صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر (صلى الله عليه وسلم)

محمد بن صامل السلمي

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العبر من سيرة خير البشر (صلى الله عليه وسلم) تأليف د. محمد بن صامل السُّلَميُّ أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك د. عبد الرحمن بن جميل قصَّاص الأستاذ المشارك في قسم الدعوة د. سعد بن موسى الموسى أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك د. خالد بن محمد الغيث أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد توزيع مكتبة روائع المملكة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العَبر من سِيرَة خَيْر البَشَر (صلى الله عليه وسلم)

جامعة أم القرى 1413هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر السلمي، محمَّد بن صامل صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر (صلى الله عليه وسلم) محمَّد بن صامل السلمي- مكة المكرمة 1413هـ 320 ص؛ 17×24 ردمك: 7 - 952 - 03 - 9960 - 978 1 - السيرة النبوية أ- العنوان ديوي 229 6197/ 1431 رقم الإِيداع: 6197/ 1431 ردمك: 7 - 952 - 03 - 9960 - 978 حقوق الطبع محفوظة لمعهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي الطبعة الأولى 1431هـ- 2010م توزيع: مكتبة روائع المملكة المملكة العربية السعودية -جدة- ص. ب 19801 جدة 21414 تليفون: 6882013 - 6882017 فاكس: 6882018 البريد الإِلكتروني: [email protected]

راجع هذا الكتاب لجنة من أساتذة الجامعة هم: 1 - د. عابد بن محمَّد السفياني. عميد كلية الشريعة سابقا وعضو مجلس الشورى 2 - د. عبد الله بن عمر الدميجي. عميد كلية الدعوة وأصول الدين سابقا 3 - د. عبد الله بن حسين الشنبري رئيس قسم التاريخ والحضارة الإِسلامية 4 - د. عبد العزيز بن عبد الله السلومي. أستاذ مشارك بقسم الدراسات العليا التاريخية 5 - د. خالد بن عبد الله القرشي. رئيس قسم الدعوة سابقا 6 - د. صالح بن عبد الله الفريح. وكيل كلية الدعوة وأصول الدين للدراسات العليا

المقدمة

المقدمة الحمد لله رب العالمين الإِله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على إِمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، رسول الله محمَّد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فهذا كتاب في السيرة النبوية وبيان أهميتها لحياة المسلمين، وحاجتهم بل وضرورتهم إِلى معرفتها والاهتداء بهدي صاحبها - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء به وسلوك طريقته لبناء الجيل الذي يؤمل منه إِجادة صناعة الحياة الصحيحة، والعودة بالأمة إِلى سابق عهدها وسلفها الصالح، والخروج من المأزق الذي تعيشه. فما أحوج أمة الإِسلام اليوم إِلى بناء النخبة وثُلّة النصر التي تفهم الرسالة، وتدافع أقدار الله بأقدار الله، وتؤسس للنهضة الحضارية بمفهومها الشمولي الصحيح كما صنع أسلافها من أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم -. إِن البناء العقدي الإِيماني المؤسس على الحقائق والبراهين هو القاعدة التي عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترسيخها طيلة فترة الرسالة، وكان الوحي يتنزل عليه مرة تلو الأخرى مؤكدًا على هذه الحقيقة لأن العقيدة هي نبع التربية، وميزان السلوك، وحجر الزاوية في الفكر والتوجه. وعلى أساس البناء العقدي كان البناء السلوكي الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والإِداري بل والسياسي تسير جنبًا إِلى جنب متكاملة ومتوازية في نسق واحد، جَمعٌ لشتات النفس، وتوجيه الهمّ ليكون همًا واحدًا، وبذلك نَمَت الأمة وتكاملت شخصيتها واشتد عودها، وأثمرت علمًا وأدبًا وحضارة باسقة البناء وارفة الظلال، بسطت أشعتها

ونور هديها على البشرية، فأخرجتها من ظلمات الجهل والظلم والاستكبار إِلى نور الحق والرحمة والعدل في أصدق معانيها وأجلى صورها. وإِن دراسة السيرة بهذه المعاني العميقة والنصوص الواضحة ستضفي على دارسها الأمن والطمأنينة وسعادة الحياة، والرغبة المستمرة في الدراسة والتأمل في دلائلها وفوائدها مما يدفع للاقتداء والتأسي. ومادة السيرة النبوية مادة تربوية سلوكية قبل أن تكون معرفية، ولهذا أقرها مجلس جامعة أم القرى ضمن متطلبات الجامعة في كل التخصصات اعتبارًا من العام الدراسي 1416/ 1417هـ، وقد أوصى مجلس الجامعة بتأليف كتاب ليكون مقررًا في المادة يحقق أهداف تقريرها ويشمل مفرداتها، ومن ثم صدر قرار معالي مدير الجامعة المؤرخ في 7/ 10 /1425 هـ بتكليف عدد من المتخصصين في السيرة النبوية من قسم التاريخ والحضارة الإِسلامية بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية، والمتخصصين من قسم الدعوة في كلية الدعوة وأصول الدين بتأليف الكتاب، كما تضمن القرار تكليف لجنة لمراجعة الكتاب. وأتمت اللجنتان عملهما من تأليف الكتاب ومراجعته -ولله الحمد-. وقد جرى تقسيم الكتاب إِلى تمهيد وخمسة فصول. عني التمهيد ببيان أهداف دراسة السيرة النبوية ومصادرها وأقسامها، وجملة من فوائد دراستها ذات الارتباط بمقاصد الشريعة وأحوال المتعبدين، عسى أن تكون مساعدة في البناء التربوي للأمة وإخراج الجيل الحاضر من مشكلاته وتوجهاته المتشعبة، والعودة به إِلى المصدر الحق والمنبع الصافي (الكتاب والسنة) وسيجد فيهما الهدى والشفاء لكل العلل والأمراض التي أصابته إِذا أخلص النية ووحّد المقصد، وارتفع عن الشهوات الهابطة وتحرر من الأفكار الوافدة، واهتم بمعالي الأمور، وما السيرة النبوية إِلا تطبيق عملي للوحي المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

كما تم الحديث في التمهيد -بإِيجاز- عن جغرافية جزيرة العرب وأقسامها وأحوالها قبيل البعثة النبوية، وعن حرمة مكة المكرمة وما أحاطها الله به من القداسة، وعن أصول العرب وقبائلهم وأحوالهم السياسية والدينية والاجتماعية. أما الفصول الخمسة: فقد تتبعت السياق التاريخي لأحداث السيرة النبوية فيما قبل البعثة، ثم العهدين المكي والمدني بعد النبوة والرسالة بإِجمال في الأحداث واهتمام بالدروس والعبر. فكان الفصل الأول: عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- من مولده إِلى بعثته، حيث ختم الفصل ببيان بعض إِرهاصات النبوة وبشائر الخير التي وقعت قبل نزول الوحي عليه. أما الفصل الثاني: فخصص للحديث؛ عن العهد المكي: من البعثة والرسالة إِلى الهجرة إِلى المدينة النبوية. والفصل الثالث: كان الحديث فيه عن الهجرة النبوية إِلى المدينة، وترتيب أوضاع المدينة، وبناء المؤسسات، وتنظيم أحوال المجتمع. وخصص الفصل الرابع: للحديث عن الجهاد النبوي المتمثل في المواجهة مع المشركين من خلال السرايا وعقد المعاهدات والغزوات وما تخللها من مواقف. وكان الفصل الخامس: عن انتشار الإِسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا بفتح مكة وتتابع الوفود من قبائل العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وخاصة في العام التاسع وما تبع ذلك من أحداث ثم حجة الوداع ووفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وختم الفصل بصفات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وشمائله، وتعريف موجز بزوجاته أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة تعددهن. وقد كتب التمهيد والفصل الأول وبعض الفصل الثاني حتى الجهر بالدعوة، الدكتور: محمَّد بن صامل السلمي، وكتب بقية الفصل الثاني والفصل الثالث الدكتور:

عبد الرحمن بن جميل قصاص، وكتب الفصل الرابع الدكتور: خالد بن محمَّد الغيث، وكتب الفصل الخامس الدكتور: سعد بن موسى الموسى. هذا وقد قامت لجنة المراجعة بعملها حيث قدم كل عضو تقريرا منفصلًا، وقد أخذت لجنة التأليف بملاحظاتهم القيمة وتصويباتهم. ولقد حرصنا في هذا الكتاب على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، والروايات المعتمدة في أحداث السيرة النبوية لأن البناء العلمي والتربوي لا بد أن يكون مؤسسًا على نصوص صحيحة، ومصادر موثوقة حتى يصح التأسي والاقتداء. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله من العمل الخالص لوجهه إِنه سميع مجيب. المؤلفون ربيع الأول 1428 هـ

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} سورة الأحزاب آية 21. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ... وددتُ أنا قد رأينا إِخواننا، قالوا: أو لسنا إِخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإِخوانُنا الذين لم يأتوا بعد ... الحديث. (رواه مسلم في صحيحه كتاب الطهارة، باب استحباب إِطالة الغرة ح 249). عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إِليه من أن يكون له مثل أهله وماله. (صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإِسلام ح 3589).

التمهيد

التمهيد تعريف السيرة النبوية السيرة لغة السيرة: الطريقة يقال سار بهم سيرة حسنة. والسيرة الهيئة وفي التنزيل الكريم: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (¬1). وسَيّر سِيرة: حدّث أحاديث الأوائل (¬2). السيرة اصطلاحًا في الاصطلاح: لها دلالات متنوعة، فقد تكون مرادفة لمعنى السُّنة عند علماء الحديث، وهو ما أضيف إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة. كما تعني السنة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه عند علماء العقيدة وأصول الدين، وهو من معاني السيرة. أما علماء التاريخ؛ فالسيرة عندهم هي: أخباره ومغازيه - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الدلالات والمعاني ليست متضادة إِنما هي متنوعة ومتكاملة وبهذا نستطيع أن نقول في تعريف السيرة النبوية اصطلاحًا: في دراسة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبار أصحابه على الجملة، وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوته، وأحوال عصره. فالسيرة النبوية تشمل كل ما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحوال عصره، وأخبار أصحابه، لأن السيرة هي: فعله- صلى الله عليه وسلم- وإِقراره لفعل أصحابه -رضي الله عنهم - (¬3). ¬

_ (¬1) سورة طه، آية (21). (¬2) لسان العرب، مادة سير 4/ 390. (¬3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 7/ 18.

أهداف ومقاصد دراسة السيرة النبوية

أهداف ومقاصد دراسة السيرة النبوية إِن دراسة السيرة النبوية ليست كدراسة سيرة بطل من الأبطال فحسب- وإن كان هو - صلى الله عليه وسلم - بطل الأبطال- فلا تُقْرأ وتتعلم لأجل المعرفة وإشباع رغبة حب الاستطلاع وزيادة الرصيد المعرفي فقط وإِنما تدرس لأهداف ومقاصد عظيمة نشير إِلى بعضها: 1 - معرفة مقاصد الشريعة وأحوال المتعبدين وذلك للبحث فيها عن الهدى والصراط المستقيم ومرضاة رب العالمين، لأن السيرة مصدر من مصادر التشريع ومنهج لحياة كل مسلم ومسلمة، ولابد أن يدرك القارئ للسيرة النبوية أهميتها التربوية والتشريعية والاجتماعية والإِدارية والسياسية، لأنها تطبيق عملي لنصوص الوحي في كافة مناحي الحياة ألإِنسانية. 2 - تحصيل الدروس والعبر إِن السيرة العطرة مليئة بالدروس والعبر التي لا يدركها إِلا من تعلمها بقصد الاتباع لصاحبها عليه الصلاة والسلام، والتربية على مقاصدها وعبرها، فهي مادة تربوية سلوكية تبني الشخصية السوية المتكاملة وتقوِّم السلوك المعوج. ولذا فإِنه يجب على العلماء والمربين الاعتناء بدراسة السيرة النبوية، والحرص على ما صح من أخبارها حتى يحصل التأسي والمتابعة على الوجه الصحيح. وإِن المناهج التربوية والدعوات الإِصلاحية يجب أن تقتبس من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وتلتزم به اعتقادًا وسلوكًا ومنهج تفكير، وتأخذ من التجارب الناجحة ما لا يتعارض مع الأدلة الشرعية. 3 - الاطلاع على مآثر جيل الصحابة وكيف تحققت لهم السيادة والريادة السيرة النبوية معين لا ينضب وتراث لا يبلى لكل من رجع إِليها وتأدب بأدبها واقتبس من مشكاتها وقد فقه الصحابة - رضي الله عنهم - هذه المعاني في السيرة، وأدركوا أهميتها، فكانت مع القرآن الكريم هي منهج التربية للأجيال ومادة البناء الفكري والسلوكي،

ومحط الاهتمام والعناية. يقول علي بن الحسين زين العابدين (¬1): كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نُعلّم السورة من القرآن (¬2) وكان إِسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص يُحَفِّظ أبناءه مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَيَعُدّها عليهم، ويقول: "هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها" (¬3). وبهذا المنهج العالي كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون، أرقى أجيال الأمة وأقواها علمًا وعملًا وأثرًا في واقع الحياة وبناء الحضارة، فكانوا قادة وسادة، معتزين بمنهجهم، مؤثرين في غيرهم غير متأثرين، فقد حققت السيرة النبوية للجيل الأُول السيادة والريادة في كل الميادين الخيرة النافعة، ونشروا العدل والأُمن والإِسلام في كل بلد وصلوا إِليه، وانتشر فيه نور الحق. وقد تحققت السيادة والريادة للجيل الأول عندما صدق في التأسي والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتمكن من التطبيق الواقعي لنصوص القرآن والسنة، ولا بد لاستئناف الحياة الإِسلامية الصحيحة من تمثل السيرة النبوية في الواقع المعاش على مختلف المستويات، وفي كل المواقع والنواحي، وأن تكون دراستنا للسيرة النبوية بهذه المعاني العميقة، والنظرة الشاملة، والفقه الواعي، حتى نصنع جيل النهضة، وثلة النصر، وقاعدة التمكين للأمة. 4 - تحصيل القدوة والتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الله في سيرته وتصرفاته - صلى الله عليه وسلم - تنوعًا وشمولًا لكل جانب من جوانب الحياة ¬

_ (¬1) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان مع والده الحسين - رضي الله عنه - يوم قتل بكربلاء، شابًا، مريضًا، ولذلك لم يقتل، له ترجمة حافلة في الطبقات الكبرى (5/ 211) وقال: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا، مات بالمدينة سنة 94 هـ ودفن بالبقيع. (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية 3/ 242. (¬3) الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 195.

ومواقفها المتغيرة، لتكون مساحة الاقتداء والتأسي واسعة وشاملة لكافة القدرات البشرية بفروقها الفردية وسجاياها الفطرية. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة لكل المسلمين على مختلف عصورهم، وتعدد مواقعهم الجغرافية، وأحوالهم العلمية، ومراكزهم الإِدارية. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬1). قال الحافظ ابن كثير (¬2): هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِر الناس بالتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من الله عَزَّ وَجَلَّ، قال تعالى- للدَّين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا- في أمرهم يوم الأحزاب- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ثم قال عَزَّ وَجَلَّ - مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة-: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬3) أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، والمراد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وقتادة: قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية 21 - 22. (¬2) تفسير القرآن العظيم 6/ 391. (¬3) سورة الأحزاب آية 22. (¬4) سورة البقرة آية (214).

فالآية الآمرة بالتأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حين رمى أهل الشرك والكفر المسلمين عن قوس واحدة وتحزبوا عليهم، حيث زلزلت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، وكاد أن يهتز الاقتداء لتأخر النصر، فجاءت لتؤكد أن الاقتداء يكون في مواطن الشدة والصبر، والبأس والضيق، ومؤشرات فوت الحياة الدنيا كما يكون في اليسر، وتبين أن الارتباط بالآخرة هو سبيل الصمود والحماية من السقوط، فالاقتداء يكون في اليسر والعسر وعلى كل الأحوال. وإِن قيمة الاقتداء وفائدته وعطاءه، وعظيم ثوابه إِنما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يُمتحن صاحبها في صدق إِيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إِلى إِبصار العواقب والمآلات، ذلك أن نقطة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء اليوم الآخر، واستمرار ذكر الله الذي يُجَلِّي هذه الحقيقة ويؤكد حضورها واستمرارها (¬1). 5 - التكامل والشمول في فهم النصوص الشرعية واحترام نصوصها الصحيحة الثابتة لقد يسر الله لهذه السيرة من يقوم على حفظها والعناية بأدق تفاصيلها حتى كأنك تنظر إِلى صاحبها - صلى الله عليه وسلم - وأحواله رأي العين، والتاريخ شاهد على أنه لا توجد سيرة في الدنيا مثل سيرته - صلى الله عليه وسلم - من الوضوح والكمال والصدق. يقول الأستاذ سليمان الندوي: إِن حياة العظيم الذي يجدر بالناس أن يتخذوا منها قدوة لهم في الحياة ينبغي أن تتوافر فيها أربع خصال: ¬

_ (¬1) عمر عبيد حسنة، مقدمة السيرة النبوية قراءه لجوانب الحذر والحماية ص 31.

(1) أن تكون تاريخية، أي أن التاريخ الصحيح الممحص يصدقها ويشهد لها. (2) أن تكون جامعة، أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها. (3) أن تكون كاملة، أي متسلسلة لا ينقص فيها شيء من حلقات الحياة لذلك العظيم. (4) أن تكون عملية، أي أن الدعوة إِلى الفضائل والمبادئ والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه لا بمجرد قوله، وأن يكون كل ما دعا إِليه بلسانه قد حققه بسيرته، وعمل به في حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية، وبهذا تكون أعماله مُثلًا عُليا للناس يتأسون بها (¬1). 6 - اتخاذ السيرة النبوية منهجًا معياريًا إِن السيرة النبوية ليست مجرد حوادث تاريخية تؤخذ منها العبر والعظات فحسب، وإِنما هي فوق هذا كله، تجسيد عملي للوحي الذي يُقتدى به، وهي منهج واضح يهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتبع، لأنها منهج معياري غير خاضع لحدود الزمان والمكان وإِنما تقاس إِليه الأعمال والمواقف، وتُعَاير عليه الاجتهادات والآراء وتوزن بميزانه الحق. يقول الدكتور فاروق حمادة: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الواقع، فتعاليم الإِسلام لم تنزل لتحصر بين جدران المساجد وداخل أروقة بيوت العلم الشرعي وكلياته، بل تنزلت من الحكيم العليم لتكون سلوكًا إِنسانيًا ومنهجًا حياتيًا يعيشها الفرد المسلم في نفسه وشخصه، ويدركها في واقعه ومجتمعه، وَيَشِبُ عليها فتصبح جزءًا لا يتجزأ من كيانه، ويتصرف على هديها في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل موقف وشأن. ¬

_ (¬1) سليمان الندوي، الرسالة المحمدية ص 68

فالمبدأ النظري يُرى ماثلًا قائمًا في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية، حيث كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يُجسِّد تعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نومًا ويقظة، سِلْمًا وحربًا، جِدًا ومداعبة، غَضَبًا ورضا، فردًا وجماعة (¬1). وتظهر شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال السيرة النبوية في الصورة المشرقة للإِنسان الذي يمارس إِنسانيته بكل أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته. وندرك أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الإِنسان -بكل نوازع الإِنسان- قد تربع قمة التسامي الإِنساني وهو المثل الأعلى الحق للبشرية جميعًا. كما يدرك الدارس للسيرة النبوية التلازم والتطابق الذي لا ينفصم بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك في شخصيته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، بل هو أول ملتزم ومطبق للأمر ولو كان وحده، ولقد اهتدى بهذه السيرة الكريمة العطرة واستدل بها على صدق نبوته ورسالته عدد غير قليل في حياته وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - من العظماء والكبراء، وآحاد الناس وعامتهم، ومنهم الجُلندَى ملك عُمان (¬2)، فقد قال لعمرو بن العاص عندما جاءه برسالة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله لقد دلني على صدق هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إِلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إِلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِبُ فلا يَبطر، ويُغلَب فلا يهجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي (¬3). فهذه القمة الرفيعة من الإِنسانية في شخص محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتي كانت تدرج على الأرض، وتسير في فجاجها، عندما تقدم للإِنسان على اختلاف زمانه ومكانه، ودينه ¬

_ (¬1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 20 (¬2) الجلندي- بضم أوله وفتح اللام وسكون النون وفتح الدال- ابن عبد جمل الأزدي ملك عمان زمن البعثة النبوية، وخلفه من بعده ابنه جيفر (انظر ترجمته في الإِصابة لابن حجر 1/ 538) (¬3) المصدر نفسه 1/ 538 ونسبه عن وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق.

النطاق الزماني للسيرة النبوية

ولغته، تقديمًا صحيحًا غير مشوبة بأساطير وخرافات المحبين الجاهلين، وغير مشوهة بتحليلات الجاحدين والمنكرين، بل تقدم حَيّةً نابضة يراها القارئ وكأنه يعيش أحداثها دون حجب التعصب، أو غشاوة العاطفة الجاهلة، لا شك أنها ستستهوي القلوب، ويرى فيها أي شخص إِنسانيته التي يحن إِليها، لأن النفوس السليمة جبلت على التسامي والتعلق بالمثل الأعلى، وقد كان في قدر الله أن يكون محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مظهرًا للكمال الإِنساني، وطُلِب من الناس أن يسعوا إِليه ويحاولوا التخلق بأخلاقه، ومحاكاة سلوكه لأن هذه هي الأخلاق المرضية الكاملة عند الله تعالى (¬1). النطاق الزماني للسيرة النبوية البعثة المحمدية هي خاتمة الرسالات كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين .... الآية} (¬2). ورسالته عامة لجميع الإِنس والجن، كما أن شريعته ناسخة لجميع شرائع الرسل فلا يقبل الله من أحد غير شريعته - صلى الله عليه وسلم -، وهي تأتي حسب التسلسل التاريخي آخر النبوات. والسيرة النبوية في نطاقها الزماني هي من ولادته - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل وحتى وفاته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية، وجملتها ثلاث وستون سنة قمرية ويوافقها في التاريخ الميلادي من ((571 م- 632 م)) (¬3) والنبوات جميعًا تمثل وحدة تاريخية ذات حلقات متعددة، والأنبياء وأتباعهم أمة واحدة، لها سمات مشتركة، والتاريخ الإِسلامي بهذا المفهوم ليست بدايته من بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما قد يظن البعض، وإِنما بدايته الحقيقية من هبوط آدم وحواء إِلى هذه ¬

_ (¬1) انظر: مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص 21 - 23 (بتصرف يسير) (¬2) سورة الأحزاب، آية40. (¬3) راجع: "التقويمان الهجري والميلادي"، تأليف فريمان، وجرنفيل، ترجمة حسام الدين القدسي.

الأرض مسلمين لله رب العالمين فإِن آدم أبا البشر عليه الصلاة والسلام "نبي مكلم (¬1) " واستمرت ذريته عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت بذلك الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2). ثم لما وقع الانحراف في التوحيد وظهر الشرك في البشرية، بعث الله نوحًا عليه الصلاة والسلام ليجدد معالم التوحيد، ويعيد المشركين إِلى الحق، ثم تتابعت الرسل والأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده واجتناب الطاغوت كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬3) فأصل الدين واحد، وهو التوحيد الذي هو إِفراد الله بالعبادة، أما الشرائع فهي متنوعة كما قال عليه الصلاة والسلام "أنا أولى الأنبياء بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، والأنبياء إِخوة من عَلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي" (¬4) ومنذ وقوع الشرك في القوم الذين بُعث إِليهم نوح عليه الصلاة والسلام انقسمت البشرية من حيث العقيدة إِلى أمتين اثنتين: - أمة مسلمة مُوحِّدة. - أمة كافرة مُشْرِكة. وكل الذين صَدّقوا الرسل واتبعوهم من آدم عليه الصلاة والسلام إِلى محمَّد -صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح 3/ 1275 ح رقم 5737 وقال رواه أحمد. وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على الشكاة. (¬2) رواه ابن جرير في التفسير 4/ 275 والحاكم في المستدرك 2/ 546 وصححه، وانظر تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} (1/ 364). (¬3) سورة النحل، آية 36. (¬4) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، ح رقم 3443 والإِخوة من عَلاّت: هم أبناء الرجل الواحد من نساء شتى.

النطاق المكاني للسيرة النبوية

هم المسلمون، ويمثلون أمة واحدة، وإِن اختلفت أوطانهم ولغاتهم وتباعدت أزمانهم واختلفت شرائعهم، كما قال تعالى بعد ذكر جملة من الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬1) فأتباع الرسل أمة واحدة، وهي أمة التوحيد، وحزب الرحمن، وأهل الحق والأِيمان، وهم المسلمون. أما الذين كذبوا الرسل فهم أمة الكفر والضلال، وهم حزب الشيطان، وهم أمة واحدة مهما اختلفت أوطانهم ومذاهبهم وأزمانهم، فإِن السَّمة الجامعة لهم هي الشرك وعبادة غير الله. وهذا المفهوم يوضح منزلة السيرة النبوية بين سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإِن كان نطاقها الزماني محدودًا بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الولادة حتى الوفاة، فهي امتداد لسير الأنبياء قبله، واستمرار لتاريخ أمة الإِسلام المهتدين بهديه من بعده حتى قيام الساعة. النطاق المكاني للسيرة النبوية بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة بلد الله الحرام، وفيها بيته المعظم الذي رفع قواعده إِبراهيم الخليل وابنه إِسماعيل جَدُّ العرب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من أهلها وقد ولد ونشأ فيها، ومكة يومئذ حاضرة الجزيرة العربية الكبرى، ولها مكانة دينية عندهم حيث يحجون إِليها كل عام، ثم هاجر - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة النبوية بعد ثلاث عشرة سنة من النبوة، وفيها أسس بناء دولة الإِسلام، وابتدأ الجهاد حتى فتح مكة وما حولها، ثم أتته الوفود مُسْلِمة ومستسلمة في العام التاسع من الهجرة، ولم ينتقل إِلى الرفيق الأعلى حتى كانت الجزيرة كلها خاضعة لسلطان الإِسلام، وأهلها إِما مسلمون، وإِما معاهدون مسالمون، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أول من جمع الجزيرة العربية بكاملها في وحدة واحدة، وحدة فكرية عقدية، ووحدة سياسية ¬

_ (¬1) سورة الأنبِياء آية 92.

عالمية الرسالة المحمدية

جغرافية، وحدة على ملة الإِسلام ودين التوحيد، وكانت قبل ذلك طول تاريخها إِمارات ودولا متفرقة. ففي اليمن كانت دولة مَعِين، ثم دولة سبأ، ثم حمير، ثم استعمرها الأحباش، ثم دخل عليهم الفرس وصارت الولاية في أبنائهم. وفي شمال الجزيرة كانت في وقت البعثة إِمارات الحيرة الخاضعة للفرس، والغساسنة الخاضعين للروم. أما الحجاز فتولّى أمرها إِسماعيل بعد بناء البيت العتيق (الكعبة المشرفة) ثم أولاده من بعده، ثم جد أولاد إِسماعيل مضاض بن عمرو الجرهمي، وطالت ولاية جرهم للبيت حوالي عشرين قرنًا، ثم نزعتها منهم خزاعة فحكمتها ثلاثمائة سنة حتى انتزعها قصي بن كلاب، وجمع قريشا في مكة وما حولها وذلك منتصف القرن الخامس الميلادي (¬1). فالجزيرة العربية هي النطاق المكاني لحركة السيرة النبوية في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - حدثت ردة في الأطراف والقرى، ولكن تمكن أصحابه الكرام بقيادة خليفته الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - من قمع المرتدين وإعادتهم إِلى الهدى ودين الحق في أقل من عام واحد، ثم انطلقوا بالدعوة والفتوحات إِلى من يليهم من أهل الأرض مشرقًا ومغربًا حتى دانوا بالإِسلام، وخضعوا لشريعته وأحكامه كما هو معلوم من سير الفتوحات الإِسلامية التي استمرت في انطلاقتها طوال القرن الأول من الهجرة فوصلوا إِلى حدود الصين شرقًا وإِلى المحيط الأطلسي وحدود فرنسا غربًا، ولله الحمد والمنة. عالمية الرسالة المحمدية الكرة الرضية بكاملها مجال لنشر الإِسلام، وأهلُها مدعوون جميعًا للدخول في الدين الحق الذي ارتضاه المولى عَزَّ وَجَلَّ دينا للبشرية جميعًا كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: أبو الحسن الندوي، السيرة النبوية ص 83. (¬2) سورة آل عمران، آية 19.

مصادر السيرة

وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). وقد راسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ملوك الأرض في زمانه ودعاهم إِلى الدخول في الإِسلام تنفيذًا لعالمية الدعوة الإِسلامية كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬2). وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬3) فالرسالة المحمدية رسالة عالمية لكل الأجناس البشرية، فكما أن الأرض كلها نطاق مكاني لحركة الدعوة على أيدي أتباعه - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك البشر كلهم على مختلف أجناسهم وأزمانهم مدعوون للدخول في الدين الحق الذي هو الإِسلام، وهو رحمة لهم، ومنقذ لهم من الضلالات والخرافات والأهواء، والظلم والجور، لتشرق عليهم أنوار الحق والعدل والطمأنينة، وتحفظ لهم الإِنسانية الصادقة، والفطرة السليمة التي فطر الله الخلق عليها قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4). وقد جاء في الحديث الصحيح "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي، ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إِلا دخل النار (¬5). مصادر السيرة معرفة مصادر السيرة، والقدرة على التمييز بين المصادر بحسب الأهمية والصدق في الأخبار مما ينبغي لدارس السيرة النبوية تعلمه، ومصادر السيرة النبوية منها ما يكون متعلقا بتفسير الوقائع، بمعنى التعليل للوقائع، وبيان البواعث، واستخراج الأحكام، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية 85. (¬2) سورة الأنبياء، آية 107. (¬3) سورة الأعراف، آية 158. (¬4) سورة الروم، آية 30. (¬5) رواه مسلم كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمَّد إِلى جميع الناس ونسخ الملل بملته ح 153.

1 - القرآن الكريم

والدروس والعبر منها، وهي مصادر الشريعة، [الكتاب، والسنة، والإِجماع، والقياس]، والاستفادة منها وفق مناهج الاستدلال المعتبرة عند أهل العلم. ومنها ما يكون متعلقا بإِثبات الوقائع والحوادث التاريخية. وأهم مصادر السيرة النبوية: 1 - القرآن الكريم وهو أصدق المصادر وأصحها، لأنه من العالم الخبير، ونصوصه ثابتة بالتواتر القطعي، والنص القرآني عندما يتحدث عن الحادثة والواقعة التاريخية فإِنه يعطي الصورة الواقعية عن الحدث كما أنه يشير إِلى ظلال الحادثة وبواعثها، وصورتها الخفية في حديث النفس، ومشاعرها وتصوراتها، وهذا لا يتوفر لغير النص القرآني الذي يرسم الصورتين الظاهرة والباطنة للحديث التاريخي. وفي القرآن الكريم ذكر لكثير من الأحداث التاريخية عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الغزوات، ودلائل النبوة، والصراع مع الكفار، من المشركين، والمنافقين، واليهود، والنصارى، وبيان عقائدهم ومواقفهم من الدعوة، كما أن كتب التفسير قد حوت الكثير من الروايات عن السيرة النبوية وأحداثها، وخاصة في أسباب النزول للآيات. وتلك النصوص من الكثرة حتى أن بعض الباحثين قد أفرد حديث القرآن الكريم عن السيرة النبوية في مؤلفات مستقلة (¬1). 2 - كتب السنة النبوية وشروحها مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن الأربع، ومسند الإِمام أحمد، وموطأ مالك، ومعاجم الطبراني، ومستدرك الحاكم، وغيرها، وقد خُصَّصت أبواب في ¬

_ (¬1) انظر: سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صور مقتبسة من القرآن الكريم، محمَّد عزة دروزة (مجلدان)، وحديث القرآن عن غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن بكر آل عابد (مجلدان)

3 - كتب السيرة المختصة

الصحيحين والسنن عن مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن دلائل نبوته، وعن فضائل الصحابة وعن الجهاد والسير، وغير ذلك. والمصدران المذكوران [الكتاب والسنة] مصدران مهمان لنوعي مصادر السيرة النبوية فلا بد من تفهمهما وفهم أحكامهما حتى يكون لدى دارس السيرة مقدرة صحيحة على استخراج الدروس والعبر من وقائع السيرة، فإِنهما يمثلان المرجعية الشرعية التي لا بد منها في الاستفادة من درس السيرة النبوية وفهم أهدافها ومغزاها التربوي. 3 - كتب السيرة المختصة اهتم الصحابة وأبناؤهم، ومن بعدهم من التابعين، ومن تبعهم بتدوين أخبار وحوادث السيرة النبوية وتعليمها لأبنائهم، بل كانوا يعلمون أبناءهم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحفظونهم إِياها كما يحفظونهم السورة من القرآن، وكان أبرز من اهتم بذلك البراء بن عازب - رضي الله عنه - الذي كان يملي أخبار السيرة على تلاميذه فيكتبونها بين يديه، وكذا عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - الذي رويت عنه مدونات في السيرة والمغازي النبوية، استفاد منها من جاء بعده، أمثال موسى بن عقبة صاحب المغازي، وعبد الله بن عمرو بن حزم الأنصاري. ومن التابعين الذين اهتموا بالسيرة، أبان بن عثمان بن عفان، (ت 105 هـ) الذي جمع كتاب مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعروة بن الزبير (ت 94) وجاء بعد هؤلاء طبقات من أهل العلم أمثال: أ- الإِمام الزهري (ت 124 هـ) الذي وصلت إِلينا مروياته في السيرة النبوية من خلال كتب المغازي، وكتب السنة النبوية، وله مغازي مطبوعة في جزء وهي مستخرجة من مصنف عبد الرزاق الصنعاني، وقد أنجز أحد الباحثين في الجامعة الإِسلامية (¬1) رسالة دكتوراه عن مغازي الإِمام الزهري وهي شاملة لمعظم أحداث السيرة النبوية. ¬

_ (¬1) محمَّد عواجي، مغازي الإِمام الزهري- مجلدان، نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة.

ب- موسى بن عقبة (ت 141 هـ) وله كتاب مشهور في المغازي كان الأئمة من أمثال مالك يوصون به، ومغازيه مطبوعة، غير أنها نسخة مستخرجة (¬1)، حيث لم يعثر على أصل المخطوطة. ج- محمَّد بن إِسحاق (ت 151 هـ) الذي ألف كتابًا شاملا في المغازي والسير، وهو أساس كثير من المؤلفات في السيرة، واعتمد عليه أغلب من جاء بعده، لكن أصل سيرة ابن إِسحاق مفقود، ولم يعثر إِلا على قطع قليلة نشرها محمَّد حميد الله، ولكن قيض الله لسيرة ابن إِسحاق من يحفظها فقد هَذّبها عبد الملك بن هشام واستدرك على ابن إِسحاق بعض أشياء في الأنساب والأشعار وهي الموجودة الآن باسم سيرة ابن هشام، مطبوعة في أربعة أجزاء. د- محمَّد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) له كتاب المغازي وهو كبير وقد فقد بعضه والموجود منه مطبوع في ثلاثة مجلدات. هـ - محمَّد بن سعد الزهري (ت 230 هـ) له كتاب الطبقات الكبرى، وقد خصص القسم الأول من الكتاب عن السيرة النبوية، ويقع في مجلدين. و- ابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ) له كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير، وهو كتاب موجز في السيرة النبوية، وله نقد وترجيح في بعض الروايات. ز- ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) له كتاب جوامع السيرة، وهو كتاب لطيف وموجز. ح- ابن القيم (ت 751 هـ) الذي خصص قسما كبيرا من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، عن مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وجهاده، وقد اهتم ببيان فقه الأحداث والأحكام من خلال المغازي، وهذا تقدم كبير في منهجية دراسة السيرة النبوية والاستفادة من أحداثها. ¬

_ (¬1) محمَّد باقشيش، مغازي موسى بن عقبة (مجلد) منشور في المغرب.

4 - كتب الدلائل والشمائل المحمدية

4 - كتب الدلائل والشمائل المحمدية وهي قسم كبير من السيرة النبوية، وقد تضمنت كتب السنة شيئًا منها، وكذلك كتب المغازي تضمنت شيئًا منها، لكن جرت عادة العلماء بإِفرادها بمصنفات مستقلة لما لها من أهمية وتخصص، وقد أُلِّفَ في دلائل النبوة كُتُبُ كثيرةٌ ومن أهمها وأوعبها كتابان هما: - دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) - دلائل النبوة للبيهقي (ت 458 هـ) وهما مطبوعان وكتاب البيهقي أشمل وأفضل. - وفي الشمائل النبوية ألف الترمذي (ت 279 هـ) صاحب السنن كتاب الشمائل وهو كتاب لطيف مسند، وقد اختصره الشيخ ناصر الدين الألباني وحكم على أسانيده. ولأبي الشيخ ابن حبان (ت 369 هـ) كتاب أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه وهو كتاب غزير المادة. وللحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) كتاب الأنوار في شمائل النبي المختار، وهو مطبوع في مجلدين. 5 - كتب تراجم الصحابة فقد تضمنت الحديث عن مواقف الصحابة ومشاهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهادهم ومشاركاتهم المختلفة في عصر النبوة ومن أشهر كتب تراجم الصحابة: أ- كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، وهو مطبوع في أربعة مجلدات. ب- كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير علي بن محمَّد الجزري (ت 630 هـ) وقد جمعه من أربعة كتب مع الاستدراك عليها وهي:

6 - كتب التاريخ العام المدونة على الحوليات أو على الموضوعات

1 - كتاب معرفة الصحابة للحافظ ابن مندة (ت 303 هـ). 2 - كتاب معرفة الصحابة للحافظ أبي نعيم (ت 430 هـ). 3 - كتاب الاستيعاب، لابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ). 4 - كتاب أبي موسى المديني (ت 581 هـ) الذي استدرك فيه على ابن منده. وقد طبع كتاب أسد الغابة، في سبعة مجلدات كبار. ج- كتاب الإِصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) وهو من أوسع كتب معرفة الصحابة من حيث عدد التراجم، إِذ زادت على أكثر من اثنتي عشر ألف ترجمة، وقد استفاد الحافظ ابن حجر ممن سبقه واستوعب المؤلفات السابقة، وهو يختصر الترجمة، ويهتم بذكر المشاهد والمشاركات للمترجم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد طبع كتاب ابن حجر عدة طبعات آخرها عن دار هجر بالقاهرة. 6 - كتب التاريخ العام المدونة على الحوليات أو على الموضوعات ما من مؤرخ للإِسلام إِلا ويذكر سيرة رسول - صلى الله عليه وسلم - أثناء تاريخه ومن أشهر الكتب التاريخية العامة: أ- تاريخ الرسل والملوك، المعروف بتاريخ ابن جرير الطبري المتوفى 310 هـ وقد عرض لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياقها التاريخي واستفاد من المؤلفات السابقة وخاصة كتاب ابن إِسحاق، وتاريخ الطبري مطبوع عدة طبعات، من أفضلها طبعة محمَّد أبي الفضل إِبراهيم، في أحد عشر مجلدا مع الفهارس، وهو مرتب على السنين. ب- المنتظم في أخبار الدول والأمم، لابن الجوزي (579 هـ) وهو كتاب كبير مرتب على السنين، وقد طبع مؤخرا كاملا في 16 مجلدا. ج- الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري (630 هـ) وهو كتاب حافل، ومرتب على السنين، وقد طبع في 11 مجلدا.

7 - كتب تاريخ الحرمين الشريفين

د- تاريخ الإِسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي (ت 748 هـ) ويعتبر من الموسوعات العامة في التاريخ والرجال، وقد نشر الكتاب عدة نشرات أفضلها بتحقيق د. بشار عواد معروف. هـ - البداية والنهاية لابن كثير (ت 774 هـ) وهو كتاب حافل في التاريخ البشري منذ خلق الله آدم إِلى عصر المؤلف، وقد اهتم ابن كثير بالسيرة النبوية في كتابه هذا، وأطال وجمع ما لم يجمع غيره، وساعدته حافظته، ومعرفته بالحديث والسنة، فجمع بين كتب المغازي والسير وبين روايات المحدثين في كتبهم، وأقوال المفسرين، وأسباب النزول، وقد نشر كتاب البداية والنهاية نشرات كثيرة لكنها مكررة عن النشرة الأولى وقد نشر أخيرا نشرة محققة في 21 مجلدا مع الفهارس عن دار هجر بالقاهرة، وتقع السيرة النبوية من منتصفي المجلد الثالث حتى منتصف المجلد التاسع، أي ما يعادل سبعة مجلدات، وقد شمل حديثه عن السيرة الأقسام الثلاثة للسيرة النبوية وهي: السيرة، والمغازي، والشمائل والدلائل. 7 - كتب تاريخ الحرمين الشريفين الحرمان الشريفان [مكة والمدينة] هما موطنه - صلى الله عليه وسلم -، وفيهما وبينهما وحولهما كانت مغازيه وتحركاته وبعوثه ورسله، ومن أهم الكتب في تاريخ مكة، كتاب الأزرقي (ت 244 هـ) أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ونشر في جزئين. وكتاب الفاكهي (ت القرن الثالث) أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، منشور في ستة أجزاء. وكتاب شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام، لتقي الدين الفاسي (ت 832 هـ) وهو منشور، وله كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، منشور في 8 مجلدات. وأخبار المدينة لعمر بن شَبّة (ت262 هـ) وقد نشر منه أربعة أجزاء وهو ناقص أوله. وكتاب الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي (ت 922هـ).

8 - كتب الأدب والشعر العربي

8 - كتب الأدب والشعر العربي تضمنت المؤلفات في الأدب العربي، والدواوين الشعرية للشعراء المعاصرين للدعوة والرسالة، قِطَعًا شعرية ونثرية تشير إِلى وقائع في السيرة النبوية، ومن الأهمية بمكان معرفة ذلك، لكن ينبغي أن يتثبت من صحة تلك النصوص، فإِن تلك الكتب قد دونت دون النظر إِلى منهج التثبت، ولم توثق رواياتها، ومع هذا نجد علماء السنة النبوية يذكرون الأشعار والأقوال الأدبية في كتبهم، فهي من المصادر التي يُحتاج إِليها، ولكن يجب أن يعرف الباحث قدرها ومنزلتها من حيث التوثيق العلمي وصحة الإِسناد، حيث يغلب على بعضها الحكايات، والنوادر، والطُّرف، التي لا يعرف مصدرها ولا تخلو من المبالغات.

أقسام السيرة النبوية

أقسام السيرة النبوية تقسم السيرة النبوية بالنظر إِلى مراحل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تاريخ حياته - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة. ويتناول تاريخ حياته قبل النبوة، من الولادة حتى البعثة، وتمثل أربعين سنة، ويتناول هذا القسم: - حال العرب والجزيرة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - والأطوار التي مرت بها مكة المكرمة وبناء البيت العتيق. فإِنها بيئة السيرة النبوية والممهدة لها. - الأحداث المتعلقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة مثل ولادته واسترضاعه، ونشأته، والأعمال التي شارك فيها ... إِلخ، وهي في هذا القسم قليلة إِذا قيست بالأحداث التي بعد البعثة. القسم الثاني: تاريخ حياته - صلى الله عليه وسلم - من البعثة إِلى الهجرة. وبتناول نبوته ودعوته - صلى الله عليه وسلم - من البعثة ونزول الوحي عليه في غار حراء حتى هجرته إِلى المدينة، وتمثل ثلاثة عشر عامًا، ويسمى العهد المكي، وهو عهد التأسيس والدعوة، وفيها نزول القرآن الذي قرر دلائل التوحيد، وصفات الباري، وكَشْفَ الشرك والرد على دعاوى المشركين، وإِثبات البعث والنشور والجزاء في اليوم الآخر بجنة أو نار، والدعوة إِلى مكارم الأخلاق، والانتهاء عن المساوئ، وفيها الدعوة الفردية المباشرة، ثم الدعوة العامة، ومواقف المشركين واضطهادهم للمؤمنين، وصبر المؤمنين وتحملهم الأذى، وهجرتهم إِلى الحبشة، وحصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وبني هاشم في الشعب، والعرض على القبائل، وحادثة الإِسراء والمعراج، وبيعة العقبة الأولى ثم الثانية، والهجرة إِلى المدينة.

القسم الثالث: تاريخ حياته - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة حتى الوفاة

القسم الثالث: تاريخ حياته - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة حتى الوفاة ويتناول حياته - صلى الله عليه وسلم - من وصوله إِلى المدينة في 12 ربيع الأول سنة 1هـ وحتى الوفاة في 12 ربيع الأول سنة 11هـ وتمثل عشر سنوات كاملة، ويسمى العهد المدني، وعهد البناء والجهاد وانتشار الدعوة، وسِمَتُه العامة، الجهاد والغزوات، التي بلغت ثلاثين غزوة، والسرايا والبعوث الدعوية التي زادت على السبعين سرية وبعثًا، حتى انتشر الإِسلام وعم أرجاء الجزيرة العربية، وكذلك نزول التشريعات العبادية وتنظيمات المجتمع الإِدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسيرة النبوية بالنظر إِلى موضوعاتها ثلاثة أنواع: النوع الأول: الشمائل والأخلاق النبوية ويدخل فيها الخصائص التي اختص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الرسل، وكذا ما اختص به من أحكام عن سائر الأمة، وما اختصت به أمته بسببه عن سائر الأمم (¬1). والشمائل هي: 1 - الصفات الخَلْقية، أي الصفة التي خلقه الله عليها من حيث طوله وهيئته وجسمه ولونه .. وكذا صفة جلوسه ومشيته وكلامه ونومه ولباسه، وهذا النوع ترجع فائدة دراسته إِلى أمور منها: * التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في هيئة جلوسه وقيامه وكلامه ونومه ولباسه .. إِلخ. * معرفة فضل الله على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إِذ جعله الله في أكمل هيئة وأحسن صورة وأجمل سمت. * مطابقة ما يرى النائم عند رؤيته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفة المنقولة عن الرواة من ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير، الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص 279 - 281.

أصحابه فإِن الشيطان لا يستطيع أن يتصور أو يتشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة، وأنس رضي الله عنهما وغيرهما عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رآني في المنام فقد رآني، فإِن الشيطان لا يتمثل بي» (¬1). ولتعلم أخي أن الشيطان من عادته الكذب والتغرير بمن يطيعه وقد يُري النائم صورة ويُلقي في رُوعه أنها صورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كاذب عليه، لكن إِذا رأى المسلم في المنام أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإِنه لا بد أن يطبق ما رأى على الصفة المنقولة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون قد رآه حقًا، فإِن الشيطان لا يستطيع التشبه بالنبي على صورته الحقيقية، وهذا من حماية الله لرسوله وتكريمه له، وصيانة المسلمين من تغرير الشيطان بهم في هذا الجانب. 2 - الصفات الخُلُقِية، أي الآداب والأخلاق التي تأدب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه الصفات كثيرة، مثل الكرم، والشجاعة، والحياء، والعفو، والحلم، واليسر، والسماحة، والتقوى، والبذل، والعطاء، والتواضع، والزهد ... إِلخ، وهي صفات أتت الشريعة بها، وتحلى بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، وهذا النوع هو المقصود الأعظم من دراسة الشمائل، وهو أكثر فائدة، وأوسع دائرة في التأسي والاتباع والاقتداء. لقد سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - من عدد من الصحابة والتابعين عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فكان جوابها شاملًا واسعًا رغم وجازة لفظه قالت: (كان خلقه القرآن) (¬2). قال الحافظ ابن كثير: "ومعنى هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - مهما أمره به القرآن امتثله ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الأخلاق الجبلية الأصلية العظيمة التىِ لم يكن أحد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من رأى النبي في المنام، برقم 9663 - 6997 من عدة طرق، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرؤيا، برقم 2266، 2268. (¬2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح رقم (746).

النوع الثاني: دلائل النبوة والمعجزات

من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له الدين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، فكان فيه من الحياء والكرم والشجاعة والحلم والصفح والرحمة وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يحُدّ ولا يمكن وصفه" (¬1). وقد وصفه ربه سبحانه وتعالى بوصف هو فوق كل وصف، ومَدَحه بمِدحة هي فوق كل مِدْحه أحد، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2). قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: وإِنك لعلى دين عظيم، وهو الإِسلام، وهكذا قال مجاهد والسدي والضحاك. وقال عطية: لَعلَى أُدب عظيم (¬3). وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬4) النوع الثاني: دلائل النبوة والمعجزات الدلائل، هي المعجزات والبراهين الدالة على صدقه في النبوة والرسالة، ودلائل النبوة منها المعنوي، ومنها الحسي الخارق للعادة، ويسمى معجزة ودليلًا وبرهانًا وآية من الآيات. والدلائل التي يؤيد الله بها رسله ويُجري بعضها على أيديهم ليست من كسبهم ولا قدرتهم الذاتية وإِنما هي محض فضل من الله وهبة منه لتكون تأييدًا وتصديقًا لهم وبيانًا لمنزلتهم عنده عَزَّ وَجَلَّ. ومن سنة الله سبحانه وتعالى أنه لا يؤيد الكاذب عليه، وقد باء بالخزي والخذلان كل من ادعى النبوة من الكذابين مثل الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، والمختار بن أبي عبيد وغيرهم. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية: 8/ 456. (¬2) سورة القلم، آية: 4. (¬3) البداية والنهاية 8/ 455. (¬4) سورة التوبة، آية: 128.

قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1). ودلائل نبوة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جدًا وقد ذكر الإِمام البيهقي أنها تزيد على ألف دليل (¬2). بل ذكر النووي في مقدمة شرح صحيح الإِمام مسلم أنها تزيد على ألف ومائتي دليل (¬3). ودلائل النبوة جاءت بحسب وقوعها على مراحل: 1 - ما وقع قبل البعثة، مثل بشارات الأنبياء به في الكتب السابقة (¬4)، وأخبار الكهان والجان (¬5)، وتسليم حجر عليه بالنبوة في مكة (¬6)، وشق صدره وهو في بادية بني سعد (¬7). 2 - ما وقع على يديه - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة حتى توفاه الله، ومن أعظم ذلك نزول الوحي بهذا القرآن العظيم على الرسول الله الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ومثل نزول المطر بعد دعائه مباشرة (¬8)، ونبع الماء بين أصابعه (¬9)، ودعائه في الماء القليل فيكون كثيرًا (¬10)، وحنين الجذع الذي بمسجده عندما ترك الاستناد إِليه (¬11)، ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 47. (¬2) دلائل النبوة: 1/ 60. (¬3) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 2. (¬4) صحيح البخاري، ح رقم: 4838. (¬5) صحيح البخاري، ح: 3866. (¬6) صحيح مسلم، ح رقم: 2278. (¬7) متفق عليه. (¬8) صحيح البخاري، ح رقم: 3582. (¬9) المصدر نفسه، ح رقم: 3573، 3585. (¬10) المصدر نفسه، ح رقم: 3575 - 3574. (¬11) المصدر نفسه، ح رقم: 3583 - 3585.

وانقياد الأشجار والبهائم لأمره - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وشهادة الذئب ببعثته ونبوته (¬2)، وانشقاق القمر نصفين عندما طلبت قريش آية حتى رأوا ذلك (¬3)، وتحقق وعد الله له بهزيمة المشركين في بدر، قال تعالى في سورة القمر المكية: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (¬4)، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العريش يوم بدر وهو يتلو هذه الآيات، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بمصارع القوم في بدر وقال لأصحابه: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فما جاوز رجل منهم مصرعه (¬5)، واخبر عن مقتل أمراء مؤتة قبل أن يأتي الخبر بمقتلهم (¬6). 3 - ما وقع بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - مما أخبر أنه سيقع فوقع كما أخبر فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن فتح الحيرة، وبلاد فارس، وكثرة المال، ففي صحيح البخاري عن عدي بن حاتم قال: بينما أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذ أتاه رجل فشكا إِليه فاقة، ثم أتاه آخر فشكا إِليه قطع السبيل، فقال: يا عدي بن حاتم: هل رأيت الحيرة؟ فقلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: فإِن طالت بك حياة: لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إِلا الله. قلت: - فيما بيني وبين نفسي -فأين دُعّارُ (¬7) طيء الذين سَعَّروا البلاد؟. ولئن طالت بك حياة: لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز!! قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة، ح رقم: 4028 وقال في الزوائد إِسناده صحيح. (¬2) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ص 519. (¬3) صحيح البخاري، ح رقم 3636 - 3638 وصحيح مسلم، ح رقم 2800 - 2803. (¬4) سورة القمر، الآيات: 44 - 45. (¬5) صحيح البخاري، ح رقم: 4876. (¬6) المصدر نفسه، ح رقم: 4262 (¬7) دعار: جمع داعر، والداعر: الخبيث المفسد، والمراد هنا قطاع الطريق (النهاية في غريب الحديث والأثر مادة: دعر 2/ 119.

حياة: لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبن الله ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أرسل إِليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى. فيقول: ألم أعطك مالًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إِلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إِلا جهنم. قال عدي: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إِلا الله. وكنت في من افتتح كنوز كسرى بن هرمز. ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - يخرج ملء كفه (¬1). ومن ذلك: إِخباره أن ابنته فاطمة هي أول أهله لحاقًا به (¬2)، فوقع الأمر كما أخبر. وإخباره أن زينب بنت جحش هي أسرع زوجاته لحاقًا به (¬3)، فوقع الأمر كذلك. وإِخباره بقتل عمار - رضي الله عنه - (¬4)، وبصلح الحسن مع معاوية - رضي الله عنه - (¬5). وإِخباره بتقليد طائفة من أمته أعداء الإِسلام حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم (¬6). وإِخباره بتنافس أمته في الدنيا حتى أهلكتهم وفرقتهم (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة ح رقم 3595 وانظر: (فتح الباري 6/ 610). (¬2) صحيح البخاري، ح رقم 3626. (¬3) صحيح مسلم، ح رقم: 2452. (¬4) صحيح البخاري، ح رقم: 447، وصحيح مسلم، ح رقم: 2916. (¬5) صحيح البخاري، ح رقم: 2704. (¬6) المصدر نفسه، ح رقم 7319 و7320. (¬7) المصدر نفسه، ح رقم: 6425 و 6426 وصحيح مسلم: ح 1052.

وإِخباره ببشارة عظيمة لهذه الأمة وهي: بقاء طائفة منصورة على الحق إِلى قيام الساعة (¬1). 4 - ما لم يقع حتى الآن ولكنه أخبر بوقوعه مستقبلا، ومن ذلك أشراط الساعة التي أخبر بوقوعها ولم تقع حتى الآن، وكذا عود الجزيرة العربية مروجًا وأنهارًا، وخراب الكعبة، وخراب المدينة، وحسر الفرات عن جبل من ذهب، وخروج الدجال، ونزول عيسى - عليه السلام -، وخروج يأجوج ومأجوج، والخسوفات الثلاثة، بالمشرق، والمغرب، وجزيرة العرب، وخروج الدابة، وكلام السباع والجمادات للإِنس (¬2). وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن فتح القسطنطينية، وروما. كما في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، عن أبي قبيل قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، وسئل أي المدينتين تفتح أولًا: القسطنطينية أو رومية؟ قال: فدعا عبد الله بصندوق له حَلَق فأخرج منه كتابًا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب إِذْ سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي المدينتين تفتح أولًا: أقسطنطينية أو رومية؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدينة هرقل تفتح أولًا" يعني القسطنطينية (¬3). وقد تحقق الفتح الأول للقسطنطينية على يد السلطان العثماني محمَّد الفاتح سنة 857 هـ (¬4). الموافق 1453م، وبذلك تحقق الشطر الأول من الحديث، أما الشطر الثاني وهو الإِخبار عن فتح روما فلم يقع حتى الآن، وسيقع بحول الله كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، ح رقم: 3640 و 3641. (¬2) انظر: يوسف الوابل، أشراط الساعة، ص 210، 204، 225، 231، 277، 347، 371، 381. (¬3) مسند الإِمام أحمد 2/ 176 ومستدرك الحاكم 3/ 422، 4/ 508 وقال: صحيح الإِسناد، ووافقه الذهبي، وقد صححه العلامة الألباني، في السلسلة الصحيحة ح رقم: 4. (¬4) انظر: المنح الرحمانية في الدولة العثمانية، لابن أبي السرور الصديقي ص 39.

فوائد معرفة الدلائل

فوائد معرفة الدلائل: وهي كثيرة ونشير إِلى بعضها، فمنها: 1 - زيادة الإِيمان والتصديق وهذا أمر يجده المؤمن في نفسه فإِن الإِيمان المبني على العلم والمعرفة، والاطلاع على البراهين الدالة على ذلك، ليس كالإِيمان المتلقى تقليدًا، ومن المعلوم أنه كلما زاد الإِنسان من المعرفة في الشرع مع توفيق الله وهدايته له فإِنه يزيد تصديقه ويتعمق ويرسخ، وكلما علم دليلًا من دلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما زاد إِيمانه وتأكد تصديقه وثبت على الصراط المستقيم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام. 2 - زيادة المحبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -فإِن المحبة من الإِيمان وكلما اطلع المسلم على أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه ودلائل نبوته وبراهين صدقه كلما زادت محبته، وهذا أمر مشاهد في أحوال من تعاشر من الناس، فالذي تعاشره كثيرًا وتعرف أحواله عن قرب تكون صداقتك ومحبتك له غير محبة من لا تعرف عنه إِلا أمورًا عامة مجملة. 3 - الإِيمان والمحبة يدفعان بالمسلم إِلى الاقتداء وتمام التأسي والطاعة لأمره - صلى الله عليه وسلم -، والابتعاد عما ينهى عنه والنفور منه، فالإِيمان والمحبة الصادقة عمل وسلوك إِيجابي، وباعث قوي على الطاعة والاستجابة، وليست مجرد عواطف ومشاعر. 4 - اليقين الجازم بظهور دين الإِسلام وبقائه مهما كثر الباطل وأهله. وهذا يزيل اليأس والقنوط والضعف الذي قد يصيب بعض النفوس، فيأتي هذا اليقين الجازم ليدفعها إِلى العمل الجاد، والثبات على الحق، والدعوة إِليه، وموالاة المؤمنين، والبراءة من الكفار والمشركين.

النوع الثالث: السير والمغازي

النوع الثالث: السير والمغازي والمقصود بها تاريخ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وجهاده في نشر الدعوة في العهدين المكي والمدني، ويدخل في هذا النوع تعاملاته المختلفة مع أهله، ومع أصحابه، ومع غير المسلمين، وما يقع من الصحابة بين يديه أو يبلغه فيقرهم عليه أو يعدل لهم فيه، وسيأتي تفصيل ذلك في فصول الكتاب. ثمرات دراسة السيرة النبوية الأهداف والمقاصد التي ذكرنا بعضها -فيما مضى- ينبغي أن تراعى في المنهج التعليمي، وأن يجعلها المعلمون والمربون نصب أعينهم في تدريسهم وتعاملهم مع طلابهم، وعلى أساس تلك الأهداف والمقاصد تُبنى الشخصية المتكاملة للفرد المسلم والجيل كُلّه كما كان في عهد النبوة والقرون المفضلة، ومن المقرر عند أهل العلم أنه لن يَصْلُح آخر هذه الأمة إِلا بما صَلُح به أولها، والمنهج الذي أخرج خير الأجيال وأعلاها وأكملها، حقيق بالاتباع والاهتمام والاعتماد عليه في مناهجنا التعليمية والفكرية، وفي بناء الأمة الاجتماعي والسياسي والإِداري. والثمرات التي يجنيها الدارس من دراسته للسيرة النبوية كثيرة وواسعة وغير محصورة لكن نذكر بعضها: 1 - تحقيق شطر الشهادة التي هي الركن الأعظم من أركان الإِسلام: وذلك بتحقيق توحيد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فإِن الشهادة بأن محمدًا رسول الله تستلزم أربعة أمور كما قرر أهل العلم (¬1). أ- تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر عن الله وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه وصفاته، ¬

_ (¬1) انظر: الأصول الثلاثة، للشيخ محمَّد بن عبد الوهاب، ص 14.

وعن أوامره ونواهيه، وعن جزاء المتقين المستجيبين في جنات النعيم، وما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما وصف لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذكر فيها لعباده المؤمنين، وما ذكر عن عقوبة المكذبين المعرضين من العذاب الأليم، في نار تلظى، وجحيم مقيم تذوب فيه الجبال الراسيات، وغير ذلك من الأخبار عن الأمور الغيبية والحوادث المنتظرة وعن الملائكة والجن والشياطين. ب- طاعته - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر، بالاستجابة لأمره، والانقياد له وتنفيذ ذلك في واقع الحياة بمختلف صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وعدم التقدم بين يديه، وتقديره والتحاكم إِلى شرعه، والرضا به، والتسليم التام له، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1). وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3). وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4). ج- اجتناب ما نهى عنه وزجر، فكل ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجب اجتنابه والبعد عنه وعن الأسباب والوسائل المفضية إِليه، فإِن الوسائل لها حكم المقاصد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك بكل صوره وأنواعه، فهو أخطر الذنوب وأعظمها وهو أعظم الظلم قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬5) وقد قال عبد الله بن مسعود: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 64. (¬2) سورة النساء، آية: 80. (¬3) سورة النساء، آية: 59. (¬4) سورة الأحزاب، آية: 71. (¬5) سورة لقمان، آية: 13. (¬6) متفق عليه، البخاري، ح رقم: 7520 ومسلم، ح رقم: 141.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» (¬1). فاجتناب المناهي والمحرمات حتم على كل مكلف، وعلى المرء المسلم أن يجعل بينه وبين الحرام وقاية وحمى حتى لا يقع في شيء من محارم الله. د- أن لا يُعبد الله إِلا بما شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى طريقته ومنهجه، وهذا أصل في المتابعة والاقتداء، وضابط في العبادة المشروعة، فلا يزيد العبد على المشروع ولا ينقص، إِنما يتبع ولا يبتدع. قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬2). أي مردود على صاحبه وغير مقبول عند الله بل يعاقب فاعله ولا يثاب، لأنه شَرّع أمرًا ليس عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقرّب إِلى الله بأمر لم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابتدع في الدين بدعة حتى لو كان قصده حسنًا، فلا يكفي حسن النوايا بل لا بد من الدليل الشرعي، فإِن العبادة ليست بالهوى والرغبة والاستحسان العقلي إِنما هي بالاتباع لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستمساك بالكتاب والسنة. 2 - زيادة المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - من ثمرات دراسة السيرة النبوية زيادة المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - المقتضية لزيادة الإِيمان والرغبة في المتابعة، والطاعة لأمره، واجتناب نهيه، وتوقيره واحترام أمره، والاهتداء بهديه، وترك البدع والخرافات التي أحدثها أهل الأهواء ومن لا علم لهم، مثل المغالاة في الإِطراء والتقديس المنهي عنه، الذي يلغي الطبيعة البشرية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإِنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ح رقم: 1338 - (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، ح رقم 1718 من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه من ح عمر بن الخطاب، ح رقم: 3445.

وهذا الغلو ترتب عليه كثير من المخاطر العقدية والتربوية، وأبعد شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مجال المتابعة والاقتداء، وأحل تلك المتابعة والأسوة في الشيوخ المربين الذين يسلكون هذا المسلك ويصورون في أذهان أتباعهم هذه الصور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليكونوا هم بطرق خاصة ومجاهدات -كما يذكرون- الذين ينقلون الصورة ويتمثلونها، والأتباع يقتدون بهم. إِن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - شخصية إِنسانية بشرية كمّلها الله بالوحي، وعصمها من الخطأ في إِبلاغ الرسالة عن الله، فهذه ميزته العظمى أنه رسول يوحى إِليه، وقد خضع في حمله وولادته ورضاعته وشبابه ومرضه ووفاته وسائر أحواله للسنن الفطرية والقوانين الطبيعية التي يخضع لها سائر البشر. فلقد كان حمله طبيعيًا استغرق مدة الحمل الطبيعية نفسها، كما كانت ولادته طبيعية كسائر الولادات، وعانى من فقد الأم والأب ككثير من البشر، وخضع لكفالة الأقارب، ولما بلغ من الشباب عمل في الأعمال الموجودة في مجتمعه كالرعي والتجارة، وتزوج وأنجب، وفقد الإِبن والبنت والزوجة والصديق، وتعرض للأذى والمرض والنصر والهزيمة، وجرح في الحرب، مما يمكن أن يحل بكل إِنسان (¬1). إِن حقيقة المحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - تستلزم سلوك طريقته وهديه، واتباع سنته وتطبيقها في واقع حياتنا وسلوكنا، محبة وتقديرًا وإِجلالًا وتعظيمًا، وتجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى، والابتعاد عن وسائل الشرك والحذر منها، وترك الغلو والاعتقاد في الأموات والمقبورين. ¬

_ (¬1) عمر عبيد حسنه، مرجع سابق ص: 70.

3 - التعرف على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة من دراسة السيرة النبوية بمختلف مواقفها وصورها نتعلم المنهج الدعوي الذي سار عليه رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، وكيف تعامل مع أخطاء الناس، وجفاء الأعراب، ومكايد الأعداء، ودسائس المنافقين، فقد كان رؤوفًا رحيمًا، وكان حريصًا على هداية الخلق إِلى الحق، وكان حكيمًا في معالجة المشكلات والمواقف المختلفة، وكان حليمًا يعذُر الجاهل حتى يتعلم، وبهذا المنهج وهذه الأخلاق استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إِخراج الأمة الأمية من ظلمات الجهل والتعصب، والشتات والتفرق، إِلى نور الإِسلام، وهداية الرحمن، والترقي في ذلك حتى كانت خير أمة أخرج للناس. إِن الناظر في أحوال العرب في جاهليتهم وما فيهم من قسوة الطباع، وقوة العصبية، والتعلق بعبادة الأصنام وطاعة الجان والكهان، وتقديس التقاليد والعادات، وموروث الآباء والأجداد من غير تأمل ولا برهان، ليعجب كيف تحولت أخلاقها وتبدلت طباعها في وقت وجيز، فصارت أمة ذات علم وحضارة؛، وأخلاق سامية، وجهاد في سبيل الله لهداية الخلق جميعًا إِلى الهدى والنور، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممتثلًا لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1). قال عبد الله بن الزبير: -كما في صحيح البخاري (¬2) - أُمِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. أي يتجاوز عن أخطائهم وما لا ينبغي من أقوالهم وأفعالهم. والوقائع الدالة على ذلك كثيرة جدًا: منها قصة الأعرابي الذي جذب برداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، حتى أثرت حاشية الرداء في ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 199. (¬2) ح رقم: 4643.

صفحة عاتقه - صلى الله عليه وسلم - طالبًا منه أن يعطيه من مال الله، فكان رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نظر إِليه بكل هدوء ثم تبسم في وجهه وأمر له بعطاء (¬1). ومنها قصة الشاب الذي جاء إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه. فزجروه قالوا: مَهْ، مَهْ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ادْنه فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: أفتحبه لأمك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- قال: ولا الناس يحبونه لأُمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك قال: لا والله -جعلني الله فداءك- قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحيه لخالتك؟ قال: لا والله -جعلني الله فداءك- قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحَصِّن فرجه، فلم يكتب بعد ذلك الفتى يلتفت إِلى شيء (¬2). فقد ناقش النبي - صلى الله عليه وسلم - الشاب مناقشة عقلية منطقية وأحسن التصرف معه، ولم يزجره وينهره رغم الجرأة وسوء الأدب في طلبه، وتدرج معه في الخطاب حتى اقتنع وتبين له خطؤه في هذا الطلب. ومنها قصة الأعرابي الذي بال في طائفة من المسجد النبوي فكان التصرف معه حكيمًا مراعيًا لعدد من المصالح الشرعية (¬3). والمنهج النبوي في الدعوة مستمد من قول الله سبحانه وتعالى له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، ح رقم: 3149 ومسلم، ح رقم: 128. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 256، 257 من طريقين بإِسناد صحيح من حديث أبي أمامه الباهلي. (¬3) صحيح مسلم، ح رقم: 24. (¬4) سورة النحل، آية: 125.

فمعالم المنهج النبوي في الدعوة من خلال الآية السابقة هي: * الإِخلاص لله وابتغاء ثوابه والدعوة إِلى سبيله وحده لا سبيل غيره. * العلم الشرعي بكل ما يدعو إِليه من عقائد وأحكام وآداب وهو الحكمة المأمور بها في الآية. * التذكير بالله وصفاته ودلالات تلك الصفات والأسماء، وبعظمته ودقة خلقه وبديع صنعه، واستشعار رقابته وإِحاطته بالعبد، وبيان ثوابه وعقابه والدال عليه من الآية قوله: {وَالْمَوْعِظَةِ}. * الرحمة والشفقة بالمدعوين والإِحسان إِليهم وإِلانة الكلام معهم حتى تكون الموعظة والتذكير حسنة وإِحسانًا. * استعمال الأسلوب الأمثل والمناسب لكل حالة، والمعبر عنه في الآية بالحكمة، والتي تعني وضع الشيء في موضعه، وهذا أحد معانيها. 4 - التعرف على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادة والسلوك من أهم معالم المنهج النبوي في العبادة والسلوك: * إِخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وعدم تحميل النفس ما لا تطيق، والحث على لزوم السنة والجماعة، والحذر من البدع والمحدثات. وأنه إِذا عمل عملًا داوم عليه، وقال: (خير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قَلّ) (¬1). * كثرة الذكر لله سبحانه وتعالى والمحافظة على الأذكار في كل أحواله، أذكار الصباح والمساء، والذكر عقب الصلاة، والذكر المطلق، والذكر في المناسبات، (عند دخول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب القصد والمداومة على العمل ح رقم: 6464 ومسلم، ح رقم: 2818 من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

المنزل، وعند الخروج منه، وعند النوم، وعند دخول المسجد، وفي السفر، وعند ركوب الدابة ... إِلخ). وكثرة الاستغفار والتوبة واللجوء إِلى الله، وكذا الصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن المعاشرة للناس ولأهله. * الزهد في الدنيا، والزاهد هو الذي يجعل الدنيا في يده لا في قلبه، فينفق ما يحصله منها في طاعة الله، مما يجب عليه من النفقات، وفي سد حاجة المحتاجين، فإِن هذا الإنفاق هو الباقي للإِنسان، الذي يحسب في رصيده في الآخرة، فقد روت عائشة - رضي الله عنها -: أنهم ذبحوا شاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي إِلا كتفها. قال: «بقي كُلُها غير كَتِفِها» (¬1). فهذا الحديث وأمثاله يبين حقيقة معنى الزهد، وأنه فعل إِيجابي تجاه النفس والمجتمع، وليس أمرًا سلبيًا- كما قد يفهم البعض- أو قعودا عن الكسب والعمل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» (¬2). وقد قال أهل العلم: إِن الزهد هو ترك ما لا ينفع في الآخرة (¬3). أي والحرص على ما ينفعك في الآخرة. * الورع، وهو: ترك ما تخشى عقوبته شي الآخرة. أي مما لم تتضح حرمته لكن فيه شبهة، أو في تركه صيانة للعرض، أما المحرم فمن الواجب تركه وليس من الورع فحسب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه عرضه» (¬4). فالورع استبراء للدين والعرض. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب رقم 33 ح رقم: 2470 وقال: حديث صحيح. (¬2) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، برقم: 1042. (¬3) انظر مجموع الفتاوى 10/ 615 وما بعدها. (¬4) صحيح البخاري، ح رقم: 52، 2051.

5 - تنمية الولاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والبراءة من أعدائه في الماضي والحاضر في دراسة السيرة النبوية والاطلاع على أحواله ومواقفه - صلى الله عليه وسلم -، وأحوال الصحابة - رضي الله عنهم -، ينمو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ويزداد ويترسخ، ويترتب على هذا البراءة من الكفار والمشركين وكل أعداء الملة والدين في الماضي والحاضر، مع العدل والقسط وفق أحكام الشريعة. والولاء والبراء من أعظم العناصر التي تحافظ على هوية الأمة وتميزها، وهو حصن قوي يجب الاهتمام به حتى تضمن الأمة استقلال شخصيتها وتميزها. والولاء والبراء عمل قلبي مؤثر في السلوك، ومنضبط بأحكام الشريعة، ويرتبط بالمحبة لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). 06 التعرف على آثار الجهاد في تحرير الأمم والشعوب من ثمرات دراسة السيرة النبوية التعرف على آثار الجهاد في تحرير الأمم والشعوب، وإِزالة الظلم عنها، وإِخراجها من الظلمات وعبادة الطاغوت إِلى عدل الإِسلام ورحمته، وتحكيم شرعه الذي ضمن لهم العدل وتحقيق الإنسانية الحقة، وممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية الفطرية كما أراد له خالقه، فأتيحت له الحرية، وأزيلت من أمامه العوائق التي تمنعه من الاختيار الصحيح، فإِن الجهاد كما هو معلوم ليس لإِجبار الناس على اعتناق الإِسلام، وإِنما هو لإِزالة الموانع والحواجز والأنظمة التي تصد عن سبيل الله، ولا تتيح الحرية للناس ليختاروا لأنفسهم بعد تمعن وتأمل في دلائل التوحيد، وهم يرون أمام ¬

_ (¬1) سورة المجادلة الآية: 22.

أعينهم النموذج المثالي مطبقًا في الواقع بكل نظافته وعدله واستقامته، فلا يكتفون بدعوتهم إِلى مُثُل ونظريات جميلة غير مطبقة في الواقع، وإِنما يدعونهم إِلى أمر بَيّن يشاهدون تطبيقه في الواقع. إِنها فتوحات لتمكين الناس من رؤية الحق واقعًا معاشًا، ولذلك كانت الفتوحات الإِسلامية ذات طبيعة مستقرة لأنها مطابقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فاستقبلتها النفوس السليمة بكل ترحاب وقبلتها، فالفتوحات الإِسلامية وجهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إِنقاذ للبشرية من ظلم بعضهم بعضًا، ومن جور الأديان المبتدعة والمحرفة إِلى رحمة الإِسلام وعدله، وسعة الدنيا والآخرة كما قال ربعي بن عامر أمام رستم: "إِن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إِلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إِلى عدل الإِسلام، ومن ضيق الدنيا إِلى سعة الدنيا والآخرة" (¬1). 7 - بيان موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ومكائدهم من ثمرات الدراسة للسيرة النبوية، التعرف على موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من النفاق والمنافقين، وكيف تجاوز مكائدهم الكثيرة حتى فضحهم الله، وعرفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بسيماهم ولحن قولهم، بل عَرّفه الله بأسمائهم، فأخذ المسلمون حِذرهم منهم، رغم ما أصاب بعضهم من آثار دسائسهم، بل حتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصله أذاهم في أهله عندما جاء عصبة منهم بالإِفك، لكن جعل الله في ذلك خيرًا، ورفع درجة من ابتلى من المؤمنين بسببهم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} (¬2). ¬

_ (¬1) ابن جرير الطبري، تاريخ الأُمم والرسل 3/ 520. (¬2) سورة النور، آية: 11 وانظر تفصيل ذلك في مسند الإِمام أحمد 6/ 194 وصحيح البخاري ح رقم: 4750 وسيرة ابن هشام 2/ 267 وتفسير ابن كثير 6/ 19 - 26.

وهذا فيه درس للمؤمنين على مر الأزمان ليأخذوا حذرهم ويحتاطوا في أمرهم، ولا يقعوا في شيء من حبائلهم ودعاواهم التي يزخرفونها ويظهرون منها إِرادة الإِصلاح وهم في واقع أمرهم مفسدون مخادعون لله ولرسوله وما يخدعون إِلا أنفسهم وما يشعرون، كما قال تعالى في وصفهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬1). 8 - الاطلاع على مواقف اليهود من الرسالة والرسول -صلى الله عليه وسلم- من الثمرات المهمة، التعرف على مواقف اليهود من الرسالة والدعوة النبوية، فقد عاملهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن قُرب، وعقد معهم معاهدات ومواثيق، ولكنهم غلب عليهم طبعهم وحَلّت عليهم الشقاوة، فنقضوا العهد معه قبيلة تلو الأخرى، وحاق بهم نتيجة غدرهم، ومَكّن الله رسوله منهم، فأجلى بعضهم، وقتل بعضهم جزاء غدرهم وخيانتهم العظمى في ميدان القتال والمواجهة مع الأحزاب الكافرة، فكان ذلك حكم الله فيهم، وقضاءه العادل لشناعة فعلهم ومكرهم بالمؤمنين. فأين المعتبرون؟ وكيف يوثق في يهود وهذا تاريخهم؟ وقد عَرّفنا الله من أخبارهم مع رسلهم مثل هذه المواقف الغادرة، والطرق الملتوية. وواقع التعامل معهم في قضية فلسطين يثبت هذا الخلق المتأصل في المحاربين منهم، وأنهم كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم. قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 8 - 10. (¬2) سورة البقرة، آية 100.

9 - عدم اليأس والثقة بنصر الله لدينه ولأوليائه الصالحين المطلع على سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسَيرِ دعوته، يلاحظ في أول الأمر شدة الضغوط التي واجهها - صلى الله عليه وسلم - ثم يرى بعد ذلك انتقالها من نصر إِلى نصر، وازدياد أتباع الدعوة من أهل مكة، ثم من النُّزاع من القبائل رغم الأذى الشديد والمواجهة القوية من المشركين، وتنويعهم الأساليب في محاربة الدعوة وأهلها، يدرك بكل يقين عناية الله وتوفيقه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين ونصرهم على عدوهم،، وهذا مما يقوي الثقة في نفوس المؤمنين في كل مكان وكل زمان، بأن العاقبة لهم والتمكين سيكون لدينه وحملته، فيجدُّوا ويجتهدوا ويثبتوا حتى يأتيهم النصر، وما يرونه من ظهور الكفار وسيطرتهم في فترة من فترات الزمن لن يكون وضعاً دائماً بل سيزول ويظهر أهل الحق، وهذا من أعظم العوامل على محاربة اليأس، والقيام بالواجب الشرعي حسب المقدرة والاستطاعة، والاجتهاد في ذلك، ومغالبة الكفار حتى يمتلك المسلمون زمام القوة وعُدّة النصر عليهم. واعلم أن النصر من الله، وله شروط ومستلزمات لا بد من التحقق بها حتى يأتي نصر الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬1). وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2) فشرط التمكين والاستخلاف في الأرض وحصول الأمن وانتفاء الخوف هو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي هو الإِيمان والعمل الصالح المذكور في أول الآية. ¬

_ (¬1) سورة محمَّد، آية 7. (¬2) سورة النور، آية 55.

10 - التمسك بالدين والصبر على ما يلاقي المرء في طريق الدعوة لقد لاقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنوفًا من الأذى في سبيل الدعوة إِلى الله، وإِبلاغ ما أنزل إِليه من ربه، فقد اتهمه المشركون في عقله وسلوكه وهو بريء من ذلك، وأعداؤه يعرفون هذا، لكن الخصومة والمغالبة والاعتداء وصل بهم إِلى هذا الأمر، فقالوا عنه - صلى الله عليه وسلم -: إِنه مجنون، وشاعر، وساحر، وقالوا عن ما جاء به من الوحي والهدى أساطير: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬1). وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬2). فرد الله عليهم كذبهم فقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (¬3). لأنهم ادعوا أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأتي بالقرآن من عند رجل نصراني كان يمتهن النجارة عند الصفا، وهو أعجمي وهذا القرآن لسان عربي مبين، فكيف يتفق أن يأتي الأعجمي الذي لا يعرف العربية بهذا القرآن العربي الفصيح؟! إِن هذا محال .. ولكن كما قيل: الخصومة حجاب ساتر عن إِدراك الحق. لقد واجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل أنواع الأذى في العهد المكي بالصبر (¬4)، وكذلك أصحابه صبروا على ما لا يُصبر عليه عادة، مع أنهم عرب، وعاشوا في بيئة تتصف بسرعة الغضب والانتقام، وتقدس الثأر. وحروب العرب وأيامها في الجاهلية غالبها كانت لأسباب تافهة كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، آية هـ. (¬2) سورة النحل، آية 103. (¬3) سورة النحل، آية 103. وانظر: تفسير ابن كثير 4/ 603 والسيرة النبوية لابن هشام 1/ 393. (¬4) ومع ذلك أخذ - صلى الله عليه وسلم - في البحث عن مخرج من الوضع الذي هو فيه فأذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ثم أخذ يسعى في طلب النصرة من خارج مكة حتى وجد الأنصار، فهاجر، ثم شرع الله له الجهاد، فجاهد وردّ الأذى عن أصحابه. ولكن يبقى الصبر له قيمته وأثره، والجهاد محتاج للصبر، والعبادة محتاجة للصبر للقيام بمتطلباتها، وترك المعاصي والشهوات محتاج للصبر، فهو صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة. (¬5) انظر النويري، نهاية الأرب 15/ 396.

إِن الصبر قيمة خُلقيهَ مرتبطة بالإِيمان بالله واليوم الآخر، والإِيمان بأن ما يفوت الإِنسان في الدنيا يأتيه في الآخرة. ولهذا لما آمن الصحابة بمعاني الصبر هذه تحملوا الأذى، حتى إِن سمية أم عمار رضي الله عنهما وهي جارية ضعيفة لا يؤبه لها في مجتمع مكة، تصمد أمام الجبابرة ولا يفرحوا منها بكلمة تخدش في دينها حتى لاقت وجه الله شهيدة في سبيل الله. وبلال -رضي الله عنه - يعجزهم رغم ما صبُّوا عليه من الأذى، وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم أصابهم الأذى وصبروا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناله الأذى الجسدي بعد الأذى المعنوي، فضُرِب، وحوصرِ، وأُخرِج من أرضه وأحب البلاد إليه مكة المكرمة، فصبر وضحّى بذلك حتى أظهره الله عليهم ومَكنه منهم يوم الفتح فما انتقم ولكن عفا وأكرم (¬1). قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬3). وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 402 - 426. (¬2) سورة العصر، الآيات: 1 - 3. (¬3) سورة الشورى، آية: 43. (¬4) سورة آل عمران، آية: 120.

جغرافية بلاد العرب

جغرافية بلاد العرب بلاد العرب هي شبه جزيرة تحدها البحار من ثلاث جهات: البحر الأحمر من الغرب، والخليج العربي من الشرق، وبحر العرب من الجنوب. وقد تسمى: جزيرة العرب من باب التغليب، وهي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من قارة آسيا، وتمثل رابطًا بين قارات العالم القديمة، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهذا الموقع أكسبها أهمية تجارية وسياسية حيث تمر بها أشهر الطرق التجارية القديمة التي تربط آسيا مع دول حوض البحر المتوسط. والجزيرة العربية تمثل مع امتدادها في بلاد الرافدين والشام ومصر أرض النبوات ومهد الحضارات، وتنقسم جغرافية بلاد العرب إِلى أقسام: 1 - تهامة، وهي الشريط الساحلي على البحر الأحمر الممتد من خليج العقبة في الشمال حتى باب المندب في اليمن جنوبًا، ويضيق ويتسع بحسب قرب جبال السروات من البحر أو بعدها. 2 - الحجاز، وهي سلسلة من المرتفعات الفاصلة بين تهامة ونجد وهي موازية لتهامة من الشرق وتسمى: جبال السروات، واسم الحجاز يشمل الجبال والساحل خاصة من الليث جنوبًا إِلى المدينة وينبع شمالًا. 3 - نجد، وهي ما ارتفع من الأرض شرقي جبال السروات وتأخذ في الامتداد شمالًا إِلى صحراء النفود الكبير، وشرقًا إِلى صحراء الدهناء الفاصلة بين نجد والأحساء، ويقع في قلبها مدينة الرياض، وفي طرفها الشمالي الغربي منطقة القصيم، وفي جنوبها وادي الدواسر والافلاج والخرج، وفي شمالها حائل .. 4 - الأحساء والبحرين، وما جاورها على الخليج العربي، إِلى الكويت في رأس الخليج.

5 - اليمن، وتشمل الجزء الجنوبي من جبال السروات وما يقابلها من سهل تهامة إِلى عدن. 6 - حضرموت وعُمان وإِمارات الخليج العربي، (دولة الإِمارات العربية المتحدة وقطر). 7 - صحراء الربع الخالي في الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية، ولها امتدادان إِلى الشمال، أحدهما: صحراء النفود غربي الرياض، والثاني: صحراء الدهناء شرقيها، ويشكلان في شمال الجزيرة صحراء النفود الكبير. ومناخ جزيرة العرب صحراوي ما عدا المرتفعات التي يعتدل جوها صيفًا، والأمطار قليلة لكنها على المرتفعات الجنوبية أكثر، ويوجد بها عد د من الواحات التي اشتغل أهلها بالزراعة، أما الغالبية من السكان فكانوا في زمن البعثة يعملون في الرعي وينتقلون من مكان إِلى آخر حسب الخصب ونزول المطر، ويشتغل طائفة منهم بالتجارة خاصة أهل مكة واليمن وحواضر الخليج. وقد امتن الله على قريش بالأمن وبرحلتي الشتاء والصيف التي يرحلونها في التجارة وطلب الرزق. قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} (¬1). وتعتبر الجزيرة العربية موطن الشعوب السامية، وقامت بها عدد من الدول والحواضر القديمة مثل عاد قوم هود بالأحقاف، ومثل ثمود قوم صالح بالحجاز وشمال الجزيرة، ومثل أهل مدين قوم شعيب في الشمال الغربي للجزيرة، ومثل دول مَعِين، وسبأ، وحِمْيَر في اليمن، ودولة كِنْدة في نجد، كما قامت في مكة المكرمة بعد بناء إِبراهيم وابنه إِسماعيل الكعبة المشرفة إِمارات الجراهمة، ثم خزاعة، ثم قريش حين جمعهم قُصَيّ بن كِلاَب. ¬

_ (¬1) سورة قريش: الآية 1 - 4.

مكانة مكة المشرفة وحرمتها

مكانة مكة المشرفة وحرمتها لقد أمر الله سبحانه وتعالى أن تكون مكة بلدا آمنا وحرمًا معظمًا، فشرع حرمتها يوم خلق السموات والأرض، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم فتح مكة: " ... فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض وهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، وإِنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إِلا من عرفها، ولا يختلى خلاها" (¬1). قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (¬2). وقال ممتنا على قريش أهل البلد الحرام: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ .... الآيه} (¬4). فمكة المشرفة جعلها الله واحة أمن وسلام، وشرع ذلك وأوجبه، يأمن الناس كلهم بل حتى الطير والنبات، ومن دخل مكة وجب أن يؤمَّن ولا يؤذى، فهو بجوار بيته الذي وضعه للطاعة والعبادة وبارك فيه، وجعله سببا للهداية وأقام فيه آيات بينات منها مقام إِبراهيم الذي رفع قواعد البيت بأمر الله، وطهره للطائفين والقائمين والعاكفين والركع السجود. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) سورة العنكبوت، آية: 67. (¬3) سورة قريش: آية 4. (¬4) سورة آل عمران، آية: 96. (¬5) سورة البقرة، آية: 125.

فهو مثابة للناس يتوبون إِليه، أي يرجعون مرة بعد مرة لما يجدون في ذلك من الخير العظيم وتكفير الذنوب والسيئات ومضاعفة الحسنات، وما فيه من الأمن والراحة والطمأنينة. وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1).ففي هذه الآية بيان لأهم وسائل الأمن وهو توحيد الله، والبعد عن الشرك ووسائله وأسبابه. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال: "إِن أبغض الناس إِلى الله ثلاثة، ملحد في الحرم، ومبتغ في الإِسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم أمريء بغير حق ليهريق دمه" (¬2). وروى الإِمام أحمد من حديث عياش بن أبي ربيعة -رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة (أي حرمة مكة) حق تعظيمها فإِذا تركوها وضيعوها هلكوا" (¬3). ألا فليتق الله سكان حرم الله والوافدين إِليه وليعظموا هذا الحرم، بإِقامة شعائر الله وتعظيمها {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬4). وليحذروا مما حَذّر الله منه في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬5). فهذا وعيد شديد لمن يهم بسيئة في حرم الله، فكيف بمن فعل السيئة، أو ترك الواجب عليه من الصلاة، والزكاة، والصوم، وبر الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .... الخ. ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: 26. (¬2) صحيح البخاري. (¬3) المسند 4/ 347، وحسنه ابن حجر كما في الأربعين المكية ح (13). (¬4) سورة الحج، آية: 32. (¬5) سورة الحج، آية: 25.

يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في تفسير الآية السابقة: لو أن رجلًا هم فيه بإِلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما (¬1). ومن العجب أن أهل الجاهلية كان لهم نصيب من تعظيم البلد الحرام ومراعاة حرمته، فكان أحدهم يلقى قاتل أبيه أو أخيه في البلد الحرام فلا يعرض له حتى يخرج من البلد الحرام، وإِذا أصابتهم غارة أو اعتداء لجؤا إِلى الحرم للإِحتماء به. وهذه إِمرأة من أهل الجاهلية توصي إِبنها بتعظيم الحرم وتحذره من الظلم فيه فتقول: أبنيّ لا تظلم بمكة ... لا الصغير ولا الكبير أبني من يظلم بمكة ... يلق آفات الشرور أبني قد جربتُها ... فوجدت ظالمِها يبور لقد أحاط الله مكة بثلاث دوائر تعظيمًا لها وحماية لحرمها، وسماها أم القرى، لأن القرى كلها ترجع إِليها، ففيها الكعبة المشرفة قبلة المسلمين. الدائرة الأولى: دائرة الحرم بحدوده المعلومة حيث بينها الله لإِبراهيم -عليه السلام - ووضع لها أعلامًا توارثها الناس حتى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بتجديد أعلام الحرم، ثم قام عمر ابن الخطاب في خلافته بتجديدها، وما زال أمراء المسلمين وحكام البلد الحرام يعتنون بهذه الأعلام ويجدِّدونها لارتباطها بأحكام شرعية وضحها - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، بأنه لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها. كما أن الصلاة في مسجدها بمائة ألف صلاة، بل كل حرمها تفضل فيه أعمال الخير والبر كما ذهب لذلك جمع من العلماء. (انظر: خريطة حدود الحرم وأعلامه) ¬

_ (¬1) مسند أحمد، وانظر: تفسير ابن كثير 5/ 411 وقال: إِسناده صحيح على شرط البخاري.

خريطة حدود الحرم المكي

الدائرة الثانية: دائرة المواقيت، وهي من وراء أعلام الحرم، وقد أوجبت الشريعة أن لا يتجاوزها من أراد الحج أو العمرة إِلا وهو محرم، وأقرب المواقيت إِلى مكة وادي محرم في طريق الهدى على مسافة 66 كم، وأبعدها ميقات أهل المدينة ذي الحليفه 420 كم. (انظر: خريطة المواقيت). محاذاة المواقيت المكانية بخطوط الطول والعرض

الدائرة الثالثة: الجزيرة العربية حيث خصتها الشريعة بخصائص وأحكام (¬1). لتكون حصنًا واقيًا وحمى من بعيد للحرم الآمن والبلد المقدس أم القرى. (انظر خريطة الجزيرة العربية) ¬

_ (¬1) انظر ذلك مفصلًا عند بكر بن عبد الله أبو زيد، خصائص جزيرة العرب

أصول العرب وقبائلهم

أصول العرب وقبائلهم يقسم المؤرخون العرب في تسلسلهم وأصولهم إِلى ثلاثة أقسام رئيسة: 1 - العرب البائدة وهم القبائل والدول القديمة مثل عاد، وثمود، والعمالقة، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، وقد امتد ملك بعضهم إِلى الشام ومصر. وهؤلاء قد اندرسوا ولم يبق منهم باقية إِلا بعض آثارهم المادية التي خلفوها لتكون عبرة وعظة لمن يأتي بعدهم، وبعضهم مذكور خبرهم في القرآن الكريم مثل: عاد، وثمود، وقوم شعيب، وأن الله أهلكهم بسبب كفرهم وعدم استجابتهم لرسلهم. 2 - العرب القحطانية وهم العرب المنحدرة أصولهم من يعرب بن يشجب بن قحطان، ويسمون العرب القحطانية، ويعرفون بعرب الجنوب، ومنهم ملوك اليمن في دول مَعِين، وسبأ، وحِمْير، وبقي بعض ملوكهم وأمرائهم إِلى أن قام عليهم الإِسلام. 3 - العرب العدنانية نسبة إِلى عدنان الذي ينتهي نسبه إِلى إِسماعيل بن إِبراهيم عليهما السلام وموطنهم الأصل مكة، وانتشروا في الشمال وفي نجد والبحرين وعلى حدود العراق، ومن أشهر فروع العرب العدنانية، مضر، وربيعة. ومن مضر القبائل القيسية والكنانية، وقريش من كنانة، ولقريش فروع شتى، جُمح، وسَهْم، وعَدِي، وتَيْم، ومخزوم، وزُهْرة، وعبد الدار، وعبد مناف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله اصطفى كنانة من ولد إِسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم 2276.

شجرة نسب الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى قصي

شجرة نسب الرسول (صلى الله عليه وسلم) إِلى قصي * قصي: (1) عبد مناف. (2) عبد العزى. (3) عبد الدار (وفيهم حجابة البيت). * عبد العزى 1 - هاشم. 2 - المطلب. 3 - عبد شمس. 4 - نوفل. * هاشم. (1) عبد المطلب. 1 - عبد الله ** سيدنا محمد: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) 2 - أبو طالب ** علي (رضي الله عنه) 3 - أبو لهب. 4 - الزبير. 5 - الحارث. 6 - حمزة. 7 - العباس ** عبد الله (ومنهم العباسيون) 8 - المقوم. * عبد شمس: 1 - حبيب. 2 - أمية الأكبر. 3 - أمية الأصغر (وهم العبلات) ومنهم الثريا صاحب عمر بن أبي ربيعة. 4 - عبد أمية. 5 - نوفل. 6 - عبد العزى. 7 - ربيعة عبد الله. * أمية الأكبر: 1 - أبو العاصي. من نسله: عثمان بن عفان والعرجي الشاعر ومروان بن الحكم وأولاده. 2 - العاصي. 3 - العيص. 4 - أبو العيص. 5 - عمرو. 6 - حرب. 7 - أبو حرب. 8 - سفيان. 9 - أبو سفيان. * حرب: 1 - أبو سفيان. 2 - الحارث. 3 - عمرو وآخرون * أبو سفيان: 1 - معاوية. 2 - عتبة (من نسله العتبي الشاعر). * معاوية: 1 - يزيد. * يزيد. 1 - معاوية.

شجرة نسب الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى مضر

شجرة نسب الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى مضر * إلياس بن مضر: 1 - طابخة. 2 - مدركة. 3 - قمعة. * مدركة: 1 - خزيمة. 2 - هذيل (ومنهم نيف وسبعون شاعرًا). 3 - خزاعة (ومن قمعة كثير الشاعر). * خزيمة: 1 - كنانة. 2 - الهون. 3 - أسد. * كنانة: 1 - النضر. 2 - عبد مناة. * النضر. 1 - مالك. * مالك: 1 - فهر (قريش). * فهر (قريش): 1 - غالب. 2 - محارب. 3 - الحارث. * غالب: 1 - لؤي. 2 - تميم (وهو الأدرم). 3 - قيس. * لؤي: 1 - كعب. 2 - عامر (ومن نسله: سودة بنت زمعة أم المؤمنين). * كعب: 1 - مرة. 2 - هصيص (ومنه جمح). 3 - عدي (ومن نسله: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) * مرة: 1 - كلاب. 2 - تيم (ومن نسله: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وأمه أم الخير سلمى). 3 - يقظة (ومنهم مخزوم الذين منهم: فاطمة أم عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) * كلاب: 1 - قصي. 2 - زهرة (ومن زهرة: سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف) * زهرة: 1 - عبد مناف. * عبد مناف: 1 - وهب. * وهب: آمنة أم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

وتقسيم العرب إِلى عدنانية وقحطانية هو رأي جمهرة علماء الأنساب، ويرى آخرون أن العرب جميعًا العدنانيه والقحطانيه ينتسبون إِلى إِسماعيل -عليه السلام - وعلى هذا الرأي الإِمام البخاري حيث ترجم في صحيحه: باب نسبة اليمن إِلى إِسماعيل -عليه السلام -. منهم: أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة (¬1). وأورد حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم من أسلم يتناضلون بالسوق فقال: ارموا بني إِسماعيل فإِن أباكم كان راميا ... الحديث (¬2). وخزاعة من القبائل القحطانية التي هاجرت إِلى الحجاز بعد خراب سد مأرب باليمن. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المناقب .. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، ح رقم 3507.

أحوال العرب قبل البعثة النبوية

أحوال العرب قبل البعثة النبوية 1 - الأحوال السياسية ينقسم سكان الجزيرة العربية إِلى بدو وحضر، والنظام السائد بينهم هو النظام القبلي، ولم يعرفوا الاجتماع على دولة إِلا في أحوال قليلة، وعلى مساحات ضيقة، فالجزيرة العربية طوال تاريخها قبل الإِسلام لم تعرف وحدة سياسية جامعة، وحتى في الدول التي قامت في اليمن أو في أطراف الجزيرة في الشام والعراق، لم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما بقيت القبائل وحدات، لها نفوذها واستقلالها، وأوضح مثال حالة مكة قبيل وزمن البعثة النبوية، فلا يوجد رأس للدولة له سلطات، ولا مؤسسات إِدارية وسياسية، وإنما تآلف وتعاون قبلي على حسب الأسر وقوة رجالاتها. والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في الصحراء الواسعة ينتقل كما يشاء من غير قيود، ولذا كانت الحرية من خصائص العرب، يأبون الضيم والذل، ويفتخرون بالقبيلة ويدافعون عن حماها وحرماتها، ويشيدون بأيامهما ومفاخرها، وينتصرون لكل فرد من أفرادها سواء كان محقًا أو مبطلًا، ولهذا كان من أقوالهم: انصر آخاك ظالمًا أو مظلومًا (¬1). ويقول شاعرهم: وهل أنا إِلا من غزيّة إِن غوت ... غويت وإِن ترشد غزية أرشد فالقبيلة لها شخصيتها السياسية المستقلة، تعقد الأحلاف وتشن الغارات حسب مصلحتها وأوامر رجالاتها. ¬

_ (¬1) وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول وبين معناه الصحيح، وأن نصره ظالما: بردعه عن الظلم.

2 - الأحوال الدينية

ولهذا لم يكن لهم في آخر عهدهم أثر في السياسة الدولية، لأنهم وحدات صغيرة متفرقه، بل خضعوا في بعض أطرافهم لنفوذ الدولتين الكبيرتين في ذلك الزمن: الفرس والروم، واستُعمِرت اليمن من قبل الأحباش، وبلغ الأمر بأبرهة الحبشي أن غزا الكعبة وأراد هدمها، ولم يستطع العرب مواجهته، لأنهم لم يجتمعوا له في جيش واحد، وإِنما واجهوه قبيلة قبيلة، فلم يصنعوا شيئًا، وكان غاية ما صنعه بعضهم أن أرسلوا مع أبرهة من يَدُلَّه على الطريق إِلى مكة كما فعل أبو رغال الطائفي الذي مات بالمغمس قرب مكة، وكرهه العرب لخيانته فصاروا يرجمون قبره. وعندما أراد سيف بن ذي يزن التحرر من استعمار الأحباش لجأ إِلى سلطان الروم فلم يجبه، ثم لجأ إِلى كسرى فارس فأمده بعد جهد. 2 - الأحوال الدينية أمم العرب القديمة وصَمَهم القرآن بالشرك وعبادة الأوثان ولهذا أهلكهم الله لما جاءتهم الرسل بالآيات فلم يؤمنوا، ونَجّى الله الرسل ومن استجاب لهم. وكذا الدول التي قامت في اليمن كانت وثنية يعبدون الكواكب والأصنام، وقد ذكر الله قصة سبأ وأنهم كانوا يسجدون للشمس من دون الله، وقد استجابت ملكتهم لسليمان - عليه السلام - وأسلمت لله رب العالمين، لكن قومها الذين بقوا على الشرك سَلّط الله عليهم سيل العرم فأهلك طائفة منهم، وطوائف هاجروا وتفرقوا في الأرض حتى ضُرِب بهم المثل فقيل: تفرقوا أيدي سبأ. وفي مكة المكرمة رفع إِبراهيم وابنه إِسماعيل القواعد من البيت وجعله مثابة للناس وآمنا، ودعا لأهله بالأمن والبركة وجباية الخيرات من كل مكان، فكانوا على التوحيد والحنيفية السمحة ملة أبينا إِبراهيم، ثم مع مرور الزمن ابتلوا بما ابتلى به غيرهم، فغيروا ملة إِبراهيم، وجاء عمرو بن لُحَيّ الخزاعي بالأصنام وأمر العرب بعبادتها، وانتشرت نتيجة لذلك بينهم عبادة الأصنام وبالغوا في ذلك كثيرًا.

روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطَاردي قال: كنا نعبدُ الحَجَر فإِذا وجدنا حجرًا هو أخْيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخَرَ، فإِذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثْوةً من تراب ثم جئنا بالشاةِ فحلبناه عَليهِ ثم طُفْنا به (¬1). بل كان من العرب من يصنع الصّنم من عجوةِ التمرِ فإِذا جاعوا أكلوه. ومن أصنام العرب المشهورة: اللات: بالطائف، لثقيف. العُزّى: بوادي نخلة شرق مكة، وهي لقريش. مناة: في المشلل بقديد، وهي للاوس والخزرج. هُبل: منصوب في جوف الكعبة. إِسَافُ ونائلة: منصوبان على بئر زمزم. وَدّ: في دُومة الجندل، وهو لبني كلب بن وبرة من قضاعة. سُواع: في رهاط شمال شرق مكة، وهو لهذيل. يغوث: في جُرَش قرب بيشة، وهو لبني مذحج. يعوق: في اليمن، وهو لقبيلة هَمْدَان. نَسْر: في أرض حمير، وهو لذي الكُلاَع. ومن العرب من كان يعبد الجن، ويعبد الكواكب، فصارت الوثنية هي الغالب عليهم ويوجد بقايا على الحنيفية لكنهم أفراد قلائل. وبعض العرب تأثر بديانة الفرس المجوسية. أما اليهودية فقد انتشرت في اليمن، وفي شمال الجزيرة في يثرب، وخيبر، ووادي القرى، حيث وفد عليها قبائل من اليهود من فلسطين عندما حصل عليهم الاضطهاد من الغزاة الكلدانيين، ثم الرومان. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة ح 4376.

أما النصرانية فقد جاءت مع الأحباش، وانتشرت في بعض البلدان في اليمن، ونجران وغيرها، وكان لها وجود في شمال الجزيرة وشرقها. واليهودية والنصرانية قد حُرِّفتا وبدلت كثير من أحكامهما فلم تعودا ديانتين صحيحتين، وقد بَّين الله تعالى في القرآن الكريم أن اليهود والنصارى يحرفون الكلم عن مواضعه قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬1). وأنهم يكتمون الحق ويخفونه قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «.... وإن الله نظر إِلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إِلا بقايا من أهل الكتاب» (¬4). فالذين بقوا على الدين الحق الذي جاءت به الرسل أفراد قلائل وبقايا متفرقون في الأرض، كما يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي وبحثه عن الحنيفية حتى قال آخر من صحبهم من القسس عند وفاته: لا أعلم أحدًا بقي على هذا الدين، ولكن أظلّ زمان رسول يبعث في أرض العرب، ومهاجره إِلى أرض ذات نخل بين حرتين، فجاء سلمان إِلى المدينة لأ جل هذا، وقول القسيس هو من البشارات ودلائل النبوة التي يعرفها أهل ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 79. (¬2) سورة البقرة، آية 146. (¬3) سورة المائدة، آية 15. (¬4) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها من حديث عياض بن حمار المجاشعي ح 2865.

3 - الأحوال الاجتماعية والأخلاقية

الكتاب من كتبهم الموروثة عن أنبيائهم، ولكن يد التحريف قد فعلت فعلها حتى خفي الحق وظهر الشرك، وقد اندرست معالم التوحيد، والبشرية بحاجة إِلى منقذ يخرجها من الضلال والشرك الذي وقعت فيه. 3 - الأحوال الاجتماعية والأخلاقية الأحوال الاجتماعية والأخلاقية فرع عن التصور والاعتقاد وهي أثر من آثاره، فإِذا فسد الإِيمان واختل التوحيد ظهر أثر ذلك في السلوك، وفي النظام الاجتماعي، والعلاقات بين الناس، وقد عرفنا ما كان عليه العرب بل أهل الأرض قبيل البعثة من فساد الاعتقاد وظهور الشرك والوثنية، لهذا كانت حياتهم الاجتماعية والأخلاقية مختلة كاختلال عقيدتهم، فقد سيطرت عليهم التقاليد والعادات وأصبحت بمثابة القوانين المرعية، وكانوا يتعصبون للقبيلة، ويتفاخرون بالأنساب، ونظرتهم للمرأة غير متزنة، ولا يعطونها حقها من الميراث، ويتزوج أحدهم بلا حَدّ، فقد يجمع بين عشر نساء أو أكثر، والطلاق بلا عدد، وإِذا توفي زوج المرأة فقد تحبس فلا تتزوج، وقد ينكحها أكبر ولد زوجها من غيرها. قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬1) وكانوا يجمعون بين الأختين. وكان بعضهم يئد البنات خشية العار، وقد يقتلون أبناءهم خشية الفقر، ولا يمتنعون عن المحرمات من الفواحش، وسفك الدماء، وأكل الربا، وظلم الضعفاء، والإِغارة على بعضهم، ونهب أموالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، ويحتقرون بعض المهن الحرفية والصناعية، وكانت تنتشر فيهم الأمية، والجهل، وجُل معارفهم المفاخر والشعر ومثالب الآخرين. ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 22.

ومع هذا فعندهم عادات حسنة وأخلاق حميدة مثل الكرم، والشجاعة، وإباء الضيم، والعفة، والذكاء والفطنة، وقوة الحافظة، والفروسية، والمروءة والنجدة، والفصاحة، والحفاظ على الأحساب وصيانتها، فيأنفون من الكذب والغدر والخيانة، ويحبون الصراحة والوضوح لصفاء فطرتهم وطبيعة حياتهم المبنية على البساطة والحرية التي عاشوها، فلم يخضعوا لحكومة أجنبية، ولم يألفوا الرق والعبودية، وانحرافاتهم ناتجة عن جهل بسيط فيسهل معالجتها والرجوع بها إِلى أصل الفطرة وصفائها، وكانوا واقعيين جادّين أصحاب صراحة وصرامة، وأصحاب صدق وشجاعة، لا يخدعون غيرهم ولا أنفسهم. ولم تكن أخلاقهم كأخلاق أهل المدنيات من الفرس والروم التي كثرت فيها الالتواءات وأدواء الترف حتى أفسدتها، وظهرت فيها الفلسفات، وأثرت فيها المدنيات بأخلاطها وتعقيداتها وطبائع أهلها المختلفة (¬1)، فكان جهلهم جهلًا مركبًا (¬2). أو كما يقول مالك بن نَبِي: إِن العربي في ذلك الوقت هو إِنسان ما قبل الحضارة، مثل المادة الخام، يمكن تصنعيها وتنظيم ما فيها من طاقات ... وأما فارس والروم فقد كانوا في مرحلة ما بعد الحضارة كالخُرْدة المستهلكة المبعثرة (¬3). وقد كانت تلك الفضائل في العرب رصيدًا حسنًا في نفوسهم وفطرتهم زاده الإِسلام كمالًا وجمالًا ووجّه تلك الأخلاق والفضائل وجهة صحيحة حسب أحكامِ الشريعةِ ومكارمِها العالية. ¬

_ (¬1) انظر: أبو الحسن الندوى، السيرة النبوية ص 45 - 48. (¬2) الجهل البسيط: هو عدم العلم، والجهل المركب: هو عدم العلم مع الإِدعاء أنه يعلم. (¬3) حنان لحام، هدى السيرة في التغيير الاجتماعي ص 18.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - أهمية الجزيرة العربية وموقعها الاستراتيجي، وشرفها العظيم باحتضانها الكعبة المشرفة والبلد الحرام الآمن مكة المكرمة. 2 - نقاء عنصر أهلها، وفصاحة لغتهم ولسانهم، واعتناؤهم بالأنساب ومكارم الشيم. 3 - حفظ الله لحرمه من المستعمر الخارجي، فبقيت فطرتهم محفوظة من التواءات المدنيات ومفاسدها، وذات نقاء يسهل استصلاحها. 4 - كان في العرب جهل وأمية سببت لهم انحرافات في الاعتقاد والتصور، غير أن جهلهم لم يكن جهلا مركبا ومفلسفا، وعندما عرض عليهم الحق أسرع كثير منهم إِلى الاستجابة. 5 - تفرق العرب وانعدام الوحدة السياسية بين أقاليم الجزيرة، وانتشار العصبية القبلية وهي من مظاهر الجاهلية 6 - كان العرب كغيرهم من الأمم يتخبطون في ظلمات الجاهلية، إِنحراف عقدي، وتفكك اجتماعي، واضطراب سياسي، وترد اقتصادي، فكانوا أحوج ما يكونون إِلى من يخرجهم من الظلمات إِلى النور.

الفصل الأول: الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مولده إلى بعثته

الفصل الأول: الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مولده إلى بعثته

الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مولده إلى بعثته

الرسول (صلى الله عليه وسلم) من مولده إلى بعثته نسبه (صلى الله عليه وسلم) هو أبو القاسم محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان. وعدنان من ولد إِسماعيل ابن إِبراهيم أبو الأنبياء - عليه السلام -. وهذا السياق في نسبة - صلى الله عليه وسلم - إِلى عدنان اتفق أهل السير وعلماء الأنساب عليه ولا خلاف فيه، ويبلغ عدد الآباء في هذا السياق واحدا وعشرين أبًا. أما سياق نسبه - صلى الله عليه وسلم - من عدنان إِلى إِسماعيل بن إِبراهيم الخليل، ففيه خلاف، وتوقف بعض أهل العلم في ذلك، ولكنهم لا يختلفون في أن عدنان من ذرية إِسماعيل - عليه السلام -، وعدد الآباء في هذا القسم من عدنان إِلى إِبراهيم مختلف فيه، فأكثر ما قيل أربعون أبًا، وأقل ما قيل سبعة آباء (¬1) وقد كره ابن عباس وكثير من علماء السلف رفع النسب النبوي فوق عدنان، وكان ابن عباس يقول: بين عدنان وإِسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون (¬2) ويقول عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدًا يعرف ما وراء عدنان (¬3). وقد قال الله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} (¬4). أما قائمة النسب من إِبراهيم - عليه السلام - إِلى آدم، فالاختلاف فيها شديد، سواء في الأسماء، أم في ترتيبها أم في عدد طبقات النسب والآباء. ¬

_ (¬1) ابن كثير، الفصول في سيرة الرسول ص 87. (¬2) ابن عبد البر، الإنباه على قبائل الرواة ص 21. (¬3) المصدر نفسه، ص 16. (¬4) سورة الفرقان، آية 38.

أسرته (صلى الله عليه وسلم)

أما أمه فهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. ويلتقي نسبه مع نسب أمه في كلاب بن مرة. وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الصحيح هي: أحمد، ومحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، وزاد مسلم: والمقفي، ونبي الرحمة (¬1). أسرته (صلى الله عليه وسلم) تعرف أسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرة الهاشمية نسبة إِلى جده الثاني هاشم بن عبد مناف بن قصي، وقصي هو الذي جمع قريشا وتولى أمر مكة وسدانة الكعبة بعد أن طرد منها خزاعة، وصار لقصي من مظاهر الرياسة، دار الندوة، واللواء، والحجابة للكعبة، وسقاية الحاج ورفادتهم، وكان في قومه قريش كالملك لا يعصى له أمر، فهو الذي أنزلهم مكة وملكهم أمرها ونظم شؤونهم فيها، وقد أوصى قصي بهذه المناصب لابنه الأكبر عبد الدار فتولى عبد الدار ما كان يتولاه قصي، فلما مات قصي عزم بنو عبد مناف أن ينزعوا من بني عبد الدار ما بيدهم من الوظائف لما كانوا عليه من الفضل والشرف، فاختلفوا واختلفت قريش باختلافهم، وأشرفوا على الاقتتال وعقدوا من أجل ذلك حلف المطيبين، ثم اصطلحوا على أن تكون دار الندوة، واللواء، والحجابة لبني عبد الدار، ولبني عبد مناف، السقاية، والرفادة، والتي صارت بحكم القرعة لهاشم دون بقية بني عبد مناف، ثم خلفه عبد المطلب، وبعده العباس، وقد جاء الإِسلام وهي بيده. وكان هاشم موسرًا وذا شرف في قومه، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وأول من سَنّ الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، ح 4896، ومسلم، ح 2354 وح 2355.

شرف عبد المطلب في قومه

يقول فيه الشاعر (¬1). عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف سُنت إِليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف وقد خرج هاشم إِلى الشام تاجرًا، ومَرّ بيثرب (المدينة) فتزوج سلمى بنت عمرو بن عدي من بني النجار، وأكمل رحلته إِلى الشام، ومات بغزة من أرض فلسطين. وقد حملت زوجته سلمى، فجاءت بولد سمته شيبة، ولما علم عمه المطلب بن عبد مناف، خرج إِلى يثرب وجاء به، ودخل مكة وهو مردفه على راحلته، فظن أهل مكة أنه غلام له فقالوا: عبد المطلب. فرد عليهم: إِنه ابن أخي هاشم، فلزمه هذا اللقب وصار يعرف به (¬2). وقد شرف عبد المطلب في قومه وتولّى ما كان لوالده هاشم، وحصل له أمور زادت في شرفه ومكانته، ومنها: الأول: حفر بئر زمزم وذلك أن بئر زمزم التي نبعت على يد إِسماعيل وأمه هاجر قد دفنت بسبب الحروب التي كانت في مكة، فلم تعرف، ثم إِن عبد الطلب قد أري مكانها في المنام وأمر بحفرها، فلما قام بذلك نازعته قريش فيها، فقال لهم: إِن هذا أمر قد خصصت به. فتحاكموا إِلى كاهنة من العرب، وقبل أن يصلوا إِليها أراهم الله آية علموا منها اختصاص عبد المطلب بذلك فتنازلوا عن مطلبهم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 122، 123، 126. (¬2) المصدر السابق 1/ 122، 123. (¬3) المصدر السابق 1/ 126.

الثاني: حادثة الفيل

الثاني: حادثة الفيل وهي أن أبرهة الحبشي لما استولى على اليمن بني في صنعاء كنسية سماها "القليس" وأراد أن يصرف إِليها حج العرب بدل الكعبة، فحمي لهذا رجل من العرب فدنس القليس، مما جعل أبرهة يعزم على هدم الكعبة، فسار في جيش كثيف ومعه الفيلة التي استقدمها من الحبشة، ولما وصل "المغمس" قرب مكة مات دليله من العرب أبو رغال، وكانت العرب بعد ذلك ترجم قبره، وقد أخذ جنود أبرهة أموال أهل مكة وفيها إِبل لعبد المطلب، فجاء عبد المطلب وكان رجلًا جميلًا مهيبًا حتى دخل على أبرهة وطلب منه إِرجاع إِبله فقال أبرهة: إِنا جئنا لهدم البيت الذي هو عزكم وشرفكم وأنت تطلب الإِبل. فرد عبد المطلب: أنا رب إِبلي وللبيت رب يحميه. وكان لهذه الكلمة أثرها في نفس أبرهة، أما قريش فقد عجزت عن المواجهة وخرجت إِلى رؤوس الجبال حتى لا تصطدم مع جنود أبرهة، وأراد الله سبحانه وتعالى أن لا يكون لأهل الشرك فضل على بيته فحماه سبحانه، حيث أرسل على أبرهة وجنوده: طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فهزم الله أبرهة وأهلك جنده وفيلته، ومات هو في طريق عودته إِلى صنعاء (¬1). وهذه الآية العظيمة مما زاد في مكانة البيت وتعظيم مكة والحرم عند العرب. الثالث: نذر عبد المطلب وذلك أن عبد المطلب لما طالبته قريش بالمشاركة في بئر زمزم وكان وقتها ليس له من الأبناء إِلا الحارث، فنذر لله إِن رزقه عشرة من الولد، وبلغوا أن يحموه، أن يذبح أحدهم لله. فرزق عشرة من الأبناء وأراد أن يفي بنذره، فضرب القداح عند الصنم هبل، وكان ¬

_ (¬1) ابن هشام 1/ 66، وانظر: تفسير سورة الفيل في تفسير ابن كثير 8/ 483 وما بعدها.

دروس وعبر

في جوف الكعبة، فخرج السهم على عبد الله، فأخذ عبد المطلب الشفرة وأراد ذبحه، فقالت له قريش: لا تفعل ذلك حتى تُعذر، وأشاروا عليه أن يستفتي في ذلك كاهنة معروفة في خيبر، فذهب إِليها عبد المطلب ومعه ركب، وأخبروها فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتني تابعي فأسأله، فلما رجعوا إِليها قالت: كم الدية فيكم، قالوا: عشر من الإِبل. قالت: ارجعوا إِلى بلادكم ثم قَرِّبوا عشرًا من الإِبل واضربوا عليه وعليها القداح، فإِن خرج عليه فزيدوا عشرًا، وهكذا حتى يرضى ربكم. فلما رجعوا إِلى مكة فعلوا ذلك، فكان السهم كل مرة يخرج على عبد الله حتى بلغ عدد الإِبل مائة، فخرج السهم على الإِبل فذبحوها، ونجا عبد الله من الذبح. وقد ورد أن رجلًا جاء إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا بن الذبيحين" (¬1). والمراد والده عبد الله وجَدّه إِسماعيل بن إِبراهيم عليهما السلام (¬2). ثم إِن عبد الطلب زَوَّجَ إِبنه عبد الله من آمنة بنت وهب بن زهرة بن كلاب بن مرة. دروس وعبر: 1 - طهارة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلوه وشرفه بين العرب واصطفاء الله له، فهو خيار من خيار من خيار، فقد بُعِث من خير قرون بني آدم، قرنًا فقرنًا حتى كان من القرن الذي كان فيه. 2 - فضل الله على أهل مكة وغيرهم بإِنباع الماء المبارك، ماء زمزم، والشرف العظيم الذي حصل لجدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفر زمزم بعد إندراسها. ¬

_ (¬1) ذكر قصة النذر ابن إِسحاق في السيرة 1/ 131. من غير إِسناد، وأخرجها ابن جرير في التاريخ 2/ 139 بإِسناد حسن عن ابن عباس. أما حديث "يا بن الذبيحين" فقد أخرجه ابن جرير في التفسير 23/ 85 وقال القرطبي: روي من طريق معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ولا يثبت. [أحكام القرآن 15/ 113]. وذكره ابن كثير في التفسير 7/ 35 وقال: غريب جدًا. (¬2) عن الذبيح من ولد إِبراهيم من هو: إِسماعيل أو إسحاق؟ انظر: تفسير القرطبي 15/ 113. ومجموع الفتاوى لابن تيمية 4/ 331.

مولده ورضاعة (صلى الله عليه وسلم)

3 - ضلال الجاهلية وفقدهم لمصدر الحق (الوحي) ولهذا يرجعون عند المشكلات إِلى الكهان والعرافين، وإِلى الاستقسام بالأزلام والقداح، وهي وسائل لا توصل إِلى الحق. 4 - ضعف العرب أمام أبرهة وجنوده، بسبب انحرافهم العقدي الذي أفقدهم الاعتماد والتوكل على الله وطلب النصر منه، كما أورثهم الفرقة والاختلاف. 5 - حادثة الفيل وإِهلاك الله للظالمين، مقدمة وآية بين يدي البعثة النبوية، وإِظهار لمكانة الحرم وحماية الله له. مولده ورضاعة (صلى الله عليه وسلم): حملت آمنة بنت وهب برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي والده عبد الله في يثرب وأمه حامل به (¬1). وولدته أمه في مكة عام الفيل في شهر ربيع الأول يوم الاثنين، هذا هو المتفق عليه بين الرواة والعلماء، وتسمية يوم ولادته ورد فيه حديث في صحيح الإِمام مسلم، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن أعرابيا قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال: "ذاك يوم ولدت فيه. وأنزل عليّ فيه" (¬2). وأما تاريخ يوم ولادته من شهر ربيع الأول ففيه أقوال كثيرة (¬3)، ذكر ابن كثير منها يوم الثاني، ويوم الثامن، ويوم العاشر، ويوم الثاني عشر، ويوم السابع عشر، ويوم الثاني والعشرين (¬4). والمشهور: الثاني عشر من ربيع الأول وهذا يوافق 20 من شهر أبريل (نيسان) عام ¬

_ (¬1) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 136. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الصيام، 2/ 819. (¬3) عبد الملك العصامي المكي، سمط النجوم العوالي 1/ 247، 248. (¬4) ابن كثير، السيرة النبوية 1/ 99.

571 م. لكن علماء الفلك يقولون: إِنه لا يوجد يوم اثنين في تلك السنة يوافق الثاني عشر من شهر ربيع الأول (¬1). أما مكان الولادة من مكة ففيه روايات متعددة، في الدار التي عند الصفا، وقيل في شعب بني هاشم، وقيل بالردم، وقيل بعسفان (¬2). ووقوع الخلاف في المكان والزمان معقول لأنه لا توجد سجلات للمواليد في ذلك الزمن، وإِنما يعتمد الرواة على الذاكرة وهي تصيب وتخطئ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف أنه رسول ويكون في مركز الاهتمام إِلا بعد نزول الوحي عليه على رأس أربعين سنة من عمره، فيتذكر الرواة بعض الأحداث والوقائع قبل ذلك ويحاولون استعادتها، ولهذا يقع الخلاف وتتعدد الأقوال. قال ابن إِسحاق: فلما وضعته أمه أرسلت إِلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام، فأتاها ونظر إِليه وحدثته آمنة، بما رأت حين حملت به، وحمد الله وشكره، ثم سماه محمدًا. وقد سأل نفر من أصحاب النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحدثهم عن نفسه فقال: "أنا دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر" (¬3). وأول من أرضعه ثويبة جارية لأبي لهب بلبن ابن لها اسمه مسروح، وأرضعت معه عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي (¬4)، ولما بشرت ثويبة أبا لهب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعتقها، وفي البخاري (¬5): لما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم ¬

_ (¬1) انظر: محمود باشا الفلكي نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإِسلام وفي تحقيق مولده وعمره عليه السلام ص 28 وما بعدها. (¬2) عبد الملك العمامي، سعط النجوم العوالي 1/ 247 - 248. (¬3) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 140 وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك وصححه، ومن طريقه البيهقي في الدلائل 1/ 145 وقال ابن كثير في السيرة 1/ 229: إِسناده جيد قوي. والحديث له شواهد عند أحمد 5/ 262 وغيره. (¬4) الذهبي، السيرة النبوية ص 18. (¬5) صحيح البخاري، كتاب النكاح ح رقم 5101.

حادثة شق صدره (صلى الله عليه وسلم)

بشرّ حالة فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رَخَاء غير أني أسقيت في هذه، وأشار إِلى النقرة التي بين الإِبهام والتي تليها، بعتاقتي ثويبة. وقد حضنته أم أيمن بركة الحبشية، وهي مما ورثها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن والده. أما مرضعته الثانية: فهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث السعدية، حيث قدمت هي وزوجها الحارث بن عبد العزى مع نساء من بني سعد يلتمسون الرضعاء، فأصابت حليمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأخذته معها إِلى أرض قومها قرب الطائف، وقد أدركت هي وزوجها أنهما أخذا نفسًا مباركة، إِذ وجدا ذلك في سرعة حمارهما، ولبن ناقتهما، ثم بعد ذلك في غنمهما، ومكث - صلى الله عليه وسلم - معها عامين حتى استكمل رضاعه، ثم وفدت به على أمه في مكة، وحرصت على بقائه معها، فعادت به مرة أخرى، ولكن بعد مضي أشهر حصل له - صلى الله عليه وسلم - حادثة شق صدره وخشيت عليه مرضعته، فأعادته إِلى أمه بمكة، قال ابن إِسحاق: وإخوته من الرضاعة، عبد الله بن الحارث، وأنيسة، وخذَامة، وهي الشيماء (¬1). حادثة شق صدره (صلى الله عليه وسلم): روى الإِمام مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق قلبه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسّله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إِلى أمه -حليمة- فقالوا: إِن محمدًا قد قتِل، فاستقبلوه منتقع اللون. قال أنس "كنت أرى أثر المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). وهذه هي المرة الأولى التي يُشَق فيها صدره، ثم إِنه - صلى الله عليه وسلم - حصل له شق الصدر والتطهير مرة ثانية ليلة الإِسراء والمعراج (¬3). وفي هذا عناية الله سبحانه وتعالى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وإعداده للنبوة والرسالة. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 1/ 137 - 138. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإِيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -ح رقم 261. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء 1/ 291، ومسلم 1/ 148.

وفاة أمه وجده (صلى الله عليه وسلم)

وفاة أمّه وَجَدّه (صلى الله عليه وسلم): توفيت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنين، فقد ذهبت به لزيارة أخواله من بني النجار في يثرب، وفي طريق عودتها إِلى مكة ماتت بالأبواء ودفنت هناك، وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبر أمه بعد البعثة فبكى وأبكى وقال: "استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في زيارة قبرها فأذن لي" (¬1) وقد كفله جده عبد المطلب، وأحبه وشغف به، وكان يجلسه على فراشه، لكنه توفي بعد سنتين من وفاة أمه - صلى الله عليه وسلم -، وعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنوات. كفالة عمه أبي طالب: بعد وفاة عبد المطلب قام على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه شقيق والده أبو طالب بن عبد المطلب، وقد رزق حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان شفيقًا عليه ورفيقًا به، وكان أبو طالب قليل المال وله عيال كثير. وقد عمل - صلى الله عليه وسلم - في أول شبابه في رعي الغنم، فقد كان يرعاها بالأجرة ليكسب بيده ويأكل مما يكسب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله نبينًا إِلا رعى الغنم ولقد كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (¬2). والقيراط جزء يسير من الدينار. وأخبر - صلى الله عليه وسلم -أنه: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإِن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" (¬3). وبعد بلوغه - صلى الله عليه وسلم - واستقلاله رد الجميل لعمه فأخذ بعض بنيه -علي بن أبي طالب- ليرعاه ويكفله، وبُعث - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة والرسالة وعلي معه في بيته. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز ح 976. والأبواء: بلدة معروفة على طريق المدينة أيام القوافل، وهي تقع شرق بلدة مستورة، ويعرف واديها بالخريبة. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة ح رقم 2262. (¬3) صحيح البخاري، كتاب البيوع ح رقم 2072.

دروس وعبر

وتذكر الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافق عمه أبا طالب إِلى الشام وهو في العاشرة من عمره، وفي هذه الرحلة تأتي قصة بحيرا الراهب وما رأى من آيات النبوة فى رسول الله ونصحه لأبي طالب أن لا يدخل به بلاد الشام خوفًا عليه من اليهود، والرومان النصارى، وسياق الخبر عند الترمذي (¬1). فيه ألفاظ أنكرها نقاد الحديث مثل الإِمام الذهبي (¬2). وقد ادعى بعض المستشرقين في العصر الحديث أنه ترتب على تلك المقابلة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحيرا الراهب أن رسول الله تعلم منه ما جاء به من الوحي بعد ذلك، وهو كلام ساقط متهافت، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب، والمقابلة كانت لبضع ساعات أيام شبابه وحداثة سنه، فكيف يتعلم فيها -كما يزعمون- هذا العلم المفصّل الذي جاء به بعد البعثة والنبوة؟! إِن هذا غير ممكن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتعلم على يد أحد من البشر فقد كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وإِنما علمه الله، وأوحى إِليه وحيا، وأنزل عليه القرآن مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة بحسب الأحوال والوقائع حتى تم الوحي واكتمل التشريع. دروس وعبر: 1 - بعد فقد النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالده ثم والدته ذاق مرارة اليتم الكامل، وفي حالته عزاء لكل يتيم يصاب بمثل مُصابِه، وقد تولى الله إِعداده وتربيته، وسخر له من أقاربه من يحوطه ويحفظه ويقوم على شؤونه. 2 - كانت حليمة راغبة في الحصول على رضيع أغنياءٌ أهلُه، وما أخذت محمدًا اليتيم إِلا لأنها لم تجد غيره، فكان في اختيار الله لها خير وبركة حيث حمدت ¬

_ (¬1) سنن الترمذي، المناقب، باب بدء نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -ح رقم 3620. (¬2) الذهبي، السيرة النبوية ص 28، ط حسام القدسي.

ذلك ورأت البركة من أول يوم أخذت فيه هذا اليتيم، وهكذا ما يختار الله للإِنسان يكون فيه الخير، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) 3 - نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأولى في البادية -وهي أصفى وأقرب إِلى تزكية الفطرة بجوها الطلق ورباعها الفسيحة- أكسبته الفتوة، وقوة الجسد والأعضاء، وفصاحة اللسان. 4 - في حادثة شق صدره آية من الآيات، وعناية من الباري برسوله، وحماية له وحفظ من الشيطان ونزغاته، وهي إِرهاص مبكر للنبوة. 5 - في رعيه - صلى الله عليه وسلم - للغنم درس للشباب في طلب الكسب الحلال وإِن قَلّ دخله، وفيه بيان للذوق الرفيع والإحساس الرقيق عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، لكنه - صلى الله عليه وسلم - أقبلِ على العمل والكسب بنفسه حتى لا يكون كلًا على غيره، وهذا دلالة على شهامة في الطبع، وبذل للوسع، وبر في المعاملة، وسعي لطلب الرزق. 6 - كما أن رعي الغنم قد أتاح له الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، والمتعة بجمال الصحراء، والتطلع إِلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ومناجاة الله تعالى في هدأة الليل وظِلال القمر، كما أتاح له لونًا من التربية النفسية على الصبر والحلم والأناة والرأفة والرحمة، والعناية بالضعيف وحفظه عن الهلكة ومواطن الخطر (¬2). وفي هذا كله دربة على سياسة الأمم والشعوب. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 216. (¬2) علي محمَّد الصلابي، السيرة النبوية 1/ 77.

حفظ الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من أوضار الجاهلية

حفظ الله لرسوله (صلى الله عليه وسلم) من أوضار الجاهلية نشأ - صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم في مجتمع جاهلي يعبد أهله الأصنام ويدعونها من دون الله ويذبحون لها، ويعتقدون في السحرة والكهان، ويستقسمون بالأزلام، ويتعاملون بالربا والميسر، ويشربون الخمر، ويقطعون السبيل، ويسيئون الجوار، إِلى غير ذلك من انحرافات الجاهلية، ولكن الله تولاه وحفظه فلم يشاركهم في شيء من انحرافاتهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يجلس إِلى معلم يعلمه وإِنما تولته عناية الله ورعايته، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به غير مرتين من الدهر كلتيهما يعصمني الله منها، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بمكة في أغنام لأهله يرعاها، أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة فسمعت غناءً وضرب دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت فغلبتني عيني فما أيقظني إِلا حَرُّ الشمس، ثم رجعت إِلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت كما سمعت في المرة الأولى وصار لي ما صار في الأولى. قال - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته (¬1). وكان أهل الجاهلية لا يتحفظون من كشف العورات، ولما شارك - صلى الله عليه وسلم - بنقل الحجارة في بناء الكعبة وعليه إِزاره قال له عمه العباس: يا ابن أخي لو حللت إِزارك فجعلته على منكبك دون الحجارة؛ قال: فحلّه، فجعله على منكبه، قال: فسقط مغشيًا عليه فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانًا (¬2). ¬

_ (¬1) إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 43. وقال: أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 33، والبزار، كما في كشف الأستار برقم 2403. وقال البوصيري كما في المطالب العالية: رواه إسحاق بن راهويه بإِسناد حسن، وقال ابن حجر: هذه الطريق حسنة جليلة، وقال: وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات. (¬2) صحيح البخاري في مواضع من صحيحه منها كتاب الصلاة باب كراهية التعري، ح 364.

مشاركاته (صلى الله عليه وسلم) في الأعمال العامة

مشاركاته (صلى الله عليه وسلم) في الأعمال العامة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة بمعزل عن المجتمع بل كان يشارك في الأمور العامة التي بها مصالح ومنافع ويجتنبهم فيما فيه انحراف ومن أشهر الأمور التي شارك فيها: 1 - حرب الفجار: وسميت بهذا الاسم لانتهاكهم حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، وفجارات العرب كثيرة لكن التي شارك فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وله من العمر خمسة عشرة سنة- هي التي كانت بين قريش وكنانة وبين قيس عيلان، وكانت قيس هي البادئة بالقتال في الشهر الحرام ومشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي أنه كان يجهز لأعمامه النبل للرمي به (¬1) وكان الظفر فيها لقريش وكنانة على قيس. 2 - حلف الفضول: سمي حلف الفضول لأقوال: منها أن الذين شاركوا فيه كان يسمى كل واحد منهم الفضل، وقيل لأنهم دخلوا في أمر فضل غير متعين عليهم، وقيل -وهو الأقرب- من الفضيلة أي الأمر الذي دخلوا فيه وتعاقدوا عليه وهو نصرة المظلوم، أمر فاضل حسن من مكارم الأخلاق. وسبب الحلف أن رجلا من زَبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، ولكن لم يعطه الثمن ومطل به، فطلب الرجل من ينصره عليه فلم يجد أحدًا في أول الأمر، فرقى جبل أبي قبيس ونادى بأعلى صوته وقال في ذلك شعرًا يصف مظلمته: ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 221 والحديث المروي: كنت أنبل على أعمامي ذكره ابن إسحاق بإِسناد منقطع فهو ضعيف.

3 - بناء الكعبة المشرفة

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحجر إِن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغُدِر فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك!! حتى اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان التيمي، وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم إِلا نصروه وقاموا معه حتى ينال حقه، وقد شهد هذا الحلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت بمثله في الإِسلام لأجبت (¬1). وهذا الحلف ينافي الحمية الجاهلية ويعد من مكارم الأخلاق، ومن مفاخر العرب وقيامهم بحقوق الإِنسان. 3 - بناء الكعبة المشرفة: أرادت قريش بناء الكعبة لما وقعت بعض جدرانها من أثر السيل، وأخذ بعض السراق كنزها ولم تكن مسقوفة، فأجمعوا على ذلك وأن لا يدخل في بنائها إِلا الطيب من أموالهم، ولا يدخل فيها مال من ربا أو مهر بغي. وأول من بدأ نقض الجدران الوليد بن المغيرة المخزومي وتبعه الناس وكانوا يهابون ذلك، ثم أخذوا في بنائها ورفعوها ثمانية عشر ذراعًا، ولكن قصرت بهم النفقة الحلال فانقصوا من مساحتها التي على قواعد إِبراهيم - عليه السلام - وأخرجوا من الجهة الشمالية ستة أذرع وشيئا (¬2). وحجروا عليه ووسعوا في الحِجر، وجعلوا لها بابًا واحدًا، ورفعوه حتى لا يدخلها إِلا من أرادوا. وقد شارك معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ينقل الحجارة، ولما اختلفوا في وضع الحجر الأسود ¬

_ (¬1) إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 45. وقال: أخرجه أحمد في المسند 1/ 190، قال الساعاتي في الفتح الرباني 21/ 9: إِسناده صحيح. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها ح 1333/ 401 و 1333/ 403.

حياته (صلى الله عليه وسلم) الخاصة

وكاد يقع بينهم الشر احتكموا لأول داخل من باب الصفا، فكان رسول الله هو أول داخل ولما رأوه قالوا: هذا الأمين، ووفق - صلى الله عليه وسلم - في حل الإِشكال بحل أرضى الجميع وحقق العدل وقطع الفتنة، فدعى بثوب ثم وضع الحجر الأسود فيه وقال: ليأخذ كل رجل بطرف الثوب، ثم رفعوه فأخذه بيده الكريمة ووضعه في مكانه (¬1). حياته (صلى الله عليه وسلم) الخاصة كان - صلى الله عليه وسلم - يحب مكارم الأخلاق ومشهود له بين قومه بالصدق والأمانة، وقد عرفنا من قبل أنه اشتغل برعي الغنم في مقتبل عمره. ثم اشتغل بالتجارة عن طريق المضاربة والمشاركة بالجهد والعمل حيث لم يكن عنده رأس مال وكانت خديجة بنت خويلد امرأة غنية، ولما علمت بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمانته أعطته مالها ليتاجر فيه، فخرج إِلى الشام وباع واشترى وكسب شيئًا كثيرًا، وكان معه ميسرة غلام خديجة، وقد ذكر لها من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه وأمانته ما رغبها في الزواج منه، فأرسلت إِحدى صديقاتها في ذلك، وتم زواجه - صلى الله عليه وسلم - من خديجة وله من العمر 25 سنة بينما كان عمرها 40 سنة، وقد رزقه الله منها الذرية الطيبة الطاهرة: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وقد مات الأبناء وهم صغار، أما البنات فأدركن الإِسلام وأسلمن وتزوجن، وكانت وفاتهن قبله إِلا فاطمة. ولم يتزوج رسول الله على خديجة حتى ماتت. وكانت نعم الزوجة في عقلها وتصرفها ونصرتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثنى عليها رسول الله كثيرًا، وبلّغها السلام من ربها ومن جبريل، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (¬2). ¬

_ (¬1) إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 48. والخبر أخرجه الإِمام أحمد في المسند 3/ 425 من حديث السائب بن عبد الله، والحاكم في المستدرك؛ وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. (¬2) متفق عليه، البخاري ح 3820 ومسلم ح 2432. وانظر: صحيح السيرة ص 46 والقصب: هو اللؤلؤ المجوف.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرًا من البشر ويجد في نفسه من الغرائز والميول ما يجده الشباب، فكان يشعر بما في السمّر واللهو من المتعة، وتحدثه نفسه بذلك لكن الله عصمه عن كل مظهر من مظاهر الانحراف، وكل ما لا يتفق مع ما يعده الله له من النبوة (¬1). 2 - شعور أهل الجاهلية بالخطيئة، ولهذا سموا الحرب التي انتهكوا فيها حرمة الحرم بحرب الفجار، وتجنبوا في نفقات بناء الكعبة الأموال المحرمة والمكاسب غير النظيفة، ومع الأسف يوجد من المسلمين من يتعامل بتلك المكاسب. 3 - الفطر السليمة، تنكر الظلم وتأباه وتحب العدل والإِنصاف، ولهذا تنادى رجال من قريش لعقد حلف الفضول ونصرة المظلوم وخاصة في حرم الله، والأمر الملفت للنظر، أن هذا الحلف لم يكن له أثر بعد البعثة في الدفاع عن المظلومين والمعذبين من المسلمين، وهذا يعطي مؤشرًا لأثر العقيدة في المواقف وأنه لا ينتظر من أهل الشرك والكفر نصرة المؤمنين الموحدين إِذا تعارض مع معتقداتهم، ومواقف مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة من القضايا الإِسلامية نموذج معاصر واضح. 4 - الحل الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمشكلة نزاعهم على الحجر الأسود كان حلًا حكيمًا عادلًا والله يوفق من يشاء من عباده، وهو مقدمة لما يعده الله له من القيام بأمر النبوة والرسالة. 5 - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصاميًا في حياته، فعمل في صباه برعي الغنم على قلة ¬

_ (¬1) الصلابي، السيرة النبوية 1/ 82.

دخله الاقتصادي -قراريط- كما عمل في شبابه بالتجارة على سبيل المقارضة والمضاربة، وفي هذا درس للناشئة وحث على العمل وإن قل دخله. 6 - زواجه - صلى الله عليه وسلم - من امرأة أرملة وتكبره بسنين كثيرة وما جعل الله في ذلك الزواج من الخير والبركة فيه درس للشباب وضرورة مراجعة الصفات التي يشترطها بعض منهم في الزوجة، وأن كِبَرَ السن، وسبق الزواج غير مؤثر إِذا وجدت صفات مكافئة من الخلق والدين.

إرهاصات النبوة وبشائر الخير

إرهاصات النبوة وبشائر الخير اقتضت حكمة الله أن يجري بعض الأحداث والبشائر تهيئة لاستقبال نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان من ذلك أمور منها: 1 - بشارات الأنبياء السابقين به: كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1). قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬2). 2 - إِخبار اليهود عن بعثته (صلى الله عليه وسلم): عن سلمة بن سلامة بن وقش -رضي الله عنه - وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار يهودي من يهود بني عبد الأشهل فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي بيسير فوقف على المجلس قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًا عليّ بردة مضطبعًا فيها، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت. فقالوا: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنًا. قال: نعم، قالوا: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إِليّ فقال: إِن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية: 157. (¬2) سورة الصف، آية: 6.

3 - تسليم الحجر عليه بالنبوة قبل البعثة

قال: سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرنا يعني اليهودي فآمنا به وكفر به بغياً وحسدًا" (¬1). 3 - تسليم الحجر عليه بالنبوة قبل البعثة: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - "إِني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إِني لأعرفه الآن" (¬2). 4 - إخبار الكهان والجان ببعثته (صلى الله عليه وسلم): كان الجن يسترقون السمع فيأخذون الكلمة والكلمتان من الحق ثم يلقون بها إِلى أولياءهم من الأنس، وهم الكهان فيخلطونها بكهانتهم، ومن هذا ما كان من الأخبار عن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - واقتراب زمانها، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إِني لأظنه كذا إِلا كان كما يظن. قال: وبينما عمر جالس إِذ مر به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني أو إِنّ هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ الرجل، فدعي له، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! قال: فإِني أعزم عليك إِلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني أعرف منها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإِبلاسَها ويأسها من بعد إِنكاسِها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ¬

_ (¬1) انظر: إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 23. وقال: رواه ابن إسحاق بإسناد متصل، وصرح فيه بالتحديث فهو حسن. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، ح رقم 2277.

5 - الرؤيا الصادقة

قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إِذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إِله إِلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إِله إِلا أنت، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي (¬1). ومن حديث جابر - رضي الله عنه - قال: إِن أول خبر قدم علينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة كان لها تابع قال: فأتاها في صورة طير، فوقع على جذع لهم، قال: فقالت: ألا تنزل فنخبرك وتخبرنا، قال: إِنه قد خرج رجل بمكة حَرّم علينا الزنا ومنع منا الفرار (¬2). 5 - الرؤيا الصادقة: وهي أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الوحي، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح (¬3). ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: إِني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا، وإني أخشى على نفسي (¬4). 6 - حادثة شق الصدر: وقد حدثت له - صلى الله عليه وسلم - وهو مسترضع في بني سعد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب إِسلام عمر، ح رقم 3866. (¬2) مسند الإمام أحمد 3/ 356 قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 243 رواه أحمد، والطبراني في الأوسط، ورجاله وثقوا. وانظر: إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 24. ومعنى قوله ومنع منا الفرار: قال أهل العلم: المراد الفرار من الزحف في قتال الكفار. (¬3) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، ح رقم 3. (¬4) مسند الإِمام أحمد 1/ 312. وانظر نحوه: في صحيح مسلم، كتاب الفضائل، ح 2353.

الفصل الثاني: الرسول (صلى الله عليه وسلم) من البعثة إلي الهجرة

الفصل الثاني: الرسول (صلى الله عليه وسلم) من البعثة إلي الهجرة

الرسول (صلى الله عليه وسلم) من البعثة إلى الهجرة

الرسول (صلى الله عليه وسلم) من البعثة إلى الهجرة أول نزول القرآن في شهر رمضان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكر بفطرته السليمة انحرافات أهل الجاهلية وعبادتهم غير الله، ولذلك حبب إِليه الخلاء للتفكر والتأمل، ومباينة أهل الشرك، فكان يخلو بغار حراء الواقع في قمة جبل النور، وهو بعيد عن مباني مكة في ذلك الزمان، لكن الجالس في الغار يمكنه رؤية الكعبة المشرفة، فكان يمكث في خلوته الليالي ذوات العدد، فإِذا انقضى زاده عاد إِلى أهله ثم تزود لمثلها، وفي شهر رمضان المبارك أراد الله بالبشرية خيرًا فأرسل رب العزة والجلال أفضل ملائكته جبريل -عليه السلام -، إِلى أفضل خلقه محمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بأول سورة اقرأ، وكان ذلك يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ذاك يومٌ ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه (¬1)، وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين (¬2). وسورة اقرأ أول ما نزل من القرآن الكريم وبها نبيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها - أنها قالت: أول ما بدئ به رسول - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة النوم، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إِليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث (¬3) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إِلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إِلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، كتاب الصيام، ح رقم (1162) (¬2) مروان كجك، تهذيب سيرة ابن كثير، ص 101. (¬3) التحنث: التعبد.

شدة الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتثبيت خديجة له

فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ:، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1)، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع (¬2)، ومما يلفت النظر في الحديث قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ، جوابًا على قول جبريل: اقرأ، وهو تعبير واضح عن عدم معرفته - صلى الله عليه وسلم - القراءة لأنه لم يسبق له تعلم ذلك فهو أمي كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} وهذا من دلائل نبوته (¬3). شدة الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتثبيت خديجة له: لقد كان لقاء الملك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديدًا عليه رغم الممهدات السابقة من سماع الصوت، وتسليم الحجر، والرؤيا الصادقة الواضحة، إِنه أمر عظيم وجليل أن يتلقى القلب البشري كلام الله الخالق بواسطة المَلَكُ العظيم، رجف له فؤاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتاع حتى طلب من أهله أن يُزَمِّلُوه ويُدَثِّروه حتى يذهب عنه الرَّوع، وكانت طريقة جبريل معه في أول لقاء فيها شدة وجهد ليبين له عظمة الأمر وضخامة المسؤولية والشدة التي سيلاقيها في نشر الدعوة، فهي من الإِعداد له - صلى الله عليه وسلم - والتهيئة النفسية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: ¬

_ (¬1) سورة العلق، آية 1 - 5. (¬2) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي، ح رقم (3). (¬3) صالح الشامي، من معين السيرة، ص (30). والآية من سورة الأعراف: (157).

جَمعَة لك في صدرك وتقرَأَه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إِن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا أتاه جبريل استمع، فإِذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كان قرأ (¬1). وتقول عائشة - رضي الله عنها -: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإِن جبينه ليتفصد عرقًا" (¬2). وقد وقفت خديجة - رضي الله عنها - مع رسول الله موقفًا جليلًا فكانت تهَدّي من روعه، وتثبت له بالدليل بعد الآخر أن الذي جاءه هو الحق من ربه، وأن الله لا يخزيه لما فيه من خصال الخير والبر والمعروف فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إِنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُّكسبِ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به - صلى الله عليه وسلم - حتى أتت به رجلًا من أهل العلم، هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى -ابن عم لها- وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، وقد تنصر في الجاهلية، وكان -قبل ذهاب بصره- يكتب الكتاب العبراني، فكان يكتب من الإِنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا، إِذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إِلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرا. ثم لم ينشب -أي يلبث- ورقة أن توفي، وفتر الوحي (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، ح رقم (5) (والآيتان من سورة القيامة: 16 - 17). (¬2) المصدر نفسه، ح (2). (¬3) المصدر نفسه، ح رقم (3).

فترة الوحي

وذكر ابن إِسحاق في السيرة (¬1)، رواية منقطعة أن خديجة -رضي الله عنها - قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إِذا جاءك؟ قال: فعم، قالت: فإِذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل، فقال لخديجة: هذا جبريل قد جاء، قالت، قم فاجلس على فخذي، فقام رسول الله فجلس عليها، قالت، هل تراه؟ قال نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله وجلس في حجرها، فقالت. هل تراه؟ قال: نعم، ثم إِن خديجة حسرت عن رأسها وألقت خمارها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت: يا ابن عم أثبت وأبشر، فوالله إِنه ملك وما هذا بشيطان. فهذه القصة -مع غيرها- إِن ثبتت فهىِ مما يوضح رجحان عقل خديجة -رضي الله عنهما -واجتهادها في تثبيت رسول الله بالدليل بعد الآخر حتى تهدأ نفسه وتحصل له الطمأنينة. فترة الوحي: فتر الوحي كما في رواية البخاري ليعطي فرصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتأمل وتهدأ نفسه وتستطيع تحمل تكاليف الرسالة والنبوة، ثم إِنه - صلى الله عليه وسلم - اشتاق لعودة الوحي واستمراره وكان يترقب ذلك. ففي الصحيحين من حديث جابر -رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يتحدث عن فترة الوحى، قال: فبينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قِبَل السماء فإِذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثيث منه فرقًا حتى هويت إلى الأرضّ، فجئت أهلي فقلت: زملوني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: قال: ثم حمي الوحي وتتابع (¬2). ¬

_ (¬1) ابن هشام 1/ 270 - 271 ويذكر رواية أخرج لكن فيها انقطاع كذلك. (¬2) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، ح 4، وصحيح مسلم، في الإيمان، ح رقم (161). سورة المدَّثر، آية 1 - 5

الدعوة السرية

فهذه الرواية تحدد بدء الرسالة والأمر بالبلاغ والدعوة والنذارة بعد النبوة، لكن من غير إِعلان للعامهّ، فإِن أول ما أوحى إِليه ربه أن يمقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك نبوته - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبلبيع، ثم أنزل. الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} فنبأه باقوأ وأرسله بيا أيها المدثر. وأما مدة فترة الوحى فقد اختلفت أقوال العلماء فمها، فحكى بعضهم أنها سنتان ونصف، وقال آخرون، إِنها ستة أشهر، وعن ابن عباس أنها أربعون يوماً (¬1)، (وهو الراجح) ويفسر الحافظ ابن حجر معنى فترة الوحي: بأنها تأخر نزول القرآن، أما جبريل فكان يأتيه ولم ينقطع عنه (¬2). ويذكر ابن كثير فترة أخرى وهي ليالي يسيرة، ونزلت بعدها سورة والضحى (¬3). الدعوة السرية: بعد معاودة الوحي، ونزول سورة: يا أيها المدثر، وسورة: يا أيها المزمل، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإِبلاغ الدعوة في نطاق أسرته ومعارفه ومن يثق به منهم، وهو ما عرف عند علماء السيرة يالدعوة السرية حيث استمرت ثلاث سنوات. وأول من عَرَف بأمر النبوء والرسالة زوجته خديجة - رضي الله عنها - فآمنت وصدقت وآزرت ونصرت ثم بقيَّة أهل البيت النبوي، مولاه زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب الذي كان غلامًا شابًا في حِجره ورعايته، وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإِسلام على أبي بكر الصديق فبادر إِلى الإسلام من غير تردد حيث كان صديقاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى ابن إِسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما دعوت أحدًا إِلى الإِسلام إِلا كانت عنده كبوة وتردد ¬

_ (¬1) ابن حجر، فتح الباري 1/ 27. (¬2) المصدر نفسه 1/ 27. (¬3) مروان كجك، تهذيب سيرة ابن كثير، ص 103.

ونظر، إِلا أبا بكر، ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه (¬1)، وهذا وإِن كان مرسلًا إِلا أنه يشهد له حديث أبي الدرداء عند البخاري (¬2)، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِن الله بعثني إِليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صَدَقت، وواساني بنفسه وماله .... الحديث). وكان أبو بكر -رضي الله عنه - صدرًا معظمًا، ورئيسًا في قريش مكرمًا، وصاحب مال، وكان محببًا مآلفًا لقومه، وقد استفاد من هذه الصفات في الدعوة إِلى الله، فإِنه -رضي الله عنه - بعد معرفته للحق وإِسلامه أخذ يدعو إِلى الله وإلى الإِسلام من وثق به من قومه، فأسلم على يديه ثلة من السابقين الأولين والعشرة المبشرين بالجنة، والذين أصبحوا فيما بعد قادة وسادة في الأمة، منهم الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، فجاء بهم إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا وصدقوا. ثم جاء من الغد بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا رضي الله عنهم (¬3)، وهكذا كان أبو بكر يدعو إِلى الله ويجتهد ويأتي بالرجالِ تلو الرجال ويتخير الثقات والأبطال، وفي هذا درس للدعاة، وأهمية علو الهمة والاجتهاد في الدعوة إِلى الله مع الإخلاص وابتغاء ثوابه. وقد أسلم في السنوات الثلاث عدد من الرجال والنساء والشباب، ومن الأحرار والعبيد ما يقارب الأربعين نفسًا، وقد دخل الإِسلام أغلب البيوت في مكة، لكنهم كانوا يسلمون سرًا ويكتمون أمرهم خوفًا من المشركين، والمتأمل في أسمائهم وأنسابهم يجد أنهم من كافة الطبقات وهكذا الحق يقبل عليه الجميع ولا يكون مقصورًا على طائفة أو قبيل دون آخر. ¬

_ (¬1) ابن كثير، السيرة النبوية 1/ 433. (¬2) كتاب فضائل الصحابة ح رقم 3661. (¬3) ابن كثير -المصدر السابق 1/ 439.

الدعوة الجهرية

والحكمة من سرية الدعوة في أول أمرها ظاهرة، إِذ أن مجابهة المجتمع بما يخالف ما هم عليه يحتاج إِلى حكمة وإِعداد وتكوين للعناصر المستجيبة حتى يشتد عودها ويكثر عددها وتقوى نفوسهم على تحمل البلاء، وفي هذا تعليم للدعاة إِلى الله وبيان مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة. وقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي تقع عند الصفا مكانا لاجتماعه بمن أسلم من أصحابه (¬1)، وكان اختياره دار الأرقم لمواصفات في موقعها القريب من السجد ولكنه لا يقع تحت نظر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة، وصاحبها كان شابا عزبا من بني مخزوم وقد أسلم ولا يعلم عن إِسلامه أحد من قومه، وكان والده كفيف البصر. وقد استمر اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في هذه الدار سرا حتى بعد إِعلان الدعوة والجهر بها، وبعد الهجرة إِلى الحبشة، فقد أسلم عمر في السنة السادسة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم. الدعوة الجهرية: قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬2). قال ابن جرير: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إِليك قرابة، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم (¬3). وأخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} نادى رسول الله في قريش بطنًا بطنا، فقال: أرأيتم لو قلت لكم إِن خيلًا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط. قال: فإِني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبَّا لك، ألهذا جمعتنا؟!. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 253. (¬2) سورة الشعراء، آية 214. (¬3) تفسير الطبرى (9/ 481).

فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِلى آخر السورة (¬1). وفي رواية للإِمام مسلم أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - صعد الصفا فنادى: "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله، سليني بما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا" (¬2). وقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النذارة بما كانوا يعلمونه في شخصه الكريم، ولا ينكرونه، بدأ بقضيّة لا يختلفون فيها، وهي صدقه - صلى الله عليه وسلم -، فأجابوه: (ما جرّبنا عليك كذبًا)، وهم يعلمون استحالة أو استبعاد الخبر، فمكة آمنة، وكل العرب تدين لحرمة مكة وقدسيتها، فأنّى أن تغير عليها خيلًا، ومع ذلك كان لديهم استعداد لقبول هذا الخبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّهم لم يجربوا عليه كذبًا. فأعلن إِنذاره لهم بقضيّة كبرى وحقيقة عظمى، أنذرهم يوم البعث والجزاء، أنذرهم عذاب الله الجبّار لمن كذّب به واستكبر. وانطلق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعدها يدعو إِلى الله تعالى ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردّه عن ذلك رادّ، ولا يصدّه صادّ. وكفارُ قريش في أول أمرهم غير منكرين لما يقول، بحيث كان إِذا مرّ بهم في مجالسهم يشيرون إِليه: إِن غلام بني عبد المطلب ليُكلَّم من السماء، إِلى أن عاب آلهتهم، وذكر آباءهم الذين ماتوا على الكفر، فانتصبوا لعداوته وعداوة من آمن معه، يعذبون من لا منعة عنده أشد العذاب، ويؤذون من لا يقدرون على عذابه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في التفسير، باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ح (4770)، ومسلم في الإِيمان ح (208). والآيات من سورة المسد 1 - 5. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإِيمان ح (206).

ما لقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) من أذى المشركين

واشتد الأمر، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضًا، وتآمرت قريش على من أسلم منهم، يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وحدب على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عمُّه أبو طالب، ومنع الله عن رسول به وببني هاشم وبني المطلب دون أبي لهب (¬1). لقد طُبِع أبو طالب بحبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يحنو عليه، ويُحسن إِليه، ويُدافع عنه ويحامي، ويخالف قومَه في ذلك، مع أنّه على دينهم وخُلّتهم، ولم يختره الله للإسلام لتبقى هيبته في نفوس قريش، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (¬2)، فهذا أبو طالب وأبو لهب، كلاهما من أعمام النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كافران لم يؤمنا به - صلى الله عليه وسلم -، أحدهما في ضحضاح من نار (¬3)، والآخر في الدرك الأسفل من النار. قال اين القيّم: وكان من حكمة أحكم الحاكميِن بقاؤه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأمّلها) (¬4). ومنها بقاء احترامهم له وهيبتهم منه ومجاملته لأنه سيد مطاع في أهله، وأهل مكة لا يتجاسرون على مكاشفته بشيء يؤذيه ما دام على دينهم وملتهم. ما لقيه النبيّ (صلى الله عليه وسلم) من أذى المشركين: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لقَدْ أُخِفْتُ في اللهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ في اللهِ، ومَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَت عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بينِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذو كَبِدٍ، إلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 269. (¬2) سورة القصص، الآية 68. (¬3) أخرج البخاري في المناقب، باب قصة أبي طالب ح (3882) عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه -، قال للنبي: - صلى الله عليه وسلم - ما أغنيت عن عمّك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". وهذه بسبب نصرته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحياطته له. (¬4) زاد المعاد (3/ 22). (¬5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 120)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق ح (2472)، وابن ماجه في المقدمة، باب في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ح (151)، وقال الترمذيّ: (هذا حديث حسن صحيح).

شدة طغيان كفار قريش

وعن عروة بن الزبير، قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: بينا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي في حجر الكعبة؛ إِذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله ... الآية} (¬1). وغضب أبو جهل من صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند الكعبة علنًا، فقال: هل يُعفِّر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ قيل: نعم. فقال: واللات والعزّى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ولأعفِّرنّ وجهَه. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إِلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه، فقيل له: مالك؟ قال: إِنّ بيني وبينه لخندقًا من نار. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" (¬2). لقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم -وهو يعيش في هذه الأجواء التي تتصاعد منها أبخرة الكراهية والحقد والغلّ، يشعرنا أنّ الذي كان يهيمن عليه أثناءها إنما هو التفكير في دعوته وبذل كل الطاقة لنشرها، محاولًا الوصول إِلى قلوب الناس، وبذلك كان - صلى الله عليه وسلم - أنموذجًا لأصحابه رضوان الله عليهم في الصبر والتحمّل في ذات الله تعالى. شدة طغيان كفار قريش: لقد وقف كفّار قريش من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - موقفًا لا يقف مثله إِلا سلفهم من أمثال فرعون وهامان وقارون (¬3)، ومن أوجه مشابهتهم لأولئك؛ الاستكبار عن الإِيمان مع تيقنهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب، باب مالقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ح (3856) (¬2) أخرجه البخاري في التفسير، باب {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ح (4958) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -. (¬3) أخرج أحمد في مسنده (1/ 404) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه - أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصف أبا جهل بأنه فرعون هذه الأمّة، وفي سنده انقطاع.

بصدق ما يُدعَون إِليه من الحقّ، قال الله تعالى عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬1). روى ابن إسحاق عن الزهري، أنّ أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة يتسللون، يتسمّعون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي بالليل في جوف بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسًا، وكلًا لا يعلم بمكان صاحبه، فلما أصبحوا تفرّقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقالوا: لا نعود، فلو رآنا بعض السّفهاء لوقع في نفسه شيءٌ، ثم عادوا لمثل ليلتهم، فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك، فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم إِن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمَّد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها. وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به كذلك. ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إِذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه (¬2). كم كانت قوة التأثير بالقرآن الكريم قويّة على السامعين، فهؤلاء صناديد الكفر يتسللون ليلًا ليستمع كل واحد منهم قراءته - صلى الله عليه وسلم -، لا يملكون لأنفسهم دفعًا دون استماع القرآن يتدفق من فيِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غضَّا طريَّا. ¬

_ (¬1) سورة النمل، آية 14. (¬2) سيرة ابن هشام، 1/ 315. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عن الزهري، وذكره الصالحي في سبل الهدى والرشاد 2/ 470: وقال: أخرجه محمَّد بن يحيى الذهلي، في الزهريات عن سعيد بن المسيب، بسند صحيح.

ولكن غلبة الهوى والكبر على العقل، والمنافسة بالباطل أذهبت ذلك الأثر، فلا درَك لهم من الهلاك، فأبعدهم الله. وعن المغيرة بن شعبة، قال: إِن أول يوم عرفت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّي أمشي أنا وأبو جهل، إِذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم، هلُمّ إِلى الله وإلى رسوله، أدعوك إِلى الله .. فقال أبو جهل: يا محمَّد، هل أنت منتهٍ عن سبّ آلهتنا، هل تريد إِلا أن نشهد أن قد بلّغتَ، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقّا ما اتّبعتك. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عليَّ فقال: والله، إِنى لأعلم أن ما يقول حقّ، ولكنّ بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم. فقالوا: ففينا الندوة. قلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. وقالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا؛ حتى إِذا تحاكت الركب، قالوا: منّا نبيّ، والله لا أفعل (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً؟ قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإِنّك قد أتيتَ محمدًا لِتعرضَ لِمَا قِبَله. قال: قد علِمتْ قريشٌ أنّي من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنّك منكرٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشّعار الجّن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إِنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإِنّ عليه لطلاوة، وإِنّه لمثمرٌ أعلاه، مُغْدق أسفله، وإِنّه ليعلو ولا يُعلى، وإِنّه ليَحْطِمُ ما تحته. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلمّا فكر قال: هذا سحرٌ ¬

_ (¬1) السيرة النبوية للذهبي 1/ 130. وانظر دلائل النبوة للبيهقي 2/ 207.

يؤثر، يأثرُه عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} الآيات (¬1) عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمْه، ولينظر ماذا يردّ عليه فقالوا: ما نعلم أحد غير عتبة بن ربيعة. ققالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة، فقال: يا محمَّد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إِن كنتَ تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْت، وإن كنت تزعم أنّك خيرٌ منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك، إِنا والله ما رأينا أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأنّ في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إِلا مثل صيحة الحُبْلى، أن يقوم بعضنا إِلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إِن كان إِنّما كان بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وأن كان إِنّما بك الباءة، فاختر أيّ نساء قريش شئت، فلْنزوّجْك عشرًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرغت؟!. قال: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى أن بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬2). فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إِلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إِلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 506)، وقال: (صحيح الإسناد على شرط البخاري، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. والآيات من سورة المدثر 11 - 13. (¬2) سورة فصلت، آية 1 - 13.

دروس وعبر

فقال: نعم. ثم قال: لا، والذي نصبها بَنيّة (¬1)، ما فهمتُ شيئًا ممّا قال غير أنّه قد أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله، ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة (¬2). فكل هذه الروايات دلائل على أن القوم لديهم في أنفسهم اعتراف بالحقّ، وإصرار على الباطل، واعتصام بالدنيا، وركون إِلى الجاه والمنزلة، وانتهى الأمر بكبار هؤلاء إِلى قليب من قُلُب بدر الكبرى جيفة نتنة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (¬3). دروس وعبر: 1 - ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحق والدعوة إِلى الإِسلام كما أمره الله، فبدأ أولًا سرًا، حتى إِذا وجد أنصارًا أمره الله بالإِعلان فأعلن ثابتًا غير هياب. والإِعلان والإِسرار في البلاغ هو بحسب الأحوال والمصالح الشرعية والأصل الإِعلان، والإِسرار استثناء. 2 - تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمغريات كثيرة من المشركين، ولم تغير من منهجه شيئًا حيث استمر في دعوته إِلى الحق بكل ثبات وطمأنينة إِلى ما معه من الحق. 3 - أوذي أصحابه - رضي الله عنهم - وواجههم المشركون بألوان من الأذى والتعذيب، فصبروا حتى اجتازوا المحنة ونصرهم الله ومَكّن لهم. 4 - تعدد الأساليب التي واجه بها المشركون دعوة الحق وتنوعها -معنوية وحسية- ¬

_ (¬1) البنية: المراد الكعبة لأنها بنية إِبراهيم -عليه السلام-. (¬2) ابن أبي شيبة، المصنف ح 18409، والبيهقي في الدلائل 2/ 202 بأطول من هذا، وانظر: البداية والنهاية 4/ 155. وقال الهيثمي في الجمع 6/ 20: فيه الأجلح الكندي مختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات. (¬3) سورة طه، آية 127.

الهجرة إلى الحبشة وأسبابها

وهكذا أهل الباطل في كل زمان يعملون بكل جد في نصرة باطلهم، لكن يجب على المسلمين الثبات والصبر والتعاون لرد عدوان المشركين بالأساليب المناسبة لكل حالة. الهجرة إلى الحبشة وأسبابها اشتدَّ أذى المشركين على من آمن، وفتنوا جماعة حتى إِنهم كانوا يضربونهم ويُلقونهم في الحرِّ ويضعون الصخرة العظيمة على صدر أحدهم في شدة الحرّ، حتى إِنّ أحدهم إِذا أُطْلِق لا يستطيع أن يجلس من شدة الألم، فيقولون لأحدهم: اللاتُ إِلهك من دون الله؟ فيقولُ مكرهَّا: نعم. حتى إِن الجُعل ليمر فيقولون: وهذا إِلهك من دون الله، فيقول: نعم (¬1). وعن عبد الله بن مسعود قال: كان أول من أظهر إِسلامه سبعة، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأمّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فمنعه الله بعمّه أبي طالب، وأمّا أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأمّا سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد، إِلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إِلا بلالًا، فإِنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحدٌ أحد (¬2). كان بلال عبدًا لبعض بني جُمح مولَّدًا من مولّديهم، كان صادق الإِسلام، طاهر القلب، وكان أميّة بن خلف يُخْرِجُه إِذا حميتِ الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 396. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، وانظر: مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية 185. (¬2) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ح (150)، وحسّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ح (122).

فتوضع علي صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفرَ بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول وهو في ذلك: أحدٌ أحد (¬1). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا مرّ بعمّار بن ياسر وأمّه وأهل بيته وهم يُعذّبون، يقول: "صبرًا آل ياسر، فإِنّ موعدكم الجنّة" (¬2). ومرَّ الخبيثُ عدوُ اللهِ أبو جهل عمرو بن هشام بسميّة أم عمار (¬3)، وهي تعذَّب وزوجَها وابنَها، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها، - رضي الله عنها - وعن ابنها وزوجها (¬4). وكان الصديق رضي الله تعالى عنه إِذا مرّ بأحد من الموالي يعذَّب يشتريه من مواليه، ويعتقه، منهم: بلال وأمّه حمامة، وعامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية بني عدي، كان عمر يعذّبها علي الإِسلام قبل أن يسلم (¬5)؛ حتى قال أبوه أبو قحافة: (يا بني، أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت قومًا جُلْدًا يمنعونك. فقال له أبو بكر: إِنيّ أريد ما أريد. فيقالُ: إِنه نزلت فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} إِلى أخر السورة (¬6). وكانت سيدة خبّاب بن الأرت - رضي الله عنه - توقد نارًا فتلقيه عليها، فلا يطفئ لهيبها إِلاّ ودك ظهره (¬7). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (1/ 137). (¬2) رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي في المجمع (9/ 293): (ورجاله رجال الصحيح غير إِبراهيم بن عبد العزيز المقوم، وهو ثقة). (¬3) سميّة بنت خياط، كانت أمةً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وكان ياسر حليفًا لأبي حذيفة، فزوّجه سميّة، فولدتْ له عمّارًا، فأعتقه أبو حذيفة. انظر: أسد الغابة (5/ 481) (¬4) طبقات ابن سعد (8/ 264 - 265). (¬5) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 145) تحقيق التركي. (¬6) سيرة ابن هشام (1/ 319). والآيات من سورة الليل 17 - 18. (¬7) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 134 - 144).

ولقد كان هذا الصبر من الصحابة رضوان الله عليهم نتاج تربية النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم، يقول خباب ابن الأرت - رضي الله عنه -: شكونا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد ببردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيُجعَل فمِها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعَل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكبُ في صنعاء إِلى حضرموت لا يخاف إِلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬1). فضرب الصحابة رضوان الله عليهم هذه النماذج العالية في الصبر والتضحية بأنفسهم في سبيل هذا الدين، يتحملون أنواع الأذى ليظهر الله دينه، فرفع الله منزلتهم في الدنيا والآخرة. وقد أقرّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الرخصة في اتّقاء عذاب المشركين بإظهار ما يريدون منهم، فقال لعمّار بن ياسر الذي ما تركه المشركون حتى نال من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإِسلام. قال:"فإِن عادوا فعُدْ" (¬2). فلما اشتد البلاءُ وضاقت أرض مكة على المؤمنين أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إِلى أرض الحبشة، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إِن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ح (6943). (¬2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (14/ 182) في تفسير قوله تعالى {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. (¬3) ابن إسحاق، السيرة والمغازي (رواية يونس بن بكير) ص 194. بإسناد صحيح، وانظر: سليمان السعود، أحاديث الهجرة ص 22.

فسبب الهجرة إِلى الحبشة هو: الفرار بالدين، ووجود الأمان والعدل في مملكة الحبشة ذلك الزمان. وكان أول خروجهم من مكة في رجب سنة خمسٍ من البعثة (¬1)، وكان أول من خرج فارًا بدينه إِلى الحبشة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبعه الناس. وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلًا، وأربع نسوة، خرجوا متسللين سرًا، فوفّق الله لهم ساعة وصولهم إِلى الساحل سفينتين للتجّار، فحملوهم فيهما إِلى أرض الحبشة. ثم كانت الهجرة الثانية، وعلى رأسها جعفر بن أبي طالب، خرج وجماعات معه - رضي الله عنهم - وأرضاهم، وكانوا قريبًا من ثمانين رجلًا (¬2). قال ابن إِسحاق: (فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إِليها من المسلمين -سوى أبنائهم الذبن خرجوا بهم صغارًا أو ولدوا بها- ثلاثة وثمانين رجلًا (¬3). فانحاز المهاجرون إِلى مملكة أصحمة النجاشي، فآواهم وأكرمهم، فكانوا عنده آمنين. عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمِنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا أن يبعثوا إِلى النجاشيّ فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشيّ هدايا ممّا يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إِليه الأدم، فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إِلّا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد، الطبقات، عن الواقدي (1/ 204). (¬2) انظر: الفصول في سيرة الرسول لابن كثير (ص 101). (¬3) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 330).

وقالوا لهما: (ادفعوا إِلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشيَّ فيهم، ثم قدِّموا للنجاشيّ هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إِليكم قبل أن يكلمهم). قالت: فخرجا فقدما على النجاشيّ، ونحن عنده بخير دار، وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريقٌ إِلَّا دفعا إِليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ، ثم قالا لكل بطريق منهم: إِنه قد صبا إِلى بلد الملك منّا غِلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدلخوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إِلى الملك فيهم أشرافُ قومهم، ليردّهم إِليهم، فإِذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه بأن يسلمهم إِلينا، ولا يكلمهم، فإِنّ قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم. ثم إِنّهما قرَّبا هداياهم إِلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: (أيها الملك، إِنّه قد صبا إِلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إِليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردَّهم إِليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه). قالت: ولم يكن شيءٌ أبغض إِلى عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشيُّ كلامَهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إِليهما. قالت: فغضب النجاشيّ، ثم قال: (لا ها الله، أيم الله، إِذن لا أسلمهم إِليهما، ولا أكاد قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي؛ حتى أدعوهم، فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم، فإِن كانوا كما يقولان أسلمتهم إِليهما، ورددتهم إِلى قومهم، وإِن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني).

قالت: ثم أرسل إِلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلمّا جاءهم رسولَه اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إِذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -، كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوه، وقد دعا النجاشيّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم). قالت: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: (أيها الملك، كنّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويُّ منَّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولًا منّا، نعرف نسبَه وصدقَه وأمانته وعفافَه، فدعانا إِلى إلله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- قال: فعدَّد عليه أمور الإسلام- فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إِلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن تستحل ما كنّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا، وشقّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك، أيها الملك)، قالت: فقال له النجاشيّ: (هل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟). قالت: فقال له جعفر: (نعم)، فقال له النجاشي: (فاقرأه عليّ).

فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص}، قالت: فبكى والله النجاشي؛ حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى، أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشيّ: (إنّ هذا والله، والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إِليكم أبدًا، ولا أكاد). قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: (والله، لأنبئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم). قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: (لا تفعل، فإنّ لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا). قال: (والله، لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ). قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: (أيها الملك، إِنهم يقولون في عيسى بن مريم قولًا عظيمًا، فأرسِلْ إِليهم فاسألهم عمّا يقولون فيه). قالت: فأرسل إِليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إِذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبيّنا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه، قال لهم: (ما تقولون في عيسى بن مريم؟). فقال له جعفر بن أبي طالب: (نقول فيه الذي جاء به نبيّنا، هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إِلى مريم العذراء البتول). قالت: فضرب النجاشيّ يده إِلى الأرض، فأخذ منها عودًا، ثم قال: (ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود). فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: (وإِن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحبُّ أن لي دَبْرًا ذهبًا، وأنّي آذيتُ رجلًا منكم- والدَّبْر بلسان

الحبشةِ الجبل- ردُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله، ما أخذ الله منّي الرشوةَ حين ردَّ عليَّ مُلكي، فآخذ الرشوةَ فيه، وما أطاع الناسَ فيَّ فأطيعهم فيه). قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار (¬1). تلك قصة الهجرة إِلى الحبشة، هجرة قوم انخلعوا من دنياهم وفرّوا بدينهم، قصة قوم أرادوا لأرواحهم فسحة، يعبدون الله تعالى بعيدًا عن جبروت الجبابرة والطغاة، فلم يهنأ للجبابرة حال، ولم يهدأ لهم بال، حتى سعوا إِلى إِرجاعهم وأعدّوا للأمر عدته، وأرادوا أن ينالوا من عدل النجاشي بعرض شيءٍ من حطام الدنيا له، فوقف وقفته الصادقة مع قومٍ رأى الصدق عندهم بعد أن سمع منهم، ولم يأخذهم بما قيل عنهم دون أن يسمع منهم. وأسلم النجاشيُّ وهو في أرض الحبشة، إِذ قاده العدلُ والإِنصاف إلى الإِيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وأنه مصدّق با جاء عيسى -عليه السلام-، قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 202)، (5/ 290، 292) عن محمد بن إِسحاق من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -. قال الهيثمي (المجمع 6/ 24، 27): (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ابن إِسحاق، وقد صرّح بالسماع). وحسَّن إِسناده الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (3/ 268). (¬2) سورة المائدة، الآيات 82 - 86.

فقد قيل: إِنّ هذه الآية نزلت في النجاشيّ وأصحابٍ له أسلموا معه (¬1)، قال الطبري: (إِنّ ذلك كان منهم؛ لأنّ منهم أهل اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، وأنّ منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحقّ إِذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إِذا تبيّنوه، لأنّهم أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دربوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه) (¬2). وقد صلّى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، ونعاه للصحابة - رضي الله عنهم - يوم موته، فعن جابر - رضي الله عنه -، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشيّ: "مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلّوا على أخيكم أصحمة" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إِلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات (¬4). قال ابن كثير: (وشهود أبي هريرة - رضي الله عنه - الصلاة على النجاشيّ دليلٌ على أنّه إِنّما مات بعد فتح خيبر، في السنة التي قدم فيها بقيّة المهاجرين إِلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، يوم فتح خيبر) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبرى (5/ 3). (¬2) التفسير (5/ 6). (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب موت النجاشي ح (3877). (¬4) أخرجه البخاري في الجنائز، باب التكبير على الجنازة أربعًا ح (1333). قال ابن كثير: (قال بعض العلماء: إِنّما صلّى عليه لأنّه كان يكتم إِيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يُصلّي عليه رحمه الله. قالوا: فالغائب إِن كان قد صُلِّي عليه ببلده، لا تُشْرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يُصلّ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من الصحابة، لم يُنقل أنّه صُلِّيَ على أحدٍ منهم في غير البلدة التي صُلِّيَ عليه فيها. والله أعلم). انظر لمزيد الفائدة: المغني لأبي قدامة (3/ 446). (¬5) البداية والنهاية (4/ 193).

إسلام حمزة (رضي الله عنه)

إِسلام حمزة (رضي الله عنه): وفي أثناء هذه الأحداث التي كانت تشتدّ على المسلمين من أذيّة قريش، مرّ أبو جهل يومًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتمه، فلم يكلّمه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومولاةٌ لعبد الله بن جُدعان تسمع، ثم انصرف عنه، فعمد إِلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلْبثْ حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحًا سيفه، راجعًا من قنص له، وكان صاحب قنص، وكان إذا رجع من قنصه بدأ بالطواف بالكعبة، وكان أعزّ فتًى من قريش، وأشده شكيمة، فلما مرّ بالمولاة قالت له: يا أبا عُمارة، ما لقي ابن أخيك آنفًا من أبي الحكم، وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبّه وبلغ منه، ولم يكلّمه محمَّد. فاحتمل حمزةَ الغضبُ، لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى لأبي جهل، فلما رآه جالسًا في القوم أقبل نحوه، حتى إِذا قام على رأسه رفع القوسَ، فضربه بها، فشجّه شجّةً منكرة، ثم قال: أتشتمه! فأنا على دينه، أقول ما يقول، فرُدّ عليَّ ذلك إِن استطعت. فقامتْ رجالٌ من بني مخزوم إِلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فوالله لقد سببتُ ابن أخيه سبَّا قبيحًا. وتمَّ حمزةُ على إِسلامه، فلما أسلم، عرفتْ قريشٌ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزّ وامتنع، وأنّ حمزة - رضي الله عنه - سيمنعه، فكفُّهوا بعض الشيء (¬1). إِنّ التحدي والحميّة هي التي دفعت بحمزة إِلى إِعلان إِسلامه، فقد كان يحلم أنّه لا أغيظ لأبي جهل منه، ولكن الله تعالى منّ عليه بالهداية، واطمأن قلب حمزة إِلى الإِسلام، فكانت مفتاحًا له إِلى الخير، الذي نال به لقب سيد الشهداء، وكان إسلامه سببًا في رفعة هذا الدين ونصرة أتباعه. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 291، وسنده منقطع.

إسلام عمر (رضي الله عنه)

إِسلام عمر (رضي الله عنه): كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتشوّف لإِسلام عمر بن الخطاب لما يرجوه بإِسلامه من خيرٍ للإِسلام والمسلمين، فكان يدعو: "اللهم أعزّ الإِسلام بأحبّ الرجلين إِليك؛ بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام" (1). وكان أحبُّهما إليه عمر بن الخطاب، قال ابن إِسحاق: (وكان إِسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الحبشة) (¬2). ومن أشهر ما يُروى في قصة إِسلامه أنّه خرج - رضي الله عنه - يومًا متقلدًا سيفه، فلقيه رجل من بني عدي، فقال له: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا. قال: فكيفى تأمن في بني عبد مناف، وقد قتلت محمدًا؟ فقال: ما أراك إِلا قد صبوت. قال: أفلا أدلُّك على العجب، إِن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما، وعندهما خباب، فلما سممع بحسّ عمر توارى في البيت، فدخل فقال: ما هذه الهينمة؟ -أي القراءة- وكانوا يقرءون (سورة طه)، قالا: حديثًا تحدثناه بيننا. قال: لعلكما قد صبوتما؟ فقال له ختنُه: يا عمر، إِن كان الحق في غير دينك. فوثب عليه فوطئه وطئًا شديدًا، فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيده فدمّى وجهها، فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إِني أشهد أن لا إِله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فقال عمر: أعطوني الكتابَ الذي هو عندكم فأقرأه. وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت له أخته: إِنك رجسٌ، وإِنه لا يمسه إِلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب، فقرأ {طه} حتَى انتهى إِلى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. فقال عمر: دلّونى على محمَّد، فلما سمع خباب قول عمر خرج. فقال: أبشر يا عمر ¬

_ أخرجه أحمد (2/ 95)، والترمذي في المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب ح (3681) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح غريب). (¬2) سيرة ابن هشام (1/ 342).

فإِني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك ليلة الخميس: اللهم أعزّ الإِسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا. -دار الأرقم بن أبي الأرقم- فانطلق عمر حتى أتى الدار، وعلى بابها حمزة، وطلحة، وناس، فقال حمزة: هذا عمر، إِن يُرْدِ الله به خيرًا يُسْلِم، وإن يُرْد غير ذلك يكن قتلُه علينا هيّنًا .. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - داخلٌ يُوحى إِليه، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، فقال: ما أنت منتهٍ يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ فقال عمر: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنك عبد الله ورسوله. فكبّر رسول الله تكبيرة عرف أهل الدار أن عمر أسلم (¬1). قال سعيد بن المسيّب: أسلم عمر بعد أربعين رجلًا وعشر نسوة، فلما أسلم ظهر الإسلام بمكة (¬2). وهذا محمولٌ على من بقي من المسلمين بعد خروج عامّتهم إِلى الحبشة (¬3). لقد وجّه ذلك الزهري عمرَ إِلى أخته وختنه، وبذلك امتصّ غضبه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحوّله إِلى غيره، عاملًا بمبدأ ارتكاب أخف الضررين، فكان فتح الله بإِسلام عمر، ويرجع فضل ذلك إِلى ثبات فاطمة بنت الخطاب ووقوفها في وجه أخيها معلنة التحدي، الأمر الذي كسر غضب عمر، وألان جانبه، فهدأت نفسه - رضي الله عنه -، وهكذا يكون أثر المرأة المسلمة في الدعوة إِلى الله ودورها الريادي. لقد جمع الله خصال أمّة في رجل واحد، يصنع العجائب بقدرة الله تعالى، لقد ¬

_ (¬1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 348 - 349)، وصحيح ابن حبان ح (6879). وقد أورد البخاري في صحيحه، باب إسلام عمر من كتاب المناقب حديث رقم (3866) قصة سماعه لصارخ من الجن يقول: يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إِله إِلا الله. قال عمر: "فما نشبنا أن قيل هذا نبي" ولعلّ هذا مما حمله على الإِسلام. (¬2) السيرة النبوية للذهبي (1/ 144). (¬3) انظر: البداية والنهاية (4/ 196).

كان إِسلام عمر فتحًا على المسلمين، لم يكن الصحابة يقدرون أن يصلوا عند الكعبة حتى أسلم عمر، فقد قاتل قريشًا حتى صلّى عند الكعبة وصلّوا معه. يقول عبد الله بن مسعود: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) (¬1). وأسلم عمر يوم أسلم علانية، صدع بها في أوجه المشركين ليعلنها عليهم ويغيضهم من أول يوم، إِظهارًا للحق والتوحيد، ودحرًا للكفر والوثنية، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه. قال عبد الله: وغدوتُ أتبعُ أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلامٌ أعقِلُ كلّ ما رأيتُ، حتى جاءه، فقال له: أعلِمْتَ يا جميلُ أني أسلمتُ، ودخلتُ في دين محمَّد؟ قال: فوالله، ما راجعه حتى قام يجرُّ رداءه، واتّبعه عمر، واتّبعتُ أبي، حتى إِذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إِن ابن الخطاب قد صبأ. قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكنّي أسلمتُ، وشهدتُ أن لا إِله إِلَّا الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله. وثاروا إِليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم. قال: وطَلَح (أي: تعب) فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنّا ثلاث مئة رجل، لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. قال: فبينما هم على ذلك، إِذ أقبل شيخٌ من قريش، عليه حُلّة حَبِرَة وقميصٌ موشَّى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صبأ عمر. قال: فمَهْ! رجلٌ اختار لنفسه أمرًا، فماذا تريدون؟ أترون بني عديٍّ يُسْلمون لكم صاحبهم هكذا؟! خلُّوا عن الرجل. قال: فوالله، لكأنّما كانوا ثوبًا كُشِط عنه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب عمر ح (3684). (¬2) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 248). قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 202 عن إسناد ابن إسحاق: (وهذا إِسناد قويّ). قلت: وله شاهد عند البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب إِسلام عمر ح 3865.

صحيفة المقاطعة

صحيفة المقاطعة: في أول يوم من شهر الله المحرم سنة سبع من البعثة (¬1)، رأت قريشٌ؛ أنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد عزّوا بإِسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، فساءها ذلك، وأجمعوا على أن يتعاقدوا علي بني هاشم وبني المطلب؛ ابني عبد مناف، ألَّا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم؛ حتى يُسْلِموا إِليهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في سقف الكعبة. وانحاز إِلى الشعب بنو هاشم، وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، إِلا أبا لهب، فإِنه ظاهر قريشًا، وبقوا علي تلك الحال لا يدخل عليهم أحد نحوًا من ثلاث سنين؛ حتى جهدوا، ولم يصل إِليهم شيءٌ إِلَّا سرًّا، مستخفيًا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد معه غلامٌ يحمل قمحًا، يريد به عمَّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إِلى بني هاشم؟! والله، لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك في مكة. فجاءه أبو البختري بن هشام، فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم. فقال له أبو البختري: طعام كان لعمّته عنده، بعثت إِليه، أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خلِّ سبيل الرجل. قال: فأبى أبو جهل، حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحى بعير، فضربه به فشجّه، ووطئه وطئًا شديدًا (¬2). وكانت قريشٌ في ذلك بين راضٍ وكاره، فسعى في نقض تلك الصحيفة من كان كارهًا لها، وكان القائم في أمر ذلك هشام بن عمرو بن ربيعة، مشى في ذلك إِلى مطعم بن عدي وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (7/ 192). (¬2) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 353، 354).

ثم أطلع اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - على أمر صحيفتهم، وأنّه أرسل عليها اللأرَضَة فأكلتْ جميع مما فيها من جَوْر وقطيعة وظلم، إِلَّا ذكرُ الله عَزَّ وجَلَّ، فأخبر بذلك عمَّه، فخرج إِلى قريش وأخبرهم أنّ ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإِن كان كاذبًا خلَّينا بينكم وبيته، وإِن كان صادقًا رجعتُم عن قطيعتنا وظُلْمنا، قالوا: قد أنصفتَ فأنزلوا الصحيفة، فلمّا رأوا الأمرَ كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ازدادوا كُفرًا إِلى كفرهم، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه من الشِّعب (¬1). لقد بقي المسلمون ثلاث سنوات داخل الشعب، ومع ذلك الحصار الشديد أكلوا فيه أوراق الشجر، ترتفع فيه أصوات أبنائهم بالبكاء جوعًا وعطشًا، بل إِنّ سعد بن أبي وقاص بال ذات ليلة فسمع قعقعة تحته، فإِذا هي قطعة من جلد بعير، فأخذها وغسلها ثم حرقها تم سحقها؛ ثم استفّها، وشرب عليها الماء، فتقوّى بها ثلاثة أيّام (¬2)، وقد ضربوا بذلك أروع الأمثلة في الثبات على الحق، والصبر على الأذى، والاعتصام بالله تعالى في الشدة، وإِن وقوف طائفة من المشركين مع المسلمين لدليل على أن المسلمين كانوا في نظر هذه الطائفة أهلًا للمعروف ومحلًا للكرامة، لجميل أخلاقهم وصدق تعاملهم، كما أن أولئك المشركين لديهم من سلامة الفطرة واحترام أواصر القربى ما دفعهم لذلك الموقف. ثم خرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعبهم؛ وكان ذلك في السنة العاشرة من البعثة (¬3)، وحصل الصلح برغمٍ من أبي جهل عمرو بن هشام، واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أنّ قريشًا أسلموا، فقدم مكةَ منهم جماعةٌ فوجدوا البلاء والشدة كما كانا، ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (1/ 350)، الفصول لابن كثير (ص 102، 103). (¬2) ابن إسحاق، المغازي والسير 194، وانظر حلية الأولياء3/ 93. (¬3) انظر: طبقات ابن سعد 1/ 201، وفتح الباري 7/ 192.

فاستمروا بمكة إِلى أن هاجروا إِلى المدينة، إِلا السكران بن عمرو زوج سودة بنت زمعة، فإِنّه مات بعد مقدمه من الحبشة بمكة قبل الهجرة إِلى المدينة، وإِلا سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، فإِنهما احتبسا مستضعفين، وإِلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى، فإِنه حُبِس، فلما كان يوم بدر هرب من المشركين إِلى المسلمين (¬1). ومن جملة الأخبار التي حملت بعض المهاجرين في أرض الحبشة إِلى العودة إِلى مكة ظنًّا منهم بأن أهلها قد أسلموا أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تلا على قريش يومًا سورة: {وَالنَّجْمِ} فأخذتهم روعة التنزيل، وقوة البيان، حتى إِذا بلغ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬2)؛ سجد، فسجد المشركون مأخوذين بروعة القرآن وقوة تأثيره، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قرأ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفًّا من حصًى أو تراب، فرفعه إِلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. فرأيتُه بعدُ قُتِل كافرًا (¬3). فظنّ الناقل لمّا رأى المشركين قد سجدوا متابعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنهم أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك، وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها، فظنوا صحة ذلك، فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة، وكلاهما محسن مصيبٌ فيما فعل. وكان العائدون قرابة ثلاثة وثلاثين رجلًا، منهم: أبو سلمة وزوجه رضي الله عنهما (¬4). ¬

_ (¬1) الفصول لابن كثير ص 104. (¬2) سورة النجم، آية 62. (¬3) أخرجه البخاري في الجمعة، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها ح (1067)، ومسلم في المساجد ح (576). (¬4) انظر: البداية والنهاية (4/ 224، 225).

موت أبي طالب عم النبي (صلى الله عليه وسلم)

موت أبي طالب عمّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم): ثم هلك أبو طالب قبل الهجرة النبوية بثلاث سنين، وهي السنة نفسها التي توفيت فيها خديجة بنت خويلد زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ولمّا حضرت أبا طالب الوفاةُ، دخل عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله ابن أبي أميّة بن المغيرة، مؤكدين بهذا الحضور تفانيهم في الدفاع عن باطلهم، واغتنامهم الفرص للهجوم على المعتقدات التي يرون أنها تهدد باطلهم. فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا عمّ، قل: لا إِله إِلَّا الله، أحاجُّ لك بها عند الله. فقالا: أيْ أبا طالب، أترغب عن ملّة عبد المطلب! قال: فكان آخر كلمة أن قال: على ملة عبد المطلب. وقد حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزنًا شديدًا، إِذ كان حريصًا على إسلام عمّه، حتى إِنه قال بعد أن حال الموت بين عمّه وبين كلمة التوحيد: "لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك"، فجاء النهي عن الاستغفار لأبي طالب والعتب على الحزن الشديد على فوات من لم يرد الله هدايته لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2) ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬3). وآية التوبة لم تنزل في حق أبي طالب خاصة لأنها مدنية، وإِنما المراد أنها عامة في حق أبي طالب وغيره، أما الآية الثانية فقد نزلت في حق أبي طالب، وهذه الآية وسبب نزولها يؤكدان أن أبا طالب لم يمت على الإِسلام، ويشيران إِلى ضعف رواية ابن إِسحاق: أن ¬

_ (¬1) سيرة ابن إِسحاق (ص 243). (¬2) سورة التوبة، آية 113. (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب قصة أبي طالب ح (3884) من حديث المسيب بن حزن. والآية 56 من سورة القصص.

موت خديجة بنت خويلد زوج النبي (صلى الله عليه وسلم)

العباس نظر إِلى أبي طالب فرآه يحرك شفتيه فأصغى إِليه، فقال: (يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها) (¬1). وكان أبو طالب شقيق عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أوصى به عبد المطلب عند موته فكفله إِلى أن كبُر، وكان يذبُّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويردُّ عنه كل من يؤذيه، وهو مقيم على دين قومه، وأخباره في حياطة النبي والذب عنه معروفة مشهورة، وممّا اشتهر من شعره في ذلك قوله: والله لن يصلوا إِليك بجمعهم ... حتى أوسّدَ في التراب دفينا (¬2) وقوله: كذبتم وبيتِ اللهِ نُبْزى محمدًا ... ولمَّا نقاتل حولَه ونناضلُ (¬3) ولم تكن قريش تنال من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ما تريد حتى مات أبو طالب (¬4). موت خديجة بنت خويلد زوج النبيّ (صلى الله عليه وسلم): وماتت بعد أبي طالب، خديجة - رضي الله عنها - التي كانت وزير صدق على الإِسلام، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسكن إِليها، وهي أول من أسلم. وتوفيت - رضي الله عنها - بمكة، ودفنت بالحجون، وعاشت خمسًا وستين سنة، قضت منها أربعًا وعشرين سنة مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). قالت عائشة - رضي الله عنها -: (ما غِرتُ على امرأة ما غرت على خديجة، ممّا كنتُ أسمع من ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وما تزوّجني إِلا بعد موتها بثلاث سنين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري 7/ 194. (¬2) ابن كثير، السيرة النبوية 1/ 464. (¬3) المصدر نفسه 1/ 488 ومعنى: نبزى: نُسلب ونُغلب (¬4) السيرة النبوية للذهبي 1/ 193. (¬5) المصدر نفسه. (¬6) أخرجه البخاري في المناقب، باب توزيج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خديجة ح (3817)، ومسلم في فضائل الصحابة ح (2435).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إِناءٌ فيه إِدام -أو طعام، أو شراب- فإِذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي، وبشِّرْها ببيتٍ في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" (¬1). قال السهيلي: وإِنّما بشّرها ببيت في الجنّة من قصب، أي: لؤلؤ؛ لأنّها حازت قصب السَّبْق إِلى الإِيمان. لا صخب فيه ولا نصب؛ لأنها لم ترفع صوتها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تُتْعبه يومًا من الدهر، فلم تصخب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا (¬2). وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على بعد عهده بها، لا يزال يذكر صوتها، قالت عائشة - رضي الله عنها -: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف استئذان خديجة، فارتاح لذلك (¬3)، فقال: "اللهم هالة بنت خويلد". فغرتُ، فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، فأبدلك الله خيرًا منها (¬4). فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبدلني الله خيرًا منها، قد آمنتْ بي إِذ كفر بي الناس، وصدَّقتني إِذ كذبني الناس، وواستني بمالها إِذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إِذ حرمني أولاد النساء" (¬5). وقال البيهقيّ: (بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيّام، ذكره أبو عبد الله بن منده في كتاب المعرفة، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة ح (3821). (¬2) الروض الأنف 2/ 425، 426. (¬3) قال النووى: (أي: هَشّ لمجيئها، وسُرّ بها لتذكره بها خديجة وأيامها. وفي هذا كله: دليل لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب). (¬4) أخرجه مسلم في مناقب الصحابة ح (2437)، وعلَّقه البخاري في المناقب؛ باب تزويج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خديجة. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 117، 118)، قال الهيثمي (الجمع 9/ 224): (إِسناده حسن)، وصحح الأرنؤوط إِسناده في تحقيقه للمسند (41/ 356). (¬6) دلائل النبوة (2/ 352، 353).

دروس وعبر

ومع فقده - صلى الله عليه وسلم - لهذين الحاميين، إِلَّا أنّه لم يضعف وقريش تكشر له عن أنيابها، ولم يتراجع عن دعوته، بل امتدت دعوته إِلى خارج مكة، وشرع يبحث عن أرض أخرى تقبل دعوته، وتنصر دين الله تعالى. دروس وعبر: 1 - التضحية في سبيل الله حفاظًا على الدين. 2 - جواز الهجرة من بلد الشرك إِلى بلد الشرك والكفر إِذا كان في ذلك مصلحة للدين، وقد سَمّى الله فعلهم ذلك هجرة شرعية ومدحهم بها. 3 - جواز اللجوء إِلى غير المسلم والدخول في حمايته، إِذا لم يترتب على ذلك مضرة على الدين وحصل فيها نفع. 4 - بلاغة خطبة جعفر رضي الله عنه حيث اشتملت على كشف مساوئ الجاهلية، وبيان محاسن الإِسلام. 5 - كل شدة يعقبها فرج، فبعد خروج المهاجرين إِلى الحبشة أسلم حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب، فاعتز المسلمون في مكة بإِسلامهم، واستطاعوا المجاهرة به حتى صلوا بالمسجد الحرام علانية. 6 - الحصار الاقتصادي سلاح يلجأ إِليه الأعداء لإِلحاق الضرر بالمسلمين، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبروا وثبتوا على دينهم حتى انتهى الحصار رغم طول المدة، فخرجوا من المحنة أقوى مما كانوا. 7 - فقد النبي - صلى الله عليه وسلم - نصيرين لهما مكانة عنده وأثر في الدفاع عنه، ومع ذلك استمر على طريقته ومنهجه في الدعوة، بل تطلع إِلى الانتشار خارج مكة، فبدأ يدعوا في المواسم، وخرج إِلى الطائف لطلب النصرة ونشر الدين وتبليغه.

خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف

خروج النبيّ (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف لما نُقِضَتِ الصحيفةُ وخرج المسلمون من الحصار وافق موتُ أبي طالب، موتُ خديجةَ - رضي الله عنها - فاشتد البلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفهاء قومه، واجترؤوا عليه، وكاشفوه بالأذى، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إِلى الطائف رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إِلى الله عَزَّ وجَلَّ، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصرًا، وآذوه أذًى عظيمًا لم ينل قومه منه أكثر مّما نالوا منه، وكان معه مولاه زيد بن حارثة، وكان قد عمد إِلى نفرٍ من ثقيف، ثم سادات ثقيف وأشرافهم، وهم إِخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إِليهم، فدعاهم إِلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإِسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرطُ ثياب الكعبة إِن كان الله قد أرسلك. وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا ليرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلَّمك أبدًا؛ لئِن كنتَ رسولًا من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلّمك. فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم: "إِن فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليَّ". وقد أقام في الطائف عشرة أيام لا يدعُ أحدًا من أشرافهم إِلَّا جاءه وكلَّمه، فقالوا: اخرجْ من بلدنا. وأغْرَوا به سفهاءهم، فوقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دمِيَتْ قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجاج في رأسه، فانصرف راجعًا من الطائف إِلى مكة محزونًا، وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء المهموم: "اللهم إِليك أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهوَاني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إِلى من تكلني، إِلى بعيد يتجهمني؟ أو إِلى عدوٍ ملَّكْتَه أمري، إِن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذُ بنور وجهك الذي

أشرقت له الظلمات، وصَلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن يَحُلَّ عليَّ غضبُك، أو أن ينزلَ بي سخطُكَ، لك العُتْبَى حتّى ترضى، ولا حولَ ولا قوّةَ إِلَّا بك" (¬1). فلما رآه ابنا ربيعة؛ عتبة وشيبة وما لقيَ، تحرّكتْ له رحمهما، فدعوا له غلامًا نصرانيا، يقال له: عدّاس. فقالا له: خذْ قِطْفًا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إِلى ذلك الرجل، فقل له يأكلْ منه. ففعل عدّاس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يديْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: كُلْ. فلّما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فيه، قال: "بسم الله". ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه، ثم قال: والله، إِنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد!، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أيّ بلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ ". قال: نصرانيّ، وأنا من أهل نينوى. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى؟ ". فقال له عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متّى؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك أخي، كان نبيَّا وأنا نبيٌّ". فأكبَّ عداسٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل رأسه ويديه وقدميه. فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك؛ فقد أفسده عليك! فلمّا جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس، مالك تقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيءٌ خيرٌ من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إِلَّا نبيٌّ. قالا له: ويحك يا عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإِنّ دينك خيرٌ من دينه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية (1/ 260، 262) عن محمَّد بن إِسحاق، وقال الهيثمي (المجمع 6/ 35): (فيه محمَّد بن إِسحاق، وهو مدلّس، وبقيّة رجاله ثقات). وضعف الألباني الحديث في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 126. (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 421) من رواية ابن إِسحاق، عن محمَّد بن كعب القرظي.

لقد كان موقف ثقيف شديدًا على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، تأثّر منهم تأثّرًا بالغًا، ولكنه لجأ إِلى الله بذلك الدعاء المأثور، بل إِن أحداثها لم تمحها ما لحقه من المشركين يوم أحد، قالت عائشة: قلت للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة إِذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إِلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إِلَّا وأنا بقرن الثعالب (¬1)، فرفعتُ رأسي، فإِذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإِذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إِنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إِليك ملك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمَّد، ذلك فيما شئتَ، إِن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا" (¬2). إِنّ هذا البلاء الذي تعرّض له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والذي من أثره أنّه خرج هائمًا على وجهه لا يشعر بما حوله حتى بلغ قرن الثعالب لدليل على علو مكانته عند الله تعالى؛ لأنّ المرء يُبتلى على قدر دينه (¬3). ¬

_ (¬1) قرن الثعالب: هو قرن المنازل في وادي السيل الكبير، وهو أحد المواقيت للحج والعمرة. (¬2) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة ح (3231) ومسلم في الجهاد، باب ما لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين ح (1795) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) عن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، فإِن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه". أخرجه ابن ماجه في الفتن ح (4023)

استماع الجن لقراءة النبي (صلى الله عليه وسلم)

استماع الجنّ لقراءة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فلما نزل بوادي نخلة اليمانية مرجعه إِلى مكة، قام يصلي من الليل، فصُرِف إِليه نفرٌ من الجنّ، فاستمعوا قراءته، ولم يشعرْ بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى نزل عليه قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). هذا الذي ذكره كُتّاب السيرة النبوية أن استماع الجن لقراءته كان عند رجوعه من الطائف، والذي ذكره البخاري في صحيحه (¬2)، أن استماعهم كان في أول البعثة عندما ذهب إِلى سوق عكاظ ومعه طائفة من أصحابه ولعل الحادثة تكررت. وأقام بنخلة أيامًا، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم، وقد أخرجوك؟ فقال: "يا زيدُ، إِنّ الله جاعلٌ لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإنّ الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيّه" (¬3). فلما انتهى إِلى قرب مكة أرسل رجلًا من خُزاعة إِلى مطعم بن عدي: "أدخلُ في جوارك؟ ". فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإِنّي قد أجرْتُ محمدًا، فدخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إِلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته، فنادى: يا معشرَ قريش إِنّي قد أجرتُ محمدًا، فلا يَهِجْهُ أحدٌ منكم. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآيات 29 - 32. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ح 773. (¬3) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 33.

دروس وعبر

فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الركن، فاسْتلمه، وصلّى ركعتين، وانصرف إِلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدِقون به بالسلاح حتى دخل بيته (¬1). دروس وعبر: 1 - دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مكة في جوار رجلٍ من أشرافها، وهو القادر على أن يأمر ملك الجبال فيطبق على أهلها الأخشبين عندما أرسله الله إِليه، إِنها المفارقة العجيبة. قريش تريد أن تفتك به، وهو يحمل لها في قلبه أملًا في أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا. فأيّ درس يحمله هذا الموقف من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِلى الدعاة والمصلحين، لا انتصار للنفس، ولا تشفٍ من الخلق، بل نصح وإرشاد، وشفقة ومحبّة. 2 - لقد كان ثمرة الصبر واللجوء إِلى الله سبحانه وتعالى سلسلة من الإِكرامات التي أكرم الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أولها: إِسلام عداس ذلك الغلام النصراني. ثانيها: إِرسال ملك الجبال إِليه ليأمره بأمره في أعدائه لكنه - صلى الله عليه وسلم - صفح وصبر ورحمهم من الهلاك رغم كفرهم، ورجا الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده وحده، فصار منهم من عبد الله فضلًا عن ذرياتهم. ثالثها: أن الله صرف له طائفة من الجن استمعوا قراءته وآمنوا بالله وصدقوا رسوله. رابعها: قمة الإِكرامات والفضائل من الله لرسوله، الرحلة العظيمة العجيبة في ملكوت السماوات والأرض في الإِسراء والمعراج. ¬

_ (¬1) انظر ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 381.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). قال الزهريّ: (أُسْريَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خروجه إِلى المدينة بسنة) (¬2). أسْرِيَ به - صلى الله عليه وسلم - بجسده يقظة لا مناما -على الصحيح من قول الصحابة والعلماء- من المسجد الحرام إِلى بيت المقدس راكبًا البُراق صحبةَ جبريل -عليه السلام-، فنزل ثَمَّ، وأمَّ بالأنبياء ببيت المقدس فصلَّى بهم (¬3)، وربط البُراق بحلقة باب المسجد. وقد عُرِجَ به تلك الليلة إِلى السماء الدنيا، ثم للتي تليها، ثم الثالثة، ثم إِلى التي تليها، ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة، ورأى الأنبياء في السموات على منازلهم، ثم عرج به إِلى سدرة المنتهى، ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها، وفرض الله عليه الصلوات الخمس تلك الليلة (¬4). وقد ساق الإمام البخاري حديث الإسراء والمعراج عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به: (بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحِجر، مضطجعا، إِذ أتاني آت قال: وسمعته يقول: فشق -ما بين هذه إِلى هذه- فقلت للجارود وهو إِلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره إِلى شِعْرته، فاستخرج قلبي، ثم أُتِيت بطست من ذهب مملوءة إِيمانا، فغسل قلبي، ثم حُشي ثم أعيد، ثم أُتِيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض- فقال له الجارود: هو ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، آية 1. (¬2) ابن هشام، المصدر السابق (1/ 396). (¬3) انظر: صحيح مسلم في الإيمان ح (172). (¬4) انظر: صحيح البخاري، بدء الخلق، باب ذكر الملائكة ح (3270).

البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم- يضع خطوه عند أقصى طَرْفِه، فحُمِلت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإِذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد حتى إذا أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إِذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إِلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إِذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: أوقد أرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إِذا إِدريس، قال: هذا إِدريس فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي، حتى إِذا أتى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد أرسل إِليه، قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإِذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى إِذا أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل

إِليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإِذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إِلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بعث إِليه، قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإِذا إِبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد السلام، قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإِذا نبقها مثل قلال هجر، وإِذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإِذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رُفِع لي البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. ثم أُتِيت بإِناء من خمر وإناء من لبن وإِناء من عسل، فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك، ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإِني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إِسرائيل أشد المعالجة، فارجع إِلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إِلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إِلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إِلى موسى فقال مثله، فرجحت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إِلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إِن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم،

دروس وعبر

وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إِسرائيل أشد المعالجة، فأرجع إِلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي (¬1). ولما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، أخبرهم بما أراه الله من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم، واستجراؤهم عليه. وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلَّاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته وهو ينظر إِليه (¬2). وأخبرهم عن عِيْرِهم -أي قافلتهم- في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدُمُها، وكان الأمرُ كما قال، فلم يزدهم ذلك إِلَّا نفورًا، وأبى الظالمون إِلَّا كفورًا (¬3). دروس وعبر: 1 - لقد كانت حادثة الإِسراء والمعراج تسلية للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - مّما أصابه من فقد زوجه خديجة - رضي الله عنها -، وموت عمّه أبي طالب، وأذى المشركين له، وإِكرام من الله له ليريه من آياته الكبرى. 2 - وقد كانت فتنة لبعض الناس، وعظُم تكذيب قريش له، ولم يتصورا قدرة الله وإِنما نظروا للأمر نظرة مادية، فقد كانوا يضربون أكباد الإِبل إلى بيت المقدس شهرًا، ويعودون منها شهرًا، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يذهب إِليها ويعود منها من ليلته!!. والذين كذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإِسراء واستبعدوا وقوعه غفلوا عن شيء ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج ح (3887) (¬2) المصدر السابق ح 3886. (¬3) انظر: زاد المعاد (3/ 39).

مهم في الآية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} فالله هو الذي أسرى بعبده، ولم ينسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإسراء إِلى نفسه، فالذي يكذب بالإسراء إِنما يطعن في قدرة الله سبحانه وتعالى (¬1). 3 - قالت عائشة - رضي الله عنها -: (لمّا أُسْري بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد إلاقصى، أصبح يتحدّث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممّن آمن، وسعوا إِلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنّه أُسْريَ به الليلة إِلى بيت المقدس! قال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدِّقه! قال: نعم، إِني لأصدِّقه بما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سُمِّي الصدِّيق) (¬2). 4 - لقد كان إِخبار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لقريشٍ عن حادثة الإِسراء والعراج شيئًا يعجز الإِنسان عن وصفه، فقد أبان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن شجاعة نادرة، وقوة في الحقّ لا يخشى فيه أحدًا من الخلق. 5 - لقد وقف - صلى الله عليه وسلم - بالحجر يخبرهم عن قصته بكل ثبات، وبكل ثقة، لا يبالي من صدّقه أو كذّبه، فهو يخبر بقضيّة عاشها بكل ذرّات جسده، عاشها بكل لحظاتها، فانطلق يصفها بكل تفاصيلها، وقد أكرمه الله برفع الحجب بينه وبين بيت القدس وجلاّه له ينظر إِليه ويصفه لهم. 6 - في اختصاص الصلاة بتشريعها في العراج بيان لمكانتها، فهي عمود الإِسلام، وكونها شرعت في أول الأمر خمسين صلاة ثم خفضت إِلى خمس صلوات في ¬

_ (¬1) القسطلاني، المواهب اللدنية 3/ 15، وانظر: فقه السيرة لزيد الزيد ص 251. (¬2) الذهبي، السيرة النبوية (1/ 202)، والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 62 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

انشقاق القمر

الفعل، وهي خمسون صلاة في الميزان (2). دليل على محبة الله لفعلها لما لها من الأثر في سلوك السلم، فإِنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جعلت قرة عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. 7 - إِن الربط بين المسجدين -المسجد الحرام والمسجد الأقصى- له دلالة عظيمة، فهما أقدم المساجد التي وضعت للناس، وبانيهما على التوحيد والإِخلاص لله هو أبو الأنبياء إِبراهيم الخليل، ومحمد النبي الخاتم وأمته هم الوارثون لها والمسئولون عنها وعن حراستها والعناية بها. 8 - فضل موسى -عليه السلام- على هذه الأمة ونصحه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمته حينما عرض عليه أن يعود ويراجع الله ويطلبه التخفيف، وموسى -عليه السلام- صاحب تجربة، يقول ابن حجر: والتجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة (2). انشقاق القمر من الآيات العظيمة التي أيد الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - انشقاق القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (¬1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (¬2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} (¬3). وقد أجمع المسلمون على أنها حدثت بمكة، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: انفلق القمرُ، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصارت فلقةٌ من وراء الجبل، وفلقة من دونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا" (¬4). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنّ أهل مكة سألوا رسول ¬

_ (¬1) راجع: ابن عثيمين، الشرح الممتع على زاد المستقنع 2/ 6 ويرى الشيخ أن هذا غير الخمسين حسنة التي يضاعف بها أجر الأعمال (الحسنة بعشر أمثالها) أي الخمسين صلاة بخمسمئة حسنة. (¬2) فتح الباري 7/ 218. (¬3) سورة القمر، الآيات 1 - 3. (¬4) أخرجه مسلم في صفة الجنة والنار ح (280).

تعرضه (صلى الله عليه وسلم) للقبائل في المواسم

الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آيةً، فأراهم القمر شقتين؛ حتى رأوا حراء بينهما (¬1). فقالت قريشٌ: هذا سحر ابن أبي كبشة. فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السُّفار، فإِنّ محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم، فجاء السُّفار. فقالوا: ذلك صحيح (¬2). تعرضُه (صلى الله عليه وسلم) للقبائل في المواسم وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم، ويقول: "مَن رجل يحملني إِلى قومه؟ فيمنعني حتى أبلِّغ رسالة ربي، فإِنّ قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" (¬3). وكان يقول لهم: "يا أيّها الناسُ قولوا: لا إِله إِلَّا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذِلُّ لكم بها العجمَ، فإِذا آمنتم، كنتم ملوكًا في الجنّة". وعمّه أبو لهب وراءه يقول للناس: (لا تطيعوه فإِنّه صابئ كذّاب) (¬4). فكان أحياء العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش عنه؛ إِنه كاذب، إِنه ساحر، إِنه كاهن، إِنه شاعر، أكاذيب يقذفونه بها من تلقاء أنفسهم، فيصغي إِليهم من لا تمييز له من أحياء العرب، وكان أكثرهم يردُّون عليه أقبح الردّ، ويؤذونه، ويقولون: (أسرتُك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتّبعوك). وأما الألباء؛ فإِنهم إِذا سمعوا كلامَه وتفهموه، شهدوا بأنّ ما يقول حقٌ، وأنهم مفترون عليه، فيسلمون (¬5). فانظر كيف السباق بين الحقّ والباطل؟ داعٍ يدعو إِلى الحق غير عابئ بسخرية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب، باب انشقاق القمر ح (3868). (¬2) الذهبي، السيرة النبوية (1/ 170). (¬3) أخرجه أبو داوود في سننه، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داوود ح 3960. (¬4) الإِمام أحمد، المسند 25/ 404 ح 16023، 16025، 16024. وقال محققه: صحيح لغيره. (¬5) انظر: طبقات ابن سعد (1/ 216، 217).

حديث سويد بن الصامت وإسلام إياس بن معاذ

الساخرين، وجفاء الجافين، يريد أن يوصل الكلمة الطيّبة، ويبلغ رسالة ربّه، لا يسأم من صدودهم، ولا يضجر من أذاهم. وداعٍ يدأب في تكذيب الحقّ، ويدور معه حيث دار، حريص على أحجاره التي يعبدها مع الله، حدِبٍ على سيادته التي أصبح رمزها هذه النصب والأصنام. ولكن الباطل أحقر من أن يكتم صوت الحقّ، وأن يحول دون وصوله إِلى العقول الحرّة الأبيّة، فتخفق أرواحهم لدى سماعها، وتذعن أفئدتهم لصدق كلماتها. حديث سويد بن الصامت وإِسلام إِياس بن معاذ: كان سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف من الأوس، قد قدم مكة في السنة التاسعة من البعثة، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الإِسلام وتلى عليه القرآن، فلم يُبْعِدْ ولم يُجِبْ، وقال: إِن هذا القول حسن. ثم انصرف إِلى المدينة، فقُتِلَ في بعض حروبهم، وكان رجال من قومه ليقولون إِنا لنراه قد قتل وهو مسلم (¬1). ثم قدم مكة في السنة العاشرة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتيةٍ من قومه من بني عبد الأشهل، يطلبون الحِلْفَ لوقعة بُعاث التي وقعت بين الأوس والخزرج، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الإِسلام وتلى عليهم القرآن، فقال إِياس بن معاذ وكان شابًا حدثًا: يا قوم، هذا والله خيرٌ مما جئنا له، فضربه أبو الحيسر، وانتهره، فسكت، ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إِلى بلادهم إِلى المدينة، ثم لم يلبث إِياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتى مات، وكانوا لا يشكّون أنه مات مسلمًا، وكان قد استشعر الإِسلام من ذلك المجلس حين سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سمع، فيقال: إِن إِياس بن معاذ مات مسلمًا (¬2). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 425 باسناد منقطع. (¬2) المصدر نفسه 1/ 427، 428، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 427 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 36: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات وسنده حسن. وذكره الحافظ في الإصابة 1/ 102 وصححه.

بدء إسلام الأنصار

بدء إسلام الأنصار: وكان مما صنع الله لأنصاره من الأوس والخزرج أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة: إِنّ نبيَّا مبعوثٌ في هذا الزمن، ويتوعدونهم به إِذا حاربوهم، ويقولون: إِنّا سنقتلكم معه قتل عاد وإِرم، وكان الأنصار يحجّون البيتَ، وأمّا اليهود فلا، فلمّا رأى الأنصار رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناسَ إِلى الله تعالى، ورأوا أمارات الصدق عليه، قالوا: والله، هذا الذي تُوْعِدُكم يهودُ به، فلا يسبقنّكم إِليه. ثم إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي عند العقبة في الموسم من السنة الحادية عشرة من البعثة نفرًا من الأنصار، كلهم من الخزرج، وهم: 1 - أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس. 2 - عوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء. 3 - رافع بن مالك بن العجلان. 4 - قطبة بن عامر بن حديدة. 5 - عقبة بن عامر بن نابي. 6 - جابر بن عبد الله بن رئاب. فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الإِسلام فأسلموا مبادرة إِلى الخير، ثم رجعوا إِلى المدينة، فدعوا إِلى الإِسلام، ففشا الإِسلام فيها؛ حتى لم تبق دار إِلَّا وفيها ذكر للإِسلام (¬1). هكذا كان انتشار الإِسلام في المدينة على يد هؤلاء الستة، فهم كانوا أول سفراء الخير في بلادهم، ظفروا بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - دون العرب، فكانوا بداية انطلاقة جديدة للإِسلام خارج مكة. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 428 - 430 أو صرح ابن إسحاق بالتحديث لكن إِسناده منقطع، وانظر: إِبراهيم العلي، صحيح السيرة ص 104.

بيعة العقبة الأولى

بيعة العقبة الأولى: فلما كان العام المقبل (السنة الثانية عشرة من البعثة) جاء من الأنصار اثنا عشر رجلًا؛ الستة الأوائل خلا جابر بن عبد الله بن رئاب، ومعهم سبعة هم: 1 - معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدّم. 2 - ذكوان بن عبد قيس بن خلدة. وقد أقام ذكوان هذا بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فيقال: إِنه مهاجري أنصاري. 3 - عبادة بن الصامت بن قيس. 4 - أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة. 5 - العباس بن عبادة بن نضلة. فهؤلاء من الخزرج، واثنان من الأوس هما: 11 - أبو الهيثم مالك بن التيهان. 12 - عويم بن ساعدة. فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعةً كبيعة النساء، ولم يكن أمر بالقتال بعدُ، فلما انصرفوا إِلى المدينة، بعث إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعبَ بن عمير، يعلم من أسلم منهم القرآن، ويدعو إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ويؤمهم في الصلاة (¬1) ثم قدم عبد الله بن أم مكتوم بعد ذلك وكان له دور في الدعوة وتعليم القرآن (¬2). لقد كانت هذه البيعة تأكيدًا على تطبيق الإِسلام، حيث تضمن الالتزام بطاعة الله تعالى واجتناب معصيته؛ لأنّ هذه البيعة لها أثرٌ في البيعة التي تليها، البيعة على ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 433 - 434 ونص البيعة أخرجه البخاري في صحيحه مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار وبيعة العقبة ح 3893. ومسلم في كتاب الحدود، ح 1709 من حديث عبادة بن الصامت. (¬2) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، ح 3924، وانظر: ابن حجر، الإصابة 4/ 601.

بيعة العقبة الثانية

النصرة والقتال، ذلك أن الذين لا يستطيعون الانتصار على شهواتهم وملذاتهم، ولا ينقادون إِلى الأمر والنهي، ولا يصبرون على الطاعة، والانتهاء عن المعصية، لا يمكن لهم أن ينتصروا في ميادين القتال والجهاد. ونزل مصعب بن عمير، على أبي أمامة أسعد بن زرارة، وكان مصعب بن عمير يؤمّهم، ويعلمهم القرآن والإِسلام، فأسلم على يديه بشرٌ كثير، منهم: أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإِسلامهما يؤمئذ جميع بني عبد الأشهل الرجال والنساء، إِلَّا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن أقيش، فإِنه تأخر إِسلامه إِلى يوم أحد، فأسلم يومئذ، وقاتل فقُتِلَ قبل أن يسجد لله سجدة، فأُخْبِرَ عنه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عملَ قليلًا، وأُجِرَ كثيرًا (¬1). لقد كانت بركة هذين الرجلين: مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم على أهل المدينة عظيمةً، فاستطاعا أن يدخلا خلقًا كثيرًا في الإِسلام، بل استطاعا أن يؤثرا في ساداتهم ورؤوسهم، فلم يتخلف من قومهم أحدٌ، وهذا دليل على عمق التربية النبوية التي استطاع من خلالها أن يصنع رجالًا يحملون الإِسلام كما يحمله هو. بيعة العقبة الثانية: لما كثُرَ الإِسلام بالمدينة وظهر، اجتمع الانصار فقالوا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويُخاف؟ فعزموا على إِخراجه من مكة إِليهم (¬2). وقدم مصعب إِلى مكة في حج السنة الثالثة عشرة من البعثة، ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داوود، كتاب الجهاد، باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله ح 2537، وحسنه الشيخ الألباني، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 428. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 322 من حديث جابر بن عبد الله، وقال الحافظ في الفتح 7/ 220: رواه أحمد بإسناد حسن، وصححه الحاكم.

الأنصار من المسلمين والمشركين، قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، فلمّا توجّهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة، قال البراء لنا: يا هؤلاء، إِني قد رأيتُ والله رأيًا، وإِنّي والله ما أدري توافقوني عليه، أم لا؟ قال؛ قلنا له: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البِنْيَة مني بظهرٍ -يعني: الكعبة- وأن أصلي إِليها. قال: فقلنا: والله، ما بلغنا أن نبيّنا يصلِّي إِلَّا إِلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إِنّي أصلي إِليها. قال: فقلنا له: لكنّا لا نفعل. فكنّا إِذا حضرت الصلاة؟ صلينا إِلى الشام، وصلَّى إِلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، قال: وقد كنّا عبنا عليه ما صنع، وأبى إلَّا الإِقامة عليه، فلما قدمنا مكة، قال: يا ابن أخي، انطلق بنا إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأسأله عمّا صنعتُ في سفري هذا، فإِنه والله قد وقع في نفسي منه شيءٌ لما رأيت من خلافكم إِيّاي فيه. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنّا لا نعرفه، لم نره قبل ذلك، فلقينا رجل من أهل مكة؛، فسألناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هل تعرفانه؟ قال: قلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمّه؟ قلنا: نعم. قال: وكنّا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا. قال: فإِذا دخلتما المسجد، فهو الرجل الجالس مع العباس. قال: فدخلنا المسجد، فإِذا العباس جالس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه جالس، فسلمنا، ثم جلسنا إِليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: "هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ ". قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيّدُ قومه، وهذا كعب بن مالك. قال: فوالله، ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشاعر؟ ". قال: نعم. قال: فقال البراء بن معرور: يا نبي الله، إِنّي خرجتُ في سفري هذا، وهداني الله للإِسلام، فرأيتُ أن لا أجعل هذه البَنيّة منّي بظهر، فصليت إِليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك؛ حتى وقع في نفسي من ذلك شيءٌ، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: "لقد كنتَ على قبلة لو صبرتَ عليها".

قال: فرجع البراء إِلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى معنا إِلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلَّى إِلى الكعبة، حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم. قال: وخرجنا إِلى الحجّ، فواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبةَ من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحجّ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيّد من ساداتنا، وكنّا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إِنّك سيّد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإِنّا نرغب بك عمّا أنت فيه: أن تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوته إِلى الإِسلام، وأخبرته بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأسلم، وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا. قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا؛ حتى إِذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلًا، ومعنا امرأتان من نسائهم، نسيبة بنت كعب أم عمارة إِحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إِحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع. قال: فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى جاءنا، ومعه يومئذ عمّه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إِلَّا أنّه أحبّ أن يحضر أمرَ ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أوّلَ متكلم، فقال: يا معشر الخزرج -قال: وكانت العرب ممّا يسمّون هذا الحي من الأنصار الخزرج؛ أوسها وخزرجها- إِنّ محمدا منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممّن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزٍّ من قومه، ومنعة في بلده. قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فتكلَّمْ يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلا القرآن ودعا إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ورَغّب في الإِسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". قال: فأخذ البراء

بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعنك ممّا نمنع منه أزرنا، فبايعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر. قال: فاعترض القولَ -والبراء يُكلِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: يا رسول الله، إِنّ بيننا وبن الرجال حبالًا، وإِنّا قاطعوها -يعني: العهود- فهل عسيتَ إِن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله: أن ترجع إِلى قومك، وتدعنا قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخْرِجوا إِليَّ منكم اثني عشر نقيبًا، يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا منهم، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس (¬1). قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب -والجباجب: المنازل- هل لكم في مذمم والصباة معه، قد أجمعوا على حربكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع أيْ عدوَ الله، أما والله لأفرغنّ لك". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ارجعوا إِلى رحالكم". قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلنّ على أهل مني غدًا بأسيافنا. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أومر بذلك". قال: فرجعنا فنمنا، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جلّة قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إِنّه قد بلغنا أنّكم قد جئتم إِلى صاحبنا ¬

_ (¬1) النقباء هم 1 - أسعد بن زرارة 2 - سعد بن الربيع 3 - عبد الله بن رواحة 4 - رافع بن مالك بن العجلان 5 - البراء بن معرور 6 - عبد الله بن عمرو بن حرام 7 - عبادة بن الصامت 8 - سعد بن عبادة 9 - المنذر بن عمرو 10 - أسيد بن الحضير 11 - سعد بن خيثمة 12 - رفاعة بن عبد المنذر، ويقال: الهيثم بن التيهان.

هذا، تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، والله، إِنّه ما من العرب أحدٌ أبغض إِلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم. قال: فانبعث مَن هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منّا. قال: فبعضنا ينظر إِلى بعض، قال: وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان، قال: فقلتُ كلمة كأنّي أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا، ما تستطيع يا أبا جابر، وأنت سيد من ساداتنا: أن تتخذ نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟. فسمعها الحارث فخلعهما، ثم رمى بهما إِليَّ، فقال: والله، لتنتعلنهما. قال: يقول أبو جابر: أحفظتَ والله الفتى، فارددْ عليه نعليه. قال: فقلتُ: والله لا أردهما فأل والله صالح، والله لئِن صدق الفأل لأسلبنّه (¬1). ومن حديث البيعة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إِذا قدمتُ عليكم، وتمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنّة"، فقاموا ليبايعوه، فأخذ بيده أسعدُ بن زرارة، وهو أصغر السبعين، فقال: (رويدًا يا أهل يثرب، إِنّا لم نضرِبْ إِليه أكباد المطيّ إِلَّا ونحنُ نعلمُ إِنه رسول الله، وإن إِخراجَه اليومَ مفارقةُ العرب كافّة، وقتلُ خياركم، وأن تعضّكم السيوفُ، فإِمّا أن تصبروا على ذلك، فخذوه، وأجركُم على الله، وإمّا أنتم تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه، فهو أعذرُ لكم عند الله)، فقالوا: يا أسعدُ، أمطْ عنّا يدَك، فوالله لا نقيل هذه البيعة، ولا نستقيلها)، فقاموا إِليه رجلًا رجلا، فأخذ عليهم وشرط، يعطيهم بذلك الجنّة) (¬2). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 86 - 94، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 460 - 462) من طريق محمَّد بن إِسحاق به. وقد قوّى الحديث وحسّن إسناده الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (25/ 95). (¬2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 323، 329) وله شاهد في الصحيحين، البخاري، كتاب الفتن ح 7056، ومسلم، كتاب الإمارة 3/ 1470.

دروس وعبر

هكذا تمت البيعة بسرّية تامة، ثم تتبعت قريش الخبر فثبت عندهم، ورحل البراء بن معرور فتقدَّم إِلى بطن يأجج، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وتطلبتهم قريشٌ، فأدركوا سعدَ بن عبادة، فربطوا يديه إِلى عنقه بنسع رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرّونه، ويجذبونه بجمَّته؛ حتى أدخلوه مكةَ، فجاء مطعم بن عدي، والحارث بن حرب بن أميَّة، فخلَّصاه من أيديهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه: أن يكرُّوا إِليه، فإِذا سعدٌ قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إِلى المدينه (¬1). دروس وعبر: 1 - نلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء لقاءاته بوفود العرب وعرض الإِسلام عليهم يبدأ بتلاوة القرآن الكريم وهذا منهج ينبغي الانتباه له في الدعوة إِلى الله والمحاضرات والخطب في مواضعه المناسبة، فإِن كلام الله له أثر عظيم في النفوس قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقال تعالى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (¬3). وقال جبير بن مطعم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كاد قلبي أن يطير (¬4). وكان جبير وقتها على شركه (¬5). 2 - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول للناس وهو يتجول على القبائل في المواسم [يأيها ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 94 - 95. (¬2) سورة التوبة، آية 6. (¬3) سورة ق، آية 45. (¬4) صحيح البخاري، كتاب التفسير ح 4854. (¬5) انظر: زيد المزيد، فقه السيرة ص 267.

الناس قولوا لا إِله إِلا الله تفلحوا] فالبدء بالتوحيد وتعليم العقيدة والحث على مكارم الأخلاق هو المقدم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكما تنزل القرآن عليه في مكة؛ لأن التكاليف وقبول التشريعات ثمرة للعقيدة وفرع عنها؛ فإِذا استقرت العقيدة في النفوس وقوي الإيمان واستقامت الأخلاق، حصلت الاستجابة والرضا والمسارعة إِلى تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي. 3 - في استجابة الأنصار للدعوة واستعدادهم لحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيان فضلهم وحكمة من الله بأن هذا الدين لايقوم على العصبية القبلية فقبيلته قريش وبلده مكة تخرجه ويجد عند غيرهم نصرة ومأوى. 4 - إِنّ الدعاة إِلى الله تعالى بحاجة إِلى الحماية في دعوتهم من أذى أهل الباطل والإِفساد، فهذا خير البشر، المؤيّد من الله بملائكته وجنده، يطلب حماية الأنصار له، فغيره من باب أولى وهذا من اتخاذ الأسباب المأمور بها. 5 - لقد كان الأنصار يعلمون وهم يعقدون هذه البيعة أن العرب سترميهم عن قوس واحدة، ولكنهم طلبوا الجنّة، ودفعوا مهرها، فكم للأنصار من أيام، ويوم بيعة العقبة من أيامهم الخالدة. 6 - كبح جماح العاطفة والحماس والعجلة تحقيقا للمصلحة الشرعية، فعندما استأذن الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يميلوا على أهل منى منعهم - صلى الله عليه وسلم - وقال: لم أومر بذلك.

الفصل الثالث: الهجرة وترتيب أوضاع المدينة النبوية

الفصل الثالث: الهجرة وترتيب أوضاع المدينة النبوية

الهجرة وترتيب أوضاع المدينة النبوية

الهجرة وترتيب أوضاع المدينة النبوية الهجرة إِلى المدينة النبوية: أذنَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين من أهل مكة بعد بيعة العقبة الثانية في الهجرة إِلى المدينة، وقال لهم: "إِني أُريتُ دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين" (¬1). وهما الحرتان. وكان من أسباب الهجرة (¬2): 1 - وقوع البلاء والاضطهاد على المسلمين في مكة. 2 - مخافة الفتنة في الدين. 3 - وجود حماية للدعوة بعد بيعة العقبة الثانية. 4 - تكذيب قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراجه من مكة. فهاجر من هاجر إِلى المدينة حين أذن بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجع إِلى المدينة بعض من كان هاجر إِلى أرض الحبشة، وتجهَّز أبو بكر مهاجرًا، فقال له رسول ال - صلى الله عليه وسلم -: "علّي رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعَلّف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر (¬3). فبادر المسلمون إِلى الهجرة، فكان أول من خرج إِلى المدينة من أهل مكة: أبو سلمة بن عبد الأسد هو وامرأته أم سلمة، وكان قد قدم من الحبشة إِلى مكة، فآذته قريشٌ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار ح 3905. (¬2) انظر: سليمان العودة، السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق ص 351 - 353. (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ح (3906) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

هجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

فبادر بالهجرة إِلى المدينة من حين أذن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أمّ سلمة احتبست دونه، ومُنِعَتْ من اللحاق به، وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد سنةٍ بولدها إِلى المدينة، وشيعها عثمان بن طلحة من مكة إِلى أن رأت بلدة قباء بالمدينة، ثم تركها وعاد إِلى مكة، وذلك قبل إِسلامه فرضي الله عنه (¬1). ثم خرج الناس أرسالًا يتبعُ بعضهم بعضًا. هجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (¬2). قال قتادة: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}، المدينة: {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}، الهجرة من مكة: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}، كتاب الله وفرائضه وحدوده (¬3). لم يبق من المسلمين في مكة إِلَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعليّ رضي الله تعالى عنهما -أقاما بأمره لهما- وخلا من اعتقله المشركون كرها، وقد أعّد أبو بكر - رضي الله عنه - جهازه وجهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتظرًا؛ حتى يأذن الله عَزَّ وَجَلَّ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج. فلمّا رأى المشركون أصحابَ رسول الله قد تجهزوا، وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إِلى الأوس والخزرج، وعرفوا أنّ الدارَ دارُ مَنَعَة، وأنّ القومَ أهلُ حَلْقة وشوكة وبأس؛ خافوا خروجَ رسولِ الله إِليهم، ولحوقه بهم، فيشتد عليهم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلفْ أحدٌ من أهل الرأيّ والحِجَا منهم؛ ليتشاوروا في أمره، وحضرهم وليُّهم إِبليسُ في صورة شيخ كبير من أهل نجد (¬4) ¬

_ (¬1) انظر لتمام القصة: سيرة ابن هشام (1/ 469، 470). (¬2) سورة الإسراء، آية 80. (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 149). (¬4) قال السهيلي في الروض الأنف 2/ 239: إنما جاءهم في صورة رجل من أهل نجد لأنهم قالوا -فيما ذكر أهل السير- لا يدخل معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمَّد.

مشتمل الصماء (¬1)، فتذاكروا أمرَ رسول الله، فأشار كل أحد منهم برأيّ، والشيخ يردُّه ولا يرضاه، إِلى أن قال أبو جهل: (قد فُرِقَ لي فيه رأيٌّ ما أراكم قد وقعتم عليه). قالوا: ما هو؟ قال: (أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريشٍ غلامًا نهدًا جلدًا، ثم نعطيه سيفًا صارمًا، فيضربونه ضربةَ رجل واحد، فيتفرق دمُه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها، ونسوق إِليهم ديته). قال الشيخ: (لله درّ الفتى، هذا والله الرأيّ). قال: فاجتمعوا على ذلك. فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى، فأخبره بذلك، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليله (¬2)، وجاء رسول الله إِلى أبي بكر نصف النهار -في ساعة لم يكن يأتيه فيها- متقنِعًا، فقال له: "أَخْرِجْ مَن عندك". فقال: (إِنّما هم أهلُك يا رسول الله). فقال: إِنّ الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: (الصحابةَ يا رسول الله). فقال رسول الله: "نعم". فقال أبو بكر: (فخذ بأبي وأمي إِحدى راحلتى هاتين). فقال رسول الله: "بالثمن" (¬3). وأمر عليًّا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب، ويرصدونه، ويريدون بياته، ويأتمرون أيّهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله عليهم، فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذره على رؤوسهم، وهم لا يرونه. ثم خلص إِلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فخرجا عن خوخة في دار أبي بكر ليلًا، وقد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي، وكان هاديًا خِريتًا ماهرًا بالدلالة إِلى أرض المدينة، وأمناه على ذلك، مع أنّه كان على دين قومه، وسلَّما إِليه راحلتيهما، وواعداه ¬

_ (¬1) الصماء: الكساء الذي ليس له أكمام يخرج منها يديه. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 480، 483). (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ح (3906) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

بعد ثلاث، وذهبا إِلى غار ثور، وقد أعمى الله على قريش خبرهما، فلم يدروا أين ذهبا، وكان عامر بن فهيرة يريح عليهما غنمًا لأبي بكر، وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إِلى الغار، قالت عائشة - رضي الله عنها -: (وجهّزناهما أحب الجهاز، ووضعْنا لهم سُفْرة في جِراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فأوْكَتْ به الجِراب، وقطعتِ الأُخرى فصيّرتها عِصامًا لفم القربة، فلذلك لُقِّبتْ بذات النطاقين (¬1). وكان عبد الله بن أبي بكر يتسمَّع ما يقال بمكة، ثم يذهب إِليهما بذلك، فيحترزان منه، وجاء المشركون في طلبهما إِلى ثور، وما هناك من الأماكن؛ حتى إِنهم مروا على باب الغار، وحاذت أقدامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وعمَّى الله عليهم باب الغار (¬2). وحزن أبو بكر رضي الله تعالى عنه لشدة حرصه، حين مرّ المشركون، وقال: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر موضع قدميه، لرآنا. فقال له النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما" (¬3). ولما كان بعد الثلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين، فركباهما، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة، وسار الدليل أمامهما على راحلته، وعين الله تكلؤهما، وتأييده يصحبهما، وإِسعاده يرحلهما ويُنزلهما. ولما يئس المشركون من الظّفر بهما؛ جعلت قريش لمن جاء بهما دية كل واحد منهما، أي: مائةً من الإِبل، فجدّ الناسُ في الطلب، والله غالب على أمره، فلمّا مرّوا بحيٍّ من مدلج مصعدين من قديد، بصر بهم رجلٌ من الحيّ، فوقف على الحيّ فقال: (لقد رأيتُ آنفًا أسوِدةً ما أُراها إِلا محمدًا وأصحابَه)، ففطِنَ بالأمرِ سراقةُ بن مالك بن جعشم سيّد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ح (3906). (¬2) انظر: الفصول لابن كثير (ص 114، 115). (¬3) أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ح (4663)، ومسلم في فضائل الصحابة ح (2381).

في خيمة أم معبد

مدلج، فأراد أن يكون الظفر له خاصة، وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه، فقال: (بل هم فلان وفلان، خرجا في طلب حاجة لهم)، ثم مكث قليلًا، ثم قام فدخل خِباءَه، وقال لخادمه: (اُخْرُجْ بالفرس من وراء الخباء، وموعدك وراء الأكمة)، ثم أخذ رمحه، وخفض عاليه يخطُّ به الأرض حتى ركب فرسَه، وسار في طلبهم، فلما قرب منهم، سمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر - رضي الله عنه - يكثر الالتفات حذرًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يلتفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا رجل قد رهقنا. فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساخت يدا فرسه في الأرض، فقال: رُمِيتُ إِن الذي أصابني بدعائكما، فادعوَا الله لي، ولكما عليّ أن أردَّ الناسَ عنكما، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأُطْلِق، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبَ له كتابًا، فكتب له أبو بكر في أدم، وعرض عليهما الحملان والزاد، ورجع يقول للناس: قد كفيتم ما ها هنا (¬1). وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما. وقد جاء مسلمًا عام حجة الوداع، ودفع إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الكتابَ الذي كتبه له، فوفَّى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما وعده، وهو لذلك أهلٌ. في خيمة أمّ معبد: ومرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره ذلك بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزةً جلْدةٌ تحتبي بفناء الخيمة، ثم تُطْعم وتسقي من مرّ بها، فسألاها: هل عندك شيءٌ؟ فقالت: والله، لو كان عندنا شيءٌ ما أعُوزَكم القِرَى، والشاء عازبٌ. وكانت سنة شهباء، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى شاةٍ في كِسْرِ الخيمة (¬2)، فقال: ما هذه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة قبل الإِسلام ح (3615). (¬2) كسر الخيمة: بكسر الكاف وفتحها: جانب البيت. انظر: منال الطالب لابن الأثير (ص 179)، تحقيق: د. محمود الطناحي.

الشاةُ يا أمّ معبد؟. قالت: هي أجهدُ شاةٍ، خلفها الجَهْدُ عن الغنم. فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهدُ من ذلك. فقال: هل تأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي وأمي، إِن رأيتَ بها حَلْبًا فاحلُبْها. فمسحَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيده ضَرْعها، وسمّى الله ودعا، فتفاجّت عليه (¬1)، ودرّت، فدعا بإِناء لها يُرْبض الرَّهطَ، فحلب فيه حتى علته الرّغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإِناء، ثم غادره عندها، فارتحلوا، فقلّما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا، يتساوكن هُزالًا (¬2)، فلما رأى اللبن، عجِب، فقال: من أين لك هذا، والشاة عازب؟ ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله، إِلَّا أنّه مرّ بنا رجلٌ مبارك، كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا. قال: والله إِني لأُراه صاحبَ قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد. قالت: ظاهرُ الوضاءة (¬3)، أبلج الوجه (¬4)، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (¬5)، ولم تزر به صعله (¬6)، وسيم قسيم (¬7)، في عينيه دَعَج (¬8)، وفي أشفاره وَطَف (¬9)، وفي ¬

_ (¬1) أي: وسّعَتْ ما بين رجليها. منال الطالب (ص 180) (¬2) أي: يمشين مشيًا ضعيفًا، والتساوك: التمايل من الضعف. منال الطالب (ص 181) (¬3) الوضاءة: الجمال والحسن. (¬4) الأبلج الوجه، والمُتبلَّج: الحسن المشرق المضيء. (¬5) الثُجْلة: عِظَم البطن مع استرخاء أسفله. (¬6) الصَّعْلة: صغر الرأس. (¬7) الوسيم: المشهور بالحُسْن. والقسيم: الحسنُ القسمة، أي: الوجه. (¬8) الدَعَج: شدة سواد العين مع سعتها. (¬9) الأشفار: حروف الأجفان التي ينبتُ عليها الشعر. والوَطَف: كثرة شعر العين والاسترخاء، وإنما يكون ذلك مع الطول.

صوته صحل (¬1)، وفي عنقه سطع (¬2)، أحور أكحل، أزج أقرن (¬3)، شديد سواد الشعر، إِذا صمت علاه الوقار، وإِن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ لا نزر ولا هذر، كأنّ منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إِذا قال، استمعوا لقوله، وإِذا أمر، تبادروا إِلى أمره، محفود محشود (¬4)، لا عابس ولا مفند (¬5). فقال أبو معبد: والله، هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إِن وجدت إِلى ذلك سبيلًا. وأصبح صوتٌ بمكة عاليًا، يسمعونه ولا يرون القائل: جزى الله رب العرش خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمَّد فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإِنائها ... فإِنكم إن تسألوا الشاء تشهد قالت أسماء بنت أبي بكر: ما درينا أين توجّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه، ويسمعون صوته ولا يرونه؛ ¬

_ (¬1) الصُّحَل: صوتٌ فيه بُحَّة وغِلَظ، وهو مستحسن لخلوه من الحِدَّة المؤذية للسمع. (¬2) السَّطع: طول العنق. (¬3) الأزجّ: المتقوّس الحاجبين في طول وامتداد. والأقرن: المتصل رأسي حاجبيه. (¬4) المحفود: المخدوم. والمحشود الذي يجتمع الناس له. (¬5) العابس الكالح الوجه. والمفنّد: المنسوب إِلى الجهل وقلّة العقل، من الفَنَد: الخَرَف. هذا وما سبقه من منال الطالب (ص 184 - 198)

دروس وعبر

حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله؛ عرفنا حيث توجه رسول الله، وأن وجهه إِلى المدينة (¬1). ذكر البخاري بعض المواقف في طريق الهجرة، منها أنهم لقوا بعض المسافرين ورجال القبائل الذين يسكنون في طريق الهجرة، وهم يعرفون أبا بكر لسفره بالتجارة ولا يعرفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيسألونه من هذا الرجل الذي معك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. قال فيحسب الحاسب أنه إِنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير (¬2). ومنها أنهم لقوا الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثيابا بيضا (¬3). دروس وعبر: 1 - عداوة المشركين والشياطين للحق وأهله، وأنهم لما عجزوا عن مواجهة الحجة بالحجة لجأوا إِلى منطق القوة والتأمر لتصفية رأس الدعوة وقتله. 2 - حفظ الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ورعايته له حيث أطلعه على مؤامرتهم، وأمره أن لا يبيت في فراشه تلك الليلة التي تواعدوا فيها للغدر به. 3 - التخطيط الدقيق للإِفلات من مؤامرة الأعداء، والأخذ بالأسباب المشروعة وهذا لا ينافي التوكل على الله. 4 - في الهجرة منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق حيث اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون رفيقه في الهجرة، وأيضًا منقبة لعلي بن أبي طالب الذي تعرض للمخاطر ¬

_ (¬1) انظر: طبقات ابن سعد (1/ 230 - 232) والمستدرك للحاكم (3/ 9 - 11)، ومجمع الزوائد (6/ 55 - 58)، وزاد المعاد (3/ 55 - 58). (¬2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة ح 3911. (¬3) المصدر نفسه، ح 3906.

ونام في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مبال بما يصيبه في سبيل نجاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخطر. 5 - الهجرة حدث عظيم في تاريخ الأمة ولهذا أرخ بها المسلمون تاريخهم، ولم يكن انتقال الصحابة من أرضهم سياحة وإِنما خرجوا قسرا إِلى أرض ذات وباء تاركين أموالهم وأولادهم وأرضهم، لكن الله عوضهم خيرا، فصححها لهم وبارك لهم في مُدِّها وصاعِها. 6 - أمانة المسلم ونظافة سلوكه جعلت المشركين يضعون ما يخافون عليه أمانة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وفي رسول الله بذمته ولم يغدر بهم وهم أعداء، وقد أبقى عليًا ليرد الأمانات التي عنده إِلى أهلها. 7 - من قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ندرك مصداق قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (¬1)، فالوهن مزروع في كيد الكافر، ولا يمكن فصل الوهن من كيده، فالكفرة هنا بذلوا كل ما يستطيعون وأعلنوا الجوائز، وتسابق الناس يبحثون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - طمعا في الجائزة، فقلبوا الحجارة وصعدوا الجبال وهبطوا الأودية حتى وقفوا على باب الغار، فصرفهم الله جل شأنه فلم يبصروهم وقد وقفوا عليهم (¬2). 8 - بقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام، وهو تجويف في الجبل مظلم موحش، مأوى للحشرات والهوام، ومع ذلك كان في طمأنينة وسكينة؛ لأن طمأنينة المؤمن في قلبه وسكينته في نفسه، ومتى استقر الإيمان وانشرح الصدر تحول ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 18. (¬2) انظر: زيد المزيد، فقه السيرة النبوية ص 306.

دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة

الغار وكأنه قصر شامخ منيف يطل على الناس من علو، ومتى افتقد صاحب القصر الإِيمان أصبح قصره أضيق عليه من قبره. 9 - في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ .... الآية} (¬1)، فما النصر؟ إِن النصر الذي يحتفي به القرآن هو النصر المرتبط بتحقيق أهداف أخروية، والمسلم لا يرى هذه الدنيا إِلا وسيلة لتحقيق النصر الذي يرفع منزلته في الآخرة، وهذا النصر هو الذي تقوم به العدالة في الدنيا وتستقيم الحياة وتطمئن النفوس، والنصر قسمان: الأول: نصر المسلمين إِذا طمعوا في عدوهم، فيتم الله لهم ما طلبوا ويظهروا عليهم. الثاني: نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر، فنصر الله له أن يرد عنه عدوه. وهذا النصر هو أنفع النصرين، ونصر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع (¬2). دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة: لقد بلغ الأنصار مخرجُه من مكة، وقصدُه إِيّاهم، فكانوا كلّ يوم يخرجون إِلى الحرّة ينتظرونه أولَ النهار، فإِذا اشتد حرُّ الشمس رجعوا إِلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وافاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتدّ الضحى، بعد أن رجعوا إِلى بيوتهم، وكان أولَ من بصر به رجلٌ من اليهود، وكان على سطح أطمة له (أي حصن)، فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون. فبادر الأنصار إِلى السلاح ليتلقَّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسُمِعَت الرجّة والتكبير في بني ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية 40. (¬2) تفسير ابن سعدى ص 338.

استقراره عليه الصلاة والسلام بالدينة

عمرو ابن عوف، وكبَّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقّوْهُ وحيَّوه بتحية النبوة، وأحدقوا به مطيفين حولَه، والسكينة تغشاه، والوحي ينزِل عليه، فسار حتى نزل - صلى الله عليه وسلم - بقباء على كلثوم بن الهدم. وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأكثرهم لم يره بعدُ، وكان بعضهم أو أكثرهم يظنُّه أبا بكر لكثرة شيبة، فلما اشتدَّ الحرُّ قام أبو بكر بثوب يُظلِلُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتحقق الناسُ حينئذ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام (¬1). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين (¬2)، واستغرقت الهجرة النبوية الشريفة خمسة عشر يومًا، قضى منها - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيّام في غار ثور متخفيًا (¬3). استقراره عليه الصلاة والسلام بالدينة: فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء أربعة عشر يومًا، وأسس مسجد قباء، ثم ركب بأمر الله تعالى فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاّها في المسجد الذي في بطن رانونا (¬4)، ورغب إِليه أهلُ تلك الدار أن ينزل عليهم، فقال: "دعوها، فإِنّها مأمورة"، فلم تزل ناقته سائرة به لا تمرّ بدار من دور الأنصار، إِلَّا رغبوا إِليه في النزول عليهم، فيقول: "دعوها، فإِنّها مأمورة". فلما جاءت موضع مسجدِه اليومَ بركت، ولم ينزل عنها - صلى الله عليه وسلم -، حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في دار ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة ح (3069). (¬2) أخرجه أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (1/ 277)، وفيه: ابن لهيعة. (¬3) انظر: البداية والنهاية (3/ 472). (¬4) رانونا: واد يبدأ من جنوب غربي قباء ويلتقي بوادي بُطحان قرب المدينة.

بني النجار، فحمل أبو أيوب - رضي الله عنه - رحلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى منزله (¬1)، ولما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رحله قيل عند أبي أيوب فقال: "المرءُ مع رحله" (¬2). قال البراء: "أوّل من قدم علينا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وابن أمّ مكتوم، فجعلا يقرئان الناسَ القرآن، ثم جاء عمّار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكبًا، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيتُ الناسَ فرحوا بشيءٍ كفرحِهِم به؛ حتى رأيتُ النساء والصبيان والإِماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء" (¬3). وقال أنسُ بن مالك: "شهدتُه -أي: النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم دخل المدينة فما رأيتُ يومًا قطُّ كان أحسن ولا أضوأَ من يوم دخل المدينة علينا، وشهدتُه يوم مات، فما رأيتُ يومًا قطُّ كان أقبح ولا أظلمَ من يوم مات" (¬4). فأقام في منزل أبي أيوب سبعة أشهر (¬5)؛ حتى بني حجره ومسجده، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزل أبي أيوبَ- زيدَ بن حارثة، وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمس مئة درهم إِلى مكة، فقدما عليه بفاطمة، وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد وأمّه أم أيمن. وأما زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبقيت مع زوجها أبو العاص بن الربيع، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، فنزلوا في بيت حارثة بن النعمان (¬6). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السبرة النبوية 2/ 136. (¬2) البيهقي، دلائل النبوة 2/ 509. (¬3) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مقدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ح (3925). (¬4) أخرجه أحمدُ (3/ 122)، والدارميّ (1/ 41). (¬5) رواه ابن سعد عن الواقدي (الطبقات 1/ 237). (¬6) انظر: طبقات ابن سعد (1/ 237، 238).

تنظيم المجتمع وبناء المؤسسات

تنظيم المجتمع وبناء المؤسسات لما استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة النبوية أخذ في تنظيم أمور المجتع وبناء مؤسساته الإِدارية والعلمية والاجتماعية التي تضمن له الأمن والاستقرار داخليا وخارجيا فكان من ذلك. 1 - بناء المسجد: بركت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع مسجده، وكانت مأمورة كما قال - صلى الله عليه وسلم -، والمكان مربد لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، فساوَم رسولُ الله الغلامين بالمربد ليتَّخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبي رسول الله، فابتاعه منهما (¬1). وكان فيه شجر غرقد وخِرَب ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله بالقبور فنبشت، وبالخرب فسُوِّيت، وبالنخل والشجر فقطعت، وصُفَّت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إِلى مؤخره مئة ذراع، والجانبين مثل ذلك، أو دونه، وجعل أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللِّبن، وجعل رسول الله يبني معهم، وينقل اللّبنْ والحجارة بنفسه، ويقول: اللهم لا عيش إِلا عيش الآخرةْ ... فاغفر للأنصار والمهاجرةْ وكان يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرُّ رَبَّنا وأطهر وجعلوا يرتجزون، وهم ينقلون اللِّبن، ويقول بعضهم في رجزه: لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وجعل قبلته إِلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، بابا في مؤخره، وبابا يقال ¬

_ (¬1) صحيح البخارى ي ح 9706.

2 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله، وجعل عمده الجذوع، وسقفه بالجريد. وبنى إِلى جنبه بيوت أزواجه باللِّبن، وسقفها بالجريد والجذوع، فلما فرغ من البناء؛ بني بعائشة في البيت الذي بناه لها شرقي المسجد، وهو مكان حجرته اليوم، وجعل لسودة بنت زمعة بيتًا آخر (¬1). وهكذا شرفتْ المد ينة بهجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِليها، وسكناه عليه الصلاة والسلام بها، فصارت كهفًا لأولياء الله وعباده الصالحين، ومعقلًا وحصنًا منيعًا للمسلمين، ودار هدًى للعالمين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنّ الإِيمان ليأرز إِلى المدينة كما تأرز الحيّة إِلى جحرها" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرتُ بقرية تأكل القُرى، يقولون: يثرب. وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد" (¬3). 2 - المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). لقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار ليوجد التآلف بينهم، ويرفع عن المهاجرين أثر الغربة، ويحصل لهم الارتفاق مع إِخوانهم الأنصار، ومن ذلك ما كان في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار (¬5)، آخى بينهم ¬

_ (¬1) انظر: طبقات ابن سعد (1/ 240) ولبعضه شاهد في الحديث السابق. (¬2) أخرجه البخاري في الحج، باب إن الإيمان ليأرز إِلى المدينة ح (1876)، ومسلم في الإيمان ح (147)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري في الحج، باب فضل المدينة ح (1871)، ومسلم في الحج ح (1382) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) سورة الحشر، آية 9. (¬5) أخرجه البخاري في الأدب، باب الإِخاء والحلف ح (6083).

3 - موادعة اليهود في المدينة

على المواساة، وكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة بعد الموت دون ذوي الأرحام إِلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1) ردّ التوارث إِلى الرحم دون عقد الأخوة (¬2). وقد كانت استجابة الأنصار لعقد المؤاخاة من أيّام الأنصار الخالدة، وكم للأنصار من أيّام؟!، قال أنس بن مالك: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاريّ، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك؛ دلّني على السوق. فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أيام، وعليه وضر من صفرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مهيم يا عبد الرحمن؟). قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار. قال: (فما سقت فيها؟). فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (أوْلِم ولو بشاة) (¬3)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالت الأنصار للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: اقْسِمْ بيننا وبين إِخواننا النخيل. قال: "لا". فقال: "تكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة". قالوا: سمعنا وأطعنا (¬4). وعن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قومٍ قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلًا من كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه. قال: "لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم لهم" (¬5). 3 - موادعة اليهود في المدينة وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن بالمدينة من اليهود، وكتب بينه وبينهم كتابًا، أعطاهم فيه الآمان على النفس والمال والعرض، ما أحبوا البقاء، وبهذا توفر الأمن الداخلي للمجتمع ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 75. (¬2) انظر: زاد المعاد (3/ 63). (¬3) أخرجه البخاري في المناقب، باب كيف آخى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ح (3937). (¬4) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في المعاملة ح (2719). (¬5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 200، 201). قال ابن كثير (البداية 3/ 564): (هذا حديث ثلاثي الإِسناد على شرط الصحيحين).

وقد تضمنت الوثيقة بنودا عدة، منها

بكل طوائفه. وكان اليهود بالمدينة ثلاث قبائل؛ بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. ولكنهم نقضوا العهد قبيلة بعد الأخرى، وحاربوه - صلى الله عليه وسلم - فمنَّ على بني قينقاع، وأجلاهم، كما أجلى بني النضير، ونزلت فيهم سورة الحشر، وقتل المقاتلة من بني قريظة، وسبى ذريتهم؛ لأنهم غدروا في ميدان المعركة، ونزلت فيهم سورة الأحزاب (¬1). وهذا هو منهج الإِسلام في معاملة غير المسلمين؛ لهم الأمن والأمان ما لم يحدث منهم ما يخل بالعهد والميثاق. وقد تضمنت الوثيقة بنودًا عدّة، منها: 1 - أنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وفي هذا إِلزام اليهود بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة لاشتراكهم في الوطن. 2 - أن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين. وفي هذا تحديد للعلاقة مع المتهوِّدين من الأوس والخزرج؛ وقد نسبتهم الوثيقة إِلى عشائرهم، وأقرّت حلفهم مع المسلمين. 3 - لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم. وفي هذا إِقرار لهم على دينهم الذي كانوا عليه. وعدم إِكراههم على الدين الإسلامي. 4 - إِلا من ظلم وأثم، فإِنّه لا يوتغ إِلا نفسه وأهل بيته. وفي هذا تحديد المسؤولية عن الجرائم، وحصرها على مرتكبيها. 5 - أنّه لا تُجار قريشٌ ولا من نصرها. ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد (3/ 65).

6 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه.

وفي هذا بيان بأن الدولة الإِسلامية في ذلك الوقت تحارب قريشًا، فلا يجار أحد منهم أو من ناصرهم على المسلمين. 6 - وإنّه لا يأثم امرؤ بحليفه. وفي هذا تحديد أن العقوبة لا تتجاوز مرتكبها إِلى حلفائه، وهو مبدأ قصر العقوبة على مرتكبيها. 7 - وإِن النصر للمظلوم. في هذا محاربة للظلم وتقرير للعدل. 8 - وإِنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. وفي هذا إِشاعة للأمن الداخلي، ومنع الحروب الأهلية. 9 - وأنه لا يخرج أحد من اليهود إِلا بإِذن النبيّ (صلى الله عليه وسلم). وهذا القيد على تحركاتهم يستهدف منعهم من القيام بأي نشاط عسكري خارج المدينة؛ لأنّه يؤثر على أمن الدولة الإِسلامية الاقتصادي وسلمها الاجتماعي (¬1). 4 - كتابة عهد وميثاق ينظم علاقة المسلمين بعضهم ببعض: وذلك لبيان المسؤليات وتحديد الواجبات والحقوق على كل طرف، وقد نصت وثيقة العهد على أنها بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، وأنهم أمة واحدة من دون الناس (¬2). وبهذا النص أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - رابطة الدين والعقيدة محل رابطة النسب والقبيلة كجامع عام، مع الإِبقاء على العلاقات والروابط من النسب، والحلف الذي لا يتعارض مع الرابطة الأساس (الإيمان والعقيدة). ¬

_ (¬1) انظر: خبر هذه البنود في منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة من خلال السيرة النبوية للدكتور محمَّد أمحزون (ص 300 - 302). وعن توثيقها انظر: أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة 1/ 274 - 276. (¬2) انظر: نص الوثيقة عند أكرم العمرى، المصدر السابق 1/ 292 - 298.

5 - تأسيس الجيش الإسلامي

وأشارت الوثيقة إِلى التعاون على البر والتقوى، ونصرة المظلوم، وإِطعام الجائع، وأن تتعاقل كل قبيلة معاقلهم الأولى، وختمت بأن كل خلاف يقع بين أهل هذه الصحيفة فإِن مرجعه إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5 - تأسيس الجيش الإسلامي: من المؤسسات التي أقامها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة العمل على تأسيس الجيش الإِسلامي الذي يحفظ للأمة هيبتها، ويصون كرامتها، ويسهم في نشر دين الله في الأرض، وقتال الكفار المعاندين، حيث بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أقل من سنة من استقراره بالمدينة في إِرسال السرايا، وقيادة الغزوات لنشر الدعوة، وعقد المعاهدات مع القبائل المحيطة بالمدينة لتوفير الأمن الخارجي لسكان المدينة من المسلمين وغيرهم، وكسب الخبرات العسكرية بالتدريب العملي، ودراسة أوضاع المنطقة لمعرفة مسالكها وقدراتها ومواردها وغير ذلك من المنافع والأغراض التي استفاد منها المسلمون عند المواجهة مع العدو. وقد جاءت هذه الخطوة في أعقاب الهجرة النبوية حيث أذن الله للمسلمين بجهاد الأعداء وشرع لهم القتال، وجعله كتابًا مفروضا قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... الآية} (¬1). دروس وعبر: 1 - محبة الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا يخرجون كل يوم ينظرون مقدمه ولا يعودون حتى يشتد عليهم حر الشمس، يقول البراء - رضي الله عنه -: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جعل الإماء ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية: 54.

يقلن: قدم رسول الله، هذا رسول الله" (¬1). 2 - نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قباء على كلثوم بن الهدم لأنه كبيرهم. وهذا من حسن الخلق واحترام ذوي الهيئات. 3 - حسن اعتذار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زعماء قبائل الأنصار الذين طلبوا منه النزول عندهم، فكان يقول: "خلوا سبيلها فإِنها مأمورة". أي من الله سبحانه وتعالى وهي معجزة ظاهرة ولا تصرف له مع أمر الله، وبهذا يرضَى الجميع. 4 - المبادرة إِلى بناء المسجد لأنه أهم المؤسسات الإِسلامية، ففيه تقام الصلاة جماعة، ويؤدي وظيفة تعليمية وتوجيهية واجتماعية. 5 - المؤاخاة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، دليل على شمول الإِسلام لأمور الدين والدنيا، ففيها الاهتمام بعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وكان غايتها كما يقول السهيلي: ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة إلأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض (¬2). والمؤاخاة بين المؤمنين من أعظم النعم التي يذكر بها القرآن الكريم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (¬3)، فنعمة الأخوة ونعمة الإِيمان التي أنقذهم الله بها من النار هي أعظم النعم. 6 - في عقد المؤاخاة ظهر فضل الأنصار وكرمهم ومواساتهم لإِخوانهم من المهاجرين، بل تعدوا ذلك إِلى الإيثار ولو كان بهم خصاصة، فاستحقوا ثناء الله ومدحه لهم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح 3925. (¬2) الروض الأنف 2/ 252. (¬3) سورة آل عمران، آية 103.

أحداث السنة الأولى من الهجرة

7 - في المعاهدة التي كتبها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود يظهر كمال التشريع الإِسلامي الذي ينظم علاقة المسلم مع غير المسلمين الذين يعيشون داخل المجتمع الإِسلامي أو خارجه، كما نظم علاقة المسلم بربه وعلاقته بإِخوانه المسلمين. 8 - وفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث التزم بالعهد، قابله خبث اليهود وسوء طويتهم وعداوتهم الشديدة للإسلام والمسلمين، فقد تتابعوا على الغدر ونقض العهد قبيلة بعد أخرى في زمن وجيز، وقد لاقوا ثمرة غدرهم ونقضهم جزاء وفاقا لسوء عملهم (¬1). 9 - إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - لليهود كان بعد وقوع الغدر منهم والإِخلال بالعهد الذي وافقوا عليه. أحداث السنة الأولى من الهجرة 1 - إسلام عبد الله بن سلام حبر اليهود قال عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس قِبَله، قالوا: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجئتُ لأنظر، فلما رأيتُه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب. فكان أول شيءٍ سمعتُه منه أن قال: أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلَّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام (¬2). فقد بادر حبر اليهود وعالمهم عبد الله بن سلام، بالمجيء إِلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوّل مقدمه المدينة، فقال: إِني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إِلَّا نبيّ، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إِلى أبيه أو إِلى أمه؟ قال - صلى الله عليه وسلم - "أخبرني بهن ¬

_ (¬1) حول هذه الدروس انظر: زيد المزيد، فقه السيرة ص 331 - 356. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب الرقائق والورع (2485)، وصححه.

2 - موت أسعد بن زرارة نقيب بني النجار.

جبريل آنفًا". قال: جبريل؟ قال: "نعم". قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. فقرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1) "أمّا أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إِلى المغرب، وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإِذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت". قال: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إِن اليهود قومٌ بُهتٌ، وإِنهم إِن يعلموا بإِسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيّ رجل عبد الله فيكم؟ ". قالوا: خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا، وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إِن أسلم عبد الله بن سلام". فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله (¬2). قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3) قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: نزلت في عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - (¬4). 2 - موت أسعد بن زُرارة نقيب بني النجّار. مات أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - في شوال بعد مقدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة بسبعة أشهر (¬5)، توفي قبل أن يفرغ من بناء المسجد. وهو أول من جمّع بالمدينة في نقيع الخَضِمات في هَزْمِ النّبيت (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 97. (¬2) أخرجه البخاري في التفسير، باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّالله} ح (4480). (¬3) سورة الأحقاف، آية 10. (¬4) صحيح البخاري ح رقم (3812) ومسلم حديث رقم ح (2483). (¬5) انظر: ابن الأثير، أسد الغابة (1/ 87). (¬6) انظر: البداية والنهاية (3/ 377، 378).

3 - مولد عبد الله بن الزبير بن العوام

ولم يجعلْ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبني النجار نقيبًا، وقال: أنا نقيبكم (¬1)، فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم، أن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقيبهم (¬2). 3 - مولد عبد الله بن الزبير بن العوام: ولد عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي في شوال من السنة الأولى من الهجرة، فكان أول مولود في الإِسلام من المهاجرين، كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد في الإِسلام للأنصار رضي الله عنهما (¬3). قالت أسماء بنت أبي بكر: (خرجت وأنا متمٌّ، فأتيت المدينة فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيتُ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حِجْره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيءٍ دخل جوفَه ريقُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنَّكه بتمرة، ثم دعا له، وبرَّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإِسلام) (¬4). وقد فرح به المسلمون فرحًا عظيمًا، وضجت المدينة بالتكبير يوم مولده، ذلك أن اليهود زعموا أنهم سحروا المهاجرين، حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، فأكذب الله اليهود فيما زعموا (¬5). 4 - بناؤه (صلى الله عليه وسلم) بعائشة (رضي الله عنها): وبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة في شوال من هذه السنة. قالت عائشة - رضي الله عنها -: (تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال، فأيّ نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده منّي) (¬6). وكانت تستحب زفاف نسائها في ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام (1/ 507). (¬2) انظر: أسد الغابة (1/ 87). (¬3) انظر: البداية والنهاية (3/ 568). (¬4) أخرجه البخاري في المناقب، باب هجرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ح (3909). (¬5) انظر: طبقات ابن سعد (8/ 62، 63). (¬6) أخرجه مسلم في النكاح ح (1423).

5 - زيادة ركعتين في صلاة الحضر

شوال؛ لأن العرب كانت تتشاءم من الزواج في شوال، فأرادت عائشة - رضي الله عنها- أن تبطل هذه العادة والخرافة. 5 - زيادة ركعتين في صلاة الحضر: قال ابن جرير: (وفي السنة الأولى من الهجرة زيد في صلاة الحضر، فيما قيل: ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بشهر، في ربيع الآخر لمضيّ اثنتي عشرة ليلة منه) (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها -: (فرضت الصلاة أول ما فُرضت ركعتين، فأُقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر) (¬2). 6 - تشريع الأذان: كانوا يجتمعون للصلاة في مواقيتها من غير نداء لها، فتفوت الصلاة بعضهم، ثم تشاوروا في ذلك، وذكروا أن اليهود والنصارى يضربون بالبوق والأجراس، وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثم اتفقوا على أن يبعثوا مناديًا إِذا حضرت الصلاة يدعو لها بقوله: الصلاة، الصلاة (¬3)، ثم إِن عبد الله بن زيد أُري الأذان في المنام فجاء إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه رؤيا حق، قم فالقه إِلى بلال فليؤذن به، فإِنه أندى منك صوتًا. فعلمه بلال وأخذ يؤذن به (¬4)، وبهذا شرع الأذان الذي هو من أهم شعائر المسلمين الظاهرة. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري (2/ 400). (¬2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب كيفية فرض الصلاة في الإسراء ح (350). (¬3) البخاري، كتاب الأذان ح رقم (604). (¬4) رواه أبو داود في الصلاة ح رقم (499) والترمذي في الصلاة ح رقم (189)

بعض التشريعات والأحداث في السنة الثانية للهجرة.

بعض التشريعات والأحداث في السنة الثانية للهجرة. 1 - تحويل القبلة: قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1). كان - صلى الله عليه وسلم - يصلى إلى قبلة المقدس، ويحب أن يًصْرَف إلى الكعبة، وقال لجبريل: "وددت أن يَصْرِف اللهُ وجهي عن قبلة اليهود" فقال: إنّما أنا عبدٌ، فادع ربّك، واسأله (¬2). فجعل يقلّب وجهه في السماء، يرجو ذلك؛ حتى أنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... الآية} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات 142 - 145. (¬2) ابن سعد، الطبقات الكبرى 1/ 241.من طريق الواقدي. (¬3) سورة البقرة، آية 144.

وذلك بعد ستة عشر شهرًا من مقدمه المدينة وقبل وقعة بدر بشهرين (¬1). قال محمَّد بن كعب القرظي: ما خالف نبيٌّ نبيًّا قطّ في قبلة، ولا في سُنَّة إِلَّا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرًا. ثم قرأ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... الآية} (¬2). وكان لله في جعل القبلة إِلى بيت المقدس، ثم تحويلها إِلى الكعبة، حِكَمٌ عظيمة، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين. فأمّا المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ... الآية} (¬3) وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم. وأمّا المشركون، فقالوا: كما رجع إِلى قبلتنا (أي الكعبة)؛ يوشك أن يرجع إِلى ديننا، وما رجع إِليها إِلَّا أنّه الحقّ. وأمّا اليهود؛ فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيَّا لكان يصلي إِلى قبلة الأنبياء. وأمّا المنافقون؛ فقالوا: ما يدري محمَّد أين يتوجّه، إِن كانت الأولى حقَّا فقد تركها، وإِن كانت الثانية هي الحق؛ فقد كان على باطل. وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله تعالى.: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (¬4)، وكانت محنة من الله امتحن بها عباده، ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه (¬5). ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 66. وعند ابن اسحاق (ابن هشام) 2/ 227: أنها في رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وهي موافقة لرواية مسلم في الصحيح عن البراء من طريق أبي الأحوص ح 525. (¬2) سورة الشورى، آية 13. وانظر ابن سعد، المصدر السابق 1/ 243. (¬3) سورة آل عمران، آية 7. (¬4) سورة البقرة، آية 143. (¬5) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 66 - 67.

2 - فرض صيام شهر رمضان

وكان أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الكعبة في مسجده هي صلاة العصر كما في حديث البراء في الصحيح (¬1). ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلّى أنها الظهر (¬2). وخرج رجل بعد أن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الكعبة فمر على أهل مسجد وهم راكعون، قال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبلَ مكة، فداروا كما هم قِبلَ البيت (¬3). وهذا المسجد هو مسجد القبلتين، فقد صليت فيه صلاة واحدة إِلى قبلتين مختلفتين. أما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر بتحويل القبلة إِلا في صلاة الفجر من اليوم الثاني كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إِذا جاءهم آت فقال: إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآنٌ، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إِلى الشام فاستداروا إِلى الكعبة (¬4). 2 - فرض صيام شهر رمضان: الصيام ركن من أركان الإِسلام، وهو مفروض على الأمم السابقة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬5)، وكان تشريع الصيام جاء متدرجا، فأول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إِن الله فرض عليه صيام شهر رمضان في شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان صيامه أول الأمر على التخيير بين الصيام، والإطعام من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان ح 40، 399. (¬2) السنن الكبرى، كتاب التفسير ح 11004. (¬3) صحيح البخاري ح 399، 40، ومسلم، كتاب الصلاة ح 525. (¬4) صحيح البخاري ح 403، ومسلم ح 546. (¬5) سورة البقرة، آية 183.

3 - فرض الزكاة ذات الأنصبة

شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينا كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، ثم إِن الله تعالى أنزل الآية الأخرى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2)، فأثبت وجوب صيامه على المقيم الصحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر على أن يصوم من أيام أخر، وأثبت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حولان -أي حالتان- وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون زوجاتهم ما لم يناموا، فإِذا ناموا امتنعوا بن ذلك حتى تغرب شمس اليوم الثاني، ثم أنزل الله التخفيف في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ... الآية} (¬3)، وبهذا استقر تشريع صيام شهر رمضان على اليسر ورفع الحرج والحمد لله رب العالمين (¬4). 3 - فرض الزكاة ذات الأنصبة: الزكاة هي إخراج جزء محدد من المال، وفق شروط وضوابط، وصرفه لأهل الزكاة وهم ثمانية أصناف ذكرهم الله في كتابه فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬5)، فالزكاة ركن من أركان الإِسلام، وهي من شرائع ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 184. (¬2) سورة البقرة، آية 185. (¬3) البقرة، آية 187. (¬4) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية 5/ 52 وعن تدرج تشريع الصيام انظر: مسند الإِمام أحمد 5/ 246، وصحيح عن أبي داوود ح 479. (¬5) سورة التوبة، آية 60.

4 - وفاة رقية بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وزواج عثمان بأختيها أم كلثوم

الأنبياء السابقين، وورد الأمر بها في العهد المكي لكن من غير تحديد لمقدار ما يخرج ولا الأموال التي تخرج منها الزكاة، وبعد الهجرة في السنة الثانية في شهر رمضان شرعت الزكاة في الأموال بأنصبتها وتفصيلاتها، وكذا زكاة الفطر على الأبدان (¬1). 4 - وفاة رقية بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وزواج عثمان بأختيها أم كلثوم وكان ذلك في شهر رمضان، وقد خَلّف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عثمانَ لتمريضها ولم يخرج معه إِلى بدر، وقد اعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان من أهل بدر وضرب له بسهمه في غنائم بدر، وأجره عند الله يوم القيامة. وبعد وفاتها زوّجه النبيُ - صلى الله عليه وسلم - بأختها أم كلثوم. 5 - زواج علي بن أبي طالب من فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) كان ذلك في أواخر السنة الثانية بعد وقعة بدر لما ورد في الصحيحين (¬2) من إِعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي شارفا (أي جملا) من الغنيمة، وآخر من الخمس، وأراد علي رضي الله عنه أن يبني بفاطمة - رضي الله عنها -. وكان يرحل الشارفين ويأتي عليهما بالأذخر ليجمع نفقة الزواج، ففي سنن أبي داوود (¬3) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما تزوج علي فاطمة رضي الله عنهما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطها شيئًا، قال: ما عندي شيء. قال: أين درعك الحطمية؟ فأعطاها درعه. وروى البيهقي في الدلائل (¬4) وأحمد في المسند (¬5) عن علي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهز فاطمة في خميل، وقربة، ووسادة من أدم حشوها أذخر. قال ابن إسحاق: فولدت فاطمة لعلي حسنًا وحسينا ومحسّنا -مات صغيرا- وأم كلثوم وزينب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ابن كثير، البداية والنهاية 5/ 54, 312. (¬2) صحيح البخاري ح 4003، ومسلم ح 1979. (¬3) صحيح سنن أبي داود ح 1865. (¬4) دلائل النبوة 3/ 162. (¬5) المسند 1/ 84 وإسناده صحيح. (¬6) المغازي 231.

دورس وعبر

دورس وعبر: 1 - التدرج في التشريع من يسر الشريعة ورفع الحرج فيها، فكانت الصلاة ركعتين طرفي النهار، ثم صارت خمس صلوات بعد الإِسراء والمعراج، ثم بعد الهجرة إِلى المدينة أُتمت صلاة المقيم أربع ركعات، صلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة العشاء، وثلاث ركعات صلاة المغرب لأنها بمثابة الوتر لصلاة النهار، وبقيت الفجر كما هي. 2 - قال الإِمام النووي: ذكر العلماء في حكمة الأذان للصلاة أربعة أشياء: إِظهار شعائر الإِسلام وكلمة التوحيد، والإِعلام بدخول الوقت، وبمكانها، والدعاء إِلى الجماعة (¬1). 3 - عظمة الأذان وفضله لما اشتمل عليه من مسائل التوحيد ونفي الشرك، وإِثبات الرسالة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، والدعوة إِلى الصلاة وشهود الجماعة والفلاح. ولذا شُرِع لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسأل الله له الوسيلة وهي درجة عالية في الجنة، ومن فعل ذلك حلت عليه الشفاعة (¬2). والمؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس (¬3). 4 - سرعة مبادرة الصحابة إِلى تنفيذ أوامر الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر في تحويل القبلة، حيث استداروا وهم في صلاتهم إِلى القبلة الجديدة وأكملوا الصلاة ولم يبطلوا السابقة، وهذا من فقههم رضوان الله عليهم، وفيه دليل على أن العمل بالناسخ لا يلزم من تشريعه وإنما من بلوغه للمكلفين، فإِن أهل قباء لم يبلغهم إِلا في صلاة الفجر ولم يؤمروا بإِعادة. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم 4/ 77. (¬2) صحيح مسلم ح 384. (¬3) أخرجه أبو داوود، وصححه الألباني ح 484.

5 - في تشريع الصيام وتوقيت الإِمساك والافطار بكل دقة، تربية للنفس وضبطها للتغلب على سلطان الشهوات، وهو مظهر من مظاهر الانضباط والنظام ككثير من شرائع الاسلام. 6 - في الصيام تعويد على الرقابة الذاتية على النفس، ولذلك يسمي العلماء الصيام عبادة السر. وقد جاء في الحديث القدسي: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (¬1). 7 - الزكاة إِعانة للضعفاء، وكفاية لأصحاب الحاجات، وتخلص من الشح، وتعويد على بذل المعروف، فهي ذات أهداف أخلاقية واجتماعية، وهي تعبير عملي عن ترابط المجتمع الإسلامي والشعور بالأخوة والتكافل والتعاون، وهي تكفر الخطايا، وتدفع البلايا، وتوجب الرحمة قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ... الآية} (¬2). 8 - في مقدار مهر فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيدة نساء العالمين، وقلة جهازها درس بليغ في التواضع والبساطة، والاقتصاد في النفقة، والابتعاد عن مظاهر الفخر والخيلاء والمغالات التي وقع فيها كثير من الناس في تكاليف الزواج وحفلاته. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الصوم ح 1894. (¬2) سورة الأعراف، آية 156. وانظر زيد المزيد، فقه السيرة ص 386.

الفصل الرابع: الجهاد النبوي (المرحلة الأول)

الفصل الرابع: الجهاد النبوي (المرحلة الأول)

الجهاد النبوي (المرحلة الأولى)

الجهاد النبوي (المرحلة الأولى) السياسة النبوية تجاه قريش: لقد جاء تشريع الجهاد بعد الهجرة متزامنًا مع استكمال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بناء الجبهة الداخلية، واستقلال الأمة عن عدوها بأرض وسلطان، لذا فقد كان من الطبيعي أن يسعى المسلمون إِلى الانتصار ممن ظلمهم، وذلك برفع الجور والظلم الذي أنزله كفار قريش بالمسلمين، والمتمثل بمحاربة الدعوة ومصادرة الأموال والممتلكات والتهجير من أم القرى. وقد عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رفع الظلم الواقع على أمة الإِسلام استجابة لقول الحق سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬1). وهي أول آيه نزلت في الإِذن بالقتال الذي كان ممنوعا في العهد المكي. وقد ركز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمله على ضرب سببين عظيمين من أسباب قوة قريش هما: الرخاء الاقتصادي، والأمن الاجتماعي، وهما اللذان أمتن الله بهما على قريش، فلم يعبدوا الله رب البيت ويشكروه على نعمة الأمن، قال تعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2). فالرخاء الاقتصادي الذي أنعم الله به على قريش زمن البعثة النبوية المباركة، والأمن الذي يتميز به أهل الحرم، لم يُقَابَلَ بالشكر للمنعم، بل قوبل بالكفر والجبروت من قبل أثرياء قريش الذين كذبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاربوا دعوته (¬3). قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِلْهُمْ قَلِيلًا} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية 39. (¬2) سورة قريش، الآيات 1 - 4. (¬3) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 827؛ وانظر: د. عبد الرحمن السنيدي: المواجهة الاقتصادية بين المسلمين وقريش، ص 375. (¬4) سورة المزمِّل، آية 11.

1 - السرايا والغزوات

من أجل ذلك نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ بالأسباب السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، لإِضعاف قريش وإِزاحتها عن طريق الدعوة، وقد شرع - صلى الله عليه وسلم - في تنفيذ ذلك باتخاذ عدد من الخطوات والمواقف منها: 1 - السرايا والغزوات: بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ استقراره بالمدينة إِعداد السرايا من أصحابه وقيادة الغزوات بنفسه الشريفة، وذلك للانتصار لهذا الدين ونشره، وإِعداد أصحابه للمواجهة الكبرى مع العدو إِذا لم يستجب للدعوة واستمر في عناده. 2 - عقد المعاهدات: لقد استطاعت قريش تأمين طرق قوافلها التجارية عن طريق عقد الإِيلاف والتحالف (¬1). لذا فقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تفكيك ذلك الإِيلاف وخاصةً مع القبائل الحجازية القاطنة غرب المدينة والتي تمر بأراضيها أضخم قوافل قريش التجارية قاطبة، والمتجهة إِلى بلاد الشام (¬2). وبعد جهود مضنية تمكن المسلمون من مهادنة وتحييد العديد من القبائل الحجازية التي تمر قوافل قريش بأراضيها مثل جهينة، وبني ضمرة، وبني مدلج، وغفار، وأسلم، وذلك عن طريق المعاهدات التي نظمت العلاقة بين المسلمين وتلك القبائل (¬3). ¬

_ (¬1) الإِيلاف: اتفاقيات أمان أقامتها قريش مع بعض القبائل التي تمر قوافلها التجارية بأراضي تلك القبائل، في مقابل أن يقوم تجار قريش بحمل بضائعها وتسويقها، ثم يردون إِليهم رأس مالهم وربحهم. عبد الرحمن السنيدي: المرجع السابق 374. (¬2) صالح أحمد العلي: دولة الرسول في المدينة 219، 221. (¬3) ابن هشام: السيرة 1/ 390، 393، 395، ابن سعد: الطبقات 1/ 274، 2/ 8، حامد خليفة: مهاجري الحجاز 94 - 97. أكرم العمرى: السيرة النبوية الصحيحة 2/ 345.

أهداف السرايا والغزوات

هذا وقد أسهم قرب بعض هذه القبائل من المدينة التي هي سوقهم ومعاشهم إِلى السعي لأجل موادعة الدولة الإِسلامية الناشئة (¬1). وهكذا نجد أن المسلمين قد استثمروا عامل المصالح المشتركة في تحييد تلك القبائل التي وجدت أن من مصلحتها الوقوف على الحياد وعدم الانحياز إِلى المسلمين أو قريش في المرحلة الراهنة، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم للمسلمين. أهداف السرايا والغزوات: السرايا التي أرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - والغزوات التي قادها كانت ذات أهداف محددة سعى المسلمون إِلى تحقيقها ومنها: 1 - الاستجابة لقول الحق سبحانه وتعالى في الانتصار ممن ظلمهم وصادر أموالهم وأخرجهم من ديارهم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). 2 - رفع الذل والضعف الذي أشاعته قريش عن المسلمين قبل الهجرة، وما ينتج عن ذلك من ردع المتربصين بالدعوة في موطنها الجديد. 3 - الدعوة إِلى الله ونشر دينه. 4 - حماية الدعوة ممن عاداها وحاربها حتى تبلغ جميع الناس، ومن ثم تكون لهم الحرية في تحديد موقفهم منها (¬3). ¬

_ (¬1) علي الصلابي: السيرة النبوية 1/ 690. (¬2) سورة الحج، آية 39 - 40. (¬3) محمود العيساوي: فقه الغزوات 62.

السرايا والغزوات قبل غزوة بدر

5 - ضرب الاقتصاد القرشي المسخر لحرب الدعوة، وذلك من خلال التعرض لقوافل قريش التجارية في كل مكان (¬1). 6 - إِقامة التحالفات السياسية والتجارية مع القبائل الحجازية التي تمر قوافل قريش بديارها، أو تحييدها على أقل تقدير (¬2). 7 - رفع جاهزية الجندي المسلم، وجعله في حالة استعداد دائم، لتفويت الفرصة أمام المتربصين بالدعوة، وكذللث اكتشاف الطاقات العسكرية للصحابة لاستثمارها والاستفادة منها على أكمل وجهَ (¬3). السرايا والغزوات قبل غزوة بدر أولًا: السرايا الأولى: 1 - سرية حمزة بن المطلب (رضي الله عنه) في شهر رمضان من السنة الأولى من الهجرة النبوية المباركة خرجت أول سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيادة حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، في لواء (¬4): أبيض عقده له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه ثلاثون صحابيًا من المهاجرين، متجهين إِلى ناحية البحر الأحمر من أجل اعتراض قافلة قريش القادمة من الشام، بقيادة أبي جهل، ويحرسها قرابة ثلاثمائة رجل، فأدركوا القافلة عند العيص (¬5) من بلاد جهينة، ومنعوها من التقدم، فتأهب الفريقان للمبارزة غير أن تدخل أحد زعماء جهينة الذي كان حليفًا للفريقين وهو مجدي بن عمرو الجهني، حال دون المواجهة، وانصرف الجميع دون قتال (¬6) ¬

_ (¬1) بريك العمري: السرايا والبعوث النبوية 75. (¬2) المرجع السابق 76. (¬3) محمَّد أبو فارس: السيرة النبوية 331. (¬4) اللواء: قطعة من القماش يكون مع قيادة الجيش أو السرية، وهو واحد لا يتعدد بخلاف الرايات. (¬5) العيص: بلدة تقع شرق مدينة ينبع. (¬6) ابن هشام، السيرة 1/ 393؛ ابن سعد، الطبقات 6/ 2.

2 - سرية عبيدة بن الحارث (رضي الله عنه).

2 - سرية عبيدة بن الحارث (رضي الله عنه). في شهر شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبيدة بن الحارث - رضي الله عنه - في ستين من المهاجرين إِلى رابغ لاعتراض عير قريش، فلقي أبا سفيان ومعه مائتا رجل، فكان بينهم الرمي بالسهام ولم يسلوا السيوف، وكان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في هذه السرية وهو أول من رمى بسهم في الإِسلام، وتعد هذه المواجهة أول اصطدام عسكرى بين الطرفين، لكنها كانت مواجهة محدودة اقتصرت على السهام دون السيوف، ثم انصرف الفريقان، غير أن اثنين من المسلمين كانا في قافلة قريش هما: عتبة بن غزوان، والمقداد الأسود - رضي الله عنهم - قد تمكنا من الفرار إِلى معسكر المسلمين وعادا معهم إِلى المدينة (¬1). 3 - سرية سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه). خرجت في شهر ذي القعدة من السنة الأولى من الهجرة وكان هدفها اللحاق بقافلة لقريش عائدة من الشام عند ماء الخرار بالجحفة (¬2) لكن القافلة أفلتت (¬3)، ورجع سعد ولم يلق كيدا. 4 - سرية عبد الله بن جحش الأسدي (رضي الله عنه). في شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - قِبَلَ مكة ومعه ثمانية من المهاجرين يرصدون أخبار قريش، وكتب معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلما سار يومين عن المدينة تجاه مكة ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 1/ 390؛ ابن سعد، الطبقات 7/ 2. (¬2) الجحفة: تقع شرق مدينة رابغ وهي أحد مواقيت الحج. (¬3) ابن هشام، السيرة 1/ 397؛ ابن سعد، الطبقات 2/ 7.

فتح الكتاب، فإِذا فيه: أمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إِلى نخلة (¬1) بين مكة والطائف، ليرصد أخبار قريش، ولا يستكره أحدًا من أصحابه على مرافقته في تلك المهمة، فلما علم أفراد السرية بذلك قالوا: سمعًا وطاعة لرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومضوا مع عبد الله بن جحش حتى وصلوا وادي نخلة، فرصدوا عيرًا لقريش، فتشاور عبد الله مع أصحابه وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإِن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، لكنهم عزموا على مهاجمة العير، فتم لهم ذلك وهجموا على المشركين فقتلوا أحدهم، وأسروا اثنين وأفلت الرابع، ثم قدموا بالعير والأسيرين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأنكر عليهم ما قاموا به في الشهر الحرام، ولما علمت قريش بذلك استغلت الحدث، وقالت: إِن محمدًا قد سفك الدم في الشهر الحرام، وأخذ فيه المال، وأسر فيه الرجال، واستحل الشهر الحرام. لكن الله سبحانه وتعالى أنزل في هذا الشأن قرآنًا يتلى إِلى يوم القيامة فيه رفع للحرج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين، وتضمنت الآية التعيير والتوبيخ لقريش التي تتبجح برعاية الحرمات (¬2). قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) نخلة: هما نخلتان شرق مكة، نخلة الشامية، ونخلة اليمانية وطريق الطائف يمر عبر نخلة اليمانية وهي المقصودة هنا. (¬2) ابن هشام، السيرة 1/ 397 - 400. (¬3) سورة البقرة 4 آية 217.

ثانيا: الغزوات

قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: (هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش، وعيَّرهم المشركون بالقتال في الأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين، إِذ فيهم من القبائح، ما بعضه أعظم مما عيَّروا به المسلمين ... ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإِنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفارًا بعد إِيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ... وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم -أي من السلمين- حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصًا أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ألَّفوا الجمعيات، ونشروا الدعاة وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس لجذب الأمم لدينهم، وإِدخالهم عليهم كل ما يمكنهم من الشُّبه التي تشككهم في دينهم، ولكن المرجو من الله تعالى الذي مَنَّ على المؤمنين بالإِسلام ... أن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره ... وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار، كما صدقت على من قبلهم) (¬1). ثانيًا: الغزوات: 1 - غزوة ودَّان (¬2) (الأبواء) هي أول غزوة يقودها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وقد كانت في شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة، وحمل لواءه عمه حمزة بن عبد الطلب - رضي الله عنه -، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، وخرج في جمع من المهاجرين يطلب قافلة لقريش، لكن القافلة تمكنت من الإِفلات، وفي هذه الغزوة وادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مخشي بن عمرو الضمري سيد بني ضمرة، ثم عاد إِلى المدينة (¬3). ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن ص 80. (¬2) ودَّان: اسم للوادي الذي تقع فيه الأبواء، وهي اليوم بلدة عامرة تقع شمال رابغ. (¬3) ابن هشام، السيرة 1/ 390 ابن سعد، الطبقات 2/ 8.

2 - غزوة بواط

2 - غزوة بُوَاط (¬1) في شهر ربيع الأول من السنة الثانية من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازيًا إِلى بُوَاط، يعترض قافلةً لقريش، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، وحمل لواءه، سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، لكن القافلة أفلتت، فعاد عليه الصلاة والسلام إِلى المدينة (¬2). 3 - غزوة بدر الأولى خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة، فاستخلف على المدينة زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، وحمل لواءه، علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتمت مطاردة كرز الفهري حتى وادي سفوان قرب بدر لكنه تمكن من الفرار، فعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة. (¬3) 4 - غزوة العُشَيْرَة. (¬4) في جمادى الآخرة من السنة الثانية من الهجرة النبوية، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب قافلة لقريش ذاهبة إِلى الشام، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي - رضي الله عنه -، وحمل لواءه، حمزة بن عبد الطلب - رضي الله عنه -، في خمسين ومائة، ويقال مائتين من المهاجرين، فبلغ العُشيرة بناحية ينبع فوجد القافلة قد فاتته، وفي هذه الغزوة وادع عليه الصلاة والسلام بني مدلج وحلفاءهم، ثم رجع إِلى المدينة. وقد كانت تلك القافلة من أعظم قوافل قريش، وهي التي كانت بسببها غزوة بدر الكبرى عندما عادت من الشام (¬5). ¬

_ (¬1) بواط: موقع ديار جهينة بناحية رضوى شرق ينبع. (محمَّد شراب، المعالم الأثيرة ص 54). (¬2) الواقدي، المغازي 1/ 7؛ ابن سعد، الطبقات 2/ 8. (¬3) الواقدي، المغازي 1/ 7، 12، ابن سعد، الطبقات 2/ 9. (¬4) العشيرة، تصغير عشرة، ويقال: ذو العشيرة، وهي قرية في أسفل ينبع النخل من جهة البحر، وقد كانت في ما مضى محطة للحاج المصري (محمَّد شراب، العالم الأثيرة في السنة والسيرة ص192). (¬5) ابن سعد، الطبقات 2/ 9؛ ابن القيم، زاد العاد 3/ 166.

دروس وعبر

دروس وعبر 1 - جواز التعرض لأموال الكفار الحربيين دون غيرهم من المعاهدين أو المستأمَنين. لقد كانت السرايا والغزوات السابقة موجهة لضرب القوافل التجارية القرشية دون غيرها من القبائل، لأن قريشًا قد كفرت بربها، وكذبت رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجته ومن معه من المسلمين من مكة، واستولت على دورهم وأموالهم، ووقفت في سبيل الدعوة، فهم في حالة حرب مع المسلمين، لذا فقد كان من الحكمة ضرب الاقتصاد القرشي الذي ازداد نموًا بعد الاستيلاء على أموال وممتلكات المسلمين في مكة، وفي ذلك إِضعاف لقوة ظالمة تقف في سبيل الدعوة، والمقصود الأعظم من الجهاد هو إِعلاء كلمة الله، والذب عن الملة، وأما الغنائم فتابعة له (¬1). 2 - جواز الانصراف عن العدو من غير قتال إِذا ضعف المسلمون عن قتال عدوهم، أو لمصلحة يراها أميرهم، كما حصل في سرية حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - (¬2). 3 - وجوب اتخاذ أمير للسرية قلَّت أو كثرت، وكذلك جواز اتخاذ الألوية في الحرب (¬3). 4 - أُسْنِدت قيادة معظم السرايا السابقة إِلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه، ليكونوا أول من يضحي في سبيل الدعوة، حتى لا يقال؛ إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضن بأهل بيته عن القتل وضحى بغيرهم من الناس، وليعطي بذلك القدوة الحسنة للدعاة في كل زمان ومكان (¬4). ¬

_ (¬1) وهبة الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإِسلامي 550؛ محمود العيساوي: فقه السرايا ص 63. (¬2) محمود العيساوي، فقه السرايا ص 63. (¬3) المرجع السابق نفسه، ص 60، 62. (¬4) بريك العمري: السرايا والبعوث النبوية ص 82.

غزوة بدر الكبرى

5 - اقتصرت السرايا والغزوات السابقة على المهاجرين دون الأنصار من أجل إِحياء قضيتهم في نفوسهم وفي نفوس غيرهم، لأن المهاجرين أصحاب حق سليب، أخوجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا، وهم أولى الناس بالانتصار ممن ظلمهم (¬1)، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). ولأن البيعة مع الأنصار مختصة بالحماية في المدينة. 6 - حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على اكتشاف قدرات أصحابه العسكرية والسياسية والإدارية، من خلال تنويعه في اختيار قادة السرايا، ومن خلال تعدد نوابه الذين يستخلفهم على المدينة عند خروجه غازيًا - صلى الله عليه وسلم -. 7 - جواز قتال الكفار المحاربين في الأشهر الحرم، وهذا ما دلت عليه سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -، وما تلاها من غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن تعظيم حرمة تلك الأشهر باقٍ وإِن أبيح فيها القتال (¬3). غزوة بدر الكبرى كانت في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، حيث جاءت الأخبار إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قافلة قريش التي أفلتت من المسلمين في غزوة العشيرة -وهي ذاهبة إِلى الشام- قد بدأت رحلة العودة إِلى مكة بقيادة أبي سفيان، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان ¬

_ (¬1) محمَّد عبد القادر أبو فارس: السيرة النبوية دراسة تحليلية 327. (¬2) سورة الحج، آية 39 - 40. (¬3) محمود العيساوى، فقه الغزوات 70؛ بريك العمري، السرايا والبعوث النبوية 106.

حاضرًا من أصحابه للخروج لتلقي القافلة، وقال عليه الصلاة والسلام: (هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إِليها لعل الله ينفلكموها) (¬1)، وكان أبو سفيان لما اقترب من مناطق نفوذ المسلمين غربي المدينة، جعل يتحسس الأخبار حتى علم بخروج المسلمين لأخذ القافلة، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إِلى مكة يستنفر قريشًا، لنجدة القافلة، فتجهزت قريش وخرجت لملاقاة المسلمين وهي تقول: أيظن محمَّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي (¬2)، كلَّا والله ليعلمن غير ذلك (¬3). لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة يريد قافلة قريش ومعه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا من أصحابه رضوان الله عليهم، كما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا ...) (¬4). لقد كان هدف المسلمين هو قافلة قريش لكن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أمرًا آخر، أراد لهم التمكين في الأرض، والانتصار ممن حادَّ الله ورسوله، فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: (... إِنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد) (¬5). قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 1/ 401. (¬2) هو الذي قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - إلى وادي نخلة. (¬3) ابن هشام، السيرة 1/ 403. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 84. (¬5) صحيح البخاري مع الفتح 7/ 285. (¬6) سورة الانفال، الآيات 5 - 8.

وعند علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوات عير قريش أراد الاستيثاق من أمر الأنصار الذين كانوا قد وعدوه في بيعة العقبة أن ينصروه داخل المدينة، فكان يقول: أشيروا علي أيها الناس، وهو يريد الأنصار، فقال له سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإِنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فَسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشَّطَهُ. ثم قال: سيروا وأبشروا، فإِن الله تعالى قد وعدني إِحدى الطائفتين، والله لكأني الآن انظر إِلى مصارع القوم (¬1). فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إِلى بدر وهناك علم أن عير قريش قد نجت وأن جيشهم قد نزل ببدر، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 1/ 408، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 142، وعنده: أن القائل سعد بن عبادة. (¬2) سورة الأنفال، آية 42.

خريطة موقعة بدر وعن ليلة السابع عشر من رمضان، وهي ليلة بدر يحدثنا علي - رضي الله عنه - فيقول: (لقد رأيتنا يوم بدر، وما منا إِلا نائم، إِلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإِنه كان يصلي إِلى شجرة ويدعو حتى أصبح، فلما طلع الفجر نادى، الصلاة عباد الله، فجاء الناس فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرض على القتال (¬1). ¬

_ (¬1) البنا، الفتح الرباني في ترتيب مسند الإِمام أحمد 21/ 39.

ومِن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ما رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مَدّ يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض، فمازال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلًا القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإِنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬1). فأمده الله بالملائكة (¬2). وعن الحكمة من اشتراك الملائكة في القتال يوم بدر بهذا العدد الكبير، مع أن جبريل -عليه السلام- قادرٌ على إِهلاك المشركين بريشة من جناحه يقول الشيخ تقي الدين السبكي: (سُئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: وقع ذلك لإِرادة الله أن يكون الفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة الجيوش، رعايةً لصورة الأسباب وسننها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله تعالى هو مالك الجميع، والله أعلم) (¬3). ولما بدأ القتال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر القتال بنفسه وفي ذلك يقول علي - رضي الله عنه -: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إِلى العدو، وكان من أشد الناس بأسًا) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 9. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 85. (¬3) ابن حجر: فتح البارى 7/ 364. (¬4) أحمد بن حنبل، المسند (تحقيق أحمد شاكر) 2/ 228.

وكعادة القتال في ذلك العصر فقد بدأت المعركة بالمبارزة، حيث خرج من قريش عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة، فتصدى لهم من المسلمين حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم -، فقتلوهم وكبَّر المسلمون، ثم التحم الجيشان، ودارت الدائرة على قريش فُقتل أبو جهل بعد أن انقض عليه غلامان من الأنصار هما أبناء عفراء، معاذ بن عمرو بن الجموح، وأخوه معوذ رضي الله عنهما، بعد أن دلهما عليه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، حيث أخبراه أنهما يريدان قتل أبي جهل لأنه كان يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وأخذ المشركون يتساقطون في أرض المعركة، حتى قُتِل منهم سبعون، وأسر سبعون، وفرّ الباقون تاركين خلفهم غنائم كثيرة (¬2). هذا وقد أشكل موضوع الأسرى والغنائم على المسلمين، وفي ذلك يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى: فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا ابن الخطاب. قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضْرب أعناقهم، هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر (¬3) وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفداء، لكن القرآن نزل موافقًا لرأي عمر - رضي الله عنه - في الأسرى (¬4)، وأجاز تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخذ الفداء. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 62. (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 86؛ أكرم العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/ 366. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 86. (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 87.

قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1)، ثم إِن الله سبحانه وتعالى بمنِّه ولطفه بهذه الأمة أحل لها الغنائم، ولم تحل لأمة قبلها، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحد قبلي ... وذكر منها وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي (¬3)، وكانت الأمم السابقة من أتباع الرسل يجمعون الغنائم في مكان ولا يأخذون منها شيئًا، فتأتي نار بقدر الله فتحرقها (¬4). وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسحب قتلى المشركين إِلى إِحدى الآبار، فقُذفوا فيها. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا ظهر على قوم أقام بساحتهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث مشى إِلى البئر الذي طُرِح فيه قتلى المشركين (فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ... أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإِنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا. فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) (¬5)، أما شهداء المسلمين وعدتهم أربعة عشر شهيدًا فقد دُفنوا في مصارعهم كما هي السنة في ذلك (¬6). ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤيدًا منصورًا قرير العين بنصر الله، ومعه الأسرى والمغانم، ودخل المدينة، وقد خافه كل عدو بالمدينة وحولها، فأسلم كثير من الناس، ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 67 - 68. (¬2) سورة الأنفال، آية 69. (¬3) صحيح البخاري، كتاب التيمم ح 335، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة ح 521. (¬4) ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن ص 286. (¬5) صحيح البخاري مع الفتح 7/ 351، (¬6) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 214، 217؛ د. أحمد العليمي: مرويات غزوة بدر 435.

دروس وعبر

وظهر النفاق، حيث دخل عبد الله بن أُبي المنافق وأصحابه في الإِسلام ظاهرًا (¬1). وقد نزلت في قصة بدر سورة الأنفال بتمامها، وقد تضمنت ذكر مشاهد من المعركة وتوجيهات تربوية، ونداءات للمؤمنين، كما تضمنت جملة من البشارات والمؤيدات التي أيد الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، على طريقة القرآن في التربية بالأحداث، وفيها بيان لحكم الغنيمة وأنها من الحلال الطيب. دروس وعبر: 1 - لقد كانت غزوة بدر معركة من معارك العقيدة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، وانتصار الحق على الباطل سُنّة جارية، ووعد دائم لا يخلف إِلا إِذا أخلف الناس؛ ذلك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬3). 2 - إِن الانتصار في معارك العقيدة لا تحكمه الحسابات المادية وحدها، بل يخضع لتطبيق المسلمين لشروط النصر الواردة في القرآن والسنة، من إِقامة الدين، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والصبر والثبات، ولزوم الطاعة، والاجتماع وعدم الفرقة، والاعداد بما يستطاع من القوة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 18. (¬2) سورة الأنفال، آية 41. (¬3) سورة الرعد، آية 11. (¬4) سورة الأنفال، آية 45 - 46.

وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ... الآية} (¬1). 3 - ظهور عقيدة الولاء والبراء بأوضح صورها، حيث تقابل أبناء القبيلة الواحدة، والأسرة الواحدة، بل الإِخوة والآباء والأبناء، بأسيافهم، لأن قيم الإِيمان جعلت ولاءهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت رابطة العقيدة بين أفراد المجتمع المسلم تعلو فوق كل الروابط الأخرى، فهي ليست معركة اقتصادية على مصالح مادية، ولا معركة قومية، وإِنما كانت معركة عقيدة، وفي هذا رد على الذين يفسرون تاريخ المسلمين تفسيرا قوميا أو اقتصاديا. 4 - في استشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه تربية للأمة من بعده على هذا المبدأ العظيم الذي ينبغي أن يتجذّر في ثقافة الأمة (¬2). 5 - في قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة بدر في الدعاء والاستغاثة والتضرع إِلى الله، بيان لأهمية الفزع إِلى الله واللجوء إِليه وخاصة في الشدائد، مع اتخاذ الوسائل المادية والمعنوية (¬3). 6 - في وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البئر ومخاطبته قتلى المشركين، إِثبات للحياة البرزخية للأموات، وما فيها من النعيم والعذاب (¬4). 7 - استثمار النصر وتثبيته والانتقال إِلى مواقع متقدمة، فبعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من بدر بسبعة أيام خرج لغزو بني سُلَيم فلم يقم له أحد، وفي ذي الحجة خرج لقتال ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية 60. (¬2) زيد عبد الكريم المزيد، فقه السيرة 419؛ محمَّد البوطي، فقه السيرة 218. (¬3) زيد عبد الكريم الزيد، فقه السيرة 424. (¬4) محمود العيساوي، فقه الغزوات 122.

غزوة بني قينقاع

أبي سفيان في غزوة السويق، وفي آخر ذي الحجة خرج إلى نجد يريد غطفان في غزوة ذي أمر. غزوة بني قينقاع لما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة بدر مؤيدًا منصورًا، شرقت بذلك نفوس يهود بني قينقاع، فذهب إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجمعهم في سوقهم وقال لهم: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشًا يوم بدر، فقالوا: إِنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتَلتْنَا لعرفت أنَّا الرجال!، فأنزل الله قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬1). لقد أظهر يهود بني قينقاع روحًا عدائية تجاه المجتمع المسلم، ثم توجوا ذلك بما حصل في سوقهم من كشف عورة إِمرأة مسلمة، وقتل الصحابي الذي انتصر لتلك الصحابية (¬2). لقد أدت تلك الأقوال والأعمال العدائية من قبل يهود بني قينقاع إِلى تماديهم في غيهم، ونقضهم العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ووقوعهم في الخيانة العظمى حيث اتضح أنهم كانوا عينًا لكفار قريش، ينقلون إِليهم أخبار المسلمين ويدلونهم على عوراتهم (¬4). فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منتصف شهر شوال من السنة الثانية، وحاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه، ثم شفع فيهم المنافق عبد الله بن أبي ¬

_ (¬1) ابن حجر، فتح الباري 7/ 386. والآية 12 من سورة آل عمران. (¬2) ابن هشام، السيرة 2/ 32. (¬3) ابن التيم، زاد المعاد 3/ 190. (¬4) محمد الجميل، النبي ويهود المدينة ص141، هامش (1).

دروس وعبر

بن سلول عن القتل، وكان حليفًا لهم، فأجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة، وقد كان عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حليفًا لبني قينقاع، لكنه تبرأ منهم ومن حلفهم، وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم (¬1). فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). وقد رحلوا إِلى أذرعات من أرض الشام، فأهلكهم الله ولم يعد لهم ذكر في التاريخ. دروس وعبر: 1 - إن السيطرة على الاقتصاد هي مفتاح السيطرة على المجتمعات، وهذا ما يفعله اليهود قديمًا وحديثًا، لذا فحريٌ بنا أن نقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حماية اقتصاد الأمة من الارتهان للشرق أو الغرب. 2 - مع أن يهود بني قينقاع من الذين وقَّعوا على وثيقة المدينة، فإِن ذلك لم يردهم عن الخيانة ونقض العهد، وهذا ما ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهن الأمة المسلمة في كل زمان. 3 - بالنسبة لمعاملة المنافق في الإِسلام، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، ومن على شاكلته من أصحاب المذاهب والأفكار الإِلحادية، فإِنه يعامل في الدنيا من قبل المسلمين على أنه مسلم، إِلا إِذا ظهر منه دليل واضح يدل على كفره وخيانته للأمة، فعند ذلك تطبق عليه أحكام الإِسلام (¬3). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 2/ 32. (¬2) ابن هشام، السيرة 2/ 32. والآية 51 من سورة المائدة. (¬3) محمد البوطي، فقه السيرة 233.

غزوة أحد

4 - أهمية تحرير عقيدة الولاء والبراء، وخطورة موالاة المشركين (¬1). 5 - إِن الأسواق من مواطن الشر التي ينبغي على الأسرة المسلمة أخذ الحيطة والحذر عند النزول إِليها. غزوة أُحُد في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة توجهت قريش في ثلاثة آلاف مقاتل إِلى المدينة لقتال المسلمين انتقامًا لهزيمتها في غزوة بدر، واستعادةً لهيبتها ومكانتها التي اهتزت بين القبائل العربية في أعقاب بدر، وكذلك من أجل تأمين طريق تجارتها إلى الشام (¬2). وجاءت الأخبار إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشار أصحابه في أن يتم قتال قريش داخل المدينة، فقالت الأكثرية: ما دُخل علينا فيها في جاهلية فكيف يدخل علينا في الإِسلام؟ ورغبوا في ملاقاتهم خارج المدينة، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته ولبس عدة الحرب، فلما خرج قالت الأنصار: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، فقال: (ما ينبغي لنبي إِذا لبس لأمته (¬3) أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبن عدوه) (¬4). ولما وصل كفار قريش إِلى المدينة عسكروا عند جبل أحد فخرج لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش عدته ألف مقاتل، وفي الطريق إِلى أحد تظاهر المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بالغضب، وقال: أطاعهم وعصاني؛ لأنه كان من المؤيدين للقتال داخل المدينة، ورجع معه ثلث الجيش ممن كانوا على شاكلته من النفاق والشك (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق 234؛ محمد أبو فارس، السير النبوية 530. (¬2) ابن هشام، السيرة 2/ 40. (¬3) اللأمة، عدة الحرب. (¬4) انظر: ابن القيم، زاد المعاد 3/ 193، والحديث أخرجه أحمد في السند 3/ 351 وقال الهيثمي في المجمع 6/ 107: رواه أحمد ررجاله رجال الصحيح. (¬5) ابن حجر، فتح الباري 7/ 401.

وفي ميدان المعركة جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبل أحد خلفه، ووضع قوةً من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - على جبل عينين والذي عرف فيما بعد بجبل الرماة، لتأمين الحماية للجيش، ومنع المشركين من اقتحام صفوف المسلمين، وقال لهم: لا تبرحوا، إِن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإِن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا (¬1). خريطة موقعة أحد ¬

_ (¬1) البخاري، الصحيح مع الفتح 7/ 405.

وبدأت المعركة بالمبارزة ثم التحم الجيشان، فدارت الدائرة على المشركين أول النهار فولوا مدبرين حتى انتهوا إِلى نسائهم في مؤخرة الجيش، فلما رأى الرماة هزيمة قريش، قالوا: الغنيمة، الغنيمة، فنهاهم أميرهم وذكرهم عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يستجيبوا له، وحسبوا أن ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وعندما رأى خالد بن الوليد ما فعل الرماة، استغل هذا الأمر وجاء إِلى من بقي من الرماة فقتلهم، ثم التف على المسلمين، وعند ذلك كرَّ كفار قريش على المسلمين من كل اتجاه، فاضطرب المسلمون، واختل نظامهم، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه، وأصيب - صلى الله عليه وسلم -، وسالت الدماء من وجهه الشريف وأشيع أنه قُتل، فتراجع بعض المسلمين إلى المدينة، وقعد بعضهم عن القتال، واستُشهد سبعون صحابيًا منهم، حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير حامل اللّواء، وسعد بن الربيع رضوان الله عليهم جميعًا (¬1). ولما برد القتال أشرف أبو سفيان على المسلمين ونادى: (أفي القوم محمَّد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: - صلى الله عليه وسلم - لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إِن هؤلا قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله لك ما يخزيك. قال أبو سفيان: اعلُ هُبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلةً، لم آمر بها ولم تسؤني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (¬2). ثم انسحبت قريش عائدة إِلى مكة دون أن تستثمر نتيجة المعركة فلم تأخذ أسيرًا ولا غنيمة. ¬

_ (¬1) ابن سعد، الطبقات 2/ 41، ابن القيم، زاد المعاد 3/ 196. (¬2) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 405.

دروس وعبر

وقد أنزل الله سبحانه وتعالى في هذه الغزوة آيات مباركات من سورة آل عمران فيها وصف لهذه الغزوة وتبيان لما فيها من الأحكام والحكم والغايات المحمودة، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إِلى أمهاتها وأصولها، حيث افتتح القصة بقوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1). إِلى تمام ستين آية من سورة آل عمران (¬2). دروس وعبر: 1 - أن الشدائد تطهر الصف المسلم وتنقيه من الخبث، ويتضح ذلك من انسحاب المنافق ابن أبي بن سلول بثلث الجيش، وانكشاف المنافقين المندسين داخل الصف المسلم، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬3). 2 - الحذر من الحرص على الدنيا، وكيف أن فرحة بعض الرماة بالغنائم جعلتهم يتركون أماكنهم وينسون وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية 121. (¬2) ابن القيم، زاد العاد 3/ 218. (¬3) المصدر السابق 3/ 219. والآية 179 من سورة آل عمران. (¬4) د. زيد المزيد، فقه السيرة 450. والآية 152 من سورة آل عمران.

3 - معرفة سوء عاقبة المعصية، والفشل، والتنازع، وأن الذي أصاب المسلمين يوم أحد إِنما هو بشؤم ذلك، فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول، وتنازعهم، وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشد حذرًا ويقظةً، وتحرزًا من أسباب الخذلان (¬1). 4 - إِن ما نتج من خبر إِشاعة مقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتردد بعض المسلمين في القتال، ورجوعهم إِلى المدينة، يبين لنا أهمية التثبت في قبول الأخبار، كما يوضح خطورة الإِشاعة على الصف المسلم (¬2). 5 - أن دين الله لا يتعلق بالأشخاص، وهذا ما نبه الله سبحانه وتعالى المسلمين إِليه، عندما أشيع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬3). 6 - أهمية الرجوع إِلى أهل العلم فيما يشكل من الأمور، وهذا واضح من قول الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما نقول؟ في ردهم على أبي سفيان (¬4). 7 - تحذير الجماعة المؤمنة من الهزيمة النفسية في كل زمان ومكان، وأنها أشد فتكًا بالأمة من الهزيمة المادية، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 218. (¬2) زيد الزيد، فقه السيرة 452. (¬3) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 224. والآية 144 من سورة آل عمران. (¬4) زيد الزيد، فقه السيرة 455. (¬5) سورة آل عمران، آية 139 - 140.

من آثار غزوة أحد

فجمع لهم في الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إِدالة الكفار عليهم، فأنتم وإن استويتم معهم في القرح والألم، فإِنكم قد تباينتم في الرجاء والثواب، فما بالكم تهنون وتضعفون لما أصابكم يوم أُحد وأنتم قد أُصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي، في حين أن ما أصاب الكفار يوم بدر كان في سبيل الشيطان (¬1). من آثار غزوة أحد: لقد كان من نتائج غزوة أحد وما حصل فيها من نكسة واستشهاد عدد من المسلمين تضعضع هيبة المسلمين في نفوس المشركين، فتجرأ الأعراب عليهم، وبدأوا في التجمع لغزو المدينة، ومن ذلك ما ظهر من تحركات عسكرية وتجميع للمقاتلة من قبل طليحة الأسدي في نجد، وخالد بن سفيان الهذلي في قبائل هذيل وحلفائهم، ولكن المسلمين تمكنوا من وأد تلك التحركات في مهدها. حيث أغارت خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيادة أبي سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - علي جموع طليحة الأسدي فتفرقوا لهول المفاجأة، وغنم المسلمون معسكرهم وماشيتهم (¬2). وأما خالد بن سفيان الهذلي، فقد أرسل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد مغاوير الصحابة وهو عبد الله بن أنيس الجهني - رضي الله عنه -، فتمكن من قتله وإِخماد فتنته (¬3). لقد كانت الدعوة إِلى الله في ظل تلك الظروف العدائية محفوفة بالمخاطر، لا سيما أن قريشًا لم تتوقف لحظةً واحدة عن تأليب القبائل العربية على المسلمين، ومع ذلك فقد كانت الدعوة إِلى الله هي الشغل الشاغل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة المعوقات، وكان ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 222. (¬2) ابن سعد، الطبقات 2/ 50؛ أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة 2/ 398. (¬3) المصدر نفسه.

بعثين للدعوة إلى الله ونشر الإسلام.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يقين أن طريق الدعوة إلى الله ملئ بالتضحيات بالأموال والأنفس، لكن عاقبته نجاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (¬1). أي إِما النصر والغنيمة، وإما الموت والشهادة (¬2). لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على استثمار كل مناسبة في الدعوة إِلى الله، ومهما كانت التضحيات عظيمة وجسيمة، وقد حاول المشركون المخادعة والغدر بالمسلمين فطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِرسال بعوث من قبله للدعوة بين الأعراب عسى أن يستجيبوا للحق، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثين للدعوة إِلى الله ونشر الإِسلام. الأول: بعث الرجيع. في أواخر السنة الثالثة من الهجرة، وقيل في أوائل السنة الرابعة، فقد سعت قبيلة هذيل للانتقام لقتل زعيمها خالد بن سفيان الهذلي، فاتفقت مع قبيلتين من مضر هما: عضل والقارة، على إِرسال وفد من هاتين القبيلتين إِلى المدينة ليحتالوا في إِحضار بعض الصحابة ليقتلوهم انتقامًا لزعيمهم، ويبيعوا البعض الآخر لقريش (فإنهم ليسوا لشيء أحب إِليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمَّد، يمثلون به ويقتلونه بمن قُتِل منهم ببدر) (¬3). فجاء رهط من عضل والقارة إِلى المدينة فقالوا: (يا رسول الله، إِن فينا إِسلامًا، فأبعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإِسلام) (¬4). فبعث معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرًا من أصحابة بقيادة عاصم بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -، فلما اقترب الصحابة من عسفان ثار عليهم بطن من هذيل يقال لهم لحيان، ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية 52. (¬2) محمد أبو شهبة، السيرة النبوية 2/ 242. (¬3) الواقدي، المغازي 1/ 350. (¬4) ابن هشام، السيرة 2/ 120.

فلجأ الصحابة إِلى مرتفع ليتحصنوا به، فأحاط بهم المشركون وقالوا لهم: (لكم العهد والميثاق إِن نزلتم إِلينا أن لا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قَتَلوا عاصمًا في سبعة نفر بالنبل، وبقي خُبيب بن عَدِي، وزيد بن الدِّثنة، وعبد الله بن طارق، فأعطوهم العهد والميثاق أن لا يقتلوهم فنزلوا إِليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قِسِّيهم فربطوهم بها، فقال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو حارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيبًا قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا، حتى إِذا أجمعوا على قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قالت: فغفلتُ عن صبي لي، فدرج إِليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك منى، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟! ما كنت لأفعل ذاك إِن شاء الله. وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما في مكة يؤمئذ ثمرة، وإِنه لموثق في الحديد، وما كان إِلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه (¬1)، فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إِليهم بعد أن صلّى فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدتُ، فكان أول من سَنّ الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بِدَدَا ولا تغادر منهم أحدا. ثم قال: ولست أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا ... على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ مُمَزَّعِ ثم قام إِليه عقبة بن الحارث فقتله بعد أن رفعوه على خشبة. ¬

_ (¬1) وذلك أنهم خرجوا به إِلى التنعيم، بعد انقضاء الأشهُر الحرُم. ابن هشام، المصدر السابق 2/ 122، 123.

الثاني: بعث بئر معونة

وبعثت قريش إِلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قَتَلَ عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلَّة من الدَّبْرِ فحمته من رُسُلهِم، فلم يقدروا منه على شيء) (¬1). وأما زيد بن الدثنة - رضي الله عنه - فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان إِلى التنعيم ليقتل خارج الحرم! فلما اجتمعت إِليه قريش قبيل قتله قال له أبو سفيان: (يا زيد، أَتُحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كَحُبِّ أصحاب محمدٍ محمدًا) (¬2). الثاني: بعث بئر معونة في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سبعين صحابيًا من القُرَّاء في بعثة تعليمية بقيادة المنذر بن عمرو الساعدي - رضي الله عنه -، مع عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة، إِلى أهل نجد ليعلموهم أمور دينهم، فلما وصلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر بن صعصعة من هوازن وأرض بني سُليم، اعترضهم عدو الله عامر بن الطفيل العامري الهوزني، فندبوا له حرام بن ملحان - رضي الله عنه - ليكلمه، فبينما هو يكلمه أشار عامر بن الطفيل إِلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه غدرًا - رضي الله عنه - (¬3)، فقام حرام بن ملحان بنضح الدم على وجهه ورأسه وقال: (الله أكبر، فزت ورب الكعبة) (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 437، 444، وابن هشام السيرة 2/ 120 - 123. (¬2) ابن هشام، المصدر السابق 2/ 122. (¬3) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 445؛ ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 129. (¬4) البخاري، الصحيح ح رقم 4092.

ثم استصرخ عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من بني سُليم (رِعْل وذَكْوان وعُصَيّة) على بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاتلوهم حتى قُتلوا إِلا كعب بن زيد الأنصاري الذي تُرك وبه رمق، فعاش حتى قُتِل في غزوة الخندق، ورجلين كانا في رحالهم هما: المنذر بن محمَّد بن عقبة الأنصاري، وعمرو بن أمية الضمري، فلما علما بقتل أصحابهم، قاتلهم الأنصاري حتى قُتِل، وأُسِر عمرو بن أمية، ثم أطلقه عامر بن الطفيل لمّا علم أنه من مضر برقبة كانت على أم عامر -كما زعم- فرجع عمرو الضمري إِلى المدينة، وقتل في الطريق رجلين من بني عامر بن كلاب وكان معهما أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلم به، ولذا وداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفىّ بذمته وعهده (¬1). وقد كان في القتلى عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر ورفيقه في الهجرة، وحصلت له كرامة بعد استشهاده فقد قال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية لما أسره: من هذا؟ وأشار إِلى أحد القتلى. قال عمرو: هذا عامر بن فهيره، قال: لقد رأيته بعد ما قتل رُفع إِلى السماء حتى إِني لأنظر إِلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع (¬2). وقد وصل خبرهم إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق الوحي، فقال: (إِن أصحابكم قد أصيبوا، وأنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إِخواننا بما رضينا عنك، ورضيت عنا. فأخْبَرهَم عنهم) (¬3). لقد كان القراء من خيرة الصحابة رضوان الله عليهم، وأنفعهم للناس، حيث كانوا يقومون الليل، ويتدارسون القرآن ويتعلمون، وكانوا يحتطبون بالنهار، ويشترون بثمنه ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 129، وخبر السرية في صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة الرجيع وبئر معونة الأحاديث 4088 - 4096. (¬2) البخاري، الصحيح ح 4093. (¬3) البخاري، الصحيح ح رقم 4091 و4093.

دروس وعبر

الطعام لفقراء الصحابة من أهل الصفة (¬1). فحزن عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة حزنًا عظيمًا، وتزامنت هذه الحادثة مع التي قبلها (سرية الرجيع) وقنت عليه الصلاة والسلام شهرًا كاملًا ثلاثين صباحًا يدعو على رِعل، وذكوان، وبني لحيان، وعُصَيّة، الذين عصوا الله ورسوله (¬2). دروس وعبر: 1 - أن مسؤولية الدعوة إِلى الإِسلام يشترك فيها جميع المسلمين وليست محصورة بالأنبياء والرسل عليهم السلام (¬3). 2 - أن أفعال الغدر مما يتميز به المشركون قديمًا وحديثًا، وينبغي أن يترفع عنها أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولنا عبرة في قصة خبيب - رضي الله عنه - الذي تخرج من مدرسة النبوة، وترفعه عن مقابلة الغدر بالغدر، فلم يقتل الطفل الذي درج إِليه في بيت بنت الحارث وقد تمكن منه لو أراد. 3 - إِثبات كرامة الله سبحانه وتعالى لأوليائه، وهذا ظاهرُ من إكرام الله سبحانه وتعالى لخبيب - رضي الله عنه - بإِطعامه العنب في غير زمانه (¬4)، وكذلك حفظ الله سبحانه وتعالى لعاصم بن ثابت - رضي الله عنه - من المشركين وإرسال الدَّبْر لمنع المشركين من أخذ جثمانه - رضي الله عنه -. 4 - شدة محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويظهر ذلك من خلال الحوار بين أبي سفيان، وزيد بن الدثنة - رضي الله عنه -، وهذا المستوى العظيم من المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يحرص عليه المسلم في كل عصر ومصر. ¬

_ (¬1) ابن حجر، فتح الباري 7/ 447. (¬2) البخاري، الصحيح ح رقم 4090 و 4091و 4094. (¬3) محمد البوطي، فقه السيرة 255. (¬4) بريك العمري، السرايا والبعوث النبوية 234.

غزوة بني النضير

5 - إِن للمسلم أن يمتنع عن قبول أمان الكافر، وعدم النزول على حكمه، وإِن أدى ذلك إِلى قتله، وهذا ظاهرٌ من صنيع عاصم بن ثابت - رضي الله عنه - (¬1). 6 - جواز الدعاء على المشركين عند وجود مناسبته. 7 - مشروعية الصلاة عند القتل، وهذا مأخوذ من صنيع خبيب - رضي الله عنه - والذي أقره عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬2). 8 - شدة يقين الصحابة، وعمق إِيمانهم بما أخبر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عما أعد الله للشهداء من النعيم المقيم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (¬3). وهذا ظاهرٌ من قول حرام بن ملحان - رضي الله عنه -: فزت ورب الكعبة. 9 - مشروعية القنوت عند النوازل اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه خبر استشهاد القُرَّاء رضوان الله عليهم، وأهل الرجيع! غزوة بني النضير وقعت في السنة الرابعة من الهجرة النبوية، وسببها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد أتى إِليهم في جمع من أصحابه لطلب المعونة في دية الرجلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري -وكان معهما كتاب أمان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهذا حسب العهد الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود أول قدومه المدينة، لكن اليهود غلب عليهم طبعهم في الخيانة والغدر، فرحبوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأجلسوهم في ظل أطم من أطامهم، ثم تآمروا على الغدر واغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأن يعلوا رجل منهم الحصن ثم يلقي ¬

_ (¬1) وهبه الزحيلي، آثار الحرب 463. (¬2) بريك العمري، السرايا والبعوث النبوية 234، 236. (¬3) سورة التوبة، آية 111.

دروس وعبر

عليه حجرا فيقتله. لكن الله أطلع رسوله على غدرهم فقام - صلى الله عليه وسلم - كأنما يقضي حاجته، فرجع إِلى المدينة، ثم لحق به أصحابه، فعزم - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم لنقضهم العهد والميثاق ولعزمهم على اغتيال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (¬1). فسار إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم خمس عشرة ليلة وقطع بعض نخيلهم حتى نزلوا على حكمه، وهو الجلاء من المدينة، وأن لا يحملوا من متاعهم إِلا ما حملت الإِبل دون السلاح، فخرج أشرافهم إِلى خيبر، ومنهم من سار إِلى الشام (¬2). وقد نزل في شأنهم سورة الحشر، وهي التي تسمى سورة بني النضير (¬3)، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (¬4). دروس وعبر: 1 - عناية الباري سبحانه وتعالى برسوله - صلى الله عليه وسلم - وعصمته من كيد الخائنين (¬5). 2 - أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإِتلافها منوط بما يراه الإِمام أو القائد من مصلحة النكاية بالأعداء، لأنها داخلة في باب السياسة الشرعية. وإن كان الأصل عدم الإتلاف (¬6). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 2/ 132؛ محمَّد مهدي رزق الله، السيرة النبوية 417. (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 133. (¬3) عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن 787. (¬4) سورة الحشر، آية 2. (¬5) محمد أبو فارس، السيرة النبوية 538. (¬6) محمد البوطي، فقه السيرة 262.

غزوة ذات الرقاع

3 - أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قتال -وهو الفيء- يعود النظر والتصرف فيه إِلى ما يراه الإِمام من المصلحة، وأنه لا يجب عليه تقسيمه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غنموها بعد قتال وحرب، وهو ما بينته سورة الحشر (¬1). غزوة ذات الرقاع بعد ما حصل للمسلمين في أُحد تجرأ الأعراب على المسلمين بتحريض من قريش، فكان لزامًا على الدولة الإِسلامية تدارك النتائج السلبية لغزوة أحد، واستعادة هيبة أمة الإِسلام، لذا فقد جاءت هذه الغزوة لكسر شوكة الأعراب، وقذف الرعب في قلب من تسول له نفسه غزو المدينة النبوية (¬2). وقد كانت غزوة ذات الرقاع (¬3) موجهة إِلى بعض جموع قبيلة غطفان في بلاد نجد، لكن لم يقع فيها قتال حيث آثر المشركون الانسحاب، بعد أن تواقفوا واستعدوا للقتال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وفي هذه الغزوة صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين صلاة الخوف، ثم انصرف بالصحابة إِلى المدينة عندما انسحبت جموع غطفان دون قتال (¬4). دروس وعبر: 1 - أن الباطل إِذا ترك انتفش وتطاول على أهل الحق، لذا فقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كسر شوكة الأعراب قبل أن يتجمعوا ويهاجموا المدينة النبوية. ¬

_ (¬1) المرجع السابق 263. (¬2) أكرم العمري، 2/ 141. (¬3) سميت بذلك لأن المسلمين رقعوا فيها راياتهم، وقيل نسبة لاسم شجرة في ذلك المكان. ابن هشام، السيرة 2/ 141. (¬4) ابن هشام، السيرة 2/ 141.

غزوة بدر الصغرى

2 - أهمية الصلاة وجلالة قدرها، وأن المسلم مأمورٌ بالحفاظ عليها وأدائها جماعة مع المسلمين، حتى في حال الخوف ومواجهة العدو. 3 - أن من أنواع النعم، وأنواع النصر، التي قد تغيب عن بعض المسلمين، كف أيدي المشركين، ورد كيدهم في نحورهم (¬1)، ومن ذلك عدم وقوع القتال في هذه الغزوة. وعن جنس هذه النعمة يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2). غزوة بدر الصغرى وتسمى غزوة بدر الموعد، حيث أن أبا سفيان قبل انصرافه من أُحد قال: يا محمَّد موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فكان ذلك من العام القابل، وقد خرج المسلمون بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى بدر الموعد في السنة الرابعة من الهجرة، ومكثوا هناك ثمانية أيام، لكن قريشًا بقيادة أبي سفيان، نكصوا وأخلفوا الموعد بحجة أن العام عام جدب، وأن الخروج للقتال لا يصلح إِلا في عام خصيب، فرجع الناس مع أبي سفيان بعد أن بلغوا عسفان، فسماهم أهل مكة جيش السويق، تهكمًا بهم، وقالوا: إِنما خرجتم تشربون السويق (¬3). وقد كان توقيت المسلمين في الحضور إِلى بدر يوافق سوقًا تجتمع فيه العرب للبيع والشراء، فجلب المسلمون معهم من المدينة شيئًا من السِّلع لبيعها في ذلك السوق، فربحوا ثم رجعوا إِلى المدينة ولم يلقوا كيدًا (¬4). ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن سعدي، تيسير الكريم الرحمن 187. (¬2) سورة المائدة، آية 11. (¬3) ابن هشام، السيرة 2/ 144. (¬4) ابن سعد، الطبقات 2/ 60.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - أسفرت هذه الغزوة عن استعادة المسلمين لهيبتهم بين القبائل في أعقاب غزوة أحد، وجردت قريشًا من كل مكاسبها السياسية التي نالتها عقب غزوة أحد (¬1). 2 - أهمية استثمار الإِعلام في بسط هيبة الدولة الإِسلامية، ويظهر ذلك جليًا في اختيار رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المجيء لبدر الموعد، زمن سوق عظيم من أسواق العرب. غزوة بني المصطلق بنو المصطلق: فرع من قبيلة خزاعة، وهي من القبائل التي تجرأت على المسلمين في أعقاب غزوة أحد، لا سيما أنهم ممن عاون قريشًا على المسلمين، وقد أدى ذلك إِلى تأليبهم القبائل من أجل الإِغارة على المدينة، فلما جاءت الأخبار إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تهيأ لغزو بني المصطلق فسار إِليهم في شهر شعبان من السنة الخامسة من الهجرة، فلما وصل المسلمون إِلى ديار بني المصطلق عند ماء لهم يسمى المريسيع (¬2)، قذف الله الرعب في قلوب المشركين، من هول المفاجأة، وأصبحوا بين قتيل وأسير (¬3). وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الغزوة من جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق والتي أخذت في السبي، وكان هذا الزواج سبب خير وبركة على قومها، حيث أطلق المسلمون أسراهم (¬4). ¬

_ (¬1) أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة 2/ 402. (¬2) هو ماء يقع في وادي ستارة وهو أعلى وادي قديد. انظر: البلادي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة ص 290. (¬3) مسلم: صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 36؛ ابن سعد: الطبقات 2/ 63؛ أكرم العمري، السيرة النبوية 2/ 405. (¬4) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 257.

وفي هذه الغزوة ظهر كيد المنافقين من خلال حدثين عظيمين

وفي هذه الغزوة ظهر كيد المنافقين من خلال حدثين عظيمين: الأول: إِثاوة العصبية الجاهلية والتطاول على رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وابتداء هذا الأمر، أن غلامين أحدهما من الأنصار والآخر من المهاجرين تشاجرا على الماء، فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار. وصرخ المهاجري: يا معشر المهاجرين. فغضب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وكان ممن حضر الغزوة، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إِلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره منْ قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إِلى غير داركم (¬1) فسمع ذلك زيد بن أرقم - رضي الله عنه -، فأبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - به، فأشار عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بقتل هذا المنافق، فقال له رسول الله: فكيف يا عمر إِذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا. ولكن أذِّن بالرحيل حتى ينشغل الناس عن حديث ابن سلول (¬2). ثم أنزل الله سبحانه وتعالى سورة المنافقين في طريق عودة المسلمين إِلى المدينة، تفضح ابن سلول ومن كان على شاكلته من المنافقين، فجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، إِلى رسول الله يستأذنه في قتل أبيه فقال له نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -:بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا (¬3). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 2/ 139. (¬2) ابن سعد، الطبقات 2/ 65، ابن هشام، السيرة 2/ 139. (¬3) ابن هشام، السيرة 2/ 194.

الثاني: حديث الإفك على أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها).

الثاني: حديث الإفك على أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها). وقصة هذه الحادثة أن عائشة - رضي الله عنها - كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق، فلما انتهت الغزوة أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل، وفي إِحدى مراحل الطريق رَحَل القوم ليلًا، فجاء الرجال الموكلون برحلها فحملوا الهودج ويظنوها به بينما هي قد ذهبت تقضي حاجتها، وفقدت عقدًا لها فأخذت تبحث عنه، فلما عادت عائشة - رضي الله عنها - وجدت الناس قد ارتحلوا، فجلست في مكانها لعلمها أنهم إِذا فقدوها سيرجعون إِليها، فجاء الصحابي الأمين صفوان بن المعطل السلمي في الصباح، على راحلته، وكان قد أخذه النوم فتأخر عن الجيش، فلما رأى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، قال: إِنا لله وإِنا إِليه راجعون، ثم قرب إِليها راحلته فركبت وسار بها حتى لحق الجيش، فلما رأى المنافقون -قاتلهم الله- هذا المنظر، تكلموا في عِرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستطالوا في ذلك وزَلَّت بعض الأقدام، واهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، واحتبس عنه الوحي في هذا الشأن شهرًا كاملًا، ثم نزل الوحي ببراءة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فاضحًا المنافقين الذين تطاولوا على عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). وقد بينت الآيات في سورة النور حقيقة ما حصل، والآداب التي ينبغي للمسلمين أن يتأدبوا بها في مثل هذه الحوادث (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النور آية 11. (¬2) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 496.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - لقد عززت هذه الغزوة مكانة المسلمين وهيبتهم بين القبائل العربية الأخرى التي كانت تفكر في غزو المدينة النبوية (¬1). 2 - زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين جويرية بنت الحارث، ابنة زعيم بني المصطلق، فيه من الحِكم الدعوية العديدة، ومن ذلك حفظ كرامة هذه القبيلة العربية التي تعرضت للأسر، وما ترتب على ذلك من تسابق الصحابة في إِطلاق سراح أسرى بني المصطلق، أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وما نتج عن ذلك من إِسلام هذه القبيلة، بسبب هذا الزواج المبارك (¬2). 3 - حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع الشجار الذي حصل حول ماء المريسيع، وأَمْرُهُ النَّاسَ بالمسير، حتى ينشغلوا عن الحديث، وتوليد الكلام، في أمرٍ من أمور الجاهلية، والعصبية القبلية إِلى الاشتغال بأنفسهم (¬3). 4 - أن عقيدة الولاء والبراء هي التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقته مع الآخرين، ويظهر ذلك في موقف الصحابي الكريم عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، من والده المنافق، وفيه بيان أن رابطة العقيدة مقدمة على جميع الروابط الأخرى. 5 - أما حادثة الإِفك فإِنها حلقة فريدة من سلسلة فنون الإِيذاء والمحن التي لقيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، ذلك من أجل تحطيم شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصرفه عن الدعوة بأي وسيلة، حتى ينشغل عن الدعوة إِلى الله بأهل بيته. ¬

_ (¬1) زيد الزيد، فقه السيرة 477. (¬2) محمَّد أبو شهبه، السيرة النبوية 2/ 253؛ إِبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق 351. (¬3) محمَّد البوطي، فقه السيرة 284. (¬4) المرجع السابق 285.

6 - وفي حادثة الإِفك بيان لبشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إِذا يجري عليه من الابتلاء ما يجري على سائر الناس (¬1). قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬2). 7 - في الحادثة بيان أن الوحي الإِلهي ليس شعورًا نفسيًا، أو أمرًا خاضعًا لإِرادته - صلى الله عليه وسلم - كما يدعي الذين لا يعلمون، وإِلا لكان من السهل على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن ينهي تلك المعاناة في مهدها، دون أن ينتظر شهرًا كاملا من الألم هو وأهل بيته عليه الصلاة السلام (¬3). 8 - في حادثة الإِفك درسٌ في أهمية التثبت والتعامل مع الإشاعات، والتي لم ينج منها ومن شرها أي مجتمع على مر التاريخ (¬4)، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬5). 9 - يلاحظ اهتمام القرآن بذكر أوصاف المنافقين والإِعراض عن أسمائهم، وفي هذا إِشارة إِلى أن هذا النوع من البشر يتجدد وجوده في كل عصر (¬6). 10 - وعن تأخر الوحي شهرًا كاملًا يقول ابن القيم رحمه الله: (لتتم العبودية المرادة من الصِّدِّيقة، وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، لتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها، والافتقار إِلى الله والذل له، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع ¬

_ (¬1) إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق 353. (¬2) سورة الكهف، آية 110. (¬3) محمَّد البوطي، فقه السيرة 287. (¬4) زيد الزيد، فقه السيرة 486. (¬5) سورة النور، آية 12 - 13. (¬6) زيد الزيد، المرجع السابق 482.

غزوة الأحزاب (الخندق)

رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النُصرة والفرج على يد أحد من الخلق ... وأيضًا فإِن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامته عليهم، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم بأمر لا يكون لرسول الله فيه عمل، ولا ينسب إِليه، بل يكون هو وحده المتولي لذلك ... وأيضًا فإِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان هو المقصود بالأذى الذي رميت به زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها) (¬1). 11 - إِجماع العلماء على كفر من قذف عائشة - رضي الله عنها - مما برأها الله سبحانه وتعالى منه؛ لأن القرآن نزل ببراءتها، فمن قذفها فقد كذب بشيء من القرآن، والعياذ بالله. (¬2). غزوة الأحزاب (الخندق) في شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة وقعت غزوة الأحزاب، وسببها أن قريشًا، وزعماء اليهود في خيبر، أثارت مخاوفهم النجاحات التي أحرزها المسلمون، وأدت إِلى فرض هيبتهم على القبائل العربية، وحضورهم في كل الأحداث المهمة، مما أدى إِلى تضييق الخناق على قريش سياسيًا واقتصاديًا، فجاء وفد من يهود بني النضير الذين استقروا في خيبر بعد إِجلائهم من المدينة بزعامة حيي بن أخطب، وتفاهموا مع قريش على تنسيق الجهود وتأليب القبائل لاستئصال المسلمين بجهد جماعي يضم كل القبائل الموتورة والمتوجسة من دولة الإِسلام بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 262. (¬2) إِبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق 329. (¬3) انظر: ابن هشام، السيرة 2/ 146، وابن سعد، الطبقات 2/ 65.

وكان من حديث يهود أن قريشا سألوا يهود: أديننا خير أم دين محمَّد، فقالوا لهم: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} (¬1). ففرحت قريش بذلك الثناء من قبل اليهود (¬2)، لا سيما أنهم كانوا أهل كتاب، وما ذلك إِلا لتستخدمه في دعايتها ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعد أن عزمت قريش على الحرب انضمت إِليها بنو سُليم، وغطفان، وأسد، وفزارة، ومُرَّة، وأشجع، وبذلك شكَّلوا قوة الأحزاب (¬3). ولما جاءت الأخبار إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعزم الأحزاب على مهاجمة المدينة واستئصال المسلمين، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي - رضي الله عنه - بالبقاء في المدينة وأن يحفر خندقًا في الجهة الشمالية من المدينة وهي المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الأحزاب (¬4). وشرع المسلمون بحفر الخندق بجدٍ ونشاطٍ ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع في أثناء الحفر بعض دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: البشارة بفتح الشام، والبشارة بفتح فارس، ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيات 50 - 55. (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 147. (¬3) ابن سعد: الطبقات 2/ 66. (¬4) المرجع السابق 2/ 66؛ أكرم العمري، السيرة النبوية 2/ 420.

والبشارة بفتح اليمن، وكذلك تكثير الطعام القليل الذي لا يكفي أهل بيت واحد، فإِذ به يشبع جيشًا كاملًا (¬1). استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حشد ثلاثة آلاف مقاتل، وتم وضع النساء والذراري في أحد الحصون، فلما وصلت قريش والأحزاب فوجئوا بالخندق ومن خلفه المسلمون بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرروا حصار المدينة، ومراسلة يهود بني قريظة الذين كانوا داخل المدينة فمالت يهود بني قريظة إِلى الأحزاب (¬2). واشتعل النفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الموقف العصيب بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬3). وقد طال أمد الحصار، ونزل بالمسلمين من الكرب ما لا يعلمه إِلا الله، حتى أنهم شُغلوا عن أداء الصلاة في وقتها، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم وزلزلهم) (¬4)، فأرسل الله سبحانه وتعالى على الأحزاب جندًا من جنده لنصرة عباده الموحدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬5). ونزل الرعب في قلوب الأحزاب، وأصبح هَمُّ كلُّ واحد منهم العودةَ إِلى دياره، ¬

_ (¬1) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 456. (¬2) ابن سعد: الطبقات 2/ 67. (¬3) سورة الأحزاب، آية 10 - 11. (¬4) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 468، 467. (¬5) سورة الأحزاب، آية 9.

فانصرفوا مخذولين خائفين لم ينالوا شيئًا (¬1)، وعند ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبشرًا أصحابه رضوان الله عليهم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا، ونحن نسير إليهم) (¬2). ¬

_ (¬1) ابن سعد، الطبقات 2/ 71؛ البيهقي، دلائل النبوة 3/ 449 - 455. (¬2) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 467.

غزوة بني قريظة

غزوة بني قريظة بعد رحيل الأحزاب، وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاحه واغتسل، فجاءه جبريل -عليه السلام- وقال له: قد وضعت السلاح!، والله ما وضعناه، فاخرج. قال: فإِلى أين؟ قال: ها هنا، وأشار إِلى بني قريظة (¬1). وسبب ذلك أن بني قريظة ارتكبوا الخيانة العظمى، واتفقوا مع الأحزاب على الغدر بالمسلمين من الداخل، لكن الله خذلهم وكبتهم، فسار إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم، فنزلوا ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فجىء بسعد، وكان يعالج من جراحه فقال سعد: (فإِني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم) (¬2). فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قضيت فيهم بحكم الله) (¬3). دروس وعبر: 1 - الكفر ملة واحدة في كل زمان ومكان، ويظهر ذلك من تَحزُّب المشركين واليهود لحرب المسلمين، وأن ذلك هو ديدنهم في كل عصر، وهذا ما نعيشه اليوم من التحالف الدولي من الكفار ضد المسلمين ومصالحهم. 2 - أهمية الأخذ بالأسباب المادية في قتال الأعداء، مثل حفر الخندق، وأن الاستفادة مما لدى المشركين من أسباب مادية، يعد من الأمور المباحة ما لم يتعارض مع ثوابت الإِسلام، أو يكون سببًا لهدم الدين (¬4). 3 - على الداعية والقائد المطاع إِذا أمر بخير أن يكون أول المبادرين إِليه والمسهمين فيه، ويظهر ذلك من اشتراك الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في حفر الخندق (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري، المصدر نفسه 7/ 470. (¬2) المصدر نفسه 7/ 475. (¬3) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 94. (¬4) محمد البوطي، فقه السيرة 296. (¬5) زيد الزيد، فقه السيرة 499.

4 - الثقة بنصر الله، وأن جند الله هم الغالبون، رغم المخذلين والمرجفين، ويظهر ذلك من تبشير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بفتح الشام، وفارس، واليمن، وهم في تلك الحالة من الكرب العظيم، وفي ذلك تحذير للأمة من الخذلان والشك في نصر الله، والواجب على الدعاة تحذير الأمة من الخذلان، والعمل على تثبيت الناس في الشدائد التي قد تطيش فيها العقول (¬1). 5 - إِن أسباب انتصار المسلمين في غزوة الأحزاب هي نفسها التي كانت سببًا للنصر في غزوة بدر، ألا وهو التضرع إِلى الله، والإِقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، وإِخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، مع الأخذ بالأسباب والاستعداد بالمستطاع من القوة المادية (¬2). 6 - وجوب قضاء الصلاة الفائته، وهو ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عندما شغلهم الأحزاب عن الصلاة (¬3)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، وجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله ما صليتها. فنزلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بُطحان (¬4)، فتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب (¬5). 7 - جواز قتال من نقض العهد وخان الأمة (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه، 499، 500. (¬2) محمد البوطي، فقه السيرة 302. (¬3) محمود العيساوي: فقه الغزوات 320. (¬4) اسم وادي بالمدينة. (¬5) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 468. (¬6) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 92؛ محمد البوطي، فقه السيرة 307.

غزوة بني لحيان

8 - جواز تحكيم أهل العلم والعدالة والصلاح في أمور المسلمين ومهامهم العظام، وهذا مأخوذٌ من جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْر بني قريظة إِلى سعد بن معاذ - رضي الله عنه -. 9 - أن يهود بني قريظة عُوقبوا بجنس ما كانوا يريدون فعله بالمسلمين لو انتصر الأحزاب، وهذا الحكم موافق لما صرحت به توراتهم، في حق العدو المهزوم، ففي سفر التثنية، الإِصحاح 13، فقرة 13، 14: (وإذا دفعها الرب إِلهك إِلى يدك فاضرب جميع ذكورهم بالسيف، وأما النساء والأطفال والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إِلهك). وهكذا فإِن ما حكم به سعد - رضي الله عنه - لم يخرج عما حكمت به التوراة، وهم ليسوا أعداء مهزومين فحسب، بل خائنون غادرون، غير وافين بالعهد (¬1). وقد أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أنه موافق لحكم الله. غزوة بني لحيان في شهر جماد الأولى من السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغزو بني لحيان الذين غدروا بخبيب - رضي الله عنه - وأصحابه من القراء في السنة الرابعة من الهجرة، فلما وصل المسلمون ديار بني لحيان (قرب عسفان) وجدوهم قد حَذِرُوا المسلمين، وتفرقوا في رؤوس الجبال، فعاد عليه الصلاة والسلام إِلى المدينة (¬2). ومن فوائد هذه الغزوة: أن المسلمين لا ينسون شهداءهم الذين ضحوا في سبيل الدعوة إِلى الله، بل يثأرون لهم ولو بعد حين. ¬

_ (¬1) محمد أبو شهبة، السيرة النبوية 2/ 409. (¬2) ابن هشام، السيرة 2/ 186؛ أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة 2/ 318.

غزوة الغابة

غزوة الغابة وقعت في السنة السادسة من الهجرة، حيث أغار الأعراب على سرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا الإِبل وقتلوا راعيها، فطاردهم المسلمون حتى استنقذوها منهم، واضطروهم للهرب (¬1). ويظهر في إِصرار المسلمين على مطاردة الأعراب وتأديبهم الحرص على ترسيخ هيبْة الدولة الإِسلامية ومعاقبة كل من يعمل على الانتقاص من سيادة أمة الإِسلام. صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف وخمسمائة من أصحابه إِلى مكة معتمرًا، حيث أحرم وساق الهدي وأشعره، فلما علمت قريش بذلك تهيأت لحرب المسلمين وصدهم (¬2)، وحين بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك تفادى الصدام معهم وحَوّل طريقه عن مقاتليهم حتى وصل الحديبية، وبركت ناقته فقال الناس: خلأت القصواء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إِلا أعطيتهم إِياها) (¬3). ثم عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، فقامت قريش بإِرسال عدة رسل لمفاوضة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى انتهى الأمر إِلى سهيل بن عمرو الذي عقد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية نيابة عن قريش، وقد تم الاتفاق على البنود التالية (¬4): ¬

_ (¬1) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 526. والغابة: اسم مكان به أشجار الطرفاء وغيرها، شمال المدينة عند اجتماع أودية المدينة: قناة، وبطحان، والعقيق، ويسمى الوادي بعد اجتماعها بالخُلَيل -مصغرًا- انظر: البلادي، المعالم الجغرافية 223. (¬2) ابن هشام، السيرة 2/ 204. ومعنى أشهر الهدي: وضع علامة وشارة تدل عليه. (¬3) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 5/ 329. (¬4) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 211.

بيعة الرضوان

1 - تضع الحرب أوزارها بين المسلمين وقريش مدة عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. 2 - أنه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش بغير إِذن وليه يرده على قريش، ومن أتى قريشًا ممن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه. 3 - أنه من أحب أن يدخل في عقد محمَّد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه. 4 - أن يرجع المسلمون هذا العام دون أن يدخلوا مكة على أن يأتوها معتمرين العام القادم. بيعة الرضوان حصلت هذه البيعة في أثناء غزوة الحديبية وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أرسل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إِلى قريش ليستطلع أخبارهم، فأشيع أنه قد قتِل، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة إِلى قتال قريش انتصارًا لعثمان - رضي الله عنه - فبايعوه على مناجزة قريشٍ، وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة (¬1)، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬2). دروس وعبر: تضمنت صلح الحديبية حكمًا وفوائد جمة، قال عنها ابن القيم: هي أكبر وأجل من أن يحيط بها إِلا الله الذي أحكم أسبابها، فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده (¬3). ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 210، 213. محمد البوطي، فقه السيرة 319. (¬2) سورة الفتح، آية 18 - 19. (¬3) زاد المعاد 3/ 309.

ومن تلك الدروس والحكم: 1 - توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى مكة معتمرًا وهي بأيدي الكفار وتحت سلطانهم هو من باب السياسة الشرعية، ويعرف في السياسة المعاصرة بقلب الطاولة على العدو وإِحراجه في المفاوضات، فإِن قريشًا تدعي حماية البيت واحترام من جاءه حاجًا ومعتمرًا فكيف تصد المسلمين وهم جاءوا عمارًا؟ 2 - ذهب أكثر أهل العلم إِلى أن مقدار المدة التي تجوز بها مهادنة المشركين لا تزيد على عشر سنين، وتجدد إِن كان هناك ضرورة أو مصلحة عليا للأمة يراها الإِمام (¬1). 3 - في معارضة بعض الصحابة لصلح الحديبية في أول الأمر، نأخذ منه اتهام العقل أمام النصوص الشرعية، والحذر من معارضة نصوص الشرع بالعقل والرأي (¬2). 4 - من فوائد الصلح اعتراف قريش بالدولة الإِسلامية، حيث جلست معهم وعاملتهم معاملة الند للند (¬3). 5 - تحييد قريش وتوقيف الصراع معها، وتفرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدعوة، ومراسلة ملوك الأرض، وكذلك تفرغه - صلى الله عليه وسلم - لتصفية وكر التآمر اليهودي في خيبر (¬4). 6 - لقد كانت الحديبية ابتداء الفتح المبين على المسلمين، لما ترتب على الصلح الذي وقع بين الطرفين من الأمن ورفع الحرب، فتمكن من يخشى قريشًا من الدخول في الإِسلام الوصول إِلى المدينة، ثم تتابعت الأسباب إِلى أن كمل الفتح بفتح مكة (¬5). قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (¬6). ¬

_ (¬1) حافظ حكمي، مرويات غزوة الحديبية 283. (¬2) حافظ حكمي، مرويات غزوة الحديبية 301، زيد الزيد، فقه السيرة 539. (¬3) أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة 2/ 450. (¬4) زيد الزيد، فقه السيرة 544. (¬5) ابن حجر، فتح الباري 7/ 506. (¬6) سورة الفتح، آية 1.

غزوة خيبر

7 - فضل من شهد بيعة الرضوان، وفضل عثمان - رضي الله عنه - الذي حصلت لأجله تلك البيعة (¬1). غزوة خيبر بعد رجوع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من الحديبية إِلى المدينة، مكث فيها إلى دخول شهر محرم من السنة السابعة من الهجرة ثم خرج إِلى خيبر لتصفية وكر التآمر اليهودي الذي طالما حال الدسائس والمؤامرات على أمة الإِسلام. فخرج رسول الله ومعه الذين حضروا الحديبية من الصحابة متوجهين إِلى خيبر واستخدم - صلى الله عليه وسلم - خطتين: الأولى: المفاجأة للعدو، فما علمت اليهود إِلا وقد نزل بهم. الثانية: قطع الإِمداد عنهم، حيث أظهر أنه يريد غطفان، فخافت غطفان ولم تتمكن من إِمداد اليهود. ولما نزل بهم حاصرهم في حصونهم حتى تمكن من فتحها جميعًا عنوة، وقد قسم أرضها بين الفاتحين. (¬2) وتبع ذلك تسليم فدك من غير قتال، ثم غزا - صلى الله عليه وسلم - تيماء، ووادي القرى، وهي من مراكز تجمعاتهم، واستسلمت له، وبهذا تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القضاء على قواهم السياسية وإِن عاشوا في المجتمع المسلم أهل ذمة وعهد. وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر عمالًا في المزارع على شطر ما يخرج منها (¬3). وذلك لخبرتهم في الزراعة، ولما رأى فيه من المصلحة بعدم اشغال الصحابة بالزراعة مما يؤثر على تفرغهم للجهاد والدعوة، وكانت أرض خيبر خصبة غنية بالزراعة، ووفيرة الإِنتاج، تقول عائشة - رضي الله عنها -: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر (¬4). ¬

_ (¬1) زيد الزيد، فقه السيرة 545. (¬2) البخاري، صحيح البخاري مع الفتح 7/ 529؛ زيد الزيد، فقه السيرة 553. (¬3) البخاري، الصحيح ح 4248. (¬4) المصدر نفسه ح 4242.

دروس وعبر

ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر (¬1). وقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي بن أخطب حيث وقعت في الأسر فأعتقها - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها، فجعل عتاقها صداقها (¬2). وبنى بها في طريق عودته إِلى المدينة (¬3). وعند فتح خيبر قدم عليه جعفر بن أبي طالب عائدًا من هجرته إِلى الحبشة ومعه جمع من المهاجرين فيهم أبو موسى الأشعري وجماعته، وقد قسم لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة (¬4). وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - سواد بن غزية من بني عدي بن النجار أميرًا على خيبر (¬5). دروس وعبر: 1 - تأمين الحدود الشمالية لدولة الإِسلام من عدو طالما حاك المؤامرات والدسائس على الإِسلام والمسلمين. 2 - التفرغ للدعوة ونشر الإِسلام ومخاطبة ملوك الأرض. 3 - أخذ الحيطة والحذر من اليهود وعدم الاغترار والانخداع بهم، مع الحزم في التعامل معهم. 4 - أهمية المباغتة للعدو وحصاره وقطع الإمداد عنه. 5 - في هذه الغزوة وقعت بعض دلائل النبوة مثل، نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن الأكوع قبل استشهاده (¬6)، وتفله في عين علي - رضي الله عنه - لما أصابه الرمد فشفي مباشرة (¬7)، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ح 4243. (¬2) المصدر نفسه ح 4201. (¬3) المصدر نفسه ح 4211، 4212، 4213. (¬4) المصدر نفسه ح4230. (¬5) المصدر نفسه ح 4246، 4247، وانظر فتح الباري 7/ 496. (¬6) المصدر نفسه ح 4196. (¬7) المصدر نفسه ح 4210.

وإخبار ذراع الشاة المسمومة له أن بها سُمًا (¬1)، وكانت قد أهدتها له إِحدى نساء اليهود، وهي من دسائسهم وكيدهم. 6 - الحرص على هداية الناس إِلى دين الحق وإن كانوا أعداءً ومجرمين كما في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - عندما أعطاه الراية وقال له: أُنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إِلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ح 5777. (¬2) المصدر نفسه ح 4210.

الفصل الخامس: انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا

الفصل الخامس: انتشار الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا

الجهاد النبوي (المرحلة الثانية)

الجهاد النبوي (المرحلة الثانية) نشر الدعوة الإِسلامية: صلح الحديبية سماه الله فتحا مبينا، وقد ساد الأمن بين القبائل زمن الصلح، وانفتح الباب للدعوة إِلى الإِسلام، فقد تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمراسلة الملوك والزعماء في داخل الجزيرة العربية وخارجها، فأرسل إِلى هرقل عظيم الروم رسالة مع دحية الكلبي ورد نصها في الصحيح "بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد عبد الله ورسوله إِلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإِني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإِن توليت فإِن عليك إِثم الأريسيين (¬1). {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2) ومع الرد الحسن من هرقل إِلا أن حرصه على منصبه منعه أن يسلم. كذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة السهمي إلى ملك البحرين، ومن ثم أوصلها إِلى كسرى الذي غضب ومزق الرسالة (¬3)، وأرسل إِلى واليه على اليمن يأمره بإِرسال من يعتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصله إِليه. وبالفعل أرسل والي اليمن رجلين وصلا إِلى المدينة، فأخبرهما - صلى الله عليه وسلم - بأن ربه أهلك ربهما (¬4)، حيث استجاب الله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كسرى فوقعت ثورة قتل فيها، ثم ما زال أمرهم في نقص حتى تمزقت الدولة الفارسية وانمحت من الوجود فيما بعد في عهد الخلفاء الراشدين. ¬

_ (¬1) الأريسيون، الفلاحون والرعية. (¬2) البخاري ح 7 ومسلم ح 1773، والآية 64 من سورة آل عمران. (¬3) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4424. (¬4) الطبري، التاريخ 2/ 655 - 656. وقد حسن الألباني الخبر في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 389.

دروس وعبر

وممن راسله - صلى الله عليه وسلم - المقوقس ملك الإسكندرية الذي قابل الرسالة بالاحترام والتقدير الذي يليق بها، وأكرم حاملها حاطب بن أبي بلتعة ورده محملا بالهدايا مع أنه لم يسلم (¬1). وكذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - إِلى النجاشي أصحمه، وقد أسلم ومات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعاه إِلى الصحابة وصلى عليه صلاة الغائب، ثم راسل مَنْ خَلَفَه ولم يكن مسلما (¬2). أما ملوك الجزيرة العربية الذين راسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إِلى الإِسلام فمنهم: المنذر بن ساوى أمير البحرين، الذي أسلم فأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بلده. وهوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة أرسل له النبي - صلى الله عليه وسلم - سليط بن عمرو - رضي الله عنه - برسالة ولم يسلم. وملكا عمان جيفر وعمار ابنا الجلندي اللذان وصلهما العلاء بن الحضرمي فأسلما (¬3). دروس وعبر: 1 - الدلالة على عالمية الإِسلام. 2 - احترام وتقدير الزعامات بعبارات الاحترام والتفخيم اللائقة. 3 - انتشار الإِسلام في الجزيرة وخارجها حتى صار يُتحدث به، بل دخل فيه بعض الأفراد من خارج الجزيرة العربية. 4 - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزاوج في نشر الإِسلام والدعوة إِليه بين السلم والحرب بحسب مواقف الدول والقبائل من الدعوة، فيقدم عليه الصلاة والسلام الدعوة؛ لكن إِذا حصلت عقبة توجب المواجهة العسكرية فإِنه لا يتردد في المواجهة، كما في الغزوات التي وقعت بعد صلح الحديبية. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 4/ 216، وابن سعد، الطبقات الكبرى 1/ 260. (¬2) ابن حجر، فتح الباري 8/ 129. (¬3) ابن كثير، البداية والنهاية 4/ 273.

غزوة مؤتة

غزوة مؤتة وقعت في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وسميت غزوة خلافا لغيرها من السرايا بسبب كثرة عدد الجيش حيث بلغ ثلاثة الآف مقاتل، وتعدد الأمراء، وحصول القتال فيها. وسبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل من ضمن رسله إِلى ملوك الأَّرض وأمرائها، الحارث بن عمير الأزدي رسولًا إِلى ملك بُصْرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني واعتقله وضرب عنقه، فغضب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجهز جيشا أمّر عليه ثلاثة أمراء خلافا لسراياه، حيث جعل الأمير زيد بن حارثة، فإِن قُتِل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة (¬1)، وأرسل الجيش إِلى المكان الذي قُتِل فيه رسوله الحارث بن عمير، وأمرهم بدعوة من هناك إِلى الإِسلام، فإن أجابوا وإِلا قاتلوهم، وخرج مودعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، وقال لهم "اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم، إِنكم ستدخلون الشام وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيرا، ولا كبيرًا فانيا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناءً" (¬2)، وعندما وصل الخبر الروم جهز هرقل مائة ألف مقاتل، وتبعه مائة ألف أخرى من العرب، من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، فلما بلغ جيش المسلمين مَعّان تشاوروا في أمرهم وقالوا: نكتب إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا، فإِما أن يمدنا بالرجال، وإِما أن يأمرنا بأمره فنمضي، فشجعهم عبد الله بن رواحة قائلا: يا قوم إِن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إِلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإِنما هي إِحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد صدق والله عبد الله بن رواحة (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري حديث رقم 4261. (¬2) ابن عساكر، تاريخ دمشق 1/ 391 وانظر: بريك أبو مايله، غزوة مؤتة ص 269. (¬3) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 375.

وتحرك جيش المسلمين والتقى بالروم عند قرية مؤتة، وهناك دارت رحى معركة غير متكافئة في العَدد والعُدد، ولكن الله ثبت عباده ووفقهم، حيث أثخنوا في جيش العدو، قال خالد بن الوليد: انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف (¬1). فهذه الأسياف التي انقطعت في يده كم من الرقاب والدماء أزالت وأسالت؟ وقُتِل القائد الأول زيد بن حارثة برماح الأعداء، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فاقتحم عن فرسه ثم عقرها حتى لا يستفيد منها العدو، وثبت ثبات الأبطال حتى قطعت يده التي تحمل الراية، فأخذ الراية باليسرى؛ وظل يقاتل فقطعت أيضًا فحملها بعضديه فصرعه أحد الفرسان، وقد عوضه الله بجناحين يطير بهما في الجنة (¬2). وأخذ الراية عبد الله بن رواحة وتردد قليلًا ثم جالد الأعداء حتى سقط صريعا، ولما سقطت راية المسلمين حملها ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا قوم اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل. ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد فدفعها إِليه (¬3). وكان ذلك في آخر النهار، وقد بَرَد القتال، فاتخذ خالد خطة حربية محكمة حيث غير مواقع الجند، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدمة مؤخرة، والمؤخرة مقدمة، واختار عددًا من الفرسان وأمرهم بأن يثيروا الغبار فيظن العدو بأن هناك مددا قادما، فأوقع الله في قلوب الروم الرعب فانسحبوا وبذلك نصر الله جنده، ودليل النصر وهزيمه الكفار قوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم (¬4). ومع ما حصل من قتل القادة والشدة على جيش المسلمين إِلا أن عدد القتلى من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، ح 4017. (¬2) المصدر السابق ح 3709، 4264. (¬3) ابن هشام 2/ 379. (¬4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة ح رقم 4262.

دروس وعبر

المسلمين كان من القلة بمكان. قال ابن كثير: وهذا عظيم جدًا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف أخرى، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إِلا اثنا عشر رجلًا، وقد قتل من المشركين خلق كثير (¬1). دروس وعبر 1 - أن النصر ليس بالكثرة بل هو بالثبات والصبر وتقوى الله. 2 - قتل الرسل والسفراء جريمة من الجرائم الشنيعة في عرف العقلاء. 3 - ميزان التفاضل هو التقوى لا غير، ولذا وَلّى - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة مولاه وقَدّمه على ابن عمه الشريف القرشي، وابن رواحة الأنصاري. 4 - منزلة جعفر ومن معه من القادة وأنهم من أهل الجنة (¬2). 5 - خالد بن الوليد سيف من سيوف الله كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد وهبه الله عبقرية عسكرية نادرة. 6 - مؤتة أول لقاء بين المسلمين والروم، واكتسب المسلمون خبرة أفادتهم عند الفتوحات الإِسلامية لبلاد الشام. 7 - الوصية النبوية للجيش تمثل الرحمة وقمة الإِنسانية واحترام الإِنسان، فلا تدمير للممتلكات، ولا قتل للضعفاء والعجزة وغير المقاتلين. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 4/ 259. (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية 4/ 255.

فتح مكة المشرفة

فتح مكة المشرفة كان من شروط صلح الحديبية أن لكل قبيلة الحق في أن تتحالف مع من شاءت. فأعلنت خزاعة تحالفها مع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأعلنت بنو بكر تحالفها مع قريش، وكان بين هاتين القبيلتين ثارات جاهلية، وآخرها تمكن خزاعة من قتل أشراف بني كنانة من بني الأسود بن رَزْن الدِّيلي عند أنصاب الحرم من جهة عرفة، وقد حجز الإِسلام بينهم حتى كانت السنة الثامنة للهجرة حيث حانت فرصة لبني الأسود بن رَزن الديلي للأخذ بثأرهم، حين اجتمعت خزاعة على ماء يقال له الوتير (¬1) بأسفل مكة فهجدوهم ليلًا، وكان الأمر مباغتا لخزاعة فلم تستعد لقتال، ولذا فروا من المكان باتجاه الحرم، وحينما دخلوا حدود الحرم قال أناس من بني الديل لزعيمهم نوفل بن معاوية الديلي: إِلاهك، إِلاهك، فقال كلمة عظيمة: "لا إِله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم" فقاتلوا في الحرم وانتهكوا حرمته. وكان المفترض أن قريشا تمنع مثل هذا الاعتداء وتستنكره، ولكنها أعانت على خزاعة بالسلاح وقيل بل شارك بعضهم كسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية وغيرهما. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي إِلى المدينة ووقف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال منشدًا هذه الأبيات: يا رب إِني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتموا وُلدًا وبها والدا ... ثمة أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر، هداك الله، نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله، قد تجردا ... إِن سيم خسفا وجهه تربدا ¬

_ (¬1) الوتير: ماء في أسفل حي الكعكية الحالي بعد أنصاب الحرم. وقد هربوا منه جهة عرفه ثم دخلوا الحرم من هناك. انظر: عاتق البلادي، معجم معالم السيرة النبوية (ص 331).

إِن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو بن سالم. ونظر إِلى السماء فإِذا سحابُ فقال: إِن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب (¬1). وقد شعرت قريش بخطورة الأمر ولذا سار زعيمها أبو سفيان بن حرب إِلى المدينة مسرعا لاستجلاء الأوضاع، وقابل في الطريق بديل بن ورقاء الخزاعي في جماعة من خزاعة عند عسفان، فسأله: متى عهدكم بيثرب؟ فقال بديل: لا علم لنا بذلك، فعلم أنهم كتموا أمرهم، وحاول استجلاء الخبر فلم يصل إِلى شيء، وعند رحيلهم جاء مبرك نوقهم فوجد بعرها ففته فوجد نوى التمر فقال: أحلف بالله لقد جاء القوم محمدًا (¬2) وعندما وصل المدينة اتجه لابنته أم حبيبة أم المؤمنين ودخل عليها وعندما هَمّ بالجلوس طوت الفراش عنه فقال: "يا بنية أراغبة بالفراش عني؟ أم بي عنه؟ " فأجابته: "بل به عنك، لأنه فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنت رجل مشرك، نجس". فغضب منها، وقال: "والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر". فقالت: "لا والله بل خير" (¬3). وحاول تجديد العقد (¬4) ولكنه فشل في ذلك حيث حاول مع أبي بكر أن يكلم رسول الله فقال: ما أنا بفاعل. ثم سار إِلى عمر فقال له عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله؟ والله لو لم أجد إِلا الذر لجاهدتكم به. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 294. (¬2) الواقدي، المغازي 2/ 792، الصالحي، سبل الهدى والرشاد 5/ 206. (¬3) ابن هشام، السيرة 2/ 296 والذهبي، المغازي 254. (¬4) في رواية أنه قال: يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو لذلك قدمت؟ هل كان من حدثٍ قبلكم؟ قال: معاذ الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فنحن على عهدنا وصلحنا.

وأخيرا انتهى إِلى أن قام بالمسجد قائلا -أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيها الناس إِني قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة" وهذا عدم إِقرار لكلامه ورد له. ثم عاد إِلى مكة وأخبر قريشًا الخبر، فقالت: ما فعلت شيئًا (¬1). وحرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند التجهز إِخفاء أمره حتى يباغت قريشًا فلا تستعد للقتال حتى لا يحصل بمكة قتال لتعظيم الله ورسوله لها. ولكن حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - كتب لقريش يخبرهم بعزم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير إِليهم، وأخبر الله رسوله بخبر الرسالة، وأنها مع امرأة في روضة خاخ (¬2)، فبعث عليا، والمقداد، والزبير بن العوام، فلما طلبوا منها الكتاب أنكرت فقال علي: إِني أحلف بالله ما كَذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا كُذب ولتخرجن الكتاب أو لنكشفنك. فقالت: أعرضوا، وحَلّت قرون رأسها واستخرجت الكتاب، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطبا، وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله. إِني أمروء ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليه، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنه قد صدقكم. فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإِن الرجل قد نافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما يدريك يا عمر أن الله عَزَّ وجَلَّ اطلع على أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (¬3). ¬

_ (¬1) قال أكرم العمري: الخبر عند ابن حجر في المطالب العالية من مرسل محمد بن عباد بن جعفر بإِسناد إِليه صحيح. (¬2) روضة خاخ: موضع بقرب حمراء الأسد جنوب المدينة وهي من حدود وادى العقيق. محمَّد شراب، المعالم الأثيرة ص 107. (¬3) صحيح البخاري ح رقم 3007.

وقد مَوّه - صلى الله عليه وسلم - كعادته في الخروج للغزو فأرسل أبا قتادة بن ربعي إِلى بطن إِضم (¬1)، ليظن الظان أنه متوجه صوب تلك المنطقة، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العاشر من رمضان بعد العصر وخَيرّ الناس بين الصوم والفطر، وسار حتى كان بالعرج (¬2)، وهو صائم فصب على رأسه ووجهه الماء من العطش، وعند الجحفه لقيه عمه العباس مسلمًا مهاجرًا بأهله، فأرسل أهله إِلى المدينة وسار هو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولما بلغ قديدًا (¬3) لقيته سُليم، وعقد الألوية والرايات ودفعها للقبائل في قديد. وكان قد لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله ابن أبي أمية بن المغيرة بنيق العقاب (¬4). فردهما فتوجهت لهم أم المؤمنين أم سلمة وقالت: لا يكون ابن عمك وصهرك أشقى الناس بك، فقبلهما وأسلما (¬5)، وعندما بلغ الكديد (¬6) أفطر وقت العصر وهو على دابته حتى يراه الناس، وبقي مفطرًا حتى آخر الشهر (¬7). ¬

_ (¬1) قال عاتق البلادي في معجم المعالم الجغرافية ص 29، إِضم، هو وادي المدينة إِذا اجتمعت أوديتها الثلاثة -بطحان وقناة والعقيق- بين أحد والشرثاء يسمى الوادي "الخُليل" إِلى أن يتجاوز كتانة التي يذكرها "كُثيِّر" -وهي غير كتانة غيقة- فيسمى الوادي "وادي الحمض" إِلى أن يصب في البحر بين الوجه وأملج. هذه أسماؤه اليوم، أما اسمه قديما، فكان يسمى إِضمًا منذ اجتماع تلك الروافد إِلى أن يصب في البحر. (¬2) العرج: وادي من أودية الحجاز يمر به طريق الحاج وهو على بعد 113 كم من المدينة، المرجع السابق ص 203. (¬3) قديد: بضم القاف وفتح الدال المهمله وهو من أودية الحجاز التهامية يأخذ مياهه من حرة ذرة، ويسمى أعلاه وادي ستارة، ويقطعه طريق المدينة عند الكيلو 120، ويصب في البحر عند بلدة القضيمة (المرجع السابق ص 249). (¬4) نيق العقاب موضع قرب الجحفة. معجم البلدان 5/ 333. (¬5) ابن هشام 2/ 400. (¬6) الكديد: بفتح الكاف وكسر الدال، يقع بين عسفان وخليص على مسافة 90 كم من مكة (البلادي المرجع السابق) (¬7) صحيح البخاري، كتاب الصوم ح1944، 1948.

وعسكر جيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مر الظهران (¬1)، وأمر الناس بإِيقاد النيران، واستأذن العباس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بغلته لعله يجد أحدًا من الحطَّابة أو غيرهم حتى يُبلِّغوا أهل مكة بالسارعة إِلى لقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطلبوا الأمان، فسار على بغلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإِذا بصوت أبي سفيان يحادث بُديل بن ورقاء قائلا: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرا!. فقال بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. فقال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، وهنا سمع العباس الصوت وعرفه. فقال: يا أبا حنظلة، فقال: لبيك يا أبا الفضل. فقال العباس: ويلك هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرة الآف، فقال: واصباح قريش والله، بأبي أنت وأمي فما تأمرني هل من حيلة؟ قال: نعم اركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستأمنه لك. فحمله العباس وسار وكلما مر بنار، قال الناس: من هذا؟ حتى مر بنار عمر بن الخطاب فعرفه عمر فقال: أي عدو الله!! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد فأسرع العباس يركض البغلة حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وقبل أن يتكلم وإِذا بعمر يقول: يا رسول الله: هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى فلأضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله إِني قد أجرته، ولكن عمر كان يلح، فغضب العباس وقال: مهلًا ياعمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإِسلامك يوم أسلمت كان أحب إِلي من إِسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إِلا أني قد عرفت أن إِسلامك كان أحب إِلى رسول الله من إِسلام الخطاب لو أسلم (¬2). واستأذن العباس بأن يأخذ أبا سفيان في رَحْلِه، وفي الصباح جاء به إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وأوقفه العباس بأمر ¬

_ (¬1) بلدة الجموم اليوم. (¬2) ابن هشام، المصدر نفسه 2/ 403 وابن أبي شيبة 14/ 475، الصالحين، سبل الهدى 5/ 216.

رسول الله في عرجة الوادي حتى يرى قوة جيش المسلمين وسارت أمامه الكتائب حتى مَرّ به سعد بن عبادة فقال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، فاشتكى أبو سفيان للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل اليوم تعظم الكعبة، اليوم أعز الله قريشًا، وعزل سعدًا وولى ابنه قيس (¬1). وقال أبو سفيان للعباس: لقد عظم ملك ابن أخيك اليوم، فقال العباس: إِنها النبوة. قال: نعم. وأعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - سفيان فضلا وشرفًا حيث قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن (¬2). وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش إِلى كتائب: منها كتيبة عليها الزبير وأمرها أن تدخل مكة من كَداء (الحجون). وكتيبة يقودها خالد بن الوليد وأمرها أن تدخل مكة من أسفلها من كُدَى (جبل الكعبة). وقد جمع بعض زعماء مكة قوة صغيرة عليها عكرمة، وصفوان، وسهيل، عند جبل خندمه، ومعهم شاب يقال له حماس بن قيس، رأته امرأته يصلح سلاحه فقالت: لمن تفعل هذا؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إِني والله أرى أني سأخدمك بعض أصحابه، فخرج وبعد وقت ليس بالطويل عاد وَجِلًا خائفا، وأغلق الباب، وقال لامرأته: أحكمي غلق الباب. قالت: أين الخدم؟ فقال: إِنك لو شهدت يوم الحندمه ... إِذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربًا فلا يُسمع إِلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمة (¬3) ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 2/ 402. (¬2) ابن هشام المصدر نفسه 2/ 405. (¬3) ابن هشام المصدر نفسه 2/ 408، والصالحين، سبل الهدى 5/ 229.

ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذاخر (ريع ذاخر) ورأى السيوف تلمع فقال: ما هذا ألم أنه عن القتال؟ فقالوا: يا رسول الله، خالد بن الوليد قوتل ولو لم يُقَاتل ما قَاتَل، وما كان يا رسول الله ليعصيك، ولا ليخالف أمرك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قضاء خير. ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مكة ومن تواضعه وشكره لله على نعمته أن فتح الله عليه البلد الحرام، كانت لحيته تكاد تمس رحله. وسار حتى وصل البيت الحرام وفي يده قوس فصار كلما مر بصنم أشار إِليه وطعنه في عينيه؛ والأصنام تتساقط وهي ثلاثمائة وستون صنمًا وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬1). ثم دخل دار أم هانيء بنت أبي طالب فقدمت له كسر خبز يابس فكسرهن بالماء والخل، وصلى في دارها ثماني ركعات (¬2). قال بعض العلماء إِنها صلاة الشكر وقد فعلها سعد بن أبي وقاص يوم دخل المدائن، وقال بعضهم بل هي صلاة الضحى. وكان قد أمر برجال ونساء أن يقتلوا أينما وجدوا، منهم: عبد الله بن خطل، وجد متعلقا بأستار الكعبة فَقُتِل وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية وقد فَرّا بعد الهزيمة جهة اليمن كل على حده، فأسلمت أم حكيم امرأة عكرمة، وطلبت الآمان لزوجها، فوهبه لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلحقت به حتى أعادته إِلى مكة، واستقبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى أصحابه قائلا: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه فإِن سب الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت (¬3). ولما أقبل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: مرحبا بالراكب المهاجر. ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: 81. (¬2) صلاته ثابتة في صحيح البخاري ح رقم 4292. (¬3) الصالحي، سبل الهدى 5/ 253.

وأما صفوان فطلب صاحبه عمير بن وهب الجمحي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمنه شهرين، وسار عمير حتى لحق به، وأخبره الخبر، وعاد صفوان ولا زال الخوف والوجل في قلبه فلما وقف على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صلى بالناس العصر في المسجد، قال له صائحًا: يا محمد، إِن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إِلى القدوم عليك، فإِن رضيتُ أمرًا وإِلا سيرتني شهرين، فقال: إِنزل أبا وهب، قال: لا والله حتى تبين لي، قال: بل لك تسيير أربعة أشهر، فنزل صفوان (¬1). وكان ممن أهدر دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح وكان قد أسلم ثم ارتد. وجاء به أخوه من الرضاعة عثمان بن عفان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جماعة، وصار يستشفع له ويطلب الصفح عنه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم، حتى طال الوقت فأعطاه الآمان، فخرج مع عثمان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما فيكم رجلٌ رشيد يقوم إِلى هذا حين رأى أني قد صَمَتُّ فيقتله. فقالوا: يا رسول الله، هَلّا أومأت إِلينا بم فقال: إِنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين (¬2). وأمر - صلى الله عليه وسلم - بلالًا أن يصعد على الكعبة ليؤذن لصلاة الظهر؛ وليغيظ المشركين، وبالفعل حصل هذا فقال أحدهم: لقد أكرم الله أبي أن لا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه، وقال الآخر: أما والله لو أعلم أنه مُحِقّ لاتبعته. وقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصاة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد علمت الذي قلتم" (¬3) وخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمكة خطبة عظيمة أبانت عن كرم خلقه وحلمه وعفوه وتجاوزه، حيث قال فيها: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا أخ كريم وابن ¬

_ (¬1) الصالحي، سبل الهدى 5/ 254. (¬2) الحديث في صحيح سنن أبي داود ح (2334). (¬3) الواقدي، المغازي 2/ 846، الصالحي، سبل الهدى والرشاد 5/ 373.

أخ كريم وقد قَدِرْتَ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فإِني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء" (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ مفتاح الكعبة فدخلها بعد أن طُهِّرت من الصور التي بداخلها وكَبّر في نواحيها وصلى ركعتين، ثم سَلّم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة وقال له: خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إِلا ظالم (¬2). وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - السرايا لهدم الأصنام ودعوة القبائل المحيطة بمكة، فأرسل خالد بن الوليد لهدم العزى، وخالد بن سعيد بن العاص إلى عُرَنه، وهشام بن العاص قِبَل يلملم، وسعد بن زيد الأشهلي إِلى مناة الطاغية عند المشلّل من قديد، وعمرو بن العاص إِلى رهاط لهدم الصنم سواع. وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة ليلة يقصر فيها الصلاة (¬3). وفي البخاري روايتان: الأولى، عن أنس: أنهم أقاموا عشرًا، والثانية، عن ابن عباس: تسع عشرة ليلة (¬4). وقد رتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمور مكة فعين عليها عتاب بن أسيد أميرًا عندما خرج إِلى حنين، كما عين أبا محذورة مؤذنًا للمسجد الحرام، وأمر معاذ بن جبل بتعليم الناس السنن والفقه والتدريس في المسجد الحرام، وأضاف معه بعد رجوعه من الطائف أبا موسى الأشعري. ¬

_ (¬1) المسند 2/ 11 و 3/ 410 بإِسناد ضعيف، ولم يثبت لفظ الطلقاء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن ورد لفظ الطلقاء في صحيح البخاري ح رقم 4333 ومسلم ح رقم 1809 وصفًا لمسلمة الفتح، وهو ليس وصف تحقير، وإنما هو بيان واقع وحال. (¬2) ابن سعد، الطبقات الكبرى 2/ 137، وهو عند الصالحي في سبل الهدى 5/ 367. (¬3) ابن هشام السيرة النبوية 2/ 437. (¬4) رقم 4297 و 4298 على التوالي.

دروس وعبر

وبعث تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم (¬1). وخطب - صلى الله عليه وسلم - في الناس موضحا حرمة مكة، وقال: إِن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وقد أذن الله له بالقتال فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كما كانت (¬2). دروس وعبر: 1 - كان فتح مكة من أهم الإِنجازات التي قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت قريش تمثل القيادة للعرب وبسقوطها سقطت بقية البلاد بسهولة، فقد روى البخاري عن عمرو بن سلمة قال: كانت العرب تتلوم بإِسلامها الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإِنه إِن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح؛ بادر كل قوم بإِسلامهم، وبدر أبي قومه بإِسلامهم (¬3). 2 - حرمة مكة وتأكيد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم - على ذلك بفعله وقوله. 3 - تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند دخوله مكة فاتحًا وهذه من أخلاق الأنبياء. 4 - العصببية والتفاخر باللون والنسب من سمات أهل الجاهلية. 5 - قوة إِيمان عمر - رضي الله عنه - حيث يقدم ما يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما تحبه نفسه. 6 - تحطيم الأصنام التي حول الكعبة وطمس الصور التي على جدرانها، وإِزالة الأصنام الكبار حول مكة مثل العزى، وسواع، ومناة، مما أزال عن الناس الرهبة والخوف من تلك الأصنام الذي سيطر على قلوبهم زمنًا طويلًا مما جعلهم يدخلون في دين الله أفواجًا. ¬

_ (¬1) ابن سعد، الطبقات الكبرى 2/ 137. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المغازى ح 4313. (¬3) المصدر نفسه ح 4302.

غزوة حنين

غزوة حنين لما علمت هوازن بدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وفتحها صارت تجمع القبائل استعدادًا للحرب، للمبادرة قبل أن يغزوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمع لها من القبائل، ثقيف، ونصر، وجشم كلها، وسعد بن بكر، وغيرهم. وغاب عنها من هوازن فرعا كعب وكلاب. وقادهم شاب في الثلاثين من عمره هو مالك بن عوف النصري. وكان في جشم دُريد بن الصِّمة وهو يومئذ ابن ستين ومائة، وهو شيخ قد عمي، ليس فيه إِلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجرِّبا. واجتمع الناس بأوطاس (¬1)، فسمع دريد الأصوات فسأل: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نِعمَ مجال الخيل، لا حَزْن ولا ضَرْس، ولا سَهْل دهِس، ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وخوار البقر؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم، فاستدعى مالكًا واستنكر عليه إِحضار الأموال والذرية، فقال مالك: أردت أن أجعل خلف كل إِنسان أهله وماله يقاتل عنهم؛ فانقض (¬2) به، وقال: راعي ضأن والله، ما له وللحرب، ثم قال: هل يرد المنهزم شيء؟ إِنها إِن كانت لك لم ينفعك إِلا رجل بسيفه ورمحه، وإِن كانت عليك فُضِحت في أهلك ومالك. وأصر مالك على رأيه وهدد بقتل نفسه إِن لم تطعه القبائل، فأطاعوه فقال دريد بن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع ¬

_ (¬1) سهل يقع على طريق الحاج العراقي شمال بلدة عشيرة: البلادي، مصدر سابق ص 34. (¬2) أي زجره زجرًا شديدًا.

وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ليتأكد من جمعهم وخروجهم، واستطاع - رضي الله عنه - الدخول فيهم، فرجع وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخبر، وقد احتاج - صلى الله عليه وسلم - سلاحًا فاستعار من صفوان بن أمية أدرعا، وقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نردها إِليك. فأعطاهم مائة درع، وحملها لهم (¬1)، واستعار - صلى الله عليه وسلم - من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة الآف رمح (¬2). وخرج رسول الله في عشرة الآف قدموا معه من المدينة وما حولها، وألفان ممن أسلم بمكة وذلك في شوال من السنة الثامنة. ومر بمن معه على شجرة يعظمها أهل الجاهلية تسمى ذات أنواط (¬3) يعلقون بها أسلحتهم، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، فقال بعض حدثاء الإِسلام: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬4) إِنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم (¬5). وقال بعض من خرج في جيش المسلمين: لن نغلب اليوم من قِلّة؛ إِعجابا بكثرتهم، فأنزل الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) ابن هشام 4/ 84. (¬2) ابن عبد البر، الاستيعاب 1/ 385 والإِصابة 3/ 321. (¬3) ذات أنواط: شجرة سدر عظيمة، يأتونها في الجاهلية ويعلقون بها أسلحتهم، وقيل يعلقون بها أرديتهم قبل دخولهم الحرم تعظيما للبيت، وهي قريبة من مكة. محمد شراب، المعالم الأثيرة ص 23. (¬4) سورة الأعراف، آية 138. (¬5) السيرة النبوية 4/ 86 بإسناد صحيح، ورواه الترمذي في السنن، كتاب الفتن، ح 2180 وقال: حسن صحيح. (¬6) سورة التوبة، آية 25.

وتقدم المشركون من سهل أوطاس نحو مكة، والتقى الجيشان في وادي حنين (¬1) -وهو وادي أجرد حطوط ذو شعاب ومضايق- وكان قائد المشركين قد عبأ أصحابه من آخر الليل وفرقهم في الشعاب، وأوعز إِليهم أن يحملوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حملة واحدة. ورتب - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وصفهم صفوفا بالسَّحَر، ثم ساروا في الوادي في عَماية الصبح (¬2) فما راع الناس إِلا الكتائب تشد عليهم شدة رجل واحد، فانكشفت مقدمة جيش المسلمين؛ فولوا الأدبار، وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على أحد، وارتفع الغبار، وانحاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ثم قال: أيها الناس هلم إِليّ، هلم إِلي أنا رسول الله، أنا محمَّد بن عبد الله. وأمر العباس أن ينادي بصوته الجهوري: يا أهل السمرة، يا أهل سورة البقرة وآل عمران، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته تجاه العدو وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب (¬3)، ولما رأى بعض أهل مكة الهزيمة تكلموا وقالوا: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر، وقال أحدهم: ألا بَطَل السحر اليوم. فقال صفوان بن أمية وهو مشرك يومئذ: اسكت فظ الله فاك، والله لئن يَربّني رجل من قريش أحب إِلي من أن يربني رجل من هوازن (¬4). وصار من يسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصوت العباس يُردِّد، ومن يسمع وهو منهزم يعود سريعا، حتى إِن بعضهم نزل عن دابته خشية أن يتأخر في الاستجابة، ومن بقي على دابته ما عاد إِلا وقد انتهى الأمر وهزم الله المشركين، فمنهم من فرّ، ومنهم من قُتِل، ومنهم من كُتِّف وأُسِرَ، وجيء بالنساء والإِبل والغنم والبقر والأموال. ¬

_ (¬1) هو وادي الشرائع العليا -شرائع النخل- وأعلاه يسمى الصدر، والخبر أخرجه البيهقي في "الدلائل" 5/ 124 من طريق يونس بن بكير. (¬2) عماية الصبح: أي ظلمته وغلسه قبل انتشار النور. (¬3) متفق عليه؛ صحيح البخاري ح 2864، ومسلم ح 1776. (¬4) ابن هشام، السيرة النبوية 4/ 87.

وكان - صلى الله عليه وسلم - قد تعرض لمحاولة اغتيال من قبل شيبة بن عثمان (¬1)، فقد استغل ارتداد مقدمة جيش المسلمين أمام هوازن فقال في نفسه: اليوم أدرك ثأري، وكان أبوه قتل يوم أحد مشركًا، فاقترب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت إِليه وقال: يا شيب ادن مني، قال شيبة: فدنوت منه، فوضع يده على صدري، وقال: اللهم أذهب عنه الشيطان، فرفعت إِليه رأسي وهو أحب إِلي من سمعي وبصري وقلبي (¬2). وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عمه العباس، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في ثمانين رجلًا من المهاجرين والأنصار. ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قتال الناس فقال: هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد (¬3). وأمد الله رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة ونزول الملائكة. وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (¬4). وجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم وأمر بها أن توضع بالجعرانة (¬5) وبقيت بها حتى عاد من الطائف. وكان السبي ستة آلاف رأس، والإِبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة. وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري. ولما انهزمت هوازن انقسمت فرقتين؛ فرقة رجعت إِلى أوطاس، والأخرى ذهبت إِلى الطائف، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سرية بقيادة أبي عامر الأشعري لمطاردة فلول هوازن بأوطاس فقاتلهم، وقُتل - رضي الله عنه - فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن أخيه فقاتلهم ففتح الله على يديه وهزمهم (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه. (¬2) البيهقي، دلائل النبوة 5/ 145، وانظر الصالحي سبل الهدى 5/ 320 - 321. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الجهاد ح 1775. (¬4) الآية 26 من سورة التوبة. وانظر: تفسير ابن كثير 4/ 128. (¬5) الجعرانة: بلدة معروفة تقع شمال مخططات الشرائع وهي من الحل، وبها مسجد يحرم منه بعض الحجاج بالعمرة. (¬6) الذهبي، المغازي ص 589. وانظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، ح رقم 4323.

غزوة الطائف وحصارها

غزوة الطائف وحصارها وسار - صلى الله عليه وسلم - من حنين إِلى الطائف على طريق نخلة اليمانية، ثم على قرن المنازل، وسلك على المليح (¬1)، ثم على بحرة الرغاء، حيث التف على الطائف حتى خرج عليها من جنوبها جهة لِيه (¬2). وهدم حصن مالك بن عوف في لِيّة، ووصل الطائف وحاصرها، وعسكر بجيشه قرب حصنهم فآذتهم السهام والسكك المحمية بالنار، حتى أن أبا سفيان بن حرب أصيبت عينه فجاء بها في يده، فخيره بها أو بمثلها في الجنة، فاختار ما في الجنة ورمى بعينه (¬3)، فابتعد - صلى الله عليه وسلم - عن الحصين ودعاهم إِلى المبارزة فلم يخرج منهم أحد، ودعا الموالي للخروج ومن خرج فهو حر، فأتاه بضعة عشر، وقيل: ثلاثة وعشرون، منهم أبو بكرة نفيع بن الحارث بن مسروح الثقفي، وسمي بذلك لأنه تَدلىّ من الحصين ببكرة (¬4). واستخدم رسول الله في حصار الطائف أسلحة يستخدمها لأول مرة، مثل المنجنيق التي أشار بها سلمان الفارسي، وكذلك حاول اقتحام الحصن بما يسمى بالدبابة وهي عبارة عن ما يشبه الصندوق الخشبي مغلق من ثلاث جهات ومغطى من الأعلى بالخشب أو الجلد يحمله الجند ويسيرون إِلى الحصين في محاولة لإِحداث ثغرة فيه، ولكن أهل الطائف أرسلوا عليهم سكك الحديد المحماة بالنار، ففر من تحت الحصون، فرموهم بالنبل فَقُتِل من قُتِل منهم، ولما طال الحصار أمر - صلى الله عليه وسلم - بقطع أعنابهم وتحريقها وهي أحد مصادر رزقهم. فسألوه الله والرحم أن يدعها لهم فتركها. ¬

_ (¬1) المُلَيح: وادٍ يصب في وادي قرن من الشرق وأعلاه يسمى السيل الصغير (البلادي، معجم المعالم ص 254). (¬2) ليه: بكسر اللام وتشديد الياء، وادي من أودية الطائف يسير من السراة ويمر جنوب الطائف ويدفع في سهل ركبه شرق الطائف (المصدر السابق ص 274 وبحرة الرغاء في طرف لِيّة من الجنوب والمراد المكان المتسع (الصدر نفسه ص 254). (¬3) انظر الإصابة 2/ 279، والسيوطي، الخصائص الكبرى 2/ 92. (¬4) قصة أبي بكرة في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، ح 4371.

تقسيم غنائم حنين

ثم إِنه - صلى الله عليه وسلم - عزم على تركهم والعودة إِلى مكة، وقال له نوفل بن معاوية الديلي لما استشاره: يا رسول الله، ثعلب في جُحر إِن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك (¬1). وبعد حصار استمر ما يقارب الشهر أعلن عزمه على الرحيل، فشق ذلك على أفراد من الجيش وقالوا: لا نبرح أو نفتحها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فاغدوا على القتال، قال: فغدوا فقاتلوهم قتالًا شديدًا وكثر فيهم الجراحات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنا قافلون غدًا إِن شاء الله، فسكتوا، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ثم أمر عمر أن ينادي بالرحيل فلما ركب - صلى الله عليه وسلم - دعا لثقيف قائلا: اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم (¬3). تقسيم غنائم حنين عاد - صلى الله عليه وسلم - من الطائف إِلى الجعرانة ثم بدأ في توزيع الغنائم وكان يعطي زعماء مكة، وزعماء القبائل ويجزل لهم في ذلك، يتألفهم على الإِسلام، فأعطى أبو سفيان بن حرب أربعين أوقية من الفضة، ومائة من الإِبل، وأعطى إِبنيه يزيد، ومعاوية، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، وسالمتك فنعم المسالم أنت، هذا غاية الكرم جزاك الله خيرًا (¬4). وأعطى حكيم بن حزام مائة، ثم سأله فأعطاه مائة أخرى، ثم سأله فأعطاه مائة، وقال له: يا حكيم، هذا المال خَضِرة حلوة من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإِشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد ¬

_ (¬1) ابن كثير، السيرة 3/ 662 والصالحي، سبل الهدى 5/ 387. (¬2) البخاري، ح 4325، 6068. (¬3) ابن كثير، المصدر السابق 3/ 663 والحديث أخرجه الترمذي بلفظ (اللهم أهد ثقيفًا) سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة ح 3937 وقال: صحيح غريب. (¬4) الواقدي، المغازي 1/ 944، أبو نعيم الأصبهاني، معرفة الصحابة 10/ 493.

السفلى، فيقال: فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها، وقال حكيم: والله يا رسول الله، والذي بعثك بالحق نبيا لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئًا، وكذلك رفض العطاء من عمر (¬1). وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأقرع بن حابس مائة من الإِبل، وأعطى عيينة بن حصن بن بدر مثله، وأعطى العباس بن مرداس السلمي أربعين، فقال شعرًا يعاتب الرسول في نقص عطائه عمن سبقه: أتجعل نَهْبي ونَهْبَ العُبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع؟ فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنتُ دون امرئ منهما ... وهن تخفض اليوم لا يُرفع فأكمل له المائة (¬2). وكان صفوان بن أمية ينظر إِلى شعب مملوء فيه غنم وإبل ورعاؤها، فأعجب صفوان وجعل ينظر إِليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب؟ قال: نعم. قال: هو لك بما فيه. فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله ما طابت بهذا نفس أحد قط إِلا نبي (¬3). ووقع في نفوس الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الناس ويوزع الغنائم ويدعهم، خاصة أنه يعطي من أسلم حديثا، أو من لم يسلم بعد، أما هم فلم يُعط أحدٌ منهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ح 1472. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة ح 1060، 137، وانظر: ابن هشام، السيرة 4/ 133. (¬3) الواقدي في المغازي 3/ 946 وفي صحيح مسلم، أن رسول الله أعطى صفوان مائة من النعم ثم مائة ثم مائة (ح 2313).

بعيرًا ولا شاة، حتى كثر فيهم الحديث، وقال قائلهم: يغفر الله لرسول الله، إِن هذا لهو العجب؛ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إِذا كانت شديدةٌ فنحن نُدْعَى ويعطى الغنيمةَ غيرُنا؟ وددنا أن نعلم ممن كان هذا، فإِن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعتبناه (¬1). وجاءه سعد بن عبادة فأخبره الخبر، وأن الأنصار وجدوا في أنفسهم من توزيع الغنائم حيث يعطي زعماء بعضهم لم يسلم بعد، وبعضهم أسلم قريبا، ويترك الأنصار، فأمر بجمعهم في مكان وخطب فيهم قائلا: أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله؟ فقالوا: رضينا يا رسول الله. فقال: أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا أسلموا، ووكلتكم إِلى ما قسم الله لكم من الإِسلام، فوالله لمن تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكتِ الأنصار شعبا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار (¬2). وفي لفظ لابن إِسحاق قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربًا ورسوله قَسْمًا (¬3). وفي حنين اعترض ذو الخويصرة التميمي الأعرابي الجافي على قسمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قائلا: يا محمَّد اعدل. فغضب - صلى الله عليه وسلم - وتغير وجهه وقال: ويحك إِذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) البخاري ح 3147 و 4337. (¬2) البخاري ح 3146 و 4331. (¬3) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 138 وابن كثير، السيرة النبوية 3/ 379 وقال: رواه أحمد من حديث ابن إِسحاق، وهو صحيح.

دعه يا عمر فإِن له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أعلن أن من جاء من هوازن مسلما رَدّ إِليه ماله وأهله، وانتظر بضع عشرة ليلة، ثم وزع الغنائم فجاء من جاء منهم بعد توزيع الغنائم، وقالوا: يا رسول الله، إِنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا مَنّ الله عليك يا رسول الله، وإِن ما في الحظائر من السبايا عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما علينا، وأنت خير المكفولين (¬2). فخيرهم بين أهلهم أو أموالهم. فاختاروا الأهل فقال: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وعندما سمع الناس ذلك ردوا ما معهم إِلا ما كان من عيينة بن حصن الذي وقعت في سهمه عجوز، فأبى ردها حتى وعَدِ بست من الإِبل. ومن اهتمامه -عليه السلام- بالقادة أنه سأل عن مالك بن عوف فقالوا بحصن الطائف، فقال: أخبروه إِنه إِن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإِبل. وعندما سمع بذلك أسرع ليلا حتى لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإِبل فحسن إِسلامه (¬3). وبعد فراغه من أمر الغنائم أحرم - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة من الجعرانة فأداها ليلًا، ثم عاد وبات بالجعرانة. ثم عاد إِلى المدينة، وسلك على وادي سَرِف، ثم على مَرّ الظهران (الجموم) ولحق به في الطريق أحد الزعماء الكبار لثقيف عروة بن مسعود، فأسلم، وعاد إِلى الطائف فقتلته ثقيف. ¬

_ (¬1) ابن هشام، المصدر السابق 3/ 136 وأصل الخبر في الصحيحين، وانظر: الصالحي، سبل الهدى 5/ 405. (¬2) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 128 ومعنى ملحنا: أي أرضعنا، وانظر: الصالحي، سبل الهدى 5/ 390 - 391. (¬3) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 130 والصالحي، سبل الهدى 5/ 406.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - الحذر من الغرور والفرح بالكثرة، وأن النصر من الله سبحانه وتعالى. 2 - شجاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثباته، عندما انكشف عنه الناس. 3 - أهمية التوحيد والتعلق بالله وحده. 4 - زهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا وأموالها، فلم يأخذ من غنائم حنين شيئًا مع كثرتها. 5 - الرحمة من سمات أهل الإِسلام، وجواز الدعاء لن يرجى إِسلامه من الكفار؛ كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثقيف بالهداية. 6 - الحنكة النبوية والقدرة على احتواء المشكلات وتسويتها. 7 - الاعتراض على حكم الله ورسوله من صفات المنافقين والخوارج. 8 - جواز الاستفادة من أدوات الحرب التي يملكها المشركون. 9 - جواز إِعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنائم، تأليفًا لهم على الإِسلام، أو لكف أذاهم وشرهم، تحقيقا لمصلحة الإِسلام والمسلمين. 10 - حرصه - صلى الله عليه وسلم - على إِنقاذ المشركين من النار، ودخولهم الإِسلام ولو بالمال. 11 - فضل الأنصار ومكانتهم ومنزلتم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

غزوة تبوك

غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة وفي شهر رجب منها في وقت الصيف اللاهب، حيث يحلو للناس الظل، ويبدأ نضوج الثمر، كانت غزوة تبوك، وهي الغزوة التي سميت بالعسرة، لاجتماع الشدة في الطقس، والشدة في المال والدواب، وبُعْد الشُّقة والمسافة. وسبب الغزوة كما ذكر ابن كثير، هو تحقيق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬1) فقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوة الروم إِلى الإِسلام، وقتالهم إِن لم يستجيبوا، حيث بلغه أنهم يجمعون له، ويؤلبون القبائل العربية الخاضعة لهم على غزو المسلمين كما فعلوا من قبل في مؤته. وعندما أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزمه على التوجه إِليها دعا إِلى الصدقة، ووضع رداءه فكان كل مسلم يأتي بما يستطيع، فمنهم من يأتي بالكثير، ومنهم من يأتي بالقليل، والمنافقون يسخرون من صاحب الكثير والقليل (¬2). وجاء عمر بنصف ماله قائلا: ما أظن أحدًا يسبقني إِلى ما فعلت، وجاء أبو بكر بكل ماله، فقال عمر: والله لا أسابقك أبدًا (¬3). وأنفق العباس، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، وسعد بن عبادة، وعاصم بن عَدِي نفقات كثيرة، وجهز عثمان ثلث الجيش، فَسُرّ بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقال: مَا ضَرّ عثمان ما فعل بعد اليوم) (¬4). ¬

_ (¬1) ابن كثير، البداية والنهاية ط/هجر، 7/ 144. والآية 123 من سورة التوبة. (¬2) صحيح البخاري، كتاب التفسير ح 4668. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه ح 3675 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج من ماله 2/ 173. (¬4) أخرجه البخاري معلقًا، كتاب "فضائل الصحابة" باب فضائل عثمان - رضي الله عنه - وأخرجه الترمذي رقم 2700 وأحمد في المسند 4/ 75.

وكان عدد الجيش يزيد على ثلاثين ألفا، بينما كان عدد الجيش في حنين في آخر السنة الثامنة اثنا عشر ألفا، مما يؤكد نجاح خطة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نشر الإِسلام، وازدياد الدخوك فيه بعد صلح الحديبية، وفتح مكة. وتخلف عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة طوائف من المنافقين، فقد جاء أحد المنافقين إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في التخلف والقعود وقال: ائذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما أحد أشد عُجْبًا بالنساء مني، وإِني أخشى إِن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن (¬1)، فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (¬2). وقال بعضهم لابنه: يا بني مالي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إِلى بني الأصفر، وقال آخر: لا تنفروا في الحر، فرد الله عليهم بقوله: {... وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (¬3). كما تخلف عن الخروج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوم معذورون، وبكوا حسرة أن لا يجدوا ما ينفقون، وتخلف من المسلمين من لم يكن له عذر، منهم كعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية، وتخلف أبو خيثمة الأنصاري، ولما سار الجيش خل بستانه وفيه امرأتان لكل منهما عريش قد رَشّته وَبّردت له فيه الماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل وقف على الباب فقال: سبحان الله! رسول الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضّح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسنة، في ماله مقيم؟!! ما هذا بالنّصف! والله لا أدخل عريش واحدة منكما، وأمرهما بتجهيز راحلته، ولحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ابن هشام، السيرة 4/ 156. (¬2) سورة التوبة، آية 49. (¬3) سورة التوبة، آية 81.

فأقبل على الجيش وهم قريبا من تبوك فرآه الناس وقالوا: هذا راكب مقبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كن أبا خيثمة. ثم دعا له بخير (¬1). وخرج أبو ذر على بعير فتأخر به، فقال الناس: أبطأ فلان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إِن يكن به خير فسيلحقه الله بكم، وإِن كان غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه، فلما آذاه بعيره حمل متاعه على ظهره ولحق بهم. فقال رجل: يا رسول الله هذا رجل يمشي على الطريق وحده، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كن أبا ذر. ثم قال: رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده (¬2). وكان ذلك بالفعل حيث تحقق ما قاله - صلى الله عليه وسلم -، فمات وحده - رضي الله عنه - بالربذة شرقي المدينة، واستخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وخَلّف عليَّ بن أبي طالب في أهله خاصة، فقال المنافقون: استثقله فخلّفه، فلحق به بالجرف (¬3)، وأخبره بقولهم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: كذبوا، لكني خلفتك لما تركتُ ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إِلا أنه لا نبي بعدي. والحديث متفق عليه (¬4). وقد بني عليه بعض أهل الفرق الضالة بناءً كبيرًا واهيًا في موضوع الخلافة ولا حجة لهم في ذلك. وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش حتى مر بالحِجْر وهي ديار ثمود فأسرع فيها ولم ينزل، فاستسقى أناس من آبار ثمود وعجنوا وطبخوا، فجمعهم وأمرهم قائلا: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إِلا أن تكونوا باكين، لا يصيبكم ما أصابهم، ولا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة، وأعلِفوا العجين الإِبل، وإِنه ستهب عليكم ريح فلا يخرجن أحد منكم الليلة إِلا ومعه صاحب له. ثم ارتحل حتى نزل على بئر الناقة (¬5). فامتثل الناس الأمر إِلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته، والآخر في طلب ¬

_ (¬1) ابن هشام، المصدر السابق 14/ 160. (¬2) المصدر نفسه 4/ 164 وانظر: البيهقي، دلائل النبوة 5/ 221 وقال ابن كثير: إِسناده حسن. (¬3) الجرف: موضع شمال المدينة يتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدة ومعسكرًا للجيش. (¬4) البخاري كتاب فضائل الصحابة ح 3706، ومسلم ح 2404. (¬5) البخاري، كتاب المغازي ح 4419، وكتاب الأنبياء ح (3378 و 3381) ومسلم في الزهد ح (2980).

بعيره، فأما الذي ذهب لحاجته فقد خنقته الجن، وأما الآخر فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي أصيب فشفي، وأما الآخر فإن طيئًا أهدته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة (¬1). واجتمع بعض المنافقين في مجلس سخرية واستهزاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، منهم مخشي بن حمير، وقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنكم غدًا مقرنين في الحبال، إِرجافًا وترهيبًا للمؤمنين. وندم مخشي ندمًا شديدًا، وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر وقال: أدرك القوم فقد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فجاؤا يعتذرون، وقال أحدهم -وديعة بن ثابت- إِنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... الآية} (¬2). وقال مخشي: والله يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، وقيل إِنه تاب وقُتِل يوم اليمامة (¬3). وظلت ناقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحد المنافقين وهو زيد بن اللصيت القينقاعي: أليس محمَّد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِن رجلًا قال كذا وكذا. وإني والله ما أعلم إِلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا، وقد حبستها شجرة بزمامها. ولما علم عمارة بن حزم الأنصاري - رضي الله عنه - وكان عُقْبِيًا بدريًا- ما قال زيد بن اللصيت طرده من رحله وهو يضرب في عنقه ويقول: أي عباد الله، إِن في رحلي لداهية وما أشعر!! أخرج أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني (¬4). ¬

_ (¬1) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 161 وهو مرسل، وله شاهد عند البخاري ح رقم 1481. (¬2) سورة التوبة، آية 65 - 66. (¬3) ابن سيد الناس، عيون الأثر 2/ 296، الذهبي، المغازي 642. (¬4) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 163 وإسناده حسن، وقد صرح ابن إِسحاق بالتحديث، وذكره الذهبي في المغازي 641.

الوصول إلى تبوك

الوصول إلى تبوك: وعندما اقترب - صلى الله عليه وسلم - من تبوك قال لهم: إِنكم ستأتون غدًا -إِن شاء الله- عين تبوك، وإِنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي. فوصلها قبله رجلان فسألهما: هل مسستما من مائها شيئًا؟ قالا: نعم. فسبهما، وغرف الصحابة من الماء حتى اجتمع في إِناء فغسل فيه وجهه ويديه وأعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستسقى الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: يوشك يا معاذ إِن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملىءَ جِنانًا (¬1). وخطب - صلى الله عليه وسلم - بتبوك خطبة عظيمة، ووفد عليه صاحب أيلة يُوحنّا بن رؤبة، وصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية (¬2). وفي تبوك تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا عن صلاة الفجر لحاجة، فأقام المسلمون الصلاة وقدموا عبد الرحمن بن عوف إِمامًا لهم، وجاء رسول الله وهم في الصلاة، وصلى مأمومًا خلف عبد الرحمن بن عوف، وهي من مناقبه - رضي الله عنه - (¬3). بعث خالد إِلى دُومة الجندل: وبعت - صلى الله عليه وسلم - وهو في تبوك خالد بن الوليد إِلى أكيدر صاحب دُومة الجندل، وقال له: إِنك ستجده يصيد البقر الوحشي، وكان أكيدر في سطح حصنه مع امرأته، فأتت البقر الوحشي تحك رأسها وقرونها بباب الحصن. فقالت أمرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك مثل هذا. قال: لا أحد، فخرج ومعه نفر من أهل بيته منهم أخوه حسان، فتلقتهم خيل المسلمين، فَقُتِل حسان، وأخذ أكيدر أسيرًا، وجيء ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ح 6086. (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية ط/هجر7/ 177. وأيلة مدينة العقبة الحالية. وأذرح وجرباء قريتان في جنوب الأردن حاليا. (¬3) صحيح مسلم ح 274 وليس فيه أنه كان في تبوك ولكن ذكره غيره. وانظر: مهدي رزق الله، السيرة النبوية ص 629.

به للرسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأمنّه وصالحه على الجزية (¬1). وكان عليه قِبَاء فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويعجبون منه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا (¬2). وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك قرابة عشرين يومًا ولم يجد كيدا من العدو بل خافوا وانشمروا في أرضهم، فقرر العودة إِلى المدينة، وفي طريق عودته - صلى الله عليه وسلم - تآمر عدد من المنافقين لقتله، حيث أرادوا أن يلقوه عن دابته من عقبة يمر بها الجيش، فكشف الله له ذلك، وكان حذيفة آخذًا بزمام الناقة يقودها، وعمار يسوقها، وإِذا هم بإِثني عشر ملثمين فصرخ بهم، فهربوا (¬3). ¬

_ (¬1) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 171 والذهبي، المغازي ص 645، ابن كثير، البداية والنهاية 7/ 179. (¬2) أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه ح رقم 3249، 3802. (¬3) رواه مسلم في صفات المنافقين ح (2779)، والبيهقي في الدلائل 5/ 256، 257.

مسجد الضرار

مسجد الضرار: وقد بني المنافقون بالمدينة قرب مسجد قباء مسجدًا، ودعو الرسول الله -صلى الله عليه وسلم - للصلاة فيه، فاستمهلهم حتى يعود من تبوك. فأنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَةَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). ولهذا أمر - صلى الله عليه وسلم - عند رجوعه بهدم وإخراب ذلك المسجد، فقام بتلك المهمة مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي (¬2). استقبال المدينة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): ولما دنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من المدينة قال: إِن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إِلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر (¬3). وعندما أشرف على المدينة قال: "هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه" (¬4). واستقبله الناس والصبيان عند ثنية الوداع يرحبون بهم (¬5) وهم يقولون: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيات 107 - 110. (¬2) ابن هشام، المصدر السابق 4/ 171. (¬3) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4423. (¬4) صحيح البخاري، كتاب المغازى ح 4422. (¬5) صحيح البخاري كتاب المغازي ح 4427 لكن ليس ذكر النشيد.

أصناف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك

أصناف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: كان الذين تخلفوا عن غزوة تبوك أربعة أصناف: 1 - مأمورون بالتخلف منه - صلى الله عليه وسلم -، مثل محمَّد بن مسلمة، وعلي بن أبي طالب، وهؤلاء مأجورون. 2 - معذورون، وهم الضعفاء والمرضى، وهم مأجورون أيضًا لأنهم قد حبسهم العذر. 3 - عصاة مذنبون، مثل الثلاثة الذين خُلِّفُوا. 4 - ملومون مذمومون، وهم الأعراب والمنافقون. وعند عودته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قدم عليه من تخلف عن الغزوة، وصاروا يعتذرون وهو يعذرهم، حتى جاء كعب بن مالك فقال له: مما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال كعب فقلت: لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، وعندما قام أسرع إِليه أناس يؤنبونه على صدقه حتى هَمّ بالعودة والبحث عن عذر، ولكنه سأل: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت. فقال: من هما؟ قالوا: مرارة ابن الربيع، وهلال بن أمية. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلام أولئك الثلاثة، فاجتنبهم الناس حتى تنكرت لهم الأرض. قال كعب: فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَحم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد. وآتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على

صلاتي أقبل عَليّ، وإِذا التفتُ نحوَه أعرض عني، حتى إِذا طال عليَّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحبُّ الناس إِلي، فسلمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام. فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أُحِبُّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار. وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إِذا نبطيٌّ من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إِذا جاءني دفع إِلي كتابًا من ملك غسان، فإِذا فيه: أما بعد، فإِنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسِك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إِذا مضت أربعون ليلة وإِذا برسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يأمره باعتزال امرأته، فقال: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا. بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إِلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: إِلحقي بأهلك فتكوني عندهم، حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت إِمرأة هلال بن أمية إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: يا رسول الله، إِن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إِنه والله ما به حركة إِلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إِلى يومه هذا. قال كعب: فلما كملت لنا خمسون ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأَّرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سَلْع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن (¬1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله ¬

_ (¬1) آذن: أخبر.

علينا حين صلى الفجر. حيث نزل عليه قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ... الآية} (¬1) ورَكّضَ إِلي رجُلُ فرسًا، وسعى ساع فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إِياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلقاني الناس فوجًا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك، قال: حتى دخلت المسجد فإِذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس حوله الناس، فقام إِليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إِليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال -وهو يبرق وجهه من السرور-: أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا. بل من عند الله. قال كعب: إِن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إِلى الله وإِلى رسوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك). ثم قال كعب: يا رسول الله، إِن الله إِنما نجاني بالصدق، وإِن من توبتي ألا أحدث إِلا صدقا ما بقيت (¬2). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية 118. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك ح (4418) وانظر: ابن كثير، البداية والنهاية ط/ هجر، 7/ 196 - 197.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - فضل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومسابقتهم إِلى الإِنفاق في سبيل الله وتجهيز المجاهدين، وفضل علي - رضي الله عنه - حيث استخلفه في أهله وجعله بمنزلة هارون من موسى إِلا أنه لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - فضل أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - وحرصه على مشاهد الخير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - فضل عبد الرحمن بن عوف وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه. 4 - الحذر من دخول ديار المعذبين إِلا معتبرًا خائفًا وجلًا، وتحريم الإِقامة في أمكنة العذاب. 5 - خير أيام العبد يوم توبته وهداية الله له. 6 - فضل كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، بعد توبة الله عليهم، ونجاتهم بسبب الصدق، وخطر التسويف الذي كان سبب محنتهم، ووجوب المبادرة للطاعة والمسابقة في الخيرات. 7 - انضباط الصحابة مع أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف. 9 - في أمره - صلى الله عليه وسلم - بتحريق مسجد الضرار دلالة على أهمية حسم ما فيه ضرر على المسلمين وتفريق كلمتهم حتى لا يعود مرة أخرى، قال القرطبي: قال علماؤنا، كل مسجد بني ضرارًا أو رياءً وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه (¬1). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن 8/ 257.

عام الوفود

عام الوفود العام التاسع يسمى عام الوفود لكثرة وفود القبائل فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإِن كانت بعض الوفود قد قدمت على رسول الله في وقت مبكر (¬1)، غير أنه منذ فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أخذت وفود العرب تفد عليه مبايعة مسلمة، وذلك في العام التاسع، فقد وفد عليه غالب وفود العرب في العامين التاسع والعاشر، وعدد الوفود يقارب المائة وفد، وقد اعتنى بذكر الوفود محمَّد بن سعد في كتاب الطبقات الكبرى (¬2)، وعدهم مهدي رزق الله، ستة وتسعين وفدا (¬3)، ويختلف عدد الأفراد في كل وفد كثرة وقلة، من أكثر من المائة إِلى الواحد، وأول الوفود بعد الهجرة وفد مزينة الذي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجب من العام الخامس وهم أربعمائة فجعل الهجرة لهم في دارهم (¬4). ومن أسباب كثرة الوفود في العام التاسع وما بعده: 1 - فتح مكة وهزيمة المشركين في حنين، مما قرر عند قبائل العرب الأخرى عدم القدرة على مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - هدم النبي - صلى الله عليه وسلم - للطواغيت والأصنام الكبيرة حول مكة والتي كانت تشكل ضغطًا نفسيًا وخوفًا منها عند العرب، فلما أزالها انفتح الباب لهم في دخول الإِسلام وزال الخوف عنهم. 3 - يسر التعاليم الإِسلامية وموافقتها للفطرة. 4 - العدل والأمن الذي أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحقق للمسلمين في الواقع. ¬

_ (¬1) مثل ضمام بن ثعلبة، وافد بني سعد بن بكر، ووفد عبد القيس من ربيعة، ووفد جذام. (¬2) 1/ 291 - 359. (¬3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص 640 - 672. (¬4) بن سعد، الطبقات الكبرى 1/ 291.

نماذج من الوفود

نماذج من الوفود: 1 - وفد بني تميم قدا هذا الوفد في أول العام التاسع، وهم الذي نزل فيهم ما نزل من آداب الاستئذان وكيفية مخاطبة الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أول سورة الحجرات، وجاءوا معهم بشاعر وخطيب يفاخرون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخطيبهم عطارد بن حاجب، وشاعرهم الزبرقان بن بدر، وكان خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس، وشاعره حسان بن ثابت (¬1). فغلب خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبهم وشاعره شاعرهم. 2 - وفد عبد القيس عبد القيس هم سكان جواثا وهي بلدة بالأحساء الآن، وقريتهم هي أول قرية أقيمت بها الجمعة بعد المدينة (¬2). وكان لهم وفادتان: الأولى، في العام الخامس. والثانية، في العام التاسع. الوفد الأول: وعددهم ثلاثة عشر رجلًا، وفيهم الأشج الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة (¬3). الوفد الثاني: وكانوا أربعين رجلًا، وفيهم الجارود العبدي وكان نصرانيا فأسلم وحسن إِسلامه. وقد رحب بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا: مرحبا بالقوم غير خزايا ولا ندامى (¬4). 3 - وقد ثقيف سبق إِلى الإِسلام من ثقيف عروة بن مسعود، الذي لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريق ¬

_ (¬1) مهدي رزق الله، المصدر نفسه ص 640، وقد ذكر البخاري وفد تميم الأحاديث 4365 - 4367. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4371. (¬3) البخاري، كتاب الأدب المفرد ح 6850، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 327. (¬4) مهدي رزق الله، المصدر السابق ص 641 وقد ذكر البخاري وفد عبد القيس الأحاديث 4368 - 4371.

عودته بعد الفتح وتوزيع غنائم حنين، فأسلم وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعود ويدعو قومه للإِسلام، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إِنهم قاتلوك، فقال: يا رسول الله، أنا أحب إِليهم من أبكارهم، وكان فيهم محببًا مطاعًا، وعندما عاد رماه رجل من بني مالك يقال له أوس ابن عوف، بسهم فقتله، ثم ندمت ثقيف على هذا العمل وسارع زعماؤها؛ عبد ياليل ابن عمرو ومن معه إِلى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد عودته من تبوك، فاسلموا وأعلموه بإسلام قومهم، واشترطوا على الرسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن يترك لهم صنمهم اللات ثلاث سنين فرفض ذلك، وبعث معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدمها (¬1). وسألوه أن يعفيهم من الصلاة، ومن كسر أصنامهم بأيديهم، فقال: أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه. واشترطوا إعفاءهم من الزكاة والجهاد، فوافقهم على ذلك وهو يقول: سيتصدقون ويجاهدون إِذا أسلموا (¬2). وسألوه أن يعفيهم من الوضوء لبرودة بلادهم، وأن يسمح لهم بنبيذ القرع، وأن يعيد لهم من مواليهم أبا بكرة الثقفي، فرفض كل ذلك، وأمّرَ عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أصغرهم سنا؛ لكنه كان أحرصهم على تعلم الدين والتفقه فيه (¬3). وبعد خمسة عشر يوما قضوها بالمدينة عادوا إِلى الطائف، وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم صنم ثقيف، وعند هدم اللات اجتمع النساء يبكين حول الصنم فهُدِم وأُخذِ ذهبه وماله (¬4). ¬

_ (¬1) ابن سعد، الطبقات الكبرى 1/ 313. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج والإماره ح 3025 وصححه الألباني. (¬3) المصدر نفسه، كتاب الصلاة ح 531 وصححه الألباني. (¬4) انظر: مهدي رزق الله، المصدر السابق ص 659 - 660.

4 - وفد بني حنيفة

4 - وفد بني حنيفة: سبق هذا الوفد أسر ثمامة بن آثال وربطه بسارية المسجد ثلاثة أيام، ثم فُكّ أسره ومَنّ عليه رسول الله، فاغتسل وأسلم وعاد إِلى بلده (¬1). وفي العام التاسع قدم بضعة عشر رجلًا ومعهم مسيلمة بن حبيب، وكان يقول: إِن جعل محمَّد لي الأمر من بعده اتبعته، وعندما التقى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لو سألتني هذه القطعة -وهي جريدة في يده- ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإِني لأراك الذي أريت فيه ما رأيتُ (¬2). ومقصده - صلى الله عليه وسلم - قوله: بينما أنا نائم رأيت في يَدَيّ سوارين من ذهب فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: العنسي، والآخر مسيلمة (¬3). وقد قتل الله مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. 5 - وفد نجران قدم هذا الوفد وهم ستون راكبًا، منهم أربعة وعشرون من أشرافهم. ورؤساؤهم ثلاثة: العاقب أمير القوم، والسيد، وأبو حارثة أحد بني بكر بن وائل، وهو أسقفهم وصاحب مدراسهم، وكانت ملوك الروم قد شَرّفوه ومَوّلوه وأخدموه، وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس لِمَا بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، وكان الوفد كلهم على النصرانية، فدعاهم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الإِسلام وتلا عليهم القرآن، فأبوا قبول الإِسلام، فطلب منهم المباهلة، فتشاوروا ثم عادوا يطلبون الصلح، فصالحهم، ورفضوا المباهلة خوفا من العقوبة (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح 4372. (¬2) صحيح البخاري ح رقم (4373). (¬3) صحيح البخاري ح رقم (4374). (¬4) ابن هشام، السيرة 1/ 573 وخبر المباهلة في صحيح البخاري ح 4380.

6 - وفد بني عامر بن صعصعة

وبعث معهم أبو عبيدة بن الجراح -حسب رغبتهم في رجل أمين- ووصفه بأنه أمين هذه الأمة (¬1). وكانوا يعلمون أنه رسول الله حقا، كما في خبر أبي حارثة وأخوه كوز بن علقمة عندما عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كوز: تعس الأبعد -يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو حارثة: بل أنت تسعت، فقال كوز: لم يا أخي؟ فقل: والله إِنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كوز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرَّفونا وموَّلونا وأخدمونا، وقد أبوا إِلا خلافه، ولو فعلتُ نزعوا منا كلَّ ما ترى قال: فأضمر عليها منه أخوه كوز حتى أسلم بعد ذلك (¬2). 6 - وفد بني عامر بن صعصعة وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو عامر بن صعصعة من هوازن، وفيهم من أشرافهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وجَبّار بن سَلْمى، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم. وأضمر عامر الغدر برسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال له قومه: إِن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليتُ ألا أنتهي حتى تَتْبع العربُ عَقِبي فأنا أتبع عَقِب هذا الفتى من قريش، واتفق مع أربد على أن يشاغل الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأربد يقتله بالسيف، فطلب عامر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخليه (أي يساره) فأبى أن يخلي مشركا، فلما قاما قال لأربد: أين ما كنتُ أمرتك به؟ قال أربد: والله ما هممتُ بالذي أمرتني به إِلا دخلتَ بيني وبن الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟! (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح رقم 4381. (¬2) ابن هشام، المصدر نفسه 1/ 573 قال ويقال: اسمه كرز. (¬3) ابن هشام، المصدر نفسه 2/ 568.

7 - وفد طيء

وكان عامر خَيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان، بألفٍ وألفٍ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يكفيه شره. وعند عودته إِلى بلاده خرجت في عنقه غُدّة طاعون وكان في بيت امرأة سلولية فقال: أغدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة سلولية؟ فركب فرسه فمات عليه (¬1). أما أربد فسأله قومه: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء، والله لقد دعانا إِلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عليه صاعقة أحرقته وجمله (¬2). 7 - وفد طيء وكان سيدهم زيد الخيل، فسماه الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد لخير، وبعد حوار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم وفد طيء، فكتب لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا فيه إِقطاع زيد أرض فَيدْ، وأَرَضِين أخرى معه، فأصابته حُمّى المدينة فمات، وحرقت امرأته ما معه من الكتب جهلًا منها (¬3). 8 - وفد دوس أسلم سيدهم الطفيل بن عمرو قبل الهجرة، ثم عاد إِلى قومه ودعاهم إِلى الإِسلام فلم يجيبوه، فقدم على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يدعو الله عليهم. ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم (¬4). ثم قال له: ارجع إِلى قومك فادعهم وارفق بهم. فرجع وجعل يدعوهم حتى هداهم الله، وقدم بهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر وهم نحو سبعين أو ثمانين بيتا (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4091. (¬2) ابن هشام، المصدر السايق (2/ 569) وانظر: تهذيب سيرة ابن كثير ص 560. (¬3) ابن هشام، المصدر نفسه (2/ 577) وانظر: تهذيب سيرة ابن كثير ص 562 وفيد: موضع بديار طىء. (¬4) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح (4392). (¬5) مهدي رزق الله، السيرة النبوية ص 651.

9 - وفد الأشعريين من اليمن

9 - وفد الأشعريين من اليمن قدم الأشعريون في ثلاثة وخمسين رجلا ومعهم أبو موسى الأشعري، وأخوان له هما: أبو بردة، وأبو رُهم، من بلادهم في اليمن مهاجرين، فألقت بهم السفينة إِلى الحبشة، ووجدوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عند النجاشي، فبقوا هناك حتى قدموا جميعًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح خيبر، فأسهم لهم من غنائم خيبر (¬1). 10 - وفادة فروة بن مُسِيك المرادي قدم فروة من اليمن مفارقًا لملوك كِنْده فأسلم، فاستعمله الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مُراد، وزُبيد، ومَذْحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج الإِمام أحمد في مسنده عن فروة أنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، أقاتل بمقبل قومي مدبِرَهم؟ قال: نعم، فقاتِل بمقبل قومِك مدبِرَهم، فلما وَلَّيت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم للإِسلام .... الحديث (¬2). 11 - جرير بن عبد الله البجلي قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي ثم لبست حُلتي، ثم دخلت فإِذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إِذ عُرض له في خطبته وقال: يدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفَجِّ من خير ذي يمن إِلا أن على وجهه مَسْحة مَلَكٍ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس ح (3136) وانظر: تهذيب سيرة ابن كثير ص 569، ومهدي رزق الله، المصدر السابق ص 653 - 654. (¬2) المسند ح رقم 24306 ص 1767 من طبعة بيت الأفكار الدولية. وأخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ح رقم 3452.

12 - وفد بلي

قال جرير: فحمدت الله عَزَّ وَجَلَّ على ما أبلاني (¬1). وكان له مكانة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جرير: ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إِلا تبسم في وجهي (¬2). وأكرمه رسول الله وألبسه حلته وقال: إِذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) (¬3) وأسلم معه قَومَه وعددهم مائة وخمسون وقد كلفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدم صنم ذي الخلصة في ديار خثعم ودعا له ولقومه (¬4). 12 - وفد بَلِيّ قدم وفد بليّ في ربيع الأول من سنة تسع، فأنزلهم رويفع بن ثابت البلوي عنده، وقدم بهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقال: هؤلاء قومي، فقال رسول الله: مرحبًا بك وبقومك، فأسلموا وقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمد لله الذي هداكم للإِسلام، فكل من مات على غير الإِسلام، فهو في النار) فقال له أبو الضبيب شيخ الوفد: يا رسول الله إِن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال نعم، وكل معروف صنعته إِلى غني أو فقير فهو صدقة، قال: يا رسول الله، ما وقت الضيافة؟ قال ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك، قال: يا رسول الله، أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فالبعير؟ قال مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه، قال رويفع: ثم رجعوا إِلى منزلي، فجاء رسول الله إِلى منزلي ومعه تمر فقال: استعن بهذا التمر، وكانوا يأكلون منه ومن غيره، وأقاموا ثلاثة أيام، ثم وَدّعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجازهم كما هي عادته مع الوفود (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 360 ح 19180 وقال شعيب: صحيح. (¬2) صحيح البخاري، ح 3035 ومسلم، ح 2475 وانظر: تهذيب سيرة ابن كثير ص 572. (¬3) البيهقي، دلائل النبوة 5/ 347. (¬4) صحيح البخاري، ح رقم (3020). (¬5) انظر: ابن القيم، زاد المعاد 3/ 657 وما بعدها، وقد تضمن هذا الحوار جملة من الآداب والأحكام، وله شواهد صحيحة عند البخاري، ح 6019و 6135 ومسلم 3/ 1352 وأبو داوود ح 3748.

دروس وعبر

دروس وعبر: 1 - هذه النماذج من وفود العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسلِمين، توضح مدى نجاح دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتشار الإِسلام في أرجاء الجزيرة العربية، وتوحيدها تحت راية الإيمان وتوحيد الله. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي من حسن الخلق ما جعله يستوعب النماذج المختلفة، من الرجال والمواقف والأقوال، ويكسب حبها جميعًا، ويحسن التعامل معها، ويُقَدِّر رجالاتها، ويهيء لهم الضيافة والاستقبال، ويمكنهم من التعلم والفقه في الدين، ثم يحسن صلتهم وجوائزهم إِذا رجعوا إِلى بلدانهم، ويزودهم بالوصايا والآداب الإِسلامية التي جعلت منهم نماذج حية لمن وراءهم، في قبول الإِسلام والعمل بأحكامه وآدابه. 3 - مدح صفة الحلم والآناة وأن الله يحبهما، وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان (¬1). 4 - التأني والصبر في الدعوة إِلى الله، وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العصاة (¬2). 5 - قال ابن القيم: وإِقرار الكاهن الكتابي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي لا يدخله في الإِسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته. قال: ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين للنبي بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإِسلام، علم أن الإِسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة والإِقرار، بل المعرفة والإِقرار، والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرا وباطنا (¬3). ¬

_ (¬1) ابن القيم، زاد المعاد 3/ 608. (¬2) المصدر نفسه 3/ 627. (¬3) المصدر نفسه 3/ 638.

حج أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)

حج أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) كان المشركون قد تولوا الحج في السنة الثامنة بعد الفتح، وعتاب بن أسيد أمير رسول الله على مكة حج بالمسلمين، وفي السنة التاسعة أمّرَ الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج الصديقَ، وبعد مسيره أرسل في أثره علي بن أبي طالب، ولما رآه الصديق رحّب به وقال: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور. وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس في الحج أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وأن مَن بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد أو ميثاق محدد فهو إِلى مدته، ومن كان عهده غير محدد فإِن نهايته بعد أربعة أشهر. فأرسل رسول الله عليًا بها ليبلغ أبا بكر، فكان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يعلنان ذلك للناس يوم الحج ويأمرون من ينادي (¬1) به ليصفو الحج بعد ذلك للمسلمين. حجة الوداع سميت حجة الوداع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها، وسميت حجة الإِسلام لأنه لم يحج من المدينة غيرها، وسميت حجة البلاغ لأنه بَلّغ الناس فيها شرع الله في الحج قولًا وعملًا وأشهدهم على ذلك. خرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة في السنة العاشرة، وبات في الوادي المبارك وادي العقيق، فلما كان بذي الحليفة صلى الظهر وأحرم من مصلاه، ثم لبىّ عندما استوى على راحلته راكبًا، فلما أخذت به في البيداء لَبّى بالحج، وساق معه الهدي. وسار حتى وصل مكة لخمس خلون من ذي الحجة، وعندما وصل مكة بات بذي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع ح 4363.

طوى (¬1) حتى أصبح، فاغتسل ودخل مكة من ثنية كداء (الحجون) ثم دخل الحرم من باب بني شيبة (¬2)، ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة توجه إِلى مني فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، ثم سار إِلى عرفه وخطب خطبة عظيمة بعرفه جاء فيها: إِن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإِن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب -كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد الطلب فإِنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء، فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإِن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مُبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تَضِلّوا بعده إِن اعتصمتم به: كتابُ الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت. فقال: اللهم اشهد ثلاثًا (¬3). ثم صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ووقفى بعرفة حتى غربت الشمس، ونزل عليه في موقفه ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الحج ح رقم 1574 ومسلم ح 1259. (¬2) تهذيب سيرة ابن كثير ص 613. (¬3) صحيح مسلم من حديث جابر ح رقم 1218. (¬4) سورة المائدة، آية 3.

قال عمر: نزلت على رسول الله عشية عرفة يوم الجمعة (¬1)، ثم سار حتى وصل مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم نام حتى الفجر، ثم استقبل القبلة ودعا وحمد الله وكَبّره وهلّله ووحّده حتى أسفر جدًا. ثم انطلق إِلى منى، والتُقِطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، ورمى بهن جمرة العقبة، ثم انصرف إِلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه وهو مائة بدنة، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قِدْر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا مِن مرقها (¬2)، ثم أمر الحلاق فحلق رأسه، ثم أفاض من يومه وطاف بالبيت سبعًا، ثم عاد إِلى منى فبات بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرات إِذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. وقد خطب يوم النحر خطبة عظيمة كرر فيها بعض ما جاء في خطبته يوم عرفه وزاد مثل قوله: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض. وقوله: إِن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان (¬3). وقوله: إن أمِّر عليكم عبدٌ مُجدَّع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا. وقال: إِنما هن أربع، لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا. وقال: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك. وقال: ولا يجنى جان على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الإيمان ح رقم (45) ومسلم ح رقم (3017). (¬2) صحيح مسلم ح رقم (1218). (¬3) صحيح البخاري ح رقم 4405 و 4406.

دروس وعبر

ولده، إلا إِن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى. وقال: اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم. وقال: إِن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله، ومن ادعى إِلى غير أبيه أو انتمى إِلى غير مواليه فعليه لعنة الله متتابعة إِلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة شيئًا من بيتها إِلا بإِذن زوجها. وقال: العارية مؤداة والمنحة مردودة، والدَّين مَقْضِيّ، والزعيم (¬1) غَارِمٌ (¬2). دروس وعبر: 1 - فضيلة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأنه أول أمير للحج، وبهذا مضت السنة بتأمير من يقيم للناس الحج ويقود الحجيج في هذه الشعيرة العظيمة. 2 - إِبلاغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنزل الله إِليه من وجوب منع المشركين من قربان المسجد الحرام، وأن يكون الحج ومشاعره خالصا للمسلمين لا يشركهم فيه أحد من المشركين، ولذا أرسل بها عليًا بعد خروج الصديق إِلى مكة، فناديا بذلك طيلة أيام الحج حتى تم البلاغ وقامت الحجة بذلك. 3 - بيان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء نسك الحج وهو القائل: خذوا عني مناسككم. 4 - التأكيد على أصول الدين وثوابته، وإعلان الحقوق الشرعية للإِنسان رجلًا أو امرأة. ¬

_ (¬1) الزعيم: الكفيل. (¬2) انظر: حجة الوداع لابن كثير، تحقيق خالد أبو صالح، دار الوطن ط/1، 1416 هـ.

5 - تحريم التقاليد والعادات الجاهلية والالتزامات المترتبة عليها، وأنها كلها موضوعة. 6 - التأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض. 7 - وجوب طاعة ولي الأمر، ولزوم الجماعة، والتحذير من التفرق، والاختلاف، والحرص على الوحدة والائتلاف والتعاون على البر والتقوى.

وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووصاياه وشمائله وخصائصه وزوجاته

وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووصاياه وشمائله وخصائصه وزوجاته مقدمات الوفاة: الأحداث الكبيرة يجعل الله لها مقدمات وإرهاصات، وقد كان من علامات دنو أجل النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - فتح مكة قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬1). قال ابن عباس: هو أجل رسول الله أعلمه إِياه (¬2) وقال قتادة عن ابن عباس: هذه السورة عَلَمٌ وحَدّ حَدّه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ونَعَى له نفسه، أيضًا أنك لن تعيش بعدها إِلا قليلًا (¬3). 2 - تتابع الوحي عليه في العام الذي قُبِض فيه (¬4). 3 - عرض جبريل القرآن عليه مرتين في آخر رمضان صامه - صلى الله عليه وسلم - (¬5). 4 - اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - عشرين ليلة من رمضان في العام الذي قُبِض فيه (¬6). 5 - تخييره - صلى الله عليه وسلم - بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، وبين لقاء الله، كما في حديث أبي مويهبه (¬7). وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك تعريضًا في أخر خطبة خطبها حين اشتد به المرض ففهمها الصديق وبكى (¬8). ¬

_ (¬1) سورة النصر، الآيات 1 - 3. (¬2) رواه البخاري ح 3627 وقد وافقه عمر على ذلك فقال: ما أعلم منها إِلا ما تعلم. (¬3) ابن جرير، جامع البيان 30/ 335. (¬4) صحيح البخاري ح (4982). (¬5) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن ح 4998. (¬6) صحيح البخاري، كتاب الصوم ح 2044. (¬7) رواه أحمد 3/ 489، والبيهقي في الدلائل 7/ 162 - 163، والحاكم في المستدرك 3/ 55 - 56. (¬8) صحيح البخاري ح (466) ومسلم ح 2382.

مرض النبي (صلى الله عليه وسلم).

مرض النبي (صلى الله عليه وسلم). بعد عودته - صلى الله عليه وسلم - من الحج بقي في المدينة النبوية شهري محرم وصفر، وفي أواخر صفر وأوائل شهر ربيع الأول ابتدأ به المرض بعد أن زار البقيع مع مولاه أبي مويهبة، وسَلّم عليهم ودعا لمن دفن فيه من المسلمين؛ واستغفر لهم. وقد مرّ مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراحل مختلفة: بدأ بالصداع في بيت عائشة، ثم اشتد عليه المرض في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه في أن يمرض في بيت عائشة، فبقي في بيتها حتى وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وكان في أول الأمر يخرج إِلى المسجد فيصلي بالصحابة، وقد خطب بهم خطبة أوصى فيها ببعض الوصايا، ثم لما عجز عن الخروج استخلف أبا بكر على الصلاة (¬1). وكان من أسباب مرضه أثر السُّم من الشاة التي قَدّمتها له إِمرأة من يهود خيبر، وقد اعترفت بذلك هي وقومها فقال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إِن كنت كاذبًا نستريح، وإِن كنت نبيًا لم يضرك (¬2)، وقالت هي: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك (¬3)، فلم يقتله السم في وقت تناوله كما قتل بشر بن البراء الأنصاري (¬4)، ليكون دليلًا من دلائل نبوته، ولكن اليهود لم ينتفعوا بذلك فلم يُسْلِمُوا وقد رأوا الآية والبرهان على نبوته، غير أن أثر السم بقي معه، فقال لعائشة في مرضه الذي مات فيه: (يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم) (¬5) فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجمع له بين النبوة والشهادة مبالغة في الترفيع والكرامة، وكان عبد الله بن مسعود يقسم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: عادل حسن، الأيام الأخيرة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 27. (¬2) صحيح البخاري ح 3169. (¬3) صحيح البخاري ح 2617 ومسلم ح 2190. (¬4) أبو داود، كتاب الديات ح 4511. (¬5) صحيح البخاري تعليقًا، كتاب المغازي، باب مرض النبي ح 4428. (¬6) مسند أحمد 1/ 382 وصحح إِسناده الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند 5/ 334.

خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) الأخيرة (سببها ومضمونها)

خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) الأخيرة (سببها ومضمونها): وقد حزن الأنصار رضي الله عنهم لمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بهم العباس وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - منا، فدخل العباس على رسول الله فأخبره بذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صُبّوا عليّ من سبع قِرَب من سبع آبار شتى، حتى أخرج إِلى الناس فأعهد إِليهم، فصبوا عليه فوجد راحة فخرج -وذلك قبل أن يموت بخمس- عاصبًا رأسه بخرقة حتى أهوى إِلى المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم ثم قال: أيها الناس ثوبوا (¬1) إِلي، فثابوا إِليه ثم قال: أما بعد: أوصيكم بالأنصار خيرا فإِنهم كرشي وعيبتي (¬2)، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم إِلا في حَدّ (¬3)، وإِن عبدًا خَيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فلم يفطن لها أحدُ غير أبي بكر فبكى وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا -يقول أبو سعيد الخدري- فعجبنا له وقلنا ما لهذا الشيخ يبكي، فكان رسول الله هو المخَيّر وكان أبو بكر أعَلَمنَا، وقال رسول الله: يا أبا بكر لا تبك، إِن من أمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإِسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إِلا سُدّ إِلا بابَ أبي بكر (¬4). وإِني بين أيديكم فرط (¬5)، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإِني لأنظر إِليه من مقامي هذا. وإن عرضه كما بين أيلة إِلى الجحفة. ¬

_ (¬1) ثوبوا إلي: اجتمعوا واقتربوا حتى يسمعوا ما يقول. (¬2) كرشي وعيبتي: خاصتي وموضع سري. (¬3) صحيح البخاري ح 3799، ومسلم ح 2510. (¬4) صحيح البخاري ح 3654. (¬5) فرط: متقدم وسابق إِلى الحوض.

آخر وصايا النبي (صلى الله عليه وسلم)

وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم (¬1). ألا وإِن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إِني أنهاكم عن ذلك (¬2). هذه الخطبة خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متألم متوجع، ولم يمنعه المرض أن يقول ما أمر الله به أن يبلّغه لأمته وفي هذا دلالة على عظيم شفقته على الأمة، ولذلك فإِنها بحاجة إِلى دراسة وتأمل واهتمام بما تضمنته. مثل الوصية بالأنصار، وبيان فضائل أبي بكر وأنه أعلم الصحابة، وفيها تبشير الأمة بحوضه الشريف، وأن موعدهم معه الورود على الحوض وبيان سعته، وشهادته على الأمة، وفيها التحذير من الدنيا والتنافس فيها والاقتتال عليها، وكذا التحذير من طرائق اليهود والنصارى واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والنهي الصريح عن ذلك. آخر وصايا النبي (صلى الله عليه وسلم): من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وخشيته عليهم من الشهوات والشبهات ونصحه لهم، أنه أوصاهم بجملة من الوصايا في أيام مرضه، وكرّر بعضها أكثر من مرة وهو في تلك الحالة، وأكد عليها قبل موته مما يوجب العناية بها، فمن تلك الوصايا: 1 - الوصية بالأنصار - رضي الله عنهم - وإِكرام كريمهم والتجاوز عن مسيئهم إِلا في حدود الله. 2 - الوصية بإِخراج المشركين من جزيرة العرب. 3 - الوصية بالصلاة، وبملك اليمين من العبيد والخدم وما شابههم من الضعفاء. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح 1344، ومسلم 2296. (¬2) رواه مسلم ح 532، وانظر نص الخطبة وتخريجها في كتاب الأيام الأخيرة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 43 - 75.

اللحظات الأخيرة

4 - إِحسان الظن بالله، قال - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام: لا يموتن أحدكم إِلا وهو يحسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ (¬1)، وفائدة حسن الظن بالله عند الممات بينها النبي بقوله: يبعث كل عبد على ما مات عليه (¬2). 5 - التحذير من التنافس في الدنيا والاقتتال عليها فإِن ذلك من أسباب الهلاك. 6 - أوصى أن يصلي بالناس أبو بكر، فراجعته عائشة وقال: إِن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالناس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فصار أبو بكر يصلي بهم. وفي فجر يوم الإِثنين الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشف ستر الحجرة ونظر إِليهم وهم صفوف خلف أبي بكر فتبسم يضحك، فهمّ الصحابة أن يفتتنوا من الفرح برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج إِلى الصلاة، فأشار النبي أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر (¬3)، فتوفي من يومه، وفي لفظ: فلم يُقْدَر عليه حتى مات. وقد أعتق - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته غلمانه وتصدق بمال كان عنده، وجاءته ابنته فاطمة في يوم وفاته فحدثها سِرًا فبكت، ثم حدثها فضحكت، وعند سؤالها بعد ذلك قالت: إِنه أخبرها أنه يقبض من وجعه فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحاقًا به فضحكت (¬4). اللحظات الأخيرة: لما أخذه - صلى الله عليه وسلم - غشي الموت كان بجواره إِناء فيه ماء فكان يدخل يديه في الماء ويمسح بهما وجهه ويقول: لا إِله إِلا الله إِن للموت سكرات (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم ح (2877). (¬2) صحيح مسلم ح (2878). (¬3) صحيح البخاري ح (4448). (¬4) صحيح البخاري ح (4433 - 4434). (¬5) صحيح البخاري ح 4449.

ثم ثَقُل واشتدّ وجعه حتى لم يستطع النطق، فدخل عليه أسامة بن زيد فكان يدعو له بالإِشارة (¬1). ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك فنظر إِليه فأخذته عائشة وأصلحته فاستاك به، ثم رفع يده وبصره وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه. فكان يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، فكان آخر ما قاله: اللهم بالرفيق الأعلى ثلاثًا (¬2). ووصل الخبر إِلى الصحابة بالمسجد وفيهم عمر بن الخطاب، فكان ذلك صدمة شديدة تأبى النفوس المحبة أن تصدقها، ولذا وقف - رضي الله عنه - يقول: إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت ولكن ربه أرسل إِليه كما أرسل إِلى موسى فمكث عن قومه أربعين ليلة، والله إِني لأرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون -أو قال يقولون- إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات (¬3). وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد خرج من بعد صلاة الفجر إِلى زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري في ضاحية السِّنح، ووصله الخبر بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى، فأسرع إِلى المدينة ودخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكشف عن وجهه وقَبّله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد مُتّها (¬4). ثم خرج إِلى الناس في المسجد وهم بين منكر ومصدق، لهول وعظم المصيبة، ورأى عمر يتحدث فطلب منه أن يجلس فأبى، فبدأ أبو بكر بالحديث فالتفت الناس إِليه. فقال: أما بعد: ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ح 4436. (¬2) صحيح البخاري ح 4438، 4440. (¬3) رواه أحمد، وابن سعد 2/ 296، وعبد الرزاق، المصنف 5/ 433 - 434 بإسناد صحيح. (¬4) صحيح البخاري، كتاب المغازي ح 4452، 4453.

من كان منكم يعبد محمدًا فإِن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإِن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬1). فهدأ الناس وكأنهم لم يسمعوا الآية من قبل من هول الفاجعة. قال عمر: والله ما هو إِلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إِلى الأرض حين سمعته تلاها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات (¬2). وكانت وفاته يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من هجرته - صلى الله عليه وسلم -، وعمره ثلاث وستون سنة، وفي يوم الثلاثاء اجتمع أهله لغسله ومنهم العباس، وعلي بن أبي طالب، والفضل، وقثم ابنا العباس، وشقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسامة بن زيد، وأشرعوا معهم أوس بن خولى الأنصاري لخبرته. وغَسّلُوه في ثيابه، وكفنوه في ثياب بيض ثلاث سُحولية من قطن، ليس فيها قميص ولا عمامة. وعندما أرادوا حفر قبره أرسل العباس إِلى أبي طلحة الأنصاري، وأبي عبيدة عامر ابن الجراح، وكان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة، وأبو طلحة يلحد لأهل المدينة، وقال العباس: اللهم خر لرسولك، فجاء أبو طلحة فلحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتشاوروا أين يدفن؟ فقال أبو بكر: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يقبر نبيٌّ إِلا حيث يموت" (¬3) فأخروا فراشه وحفروا تحته، وصلّى الناس عليه أرسالا يدخل قوم فيصلون ثم يخرجون ولا يؤمهم أحد. ثم دفن - صلى الله عليه وسلم - وتولّى إِنزاله في قبره علي، والفضل، وقثم، وشقران، وأوس بن خولى (¬4). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية 144. (¬2) صحيح البخاري ح 4454. (¬3) رواه أحمد في المسند، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3/ 55). (¬4) انظر: الصالحي، سبل الهدى والرشاد (12/ 336).

هل أوصى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالخلافة لأحد؟

هل أوصى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالخلافة لأحد؟ لم يستخلف - صلى الله عليه وسلم - بعده أحدًا بعينه، ولم يوص إِلى أحد بعينه فقد روى البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: إِن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى البيهقي أن عليًا - رضي الله عنه - قال يوم الجمل: إِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد إِلينا في هذه الإِمارة شيئًا، حتى رأينا من الرأى أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إِن أبا بكر رأى أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى ضرب الديِّن بجرانه (¬2). فهذه النصوص وغيرها تدل على أنه لم يعهد لأحد بالخلافة بعده - صلى الله عليه وسلم -، لكنه أشار إِلى استخلاف أبي بكر إِشارات مفهمة، منها: 1 - أمره أن يصلي بالناس إِماما. 2 - سد الأبواب الشارعة إِلى المسجد إِلا باب أبي بكر. 3 - قوله للمرأة التي سألته فقال: تعودين. فقالت: إِن لم أجدك. فقال: إِئت أبي بكر. 4 - قوله لعائشة في مرض موته: لقد هممت أن أرسل إِلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون. ثم قال: يدفع الله ويأبى المؤمنون (¬3). اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعده: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ودار بينهم الحوار والمشاورة حول من يخلف نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلم بذلك أبو بكر وعمر فسارعا إِليهم؛ وفي الطريق قابلهم أبو عبيدة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف ح 7218، ومسلم 3/ 1454. (¬2) دلائل النبوة 7/ 223. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف ح 7217، ومسلم ح 2387.

فتوجه معهم إِلى السقيفة، وقبل وصولهم لقيهم رجلان صالحان من الأنصار، فسألاهم إِلى أين؟ فقالوا: إِلى إِخواننا من الأنصار فقالا: اقضوا أمركم يا معشر المهاجرين لا يختلف عليكم اثنان، ثم كان الحوار في السقيفة والذي تحدث فيه أبو بكر ووضّح فضل الأنصار ومكانتهم وبين أحقية قريش لهذا الأمر بقوله: إِن رسول الله قال: الأئمة من قريش، وذَكّر سعد بن عبادة بذلك فذكر (¬1)، وتمت البيعة في السقيفة بتوفيق الله للمؤمنين في اختيار الصديق. وفي اليوم التالي بايعه الناس في المسجد ممن لم يبايع يوم الاثنين، وبايع علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار (¬2). وبعد انتشار خبر وفاة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ارتدت قبائل من العرب، واجتمع الصحابة بزعامة أبي بكر، وجرت المشاورة بينهم فرأى بعضهم أن لا يسير جيش أسامة خوفا من هتك حرمة المدينة، ولكن الصديق أصر على بعثه، وقال قولته المشهورة: لا أحل راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد 23/ 62 وصححه الألباني بشواهده في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح رقم (1156). (¬2) البيهقي، السنن الكبرى 8/ 143. (¬3) البداية والنهاية 6/ 304.

صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخلقية وأخلاقه وشمائله

صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخلقية وأخلاقه وشمائله: تقدم في الحديث عن الهجرة النبوية ذكر وصف أم معبد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فيه من الدقة في الوصف، ونذكر هنا بعض الأحاديث الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم الذين وصفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإِمام البخاري: باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ساق حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق ولا آدم. ليس بجعد قَطِطٍ ولا سَبْطٍ رَجِلٍ ..... الحديث (¬1). ومن حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خَلْقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير (¬2). وعنه أيضًا قال: كان مربوعًا بَعيدَ ما بين المنكبين، له شعر يبلغُ شحمة أُذُنه، رأيته في حلة حمراء، لم أرَ شيئًا قطّ أحسن منه، وجهه مثل القمر (¬3). ومن حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله إِذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قَمر وكنا نعرف ذلك منه (¬4). وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كفّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت ريحًا قط أو عَرقًا قط أطيبَ من ريح أو عَرقِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وهذه الأوصاف التي ذكرها أصحابه - رضي الله عنهم - تجتمع كلها في كمال الهيئة وجمال الصورة وغاية الحسن الذي وهبه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ح 3547 و 3548. (¬2) المصدر نفسه ح 3549. (¬3) المصدر نفسه ح 3551 و 3552. (¬4) المصدر نفسه ح 3556. (¬5) المصدرنفسه ح 3561.

أما أخلاقه

أما أخلاقه فإِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق وأكملهم وهو قدوة المسلمين، وقد اتصف بجميع صفات الكمال البشري، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). ولخصت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - خلقه بقولها: كان خلقه القرآن. ومن أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - الصدق حيث لم يكن يتهم بخلافه حتى عند من يعاديه، وكان مثالًا للأمانة حتى لُقِّب بالصادق الأمين من قبل النبوة والرسالة، وكانت قريش تضع أموالها عنده. وكان - صلى الله عليه وسلم - مثالا للحلم والصبر، فمع كل الأذى الذي لحقه منهم إِلا أنه قال: اللهم اغفر لقومي فإِنهم لا يعلمون (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - حييًا أشد حياءً من العذراء في خدرها (¬3). ولم ينتقم - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، ولم يغضب لها إِلا أن تنتهك حرمات الله تعالى، وإِذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، وما خير - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إِلا اختار أيسرهما ما لم يكن إِثما، فإن كان إِثمًا كان أبعد الناس منه. (¬4) وما عاب - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط إِن اشتهاه أكله، وإِن لم يشتهه تركه (¬5). وكان لا يأكل متكئًا (¬6). قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: خرج - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، هو وأهل بيتة (¬7). وكان يأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، كان قوتهم الماء والتمر، قالت عائشة - رضي الله عنها -: إِلا أن حولنا أهل دور ¬

_ (¬1) سورة القلم، آية 4. (¬2) رواه البخاري ح 6929، ومسلم ح 1792. (¬3) المصدر نفسه ح3562. (¬4) المصدر نفسه ح 356، ومسلم ح 2327. (¬5) المصدر نفسه ح 5409، ومسلم 2064. (¬6) المصدر نفسه ح 5398. (¬7) المصدر نفسه ح 5414.

خصائصه (صلى الله عليه وسلم).

من الأنصار يبعثون بشياههم فنصيب من ذلك اللبن (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يجيب من دعاه من غني أو فقير ويحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم. ولا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب مَلِكًا لملكه، يركب الفرس، والبعير، والبغلة، والحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره. وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أحدًا يمشي خلفه، أحب اللباس إِليه الحبرة (¬3)، ويحب البياض من الثياب، وأحب الطعام إِليه الحلو البارد. وأصابه في الخندق جهد فعصب على بطنه حجرًا من الجوع مع ما آتاه الله من خزائن الأرض. وكان - صلى الله عليه وسلم - يكثر الذِّكر، ويُقِلُّ اللغو، ويُطيل الصلاة، ويُقَصِّر الخطبة، ويحب الطيب، ويكره الرائحة الكريهة. يألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بِشْرَه عن أحد، ولا يجفو عنه، يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إِلا حقا، يقبل معذرة المعتذر إِليه. خصائصه (صلى الله عليه وسلم). أفاض الله عَزَّ وَجَلَّ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بخصائص وأكرمه بإِكرامات جليلة ومن ذلك أنه خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأمته أفضل الأمم وهي معصومة من الإِجماع على ضلالة، وأصحابه خير القرون، وشريعته مؤبدة، وناسخة لجميع الشرائع. نُصِر بالرعب مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلّت له الغنائم، ¬

_ (¬1) متفق عليه. وانظر: كتاب الإشارة للعلامة مغلطاي. (¬2) رواه البخاري ح676. (¬3) متفق عليه؛ البخاري ح3561، مسلم 2330.

بيوته وأدواته (صلى الله عليه وسلم)

وأعطي الشفاعة، والمقام المحمود، وأرسل إِلى الناس كافة، وهو سيد ولد آدم، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة. وأكثر الناس تبعًا، وأعطي جوامع الكلم، وكان لا ينام قلبه وتنام عيناه. ومن رآه في المنام فقد رآه حقًا، فإِن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل به. وإِنَّ كَذِبًا عليه ليس ككذب على غيره (¬1). فمن كذب عليه متعمدا فقد كفر، وأن الاستهزاء به كفر يوجب القتل، وأن العبد لا يؤمن حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أحب إِليه من والده وولده والناس أجمعين، بل ومن نفسه التي بين جنبيه. بيوته وأدواته (صلى الله عليه وسلم): عندما سكن - صلى الله عليه وسلم - المدينة بني المسجد ثم بني حجرتين في طرف المسجد، واحدة لعائشة والأخرى لسودة، وكان كلما تزوج إِمرأة بني حجرة، وحُجرُه في شرق المسجد على يسار المصلي إِلى الكعبة، وهي مبنية من اللبن، وسقفها من جذوع النخل والجريد، وأثاثه بسيط. ومن أثاثه قَدَح مضبب في ثلاثة مواضع، وقدح من عيدان، وتَوْر من حجارة لغسل الملابس، وقصعة، وجفنة لها أربع حلق. وكان له سرير قوائمه من خشب الساج، وفراش جِلْد حَشوُه ليف، وكساء أسود، وآخر من شَعَر (¬2). زوجاته (صلى الله عليه وسلم) الطاهرات رضي الله عنهن: أباح الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين أكثر من أربع زوجات، وتحرم زوجاته على غيره، بل هن أمهات المؤمنين، وهذا من خصائصه. وقد تزوج - صلى الله عليه وسلم - إِحدى عشرة امرأة ست من قريش، ومات عن تسع، وتسَرّى بمارية القبطية فولدت له إِبراهيم. ¬

_ (¬1) انظر: مغلطاي، الإشارة إِلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ص 456 - 461. (¬2) المصدر نفسه 395 - 401.

1 - خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية (رضي الله عنها).

1 - خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية (رضي الله عنها). تزوجها بمكة وعمره خمس وعشرون سنه، وعمرها أربعون سنة، وكانت قد تزوجت برجلين قبله، ورزقه الله منها الولد، وأسلمت منذ بدأ دعوته، وبَلّغ جبريل السلام لها من الباري جل وعلا، وبَشّرها ببيت في الجنة. وماتت بمكة في السنة العاشرة من البعثة، وبقي - صلى الله عليه وسلم - وفيًا لها بعد وفاتها. 2 - سودة بنت زمعة القرشية، العامرية (رضي الله عنها). كانت تحت ابن عمها السكران بن عمرو، وكانت من المهاجرات إِلى الحبشة، وعندما مات عنها زوجها ذكرتها خولة بنت حكيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك بعد وفاة خديجة، فتزوجها بمكة، وعُمِّرت - رضي الله عنها - حيث كانت وفاتها بالمدينة النبوية في شوال سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية - رضي الله عنه -، ولما كبر سنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنهما. 3 - عائشة بنت أبي بكر الصديق القرشية التيمية (رضي الله عنها). تزوجها بمكة، وبنى بها بالمدينة، وهي ابنة تسع سنين، ولم يتزوج بكرا غيرها، وكانت من أحب الناس إِليه، وابتلاها الله برمي المنافقين لها بالإفك وبرأها الله من فوق سبع سماوات، وهي من أعلم النساء، روت حديثًا كثيرًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسندها عند أحمد 2409 أحاديث، وكانت وفاتها بالمدينة النبوية في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين. 4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية (رضي الله عنها). تزوجت خنيس بن حذافة السهمي، وهاجرت معه إِلى المدينة، وشهد بدرًا وأحدًا فأصيب في الأخيرة ومات من جراحته، فعرضها عمر على أبي بكر، وعلى عثمان، ثم

5 - زينب بنت خزيمة الهلالية من هوازن (رضي الله عنها).

تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روت عن رسول الله أحاديث، وكانت عندها صحف القرآن التي نسخت منها المصاحف، وكانت وفاتها بالمدينة النبوية في شعبان سنة خمس وأربعين. 5 - زينب بنت خزيمة الهلالية من هوازن (رضي الله عنها). تزوجها الطفيل بن الحارث بن عبد الطلب فطلقها، ثم تزوجها أخوه عبيدة بن الحارث، فجرح ببدر جراحة مات منها، فتزوجها عبد الله بن جحش الذي استشهد في أحد، ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصدقها أربعمائة درهم. وماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أشهر من زواجها به، فصلى عليها ودفنها في البقيع سنة ثلاث من الهجرة. 6 - أم سلمه هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية (رضي الله عنها). هي هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب، تزوجها ابن عمها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهاجرت معه إِلى الحبشة، ثم حاولت الهجرة برفقته إِلى المدينة فمنعها أهلها، ونزع أهل أبي سلمة ابنها سلمة منها حتى خلعوا كتفه، فبقيت سنة تخرج تبكي في طريق المدينة حتى شفع فيها أحد الرجال، فلحقت بزوجها، وفي غزوة أحد أصيب زوجها بإِصابة شديدة مات بعدها بشهور، فخطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها مع وجود أيتام لديها وغَيْرة فيها، وكانت امرأة عاقلة حكيمة، وروت حديثًا كثيراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وفاتها بالمدنية النبوية في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وهي آخر زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاة. 7 - زينب بنت جحش من بني أسد بن خزيمة (رضي الله عنها). هي أخت عبد الله بن جحش، وأمها أميمه بنت عبد المطلب، زَوَّجَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة، وعندما طلقها تزوجها - صلى الله عليه وسلم -، بأمر الله، قال تعالى:

8 - جويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية (رضي الله عنها).

{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬1)، وتوفيت بالمدينة النبوية سنة عشرين، وهي أول زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وفاة بعده. وكانت تفاخر زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولها: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. 8 - جويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية (رضي الله عنها). هي ابنة زعيم بني المصطلق الحارث بن أبي ضِرَار، وقعت بعد نهاية غزوة بني المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شَمّاس فكاتبته على نفسها، وجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - تستعينه على ذلك فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. قال: قد قبلت. وعندما علم الناس بذلك أطلقوا من معهم من الأسرى، ولذا قالت عائشة: ما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، وتوفيت بالمدينة النبوية سنة ست وخمسين في خلافة معاوية - رضي الله عنه -. 9 - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان القرشية الأموية (رضي الله عنها). كانت تحت عبيد الله بن جحش فهاجر معها إِلى الحبشة فتنصر زوجها فصبرت، فكتب - صلى الله عليه وسلم - إِلى النجاشي ليزوجه إِياها، ففرحت فرحًا شديدًا، وأمهرها أربعة آلاف درهم وبعث بها إِليه مع شرحبيل بن حسنة وذلك سنة ست من الهجرة، وكانت وفاتها بالمدينة النبوية سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. 10 - صفية بنت حيي بن أخطب النضرية الإِسرائيلية (رضي الله عنها). كانت تحت سَلّام بن مِشْكم فطلقها، وتزوجها كنانة بن أبي الحقيق فقتل يوم خيبر، وسبيت ضمن سبي خيبر، فجيء بها إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخيرها بين عتقها ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية 37.

11 - ميمونة بنت الحارث الهلالية من هوازن (رضي الله عنها).

وزواجه بها، أو عتقها وتلحق بأهلها، فاختارت العتق وزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها، وهي من سلالة الأنبياء هارون وموسى عليهما السلام، وكانت وفاتها بالمدينة النبوية سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. 11 - ميمونة بنت الحارث الهلالية من هوازن (رضي الله عنها). كانت عند مسعود بن عمرو الثقفي، ففارقها، فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى، فمات عنها، فخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قد جعلت أمرها إِلى أختها لبابة زوج العباس بن عبد المطلب ووكّلَت لُبَابةُ زوجَها العباسَ، وهو الذي زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك بمكة أثناء عمرة القضاء في السنة السابعة، لكن قريشًا أعجلته فخرج - صلى الله عليه وسلم - إلى وادي سَرِف (حي النوارية اليوم) فأقام، ودخل بزوجته، وماتت ميمونة - رضي الله عنها - في نفس المكان بعد رجوعها من الحج سنة إِحدى وخمسين، وقيل تسع وأربعين، وقبرها في وادي سرف معلوم وهي أخت لبابة الكبرى أم عبد الله بن عباس، وأخت لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، وأخت لأسماء بنت عميس الخثعمية لأمها. 12 - مارية القبطية المصرية (رضي الله عنها). كانت من قرية انصنا بصعيد مصر، أرسلها مقوقس مصر مع أختها سيرين، وهدايا أخرى إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها: عَبْدُ، وألف مثقال ذهب، وعسل وعشرون ثوبًا، وبغلة تسمى الشهباء، وحمار، يسمى عفير. وقد تسَرّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمارية. وولدت له ابنه إِبراهيم، ومات وهو صغير بعد ثمانية عشر شهرًا، وكانت وفاتها بالمدينة النبوية في محرم سنة ست عشرة من الهجرة، في خلافة عمر، ودفنت بالبقيع.

الحكمة من تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم)

الحكمة من تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم): ذكر أهل العلم الحكمة من تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، نذكر بعضها: 1 - كان - صلى الله عليه وسلم - يكثر التزوج لمصلحة تبليغ الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال. 3 - أن يكثر من يشاهد أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو كاهن. 3 - لتتشرف قبائل العرب بمصاهرته فيهم مما يدعوهم إِلى الإِسلام. 4 - الاطلاع على محاسن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - الباطنة. 5 - كثرة النكاح صفة مدح عند العرب لدلالته على كمال الرجولة، ومع هذا لم يشغله ذلك عن عبادة ربه عَزَّ وَجَلَّ. 6 - الرحمة والعطف على من وقعت لها مصيبة كوفاة زوج، أو وقوع في الأسر، فجبر - صلى الله عليه وسلم - مصيبتها وأكرمها بأن كانت من أمهات المؤمنين. 7 - تقرير الحكم الشرعي، واقتلاع العادات التي رسخت في قلوب الناس يإِبطال التبني، بالتزوج من زوجة من كان إِبنًا بالتبني قبل إِبطال الله للتبني. قال تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ... الآية} (¬2). وقال تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬3) والمراد زيد بن حارثة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تبناه قبل النبوة، وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الآية بالزواج من مطلقته زينب بنت جحش، ليكون ذلك أبلغ في إبطال عادة التبني. ¬

_ (¬1) انظر: ابن حجر، فتح الباري 9/ 115 وما بعدها. (¬2) سورة الأحزاب، آية 3 - 4. (¬3) سورة الأحزاب، آية 37.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - إِبراهيم العلي، صحيح السيرة، دار النفائس، عمان، ط/3، 1418 هـ. 2 - أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة، ط/1، 1412 هـ. 3 - البخاري، (محمَّد بن إسماعيل)، الجامع الصحيح، دار السلام بالرياض، الطبعة الأولى 1417 هـ. 4 - بريك بن محمد أبو مايله، غزوة مؤتة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية، الجامعة الإِسلامية، المدينة، ط/1424، 1هـ. 5 - بريك بن محمد أبو مايله، غزوة مؤتة والسرايا النبوية حول المدينة، دار ابن الجوزي، الدمام، ط/2، 1417 هـ. 6 - البيهقي، (أحمد بن الحسين) دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1405 هـ. 7 - الحاكم، (محمد بن عبد الله) المستدرك على الصحيحين، دار الكتاب العربي، بيروت. 8 - الترمذي، (محمد بن عيسى)، سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار إِحياء الترات العربي بمصر. 9 - ابن حجر، (أحمد بن علي) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة. 10 - ابن حنبل، (أحمد بن محمد الشيباني)، المسند، طبع دار صادر، بيروت. 11 - أبو داود، (سليمان بن الأشعث) سنن أبي داود، محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع دار الفكر، بيروت.

12 - الذهبي، (محمد بن أحمد)، السيرة النبوية، والمغازي، دار الكتاب العربي، بيروت. 13 - زيد عبد الكريم الزيد، فقه السيرة، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1424 هـ. 14 - ابن سعد، (محمد بن سعد بن منيع) الطبقات الكبرى، دار صادر، بيروت. 15 - ابن سعدي، (عبد الرحمن بن ناصر) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1421 هـ. 16 - سليمان حمد العودة، السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إِسحاق (العهد المكي)، طبع جامعة الإِمام، محمد بن سعود الإِسلامية، الرياض، ط 1، 1414 هـ 17 - السهيدي، (عبد الرحمن بن عبد الله)، الروض الأنف، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، مكتبة الكليات الأزهرية بمصر. 18 - صالح الشامي، من معين السيرة، المكتب الإِسلامي، بيروت، ط/1، 1405 هـ. 19 - الصالحي، (محمد بن يوسف) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1414 هـ. 20 - الطبري، (محمد بن جرير) تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمَّد أبو الفضل إِبراهيم، دار المعارف، القاهرة. 21 - عاتق بن غيث البلادي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة، دار مكة، مكة، ط/1، 1402 هـ. 22 - علي الصلابي، السيرة النبوية، دار ابن كثير، بيروت، ط /3، 1426 هـ. 23 - فاروق حمادة، مصادر السيرة وتقويمها، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، ط/2، 1410 هـ. 24 - ابن القيم، (محمد بن أبي بكر)، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط/1، بيروت.

25 - ابن كثير، (لإِسماعيل بن عمر) تفسير القرآن العظيم، تحقيق محمَّد إِبراهيم البنا، دار الشعب بمصر. 26 - ابن كثير، (إِسماعيل بن عمر القرشي)، البداية والنهاية، تحقيق د. عبد الله التركي، دار هجر، القاهرة، ط/1، 1420 هـ. 27 - الفصول في سيرة الرسول، تحقيق محمد العيد لخطراوي، دار التراث، ط/3، 1402 هـ. 28 - ابن ماجه، (محمد بن يزيد) سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار البابي الحلبي بمصر. 29 - محمد أمحزون، منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة من خلال السيرة النبوية، دار السلام، القاهرة، ط/3، 2003. 30 - محمد الأمين الجكني، السيرة النبوية من فتح الباري، دار ابن حزم، بيروت، ط/1، 1422 هـ. 31 - محمد باقشيش، المغازي لموسى بن عقبة، جامعة ابن زهر، أغادير، المغرب، ط/1، 1417هـ. 32 - محمد حسن شراب، المعالم الأثرية في السنة والسيرة، دار القلم، دمشق، ط/1، 1411 هـ. 33 - محمد رمضان البوطي، فقه السيرة، دار الفكر، دمشق، ط/8، 1400 هـ. 34 - محمد أبو شهبه، السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، دار القلم، دمشق، 1409 هـ. 35 - محمد عبد القادر أبو فارس، السيرة النبوية دراسة تحليلية، دار الفرقان، عمان، ط/1، 1418 هـ.

36 - محمد عواجي، مغازي الإِمام الزهري، الجامعة الإِسلامية، المدينة، ط/1، 1425 هـ. 37 - محمد الغزالي، فقه السيرة، دار القلم، دمشق، ط/3، 1407 هـ. 38 - مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي. 39 - مغلطاي بن قليج، الإِشارة إِلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وتاريخ من بعده من الخلفا، تحقيق محمد نظام الدين الفتيح. دار القلم، دمشق، ط/1، 1416 هـ. 40 - مهدي رزق الله أحمد، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مركز الملك فيصل، الرياض، ط/1، 1416 هـ. 41 - الندوي، (أبو الحسن علي الحسني)، السيرة النبوية، دار الشروق، جدة، ط 2، 1399هـ. 42 - الندوي سليمان، الرسالة المحمدية، دار الفتح، دمشق، ط/2، 1383 هـ. 43 - النسائي، محمد بن عيسى، سنن النسائي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1415 هـ 44 - ابن هشام، (عبد اللك الحميري)، السيرة النبوية، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت 1408 هـ. 45 - الهيثمي، (علي بن أبي بكر) مجمع الزوائد ومنيع الفوائد، دار الكتاب العربي ط 3. 46 - الواقدي، (محمد بن عمر)، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت. 47 - ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار إِحياء الكتاب العربي، بيروت، د. ت ط. 48 - يوسف الوابل، أشراط الساعة، دار ابن الجوزي، الدمام، ط/10، 1419 هـ.

§1/1