: هو؛ فأتى بالهاء؛ للمناسبة بينها وبين الهمزة؛ لأنها من مخرجها، إلا أنها خفيةٌ، فجعلت للأخفى، وهو الغائب، فجرى هذا على قياس صحيحٍ. وهو للمذكر، وهي للمؤنث، وكان المذكر أحق بالواو؛ لأنها أولٌ لأولٍ، والمؤنث أحق بالياء؛ لأنها ثانٍ لثانٍ؛ لأن الياء من وسط اللسان. ولا يجوز أن يقع أنا موقع التاء في: فَعَلْتُ؛ لأنه لا يقع المنفصل موقع المتصل؛ لما بينا. ولا يجوز: فعل نحن، في موضع: فعلنا، ولا فعل أنت، في موضع: فعلت، ولا فعل أنتما في موضع: فعلتما، ولا فعل أنتم، في موضع: فعلتم، ولا فعل أنتن، في موضع: فعلتن. وعلة جميع ذلك علةٌ واحدةٌ، وهو أنه لا يقع المنفصل موقع المتصل؛ لما بينا. وكذلك لا يجوز: ضرب هما، في موضع: ضربا، ولا يضرب هم، في موضع: يضربون، فالعلة واحدةٌ تضبط بها جميع هذه الأحكام، وقد بينت صحة هذه العلة بما تقدم.

باب /51 أمواقع علامة الإضمار المنفصل المرفوع

باب /51 أمواقع علامة الإضمار المنفصل المرفوع الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في مواقع علامة الإضمار المرفوع المنفصل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في مواقع علامة الإضمار المرفوع المنفصل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز في مواقع المنفصل إلا الموقع الذي لا يلي العامل؟ وهل ذلك لأن المتصل للموقع الذي يلي العامل بحق عمله فيه حتى يكون في مرتبته منه، فيوجب لزوم المرتبة؛ إذ لم يوجب له العمل؟ . ولم لا يجوز في: كيف أنتَ؟ وأين هو؟ وكيف أنا؟ إلا المنفصل؟ . وما معنى قوله: لأنك لا تقدر على التاء في: كيف أنتَ؟ ، وهو ممكنٌ أن يقول: كيفت؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة ما لا يقدر عليه بامتناعه في الاستعمال الذي يستوي في علمه جميع أهل اللسان، فمثل هذا علةٌ وضعيةٌ، فأما العلة البرهانية فما ذكرت لك أولاً من أنه يجب للعامل بحق عمله ترتيب المعمول، وإعرابه

بما يستحقه من العمل من ذلك العامل، فإذا امتنع أحدهما؛ لزم الآخر، ولم يجز الاتساع فيه؛ للإخلال الذي يقع به من منع العامل الأمرين جميعاً: الإعراب الذي يوجبه، والترتيب الذي يوجبه أيضاً، فمنعه أحدهما لا يخل به، ومنعه الأمرين جميعاً يخل به، فلهذا لم يجز: كيفت؟ ولا يجوز في قولك: ما جاء إلا أنا، ما جاء إلات، وهي التاء التي في: فعلتُ؛ لأنها تجب للعامل بحق عمله، و (إلا) ليست بعاملةٍ، فلا سبيل فيها إلا إلى المنفصل دون المتصل؟ . ولم جاز: نحن وأنتم ذاهبون، بإضمار المنفصل، ولم يجز غيره من الاسم الظاهر؛ إذ قد امتنع المتصل الذي يجب للعامل بحق عمله؟ وهل ذلك لأنه قد وجب للموضع الذي يستغني فيه عن الظاهر بحضور المتكلم أو المخاطب؛ الإضمار كما وجب للموضع الذي يتقدم فيه الاسم الظاهر بالاستغناء عن الظاهر؛ الإضمار، فقياس الاستغناء بالحضور كقياس الاستغناء بتقدم الذكر، فلما لم يجز الإضمار المتصل / 51 ب وجب المنفصل؛ إذ كل موضعٍ يستغني فيه عن الظاهر فواجبٌ له المضمر؟ . ولم جاز: جاء عبد الله وأنت؟ وهل ذلك لأن واو العطف ليست عاملة، وإنما تشرك بين الأول والثاني في العامل، وكذلك: فيها أنتم، لا يجوز فيها إلا المنفصل، وفيها هم قياماً؟ .

وهل قولهم: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو، [مثل ذلك]؟ . وهل قياس: كنا وأنت ذاهبين، وأهو هو، ذلك القياس بأنه ولي غير عاملٍ، فكل ضميرٍ مرفوعٍ ولي غير عاملٍ فهو منفصل؟ . ولم وجب المنفصل في قول الله جل وعز: {كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42]؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (فكأنها هي بعد غب كلالها ... ... أو أسفع الخدين شاة إران؟ .) ولم وجب: ما جاء إلا أنا؟ .

وما الشاهد في قول عمرو بن معدي كرب: قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا؟ . وما حكم: ها أنا ذا؟ ولم وجب فيه المنفصل، وها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها أنت ذا، وها أنتم أولاء، وها [أنتن] أولاء؟ . ولم دخلت (ها) على المضمر في هذا، ولم تلزم الدخول على المبهم؟ ولم كانت أحق بالمبهم منها بالمضمر؟ وهل ذلك لأن المبهم تعرفه إشارة تصحبه، فهو أحوج إلى علامة التنبيه من المضمر الذي ليس بتلك المنزلة، مع أنه شبيهٌ به في الإبهام، فقد جمع (ذا) الإبهام والحاجة إلى الإشارة المعرفة، وأما (أنا) ففيه الإبهام فقط، فالمبهم أحوج إلى (ها) التي للتنبيه؟ . ولم جاز: أنا هذا، وهذا أنا، مع أنهما معرفتان؟ فما فائدته؟ وهل ذلك لما يصحبه من الدليل على من هو، كأنه إذا سمع كلامه هذا عرف من هو؛

لمعرفته بنغمته، أو يكون قد طلبه، فكأنه قال: أنا هذا الذي تطلبه، أو ما جرى هذا المجرى، وإلا لم يكن فيه فائدةٌ؟ . وما الشاهد في قول الشاعر: (ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ... فقلت لها: هذا لها ها وذا ليا؟ ) وما الفرق بينه وبين: هذا لزيدٍ ها وذا ليا؟ وهل ذلك لأن المضمر أحق بـ (ها) التي للتنبيه / 52 أمن الظاهر؟ . ولم جاز: إي ها الله ذا؟ وهل ذلك لأن: إي، بمنزلة المبهم؟ . ولم جاز في: ها أنت ذا، أن تكون (ها) مقدمةً، وأن تكون في موقعها؟ وهل يجوز على أنها مقدمةٌ: ها زيدٌ ذا، ولا يجوز على أنها في موقعها: ها زيدٌ ذا؟ . وما الدليل على جواز أن تكون في موقعها من قوله جل وعز: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [محمد: 38].

وهل يجوز: هذا أنت؟ ولم جاز؟ وما فائدته؟ وهل هو على الحذف بتقدير: هذا أنت تفعل كذا وكذا، وكأنه قال: أنت الحاضر القائل كذا وكذا؟ . وما تأويل: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [البقرة: 85]، وفي موضعٍ آخر: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ} [آل عمران: 119]؟ فما وجه اختلاف موقع (ها) في الموضعين؟ وهل ذلك لأن العطف أحق بإخلاص المعطوف في {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [البقرة: 85]، فأما المبتدأ فهو أحق بالتنبيه من المعطوف في: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ} [آل عمران: 119]؛ لأن المبتدأ معتد المعنى فيه على التنبيه فقط من غير إشراكٍ بينه وبين ما قبله؟ .

باب علامة المضمر المنصوب

باب علامة المضمر المنصوب الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في علامة المضمر المنصوب مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في علامة المضمر المنصوب؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يقع المنفصل فيه موقع المتصل مع أنه ليس كالمرفوع في البناء مع العامل؟ وهل ذلك لأنه - وإن لم يبن معه - فله مرتبته منه؟ . وما علامة المضمر المنصوب المنفصل؟ ولم وجب أن تكون (إيا) في الأوجه الثلاثة من المتكلم، والمخاطب، والغائب، إلا أنه يبين بالعلامات في: إياي، وإياك، وإياه، ؟ وهلا انفصل الغائب كما انفصل في المرفوع من قولك: هو؟ وهل ذلك لأن المرفوع أول فهو أحق بتمكين العلامة، والمنصوب فضلةٌ في الكلام فهو أنقص مرتبة؟ . وما نظير: إياك رأيت، من المتصل؟ وهل هو: رأيتك؟ .

وما نظير: إيا كما رأيت، من المتصل، وإياكم رأيت، وإياكن رأيت، وإياها رأيت، وإياه وإياهما رأيت، وإياهم وإياهن، فما نظير جميع ذلك من المتصل؟ وإياي رأيت، وإيانا رأيت، فما نظيره من المتصل؟ . ولم جاز /52 ب: إياك ضربت، ولم يجز ضربت زيداً وإياك؟ وهل ذلك لأن الأنبه له حق التقديم في صدر الكلام على العامل وغيره، فاحتيج لهذه العلة: إياك ضربت، كما قال جل وعز: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وليس كذلك سبيل التأخير الذي تقدم فيه المعطوف، وهو يؤخر؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في مواقع علامة الإضمار المرفوع المنفصل الموقع الذي لا يلي العامل. ولا يجوز في موقع المنفصل إلا الموقع الذي لا يلي العامل؛ لأن الذي يلي العامل له بحق عمله المتصل؛ وذلك أنه يوجب في المعمول الترتيب والإعمال، فإذا منع أحدهما لعلةٍ صحيحةٍ جاز، وإن منعهما جميعاً لم يجز؛ لما في ذلك من الإخلال [به]. وتقول: كيف أنت؟ وأين هو؟ ومن أنا؟ فلا يجوز في هذه المواقع إلا المنفصل. قال سيبويه: (لأنك لا تقدر على المتصل فيها)، ومعنى ذلك: أنه بمنزلة ما لا يقدر عليه في الامتناع عند جميع أهل اللسان، لا أنه لا يمكن أن ينطق به على الفساد الذي فيه، فيقال: كيفت؟ في: كيف أنت؟ ، وإلات في: إلا أنا، ولكن ذلك فاسدٌ بإجماع أهل اللسان، لا ينطق بمثل هذا أحدٌ منهم، فهو بني على علةٍ وضعيةٍ صحيحةٍ من إجماع أهل اللسان. (فأما العلة البرهانية)؛ فلأنه يجب المتصل للعامل بحق عمله على ما شرحنا من لزوم الترتيب إذا لم يكن هناك إعرابٌ، ولا يصلح الاتساع في مثل هذا؛ للإخلال بالعامل على ما بينا.

وتقول: نحن وأنتم ذاهبون، فلا يجوز في هذا إلا المنفصل، دون الظاهر والمتصل. أما امتناع المتصل؛ فلأنه لم يل العامل، وأما امتناع الظاهر؛ فلأنه الموضع الذي يستغني فيه عن الإظهار بالحضور كما يستغني بتقديم الذكر، وكل موضعٍ يستغنى فيه عن الظاهر فواجبٌ له المضمر. وتقول: جاء عبد الله وأنت؛ لأن الواو ليست عاملةً، وكذلك: فيها أنتم؛ لأن (فيها) ليست عاملةً في أنتم، وفيها هم قياماً؛ لأن الظرف / 53 أيعمل في الحال، ولا يعمل في الاسم المبتدأ. وتقول: أما الخبيث فأنت، وأما العاقل فهو، وكذلك: كنا وأنت ذاهبين، وأهو هو؟ ، فالقياس في جميع هذا واحدٌ؛ لأنه ولي غير عاملٍ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ، وكل ضميرٍ مرفوعٍ ولي غير عاملٍ فهو منفصلٌ ومن ذلك قول الله عز وجل: {كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42]، وقال الشاعر:

(فكأنها هي بعد غب كلالها ... أو أسفع الخدين شاة إران) فـ (هي) - هنا - للمؤنث نظير (هو) في {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] في المذكر. وتقول: ما جاء إلا أنا، وقال عمرو بن معدي كرب: (قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا) لأن (إلا) ليس بعاملٍ. وتقول: ها أنا ذا، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون على تقدير: أنا هذا، إلا أنه قدم (ها) التي للتنبيه، وهذا مذهب الخليل. ويجوز أن تكون (ها) في موقعها لم تقدم، وإنما دخلت على المضمر؛ لما فيه من الإبهام؛ وذلك أن الأسماء على ثلاثةٍ أوجهٍ: مبهمٍ، ومضمرٍ، وظاهرٍ مبينٍ.

فالمبهم أحق بـ (ها) التي للتنبيه؛ لاجتماع أمرين فيه: الإبهام، والإشارة المعرفة، وأما المضمر ففيه إبهامٌ لا يحتاج معه إلى إشارةٍ معرفةٍ. فـ (هذا)، و (ذاك) أشد إبهاماً من المضمر؛ لحاجته إلى الإشارة المعرفة مع صلاح وقوعه على كل حاضر. ثم دخول حرف التنبيه على المضمر؛ لأن فيه ضرباً من الإبهام بصلاحه لكل مكني. ثم الظاهر البين لا يحتاج معه إلى حرف التنبيه، ولو ذكر في بعض الكلام؛ لكان على التأكيد. ودليل أن (ها) من قولك: ها أنت ذا، يصلح أن تكون في موقعها، لم تقدم على الموقع الذي تلي فيه (ذا) - كما قال سيبويه - قوله جل وعز: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [محمد: 38]، فلو كان على التقديم؛ لم تذكر في الثاني. وتقول على ذلك: ها نحن أولاء، وها هو ذاك، وها أنت ذا، وها أنتم أولاء، وها أنتن أولاء. وتقول: أنا هذا، وهذا أنا، ووجه الفائدة فيه أن القائل يقوله، فيعرف بنغمته

من هو، وقد يقوله / 53 ب عند الطلب لإنسانٍ بصفةٍ، فكأنه قال: أنا هذا المطلوب. وقال الشاعر: (ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ... فقلت لها: هذا لها ها وذا ليا؟ ) فهذا على مذهب الخليل مستقيمٌ؛ لأنه مقدمٌ، كأنه قال: وهذا ليا، فأما على المذهب الآخر فيضعف في هذا الموضع؛ لأنه ذكره بعد الضمير، وإنما التنبيه قبل المنبه عليه، ولكن يجوز على طريق التأكيد. ويجوز على مذهب الخليل: هذا لزيدٍ ها وذا ليا، كأنه قال: وهذا ليا. وتقول: إي ها الله ذا، فتحتمل الوجهين؛ لأن (إي) مبهم.

ويجوز على التقديم: ها زيدٌ ذا. وتقول: هذا أنت، فوجه الفائدة فيه أنه يقال عند الطلب لأمرٍ أو الذكر بفعلٍ، كأنه قال: هذا الفاعل أنت، أو هذا القائل أنت، أو هذا المطلوب أنت؛ حتى تصح الفائدة. وفي التنزيل: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [البقرة: 85]، ودخل (ها) على المبهم، وفي موضعٍ آخر: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ} [آل عمران: 119]، فدخل على المضمر؛ لأنه في موضع الابتداء الذي هو معتمد التبيين والتنبيه، وهو أحق به من الخبر الذي هو في موضع النكرة، فلم يدخل فيه، يعني في {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [البقرة: 85]، ليشاكل به المعطوف عليه.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في علامة المضمر المنصوب المنفصل: إيا. ولا يجوز أن ينفرد الغائب بعلامةٍ تخصه كما انفرد في: هو؛ لأن المرفوع أول، وهو معتمد البيان، والمفعول فضلةٌ في الكلام، فالمرفوع أحق بتمكين العلامة من جهة إخلاصها له من المنصوب. ولا يجوز أن يقع المنفصل فيه موقع المتصل، مع أنه ليس كالمرفوع في البناء مع العامل؛ لأنه - وإن لم يبن معه - فله مرتبته منه، فالمرفوع أحق بالمتصل من وجهين: أحدهما: مرتبته منه. والآخر: شدة اتصاله، حتى يصلح أن يستتر فيه. والعلامات تتعاقب في: إيا؛ لبيان الأوجه الثلاثة، فتقول: إياي، وإياك، وإياه. وتقول: إياك رأيت، فإن أخرت المفعول؛ قلت: رأيتك، وإياكما رأيت، فإن أخرت المفعول؛ قلت: /54 أرأيتكما، وكذلك: إياكم رأيت، ورأيتكم، وإياكن رأيت، ورأيتكن، وإياها رأيت ورأيتها، وإياه وإياها رأيت، ورأيتهما، وإياهم وإياهن

رأيت، ورأيتهم؛ لاختلاط المذكر بالمؤنث. وإياي رأيت، ورأيتني، وإيانا رأيت، ورأيتنا. وتقول: إياك ضربت، ولا يجوز: ضربت زيداً وإياك؛ لأن صدر الكلام يجب للأنبه الأعظم كقوله جل وعز: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ولا يجب فيما ذكر بعد الفعل على جهة تقديم معمولٍ على معمولٍ.

باب مواقع إيا في الإضمار

باب مواقع إيا في الإضمار الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في مواقع إيا من الإضمار مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في مواقع إيا التي للإضمار؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يقع موقعاً يصلح فيه المتصل مما يلي العامل؟ وهل ذلك لأن هذا الموقع للمتصل، وهو أحق به؟ ولم جاز أن يقع موقعاً يصلح فيه المتصل مما لا يلي العامل؟ وهل ذلك لأن المتصل يضعف فيه، لما لم يل العامل؟ ولم جاز أن يكون للمتصل موقعٌ لا يلي العامل؟ وهل ذلك لأن العامل القوي يكون المعمول الثاني فيه بمنزلة الأول في غيره؛ لشدة اقتضائه له، واتصاله به، فتصير الوسيطة بمنزلة ما لم يكن؛ لهذه العلة؟ .

ولم جاز: إياك رأيت، وإياك أعني؟ وما شاهده من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؟ وهلا كان المتصل أحق بهذا على: رأيتك، وأعنيك، إذا لم يتغير المعنى، والمتصل ممكنٌ على معنى واحدٍ؟ (وهل ذلك) لأن للأنبه الأعرف حق التقديم، فلم يجز أن يمنع من هذا مع إمكان المنفصل؟ . وما في قوله جل ثناؤه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]؟ ولم لا يجوز: إناكم، كما يجوز: ضربناكم؟ وهل ذلك لأن الفعل أقوى العوامل، فصار عمله في الثاني كعمل غيره في الأول؟ . ولم جاز: إني وإياك منطلقان، ولم يجز: إن إياك منطلقٌ؛ لضعف العامل؟ . ولم جاز: ما رأيت إلا إياك، لا يجوز إلا بالمنفصل، ولم يكن: إياك رأيت، بهذه المنزلة؟ . وما الشاهد في: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقول الشاعر:

(مبرأٌ من عيوب الناس كلهم ... فالله يرعى أبا حربٍ وإيانا؟ ) /54 ب فلم جاز هذا، ولم يجب: يرعانا وأبا حربٍ؟ . وقول الآخر: (لعمرك ما خشيت على عدي ... سيوف بني مقيدة الحمار) (ولكني خشيت على عدي ... سيوف القوم أو إياك حار؟ ) فلم جاز بالمنفصل مع إمكان المتصل في: خشيتك على عدي أو سيوف القوم؟ . وهل يجوز: إن إياك رأيت؟ ولم جاز؟ وهل ذلك لأنه على معنى: إنه إياك رأيت؟ ولم ضعف حذف الهاء في هذا؟ .

ولم جاز: إن أفضلهم لقيت، على وجهين: إنه أفضلهم لقيت، وإن أفضلهم لقيته؟ . وما حكم: عجبت من ضربي إياك؟ ولم جاز مع أنه موضعٌ يصلح فيه المتصل في: عجبت من ضربيك، ومن ضربيه؟ . وما معنى قوله: لم تستحكم علامات الإضمار فيه؟ وهل ذلك لأنه ليس له منزلة الفعل في قوة العمل؛ فلذلك جاز: ضربتك، وضربته، ولم يجز المنفصل؟ ولم جاز: ضربتني، ولم يجز: عجبت من ضربكي، ولا: من ضربكني، ولا: من ضربهيك، فلم جاز أن يبدأ بالأبعد - وهو الغائب - في الفعل، ولم يجز في المصدر؟ وهل ذلك لأن اتصال الفاعل على خلاف اتصال المفعول؛ لأنه يغير له لفظ الفعل، ولا يغير للمفعول، واتصال الفاعل والمفعول بالمصدر على حدٍّ واحدٍ؟ . وما حكم: كان إياه؟ ولم كان أكثر من: كانه، وكانني، وليسني، وكانك، فلم صار المنفصل في هذا أقوى، وهل ذلك لأن كان ليس بفعلٍ حقيقيٍّ، فجرى

مجرى: ضربي إياك؟ . وما حكم: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك؟ ولم لا يجوز المتصل هاهنا؟ وهل ذلك لأنه لما ضعف المتصل في: كان، وانضاف إليه أنه في موضع الحرف من قولك: إلا؛ امتنع؛ لاجتماع وجهين من وجوه الضعف؟ . وما الشاهد في قول عمر بن أبي ربيعة: (ليت هذ الليل شهرٌ ... لا نرى فيه عريبا) (ليس إياي وإياك ولا نخشى رقيبا؟ ) وما حكم: عجبت من ضرب زيدٍ أنت، ومن ضربك هو؟ ولم جاز مع إمكان المتصل في قولك: /55 أعجبت من ضربك زيداً؟ .

وما حكم: قد جئتك فوجدتك أنت أنت؟ وما وجه الفائدة فيه؟ ولم قدره: فوجدتك وجهك طليق؟ وهل الفائدة فيه: فوجدتك أنت الذي أعرف بالأحوال التي هي لك، لم تتغير عنها؟ . وهل يجري هذا المجرى: أنت أنت، وإن فعلت هذا فأنت أنت؟ . وما معنى قولهم: الناس الناس؟ وهل ذلك بمعنى: الناس على ما عرف من أحوالهم، لم ينقلبوا عنه؟ . ولم جاز: قد وليت عملاً فكنت أنت إياك، وقد جربتك فوجدتك أنت إياك؟ وهل يختلف التقدير، ويتفق المعنى؟ . ولم جاز أن تقول: أنت، وتسكت؟ وهل ذلك لأن الحال تدل على معنى: أنت كما عهدت؟ . وهل يجوز: قد جربت فكنت؟ وهل ذلك لأن الحال يدل على معنى: فكنت على ما عهد منك، لم تتغير؟ .

الجواب: الذي يجوز في مواقع (إيا) التي للإضمار كل موقعٍ لا يصلح فيه المتصل فالمنفصل يصلح فيه. والأصل في موقع المتصل هو الموضع الذي يلي العامل، وهو على ثلاثة أوجه: أقوى العوامل عملاً [الفعل]، فهو يكون معه المتصل يليه، ويلي ما يليه؛ لأن قوته في العمل تجعل الثاني بمنزلة ما يليه. وأضعف العوامل الحرف الذي يعمل بحق الشبه، فلا يكون المتصل إلا في الموضع الذي يليه. وأوسط العوامل في المرتبة يصلح في الثاني المتصل فيه والمنفصل، كالمصدر وكان وأخواتها. ولا يجوز أن يقع المنفصل موقعاً يصلح فيه المتصل مما يلي العامل؛ لأن هذا الموقع هو الأصل فيها للمتصل، وهو أقوى مواقعه، فلا يجوز: إن إياك منطلقٌ، على معنى: إنك منطلقٌ؛ لما بينا. وتقول: إياك رأيت، وإياك أعني، وشاهده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فلو قيل: رأيتك، وأعنيك؛ لم يكن فيه انقلاب المعنى، ولكن فيه منع حق الأنبه من التقديم الذي يجب له، فلم يجز مع إمكان المنفصل.

وقوله جل وعز: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى} [سبأ: 24]، فهذا لا يصلح فيه إلا المنفصل؛ لأنه على حرف العطف، وليس بعاملٍ. ويجوز: إنا إياكم، ولا يجوز مثل ذلك في: ضربناكم؛ لقوة عمل الفعل، وضعف عمل الحرف. وتقول: إني وإياك منطلقان، فلا يصلح إلا /55 ب بالمنفصل؛ لأن الواو ليست عاملةً. وتقول: ما رأيت إلا إياك؛ لأنك لو أتيت بالمتصل؛ انقلب المعنى في مثل قولك: ما رأيتك، فيصير على نفي رؤيته، والمعنى على إثباتها، وفي التنزيل: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، فلا يكون مثل هذا إلا بالمنفصل. وقال الشاعر: (مبرأ من عيوب الناس كلهم ... فالله يرعى أبا حرب وإيانا؟ ) فهذا بمنزلة: ضربت زيداً وإياك، وقد بينت لك أن: إياك ضربت، أقوى من هذا؛ لأن هذا ليس فيه إلا الاتساع، والتقديم في صدر الكلام فيه ترتيب الأنبه في الموضع

الذي هو أحق به من الذكر. وقال الآخر: لعمرك ما خشيت على عدي ... سيوف بني مقيدة الحمار ولكني خشيت على عدي ... سيوف القوم أو إياك حار فهذا موقع المنفصل؛ لأنه ولي حرف العطف. وتقول: إن إياك رأيت، فيجوز على: إنه إياك رأيت، ولا يجوز على: إنك رأيت؛ لأنه موقع المتصل الذي يلي العامل، وليس كذلك إذا قدر على: إنه؛ لأن (إن) حينئذٍ لا تعمل في: إياك، وإنما هو بمنزلة: إياك رأيت. وتقول: إن أفضلهم لقيت، فيجوز على: إنه أفضلهم لقيت، على أن يكون معمول: لقيت، ويجوز على: إن أفضلهم لقيته؛ لأن حذف الهاء يتكافأ في الموضعين. وتقول: عجبت من ضربي إياك، ويجوز: عجبت من ضربيك؛ لأن المصدر في أوسط المراتب من العمل، ولم تستحكم علامات الإضمار فيه كما تستحكم فيما

له أقرب المراتب [في] العمل، وهو الفعل؛ ولذلك جاز في الفعل أن يبدأ بالأبعد، فتقول: ضربتني، وضربك، وضربني، وأكرموني، فتبدأ بالأبعد، وهو الغائب، ولم يجز مثل ذلك في المصدر، إذا قلت: عجبت من ضربيك، وضربيه؛ لم يجز أن تبدأ بالأبعد، فتقول: عجبت من ضربكي، ولا: ضربهيك؛ لأن الفعل يغير له اللفظ في الفاعل، ولا يغير في المصدر عن حد المفعول. وتقول: كان إياه، وهو أكثر من: كانه؛ لأنه ليس بفعلٍ حقيقي، فهو أقرب إلى العامل الضعيف /56 أ، وهو في مرتبة المصدر؛ لأنهما جميعاً في المنزلة الوسطى من العمل. وتقول: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك، فلا يجوز في الاستثناء إلا المنفصل؛ لأنه كان يضعف فيه المتصل، ثم أنضاف إليه في الاستثناء ضعفٌ من وجهٍ آخر، وهو وقوعه موقع: إلا، فلم يجز فيه إلا المنفصل. وقال عمر بن أبي ربيعة: (ليت هذا الليل شهرٌ ... لا نرى فيه عريبا) (ليس إياي وإياك ولا نخشى رقيبا)

فهذا لا يكون إلا بالمنفصل؛ لأنه في موضع الاستثناء. وتقول: عجبت من ضرب زيدٍ أنت، فلا يكون إلا بالمنفصل، وكذلك: من ضربك هو؛ لأنه ولي غير العامل مما لا يصلح فيه المتصل. وتقول: قد جئتك فوجدتك أنت أنت؛ أي: أنت على ما أعرف لم تتغير، والجملة في موضع الخبر. وعلى ذلك تقول: أنت أنت، وإن فعلت فأنت أنت، كأنه قال: فأنت الجواد على ما عهدت. وعلى ذلك تقول: الناس الناس؛ أي: الناس على ما عهد منهم لم يتغيروا. وتقول: قد وليت عملاً فكنت أنت إياك، وقد جربتك فوجدتك أنت إياك، فالمعنى متفقٌ، والتقدير مختلف؛ لأن أنت تأكيد، وإياك هو الخبر في هذا.

وتقول: قد جربت فكنت كنت، بالتكرير؛ للتأكيد على أنه على ما عهد، لم يتغير. ويجوز: قد جربت فكنت، بحذف الخبر على هذا؛ أي: فكنت على ما عرف، لم تتغير.

باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل

باب الإضمار فيما جرى مجرى الفعل الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الإضمار فيما جرى مجرى الفعل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الإضمار فيما جرى مجرى الفعل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يستتر فيه الضمير كما يستتر في الفعل؟ . وما الذي يجرى مجرى الفعل؟ ومن أي وجه جرت إن وأخواتها، ورويد وأخواتها مجرى الفعل؟ وما في أنها تعمل عمل الفعل ما يوجب أنها بحق الشبه للفعل، لا بحق الأصل؟ وما حكم: عليك زيداً، ورويد زيداً، إذا كني عنه؟ ولم كان /56 ب الوجه: عليكه، ورويده؟ ولم جاز: عليك إياه، ورويد إياه، على ضعفٍ؟ .

ولم كان الوجه: عليكني، دونك عليك إياي؟ . وما وجه قول العرب: عليك بي، وعليك بنا، على رفض: ني، ونا، ومع: عليك؟ وما في هذا أنه وصل الضمير بما لا يكون إلا عاملاً من غير أن ينقض المعنى؟ . ولم جاز: عليك إياه، ولم يجز: إن إياه؟ وهل ذلك لأن إياه في المرتبة الثانية مع: عليك؛ إذ ضمير الفاعل مرفوعٌ في: عليك، يدلك على ذلك جواز تأكيده، وليس مع إن ضميرٌ أصلاً؟ . وما حكم: رأيت فيها إياك؟ ولم قبح، ورأيت اليوم إياك؟ وهل يجوز على هذا: ضرب زيدٌ إياك، وإن فيها إياك؟ وهل يلزم على هذا امتناع: ما أتاني إلا أنت، وما رأيت إلا إياك؟ .

باب الإضمار الذي يجوز في الشعر

باب الإضمار الذي يجوز في الشعر الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الإضمار الذي يجوز في الشعر مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الإضمار الذي يجوز في الشعر؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم جاز فيه أن يقع المنفصل موقع المتصل، ولم يجز أن يقع ذلك في حروف الجر؟ وما الشاهد في قول حميد الأرقط: إليك حتى بلغت إياكا وقول الآخر:

كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا؟ .

باب إضمار المجرور

باب إضمار المجرور الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في إضمار المجرور مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إضمار المجرور؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز أن يكون للمجرور إضمار منفصلٌ؟ . ولم استوت علامة إضمار المنصوب والمجرور المتصل إلا في الإضافة إلى نفس المتكلم، نحو: بي، ولي، وعندي؟ . وما حكم: مررت بزيدٍ وعمروٍ، إذا كان عمروٌ مخاطباً؟ ولم وجب فيه: مررت بزيدٍ وبك، على إعادة الجار، وما مررت بأحدٍ إلا بك؟ وهل ذلك لأن الكاف وأخواتها لا تكون إلا متصلةً بالعامل؟ .

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الإضمار فيما جرى مجرى الفعل الضمير المتصل. ولا يجوز أن يستتر فيه الضمير /57 أكما يستتر في الفعل؛ لأن هذا من خاصة الفعل التي تجب له بقوة عمله، وهو لئلا يخلو من الفاعل مظهراً أو مضمراً، فإذا استغنى عن إظهاره؛ أضمر واستتر في الفعل؛ حتى يكون انعقاده به على أتم ما يمكن، في أعلى مرتبةٍ من الانعقاد الذي ليس فوقه ما هو أعلى منه، وقد بينا لم كان أقوى العوامل. وما يجري مجرى الفعل في العمل إنما يكون له العمل بحض الشبه، فالضمير المتصل يجوز له؛ لأنه عاملٌ قد وليه الضمير، وذلك في باب إن وأخواتها، وباب رويد وأخواتها مما يتعدى إلى مفعولٍ. فإذا قلت: عليك زيداً، أو رويد زيداً، ثم كنيت عن زيدٍ؛ قلت: عليكه، ورويده. ويجوز: عليك إياه، ورويد إياه؛ لأنه في المرتبة الوسطى من مراتب

العوامل، مع أنه في تقدير ما قد فصله الفاعل الذي له ضمير المرفوع. ومثل ذلك: عليكني، وعليك إياي، والمتصل أولى؛ لأنه عاملٌ يجري مجرى الفعل. وبعض العرب يقول: عليك بي، وعليك بنا، على رفض: ني، ونا، مع: عليك؛ لأنه لما ضعف الضمير المتصل، وكان لحاق الباء لا يغير المعنى؛ اختاره؛ ليكون الضمير المتصل فيما يقوى فيه دون ما يضعف فيه. ويجوز: عليك إياه، ولا يجوز: إن إياه؛ لأن إياه في: عليك إياه، وقع موقعاً منفصلاً من العامل في التقدير بالفاعل، وليس كذلك باب: إن، والدليل على أن معه ضميراً مرفوعاً مقدراً جواز تأكيده في: عليكم أنفسكم زيداً. وتقول: رأيت فيها زيداً، فإن كنيت عنه بضمير المخاطب؛ قلت: رأيتك فيها، ولا يحسن: رأيت فيها إياك، ولا رأيت اليوم إياك؛ لأنه يمكن المتصل من غير أن يقلب المعنى، ولا يغيره عن حد الأولى؛ فلهذا قبح: رأيت فيها إياك، وكذلك يقبح: ضرب زيدٌ إياك، وإن فيها إياك. ولا يلزم على هذا امتناع: ما رأيت إلا إياك، وما أتاني إلا أنت، لأن هذا لو أتي فيه بالمتصل؛ لانقلب المعنى؛ إذ يصير: ما رأيتك، وما أتيتني.

وكذلك لا يلزم عليه امتناع: إياك رأيت؛ لأنه يوجب تغيير المعنى عما هو أولى؛ إذ الأولى في الأنبه الأعرف تقديمه في صدر الكلام /57 ب إذا أريد البيان عن منزلته.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الشعر من الإضمار وقوع المنفصل موقع المتصل، ولا يجوز أن يقع المنفصل موقع المتصل في المجرور؛ لأن المجرور ليس له منفصلٌ كما للمرفوع والمنصوب. وقال حميدٌ الأرقط: إليك حتى بلغت إياكا فأوقع إياك موقع الكاف في: بلغتك. وقال الآخر: كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا في موضع: نقتل أنفسنا.

الجواب عن الباب الثالث: الذي يجوز في إضمار المجرور الضمير المتصل الذي يكون للمنصوب؛ للمؤاخاة بين الجر والنصب. ولا يجوز للمجرور ضميرٌ منفصلٌ؛ من أجل أنه لا يفرق بين الجار والمجرور، ولا يقدم عليه. وتستوي علامة الضمير المنصوب والمجرور المتصل إلا في الإضافة إلى نفس المتكلم، نحو: بي، ولي، وعندي، وصاحبي، ويكون قبلها في الفعل نونٌ؛ ليسلم بناء الفعل من لفظ الجر، كقولك: ضربني، ويضربني. وتقول: مررت بزيدٍ وعمروٍ، فإن كنيت عن عمروٍ، وهو مخاطبٌ؛ قلت: مررت بزيدٍ وبك، وإن كان غائباً؛ قلت: مررت بزيدٍ وبه، فأعدت حرف الجر؛ حتى يصح الضمير المتصل في المجرور.

باب إضمار المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى اثنين

باب إضمار المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى اثنين الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في إضمار المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى اثنين مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إضمار المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى اثنين؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز فيهما المنفصل، ولا في الأول منهما؟ . ولم جاز في الثاني المتصل والمنفصل؟ وما في وقوعه بعيداً من العامل بالفاعل والمفعول الأول، مع قوة نفوذه إليه؟ وهل نفوذه إلى الأول أقوى كما أن عمله في الفاعل أقوى؟ . وما حكم: أعطانيه، وأعطانيك؟ ولم جاز بالمتصل والمنفصل في: أعطاني إياه، وأعطاني إياك؟ .

ولم ترتب المفعول في الضمير هاهنا على أن يبدأ بالأقرب، ولا يبدأ بالأبعد؟ فلم قبح: /58 أأعطاهوني، وحسن، أعطانيه؟ ولم قبح: أعطاكني، وحسن: أعطانيك؟ . وما وجه إجازة النحويين خلاف الترتيب في هذا على القياس؟ وما القياس الذي أوجب جوازه؟ وهل ذلك لأنه يجوز بإجماعٍ: رأوني، ورأيتني، على أن يبدأ بالأبعد، إلا أنه يفرق بين الأمرين أن هناك فاعلاً ومفعولاً، وليس في هذا إلا مفعولان؟ . ولم حسن في المنفصل: أعطاه إياه، وأعطاك إياي، ولم يحسن في المتصل؟ وهل ذلك لأن المنفصل يجري مجرى الأجنبي في التقديم والتأخير والفرق بينه وبين العامل، فلم يطالب له العامل بالترتيب كما يطالب في المتصل؛ إذ يمنع من تقديم المتصل عليه، ولا يمنع من تقديم المنفصل، وهذا هو المطالبة بالترتيب في المتصل، فلما طالب بترتيبه في الموقع؛ طالب بترتيبه في الأقرب، وكما لم يطالب بترتيب المنفصل في الموقع الذي هو أوكد؛ لم يطالب بتربيته في الأقرب، فعلى هذا كلام العرب، ومذهب سيبويه الذي يختاره ولا يجوز غيره، وإن كان بعض

النحويين قد أجاز ذلك على القياس الذي ذكرنا، وهو مذهب أبي العباس يخالف فيه سيبويه، وقد بان وجه الصواب في ذلك أنه مذهب سيبويه؟ . ولم جاز: أعطيتكه، وأعطاكه، ولم يجز: أعطيتهوك، ولا أعطاهوك؟ . وما الشاهد في قول الله جل وعز: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] فالأقرب المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب؛ لأن المتكلم أخص بكلامه من المخاطب، والمخاطب حاضرٌ كما أن المتكلم حاضرٌ لكلامه، وهو أخص به في أنه أحق بإدراكه، ثم المخاطب، ثم الغائب؟ . وما وجه إلزام من أجاز أن يبدأ بالأبعد في الضمير أن يقول: منحتنيني؟ وهل ذلك لأنه وضع المتصل غير موضع المنفصل، فقبح فيما ينافر طباع المتكلمين بهذا اللسان؟ .

وما وجه اعتراض أبي العباس بأن هذا تشنيعٌ كتشنيعٍ ضعفه أهل الحديث؟ . وهل يفسد ذلك أن التشنيع على وجهين؛ أحدهما: ما ينافر طبع العاقل من غير عادةٍ سيئةٍ، والآخر: ما ينافر الطبع لعادة /58 ب سيئةٍ؛ لأن: منحتني نفسي، ليس بعادةٍ سيئةٍ بإجماعٍ، فعلى هذا معتبر التشنيع؟ . وما حكم المفعولين إذا استويا في المنزلة من الأقرب أو الأبعد؟ فلم جاز في الأبعد: أعطاهوها، وأعطاهاه، ولم يجز مثل ذلك في المخاطب والمتكلم حتى تقول: أعطاك نفسك؛ أي: خلي بينك وبينها، وأعطاني نفسي؟ . ولم كان الأكثر في كلامهم: أعطاه إياه؟ وهل ذلك لكراهة التعقيد بالتضعيف للمتصل من الضمير؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

(وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ... لضغمهماها يقرع العظم نابها؟ .) فلم وجب ألا تستحكم علامات الإضمار هاهنا كما لم تستحكم في: عجبت من ضربي إياك؟ وهل ذلك لبعد المعمول من العامل في المرتبة الثالثة، وهو في المصدر؛ لضعف العامل عن منزلة الفعل الحقيقي؟ . ولم جاز: حسبتك إياه، وحسبتني إياه، وكان أقوى وأكثر من: حسبتنيه، وحسبتكه؟ . وما في دخول: حسبت، على الابتداء والخبر كدخول: كان وليس عليهما؟

وهل ذلك يقربهما من الفعل الذي ليس بحقيقي؟ . الجواب: الذي يجوز في إضمار المفعولين في الفعل الذي يتعدى إلى اثنين إجراء الأول على المتصل، وإجراء الثاني على جواز المتصل والمنفصل؛ لبعده من العامل بمرتبتين. ولا يجوز في المفعول الأول المنفصل؛ لقربه من الفعل بأنه ليس بينه وبينه إلا الفاعل، فقوة نفوذ الفعل إلى المعمول تجعل المفعول الأول بمنزلة ما يلي العامل. وتقول: أعطانيه، وأعطانيك، ويجوز: أعطاني إياه، وأعطاني إياك. والمفعول الثاني يترتب في المتصل على الأقرب فالأقرب؛ وذلك أن الأقرب المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب. وإنما كان المتكلم أقرب؛ لأنه حاضرٌ هو أخص بالفعل بأنه أحق بإدراكه قبل غيره من سائر العباد، ثم المخاطب؛ لأنه حاضرٌ للكلام، ثم الغائب.

وإنما ترتب بالفعل في الأقرب فالأقرب، ولم يترتب المنفصل؛ لأن الفعل أقوى على المتصل منه على المنفصل؛ إذ ترتبه في الموقع /59 أبمنعه إياه أن يتقدم عليه، أو أن يفرق بينه وبينه، فكذلك ترتبه في الأقرب. وليس كذلك المنفصل؛ لأنه يجري مجرى الأجنبي في التقديم والتأخير والفرق، فلا يجوز: أعطاهوني، ويجوز: أعطاه إياي، وأعطانيه، ولا يجوز: أعطاكني، ولكن: أعطانيك، وأعطاني إياك، وأعطاك إياي، كل ذلك جائز حسنٌ. وقد أجاز بعض النحويين خلاف الترتيب في هذا قياساً على الضمير المنفصل، وقد بينا الفرق بينهما بما يوجب إبطال ذلك القياس. وتقول: أعطيتكه، وأعطاكه، ولا يجوز: أعطيتهوك، ولا أعطاهوك؛ لما بينا. وفي التنزيل: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، فجاء هذا على الأقرب، وهو المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب، وهو القياس الحسن. ويلزم من بدأ بالأبعد أن يقول: منحتنيني، وهذا قبيحٌ شنعٌ في الأفهام الصحيحة من أهل هذا اللسان.

وقد اعترض أبو العباس في هذا بأنه تشنيعٌ يجري مجرى تشنيعٍ ضعفه أصحاب الحديث. وليس الأمر كذلك؛ لأن الشنيع الفاسد إنما يرجع إلى عادةٍ سيئةٍ، فأما الشنيع الصحيح؛ فيرجع إلى استقباح أفهام العقلاء، وهو حجةٌ على من أدرك شناعته، ولو لم يكن هذا أصلاً عليه؛ لم يلتفت إلى استحسان العقلاء من أهل هذا اللسان. كما لا يلتفت إلى استقباحهم، وليس الأمر كذلك. وحكم المفعولين إذا استويا في المنزلة من الأقرب أو الأبعد أن يجوز أن يبدأ بما شاء المتكلم منهما إذا اختلف لفظاهما، فأما إذا اتفقا فيقبح؛ للتعقيد بتضعيف علامة الضمير، فتقول: أعطاهوها، وأعطاهاه، والأحسن في هذا المنفصل؛ لئلا يكون عل التعسف بالتعقيد. والحمد لله وحده. يتلوه - إن شاء الله - في الجزء الذي يليه: وقال الشاعر: وقد جعلت نفسي .... وصلى الله على محمدٍ وآله.

/59 ب الجزء الثلاثون من شرح كتاب سيبويه، إملاء أبي الحسن علي بن عيسى النحوي، رحمه الله عليه. /60 أبسم الله الرحمن الرحيم، المستعان الرحمن. وقال الشاعر: (وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ... لضغمهماها يقرع العظم نابها) فما يضعف فيه المتصل على ثلاثة أوجه: المفعول الثاني؛ لبعده من العامل. والمصدر؛ لضعف العامل، في المنزلة الوسطى. وكان وأخواتها؛ لأنها ليست فعلاً حقيقياً. الحكم متفقٌ، والعلل مختلفةٌ. والأجود في خبر: حسبت وأخواتها، المنفصل؛ لأنه أشبه باب إن، وكان، في الدخول على المبتدأ والخبر، وأنه ليس فعلاً ينفذ إلى مفعولٍ في الحقيقة لفعلٍ يوقعه به، وإنما هو مختصٌ بالمبتدأ والخبر، فتقول: حسبتك إياه، وحسبتني إياه، فهذا أقوى من: حسبتنيه، وحسبتكه.

باب ما يمتنع من الضمير المتصل

باب ما يمتنع من الضمير المتصل الغرض منه: أن يبين ما يجوز في الذي يمنع منه الضمير المتصل مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الذي يمتنع منه الضمير المتصل؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز ضمير المنصوب المتصل فيما يتعدى إلى نفسه؟ وهل ذلك لمخالفته الأصول الصحيحة من جهة أن الأصل تعدى الفعل إلى غير الفاعل، وأن الضمير المتصل لا يجري مجرى الأجنبي، وأنه هو الفاعل على معناه؛ إذ قد يكون الثاني هو الأول على خلاف معناه قبل أن يبنى على الفعل، فيجري مجرى الأجنبي، كقولك: زيدٌ الكريم؟ . ولم جاز: اضرب نفسك، وإياك فاضرب، ولم يجز: اضربك، ولا اقتلك، ولا ضربتك؟ وما وجه الاعتلال بالاستغناء عن المتصل بـ: اقتل نفسك، وأهلكت نفسك؟ وهل ذلك على جهة الاستغناء عن الشيء بما هو أولى منه؟ .

ولم لا يجوز: أهلكتني، ولا أهلكني؟ ولم صار الاستغناء بالنفس أولى من هذا الضمير؟ وهل ذلك للتفصيل بذكر النفس بدلاً من التعقيد بالضمير المتصل؛ إذ الأصل في المفعول أن يكون غير الفاعل، مع ما يدخل فيه من إيهام الفساد إذا قلت: زيدٌ ظلمه، فهذا يوهم ظلم غيره، وليس كذلك إذا قلت: ظلم نفسه، وأهلك نفسه؛ فلهذا /60 ب البيان صار أولى، وصح الاعتلال بالاستغناء بما هو أولى؟ . وما حكم حسبت وأخواتها في ضمير المنصوب المتصل؟ . ولم جاز: حسبتني ذاهباً، ولم يجز: ضربتني، وهل ذلك لاجتماع سببين: أحدهما أنها أفعالٌ لا تنفذ إلى مفعولٍ، وإنما معناها الاختصاص بالمفعول من غير وصول الفعل إليه؟ . وهل يجوز: رأيتني خارجاً؟ ولم جاز من رؤية القلب، ولم يجز من رؤية العين؟ . وما في امتناع النفس من حسبت وأخواتها من الدليل على أنه للمتصل؟ .

ولم جاز: إنني، ولعلني، مع أن الاسم على تقدير مفعولٍ هو الفاعل في: إنني أخوك؟ وهل ذلك لأنه ليس فيه فعلٌ على الحقيقة، وإنما هو حرفٌ مشبهٌ، وإذا احتمل ذلك حسبت؛ فـ (إن) أحمل له؛ لأنها حرفٌ؟ . الجواب: الذي يجوز في الذي يمتنع منه الضمير المتصل - وهو الفعل المتعدي إلى مفعولٍ - بناء المنفصل عليه، والنفس، كقولك: ضربت نفسي، وإياي ضربت. ولا يجوز بناء المتصل عليه إذا كان الفاعل هو المفعول؛ لاجتماع ثلاثة أسبابٍ يخالف بها الأصول الصحيحة: الأول: أن الأصل في الفاعل والمفعول أن يكون أخدهما غير الآخر. والثاني: أن يكون لاسمه معنى خلاف معنى اسم الفاعل قبل أن يبنى على الفعل.

والثالث: أن يجوز فيه - إذا بني على فعلٍ متصرفٍ - التقديم والتأخير، والفرق بإلا ونحوه. فلما خالف ضمير المنصوب المتصل الأصول الصحيحة من هذه الأوجه الثلاثة؛ رفض واستغنى عنه بما هو أولى منه من النفس والمنفصل، على ما بينا قبل. وإنما صارت النفس أولى منه؛ لموافقتها الأصل في المفعول الذي يعمل فيه الفعل المتصرف، مع البيان الذي في النفس بما ليس في الضمير، نحو: زيدٌ أهلك نفسه. وقد فسرنا وجه الاعتلال بالاستغناء، وهو أن يكون كل ما في المستغني عنه فهو في المستغنى به، إلا أن للمستغني به فضيلةً فيما يحتاج إليه، وهذا يوجب رفض المستغني عنه أصلاً. وحكم حسبت وأخواتها أن يجوز فيها ما امتنع في غيرها من الأفعال؛ لاجتماع شيئين: أحدهما: أنها لا تنفذ إلى المفعول بحادث يقع به.

والآخر: 61 أاجتماع المفعولين على امتناع الاقتصار على أحدهما، وأصل الضمير المتصل إنما هو الإيجاز، وموضع الثقل بلزوم المفعولين أحق بالإيجاز؛ فلهذا جاز: حسبتني ذاهباً، وأظنني خارجاً، ولم يجز: ضربتني، ولا أهلكتني. وتقول: رأيتني راحلاً، من رؤية القلب، ولا يجوز من رؤية العين، على الأصل الذي بينا. وفي امتناع النفس من حسبت ما يدل على أنه موضع المتصل؛ لأنه لو كان قد استغنى عنه بالنفس؛ لم تمتنع من حسبت وأخواتها. ويجوز: إنني، ولعلني، لأنه حرفٌ ليس فيه مفعولٌ يجب في الأصل أن يكون غير الفاعل، وإذا جاز في حسبت وأخواتها المتصل فهو في إن وأخواتها أجوز.

باب إضمار المتكلم

باب إضمار المتكلم مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إضمار المتكلم؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يكون إضمار المتكلم في الفعل إلا مع النون؟ . وما في أنه لا يدخله الجر مما يوجب ذلك؟ . ولم جاز: ضربني، وقتلني، بالنون والياء، ولم يجز في الاسم إلا: ضاربي، وقاتلي، بياء الإضافة وحدها؟ . ولم جاز: إنني، ولعلني، وإني، ولعلي؟ وما المحذوف من: إني؟ ولم وجب أنه النون التي تلي الياء؟ . ولم جاز: لعلي، وليس فيه تضعيفٌ يحذف لأجله النون؟ .

ولم جاز: اضرب الرجل، ولم يجز: ضربي، إلا بزيادة النون؟ . ولم جاز: ليتي؟ وما الشاهد في قول زيد الخيل: (كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقد بعض مالي؟ .) ولم جاز: عني، ومني، ولدني، بزيادة النون قبل ياء الإضافة؟ . ولم جاز: معي، ولدي في: لد؟ .

وما الشاهد في قول الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي؟ ولم كان: قدي، ضرورة؟ . وما حكم: لدى، وعلى، وإلى، وهلا وجب له النون مع ياء الإضافة؛ لأن قبله ساكناً؟ . ولم لا تكسر ياء الإضافة ما قبلها إذا كان ياء مفردةً؟ وهل ذلك لأنها تدغم فيها، وتلزم الحركة ياء الإضافة؟ وهلا جاز فيه: لداي، كما يجوز: رحاي؟ وهل

ذلك لأنه يلزم الياء ما يجب لنظيرها في: عليه، ولديه، وإليه، وعليك، ولديك؟ ولم وجب /61 ب في جميع هذا أن تصير الألف إلى الياء؟ وهل ذلك لشدة الاتصال من جهة الضمير، واتصال الحرف بالمجرور؟ . وما قياس كاف التشبيه إذا لحقتها ياء الإضافة؟ ولم وجب كسرها دون زيادة النون معها، أو تركها على حركتها؟ . وما حكم: قط، ولدن، وعن، في ياء الإضافة؟ ومن أي وجه ضارعت: خذ، وزن؟ . الجواب: الذي يجوز في إضمار المتكلم ياء الإضافة وحدها في الاسم، وهذه الياء مع النون في الفعل، كقولك: ضربني، ويضربني، وفي الاسم: ضاربي. والياء وحدها هي الاسم، وإنما زيدت النون في الفعل؛ ليحمى من الكسر الذي هو نظير الجر؛ إذ لا يدخل الفعل الجر أصلاً؛ فلهذه العلة زيدت النون، وإلا فعلامة المجرور والمنصوب واحدةٌ، كما هي في كاف الخطاب، إذا قلت: ضربك، ومر بك، وكذلك في الغائب: ضربه، ومر به، فإنما زيدت النون في الفعل؛ لتقيه الكسر الذي هو نظير الجر، وتقع الكسرة على النون الزائدة.

ولا تجوز زيادة النون في الاسم؛ لأنه مما يدخله الجر، فليس فيه مانعٌ من الكسر الذي هو نظير الجر. وتقول: إنني، ولعلني، فتثبت النون كما تثبتها مع الفعل؛ لأن هذه الأحرف مشبهةٌ بالفعل، تجري مجراه في العمل. ويجوز: إني، ولعلي بحذف النون؛ كراهة التضعيف، مع كثرة هذه الحروف في الكلام. فأما لعلي، فحذفت النون منه؛ لأنها مقاربةٌ للام، والحروف المتقاربة تجري مجرى المتماثلة في هذا. والنون محذوفة هي التي تلي ياء الإضافة؛ لأنها زائدةٌ، فحذف الزائد أولى. ويجوز: اضرب الرجل؛ لأن حركة التقاء الساكنين عارضةٌ، ولا يجوز: ضربي، في الفعل؛ لأن الحركة التي تكون مع ياء الإضافة ليست عارضةً؛ لأنها تدخل في الكلمة حتى تصير كبعض حروفها.

ويجوز في الضرورة: ليتي؛ تشبيهاً بالاسم من جهة أنه ليس للحرف حركةٌ تتكره فيه، كما ليس للاسم ذلك، وعلى هذا جاز: قدي، في: قد، وقال زيد الخيل: (كمنية جابر إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقد بعض مالي) / 62 أفقال: ليتي، على الضرورة. وقال آخر: (قدني من نصر الخبيبين قدي) وتقول: عني، وقطني، ولدني، ومني، فتزيد النون؛ لتقي السكون الذي قد تمكن في بناء الاسم عليه؛ إذ أصل كل مبني السكون، كما تزيد النون في الفعل؛ لتقيه الكسر الذي هو نظير الجر الممتنع منه. وتقول: معي، ولدي في: مع، ولد؛ لأن ما قبل الياء متحركٌ في غير الفعل.

وأما: إلى، وعلى، ولدي؛ فتقول فيها: إلي، ولدي، وعلي؛ لأن هذه الياء إذا صادفت ياءً قبلها مفردةً؛ لم يكن لها سبيلٌ عليها في الأسماء، نحو: مسلمي في التثنية، ومسلمي، في الجمع؛ لأنه يجب الإدغام وتحريك ياء الإضافة على أصلها بالفتحة، فكذلك هذه الأحرف التي يلزمها في الضمير المتصل أن تكون قبلها ياءٌ، لشدة الاتصال من وجهين: ما للضمير المتصل، وما لحرف الجر من شدة الاتصال، فصار بمنزلة الفاعل في الاتصال بالفعل، وأنه أشد اتصالاً من المفعول؛ فلذلك بني معه في: فَعَلْتُ، وفَعَلْتَ، وفَعَلْنَ، وغير لفظه بما تقضيه شدة الاتصال حتى يصير كبعض حروفه؛ فلهذه العلة غيرت هذه الأحرف، ولم يجب فيها: علاي، كما يجب في الأسماء المتمكنة نحو: هداي، ورحاي. وقياس كاف التشبيه - إذا لحقتها ياء الإضافة - الكسر، كقولك: ما أنتِ كي، وفتحها خطأٌ، وإنما كسرت؛ لأنها حرفٌ متحركٌ على قياس الحروف الصحيحة إذا كانت متحركةً، وليست بمنزلة المبني على السكون نحو: قط، ولدن، وعن، لأن هذه الأحرف بمنزلة: خذ، وزن، في البناء على الأصل الذي يجب لكل مبني، فقياس هذه زيادة النون مع ياء الإضافة؛ لتقي السكون المتمكن في الثبوت، ولا تذهبه مع تمكنه في ثبوته.

باب ضمير المجرور الذي يقع موقع ضمير المرفوع

باب ضمير المجرور الذي يقع موقع ضمير المرفوع الغرض منه: أن يبين ما يجوز في ضمير المجرور الذي يقع موضع ضمير المرفوع مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في ضمير المجرور الذي يقع موقع ضمير المرفوع؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . / 62 ب ولم لا يجوز أن يطرد مثل هذا؟ وهل ذلك لأنه للإشعار بمناسبة الضمير مع الإيجاز الذي فيه، ومع الإيذان بأنه مبني، وإن كان فيه دليلٌ على وجوه الإعراب؟ . وما حكم: لولاك، ولولاي؟ ولم وجب أن الأصل: لولا أنت، ولولا أنا؟ . وما موضع الكاف في: لولاك؟ وما وجه قول سيبويه: إن موضعها جر؟ ولم خالفه الأخفش، وابن السراج، وقالا: موضعها رفعٌ؟ .

ولم جاز أن يخرج (لولا) إلى حروف الجر، وليس فيه معنى الإضافة، ولا يرجع إلى عاملٍ فيه كما ترجع حروف الجر إلى عمل الفعل؟ وهل ذلك على شبه حرف الجر من جهة عقد المعنى فيه بالجواب، وإن لم يعمل فيه فعلٌ؟ . وهل يجوز أن يعمل فيه الاستقرار، على تقدير: لولاك استقررت بالمحل الذي أنت به، لئلا ينكسر الباب في حروف الإضافة؟ . وما في قوله جل ثناؤه: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] من الشاهد؟ وما الفرق بين أن تكون الياء والكاف في هذا علامة مضمرٍ مرفوعٍ وبين أن تقعا موقع علامة مضمرٍ مرفوعٍ؟ وهل ذلك في وقوع كلمةٍ موقع كلمةٍ أخرى لا يفسد الموضع؛ لأنه مضمنٌ بالدليل كما يقع المصدر موقع الحال، وموقع الصفة، ولا يكون حالاً، وكما جاز: (أرسلها العراك .... ) على وقوعه موقع الحال، ولم يجز أن يكون حالاً، وهو معرفٌ بالألف واللام؟ .

وما الشاهد في قول يزيد بن الحكم: (وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي؟ ) وما حكم: عساك؟ ولم وجب أن الكاف في موضع نصبٍ عند سيبويه؟ وما في قولهم: عساني، من الدليل؟ ولم خالف الأخفش في ذلك، وذهب إلى أن الكاف في: عساك، في موضع رفعٍ، وكذلك النون والياء في: عساني؟ . وما الشاهد في قول رؤبة: (يا أبتا علك أو عساكا)

وقول عمران بن حطان: (ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني؟ ) وما نظير الشذوذ /63 أفي ذا من قولهم: لدن غدوةً، ولات حين أوان؟ . ولم جاز: ما أنت كأنا، وما أنا كأنت؟ وما في ذلك من الدليل على مذهب

الأخفش؟ وهل وجه جوازه تنكب التضعيف في: كك، فوقع ضمير المرفوع موقع ضمير المجرور؛ لهذه العلة، وجرى نظيره في المتكلم مجراه في: ولا أنت كأنا؟ . ولم لا يجوز موافقة علامة الرفع للجر في أصل الموضوع كما جاز موافقة علامة النصب للجر في الأصل؟ . وما وجه إنكار سيبويه لمذهب من جعل العلامة في هذا موافقةً لعلامة الرفع من جهة كسر الباب، وهو مطردٌ؟ وهل ذلك إذا جعله في أصل الموضوع؟ . الجواب: الذي يجوز في ضمير المجرور الذي يقع موقع ضمير المرفوع إجراؤه في موقعٍ لا يخل بأنه في معنى المرفوع، وذلك بعد: لولا، كقولهم: لولاك، ولولاي، فهذا الموقع موقع مرفوعٍ قد ظهر أمره بالاسم الظاهر في: لولا زيدٌ لكان كذا وكذا، من غير أن يجوز فيه الجر، وظهر بقولهم: لولا أنت لكان كذا وكذا، وفي التنزيل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]، فهذا هو الأصل. وإنما جاز: لولاك؛ لاجتماع سببين:

أحدهما المناسبة بين علامات المضمر من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: الاشتراك في الإضمار. والثاني: البيان عن المخاطب من المتكلم من الغائب. والثالث: أنها كلها مبنيةٌ، وإن كان فيها دليلٌ على وجوه الإعراب، فإنها تنحط عن منزلة ما فيه الإعراب. فأشعر بهذه المناسبة بينها بإيقاع بعضها موقع بعضٍ من غير إخلالٍ بالمعنى، ولا يجوز أن يطرد مثل هذا؛ لأن الأصل أحق به؛ لأن الأصل أحق به؛ إذ كان ليس فيه إلا ما بينا من الإشعار والإيجاز. واختلفوا في موضع الكاف: فذهب الخليل ويونس وسيبويه إلى أنها في موضع جر. وذهب الأخفش وبعض النحويين المتقدمين وابن السراج إلى أنها في موضع رفعٍ، وإنما أوقعت علامة المجرور موقع علامة المرفوع لما بينا على طريقة الاستعارة، كما يقع المصدر موقع الحال في قولهم: إنما أنت /63 ب سيراً سيراً، وكما يقع المصدر المعرف في: (أرسلها العراك ... ) موقع الحال، وكل ذلك على طريق الاستعارة، ويستحيل أن يكون على

الحقيقة، وكذلك يقع ضمير المجرور موقع ضمير المرفوع على الاستعارة، ويمتنع أن يقع على الحقيقة، ولا يجوز أن يوضع على الاشتراك بين المجرور والمرفوع؛ لأنه لا مناسبة بين المرفوع والمجرور يصلح لأجلها هذا كما أن بين المجرور والمنصوب مناسبةً يصلح لأجلها اتفاق العلامة، فأما أن ينقل ضمير المجرور إلى موضع ضمير المرفوع فغير ممتنعٍ، وشواهده كثيرةٌ. والذي نختاره في هذا مذهب الأخفش؛ لأنه لو كان موضع الكاف جراً؛ لوجب أن يكون الحرف عاملاً؛ إذ لا يجوز الجر إلا بعامل الجر، والحرف الذي يعمل الجر لابد أن يكون فيه معنى الإضافة، ولابد من أن يعمل في موضعه الفعل، وليس كذلك في: لولا. فإن قال قائلٌ: فلم لا يجوز أن يعمل فيه الاستقرار، ويكون قد أضاف المخاطب إلى الاستقرار كما تقول: زيدٌ بالبصرة، فتضيفه إلى الاستقرار بالبصرة؟ . قيل له: إن الباء يفهم منها هذا المعنى في المضمر والمظهر، وليس كذلك: لولا؛ لأنه لا يفهم منها معنى الإضافة كما لا يفهم من: أما، ولا من: هل، ولا من أكثر الحروف معنى الإضافة، ويفهم من حروف الجر معنى الإضافة، وأنها لتعدية الفعل، وليس ذلك في: لولا. ولابد لمن ذهب هذا المذهب من أن يجعلها عاملةً للجر، وكأنه يشبهها بحرف

الجر، وفي ذلك بعدٌ، وإن كانت قد عقدت بعض الكلام ببعضٍ، وليس كل شيءٍ عقد الكلام بغيره فإنه من حروف الجر كحروف العطف، وإنما يحتاج فيها إلى أن تكون للتعدية، ولو صح هذا فيها؛ لجاز في المظهر كما يجوز في المضمر؛ إذ الحال واحدةٌ. ولا خلاف في أنه شاذٌ، إلا أن الشاذٌ إذا قل ما يخرج به عن الأصل، وكثر نظائره في جهة الشذوذ، كان أولى به، فوقوع كلمةٍ موقع كلمةٍ كثيرٌ، وإن كان على طريق الشذوذ، فأما جعل الحرف حرف إضافةٍ، وليس فيه معنى حرف الإضافة؛ ففاسدٌ. فإن قال قائلٌ: فإن فيه معنى اللام إذا قلت: لولا زيدٌ لكان كذا وكذا، فهو بمنزلة: لأجل زيدٍ لم يكن كذا وكذا. /64 أقيل له: ليس هو على هذا المعنى، كما أن: إذا، وإن، ليسا على معنى حرف الإضافة في قوله: إذا أتيتني أكرمتك، وإن أتيتني أكرمتك، وإن كان جملة الكلام يدل على: إني أكرمك لإتيانك، فالحرف لا يدل على هذا؛ لأنه لو كان كذلك؛ لجرى مجرى اللام في تعدية الفعل إذا قلت: أكرمك لإتيانك، فكان: أكرمك إن أتيني، بهذه المنزلة من تعدية الفعل، وليس كذلك عند أحدٍ من العلماء بالعربية؛ إذ كانت (إن) إنما هي شرطٌ تعلق الأول بالثاني على خلاف تعليق حرف الإضافة؛ لأن حرف الإضافة يوجب القطع بالفعل الذي وقع المعنى لأجله، وليس كذلك الشرط، فهذه معانٍ مختلفةٌ، ودلالتها مختلفةٌ؛ لتدل على المعاني المختلفة.

ومن زعم أنه يجوز أن يكون (لولا) حرف إضافةٍ؛ لزمه أن يكون (إن) يصلح أن يكون حرف إضافةٍ، فهذا ما لا إشكال في فساده. وقال يزيد بن الحكم: (وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي) فهذا شاهدٌ في وقوع علامة المجرور موقع علامة المرفوع. وقال رؤبة: (يا أبتا علك أو عساكا) وقال عمران بن حطان: (ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني) فالكاف في موضع رفعٍ عند الأخفش، وفي موضع نصبٍ عند سيبويه، ودليله:

عساني، وأن الفعل لا يعمل الجر أصلاً. ونظير ذلك في الشذوذ: لدن غدوةً، {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3]. واستشهد الأخفش على مذهبه بقول العرب: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا. فهذا شاهدٌ بينٌ، وعلته تنكب التضعيف في: ما أنا كك، وجاء في نظيره من المتكلم على قياسه. ولا تجوز موافقة الجر للرفع في أصل الموضوع كما تجوز موافقة النصب للجر في ذلك؛ لأن الرفع لا يناسب الجر، فهذا الذي أنكره سيبويه على ما قال، وهو يكسر ما يجب أن توضع عليه الأصول، وليس كذلك إذا وقعت كلمةٌ موضع كلمةٍ على جهة الاستعارة.

باب إشراك المظهر للمضمر

باب إشراك المظهر للمضمر الغرض منه: أن يبين ما يجوز / 64 ب في إشراك المظهر للمضمر مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إشراك المظهر للمضمر؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ . ولم لا يجوز إشراك المظهر للمضمر المرفوع المتصل بالفعل من غير تأكيدٍ، إلا على قبحٍ؟ . ولم جاز في المضمر المتصل المنصوب؟ ، وما حكم: رأيتك وزيداً؟ ولم جاز من

غير تأكيد، وإنك وزيداً منطلقان؟ . ولم قبح: فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله؟ . ولم غير الفعل للمضمر المرفوع؟ وما في شدة الاتصال مما يوجب تغيير الفعل؟ وما دليله من أنه نظير استتاره في الفعل؟ . ولم جرى المنفصل مجرى المظهر؟ . ولم صارت التاء في: ضربت، بمنزلة الألف في: أعطيت؟ . وما الشاهد في قوله جل وعز: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19]؟ . ولم حسن بالتأكيد العطف عليه، ولم يحسن بغير التأكيد؟ وما نظيره من قولهم: قد علمت أن لا تقول ذاك؟ ولم كان التأكيد في المضمر بمنزلة الفصل في هذا؟

وهل ذلك لأجل البيان بطول الكلام الذي يخرج الثاني من الحمل على ما لا يصلح أن يحمل عليه؟ . وما الشاهد في قول الله جل وعز: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]؟ ولم حسن العطف على المضمر المتصل من غير تأكيد؟ . وما الشاهد في قول عمر بن أبي ربيعة: (قلت إذ أقبلت وزهرٌ تهادي ... كنعاج الملاء يعسفن رملا) ويروي: ( ......... ... ... كنعاج الملاء تعسفن رملا) ولم جاز في الضرورة مثل هذا؟ وهل ذلك لأنه شبه بالمضمر المنفصل؟ .

الجواب: الذي يجوز في إشراك المظهر للمضمر إجراؤه عليه في كل مضمرٍ إلا المضمر المتصل المرفوع، فإنه لا يجوز أن يعطف عليه إلا بالتأكيد؛ لأنه غير له لفظ الفعل حتى صار كبعض حروفه، وبعض حروف الفعل لا يعطف عليه، فلما عومل بالتغيير معاملة بعض حروف الفعل؛ عومل بالامتناع من العطف عليه تلك المعاملة؛ حتى يجري على قياس مستقيمٍ. فإذا أكد أبان التأكيد معنى المضمر حتى يصير بالتأكيد /65 أكالمنفصل؛ للبيان الذي يوجبه التأكيد، ولو لم يكن لم يجز؛ لما بينا. وتقول: رأيتك وزيداً، وإنك وزيداً منطلقان، فيحسن هذا؛ لأن الضمير المنصوب لا يغير له لفظ الفعل، فجرى مجرى المنفصل. وتقول: فعلت أنا وعبد الله، ويقبح: فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله؛ لأنه عطفٌ على المضمر المرفوع من غير تأكيد. وشدة الاتصال تتعاظم، فيكون بعضه أشد اتصالاً من بعضٍ بوجوهٍ معقولةٍ تقتضي ذلك، فما اتصل من الزوائد بالكلمة بما لو سقط لم يكن للكلمة معنى فهو أشد إتصالاً مما يتعاقب عليها كتعاقب هاء التأنيث في نحو: قائمٍ، وقائمة، وذلك كالواو في: ضروبٍ، والألف في: ضاربٍ، فما كان من الزوائد في حشو الكلمة فهو أشد اتصالاً مما كان في آخر الكلمة قد أتى بعد سلامة بنيتها، وخلوص معناها

على التعاقب في ذلك الزائد. وما اتصل بالكلمة مما لا يصلح أن يوقف عليه فهو أشد اتصالاً بها مما يمكن أن يوقف عليه، كالباء في: بزيدٍ، ومن [في] قولك: من زيدٍ. وما اتصل بالكلمة على تغيير صيغتها عما كانت عليه قبل اتصاله فهو أشد اتصالاً مما أتصل بها على غير تغييرٍ. فعلى هذه الأصول يعمل في شدة الاتصال، فالتاء في: ضربت، بمنزلة الألف في: أعطيت، في شدة الاتصال، لأنهما جميعاً لو سقطا؛ لم يبق للكلمة معنى، فكانا بهذا أقرب إلى الحروف الأصول. وفي التنزيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]، {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19]، فهذا حسنٌ على القياس الذي بينا. ونظيره: قد علمت أن لا تقول ذاك؛ لأنه لما طال الكلام بحرف يؤذن بصحة حمل الثاني على الأول؛ حسن الكلام. وفي التنزيل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، فجاء هذا من غير تأكيد المضمر، ولكن فيه ما يقوم مقام التأكيد من (لا)، والدليل على ذلك أنه يحسن: قد علمت أن لا تقول ذاك؛ لأن (لا) قد فصلت، وقامت مقام الاسم في هذا

فكذلك (لا) في الآية قد فصلت، وقامت مقام الاسم فيه. وقال عمر بن أني ربيعة: (/65 ب قلت إذ أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا) فجاز هذا في ضرورة الشاعر، وإنما وجه الكلام: قلت إذ أقبلت هي وزهرٌ تهادى، وإنما جاز في الضرورة؛ تشبيهاً بالمضمر المنفصل؛ إذ قد اجتمعا في الإضمار وعلامة المرفوع.

باب ما ترده علامة الإضمار إلى أصله

بابُ ما تردُه علامةُ الإضمار إلى أصله الغرض فيه: أن يبين ما يجوز فيما تردُه علامةُ الإضمار إلى أصله مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا الباب: ما الذي يجوز فيما تردُه علامةُ الإضمار إلى أصله؟ وما الذي لا يجوز؟ ولِمَ ذلك؟ . ولِمَ لا يجوز أن يُتركَ مع علامة الإضمارِ على ما جرى به الاستعمالُ؟ وهل ذلك لأنها تُزيلُ عِلةَ التغيير عن الأصلِ؟ . ولِمَ جاز: لعبد اللهِ مالٌ، بالكسر، ولَمْ يَجُزْ إلا: لك مالٌ، وله مالٌ، بالفتح؟ وهل ذلك لأنه قد زال التباسُ اللام بلامِ الابتداءِ في قولك: إنَ هذا لزيدٍ، لو فُتِحَتْ، فقيل: إن هذا لزيدٌ؛ لا لتبس المعنى، وليس كذلك: إن هذا لهُ؛ لو كانت لام الابتداء؛ لقيل: إن هذا لَهو؟ . ولمَ فُتِحتْ لامُ الإضافة في النداءِ منْ قولهم: يالبكرٍ؟ .

ولِمَ جاز: أعطيتُكُمْ ذاك، مع الظاهر، وأعطيتُكُمُوه، مع المُضمر؟ وهل ذلك لأن كراهة وقوع الواو طرفاً في الاسم قد زالت؛ إذ قد صار الضميرُ المتصل هو آخر الفعلِ، مع تشبيه بغيره مما يرده الإضمار إلى أصله، مع أن الاستخفاف الذي كان مع الظاهر الذي هو أكثر وأحقُ بالتخفيف قد زال؛ فلهذا كان القياسُ: أعطيتُكُمُوه، بالرد إلى الأصلِ، وصار ما حُكِي عن بعض العربِ -[و] هو قولهم: أعطيتُكُمْهُ- شاذاً في القياسِ؟ ولِمَ جاز: أعطيتُكُم اليوم، بالضم، ولم يَجُزْ بالكسر على أصلِ الحركة لالتقاء الساكنين؟ وهل ذلك لأنه رد إلى الأصل مع إتباعِ الضم الضم؟ . ولِمَ قَبُح: فَعَلْت نَفْسُك، حتى تقول: أنت نفسك؟ ولِم أدخل هذا في هذا الباب؟ وهل ذلك لأن الأصل أن يُؤكدَ الظاهرُ بالظاهرِ، والمنفصل بمنزلة الظاهر، ورده التأكيدُ بالنفس إلى الأصل، وهو المنفصلُ، فهو يُشبه هذا الباب بالرد إلى الأصل؟ /66 أولم حَسُنَك فعَلْتَ أنت نفسك، ولم يَحسُنْ: فعلت نفسك؟ وهل ذلك لأن النفس لم يتمكن في التأكيد؛ إذ يجري على طريق اسم الجنس في كثير من الكلام، كقولك: نَزلْتُ بنفس الجبل، وإن نفس الجبل مقابلي، فكثُر كونها تلي العاملَ، فاحتاجت إلى التأكيد بالمنفصل؟ .

ولِمَ جاز: [قُمْتُمْ] كلكم، وجئتم أجمعون، من غير تأكيد المتصلِ؟ وهل ذلك لِتّمَكُنِ كل، وأجمعين في التأكيد؛ إذ أجمعون لا يلي العوامل، و (كلهم) يَغْلِبُ عليه ألا يلي العوامل؟ ولِمَ جاز: ذهبت أنت وعبداللهِ، وذهبت أنت وأنا، ولم يجز: ذهبت وعبداللهِ، إلا على ضعف؟ . وما الشاهد في قول الراعي: فلما لحقنا والجيادُ عشيةُ ... دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر؟ وما حُكم العطف على المضمر المجرور؟ ولم لا يجوز إلا بإعادة الجار؟ . ولِمَ جاز: ضربْتُك وزيداً، ولم يَجُزْ: مررتُ بك وزيد، ولا هذا أبوك وعمرو

حتى تقول: مررت بك وبزيدٍ، وهذا أبوك وأبو عمروٍ؟ وهل ذلك لأنه لما ضَعُفَ في المضمر المرفوع؛ لشدة اتصاله، مع أن له منفصلاً يجوز أن يُبنى على الفعل كما يبنى المتصل، ثم صار الأمر إلى المجرور، وله مثلُ ذلك في شدةِ الاتصال من غير أن يكون له منفصلٌ؛ حدث سبب آخر يقتضي الضعف، فلم يَكُنْ بعد الضعف الأول إلا امتناع الجوازِ، وهذا أصل يدور في العربية: إذا كان سبب يضْعُفُ لأجله الحكمُ، ثم حدثَ سببٌ آخرُ يَضْعُفُ لأجله؛ امتنع الحكمُ؛ لاجتماع سببي الضعف؟ ولِمَ جاز: فعلتَ أنتَ وزيدٌ، ولم يَجُزْ: مررتُ بك أنت وزيدٍ؟ وهل ذلك لأن المجرور أشد اتصالاً؛ من أجل أنه مع الأول بمنزلة اسمً واحد إذا عاقب التنوين الذي هو بهذه المنزلة، و (فَعَلْتَ) جملة ليس الضمير بمُتممٍ فيها للفعلِ، وإنما هو مُشبهٌ بالمتممِ، مع أن (أنت) لا يُعْتدُ به في المجرورِ؛ لأنه ليس منفصلٌ، فهو بمنزلة مالم يُذكَرْ ؛ لأنه إنما يُستعارُ للتأكيد في معني المخاطب، ولا يُظهر حال الضمير المتصل كإظهار (أنت) للضمير المتصل في: فَعَلْتَ؛ إذ يُظهِرُ أنه للمخاطبِ وأنه للمرفوعِ؟ .

ولِمَ جاز: مررتُ بكم أجمعين، ومررت بهم كلهم، ولم يَجُزْ مثلُ ذلك في العطف، وكلاهما تابعُ للأولِ؟ وهل ذلك / 66 ب لأن أجمعين لا يكون إلا تأكيداً، وكلهم بهذه المنزلةِ؛ فهو يجري على المجرورِ والمرفوعِ والمنصوبِ، والمضمرِ والمظهرِ؛ لتمكنهِ في معنى التأكيد، وظهور ترتيبه من المؤكدِ، وأنه يُعملُ فيه في موضعه بعد المؤكدِ، ولا يَصِحُ أن يقع موقعه، وليس كذلك العطفُ؛ لأنه نظير المعطوف عليه في أن الموقع الأول لهما، وليس أحدهما أحق به من الآخر إلا بمقدارِ السبق إليه، ولو سبق إليه الآخر لجاز، فهذا يَفْرُقُ بين الأمرين بما يقتضي اختلافَ الحكمِ فيهما؟ . ولِمَ جاز: مررتُ بك نَفْسك، ولم يجز: فعلت نفسك؟ وهل ذلك لحاجة إلى تأكيد المضمر المجرور في: بِكَ، فلم يكن سبيلٌ إلى إعادة الجار كما يكونُ في العطفِ، ولمْ يجبْ فيه أنتَ؛ لأنه مستعارٌ، ولا كان لإعادة الجار معنى؛ لأنه يُخرجُه عن طريقة التأكيد، فلم يَكُنْ سبيلٌ على الأصولِ الصحيحة إلا إلى هذا، وهو: مررتُ بك نفسك؛ للموانع التي تمْنعُ من إعادةِ الجار، ومن إيجابِ التأكيد بأنْتَ كما يجبُ في: فعلتَ أنتَ نَفْسُكَ؟ . وما الشاهد في قول الشاعر:

آبكَ أيهْ بيَ أو مصدرِ ... من حُمر الجِلةِ جَأبٍ حشورِ وقول الآخر: فاليوم قربْت تهجونا وتشتِمُنا ... فاذهب فما بِكَ والأيام منْ عجبِ؟ ولِمَ جاز: فعلتم أجمعون وكلكم، من غير تأكيد بالمنفصلِ، ولم يَجُزْ مثلُ ذلك في العطف حتى تقول: فعلتمْ أنتم وزيدٌ؟ الجواب: الذي يجوز فيما ترُده علامة الإضمار إلى أصله- إذا كان قد زال سبب التغيير عن الأصل بعلامة الإضمار- رده إلى أصله. ولا يجوز أنْ يُترك على التغيير؛ لأن العِلة إذا بطلتْ؛ بَطَلَ الحُكْكُ، إلا أن تخلُفها عِلةٌ أخرى تقومُ مقامها. وتقولُ: هذا لعبد الله، فإذا جِئْتَ بعلامةِ الإضمارِ؛ قُلْتَ: هذا لهُ، فرددتَ

اللام إلى أصلها من الفتحِ؛ لأن علةَ التغييرِ قد زالتْ، وهي الالتباس بلام الابتداء إذا قُلْتَ: إن هذا لزيدٍ، فلو فتحتها، فقُلتَ: إن هذا لزيدٌ؛ لا لْتبس المعنى، وليس كذلك في الضمير؛ لأنك تقول: هذا لهُ، وفي لام الابتداء: /67 أإن هذا لهُوَ، كما تقولُ: إن هذا لكَ، وفي لام الابتداء: إنَ هذا لأنْتَ. وتقول: أعْطَيْتُكُمُوه، فَتردُهُ هاءُ الإضمارِ إلى أصلهِ؛ إذ الأصْلُ فيه: أعطيتكمُ، وإنما أزالت هاءُ الإضمار سبب التغيير عن الأصلِ؛ لأنه كان تُكْرهُ الواوُ في آخر الاسم وقبلها ضمةٌ، فلما لحقتْ هاءُ الإضمارِ قد أزالتْ سبب التغيير، فرجع الكلامُ إلى أصلهِ. ومن العربِ من يقولُ: أَعْطَيْتُكُمْهُ، فيشبهُ المضمرَ بالمُظْهَرِ كقولك: أَعطَيْتُكُمْ ذاك، وهذا ضعيفٌ في القياس؛ لما بينا من أنه يجبُ أن يجري على قياس نظائره مما ترده علامةُ الإضمار إلى أصله، وهو مذهب أكثر العربِ، وإنما: أعطيتُكُمْه، بمنزلةِ الشاذِ. وتقولُ: أعطيتكُمُ اليوم، فتُحرك بالضمِ؛ لالتقاء الساكنين على الأصلِ،

وهو أحقُ من الكَسْر؛ لأن ردَ حركة الأصل أولى من اجتلاب حركة لم تَكُنْ للكلمة، مع إتباعِ الضمِ الضمَ. وتقولُ: فَعَلْتَ أَنْتَ نفسك، ويَقْبُحُ: فعلت نفسك؛ لأن النفسَ لم تتمكنْ في التوكيد؛ منْ أجلِ أنها تُستعملُ استعمالَ اسمِ الجنْسِ في أنها تلي العواملَ، فتقولُ: نزلْتُ بنفسِ الجبلِ، وإن نفْسَ الجبلِ مقابلي. وإنما أدخل سيبويه هذا في هذا الباب؛ لأنه بمنزلة ما تردهُ علامةُ الإضمارِ إلى الأصلِ، إذ الأصلُ أن يُؤكد الظاهر بالظاهر، والمنفصلُ بمنزلة الظاهر، فرده التأكيدُ بالنفسِ إلى الأصلِ، وهو الضمير المنفصلُ، وهو يُشبههُ في الرد إلى الأصل. وتقول: قُمتمْ كلكم، وجئتم أجمعون، فلا تحتاجُ في التأكيد بالمنفصلِ؛ لتمكن أجمعين وكلكم في التأكيد؛ إذ هو موضوع له، ولا يلي العامل. وتقولُ: ذهبت أنتَ وعبدُ اللهِ، وذهبتَ [أنتَ] وأنا، ولا يجوز: ذهبت وعبدُ اللهِ، وذهبت وأنا، إلا على ضعفٍ؛ لأن الضمير المرفوع قد غُير له لفظ الفعل حتى صار كبعضِ حُروفِ، فلم يحسن العطفُ عليه على هذه الجهة، فإذا أُكدَ بالمنفصل أظهرهُ، وصار بمنزلة المنفصل، فجاز وحَسُنَ/67 ب كما قال جل ثناؤه: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24].

وقد يجوزُ بغير المنفصل في الشعرِ، قال الراعي: فلما لحقنا والجياد عَشيةً ... دعوا يا لكعبٍ واعتزينا لعامر فهذا في الكلام لا يصلحُ حتى تقول: لحقنا نحنُ والجيادٌ. ولا يجوز العطفُ على المضمرِ المجرورِ إلا بإعادة الجار؛ من قبلِ أنه قد اجتمع فيه سببان: أحدهما: شدة الاتصال بمعاقبةِ حرفٍ من العامل كمعاقبةِ التنوين. والآخر: أن المعطوف نظير المعطوف عليه في موضعه من العاملِ، وإنما يُبدأُ بأحدهما على طريق السبقِ، والتعاقبُ في الموقعِ لهما جائزُ صحيح، وليس للمجرورِ منفصلٌ يُعاقب ُهذا المجرور الظاهر. فلما اجتمع فيه سببان، كلُ واحد منهما يُضعفُ الحكم بطل جوازه؛ لأنه ليس بعد الضعف إلا امتناع الجواز، فلا يجوزُ: مررت بك وزيد، ولا هذا غُلامك وزيد،

حتى تقول: مررتُ بك وبزيد، وهذا غلامُك وغلامُ يزيد. ويجوزُ: فعلتَ أَنْتَ وزيدٌ، ولا يجوزُ: مررتُ بك أِنْتَ؛ لأنَ أنت مستعارٌ للمجرورِ والمنصوبِ، فهو لا يُعتدُ بهِ، وتصيرُ الحقيقةُ: مررتُ بِكَ وزيدٍ، وهي لا تجوزُ، مع أنَ (أنت) يُظهِرُ حال الضميرِ في: فعلتَ، أتم الظُهورِ؛ إذ يُظْهِرُ حاله في الخطابِ وفي الرفعِ، وليس كذلك سبيله مع المجرورِ والمنصوبِ؛ لأنه موضوعٌ للمرفوعِ، ومُستعارٌ في هذين، واتصالُ المجرورِ أشدُ؛ لأنه مُعاقبٌ للتنوينِ، ومع الاسم بمنزلة اسمٍ واحد، فالكلامُ ناقصٌ، وليس كذلك: فَعَلْتَ؛ لأنه جملةٌ، والضميرٌ بمنزلةِ المنفصلِ من هذا الوجه. وتقولُ: مررتُ بكُم أجمعين، ومررتُ بهم كٌلٌهِم، فتؤكدُ الضميرَ المجرور، ولا يلزمُ على هذا العطفُ عليه فتقول: مررتُ بِكُم وزيدٍ؛ لأت أجمعين لا يكون إلا تأكيداً، ولا يلي العواملَ، فهو يطلبُ المؤكدَ، ويقتضيه، ولا يتوجهُ إلى غيرهِ. وليس كذلك المعطوفُ؛ لأنه قد يٌعطفُ جُمْلَةٌ على جملةٍ، ومفردٌ على مفردٍ، وعلى وجوه غير هذا، فلم يحتملْ ذلك العَطفُ كما احتملهُ التأكيدُ. وتقولُ: مَرَرْتُ بِكَ نَفْسِك، فهذا حسنٌ جائزٌ، وليس كذلك: فَعَلْتَ نفسكَ؛ لأن له طريقاً هو أحقُ به من هذا، وهو: فعلتَ أنتَ نفسكَ، فسقط/68 أهذا الطريق بالطريقِ الذي هو أحقُ به. وليس كذلك: مررتُ بكَ نفسك؛ لأنه ليس له طريقٌ هو أحقٌ به من هذا؛ إذ (أنتَ) فيه مُستعارٌ ولا يُعتدُ به، ويرجعُ إلى أنَ الحقيقةَ بتركِ ذكره. وكذلك لا يلزمُ عليه: مرتُبِكَ وزيدٍ، وليس كذلك: مررتُ به نفسهِ؛ لما بينا من أنه ليس له طريقٌ هو أحقُ بهِ من هذا.

وقال الشاعرُ: آبكَ أيهْ بي أو مُصدر منْ حُمُرِ الجِلةِ جأبٍ حشورِ وقال آخرُ: فاليومَ قَربْت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بكَ والأيامِ منْ عَجَبِ فهذا شاهدٌ في أنه يجوزُ في الضرورةِ العطفُ على المضمرِ المجرورِ من غير إعادة الجار. وفي النحويين من لا يجيزه في الضرورة، ولا في غيرها، ولا يعرفُ صحة هذا الشاهد؛ لأنه شاذ في الضرورة، لم يجيء إلا في هذين البيتين، وليسا معروفين عند أكثر النحويين. وتقول: فعلتم أجمعون، ولا يجوزُ: فعلتم وزيدٌ، حتى تقولَ: فعلتم أنتم وزيدٌ؛ لأن التأكيد لما كان لا يتوجهُ إلا إلى المؤكد، وكان لا يلي العاملَ؛ طلبه واقتضاه حتى أخرجهُ مع استتارهِ في الفعلِ، وليس كذلك العطفُ؛ لما بينا قبلُ.

باب حروف الجر التي لا يجوز فيها الإضمار

بابُ حروفِ الجرِ التي لا يجوز فيها الإضمارُ الغرضُ فيه: أن يُبين ما يجوزُ في حروف الجر التي لا يصلحُ فيها الإضمارُ مما لا يجوزُ. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوزُ في حروفِ الجر التي لا يصلحُ فيها الإضمارُ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ ولمَ لا يجوز الإضمارُ في كاف التشبيه، ولا حتى، ولا مُذْ؟ . وما وجه اعتلاله بالاستغناءِ عنه بغيره، مع أنه ليس كلُ ما يُستغنى عنه بغيره لا يجوز؟ وما المستغنى به عن كاف التشبيه؟ وما المستغنى به عن حتى؟ وما المستغنى به في مُذْ؟ .

ولِمَ صار: مثلي، أولى من: كي؟ وهلا امتنع: مثلي، أو شبهي؛ للاستغناء بأحدهما عن الآخر؟ . ولِمَ جاز أن يُستغنى بذاك عن الإضمار في قولهم: وما رأيته مُذْ ذاك؟ . وما الشاهد في قول العجاجِ: وأم أو عالٍ كها أو أقربا وقوله: فلا ترى بعلاً ولا حلائلا ... كهُ ولاكَهُنَ إلا حاظلا؟

/68 ب ولِمَ جازَ مثلُ هذا في الضرورة؟ وما قياس الكاف لو أُضيفتْ إلى نفسِ المتكلمِ؟ ولِمَ جاز: كي، ولم يجز: كي، في شعرٍ، ولا غيره؟ .

باب التوكيد بالمضمر

بابُ التوكيد بالمضمرِ الغرضُ فيه: أن يبين ما يجوزُ في التوكيد بالمضمر مما لا يجوزُ. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوزُ في التوكيد بالمضمرِ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ ولم لا يجوزُ أنْ يُؤكد المظهرُ بالمضمرِ؟ وهل ذلك لأن المضمرَ لم يُوضع ليَتْبع على جهة التأكيد، فلم ينْعقد بالمظهرِ على جهةِ التابعِ، وجاز أن ينعقدَ بالمضمر؛ للمشاكلةِ التي بينه بالإضمارِ؟ ولِمَ جاز أن يؤكد بعلامة المرفوع المنصوبِ والمجرورُ حتى جرى ذلك في: أنتَ، وأنا، وهُوَ، ونحنُ، وهُمْ، وهنَ، وهيَ، وأنتُمْ، وهما، وأنتما، وأنتن؟ . ولِمَ جاز: مررت بك أنتَ، مررت به هُوَ، ولم يجز: مَرَرْتُ بزيدٍ هُوَ؟ وهل ذلك لأنَ المخاطبَ والمتكلم لا يكونان إلا بعلامة الإضمار، فلم يَجُزْ أنْ يؤكدا غائباً؛ لاختلاف دلالتهما، والتوكيدُ يجبُ أن يكونَ موافقاً لمعنى المؤكد؟ .

وما الفرق بين الصفةِ والتوكيد، وكلاهما يتبعُ بغير حرفٍ؟ وهل ذلك منْ جِهةِ أن للصفةِ معنى خلاف معنى الموصوفِ، وليس كذلك التوكيدُ؟ . ولِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ (أجمعونَ) تأكيداً للنكرةِ؟ وهل ذلك لأنه معرفةٌ يُؤكدُ العمومَ، والعمومُ في الاسمِ بالتعريفِ؛ لِبُطلان الاشتراكِ؟ . وما وجه القياسِ في تركِ المظهرِ على ترك تأكيدِ النكرةِ بأجمعينَ؟ وهل ذلك مِنْ جِهةِ أنَ التأكيد له حدٌ لا يُتجاوزُ فيهما؟ . ولِمَ جاز: مَرَرْتُ بالقومِ أجمعينَ، ولم يَجُزْ: مَرَرْتُ بقومٍ أجمعين؟ . وهل يجوزُ: رأيتُكَ إياكَ، ورأيُته إياهُ؟ ولِمَ جاز على البدَلِ، ولم يَجُزْ على التأكيد؟ . ولِمَ جاز في: فَعَلْتَ أَنْتَ، وفعلَ هُوَ، أنْ يكون تأكيداً وبدلاً؟ .

ولِمَ جاز في المضْمَرِ أنْ يكونَ بدلاً من المظهرِ، ولم يجُزْ أنْ يكونَ تأكيداً لهُ؟ وهل ذلك لأن التأكيد يُرتبُ كما تُرتَبُ الصفةُ، ولا يكون ذلك إلا لما وُضعَ للتأكيدِ؟ . وهل يجوزُ: مَرَرْتُ به وبزيدٍ هما، على التأكيدِ؟ ولِمَ لا يجوزُ؟ وما نظيرُه من امتناعِ: مَرَرَتُ بزيدٍ وبه الظريفينِ؟ .

الجوابُ: الذي يجوز في حروف الجر التي لا يَصْلُحُ فيها الإضمارُ/69 أ- إذا كانت لا تتمكنُ في حروف الجرِ للاشتراك الذي فيها، مع الاستغناء عن اتصالها بالضمير بغيرها- أنْ تمتنِعَ من الضميرِ؛ لهذه العلَةِ من الاستغناءِ عنها بما هو أولى منها، مع استواء الأحوال إلا من هذه الجهة. ولا يجوزُ الإضمارُ في كاف التشبيهِ؛ للاستغناء عنه ب: مْثلِهِ، ومثْلي، ومثْلِك، على ما بينا. ولا يجوزُ الإضمارُ في: حتى؛ للاستغناءِ عنه بإليهِ.

ولا يجوزُ الإضمارُ في: مُذْ؛ للاستغناءِ عنه بالمبهمِ في: مُذْ ذاك. وذلك أنَ حتى مشتركةٌ بين حرف العطفِ وحرفٍ من حروفِ الابتداء؛ فضعُفَتْ عن العملِ في المضمرِ، وعمِلَتْ في المظهرِ الذي هو الأصلُ. وكذلك (مُّذْ) مشتركةٌ بين الاسم والحرف في قولك: ما رأيتُه مُذ اليومِ، فهي هاهنا حرفٌ، وما رأيته مٌذْ يومان، فهي هاهنا اسمٌ. وأما الكافُ فمُشتركةٌ بين الحرف والاسم، فإذا قلت: الذي كزيدٍ عمرٌو؛ فهذه حرفٌ لا محالة، وأما كونها اسماً ففي مثل قول الشاعرِ: أَتَنْهونَ ولا يَنهى ذوي شطَطٍ ... كالطعْنِ يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُلُ أي: مثلُ الطَعْنِ. فالمستغنى به عن كاف التشبيه: مثلٌ، والمستغنى به عن (حتى): إلى، في الإضمار، والمستغنى به في (مُذْ): ذاك؛ لأنه مُبهمٌ تصلحٌ الإشارةُ به إلى كلِ معنى كما يَصْلُحُ في المضمرِ.

ووجهُ اعتلاله بالاستغناء الذي يمنعُ جوازَ الشيِء هو الاستغناءُ عنه بما هو أولى منه، مع استواء الأحوال الداعيةِ إليه إلا من هذه الجهةِ. ولا يلْزمُ من سقوطِ أحدِ الشيئينِ من قولك: شِبْهي، ومِثْلي، الاستغناءُ بأحدهما عن الآخر؛ لأنه ليس بأولى منه. وقال العجاجُ: وأمَ أوْ عالٍ أو أقْربا وقالَ: فلا ترى بَعْلاً ولا حَلائلا ... كَهُ ولا كَهُنَ إلا حاظِلا فهذا يجوز في الضرورةِ على طريق التشبيه بالمظهرِ. ولو أضاف الكافَ إلى المتكلمِ؛ لوجب فيه: ما أنْتَ كي، ولم يِجُزْ: كَي؛ لأنَ ياء الإضافةِ لا يكونُ ما قبلها مفتوحاً أصلاً، وكلُ حرف مُتحرك يكونُ قبل ياءِ الإضافة فإنه يُكْسَرُ لها، فتجري في الكافِ على ذلك القياسِ.

/69 الجوابُ عن البابِ الثاني: الذي يجوزُ في التوكيدِ بالمضمرِ إجراؤه بعلامةِ المرفوعِ المنفصلِ في كل مضمرٍ مُؤكَدٍ. وإنما جاز تأكيدُ المجرورِ والمنصوبِ بعلامةِ المرفوعِ؛ لأنه ليس للمُضمَرِ المجرورِ منفصلٌ، فأكد بما نٌقِل إليه منْ غيره، وجرى في المنصوبِ على ذلك القياسِ؛ لأنه نظيرهُ، فكان في المرفوعِ والمنصوبِ والمجرورِ على منهاجٍ واحدٍ؛ لأنَ المعنى فيه واحدٌ، وهو تأكيد المضمرِ المتصلِ، ولو أُكِد بعلامة ِ المنصوبِ؛ لاختلف في المرفوعِ والمجرورِ، وإجراؤه على قياسٍ واحدٍ أحقُ به، مع الإيذانِ بأنه ليس بمعربٍ، بل هو مبنيٌ، فيه دليلٌ على الإعرابِ. ولا يجوزٌ أنْ يُؤكدَ المظهرِ؛ لأن المضمرَ يُبينُ المخاطب من المتكلمِ، فيُخالفُ المظهرَ بهذا المعنى، والتأكيدُ يجبٌ أنْ يكونَ موافقاً في معناه للمؤكدِ، مع أن علامة المضمرِ لم توضعْ للتأكيدِ، وإنما هي مُدخلةٌ على الضميرِ المتصلِ؛ للمشاكلةِ بينهما، فلم تَقْوَ على المظهَرِ، ولم يُتجاوزْ بها المضمرُ؛ لضعفها في باب

التأكيد من حيثُ لم تُوضع له في الأصلِ. وتقول: مَرَرْتُ بك أًنْتً، على التأكيدِ، وكذلك: مَرَرْتُ به هو، ولا يجوز: مَرَرْتُ بزيدٍ هو؛ لما بينا من مخالفة التأكيد لحال المؤكدِ. والفرق بين الصفةِ والتأكيدِ أن الصفةَ لها معنى خلاف الموصوفِ، وليس كذلك التأكيدُ؛ لأنه بمنزلةِ التكريرِ، فالمعنى فيهما واحدٌ. ونظيرُ امتناعِ تأكيدِ المظهرِ بالمضمر امتناع تأكيد بالنكرةِ: بأجمعينَ؛ لأنه معرفةٌ يُؤكدُ به العمومٌ في المعرفةِ؛ وذلك أن المعرفةَ لا اشتراك فيها، فهي تَعُمُ من هذه الجهةِ على طريقِ اسمِ الجنسِ، أو الجماعةِ المعهودةِ، فهذا يدلُ على أن التأكيدَ له حدٌ لا يتجاوز فيهما. وتقول: مَرَرْتُ بالقومِ أجمعين، ولا يجوزُ: مَرَرْتُ بقومٍ أجمعينَ؛ (قوماً) نكرةٌ على ما بينا. وتقول: رأيتك إياك، ورأيته إياه، على البدل' ولا يجوز على التأكيد؛ لأن التأكيد يُرتبُ كما تُرتب الصفة، وليس كذلك البدل، والترتيبُ لا يكون إلا بعلامة وضعيةٍ في الأسماء، فأما ما يلي العاملَ؛ فمعلقٌ في الأسماءِ، لا يحتاج إلى

علامة في ذلك. وتقول: فعلت/70 أأنت، وفعل هو، فيجوزُ على التأكيد، وعلى البدلِ؛ لأن العلامةَ واحدةٌ في المرفوعِ، وليس كذلك المنصوبُ والمجرور. ولا يجوزُ: مَرَرْتُ به وبزيدٍهما، على التأكيد، كما لا يجوزُ: مَرَرْتُ بزيدٍ وبه الظريفين، على الصفةِ؛ لأنك قد خلطتَ ما يصلُحُ أن يؤكدِ بالمضمر بما لا يَصلُحُ أن يؤكد به، كما خلطت ما يصلحُ أنْ يُوصف بما لا يَصلُحُ أن يُوصفَ، فامتنع التأكيدُ كما امتنعتْ الصفةُ.

باب البدل بالضمير

بابُ البدلِ بالضميرِ الغرضُ فيه: أن يُبين ما يجوزُ في البدلِ بالضميرِ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في البدلِ بالضمير؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولِمَ؟ . وملِمَ لا يجوزُ أن يجتمعَ البدلُ بالضميرِ مع التأكيدِ والفصلِ؟ وهل ذلك للاستغناء عنه بما هو أولى منه؟ . ولِمَ جازَ: رأيته إياه نفسه، على أن (إياهُ) بدلٌ، و (نفسه) تأكيدٌ، ولَمْ يَجُزْ على أنهما جميعاً تأكيدٌ؟ . ولِمَ جازَ: ضربتُه إياهُ قائماً، على البدلِ، ولم يجزْ: أظنه هو خيراً منك،

على البدلِ، ولا على التأكيدِ؛ ولكن على الفصلِ؟ . وهل يجوزُ: ضربته هو قائماً، على التأكيد؟ . وهل يَفْصِلُ ذلك المظهر في قولك: رأيتُ زيداً هو خيراً منك؛ لأنه لا يؤكد المظهر بالمضمر، فهو فَصْلٌ لا تأكيدٌ؟ . وما تأويل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}؟ [سبا: 6] ولِمَ وجبَ أن (هُوَ) فيه فصلٌ، لا تأكيدُ، ولا بدلٌ؟ . ولِمَ قدرَ: رأيتهُ نَفسهُ، بقوله: رأيتُ الرجلَ زيداً نفسَه؟ وهل ذلك لِيُبينَ البدلَ من التأكيد؟ . ولِمَ لا يجوزُ: إنكَ أَنْتَ إياكَ خيرٌ منه، على أن أنتَ تأكيدٌ، وإياك بَدلٌ؟ . ولِمَ جازَ: إنك إياكَ خيرٌ منه؟ وهل يجوزُ: أظنه خيراً منه إياه، وإنك فيها إياكَ؟ ولِمَ جازَ؟ .

ولِمَ لا يجوزُ: أظُنه هُوَ إياه خيراً منك، وجازَ بأحدهما؟ . ولِمَ لا يجوزُ: أظنه هو هو أخاك، على أنَّ أحدهما تأكيدٌ، والآخرَ فصلٌ؟ فَلِمَ صارا متعاقبينِ، يجزئ أحدهما من الآخَرِ؟ . الجوابُ: ولِمَ يجوزُ: في البدلِ بالضميرِ إجراءُ المنصوبِ على المنصوبِ والمجرورِ؛ وذلك لأن البدلَ لابدَ من أن يكون تقديره أن يقعَ موقع الأولِ في مرتبتهِ من العاملِ وإلا خرج/70 ب عن حدِ البدلِ، وليس كذلك التأكيدُ؛ لأن العاملَ إنما يَصِلُ إليه بعد المؤكَدِ، لا محال'، منْ غَيرِ أنْ يكون له موقِعُ المؤكَدِ لا محالة، من غيرِ أن يكون له موقعُ المؤكدِ، فالعاملُ يَعْمَلُ فيه وهو في موضعهِ، فصلحَ منْ أجلِ هذا أنْ يُحمل على تأويل الوضعِ، وإنْ خالف اللفظَ؛ لأنَ له ما يُقومُه في مرتبتهِ على لُزومِ ذلك فيه، فَلَمْ يُخِلَ به أن يَقعَ موقع غيره؛ للزوم المقوم له، وليس كذلك البدلُ؛ ولهذا حُميَ منْ أنْ يجتمعَ التأكيدُ والبدلُ؛ لئلا يتداخلَ باختلاطِ أحدهما بالآخرِ، فلا يظهرُ معنى العلةِ الصحيحةِ التي تفْرقُ بينهما؛ للُطفهما، فإذا جٌعلا على التعاقبِ كان أبينَ في الفرقِ بين علةِ كُلِ واحدٍ منهما، ولو جمعا لأوهم ذلك أنهما على طريقةٍ واحدةٍ في التأكيدِ والتقديرِ؛ للإجراء على الأولِ، وليس الأمر كذلك. وتقولُ: رأيتُه إياهُ نفسَهُ، فتأتي بقولك: إياهُ، على البدل، وتأتي بقولك:

نفسه، على التأكيد. ولا يجوزُ: رأيته إياه هُوَ، على أن يكون (إياهُ) بدلاً، و (هو) تأكيداً على قياس هذا؛ للعلة التي بينا منْ أنه يجبُ أنْ يجريا على التعاقبِ؛ حتى تظهرَ علةُ كلِ واحد منهما مع لأُطفها؛ إذ التعاقبُ أشدُ اقتضاءً لذلك من الاجتماعِ، مع أنه يصلُحُ أن يُستغنَى بضميرٍ عن ضميرٍ بما لا يصلُحُ أنْ يُستغنى بضميرٍ عن ظاهرٍ، فقد بان أن ما جازَ من قولهم: رأيته إياه نفسَه، لا يوجبُ جواز: رأيتُه إياه هوَ، على البدل والتأكيد. ولا يجوزُ في: رأيتُه إياهُ نفسه؛ أنْ يكونا جميعاً على التأكيدِ؛ لأنه يُجبُ اختلاط باب البدلِ ببابِ التأكيد في الضميرِ؛ إذ تأكيدِ الضميرِ المنصوب بعلامةِ المرفوعِ، والبدل منه بعلامة المنصوبِ، فلو كان تأكيداً لقيل: رأيته هوَ نَفسهُ، وكلُ ما أوجب تخليط الباب فهو فاسدٌ؛ لأن تخليط المعاني والعباراتِ الموضوعةِ للبيان عنها يُبطلُ إدراكها على حقيقتها، فواجبٌ أن تُميزَ العباراتُ كما واجبٌ أنْ تميزَ المعاني؛ لأن العبارة للبيان، والمعاني تُميز لصحةِ الإدراك، إلا أن منْ ذلك ما يدقُ ويجلُ، والدلائلُ عليه تُرتبه في مراتبهِ، وتمنع من التخليط فيه. وتقولُ: ضربُته إياهُ قائماً، على البدلِ، وضربتُه هو قائماً، /71 ب على التأكيد، ولا يجوز في (هُوَ) أنْ يكون فصلاً هاهنا كما يكونُ فصلاً في: أظنُهُ هُوَ خيراً منك.

والفرق بين التأكيد والفصلِ يكونُ مع المظهرِ والمضمرِ، كقولك: أظنُ زيداً هو خيراً منك، ولا يكونُ التأكيدُ إلا مع المضمرِ؛ لما بينا قبل في أحكامِ الضمير من موافقتهِ في البيانِ عن المتكلمِ والمخاطب والغائبِ على تلك الطريقةِ، ومخالفته للمظهر في هذا، فلم يَصلُحْ أنْ يكون تأكيداً للمظهرِ؛ إذ التأكيدُ يجري مجرى التكريرِ في موافقةِ معنى الثاني للأول، وهذا دليلُ واضح على أنه لا يجوزُ أن يؤكد المظهرُ بالمضمر، وأن قولك: أظنُ زيداً هو خيراً منك، لا يصلُحُ إلا على الفصلِ، وقولك: أظنه هو خيراً منك، يصلُحُ على الفصْلِ والتأكيد. وفي التنزيل: ولِمَ جاز: فهو في هذا فصلٌ، ولا يجوزُ أنْ يكون تأكيداً للمظهرِ على ما بينا قبلُ، ولا يكونُ -أيضاً- بدلاً؛ لأن {الَّذِي أُنزِلَ} في موضع نصبٍ، ولا تكون علامة المرفوعِ بدلاً من المنصوبِ. وتقديرُ: رأيته إياهُ نفسه، تقديرُ: رأيت الرجلَ زيداً نفسه، في أن الأول بدلٌ، والثاني توكيدٌ. ويجوزُ: إنك أنتَ خيرٌ منه، على التأكيدِ والفصلِ. ويجوزُ: إنك أنت إياك خيرٌ منه، على الجميعِ بين التأكيد والبدلِ؛ لأن أحدهما يكفي من الآخرِ على طريقِ الاستغناءِ عن الشيء بما هو أولى منه؛ لِتَظْهرَ

عِلةُ كُلّ واحد منهما، ولا يكونُ بمنزلةِ تكرير المضمر. ويجوزُ: أظنه خيراً منه إياه، على البدلِ، وإنك فيها إياك، على البدلِ، ولا يجوز أن يقعَ الفصلُ هذا الموقعِ. ولا يجوزُ: أظنهُ هوَ إياهُ خيراً مِنْكَ، على الجمعِ بين الفصلِ والبدلِ، ولا أظنه هُوَ هُوَ أخالك، على الجمعِ بين الفصلِ والتأكيد؛ للاستغناءِ عنْ أحدهما بالآخرِ الذي هو أولى من الجمعِ الموهمِ للفساد، فأحد الضميرين يكفي من الآخرِ، فلا يجتمع الفصلُ والتأكيدُ، ولا البدلُ والتأكيدُ، ولا البدلُ والفصلُ، والعلةٌ في جميع ذلك واحدةٌ في أن أحدهما يكفي من الآخرِ، مع ما في الجمعِ منْ إيهامِ الفسادِ.

باب علامة الإضمار التي تكون فصلا

/71 بابُ علامةِ الإضمارِ التي تكونُ فَصْلاً [الغرضُ فيه: أن يُبين ما يجوزُ في الإضمارِ التي تكونُ فصلاً] مما لا يجوزُ. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوزُ في علامة الإضمارِ التي تكونُ فَصْلاً؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولِمَ ذلك؟ . ولِمَ لا يجوزُ أنْ يكون الفصلُ إلا بين معرفتين، أو ما قاربَ المعرفةَ من النكرة؟ . ولَمَ لا يكونُ الفصلُ إلا بعلامة المرفوعِ؟ وهل ذلك لأن المرفوع هو الأول والأحقُ بالتصريف في الوجوهِ؟ ولَمِ لا يكونُ الفَصْلُ إلا بينَ الاسمِ والخبرِ، دونَ الحالِ وغيرهِ من أقسامِ الكلام؟ .

وما معنى الفصلِ الذي لأجلهِ دخل في الكلامِ؟ وهل هو ليؤذِنَ بأن المذكورَ بعده للفائدةِ على طريقِ مُعتمدِ الفائدة؟ . ولِمَ جازَ الفَصْلُ في: حَسِبْتُ وأخواتها، وفي: جَعَلْتُ، ولِمْ يَجُزْ في: ضربتُ وما جرى مجراها؟ ولم جاز الفصلُ في: كان وأخواتها، وفي: إن وأخواتها؟ . ولِمَ جاز: حَسِبْتُ زيداً هُوَ خيراً منكَ، ولمْ يَجُزْ: حَسِبْتُ زيداً هو قائماً؟ ولِمَ جاز: كان عبد اللهِ هو الظريفَ، ولَمْ يَجُزْ: كان عبدُ اللهِ هو ظريفاً؟ . وما الشاهدُ في قول اللهِ جلَ وعزَّ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} ؟ [سبا: 6] ولِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ (هُوَ) تأكيداً في هذا الموضِع؟ .

وما الفرق بين التأكيد والفصلِ؟ وهل ذلك لأن الفصلَ يُؤْذِنُ بان الذي بعده مُعتمدُ الفائدةِ، والتأكيدُ بمنزلةِ التكريرِ؟ . وهل يَلْزَمُ من زعم أنه تأكيدُ أن يُجيزَ: مَرَرْتُ بعبد اللهِ هو نفسِه، وإنْ كان زيدٌ لَهُوَ الظريفَ، وإنْ كُنا لَنَحْنُ الصالحين؟ . ولِمَ لا تدخُلُ لامُ الابتداء على (هو) إذا كان تأكيداً، وتدخلُ عليه إذا كان فصْلاً؟ وهل ذلك لئلا يُجمع بين تأكيدينِ في موضعٍ واحدٍ؛ لأنه يجري مجرى الجمع بين اللام وإن في التأكيد بحرفينِ قد جُمعا في موضعٍ واحدٍ؟ . وما الشاهد في قول الله جل وعز {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} [أل عمران: 180]؟ ولِمَ حُذِفَ: البُخْلُ؟ وما دليله؟ وما نظيرُه من كلامِ العربِ؟ .

ولِم جاز الفصل بين المبتدأ والخبر؟ . وما تأويلُ: {إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلداً} [الكهف: 39]؟ ولِمَ جاز في: (أنا) أنْ يكون فصلا وتأكيداً في هذا الموضعِ، وكذلك في: {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً/72 أوأَعْظَمَ أَجراً} [المزمل: 20]؟ . وهل يجوزُ أن تُجْعلَ (هو) وأخواتها في مِثلِ هذه المواضع اسماً مبتدأ؟ . وما الفرق بين ذلك وبين أنْ يكونَ فصلاً؟ . وما الشاهدُ في قولِ رُؤْيةَ: أظُنُ زيداً هُوَ خيرٌ مِنْكَ، وما حكاه عيسى عن كثيرٍ من العربِ أنهم يقولون: {وَمَا ظَلَمنَاهُم وَلَكن كَانُوا هُمُ الظالمونَ}؟ . وما الشاهد في قولِ قيسِ بن ذَريحٍ:

تُبَكِي على لُبنى وأنت تركتها ... وكنتَ عليها بالملا أنتَ أقدرُ وماحكاه أبو عمر ومن قولهم: إنْ كانَ لَهُوَ العاقلُ؟ . وكمْ وجهاً يحتملُ قولهم: ((كلُ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ، حتى يكون أبواهُ هما اللذانِ يُهودانهِ، أو يُنصرانهِ))؟ ولِمَ جازَ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: وجهان في الرفعِ، ووجه في النصبِ؟ ولمَ جاز على الإضمارِ في: يكون، وعلى رفعِ الأبوينِ بهِ؟ . وما الشاهدُ في قولِ رجلٍ من بني عَبْسٍ: إذا [ما] المرءُ كان أبوهُ عَبْسٌ ... فحسبُكَ ما تريدُ إلى الكلامِ

وقول الآخرِ: متى ما يٌفدْ كسباً يَكُنْ كُلُ كسبهِ لهُ مطعمٌ منْ صدرِ يومٍ ومأكلُ؟ وما حُكمُ: كانَ زيدٌ أنتَ خيرٌ منه؟ ولِمَ لا يجوزُ في (أَنْتَ) أنْ يكونَ فصلاً هاهنا؟ وهل ذلك لأن الفصلَ يصلُحُ أنْ يسقط من الكلامِ، ولا يتغيرُ المعنى إلا بمقدارِ الإيذانِ بموضعِ الفائدة، ولو سقطَ (أَنْتَ) من هذا الكلامِ؛ لا نْقَلَبَ المعنى، وكذلك: كنتَ يومئذٍ أنا خيرٌ منكَ، أو كُنت يومئذٍ هو خيرٌ منك، فجميعُ هذا لا يجوزُ إلا بالرفعِ؟ . وما حُكمُ: هذا عبد اللهِ هو خيرٌ منكَ، وما شأن عبدِ اللهِ هو خيرٌ منك؟ ولِمَ لا يجوزٌ في (هُوَ) هاهنا أنْ يكون فصلاً؟ وهل ذلك لأنه أتى بعد تماِ كما تأتي الحالُ؟ . الجواب: الذي يجوزُ في علامةِ الإضمارِ الذي يكونُ فصْلاً أنْ يكونَ علامةَ المرفوعِ المنْفَصِلِ. ولا يجوزُ أن يكونَ علامةَ المنصوبِ؛ لأن المرفوعَ هو الأصلُ بأن الرفعَ هو أولٌ، فهو أحقُ بأنْ يتصرفَ في الوجوهِ من علامةِ المنصُوبِ.

ولا يجوزُ أنْ يكونَ الفصلُ إلا بين معرفتينِ أو ما قاربَ المعرفةَ من النكرةِ؛ لأنه للإيذانِ بأنَ الذي بعده مُعتمدُ الفائدةِ [لا] على جهةِ الصفةِ/ 72 ب ولا غيرِ ذلك، فيُحتاجُ إليه في المعرفةِ؛ ليؤذنَ بمعتمدِ الفائدةِ، وليس كذلك النكرةُ المجردةُ. ومعنى الفصلِ: قطْعُ ما بعده عن أن يكونَ من الاسمِ الذي قبله على جهةِ الصفةِ فيفصلُ مُعْتمد الفائدة من الصفةِ. ولا يصلُحُ الفصلُ إلا بين الاسم والخبرِ؛ لِيُؤْذِنَ بمعتمدِ الفائدةِ، فيجوزُ الفصلُ على هذا في: حسبتُ وأخواتها، وفي: كانَ وأخواتها، وفي إن وأخواتها، وفي الابتداءِ والخبرِ؛ لأن جميعَ ذلك يصلُحُ فيه معتمدُ الفائدةِ. ولا يجوزُ في: (ضربتُ) وما جرى مجراها؛ لأنه لا يُذْكَرُ بعدها معتمد الفائدةِ. وتقولُ: حسبتُ زيداً هُوَ خيراً مِنْكَ، ولا يجوزُ: حسبتُ زيداً هو قائماً؛ لأنَّ

(قائماً) نكرةُ مجردةٌ مخلصةٌ لمعنى النكرةِ؛ إذ يصلُحُ فيها الألف واللامُ، وليس كذلك: خيرٌ منكُ، ومثلُك، وشبهُك، وحسبُك، وغيرك، وما جرى هذا المجرى مما لا يدخله الألف واللام. وتقولُ: كان عبدالله هو الظريف، ولا يجوزُ: كان عبد الله ظريفاً؛ لأنه نكرةٌ محضةٌ. وفي التنزيل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، فهذا للفصلِ، وقد يقع بين معرفتين. ولا يجوز أن يكون تأكيداً في هذا الموضعِ، لأن الظاهر لا ي} كد بالمضمر؛ لمخالفةِ المضمرِ له في دلالته على المتكلمِ من المخاطبِ والغائبِ، ولنه لو كان تأكيداً؛ لمخالفةِ المضمرِ له في دلالته على المتكلمِ من المخاطب والغائب، ولأنه لو كان تأكيداً؛ للزم عليه فسادٌ كثيرٌ في القياس، وما لا تكلم به العربُ، فكان يجوزٌ: مررتُ بعبدِ الله هو نفسهِ، وإن كان زيدٌ لهُوَ الظريفَ، وإنْ كنا لنحن الصالحين، وهذا كلع خطأٌ، لا تكلمُ به العربُ على هذا الوجه، ولا يجوزٌ في القياسِ لما بينا، ولو كان (هو) تأكيداً؛ لم يجتمع مع لام التأكيد كما لا يجتمع مع (إن) التي للتأكيدِ، لا تقول:

لئن زيداً منطلقٌ، وإنما تقولُ: إنَ زيداً لمنطلقٌ، فتؤخرُ اللام إلى الخبر. وفي التنزيل: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} [أل عمران: 180]، وتقديره: البُخل هو خيراً لهم، فحُذف البُخل؛ لدلالةِ: يبخلون، عليه، كما تقولُ العربُ: من كذب كان شراً له، فتضمرُ: الكذبَ؛ لدلالةِ (كذب) عليه. وفي التنزيل: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39]، فيجوز في (أنا) -هاهنا-/73 أأن يكون فصلاً وتأكيدا على الأصول الصحيحةِ. وكذلك: {تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]. وكلُ موقع للفصلِ إذا جعل اسما مبتدأً؛ رُفِعَ ما بعده، وإن جُعِلَ فصلاً؛ تخطاهُ العاملُ إلى ما بعده. وقد سُمِعَ من رُؤْبةَ: أظنُ زيداً هو خيرٌ منكَ، فهذا على الاسم المبتدأ،

وحكى عيسى عن كثير من العرب أنهم يقولون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] فهذا على الاسم المبتدأ، وهو قراءتنا على الفصلِ {وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]. وقال قيس بنُ ذريحٍ: تُبَكِى على لبنى وأنتَ تركتها وكنتَ عليها بالملا أنت أقدَرُ فهذا على الاسمِ المبتدأ. وحكى أبو عمرو: إن كان لهو العاقل، فهذا على الاسم المبتدأ. وأما قولٌهم ((كلُ مولودٍ يُولدُ على الفطرةِ، حتى يكون أبواه هما اللذانِ يُهودانهِ، أو يُنصرانهِ))؛ ففيه ثلاثةُ أوجهٍ: وجهانِ في الرفعِ، ووجه في النصبِ. فأحد وجهي الرفعِ: الإضمارُ في: يكون، والابتداءُ بقولك: أبواه. والوجهٌ الآخرُ: أن يكونَ (أبواهُ) مرفوعين بيكون، و (هما) مبتدأٌ، خبرُهما (اللذان) بصلته. وأما النصبُ فعلى أنْ يكونَ (أبواه) اسم: يكون، و (هُما) فصلاً، و (اللذين) خبرَ: يكون، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ. وقال رجلٌ من بني عبسٍ:

إذا ما المرءُ كانَ أبُوهُ عبسٌ ... فحسبُكَ ما تريدُ إلى الكلامِ فهذا على الإضمارِ في: كان. وقال الآخرُ: متى ما يُفدْ كسباً يكنْ كلُ كسبهِ ... له طعمٌ من صدر يومٍ ومأكلُ فهذا على إعمال يكُنْ فيما بعده. يتلوه-إن شاء اللهُ- في الجزءِ الذي يليهِ: وتقولٌ: كان زيدٌ أنْتَ خيرٌ مِنْهُ.

/74 الجزءُ الحادي والثلاثون من شرحِ كتاب سيبويهِ، إملاء أبي الحسنِ علي بنِ عيسى النحويِّ /74 ب بسم الله الرحمن الرحيم. [وتقولُ]: كان زيدٌ أنتَ خيرٌ منه، فهذا على الاسمِ المبتدأ، ولا يجوزُ أنْ يكون-هاهنا- فَصْلاً؛ لأن الفصل دخوله كخروجهِ في المعنى إلا بمقدارِ الإيذانِ بمعتمدِ الفائدةِ التي تفصلُه من الصفةِ، وهذا لو سقطتْ فيه (أنْتَ)؛ لا نقلبَ المعنى. وكذلك: كُنتَ يومئذٍ أنا خيرٌ منك، وكنتَ يومئذ هو خيرٌ منكَ، فجميعُ هذا لا يجوزُ إلا بالرفعِ. وتقولُ: هذا عبدُ الله هو خيرٌ منك، وما شأن عبدِ اللهِ هو خيرٌ منك، ولا يجوز أن يكون (هو) غصلاً هاهنا؛ لأنها بعد تمامِ الكلامِ، والفصلُ يؤذِنُ بمُعتمدِ الفائدةِ قبل التمام، فهذا كالحالِ التي هي فضلةٌ في الكلامِ.

باب ما يمتنع فيه الفصل

باب ما يمتنع فيه الفصل الغرض فيه: أن يُبين ما يجوزُ فيما يمتنعُ فيه الفَصْلُ مما لا يمتنعُ. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوزُ فيه الفصلُ؟ وما الذي لا يجوزٌ: ولِمَ ذلك؟ . ولم لا يجوزُ الفصلُ في النكرةِ، ولا الحالِ، ولا المفعولِ الذي ليس بخبرً؟ . وما حُكْمُ: ما أظنُ أحداً هو خيرٌ منك؟ ولِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ (هو) فصلاً في هذا الموضعِ، ولا: ما أجملُ أحداً هو أفضلُ منك؟ . وما نظيره من امتناعِ التأكيدِ به نكرةً، ومن أنَّ: كلهم، وأجمعينَ؛ لا ي} كدُ به نكرةٌ؟ .

وما وجهُ قراءة ابن مروان: {هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]؟ ولِمَ لحنه أبو عمرو؟ وهل ذلك لأنه جعل الفصلَ في الحالِ؟ . ولِمَ وَجَبَ في الفصلِ أنْ يكونَ حرفاً؟ وهل ذلك لأنه لو كان اسماً في هذا الموقعِ؛ احتاجَ إلي خبرٍ، ولكانَ لابُد أنْ يَعْملَ فيه عاملٌ؟ . وما نظيرُها من الاشتراكِ في الاسمِ والحرفِ؟ . ولِمَ [لا] يجوزُ: رجلٌ خيرٌ منك، ولا: أظنُ رجُلاً خيراً منك؟ وما في هذا مما يدلُ على امتناعِ الفصلِ؟ وهل ذلك لأنه إذا لك يَجُزْ في الأصلِ الذي هو الإثباتُ؛ اقتضى ألا يجوزَ في الفرعِ الذي هو النفيُ؛ لأنه للإيذانِ بِمُعْتمدِ الفائدةِ، وهذا يقتضي أنْ يدْخُلَ فيما هو أحقُ بالتكميلِ والتحقيقِ، وليس كذلك الإخبارُ بالنكرةِ عن النكرةِ؟ .

الجوابُ: الذي/75 أيجوزُ فيما يمتنعُ فيه الفصلُ أنْ يكونَ ذلك في النكرةِ من الاسمِ والخبرِ؛ لأن الفصلَ للإيذان بمعتمد الفائدة الذي بفصلُها من الصفةِ، وهذا يصلُحُ في المعرفةِ دون النكرةِ؛ لأن النكرةَ لا تكونُ صِفةً للمعرفةِ. ولا يجوزُ أنْ يكون الفصلُ في الحالِ؛ لأنها نكرةٌ، ولا في المفعولِ الذي ليس بخبرٍ؛ لأنه للبيان، لا للفائدةِ. ولا فيما جاء بعدَ تمام الكمال؛ لأنه ليس بمعْتمدِ الفائدةِ، وإنما الفصلُ للإيذانِ بمعتمد الفائدةِ. وتقولُ: ما أظنُّ أحداً هو خيرٌ منك، فيكونُ (هو) اسماً مبتدأً، ولا يجوزُ أنْ يكونَ فصْلاً هنا؛ لجلِ أن الاسمَ نكرةٌ، وكذلك: ما أجْعَلُ أحداً هو أفضلُ منك. ونظيرُه من امتناعِ التأكيدِ بكلهم، وأجمعينِ، إلا معرفةً. فأما قراءةُ ابن مروانَ: {هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]؛ فخطأٌ عِنْدَ سائر النحويينَ، وقال أبو عمرو بنُ العلاءِ: ((احتبى ابنُ مروانُ في لَحنهِ في هذه

القراءة))؛ وذلك لنه جعل الفصلَ في الحالِ، وهي فضْلَةٌ في الكلامِ، ونكرةٌ أيضاً، فلا يجوزُ ذلك لما بينا. والفصلُ حرفٌ؛ لأنه كان اسماً وقع بين الاسمِ والخبرِ؛ لَوَجَب في الخَبَرِ الرفعُ، ولوجب أن يعمل فيه عاملٌ؛ لأن الاسْمُ لا يخلو من عاملٍ، وليس كذلك الحرفُ. ونظيرُ الفصلِ في الاشتراكِ بين الاسمِ والحرفِ (ما)، إذا كانتْ صلةً أو نفياً؛ فهي حرفٌ، وإذا كانتْ استفهاماً أو جزاءً؛ فهي اسمٌ، وكذلك هُوَ، إذا كانَتْ مبتدأةً، وتأكيداً؛ فهي اسمٌ، وإذا كانت فَصْلاً؛ فهي حَرْفٌ. ولا يجوزُ: رجلٌ خيرٌ منك، ولا: أظُنُ رَجُلاً خيراً منك؛ لأنه [إخبار] بالنكرةِ عن النكرةِ بما ليس فيه فائدةٌ، فإذا نُفي صار فيه فائدةٌ، وجاز. قال: ((وهذا يُقوي تَرْكَ الفَصْلِ))، كأنه يذهب إلى أنه إذا لم يَجُزْ في الأصْلِ,

وهو الإثباتُ؛ اقتضى أنْ لا يجوزَ في الفرعِ؛ وهو النفيُ، فهذا مِقدارُ ما احتجَ به، ووجه ذلك لئلا يكونَ دعوى في أنه لم يَجُزْ في الإثبات لم يَجُزْ في النفي، مع اختلافِ حالهما في أنه يُفيدُ في النفي، ولا يُفيدُ في الإثباتِ، فوجهُ الاعتلالِ أنه لما كان/ 75 ب من الأخبارِ ما قد استوفى شروط القوةِ بإجرائه على الصلِ والفرعِ، وبُلِغَ به أعلى مرتبةٍ بالفصلِ الذي يُؤذِنُ بِمعتمدِ الفائدةِ، ويُزيلُ الإبهامَ في الصفةِ، فهذا وجهُ الاعتلالِ لهذا الذي ذَكَرَ.

باب أي

بابُ أيً الغرضُ فيه: أنْ يُبينَ ما يجوزُ في (أيٌ) مما لا يجوز. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (أيٍ)؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولِمَ ذلك؟ . ولِمَ لا يجوزُ في (أيً) أنْ تكون بمنزلةِ (مَنْ) في تركِ الإضافةِ؟ وهل ذلك لنها لتفصيلِ ما أجملتْه: ما، ومن؟ . وعلى كَمْ وجهاً تكونُ أي؟ ولِمَ جاز فيها أنْ تكونَ استفهاماً، وجزاءً، وموصولةً بمنزلةِ: الذي، وصفةً، وحالاً؟ . ولِمَ جاز فيها أنْ تكونَ مُضافةً في هذه الأوجهِ، وغيرَ مُضافةٍ؟ . وما الفرقُ بين قولهم: أي أَفْضَلُ؟ وبينَ: أيُ القومِ أفْضَلُ؟ وهل ذلك من جهةِ الأخصِّ والأعمِّ، فأي أَفْضَلُ، ، أعمُّ؟ . وما الفرقُ بين: من أفضلُ، وبينَ: أي أفضلُ؟ وهل ذلك من جهةِ أن أياً على تقديرِ الإضافةِ، وليس كذلك: مَنْ، فهي تُحْضِرُ معنى المضاف إليه؛ لاقتضائها له،

وليس كذلك: مَنْ، كقولك: أيُّ الناسِ أفضلُ؟ ففي أحدهما تنبيهٌ على المضافِ إليه، وليس ذلك في الآخرِ؟ . وما تأويلُ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الإسراء: 111]؟ ولِمَ وجبَ أنْ تكون-هاهنا- جزاءً؟ وما دليله من حذف النونِ من: تدعونَ؟ وما حُكمُ: أيُها تشاءُ فلك؟ ولِمَ جاز: أيُها تشاءُ فلك، على الجزاءِ، والصلةِ، والاستفهامِ إذا دخلت الفاءُ؟ . وما حُكْمُ: اضربْ أيُهم أَفْضَلُ؟ ولِمَ جاز على معنى: اضرب الذي أفْضلُ؟ . وما تأويلُ: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69]؟ .

ولِمَ جاز النصبِ على قراءة الكوفيين، وبالرفعِ على قراءةِ غيرهم؟ وما الاختلافُ في عِلةِ الرفْعِ؟ وما وجهُ قولِ/76 أالخليل: إنه على الحكايةِ، وقولِ يونُسَ: إنه على تعليق الفِعْلِ، كقولك: قدْ عَلِمْتُ أيُهم في الدارِ، وقول سيبويه: إنه على البناءِ؟ . وما الشاهدُ في قولِ الأخطلِ: ولقدْ أبيتُ من الفتاةِ بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حَرجٌ ولا محْرومُ؟ فلِمَ رَفَعَ: لا حرجٌ ولا محرومُ؟ وهل ذلك مما لا يتوجه إلا على الحكايةِ لما قَدْ قيل، ولو نَصَبَ، فقال: لاحرِجاً ولا محروماً؛ لَمْ يَكُنْ فيه معنى الحكايةِ؟ . وما عِلةُ البناءِ في: اضْرِبْ أَيُهم أَفْضَلُ, على مذهبِ سيبويه؟ ولم جَعل خروجَه

عن نظيرهِ علةً للبناءِ؟ وهل ذلك لأنَّه خرجَ بحذفٍ يقتضي تركَ بعضِ الاسمِ فلما خرجَ بهذا الوجهِ أُجري مُجرى بعض الاسم في البناء؟ . ولمَ جاز: اضرب أيُّهم أفضلُ, على معنى: أيَّهم هو أفضلُ, ولم يجُزْ ذلك في أخواتِه إلا على ضعفٍ, فلمْ يَجُزْ: اضرب الذي أفضلُ, ولا: اضربْ مَنْ أفضلُ؟ وهل ذلك لأن (أيّاً) لما كانت للتفضيل بعدَ الإجمالِ؛ احتملتَ من الحذف لتقدُّمِ الإجمالِ ما لا يحتملُه ما ليس له هذه المنزلةُ, كما أنَّ الجوابَ لما كان مبنياً على السؤالِ؛ احتملَ من الحذفِ ما لا يحتملُه غيرهُ, وكذلك التفصيلُ بأي مبني على الإجمال بـ: ما, ومَنْ؛ فلذلك جاز: هات أيُّها أحسنُ, ولم يَجُز: هاتِ ما أحسنُ؟ وما نظيرُه من قولهم: يا الله اغفر لي, في أنه لما خرجَ عن نظائره في النداءِ بإثبات الألفِ واللام فيه؛ اقتضى أن تُثبتَ ألفُه؛ لأنها قد صارت بمنزلة ما هو من نفسِ الاسمِ, إذ يُثبتان جميعاً في النداءِ, فكلُّ ما خرجَ عن أخواتهِ بوجهٍ جازَ أنْ يخرجَ بمقتضى ذلك الوجه أيضاً؟ وهل من ذلك (لَيْسَ) لما وجبَ فيها أنْ تخرُجَ عن أخواتها بامتناع التصرُّف جاز أنْ تخرُج بمقتضى امتناعِ التصرُّفِ من لزوم التخفيفِ, دون الأصلِ, فلم يَجُزْ

لَيِسَ ولَيْسَ, كصَيِدَ وصَيْدَ؟ . وما قياسُ الحذف في: اضربْ أيُّهم أفضلُ, من: لا عليكَ؟ ولمَ جازَ: اضربْ أيُّهم أفضلُ ولم يجُز: اضربْ اللذيْنِ أفضَلُ؟ وهل ذلك لأنَّ (اللَّذينِ) لمْ يخرُجْ عن قياس أخواتِه في ضعفِ الحذفِ فيه/ 76 ب كضعفهِ في سائر أخواتِه؟ . وهل يجوزُ: امرُرْ على أيهم أفضلُ, وامرُرْ بأيهم أفضلُ؟ ولمَ جازَ ذلك؟ وهل علتُه البناءُ؟ . وما حُكمُ: أيَهم, إذا جاء على قياس أخواته؟ وهل يمتنعُ على هذا الوجهِ فيه البناءُ؛ إذْ قد جرى على قياسِ ما يَمتنعُ منه البناءُ؟ . وما نظيرُه مِنْ قولهم: ما زيدٌ إلا مُنطلقٌ, في الردِّ إلى الأصلِ؛ إذ خرجَ عن الشبهِ الذي يُوجبُ الإعمالَ؟ وهلْ يلزمُ الخليلَ على الحكاية في: اضربْ أيهم أفضلُ؛ أن يُجيزَ: اضرب

الفاسقُ الخبيثُ, على: اضرب الذي يُقال له الفاسقُ الخبيثُ؟ . ولمَ لا يكون خروجُه عن نظائرِه بالحذفِ يُجوزُ فيه الحكايةَ بعدَ الأفعالِ التي لا تَحكي غيرهَ بعدَه كما جُوِّز فيه البناءُ عند سيبويه؟ . ولمَ لا يجوزُ قولُ يُونسُ: إنه بمنزلةِ: أشهدُ إنك لمنطلقٌ, عند سيبويه, وأبي العبّاس, فيكونُ كأنه قيل: نزعتُ بالشهادةِ إنك لمنطلقٌ, وبالشهادةِ أيهم أفضلُ؟ . ولمَ جاز: اضرب أيُّ أفضلُ, عند الخليلِ ويونسَ, ولمْ يَجُزْ عند سيبويه إلا بالنصبِ في هذا الموضع؟ . ولمَ جاز أن يُبنى: أمس, ولمْ يَجُزْ أن يُبنى: أمسُك؟ ولمَ جاز: أزيداً تقولُ مُنطلقاً, ولم يَجُزْ: أزيداً يقولُ فلانٌ مُنطلقاً؟ . ولمَ جازَ: كان هذا الآنَ, ولم يَجُزْ: حان آنَك, بالبناء كما بُني: الآنَ؟ وهل ذلك لأنَّ الإضافةُ بما لا تُمكنُه الألفُ واللامُ اللازمةُ؟ .

وما حكمُ قولهم: أيي وأيك كان شراً فأخزاه اللهُ؟ ولمَ جاز هذا, ولم يَجُزْ: أيُّنا كان شراً؟ وما نظيرُه من قولهم: أخزى اللهُ الكاذب مني ومنك, بمعنى: منَّا, وقولهم: هو بيني وبينك, بمعنى: بيننا؟ . وما الشاهدُ في قول ابن عباس بت مرادس: (فأيي ماوأيُّك كان شراً ... فَقيدَ إلى المُقامةِ لا يَراها) وقولِ خداشِ بن زُهير:

(ولقدْ علمتُ إذا الرجالُ تَناهزُوا ... أيي وأيُّكُمُ أعزُّ وأكرمُ) وقول خداشٍ أيضاً: (أيي وأيُّ الحُصينِ وعَثعثٍ ... غداةَ التقينا كانَ بالحلف أعذَرا؟ ) الجوابُ: الذي يجوزُ في (أيِّ) إجراؤها على خمسةِ أوجهٍ: /77 أاستفهامٍ, وجزاءٍ, وموصولةٍ, واستعمالُها على هذه الأوجُهِ الثلاثةِ أكثرُ, ويجوزُ أنْ تكونَ صفةً للنكرةِ, وحالاً للمعرفة. ولا يجوزُ أنْ تكونَ بمنزلةِ (مَنْ) في الامتناعِ من الإضافةِ والصِّفةِ؛ لأنها لتفصيلِ ما أجملتهُ: ما, ومَنْ, وذلك التفضيلُ يُبيَّنُ بالإضافةِ, ويُوجبُ لها بياناً تكونُ به

مُعربةً؛ لأنه يُخرجُها عن إبهام الحرف, فتتبعُ الموصوفَ في الصفةِ, وإذا صحَّ فيها معنى صفة النكرةِ؛ صحت الحالُ في المعرفةِ على قياسِ نظائرها في ذلك. وإنما جاز أن تكون استفهاماً؛ لتُبينَ عن تفصيل ما أجملتهُ: ما؛ إذْ كانَ القائلُ يقولُ: ما عندَك؟ , فتقول: متاعٌ: أيُّ المتاعِ هو؟ , فيردُّ ذكرَ المتاعِ مُضافاً إليه (أيَّ)؛ ليدُلَّ على أنه يطلبُ التفصيلَ, ولا سبيلَ إلى مثلِ هذا المعنى إلا بمثلِ (أيَّ) , في موضعها. وإنما جاز أنْ تكون جزاءً؛ لمُضارعةِ الجزاءِ للاستفهامِ؛ إذ الاستفهامُ فيها هو الأصلُ بأنه أكثرُ, والحاجةُ إليه أشدُّ؛ لاستخراجِ البيانِ من المُجيبِ على هذه الجهةِ, فأمَّما الجزاءُ؛ فقد يُستغنى عن (أيُّ) فيه بـ: مَنْ, وما, وتحوِهما, إلا أن التفصيل الذي تدُلُّ عليه (أيُّ) , مع مشاكلةِ الجزاءِ للاستفهامِ أحسنُ. وأما كونُها موصولةً بمعنى: الذي؛ فلمُضارعتها للاستفهام باقتضاء البيانِ, فهي في الاستفهامِ تقتضي البيانَ من المُجيبِ, وفي الموصولةِ تقتضي البيانَ بالصلةِ.

وأما كونُها صفةً للنكرةِ؛ فلأنه يصلحُ أنْ تكونَ مُبينةً مع ضربٍ من الإبهامِ على جهة التفخيم للشأن في مثل قولك: مررتُ بكريمٍ أيِّ كريمٍ, وبلئيمٍ أيِّ لئيمٍ, فقد عظمتَ الشأنَ في الأمرينِ. وعلى ذلك تجري في الحال. فالأصلُ في الموضوع أنْ تكون أسماً كسائر الأسماءِ في التعريِّ من معنى الحرفِ, والأصلُ في الاستعمالِ إجراؤها في الاستفهام على ما بينا. وتقولُ: أيُّ أفضلُ؟ , فَتدلُ على الإضافةِ دلالةَ التصريحِ بذكر المضاف إليه, ومع ذلك فالمضاف إليه أعمُّ, كأنكَ قُلتَ: أيُّ الأشياء/ 77 ب أفضلُ؟ , إذا أطلقتَ اللفظ على هذه الجهة. ولو قُلتَ: من أفضلُ؟ / لم تكنْ قد دللتَ على إضافةٍ كدلالتك في: أيِّ, لا دلالة تصريحٍ, ولا تضمينٍ؛ إذ كانتْ (مَنْ) لا تُضافُ, فأيُّ تُحضرُ [في] النفسِ معنى المضاف إليه باقتضائها له, واختصاصها به, وليس كذلك: مَنْ. وفي التنزيل: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] , فأيُّ -هنا- جزاءٌ, ودليلُه سقوطُ النونِ منْ: تدعونَ؛ لأنه لو كان استفهاماً؛ لكانَ: أياً ما تدعونَ, مع أن المعنى على الجزاء, وهو: إن دعوتموه بقولكم: اللهُ؛ فهو من أسمائه الحُسنى, وإن دعوتموه بقولكم: الرحمنُ, فهو -أيضاً- من أسمائه الحُسنى, وفي هذا دليلٌ على جهلِ منْ تأثَّم في دُعائه بـ: يا رحمانُ؛ لأنه تشبهٌ باليهود, فقد بيَّنَ اللهُ -جلَّ وعزَّ- لنا بأنَّ ذلك حسنٌ جائزٌ. من غير أنْ نقصدَ به تشبهاً باليهود.

وتقول: أيُّها تشاءُ, فهي -هاهنا- موصولةٌ, كأنك قُلتَ: الذي تشاءُ لك, فإن زدتَ ألفاءَ, فقلت: فلكَ, جاز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: الاستفهامُ, والجزاءُ, والصلةُ, فتقولُ في الاستفهام: أيها تشاءُ فلكَ؟ , وفي الجزاءِ: أيها تشأ فلكَ, وفي الصلةِ: أيُّها تشاءُ فلكَ. وتقولُ: اضربْ أيُّهم أفضلُ, على معنى: اضربْ الذي [هو] أفضلُ, إلا أنَّه يحسنُ حذفُ (هُو) من: أيِّ, ولا يَحسنُ من: الذي؛ لأنَّ أياً أشدُّ اقتضاءً للبيانِ من: الذي, وأمكنُ في ذلك بأمرينِ: أحدهما: دورُها في اقتضاءِ البيان. والآخرُ: الإعرابُ الذي فيها يقتضي البيانَ عن معنى المفعول. فاحتملتْ [حذفَ] (هُوَ) من الصلةِ بما لا يحتملُه: الذي؛ لهذه العلةِ. وفي التنزيل: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيَّهُمْ أَشَدُّ علَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] , فقرأها الكوفيُّون بالنصبِ على حذفِ: هُوَ, وحسُنَ ذلك فيها على ما بيَّنا, ولم يحسنْ في: الذي. فأما الرفعُ على قراءة غيرهم؛ فلا يَحتاجُ إلى إضمارِ: هُوَ [على] مذهبِ الخليلِ ويونسَ؛ لأنَّ الخليل يجعلها في مخرجِ الاستفهام على جهةِ الحكايةِ, كأنَّه قيلَ: ثُمَّ للننزعنَّ منْ كلِّ شيعةٍ/ 78 أبالقول: أيُّهم أشدُّ على الرَّحمن عِتيّاً,

وعلى ذلك يجيز: اضربْ أيُّهم أفضلُ. وأمَّا يونسُ فيجعلُه على تعليقِ الفعلِ كتعليقهِ إذا قُلتَ: أشهدُ لزيدٌ خيرٌ منك. وأمَّا سيبويه فيجعلُ الضمَّة ضمَّةَ بناءٍ, وهو على معنى: الذي, فلا بُدَّ له من حذفِ: هُوَ. ففيه الاختلافُ على هذه الأوجُهِ الثلاثة, والذي عندي أنَّ قولَ الخليلِ جائزٌ حسنٌ, وكذلك مذهبُ سيبويه. وأما مذهبُ يونسَ فلا يجوزُ ألبتةَ؛ لأنَّ (اضربْ) وما جرى ماجراه من (يَنْزَعُ) ليس من الأفعال التي تُعلَّقُ؛ لأنه لا يصحُّ أنْ يكون معناها في الجملةِ التي هي اسمٌ وخبرٌ كما يصحُّ في العلم وأخواته؛ وذلك أنَّها إذا ألغيتْ؛ بقيت الجملةُ التي معنى الفعل فيها يعملُ بعضُها في بعضٍ, وليس كذلك: اضربْ وأخواتُها. وأنشدَ الخليلُ في صحةِ مذهبه قولَ الأخطلِ: (ولقد أبيتُ من الفتاةِ بمنزلٍ ... فأبيتُ لا حَرجٌ ولا مَحرومُ)

فهذا على الحكايةِ, ولولا ذلك لنصبَ بـ (أبيتُ) , فقال: لا حَرجاً ولا محروماً, فهو مُضمَّنٌ بأنه قد قيلَ, ولو لم يكُنْ على الحكايةِ؛ لم يكن مُضمَّناً. وعلةُ جوازِ البناءِ في: اضربْ أيُّهم أفضلُ, خروجُه عن نظائره بما يقتضي حذفاً يكونُ الباقي بعدهَ بمنزلةِ بعضِ الاسم, وبعضُ الاسمِ مبنيُّ, فجري مَجري: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4]؛ منْ أجلِ الحذفِ الذي يقتضي تبقيةَ بعض الاسمِ, ولا يجوزُ ذلك في نظائره لعلَّةٍ قد اختصَّ بها, وهو ما ذكرنا. ونظيرها في جوازِ الحذف لما فيها من اقتضاءِ البيانِ الحذفُ في جوابِ السَّؤالِ؛ لما فيه من اقتضاءِ البيانِ, فأيُّ مبنيٌّ على إجمالِ: ما, والجوابُ مبنيُّ على اقتضاءِ السُّؤالِ, فتقولُ على هذا: هاتِ أيُّها أحسنُ, ولا يجوزُ: هاتِ ما أحسنُ, حتّى تقولَ: هاتِ ما هُو أحسنُ. ونظيرهُ قولُهم: يا أللهُ اغفر لي, في أنه لما خرجَ عن نظائره؛ جاز أنْ يخرجَ بمُقتضى ذلك الوجهِ.

/78 ب وكذلك قياسُ (لَيْسَ) لما خرجَ عن نظائره بامتناع تصرفهِ؛ خرجَ بلُزومِ التخفيفِ له, فكذلك لما خرجَ: اضربْ أيُّهم أفضلُ, ببيانٍ ليس لنظائره منْ جهةِ التفصيلِ الذي فيه؛ خرجَ بالحذفِ الذي يقتضيهِ ذلك الوجهُ, وخرجَ بالحذفِ إلى البناءِ على ما فسرَّنا, فقد خرجَ بثلاثةِ أوجهٍ: بالتفصيلِ, وبالحذفِ, وبالبناءِ. وتقولُ: اضربْ أيُّهم أفضلُ, ولا يجوزُ: اضرب اللَّذانِ أفضلُ؛ لأنَّه لا يجوزُ فيه الحذفُ كما لا يجوزُ في: أيُّهم. وتقولُ: امرُر على أيُّهم أفضلُ, وامرُر بأيُّهم أفضلُ, على طريقة البناءِ, وإذا جاءَ (أيُّهم) على قياس أخواتِه في التَّمام؛ لم يكنْ إلى البناءِ سبيلٌ, فتقولُ: اضربْ أيَّهم هُو أفضلُ, لا غيرَ. ونظيرُه في الردِّ إلى الأصل ببطلانِ العلةِ التي أخرجتهُ عنه: ما زيدٌ [إلاّ] مُنطلقٌ. وألزمَ سيبويه الخليلَ على الحكايةِ في: اضرب أيُّهم أفضلُ, أن يُجيزَ: اضرب الفاسقُ الخبيثُ. وهذا الإلزامُ ينقلبُ عليه في إجازته البناءَ, فيقالُ له: قد أجَزْتَ البناءَ؛ للحذفِ, وأجزتَ الحذفَ؛ للبيانِ الذي في قولكَ: الفاسقُ الخبيثُ, وإنْ لم يعتمدْ على الحكايةِ.

ويجوزُ: اضربْ أيُّ أفضلُ, عندَ الخليلِ, ويونسَ, ولا يجوزُ عندَ سيبويهِ في هذا الموضع إلا بالنصبِ, لأنَّه موضعٌ يدخلُه التنوينُ, فيردُّ إلى الأصلِ. ويجوزُ أنْ يُبنى: أمسِ, ولا يُبنى: أمسُك؛ لأنَّ الإضافة تُمكنُه, وتمنعُ من بنائه, ولا تمنعُ من بناءِ: أيُّهم أفضلُ؛ لأنه هناك يدُلُّ على المحذوفِ, فيصيرُ كبعضِ الاسمِ, وليس كذلك: أمسُك؛ لأنَّ الإضافةَ قد أبطلتْ تضمينَ الألفِ واللامِ الذي كانَ في: أمسِ, وليس كذلك: اضربْ أيُّهم أفضلُ؛ لأنَّ الإضافةَ لم تُبطلْ علَّةَ البناءِ, وإما تُوجَّهُ في حالِ الإضافةِ بالحذفِ. وكذلك يجوزُ: أزيداً تقولُ مُنطلقاً, ولا يَلزمُ عليه: أزيداً يقولُ أخوك مُنطلقاً؛ لأنَّه مبنيٌّ على الأغلبِ في استفهام المُخاطب عن ظنِّه, لا عن ظنِّ غيره. وتقولُ: /79 أ {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] بالبناءِ على الفتحِ, ولا يجوزُ أنْ يُبنى: آنُك؛ لأنَّ الإضافة قد أبطلتْ لُزومَ الألفِ واللامِ على المعنى المُبهمِ إبهامَ الحرفِ؛ إذْ قد صارتْ الإضافةُ قد بينتْ أنَّه على أمرٍ قد اختصَّ بك, وليس على تحديد فَصلِ الزَّمانينِ: الماضي من المستقبلِ, كأنه قد أُحيل في ذلك على بيانك بالإضافةِ إليك. وتقولُ: أيَي وأيُّك كانَ شراً فأخزاهُ اللهُ, والمعنى أيُّنا كان شراً, وإنما فُصِّلَ؛

لِيُؤذِنَ التفصيلُ في اللفظِ على التبري في المعنى على طريق المُبالغةِ, على نحو قولِ الشاعرِ: (أحارثُ إنا لو تُساطُ دماؤُنا ... تزايلنَ حتى لا يمسَّ دمٌ دَما) فهذا مبالغةٌ, لا أنَّ الدَّمَ إذا خلطَ لا يختلطُ في الحقيقةِ. فأما قولُهم: هو بيني وبينكَ, عل معنى: بيننا؛ فإنما كُرر توكيداً. وقال عباسُ بنُ مِرداسٍ: (فأيِّي [ما] وأيُّك كانَ شراً ... فقيدَ إلى المُقامةِ لا يَراها) وقال خِداشُ بنُ زُهيرٍ: (ولقد علمتُ إذا الرجالُ تَناهزُوا ... أيَّي وأيُّكُمُ أعزُّ وأكرمُ) وقال خداشٌ أيضاً: (أيَّي وأيُّ الحُصين وعَثعَث ... غَداة التقينا كانَ بالحلف أغْدرا)

باب أي الذي لا يصلح فيه البناء

بابُ أيٍّ الذي لا يَصلحُ فيه البناءُ الغرضُ فيه: أنْ يُبيِّنَ ما يجوزُ في (أيِّ) الذي لا يَصلحُ فيه البناءُ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (أيُّ) الذي لا يصلحُ فيه البناءُ مما لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ فيه البناءُ إذا جاء على التَّمام؟ وهل ذلك لا يجبُ له بحقِّ الأصلِ, ولا الشبهِ كما لا يجبُ لغيرِه من الأسماءِ المُتمكنةِ؟ . وما حُكمُ: اضربْ أيَّهم هو أفضلُ؟ ولم َ لا يجوزُ فيه البناءُ؟ وما قياسُه على مذهب الخليلِ ويونسَ في الحكايةِ, وتعليقِ الفعلِ؟ ولمَ جاز فيه الرفعُ على الحكايةِ, ولمْ يجُزْ فيه على تعليقِ الفعلِ في مذهبِ يونسَ؟ . وما حُكمُ: اضربْ أيَّهم كان أفضلَ, واضربْ أيَّهُمْ أبوه زيدٌ؟ وهل النصبُ في جميع هذا لا خلافَ فيه؟ . وما حُكمُ: اضربْ أيُّهم عاقلٌ؟ ولمَ خالفَ حُكمَ: اضرب أيَّهم هو عاقلٌ؟ . وهل يجوزُ على قولِ بعض العربِ: ما أنا بالذي/ 79 ب قائلٌ لك شيئاً؟ ولمَ جاز على هذا, ولم يَجُزْ: ما أنا بالذي مُنطلقٌ؟ وما في طولِ الكلام ممَّا يُحسنُ

الحذفَ؟ وهل ذلك لأنَّ الطويلَ أحقُّ بالتخفيفِ, مع ما يتضمنُه بطوله من البيان, فهو أحملُ للحذفِ؟ .

باب أي المضاف إلى الموصول

بابُ أيٍّ المضافِ إلى الموصولِ الغرضُ فيه: أنْ يُبينَ ما يجوزُ في أيِّ المضافِ إلى الموصولِ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في أيِّ المضافِ إلى موصولٍ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ أنْ يضافَ إلى موصولٍ إلا على تقديرِ الضميرِ في: أيّهم؟ . [وما حُكمُ: أيُّ منْ رأيتَ أفضلُ؟ ولمَ وجبَ أنه بمنزلةِ: أيهم أفضلُ؟ وأيُّ القوم أفضلُ؟ ] وما حُكمُ: أيُّ الذين رأيتَ أفضلُ؟ وهل يجوزُ: أيُّ الذي رأيتَ أفضلُ؟ على طريقِ الجنسِ؟ .

وما حكمُ: أيُّ الذين رأيتَ في الدارِ أفضلُ؟ وهل يجوزُ ذلك على الاستفهامِ والصلةِ, كأنكَ قُلتَ: أيهم في الدارِ أفضلُ؛ أيْ: الذينَ في الدارِ أفضلُ؟ . وما حُكمُ: أيَّ مَنْ في الدارِ أفضلَ؟ وما مَوضعُ: في الدارِ, هنا؟ وما العاملُ فيه؟ وهل تقديرهُ: أيهم رأيتَ أفضلَ؟ . وهل يجوزُ فيها: أيُّ مَنْ في الدار رأيتَ أفضلُ؟ , كأنك قُلتَ: أيهم أفضلُ؟ . وما حكمُ: أيُّ منْ إنْ يأتنا نُعطهِ نُكرمُه؟ ولمَ كانَ تقديرُه: أيُّهم نُكرِمُه؟ . [وهل يجوزُ: أيَّ منْ إنْ يأتينا نُعطهِ نُكرمُ؟ ولمَ كانَ تقديرُه: أيهم نُكرمُ؟ ]. ولمَ لا يجوزُ أنْ تكونَ أيُّ في هذا بمعنى: الذي؟ وهل ذلك لأنَّ الكلامَ ناقصٌ

بمنزلةِ: الذي نُكرمُه؟ . وما حكمُ: أيَّ منْ إن يأتنا نُعطهِ نُكرمُ تُهينُ؟ ولمَ كان بمنزلةِ: الذي نُكرمُ تُهينُ؟ . وما حُكمُ: أيَّ منْ إن يأتنا نُعطهِ نُكرمْ تُهنْ؟ ولمَ كانَ بمنزلةِ: أيهم نُكرمْ تُهنْ, في الجزاءِ؟ . وما حُكمُ: [أيُّ] منْ يأتينا يُريدُ صلتنا فنُحدِّثُه؟ ولمَ جازَ إذا كانَ (يُريدُ) في موضع الخبرِ, ولمْ يَجُزْ إذا كانَ في موضعِ الحال؟ فمنْ أينَ استحالَ إذا كان على هذا الوجه؟ ولمَ صارَ فيه بمنزلةِ: أيهم فنحدثه؟ وهل ذلك لأنَّ الحالَ في صلةِ (منْ)؛ منْ أجلِ أنَّ (يَأتينا) يَعملُ فيه؟ . /80 أولمَ لا يجوزُ: أيُّ منْ يأتينا فنحدثُه؟ وهل ذلك لأنه بمنزلةِ: أيهم فنحدثُه؟ ولمَ جازَ بإسقاطِ الفاءِ في الاستفهامِ, ولمْ يجُزْ في الخبرِ؟ . وما حُكمُ: أيُّ منْ إنْ يأته منْ يأتنا نُعطه يُعطه تأته يُكرمكَ؟ ولمَ كان بمنزلةِ:

أيهم تأت يُكرمك, وبمنزلةِ: أيُّ منْ إنْ يأتهِ زيدٌ يُعطهِ تأتِ يُكرمك؟ . ولمَ جازَ: أيهنَّ فُلانةُ؟ بالتذكيرِ مع وقوعه على المؤنثِ الحقيقيِّ؟ وهل ذلك لأنه مُبهمٌ يُحملُ على التأويلِ, مع شبههِ حروف الاستفهامِ؟ ولمَ جازَ مثلُ ذلك في قولك: كلهُنَّ؟ وهل ذلك لإخلاصه بالعمومِ كما يَخلصُ (بعضٌ) للخصوصِ في قولكَ: بعضهنَّ؟ . وما وجهُ قول بعض العرب: أيتهنَّ فُلانةُ, وكُلتُهُنَّ هناك؟ وهل هذا على التأنيثِ بعلامةٍ, والأولُ على التأنيثِ بغير علامةٍ, فالذي بغير علامةٍ مَحمولٌ على اللفظِ. والذي بعلامةٍ محمولٌ على المعنى, كالقراءة في: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] , فهذا على اللفظِ, و {مَنْ تَقْنُتْ} بالتاءِ على المعنى؟ .

الجوابُ عن البابِ الأولِ: الذي يجوزُ في (أيٍّ) الذي لا يصلُحُ فيه البناءُ إجراؤه على الإعرابِ إذا أتى على التَّمامِ. ولا يجوزُ فيه -إذا كان على التَّمام, لم يُحذفْ منه شيءٌ- البناءُ؛ لأنَّه ليس له بحقِّ الأصلِ, ولا الشبهِ؛ إذ أصلُه الإعرابُ, ولمْ يُحذفْ منه شيءٌ, فيصيرَ بمنزلةِ بعض الاسم. وتقولُ: اضربْ [أيهم] هو أفضلُ, فهذا لا يجوزُ فيه البناءُ بإجماعٍ, ولكنْ يُنصبُ على: اضرب الذي هو أفضلُ, ويجوزُ فيه الرفعُ على الحكايةِ في مذهبِ الخليل, ولا يجوزُ على تعليقِ الفعلِ في مذهب يونُسَ؛ لأنَّه إنما شذَّ مع الحذفِ. وتقولُ: اضربْ أيهم كانَ أفضلَ, واضربْ أيهم أبوه زيدٌ, فكُلُّ هذا على قياسٍ واحدٍ؛ لأنه تمامٌ, لم يُحذَفْ منه شيءٌ. ويجوزُ: اضربْ أيهم قائلٌ لك شيئاً, بالنصبِ على مذهبِ بعضِ العربِ الذي يقولُ: ما أنا بالذي قائلٌ لك شيئاً.

ولا يَحسنُ على هذا: ما أنا بالذي مُنطلقٌ؛ لأنَّ الكلامَ إذا طال فهو أحملُ للحذفِ؛ لأنه أحقُّ بالتخفيفِ, /80 ب مع البيانِ الذي يتضمنُه بِطُولِه.

الجوابُ عن البابِ الثاني: الذي يجوزُ في (أيٍّ) المضاف إلى موصولٍ إجراؤه على تقديرِ: أيهم, ولا يجوزُ أنْ تختلطَ الصلاتُ, فتُجعلَ صلةُ الأولِ أول الصلاتِ, وصلةُ الثاني ثانيَ الصلاتِ, بل تُجعلُ صلةُ الثاني أولَ الصلاتِ, وصلةُ الأولِ ثاني الصلاتِ, فتأملْ هذا, فإن عليه مدارَ الأمرِ. وإذا اجتمع موصولانِ أو أكثرُ بُدئ بالموصولِ الأخيرِ, فقُدرَ بمنزلةِ الاسمِ الواحدِ, ثم الذي يليهِ مما قبله؛ لأنَّ الكلامَ يصحُّ بذلك؛ من أجلِ أنه مع صلتهِ في مَوضع الاسمِ المفردِ, فإذا رُفعَ مع صلتهِ, وجُعلَ في موضعه الاسم المفردُ؛ اتضحَ المعنى, وبانَ عللُ الإعرابِ على هذا الترتيبِ. وتقولُ: أيُّ منْ رأيتَ أفضلُ؟ , وتقديرُه: أيهم أفضلُ؟ . وتقولُ: أيُّ الذين رأيت أفضلُ؟ , ويجوزُ: أيُّ الذي رأيت أفضلُ؟ إذا كانَ (الذي) على طريقِ الجنسِ, ولا يجوزُ إذا كانَ على جهةِ العهدِ؛ لأنَّه بمنزلةِ: أيُّ زيدٍ أفضلُ؟ . وتقول: أيُّ الذين رأيتَ في الدارِ أفضلُ؟ , فأيٌّ -هاهنا- تصلحُ أنْ تكونَ

استفهاماً إذا كانَ: في الدارِ, ظرفاً للرؤيةِ فإنْ لم يكنْ ظرفاً للرؤيةِ؛ كانت موصولةً, كأنكَ قُلتَ: أيُّهم في الدارِ أفضلُ, بمنزلة الذين في الدار أفضلُ. وتقولُ: أيَّ منْ في الدارِ رأيتَ أفضلَ؟ كأنكَ قُلتَ: أيهم رأيت أفضلَ؟ فإنْ جعلتَ: في الدارِ, ظرفاً للرؤيةِ رفعتَ, فقلتَ: أيُّ منْ في الدار رأيتَ أفضلُ؟ كأنك قُلتَ: أيهم أفضلُ؟ , وفي أحدِ الوجهينِ يكونُ العاملُ في الظرفِ: رأيتَ, وفي الوجهِ الآخرِ يعملُ فيه الاستقرارُ. وتقولُ: أيُّ منْ إنْ يأتنا نُعطهِ نُكرمُه؟ , كأنك قُلتَ: أيهم نُكرِمُه؟ . وتقولُ: أيَّ منْ إن يأتنا نُعطهِ نُكرمُ؟ كأنكُ قُلتَ: أيهم نُكرمُ؟ , ولا يجوزُ في هذا أنْ يكونَ بمعنى: الذي؛ لأنَّ الكلام ناقضٌ بمنزلةِ: الذي نُكرِمُ. وتقولُ: أيَّ منْ إنْ يأتنا نُعطهِ نُكرمُ تُهينُ, كأنَّك قُلتَ: أيهم نُكرمُ /81 أتُهينُ؛ أيْ: الذي نُكرمُ تُهينُ. وتقولُ: أيَّ منْ إنْ يأتنا نُعطهِ نُكرمْ تُهنْ, كأنكَ قُلتَ: أيهم نُكرمْ تُهنْ, فهذا

جزاءٌ. وتقولُ: أيُّ منْ يأتينا يُريدُ صلتنا فنُحدثهُ, فهذا يجوزُ في الاستفهامِ إذا كان (يُريدُ) في موضعِ الخبرِ, كأنكَ قُلتَ: أيهم يُريدُ صلتنا فنُحدثَهُ؟ . ولا يجوزُ إذا كانَ (يُريدُ) في موضعِ الحالِ؛ لأنه يصيرُ بمنزلةِ: أيهم فنحدثهُ وهذا لا يجوزُ على وجهٍ من الوجوهِ. ولا يجوزُ: أيُّ منْ يأتينا فَنُحدِّثهُ؟ ؛ لأنَّ الكلامَ ناقصٌ, كأنك قُلتَ: أيهم فنحدثهُ؟ , [فإن أسقطتَ الفاءَ, جازَ في الاستفهامِ, كأنكَ قُلتَ: أيهم نُحدثُه؟ ]. وتقولُ: أيَّ منْ إنْ يأته منْ إن يأتنا نُعطهِ يُعطهِ تأتِ يُكرمك, ففي الكلامِ موصولانِ, تبدأُ بالأخيرِ فترفعه من الكلامِ, وتضعُ موضعه زيداً, فتقولُ: أيَّ منْ إنْ يأته زيدٌ يُعطهِ تأتِ يُكرمك, فتنصبُ أياً بـ: تَأتِ, وهو جَزمٌ على الجزاءِ, ويُكرمكَ جوابُه, وكلا الفعلينِ من مُعلقِ أيٍّ, كأنكَ قُلتَ: أيهم تأتِ يُكرمك, إذا رفعتَ (منْ) الأولى مع صلتها, فمُنتهى صلتها: يُعطهِ, ومنتهى صلةِ (منْ) الثانيةِ: نُعطِهِ, فعلى هذا التقدير يصحُّ الكلام. وتقولُ: أيُّهُنَّ فَلانةُ؟ بالتذكيرِ على اللفظِ, وأيتُهُنَّ فُلانةُ؟ بالتأنيثِ على المعنى, كما قُرئ: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] , على لفظِ: مَنْ, و {مَنْ تَقْنُتْ} بالتاءِ على المعنى. وإنما احتملَ اللفظُ التذكيرَ؛ لأنه مُبهمٌ يصلحُ أنْ يحملَ على التأويلِ, كما احتملَ ذلك: مَنْ.

فأمَّا قولُهم: كُلُّهُنَّ؛ فلإخلاصهِ للعُمومِ على طريقةٍ واحدةٍ كإخلاصِ بعضٍ للخصوصِ, فتقولُ: بعضهم, وبعضهنَّ, فكذلك: كُلُّهم, وكُلُهُّنَّ. ومن العرب منْ يقولُ: كُلَّتُهُنَّ على تأنيث المعنى, والتذكيرُ فيه أكثرُ لما بيَّنا.

باب أي [في] الاستفهام عن نكرة مذكورة

بابُ أيٍّ [في] الاستفهامِ عن نكرةٍ مذكورةٍ الغرضُ فيه: أن يُبينَ ما يجوزُ في أيٍّ التي يُستَفهَمُ بها عن نكرةٍ مذكورةٍ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: /81 ب ما الذي يجوزُ في أيٍّ التي يُستَفْهَمُ بها عن نكرة مذكورةٍ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا تجوزُ فيها الحكايةُ إلا إذا استُفهمَ بها عن نكرةٍ مذكورةٍ؟ وهل ذلك للإيذانِ بأنَّه قد ذُكرتْ نكرةٌ يحتاج إلى عملها, وهي أحقُّ بالحكايةِ من المعرفةِ؛ لأنَّ المعرفةَ تُنبئ عن الشيءِ بعينه, وليس كذلك النكرةُ, فهي يُحتاجُ فيها إلى الإشعارِ بأنَّ المستفهمَ عنه هو الذي ذُكر لا غيرُه؛ إذْ كان الاشتراكُ فيها واقعاً؟ . وما الاستفهامُ بأيٍّ لمنْ قال: رأيتُ رجلاً؟ ولمَ جاز فيه: أياً؟ وفي التثنيةِ إذا قال: رأيتُ رجلينِ؛ قُلتَ: أيينِ؟ , وفي الجمعِ إذا قال: رأيتُ رجالاً؛ قلتَ: أيينَ؟ . ولمَ إذا ألحقتَ: يا فتى, فهي على حالها في الحكايةِ والزيادةِ؟ وهل ذلك لأنَّها مُعربةٌ تقتضي من البيانِ بها ما لا يقتضيه المبنيُّ؟ .

وما الاستفهامُ بأيِّ لمنْ قال: رأيتُ امرأةً؟ ولمَ جاز فيه: أيةً يا فتى؟ وفي التثْنيةِ إذا قال: رأيتُ امرأتينِ؛ قلتَ: أيَّتينِ يا فتى؟ وفي الجمعِ إذا قال: رأيتُ نسوةً؛ قلتَ: أيَّاتٍ يا فتى؟ فلمَ وجبَ أنْ يتبعَ في إعرابه النكرةَ المذكورةَ, وفي تثنيتهِ وجمعِهِ؟ وهل ذلك لأنَّه على الحكايةِ, ولو استأنفَ الاستفهامَ لم يَجُزْ ذلك؟ . وما الاستفهامُ بأيٍّ إذا قال: رأيتُ عبدَ اللهِ, أو قال: مررتُ بعبدِ اللهِ؟ ولمَ وجبَ فيه الرفعُ, كقولك: أيُّ عبدُ اللهِ؟ وهل ذلك لأنَّ المعرفةَ مُكتفيةٌ بالبيانِ الذي فيها عن الحكايةِ, فيُستأنفُ الاستفهامُ على أصلِهِ, لأنه ليس فيه إبهامُ أن المُستفهم عنه غيرُ المذكور, وعلى هذا القياسِ إذا قال: رأيتُ عبدَ اللهِ؛ قُلت: من عبدُ اللهِ؟ , ولم تقُلْ: منا؟ .

باب من في الاستفهام عن نكرة مذكورة

بابُ مَنْ في الاستفهامِ عن نكرةٍ مذكورةٍ الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في الاستفهامِ [بِمنْ] عن نكرةٍ مذكورةٍ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في الاستفهامِ [بِمنْ] عن نكرةٍ مذكورةٍ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ الاستفهامُ (بِمَنْ) عن المعرفةِ على /82 أطريقةِ الاستفهامِ عن نكرةٍ في الزيادةِ؟ . ولمَ كانت النَّكرَةُ أحقَّ بالزيادةِ من المعرفةِ؟ وهل ذلك لتُؤْذِنَ الزيادةُ بأنَّ المُستفهمَ عنه ذلك المذكورُ, والمعرفةُ تكتفي ببيانِها عن الزيادةِ, وإنْ كانَ قَدْ يَعرضُ فيها التنكيرُ الذي لا يُعْتَدُّ به؛ لأنه عارضٌ؟ . وما الاستفهامُ إذا قال القائلُ: رأيتُ رجُلينِ؟ [ولمَ جَاز فيه]: منينِ؟ . وفي أتاني رجُلانِ: مَنانِ؟ , وفي رأيتُ رجالاً: منينَ؟ , وفي رأيتُ امرأةً: مَنَهْ؟ , وفي رأيتُ امرأتينِ: منتينِ؟ .

ولمَ سُكنَت النونُ في: منتين؟ ومنتان؟ في التثنيةِ, وحُركتْ في الواحدِ من قولك: [منه]؟ وهل ذلك للإيذان بأنَّ العلامةَ في الوصلِ تسقطُ, فجاءتْ علامةٌ في حشوِ الكلامِ لا يلزمُ سقوطُها كما يلزمُ سقُوطُها من آخر الكلمةِ؛ لتُنبئ [عن] التأنيثِ, فبُنيتْ لهذه العلةِ بناء بنتٍ, وأختٍ, وخرجتْ عن طريقةِ هاءِ التأنيثِ؟ . وما الاستفهامُ إذا قالَ: رأيتُ نساءً؟ ولمَ جاز: مَنَاتٍ؟ . وما الاستفهامُ بمن إذا قال: أتاني رجلٌ؟ ولمَ جاز: منُو؟ وفي رأيتُ رجلاً: منا؟ وفي مررتُ برجُلٍ: مني؟ ولمَ لحقتْ هذه الزيادةُ [مَنْ] , ولمَ تلحقْ: أيّ؟ وهل ذلك لأنَّ أيّاً تستغني بالإعرابِ عن هذه الزيادةِ التي هي حروف المدِّ واللين, وكان الوقفُ عليها كالوقفِ على: زيدٍ, وعمروٍ, (تقول: أيّاً, في النصب) , وأيُّ, في الرفعِ والجر كما تقولُ: زيدٌ ٍ؟ .

ولم وجبَ إسقاطُ العلامةِ في (مَنْ) في الوصلِ, فلا يثبتُ شيءٌ من هذه الزياداتِ للإعرابِ, ولا للتثنيةِ والجمعِ, ولا للتأنيثِ, ولكن تقولُ: مَنْ يا فتى؟ في جميعِ ذلك؟ وهل ذلك لأن الوصلَ قد أخرجهُ عن محضِ الحكايةِ, وصار بمنزلةِ الاستفهام المُستأنفِ, مع أنَّ [منْ] مبنيةٌ لا يجبُ لها ما يجبُ للمُتمكنِ من التصرفِ في وجوهِ البيانِ باختلافِ العلاماتِ كما يجبُ لأيِّ في الوصلِ والوقفِ؛ فلذلك قُلتَ: أيهٌ يا فتى؟ وأيَّتان؟ وأيَّاتٌ؟ في الوصلِ, ولمْ يجُز مثلُ ذلك في: من؟ . ولمَ جاز في مذهبِ بعض العربَ: منا, ومني, ومنو؟ في الواحدِ, والاثنين, والجميع؟ وهل ذلك للاجتزاء بعلامةِ الإعرابِ في الدلالةِ على الحكايةِ؛ إذ كانت (من) تصلحُ للواحدِ, والأثنين, والجميعِ على صيغةٍ واحدةٍ كما جاء في التنزيل: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] , وفي موضعٍ آخر: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] , فمرةً تُحملُ على اللفظ, ومرةً على المعنى, ومن ثنى وجمع؛ كان مذهبُه أحسنَ؛ لأنه أدلُّ وأشكلُ على أن الاستفهام

عن النكرةِ المذكورةِ؟ وما قياسُ أيٍّ على هذا المذهبِ في تركِ علامةِ التثنيةِ والجمعِ؟ ولمَ استوتْ حالُ: أيٍّ ومن, فيه؟ وهل العلةُ في ذلك واحدةٌ, وهي الاجتزاءُ بعلامةِ الإعرابِ في الدليل على الحكايةِ؟ . وما وجهُ مذهبِ يونسَ في قوله: منةٌ يا فتى, ومنةً, ومنةٍ؟ . وهل ذلك لأنه قاسهُ على أيٍّ؟ ولم استبعدَ هذا سيبويه, ولم يُجزه إلا في الضرورةِ؟ . وما الشاهدُ في قول الشاعرِ: (/82 ب أتوا ناري فقُلتُ منونَ أنتُم ... فقالوا الجنُّ قُلتُ عمُوا ظلاما؟ )

وما وجهُ ما حكاه يونسُ عن بعض العربِ: ضربَ منٌ مناً؟ ولمَ أنكَرَ هذا سيبويهِ, وقال: لا يستعملُه أكثرُ العربِ؟ . وهل يلزمُ من قالَ هذا ألا يُجيزَ: منُو, ومنا, ومني, ولكن يجعلُهُ كأيٍّ في الوقفِ؟ وما الاستفهامُ إذا قال: رأيتُ امرأةً ورجلاً؟ ولمَ جاز: من ومنا, فإن قال: رأيتُ رجلاً وامرأةً؛ قُلتَ: من ومنه؟ .

الجوابُ عن البابِ الأولِ: الذي يجوزُ في [أيٍّ] التي يُستفهمُ بها عن نكرةٍ مذكورةٍ إعرابُها بإعرابِ تلك النكرةِ؛ للإيذانِ بأن الاستفهامَ عنها, لا عن ما يُشاركها في اسمها. ولا تجوزُ الحكايةُ إلا عن النكرةِ المذكورةِ, لاستحالةِ الحكاية لما لم يُذكر, مع الحاجةِ إلى الإيذانِ بأن المُستفهمَ عنه هو هذا المذكورُ, دون ما يشاركُه في اسمه. والاستفهامُ بأيٍّ لمن قال: رأيتُ رجلاً, أن تقولَ: أياً؟ , وفي التثنيةِ إذا قال: رأيتُ رجُلينِ؛ قُلتَ: أيينِ؟ , وفي الجمعِ إذا قال: رأيتُ رجالاً؛ قلتَ: أيِّينَ؟ . وإن ألحقتَ: يا فتى؛ فهي على حالها في طريقةِ الحكايةِ؛ لأنها مُعربةٌ يجبُ فيها من البيانِ ما لا يجبُ في المبنى. والاستفهامُ لمن قال: رأيتُ امرأةً, بأيٍّ أن تقولَ: أيةً يا فتى؟ , وفي التثنيةِ لمن قال: رأيتُ امرأتين, قُلت: أيَّتين يا فتى؟ وفي الجمع لمن قال: رأيتُ نِسوةً؛ قُلتَ: أيَّاتٍ يا فتى؟ . فهذا كُلُّهُ على الحكايةِ لما ذُكرَ.

ولو استُؤنف الاستفهامُ لم يجُز ذلك؛ لأن (أياً) موحدةٌ في غير هذا الموضعِ, فلو قال: أيُّ القومِ جاء؟ , فقال الجيبُ: إخوتُك, بالجمعِ؛ لكان جواباً صحيحاً, وإن كنت (أيُّ) موحدةً؛ لأنها تجري مجرى (من) في الإبهامِ وتضمُّنِ حرف الاستفهامِ, وإن كانت بما تقتضي من التفصيل أقل إبهاماً مِن: مَن؛ وذلك أنَّ الإبهامَ يتعاظمُ, فأشدُّ الإبهامِ إبهامُ الحرفِ, ثُمّ الاسمِ الناقصِ الذي لا /83 أيقومُ بنفسهِ دونَ صلتهِ من غير اقتضاءِ تفصيلٍ في معناه كالذي, ومن الموصولةِ, ثُمّ ما اقتضى تفصيلاً في معناه, مع أنه موصولٌ, وهو أيٍّ, ففيها إبهامٌ إلا أنه أقلُّ مما في من؛ لما بيَّنا. والاستفهامُ بأيٍّ إذا قلتَ: رأيتُ عبدَ اللهِ, أو قال: مررتُ بعبد الله, أن تقولَ: أيٌّ عبدُ اللهِ؟ , فتستأنفُ الاستفهامَ؛ لاستغناء المعرفةِ عن الحكايةِ, مع أن أياً مُعربةٌ تقتضي الاستئنافَ وبناءَ خبرها عليها على طريقةِ سائر الأخبارِ فيما الثاني فيه هو الأولُ. وعلى ذلك تقولُ: مَن عبدُ اللهِ؟ , ولا يجوزُ: منا؛ لأنَّ هذه العلامةَ تدلُّ على النكرةِ.

الجوابُ عن الباب الثاني: الذي يجوزُ في الاستفهامِ بمن عن نكرةٍ مذكورةٍ إلحاقُ علامةٍ تُؤذنُ بأنَّ الاستفهامَ عن النكرةِ المذكورةِ خاصةً, لا عن ما شاركها في اسمها, فإذا ذكرَ مرفوعاً؛ كانت علامتهُ الواوَ, وفي المنصوبِ الألفُ, وفي المجرورِ الياءُ؛ ليُؤذنَ ذلك بالحكايةِ التي تدلُّ على أن الاستفهامَ عن النكرةِ المذكورةِ. وكانت حروفُ المد واللينِ أولى من حركاتِ الإعرابِ؛ لئلا يُوهمَ أنه لـ (من) بحقِّ الإعرابِ, وإنما تلحقُ العلامةُ؛ للإيذانِ بالحكايةِ على ما بينا, لا على حقِّ الإعرابِ. والاستفهامُ بمن إذا قال القائلُ: رأيتُ رجلينِ, أن تقولَ: منينِ؟ , وفي أتاني رجُلانِ: منان؟ , وفي رأيتُ رجالاً: منينَ؟ , وفي رأيتُ امرأةً: منه؟ , وفي رأيتُ امرأتينِ: منتينِ؟ بسُكونِ النونِ؛ لئلا يخالفَ الأصولَ في إثباتِ العلامةِ في الوصل, مع الدليلِ على أنه للتأنيثِ من جهةِ أن المذكرَ: منينِ؟ , والمؤنثَ: منتينِ؟ كما تدُلُّ (بنتٌ) على أنه للمؤنثِ باختصاصه به؛ إذ المذكرُ: ابنٌ, فجمع البيانَ عن التأنيثِ والسلامةَ من مُخالفةِ الأصُولِ بأن بُنيَ بُنيَةَ ما هو من نفسِ الكلمةِ, على

قياسِ: بنتٍ, وأختٍ. والاستفهامُ إذا قال: رأيتُ/ 83 ب نساءً, أن تقولَ: مناتٍ؟ , فإن قال: أتاني رجلٌ؛ قُلتَ: منُوْ؟ , وإن قال: رأيت رجلاً؛ قُلتَ: منا؟ , وإن قال: مررتُ برجُلٍ؛ قُلتَ: مني؟ . فإن وصلتَ أسقطتَ العلامات, فقلتَ: من يا فتي؟ ؛ لما بيَّنا قبلُ. وتقولُ: أيَّهٌ يا فتى؟ , فلا تُسقطُ العلامةَ كما تُسقطُها من: منه؟ إذا قُلتَ: من يا فتي؟ , لأنَّ أياً معربٌ يستحقُّ البيانَ في الوصلِ والوقفِ على قياسِ المُعرباتِ, وليس كذلك: من. وبعضُ العربِ يقولُ: منا, ومني, ومنُو؟ في الواحد, والاثنينِ, والجمعِ؛ لأن الزيادةَ التي لحقتْ إنما هي للإيذانِ بأنَّ الاستفهامَ عن النكرةِ المذكورةِ, فإذا وافقتها في وجهِ الإعرابِ, دلَّتْ على ذلك, واستُغني عن زيادةٍ أخرى, وأُجريت (من) في التثنيةِ والجمعِ على قياسِ ما تُجرى عليه في سائر الكلام.

ومن ألحقَ علامةَ التَّثنيةِ والجمعِ فمذهبُه أحسنُ؛ لأنَّها أدَلُّ على الحكايةِ بتمامِ الموافقةِ في الوجهينِ: من الإعرابِ, وعلامة التثنيةِ والجمعِ, وهي -مع ذلك- أشَدًّ مشاكلةً لما قُصدَ به الحكايةُ, فكان ذلك أحسنَ؛ لهذه العلةِ, والمذهبُ الأولُ حسنٌ أيضاً؛ لما بيَّنا قبلُ. وقياسُ (أيٍّ) في المذهبِ الأول التسويةُ بينهما وبين (من) في إسقاطِ علامةِ التثنيةِ والجمعِ؛ لأن المُوافقةَ في الإعرابِ تكفي في الدليلِ على الحكايةِ, فالعلةُ فيهما واحدة؛ إذ كان إنَّما هو مبنيٌّ على أقلِّ ما يكون الدليلُ على الحكايةِ, فعلى هذه العلةِ لا بُدَّ من إسقاطِ علامة الجمعِ والتثنيةِ. ووجه مذهبِ يونُس في قوله: منةٌ يا فتى؟ ومنةً؟ ومنةٍ؟ في الوَصلِ؛ قياسُه على أيٍّ. وسيبويهِ يستبعدُ هذا القياسَ؛ لما بيَّنا قبلُ من إعرابِ: أيٍّ, وبناءِ: من, ولكن يجوزُ في الضرورةِ كما قال الشاعرُ: (أتَوا نَاري فقُلتُ منون أنتم ... فقالوا الجنُّ قُلتُ عموا ظلاما.) فهذا في الضرورةِ, ولو كان في الكلام /84 ألوجَبَ: من أنتم؟ . وحكى يونُسُ أنَّه سمعَ بعض العربِ يقولُ: ضرب منٌ مناً؟ , كأنَّه قالَ: ضربَ رجلٌ رجلاً, فاستفهَمَه على هذه الجهةِ من طلبَ الحكايةَ, فقال: ضربَ,

حاكياً لكلامه, ثُمَّ أعرب (من) على حكايةِ النكرةِ. وأنكرَ سيبويه هذا المذهبَ, وقال: لا يستعملُه أكثرُ العربِ, وهو ضعيفٌ في القياسِ على ما بيَّنا قبلُ. ويلزمُ من أعربَ (من) في مثل هذا ألا يُجيزَ: منُو؟ ولا منا؟ , ولا مني؟ , ولكن يجعلُه كأيٍّ في الوقفِ والوصلِ. والاستفهامُ إذا قال القائل: رأيتُ امرأةً ورجلاً, أن تقولَ: من ومنَا؟ , فإن قال: رأيتُ رجلاً وامرأةً: قُلتَ: من ومنه؛ لأن الأوَّل موصولٌ, والثانيَ موقوفٌ عليه.

باب من في لحاق الزيادة إذا استفهم بها عن معرفة

بابُ من في لحاقِ الزِّيادةِ إذا استُفهم بها عن مَعرفةٍ الغرضُ فيه: أن يُبينَ ما يجوزُ في (من) في لحاقِ الزيِّادةِ إذا استُفهمَ بها عن معرفةٍ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (من) في لحاق الزِّيادةِ إذا استُفهمَ بها عن معرفةٍ؟ وما الذي لا يجوز؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ أن تلحقها الزِّيادةُ في الاستفهامِ عن معرفةٍ؟ وهل ذلك لأنَّ الزيادةَ علامةُ النكرةِ, وكانت أحق بها؛ لأنها لا تقومُ بنفسها في البيانِ عن الشيءِ بعينهِ, فجاءت الزيادةُ تقتضي البيانَ عن النكرةِ المذكورةِ؟ . ولمَ امتنعَ إذا قال قائلٌ: رأيتُ عبدَ اللهِ, أن تقولَ: منا, ولم يمتنعْ, إذا قال: رأيتُ رجلاً؛ أن تقولَ: منا؟ . وما حكمُ السُّؤال بمن إذا قال القائلُ: رأيتُه, أو رأيتُ الرجلَ؟ ولمَ وجبَ: من هو, ومنِ الرَّجُلُ؟ .

وما وجهُ قولِ بعضِ العربِ: ذهب معهم, فقال: مع منين, وقد رأيتُه, فقال: منا, ورأيتَ منا؟ وهل ذلك لأنه نزَّله تنزيلَ النكرَةِ, على أنَّ المُتكلِّمَ أخرجهُ مُخرَجَ المعرفةِ, وهو في حقيقةِ المعنى نكرَةٌ, فسأله على ذلك؟ .

باب من التي يستفهم بها عن الاسم /84 ب العلم المذكور

بابُ من التي يُستَفهَمُ بها عن الاسمِ /84 ب العَلَم المذكورِ الغرضُ فيه: أن يُبينَ ما يجوزُ في الاستفهامِ بمن عن العلمِ المذكورِ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في الاستفهامِ عن العلمِ المذكورِ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ في كُلِّ معرفةٍ أن يجريَ مجرى العلمِ في هذا البابِ؟ وهل ذلك لأنَّ العلمَ أعرفُ, وأكثرُ استعمالاً, فاقتضى ذلك من المحافظةِ على سلامةِ لفظهِ ما ليس لغيرهِ كما اقتضى في جمعِ السلامةِ, فلم يجُزْ في الرجلِ, وإن كان مما يَعقلُ -ما يجوزُ في العلمِ وصفةِ العلمِ؟ . وما حُكمُ الاستفهامِ بمن إذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً, أو قال: مررتُ بزيدٍ, أو هذا زيدٌ؟ وما وجهُ قولِ أهلِ الحجازِ: من زيداً, ومن زيدٍ, ومن زيدٌ؟ فلمَ حكوا في الاسمِ العلمِ؟ وما وجهُ قولِ بني تميم: من زيدٌ, على كلِّ على حالٍ؟ ولمَ كانَ قولُ بني تميم أقيسَ, وقولُ أهلِ الحجازِ أبينَ؟ .

ولمَ جازَ مذهبُ الحجازِ في الحكايةِ مع استغناءِ الاسم العلمِ بأنه واحدٌ بعينهِ, لا يُحتاج فيه إلى علامةٍ تُنبئُ عن أنَّ الاستفهامَ إنما هو عن المذكور؟ وهل ذلك لأنَّه قد يعرضُ فيه التنكيرُ, فيُحتاج إلى البيان عن أنَّه إنَّما وقعَ عن المذكورِ؟ . وما الفرق بينَ قولهم: دعنا من تمرتان, وليسَ بقُرشياً, وبين قولهم في الاستفهام: من زيداً؟ وهل ذلك من جهةِ أنَّ الاستفهامَ عن المذكورِ أحقُّ بذلك؛ لأنَّه يقتضي البيانَ من المجيبِ عن ما ذُكرَ دونَ غيرهِ مما شاركه في اسمهِ؛ ولذلك اطردَ في الاستفهامِ وكثُر, ولم يكثُرْ في: دعنا من تمرتان؟ . ولمَ جازَ, إذا قال: رأيتُ عبدَ اللهِ؛ أن تقولَ: من عبدَ اللهِ, ولم يَجُزْ, إذا قال: رأيتُ أخا زيدٍ؛ أن تقولَ: من أخا زيدٍ, إلا على مذهبِ من قالَ: دعنا من تمرتانِ, وليس بقُرشياً؟ . وما حُكمُ الاستفهامِ بمن إذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً وعمراً؟ ولمَ وجبَ فيه على مذهبِ أهل الحجازِ وغيرهم في قولِ يونُس: من زيدٌ وعمروٌ؟ وهل ذلك لأنَّه لما طال الكلامُ بالعطفِ رُدَّ إلى /85 أالأصلِ؛ للاستغناءِ عن الحكايةِ؟ . وما وجهُ إجازةِ بعض النَّحويينَ: من زيداً وعمراً, على الحكايةِ؟ وما وجهُ قياسهم

إذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً وأخاه؛ أن قولَ: من زيداً وأخاه, فإن قال: رأيتُ أخا زيدٍ وعمراً, أن يقولَ: من أخو زيدٍ, وعمروٌ؟ وما وَجهُ قولِ سيبويهِ فيه: «هذا حسنٌ»؟ وهل ذلك لما يقتضيهِ العطفُ من الإتباعِ, حتى جازَ: رُبَّ رجُلٍ وأخيهِ, ولم يجُز: رُبَّ أخيهِ؟ . وما حُكمُ قولِ السائل, إذا كررَ: من, فقال: من عمراً ومن أخو زيدٍ؟ ولمَ اختلفَ الحكمُ؟ وهل ذلك لأنَّه قد انقطعَ الأولُ عن الشركةِ, واستُؤنفَ الثاني بالاستفهامِ؟ وما نظيرُه من قولهم: تباً له وويلاً, وتباً وويلٌ له, لما صار الثاني مكتفياً لنفسهِ؛ صار بمنزلةِ ما لم يقع فيه عَطفٌ؛ لأنَّه -حينئذٍ- عطفُ جُملةٍ على جُملةٍ؟ . وما حُكمُ الاستفهامِ بمن إذا قال القائلُ: رأيتُ زيدَ بن عمروٍ؟ ولمَ جازَ: من زيدَ بنَ عمروٍ؟ في قول يونُس وغيره؟ . وما حُكمُه على مذهبِ من قال: رأيتُ زيداً ابن عمروٍ, فجعل (ابنَ) صفةً مُنفصلةً؟ وهل ذلك [على] قول يونُسَ: من زيدٌ ابنُ عمروٍ, بالرفعِ؟ .

وما حُكمُ الاستفهامِ بأيٍ إذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً؟ ولمَ وجبَ فيه: أيٌّ زيدٌ, بإجماعٍ, ولم تجُز الحكايةُ؟ وهل ذلك لأن أياً مُعربةٌ تقتضي إعرابَ المحمولِ عليها بإعرابها, إذا كان الثاني هو الأولَ؟ . وما وجهُ اعتلاله في (من) بأنها أكثرُ استعمالاً, وهم يُغيرونَ الأكثرَ في كلامهم عن حال نظائره؟ وهل ذلك لأنَّ كثرته تمنعُ من الإخلالِ به في تغييره؟ . وما حُكمُ الاستفهامِ بمن إذا قلتَ: فمن, أو ومن؟ ولمَ لا يجوزُ فيه إلا الرفعُ؟ وهل ذلك للاستغناءِ عن الحكايةِ بحرف العطفِ الذيُّ يدُلُّ على أنَّ الاستفهامَ عن المذكورِ, وأنَّ الكلامَ مُتصلٌ لم يُستأنف فيه الثاني, فأغنى ذلك عن الحكاية؟ .

باب من التي يستفهم بها عن صفة المذكور /85 ب على طريق النسبة

باب من التي يُستفهمُ بها عن صفةِ المذكور /85 ب على طريقِ النسبةِ الغرض فيه: أن يبيَّنَ ما يجوزُ في (من) التي يُستفهمُ بها عن صفةِ المذكورِ على جهةِ النسبةِ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (من) التي يُستفهمُ عن صفةِ المذكورِ على طريقِ النسبةِ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولم ذلك؟ ولمَ لا يجوزُ إلا حكايةُ الإعرابِ على جهةِ مُطابقةِ السؤال للجوابِ؟ وهل ذلك لأنه مُفردٌ قد اعتمدَ به على ذكرَ الاسمِ المتقدمِ كما يقولُ القائلُ: من رأيتَ؟ فيقولُ المجيبُ: زيداً, ولو قال: زيدٌ؛ أي: المرئي زيدٌ؛ لم يكن على مُطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ؟ . وما حُكمُ قول القائلِ: رأيتُ زيداً, في الاستفهامِ على طريقِ النسبةِ؟ ولمَ جاز فيه: المنيَّ, وفي رأيتُ زيداً عمراً: المنيينِ؟ ؛ فإن ذكرَ ثلاثةً؛ قُلتَ: المنيينِ؟ وإن ذكرَ مجروراً في: مررت بزيدٍ؛ قُلتَ: المنيِّ؟ . وما تقديرُه من قولكَ: القرشيَّ أم الثقفيَّ؟ , وكذلك في المجرورِ: القُرشيِّ؟ . ولمَ لا يجوزُ الرفعُ إلاّ على قوله: صالحٌ, في: كيف كُنتَ؟ .

الجوابُ عن البابِ الأولِ: الذي يجوزُ في (من) في لحاقِ الزَّيادةِ -إذا استُفهمَ بها عن معرفةٍ- إبطالُ الزيادةِ؛ لأنها علامةٌ للنكرةِ التي هي أحقُّ بها؛ من أجلِ أنها لا تقومُ بنفسها في البيان عن الشيءِ بعينهِ. ولا يجوزُ أن تلحقَ المعرفةَ؛ لاستغنائها بالبيانِ الذي فيها. وإذا قال القائلُ: رأيتُ عبدَ الله؛ لم يجُز فيه: منا؟ لأنَّه معرفةٌ. فإذا قال: رأيتُ رجلاً؛ قُلتَ: منا؟ وإن قالَ: رأيتُه, أو رأيتُ الرجُلَ؛ قُلتَ: من هُوَ؟ ومن الرجلُ؟ . فأمَّا بعضُ العرب فوجه قوله: منينَ؟ بعد ذكر القائلِ: ذهب معهُم؛ فإنما هو على أنه نزَّلهُ تنزيل النكرةِ؛ لأنَّ المُتكلمَ وضعَ المعرفةَ على غير حقها, فأجراه مجرى النكرةِ. وكذلك لما قال: رأيتُه, فقال: منا؟ ورأيتَ منا؟ إنَّما هو على أنه قدَّره تقديرَ النكرةِ, كأنه قال: رأيتُ رجلاً, فسألهُ عن ذلك الحدِّ.

الجوابُ /86 أعن البابِ الثاني: الذي يجوزُ في الاستفهامِ عن العلمِ المذكورِ الحكايةُ على مذهبِ أهلِ الحجازِ, والاستئنافُ بالرفعِ على مذهبِ بني تميمِ. ولا يجوزُ في كُلِّ معرفةٍ أن تجرىَ مجرى العلمِ في الحكايةِ؛ لأنَّ العلمَ أعرفُ وأكثرُ, فاقتضى له ذلك سلامةَ لفظه بما ليس لغيره, كما اقتضى له جمعَ السلامةِ, ولم يجُز ذلك في: الرجلِ, وإن كان مما يعقلُ. وإذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً, أو قال: مررتُ بزيدٍ, أو هذا زيدٌ؛ قُلتَ: من زيداً, ومن زيدٍ, ومن زيدٌ؟ على الحكايةِ في مذهبِ أهلِ الحجاز. وأما بنو تميم فيقولونَ: من زيدٌ؟ على كُلِّ حالٍ, وهو أقيسُ معنى, وأجرى في النظائر؛ إذ قياسُ الاستفهامِ أن يُستأنفَ الكلامُ به. ومذهبُ أهلِ الحجازِ أبينُ؛ لأنه قد يعرضُ فيه تنكيرٌ, فيحتاجُ إلى علامةٍ تُنبئُ عن أن الاستفهامَ إنَّما هو عن المذكورِ, لا عمَّا شاركه في اسمهِ, فهذا قياسٌ مُطردٌ في الاستفهامِ عن المذكورِ العلمِ.

وليس بمنزلةِ: دعنا من تمرتان, وليس بقُرشياً؛ لأنَّ السائلَ يقتضي بياناً من المجيبِ عن من ذُكرَ, لا عن غيرهِ ممن شاركهُ في اسمهِ, فهو أحوج إلى الحكايةِ مما لا يقتضي جواباً. وإذا قال: رأيتُ عبدَ اللهِ؛ قلتَ: من عبدَ اللهِ؟ ولا يجوزُ مثلُ ذلك إذا قال: رأيتُ أخا زيدٍ؛ لأن عبدَ اللهِ علمٌ, وأخُو زيدٍ ليس بعلمٍ. وإذا قال القائلُ: رأيتُ زيداً وعمراً, قُلتَ: من زيدٌ وعمروٌ؟ على مذهبِ يونُس بإجماعٍ من العربِ في القياسِ؛ لأنه لما عطفَ طال الكلامُ, واستغنى لما فيه من البيانِ عن الحكايةِ. ومن النحويينَ من يجيزُ الحكاية في العطفِ, فيقولُ: من زيداً وعمراً؟ , فإذا قال: رأيتُ زيداً وأخاه؛ قال: من زيداً وأخاه؟ , وإن قال: رأيتُ أخاه وزيداً؛ قلتَ: من أخُوه وزيدٌ؟ فهذا حسنٌ؛ لأنَّ العطفَ يقتضي الإتباعَ وحملَ الثاني على الأولِ بما لا يجوزُ لو بناه على العاملِ. فإذا قال: من عمراً ومن أخو زيدٍ؟ فليس فيه إلا هذا؛ لأنَّ الكلامَ الأول قد انقطعَ, وخرجَ إلى عطفِ جُملةٍ على جُملةٍ.

وإذا قال القائلُ: رأيتُ زيدَ بنَ عمروٍ؛ قُلتَ: من زيدَ بنَ عمروٍ؟ على قول يونُس وغيره. فأما من نوَّن, فقالَ: رأيتُ زيداً ابنَ عمروٍ؛ فإنه يقولُ: من زيدٌ ابنُ عمروٍ؟ على قولِ يونُسَ, ويحكي على مذهبِ غيره. وإذا قال: رأيتُ زيداً, فاستفهمتَ بأيٍّ؛ قُلتَ: أيٌّ زيدٌ؟ , ولم تجُز الحكايةُ؛ لأن (أيّ) معربةٌ تقتضي أن يُعربَ الثاني بإعرابها إذا كان هو الأولُ. واعتلَّ سيبويهِ في هذا بكثرةِ استعمالِ: من, ووجهُ ذلك أنَّ الكثرةَ لا يختلُّ بها الكلامُ إذا غيرَ؛ لقُوةِ البيانِ بالكثرةِ. وإذا قال: فمن, أو ومن؛ فليس فيه إلا الرفعُ؛ للاستغناءِ عن الحكايةِ بحرفِ العطفِ الذي يدُلُّ على اتصالِ الكلامِ وأنَّ الاستفهامَ عن المذكورِ.

والجوابُ عن البابِ الثالثِ: الذي يجوزُ في (من) التي يُستفهمُ بها على طريقِ النسبةِ الإتباعُ للاسمِ الأوَّلِ في الإعرابِ؛ لأنَّه اسمٌ مُفردٌ, اعتُمد به على ما تقدَّمَ من الذكرِ. ولا يجوزُ الرفعُ على الاستئنافِ إلا على غير مُطابقةِ الجوابِ للسؤالِ, كقول القائلِ: من رأيتَ؟ , فيقولُ: زيداً, فهذا مُطابقٌ, فإن قال: زيدٌ؛ لم يكُن على حدِّ الجوابِ. وإذا قال: رأيتُ زيداً؛ قلتَ: المنيَّ؟ فإن قال: مررتُ بزيدٍ؛ قُلتَ: المنيِّ؟ وإن قال: هذا زيدٌ؛ قُلتَ: المنيُّ؟ على الإتباعِ, لا على الاستئنافِ. وكذلك إن قال: رأيتُ زيداً وعمراً؛ قُلتَ: المنيينِ؟ وإن ذكر جماعةً؛ قُلتَ: المنيينَ؟ وتقديره: القرشيَّ أم الثقفيَّ؟ . وإذا قال: مررتُ بزيدٍ؛ قُلتَ: الثقفيِّ, ولم يجُز الرفعُ إلا على قوله: صالحٌ, في: كيف أصبحتَ؟ .

باب من التي يصلح أن يعود إليها ضمير الاثنين والجميع

بابُ من التي يَصلُحُ أن يعودَ إليها ضميرُ الاثنينِ والجميعِ الغرضُ فيه: أن يُبيِّنَ ما يجوزُ في (من) التي يَصلحُ أن يعُودَ إليها ضميرُ الاثنينِ والجميعِ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (من) التي يصلحُ أن يعُودَ إليها ضميرُ الاثنينِ والجميعِ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ في نظيرِ (من) ما جازَ فيها من ضميرِ الاثنين والجميعِ /87 أ, فيجري ذلك في كُلِّ اسمٍ منزلتُه كمنزلةِ (من) في أنَّه اسمٌ؟ وهل ذلك لأنَّ (من) اسمٌ مُبهمٌ يجوزُ أن يُحملَ على التأويلِ؛ لإبهامه, وليس كذلك المُوضحُ؛ لأنَّ إيضاحه قد منع أن يُحملَ على التأويلِ. ونظيرُ ذلك الشخصُ الذي يُرى من بعيدٍ, فيحتملُ أن يُجرى على حُكمِ الأسودِ, ويحتملُ أن يجرى على [حُكمِ] الأبيضِ, فإذا قرُبَ, فبانَ أنَّه أسودُ, لمْ يحسنْ ذلك فيه. وكذا الذي يُظهرُ زيَّ المسلمينَ والإقرارَ بما يُقرُّونَ به؛ يحسنُ أن يُجرى حُكمُه كحكمِ المسلمينَ في الحقيقةِ على ظاهر الحال, ولا يجوزُ إذا ظهرَ أنَّه كافرٌ في باطنه, فهذا نظيرُ المُبهمِ الذي يحتملُ الوجوهَ؟ .

ولمَ جازَ: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] , وفي موضع آخر: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25]؟ وهل ذلك لأنَّ (من) مُبهمٌ لفظُه لفظُ الواحدِ, فتارةً يُحملُ على معناه, وتارةً يُحملُ على لفظهِ؟ . ولمَ وجبَ أن يكون (من) لفظُه لفظُ الواحدِ؟ وهل ذلك لأنَّه ليس على بناءِ الجميعِ؛ من جمعِ سلامةٍ أو تكسيرٍ, وإنما هو بمنزلة: يدٍ, ودمٍ في البُنيةِ التي هي للواحد؟ . ولمَ وجبَ أن يكون لفظُه لفظَ المُذكرِ؟ وهل ذلك لأنَّه لا علامةَ فيه للتأنيثِ؟ . وما قياسُ: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] في: من كانت أمَّك؟ ولمَ كان قياسُه في هذا تأنيث كانت, وقياس: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] أن تقولَ: كان أمَّك, بالتذكيرِ؟ وهل ذلك لأنَّ العلةَ فيه البناءُ على اللفظِ, والعلةُ, والعلةُ في التأنيث البناءُ على المعنى؟ . ولمَ جرى (أيَّ) في هذا مجرى (من) حتى جاز: أيُّهن كانت أُمَّك, وأيُّهن كان أمَّك, مع أنَّ أياً مُعربةٌ؟ وهل ذلك لأنَّ فيها شبهَ (من) في الاستفهامِ, وطرفاً من الإبهامِ, وإن لم يبلُغْ إبهامَ: من؟ .

وما وجهُ قراءةِ بعض القُراءِ: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] , وقراءةِ بعضهم: {ومَنْ تَقْنُتْ مِنْكُنَّ} بالتاء؟ . وما الشاهدُ في قولِ الفرزدقِ: (تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ... نكُن مثلَ من يا ذِئبُ مُصطَحبانِ؟ ) ولم كثُرَ /87 ب مثلُ هذا في (من) , ولم يكثُر في: الذي؟ وهل ذلك لأنَّ (الذي) صفةٌ تتبعُ الموصوفَ في تثنيتِهِ وجمعهِ, كما تتبعهُ في توحيده؛ ولذلك جاز فيه التثنيةُ, فتقولُ: اللذان, والجمعُ على: الذينَ, والتأنيثُ في المعنى على: التي, وليس لمن مثلُ هذا؛ لما بيَّنا؟ .

باب (ذا) الجاري بمنزلة (الذي) مع (ما)

بابُ (ذا) الجاري بمنزلةِ (الذي) معَ (ما) الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في (ذا) الجاري بمنزلةِ (الذي) مع (ما) مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في (ذا) الجاري بمنزلةِ (الذي) مع: ما؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يكونُ بمنزلةِ (الذي) إلا مع: ما؟ وهل ذلك لأنَّه لما نُقلَ عن الحاضرِ المُضمنِ بالإشارةِ إليه في الغائب الذي ليس فيه إشارةٌ؛ احتاج إلى ما يُؤذنُ بالنقلِ, و (ما) تدخلُ في الكلامِ لتغيير الكلمةِ عن الجهةِ التي كانت عليها, فدخلت لتُؤذِنَ بهذا؟ ولم جازَ مع: ذَا؟ . ولمَ جاز في (ذَا) مع (ما) وجهانِ: أحدُهما أن تكونَ بمنزلةِ اسم واحدٍ, والآخرُ أن تكونَ (ذا) بمنزلةِ: الذي؟ وهل ذلك لأنَّ التركيبَ بمنزلةِ اسمٍ واحدِ؛ لأنَّ التركيبَ يُؤذِنُ بالنقلِ, والتفصيلُ بمعنى: الذي؛ لشبهِ (ذَا) بالذي في الإبهامِ, مع الإيذانِ بالنقلِ إليه؟ . وما حُكمُ قوله: ماذا رأيتَ, في الجوابِ؟ ولمَ جازَ: مَتاعٌ حسنٌ, ومتاعاً حسناً, وكلاهما على مطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ؟ .

وما الشاهدُ في قولِ لبيدِ بن ربيعةَ: (ألا تسألان المرءَ ماذا يُحاولُ ... أنحبٌ فيُقضى أم ضلالٌ وباطلُ) ولمَ رفعَ: أنحبٌ؟ . وما تأويلُ: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] , وفي موضعٍ آخرَ: {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطيِرُ الأَوَّلِينَ} [النحل: 34]؟ . وما يلزمُ من أن (ذا) لغوٌ؟ ولمَ وجبَ منه ألا يجوزَ قولُ العربِ: عمَّا ذا تسألُ؟ . وهل يلزمُ لو كانت (ذا) بمنزلةِ (الذي) على كُلِّ وجهٍ الرفعُ في الجوابِ, فكانَ الوجهُ: ماذا أنزلَ ربكُم قالوا خيرٌ؟ . وما الشاهدُ في قول الشاعر:

/88 ب (دَعي ماذا علمتِ سأتقيهِ ... ولكن بالمُغيبِ نبئيني؟ .) ولم لا يجوزُ (الذي) في هذا الموضعِ؟ وهل ذلك لأنَّه بمنزلةِ: اضربْ أيَّ رجُلٍ جاءكَ, في أنَّه قد عملَ فيه: دعي, كما عملَ فيه: اضربْ؟ . ولمَ جازَ في: ماذا رأيتَ, أن يكونَ بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ, ويُرفعَ الجوابُ في قوله: خيرٌ؟ وهل ذلك لأنَّه بمنزلةِ: ما رأيتَ؟ , فيقولُ: خيرٌ, على معنى الجوابِ, لا على مُطابقةِ السُّؤالِ؟ وهل مطابقةُ الجوابِ للسُّؤال أولى؟ ولمَ جازَ مع الاستغناءِ عنهُ بما هو أولى منهُ؟ وهل ذلك لأنَّه قد لا يستغنى به؛ لأنه يُريدُ أن يدُلَّه على المعنى من غيرِ أن يكونَ مُجيباً إمّا لتصغيرِهِ عن أنْ يُجيبه, وإمّا لغيرِ ذلك من الأغراضِ, إلا أنَّ هذا عارضٌ, والوجهُ مُطابقةُ الجواب للسؤال؟ .

وهل يجوزُ في جوابِ: من الذي رأيتَ, أن تقولَ: زيداً؟ ولمَ جازَ ذلك مع أن صلةَ (الذي) لا يعملُ فيما هو خارجٌ عن الصلةِ من كلامِ المُجيبِ؟ وهل ذلك لأنه بمنزلةِ قولهِ: رأيتُ زيداً؛ إذ قد فُهمَ أن السَّائلَ يطلبُ البيانَ عن هذا المعنى؟ .

الجوابُ عن البابِ الأولِ: الذي يجوزُ في (من) التي يصلحُ أن يعودَ إليها ضميرُ الاثنينِ والجميعِ إجراؤها على ذلك بصيغةٍ واحدةٍ؛ لأنها مُبهمةٌ تحتملُ أن تُحملَ على التأويلِ؛ تارةً على اللفظِ, وتارةً على المعنى؛ وذلك لأن لفظها لفظُ الواحدِ, وهي على احتمال الوجوهِ في المعنى. ولا يجوزُ في نظيرها من الأسماءِ؛ إذ كانت مُوضحةً مثلُ هذا؛ لأنه لا يصلُحُ أن يوجهَ على جهةِ الظنِّ مع وجودِ العلمِ, فالمُبهمُ يجوزُ فيه الوجوهُ المُختلفةُ كما لا يجوزُ مع العلمِ؛ فلهذا جاز [في]: (من) ضميرُ الواحدِ والاثنينِ والجميعِ, ولم يجُز في: رجُلٍ؛ لأنه لم يوضع على الإبهامِ الذي يحتملُ هذه الوجوهَ. والمبهمُ /88 ب نظيرُه من الأمورِ المعروفةِ حملُ أحكامِ الإنسانِ على ظاهرِ حالة في الإسلامِ؛ لأنه بمنزلة المُبهمِ في احتمال باطنه للوجوهِ؛ إذ يحتملُ أن يكونَ في باطنهِ مؤمناً, ويحتملُ أن يكونَ كافراً مُغتالاً للإسلامِ, ويحتملُ أن يكونَ كافراً غيرَ مغتالٍ للإسلامِ, إلا أنه إذا استبهمت حالُه؛ حُملَ أمرُه على الظاهرِ في

المُناكحةِ والموارثةِ والذبيحةِ, وغير ذلك من الأمور, وإذا ظهرت حالُه في الكُفرِ الذي يُبطنُه؛ لم يجُز شيءٌ من ذلك. فقد جاء في القُرآنِ: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] , وفي موضعٍ آخرَ: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] بالحمل تارةً على اللفظِ, وتارةً على المعنى. وكذلكَ سبيلُ التأنيثِ والتذكير في قوله جلَّ وعزَّ: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] قُرئَ بالياءِ والتاءِ. فالياءُ على اللفظِ, والتاءُ على المعنى. تمَّ الجزءُ الحادي والثلاثونَ, يتلوه الثاني والثلاثونَ: والدَّليلُ على أن لفظَ (من) لفظُ التوحيدِ. والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الجزءُ الثاني والثلاثونَ من شرحِ كتاب سيبويهِ, إملاءُ أبي الحسنِ علي بن عيسى النَّحوي. بِسمِ اللهِ الرحمن الرحيمِ, وبه الإعانةُ. والدليلُ على أن لفظَ (من) لفظُ التوحيدِ أنه لا علامةَ فيها للجمع من بناءِ تكسيرٍ, أو زيادةٍ لجمع السَّلامةِ. وكذلك لفظُها لفظُ التَّذكيرِ؛ لخُلوها من علامةِ التأنيثِ. و(أيٌّ) تجري في هذا مجرىَ (من)؛ لأنها /89 أ -وإن كانت للتفصيلِ- ففيها إبهامٌ؛ لاقتضائها البيانَ من المُجيبِ, فتقولُ على هذا: أيُّهنَّ كانت أمَّك؟ وأيُّهن كان أمَّك؟ وأيُّهم يجلسونَ إليك؟ وأيُّهم يجلسُ إليك؟ . كُلُّ ذلك جائزٌ حسنٌ. وقال الفرزدقُ: (تَعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ... نكن مثلَ من يا ذِئبُ يصطحبانِ) وإنما جازَ هذا في (من) , ولم يجُز في (الذي) كما جازَ في: من؛ لأنَّ الذي صفةٌ تتبعُ الموصوفَ في توحيده وتثنيتهِ وجمعهِ؛ فلذلك جازَ: اللذانِ, والّذينَ, [والتي] في تأنيثه على المعنى, ولم يكُنْ لـ: من مِثلُ هذا.

والجوابُ عن البابِ الثاني: الذي يجوزُ في (ذا) الجاري بمنزلةِ (الذي) مع (ما) إجراؤه على وجهينِ: أن يكونَ مع (ما) بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ, كأنك قُلتَ: أيُّهم. والوجهُ الآخرُ: أن يكونَ (ما) مُنفصلاً من: ذا, و (ذَا) بمنزلةِ: الذي, كأنَّكَ قُلتَ: ما الذي. ولا يجوزُ في (ذا) أن يكونَ بمنزلةِ (الذي) إلا مع: ما؛ لأنَّه لما نُقلَ عن الحاضرِ إلى الغائب, وعن المُشارِ إليه إلى المدلولِ عليه من غير تلك الجهةِ, وهو دليلٌ بالصلةِ؛ احتاج إلى ما يُؤذنُ بذلك, فأتى بما؛ لأنها تُغيرُ حالَ الكلمةِ عما كانت عليه قبلُ, كما غيَّرت: حيثُما, وإذ ما إلى الجزاءِ, ولم يكُن يجوزُ قبلُ, وكما غيرت: كأنما, وإنَّما إلى استئنافِ الكلامِ بعدها, ولم يكن يجوزُ قبلُ. وجاز أن يكون مع (ما) بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ؛ للإيذانِ بأنها قد انتقلَ حُكمها عما كانت قبلُ. وجاز أن تكونَ بمعنى: الذي؛ لأنها تُشبهُها في الإبهامِ, مع الدَّليلِ الذي دَلَّ على انتقالِ حُكمها.

وإذا قال القائلُ: ماذا رأيتَ؟ فجوابُه يحتملُ وجهينِ: أن تقولَ: متاعٌ حسنٌ, ومتاعاً حسناً, وكلاهُما على مطابقةِ الجوابِ للسؤالِ. وقال لبيدُ بنُ ربيعةَ: (ألا تسألانِ المرءَ ماذا يُحاولُ ... أنحبٌ فيُقضى أم ضلالٌ وباطلُ) فهذا شاهدٌ في أنها مع (ما) بمنزلةِ: الذي؛ لرفعهِ: أنحبٌ. ولو كنت (ذا) لَغواً /89 ب؛ لكانت العربُ تقولُ: عمَّ ذا تسألُ؟ , وكلامُها: عمَّا ذا تسألُ؟ , وفيه دليلٌ على أنَّ (ذا) ليست لغواً؛ دُخولُها كخروجها. ولو كانت بمعنى (الذي) على كُلِّ وجهٍ؛ لم يحسن في {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] [النصبُ] , ولكانَ وجهُ الكلامِ الرفعَ. وقال الشاعرُ: (دَعي ماذا علمتِ سأتقيهِ ... ولكن بالمُغيبِ نبئيني)

فـ (الذي) لا يَصلُحُ في هذا؛ لأن (دعي) لا يُعلقُ لا يُعلقُ: اضربي, فإنما هُو بمنزلةِ قولك: اضربي أيَّ رجلٍ جاءك, ودعي أيَّ شيءٍ علمتِ, على [أنَّ] (أيَّ) موصولةٌ يعملُ فيها ما قبلها, وليست استفهاماً مُعلقةً؛ لأنَّ (دعي) من الأفعالِ التي لا تُعلقُ. ويجوزُ أن تقولَ: ماذا رأيتَ؟ على تقديرِ: ما الذي رأيتَ؟ , فتقولَ: خيراً, وليس بالوجهِ؛ لأنَّ مطابقةَ الجوابِ للسؤالِ أولى. ولكن قد يجوزُ مثلُ هذا إذا كان للسائلِ غرضٌ عن جوابِ هذا السُّؤالِ, فيبدأُ بالإخبارِ؛ ليُعلمَ الحاضرينَ, ولا يكونُ مُجيباً, ولا كلامه دليلاً على الجوابِ؛ لأنه إنما يكونُ مُجيباً إذا دلَّ كلامُه على الجوابِ وفعلُه؛ من أجلِ أنَّه سأله عن هذا المعنى. وقد يجوزُ أن يقولَ: ماذا رأيتَ؟ على تقديرِ: أيَّهم رأيتَ؟ , فتقول: خيرٌ, بالرفعِ على غيرِ مُطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ, كما أنَّه إذا نصبَ في الوجهِ الأولِ؛ فهو على ذلكَ, وحسُنَ هذا للغرضِ الذي بيَّنا, ولم يكن من بابِ ما يُستغنى عنهُ بما هو أولى.

باب الاستفهام الذي تلحقه الزيادة للإنكار

بابُ الاستفهامِ الذي تَلحقُه الزيادةُ للإنكارِ الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في الاستفهامِ الذي تلحقه الزيادةُ للإنكارِ مما لا يجوزُ. مسائل هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في الاستفهامِ الذي تَلحَقُه الزيادةُ للإنكارِ؟ وما الذي لا يَجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ -إذا وُصلَ بيا فتى- لَحاقُ الزيادةِ للإنكارِ؟ . ولمَ وجبَ أن تكونَ الزيادةُ من حروفِ /90 أالمدّ واللينِ تابعةٌ للحركةِ التي قبلها؟ . ولمَ إذا كان قبلها ساكنٌ؛ صارت ياءً؟ وهل ذلك لأنَّ السَّاكنَ يتحركُ بالكسرِ؛ لالتقاءِ الساكنينِ؟ .

ولمَ جاز في الإنكارِ وجهانِ: أن يكون رأيهُ على ما ذُكرَ, أو على خلافِ ما ذُكرَ؟ وأيُّهما أظهرُ؟ . وما حُكمُه إذا قال: هذا عُمرُ, أو قال: رأيت عُمرَ, أو قال: مررتُ بالرجلِ؟ . ولم وجبَ فيه: أعُمرُوه, وأعُمراه, وآلرَّجليه؟ . وما حُكمُه إذا قال: رأيتُ زيداً؟ ولمَ وجبَ فيه: أزيدنيه, وفي الرفع: أزيدُنيه, وفي الجرَّ: أزيدنيه؟ وهل ذلك لأنَّ إشباعَ الحركةِ مع الوقفِ على الهاءِ يدلُّ على أنَّ الإنكارِ لما ذكرهَ المتكلمُ, لا لغيره؛ لما فيه من موافقتهِ في إعرابهِ, إلا أنَّه على جهةِ إشباعِ الحركةِ؛ ليُؤذنَ بمعنى الإنكارِ؛ إذ الإنكارُ كالجحدِ في اقتضاءِ الزيادةِ, فدلت الزيادةُ على الإنكارِ, ودلَّ موافقتُها في الإعرابِ أنه إنكارٌ لما ذُكرَ, لا لغيره مما يُستأنفُ؟ . ولمَ احتملَ الاستفهامُ -إذا قال القائلُ: أتعرفُ زيداً؟ - أن يقولَ: أزيدنيه, فيُنكرَ عليه وهو مُستفهمٌ لم يدَّع شيئاً؟ وهل ذلك لأنَّه لا ينبغي أن يجهلَ مثلَ هذا, فيستفهمُ عنه بالإنكارِ أن يذهبَ عليه مثلُ هذا, إما في أنَّه يعرفُه إذا كانت الحالُ مشهورةً بذلك, أو يكونُ مشهوراً بضعةٍ وسقوطٍ, ليس مثلُه مما ينبغي أن يُعرف؟ .

وما الشاهدُ في قولِ أعرابيًّ من أهلِ الباديةِ -لما قيلَ لهُ: أتخرجُ إن أخصبتِ الباديةُ-: أناإنيه, مُنكراً لرأيه أن يكونَ على خلافِ الخروج؟ ولمَ ألحقَ الزيادةَ (إنْ) على هذه الجهةِ؟ . وما الإنكارُ إذا قال القائلُ: قد ثدمَ زيدٌ, فقلتَ: أزيدُنيه؟ ولمَ جازَ أن يكونَ إنكاراً لقُدومه, وإنكاراً لانتفاءِ قُدومهِ؟ . وما الإنكارُ إذا قال: لقيتُ زيداً وعمراً, فقلتَ: أزيداً وعمرَنيه؟ ولمَ لحقت العلامةُ الثانيَ دونَ الأوَّلِ؟ وهل ذلك لأنَّ الأولَ يستغني بالإعرابِ الذي فيه على جهةِ /90 ب موافقةِ ما تقدَّم ذكرُه, وليس كذلك الثاني؛ لأنه لا يُوقفُ على الإعرابِ, فاجتُلب له الزيادةُ, واستُغنى بذلك عن لحاقها في وسطِ الكلامِ؟ . وما استفهامُ الإنكارِ إذا قال: ضربتُ عُمرَ؟ ولمَ جاز: أضربتَ عُمراه, وأعُمراه, فهلا استغنى بإعادةِ الفعلِ عن العلامةِ؟ وهل ذلك لأنه توهمَ أن يكونَ

مُستثبتاً لا منكراً, فاحتاج إلى العلامةِ؛ لأنها تتضمنُ الإنكارَ, وإنه لما ذُكرَ, وإعادةُ (ضربتَ) لا تدلُّ إلا أنه لما ذُكر فقط, من غير إنكارٍ؟ . وما استفهامُ الإنكارِ إذا قال: ضربتُ زيداً الطويلَ؟ ولمَ وجبَ فيه: أزيداً الطويلاه, بلحاقِ العلامةِ في الصفةِ دون الاسم؟ . ولمَ إذا قال: أزيداً يا فتى, ترك العلامةَ؟ فما نظيرها من تركها في: منا, ومني, ومنو, حين قُلتَ: يا فتى؟ وهل ذلك لأنك أخرجته بيا فتى عن حدِّ الحكايةِ؟ . ولمَ كانت صلةُ الكلامِ تمنعُ العلامةَ؟ وهل ذلك لأنَّ موضعَ هذه الزيادةِ في آخر الكلامِ؛ ليُؤذنَ بالإنكارِ أو الحكايةِ بعد تمامِ الكلامِ؛ لأنَّها لا تكونُ قبلَ التمامِ؟ . وما استفهامُ الإنكارِ إذا قال: رأيتُ عُثمانَ, أو مررتُ بعُثمانَ, أو رأيتُ حذامِ, أو هذا عُمرُ؟ فلمَ وجبَ في جميعِ ذلك أن تكونَ الحركةُ عليها تجري الزِّيادةُ؟ . وما نظيرُه من قولهم: واغلامَهُمُوه, في الزيادة التابعةِ؟ ولمَ تَبعَتْ في

النُّدبةِ المُضمرَ خاصةً, وتبعتْ في الإنكارِ المظهرَ والمُضمرَ؟ وهل ذلك لأنهما في النُّدبةِ لمدُّ الصوتِ من غيرِ إلباسٍ في تثنيةٍ ولا جمعٍ, ولا تأنيثٍ ولا تذكيرٍ, فمدُّ الصُّوتِ يسلمُ من هذا كُلِّه في المُظهرِ, ولا يسلمُ في المضمرِ, فاحتاج إلى الإتباع في المُضمرِ, واستغنى عنه في المظهر, وأما زيادةُ الإنكارِ فهي لتدُلَّ على معنى الإنكار لما ذُكرَ, وتلك في النُّدبةِ لمدِّ الصَّوتِ فقط, إلا أنه من غيرِ التباسِ المعاني؟ . وما وجهُ قولِ بعضِ العربِ إذا قال القائل: هذا عُمرُ, فقال: أعُمرُإنيه؟ /91 أوهل ذلك على زيادةِ (إن) بينَ الاسمِ وبين علامةِ الإنكار؛ للتأكيد, وإذا قال: هذا زيدٌ؛ قلتَ: أزيدُإنيه؟ . وما نظيرُ ذلك من قولهم: ما إن زيدٌ منطلقٌ؟ وما نظيرُه من قولهم في: اضربُه, نَقَلَ الحركةَ؛ لبيانِ الهاءِ؛ لأنَّها تخفي إذا سكنت وسكنَ ما قبلها؟ . وما نظيرُه من بيانِ الياءِ في: سعديّ, في الوقفِ, [فقال]: سعدجّ, فأبدلَ من مخرج الياءِ حرفاً أجلدَ منها؟ .

ولمَ جازَ استعمالُ هذه العلامةِ وتركُها؟ . وما استفهامْ إذا قال القائلُ: أنا خارجٌ؟ فلمَ جاز: أأناإنيه؟ , على إعادةِ (أنا) , ولحاقِ العلامةِ (إنْ) التي تُزادُ؛ لتأكيدِ الإنكارِ؟ وما نظيرُه في: من عبدَ الله, وإذا قال: رأيتُ عبدَ اللهِ؟ . وهل يجوزُ: أإنيه, من غير إعادة أنا؟ . وهل يجوزُ: أناه؟ على لحاقِ العلامةِ [من غير زيادة]: إن, كما جازَ أن تحكيَ فتقولَ: أأناإنيه؟ . ولمَ إذا كُنتَ مُستثبتاً مُسترشِداً؛ لم يجُز لحاقُ شيءٍ من هذه العلاماتِ؟ وهل ذلك لأنَّها للإنكارِ؟ . وما استفهامُ الإنكارِ إذا قال: ضربتُه, فقلتَ: أقلتَ ضربتُه؟ ولمَ لا يجوزُ أن تُلحقَ علامةَ الإنكارِ في هذا؟ وهل ذلك لأنك أوقعتَ حرفَ الاستفهامِ على غير كلامِ المسؤول, فأبطلتَ الحكايةَ بذلك, وأخرجتَه إلى الاسترشادِ دونَ الإنكارِ؟ .

الجوابُ: الذي يجوزُ في الاستفهامِ الذي تلحقُه الزيادةُ للإنكارِ إلحاقُ حرفِ المدّ واللينِ تابعاً لحركة ما قبله؛ لتكونَ الزيادةُ تُؤذنُ بالإنكارِ كما تُؤذنُ علامةُ الجحدِ بمعنى الجحدِ, وتكونُ تابعةً؛ لتُؤذنَ بأنَّ الإنكارَ لما قد ذُكرَ. ولا يجوزُ -إذا وُصلَ الكلامُ بيا فتي- لحاقُ الزِّيادةِ؛ لأنَّه يخرجُ عن حدِّ الحكايةِ, ويصيرُ من غير كلامِ المسؤول, وأيضاً فإنَّ الوصلَ يمنعُ من لحاقِ العلامةِ؛ لأن موقعها مُنتهى الكلام؛ إذ الحكايةُ بعدَ التَّمامِ, وكذلك الإنكارُ لما تقدَّم من الكلامِ بعد التمامِ, فموقعُ الزيادةِ التي تدُلُّ /91 ب على ذلك في آخرِ الكلامِ. فإن قُلتَ: هذا عُمرُ؛ قلتَ: أعُمرُوه, وإن قال: رأيتُ عُمرَ؛ قلتَ: أعُمراه, وإن قالَ مررتُ بالرجُل؛ قلت: آلرُّجُليه, وإن قالَ: هذا زيدٌ؛ قلتَ:

أزيدُنيه, فعلى هذا قياسُ الباب. والأظهرُ في الإنكارِ أن يكونَ لما ذُكرَ, ويحتملُ أن يكونَ لخلاف ما ذُكرَ بدليلِ الشُّهرةِ أنَّ ذلك ليس مما يُجهلُ. وشاهدهُ قولُ أعرابيِّ من أهل الباديةِ, وقد قيل لهُ: أتخرُجُ إن أخصبت الباديةُ؟ فقال: أأناإنيه, مُنكراً لخلافِ الخُروج. وكذلك إذا قالَ: قدمَ زيدٌ؛ فقُلتَ: أزيدنيه, فإنَّه يجوزُ الإنكارُ لخلاف القدومِ؛ لشُهرتِهِ إلى حدِّ لا يُجهلُ مثلُه. وإذا قال القائلُ: لقيتُ زيداً وعمراً؛ قُلتَ: أزيداً وعمرنيه, فألحقتَ العلامةَ في الثاني دون الأولِ؛ ليكونَ في مُنتهى الكلامِ على ما بيَّنا قبلُ. وإذا قال القائلُ: ضربتُ عُمرَ؛ جاز: أضربتَ عُمراه, وأعُمراه, ولو قال: هذا عُمرُ؛ لم يجُز أن تقولَ: أقُلتَ عُمرُوه؛ لأنَّك قد أخرجتهَ عن حكايةِ كلام المسؤول بزيادتك: أقُلتَ.

وإذا قالَ: ضربتُ زيداً الطويلَ؛ قُلتَ: أزيداً الطويلاه, فألحقتها في آخرِ الكلامِ؛ لتدُلَّ على الحكايةِ والإنكارِ. ولا يجبُ مثلُ ذلك في علامةِ النُّدبةِ, بل تلحقُ في الاسمِ خاصةً؛ لأنها هناك لمدُّ الصوتِ فقط. وهي تتبعُ المُظهرَ والمُضمرَ في الإنكارِ, ولا تتبعُ في النُّدبةِ إلا في المضمرِ خاصةً؛ لأنها لمد الصوتِ, مع السلامةِ من الالتباسِ, فلما كان يُلتبسُ في المُضمرِ؛ تبعت حتى تُزيلَ الالتباسَ, وليس كذلك المُظهرُ. وبعضُ العربِ يقولُ: أعُمرُ إنيه, فيزيدُ: إن؛ ليؤكد بها علامةَ الإنكارِ كما يُؤكدُ علامةَ الجحدِ في: ما إن زيدٌ منطلقٌ. وإذا قال القائلُ: إني قد ذهبتُ؛ قُلتَ: أذهبتُوه, فألحقتَ العلامةَ في المُضمرِ على حركةِ ما قبلها. وإذا قال: أنا خارجٌ؛ جازَ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أأناإنيه, على إعادةِ أنا, وأَإنيه, على زيادةِ: إن /92 أالمؤكدةِ لعلامةِ الإنكارِ. وأأناه, على لحاقِ العلامةِ ما لُفظَ به

من غيرِ زيادةِ: إن. وإذا كُنتُ مُستثبتاً؛ لم يجُز لحاقُ شيءٍ من هذه العلاماتِ؛ لأن الاستثباتَ نظيرُ الإثباتِ في أنه لا يحتاجُ إلى علامةٍ, والإنكارُ نظيرُ الجحدِ في أنه يحتاجُ إلى علامةٍ.

باب إعراب الأفعال المضارعة

بابُ إعرابِ الأفعالِ المضارعةِ الغرضُ فيه: أن يُبيِّن ما يجوزُ في إعرابِ الأفعالِ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في إعرابِ الأفعالِ؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ أن يعملَ فيها عاملُ الاسمِ؟ وهل ذلك لأنَّ معنى عاملِ الاسم في الاسمِ دونَ الفعلِ؟ . وما حروفُ النصبِ للفعلِ التي هي الأصلُ فيه؟ ولمَ كانت (أن) أصلاً في عاملِ النصبِ في الفعلِ؟ وهل ذلك لأنَّها لا تعملُ بحقِّ الشبهِ لعاملِ الفعلِ, وإنما تعملُ بحقِّ الأصلِ فيه, وإن كانت مُشبهةً لعاملِ الاسم؟ . ولمَ عملت (أن) في الفعلِ, ولم تعمل فيه: سوف؟ . ولمَ عملت النصبَ دون الرفعِ والجزمِ؟ . ولمَ كانت أمَّ حروفِ النصبِ؟ وهل ذلك لأنه يعملُ غيرُها بتضمنِ معناها, وتعملُ هي بما لها في نفسها؟ . ولم عملت (كي) في الفعل؟ [ولمَ عملت النصب خاصةً؟ . ولمَ عملت (لن) في الفعلِ؟ ولم عملت النصبَ؟ ].

ولمَ عملتْ: إذن؟ ولمَ عملتْ النصبَ خاصةً؟ . وما وجهُ قولِ الخليلِ في [لن]: إنَّ أصلها (لا أن) , ولكنها حُذفت كما قالوا: ويلُمِّهِ؟ . ولمَ خالفهُ سيبويهِ, وألزمهُ أن لا يُجوزَ: أما زيداً فلن أضربَ؟ . وهل للخليل أن ينفصلَ بأن (لن) لما كثرت حتى صارت بمنزلةِ حرفٍ واحدٍ؛ عُوملت مُعاملةَ الحرفِ الواحدِ, فصارت بمنزلةِ: زيداً لم أضرب؟ وما الصوابُ في ذلك؟ . الجوابُ: الذي يجوزُ في إعرابِ الأفعالِ إعمالُ عواملها التي تدخُلُ عليها فيها. ولا يجوز /92 ب أن تعملَ فيها عواملُ الأسماءِ؛ لأنَّ معنى عواملِ الاسمِ في الاسمِ خاصةً, وإنما يعملُ العاملُ بمعناه, وسبيلُها في الاختصاصِ للاسمِ كسبيلِ الألفِ واللام التي للتعريفِ بالاسمِ؛ لأنَّ التعريفَ لا يكون في الفعلِ. وكذلك سبيلُ السينِ, وسوفَ في الاختصاصِ بالفعلِ؛ لأنَّ الزِّيادةَ التي تكونُ للاستقبالِ, وتصيرُ كحرفٍ من حروفِ الكلمة لا تكونُ إلا للفعلِ؛ لأنه أحقُّ

بالدلالةِ على الزمانِ من الاسمِ, فيصلحُ أن يُدلَّ على الاستقبالِ في الاسمِ بدلالةٍ مُنفصلةٍ لا تُخرجُ الاسمَ عن حقيقتهِ, كقولك: زيدٌ ضاربٌ غداً, أو خارجٌ [بعدَ] غدٍ. ولا يصحُّ مثلُ هذا الذي ذكرن من: السين, وسوفَ في الاسمِ؛ لأنها زيادةٌ مُتصلةٌ تصيرُ كجُزءٍ من الكلمةٍ. ويوضح ذلك أنكَ لو قدمتَ الظرفَ, فقُلتَ: زيدٌ غداً خارجٌ, [لجاز] وليس كذلك السينُ, وسوفَ, فعوامل الأفعالِ لا تعملُ في الأسماءِ, وعواملُ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ لما بينا. وحروفُ النصبِ [للفعلِ] التي هي الأصلُ فيه أربعةٌ: أن, ولن, وكي, وإذنْ. ويتفرعُ منها خمسةُ أحرُفٍ, وهي: الواوُ, والفاءُ, وأو, وحتى, واللامُ, تعملُ بتضمنِ معنى أن. فجميعُ حروفِ النصبِ للفعلِ تسعةٌ: أربعةٌ منها أُصولٌ, وخمسةٌ فُروعٌ. و(أن) أصلٌ في العملِ؛ لأنها تُشبهُ عاملَ الاسمِ في النقلِ إلى المصدرِ, وأنه قد يكونُ على الاستقبالِ بدليلٍ يصحبُه, فهي تُشبهُ (أنَّ) في قولكَ: بلغني أنَّكَ

مُنطلقٌ, بمعنى: بلغني انطلاقُك, فكذلك تقولُ: أن تأتيني خيرٌ لك, كأنك قُلتَ: إتيانُك إيّايَ خيرٌ لك, فلهذه العلةِ من الشبهِ عملت النصبَ. فأمَّا جوازُ عملها فلأنها نقلت الفعلَ نقلينِ: إلى الاستقبالِ, ومعنى المصدَرِ؛ فلهذه العلةِ عملتْ, ولشبهِها بأنَّ الشديدةِ عملت النصبَ خاصةً. وهي أصلٌ في العملِ؛ لأنها لم تعمل بحقِّ الشبهِ لعامل الفعلِ, وهي أمُّ حروفِ النصبِ؛ لأن غيرها /93 أيعملُ بتضمنِ معناها, وتعملُ هي بحقها في نفسها, فقد جمعت هذه الأوجهَ الأربعةَ: أنها عاملةٌ, وأنها تعملُ النصب خاصةً, وأنها أصلٌ في عمل النصبِ, وأنها أمٌّ في العواملِ. والعللُ التي بيَّنّا. ولا تعملُ سوفَ في الفعلِ؛ لأنها نقلته نقلاً واحداً إلى معنى الاستقبالِ, فلما غيرته بوجهٍ واحدٍ؛ كفى في ذلك دخولُها على الفعلِ, ولما غيرته الحروفُ الأُخر بوجهينِ؛ لم يكفِ في ذلك دخولُها على الفعلِ دونَ علامةٍ زائدةٍ تكونُ لهذا المعنى الزائدِ؛ لما في ذلك من حُسنِ البيانِ على هذا الوجهِ. وكي تعملُ؛ لشبهِها بعاملِ الاسمِ؛ إذ كانت تنقلُ إلى الاستقبالِ, والغرضِ, وكلاهم يكونُ في الاسمِ, كقولك: جئتُه مخافةَ شره, وطمعاً في خيره. وتعملُ النصبَ؛ لشبهِها بأن إذا قُلتَ: جئتُه أن يُكرمني, وكي يُكرمَني.

وتعملُ لن؛ لأنها تقلت الفعلَ إلى الاستقبالِ والنفيِ, وتعملُ النصبَ؛ لأنَّها نقلتهُ إلى معنىً يكونُ للاسمِ كما نقلتهُ أن, وكي. وتعملُ إذن؛ لأنَّها نقلت الفعلَ إلى الاستقبالِ والجوابِ, وتعملُ النصبَ؛ لأنَّها على قياسِ (أن) في الاستقبالِ. فهذه الأربعةُ كُلُّها على قياسٍ واحدٍ في نقلِ الفعلِ إلى الاستقبالِ؛ ولذلك عملت النصبَ خاصة؛ لتجريَ على طريقةِ (أنْ) التي قد وجبَ لها ذلك؛ لشبهِ (أنَّ) الشديدةِ في معنى المصدرِ. وقال الخليلُ في لن: أصلُها: لا أن, ولكنها حُذفت. ووجهُ هذا القولِ أنه لما كان ينبغي تقليلُ الأصُولِ, وتكثيرُ الفروعِ؛ لتُضبطَ الأصولُ, وتنعقدَ في النفسِ على أمكنِ ما يكونُ, وتقتضي فرُعها, فتُغنيَ بحفظِها عن حفظِ فرُعها؛ راعي هذا الأصلَ, فوجد (لن) يتوجهُ فيها أن ترجعَ إلى (أن) كما ترجعُ الحروفُ المُضمنةُ بمعنى: أن, فردَّها إليها؛ لهذه العلةِ.

وخالفهُ في ذلك سيبويهِ, ووجهُ خلافِه أنَّه يُلزمُه الامتناعَ من جوازِ: أمّا زيداً فلن أضربَ, كما يمتنعُ من جوازِ /93 ب: أمَّا زيداً فلا الضربُ له؛ لأنه لا يتقدمُ معمولُ الصلةِ على الموصولِ. ولا بُدَّ للخليلِ من أن يَرُومَ الانفصالَ من هذا بأنَّ (لن) لما كثرت حتى صارت بمنزلةِ حرفٍ واحدٍ؛ عُوملت مُعاملةَ: لم. والصوابُ قولُ سيبويهِ؛ لأنَّه -وإن رُوعيَ الأصلُ الذي بَنَى عليه الخليلُ- فإنه لا يصلحُ أن يُحملَ عليه بالتعسفِ إذا توجهَ طريقٌ لا تعسفَ فيه, وفي الحملِ على: لا أن تعسفٌ بكثرةِ الحذفِ؛ إذ حُذفت الألفُ والهمزةُ, وبتقديمِ معمولِ الصلةِ على وجهٍ لا بُدَّ من أن يُرجعَ فيه إلى أنَّ (لن) بمنزلةِ (لم) في الاستعمالِ, فيصيرُ من أجل هذا حملُ (لن) على: لا أن, تعسُّفاً لا يجوزُ.

باب الحروف التي تضمر فيها أن

بابُ الحروفِ التي تُضمرُ فيها أن الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في الحروفِ التي تُضمرُ فيها (أن) مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في الحروفِ التي تُضمرُ فيها: أن؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ أن تُضمرَ (أنْ) في سائر حروفِ العطفِ كما أُضمرت في الواوِ, والفاءِ؟ وهل أُضمرت لأنها أُضمرت في الأُصولِ التي يصلحُ فيها الاشتراكُ؟ . و[لمَ] جاز إضمارُ (أن) مع اللامِ, وحتى من حروفِ الجر, ولم يجُز مع: إلى, والباءِ؟ وهل ذلك لأنَّ اللامَ أوسعُ في حروفِ الإضافةِ من الباءِ وغيرها؛ إذ كُلُّ مُضافٍ فهو مُتضمنٌ لمعناها, إلا ما أُضيفَ على معنى: من, وهو قليلٌ, وجازَ في: حتى, ولم يجُز في: إلى, لأنَّ حتى تتصرَّفُ في النهايةِ على وُجوهٍ مُختلفةٍ: نهايةٍ في المفردِ, ونهايةٍ في الجملةِ, ونهايةٍ مع اشتراكٍ في الفعلِ, وليس كذلك إلى؛ لأنها نقيضةُ: من, تجري على حدّها؟ . وما الدليلُ على أنَّ (أن) مُضمرةٌ في: اللامِ, وحتى؟ وهل ذلك لأنَّ حُروفَ

الجرِّ لا تدخلُ [إلا] على الاسمِ؟ . ولمَ جاز في قولِ بعضِ العربِ: كيمه, كقولك: لمه؟ وهل ذلك لأنَّه جعلها /94 أبمنزلةِ اللامِ؟ . ولمَ خالفَ ابنُ السراجِ في هذا سيبويهِ, فذهبَ إلى أنَّ أصلها عندَ الجميعِ أن تنصبَ الفعل كنصبِ: أن, إلا أنَّ بعضهم شبَّهَها باللامِ, فقالَ: كيمه؛ كما يقولُ: لمه, فإذا نصبت الفعلَ؛ فعلى أصلها من غير إضمارِ أنْ, وسيبويه يذهبُ إلى إضمارِ (أن) بعدها في هذا القولِ؟ . ولمَ لا يجزُ أن تظهرَ (أن) بعدَ: حتى؟ وهل ذلك لأنَّ الكلامَ محمولٌ على التأويلِ في الغايةِ بمعنى الاسمِ, دونَ معنى الجملةِ؟ وما نظيرُها من: أمَّا أنت مُنطلِقاً انطلقتُ معكَ؟ ولمَ كانَ بهده المنزلةِ مع العوضِ بما؟ . وهل (حتى) عِوضٌ من: أنْ, وليست اللامُ عوضاً من: أن, وإنَّما هي دليلٌ عليها, إذا دخلت على الفعلِ؟ .

وما الفرقُ بين الدليلِ والعوضِ؟ وهل ذلك لأنَّه لا يجتمعُ العوضُ والمُعوضُ منه, ويجتمعُ الدليلُ والمدلولُ عليه؟ . وما نظيرُ اللامِ من قولهم: إن خيراً فخيرٌ, وإن شراً فشرٌّ, في جواز إضمارِ العاملِ وإظهاره؟ . وهلاّ جُعلت اللامُ عِوضاً من: أن؟ وهل ذلك للإيذانِ بصحةِ إضمارِ (أنْ) بعدَ هذه الأحرُفِ؟ . ولمَ جاز: ما كانَ زيدٌ ليفعلَ, ولم يجُز إظهارُ (أن) مع اللام هنا؟ وهل ذلك لأنَّه محمولٌ على تأويلِ الخبرِ؛ إذ ليس تصريحاً بالخبرِ؛ من أجلِ أنَّه لا يجوزُ: كان زيدٌ ليفعلَ, وإنَّما يجوزُ في النفي خاصةً؛ لتعقدَ اللامُ معنى النفي: بما؟ . وما نظيرُه من قولهم: إيّاكَ وزيداً, في إضمارِ عاملٍ لا يجوزُ إظهارُه, وإن اختلفتِ العللُ؟ . ولمَ وجبَ أن يكونَ نفيَ: كانَ سيفعلُ؟ . ولمَ صارت اللامُ في هذا الموضعِ عوضاً من: أن؟ و [ما] نظيرُها من ألفِ الاستفهامِ في: آللهِ لتفعلنَّ, في أنَّها عِوضٌ من واوِ القسمِ؟

وهل يمنعُ من إظهارِ اللامِ أنها نفيٌ لما معهُ حرفٌ واحدٌ, وهو: سيفعلُ, فلم يُشاكل ذلك أن يكونَ معه حرفانِ: اللامُ, وأن؟ .

باب حروف الجزم

بابُ حروفِ الجزمِ الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في حروفِ الجزمِ مما لا يجوزُ. [مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في حروفِ الجزمِ؟ وما الذي لا يجوزُ]؟ ولمَ ذلك؟ . ولمَ لا يجوزُ إضمارُ الجازم من غير عِوَضٍ كما جازَ مع اللامِ /94 ب من غيرِ عوضٍ, ولكن بدليلٍ عليه؟ وهل ذلك لأنَّ الجازمَ أضعفُ من الجارِّ, والجارُّ لا يُضمرُ مع تبقيهِ عملهِ؟ . وما حروفُ الجزمِ التي هي الأُصولُ؟ . ولمَ جُزم بلم, ولما, ولا في النهي, ولامِ الأمرِ, وإن في الجزاءِ؟ . ولمَ جرى الدُّعاءُ مجرى الأمرِ والنهي في قولك: لا يقطعِ اللهُ يدكَ, وليجزكَ خيراً؟ .

وما الشاهدُ في قولِ الشاعرِ: (مُحمدُ تفدِ نفسكَ كُلُّ نفسٍ ... إذا ما خفتَ من شيءٍ تبالا) وفولِ مُتممٍ: (على مثلِ أصحابِ البعوضةِ فاخمُشي ... لك الويلُ حُرَّ الوجهِ أو يبكِ من بكى؟ ) ولمَ خالفَ في ذلك أبو العباسِ, وقال: لا يجوزُ إضمارُ الجازمِ أصلاً من غيرِ عوضٍ؟ .

ولمَ جازَ أن يعملَ الجازمُ بحقِّ الأصلِ إن لم يكن في عوامل الأسماءِ جازمٌ يُشبه به, مع أنَّ المعمولَ لهُ بحقِّ الفرعِ؛ لشبهِ المضارعِ بالاسمِ؟ وهل ذلك لأنَّه ما عملَ إلا بحقِّ الشبهِ, وإن لم يُشبه جازماً, وإنما أشبهَ جاراً في الاختصاصِ, فالجارُّ مُختصٌّ بالاسمِ, والجازمُ مُختصٌّ بالفعلِ؟ . ولمَ جازَ: وبلدٍ قطعتُ, على إضمارِ: رُبَّ, مع جوازِ: وربَّ بلدٍ قطعتُ؟ وهل ذلك لأنه ليس على اجتماعِ العوضِ والمعوضِ منه, ولكن على الردُّ إلى الأصلِ في حروفِ العطفِ؟ .

الجوابُ عن البابِ الأولِ: الذي لا يجوزُ في الحروفِ التي تُضمرُ فيها (أن) إجراؤها على وجهينِ: أحدُهما: ما لا يجوزُ فيه إلا الإضمارُ, والآخرُ: ما يجوزُ فيه الإظهارُ والإضمارُ. فالذي لا يجوزُ فيه إلاّ الإضمارُ ما كان الكلامُ محمولاً فيه على التأويلِ. والذي يجوزُ فيه الإضمارُ والإظهارُ هو ما فيه دليلٌ من غيرِ حملٍ على التأويلِ؛ لأنَّه لما كان المعنى [على] التأويلِ؛ وجبَ أن يجريَ اللفظُ على طريقهِ في الحملِ على التأويلِ بإضمارِ (أن) , ولما كانَ اللفظُ محمولاً على التصريحِ بذكرِ الدليلِ؛ وجبَ أن يجوزَ الإضمارُ والإظهارُ, كاللامِ التي يصلحُ فيها الإضمارُ والإظهارُ. فلا يجوزُ أن تُضمرَ في سائر حُروفِ العطفِ كما أُضمرت في الواو, /95 أالفاء, وأو؛ لأن هذه الحروف أُصولٌ تحتملُ الوجوهَ, فلما أُخرجت إلى الوجهِ الذي تحتملُه في أصلها؛ صلحَ أن يضمرَ معها: أن؛ ليُؤذنَ بخُروجها إلى ذلك الوجهِ. فالواوُ تحتملُ الجمعَ والإشراك, كقولك: لا تأكُلِ السمكَ وتشربِ اللبنَ, فهذا إشراكٌ في النهي؛ إذ قد نهيتَ عن كُلِّ واحدٍ منهما, فأما: لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبنَ؛ فإنما هو نهيٌ عن الجمع بينهما, فلما أُخرجت إلى معنى الجمعِ؛ أُضمرَ معها: أن؛ ليُؤذنَ بإخراجها إلى هذا المعنى.

وأما الفاءُ فتحملُ الخروجَ إلى الجوابِ؛ لأنها في الأصلِ تُرتبُ وتُشركُ, فأُخرجت في الجوابِ إلى الترتيب خاصةً من غير مُهلةٍ, وأضمرَ معها (أن)؛ ليُؤذنَ بالخروجِ إلى معنى الجوابِ. وأما (أو) فهي لأحدِ الشيئينِ, إلا أنها مُضمنَةٌ بأنه إذا حصلَ لأحدهما المعنى؛ بطلَ أن يكونَ للآخرِ في دلالةِ ذلك الكلامِ, فخرجت إلى معنى: إلا أن, في قولكَ: لألزمنك أو تُعطيني حقي, بمعنى: إلا أن تُعطيني حَقي, أي: إن حصلَ الإعطاءُ بطلَ اللزومُ, كما أنَّه إن حصلَ المعنى لأحدهما بطلَ أن يكونَ للآخرِ, فخَرَجت إلى هذا الذي هي في الأصلِ مُضمنةٌ به. وأمَّا اللامُ فيجوزُ إضمارُ أن معها؛ لأنها أُمُّ حروف الإضافةِ, وهي محتملةٌ للمُلكِ والغرضِ, فإذا أُخرجت مع الفعلِ إلى الغرضِ خاصةً؛ أُضمرَ معها: أن؛ ليُؤذنَ بخُروجها إلى الغرضِ؛ لأنها إنما تكونُ مع المصدر, كقولكَ: جئتُه حذراً منه؛ أي: للحذرِ. ولم يصلحُ أن يُضمرَ مع الباءِ؛ للعلةِ التي ذكرنا من أن اللامَ أمُّ حروفِ الإضافةِ, وهي تكثرُ في الغرضِ الذي يُدلُّ عليه بالمصدرِ.

وأما حتى فصلحَ بعدها إضمارُ أن؛ لأنها مُحتملةٌ للوجوهِ من الغايةِ في المُفردِ, والغايةِ في الجُملةِ, والغايةِ التي معها شَركةٌ, فإذا أُخرجت إلى الغايةِ في المُفردِ على جهةِ التأويلِ بذكرِ الفعلِ الذي /95 ب يدُلُّ على المصدرِ؛ أُضمرَ معها: أن, ولزمها الإضمارُ لهذه العلةِ. ولم يجُز مثلُ ذلك في: إلى, وإن شاركتها في معنى الغايةِ, إلا أنَّها تلزمُ طريقةً واحدةً كلزومِ نقيضها الذي هو: من, وليس لحتى نقيضٌ؛ لأنَّك [لا] تقولُ: خرجتُ من بغدادَ حتى البصرةِ, على تلك الطريقةِ. والدليلُ على أنَّ (أنْ) مُضمرةٌ في: اللام, [و] حتى أنَّ حرف الجرِّ لا يدخلُ إلا على الاسمِ.

ودليلٌ آخرُ, وهو أنها تُظهرُ مع: أن, وتُضمرُ على معنىً واحدٍ, فلو لم تكُن مُقدرةً؛ لم تُوافق معنى المُظهرةِ, ويظهر عملُها كما يظهرُ إذا كانت مذكورةً. واختلفوا في: كيمه, فذهبَ سيبويه إلى أن بعض العربِ يجعلها بمنزلةِ: لمه, ويجبُ على قولهِ أن يُضمرَ بعدها كما يُضمرُ بعد اللامِ, إلا أنَّه ذكرَ أنَّ (أن) لا تظهرُ بعد (كي) بإجماعٍ, وتظهرُ بعد اللامِ. وخالفه ابنُ السراجِ في ذلك, فذهبَ إلى أنه لا يُضمرُ بعدها: أن, وإنما تنصبُ الفعلَ بحقِّ الأصلِ عندَ الجميع, إلا أنَّ الذي قال: كيمه, شبهها بلمه, من جهةِ الغرضِ الذي يكونُ كُلُّ واحدٍ منهما له, إذا قلت: جئتُك لتفعلَ, وكي تفعلَ, فالمعنى متَّفقٌ. ويقوي قولَ ابن السراجِ أنه لو كانت بمنزلةِ اللامِ؛ لجاز: المالُ كي زيدٍ, كما يجوزُ: المالُ لزيدٍ, فكانت تدخلُ على الأسماءِ الظاهرةِ المُتمكنةِ, فتقعُ مواقعَ اللامِ فلما امتنعَ ذلك؛ دلَّ على الشبهِ في موضعٍ مخصوصٍ, ومذهبُ ابنِ السراجِ في

هذا البابِ أقوى, ويقوي مذهبَ ابن السراجِ دخولُ اللامِ عليها في قولك: جئتك لكي تفعلَ كذا؛ وذلك لأنها شُبهت بأن من جهةِ موافقةِ المعنى في قولك: لأن تفعلَ, ولكي تفعلَ, فهو بحقِّ الشبهِ. ونظيرُ حتى في امتناعِ إظهارِ العاملِ: أمَّا أنتَ مُنطلقاً انطلقتُ معكَ, والعلةُ في ذلك العوضُ بـ: ما في هذ, [و] (حتى) في ذاك. وليست اللامُ /96 أعوضاً من (أن) في: جئتُك لتفعلَ, وإنَّما هي دليلٌ عليها مع الفعلِ, ولو كانت عوضاً لم تجتمع معها؛ لأنَّخ لا يُجمعُ العوضُ والمُعوضُ منه, ويجتمعُ الدَّليلُ والمدلولُ عليه. ونظيرُها قولُهم أيضاً: إن خيراً فخيرٌ, وإن شراً فشرٌّ, وإنما لم تكن عوضاً؛ للإيذانِ بصحةِ إضمارِ أن بعدَ هذه الأحرفِ.

وتقولُ: ما كانَ زيدٌ ليفعل كذا, على إضمارِ: أن, ولا يجوزُ إظهارُها في هذا الموضعِ؛ لأنَّ الكلامَ محمولٌ على تأويلِ الخبرِ؛ إذ لو كان على صريحهِ؛ لجاز في الإثباتِ, فلما كان الإثباتُ إنما هو: كان زيدٌ سيفعلُ, والنفيُ: ما كان زيدٌ ليفعلَ؛ كان محمولاً على التأويل. وإنما اختصَّ النفيُ بذلك؛ لأنه واقعٌ على الخبرِ, وقد تراخى عنه حرفُ النفي, فدخلت اللامُ لتعقده بمعنى حرف النفي. ونظيرُه: إيَّاك وزيداً, في إضمارِ عاملٍ لا يجوزُ إظهارُه في بعضِ المواضعِ, ويجوزُ في غيره, فتقولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] على إظهارِ العاملِ, ولا يجوزُ إظهارُه في التحذيرِ إذا قُلتَ: إيّاكَ أن تفعلَ, وإيّاك وزيداً.

فاللامُ في هذا الموضع عوضٌ من: أنْ, ونظيرها ألفُ الاستفهامِ في قولك: آللهِ لتفعلنَّ؛ إذ هي عوضٌ من واوِ القسمِ. وعلةٌ أخرى في امتناعِ إظهارِ: أن, وذلك أنها نفيٌ لما معهُ حرفٌ واحدٌ, وهو سيفعلُ, فلم يصلُح أن تكونَ لما معه حرفانِ لكل واحدٍ منهما معنى؛ لأنَّ ذلك يخرجُ إلى التنافرِ في الكلامِ, ويبعدُ في التشاكُلِ.

الجوابُ عن البابِ الثاني: الذي يجوزُ في حُروف الجزمِ أن تعملَ [و] تنقُلَ الفعلَ إلى معنى لا يكونُ عليه الاسمُ؛ لأنه إعرابٌ لا يكونُ في الاسمِ. ولا يجوزُ أن تكونَ كحروفِ النصبِ التي تنقُلُ إلى معنىً يكونُ عليه الاسم؛ لأن النصبَ مُشتركٌ, والجزمَ مُختصٌّ بالفعلِ. وحروف الجزمَ التي هي الأُصولُ خمسةٌ: لم, ولما, ولا في النهي, ولامُ الأمرِ, وإن في الجزاءِ. فـ: لا قد نقلت الفعلَ إلى معنى النهي الذي لا يكونُ في الاسمِ, وكذلك لامُ الأمرِ, وكذلك (إن) نقلته إلى الشرطِ والجوابِ, وهو معنىً لا يكونُ للاسمِ, و (لم) نقلته إلى معنى الماضي, لو قلت: زيدٌ يقومُ أمسِ؛ لم يجُز, وإذا قلت: لم يقُم أمسِ, جازَ, فلم نقلته إلى الماضي, وهو نقلٌ لا يصلحُ للاسمِ, وكذلك: لما يقُمْ. ولا يجوزُ إضمارُ الجازِم مع غيرِ عوضٍ؛ لأنه أضعفُ من الجارِّ, والجارُّ

لا يُضمرُ إلا بعوضٍ. والدُّعاءُ يجري مَجرى الأمرِ والنهي في قولك: ليجزك اللهُ خيراً, ولا يقطعِ اللهُ يده, وإنما وجبَ ذلك؛ لأنه طلبٌ للفعلِ كما أنَّ الأمرَ طلبٌ للفعلِ, وكذلك النهيُ طلبٌ للانتهاءِ عن الفعلِ, فجاز لهذه العلةِ, وإن أنصلَ بأنَّ الأمرَ فيه ترغيبٌ في الفعلِ, والنهيَ تحذيرٌ من الفعلِ, وليس ذلك في معنى الدُّعاءِ, إلا أنه طلبٌ للفعلِ يطلبُه الداعي من غيره. وقال الشاعرُ: (مُحمدُ تفدِ نفسكَ كلُّ نفسٍ ... إذا ما خقتَ من شيءٍ تبالا) فحذفَ لامَ الأمرِ من غيرِ عوضٍ. واختلفوا في هذا, فذهبَ سيبويه إلى أنه يجوزُ في الضرورةِ؛ لأنَّه يُشبهُ بعاملِ الجر. وذهبَ أبو العباسِ إلى أنَّه لا يجوزُ؛ لأنَّ عاملَ الجزمِ أضعفُ. وقال مُتمُ بنُ نُويرةَ:

(على مثلِ أصحابِ البعوضةِ فاخمشي ... لكِ الويلُ حُرَّ الوجهِ أو يبكِ من بكى؟ ) فأجاز هذا أبو العباسِ على ضعفٍ؛ لأن قوله: فاخمُشي, أمرٌ يقومُ مقامَ العوضِ من المحذوفِ. والجازمُ يعملُ بحقِّ الشبهِ للجارِّ من عوامل الأسماءِ من جهةِ الاختصاصِ الذي بينهما, فالجازمُ للفعلِ, والجارُّ يختصُّ الاسمَ, فصار نظيرَه في الاختصاصِ القويِّ الذي يكونُ معناه فيما دخلَ عليه على هذا الحدِّ, ولم يعملْ لشبههِ بجازمٍ آخرَ, وإن عملَ بحقِّ الشبهِ. ويجوزُ: وبلدٍ قطعتُ, على معنى: ربُ بلدٍ قطعتُ, إلا أنَّ الواوَ عوضٌ من رُبَّ؛ فإذا قُلتَ: /97 أورُبَّ بلدٍ؛ لم تكن واوَ العوضِ, ولكن واوَ العطفِ الذي يقتضي إشراكَ الثاني مع الأولِ, وإذا كانت عوضاً؛ لم تكُن كذلك؛ لأنَّه لا يجتمعُ العوضُ والمُعوضُ منه أصلاً.

باب عامل الرفع في الفعل المضارع

بابُ عامل الرفعِ في الفعلِ المضارع الغرضُ فيه: أن يُبيَّنَ ما يجوزُ في عاملِ الرفعِ في الفعلِ المضارعِ مما لا يجوزُ. مسائلُ هذا البابِ: ما الذي يجوزُ في عاملِ الرفعِ في الفعل المضارع؟ وما الذي لا يجوزُ؟ ولمَ ذلك؟ ولمَ لا يجوزُ أن يعملَ فيه الرفعَ فقدُ الجازمِ والناصب على ما يقولُه بعضُ النحويينَ؟ وهل ذلك لأن المنفيَّ لا يكونُ عاملاً, مع أنه لا يحتاج مع نفيه إلى أن يدلَّ على أنَّه منفيٌّ من الكلامِ, وإنَّما الإعرابُ بيانٌ يُفرقُ بين المعاني المختلفةِ من معاني الكلامِ, ومع أنه إذا ضعُف الشيءُ؛ لم يكن عاملاً كما لا يعملُ السينُ وسوفَ؛ لضعفِ نقلهما الفعلَ, فتعملُ أن, ولن؛ لقُوةِ نقلهما بوجهينِ, فانتفاءُ العاملِ أضعفُ شيءٍ في أن يُوجهَ العملُ إليه؟ . ولمَ كانَ عاملُ الرفعِ في الفعلِ هو وقوعُه موقعَ الاسمِ؟ وهل ذلك لأنه يُحتاجُ أن يفرقَ بين الموقعِ الذي يقعُ فيه الاسمُ, وبين الموقعِ الذي لا يقعُ فيه الاسمُ؛ إذ كانَ تأليفُ الكلامِ من أكبرِ الدلالاتِ فيه, فاختلافُ المواقعِ من أكبرِ ما يُحتاجُ إليه في تأليفِ الكلامِ؛ حتى يصحَّ به البيانُ عن المعنى؟ .

وما مَوقعُ الاسمِ الذي هو أحقُّ به من الفعلِ؟ وهل ذلك الموقعُ الذي يعملُ فيه عاملُ الاسمِ؟ . وما قسمتُه؟ ولمَ كانَ موقع المبتدأ, وخبرِ المبتدأ, وموقعُ المفعولِ, وموقعُ الصفةِ, وموقعُ الحالِ, وموقعُ المضافِ إليه؛ أحقَّ بالاسمِ مع جوازِ وقوعِ الفعلِ فيه؟ . ولمَ لا يجوزُ أن يقعَ الفعلُ في كُلِّ موضعٍ يصلحُ أن يقعَ فيه الاسمُ؟ وهل ذلك لأنَّ من المواقع ما يستحيلُ أن يقعَ فيه الفعلُ كموقعِ الفاعلِ؛ لأنه معتمدُ البيانِ عن الفعلِ, وصلحَ أن يقعَ في موقعِ المفعولِ إذا كان /97 ب للفائدة, ولم يصلح أن يقعَ موقعَ المفعولِ إذا كان للبيانِ فقط؟ . ولمَ كان موقعُ الاسمِ أحقَّ بعاملِ الرفعِ في الفعل؟ وهل ذلك لأنَّه الأولُ كما أنَّ الرفعَ أولٌ؛ فلهذا وجبَ أن يكونَ عاملَ الرفعِ؟ . ولمَ وجبَ الرفعُ في: يقولُ زيدٌ ذاك, وفي: زيدٌ يقولُ ذاك, وفي: مررتُ برجلٍ يقولُ ذاك, ومررتُ بزيدٍ يقولُ ذاك, وهذا يومُ آتيك, وحسبتُه ينطلقُ؟ فما العللُ في رفعِ الفعلِ في هذه المواقعِ؟ . وما حُكمُ: هلاّ يقولُ زيدٌ ذاك؟ ولمَ وجبَ في الفعلِ الرفعُ بعد: هلاّ, وليس من

مواقعِ الاسمِ؟ وهل ذلك لأنه من مواقعهِ في القياسِ , وإن لم يكُن من مواقِعِه في الاستعمالِ؛ إذ كُلُّ حرفٍ منفصلٍ غير عاملٍ فالاسمُ يصلحُ بعدهُ [في] القياسِ, إلا إن يعرض مانعٌ, فلا يُخرجه من أن يكونَ الموقعُ لهُ في القياسِ, وإن عرضَ ما يمنعُ منه, كما يعرضُ في: أيَّهم ضربتَ؟ أن يقعَ في موقعِ المفعولِ, وله موقعُ التأخيرِ بحقِّ المفعولِ, وقد منعَ منه حرفُ الاستفهامِ؟ . ولمَ كانَ (هلا) من الحروف المُنفصلةِ, ولم يكن (سوفَ) من الحروفِ المُنفصلةِ؟ وهل ذلك لأن تقديرهَ تقديرُ الزائدِ في حشوِ الكلمةِ, وليس كذلك: هلاّ, ودليلُه: هلاّ زيداً ضربتَ, ولا يجوزُ: سوفَ زيداً ضربتَ؟ . وما المانعُ من أن يكونَ (هلاّ) للاسمِ, فيكونَ الموقعُ بعده موقعَ الاسم؟ وهل ذلك ما دخَلَه من معنى التحضيضِ على الفعلِ, وأصلُه الاستفهامُ؟ . وما حُكمُ: ائتني بعدَ ما تفرغُ؟ ولمَ كان هذا الموقعُ للاسمِ مع أنَّ (ما) والفعلَ بمنزلةِ المصدرِ؟ . ولمَ جاز: ائتني بعدَ ما زيدٌ أميرٌ, من غير عائد إلى: ما, ولم يَجُز مثلُ ذلك في: الذي, فلم يجُز: بعدَ الذي زيدٌ أميرٌ, حتى تذكُر عائداً إلى: الذي, فتقولَ: بتوليته, أو ما جَرى هذا المجرى؟ وهل ذلك لأن (ما) حرفٌ في هذا الموضع, كما أنَّ [أنْ] حرفٌ, فلا /98 أيحتاج إلى عائدٍ, إلا أنه ينقلُ الفعلَ نقلينِ, فيعملُ فيه, وليس كذلك: ما؟

وهل يلزمُ من ذهبَ إلى أن الفعلَ يرتفعُ بالابتداءِ أن ينصبه بعاملِ الاسمِ, ويجُره, كما أعملَ الابتداءَ وهو عاملُ الاسمِ؟ . وما حُكمُ: كُدتُ أفعلُ, وكربَ يفرغُ؟ ولم كانَ هذا من مواقعِ الاسمِ؟ وهل ذلك لأنه في مواقعِ المفعولِ؛ إذ الأصلُ: كُدتُ أن أفعلَ, ولكن حُذفت: أن؛ لأنَّه في الأصلِ: قاربَ أن يفعلَ, ولكنَّ المبالغةَ في التقريبِ أوجبت حذف: أن, فهو في موقعِ الاسمِ في القياسِ, وإن لم يُستعمل في هذا الموضع الاسمُ, وكذلك: كربَ يفعلُ, وعسى يفعلُ, كل هذه المواقع للاسم في القياس؛ لأنها مواقعُ المفعولِ, وإن منعَ من الاسم مانعٌ عارضٌ؟ ولمَ جاز في (بلغني أنَّ زيداً جاءَ): بلغني مجيءُ زيدٍ, وبم يجُز في (لو أنَّ زيداً جاء لكان كذا وكذا): لو مجيءُ زيدٍ, مع أنَّه على تقديره؟ وهل ذلك لأنَّ (لو) تطلبُ ما فيه الفائدةُ, و (بلغني) يطلب ما هو للبيان, فـ (لو) للفعلِ أو الجملةِ

التي فيها فائدة على تقدير المفراد, إذ أصله للفعل الماضي. ولم جاز: ما أحسن زيدًا, ولم يجز ما محسن زيدًا. وما حكم جعل يقول ذاك؟ ولم كان (يقول) في مواقع الاسم هاهنا. ولم لا يجوز: كدت أن أفعل, إلا في شعر, كما قال الشاعر: قد كاد من طول البلى أن يمصحا ولم جاز: أخذ يقول ذاك, وهل هو بمنزلة: آثر أن يقول ذلك, وكذلك جعل يقول ذاك. وما قسمة المواقع.

الجواب: الذي يجوز في عامل الرفع في الفعل المضارع أن يكون موقع الاسم الذي الاسم أحق به في الأصل, ليفرق بين الموقع الذي هو للاسم, وإن صلح أن يقع فيه الفعل, وبين الموقع الذي ليس للاسم أصلًا. واقتضى ذلك أن يكون عاملًا للرفع, لأن الرفع أول, وموقع الاسم أول, وكان أحق بأن يكون عامل / 98 ب الرفع, لهذه العلة. ولا يجوز أن يكون عامل الرفع فقد الجازم والناصب, لضعف المنفي عن أن يكون عاملًا, مع أنه إذا ظهر فلم يعمل الرفع, فهو إذا لم يكن موجودًا أحق بأن لا يعمل الرفع. وموقع الاسم الذي يصلح أن يقع فيه الفعل هو الموقع الذي يعمل فيه عامل الاسم مع أنه يصلح أن يقع فيه ما هو للفائدة, وإن كان الأصل فيه أن يكون لما هو للبيان, فالموقع الذي يعمل فيه عامل الاسم هو للاسم, لأن الاسم أول, فهو له

قبل حدوث الفعل. وليس كل موقع يقع فيه الاسم فهو مما يصلح أن يقع فيه الفعل, لأن موقع الفعل لا يصلح للفعل, إذ يستحيل دخول فعل على فعل, من أجل أن الفعل يقتضي معتمد البيان, والفعل للفائدة, فلا يدخل فعل على فعل. والموقع الذي هو للاسم ويصلح فيه الفعل على ستة أوجه موقع: المبتدأ, وموقع خبر المبتدأ, وموقع المفعول الذي يصلح لما فيه الفائدة, وموقع الصفة, وموقع الحال, وموقع المضاف إليه. وترفع: يقول زيد ذاك, لأنه في موقع المبتدأ, وترفع: زيد يقول ذاك لأنه موقع خبر المبتدأ, وترفع: مررت برجل يقول ذاك, لأنه في موقع الصفة, ومررت بزيد يقول ذاك, لأنه في موقع الحال, وترفع هذا يوم آتيك لأنه في موقع المضاف إليه, وترفع حسبته ينطلق لأنه في موقع المفعول. وتقول: هلا يقول زيد ذاك, فترفع يقول [لأنه في] موقع الاسم في الأصل, إذا (هلا) حرف غير عامل, وهو منفصل مما يدخل عليه, وكل حرف غير عامل مع

أنه منفصل فهو في الأصل للاسم بحق الأولية في الاسم, وإن كان في الاستعمال لا يدخل إلا على الفعل المانع منع الاسم على جهة العارض, وذلك أنه دخله معنى التحضيض على الفعل, وأصله الاستفهام, فالأصل في الموضع يعمل عليه كما يعمل على الأصل في قياس النظائر, وقد يعمل على الأصل في الاستعمال, وكل ذلك بحسب مقتضى الأصول الثلاثة, وهي: الأصل في الموضوع, والأصل في قياس النظائر, والأصل في الاستعمال. ومما يوضح المانع على جهة العارض قولهم: أيهم ضربت؟ فتنصب لأنه مفعول, وموقع المفعول التأخير, وقد منع من التأخير مانع, ولم يخرجه ذلك من أن يكون الموقع له في الأصل. وتقول: ائتني بعد ما تفرغ, فترفع الفعل, لأنه في موقع الاسم إذا قلت: ائتني بعد ما زيد أمير, و (ما) هاهنا بمنزلة (أن) في أنها حرف, إلا أنها لا تعمل في الفعل كما [لا] يعمل: سوف, وهي منفصلة مما تدخل عليه, فهي بالاسم أحق في الأصل. وتقول: كدت أفعل, فترفع الفعل, لأنه وقع موقع الاسم في الأصل, إذ هو في موضع المفعول, كقولك: كدت أن أفعل, بمنزلة قاربت أن أفعل, إلا أنه حذفت

لمبالغة التقريب في: كدت, وكذلك: كرب يفعل. والشاعر إذا اضطر رد [أن] إلى الأصل, كما قال: قد كاد من طول البلى أن يمصحا وكذا: عسى يفعل, وهو في عسى أبين, لأن الاستعمال: عسى أن يفعل, وحذف (أن) فيه قليل, كما أن ذكر (أن) في: كدت, قليل. ويجوز: ما أحسن زيدًا, ولا يجوز: ما محسن زيدًا, لأنه قد عرض فيه مانع من التصرف, ولم يخرجه عن حد الفعل, فكذلك قد عرض ما يمنع من أن, ولم يخرجه ذلك عن موقع الاسم. وتقول: جعل يقول ذاك, فترفع الفعل, لأنه في موقع المفعول, إذ المعنى: آثر أن يقول ذاك, وكذلك: أخذ يقول ذاك, بهذه المنزلة.

وقسمة المواقع على ثلاثة أوجه: موقع لا يقع فيه إلا الاسم, وموقع لا يقع فيه إلا الفعل, وموقع للاسم يصلح أن يقع فيه الفعل ,وإنما كان للاسم بحق الأولية, وأنه يعمل فيه عامل الاسم.

[باب] إذن

[باب] إذن الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في إذن من الأعمال والإلغاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إذن من الإعمال والإلغاء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تعمل إلا إذا كانت جوابًا مبتدأة؟ ولم جاز أن تلغي؟ وما حكم: إذن - والله - أجيئك؟ ولم ألغي القسم في هذا الموضع؟ ولم جاز: إذن - والله - أجيئك, على الفصل, ولم يجز: أريد [أن]- والله - أجيئك؟

ولم جاز أن تؤخر وتلغى, ولم يجز في شيء من أخواتها ذلك؟ وما نظيرها من ظننت وأخواتها؟ وما حكم إذن إذا وقعت بين الفاء والواو وبين الفعل؟ ولم جاز فيهما الإعمال والإلغاء في هذا الموضع؟ وهل ذلك لأنها بالوقوع بعد الواو قد خرجت عن الابتداء, وبعطف جملة على جملة قد صارت بمنزلة الابتداء, فجاز فيها الوجهان لذلك؟ وما نظيرها من حسبت وأخواتها إذا توسطت؟ ولم جاز: فإذن آتيك, وإذن أكرمك, بالنصب والرفع؟ وما الشاهد في: {وَإِذن لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} , وقراءة بعض العرب: {وَإِذن لا يَلْبَثُونَ}. وما الشاهد في: {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}.

ولم لا تعمل إذن إذا كان ما بعدها معتمدًا على ما قبلها؟ ولم لا تعمل إذا كان الفعل الذي بعدها للحال؟ وما نظيرها من قولهم: كان أرى زيد ذاهبًا؟ فلم لا تعمل في هذا ألبتة؟ وما حكم: أنا إذن آتيك؟ ولم لا تعمل في هذا الموضع؟ ولا في إن تأتني إذن آتك, ولا في: [إني] إذن أذهب؟ وما في قول ابن عنمة االضبي: أردد حمارك لا تنزع سويته ... إذن يرد وقيد العير مكروب؟

فلم أعمل إذن في هذا الموضع؟ ولم جاز: والله إذن لا أفعل, ولم يجز: إذن والله أفعل, إلا بالنصب؟ فلم غلبت اليمين إذا تقدمت. ولم تغلب إذا توسطت؟ ولم جاز: إذن والله أفعل, على الإيجاب, ولم يجز: والله إذن أفعل, على الإيجاب؟ وهل ذلك لأن القسم إذا ت قدم لابد له من جواب, وليس كذلك إذا توسط؟

وما الشاهد في قول كثير عزة: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنيي منها إذن لا أقيلها؟ وما حكم: إن تأتني آتك وإذن أكرمك؟ ولم جاز فيه الجزم, والنصب, والرفع؟ وما حكم: إذن عبد الله يقول ذاك؟ ولم لا يجوز فيها إلا الإلغاء في هذا الموضع؟ ولم جاز أن يليها الاسم, ولم يجز: كي زيد يقول ذاك, ولا أن زيد يقول ذاك؟

وما وجه قول بعض العرب: إذن أفعل, في الجواب بالإلغاء على كل حال؟ وهل ذلك لأنها لما خالفت أخواتها [بما] يصلح فيها من الإلغاء, أخرجها عن حدها في الإعمال, والأول أقيس, لأنها تنقل الفعل نقلين: إلى الاستقبال والجواب؟ ولم جاز: إذن أظنه فاعلًا, وإذن إخالك كاذبًا, إذا كان الفعل للحال؟ . وما وجه قول الخليل: إن أن مضمرة بعد إذن؟ وهل ذلك لأنه رآها تعمل تارةً وتلغي تارةً كحتى وأخواتها؟ ولم ألزمه سيبويه أن ينصب في اعتماد الفعل على ما قبله في قوله: عبد الله إذن يأتيك, إذا معناه معنى: إذن يأتيك عبد الله؟ وهل ينقلب عليه هذا المعنى, فيقال له: فانصب بها في التوسط بين الاسم والفعل, لأن المعنى واحد؟

وهل له أن ينفصل من هذا بأنها إذا كانت حرفًا عاملا, أشبهت (أرى) في أنها عاملة تصلح أن تلغى, ولا تلغى: أن؟ الجواب: الذي يجوز في إذن الإعمال إذا كانت جوابًا مبتدأة, والفعل بعدها على الاستقبال, ولم يكن معتمدًا على ما قبلها, لأنها إذا كانت جوابًا للاستقبال فقد نقلت الفعلين نقلين, فصلح أن عمل على قياس أخواتها, لتغيير الفعل بوجهين. فأما إذا كانت مبتدأة فتعمل لأنها موافقة لمعنى الجواب, إذ الحرف الذي يدل على الجواب كالحرف الذي يدل على السؤال في أن له صدر الكلام, [ولأنها لما كانت لها حالان: حال قوة, وحال ضعف لا تعمل فيها, وكان صدر الكلام]. حال قوة, وجب أن تعمل بهذا الوجه مع الأسباب الأخر.

فأما إذا كان ما بعدها معتمدًا على ما قبلها, فلا تعمل لأنها بمنزلة الاعتراض في أن دخولها كخروجها, إذ كانت مما يصح أن يلغى. وإنما جاز أن تلغى لأنها مما يصح أن يستدرك به في آخر الكلام, كقول القائل: أنا أكرمك إذن, فتدل بذلك على معنى الجزاء, إذا قال له: أنا آتيك, وقد كان بني كلامه على غير حرف الجواب, إذ لو قال: أنا أكرمك, وسكت, لفهم المعنى. وتقول: إذن والله أجيئك, فتلغي القسم لأنه قد توسط ولا تلغي إذن. وإنما جاز الفصل بين إذن وبين معمولها, ولم يجز في في أخواتها, لأنها لما كانت مما يصلح فيها الإلغاء, وهو أشد من الفصل, جاز الفصل مع الإعمال بما يؤكد الكلام, وليس ذلك في شيء من أخواتها, ونظيرها في جواز الإلغاء والإعمال

ظننت وأخواتها. وإذا وقعت إذن بين الفاء والواو وبين الفعل, جاز فيها الإعمال والإلغاء. أما الإلغاء فلأنها قد خرجت عن الابتداء في اللفظ بتقدم الفاء والواو, وأما الإعمال فلأنها على تقدير عطف جملة على جملة, فما بعد الواو في الجملة مبتدأ, وفي التنزيل: {وَإِذن لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} , بالرفع على الاعتماد على تقدم الواو, وقرأ بعض العرب {وَإِذن لا يَلْبَثُوا خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} , على تقدير عطف جملة على جملة, وفي التنزيل: {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}. وتقول: أنا إذن آتيك, فلا تعمل هاهنا, لاعتماد الفعل على [ما] قبلها, وكذلك: إن تأتني إذن آتك, وإني إذن أذهب. وقال ابن عنمة الضبي: اردد حمارك لا تنزع سويته ... إذن يرد وقيد العير مكروب فهذا على خلاف الجزاء بإن لأنها لابد لها من جواب, وليس كذلك النهي, لأنه يصلح بغير جواب, فلذلك استأنف, فأعمل إذن في قوله: يرد.

وتقول: والله إذن لا أفعل, بالرفع على جواب القسم, فأما: إذن والله لا أفعل, فبالنصب لأن القسم ملغى في هذا الموضع, فاليمين إذا تقدمت لا تلغى, وإذا توسطت أو تأخرت أتلغى. وتقول: إذن والله أفعل, على الإيجاب, ولا يجوز: والله إذن أفعل, على الإيجاب لأنه حينئذ جواب القسم, بمنزلة: والله أفعل, أي: لا أفعل ولو كان إيجابًا كان: لأفعلن, وقال كثير عزة: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها فجاء بجواب القسم, وألغى إذن وتقول: إن تأتني آتك وإذن أكرمك, فيجوز فيه ثلاثة أوجه: الجزم على الإلغاء, والنصب بالاعتماد على الواو, والرفع لأن إذن قد وقع بين الواو والفعل. وتقول: إذن عبد الله يقول ذاك, بالرفع, لدخول إذن على الاسم, وإنما جاز دخوله على الاسم, لأنه مما يصلح فيه الإلغاء, فيصبر بمنزلة الحرف الذي لا يعمل, كقولك: هل, وبل, وما أشبه ذلك. ولا يجوز مثل ذلك في شيء من أخوات إذن, لأنها تلغى, فتصير بمنزلة الحرف الذي لا يعمل.

وبعض العرب تقول: إذن أفعل, في الجواب, فيلغيها على كل حال, ووجه قوله أنه لما جاز فيها الإلغاء, ولم يجز في شيء من أخواتها, توجه فيها أن تشبه حالها في المواضع التي تقع فيها بحالها في المواضع التي تلغى, فتجري على منهاج واحد, لتتشاكل أحوالها, والأول أقيس, لأنها تنقل الفعل نقلين, فيجب أن تعمل في الحال التي توجد فيها مثل هذه العلة, ولا تلبس بالعوارض التي تضعف بها أن تخرج عن أخواتها. وتقول: إذن أظنه فاعلًا, وإذن إخالك كاذبًا, إذا كان الفعل على معنى الحال, لأنها لم تنقله نقلين على هذا الوجه, فصارت بمنزلة سوف في أنها لا تعمل. والخليل يذهب إلى إضمار أن بعد إذن, ووجه قوله أنه وجدها بمنزلة الفاء وأخواتها تعمل تارة, ولا تعمل تارة, فقاسها على الأحرف الخمسة التي تضمر بعدها أن. وخالفه سيبويه وألزمه من ذلك أن تعمل في قولك: عبد الله إذن يأتيك, لأنه

على معنى: إذن يأتيك عبد الله. ولا ينقلب هذا على سيبويه, لأنه إنما يعمل تلك الأحرف تارة, ولا يعملها تارة, لاختلاف المعنى, فأما إذن فإنها تلغى تارة, وتعمل تارة, لأنها تشبه حسبت وأخواتها في الاستدراك بها تارة, والاعتماد عليها تارة.

باب: [حتى]

باب: [حتى] الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في (حتى) من الإعمال والإلغاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في (حتى) من الإعمال والإلغاء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تعمل إذا كانت للحال؟ وهل ذلك لأنها تخرج عن إضمار: أن, إذ كانت (أن) للاستقبال؟ ولم عملت على وجهين: معنى إلى أن, ومعنى كي, وألغيت على وجهين: سبب متقدم للحال منقطع عنه, وسبب متصل بالحال؟ ولم لا تنصب إلا بإضمار: أن؟ ولم جاز فيها إضمار: أن, وترك إضماره, ولم يجز في أختها, وهي إلى, وقد شاركتها في معنى النهاية؟ وهل ذلك لأن (إلى) نقيضة من, فجرت على حدها, وليست (حتى) نقيضة: من, إذ كانت تجري على طريقة: من كذا إلى كذا, ولا يقال: من كذا حتى كذا, على مقابلة (من)

في الانتهاء, وإنما (إلى) نهاية في المكان, و (حتى) نهاية في تعظيم, أو تحقير, أو ما جرى هذا المجرى من غير المكان؟ وما حكم: سرت حتى أدخلا؟ ولم جاز النصب على معنى: سرت إلى أن أدخلها, ولم يجز على معنى: سرت فأنا أدخلها الآن ما أمنع؟ ولم وجب أن يكون الناصب في الفعل هاهنا هو الجار في الاسم إذا كان غاية؟ ولم نصب الفعل في الغاية, وجر الاسم في الغاية؟ وما حكم كلمته حتى يأمر لي بشيء؟ ولم وجب النصب على معنى: كلمته كي يأمر لي بشيء, ولم يجب على معنى كلمته فإذا هو يأمر لي بشيء؟ وما حكم: سرت حتى أدخلها؟ ولم وجب الرفع على معنى أن السير متصل بالدخول الآن, بمعنى سرت فأدخلها الآن؟ ولم جاز في (حتى) الإعمال والإلغاء؟ وهل علتها كعلة (إذن) في الإعمال والإلغاء؟

وما حكم: سرت حتى أدخلها الآن ما أمنع؟ ولم وجب الرافع في هذا على معنى: سير قد مضى وانقطع, ودخول الآن في الحال؟ وكيف يكون سببًا للدخول مع انقطاعه؟ وهل ذلك لأنه سير أدى إلى الدخول بتقريبه منه, وإن انقطع مدة الزمان لبعض العوائق التي تعوق, فهو سبب بتقريبه من الدخول؟ وما حكمك لقد رأى مني عامًا أول شيئًا حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء؟ ولم جاز أن يكون ما رأى عامًا أول مع انقطاعه سببًا تمتنع معه استطاعتك أن تكلمه العام بشيء؟ وهو ذلك لذكره في هذا العام ما يوجب من الارتداع عن كلامه لما رآه في العام الأول, فهو كالحاضر الذي يوجب الارتداع عن كلامه العام؟ ولم لا ترفع إلا على معنى السبب المؤدي إلى الثاني؟ وهل ذلك لأنها لم خرجت عن [معنى] الغاية, خرجت إلى مايشا كل الغاية من تأدية الأول إلى الثاني, على معنى السبب, والذي يجمعهما المنتهى, إلا أن المنتهى في الغاية بمنزلة منتهى المكان, مثله في: إلى, والمنتهى في السبب ما أدى إليه السبب؟ وما الشاهد في قول الفرزدق: فياعجبا حتى كليب تسبني. . . كأن أباها نهشل أو مجاشع؟

ولم صار الرفع في الفعل كالرفع في الاسم؟ وهل ذلك لأنها في هذا الموضع حرف من حروف الابتداء, والمنتهى في معنى الجملة, وهو منتهى السبب؟ وما حكم شربت حتى يجيء البعير يجر بطنه؟ ولم كان الشرب سببًا لجر البطن؟ وهل ذلك للامتلاء حتى ثقل بطنه؟ وما في قولهم: حتى إنه يفعل ذاك, من الدليل على أنها حرف من حروف الابتداء هنا, كقولك: فإذا إنه يفعل ذاك؟ وما الشاهد في قول حسان بن ثابت: يغشون حتى لا تهر كلابهم. . . لا يسألون عن السواد المقبل؟

ولم كان الغشيان سببًا لترك هرير الكلاب؟ وهل ذلك لأنه لما كثر أنست به, فلم تهر؟ وما حكم مرض حتى يمر به الطائر فيرحمه؟ ولم كان مرضه سببًا لمر الطائر به راحماً له؟ وهل تحقيق ذلك: حتى يرحمه الطائر إذا مر به؟ وما حكم سرت حتى يعلم الله أني كال؟ ولم جاز أن يكون السير سببًا في هذا الموضع, والله عز وجل عالم به كيف تصرفت حاله؟ وهل تحقيق ذلك: سرت حتى أكل في معلوم الله عز وجل أو فيما يعلمه الله عز وجل. وما الشاهد في قول علقمة بن عبدة: ترادى على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندى رحلة فركوب؟ وما حكم: ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم؟ ولم صار ضرب أمس

يمتنع معه التحرك اليوم؟ وهل يجوز: سرت فأدخلها, على أن السير والدخول جميعًا وقعًا فيما مضى؟ ولم جاز ذلك في الفاء, ولم يجز في (حتى) إلا أن يقدر على الحال؟ وما حكم: مرض حتى لا يرجونه؟ ولم كان بالرفع دون النصب؟ الجواب: الذي يجوز في حتى أن تعمل في الفعل بإضمار: أن, وتلغى بترك إضمار (أن) مع الفعل. ولا يجوز أن يرفع الفعل بعدها إلا على معنى الحال والسبب المؤدي, لأنه الموضع الذي سقطت فيه: أن. فأما السبب فلأنه لما أخرجت عن الغاية التي على تقدير المكان, أخرجت إلى ما يشبهها من السبب المؤدي إلى الثاني.

وقد تكون الغاية من غير سبب, وهو إذا كان الأول سواء وقع أو لم يقع, فالثاني كائن لا محالة, كقوله: وقفت حتى تطلع الشمس, فهذا غاية, وليس بسبب, لأنه سواء وقفت أو لم تقف فالشمس تطلع في وقتها. ومثل ذلك: انتظرت حتى يجوز الأمير فهذا غاية, وليس بسب, لأنه سواء انتظرت أو لم تنتظر فالأمير يجوز, فقد بان لك الفرق بين الغاية والسبب المؤدي. فإذا أخرجت عن العمل وتقدير إلى أن, أو كي, لم تخرج إلا إلى ما يشاكل ذلك من السبب المؤدي. وهي تعمل على وجهين: معنى: إلى أن, ومعنى: كي, وعلى الوجهين جميعًا, فالفعل الذي بعدها على الاستقبال. وتلغي على وجهين: السبب المتصل, والسبب المنقطع, وعلى الوجهين جميعًا فالفعل على معنى الحال, والأول أدى إلى الثاني لا محالة. ولا يجوز إضمار أن [بعد: إلى] من قبل أنها للغاية في المكان, كما أن

(من) لابتداء الغاية في المكان, وليس كذلك: حتى, لأنها للغاية في المعاني, كالغاية في التعظيم, والغاية في التحقير, فوضعهما مختلف, وإنما جمعهما معنى الغاية, فجرت (إلى) على مقابلة: من, واتسع في حتى إضمار: أن, لأنها للمعاني التي هي أوسع من المكان. وتقول: سرت حتى أدخلها, بالنصب على معنى: إلى أن أدخله, فالسير متصل إلى أن يقع الدخول, فإن قلت: سرت حتى أدخلها, بمعنى: كي أدخلها صلح أن يكون منقطعًا. ولا يجوز النصب على معنى: سرت فأنا أدخلها الآن ما أمنع, لأنها هاهنا للحال. والناصب في الفعل هو الجار في الاسم, لأنها تجر في الاسم بحق الأصل,

وتنصب الفعل بإضمار (أن) على تقدير المصدر. وتقول: كلمته حتى يأمر لي بشيء, على معنى: كي يأمر لي بشيء, لأن الأمر لك بشيء هاهنا غرض, فهي على معنى: كي. وتقول: سرت حتى أدخلها, فيجوز على وجهين: أحدهما أن السير متصل بالدخول, والآخر أنه منقطع منه, وفي كلا الوجهين يكون سببًا مؤديًا إلى الدخول. وإنما جاز في حتى الإعمال والإلغاء, لأنها تارة تدخل على معنى المفرد, وتارةً تدخل على معنى الجملة, فإذا دخلت على معنى المفرد عملت بحق الأصل, أو إضمار: أن, وإذا دخلت على معنى الجملة ألغيت, وكل ذلك من غير شركة المفرد مع الأول. وإنما جاز: سرت منذ سنة حتى أدخلها الآن ما أمنع, وإن انطقع سيرك بتوقف مدة من الزمان في بعض البلدان, فهو سبب للدخول بتقريبه منه إلى ذلك البلد

وتقول: لقد رأى مني عامًا أول شيئًا حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء, فهذا رفع, لأن الأول أدى إلى الثاني, وهو حال. وقال الفرزدق: فواعجبا حتى كليب تسبني ... كأن أباها نهشل أو مجاشع فهذا شاهد في الرفع, لأنها تصير في مثل هذا الموضع حرفًا من حروف الابتداء, ويوضح ذلك حتى إنه يفعل, فلولا أنه موضع ابتداء لم تصح فيه: إن, لأنها لا تقع إلا موقع ابتداء. وتقول: قد نازعته في الأمر حتى إنه يهرب مني, وتقول: شربت حتى يجيء البعير يجر بطنه, ولو قلت: شربت حتى إن البعير يجيء يجر بطنه جاز. وقال حسان: يغشون حتى لاتهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل فهذا لكثرة غشيان الأضياف قد أنست بها الكلام فهي لاتهر. وتقول: مرض حتى يمر به الطائر فيرحمه, وتحقيق ذلك: مرض حتى يرحمه الطائر في حال مروره به. وتقول: سرت حتى يعلم الله أني كال, وتحقيق ذلك: سرت حتى أكل فيما يعلم الله, فقدم ذكر: يعلم, كما قدم ذكر: يمر به الطائر, على الاتساع.

وقال علقمة بن عبدة: ترادى على دمن الحياض فإن تعف ... فإن المندى رحلة فركوب فهذا شاهد يبين عن اتصال الثاني بالأول من غير مهلة في حتى كما هو في الفاء, وإن كان في الفاء أبين, لأنها الأصل فيه. وتقول: ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم, فهذا رفع, لأن ضربه أدى إلى أن لا يستطيع أن يتحرك اليوم. ويجوز: سرت حتى أدخلها فيما مضى, فيكون على تقدير الحال, كأنك قلت: حتى أدخلها في الحال الماضية, فيجري مجرى: سرت حتى دخلت. وتقول: مرض حتى لا يرجونه, بالرفع, لأن المرض أدى إلى انتفاء الرجاء. يتلوه إن شاء الله باب حتى التي يرتفع الفعل بعدها.

باب حتى التي يرتفع الفعل بعدها

الجزء الثالث والثلاثون من شرح كتاب سيبويه, إملاء أبي الحسن علي بن عيسى النحوي بسم الله الرحمن الرحيم باب حتى التي يرتفع الفعل بعدها الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في حتى التي يرتفع الفعل بعدها مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في حتى التي يرتفع الفعل بعدها؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يرتفع الفعل بعدها في غير الواجب من النفي والاستفهام؟ وهل ذلك لأنه لا يكون هناك فعل هو سبب للفعل الذي بعدها؟ وما حكم سرت حتى أدخلها, وقد سرت حتى أدخلها, وإني سرت حتى أدخلها؟ ولم جاز بالرفع على الحال, وبالنصب على الاستقبال؟

وما حكم: رأيت عبد الله سار حتى يدخلها, وأرى زيدًا سار حتى يدخلها؟ ولم جاز بالرفع في: أرى زيدًا سار حتى يدخلها؟ وما وجه قول بعض النحويين: لا يكون في ذا إلا النصب, لأن المتكلم ليس بمتيقن؟ وهل ذلك لأنه إذا لم يتيقن وقوع الفعل الذي يكون سببًا للفعل بعد حتى فهو بمنزلة النفي في أنه ليس هناك فعل يكون سببًا؟ ولم جاز على مذهب سيبويه؟ وهل ذلك لأن الغالب كاللازم, فإذا غلب عليه أن هناك سببًا فهو كلزوم السبب؟ وهل يلزم المخالف في هذا أن ينصب في قوله: سار زيد حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري, وسار زيد حتى يدخلها أرى؟ ولم ألزمه سيبويه هذا مع أن له أن ينفصل منه بأنه ذكر: لا أدري, وأرى, في موضع الاستدراك بعدما مضى صدر كلامه على اليقين؟ وما حكم كنت سرت حتى أدخلها؟ ولم جاز بالرفع؟ وما وجه امتناع بعض النحويين من الرفع في هذا, لأنه لا يجوز القلب؟ وهل وجه ذلك أنها إذا ارتفع الفعل بعدها, فهي حرف من حروف الابتداء, وذلك يقتضي

لها جواز الابتداء بها في قولك: سرت حتى أدخلها, وحتى أدخلها سرت, وإذا ذكرت: كنت, لم يصلح أن تقدم: سرت, فلا يجوز: كنت حتى أدخلها سرت؟ ولم ألزمهم سيبويه امتناع الرفع في: قد سرت حتى أدخلها؟ وهل ذلك [لأنه] لا يجوز: قد حتى أدخلها سرت؟ وهل لهم أن ينفصلوا من هذا بأن (قد) زيادة في الفعل بمنزلة الزيادة في حشو الكلمة من نحو ألف: ضارب, وواو: ضروب, ونحو ذلك؟ وما جوابهم عن هذا السؤل إذا حقق على هذه الجهة؟ وهل هو أنه يجوز: كنت حتى أدخلها سرت, لأنه قد عمل في موضعه: سرت, وصار يصلح أن يقع بين كنت, وسرت, ولو قال: كنت سرت زيد معي في مسيري كله, على استئناف الكلام في زيد, لم يصلح أن يقدم؟ وما حكم: إنمان سرت حتى أدخلها, وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها؟ ولم صار مع التقليل الرفع, والتقليل بمنزلة مالا يعتد به؟ وما حكم: ربما سرت حتى أدخلها, وطالما سرت حتى أدخلها؟ ولم جاز الرفع مع امتناع القلب؟ وهل ذلك لأنه عارض بدخول (ما) المقتضية لذكر الفعل في هذا الموضع من: ربما, وطالما, وكثر ما, فلا يخرجه ذلك أن يكون حرفًا من حروف الابتداء, كما تقول: ربما سرت فأنا أدخل, وطالما أسرت

فأدخل, وكثر ما سرت فأنا أدخل ما أمنع؟ ولم جاز الرفع مع أنه غير سير واحد لا يتحصل منه سبب؟ وهل ذلك لأنه يتحصل في الجملة أنه أحد ضروب السير الذي وقع, فهو بمنزلة: سرت غير مرة حتى أدخلها؟ وما حكم: ما أحسن ما سرت حتى أدخلها؟ ولم جاز بالرفع في التعجب, وليس الغرض فيه تثبيت فعل ذكر, وإنما الغرض فيه التعجب؟ وهل ذلك لأن سرت يدل على وقوع السير المتعجب منه؟ وما حكم: قلما سرت حتى أدخلها؟ ولم جاز بالرفع مع أن (قلما) يستعمل على معنى النفي؟ وهل ذلك لأن فيه اشتراكًا, فإذا ذهب به مذهب النفي لم يجز, وإذا ذهب به مذهب إثبات القليل جاز, وكذلك: أقل ما سرت حتى أدخلها. ولم جاز مثل هذا في: قلما, ولم يجز في: كثر ما سرت؟

وما دليله من قولهم: [قلما] سرت فأدخلها, وامتناع: كثر ما سرت فأدخلها؟ ولم جاز: إنما سرت حتى أدخلها, على قبح, لاحتقار السير؟ وما حكم: ما سرت حتى أدخلها؟ ولم لا يجوز بالرفع؟ ولم أجازه الأخفش مع إقراره أن العرب لم ترفع غير الواجب في باب حتى؟ وهل ذلك لما بينا قبل من أن الرفع لابد من أن يكون الفعل الأول فيه سببًا أدى إلى الثاني, لأنها لما أخرجت عن الغاية في المكان, أخرجت إلى السبب الذي منتهاه المسبب, وليس في النفي سبب يكون الثاني منتهاه؟ وما حكم كان سيري حتى أدخلها؟ ولم لا يجوز فيه الرفع؟ وهل ذلك لأن كان تحصل بغير خبر, وإذا نصبت فلها خبر بمنزلة: كان سيري إلى أن أدخلها,

والرفع بمنزلة: كان سيري فإذا أنا أدخلها وهذا لا يجوز؟ وما حكم: كان سيري سيرًا متعبًا حتى أدخلها؟ ولم جاز بالرفع والنصب؟ وما حكم (حتى) في إشراكها الفعل الذي بعدها ما قبلها كما تشرك الفاء؟ ولم وجب: لم أجئ فأقل, لم يجز: لم أجئ حتى أقل, إذ كانت / 105 ب تعطف الاسم على الاسم؟ فلم جاز أن تعطف اسمًا على اسم, ولم يجز أن تعطف فعلًا على فعل؟ وهل ذلك لأنها تعطف في تعظيم أو تحقير, ولا تعطف في غير ذلك, ولو قلت: ضربت زيدًا حتى عمرًا, لم يجز؟ وهل يلزم من العطف امتناع: كان سيري أمس شديدًا حتى أدخل, كما يمتنع: فأدخل على العطف؟ وهل يجوز: كان سيري أمس حتى أدخلها, بالرفع؟ ولم جاز أن يقع (يفعل) في موضع (فعل) في بعض الكلام؟ وهل ذلك لأنه

قد يكون فعل يتطاول, فيصح فيه: يفعل, ليدل على ما وقع منه, وما لم يقع, ويصلح فيه: فعل, ليدل على ما وقع منه نحو: يجعل الله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا, وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا؟ وما الشاهد في قول رجل من بني سلول: ولقد أمر على اللثيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني؟ ولم جاز (أمر) في موضع: مررت؟ وهل ذلك لأن المعنى: إن من شأني المرور في الماضي والمستقبل؟ وما حكم: أيهم سار حتى يدخلها؟ ولم جاز بالرفع, ولم يجز: أسار زيد حتى يدخلها؟ وهل ذلك لأن: أيهم سار, فيه ادعاء وقوع سير, وكذلك: أين الذي سار حتى يدخلها؟

ولم جاز: ما سرت حتى دخلت, ولم يجز: ما سرت حتى أدخل؟ وهل ذلك لأنها خارجة عن الموضع الذي تكون فيه ناصبة للفعل إلى الرفع, فلم تخرج عنه وبعدها الفعل المضارع إلا إلى ما يُشاكل الأصل, وهي هاهنا إذا دخلت على الفعل الماضي على خلاف تلك الجهة, وإنما دخلت على ماضٍ مع ماضٍ, فصارت بمنزلة: ما سرت فدخلت, فإذا دخلت على ما قد أمن أن تعمل فيه, خرجت عن حد أخواتها, وصارت على حكم آخر, وهو دخولها على الماضي, فهي إذا نقلت الفعل نقلين: إلى الاستقبال والغاية ناصبة, لأنها على قياس أخواتها من حروف النصب, وإذا كان الفعل المضارع بعدها للحال, صارت بمنزلة (إذن) إذا كان الفعل بعدها للحال, وإذا دخلت على الماضي, فليس يحتاج معها إلى أن يكون الأول سببًا للثاني, لأنها قد خرجت عن حد الغاية التي هي بمعنى: إلى أن, وعن المضارع الذي تصلح فيه الغاية, ألا ترى أنه يجوز: وقفت حتى طلعت الشمس, ولا يجوز: وقفت حتى تطلع الشمس؟ . الجواب: الذي يجوز في حتى التي يرتفع الفعل بعدها إجراؤها على الحال والسبب المؤدي إلى الفعل الذي بعدها, لأنها إذا كانت للحال لم يجز أن تنصب لخروجها عن حد أخواتها في النصب كخروج: إذن, وإذا كانت للسبب المؤدي

إلى الثاني, صلح فيها الرفع, للفرق بين تقدير الغاية بمعنى: إلى أن, وبين ما هو للحال. ولا يجوز الرفع بها في غير الواجب من النفي والاستفهام أو غيرهما, ومعنى الواجب: الدال على الواقع في ماض, أو حاضر, أو مستقبل. وتقول: أرى زيدًا سار حتى يدخلها, فيجوز بالرفع, والنصب, ومن النحويين من لا يجيز الرفع في هذا, لأن المتكلم لما لم يكن متيقنًا, صار بمنزلة النفي, وسيبويه يجيزه, لأن الغالب كاللازم في سائر أبواب العربية, فلما غلب عليه أن السير قد وقع, صار بمنزلة الواقع لا محالة. وتقول: كنت سرت حتى أدخلها, فيجوز بالرفع والنصب, وبعض النحويين لا يجيز الرفع, لامتناع القلب من جهة أنها حرف من حروف الابتداء, فإذا لم يجز القلب, خرجت عن حروف الابتداء, فيجيز: سرت حتى أدخلها, لأنه يجوز: حتى أدخلها سرت, ولا يجيز في: كنت. والصواب: جواز الرفع على مذهب سيبويه, لأنه يجوز: كنت حتى أدخلها سرت إذ هو في موضع الحال التي يعمل فيها: سرت, بمنزلة قولك: كنت

سرت وأنا مصاحب لزيد. وتقول: إنما سرت حتى أدخلها, بالرفع, وإن احتقرت سيرك, فإنه قد وقع منه ما يؤدي الدخول. وتقول: كثر ما سرت حتى أدخلها, بالرفع, ومن النحويين / 106 ب من لا يجيز إلا النصب, لأنه على معنى ضروب من السير, فلا يتحصل السير الذي هو سبب. والصواب جوازه على مذهب سيبويه, لأن أحد تلك الأضرب من السير هو المؤدي إلى الدخول, وإن لم يعرف بعينه. وتقول: قلما سرت حتى أدخلها, إذا ذهبت بقلما مذهب النفي, فليس إلا النصب بمنزلة: ما سرت فأدخلها, وهو مذهب للعرب معروف, ويدل عليه قولهم: قلما سرت فأدخلها, فينصب بالفاء على جواب النفي, ولا يجوز: سرت فأدخلها. ولهم فيه مذهب آخر على نقيض: كثر ما سرت, فيثبت إذا قال: قلما سرت, سيرًا قليلًا على النقيض, فعلى هذا المذهب يجوز: قلما سرت فأدخلها,

بالرفع. والأخفش يجيز: ما سرت حتى أدخلها, بالرفع من طريق القياس, مع اعترافه أن العرب لم تتكلم بالرفع إلا في الواجب, فقاسها على الفاء. وليس يصح هذا القياس, للعلة التي بينا من أن حتى إذا دخلت على المضارع, فلها وجهان: أحدهما: أن تكون غاية, بمنزلة: إلى أن, أو كي. والآخر: أن تكون على شبه الغاية من السبب المؤدي إلى المسبب. وليس كذلك الفاء, لأنه ليس فيها ما يقتضي أن يكون الفعل الأول سببًا للثاني في غير الجزاء, فلهذا جاز: ما سرت فأنا أدخل ما أمنع, ولم يجز: ما سرت حتى أدخل ما أمنع, للفرق الذي بينا. وتقول: كان سيري حتى أدخلها, ولا يجوز بالرفع, لأنه يبقى (كان) بغير خبرٍ. ويجوز: كان سيري سيرًا متعبًا حتى أدخلها, بالرفع والنصب, وكذلك:

كان سيري أمس حتى أدخلها, بالرفع إذا جعلت أمس خبر: كان, ولم تجعله من صلة: سيري, وإن جعلته من صلة: سيري, لم يجز. ولا يجوز في حتى أن تعطف فعلًا على فعل, لو قلت: لم أجئ حتى أقل, لم يجز, ويجوز: لم أجئ فأقل, لأنها في العطف لا تكون إلا لتحقير أو تعظيم يخرج من جملة المذكور, كقولك: قدم الناس /107 أحتى المشاة والصبيان, وخرج الناس حتى الأمير, ولو قلت: ضربت زيدًا حتى عمرا, لم يجز. وقال رجل من بني سلول: ولقد أمر علي اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني فجعل (أمر) في موضع: مررت, لأن المعنى: من شأني المرور في الماضي والمستقبل, فجاز لهذه العلة, وهذا الموضع أولى بمررت, لمشاكلة: فمضيت ثمت قلت. وتقول: أيهم سار حتى يدخلها؟ بالرفع, لأن فيه ادعاء وقوع سير, وكذلك: أين سار حتى يدخلها؟ ومتى سار حتى يدخلها؟

ولا يجوز: أسار حتى يدخلها؟ لأنه ليس فيه ادعاء وقوع سير. وتقول: ما سرت حتى دخلت, فيجوز في الماضي أن لا يكون الفعل الأول سببًا للثاني, لأنه لم يخرج عن [غاية] إلى ما يشاكلها, فيجب له معنى السبب, فصار بمنزلة: ما سرت فدخلت, ولذلك جاز: وقفت حتى طلعت الشمس, ولم يجز: وقفت حتى تطلع الشمس, بالرفع, لأن (تطلع) نقل عن: إلى أن تطلع, فلم ينقل عن الغاية إلا إلى منتهى مسبب كالغاية في المكان, وليس كذلك الماضي.

باب حتى التي يكون العمل فيها من اثنين

باب حتى التي يكون العمل فيها من اثنين الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في حتى التي يكون العمل فيها من اثنين مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في حتى التي يكون العمل فيها من اثنين؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يكون العمل من اثنين في حتى كالعمل من واحد؟ وهل ذلك لأن الغالب في العمل من اثنين أن لا يكون فعل أحدهما سببًا مؤديًا إلى فعل الآخر كما يكون في فعل الواحد؟ وما حكم: سرت حتى يدخلها زيد؟ ولم كان الأظهر في هذا النصب حتى يقوم دليل بأن سيرك أدى إلى دخول زيد؟ وما حكم: سرت حتى تطلع الشمس؟ ولم لا يجوز بالرفع أصلًا؟ وهل ذلك لأن السب لا يجوز أن يكون سواء وجوده /107 ب وعدمه في أن المسبب يوجد لا محالة؟ وما حكم: سرت حتى يدخلها ثقلي, وسرت حتى يدخلها بدني؟ ولم

كان الوجه في هذا الرفع؟ وما الفرق بين قراءة مجاهد: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}. بالرفع, وبين قراءة غيره بالنصب؟ وهل النصب على الغاية من غير سبب, والرفع على أن الزلزلة هي سبب قول الرسول؟ وما حكم: سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها؟ ولم لا يجوز الرفع في: وأدخلها, إذا كان سيرك قد أدى إلى دخولك؟ وهل ذلك لأنه لا يصح العطف بمرفوع على منصوب لا موضع له سوى النصب؟ وما حكم: سرت حتى أدخلها ويدخلها زيد؟ ولم لا يجوز إلا بالرفع إذا رفعت الأول؟ وهل ذلك لأنه لا يعطف منصوب على مرفوع؟

وما حكم: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيد, وسرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس؟ ولم جاز نصب الثاني مع إعادة حتى, ولم يجز مع ترك إعادتها بالحمل على التأويل؟ وهل ذلك لأنها ليست في تأويل الناصبة, إذ المعنى مختلف, وكذلك التقدير مختلف أيضًا؟ وهل يجوز: سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس؟ ولم لا يجوز على مذهب من قال: رب رجل وأخيه؟ وهل ذلك لأن المعنى والتقدير مختلف في حتى؟ وما وجه قول الأخفش: إن حتى التي ترفع ما بعدها ليست حتى التي تنصب ما بعدها؟ وما الصواب فيه؟ وهل وجهه أنه رأى الأحكام تختلف فيها, والصواب أن تكون واحدة, وإن اختلفت الأحكام لأنها ترجع إلى تقديرات مختلفة, وليس كذلك كل حرف, لأن لام الإضافة لا يجوز أن تكون هي لام الابتداء, لأن اختلاف

الأحكام لا يتوجه إلا على اختلاف الوضع على تقدير حرفين مختلفين لمعنيين مختلفين, وليس كذلك حتى لأن اختلاف الأحكام على جهة اختلاف التفريع؟ وما حكم: سرت إلى يوم الجمعة وحتى أدخلها؟ ولم جاز مع أن الثاني لا يشاكل الأول؟ وهل ذلك لأنه على عطف /108 أجملة على جملة باختلاف المعنى؟ وما الشاهد في قول امرئ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان؟ وهل ذلك شاهد في رفع الفعل بعد حتى مع العطف على حتى التي نصب الفعل بعدها؟ وما حكم: سرت وسار حتى يدخلها؟ ولم جاز بالرفع مع انفصال سيرك من

سيره؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: سرنا حتى ندخلها؟ وما حكم: سرت حتى أسمع الأذان؟ ولم لا يجوز بالرفع؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: سرت حتى يؤذن الناس, فذكر السمع هاهنا ليس معتمد الكلام؟ وما حكم: سرت حتى أكل؟ ولم جاز بالرفع, ولم يجز: سرت حتى أصبح, إلا بالنصب؟ الجواب: الذي يجوز في حتى التي العمل فيها من اثنين إجراؤها على أن الأول إذا لم يصلح أن يكون سببًا أدى إلى الثاني, امتنع الرفع من الثاني, كقولك: وقفت حتى تطلع الشمس, لا يجوز مثل هذا إلا بالنصب, لأن وقوفك لا يؤدي إلى طلوع الشمس, لأنه سواء كان أو لم يكن فالشمس تطلع في وقتها. فلا يجوز في مثل هذا الرفع لأنه لا يكون الرفع إلا والفعل الأول أدى إلى وقوع الثاني, لتكون على قياس أصلها في الغاية, والذي يجمعهما المنتهى, إلا أن الغاية منتهى مجرد من معنى المسبب كتجريد: وقفت حتى تطلع الشمس, فمنتهى وقوفك طلوع الشمس, وليس بسبب له, فهذا غاية ومنتهى مجرد, فأما: سرت

حتى أدخلها ما أمنع, فهو منتهى سيرك, الأول سبب للثاني, والمعنى معنى الحال, فلما أخرجت إلى معنى الحال, لم يكن بد من أن يشاكل بها معنى الغاية التي هي على تقدير: إلى أن. وإنما جرى هذا فيما كان العمل فيه من اثنين, لأن الأغلب عليه أن لا يكون أحد العملين سببًا للآخر إذا كان من اثنين. وتقول: سرت حتى يدخلها زيد, بالنصب, لأن الأظهر أن لا يكون سيرك / 108 ب سببًا لدخول زيد, فإن كان سببًا له بأنك حملته حتى دخل, أو سألته في ذلك, أو ما جرى هذا المجرى مما يؤدي فيه السير الذي كان منك إلى دخول زيد جاز الرفع, كأنك سألته حتى سار معك, فصار بمنزلة: سرنا حتى ندخلها. فأما: سرت حتى تطلع الشمس, فليس فيه إلا النصب. وتقول: سرت حتى يدخلها ثقلي, وسرت حتى يدخلها بدني, فالرفع في هذا أحسن. وقرأ مجاهد: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} بالرفع على أن الزلزلة سبب أدى إلى قول الرسول. وأما قراءة الناس بالنصب, فعلى معنى الغاية, كأنه قيل: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول فهو منتهى الزلزلة على معنى الغاية المجردة من تضمن السبب, وإن كان في حقيقة معناه قد كانت الزلزلة سببًا لقول الرسول.

وتقول: سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها, لا يجوز في الثاني إلا النصب, لأنه معطوف على منصوب ليس له موضع غير النصب. وتقول: سرت حتى أدخلها ويدخلها زيد, فلا يصلح في الثاني النصب بالحمل على التأويل, لأن الأول مرفوع لا تأويل له إلا بالرفع. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى يدخلها زيد, فهذا يجوز إذا ذكرت (حتى) ثانية, لأنها تكون على تقدير الغاية, وتكون الأولى على تقدير حرف الابتداء. وتقول: سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس, كل هذا يجوز إذا ذكرت حتى ثانية, لأن التقدير يصح في أن تكون الأولى حرفًا من حروف الابتداء, [والثانية غاية, ولا يصح أن تكون حرفًا من حروف الابتداء] , وهي غاية في حال واحدة. ولا يجوز: سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس, على مذهب من قال: رب رجل وأخيه, لأن التقدير في هذا: رب رجل وأخ له, ولا يصح التقدير في حتى /109 أعلى أن تكون حرفًا من حروف الابتداء, وهي مع ذلك غاية على تقدير: إلى أن. والأخفش يذهب إلى أن حتى التي ترفع ما بعدها ليست حتى التي تنصب ما بعدها.

ووجه قوله في ذلك أنها وإن كانت الصيغة واحدة فمنزلتها كمنزلة لام الابتداء ولام الإضافة في اختلاف المعاني والأحكام, وذلك يوجب أن لام الابتداء غير لام الإضافة, وإن كانت الصورة واحدة. والصواب مذهب سيبويه في أنها واحدة, لأن اختلاف الأحكام والمعاني إذا لم يتوجه إلا على اختلاف وضع الحرف, صار بمنزلة حرفين مختلفين في الصورة فلهذا كانت لام الابتداء غير لام الإضافة, وليس كذلك حتى في حروف الابتداء وحروف الغاية, لأنها إنما تختلف الأحكام فيها والمعاني بحسب ما يصحبها من: أن, أو تجريدها من هذا الحرف, وذلك لا يخرجها من أن يكون أصل وضعها على حد واحدٍ, فتكون حرفًا واحدًا ليس بمنزلة لام الابتداء ولام الإضافة, ولكن بمنزلة الحرف الذي تصحبه: أن, فينصب به, ويجرد من: أن, فلا ينصب به, وذلك كحروف العطف في: الواو, والفاء, وأو. وتقول: سرت إلى يوم الجمعة وحتى أدخلها, فتعطف بحرف الابتداء على حرف الغاية, وإن خرج عن المشاكلة, لأنه عطف جملة على جملة باختلاف المعنى. وقال امرؤ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

فهذا شاهد في أنه يصلح أن يعطف بها, وهي حرف من حروف الابتداء عليها وهي حرف على معنى الغاية. وذكر سيبويه أن هذه التي يبتدأ بعدها الاسم هي التي يرفع بعدها الفعل, وذلك يدل على أنها في الموضعين حرف من حروف الابتداء. وتقول: سرت وسار حتى ندخلها, فظاهر هذا التفصيل يقتضي أن الفعلين لم يجتمعا في معنى السبب, ولكن قد أجاز / 109 ب سيبويه الرفع على أنه فصل للتأكيد, ومعناه: [سرنا] حتى ندخلها, فهذا لا يمتنع. وتقول: سرت حتى أسمع الأذان, فوجهه سيبويه على النصب, ولم يسوغ في مثل هذا الرفع, ووجه ذلك أنه كلام مبني على الغرض, إذ الغرض في هذا: سرت حتى يؤذن الناس, وإنما دخل (أسمع) على ضرب من ضروب التأكيد, وليس يمتنع لو كان غرضه أن يسمع الأذان, لا الأذان يرفع, لأنه يصير سيره أدى إلى سماعه الأذان هناك, ولو لم يسر لم يسمع الأذان في ذلك الموضع, وهذا شبيه باللغز لخروجه عن أغراض الناس في غالب الأمر. وتقول: سرت حتى أكل, لأن سيرك أدى إلى الكلال. وسرت حتى أصبح, لا يجوز إلا بالنصب, لأن سيرك لا يؤدي إلى الصبح, إنما يؤدي إليه طلوع الفجر.

باب الفاء

باب الفاء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الفاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الفاء من الإعمال؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن ينتصب الفعل بعدها في الواجب؟ وهل ذلك لأن غير الواجب مفرع على الواجب, فهو أحق بالتفريع الذي يقع فيها على تقدير إضمار: أن, لأنه يشعر بذلك الموقع الذي هو أحق به؟ ولم أجاز أن تخرج عن العطف إلى نصب الفعل بإضمار: أن؟ وهل ذلك للتصرف في وجوه العطف بعطف مفرد على مفرد, واسم على اسم, وفعل على فعل, وجملة على جملة, واسم مقدر على اسم مقدر وهو الذي يقع في هذا الباب؟ وما حكم: لا تأتيني فتحدثني؟ ولم جاز النصب فيه على وجهين: لا تأتيني محدثًا, ولا تأتيني فكيف تحدثني؟

ومن أين خرج العطف بالفاء إلى معنى الحال؟ وهل ذلك لأنه في الجواب معلق بسببه, كما هو في الحال معلق بالفعل الذي هو بمنزلة الوقت له, فإذا نفي / 110 أسببه, انتفى بانتفائه, كما أنه إذا نفي الفعل, نفي أن يكون هناك وقت وقع فيه, أو حال وقع فيها؟ وما الفرق بين المعنيين؟ وهل أحدهما على نفي الإتيان رأسًا, وليس كذلك الآخر, لأنه إنما ينفي إتيانًا وقع في حال حديث, أو إتيانًا هو سبب للحديث؟ ولم لا يجوز أن تظهر (أن) مع الفاء؟ وهل ذلك لأن المصدر الأول مدلول عليه غير مصرح به, فيجب أن يكون الثاني على قياسه؟ ولم جاز مع إضمار (أن) تضمن معانٍ لا تكون في التمثيل بإظهار: أن؟ وهل ذاك لأنها لما اختزلت تضمنت الفاء معنى الجواب, للصرف عن العطف إلى وجه آخر, ولولا ذلك لكان العطف أحق بها أن تجري على لفظ الفعل؟ وما نظير إضمار (أن) من غير أن يجوز إظهارها في: لا يكون, وأخواتها في باب الاستثناء؟ ولم لا يجوز: لم آتك فحديث, إذا التقدير عليه؟

وما الشاهد في قول الفرزدق: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها؟ ولم استشهد على ما يجوز ويحسن في الكلام بما لا يجوز إلا في الضرورة؟ وهل ذلك لأنهما قد اجتمعا في الحمل على مقدر لم يذكر, وإن كان أحدهما أقوى من الآخر, ففيه بيان للحمل بالعطف على مقدر؟ وقول الفرزدق: وما زرت سلمى أن تكون حبيبة ... إلى ولا دين بها أنا طالبه

فلم جاز: ولا دين؟ وقول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا؟ وما نظير انتصاب الفعل بعد الفاء على وجوه مختلفة من اليمين وغيرها؟ ولم قدر: ما تأتيني فتحدثني, على وجهين: ما تأتيني فكيف تحدثني, وما تأتيني أبدًا إلا لم تحدثني؟

ولم جاز رفع الفعل الثاني في: ما تأتيني فتحدثني؟ وما الفرق بينه /110 ب وبين النصب في المعنى؟ ولم لا يكون الأول سببًا للثاني في الرفع؟ . وما الشاهد في قوله جل وعز: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}؟ وهل يجوز على معنى: لا يقضى عليهم بالموت فكيف يموتون؟ وما الفرق بينه وبين الرفع لو تكلم به؟ وهل النصب أدل على المعنى, لئلا يوهم: فهم يموتون؟ وما الشاهد في: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}؟ وهل هو على: ولا يؤذن لهم في النطق ولا يعتذرون, لأنه قد حيل بينهم وبين ذاك؟ ولم جاز: ما تأتيني فتحدثني, بالرفع على إيجاب الحديث؟ وما الشاهد في قول بعض الحارثيين: غير أنا لم تأتنا بيقين ... فنرجي ونُكثر التأميلا؟

وما حكم: ما أتيتنا فتحدثنا؟ ولم جاز بالنصب والرفع على: أنت تحدثنا الساعة, وجاز الرفع على النفي؟ ولم اختير النصب, إذا لم يقل: ما أتيتنا فحدثتنا؟ ولم لا يجوز في: ما أنت منا فتنصرنا, إلا النصب, أو الرفع على الاستئناف؟ وما حكم: ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل؟ ولم فسره على: إنك لم تأتنا إلا تكلمت بالجميل؟ ولم جاز بالرفع؟ وما الشاهد في قول الفرزدق: وما قام منا قائم في ندينا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف؟ ولم خرج إلى إيجاب النطق بالتي هي أعرف؟ وما حكم: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة؟ ولم فسره على: ما تأتيني

محدثًا إلا ازددت فيك رغبة؟ . وما الشاهد في قول اللعين: وما حل سعدي غريبًا ببلدة ... فينسب إلا الزبرقان له أب؟ وهل هذا على إيجاب أن ينسب الزبرقان إلى أنه أب للغريب؟ وما حكم: لا يسعني شيء فيعجز [عنك]؟ وما الفرق بين الفاء فيه وبين الواو؟ /111 أولم لا يجوز عطفه على الأول؟ . وما حكم: ما أنت منا فتحدثنا؟ ولم لا يجوز الرفع على نفي الحديث؟ . وما الشاهد في قول الفرزدق: وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في اللها والغلاصم؟

ولم جاز فيه الرفع على: فنرجي ونكثر التأميلا. ولم يجز على النفي؟ وما حكم: ألا ماء فأشربه, وليته عندنا فيحدثنا؟ وما الشاهد في قول أمية بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا؟ ولم لا يجوز إلا بالنصب؟

الجواب: الذي يجوز في الفاء من الإعمال نصب الفعل بعدها في الجواب على إضمار: أن. ولا يجوز ذلك في الواجب, لأنه ضرب من تفريع العطف بعطف مقدر على مقدر يؤذن به غير الواجب بمشاكلته له بمعنى الفرع. ويدل على معنى الفرع فيه مصاحبة الحرف له كحرف النفي وحرف الاستفهام ونحو ذلك من الحروف التي تكون في غير الواجب. فالنصب في الفاء على الجواب لستة أشياء: الأمر, والنهي, والاستخبار, والعرض, والتمني, والنفي. وتقول: ما تأتيني فتحدثني, بالنصب على وجهين: أحدهما: ما تأتيني فكيف تحدثني, وذلك أنك إذا نفيت سبب الحديث, امتنع وجود الحديث. والوجه الآخر: ما تأتيني محدثًا, وإن شئت قدرته: ما تأتيني إلا لم تحدثني, كأنك قلت: ما يكون إتيان هو سبب للحديث, وإن كان قد يكون منك إتيان كثير.

وإنما توجه على هذا التأويل من أجل أن النصب يكون على معنى الجواب الذي الأول فيه سبب للثاني, فالنصب على وجهين. ويجوز الرفع فيه على وجهين: أحدهما: نفي الحديث والإتيان جميعًا كما ينتفيان بالواو إذا قلت: ما تأتيني وما تحدثني. والوجه الثاني: على إيجاب /111 ب الحديث, كأنك قلت: ما يكون منك إتيان في المستأنف فأنت تحدثني الآن. فالنصب على وجهين, والرفع على وجهين. ولا يجوز أن تظهر (أن) مع الفاء, لأنه محمول على مصدر مدلول عليه لم يصرح بذكره, فكذلك يجب أن لا يصرح بذكر: أن, ليشاكل بالثاني الأول, ويؤذن ذلك بأنه محمول على مدلول عليه لم يذكر, وكذلك لا يصرح بذكر المصدر, لا يجوز: ما تأتيني فحديث. ويصلح مع إضمار (أن) تضمن معانٍ لا تكون فيها لو ظهرت, لأن

الصرف عن العطف يؤذن بالحمل على التأويل, ويطرق تضمين المعاني من جهة الجواب الذي يكون الأول فيه سببًا للثاني, وما يوجبه تقدير السبب من أنه إذا انتفى: انتفى المسبب, لا محالة, ومن أنه إذا انتفى أن يكون الفعل سببًا لشيء مع وجوده, لم يكن ذلك الشيء. ونظير إضمار (أن) التي لا يجوز إظهارها الإضمار في: لا يكون وأخواتها في الاستثناء, فهي في هذا على ذلك القياس. وقال الفرزدق: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها فحمل الثاني بالعطف على مقدر لم يذكر, فهذا (على قياس حمل الثاني) بالعطف في الفاء على مقدر لم يذكر, وإن كان أحدهما قويًا يجوز في الكلام, لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة (ليس) على الباء في الخبر, فلهذه العلة لم يجز إلا في الضرورة, وجاز بالفاء في الكلام, فالقياس إنما هو الحكم اللطيف الذي يفهم من أحد الشيئين فيه الآخر, وإن اختلفت العلل, وعلى ذلك أنشد الأبيات الأخر. وفي التنزيل: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} , فهذا نصب على جواب النفي, كأنه قيل: لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا, لأن من تدبير الله جل

وعز, فيما يكون من /112 أحوادث الأمور أن يقدم القضاء به, فصار على معنى: لا يقضى عليهم بالموت فكيف يموتون, ولا يصح الوجه الآخر من جهة المعنى. ولو رفع: فيموتون, لاحتمل في التأويل: فهم يموتون, وهو خطأ في المعنى, فالنصب أبعد من الغلط في التأويل. وفي التنزيل: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} , فهذا بالرفع عطفًا على الفعل المرفوع, وليس فيه إبهام يقتضي الغلط في التأويل. وقال بعض الحارثيين: غير أنا لم تأتنا بيقين ... فنرجي ونكثر التأميلا فهذا على الإيجاب, كأنه قال: فنحن نرجي. وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا, فيحسن فيه النصب والرفع على: فأنت تحدثنا الآن, ويضعف فيه الرفع على نفي الفعل, لأن الذي قبله ماضٍ, ولكنه يجوز لأنه

عطف فعل على فعل, ولو كان اسمًا لم يجز, كقولك: ما أنت منا فتنصرنا, لا يجوز بالرفع على النفي. وتقول: ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل, فهذا على إيجاب التكلم بالجميل, لإدخال (إلا) بعد حرف النفي. ومثله قول الفرزدق: وما قام منا قائم في ندينا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف وتقول: لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة, ولا يصلح على الوجه الآخر من أجل: إلا. وقال اللعين: وما حل سعدي غريبًا ببلدة ... فينسب إلا الزبرقان له أب فهذا على وجهين: أحدهما: أنه إذا حل الغريب ببلدة انتسب إلى الزبرقان لشرفه. والوجه الآخر: إذا حل غريبًا, كان الزبرقان له أبا, لحنوه عليه, فهذا على المبالغة في تعطف الزبرقان عليه في [كل] بلدة.

وتقول: لا يسعني شيء فيعجز عنك, فهذا على: لا يسعني شيء عاجزًا عنك, ولا يصلح الوجه الآخر, ولا الرفع / 112 ب, لأنه لا يصح في المعنى, إذ هو في المعنى: لا يسعني شيء أصلًا, ولا يعجز عنك شيء. وقال الفرزدق: وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في اللها والغلاصم فهذا بالنصب على جواب النفي, ولا يجوز الرفع على نفي الفعل, ولكن على قوله: ... فنرجي ونكثر التأميلا وتقول: ألا ماء فأشربه, وليته عندنا فيحدثنا, فهذا على جواب التمني. وقال أمية بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا فهذا لا يجوز فيه إلا النصب, لأن الذي قبله اسم, فيحمل على المصدر بإضمار: أن, ولا يصلح فيه الرفع على الإيجاب, لأنه داخل في التمني.

[تمام] باب الفاء

[تمام] باب الفاء: مسائل: ما حكم: ألا تقع الماء فتسبح؟ ولم جاز: فتسبح بالرفع والنصب؟ وما الفرق بينهما في المعنى؟ وهل ذلك على أن أحدهما الفعل الأول فيه سبب فيه الثاني, وليس كذلك الآخر؟ وما حكم: ألم تأتنا فتحدثنا؟ ولم جاز بالنصب والجزم؟ وما الفرق بينهما في المعنى؟ ولم جاز النصب مع أن الأول على معنى الإيجاب, إذ النفي الذي يدخل عليه حرف الاستفهام يخرج إلى الإيجاب؟ وهل ذلك لأن الكلام جرى على مجرى اللفظ من الاستفهام, لأنه يرتفع على أصل الإيجاب, كأنه قال: ألم يكن إتيان هو سبب للحديث؟ وما الشاهد في قول الشاعر:

ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... على فرتاج والطلل القديم وما حكم: لا تمددها فتشقها, بالنصب والجزم؟ وما الفرق بينهما في المعنى؟ وهل ذلك على أن الثاني في الجزم نهي عن الشق, وليس هو في الأول نهيًا عن الشق؟ وما الشاهد في: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}؟ . ولم ظهر /113 أالتضعيف في الجزم في قولك: لا تمددها فتشققها؟ وما حكم: ائتني فأحدثك؟ ولم جاز بالنصب والرفع, ولم يجز بالجزم؟ وما الشاهد في قول أبي النجم:

يا ناق سيري عنقًا فسيحًا ... إلى سليمان فنستريحا؟ ولم لا يجوز في الفعل المضارع السكون بوقوعه موقع: افعل؟ وهل ذلك لأن المعرب لا يكون إلا بعامل, كقولك: ائته فليحدثك؟ وهل يلزم من قال: ائتني فأحدثك, بالجزم أن يقول: تحدثني, في معنى الأمر؟ وما حكم: ألست قد أتيتنا فتحدثنا؟ ولم جاز بالنصب والرفع؟ وما الفرق بينهما؟ وما حكم: كأنك لم تأتنا فتحدثنا؟ ولم جاز بالنصب والجزم؟ ولم جاز النصب مع أن الأول ليس بنفي, وإنما هو على التشبيه بحال النفي؟ وما الشاهد في قول رجل مني بني دارم:

كأنك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقى بالفناء إهابها؟ وما حكم: ود لو تأتيه فتحدثه؟ , ولم جاز بالنصب والرفع؟ وما الفرق بينهما؟ ولم جاز في: ود, وليس بحرف تمن؟ وما الشاهد في: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا}. وما حكم: حسبته شتمني فأثب عليه؟ ولم جاز بالنصب في: حسبته, وهو واجب؟ وهل ذلك لأنه تضمن معنى النفي في هذا الموضع كما يقول القائل: حسبته شتمني وما شتمني, فيحذف بدلالة الحال التي تقتضي سلامته؟ وما الشاهد في قول النابغة البياني:

ولا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسمي جود ووابل فينبت حواذنا وعوفا منورًا ... سأتبعه من خير ما قال قائل ولم جاز في مثله النصب؟ وهل ذلك لأن الدعاء يجري مجرى الأمر والنهي في أنه غير واجب؟ ولم صار الرفع أبلغ؟ وما الشاهد في قول الشاعر: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

/113 ب ولم رفع: ينطق؟ وهل ذلك لأنه جعله مما ينطق على كل حال بالعلامات التي فيها والآثار؟ وما الشاهد في قول الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضى لبانات ويسأم سائم؟ ولم لا يجوز إلا بالرفع إذا قال: تقضى, ويجوز بالنصب إذا قال: تقضي؟ ولم لا يجوز إضمار (أن) بعد الفاء في الواجب؟ وهل ذلك لأن الواجب أصل اقتضى أن تجري الفاء فيه على أصل العطف, وغير الواجب فرع اقتضى أن تجري الفاء على فرع العطف بالحمل على تأويل المصدر من غير تصريح به في اللفظ؟ وهل ذلك لأن غير الواجب أحق بالجواب لتعليق المعنى فيه من غير قطع بكونه كما يعلق في الجزء الثاني بالأول من غير قطع بأنه يكون؟

وما حكم: إنه عندنا فيحدثنا؟ ولم جاز العطف بالفاء من غير الفعل في الأول؟ وهل ذلك لأنه محمول على المعنى, كأنه قيل: إنه يكون عندنا فيحدثنا, ويجوز في الرفع وجه آخر على: فهو يحدثنا, بعطف جملة على جملة؟ وما حكم: سوف آتيه فأحدثه؟ ولم لا يجوز إلا بالرفع؟ وهلا جاز على تقدير: سوف يكون إتيان فأحدثه؟ وهل ذلك لأنه لا طريق إلى تعليق الحديث إلا أن يكون الأول معلقًا, فيشركه الثاني في التعليق, حتى تجري الأشياء على أصولها, أو مقتضى أصولها؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ}؟ وما الفرق بين الرفع والنصب لو قيل: فيتعلموا؟ وهل الرفع منقطع عن الأول, على معنى: فهم يأبون فيتعلمون, من غير أن يكون الكفر سببًا للتعلم؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ}؟ وما الفرق بين الرفع والنصب لو قيل: فيتعلموا؟ وهل الرفع منقطع عن الأول, على معنى: فهم يأبون فيتعلمون, من غير أن يكون الكفر سببًا للتعلم؟ وما الشاهد في: {كُنْ فَيَكُونُ}؟ ولم لا يجوز بالنصب على جواب: كن؟ وهل ذلك لأنه ليس هناك ثان يجب بأول, وإنما هو على أن يكون بعد قوله:

كن؟ ولم جاز النصب في الواجب في الشعر؟ وما الشاهد في قول الشاعر: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا /114 أوقال الأعشى: ثمت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا

وقول طرفة: لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً}؟ ولم جاز بالرفع في: فتصبح؟ وهل ذلك لأن الأول واجب, كأنه قيل: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ وهل يلزم من أن الفاء والواو وأو ينصبن أن تدخل عليها الفاء والواو للعطف كما تدخل على واو القسم واو العطف؟

الجواب: وتقول: ألا تقع الماء فتسبح, فيجوز فيه وجهان: الرفع بالعطف على الفعل, كأنه قيل: ألا تقع الماء ألا تسبح, ويجوز النصب على الجواب الذي يكون الأول فيه سببًا للثاني على: إنك إن وقعت سبحت لا محالة. وتقول: ألم تأتنا فتحدثنا, فيجوز بالنصب على الجواب, وبالجزم عطفًا على المجزوم, كأنك قلت: ألم تأتنا ألم تحدثنا, وتقدير النصب: ألم تأتنا إتيانًا يوجب الحديث, وإنما جاز الجواب مع خروج الكلام إلى الإيجاب, لأنه على طريقة المعلق في اللفظ من قوله: ألم تأتنا, فجرى الثاني على التعليق بالفاء, لأن الأصل في العطف أن يجمع الثاني والأول في معنى, فاجتمعا هاهنا في معنى التعليق في مخرج الكلام, والإيجاب في حقيقته. وقال الشاعر: ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... على فرتاج والطلل القديم فهذا اشهد في: ألم تأتنا فتحدثنا, بالنصب على ما بينا. وتقول: لا تمددها فتشقها, فيجوز فيه وجهان: النصب على الجواب, والجزم على العطف ومعنى النهي, فتقول: لا تمددها فتشققها, بإظهار التضعيف,

لسكون الثاني على مذهب أهل الحجاز. /114 ب وفي التنزيل: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} , فهذا على الجواب, ولا يجوز بالعطف على معنى النهي في الحقيقة, لأن السحت بالعذاب من فعل الله عز وجل, ولا ينهون هم عنه. وتقول: ائتني فأحدثك, فيجوز بالنصب على الجواب, والرفع على: فأنا أحدثك. وقال أبو النجم: يا ناق سيري عنقًا فسيحًا ... إلى سليمان فنستريحا فهذا جواب الأمر, وهو شاهد فيه. وتقول: ائته فليحدثك, ولا يجوز: ائته فيحدثك, بالجزم من أجل أن المضارع معرب, وكل معرب فلابد له من عامل. وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا, فيجوز بالنصب على الجواب, وبالرفع على: فأنت تحدثنا على الإيجاب.

وتقول: كأنك لم تأتنا [فتحدثنا, فيجوز بالنصب على الجواب, وبالجزم على: كأنك لم تأتنا] , كأنك لم تحدثنا, فهذا جائز فيه الجواب, وإن لم يكن الأول منفيًا, وإنما هو مشبه بحال النفي, لأنه قد خرج مخرج النفي. وقال رجل من بني دارم: كأنك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقى بالفناء إهابها فهذا شاهد على الجواب لحال التشبيه بالنفي. وتقول: ود لو تأتيه فتحدثه, فيجوز بالنصب على جواب (لو) , إذ كانت للتمني في هذا الموضع, ويجوز فيه الرفع بالعطف على: تأتيه. وفي التنزيل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} بالرفع عطفا على {تُدْهِنُ} , وفي بعض المصاحف {فيدهنوا} على الجواب للتمني بلو. وتقول: حسبته شتمني فأثب عليه, بالنصب على الجواب لما تضمن حسبته من معنى النفي, إذ المعنى: حسبته شتمني وما شتمني فأثب عليه, ويجوز فيه الرفع على: فأنا أثب عليه. وقال النابغة الذبياني:

ولا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسمي جود ووابل فينبت حوذانًا وعوفا منورًا ... سأتبعه من خير ما قال قائل /115 أفهذا رفع على: فهو ينبت حوذانا, ولو نصب على جواب الدعاء لجاز, ولكن الرفع أحسن لأنه على التفاؤل بوقوع ذلك لا محالة, ولأنه لما دعا الله عز وجل وثق بالإجابة, فأخرج الكلام مخرج الإيجاب, فلهذا كان الرفع أحسن. وقال الشاعر: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق فهذا رفع بمعنى: إنه ينطق على كل حال بما فيه من العلامات والآثار. وقال الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضى لبانات ويسأم سائم فهذا لا يجوز فيه إلا الرفع مع: تقضى, لأنه فعل واجب, ولكن من رواه: تقضي لبانات ... جاز على هذا: ويسأم سائم.

ولا يجوز إضمار (أن) بعد الفاء في الواجب, لأن الواجب أصل, والعطف على صريح اللفظ أصل, فاقتضى أن يجري أصل العطف على الأصل في اللفظ. وأما غير الواجب فهو فرع عليه, لأنه إنما يكون بالزيادات للمعاني فهو فرع, والعطف على مضمن المصدر فرع, فاقتضى فرع العطف أن يجري على فرع اللفظ, وهو غير الواجب. وفيه علة أخرى, وهي أن غير الواجب أحق بالتعليق, لأن الأول معلق لم يدل على أنه واقع, والثاني معلق كالتعليق الأول, وحرف العطف أشرك بينهما في التعليق, ليس كذلك الواجب, لأنه قطع بأنه كائن. وتقول: إنه عندنا فيحدثنا, بالرفع لا غير, فيصلح فيه: فهو يحدثنا, بعطف جملة على جملة, ويصلح على معنى: إنه يكون عندنا فيحدثنا, أو إنه يستقر عندنا فيحدثنا, فيكون عطفا على خبر (إن) في هذا الوجه. وتقول: سوف آتيه فأحدثه, بالرفع لا غير, لأن الأول قطع بأن الإتيان كائن, والثاني محمول على الأول /115 ب على جهة أنه قطع بأنه كائن, ولا يجوز أن يكون الثاني معلقًا, والأول قطع بأنه كائن. وفي التنزيل: {فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ} بالرفع على قطع الثاني عن الأول, كأنه قيل بعد أمر الملك بإخبار الله: يأبون فيتعلمون, وليس على معنى النهي عن

كفر يكون سببًا للتعلم. وفي التنزيل: {كُنْ فَيَكُونُ} على الرفع, ولا يجوز على الجواب, لأنه فعل واحد أمر به, وأخبر بأنه يكون, والجواب في هذا لا يصح, لأنه لا يكون إلا من فعلين أحدهما سبب للآخر, والذي ذكر فعل واحد, وهو نظير قولك: تعلم فتتعلم الخير, فهو فعل واحد أمر به, وأخبر بأنه يكون. ويجوز النصب في الواجب لضرورة الشاعرة, كما قال: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا وقال الأعشى: ثمت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا وقال طرفة:

لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما وتقول: لا تأتنا فنشتمك, بالرفع على: فنحن نشتمك على كل حال. وتقول: ما أتيتني فأحدثك فيما أستقبل, بالرفع على جهة العدة, أي: فأنا أحدثك وأكرمك فيما أستقبل. وفي التنزيل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} بالرفع على المعنى, لأن الأول واجب في المعنى, وإنما نبه على ما هو كائن من إنزال الله جل وعز الماء من السماء. ويلزم من زعم أن الفاء تنصب إدخال فاء العطف عليها, لأنه بمنزلة: والله لأفعلن, والله لأفعلن.

باب الواو

باب الواو الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الواو من الصرف والعطف مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: /116 أما الذي يجوز في الواو من الصرف والعطف؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تنصب بإضمار (أن) إلا في معنى الجمع؟ وما الفرق بين الإشراك والجمع؟ وهل ذلك لأن الشيئين قد يشتركان في معنى, وإن لم يجتمعا في أنفسهما أو في معنى آخر؟ ولم لا تنصب بإضمار (أن) إلا في غير الواجب مع أنها لا تكون جوابًا؟ وما الواو التي بمعنى العطف؟ وما الواو التي بمعنى الصرف؟ وما الموضع الذي لا يصلح فيه الإشراك؟ وما الموضع الذي تكون فيه الواو منقطعة

من الأول؟ وما الموضع الذي تكون فيه في جملة واحدة؟ وما الوجه الذي تجتمع به مع الفاء؟ وما الوجه الذي تنفرد به عن الفاء؟ وما الشاهد في قول الأخطل: لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم؟ ولم وجب أن الفاء لو دخلت في هذا لأفسدت المعنى؟ وهل ذلك أنها توجب أن النهي عن خلق سبب لإتيان مثله, وهذا لا يكون, وبالواو صحيح على معنى:

لا تجمع النهي عن خلق وإتيان مثله؟ وما حكم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؟ وما الفرق بينه وبين: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؟ ولم وجب أن الفاء لو دخلت في هذا فسد المعنى؟ وما الشاهد في قول جرير: ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإنك إن تفعل تسفه وتجهل؟

وهل يجوز في مثل هذا النصب؟ ولم كان الأجود الجزم؟ وما الشاهد في قول الخطيئة: أم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء؟ وهل يجوز في مثل هذا الجزم؟ ولم صار النصب أبلغ في مثل هذا؟ وما الشاهد في قول دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤابا فلم أفخر بذاك وأجزعا

/116 ب وهل يجوز في هذا الجزم؟ ولم صار النصب أحسن؟ وما حكم: لا يسعني شيء ويعجز عنك؟ وهل يجوز في هذا الرفع؟ ولم لا يجوز؟ وهل يجوز في موضع الواو هاهنا الفاء؟ ولم جاز؟ وما حكم: ائتني وآتيك؟ وهل يجوز هاهنا العطف؟ ولم لا يجوز عطف أمر على أمر؟ وهل ذلك لأنه لا يكون للفعل المعرب عامل؟ ولم لابد في العطف من إدخال اللام في: ائتني ولآتك؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. وهل يجوز: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} على قراءة الحسن؟ وما الفرق بينهما؟ ولم كان الوجه النصب؟ وما الشاهد في قوله جل وعز {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؟ وهل يجوز أن يكون على

الجزم؟ وما الفرق بينهما؟ وما الشاهد في قوله جل وعز {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؟ ولم كان الرفع على وجهين: بالعطف والدخول في التمني, والقطع بالخروج عنه إلى الإيجاب على الضمان وأن لا يكذبوا بآيات ربهم؟ وما نظيره من: دعني ولا أعود, أي: فإني ممن لا يعود أصلًا تركت أو لم أترك؟ وهل يجوز في مثل هذا النصب على الصرف؟ وما الفرق بينه وبين الرفع, وكلاهما داخل في التمني؟ ولم اختار النصب ابن أبي إسحاق؟ ولم جاز: زرني وأزورك, بالرفع والنصب, ولم يجز بالجزم؟ وما الشاهد في قول الأعشى:

فقلت ادعي وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان؟ وهل يجوز ما روي من: فقلت ادعي وأدع فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان على حذف اللام, وعلى حذف الواو للضرورة؟ ولم قبح الوجهان وحسن النصب؟ وما الشاهد في قول الشاعر:

للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف؟ /117 أولم لابد من نصب (تقر) في هذا, وهلا قطعه عن العطف؟ وهل يمتنع ذلك لأن الكلام لم يتم, إذ (أحب) هو الخبر؟ وما الشاهد في قول كعب الغنوي:

وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول؟ فلم نصب: يغضب؟ وهل [هو] محمول على (للشيء) , كأنه قال: ولا يغضب منه صاحبي بقؤول؟ وهل هو نظير: للبس عباءة ... في الحمل على الاسم بإضمار: أن؟ وهل يجوز فيه الرفع على أن يكون داخلًا في صلة (الذي) بمعنى: الذي يغضب منه صاحبه بقؤول؟ وعلام يعطف الواو في هذا؟ وما الشاهد (في قول) قيس بن زهير بن جذيمة: فلا يدعني قومي صريحًا لحرة ... لئن كنت مقتولًا وتسلم عامر؟

الجواب: الذي يجوز في الواو من الصرف والعطف إجراؤها إذا كانت بمعنى الإشراك في موجب العامل العطف, وإذا كانت على معنى الجمع من غير موجب العامل الصرف, لأنها خرجت إلى هذا الجمع على جهة التفريع الذي يشاكل الأصل, فخرجت إلى الصرف, لأنه حمل الكلام على تأويل (أن) كما حمل على الجمع الذي يشاكل الأصل. ولا يجوز النصب فيها على إضمار أن إلا في غير الواجب, لأنه الفرع الذي خرجت إليه كما خرجت الفاء, فأضمر بعدها: أن وحمل الكلام على التأويل. والفرق بين الإشراك والجمع أن الإشراك جمع في موجب العامل خاصة, والجمع جمع فيما لا يوجبه العامل المذكور. والواو التي بمعنى العطف هي التي توجب [الإشراك في معنى العامل, والواو التي بمعنى الصرف هي التي توجب] الجمع في غير معنى العامل المذكور.

والموضع الذي لا يصلح فيه الإشراك بالواو هو الموضع الذي يقتضي فساد ذلك في اللفظ أو المعنى /117 ب كعطف الأمر بالمضارع على الأمر بالمبني كقولك: ائتني وأحدثك, فهذا لا يجوز فيه العطف, والذي يفسد من جهة المعنى كقولك: لا يسعني شيء ويعجز عنك, بالرفع. والموضع الذي تكون الواو فيه منقطعة عن الأول هو عطف جملة على جملة, والموضع الذي تكون به في جملة واحدة عطف مفرد على مفرد. والوجه الذي تجتمع به مع الفاء الإشراك في موجب العامل, وجواز الصرف بإضمار: أن, والاستئناف على القطع عن الأول. والوجه الذي تنفرد به امتناع الترتيب, وأنها لا تكون جوابًا كما تكون الفاء. وقال الأخطل: لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم فمثل هذا لا يجوز بالجزم عطفا على الأول, ولا يجوز الفاء, لأنه يجعل النهي عن خلق سببًا لإتيان مثله.

وتقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن, فهذا نهي عن الجمع, ولو كان: وتشرب اللبن, لكان قد نهاه عن كل واحد منهما. وقال جرير: ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... فإنك إن تفعل تسفه وتجهل والأجود في مثل هذا الجزم, لأنه ينهاه عن كل واحد منهما. وقال الحطيئة: أم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء والأبلغ في مثل هذا النصب, لأنه يذكر بجوار منعقد بإخاء. وقال دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤابا فلم أفخر بذاتك وأجزعا فالأحسن في هذا النصب على [معنى] أنه لم يجتمع الفخر مع الجزع, لأنه قد فخر حيث قال: قتلت بعبد الله خير لداته فهو أبعد من المناقضة. وتقول: لا يسعني شيء ويعجز عنك, فلا يجوز في مثل هذا إلا النصب, ولكن

يجوز بالفاء على أن الأول سبب للثاني. وتقول: ائتني وآتيك, ويجوز بالنصب, وبالرفع /118 أعلى الاستئناف, ولا يجوز بالجزم, لأنه ليس هناك عامل يعطف عليه. وفي التنزيل: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. بالنصب على الصرف, وقد قرئ: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} , والنصب على: لما يجتمع الجهاد مع الصبر, فهو حيث عليه على هذا الوجه, فأما الجزم فعلى الحث على الجهاد, وعلى الصبر, وكلا الوجهين حسن, والأول أبين. وفي التنزيل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} , فهذا يصلح فيه العطف على معنى النهي, ويصلح فيه النصب على الصرف, وكلا الوجهين حسن. وفي التنزيل: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} , والرفع فيه على وجهين: العطف على الأول فيدخل في التمني, ويجوز الاستئناف على ضمان ألا يكذبوا بآيات ربهم, كما تقول: دعني ولا أعود. وقرأ ابن أبي إسحاق: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} نصبًا على: التمني أن يجتمع لهم الرد مع ترك التكذيب وكون الإيمان.

وتقول: زرني وأزورك, بالرفع, وإن شئت نصبت على الصرف. وقال الأعشى: فقلت ادعي وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان فهذه الرواية الجيدة, وقد روي: أدع فإن أندى ... وهذا يجوز في الضرورة على وجهين: حذف لام الأمر, وحذف الواو اجتزاء بالضمة للضرورة. وقال الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني .. أحب إلى من لبس الشفوف فهذا لا يجوز فيه إلا النصب بإضمار أن, ليكون عطف اسم على اسم. وقال كعب الغنوي: وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول كأنه قال: ولا يغضب, فعطف على: للشيء, ويجوز فيه الرفع على عطف /118 ب جملة على جملة في الصلة, كأنه قال: وما أنا للشيء الذي يغضب منه صاحبي بقؤول.

وقال قيس بن زهير: فلا يدعني قومي صريحًا لحرة ... لئن كنت مقتولًا وتسلم عامر بالرفع على عطف جملة على جملة, وقد أنشد بالنصب على الصرف, كأنه قال: لئن اجتمع كوني مقتولًا مع سلامة عامر. يتلوه: باب أو. الحمد لله كما هو أهله, وصلى الله على محمد وآله وسلم.

باب أو

الجزء الرابع والثلاثون من شرح كتاب سيبويه. إملاء الشيخ أبي الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي بسم الله الرحمن الرحيم باب أو الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في (أو) من الإعمال مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في (أو) من الإعمال؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز فيها الإعمال إلا أن تكون بمعنى: إلا أن؟ ولم جاز فيها الإعمال في الواجب, ولم يجز مثل ذلك في أختيها: الواو والفاء؟ ومن أين دخلها معنى: إلا أن؟ وهل ذلك لأنها لأحد الشيئين, فأحدهما يكون لا محالة إلا أن يكون الآخر؟ ومن أين دخلها معنى التعليق كالتعليق في الشرط؟ وهل ذلك لأنه يكون أحدهما لا محالة إن لم يكن الآخر؟ ولم لا يجوز إظهار (أن) بعدها كما يجوز بعد اللام؟ وهل ذلك لأن الثاني محمول على تأويل الأول بتقدير المصدر, وليس كذلك اللام؟

وما حكم: /119 ألألزمنك أو تعطيني حقي؟ ولم قدره: ليكونن اللزوم أو أن تعطيني حقي, [و: لأضربنك أو تسبقني, على: إلا أن تسبقني, و: لألزمنك أو تقضيني] , على: إلا أن تقضيني؟ وما الشاهد في قول امرئ القيس: فقلت له لاتبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا؟ وما الفرق بين: ليكونن اللزوم أو الإعطاء, وبين: ليكونن اللزوم إلا أن يقع الإعطاء؟ وهل هذا على تغليب اللزوم, لأنه بمنزلة المستدرك بالتقييد, ولذلك قال: إنما نحاول ملكًا, لأن هذا هو الغرض, ثم استدرك بإلا أن نقتطع بالموت؟ وهل يجوز فيه الرفع على وجهين: أو نحن ممن يموت, على الاستئناف, وعلى العطف على: نحاول؟ ولم كان النصب أحسن؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}؟ ولم كان الرفع فيه الوجه على العطف وعلى:

أو هم يسلمون؟ وهل ذلك لأن الغرض الإسلام لا القتال, فلا يجعل بمنزلة المستدرك به على جهة الفضلة في الكلام؟ وما الشاهد في قول ذي الرمة: حراجيج لا تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرًا؟ ولم جاز بالعطف على تأويل: لا تنفك تناخ أو نرمي, وعلى الابتداء؟ وما الوجه في: ألزمه أو يتقيك بحقك, واضربه أو يستقيم؟ وما الشهد في قول زياد الأعجم: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما؟

ولم جاز الرفع في الأمر على الابتداء, ولم يجز على العطف؟ وما حكم: هو قاتلي أو أقتدي منه؟ ولم جاز بالنصب والرفع؟ وما الشاهد في قول طرفة بن العبد: ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مقتدي؟ وما تأويل قول الله جل وعز: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}؟ ولم لا يكون محمولًا على (أن) هذه المذكورة؟ وهل ذلك لأنه يصير: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولًا, وهذا لا وجه له؟ وعلام يحمل النصب؟ ولم جاز في مثله إظهار: أن؟ وهل ذلك لأنه عطف على مصدر مصرح؟ ولم لا يجوز الرفع على: أن يكلمه الله إلا يرسل رسولا؟ وهل ذلك لأنه لا يعطف الفعل على الاسم إلا بتأويل المصدر؟

وما الشاهد في قول الحصين بن حمام المري: ولولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما؟ ولم جاز إظهار (أن) في مثل هذا؟ وهل ذلك لأنه معطوف على (رجال) , فهو مثل الآية في جواز إظهار: أن؟ وما وجه قراءة أهل المدينة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} بالرفع؟ وهل ذلك لأنه على تقدير وقوع المصدر موقع الحال, كأنه قيل: إلا موحيًا أو مرسلًا رسولًا؟ ولم حمله على معنى: هذا كلامه إياهم, كقول العرب: تحيتك الضرب, وعتابك السيف, وكلامك القتل؟ ولم لا يكون الوحي كلامًا في الحقيقة؟ وهل ذلك لأنه ليس كل وحي يكون كلامًا, كما أنه ليس كل بيان يكون كلامًا, وأما الإرسال فهو كلام, وكذلك ما يسمع من وراء حجاب مما يدل على المعاني المختلفة؟ وما الشاهد في قول عمرو بن معدي كرب:

وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع؟ وما تأويل قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل؟ ولم حمله الخليل على: أتركبون أو تنزلون, وحمله يونس على الاستئناف, كأنه قال: وأنتم تنزلون, كما حمل يونس الرفع في الآية: أو هو يرسل رسولًا, /120 كما قال طرفة: أو أنا مفتدي؟ وما صار قول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا أضيق وأضعف, ولم يكن تأويل الخليل في البيت على هذه المنزلة من الضعف؟ وهل ذلك لإضمار حرف الجر وإعماله في العطف؟

وهل يلزم على تأويل الخليل: هو يأتينا ويحدثنا, على تقدير: هو يكون منه إتيان ويحدثنا؟ ولم ألزمه سيبويه بهذا؟ وبم ينفصل الخليل؟ وهل ذلك لأن في هذا مناقضة الأصول بالنصب في الواجب من غير تصريح بالمصدر, وليس كذلك قوله: أو تنزلون؟ الجواب: الذي يجوز في (أو) من الإعمال النصب بإضمار (أن) إذا كانت في معنى: إلى أن, لأنها قد خرجت بهذا الوجه عن العطف على الفعل إلى الحمل على تأويل المصدر, فجرت مجرى أختيها في الصرف عن العطف إلى تأويل المصدر. ولا يجوز إظهار (أن) فيه كما لا يجوز في أختيها, لأن الكلام محمول على تأويل المصدر. ويجوز فيها الإعمال في الواجب, لأنها لما خرجت إلى معنى: إلا أن جرت

على التعليق بمنزلة الجزاء, كأنه قيل: إن لم يكن ذاك, وليس كذلك الفاء والواو, لأنها إذ وقعت في الواجب, لم يكن فيها معنى تعليق الجزاء. ودخلها معنى: إلا أن لأنها لأحد الشيئين, فما كان لأحد الشيئين فهو يقع [في] المعنى لأحدهما لا محالة إلا أن يقع للآخر. وتقول: إلا أن تعطيني, وكذلك: لأضربنك أو تسبقني, و: لألزمنك أو تقضيني. وقال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينيك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا على معنى: إلا أن نموت فنعذرا والفرق بين: ليكونن اللزوم أو الإعطاء, وبين: ليكونن اللزوم إلا أن يقع الإعطاء, أن هذه على تغليب اللزوم, وجاء الاستثناء على /120 ب جهة الفضلة في الكلام, ولذلك كان النصب أحسن في البيت, لأن الغرض: أن نحاول ملكًا وإنما تنقطع عنه إن قطعنا الموت.

ويجوز في مثله الرفع على وجهين: العطف على: نحاول, والاستئناف على: أو نحن نموت فنعذر. وفي التنزيل: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} , فالرفع في هذا أحسن, لأن الغرض الإسلام, فلا يكون بمنزلة الفضلة في الكلام, والرفع بالعطف على: تقاتلون, ويجوز على الاستئناف: أو هم يسلمون. وقال ذو الرمة: حراجيج لا تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرا فهذا شاهد في الرفع, ويجوز على وجهين: على العطف بتقدير: لا تنفك تناخ أو نرمي بها, ويجوز على: أو نحن نرمي بها, على الاستئناف. وتقول: ألزمه أو يتقيك بحقك, واضربه أو يستقيم, فهذا في غير الواجب, والمعنى معنى: إلا أن ويجوز فيه الرفع على الاستئناف, ولا يجوز على العطف, لأن الأول لم يعمل فيه عامل. وقال زياد الأعجم: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما

فهذا على معنى: إلا أن تستقيم, ويجوز في مثله الرفع على الاستئناف. وتقول: هو قاتلي أو أفتدي, على معنى: إلا أن أفتدي, ويجوز فيه الرفع على: يقتلني أو أفتدي, على معنى: إلا أن أفتدي, ويجوز فيه الرفع على: يقتلني أو أفتدي, وعلى: أو أنا أفتدي, كما قال طرفة بن العبد: ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتدي وفي التنزيل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} , فهذا على إضمار (أن) غير المذكورة, ولا يجوز أن يحمل على المذكورة, لأنه يصير بمنزلة: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولًا, وهذا لا معنى له, وإنما هو معطوف على (وحيا) , ويجوز أن تظهر فيه (أن) /121 أ, كقولك: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا, أو من وراء حجاب, أو [أن] يرسل رسولا. وقال الحصين بن حمام المري: ولولا رجال من رزام أعزةٌ ... وآل سبيع أو أسوءك علقما فهذا بمنزلته في جواز إظهار (أن) , لأنه معطوف على الاسم المصرح به. وقراءة أهل المدينة بالرفع, ووجه ذلك الحال عند الخليل, كأنه قيل: إلا موحيًا أو مرسلًا.

ويونس يحمله على الاستئناف, كأنه قيل: أو هو يرسل رسولا. قال: وهو بمنزلة: عتابك السيف, يعني أن الوحي الذي يلقيه الله جل وعز إلى العباد قد يكون بيانًا عن المعنى ليس بكلام كالإلهام ونصب الدلالات والعلامات التي تقوم [مقام] الكلام, لأن الوحي: الإيماء إلى المعنى من وجه يخفى, فلهذا جعله بمنزلة: عتابك السيف. وقال عمرو بن معدي كرب: وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع فهذا شاهد في أن الوحي كلامه إياهم وقال الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل فهذا بالعطف عند الخليل على المعنى, غذ المعنى: أتركبون أو تنزلون, وهو عند يونس على الاستئناف: أو أنتم تنزلون.

وشبهه سيبويه بقول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيا فهذا ضعيف لإضماره حرف الجر مع إعماله. ولا يلزم في بيت الأعشى مثل ذلك, بل هو حسن كما تأوله الخليل, يجري مجرى {وحورا عينا} في قراءة أبي بالحمل على دلالة الكلام الأول, لأن قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} , بمنزلة: يعطون ذاك وحورا عينا. وألزمه: هو يأتينا ويحدثنا لأنه بمعنى: هو يكون منه إتيان وأن يحدثنا, وله أن ينفصل من هذا بما فيه من مناقضة /121 ب الأصول التي قد انعقدت بأن إضمار (أن) في الواو أنها إنما تكون في غير الواجب, ولا تكون في الواجب, وليس كذلك بيت الأعشى.

باب الفعل الذي يحتمل الإشراك في أن والانقطاع

باب الفعل الذي يحتمل الإشراك في أن والانقطاع الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الفعل الذي يحتمل الإشراك في (أن) والانقطاع مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الفعل الذي يحتمل الإشراك في (أن) والانقطاع؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الانقطاع إلا بعد تمام الكلام؟ ولم ذكر من حروف الإشراك أربعة: الواو, والفاء, وثم, وأو, وهي عشرة؟ وما حكم: أريد أن تأتيني ثم تحدثني؟ وما الفرق بين النصب فيه, والرفع, وكذلك: أريد أن تفل ذاك وتحسن, و: أريد أن تأتينا فتبايعنا, و: أريد أن تنطق بجميل أو تسكت؟ ولم وجب بالنصب دخول هذه الأفعال كلها في الإرادة, ولم يجب بالرفع؟

وهل يجوز الرفع في: أريد أن تأتيني ثم تحدثني, على وجهين: العطف على: أريد, والاستئناف؟ وما الفرق بين العطف على معمول: أريد, وبين العطف على: أريد؟ وما تأويل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} , ثم قال: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بالرفع, وفي بعض القراءة: {وَلا يَأْمُرَكُمْ}؟ فما الفرق بين الرفع والنصب؟ ولم كان الرفع على: ولا يأمركم الله, والنصب على: ولا يأمركم البشر أن تخذوا؟ وما حكم أريد أن تأتيني فتشتمني؟ ولم لا يصلح في هذا العطف على معمول: أن؟

وما الشاهد في قول رؤبة: يريد أن يعربه فيعجمه؟ ولم كان الرفع يخرجه من الإرادة؟ وما تأويل: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ}؟ ولم لا يصلح عطف {وَنُقِرُّ} على المنصوب المتقدم؟ /122 أوما تأويل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}؟ ولم جاز العطف على {أَنْ تَضِلَّ} , ولم يقع الإشهاد لأن تضل إحداهما, إذ المعنى: أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت؟ وهل للإضلال مرتبة التقديم من جهة أنه سبب الإذكار, ومرتبة التأخير من جهة أنه مسبب الغرض, وللإذكار مرتبة التقديم من جهة أنه غرض, ومرتبة التأخير من جهة أنه يحتاج إلى, لأجل الإضلال, فقدم الإضلال, لأنه سبب الإذكار, ولو قدم الإذكار لجاز, لأنه غرض, فاللام مع الإذكار تدل على الغرض, ومع الإضلال تدل على السبب؟ وما نظيره من قولهم:

أعددته أن يميل الحائط فأدعمه, فقدم ذكر السبب, وأخر الدعم الذي هو الغرض؟ وهل يجوز تأويل من قدره على: كراهة أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما؟ وعلى أي شيء يعطف {فَتُذَكِّرَ} على هذا الوجه؟ ولم جاز حمله على: كراهة, ولم يجز حمله على متعلق: كراهة؟ وهل تقديره: الإشهاد لكراهة ذا والإذكار؟ وهل يجوز تأويل من ذهب فيه إلى حذف (لا) بتقدير: لئلا تضل إحداهما؟ وهل ذلك لا يسوغ إلا مع رفع {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}؟ ولم لا يكون على: لئلا تضل إحداهما فلا يحتاج إلى إذكار إحداهما الأخرى؟ وما الشاهد في قول بعض الحجازيين:

ما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب؟ ولم جز في: فأبهت, الرفع والنصب؟ وما الفرق؟ ولم كان الرفع أبلغ في المعنى؟ وما الشاهد في قول ابن أحمر: يعالج عاقرًا أعيت عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا؟ ولم لا يكون منصوبًا على: ليلقحها؟ وهل ذلك لأنه ليس على إرادة: أن ينتجها حوارا, ولكنه على أنه موجب فعله, ويحتمل أن يكون على: يعالج فينتج, ويحتمل /122 ب الاستئناف؟

وما حكم: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد؟ ولم جاز بالنصب والرفع؟ وما حكم: ما عدا أن رآني فيثب, بالرفع؟ ولم كان الوجه القطع, أو تقول: ما عداني أن رآني فوثب؟ ولم ضعف: ما أتيتني فتحدثني, بالرفع إذا كان في معنى النفي, ولم يضعف: ما أتيتني فحدثتني؟ وما حكم: ما عدوت أن فعلت, و: لا أعدو أن أفعل؟ ولم خالف حكم: ماآلو أن أفعل, [و: ما ألوت أن أفعل, بمعنى: لقد جهدت إلى أن أفعل, وطلبت أن أفعل]؟ وما حكم: ما عدوت أن آتيك؟ ولم فسره بما عدوت أن يكون هذا من رأيي فيما استقبل؟ ولم جاز أن تجعل (أفعل) في موضع (فعلت) , ولم يجز (فعلت) في موضع (أفعل) , وتصرفه إلى معنى المصدر؟

وما حكم: والله ما أعدو أن جالستك؟ ولم لا يكون بمعنى: ما أعدو أن أجالسك غدًا؟ وهل ذلك لأن (جالستك) لا يكون في معنى: أجالسك, كما أنه لو قال: ما أعدو أن أجالسك أمس, كان محالًا, لأن (أجالسك) للاستقبال؟ وما الشاهد في قول عبد الرحمن [بن] الحكم: على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيته أن لا يجور ويقصد؟ فلم رفع: ويقصد؟ وهل ذلك على إيجاب أنه يقصد, ولم يجعله مما هو عليه؟ ولم كان الرفع في مثل هذا أسبق وأعرف؟

الجواب: الذي يجوز في الفعل الذي يحتمل الإشراك في (أن) والانقطاع إجراؤه على الوجهين في تمام الكلام مع صحة المعنى. ولا يجوز الانقطاع قبل تمام الكلام, لأنه لا تحمل الجملة الثانية على الأولى قبل أن تتم, لما في ذلك من الفساد بتخليط الكلام. وحروف الإشراك في المعنى ثلاثة: الواو, والفاء, وثم, فلذلك ذكرها سيبويه, وذكر معها (أو) , لما لها من المدخل في حروف النصب للفعل, ولم يذكر [باقي] حروف العطف, لأنه لا مدخل لها في هذا الباب. /123 أوتقول: أريد أن تأتيني ثم تحدثني, فالنصب يوجب دخول الفعل الثاني في الإرادة, كأنه قال: أريد إتيانك ثم حديثك, فقد أرادهما جميعًا. ويجوز الرفع في: ثم تحدثني, على وجهين: أحدهما العطف على: أريد, والأخر: الاستئناف على معنى: ثم أنت تحدثني. وكذلك: أريد أن تفعل ذاك وتحسن, و: أريد أن تأتينا فتبايعنا, و: أريد أن تنطق بجميل أو تسكت.

وفي التنزيل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} , ثم قال: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} أي: ولا يأمركم الله, فهذا في الرفع, ولا يجوز غيره, وقد نصب بعض القراء على معنى: ولا يأمركم البشر أن تتخذوا. وتقول: أريد أن تأتيني فتشتمني, فلا يصلح في هذا العطف على الفعل الأول بالنصب, ولكن يجوز بالرفع على: فأنت تشتمني. وقال رؤبة: يريد أن يعربه فيعجمه فهذا غير داخل في الإرادة, وإنما هو على معنى: فهو يعجمه. وفي التنزيل: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} , [فهذا] على: ونحن نقر في الأرحام, لأنه لم تصرف الآيات إلا للبيان, لا للإقرار في

الأرحام ما يقر. فالأصل في هذا الباب يجري على ثلاثة أوجه: منه ما يجوز فيه العطف على: أن, والاستئناف, ومنه ما لا يجوز فيه إلا العطف على الأول, ومنه ما لا يجوز فيه إلا الاستئناف. وفي التنزيل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} , ففيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون تقديم ذكر الضلال, لأنه سبب الإذكار, فإذا قيل: الإشهاد للضلال, فالمعنى في تقديمه أنه سبب الإذكار, ولو قيل: الإشهاد للإذكار في حال الضلال, لكان التقديم للإذكار, لأنه غرض, فالغرض مقدم, لأنه أول ما يقع في النفس, والسبب ثان في الطلب, ولأول هو الغرض وهو الأول في الطلب, فأما السبب فهو الأول في العمل /123 ب, وهو ثان في الطلب, فيصلح تقديم ذكر الضلال, لأنه سبب الإذكار, وهو أول في العمل, وإن كان ثانيًا في الطلب. ومثل ذلك مثل من يريد الحج, فالحج غرض, وهو أول في الطلب, فأما إعداد الزاد والراحلة, وسلوك الطريق المؤدي إليه فهو سبب, وهو أول في العمل, وثان في الطلب, فعلى هذا يجري هذا الباب في الغرض والسبب, وهو مذهب سيبويه, وذلك أن لام الإضافة تتصرف في وجوه كثيرة, منها الغرض, ومنها السبب, ومنها لام العاقبة, ومنها لام الاستغاثة, وغير ذلك مما هو مبين في مواضعه من

أبواب النحو. والوجه الثاني: أن يكون على حذف (كراهة) , كأنه قال: الإشهاد كراهة أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى, وهذا مذهب أبي العباس, والزجاج, وغيرهما. فإن قال قائل: فكيف يجوز عطف {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} على {أَنْ تَضِلَّ} فيصير المعنى: كراهة أن تذكر إحداهما الأخرى؟ قيل له: ليس معطوفًا على {أَنْ تَضِلَّ} , ولكن على: كراهة, كأنه قيل: الإشهاد لكراهة الضلال وللإذكار, فهذا معنى صحيح. والوجه الثالث: حذف (لا) , وهو مذهب بعض الكوفيين وغيرهم, كأنه قيل: لئلا تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. فإن قال قائل: فكيف يكون عطف {فَتُذَكِّرَ} على: {أَنْ تَضِلَّ} في هذا الوجه؟

قيل له: يصح ذلك على معنى أنه: إذا انتفى الضلال لم يحتج إلى الأذكار, كقولك: قومته لئلا يسيء فتؤدبه, فهذا لم تكره أن تؤدبه, ولكن إذا انتفت الإساءة, استغني عن تأديبه. ونظير ذلك في احتمال الأوجه الثلاثة: أعددته أن يميل الحائط فأدعمه, كأنك قلت: أعددته أن لا يميل الحائط فأحتاج إلى دعمه, وكذلك إن قدرته على: كراهة أن يميل الحائط فأدعمه, كأنك قلت: الإعداد لكراهة أن يميل الحائط وللدعم, والوجه الآخر: أعددته للميل إن وقع, على /124 أمعنى السبب, كقولك: الإشهاد للضلال إن وقع, على معنى السبب. وقال بعض الحجازيين: ما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب فيجوز فيه الرفع والنصب بالعطف على: أن أراها, والرفع أبلغ, لأنه أشد تحقيقًا لما يلحقه من أنه يبهت, كأنه قال: فأبهت لا محالة على هذا التأكيد ولم يجعله معلقًا بـ (أن أراها) في العطف, وكلا الوجهين حسن. وقال ابن أحمر: يعالج عاقرًا أعيت عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا فهذا رفع على وجهين: أحدهما: يعالج فينتج, والآخر: على الاستئناف.

وليس بداخل في: إرادته ليلقحها, إذا رفع. ولو نصب, لدخل معنى الكلام في الإرادة. وتقول: لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد, فيجوز بالنصب والرفع. وتقول: ما عدا أن رآني فيثب, فهذا على معنى: فهو يثب, وإن حملته على العطف, كان الوجه: ما عدا أن رآني فوثب, ويضعف (يثب) في العطف كضعف: ما أتيتني فتحدثني, بالرفع إذا كان داخلًا في النفي, والوجه: ما أتيتني فحدثتني. وتقول: ما عدوت أن فعلت, و: لا أعدو أن أفعل, فهذا وجه الكلام. وتقول: ما آلو أن أفعل, وما ألوت أن أفعل, لأن فيه معنى: لقد جهدت أن أفعل, وطلبت أن أفعل. وتقول: ما عدوت أن آتيك, أي: أن يكون هذا رأيي وعزمي, كأنك قلت: عزمي أن آتيك فيما أستقبل. ويجوز أن تجعل (أفعل) في موضع (فعلت) , لأن

(أن) تطلب المضارع, وتقلبه إلى معنى المصدر, ولا يجوز (فعلت) في موضع (أفعل) إلا في الجزاء, لقوة (إن) في الجزاء من جهة أنها تعمل في الشرط والجواب, وتعقد الجملة الثانية بالأولى, فتصير بمعنى جملة واحدة. وتقول: والله ما أعدو أن جالستك, أي: ما أجاوز مجالستك, ولا يجوز على معنى المستقبل, لأن المعنى /124 ب يصح فيه على الماضي, كأنك قلت: ما أجاوز مجالستك في الماضي, فلا يصلح قلبه إلى الاستقبال. وكذلك إذا قال: ما أعدو أن أجالسك, صلح للمستقبل, كأنه قال: ما أجاوز مجالستك في المستأنف, فـ (أن) لم تقلب الفعل عن معناه. وقال عبد الرحمن بن الحكم: على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيته أن لا يجوز ويقصد فقال: عليه ترك الجور, ورفع (ويقصد) على معنى: وهو يقصد, وليس ذلك بواجب عليه كما يجب عليه أن لا يجوز, فعلى هذا مجرى الكلام في مثل هذا

وكذلك رفع, ولم يحمله على: يجور.

باب الجزاء

باب الجزاء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الجزاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الجزاء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز في الجزاء أن يكون الفعل صلة للاسم؟ وهل ذلك لأن المطلوب فيه الإبهام, والصلاة تبطل الإبهام؟ وما الذي يصلح أن يجازي به من الأسماء؟ وما الذي لا يصلح أن يجازي به؟ ولم كان الأصل في الجزاء أن يكون بالحرف؟ وهل ذلك لأنه يعقد إحدى الجملتين بالأخرى, وينقلها إلى معنى الشرط والجواب, وما نقل الكلام عن معنى إلى معنى فهو حرف؟ وما قسمة الأسماء التي يجازي بها؟

ولم جاز الجزاء بالاسم؟ وهل ذلك لأنه مبهم إبهام الحرف, يصلح أن يتضمن معنى: إن؟ ولم صارت: من, وما, ومهما, وأي أخوات في الجزاء؟ [ولم صارت: أنى, وأين, ومتى أخوات في الجزاء]؟ ولم صار: حيثما, وإذما, وإذا ما أخوات في الجزاء؟ ولم لا يجوز أن يجازي بحيثما, وأختيها إلا أن يصحبها: ما؟ ولم صارت (ما) مسلطة على الجزاء؟ وهل ذلك لأنه لما كان يقوى بها الكلام في التأكيد, قوت هذه الأحرف /125 أعلى العمل كما قويت أن تكف: إنما, وكأنما, عن العمل, وكما قويت على تغيير (لو) في قولك: لو ما؟ وما الشاهد في قول العباس بن مرداس: إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقًا عليك إذا اطمأن المجلس

وقول عبد الله بن همام: إذا ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أصعد سيرًا في البلاد وأفرع فإني من قوم سواكم وإنما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع وقول لبيد: فأصبحت أنى تأتها تلتبس بها ... كلا مركبيه تحت رجلك شاجر

وقول ابن همام: أن تضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي؟ وما في أن (حيث) تضاف إلى جملة تقوم مقام الصلة ما يمنع من الجزاء بها؟ وهل ذلك لأنها ضعفت عن أن تقوم بنفسها في البيان عن معناها, غذ كانت الإضافة إلى الجملة تلزمها على خلاف (من) وأخواتها, إذ لا تلزمها الصلة, من أجل أنه يستفهم بها, فلا تكون لها صلة؟ [ولم جاز الجزاء ببعض ما يوصل دون بعض؟ ولم جاز الجزاء ببعض ما يستفهم به دون بعض]. وهل علة امتناع الجزاء بإذ, وإذا, كعلة: حيث؟

ولم وجب في قولك: حيث تكون أكون, أن حيث مضافة إلى الجملة, ولم يجز أن تكون الجملة لها صلة؟ وهل ذلك لأنها لو كانت صلة لم تنعقد بحيث إلا بعائد, فكان لا يجوز: زيد حيث عبد الله قائم, والإضافة لا تحتاج إلى عائد؟ ولم لا يجوز أن يكون الفعل صلة لمن وأخواتها في الاستفهام؟ ولم جاز في (من) وأخواتها أن توصل, ولم يجز في (أنى) وأختيها أن توصل؟ وهل ذلك لأنها ظرف لا يخبر عنها, إذ هي /125 ب ظروف غير متمكنة, وإنما جازت الصلة في (من) وأخواتها, للحاجة إلى الإخبار عنها؟ ولم وجب أن الأصل في (مهما): ما؟ ولم لا يجوز على هذا الأصل في (مهما) ما يجوز في (ما) من الاستفهام والصلة؟ وما الشاهد في قول الله جل وعز: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ} , وقوله: {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}؟

ولم أجاز فيها سيبويه أن تكون كـ (إذ) ضم إليها (ما) , فيكون الأصل: مه؟ ولم لا يجوز الجزاء بكيف إذ قلت: كيف تصنع أصنع؟ وهل ذلك لضعفها بأنها لا تكون إلا نكرة, مع إجرائها على قياس أختها في أنها لا تكون إلا نكرة في الاستفهام, وهي: كم, ولم يصلح أن تقوى بـ (ما) , لما تقتضيه أختها من إجرائها على طريقتها؟ وما الفرق بين قولهم: على أي حال تكن أكن, وبين: كيف تكن أكن, حتى جاز أحدهما, ولم يجز الآخر؟ وهل ذلك لأن في (أي) تفصيلًا في إبهام يحتاج إليه في الجزاء؟ وما الفرق بين: آتيك إذا احمر البسر, وبين: آتيك إن احمر البسر؟ وما الشاهد في قول ذي الرمة: تصغي إذا شدها بالرحل جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب؟

وهل ذلك على أنه لم يجاز بها؟ وقول الآخر: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد؟ وما الشاهد في قول قيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب وقول الفرزدق:

ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارًا إذا خمدت نيرانهم تقد وقول بعض السلوليين: إذا لم تزل في كل دار عرفتها ... [لها] واكف من دمع عينيك يسجم /126 أوقول كعب بن زهير: [و] إذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطًا مذعورا

وما الجازم للجواب في: إن تأتني آتك؟ ولم وجب أن (إن) أم الجزاء؟ وهل ذلك لأن جميع ما يجازي به قد يخرج عن الجزاء إلا (إن) , مع تقديرها في كل اسم بجازى به؟ وما جواب الجزاء؟ ولم لا يكون إلا بالفعل, أو الفاء؟ ولم لا يجوز الجواب بالواو, ولا بثم؟ وما في قول القائل إذا قيل له: افعل كذا, فيقول: فإذن يكون كذا وكذا, وتقول: لم أغث أمس, فيقول: فقد أتاك الغوث, ولا يجوز في هذا الموضع: الواو, ولا ثم؟ الجواب: الذي يجوز في الجزاء جزم الشرط والجواب بالفعل على عقد الجملة الثانية بالأولى, حتى يكون خبرًا واحدًا.

ولا يجوز الجزاء في الأصل إلا بالحرف, لأنه ينقل الكلام عن الإيجاب على القطع إلى تعليق الثاني بالأول, فينقله إلى معنى الجزاء كما ينقل عن الواجب إلى النفي بحرف, فكذلك ما ينقل عن الواجب إلى الجزاء فحقه أن يكون بالحرف على قياس نظائره, لأن الحروف لها نقل الكلام من معنى إلى معنى, ولهذا عقد الثاني بالأول, فهذا من شرط الحروف, وقد اجتمع بحرف الجزاء, وهو: إن. ولا يجوز في الأسماء التي يجازى بها أن يكون الفعل صلة لها, لأن المطلوب فيها الإبهام, والصلة تخرج عن الإبهام. والأسماء التي يصلح أن تجازي هي المبهمة إبهامًا يصلح أن يضمن معنى: إن, وما لا يصلح أن يضمن معنى (إن) , لا يصلح أن يجازى به. والأسماء التي يجازى بها أحد عشر: من, وما, ومهما, وأي, وهذه الأربعة أخوات. وأنى, وأين, ومتى, وهذه الثلاثة أخوات في معنى الظرف المطلق, كما أن الأربعة الأول أخوات في طريق الجنس. وحيثما, وإذا ما, وإذا ما /126 ب أخوات في الانعقاد بما.

و (إذا) يجازى بها الشعر. ولا يجوز الجزاء بحيث, من قبل أنها تلزمها الإضافة التي تقوم لها مقام الصلة, فهي ناقصة عن أن تحتمل الجزاء, فإذا لحقتها (ما) , قوتها على العمل. وكذلك: إذ, وإذا, لا يجازى بواحدة منهما إلا مع (ما) , وإنما احتملت ذلك, لأنها لتقوية المعنى بالتأكيد إذا كانت صلة, ففيها معنى القوة والتمكين في النفس, فقويت على تسليط هذه الأحرف الثلاثة على العمل في الجزاء, وقويت على كف الأحرف الثلاثة عن العمل في: كأنما, وإنما, وأنما, وقويت أيضًا على تغيير المعنى في (لو ما) , فخرجت إلى معنى: هلا. وقال العباس بن مرداس: إذا ما أتيت على الرسول فقل له ... حقًا عليك إذا اطمأن المجلس فهذا شاهد في أنه يجازى بإذ ما. وقال عبد الله بن همام: إذا ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أصعد سيرًا في البلاد وأفرع فإني من قوم سواكم وإنما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع

وقال لبيد: فأصبحت أنى تأتها تلتبس بها ... كلا مركبيها تحت رجلك شاجر فجاز بأنى. وقال ابن همام: أن تضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي فجازى بأين. وإنما كانت الجملة صلة في (من) وأخواتها, ولم تكن صلة في (حيث) وأختيها, لأن الصلة تحتاج إلى عائد يعقد الجملة بالأول, والإضافة لا تحتاج إلى عائد, ولذلك جاز: زيد حيث عبد الله قائم, من غير عائد. ولا يجوز في (أنى) وأختيها أن توصل كما جاز في (من) وأختيها, [لأنه] لا يصلح أن يخبر عنها من أجل أنها ظروف غير متمكنة, وإنما جاز أن توصل (من) وأختيها, /127 أللحاجة إلى الإخبار عنها بما معتمد المعنى فيه, تدل عليه الجملة. والأصل في مهما: (ما) دخلت عليها (ما) كما تدخل على سائر أخواتها, واستقبح التكرير في: ما ما, فأبدلت الألف هاء, لأنها من مخرج الألف, وحسن اللفظ بها, وهذا مذهب الخليل, ولا يجوز عندي غيره, لما بينا من العلة, لتجري على قياس أخواتها من نحو {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ} , وقوله: {أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.

وقد أجاز سيبويه أن تكون (مه) ضم إليها: ما. والفرق بين: على أي حال تكون أكن, وبين: كيف تكن أكن, حتى لم يجز هذا, وجاز ذاك, أن في (أي) إبهامًا في تفصيل يحتاج إليه في الجزاء, وليس كذلك في: كيف. والفرق بين: آتيك إذا احمر البسر, وبينه بإن, أنه بإذا موجب كأنه قيل: آتيك في احمرار البسر, وهو بإن معلق, وليس يحسن التعليق في هذا, لأنه وقت كائن لا محالة. وقال ذو الرمة: تصغي إذا شدها بالرحل جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب فهذا شاهد في أنه لم يعمل: إذا ما. وقال قيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب

فهذا أعمل (إذا) ضرورة. وقال الفرزدق: ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارًا إذا خمدت نيرانهم تقد فهذا ضرورة, وكذلك قول بعض السلوليين: إذا لم تزل في كل دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينيك يسجم فكل هذا ضرورة. وقال كعب بن زهير: [و] إذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطًا مذعورا فهذا حسن جيد, لأن المعنى: في أي وقت شئنا بعثنا, فلم يجاز بإذا. والجازم /127 ب في: إن تأتني آتك, هو الحرف العامل, وهو (إن) , وقد قيل: إن العامل في الجواب هو: إن تأتني, والأول أقيس على طريقة عمل الفعل في الفاعل والمفعول, وعمل (إن) في الاسم والخبر, وذلك أن (إن) التي للجزاء هي أوجبت هذا المعنى من الشروط والجواب, فهي أحق بالعمل. و(إن) هي أم الجزاء, لأن كل ما يجزى به [فقد يجوز فيه الخروج عن الجزاء إلا

(إن) , مع أنها تضمن كل اسم يجازى به]. وجواب الجزاء بالفعل أو الفاء, ولا يصلح بالواو, ولا ثم, لأن (ثم) تدل على المهلة بين الثاني والأول, والواو للجمع, والذي يوافق معنى الجواب هو الفاء, ويوضح ذلك قول القائل: لم أغث, فيقال له: فقد أتاك الغوث, ولا يصلح في هذا الواو, ولا ثم. ومن هذا الباب أيضًا مسائل: وما جواب (إن) في: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}؟ ولم جاز أن تكون (إذا) جوابًا؟ ولم أطلق أن الجواب إنما هو بالفعل أو الفاء؟ وهل ذلك لأنه الأصل في الباب, وإنما تقع (إذا) معاقبة للفاء على جهة الشبه, لأنها لا تكون إلا معلقة بما قبلها؟ وما الفرق بين (قنطوا) في الجواب, وبين {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}؟ وما نظيره من قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} في

موضع: أم صمتم؟ ولم جاز {أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} في موضع: أم صمتم؟ وهلا كان الأصل أحق به؟ وهل ذلك لأنه أكثر في الفائدة مع دلالته على: أم صمتم, من جهة أنه وقع موقعه, ودل على: إنكم أصمتم صمتًا متقضيا أو منفصلا فالحال واحدة؟ ولم قبح إدخال الفاء على {إِذَا هُمْ} في [هذا] الموضع؟ وهل ذلك لأنها وقعت موقع الفاء على المعاقبة؟ وهل لو كان إدخال الفاء على (إذا) حسنًا, لكان إسقاط الفاء قبيحًا؟ ولم كان الأصل في الذي يعقد الجواب بالأول على الحرف, حتى صارت (إذا) إنما وقعت موقع الحرف؟ وهل ذلك لأن الذي يعقد /128 أالثاني بالأول إنما هو للحروف كحروف العطف, وغيرها من نحو الاستثناء, وجواب القسم؟ وما حكم: إن تأتني أنا كريم؟ ولم لا يجوز مثل هذا إلا في الضرورة؟ وما في أنه كلام يقوم بنفسه مما يخرجه عن حد الجواب؟ وهل ذلك لأن الجواب يحتاج إلى علامة تؤذن بأنه على معنى الجواب, ولذلك وجب في جواب السؤال أن يكون مطابقًا [له] في الإعراب من قولك: زيدًا, إذا قال: من ضربت؟ و (صالحًا)

إذا قال: كيف أصبحت؟ وما الشاهد في قول حسان بن ثابت: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان ولم جاز حذف الفاء في الضرورة؟ وهل ذلك لأن الجملة وقعت موقع الجواب, فلم يشكل أنه جواب, وإن ضعف فيه البيان, لاقتضائه علامة الجواب؟ وقول الأسدي: بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم؟ وما حكم: إن تأتني لأفعلن؟ ولم قبح هذا, ولم يقبح: إن أتيتني لأفعلن, ولا:

إن تأتني إذا أنا أفعل؟ وهل ذلك لأن (لأفعلن) يجيء مبتدأ لم يعمل فيه عامل, وليس كذلك (إذا) , لأنها لا تكون إلا مبنية على عامل, وقبح: إن تأتني لأفعلن, لخروجه عن مشاكلة الثاني للأول مع إمكان ذلك, ولم يلزم مثل ذلك في الجواب بالفاء إذا قلت: إن تأتني فأنت كريم؟ وما حكم: إن أتيتني لأكرمنك, وإن لم تأتني لأغمنك؟ ولم قدره على: لئن أتيتني لأكرمنك, ولئن لم تأتني لأغمنك؟ وهل ذلك لأن اللام تقتضي أن يكون جوابًا لقسم قد تقدم, واللام الأولى خلف من القسم, ولا تكون الثانية خلفًا من القسم, لأنها وقعت موقع الجواب الذي يقتضي تقدم القسم فيه, والمعنى: والله لئن أتيتني لأكرمنك, فاللام الثانية هي الجواب, واللام الأولى مؤذنة بالجواب, ولو تركت لجاز؟ ولم قبح: لئن تفعل لأفعلن؟ ولم قبح: آتيك إن تأتني, ولم /128 ب يقبح: آتيك إن أتيتني؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ

الْخَاسِرِينَ}. وقوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؟ ولم كان هذا هو الحسن في الكلام؟ وهل يجوز: إن أتيتني آتيك, على: آتيك إن أتيتني؟ وما الخلاف فيه؟ ولم أجازه سيبويه في الضرورة, ولم يجزه أبو العباس, ولا ابن السراج على هذا الوجه؟ وما الشاهد في قول زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرام؟ ولم قبح: إن تأتني آتيك؟ وما الشاهد في قول جرير: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع وما الخلاف فيه؟

وقول الآخر: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب؟ ولم قدره على قوله: المرء ذئب إن يلق الرشا, ولم يجزه على هذا الوجه أبو العباس؟ وقول ذي الرمة: وأني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر

أي: وأني ناظر متى أشرف؟ وهل يجوز: إن أتيتني آتك, وإن لم تأتني أجزك؟ ولم جاز مع خروجه عن المشاكلة؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَاَ}؟ فلم حسن هذا, وضعف: إن أتيتني آتك؟ وهل ذلك لطول الكلام, مع أن المعنى: من يرد الحياة الدنيا؟ وقول الفرزدق: دست رسولا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورًا ذات توغير وقول الأسود بن يعفر: ألا هل لهذا الدهر من متعلل ... عن الناس مهما شاء بالناس يفعل؟

/129 أوما حكم: إن تأتني فأكرمك؟ ولم لا يجوز بالنصب على الجواب بالفاء؟ ولم لابد أن يكون مبنيًا على مبتدأ, بتقدير: فأنا أكرمك؟ وما الشاهد في: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}؟ وما تقدير المحذوف فيه؟ وما الشاهد في: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} , وفي {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا}. الجواب: جواب (إن) في: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} , (إذا) على التشبيه بالفاء من جهة أنها لا تكون إلا معلقة بما قبله مع صلاح معناها في هذا الموضع, إذ هو بمنزلة (يقنطوا) على جهة المفاجأة للقنوط, لا عن تقدمة, ولا روية, فقد دلت (إذا) على معنى جواب الجزاء بهذا الوجه المخصوص.

ولا يصلح أن تجتمع الفاء مع (إذا) في هذا الموضع, لأنها تغني عنها, وقد وقعت موقعها, فلم يصلح مع تقدير المعاقبة فيه في الموقع الواحد أن تجتمع معها, وكل خلف من محذوف فهو على وجهين: أحدهما: ما يغني عنه على وجه دون وجه, فهذا يصلح أن يجتمع معه على أحد الوجهين. وخلف آخر يغني عن المحذوف الغنى التام, فلا يصلح أن يجتمع معه, لما في ذلك من الإبهام أنه ليس يغني عنه الغنى التام, ولذلك قال سيبويه: لو كان يصلح ذكر الفاء هاهنا كان حذفها قبيحًا على قياس: إن تأتني أنت كريم, فحذفها هاهنا قبيح, والوجه: إن تأتني فأنت كريم. ونظير ذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} , فالأصل: أم صمتم, لما تقتضيه المعادلة في: أدعوتم أم صمتم, إلا أنه حسن: {أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} , لأنه أكثر في الفائدة, إذ يدل على: أم صمتم, بوقوعه موقعه, وعلى اتصال ذلك بالحال من جهة صيغة هذا الذي وقع موقعه, فهو نظير {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} , في أنه قد وقع موقع الأصل, لأنه أكثر في الفائدة. والأصل في الذي يعقد الجواب /129 ب بالأول أن يكون حرفًا على قياس ذلك في حروف العطف, وجواب القسم, وحرف الاستثناء, وما جرى هذا المجرى, لأن الحروف أدوات يحتاج إليها لغيرها من الكلام, ولذلك كان معناها في

غيرها, وكل جواب فلابد له من علامة تؤدي معنى الجواب فيه, وإلا كان بمنزلة الابتداء بالإخبار من غير تعليق له بأول الكلام. وقال حسانٌ بن ثابت: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان فهذا ضرورة على حذف الفاء من قوله: فالله يشكرها, وإنما جاز في الضرورة على التشبيه بما يحذف في الكلام مما يكون عليه دليل, فدليله هاهنا وقوعه موقع الجواب, لأنه يفهم منه: يشكرها الله, والتقدير: فالله يشكرها. وقال الأسدي: بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم كأنه قال: فهو ظالم. وتقول: إن تأتني لأفعلن, فهذا يقبح, لجزم الأول من غير أن يجزم الثاني, مع إمكان المشاكلة بينهما في: إن أتيتني لأفعلن. وليس منزلة (لأفعلن) كمنزلة: إذا أنا أفعل, لأن (إذا) بمنزلة الفاء في التعليق, و (لأفعلن) يجيء مبتدأ لم يعمل فيه عامل, وليس كذلك: إذا.

وكذلك يقبح: إن تأتني لأكرمنك, لخروجه عن مشاكلة الثاني فيه الأول, مع إمكان ذلك. وتقول: إن أتيتني لأكرمنك, فتقديره: لئن أتيتني لأكرمنك, حتى تكون اللام جوابًا للقسم, واللام الأولى خلف من القسم, وإنما اختار هذا التمثيل ليدل على قسم مبهم كدلالة اللام على ذلك. ولو قلت: والله إن أتيتني لأكرمنك, جاز, وكذلك: والله لئن أتيتني لأكرمنك, على أن اللام الأولى مؤذنة بجواب القسم. ويقبح: لئن تفعل لأفعلن, لخروجه عن المشاكلة /130 أالممكنة, وكذلك: آتيك إن تأتني, ويحسن: آتيك إن أتيتني. وفي التنزيل: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} , وفيه: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} , فجاء في الأولى والثانية على المشاكلة. وتقول: إن أتيتني آتيك, فيجوز على وجهين: حذف الفاء, بتقدير: فأنا آتيك, فهذا جائز بإجماع. والوجه الآخر: على التقديم في آتيك إن أتيتني, فهذا يجوز عند سيبويه,

ولا يجوز عند أبي العباس, وابن السراج, لأن الكلام إذا وقع في موقعه, لم يجز أن ينوى به غير موقعه. والذي عندي في ذلك أن حذف الفاء أقوى, لتوجهه في مواضع قد جاء في الشعر الفصيح لا يصلح فيه التقديم. والذي ذكره سيبويه يجوز, لأن الكلام يقتضيه في مثل قوله: والمرء ذئب عند الرشا إن يلقها, وتكون إجازته في الموضع الذي لم يتقدم ما يقتضيه توطئة لهذا الموقع, مع أنه إذا كان لابد من تغيير بحذف أن ينوى في الفعل التقديم, لتستقيم بينة الكلام كما لابد من أن ينوى حذف الفاء, ليستقيم الكلام, ولو استقام من غير حذف, ولا تقديم, لم يجز واحد منهما, فبازى قولهم: «ليس يجوز أن ينوى بالكلام الذي وقع موقعه غير موقعه». ليس يجوز أيضًا أن ينوى بالكلام حذف حرف منه إذا كان تامًا, فإن قال: ليس بتام إذا احتاج إلى الحرف, قيل له: وليس في موقعه إذا اقتضى الرفع التقديم فيه, ولا هو جواب, وإن دل على معنى الجواب كما يدل: آتيك إن أتيتني.

وقال زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم أي: ويقول إن أتاه خليل يوم مسألة. وقال جرير: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع /130 ب أي: إنك تصرع إن يصرع أخوك. وقال الآخر: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب أي: والمرء ذئب عند الرشا. وقال ذو الرمة: وأني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر أي: فأنا ناظر, وإن شئت: وأني ناظر متى أشرف. وتقول: أن أتيتني آتك, وإن لم تأتني أجزك, فهذا يضعف قليلًا, لخروجه عن

المشاكلة, إلا أنه أقوى من جزم الأول, ورفع الثاني, ومن ترك جزمه في: إن تأتني آتيك, وإن تأتني لآتينك من قبل أن جزم الثاني يحمل فيه على تأويل الأول, إذ تأويله الجزم, ولفظه على غير الجزم, وليس كذلك إذا لم يجزم الثاني, وجزم الأول, لأنه ليس له تأويل يحمل عليه غير لفظه, ونظيره: يا زيد والحارث, والحارث, النصب على التأويل, والرفع على اللفظ, فأما: يا عبد الله والحارث, فليس فيه إلا النصب, لأنه ليس له تأويل يحمل عليه. وفي التنزيل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} , وهذا حسن, لحمله على التأويل مع طول الكلام الذي لا يقتضي المشاكلة كما يقتضيه إذا قرب وتقابل. وقال الفرزدق: دست رسولًا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورًا ذات توغير فهذا لحمل الثاني على التأويل. وكذلك قول الأسود بن يعفر:

ألا هل لهذا الدهر من متعلل ... عن الناس مهما شاء بالناس يفعل فهذا على ذلك القياس, إلا أن الكلام لم يطل فيه. وتقول: إن تأتني فأكرمك, ولا يجوز بالنصب على الجواب بالفاء, لأن الفاء في الجزاء وصلة إلى الجواب بالابتداء والخبر, فلابد من الرفع, لأن المبتدأ مقدر قبل الفعل, ولو كان المعنى على الجواب /133 أبالفعل لاستغني عن الفاء. وفي التنزيل: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} , وتقديره: فهو ينتقم الله منه, وفيه: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [على: فأنا أمتعه قليلا] , وفيه: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} , [أي: فهو لا يخاف بخسًا ولا رهقًا].

باب الأسماء التي تصلح فيها الصلة والجزاء

باب الأسماء التي تصلح فيها الصلة والجزاء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الأسماء التي يصلح فيها الصلة والجزاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الأسماء التي يصلح فيها الصلة والجزاء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الصلة والجزاء فيما يمتنع من الاستفهام؟ وهل ذلك لأن تمكنه في الصلة والجزاء يقتضي جواز الاستفهام به؟ وما الأسماء التي يصلح فيها الصلة والجزاء؟ ولم جاز في: من, وما, وأي؟ وهل ذلك لقوتها بأنها على طريق الجنس مع الإبهام الذي يصلح فيه تضمن حرف الجزاء, فـ (من) نظيرة (ما) إلا أنها تدل على ما يعقل, و (أي) نظيرة (ما) إلا أنها تنفصل بخواص على ما بينا؟ وما حكم: ما تقول أقول؟ ولم جاز فيه: ما تقل أقل, وما تقول أقول, ومن يأتيني آتيه, ومن يأتني آته, وأيها تشاء أعطيك, وأيها تشأ أعطك؟ ولم وجب

أن أحدهما وعد مطلق, والآخر وعد معلق؟ وما الشاهد في قول الفرزدق: ومن يميل أمال السيف ذروته ... حيث التقى من حفافي رأسه الشعر وما حكم: آتي من يأتيني, وأقول ما تقول, وأعطيك أيها تشاء؟ ولم لا يجوز في مثل هذا الجزاء إلا على قبح؟ وما حكم: آتي من أتاني؟ ولم حسن في هذا الصلة والجزاء؟ وهل ذلك لأن (من) غير عاملة في: أتاني؟ ولم جاز في الشعر: آتي من يأتني؟ وما العامل في: من؟ وما الشاهد في قول: [الهذلي]: فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطبعة من يأته لا يضيرها؟

/131 ب وما الخلاف فيه؟ ولم أجازه على: لا يضيرها من يأتها, وعلى حذف الفاء؟ وما حكم: أقول مهما تقل, وأكون حيثما تكن [وأكون أين تكن] , وآتيك متى تأتني, وتلتبس بها أنى تأتها؟ ولم لا يجوز مثل هذا إلا في الضرورة؟ ولم امتنع رفع الفعل على الصلة؟ وهل ذلك لأنها ظروف غير متمكنة, إلا (مهما) , فإنها غيرت لتلزم الجزاء؟

ولم لا يجوز: مهما تصنع قبيح, ولا: في الكتاب مهما تقول, كما يجوز: ما تصنع قبيح, وفي الكتاب ما تقول؟ الجواب: الذي يجوز في الأسماء التي يصلح فيها الصلة والجزاء إذا وقعت موقع المفرد الذي يعمل فيه العامل على تقدير (الذي) أن تكون موصولة, وإذا وقعت موقع (إن) وهو الموقع الذي لا يعمل فيه ما قبله أن تكون [جزاء]. ولا يجوز فيما صلح فيه الصلة والجزاء أن يمتنع من الاستفهام, لأنه إذا قوي على الأمرين بما فيه من معنى الجنس والإبهام الذي يصلح فيه تقدير (إن) اقتضى أن يصلح للاستفهام. والأسماء الذي [يصلح] فيها الصلة والجزاء: من, وما, وأي, لأنها على طريقة (ما) في الجنس, إلا أن (من) تدل على ما يعقل, و (أي) لتفصيل ما أجمملته (ما) , وهي مبهمة الإبهام الذي يحتمل تقدير (إن) , وهو إبهام الحروف التي لا تقوم بنفسها في البيان عن معناها, فإبهامها في الطبقة التي تلي الحرف,

وليس كذلك كل إبهام, لأن من الأسماء ما يستبهم بعمومه, فلا يجري مجرى الحرف, لأنه في طبقة تبعد من استبهام الحرف. والأصل في الإبهام أن منه ما لا يظهر به شيء البتة, ولا يتخيل كقولك: جع, ومنه ما يتخيل كقولك: نعم, فيما يقع للجواب, ومنه ما يظهر ظهورًا ضعيفًا كقولك: الذي في الدار, ومنه ما يظهر أشد من هذا الظهور كقولك: أفضل, من غير أن تذكر: من كذا, فتجده كالناقص, ومنه ما يظهر على هذا النحو إلا أنه لا يقتضي متممًا كقولك: شيء, ومكان. وكل هذه التي ذكرنا مبهمات إلا أن بعضها أشد /132 أإبهامًا من بعض, فمن, وما وأي, مبهمة إبهامًا يصلح أن يضمر معه (إن) , لأن إبهامها في المرتبة التي تلي الحرف. وتقول: من يأتيني آتيه على تقدير: الذي يأتيني آتيه. و: من يأتني آته على تقدير: إن يأتني إنسان آته, فيصلح في هذا الموضع الصلة والجزاء. وكذلك: ما تقول أقول, على تقدير: الذي تقول أقول, و: ما تقل أقل, على تقدير: إن تقل شيئًا أقل. وكذلك: أيها تشاء أعطيك, على معنى: الذي تشاء أعطيك, وتنصب (أيا) بأعطيك, ويجوز: أيها تشأ أعطك, على الجزاء, وتقديره: إن تشأ شيئًا أعطك, فتنصب (أيها) بالفعل الذي يليه, ولا يجوز نصبه بالجواب, لئلا يختلط متعلق الشرط بمتعلق الجواب.

وقال الفرزدق: ومن يميل أمال السيف ذروته ... حيث التقى من حفافي رأسه الشعر فهذا على تقدير: والذي يميل أمال السيف ذروته. فلو قلت: من يأتيني غفر الله له, جاز, ولا يصلح في مثل هذا الجزاء, لو قلت: من يأتني غفر الله له, على الدعاء, لم يجز إلا أن تقول: من يأتني فالله غفر له, أو: فغفر له الله. وتقول: آتي من يأتيني, وأقول ما ت قول, وأعطيك أيها تشاء, فترفع على الصلاة, ولا يجوز الجزم في مثل هذا, لتقديم العامل, إلا في الضرورة, كقولك: آتيك إن تأتني, فهذا يقبح, ولا يجوز إلا في الضرورة. ولو قلت: آتي من أتاني, لحسن في الصلاة والجزاء, إلا أنه في الصلة تكون (من) في موضع نصب, كأنك قلت: آتي الذي أتاني, وتكون في الجزاء في موضع رفع, كأنك قلت: آتي إن أتاني أحد. وقال الهذلي:

فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطبقة من يأتها لا يضيرها فهذا ضرورة على حذف الفاء, كأنه قال: فهو لا يضيرها, ويجوز على التقديم والتأخير, بتقدير: إنها مطبعة لا يضيرها من يأتها, عند سيبويه, ولا يجوز ذلك عند أبي العباس, وابن السراج, ولكن حذف الفاء جائز فيه بإجماع. /132 ب وتقول: أقول مهما تقل, وأكون حيثما تكن, وأكون أين تكن, وآتيك متى تأتني, وتلتبس بها أنى تأتها, ولا يجوز مثل هذا إلا في الضرورة, ولا سبيل إلى الصلة للعلة التي بينا قبل من أنها ظروف غير متمكنة لا يجوز أن يخبر عنه, وأن (مهما) غيرت لتلزم الجزاء. وتقول: ما تصنع قبيح, وفي الكتاب ما تقول, ولا يجوز أن تقع (مهما) هذا الموقع, لأنها إذا كانت بمعنى (الذي) لم يحتج إلى (ما) لتقويها على العمل, إذ كانت غير عاملة, فلا تصلح (مهما) في هذا الموقع, لهذه العلة.

باب الأسماء التي يجازى بها الكائنة بمنزلة: الذي

باب الأسماء التي يجازى بها الكائنة بمنزلة: الذي الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الأسماء التي يجازى بها الكائنة بمنزلة الذي, مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الاسم الذي يجازى به الكائن بمنزلة: الذي؟ وما الذي لا يجوز, ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يعمل فيه ما قبله إلا وهو بمنزلة: الذي؟ وهل ذلك لأنه لا يدخل عامل الاسم على (إن) التي للجزاء, لأنها مع ما بعدها بمنزلة الجملة التي هي فعل وفاعل, ولا يدخل عامل الاسم على الفعل, وإن كانت للاستفهام, امتنعت لأن له صدر الكلام؟ وما حكم: إن من يأتيني آتيه, وكان من يأتيني آتيه, وليس من يأتيني آتيه؟ ولم وجب ذهاب الجزاء من هاهنا؟ وهل ذهابه مع: ماو ومن, وأي, كذهابه مع (إن) , لأنها مقدرة مع الأسماء التي يجازى بها؟

ولم لا يجوز: كان متى يأتيني زيد آتيه؟ وهل ذلك لأن (متى) وأخواتها لا توصل؟ ولم جاز: إنه من يأتنا نأته, ولم يجز: إن من يأتنا نأته؟ وهل ذلك لأن عامل الاسم يعمل في الجملة إذا وقعت موقع الخبر, ولا يعمل فيها إذا وقعت موقع المخبر عنه, لأن موقع الخبر للفائدة, وموقع المخبر عنه للبيان؟ وما الشاهد في قوله /133 أجل ثناؤه: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ}. ولم جاز: كنت من يأتني آته, ولم يجز: كان من يأتني آته, إلا على الإضمار في: كان, فتقول: كان من يأته يعطه, وليس من يأته يحببه؟ ولم جاز في الشعر: إن من يأتني آته؟ وما الشاهد في قول الأعشى:

إن من لام في بني بنت حسان ألمه وأعصه في الخطوب وقول أمية بن أبي الصلت: ولكن من لا يلق أمرًا ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل؟ ولم وجهه على إضمار الهاء في: إنه, ولكنه؟ وما الشاهد في قول الراعي: فلو أن حق اليوم منكم إقامة ... وإن كان سرح قد مضى فتسرعا

ولم كان هذا الشاهد أبين في أنه لابد من إضمار الهاء؟ ولم قدره على إضمار الهاء, ولم يقدره على حذف: ما؟ وهل ذلك لأن إضمار المجهول أغلب على هذا الباب, وأجرى فيه, لأنه يجوز مع (ما) إضمار الهاء, ولا يصلح معها إضمار (ما) , ويصلح الإضمار في: كان, وليس, ولا يصلح حذف: ما؟ وهل يجوز في الكلام: قد علمت أن من يأتني آته؟ ولم جاز؟ ولم لا تخفف (أن) إلا وفيها إضمار الهاء؟ وهل يقوي ذلك أنها لا تعمل مخففة في اللفظ؟ وما الشاهد في قول الشاعر: أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص؟

ولم جاز في: كان, وليس, إضمار الغائب من غير ذكر علامة له, ولم يجز إضمار المخاطب من غير ذكر علامة له؟ وهل ذلك لأن الغائب قد جرى ذكره فأغنى عن إظهار ذكر العلامة له, وليس كذلك المخاطب والمتكلم؟ ولم لا يجوز: كان من يأتك تعطه, بمعنى: كنت, و: ليس من يأتك تعطه, بمعنى: لست, على الحذف؟ وهل ذلك لأن الفاعل لا يحذف؟ وما الشاهد في قول الأعشى: /133 ب في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل؟ ولم لابد في (أن) من ضمير؟ وهلا كانت بمنزلة (إن) في جواز ترك الإضمار معها؟

وما الشاهد في قوله جل وعز: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} , و {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى}؟ ولم لا يقوى: قد علمت أن تقول ذاك, كما يقوى: قد علمت أن لا تقول ذاك؟ ولم ضعف: قد علمت أن عبد الله منطلق؟ وهو ذلك لذهاب العوض؟ الجواب: الذي يجوز في الاسم الذي يجازى به الكائن بمنزلة (الذي) إجراؤه على أنه إذا وقع موقع المخبر عنه, ودخل عليه عامل الاسم على تقدير (الذي). ولا يجوز أن يجرى في هذا الموقع على معنى الجزاء, لأنه موقع للاسم المذكور للبيان, ولا يجوز أن يعمل فيه عامل الاسم, لأنه قد وقع موقع (إن) التي

للجزاء, وعامل الاسم لا يدخل على عامل الفعل إذا كان لا يدخل على الفعل, لأن معناه في الاسم خاصة, فلا يدخل على الفعل, فسبيل (إن) مع الفعل كسبيل (لم) معه في أن عامل الاسم لا يدخل عليه, لأنه بمنزلة الدخول على الفعل, وعلى الجملة التي هي فعل وفاعل. ولا يدخل عليها إذا كانت استفهامًا, لأن للاستفهام صدر الكلام, فالجزاء والاستفهام يمتنع كل واحد منهما أن يبني على عامل الاسم الذي يخرج الاستفهام عن صدر الكلام, ويخرج الجزاء عن أن يكون للفائدة. ويصلح أن يقع الجزاء موقع الخبر, ويعمل فيه عامل الاسم في ذلك الموقع, ولا يعمل فيه في موقع الاسم المخبر عنه, لأن موقع الخبر للفائدة, وموقع المخبر عنه للبيان, والموقع الأول هو موقع المخبر عنه, والموقع الذي هو للبيان. وتقول: إن من يأتيني آتيه, وكان من يأتيني آتيه, وليس من يأتيني آتيه, فيذهب الجزاء في كل هذا, وكذلك في: ما, وأي, كذهابه مع (إن) , لأنها مقدرة مع الأسماء التي يجازى بها. والأسماء التي /134 أيجازى بها على وجهين: منها ما يصلح أن يخرج إلى معنى: الذي, ومنها ما لا يصلح.

فما, ومن, وأي, يصلح أن تخرج إلى معنى: الذي, لأنها على طريقة الجنس, يجوز أن يخبر عنها. ومتى, وأين, وأنى, وحيثما, وإذا ما, وإذا ما, لا يصلح إن تخرج إلى معنى: الذي, لأنها ظروف غير متمكنة, والظرف الذي ليس بمتمكن لا يجوز الإخبار عنه. فأما (مهما) فهي مغيرة بما يقتضيه الجزاء, فلم يجز أن تخرج عنه إلى معنى: الذي ولا الاستفهام إلا بأن ترد إلى أصلها, وهو: ما. وتقول: إنه من يأتنا نأته, فيجوز الجزاء في هذا الموضع, لأنه في موضع الخبر. ولا يجوز إن من يأتنا نأته لأنه في موقع الاسم. وفي التنزيل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} , فهذا شاهد في أنه يجوز الجزاء في موقع الخبر. وتقول: كنت من يأتني آته, ولا يجوز: كان من يأتني آته, من غير إضمار في: كان, ولكن تقول: كان من يأته يعطه, على الإضمار في: كان, وليس من

يأته يحببه, على الإضمار في: ليس. وقال الأعشى: إن من لام في بني بنت حسان ألمه وأعصه في الخطوب فهذا على إضمار الهاء, بتقدير: إنه من لام, ولا يجوز إلا في الضرورة, وإنما جاز فيها تشبيهًا بما يحذف [من الكلام] لكثرة الاستعمال إلى حد لا يخل به الحذف. وقال أمية بن أبي الصلت: ولكن من لا يلق أمرًا ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل فهذا على الإضمار, بتقدير: ولكنه. وقال الراعي: فلو أن حق اليوم منكم إقامة ... وإن كان سرح قد مضى فتسرعا فهذا أبين في أنه لابد من الإضمار في (أن) لدخولها على الفعل في اللفظ, ولا يجوز تقديره على حذف (ما) , لأن الهاء أغلب على الباب, وأجرى في النظائر, إذا كان يصلح مع: ما, وليس, وكان. ويجوز في الكلام: قد علمت أن من يأتني آته /124 ب لأن (أن) لا تخفف

إلا على إضمار الهاء, وهي مع ذلك غير عاملة في اللفظ, فوقع: من يأتني آته, موقع الخبر, وإنما لم تخفف إلا على إضمار الهاء, لما تقتضيه حالها من تغيير الكلام إلى معنى المصدر مع التأكيد الذي فيها, فلم يجز أن تلغى من العمل كما يلغى ما هو للتأكيد فقط, فلذلك قدر معها الهاء, لئلا يقع بها الإخلال في الحذف والإلغاء من العمل, مع ما يقتضى لها أن تعمل في اللفظ كما هي عاملة في المعنى بتغييرها الكلام إلى المصدر, وليس كذلك (إن) المخففة, لأن دخولها كخروجه إلا بمقدار التأكيد, فصلح أن تلغى في التخفيف, ولم يصلح في: أن. وقال الشاعر: أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صحابه حريص فهذا على الإضمار, بتقدير: وأعلم أنه كلانا. ويجوز في: كان, وليس, إضمار الغائب من غير ذكر علامة له, لأن تقدم الذكر قد أغنى عن إظهار علامة, وليس كذلك المخاطب, والمتكلم, ولا يجوز حذف علامة المخاطب, أو المتكلم, لأن الفاعل لا يحذف, فليس يجوز: كان من تأته تعطه, على معنى: كنت من تأته تعطه. وقال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل فهذا لا يجوز إلا على: أنه هالك, لما بينا من لزوم الإضمار في (أن) , وإن دخلت على الاسم, وهو يضعف قليلًا, لذهاب العروض, وهو مع الفعل أضعف, لأنه

ذهب العوض, وولي مالم يكن يصلح أن يليه في الأصل. وفي التنزيل: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} , و {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} , فهذا حسن للعوض. ولا يحسن: قد علمت أن يقول ذاك, لسقوط العوض, فهو في دون منزلة: قد علمت أن لا يقول ذاك, وأقوى منه: قد علمت أن عبد الله منطلق, لأنه وإن ذهب العوض, فقد دخل على /135 أالاسم الذي حقه أن يدخل عليه في الأصل.

باب الحروف التي يمتنع بعدها الجزاء

باب الحروف التي يمتنع بعدها الجزاء الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الحروف التي يمتنع بعدها الجزاء وليست عاملة, مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الحروف التي يمتنع بعدها الجزاء مع أنها ليست عاملة؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز امتناع الجزاء بعد كل حرف يطلب الاسم؟ وهل ذلك لأنه قد يكون بمنزلة الابتداء في طلب الاسم, ولا يمتنع فيه حرف الجزاء؟ ولم وجب أن كل موضع تمتنع منه (إن) التي للجزاء فإنه تمتنع منه الأسماء التي يجازى بها؟ ولم امتنعت (إن) بعد: إذ, وإذا؟ وهل ذلك لأنها تطلب الإضافة إلى ما يبينها, لشدة إبهامها, و (إن) تعلق الكلام تعليقًا يخرجه من أن يبين بيان المضاف إليه؟ .

ولم امتنعت (إن) بعد: ما؟ وهل ذلك لأن لها صدر الكلام كما للعامل, مع شبهها بليس التي لا تصلح بعدها: إن؟ وما حكم: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه, وما من يأتينا نأتيه, وما من يأتينا فنحن نأتيه؟ ولم صارت (إذ) في هذا بمنزلة (إن) وعوامل الأسماء؟ وهل ذلك لأنها تطلب ما هو للبيان كما تطلب عوامل الأسماء, لأن المضاف إليه إنما يذكر للبيان, وقد نقص بيان (إن) عن منزلة الفعل المطلق, فقبح في هذا الموضع؟ ولم جاز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف, فتقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته؟ وهل ذلك لأنها غير عاملة؟

وما الشاهد في قول لبيد: على حين من تلبث عليه ذنوبه ... يرث شربه إذ في المقام تدابر وهل يجوز: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك, في الشعر؟ ولم جاز؟ وما حكم: أتذكر /135 ب إذ نحن من يأتنا نأته؟ ولم حسن الجزاء بعد (نحن) , ولم يحسن بعد: حين, ولا بعد: إذ؟ وما نظير ذلك من فضل (نحن) بين: إذ, ومن, كما فصل الاسم بين: كان, ومن؟ وما حكم: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه؟ ولم جاز بالجزم في الكلام مع (إذا) التي للمفاجأة, ولم يجز مع (إذا) التي لغير المفاجأة؟ وما حكم: لا من يأتك تعطه, ولا من يعطك تأته؟ ولم جاز الجزاء بعد: لا, ولم يجز بعد: ما؟ وهل ذلك لأن (لا) تقع في حشو الكلام, فلا تمنع العامل أن

يعمل فيما بعدها, حتى كأنها ليست في الكلام, فلم تمنع هاهنا كما لم تمنع هناك؟ وما الشاهد في قول ابن مقبل: وقدر ككف القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من يأتها يتدسم وهل يجوز: لا إن أتيناك أعطيتنا, ولا إن قعدنا عنك عرضت علينا وما حكم: ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك؟ ولم حسن الجزاء هاهنا؟ وهل ذلك لأنه موضع ابتداء من غير مانع كإذا التي للمفاجأة؟ وما الشاهد في قول طرفة: ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد

ولم حمله على الإضمار, بتقدير: ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد, وكذلك حمل (إذا) التي للمفاجأة كقولك: مررت برجل توهمته بخيلًا فإذا رجل كريم, أي: وإذا هو؟ وهل ذلك ليجمع بينه وبين الاسم في العوامل من نحو: إن, وأخواتها؟ وما الشاهد في قول العجير: وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضر أنفع؟ ولم أرفع (أنفع) مع الجزم في: أملك؟ ولم جاز رفع (أملك) مع امتناع الصلة؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ}؟ ولم جاز الجزاء بعد: أما؟ وما جواب: إن؟ ولم حمل الفاء

/136 أعلى أنها جواب: أما, وجاز ترك جواب: إن, لأنه لم يجزم بها, كقولك: أنت ظالم إن فعلت؟ ولم حمله الأخفش على أنه جواب لهما جميعًا, ولم يجز ذلك إذا جزم, من جهة أنه لا يخلص الجواب بالجزء, هو مع الجزم يقتضي جوابًا مخلصًا, لأنه في موضع الفعل المجزوم؟ ولم خالف في هذا الباب أبو العباس, والزيادي فأجازا فيه الجزاء؟ [الجواب]: الذي يجوز في الحروف الذي يمتنع بعدها الجزاء إجراؤها على امتناع الاسم الذي يجازى به كامتناع (إن) التي للجزاء, لأن تقديرها أن تكون (إن) معها, فإذا حذفت فهي على ذلك التقدير. ولا يجوز امتناع الجزاء بعد كل حرف يطلب الاسم, لأنه قد يكون منها ما هو

نظير الابتداء في طلب الاسم, ويصلح أن يقع بعده: إن. والحروف التي يمتنع بعدها الجزاء في هذا الباب على وجهين: أحدهما: ما يطلب البيان بالإضافة, فلا يصلح فيه الجزاء, لأنه مبهم, في أقصى مراتب الإبهام, فلما كان الأصل في المضاف إليه إنما هو بما يذكر للبيان, وهو الاسم ثم جاز أن يقع موقع الاسم الفعل الواجب على الإضافة اللفظية, فاحتمل ذلك, لما في الواجب من البيان, وإن كان في الأصل إنما يذكر للفائدة, وفيه طرف من البيان, احتمل ذلك, لهذه العلة, فلما جاءت (إن) التي للجزاء, باعدته عن البيان إلى الإبهام لتعليق الفعل في الكلام, فلم يحتمل أن يقع هذا الموقع, لخروجه إلى الإبهام في موضع يطلب البيان, وذلك في: إذا, وإذا, وحين. والقسم الآخر: (ما) النافية, لأن لها صدر الكلام كما للعامل, وهي تشبه (ليس) في أنها نفي ما في الحال, فامتنع حرف الجزاء منها كما يمتنع في:

ليس. وتقول: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه, وما من يأتينا فنحن نأتيه, فتجري (من) بمعنى: الذي, لامتناع الجزاء في هذا الموضع. ويجوز في الشعر أن يجازى /136 ب بعد هذه الحروف, كقولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته, لأنها غير عاملة, وهي مشبهة للموصول في طلب ما هو للبيان, إلا أن الموصول يطلب البيان بالجمل, والمضاف يطلب البيان بالمفرد الذي هو في الأصل الذي يقتضيه الحرف, ولم يجز في هذا أن يخرج إلى المرتبة الثالثة, لتباعده مما هو حق الكلام.

وقال لبيد: على حين من تلبث عليه ذنوبه ... يرث شربه إذ في المقام تدابر فجازى بعد (حين) في الشعر, وقياسها قياس (إذ) في طلب البيان بالإضافة. ويجوز: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك, في الشعر, لأن قيس (إن) في هذا كقياس الأسماء التي يجازى بها. وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته, فهذا يحسن فيه الجزاء بعد (نحن) , لأنه لا يطلب البيان بالإضافة كما يطلبه: حين, وإذ, وقد فصل بين: إذ, ومن, كما يفصل الاسم بين: من, وإن, في قولك: إنه من يأتنا نأته. وتقول: مررت به فإذا من يأتيه يعطيه, ويجوز في هذا الجزاء إذا كانت (إذا) للمفاجأة, لأنها نظيرة (نحن) في أنها لا تطلب البيان بالإضافة, فليس فيها مانع من حرف الجزاء, وسيبويه يقدر بعدها مبتدأ, كقولك: مررت برجل فإذا زيد , أي: فإذا هو زيد, وليس قياس (إذا) التي للمفاجأة كقياس (إذا) التي تقتضي الإضافة, لما بينا من أنه ليس في هذه مانع من الجزاء كما في تلك. وقال ابن مقبل: وقدر ككف القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من يأتها يتدسم

فجازى بعد (لا) من أجل أنها تقع في حشو الكلام, فلا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها, حتى كأنها ليست في الكلام, فلما لم تمنع الجار, لم تمنع الجازم, لأن قياسهما سواء, وليست بمنزلة (ما) , لما بينا من حكم: ما. وتقول: لا / 137 أإن أتيناك أعطيناك, ولا إن قعدنا عنك عرضت علينا. وقال طرفة بن العبد: ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوام أرفد فجازى: بمتى بعد: لكن, وقدره سيبويه على حذف الاسم, كأنه قال: ولكن أنا متى يسترفد, على القياس الذي تقدم ذكره في عوامل الأسماء, ولو أجاز ذلك, لأنه لا مانع في (لكن) لحرف الجزاء, لكان صوابا. وقال العجير: وماذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضر أنفع

والقوافي مرفوعة, فجزم (أملك) كما جزم طرفة, ورفع (أنفع) على حذف الفاء, أي: فأنا أنفع, ويجوز: ولكن أنفع متى أملك الضر. ويجوز في (أملك) الرفع على إلغاء (ما) , كأنه قال: ولكن أنفع متى أملك الضر, وتكون (متى) على طريقة [الاستفهام] , وموضع (متى) نصب بأملك. وفي التنزيل: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} , فوقع الجزاء بعد (أما) , وإن كانت تطلب الاسم, لأنه بمنزلة الابتداء الذي يطلب الاسم, ولا يمنع من حرف الجزاء. وأما الجواب بالفاء, فهو لأما, وجواب الجزاء مدلول عليه لم يذكر, عند سيبويه. والأخفش يذهب إلى أن الفاء في هذا جواب (أما) , والجزاء جميعًا, لأنه قد

انعقد بهما في المعنى من غير مانع أن يكون لهما, ولا يجيز إذا جزم الفعل بحرف الجزاء أن يكون الجواب لهما, لأنه يجب في حال الجزم أن يخلص للجزاء, إذ موقعه موقع الفعل المجزوم في حال جزم الشرط. والأولى مذهب سيبويه لأنه أقيس على الأصول, إذ كان إذا اجتمع القسم والجزاء, كان الجواب للقسم دالًا على جواب الجزاء, كقولك: والله إن أتيتني لأكرمنك, فكذلك (أما) , لأنها وقعت في صدر الكلام كما يقع القسم. وخالف في هذا الباب أبو العباس, والزيادي, فأجازا الجزاء فيه بعد الأحرف التي منع منها سيبويه الجزاء. والصواب /137 ب مذهب سيبويه, للعلل التي بينا, وإنما تعقلوا في ذلك بأنها غير عاملة يصلح بعدها الاسم والفعل, فهي كالابتداء بالكلام الذي يصلح فيه الاسم والفعل, فإذا صلحا جميعًا, صلح حرف الجزاء, والعلل التي بينا تسقط [هذا] مع أنه يلزم من أجاز ذلك أن يجيزه في أسماء الزمان المتمكنة كلها, لأنها

تضاف إلى الفعل والاسم, فيجيء من هذا أن تقول: هذا يوم إن تأتنا نأتك, وهذه ليلة إن تزرنا نزرك, وهذا كلام قبيح, لا يتكلم به, وهو على قياس ما أجازوه في: إذ, وإذا.

باب الجزاء الذي يدخل عليه حرف الجر

باب الجزاء الذي يدخل عليه حرف الجر الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه حرف الجر, مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه حرف الجر؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يجري حرف الجر مجرى غيره من العوامل في الامتناع من الدخول على الجزاء؟ وهل ذلك لأنه مع ما دخل عليه بمنزلة اسم واحد, فلم يخرجه عن الصدر, كما لم يخرجه في الاستفهام فكأنه الاسم المفرد؟ وما حكم: على أي دابة أحمل أركبه, وبمن تؤخذ أو خذ به؟ ولم جاز: بمن تمر, وعلى أيها أركب, في الاستفهام؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة من تضرب, وأيها تركب, في المتعدي, إذ حرف الجر مع الاسم فيما لا يتعدى بمنزلة الاسم وحده فيما يتعدى؟ وما الشاهد في قول ابن همام السلولي:

لما تمكن دنياهم أطاعهم ... في أي نحو يميلوا دينه يمل ولم منع العامل الرافع والناصب من الجزاء, ولم يمنع العامل الجار من الجزاء؟ وهل ذلك لأن الرافع والناصب عامل منفصل, والجار متصل؟ ولم جاز: أيهم تضرب يأتك, على أن يعمل العامل فيما هو معموله؟ وهل ذلك لأنه خلف من عامل الجزم /138 أفعمله عارض, من أجل أنه خلف؟ ولم جاز أن يترتب على التقديم من أجل أنه عامل, وعلى التأخير من أجل أنه معمول في حال واحدة, مع استحالة ذلك؟ وهل وجه جوازه في الاستفهام على أنه ترتب في الذكر على التقديم, وفي حقيقة الموضع على التأخير, من أجل أنه معمول في قولك: أيهم ضربت, فتقديمه عارض كما هو في قولك: زيدًا ضربت, لأنه وقع موقع غيره من حرف الاستفهام, وكذلك هو عارض في الجزاء, لأنه وقع موقع (إن) , فتقديره في المتعدي: إن زيدا تضرب أضرب, وفي غير المتعدي: إن بزيد تمرر أمرر, ولا يجوز إظهار [إن]

مع (من) وأخواتها, لأنها صارت معاقبة وخلفا تغني عن الحرف كما تغني (كيف) عن ألف الاستفهام؟ وما حكم: بمن تمر به أمر, وعلى أيهم تنزل عليه أنزل, وبما تأتيني به آتيك؟ ولم بطل الجزاء في هذا؟ وهل ذلك لأن الباء في: (بمن) صارت للفعل الآخر الذي هو الجواب, والجوب لا يعمل في الاسم الذي يجازى به, لئلا يختلط متعلق الجواب بمتعلق الشرط, وصار بمعنى: الذي, ووجب رفع الفعل لما بطل الجزاء, وصارت الباء الثانية في (تمر) الذي هي متصلة [به] على معنى الشرط؟ وما حكم: بمن تمر به؟ ولم بطل الاستفهام في هذا, ولم يجز كما يجوز في: بمن تمر؟ وهل ذلك لأن الباء الثانية هي متعلق الفعل المذكور, والباء الأولى لابد لها من عامل غير الفعل المذكور, لأنه قد استوفى معموله بالباء الثانية, كأنك قلت: بالذي تمر به أمر, ولا يعمل في الأسماء المبهمة التي يجازى به أو يستفهم إلا الفعل الذي يليها دون الفعل الذي هو جواب, فإذا بطل عمله فيها بطل الجزاء والاستفهام؟ وما معنى قوله: «صارت الباء الأولى ككان, وإن»؟ وهل ذلك في المنع من الجزاء؟

وما حكم: بمن تمرر أمرر, وعلى من تنزل أنزل؟ ولم جاز حذف (به) , و (عليه)؟ وهل ذلك لقوة دلالة / 138 ب الشيء على مثله؟ يتلوه: وما الشاهد في قول بعض الأعراب. الحمد لله الواحد العدل, وصلى الله على محمد وآله وسلم.

الجزء الخامس والثلاثون من شرح كتاب سيبويه, إملاء أبي الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي. بسم الله الرحمن الرحيم وما الشاهد في قول بعض الأعراب: إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يومًا على من يتكل ولم حمله على الحذف في: يتكل عليه؟ وهل تقديره: يجد على الذي يتكل عليه, من الموجدة, كأنه قال: وإن لم يجد يومًا على الذي يتكل عليه؟ وما حكم: غلام من تضرب أضربه؟ ولم جاز تقديم المضاف قبل الاسم الذي يجازى به؟ وهل منزلته في الجزاء كمنزلته في الاستفهام, كقولك: غلام من تضرب, وأبا أيهم رأيت؟ وهل يجوز: بغلام من تؤخذ أوخذ؟ ولم جاز؟ ولم كان الاستفهام على قياس الجزاء دون الصلة؟ وهل ذلك لأن الأسماء

المبهمة لا توصل فيهما, وتقديرهما على الحرف المتروك فيهما؟ ولم جاز: بمن تمرر أمرر, وعلى من تنزل أنزل, ولم يجز: من تضرب أنزل, حتى تقول: عليه؟ وهل ذلك لأنه ليس في هذا الكلام شيء يقتضيه يكون كالخلف منه كما يكون مع ذكر: على؟ الجواب: الذي يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه حرف الجر دخوله على الاسم الذي يجازى به, لأن ذلك له بحق الاسمية. ولا يجوز أن يدخل على (إن) لأن حروف الجر لا تدخل [إلا] على الاسم, 139 أوإنما يقدر حرف الجزاء قبل حروف الجر, كقولك: إن بزيد تمرر أمرر. ولا يجوز أن يجري حرف الجر مجرى غيره من العوامل في منع الجزاء, لأنه

يتصل بالاسم حتى يكون معه كالشيء الواحد, فهو في غير المتعدي بمنزلة الاسم وحده في المتعدي. وتقول: على أي دابة أحمل أركبه, وبمن تؤخذ أو خذ به, فتجازي بمن, وأي, مع دخول حرف الجر, لما بينا من أنه بمنزلة الاسم المفرد, كقولك: من تضرب يأتك, وأيها تركب تجده وطيًا. وقال ابن همام السلولي: لما تمتكن دنياهم أطاعهم ... في أي نحو يميلوا دينه يمل فهذا شاهد في دخول حرف الجر مع معنى الجزاء. والعامل الرافع والناصب يمنع من الجزاء, لأنه منفصل, والعامل الجار لا يمنع من الجزاء, لأنه متصل, بمنزلة الاسم المفرد. ويجوز: أيهم تضرب يأتك, على أن العامل قد عمل فيما هو معموله, لأنه خلف من عامل آخر, فعمله عارض, وعلى ذلك يترتب الكلام في الجزاء والاستفهام إذا قلت: أيهم تضرب؟ فمرتبة (أي) التأخير, وهي مقدمة على جهة العارض الذي يكون في قولك: زيدًا ضربت, إلا أنه يلزم التقديم, لوقوعه موقع حرف الاستفهام, ولو زال تقدير الحرف لجاز التأخير كما يجوز فيها إذا كانت

موصولة في قولك: لأضربن أيهم قام, بمعنى: لأضربن الذي قام, فترتيب الشيء على التقديم والتأخير في حال محال, وترتيبه على التأخير مع ذكره في التقديم على جهة العارض لا يستحيل, وإنما وقع الاسم في التقديم موقع غيره مما له مرتبة التقديم, وهو حرف الاستفهام, فلزمه حكمه على جهة العارض. ولا يجوز إظهار (إن) مع الأسماء المبهمة التي يجازى بها, لأنها صارت معاقبة لحرف الجزاء, وخلفًا منها, ومغنيًا عن ذكره معها. وتقول: بمن تمر به أمر / 139 ب, وعلى أيهم تنزل عليه أنزل, وبما تأتيني به آتيك, فيبطل الجزاء في هذا, لأن فعل الشرط قد استوفى معموله, وبقي الحرف الأول لابد له من عامل, فعمل فيه الفعل الذي في موضع الجواب, ولا يجوز أن يعمل فيه مع الجزاء, لئلا يختلط متعلق الشرط بمتعلق الجواب, فكل واحد منهما يعمل فيما يليه. وكذلك سبيله في الاستفهام إذا قلت: بمن تمر؟ , فهذا الفعل هو العامل في موضع الباء, فإن قلت: بمن تمر به؟ بطل الاستفهام, واحتاج الباء إلى عامل, كأنك قلت: بالذي تمر به أمر. وقوله: «صارت الباء الأولى ككان, وإن» , أي: في إبطال الجزاء. وتقول: بمن تمرر أمرر, وعلى من تنزل أنزل, فيجوز فيه الحذف, لدلالة الشيء على مثله, مع اقتضاء الفعل له. وقال بعض الأعراب:

إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يومًا على من يتكل فهذا شاهد في حذف: عليه, لدلالة مثله, واقتضاء الفعل له, كأنه قال: على من يتكل عليه. ومعنى البيت على أن الكريم يعتمل وإن لم يجد يومًا على من يتكل عليه, فيكون (يجد عليه) من الموجدة على هذا الوجه, والكلام متصل بيجد, وهو العامل في: على. ويجوز أن يكون على تقدير: يعتمل على من يتكل عليه من أضيافه وقراباته, فيكون (يجد) من الجدة على هذا الوجه. وكلا هذين الوجهين حسن, وهو موافق للشاهد الذي أراده سيبويه, و (من) في كلا الوجهين على معنى: الذي. وقد قيل فيه: إن (من) بمعنى الاستفهام, كأنه قال: إن الكريم وأبيك يعتمل إن لم يجد يومًا, ثم قال: على من يتكل؟ أي: ليس يعتد بأحد يتكل عليه

سوى نفسه إن لم يجد. وليس هذا هو الوجه المختار في تأويل هذا البيت, لأن ذلك ليس من صفة الكريم خاصة, بل الكريم / 140 أواللئيم في هذا سواء, وإنما يحمل في التأويل على ما تقتضيه صفة الكريم, وهو مع ذلك يبعد عن شاهد سيبويه, لأنه إذا كان على معنى الاستفهام, لم يصلح فيه حذف (عليه) , من أجل أن الفعل المذكور في الاستفهام يعمل فيما قبله, كأنه قيل: على من يتكل فلان؟ فلا يحتاج في هذا إلى: عليه. وتقول: غلام من تضرب أضرب, فيجوز دخول المضاف على الاسم الذي يجازى به كما يجوز دخول حرف الإضافة, لأن قياسهما واحد في الاتصال بالاسم, وكذلك في الاستفهام كقولك: غلام من تضرب؟ وأبا أيهم رأيت؟

وتقول: بغلام من تؤخذ أوخذ, فتدخل عليه حرف الجر كما تدخله على الاسم الذي يقع موقع الشرط. وتقول: بمن تمرر أمرر, وعلى من تنزل أنزل, ولا يجوز: من تضرب أنزل, لأنه ليس فيه حرف يقتضي مثله, مع اقتضاء الفعل له.

باب الجزاء الذي يدخل عليه حرف الاستفهام

باب الجزاء الذي يدخل عليه حرف الاستفهام الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه ألف الاستفهام مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه ألف الاستفهام؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن تقوم (من) وأخواتها مقام الجزاء والاستفهام, حتى جاز أن تدخل عليها الألف؟ وما حكم: أإن تأتني آتك؟ ولم جاز دخول الألف على (إن) , وكلاهما له صدر الكلام؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة دخولها على الابتداء, إذا يحتاج إلى الاستفهام عن هذا المعنى؟ ولم جاز: أمتى تشتمني أشتمك, وأمن يقل ذاك أزره؟ ولم جاز دخول الألف على الجزاء, ولم يجز دخول (إذ) عليه؟

ولم جاز إذا قال القائل: مررت بزيد, أن تقول: /140 ب أزيد, وأزيدنيه, ولم يجز مثل ذلك في: هل؟ ولم جاز حذف حرف الجر في: أزيد, ولم يجز في سائر المواضع؟ وما الفرق بين الألف, وهل, إذا قال القائل: مررت بزيد, فقلت: أمررت بزيد, وهل مررت بزيد, حتى كان: هل مررت بزيد, مستأنفًا, ولم تكن الألف كذلك؟ فلم جاز في الألف معنى الحكاية, ولم يجز في: هل؟ وهل ذلك لأن الألف أم حروف الاستفهام, من أجل أنها لا تفارقه؟ وكيف صح هذا مع خروجها إلى التسوية في قولك: قد علمت أزيد ثم أمر عمرو؟ ولم جاز أن تعتمد الألف على (إن) مع تعليق المعنى فيها؟ وما نظير ذلك من صلة (الذي) بالجزاء؟ وهل يلزم من قال: الذي إن تأته يأتيك زيد, أن يقول: أنا إن تأتني آتيك؟ ولم ذهب يونس إلى أن الوجه: أإن تأتني آتيك؟ ولم قبحه سيبويه؟

وما الشاهد في قوله جل وعز: {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}؟ ولم جاز: أتذكر إذ إن أتيتني آتيك, وقبح: أتذكر [إذ] إن تأتني آتيك؟

[باب] الجزاء الذي يدخل عليه القسم

[باب] الجزاء الذي يدخل عليه القسم الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه القسم مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه القسم؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز أن يكون الجواب للجزاء يكفي من جواب القسم؟ وهل ذلك لأن الواقع في صدر الكلام أحق بالجواب؟ وما حكم: والله إن أتيتني لا أفعل؟ ولم جاز أن يكفي جواب القسم من جواب الجزاء؟ ولم لا يجوز: والله إن تأتني آتك؟ وهل ذلك لأن القسم لا يلغى متقدمًا؟ وما معنى قوله: «لو قلت: والله من يأتني آته, كان محالًا»؟ فمن أين /141 أاستحال؟ وهل ذلك لأنه وضع موضع الجواب ما يناقض معنى الجواب بالانقطاع عن القسم, والجواب لا يكون إلا متصلًا بالقسم؟

ولم ذكر الألف بأنها لغو؟ وهل ذلك لأن دخوله كخروجها في أنها لا تغير الكلام, والقسم لليس كذلك, لأنه إذا دخل على الكلام غيره بما يؤذن بانعقاده به, فلو قلت: أزيد منطلق, جاز, ولو قلت: والله زيد منطلق, لم يجز؟ وما حكم: أنا والله إن تأتني لا آتك؟ ولم جاز أن يلغى القسم متوسطًا, ومتأخرًا, ولم يجز أن يلغى متقدمًا؟ ولم جاز: لئن أتيتني لا أفعل, ولم يجز: لئن تأتني لا أفعل, إلا على ضعف؟ وهل يجوز: والله إن أتيتني آتيك؟ ولم جاز على النفي, ولم يجز على الإثبات؟ وما الشاهد في قول الفرزدق: وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي ... بها أن [يضل] الناس يهدى ضلالها؟

وهلا قال: إن يضل الناس, لأنه موضع جزاء في المعنى؟ فلم فتح (أن) الفرزدق؟ وما معناه؟ ولم قدره على: لأن يضل الناس يهدى ضلالها؟ ولم لا يجازى بأن؟ وهل ذلك لأن الفعل صلة لها, والجزاء لا صلة له؟

الجواب عن الباب الأول: الذي يجوز في الجزاء الذي يدخل عليه ألف الاستفهام تقديم حرف الاستفهام عليه, لأنه ينقل معنى الجملة عن الخبر إلى الاستخبار, فهو أحق بصدر الكلام. ولا يجوز أن يكتفى بمن وأخواتها عن حرف الجزاء وحرف الاستفهام في حال, لأن المعاني إذا اختلفت وجب أن يختلف اللفظ الدال عليها, فلذلك دخل ألف الاستفهام على الأسماء التي يجازى بها في قول: أمتى تشتمني أشتمك, وأمن يأتني أكرمه. وتقول: أإن تأتني آتك /151 ب, فيدخل حرف الاستفهام على (إن) كما يدخل على المبتدأ في قولك: أزيد منطلق؟ وتقول: أمن يقل ذاك أزره, وأيهم يأتك تكرمه؟ ويجوز إذا قال القائل: مررت بزيد, أن تقول: أزيد؟ ولا يجوز أن تقول: هل زيد؟ لأن الألف أم حروف الاستفهام, من أجل أنها ملازمة له, وليس كذلك (هل) , ومن أجل ذلك يصلح أن يدخل على (هل): أم, في قولك: أم هل كبير بكى؟ ... ولم يصلح أن تدخل على الألف, فلم يخل بها تضمن معنى الحكاية, لأنها أم في بابها, ويخل ذلك بهل لو ضمنته.

وجاز حذف حرف الجر في: أزيد؟ للحكاية كما جاز ترك إعماله للحكاية في قولهم: دعنا من تمرتان, وليس بقرشيًا. وإذا قال القائل: مررت بزيد, فقلت: أمررت بزيد؟ فهو على حكاية كلامه, فإن قلت: هل مررت بزيد؟ فهو مستأنف, ليس على حكاية كلامه لما بينا من العلة. وقولك: قد علمت أزيد ثم أم عمرو, لم يخرج ألف الاستفهام عن الدليل بها على معنى الاستفهام, وإن كان هذا الكلام خبرًا ليس باستفهام, وذلك لأن التسوية فيه عند المخاطب [على حدها عند المستفهم في العلم بالتسوية بين الشيئين في احتمال المعنى, وأنه لا يخلو من أن يكون لذا أو ذاك, فأردت أن تجعل المخاطب] بمنزلتك حيث كنت مستفهمًا على ذلك الحد في الدلالة على المعنى بطريق الإبهام, من غير إفصاح به, فلم تخرج عن معنى الاستفهام, إلا أنه على هذا الوجه الذي لا يطلب به من المخاطب خبر, ولذلك قطعت العامل الذي بعدها عما قبلها كم تقطعه إذا كانت استفهامًا محضًا, فلا يجوز: زيدًا أضربت؟ , ولا: قد علمت زيدًا أضربت؟ وألف الاستفهام لابد من معتمد تدخل عليه, وهو معنى يحتمل أن يكون كائنًا, ويحتمل أن لا يكون /142 ب كائنًا, فهو مبين لها, والجزاء يصلح أن بينهما, ويكون معتمدًا لها, كما يصلح ذلك في صلة: الذي, ولا يصلح في:

إذ, من قبل أن (إذ) تطلب أتم البيانين, وهو بيان الإضافة التي تصلح أن تعرف النكرة, وليس كذلك بيان الصلة والصفة, والبيان الذي تطلبه الألف دون البيان الذي يطلبه الموصول, لأن (الذي) اسم [والألف] حرف, فهذا أشد إبهامًا يكفي فيه من البيان ما هو أدنى مرتبة, وليس كذلك بيان الاسم, فهو على ثلاث مراتب: بيان الإضافة, وبيان الصفة, وبيان الحرف الذي يطلب معتمدًا من معنى يمكن أن يكون كائنًا, فلما جاز: الذي إن تأته يأتك زيد, كان في ألف الاستفهام أجوز. ويونس يخالف في ذلك, ويقول: أإن تأتني آتيك, على: أآتيك إن تأتني, حتى يعتمد ألف الاستفهام على ما يحتمل الإيجاب. وقبحه سيبويه, لأنه بمنزلة: إن تأتني آتيك, إذ كان حرف الاستفهام يصلح أن يكتفي ببيان الجزاء. قال الشيخ: وهو الصواب على ما بينا من العلة. وفي التنزيل: {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} , فهذا قد جاء على اعتماد الجزاء, وهو شاهد بين على قول سيبويه, ولو لم يكن يصلح أن تعتمد الألف على

الجزاء, لضعف هذا الكلام, وليس فيه ضعف, لأنه في القرآن الذي هو أجل الكلام. ويقبح: أتذكر إذ إن تأتني آتيك, ولا يقبح: أتذكر إذ إن أتيتني آتيك, لأنك لم تعمل (إن) , فساغ لك أن تقدره على التقديم, كأنك قلت: أتذكر إذ آتيك إن أتيتني.

الجواب عن الباب الثاني: الذي يجوز في الجزاء [الذي] يدخل عليه القسم أن يكون جواب القسم يكفي من جواب الجزاء. ولا يجوز أن يكفي جواب الجزاء من جواب القسم, لأن القسم لما وقع في صدر الكلام كان أحق بالجواب, لأن الكلام مبني عليه, وليس كذلك لو وقع متأخرًا, أو متوسطًا, لأن هذا الموقع موقع الاستدراك بالشيء بعد /142 ب ما بني الكلام على غيره. وتقول: والله إن أتيتني لا أفعل, فهذا جواب القسم, وقد كفى من جواب الجزاء. ولا يجوز: والله إن تأتني آتك, كما لا يجوز: والله زيد منطلق, لأن القسم يلغى متقدما. ولو قلت: والله من يأتني آته, كان محالًا, لأنك ناقضت بوضع الكلام موضع الجواب على ما يوجب الاتصال, وهو على الانقطاع من القسم, فهذا محال كما قال سيبويه على هذا الوجه من أنه يلغى متقدما, وقد ألغيته متقدما. وذكر سيبويه الألف بأنها لغو على معنى أن دخولها كخروجها, وليس كذلك القسم متقدما, ودليله: أزيد منطلق, ولا يجوز: والله زيد منطلق, حتى يغير

الكلام بما يؤذن بالجواب. وتقول: أنا والله إن تأتني لا آتك, فتلغي القسم, لأنه متوسط. وتقول: لئن أتيتني لا أفعل, فهذا حسن, لأنك لم تعمل (إن) , ولا يحسن: لئن تأتني لا أفعل, لأنك أعملت (إن) من غير جواب لها. وتقول: والله إن أتيتني آتيك, على حذف (لا) , كأنك [قلت]: لا آتيك, ولا يجوز على الإيجاب, لأن الإيجاب في مثل هذا: لآتينك, فوقع حذف (لا) في النفي, لأنه أحمل للحذف, وأقل فيما يحذف. وقال الفرزدق: وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي ... بها أن يضل الناس يهدى ضلالها هكذا أنشده الفرزدق: (أن) بالفتح, ولم يأت بإن التي للجزاء, فرارا من القبح في

جزم الشرط دون الجواب المذكور بالفعل, فوجه على وجه حسن, وهو معنى: لأن يضل الناس يهدى ضلالها. ولا يجوز أن يجازى بان, لأنها موصولة, وحرف الجزاء لا يوصل, لما بينا قبل.

باب إعراب الفعل بين الجزمين

باب إعراب الفعل بين الجزمين الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في إعراب الفعل بين الجزمين, مما لا يجوز. /143 أمسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في إعراب الفعل بين الجزمين؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز النصب على الصرف إلا ضعيفًا, ويقوى بعد التمام؟ وما الفعل الذي يرتفع بين الجزمين؟ ولم وجب في الحال الرفع الجزمين؟ وما الفعل الذي ينجزم بين الجزمين؟ ولم وجب في التابع للأول؟ وما حكم: إن تأتني تسألني أعطك, وإن تأتني تمشي أمش معك؟ ولم جاز في الثاني وجهان: تمشي, وتمش بالجزم؟ ولم يجز في الأول إلا الرفع؟ وهل ذلك لأنه لا يصلح فيه البدل؟

وما الشاهد في قول زهير: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يغنها يومًا من الدهر يسأم؟ ولم لا يجوز فيه إلا الرفع؟ وهل ذلك لأنه خبر: يزل؟ وهل كل ما وقع موقع الاسم من الفعل فهو رفع؟ وما الشاهد في قول الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد؟ ولم لا يجوز إلا بالرفع؟

وما الشاهد في قول عبيد الله بن الحر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججا؟ ولم جاز في (نلمم) الرفع, والجزم؟ وما الشاهد في قول بعض بني أسد: إن يبخلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجلين كأنهم لم يفعلوا؟

فلم جاز (يغدوا) بالجزم على البدل من: لا يحفلوا؟ وهل ذلك لأن غدوهم مرجلين يفسر أنهم لم يحفلوا؟ وهل يجوز بالرفع في مثله من الكلام؟ ولم جاز؟ وهل يجوز: إن تأتنا تسألنا نعطك؟ ولم لا يجوز على قصد السؤال, ويجوز على الغلط والنسيان؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}؟ فعلام انجزم /143 ب الأول؟ وعلام انجزم الثاني؟ ولم كان الأول هو الجواب والثاني بدلًا منه؟ ولم لا يجوز أن يكون الثاني هو الجواب, والأول بدلًا منه؟ وهل ذلك لأن لقي الأثام هو مضاعفة العذاب, وليس يفعل ذلك؟ وما حكم: إن تأتنا نحسن إليك نعطك ونحملك؟ ولم كان الأول على الجواب, والثاني على البدل من الجواب؟ وما حكم: إن تأتني آتك أقل ذاك؟ ولم لا يجوز؟

وهل يجوز: إن تأتني آتيك أقل ذاك؟ وما حكم: إن تأتني ثم تسألني أعطك؟ ولم لا يجوز إلا بالجزم؟ وإن تأتني فتسألني أعطك, وإن تأتني وتسألني أعطك؟ ولم لا يجوز فيه الرفع على الحال كما تقول: إن تأتني وأنت تسألني أعطك, ومتى تأته وأنت تعشو إلى ضوء ناره؟ وهل ذلك لأن الواو تدخل مع الاسم في هذا للحال, ولا تدخل مع الفعل, لاستغناء الفعل الذي للحال عن الواو؟ وما حكم: إن تأتني فتحدثني أحدثك, وإن تأتني وتحدثني أحدثك؟ ولم لا يجوز بالنصب إلا على ضعف؟ ولم جاز أصلًا مع أنه واجب؟ وما الشاهد في قول ابن زهير: ومن لا يقدم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى الأرض يزلق

ولم كان النصب في هذا جيدًا؟ وهل ذلك لأجل النفي؟ وما حكم: إن تأتني فأحدثك؟ ولم لا يجوز إلا بالرفع؟ ولم جاز: إن يكن إتيان فحديث, على الرفع بالابتداء, ولم يجز على الرفع بالعطف؟ وما حكم: إن تأتني آتك فأحدثك؟ ولم جاز (فأحدثك) بالجزم, والرفع؟ وهل الجزم للعطف على الجواب, والرفع على الاستئناف؟ ولم جاز بالنصب في الفاء, والواو, ولم يجز في: ثم؟ ولم لا يصلح الصرف في: ثم, كما جاز في الواو؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}. وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}؟ وهل

/144 أذلك شاهد على أنه يجوز بعد التمام الرفع والجزم؟ وما الشاهد في: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} بعد قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}؟ ولم جاز في بعض القراءة {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}؟ . وما حكم: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك, وإن تأتني فأنا آتيك وأحسن إليك, وقوله جل وعز: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}؟ وهل يجوز الجزم في مثل هذا؟ وقوله جل وعز: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}؟ ولم جاز في بعض القراءة: {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}؟

وما حكم: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل؟ وهل يجوز فيه الجزم؟ وما حكم: إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك؟ وهل يجوز بالجزم في: وأحسن إليك؟ ولم جاز؟ ولم حسن: إن أتيتني لم آتك, ولم يحسن: إن أتيتني [لا] آتك؟ [وهل ذلك لأن (لم آتك) بمنزلة: إن أتيتني أتيتك, و (لا آتك) بمنزلة: إن أتيتني آتك]؟ ولم ضعف (فعلت) مع: أفعل, و [أفعل] مع: فعلت, و (لم أفعل) مع: يفعل و (لا أفعل) مع: فعل؟ وهل ذلك لخروجه عن المشاكلة؟ ولم جاز: أفعل إن شاء الله, على الإيجاب, وهو مشروط؟

وما الشاهد في قول الأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا وهل ذلك شاهد في: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}؟ الجواب: الذي يجوز في إعراب الفعل بين الجزمين إجراؤه على الرفع بوقوعه موقع الاسم خبرًا, أو حالًا, وعلى الجزم بالإتباع للأول, وعلى النصب بالصرف, إذا صح التقدير في كل واحد منها, إلا أن الصرف يضعف بين الجزمين, لأنه في الشرط الذي يشبه الواجب من جهة أنه واقع على الشرط, ويشبه / 144 ب غير الواجب من جهة أنه يجوز أن لا يقع, فإذا جاء بعد تمام الكلام قوي الصرف, لأنه

أحمل للتأويل إذا جاء بعد التمام. والفعل الذي يرتفع بين الجزمين هو الواقع موقع الاسم. والفعل الذي ينجزم بين الجزمين في الشرط والجواب هو التابع للأول. وتقول: إن تأتني تسألني أعطك, بالرفع, لأنه في موضع: إن تأتني سائلًا أعطك. وإن تأتني تمشي أمش معك, بالرفع على أنه في موضع: إن تأتني ماشيًا. ويجوز بالجزم على البدل, كأنك قلت: إن تمش أمش معك, لأن المشي إتيان ولا يجوز مثل ذلك في الأول, لأن السؤال ليس بإتيان. وقال زهير: ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يغنها يومًا من الدهر يسأم برفع: يستحمل, لأنه في موضع الاسم خبرًا ليزل. وقال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد

بالرفع, لأنه في موضع: متى تأته عاشيًا. وقال عبيد الله بن الحر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججا فهذا يصلح فيه الجزم والرفع, كأنه قال: متى تأته ملما. وقال بعض بني أسد: إن يبخلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجلين كأنهم لم يفعلوا على البدل من: لا يحفلوا, لأن غدوهم مرجلين هو أنهم لا يحفلون, ويجوز بالرفع على الاستئناف, لأن الكلام قبله قد تم, ويجوز الرفع على الحال كأنه قال: غادين عليك مرجلين. وتقول: إن تأتنا تسألنا نعطك, ولا يجوز في (تسألنا) الجزم. وفي التنزيل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} فهذا على أن {يَلْقَ أَثَامًا} هو / 145 أالجواب,

و (يضاعف) بدل منه, لأن لقي الأثام هو مضاعفة للعذاب, ولا يصلح فيه البدل من الأول, لأنه ليس به. وتقول: إن تأتنا نحسن إليك نعطك ونحملك, فـ (نحسن) هو الجواب, و (نعطك) بدل منه. ولا يجوز: إن تأتني آتك أقل ذاك, لأن القول ليس بإتيان, ولكن يجوز: إن تأتني آتيك أقل ذاك, على معنى: إن تأتني في حال إتياني إياك أقل ذاك. وتقول: إن تأتني ثم تسألني أعطك, بالجزم لا غير, لأن الكلام ما تم, وكذلك: إن تأتني وتسألني أعطك. ولا يجوز بالرفع على الحال, لأن واو الحال لا يحتاج إليها في الفعل, وإنما تقع مع الاسم كقولك: ضربته وزيد قائم. وتقول: إن تأتني فتحدثني أحدثك, فيجوز بالنصب والجزم, وكذلك: إن تأتني وتحدثني أحدثك. وقال زهير:

ومن لا يقدم رجله مطمئنة ... فيثبته في مستوى الأرض يزلق فهذا جيد, لأنه جواب النفي, وجواب الجزاء: يزلق. وتقول: إن يكن إتيان فحديث, فيجوز الرفع على الابتداء, ولا يجوز على العطف, لأن الكلام ناقص بالعطف. وتقول: إن تأتني آتك فأحدثك, بالجزم على العطف, ويجوز بالرفع على الاستئناف, وبالنصب على الصرف. ولا يجوز الصرف في (ثم) , لأنه ليس لها وجه يقتضي التفريع بالصرف كما للفاء والواو, إذ الفاء ترتب بغير مهملة, فخرجت إلى الجواب, لموافقته معناها في هذا, والواو لجمع النهي الثاني والأول, أو الأمر, أو ما جرى هذا المجرى في الفعل, فخرجت إلى الجمع بين الفعلين اللذين نهي عنهما في: لا تأكل السمك وتشرب اللبن, فخرجت عن جمع معنى العطف إلى جمع من غير عطف. وفي التنزيل: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} , وفيه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} , فهذا شاهد على أنه يجوز بعد التمام / ب الرفع والجزم. وفي التنزيل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} , وفي بعض القراءة {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}؟ فهذا شاهد في جواز الجزم والنصب على الصرف بعد تمام الكلام.

وتقول: إن تأتني فهو خير لك وأكرمك, فيجوز فيه ثلاثة أوجه: الرفع بالعطف على موضع ما بعد الفاء, والجزم بالعطف على موضع الفاء, والنصب على الصرف. وكذلك: إن تأتني فأنا آتيك وأحسن إليك. وفي التنزيل: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} , فهذا على ما بعد الفاء. ويجوز في مثله الجزم كما قال جل وعز: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} بالجزم والرفع, قرئ بهما جميعًا. وتقول: إن تأتني فلن أوذيك وأستقبلك بالجميل, بالرفع والجزم, ولا يجوز النصب بالعطف, لأنه لا يجتمع نفي الاستقبال بالجميع مع نفي الأذى, لأنه لو قال: لن أستقبلك بالجميل, لدل على الأذى, ولا يصلح النصب على الصرف, لما فيه من الإبهام. وتقول: إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك, فيجوز بالرفع, والجزم, والنصب, إلا أن الجزم على العطف يضعف, لأن (لم آتك) إذا عطف عليه, صار بمنزلة: إن أتيتني لم أحسن إليك, وهذا ضعيف في الكلام. ويضعف (أفعل) مع: فعلت, ومع: لم أفعل, لخروجه عن المشاكلة. وتقول: أفعل إن شاء الله, فيدل على وقوع الفعل, لأن (إن شاء الله) مخرجه

هاهنا مخرج الشرط, وليس بشرط, وإنما هو كلام يتبرك به في صلة كلام غيره, فكأنه قال: أفعل ذلك, وليس بمنزلة: أفعل إن شاء زيد, لأن هذا شرط على ما توجبه صورته. وقال الأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرًا ومسحبا /146 أوتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا فنصب: وتدفن, على الصرف, وهو حسن, لأنه جاء بعد تمام الكلام كما جاء {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.

باب الجواب بالجزم [لما] لم يذكر فيه حرف الجزاء

باب الجواب بالجزم [لما] لم يذكر فيه حرف الجزاء الغض فيه: أن يبين ما يجوز في الجواب بالجزم لما لم يذكر فيه حرف الجزاء مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الجواب بالجزم لما لم يذكر فيه حرف الجزاء؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الجواب بالجزم إلا لما فيه معنى الجزاء؟ وهل ذلك لأن الجواب بالجزم يدل على تعليق الفعل؟ وما قسمة الكلام الذي جوابه بالجزم؟ ولم جاز في الأمر, والنهي, والاستفهام, والعرض, والتمني؟ ولم جاز جواب النفي بالفاء, ولم يجز جوابه بالجزم؟ وهل ذلك لأن الفاء في الجواب للصرف عن الإشراك في الفعل إلى معنى المصدر, والجواب بالجزم لتعليق الفعل؟ وما حكم: ائتني أكرمك؟ وما عامل الجزم في: أكرمك؟ وهل هو الأمر على

طريق الخلف من حرف الجزاء؟ ولم جاز أن يعمل الفعل في الفعل على جهة الخلف, ولم يجز على غير ذلك؟ وما حكم: لا تفعل يكن خيرًا لك؟ ولم جاز حذف مثل هذا؟ وما حكم: ألا تأتيني أحدثك, وأين تكون أزرك؟ ولم لا يكون الجواب بالجزم إلا لما فيه معنى الطلب؟ وهل ذلك لأن ما فيه معنى الطلب يقتضي الجزاء على وقوع المطلوب؟ وهل الذي يصلح جوابه بالجزم هو ما فيه معنى الطلب إذا لم يذكر حرف الجزاء لأن معنى الطلب يقتضي الجزاء؟ وما حكم: ألا ماء أشربه؟ وهل تقديره: ألا ماء /146 ب فإن يكن لي أشربه, وليته عندنا يحدثنا, أي: فإن يكن عندنا يحدثنا؟ وما حكم: ألا تنزل تصب خيرًا؟ وهل تقديره: فإنك إن تنزل تصب خيرًا؟

ولم جاز ترك الجواب في الأمر وأخواته, ولم يجز ترك الجواب في (إن) وأخواتها؟ وهل تقدير: أين بيتك أزرك: إن أعلم مكان بيتك أزرك؟ ولم صار: لو نزلت, بمنزلة: انزل؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه} , فلما انقضت الآية قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ}؟ ولم جاز الجواب بالجزم في هذا, وإنما هو جزاء الإيمان لا جزاء الدلالة على تجارة تنجي من العقوبة؟ وهل ذلك لأن فيه معنى: أتؤمنون بالله ورسوله, إذ كان المطلوب [منهم] في دلالة هذا الكلام هو الإيمان؟ وما حكم: أتيتنا أمس نعطك اليوم؟ ولم جاز الجزم على الاستفهام المحض, ولم يجز على التقرير بأنه قد أتى أمس جزم الجواب؟ وهل ذلك لأنه يخرج عن تعليق الفعل ومعنى الطلب, لأنه لا يطلب فعل ما وقع؟

ولم جاز في التقرير: أأتيتنا أمس فنعطيك اليوم؟ [وهل ذلك لأن الفاء تخرجه عن التقرير إلى الصرف عن ذلك, بمعنى: إنه من أجل إتيانك أمس نعطيك اليوم, ولا يجوز: قد أتيتنا أمس فنعطيك اليوم] , لأنها لا تجد في هذا صرفًا عن الإشراك مع الفعل كما يكون في: أتيتنا؟ وما نظير ذلك من جواب النفي؟ وما الشاهد في قول رجل من بني تغلب: ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبؤ الدم بالدم ولم جاز فيه الجواب بالجزم, وليس باستفهام؟ وهل ذلك لأن فيه معنى الطلب؟ وما الشاهد في قول الراجز: متى أنام لا يؤرقني الكري؟

/147 أوما معنى قوله: «كأنه لم يعد نومه في هذه الحال نومًا»؟ وهل ذلك ليفرق بين الحال والجواب, إذ لو رفع, فقال: لا يؤرقني الكري, لكان قد عد نومه في هذه الحال نومًا, إلا أنه نوم غير طيب, لتقطعه؟ وما وجه إشمام بعض العرب الرفع في هذا؟ وهل ذلك على الحال؟ وهل يجوز: ائتني آتيك؟ وما الفرق بينه وبين الجزم في المعنى؟ وما الشاهد في قول الأخطل: وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يمضي لمقدار وهل هو على الحال, أو الاستئناف؟ وقول الأنصاري:

يا مال والحق عنده فقفوا ... تؤتون فيه الوفاء معترفا ولم جاز هذا على الحال, والاستئناف, ولم يجز الأول على الاستئناف؟ . وقول معروف: كونوا كمن آسى أخاه بنفسه ... نعيش جميعًا أو نموت كلانا؟

ولم جاز على خبر (كونوا) , وعلى الاستئناف؟ وما حكم: لا تدن من الأسد يأكلك؟ ولم لا يجوز بالجزم, ويجوز بالرفع؟ ولم جاز: لاتدن من الأسد فيأكلك؟ وهل ذلك لأن الفاء توجب الصرف عن العطف على الفعل إلى تأويل المصدر, كأنه قيل: لا يكن دنو من الأسد فأكل من أجل الدنو, والرفع على معنى: فإنه يأكلك؟ ولم جاز: ما أتيتنا فتحدثنا, على جواب النفي, ولم يجز: ما أتيتنا تحدثنا, بالجزم على جواب النفي؟ وما الشاهد في قول بعض العرب: لا تذهب به تغلب عليه؟ وهل هو شاهد في: لا تدن من الأسد يأكلك, بالرفع؟ وما حكم: ذره يقل ذاك؟ ولم جاز بالجزم والرفع؟ ولم جاز الرفع على وجهين: الحال, والاستئناف؟ .

وما الشاهد في {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ}؟ وهل يجوز في مثله الرفع؟ وما الفرق بين الجزم والرفع؟ وهل ذلك أن الرفع يوجب لزوم الأمر في حال دون حال, والجزم يوجب لزومه في كل حال؟ وما الشاهد في: ذرهم في طغيانهم يعمهون؟ وما الشاهد في قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى}؟ ولم جاز الرفع على الحال والاستئناف, ولم يجز على [صفة]: يبس؟ وما حكم: قم يدعوك؟ ولم كان الرفع على: قم فإنه يدعوك؟ ولم جاز فيه الجزم؟ وما الشاهد في قول الأخطل:

كروا إلى حرتيكم تعمرونهما ... كما تكر إلى أوطانها البقر؟ ولم جاز رفعه على الحال, والاستئناف؟ وما حكم: مره يحفرها, وقل له يقل ذاك, وفي التنزيل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}؟ ولم جاز: مره يحفرها, بالرفع على الاستئناف, وعلى الحال, وعلى: مره أن يحرفها؟ ولم إذا حذفت (أن) ارتفع الفعل؟ وهل ذلك لأنه بمنزلة: عسينا نفعل, والأصل: عسينا أن نفعل, فإذا حذفت (أن) وقع (نفعل) موقع الاسم, كأنه قال:

عسينا فاعلين, في مخرج الكلام, والمعنى معنى: عسينا أن نفعل؟ وما الشاهد في قول طرفة: ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟ وهل هو على: الزاجري أن أحضر الوغى, بدليل العطف؟ وما تأويل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ}؟ ولم جعل {تَأْمُرُونِي} اعتراضًا بين كلامين, كأنك قلت: زيد بلغني يقول ذاك؟ وهل إلغاؤه في الإعراب كإلغاء (ظننت) بين الاسم والخبر؟ ولم أجازه على:

... أيهذا الزاجري أحضر الوغى مع شذوذه؟ وهل ذلك لأن الشذوذ عن قياس النظائر لا يقبح إذا لم يشذ في الاستعمال, / 148 أأو الوجه الذي يحسن جوازه, لأنه حينئذ بمنزلة: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}؟ وهل تقديره على هذا: أفتأمروني أعبد غير الله, على مخرج الحال, ومعنى (أن) , ففيه وجهان؟ وما وجوه الطلب حتى اختلفت الصيغ فيها؟ الجواب: الذي يجوز في الجواب بالجزم لما لم يذكر فيه حرف الشرط إجراؤه على ما فيه معنى الطلب [بتعليق الفعل, لأنه يكون بمنزلة الجزاء في الشرط وجوابه, وذلك لأن ما فيه معنى الطلب] يقتضي الجزاء. ولا يجوز الجواب بالجزم إلا لما فيه معنى الجزاء على تعليق الفعل, لأنه دليل على ذلك. وقسمه الكلام الذي جوابه بالجزم على خمسة أوجه: أمر, ونهي,

واستفهام, وعرض, وتمن. ولا يجوز جواب النفي بالجزم, لأنه يدل على تعليق الفعل, والنفي قد وقع بانتفاء الفعل على القطع, ولكن يجوز جواب النفي بالفاء, لأنه على الصرف عن الإشراك في الفعل إلى الدلالة على أنه مسبب الفعل. وتقول: ائتني أكرمك, فهذا جواب الأمر, وعامل الجزم في (أكرمك) محذوف, بتقدير: فإنك إن تأتني أكرمك, والأمر خلف منه, ولا يعمل الفعل في الفعل, ولكن قد يكون خلفًا من العامل بدلالته عليه.

وتقول: لا تفعل يكن خبرًا, وتقديره: فإنك إن لا تفعل يكن خيرًا. وتقول: ألا تأتيني أحدثك, كأنك قلت: إن تأتني أحدثك, لأن المطلوب منه الإتيان, وإن كان في مخرج الاستفهام. وتقول: أين تكون أزرك, [وتقديره: إن أعرف مكانك أزرك, أو إن تخبرني بموضعك أزرك] , فإنما الجواب مضمون بوقوع المطلوب. وتقول: ألا ماء أشربه, وتقديره: إن يكن لي أشربه, لأنه المطلوب في التمني, وكذلك: ليته عندنا يحدثنا, تقديره: إن يكن عندنا. وألا تنزل تصب خيرًا, وتقديره: إن تنزل تصب خيرًا. ويجوز ترك الجواب في الأمر /148 ب وأخواته, لأن المعتمد فيه على معنى الأمر, وهو دال على الجواب على طريق التبع. ولا يجوز ترك الجواب في الشرط, لأنه منعقد على أن الفعل الثاني يجب بوجوب الأول على جهة المعتمد, كما أن الفاعل معتمد والمفعول تبع في البيان, فكذلك جواب الأمر وأخواته تبع في البيان, وجواب الشرط معتمد, وكل معتمد

في الكلام لا يجوز تركه, لأن الكلام يكون به ناقصًا, وكل تبع للمعتمد فإنه يجوز تركه إلا أن يعرض مانع في بعض الكلام. وفي التنزيل: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} , فلما انقضت الآية, قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ} على طريق الجواب, لما فيه من معنى: هل تؤمنون يغفر لكم, لأن الدلالة على النجاة من أجل الإيمان, فلهذا كان بمنزلة: هل تؤمنون, وفيه معنى: آمنوا, لأن المطلوب منهم هو الإيمان, لا الإخبار بأنهم يطلبون الدلالة, وهو كما تقول: لو نزلت, ففيه معنى: انزل, ومعنى: ألا تنزل, وهو على مخرج التمني. وتقول: أتيتنا أمس نعطك اليوم, فهذا جائز على الاستفهام, فإن كان تقريرًا لم يجز الجزم في: نعطك, لأن التقرير قد بطل فيه تعليق الفعل بالدليل على أنه قد وقع, ولكن يجوز الرفع في التقرير, فتقول: أتيتنا أمس نعطيك اليوم,

ويجوز الجواب بالفاء على الصرف عن التقرير إلى إيجاب الإعطاء من غير تقرير عليه, ولكن يقع من أجل الأول. ولا يجوز: قد أتيتنا أمس فنعطيك اليوم, لأنه ليس يصح فيه معنى الصرف, وإنما يجب الثاني بالأول إذ صح فيه معنى الصرف. وقال رجل من بني تغلب: ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محارمنا لا يبؤ الدم بالدم فهذا جواب النهي في المعنى بمخرج الاستفهام, كأنه قال: لا تستجيبوا محارمنا /149 أ, أو انتهوا عن محارمنا. وقال الراجز:

متى أنام لا يؤرقني الكري فهو جواب التمني بمخرج الاستفهام, ولذلك لم يعد نومه في هذه الحال نومًا, ولو رفع على ما ينشده بعض العرب, لكان قد اعتد بنومه, لأن الرفع على معنى الحال. وقال الأخطل: وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يمضي لمقدار فهذا رفع على الاستئناف. وقال الأنصاري: يا مال والحق عنده فقفوا ... تؤتون فيه الوفاء معترفا فهذا يصلح على الحال, والاستئناف. وقال معروف: كونوا كم آسى أخاه بنفسه ... نعيش جميعًا أو نموت كلانا فهذا يصلح على خبر: كونوا, وعلى الاستئناف.

وتقول: لاتدن من الأسد يأكلك, أي: فإنه يأكلك, ولا يجوز بالجزم, من قبل أنه يجعل تبعده من الأسد سببًا لأكله, وهذا لا يكون ولا يصح أن يقدر على: لا تدن من الأسد فإنك إن تدن منه يأكلك, من أجل أن المطلوب منه الانتهاء بالتباعد, فإنما يقدر الجواب بذلك المطلوب. ويجوز: لاتدن من الأسد فيأكلك, لأنه صرف عن معنى النهي إلى معنى: لا يكون دنو من الأسد فأكل, كما تقول: لا يكن إعطاء زيد فعمرو. وتقول: ما أتيتنا فتحدثنا, على الصرف, ولا يجوز: ما أتيتنا تحدثنا, على جواب النفي بالجزم. وقال بعض العرب: لا تذهب به تغلب عليه, بالرفع, فهذا شاهد على: لا تدن من الأسد يأكلك. وتقول: ذره يقل ذاك, بالجزم على الجوب, ويجوز: ذره يقول ذلك, على الحال, والاستئناف.

وفي التنزيل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} /149 ب ولو رفع لجاز على معنى الحال, والاستئناف. وفي التنزيل: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} , فالرفع على: غير خائف, ويجوز فيه الاستئناف, ولا يكون على صفة (يبس) لأنه لا عائد فيه إلى الموصوف. وتقول: قم يدعوك, بالرفع على كلام الناس: فإنه يدعوك, ولو أردت: إنك إن قمت دعاك, جزمت. وقال الأخطل: كروا إلى حرتيكم تعمرونهما ... كما تكر إلى أوطانها البقر فهذا يصلح على الحال, والاستئناف. وتقول: مره يحفرها, بالجزم على الجواب, ويجوز الرفع على ثلاثة أوجه: مره يحفرها, على الحال, وعلى الاستئناف, ويجوز على: مره أن يحفرها, كما قال طرفة: ألا يهد الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فحذف (أن) وتقديره: أن أحضر الوغى, ودليله: وأن أشهد اللذات. وفي التنزيل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} , وفيه وجهان من التأويل:

أحدهما: أن يكون {تَأْمُرُونِي} اعتراضًا بين الفعل ومعموله, كأنه قيل: أفغير الله أعبد أيها الجاهلون, كما تقول: زيد - بلغني - يقول ذاك. والوجه الثاني: أن يكون بتقدير: أفتأمروني أعبد غير الله, على معنى: أعبد غير الله, على معنى: أن أعبد غير الله, إلا أنه لما سقطت (أن) , ارتفع الفعل, ولم يمنع أن يعمل فيما قبله, لأن مخرجه حينئذ مخرج الحال, كأنه قيل: أفتأمروني عابدًا غير الله, وقدم على هذا التقدير, ولا يمتنع هذا التأويل, وإن شذ عن قياس النظائر, لأنه لم يشذ في الاستعمال, فحسن علته وقوتها [كحسن {استحوذ}] , وذلك لوضوح الدلالة عليه, مع الإيجاز بحذفه. ووجوه الطلب في خمسة أقسام التي ذكرناها مختلفة, فالطلب في الأمر للفعل من غير الآمر, والطلب /150 أفي النهي انتهاء الفعل من المنهي, والطلب

في الاستفهام الخبر من المخاطب, والطلب في العرض هو الفعل على [جهة] , عرض ذلك من غير إلزام يقبح تركه, والطلب في التمني المعني للتروح به, ولذلك جاز تمني الماضي.

باب الحروف التي لها جواب كجواب الأمر

باب الحروف التي لها جواب كجواب الأمر الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الحروف التي لها جواب كجواب الأمر مما لا يجوز. مسائل هذا الباب: ما الذي يجوز في الحروف التي لها جواب كجواب الأمر؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز الجواب بالجزم إلا لما ليس بواجب؟ وما حكم: حسبك, وكفيك, وشرعك؟ ولم جاز: حسبك ينم الناس؟ ولم جاز: اتقى الله امرؤ وفعل خيرًا يثب عليه؟ ومن أين دخله معنى الأمر؟ وهل ذلك لأن الحكمة تدعو إليه؟

ولم لا يجوز: أحسن زيد وفعل خيرًا يثب عليه, كما جاز في الأول؟ وهل ذلك لأن التقوى أجمع لخصال الخير؟ وما الشاهد في قوله جل وعز: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}؟ وما وجه الجزم؟ وما وجه القراءة بالنصب؟ ولم حمل الجزم على قول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا؟ وهل ذلك لأنه محمول على تقدير, إلا أن بيت زهير على تقدير متوهم لم يقع فيه عامل لفظ, ولا موضع, والآية على تقدير متحقق قد وقع فيه عامل موضع, كقولك: لولا أخرتني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين, فهو في الآية قوي حسن, وفي البيت ضعيف, لهذه العلة, وإنما وجه الاستشهاد على أنه إذا جاز في المتوهم, فهو في المتحقق من /150 ب التقدير أجوز, ولولا ذلك القبح هذا الاستشهاد؟ وما الشاهد في قول عمرو بن عمار الطائي:

فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدنك من أخرى القطاة فتزلق فلم جاز الجزم في: فيدنك؟ وهل ذلك لأنه عطف على النهي, كأنه قال: لا يدنك من أخرى القطاة, والنهي في الحقيقة للمخاطب, وهو في مخرج اللفظ للغائب, والمعنى: لا تتعرض لإدنائه. فأما: لا تمددها فتشققها, فهو عطف على النهي, وهو نهي للمخاطب في المعنى واللفظ؟ وما نظير البيت من قولهم: لا يرينك هاهنا, ولا أرينك هاهنا؟ ولم جاز مثل هذا؟ وهل ذلك لأن التعرض للرؤية منعقد بها, فصار ذكرها دليلًا على ما انعقد بها كما يدل حضور أحد المصطحبين على الآخر إذا كثرت صحبته له؟ وهل يجوز: آتي الأمير لا يقطع اللص؟ ولم لا يجوز؟ وهل ذلك لأن: آتي الأمير, واجب, ولو كان على صيغة الخبر في معنى الأمر لجاز؟ وما حكم: ما أنت منطلقًا أنطلق معك؟ ولم لا يجوز بالجزم في الجواب؟ وهل ذلك لأنه بمعنى: لأن كنت منطلقًا أنطلق معك, فالعلة واجبة, ولا يجازى

بـ (أن) , لأنها موصولة على معنى الاسم؟ وما حكم قولهم: ما تدوم لي أدوم لك؟ ولم لا يجوز: ما تدوم لي أدم لك؟ وهل ذلك لأن الاسم الموصول لا يجازى به, لأن المطلوب في الجزاء الإبهام حتى يصح أن يقع موقع (إن) التي ليست بموصولة, وتقديره: أدوم لك دوامك لي؟ ولم لا يجوز: ما تدوم لي؟ على الاستفهام؟ وهل ذلك لأن الاستفهام لا يوصل, إذ البيان من المجيب في المائية؟ وهل يجوز: ما تدوم لي, غير الصلة؟ ولم لا يجوز في (ما) كما جاز في: كم؟ وهل ذلك لأن الدوام لا يتنوع, ويتجزأ, فكم تصلح فيه, ولا تصلح فيه (ما) كما تصلح في: ما /151 أتقول؟ لأن القول يتنوع, فهو بمنزلة: أي قول تقول؟ وهل يجوز: ما تدم لي أدم لك؟ ولم صار بمنزلة الاستفهام في أنه لا يتنوع؟

وهل يجوز: كلما تأتيني آتك, بالجزم, كما جاز أن يجاب بالفاء؟ ولم لا يجوز ذلك؟ ولم جاز: الذي يأتيني فله درهمان, بالفاء؟ ولم صارت الفاء أوسع في الجواب من الجزم؟ وهل ذلك لأنها تكون جوابًا لما قطع به كالنفي, وما لم يقطع به كالأمر؟ وما الفرق بين: الذي يأتيني له درهما, وبين: الذي يأتيني فله درهمان؟ ولم جاز: كل رجل يأتينا فله درهما, ولم يجز: كل رجل فله درهما؟ وما الشاهد في: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} , وفي: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}؟

وأين الجواب في: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} , وفي: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} , وفي: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}؟ ولم جاز حذف الجواب في هذا؟ ولم وجب أنه أبلغ؟ وما تقديره؟ وما الشاهد في قول الشماخ: ودوية قفر تمشي نعامها ... كمشي النصارى في خفاف اليرندج؟

وما جواب الواو التي بمعنى: رب؟ وما الخلاف فيه؟ ولم ذهب الخليل إلى أنه محذوف, وذهب أبو العباس إلى أن جوابه في البيت الذي يليه من قوله: قطعت إلى معروفها منكراتها ... وقد خب آل الأمعز المتوهج؟ وما وجه ذلك؟ الجواب: الذي يجوز في الحروف التي لها جواب كجواب الأمر إجراؤها على الخبر الذي فيه معنى الأمر في الجواب بالجزم. ولا يجوز إذا لم يكن في الخبر معنى الأمر الجواب بالجزم, لأن الخبر واجب ولا يكون الجواب بالجزم /151 ب في الواجب, لأن أصل هذا الباب للشرط والجواب, وليس بواجب على الإطلاق, لأنه يجوز أن لا يقع أصلًا بأن لا يقع شرط, فلهذه العلة لم يجز في الخبر لمحض الجواب بالجزم.

وتقول: حسبك ينم الناس, لأن في قولك: حسبك, معنى: اكتف. وتقول: اتقى الله امرؤ وفعل خيرًا يثب عليه, لأن فيه معنى: ليتق الله امرؤ, وإنما دخله هذا المعنى, لأن الحكمة تدعو إلى تقوى الله بأوكد الدعء, لأنها تجمع الخير للمتقي. ولا يجوز على هذا: أحسن زيد وفعل خيرًا يثب عليه, لأنه قد يحسن في أمر ويسيء في آخر في وقت واحد, فلا يجب الثواب, والتقوى تجمع الخيرات للمتقي. وفي التنزيل: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} , فهذا عطف على موضع الفاء, كأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب أصدق وأكن من الصالحين, وهو نظير: فلسنا بالجبال ولا الحديدا في العطف على الموضع

فأما قول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا فهو بمنزلة هذا في التقدير من غير إفصاح بالمعطوف عليه, إلا أن قول زهير حمل على متوهم, لأنه ليس بعطف على لفظ, ولا موضع, ولكن على توهم ذكر شيء لم يذكر, وليس كذلك الآية, لأنها حمل على متحقق, وهو العطف على الموضع, إذ موضع الفاء جزم قد عمل فيه العامل, [كما أن موضع (بالجبال) نصب قد عمل فيه العامل] , ولكن وجه الاستشهاد [به] على أنه إذا جاز في التقدير المتوهم, فهو في التقدير المتحقق أجوز. وأما من قرأ: {وَأَكُونْ مِنَ الصَّالِحِينَ} , فهو عطف على اللفظ في {فَأَصَّدَّقَ}. وقال عمرو بن عمار الطائي: /152 أفقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدنك من أخرى القطاة فتزلق فهذا ليس بجواب, وإنما هو عطف على النهي, كأنه قال: لا يدنك من أخرى القطاة, فالنهي في الحقيقة للمخاطب, وفي مجرى اللفظ للغائب, والمعنى لا تتعرض لإدنائه, وذلك أنه لما كان التعرض للشيء منعقدًا به انعقادًا ظاهرًا, جاز

أن يذكر أحدهما ويدل به على الآخر. ونظير ذلك: لا يرينك هاهنا, ولا أرينك هاهنا, وفي التنزيل: {ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. ولا يجوز: آتي الأمير لا يقطع اللص, لأنه واجب, ولا يكون الجواب بالجزم للواجب أصلًا, ولو كان فيه معنى الأمر لجاز الجزم. وتقول: أما أنت منطلقًا أنطلق معك, ولا يجوز (أنطلق) بالجزم, لأن (أن) لا يجازى بها, من أجل أنها موصولة بمعنى الاسم, والمعنى: لأن كنت منطلقًا أنطلق معك, فقد دلت على الواجب, والجواب بالجزم لا يكون بالواجب, لأنه يدل على تعليق الفعل كتعليقه في الشرط. وتقول: ما تدوم لي أدوم لك, ولا يجوز: ما تدوم لي أدم لك, على الواجب بالجزم [من قبل أن (ما) موصولة, وكل موصول فهو يمتنع من الجواب بالجزم] ,

لأن (إن) التي هي أم حروف الجزاء ليس له صلة, إذ الصلة إنما تكون لما هو مع ما قبله بمنزلة الاسم الواحد, فأما الأسماء التي يجازى بها فلا يجوز أن توصل, لأنه يجب أن تبهم إبهام (إن) حتى يصلح أن تتضمن معنى (إن) , وكذلك لا توصل في الاستفهام لمثل هذه العلة من الإبهام كإبهام ألف الاستفهام, فإذا وصلت أخرجتها الصلة إلى معنى (الذي) , وبطل الاستفهام والجزاء. ولا يجوز: ما تدوم؟ على الاستفهام, لأن تقديره تقدير: ما تقول؟ فإنما يسأل عن نوع من أنواع القول, كأنه قيل: أي شيء تقول؟ فهذا يصح في القول, لأنه يتنوع, ولا يصح في: تدوم, لأنه لا يتنوع, فلا يسأل عنه بالفعل /152 ب على هذه الجهة, ولكن يجوز: كم تدوم؟ لأنه يقتضي تجزئة, والتجزئية صحيحة في: تدوم, وهو خلاف معنى التنويع, [لأن التنويع] لا يكون إلا مع اختلاف المعاني التي قد جمعها معنى واحد, ولكن يجوز: ما الدوام؟ لأن هذا لا يقتضي تنويعًا, وإنما يقتضي بيانًا كالبيان بالدوام. ولا يجوز: ما تدم أدم, لمثل هذه العلة, ويجوز: ما تقل أقل, كأنك قلت: أي شيء تقل أقل, ولا معنى لقولك: أي شيء تدم أدم, لأنه لا يتنوع. وتقول: كلما تأتيني آتيك, ولا يجوز (آتك) بالجزم, لأن (ما) موصولة في هذا الكلام. وتقول: الذي يأتيني فله درهما, فتدخل الفاء على شبه الجزاء في تقدم الفعل

واقتضاء مبني على ما اتصل. والفرق بينه وبين الفاء وغير الفاء أنه بالفاء يوجب أن الثاني من أجل الأول, وليس كذلك بغير الفاء. والفاء أوسع في الجواب من الجواب بالجزم, لأنها تكون في النفي الذي يقطع به, ولا يكون الجزم إلا في تعليق الأول, ويجتمعان [في] أنهما في غير الواجب. وفي التنزيل: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} , والجواب محذوف فيه, لأنه معلوم إذا ذكر مثل هذا ما يتبعه من السرور والخلود [في النعيم, والفوز ببلوغ المأمول, وما جرى هذا المجرى]. والحذف أبلغ, لأنه أوجز, مع ذهاب الوهم فيه كل مذهب مما يصلح أن يتبع

هذا المعنى, وعلى هذا يحسن حذف الجواب, وهو في القرآن كثير, ففي ضد هذا المعنى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} , فمعلوم ما يتبعه من الغم, والكآبة, والندم, والحسرة, والتألم لما فات استدراكه مما يصعب مثل ذلك العذاب, فهذا يكون ما يتبع المعنى من ضروب النعيم, أو العذاب بحسب مقتضاه في فهم العاقل المتدبر له. وأما قول الشماخ: ودوية قفر تمشي نعامها ... كمشي النصارى في خفاف اليرندج /153 أفذهب الخليل إلى أن جواب (رب) محذوف, وذهب أبو العباس إلى أن جوابه مذكور بعد هذا البيت في قوله: قطعت إلى معروفه منكراتها ... وقد خب آل الأمعز المتوهج ووجد هذا على أنه سمعه الخليل ممن روى عنه [على أنه آخر القصيدة, وسمعه غيره

ممن روى عنه] أبو العباس على أن بعده هذا البيت, فهذا وجه الخلاف بينهما في مثل هذا.

باب الأفعال في القسم

باب الأفعال في القسم الغرض فيه: أن يبين ما يجوز في الأفعال في القسم مما لا يجوز. مسائل هذا البا: ما الذي يجوز في الأفعال في القسم؟ وما الذي لا يجوز؟ ولم ذلك؟ ولم لا يجوز في الجواب بالفعل المضارع إلا باللام والنون في الإيجاب؟ وما حكم والله لأفعلن؟ وما معنى القسم؟ ولم وجب حذف الفعل فيه؟ وما تقديره؟ ولم جاز إبدال الواو من الباء في القسم؟ وما نظير لزوم اللام من قولهم: إن كان لصالحا؟

وما الفعل الذي يقع موقع (والله) في القسم؟ ولم جاز في: أحلف لأفعلن, وأقسم لأفعلن, وأشهد لأفعلن؟ ولم جاز أن يقع موقع (والله) هذا الفعل؟ وهل ذلك لأنه يؤكد الخبر كما يؤكده: والله؟ وما حكم: والله لفعلت؟ ولم جاز من غير نون في كل فعل ماض؟ وما الذي يجاب به القسم؟ وهل هو على أربعة أقسام: إن, وما, واللام, ولا؟ ولم جاز: والله لا أفعل, من غير نون؟ وهل ذلك لأن النون تؤكد وقوع الفعل؟ ولم كان الإيجاب أحق بها من النفي؟ وهل ذلك لأن العمل على الإيجاب أظهر؟ ولم جاز: والله أفعل ذاك أبدا, بمعنى لا, ولم يجز بمعنى: لأفعلن؟ ولم كان حذف (لا) أولى من حذف اللام والنون؟ /153 ب وهل ذلك لئلا يلتبس الحذف؟

وما الشاهد في قوله: فحالف فلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف؟ ولم جاز إسقاط (لا) من القسم فيه؟ وهل يجوز على إلغاء القسم, كأنه قال: لا تهبط تلعة والله؟ ولم لا يحسن إلغاؤه هاهنا؟ وما حكم: أقسمت عليك إلا فعلت, ولما فعلت؟ وهل معنى (لتفعلن) أصل: إلا, ولما, [وفي] هذا؟ وهل الأصل: لا, وإن للجزاء, و (لأما) التي للنفي؟ وهل هو بمنزلة: بالله لا تفعل خلاف هذا, فالمطلوب منه فعل هذا؟ ولم جاز أن يكون

بمعنى الاستقبال: أقسمت عليك لما فعلت؟ وهل ذلك لما فيه من معنى الطلب كما في: نشدتك الله لما فعلت؟ وما حكم: لتفعلن؟ ولم وجب أن يكون على نية اليمين؟ وهل ذلك لأن هذه اللام لام القسم, ومعناها خلاف معنى لام الابتداء, فهي تدل عليه إذا حذف كما أن: أحلف لتفعلن, يدل على أنه وقع موقع: والله لتفعلن, وليس على معنى العدة بذاك, وكذلك: أقسم لتفعلن؟ ومن أين صار القسم مؤكدًا للخبر مع مخالفته أصل التأكيد, إذ أصله التكرير؟ وهل ذلك لأنه عقده بما تعظم منزلته, [فاقتضى ذلك أنه حق, ولو كان باطلًا لم ينعقد بما تعظم منزلته] , لأن الباطل وضيع المنزلة, فمن هاهنا أكد الخبر بالقسم؟ ولم جاز: أقسم ليفعلن, واستحلفته ليفعلن, على أن يجري فعل غير المتكلم في هذا مجرى فعل المتكلم, وأخذ عليه لا يفعل ذاك, في موضع: والله لا يفعل ذاك؟ وما تأويل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} ,

والياء على الغيبة, والتاء على المخاطبة, فـ (يعبدون) حكاية على المعنى, و (تعبدون) حكاية على تأدية الصورة, فلهذا جاز الوجهان؟ وما الفرق في: والله /154 أإنه ليفعلن. وهل دخول اللام في: إن كان ليقول, كدخولها في: ما كان ليقول؟ وما الفرق بينهما؟ ولم لا يجوز أن تكون بمعنى (ما) في هذا؟ وما تأويل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}؟ وما اللام الأولى؟ وما اللام الثانية؟ ولم وجب أن تكون الأولى لام الابتداء, والثانية لام القسم إذا كان على تقدير: الذي آتيتكم؟ ولم حمل: والله لئن فعلت لأفعلن, على أن اللام في (لئن) كاللام في: (لما) , واللام الأخيرة في الآية؟ وهل ذلك في معنى الجواب والتوطئة للجواب, لا أنها في (لئن) لام الابتداء؟ وما حكم: والله أن لو فعلت لفعلت؟ ولم جازت (أن) في جواب القسم؟

وهل ذلك لئلا يجمع بين لامين في: لو؟ وهل يجوز: والله أن فعلت, بمعنى: والله لفعلت؟ ولم لا يجوز؟ وما الشاهد في قول المسيب بن علس: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم وما تأويل: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ}؟ فما اللام الأولى؟ وما الثانية؟ وما تأويل: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا}؟ وما الدليل على أنه في معنى: ليظلن؟ وهل ذلك لأنه يكفي من جواب الجزاء الذي لا يكون إلا على الاستقبال؟

ولم وجب في: والله لا فعلت ذاك أبدًا, أن يكون بمعنى: لا أفعل؟ وهل ذلك لأجل دلالة (لا) , إذ الأصل فيها أن تكون للاستقبال؟ وما حكم: لئن زرته ما يقبل منك, ولئن فعلت ما فعل؟ ولم كان بمعنى: ما هو فاعل, وما يفعل؟ وهل ذلك لدلالة حرف الجزاء؟ وما نظيره من {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} في معنى: أم صمتم؟ وما تأويل: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}؟ فلم كان على معنى: ما هم تابعين, وما يتبعون؟ وقوله: /154 ب {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} , بمعنى: ما يمسكهما أحد؟

وما تأويل: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}؟ فما اللام الأولى؟ وما الثانية؟ وما اللام في: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}؟ وهل يجوز: إن زيدًا ليضرب, وليذهب, على معنى الاستقبال؟ ولم جاز ذلك في قلته؟ وما تأويل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؟ وما الشاهد في قول لبيد: ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها

فما هذه اللام؟ وهل يجوز: أظن ليسبقنني, وأظن ليموتن؟ ولم جاز مثل هذه اللام في الظن؟ وما تأويل: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}؟ وما فاعل: {بَدَا لَهُمْ}؟ ولم حمله أبو عثمان [على]: بدا لهم بدو؟ وهل يصلح على: بدا لهم معنى هذا القول, كما تقول: بدا لهم أيهم أفضل, بمعنى: بدا لهم معنى أيهم أفضل, أي: ظهر لهم معنى هذا القول؟ الجواب: الذي يجوز في الأفعال في القسم إجراؤها على الحذف, ولا يجوز إظهار الفعل مع ذكر المقسم به, لئلا يوهم في (أفعل) معنى العدة, وفي (فعلت) معنى: ما كان وقع منك, وليس الأمر على ذلك, وإنما هو منعقد بمعنى القسم انعقادًا لازمًا, فتقدير (بالله لأفعلن): أحلف بالله لأفعلنو فالباء في موضع نصب بـ: أحلف, إلا أن الفعل محذوف لا يجوز إظهاره, لما بينا.

وكذلك: والله لأفعلن, والواو فيه بدل من الباء, لأنها من مخرجها, وهي أغلب على الزيادة من الميم, ولا تكون الواو جارة إلا على طريق البدل من غيرها. وإذا قيل: تالله لأفعلن, فالتاء بدل من الواو. ولا يجوز جواب القسم في الفعل المضارع الموجب إلا باللام والنون, لا تفرد إحداهما من الأخرى, لأن اللام موضوعة للقسم, والنون للاستقبال على قياس نظائره في الأمر, والنهي, والاستفهام, والعرض, فهي في كل هذا للاستقبال / 155 أ, ولذلك لم تجز مع الماضي. ومعنى القسم تأكيد الخبر من جهة انعقاده بما تعظم منزلته, فيدل بذلك على عظم منزلة الخبر, ويدل على أنه حق من هذه الجهة, ولو كان باطلًا خست منزلته,

ولبطل أن ينعقد بما يجب أن يكون معظمًا, فمن هذه الجهة أكد القسم معنى الخبر. ونظير لزوم النون: إن كان لصالحًا, في أنها تفرق بين معنيين: معنى الحال, والاستقبال, فإذا قلت: والله إن زيدًا ليفعل, فهو على الحال, وإذا قلت: والله إن زيدًا ليفعلن, فهو على الاستقبال, فكذلك إذا دخلت اللام في الخبر, فهي (إن) المخففة من الثقيلة لا محالة, وإذا سقطت اللام, كانت (إن) بمعنى (ما) كقوله عز وجل: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}. والفعل الذي يصلح أن يقع موقع القسم هو المؤكد للخبر, كقولك: أقسم لتفعلن, وأشهد لتفعلن, وأحلف لتفعلن, فقد وقع موقع: والله لتفعلن, لأن الفعل هاهنا للتأكيد. وسبيل الخبر به عن غير المتكلم هذه السبيل, كقولك: أقسم ليفعلن, واستحلفته ليفعلن, والعلة واحدة.

وجواب القسم في الأصل على أربعة أوجهك إن, وما, واللام, ولا. فثلاثة منها موضوعة لمعنى غير معنى القسم, وهي: (ما) موضوعة للنفي وتصلح للجواب, و (إن) موضوعة على نقيضة (ما) في الخبر, و (لا) لنفي المستقبل. فأما الحرف الذي هو أخص [بالقسم] فاللام التي تلزمها النون في المضارع من قولك: والله لتفعلن. وأما لام الابتداء فموضوعة ليقطع العامل الذي قبلها عما بعدها, وتصلح للقسم, فهي نظيرة (إن). وقد علمنا أن جواب القسم يقتضي وضع حرف هو أخص به كما يقتضي الابتداء وضع حرف هو أخص به, فاللام التي تصحبها النون أحق بالقسم, لأنها لا تمنع العامل, ولام الابتداء تمنع العامل, فلذلك انفصل حكمهما, وصار قولك: لزيد خير منك, لا يدل على قسم محذوف كما لا يدل: إن زيدًا خير منك, ويدل: ليفعلن, على قسم محذوف, للعلة /155 ب التي بينا مما يجب للقسم كما يجب للابتداء من وضع حرف هو أخص به.

ويجوز: والله أفعل, بمعنى: لا أفعل, لأن (لا) تلزم النفي, فلا يلبس حذفها بالإيجاب, وكان في الحذف أحق من علامة الإيجاب, لئلا يكثر الحذف في الموجب. وقال الشاعر: فحالف فلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف فهذا على معنى: والله لا تهبط تلعة, ولا يصلح إلغاء القسم هنا, لأنه قبل الفعل المقسم عليه, وإنما تقدمت (لا) , وهي حرف لا يعتد بتقدمتها. وتقول: أقسمت عليك إلا فعلت, ولما فعلت, فالمعنى: لتفعلن, لأنه دخله معنى الطلب, كأنه قال: نشدتك إلا فعلت, والأصل فيه: إن لا, مفصولة على معنى: ألزمتك حرمة القسم في المأثم إن لم تفعل, وإن لا تفعل, وكذلك (لأما) التي هي في النفي: لما يخرج زيد, وصلحت في هذا, لأنها تكون جوابًا لقوم ينتظرون الخبر في قولهم: لما يجلس الحاكم, لقوم ينتظرون جلوسه, حتى إنه ليقول القائل: قد جلس الحاكم, فيقول له الآخر: لما, ويقف عليها, لقوة معناها في الجواب, لعلة ما ذكرت لك.

وكذلك: والله أن لو فعلت لفعلت, وقعت (أن) بدلًا من اللام, كراهة لاجتماع اللاميين في: للو. وفي التنزيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} بالتاء والياء, فالتاء على حكاية الصيغة في الخطاب, كأنه بمعنى: قلنا لهم: قولوا بالله لا تعبدون إلا الله, [وأما الياء فحكاية على المعنى في الغائب, ولو قيل: لا نعبد إلا الله] , على قلنا لهم: قولوا: لا نعبد إلا الله جاز. وفي التنزيل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} , فاللام الأولى لام الابتداء, وهي في هذا الموضع مؤذنة بجواب القسم, واللام / 156 أالثانية لام القسم, والمعنى: للذي آتيتكم, ولام الابتداء تدخل على الاسم, ولا تدخل على الفعل إلا في باب (إن) خاصة, فلذلك وجب أنها في (لما) لام الابتداء.

وقال المسيب: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم فأتى بـ (أن) جوابًا للقسم مع (لو) , للعلة التي بينا. وفي التنزيل: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} , فاللام الأولى لام الابتداء, وللام الثانية لام القسم, على ما بينا قبل. وفيه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} , على معنى: ليظلن, لأن جواب القسم إذا وقع خلفا من جواب الجزاء, لم يكن إلا على المستقبل, لأن جواب الجزاء مستقبل أبدًا, وجواب القسم يصلح أن يكون لما مضى, ولما يستقبل, فإذا وقع خلفا مما لا يكون إلا للمستقبل, لم يتوجه إلا إليه, وعلى ذلك في سائر الآيات التي تقدم حرف الجزاء. وفي التنزيل: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} , و {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا} , فهذه اللام الأولى لام (إن) , والثانية لام القسم, وهي في: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} لام: إن. وفي التنزيل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} بمعنى: لحاكم.

وقال لبيد: ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها فهذا الموضع موضع تأكيد يقتضي أن القسم محذوف, كأنه قال: والله لتأتين منيتي. ويجوز: أظن لتسبقنني, ولا يجوز: أشك لتسبقنني, لأن الظن يجري مجرى العلم في القوة, فيؤكد وقوع المظنون, ولا يؤكد وقوع المشكوك. وفي التنزيل: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} , فهذا على القسم, كأنه قال: ظهر لهم والله ليسجننه, ويصلح في تقدير فاعل (بدا) وجهان: أحدهما ذكره المازني, وهو: بدا لهم بدو, ثم فسره بـ {لَيَسْجُنُنَّهُ}. والآخر: أن يضمر, وتقديره: بدا لهم معنى /156 ب ليسجننه, كما تقول: ظهر لهم أيهم أفضل, على هذا الوجه.

§1/1